فتح المنعم شرح صحيح مسلم

موسى شاهين لاشين

فتح المنعم شرح صحيح مسلم كتاب الإيمان الجزء الأول الأستاذ الدكتور موسى شاهين لاشين دار الشروق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

فتح المنعم شرح صحيح مسلم 1 -

جميع حقوق النشر والطبع محفوظة الطبعة الأولى 1423 - هـ - 2002 م دار الشروق القاهرة: 8 شارع سيبويه المصري -رابعة العدوية- مدينة نصر ص. ب.: 33 البانوراما -تليفون: 4023399 - فاكس: 4037567 (202) e-mail: dar@ shorouk.com - www.shorouk.com بيروت: ص. ب.: 8064 - هاتف: 315859 - 817213 - فاكس: 315859 1 (961)

مقدمة الطبعة الثانية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة الطبعة الثانية الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43]. والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، المبعوث رحمة للعالمين، الذى أوتي الحكمة وفصل الخطاب، ومنحه ربه جوامع الكلم، فأدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اتبع هداه إلى يوم الدين. أما بعد فهذه هى الطبعة الثانية والشاملة، أقدمها لأهل الحديث، بعد أن مد الله فى عمري وأعانني بفضله وكرمه، حتى انتهيت من كتابي فتح المنعم شرح صحيح مسلم، الذى بدأته منذ ثلاثة وعشرين عاما، واصلت فيها ليلي ونهاري، أسابق الزمن، وأخشى القدر. ويشهد الله أنني لم أدخر وسعا، ولم تضعف همتي وعزيمتي في وقت من أوقات ذلك الزمن الطويل، ولكن البحر كان بعيد الشاطئ، عميق الغور، شديد الأمواج. والحمد لله الذى أتم علينا نعمته، وأسبغ علينا فضله. وتمتاز هذه الطبعة عن سابقتها من وجوه: الأول: أنني وضعت أسانيد الإمام مسلم بالهامش، ليفيد منها من أرادها من أهل الحديث، والتزمت ألفاظها، واكتفيت فى صدرالصفحة بالمتن والراوي الأعلى مصدرًا بكلمة "عن". الثاني: أنني أعدت أحاديث مسلم إلى ترتيبها، ولم أجمع الروايات المتعددة المتباعدة للحديث الواحد، كما فعلت فى الطبعة الأولى، حفاظا على أمانة النقل، بدلا من تقديم الهدف. الثالث: الترقيم: 1 - وقد رقمت الأبواب، ولم ألتزم أحيانا بتبويب الإمام النووى -رحمه الله-. 2 - ورقمت أحاديث الإمام مسلم مسلسلة من أول الكتاب إلى آخره، واعتمدت الرواية التى تزيد فى المتن، أو تنقص، أو تُغيِّر، ولو كلمة، وأعطيتها رقما.

أما الرواية القاصرة على الإسناد، وكذا الرواية التي تحيل المتن كله إلى السابق فلم أعتمدها ولم أعطها رقما مسلسلًا، لأن هدفي إحصاء المتون، وليس الأسانيد. وقد وضعت هذا الرقم المسلسل على السطر، يمين الأرقام الأخرى. 3 - واعتمدت ترقيم المرحوم الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي، لأنه الذي اعتمد في المعجم المفهرس لألفاظ الحديث، ليسهل عن طريقه الوصول إلى الحديث في كتابي، ووضعت هذا الرقم بسطا على شرطة أفقية، وهو -غالبا- يخص كل كتاب علمي بأرقام مستقلة، فيبدأ أحاديث كتاب الإيمان مثلا برقم 1 حتى نهاية كتاب الإيمان، ثم يبدأ كتاب الطهارة برقم 1 حتى نهايته وهكذا، فالمراجع للمعجم المفهرس إذا قرأ -م- الطهارة (25) علم أن الحديث رواه مسلم في كتاب الطهارة رقم (25) ولا عبرة بأبواب الإمام النووي تحت هذا الكتاب في الترقيم، وهو لا يعد الرواية التي اقتصرت على السند، وإن خالف هذه القاعدة في النادر. ويعد الرواية التي جاءت أو غايرت، ولو جزءا من المتن، وإن خالف هذه القاعدة في النادر أيضا. 4 - ورقمت أحاديث كل باب بأرقام مستقلة، جعلتها مقاما تحت أرقام الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي مفصولا بينهما بشرطة أفقية، ولا أعد جزء الرواية حديثا، ولا أرقمه، بل أضع بدل الرقم صفرين، إذ أعتبره ملحقا بالرواية السابقة، فأقول في الشرح مثلا: وفي روايتنا الرابعة كذا وفي ملحق روايتنا الرابعة كذا. الرابع: كما تمتاز هذه الطبعة بجودة الإخراج، على أعلى مستوى، مستفيدين من التقدم الكبير في ميدان الطباعة والإخراج. الخامس: أن التصحيح في هذه الطبعة أسند إلى علماء الحديث المتخصصين -جزاهم الله خيرا- فجاءت أصح من سابقتها، ونسأل الله العفو عما عساه يكون فيها مما لا يبرأ منه العمل البشري، ورحم الله امرأ أهدى إليّ عيوبي. وإن أَنْسَ فلا أنسى شكر أهل الحديث وعلمائه الذين قدروا جهدي منذ البداية فشجعوني وقبلوه بقبول حسن، وقرروه على طلابهم في كليات أصول الدين -جامعة الأزهر، وفي الجامعات الإسلامية، في البلاد العربية وغير العربية. جزاهم الله خيرًا وحفظ بهم السنَّة والدين. وأختم مقدمتي هذه بما ختمت به مقدمة الطبعة الأولى: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي}. {رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا}. د. موسى شاهين لاشين

مقدمة الطبعة الأولى

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة الطبعة الأولى أحمده سبحانه وتعالى وأستعينه وأستهديه، وأسأله التوفيق والسداد. وأصلي وأسلم على خاتم النبيين، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، وسلك سبيله إلى يوم الدين. وأشهد أن لا إله إلا الله، {بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2]. وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، آتاه الحكمة وفصل الخطاب. فبين للناس ما نزل إليهم، ووضح لهم معالم دينهم، ورسم لهم طريق الخير في دنياهم وأخراهم، فجزاه الله عنا وعن جهاده في الإسلام خير الجزاء. "أما بعد" فقد وفقني الله للإسهام في شرح مجموعة مختارة من أحاديث البخاري في كتابي "المنهل الحديث" تناولت فيه نحو أربعمائة حديث بالشرح المبسط المناسب لمستوى طلاب المعاهد الثانوية الأزهرية. ولقد فكرت طويلا -بناء على طلب كثير من المشتغلين بالحديث وطلابه- في أن أكمل شرح أحاديث البخاري بنفس الطريقة والأسلوب، ولكن غلبتني فكرة أخرى بعد آَن عينت مدرسا للتفسير والحديث بكلية أصول الدين جامعة الأزهر، ورأيت أن المقرر في منهاجها أحاديث صحيح مسلم، وهو كتاب لم يخدم بالشرح كما خدم البخاري، وليس فيما ألفه المؤلفون في شرحه ما يغني الطالب أو يشبع الراغب وأحسست حاجة الطلاب إلى شرح يناسبهم، وعذرتهم في مطالبتهم بذلك وإلحاحهم وملاحقتهم لأساتذتهم. أمام هذه الظروف فضلت التعجيل بشرح صحيح مسلم، في كتاب سميته (فتح المنعم) ورسمت له منهاجا وطريقة أرجو أن يسدد الله خطاي في سلوكها، وأن ينفع بها، إنه سميع مجيب. سأجمع الروايات المتعددة للحديث الواحد، مادمت أعتقد أنها لحديث واحد، ثم أقوم بشرحها كوحدة؛ والواقع أن صحيح مسلم يضم كثيرا من الأحاديث المكررة بسبب اختلاف الرواة في رواياتها بالزيادة والنقص والتغيير والتقديم والتأخير، بل قد يفرق بين روايات الحديث الواحد بأحاديث

أخرى، كما فعل في حديث معاذ وإردافه خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتحديثه بحق الله على العباد وحق العباد على الله. سأجمع أمثال هذه الروايات تفاديا لتكرار الشرح وتخلصا من إحالة اللاحق على السابق. وسأختصر الأسانيد وأقتصر على الراوي الأعلى، وأوفر مجهودي ومجهود الطالب للبحث في متن الحديث وصلبه بدلا من التشتيت بين رجاله وشرحه، خصوصا وللإسناد كتبه وفرسانه، وقد قصرت الهمم وكلَّت العزائم، وعز ميدانه. وسأبدأ بكتاب الإيمان، مؤجلًا شرح مقدمة مسلم إلى ما بعد شرح الأحاديث لأضعها في جزء خاص أسوة بالإمام الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري. وحرصا على تعميم النفع، واستفادة العامة والخاصة سأتناول شرح الحديث بعبارة مبسطة وأسلوب سهل تحت عنوان (المعنى العام). ثم أتكلم عن كلمات الحديث وتراكيبه من الناحية اللغوية، وما يحتاجه طالب القسم العالي من النحو والبلاغة تحت عنوان (المباحث العريية). ثم أبسط الأحكام الشرعية، وأجمع بين الروايات المختلفة، وأعرض آراء العلماء في وجه الاستدلال به أو الرد عليه، وأبرز ما يؤخذ منه من الأحكام والفوائد تحت عنوان (فقه الحديث). هذا وإنني أقدر خطورة المهمة ومشقتها، وكم وقفت أمامها في خشوع ورهبة وإجلال. مؤمنا بأن الميدان فسيح رفيع، ولكني أدخله معتمدا على تسديد الله وتوفيقه، مقرًا بالقصور، مصمما على عدم التقصير. ولئن كنت قد أقدمت على أمر جلل فعذري أن الكل متهيب وجل، أو تعوقه العوائق، أو يقعده الكسل؛ وباب العلم والتأليف مفتوح للمكثر والمقل، وليس من الحكمة الوقوف أمامه، والتقاعس عن دخوله، استصغارا للنفس، وإستقلالا للجهد، إذ ما لا يدرك كله لا يترك كله. فإن وفقت وأصبت الهدف فحمدا لله وشكرًا، وذلك فضل الله، وإن كانت الأخرى فأسأله العفو والعافية، وقبول حسن القصد وإخلاص النية. داعيا ربي بما دعا به الكليم عليه السلام حيث قال {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)} [طه: 25 - 28]. مناجيا بما ناجى به رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - {رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء: 80]. د. موسى شاهين لاشين

كتاب الإيمان

كتاب الإيمان

(1) باب الإيمان بالقدر

(1) باب الإيمان بالقدر 1 - عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر: فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلا المسجد فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي فقلت: أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم -وذكر من شأنهم- وأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف. قال فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر ثم قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال يا محمد أخبرني عن الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا " قال صدقت قال فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان قال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره" قال صدقت قال فأخبرني عن الإحسان قال " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك قال فأخبرني عن الساعة قال "ما المسئول عنها بأعلم من السائل " قال فأخبرني عن أمارتها قال: أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان " قال ثم انطلق. فلبثت مليا. ثم قال لي: يا عمر "أتدري من السائل؟ " قلت الله ورسوله أعلم قال: "فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم "

2 - عن يحيى بن يعمر قال لما تكلم معبد بما تكلم به في شأن القدر أنكرنا ذلك قال فحججت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حجة وساق الحديث 3 - عن عمر رضي الله عنه عن النبي وفيه شيء من زيادة وقد نقص منه شيئا وبنحوه قالت هو من عند الله 4 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بارزا للناس فأتاه رجل فقال يا رسول الله ما الإيمان؟ قال "أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث الآخر "قال يا رسول الله ما الإسلام؟ قال "الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان" قال يا رسول الله ما الإحسان؟ قال "أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لا تراه فإنه يراك". قال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال "ما المسئول عنها بأعلم من السائل ولكن سأحدثك عن أشراطها إذا ولدت الأمة ربها فذاك من أشراطها وإذا كانت العراة الحفاة رءوس الناس فذاك من أشراطها وإذا تطاول رعاء البهم في البنيان فذاك من أشراطها، في خمس لا يعلمهن إلا الله ثم تلا صلى الله عليه وسلم {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير} [لقمان: 34] قال ثم أدبر الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم" ردوا علي الرجل " فأخذوا ليردوه فلم يروا شيئا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم" 5 - مثله غير أن في روايته إذا ولدت الأمة بعلها يعني السراري

6 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سلوني فهابوه أن يسألوه، فجاء رجل فجلس عند ركبتيه فقال يا رسول الله ما الإسلام؟ قال "لا تشرك بالله شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان". قال: صدقت. قال: يا رسول الله ما الإيمان؟ قال "أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث وتؤمن بالقدر كله" قال: صدقت. قال: يا رسول الله ما الإحسان؟ قال: "أن تخشى الله كأنك تراه فإنك إن لا تكن تراه فإنه يراك" قال: صدقت. قال: يا رسول الله متى تقوم الساعة؟ قال: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل، وسأحدثك عن أشراطها إذا رأيت المرأة تلد ربها فذاك من أشراطها وإذا رأيت الحفاة العراة الصم البكم ملوك الأرض فذاك من أشراطها وإذا رأيت رعاء البهم يتطاولون في البنيان فذاك من أشراطها، في خمس من الغيب لا يعلمهن إلا الله ثم قرأ {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير} [لقمان 34] قال ثم قام الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ردوه علي فالتمس فلم يجدوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا جبريل أراد أن تعلموا إذ لم تسألوا. -[المعنى العام]- في مدينة البصرة بالعراق قام معبد الجهني يدعو لبدعة في الدين يقول: إن الله لم يقدر الأشياء أزلا ولم يسبق علمه بها قبل وقوعها وتابعه جماعة من الذين احترفوا القراءة والبحث في غوامض أحكام الفروع والأصول وفزع المخلصون الغيورون لكن أنى لهم لسان معبد وقوة حجته؟ وأنى لهم فقه أتباعه وشهرتهم العلمية التي تخدع البسطاء. لقد جاء موسم الحج وفتنة معبد تهاجم عقيدة المسلمين بالبصرة واستعد يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن للحج والعمرة وقد فكرا في الأمر ودبرا له، وصمما على أن يعودا إلى البصرة ومعهما السلاح القاطع لكل لسان يفتري على الحق ولن يكون هذا السلاح إلا فتوى مؤيدة بالحجة والبرهان من أهل الرأي والفقه من كبار الصحابة. وأشرفا على المسجد الحرام بمكة فلمحا عند بابه عبد الله بن عمر العالم التقي الورع الذي لا يخاف في الله لومة لائم، ولا يعارضه في فتواه معارض فأسرعا إليه يحيطان به أحدهما عن

يمينه والآخر عن شماله وسلما عليه، ثم قال أسنهم وأبسطهم لسانا: يا أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر جهتنا بالبصرة قوم عرفوا بالتبحر في العلم والتباحث فيه وظهروا ببدعة لم نسمعها في ديننا يزعمون أنه لا قدر وأن علم الله مستأنف بعد حصول الحوادث ووقوعها فماذا ترى فيهم؟ قال ابن عمر: إذا رجعتم إلى هؤلاء الضالين فأخبروهم أنني بريء منهم ومن قولهم ولا أحب أن ينتسبوا إلى ما أنتسب إليه، والله الذي لا أحلف بغيره لو ملك أحدهم مثل جبل أحد ذهبا فتصدق به أو أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر ثم ساق لهم حديث سؤال جبريل، مستدلا به على أن الإيمان بالقدر جزء من الإيمان الشرعي وأنه لا يتم إيمان مؤمن من غير أن يؤمن بالقدر خيره وشره، قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب أنه كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام فدخل عليهم رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام ففسره له بأعمال الجوارح الظاهرة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا. سأله عن الإيمان: فأجابه بأنه التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره حلوه ومره. سأله عن الإحسان في العبادة، فأخبره بأنه إتقانها ومراقبة الله فيها واستشعار أنه يراك في السر والعلن سأله عن وقت الساعة، فقال إنها غيب اختص الله بعلمه. سأله عن أشراطها وعلاماتها الصغرى فأخبره بما يفيد انقلاب الأوضاع الصحيحة وسوء الأحوال من كثرة العقوق والتطاول في البنيان. ثم ولى الرجل ولم يعثروا له على أثر، فأخبرهم صلى الله عليه وسلم بأنه جبريل جاء ليعلم الناس حسن السؤال وما ينفعهم في دنياهم وأخراهم. وعاد يحيى بن يعمر وصاحبه إلى البصرة ونشرا فتوى ابن عمر، وأخذ الجدل والحوار وظل معبد الجهني ينفخ في نار البدعة حتى قتله الحجاج صبرا. -[المباحث العربية]- جمعت هنا ثلاث طرق للحديث، وسأفرد كل طريق بمباحثه العربية ثم أتكلم عنها كوحدة من جهة الشرح والأحكام حيث إنها في موضوع واحد وقصة واحدة، وبالله التوفيق.

الطريق الأول (كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني) "أول" بالنصب خبر كان مقدم، ومعبد اسمها مؤخر وفي الكلام مضاف محذوف، أي أول من تكلم في نفي القدر، والقدر بفتح الدال وإسكانها لغتان مشهورتان حكاهما ابن قتيبة عن النسائي يقال: قدرت الشيء وقدرته بتخفيف الدال المفتوحة وتشديدها إذا أحطت بمقداره والمراد هنا تقدير الله للأشياء وعلمه بها أزلا، وبقية الكلام عنه يأتي في فقه الحديث والبصرة مدينة معروفة بالعراق وفي بائها ثلاث لغات، والمشهور الفتح وليس في النسب إليها إلا الفتح والكسر، قال صاحب المطالع: ويقال لها: تدمر والمؤتفكة لأنها ائتفكت بأهلها في أول الدهر، وقوله "بالبصرة" يوحي بأن آخرين سبقوا معبدا بنفي القدر في غير البصرة، وأن معبدا ليس أول المبتدعين لهذه البدعة على الإطلاق، بل هو فقط أول مبتدعها في البصرة، وبهذا قيل، فقد ذهب جماعة إلى أن هذه البدعة الضالة نشأت أول ما نشأت في مكة يوم احترقت الكعبة وابن الزبير محصور في مكة من قبل يزيد، فقال أناس: احترقت بقدر الله تعالى، وقال أناس: لم تحترق بقدر الله فالقيد على هذا بالبصرة للاحتراز وقيل: إن معبدا أول من قالها على الإطلاق، فالقيد للكشف والإيضاح ومعبد الجهني منسوب إلى جهينة، قبيلة من قضاعة نزلت الكوفة وقليل منهم نزل البصرة وكان يجالس الحسن البصري وقتله الحجاج صبرا. (فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن) أنا تأكيد لضمير الرفع المتصل ليصح العطف عليه. (حاجين أو معتمرين) في أكثر النسخ بأو على الشك وفي بعض النسخ بالواو الجامعة على أنهما كانا قارنين ويمكن القول بأن أو بمعنى الواو (فقلنا) القائل أحدهما، ولم يرد في الروايات تعيينه، وعدت موافقة الثاني في حكم القول فأسند إليهما. (لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال بعضهم: إن "لو" للتمني فلا تحتاج إلى جواب، أي ليتنا نلقى أحدا، وقال بعضهم: هي لو الشرطية أشربت معنى التمني والأصل لو لقينا أحدا فسألناه كان خيرا وقال ابن مالك: هي لو المصدرية أغنت عن فعل التمني والأصل: وددنا لو لقينا فحذف فعل التمني لدلالة "لو" عليه، وليس مرادهما أي واحد من الصحابة بل يقصدان واحدا فقيها عالما بدقائق الدين معتمدا في فتواه. (فسألناه عما يقول هؤلاء) "فسألناه" معطوف على "لقينا" داخل في حكم التمني كأنهما تمنيا اللقاء والتمكن من السؤال، و"ما" موصولة وعائد الصلة محذوف، وفي الكلام مضاف محذوف والتقدير: فسألناه عن حكم القول الذي يقوله هؤلاء، والمراد حكم الشرع على القائلين به كما يؤخذ من جواب ابن عمر

(فوفق لنا) بضم الواو وكسر الفاء المشددة أي جعل وفقا لنا، وهو من الموافقة، وهي لفظة تدل على صدفة الاجتماع والالتئام وفي بعض الروايات "فوافق لنا" بزيادة ألف، أي فوافقنا بمعنى صادفنا. (داخلا المسجد) "داخلا" حال من عبد الله، والمراد من المسجد: المسجد الحرام بمكة (فاكتنفته أنا وصاحبي) حميد بن عبد الرحمن أي صرنا في ناحيتيه فقوله: "أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله" تفسير لاكتنافهما. (فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي) أي يسكت ويفوضني في الكلام، لإقدامي وجرأتي وبسطة لساني كما جاء في بعض الروايات. (أبا عبد الرحمن) بتقدير حرف النداء والنداء بالكنية من مظاهر الإكبار والاحترام. (إنه قد ظهر قبلنا ناس) اسم "إن" ضمير الحال والشأن و"قبلنا" بكسر القاف وفتح الباء بمعنى جهتنا بالبصرة. (ويتقفرون العلم) بتقديم القاف على الفاء، ومعناه: يطلبونه ويتتبعونه، وروي بتقديم الفاء على القاف، ومعناه: يبحثون عن غامضه ويستخرجون خفيه، وروي "يتقفون" بتقديم القاف وحذف الراء، ومعناه: يتتبعون، وروي "يتقعرون" أي يطلبون قعره، وروي "يتفقهون" من الفقه والفهم والكل صحيح المعنى، وإنما عظم يحيى بن يعمر شأن القدرية ووصفهم بالاجتهاد في العلم والتوسع فيه للمبالغة في استدعاء ابن عمر استفراغ الوسع في النظر فيما يزعمون، لأن أقوال الأغبياء قد لا يهتم العلماء بدفعها، ويكتفون في ردها بأقل جواب وليقدر ابن عمر انخداع الناس بهم وتأثرهم والاستجابة لهم ليصدر الفتوى الرادعة التي تحول بين الناس وبين هذا الكفران. (وذكر من شأنهم) هذا من كلام بعض الرواة بعد يحيى، ومفعول "ذكر" محذوف تعظيما له بالإبهام والمعنى ذكر يحيى من شأنهم في البحث عن العلم شيئا عظيما، أو الحذف للتعميم لتذهب النفس فيه كل مذهب، أو الحذف لصون اللسان عن ذكره بمعنى: وذكر من شأنهم في الابتداع ونفي القدر ما يصان اللسان عن ذكره ويصح أن تكون "من" زائدة و"شأنهم" مفعول به على رأي بعض النحاة في جواز زيادة "من" مع المجرور المعرفة وبدون سبق نفي أو شبهة. (وأنهم يزعمون أن لا قدر) يصح عطفه على مفعول "ذكر" فهو من كلام بعض الرواة دون يحيى، ويصح أن يكون من كلام يحيى، فيكون معطوفا على "يقرءون القرآن" وتكون جملة "وذكر من شأنهم" معترضة بين المتعاطفين، وأصل الزعم على التحقيق مصدر زعم إذا قال قولا حقا أو كذبا أو غير موثوق به، فمن الأول حديث "زعم جبريل" والذي معنا من الثاني ومنه قوله تعالى: {زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا} [التغابن: 7] و"أن" في قوله "أن لا قدر" مخففة من الثقيلة،

واسمها ضمير الشأن محذوف، وخبر "لا" محذوف والتقدير: يزعمون أنه لا قدر موجود سابق على الأمور. (وأن الأمر أنف) بضم الهمزة والنون أي مستأنف واقع ابتداء من غير سبق تقدير أو علم، يقال: كأس أنف أي لم يشرب منها، وإنما ابتدئ الشرب منها الآن، مأخوذ من أنف الشيء وهو أوله ومنه سمي الأنف لأنه أول الوجه شخوصا وظهورا. (قال فإذا لقيت أولئك) القائل عبد الله بن عمر، والفاء في جواب شرط تقديره: إن كانت تلك حالهم فإذا لقيتهم فأخبرهم. (أني بريء منهم وهم برآء مني) براءة ابن عمر منهم ومن زعمهم ظاهرة لكن إخباره ببراءتهم منه غير ظاهر، اللهم إلا أن يحمل الأسلوب على الكناية للمبالغة في اجتنابهم وقطع الصلة أيا كانت، كأنه يقول: لا صلة بيني وبينهم ولا صلة بينهم وبيني. (والذي يحلف به عبد الله) أي والله، لأن ابن عمر لا يحلف بغير الله عملا بالحديث "من كان حالفا فليحلف بالله" وإنما ترك ذكره لئلا يتخذ سلما للحلف به، فالموصول مجرور بواو القسم. (لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا) "مثل" اسم "أن" وخبرها متعلق الجار والمجرور و"ذهبا" تمييز و"أن" وما دخلت عليه في تأويل مصدر فاعل لفعل محذوف لاختصاص "لو" بالأفعال، والتقدير: لو ثبت أن لأحدهم مثل أحد ذهبا، ومثلية جبل أحد غير مقصودة بل المقصود المبالغة في عظم الكم مع عظم النوع. (فأنفقه) أي في أوجه الخير وفي سبيل الله، لأن الإنفاق في المعاصي غير مقبول من القدرية ولا من غيرهم. (ما قبل الله منه) أي ما أثابه عليه، ولا يلزم من نفي الإثابة الصحة، وللبحث بقية في فقه الحديث. (بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم) بينا وبينما ظرفا زمان يضافان إلى الجمل الإسمية والفعلية، وخفض المفرد بهما قليل، وهما في الأصل "بين" التي هي ظرف مكان استعيرت هنا للزمان، وأشبعت فيها الحركة فصارت بينا وزيدت عليها الميم فصارت بينما، ولما فيهما من معنى الشرط يفتقران إلى جواب يتم به المعنى وتصحب الجواب "إذ" أو "إذا" الفجائيتان، وقد يتجرد الجواب عنهما، والعامل فيهما جوابهما. (ذات يوم) "ذات" جيء بها هنا للتأكيد، لرفع احتمال أن يراد باليوم مطلق الزمان، فهي بمنزلة عين في قولك: قابلت عين الأمير، وهي ظرف زمان، والعامل فيه معنى الاستقرار الذي في الخبر والتقدير: بينما نحن مستقرون عند النبي صلى الله عليه وسلم في يوم.

(إذ طلع علينا رجل) معناه أنه فاجأهم طلوعه، فلم يروا من أين جاء وفي رواية "إذ أتاه رجل يمشي". (شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر) وفي رواية "شديد سواد اللحية". (لا يرى عليه أثر السفر) ضبطه النووي بالياء المضمومة مبنيا للمجهول، وضبطه أبو حازم بالنون المفتوحة، وكلاهما صحيح والمراد بأثر السفر ما يصيب المسافر من غبار وشعث شعر وتكسر ثياب ونحوها. وفي رواية "أحسن الناس وجها وأطيب الناس ريحا كأن ثيابه لم يمسها دنس" وفي رواية: "ولا يعرفه منا أحد" وكل هذه الأوصاف مع ما سيأتي من صنيع الرجل كانت مبعث استغراب الصحابة، كما كانت قرائن أكدها الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه جبريل. (حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم) "حتى" غاية لدنوه، لا لطلوعه والتقدير: طلع علينا ودنا حتى جلس، وفي بعض الروايات: "فتخطى حتى برك بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم". (ووضع كفيه على فخذيه) يصح أن تكون هاء الغيبة الأولى والثانية للرجل، أي وضع الرجل كفيه على فخذي نفسه، وجلس جلسة المتعلم، واقتصر النووي على هذا التوجيه، ويصح أن تكون الأولى للرجل والثانية للرسول صلى الله عليه وسلم أي وضع الرجل كفيه على فخذي النبي صلى الله عليه وسلم على هيئة المسلم المستسلم المنتبه المصغي لما يقال، وجزم البغوي بهذا التوجيه، ويؤيده رواية ابن عباس "ثم وضع يده على ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم". (وقال: يا محمد) لعله لم يقل يا رسول الله زيادة في التشبه بالأعراب تعمية لحاله، وقيل: لأن له دالة المعلم، فلا يرد عليه قوله تعالى: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا} [النور: 63]. (أن تشهد أن لا إله إلا الله) "أن" مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف. (وتقيم الصلاة) الفعل منصوب عطفا على "تشهد" والمراد من إقامة الصلاة أداؤها في أوقاتها والمحافظة عليها، من أقام على كذا بمعنى داوم عليه أو المراد فعلها تامة مستوفاة الأركان والشروط، من أقام العود إذا قومه وجعله معتدلا، واختصت الصلاة عرفا بهذا اللفظ لكثرة ما تتوقف عليه من الشروط ولما فيها من التكرار، بخلاف بقية العبادات. (وتؤتي الزكاة) أي تعطيها لمستحقها أو للإمام ليدفعها إليهم، فحذف المفعول الأول والتقدير: وتؤتي الإمام الزكاة. (وتحج البيت) "البيت" اسم جنس غلب على الكعبة حتى صار كالعلم عليها. (إن استطعت إليه سبيلا) عني بالاستطاعة الزاد والراحلة والأمن، لا مطلق القدرة.

(قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه) القائل عمر بن الخطاب راوي الحديث وجملة "يسأله" في محل النصب على الحال من الهاء في "له" أو لا محل لها من الإعراب مستأنفة استئنافا تعليليا، كأنه قيل: لم عجبتم؟ فقيل: لأنه جمع بين السؤال والتصديق، وهما لا يجتمعان من سائل جاهل، بل يدل اجتماعهما على أن السائل خبير بالمسئول عنه، وفي رواية: "قال بعضهم لبعض: انظروا إليه كيف يسأله؟ وانظروا إليه كيف يصدقه؟ وفي رواية: "كأنه أعلم منه". (فأخبرني عن الإيمان) الفاء في جواب شرط مقدر، أي إذ قد أخبرتني عن الإسلام فأخبرني عن الإيمان. (أن تؤمن بالله) قيل: تعريف الإيمان بأن تؤمن بالله يستلزم الدور المحال حيث أخذ المعرف في التعريف، وأجيب بأن المراد من المعرف الإيمان الشرعي ومن التعريف الإيمان اللغوي، فكأنه قال: الإيمان الشرعي تصديق مخصوص، والمراد من الإيمان بالله التصديق بوجوده واتصافه بصفات الكمال وتنزيهه عن صفات النقص. (وملائكته) المراد من الإيمان بالملائكة التصديق بوجودهم على ما وصفوا به من أنهم عباد مكرمون. (وكتبه) أي الإيمان بأنها كلامه الحق، وفي رواية أبي هريرة "وكتابه" أي القرآن والإيمان به إيمان بالكتب المنزلة لأنه متضمنها، وقدم الملائكة على الكتب والرسل للترتيب الواقعي، فالملائكة أرسلوا بالكتب إلى الرسل. (واليوم الآخر) قيل له ذلك لأنه آخر أيام الدنيا أو آخر الأزمنة المحدودة وهو وإن لم يكن منها فهو متصل بها، من باب تسمية الشيء باسم مجاوره والمراد من الإيمان به التصديق بما يقع فيه من الحساب والجنة والنار. (وتؤمن بالقدر) أعاد الفعل لزيادة الاهتمام والاعتناء بالقدر، لأنه موطن زلات العقول. (خيره وشره) بدل من القدر، وخيره الطاعة وشره المعصية، زاد في رواية "وحلوه ومره" وحلوه: ما تميل النفس إليه، ومره: ما تنفر منه، وهذه الجملة هي سبب إيراد الحديث. (فأخبرني عن الإحسان) الإحسان: مصدر أحسن يحسن إحسانا، ويتعدى بنفسه وبغيره، تقول: أحسنت إلى فلان إذا أوصلت إليه النفع وليس هذا المعنى مرادا هنا، وتقول: أحسنت العمل إذا أجدته وأتقنته وأخلصت فيه، وهو المراد، وتفسيره صلى الله عليه وسلم الإحسان بما فسره به تفسير للشيء بسببه توسعا، إذ المراقبة سبب الإتقان. (أن تعبد الله كأنك تراه) المصدر المنسبك من "أن تعبد" خبر مبتدأ محذوف، وجملة "كأنك تراه" حال من فاعل "تعبد" أي الإحسان أن تكون حالك في عبادتك مشبهة حال رؤيتك ربك الرقيب على عملك من حيث بذل الجهد في الإخلاص والإتقان.

(فإن لم تكن تراه فإنه يراك) أي فإن لم تكن رائيا لربك على سبيل الحقيقة فاستشعر أنه يراك ومطلع عليك ومراقب أحوالك. وقد أول بعض الصوفية الحديث وأخذوا منه إشارة إلى مقام المحو والفناء، وقدروا المعنى: فإن لم تكن، أي فإن لم تصر شيئا وفنيت نفسك حتى كأنك لست بموجود فإنك حينئذ تراه، فعلى هذا التأويل فعل "تكن" تام لا يحتاج إلى خبر و"تراه" في محل جواب الشرط، وقد هاجم الحافظ ابن حجر هذا التأويل بشدة فقال: أثبت قائل هذا جهله باللغة العربية وجهل أنه لو كان المراد ما زعم لكان قوله "تراه" محذوف الألف، لأنه يصير مجزوما جوابا للشرط ولم يرد في شيء من طرق هذا الحديث بحذف الألف، ومن ادعى أن إثباتها في الفعل المجزوم على خلاف القياس، فلا يصار إليه إذ لا ضرورة هنا، وأيضا لو كان ما ادعاه صحيحا لكان قوله "فإنه يراك" ضائعا لأنه لا ارتباط له بما قبله، ويفسد هذا التأويل رواية أبي هريرة "فإنك إن لا تراه فإنه يراك" فسلط النفي على الرؤية. اهـ. والمحقق في حملة الحافظ ابن حجر يجد للصوفية مخرجا من اعتراضاته الثلاثة: فقوله: لكان "تراه" محذوف الألف لأنه يصير مجزوما جوابا للشرط يمكن الجواب عنه بأن النحاة يجيزون رفع جواب الشرط على الاستئناف، قال ابن مالك: وبعد ماض رفعك الجزا حسن ورفعه بعد مضارع وهن وتقدير الحديث على هذا فإن لم تكن وفنيت نفسك فأنت تراه. وأما الاعتراض الثاني فيمكن للصوفية أن يقولوا: إن الفاء في "فإنه يراك" للتعليل والمراد من الرؤية لازمها وهو الرعاية، والمعنى: فإن فنيت نفسك تر ربك لأنك حينئذ في رعايته وهو يرعاك. وأما اعتراضه الثالث فإنه يرد عليه ما أورده على الصوفية، فرواية أبي هريرة التي توجه النفي فيها إلى الرؤية ثابتة الألف رغم الجازم المتقدم، فلا مناص من تأويلها، وأفضل تخريج لها أن تحمل على حذف "تكن" ليصبح التقدير: إن لا تكن تراه، فتتطابق الروايتان بتوجه النفي إلى "تكن" لا إلى الرؤية. وليس القصد من هذا الدفاع الانحياز إلى غلاة الصوفية والاقتناع برأيهم، وإنما القصد التحقيق العلمي والتخفيف من رميهم بالجهل، والاكتفاء بأن تأويلهم بعيد. (فأخبرني عن الساعة) أي عن وقتها، بدليل رواية أبي هريرة "متى الساعة" و"متى تقوم الساعة" والمراد من الساعة القيامة، سميت بذلك لسرعة قيامها، أو لأنها عند الله سبحانه وتعالى كساعة وسأل عن وقتها ولم يسأل ابتداء عن أمارتها ليكون في جواب النبي صلى الله عليه وسلم زجر للناس عن السؤال عن وقتها، فقد أكثروا السؤال عنها كما قال الله تعالى {يسألك الناس عن الساعة} [الأحزاب 63] فلما أجيبوا بأنه لا يعلمها إلا الله وجب أن يكفوا عن السؤال عنها، ولو سأل جبريل عن أمارتها ابتداء لضاعت هذه الفائدة.

(ما المسئول عنها بأعلم من السائل) أي لا علم لي ولا لك ولا لأحد بها، وكان هذا هو أصل ما يقال، لكنه عدل إلى المذكور، ليعم كل سائل ومسئول، بمعنى أن كل مسئول عن وقت الساعة لا يزيد في العلم بها عن السائل، وقد اعترض على هذا التعبير بأنه لا ينفي العلم بالساعة، لأن نفي الأفضلية في شيء لا يستلزم نفي الشيء، فالعبارة تنفي أفضلية الرسول صلى الله عليه وسلم وزيادته في علم الساعة عن جبريل، ولا تنفي مساواتهما في العلم، وأجيب بأن نفي الأفضلية في العلم يحتمل المساواة في العلم ويحتمل المساواة في الجهل، ويحدد أحد الاحتمالين بقرينة، فلما قال "في خمس لا يعلمهن إلا الله" كما في رواية أبي هريرة تعين الاحتمال الثاني، وقيل إن المراد إفادة التساوي في العلم بأن الله استأثر بعلمها. (فأخبرني عن أمارتها) الأمارة بفتح الهمزة هي العلامة والقرينة الدالة على قربها. (أن تلد الأمة ربتها) الرب: المالك، والمقصود بالربة: النسمة المالكة فيشمل الذكر والأنثى، وفي المراد منه أقوال كثيرة أهمها: أنه كناية عن كثرة أولاد السراري، فإن ولد الأم من سيدها بمنزلة سيدها، لأن مال الإنسان صائر إلى ولده، ولا شك أنها مال لأبيه، وقد يتصرف الولد في مال أبيه في حياته تصرف المالكين بإذنه وهذا القول ضعيف لأن هذه الأمارة كانت موجودة بكثرة في عهده صلى الله عليه وسلم وضعفت بل ندرت في هذه الأيام وقيل: كناية عن فساد الحال لكثرة بيع أمهات الأولاد فيتداولهن المالكون فيشتري الرجل أمه وهو لا يشعر. وضعف هذا القول من ضعف سابقه وقيل: كناية عن كثرة الفتوحات والسبي وقيل: كناية عن أن الإماء يلدن الملوك لأن أمه حينئذ تكون من رعيته وهو سيدها وسيد غيرها من رعيته وخير ما قيل: إنه كناية عن كثرة العقوق حتى يصير الولد لقلة بره بأمه كأنه مولاها كما جاء في رواية "ويكون الولد غيظا" أو أنه كناية عن رفع الأسافل، ويزكيه حديث "لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع ابن لكع" وقد ورد في بعض الروايات "أن تلد الأمة بعلها" والصحيح في معناه أن المراد بالبعل المالك أو السيد فيكون بمعنى الرب. (وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء) "الحفاة" جمع حاف وهو الذي لا نعل له و"العراة" جمع عار وهو الذي لا شيء عليه، و"العالة" الفقراء من عال الرجل يعيل عيلة إذا افتقر، و"رعاء الشاء" بكسر الراء آخره همزة هم الرعاة بالراء المضمومة مع هاء التأنيث وخص أهل الشاة بالذكر لأنهم أضعف أهل البادية. (يتطاولون في البنيان) أي يتنافسون في رفع البناء ويتفاخرون ويتبارون والخطاب في "ترى" لكل من تأتى له الخطاب والمراد من الرؤية العلم ليدخل الأعمى والأمارة في الحقيقة التطاول لا رؤيته، والقصد من هذه الأمارة تبدل الحال أيضا. (فلبث مليا) بضمير الفاعل الغائب للرسول صلى الله عليه وسلم وفي كثير من الأصول المحققة "فلبثت"

بتاء المتكلم - عمر بن الخطاب - وكلاهما صحيح و"مليا" بتشديد الياء أي زمنا طويلا من الملاوة وهي القطعة من الدهر وقد فسر هذا الزمن الطويل في رواية أبي داود بثلاث ليال (أتدري من السائل؟ ) "من" الاستفهامية خبر مقدم لصدارته، والسائل مبتدأ مؤخر وجملة الاستفهام علقت "تدري" عن العمل. (الله ورسوله أعلم) قيل: إن "أعلم" على بابها، لأن تعجبهم من حال الرجل أدخل في نفوسهم أنه جني أو ملك وهذا كاف في الشركة في العلم. (فإنه جبريل) الفاء في جواب شرط مقدر أي أما إن صرفتم العلم إلى الله ورسوله فإنه جبريل و"جبريل" لفظ سرياني معناه عبد الرحمن أو عبد العزيز فيما ذكر ابن عباس. (أتاكم يعلمكم دينكم) إسناد التعليم إلى جبريل مجاز لأنه السبب في الجواب، وجملة "أتاكم" خبر بعد خبر، وجملة "يعلمكم" حالية. الطريق الثاني (أنكرنا ذلك) أي أنكرنا كلامه في نفي القدر. (فحججت ... حجة) "حجة" بكسر الحاء وفتحها، وهذا لا يتنافى مع الرواية السابقة في أنه كان قارنا، لأن القارن حاج، والاتصاف بأحد الوصفين لا ينافي الاتصاف بهما. الطريق الثالث (بارزا للناس) أي ظاهرا ومنه قوله تعالى: {وبرزوا لله جميعا} [إبراهيم 21] وفي كيفية وسبب بروزه صلى الله عليه وسلم روى البزار "كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهراني أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أهو هو؟ حتى يسأل فطلبنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعل له مجلسا كي يعرفه الغريب فبنينا له دكانا من طين يجلس عليه" أي دكة مرتفعة عن الأرض. (ما الإيمان) "ما" اسم استفهام خبر مقدم، و"الإيمان" مبتدأ مؤخر، وفي هذه الرواية قدم السؤال عن الإيمان، وعلله الحافظ ابن حجر بأنه الأصل، وعلل تقديم السؤال عن الإسلام في الرواية السابقة بأنه بدأ بالأمر الظاهر ثم ترقى، ثم قال: ولا شك أن القصة واحدة، اختلف الرواة في تأديتها، وليس في السياق ترتيب والواقع أمر واحد، والتقديم والتأخير من الرواة. (ولقائه) ليس المراد من اللقاء رؤية الله تعالى، لأنه لا يقطع أحد لنفسه برؤية الله تعالى، لأنه لا يدري بماذا يختم له، والرؤية خاصة بالمؤمنين. (والبعث الآخر) في الجمع بين لقاء الله والبعث الآخر قالوا: اللقاء ما يكون بعد البعث عند الحساب ويجمعهما اليوم الآخر.

وفي وصف البعث بالآخر قيل: إنه للتأكيد والمبالغة في البيان والإيضاح لشدة الاهتمام به كقولهم أمس الذاهب لا يعود، وقيل: لأن خروج الإنسان إلى الدنيا بعث من الأرحام، وخروجه من القبر إلى الحشر هو البعث الآخر، والراجح الأول لأنه لم يعهد شرعا إطلاق البعث على الخروج من الأرحام. (الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا) العبادة الطاعة مع الخضوع فإن كان المراد منها هنا معرفة الله والإقرار بوحدانيته -وهو الظاهر لموافقته الرواية السابقة - كان عطف الصلاة والصوم والزكاة عليها لإدخالها في الإسلام حيث لم تدخل في العبادة ويكون اقتصاره عليها من بين أركان الإسلام لكونها أظهر شعائره، أو هذا من قبيل اقتصار بعض الرواة. وإن كان المراد من العبادة الطاعة مطلقا دخلت جميع وظائف الإسلام فيها ويكون ذكر الصلاة والزكاة والصوم بعدها من ذكر الخاص بعد العام تنبيها على شرفه ومزيته. وفائدة ذكر "ولا تشرك به شيئا" بعد العبادة النهي عما كان عليه الكفار الذين كانوا يعبدونه في الصورة ويعبدون معه أوثانا يزعمون أنها شركاء. (وتقيم الصلاة المكتوبة) تقييد الصلاة بالمكتوبة اتباعا لقوله تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} [النساء: 103] وقيل: إن هذا القيد لإرادة الفرض منها. (وتؤدي الزكاة المفروضة) تقييد الزكاة بالمفروضة قيل: للاحتراز عن صدقة التطوع، وقيل: لأنها مقدرة النصاب والقدر المخرج، والفرض معناه التقدير، وقيل: المكتوبة والمفروضة بمعنى واحد والمغايرة بينهما للتفنن كراهة تكرير اللفظ. (فإنك إن لا تراه فإنه يراك) "إن" حرف شرط و"لا" نافية و"تراه" فعل الشرط مجزوم، ولم تحذف الألف للجزم على غير قياس، والأولى أن يكون من قبيل حذف كان واسمها وهو مشهور بعد "إن" و"لو" والتقدير: فإنك إن تكن لا تراه فإنه يراك. (ولكن سأحدثك عن أشراطها) جمع شرط بفتح الشين والراء والأشراط العلامات، وقيل: مقدماتها وقيل: صغار أمورها قبل تمامها. قال النووي: وكله متقارب. وظاهر هذه الرواية أن الرسول صلى الله عليه وسلم تطوع بإخبار جبريل عن أشراط الساعة من غير أن يطلبها بخلاف الرواية السابقة التي فيها قال: فأخبرني عن أمارتها. وجمع الحافظ ابن حجر بينهما بأنه ابتدأ بقوله "سأخبرك عن أشراطها" فقال له السائل: فأخبرني، ويدل على ذلك رواية "ولكن إن شئت نبأتك عن أشراطها. قال أجل" ويستفاد من اختلاف الروايات أن المراد من التحديث والإخبار والإنباء واحد. (وإذا كانت العراة الحفاة رءوس الناس) وفي الرواية الآتية "وإذا رأيت الحفاة العراة الصم البكم ملوك الأرض" وكل ذلك كناية عن تبدل الحال ورفع الأسافل، مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم "إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة" والصم البكم كناية عن عدم استعمال حواسهم في شيء من أمور دينهم وإن كانت حواسهم سليمة فكأنهم عدموها لعدم الانتفاع بها.

(وإذا تطاول رعاء البهم) "رعاء" بكسر الراء و"البهم" بفتح الباء وإسكان الهاء الصغار من أولاد الغنم، وأصله كل ما استبهم عن الكلام، وفي رواية البخاري "رعاء الإبل البهم". (في خمس) خبر مبتدأ محذوف والتقدير: علم وقت الساعة داخل في جملة خمس وليس في الحديث ما يفيد حصر الغيب في هذه الخمس، اللهم إلا أن يقال: إن الاقتصار في مقام البيان يشعر بالحصر، يعزز هذا ما جاء عن ابن مسعود قال: أوتي نبيكم علم كل شيء سوى هذه الخمس، وما أخرجه حميد بن زنجويه عن الصحابة أنه ذكر العلم بوقت الكسوف قبل ظهوره فأنكر عليه، فقال: إنما الغيب خمس وتلا هذه الآية، وقال ما عدا ذلك غيب يعلمه قوم ويجهله قوم، والتحقيق أن هناك غيبا غير هذه الخمس لا يعلمه إلا الله، وفي اللوح المحفوظ كثير من تفصيل ما كان وما يكون لا يعلمه أحد من المخلوقات ويحمل ما جاء عن ابن مسعود على العلم الإجمالي. (لا يعلمهن إلا الله) قصر صفة على موصوف حقيقي، وليس في الآية قصر كما في الحديث، قال الطيبي: إن الفعل إذا كان عظيم الخطر وما ينبني عليه الفعل رفيع الشأن فهم منه الحصر على سبيل الكناية ولا سيما إذا لوحظ ما ذكر في أسباب النزول من أن العرب كانوا يدعون علم نزول الغيث. والذي استأثر الله بعلمه إنما هو علم الغيب، أما ظن الغيب وما يبنى على قواعد وعادات كالتنبؤ بالأحوال الجوية وما يقوله المنجمون والحساب فإنه قد يتخلف، وليس في الشرع ما يدل على منعه. (ويعلم ما في الأرحام) بجميع صفاته وأحواله فلا ينافي علم بعض الصفات بالطرق العلمية الحديثة. -[فقه الحديث]- من يقارن بين الروايات يجد بينها اختلافا كثيرا بالزيادة والنقص تارة، وبالتقديم والتأخير تارة أخرى، وبإبدال لفظ بلفظ تارة ثالثة، ولا خلاف في أنها جميعها في قصة واحدة، واختلاف الروايات في الواقعة الواحدة كثير في الأحاديث الصحيحة، ويحمل الاختلاف بالزيادة والنقصان على أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر، وكل أدى ما حفظ. وزيادة الثقة مقبولة على أصح الأقوال عند علماء الحديث. ويحمل الاختلاف بالتقديم والتأخير أو بإبدال لفظ بلفظ على الرواية بالمعنى، وقد قال الإمام النووي في شرح مقدمة مسلم: إن جمهور السلف والخلف من أصحاب الحديث والفقه والأصول يجوز رواية الحديث بالمعنى إذا جزم الراوي بأنه أدى المعنى، قال النووي، وهذا هو الصواب الذي تقتضيه أحوال الصحابة فمن بعدهم رضي الله عنهم في روايتهم القضية الواحدة بألفاظ مختلفة ا. هـ. ويمكن حصر الموضوع من رواياته المذكورة في النقاط التالية:

1 - مذهب القدرية وشبهتهم والرد عليهم وحكم القائل بمذهبهم. 2 - أحوال نزول جبريل على الرسول صلى الله عليه وسلم والسبب في مجيئه في هذه القصة. 3 - حقيقة كل من الإيمان والإسلام والنسبة بينهما. 4 - حقيقة الإحسان ومراتبه. 5 - الكلام عن الساعة. 6 - الأحكام المستفادة من الحديث. 1 - أما عن النقطة الأولى فإن مذهب معبد الجهني ومتابعيه أن الله تعالى لم يقدر الأشياء أزلا، ولم يتقدم علمه بها، وإنما يعلمها سبحانه بعد وقوعها. وشبهتهم أنه تعالى لو كان عالما بالتكذيب لكان في إرساله الرسل عابثا. ويرد عليهم بأن في الإرسال إزالة لعذر المكذبين وإلزاما لهم وإثابة للداعين، ثم إنه يكفي في حكمة الإرسال إيمان من آمن، على أن الجهل بالحكمة لا يستلزم عدمها المؤدي إلى العبث "تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا". ومن التنبيهات الظاهرة الدافعة لزعمهم أن الله تعالى موجد الكائنات بلا منازع ولا يتأتى الإيجاد بدون سبق العلم. والذي قاله ابن عمر ظاهر في تكفيره القدرية، لأنه حكم بعدم قبول نفقاتهم والأعمال يحبطها الكفر، ثم استدل بحديث جبريل وفيه أن الإيمان بالقدر جزء من الإيمان، والشيء ينتفي بانتفاء جزئه غالبا. قال القاضي عياض: هذا في القدرية الأولى الذين نفوا تقدم علم الله تعالى بالكائنات ثم قال: والقائل بهذا كافر بلا خلاف، اهـ. ودعوى القاضي عياض عدم الخلاف في كفرهم مردودة، فإن تكفيرهم أحد رأيين، والآخر أنهم عاصون لم يخرجوا من الملة، وإليه مال الإمام النووي حيث نقل عن بعض العلماء قولهم: ويجوز أن ابن عمر لم يرد بهذا الكلام التكفير المخرج عن الملة فيكون من قبيل كفران النعم، إلا أن قوله "ما قبله الله منه" ظاهر في التكفير، فإن إحباط الأعمال إنما يكون بالكفر، إلا أنه يجوز أن يقال في المسلم: لا يقبل الله عمله لمعصيته وإن كان عمله صحيحا، كما أن الصلاة في الدار المغصوبة صحيحة غير محوجة إلى القضاء عند جماهير العلماء بل بإجماع السلف، وهي غير مقبولة فلا ثواب فيها على المختار عند أصحابنا. والآمدي وبعض العلماء عمموا هذا الخلاف في كل ذي هوى من أهل القبلة، والذي تستريح إليه النفس هو ما ذهب إليه القاضي عياض، لأن نسبة الجهل إلى الله تتنافى مع الإيمان بصفة من صفات الله تعالى وهي العلم.

وقد انقرض القدرية الزاعمون هذا الزعم انقراضا كليا، لكن العلماء يطلقون لفظ القدرية في العصور المتأخرة على الجهمية الذين يقولون بحدوث العلم، بمعنى أن الله تعالى إذا أراد إيجاد شيء أحدث لنفسه علما قبل إيجاده ذلك بزمان، فهم يتفقون مع القدرية السابقين في حدوث العلم، وإن اختلفوا في تقديم العلم على الوقوع وتأخره عنه. كما يطلق العلماء لفظ القدرية أيضا على المعتزلة لأنهم يقولون: إن العبد يخلق أفعاله الاختيارية، والخير من الله والشر من غيره. فهم ينفون القدر في بعض الأمور. وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم "القدرية مجوس هذه الأمة" رواه أبو حازم عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرجه أبو داود في سننه والحاكم في المستدرك على الصحيحين وقال صحيح على شرط الشيخين إن صح سماع أبي حازم عن ابن عمر، ويرى أهل السنة أن هذا الحديث عني به القدرية الأولين كما عني به المعتزلة. قال الخطابي في حمل الحديث على المعتزلة: إنما جعلهم صلى الله عليه وسلم مجوسا لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس في قولهم بالأصلين النور والظلمة يزعمون أن الخير من فعل النور والشر من فعل الظلمة، فصاروا ثنوية، وكذلك القدرية يضيفون الخير إلى الله تعالى والشر إلى غيره، والله تعالى خالق الخير والشر جميعا لا يكون شيء منهما إلا بمشيئته، فهما مضافان إليه سبحانه وتعالى خلقا وإيجادا وإلى الفاعلين لهما من عباده فعلا وانتسابا. ويحاول المعتزلة دفع كونهم مقصودين بهذا الحديث فيقولون: إن القدرية المذمومين الذين عناهم الحديث إنما هم القدرية الأولون، ويغالط بعضهم فيقول: لسنا بقدرية، وإنما القدرية هم الأشاعرة لاعتقادهم إثبات القدر، وإنما ينسب إلى الشيء من يثبته، وليس الذي ينفيه، وقد رد إمام الحرمين وابن قتيبة هذه المغالطة بأن أهل الحق يفوضون أمورهم إلى الله ويضيفون القدر والأفعال إلى الله سبحانه وتعالى، وهؤلاء الجهلة يضيفونه إلى أنفسهم ومدعي الشيء لنفسه ومضيفه إليها أولى بأن ينسب إليه ممن يعتقده لغيره وينفيه عن نفسه. ومذهب أهل الحق إثبات القدر، ومعناه أن الله تبارك وتعالى قدر الأشياء في القدم وعلم أنها ستقع في أوقات معلومة عنده سبحانه وتعالى وعلى صفات مخصوصة، فهي تقع على حسب ما قدرها سبحانه وتعالى. قال الخطابي: وقد يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر إجبار الله تعالى العبد وقهره على ما قدره وقضاه، وليس الأمر كما يتوهمونه، وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله سبحانه وتعالى بما يكون من اكتساب العبد وصدور أفعاله عن تقدير منه سبحانه وخلق لها خيرها وشرها. 2 - وأما عن النقطة الثانية فإن الذي يؤخذ من الأحاديث أن جبريل عليه السلام كان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في صور وأحوال مختلفة: فأحيانا كان يأتي مثل صلصلة الجرس، أي بصوت متدارك، قيل إنه حفيف أجنحة الملائكة، يسمعه صلى الله عليه وسلم حتى يتهيأ للوحي، ويتفرغ له عما يشغله، وكان الصحابة أحيانا

يشعرون بدوي كدوي النحل، كما جاء ذلك في رواية لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفي هذه الحالة لا يراه صلى الله عليه وسلم بل يثقل عليه الأمر ويشتد، ويأخذه ما يشبه الحمى، ويتفصد جبينه عرقا في اليوم الشديد البرد، فينفصم الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد وعى كل ما قال، وتلك الحالة أشد حالات الوحي وأصعبها. وأحيانا كان ينزل جبريل ويتراءى للنبي صلى الله عليه وسلم في صورته الحقيقية التي خلقه الله عليها، فيسد الأفق، ونزوله بهذه الكيفية قد ندر حتى قيل: لم يره صلى الله عليه وسلم بهذه الصورة إلا مرة أو مرتين. وأحيانا كان يتمثل جبريل بصورة دحية الكلبي الصحابي المشهور بحسن صورته. وأحيانا كان يتمثل جبريل بصورة رجل غريب. والحالة التي معنا من نوع نزوله عليه السلام في صورة رجل غير معروف، وسبب هذا النزول أن الصحابة كانوا قد أكثروا السؤال، واستشعر صلى الله عليه وسلم أن فيهم من يسأل تعنتا، فغضب حتى احمر وجهه، وأنزل الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} [المائدة: 101] فانكف الناس عن السؤال، وكانوا يتمنون أن يأتي الرجل من البادية فيسأل فأرسل الله جبريل عليه السلام فسأل ليعلموا، ولا يقال: لم لم يسلم جبريل؟ وكيف تخطى الصحابة حتى وصل إلى جوار النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقد ثبت أنه سلم واستأذن في التخطي والدنو ولكن لم ينقله الرواة في أحاديثنا، فقد جاء في رواية البزار " .... فإنا لجلوس عنده إذ أقبل رجل أحسن الناس وجها وأطيبهم ريحا، كأن ثيابه لم يمسها دنس حتى سلم من طرف البساط وقال: السلام عليك يا محمد، أأدنو؟ قال: ادنه، فما زال يقول: أأدنو؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ادنه، حتى وضع يديه على ركبتي رسول الله صلى الله عليه وسلم". والظاهر أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعرف جبريل في الحال، أخذا من قوله "ردوا على الرجل" وقيل: يجوز أن يكون قد عرفه في الحال وأخفى ذلك على الحاضرين، لكن هذا القول ضعيف لما جاء في رواية البخاري من قوله صلى الله عليه وسلم "أتاكم يعلمكم دينكم وما أتى في صورة إلا عرفته فيها إلا هذه" وفي رواية: "فوالذي نفسي بيده ما شبه علي منذ أتاني قبل مرتي هذه وما عرفته حتى ولى". وظاهر رواية أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوضح للصحابة أن السائل هو جبريل في نفس المجلس بعد أن حاولوا رده فلم يجدوه، ويعارض هذا ما جاء في رواية عمر بن الخطاب عند أبي داود والترمذي من أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لعمر: أتدري من السائل؟ قال له ذلك بعد ثلاث ليال من سؤال جبريل، وجمع بينهما بأن عمر لم يحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحال، بل كان قد قام من المجلس ولم يرجع فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم الحاضرين في الحال وأخبر عمر رضي الله عنه بعد ثلاث، فإن قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قاطع بأن عمر لا يعلمه فكيف يسأله "أتدري من السائل"؟ أجيب بأنه فعل ذلك ليشتد اشتياق عمر للجواب لأهميته.

3 - وأما عن النقطة الثالثة فقد اختلف العلماء في الحقيقة الشرعية لكل من الإيمان والإسلام، وفي زيادة الإيمان ونقصه، وفي العلاقة بين الإيمان والإسلام، وقد بلغ بهم الخلاف والتشعب في هذا الموضوع أن ألف بعض الفضلاء فيه كتابا مستفيضا، ولما كان هدفنا في هذا المقام هو شرح الأحاديث والجمع بينها فإننا سنقتصر على صفوة القول وخلاصته مع التوفية والإيضاح وبالله التوفيق. أولا: زعمت الكرامية وبعض المرجئة أن الإيمان هو الإقرار باللسان دون عقد القلب وتصديقه تعلقا بقوله صلى الله عليه وسلم "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم" وهذا الزعم واضح البطلان، فقد أجمعت الأمة على أن المنافقين كفار، وإن كانوا قد أعلنوا الشهادتين بألسنتهم بدليل قوله تعالى: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله} [التوبة: 84]. ثانيا: زعم الخوارج أن أهل المعاصي كفار، وإن صدقوا بقلوبهم وأقروا بألسنتهم. وزعم المعتزلة أن أهل المعاصي ليسوا مؤمنين وإن صدقوا بقلوبهم وأقروا بألسنتهم، كما أنهم ليسوا كفارا، وإن استحقوا الخلود في النار، فكل من الفريقين ينفي الإيمان عن أهل المعاصي وشبهتهم قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ... " إلخ الحديث، وحكم القرآن على بعض العصاة بالخلود في النار كقوله تعالى: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها} [النساء: 93]. وكقوله تعالى: {ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها} [النساء: 14] وهذا الزعم من الفريقين باطل لمعارضته الآيات الكثيرة والأحاديث البالغة في موضوعها حد التواتر. كقوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} [الحجرات: 9] فقد أثبت لهم وصف الإيمان مع معصية الاقتتال، وكحديث أبي ذر "ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة" قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال صلى الله عليه وسلم وإن زنى وإن سرق .. الحديث. ونفي الإيمان عن الزاني محمول على نفي كمال الإيمان، والخلود في الآيتين محمول على المكث الطويل جمعا بين النصوص. ثالثا: لأهل السنة والجماعة ثلاثة أقوال مشهورة في حقيقة الإيمان شرعا، فأكثر المتكلمين على أن الإيمان اسم للتصديق فقط، أي تصديق النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما علم مجيئه به بالضرورة تصديقا جازما. وبعض العلماء على أن الإيمان اسم للتصديق والنطق. وأكثر السلف على أن الإيمان اسم للتصديق والنطق والعمل. وقد جمع بعض العلماء بين الأقوال الثلاثة، فقال: إن السلف لا يعنون بقولهم إنه التصديق والعمل أن العمل جزء من الإيمان بحيث ينعدم الإيمان بانعدام العمل، لإجماعهم على أن العاصي بترك بعض الواجبات هو مؤمن، فإضافتهم العمل إلى الإيمان بناء على هذا إضافة كمال، فالمصدق

بقلبه إذا لم يجمع إلى تصديقه العمل بموجب الإيمان لا يستحق اسم مؤمن على الإطلاق بل على التقييد بمؤمن عاص، لأن اسم الشيء مطلقا يقع على الكامل منه، ولا يستعمل في الناقص ظاهرا إلا بقيد، وعلى هذا جاز نفي الإيمان عن العاصي في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" والمتكلمون الذين يرون أن الإيمان هو التصديق لا يعارضون في أن الإيمان الكامل هو ما صحبه العمل، فالتصديق أول منازل الإيمان وأساسه. والقائلون بأنه التصديق والنطق لعلهم يقصدون أن النطق شرط في ثبوت الإيمان بحسب الظاهر لا أنه جزء منه، فليس الإيمان عند الجميع إلا التصديق كما فسره صلى الله عليه وسلم في أحاديثنا. ولا شك أن الإيمان يزيد وينقص إن قلنا بإضافة الأعمال إلى التصديق خلافا للخوارج والمعتزلة الذين ينفون الإيمان عن العاصي، والخلاف بين أهل السنة في زيادة الإيمان ونقصه على القول بأنه التصديق. فأكثر المتكلمين ينكر زيادته ونقصانه، ويقولون: إن التصديق علم، والعلوم لا تتفاوت، وأنه متى قبل الزيادة كان شكا وكفرا. وجمهور العلماء والمحدثين يقول: إن التصديق نفسه يزيد وينقص، وبعضهم يرى أنه يزيد ولا ينقص، قال ابن بطال: التفاوت في التصديق على قدر العلم والجهل، فمن قل علمه كان تصديقه مثلا بمقدار ذرة، والذي فوقه في العلم تصديقه بمقدار برة أو شعيرة، إلا أن أصل التصديق الحاصل في قلب كل أحد منهم لا يجوز عليه النقصان، ويجوز عليه الزيادة بزيادة العلم والمعاينة. ويؤيده حديث أنس "يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير" وفي رواية لأنس "من إيمان" بدلا من كلمة "من خير" وجاء في البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان". وقال النووي: الأظهر - والله أعلم - أن نفس التصديق يزيد بكثرة النظر وتظاهر الأدلة، ولهذا يكون إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا تعتريهم الشبه، ولا يتزلزل إيمانهم بعارض، بل لا تزال قلوبهم منشرحة نيرة وإن اختلفت عليهم الأحوال، وأما غيرهم من المؤلفة ومن قاربهم فليسوا كذلك، فهذا ما لا يمكن إنكاره ولا يتشكك عاقل في أن نفس تصديق أبي بكر الصديق رضي الله عنه لا يساويه تصديق آحاد الناس. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: إن النقص أمر نسبي، لكن منه ما يترتب عليه الذم ومنه ما لا يترتب، فالأول ما نقصه بالاختيار، كمن علم وظائف الدين ثم تركها عمدا، والثاني ما نقصه بغير اختيار، كمن لا يعلم أو لم يكلف، فهذا لا يذم بل يحمد من جهة أنه كان قلبه مطمئنا بأنه لو زيد لقبل، ولو كلف لعمل، وهذا شأن الصحابة الذين ماتوا قبل نزول الفرائض، ومحصله أن النقص

بالنسبة لهم أمر صوري نسبي، والآيات القرآنية صريحة في زيادة الإيمان، وما يقبل الزيادة يقبل النقصان. قال تعالى: {ليزدادوا إيمانا} [الفتح: 4] {فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا} [التوبة: 124]، {وما زادهم إلا إيمانا وتسليما} [الأحزاب: 22]. أما الإسلام فهو الاستسلام، فإن قصد به استسلام القلب وإذعانه كان بمعنى الإيمان كما في قوله تعالى: {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين} [الذاريات: 35، 36]. وإن قصد استسلام الجوارح بما في ذلك النطق يتحقق الإسلام دون الإيمان، كما في المنافقين، ومنه قوله تعالى: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا} [الحجرات: 14]. والإيمان المنجي لا يتم بدون عمل الجوارح، والإسلام المنجي لا يتم بدون التصديق القلبي. فحينما يفسر الإيمان بالتصديق، والإسلام بعمل الجوارح، فهو تفسير بحسب الأصل الظاهر، كما في حديث سؤال جبريل الذي نحن بصدده. وحينما يفسر الإيمان بالتصديق والعمل، ويفسر الإسلام بالأمرين فهو تفسير بالكمال الشرعي المنجي من النار، وحينما يفسر الإيمان بالعمل فهو تفسير بلوازمه وخواصه، كما في حديث وفد عبد القيس الآتي وحينما يفسر الإسلام بالتصديق، فهو تفسير بشرطه الأساسي الذي يتوقف عليه. وهذا التحليل موافق لرأي الحافظ ابن حجر، إذ قال في نهاية المطاف: والذي يظهر من مجموع الأدلة أن لكل منهما حقيقة شرعية، كما أن لكل منهما حقيقة لغوية، لكن كل منهما مستلزم للآخر بمعنى التكميل له، فكما أن العامل لا يكون مسلما كاملا إلا إذا اعتقد، فكذلك المعتقد لا يكون مؤمنا كاملا إلا إذا عمل، وحيث يطلق الإيمان في موضع الإسلام، أو العكس، أو يطلق أحدهما على إرادتهما معا، فهو على سبيل المجاز، ويتبين المراد بالسياق. اهـ. وقد حكى ذلك الإسماعيلي عن أهل السنة والجماعة قالوا: إنهما تختلف دلالتهما بالاقتران، فإن أفرد أحدهما دخل الآخر فيه، وعلى ذلك يحمل ما جاء في حديث وفد عبد القيس. وظاهر الحديث الذي نحن فيه أن المؤمن هو من صدق بجميع ما ذكر، وهو كذلك ولا يعارض هذا ما ذكره الفقهاء من إطلاق الإيمان على من آمن بالله ورسوله، لأن المراد من الإيمان برسول الله الإيمان بوجوده وبما جاء به عن ربه، فيدخل فيه جميع ما ذكر. ولا يلزم من جعل الإسلام اسما للأركان الخمسة في الحديث أن يكون من قصر في شيء منها غير مسلم، لقوله صلى الله عليه وسلم "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة" فقد جعل النطق بالشهادتين وحده كافيا. والله أعلم. 4 - وأما عن النقطة الرابعة فقد قيل: إن للعبد في عبادته ثلاثة مقامات: الأول: أن يفعلها على الوجه الذي يسقط معه التكليف، أي مستوفاة الشرائط والأركان.

الثاني: أن يفعلها كذلك وقد غلب عليه أن الله تعالى يشاهده، وهذا هو مقام المراقبة. الثالث: أن يفعلها كذلك وقد استغرق في بحار المكاشفة، حتى كأنه يرى الله، وهو مقامه صلى الله عليه وسلم كما قال "وجعلت قرة عيني في الصلاة". فقوله صلى الله عليه وسلم "أن تعبد الله كأنك تراه" إشارة إلى مقام المكاشفة، وتلك أعلى درجات العبادة، لأننا لو قدرنا أن أحدنا قام في عبادة وهو يعاين ربه سبحانه وتعالى لم يترك شيئا مما يقدر عليه من الخضوع والخشوع وحسن السمت، واجتماعه بظاهره وباطنه على الاعتناء بتتميمها على أحسن وجوهها إلا أتى به. وقوله صلى الله عليه وسلم "فإن لم تكن تراه فإنه يراك" نزول عن المكاشفة إلى مقام المراقبة، أي إن لم تعبده وأنت من أهل الرؤية المعنوية "التي هي المكاشفة" فاعبده وأنت بحيث تستشعر أنه يراك. وإذا كانت مجالسة الصالحين مانعة من التلبس بشيء من النقائص، احتراما لهم واستحياء منهم كان إحساس العبد بدوام اطلاع الله عليه في سره وعلانيته دافعا إلى الإخلاص والإتمام. وكل من المقامات الثلاثة إحسان، إلا أن الإحسان الذي هو شرط في صحة العبادة هو الأول، لأن الإحسان بالمقامين الأخيرين إنما هو من صفة الخواص، وخواص الخواص. وإنما أخر جبريل السؤال عن الإحسان، لأنه صفة الفعل أو شرط في صحته، والصفة وضعها بعد الموصوف. وقد اشتمل هذا الحديث - كما يقول القاضي عياض - على جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة من عقود الإيمان ابتداء وحالا ومآلا، ومن أعمال الجوارح، ومن إخلاص السرائر، والتحفظ من آفات الأعمال، حتى إن علوم الشريعة كلها راجعة إليه ومتشعبة منه. 5 - وأما عن النقطة الخامسة فإن نفي علمه صلى الله عليه وسلم بموعد الساعة يتنافى مع ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم "بعثت أنا والساعة كهاتين" مشيرا إلى السبابة والوسطى مما يشعر بالعلم، وأجيب بأن معنى الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم النبي الأخير، فلا نبي آخر بعده، وإنما تليه القيامة، وكل آت قريب. وما ذكره صلى الله عليه وسلم من أمارات الساعة هو من علاماتها الصغرى، وهي كثيرة: منها رفع العلم وظهور الجهل، وكثرة الزنا، وشرب الخمر. والقصد من ذكر العلامات الصغرى الإشعار بقرب قيامها، ليندفع الناس إلى العمل الصالح خوفا من غشيانها فجأة، لقوله تعالى: {وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا} [الأحزاب 63] وقوله تعالى: {لا تأتيكم إلا بغتة} [الأعراف: 187]. أما العلامات الكبرى فهي كالدجال ونزول عيسى وخروج يأجوج ومأجوج والدابة وطلوع الشمس من المغرب.

قال ابن رشد: واتفقوا على أنه لا بد من ظهور هذه الخمسة، واختلفوا في خمسة أخرى: هي خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب والدخان ونار تخرج تروح معهم حيث راحوا وتقيل معهم حيث قالوا. 6 - [ويؤخذ من الحديث غير ما تقدم]- 1 - أدب الجماعة في مشيهم مع فاضلهم، وهو أنهم يحفون به، فلا يمشون أمامه لئلا يتقدموا عليه، ولا يمشون من جهة واحدة، لئلا يفوت المتطرف منهم سماع صوت الفاضل، ولا يمشون خلفه، لكراهة السلف المشي خلف الرجل لما فيه من الشهرة. 2 - حسن الاعتذار عما يوهم التقصير، فإن "يحيى" خشي أن ينسب إليه عدم المبالاة بصاحبه واغتصاب القول منه، فاعتذر بأنه ظن أن صاحبه يفوض له السؤال، لأنه أسن من صاحبه وأكثر إقداما وجرأة وأبسط لسانا. 3 - القصد في القول وعدم الإطراء في المواجهة، فإنهما ناديا العالم الفقيه التقي الورع ابن عمر بقولهما: أبا عبد الرحمن. 4 - ما كان عليه السلف من حرصهم على إنكار البدع، وفزعهم إلى أهل العلم والقدوة الحسنة إذا طرأ على الدين طارئ. 5 - مذاكرة العلم في الطريق، وكرهه بعضهم والصحيح الجواز. 6 - يؤخذ من رواية أبي هريرة استحباب بروز العالم وظهوره. 7 - استحباب التجمل لحضور مجالس العلم أخذا من هيئة جبريل عليه السلام. 8 - أدب السائل والمتعلم في جلسته مع المسئول والمعلم. 9 - أنه ينبغي للعالم أن يرفق بالسائل ويدنيه منه، ليتمكن من سؤاله غير هائب ولا منقبض. 10 - أنه ينبغي لمن حضر مجلس العالم إذا علم أن بأهل المجلس حاجة إلى مسألة لا يسألون عنها أن يسأل هو عنها، ليحصل الجواب للجميع. 11 - جواز سؤال العالم ما لا يجهله السائل ليعلمه السامع. 12 - في الحديث حجة للجمهور أنه لا كراهة في قول رمضان بدون كلمة شهر خلافا لمن كره ذلك بحجة أن رمضان من أسماء الله، وبحجة حديث "لا تقولوا رمضان فإن الله هو رمضان" قال الجمهور: الحديث المذكور غير صحيح، ولم يصح كون رمضان من أسماء الله تعالى. 13 - استدل بقوله "كأنك تراه" إلخ. على أن رؤية الله في الدنيا بالأبصار غير واقعة، وقد صرح بذلك مسلم في رواية له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا". 14 - أنه ينبغي للعالم والمفتي إذا سئل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم وأن ذلك لا ينقصه، بل يستدل به على ورعه وتقواه.

15 - احتج بالحديث من يجيز بيع أم الولد، ولا حجة فيه، بل قال المروزي: فيه الرد على المجيز، لأنه صلى الله عليه وسلم أنكر أن تلد الأمة ربتها، ورد على المروزي بأنه لا يلزم أن تكون أمارة الساعة شيئا حراما، فإن تطاول البنيان من أمارتها، وليس حراما. 16 - أن الإيمان والإسلام والإحسان تسمى كلها دينا. 17 - أن الملك يجوز أن يتمثل لغير النبي صلى الله عليه وسلم فيراه ويتكلم بحضرته وهو يسمع. 18 - أن السؤال الحسن يسمى علما وتعليما، وقد اشتهر قولهم: حسن السؤال نصف العلم. والله أعلم

(2) باب أمور الإسلام

(2) باب أمور الإسلام 7 - عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس، نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول، حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خمس صلوات في اليوم والليلة" فقال: هل علي غيرهن؟ قال: "لا. إلا أن تطوع، وصيام شهر رمضان" فقال: هل علي غيره؟ فقال: "لا. إلا أن تطوع" وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الزكاة" فقال: هل علي غيرها؟ قال: "لا. إلا أن تطوع" قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أفلح إن صدق". 8 - عن طلحة بن عبيد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث نحو حديث مالك غير أنه قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أفلح وأبيه إن صدق" أو "دخل الجنة وأبيه إن صدق". -[المعنى العام]- بعد أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أخذ نور الإسلام ينتشر في صحراء نجد من أفواه المؤمنين، وأخذ شعاعه يشق طريقه إلى صدور أهل البوادي فتطمئن له قلوبهم ويسلمون، ثم يدفعهم حب الاستطلاع والرغبة في الاستيثاق مما وصلهم من التعاليم، والحرص على الاستزادة من أمور الدين، والظمأ الباعث على الارتشاف من المنبع الأصلي لنهر الخير، كل ذلك كان يدفع الكثير منهم إلى القدوم إلى المدينة للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن هؤلاء الوافدين صاحب القصة في الحديث، رجل من أهل البادية، قدم من السفر، أشعث أغبر، منتفش الرأس، منتشر الشعر، بعيد العهد بالنظافة والرفاهية، سأل عن المسجد النبوي فقصده، ورأى فيه جماعة من الناس يجلسون، فنادى من بعيد. أيكم محمد؟ أين محمد لأسأله عن أمور الإسلام؟ وسمع طلحة بن عبيد الله راوي الحديث وسمع من معه من الصحابة دوي الصوت وجلبة الرجل القادم، ولم يتبينوا ما يقول حتى دنا منهم وهو يردد: أين محمد؟ أريد أن يدلني على شرائع الإسلام وتعاليمه، فأشاروا له على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس، ثم قال: يا محمد. لقد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا

الله وأنك رسول الله، وأحب أن أعلم منك ما يجب علي، ماذا علي من الصلوات؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خمس صلوات في كل يوم وليلة. قال الرجل: هل علي صلاة غيرها؟ قال صلى الله عليه وسلم: ليس عليك غيرها لكن لك أن تتطوع بما تشاء من صلاة. قال الرجل: فماذا علي من صوم؟ قال صلى الله عليه وسلم: صيام شهر رمضان من كل عام. قال الرجل: هل علي صيام غيره؟ قال صلى الله عليه وسلم: ليس عليك صيام غيره، لكن لك أن تتطوع. قال الرجل: فماذا علي من زكاة؟ فبين له صلى الله عليه وسلم ما يجب عليه من زكاة. فقال الرجل: هل علي من زكاة غير ذلك؟ قال صلى الله عليه وسلم: ليس عليك زكاة غيرها، لكن لك أن تتطوع بما تشاء من صدقات. وطفق الرجل يسأل عما يجب عليه من شرائع الإسلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم يجيبه، فلما اكتفى قام مدبرا وهو يقول: والله لا أزيد على ما وجب علي شيئا ولا أنقص منه شيئا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: إن صدق هذا الرجل فيما قال، ووفى بما التزم دخل الجنة وكان من المفلحين الفائزين. -[المباحث العربية]- (جاء رجل) لم يرد اسمه، وزعم القاضي عياض أن البخاري سماه، وأنه ضمام بن ثعلبة السعدي، وجزم ابن بطال وآخرون بذلك اعتمادا على إيراد مسلم لقصة ضمام عقب هذا الحديث، ولأن في كل منهما أن الرجل بدوي، وأنه قال: لا أزيد على هذا ولا أنقص، ويقوي هذا الزعم، وأنهما حديث واحد أن ابن سعد وابن عبد البر وجماعة لم يذكروا لضمام إلا هذا الحديث. لكن القرطبى رد هذا الرأي بأن من سماه البخاري ضماما هو الرجل الآتي في حديث أنس. وقال: ودعوى أنهما قصة واحدة دعوى فرط، وتكلف شطط من غير ضرورة، اهـ. (من أهل نجد) النجد ما ارتفع من الأرض، والغور ما انخفض منها، وصحراء نجد معروفة شرق الحجاز، سميت نجدا لارتفاعها. والغور المقابل لها تهامة. (ثائر الرأس) أي متفرق شعر الرأس، منتشره ومنتفشه، شأن من ترك الرفاهية وسافر في الصحراء، وفيه إشارة إلى أنه إنما جاء لهذه الغاية فبادر إليها، و"ثائر" بالرفع صفة لرجل وقيل: يجوز نصبه على الحال من رجل بناء على مجيء الحال من النكرة إذا وصفت، أو حال من ضميره في متعلق الجار والمجرور، واعترض بأن "ثائر الرأس" مضاف إلى معرفة فلا يقع صفة للنكرة، ولا يقع حالا، وأجيب بأن إضافته لفظية لا تفيد تعريفا. وفي الكلام مضاف محذوف تقديره: ثائر شعر الرأس. (نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول) روي "نسمع" و"نفقه" بالنون المفتوحة فيهما، وروي بالياء المضمومة فيهما، والأول أشهر، و"ما" موصولة، وعائد الصلة محذوف و"دوي الصوت" شدته وارتفاعه وتكرره ومنه دوي النحل، وإنما لم يفهموا ما يقول لأنه نادى من بعد متعجلا السؤال، فلما دنا فهم كلامه، لهذا قال:

(حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يسأل عن الإسلام) و"حتى" غاية لمجيئه وإقباله والمعنى: أقبل إلى أن دنا، و"إذا" فجائية، وتختص بالجمل الإسمية، ولا تحتاج إلى جواب. قيل: هي حرف، وقيل: ظرف مكان وقيل: ظرف زمان للحال لا الاستقبال. (خمس صلوات في اليوم والليلة) ظاهره عدم التطابق بين السؤال والجواب، ولهذا قيل: إن الرجل كان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأنه إنما كان يسأل عن شرائع الإسلام وأموره، فقيل له: أمور الإسلام خمس صلوات ... وكذا. وكذا. وفي رواية: "أخبرني ماذا فرض الله علي من الصلاة"؟ و"خمس" يجوز فيه الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هي خمس صلوات، والنصب على أنه مفعول لفعل محذوف، والتقدير: فرض الله خمس صلوات. (لا. إلا أن تطوع) بتشديد الطاء وأصله تتطوع بتاءين، فأدغمت التاء في الطاء. والاستثناء قيل: منقطع، ومعناه: لا يجب عليك شيء غيرهن، لكن يستحب لك التطوع، وقيل: متصل، والمعنى: لا يجب عليك شيء غيرهن إلا ما شرعت فيه من التطوع فيجب عليك إتمامه، وفي المسألة خلاف فقهي طويل سيأتي في فقه الحديث. (وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة) هذا من قول الراوي كأنه نسي ما نص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والتبس عليه الأمر فجاء بهذه العبارة. قال الأبي: وفيه صحة نقل الحديث بالمعنى، ورد عليه بعضهم بأن من قال: قرأ فلان الفاتحة لا يصدق عليه أنه نقل المقروء لا لفظا ولا معنى. (أفلح وأبيه إن صدق) الفلاح الظفر وإدراك البغية، والعرب تقول لكل من أصاب خيرا مفلح، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله، والتقدير: "إن صدق في قوله فقد أفلح" وفيه دليل على جواز إطلاق الصدق في الخبر المستقبل، خلافا لمن قصره على الخبر في الماضي وخص المستقبل بالوفاء. (أو دخل الجنة وأبيه إن صدق) كلمة "أو" للشك من الراوي أي اللفظين قاله صلى الله عليه وسلم. -[فقه الحديث]- استدل الحنفية والمالكية بالحديث على أن الشروع بالتطوع يوجب إتمامه، تمسكا بأن الأصل في الاستثناء أن يكون متصلا، ويوضح القرطبي وجه الاستدلال بقوله: نفى الحديث وجوب شيء آخر إلا ما تطوع به، والاستثناء من النفي إثبات، ولا قائل بوجوب التطوع فيتعين أن يكون المراد إلا أن تشرع في تطوع فيلزمك إتمامه، ورد عليهم بأن الاستثناء هنا من غير الجنس بقرينة أن التطوع

لا يقال فيه: عليك، وقد علم أن التطوع ليس بواجب، وبقرينة ما رواه النسائي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحيانا ينوي صوم التطوع ثم يفطر، وفي البخاري أنه صلى الله عليه وسلم أمر جويرية بنت الحارث أن تفطر يوم الجمعة بعد أن شرعت فيه، فدل على أن الشروع في العبادة لا يستلزم الإتمام إذا كانت نافلة، بهذا النص في الصوم والقياس في الباقي. كما رد عليهم ردا إلزاميا بأن الاستثناء من النفي عندهم ليس للإثبات بل مسكوت عنه، وقوله: "إلا أن تطوع" استثناء من قوله: "لا" أي لا فرض عليك غيرها. كما أنهم لا يقولون بفرضية الإتمام، بل بوجوبه، واستثناء الواجب من الفرض منقطع لتباينهما. وقد أورد على الحديث إشكالات نعرضها مع الإجابة عليها. الأول: كيف أجاب صلى الله عليه وسلم عن السؤال عن الإسلام بما أجاب مع أن أساس حقيقة الإسلام الشهادتان؟ وأجيب بأنه يحتمل أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر له الشهادتين فلم يسمعهما الراوي لبعد موضعه، أو لم ينقله لشهرته. والأولى أن يقال: إنما لم يذكر له الشهادة لأنه علم أنه يعلمها، أو علم أن السؤال ليس عن حقيقة الإسلام، بل عن شرائعه الفعلية، فأجاب بتعاليم الإسلام العملية. الثاني: لماذا لم يذكر الحج؟ وكيف نوفق بين ما هنا وبين ما جاء في بعض الروايات من عدم ذكر الصوم؟ وفي بعضها من عدم ذكر الزكاة، وفي بعضها بزيادة صلة الرحم، وفي بعضها بزيادة أداء الخمس؟ . وأجيب بأنه لم يذكر الحج لأنه لم يكن فرض بعد، أو أن الراوي اختصره. واختلاف الروايات بالزيادة والنقص كثيرة في الأحاديث، فإن أمكن حمل كل منها على واقعة خاصة، واختلاف الإجابات عن السؤال الواحد لاختلاف السائلين ومراعاة أحوالهم. إن أمكن هذا الحمل كان خيرا وإلا حمل على تفاوت الرواة الحفظ والضبط، وذلك لا يمنع من إيراد الجميع في الصحيح لما عرف من أن زيادة الثقة مقبولة. الثالث: كيف أثبت له الفلاح بما ذكر مع أنه مرتبط باجتناب المنهيات ولم تذكر؟ وأجيب بأن المنهيات لم تكن شرعت بعد، ورد هذا الجواب بأن السؤال كان بالمدينة وبعد أن شرعت أكثر المنهيات. والجواب الحق هو أنه ورد في الروايات الصحيحة عبارة "فأخبره بشرائع الإسلام" فأفادت أنه ذكر له ما يجب فعله وما يجب اجتنابه وإن اقتصرت بعض الروايات. الرابع: كيف أثبت له الفلاح إن صدق فيما التزم به، وقد التزم عدم الزيادة؟ . وأجيب بأن إثبات الفلاح له راجع إلى عدم النقص فقط كأنه قال: أفلح في قوله لا أنقص إن وفى.

وقيل: إن السائل كان وافد قومه، يتعلم ويعلمهم، فقصد نفي الزيادة والنقص في التبليغ كأنه قال: لا أزيد في الإبلاغ على ما سمعت ولا أنقص في تبليغ ما سمعت منك إلى قومي، فقال صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق. وقيل: كان كلام الرجل على سبيل الكناية والمبالغة في التصديق والقبول، والمعنى قبلت قولك فيما سألتك عنه قبولا لا أزيد عليه سؤال أحد، ولا أنقص عنه بالقبول، فقال صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق. وقيل: يحتمل أنه أراد لا أزيد عليه بتغيير حقيقته، فلا أجعل الظهر خمسا مثلا ولا أنقص ما وجب، فقال صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق. ويعكر على هذه الإجابات كلها قول الرجل في رواية البخاري في كتاب الصيام "والذي أكرمك لا أتطوع شيئا ولا أنقص مما فرض الله علي شيئا". والأحرى بالقبول أن يقال: إن المراد من الفلاح النجاة من النار مصداقا لقوله تعالى: {فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز} [آل عمران: 185] ومصداقا لرواية "دخل الجنة وأبيه إن صدق" التي تعد مفسرة للفلاح في الرواية الأخرى. ولا شك أن المتمسك بالفرائض ناج وإن لم يفعل النوافل، وليس في الكلام أنه إذا أتى بزائد على ذلك لا يكون مفلحا، لأنه إذا أفلح بالواجب ففلاحه بالمندوب مع الواجب أولى، كما أنه ليس في الكلام ما يمنع من أن يكون غيره أكثر منه فلاحا. وإنما ترك صلى الله عليه وسلم أمره بالسنن وأقره على الاكتفاء بالواجب مع أن المواظب على ترك النوافل مذموم، لقرب عهده بالإسلام حتى يأنس، وينشرح له صدره ويحرص على الخير. الخامس: كيف نوفق بين قوله صلى الله عليه وسلم هنا "أفلح وأبيه إن صدق" وبين قوله صلى الله عليه وسلم "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم"؟ وأجيب بأنه يحتمل أن يكون هذا قبل النهي عن الحلف بغير الله تعالى، وقيل: إن في الكلام هنا مضافا محذوفا، والأصل -ورب أبيه- ونقل العيني عن بعض مشايخه أنه يحتمل أن الحديث "أفلح والله" فقصر الكاتب اللامين، ولم يكن نقط، فقرئت: "وأبيه" وهذا الاحتمال مردود، لأن اعتماد النقل والرواية كان على النطق لا على الخط، ولو تطرق هذا الاحتمال لزعزعت الثقة بالروايات الصحيحة، وقال الحافظ ابن حجر: غفل القرافي فادعى أن الرواية بلفظ "وأبيه" لم تصح، لأنها ليست في الموطأ. وكأنه لم يرتض الجواب، فعدل إلى رد الخبر مع أنه صحيح لا مرية فيه. اهـ. وأحرى الإجابات بالقبول أن قوله صلى الله عليه وسلم "أفلح وأبيه إن صدق" ليس حلفا، إنما هو كلمة جرت عادة العرب أن تدخلها في كلامهم غير قاصدة بها حقيقة الحلف، والنهي إنما ورد فيمن قصد حقيقة الحلف، لما فيه من إعظام المحلوف به ومضاهاته به سبحانه وتعالى، فهي بمثابة قولهم: تربت يمينك.

-[ويؤخذ من الحديث]- 1 - أن وصف الراوي صاحب القصة بما ظاهره غير محبوب ليس من قبيل الغيبة ما دام على غير وجه التنقيص، فقد وصفه الراوي بثائر الرأس للتوثيق بالرواية. 2 - أن الصلاة ركن من أركان الإسلام وأنها خمس صلوات في اليوم والليلة، ولم يرد أسماء هذه الصلوات ولا عدد ركعاتها لاشتهار ذلك عندهم بطريقة عملية. 3 - أنه لا يجب شيء من الصلوات في كل يوم وليلة غير الخمس. أما القائلون بوجوب الوتر، والقائلون بأن صلاة العيد فرض كفاية فلهم أن يجيبوا بأنها لم ترد في الحديث لأنها لم تكن شرعت بعد. 4 - أن وجوب صلاة الليل منسوخ في حق الأمة، وهذا مجمع عليه. 5 - أن الصوم ركن من أركان الإسلام وهو شهر في كل سنة، وأنه لا يجب صوم يوم عاشوراء أو غيره، وهذا مجمع عليه الآن، والخلاف في كون صوم يوم عاشوراء كان واجبا قبل فرض صيام رمضان أو لم يكن واجبا. 6 - أن الزكاة أيضا ركن من أركان الإسلام. 7 - جواز الحلف بغير استحلاف ولا ضرورة، ولا يقال: كيف أقره صلى الله عليه وسلم على حلفه وقد ورد النكير على من حلف ألا يفعل خيرا؟ لأن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، وهذا جار على الأصل من أنه لا إثم على غير تارك الفرض. 8 - في الحديث رد على المرجئة، لأن قوله "أفلح إن صدق" قد علق الفلاح على صدقه في التزام العمل وعدم النقص، ومفهومه أنه إن قصر لم يفلح، وهذا خلاف مذهبهم، ولهم أن يجيبوا بأنه لا عبرة بالمفهوم، وأن هدف الحديث إثبات الفلاح لمن فعل، لا نفيه عمن قصر. والله أعلم

(3) باب سؤال ضمام عن أركان الإسلام

(3) باب سؤال ضمام عن أركان الإسلام 9 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل، فيسأله ونحن نسمع، فجاء رجل من أهل البادية، فقال: يا محمد، أتانا رسولك، فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك. قال: "صدق". قال: فمن خلق السماء؟ قال: "الله". قال: فمن خلق الأرض؟ قال: "الله". قال: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل؟ قال: "الله". قال: فبالذي خلق السماء، وخلق الأرض، ونصب هذه الجبال آلله أرسلك؟ قال: "نعم" قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا. قال: "صدق". قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال: "نعم". قال: وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا قال: "صدق". قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال: "نعم". قال: وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا. قال: "صدق". قال: فبالذي أرسلك الله أمرك بهذا؟ قال: "نعم". قال: وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا. قال: "صدق". قال: ثم ولى. قال: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لئن صدق ليدخلن الجنة". 10 - عن ثابت قال: قال أنس رضي الله عنه كنا نهينا في القرآن أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء وساق الحديث بمثله. -[المعنى العام]- نهى الله المؤمنين عن الإلحاح في سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن التعنت فيه، وعن الإكثار منه فيما لا ضرورة إليه بقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} [المائدة: 101] فأحجم الصحابة عن السؤال تحرزا أن يقعوا فيما نهوا عنه، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحجامهم تقصيرا في حق أنفسهم، وحبسا لها عن استجلاء ما تحتاجه من أمور، واستيضاح ما خفي عليها من المبهمات، فطلب منهم أن يسألوه، فهابوا أن

يسألوه، رغم تشوقهم للسؤال، وتمنيهم مجيء الأعراب العقلاء من البادية ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يسمعون. وفي هذه الظروف، وفي سنة ثمان أو تسع من الهجرة بعث بنو سعد بن بكر ضماما ليأتيهم بخبر الإسلام وشرائعه مشافهة من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن بلغتهم هذه الأمور على لسان رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبينما الصحابة جلوس في المسجد حول رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل ضمام على بعيره، فأناخه في رحبة المسجد وعلى بابه، ثم عقله ودخل، فقال: أيكم محمد؟ فأشار له الصحابة وقالوا: هو هذا الرجل الأبيض المتكئ. فقال: يا ابن عبد المطلب. قال له النبي صلى الله عليه وسلم: قد أجبتك. قال: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة، فلا تجد علي في نفسك، ولا تغضب علي لسؤالي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سل عما بدا لك. قال: أتانا رسولك وأخبرنا أن الله أرسلك إلى الناس عامة. قال: صدق فيما أخبركم، قال: فإذا كان الأمر كذلك، فمن خلق السماء؟ قال: الله وحده. قال: فمن خلق الأرض؟ قال: الله وحده. قال: فمن خلق الجبال وأرساها وأودع فيها من العجائب والمنافع ما أودع؟ قال: الله وحده. قال: أنشدك بربك الذي خلق السماء والأرض وأرسى الجبال وجعل فيها ما جعل، آلله بعثك رسولا؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم. قال: وأخبرنا رسولك أنه يجب على كل مكلف منا خمس صلوات في كل يوم وليلة. قال: صدق. قال: أنشدك بربك الذي أرسلك، آلله أمرك بهذا؟ قال: اللهم نعم. قال: وأخبرنا رسولك أن على كل مالك منا زكاة تؤخذ من أغنيائنا فتقسم على فقرائنا. قال: صدق. قال: أنشدك بربك الذي أرسلك، آلله أمرك بهذا؟ قال: اللهم نعم. قال: وأخبرنا رسولك أن علينا صوم شهر رمضان من كل عام. قال صدق. قال: أنشدك بالذي أرسلك، آلله أمرك بهذا؟ قال: اللهم نعم. قال: وأخبرنا رسولك أن علينا حج البيت الحرام من استطاع إليه سبيلا. قال: صدق. فقال الرجل: شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وآمنت بما جئت به، والذي بعثك بالحق لا أزيد على ما وجب علي ولا أنقص منه شيئا، وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر، ثم قام وولى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لئن صدق في قوله، ووفى بوعده ليدخلن الجنة. ثم رجع ضمام إلى قومه، فأخبرهم، وقال لهم إن الله قد بعث رسولا، وأنزل عليه كتابا، وقد جئتكم من عنده بما آمركم به وأنهاكم عنه.

فأطاعوه وأسلموا. قال ابن عباس: ما سمعنا بوافد قط أفضل من ضمام بن ثعلبة فوالله ما أمسى من ذلك اليوم وفي حاضره رجل أو امرأة إلا مسلما. -[المباحث العربية]- (نهينا أن نسأل) أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، والتقدير: نهينا عن سؤالنا. (فكان يعجبنا أن يجيء الرجل) المصدر المنسبك من "أن" والفعل فاعل "يعجب" واسم "كان" ضمير الحال والشأن، وجملة "يعجب" خبرها. (من أهل البادية) الجار والمجرور متعلق بمحذوف حال من الرجل، والبادية ضد الحاضرة والعمران، والنسبة إليها بدوي بكسر الباء، والبداوة الإقامة بالبادية، وأهل البادية هم الأعراب، ويغلب فيهم الجفاء، ولهذا جاء في الحديث "من بدا جفا". وسبب حبهم لهذا الصنف من السائلين أن الشأن في أهل البادية أن يكونوا آخر من يصلهم النهي عن السؤال، فهم أكثر من غيرهم إقداما على السؤال، وهم أهل لأن يعذروا لما عرف عنهم من الغلظة والجهل والجفوة. (العاقل) بالرفع صفة الرجل، والباعث على حبهم اتصافه بالعقل أن مثله يسأل عن المحتاج إليه المفيد، ومثله يجيد كيفية السؤال وآدابه، ويحسن المراجعة فيكثر النفع. (فيسأله ونحن نسمع) "يسأل" بالنصب معطوف على" يجيء" وجملة "نحن نسمع" حال. (فجاء رجل) هو ضمام بن ثعلبة البكري، بكسر الضاد وتخفيف الميم، وجاء اسمه في نهاية رواية البخاري إذ قال: وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر. (فزعم لنا أنك تزعم) قوله "زعم" و"تزعم" مع تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم دليل على أن الزعم ليس مخصوصا بالكذب والقول المشكوك فيه، بل يكون أيضا في القول المحقق والصدق الذي لا شك فيه كقوله صلى الله عليه وسلم "زعم جبريل" وقوله سيبويه: زعم الخليل. (قال: فمن خلق السماء) الفاء فصيحة في جواب شرط مقدر، أي إذا كان الله أرسلك فمن خلق السماء؟ و"من" اسم استفهام مبتدأ، وجملة "خلق" خبرها، وليس المقصود الاستفهام الحقيقي، بل التقرير ليبني عليه ما بنى. (قال: الله) مبتدأ خبره محذوف، والتقدير: الله هو الذي خلق السماء. (فمن نصب الجبال وجعل فيها ما جعل؟ ) نصب الجبال أقامها وأرساها

و"ما" موصولة والجملة بعدها صلة" والمراد منها ما أودع في الجبال من معادن وكنوز ومياه وكائنات وعبر وآيات. (فبالذي خلق السماء) التحليف ليس لاتهامه صلى الله عليه وسلم وليس لإنكار المحلف وتكذيبه، وإنما لتأكيد الخبر وتوثيقه اهتماما به. (آلله ... ؟ ) بالمد في جميع المواضع، لأنها همزة الاستفهام الداخلة على ألف لفظ الجلالة، وهو مرفوع بالابتداء، وجملة "أرسلك" خبره. (نعم) حرف جواب وتصديق" وفي المغني: حرف إعلام، إذ لا يصح أن نقول لقائل "آلله أرسلك"؟ صدقت، لأنه إنشاء لا خبر، فهي للإعلام حرف ناب عن جملة، أي أعلمك أن الله أرسلني. وهكذا في أمثاله. (لئن صدق ليدخلن الجنة) اللام الأولى موطئة للقسم، والثانية في جوابه، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه. -[فقه الحديث]- تقدم الكثير من أحكام هذا الحديث في شرح الحديث السابق، ونقتصر هنا على ما لم يسبق له ذكر، فنقول: استدل به البخاري على جواز القراءة والعرض على العالم، والعرض عبارة عما يعارض به الطالب أصل شيخه، معه أو مع غيره بحضرته، فإن ضماما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. فأخبر ضمام قومه بإجازة الرسول صلى الله عليه وسلم له. وقد كان بعض السلف لا يعتدون إلا بما سمعوه من ألفاظ المشايخ، لاحتمال سهوهم حين القراءة عليهم، لكن هذا الرأي انتهى القول به، وأصبح قبول العرض وجوازه محل اتفاق، بل بالغ بعض العلماء فذهب إلى أن العرض على الشيخ أرفع من السماع من لفظه، واعتلوا بأن الشيخ لو سها في تحديثه لم يتهيأ للطالب الرد عليه. ونقل عن مالك والثوري أنهما سويا بين السماع من العالم والقراءة عليه، وجمهور المحققين في علوم الحديث على أن السماع من لفظ الشيخ أرفع رتبة من القراءة عليه، ما لم يعرض عارض يصير القراءة أولى. وهذا الذي فهمه البخاري مبني على أن ضماما كان مسلما قبل قدومه، وأنه جاء يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم، والدليل على ذلك قوله في نهاية إحدى الروايات الصحيحة "آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي من قومي". وقال جماعة: لم يكن ضمام مسلما وقت قدومه، وإنما كان إسلامه بعد مراجعته، وأنه جاء

مستثبتا من الأخبار التي وصلتهم، وحملوا قوله "آمنت بما جئت به .. " على أنه إنشاء وابتداء إيمان، لا إخبار بإيمان سبق منه. واستدلوا على دعواهم برواية مسلم "زعم رسولك لنا أنك تزعم" والزعم في الأصل القول الذي لا يوثق به، كما استدلوا برواية "حتى إذا فرغ قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله". وبناء على أنه قدم مسلما استدل ابن الصلاح بالحديث على ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة من أن العوام المقلدين مؤمنون، وأنه يكتفى منهم بمجرد اعتقادهم الحق جزما من غير شك وتزلزل، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أقر ضماما على ما اعتمد عليه في تعرف رسالته، وصدقه بمجرد إخباره إياه بذلك ولم ينكر عليه، ولم يقل له: يجب عليك معرفة ذلك بالنظر في معجزاتي والاستدلال بالأدلة القطعية. كما بني على الخلاف في إسلامه قبل قدومه خلاف في توجيه سؤاله النبي صلى الله عليه وسلم باسمه أو بابن عبد المطلب مع أن الله يقول: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا} [النور: 63]. فمن قال: إنه لم يكن مسلما قبل قدومه سهل عليه الجواب والتوجيه والاعتذار، لأن الكافر غير مطالب بهذه الفروع. وأما الآخرون فقد قالوا: إنه مع إسلامه لم يكن بلغه النهي عن السؤال ولا النهي عن دعاء الرسول كدعاء الناس، على أن البدو يعذرون في مثل هذه الأمور، لما فيهم من بقية جفاء الأعراب وجهلهم. وقد اختلف في سنة قدوم ضمام، فجزم الواقدي بأنه كان سنة خمس من الهجرة، وغلطه الحافظ ابن حجر مستدلا بوجوه: أحدها: أن قدومه كان بعد نزول النهي في القرآن، وآية النهي في المائدة ونزولها متأخر جدا. ثانيها: أن إرسال الرسل يدعون إلى الإسلام ابتدأ بعد الحديبية. ثالثها: أن في القصة أن قومه أوفدوه، ومعظم الوفود كان بعد فتح مكة. رابعها: جاء في حديث ابن عباس أن قومه أطاعوه ودخلوا في الإسلام بعد رجوعه إليهم، ولم يدخل بنو سعد في الإسلام إلا بعد وقعة حنين، وكانت في شوال سنة ثمان. ثم قال الحافظ ابن حجر: فالصواب أن قدوم ضمام كان في سنة تسع. وقد أخذ صاحب التحرير من حسن سؤال ضمام دليلا على قوة ذاكرته ورصانة عقله وتفكيره، فإن أجاد السياق والترتيب، إذ سأل أولا عن صانع المخلوقات من هو؟ ثم أقسم به أن يصدقه في كونه رسولا للصانع، ثم لما وقف على رسالته أقسم عليه بحق مرسله أن يؤكد له أمور الإسلام وشرائعه. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- قبول خبر الواحد على أن ضماما كان رسول قومه ودعاهم إلى الإسلام فصدقوه وجواز الاستحلاف على الأمر المحقق لزيادة التأكيد.

(4) باب ما يقرب من الجنة وما يباعد من النار

(4) باب ما يقرب من الجنة وما يباعد من النار 11 - عن أبي أيوب رضي الله عنه أن أعرابيا عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في سفر، فأخذ بخطام ناقته أو بزمامها. ثم قال: يا رسول الله -أو يا محمد- أخبرني بما يقربني من الجنة وما يباعدني من النار. قال: فكف النبي صلى الله عليه وسلم، ثم نظر في أصحابه ثم قال: "لقد وفق أو لقد هدي" قال: "كيف قلت؟ " قال: فأعاد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة وتصل الرحم، دع الناقة". 12 - عن أبي أيوب رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الحديث. 13 - عن أبي أيوب رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: دلني على عمل أعمله يدنيني من الجنة، ويباعدني من النار. قال "تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصل ذا رحمك". فلما أدبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن تمسك بما أمر به دخل الجنة". وفي رواية ابن أبي شيبة" إن تمسك به". 14 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة. قال: "تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان". قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا شيئا أبدا ولا أنقص منه. فلما ولى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا". -[المعنى العام]- يقول رجل من قيس: وصف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلبته فلقيته بعرفات فتزاحمت عليه، فقيل لي: إليك عنه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوا الرجل، فزاحمتهم عليه حتى خلصت إليه فأخذت بخطام

ناقته، فما تغير علي، قال: ما تريد؟ قلت: يا رسول الله. شيئان أسألك عنهما، أخبرني بما يقربني من الجنة وما يباعدني من النار. قال الرجل: فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء، ثم نظر إلى أصحابه، فقال: لقد وفق إلى الخير في سؤاله. ثم أقبل علي بوجهه فقال: لئن كنت قد أوجزت المقالة لقد أعظمت وطولت. أعد سؤالك، ماذا قلت؟ قال: قلت: دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة ونجوت من النار. قال فاعقل علي، أعبد الله وحده ولا تشرك به شيئا من الأوثان، وأقم الصلاة المكتوبة وأد الزكاة المفروضة، وصم رمضان، وصل رحمك. قال: فقلت: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذه الأوامر شيئا أبدا، ولا أنقص منها شيئا: قال صلى الله عليه وسلم: دع الناقة فقد استوفيت. فترك الرجل الناقة وانصرف. فلما أدبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: إن تمسك هذا الرجل بما أمر به دخل الجنة، ومن أحب مسرورا أن يرى رجلا من أهل الجنة يحرص على دخولها ويسعى من أجلها فلينظر إلى هذا. -[المباحث العربية]- (عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم) عرض له من باب ضرب وسمع، ظهر عليه وبدا له وتعرض له. (وهو في سفر) الجملة حال من "رسول الله" وقد بين السفر في بعض الروايات بأنه كان سفر حج، وأن تعرض الأعرابي كان في عرفات. (فأخذ بخطام ناقته) الخطام بكسر الخاء حبل من ليف أو شعر أو كتان، يجعل في أحد طرفيه حلقة يسلك فيها الطرف الآخر حتى يصير كالحلقة، ثم يقلد البعير، ثم يثني على مخطمه، فإذا ضفر من الجلد فهو جرير. (أو بزمامها) شك من الراوي، والزمام هو الحبل الدقيق الذي يجعل في الأنف، لتقاد به الناقة. وإنما أمسك بخطام الناقة أو زمامها، ليتمكن من السؤال والجواب من غير مشقة. (بما يقربني من الجنة) أي بالعمل الذي إذا عملته يدنيني من الجنة، والمراد من التقريب والإدناء من الجنة دخولها، لا مجرد القرب منها، بدليل الرواية الثالثة وفيها "إذا عملته دخلت الجنة". (وما يباعدني من النار) لا شك أن ما يقرب من الجنة يباعد من النار، لكن الرجل لم يكتف بالدلالة الالتزامية لشدة الحرص، فصرح باللازم.

(فكف النبي صلى الله عليه وسلم) أي كف عن المشي بأن توقف واستسلم لإمساك الرجل الزمام، ولم يدفع ناقته للسير، أو كف عن الكلام، فلم يسرع بالجواب، ليلفت نظر الصحابة ويجذب انتباههم اهتماما بالسؤال وجوابه. (ثم نظر في أصحابه) التعبير بحرف التراخي يشعر بسكتة لطيفة بين سماع السؤال والنظر، كأنه صلى الله عليه وسلم أطرق مفكرا في أثر الإسلام في الأعراب، وكيف نقلهم من الحرص على الشاة والبعير إلى الحرص على العمل الروحي الموصل إلى النعيم المقيم مستحسنا إيجاز السؤال مع الاستيفاء. وإنما نظر صلى الله عليه وسلم في أصحابه لزيادة جذب انتباههم واستعدادهم لسماع السؤال والجواب، وكان تعدي "نظر" بفي للدلالة على أنه صلى الله عليه وسلم نشر النظر وبثه في أفرادهم واحدا واحدا، ولم ينظر إلى مجموعهم نظرة سطحية. (لقد وفق-أو لقد هدي-) بالبناء للمجهول، وبأو التي للشك من الراوي في أي اللفظين صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ومتعلق التوفيق والهداية محذوف، والتقدير: لقد وفق إلى الخير في سؤاله، أو لقد هدي بسؤاله إلى الصواب. واللام في "لقد" في جواب قسم مقدر. (كيف قلت؟ ) "كيف" للسؤال عن الأحوال العامة، لكن الظاهر هنا أنه سؤال عن ذات السؤال لإعادته، بدليل أن الرجل أعاد، فكان مقتضى الظاهر أن يكون السؤال: ماذا قلت؟ لكنه عدل عن هذا الظاهر إلى السؤال بكيف، للإشارة إلى الحرص على إعادة السؤال بحالته وهيئته دون تغيير. والمعنى: على أي حالة قلت قولك وسألت سؤالك؟ ومحل "كيف" النصب على الظرفية، وهي وإن لم تكن مكانا ولا زمانا لكن الظرف يطلق عليها مجازا، لأنها في تأويل الجار والمجرور قاله ابن مالك. (فأعاد) مفعوله محذوف أي فأعاد السؤال. (تعبد الله لا تشرك به شيئا) العبادة الطاعة مع الخضوع، فإن كان المراد منها هنا معرفة الله والإقرار بوحدانيته كان عطف الصلاة والزكاة عليها لإدخالهما فيما يقرب من الجنة، وإن كان المراد من العبادة الطاعة مطلقا دخلت جميع أمور الدين فيها، ويكون عطف الصلاة والزكاة عليها من عطف الخاص على العام لمزيد العناية بهذا الخاص. وعبادة الله عبادة حقة تستلزم عدم الإشراك به شيئا. لكنه صرح باللازم للنهي عما كان عليه الكفار من عبادة الأوثان لتقربهم إلى الله. وقد جاءت جملة "لا تشرك به شيئا" معطوفة على سابقتها بالواو في حديث سؤال جبريل، وهي هنا بدون واو في جميع الروايات، فموقعها حال من فاعل "تعبد" والتقدير: تعبد الله غير مشرك به شيئا، أي تعبد الله موحدا له توحيدا كاملا.

(وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة) في الرواية الثالثة: "وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة" وقد قيل: إن تقييد الصلاة بالمكتوبة لاتباع القرآن في قوله تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} [النساء: 103] وتقييد الزكاة بالمفروضة للاحتراز من صدقة التطوع. (وتصل الرحم) رحم الإنسان قرابته، وصلتهم مواساتهم والإحسان إليهم، وفي الرواية الثانية "وتصل ذا رحمك" فـ "ذا" بمعنى صاحب مفعول "تصل". (دع الناقة) أمر بترك خطام الناقة أو زمامها حيث قد أجيب. (إن تمسك بما أمر به) جاءت هذه العبارة في الرواية الثانية، و"ما" موصولة و"أمر" مبني للمجهول و"به" جار ومجرور. وضبطه بعضهم "بما أمرته" بالفعل المبني للمعلوم وبتاء الفاعل بدل حرف الجر، قال النووي: وكلاهما صحيح. -[فقه الحديث]- في الحديث ستة إشكالات وجوابها: الأول: لم يذكر الصوم في الروايتين الأولى والثانية، وذكر في الرواية الثالثة ولم يذكر فيها صلة الرحم، فما وجه التوفيق؟ وأجيب بأن اختلاف الأحاديث بالزيادة والنقصان إنما هو من تقصير الرواة واختلافهم في الحفظ والضبط، ويدفع العيني اتهام الرواة بالتقصير وضعف الحفظ، ويرجع الاختلاف إلى اجتهاد الرواة وتحديثهم حسبما يقتضيه المقام باختلاف الموقع واختلاف الزمان، وهو توجيه حسن. الثاني: لماذا لم يذكر الحج في جميع روايات هذا الحديث؟ وأجيب باحتمال أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكره واختصر بفعل الرواة. والصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يذكره، لأن الرجل كان حاجا وكان واقفا في عرفات. الثالث: اختلفت إجابات الرسول صلى الله عليه وسلم عن صالح الأعمال وما يقرب من الله، فما وجه التوفيق بينها؟ . وأجيب بأنه صلى الله عليه وسلم كان يخص بعض السائلين ببعض خصال الخير نظرا لاختلاف أحوالهم، فكان يأمرهم بما هو المهم بالنسبة إلى كل منهم، إما لمشقة المأمور به عليهم، أو لتهاونهم في أمره، وكأنه صلى الله عليه وسلم علم بالوحي أن هذا الأعرابي مقصر في صلة الرحم فأمره بها. الرابع: كيف ساغ للرسول صلى الله عليه وسلم أن يحكم على هذا الرجل بأنه من أهل الجنة، حيث قال في الرواية الثالثة "من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا"، مع أنه قد لا يفي بوعده؟

وأجاب النووي بأنه صلى الله عليه وسلم علم بطريق الوحي أنه يوفي بما التزمه وأنه يدوم على ذلك ويدخل الجنة. وقيل: إن الكلام فيه قيد ملاحظ، ورد هذا القيد دون المقيد في الرواية الثانية. والأصل: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا إن تمسك بما أمر به. الخامس: كيف رتب صلى الله عليه وسلم دخول الجنة على فعل المأمور به مع أن دخول الجنة موقوف كذلك على الكف عن المنهي عنه؟ وأجيب بأنه مقصود طوى للعلم به، وقيل: إن عبادة الله شاملة لفعل المأمورات واجتناب المنهيات، فإن تمسك بالعبادة الشاملة لهما دخل الجنة. السادس: على فرض أن هذا الأعرابي مبشر بالجنة بنص الرواية الثالثة، كيف يوفق بين هذا وبين ما هو معلوم من أن المبشرين بالجنة عشرة معروفون؟ وأجاب العيني بأن التنصيص على العدد لا ينافي الزيادة، وقد ورد في حق كثير مثل ذلك، كما جاء في الحسن والحسين، وقيل: العشرة بشروا بالجنة دفعة واحدة فلا ينافي المتفرق. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - ما كان عليه الأعراب من غلظة وجفاء معاملة لا تليق ومقامه صلى الله عليه وسلم. 2 - حلمه صلى الله عليه وسلم وسعة صدره وحسن معاملته. 3 - إشعار المسيء بإساءته رغم العفو عنه وعدم مؤاخذته تقديرا لعذره فقد أمر صلى الله عليه وسلم الأعرابي بترك الناقة إشعارا له بأنه ما كان ينبغي أن يقع منه ذلك. 4 - تخصيص بعض الأعمال بالحض عليها حسب حال المخاطب. 5 - فيه البشارة والتبشير للمؤمن. 6 - قال القرطبي: في هذا الحديث دلالة على جواز ترك التطوعات، لكن من داوم على ترك السنن كان نقصا في دينه، فإن كان تركها تهاونا بها ورغبة عنها كان ذلك فسقا لورود الوعيد عليه في قوله صلى الله عليه وسلم "من رغب عن سنتي فليس مني". وقد كان صدر الصحابة ومن بعدهم يواظبون على السنن مواظبتهم على الفرائض، ولا يفرقون بينهما في اغتنام ثوابهما. وإنما احتاج الفقهاء إلى التفرقة لما يترتب عليها من وجوب الإعادة وتركها، والحكم بالعقاب عن الترك ونفيه. ثم قال: ولعل أصحاب هذه القصص كانوا حديثي عهد بالإسلام.

(5) باب إحلال الحلال وتحريم الحرام يدخل الجنة

(5) باب إحلال الحلال وتحريم الحرام يدخل الجنة 15 - عن جابر رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم النعمان بن قوقل. فقال: يا رسول الله! أرأيت إذا صليت المكتوبة. وحرمت الحرام. وأحللت الحلال. أأدخل الجنة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "نعم". 16 - عن جابر رضي الله عنه قال: قال النعمان بن قوقل. فقال: يا رسول الله! بمثله. وزاد فيه: ولم أزد على ذلك شيئا. 17 - عن جابر رضي الله عنه أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت إذا صليت الصلوات المكتوبات، وصمت رمضان، وأحللت الحلال وحرمت الحرام، ولم أزد على ذلك شيئا. أأدخل الجنة؟ قال "نعم" قال: والله لا أزيد على ذلك شيئا. -[المعنى العام]- كم كان حرص الصحابة على دخول الجنة، وكم كانوا يسألون عن الأسباب المؤدية إليها، وكم كان حديثو العهد بالإسلام وأهل البداوة منهم خاصة يكتفون من العمل بما يحقق دخول الجنة ويباعد من النار، لأنهم فهموا أن أقل أهل الجنة منزلا لا يدانيه في السعادة أعلى أهل الدنيا رفاهية وعزة، وهم قوم طالما ضربوا في الأرض، وشقوا أيامهم من أجل راحة ساعة، ومن أجل لقمة خشنة، ولم يكونوا يصلون إلى ما أملوا إلا بشق النفس. فكيف بهم وقد وعدوا سررا مرفوعة وأكوابا موضوعة ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة؟ كيف بهم وقد وعدوا السدر المخضود، والطلح المنضود، والظل الممدود والماء المسكوب، والفاكهة الكثيرة، غير المقطوعة؟ وغير الممنوعة؟ والفرش المرفوعة؟ والأبكار من الحور العين؟ كيف بهم وقد وعدوا كل ذلك إن هم أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاموا شهرا من كل عام؟ وابتعدوا عن الحرام؟ أفتراهم يطمعون في أكثر من ذلك؟ إنهم لا يكادون يصدقون لولا إيمانهم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم إنهم يرون أن هذه الأعمال لا تصلح مقابلا لذلك النعيم، وأين الثرى من الثريا؟

ولهذا كثر سؤالهم، وكثر السائلون القانعون بما يؤدي إلى دخول الجنة غير الطامعين في درجاتها العليا. ومن هؤلاء النعمان بن قوقل الذي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا رسول الله أخبرني لأزداد إيمانا ويطمئن قلبي. هل إذا صليت خمس صلوات في كل يوم وليلة، وصمت شهر رمضان من كل عام وحافظت على الحلال، وابتعدت عن الحرام، ولم أزد على ذلك شيئا. أأدخل الجنة؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم تدخل الجنة. قال النعمان: والله لا أزيد على ذلك شيئا. والنعمان وأضرابه ممن حلفوا أن لا يزيدوا، واكتفوا بالواجبات وقنعوا بمجرد دخول الجنة إنما كان منهم ذلك مؤقتا، وحتى ملأ الإيمان قلوبهم، فكفروا عن أيمانهم، وأتوا الذي هو خير منها، وسارعوا إلى الخيرات، واستحقوا أعالي درجات الجنات مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. وليس أدل على ذلك من فعل النعمان نفسه الذي وقف يوم أحد - وهو الرجل الأعرج الذي رفع عنه الجناح، وأعفي من الجهاد- وقف مشهرا سيفه، بائعا نفسه وروحه لربه بالجنة، واندفع نحو الكافرين يقاتل، وهو ينادي بأعلى صوته: أقسمت عليك يا رب أن لا تغيب الشمس حتى أطأ بعرجتي في خضر الجنة. وأبلى بلاء حسنا حتى استشهد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لقد رأيته يطأ فيها وما به من عرج". -[المباحث العربية]- (النعمان بن قوقل) بقافين مفتوحتين بينهما واو ساكنة. شهد بدرا واستشهد يوم أحد. (أرأيت) أي أخبرني، وهذه الدلالة عن طريق مجازين: الأول في الاستفهام الذي هو في الأصل طلب الفهم، أريد منه مطلق الطلب عن طريق المجاز المرسل بعلاقة الإطلاق بعد التقييد. الثاني: في الرؤية علمية أو بصرية، أريد منها ما يتسبب عنها من إخبار، عن طريق المجاز المرسل بعلاقة السببية والمسببية، فآل الأمر إلى طلب الإخبار المدلول عليه بكلمة أخبرني. (أحللت الحلال) في القاموس: أحله الله وحلله إحلالا وتحللا. والحلال ضد الحرام، مستعار من حل العقدة، وهو ما انتفى عنه حكم التحريم، فيشمل ما يكره وما لا يكره، وقيل: ما لا يعاقب عليه.

-[فقه الحديث]- قال الشيخ ابن الصلاح: الظاهر أنه في قوله "حرمت الحرام" أراد به أمرين: أن يعتقده حراما، وأن لا يفعله، فإن دخول الجنة مرتبط بالأمرين لا بأحدهما، بخلاف قوله "وأحللت الحلال" فإنه يكفي فيه مجرد اعتقاده حلالا. اهـ. وقال الأبي والسنوسي: قوله "ولم أزد" يحتمل أن يكون قد اكتفى منه بذلك لقرب عهده بالإسلام حتى يأنس، ويحرص على الخير، وتسهل عليه الفرائض، ويحتمل أنه قال ذلك، لأنه لم يتفرغ للنوافل لشغله بالجهاد أو غيره من أعمال البر. اهـ. لكن المحقق في الحديث يرى أن السؤال لا يتطلب النوافل في جوابه، لأنه يسأل عن دخول الجنة بهذه الأعمال، ولا شك أن دخول الجنة مرتبط بتحريم الحرام وإحلال الحلال. أما السنن فشأنها زيادة الأجر ورفع الدرجات، وعليه فالجواب حكيم. أما ما قاله الأبي والسنوسي فإنه يصح أن يقال بالنسبة لقوله في الرواية الثانية "والله لا أزيد على ذلك شيئا" فيقال: كيف أقره صلى الله عليه وسلم على عدم الزيادة؟ وهل في ذلك تسويغ لترك السنن دائما؟ فيصلح هنا ما قاله الأبي والسنوسي جوابا، كما بسط الجواب عن هذا السؤال، وعن الحلف على عدم الزيادة في الخير في الحديث الثاني. وقد أجمعت روايات هذا الحديث على ذكر الصلاة، وجاء في بعضها صوم رمضان. فتحمل التي لم تذكره على اقتصار بعض الرواة. ولم ترد الزكاة إما لأنها لم تكن شرعت بعد، وإما لأنه كان لا يملك النصاب، على أنه يمكن إدخالها في عموم تحليل الحلال وتحريم الحرام. أما الحج فلم يكن شرع قولا واحدا لأنه فرض سنة ست أو تسع، وكان استشهاد النعمان يوم أحد كما سبق. والحديث باعتبار ما فيه من تحليل الحلال وتحريم الحرام يعد جامعا لكل وظائف الإيمان، لأنه كناية عن الوقوف عند حدود الشرع القويم. والله أعلم

(6) باب بيان أركان الإسلام ودعائمه

(6) باب بيان أركان الإسلام ودعائمه 18 - عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بني الإسلام على خمسة: على أن يوحد الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان والحج" فقال رجل: الحج وصيام رمضان؟ قال: لا. صيام رمضان والحج. هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. 19 - عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بني الإسلام على خمس: على أن يعبد الله ويكفر بما دونه. وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان". 20 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس. شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت وصوم رمضان ". 21 - عن عكرمة بن خالد يحدث طاوسا، أن رجلا قال لعبد الله بن عمر: ألا تغزو؟ فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الإسلام بني على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت". -[المعنى العام]- قال رجل لابن عمر: ما حملك على أن تحج عاما وتعتمر عاما، وتترك الجهاد؟ والخروج مع جيوش المسلمين للغزو والفتح ونشر الإسلام؟ وكان ابن عمر يرى أن الجهاد لم يعد فرض عين بعد أن فتحت مكة، وأنه فرض فقط على المسلمين الذين يلون الكفار، ويقربون منهم، أما من بعد عن منازل الكفار فهو غير مفروض عليهم إلا أن ينزل العدو فيأمر الإمام بالجهاد. كان هذا مذهب ابن عمر، فأجاب السائل بما حاصله أن الجهاد ليس بلازم على

الأعيان، فإن الإسلام بني على خمس ليس الغزو منها، وساق قوله صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس ... ". وفي هذا الحديث يشبه صلى الله عليه وسلم الإسلام بقصر بني على خمس قوائم ليست سواء في قوتها، ولا في اعتماد البناء عليها، بل فيها دعامة ينبني عليها ويستقر بها وغيرها مكملات مثبتات كاشفات للقوة والمتانة، محصنات له من المؤثرات، سياج له من التصدع والتشقق والضعف والانهيار. فدعامة الإسلام الأولى، وأساسه القويم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتمامه بأداء شعائره، وأبرزها المداومة على الصلوات الخمس، كاملة الأركان، مستوفاة الشروط، وطهارة المال بدفع الزكاة، وطهارة البدن بصوم شهر رمضان، والانصياع التعبدي بحج بيت الله الحرام من استطاع إليه سبيلا، من حافظ على هذه الشعائر، وحماها بالبعد عما ينافيها من المنكرات فقد أطاع الله واستحق الجنة، وكان راسخ الإسلام، ومن أضاع منها شيئا فقد عرض إسلامه للتزعزع، والانحلال المؤدي إلى العذاب الأليم. -[المباحث العربية]- (بني الإسلام على خمسة) وفي الروايات الثانية والثالثة والرابعة "على خمس" من غير تاء ومن المعلوم أنه إذا حذف المعدود جاز تذكير العدد وتأنيثه حسب تقدير المعدود، فإن جاء العدد مذكرا قدر المعدود لفظا مؤنثا، وإن جاء العدد مؤنثا قدر المعدود لفظا مذكرا. وعلى هذا يقدر لرواية التاء خمسة أركان، أو خمسة أشياء، أو خمسة أصول، أو نحوها ولروايات حذف التاء خمس خصال، أو خمس دعائم، أو خمس قواعد، أو نحوها. وقد اعترض على هذه العبارة بأن حديث جبريل، السابق أول كتاب الإيمان، أفاد أن الإسلام هو نفس الخمس، فكأنه قيل هنا: بني الإسلام على الإسلام، وهو غير سليم، لأن المبني على الشيء غير الشيء. وأجيب عن هذا الاعتراض بأن لفظ "على" بمعنى "من" والتقدير: بني الإسلام وكون من خمس ومجموع أجزاء الشيء لا مانع أن تكون هي نفس الشيء. وفي الحديث استعارة بالكناية بمعنى أنه شبه الإسلام ببيت له دعائم، فحذف المشبه به ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو البناء، ويصح أن يكون من قبيل الاستعارة التمثيلية بمعنى أنه شبه هيئة الإسلام مع أركانه الخمسة بهيئة خباء أقيم على خمسة أعمدة. ويصح أن يكون من قبيل الاستعارة التبعية في "بني" بمعنى أنه شبه ثبات الإسلام واستقامته على هذه الأمور بالبناء، ثم استعار البناء للاستقامة واشتق منه "بني" بمعنى استقام على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية.

(على أن يوحد الله) وفي الرواية الثانية "على أن يعبد الله" بدل من "خمسة" بإعادة حرف الجر، والمراد من العبادة التوحيد بدليل قوله بعد "ويكفر بما دونه" وفي الرواية الثالثة والرابعة "شهادة أن لا إله إلا الله" بجر "شهادة" على البدلية، بدل كل من كل إن قصد المجموع، وبدل بعض من كل إن قصدت واحدة واحدة مع تقدير الرابط، لأن بدل البعض يحتاج إلى رابط، أي شهادة أن لا إله إلا الله منها. قال بعضهم: ويجوز الرفع في "شهادة" على حذف الخبر، والتقدير: منها شهادة أن لا إله إلا الله، أو على حذف المبتدأ، والتقدير: أحدها شهادة أن لا إله إلا الله. (وحج البيت) لم يذكر الاستطاعة هنا لشهرتها. (ألا تغزو) وردت في الرواية الرابعة، ومعنى "ألا" العرض أو التحضيض، وكلاهما طلب الشيء، لكن العرض طلب بلين، والتحضيض طلب بحث "ذكره صاحب المغني". -[فقه الحديث]- جمع مسلم أربع طرق للحديث كلها عن ابن عمر، في الثانية والثالثة تقديم الحج على الصوم، وفي الأولى والرابعة تقديم الصوم على الحج، وزادت الأولى إنكار ابن عمر على الرجل الذي قدم الحج على الصوم. وفي رفع هذا الإشكال قال النووي: الأظهر - والله أعلم - أنه يحتمل أن ابن عمر سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم مرتين، مرة بتقديم الحج، ومرة بتقديم الصوم، فرواه أيضا على الوجهين في وقتين، فلما رد عليه الرجل وقدم الحج قال ابن عمر: لا ترد على ما لا علم لك به ولا تعترض بما لا تعرفه، ولا تقدح فيما لا تتحققه، بل هو بتقديم الصوم، هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في هذا نفي لسماعه على الوجه الآخر قال: ويحتمل أن ابن عمر كان قد سمعه مرتين بالوجهين- كما ذكرنا ثم لما رد عليه الرجل نسي الوجه الذي رده فأنكره. ثم قال: فهذان الاحتمالان هما المختاران في هذا. ثم نقل رأيا لابن الصلاح، حاصله: أن الرواية التي سمعها ابن عمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كانت بتقديم الصوم على الحج، وهذا الترتيب في الذكر موافق للترتيب في زمن التشريع، فإن الصوم فرض في السنة الثانية للهجرة، ونزلت فريضة الحج سنة ست أو تسع، وحافظ ابن عمر على ما سمع وأنكر خلافه، أما رواية تقديم الحج فكأنها وقعت ممن يرى الرواية بالمعنى. ويجيب ابن الصلاح عن رواية أبي عوانة الإسفراييني وفيها "أن ابن عمر قال للرجل: اجعل صيام رمضان آخرهن كما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم" يجيب بأنها لا تقاوم ما رواه مسلم. اهـ. ويرد النووي رأي ابن الصلاح بعنف فيقول: هذا الذي قاله الشيخ ابن الصلاح ضعيف من وجهين:

أحدهما: أن الروايتين قد ثبتتا في الصحيح، وهما صحيحتان في المعنى لا تنافي بينهما كما قدمنا إيضاحه، فلا يجوز إبطال إحداهما. الثاني: أن فتح باب احتمال التقديم والتأخير في مثل هذا قدح في الرواة والروايات، فإنه لو فتح ذلك لم يبق لنا وثوق بشيء من الروايات إلا القليل، ولا يخفى بطلان هذا وما يترتب عليه من المفاسد، ثم يقول عن رواية الإسفراييني: إنها محتملة الصحة، وتكون القضية قد جرت مرتين برجلين نبه أحدهما لصحة تقديم الصوم، وطلب من الثاني تأخيره. والمنصف يرى أن عنف مهاجمة النووي لابن الصلاح لا محل له، فإن ابن الصلاح لم يبطل روايات الصحيح، وإنما حمل إحداها على اللفظ المسموع والأخرى على المعنى. وهذه الطريقة في الجمع بين الأحاديث مقبولة وحسنة، ولا تقدح في صحة المروي بالمعنى باعتراف النووي نفسه في شرحه لمقدمة مسلم. وإذا كان الإمام مالك قد منع نقل الحديث بالمعنى، فإنما منعه خوف أن يفعله من يجهل التغيير الذي يحيل المعنى، وليحرض المحدثين على التحري والدقة عملا بقوله صلى الله عليه وسلم" نضر الله امرأ سمع مقالتي فأداها كما سمعها". وقد سبق القول بأن جمهور السلف والخلف من أصحاب الحديث والفقه والأصول يجوز رواية الحديث بالمعنى إذا جزم الراوي بأنه أدى المعنى، قال النووي: وهذا هو الصواب الذي تقتضيه أحوال الصحابة، فمن بعدهم رضي الله عنهم، في روايتهم القصة الواحدة بألفاظ مختلفة. اهـ. وفي نهاية المطاف نرى أنفسنا مضطرين إلى الأخذ برأي ابن الصلاح في أن بعض الروايات هنا بالمعنى، ليس في تقديم الصوم وتأخيره فحسب، بل في كثير من الألفاظ الأخرى في الحديث. ففي الرواية الأولى "على أن يوحد الله" وفي الثانية "على أن يعبد الله ويكفر بما دونه" وفي الرابعة "شهادة أن لا إله إلا الله" وفي الثالثة "شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله". وفي الرواية الأولى "بني الإسلام على خمسة" وفي الثانية والثالثة "بني الإسلام على خمس" وفي الرابعة "إن الإسلام بني على خمس". فهل نلتزم في كل هذا الاختلاف طريق النووي؟ فنقول: إن ابن عمر سمعها كلها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن احتمال التقديم والتأخير يقدح في الرواية ويحول دون الوثوق بشيء من الروايات؟ أو نقول كما قال ابن الصلاح: إن البعض محمول على اللفظ المسموع والبعض محمول على المعنى؟ . على أن الحافظ ابن حجر ضعف الاحتمالين اللذين اختارهما النووي، وأن ابن عمر سمع الحديث مرتين بعبارتين فقال: قد وقع عند البخاري في التفسير بتقديم الصيام على الزكاة. أفيقال: إن الصحابي سمعه على ثلاثة أوجه؟ هذا مستبعد، وقال عن الاحتمال الثاني: إن تطرق النسيان إلى الراوي عن الصحابي أولى من تطرقه إلى الصحابي، فتنويع ألفاظ الحديث دال على أنه روي بالمعنى. اهـ.

ثم قيل في وجه الترتيب الذكري للثلاث الأول: إن الإيمان أصل العبادات، فتعين تقديمه، ثم الصلاة لأنها عماد الدين، ثم الزكاة لأنها قرينة الصلاة في القرآن الكريم. فإن قيل: الأربعة المذكورة مبنية على الشهادتين، إذ لا يصح شيء منها إلا بعد وجودهما، فكيف يضم مبني إلى مبني عليه في مسمى واحد؟ أجيب بجواز ابتناء أمر على أمر آخر، ودخولهما في مسمى واحد، فمثلا: البيت المبني من خمسة طوابق فإنه لا يصح وجود شيء من الأربعة العلوية إلا بعد وجود الطابق الأول، ومع ذلك يضم إليها في مسمى البيت. فإن قيل: الإسلام هو الشهادتان فقط، لأنه يحكم بإسلام من تلفظ بهما، فلم ذكر الأربعة بعدهما؟ . أجيب بأن مقصود الحديث بيان كمال الإسلام وتمامه، وهو لا يكون بدون هذه الأمور، فهي أظهر شعائره وأعظمها، وتركها يشعر بانحلال الانقياد واختلاله. أما قتل تارك الصلاة عند الشافعي وأحمد فهو قتل حد، لا قتل كفر، وقوله صلى الله عليه وسلم "من ترك صلاة متعمدا فقد كفر" محمول على الزجر والوعيد، أو مؤول بما إذا تركها مستحلا، أو المراد كفران النعمة. فإن قيل: حينئذ يقتضي ظاهر الحديث حصول الإسلام الكامل لمن أتى بهذه الخمس ولو مرة واحدة، أو داوم عليها ولم يأت بغيرها من الواجبات كصلة الرحم وبر الوالدين ونحوهما. فالجواب أن هناك أدلة مفصلة لما ذكر هنا إجمالا، كحديث بعث معاذ إلى اليمن، المفيد تكرار ما يجب تكراره، وكالأحاديث المحددة للواجبات الأخرى، والحديث كما ذكرنا أتى بالأركان المهمة وبأبرز الشعائر، ووجه الاكتفاء بهذه الخمس أن العبادة إما قولية أو غير قولية، الأول الشهادة. والثاني إما تركي أو فعلي، الأول الصوم، والثاني إما بدني أو مالي أو مركب منهما. الأول الصلاة، والثاني الزكاة، والثالث الحج. ولم يذكر الجهاد في أركان الإسلام لأنه فرض كفاية، ولا يتعين إلا في بعض الأحوال ولهذا أجاب ابن عمر بهذا الحديث عن سؤاله عن سبب عدم قيامه بالغزو في الرواية الرابعة. على أنه جاء في بعض الروايات "وإن الجهاد من العمل الحسن". وزعم ابن بطال أن هذا الحديث قيل قبل فرض الجهاد، قال الحافظ ابن حجر: وهو خطأ لأن فرض الجهاد كان قبل بدر، وبدر كانت في رمضان في السنة الثانية، وفيها فرض الصيام، وفرضت الزكاة بعد ذلك، وفرض الحج في السنة السادسة أو التاسعة كما سبق. والله أعلم

(7) باب وفد عبد القيس وأمور الإسلام

(7) باب وفد عبد القيس وأمور الإسلام 22 - عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قدم وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالوا: يا رسول الله إنا هذا الحي من ربيعة، وقد حالت بيننا وبينك كفار مضر. فلا نخلص إليك إلا في شهر الحرام. فمرنا بأمر نعمل به، وندعو إليه من وراءنا. قال: "آمركم بأربع. وأنهاكم عن أربع. الإيمان بالله (ثم فسرها لهم فقال) شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. وإقام الصلاة. وإيتاء الزكاة. وأن تؤدوا خمس ما غنمتم. وأنهاكم عن الدباء. والحنتم. والنقير. والمقير". زاد خلف في روايته "شهادة أن لا إله إلا الله" وعقد واحدة. 23 - عن أبي جمرة قال: كنت أترجم بين يدي ابن عباس، وبين الناس. فأتته امرأة تسأله عن نبيذ الجر. فقال: إن وفد عبد القيس أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من الوفد؟ " أو "من القوم؟ " قالوا: ربيعة. قال "مرحبا بالقوم. أو بالوفد غير خزايا ولا الندامى". قال: فقالوا: يا رسول الله! إنا نأتيك من شقة بعيدة. وإن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر. وإنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر الحرام. فمرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا، ندخل به الجنة. قال: فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع. قال: أمرهم بالإيمان بالله وحده. وقال "هل تدرون ما الإيمان بالله؟ " قالوا الله ورسوله أعلم. قال "شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. وإقام الصلاة. وإيتاء الزكاة. وصوم رمضان. وأن تؤدوا خمسا من المغنم" ونهاهم عن الدباء والحنتم والمزفت. قال شعبة: وربما قال: النقير. قال شعبة: وربما قال: المقير. وقال "احفظوه وأخبروا به من ورائكم" أبو بكر في روايته "من وراءكم" وليس روايته المقير. 24 - عن أبي جمرة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث، نحو حديث شعبة. وقال "أنهاكم عما ينبذ في الدباء والنقير والحنتم والمزفت" وزاد ابن معاذ في حديثه عن

أبيه قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأشج، أشج عبد القيس "إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة". 25 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في حديثه هذا: أن أناسا من عبد القيس قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا نبي الله! إنا حي من ربيعة. وبيننا وبينك كفار مضر. ولا نقدر عليك إلا في أشهر الحرم. فمرنا بأمر نأمر به من وراءنا وندخل به الجنة، إذا نحن أخذنا به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "آمركم بأربع. وأنهاكم عن أربع. اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا. وأقيموا الصلاة. وآتوا الزكاة. وصوموا رمضان. وأعطوا الخمس من الغنائم. وأنهاكم عن أربع. عن الدباء. والحنتم. والمزفت والنقير". قالوا: يا نبي الله! ما علمك بالنقير؟ قال "بلى. جذع تنقرونه. فتقذفون فيه من القطيعاء" (قال سعيد: أو قال "من التمر") ثم تصبون فيه من الماء. حتى إذا سكن غليانه شربتموه. حتى إن أحدكم (أو إن أحدهم) ليضرب ابن عمه بالسيف". قال وفي القوم رجل أصابته جراحة كذلك. قال وكنت أخبؤها حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ففيم نشرب يا رسول الله؟ قال "في أسقية الأدم التي يلاث على أفواهها" قالوا: يا رسول الله! إن أرضننا كثيرة الجرذان، ولا تبقى بها أسقية الأدم. فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم "وإن أكلتها الجرذان. وإن أكلتها الجرذان. وإن أكلتها الجرذان" قال: وقال نبي الله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس "إن فيك لخصلتين يحبهما الله. الحلم والأناة". 26 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن وفد عبد القيس لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث ابن علية. غير أن فيه "وتذيفون فيه من القطيعاء أو التمر والماء" ولم يقل (قال سعيد أو قال من التمر). 27 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن وفد عبد القيس لما أتوا نبي الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا نبي الله! جعلنا الله فداءك. ماذا يصلح لنا من الأشربة؟ فقال "لا تشربوا في النقير" قالوا:

يا نبي الله! جعلنا الله فداءك. أوتدري ما النقير؟ قال "نعم. الجذع ينقر وسطه. ولا في الدباء ولا في الحنتمة وعليكم بالموكى". -[المعنى العام]- كان منقذ بن حبان من قبيلة عبد القيس رجلا تاجرا، يحمل الملاحف والتمر ليبيعها بالمدينة المنورة. فبينا هو قاعد إذ مر به النبي صلى الله عليه وسلم، فنهض منقذ إليه احتراما وتقديرا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أمنقذ بن حبان؟ كيف جميع قومك؟ كيف فلان وفلان وفلان؟ يسأله عن أشراف عبد القيس، ويسميهم بأسمائهم واحدا واحدا، فوقع الإسلام في قلب منقذ فأسلم، وتعلم الفاتحة وسورة {اقرأ باسم ربك} ثم رحل، وقد حمله النبي صلى الله عليه وسلم كتابا إلى جماعة عبد القيس، فلما وصل خاف أن يظهر الكتاب، وكتمه أياما، وأخذ يصلي في منزله سرا. ورأت امرأته أنه يقول كلاما ويعمل أعمالا لم تعهدها، فقالت لأبيها- وهو المنذر بن عائذ الذي سماه الرسول صلى الله عليه وسلم بالأشج فيما بعد - قالت له: أنكرت بعلي منذ قدم من يثرب إنه يغسل أطرافه، ويستقبل هذه الجهة، فيحني ظهره مرة، ويضع جبينه مرة، ذلك ديدنه منذ قدم. فالتقى أبوها بزوجها، وتكلما وتفاهما، فأسلم المنذر، فأراه منقذ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد القيس، فقام المنقذ به إلى قومه، فقرأه عليهم، ورغبهم في الإسلام فأسلموا، وقرروا السير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لينهلوا من نبع نهر الحياة، وليأخذوا قبسا من مصدر النور يضيء لهم الطريق. ولكن أنى لهم الوصول إلى المدينة؟ . إنهم في البحرين في شرق الجزيرة العربية، والمدينة في غربها، وكفار مضر يسكنون وسطها، يتعرضون للقوافل، ويقطعون السبيل، ويقتلون ويسلبون، وخصوصا المتوجه إلى المدينة الراغب في الإسلام. وكان الرأي الحكيم أن يحددوا لسفرهم شهر رجب، الشهر الذي تقدسه مضر وتعظمه وتبالغ في احترامه أكثر مما تفعل في بقية الأشهر الحرم، إنهم يلقون فيه السلاح إلقاء كاملا وينصلون فيه أسنة الرماح، ويسمونه الأصم لأنه لا تسمع فيه قرقرة السلاح، وفي رجب من العام الثامن للهجرة، وقبيل فتح مكة سار الوفد، سار أربعون رجلا، من بينهم أربعة عشر أو سبعة عشر من سادات عبد القيس وأشرافها وفرسانها ركبانا والباقون مشاة، حتى قاربوا المدينة. وألقى في روع رسول الله صلى الله عليه وسلم قدومهم، فقال لجلسائه، سيطلع عليكم من هذا الوجه ركب هم خير أهل المشرق، غير ناكثين ولا مبدلين ولا مرتابين، فقام عمر رضي الله عنه فاستقبلهم على أبواب المدينة فرحب وقرب، وقال: من القوم؟ فقالوا: وفد عبد القيس، فصحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلقاهم

بالترحيب وبشرهم بالخير العاجل والآجل، فقال: مرحبا بالقوم الذين لم يمسسهم خزي في دنياهم، فأسلموا دون سبي أو قتال، ولن يمسسهم ندم في مستقبل دنياهم على ما يفعلون. ونظر الصحابة إلى باب المسجد فرأوا رجلا حسن الهيئة، يلبس حلة جديدة، يدخل في اتزان ووقار، تبدو عليه ملامح السادة والأشراف. إنه المنذر بن عائذ الأشج رئيس الوفد، لم يتسرع كما تسرعوا، بل عمد إلى الأمتعة فجمعها، وإلى الراحلة فعقلها، وخلع ملابس السفر، ولبس أحسن ثيابه، ثم أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم، فرحب به وقربه إليه وأجلسه إلى جانبه، ثم قال مخاطبا الوفد كله: بايعوني على أنفسكم وقومكم، فمد القوم أيديهم وقالوا: نعم بايعناك. فقال المنذر: يا رسول الله إن أشد ما يحول عنه المرء هو دينه، نبايعك على أنفسنا فقط وترسل معنا إلى قومنا من يدعوهم، فمن اتبعنا كان منا ومن أبى قاتلناه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقت، إن فيك يا أشج لخصلتين يحبهما الله، الحلم والأناة. قال له: يا رسول الله، أكانتا في أم حدثتا؟ قال: بل قديما. قال: الحمد لله الذي جعلني على خلقين يحبهما. ثم قال المتحدث عن القوم: يا رسول الله. إننا قبيلة من ربيعة، وقد علمت مساكننا وبعد الشقة علينا، ولا نستطيع أن نصل إليك إلا مرة في كل عام في الشهر الحرام، لأن كفار مضر لا يخلون بيننا وبينك، فعلمنا من أمور الإسلام ما يلزمنا، واشرح لنا ما يجب علينا شرحا لا لبس فيه ولا غموض، فلسنا ممن حولك، ممن يسهل عليهم لقاؤك، ويتلقون حيثما يشاءون تعاليم دينك. مرنا بأمر نعمله وندعو إليه قومنا الذين خلفناهم وراءنا، مرنا بأمر إذا عملناه دخلنا الجنة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم آمركم بالإيمان بالله وحده، ثم قال: هل تدرون ما الإيمان بالله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتصوموا رمضان، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم. قالوا: يا رسول الله -وقيت الشر وجعلنا الله فداءك من كل مكروه- ماذا يحل لنا من الأشربة؟ قال: أنهاكم أن تشربوا ماء التمر والعنب المنقوع في وعاء القرع (الدباء) أو المنقوع في الجرار المطليات (الحنتم) أو المنقوع في وعاء مطلي بالقار (المقير) أو المنقوع في جذع شجرة منقور (النقير). قالوا: يا نبي الله. ماذا تعلم عن نبيذ النقير؟ وكيف علمته وهو ليس ببلادكم؟ قال: نعم. هو جذع تنقرونه، فتقذفون فيه الماء والتمر أو الزبيب وتخلطونه وتتركونه حتى يغلي، فإذا سكن غليانه شربتموه، حتى إن أحدكم ليضرب ابن عمه بالسيف.

وكان في القوم رجل أصيب بسيف ابن عمه السكران، وهو يخفي إصابته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم استحياء، فلما سمع كلام الرسول صلى الله عليه وسلم بالغ في إخفاء جراحته وقال: يا رسول الله، ففي أي الأوعية ننقع التمر والزبيب لنشربه. قال: هذه الأوعية تخفي التخمر فتوقعكم في شرب المسكر، ولكن انقعوا في القرب في أوعية الجلد المدبوغ، التي يربط على أفواهها، فإنها لا تخفي التخمر، لأن ما ينبذ فيها إذا تخمر شقها. قالوا: يا رسول الله، إن أرضنا يكثر فيها الفأر الذي يأكل الجلد، فلا يبقى لنا أسقية القرب، ولا وعاء من هذا النوع، فهل من رخصة؟ . قال صلى الله عليه وسلم: لا رخصة وإن أكله الفأر. وإن أكله الفأر. وإن أكله الفأر. وعاد الوفد إلى حيه وأرضه حاملا معه مشعل الإسلام، يسبقون غيرهم من أهل القرى. فكان مسجد عبد القيس بالبحرين أول مسجد تجمع فيه الجمعة بعد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فرضي الله عنهم ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين. -[المباحث العربية]- الرواية الأولى (قدم وفد عبد القيس) الوفد الجماعة المختارة من القوم ليتقدموهم في لقاء العظماء والمصير إليهم في المهمات، واحدهم وافد، زاد بعضهم: وأن يكون قدومهم من بعد، فإن لم يكونوا من بعد فليسوا بوفد، والمراد من عبد القيس هنا اسم القبيلة، أي قدم وفد قبيلة عبد القيس. (إنا هذا الحي من ربيعة) ينسبون قبيلتهم إلى الجد الرابع لعبد القيس تشرفا به، إذ عبد القيس بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان. و"هذا الحي" منصوب على الاختصاص، والخبر "من ربيعة" أي إنا حي من ربيعة كما جاء في بعض الروايات "والحي" اسم لمنزل القبيلة، ثم سميت القبيلة به، لأن بعضهم يحيا ببعض. (وقد حالت بيننا وبينك كفار مضر) أي وقف في طريقنا إليك كفار مضر يمنعوننا من الوصول إليكم، لأن مساكنهم بين مساكننا وبين المدينة، فعبد القيس تنزل في البحرين والأحساء في شرق الجزيرة العربية على الخليج العربي، والمدينة في غربها على خط عرض واحد تقريبا. (فلا نخلص إليك) أي لا نصل سالمين إليك. (إلا في شهر الحرام) هكذا في الأصول كلها بإضافة "شهر" إلى "الحرام" وفي رواية: "في أشهر الحرام" وهو من إضافة الموصوف إلى صفته كقولهم: مسجد الجامع، وهي جائزة عند

الكوفيين، أما البصريون فيقدرون محذوفا في الكلام للعلم به، أي في شهر الوقت الحرام، وأشهر الأوقات الحرم ومسجد المكان الجامع. ثم إن المراد من شهر الحرام جنس الأشهر الحرم، وهي أربعة لا خلاف فيها، وإنما الخلاف في الأدب المستحسن في ترتيب عدها، فأهل المدينة يعدونها هكذا: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، اعتمادا على تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الترتيب. والكوفيون يعدونها هكذا: المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة، استحسانا للإتيان بها من سنة واحدة. (فمرنا بأمر) قيل: الأمر هنا واحد الأوامر، وقيل واحد الأمور، وكلاهما صحيح. (من وراءنا) "من" موصولة، والمراد ممن وراءهم من جاءوا من عندهم أو ما يحدث لهم من الذرية. (آمركم بأربع) خصال أو جمل، والحكمة في الإجمال بذكر العدد قبل التفسير أن تتشوف النفس إلى التفصيل، فإذا جاء سكنت وتمكن وانضبط فلا ينسى منه شيء. (الإيمان بالله) بالجر بدل من "أربع" ومثله "شهادة" و"إقام" و"إيتاء". (وأن تؤدوا خمس ما غنمتم) "ما" موصولة، و"خمس" بضم الميم وإسكانها، وكذلك الثلث والربع إلى العشر يضم ثانيها. والمصدر المنسبك من "أن تؤدوا" معطوف على "أربع" كأنه قال: آمركم بأربع وبأن تؤدوا خمس ما غنمتم، ولا يصح عطفه على "شهادة" لئلا يلزم منه جعل الأربع خمسا في الروايات التي ذكرت الصوم، وأداء خمس المغنم على هذا مضاف إلى الأربع وليس واحدا منها. (الدباء) بضم الدال المشددة وهو القرع اليابس، والمنهي عنه اتخاذه وعاء، ففي الكلام محذوف، والإضافة بمعنى "من" والتقدير: أنهاكم عن النقع في وعاء من الدباء. (والحنتم) بفتح الحاء وسكون النون وفتح التاء، الواحدة حنتمة، واختلف فيه، فقيل: الجرار كلها، وقيل: جرار يؤتى بها من مصر مقيرات الأجواف، أي مطليات الجوف بالقار وقيل: جرار أفواهها في جنوبها يجلب فيها الخمر من الطائف، وكان الناس ينتبذون فيها، وقيل: جرار كانت تعمل من طين وشعر ودم، قال النووي: وأصح الأقوال وأقواها أنها جرار خضر، وبه قال كثيرون من أهل اللغة وغريب الحديث والمحدثين والفقهاء. (والنقير) جاء تفسيره في الرواية الرابعة والخامسة بأنه جذع ينقر وسطه ويفرغ. (والمقير) أي المطلي بالقار، وهو الزفت.

(وعقد واحدة) أي عد الشهادتين واحدة من الأربع. الرواية الثانية (كنت أترجم بين يدي ابن عباس وبين الناس) قيل: تقديره بين يدي ابن عباس بينه وبين الناس، فحذف لفظ "بينه" لدلالة الكلام عليه والأصح أن لفظ "يدي" عبارة عن الجملة والذات، كما في قوله تعالى: {يوم ينظر المرء ما قدمت يداه} [النبأ: 40] والمراد كنت أترجم بين ابن عباس وبين الناس، كما جاء في رواية البخاري. والترجمة بيان المراد من لغة بلغة أخرى، فكان أبو جمرة ينقل كلام ابن عباس من العربية إلى الفارسية. وقال ابن الصلاح: إن المراد من الترجمة مطلق البيان وإن كانت بنفس اللغة، ورأى أن مهمة أبي جمرة كانت تبليغ كلام ابن عباس إلى من خفي عليه من الناس، سواء لعدم السمع أو لعدم الفهم. (تسأله عن نبيذ الجر) الجملة صفة امرأة، و"الجر" بفتح الجيم اسم جمع، الواحدة جرة، ويجمع على جرار، وهي الوعاء المعروف المصنوع من الفخار. (من الوفد أو من القوم) شك من الراوي، وكل من الجملتين خبر مقدم ومبتدأ مؤخر. (ربيعة) خبر مبتدأ محذوف وفي الكلام مضاف محذوف تقديره: الوفد وفد ربيعة وأصله الوفد وفد عبد القيس من ربيعة. (مرحبا) لفظ استعملته العرب بكثرة. تريد به البر وحسن اللقاء. وهو منصوب بفعل محذوف تقديره صادفت رحبا بضم الراء أي سعة. والرحب بفتح الراء الواسع. وقيل: منصوب على المصدرية من رحبت الأرض إذا اتسعت. قال سيبويه: وهو من المصادر النائبة عن أفعالها. (غير خزايا ولا الندامى) هكذا هو في الأصول "الندامى" بالألف واللام. و"خزايا" بحذفهما. وروي بالألف واللام فيهما. وروي بحذف الألف واللام فيهما. ولفظ "غير" بالنصب على الحال. ويروى بالجر بدل من القوم. أو صفة له على أن الألف واللام فيه للجنس. والمعرف بلام الجنس قريب من النكرة. فحكمه حكم النكرة. و"غير" من الألفاظ المتوغلة في الإبهام فلا تستفيد تعريفا إذا أضيفت إلى معرفة. و"الخزايا" جمع خزيان وهو المستحي. وقيل: الذليل المهان. والندامى جمع ندمان بمعنى نادم. والمراد أنه لم يكن منكم تأخر عن الإسلام. ولم يصبكم إسار ولا قتال ولا سباء تستحون بسببه أو تذلون أو تهانون أو تندمون.

(إنا نأتيك من شقة بعيدة) الشقة بضم الشين وكسرها، والضم أشهر وأفصح، وبه نزل القرآن، وهي السفر البعيد، فقولهم "بعيدة" مبالغة في البعد وتأكيد له، كقولهم: أمس الذاهب لا يعود. (فمرنا بأمر فصل) أمر بالتنوين، و"فصل" صفته على التأويل بمشتق لأنه مصدر، والمعنى مرنا بأمر واضح بين فاصل للمراد على غيره، بحيث لا يكون مشكلا علينا. (شهادة) بالرفع خبر مبتدأ محذوف، تقديره: الإيمان بالله شهادة أن لا إله إلا الله و"إقام" و"إيتاء" و"صوم" معطوف على "شهادة". (احفظوه وأخبروا به من ورائكم) احفظوه قولا وعملا، فلا تنساه ذاكرتكم ولا تهمله جوارحكم، وهذه الرواية بمن الجارة، فمفعول "أخبروا" محذوف، التقدير: أخبروا به الناس الكائنين من ورائكم. الرواية الثالثة (للأشج أشج عبد القيس) هو المنذر بن عائذ، سماه النبي صلى الله عليه وسلم بالأشج لأثر كان في وجهه، و"أشج عبد القيس" بدل من الأشج. (الحلم والأناة) الحلم العقل، والأناة التثبت وترك العجلة، وأناة الأشج كانت في تريثه بعد الوصول إلى المدينة حتى جمع الرحال وعقل الإبل ولبس أحسن الثياب، وحلمه ورجاحة عقله تمثلت في مناقشة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث اعتذر عن أن يبايع عن قومه. الرواية الرابعة (ما علمك بالنقير) سؤال استبعاد، إذ لم يكن بأرضه صلى الله عليه وسلم. (فتقذفون فيه من القطيعاء) "القذف" الإلقاء والطرح، و"القطيعاء" بضم القاف وفتح الطاء نوع من التمر صغار. وروي "وتذيفون" بفتح التاء من ذاف يذيف، وروي "وتديفون" بالدال بدل الذال، ومعناهما تخلطون. (أصابته جراحة كذلك) "كذلك" صفة جراحة، والمعنى: في القوم رجل مصاب بجراحة ناشئة من حالة مشابهة لحالة ضرب السكران ابن عمه بالسيف. (ففيم نشرب) الفاء فصيحة في جواب شرط مقدر، والجار والمجرور متعلق بالفعل بعده، والتقدير: إذا انتهينا عن الانتباذ في هذه الأوعية، ففي أي الأوعية ننتبذ ونشرب؟ (في أسقية الأدم) أسقية جمع سقاء، "والأدم" بفتح الهمزة والدال جمع أديم، وهو الجلد الذي تم دباغه، والجار والمجرور متعلق بفعل محذوف تقديره: اشربوا.

(التي يلاث على أفواهها) أي يلف الخيط على أفواهها ويربط، وفي رواية "تلاث" بالتاء بدل الياء. (إن أرضنا كثيرة الجرذان) بكسر الجيم وإسكان الراء جمع جرذ بضم الجيم وفتح الراء وهو نوع من الفأر، أو الذكر منها، وفي رواية "إن أرضنا كثير الجرذان" بتذكير لفظ "كثير" وهو على تقدير موصوف مذكر أي إن أرضنا مكان كثير الجرذان، واعتذروا بذلك لعلمهم أن شريعة الإسلام مبنية على التخفيف، فظنوا أنهم قد يرخص لهم للضرورة. (وإن أكلتها الجرذان) مكرر ثلاث مرات في الأصول للتأكيد، وفطم نفوسهم عن الطمع في الرخصة، وجواب الشرط محذوف تقديره: فلا يباح الانتباذ في غيرها. ولم يرخص لهم صلى الله عليه وسلم لأنه لا يعسر الاحتراز منها. الرواية الخامسة (جعلنا الله فداءك) استعملتها العرب كناية عن الدعاء بالوقاية من المكروه. (ماذا يصلح لنا من الأشربة؟ ) أي من ظروف الأشربة وأوعيتها، ففي الكلام مضاف محذوف. (وعليكم بالموكى) بضم الميم وإسكان الواو أي المربوط بالوكاء، وهو الخيط. و"عليكم " اسم فعل أمر بمعنى الزموا، والباء حرف جر زائد و"الموكى" مفعول به لاسم الفعل. -[فقه الحديث]- روايات كثيرة لهذا الحديث في مسلم حصرناها في خمس، وروايات كثيرة له في البخاري، وبينها اختلاف كثير في الألفاظ بالزيادة والنقص والتبديل والتقديم والتأخير والقصة واحدة، ولم يعد هذا الاختلاف مشكلا بعد البيان الذي مر بنا قريبا عن صحة الرواية بالمعنى، واختلاف الرواة في الحفظ والضبط الذي لا يطعن في صحة الحديث. لكن المشكل هنا أنه صلى الله عليه وسلم قال "آمركم بأربع" والمذكور في أكثر الروايات خمس، إيمان بالله ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأداء الخمس، وعدم ذكر الصوم في الرواية الأولى إغفال من الراوي. وللعلماء في الجواب عن هذا الإشكال أقوال: أظهرها ما قاله ابن بطال في شرح البخاري. قال: أمرهم بالأربع التي وعدهم بها، ثم زادهم خامسة -يعنى أداء الخمس- لأنهم كانوا مجاورين لكفار مضر، فكانوا أهل جهاد وغنائم.

وقال بعضهم: إن الأربع المأمور بها أولها إقام الصلاة، وإنما ذكر الشهادتين تبركا بهما لأن القوم كانوا مؤمنين مقرين بكلمتي الشهادة، ويستأنس لهذا الرأي برواية البخاري في الأدب بدون الشهادتين، ويضعفه ما جاء هنا في زيادة الرواية الأولى "شهادة أن لا إله إلا الله وعقد واحدة". ولم يذكر الحج في هذا الحديث لأنه لم يكن فرض بعد، فإن قدوم وفد عبد القيس كان عام الفتح قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة، ونزلت فريضة الحج سنة تسع على الأشهر. وقيل: إن ترك ذكره لأنهم لم يكن لهم إليه سبيل من أجل كفار مضر، ويرد هذا القول أنه لا يلزم من عدم الاستطاعة في الحال ترك الإخبار به ليعمل به عند الإمكان كما في الآية. ثم إن دعوى أنهم كانوا لا سبيل لهم إلى الحج ممنوعة من أساسها، لأن الحج يقع في الأشهر الحرم، وهم يأمنون فيها. واختلفت الروايات في عدد وفد عبد القيس، فروي أنه كان أربعين رجلا، وروي أنه كان سبعة عشر، وروي أنه كان أربعة عشر أو ثلاثة عشر، ومع أنه لا طائل وراء تحديد العدد فإن الحافظ ابن حجر جمع بين الروايات بأن مجموع العدد أربعون والأعداد الأخرى تعبير عن رؤساء الوفد أو ركبانه. وإنما خصت هذه الأربع "الدباء والحنتم والنقير والمقير" بالنهي عن الانتباذ فيها لأنه يسرع إليه الإسكار فيها، فيصير حراما نجسا، ويبطل كونه مالا محترما، فنهي عنه لما فيه من إتلاف المال. ولأن هذه الأوعية تخفي مظاهر التخمر والإسكار في منقوعها فربما شربه بعد إسكاره من لم يطلع عليه، ولم ينه عن الانتباذ في أسقية الأدم، بل أذن فيها لأنها لرقتها لا يخفى فيها المسكر، بل إذا صار مسكرا شقها غالبا. ثم إن النهي كان في أول الأمر خشية التهاون في التفرقة بين المسكر وغير المسكر واختلاط الأمر، ثم نسخ بحديث بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كنت نهيتكم عن الانتباذ إلا في الأسقية، فانتبذوا في كل وعاء ولا تشربوا مسكرا". وكون النهي منسوخا بهذا الحديث مذهب أبي حنيفة والشافعية. وذهب مالك وأحمد وإسحاق إلى أن التحريم باق، وفتوى ابن عباس للمرأة في الرواية الثانية والثالثة تدل على أنه يرى عدم النسخ، فقد أجاب عن سؤال الانتباذ في الجر بنهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن الانتباذ فيها. واقتصر في المنهيات على الانتباذ في الأوعية مع أن المناهي فيها ما هو أشد في التحريم من الانتباذ لكثرة تعاطيهم لها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يراعي في أجوبته حال المخاطبين كالطبيب يغاير بين الأدوية باختلاف المرضى، وقيل: إنما اقتصر عليها لأنهم طلبوا الجواب فيها، إذ ورد "وسألوه عن الأشربة" وجاء في الرواية الخامسة "يا نبي الله -جعلنا الله فداءك- ماذا يصلح لنا من الأشربة؟ " فاقتصر اقتصار الجواب المطابق للسؤال.

-[ويؤخذ من الحديث]- 1 - وفادة الرؤساء والأشراف إلى الأئمة عند الأمور المهمة. 2 - أن الوفد كانوا مسلمين بدليل قولهم: يا رسول الله، وقولهم: الله ورسوله أعلم. 3 - بيان مهمات الإسلام وأركانه سوى الحج. 4 - تقديم الاعتذار بين يدي المسألة حيث اعتذروا بصعوبة اللقاء. 5 - وجوب الخمس في الغنيمة قلت أو كثرت، وإن لم يكن الإمام في السرية الغازية وفيه خلاف وتفصيل في محله. 6 - النهي عن الانتباذ في الأواني الأربع، أي نقع التمر والزبيب أو نحوهما مع الماء فيها ليحلو ويشرب وقد سبق الخلاف في نسخ هذا النهي. 7 - استدل بقوله صلى الله عليه وسلم: "من القوم"؟ في الرواية الثانية على استحباب سؤال القاصد عن نفسه ليعرف منزلته. 8 - استعانة العالم في تفهيم الحاضرين والفهم عنهم ببعض أصحابه. 9 - أنه يكفي في الترجمة والفتوى والخبر قول الواحد. 10 - جواز استفتاء المرأة الرجال الأجانب، وسماعها صوتهم وسماعهم صوتها للحاجة. 11 - استحباب تأنيس الرجل لزواره والقادمين عليه بقوله "مرحبا" ونحوه، والثناء عليهم إيناسا وبسطا. 12 - جواز الثناء على الإنسان في وجهه إذا لم يخف عليه فتنة من إعجاب ونحوه، ويختلف استحبابه بحسب الأحوال والأشخاص، وأما النهي عن المدح في الوجه وقوله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والمدح فإنه الذبح" وقوله صلى الله عليه وسلم: "ويحك، قطعت عنق صاحبك" فهو في حق من يخاف عليه الفتنة. 13 - لا عتب على طالب العلم والمستفتي إذا طلب إعادة وإيضاح الجواب. 14 - جواز مراجعة العالم على سبيل الاسترشاد. 15 - في الرواية الرابعة علم من أعلام النبوة إذ أخبر صلى الله عليه وسلم عن ضرب السكران ابن عمه بالسيف، ولم يواجه الرجل على عادته صلى الله عليه وسلم في الستر. 16 - جواز قول الإنسان للمسلم: جعلني الله فداءك. والله أعلم

(8) باب بعث معاذ إلى اليمن

(8) باب بعث معاذ إلى اليمن 28 - عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن معاذا قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال "إنك تأتي قوما من أهل الكتاب. فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله. وأني رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك. فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة. فإن هم أطاعوا لذلك. فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم. فإن هم أطاعوا لذلك. فإياك وكرائم أموالهم. واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب". 29 - عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن. فقال "إنك ستأتي قوما" بمثل حديث وكيع. 30 - عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال "إنك تقدم على قوم أهل كتاب. فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله عز وجل. فإذا عرفوا الله، فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم فإذا فعلوا فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم. فإذا أطاعوا بها، فخذ منهم وتوق كرائم أموالهم". -[المعنى العام]- خلع معاذ كمية كبيرة من ماله لغرمائه سنة عشر من الهجرة، فرأى صلى الله عليه وسلم أن يعوضه بتعيينه واليا أو قاضيا على اليمن: يجمع الزكاة ويصرفها في وجوهها ويقوم على بيت المال، وقال له: إني قد عرفت بلاءك في الدين، والذي قد ركبك من الدين، وقد طيبت لك الهدية، لعل الله يجبرك ويخلف عليك ما غرمت. ولم يكن أساس اختيار معاذ لهذا المنصب مجرد التعويض، فإن كفء له، أهل لتحمل هذه

المسؤولية، لما عرف عنه من العلم والفضل والورع، ثم هو من أهل بدر، وشهدها وهو ابن إحدى وعشرين سنة. وقد زوده رسول الله صلى الله عليه وسلم بوصية تحدد له الخطوات الواجب عليه اتباعها في مهمته السامية الصعبة. قال له: إنك ستكون بمثابة حاكم على اليمن بقوانين الإسلام، ناشر لتعاليم الدين بين قوم أكثرهم من أهل الكتاب، وهم أهل علم وجدل، تحتاج دعوتهم إلى حكمة وسعة صدر، وقوة حجة، وتوقد فكرة. فتدرج معهم في الدعوة، وعاملهم بالتي هي أحسن، وليكن أول شيء تدعوهم إليه هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإذا قالوها وأقروا بها، وعرفوا الله تعالى ووحدانيته، وآمنوا برسوله فأعلمهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، وفصلها لهم وعرفهم كيفيتها، وأمهم في صلاتهم ليتعلموها، فإن هم قبلوا وأذعنوا وصلوا، فأعلمهم أن الله فرض على الأغنياء منهم زكاة تجمع من أموالهم، وتفرق بين الفقراء، قدر يسير معلوم يطهر أموالهم وينميها، ويحوطها بالبركة، ويربط أواصر المحبة بين طبقات الأمة الواحدة، فإن استجابوا ورضخوا، فخذ منهم صدقاتهم ولا تلزمهم إخراج كرائم أموالهم ونفائسها، التي أحبوها واختصوها بفضل على غيرها، فلم يجعل الله مواساة الفقراء على حساب الإجحاف بالأغنياء. وتجنب الظلم عامة، وفي أخذ الصدقات خاصة، واحرص على العدل دائما، واحذر دعوة المظلوم، ولا تعرض نفسك لأن يدعو عليك، فإن دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاسقا، تفتح لها أبواب السموات السبع، ولا يحول بينها وبين القبول حائل، وليس بينها وبين إجابتها حجاب. وحافظ معاذ على الوصية، وظل قائما على اليمن إلى أن قدم في عهد أبي بكر، ثم توجه إلى الشام فمات بها بالطاعون سنة سبع عشرة من الهجرة، وله من العمر أربع وثلاثون سنة. -[المباحث العربية]- (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم) المبعوث إليه محذوف، أبرز في الرواية الثانية والثالثة في قول ابن عباس: بعث معاذا إلى اليمن. (إنك تأتي قوما) المضارع هنا مراد به الاستقبال، وقد صرح بحرف الاستقبال في الرواية الثانية، وفي الرواية الثالثة "تقدم على قوم" بفتح التاء والدال، قال في القاموس: قدم كنصر وعلم، والتي معنا من باب علم، وهي بمعنى أقدم يقدم. (من أهل الكتاب) وفي الرواية الثالثة "قوم أهل كتاب" وهذا الوصف كالتوطئة للوصية، ليستجمع همته عليها، ويوفر العناية في دعوتهم، فمخاطبة أهل الكتاب ينبغي أن لا تكون كمخاطبة الجهال من عبدة الأوثان.

وليس في هذا الوصف أن جميع من سيأتيهم من أهل الكتاب، فإن في أهل اليمن غير أهل الكتاب، لكنه خصهم بالذكر لمزيد الاهتمام. (فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله) في الرواية الثالثة "فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله"، "أول" بالنصب خبر "يكن" مقدم و"عبادة الله" اسمها مؤخر، والمراد من عبادة الله توحيده. فقد جاء في رواية "إلى أن يوحدوا الله" والمراد من توحيده الشهادتان. (فإن هم أطاعوا لذلك) أي للإتيان بالشهادتين، وفي رواية "فإن أطاعوا لك في ذلك"، أي شهدوا وانقادوا، وفي رواية "فإن هم أجابوا لذلك" وفي رواية "فإذا عرفوا ذلك". وفي الرواية الثالثة "فإذا عرفوا الله". والظاهر أن أطاع هنا ضمن معنى انقاد فعدى تعديته. والتعبير بـ"إن" ليس لأن وقوع الشرط مشكوك فيه، بل لمجرد التعليق بدليل الرواية الثالثة "فإذا" بدل "فإن". (فأعلمهم) في الرواية الثالثة "فأخبرهم". (أن الله افترض عليهم) في الرواية الثالثة "أن الله فرض عليهم" وهما بمعنى. (خمس صلوات في كل يوم وليلة) في الرواية الثالثة "خمس صلوات في يومهم وليلتهم". (فإن أطاعوا لذلك) يحتمل أمرين: أحدهما: أن يكون المراد إقرارهم بوجوبها عليهم والتزامهم بها، وثانيهما: أن يكون المراد الإطاعة بالفعل والأداء، ووجه الأول بأن المذكور هو الإخبار بالفريضة، وإطاعة الإخبار الإقرار به والتزامه، ووجه الثاني بأنهم لو بادروا إلى الامتثال بالفعل لكفى، ولم يشترط الإقرار باللسان والالتزام بالتلفظ، بخلاف الشهادتين فالشرط فيهما عدم الإنكار، وعلامة قبولهما النطق بهما، ويؤيد هذا الوجه رواية "فإذا صلوا" كما يؤيده قوله في الرواية الثالثة "فإذا فعلوا". قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر أن المراد القدر المشترك بين الأمرين، فمن امتثل بالإقرار أو بالفعل كفاه. أو بهما فأولى. اهـ. (أن الله افترض عليهم صدقة) أي زكاة بدليل الرواية الثالثة، وأطلق لفظ الصدقة على الزكاة في قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء ... } [التوبة: 60] الآية. (تؤخذ من أغنيائهم) الجملة صفة "صدقة". (فترد في فقرائهم) لم يقل: فتعطى أو فتسلم للإشارة إلى أن المسلمين فقراءهم وأغنياءهم جسد واحد، فما يؤخذ من عضو ويعطى للآخر مردود إليه في الجملة، وجعل الفقراء هنا ظرفا للرد

إشارة إلى تمكن الزكاة منهم وعدم خروجها عنهم، وفي الرواية الثالثة "فترد على فقرائهم" والتعبير بعلى فيه من التمكن ما ليس في "إلى". (فإن هم أطاعوا لذلك) وفي رواية "فإذا أقروا بذلك" وجواب الشرط الحقيقي محذوف، ذكر في الرواية الثالثة وفيها "فإذا أطاعوا بها فخذ منهم" وأما قوله: (فإياك وكرائم أموالهم) فهو مرتب على الجواب، وكرائم الأموال نفيسها، وقيل: هي ما يخص بها صاحبها نفسه ويؤثرها على غيرها، لما فيها من صفات الكمال، من غزارة اللبن أو جمال الصورة أو كثرة اللحم أو الصوف أو نحو ذلك، وأصل "إياك" أحذرك فحذف الفعل، وانفصل ضمير المفعول، ولا يجوز ترك الواو في "وكرائم" لأن المحذر منه إن كان اسما صريحا وولى المحذر استعمل بمن أو الواو، ولا يخلو عنهما، وإن كان فعلا وجب أن يكون مع "أن" ليكون في تأويل الاسم فيستعمل بالواو عطفا. وقد نقل ابن مالك: إياك الأسد بدون واو، ولكنه شاذ. (واتق دعوة المظلوم) الفعل معطوف على عامل "إياك" المحذوف، والتقدير: اتق نفسك أن تتعرض للكرائم، واتق نفسك أن تتعرض لدعوة المظلوم، والمقصود تجنب الظلم لئلا يدعو عليك المظلوم، وفيه تنبيه على المنع من جميع أنواع الظلم، والنكتة في ذكره عقب المنع من أخذ الكرائم الإشارة إلى أن أخذها ظلم. (فإنه) أي فإن الشأن، وفي رواية "فإنها" أي فإن القصة أو فإن دعوة المظلوم. (ليس بينها وبين الله حجاب) الجملة تذييل لتعليل اتقاء دعوة المظلوم، وليس المراد أن لله حجابا يحجبه عن شيء، ولكن المقصود أن دعوة المظلوم مقبولة مجابة، فالكلام على سبيل التمثيل بتشبيه هيئة دعاء المظلوم وعدم وجود صارف له، أو مانع من قبوله، بهيئة من يقصد دار السلطان متظلما فتفتح له الأبواب، ويرفع أمامه كل حجاب. -[فقه الحديث]- استشكل على الحديث بأنه لم يرد فيه ذكر الصوم والحج مع أن بعث معاذ كان في آخر الأمر. وأجاب ابن الصلاح بأن ذلك تقصير من بعض الرواة، وأجاب الكرماني بجوابين يرفع بهما نسبة التقصير للرواة فقال في أحدهما: يحتمل أنه لم يكن حينئذ شرع. وهذا جواب مردود. وقال في ثانيهما: إن اهتمام الشارع بالصلاة والزكاة أكثر، ولهذا كررا في القرآن، فمن ثم لم يذكر الصوم والحج في هذا الحديث مع أنهما من أركان الإسلام، والسر في ذلك أن الصلاة والزكاة إذا وجبا على المكلف لا يسقطان عنه أصلا، بخلاف الصوم فإنه قد يسقط بالفدية، والحج فإن الغير قد يقوم مقامه فيه كما في المعضوب (أي العاجز عن أداء الحج). اهـ.

وهذا جواب حسن، وأحسن منه أن يقال: إذا كان الكلام في بيان الأركان جاء الشارع بها كاملة ولم يخل بشيء منها، كما في حديث "بني الإسلام على خمس" فإذا كان في غير بيان الأركان كالدعوة إلى الإسلام صح أن يكتفي بالأركان الثلاثة الشهادتين والصلاة والزكاة، ولو كان بعد وجود فرض الصوم والحج كقوله تعالى: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة} [التوبة: 11] في موضعين من سورة "براءة" ونزولها بعد فرض الصوم والحج قطعا، وكحديث "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة" وغير ذلك من الأحاديث. والحكمة في ذلك أن الأركان الخمسة: اعتقادي وهو الشهادتان، وبدني وهو الصلاة، ومالي وهو الزكاة، والصلاة شاقة لتكررها، والزكاة شاقة لما في جبلة الإنسان من حب المال، فإذا أذعن المرء لهذه الثلاث كان ما سواها أسهل عليه بالنسبة إليها. كما استشكل عليه بأنه لا وجه لترتيب الدعوة إلى الزكاة على الإطاعة بالصلاة. وقيل في الجواب: إن الترتيب ترتيب بيان واهتمام، لا ترتيب إيجاب، لأن الزكاة تجب على قوم من الناس دون آخرين. وأولى من هذا الجواب قول بعضهم: إنهم إذا أجابوا إلى الشهادتين، ودخلوا بذلك في الإسلام، ثم لم يذعنوا لوجوب الصلاة كان ذلك كفرا وردة عن الإسلام بعد دخولهم فيه، فيصير مالهم فيئا، ولا يؤمرون بالزكاة بل يقتلون. واستدل الجمهور بالحديث على أنه لا يكفي في الإسلام الاقتصار على شهادة أن لا إله إلا الله، حتى يضيف إليها الشهادة لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة. وقال بعضهم: يصير بالأولى مسلما ويطالب بالثانية، وفائدة الخلاف تظهر في الحكم بالردة. والقول الراجح قول الجمهور وأن المطالبة ابتداء تكون بالشهادتين، ومن كان موحدا فالمطالبة له بالجمع بين الإقرار بالوحدانية والإقرار بالرسالة. ومن كان مشبها أو معتقدا ما يستلزم الإشراك كمن يقول ببنوة عزير فإنه يطالب بالإقرار بالتوحيد- لنفي ما يستلزم عقيدته- وبالإقرار بالرسالة. وهل يشترط التبرؤ من كل دين يخالف دين الإسلام؟ وبعبارة أخرى: هل يشترط للحكم بإسلام من يعتقد التشبيه أو يعتقد بنوة عزير أن يقر بترك هذا الاعتقاد؟ أو يكفي للحكم بإسلامه الإقرار بالشهادتين؟ الصحيح الثاني، وهو الذي يؤخذ من الحديث، لأن اعتقاد الشهادتين يستلزم ترك اعتقاد ما ينافيهما. وقد استدل القاضي عياض بقوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الثالثة "فإذا عرفوا الله فأخبرهم" استدل به على أن اليهود والنصارى غير عارفين الله تعالى وإن كانوا يعبدونه ويظهرون

معرفته، وقال: ما عرف الله تعالى من شبهه وجسمه من اليهود وأجاز عليه البداء أو أضاف إليه الولد منهم، أو أضاف إليه الصاحبة والولد، أو أجاز الحلول عليه والانتقال والامتزاج من النصارى، أو وصفه بما لا يليق به، أو أضاف إليه الشريك والمعاند من المجوس والوثنية، فمعبودهم الذي عبدوه ليس هو الله، وإن سموه به، إذ ليس موصوفا بصفات الإله الواجبة له، فإذن هم ما عرفوا الله سبحانه وتعالى. اهـ وهذا مذهب حذاق المتكلمين في اليهود والنصارى. واستدل بعضهم بالحديث على أن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشريعة من الصلاة والصوم والزكاة وتحريم الزنا ونحوها، لكونه صلى الله عليه وسلم قال "فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن عليهم ... " فدل على أنهم إذا لم يطيعوا لا يجب عليهم، ودل على أنهم يدعون أولا إلى الإيمان، ثم لا يدعون إلى العمل إلا بعد أن يؤمنوا. ومذهب المحققين والأكثرين -وهو المختار- أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة (المأمورات والمنهيات) وغاية ما في الحديث أن مطالبتهم في الدنيا بالفروع لا تكون إلا بعد الإسلام، لأنها لا تصح منهم بدونه، ولا يلزم من ذلك أن لا يكونوا مخاطبين بها، يزاد في عذابهم في الآخرة بسببها، كمن أتلف ثوبا مخيطا فإنه مسئول عن الثوب وعن خياطته وإن لم يطالب عمليا بالخياطة إلا بعد تحصيل الثوب. وفي المسألة رأي ثالث هو أن الكفار مخاطبون بالمنهيات دون المأمورات، وهو رأي ضعيف. واستدل به الخطابي وسائر أصحاب الشافعي على أن الزكاة لا يجوز نقلها عن بلد المال، لقوله صلى الله عليه وسلم "فترد في فقرائهم" فإن معناه أن الصدقة ترد على فقراء من أخذت من أغنيائهم، والوصية لمعاذ أن يأخذ الزكاة من أغنياء البلد الموجه إليها ويردها على فقرائها، فلا يجوز له نقلها إلى بلد آخر. ورد المخالفون بأن الضمير في "فقرائهم" محتمل لفقراء المسلمين ولفقراء أهل تلك البلدة أو الناحية، وحيث تطرق الدليل إلى الاحتمال سقط به الاستدلال. وعلى هذا أجاز أبو حنيفة النقل، ورأى المالكية ترك النقل، لكنه إن خالف ونقل أجزأ عند المالكية على الأصح، ولم يجزئ عند الشافعية على الأصح إلا إذا فقد المستحقون لها. واستدل به الجمهور على إيجاب الزكاة في مال الصبي والمجنون، لعموم قوله "من أغنيائهم" وذهب الحنفية إلى عدم إيجاب الزكاة في مال الصبي والمجنون لحديث "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق". ولا يخفى أن المكلف بإخراج الزكاة من مال الصبي هو وليه، ففي مال الصبي حق غير مكلف هو بأدائه، وإنما المكلف بأدائه هو الوصي، فلا تنافي بين إيجاب الزكاة من ماله وبين رفع القلم عنه. كما استدل به الجمهور أيضا على عدم وجوب الوتر، فليس على المسلم من صلاة غير الخمس. ورد الحنفية الموجبون للوتر بجواز وجوبه بعد وصية معاذ على أن الراوي أو الوصية لم يأت بكل المفروضات.

واستدل بالحديث لقول مالك وغيره: إنه يكفي إخراج الزكاة في صنف واحد، وأجاب المخالفون بأنه يحتمل أن يكون ذكر الفقراء لكونهم الغالب أو للمقابلة بينهم وبين الأغنياء. واستدل به بعضهم على أنه ليس على المدين زكاة ما في يده إذا لم يفضل من الدين الذي عليه قدر النصاب، لأنه ليس بغني. واستدل بقوله "تؤخذ من أغنيائهم" على أنه إذا امتنع من الزكاة أخذت من ماله بغير اختياره، وهذا الحكم لا خلاف فيه، ولكن هل تبرأ ذمته ويجزيه ذلك في الباطن؟ فيه وجهان للشافعية. واستدل بالحديث على أن دعوة المظلوم مستجابة، وإن كان عاصيا اعتمادا على عموم لفظ "المظلوم" ويؤيده ما جاء عند أحمد مرفوعا "دعوة المظلوم مستجابة، وإن كان فاجرا، ففجوره على نفسه". ولا يرد أننا نسمع دعاء كثير من المظلومين ثم لا نرى إجابة لدعائهم، لأن الداعي -كما جاء في الحديث- على ثلاث مراتب: إما أن يعجل له ما طلب، وإما أن يدخر له أفضل منه، وإما أن يدفع عنه من السوء مثله. وعلى هذا التوجيه قيد قوله تعالى: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه} [النمل: 62] بقوله {فيكشف ما تدعون إليه إن شاء} [الأنعام: 41]. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - بعث السعاة لأخذ الزكاة. 2 - أن الإمام ينبغي أن يعظ ولاته، ويأمرهم بتقوى الله، وينهاهم عن الظلم، ويحذرهم من عاقبته وإن كانوا على درجة كبيرة من العلم والفضل والورع. 3 - قبول خبر الواحد ووجوب العمل به. 4 - أن الصلوات الخمس تجب في كل يوم وليلة. 5 - أنه ليس في المال حق سوى الزكاة. 6 - أن الفقير لا زكاة عليه. 7 - أن من ملك نصابا لا يعطي من الزكاة، حيث إنه جعل المأخوذ منه غنيا وقابله بالفقير. 8 - أن الزكاة لا تدفع إلى كافر ولا تدفع إلى غني من سهم الفقراء. 9 - أنه يحرم على الساعي أخذ كرائم الأموال في أداء الزكاة، بل يأخذ الوسط. والله أعلم

(9) باب قتال أهل الردة ومانعي الزكاة

(9) باب قتال أهل الردة ومانعي الزكاة 31 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر بعده، وكفر من كفر من العرب، قال عمر بن الخطاب لأبي بكر: كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. فمن قال: لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه. وحسابه على الله". فقال أبو بكر: والله! لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة. فإن الزكاة حق المال. والله! لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه. فقال عمر بن الخطاب: فوالله! ما هو إلا أن رأيت الله عز وجل قد شرح صدر أبي بكر للقتال. فعرفت أنه الحق. 32 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه. وحسابه على الله". 33 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله. ويؤمنوا بي وبما جئت به. فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها. وحسابهم على الله". 34 - عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. فإذا قالوا: لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها. وحسابهم على الله". ثم قرأ {إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر} [الغاشية: 21، 22].

35 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها. وحسابهم على الله". 36 - عن أبي مالك عن أبيه رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله". 37 - عن أبي مالك عن أبيه رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول "من وحد الله" ثم ذكر بمثله. -[المعنى العام]- في أواخر أيام الرسول صلى الله عليه وسلم ارتد ناس من مذحج وعلى رأسهم الأسود العنسي الذي استولى على اليمن وأخرج عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ارتد ناس من بني حنيفة وعلى رأسهم مسيلمة الكذاب الذي كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله "أما بعد" فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك. فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم "من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب "أما بعد" فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين". وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتد ناس من بني تميم قوم سجاح التي تنبأت، وارتد غسان قوم جبلة ابن الأيهم، وفزارة، وغطفان، وبنو سعد، كل هؤلاء وكثير غيرهم ارتدوا عن الإسلام وأنكروا الشرائع وتركوا الصلاة والزكاة وغيرها من أمور الدين، وعادوا إلى ما كانوا عليه في الجاهلية. وانكمش المتمسكون بدينهم، وخافوا بطش المرتدين، وأخفوا عبادتهم، حتى لم يعد يصلى في بسيط الأرض إلا في ثلاثة مساجد: مسجد مكة، ومسجد المدينة، ومسجد عبد القيس بالبحرين. وهناك فريق آخر ظلوا مسلمين، لكنهم فرقوا بين الصلاة والزكاة، فأقروا بالصلاة وأنكروا فرض الزكاة، وأنكروا وجوب أدائها إلى الإمام، وكان ضمن هؤلاء المانعين للزكاة من كان يسمح بالزكاة إلا أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك الرأي، وقبضوا على أيديهم في ذلك، كبني يربوع، فإنهم جمعوا صدقاتهم، وأرادوا أن يبعثوا بها إلى أبي بكر رضي الله عنه فمنعهم مالك بن نويرة من ذلك، وفرقها فيهم. استقبل أبو بكر الصديق في فجر خلافته هذه الصورة المزعجة، بناء الإسلام الشامخ يتصدع

ويتهاوى، وترتعد جوانبه، ويتفاقم في كل يوم صدعه، ويتسع خرقه، وترجف الأرض من تحته، وهو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، المسئول أمام الله عن دينه في أرضه. فماذا تراه يفعل؟ إن من أبرز صفات أبي بكر لينه في خلقه، ورقة قلبه، وإرهاف حسه إلى حد اشتهر معه في المواقف المؤلمة بالبكاء، وكل هذه الصفات لا تتناسب والظروف المحيطة بالإسلام. لكن شاءت إرادة الله أن يتحول أبو بكر من اللين إلى الصلابة، ومن الرقة إلى الشدة، ومن الإرهاف العاطفي إلى خشونة العقل وصرامة الحكمة، ففكر وقرر لكنه ما كان له أن يمضي إلى ما رأى حتى يعرض الخطة على كبار الصحابة، عملا بقوله تعالى: {وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله} [آل عمران: 159]. فجمعهم، واستعرض الحالة معهم، وأعلن لهم أنه يرى قتال كل من غير وبدل، وأنه يرى العلاج في الحزم، والحكم للسيف. فقال له عمر بن الخطاب: إذا قاتلنا من ارتد وكفر، ومن ادعى النبوة، ومن تابعه فكيف نقاتل من منع الزكاة وهو يشهد أن لا إله إلا الله وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرني ربي أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله فقد حقن مني دمه، وحفظ مني ماله وحسابه فيما وراء ذلك على الله؟ . فقال له أبو بكر: أرأيت إذا لم يصلوا؟ فسلم عمر بقتال من امتنع من الصلاة. وسكت وسكت الناس، فقال أبو بكر- وقد سكن قلبه إلى الرأي وشرح الله صدره لتنفيذه - قال بصوت الحكيم الحازم: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الصلاة حق النفس والزكاة حق المال، فمن صلى عصم نفسه، ومن زكى عصم ماله، ومن لم يصل قوتل على ترك الصلاة، ومن لم يزك أخذت الزكاة منه قهرا، فإن نصب لنا الحرب قاتلناه، والله لو منعوني جديا أو حبلا كانوا يعطونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه. ومرة أخرى سكت عمر وسكت الناس، لكنه في هذه المرة لم يكن سكوت شك أو اضطراب، بل كان سكوت رضى وإذعان، حتى عمر نفسه، لقد شرح الله صدره لخطة أبي بكر، وبان له بالحجة والبرهان أنها الحق، ووافق الجميع على القتال، وجهز أبو بكر جيشا على رأسه خالد بن الوليد لقتال مسيلمة وأتباعه، فنصر الله الإسلام، وقتل مسيلمة باليمامة على يد وحشي قاتل حمزة رضي الله عنه وكان وحشي يقول: قتلت خير الناس في جاهليتي وشرها في الإسلام. وقتل العنسي بصنعاء، وانفضت جموعهم. وهلك أكثرهم. ولم يحل الحول إلا وقد أعاد الإسلام نشر لوائه على ربوعه، وتماسك بناؤه، واستمسك به أبناؤه. فنضر الله وجه أبي بكر، وشكر له صالح سعيه، ورضي عن شهداء المسلمين في حروب الردة, وجزى قادة الإسلام خير الجزاء.

-[المباحث العربية]- (لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم) يوم الإثنين لثنتي عشرة ليلة من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة. (واستخلف أبو بكر بعده) السين والتاء للصيرورة، أي وصار أبو بكر خليفة بعده، وفي رواية: "وكان أبو بكر خليفة". (وكفر من كفر من العرب) "من" موصولة و"من" حرف جر للتبعيض، وقال العيني: للبيان، وهو حسن إذا جعلت "أل" في "العرب" للجنس الصادق بالبعض. (كيف تقاتل الناس؟ ) الاستفهام إنكاري، و"أل" في "الناس" للعهد، والمراد بهم مانعوا الزكاة [كما سيأتي بيانه في فقه الحديث] وفي رواية "أتريد أن تقاتل العرب"؟ فـ"أل" في "العرب" للعهد أيضا، لأن عمر لا يتردد في قتال المرتدين. (وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) الجملة في محل النصب على الحال. (أمرت) بالبناء للمجهول، أي أمرني ربي، وحذف الفاعل لتعينه، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا قال أمرت فهم منه أن الله تعالى هو الذي أمره، فإذا قال الصحابي: أمرت فهم منه أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أمره، فإن من اشتهر بطاعة رئيس إذا قال ذلك فهم أن الرئيس هو الذي أمر. (أن أقاتل الناس) "أن" وما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف والتقدير: أمرت بمقاتلة الناس. قال بعضهم: إن "أل" في "الناس" للجنس لا يخرج عنه إلا الجن، فهم وإن كانت رسالته صلى الله عليه وسلم عامة لهم إجماعا لكنه غير مأمور بمقاتلتهم لتعذرها. وهذا الرأي بعيد، لأن لفظ الناس حينئذ يشمل المؤمنين، فيلزمه أن يقول: إن المراد من "الناس" الكافرون، وقال بعضهم: إن "أل" للعهد، والمراد بالناس عبدة الأوثان دون أهل الكتاب، لأنهم يقولون: لا إله إلا الله، ويقاتلون حتى يقولوا: محمد رسول الله أو يعطوا الجزية. وقال بعضهم: هو من العام الذي خص منه البعض، وقال العيني بدخول أهل الكتاب في مدلول "الناس" وخروجهم بدليل آخر كقوله تعالى {حتى يعطوا الجزية} [التوبة: 29] [وستأتي زيادة إيضاح لهذا في فقه الحديث]. (حتى يقولوا لا إله إلا الله) وفي الرواية الثانية والرابعة "حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله" وفي الرواية الخامسة "من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله" والمعنى في الكل واحد. و"حتى" حرف غاية لما قبلها، وهو هنا القتال، فإن قيل: الأصح دخول الغاية في المغيا بحتى، كما في قولك: أكلت السمكة حتى رأسها، فإن الأكل شامل للرأس، حتى زعم بعضهم وجوب دخول

ما بعد حتى، وحينئذ يكون الحديث مفيدا أن القتال موجود مع الإتيان بالشهادتين وما بعدهما، مع أنه ليس كذلك، فالجواب أن محل ذلك إذا كان ما قبلها وما بعدها متجانسين، ولم تقم قرينة تقتضي عدم دخول ما بعدها، وهنا قامت القرينة بقوله صلى الله عليه وسلم "فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه". وذكر شهادة أن لا إله إلا الله يراد معه وأن محمدا رسول الله، لأنهما لتلازمهما وعدم قبول إحداهما بدون الأخرى اشتهر اختصار الرواة والاكتفاء بذكر الأولى، وقد جاء التصريح بالشهادة الثانية في الرواية الرابعة. (ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة) جاءت هذه الزيادة في الرواية الرابعة. (ويؤمنوا بما جئت به) وهذا التعميم جاء في الرواية الثانية. (فمن قال لا إله إلا الله) وفي الرواية الثالثة "فإذا قالوا لا إله إلا الله" وفي الرواية الرابعة "فإذا فعلوا" وفي الرواية الثانية " فإذا فعلوا ذلك" فالإشارة إلى الشهادتين والإيمان بما جاء به صلى الله عليه وسلم. ومعنى "فعلوا ذلك" أتوا به، فيعم القول فقط وهو الشهادتان والمركب من القول والفعل وهو الصلاة، والفعل المحض وهو الزكاة. (عصم مني ماله ونفسه) وفي الرواية الثانية والثالثة والرابعة "عصموا مني دماءهم وأموالهم". وفي الرواية الخامسة "حرم ماله ودمه". ومعنى العصم في اللغة المنع، والمراد حقنوا دماءهم وحفظوا أموالهم. (إلا بحقه) أي بحق الإسلام، وفي الرواية الثانية والثالثة والرابعة "إلا بحقها" أي بحق الدماء والأموال في الإسلام. والاستثناء مفرغ، لتضمن العصمة معنى النفي والمستثنى منه عموم الأسباب، أي لا تهدر دماؤهم ولا تستباح أموالهم بسبب من الأسباب إلا بسبب حق الإسلام. أو إلا بسبب حقها في الإسلام من قتل النفس المحرمة، أو زنى المحصن، أو ترك الصلاة أو منع الزكاة. (وحسابه على الله) وفي الرواية الثانية والثالثة والرابعة "وحسابهم على الله" أي فيما يستسرون به ويخفونه، دون ما يخلون في الظاهر من الأحكام الواجبة، و"على" بمعنى اللام، أو بمعنى إلى، فما أفهمته من الوجوب غير مراد لأن الله عز وجل لا يجب عليه شيء. ثم قرأ: {إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر} أي قرأ صلى الله عليه وسلم الآية استشهادا على أنه منذر مأمور بالعمل بالظاهر، وليس مالكا مسيطرا على دواخلهم حتى يحاسبهم على سرائرهم. (لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة) بتخفيف راء "فرق" وتشديدها، والمعنى لأقاتلن من أطاع بالصلاة، وجحد الزكاة أو منعها.

(والله لو منعوني عقالا) ذهب جماعة إلى أن المراد بالعقال زكاة عام، وهو معروف في اللغة بذلك، وهو قول الكسائي وأبي عبيد والمبرد وغيرهم من أهل اللغة، وهو قول جماعة من الفقهاء. وذلك لأن العقال هو الحبل الذي يعقل به البعير، وهو لا يجب دفعه في الزكاة، فلا يجوز القتال عليه. وذهب الأكثرون إلى حمل العقال أولا على حقيقته، وأن المراد به الحبل الذي يعقل به البعير، ثم أريد به قدر قيمته، خرج مخرج التقليل لا مخرج الحقيقة، وكل ما كان في هذا السياق أحقر فهو أبلغ. والعرب إذا بالغت في التقليل تذكر ما لا يقصد به الحقيقة، ومنه الحديث "لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة" والحديث "من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة (أي عش طائر صغير) بنى الله له بيتا في الجنة" ويقوي هذا الرأي رواية "لو منعوني جديا أذوط" والأذوط الصغير الفك والذقن. قال النووي: وهذا هو الصحيح الذي لا ينبغي غيره. (فوالله ما هو إلا أن رأيت الله عز وجل قد شرح صدر أبي بكر للقتال) الفاء في جواب "أما" المحذوفة، والتقدير: ذاك موقف أبي بكر، أما موقفي فوالله ما هو إلا أن رأيت ... إلخ. وضمير "هو" للحال والشأن، والمراد من الرؤية العلم والمعرفة، وإيقاع الرؤية على الله غير مقصود بل المقصود إيقاعها على شرح الله صدر أبي بكر، والاستثناء مفرغ من عموم الأخبار، أي أما حالي فوالله ما هو إلا أن عرفت شرح الله صدر أبي بكر للقتال. (فعرفت أنه الحق) اسم "أن" يعود على القتال، أي فعرفت أن قتال مانعي الزكاة هو الحق، ظهر لي ذلك عن طريق الحجة والبرهان لا عن طريق التقليد والإذعان. -[فقه الحديث]- يمكن حصر الكلام عن الحديث في خمس نقاط: الأولى: بيان حال مانعي الزكاة وشبهتهم وردها، وحكمهم في الإسلام. الثانية: توضيح المناظرة بين أبي بكر وعمر، وبسط حجة كل منهما. الثالثة: حكم أبي بكر فيهم بعد الغلبة عليهم، وموقف عمر من هذا الحكم. الرابعة: موقف الروافض، وإدانتهم أبا بكر في المسألة، والرد عليهم. الخامسة: ما يؤخذ من الحديث.

وهذا هو التفصيل 1 - تبين في المعنى العام أن أهل الردة كانوا صنفين. صنفا ارتدوا عن الدين وعادوا إلى الكفر، وهم الذين عناهم أبو هريرة بقوله: "وكفر من كفر من العرب" وصنفا بقوا على ما كانوا عليه من الإقرار بالشهادتين والتزام الصلاة والصيام والحج، لكنهم أنكروا وجحدوا فرض الزكاة ووجوب تسليمها للإمام بتأويل باطل سيأتي، وهؤلاء هم موضوع المناظرة. وإطلاق الردة على هؤلاء لدخولهم في غمار أهل الردة، ومناصبتهم الإمام ومشاركتهم المرتدين في منع بعض حقوق الدين، فهو قريب من الإطلاق اللغوي دون الإطلاق الشرعي، فالمرتد في اللغة كل من انصرف عن أمر كان مقبلا عليه، وقد وجد من هؤلاء القوم الانصراف عن الطاعة ومنع الزكاة. ولهذا لم يؤثر عن الصحابة أنهم سموا هؤلاء كفارا، لأنهم لم يرتدوا حقيقة. وحقيقة ما يتصفون به شرعا أنهم أهل بغي، إذ البغي الخروج عن طاعة الإمام مغالبة له، والبغاة قسمان: أهل عناد، وأهل تأويل، وللإمام قتال الصنفين على ما سيأتي في قتال البغاة. وشبهة هذا الصنف أن الخطاب في قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم} [التوبة: 103] خطاب خاص في مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره، وأنه مقيد بشرائط لا توجد فيمن سواه، وذلك أنه ليس لأحد من التطهير والتزكية والصلاة على المتصدق ما للنبي صلى الله عليه وسلم. ورد هذه الشبهة إنما هو بمنع كون الخطاب في الآية خاصا، وبمنع قصر الشرائط المذكورة في الآية عليه صلى الله عليه وسلم. وذلك أن خطاب كتاب الله تعالى على ثلاثة أوجه: (أ) خطاب عام كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ... } [المائدة: 6] الآية وكقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام} [البقرة: 183]. (ب) وخطاب خاص للنبي صلى الله عليه وسلم، لا يشركه فيه غيره، وهو ما أبين به عن غيره، وميز بعلامة التخصص وقطع التشريك، كقوله تعالى: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك} [الإسراء: 79]. (جـ) وخطاب مواجهة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو وجميع أمته في المراد به سواء، كقوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} [الإسراء: 78] وكقوله {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل: 98] ونحو ذلك من خطاب المواجهة. ومن هذا الوجه قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} [التوبة: 103] فهذا الخطاب غير مختص به صلى الله عليه وسلم، وإنما على القائم بعده بأمر الأمة أن يحتذي حذوه في أخذها منهم. والفائدة في مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم بالخطاب في مثل هذا أنه هو الداعي إلى الله، والمبين

عنه معنى ما أراد، فقدم اسمه في الخطاب ليكون سلوك الأمر في شرائع الدين على حسب ما ينهجه ويبينه لهم. وربما كان الخطاب له مواجهة، والمراد غيره: كقوله تعالى: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ... } إلى {فلا تكونن من الممترين} [يونس: 94]. فأما التطهير والتزكية لصاحب الصدقة فإن مخرج الصدقة ينال ذلك بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في إخراجها، وكل ثواب موعود به على عمل بر في زمنه صلى الله عليه وسلم فإنه باق غير منقطع، أما الصلاة عليهم أي الدعاء لهم فإنه يستحب للإمام، وعامل الصدقة أن يدعو للمتصدق بالنماء والبركة في ماله، ويرجى أن يستجيب الله ذلك. وإنما قاتلهم الصديق ولم يعذرهم بالجهل، لأنهم نصبوا القتال، فجهز إليهم من دعاهم إلى الرجوع، وأقام عليهم الحجة، فلما أصروا قاتلهم. وهذا هو حكم الإسلام فيهم [أهل بغي وليسوا كفارا] وفي ذلك يقول مالك في الموطأ: "الأمر عندنا فيمن منع فريضة من فرائض الله تعالى، فلم يستطع المسلمون أخذها منه كان حقا عليهم جهاده" اهـ. وليس معنى نفي الكفر عنهم نفيه عن أمثالهم في زماننا، فإن من أنكر فرض الزكاة في هذه الأزمان كان كافرا بإجماع المسلمين، والفرق بين هؤلاء وأولئك أنهم عذروا لقرب العهد بزمان الشريعة الذي كان يقع فيه تبديل الأحكام بالنسخ، وعذروا لأنهم كانوا جهالا بأمور الدين. أما اليوم- وقد شاع دين الإسلام، واستفاض في المسلمين علم وجوب الزكاة، حتى عرفها الخاص والعام، واشترك فيه العالم والجاهل -فلا يعذر أحد بتأويل يتأوله في إنكارها، وكذلك الأمر في كل من أنكر شيئا مما أجمعت عليه الأمة من أمور الدين، إذا كان علمه منتشرا، كالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان، والاغتسال من الجنابة، وتحريم الزنا والخمر، ونكاح ذوات المحارم، ونحوها من الأحكام، إلا أن يكون رجلا حديث عهد بالإسلام، ولا يعرف حدوده، فإنه إذا أنكر شيئا منها جهلا به لم يكفر، وكان شأنه شأن أولئك القوم في بقاء اسم الدين عليه، ودعوته إليه، أما ما كان الإجماع فيه معلوما عن طريق علم الخاصة، كتحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها، وأن القاتل عمدا لا يرث المقتول وما أشبه ذلك من الأحكام فإن من أنكرها لا يكفر، بل يعذر فيها لعدم استفاضة علمها في العامة. وأما من أقر بوجوب الزكاة وامتنع عن أدائها أخذت منه قهرا، فإن أضاف إلى امتناعه نصب قتال قوتل قتال البغاة. 2 - وبسط المناظرة أن عمر رأى القتال منفيا بقول: لا إله إلا الله، فإذا قيلت وجب الكف، وهؤلاء المانعون للزكاة يقولونها، ومن قالها عصم نفسه وماله، وكان هذا من عمر رضي الله عنه تعلقا بظاهر الكلام قبل أن ينظر إلى آخره ويتأمل الاستثناء "إلا بحقه" أو أنه فهم قصر الحق على ما ورد في

الحديث الآخر "الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة" فبين له أبو بكر أن الزكاة حق المال، وأن القضية قد تضمنت عصمة دم ومال معلقة بإبقاء شرائطها. ثم قايس بالصلاة. فقال: أرأيت إذا لم يصلوا؟ وكأن قتال الممتنع من الصلاة كان إجماعا من الصحابة، فرد الزكاة إليها، وبذلك رد المختلف فيه إلى المتفق عليه. فاجتمع في هذه القضية احتجاج من عمر بالعموم، واحتجاج من أبي بكر بالقياس، واستقر عند عمر صحة رأي أبي بكر -رضي الله عنهما- وبان له صوابه، فوافقه على قتال القوم، ومن هذا استدل العلماء على أن العموم يخص بالقياس. والظاهر من اعتراض عمر واستدلال أبي بكر -رضي الله عنهما- أنهما لم يحفظا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء في الرواية الثانية لأبي هريرة من قوله "ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا ... " الحديث ولا ما جاء في الرواية الرابعة عن ابن عمر من قوله صلى الله عليه وسلم "ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا عصموا." الحديث. فإن عمر رضي الله عنه لو سمع ذلك لما خالف، ولما احتج بالحديث فإنه بهذه الزيادة حجة عليه. ولو سمع أبو بكر رضي الله عنه هذه الزيادة لاحتج بها ولم يلجأ إلى القياس، فإنها نص في المطلوب. والقول بأنهما لم يسمعا هذه الزيادة أولى من القول بأنهما سمعاها ثم نسياها، وأولى كذلك من القول بأن أبا بكر كان يحفظها، ولكنه استظهر بهذا الدليل النظري. وكل ما يرد على أنهما لم يسمعا هذه الزيادة هو: هل تعدد تحديث الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث، مرة بالزيادة ومرة بدونها؟ فسمعه ابن عمر وغيره بالزيادة وسمعاه بدونها؟ أو كان التحديث به مرة واحدة في مجلس واحد، وكانا بعيدين فلم يسمعا ما سمع الآخرون؟ الراجح الأول. 3 - وقد اختلف الصحابة فيهم بعد الغلبة عليهم، هل تغنم أموالهم؟ وتسبى ذراريهم كالكفار؟ أو كالبغاة؟ . فرأى أبو بكر الأول وعمل به، وناظره عمر في ذلك وذهب إلى الثاني، لكنه سلم لأبي بكر في الظاهر، لما يجب عليه من طاعة الإمام، فلما ولي عمر الخلافة عمل بالثاني ورد عليهم السبي، ووافقه المسلمون على ذلك، واستقر الإجماع عليه في حق من جحد شيئا من الفرائض بشبهة، فيطالب بالرجوع، فإن نصب القتال قوتل كالباغي، ولم تغنم أمواله، ولم تسب ذراريه، وأقيمت عليه الحجة، فإن رجع فبها ونعمت، وإلا عومل معاملة الكافر حينئذ. ويقال: إن "أصبغ" من المالكية استقر على الأول، فعد من ندرة المخالف. قال القاضي عياض: ويستفاد من هذه القصة أن الحاكم إذا أداه اجتهاده في أمر لا نص فيه إلى شيء تجب طاعته فيه، ولو اعتقد بعض المجتهدين خلافه، فإن صار ذلك المجتهد المعتقد خلافه حاكما، وجب عليه العمل بما أداه إليه اجتهاده. اهـ.

وقد اختلف في رد عمر السبي. هل كان نقضا لفعل أبي بكر باجتهاد ثان منه؟ . أو لم يكن نقضا، وإنما فداهم من أيدي مالكيهم بما فتح الله به عليه، وأعتقهم تفضلا وصلة للقرابة؟ . الأصح الثاني، لأنه لم ينزع من يد أحد شيئا إلا بعوض، ولو كان نقضا لأخذهم من أيدي مالكيهم بدون عوض، ولأنه فعل ذلك بكل من ملك من العرب وقال: ليس على عربي ملك. 4 - وقد زعم بعض الروافض أن قتال مانعي الزكاة كان عسفا، لأنهم كانوا متأولين في منع الصدقة، ومثل هذه الشبهة تعذرهم وترفع عنهم السيف، واتهموا أبا بكر رضي الله عنه بأنه أول من سبى المسلمين. وقال الخطابي- رحمه الله - هؤلاء (الروافض) قوم لا خلاق لهم في الدين وإنما رأس مالهم البهت والتكذيب والوقيعة في السلف، وقد بينا أن أهل الردة كانوا أصنافا، منهم من ارتد عن الملة، ودعا إلى نبوة مسيلمة وغيره، ومنهم من ترك الصلاة والزكاة وأنكر الشرائع كلها، وهؤلاء هم الذين سماهم الصحابة كفارا، ولذلك رأى أبو بكر رضي الله عنه سبي ذراريهم، وساعده على ذلك أكثر الصحابة، واستولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه جارية من سبي بني حنيفة، فولدت له محمدا الذي يدعى ابن الحنفية، ثم لم ينقض عصر الصحابة حتى أجمعوا على أن المرتد لا يسبى. اهـ. ويؤخذ من قول الخطابي أن أبا بكر لم يسب ذراري مانعي الزكاة، وقد صرح بهذا في موضع آخر حيث نقل عنه قوله: واتفقوا على أن أبا بكر لم يسب ذراري مانعي الزكاة إلا في شيء روي عن بعض الروافض ولا يعتد بخلافهم. اهـ. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم.]- 1 - شجاعة أبي بكر، وتقدمه في العلم على غيره، وقد أجمع أهل الحق على أنه من أفضل أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2 - جواز مراجعة الأئمة والأكابر للوصول إلى الحق. 3 - الأدب في المناظرة بترك التصريح بالتخطئة، والعدول إلى التلطف، والأخذ في إقامة الحجة. 4 - جواز الحلف على فعل الشيء لتأكيده. 5 - الاجتهاد في النوازل، وردها إلى الأصول، والرجوع إلى الراجح. 6 - القياس والعمل به. 7 - صيانة مال من أتى بكلمة التوحيد ونفسه ولو كان عند السيف، ومحل عصمة أموال الكفار بالشهادتين إذا قالوهما قبل حيازة أموالهم، أما بعد حيازتها فلا، على الصحيح. 8 - استدل النووي بالحديث على أن تارك الصلاة عمدا معتقدا وجوبها يقتل. قال الحافظ ابن حجر: وفي هذا الاستدلال نظر، للفرق بين صيغة أقاتل وأقتل، وحكى البيهقي عن الشافعي أنه قال: ليس القتال من القتل بسبيل، قد يحل قتال الرجل ولا يحل قتله.

وفي قتل تارك الصلاة عمدا خلاف واسع عند الفقهاء، فعند الحنفية يحبس إلى أن يحدث توبة ولا يقتل، وعند أحمد في رواية أكثر أصحابه أن تارك الصلاة عمدا يكفر ويخرج عن الملة، وعليه فحكمه حكم المرتد يقتل ولا يغسل، ولا يصلى عليه، وتبين منه امرأته، وعند الشافعية يقتل حدا لا كفرا، قيل: على الفور، وقيل: يمهل ثلاثة أيام. 9 - وجوب قتال مانعي الصلاة أو الزكاة. 10 - وجوب قتال أهل البغي. 11 - اشتراط التلفظ بالشهادتين في الحكم بالإسلام، وأن لا يكف عن القتال إلا بالنطق بهما، واعترض بأن أهل الكتاب يترك قتالهم به أو بإعطائهم الجزية، وأجيب بأن الحديث المذكور مقدم على مشروعية أخذ الجزية، وسقوط القتال بها، وقيل: إن المراد بما ذكر من الشهادة وغيرها التعبير عن إعلاء كلمة الله وإذعان المخالفين، فيحصل في بعض بالقتل وفي بعض بالجزية، وفي بعض بالمعاهدة، وقيل: الغرض من ضرب الجزية اضطرارهم إلى الإسلام، وسبب السبب سبب، فكأنه قال: حتى يسلموا أو يلتزموا ما يؤديهم إلى الإسلام. 12 - قبول توبة الزنديق، وفيها تفصيل وخلاف يطلب في محله. 13 - عدم تكفير أهل الشهادة من أهل البدع. 14 - الحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر. 15 - الرد على المرجئة، حيث زعموا أن الإيمان لا يحتاج إلى الأعمال. 16 - أن السنة قد تخفى على بعض أكابر الصحابة -رضي الله عنهم- ويطلع عليها آحادهم. والله أعلم

(10) باب وفاة أبي طالب، وما نزل بشأنه

(10) باب وفاة أبي طالب، وما نزل بشأنه 38 - عن سعيد بن المسيب، عن أبيه رضي الله عنه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة. جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فوجد عنده أبا جهل، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا عم! قل: لا إله إلا الله. كلمة أشهد لك بها عند الله" فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب! أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، ويعيد له تلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول: لا إله إلا الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أما والله! لأستغفرن لك ما لم أنه عنك" فأنزل الله عز وجل: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم} [التوبة: 113]. وأنزل الله تعالى في أبي طالب، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين} [القصص: 56]. 39 - عن الزهري بهذا الإسناد مثله. غير أن حديث صالح انتهى عند قوله: فأنزل الله عز وجل فيه ولم يذكر الآيتين. وقال في حديثه: ويعودان في تلك المقالة. وفي حديث معمر مكان هذه الكلمة. فلم يزالا به. 40 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه عند الموت "قل لا إله إلا الله، أشهد لك بها يوم القيامة" فأبى. فأنزل الله: {إنك لا تهدي من أحببت} [القصص: 56] 41 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه "قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة" قال لولا أن تعيرني قريش يقولون إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك فأنزل الله {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء}

-[المعنى العام]- توفي والد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حمل في بطن أمه، فكفله جده عبد المطلب، حتى مات ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الثامنة من عمره، فكفله عمه أبو طالب، وكان فقيرا كثير العيال، فأنزل محمدا منزلة أعز أبنائه، بل كان يصحبه في أسفاره البعيدة ويترك أولاده، خشية أن يشعر في غيابه بالوحشة ومرارة اليتم، وعلمه التجارة، ثم زوجه خديجة. ولما بعث صلى الله عليه وسلم وقام المشركون يعادونه ويؤذونه وقف أبو طالب يحميه ويدافع عنه، وأرسلت قريش إلى أبي طالب أن يوقف محمدا صلى الله عليه وسلم عن دعوته أو يخلي بينهم وبينه ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولته المشهورة "والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه" سانده عمه وشد من أزره، وطمأنه على استمرار حمايته بقولته الخالدة: اذهب يا ابن أخي فقل ما شئت، وادع من شئت فوالله لا أخذلك، ولا أسلمك إليهم أبدا. ورضي أبو طالب أن تعاديه قريش من أجل محمد صلى الله عليه وسلم، وقبل الحصار الاقتصادي، والمقاطعة الاجتماعية في شعب بني طالب ثلاث سنين من أجل محمد صلى الله عليه وسلم. وما أن نقضت صحيفة المقاطعة، وخرجوا من الشعب حتى مرض أبو طالب مرضه الأخير، فقالت قريش مستهزئة ساخرة: أرسل إلى ابن أخيك يرسل إليك من هذه الجنة التي يذكرها دواء يشفيك. فلم يعبأ أبو طالب بهذا الاستهزاء وأرسل إلى ابن أخيه يدعوه لجواره في لحظاته الأخيرة، حبا فيه وحنانا عليه، فقدم إليه صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده رأسي الشرك أبا جهل وابن أبي أمية. ورأى صلى الله عليه وسلم عمه يحتضر، وكم كان صلى الله عليه وسلم حريصا على الخير له، حريصا على مكافأته على جميله، ورد بعض أياديه، وإنها للفرصة الأخيرة، وزمنها ضيق محدود، وإنه صلى الله عليه وسلم ليدرك أن وجود هذين الشيطانين سيضعف وصوله إلى قلب عمه، وحبذا لو لم يكونا في هذا المجلس، ولكنه ماذا يفعل؟ الدقائق تمضي، واللحظات الحاسمة قريبة، فليتعلق بالأمل رغم العقبات، وليحاول رغم الصعاب، وليبذل غاية جهده من أجل مصير عمه، كما ضحى عمه بالكثير من أجل مصيره. فقال: يا عم، إنك أعظم الناس علي حقا، وأحسنهم عندي يدا، ولأنت أعظم عندي حقا من والدي، فقل كلمة صغيرة، خفيفة على اللسان، أشفع لك بها عند ربي يوم القيامة. قل: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أضمن لك بها الجنة. وخاف الشيطانان أن يلين قلب أبي طالب لابن أخيه، وأحسا منه ترددا أو ميلا، فقالا: يا أبا طالب. أترغب عن دين أبيك في آخر حياتك؟ أتترك ملة عبد المطلب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عم،

قل الكلمة أشهد لك بها عند الله، فقال الشيطانان: يا أبا طالب، أنت فينا من قد علمت، وأنت الرشيد، فلا تترك دين أبيك. فنظر أبو طالب إلى ابن أخيه نظرة إشفاق وقال له: يا ابن أخي. لولا أن يكون عارا لم أبال أن أفعل. فكرر رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض كلمة التوحيد، فكرر الشيطانان الصد عن سبيل الله، فأعاد أبو طالب مقالته: يا ابن أخي، لولا أن تعير بها. فيقال: جزع عمك وخاف من الموت فقالها، لقلتها، وأقررت بها عينيك. ولم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عليه كلمة التوحيد، ولا يزالان به يحميانه ويثيران أنفته حتى كانت آخر كلمة تكلم بها قوله: هو على ملة عبد المطلب. فقال صلى الله عليه وسلم تطييبا لخاطره. ووفاء لفضله: والله لأستغفرن لك ربي وأدعوه من أجلك ما حييت، ما لم أنه عنك. ونزعت روحه من جسده وأحس صلى الله عليه وسلم بالأسى والأسف العميقين، فوجهه القرآن الكريم إلى التسليم لله، والرضى بقضائه، ولو كان على غير هواه، فقال له جل شأنه: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين} [القصص: 56] وطمع صلى الله عليه وسلم في فضل الله، فأخذ يستغفر لعمه بعد وفاته، كما أخذ يستغفر لأمه وأبيه، فقال المسلمون: ما يمنعنا أن نستغفر لآبائنا ولذوي قرابتنا؟ قد استغفر إبراهيم عليه السلام لأبيه، ومحمد صلى الله عليه وسلم لأمه وأبيه وعمه، فأنزل الله تعالى: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم} [التوبة: 113]. -[المباحث العربية]- (لما حضرت أبا طالب الوفاة) بتقديم المفعول به على الفاعل، والمراد من حضور الوفاة قربها، ففيه مجاز المشارفة، أو حضور دلائلها وعلاماتها، ففيه مجاز بالحذف. (يا عم) "عم" منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة، فهو منصوب بفتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة تخفيفا. (قل: لا إله إلا الله) قيل: إن كلمة التوحيد كناية عن الشهادتين شرعا، لأنه لا يثبت حكم الإسلام إلا بهما، وقال ابن المنير: قول "لا إله إلا الله" لقب جرى على النطق بالشهادتين شرعا. وقال بعضهم: يحتمل أنه لم يسأله إلا كلمة التوحيد، لأنه كان يعلم صحة رسالته صلى الله عليه وسلم. وهذا القول ضعيف. (كلمة) منصوبة على البدل من مقول القول، أو على الاختصاص، ويصح رفعها على أنها خبر لمبتدأ محذوف.

(أشهد لك بها) الجملة في محل النصب أو الرفع صفة "كلمة" وفي رواية "أحاج لك بها عند الله تعالى". (أترغب عن ملة عبد المطلب؟ ) الهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي، أي لا ينبغي أن ترغب عن ملة عبد المطلب، ولم يقولا له: لا تفعل، خشية معاندتهم أنفة، فإن نفس الأبي تنفر من النهي المباشر من النظير والمساوي. والظاهر أن هذا القول لأحدهما، وعد رضى الآخر مشاركة فيه فنسب إليهما. (يعرضها عليه) بفتح الياء وكسر الراء، أي يعرض كلمة التوحيد على أبي طالب، أي يطلب منه النطق بها. (ويعيد له تلك المقالة) ظاهر العبارة أن فاعل "يعيد" يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فالمراد من المقالة قوله "أشهد لك بها عند الله" أو "أحاج لك بها عند الله تعالى"، وقيل: إن ضمير الفاعل لأبي طالب، أي ويعيد أبو طالب رده، وهذا بعيد، لأن رد أبي طالب لم يسبق ذكره في الحديث. وفي نسخة "ويعيدان له تلك المقالة" على التثنية لأبي جهل وابن أبي أمية، قال القاضي عياض: وهذا أشبه. (آخر ما كلمهم) "ما" مصدرية، أي آخر تكليمه لهم، أو موصولة أي آخر الذي كلمهم به. (هو على ملة عبد المطلب) الظاهر أن نص عبارة أبي طالب: أنا على ملة ... فغير الراوي ضمير المتكلم استقباحا للفظ المذكور. وهذا من محاسن التعبير. (أما والله لأستغفرن لك) "أما" حرف تنبيه، وقيل: بمعنى حقا، وفي بعض النسخ "أم" بفتح الميم مع حذف الألف، قال النووي: وكلاهما صحيح. وفي كتاب الأمالي: "ما" المزيدة للتوكيد، ركبوها مع همزة الاستفهام، واستعملوا مجموعهما على وجهين: أحدهما أن يراد به معنى "حقا" كقولهم: أما والله لأفعلن، والآخر أن يكون افتتاحا للكلام بمنزلة "ألا" كقولك: أما إن زيدا منطلق، وأكثر ما تحذف ألفها إذا وقع بعدها القسم. (ما لم أنه عنك) "ما" مصدرية زمانية، أي لأستغفرن لك مدة عدم نهي عنك، وفي رواية "ما لم أنه عنه" أي عن الاستغفار. {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين} خبر بمعنى النهي أي ما ينبغي لهم، قال الثعلبي: قال أهل المعاني: "ما" تأتي في القرآن على وجهين: بمعنى النفي مثل قوله تعالى {ما كان لكم أن تنبتوا شجرها} [النمل: 60] والآخر بمعنى النهي كقوله تعالى {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله} [الأحزاب: 53]. (ولو كان ذا قربى) الواو للحال. وجواب "لو" محذوف لدلالة ما قبله عليه، والتقدير: لو كان المشركون أولي قربى فلا ينبغي الاستغفار لهم.

(وأنزل الله في أبي طالب، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم) "فقال" تفسير لأنزل، والآية مقصود لفظها تنازعها الفعلان. {إنك لا تهدي من أحببت} مفعول "أحببت" محذوف، والتقدير: من أحببته لقرابته ودفاعه عنك، أو من أحببت هدايته. (لولا أن تعيرني قريش) أي لولا أن تقبحني قريش، وتسند إلي العار. (يقولون) بواو الجماعة العائد على قريش باعتبار معناه وأفراده، والجملة بيان للتعبير. (إنما حمله على ذلك الجزع) بالجيم والزاي، وهو الخوف من الموت، ونقله بعض أهل اللغة "الخرع" بالخاء والراء المفتوحتين، وهو الضعف والخور. (لأقررت بها عينك) معنى أقر الله عينه، بلغه أمنيته. حتى ترضى نفسه، وتقر عينه فلا تستشرف لشيء، وقيل: معناه: أبرد الله دمعته، لأن دمعة الفرح باردة، وقيل: معناه أراه الله ما يسره. -[فقه الحديث]- جمهور العلماء، والرأي المعتمد أن "أبا طالب" مات مشركا، وهذا الحديث نص في ذلك وتؤيده الآية الكريمة، ولا يلتفت إلى القول بأنه مات مؤمنا، اعتمادا على ما روي من أن العباس قال: (والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرت بها يا رسول الله) لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: لم أسمعها، على أن العباس قال ذلك قبل أن يسلم، ولو أداها بعد الإسلام لقبلت منه. كما أنه لا يلتفت إلى قول القرطبي: وقد سمعت أن الله تعالى أحيا عمه أبا طالب فآمن به. فإن قيل: جاء في بعض السير: أن أبا طالب كان مصدقا بقلبه، وفي صحة إيمان المصدق بقلبه دون أن ينطق بلسانه خلاف، فهل يدخل إيمان أبي طالب في هذا الخلاف ويعد مؤمنا عند من يعتد بذلك؟ . أجيب بأنه لا يدخل عند أي من المختلفين، لأن محل الخلاف ما لم يعلن نقيض الإيمان وأبو طالب صرح بالنقيض في قوله "هو على ملة عبد المطلب" وقد استشكل على رواية "أحاج لك بها عند الله تعالى" أن أبا طالب لو قالها لم يحتج الأمر إلى محاجة، وفي هذا يقول ابن بطال: أي محاجة يحتاج إليها من وافى ربه بما يدخله الجنة؟ وأجيب بأنه يجوز أن يكون أبو طالب حينئذ قد عاين أمر الآخرة، وأيقن بالموت وصار في حالة لا ينفع معها الإيمان، مصداقا لقوله تعالى {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن} [النساء: 18].

لكن الرسول صلى الله عليه وسلم مع هذه الحالة رجا له إن قال: لا إله إلا الله، وأيقن بنبوته، أن يشفع له بذلك، ويحاج له عند الله تعالى في أن يتجاوز عنه، ويقبل منه إيمانه في تلك الحالة، ويكون ذلك خاصا بأبي طالب وحده لمكانته من حمايته للرسول صلى الله عليه وسلم ومدافعته عنه. قال القاضي عياض: وليس هذا بصحيح، فإن محاورته للرسول صلى الله عليه وسلم ولمشركي قريش في تلك اللحظة دليل على أنه كان قبل النزع وقبل معاينة أمور الآخرة. اهـ. والجواب الصحيح أن المراد من المحاجة الشهادة جمعا بين النصوص والروايات، وهذه الشهادة عامة في أمة الإجابة، مصداقا لقوله تعالى: {لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} [البقرة: 143]. والظاهر أن الرسول صلى الله عليه وسلم بنى استغفاره لأبي طالب بعد أن امتنع عن الإقرار بالتوحيد ومات على ذلك، بناه على اجتهاد منه صلى الله عليه وسلم مقتديا بإبراهيم عليه السلام في استغفاره لأبيه. وأن الآية الكريمة إنما نزلت على سبيل النسخ لا للتبيين، لأنه صلى الله عليه وسلم في اجتهاده معصوم على الأصح. وقد حمل ابن المنير استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي طالب وقوله له: "والله لأستغفرن لك" حمله على طلب تخفيف العذاب، لا على طلب المغفرة العامة، والمسامحة بذنب الشرك. وهاجمه الحافظ ابن حجر بشدة، وقال: هذه غفلة شديدة من ابن المنير، لأن الشفاعة لأبي طالب في تخفيف العذاب لم ترد، وطلبها لم ينه عنه، وإنما وقع النهي عن طلب المغفرة العامة. وقال: وإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك الشفاعة، وطلب التخفيف، بل شفع له حتى خفف عنه العذاب بالنسبة لغيره من المشركين. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - صحة إسلام من حضره الموت ما لم يشرع في النزع. 2 - نسخ جواز الاستغفار للمشركين. 3 - من مات على الشرك فهو من أصحاب الجحيم. 4 - جواز الحلف من غير استحلاف. والله أعلم

(11) باب من مات على التوحيد دخل الجنة

(11) باب من مات على التوحيد دخل الجنة 42 - عن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة". -[المعنى العام]- المؤمن الكيس من جمع بين الخوف والرجاء، يخاف الخاتمة والمصير وعدل ربه، وحسابه على ما قدمت يداه "وكل ابن آدم خطاء" {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} [الزلزلة: 7، 8]، {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه} [آل عمران: 30]. ويرجو رحمة ربه التي وسعت كل شيء، ويطمع في فضله وإحسانه وجوده {وهو الغفور الودود ذو العرش المجيد} [البروج: 14، 15]. وقد جاءت الشريعة الإسلامية بطرف من النصوص التي تبعث الخوف في نفوس المؤمنين فتدفع إلى العمل، وتقوي العزائم، وتشحذ الهمم، يقول جل شأنه: {فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون} [الماعون: 4 - 7] {ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم} [المطففين: 1 - 5] {ويل لكل همزة لمزة الذي جمع مالا وعدده يحسب أن ماله أخلده كلا لينبذن في الحطمة وما أدراك ما الحطمة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة إنها عليهم موصدة في عمد ممددة} [الهمزة: 1 - 9] {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون} [التوبة: 34، 35]. ويقول صلى الله عليه وسلم "أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار" ومر صلى الله عليه وسلم على قبرين، فقال "إنهما يعذبان، وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة بين الناس". كما جاءت الشريعة الإسلامية بطرف من النصوص التي تنشر الطمع والرجاء في عفو الله،

وتجعل أبواب الجنة مفتوحة أمام عامة المؤمنين، وأبواب النار محجوبة عمن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. يقول جل شأنه: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم} [الزمر: 53]. ويقول سبحانه وتعالى في الحديث القدسي "عبدي، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة". ويقول صلى الله عليه وسلم: "يا معاذ بشر الناس أنه من قال لا إله إلا الله دخل الجنة" وعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أتاني آت من ربي، فأخبرني - أو قال بشرني- أنه من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، فقلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، رغم أنف أبي ذر". كما جاءت الشريعة الإسلامية بطرف من النصوص التي تجمع بين الخوف والرجاء يقول سبحانه وتعالى في صفة المؤمن الحق: {يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه} [الزمر: 9]. ويقول سبحانه: {غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير} [غافر: 3]. وبهذا يرسم الإسلام الطريق الصحيح، خوف يجعل السابقين لا يأمنون العاقبة، ويدفع عمر بن الخطاب (وهو المبشر بالجنة وقصورها وحورها) إلى أن يقول: لئن نادى مناد أن كل الناس يدخلون الجنة إلا واحدا لخشيت أن أكون ذلك الواحد، ويدفع أبا بكر (حبيب حبيب الله) إلى أن يقول: لا آمن مكر الله ولو كانت إحدى قدمي في الجنة. ورجاء يجعل العاصي الذي لم يعمل خيرا قط من أهل الجنة لمجرد أنه خرج من بلد المعصية قاصدا بلد الطاعة، فمات في وسط الطريق، فكان أقرب إلى بلد الطاعة منه إلى بلد المعصية بشبر واحد، نعم الطريق الصحيح خوف ورجاء وعمل وأمل. فمن اقتصر على الخوف وأنكر الرجاء كان قانطا من رحمة الله، يائسا من روح الله و {إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون} [يوسف: 87]. ومن اقتصر على الرجاء، وطرح الخوف من الله وحسابه كان جاهلا مغترا، مستهترا بوعيد الله. وما أحسن جواب وهب بن منبه حين قيل له: أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟ قال بلى. ولكن ليس مفتاح إلا له أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك، وما أسنان المفتاح إلا العمل مع الإيمان. جعلنا الله من المؤمنين العاملين الراجين الخائفين، إنه سميع قريب مجيب الدعاء رب العالمين.

-[المباحث العربية]- (وهو يعلم) جملة حالية، والعلم هو الإدراك الجازم، والمقصود لازم العلم من النطق بما علم والعمل بموجبه جمعا بين النصوص. -[فقه الحديث]- في معنى الحديث وردت أحاديث كثيرة بألفاظ مختلفة، منها قوله صلى الله عليه وسلم "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" وقوله صلى الله عليه وسلم "من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة" وقوله "أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك إلا دخل الجنة" وقوله "ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة" وقوله لأبي هريرة "من لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة" وقوله "حرم الله على النار من قال لا إله إلا الله يبغي بذلك وجه الله". ولما كان موضوع هذه الأحاديث يتعلق بالعصاة من المسلمين كان من الضروري بيان المذاهب في حكمهم، وموقف كل مذهب من هذه الأحاديث ونحوها فنقول: أولا: ذهب الخوارج إلى أن المعصية تضر الإيمان وتجعل صاحبها كافرا مخلدا في النار، وإن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. ثانيا: ذهب المعتزلة إلى أن العاصي بالكبيرة مخلد في النار، ولا يوصف بأنه مؤمن ولا بأنه كافر، وإن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. وهذه الأحاديث تدفع هذين المذهبين، وتردهما. ثالثا: ذهب غلاة المرجئة إلى أن مظهر الشهادتين يدخل الجنة وإن لم يعتقد ذلك بقلبه، وهذه الأحاديث وإن كان ظاهرها في مجموعها يوافقهم لكن في بعضها ما يرد عليهم، فقوله صلى الله عليه وسلم "غير شاك" وقوله "مستيقنا بها قلبه" وقوله في حديث الباب "وهو يعلم أن لا إله إلا الله" كل هذه النصوص ترد ما ذهبوا إليه، وتوجب اعتقاد القلب. رابعا: قال بعضهم: إن مجرد معرفة القلب نافعة، وإن لم ينطق بالشهادتين وظاهر حديث الباب يؤيده إذ يقول صلى الله عليه وسلم "من مات وهو يعلم" لكن يعارضه لفظ "من كان آخر كلامه"، و"من قال" الوارد في الأحاديث الأخرى، فجمعا بين الأحاديث، وعملا بقوله صلى الله عليه وسلم "يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه" وجب القول بأ نه لا ينفع الاعتقاد وحده، ولا ينفع النطق وحده. خامسا: مذهب أهل السنة (وهو الذي يعنينا، وهو الذي نحرص على عدم تعارضه مع الأحاديث،

لأنه الذي نؤمن بأنه الحق) يقولون: إن العاصي الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله مستيقنا بها قلبه هو مؤمن وإن ارتكب الكبائر، ومصيره الجنة وإن لم يغفر له، وأنه وإن عذب بالنار لمعاصيه، فلا بد من إخراجه منها وإدخاله الجنة بإيمانه، ويقولون: بما أن النصوص تظاهرت، ودلت دلالة قطعية على أن بعض العصاة المؤمنين يعذبون، فإنه ينبغي أن لا تؤخذ أحاديث الباب على ظاهرها، ولا على عمومها، وأنه ينبغي أن تحمل محملا يتفق والنصوص المتظاهرة القطعية. وللوصول إلى هذه الغاية تعددت توجيهاتهم، فمنهم من قال: 1 - إن هذه الأحاديث كانت قبل نزول الفرائض، وينسب هذا القول إلى ابن المسيب، كما يعزى إلى ابن شهاب قوله: ثم نزلت بعد ذلك فرائض وأمور نرى الأمر قد انتهى، فمن استطاع أن لا يغتر فلا يغتر. وفي هذا القول نظر، بل قال النووي: إنه ضعيف باطل، لأن راوي أحد هذه الأحاديث أبو هريرة، وهو متأخر الإسلام، أسلم عام خيبر سنة سبع بالاتفاق وكانت أحكام الشريعة مستقرة، وكانت الصلاة وأكثر الواجبات قد تقرر فرضها. 2 - وقال بعضهم: إن مطلق هذه الأحاديث مقيد بمن عمل عملا صالحا لقوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا} [الكهف: 107]، {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} [الكهف: 110]. 3 - وقال بعضهم: إن مطلق هذه الأحاديث مقيد بمن شهد تائبا مقبول التوبة ثم مات على ذلك. 4 - وقيل: إن أحاديث الباب خرجت مخرج الغالب. إذ الغالب أن الموحد يعمل الطاعات ويجتنب المعاصي، فكأنه قال: الغالب والشأن فيمن قال: لا إله إلا الله مخلصا أن يدخل الجنة وتحرم عليه النار. 5 - وأظهر الأقوال وأحراها بالقبول أن المراد من دخول الجنة في الأحاديث أنه المآل عاجلا أو آجلا، من غير دخول النار للبعض، وبعد دخول النار للبعض الآخر، من غير دخول النار لمن مات تائبا، أو سليما من المعاصي، أو شمله عفو الله ورحمته، وبعد دخول النار لمن أخذ بذنبه. والمراد من تحريم النار الوارد في الأحاديث بالنسبة إلى البعض المؤاخذ بذنبه تحريم خلوده فيها، لا أصل دخولها. أو المراد بالنار المحرمة النار المعهودة المعدة للكافرين، لا الطبقة التي أفردت لعصاة المؤمنين. أو المراد تحريم النار على بعضه لأن النار لا تأكل مواضع السجود من المسلم، وكذا لسانه الناطق بالتوحيد - كذا قيل-. والاقتصار في بعض الأحاديث على شهادة أن لا إله إلا الله يحتمل أنه من تقصير

الرواة في الحفظ والضبط، لا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بدليل مجيئه بالشهادتين تاما في أحاديث أخرى. كذا قال ابن الصلاح، ويجوز أن يكون اختصارا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن هذه الشهادة كناية عن الشهادتين، لأنها شرعا مستلزمة للأخرى، إذ من كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كذب الله فهو مشرك، أو الكلام من قبيل قولهم: من توضأ صحت صلاته، أي مع سائر الشرائط المعتبرة، فهو من باب الاكتفاء للعلم بالمحذوف. وتحريم النار على بعض المؤمنين ودخولهم الجنة دون عذاب لا يتعارض مع قوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها} [مريم: 71] أي وارد النار، لأن المراد من الورود المرور على الصراط، وهو منصوب على ظهر جهنم، ولا يلزم من المرور عليها العذاب بها. -[ويؤخذ من الحديث.]- 1 - أن أصحاب الكبائر من المؤمنين لا يخلدون في النار. 2 - أن كل الموحدين يدخلون الجنة. 3 - أن غير الموحدين لا يدخلون الجنة. والله أعلم

(12) باب زيادة فضلة الطعام ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم

(12) باب زيادة فضلة الطعام ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم 43 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في مسير. قال فنفدت أزواد القوم قال حتى هم بنحر بعض حمائلهم. قال فقال عمر: يا رسول الله لو جمعت ما بقي من أزواد القوم، فدعوت الله عليها. قال ففعل. قال فجاء ذو البر ببره. وذو التمر بتمره. قال (وقال مجاهد وذو النواة بنواه) قلت: وما كانوا يصنعون بالنوى؟ قال: كانوا يمصونه ويشربون عليه الماء. قال فدعا عليها. حتى ملأ القوم أزودتهم. قال فقال عند ذلك "أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله. لا يلقى الله بهما عبد، غير شاك فيهما، إلا دخل الجنة". 44 - عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد (شك الأعمش) قال: لما كان غزوة تبوك، أصاب الناس مجاعة. قالوا: يا رسول الله! لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادهنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " افعلوا" قال فجاء عمر، فقال: يا رسول الله! إن فعلت قل الظهر ولكن ادعهم بفضل أزوادهم. ثم ادع الله لهم عليها بالبركة. لعل الله أن يجعل في ذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نعم" قال فدعا بنطع فبسطه. ثم دعا بفضل أزوادهم. قال فجعل الرجل يجيء بكف ذرة. قال ويجيء الآخر بكف تمر. قال ويجيء الآخر بكسرة. حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير. قال فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه بالبركة. ثم قال "خذوا في أوعيتكم" قال فأخذوا في أوعيتهم. حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملئوه. قال فأكلوا حتى شبعوا. وفضلت فضلة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله. لا يلقى الله بهما عبد، غير شاك فيحجب عن الجنة". -[المعنى العام]- في شهر رجب سنة تسع من الهجرة، وقبيل حجة الوداع بلغ المسلمين أن الروم جمعوا جموعا لقتالهم، فندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى ملاقاتهم، وكان المسلمون في ضيق من العيش، فاستعدوا بقليل الزاد الذي يملكون، ورأى عثمان شدة المسلمين وعسرتهم، وكان قد جهز عيرا إلى الشام فقال: يا رسول الله، هذه مائة بعير بأقتابها وأحلاسها، ومائتا أوقية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يضر عثمان ما عمل بعدها.

ومع هذه المعونة الكبرى خرج المسلمون في قلة من الظهر، ركبانهم بالنسبة لمشاتهم ندرة وقليل، والوقت صيف والحر شديد. وبهذه الحالة قطعوا أربع عشرة مرحلة. في اتجاه دمشق، حتى وصلوا إلى موضع سمي "تبوك". وصلوا وقد بلغ بهم الجهد، واشتد بهم العطش، ولم يسعفهم ماء عين تبوك الناضبة، فكانوا ينحرون البعير، فيشربون ما في كرشه من الماء. فطلب الرسول صلى الله عليه وسلم قليلا من ماء عين تبوك، فغسل وجهه ويديه بشيء منه، ثم أعاده فيها، فجرت العين، فاستقى الناس، وانفرجت عسرة الماء، ولكن ما لبثوا بعد ذلك أن خفت أزوادهم. ونفد طعام أكثرهم، وأملقوا، وأصابتهم مجاعة كبرى، ولجئوا إلى النوى بعد نفاد التمر يمصون النواة كغذاء، ويشربون عليها الماء. وهب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنونه في ذبح ما تبقى لديهم من إبلهم التي يركبونها وينضحون عليها الماء. قالوا: يا رسول الله: لو أذنت لنا ذبحنا إبلنا، فسددنا منها رمقنا، وادخرنا للشدة ما يمكن ادخاره من لحم ودهن. ولم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم منقذا - من هذه الضائقة - إلا أن يأذن لهم، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرا. ورأى عمر الناس يعقلون إبلهم لنحرها، فقال لهم: ما شأنكم؟ قالوا: استأذنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في نحرها، فأذن لنا، فقال: وما بقاؤكم بعد إبلكم؟ أمسكوا حتى ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ودخل عمر فزعا على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله ما بقاء الناس بعد إبلهم؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكأنه يقول: وماذا ينقذ الناس غير ذلك؟ - وتذكر عمر ما كان من جريان عين تبوك بعد نضوب، وهو يؤمن بمعجزات النبي صلى الله عليه وسلم ويطمع في رحمة الله لإنقاذ المسلمين على يد نبيه، فقال: يا رسول الله، لو جمعت ما بقي من أزواد القوم وطعامهم، فدعوت الله عليها بالبركة لكان ذلك خيرا. وسكت الرسول صلى الله عليه وسلم للمرة الثانية، إنه لم يكن يغيب عنه ما أشار به عمر، بل كان يؤمن بأن الله لن يخيب رجاءه إذا رجاه، ولكنه صلى الله عليه وسلم كان يقصد تعويد الأمة على الاعتماد على نواميس الحياة دون خوارق العادات، أما وقد طلبت المعجزة - من عمر - فالطريق الموافقة عليها والاستجابة لطالبها. فقال: نعم يا عمر. ناد في الناس فليأتوا ببقايا أطعمتهم، ثم مد فراش الطعام ليلقوا عليه ما يجمعون. فنادى عمر: فجعل الرجل يلقي بما يملأ الكف من الذرة، والآخر يلقي بما يملأ الكف من القمح، والآخر يلقي بما يملأ الكف من التمر، والآخر يلقي بالكسرة التي يملكها، حتى صاحب النوى ألقى بنواه، فاجتمع على النطع من ذلك كله شيء يسير. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا وبرك عليه.

ثم قال: هاتوا أوعيتكم فخذوا فيها، فجاء كل بأوعيته فملأ، فما بقي في الجيش وعاء إلا ملئ، وفضلت فضلة كبيرة، وبقي على النطع قدر ما أخذ الناس. فضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، سرورا بإكرام ربه له ولأمته، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، لا يموت عبد وهو يشهد هاتين الشهادتين، لا يشك فيهما إلا دخل الجنة، لا يحجبه عنها ولا يمنعه منها ما عمل من سوء. عفا الله عنا بفضله وكرمه وجعلنا من أهلها، إنه عفو كريم حليم. -[المباحث العربية]- (في مسير) أي في سفر، وقد بينته الرواية الثانية بأنه كان في غزوة تبوك، وهي غزوة العسرة، و"تبوك" ممنوع من الصرف على المشهور للعلمية والتأنيث ومن صرفه أراد الموضع، وهو في نصف الطريق بين المدينة ودمشق. (فنفدت أزواد القوم) أي كادت تنفد، أو نفدت أزواد أكثر القوم، ففيه مضاف محذوف، بدليل جمع ما بقي من أزوادهم، ونفد الزاد من باب سمع فنى وذهب، والزاد طعام السفر والحضر جميعا والجمع أزواد، وعلى غير القياس أزودة. (حتى هم بنحر بعض حمائلهم) فاعل "هم" ضمير يعود على النبي صلى الله عليه وسلم والهم وسط بين العزم والخطرات التي لا تندفع، و"الحمائل" الإبل يحمل عليها، واحدها حمولة بفتح الحاء. وروى "جمائلهم" بالجيم بدل الحاء جمع "جمالة" بكسرها، جمع جمل، وهو الذكر دون الناقة، قال ابن الصلاح: وكلاهما صحيح. (لو جمعت ما بقي من أزواد القوم فدعوت الله عليها) "لو" هنا للعرض ويصح أن تكون حرف شرط غير جازم، وجوابها محذوف، تقديره لكان خيرا. (ففعل) أي فوافق على الفعل، يؤيد ذلك ما جاء في الرواية الثانية وقال: نعم. (وذو النواة بنواه) هو هكذا في الأصل، وكان الظاهر أن يقول "وذو النوى بنواه" على طريق الجمع، كما قال "ذو التمر بتمره" بالجمع، وخرجه بعضهم بأن المراد من النواة جملة من النوى أفردت عن غيرها كما أطلق اسم الكلمة على القصيدة، أو أن تكون النواة من قبيل ما يستعمل في الواحد والجمع. (كانوا يمصونه) بفتح الميم في اللغة الفصيحة المشهورة، وحكي فيها الضم. (حتى ملأ القوم أزودتهم) الأزودة جمع زاد، وهي لا تملأ، وإنما تملأ أوعيتها، ففي

الكلام مضاف محذوف، ويحتمل أنه سمى الأوعية أزوادا على سبيل المجاز المرسل من إطلاق الحال وإرادة المحل، وأطلق عليه الأبي: مجاز المجاورة، كتسمية النساء ظعائن، وإنما الظعائن الهوادج التي تحملهن. (عبد غير شاك) هو بنصب "غير" في الأصول على الحال من النكرة باعتبار أن التنوين مخصص قائم مقام الوصف والتقدير: عبد آت بهما غير شاك. (عن أبي هريرة -أو عن أبي سعيد- شك الأعمش) شك الأعمش غير قادح في متن الحديث، فإنه شك في عين الصحابي، والصحابة كلهم عدول. (لما كان يوم غزوة تبوك) المراد من اليوم الزمن والوقت، لا اليوم نفسه، ولفظ "يوم" فاعل "كان" لأنها تامة، وليس في كثير من الأصول ذكر "يوم". (أصاب الناس مجاعة) المجاعة بفتح الميم الجوع الشديد. (فنحرنا نواضحنا) النواضح من الإبل التي يستقى عليها، قال أبو عبيد: الذكر منها ناضح والأنثى ناضحة. (فأكلنا وادهنا) ليس المقصود الادهان المعروف بطلاء الجسم، وإنما المراد اتخذنا دهنا من شحومها. (إن فعلت قل الظهر) المراد بالظهر الدواب، سميت ظهرا لكونها يركب على ظهورها، أو لكونها يستظهر بها ويستعان بها على السفر. (لعل الله يجعل في ذلك) مفعول "يجعل" محذوف للعلم به" والتقدير أن يجعل في ذلك خيرا وبركة. (فدعا بنطع) فيه أربع لغات مشهورة: فتح الطاء وسكونها مع كسر النون وفتحها وهو ما يبسط للطعام. (ثم دعا بفضل أزوادهم) أي بقاياهم. (بكف ذرة) أي بما يعادل ما يملأ الكف، والإضافة بمعنى "من". (وفضلت فضلة) فعل "فضل" فيه فتح الضاد وكسرها لغتان مشهورتان. -[فقه الحديث]- تكثير القليل من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، وهو في حكم المتواتر حيث أخبر الصحابي عن

واقع مشاهد أمام ملأ منهم، ولم ينكروه مع أنهم لا يقرون منكرا، فينزل مثله منزلة المتواتر، لأن سكوتهم كالنطق. ثم الأظهر أن التكثير إنما وقع في النوع الذي يقتات به غالبا كالذرة والبر، والتمر والكسرة، بخلاف النوى، فإنه لا يقتات به إلا عند الضرورة وقد زالت. وقال بعضهم: لا مانع من تكثيره لعلف الرواحل، وهو توجيه حسن. أما كيفية التكثير فيحتمل أنها كانت بإعادة أمثال ما يرفع أو بتضعيف المثال وزيادة الكمية دفعة واحدة، والأول أولى بالقبول حيث لم يتعرض الرواة لعظم الكمية، ولو صح الاحتمال الثاني لقالوا مثلا: فكثر اليسير حتى صار مثل الجبل. ويشهد لهذا الترجيح قوله في الرواية الثانية "وفضلت فضلة". وقد جاء في الرواية الأولى أن الرسول صلى الله عليه وسلم هم بنحر بعض حمائلهم، وفي الرواية الثانية أنهم استأذنوه في نحرها فأذن، وجمع بينهما باحتمال أنهم استأذنوه أولا فأذن ثم هم. ولم يكن همه صلى الله عليه وسلم بوحي، وإلا لما حصل من عمر ما حصل وإنما كان باجتهاد منه صلى الله عليه وسلم، مستندا إلى مراعاة المصالح وتقديم الأهم فالأهم، واحتمال أخف الضررين. ولم يكن قول عمر اعتراضا منه على تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم، بل هو عرض لما ظهر له أنه مصلحة، ليرى الإمام فيه رأيه. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - حسن خلقه صلى الله عليه وسلم، وإجابته إلى ما يلتمس منه أصحابه وإجراؤهم على العادة البشرية. 2 - جواز المشورة مع الإمام بالمصلحة وإن لم يطلبها، وجواز عرض المفضول على الفاضل ما يراه مصلحة. 3 - منقبة ظاهرة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه دالة على قوة ثقته بإجابة دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم. 4 - جواز خلط المسافرين أزوادهم، وأكلهم منها مجتمعين وإن كان بعضهم يأكل أكثر من بعض، وقد نص بعض الفقهاء على أن ذلك سنة. وقد اعترض على أخذ هذا الحكم من الحديث، بأن الذي حصل جمع خاص للضرورة على أن الأكل لم يكن من الأزودة، بل من الزيادة ولا حق لأحد فيها. 5 - أن الأزودة والمياه إذا قلت كان للإمام أن يجمع ما بقي منها ويطعمهم منه بالسوية، دون نظر إلى من يملك أكثر أو يأكل أكثر واعترض على هذا المأخذ بنفس الاعتراض السابق. 6 - حسن آداب خطاب العظماء والسؤال منهم، فيقال: لو فعلت كذا أو أمرت بكذا، أو أذنت بكذا، فهذا أجمل من قولهم للكبير: افعل كذا بصيغة الأمر.

7 - أنه لا ينبغي للجيش أن يتصرفوا في دوابهم، ولا في أدواتهم التي يستعينون بها في القتال بغير إذن الإمام، ولا يأذن لهم إلا إذا رأى مصلحة، أو خاف مفسدة ظاهرة. 8 - أخذ بعضهم من الحديث وقوع النسخ قبل الفعل، لأن إذنه الأول إباحة، والإباحة حكم شرعي، فرفعها نسخ. 9 - فيه حجة لأهل السنة أن من مات على الشهادتين دخل الجنة، وقد تقدم تفصيل هذا الموضوع والمذاهب فيه في الحديث السابق. والله أعلم

(13) باب من شهد أن لا إله إلا الله حرم الله عليه النار

(13) باب من شهد أن لا إله إلا الله حرم الله عليه النار 45 - عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق، أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء". 46 - عن عمير بن هانئ في هذا الإسناد بمثله. غير أنه قال "أدخله الله الجنة على ما كان من عمل" ولم يذكر "من أي أبواب الجنة الثمانية شاء". 47 - عن الصنابحي، عن عبادة بن الصامت، أنه قال: دخلت عليه وهو في الموت، فبكيت. فقال: مهلا. لم تبكي؟ فوالله! لئن استشهدت لأشهدن لك. ولئن شفعت لأشفعن لك. ولئن استطعت لأنفعنك. ثم قال: والله! ما من حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكم فيه خير إلا حدثتكموه. إلا حديثا واحدا. وسوف أحدثكموه اليوم، وقد أحيط بنفسي. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. حرم الله عليه النار". -[المعنى العام]- مرض عبادة بن الصامت مرضه الأخير، وهو الصحابي المعروف، كان أحد النقباء الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة، وشهد بدرا والمشاهد كلها، وقد أرسله عمر إلى الشام ليعلمهم القرآن ويفقههم في الدين، ومرض مرضه الأخير ببيت المقدس سنة خمس وأربعين هجرية، وذهب لعيادته التابعي الجليل عبد الله الصنابحي، فوجده في شدة الموت وكربه فتذاكرا أمر القدوم على الله، وفكر الصنابحي في اليوم الذي سينام فيه نومة عبادة، وفي انقطاع عمله، وإقباله على ربه ليس معه إلا ما قدمت يداه من عمله فبكى. عندئذ أحس عبادة أن الخوف قد استولى على الصنابحي، وأنه يحتاج إلى دفعات من الرجاء

ليحفظ توازنه، ويعود إليه اطمئنانه لعفو ربه، فقال له- وهو يبتسم ابتسامة الراضي بقضاء الله، المؤمل في فضله وإحسانه: مهلا يا صنابحي، رفقا بنفسك، لم تبكي ورحمة الله وسعت كل شيء؟ وما علمت عنك إلا إيمانا راسخا، وعملا صالحا، والله لئن طلبت شهادتي لشهدت لك بالخير، ولئن أذن لي بالشفاعة لأحد لشفعت لك، ولئن أوتيت استطاعة نفع لنفعتك. طب نفسا، وقر عينا يا صنابحي، فسأحدثك بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يفتح باب الأمل للمؤمن على مصراعيه، ويملأ قلبه اطمئنانا لفضل الله. لم أحدث به قبل اليوم خشية اتكال الناس، وتقاصر هممهم عن التنافس في العمل الصالح، أما وقد قربت ساعتي، ودنت منيتي، فإن من الواجب علي أن أؤدي الأمانة، وأبلغ ما تحملت، وما كتمت عنكم حديثا سمعته، لكم فيه خير ومصلحة سوى هذا الحديث، وسأحدثكم به. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وتبرأ من كل دين يخالف دين الإسلام، وتبرأ من قول النصارى: المسيح ابن الله، فأقر بأن عيسى عبد الله، وأن مريم أمة الله، وتبرأ من اتهام اليهود لمريم وعيسى فشهد بأنه كان بكلمة "كن"، وأنه نفخ فيه الروح بدون أب، وتبرأ ممن ينكرون حساب الآخرة، فأقر بأن الجنة حق ثابت، وأن النار حق كائن. من شهد بهذا وأقر به حرم الله عليه النار، وأدخله الجنة مهما قصر من عمل، وفتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء. -[المباحث العربية]- (وحده) منصوب على الحال بعد تأويله بمشتق أي متوحدا أو منفردا، وقد وقعت حالا مع كونها معرفة بإضافتها إلى الضمير من قبيل المسموع الذي لا يقاس عليه، وقال بعض النحاة: إن كلمة "وحد" لفظ مبهم لا يكتسب التعريف، وهذا القول ضعيف. (لا شريك له) حال أخرى، وهي في معنى الحال الأولى، فتكون مؤكدة لها. (وأن عيسى عبد الله وابن أمته) عطفه على ما قبله من عطف الخاص على العام لمزيد اعتناء به لما عرض فيها من الجهالات، فتذكر الشهادتين مع تحقق معناهما على ما يجب يتضمن جميع ذلك. (وكلمته) سمي عيسى كلمة لأنه كان بكلمة "كن" فحسب، من غير أب بخلاف غيره من بني آدم. قال الهروي: سمي كلمة لأنه كان عن الكلمة فسمي بها، كما يقال للمطر رحمة.

(وروح منه) أي رحمة من الله، أو المقصود من الروح ما به الحياة. ومعنى أن عيسى روح الله أنه مخلوق من عند الله، وحيث إن جميع المخلوقات من عنده سبحانه، فإن الإضافة في "روح الله" إضافة تشريف كناقة الله وبيت الله. (وأن الجنة حق وأن النار حق) الحق كل موجود متحقق، وكل ما سيوجد لا محالة. (شاء) الفاعل يعود على من شهد أن لا إله إلا الله، ولا يصح عوده على الله، لأنه لا يكون لذكره فائدة، فكل إنسان يدخل من الباب الذي يشاؤه الله. (على ما كان من عمل) يريد "وإن قبح" أو "وإن قل". (عن الصنابحي عن عبادة بن الصامت أنه قال: دخلت عليه) ظاهر العبارة لأول وهلة أن "عبادة" هو الذي قال "دخلت عليه". وليس كذلك، إذ الواقع أن الصنابحي هو القائل دخلت على عبادة وهو في الموت. قال النووي: هذا كثير يقع مثله، وفيه صنعة حسنة لا تظهر إلا لأهلها من شراح الحديث، وتقديره: عن الصنابحي أنه حدث عن عبادة بحديث قال فيه: دخلت عليه. اهـ. ولزيادة الإيضاح نقول: تقدير الكلام: روي عن الصنابحي (حالة كونه محدثا عن عبادة بن الصامت) أنه قال: دخلت على عبادة. (وهو في الموت) في الكلام مضاف محذوف أي في مرض الموت ومقدماته، والجملة حال. (مهلا) بإسكان الهاء بمعنى أمهل، يقال بلفظ واحد للمفرد والمثنى والجمع. (لم تبكي؟ ) الاستفهام إنكاري بمعنى لا ينبغي أن تبكي. (وقد أحيط بنفسي) مراده: وقد قربت من الموت وأيست من النجاة والحياة، وأصله يقال في الرجل الذي يجتمع عليه أعداؤه، فيقصدونه فيأخذون عليه جميع الجوانب، بحيث لا يبقى له في الخلاص مطمع، فيقال: أحاطوا به. -[فقه الحديث]- قال النووي: هذا حديث عظيم الموقع، وهو أجمع أو من أجمع الأحاديث المشتملة على العقائد، فإنه صلى الله عليه وسلم جمع فيه ما يخرج عن جميع ملل الكفر، على اختلاف عقائدهم وتباعدها. اهـ. ففيه تعريض بالنصارى فيما ادعت من بنوة عيسى لله ومن التثليث، وقد حكى الأبي أن بعض عظماء النصارى سمع قارئا يقرأ {وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} [النساء: 171] فقال: هذا دين

النصارى يعني أن هذا يدل على أن عيسى بعض من الله. فأجابه الحسن بن علي بن واقد صاحب كتاب النظائر بأن الله تعالى يقول: {وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه} [الجاثية: 13] فلو أريد بروح منه أنه بعضه، كان ما في السموات وما في الأرض بعضا منه، وإنما يريد بروح منه أنه من إيجاده، وخلقه، فأسلم النصراني. وفيه تعريض باليهود فيما قذفت به مريم. وفيه التخلص من عقائد الدهرية ومن يقول بنفي المعاد البدني، وذلك بذكر الجنة والنار. وظاهر الحديث ضرورة التلفظ بالشهادتين، لكن قال الأبي: لا يشترط في داخل الإسلام النطق بلفظة "أشهد" ولا التعبير بالنفي والإثبات فلو قال: الله واحد، ومحمد رسول الله كفى، وأما كون النطق بذلك شرطا في حصول الثواب المذكور فمحتمل. اهـ. وعقب عليه السنوسي بقوله: في قوله: لا يشترط في داخل الإسلام التعبير بالنفي والإثبات نظر، لأن المحل محل تعبد، فلا يعدل عما نص عليه الشرع، حتى قال بعض العلماء: من قدم وأخر في كلمتي الشهادة فقال مثلا: محمد رسول الله لا إله إلا الله لم يقبل منه. اهـ. وأبواب الجنة الثمانية طرق للجنات الثمانية، كل باب طريق لجنة منها، كما أن أبواب النار السبعة طرق لطبقاتها السبع. ووجه التكريم في تخييره بين أبواب الجنة إظهار الاعتناء به، ورفع الحجر عنه. وظاهر هذا يتعارض مع قوله صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة بابا يقال له الريان، لا يدخله إلا الصائمون" إذ يقتضي أنه إذا أراد الدخول من هذا الباب لم يمكن منه حيث لم يصم. ورفع هذا التعارض بأنه لا يلزم من التخيير الدخول، أو محاولة الدخول، فإنه قد يخير ولا يخلق الله تعالى عنده رغبة الدخول من هذا الباب. والحكمة في جعل أبواب الجنة ثمانية وأبواب النار سبعة يعلمها الله تعالى فإنها من الأمور السمعية، أما تلمس البعض لحكم، كقولهم: أبواب الجنة ثمانية على عدد خصال الإسلام المشهورة، ثم يعد ثماني خصال، وأبواب النار سبعة على عدد الجوارح التي يعصي المكلف بها، ثم يعد سبعة أعضاء فهذا مما لا يركن إليه. قال القاضي عياض رحمه الله: في الحديث دليل على أنه كتم ما خشي الضرر فيه والفتنة، مما لا يحتمله عقل كل واحد، وذلك فيما ليس تحته عمل ولا فيه حد من حدود الشريعة. قال: ومثل هذا عن الصحابة -رضي الله عنهم- كثير في ترك التحديث بما ليس تحته عمل، ولا تدعو إليه ضرورة، أو لا تحتمله عقول العامة، أو تخشى مضرته على قائله أو سامعه، لا سيما ما يتعلق بأخبار المنافقين والإمارة، وتعيين قوم وصفوا بأوصاف غير مستحسنة، وذم آخرين ولعنهم. والله أعلم

(14) باب حق الله على العباد وحق العباد على الله

(14) باب حق الله على العباد وحق العباد على الله 48 - عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم. ليس بيني وبينه إلا مؤخرة الرحل. فقال: "يا معاذ بن جبل" قلت: لبيك رسول الله وسعديك. ثم سار ساعة. ثم قال "يا معاذ بن جبل" قلت: لبيك رسول الله وسعديك. ثم سار ساعة ثم قال "يا معاذ بن جبل! " قلت: لبيك رسول الله وسعديك. قال "هل تدري ما حق الله على العباد؟ " قال قلت: الله ورسوله أعلم. قال "فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا" ثم سار ساعة. ثم قال: "يا معاذ بن جبل! " قلت: لبيك رسول الله وسعديك. قال "هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك" قال قلت: الله ورسوله أعلم. قال "أن لا يعذبهم". 49 - عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم. على حمار يقال له عفير. قال: فقال "يا معاذ! تدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ " قال قلت: الله ورسوله أعلم. قال "فإن حق الله على العباد أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا. وحق العباد على الله عز وجل أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا" قال قلت: يا رسول الله! أفلا أبشر الناس؟ قال "لا تبشرهم فيتكلوا". 50 - عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا معاذ! أتدري ما حق الله على العباد؟ " قال: الله ورسوله أعلم. قال "أن يعبد الله ولا يشرك به شيء" قال "أتدري ما حقهم عليه إذا فعلوا ذلك؟ " فقال: الله ورسوله أعلم. قال "أن لا يعذبهم". 51 - عن معاذ رضي الله عنه يقول: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجبته. فقال "هل تدري ما حق الله على الناس" نحو حديثهم. 52 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم ومعاذ بن جبل رديفه على الرحل قال "يا معاذ! " قال: لبيك رسول الله وسعديك. قال "يا معاذ! " قال: لبيك رسول الله وسعديك. قال "يا معاذ! " قال

لبيك رسول الله وسعديك. قال "ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار" قال: يا رسول الله، أفلا أخبر بها الناس فيستبشروا؟ قال "إذا يتكلوا" فأخبر بها معاذ عند موته تأثما. (ملحوظة): هذا الحديث أخره مسلم رحمه الله تعالى عن حديث أبي هريرة، الآتي في الباب التالي وقدمناه للمناسبة. -[المعنى العام]- كثيرا ما خرج المسلمون للجهاد مشاة ليس معهم ما يكفيهم من الإبل أو الحمير وكثيرا ما كان الحمار يحمل اثنين، وكذلك البعير، وكثيرا ما كان الجمع منهم يتعاقب الركوب على دابة واحدة، لا تكاد تميز بين صاحبها ومرافقيه. اشتراكية فريدة لا نراها في أرقى الأمم على مر العصور، وتكافل إسلامي لا عهد له في أي دستور أو تشريع، و (ديمقراطية) عالية لا تكاد تميز بين القائد والجنود. هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أفضل الخلق على الإطلاق، وسيد ولد آدم ولا فخر، وقائد الأمة وراعيها، يركب حمارا في غزوة من الغزوات، ويركب غيره من جنده النوق والجمال، وليس هذا فحسب، بل ويردف خلفه على حماره أحد الصحابة الأجلاء، معاذ بن جبل. ثم يضرب المثل الأعلى في حسن المؤانسة، وإزالة الوحشة لدى رفيق السفر، فيناديه: يا معاذ بن جبل، فيجيب معاذ- وقد امتلأ سرورا بحظوة تحديث خير محدث، يجيب- وقد جمع كل مشاعره وأحاسيسه لما بعد النداء، يجيب - وكله آذان صاغية- لبيك وسعديك يا رسول الله، إجابة لندائك ثم إجابة، وسعدا بخطابك بعد سعد يا رسول الله. ويسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فترة من الوقت والراحلة تسير. يسكت لحظات تمر على معاذ كساعات، تثور فيها غريزة حب الاستطلاع وتتقد فيها نار التلهف لسماع الحديث، ويرقب الأمر، فإذا به يسمع النداء للمرة الثانية: يا معاذ بن جبل. فيسرع بالإجابة لبيك وسعديك يا رسول الله، وتمضي لحظات سكون مثل التي مضت بعد النداء الأول، والراحلة تسير، ثم يسمع النداء للمرة الثالثة: يا معاذ بن جبل. فيبادر بالإجابة أسرع وأسرع من المرتين السابقتين، لبيك وسعديك يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تعلم حق الله على العباد وواجبهم نحوه؟ قال معاذ: الله ورسوله أعلم. قال صلى الله عليه وسلم: حق الله على العباد أن يوحدوه ولا يتخذوا أربابا من دونه، ولا يشركوا به شيئا.

ثم سكت صلى الله عليه وسلم لحظات أخرى كالسابقة، والقافلة تسير، ثم قال: يا معاذ بن جبل. قال: لبيك وسعديك يا رسول الله. قال: هل تعلم حق العباد وما لهم عند الله إذا وحدوه ولم يشركوا به شيئا؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: "أن لا يعذبهم". "ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا حرم الله عليه النار". "من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة". قال معاذ فرحا بهذه البشرى: أفأخبر الناس بهذا، وأبلغهم ما يسرهم يا رسول الله؟ فأذن له صلى الله عليه وسلم أن يبشر. فحدث معاذ عمر - رضي الله عنهما - بهذا الحديث فقال له عمر: لا تعجل ولا تخبر الناس. ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبي الله أنت أفضل رأيا. إن الناس إذا سمعوا ذلك اتكلوا عليها. قال: فرده، فرد عمر معاذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال معاذ: ألا أبشر الناس يا رسول الله؟ قال: لا. دعهم فليتنافسوا في الأعمال فإني أخاف أن يتكلوا. وكتم معاذ الحديث فلم يحدث به حتى جاءه الموت، فخاف الإثم إن هو مات ولم يبلغ ما سمع، فحدث به. رضي الله عنه وأرضاه، ورضي عن الصحابة أجمعين، وجعلنا من أهل هذه البشرى. آمين. -[المباحث العربية]- (كنت ردف النبي) بكسر الراء وسكون الدال، والرديف هو الراكب خلف الراكب، تقول: ردفت فلانا أردفه بكسر الدال في الماضي وفتحها في المضارع إذا ركبت خلفه، وتقول: أردفت فلانا إذا أركبته خلفك وأصله من الردف وهو العجز. وأرداف الملوك في الجاهلية هم الذين كانوا يخلفونهم كالوزارء، أما في الإسلام فإنه لم تراع فيه منزلة الرديف الدنيوية بل روعي التشريف والتكريم بغض النظر عن منزلة الرديف، وقد جمع ابن مندة أرداف النبي صلى الله عليه وسلم فبلغوا نيفا وثلاثين رديفا. (ليس بيني وبينه إلا مؤخرة الرحل) كناية عن شدة القرب منه، وفائدة ذكرها التوثيق من الرواية، والإشعار بدقة السماع والضبط، والرحل بفتح الراء وسكون الحاء خشبات توضع على البعير حول السنام، مكسوة بشيء من الصوف أو الليف أو نحوهما تمهد ظهر البعير للركوب، وهو بمنزلة السرج للفرس والإكاف للحمار، و"مؤخرة الرحل" بضم الميم وسكون الهمزة وكسر الخاء، وحكي فتح الهمزة والخاء المشددة، على ضعف وهي الخشبة التي تكون خلف الراكب. وقد جاء في الرواية الثانية: كنت ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له "عفير" ومن المعلوم أن التعبير بالرحل لا يتناسب مع ركوب الحمار إذ هو من اختصاص الإبل، ولهذا قال بعضهم بتعدد

القصة. مرة على بعير ومرة على حمار، وهذا بعيد، والأحرى بالقبول قول النووي: يحتمل أن يكونا قضية واحدة، وأراد بالحديث الأول قدر مؤخرة الرحل. و"عفير" بالتصغير هو الحمار الذي كان له صلى الله عليه وسلم. قيل إنه مات في حجة الوداع. (يا معاذ بن جبل) يجوز في "معاذ" النصب والبناء على الضم، أما النصب فعلى أنه مع ما بعده كاسم واحد مركب، والمنادى المضاف منصوب، والضم على أنه منادى مفرد علم، وأما لفظ "ابن" هنا فمنصوب قولا واحدا، واختار ابن الحاجب النصب في "معاذ" وبه ضبط في الأصل، وقال ابن مالك: الاختيار فيه الضم، لأنه لا يحتاج إلى اعتذار، وتكرير نداء معاذ للتأكيد وتكميل انتباهه اهتماما بالخبر. (لبيك رسول الله وسعديك) "رسول الله" منادى بتقدير حرف النداء وفي معنى "لبيك" أقوال كثيرة، أظهرها أن معناه إجابة لك بعد إجابة، والتكرير للتأكيد، وقيل: معناه قربا منك وطاعة لك، تثنية "لب" ومعناه الإجابة، وقال الخليل: لب بالمكان أقام به، وعليه فلبيك معناه أنا مقيم على طاعتك، وكان حقه أن يقال: لبا لك، فثني للتأكيد فصار: لبين لك فأضيف فحذفت النون، كما قالوا في حنانيك، أي رحمة بعد رحمة، وهو من المصادر المنصوبة بفعلها المحذوف وجوبا. و"سعديك" تثنية سعد، والمعنى سعادة بحديثك بعد سعادة. (ثم سار ساعة) أي قدرا من الزمن، وليس المراد الساعة المعروفة المقدرة بستين دقيقة. (هل تدري ما حق الله على العباد؟ ) الاستفهام حقيقي، و"تدري" معلق عن العمل و"حق الله على العباد" معناه ما يستحقه عليهم استحقاقا متحتما. (الله ورسوله أعلم) أفعل التفضيل على بابه، فمعاذ يعلم دون شك أن العبادة واجبة لله تعالى، ولكنه فوض العلم، وأسند الزيادة فيه لله ورسوله تأدبا، ومقصود هذه العبارة علمني يا رسول الله. (أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا) وفي الرواية الثانية "أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا" وفي رواية "أن يعبد الله ولا يشرك به شيء" وفي رواية "أن يعبد الله ولا يشرك به شيئا" بنصب "شيئا". قال ابن الصلاح وهو صحيح على التردد بين وجوه ثلاثة. أحدها: "يعبد الله" بفتح الياء التي هي للمذكر الغائب أي يعبد العبد الله ولا يشرك به شيئا. الثاني: "تعبد" بفتح تاء المخاطب على التخصيص لمعاذ والتنبيه على غيره. والثالث: "يعبد" بضم أوله، ويكون "شيئا" كناية عن المصدر، لا عن المفعول به، أي لا يشرك به إشراكا، ويكون الجار والمجرور هو القائم مقام الفاعل. قال: وإذا لم تعين الرواية شيئا من هذه الوجوه، فحق على من يروي هذا الحديث منا أن ينطق بها كلها، واحدا بعد واحد، ليكون آتيا بما هو المقول منها في نفس الأمر جزما. اهـ.

والمراد من عبادة الله هنا توحيده، لا ما يعم كل الطاعات: بدليل الرواية الثالثة. ويكون قوله "ولا يشركوا به شيئا" للتأكيد لرفع ما كان عليه المشركون من عبادة الأوثان لتقربهم إلى الله زلفى. (هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك) أي ما وجب لهم شرعا بوعده الصادق، فهو متحقق لهم لا محالة إذا فعلوا، فلفظ "حق" على هذا مستعمل في أصل وصفه، وقيل إنه من مجاز المقابلة لحقه عليهم، كقوله تعالى {ومكروا ومكر الله} [آل عمران: 54] لأن الله لا يجب عليه شيء. (أن لا يعذبهم) "أن" وما دخلت عليه في تأويل مصدر خبر مبتدأ محذوف تقديره حق العباد على الله - إذا فعلوا ذلك - عدم تعذيبهم. (أفلا أبشر الناس؟ ) التبشير الإخبار بخبر يظهر أثره على البشرة، خيرا كان الخبر أو شرا، ثم شاع في خبر الخير. والهمزة للاستفهام، والفاء مؤخرة من تقديم -على المشهور- لأن الاستفهام له الصدارة، وهي عاطفة على محذوف تقديره: أقلت ذلك أفلا أبشر الناس؟ . (لا تبشرهم فيتكلوا) من الاتكال، وهو الاعتماد، وأصله فيوتكلوا لأنه من وكل الأمر إلى غيره، قلبت الواو تاء وأدغمت في تاء الافتعال. والفعل منصوب بأن مضمرة بعد الفاء المسبوقة بالنهي. (ومعاذ بن جبل رديفه) وردت في الرواية الثالثة، مبتدأ وخبر في محل النصب على الحال. (على الرحل) حال أيضا. (ما من عبد يشهد) "ما" نافية، و"من" زائدة لتأكيد النفي، و"عبد" اسم "ما" وجملة "يشهد" صفة "عبد". (إلا حرمه الله على النار) معنى التحريم المنع، أي إلا منعه الله من النار، والمستثنى منه محذوف، والاستثناء مفرغ، والتقدير: ما عبد شاهد بكذا كائنا بحكم من الأحكام إلا بحكم تحريمه على النار. (أفلا أخبر بها الناس فيستبشروا) ضمير "بها" يعود على المقالة "ما من عبد" إلخ أي أفلا أخبر الناس بهذه المقالة؟ وفعل "يستبشروا" منصوب بأن مضمرة بعد الفاء المسبوقة باستفهام. (إذا يتكلوا) "إذا" حرف جواب وجزاء، والفعل بعدها منصوب بها، والجمهور يكتبها بالألف، وكذا رسمت في المصاحف، والمازني والمبرد يكتبونها بالنون، وعن الفراء: إن عملت تكتب بالألف،

وإلا تكتب بالنون، للفرق بينها وبين "إذا" الشرطية، وجاء في رواية "إذا ينكلوا" بالنون بدل التاء، من النكول وهو النكوص والامتناع عن العمل اعتمادا على الشهادتين. (فأخبر بها معاذ عند موته تأثما) بفتح التاء والهمزة وضم الثاء المشددة مفعول لأجله، قال أهل اللغة: تأثم الرجل إذا فعل فعلا يخرج به من الإثم، وتحرج أزال عنه الحرج والمعنى هنا على هذا: أخبر معاذ بالمقالة عند موته للخروج من إثم الكتمان ولإزالته. -[فقه الحديث]- من الواضح أن معاذا استأذن في تبشير الناس وتحديثهم بهذا الحديث فلم يؤذن له، ومن الواضح أنه حدث به عند موته. وأمام هذين الأمرين الواضحين يبرز إشكال مؤداه: كيف خاف معاذ إثم الكتمان ولم يخف إثم مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وفي الجواب عن ذلك يقول النووي: كان معاذ يحفظ علما يخاف فواته وذهابه بموته، فخشي أن يكون ممن كتم علما، وممن لم يمتثل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبليغ سنته فأخبر بالحديث مخافة الإثم، وعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عن الإخبار بالمقالة نهي تحريم. وحاصل هذا الجواب أن معاذا كان عليه أن يختار بين كتمان الحديث، الأمر الذي يبلغ الحرمة، وبين تبليغه، المكروه كراهة تنزيه، فاحتاط وأزال ما يؤدي إلى الحرمة. وقال القاضي عياض: لعل معاذا لم يفهم من النبي صلى الله عليه وسلم النهي، لكن فهم أنه صلى الله عليه وسلم كسر عزمه عما عرض له من بشراهم. اهـ. فالقاضي عياض لا يرى نهيا أصلا، لا نهي تحريم ولا نهي تنزيه في فهم معاذ. وقال بعضهم: لعل معاذا امتثل النهي عن التبشير، فلما سمع بحديث أبي هريرة الآتي -وفيه الأمر بالتبشير- اعتبره ناسخا فحدث به خروجا من إثم الكتمان. وقال ابن الصلاح: منعه صلى الله عليه وسلم من التبشير العام خوفا من أن يسمع ذلك من لا خبرة له ولا علم، فيغتر ويتكل، وأخبر به صلى الله عليه وسلم على الخصوص من أمن عليه الاغترار والاتكال من أهل المعرفة فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر به معاذا، فسلك معاذ هذا المسلك، فأخبر به من الخاصة من رآه أهلا لذلك. اهـ. وهذا الوجه ظاهر. وأمام هذه الأجوبة يرد إشكال آخر، هو: حيث استباح معاذ وفضل التبشير فلم أخره وكتمه إلى الموت؟

وأجيب بأنه رأى أن النهي عن التبشير إنما هو خوف الاتكال، وخوف الاتكال إنما يكون في بادئ الأمر، أما بعد رسوخ الدين، وتقرر الشريعة وذوق حلاوة العمل الصالح والتنافس بين المسلمين في خصال البر فإن الاتكال بعيد، فأخر التحديث حتى زال خطره. على أن كتم الحديث "خصوصا الذي لا يدعو إلى عمل، بل قد يعوقه" لا يتحقق إلا بالموت. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - جواز ركوب الاثنين على دابة واحدة. 2 - منزلة معاذ رضي الله عنه وعزته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. 3 - تكرار الكلام لنكتة وقصد معني. 4 - تخصيص بعض الناس ببعض العلم لهدف ديني. 5 - جواز استفسار الطالب عما يتردد فيه. 6 - الإجابة بلبيك وسعديك. 7 - استئذان الطالب في إشاعة ما يعلم به وحده. 8 - تواضع النبي صلى الله عليه وسلم. 9 - فيه بشارة عظيمة للموحدين، وسيأتي تفصيل الحكم فيها عما قريب. والله أعلم

(15) باب التبشير بالجنة لمن شهد أن لا إله إلا الله

(15) باب التبشير بالجنة لمن شهد أن لا إله إلا الله 53 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال كنا قعودا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم. معنا أبو بكر وعمر، في نفر. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرنا. فأبطأ علينا. وخشينا أن يقتطع دوننا. وفزعنا فقمنا. فكنت أول من فزع. فخرجت أبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم. حتى أتيت حائطا للأنصار لبني النجار. فدرت به هل أجد له بابا. فلم أجد. فإذا ربيع يدخل في جوف حائط من بئر خارجة (والربيع الجدول) فاحتفزت كما يحتفز الثعلب. فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال "أبو هريرة" قلت: نعم. يا رسول الله. قال "ما شأنك؟ " قلت: كنت بين أظهرنا. فقمت فأبطأت علينا. فخشينا أن تقتطع دوننا. ففزعنا. فكنت أول من فزع. فأتيت هذا الحائط. فاحتفزت كما يحتفز الثعلب. وهؤلاء الناس ورائي. فقال "يا أبا هريرة! " (وأعطاني نعليه) قال "اذهب بنعلي هاتين. فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله. مستيقنا بها قلبه. فبشره بالجنة" فكان أول من لقيت عمر. فقال: ما هاتان النعلان يا أبا هريرة؟ فقلت: هاتان نعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. بعثني بهما. من لقيت يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه، بشرته بالجنة. فضرب عمر بيده بين ثديي. فخررت لاستي. فقال: ارجع يا أبا هريرة. فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجهشت بكاء. وركبني عمر. فإذا هو على أثري. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما لك يا أبا هريرة؟ " قلت: لقيت عمر فأخبرته بالذي بعثتني به. فضرب بين ثديي ضربة. خررت لاستي. قال ارجع. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا عمر! ما حملك على ما فعلت؟ " قال: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي. أبعثت أبا هريرة بنعليك، من لقي يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه، بشره بالجنة؟ قال "نعم" قال: فلا تفعل. فإني أخشى أن يتكل الناس عليها. فخلهم يعملون. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فخلهم". -[المعنى العام]- مثل رائع من أمثلة حب الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحرصهم عليه، ومثل أكثر روعة من أمثلة وفاء النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، ومكافأته لهم على حسن صنيعهم. ذلك ما يحدثنا به أبو هريرة الصحابي الجليل [الذي لازم رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر أوقاته منذ أسلم رضي الله عنه حتى انتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى] يقول:

كنا قعودا في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنا جمعا كثيرا من الصحابة على رأسنا أبو بكر وعمر، وكنا نحيط برسول الله صلى الله عليه وسلم - حبا فيه وحرصا على ما ينطق به من تعاليم الإسلام وآدابه- إحاطة الهالة بالقمر، فقام صلى الله عليه وسلم من بيننا، وبقينا على وضعنا في انتظاره، ظانين أنه خرج لقضاء حاجة سريعة وسيعود، فقد كان شأنه صلى الله عليه وسلم إذا قام منصرفا أشعرنا بانصرافه فيصحبه بعضنا إلى حيث يريد - إن أذن - وينصرف البعض الآخر إلى عمله. وقوى هذا الظن أنه صلى الله عليه وسلم لم يتجه إلى البيوت، ولكن نحو البساتين القريبة من مجلسنا. وطال انتظارنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصبح الزمن يمضي بطيئا ثقيلا، ونظر بعضنا إلى بعض نظرات القلق والاضطراب لتأخره صلى الله عليه وسلم على غير عادته، وساورتنا الهواجس والأوهام، اليهود بالمدينة وحولها يتربصون به صلى الله عليه وسلم، والمنافقون يحقدون عليه ويدبرون له المكايد، والكفار يمكرون به ليقتلوه، وقد خرج صلى الله عليه وسلم وحده، وإلى مكان موحش، فماذا نحن فاعلون؟ واستبد بنا الخوف عليه صلى الله عليه وسلم، ونفد منا الصبر واستولى علينا الفزع، يقول أبو هريرة: وكنت أكثرهم فزعا وأولهم تحركا، وهب الجميع للبحث عنه صلى الله عليه وسلم بين المزارع والحدائق التي اتجه نحوها، وكان يقام على كل منها حائط مرتفع لا يسهل ارتقاؤه، ليمنع السائبة من الفساد في الحرث. ودار أبو هريرة حول بستان لبني النجار، غلب على ظنه أنه الذي اتجه إليه صلى الله عليه وسلم، لكنه لعجلته واضطرابه لم يعثر على بابه، أو لم يعثر على باب مفتوح ورأى ثقبا في أسفل الحائط تخترقه قناة تنقل الماء إلى البستان من بئر خارجه. فانكمش أبو هريرة، وضم أعضاءه، كما ينكمش وينضم الثعلب عند ولوجه جحرا ضيقا، ودخل البستان من ثقب الحائط، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم داخله، فلما أحس به صلى الله عليه وسلم قال: من؟ أبو هريرة؟ فقال: نعم أنا أبو هريرة يا رسول الله. قال له: ما شأنك؟ وما الذي جاء بك من هذه الجهة وبهذه الحالة؟ قال: كنت بيننا يا رسول الله فقمت فجأة، فانتظرناك، فأبطأت علينا، فخشينا عليك من أعداء الإسلام، ففزع الجميع، وكنت أول من فزع، فأتيت هذا البستان، فلم أعثر على بابه، فتحايلت على الدخول من ثقب الجدول الضيق كما يتحايل الثعلب، والناس ورائي حول هذا البستان يبحثون عنك. وأحس صلى الله عليه وسلم أن الإيمان قد ملأ قلوب هذه الجماعة من أصحابه، وأنه صلى الله عليه وسلم قد أصبح أحب إليهم من أنفسهم التي بين جنوبهم، وليس لمثل هؤلاء جزاء إلا الجنة. ومكافأتهم العاجلة على هذا الصنيع الحميد أن يبشروا بها، لتطمئن قلوبهم التي فزعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم {جزاء وفاقا} [النبأ: 26]. فقال: يا أبا هريرة اذهب إلى القوم فهدئ من روعهم، وأعد الطمأنينة إلى نفوسهم، وخذ نعلي

هاتين علامة على لقياك لي، وبشر كل من لقيته وراء هذا الحائط يبحث عني، وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله شهادة خالصة نابعة من تمكن الإيمان في قلبه. بشره أنه من أهل الجنة. وخرج أبو هريرة -فرحا مسرورا- ليؤدي الرسالة، فكان أول رجل يلقاه عمر بن الخطاب، وأبو هريرة يتهيبه، كما يتهيبه كثير من الصحابة لشدته، فلم يشأ أن يلقي إليه الخبر إلقاء، بل رغب في أن يكون مفتتح الكلام عمر، فأبرز نعلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: ما هاتان النعلان يا أبا هريرة؟ فقال: لقد لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا البستان وهاتان نعلاه، وهو على خير ما نحب له، بعثني بهما لأبشر بالجنة كل من لقيت وراء هذا البستان ممن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، شهادة خالصة نابعة من صميم قلبه. وخاف عمر من عاقبة هذه البشرى على صالح صفوة المسلمين، ومنزلتهم عند الله، وأراد أن يمنع أبا هريرة من التبشير حتى يراجع بشأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأراد أن يشتد في المنع خشية أن يستهتر أبو هريرة بطلبه أمام أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدفعه في صدره وهو يقول له: لا تفعل يا أبا هريرة، وارجع أمامي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يتحمل أبو هريرة دفعة عمر الشديدة - بدون قصد- فسقط على الأرض، ووقع على عجزه، ثم قام تخنقه العبرات، وسار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر يمشي من ورائه. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لك يا أبا هريرة؟ فشكا له ما لقي من عمر. فنظر صلى الله عليه وسلم إلى عمر، وقال له: ما حملك على ما فعلت يا عمر؟ قال: يا رسول الله. أفديك بأبي وأمي. هل بعثت أبا هريرة بنعليك يبشر بالجنة من لقي وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مطمئنا بها قلبه؟ قال: نعم، قال عمر: لا تفعل هذا يا رسول الله، فإني أخشى أن يتكل الناس على هذه البشرى فلا يتسابقون إلى الخيرات، خلهم يعملون يا رسول الله. وأمام وجهة نظر عمر، وخشيته من التقاعس عن عمل الخير، وعن التنافس في الطاعات رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تأجيل هذه البشرى فقال: فخلهم يعملون، صلى الله عليه وسلم ورضي عن عمر وأبي هريرة وعن الصحابة أجمعين. -[المباحث العربية]- (كنا قعودا) خبر "كان" مصدر مؤول بمشتق، أي قاعدين. (حول النبي صلى الله عليه وسلم) قال أهل اللغة: يقال قعدنا حوله وحوليه، وحواليه، وحواله، بفتح الحاء واللام في جميعها، أي على جوانبه. (ومعنا أبو بكر وعمر) "معنا" بفتح العين على اللغة المشهورة، ويجوز تسكينها في لغة، وهي للمصاحبة، قال صاحب المحكم "مع" اسم معناه الصحبة مفتوحة العين أو ساكنتها غير أن

المفتوحة تكون اسما وحرفا، والساكنة لا تكون إلا حرفا، والجملة هنا مكونة من خبر مقدم ومبتدأ مؤخر في محل النصب على الحال. (في نفر) متعلق بمحذوف حال، والنفر في الأصل القوم ينفرون معك إذا حزبك أمر ثم أطلق على كل جماعة دون العشرة من الرجال وجمعه أنفار. (من بين أظهرنا) وقال أبو هريرة بعد ذلك "كنت بين أظهرنا" فكلمة "أظهرنا" هكذا في الموضعين. وقال القاضي عياض: وقع الثاني في بعض الأصول "ظهرينا" وكلاهما صحيح، فأهل اللغة يقولون: نحن بين أظهركم بالجمع، وبين ظهريكم وظهرانيكم بفتح النون على التثنية، ومعناه أن ظهرا منهم قدامه، وظهرا وراءه، فهو مكنوف من جانبيه، وهو مكنوف من جوانبه في حالة جمع "أظهرنا" ثم كثر حتى استعمل في الإقامة بين القوم مطلقا. (وخشينا أن يقتطع دوننا) "يقتطع" بالبناء للمجهول، أي يختطف أو يصاب بمكروه من أعداء الإسلام. (وفزعنا) الفزع يكون بمعنى الروع، وبمعنى الهبوب للشيء والاهتمام به، وبمعنى الإغاثة، وهذه المعاني كلها تصح هنا، لكن قول أبي هريرة: "وقمنا فكنت أول من فزع" يرشح المعنيين الأخيرين، لترتيب أولية فزعه على القيام بالفاء. (أبتغي) أي أبحث عنه صلى الله عليه وسلم، والجملة حال. (حتى أتيت حائطا) أي بستانا، وسمي بذلك لأنه كان يحاط غالبا بحائط لا سقف له. (فإذا ربيع) بفتح الراء وكسر الباء وهو قناة ماء، وفسره بعد بالجدول، قال النووي: وهو النهر الصغير. (من بئر خارجة) قال بعضهم: روي على ثلاثة أوجه: أحدها: بالتنوين في "بئر" وفي "خارجة" على أن "خارجة" صفة لبئر. الثاني: من بئر خارجه، بتنوين بئر، وبهاء في آخر "خارجه" وهي ضمير الحائط، أي البئر في موضع خارج عن الحائط، و"خارج" منصوب على الظرفية متعلق بمحذوف صفة لبئر. الثالث: "من بئر خارجة" بإضافة "بئر" إلى "خارجة" وهو اسم رجل، والوجه الأول هو المشهور الظاهر. و"البئر" مؤنثة مهموزة، ويجوز تخفيف همزتها، وجمع القلة أبؤر وأبآر. بهمزة بعد الباء فيهما، ومن العرب من يقلب الهمزة في "أبآر" وينقل فيقول آبار، وجمع الكثرة "بئار".

(فاحتفزت) اختار صاحب التحرير أنها بالراء، والصحيح بالزاي، ومعناه تضاممت ليسعني المدخل. (فقال: أبو هريرة؟ ) خبر مبتدأ محذوف تقديره: أأنت أبو هريرة؟ والاستفهام للتقرير أو للتعجب، لاستغرابه من أين دخل مع سد الأبواب. (وهؤلاء الناس) يعني النفر الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وقاموا في طلبه. (مستيقنا بها قلبه) ذكر القلب هنا للتأكيد، ونفي توهم المجاز، وإلا فالاستيقان لا يكون إلا بالقلب. (فقلت: هاتين نعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم) هكذا هو في جميع الأصول "فقلت هاتين نعلا" بنصب هاتين ورفع "نعلا" وتوجيهه أن "هاتين" منصوب بفعل محذوف و"نعلا" خبر مبتدأ محذوف والتقدير: تعني هاتين؟ - هما نعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهذا التوجيه مع ما فيه من التكلف أولى من تخطئة الرواية. (فضرب بيده بين ثديي) مفعول "ضرب" محذوف، و"بين" ظرف مكان، أو الباء زائدة، و"يده" مفعول، أي دفع عمر يده بين ثديي و"ثديي" تثنية "ثدي" لفظ مذكر، وقد يؤنث في لغة قليلة، وقد اختلفوا في اختصاصه بالمرأة، فقيل: يكون للرجل والمرأة، وقيل: هو للمرأة خاصة وعلى القول الأخير يكون إطلاقه على الرجل في هذا الحديث وفي أحاديث أخرى من قبيل المجاز. (فخررت لاستي) "است" بألف وصل، وهو اسم من أسماء الدبر، وقد يطلق على العجز كما يطلق على حلقة الدبر، ومقصوده أنه سقط على الأرض جالسا على إليته وعجيزته. (فأجهشت بكاء) وفي رواية "فجهشت" يقال: جهش جهشا، وأجهش إجهاشا، وهو أن يفزع الإنسان إلى غيره، وهو متغير الوجه متهيئ للبكاء ولما يبك بعد، ولفظ "بكاء" مفعول لأجله، وفي رواية "للبكاء" وهو بهمزة المد، وقد يقصر. (وركبني عمر) أي تبعني ومشى خلفي. (فإذا هو على أثري) فيه لغتان فصيحتان مشهورتان: كسر الهمزة وسكون الثاء، وفتح الهمزة والثاء، أي تبع خطواتي وآثار مشيي دون فاصل بيننا أو تراخ. (بأبي أنت وأمي) خبر مقدم ومبتدأ مؤخر، والتقدير أنت مفدى بأبي وأمي، وليست العبارة على حقيقتها، فإنها تقال ممن مات أبوه وأمه، وإنما المقصود منها المبالغة في الحنان والبر الذي يفوق ما بين الولد وأبويه، حتى كأنه يضحي بهما من أجله. (أبعثت أبا هريرة؟ ) الاستفهام حقيقي، للتأكد من كلام أبي هريرة وليبني على الجواب ما يريد.

(فلا تفعل) الفاء فصيحة في جواب شرط مقدر، أي إذا كان قد حصل هذا القول فلا تتبعه بالفعل. (فخلهم يعملون) جملة "يعملون" في محل النصب على الحال. -[فقه الحديث]- قال بعض الفضلاء: إن خشية الصحابة على الرسول صلى الله عليه وسلم لا تتفق مع قوله تعالى: {والله يعصمك من الناس} [المائدة: 67] وأجاب باحتمال أن الخشية والفزع كانا قبل نزول الآية، وعلى فرض أنهما كانا بعد نزولها فذلك لفرط كلفهم به، كما يقال: المحب مولع بسوء الظن. والمحقق في هذه المسألة يرى أن عصمة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من الناس لا تتنافى مع الحيطة والمحافظة عليه وحمايته المنبعثة عن الخشية والفزع، فالعاقبة المعلومة لا تمنع من الأخذ بالأسباب، بل قد تكون النتيجة متوقفة على المقدمات حسب العادة، والظاهر الذي أمرنا بالعمل به، وعلى هذا كان الفهم الصحيح للشريعة الإسلامية، فالعشرة المبشرون بالجنة لم يتوقفوا عن الأخذ بأسباب دخولها، بل بالغوا في المحافظة عليها وتحصيلها. على أن المفسرين ذهبوا إلى أن المقصود بالعصمة من الناس الوعد بحمايته صلى الله عليه وسلم من القتل، وهذا لا يمنع من لحوق إيذاء الناس له صلى الله عليه وسلم، فما أصابه صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد، وما أصابه صلى الله عليه وسلم من الشاة المسمومة هو إيذاء من الناس لا يدخل في العصمة الموعود بها. وعليه فإيمان الصحابة بعصمته صلى الله عليه وسلم من القتل لا يتنافى مع خوفهم عليه وفزعهم من أن يناله أذى أو مكروه. أما سبب انصرافه صلى الله عليه وسلم من بين أظهر الصحابة إلى هذا البستان فلم أر نصا فيه، ولعله كان لتبليغ الجن وقراءته عليهم بعض ما نزل فقد تعدد اجتماعه بهم صلى الله عليه وسلم. أما دخول أبي هريرة بستان الأنصار بهذه الطريقة، فقد أثار بحثا فقهيا، وهو: هل يجوز دخول ملك الغير بدون إذنه؟ . فقال بعضهم: نعم يجوز دخول الإنسان ملك غيره بغير إذنه إذا علم أنه يرضى ذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر أبا هريرة على ذلك ولم ينقل أنه أنكر عليه، بل زاد أصحاب هذا الرأي فقالوا: وإن ذلك لا يختص بدخول الأرض، بل يجوز له الانتفاع بأدواته، وأكل طعامه والحمل من طعامه إلى بيته: وركوب دابته، ونحو ذلك من التصرف الذي يعلم أنه لا يشق على صاحبه. قال النووي: هذا هو المذهب الصحيح الذي عليه جماهير السلف والخلف من العلماء. ثم قال: واتفقوا على أنه إذا تشكك لا يجوز التصرف مطلقا فيما تشكك في رضاه به.

وذهب البعض إلى أنه لا يصح الاعتماد على الرضا، لأن الرضا أمر قلبي، وقد يظهر المالك الرضا بسيف الحياء، وفي نفسه حرج وضيق خصوصا في هذه الأيام التي غلب فيها شح النفس، واشتد فيها الحرص والأثرة. وعلى هذا الرأي يمكن الاعتذار عن أبي هريرة بأنه دخل في حالة دهشة بدافع ديني كبير، وهذه ضرورة، والضرورات تبيح المحظورات. وهذا الاعتذار يمكن اعتماده في دخول أبي هريرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بدون إذنه وقد جعل الإذن من أجل البصر. حتى لو قيل: إنه لم يكن يعلم وجوده داخله، فإنه كان من الممكن أن ينادي: يا أهل البستان ويا من بداخله، أتأذن لي بالدخول فأدخل؟ ولعل في قول الرسول صلى الله عليه وسلم بدهشة واستغراب عندما رآه: أبو هريرة؟ .. ما شأنك؟ وفي اعتذار أبي هريرة بالفزع. لعل في ذلك إشارة من الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أنه ما كان ينبغي هذا الفعل واعتذارا من أبي هريرة عنه بالفزع. أما إعطاؤه النعلين فلتكون علامة ظاهرة معلومة عندهم، يعرفون بها أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم ويكون أوقع في نفوسهم، وآكد لهذه البشرى المستبعدة في اعتقادهم، وليس في هذا طعن في قبول خبر أبي هريرة بدون هذه العلامة، فإنه عدل وثقة مقبول الخبر. ولما كان التبشير بالجنة خاصا بمن شهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه. ولما كان أبو هريرة لا يعلم استيقان القلوب، كان المقصود من تبشيره من لقي إخباره أن من كانت هذه صفته فهو من أهل الجنة. وأما دفع عمر لأبي هريرة -رضي الله عنهما -فإنه لم يقصد به سقوطه أو إيذاءه بل قصد رده عما هو عليه، وضرب بيده في صدره ليكون أبلغ في زجره، وليس فعل عمر ومراجعته النبي صلى الله عليه وسلم اعتراضا عليه، أو ردا لأمره، وإنما رأى المصلحة في عدم التبشير خوف الاتكال فتكثر أجورهم، ولذا صوبه النبي صلى الله عليه وسلم. على أن الصادر من النبي صلى الله عليه وسلم ليس أمرا حقيقة، بل كان تطييبا لنفوس الصحابة. وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم منع معاذا (في الحديث السابق) من التبشير العام، وأذن لأبي هريرة بالتبشير لأفراد يأمن عليهم الاتكال، فلما خاف عمر من عدم انحصار الموضوع، وانتشار خطره وافقه الرسول صلى الله عليه وسلم على وجهة نظره، ومنع التبشير الخاص كذلك. ومع أن منع التبشير ليس صريحا هنا فقد جعله العلماء من قبيل تغير الاجتهاد، قال النووي: وقد كان الاجتهاد جائزا له، وواقعا منه صلى الله عليه وسلم عند المحققين وله مزية على سائر المجتهدين بأنه لا يقر على الخطأ في اجتهاده. قال: ومن نفى ذلك، وقال لا يجوز له القول في الأمور الدينية إلا عن وحي. فليس يمتنع أن يكون قد نزل عليه صلى الله عليه وسلم وحي ناسخ للوحي السابق.

والقول بجواز الاجتهاد له صلى الله عليه وسلم في أحكام الدين قول أكثر العلماء مستندين إلى أنه إذا جاز الاجتهاد لغيره فله صلى الله عليه وسلم أولى. وقال جماعة: لا يجوز لأنه قادر على اليقين، وقال بعضهم: كان يجوز في الحروب دون غيرها، وتوقف آخرون في كل ذلك. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم.]- 1 - جلوس العالم لأصحابه يعلمهم ويفيدهم. 2 - حسن الإخبار إذا أريد الإخبار عن جماعة كثيرة يصعب ذكرهم بأسمائهم، فإنه يذكر أشرافهم أو بعض أشرافهم على أنهم بعض الجماعة. 3 - ما كانت عليه الصحابة -رضي الله عنهم- من القيام بحقوق رسول الله صلى الله عليه وسلم وإكرامه والشفقة عليه، والانزعاج البالغ لغيبته المجهولة. 4 - اهتمام الأتباع بحقوق متبوعهم والاعتناء بتحصيل مصالحه ودفع المفاسد عنه. 5 - إرسال الإمام والمتبوع إلى أتباعه بعلامة يعرفونها ليزدادوا بها طمأنينة. 6 - فيه دلالة لأهل الحق في أنه لا ينفع اعتقاد التوحيد دون النطق ولا النطق دون الاعتقاد، وأن الإيمان المنجي من الخلود في النار لا بد فيه من الجمع بين الاعتقاد والنطق. 7 - جواز التعبير بالألفاظ المستهجنة كلفظ "الاست" والأحسن فيما يقبح سماعه استعمال الكناية عنه أو المجاز، إلا أن يكون في التصريح مصلحة راجحة، وبالكناية والأدب الرفيع جاء القرآن كقوله تعالى: {فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله} [البقرة: 222]. 8 - جواز قول الرجل للآخر: بأبي أنت وأمي، وقد كرهه بعض السلف، وقال: لا يفدى بمسلم، لكن الأحاديث الصحيحة، تدل على جوازه، وخصوصا أن الافتداء غير مقصود حقيقة، وإنما المقصود التعبير عن الحب والبر والحنان. 9 - إشارة أهل الفضل والوزراء على الإمام وإن لم يستشرهم، فإن الإمام أو الكبير إذا رأى شيئا، ورأى بعض أتباعه خلافه، فإنه ينبغي للتابع أن يعرضه على المتبوع لينظر فيه. 10 - وقف بعض الأتباع أمر المتبوع مؤقتا حتى يعرضوا عليه ما رأوا. 11 - رجوع الإمام عما رآه إذا ظهرت المصلحة في غيره. 12 - إمساك بعض العلوم التي لا حاجة إليها للمصلحة أو خوف المفسدة. 13 - استدل به بعضهم على وقوع النسخ قبل الفعل، ورد بأن الأمر هنا قد بلغ ولو لواحد. 14 - فيه منقبة ظاهرة لعمر بن الخطاب، وفضيلة لأبي هريرة رضي الله عنهما. والله أعلم

(16) باب صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في بيت عتبان

(16) باب صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في بيت عتبان 54 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: حدثني محمود بن الربيع، عن عتبان بن مالك، قال: قدمت المدينة. فلقيت عتبان. فقلت: حديث بلغني عنك. قال: أصابني في بصري بعض الشيء. فبعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أحب أن تأتيني فتصلي في منزلي. فأتخذه مصلى. قال فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ومن شاء الله من أصحابه. فدخل وهو يصلي في منزلي. وأصحابه يتحدثون بينهم. ثم أسندوا عظم ذلك وكبره إلى مالك بن دخشم. قالوا: ودوا أنه دعا عليه فهلك. وودوا أنه أصابه شر. فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة. وقال "أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ " قالوا: إنه يقول ذلك. وما هو في قلبه. قال "لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فيدخل النار، أو تطعمه" قال أنس: فأعجبني هذا الحديث. فقلت لابني: اكتبه. فكتبه. 55 - عن أنس رضي الله عنه قال: حدثني عتبان بن مالك، أنه عمي. فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: تعال فخط لي مسجدا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء قومه. ونعت رجل منهم يقال له مالك بن الدخشم. ثم ذكر نحو حديث سليمان بن المغيرة. -[المعنى العام]- حديث عتبان بن مالك الصحابي الجليل الأنصاري الخزرجي الذي شهد بدرا، حدث بقوله صلى الله عليه وسلم "لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فيدخل النار أو تطعمه" وسمع هذا الحديث محمود بن الربيع وهو يسكن ضاحية المدينة، فأعجبه، وبعث الرجاء الواسع في نفسه، فجاء المدينة، فالتقى بعتبان فقال له: بلغني عنك حديث وأحب أن أسمعه منك. فأخذ عتبان يسوق ظروف الحديث ومناسبته وقصته، ليتمكن في النفس فضل تمكن وليعين بذلك على فهم الهدف والغاية منه فهما صحيحا، وليثق السامع في ضبطه وكمال تذكره وذكر الملابسات المحيطة به، فقال: كنت إمام قومي، أنتقل عند كل فريضة إلى مسجد محلتهم فأصلي بهم، فرأيت أن بصري جعل يكل، ويسوء شيئا فشيئا، حتى أصبحت أتعثر في طريق المسجد، وحتى أصبح من العسير علي أن

أجتاز الوادي الذي بيني وبينه إذا جاء المطر وسال الوادي، ولم يكن مفر من أن أصلي في بيتي بعض الأوقات، فأردت أن أعوض ما يفوتني من الصلاة في المسجد بالصلاة في مكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وباركه، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله: قد أنكرت بصري، إذ أصابني فيه ضعف شديد، وأنا إمام قومي، فإذا كانت الأمطار وسال الوادي بيني وبينهم لم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلي بهم، ووددت يا رسول الله أنك تأتيني، فتخط لي مكانا في بيتي فتصلي فيه، فأتخذه مصلى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سأفعل إن شاء الله. ولشدة لهفة عتبان ترقب قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفس اليوم، فلما لم يأت أصبح فأعد طعاما له صلى الله عليه وسلم ولمن عساه أن يأتي معه، وبعث إليه رسولا يقول له: يا رسول الله إن عتبان يحب أن تأتيه فتصلي في منزله فيتخذه مصلى. فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حين ارتفع النهار، وانضم إليهما في الطريق عمر، فلما وصلوا المنزل استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن عتبان بالدخول فدخلوا فلم يجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل البيت، ولكنه قال: أين تحب أن أصلي من بيتك؟ فقال عتبان: هنا، وأشار إلى ناحية منه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام من حضر من الصحابة فصفوا، فكبر فصلى بهم ركعتين، ثم جلسوا يتحدثون وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، فتناولوا بحديثهم مالك بن دخشم وهو من قوم عتبان. قال قائل منهم: أين مالك بن الدخشم؟ لماذا لم يحضر الصلاة هنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وقال الآخر: إنه منافق لا يحب الله ورسوله، وقال آخر، إنه يجالس المنافقين ويصغي إليهم، وقال الرابع: ليت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو عليه فيهلك، وقال الخامس: ليته يصاب بمكروه يحول بينه وبين المنافقين. كل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع، فلما قضى الصلاة قال: لا تقولوا هذا القول في شأن مالك بن الدخشم. أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قالوا: إنه يشهد بلسانه دون قلبه، فإنا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين. قال: ألا ترونه قد قال: لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال صلى الله عليه وسلم: لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فيدخل النار أو تطعمه النار. وحدث محمود بن الربيع أنس بن مالك بهذا الحديث فسر به واستبشر، وقال لابنه: اكتبه، فكتبه، فأخذ أنس يحدث به. رضي الله عنهم ومن اهتدى بهم إلى يوم الدين. -[المباحث العربية]- (عن أنس بن مالك قال: حدثني محمود بن الربيع عن عتبان بن مالك قال: قدمت

المدينة) تقدير السند في الأصل: قال أنس: حدثني محمود بن الربيع عن عتبان بحديث قال فيه محمود: قدمت المدينة ... إلخ. وفي الرواية الثانية "عن أنس قال: حدثني عتبان بن مالك" وجمع بين الروايتين باحتمال أن أنسا سمع الحديث مرة من محمود بن الربيع، ومرة أخرى من عتبان. (حديث بلغني عنك) أي جاء بي إليك حديث بلغني عنك، يبشر الموحد بالجنة، فأخبرني به. (قال: أصابني في بصري بعض الشيء) وفي رواية "جعل بصري يكل" وفي رواية "لما ساء بصري" فهذه الروايات تدل على أنه لم يكن قد عمي كلية، لكن جاء في الرواية الثانية "حدثني عتبان أنه عمي" وفي رواية للبخاري في باب الرخصة في المطر "قال محمود: إن عتبان كان يؤم قومه وهو أعمى" ففي هاتين الروايتين تصريح بأنه عمي بالفعل. وجمع الحافظ ابن حجر بينهما بأن قول محمود: إن عتبان كان يؤم قومه وهو أعمى، أي حين لقيه محمود وسمع منه الحديث لا حين سؤاله النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنى هذا أن عتبان حين طلب الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن قد تم عماه، ويعكر على هذا الجمع رواية البخاري، وفيها أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم "إنها تكون الظلمة والسيل، وأنا رجل ضرير البصر". وجمع بينهما بعضهم باحتمال أنه أراد ببعض الشيء، وسوء البصر، أراد العمى، وهو ذهاب البصر جميعه مجازا، أو باحتمال أنه أراد بالعمى ضعف البصر، وذهاب معظمه، وسماه "عمى" لقربه منه، ومشاركته إياه في فوت بعض ما كان حالا في حال السلامة، وهذا الاحتمال حري بالقبول. (ثم أسندوا عظم ذلك وكبره إلى مالك بن دخشم) "عظم" الشيء بضم العين وإسكان الظاء معظمه، "وكبره" بضم الكاف وكسرها لغتان فصيحتان مشهورتان، والإشارة إلى ما تحدثوا عنه، أي تحدثوا وذكروا شأن المنافقين وأفعالهم القبيحة، وما يلقون منهم، ونسبوا معظم ذلك إلى مالك بن دخشم. بضم الدال وإسكان الخاء وضم الشين، وفي رواية بالنون بدل الميم. (ودوا أنه دعا عليه فهلك) ضمير اسم "أن" يرجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. (وودوا أنه أصابه شر) وفي بعض الروايات "أصابه بشر" بزيادة الباء الجارة، وفي بعضها "أصابه بشيء" قال النووي: وكله صحيح. (وما هو في قلبه) الضمير يعود على المشار إليه، وهو الشهادة، والجملة في محل النصب حال. (فخط لي مسجدا) أي علم لي على موضع لأجعل صلاتي فيه متبركا بآثارك.

(وجاء قومه) أي قوم عتبان لاستقبال رسول الله صلى الله عليه وسلم في محلتهم والتشرف بلقائه في ديارهم والحفاوة به. (ونعت رجل منهم) أي وصف بأوصاف وتحدث فيه. -[فقه الحديث]- تدل روايات مسلم للحديث على أن عتبان أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذهب إليه بنفسه، وتدل روايات البخاري له على أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وشكا إليه ما أصابه وطلب منه حضوره إلى بيته، وقد جمع بين الروايات باحتمال أنه أسند إتيان رسوله إلى نفسه مجازا، وقال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أنه أتاه مرة وبعث إليه أخرى، كما جاء في رواية مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أتى ومن شاء من أصحابه، وجاء في رواية أنه أتى ومعه أبو بكر وعمر، وفي رواية "في نفر من أصحابه" وإذا لم يكن بين رواية مسلم وبين هذه الروايات تعارض كان بين بعضها والبعض الآخر تعارض من حيث الظاهر، فرواية "ومعه أبو بكر" ورواية "ومعه أبو بكر وعمر" لا تتفق مع رواية "في نفر من أصحابه" فالنفر يطلق على الثلاثة فما فوقها إلى العشرة، وللجمع بينهما يمكن أن يقال: ليس في رواية معية أبي بكر أو معية أبي بكر وعمر قصر يمنع من دخول الغير، ويكون ذكرهما أو ذكر أحدهما اقتصارا من الراوي. وقال الحافظ ابن حجر: يحتمل الجمع بأن أبا بكر صحبه في ابتداء التوجه، ثم عند الدخول أو قبله اجتمع عمر وغيره من الصحابة فدخلوا معه، اهـ. . وهذا الجمع بعيد، لأن لفظ المعية من الكل مقيدا به الإتيان يجعل التوزيع صعبا، والأولى الجمع الأول. وظاهر رواية مسلم أن تحدث الصحابة في مالك بن دخشم كان أثناء صلاته صلى الله عليه وسلم، وبه استدل بعضهم على جواز الكلام والتحدث بحضرة المصلين ما لم يشغلهم ويدخل عليهم الفساد في صلاتهم، ثم قال: وهذا في غير المسجد، وما لم يكن أحد المتحدثين عن يمين المصلي والآخر عن شماله. لكن رواية البخاري تدل على أن التحدث كان بعد الصلاة إذ جاء فيها "فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر، فقمنا فصففنا، فصلى ركعتين ثم سلم، قال: وحبسناه على خريزة - لحم ودقيق مطبوخ في ماء - صنعناها له، قال: فثاب في البيت رجال من أهل الدار، ذوو عدد، فاجتمعوا فقال قائل منهم: أين مالك؟ إلخ. ويمكن الجمع بأن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى بهم ركعتين، ثم قام يصلي وحده وهم جلوس فتكلموا أثناء صلاته صلى الله عليه وسلم، فلما قضى صلاته رد عليهم. وقد يرى المرء أن تمادي الصحابة في تناول مالك لم يكن ينبغي بعد كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ورده عليهم،

ولكن لعلهم فهموا من كلامه صلى الله عليه وسلم (خصوصا وقد ورد بأسلوب الاستفهام) أنه لا يجزم بذلك، فقالوا على جهة التنبيه والنصيحة: إنه يقول ذلك وما هو في قلبه. ومستندهم في ذلك تخلفه عن هذا المجلس، وهذا المشهد الكثير البركة، وعدم ظهور فرحه بمجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ديارهم، وعدم المبادرة إلى لقائه، بالإضافة إلى ما لاحظوه عنه من تردده على المنافقين وإصغائه إلى حديثهم. ولم يوافقهم صلى الله عليه وسلم، فقد يكون له عذر فيما رأوا خصوصا وهو من أهل بدر، وقد علمت شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل بدر عامة بأن الله قد غفر لهم. قال النووي: وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على إيمانه باطنا، وبراءته من النفاق في رواية البخاري بقوله: "ألا تراه قال: لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله؟ ". وقد ظهر في حسن إسلام مالك بن دخشم ما يمنع من اتهامه بالنفاق، ففي البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه ومعن بن عدي فجرفا مسجد الضرار، وما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يختاره لهذه المهمة وهو من المنافقين. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - مدى حرص الصحابة على تتبع الأحاديث والانتقال إلى راويها الأول لسماعها منه. 2 - إخبار المرء عن نفسه بما فيه من عاهة، ولا يكون ذلك من الشكوى. 3 - التبرك بآثار الصالحين، ويمكن أن تكون خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم. 4 - جواز استدعاء المفضول للفاضل لمصلحة تعرض. 5 - إجابة الفاضل دعوة المفضول. 6 - زيارة العلماء والفضلاء والكبراء أتباعهم، وأنه من دعي منهم أجاب إذا أمن من الفتنة. 7 - استصحاب الزائر بعض أصحابه إذا علم أن المستدعي لا يكره ذلك. 8 - اجتماع أهل الجهة لملاقاة الإمام أو العالم إذا ورد منزل بعضهم ليستفيدوا منه ويتبركوا به. 9 - افتقاد من غاب عن الجماعة. 10 - ذكر من يتهم بريبة أو نحوها للأئمة وغيرهم للتحرز منه، ولا يعد ذلك غيبة. 11 - أن على الإمام أن يتثبت من ذلك، ويحمل الأمر فيه على الوجه الجميل. 12 - أن من نسب من يظهر الإسلام إلى النفاق ونحوه بقرينة تقوم عنده لا يكفر بذلك ولا يفسق، بل يعذر بالتأويل. 13 - الذب عن ذكره بسوء وهو بريء منه.

14 - جواز اتخاذ موضع معين للصلاة، وأما النهي عن إيطان موضع معين من المسجد فمحمول على ما إذا استلزم رياء ونحوه. 15 - فيه الصلاة في الدور، وأنه لا بأس أن يجعل الرجل محرابا في بيته، وهل له حرمة المسجد أو لا؟ خلاف. 16 - أن المسجد المتخذ في البيوت لا يخرج عن ملك صاحبه بخلاف المسجد المتخذ في المحلة. 17 - جواز تمني هلاك أهل النفاق والشقاق ووقوع المكروه بهم. 18 - حسن خلقه صلى الله عليه وسلم وتواضعه مع جلالة قدره وعلو منزلته. 19 - البدء بالأهم، فقد بدأ صلى الله عليه وسلم في هذه القصة بالصلاة، لأنها أصل الدعوة، وبدأ بالطعام في قصة مليكة لأنه كان أصل الدعوة. 20 - أنه لا يدخل النار من شهد أن لا إله إلا الله. وقد سبق تفصيله وبيان الآراء والتوجيهات الخاصة به في أول حديث بالباب. 21 - جواز كتابة الحديث وغيره من العلوم الشرعية، وأجيب عن النهي عن كتابة الحديث بأنه كان خوفا من اختلاطه بالقرآن، ولئلا يتكل الصحابة على الكتابة، ويفرطوا في الحفظ مع التمكن منه. وكان بين الصحابة والتابعين خلاف في جواز كتابة الحديث، وكرهها كثير منهم، ثم استقر الإجماع وانعقد على جواز كتابته، بل على استحبابها، بل لا يبعد وجوبها على من خشي النسيان ممن يتعين عليه التبليغ. 22 - ويؤخذ من رواية البخاري من قوله: "قد أنكرت بصري وأنا أصلي لقومي" جواز إمامة الأعمى. 23 - وأنه كان في المدينة مساجد للجماعة سوى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. 24 - وأن التخلف عن الجماعة جائز للعذر. 25 - ويؤخذ من قوله في رواية البخاري أيضا "فقام صلى الله عليه وسلم فكبر، فقمنا فصففنا، فصلى ركعتين ثم سلم" يؤخذ من هذه الفقرة صلاة النافلة في جماعة. 26 - وصلاة الجماعة في البيوت. 27 - وأن السنة في نوافل النهار ركعتان كالليل. 28 - وأن الإمام إذا زار قوما أمهم، وأما قوله صلى الله عليه وسلم "من زار قوما فلا يؤمهم، وليؤمهم رجل منهم" فإنه مقيد بما إذا لم يكن الزائر هو الإمام الأعظم، وكذا من أذن له صاحب المنزل، وقال إسحق: لا يصلي أحد لصاحب المنزل وإن أذن له صاحب المنزل، وكأنه يجعل صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم وإمامته لصاحب المنزل من باب خصوصياته صلى الله عليه وسلم، وقال مالك: يستحب لصاحب المنزل إذا حضر فيه من هو أفضل منه أن يقدمه للصلاة.

29 - يؤخذ من رواية البخاري من قوله صلى الله عليه وسلم "إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله" الرد على غلاة المرجئة القائلين بأنه يكفي في الإيمان النطق من غير اعتقاد. 30 - ومن قول عتبان في رواية البخاري: "وحبسناه على خريزة صنعناها له" إكرام العلماء والفضلاء إذا دعوا. والله أعلم

(17) باب طعم الإيمان

(17) باب طعم الإيمان 56 - عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا". -[المعنى العام]- للإيمان حلاوة تحسها قلوب المتقين، وتتلذذ بها أفئدة الأبرار، وتذوب في سعادتها مشاعر المقربين. نعم: للإيمان شعب وأمور، وبمقدار تحصيل شعبه، والمحافظة على تعاليمه تكون درجة تذوق المؤمن للإيمان ودرجة تمتعه بها. وأول مراتبه أن يمس شغاف القلوب، فيتذوق صاحبه حلاوته، كما يتذوق اللسان حلاوة الطعام أول لمسه طرف اللسان، فليس الإيمان بالتمني والانتساب وما يتشدق به من الألفاظ، وإنما الإيمان الحقيقي ما وقر في القلب وسكنت إليه النفس، نعم أول منازل الإيمان الصادق أن يرضى صاحبه بالله وحده ربا، ويعزف عن الأصنام، وعن كل ما يعبد من دون الله سبحانه وتعالى، ويرضى بالإسلام وحده دينا، ويتبرأ من كل دين يخالف دين الإسلام، ويرضى بمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا لجميع البشر، وخاتما للأنبياء وناسخا لشرائع السابقين. بهذا الرضا، وبهذا الاعتقاد، وبهذا اليقين الذي لا يتطرق إليه الشك يتذوق المرء حلاوة الإيمان، ويحصل المرتبة الأولى من مراتب الصادقين في إيمانهم، وعليه أن يسعى لتحصيل المراتب العليا، باتباع الواجبات والبعد عن المنهيات ليتمتع بحلاوته، بل عليه أن يتدرج في مدارج الكمال، فيسلك طريق المعرفة، وينخرط في بحار الخشية، ويذوب في ساحة القرب، حتى يكون الله سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وحينئذ يصل إلى درجة الشبع من الإيمان والسعادة به وبأموره في الدنيا، وإلى مقاعد الصديقين في الجنات العلى، {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم} [الجمعة: 4]. -[المباحث العربية]- (ذاق طعم الإيمان) الذوق مبدأ إدراك الطعم، وقد شبه الإيمان بالثمرة أو بمطعوم

حلو، ثم أثبت للمشبه لازم المشبه به، وهو الطعم على سبيل الاستعارة التخييلية، والذوق كناية عن الإدراك. (من رضي بالله ربا) الرضا بالشيء قد يكون بمعنى القناعة به، وقد يكون بمعنى الإيثار له وتفضيله عما عداه، وسيأتي في فقه الحديث آراء العلماء في حقيقة الرضا على الله تعالى. -[فقه الحديث]- اختلف العلماء في درجة الإيمان المقصودة بالحديث، فذهب بعضهم إلى أنه يشير إلى كمال الإيمان وغايته، وذهب آخرون إلى أنه يشير إلى أول درجاته ومبدئه. ووجهة نظر الأولين أن من لم يطلب غير الله، ولم يسع في غير طريق الإسلام، ولم يسلك إلا ما يوافق شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، من كانت هذه صفته فقد خلصت حلاوة الإيمان إلى قلبه، وخامر باطنه وذاق طعمه، واستغرق في الطاعات ولذت له، لأن من رضي أمرا سهل عليه معالجته. فهذا الفريق يفسر الرضا بالإيثار (وهو تفسير صحيح) ولا شك أن من يؤثر الله على جميع من عداه، ويؤثر الإسلام على جميع الشرائع، ويؤثر طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم على طاعة غيره من النفس والهوى والشيطان، فقد وصل إلى درجة الخواص واستحلى الإيمان، وذاق طعمه. ووجهة نظر الأخيرين أنه لو أريد من الحديث غاية الإيمان وكماله لم يعبر عنهما بالذوق، إذ لا يعبر عن غاية الشيء بمبدئه، لأن الذوق مبدأ الفعل. ويدفع الأولون هذا الإيراد بأن كون الذوق مبدأ الفعل إنما هو إذا استعمل في المحسوسات كذوق الطعام، أما إذا استعمل في المعاني كما هنا فقد صح أن يكون كناية عن كمال الإدراك. ويتمثل هذا الرأي في جماعة الصوفية الذين يحملون الرضا بالله ربا على الرضا عن الله وعن جميع أوامره وعن جميع أفعاله، فيفسره الجنيد بأنه رفع الاختيار، ويفسره المحاسبي بأنه سكون النفس تحت مجاري القدر. ويفسره النووي: بأنه السرور بمر القضاء. ويفسره الداراني بأنه بلوغ المرء درجة يرضى بها عن الله حتى لو أدخله النار. والذي ترتاح إليه النفس أن الحديث يشير إلى مبدأ الإيمان، منبها إلى أن هذه الأمور الثلاثة وإن اقتضت الذوق فليست هي الكمال، وليس الذوق هو غاية المقصود الذي يقف عنده الكيس، بل هو مبدأ للترقي في المقامات وشدة الشوق إلى نيل الذروة، والحرص على الشبع. ويؤيد ذلك إبدال كلمة الذوق بالوجود، وكلمة الطعم بالحلاوة، حيثما حصل الترقي في

شعب الإيمان في قوله صلى الله عليه وسلم "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما: وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار". وسيأتي لهذا الموضوع بقية توضيح بعد أربعة أحاديث. والله أعلم

(18) باب الحياء شعبة من الإيمان

(18) باب الحياء شعبة من الإيمان 57 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان بضع وسبعون شعبة والحياء شعبة من الإيمان". 58 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون، أو بضع وستون شعبة. فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. والحياء شعبة من الإيمان". -[المعنى العام]- الإيمان كالشجرة، تطلق على الجذر والجذع، كما تطلق عليهما مع الفروع والأغصان والأوراق والأزهار والثمار، كذلك يطلق الإيمان على التصديق بالقلب، وعليه مع الأعمال الصالحة، وإذا كانت الشجرة لا تؤتي أكلها، ولا يكمل نفعها إلا بما حمل جذرها وجذعها فإن الإيمان كذلك، لا يكون منجيا من النار، إلا بما أوجبه واستلزمه من صالح الأعمال. وإذا كانت الشجرة تتشعب شعبا مختلفة، بعضها أغلظ من بعض، وبعضها أساس لغيره وبعضها أهم وأنفع من الشعب الأخرى، فإن الإيمان الكامل كذلك، يبدأ بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتتدرج أوامره ومطالبه من الأهم إلى المهم، ومن المهم إلى ما هو دونه، حتى ينتهي بإزاحة الشوك من طريق المسلمين، وإزالة كل ما من شأنه إيذاء المارة أو الإضرار بهم، أما الحياء، أما انقباض النفس عن إتيان الفعل القبيح، فهو من أهم خصال الإيمان، لأنه الباعث والداعي لكثير من صفات الخير، وهو المانع والحاجز عن كثير من مزالق الشر والفساد -[المباحث العربية]- (الإيمان) الكامل المنجي من النار، والمحقق للأهداف والأغراض. (بضع وسبعون) البضع بكسر الباء، والبضعة القطعة، ومن العدد ما بين الاثنين والعشرة، على الصحيح، ويجري عليه حكم العدد فيذكر مع المعدود المؤنث، ويؤنث مع المعدود المذكر، ويبنى

مع العشرة كما يبنى سائر الآحاد، فيقال، بضعة عشر رجلا، وبضع عشرة امرأة، ويعطف عليه العشرون والثلاثون إلى التسعين، ولا يقال: بضع ومائة، ولا بضع وألف. (شعبة) بضم الشين، أي خصلة، منصوب على التمييز، وأصل الشعبة الفرقة والطائفة من الشيء، ومنه شعب القبائل. (والحياء) هو الاستحياء، واشتقاقه من الحياة، وهو تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به، ويذم عليه، وقد يعرف بأنه انحصار النفس خوف ارتكاب القبائح، وقد يطلق على مجرد ترك الشيء لسبب، والحقيقة أن الترك من لوازمه، وإنما هو دهشة تكون سببا لترك الشيء. قال الواحدي: استحيا الرجل من قوة الحياة فيه، لشدة علمه بمواقع الغيب، قال: فالحياء من قوة الحس ولطفه وقوة الحياة" اهـ. (شعبة من الإيمان) أي خصلة عظيمة، فالتنوين للتعظيم والتفخيم، والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة. (بضع وسبعون، أو بضع وستون) شك من الراوي، وهو في بعض طرق الترمذي "بضع وسبعون" من غير شك. (فأفضلها) الفاء فصيحة، أي إذا تدرجت شعب الإيمان فأفضلها، وفي رواية ابن ماجه "فأرفعها" وفي رواية "أعلاها". (لا إله إلا الله) محمد رسول الله، فإن الشهادتين متلازمتان شرعا، فإذا ذكرت إحداهما أريدت معها الأخرى. (وأدناها) من الدنو بمعنى القرب، أي أقلها طلبا وأجرا ومنزلة. (إماطة الأذى عن الطريق) أي إزالة الأذى، والمراد من الأذى ما من شأنه أن يؤذي، حصل به الإيذاء بالفعل أولا. وفي رواية "أدناها إماطة العظم عن الطريق". -[فقه الحديث]- قال القاضي عياض: تكلف جماعة حصر هذه الشعب بطريق الاجتهاد، وفي الحكم بكون ذلك هو المراد صعوبة، ولا يقدح عدم معرفة حصر ذلك على التفصيل في الإيمان. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: ولم يتفق من عد الشعب على نمط واحد. ثم لخص ما أوردوه فقال: إن هذه الشعب تتفرع عن أعمال القلب وأعمال اللسان، وأعمال البدن. فأعمال القلب فيه المعتقدات والنيات، وتشتمل على أربع وعشرين خصلة، الإيمان بالله (ويدخل

فيه الإيمان بذاته، وصفاته، وتوحيده وبأن ليس كمثله شيء، واعتقاد حدوث ما دونه) والإيمان بملائكته وكتبه، ورسله، والقدر خيره وشره، والإيمان باليوم الآخر (ويدخل فيه المسألة في القبر، والبعث، والنشور، والحساب، والميزان، والصراط، والجنة والنار) ومحبة الله، والحب والبغض في الله، ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم، واعتقاد تعظيمه (ويدخل فيه الصلاة عليه، واتباع سنته) والإخلاص (ويدخل فيه ترك الرياء والنفاق) والتوبة، والخوف والرجاء والشكر، والوفاء والصبر، والرضا بالقضاء، والتوكل، والرحمة، والتواضع (ويدخل فيه توقير الكبير، ورحمة الصغير، وترك الكبر والعجب) وترك الحسد، وترك الحقد، وترك الغضب. وأما أعمال اللسان فتشتمل على سبع خصال: التلفظ بالتوحيد وتلاوة القرآن، وتعلم العلم وتعليمه، والدعاء والذكر (ويدخل فيه الاستغفار واجتناب اللغو). وأما أعمال البدن فتشتمل على ثمان وثلاثين خصلة: منها ما يختص بالأعيان، وهي خمس عشرة خصلة: التطهير حسا وحكما (ويدخل فيه اجتناب النجاسات) وستر العورة والصلاة فرضا ونفلا، والزكاة كذلك، وفك الرقاب، والجود (ويدخل فيه إطعام الطعام وإكرام الضيف) والصيام فرضا ونفلا، والحج والعمرة كذلك، والطواف والاعتكاف والتماس ليلة القدر، والفرار بالدين (وتدخل فيه الهجرة من دار الشرك) والوفاء بالنذر والتحري في الأيمان، وأداء الكفارات. ومنها ما يتعلق بالاتباع، وهي ست خصال: التعفف بالنكاح، والقيام بحقوق العيال وبر الوالدين (ويدخل فيه اجتناب العقوق) وتربية الأولاد، وصلة الرحم، وطاعة السادة والرفق بالعبيد. ومنها ما يتعلق بالعامة، وهي سبع عشرة خصلة: القيام بالإمرة مع العدل، ومتابعة الجماعة، وطاعة أولي الأمر، والإصلاح بين الناس (ويدخل فيه قتال الخوارج والبغاة) والمعاونة على البر (ويدخل فيه الأمر بالمعروف) والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، والجهاد (ومنه المرابطة) وأداء الأمانة (ومنه أداء الخمس والقرض مع وفائه) وإكرام الجار، وحسن المعاملة (وفيه جمع المال من حله) وإنفاق المال في حقه (ومنه ترك التبذير والإسراف) ورد السلام، وتشميت العاطس وكف الأذى عن الناس، واجتناب اللهو، وإماطة الأذى عن الطريق. فهذه تسع وستون خصلة، ويمكن عدها تسعا وسبعين خصلة باعتبار أفراد ما ضم بعضه إلى بعض مما ذكر. اهـ. وبفحص ما لخصه الحافظ ابن حجر نرى أن بعضه يتداخل في بعض كطاعة أولي الأمر وطاعة السادة، وكالقيام بحقوق العيال، وتربية الأولاد. ثم نرى أنه لم يذكر في الشعب "الحياء" الذي نص عليه في الحديث، بل هو المقصود الأول منه. ثم نرى أنه اعتمد رواية: "بضع وستون" مع أن الحليمي والنووي والقاضي عياض رجحوا رواية: "بضع وسبعون" لأنها زيادة من ثقة فقبلت وقدمت، وليس في رواية الأقل ما يمنعها، ولعل الحافظ ابن حجر مال إلى ما ذهب إليه ابن الصلاح من ترجيح الأقل "بضع وستون" لأنه المتيقن، وهذا كله مبني على أن العدد له حقيقة محددة مرادة، وبهذا قيل.

وذهب جماعة إلى أن العدد أريد به التكثير دون التحديد، كما في قوله تعالى: {إن تستغفر لهم سبعين مرة} [التوبة: 80] ويكون ذكر البضع للترقي، والعرب تستعمل السبعة للتكثير في الآحاد، ومنه قوله تعالى: {سبع سنابل} [البقرة: 261]، وقوله: {والبحر يمده من بعده سبعة أبحر} [لقمان: 27]. فيكون المعنى أن شعب الإيمان أعداد مبهمة، ولا نهاية لكثرتها، ويرجح هذا الرأي أنه أبهم بذكر البضع، ولو أريد التحديد لم يبهم. فإن قيل: أصل الإيمان في اللغة التصديق، وفي الشرع تصديق القلب واللسان، فما وجه كون الحياء شعبة من الإيمان؟ أجيب بأن ظواهر الشرع تطلقه أيضا على الأعمال، ومنه هذا الحديث، وقال النووي: كمال الإيمان بالأعمال، وتمامه بالطاعات، وأن التزام الطاعات وضم هذه الشعب من جملة التصديق ودلائل عليه وأنها خلق أهل التصديق، فليست خارجة عن اسم الإيمان الشرعي ولا اللغوي. اهـ. فإن قيل: لم خص الحياء بالذكر من بين الشعب؟ أجيب بأنه الباعث على أفعال الخير الحاجز عن أفعال المعاصي، فله أهمية خاصة ومزيد عناية داعية، إذ الحيي يخاف فضيحة الدنيا والآخرة، فيأتمر وينزجر، فإن قيل: إن الحياء من الغرائز، فكيف جعل شعبة من الإيمان؟ أجيب بأنه قد يكون غريزة، وقد يكون تخلقا، وعلى كل فاستعماله على وفق الشرع يحتاج إلى اكتساب وعلم ونية، فلهذا جعل من الإيمان. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - تفاوت مراتب الإيمان. 2 - أن الإيمان قول وعمل، وفيه الرد على المرجئة القائلين بأن الإيمان قول بلا عمل. 3 - أن الأعمال مع انضمامها إلى التصديق داخلة في مسمى الإيمان. 4 - الحث على التخلق بالحياء. 5 - الحث على إماطة الأذى من طريق المسلمين. 6 - مسئولية الفرد نحو المجتمع، فإن إماطة الأذى من التعاون والتكافل الاجتماعي ودفع الضرر عن أفراده، وحمايته من الوقوع في الخطر والضرر. والله أعلم

(19) باب الحياء من الإيمان

(19) باب الحياء من الإيمان 59 - عن سالم، عن أبيه، سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يعظ أخاه في الحياء فقال "الحياء من الإيمان". 60 - وعن الزهري بهذا الإسناد. وقال: مر برجل من الأنصار يعظ أخاه. -[المعنى العام]- في بعض طرق المدينة، مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخوين من الأنصار. يعاتب أحدهما أخاه على تهاونه في استيفاء حقه، وينصحه أن يخفف من حيائه، وأن يتخلق بشيء من الحزم والشدة في مواجهة خصومه، ويعظه ويبين له أضرار فرط الحياء خصوصا أمام من لا يستحي ولا يقدر أهل الاستحياء. وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم كلام الناصح، ورأى استحياء أخيه وسكوته، وإطراقه، وغض طرفه واحمرار وجهه. إنه صلى الله عليه وسلم يعلم إيمان الموعوظ، ويعلم الكثير من صفاته الحميدة، ويعلم أن دوافع انقباضه عن أخذ حقه هي الخشية من ارتكاب القبيح الذي يكرهه، ليس جبنا، ولا خورا، ولا ضعفا ولا استكانة، ولا ذلة. فوجه صلى الله عليه وسلم لومه للائم، وعتبه للمعاتب، ونصحه للناصح وزجره للزاجر، فقال له: دع أخاك على خلقه الحميد، وصفته الطيبة وخصلته الشرعية، فإن مثل هذا الحياء أثر من آثار الإيمان، ولئن منع من استيفاء حق من حقوق الدنيا فإنه يحصل على ما هو خير منه، ويحقق أجرين: أجر الصبر على جهل الجاهل، وافتراء المفتري، وأجر الحق الذي لا يضيع عند أحكم الحاكمين. -[المباحث العربية]- (عن سالم عن أبيه سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا) تقدير الكلام: روي عن سالم عن أبيه عبد الله بن عمر أنه قال: سمع النبي رجلا، فجملة "سمع النبي رجلا" مقول لقول محذوف.

وقد وصف الرجل في الرواية الثانية بأنه من الأنصار، ولم يقف الحفاظ على اسم الرجل، ولا على اسم أخيه. (يعظ أخاه في الحياء) أي ينصح، أو يخوف، أو يذكر، وجاء في رواية للبخاري في الأدب "يعاتب أخاه في الحياء" يقول "إنك لتستحي حتى كأنه يقول: قد أضربك". والعتب لوم على الماضي، والنصح والوعظ والتذكير تنبيه على خير المستقبل، ودعوة إليه، قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون قد جمع له العتاب والوعظ، فذكر بعض الرواة ما لم يذكره الآخر، ولكن المخرج متحد. والظاهر أن الأخ أخ من النسب، لأنه الأصل عند الإطلاق، ولا قرينة تمنعه و"في" سببية، أي يعظ أخاه بسبب كثرة حيائه، التي أدت إلى ضياع حقوقه. (الحياء من الإيمان) أي أثر من آثاره، أو شعبة من شعبه، كما مر في الحديث السابق، وهذه الجملة علة لنهي الواعظ، ومنعه من استمرار عتبه، وقد ورد التصريح بالردع والعلية في رواية البخاري، حيث جاء فيها "دعه فإن الحياء من الإيمان". (مر برجل) "مر" بمعنى اجتاز ويقال: مر به، ومر عليه. (من الأنصار) متعلق بمحذوف صفة لرجل، و"ال" في "الأنصار" للعهد، أي أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم -[فقه الحديث]- يعلم مما مر في الحديث السابق، ومما سيأتي في الحديث اللاحق. والله أعلم.

(20) باب الحياء خير كله

(20) باب الحياء خير كله 61 - عن قتادة، قال: سمعت أبا السوار يحدث، أنه سمع عمران بن حصين يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "الحياء لا يأتي إلا بخير" فقال بشير بن كعب: إنه مكتوب في الحكمة: أن منه وقارا ومنه سكينة. فقال عمران: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثني عن صحفك. 62 - عن إسحاق أن أبا قتادة حدث قال: كنا عند عمران بن حصين في رهط منا. وفينا بشير بن كعب. فحدثنا عمران يومئذ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الحياء خير كله" قال أو قال "الحياء كله خير" فقال بشير بن كعب: إنا لنجد في بعض الكتب أو الحكمة أن منه سكينة ووقارا لله. ومنه ضعف. قال فغضب عمران حتى احمرتا عيناه. وقال ألا أراني أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعارض فيه؟ قال فأعاد عمران الحديث. قال فأعاد بشير. فغضب عمران. قال، فمازلنا نقول فيه: إنه منا يا أبا نجيد! إنه لا بأس به. -[المعنى العام]- في مجلس من مجالس العلم والوعظ حدث عمران بن حصين، يرغب في الحياء، ويدعو إلى التخلق به، حدث بقول النبي صلى الله عليه وسلم "الحياء لا يأتي إلا بخير"، "الحياء خير كله"، "الحياء كله خير". وفي القوم بشير بن كعب، وكان على علم ببعض الكتب السابقة، وكتب الحكمة وكان فيما علم أن الحياء منه الممدوح، وهو الناشئ عن السكينة والوقار لله، ومنه المذموم وهو الناشئ عن الضعف والخور، فأشكل عليه الحديث، فقال لعمران: كيف نوفق بين الحديث وبين ما جاء في كتب الحكمة أن من الحياء وقارا، ومنه ضعفا؟ . وغضب عمران من بشير، لمقابلته الحديث بالحكمة، ولوضعه ما في الكتب الأخرى في صف واحد مع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخاف أن يتطرق الشك في الحديث لمن في قلبه ريب ونفاق إذا سمع بهذه الحكمة.

وأراد أن يصون السنة عن أن يذكر معها غيرها، فقال لبشير: لا أحب أن أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث، فتعارض فيه بأي قول آخر. ثم أعاد عمران الحديث، وهو مغضب مكفهر الوجه، محمر العينين. وأخذت بشير العزة والحمية، فإن في قول عمران طعنا لعقيدته، وفهمه وتصرفه، وما قصد بكلامه الغض من شأن السنة، ولا معارضتها بقول أحد، وإنما قصد أن يفهم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه يتمشى مع ما هو معروف من إطلاق الحياء أحيانا على ما لا خير فيه. فلم يخش ثورة عمران، ولا احمرار عينيه، فأعاد قولته السابقة: إنا لنجد في بعض الكتب أو الحكمة أن منه سكينة ووقارا لله، ومنه ضعف، فاستشاط عمران غيظا، وانتفخت أوداجه، وتحركت أعضاؤه، وكاد يمسك ببشير أو يخرجه من مجلسه، وبشير لا يتحرك. أما الجلساء فقد أخذوا يهدئون من روع عمران ويطمئنونه على حسن قصد بشير وعلى صحة عقيدته، يقولون: رفقا يا أبا نجيد، عفوا يا أبا نجيد، إحسانا يا أبا نجيد، إن بشيرا منا معشر المقدسين للسنة، المصدقين بكل ما جاءت به، إنه غير متهم في دينه، وليس من أهل البدع والأهواء، حتى هدأ عمران. -[المباحث العربية]- (إنه مكتوب في الحكمة) اسم "إن" ضمير الحال والشأن. (أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثني عن صحفك) الكلام على تقدير همزة الاستفهام الإنكاري التوبيخي، أي لا يليق ولا يصح أن أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثني عن صحفك. (كنا عند عمران في رهط) الرهط ما دون العشرة من الرجال خاصة لا يكون فيهم امرأة، وليس له واحد من لفظه، وجمعه أرهط، وأرهاط وأراهط، وأراهيط، والجار والمجرور "في رهط" متعلق بمحذوف حال من اسم كان، أو من الضمير المستكن في خبرها. (وفينا بشير) بضم الباء وفتح الشين، مبتدأ مؤخر، وخبر مقدم، والجملة في محل النصب على الحال، من الضمير المستكن في خبر كان. (حتى احمرتا عيناه) هو في كل الأصول بألف "احمرتا" قال النووي: وهو صحيح جار على لغة أكلوني البراغيث، ومثله {وأسروا النجوى الذين ظلموا} [الأنبياء: 3] على أحد المذاهب فيها، ومثله "يتعاقبون فيكم ملائكة" وأشباهه كثيرة معروفة، ورويناه في سنن أبي داود "واحمرت عيناه" من غير ألف، وهذا ظاهر. اهـ. (ألا أراني أحدثك) "ألا" حرف تنبيه، و"أحدثك" في محل المفعول الثاني لأرى، والتقدير: أراني محدثك.

(وتعارض فيه) الجملة في محل النصب على الحال من فاعل "أحدثك" والضمير المجرور في "فيه" يعود على الحديث المفهوم من "أحدثك" والتقدير: أراني محدثك حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حالة معارضتك في هذا الحديث، والمقصود إنكار المعارضة بكلام مقابل مخالف. (فأعاد بشير) مفعوله محذوف، للعلم به، أي أعاد بشير مقالته. (ومنه ضعف) بالرفع، مبتدأ مؤخر، والجار والمجرور خبر مقدم، وهو من عطف الجمل، ويجوز في ضاد "ضعف" الفتح والضم، لغتان مشهورتان. (إنه منا) ضمير اسم "إن" لبشير، ومعنى "إنه منا" أي من عقيدتنا واستقامتنا، وليس ممن يتهم بنفاق أو زندقة. (إنه لا بأس به) أي لا طعن فيه باتباع أهل الهوى والبدعة، حتى يحمل كلامه على معارضة السنة. -[فقه الحديث]- الشبهة الواردة على الحديث هي ما قد يقال: رب حياء يمنع عن قول الحق أو فعل الخير، كأن يحجم صاحبه عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكيف يكون هذا خيرا؟ وأجاب عن ذلك ابن الصلاح بأن مثله ليس بحياء حقيقة، بل هو عجز ومهانة، وإنما تسميته حياء من إطلاق بعض أهل العرف، أطلقوه مجازا لمشابهته الحياء الحقيقي، والحياء الحقيقي كله خير. وقال الأبي ما معناه: إنه حياء حقيقة، وقوله صلى الله عليه وسلم "الحياء لا يأتي إلا بخير" من قبيل العام المخصوص، إن جعلت الأداة في الحياء للعموم، وإن لم تجعل فالحديث قضية مهملة، والمهملة في قوة الجزئية، ولا تناقض بين جزئيتين، فالمعنى بعض الحياء لا يأتي إلا بخير، وبعض الحياء لا خير فيه. اهـ. وهذا الذي ذهب إليه الأبي إن قبل في قوله: صلى الله عليه وسلم "الحياء لا يأتي إلا بخير" فإنه لا يقبل في قوله: صلى الله عليه وسلم "الحياء خير كله" و"الحياء كله خير"، فإن ادعاء العام المخصوص، أو ادعاء أن القضية مهملة في قوة الجزئية لا يستقيم مع التأكيد بلفظ "كل". وتحقيق المسألة أن الحياء في اللغة تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به، وهو بهذا المعنى منه الممدوح، ومنه المذموم، منه السكينة والوقار لله، ومنه الضعف والخور، منه ما يأتي بخير، ومنه ما لا يأتي بخير، بل قد يأتي بالضرر والشر. وهذا هو المقصود بما جاء في بعض كتب الحكمة.

أما على تفسير الشرع له بأنه خلق يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق، فإنه بهذا المعنى لا يأتي إلا بخير، وهو خير كله. وهذا هو المقصود بالحديث، فإن كان الحياء عن محرم فهو واجب، وإن كان عن مكروه فهو مندوب، وإن كان عن مباح فهو على وفق الشرع مباح، وهو في جميع هذه الحالات لا يأتي إلا بخير، وكله خير. وعلى هذا التفسير يمكن أن يقال: إن انكسار النفس وانقباضها عن السؤال في العلم والتزود منه، ليس حياء شرعيا، لأنه لا يبعث على اجتناب القبيح، بل هو - والحالة هذه- باعث على اجتناب الحسن، مؤد إلى التقصير في حق صاحبه. ولكنه حياء لغوي، تغير وانكسار خوف ارتكاب ما يعاب به، ولهذا صح قول ابن عمر: "فاستحييت" حين أحجم عن الجواب والكلام في العلم، وصح قول أبيه معاتبا له على هذا الانقباض النفسي، لأن تكون قلتها أحب إلي من أن يكون لي كذا وكذا (أي حمر النعم). وصح قول عائشة: "نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين". وصح قول مجاهد: "لا يتعلم العلم مستحي ولا مستكبر". فكل هذه النصوص من قبيل إطلاق الحياء بمعناه اللغوي، وليس بالمعنى الشرعي. وحين نتساءل - بعد هذا التفصيل- عن وجه إنكار عمران على بشير مع أن ما حكاه بشير صحيح من الناحية اللغوية نقول: نستبعد أن يكون عمران قد حمل ما في الحكمة من الحياء على الحياء الشرعي، وأن يكون بشير يعارض الحديث بما جاء فيها. وإنما الذي أنكره عمران وضع بشير قول الحكماء في مقابلة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصد عمران بذلك صون السنة أن يذكر معها غيرها، حتى ولو كان هذا الغير موافقا لها، لأنها أجل من أن يستشهد على صحتها، فما بالنا والمقابل يوهم معارضتها، وأسلوب سياقه يوهم الميل إليه لا إليها. إنه باب لو فتح لاستهان الناس بها، ولتطرق الشك فيها عند مرضى القلوب ومن يعبد الله على حرف، وأصحاب البدع والأهواء، وعليه فإن إصرار بشير على موقفه بعيد عن الحكمة والصواب. هذا، والحياء كما قال الراغب من خصائص الإنسان، ليرتدع عن ارتكاب ما يشتهي، فلا يكون كالبهيمة، وهو مركب من جبن وعفة، فلذلك لا يكون المستحي فاسقا، وقلما يكون الشجاع مستحيا. والحياء الشرعي درجات، أعلاها أن يستحي المتقلب في نعم الله أن يستعين بها على معصيته، وأن يعبد الله كأنه يراه، ويحرص على أن لا يفقده ربه حيث أمره، وأن لا يراه حيث نهاه، وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم لأصحابه "استحيوا من الله حق الحياء". قالوا: إنا نستحي والحمد لله، فقال: ليس ذلك، وإنما الاستحياء من الله تعالى حق الحياء

أن تحفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، وتذكر الموت والبلى، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء". -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - الحث على التخلق بخلق الحياء. 2 - أن الحياء الشرعي خير كله، ولو أدى إلى ضياع بعض الحقوق الدنيوية. 3 - أن ما يمنع من السؤال في العلم، أو يمنع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو يمنع من أداء واجب، أو يسمح بفعل محرم، كل ذلك ليس حياء شرعيا، وكل ذلك ليس من الإيمان، وكل ذلك لا خير فيه. 4 - حرص السلف على صيانة السنة من المعارضة، ودفاعهم عنها وغيرتهم عليها. 5 - عمل علمائهم على نشر السنة والوعظ والتذكير في مجالسهم. 6 - أنه يجب على من حضر خصومة أن يهدئ من ثورتها، ويلطف من حرارتها، ولا يشعل نارها. والله أعلم

(21) باب الخصلة الجامعة لأمور الإسلام

(21) باب الخصلة الجامعة لأمور الإسلام 63 - عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله: قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك (وفي حديث أبي أسامة غيرك) قال: "قل آمنت بالله ثم استقم". -[المعنى العام]- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث بعض فقهاء الصحابة إلى الأمصار معلمين، وكان ينصب رؤساء الوفود أو فصحاءها مبلغين ومنذرين ومبشرين لمن وراءهم، وكان كل من علم من الصحابة علما يرى واجبا عليه أن يبلغه وينشره، فكان نور الإسلام ينبعث من أفواه كثير ممن اقتبسوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة أو بالوساطة. لكن سفيان بن عبد الله الثقفي -وقد حرص على الأخذ من فم النبي صلى الله عليه وسلم جاء يسأل عن أمور الإسلام سؤالا قليل اللفظ كثير المعنى، محصور الطلب منتشر المطلوب. يقول. حدثني يا رسول الله عن أمور الإسلام وواجباته ومحرماته وشرائعه وحدوده حديثا وافيا كافيا يغنيني عن أن أسأل عنها بعد حديثك أحدا غيرك. وأجاب صلى الله عليه وسلم بكلمة جامعة، شاملة للعلم والعمل، وكل ما يتعلق بالمأمورات والمنهيات. قال "قل آمنت بالله" وحده لا شريك له وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، قولا صادقا مطابقا لما في القلب "ثم استقم" على حدود الله، وعلى صراطه المستقيم، مطيعا أوامره، مجتنبا نواهيه، من غير انحراف إلى الباطل أو ميل إلى الهوى والشهوات. إن أنت فعلت ذلك تتنزل عليك الملائكة تمدك بالعون على الطاعة، وتشرح صدرك، وتدفع عنك الخوف والحزن، وتساعدك على خذلان الشيطان، وتبشرك عند الموت بالجنة وبما أعد الله لك من نعيم مقيم، مصداقا لقوله تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم} [فصلت: 30 - 32]. قال سفيان: يا رسول الله ما أخوف ما أخاف على نفسي؟ قال صلى الله عليه وسلم: هذا، وأمسك بلسانه. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يكب الناس على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم.

-[المباحث العربية]- (قل لي في الإسلام) في الكلام مضاف محذوف، أي في أمور الإسلام وتعاليمه. (قل آمنت بالله) فيه اكتفاء كقوله تعالى: {سرابيل تقيكم الحر} [النحل: 81] أي والبرد والمقصود آمنت بالله وبرسوله. (ثم استقم) الاستقامة الحسية هي انتصاب الجسم واعتداله، وليست مرادة هنا، إنما المراد الاستقامة المعنوية بمعنى عدم الميل والانحراف عن حدود الشرع وصراطه. ومن المعلوم أن "ثم" للترتيب والتراخي، أما التراخي الزمني فيمكن توجيهه بأن الاستقامة الشرعية المعتد بها لا تكون ولا تقبل إلا بعد الإيمان، وأن التراخي في كل شيء بحسبه. وأما التراخي الرتبي -وهو هنا أحسن- فباعتبار أن الاستقامة أعظم وأصعب من الإقرار، وبها تتحقق ثمرة الإيمان العظمى، وترتفع رتبته ودرجته. -[فقه الحديث]- ظاهر الحديث أن قول "آمنت بالله" كاف وإن لم يصاحبه تصديق وإذعان، وهذا الظاهر غير مراد، لأن الشرع لا يطلب قولا كاذبا بعيدا، وإنما يطلب القول الصادق المطابق. وإنما آثر طلب القول على طلب التصديق لأن السؤال عن الإسلام، والإقرار أساسه كما مر في حديث جبريل عليه السلام أول الكتاب. وقد مضى أن طلب الإيمان بالله، أو طلب شهادة أن لا إله إلا الله يلزمه شرعا طلب الإيمان برسول الله، وشهادة أن محمدا رسول الله، لأن الشرع لا يقبل واحدة منهما دون الأخرى، فإذا طلب إحداهما كان القصد مع الأخرى. والمقصود من الإيمان بالله ورسوله الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبكل ما جاء به صلى الله عليه وسلم وقد اختلف العلماء في المراد من الاستقامة المطلوبة في الحديث، وفي قوله تعالى: {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير} [هود: 112]. فذهب مقاتل إلى أن المراد المضي على التوحيد وعدم الرجوع إلى الشرك، وهذا القول مروي أيضا عن ابن عباس عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه حيث قرأ قوله تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} [الأحقاف: 13]. ثم قال: ما تقولون فيها؟ قالوا: لم يذنبوا. قال: قد حملتم الأمر على أشده. قالوا: فما تقول؟ قال: لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان.

وعليه فالأمر بالاستقامة في الحديث أمر بالثبوت والدوام، أي قل: آمنت بالله عن تصديق وإذعان، ثم اثبت على هذا دون شك أو تزعزع. وذهب جمهور العلماء إلى أن المراد الاستقامة على جميع ما يتطلبه الإيمان ولزوم النهج المستقيم. ونحن لا نقول بالرأي الأول، لأنه لا يتناسب مع سياق السؤال عن الإسلام وأموره في الحديث، ولا يتناسب مع الجزاء الموعود به في قوله تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة} [الأحقاف: 13]. ولا نقول بالرأي الثاني على ظاهره، لأن الاستقامة على جميع ما يتطلبه الإيمان أدق من الشعرة وأحد من السيف، فهي غير مستطاعة على الدوام فلا يكلف بها. وإنما الأولى أن يراد بالاستقامة المطلوبة التزام الواجبات والبعد عن المحرمات قدر الطاقة، وهذا هو المناسب لقوله تعالى: {ولا تطغوا} فالمراد من الاستقامة المأمور بها عدم الطغيان وليس عدم الميل قيد شعرة، وهو مفهوم تفسير علي - كرم الله وجهه- حيث فسر الآية بقوله "أدوا الفرائض" وتفسير عمر لها بقوله "لم يروغوا روغان الثعالب". وبهذا نجمع بين الرجاء الذي يسرف فيه الرأي الأول والخوف الذي يفرط فيه الرأي الثاني. والله أعلم

(22) باب إطعام الطعام وإفشاء السلام

(22) باب إطعام الطعام وإفشاء السلام 64 - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: "تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف". -[المعنى العام]- من أهم شعب الإيمان، وأبرز خصال الإسلام، إطعام الطعام، وإفشاء السلام، إذ بهما يكون التآلف والإخاء، وبهما تصبح الأمة الإسلامية كالجسد الواحد، تتعاون أعضاؤه على خيرها، وتتسالم وتتكاتف على دفع الضرر عنها، ويشد بعضها بعضا تحقيقا لمتانتها وصلابتها وقوتها. إن الإسلام دين ودنيا، بل إن دنياه مزرعة لدينه، ودينه لخير دنياه وأخراه، إنه يضع قواعد المجتمع السليم، والمدنية الفاضلة، في خصلتين اثنتين وما أسهلهما، وما أيسر أداءهما، وما أعظم نفعهما، وما أكبر أثرهما. إنهما التعاون المالي والبدني، إنهما إنفاق الطعام، وإعطاء الأمن والأمان. فما أحكم الرسول النبي الأمي، الذي أعطي جوامع الكلم، والذي لا ينطق عن الهوى حين يسأله السائل: أي خصال الإسلام خير يا رسول الله؟ لنتسابق إليها، ونحرص عليها فوق حرصنا على غيرها. لقد كان الجواب الرائع منحصرا في جملتين: تطعم الطعام، وتقرأ السلام. تطعم طعامك والديك وأولادك وأهلك، فلا تكن شحيحا عليهم مقترا في الإنفاق على طعامهم، تطعم طعامك الأغنياء وذوي الجاه، لتحظى بحقك عندهم، وتؤكد الروابط بين طبقات المجتمع السليم، تطعم طعامك الفقراء والمساكين وابن السبيل، لتفوز بدعائهم، وثواب برهم وصلتهم، تطعم طعامك العدو والصديق لتؤلف بين القلوب، وتدرأ غوائل الإحن والأحقاد ولتزداد المودة والمحبة بينك وبين الخلان، تطعم طعامك الطير والحيوان، لتنمو في صدرك صفة الرحمة، فتسعد برحمة الرحمن. بذلك تحقق الأمن لنفسك ممن حولك، ويبقى عليك أن تؤمن من معك، فاقرأ السلام وأعط الأمان لكل من تلقاه، وسلم على من تعرف ومن لا تعرف، فتتقارب النفوس المتباعدة، وتتجاوب القلوب المتنافرة، وتتعارف الأرواح المتذاكرة. بهاتين الخصلتين يتم الأمن والأمان، وتتحقق المحبة والوئام، ويسود الصفاء والسلام وتتجلى بأبرز صورها مظاهر الإسلام.

-[المباحث العربية]- (أن رجلا) قال الحافظ ابن حجر: لم أعرف اسمه، وقيل: إنه أبو ذر. (أي الإسلام خير؟ ) "أي" هنا للاستفهام مبتدأ، فإن قيل: إن شرط "أي" أن تدخل على متعدد، وهنا دخلت على الإسلام، وهو مفرد، لا تعدد فيه؟ أجيب بأن في الكلام محذوفا، هو مدخول "أي" في الحقيقة، والأصل أي خصال الإسلام خير؟ بدليل أن الجواب كان في التفاضل بين الخصال. و"خير" أفعل تفضيل. لأن السؤال ليس عن نفس الخيرية، وإنما عن وصف زائد، وهو الأخيرية، غير أن العرب استعملت أفعل التفضيل من هذا الباب على لفظه، فيقال: هذا خير من هذا، على معنى أخير منه، ولهذا لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث. فإن قيل: إن أفعل التفضيل لا بد أن يستعمل بالإضافة أو من، أو بالألف واللام، فكيف استعمل هنا بدونها؟ أجيب بأنه قد يجرد من ذلك كله عند العلم به، ومنه قوله تعالى: {يعلم السر وأخفى} [طه: 7]. (تطعم الطعام) بضم التاء من "أطعم" وهو في محل الرفع، على أنه خبر مبتدأ محذوف بتقدير: "أن" المصدرية، والتقدير: خير خصال الإسلام إطعام الطعام، وهذا نظير قولهم: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، أي سماعك بالمعيدي خير من رؤيته. والتعبير بالمضارع للحث على تجدده، كقوله تعالى: {ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا} [الإنسان: 8] والخطاب في "تطعم" للسائل، وغيره مقيس عليه من قبيل "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة" أو لكل من يتأتى خطابه فهو من قبيل الخطاب العام، أي تطعم يا من يصح منه الإطعام. والطعام عند الفقهاء اسم للمطعوم المقتات، أي ما يعد طعاما. والمفعول الأول "لتطعم" محذوف للتعميم، والتقدير - تطعم أي كائن الطعام، وقيل - إنه محذوف لدلالة "من عرفت ومن لم تعرف" عليه، وفي حذف المفعول إشارة أي أن إطعام الطعام غير مختص بأحد سواء كان المطعم مسلما أو كافرا أو حيوانا. واختار لفظ "تطعم" ولم يقل تؤكل مثلا، لأن لفظ الإطعام عام يتناول الأكل والشرب والذوق، قال تعالى: {ومن لم يطعمه فإنه مني} [البقرة: 249] أي ومن لم يذقه. (وتقرأ السلام) قال السجستاني: يقال: اقرأ عليه السلام، ولا يقال: أقرئه السلام إلا في لغة سوء إلا أن يكون مكتوبا، فتقول: أقرئه السلام أي اجعله يقرؤه، كما تقول: أقرئه الكتاب، أي اجعله يقرؤه.

(على من عرفت ومن لم تعرف) "من" موصولة، وعائد الصلة، مفعول "عرفت" محذوف. -[فقه الحديث]- قال السنوسي: الإطعام المرغب فيه هو ما كان لفائدة شرعية، من طلب ثواب الله جل وعلا (فلا يبالي حينئذ ما أعطى، ولا لمن أعطى) أو دفع شر عن نفسه وعرضه وماله. أما ما لا فائدة فيه، أو كانت الفائدة غير شرعية، كقصد المباهاة، وتكثير الانتفاع والثناء الدنيوي، ونحو ذلك، فليس بمقصود من الحديث، بل ربما كان بعضه محرما، كالإطعام لبعض اللئام، من الظلمة والفساق، ممن يستعين بذلك على فساده، ويغريه على أموال الناس، وتبقى لهم سنة سيئة في أموال الناس على الدوام. اهـ. فإن قيل: إنما يغرس الإطعام الود في نفس الكريم، أما اللئيم فقد يغريه الإطعام ويطمعه ويزيده لؤما، أجيب بأن الشأن والغالب في الإطعام أن يؤثر في المطعوم خضوعا للطاعم بل ذلة وانكسارا في بعض الأحيان، وقديما قيل. أطعم الفم تستح العين، وقيل: ما وضع أحد يده في صحفة غيره إلا ذل له. وعلى ذلك فالإطعام يخفف منازعة اللئيم، ويقلل من أذاه، واللئيم الذي لا يتأثر بالطعام، لن يزيد شره بعد الأكل عنه قبله، وحينئذ فأجر الإطعام عند الله، وقد قيل: من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس وأما إقراء السلام، فهو مما يزرع الود والمحبة في القلوب، وقد يكون في قلب المحبين أسى أو صد، أو إعراض فيزول بالتحية، وقد يكون في قلب العدو سوء ظن ومجافاة فينقلب بالتحية صديقا. وظاهر الحديث "من عرفت ومن لم تعرف" يفيد العموم في كل الناس مؤمنهم وكافرهم، مستأمنهم وحربيهم، لأنه يدل على أن السلام لله تعالى لا لتوفية حق المعرفة. وبهذا العموم أخذ بعضهم، وطلب السلام على الكافر ولو حربيا عند الاحتياج إلى ذلك لوعظ أو نحوه، لأنه أرجى لقبولهم الإسلام، وقد أمر الله تعالى موسى وهارون عليهما السلام أن يتلطفا مع فرعون حيث قال: {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} [طه: 44]. وذهب جماعة إلى أن هذا العموم مخصوص بالمسلمين، فلا يسلم ابتداء على كافر لقوله صلى الله عليه وسلم: "لاتبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروه إلى أضيقه" رواه البخاري. وذهب بعضهم إلى أن العموم صدر أولا لمصلحة التأليف، ثم جاء النهي عن التسليم على الكافرين متأخرا، فنسخ عمومه. ومعنى "السلام عليكم" إما الدعاء بالسلام على المسلم عليه، أي سلمك الله من الآفات دنيا وأخرى، وإما الخبر، أي سلمت مني، فإني مسالم لك لا محارب.

والسلام علم على الأمان، لأن العادة بين المتحاربين أن لا يسلم بعضهم على بعض، وكانت عادة الجاهلية إن سلموا لم يحاربوا. وعلى هذا لا ينبغي للمسلم أن يغتاب من سلم عليه، ولا أن يتعرض لإيذائه، لأن مثل هذا الفعل مناقض لما أعطاه وأخبر به من الأمان. وقيل المراد من السلام اسم الله تعالى، فيكون المعنى: الله حفيظ عليكم أو رقيب عليكم. وقد وردت أحاديث بأن الجهاد أفضل الأعمال، ولا عمل يعدل الجهاد، وبأن المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، وبأن أحب الأعمال إلى الله الصلاة على وقتها، ثم بر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله. وهذه تعارض حديث الباب الذي ينص على أن خير خصال الإسلام إطعام الطعام وإفشاء السلام، وقد أجيب عن هذا التعارض بالحمل على اختلاف حال السائلين أو السامعين، أو المقام، فحين الحث على الجهاد والترغيب فيه، أفاد أنه أفضل الأعمال، ولا عمل يعدله، وحين يخشى من السائل الإيذاء بيد أو لسان أرشده إلى أن كف الأذى خير الأعمال، وحين رأى من السائل أو السامعين تهاونا في شأن الصلاة أفاد بأنها أحب الأعمال، وحين أحس في السائل كبرا أو إمساكا أو انقباضا عن الناس أجابه بأن خير خصال الإسلام إطعام الطعام وإفشاء السلام، وهكذا. فاختلاف جوابه صلى الله عليه وسلم مع اتحاد السؤال أو تشابهه إنما كان مراعاة لحال السائل أو السامع، وما رآه صلى الله عليه وسلم أنفع له وأخص به، فكأن الخيرية أمر نسبي، فقد يكون الأمر خيرا لفلان في وقت، وغيره خيرا منه في وقت آخر عند الشخص نفسه، ومرجع هذا الجواب إلى تقييد كل حديث بالحاضرين. فكأنه قال هنا: خير خصال الإسلام لكم في هذا الوقت إطعام الطعام وإفشاء السلام. وهذا الجواب نفسه يصلح جوابا عن قول القائل: لم خص هاتين الخصلتين بالذكر من بين سائر خصال الإسلام وشعبه؟ . فتقدير الظروف، ومراعاة مقتضى الحال هو الذي أدى إلى تخصيصهما بالذكر في هذا الوقت لمسيس الحاجة إليهما، فقد يكون وقت ذكرهما وقت جهد ومشقة وحاجة إلى تأليف القلوب، وتوثيق الصلات والمودة بين الناس. ويؤكد هذا المعنى أنه صلى الله عليه وسلم حث عليهما أول ما دخل المدينة، فقد روى الترمذي من حديث عبد الله بن سلام قال: أول ما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس إليه، فكنت ممن جاءه، فلما تأملت وجهه، واشتبهته، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب قال: وكان أول ما سمعت من كلامه أن قال: "أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام". وأجيب عن هذا السؤال أيضا بأن مكارم الأخلاق نوعان: مالية فأشار إليها بإطعام الطعام، وبدنية فأشار إليها بتقرأ السلام.

-[ويؤخذ من الحديث]- 1 - الحث على إطعام الطعام الذي هو علامة الجود والسخاء ومكارم الأخلاق، وفيه نفع للمحتاجين، وتوطيد المحبة بين الناس. 2 - الحث على إفشاء السلام الذي يدل على خفض الجناح والتواضع، ويحقق التعارف والتآلف بين المسلمين. 3 - الحث على تعميم السلام وأن لا يخص به أحدا دون أحد - كما يفعل الجبابرة- لأن المسلمين كلهم إخوة، وهم متساوون في رعاية الأخوة، وقد جعل صلى الله عليه وسلم السلام على المعارف علامة من علامات فساد الزمان حيث قال: "إن السلام في آخر الزمان للمعرفة يكون". 4 - الحث على كل ما يؤلف القلوب، ويجمع الكلمة، ويغرس المودة، ويزيد المحبة. 5 - العمل على نفع المسلمين بالفعل والقول. 6 - إخلاص العمل، وتجنب المصانعة والملق. والله أعلم

(23) باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده

(23) باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده 65 - عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: إن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المسلمين خير؟ قال "من سلم المسلمون من لسانه ويده". 66 - عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده". 67 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله! أي الإسلام أفضل؟ قال "من سلم المسلمون من لسانه ويده". 68 - حدثني بريد بن عبد الله بهذا الإسناد قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المسلمين أفضل؟ فذكر مثله. -[المعنى العام]- دعا الإسلام في الحديث السابق، إلى شعبتين عظيمتين من شعب الإيمان فحقق بهما جانبا من أهم جوانبه، وركنا من أهم أركانه، وهو الركن الإيجابي أو ركن الفعل، وفي هذا الحديث الشريف يضع الإسلام الجانب الثاني والركن المهم المقابل وهو الركن السلبي، أو ركن الترك والكف، دعا في الحديث السابق إلى إطعام الطعام، وإفشاء السلام، ويدعو في هذا الحديث إلى كف الأذى وحجب الشرور والبوائق والإزعاج. فهذا أبو موسى الأشعري، يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل خصال الإسلام، وعن أفضل المسلمين العاملين بأفضل الخصال، ليحرص على الفضيلة ويسعى نحو الكمال الديني، ويعمل جهده ليكون من خير المسلمين. ويجيبه صلى الله عليه وسلم: خير المسلمين هو الذي يمسك لسانه عن طعن الناس، ويحفظ ما

بين فكيه عن الإساءة للمسلمين بالقول أو بالإشارة، وهو الذي يمسك يده وجميع جوارحه، ويحبس شرورها وأذاها، فلا يمد يده لحق الغير، ولا تمشي رجله للإضرار بأحد، ولا يتحرك فكره وقلبه للإيقاع أو الظلم أو الإيلام. المسلم الكامل هو الذي يسلم الناس من شروره وأذاه، والمؤمن الكامل هو الذي يأمنه الناس على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم: "والله لا يؤمن. والله لا يؤمن. والله لا يؤمن. قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه". بهاتين القاعدتين، وعلى هذين الركنين يعتمد صرح الإسلام، وترتكز أسس المجتمع الإسلامي القويم بالمسالمة ومنع الشر، بين الأفراد والجماعات والأمم، ثم بالتعاون وإيصال الخير وتبادل المنافع. وما قامت مدنية، وما شيدت حضارة، وما نهضت أمة، وما استقر عالم في حياته، من غير هاتين القاعدتين، وما تخلف المسلمون في هذه الأيام إلا بإهمالهما، وما تقدم غيرهم إلا باتباعهما، فنعم التشريع الإسلام، ونعمت الهداية هداية خير الأنام. عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام. -[المباحث العربية]- الرواية الأولى (سأل رجل) لعله أبو موسى، المصرح به في الرواية الثالثة. والسؤال مروي بالمعنى في بعض الروايات، ولعله رجل آخر، فعند ابن حبان أنه أبو ذر، وعند الطبراني أنه عمير بن قتادة، فتعدد السؤال، واتحد الجواب. (أي المسلمين خير) أي أخير، وجاء في رواية "أي الإسلام أفضل" أي: أي خصال الإسلام أفضل، والسؤال عن خير المسلمين سؤال عن خير خصال الإسلام، فإن خير المسلمين ما صار خيرا إلا بقيامه بخير الخصال. (من سلم المسلمون) "من" اسم موصول خبر لمبتدأ محذوف، تقديره خير المسلمين من سلم المسلمون، وفيه من أنواع البديع تجنيس الاشتقاق، وهو أن يرجع اللفظان في اشتقاق إلى أصل واحد، ومنه قوله تعالى: {فأقم وجهك للدين القيم} [الروم: 43] فإن "أقم" و"القيم" يرجعان في الاشتقاق إلى أصل القيام، والتعبير بلفظ "المسلمون" من قبيل التغليب، والمراد من سلم المسلمون والمسلمات. (من لسانه ويده) اليد اسم الجارحة، ولكن المراد منها أعم من أن تكون يدا حقيقية أو يدا معنوية، كالاستيلاء على حق الغير بغير حق، وأطلق اللسان واليد، وأراد أي

جارحة من جوارحه، والمراد من سلم المسلمون من شره، فهو من باب ضربته الظهر والبطن، أي ضربت منه كل مكان. الرواية الثانية (المسلم من سلم) اختلف في الأداة "أل" في مثل هذا التركيب هل تقتضي الحصر أو لا؟ الراجح أنها تقتضي الحصر، ولكنه حصر الكمال في الإسلام، وهو قصر ادعائي كقولهم: الناس العرب، والمال الإبل، أي أفضل الناس وأفضل المال، وهنا كذلك أفضل المسلمين. بل قد ينفي اسم الشيء، ويراد نفي الكمال، كما يقال لمن لم يتقن عمله: ما صنع شيئا، أي متقنا، فإنه لا يقصد نفي الصنعة، فإنه قد صنع بالفعل. وقدره الخطابي "المسلم الممدوح" وهذا التقدير يحتاج صفة أخرى، أي الممدوح مدحا كاملا، وإلا لزم أن من لم يتصف بهذه الصفة من المسلمين ليس بممدوح، وليس كذلك، فإن كل مسلم ممدوح بإسلامه، وإن ذم من ناحية أخرى. قال بعض الشيوخ: والظاهر أن الحصر في مثل هذا الحديث، إنما هو نسبي واعتباري مثل الحصر في "لا علم إلا بخشية" و"لا علم إلا ما نفع" فإن ظاهر ثبوت هذه الأشياء بمجرد ثبوت هذا الوصف. وظاهر الحديث على هذا يفيد ثبوت الإسلام لمن سلم المسلمون من لسانه ويده وإن لم ينطق بالشهادتين وليس كذلك، بل المراد المبالغة بأن هذا الوصف (سلامة المسلمين من لسانه ويده) هو المعتد به، دون غيره مجازا، أو التنبيه على أنه آكد الأوصاف المعتبرة في تحقق الإسلام، أو المراد المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده مع مراعاة بقية الأركان. الرواية الثالثة (أي الإسلام أفضل؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده) قال الكرماني: فإن قلت: السؤال عن الإسلام، أي عن خصاله، والجواب بمن سلم، أي ذي الخصلة، حيث قال: "من سلم" ولم يقل: هو سلامة المسلمين من لسانه ويده، فكيف يكون الجواب مطابقا للسؤال؟ . قلت: هو جواب مطابق وزيادة، من حيث المعنى، إذ يعلم منه أن أفضليته باعتبار تلك الخصلة، أو أطلق الإسلام وأراد الصفة، كما يقال: العدل، ويراد: العادل، فالإسلام أريد به المسلم، فكأنه قال: أي المسلمين خير؟ كما جاء في بعض الروايات. انتهى بتصرف. وبعضهم قدر مضافا، به يصح المعنى، والتقدير: أي أصحاب الإسلام أفضل، وبذلك يتطابق الجواب والسؤال. وللتوفيق بين الرواية الأولى والثالثة، وبين كلمة "خير" وكلمة "أفضل" قال العيني: فإن قلت: هل هناك فرق بين "أفضل" وبين "خير"؟ .

قلت: لا شك أنهما من باب التفضيل، ولكن الفضل يعني كثرة الثواب في مقابلة القلة، والخير يعني النفع في مقابلة الشر، والأول من الكمية، والثاني من الكيفية، اهـ ثم استشهد على قوله بما في العباب، ونصه: الفضل والفضيلة خلاف النقص والنقيصة، والخير ضد الشر. وتعقبه بعضهم بقوله: الفرق لا يتم إلا إذا اختص كل منهما بتلك المقولة، أما إذا كان كل منهما يعقل تأتيه في الأخرى فلا. اهـ وهذا التعقيب وجيه، فإن السائل في الرواية الأولى والثالثة إنما سأل عن الأفضل ثوابا ونفعا، ولم يقصد الأول الأفضلية في الثواب والآخر الأفضلية في النفع والله أعلم. -[فقه الحديث]- من علامة المسلم التي يستدل بها على حسن إسلامه سلامة المسلمين من شره وأذاه، بل إحسان المعاملة مطلوب مع غير المسلمين، بل مع غير الإنسان من الطير والحيوان، ولهذا قال الحافظ ابن حجر: ذكر المسلمين هنا خرج مخرج الغالب، لأن محافظة المسلم على كف الأذى عن أخيه المسلم أشد تأكيدا، ولأن الكفار بصدد أن يقاتلوا، وإن كان فيهم من يجب الكف عنه. اهـ. وقال السنوسي: لفظ المسلمين خرج مخرج الغالب، إذ الأغلب أن سبب الإذاية المخالطة، وغالب من يخالطه المسلم المسلمون مثله، فنبه على التحرز من إذايتهم التي قربت أسبابها، ولأن كف الأذى عن إخوته المسلمين أولى فذكر الوصف كالباعث على ترك الإذاية ... ثم قال: وقد دلت الأدلة الشرعية على تحريم إذاية الذمي، وعلى المنع من تعذيب الحيوان بغير ما شرع فيه من النفع. اهـ. وخص اللسان واليد بالذكر من بين سائر الجوارح، لأن اللسان هو المعبر عما في النفس، واليد هي التي بها البطش، والقطع والوصل، والأخذ والمنع والإعطاء. قال الزمخشري: لما كانت أكثر الأعمال تباشر بالأيدي غلبت، فقيل في كل عمل: هذا مما عملت أيديهم، وإن كان عملا لا يتأتى فيه المباشرة بالأيدي. وقدم اللسان على اليد لأن إيذاءه أكثر وقوعا من إيذائها وأسهل مباشرة وأشد نكاية منها، ولهذا يقول الشاعر: جراحات السنان لها التئام ولا يلتام ما جرح اللسان ثم إيذاء اللسان يعم ويلحق عددا أكثر مما يلحقه إيذاء اليد، فقد يؤذي أسرة أو قبيلة أو أهل بلدة، أو دولة بلفظ واحد، كما يتناول البعيد والقريب والحاضر والغائب، والميت والحي بخلاف اليد. ثم إن ذكر اللسان واليد لغلبة مباشرة الأذى بهما لا يجعلهما المقصودين بالذات، بل هما كعنوان لكل ما يباشر الأذى من جميع الأعضاء حتى القلب فإن منهي عن الحقد والحسد، والبغض والغيبة، والتلذذ بتصور المعايب وإضمار الشر، ونحو ذلك.

فإن قيل: هل يدخل في إيذاء المسلم إقامة الحدود والتعازير والتأديبات؟ وما موقف الحديث منها؟ . أجيب بأنها مستثناة من هذا العموم بالإجماع، وقيل: إنها ليست من الإيذاء حتى تستثنى، بل هي عند التحقيق استصلاح، وطلب للسلامة لهم، ولو في المآل. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - الحث على ترك أذى المسلمين بكل ما يؤذي، وجماع ذلك حسن الخلق وحسن المعاملة مع العالم، وهو درجات، أعلاها درجة الأبرار الذين لا يؤذون الذر، ولا يضمرون الشر. 2 - الرد على المرجئة القائلين بأنه لا يضر مع الإيمان معصية. 3 - أن العفو والصفح وترك المؤاخذة أولى من المطالبة والمعاقبة مصداقا لقوله تعالى: {وأن تعفوا أقرب للتقوى} [البقرة: 237] وقوله {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور} [الشورى: 43]. والله أعلم

(24) باب ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان

(24) باب ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان 69 - عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان. من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله. وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه. كما يكره أن يقذف في النار". 70 - عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثلاث من كن فيه وجد طعم الإيمان من كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان أن يلقى في النار أحب إليه من أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه". 71 - عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو حديثهم. غير أنه "قال من أن يرجع يهوديا أو نصرانيا". -[المعنى العام]- {ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها} [إبراهيم: 24، 25] تلك الكلمة كلمة التوحيد والإخلاص إذا غرست في القلب، ونمت وترعرعت بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، آتت أكلها، وأثمرت حبا لله وحبا لرسوله اعترافا بفضلهما وشكرا لهما أن هدي للإيمان بهدايتهما. وينمو هذا الحب ويزداد، ويرتقي صاحبه في درجات الوجد والهيام بالاستغراق في الفرائض والنوافل، حتى يغطي حب الله ورسوله كل مشاعره، وحتى يكون الله ورسوله أحب إليه من ولده ووالده، وماله ونفسه. وتبرز آثار هذا الحب في امتثال أمر الله، والتلذذ بالعبادة والتكاليف الشاقة، والرضا بقضائه وقدره، بل يتلقى المحنة بالنفس الراضية المطمئنة، وبنفس الروح التي يتلقى بها المنحة. فالمحب يرضى بل يحب كل أفعال المحبوب، ويحرص ألا يخالفه أو يغضبه أو يميل إلى ما لا يحب. كما تبرز آثار هذا الحب في طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلوك طريقته، والتخلق بأخلاقه، ويتفرع

عن هذا الحب حب من يحبه الله ورسوله من أجل حب الله ورسوله، يتفرع عن هذا الحب حب الصالحين ومجالستهم والاقتداء بهم وتتبع سيرتهم، والميل إليهم لا لشيء إلا لأنهم صالحون، ولأن حبهم من حب الله ولله وفي الله. ويتفرع عن هذا الحب بغض ما يبغضه الله ورسوله، بغض الكفر والفسوق والعصيان، بغض الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا. بغض أن يعود المؤمن إلى هذا الظلام بعد أن أنقذه الله منه وأخرجه إلى النور. من بلغ هذه الدرجة من الحب بلغ قمة الإيمان، وتمتع بحلاوته، وسعد بسموه ونوره وهدايته، وكانت له الجنات العلى، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. -[المباحث العربية]- (ثلاث من كن فيه) "ثلاث" مبتدأ، والجملة بعده الخبر، وجاز الابتداء به - وهو نكرة - لأن التنوين عوض عن المضاف إليه، والتقدير: ثلاث خصال أو صفات، وقد سبق القول بأن حذف المعدود يجيز تذكير العدد وتأنيثه، و"من" مبتدأ ثان، والشرط والجواب خبره، والجملة خبر "ثلاث". (وجد بهن حلاوة الإيمان) أي أحس وشعر بحلاوة الإيمان بسبب تحصيلهن، فحلاوة الإيمان موجودة في المؤمن بوجود الإيمان، لكنه لا يحسها ولا يدركها ولا يستلذها إلا من كانت عنده هذه الخصال الثلاث، فالمؤمن مثله مثل آكل العسل، حلاوة العسل محققة في أكله، لكن إن كان الآكل في صحة وراحة بال فهو يستطيبه، ويحس به، ويتلذذ بحلاوته، وإن لم يكن في صحة أو كان مشغول البال مهموما بأمر من الأمور لم يحس له طعما ولم يشعر بحلاوة، وكذلك المؤمن إن حصل الصفات الثلاث وجد حلاوة الإيمان، وإلا لم يسعد بإيمانه في دنياه، ولم ينتفع به النفع الكامل في أخراه. وقد جاء في الرواية الثانية "وجد طعم الإيمان" وهي بمعنى الرواية الأولى، لأن طعم الإيمان عند المؤمن لا يكون إلا حلوا. ولما كان الطعم والحلاوة من صفات المطعومات كان التعبير بهما في جانب الإيمان مجازيا على سبيل الاستعارة التصريحية، بتشبيه انشراح الصدر بالحلاوة. أو على سبيل الاستعارة بالكناية بتشبيه الإيمان بشيء حلو، ثم إضمار التشبيه، والرمز إليه بشيء من لوازمه، وهو الحلاوة على سبيل التخييل. (من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) رواية البخاري جاءت تعدد الخصال الثلاث ولفظها "أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء ... وأن يكره أن يعود ... ".

والرواية الثانية لمسلم جعلت تعدد صاحب الخصال، ولفظها "من كان .. ومن كان .. ومن كان" أما الرواية الأولى لمسلم فقد جاءت بصاحب الخصلة الأولى، ثم جاءت بالخصلتين الأخيرتين. والمصدر المنسبك من "أن" والفعل [على رواية البخاري] خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هي [أي الخصال الثلاث] كذا وكذا وكذا إن روعي المجموع، وتقديره: إحداها كذا وثانيتها كذا وثالثتها كذا إن روعي كل من الثلاث على حدة. ولفظ "من كان" على رواية مسلم خبر مبتدأ محذوف أيضا، تقديره: هو [أي صاحب هذه الخصال] من كان كذا ومن كان كذا، ومن كان كذا، ويراعى أن المقصود تعدد الصفات لموصوف واحد، لأن حلاوة الإيمان لا تكون إلا لمن جمعها، ولفظ "أحب" خبر "كان" وجاء بكثرة على صيغة أفعل التفضيل، وإن كان على خلاف القياس، إذ لا يصاغ أفعل التفضيل من الفعل المبني للمجهول، وكان الأصل أن يقال: من كان الله ورسوله أشد محبوبية إليه، وعبر بـ "ما" دون "من" في قوله "مما سواهما" ليعم كل محبوب عاقل أو غير عاقل. (وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله) فاعل "يحب" ضمير مستتر يعود على "من كان الله ورسوله أحب إليه" وجملة "لا يحبه إلا لله" حال. (وأن يكره أن يعود في الكفر) مصدر "أن يعود" مفعول "يكره" يقال عاد إلى كذا أي رجع إليه، وعاد فيه مضمن معنى استقر، أي رجع إليه وانغمس فيه واستقر، حتى صار الراجع مظروفا والمرجوع عليه ظرفا له. وآثر التعبير بـ "في" ليتسق مع المشبه به في قوله "كما يكره أن يقذف في النار" فالكفر مشبه بالنار، والعود إليه مشبه بالقذف فيها، لا بالوصول إليها، فمن رجع إلى الكفر غمره الكفر وأحرقه كما تغمر النار المقذوف فيها. (بعد أن أنقذه الله منه) رواية البخاري "بعد إذ أنقذه الله منه" وفائدة هذا القيد إبراز المنة، وأن الله هو الذي هداه إلى الإيمان، وتأكيد القبح والشناعة في الرجوع، فإن الرجوع إلى الشر بعد النجاة منه والبعد عنه أقبح من الرجوع إليه عن قرب منه وشائبة اتصال به. (كما يكره أن يقذف في النار) "كما يكره" صفة لمصدر محذوف و"ما" مصدرية والتقدير: وأن يكره العود في الكفر كراهة مشابهة لكراهته أن يقذف في النار. والتعبير في الرواية الثانية "ومن كان أن يلقى في النار أحب إليه من أن يرجع في الكفر" أبلغ منه في الرواية الأولى، لأن التعبير في الرواية الأولى يسوي بين الأمرين، والتعبير في الرواية الثانية يجعل الوقوع في النار أحب من الرجوع في الكفر، فالرجوع في الكفر أشد كراهة من القذف في النار. وأفعل التفضيل "أحب" في الروايتين الثانية والثالثة ليس على بابه من أن أمرين اشتركا في

صفة وزاد أحدهما على الآخر في هذه الصفة، فإنه لا حب في الرجوع في الكفر، ولا حب في القذف في النار، وإنما قصد بهذا الأسلوب شناعة أمر عن أمر آخر، كما نقول: الرسوب خير من الغش، نقصد زيادة جريمة الغش وضررها على الرسوب، ولا خيرية في كل منهما. (ومن كان أن يلقى في النار أحب إليه من أن يرجع يهوديا أو نصرانيا) هذه هي الرواية الثالثة لمسلم، وهي تعطي معنى الرواية الثانية بالطريق الأولى، لأنه إذا كره الرجوع إلى اليهودية والنصرانية [وهما ديانتان سماويتان في الأصل] كره الرجوع إلى الأوثان والكفر الذي لا أساس له من باب أولى. -[فقه الحديث]- الحب الميل إلى الشيء، وهو نوعان: جبلي يغرسه الله في القلب بأسباب أو بدون أسباب، فيحس صاحبه ميلا لا سلطان له على دفعه، ولا قدرة له على اكتسابه، ولا على الحد منه، ومن هذا النوع قوله صلى الله عليه وسلم "اللهم إن هذا قسمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك". النوع الثاني مكتسب بتناول أسبابه، وتوافر دواعيه، فحسن الصورة وجمال الصوت من أسباب الحب غالبا، وحسن المعاملة والصلاح والنفع ودفع الضر من دواعيه. ثم هذا الحب المكتسب قد يكون ميلا إلى ما يستلذه الإنسان وتستطيبه النفس، وترتاح إليه الحواس، وقد يكون ميلا بالعقل والرشد إلى ما فيه الخير، وإن كان على خلاف هوى النفس كالوضوء بالماء البارد في شدة الشتاء، وكميل المريض للدواء، وهذا النوع قاله البيضاوي، وإن كان العرف يأباه ويقصر الحب على ما تميل إليه النفس استطيابا وتلذذا، ويجعل الآخر من باب الإرادة والعزيمة التي تقهر النفس إلى ما فيه صلاحها. وإذا تدبرنا حب المؤمن لله تعالى نجد أنه ينشأ عن التفكير في فضله ونعمائه والاعتراف بهذه الآلاء التي لا تنقطع عن الإنسان طرفة عين، وينشأ عن هذا التفكير والاعتراف التقرب إليه جل شأنه بالفرائض والنوافل، وكلما تقرب قرب، لأنه إن تقرب من الله شبرا تقرب الله إليه ذراعا، وإن تقرب إليه ذراعا تقرب الله منه باعا، فإذا ما استغرق في هذا البحر كان الله سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وكان الله وأوامره وطاعته هي كل شيء في حياته، لا خوفا من ناره ولا طمعا في جنته، ولكن يفعل ما يريد ربه حبا فيه جل شأنه. وكذلك الحال بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يصل حبه عند المؤمنين أن يكون أحب إليهم من والدهم وولدهم وأموالهم حتى من أنفسهم التي بين جنبيهم، اعترافا بفضله، وإيمانا بعظيم جهاده ونفعه، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربه. وللحب علامات وآثار لا يوجد بدونهما، فطاعة المحبوب، والحرص على رضاه، والميل إلى ما إليه

يميل دليل المحبة وشعارها، وصدق الله العظيم إذ يقول: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم} [آل عمران: 31]. فقيام المؤمن المحب لربه بالتكاليف الشاقة ليس للحب العقلي كشرب الدواء المر كما يرى البيضاوي، وإنما للتلذذ بأداء التكاليف وعدم الشعور بمشقتها، فهي حلوة عنده تهفو إليها نفسه، وتسعد بها مشاعره. وإذا وصل المؤمن إلى هذه الحالة كمل إيمانه، وشعر بحلاوة الإيمان، وحصلت عنده الخصلتان الأخيرتان حصولا لازما تبعيا. فإن حب المرء لله معناه حب من يحبه الله، لا لشيء إلا للصلة بالله، فكأنه من لوازم حب الله. وهذا القصر في الحديث "أن يحب المرء لا يحبه إلا لله، يخرج ما كان الحب فيه مشتركا بين الله ونفع دنيوي، كمحبة الصالحين لأنهم صالحون وللانتفاع منهم بالمعاملات الدنيوية، فهذا الحب وإن كان حسنا وممدوحا شرعا لكنه لا يصل بصاحبه إلى المرتبة المطلوبة التي بها يجد حلاوة الإيمان وجودا كاملا. وظاهر من هذا أن المراد بالمرء المحبوب المرء المسلم الصالح، فإن الفاسق والكافر ينبغي أن يبغضا في الله، مصداقا لقوله تعالى {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم} [المجادلة: 22]. نعم. وإذا وصل المؤمن إلى أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما كره الكفر والكافرين، ومقت الذين يمقتهم الله، وكانت نار الدنيا عنده أحب إليه من غضب ربه. وفي هذا يقول البيضاوي: وإنما جعل هذه الأمور الثلاثة عنوانا لكمال الإيمان، لأن المرء إذا تأمل أن المنعم بالذات هو الله تعالى، وأن لا مانح ولا مانع في الحقيقة سواه، وأن ما عداه وسايط، وأن الرسول هو الذي يبين له مراد ربه، اقتضى ذلك أن يتوجه بكليته نحوه، فلا يحب إلا ما يحب، ولا يحب من يحب إلا من أجله، وأن يتيقن أن جملة ما وعد وأوعد حق يقينا، ويخيل إليه الموعود كالواقع، فيحسب أن مجالس الذكر رياض الجنة، وأن العود إلى الكفر إلقاء في النار. اهـ. وظاهر كلام الإمام البيضاوي أن المراد من النار نار الآخرة، وتوجيهه أن المؤمن الذي أحب ربه، أيقن بكل ما وعد وأوعد، وصار عنده ما سيقع في قوة الواقع. فإن أطاع أحس أنه في الجنة، والعود في الكفر عنده إلقاء في النار، لأنها متوعد بها لمن كفر. وهذا الاحتمال مع توجيهه بعيد عن ظاهر الحديث، فإن إن ساغ مع رواية "وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار" أي نار جهنم، فإن لا يسوغ مع رواية "ومن كان أن يلقى في النار أحب إليه من أن يرجع في الكفر" إذ لا يقال: إلقاؤه في نار جهنم أحب إليه من العود في الكفر.

وقد أثار العلماء إشكالا حول قوله صلى الله عليه وسلم "مما سواهما" في حين أنه صلى الله عليه وسلم قال للخطيب الذي قال: "ومن يعصهما" أي ومن يعص الله ورسوله قال له صلى الله عليه وسلم "بئس الخطيب أنت" إذ كان ينبغي على الخطيب أن يقول: ومن يعص الله ورسوله بالإفراد ولا يجمعها في ضمير واحد مما يوهم التسوية بين الله ورسوله، فحاصل الإشكال: كيف قال صلى الله عليه وسلم "مما سواهما" وجمع بين الله ورسوله في ضمير واحد مع أنه نهى عن ذلك؟ . ومن خير الأجوبة على هذا الإشكال أنه من الخصائص، فيمتنع من غير النبي صلى الله عليه وسلم ولا يمتنع منه، لأن غيره إذا جمع أوهم التسوية، بخلافه هو فإن منصبه لا يتطرق إليه إيهام ذلك. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل، فإن الخصلة الأولى والثانية من قبيل التحلي بالفضائل، والخصلة الثالثة من قبيل البعد عن الرذائل. 2 - أن للإيمان حلاوة ولذة يحسها المقربون. 3 - الحث على اتباع الأوامر واجتناب النواهي لنيل محبة الله ورسوله. 4 - الحث على إخلاص محبة الناس وتمحيصها لله تعالى. 5 - التنفير من محبة الكافرين والفاسفين ومودة أهل المعاصي. والله أعلم

(25) باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان

(25) باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان 72 - عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يؤمن عبد" (وفي رواية "لا يؤمن الرجل") حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين". 73 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين". -[المعنى العام]- إن حب الشيء يدعو إلى حب الموصل إليه، وإن حب الإيمان وبغض الكفر يستلزم حب المتسبب فيه والداعي إليه، فحب الرسول صلى الله عليه وسلم دليل على حب الإيمان، وبقدر ارتفاع درجة هذا الحب أو انخفاضها ترتفع درجة الإيمان أو تنخفض، فإذا وصل المؤمن إلى أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليه من أمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، ومن المال والأهل والأقارب والناس أجمعين، كان كامل الإيمان، وأكمل منه أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه التي بين جنبيه، يبذلها فداء له في حياته، كما قرأنا عن أبي بكر الصديق، وكثير من الصحابة، (رضي الله عنهم) الذين عرضوا أنفسهم للأخطار حماية لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الكفار. وإذا كنا في هذه العصور لا نملك الدفاع عن ذات الرسول صلى الله عليه وسلم برهانا على كمال حبه، فإننا نملك الذب عن سنته، وحماية دينه، والدفاع عن شريعته والعمل على طريقته والتمسك بكل ما جاء به وطاعته، فإن نحن فعلنا ذلك كنا محبين على الحقيقة، وإلا كنا مدعين بألسنتنا أمرا لم تواطئه قلوبنا، فالمحب الذي يخذل حبيبه كاذب في حبه، والمحب الذي يعصي حبيبه كاذب في حبه، والمحب غير المكترث بصفات حبيبه كاذب في حبه، والمحب المضيع لهدية حبيبه وذكراه كاذب في حبه، مهما بكى أو تباكى، ومهما أظهر اللوعة والوجد، ومهما تحرق شوقا إلى قبره، ومهما سعى إلى زيارته. هذا هو ميزان الحب ومقياس الإيمان، فلينظر كل منا موضعه، وليزن نفسه، وليصلح المقصر من شأنه، حتى يكون جديرا بحبه، حريا بشفاعته صلى الله عليه وسلم، جعلنا الله من أحبابه، ومن خدمة سنته، إنه سميع مجيب.

-[المباحث العربية]- (لا يؤمن عبد) العبد الإنسان، حرا كان أو رقيقا، كذا في القاموس، وقد أطلقه القرآن على الملائكة في قوله {عباد مكرمون} [الأنبياء: 26] فالظاهر أن العبد من شأنه أن يعبد ويخضع ويذل، لكن المراد من العبد في الحديث الإنسان لأن الملك لا ولد له ولا والد ولا أهل. وفي الرواية الأخرى "لا يؤمن رجل" والرجل خلاف المرأة، ويطلق عليه إذا احتلم وشب، وقيل: هو رجل من ساعة يولد. وفي الرواية الثانية "لا يؤمن أحدكم" والخطاب فيه للصحابة الحاضرين، وهل يشمل من على شاكلتهم من المعاصرين الغائبين ومن سيوجد بالنص؟ أو ينسحب الحكم عليهم بالقياس؟ خلاف. وهل تدخل المرأة في الحكم؟ الظاهر أنها تدخل بالقياس، لأن النساء شقائق الرجال، وهن مخاطبات بما خوطب به الرجال من أحكام إلا ما خص، وقد جاء في رواية الأصيلي "لا يؤمن أحد" وهي أشمل وأعم. (حتى أكون أحب إليه من أهله) في القاموس: أهل الرجل: عشيرته وذوو قرباه، وأهل الأمر ولاته، وأهل البيت سكانه، وأهل المذهب من يدين به. اهـ. فالتعبير بالأهل أعم من التعبير بالولد والوالد في الرواية الثانية، لكن ذكر الولد والوالد أدخل في المعنى لأنهما أعز الأهل عند العاقل، ففي التعبير بهما إبراز لعظم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم. (وماله) المراد من المال كل ما يتمول ويقدر بقيمة، نقدا كان أو عقارا أو ضياعا، وذكره لمسايرة بعض الطباع التي قد تحب المال حبا جما. (حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده) في رواية البخاري تقديم الوالد على الولد، ووجهها الحافظ ابن حجر بأن تقديم الوالد للأكثرية، لأن كل أحد له والد من غير عكس، ولأن الوالد متقدم على الولد بالزمان والإجلال. وتوجه رواية مسلم بأن تقديم الولد تساير الترتيب التنازلي من حيث مزيد المحبة والشفقة، فللولد مزيد شفقة عند الوالد أكثر من شفقة الولد على والده ثم الناس في المرتبة الثالثة، وهل تدخل الأم في لفظ الوالد؟ قيل نعم، لأن المراد بالوالد، من له ولد، والظاهر أنه من قبيل الاكتفاء، أو دخول الأم بطريق القياس. (والناس أجمعين) من عطف العام على الخاص، وفي رواية "الأهل" وفي رواية "الولد والوالد" وهل تدخل النفس في هذا العموم؟ قال الحافظ ابن حجر: الظاهر دخولها. اهـ. ويضعف هذا القول أن حب النفس أقوى من حب الولد والوالد في طبائع العقلاء ودخولها في هذا

العموم يجعل حبها في الدرجة الثانية بل الثالثة، يدل على قوة حبها ما رواه البخاري من "أن عمر بن الخطاب قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لأنت يا رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال: لا. والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال له عمر: فإنك الآن والله أحب إلي من نفسي". -[فقه الحديث]- قلنا في الحديث السابق: إن الحب نوعان: جبلي واختياري، وقلنا إن الشارع لا يكلف الإنسان ولا يطلب منه التحكم في الحب الجبلي، فالمقصود بالحب هنا الحب الاختياري، وقلنا إن للحب أسبابا تغرسه في النفس أو تعمقه فيها، كجمال المنظر وحسن الصوت والخلق أو النفع بوجه ما. ورسول الله صلى الله عليه وسلم - من حيث هذه الأسباب- أحق الناس بحب المؤمن، ولا شك أن حظ الصحابة من هذه الأسباب أوفى وأتم، وأما غيرهم فيكفي أن يفكروا في أنه صلى الله عليه وسلم هو الذي أخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، إما بالمباشرة وإما بالسبب، وأن يتفكروا في أنه الذي بين لهم طريق البقاء الأبدي في النعيم المقيم، فيعلمون أن انتفاعهم من الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم من جميع وجوه الانتفاعات، والنفع يثير المحبة، فينبغي أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إلى المؤمن من ولده ووالده وماله والناس أجمعين، ونفي الإيمان عمن لا يكون الرسول أحب إليه إنما هو نفي للإيمان الكامل لا لمطلق الإيمان. لكن ظاهر عبارة القاضي عياض تفيد أنه يرى أن أحبية الرسول صلى الله عليه وسلم شرط في صحة الإيمان، إذ قال رحمه الله: المحبة ثلاثة أقسام: محبة إجلال وإعظام كمحبة الوالد، ومحبة شفقة ورحمة كمحبة الولد، ومحبة مشاكلة واستحسان كمحبة سائر الناس، فجمع صلى الله عليه وسلم أصناف المحبة في محبته، ثم قال: وإذا تبين ما ذكرناه تبين أن حقيقة الإيمان لا تتم إلا بذلك، ولا يصح الإيمان إلا بتحقيق إعلاء قدر النبي صلى الله عليه وسلم ومنزلته على كل والد وولد ومحسن ومتفضل، ومن لم يعتقد هذا واعتقد سواه فليس بمؤمن. اهـ. ونحن نوافق القاضي عياض في أن إعلاء قدر النبي صلى الله عليه وسلم وإعظامه شرط في صحة الإيمان، وحقيقة الإيمان لا تتم إلا به، وأن من اعتقد خلاف ذلك فليس بمؤمن. لكن هناك فرق بين الإعظام والمحبة، ولا تلازم بينهما، إذ قد يعترف الإنسان بالأعظمية، ويذل لها ولا يحبها. والإيمان مبني على التصديق برسالته صلى الله عليه وسلم، والإسلام مبني على التسليم بما جاء به، والانصياع إليه، أما حبه صلى الله عليه وسلم فبه يزداد الإيمان، وببلوغ حبه أعلى درجات الحب يكمل الإيمان. وعلامة حصول هذه الدرجة العليا أن يعرض المرء على نفسه، ويخيرها بين أن يملك المال

ويحصل عنده الولد وبين أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم ويجالسه ويصاحبه، فإن اختار الثاني فقد اتصف بالأحبية المذكورة وإلا فلا. وليس معنى فقدان الأحبية فقدان الحب، فعامة المؤمنين يحبونه صلى الله عليه وسلم وإن تفاوتوا في درجات هذا الحب، بدليل أنهم إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم اشتاقوا إلى رؤيته، بل نجد الكثير من المؤمنين يؤثر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ورؤية مواضع آثاره على ماله وجوار أولاده، فيفارقها فراق مودع، ويتوجه إلى المدينة توجه المشتاق المتلهف. والله أعلم

(26) باب من الإيمان أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك

(26) باب من الإيمان أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك 74 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه (أو قال: لجاره) ما يحب لنفسه". 75 - عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده! لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره (أو قال لأخيه) ما يحب لنفسه". -[المعنى العام]- إن الإيمان الكامل الذي وصل بالمؤمن إلى حب الله ورسوله، يدفعه حتما إلى أن يحب للمسلمين ما يحب لنفسه من خيري الدنيا والآخرة. أما الذين يحقدون على إخوانهم المسلمين، أو يحسدونهم على ما آتاهم الله من فضله، أو يسعون لبخس إخوانهم والتعالي عليهم، فهم ضعاف الإيمان، حظهم منه في الآخرة قليل، مصداقا لقوله تعالى: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين} [القصص: 83] إن الإيمان الكامل ينزع الغل والحقد والحسد من قلب صاحبه، ويملؤه برغبة الخير، وبحب المعروف للناس، فالإيمان محبة ومودة وإخاء ومجتمع إنساني فاضل كريم. إن الحديث يعالج القلوب من هذه الأمراض الخبيثة، والقلوب إذا صلحت صلح الجسد كله، لأن الأعضاء آلات وجنود للقلوب، فإذا ما حل حب الخير للمسلم في قلب المسلم تحركت الجوارح لتنفيذ ميوله وتحقيق رغباته، فنطق اللسان بما فيه صلاحه والدفاع عنه، وامتدت اليد والرجل إلى ما يوصل النفع إليه، ذاك هدف الحديث، بناء مجتمع متآلف متعاون متراحم كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا. -[المباحث العربية]- (لا يؤمن أحدكم) أي لا يؤمن إيمانا كاملا. أما أصل الإيمان فإنه يحصل لمن لم يحصل هذه الصفة. ونفي اسم الشيء على معنى نفي الكمال عنه مستفيض وكثير في كلام العرب، كقولهم: فلان ليس برجل أو ليس بإنسان.

(حتى يحب لأخيه -أو قال- لجاره) شك من الراوي في أي من اللفظين صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي الرواية الثانية: "حتى يحب لجاره أو قال لأخيه" ورواية البخاري "لأخيه" من غير شك. والتعبير بالأخ على سبيل التغليب فتدخل الأخت أيضا. والتعبير بالأخوة لإثارة كوامن الشفقة والمحبة. (ما يحب لنفسه) "ما" موصولة، وعائد الصلة مفعول "يحب" محذوف، والتقدير: الذي يحبه لنفسه. -[فقه الحديث]- المراد من الأخ ما هو أعم وأشمل من أخ النسب قطعا، ولكن هل المراد الأخوة في الإسلام؟ أو الأخوة في الإنسانية، بمعنى أن الناس كلهم لآدم وحواء، أب واحد وأم واحدة فهم إخوة؟ . ظاهر صنيع الإمام النووي في شرح مسلم أن المراد بالأخوة الأخوة في الإسلام، إذ بوب هذا الحديث بقوله: [باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير] ثم قال في الشرح: معنى الحديث أنه لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه في الإسلام مثل ما يحب لنفسه. اهـ. وهو ظاهر كلام الحافظ ابن حجر، إذ ساق رواية للإسماعيلي، نصها "يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير" ثم قال: فبين [الحديث] المراد بالأخوة، وعين جهة الحب، ثم قال: والخير كلمة جامعة تعم الطاعات والمباحات الدنيوية والأخروية، وتخرج المنهيات، لأن اسم الخير لا يتناولها. انتهى كلامه. وإن الباحث ليتساءل -أمام رأي هذين الإمامين- ألا ينبغي أن نحب للكفار أن يسلموا؟ ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب هداية الناس جميعا، فقيل له "إنك لا تهدي من أحببت"؟ ألسنا نحب الصفات الحميدة؟ ونحب أن يتحلى بها الناس جميعا؟ فلم نضيق الواسع؟ ونجعل المطلوب من المؤمن حبه الخير للمسلم فقط دون بقية البشر؟ نعم. نهينا عن حب الكفار ومودة المحاربين منهم، لما هم عليه من شطط وصفات ذميمة، لكن من الإيمان أن نحب لهم أن يؤمنوا، بل يجب علينا أن ندعوهم لذلك، وأن نجاهد في سبيل تحقيق هذا الخير لهم. إن رواية الإسماعيلي - على فرض صحتها- تخص الأخ المسلم بالذكر لمزيد عناية به، هو بالنسبة لحب الخير له أولى وأهم من غيره، وإن كان حبنا الخير ليس مقصورا عليه. والله أعلم. وهل الذي يجب على المؤمن ليكمل إيمانه أن يحب لأخيه عين ما يحب لنفسه، أو مثل ما يحب لنفسه؟ فمثلا؟ إذا كانت هناك درجة مالية واحدة أطمع فيها، هل أحبها لأخي فأحرم أنا منها؟ أو أحبها لنفسي وأحب وجود مثلها لأخي؟

وإذا كنت في منصب مدير الجامعة مثلا، هل أحب لأخي أن ينتزعه مني لأكون قد أحببت له عين ما أحبه لنفسي؟ أو أحب لأخي منصبا شبيها بمنصبي؟ أعتقد أن الإيمان يتم بالثاني، أعني بالشبيه، غاية الأمر أنه إن فاز أخي بما كنت أطمع فيه، أو حل محلي فيما كنت فيه، بطريق مشروع، ودون إيذاء منه لي، ينبغي أن أحبه له ولا أحقد عليه، ولا أجد في نفسي حاجة مما أوتي ولو كان بي خصاصة، لأني أحب له ما أحب لنفسي، ومعنى هذا أن المنافسة بين الأقران في المشروع مشروعة بالطريق المشروع، فالمنافسة في الدرجات والمناصب الدنيوية جائزة بين المستحقين لها، فإن اعتدى من أجلها أدنى على أعلى. أو سعى لها أحد المتساويين سعيا غير مشروع كانت غير مشروعة. أما المنافسة في الأمور الدينية والأخروية فهي واجبة في الواجبات مندوبة في المندوبات، قال تعالى: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} [المطففين: 26]. وقد أورد الحافظ ابن حجر على الحديث إشكالا وجوابه، نصه، فإن قيل: فيلزم أن يكون من حصلت له هذه الخصلة مؤمنا كاملا وإن لم يأت ببقية الأركان؟ أجيب بأن هذا ورد مورد المبالغة، أو يستفاد من قوله "لأخيه المسلم" ملاحظة بقية الصفات. اهـ. وهذا الإشكال لا يرد على الحديث، إنما يرد لو كان نصه: المؤمن الذي يحب لأخيه ما يحب لنفسه، كما ورد هذا الإشكال وأجبنا عنه في حديث "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده". أما لفظ الحديث الذي معنا فهو "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" فلا يرد عليه هذا الإشكال. فإن قولنا: لا يكون أحدكم عالما حتى يدرس علوم القرآن ليس معناه أن من درس علوم القرآن وحده يكون عالما، وإنما معناه أنه لا يكمل علمه إلا بدراسته. وإذا كان من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه كان منه أيضا أن يبغض لأخيه ما يبغض لنفسه، ولم يذكره الحديث لأن حب الشيء مستلزم لبغض نقيضه، فترك التنصيص عليه اكتفاء. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - الحث على التواضع. 2 - السعي وراء أسباب المحبة بين الناس. 3 - البعد عن الأثرة وحب النفس أكثر من الغير. 4 - الزجر عن الحقد والغش والحسد ونحوها من الصفات الذميمة التي تورث التباغض والتدابر بين الناس. (ملحوظة) أرجأنا الكلام عن حب المؤمن لجاره ما يحب لنفسه الوارد في هذا الحديث إلى موضوعه الآتي. والله أعلم

(27) باب النهي عن إيذاء الجار

(27) باب النهي عن إيذاء الجار 76 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه". -[المعنى العام]- إن الأمن على النفس والمال والعرض من نعم الله الكبرى، وأقرب الناس تهديدا لهذا الأمن هو الجار، لأن الحذر منه أصعب من الحذر من غيره، والضرر منه أشد خطرا من الضرر من غيره، إنه يعرف كثيرا من الخفايا, ويكشف كثيرا من الأستار، ويطلع على كثير من العيوب، إنه أعلم بمواطن الضعف، وأقدر على توصيل الأذى. والإسلام يحرص على استتباب الأمن، ونشر الطمأنينة والاستقرار بين أبناء المجتمع الواحد، لهذا جعل مسالمة الجار من الإيمان، جعل حبس النفس عن أذى الجار من الإيمان، بل جعل خوف الجار من الجار دليلا على ضعف إيمان الجار الذي بعث الخوف، وإن لم يصل ضرره لجاره بالفعل، فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: والله لا يؤمن. والله لا يؤمن. والله لا يؤمن. كررها ثلاثا، وكان متكئا فقام، وبدا الغضب في وجهه الشريف، حتى انزعج الصحابة، فقالوا: من يا رسول الله هذا الذي تقسم على سلب إيمانه؟ ومن سلب إيمانه لا يدخل الجنة، فمن هو الذي خاب وخسر؟ قال: الذي لا يأمن جاره أذاه، والذي يخاف جاره اعتداءه، والذي لا يطمئن جاره لجواره. نعم هذا التشريع الحكيم لو أمن كل جار جاره، وكف كل جار عن ضرر جاره، وحمى كل جار محارم جاره، لكانت المدينة الفاضلة، ولكان المجتمع الموادع الأمين، ولعاش الناس سعداء آمنين. -[المباحث العربية]- (من لا يأمن جاره بوائقه) وفي رواية "من خاف جاره بوائقه" والبوائق جمع بائقة، وهي الداهية والشيء المهلك، والأمر الشديد الذي يوافي بغتة. -[فقه الحديث]- في حد الجوار شرعا خلاف، فعن علي -كرم الله وجهه- من سمع النداء فهو جار، وعن عائشة والأوزاعي: حد الجوار أربعون دارا من كل جانب.

نعم الجار الجنب أولى بكل حق من حقوق الجوار ممن بعد، ولكن لكل من القريب والبعيد حقه، وكف الأذى عن الجميع واجب، بل إدخال الأمن والطمأنينة على الجميع واجب. وهناك أمثلة من الأذى قد يستهين بها الجار، ويظنها حقا له، فلا يعبأ بجاره، ولا يراعي شعوره، فيتحقق بذلك أذاه، منها: وضع الجذع على جداره، وصب الماء أمام داره، وطرح التراب والحصى في فنائه، وتضييق طريقه، والنظر إلى حرماته، وكشف عوراته. وقد جاء في الحديث الشريف قالوا: يا رسول الله، ما حق الجار على الجار؟ قال: "إن استقرضك أقرضته، وإن استعانك أعنته، وإن مرض عدته، وإن احتاج أعطيته، وإن افتقر عدت عليه، وإن أصابه خير هنأته، وإن أصابه مصيبة عزيته، وإذا مات اتبعت جنازته، ولا تستطل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذه بريح قدرك إلا أن تغرف له منها، وإن اشتريت فاكهة فاهد له منها، فإن لم تفعل فأدخلها سرا، ولا تخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده". وقد جاء في رواية البخاري: "والله لا يؤمن. والله لا يؤمن. والله لا يؤمن: قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه"، فنفي الإيمان عمن يؤذي جاره نفي كمال كما سبق. وأما نفي دخوله الجنة في رواية مسلم فقد قال عنه النووي: في معنى "لا يدخل الجنة" جوابان يجريان في كل ما أشبه هذا. أحدهما: أنه محمول على من يستحل الإيذاء مع علمه بتحريمه، فهذا كافر لا يدخلها أصلا. والثاني: معناه جزاؤه أن لا يدخلها وقت دخول الفائزين إذا فتحت أبوابها لهم، بل يؤخر، ثم قد يجازى، وقد يعفى عنه فيدخلها، وإنما تأولنا هذين التأويلين، لأنا قدمنا أن مذهب أهل الحق أن من مات على التوحيد مصرا على الكبائر، فهو إلى الله تعالى: إن شاء عفا عنه فأدخله الجنة أولا، وإن شاء عاقبه، ثم أدخله الجنة. اهـ. وقال الحافظ ابن حجر: في الحديث مبالغة تنبئ عن تعظيم حق الجار وأن إضراره من الكبائر. ومنع أذى الجار أعم من أن يكون مسلما أو غير مسلم، ففي الحديث "الجيران ثلاثة، جار له حق واحد، وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق، فالجار الذي له ثلاثة حقوق الجار المسلم ذو الرحم، فله حق الجوار، وحق الإسلام، وحق الرحم، وأما الذي له حقان فالجار المسلم، له حق الجوار وحق الإسلام، وأما الذي له حق واحد فالجار المشرك له حق الجوار". وفي تغليظ حرمة الجار وحرمة إيذائه. قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن فلانة تصوم النهار وتقوم الليل، وتؤذي جيرانها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي في النار" رواه أحمد والحاكم، وقال صحيح الإسناد. وقال ابن أبي جمرة: إذا أكد حق الجار مع الحائل بين الشخص وبينه وأمر بحفظه وإيصال الخير إليه، وكف أسباب الضرر عنه، فينبغي أن يراعي حق الحافظين الذين ليس بينه وبينهما جدار

ولا حائل، فلا يؤذيهما بإيقاع المخالفات في مرور الساعات، فقد جاء أنهما يسران بوقوع الحسنات ويحزنان بوقوع السيئات، فينبغي مراعاة جانبهما. وحفظ خواطرهما بالتكثير من عمل الطاعات، والمواظبة على اجتناب المعصية، فهما أولى برعاية الحق من كثير من الجيران. والله أعلم

(28) باب إكرام الجار والضيف وفضيلة حفظ اللسان

(28) باب إكرام الجار والضيف وفضيلة حفظ اللسان 77 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه". 78 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت". 79 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثل حديث أبي حصين. غير أنه قال "فليحسن إلى جاره". 80 - عن أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت". -[المعنى العام]- ثلاث خصال من سمات المؤمن بالله وبالبعث والجزاء، ثلاث خصال هي جماع الخير وأمهات مكارم الأخلاق. أولى هذه الخلال إكرام الجار، والإحسان إليه، وقد أشار الحديث الشريف الذي رواه مسلم قبل هذا إلى نفي الإيمان عمن يؤذي جاره، وبه حمى الإسلام الجار من جاره، لكنه لم يكتف بهذه الحماية، بل حث في هذا الحديث على إكرامه والإحسان إليه، وكم كررت الشريعة الوصاية بالجار، ومازال جبريل يوصي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجار حتى ظن صلى الله عليه وسلم أن الله سيحكم للجار بالميراث من جاره.

ثانية هذه الخلال إكرام الضيف، وكل إنسان عرضة لأن يكون ضيفا في يوم من الأيام ينزل في بلد لا أهل له فيها ولا وطن، ولا وسيلة للعيش فمن له غير أخيه المسلم يضيفه ويكرمه؟ فتتوثق عرى المحبة بين المسلمين. نعم إكرام الضيف من خلق النبيين، ومن شمائل المقربين، وقد ذكره الله لنبيه إبراهيم عليه السلام، على أنه مكرمة من مكارم الأخلاق، إذ قال {فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين فقربه إليهم} [الذاريات: 26، 27] وبعد هاتين الخلتين العمليتين بقيت خلة مكملة متممة لمن لم يتيسر له العمل بجوارحه لإكرام جاره وإكرام ضيفه، عليه أن يقول كلمة الخير، فالكلمة الطيبة صدقة، فإن لم تتيسر له كلمة الخير فليحبس لسانه، وليصمت عن الكلام، وليمسك عن الشر، فإن ذلك من الإيمان، ورحم الله عبدا تكلم فغنم، أو سكت فسلم. -[المباحث العربية]- (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر) جمع بين المبتدأ والمعاد، أي من جمع بين طرفي الإيمان. (فليقل خيرا) "خيرا" صفة لمصدر محذوف، أي قولا خيرا، أو صفة لمفعول محذوف أي فليقل مقولا خيرا، وسيأتي بيان القول الخير في فقه الحديث. (أو ليصمت) لام الأمر هنا مكسورة على الأصل، وفي الفعل السابق ساكنة. قال صاحب مغني اللبيب: اللام الموضوعة للطلب حركتها الكسر، وإسكانها بعد الفاء والواو أكثر من تحريكها. اهـ. و"يصمت" بضم الميم مضارع صمت [بفتحها من باب دخل] صموتا، وحكي بكسر الميم في المضارع من باب ضرب "صمتا" وفي الرواية الثانية والثالثة "أو ليسكت" والمعنى واحد. (ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر) كرره للإيذان بأن كل واحدة من الثلاث مستقلة بالطلب لا تابعة لأختها، وأن من كان هذا شأنه ينبغي أن يحصل كلا من الثلاث، وأن يحرص على كل منها باهتمام. (فليكرم جاره) وفي الرواية الثالثة "فليحسن إلى جاره" والإكرام والإحسان شيء زائد على كف الشر، ومنع الأذى، الوارد في الرواية الثانية، ولفظها "فلا يؤذي جاره" وهي في أصول صحيح مسلم "فلا يؤذي" بالياء، على أن "لا" نافية، والجملة خبر في معنى النهي، وهو -كما قال العلماء- أبلغ من النهي الصريح، لأنه يشعر بأن النهي امتثل، وأصبح المنهي عنه منتفيا يخبر عنه بالنفي وعدم الوقوع.

وروي في غير مسلم "فلا يؤذ" بحذف الياء، على أن "لا" ناهية، وكلاهما صحيح وكثير، فقد قرئ بالجزم والرفع في قوله تعالى: {لا تضار والدة بولدها} [البقرة: 233] وورد الجزم والرفع في الحديث "لا يبيع أحدكم على بيع أخيه". (فليكرم ضيفه) لفظ "ضيف" يطلق على الواحد والجمع، وجمع القلة أضياف، وجمع الكثرة ضيوف وضيفان. -[فقه الحديث]- فائدة الترشيح بقوله "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر" قبل الأوامر الثلاثة- التهييج وإثارة المشاعر لالتزامها والمحافظة عليها، فكأنه يقول: يا من تحليتم بشعار الإيمان بالله واليوم الآخر، ويا من وصلتم إلى هذه الدرجة من الطهر عليكم أن تكملوا أنفسكم باتباع هذه الأوامر، ولا تدنسوا هذا النقاء بنقائضها. ونظير هذا الأسلوب قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة: 1]. والحديث يتعرض لأوامر ثلاثة: إكرام الجار، وإكرام الضيف، ولزوم الصمت إلا عن الخير. 1 - أما إكرام الجار: فقد تقدم الزجر عن إيذائه، فالحديث السابق كالتخلية، وهذا الحديث بالنسبة للجار كالتحلية، وقد وصى الله تعالى بالإحسان إلى الجار، فقال {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب} [النساء: 36]. [أي الجار الذي بينك وبينه قرابة ورحم والجار الجنب أي الأجنبي] وهذا قول الأكثر، وقيل الجار القريب المسلم، والجار الجنب غير المسلم، وقيل: الجار القريب المرأة والجنب الرفيق في السفر. وروى البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه". واسم الجار يشمل المسلم والكافر، والعابد والفاسق، والصديق والعدو، والغريب والمقيم، والنافع والضار، والقريب والأجنبي، والأقرب دارا والأبعد، وله مراتب بعضها أعلى من بعض، فأعلاها من اجتمعت فيه الصفات الأول كلها [المسلم العابد الصديق الغريب النافع القريب] ثم أكثرها وهلم جرا، وعكسه من اجتمعت فيه الصفات الأخرى فيعطى كل حقه حسب حاله. والأمر بالإكرام يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، فقد يكون فرض عين، وقد يكون فرض كفاية، وقد يكون مستحبا، ويجمع الجميع أنه من مكارم الأخلاق. وكان الصحابة يحسنون إلى الجار الكافر، فقد روى البخاري في الأدب المفرد أن عبد الله بن عمرو لما ذبحت له شاة أمر أن يهدى منها لجاره اليهودي.

ويحصل إكرام الجار بإيصال ضروب الإحسان إليه بحسب الطاقة كالهدية والسلام وطلاقة الوجه عند لقائه، وتفقد حاله، ومعاونته فيما يحتاج إليه وموعظته بالحسنى، والدعاء له. وغير الصالح إكرامه - زيادة على ما سبق - كفه عن الذي يرتكبه بالحسنى على حسب مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وستر زلته، فإن أفاد فبها ونعمت، وإلا هجر بقصد تأديبه على ذلك مع إعلامه بالسبب ليكف. وأما الكافر فبوعظه وعرض الإسلام عليه وتبيين محاسنه والترغيب فيه برفق مع إرادة الخير للجميع، والدعاء بالهداية، وترك الإضرار. 2 - وأما إكرام الضيف: فبالبشاشة في وجهه، والترحيب بقدومه، وإنزاله المكان اللائق به المقدور عليه، وتقديم المناسب له من الطعام والشراب. وقد اختلف العلماء فيما يقدم للضيف، هل يقدم ما حضر، وما اعتاد أكله أهل البيت ولا يزاد؟ أو يتكلف له شيء من البر ويتحف زيادة على عادة البيت؟ والجمهور على أنه يتكلف له في اليوم الأول بالبر والألطاف، ويقدم له ما حضر دون تكلف في اليومين الثاني والثالث، أخذا من الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فيكرم ضيفه، جائزته يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام فما بعد ذلك فهو صدقة" قال الخطابي: معناه: أنه إذا نزل به ضيف أن يتحفه ويزيده في البر على ما بحضرته يوما وليلة، وفي اليومين الأخيرين يقدم له ما يحضره، فإذا مضى الثلاث فقد قضى حقه، فما زاد عليها مما يقدمه له يكون صدقة. كما اختلفوا في الضيافة: هل هي واجبة أو مكرمة؟ فذهب الليث إلى أنها واجبة يوما وليلة، واستدل بحديث "ليلة الضيف حق واجب على كل مسلم" وبحديث عقبة الذي رواه البخاري، قال عقبة: "قلنا للنبي صلى الله عليه وسلم إنك تبعثنا فننزل بقوم لا يقروننا، فما ترى فيه؟ فقال لنا: إن نزلتم بقوم فأمر لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف"، فظاهر الحديث أن قري الضيف واجب، وأن المنزول عليه لو امتنع من الضيافة أخذ منه قهرا. وذهب الجمهور وعامة الفقهاء إلى أنها من آداب الإسلام، وهي سنة ومكرمة واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم "جائزته يوم وليلة" والجائزة العطية والمنحة والصلة، وذلك لا يكون إلا مع الاختيار، كما استدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم "فليكرم ضيفه" و"فليحسن إلى ضيفه" إذ هذا الأسلوب لا يستعمل في الواجب، كما أن إكرام الضيف مضموم إلى إكرام الجار والإحسان إليه، وذلك غير واجب. وأجابوا عن الحديثين اللذين استدل بهما الليث، بأن ذلك كان أول الإسلام إذ كانت المواساة واجبة ثم نسخ، أو أن ذلك في الضيف المضطر. كما اختلفوا: هل الضيافة على أهل الحضر وأهل البادية جميعا؟ أو هي على أهل البادية خاصة؟

فذهب الشافعي رضي الله عنه إلى أنها عليهما على السواء، وقال مالك: إنما هي على أهل البوادي، لأن المسافر يجد في الحضر المنازل في الفنادق، ومواضع النزول، وما يشترى من المأكل في الأسواق. اهـ. والذي تستريح إليه النفس في مواضع الخلاف الثلاثة أن الأمر يختلف باختلاف حال الضيف، وباختلاف حال المنزول عليه، وباختلاف ظروف الضيافة. ففي الموضع الأول قد يكون الضيف فقير الحال، والمنزول عليه ميسورها، فيكون فيما يقدم للضيف إتحاف وإكرام له، وإن كان على عادة أهل البيت أو أقل من عادتهم. وقد يكون العكس فيحسن التكلف، وقد يكون الضيف من الأصدقاء الذين يحبون البساطة، ويكرهون التكلف، ليشعروا برفع الحرج، فيحسن تقديم ما حضر. لكن طلاقة الوجه وحسن اللقاء وحسن المقام وحسن التوديع مطلوب في جميع الأحوال. وفي الموضع الثاني: قد يكون الضيف مضطرا فتكون الضيافة واجبة بقدر الضرورة وإلا فهي من مكارم الأخلاق. وفي الموضع الثالث: قد يكون الضيف النازل على أهل الحضر لا يملك ما يشتري به قوته، ولا ما ينزل به في الفنادق، وقد يكون الضيف النازل على أهل البادية يحمل معه زادا يكفيه، وبيتا يقيمه ويرسيه، في مثل هاتين الصورتين تكون الضيافة مشروعة على أهل الحضر، دون أهل البادية. فإطلاق الخلاف في المواضع الثلاثة لا يستقيم، وللشرع أهدافه وللتشريع حكمته، والمراد تحقيق حكمة التشريع من التواد والألفة والمواساة. ولا يفوتنا - وقد بسطنا حق الضيف والواجب له- أن نبين الواجب عليه، فعلى الضيف أن يكون خفيف الظل، خفيف السؤال، لطيف الطلب، محافظا على آداب الضيافة مراعيا حرمة المنزل الذي يضيفه. فلا يحل له أن يطيل الإقامة حتى يحرج صاحب البيت ويوقعه في الضيق والإثم، فقد جعل صلى الله عليه وسلم ما يقدم للضيف بعد الثلاث في حكم الصدقة، وأطلق عليه لفظ الصدقة تنفيرا، لأن كثيرا من الناس خصوصا الأغنياء يتأففون غالبا من أكل الصدقة. ولا يتأفف مما يقدم له مهما قل، فالله سبحانه وتعالى يقول: {ما على المحسنين من سبيل} [التوبة: 91] وروى أحمد والحاكم عن سلمان قوله: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نكلف للضيف وساق قصته مع ضيفه، وفيها أن ضيفه طمع في الإتحاف والزيادة، فرهن سلمان مطهرته واشترى له ما يتحفه به، فلما أكل الضيف، قال: الحمد لله الذي قنعنا بما رزقنا، فقال له سلمان: لو قنعت ما كانت مطهرتي مرهونة. وحكى ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: صدق سلمان.

3 - وأما النطق بخير أو الصمت فيمكن تقسيم الكلام والصمت من حيث الأحكام الشرعية إلى ستة أنواع: أ - كلام واجب كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان حيث أمكن، وكشهادة الحق، وكالعبادات القولية الواجبة، فهذا لا شك في خيريته، والنطق به واجب، يثاب عليه. ب - كلام مندوب كالوعظ ونشر العلم والأذكار المستحبة، والكلام الذي يؤدي إلى خير دنيوي مشروع، وهو كذلك خير محقق، والنطق به مستحب يثاب عليه. جـ - كلام محرم تحريما ظاهرا، كالكذب والغيبة والنميمة والسخرية والاستهزاء والسب والفحش، والخوض في الباطل (كالغزل وذكر محاسن النساء والخمور والمحرمات). فهذا لا خير فيه، والإمساك عنه واجب. د - كلام غير محرم في حد ذاته، لكنه يجر إلى محرم تحقيقا أو غالبا كالتقعر في الكلام، فإنه يجر إلى المقت والبغض، وكالوعد مع نية الخلف، وكمجادلة من يغضب، وكممازحة من لا يحب المزاح، وهذا أيضا لا خير فيه، والإمساك عنه واجب. هـ - كلام لا خير فيه: مشكوك في أنه يجر إلى ضرر أو مكروه، كالكلام فيما لا يعنيك، والزيادة عن قدر الحاجة فيما يعنيك، وهذا هو المعروف بفضول الكلام، فالإمساك عنه مندوب والصمت عنه مستحب. و- كلام مباح يستوي طرفاه. فالنوعان الأولان داخلان في الأمر الأول "فليقل خيرا". والثالث والرابع والخامس داخلة في الأمر الثاني "ليصمت". والأمر على هذا لمطلق الطلب واجبا كان المطلوب أو مستحبا. وهذا لا خلاف فيه، وإنما الخلاف في النوع السادس ككلام الناس ومسامرتهم فيما لا يضر، هل يدخل في الأمر الثاني؟ أو لا يدخل في الأمرين؟ . جمهور العلماء على أنه يدخل في الأمر الثاني، لأن الأمر الأول موجه للقول الذي تحقق أو ترجح خيره "فليقل خيرا" وهذه المسامرة مفروض أنه لا خير فيها ولا شر، والأمر بالصمت توجه لما لا خير فيه. قال النووي في شرحه للحديث: معناه أنه إذا أراد أن يتكلم فإن كان ما يتكلم به خيرا محققا يثاب عليه واجبا أو مندوبا فليتكلم، وإن لم يظهر له أنه خير يثاب عليه فليمسك عن الكلام، سواء ظهر له أنه حرام أو مكروه أو مباح مستوي الطرفين، فعلى هذا يكون الكلام المباح مأمورا بتركه مندوبا إلى الإمساك عنه، مخافة من انجراره إلى المحرم أو المكروه وهذا يقع في العادة كثيرا أو غالبا، وقد قال الله تعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} [ق: 18] واختلف السلف

والعلماء في أنه: هل يكتب جميع ما يلفظ به العبد، وإن كان مباحا لا ثواب فيه ولا عقاب لعموم الآية؟ أم لا يثبت إلا ما فيه جزاء من ثواب أو عقاب؟ . إلى الثاني ذهب ابن عباس رضي الله عنه وغيره من العلماء، وعلى هذا تكون الآية مخصوصة، أي ما يلفظ من قول يترتب عليه جزاء اهـ. والذي أميل إليه أن الكلام المباح غير مأمور بتركه، وغير مندوب الإمساك عنه، بشرط أن يكون بمقدار لا يصل إلى النوع الخامس، لأن تسميته مباحا يتنافى مع الأمر بتركه والندب للإمساك عنه، وكلام الإمام النووي يشبه قولنا: مباح مأمور بتركه، أو مباح مندوب تركه، وهو كلام ظاهره الخلط بين الأحكام الشرعية التي تفرق بين المندوب والمباح. كما أن احتمال جر المباح إلى المحرم أو المكروه كاحتمال جره إلى الواجب أو المندوب، فلا يمنع المباح لهذا الاحتمال. يؤيدني في هذا الميل ما نقله النووي عن الإمام الشافعي، إذ قال: إذا أراد أن يتكلم فليفكر، فإن ظهر له أنه لا ضرر عليه تكلم، وإن ظهر له فيه ضرر أو شك فيه أمسك. اهـ. وهنا ينبغي أن نلاحظ أننا لسنا في مقام التفضيل بين الصمت وبين الكلام المباح، حتى نقول: إذا كان الكلام من فضة كان السكوت من ذهب. وإنما الذي حرصت على بيانه هو أن الكلام المباح غير مأمور بتركه، أما أن السكوت خير منه، أو هو خير من السكوت فليست الخيرية بينهما مطلقة، فإن أدى السكوت إلى التفكر في آلاء الله والعظة والتدبر كان خيرا منه، وحينئذ تكون المقارنة بين مندوب إليه وبين مباح. وإن أدى السكوت إلى حديث النفس الأمارة بالسوء، وإلى التخطيط في الشر كان الكلام المباح خيرا منه، وتكون المقارنة بين مكروه وبين مباح. وإن لم يؤد السكوت إلى خير ولا إلى شر، ولم يؤد الكلام المباح إلى خير ولا إلى شر. كانا مباحين غير مأمور بترك أحدهما، وإن كانت السلامة في السكوت أكثر. والله أعلم. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - تعظيم حق الجار. 2 - الحث على إكرام الضيف. 3 - الأمر بقول الخير. 4 - إمساك اللسان عن الشر. 5 - أن إكرام الضيف والجار وحفظ اللسان من صفات المؤمن، وليس معنى ذلك انتفاء الإيمان عمن فقد هذه الصفات، فإن عبارة "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر" أريد بها المبالغة والحث على

الالتزام، كما نقول: من كان ابني فليطعني، إذ المقصود منه التهييج على الطاعة بذكر الباعث عليها وهو البنوة. والباعث هنا على الانصياع للأوامر الثلاثة هو الإيمان بالله وبجزائه، وهو لا يظلم مثقال ذرة، وإن تك حسنة يضاعفها، ويؤت من لدنه أجرا عظيما. والله أعلم

(29) باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الإيمان

(29) باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الإيمان 81 - عن طارق بن شهاب. وهذا حديث أبي بكر. قال: أول من بدأ بالخطبة، يوم العيد قبل الصلاة، مروان. فقام إليه رجل. فقال: الصلاة قبل الخطبة. فقال: قد ترك ما هنالك، فقال: أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده. فإن لم يستطع فبلسانه. فإن لم يستطع فبقلبه. وذلك أضعف الإيمان. 82 - وبمثله. -[المعنى العام]- كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم عيد الفطر ويوم عيد الأضحى إلى المصلى، فأول شيء يبدأ به صلاة العيد، ثم يقوم فيتوجه إلى الناس، والناس جلوس على صفوفهم، فيخطبهم ويعظهم ويوصيهم ويأمرهم، فإن كان يريد أن يخرج طائفة من الجيش إلى جهة من الجهات أخرج، أو يأمر بشيء أمر به، ثم ينصرف. واستمر العمل على هذه السنة في عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، فلما كان معاوية، وكان مروان أمير المدينة من جهته، بدأ بالخطبة قبل صلاة العيد، ورأى الغيورون على الإسلام أن عليهم واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم واجب الاتباع، وأن عليهم أن ينبهوا الأمير ليعود إلى السنة. من هؤلاء الغيورين أبو مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري، قام إلى مروان وهو يتهيأ للصعود على المنبر، فقال له: عليك بالصلاة قبل الخطبة. سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يعبأ به مروان، وقال له: قد ترك هذا الوضع، فجذب أبو سعيد الخدري مروان من ثوبه ليمنعه من ارتقاء المنبر، فجذبه مروان، فارتقى، فقال أبو سعيد: غيرتم والله سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له مروان: قد ذهب ما تعلم، قال أبو سعيد: ما أعلم والله خير مما لا أعلم، وخطب مروان، ثم صلى، ثم قال لأبي سعيد: إن الناس لم يعودوا يجلسون لنا بعد الصلاة، فجعلت الخطبة قبل الصلاة للحفاظ على سماعها. قال أبو سعيد: أما أبو مسعود فقد أدى ما عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد أديت ما علي، وقد

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من رأى أو علم منكم منكرا فليغيره ويزيله بيده، فإن لم يستطع الإزالة باليد فليطلب إزالته، وليهاجمه بلسانه، فإن لم يستطع استخدام لسانه فلينكره بقلبه، ومن لم يكره المنكر ويغضب له في نفسه، ويمقته في دخيلته، ويغار على أمور إيمانه، من لم يفعل ذلك فليس بمؤمن. لأن ذلك أضعف الإيمان. -[المباحث العربية]- (أول من بدأ بالخطبة) "أل" في الخطبة للعهد أي خطبة العيد، وكذلك "أل" في الصلاة. (مروان) خبر "أول" وكان أمير المدينة من قبل معاوية. (فقام إليه رجل) قال الحافظ ابن حجر: يحتمل أن يكون هو أبو مسعود الذي ذكر اسمه في بعض الروايات، ويحتمل أنه غيره، وأن قصة الإنكار قد تعددت. (الصلاة قبل الخطبة) مبتدأ وخبر، أي الصلاة حقها أن تكون قبل الخطبة. (قد ترك ما هنالك) "ترك" بالبناء للمجهول، و"ما" موصول في محل رفع نائب فاعل، واسم الإشارة ظرف متعلق بمحذوف صلة "ما" والتقدير: ترك الذي تشير إليه، أي تركنا العمل بتقديم الصلاة على الخطبة الذي كان هنالك في الزمن الماضي. (أما هذا فقد قضى ما عليه) المشار إليه هو الرجل الذي نبه مروان إلى جعل الصلاة قبل الخطبة، و"أما" حرف شرط وتفصيل، والمعنى مهما يكن من شيء فهذا الرجل قد أدى واجبه وما عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد ترك تكرار "أما" استغناء بالكلام الذي ذكر بعدها وهو موضع القسم الثاني، والتقدير: وأما أنا فأنكر كما أنكر، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم منكرا) إلخ، "من" اسم شرط جازم مبتدأ، والمراد من الرؤية العلم عن طريق أي حاسة من الحواس، فقد يشم الخمر، ويلمس الأعمى آلات اللهو، ويسمع الغيبة والنميمة إلخ. (فليغيره بيده) جواب الشرط، دخلت عليه الفاء لأنه طلب، والمراد من تغيير المنكر إبطاله ومنعه، والمراد من اليد الجوارح، ويعبر عن الجوارح باليد كثيرا، لأنها أكثر الجوارح استعمالا وأشدها أثرا، ومن ذلك قوله تعالى: {ذلك بما قدمت يداك} [الحج: 10]. (فإن لم يستطع فبلسانه) مفعول "يستطع" محذوف، والفاء داخلة على المتعلق بالجواب المحذوف، والتقدير: فإن لم يستطع تغيير المنكر بيده فليغيره بلسانه، والمراد من اللسان النطق والكلام. (فإن لم يستطع فبقلبه) أي فليغيره بقلبه، وفي إطلاق التغيير على إنكار القلب توسع، لأن كراهية المنكر بالقلب لا يغير من الواقع، ولا يمنع صاحبه منه.

(وذلك أضعف الإيمان) الإشارة إلى التغيير بالقلب، والمراد من ضعف الإيمان ضعف أثره. -[فقه الحديث]- مذهب العلماء كافة أن خطبة العيد بعد الصلاة. قال القاضي عياض: هذا هو المتفق عليه من مذاهب علماء الأمصار وأئمة الفتوى، ولا خلاف بين أئمتهم فيه، وهو فعل النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين بعده. اهـ. والجمهور على أن مروان أول من قدم الخطبة على صلاة العيد، والحديث الذي معنا نص في هذا. وقيل: إن عثمان في شطر خلافته الأخير قدم الخطبة، لأنه رأى من الناس من تفوته الصلاة، فحرصا منه رضي الله عنه على إدراك الناس الصلاة قدم الخطبة. وقيل: إن عمر رضي الله عنه قدم الخطبة، قال النووي بعد أن ساق القولين المذكورين: وليس ما روي عنهما بصحيح. فالمعتمد في أول من قدم الخطبة هو قول الجمهور، وأنه مروان حين كان أمير المدينة. والسر في عمله هذا أن الناس كانوا ينصرفون عن سماع خطبته، ولم يكن يجلس لها بعد الصلاة إلا عدد قليل، وكان الكثير منهم يتعمدون ترك سماع خطبته، لما فيها من سب من لا يستحق السب، والإفراط في مدح من لا يستحق، فقصد إسماع الناس خطبته بهذا الأسلوب. وهل كان دافعه إحراج الناس، وإلزامهم سماعه فحسب؟ أو كان يهدف إلى تحصيل ثواب أكثر لهم بسماعهم خطبة العيد، فسماع الخطبة سنة يثاب عليها؟ نميل إلى الثاني والله أعلم بالسرائر. هذا، وبعد أن اشترط العلماء تقديم صلاة العيد على خطبته، اختلفوا فيمن خالف ذلك وقدم الخطبة على الصلاة، فذهب الحنفية إلى أنه يسن تأخير الخطبة عن الصلاة، لكن يعتد بها إن قدمت وإن كانت على خلاف السنة، ولا يعيدها بعد الصلاة. وجمهور الفقهاء على أنه لا يعتد بالخطبة إذا قدمت، ويندب إعادتها بعد الصلاة، وقيد المالكية ندب إعادتها بقرب الزمن عرفا، فإن طال الزمن بعد الصلاة فلا تعاد. ومن هذا العرض يتضح أن موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذا الحديث هو مخالفة سنة، ومنه ندرك مدى غيرة الصحابة على الدين ومدى قيامهم واهتمامهم بهذا الواجب حتى مع حكامهم، نعم أنكر الرجل بلسانه واكتفى منه أبو سعيد بهذا الإنكار، وقد أثار الإمام النووي هنا إشكالا وجوابه فقال: قد يقال: كيف تأخر أبو سعيد رضي الله عنه عن إنكار هذا المنكر حتى سبقه إليه هذا الرجل؟ وجوابه: أنه يحتمل أن أبا سعيد لم يكن حاضرا أول ما شرع مروان في أسباب تقديم الخطبة، فأنكر عليه الرجل ثم دخل أبو سعيد وهما في الكلام، ويحتمل أن أبا سعيد كان حاضرا من الأول، ولكنه خاف على نفسه أو غيره حصول فتنة بسبب إنكاره، فسقط عنده الإنكار، ولم يخف ذلك الرجل شيئا، لاعتضاده بظهور عشيرته أو غير ذلك، أو أنه خاف وخاطر بنفسه، وذلك جائز في مثل هذا، بل مستحب، ويحتمل أن أبا سعيد هم بالإنكار فبدره الرجل فعضده أبو سعيد. والله أعلم. اهـ.

وهذه الاحتمالات التي ساقها النووي جوابا عن الإشكال لا تتفق وما رواه مسلم في باب العيدين، فقد روي عن أبي سعيد "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج يوم الأضحى ويوم الفطر، فيبدأ بالصلاة، فإذا صلى صلاته وسلم قام فأقبل على الناس، وهم جلوس في مصلاهم، فإن كانت له حاجة ببعث ذكره للناس، أو كانت له حاجة بغير ذلك أمرهم بها وكان يقول: تصدقوا. تصدقوا. تصدقوا. وكان أكثر من يتصدق النساء. ثم ينصرف، فلم يزل كذلك حتى كان مروان بن الحكم، فخرجت مخاصرا مروان [أي يده في يده] حتى أتينا المصلى، فإذا كثير بن الصامت قد بنى منبرا من طين ولبن، فإذا مروان ينازعني يده، كأنه يجرني نحو المنبر وأنا أجره نحو الصلاة، فلما رأيت ذلك منه قلت: أين الابتداء بالصلاة؟ فقال: لا. يا أبا سعيد قد ترك ما تعلم. قلت: كلا. والذي نفسي بيده لا تأتون بخير مما أعلم. ثلاث مرار ثم انصرف". فهذا الحديث يبعد تأخر أبي سعيد في الإنكار عن الرجل، ويبعد أن يكون قد سكت خوفا على نفسه، في الوقت الذي لم يخف فيه الرجل أو خاف وخاطر، بل هذا الحديث يثبت أن أبا سعيد أنكر المنكر بيده ثم بلسانه بصورة أشد من صورة إنكار الرجل، والجمع بين الحديثين سهل دون حاجة إلى هذه الاحتمالات، فأبو سعيد حاول منع مروان بيده، كما أنكر بلسانه، فلما صعد مروان المنبر أنكر الرجل فأيده أبو سعيد، ولا إشكال، ولا حاجة إلى القول بأنهما قضيتان. وقد أفاد الكتاب والسنة وإجماع الأمة أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب فالقرآن يقول: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} [آل عمران: 104]. فهذه الآية صريحة في أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفاية، وهو محل اتفاق بين من يعتد بهم من العلماء، ولا يضر هذا الاتفاق ما ذهب إليه الشيخ أبو جعفر من الإمامية من أنه فرض عين، ولا ما ذهب إليه الرافضة من أنه لا يجوز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بإذن الإمام المعصوم وهو الإمام الحق عندهم، وهو لم يخرج بعد حسب عقيدتهم. قال الغزالي: وهؤلاء أخس رتبة من أن يكلموا. بل جوابهم أن يقال لهم إذا جاءوا إلى القضاء طالبين لحقوقهم في دمائهم وأموالهم: إن نصرتكم أمر بالمعروف، واستخراج حقوقكم من أيدي من ظلمكم نهي عن المنكر، وطلبكم لحقكم من جملة المعروف، وما هذا زمان النهي عن الظلم وطلب الحقوق، لأن الإمام الحق لم يخرج بعد. اهـ. ولا يضر في هذا الاتفاق أيضا ما ذهب إليه المعتزلة من أن وجوبه بالعقل لا بالشرع. لكن هؤلاء المتفقين اختلفوا في الواجب على الكفاية، هل هو واجب على جميع المكلفين، ويسقط عنهم بفعل بعضهم؟ أم هو واجب على البعض؟ ذهب الإمام الرازي وأتباعه إلى أنه واجب على البعض، للاكتفاء بحصوله من البعض ولو وجب على الكل لم يكتف بفعل البعض، إذ يستبعد سقوط الواجب على المكلف بفعل غيره.

وذهب الجمهور إلى أنه واجب على جميع المكلفين، وهو ظاهر نص الإمام الشافعي في الأم، واستدلوا على ذلك بإثم الجميع بتركه، ولو لم يكن واجبا عليهم كلهم لما أثموا بالترك. وفي المسألة بحث طويل يطلب من محله. ومعنى كونه فرض كفاية أنه إذا قام به البعض سقط الحرج عن الباقين، وإذا تركه الجميع أثم كل من تمكن منه بلا عذر ولا خوف، وقد يكون الأمر بالمعروف فرض عين، كما إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو، أو لا يتمكن من إزالته إلا هو، كمن يرى زوجته أو ابنه على منكر. وقد أوضح الحديث أن إنكار المنكر على درجات مرتبة، على معنى أنه تجب الدرجة الأولى وهي التغيير بالجوارح لمن قدر عليها، ولا يغني عنه الاكتفاء بالدرجة الثانية والاقتصار على اللسان الذي لا يغير المنكر مع القدرة على الدرجة الأولى. وليس معنى ذلك أن المكلفين مطالبون باستعمال جوارحهم قبل استعمال ألسنتهم، بل الواجب استعمال الأخف أولا، فإذا لم ينجح في تغيير المنكر استعمل ما فوقه شدة، فيبدأ مثلا بالتعريف وتنبيه المرتكب إلى أن ما يرتكبه منكر، فقد يقدم على المنكر الجاهل بأنه منكر، فإذا عرف أنه منكر تركه، كمن لا يحسن الصلاة. فإذا لم ينفع التعريف في تغيير المنكر انتقل إلى النهي والوعظ والنصح والتخويف، فإذا لم تنجح هذه الوسيلة في تغيير المنكر مع القدرة على منعه بالجوارح وجب استعمال الجوارح. فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ينبغي أن يكون كالطبيب مع المريض، كل همه العلاج من أسهل الطرق، فإذا كان لا بد من الكي والبتر من أجل صلاح باقي الجسم وجب الكي والبتر. وفي حد الاستطاعة التي يتعرض لها الحديث بقوله: "فإن لم يستطع" خلاف بين العلماء فمنهم من يذهب إلى وجوب تحمل الأذى في سبيل الأمر بالمعروف إلا أن يصل إلى الخوف على النفس، بل منهم من يرى الإنكار بكل حال وإن قتل ونيل منه كل أذى، وبعضهم يرى أن خوف المكروه يحقق عدم الاستطاعة. والتحقيق أن الأمر يختلف باختلاف نوع الأذى، ومدى احتماله، ونوع المنكر، ومدى خطورته، والأثر الحسن أو القبيح المترتب على هذا الإنكار. وللإمام الغزالي في هذا المقام كلام نفيس نلتقط منه بعضه، قال -رحمه الله- واعلم أنه لا يقف سقوط الواجب على العجز الحسي، بل يلتحق به ما يخاف عليه مكروها يناله فذلك في معنى العجز، وكذلك إذا علم أن إنكاره لا ينفع، فإن اجتمع المعنيان، بأن علم أن كلامه لا ينفع، وخاف أن يضرب إن تكلم فلا يجب عليه الأمر بالمعروف، فإن علم أن إنكاره لا يفيد لكنه لا يخاف مكروها فلا تجب عليه الحسبة لعدم فائدتها، ولكن تستحب لإظهار شعائر الإسلام وتذكير الناس بأمر الدين، وذهب بعضهم إلى وجوبها بناء على أن الواجب الأمر بالمعروف لا القبول، قال تعالى: {ما على الرسول إلا البلاغ} [المائدة: 99].

فإن علم أنه يصاب بمكروه، ولكن يبطل المنكر بفعله، فهذا ليس بواجب وليس بحرام بل هو مستحب. ثم قال: ويستحب له أن يعرض نفسه للضرب والقتل إذا كان لحسبته تأثير في رفع المنكر، أو في كسر جاه الفاسق، أو في تقوية قلوب أهل الدين، وأما إذا رأى فاسقا متغلبا وعنده سيف، وبيده قدح، وعلم أنه لو أنكر عليه لشرب القدح، وضرب رقبته، فهذا مما لا أرى للحسبة فيه وجها، وهو عين الهلاك، وتعريض النفس للهلاك من غير أثر لا وجه له، بل ينبغي أن يكون حراما، وإنما يستحب له الإنكار إذا قدر على إبطال المنكر، أو ظهر لفعله فائدة، وذلك بشرط أن يقتصر المكروه عليه، فإن علم أنه يضرب معه غيره من أصحابه أو أقاربه فلا تجوز له الحسبة، بل تحرم. ثم قال: والظن الغالب في هذه الأبواب في معنى العلم. اهـ بتصرف. والمقصود من تغيير المنكر بالقلب كراهيته ومقته وبغضه، إذ كل من أحب الله يكره معاصيه وينكرها، ومظاهر هذا الإنكار اكفهرار في الوجه أمامه، وعدم حضور موضعه، قال تعالى: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين} [الأنعام: 68]. وظاهر الحديث أن إنكار المنكر باليد عام حيث قدر عليه الآمر، فيشمل إنكار الابن على أبيه، والزوجة على زوجها، والعبد على سيده، لكن هذا العموم يتعارض مع قوله في حق الولد مع والديه، {فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما} [الإسراء: 23] وقوله: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا} [لقمان: 15]. وفي هذا يقول الغزالي: والذي نراه أن للولد الحسبة بالتعريف، ثم بالوعظ والنصح باللطف، وليس له الحسبة بالسب والتعنيف والتهديد ولا بمباشرة الضرب. ثم قال: وهذا ينبغي أن يجري في العبد مع سيده، وفي الزوجة مع زوجها. اهـ. وعموم الحديث في قوله "من رأى منكم منكرا" يشمل العالم والجاهل، فكل من يعلم أنه منكر يجب عليه أن ينكره، ولا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالعلماء وأصحاب الولايات. كل ما في الأمر أن الذي يأمر وينهي هو العالم بما يأمر به وينهي عنه، وذلك يختلف باختلاف الآمر والمأمور به، فإن كان المأمور به من الواجبات الظاهرة كالصلاة والصيام، أو كان المنهي عنه من المحرمات الواضحة كالزنا والخمر، فكل المسلمين علماء بها، واجب على آحادهم كما هو واجب على علمائهم وإن كان وجوبه على العلماء بصفة أشد، إذ فيهم قوة الإنكار، ولهم تزيد الاستجابة، ومنهم تؤخذ أحكام الشريعة. وإن كان المأمور به أو المنهي عنه من دقائق الأفعال والأقوال، كان الأمر بالمعروف واجب العلماء.

ثم إنهم ينبغي لهم ألا ينكروا أمرا مختلفا فيه، وهو محل للاجتهاد، فليس للحنفي أن ينكر على الشافعي أكله للضب مثلا، لأن كل مجتهد مصيب عند كثير من المحققين، وعلى الرأي الآخر المصيب واحد، والمخطئ غير متعين لنا، والإثم مرفوع عنه، نعم إن ندبه على جهة النصيحة -إلى الخروج من الخلاف فهو حسن مندوب إليه برفق، فإن العلماء متفقون على الحث على الخروج من الخلاف، إذا لم يلزم منه إخلال بسنة، أو وقوع على خلاف آخر. ولا يشترط في الآمر والناهي أن يكون كامل الحال، متمثلا لما يأمر به مجتنبا ما ينهى عنه، بل عليه الأمر وإن كان مخلا بما يأمر به، والنهي وإن كان متلبسا بما ينهى عنه، فإنه يجب على المسلم شيئان: 1 - أن يأمر نفسه وينهاها، أي يمتثل حكم الشرع. 2 - وأن يأمر غيره وينهاه، فإذا أخل بأحدهما فإنه لا يباح له الإخلال بالآخر، وأما قوله تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} [البقرة: 44] فهو توبيخ على نسيان النفس، لا على الأمر بالبر، وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} [الصف: 2]. فهو في قوم قالوا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملناه، فالتوبيخ مداره في الحقيقة عدم فعلهم، لا قولهم، فالمعنى: لم لا تفعلون؟ وليس في الآيتين ما يمنع الأمر بالمعروف للمخل به. ولا يتعارض وجوب الأمر بالمعروف مع قوله {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} [المائدة: 105] إذ الاهتداء لا يتم إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن تركه مع القدرة عليه ضلال، فالمعنى: إذا استقمتم في أنفسكم وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر لا يضركم ضلال من يضل، فهو قريب من قوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [فاطر: 18]. وقد روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الناس، إنكم لتتلون آية من كتاب الله وتعدونها رخصة {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم} الآية. والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليعمنكم الله تعالى منه بعقاب". هذا. وليس من حق الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يتجسس للبحث عن المنكرات وتتبعها. فإن كل من ستر معصيته في داره، وأغلق عليه بابه لا يجوز أن يتجسس عليه، لأن الله نهى عن التجسس، وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تسلق دار رجل، فرآه على حالة مكروهة، فأنكر عليه. فقال: يا أمير المؤمنين. إن كنت أنا قد عصيت الله من وجه واحد فأنت قد عصيته من ثلاثة أوجه. فقال: وما هي؟ فقال: قد قال الله تعالى: {ولا تجسسوا} [الحجرات: 12] وقد تجسست، وقال تعالى: {وأتوا البيوت من أبوابها} [البقرة: 189] وقد تسورت من السطح. وقال {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها} [النور: 27] وما سلمت. فتركه عمر، وشرط عليه التوبة.

نعم إن علم منكرا يجب إدراك خطره وهو قادر على دفعه، جاز له التجسس ثم اقتحام الدار، وفي هذا يقول الماوردي: ليس للمحتسب أن يبحث عما لم يظهر من المحرمات، فإن غلب على الظن استسرار قوم بها، لأمارة وآثار ظهرت، فذلك ضربان: أحدهما أن يكون ذلك في انتهاك حرمة يفوت استدراكها مثل أن يخبره من يثق بصدقه أن رجلا خلا برجل ليقتله، أو بامرأة ليزني بها، فيجوز له في مثل هذا الحال أن يتجسس، ويقدم على الكشف والبحث، حذرا من فوات ما لا يستدرك. الضرب الثاني: ما قصر عن هذه الرتبة، فلا يجوز التجسس عليه، ولا كشف الأستار عنه، فإن سمع أصوات الملاهي المنكرة من دار أنكرها خارج الدار، ولم يهجم عليها بالدخول لأن المنكر ظاهر، وليس عليه أن يكشف عن الباطن. وعلى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أمور منها: 1 - أن يكون رفيقا في دعوته ليكون أدعى إلى القبول، فقد قيل: إن المأمون وعظه واعظ، فعنف في القول، فقال له: يا رجل. ارفق، فقد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شر مني، وأمر بالرفق فقال: {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} [طه: 44]. 2 - وأن يكون مسرا بإنكاره، فقد قال الشافعي: من وعظ أخاه سرا نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه. 3 - وألا يسرف في الكلام والوعظ لئلا ينفر المرتكب. 4 - وأن يكون حليما صبورا يتحمل جهل الجاهل وسفهه، ولذلك قرن الله الصبر بالأمر بالمعروف، فقال حاكيا عن لقمان: {يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور} [لقمان: 17]. 5 - وأن يكون على جانب طيب من حسن الخلق، فإن فاقد الشيء لا يعطيه، وهداية الغير فرع هداية النفس، ولا يستقيم الظل والعود أعوج. هذا وباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب عظيم القدر، جليل الشأن، بالغ النفع، شديد الخطر، به كانت الأمة الإسلامية خير أمة، قال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} [آل عمران: 110] وبسبب التقصير غضب الله على اليهود وجعل منهم القردة والخنازير قال تعالى: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون} [المائدة: 78، 79]. وقد قلت عناية المسلمين به في هذا العصر، حتى ندر منهم الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، جبنا من السطوة حينا، وحرصا على الدنيا أحيانا، تركوه خوفا على الصداقة والمودة، ونسوا أن المودة توجب حقا وحرمة، وحقها النصح والهداية إلى سواء السبيل، وحرمتها الإنقاذ من النار.

تركوه مداهنة للرؤساء، وطلبا للمنزلة عندهم، وابتغاء رضاهم، للوصول إلى عرض زائل حقير، ونسوا أن الأمر كله لله، وأنه لو اجتمع أهل السماء والأرض على أن ينفعوا لم ينفعوا إلا بشيء قد كتبه الله. نرى في المساجد المسيئين في صلاتهم ثم لا نكترث بنصحهم، ونسمع الغيبة والنميمة عشرات المرات في اليوم الواحد ونبتسم لقائلها، ونرى المتسكعين في الطرقات من الشباب يعاكسون الفتيات، فنهز أكتافنا ثم نمضي كأنه لا يعنينا، وأصبح عري النساء، وكشفهن العورات ومواطن إثارة الغرائز وضعا مألوفا، والاحتشام والتستر أمرا غريبا، بل أصبحت القوانين المدنية تدعو إلى عدم التعرض للمنكر الذي حصل بتراضي الطرفين، ولا شك أن عدم التعرض للمنكر منكر، فهي صراحة تأمرنا بالمنكر وتنهانا عن المعروف. وتلك سمة اختلال الزمان وتغير الحال، وقرب الانتقام من الحليم المتعال. وقد أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بما نحن عليه اليوم، إذ قال لأصحابه: "كيف أنتم إذا طغى نساؤكم، وفسق شبابكم، وتركتم جهادكم؟ " قالوا: وإن ذلك لكائن يا رسول الله؟ قال: "نعم. والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون". قالوا: وما أشد منه يا رسول الله؟ قال: "كيف أنتم إذا لم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر؟ "قالوا: وكائن ذلك يا رسول الله؟ قال: "نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون". قالوا: وما أشد منه يا رسول الله؟ قال: "كيف أنتم إذا رأيتم المعروف منكرا، والمنكر معروفا؟ " قالوا: وكائن ذلك يا رسول الله؟ قال: "نعم. والذي نفسي بيده. وأشد منه سيكون". قالوا: وما أشد منه يا رسول الله؟ قال: "كيف أنتم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟ " قالوا: وكائن ذلك يا رسول الله؟ قال: "نعم". وقد تحققت كل هذه المساوئ في زماننا فاستنصرنا ولم ينصرنا الله، ودعا خيارنا فلم يستجب لهم، وسلط الله علينا من لا يوقر كبيرنا، ولا يرحم صغيرنا، ولا يصون أعراضنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولا سلامة إلا بالرجوع إلى دين الله، وكلنا راع وكلنا مسئول. فاللهم اكشف عنا الغمة، واهدنا سواء السبيل، إنك رءوف رحيم. والله أعلم

(30) باب ضعف الإيمان بتطاول الأزمان والحاجة إلى الأمر بالمعروف

(30) باب ضعف الإيمان بتطاول الأزمان والحاجة إلى الأمر بالمعروف 83 - عن أبي رافع، عن عبد الله بن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب. يأخذون بسنته ويقتدون بأمره. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف. يقولون ما لا يفعلون. ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن. ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن. ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن. وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل". قال أبو رافع: فحدثت عبد الله بن عمر فأنكره علي. فقدم ابن مسعود فنزل بقناة. فاستتبعني إليه عبد الله بن عمر يعوده. فانطلقت معه. فلما جلسنا سألت ابن مسعود عن هذا الحديث فحدثنيه كما حدثته ابن عمر. قال صالح: وقد تحدث بنحو ذلك عن أبي رافع. 84 - وعن أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم، عن عبد الله بن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما كان من نبي إلا وقد كان له حواريون يهتدون بهديه ويستنون بسنته" مثل حديث صالح. ولم يذكر قدوم ابن مسعود واجتماع ابن عمر معه. -[المعنى العام]- سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا، يبعث الله الرسول في قومه، فينتشر نوره بينهم، وتسري حرارة الدعوة في دمائهم، وتستقر تعاليمه في عقائدهم، فيتمسكون بها ويحافظون عليها، ثم يمضي الرسول ويمضي عصره فيضعف النور، وتهدأ الحرارة، وتتزعزع التعاليم في النفوس، ويقل التمسك بها، وتختل المحافظة عليها، وكلما مضى عصر زاد الضعف، وكثر التهاون، فخير القرون قرن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وهكذا حتى يأتي آخر الزمان، بقوم غير القوم، يأتي بقوم بعيدين عن التعاليم بقدر بعد الزمان، صورهم غير حقائقهم، وأسماؤهم لا تتفق ومسمياتهم، في صور العقلاء وحقائقهم كالأنعام، يدعون بالمسلمين ولا إسلام. يقولون ما لا يفعلون ولا يفعلون ما يقولون، بل يفعلون نقيض أوامر الشريعة، فيأتون بالمنكرات، ويتركون الواجبات.

تلك سنة الله في خلقه، كلما بعد المؤثر قل الأثر حتى ينمحي أو يكاد، ما لم يتعهد بالتغذية والتقوية، تماما كأي تيار مندفع من قوة، يقل اندفاعه كلما بعد عن مصدر الدفع، ما لم يساعد بين الحين والحين بقوة دافعة أخرى، وتلك القوة الدافعة الأخرى في أديان الله تتمثل في العلماء والصالحين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر. والحديث الشريف بعد أن صور أثر الزمان في انحلال الناس وظلماتهم ركز على من يأخذ بيدهم، وعلى المصابيح الجانبية التي تضيء لهم، وعلى الدفعات الإضافية التي تدفعهم، من جاهد المنكرات وغيرها بيده فهو مؤمن إيمانا كاملا، ومن جاهدها وأنكرها بلسانه فهو مؤمن دون الأول، ومن جاهدها وأنكرها بقلبه فهو مؤمن دون الثاني، ومن لم يفعل شيئا من ذلك، ووقف من المنكرات موقف المتفرج غير العابئ فليس بمؤمن، وليس في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، ففاعل المنكر والراضي به سواء. وفقنا الله لاتباع أمره، والأخذ بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. -[المباحث العربية]- (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي) "ما" نافية "من" زائدة "نبي" مبتدأ مرفوع بضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد "في أمة" جار ومجرور متعلق ببعث، وكذا الظرف "قبلي" وجملة "بعثه الله" في محل جر صفة "نبي". (إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب) الاستثناء مفرغ من عموم الأخبار، أي ما من نبي مخبر عنه بخبر من الأخبار إلا بخبر كذا، وجملة "كان له من أمته حواريون وأصحاب" خبر "نبي" و"حواريون" اسم "كان" و"له" متعلق بخبرها، و"من أمته" جار ومجرور في محل نصب حال من "حواريون" وأصله صفة له قدمت عليه. والحواريون جمع حواري، يقال: فلان حواري فلان، أي خاصته من أصحابه وناصره، ولفظ "حواري" مفرد منصرف، وياؤه مشددة وتخفيفها شاذ، وأصله من التحوير، وهو التبييض، وقيل: سمي الناصر بذلك لنقاء قلبه، وطهارة خلقه، وإخلاصه في محبته، وقيل: أصله من الحور، وهو الرجوع، ومنه قوله تعالى: {إنه ظن أن لن يحور} [الانشقاق: 14] وكأن الصاحب الناصر للنبي راجع في أموره إلى الله ورسوله، وعطف "أصحاب" على "حواريون" عطف عام على خاص. (يأخذون بسنته) ضمن "يأخذون" معنى "يتمسكون" فعدي بالباء يقال: أخذ بتلابيبه بمعنى أمسك بها، والجملة صفة "حواريون". (ويقتدون بأمره) الأمر واحد الأمور، أي يقتدون بحاله وأموره فإن أريد من الأمر واحد الأوامر -وهو بعيد- فالمراد من الاقتداء الصدع والتنفيذ.

(ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف) ضمير "إنها" للحال والقصة والخلوف بضم الخاء واللام: جمع خلف بفتح الخاء وسكون اللام، وهو الخالف بشر، أي بدل السوء، ومنه: سكت ألفا ونطق خلفا، أما الخلف بفتح الخاء واللام فهو الخالف بخير، وهل هذه التفرقة مبناها الشيوع وكثرة الاستعمال؟ أو مبناها الوضع؟ خلاف بين اللغويين. وظاهر قوله "ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف" أن هذه الخلوف تعقب الحواريين والأصحاب، ولكن هذا الظاهر غير مراد، فإن خلوف الشر إنما كانت بعد أجيال من الأصحاب، والتعبير بثم يرشح لهذا المراد. (يقولون ما لا يفعلون) "ما" موصولة، وعائد الصلة مفعول "يفعلون" محذوف، وجملة يقولون صفة "خلوف". (فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن) أي من جد واجتهد، وبلغ جهده في منعهم بجوارحه فهو مؤمن إيمانا قويا. (وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) الخردل نبات له حب صغير جدا أسود اللون مقرح، ويضرب المثل بحبة الخردل للمتناهي في الصغر. والمعنى وليس بعد ذلك إيمان يزن حبة خردل، أي إن إيمان المنكر بقلبه متناه في الصغر، ومن لا ينكر بقلبه لا شيء عنده من الإيمان، والمقصود المبالغة في ضعف الإيمان. (فحدثته عبد الله بن عمر) أي حدث أبو رافع عبد الله بن عمر بهذا الحديث، فهاء المفعول الأول في "حدثته" للحديث السابق. (فقدم ابن مسعود) من العراق إلى المدينة. (فنزل بقناة) بقاف مفتوحة، آخره تاء تأنيث، غير مصروف للعلمية والتأنيث، إذ هو علم على واد من أودية المدينة، ويرويه بعضهم "بفنائه" بالفاء بدل القاف وبالمد، والفناء ما بين أيدي المنازل والدور. قال القاضي عياض: رواية "بفنائه" خطأ وتصحيف. (فاستتبعني عبد الله بن عمر) أي طلب مني أن أتبعه. (يعوده) أي يزوره مكررا، وليس من عيادة المريض. -[فقه الحديث]- ما ورد في هذا الحديث من الحث على جهاد المبطلين باليد واللسان، إنما هو حيث لا يؤدي ذلك إلى إثارة الفتن وإشهار السلاح.

وما يتعلق بالحديث من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد تقدم في الحديث السابق. ومع أن الشيخ أبا عمرو يرى أن هذا الحديث مسوق فيمن سبق من الأمم، ويرى أنه ليس في لفظه ذكر لهذه الأمة، فإننا نرى أنه دعوة للأمة الإسلامية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن فيه تقريرا لما كان، والتقرير تشريع. بل نرى أن قوله صلى الله عليه وسلم "فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن" كلام موجه للصحابة، مبني على مفهوم مطوي في الكلام، تقديره، وستكون أمتي كذلك، وسيخلفكم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ... إلخ. ولو أن الكلام في الأمم السابقة خاصة لكان الأولى بالأسلوب أن يكون: ثم إنها خلفت من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، فمن كان يجاهدهم بيده كان مؤمنا ... إلخ. ويؤيدنا في هذا الفهم صنيع الإمام مسلم والإمام النووي، فقد استدلا بالحديث على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - مدى حيطة الصحابة في أخذ الأحاديث وإنكارهم ما لا يقبلون، والتثبت والاستشهاد على صحة ما يرون. 2 - أن سنة الله في خلقه ضعف الإيمان كلما تقدمت القرون. 3 - أن الإيمان يزيد ويتكامل، ويضعف حتى حبة الخردل. 4 - عيادة الأفاضل، وزيارة القادمين من السفر. والله أعلم

(31) باب تفاضل أهل الإيمان

(31) باب تفاضل أهل الإيمان 85 - عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: أشار النبي صلى الله عليه وسلم بيده نحو اليمن، فقال "ألا إن الإيمان ههنا. وإن القسوة وغلظ القلوب في الفدادين. عند أصول أذناب الإبل. حيث يطلع قرنا الشيطان في ربيعة ومضر" 86 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "جاء أهل اليمن. هم أرق أفئدة. الإيمان يمان. والفقه يمان. والحكمة يمانية". وبمثله. 87 - عن الأعرج قال: قال أبو هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أتاكم أهل اليمن. هم أضعف قلوبا وأرق أفئدة. الفقه يمان والحكمة يمانية". 88 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رأس الكفر نحو المشرق. والفخر والخيلاء، في أهل الخيل والإبل، الفدادين أهل الوبر. والسكينة في أهل الغنم". 89 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان يمان. والكفر قبل المشرق. والسكينة في أهل الغنم. والفخر والرياء في الفدادين أهل الخيل والوبر". 90 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "الفخر والخيلاء في الفدادين أهل الوبر. والسكينة في أهل الغنم".

91 - عن الزهري بهذا الإسناد مثله وزاد الإيمان يمان والحكمة يمانية 92 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "جاء أهل اليمن. هم أرق أفئدة وأضعف قلوبا. الإيمان يمان والحكمة يمانية. السكينة في أهل الغنم. والفخر والخيلاء في الفدادين أهل الوبر. قبل مطلع الشمس". 93 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أتاكم أهل اليمن. هم ألين قلوبا وأرق أفئدة. الإيمان يمان والحكمة يمانية. رأس الكفر قبل المشرق". 94 - عن الأعمش بهذا الإسناد ولم يذكر "رأس الكفر قبل المشرق". 95 - عن الأعمش بهذا الإسناد مثل حديث جرير "وزاد والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل والسكينة والوقار في أصحاب الشاء". 96 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "غلظ القلوب، والجفاء في المشرق. والإيمان في أهل الحجاز". -[المعنى العام]- القلوب كالمعادن، تصفو وترق وتشع وتجلو، وتؤدي رسالتها، وتصل إلى غايتها إن حوفظ عليها من الفساد، وتعهدت بما يحفظ لها الحسن والجمال. ثم هي تصدأ وتغلظ، وتجمد وتسود، وتعجز عن أداء مهمتها، وتقعد عن غايتها وتنعدم فائدتها، بل قد ينتشر ضررها إن هي أهملت، وتركت لعوامل البوار والخسران. نعم. وللقلوب طلاء كطلاء المعادن، وإرهاف كإرهاف الذهب ورنينه. ذلك الطلاء هو التدبر في كتاب الله، والنظر في مخلوقات الله، واتخاذ أسباب التواضع والرفق والحلم والرحمة والخوف والوجل.

نعم. وللقلوب صدأ كصدأ الحديد، وسواد ودخان يتكاثف عليها كتكاثفه على النحاس بفعل النار، يجلبه الغرور وكثرة المال، والتكالب على الدنيا، والاشتغال بالماديات، وقد وصف القرآن الكريم الصنف الأول فقال: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} [الأنفال: 2]. {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب} [الرعد: 28] {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون} [المؤمنون: 60]. {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} [الزمر: 23]. ووصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بقوله "جاء أهل اليمن، هم أرق أفئدة، وأضعف قلوبا، الإيمان يمان. والحكمة يمانية". "السكينة والوقار في أصحاب الشاء". كما وصف القرآن الكريم الصنف الثاني من القلوب فقال {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا} [الكهف: 28]. {لهم قلوب لا يفقهون بها} [الأعراف: 179]. {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج: 46]. {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} [محمد: 24]. {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة} [البقرة: 74]. ووصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بقوله "غلظ القلوب والجفاء في المشرق". "الفخر والخيلاء في الفدادين أهل الخيل والإبل والوبر". ويهدف الرسول صلى الله عليه وسلم بعد بيان اختلاف القلوب إلى إعطاء كل ذي حق حقه من المدح أو الذم، إلى إعطاء اليمنيين الذين سارعوا إلى قبول الإيمان، والتخلق بأخلاق الإسلام حقهم من الثناء عليهم. أتاكم أهل اليمن هم أضعف قلوبا وأرق أفئدة، الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمانية، السكينة والوقار في أهل الغنم [أي أهل اليمن] وقال فيهم في حديث آخر "إن الأشعريين [وهم يمنيون] كانوا إذا أرملوا في الغزو جمعوا ما عندهم ثم اقتسموا بينهم فهم مني وأنا منهم". وإلى إعطاء ربيعة ومضر والفدادين الذين قست قلوبهم، وأعرضوا عن الإيمان، حقهم من الذم وأنهم رأس الكفر، ومصدر الفتن، وأهل الفخر والخيلاء، والصفات الذميمة التي لا يقبلها الدين الحنيف. فاللهم اشرح صدورنا، ويسر أمورنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا. وثبت قلوبنا على الإسلام. -[المباحث العربية]- (ألا إن الإيمان ههنا) "ألا" أداة استفتاح وتنبيه، تدل على تحقق ما بعدها، وهي في الأصل مركبة من الهمزة و"لا" وهمزة الاستفهام إذا دخلت على النفي أفادت التحقيق، قال الزمخشري: ولكونها بهذا المنصب من التحقيق لا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بنحو ما يتلقى به القسم.

(وإن القسوة وغلظ القلوب) وفي رواية البخاري "والجفاء وغلظ القلوب" قال القرطبي: الجفاء وغلظ القلوب شيئان لمسمى واحد، كقوله تعالى {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} [يوسف: 86] والبث هو الحزن. اهـ. ويبدو لي أن الجفاء والقسوة كالبلادة والفظاظة، أثر من آثار غلظ القلوب إذا استعملنا غلظ القلوب في معناه الأصلي، أما إذا استعملنا السبب في المسبب عنه فإنه يتأتى أن يكون الجفاء وغلظ القلوب لمسمى واحد، كما يقول القرطبي، والأولى أن يراد بالجفاء والقسوة سوء الخلق في الظاهر من الأقوال والأفعال وبغلظ القلوب سوء الخلق في الأمور الباطنة. (في الفدادين عند أصول أذناب الإبل) "الفدادين" بتشديد الدال الأولى، جمع فداد، وهو شديد الصوت، من الفديد، وهو الصوت الشديد، و"أصول أذناب الإبل" طرفها الملاصق للجسم، والمعنى: أن القسوة وغلظ القلوب في المكثرين من الإبل، الذين تعلو أصواتهم خلفها عند سوقهم لها. وزعم أبو عمرو الشيباني أن "الفدادين" بتخفيف الدال جمع فداد بتشديدها، ومعناه البقر الذي يحرث عليها، والمراد أصحابها، وأنكر اللغويون هذا المعنى، والصواب الأول. (حيث يطلع قرنا الشيطان) "قرنا الشيطان" جانبا رأسه، وهو كناية عن المشرق كأنه قال: حيث تطلع الشمس، فقد عبر في الحديث بأن الشمس تطلع بين قرني الشيطان، لأن أهل المشرق كانوا يعبدون الشمس وعبادة الشمس من الشيطان، ولهذا قيل في المعنى: قرنا الشيطان جمعاه اللذان يغري بهما الناس ويضلهم، أو شيعتاه من الكفار، فليس المقصود القرن والشيطان وإنما المقصود حيث يكثر تسلط الشيطان، كما قال في الرواية الرابعة "رأس الكفر نحو المشرق" وفي الرواية الخامسة "والكفر قبل المشرق" وفي الرواية السادسة "قبل مطلع الشمس". (في ربيعة ومضر) بدل من "الفدادين" بإعادة الجار، أي القسوة في الفدادين من ربيعة ومضر، وربيعة ومضر كانوا يمثلون أغلبية سكان أهل المشرق. (جاء أهل اليمن، هم أرق أفئدة) المفضل عليه محذوف، أي هم أرق أفئدة ممن سواهم، أو من أهل المشرق، وهو الأولى، والمشهور أن الفؤاد هو القلب، وعليه تكون الرواية الثالثة "هم أضعف قلوبا، وأرق أفئدة" تكريرا لمراد واحد بلفظين، وهو أولى من تكريره بلفظ واحد، وقيل: الفؤاد غير القلب، فإنه عين القلب، أو باطن القلب، أو غشاء القلب، والأحسن أن يراد بالفؤاد القوة العاقلة وهي في الرأس، وأما الوصف باللين والرقة والضعف فالمراد منه أنها ذات خشية واستكانة، وأنها سريعة الاستجابة والتأثر، لأن الغشاء إذا رق سهل نفوذ الشيء إلى ما وراءه. (الإيمان يمان) أصله "يمني" بياء النسب المشددة، فخففت الياء وزيدت الألف عوضا عن ياء النسب، فقيل اليماني، و"يمانية" بتخفيف الياء إذ لا يجمع بين العوض والمعوض، هذا عند جمهور أهل العربية، وحكى بعضهم أن تشديد الياء مع زيادة الألف لغة.

ومعنى "الإيمان يمان" أن الإيمان في أهل اليمن، أي أنهم لصفات فيهم أسرع قبولا له. وسيأتي تتمة هذا الكلام في فقه الحديث. (والفقه يمان) الفقه في اللغة الفهم والفطنة، وغلب على الفهم في الدين، واصطلح بعد ذلك الفقهاء وأصحاب الأصول على تخصيص الفقه بإدراك الأحكام الشرعية العملية. والمراد من الفقه في الحديث الفهم في الدين. (والحكمة يمانية) في القاموس: الحكمة العدل والعلم والحلم. اهـ. وقال أبو بكر بن دريد: كل كلمة وعظتك وزجرتك، أو دعتك إلى مكرمة، أو نهتك عن قبيح فهي حكمة، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم إن من الشعر حكمة، وفي بعض الروايات "حكما". والمراد من الحكمة في الحديث العلم المشتمل على معرفة الله. (رأس الكفر نحو المشرق) أي شدته وصلابته وأعلاه في أهل المشرق، ففي القاموس: رأس كل شيء أعلاه. (والفخر والخيلاء في أهل الخيل والإبل) "الفخر" هو الافتخار وعد المآثر القديمة تعظيما. ومنه الإعجاب بالنفس، و"الخيلاء" الكبر واحتقار الناس، وفي الرواية الخامسة "الفخر والرياء" والرياء إظهار حسن على خلاف الحقيقة. (الفدادين أهل الوبر) بدل من "أهل الخيل والإبل" والبدل هو المقصود بالحكم، فكأنه قال: الفخر والخيلاء في الفدادين من أهل الخيل والإبل و"الوبر" صوف الإبل، وليس في ذكر أهل الوبر مع ذكر أهل الإبل تكرار، فقد يكون أهل الإبل أشحاء على أنفسهم، فلا تظهر عليهم نعمتها، ولا يلبسون وبرها، وهو لبأس الأثرياء بخلاف صوف الغنم، والمقصود وصفهم بكونهم جامعين لكثرة الخيل وكثرة الإبل وكثرة الوبر. (والسكينة في أهل الغنم) "السكينة" الطمأنينة والسكون والوقار والتواضع، وهي في مقابلة الفخر والخيلاء، فالمراد منها الوقار والتواضع. (قبل مطلع الشمس) "قبل" بكسر القاف وفتح الباء، و"مطلع" بكسر اللام مكان الطلوع، أي جهة مكان طلوع الشمس، وهي بمعنى رواية "حيث يطلع قرنا الشيطان" ورواية "نحو المشرق" ورواية "قبل المشرق". (والسكينة والوقار في أصحاب الشاء) عطف "الوقار" على السكينة عطف تفسير للمراد، وأصحاب الشاء هم أهل الغنم.

-[فقه الحديث]- حاول بعض العلماء صرف نسبة الإيمان إلى أهل اليمن عن ظاهرها، حيث إن مبدأ الإيمان من مكة، ثم من المدينة - حرسهما الله تعالى- وقد تكلفوا لهذا الصرف تكلفات بعيدة منها: أن المراد من اليمن مكة، فإنه يقال: إن مكة من تهامة وتهامة من أرض اليمن. ومنها: أن المراد من اليمن مكة والمدينة، فإنه يروى في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا الكلام وهو بتبوك، ومكة والمدينة حينئذ بينه وبين اليمن، فأشار إلى ناحية اليمن، وهو يريد مكة والمدينة، فقال: الإيمان يمان، ونسب مكة والمدينة إلى اليمن لكونهما حينئذ من ناحية اليمن، كما قالوا: الركن اليماني -وهو بمكة- لكونه ناحية اليمن. ومنها أن المراد بذلك الأنصار، لأنهم يمانيون في الأصل، فنسب الإيمان إليهم، لكونهم أنصاره. والحق أن هذا التكلف بعيد عن الصواب، وبعيد عن ألفاظ الحديث في مجموع طرقه ورواياته، إذ من ألفاظه "آتاكم أهل اليمن" و"جاء أهل اليمن" والكلام لأهل مكة المهاجرين ولأهل المدينة الأنصار، فالآتي إذن غيرهم، ثم إن إشاراته صلى الله عليه وسلم إلى جهة اليمن تدل على أن المراد أهل اليمن حينئذ، لا الذين كان أصلهم منها. ثم إنه صلى الله عليه وسلم وصفهم بأوصاف تفضي إلى الإيمان [ألين وأضعف قلوبا وأرق أفئدة] ورتب على هذه الأوصاف "الإيمان يمان". ثم إنه ليس هناك مانع أصلا من إجراء الكلام على ظاهره، وحمله على أهل اليمن حقيقة، فأهل اليمن سارعوا إلى قبول الإيمان، وقبلوا البشرى التي لم يقبلها بنو تميم. فقد روى البخاري في أول كتاب بدء الخلق أن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: جاء نفر من بني تميم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا بني تميم أبشروا [أي بالجنة إذا أسلمتم] فقالوا: بشرتنا فأعطنا (آثروا الدنيا وطلبوا عطيته من الغنائم) فتغير وجهه، فجاء أهل اليمن فقال: يا أهل اليمن اقبلوا البشرى إذ لم يقبلها بنو تميم، قالوا: قد قبلنا يا رسول الله [جئناك لنسألك ونتفقه في الدين]. كان هذا حال الوافدين من اليمن في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم: سلامة قلب، وقوة إيمان، فكانت نسبة الإيمان إليهم إشعارا بكمال إيمانهم من غير أن يكون في ذلك نفي له عن غيرهم، فلا منافاة بينه وبين قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الثامنة "والإيمان في أهل الحجاز". ثم إن هذا الحكم لا ينسحب على أهل اليمن في جميع العصور، فإن اللفظ لا يقتضيه، بل المراد به الموجودون منهم حين الخطاب. وفي الحديث إشارة إلى شدة كفر المجوس، لأن مملكة الفرس ومن أطاعهم من العرب كانت من جهة المشرق بالنسبة إلى المدينة، وكانوا في غاية القوة والتكبر والتجبر، وبلغ بملكهم الغرور أن مزق كتاب النبي صلى الله عليه وسلم.

-[ويؤخذ من الحديث]- 1 - منقبة للمؤمنين من أهل اليمن. 2 - تفاضل أهل الإيمان، وأن المؤمنين كالقبائل، بعضهم أرفع إيمانا من بعض. 3 - مدح السكينة والوقار، ولين القلوب ورقة الأفئدة. 4 - التنفير من الفخر والخيلاء والكبر والغرور. 5 - أن من اتصف بشيء، وقوي قيامه به نسب إليه إشعارا بكمال حاله فيه. 6 - ذم أهل الخيل والإبل الذين يشتغلون بها عن أمور دينهم، وتصل بهم إلى غلظة القلب والخيلاء. 7 - فضل وسيلة الرزق التي تؤدي إلى السكينة والوقار ورقة القلب، فقد روى البخاري قول النبي صلى الله عليه وسلم: يوشك أن يكون خير مال الرجل غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن. والله أعلم.

(32) باب محبة المؤمنين من الإيمان

(32) باب محبة المؤمنين من الإيمان 97 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا. ولا تؤمنوا حتى تحابوا. أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم". 98 - عن الأعمش بهذا الإسناد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "والذي نفسي بيده! لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا" بمثل حديث أبي معاوية ووكيع. -[المعنى العام]- إفشاء السلام لغير المعرفة من المؤمنين مفتاح التآلف، وباب المودة، وإفشاؤه بين المتعارفين يمكن الألفة، ويوثق المحبة، وإفشاؤه بين المتباعدين المتنافرين يرفع الوحشة، ويزيل الصدود ويجلب الرضا، ويخلق التقارب والتفاهم، ويقرب الوفاق والالتئام. وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم: أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ تحاببتم إذا لم ينعقد بينكم حب من قبل، ويزداد حبكم إذا كنتم متحابين، ويرتفع البغض والشحناء، ويحل محلهما الود والصفاء إذا كنتم متدابرين؟ . وهذا الشيء الذي يعمل عمل السحر في النفوس، وعمل الطب والدواء في الأجسام هو إفشاء السلام، ونشره بين المؤمنين، فأفشوا السلام بينكم. وإذا كان مفتاح المحبة هو السلام فإن أبرز ثمرات الإيمان هي المحبة فدخول الجنة موقوف على الإيمان، ولا يتحقق الإيمان الكامل إلا بالتحاب بين المؤمنين، ولا تتحقق المحبة بدون إفشاء السلام، فإفشاء السلام باب الجنة ومفتاحها. وقد أخرج البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "اعبدوا الرحمن وأفشوا السلام، تدخلوا الجنان" وقوله: أطعموا الطعام، وأفشوا السلام تدخلوا الجنة بسلام". -[المباحث العربية]- (لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا) "حتى" هنا بمعنى "إلا" أي: لا تدخلون الجنة إلا أن

تؤمنوا، لأن ما بعدها وهو الإيمان ليس غاية لما قبلها وهو دخول الجنة، ولا مسببا عنه، حتى تكون للغاية أو للتعليل، والفعل بعدها منصوب بأن مضمرة. (ولا تؤمنوا حتى تحابوا) هكذا هو في جميع الأصول والروايات "ولا تؤمنوا" بحذف النون من آخره، قال النووي: وهي لغة معروفة صحيحة، وفي حاشية الصبان على الأشموني: أن نون الأفعال الخمسة قد تحذف في حالة الرفع بقلة كقول الشاعر: أبيت أسرى وتبيتي تدلكي وجهك بالعنبر والمسك الذكي (أولا أدلكم على شيء) أصل الكلام: وألا أدلكم، وأصل "ألا" همزة الاستفهام و"لا" التي للنفي، والاستفهام إذا دخل على النفي أفاد التحقيق فقدمت الهمزة على الواو لأن لها الصدارة. (إذا فعلتموه تحاببتم) "إذا" ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه منصوب بجوابه، والتقدير: تتحابون حين فعلكم له، وجملة الشرط والجواب صفة "شيء". (أفشوا السلام بينكم) الإفشاء هو الإظهار، ومنه إفشاء السر، والمراد هنا نشر السلام بين الناس. -[فقه الحديث]- قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم "لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا" محمول على ظاهره وإطلاقه، فلا يدخل الجنة إلا من مات مؤمنا، وإن لم يكن كامل الإيمان، وقوله صلى الله عليه وسلم "ولا تؤمنوا حتى تحابوا" معناه: لا يكمل إيمانكم، ولا يصلح حالكم في الإيمان إلا بالتحاب. اهـ. فحمل النووي لفظ الإيمان مرة على حقيقته وأصله، ومرة على مجازه وكماله، ليساير مذهب أهل السنة في المسألتين. وحمل ابن الصلاح لفظ الإيمان على مجازه وكماله في المرتين، فقال: لا يكمل إيمانكم إلا بالتحاب، ولا تدخلون الجنة عند دخول أهلها [أي ابتداء من غير عقاب] إذا لم تكونوا كذلك. اهـ. وإفشاء السلام قيل: واجب عيني على كلا المتلاقين، بمعنى أنه يجب على كل أحد أن يسلم على كل من لقيه، وقال الحافظ ابن حجر: لا سبيل إلى القول بأنه فرض عين على التعميم من الجانبين، لما في ذلك من الحرج والمشقة فإذا سقط من جانبي العمومين سقط من جانبي الخصوصين، إذ لا قائل: يجب على واحد دون الباقين، ولا يجب السلام على واحد دون الباقين، وإذا سقط الوجوب على هذه الصورة لم يسقط الاستحباب. اهـ. أي لا قائل: يجب ابتداء السلام من واحد معين دون فريقه، ولا قائل: يجب ابتداء السلام من فريق على واحد معين من فريق. وإذا سقط الوجوب على هذه الصورة من الخصوص بقي الاستحباب على العموم. فالكل يستحب له أن يسلم على الكل.

فالابتداء بالسلام سنة كفاية، وقيل فرض كفاية وهو بعيد. والمقصود من إفشاء السلام نشره، ويستحب أن يرفع به صوته، وأقله أن يرفع صوته بقدر ما يتحقق سماع المسلم عليه، فإن لم يسمعه لم يكن آتيا بالسنة، ونقل النووي أنه يكره لمن لقي جماعة أن يخص بعضهم بالسلام [كما يحدث هذه الأيام من التسليم على من يجلس بجواره عند الدخول على جماعة جالسة] قال: لأن القصد بمشروعية السلام تحصيل الألفة وفي التخصيص إيحاش لغير من خص بالسلام. وقد ورد في بعض الروايات "ورد السلام" بدل "إفشاء السلام" قال الحافظ ابن حجر: ولا مغايرة في المعنى، لأن ابتداء السلام ورده متلازمان وإفشاء السلام ابتداء يستلزم إفشاءه جوابا. اهـ. ومن الأحاديث في إفشاء السلام ما أخرجه النسائي "إذا قعد أحدكم فليسلم، وإذا قام فليسلم، فليست الأولى أحق من الآخرة". -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - أنه لا يكفي السلام سرا، بل يشترط الجهر. 2 - أن الإشارة باليد والرأس لا تكفي، لأنها ليست سلاما شرعيا. وقد أخرج النسائي بسند جيد "لا تسلموا تسليم اليهود فإن تسليمهم بالرءوس والأكف" ويستثنى من ذلك من كان بعيدا بحيث لا يسمع التسليم، ويتلفظ مع ذلك بالسلام. 4 - أن السلام يورث المحبة بين المتسالمين. 5 - أن الكافر لا يسلم عليه، لأن المسلم مأمور بمعاداته، فلا يشرع له فعل يستدعي محبته ومودته. 6 - مشروعية السلام على النفس لمن دخل مكانا ليس فيه أحد، قال تعالى: {فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة} [النور: 61] ويستحب أن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. 7 - أن السلام مشروع للمعرفة ولغير المعرفة، ولمن يتحقق رده، ولمن يظن أنه لا يرد. 8 - الحث على التحاب ورفع التقاطع والتهاجر. هذا وقد سبق لموضوع إفشاء السلام بحث في هذا الكتاب وسيأتي له تمام بحث في كتاب السلام بعد كتاب الآداب. والله أعلم

(33) باب الدين النصيحة

(33) باب الدين النصيحة 99 - عن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الدين النصيحة" قلنا: لمن؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم". وبمثله. -[المعنى العام]- نحو مجتمع سليم يرسي الإسلام قواعده، ولبناء الإنسانية الشامخ يقيم أركانه، وللحياة الفاضلة بين أفراده ينشر دعوته، ولتماسك أعضائه وترابطها كالجسد الواحد يشرع أحكامه، فالإسلام للفرد والجماعة، ولا خير في الفرد إن هو أحب نفسه دون غيره، وقديما قالوا: "ما استحق أن يولد من عاش لنفسه فقط". من أجل هذا حرص الشرع الحكيم على غرس المحبة بين الناس، وبذل المعروف لهم باليد واللسان فقال صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة". فالنصيحة مع الدين الإسلامي كالروح مع الجسد، ولا حياة للجسد بدون الروح، ويسأل الصحابة الحاضرون: من ننصح يا رسول الله؟ فيقول: انصحوا رسول الله وأخلصوا له، وأطيعوه، وعزروه، وانصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه، لتكونوا مخلصين لله ولكتابه، عاملين بأوامره وتشريعه، فتكونوا من المفلحين، انصحوا أئمة المسلمين وولاتهم، وأرشدوهم إلى العدل والحق، وساعدوهم على نشر الأمن، وساندوهم ليساندوا الإسلام والمسلمين. انصحوا عامة المسلمين، وأخلصوا لهم، وتمنوا الخير لكل منهم، وأحبوا لهم ما تحبون لأنفسكم، واعملوا على توصيل المعروف حيث قدرتم، وتجنبوا غشهم والحقد عليهم وعاملوهم بما تحبون أن يعاملوكم به، تكونوا مسلمين حقا، فالدين المعاملة الحسنة، والدين النصيحة، ومن غشنا فليس منا.

-[المباحث العربية]- (الدين النصيحة) قال المازري: النصيحة مشتقة من نصحت العسل إذا صفيته، يقال: نصح الشيء إذا خلص، ونصح له القول إذا أخلصه له، وظاهر العبارة القصر بطريق تعريف الطرفين، وليس هذا القصر على ظاهره، بل على طريق المبالغة، وإقامة الأكثر مقام الكل، واعتبار الأقل في حكم العدم، والمعنى: معظم الدين وعماده وقوامه النصيحة، كما قيل في حديث "الحج عرفة". وقال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يحمل على ظاهره، لأن كل عمل لم يرد به عامله الإخلاص فليس من الدين، اهـ. وهذا الذي قاله ابن حجر يرجع إلى الأول، إذ معناه أن الدين عمل وإخلاص فيه، ولا عبرة بالعمل من غير إخلاص، فإذا قيل: الدين الإخلاص فهو على سبيل المبالغة، واعتبار المهم في مقام الكل. (لمن؟ ) جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من الخبر المحذوف مع مبتدئه والتقدير: الدين النصيحة مسداة لمن؟ . (لله) إعرابه كإعراب سابقه والتقدير الدين النصيحة كائنة لله ولكتابه ولرسوله. إلخ. -[فقه الحديث]- قال النووي: هذا الحديث وحده محصل لغرض الدين كله لأن الدين في الأمور التي ذكرها، فالنصيحة لله معناها الإيمان به، ونفي الشريك عنه، وترك الإلحاد في صفاته، ووصفه بصفات الكمال والجلال كلها، وتنزيهه سبحانه وتعالى من جميع النقائص، والقيام بطاعته، واجتناب معصيته، والحب فيه، والبغض فيه، وموالاة من أطاعه، ومعاداة من عصاه، وجهاد من كفر به، والاعتراف بنعمته، وشكره عليها، والإخلاص في جميع الأمور، قال الخطابي: وحقيقة هذه الإضافة راجعة إلى العبد في نصحه لنفسه، فالله تعالى غني عن نصح الناصح. وأما النصيحة لكتابه سبحانه وتعالى فالإيمان بأنه كلام الله تعالى وتنزيهه، لا يشبهه شيء من كلام الخلق، ولا يقدر على مثله أحد من الخلق، ثم تعظيمه وتلاوته حق تلاوته وتحسينها، والخشوع عندها، وإقامة حروفه في التلاوة، والذب عنه لتأويل المحرفين، وتعرض الطاعنين، والتصديق بما فيه، والوقوف مع أحكامه، وتفهم علومه وأمثاله، والاعتبار بمواعظه، والتفكر في عجائبه والعمل بمحكمه، والتسليم بمتشابهه، والبحث عن عمومه وخصوصه وناسخه ومنسوخه، ونشر علومه، والدعاء إليه وإلى ما ذكرنا من نصيحته. وأما النصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتصديقه على الرسالة، والإيمان بجميع ما جاء به، وطاعته في أمره ونهيه، ونصرته حيا وميتا، ومعاداة من عاداه، وموالاة من والاه، وإعظام حقه وتوقيره، وإحياء طريقته

وسنته، وبث دعوته ونشر شريعته، ونفي التهمة عنها، واستثارة علومها، والتفقه في معانيها، والدعاء إليها، والتلطف في تعلمها وتعليمها وإعظامها وإجلالها. والتأدب عند قراءتها، والإمساك عن الكلام فيها بغير علم، وإجلال أهلها لانتسابهم إليها، والتخلق بأخلاقه، والتأدب بآدابه، ومحبة أهل بيته وأصحابه، ومجانبة من ابتدع في سنته، أو تعرض لأحد من أصحابه، ونحو ذلك. وأما النصيحة لأئمة المسلمين فمعاونتهم على الحق، وطاعتهم فيه، وأمرهم به، وتنبيههم وتذكيرهم برفق ولطف، وإعلامهم بما غفلوا عنه، أولم يبلغهم من حقوق المسلمين، وترك الخروج عليهم، وتألف قلوب الناس لطاعتهم. قال الخطابي رحمه الله: ومن النصيحة لهم الصلاة خلفهم، والجهاد معهم وأداء الصدقات إليهم، وترك الخروج بالسيف عليهم إذا ظهر منهم حيف أو سوء عشرة، وأن لا يغروا بالثناء الكاذب عليهم، وأن يدعى لهم بالصلاح. وهذا كله على أن المراد بأئمة المسلمين الخلفاء وغيرهم ممن يقوم بأمور المسلمين من أصحاب الولايات. وهذا هو المشهور. وأما نصيحة عامة المسلمين، وهم من عدا ولاة الأمور، فإرشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم، وكف الأذى عنهم، فيعلمهم ما يجهلونه من دينهم، ويعينهم عليه بالقول والفعل، وستر عوراتهم، وسد خلاتهم، ودفع المضار عنهم، وجلب المنافع لهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر برفق وإخلاص، والشفقة عليهم، وتوقير كبيرهم ورحمة صغيرهم، وتخولهم بالموعظة الحسنة، وترك غشهم وحسدهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير، ويكره لهم ما يكره لنفسه من المكروه، والذب عن أموالهم وأعراضهم، وغير ذلك من أحوالهم بالقول والفعل، وحثهم على التخلق بجميع ما ذكرناه من أنواع النصيحة، وتنشيط هممهم إلى الطاعات. انتهى كلام النووي، وقد لخصه من كلام من سبقه من العلماء. وكله يدور حول المحافظة على أمور الشريعة قولا وعملا واعتقادا، وكثير منه في حكم المكرر للوعظ والتذكير والتوضيح. ولو أخذنا النصيحة بهذا المعنى الذي ذكروه لكانت هي الدين على الحقيقة، بل لكانت الدين الكامل في أبرز صورة، ولم يكن المعنى على المبالغة التي ذكرناها في المباحث العربية بل يصبح المعنى أن الدين الكامل حقيقة هو القول والعمل والاعتقاد لكل ما ذكر من أمور الشريعة. وهذا المعنى غير المتبادر من الحديث، إذ النصح هو إرادة الخير للمنصوح له، فقوام الدين وعماده وأكثره مبني على إرادة الخير لكتاب الله ولرسوله ولجميع المسلمين، وهو ظاهر في التوجيه الحسن، وعدم الغش، كما قيل في "الدين المعاملة". ويؤيد هذا المعنى الحديث الآتي، وفيه "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم" فظاهر عطف النصح على الصلاة والزكاة دليل على أنه غيرهما، وكأن المبايعة تمت على إصلاح النفس ومحاولة إصلاح الغير.

والغريب أن الإمام النووي بعد أن فسر النصيحة بما فسرها قال نقلا عن ابن بطال: والنصيحة فرض يجزى فيه من قام به، ويسقط عن الباقين، والنصيحة لازمة على قدر الطاقة إذا علم الناصح أنه يقبل نصحه ويطاع أمره وأمن على نفسه المكروه، فإن خشي على نفسه أذى فهو في سعة. اهـ. وهذا الحكم لا يتأتى مع تفسير النصيحة بما فسرها به، إذ هي بهذا التفسير فرض عين، وليست فرض كفاية، حيث أدخل فيها الإيمان بالله ورسوله وكتابه. بل هذا الحكم لا يتأتى مع تفسيرنا لها بأنها إرادة الخير للمنصوح له، فإنها فرض عين أيضا، وإنما يتأتى في بعض صور النصيحة، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والله أعلم. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - أن النصيحة تسمى دينا. 2 - وأن الدين يطلق على العمل كما يطلق على القول. 3 - وأنه يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين المنصوح له حتى سئل "لمن"؟ 4 - أن النصيحة لأئمة المسلمين أهم وآكد من النصيحة لعامتهم، إذ ذكرهم أولا، وبرشدهم يستقيم كثير من الرعية، وبضلالهم يضل الكثير. والله أعلم

(34) باب المبايعة على النصح لكل مسلم

(34) باب المبايعة على النصح لكل مسلم 100 - عن جرير رضي الله عنه قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم. 101 - عن جرير بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم. 102 - عن جرير رضي الله عنه قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة. فلقنني "فيما استطعت" والنصح لكل مسلم. -[المعنى العام]- كثيرا ما كان الصحابة يأتون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعات ووحدانا يعاهدونه على القيام بواجبات الإسلام، ليكون في ذلك العهد بين يديه قيد ورباط يمنعهم من الانحراف، ويساعدهم على القيام بالطاعة، فالعرب من أبرز صفاتهم الوفاء بالعهد، فإذا أكد الإيمان بالعهد، وأكد الإسلام بالتعهد والالتزام بالقيام بأركانه، كان الدافع دافعين، وأصبح الحرص حرصين: حرص الطاعة والإيمان، وحرص الوفاء بالعهد. وما زالت هذه المبايعات وسيلة لطاعة كثير من العاصين، وما زالت عهود الصوفية مشايخ الطرق تزجر كثيرا من المريدين عن المعاصي، وتبعث روح الطاعة والمثابرة على العبادة والأوراد. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراعي حال المبايع وظروفه، فيبايعه على ما يصلح شأنه وما فيه خيره، ففي بيعة النساء يطلب منهن أن لا يشركن بالله شيئا، لأنهن كثيرا ما يكفرن، ولا يسرقن لأنهن أمينات على أموال الرجال، ولا يزنين، ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن، ولا يعصين في معروف. وهنا يبايعه جرير على السمع والطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأولي الأمر من المسلمين وعلى أن يقيم الصلاة ويؤدي الزكاة. ولقنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضم إلى عهده هذا عهدا بأن يحب الخير لكل مسلم، وأن ينصحه بما ينفعه، وأن يحب له ما يحب لنفسه.

وكم وفى جرير بما عاهد عليه الله ورسوله، وكم بالغ في الوفاء، فقد روي أنه كان إذا اشترى شيئا أو باعه يقول لصاحبه: اعلم أن ما أخذنا منك أحب إلينا مما أعطيناكه، فاختر. وروى الطبراني أن جريرا أرسل غلامه فاشترى له فرسا بثلاثمائة درهم، وجاء به وبصاحبه لينقده الثمن فقال جرير لصاحب الفرس: فرسك خير من ثلاثمائة درهم، أتبيعه بأربعمائة درهم؟ قال الرجل: ذلك إليك يا أبا عبد الله، فقال جرير: فرسك خير من أربعمائة درهم، أتبيعه بخمسمائة درهم، قال الرجل: ذلك إليك يا أبا عبد الله، فلم يزل يزيده مائة فمائة، وصاحبه يرضى، وجرير يقول: فرسك خير، إلى أن بلغ ثمانمائة درهم، فاشتراه بها، فقيل له في ذلك، فقال: إني بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم. وهكذا كانت عهود المسلمين، وهكذا كان وفاؤهم بها {ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما} [الفتح: 10]. -[المباحث العربية]- (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم) المبايعة عبارة عن المعاهدة سميت بذلك تشبها بالمعاوضة المالية، كأن المعاهد على الطاعة يبذلها في مقابلة الأجر الأخروي، كما في قوله تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} [التوبة: 111]. فالمعنى: عاهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم. (على السمع والطاعة) لله ولرسوله ولأولي الأمر، عملا بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء: 59]. (فلقنني فيما استطعت) أي لقنني عبارة "فيما استطعت" لأقولها بعد عبارة "بايعتك على السمع والطاعة" أي: أسمع وأطيع فيما أستطيع: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} [البقرة: 286]. وتاء "استطعت" رويت بالضم على أنها للمتكلم جرير، ورويت بالفتح على أنها من كلام النبي صلى الله عليه وسلم خطابا لجرير، وكلاهما صحيح. وعائد الصلة مفعول "استطعت" محذوف. (والنصح لكل مسلم) معطوف على "السمع والطاعة" وجملة "فلقنني: فيما استطعت" معترضة.

-[فقه الحديث]- -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - أن الصلاة والزكاة أهم أركان الإسلام، بعد الشهادتين لاقتصاره عليهما من بين أركان الإسلام، ولم تذكر الشهادتان في رواية مسلم اعتمادا على أنه مفروغ منهما، وأنه حصل اعتقادهما والنطق بهما، فلا يحتاج الأمر إلى المبايعة عليهما، وقد ذكرتا في رواية البخاري في كتاب البيوع، ولفظها "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والسمع والطاعة، والنصح لكل مسلم". قال النووي: ولم يذكر الصوم وغيره لدخولها في السمع والطاعة، اهـ. ويمكن أن يقال: إنه صلى الله عليه وسلم أشار إلى العبادات البدنية بالصلاة لتكرارها في كل يوم، وإلى العبادات المالية بالزكاة، فيكون المقصود من ذكرهما أركان الإسلام. 2 - مدى اهتمام الشارع بالنصح لكل مسلم: إذ جعله صلى الله عليه وسلم قرينا للصلاة والزكاة. 3 - كمال شفقته صلى الله عليه وسلم بأمته، إذ لقن جريرا "فيما استطعت" حرصا عليه، فقد يعجز جرير في بعض الأحوال، فيكون مخلا بما التزم. 4 - وفي الحديث منقبة ومكرمة لجرير رضي الله عنه وأرضاه. والله أعلم

(35) باب نقصان الإيمان بالمعاصي

(35) باب نقصان الإيمان بالمعاصي 103 - عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب قالا: قال أبو هريرة رضي الله عنه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن. ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن. ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن". قال ابن شهاب: فأخبرني عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن، أن أبا بكر كان يحدثهم هؤلاء عن أبي هريرة. ثم يقول: وكان أبو هريرة يلحق معهن "ولا ينتهب نهبة ذات شرف، يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها، وهو مؤمن". 104 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزني الزاني" واقتص الحديث بمثله. يذكر مع ذكر "النهبة". ولم يذكر "ذات شرف". قال ابن شهاب: حدثني سعيد بن المسيب بمثل حديث أبي بكر هذا "إلا النهبة". 105 - عن أبي هريرة رضي الله عنه بمثله وذكر النهبة ولم يقل: ذات شرف. 106 - وبمثله عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم كل هؤلاء بمثل حديث الزهري غير أن العلاء وصفوان بن سليم ليس في حديثهما "يرفع الناس إليه فيها أبصارهم" وفي حديث همام "يرفع إليه المؤمنون أعينهم فيها وهو حين ينتهبها مؤمن" وزاد "ولا يغل أحدكم حين يغل وهو مؤمن فإياكم إياكم".

107 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن والتوبة معروضة بعد". 108 - عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه قال "لا يزني الزاني" ثم ذكر بمثل حديث شعبة. -[المعنى العام]- تعرضت أحاديث كثيرة لجانب الرجاء في الله، حتى كاد يطمع في دخول الجنة من لا عمل له، فروي "من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة" و"من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله حرم الله عليه النار" و"حق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا" و"من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق". كادت هذه الأحاديث تبعث الطمأنينة في نفوس العصاة، لولا أن قابلتها أحاديث الخوف التي تكاد تيئس مرتكب الكبيرة من دخول الجنة. من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب أي يغتصب "نهبة" وأموالا "ذات شرف" وذات قيمة "يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها" مشدوهين من تصرفه، عاجزين عن دفعه "وهو مؤمن ولا يغل" أي يسرق "أحدكم حين يغل" ويسرق وهو مؤمن فإياكم "وهذه الكبائر" وإياكم "وتعريض الإيمان للضعف والانهيار". فهذا الحديث يحذر مرتكب الكبيرة، ويخوفه من عاقبة فعله، يهدده بسحب الإيمان عنه حالة ارتكاب المنكر، فيضعف إيمانه، ولا يزال الإيمان يضعف ويتناقص بالمعاصي حتى يخشى على صاحبه من الكفر والعياذ بالله، فإن الاستهانة بارتكاب المعصية تؤدي إلى الاستهانة بالآمر الناهي، ولا تزال المعصية تترك نكتة سوداء في قلب صاحبها حتى يطبع الله عليه، ويختم على صدره، فيكون من أهل النار. وهكذا نجد أن الشرع الحكيم بنصوصه يضع المؤمن بين الرجاء والخوف، لئلا يقنط من رحمة الله، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. ولئلا يغتر فيهمل شعب الإيمان وأموره، فما أكثر الوعيد، وما أكثر النذر والتهديد {ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين} [النساء: 14] نجد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يضع المؤمن في الإطار الذي وضعه فيه القرآن

بقوله: {يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب} [الزمر: 9]. -[المباحث العربية]- (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) الجملة خبرية، تنفي إيمان الزاني حين زناه، إذ النفي داخل على مقيد بقيد (زنا الزاني حالة إيمانه) ولا جائز أن يتوجه النفي إلى المقيد، لأنه حاصل واقع، والواقع لا ينفى، فكان لزاما أن يتوجه إلى القيد محط الفائدة، كقوله تعالى: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين} [الأنبياء: 16] فالمنفي اللعب، لا خلق السموات والأرض وما بينهما فيكون حاصل المعنى: بل خلقناهما وما بينهما جادين لحكمة. والمنفي في الحديث إيمان الزاني، فيكون حاصل المعنى، لا يكون الزاني مؤمنا حين يزني. والظرف "حين يزني" متعلق بـ "مؤمن" وفي ذلك يقول الحافظ ابن حجر: قيد نفي الإيمان بحالة ارتكابه للزنى. وقيل: إن الجملة خبر بمعنى النهي، والمعنى: لا يزنين مؤمن، ولا يسرقن مؤمن أي لا ينبغي له أن يفعل ذلك. (ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن) لم يذكر الفاعل هنا كما ذكر في الزنا والسرقة، قال ابن مالك: فيه جواز حذف الفاعل لدلالة الكلام عليه، والتقدير: ولا يشرب الشارب الخمر. إلخ، ولا يرجع الضمير إلى الزاني، لئلا يختص به، بل هو عام في حق كل من شرب. (وكان أبو هريرة يلحق معهن) أي مع الثلاث المذكورات: الزنا والسرقة والشرب، وكان حقه أن يقول: يلحق بهن، فمع بمعنى الباء، وحروف الجر يتناوب بعضها بعضا، أو ضمن "يلحق" معنى "يذكر" فعدى بـ "مع" و"يلحق" بضم الياء من "ألحق" الرباعي، يستعمل لازما ومتعديا وهنا متعد، والجملة بعده مقصود لفظها في محل المفعول به. (ولا ينتهب نهبة) الفاعل محذوف أيضا، والتقدير: ولا ينتهب الناهب نهبة وفي القاموس: نهب النهب، كجعل وسمع وكتب، أخذه كانتهبه، والاسم النهبة بضم النون، وهو المال المنهوب، والمراد به المأخوذ جهرا وقهرا. (ذات شرف) "ذات" بمعنى صاحبة، صفة "نهبة" ومعنى "ذات شرف" أي ذات قدر، حيث يشرف الناس لها ناظرين إليها، وفي رواية: "ذات سرف" بالسين المهملة، أي ذات إسراف ومجاوزة الحد. (يرفع الناس إليه فيها أبصارهم) هذه إشارة إلى حالة المنهوبين، فإنهم ينظرون إلى من

ينهبهم، ولا يقدرون على دفعه، ويحتمل أن يكون كناية عن عدم التستر بذلك, فيكون صفة لازمة للنهب، بخلاف السرقة والاختلاس، فإنه يكون في خفية، والانتهاب أشد لما فيه من مزيد الجراءة وعدم المبالاة. (ولا يغل أحدكم) بفتح الياء وضم الغين وتشديد اللام المرفوعة، وهو من الغلول وهو الخيانة، وقيل: هو خاص بالخيانة من الغنيمة. (فإياكم إياكم) الفاء فصيحة في جواب شرط مقدر، أي إذا كان الإيمان ينتفى بارتكاب هذه القبائح فإياكم، أي فاحذروها. وأصل "إياكم" احذروا تلاقي أنفسكم والقبائح، ثم حذف الفعل وفاعله، ثم المضاف الأول "تلاقي" ثم المضاف الثاني، وأقيم المضاف إليه مقامه فانفصل الضمير، وانتصب بعامل محذوف وجوبا لكثرة الاستعمال "وإياكم" الثانية تكرير للتأكيد، والمحذر منه محذوف للعلم به من الكلام السابق. -[فقه الحديث]- قبل الكلام عن فقه الحديث نورد مذاهب المتكلمين باختصار في الإيمان مع ارتكاب الكبيرة، حتى يتجلى موقف كل فريق من هذا الحديث. 1 - فالخوارج: يقولون إن الإيمان اعتقاد وقول وعمل، فمرتكب الكبيرة كافر مخلد في النار. 2 - والمعتزلة: يقولون كالخوارج بأن العمل من الإيمان، فمرتكب الكبيرة ليس بمؤمن وليس بكافر لكنه مخلد في النار. 3 - والمرجئة: يقولون: هو اعتقاد ونطق فقط فيتحقق الإيمان بهما، ولا تتأثر حقيقته بارتكاب الكبائر. 4 - والكرامية: يقولون: هو نطق فقط فيتحقق الإيمان به، ولا تتأثر حقيقته بارتكاب الكبائر. 5 - وأهل السنة: يقولون: الإيمان بالنظر لما عندنا يحصل بالإقرار، فمن أقر أجريت عليه الأحكام الدنيوية، ولم يحكم عليه بالكفر، إلا إن اقترن به فعل يدل على كفره كالسجود للصنم. وبالنظر لما عند الله هو الاعتقاد بالقلب والنطق باللسان والعمل بالأركان على أن العمل شرط في كماله، فمرتكب الكبيرة [غير الشرك] مؤمن غير كامل الإيمان - أو مؤمن فاسق. وظاهر الحديث الذي معنا يؤيد الخوارج والمعتزلة، وبه استدلوا على مذهبهم، فهو ينفي الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر والمنتهب، وحيث انتفى الإيمان ثبت الكفر [عند الخوارج]، لأنه لا واسطة عندهم بين الإيمان والكفر. أما المعتزلة فينفون عنه الإيمان بالحديث، وينفون عنه الكفر، لأنه

يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويثبتون له منزلة بين المنزلتين، ويحكمون عليه بالخلود في النار لآيات الخلود الواردة في القاتل والعاصي. والحديث واضح في الرد على المرجئة والكرامية، وربما انتفعوا ببعض توجيهات أهل السنة الآتية: ولما كان أهل السنة لا ينفون الإيمان عن مرتكب الكبيرة احتاجوا إلى تأويل هذا الحديث. فقال النووي: إنما تأولنا هذا الحديث لحديث أبي ذر وغيره "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، وإن زنى وإن سرق"، وحديث عبادة بن الصامت الصحيح المشهور أنهم بايعوه صلى الله عليه وسلم على "أن لا يسرقوا ولا يزنوا ولا يعصوا ... " إلى آخره، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن فعل شيئا من ذلك فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن فعل ولم يعاقب فهو إلى الله تعالى إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه". فهذان الحديثان مع نظائرهما في الصحيح، مع قول الله عز وجل {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48] مع إجماع أهل الحق على أن الزاني والسارق والقاتل وغيرهم من أصحاب الكبائر غير الشرك لا يكفرون بذلك، بل هم مؤمنون ناقصو الإيمان، إن تابوا سقطت عقوبتهم، وإن ماتوا مصرين على الكبائر كانوا في المشيئة، فإن شاء الله تعالى عفا عنهم وأدخلهم الجنة أولا، وإن شاء عذبهم، ثم أدخلهم الجنة. وكل هذه الأدلة تضطرنا إلى تأويل هذا الحديث وشبهه، اهـ. وقال الحافظ ابن حجر: ومن أقوى ما يحمل على صرف هذا الحديث عن ظاهره إيجاب الحد في الزنا على أنحاء مختلفة في حق المحصن الحر، والحر البكر، وفي حق العبد، فلو كان المراد بنفي الإيمان ثبوت الكفر لاستووا في العقوبة، لأن المكلفين فيما يتعلق بالإيمان والكفر سواء، فلما كان الواجب فيه من العقوبة مختلفا دل على أن مرتكب ذلك ليس بكافر حقيقة. اهـ. ولا وجه لمن رد الحديث وأنكر صدوره عن النبي صلى الله عليه وسلم لمعارضته النصوص الصحيحة. لا وجه له لأن الحديث ثابت في الصحيحين متفق على صحته، والظاهر المخالف قابل للتأويل، تأويلات سائغة حسنة كثيرة منها: 1 - ما روي عن ابن عباس من أن المراد بنفي الإيمان عن الزاني أن الله ينزع منه نور الإيمان، وقريب منه قول المهلب: تنزع منه بصيرته في طاعة الله. 2 - وقال الحسن البصري وابن جرير الطبري: ما معناه ينزع منه اسم المدح الذي سمي به أولياءه فلا يقال في حقه مؤمن، وإنما يستحق اسم الذم، فيقال: سارق وزان وفاجر وفاسق. وصوب هذا الرأي ابن بطال، ثم قال: ولا خلاف أنه يسمى بذلك ما لم تظهر منه التوبة، فالزائل عنه حينئذ اسم الإيمان بالإطلاق، والثابت له اسم الإيمان بالتقييد، فيقال: هو مصدق بالله ورسوله لفظا واعتقادا لا عملا. اهـ.

3 - وقال الزهري: إنه من المشكل الذي نؤمن به، ونمر كلما جاء، ولا نتعرض لتأويله. 4 - وقيل: إنه خبر بمعنى النهي، والمعنى: لا يزنين مؤمن، ولا يسرقن مؤمن، وليس فيه نفي الإيمان. 5 - وقيل: إن معنى نفي كونه مؤمنا أنه شابه الكافر في عمله، وموقع التشبيه أنه مثله في جواز قتاله في تلك الحالة، ليكف عن المعصية، ولو أدى إلى قتله فانتفت فائدة الإيمان في حقه بالنسبة إلى زوال عصمته في تلك الحالة. 6 - وقيل معنى قوله: "ليس بمؤمن" أي ليس بمستحضر في حال تلبسه بالكبيرة جلال من آمن، فهو كناية عن الغفلة التي جلبتها له غلبة الشهوة، وعبر عن هذا ابن الجوزي بقوله: فإن المعصية تذهله عن مراعاة الإيمان، وهو تصديق القلب، فكأنه نسي ما صدق به. 7 - وقيل: إن المراد من نفي الإيمان نفي الأمان من عذاب الله، لأن الإيمان مشتق من الأمن. 8 - وقال الطيبي: المراد من نفي الإيمان نفي الحياء, وقد مضى أن الحياء من الإيمان، فيكون التقدير: لا يزني الزاني حين يزني وهو يستحي من الله، لأنه لو استحيا منه - وهو يعرف أنه مشاهد حاله - لم يرتكب ذلك، ويعضده حديث "من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى". 9 - وتأوله بعضهم على من فعل ذلك مستحلا، ولا خلاف في أن من استحل محرما علم تحريمه بالضرورة فهو كافر منفي عنه الإيمان على الحقيقة. 10 - وقيل: إن المراد بالحديث الزجر والتنفير، وليس المراد ظاهره، وهو رأي الطيبي إذ قال: ويجوز أن يكون من باب التغليظ والتهديد، كقوله تعالى: {ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} [آل عمران: 97]. 11 - وقيل: إن نفي الإيمان محمول على الإنذار بزواله ممن اعتاد ذلك، لأنه خشي عليه أن يفضي به إلى الكفر، فمن حام حول الحمى يوشك أن يواقعه، وهذا أحد التأويلات في قوله صلى الله عليه وسلم "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده" أي يسرق غير النصاب، فيعتاد فيسرق النصاب، فتقطع يده. 12 - وقيل معناه: أنه يسلب منه الإيمان حال تلبسه بالكبيرة، فإذا فارقها عاد إليه، ويقوي هذا الرأي تقييد نفي الإيمان في الحديث بحالة ارتكابه لها "حين يزني" "حين يسرق" "حين يشربها" "حين ينتهبها". كما يقويه ما أخرجه الحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة، رفعه "إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان، فكان عليه كالظلة، فإذا أقلع رجع إليه الإيمان". 13 - قال الإمام النووي: القول الصحيح، والذي قاله المحققون: أن معناه: لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان، وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء، ويراد نفي

كماله، كما يقال: لا علم إلا ما نفع، ولا مال إلا الإبل، ولا عيش إلا عيش الآخرة، ثم قال: إن هذا التأويل ظاهر سائغ في اللغة، مستعمل فيها كثيرا. اهـ. والحق أن الذي ذهب إليه النووي أقوى التأويلات، وأحراها بالقبول. والله أعلم. هذا. وقد أثارت عبارة الراوي، وكان أبو هريرة يلحق معهن "ولا ينتهب نهبة ... " إلخ أثارت شكا في أن هذه العبارة موقوفة على أبي هريرة، أو مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن روايات الحديث في أماكن أخرى ترفع هذا الشك، وتصل النهبة بالحديث نسقا من غير فصل بقوله: "وكان أبو هريرة يلحق معهن". ففي البخاري: في الحدود " ... ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن". وقد رواه أبو نعيم في مستخرجه على مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "والذي نفس محمد بيده لا ينتهب أحدكم نهبة" الحديث فصرح برفعه. وبهذا لا يتطرق إلى هذه الفقرة احتمال الإدراج أو أنها موقوفة، ويصبح معنى العبارة: وكان أبو هريرة يلحق معهن رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا ينتهب نهبة" إلخ. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - أن من زنى دخل في هذا الوعيد، سواء كان بكرا أو محصنا، وسواء كان المزني بها أجنبية أو محرما، ولا شك أن الزنا بالمحرم أفحش ومن المتزوج أعظم. وذكر بعض العلماء أن المقصود بالزنا التنبيه به على جميع الشهوات، قاله القاضي عياض. 2 - وأن من سرق قليلا أو كثيرا يدخل في هذا الوعيد أيضا، قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر، فقد شرط بعض العلماء في كون السرقة كبيرة أن يكون المسروق نصابا، وإن كانت سرقة ما دون النصاب حراما. 3 - وأن من شرب الخمر دخل في هذا الوعيد، سواء كان المشروب قليلا أم كثيرا لأن شرب القليل من الخمر معدود من الكبائر، وإن كان شرب الكثير الذي يخل العقل يترتب عليه من المحذور ما هو أفحش من شرب القليل. قال ابن بطال: هذا أشد ما ورد في شرب الخمر. والله أعلم.

(36) باب خصال المنافق

(36) باب خصال المنافق 109 - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا. ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق، حتى يدعها: إذا حدث كذب. وإذا عاهد غدر. وإذا وعد أخلف. وإذا خاصم فجر". غير أن في حديث سفيان "وإن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق". 110 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب. وإذا وعد أخلف. وإذا اؤتمن خان". 111 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من علامات المنافق ثلاثة: إذا حدث كذب. وإذا عاهد غدر. وإذا وعد أخلف. وإذا اؤتمن خان". 112 - عن العلاء بن عبد الرحمن يحدث بهذا الإسناد وقال "آية المنافق ثلاث. وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم". 113 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث يحيى بن محمد عن العلاء ذكر فيه "وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم". -[المعنى العام]- يحذر صلى الله عليه وسلم من خصال السوء التي لا تليق بالمسلم، يحذر من آفات اللسان والعمل والنية، يحذر من خمس خلال، يجعلها سمة المنافق، ويجعل وجودها دليلا على نفاق صاحبها، بل يجعل وجود الواحدة منها دليلا على وجود شعبة من شعب النفاق، يظل صاحبها يوصم بهذا الوصم حتى يتركها.

فيقول: صفات من كن فيه كان منافقا خالصا متمحضا للنفاق، بالغا فيه درجة عليا. أولاها: الكذب في الحديث، فإنه يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا. ثانيتها: الغدر في المعاهدات، والإخلال بالمواثيق، والنكث بعد إعطاء الأمان. {فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما} [الفتح: 10]. {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا} [النحل: 91، 92]. ثالثتها: الخلف في الوعد بالخير، عن عزم وتصميم من حين إعطائه، وسوء النية والمراوغة في الوفاء به للإضرار بالناس. رابعتها: الفجور في المخاصمة، واللجاج في المطالبة بغير الحق، والمراء والجدال للوصول إلى حق الغير غلبة وبهتانا، اعتمادا على قوة اللسان واللحن في القول. خامستها: خامسة الأثافي خيانة الأمانة، ونقل العلم أمانة، ونقل الحديث أمانة والأزواج أمانة، والأولاد أمانة، والأموال أمانة، والعبادات أمانة، وفي ذلك يقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} [الأنفال: 27]. بصفات السوء هذه تختل أمور الأمة، ويهتز بناؤها، وتفقد الثقة في أهلها، ويتحول رجالها من صادقين مصدقين إلى فسقة وفجرة ومنافقين، لهم عذاب جهنم وبئس المصير، أعاذنا الله منها، ووفقنا لما فيه رضاه. -[المباحث العربية]- (أربع من كن فيه كان منافقا) المعدود مؤنث محذوف، أي أربع من الخصال، أو أربع من الخلال. و"أربع" مبتدأ، سوغ الابتداء به وهو نكرة ملاحظة الوصف و"من" شرطية مبتدأ ثان والشرط والجواب خبرها، وجملتها خبر "أربع". والنفاق لغة مخالفة الظاهر للباطن، فإن كان في اعتقاد الإيمان فهو نفاق الكفر، إلا فهو نفاق العمل، ويدخل فيه القول والفعل والترك، وتتفاوت مراتبه. (ومن كانت فيه خلة منهن) الخلة بفتح الخاء الخصلة، وبضم الخاء الصداقة المحضة التي لا خلل فيها، والمراد هنا الخصلة.

(إذا حدث كذب) مفعول "حدث" محذوف للتعميم، أي إذا حدث بأي حديث كذب فيه، أو الفعل منزل منزلة اللازم، أي إذا حصل منه تحديث حصل فيه كذب، وهذا الأسلوب مع التعبير بـ "إذا" يدل على تكرر الفعل، فيكون المقصود من الجملة من اعتاد ذلك، وصار له ديدنا. (وإذا عاهد غدر) "عاهده" أعطاه الأمان والموثق، و"غدره وغدر به" خانه ولم يف له بما التزم. (وإذا وعد أخلف) يقال: وعدته خيرا، ووعدته شرا، فإذا حذفوا المفعول الثاني [خيرا. شرا] قالوا في الخير وعدته، وفي الشر أوعدته. قاله صاحب المحكم. (وإذا خاصم فجر) خاصمه مخاصمة: غالبه في الجدل، وكثر في المجادلة على الحقوق المالية لدي الحكام، والفجور الميل عن الحق، والانبعاث في المعاصي والخروج عن الحدود الشرعية. (وإن كانت فيه خصلة منهن) الخصلة بفتح الخاء: الخلة، والفضيلة والرذيلة، وغلبت الخصلة على الفضيلة، واستعمالها هنا من غير الغالب. (آية المنافق ثلاث) الآية العلامة، وكان الظاهر أن يقول: آيات المنافق ثلاث، لأن كل خصلة آية، لكنه أفرد على إرادة الجنس، أو أن العلامة إنما تحصل باجتماع الثلاث لا بواحدة منها، والأول أليق بقول الرسول صلى الله عليه وسلم "ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من النفاق". (من علامات المنافق ثلاثة) هكذا هو في الأصول بتأنيث العدد، بناء على أنه إذا حذف المعدود جاز تذكير العدد وتأنيثه، ويقدر المعدود هنا مذكرا، فكأنه قال: ثلاثة أوصاف، أو ثلاثة أمور مثلا. (وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم) جواب الشرط محذوف للعلم به، والتقدير: وإن صام وصلى فآية نفاقه ثلاث. -[فقه الحديث]- يحصل من مجموع الروايات خمس خصال: 1 - الكذب في الحديث. 2 - والغدر في المعاهدات. 3 - والخلف في الوعد. 4 - والفجور في المخاصمة. 5 - والخيانة في الأمانة.

وهذا يتعارض مع ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم "أربع من كن فيه" وقوله في الرواية الثانية "آية المنافق ثلاث" بل الروايتان تعارض كل منهما الأخرى، وقد حاول بعض العلماء رفع هذا التعارض، فقال القرطبي: يحتمل أنه استجد له صلى الله عليه وسلم من العلم بخصالهم ما لم يكن عنده. اهـ أي فأخبر أولا بالأقل، ثم أخبر بالأكثر. وقال الحافظ ابن حجر ما حاصله: يحتمل أن تكون العلامات الثلاث دالات على أصل النفاق، والخلة الزائدة إذا أضيفت إلى ذلك كمل بها خلوص النفاق. اهـ. وهذا الجمع من الحافظ ابن حجر إنما بناه على روايتي البخاري، وليس فيهما "إذا وعد أخلف" وحاول الخروج من روايتي مسلم بأن الغدر في المعاهدة والخلف في الوعد معناهما قد يتحد، فعدهما خصلة واحدة، وقال: كأن بعض الرواة تصرف في لفظه، والمزيد خصلة واحدة ومجموع الخصال الواردة أربع. اهـ. والمحقق في هذا الاحتمال يستبعده، لأن تصرف بعض الرواة في اللفظ إنما يحتمل في الروايتين المختلفتين، أما الرواية الواحدة التي تعدد خصلتين فاحتمال التصرف من الرواة بعيد. والأولى في الجواب أن يقال: إن كل واحدة من الخمس علامة من علامات النفاق، بل الخمس من علامات النفاق، فهي أكثر من ذلك، إذ منها الملق وإظهار الرضا والإعجاب بالرؤساء مع بغضهم وكراهيتهم، فالأربع إذا اجتمعت في شخص كان منافقا خالصا، وإذا وجدت فيه خصلة منها كان فيه خصلة من النفاق، وهناك غير هذه الأربع ما هو من علامات النفاق، أما رواية: "آية المنافق ثلاث" فهي على تقدير "من " أي من آيات المنافق الكثيرة ثلاث، يدل على ذلك ما ورد في الرواية الثانية "من علامات المنافق ثلاثة". والمقصود من هذه الخصال المذكورة التنبيه على ما عداها من خصال النفاق، إذ أصل الديانة منحصر في ثلاث: القول، والفعل، والنية، فنبه على فساد القول بالكذب، والفجور في المخاصمة، وعلى فساد الفعل بالخيانة في الأمانة والغدر في المعاهدة، وعلى فساد النية بالخلف في الوعد، لأن الخلف في الوعد لا يقدح إلا إذا كان العزم عليه مقارنا للوعد، أما لو كان عازما على الوفاء ثم عرض له مانع، أو بدا رأي، فهذا لا توجد فيه صورة النفاق قاله الغزالي في الإحياء، وقد ورد عند الترمذي وأبي داود" إذا وعد الرجل أخاه ومن نيته أن يفي له فلم يف، فلا إثم عليه". وقال المهلب: إنجاز الوعد مأمور به مندوب إليه عند الجميع، وقد ذهب بعض العلماء إلى أنه واجب، استدلالا بهذا الحديث، وبقوله تعالى: {كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} [الصف: 3]. والتحقيق أن حكمه يختلف باختلاف الموعود به، والأثر المترتب على الإخلاف. ولا شك أن المراد بالوعد المطلوب الوفاء به الوعد بالخير، أما الوعد بالشر فيستحب إخلافه، بل قد يجب إخلافه.

وأما الكذب في الحديث الذي هو علامة من علامات المنافق فهو الكذب المتعمد الذي يترتب عليه ضرر، أما المبالغة في الوصف، أو في الإخبار عن أحوال ماضية، مما يخالف الواقع ولا يترتب عليه ضرر، فهذا وإن كان كذبا في الصورة، وإن كان ينبغي الحذر منه، إلا أنه لا يأثم كثيرا بسببه ولا يكون به منافقا. وللغزالي كلام نفيس في هذا الموضوع لا بأس باقتباس بعضه، قال: إن الكذب ليس حراما لعينه، بل لما فيه من الضرر على المخاطب أو على غيره. ثم نقل عن ميمون بن مهران قوله: الكذب في بعض المواطن خير من الصدق. أرأيت لو أن رجلا سعى خلف إنسان بالسيف ليقتله ظلما، فدخل دارا فانتهى إليك، فقال: أرأيت فلانا؟ ما كنت قائلا؟ ألست تقول: لم أره؟ وهذا الكذب واجب. ثم قال الغزالي: الكلام وسيلة إلى المقاصد، فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعا فالكذب فيه حرام، وإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك القصد مباحا، وواجب إن كان المقصود واجبا، كما أن عصمة دم المسلم واجبة فمهما كان في الصدق سفك دم امرئ مسلم قد اختفى من ظالم فالكذب فيه واجب، ومهما كان لا يتم مقصود الحرب، أو إصلاح ذات البين، أو استمالة قلب المحني عليه إلا بكذب فالكذب مباح. إلا أنه ينبغي أن يحترز منه ما أمكن، لأنه إذا فتح باب الكذب على نفسه، فيخشى أن يتداعى إلى ما يستغنى عنه، وإلى ما لا يقتصر على حد الضرورة، فيكون الكذب حراما في الأصل إلا لضرورة. اهـ. وأما الغدر في المعاهدة فهو قبيح مذموم عند كل أمة. قال الحافظ ابن حجر: والغدر حرام باتفاق، سواء كان في حق المسلم أو الذمي. اهـ. وقد أمر الله المسلمين بالوفاء بعهدهم للمشركين فقال: {إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين} [التوبة: 4]. وأما المخاصمة فهي لجاج في الكلام ليستوفى به مال أو حق، والفجور فيها يكون بمحاولة الوصول إلى مال الغير وإلى غير الحق، فالمخاصمة تكون على ثلاثة أحوال: مخاصمة للوصول إلى حق، ومخاصمة بغير علم، ومخاصمة للوصول إلى حق الغير. أما المخاصمة للوصول إلى حق فالأولى تركها، حيث أمكن الوصول إليه بغيرها، لأنها تشوش الخاطر، وتنغص القلوب، وتوغر الصدور، وتهيج الغضب، إذ فيها تعريض بالطعن والتجهيل والتكذيب، وفيها تفويت لطيب الكلام، ولين الخلق مفتاح باب الجنة. وأما المخاصمة بغير علم فهي مذمومة لما فيها من الأضرار السابقة، وزيادة عدم الهدف والغرض الصحيح. وأما المخاصمة للوصول إلى حق الغير فهي الحالة المقصودة من الحديث "إذا خاصم فجر" أي مال عن الحق قصدا، وتلك سمة المنافق.

وأما الخيانة في الأمانة فهي حرام باتفاق، سواء كانت الأمانة بين العبد وربه كالفرائض التي هي أمانة لدى الأمة، أو بين الناس بعضهم بعضا. وقد أثار العلماء على الحديث إشكالا، حكاه الإمام النووي فقال: إن هذه الخصال توجد في المسلم المصدق الذي ليس فيه شك، وقد أجمع العلماء [أي من أهل السنة] على أن من كان مصدقا بقلبه ولسانه، وفعل هذه الخصال لا يحكم عليه بكفر، ولا هو منافق يخلد في النار، فإن إخوة يوسف عليه السلام جمعوا هذا الخصال، وكذا وجد لبعض السلف والعلماء بعض هذا أو كله، ثم قال جوابا عن هذا الإشكال: الذي قاله المحققون والأكثرون وهو الصحيح المختار، أن معناه أن هذه الخصال خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال، ومتخلق بأخلاقهم، فإن النفاق هو إظهار ما يبطن خلافه، وهذا المعنى موجود في صاحب هذه الخصال، ويكون نفاقه في حق من حدثه، أو وعده، أو ائتمنه، أو خاصمه وعاهده من الناس، لا أنه منافق في الإسلام فيظهره وهو يبطن الكفر، ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا أنه منافق نفاق الكفار المخلدين في الدرك الأسفل من النار. قال الحافظ ابن حجر: ومحصل هذا الجواب حمل تسميته منافقا على المجاز، أي صاحب هذه الخصال كالمنافق، وهو مبني على أن المراد بالنفاق نفاق الكفر. وقد قيل في الجواب عن الإشكال: إن المراد بالنفاق نفاق العمل. وهذا الذي ارتضاه القرطبي، واستدل له بقول عمر لحذيفة: هل تعلم في شيئا من النفاق؟ فإنه لم يرد بذلك نفاق الكفر، وإنما أراد نفاق العمل. وقيل: المراد بإطلاق النفاق إنذار المسلم وتحذيره من أن يرتكب هذه الخصال فيعتادها فتفضي به إلى حقيقة النفاق. وهذه الأجوبة مبنية على أن اللام في المنافق للجنس، ومن العلماء من ادعى أنها للعهد، وأن الحديث في حق شخص معين، أو في حق المنافقين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، جريا على عادة النبي صلى الله عليه وسلم في عدم المواجهة بتصريح القول، فلم يكن يقول: فلان منافق، وإنما كان يعرض بالأفعال كقوله صلى الله عليه وسلم: "ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء"؟ قال الحافظ ابن حجر: وأحسن الأجوبة ما ارتضاه القرطبي. اهـ. ونحن نميل إلى ما اختاره النووي، ولا يضر قوله "وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم" إذ المعنى أنه شيبه بالمنافق، وإن قام بشعائر الإسلام وأركانه الظاهرة وأعلن أنه مسلم، فقد كان المنافقون الحقيقيون يفعلون ذلك. وهذه الجملة في الرواية الأخيرة تأكيد للتنفير من هذه الخلال، والتحذير من ملابستها لإشعارها بأن الصوم والصلاة، وبقية الأركان لا تحمي الإسلام من الزعزعة والضعف، ولا تحول دون مشابهة مرتكب الخلال الخمس بالمنافقين {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} [النور: 63].

(37) باب إيمان من قال للمسلم: يا كافر

(37) باب إيمان من قال للمسلم: يا كافر 114 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كفر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما". 115 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أيما امرئ قال لأخيه: كافر. فقد باء بها أحدهما. إن كان كما قال. وإلا رجعت عليه". -[المعنى العام]- سباب المسلم كقتله، وتكفيره كالكفر، وما من رجل يرمي مسلما ظلما بفسق أو بكفر إلا هيأ الله له ملكا يدافع عنه، ويرد عنه الشتم والسب. وقد ورد أن رجلا أخذ يسب أبا بكر الصديق في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر صامت لا يرد، حتى فاض به الكيل، فرد شتمة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم مغضبا، فتعلق به أبو بكر، وقال: يا رسول الله، يشتمني وتسكت، فلما أرد مرة على مرات تغضب وتقوم؟ فقال: يا أبا بكر. كان يشتمك وملك يرد عنك، فلما رددت خرج الملك ودخل الشيطان. نعم. إذا كفر المسلم أخاه المسلم، وإذا قال مؤمن: لمؤمن: يا كافر. فإن كان كافرا حقا كفرا شرعيا، فقد صدق القائل، وذهب بها المقول له، وإن كان ليس كما قال كان القائل هو المستحق لمعرة الكفر، وارتدت عليه كلمته. وقد أخرج أبو داود بسند جيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله "إن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض فتأخذ يمنة ويسرة، فإن لم تجد مساغا رجعت إلى الذي لعن، إن كان أهلا، وإلا رجعت إلى قائلها". فليحذر المسلم السب واللعن والتكفير وبذاءة اللسان، فليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء، ورحم الله عبدا تكلم فغنم، أو سكت فسلم. -[المباحث العربية]- (إذا كفر الرجل أخاه) كفره أكفره ففي القاموس: أكفره دعاه كافرا. أي إذا دعا الرجل أخاه

بالكفر، وناداه بكلمة "يا كافر" كما جاء في الرواية الثانية، أو إذا نسب إليه الكفر، وأسنده إليه، فقال: أنت كافر أو فلان كافر، والمراد من الأخوة: الأخوة في الإسلام، وعبر بلفظ "أخاه" ولم يقل: إذا كفر الرجل مسلما، لزيادة التنفير من هذا الفعل القبيح، لأن شناعة سب الأخ فوق شناعة سب البعيد، والتعبير بالرجل لما أنه الأصل في خطاب الشرع، والنساء محمولات على الرجال في الخطاب الشرعي، إلا ما ورد خاصا بهن، فمثل إكفار الرجل أخاه إكفار الرجل أخته، وإكفار المرأة أخاها أو أختها. (أيما امرئ قال لأخيه: كافر) "أي" اسم شرط مبتدأ، و"ما" زائدة و"امرئ" مضاف إليه، وحركة الراء فيه تابعة لحركة إعرابه فتفتح في النصب، وتضم في الرفع، وتكسر في الجر كما هنا. و"كافر" ضبطه النووي بالرفع والتنوين على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو كافر، ورواية البخاري "يا كافر" على النداء، والبناء على الضم، لأنه نكرة مقصودة. (فقد باء بها أحدهما) ضمير "بها" لكلمة التكفير، و"باء" بمعنى رجع، والمراد بأحدهما القائل أو المقول له، والجملة جواب الشرط، والمعنى من قال لأخيه المسلم: يا كافر فقد رجع بهذه الكلمة المقول له أو القائل، ثم بين رجوع أحدهما بهذه الكلمة، فقال: (إن كان كما قال) اسم "كان" ضمير الأخ، و"كما قال" خبر "كان" وجواب الشرط محذوف، والتقدير: إن كان الأخ المقول له كافرا في الواقع ونفس الأمر فقد باء بالتكفير. (وإلا رجعت عليه) أي وإن لم يكن الأخ كافرا رجعت كلمة التكفير على قائلها و"إن" شرطية مدغمة في "لا" النافية، وفعل الشرط محذوف للعلم به من سابقه، وفاعل "رجعت" ضمير مستتر يعود على كلمة التكفير. -[فقه الحديث]- من نسب الكفر إلى مسلم، لا يخلو حاله من أحد أمور أربعة: (أ) أن لا يقصد النسبة الحقيقية، بأن يقولها عفوا، وجريا على لسانه أو هزلا ومداعبة، فهذا آثم بلا خلاف، لأن في طهارة الألفاظ متسعا للهزل والمداعبة وبسط الكلام، لكنه ليس بكافر، ولا يبوء بهذه الكلمة أحدهما وليس مقصودا بهذا الحديث. (ب) أن يقصد النسبة الحقيقية، لكنه يجهل حكم من كفر أخاه، فهذا آثم إثما أكبر، لأنه لا يجوز طعن مسلم - خصوصا بالكفر- إلا بعد التحقق والتأكد بجميع الوسائل والبراهين، لكنه ليس بكافر، ولا يدخل في الحديث لجهله. (جـ) أن يقصد النسبة الحقيقية، ويعلم الحكم، لكن له وجهة نظر دينية في هذه النسبة كقولنا:

الخوارج كافرون وإسنادنا بعض الشيعة للكفر، فهذه الحالة لا تدخل معنا في هذا الحديث، والتحرز منها أولى من الوقوع فيها. (د) أن يقصد النسبة الحقيقية والسب والطعن، بغير تأويل، وهو يعلم النهي عن تكفير المسلم، وهذه الحالة هي المقصودة بالحديث، ولا شك أنها كبيرة، وللخوارج أن يتمسكوا بالحديث في تكفيرهم مرتكب الكبيرة. ولما كان أهل السنة لا يكفرون المسلم بالمعاصي، كالقتل والزنا والسرقة والخمر، فإنهم لا يكفرونه بالسب واللعن، ولو كان بلفظ الكفر، ما دام هذا القائل لا يعتقد بطلان دين الإسلام، ولهم في تأويل هذا الحديث عدة أوجه: الأول: أنه محمول على المستحل لذلك، وكل مستحل للكبيرة المعلوم حرمتها من الدين بالضرورة كافر، ويكون معنى الحديث: من استحل تكفير المسلم وكان المقول له مسلما في الواقع ونفس الأمر، فقد رجع عليه الكفر وبالتكفير صار كافرا. قال الحافظ ابن حجر: وهذا الوجه بعيد من سياق الحديث. الثاني: أن الحديث محمول على الخوارج الذين كفروا أجلة الصحابة وأمثال الخوارج ممن يكفرون من لا شبهة في إسلامهم، وهذا الوجه نقله القاضي عياض عن الإمام مالك بن أنس، قال الإمام النووي: وهو ضعيف لأن المذهب الصحيح المختار الذي قاله الأكثرون والمحققون أن الخوارج لا يكفرون، كسائر أهل البدع. اهـ. وقال الحافظ ابن حجر: ولما قاله مالك وجه، وهو أن منهم من يكفر كثيرا من الصحابة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة وبالإيمان، فيكون تكفيرهم من حيث تكذيبهم للشهادة المذكورة، لا من مجرد صدور التكفير منهم بتأويل. اهـ. والمحقق في دفاع الحافظ ابن حجر يجد هذا الوجه لا وجه له، لأن رد حديث الشهادة بالجنة لا يكفر لأنه غير متواتر، ولا يلزمه تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم. الثالث: أنه يخشى عليه من أن يؤول به هذا التكفير إلى الكفر، كما قيل: المعاصي بريد الكفر، أي واسطته وطريقه، فيخاف على من أدامها وأصر عليها أن يكون عاقبة شؤمها المصير إلى الكفر ولا يخفى ما في هذا الوجه من التكلف. الرابع: أن المراد كفر النعمة، وقد ورد الكفر في الشرع بمعنى جحد النعم في حديث "يكفرن الإحسان، ويكفرن العشير" فكأن المعنى: من قال لأخيه: يا كافر فقد ترك شكر نعمة الإسلام، ولم يقم بحقها، ويضعف هذا الوجه أن الكفر حيث أطلق في لسان الشرع فهو جحد المعلوم من الدين بالضرورة. الخامس: أن في الكلام مضافا محذوفا، والتقدير: فقد باء بها أي بإثمها ونقيصتها ومعصيتها أحدهما، وهذا الوجه قليل التكلف، ولا بأس به.

السادس: أن معناه فقد رجع عليه تكفيره لأخيه، فليس الراجع حقيقة الكفر، بل التكفير، لأن من جعل أخاه كافرا فكأنه كفر نفسه، لأنه كفر من هو مثله، ولأنه فعل ما لا يفعله إلا كافر يعتقد بطلان دين الإسلام. وهذا الوجه قريب من الوجه الخامس. السابع: قال الحافظ ابن حجر: والتحقيق أن الحديث سيق لزجر المسلم عن أن يقول ذلك لأخيه المسلم. فالمقصود التغليظ والتخويف والردع، وليس رجوع الكفر إلى قائله. هذا حكم القائل الذي لم يطابق قوله الواقع، فإن كان صادقا فيما قال وكان المقول له كافرا في حقيقة الأمر، أو كان المقول له: يا فاسق فاسقا بالفعل، فإنه لا يرجع عليه شيء لكونه صدق فيما قال، ولكن لا يلزم من كونه لا يصير بذلك كافرا أو فاسقا أن لا يكون آثما، بل في هذه الصورة تفصيل: إن قصد نصحه أو نصح غيره ببيان حاله جاز. وإن قصد تعييره: والتشهير به، ومحض أذاه لم يجز، لأنه مأمور بالستر عليه وتعليمه وعظته بالحسنى، فمهما أمكنه ذلك بالرفق لا يجوز له أن يفعله بالعنف، لأن العنف قد يكون سببا في إغرائه وإصراره على ذلك الفعل، كما في طبع كثير من الناس من الأنفة، لا سيما إن كان الآمر دون المأمور في المنزلة. والله أعلم

(38) باب إيمان من ادعى لغير أبيه ومن ادعى ما ليس له

(38) باب إيمان من ادعى لغير أبيه ومن ادعى ما ليس له 116 - عن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه، إلا كفر. ومن ادعى ما ليس له فليس منا وليتبوأ مقعده من النار. ومن دعا رجلا بالكفر، أو قال: عدو الله، وليس كذلك. إلا حار عليه". 117 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا ترغبوا عن آبائكم. فمن رغب عن أبيه فهو كفر". 118 - عن أبي عثمان. قال: لما ادعي زياد، لقيت أبا بكرة فقلت له: ما هذا الذي صنعتم؟ إني سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: سمع أذناي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "من ادعى أبا في الإسلام غير أبيه، يعلم أنه غير أبيه، فالجنة عليه حرام". 119 - عن أبي عثمان، عن سعد وأبي بكرة، كلاهما يقول: سمعته أذناي. ووعاه قلبي. محمدا صلى الله عليه وسلم. يقول "من ادعى إلى غير أبيه، وهو يعلم أنه غير أبيه، فالجنة عليه حرام". -[المعنى العام]- كان من عادات أهل الجاهلية القبيحة ومن صور نكاحهم الشاذ الفاسد أنهم كانوا يجتمعون رهطا دون العشرة، فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت ومضت ليال، أرسلت إليهم، فاجتمعوا عندها. فقالت: قد ولدت، فهو ابنك يا فلان، فيلحق به ولدها، ولا يستطيع أن يمتنع، ولا قيمة لزوجها الحقيقي، ومن ذلك نكاح الإماء البغايا حيث كن ينصبن الرايات على أبوابهن، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن فوضعت ألحقوا ولدها بالذي يراه القائف، فيكون ابنه، يستحق جميع حقوق الأبناء الحقيقيين. وجاء الإسلام فأبطل كل هذه القبائح، وجعل الولد للفراش منسوبا إلى الزوج، فإذا قام رجل، فقال: يا رسول الله. إن فلانا ابني عاهرت بأمه في الجاهلية قال له

صلى الله عليه وسلم: لا دعوة في الإسلام، ذهب أمر الجاهلية، الولد للفراش وللعاهر الحجر، ومنع التبني منعا قاطعا. وكان زياد ابن أبيه، أو زياد بن عبيد الثقفي كان ابن سمية، وكانت أمة للحارث بن كلدة، زوجها لمولاه عبيد، فأتت بزياد على فراشه، وهم بالطائف قبل أن يسلم أهل الطائف ونبغ زياد، وصار ملء السمع والعين، بلاغة وقوة رأي، وسمعه أبو سفيان يتكلم، فأعجب بفصاحته - وذلك في خلافة عمر- فقال: إني لأعرف من وضعه في أمه، ولو شئت لسميته، ولكن أخاف من عمر، وكان يقصد من ذلك رغبته في استلحاقه وتبنيه. فلما ولي معاوية الخلافة كان زياد واليا على فارس من قبل علي - كرم الله وجهه- فأراد معاوية مداراته واستمالته، فأرسل إليه أنه أخوه، وأبلغه دخيلة أبي سفيان في استلحاقه، وأطمعه في أن يلحق بأبي سفيان، ويعلن للناس أنه أخوه، فأصغى زياد إلى ذلك، ورأى أنه سينال به حظوة وشرفا، وتم الاستلحاق، وادعاه معاوية وألحقه بأبي سفيان، وصار من جملة أصحابه بعد أن كان من أصحاب علي، وأمره معاوية على البصرة، ثم على الكوفة وأكرمه، فأنكر كثير من الصحابة والتابعين هذا العمل، محتجين بحديث "الولد للفراش" وإبطال الادعاء والتبني. وكان أبو عثمان أحد المنكرين، التقى بأبي بكرة، ابن سمية، أخي زياد لأمه فقال له: كيف خالفتم الشريعة؟ وكيف اجترأتم على حدود الله؟ وكيف قبلتم هذا الإلحاق؟ ألم تسمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ترغبوا عن آبائكم، ولا تتحولوا عنهم إلى غيرهم، فمن رغب عن أبيه، وانتسب إلى غيره فقد كفر، والجنة عليه حرام، ومن ادعى شيئا ليس له فليس مستقيما على شريعة الإسلام، وسيتبوأ منزلا من النار؟ . قال أبو بكرة: مهلا يا أبا عثمان، فقد سمعت أذناي هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعاه قلبي، وأنكرت هذا الفعل مثل ما أنكرت، وخاصمت فيه زيادا وهجرته، وحلفت أن لا أكلمه أبد الدهر، ولست أملك تغيير هذا المنكر بأكثر مما فعلت، والله المستعان على ما يصفون. -[المباحث العربية]- (ليس من رجل) "من" زائدة والتعبير بالرجل للغالب، وإلا فالمرأة كذلك حكمها. (ادعى لغير أبيه) "ادعى" بفتح الدال والعين، ومفعوله محذوف، والتقدير: ادعى نسبا لغير أبيه، والجملة صفة "رجل". (وهو يعلمه) أي وهو يعلم أباه الحقيقي، أو وهو يعلم أنه غير أبيه. والثاني أولى للتصريح في الرواية الثالثة والرابعة، وجملة "وهو يعلمه" حال من فاعل "ادعى". (إلا كفر) الاستثناء مفرغ من عموم الأخبار، وجملة "كفر" خبر، والتقدير: ليس

رجل مدع غير أبيه مخبرا عنه بخبر ما إلا بكفره، وبرفع النفي والاستثناء يصير المعنى: الرجل الذي يدعي غير أبيه كافر. (ومن ادعى ما ليس له) "من" اسم شرط مبتدأ، و"ادعى" فعل الشرط و"ما" موصولة مفعول "ادعى" و"ليس له" لا محل له من الإعراب صلته، أو نكرة موصوفة، مفعول "ادعى" أيضا وجملة " ليس له" صفة، والتقدير: ادعى شيئا ليس له. (فليس منا) معشر المسلمين، والجملة جواب الشرط. (وليتبوأ مقعده من النار) يقال: تبوأ الرجل المكان إذا اتخذه مسكنا، فالمعنى ليتخذ لنفسه منزلا من نار جهنم: وهو أمر بمعنى الخبر، أي ليس منا وسيتخذ منزلا له في نار جهنم أو بمعنى التهديد، كقوله {اعملوا ما شئتم} [فصلت: 40] أو بمعنى التهكم، أو دعاء على فاعل ذلك، أي بوأه الله ذلك. وقال الكرماني: يحتمل أن يكون الأمر على حقيقته، والمعنى: من ادعى ما ليس له فليأمر نفسه بالتبوؤ. والوجه الأول أولى. (ومن دعاء رجلا بالكفر) أي ناداه بكلمة: يا كافر. (أو قال: عدو الله) ضبطه النووي على وجهين: رفع "عدو" على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هو عدو الله، ونصبه على النداء، أي يا عدو الله، والنصب أرجح. (وليس كذلك) أي وليس من دعي بالكفر كما قال الداعي. (إلا حار عليه) "حار" و"رجع" و"باء" بمعنى واحد، وهذا الاستثناء واقع على المعنى، والتقدير" ما يدعوه أحد بالكفر وهو ليس بكافر إلا رجع الكفر على الداعي. (لا ترغبوا عن آبائكم) يقال: رغب في كذا إذا مال إليه وأقبل عليه، ورغب عن كذا إذا انصرف عنه وأعرض، فالمعنى: لا تتحولوا عن النسبة لآبائكم. (فمن رغب عن أبيه فهو كفر) الأصل فهو كافر، ففيه الإخبار بالمصدر للمبالغة كأنه نفس الكفر، كقولهم زيد عدل أي عادل. (لما ادعي زياد) ضبطه النووي بضم الدال وكسر العين، مبني للمجهول أي ادعاه معاوية، وضبطه بعضهم بفتح الدال والعين، على أن زيادا هو الفاعل، وتوجيهه أن معاوية ادعاه، وصدقه زياد في ادعائه، فصار زياد مدعيا أنه ابن أبي سفيان "راجع المعنى العام". (سمع أذناي) هكذا ضبطه النووي بكسر الميم وفتح العين، وأذناي بالتثنية، والأذن مؤنث مجازي، يجوز تذكير الفعل معه وتأنيثه، وضبطه بعضهم موافقا النووي في "سمع" لكن ضبط

"أذني" بلفظ الإفراد، وضبطه بعضهم "سمع أذني" بإسكان الميم وفتح العين على المصدر، و"أذني" بالإفراد، وضبطه بعضهم كذلك لكن برفع "سمع". قال النووي: وكلها صحيحة ظاهرة. والمسموع هو متن الحديث "من ادعى أبا في الإسلام غير أبيه ... " إلى آخر الحديث. وجملة "وهو يقول" حال من "رسول الله صلى الله عليه وسلم ". (سمعته أذناي ووعاه قلبي) أي حفظه قلبي، والمقصود من هاتين الجملتين التوثيق بالرواية، وتأكيد إسناد الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. (محمدا صلى الله عليه وسلم) بنصب "محمدا" على البدل من ضمير المفعول في "سمعته أذناي" وبإحلال البدل محل المبدل منه يصبح التركيب سمعت أذناي محمدا صلى الله عليه وسلم يقول. -[فقه الحديث]- كان العرب في الجاهلية يستبيحون أن يتبنى الرجل ولد غيره، فلا ينسب الولد إلى أبيه الحقيقي، وإنما ينسب إلى الذي تبناه، ويصبح له حق الولد من النسب من جميع النواحي، حتى نزل قوله تعالى: {وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما} [الأحزاب: 4، 5] فحرم التبني ووجبت نسبة كل واحد إلى أبيه الحقيقي، لكن العادات العربية المتأصلة المتركزة لم يكن من السهل اقتلاعها دون تخويف ووعيد، فجاءت هذه الأحاديث مهددة منذرة بالكفر وبتحريم الجنة. وقد سبق القول بأن أهل السنة لا يكفرون المسلم بارتكابه المعاصي، فحملوا هذا الحديث على المستحل، والمستحل كافر، والجنة عليه حرام. وقد قدمنا في الحديث السابق تأويلات صالحة لهذا الحديث. ونزيد هنا تأويلا لقوله، "فالجنة عليه حرام" إذ قيل في معناه أنها محرمة عليه أولا عند دخول الفائزين وأهل السلامة، ثم إنه قد يجازى، فيمنعها عند دخولهم، ثم يدخلها بعد ذلك وقد لا يجازى، بل يعفو الله عنه. ذكره النووي في شرح مسلم. والحديث يقيد الحكم بالعلم، وهذا القيد لا بد منه، لأن الإثم إنما يترتب على العالم بالشيء المتعمد له، وهل يدخل في هذا الوعيد كل من انتسب إلى غير أبيه، مهما كان قصده من الانتساب، وبغض النظر عن الآثار المترتبة عليه؟ أو هو خاص بالانتساب الذي هو على شاكلة انتساب أهل الجاهلية، والذي يترتب عليه آثار غير شرعية من الإرث وغيره. الحق أن هذا الوعيد خاص بالحالة الثانية، أما من رغب عن الانتساب لأبيه لمعرة فيه، أو

انتسب لأخواله للافتخار والتشرف والتباهي، أو انتسب لأحد أفراد عائلته لشهرته، فكل هؤلاء لا يدخلون في الوعيد، وإن كانوا لا يخلصون من إثم ومؤاخذة. وإنما خص أبو عثمان أبا بكرة بالإنكار، لأن زيادا كان أخاه من أمه فحمل أبو عثمان أبا بكرة بعض تبعة إلحاق زياد بأبي سفيان، ولعله كان يجهل أن أبا بكرة بريء من هذا الفعل، وأنه أنكره بشدة، وهجر بسببه زيادا، وحلف أن لا يكلمه أبدا، ولعله أراد من قوله "ما هذا الذي صنعتم"؟ أراد "ما هذا الذي صنعه أخوك زياد"؟ وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن ادعى ما ليس له، فليس منا وليتبوأ مقعده من النار" فهو أعم من الأول، لأنه يشمل من ادعى أبا غير أبيه، كما يشمل من ادعى أي شيء له، فيدخل فيه جميع الادعاءات الباطلة، سواء كانت مالا أو علما أو نسبا أو قوة أو شرفا أو حالا أو صلاحا أو نعمة أو ولاء أو غير ذلك. ومعنى قوله: "ليس منا" أي ليس على هدينا وجميل طريقتنا، كما يقول الرجل لابنه: لست مني، فإنه لا يقصد نفي الصلة كلية، فالقصد أنه منحرف عن النهج القويم، وليس القصد التبري. وليس معنى "وليتبوأ مقعده من النار" أن دخوله النار حتمي، بل معناه أن هذا جزاؤه إن جوزي، وقد يعفى عنه، وقد يوفق للتوبة فيسقط عنه ذلك. -[ويؤخذ من الحديث.]- 1 - تحريم التهرب والانتفاء من النسب المعروف. 2 - تحريم الانتساب إلى غير الأب الحقيقي. 3 - حرص السلف الصالح على إنكار المنكر. 4 - تحريم دعوى ما ليس له في كل شيء سواء تعلق به حق لغيره أم لا. 5 - أنه لا يحل له أن يأخذ ما حكم له به الحاكم إذا كان لا يستحقه، ويزداد التحريم كلما زادت المفسدة المترتبة على هذا الادعاء. 6 - أنه يحرم نداء المسلم بلفظ الكفر، أو بلفظ عدو الله ونحوه، وقد تقدم توضيح هذا في الحديث السابق. والله أعلم.

(39) باب إيمان من يسب أخاه ومن يقاتله

(39) باب إيمان من يسب أخاه ومن يقاتله 120 - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "سباب المسلم فسوق. وقتاله كفر". وبمثله. 121 - عن جرير رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: "استنصت الناس" ثم قال "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض". وبمثله. 122 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حجة الوداع "ويحكم (أو قال. ويلكم) لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض". -[المعنى العام]- دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على مجلس من مجالس الأنصار، وفيه رجل من الأنصار قد عرف بالبذاء ومشاتمة الناس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سباب المسلم فسوق وقتاله كفر، فقال ذلك الرجل: والله لا أسب رجلا.

ولما نزل قوله تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح} [النصر: 1] في أيام الحج عرف أنه الوداع، فأمر براحلته يوم النحر فرحلت وأعدت، فركب، فوقف بالعقبة واجتمع الناس إليه، فأمر جريرا أن يطلب منهم الإنصات فأنصتوا، فخطبهم بما يهمه وحذرهم مما يخشى عليهم منه بعد مماته، فقال: أيها الناس أتدرون أي يوم هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فسكت، حتى ظنوا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم النحر؟ قالوا بلى، قال: أي شهر هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. فسكت، حتى ظنوا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس ذو الحجة؟ قالوا بلى، قال: أي بلد هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. فسكت، حتى ظنوا أنه سيسميه بغير اسمه. قال أليست بالبلدة الحرام؟ قالوا: بلى. قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع. أيها الناس: لا ترجعوا بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض. تلك وصية الوداع التي حرص صلى الله عليه وسلم أن يبلغها للناس، لأنه كان يخشى الفتن التي قامت، وكم كان صلى الله عليه وسلم يحذر منها، وكم قال: "ويل للعرب من شر قد اقترب". "وإني لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم كوقع القطر". "لا يحمل بعضكم السلاح على بعض". "من حمل علينا السلاح فليس منا". "إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار". ولم يغن حذر من قدر، ووقعت الفتن كالليل المظلم، وتقاتل المسلمون حتى قتل منهم في معركة واحدة أكثر من عشرة آلاف مسلم، قتلوا جميعاً بأيد مسلمة كان لكل منهم وجهة نظر، بناها على اجتهاد واستنباط من دليل، ولا شك أن البعض مخطئ، والبعض مصيب، ولكن تحديد المخطئ والمصيب مشكل، ولا نقول إلا أن الجميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمرهم إلى الله. وكل ما يعنينا من الحديث أنه أوعد وأنذر، وخوف وحذر، وأدى صلى الله عليه وسلم الرسالة، وبلغ الأمانة، ونصح الأمة، وشهد الله بذلك والملائكة وأولوا العلم. فصلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. -[المباحث العربية]- (سباب المسلم فسوق) يقال: سبه يسبه سباً وسباباً طعنه وشتمه، والفسوق الخروج عن حدود الله، و"سباب" مصدر مضاف إلى الفاعل مع حذف المفعول، والأصل: أن سب المسلم المسلم فسوق، أو مضاف للمفعول، والأصل: سبابكم المسلم فسوق، والأول أظهر. (وقتاله كفر) أي مقاتلة المسلم المسلم وحمل السلاح عليه كالكفر. (في حجة الوداع) قال النووي: المعروف في الرواية "حجة الوداع" بفتح الحاء، وقال

الهروي وغيره من أهل اللغة: المسموع من العرب في واحدة الحجج حجة بكسر الحاء. قالوا: والقياس فتحها لكونها اسما للمرة الواحدة، وليست عبارة عن الهيئة حتى تكسر. قالوا: فيجوز الكسر بالسماع، والفتح بالقياس. اهـ وسميت حجة الوداع لأن النبي صلى الله عليه وسلم ودع الناس فيها، وأوصاهم بتبليغ الشرع فيها إلى من غاب عنها. (استنصت الناس) أي اطلب من الناس أن ينصتوا ليسمعوا الخطبة، يقال: نصت ينصت وأنصت ينصت إذا سكت. (لا ترجعوا بعدي كفارا) وفي رواية للبخاري "لا ترتدوا" وفي رواية أخرى له أيضا "لا ترجعن" ومعنى "بعدي" بعد فراقي من موقفي هذا، أو "بعدي" أي خلافي، أي لا تخلفوني في أنفسكم بغير الذي أمرتكم به، أو يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد تحقق أن هذا لا يكون في حياته فنهاهم عنه بعد مماته. حكاه القاضي عياض. (يضرب بعضكم رقاب بعض) روي بجزم "يضرب" في جواب النهي وروي برفعه على أن الجملة لا محل لها من الإعراب مستأنفة، أو في محل نصب على الحال. وضرب الرقاب كناية عن القتل، فالمراد يقاتل بعضكم بعضا. (ويحكم - أو قال: ويلكم) شك من الراوي، اسم فعل ماض، وفي القاموس: وي كلمة تعجب، وويح وويل أصله "وي" فوصلت بحاء مرة ولام أخرى. اهـ. وقال القاضي عياض: ويح وويل كلمتان استعملتها العرب بمعنى التعجب والتوجع. قال سيبويه: "ويل" كلمة لمن وقع في هلكة، و"ويح" ترحم، وحكي عنه "ويح" زجر لمن أشرف على الهلكة. وقال الهروي: "ويح" لمن وقع في هلكة لا يستحقها، فيترحم عليه، ويرثى له، و"ويل" الذي يستحقها ولا يترحم عليه. اهـ. والمناسب للحديث ما حكي عن سيبوبه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قالها زجرا للأمة وإشفاقا عليها لإشرافها على الهلكة ومقاتلة بعضها بعضها. -[فقه الحديث]- لا خلاف في أن سباب المسلم فسوق وخروج عن حدود الدين، وتختلف درجة معصيته باختلاف لفظ السب وأثره، والحديث في ظاهره "سباب المسلم فسوق" يرد على الخوارج في دعواهم تكفير مرتكب الكبيرة، إذ الوصف بالفسق غير الوصف بالكفر شرعا، اللهم إلا أن يجعلوا الفسوق بمعنى الخروج عن الدين كلية، وهو بعيد.

أما وصف قتال المسلم بالكفر فقد أوله أهل السنة بالتأويلات المتقدمة في الحديث الأسبق، وزادوا: 1 - أن المراد من "لا ترجعوا بعدي كفارا" أي لا تكفروا بل دوموا مسلمين، فهو نهي عن الردة، وهذا التأويل لا يصلح في لفظ "وقتاله كفر". 2 - حكى الخطابي أن المراد بالكفار المتكفرون بالسلاح، يقال: تكفر الرجل بسلاحه إذا لبسه، فمعنى لا ترجعوا بعدي كفارا: لا تلبسوا السلاح لبعضكم بعضا بعدي، وهذا التأويل لا يصلح في لفظ "وقتاله كفر" إذ لا معنى لقولنا: قتال المسلم لبس للسلاح. 3 - قال الخطابي: "لا ترجعوا بعدي كفارا" معناه لا يكفر بعضكم بعضا، فتستحلوا قتال بعضكم بعضا، وهذا التأويل أيضا لا يصلح للرواية الأولى. قال الحافظ ابن حجر: وأقوى التأويلات في إطلاق الكفر على قتال المؤمن أنه أطلق عليه مبالغة في التحذير من ذلك، لينزجر السامع عن الإقدام عليه. اهـ. وهذا الحديث يفرض علينا تساؤلا عن موقف الصحابة حين قاتل بعضهم بعضا في موقعة الجمل وصفين وغيرهما، هل كانوا يجهلون هذه الأحاديث ووعيدها؟ أو أقدموا وهم يعلمونها ويؤولونها؟ . بسط القول في هذا التساؤل سيأتي إن شاء الله في كتاب الفتن، وخلاصته أن الصحابة كانوا - كما نعلم- ثلاث فرق: فرقة مع علي رضي الله عنه وفرقة مع خصومه، وفرقة توقفت وفرت من الفتنة ولم تدخل المعارك وإن لم تسلم من دخانها أو شررها. أما الفرقتان الأولى والثانية فقد حملوا هذه الأحاديث على الذين يقاتلون من غير تأويل واجتهاد، وهم متأولون مجتهدون، فلا يدخلون في وعيدها. وأما الفرقة الثالثة فقد أحست أن هذا النذير شامل لرفع السلاح على المؤمن أيا كان نوعه، ما دام بغير الثلاث الواردة: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة. ومعهم أحاديث كثيرة في الفتن، منها ما رواه أحمد من حديث ابن مسعود في ذكر الفتنة. قلت: يا رسول الله فما تأمرني إن أدركت ذلك؟ قال: كف يدك ولسانك وادخل دارك، قلت: يا رسول الله. أرأيت إن دخل رجل على داري؟ قال: فادخل بيتك. قال قلت: أفرأيت إن دخل على بيتي؟ قال: فادخل مسجدك -وقبض بيمينه على الكوع- وقل ربي الله حتى تموت على ذلك. وفي رواية الطبراني "ليمسك بيده، وليكن عبد الله المقتول لا القاتل" والحقيقة أنه لو علم المتقاتلون هذا المصير الذي صار إليه أمرهم ما تقاتلوا سواء في ذلك منتصرهم ومهزومهم، فقد روي أن عليا رضي الله عنه سار بين القتلى بعد انتهاء معركة الجمل، فأخذ يضرب فخذيه بيديه، وهو يقول: ياليتني مت قبل هذا، وكنت نسيا منسيا. فلنمسك عن إدانة هذا أو ذاك، وعن قولنا: لو كان كذا كان كذا وكذا، ولنقل: قدر الله وما شاء فعل.

(40) باب الطعن في النسب والنياحة على الميت

(40) باب الطعن في النسب والنياحة على الميت 123 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اثنتان في الناس هما بهم كفر. الطعن في النسب والنياحة على الميت". -[المعنى العام]- تعرض الحديث الأسبق لإيمان من رغب عن نسبه، وانتسب إلى غير أبيه وحكم عليه بالحرمان من الجنة، لاستيلائه بهذا الفعل على ما ليس له من حقوق ويتعرض هذا الحديث للطعن في النسب، ويحكم عليه بالكفر، لما قد يؤدي إليه من حرمان المسلم من حقوقه، وقد أحاط الإسلام النسب بسياج من الحصانة، وضرب عليه سوراً من الوقاية، يحميه من الشك ويدفع عنه الشبه، فلم يقبل نفي النسب لمجرد اختلاف الشبه، فهذا الأعرابي الذي يشك في الطفل الذي ولدته زوجته، ويقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ولد لي غلام أسود وأنا أبيض. لقد رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يرمي إليه الأعرابي من محاولة نفي النسب والطعن فيه، وقال له: هل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: ما ألوانها؟ قال: حمر. قال: هل فيها من أورق؟ قال: نعم. قال: فمن أين ذلك اللون الأورق والآباء حمر؟ قال الرجل: لعله نزعه عرق وورث هذا اللون من جد بعيد. قال له صلى الله عليه وسلم: لعل ابنك هذا نزعه عرق وورث هذا اللون الأسود من جد بعيد. وحمى الشارع زعزعة النسب مهما كانت الشكوك، فحكم بأن الولد للفراش وللعاهر الحجر. وفي هذا الحديث يجعل الطعن في النسب كالكفر، لأن الكفر يؤدي إلى الحرمان الأخروي، والطعن في النسب يؤدي إلى الحرمان الدنيوي. أما النياحة على الميت، والبكاء عليه بصياح وعويل، وتعديد محاسنه والندبة بالويل والثبور إلخ، فإنه مما يغضب الرب، لما فيه من مظهر الاعتراض على القضاء، وعدم الرضا بالقدر، والسخط على ما شاء الله وما كان، ولا شك أن هذه الأعمال لا تليق بالمؤمن الشاكر على السراء، الصابر على الضراء. وإن كثيراً من النادبات تظن أن الوفاء للميت في إشعال نار العويل، وأن مظهر الحب والإخلاص في إرسال الصراخ ورفع الصوت والدعوة بدعوى الجاهلية، وما فكروا في أن هذا العمل يضر بهم وبصاحبهم، ولا يزيدهم في نفوس العقلاء إلا تجهيلاً وازدراء وتحقيراً. إن الإسلام يرسم طريق استقبال المصائب بنفس مطمئنة راضية، نفس محتسبة وإن آلمها المصاب، وأبكاها الحزن، ففي الحديث: توفي إبراهيم ابن نبينا صلى الله عليه وسلم فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم فقال: القلب يجزع، والعين تدمع، ولا نقول ما يغضب الرب، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون.

هذا هو الإيمان يدعو إلى طهارة اللسان من السب والطعن، ومما يشعر بالاعتراض على اللطيف الحكيم الخبير. -[المباحث العربية]- (اثنتان في الناس) مبتدأ وخبر، و"أل" في "الناس" للجنس الصادق بالبعض، أي خصلتان موجودتان في بعض الناس. (هما بهم كفر) "هما" مبتدأ، و"بهم" جار ومجرور خبر، والجملة في معنى التأكيد للجملة الأولى، و"كفر" خبر بعد خبر، أو خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: هما كفر، و"كفر" مصدر يخبر به عن المفرد والمثنى والجمع. (الطعن في النسب) "الطعن" خبر مبتدأ محذوف، تقديره: "إحداهما" أو "هما" إن أريد مجموع المتعاطفين، واعتبرا من عطف المفردات. (والنياحة على الميت) النوح، والنواح، والنياح، والنياحة البكاء بصياح وعويل. -[فقه الحديث]- إثبات الكفر لصاحب هاتين الخصلتين مؤول عند أهل السنة، لأنهم -كما سبق- لا يكفرون بالمعاصي غير الشرك. والتأويلات السابقة في الأحاديث المتقدمة صالحة لتأويل هذا الحديث. وقال النووي: معناه أنهما من أعمال الكفار وأخلاق الجاهلية، وهذا التأويل قريب من القول بالتشبيه، أي خصلتان في الناس هما بهم شبيهتان بالكفر لأنهما من أعمال الجاهلية. والأحاديث في النهي عن النياحة كثيرة، وأهمها ما رواه البخاري. "الميت يعذب في قبره بما نيح عليه" وقد تكلم العلماء كثيرا في تعذيب الميت ببكاء أهله. والصحيح أنه يعذب بنياحة أهله إذا كان مولعا بها في دنياه، أو أمر أهله بها قبل موته، أو مات راضيا عنها. وقد كان العرب يوصون أهليهم بالنياحة، معتقدين أنها تزيدهم إكبارا وإعظاما, حتى قال طرفة ابن العبد: إذا مت فانعيني بما أنا أهله وشقي على الجيب يا ابنة معبد أما إذا أدى ما عليه، ونهاهم عنه قبل موته، وأظهر لهم عدم رضاه عنه في حياته، فلا مؤاخذة عليه بفعل غيره. والله أعلم

(41) باب إيمان العبد الآبق

(41) باب إيمان العبد الآبق 124 - عن منصور بن عبد الرحمن عن الشعبي عن جرير أنه سمعه يقول "أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم" قال منصور قد والله روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكني أكره أن يروى عني ههنا بالبصرة. 125 - عن جرير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أيما عبد أبق فقد برئت منه الذمة". 126 - عن الشعبي؛ قال: كان جرير بن عبد الله يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة". -[المعنى العام]- دعا الإسلام إلى حسن معاملة العبيد "إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم من العمل ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه". وشجع العبد على رعاية حقوق الله وحقوق سيده، ووعده الثواب المضاعف إن هو أخلص العمل، فقال صلى الله عليه وسلم: "العبد إذا نصح سيده وأحسن عبادة ربه كان له أجره مرتين"، وقال: "للعبد المملوك الصالح أجران". ورغب في عتق العبيد، وجعله كفارة وعبادة، ورغب في مكاتبته، ودعا إلى مساعدته في نجوم الكتابة ولو من الزكاة حق الفقراء والمساكين. وكما حرص الإسلام على حقوق العبيد حرص على حقوق أسيادهم، وكما وضح ما للعبد لم ينس ما عليه، إن السيد قد اشتراه بماله، فكان من حقه ألا يضيع منه هذا المال سدى وألا يغتصب هذا المال بفرار العبد وإباقه من سيده، وكان على العبد الذي يفعل ذلك أن يتحمل جزاءه، ليس الجزاء الدنيوي من أسياده فحسب، ولكن من مالك الأسياد والعبيد كذلك. فهذا الحديث الشريف يثبت له الكفر، أو القرب من الكفر مدة إباقه وهروبه، من حين يفر من مواليه وأسياده إلى حين عودته إليهم مختاراً أو مقبوضاً عليه.

ويرفع عنه الحصانة والحماية وحسن المعاملة التي أمر بها السيد، ويصبح لا ذمة له، ولا عهد، ولا حق، ولا ضمان. بل يحجب عنه ثواب أعماله الصالحة مدة هروبه، فإن صلى لم تقبل صلاته، وإن صام لا يثاب عن صيامه، وهكذا يغضب الله عليه طالما هو مغضب سيده، ولا يرضى عنه، ولا يقبل صالحاته إلا بعد عودته وتوبته واستقامته. -[المباحث العربية]- (عن الشعبي عن جرير أنه سمعه يقول) أي أن الشعبي سمع جريرا يقول. (أيما عبد) "أي" اسم شرط مبتدأ، و"ما" زائدة، و"عبد" مضاف إليه، والمراد من العبد الرقيق. (أبق من مواليه) "أبق" بفتح الباء وكسرها، لغتان، والفتح أفصح، إذ به جاء القرآن الكريم، فقال تعالى: {إذ أبق إلى الفلك المشحون} [الصافات: 140]. وفي القاموس: أبق العبد كسمع وضرب ومنع: استخفى ثم ذهب، والموالي جمع مولى وهو المالك. (قد -والله- روي عن النبي صلى الله عليه وسلم) القسم "والله" معترض بين حرف التحقيق "قد" وبين مدخوله، والأصل: والله قد روي هذا القول [أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم] عن النبي صلى الله عليه وسلم. (فقد برئت منه الذمة) أي بعدت عنه الحرمة، فالمراد من الذمة ذمة الله ورسوله وضمانه ورعايته. (لم تقبل له صلاة) الظاهر أن القيد الوارد في الرواية الأولى ملحوظ هنا، والأصل لم تقبل له صلاة حتى يرجع. -[فقه الحديث]- الرواية الأولى تفيد أن الحديث موقوف على جرير، والحقيقة أن جريرا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأن منصورا سمعه من الشعبي مرفوعا، لكنه خشي أن يصرح برفعه بالبصرة، وهي مليئة بالخوارج خشية أن يتلقفوه فيتعلقوا به استدلالا على مذهبهم القائل بتكفير أهل المعاصي، في حين أنه كأهل السنة لا يقول بكفرهم.

ونسبة الكفر للعبد الآبق مؤولة كما في الأحاديث السابقة، وأما عدم قبول صلاته فقد أوله الإمام المازري والقاضي عياض بأنه محمول على المستحل للإباق، فيكفر، ولا تقبل له صلاة ولا غيرها من أعمال الطاعات، إذ ذكر الصلاة تنبيه بها على غيرها. وأول الشيخ أبو عمرو بن الصلاح بأن عدم القبول معناه عدم الثواب، ولا يلزم من عدم القبول عدم الصحة. فصلاة الآبق صحيحة غير مقبولة، لاقترانها بمعصية، فيسقط بها القضاء، ولا تستحق ثواباً، كالصلاة في الدار المغصوبة. والتحقيق أنه ينبغي أن تصح ويحصل على فعلها الثواب، لكن المعصية المقارنة لفعل الطاعة يعدل إثمها ثواب الفعل، فكأنه لا ثواب عليه. والله أعلم

(42) باب إيمان من قال: مطرنا بالنوء

(42) باب إيمان من قال: مطرنا بالنوء 127 - عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية في إثر السماء كانت من الليل. فلما انصرف أقبل على الناس فقال "هل تدرون ماذا قال ربكم؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر. فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب". 128 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألم تروا إلى ما قال ربكم؟ قال: ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق منهم بها كافرين. يقولون: الكواكب وبالكواكب". 129 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما أنزل الله من السماء من بركة إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين. ينزل الله الغيث. فيقولون: الكوكب كذا وكذا". وفي حديث المرادي "بكوكب كذا وكذا". 130 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مطر الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر. قالوا: هذه رحمة الله. وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا" قال: فنزلت هذه الآية {فلا أقسم بمواقع النجوم} حتى بلغ: {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} [الواقعة: 75 - 82]. -[المعنى العام]- كان العرب يعيشون في الصحراء، يستضيئون في ليلهم بقمرها ويسترشدون في أسفارهم وأحوالهم بنجومها، كما حكى عنهم القرآن الكريم بقوله {وعلامات وبالنجم هم يهتدون} [النحل 16].

وكان من تتبعهم لحركات النجوم أن رصدوا ثمانية وعشرين نجماً -وهي المسماة بمنازل القمر- فعرفوا أن كل نجم منها يعيش ثلاثة عشر يوماً تقريباً ثم يسقط في المغرب ويطلع نجم بدله من المشرق، فسموا هذه النجوم بأسماء. وثبت لهم من تجاربهم وملاحظاتهم أن المطر كثيراً ما يغيثهم إذا غاب نجم كذا وطلع نجم كذا، وارتبط في نفوسهم نزول المطر بمطالع بعض النجوم، وبمرور الزمن، وبزحف من الوثنية على معتقداتهم، ظنوا أن هذه النجوم هي التي تسقط المطر، ونسبوا الفضل في المطر إليها، ونسوا الله تعالى صاحب النعمة الجدير بالحمد والشكر، فقالوا: مطرنا بنجم كذا والفضل في المطر لكوكب كذا. وجاء الإسلام المحطم للوثنية، المطهر للنفوس من العقائد الفاسدة، الموجه لعبادة الله وحده، الداعي لتقدير نعمه، والاعتراف بفضله، وشكر آلائه، فلفت نظرهم مراراً إلى أنه جل شأنه هو الذي يسير الرياح فتثير سحاباً فيبسطه في السماء كيف يشاء، فيجعله قطعاً متراكمة، تثير بتحركاتها صوت الرعد ووميض البرق، فإذا أصاب به بعض الناس إذا هم يستبشرون ويفرحون. {وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد} [الشورى: 28]. {ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون} [الروم: 46]. وكان من حكمة الله تعالى أن يذكر بتشريعه في المناسبات، لترتبط الأحكام بالوقائع، فتستقر في النفس، وتتمكن منها ولا يسهل نسيانها. ففي ليلة من ليالي القحط، وفي صحراء الحديبية حيث اشتد العطش بالمسلمين ودوابهم، ساق الله تعالى إليهم سحابة مليئة؛ فأمطرت لهم غيثاً مغيثاً، فشربوا وسقوا وأصبحوا فرحين مستبشرين، وصلوا الصبح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما انصرف من الصلاة أقبل عليهم، يذكرهم بنعمة الله، ويوجههم إلى شكرها، ويستأصل من نفوس ضعفائهم بقايا رواسب الجاهلية الأولى فقال لهم: هل تدرون ماذا قال ربكم اليوم؟ ألم تسمعوا ما قال ربكم الليلة؟ قالوا: خيراً، ماذا قال ربنا يا رسول الله؟ قال: قال تعالى: في الحديث القدسي: أصبح فريق من عبادي مؤمناً بي يسند نعمي إلي، كافراً بالكواكب، لا يسند إليها ما ليس منها، يقول: مطرنا بفضل الله ورحمته، ونزل الغيث من الله فله الحمد وله الشكر. وأصبح فريق من عبادي كافراً بي، يجحد نعمائي، وينكر جودي وآلائي ويسند نعمي إلى غيري، ويجعل جزائي على رزقي إياه تكذيباً لي، يؤمن بالكواكب والنجوم، ويعتقد أنها صاحبة الفضل في رزقه، وأنها المؤثرة في مطره، فيقول مطرنا بفضل نجم كذا، ومطرنا بتأثير كوكب كذا، فيجحدني ويشكرها، وينساني ويذكرها، فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب، وهكذا يكذبني عبادي، ويجحدني عبادي، وما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق منهم بها كافرين.

-[المباحث العربية]- (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم) في رواية البخاري "صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" فاللام في روايته بمعنى الباء. (بالحديبية) تخفف باؤها وتشدد، والتخفيف هو المختار. يقال: حدب الرجل إذا خرج ظهره ودخل صدره وبطنه، والأحدب من الأرض الغليظ المرتفع، والحديبية مكان أو قرية صغيرة سميت باسم بئر أو شجرة هناك حدباء، وهي على تسعة أميال من مكة، وأكثرها في الحرم وباقيها في الحل. (في إثر سماء كانت من الليل) "إثر" بكسر الهمزة وسكون الثاء، وبفتح الهمزة والثاء، هو ما يعقب الشيء، والسماء المطر، وأطلق عليه سماء لكونه ينزل من جهة السماء، والمعنى: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح عقب مطر نزل في الليل. (فلما انصرف) من صلاته أو من مكانه. (أقبل على الناس) أي اتجه إليهم بوجهه بعد أن كانوا خلفه في الصلاة، والمراد من الناس الصحابة الذين كانوا معه. (هل تدرون ماذا قال ربكم؟ ) "ماذا" في محل مفعول "قال" وقد علقت "تدرون" عن العمل، والاستفهام للتنبيه، وليس على حقيقته من طلب الفهم لأنه صلى الله عليه وسلم يعلم أنهم لا يدرون، والتعبير بلفظ الرب وإضافته لضمير المخاطبين للإشعار بالفضل والمنة. كأنه يقول: ماذا يقول مربيكم وصاحب الفضل عليكم بالمطر؟ . (الله ورسوله أعلم) أفعل التفضيل "أعلم" ليس على بابه، وليس المراد أنهم يشاركون في العلم ويزيد الله ورسوله عليهم فيه، لأنهم لم يكونوا يعلمون شيئا أصلا مما قاله الله في هذه الليلة. (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر) صلة "كافر" محذوفة للعلم بها مما قبلها، والتقدير وكافر بي، والمراد من عباد الله عموم العباد، بدليل تقسيمهم إلى مؤمن وكافر، أما قوله تعالى {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} [الحجر: 42] وقوله {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا} [الفرقان: 63] فالإضافة فيهما للتشريف كأنه قال: إن العباد الذين يستحقون التشريف بإضافتهم إلى ليس لك عليهم سلطان. (فأما من قال ... ) إلخ. الفاء للتفريع، و"أما" حرف شرط وتفصيل. (مطرنا بنوء كذا) النوء في الأصل ليس هو النجم، فإنه مصدر. ينوء النجم إذا سقط وغاب، وقيل: إذا نهض وطلع، لكن المراد من النوء هنا النجم تسمية للفاعل بالمصدر.

(ألم تروا) المراد من الرؤية هنا العلم، لأن المستفهم عنه قول، وهو لا يرى والاستفهام للتنبيه، كما في الرواية السابقة. (ما أنعمت على عبادي من نعمة) "من" زائدة لتأكيد النفي، و"نعمة" مفعول به لأنعمت، والمراد هنا من الإنعام ومن النعمة الإمطار، والمطر من إطلاق العام على بعض أفراده. (يقولون: الكواكب وبالكواكب) "الكواكب" خبر مبتدأ محذوف تقديره الممطر أو المنعم الكواكب، و"بالكواكب" جار ومجرور متعلق بمحذوف تقديره: مطرنا بالكواكب، وجملة "يقولون" في محل النصب خبر لأصبح بعد خبر، أو حال من الضمير في "كافرين". (ما أنزل الله من السماء من بركة) أي من مطر نافع، فالماء الذي ينزل من السماء قد يكون نقمة وضررا يحدث سيلا وتخريبا، وقد يكون غيثا مغيثا نافعا، وموطن المنة والنعمة هو النافع، وسمي بركة أي مباركا لما يترتب عليه من البركة والزيادة والنماء، قال تعالى: {ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج} [ق: 9 - 11]. (الكوكب كذا وكذا) "كذا وكذا" كناية عن الخبر مبنية على السكون في محل رفع، أي الكوكب ممطرنا ومغيثنا. (مطر الناس) "مطر" فعل متعد كأمطر، يقال مطرتهم السماء وأمطرتهم السماء، وحذف الفاعل هنا وبني الفعل للمجهول، والأصل: مطر الله الناس. (أصبح من الناس شاكر، ومنهم كافر، قالوا: هذه رحمة الله، وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا) في الأسلوب لف ونشر مرتب، فالقائلون: هذه رحمة الله نشر للشاكرين، والقائلون: لقد صدق نوء كذا وكذا نشر للكافرين. {فلا أقسم بمواقع النجوم} "لا" زائدة للتأكيد، والأصل فأقسم ومواقع النجوم مساقط الكواكب وأماكن مغاربها. {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} في الكلام مضاف مقدر، أي تجعلون شكر رزقكم تكذيبكم، فشكركم إذا مطرتم تكذيبكم. ومعنى جعل الشكر تكذيبا جعل التكذيب مكان الشكر فكأنه عينه عندهم، فهو من باب: تحية بينهم ضرب وجيع. -[فقه الحديث]- قال النووي: اختلف العلماء في كفر من قال: مطرنا بنوء كذا على قولين:

أحدهما: هو كفر بالله سبحانه وتعالى، سالب لأصل الإيمان، مخرج من ملة الإسلام قالوا: وهذا فيمن قال ذلك معتقدا أن الكوكب فاعل مدبر منشئ للمطر، كما كان بعض أهل الجاهلية يزعم، ومن اعتقد هذا فلا شك في كفره، وهذا القول هو الذي ذهب إليه جماهير العلماء وهو ظاهر الحديث. قالوا. وعلى هذا لو قال: مطرنا بنوء كذا معتقدا أنه من الله تعالى وبرحمته وأن النوء ميقات له وعلامة، اعتبارا بالعادة، فكأنه قال: مطرنا في وقت كذا فهذا لا يكفر. واختلفوا في كراهته، لكنها كراهة تنزيه، لا إثم فيها، وسبب الكراهة أنها كلمة مترددة بين الكفر وغيره، فيساء الظن بصاحبها، ولأنها شعار الجاهلية ومن سلك مسلكهم. والقول الثاني: أن المراد كفر نعمة الله تعالى، لاقتصاره على إضافة الغيث إلى الكوكب، وهذا فيمن لا يعتقد تدبير الكوكب، ويؤيد هذا التأويل الرواية الثانية "أصبح فريق منهم بها كافرين" والرواية الثالثة "أصبح فريق من الناس بها كافرين" فقوله "بها" يدل على أنه كفر بالنعمة. اهـ. والمحقق يرى أن القولين اللذين ذكرهما النووي ليسا في كفر من قال مطرنا بنوء كذا، لأنهما متفقان في أن من قال هذا القول معتقدا أن الكوكب فاعل مدبر منشئ للمطر فهو كافر، ومن قاله معتقدا أن النوء ميقات فليس بكافر لكنه مكروه. إنما الخلاف وإنما القولان في بيان المراد من لفظ الكفر في الحديث فبعضهم حمله على الكفر بالله السالب للإيمان، فلزمه أن يحمل القول "مطرنا بنوء كذا" على من اعتقد أن النجم فاعل مدبر، كاعتقاد بعض أهل الجاهلية، وبعضهم حمله على الكفر بالنعمة وعدم شكرها، وحمل القول على الذي قاله معتقدا أن الله هو الفاعل المدبر وحده، وأن النجم ميقات وعلامة فهذا قد ترك شكر الله تعالى على الغيث، والشكر مستحب عند رؤية كل نعمة، "وكفر النعمة عدم شكر المنعم بها". وإذا كانت الرواية الثانية والثالثة تؤيد التأويل كما ذكر النووي، فإن الرواية الأولى "فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب" تؤيد التأويل الأول، كما يؤيده ما رواه أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يكون الناس مجدبين. فينزل الله عليهم رزقا من السماء من رزقه، فيصبحون مشركين، يقولون: مطرنا بنوء كذا". والخلاصة أنه إذا حملنا لفظ الكفر في الحديث على الكفر بالله حملنا القول على من قاله معتقدا أن النجم فاعل مدبر. وإذا حملناه على الكفر بالنعمة حملنا القول على من قال معتقدا أن النجم علامة وميقات فقط، ويكون التعبير عنه بالكفر للتغليظ والتنفير. بقي حكم من سكت عند الغيث ولم ينطق بهذا القول، وقد سبق بيان أن الحكم منوط بالاعتقاد: فمن سكت معتقدا أن النوء هو الفاعل المدبر للمطر فهو كافر وإن لم ينطق، ومن سكت معتقدا أن التدبير لله، والنجم ميقات فليس بكافر، لكن عليه أن يشكر الله على الغيث ولو بقلبه، ولهذا حمل الحافظ ابن حجر لفظ "فأما من قال" على ما هو أعم من النطق والاعتقاد.

هذا والرواية الأولى والثانية صريحتان في أنهما حديث قدسي، والرواية الثالثة والرابعة صريحتان في أنهما حديث نبوي، وقد علمنا أن الحديث القدسي والحديث النبوي كلاهما عن الله تعالى - على الصحيح - لقوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} [النجم: 3، 4] وأن الفرق بينهما -على الأصح- من جهتين: الأولى: أن الحديث القدسي لفظه ومعناه من الله، والحديث النبوي لفظه من عند النبي صلى الله عليه وسلم ومعناه من الله. الثانية: أن الحديث القدسي هو ما أضافه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه بخلاف الحديث النبوي. وبناء على ما تقدم نتساءل: هل الروايات الأربع واقعة واحدة؟ وحديث واحد؟ والاختلاف من الرواة؟ بعضهم روى باللفظ، وبعضهم روى بالمعنى؟ أو هي في واقعتين؟ . واقعة الحديث النبوي بمكة؟ وواقعة الحديث القدسي بالحديبية؟ من قال: إن سورة الواقعة كلها مكية، بما فيها قوله تعالى: {فلا أقسم بمواقع النجوم ... } إلى قوله: {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} [الواقعة: 75 - 82] وهو قول الأكثرين يلتزم أن الروايات الأربع ليست في واقعة واحدة، لأن الرواية الأولى تصرح أنها في الحديبية (أي سنة ست من الهجرة) والرواية الرابعة تصريح بأن الحديث مع نزول الآية. أما على القول باستثناء هذه الآيات من سورة الواقعة، وجعلها مدنية فيمكن اعتبار الروايات الأربع في الحديبية، والاختلاف من الرواة. والله أعلم

(43) باب حب الأنصار من الإيمان

(43) باب حب الأنصار من الإيمان 131 - عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "آية المنافق بغض الأنصار. وآية المؤمن حب الأنصار". 132 - عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "حب الأنصار آية الإيمان. وبغضهم آية النفاق". 133 - عن البراء رضي الله عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأنصار "لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق. من أحبهم أحبه الله. ومن أبغضهم أبغضه الله". 134 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر". ومثله. -[المعنى العام]- إذا كانت النصرة في الحق تغرس المحبة، وإذا كان إيواء المهاجر يثبت الفضل والمنة، وإذا كان الدفاع عن الدين في وقت ضعفه وشراسة أعدائه كالقبض على الجمر، وإذا كان بذل النفس والمال في سبيل الدعوة الإسلامية عنوان محبة الله ورسوله، فإن الأوس والخزرج الذين أسلموا، وبايعوا ليلة العقبة واستقبلوا المهاجرين بالمودة، وآووهم، وأشركوهم إياهم في أموالهم، بل تنازلوا لهم عن بعض نسائهم وتآخوا وإياهم أخوة أقوى من أخوة نسبهم، إن هؤلاء أجدر الناس بمحبة من يحب الله ورسوله، وهم أحق المخلوقات بحب من يحب الإسلام فحبهم علامة على حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يحبهم وكان يقول لهم: "اللهم أنتم من أحب الناس إلي" ويقول: "لو سلكت الأنصار واديا أو شعبا لسلكت وادي الأنصار وشعبهم" ويقول: "لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار".

نعم، قوم آووه صلى الله عليه وسلم ونصروه، وتبوءوا الدار والإيمان وأحبوا من هاجر إليهم، ولم يجدوا في صدورهم حاجة مما أوتوا، وآثروا المهاجرين على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وكانوا حماة الدعوة الإسلامية وبذلوا في سبيلها أرواحهم ودماءهم. قوم بهذه الصفة لا يبغضهم إلا منافق ولا يحبهم إلا مؤمن، من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله، ولا تجد رجلا يبغض الأنصار بصفتهم الأنصار وهو مؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر، بل إن نطق بالشهادتين وهو بهذه الحالة فهو منافق، لأن علامة الإيمان حب من يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فاللهم اغرس في قلوبنا محبتهم، وارض عنا وعنهم. واحشرنا في زمرتهم، زمرة الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. -[المباحث العربية]- (آية المنافق بغض الأنصار) الآية العلامة، والبغض مصدر مضاف لمفعوله، والأصل: بغضه الأنصار، والأنصار جمع ناصر كأصحاب جمع صاحب، أو جمع نصير، كأشراف جمع شريف، واللام فيه للعهد، أي أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد بهم الأوس والخزرج، وكانوا يعرفون بابني قيلة بقاف وياء مفتوحتين، وهي الأم التي تجمع القبيلتين، فسماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار، فصار علما عليهم، وأطلق أيضا على أولادهم وخلفائهم ومواليهم. (حب الأنصار آية الإيمان) وفي رواية لأحمد "حب الأنصار إيمان وبغضهم نفاق". -[فقه الحديث]- قدمنا أن من علامات الإيمان وحلاوته أن يحب المؤمن أخاه لا يحبه إلا لله، فحب المؤمن من الإيمان، ولا شك أن الأنصار داخلون في ذاك الحب بل في مقدمته، لكنهم مع دخولهم في هذا العموم خصوا بهذا الحديث، وبهذا التخصيص، زيادة في الاعتناء بهم، والاهتمام بشأنهم، لمزيد فضل لهم. قال الحافظ ابن حجر في سر هذا التخصيص: وخصوا بهذه المنقبة العظمى، لما فازوا به دون غيرهم من القبائل من إيواء النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه والقيام بأمرهم، ومواساتهم بأنفسهم وأموالهم، وإيثارهم إياهم في كثير من الأمور على أنفسهم، فكان صنيعهم لذلك موجبا لمعاداتهم جميع الفرق الموجودين من عرب وعجم، والعداوة تجر البغض، ثم كان ما اختصوا به مما ذكر موجبا للحسد، والحسد يجر البغض، فلهذا جاء التحذير من بغضهم والترغيب في حبهم، حتى جعل ذلك آية الإيمان والنفاق تنويها بعظيم فضلهم وتنبيها على كريم فعلهم وإن كان من شاركهم في معنى ذلك مشاركا لهم في الفضل المذكور، كل بقسطه. اهـ. والذي يظهر لي أن السر في هذا التخصيص هو خوف الرسول صلى الله عليه وسلم من أن ينسى الناس بعده فضل الأنصار، وخصوصا بعد أن يحظى المهاجرون بالخلافة، وبعد أن تأخذ قريش مركزها في الإسلام.

يؤيد هذا وصاياه صلى الله عليه وسلم للأنصار إذ قال لهم: "جزاكم الله خيرا يا معشر الأنصار إنكم لأعفة صبر، وإنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض". ويروي البخاري في وصيته صلى الله عليه وسلم بالأنصار "أن أبا بكر والعباس رضي الله عنهما مرا بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون فقال [العباس أو أبو بكر] ما يبكيكم؟ قالوا: ذكرنا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم منا [أي ذكروا مجالسهم معه- وكان ذلك في مرض موته صلى الله عليه وسلم- فخشوا أن يموت من مرضه، فيفقدوا مجلسه] فدخل [أبو بكر أو العباس] على النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره بذلك. قال فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، وقد عصب على رأسه حاشية برد، قال فصعد المنبر- ولم يصعده بعد ذلك اليوم - فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي وعيبتي [أي بطانتي وخاصتي] وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم". "أيها الناس: إن الناس يكثرون وتقل الأنصار، حتى يكونوا كالملح في الطعام، فمن ولي منكم أمرا يضر فيه أحدا أو ينفعه فليقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم". واشتمل الحديث على شقين: الأول: أن حب الأنصار علامة الإيمان والثاني: أن بغض الأنصار علامة النفاق. وقد ورد على الشق الأول أن ظاهره يفيد أن من أحب الأنصار كان مؤمنا ولو لم يصدق الرسول صلى الله عليه وسلم بقلبه، لأن علامة الإيمان إذا وجدت وجد الإيمان، مع أن هذا الظاهر غير مراد. ويجاب على هذا الإيراد بأن حب الأنصار حبا حقيقيا من هذه الحيثية أعني من حيثية كونهم ناصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا ممن صدق وآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل في الجواب: إن الحديث قد خوطب به من يظهر الإيمان، أما الكافر فلا يطلب منه حب الأنصار، لأنه مرتكب بكفره ما هو أشد من بغضهم، والجواب الأول أدق. وورد على الشق الثاني أن ظاهره يفيد أن من أبغض الأنصار كان منافقا وإن صدق وأقر. وقد أجاب الحافظ ابن حجر على هذا الإيراد فقال: إنه محمول على تقييد البغض بالجهة، فمن أبغضهم من جهة هذه الصفة- وهي كونهم نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم - أثر ذلك في تصديقه فيصح أنه منافق، ويقرب هذا الحمل زيادة أبي نعيم في المستخرج في حديث البراء بن عازب "من أحب الأنصار فبحبي أحبهم، ومن أبغض الأنصار فببغضي أبغضهم". ثم قال: ويحتمل أن يقال: إن اللفظ خرج على معنى التحذير. فلا يراد ظاهره. اهـ. وهل المطلوب في الحديث حب جميع الأنصار أو حب المجموع الذي لا يضره بغض فرد أو أفراد؟ الظاهر أننا إذا أردنا الحب المنبعث عن النصرة كان المطلوب حب كل واحد منهم أي جميعهم، إذ بغض أي منهم من هذه الجهة ممنوع شرعا.

أما إذا أردنا مطلق الحب بغض النظر عن هذه الجهة فإن المطلوب حب مجموعهم، وفي ذلك يقول ابن التين: المراد حب جميعهم وبغض جميعهم، لأن ذلك إنما يكون للدين، ومن بغض بعضهم لمعنى يسوغ البغض له فليس داخلا في ذلك. اهـ وهو تقرير حسن. وفي ختام الموضوع نسوق عبارة النووي في شرحه إذ قال: ومعنى هذه الأحاديث أن من عرف مرتبة الأنصار وما كان منهم في نصرة دين الإسلام والسعي في إظهاره، وإيواء المسلمين وقيامهم في مهمات دين الإسلام حق القيام، وحبهم النبي صلى الله عليه وسلم، وحبه إياهم، وبذلهم أموالهم وأنفسهم بين يديه، وقتالهم ومعاداتهم سائر الناس إيثارا للإسلام، ثم أحب الأنصار لهذا كان ذلك من دلائل صحة إيمانه، وصدقه في إسلامه، لسروره بظهور الإسلام، والقيام بما يرضي الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ومن أبغضهم كان بضد ذلك، واستدل به على نفاقه وفساد سريرته. والله أعلم

(44) باب حب علي من الإيمان

(44) باب حب علي من الإيمان 135 - عن عدي بن ثابت، عن زر، قال: قال علي: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة! إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إلي "أن لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق". -[المعنى العام]- علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، ولد قبل البعثة بعشر سنين ولازم النبي صلى الله عليه وسلم من صغره. ونام مكانه ليلة الهجرة معرضا حياته لخطر المشركين، من أجل الإسلام، ومن أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتزوج ابنته فاطمة الزهراء رضي الله عنها، فنال حب النبي صلى الله عليه وسلم، وحب الله تعالى بالمبالغة في اتباع دينه، حتى قال عنه صلى الله عليه وسلم "إن عليا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله" وقال لعلي: "أنت مني وأنا منك". ولهذا كانت محبته علامة الإيمان، وبغضه علامة النفاق، وقد عاش -كرم الله وجهه - حتى رأى مخالفيه، وشاهد كثرة معارضيه، وأحس ببغض مبغضيه، وحاول وحاول أصحابه جمع الكلمة، ودعوة المسلمين للالتفاف حوله، بتذكيرهم بمناقبه وفضله، بهذا الحديث وبأمثاله، ولكن الغوغاء كانوا أكثر فعالية، وتيار الفتنة كان أشد تأثيرا، فلم تثمر العظة، ولم تغن النذر، وانحدر بعض من ينتسبون إلى الإسلام إلى اتهامه وطعنه، وتآمروا على اغتياله وقتله، ثم زادوا فحكموا بكفره، وأعلنوا على المنابر التشهير به ولعنه. نكثوا عهد النبي صلى الله عليه وسلم ونقضوا وصاياه، وحاربوا حبيبه، وعادوا من فتح الله على يديه خيبر. وقد روى البخاري أن رجلا من الخوارج سأل ابن عمر عن علي فقال له: لا تسأل عن علي، ولكن انظر إلى بيته: بيته أوسط بيوت النبي صلى الله عليه وسلم وذكر محاسن عمله، ثم قال له: لعل ذلك يسوؤك؟ قال الرجل: أجل، فإني أبغضه، فقال له ابن عمر: أبغضك الله، وأرغم بأنفك. انطلق فاجتهد على جهدك، أي ابلغ غايتك، واعمل ما في استطاعتك لبغضي أنا الآخر، فإن الذي قلته لك هو الحق الواجب على المسلم. رضي الله عن علي والمهاجرين والأنصار، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين.

-[المباحث العربية]- (عن زر) زر بن حبيش من المعمرين، أدرك الجاهلية، ومات سنة اثنتين وثمانين، وهو ابن مائة وعشرين سنة، وهو كوفي. (والذي فلق الحبة) يقسم علي بالله الذي شق الحبة وأخرج منها النبات. (وبرأ النسمة) "برأ" بمعنى خلق، والنسمة هي الإنسان، وقيل: هي النفس. (إنه لعهد النبي صلى الله عليه وسلم إلي) اسم "إن" ضمير الحال والشأن، و"عهد" مبتدأ، و "إلي" جار ومجرور متعلق بعهد. (أن لا يحبني إلا مؤمن) "أن" حرف مصدري ونصب و"لا" نافية والفعل منصوب بأن و"إلا" ملغاة و"مؤمن" فاعل "يحب" والمصدر المنسبك من "أن" والفعل خبر "عهد" وجملة المبتدأ والخبر خبر "إن" والتقدير: إن الحال والشأن عهد النبي صلى الله عليه وسلم عدم حب غير المؤمن لي وبرفع النفي والاستثناء يكون المعنى: عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلي حب المؤمن لي. (ولا يبغضني إلا منافق) "يبغضني" بضم الياء من أبغض الرباعي، والفعل منصوب عطفا على "يحبني". وصيغة العهد الصادرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي: لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق. فحول علي - كرم الله وجهه- الرواية من أسلوب الخطاب إلى المتكلم والمعنى واحد. -[فقه الحديث]- لم يرد في حق أحد من الصحابة مثل ما ورد في مناقب علي -كرم الله وجهه- لا لزيادته على أبي بكر مثلا في الفضائل، فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أحب الناس إليه فقال: أبو بكر، وورد عنه قوله: "لو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا". ولكن السبب في كثرة ما ورد بالأسانيد الصحيحة في حق علي، ويرجع إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخشى عليه مما وقع له من بعده - وهذا علم من أعلام النبوة- وأعلام النبوة لا شك فيها، فقد أخبر عن الفتن ووقعت كما أخبر صلى الله عليه وسلم، فكأنه صلى الله عليه وسلم علم بطريق الوحي أن عليا سيخرج عليه كثير من المسلمين، وسيتهمونه بما هو منه بريء، فدعا صلى الله عليه وسلم إلى محبته، وحذر من بغضه - كرم الله وجهه- وساعد على انتشار ما ورد تأخر حياة علي، وحرص شيعته على الرفع من شأنه وتعصبهم له في مقابل تعصب مخالفيه ضده.

ويروي التاريخ أن عليا -كرم الله وجهه- قد اتهم بالتقاعس عن نصرة عثمان رضي الله عنه ثم اتهم بإيواء قتلته، وعدم القصاص منهم، وحورب في موقعة الجمل وصفين وغيرهما، وزاد الخطب بخروج الخوارج عليه فبغضوه، بل كفروه، ثم بلغ العنت والطغيان ببني أمية وأتباعهم أن اتخذوا لعنه على المنابر سنة. ذلك التيار المنحرف الضال بعث في أهل السنة التمسك بما ورد من فضائله وإبراز الأحاديث الداعية إلى حبه المحذرة من بغضه. نعم بالغ بعض شيعته في حبه وتقديسه، نتيجة لمبالغة مخالفيه في عداوته وتحقيره وإهانته، والتطرف يخلق التطرف -كما يقولون- فرفعوه إلى درجة النبوة، بل إلى ما هو أعلى من النبوة، ووضعوا في الأحاديث ما ليس منها وأدخلوا في معتقداتهم ما هو كفر صريح. والواجب على المسلم إزاء هذه الفتن أن يحب الإمام عليا رضي الله عنه كرم الله وجهه وأن يمسك عن الخوض فيما وقع من فتن وحروب. وبغض علي والصحابة إن كان من جهة نصرتهم لرسول الله، وحمايتهم لدين الله، فهو كفر لا شك فيه، ونفاق لا مراء فيه، وعليه يحمل الحديث كما مر في حب الأنصار: أما إن كان من غير هذه الجهة، بل من أمر طارئ اقتضى المخالفة، فلا يحكم على صاحبه بالكفر ولا بالنفاق، وعلى هذا الوضع الأخير يحمل ما كان من الصحابة، بعضهم مع بعض في اختلافهم، وفي حروبهم التي وقعت بينهم، ولذلك لم يحكم بعضهم على بعض بالنفاق. نعم الخوارج الذين كفروه يستحقون أن يكفروا، وبكفرهم قال كثير من المتكلمين. وأما مبغضوه ولاعنوه على المنابر فعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.

(45) باب كفران العشير

(45) باب كفران العشير 136 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "يا معشر النساء! تصدقن وأكثرن الاستغفار. فإني رأيتكن أكثر أهل النار" فقالت امرأة منهن، جزلة: وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟ قال "تكثرن اللعن وتكفرن العشير. وما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن" قالت: يا رسول الله! وما نقصان العقل والدين؟ قال "أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل. فهذا نقصان العقل. وتمكث الليالي ما تصلي. وتفطر في رمضان. فهذا نقصان الدين". مثله. مثله. -[المعنى العام]- كان صلى الله عليه وسلم يتعهد النساء بالموعظة كما يتعهد الرجال، وكثيرا ما كان يذكرهن باعوجاجهن وأمراضهن ويطلب منهن تحصين أنفسهن وعلاج دائهن، ففي يوم الأضحى أو الفطر قال لهن: يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار، فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، وما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن. قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان عقلها. أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ قلن: بلى. قال: فذلك من نقصان دينها. وتروي أسماء بنت يزيد -خطيبة النساء- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى النساء، وهي معهن، فقال: يا معشر النساء. إنكن أكثر حطب جهنم. قالت: فناديت رسول الله صلى الله عليه وسلم- وكنت عليه جريئة - لم يا رسول الله؟ قال: لأنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير.

كما كان يصف خلقهن للصحابة ليقوموا اعوجاجهن، وينصحوهن باعتبارهم قوامين عليهن، فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الكسوف قال لأصحابه: أريت النار في عرض هذا الحائط، فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع ورأيت أكثر أهلها النساء، قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: بكفرهن. قيل: يكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله، ثم رأت منك شيئا قالت: ما رأيت منك خيرا قط. والحديث الشريف في مجمله يدعو النساء إلى التخلي عن بذاءة اللسان ونكران الجميل، والتحلي بالصدقة والاستغفار لعل الحسنات يذهبن السيئات. ويكشف لهن أن الله بحكمته قد جعل فرص عبادة النساء أقل من فرص عبادة الرجال، وأن مجال إكثار الحسنات لدى الرجال أفسح من مجاله لدى النساء، فعليهن أن يعوضن ما فقدن بالطبيعة، وأن يحسن استغلال ما هيئ لهن ليكن من أهل الجنة، وينجون من النار. -[المباحث العربية]- (يا معشر النساء) المعشر الجماعة الذين أمرهم واحد، لهم صفة واحدة مشتركة بينهم تجمعهم، فالإنس معشر، والجن معشر، والأنبياء معشر، والنساء معشر، ونقل عن ثعلب أنه مخصوص بالرجال، وهذا الحديث يرد عليه. (فإني رأيتكن أكثر أهل النار) الفاء للتعليل، و"رأى" إن كانت علمية تتعدى إلى مفعولين و"أكثر" مفعولها الثاني، وإن كانت بصرية تتعدى إلى مفعول واحد و"أكثر" منصوب على الحال، ولا يضر إضافته إلى معرفة بناء على أن "أفعل" لا يتعرف بالإضافة. والخطاب في "رأيتكن" ليس المقصود به سامعات الحديث، حتى يحكم عليهن بدخول النار، فقد يكن كلهن من أهل الجنة، وإنما المقصود خطاب المنادى "معشر النساء" فكأنه قال: فإني رأيت معشر النساء أكثر أهل النار والمرئي في النار من النساء من اتصف بالصفات الذميمة، يؤيد ذلك ما وقع في حديث جابر، ولفظه "وأكثر من رأيت فيها من النساء اللاتي إن اؤتمن أفشين، وإن سئلن بخلن، وإن سألن ألحفن، وإن أعطين لم يشكرن". (فقالت امرأة منهن جزلة) بفتح الجيم وسكون الزاي، أي ذات عقل ورأي و"منهن" جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة "امرأة" و"جزلة" صفة أخرى، وكان الأولى في الأسلوب أن تقدم الصفة المفردة على شبه الجملة فيقال: فقالت امرأة جزلة منهن. (وما لنا أكثر أهل النار؟ ) "وما لنا" مبتدأ وخبر، والواو للاستئناف و"أكثر" منصوب على الحال المقدرة، والتقدير: وأي شيء حصل لنا مقدرا لنا الكثرة في النار؟ (تكثرن اللعن) اللعن في اللغة الإبعاد والطرد، وفي الشرع الإبعاد من رحمة الله، والمقصود الإكثار من ألفاظ الدعاء على الغير بقصد أو بغير قصد، بسبب أو بغير سبب كاف.

(وتكفرن العشير) ضمن "تكفرن" معنى "تجحدن" فعدى بنفسه، وأصله يتعدى بالباء، والعشير هو الخليط من المعاشرة، وكثر إطلاقه على الزوج لكثرة مخالطته الزوجة، وهو المراد هنا، وفي الكلام مضاف محذوف، والتقدير: تكفرن وتجحدن وتغطين إحسان الزوج وفضله. (وما رأيت من ناقصات عقل ودين) "من" زائدة و"ناقصات" مفعول "رأيت" الأول ومفعولها الثاني "أغلب لذي لب". والعقل قوة يميز الإنسان بها بين حقائق المعلومات. (أغلب لذي لب منكن) أي ما رأيت أشد غلبة لذوي العقول منكن، وفي رواية البخاري "ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن" وهذا من جملة أسباب كونهن أكثر أهل النار، لأنهن إذا كن سببا لإذهاب عقل الرجل الحازم، حتى يفعل أو يقول ما لا ينبغي، فقد شاركنه في الإثم وزدن عليه، واللب أخص من العقل، إذ هو الخالص منه والكامل فيه. (وما نقصان العقل والدين؟ ) "ال" في "العقل والدين" للعهد أو عوض عن المضاف إليه، والتقدير: وما نقصان عقلنا وديننا؟ قال الحافظ ابن حجر: كأنه خفي عليهن ذلك حتى سألن عنه، ونفس هذا السؤال دال على النقصان، لأنهن سلمن ما نسب إليهن من إكثار اللعن وكفران العشير، ثم استشكلن كونهن ناقصات. والسؤال عن مظاهر وأدلة نقصان عقلهن ودينهن. (أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل واحد) "أما" حرف شرط وتفصيل، وفي رواية البخاري "أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى". (فهذا نقصان العقل) أي فهذا لضعف الضبط المنبئ عن نقصان العقل. (وتمكث الليالي ما تصلي) فيه اكتفاء والأصل: وتمكث الليالي والأيام والمقصود بها ليالي الحيض وأيامه. -[فقه الحديث]- اختلف العلماء في رؤيته صلى الله عليه وسلم النساء أكثر أهل النار، هل هي رؤية عين في اليقظة؟ أو رؤية منام؟ أو رؤية علمية؟ . المختار أنها رؤية عين في اليقظة. لكن هل رأى صلى الله عليه وسلم النار فعلا على حقيقتها، ورفعت له الحجب وطويت المسافات؟ أو مثلت له؟ ومتى وقع هذا؟ . قال بعضهم إنه صلى الله عليه وسلم رأى النار فعلا ليلة الإسراء، ولا إحالة في هذا على مذهب أهل السنة القائلين بأن الجنة والنار مخلوقتان وموجودتان الآن، ولا إحالة في أن يخلق الله في نبيه صلى الله عليه وسلم إدراكا خاصا به يدرك به الجنة والنار على حقيقتهما.

ويبعد هذا القول أن الرؤية متعلقة بالنساء، وأنهن أكثر أهل النار، وأهل السنة مع قولهم بوجود النار الآن لا يقولون بدخول أهلها فيها إلا بعد البعث والحساب، فرؤية النساء في النار بعيد أن تكون على الحقيقة. والمختار أنها مثلت له صلى الله عليه وسلم، ويؤيده حديث أنس في البخاري "لقد عرضت على الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط وأنا أصلي" وفي رواية "لقد مثلت" وفي رواية لمسلم "لقد تصورت". وقد وردت رؤيته صلى الله عليه وسلم الجنة والنار في صلاة الكسوف ووردت في الإسراء، ووردت في صلاة الظهر، قال الحافظ ابن حجر: ولا مانع أن يرى الجنة والنار مرتين بل مرارا على صور مختلفة. اهـ. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - الحث على الصدقة، ويشتد استحبابها في الأعياد، وفي الكرب والشدائد، وعقب المعاصي. 2 - وأن الصدقة تطفئ غضب الرب، وتخفف عقاب الذنوب، مصداقا لقوله تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات} [هود: 114]. 3 - وأنها قد تكفر الذنوب التي بين المخلوقين، لأن في إكثار اللعن وكفران العشير حقوقا للعباد. 4 - وأن كفران العشير وجحد الإحسان من الكبائر، فإن التوعد بالنار علامة أن المعصية كبيرة. 5 - وأن المعاصي تسمى كفرا كما أن الطاعات تسمى إيمانا. قال النووى: ويؤخذ من ذلك صحة تأويل الكفر في الأحاديث المتقدمة على ما تأولناها، قال ابن العربي ما حاصله: وخص الحديث إنكار إحسان الزوج بالكفر من بين أنواع الذنوب لدقيقة بديعة، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: "لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها" فقرن حق الزوج على الزوجة بحق الله، فإذا كفرت المرأة حق زوجها - وقد بلغ من حقه عليها هذه الغاية - كان ذلك دليلا على تهاونها بحق الله، فلذلك يطلق عليها الكفر، لكنه كفر لا يخرج عن الملة. اهـ. 6 - قال النووي: وفيه أن اللعن أيضا من المعاصي الشديدة القبح، وليس فيه أنه كبيرة، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: تكثرن اللعن، والصغيرة إذا أكثرت صارت كبيرة، واتفق العلماء على تحريم اللعن، فلا يجوز لعن أحد بعينه، مسلما كان أو كافرا، أو دابة، إلا من علمنا بنص شرعي أنه مات على الكفر أو يموت عليه، كأبي جهل وإبليس، وأما اللعن بالوصف فليس بحرام، كلعن الواشمة والمستوشمة وآكل الربا وموكله والظالمين والفاسقين والكافرين، وغير ذلك مما جاءت النصوص الشرعية بإطلاقه على الأوصاف لا على الأعيان. اهـ بتصرف. 7 - وفيه نقصان عقل المرأة عن الرجل، وقد نبه الله تعالى على ضعف ضبط المرأة لحقائق الأمور بقوله: {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} [البقرة: 282].

وليس المقصود بذكر النقص في النساء لومهن على ذلك، لأنه من أصل الخلقة، لكن المقصود التنبيه على ذلك للتحذير من الافتتان بهن، ولهذا رتب العذاب على ما ذكر من الكفران وغيره، لا على النقص. 8 - وأن الطاعات تسمى دينا، فقد وصف صلى الله عليه وسلم نقص الطاعات بنقص الدين، قال النووي: وإذا ثبت هذا علمنا أن من كثرت عبادته زاد إيمانه ودينه، ومن نقصت عبادته نقص دينه. ثم نقص الدين قد يكون على وجه يأثم به، كمن ترك الصلاة أو الصوم أو غيرهما من العبادات الواجبة عليه بلا عذر، وقد يكون على وجه هو مكلف به، كترك الحائض الصلاة والصوم. وتساءل النووى: هل تثاب الحائض على الصلاة في زمن الحيض، وإن كانت لا تقضيها، كما يثاب المريض والمسافر، ويكتب له في مرضه وسفره مثل نوافل الصلوات التي كان يفعلها في صحته وحضره؟ . وأجاب بأن ظاهر هذا الحديث أنها لا تثاب، والفرق أن المريض والمسافر كان يفعلها بنية الدوام عليها مع أهليته لها. والحائض ليست كذلك بل نيتها ترك الصلاة في زمن الحيض، بل يحرم عليها نية الصلاة في زمن الحيض فنظيرها مسافر أو مريض كان يصلي النافلة في وقت، ويترك في وقت، غير ناو الدوام عليها، فهذا لا يكتب له في سفره ومرضه بالنسبة للزمن الذي لم يكن يتنفل فيه. اهـ. 9 - وفيه أن منع الحائض من الصوم والصلاة كان ثابتا بحكم الشرع قبل هذا المجلس. 10 - وفيه أن من خلق المرأة الشاذ كثرة اللعن وإنكار الجميل. وقد أوضحت رواية البخاري مدى كفرانها للنعمة، وإصرارها على هذا الجحود إذ قال صلى الله عليه وسلم "لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت: ما رأيت منك خيرا قط". وليس معنى هذا أن كل امرأة بهذه الصفة، بل الحكم للغالب والكثير وما هو الشأن، فلا ينافي وجود نساء مثاليات في عفة اللسان وفي الوفاء وشكر الجميل. 11 - وفيه الإغلاظ في النصح لقصد إزالة الصفة الذميمة، فإن استتباع طلب الصدقة والاستغفار بهذه الأوصاف تغليظ وتحذير. 12 - قال الحافظ ابن حجر: وفيه أنه لا يواجه الشخص المعين بما فيه من صفة يعاب عليها، لأن في التعميم تسهيلا على السامع. اهـ. وكأنه يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من عادته وحكمته إعطاء النصح اللائق بالمخاطب، وبذل هذه النصيحة لأولئك النسوة دليل على أن فيهن من هي بهذه الصفة، فلم يوجه إليها النصح، وساق الكلام على الأسلوب العام سترا لها وكرما. 13 - وفيه أن النساء أكثر أهل النار.

14 - وفيه وعظ الإمام وأصحاب الولايات وكبراء الناس رعاياهم وتحذيرهم المخالفات، وتحريضهم على الطاعات. 15 - وفيه جواز عظة الرجل للنساء وتعليمه لهن أحكام الإسلام وتذكيره لهن بما يجب عليهن، ومحل ذلك كله إذا أمن الفتنة والمفسدة. 16 - وفيه جواز خروج النساء لمجالس العلم، ومحله إذا أمنت الفتنة والمفسدة. 17 - وفيه جواز صدقة المرأة من مالها من غير توقف على إذن زوجها أو على مقدار معين من مالها، كالثلث، خلافا لبعض المالكية، إذ لم ينقل أن أزواجهن كانوا حضورا وصرحوا لهن بالصدقة. 18 - وفيه جواز طلب الصدقة من الأغنياء للمحتاجين، ولو كان الطالب غير محتاج. 19 - وفيه جواز إطلاق "رمضان" من غير إضافة إلى الشهر، وإن كان الاختيار إضافته. 20 - وفيه مراجعة المتعلم للعالم، والتابع للمتبوع فيما قاله إذا لم يظهر له معناه. 21 - وفيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الخلق العظيم، والصفح الجميل، والرفق بمن يراجعه. والله أعلم

(46) باب سجود ابن آدم يغيظ الشيطان

(46) باب سجود ابن آدم يغيظ الشيطان 136 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي. يقول: يا ويله. (وفي رواية أبي كريب يا ويلي). أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة. وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار". 137 - وعن الأعمش بهذا الإسناد مثله غير أنه قال "فعصيت فلي النار". -[المعنى العام]- إن الشيطان للإنسان عدو مبين، منذ أن خلق الله آدم أبا البشر، ونفخ فيه من روحه وأمر ملائكته بالسجود، فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين، ومنذ ذلك الحين وهو مسلط ببني آدم، يعدهم ويمنيهم، ويزين لهم ويغويهم، ويأتيهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ليشاركوه معصية الرب الكريم، فتمتلئ جهنم منه وممن اتبعه منهم أجمعين. إن عدوه الأكبر هو المسلم الذي يتجه إلى ربه بالعبادة، بل إن الذي يرغم أنفه هو المسلم الذي يقرأ القرآن، وكلما وسوس له ليثنيه عن القراءة ازداد فيها، وكلما ذكره بأمور ينساها ليخرجه عن الإخلاص والتوجه طارده واستغرق في مناجاة ربه، والتفكر والتدبر في معانيها، وهكذا تظل المعركة مستمرة، والمجاهدة مشتدة، حتى إذا وصل المسلم في قراءته إلى آية سجدة فسجد خنس الشيطان وانهزم، وانعزل في جانب بعيد من المكان، يندب حظه ويبكي على خسارته، ويتحسر على حاله ومصيره، يندب كما تندب الثكلى، ويعض على أصابع الندم، ويقول: يا ويلتاه. يا مصيبتاه واحسرتاه، واكارثتاه. هذا هو المؤمن أغلبه فيغلبني، وأزين له فيعرض عني، وأدعوه فيرفض دعوتي، وأصادقه فيعاديني، هذا هو المؤمن يقرأ القرآن، رغم أنفي ويستجيب لربه ويسجد لآية السجدة ويعصيني. واحسرتاه، لقد أفلت مني ولم يعد من شيعتي، لقد تخلص من حبائلي ونجا من خديعتي وأصبح من أهل الجنة. واحسرتاه واحسرتاه مرتين، مرة لفشلي في محاولتي، ومرة لوقوعي أنا في المعصية الماحقة، وتكبري على أوامر ربي، مرة لاستحقاقه الجنة، ومرة للحكم علي بالطرد والإبعاد من رحمة الله. فهنيئا للمؤمنين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون.

-[المباحث العربية]- (إذا قرأ ابن آدم السجدة) المراد من ابن آدم المؤمن، فهو من العام المراد به مخصوص، وفي الكلام مضاف محذوف، والتقدير: إذا قرأ ابن آدم آية السجدة. (اعتزل الشيطان يبكي) المفعول محذوف، أي اعتزل الشيطان ابن آدم أو الفعل لازم، أي صار الشيطان في عزلة وبعد عن ابن آدم، وجملة "يبكي" في محل النصب على الحال. وهل الاعتزال والبكاء حقيقة؟ أو مجاز عن الخيبة والتحسر؟ قولان وجيهان. (يا ويله) "يا" حرف ندبة، و"ويل" مندوب متوجع منه، وله حكم المنادى، وأصل المقول من الشيطان: يا ويلي بإضافة الويل إلى ياء المتكلم كما صرح به في الرواية الثانية. قال النووي: وهذا التعبير من آداب الكلام، وهو أنه إذا عرض في الحكاية عن الغير ما فيه سوء، واقتضت الحكاية رجوع الضمير إلى المتكلم صرف الحاكي الضمير عن نفسه صونا عن صورة إضافة السوء إلى نفسه. -[فقه الحديث]- ظاهر الحديث أن المراد بالشيطان إبليس، لأنه أمر بالسجود فأبى، لكن يبعد هذا الظاهر استحالة قيام إبليس واحد بإغواء جميع الناس، فكان المقصود بالشيطان أحد جنود إبليس وقوله "أمرت بالسجود" يعني أمر أبوه الأكبر به. وليس اعتزاله مستمرا، مجانبة للمؤمن وخصاما، بل هو مؤقت، نفورا من المؤمن المطيع وانزعاجا من السجود لله، ثم لا يلبث أن يعود موسوسا. وقد احتج أصحاب أبي حنيفة بقوله: "أمر ابن آدم بالسجود" على أن سجود التلاوة واجب على التالي والسامع، ومذهب مالك والشافعي أنه سنة. وأجابوا عن هذا الحديث بأجوبة منها: أن تسمية هذا أمرا إنما هو من كلام إبليس، فلا حجة فيها، ولا يقويها أن النبي صلى الله عليه وسلم حكاها، فقد حكي غيرها من أقوال الكفار وهي باطلة. وأن المراد بالأمر أمر الندب لا أمر الإيجاب. وقد روي أن عمران بن حصين مر بقارئ يقرأ آية سجدة، فمضى عمران ولم يسجد معه. وروى البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ يوم الجمعة آية سجدة فسجد وسجد الناس، حتى إذا

كانت الجمعة القابلة قرأ بها ثم قال: يا أيها الناس. إنا نمر بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه، ولم يسجد عمر رضي الله عنه. وروي عن ابن عمر قوله: إن الله لم يفرض السجود إلا إن شاء. هذا، والمحقق في علاقة هذا الحديث بكتاب الإيمان وزيادته ونقصانه وبباب إطلاق اسم الكفر على المعاصي -كما في الحديث الذي قبله والحديث الذي بعده - المحقق في علاقته بما نحن فيه يجدها ضعيفة. ولا يجدي في هذا الربط محاولة الإمام النووي وقوله: مقصود مسلم رحمه الله بذكر هذا الحديث هنا أن من الأفعال ما تركه يوجب الكفر إما حقيقة وإما تسمية، فأما كفر إبليس بسبب السجود فمأخوذ من قول الله تعالى: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين} [البقرة: 34]. لا تجدي هذه المحاولة لأن الحديث لا دلالة فيه على إطلاق لفظ الكفر على تارك السجود، وخصوصا أن المقارنة جاءت مع سجود التلاوة المختلف في وجوبه وندبه. والله أعلم

(47) باب بين المسلم والكفر ترك الصلاة

(47) باب بين المسلم والكفر ترك الصلاة 138 - عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة". ومثله. -[المعنى العام]- الصلاة عماد الدين، وأفضل الأعمال الصلاة لوقتها، وما افترض الله على خلقه بعد التوحيد أحب إليه من الصلاة، ولذا يقول صلى الله عليه وسلم "وجعلت قرة عيني في الصلاة". وإذا كان فضل الصلاة بهذه المنزلة كان تركها من أكبر الكبائر، فما عظم ثواب فعله عظم عقاب تركه، وقد قرن الله الصلاة بالتوحيد في كثير من آيات القرآن، وجعلها أول الشعائر الإسلامية، فهو يقول جل شأنه: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} [البينة: 5]. {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} [البقرة: 3]. {والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين} [الأعراف: 170]. {قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة} [إبراهيم: 31]. {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} [طه: 14]. كما قرن الرسول صلى الله عليه وسلم الصلاة بالشهادتين في أحاديثه الكثيرة كقوله صلى الله عليه وسلم "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة ... ". وقد بلغ من اهتمام الشارع بالصلاة أن جعلها الفارق بين المسلم والكافر، لأنها العلامة الواضحة المعلنة عن إسلام المرء في كل يوم، فالشهادتان يكتفى فيهما بالنطق مرة واحدة في العمر مع دوام التصديق، فيحكم بإسلام المسلم إذا نطق، ولا يعرف استمراره على الإسلام إلا بالصلاة، والصلاة وحدها لأن الصوم بين العبد وربه، والزكاة قد يتصدق بها من لا يؤمن بالله وبرسوله جودا وكرما، ثم إنها مرة كل عام، ولأن الحج على المستطيع مرة في العمر، وكان المشركون يقومون بأعماله تقديسا للكعبة والمسجد الحرام. فلم يبق علامة على استمرار إسلام المسلم من بين سائر الأركان إلا الصلاة، ولذا يجعلها الرسول

صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الفارق والحائل بين المسلم وبين الشرك والكفر، فيقول: "إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة"، فالذي يمنع من الكفر عدم ترك الصلاة، فإذا تركت لم يبق حائل بين المرء وبين الكفر، فيدخل في الكفر. بل جعل الإسلام عدم النشاط لها والكسل فيها مظهرا من مظاهر المنافقين، فيقول تعالى: {إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا} [النساء: 142]. هذه مكانة الصلاة في الإسلام، فأين المسلمون اليوم من دينهم؟ وأين أولياء الأمور من قوله تعالى: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى} [طه: 132]؟ فاللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، ووفق المسلمين للعودة إلى الطريق المستقيم. -[المباحث العربية]- (بين الرجل) أي بين المسلم رجلا كان أو امرأة. (وبين الشرك والكفر) أي بينه وبين أن يصل إلى الشرك والكفر، كما نقول: بيني وبين المسجد خطوتان، فالخطوتان توصلان إلى المسجد. وكذلك الذي يوصل المسلم إلى الكفر ترك الصلاة، وفي رواية أبي نعيم "بين الرجل وبين الشرك أو الكفر" بأو بدل الواو؟ . والشرك والكفر قد يطلقان بمعنى واحد، وقد يخص الشرك بعبادة الأوثان وعبادة غيرها من المخلوقات مع الاعتراف بالله تعالى: ككفار قريش، فيكون الكفر أعم من الشرك، فإنه يشمل الموحد الذي يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، أو ينكر ما علم من الدين بالضرورة. (ترك الصلاة) أي الصلوات الخمس المفروضة. -[فقه الحديث]- تارك الصلاة منكرا لوجوبها كافر بإجماع المسلمين، خارج عن ملة الإسلام، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام، ولم يخالط المسلمين مدة يبلغه فيها وجوب الصلاة عليه. وأما تارك الصلاة تكاسلا مع اعتقاد وجوبها -كما هو حال كثير من الناس- ففيه خلاف بين العلماء. فذهب جماعة من السلف إلى أنه يكفر، وهذا القول مروي عن علي -كرم الله وجهه- وهو أحد روايتين عن أحمد بن حنبل، وهو وجه لبعض أصحاب الشافعي، وهم يحتجون بظاهر الحديث.

وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يكفر، ولا يقتل، بل يعزر ويحبس حتى يصلي. واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة" وليس منهم تارك الصلاة. وذهب مالك والشافعي وجماهير السلف والخلف إلى أنه لا يكفر، بل يفسق ويستتاب، فإن تاب فبها ونعمت، وإلا قتلناه حدا، كالزاني المحصن، ولكنه يقتل بالسيف. واحتجوا على عدم كفره بما احتج به أبو حنيفة، وبقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48] وبقوله صلى الله عليه وسلم "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة" و"من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة" و"لا يلقى الله تعالى عبد بها غير شاك فيحجب عن الجنة". واحتجوا على قتله بقوله تعالى: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} [التوبة: 5] وقوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم". وتأولوا قوله صلى الله عليه وسلم "بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة" على معنى أنه يستحق بترك الصلاة عقوبة الكافر، وهي القتل، أو أنه محمول على المستحل، أو معناه أنه قد يؤول به ترك الصلاة إلى الكفر، أو أن فعله يشبه فعل الكفار. حكاه النووي رحمه الله تعالى. والله أعلم

(48) باب أفضل الأعمال: الإيمان - الجهاد - الحج - والعتق مساعدة الصانع والأخرق - الكف عن الشر

(48) باب أفضل الأعمال: الإيمان - الجهاد - الحج - والعتق مساعدة الصانع والأخرق - الكف عن الشر 139 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال "إيمان بالله" قال: ثم ماذا؟ قال "الجهاد في سبيل الله" قال: ثم ماذا؟ قال "حج مبرور". وفي رواية محمد بن جعفر قال: "إيمان بالله ورسوله". 140 - عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! أي الأعمال أفضل؟ قال "الإيمان بالله، والجهاد في سبيله" قال قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال "أنفسها عند أهلها، وأكثرها ثمنا" قال قلت: فإن لم أفعل؟ قال "تعين صانعا أو تصنع لأخرق" قال قلت: يا رسول الله! أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال "تكف شرك عن الناس، فإنها صدقة منك على نفسك". 141 - وعن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه غير أنه قال "فتعين الصانع أو تصنع لأخرق". -[المعنى العام]- لما دخل الإيمان قلوب الصحابة، وامتزج بأرواحهم ودمائهم أخذوا يتنافسون على عمل الصالحات، ويسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال التي تقرب من الجنة وتباعد من النار، بل التي ترفع الدرجات وتقرب من الله، ليصعدوا في سلم الكمال، وليصلوا إلى أرفع المنازل. فهذا أبو ذر يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: يا رسول الله أي الصالحات أفضل عند الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: أفضل الأعمال الإيمان بالله ورسوله إيمانا بالغا حد الجزم لا يخالطه شك ولا يساوره قلق. قال: يا رسول الله ثم أي الأعمال أفضل بعد الإيمان بالله ورسوله؟ قال: الجهاد في سبيل الله، والدفاع عن الإسلام بالنفس والمال قال: ثم أي الأعمال أفضل بعد الجهاد في سبيل الله؟ قال: الحج

المبرور والمتقبل، الخالي من اللغو والرفث والفسوق والجدال قال: يا رسول الله، من كانت عنده رقاب يريد أن يعتق منها، فأي الرقاب أفضل في العتق؟ قال: أحسنها وأحبها عند صاحبها، وأغلاها ثمنا قال: يا رسول الله، إن لم يكن عندي رقاب أعتقها وأردت المنافسة في الخير، فماذا أفعل؟ قال صلى الله عليه وسلم: تساعد الصانع في صنعته، والمحتاج في حاجته، وتعين الضعفاء وأهل البطالة. قال: يا رسول الله، لو أني ضعفت قوتي عن هذه المساعدة، فماذا أفعل لأسهم في الخير؟ قال: تكف شرك عن الناس، وتمسك لسانك وجوارحك عن الأذى، فتحسن بذلك إلى نفسك، وتحميها من السيئات والآثام. -[المباحث العربية]- (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم) السائل أبو ذر المصرح به في الرواية الثانية، وإنما سأل عن أفضل الأعمال ليلتزمه، كعادة الصحابة في الحرص على الخير. (إيمان بالله) إذا اقتصر في الإيمان على الإيمان بالله أريد منه الإيمان بالله ورسوله، إذ هو المنجي من النار، فالمراد من هذه الرواية هو المراد من رواية "إيمان بالله ورسوله". (ثم ماذا؟ ) مبتدأ والخبر محذوف، أو خبر والمبتدأ محذوف، أي ثم ماذا الأفضل بعد الإيمان بالله؟ . (الجهاد في سبيل الله) في بعض الروايات "ثم جهاد في سبيل الله" فتتوافق الثلاثة في التنكير، ويكون التنوين للإفراد الشخصي، والتعريف للكمال. ويمكن أن يقال: إن التنكير للتعظيم، وهو يعطي الكمال. قال صاحب الفتح: إن التنكير والتعريف من تصرف الرواة لأن مخرجه واحد. (حج مبرور) أي مقبول، يقال: بر حجك بضم الباء، وبر الله حجك بفتحها، أي قبله، واعترض على هذا التفسير بأن القبول لا اطلاع لأحد عليه حتى يصح قوله صلى الله عليه وسلم "أفضل الأعمال الحج المقبول" وأجيب بأن من علامات القبول أن يزداد صاحبه بعده خيرا. والأولى أن يقال: الحج المبرور هو الذي لا يخالطه شيء من المآثم، ومنه برت يمينه إذا سلم من الحنث، وبر بيعه إذا سلم من الخداع. وقيل: هو الصادق الخالص لله تعالى. (أي الرقاب؟ ) جمع رقبة والمراد الرقيق، وإطلاق الرقبة على الرقيق مجاز مرسل مشهور علاقته الجزئية والكلية. (أنفسها عند أهلها) أرفعها وأجودها، وقيل، أكثرها رغبة عند أهلها لمحبتهم فيها قال الأصمعي: مال نفيس أي مرغوب فيه.

(وأكثرها ثمنًا) وفي رواية "أعلاها ثمنا" بالعين المهملة أو بالغين، فأفضل الرقاب من جمعت بين الصفتين. (فإن لم أفعل؟ ) المفعول وجواب الشرط محذوفان للعلم بهما، والتقدير: فإن لم أفعل العتق فماذا أفعل من الخير؟ أي إن لم أقدر على ذلك، فأطلق الفعل وأراد القدرة عليه، وفي رواية "فإن لم أستطع". (تعين صانعا) وفي رواية "الصانع" روي بالصاد المهملة في "صانعا" و"تصنع" من الصنعة، وروي بالضاد المعجمة، وبالهمزة بدل النون، تكتب ياء في الخط من الضياع، والصحيح عند العلماء رواية الصاد المهملة لمقابلته بالأخرق، وإن كان المعنى بالضاد المعجمة صحيحا، إذ معونة الضائع مطلوبة. (أو تصنع لأخرق) الأخرق هو الذي ليس بصانع، يقال: رجل أخرق وامرأة خرقاء لمن لا صنعة له. (أرأيت) أي أخبرني عن جواب هذا الاستفهام وفي دلالة "أرأيت" على أخبرني مجازان. الأول: في الاستفهام الذي هو طلب الفهم، بأن نريد منه مطلق الطلب عن طريق المجاز المرسل بعلاقة الإطلاق بعد التقييد. الثاني: في "رأي" التي هي بمعنى علم أو أبصر، بأن نريد منها المسبب عن العلم أو الإبصار، وهو الإخبار، عن طريق المجاز المرسل أيضا بعلاقة السببية والمسببية، فيتحصل منهما طلب الإخبار المدلول عليه بلفظ أخبرني. (إن ضعفت عن بعض العمل) أي لم أستطع عمل الخير المشار إليه صحيا أو ماليا. (فإنها صدقة منك على نفسك) الضمير في "فإنها" عائد على كف الشر باعتباره خصلة وفعلة، أي فإن هذه الخصلة أو الفعلة صدقة، والصدقة في الأصل ما يخرجه المرء من ماله في ذات الله، والمراد منها هنا الثواب. وإذا كف شره عن غيره فكأنه قد تصدق عليه لأمنه منه، فإن كان شرا لا يعدو نفسه فقد تصدق على نفسه بأن منعها من الإثم. -[فقه الحديث]- جعل الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أفضل الأعمال الإيمان بالله ثم الجهاد ثم الحج، وفي حديث ابن مسعود الآتي جعل أفضل العمل الصلاة لوقتها ثم الجهاد في سبيل الله، وفي حديث عبد الله بن عمرو: أي الإسلام خير؟ قال: "تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف". وفي حديث أبي موسى: "أي المسلمين خير؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده". وفي حديث عثمان: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" وأمثال هذا في الصحيح كثيرة.

وقد اختلف العلماء في الجمع بينها، فقيل: يجوز أن يكون المراد: من أفضل الأعمال كذا، أو من خيرها كذا، أو من خيركم من فعل كذا، فحذفت "من" وهي مرادة، كما يقال: فلان أعقل الناس وأفضلهم ويراد أنه من أعقلهم وأفضلهم. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "خيركم خيركم لأهله" ومن المعلوم أنه لا يصير بذلك خير الناس، ومن ذلك قولهم: أزهد الناس في العالم جيرانه، وقد يوجد في غيرهم من هو أزهد منهم فيه. والأولى أن يقال: إن اختلاف جوابه صلى الله عليه وسلم مع اتحاد السؤال أو تشابه الأسئلة إنما كان مراعاة لمقتضى الحال، فقد يراعي حال السائل وما هو أنفع له وأخص به فإن كان السائل ذا نجدة فالجهاد في حقه أفضل، وإن كان له والدان يعتمدان عليه لو خرج للجهاد ضاعا فالبر في حقه أفضل، ومن ذلك ما ورد أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجهاد، فقال: ألك والدان؟ قال: نعم. فقال: ففيهما فجاهد، وإن كان السائل امرأة تسأل عن الجهاد لم يكن بالنسبة لها أفضل الأعمال، ففي البخاري عن عائشة "قالت: يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل، قال: لكن أفضل الجهاد حج مبرور". وقد يراعي حال المخاطبين والسامعين فيعلم كل قوم بما بهم من حاجة إليه، أو بما لم يكملوه بعد من دعائم الإسلام فقد ورد عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "حجة لمن لم يحج أفضل من أربعين غزوة، وغزوة لمن حج أفضل من أربعين حجة" وقد يراعي ما هو أليق بالزمان، كما لو نزل العدو بأرض المسلمين، وفي وقت الزحف الملجئ والنفير العام، فإن الجهاد حينئذ يجب على الجميع، وإن كان كذلك فالجهاد أولى بالتحريض والتقديم على ما سواه، وكما لو نزلت بالمسلمين ضائقة وفقر وجدب وشدة، فإن إطعام الطعام حينئذ يكون أولى بالتقديم، وبكونه أفضل الأعمال. فكأن الأفضلية أمر نسبي، فما هو أفضل لي قد يكون غيره أفضل لغيري، بل قد يكون الشيء خير الأشياء لي في وقت، وغيره خيرا منه لي في وقت آخر. ومرجع هذا الجواب إلى تقييد كل حديث بالحال والمقام، وهذا الجواب يصلح جوابا عن قول القائل: لم خص هذه الأمور بالذكر من بين سائر خصال الإسلام وشعبه، وكذلك عن قول القائل: لم قدم الجهاد -وليس بركن- على الحج وهو ركن؟ ولا يشكل على هذا الجواب ما جاءت به بعض الروايات من التعبير بحرف "ثم" وهي موضوعة للترتيب، فقد تقتضي الظروف والأحوال هذا الترتيب في مثل هذا، على أنهم قالوا إن الترتيب ترتيب في الذكر، من قبيل قوله تعالى: {وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة ثم كان من الذين آمنوا} [البلد: 12 - 17] ومعلوم أنه ليس المراد هنا الترتيب في الفعل بين الإطعام والإيمان. وكقول الشاعر: قل لمن ساد ثم ساد أبوه ... ثم قد ساد قبل ذلك جده وإذا صرفنا النظر عن الظروف ومقتضيات الأحوال فإنه لا خلاف في أن أفضل الأعمال الإيمان

بالله ورسوله، لأنه شرط في كلها، وأساس في قبول أي منها، ثم إن شرف الصفة بشرف متعلقها، ومتعلق الإيمان الله ورسوله، ولا يدخل في الإيمان ها هنا الأعمال بسائر الجوارح كالصوم والحج والجهاد وغيرها لكونه جعل قسيما للجهاد والحج، ولا يمنع هذا من تسمية الأعمال المذكورة إيمانا باعتبارها من الإيمان المنجي من النار. أما الشبهة الواردة في عد الإيمان من الأعمال مع أنه التصديق بالقلب عند جمهور المتكلمين. فقد يجاب عنها بأن المراد من الأعمال المسئول عن أفضلها ما هو أعم من عمل القلب وعمل الجوارح، وهذا الجواب خير من قول بعضهم: إن المراد من الإيمان المجعول أفضل هو الذكر الخفي من تعظيم حق الله تعالى وحق رسوله صلى الله عليه وسلم وإدامة الذكر وتدبر آيات كتاب الله. وأما عدم ذكر الحج في روايتنا الثانية وعدم ذكر العتق وما بعده في روايتنا الأولى فهو من تصرف الرواة. والله أعلم. وقد أفادت الرواية الثانية أن عتق أنفس الرقاب أفضل من عتق غير الأنفس. وهذا فيمن أراد أن يعتق رقبة واحدة، أما إذا كان معه ألف درهم وأمكن أن يشتري رقبتين مفضولتين أو رقبة نفيسة، فالرقبتان أفضل، وهذا بخلاف الأضحية فإن التضحية بشاة سمينة أفضل من التضحية بشاتين دونها في السمن، قال الشافعي: في الأضحية استكثار القيمة مع استقلال العدد أحب إلي من استكثار العدد مع استقلال القيمة، وفي العتق استكثار العدد مع استقلال القيمة أحب إلي من استكثار القيمة مع استقلال العدد، لأن المقصود من الأضحية اللحم، ولحم السمين أوفر وأطيب، والمقصود من العتق تكميل حال الشخص وتخليصه من ذل الرق، وتخليص جماعة أفضل من تخليص واحد. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - حرص الصحابة على تتبع أفضل الأعمال والسؤال عنه لالتزامه. 2 - حلم النبي صلى الله عليه وسلم ورفقه بالسائل حتى ولو تمادى في تساؤله. 3 - الترغيب فيما ذكر من الأعمال باعتباره أفضل شعب الإيمان. 4 - فيه حجة لمن جعل الترك والكف عملا وكسبا للعبد. 5 - استدل بظاهره بعضهم على أنه ليس في الشرع شيء إلا وله أجر أو عليه وزر، والجمهور على خلافه. 6 - فيه إشارة إلى أن الصدقة لا تنحصر في الأمر المحسوس. 7 - فيه أن الكف عن الشرور والآثام يثاب عليه، والجمهور على أنه يثاب إذا قصد بالترك وجه الله تعالى. 8 - الحث على فعل الخير مهما أمكن، وليس في الحديث ترتيب فيما تضمنه إنما هو لإيضاح

ما يفعله من عجز عن خصلة من الخصال المذكورة، فمن أمكنه أن يفعل الجميع فليفعل، ومن عجز عن الأعلى انتقل إلى الأدنى. 9 - أن الشفقة على خلق الله لا بد منها. 10 - أخذ منه بعضهم أن إعانة الصانع أفضل من إعانة غير الصانع، لأن غير الصانع مظنة الإعانة، فكل أحد يعينه غالبا، بخلاف الصانع، فإنه لشهرته بصنعته يغفل عن إعانته. والله أعلم

(49) باب أفضل الأعمال الصلاة لوقتها وبر الوالدين

(49) باب أفضل الأعمال الصلاة لوقتها وبر الوالدين 142 - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل؟ قال "الصلاة لوقتها" قال قلت: ثم أي؟ قال "بر الوالدين" قال قلت: ثم أي؟ قال "الجهاد في سبيل الله" فما تركت أستزيده إلا إرعاء عليه. 143 - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قلت: يا نبي الله! أي الأعمال أقرب إلى الجنة؟ قال "الصلاة على مواقيتها" قلت: وماذا يا نبي الله؟ قال "بر الوالدين" قلت: وماذا يا نبي الله؟ قال "الجهاد في سبيل الله". 144 - عن أبي عمرو الشيباني قال: حدثني صاحب هذه الدار (وأشار إلى دار عبد الله) قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال "الصلاة على وقتها" قلت: ثم أي؟ قال "ثم بر الوالدين" قلت: ثم أي؟ قال "ثم الجهاد في سبيل الله" قال: حدثني بهن، ولو استزدته لزادني. وحدثنا شعبة بهذا الإسناد مثله. وزاد: وأشار إلى دار عبد الله وما سماه لنا. 145 - عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أفضل الأعمال (أو العمل) الصلاة لوقتها، وبر الوالدين". -[المعنى العام]- وفي مجال التنافس في الخير، والسؤال عن أفضل القربات يسأل عبد الله بن مسعود رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل؟ وأي الطاعات أحب إلى الله؟ ويجيبه صلى الله عليه وسلم: أحب الأعمال إلى

الله المحافظة على أداء الصلوات في مواقيتها، قال ابن مسعود: ثم ماذا من أعمال الصالحات أحب إلى الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بر الوالدين ورعاية أمورهما والإحسان إليهما. قال: ثم أي الأعمال بعد بر الوالدين؟ قال: الجهاد في سبيل الله والدفاع عن الإسلام ونشره بين الأمم. وكان ابن مسعود يرغب في الاسترسال في أسئلته حرصا على الاستزادة من العلم ومعرفة أبواب الخير، لكنه استشعر أو خاف ملل الرسول صلى الله عليه وسلم فسكت شفقة منه عليه، وهو يعلم أنه لو سأل زيادة لأجيب. فرضي الله عن ابن مسعود وعن سائر الصحابة الذين قال الله فيهم {يحبهم ويحبونه} [المائدة: 54] وصلى الله عليه وسلم على من قال فيه ربه {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128]. -[المباحث العربية]- (أي العمل أفضل) وفي الرواية الثانية "أي الأعمال أقرب إلى الجنة" وفي الرواية الثالثة "أي الأعمال أحب إلى الله" والظاهر أن السؤال كان بالصيغة الأولى، والصيغتان الثانية والثالثة من تصرف الرواة، والرواية بالمعنى والتعبير بالملزوم بدل اللازم. (الصلاة لوقتها) اللام للابتداء كقوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} [الإسراء: 78]. أي الصلاة لابتداء وقتها، وقيل: للاستقبال كقوله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق: 1]. أي الصلاة مستقبلة وقتها، وقيل: بمعنى "في" أي الصلاة في وقتها. ورواه الدارقطني بلفظ "لأول وقتها" وقال النووي عنها: إنها ضعيفة. وفي روايتنا الثانية: الصلاة على مواقيتها" وفي روايتنا الثالثة كرواية البخاري "الصلاة على وقتها" ويمكن أن يفهم من هذه الرواية أن المقصود أول وقتها، من حيث إن لفظة "على" تقتضي الاستعلاء على جميع الأوقات، فيتعين أول الوقت. والتحقيق أن الاستعلاء المفهوم من لفظ "على" إنما يدل على تحقق دخول الوقت ليقع الأداء فيه، ولا يدل على أول الوقت، فالمراد التمكن من أدائها في أي جزء من أجزاء وقتها. (ثم أي) قيل: الصواب أنه غير منون، لأن السائل ينتظر الجواب، والتنوين لا يوقف عليه، فتنوينه ووصله بما بعده خطأ، فيوقف عليه وقفة لطيفة، ثم يؤتى بما بعده، وهو مضاف تقديرا، والمضاف إليه محذوف لفظا، والتقدير: ثم أي العمل أفضل، فيوقف عليه بلا تنوين. (بر الوالدين) قال أهل اللغة: بررت والدي - بكسر الراء- أبره- بضمها مع فتح الباء- برا، وأنا بر به - بفتح الباء- وبار، وجمع البر الأبرار وجمع البار البررة، والبر ضد العقوق.

(فما تركت أستزيده) "أن" المصدرية مقدرة، أو الفعل "أستزيده" مسبوك بمصدر من غير سابك على غير قياس، والمصدر مفعول "تركت" والتقدير: فما تركت الاستزادة منه إلا إشفاقا عليه. (إلا إرعاء عليه) بكسر الهمزة وإسكان الراء وبالعين المهملة ممدود، ومعناه إبقاء عليه ورفقا به، وفي رواية الترمذي "فسكت عني رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني" فكأنه فهم منه السآمة، فسكت. (حدثني بهن) مقول عبد الله بن مسعود، وفيه تقرير وتأكيد لما تقدم من أنه باشر السؤال وسمع الجواب. (ولو استزدته) يريد من هذا النوع، وهو مراتب أفضل الأعمال. -[فقه الحديث]- قال ابن بطال: في الحديث أن البدار إلى الصلاة في أول أوقاتها أفضل من التراخي فيها، لأنه إنما شرط فيها أن تكون أحب الأعمال إذا أقيمت لوقتها المستحب. اهـ. وقد اعترض ابن دقيق العيد على قول ابن بطال وقال: ليس في هذا اللفظ ما يقتضي أولا ولا آخرا، وكأن المقصود به الاحتراز عما إذا وقعت قضاء. اهـ وتعقب بأن إخراجها عن وقتها محرم، ولفظ "أحب" يقتضي المشاركة في الاستحباب، فيكون المراد الاحتراز عن إيقاعها آخر الوقت. وأجيب على التعقيب بأن المشاركة إنما هي بالنسبة إلى الصلاة وغيرها من الأعمال، فإن وقعت الصلاة في وقتها كانت أحب إلى الله من غيرها من الأعمال، فوقع الاحتراز عما إذا وقعت خارج وقتها من معذور كالنائم والناسي، فإن إخراجهما لها عن وقتها لا يوصف بالتحريم، ولا يوصف بكونه أفضل الأعمال مع كونه محبوبا، لكن إيقاعها في الوقت أحب. اهـ. فتح الباري. ونحن مع ابن بطال في أن أفضل الأعمال الصلاة في أول وقتها لأن مجموع الروايات ["الصلاة لوقتها" و"الصلاة على مواقيتها" و"الصلاة على وقتها"] ترجح أن اللام للابتداء أو للاستقبال كما قلنا، لتتوافق مع الاستعلاء المأخوذ من "على" وتبعد أن اللام بمعنى "في" خصوصا وقد جاء التصريح بأول الوقت" الصلاة في أول وقتها" فيما أخرجه الحاكم والدارقطني والبيهقي عن علي بن حفص الذي قال عنه الحافظ ابن حجر: إنه شيخ صدوق من رجال مسلم: وهذا لا يمنع فضل الصلاة في وقتها، لكن الصلاة في أول وقتها أفضل من الصلاة في آخر وقتها ومن جميع الأعمال. أما بر الوالدين فقد وضحه القرآن الكريم بقوله تعالى: {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا} [العنكبوت: 8]. وبقوله: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا} [الإسراء: 23، 24].

واقتضت الآيات الوصية بالوالدين والأمر بطاعتهما ولو كانا كافرين إلا إذا أمرا بالشرك فتجب معصيتهما في ذلك، عملا بقوله تعالى: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا} [لقمان: 15]. وقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: حلفت أم سعد لا تكلمه أبدا حتى يكفر بدينه، قالت: زعمت أن الله أوصاك بوالديك، فأنا أمك وأنا آمرك بهذا فنزلت {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما} [العنكبوت: 8]. وفي رواية: "قالت أمه: يا سعد لن آكل ولن أشرب حتى أموت، فتعير بي بين العرب، فيقال لك: يا قاتل أمه. فقال سعد: يا أماه. والله لقد علم العرب أنني أبر الناس بأمي، ولكن لو أن لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما رجعت عن ديني". وقد اختلف العلماء في تقديم حق الأم في البر على الأب، فذهب الجمهور إلى أن للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر، أخذا من الحديث الصحيح أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال: "يا رسول الله. من أحق بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك" ومن الحديث الصحيح أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بآبائكم، ثم يوصيكم بالأقرب فالأقرب". قال الجمهور: وكان ذلك لصعوبة الحمل، ثم الوضع، ثم الرضاع. فهذه تنفرد بها الأم وتشقى بها، ثم تشارك الأب في التربية. وقد وقعت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى: {ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} [الأحقاف: 15] فسوى بينهما في الوصاية وخص الأم بالأمور الثلاثة. ونقل بعضهم عن مالك أنهما في البر سواء، أخذا مما روي عنه أنه سأله رجل قال: طلبني أبي فمنعتني أمي؟ قال مالك: "أطع أباك ولا تعص أمك" قال ابن بطال: هذا يدل على أنه يرى أن برهما سواء، إذ قال الليث حين سئل عن المسألة بعينها، قال: أطع أمك، فإن لها ثلثي البر، قال الحافظ ابن حجر: والصواب رأي الجمهور. وعندي أن بعض الأمهات في بعض البلاد متخلفات العقل، قاصرات في التفكير، قد تأمر ابنها بما يضر دينه ودنياه، وتنهاه عما يصلح حاله. قد تأمره بزواج قريبتها وهو لا يهواها وليست بكفء لحاله، وقد تنهاه عن الزواج لمجرد حرصها على إبقائه في أحضانها، فطاعة الأم، وكذا طاعة الأب -بعد كمال رشد الابن- ليست على الإطلاق. ومع هذا ينبغي على الابن أن يعمل على إرضائهما، مع المحافظة على ما يصلحه في الدين والدنيا. ولا يتعارض هذا الرأي مع بر الوالدين، ولا مع توقف الجهاد على إذن الأبوين، لأن الجهاد الذي يتوقف على إذن الوالدين هو فرض الكفاية، والذي يصير غير واجب على من له

أبوان إذا قام به غيره. وبر الوالدين واجب عيني، فصح توقف هذا الجهاد على إذنهما. على أن هذا الجهاد يحرم الأبوين من البر زمنا قد يطول، بخلاف عصيان بعض أوامرهما لمصلحته، فإنه لا يحرمهما من البر والإحسان، ولا من طاعتهما في تعليماتهما الأخرى. وستأتي تتمة لهذا البحث في شرح الحديث الذي يلي الحديث الآتي. أما عدم ذكر الإيمان بالله في الحديث فقد أجاب عنه ابن دقيق العيد حيث قال: الأعمال في هذا الحديث محمولة على البدنية، وأراد بذلك الاحتراز عن الإيمان لأنه من أعمال القلوب، فلا تعارض بين هذا الحديث وبين حديث أبي هريرة السابق. أما تقديم الصلاة على البر فلأن الصلاة شكر لله والبر شكر للوالدين، وشكر الله مقدم على شكر الوالدين، موافقة لقوله تعالى: {أن أشكر لي ولوالديك إلي المصير} [لقمان: 14]. وأما تقديم البر على الجهاد فلأن المراد من الجهاد هنا غير فرض العين، وهو يتوقف على إذن الوالدين. بل يقدم بر الوالدين عليه، فقد روى النسائي أن جاهمة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله .. أردت الغزو وجئت لأستشيرك. فقال: هل لك من أم؟ قال: نعم قال: الزمها" ولمسلم عن عبد الله بن عمرو في نحو هذه القصة "ارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما" ولأبي داود عن عبد الله بن عمرو" ارجع فأضحكهما كما أبكيتهما" ولأبي داود أيضا "ارجع فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما". قال جمهور العلماء: يحرم الجهاد إذا منع الأبوان أو أحدهما، بشرط أن يكونا مسلمين، لأن برهما فرض عين عليه، والجهاد فرض كفاية، فإذا تعين الجهاد فلا إذن. قال الحافظ ابن حجر بعد أن ساق هذه الأحاديث: واستدل بهذا على تحريم السفر بغير إذنهما، لأن الجهاد إذا منع مع فضيلته فالسفر المباح أولى. نعم إن كان سفره لتعلم فرض كفاية ففيه خلاف. اهـ. قال الطبري: إنما خص صلى الله عليه وسلم هذه الثلاثة بالذكر لأنها عنوان على ما سواها من الطاعات، فإن من ضيع الصلاة المفروضة حتى يخرج وقتها في غير عذر مع خفة مؤونتها عليه، وعظم فضلها، فهو لما سواها أضيع، ومن لم يبر والديه مع وفور حقهما عليه، كان لغيرهما أقل برا، ومن ترك جهاد الكفار مع شدة عداوتهم للدين، كان لجهاد غيرهم من الفساق أترك. فظهر أن الثلاثة تجتمع في أن من حافظ عليها كان لما سواها أحفظ، ومن ضيعها كان لما سواها أضيع. اهـ. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - أن أعمال البر يفضل بعضها بعضا. 2 - جواز السؤال عن مسائل متعددة في وقت واحد.

3 - الرفق بالعالم والتوقف عن الإكثار عليه خشية الملل. 4 - ما كان عليه الصحابة من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم والشفقة عليه. 5 - ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من إرشاد المسترشدين ولو شق عليه. 6 - وفيه حسن المراجعة في السؤال. 7 - وفيه جواز إخبار الإنسان عما لم يقع أنه لو كان كذا لوقع كذا. 8 - ويؤخذ من قول الراوي "وأشار إلى دار عبد الله وما سماه لنا" أن الإشارة تنزل منزلة التصريح إذا كانت مفهمة معينة المشار إليه مميزة له عن غيره. والله أعلم

(50) باب أعظم الذنوب الشرك بالله -ثم قتل الابن -ثم الزنا بحليلة الجار

(50) باب أعظم الذنوب الشرك بالله -ثم قتل الابن -ثم الزنا بحليلة الجار 146 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم عند الله؟ قال "أن تجعل لله ندا وهو خلقك" قال قلت له: إن ذلك لعظيم. قال قلت: ثم أي؟ قال "ثم أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك" قال قلت: ثم أي؟ قال "ثم أن تزاني حليلة جارك". 147 - عن عمرو بن شرحبيل قال: قال عبد الله رضي الله عنه قال رجل: يا رسول الله! أي الذنب أكبر عند الله؟ قال "أن تدعو لله ندا وهو خلقك" قال: ثم أي؟ قال "أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك" قال: ثم أي؟ قال "أن تزاني حليلة جارك" فأنزل الله عز وجل تصديقها {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما} [الفرقان: 68]. -[المعنى العام]- وكما حرص الصحابة رضي الله عنهم على معرفة أفضل الأعمال التي تقرب من الجنة ليعملوا بها حرصوا على معرفة أعظم الذنوب وأكبرها وترتيبها في العظم ليجتنبوها، وليتقوا النار بالبعد عنها. فهذا عبد الله بن مسعود الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال في الحديث السابق يسأله عن أعظم الذنوب عند الله، فيقول له صلى الله عليه وسلم: أعظم الذنوب عند الله أن تشرك بالله وتجعل له ندا، مع أنه لا شريك له، خلقك فسواك فعدلك، في أي صورة ما شاء ركبك، واستعظم عبد الله بن مسعود هذه الجريمة، فقال: حقا يا رسول الله إن ذلك الذنب لعظيم جدا، فأخبرني عن الذنب الذي يليه في العظم؟ قال صلى الله عليه وسلم: أعظم الذنوب بعد الإشراك بالله أن تقتل ولدك وتئده في الحفرة خشية إملاق، وخوف أن يأكل معك، ويشاركك طعامك. قال ابن مسعود: ثم أي الذنوب أعظم بعد الإشراك وقتل الأولاد؟ قال صلى الله عليه وسلم: أعظم الذنوب بعد الإشراك وقتل الأولاد أن تزني بزوجة جارك، وتنتهك حرمات الجوار، وترتكب الزنا مع من يجب عليك حمايتها من الفاحشة، ووقايتها من السوء، وأنزل الله تعالى مصداقا لهذا الحديث قوله: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر

ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا} [الفرقان: 68 - 69]. -[المباحث العربية]- (أي الذنب أعظم؟ ) أي أشد عقوبة، وكذا "أي الذنب أكبر"؟ أي عقوبة. والسؤال عن أعظم الذنوب ليقع التحرز منه أكثر من غيره. (أن تجعل) المخاطب عبد الله بن مسعود، وهو غير مقصود والمعنى أن يجعل الإنسان لله ندا، والمصدر المنسبك من أن والفعل خبر مبتدأ محذوف، تقديره أعظم الذنب جعلك. (لله ندا) الند بكسر النون وتشديد الدال، ويقال له: النديد أيضا هو نظير الشيء الذي يعارضه في أموره، فهو أخص من المثل، لأنه المثل المناوئ من ند إذا نفر وخالف، فإن قيل: يلزم أن يكون غير المناوئ غير منهي عنه لأنه لا يلزم من النهي عن الأخص النهي عن الأعم مع أن المثل منهي عن اتخاذه خالف أو لم يخالف؟ أجيب، بأن التعبير بالند من قبيل قوله تعالى: {وما ربك بظلام للعبيد} [فصلت: 46] اهـ قاله الأبي، وقال الجوهري: ند الشيء من يشاركه في جوهره، أما المثل فيقال في أي مشاركة سواء كانت في الجوهر أو في غيره، فكل ند مثل وليس كل مثل ندا. أما الضد فهو أحد المتقابلين، والمتقابلان هما الشيئان المختلفان اللذان لا يجتمعان في شيء واحد، فالضد والند يتوافقان في المعارضة، فالند معارض والضد معارض، ويختلفان في المشاركة، فالند مشارك في الجوهر والضد غير مشارك. اهـ بتصرف. (وهو خلقك) الضمير لله تعالى، والجملة حالية لتقبيح الجعل. (ثم أي؟ ) يعني أي شيء أعظم؟ فالتنوين للعوض، و"ثم" ليست للترتيب في الزمان، إذ لا يتصور فيه، ولا في الرتبة لأن شرطه كون المعطوف أعظم، بل هي للترتيب في الإخبار. قاله الأبي، وفيه: لأن الترتيب كما يكون تصاعديا يكون تنازليا، لكن يبدو أنه لما فسر (ثم أي؟ ) بقوله: ثم أي شيء أعظم؟ ، قال ما قال. والتحقيق أن معناه: ثم أي شيء أقل عظما؟ فثم للترتيب الرتبي. (أن يطعم معك) بفتح الياء: أي يأكل، وهو معنى قوله تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق} [الإسراء: 31] أي فقر. وذكر الإطعام لأنه كان الأغلب في حال العرب، ومعنى "مخافة أن يطعم معك" أي من جهة إيثار نفسه عليه عند عدم ما يكفي، أو من جهة البخل مع سعة الرزق، والأول هو الموافق للآية. (أن تزاني) أي أن تزني برضاها، فالمفاعلة من الجانبين، ولعله أشد قبحا من اغتصابها لما فيه من إفسادها على زوجها واستمالة قلبها إلى الزاني. (حليلة جارك) بالحاء المهملة أي زوجته، سميت بذلك لكونها تحل له، وقيل: لكونها تحل معه.

(فأنزل الله تصديقها) هذا من كلام ابن مسعود، أي تصديق هذه الحالة وتلك المراتب. (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر) المراد من الدعاء النداء أو العبادة أو الاعتقاد. {ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق} المراد من "التي حرم الله" قتلها، هي المعصومة، وقوله "إلا بالحق" استثناء من عموم الأحوال أي محقين في قتلها. {ومن يفعل ذلك} الإشارة إلى كل واحد من الذنوب السابقة، لا إلى مجموعها لأن من يفعل واحدا منها يلق أثاما. {يلق أثاما} أي عقوبة، وقيل: "نكالا" وقيل: جزاء إثمه. -[فقه الحديث]- لا خلاف بين أهل الإسلام أن الإشراك بالله أعظم الزنوب على الإطلاق، والجمهور على أن القتل بغير حق أكبر الكبائر بعد الشرك، وأما ما سواهما من الزنا، واللواط، وعقوق الوالدين، والسحر، وقذف المحصنات، والفرار يوم الزحف، وأكل الربا، وغير ذلك من الكبائر، فلها تفاصيل وأحكام ومراتب تختلف باختلاف الأحوال والمفاسد المترتبة عليها. وإذا كان قتل النفس بغير حق يلي الإشراك بالله فأقبحه قتل الابن، لأنه ضد ما جبلت عليه طبيعة الآباء من الرقة، فلا يقع إلا من جافي الطبع، لا سيما إذا كان القتل عن طريق الدفن حيا كما كانوا يفعلون. فذكر الولد قيد في كون القتل أقبح، وكون الدافع مخافة أن يطعم معك زيادة في هذا القبح. ولا خلاف في أن الزنا مطلقا من أقبح وأعظم الذنوب، لكنه قد تلابسه ملابسات تزيد من قبحه، وتضاعف من عقوباته، فمثلا: الزنا بالأم في الحرم في الأشهر الحرم غير الزنا بأجنبية في غير الحرم وفي غير الأشهر الحرم، فللأول عقوبات متعددة (عقوبة كون المزني بها محرما، بل أقرب المحارم، وعقوبة انتهاك حرمة المسجد الحرام، وعقوبة انتهاك حرمة الأشهر الحرم) ولم يأت الحديث بهذا التنظير لأنه فرضي بعيد الوقوع، وإنما نظر بحليلة الجار، لأن الغالب أن الرجل إنما يزاني من قرب مكانه وأمكن لقاؤه، ونبه بالحليلة على عظم حق الجار، وأنه يجب أن يغار المسلم على حليلة جاره من الفاحشة مثل ما يغار على حليلة نفسه، وليس القبح قاصرا على الحليلة، بل يشمل الزنا بأم أو أخت أو بنت الجار، فذكر الحليلة جرى على الغالب. أما ذكر الجار فهو لشدة القبح، لأنه يحمل إثم انتهاك حرمة الجار وإبطالا لحقه، وقد ورد "لأن يزني أحد بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره". وكانت العرب تمتدح بصون حرم الجار، فقال عنترة: وأغض طرفي ما بدت لي جارتي ... حتى يواري جارتي مأواها

والجار إنما يتوقع من جاره الذب عنه وعن حريمه، ويأمن بوائقه ويطمئن إليه، وقد أمر بإكرامه والإحسان إليه، فإذا قابل هذا كله بالزنا بامرأته، وإفسادها عليه مع تمكنه منها على وجه لا يتمكن غيره منه كان في غاية القبح. قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر أن كلا من الثلاثة (أن تجعل لله ندا .. وأن تقتل ولدك ... وأن تزاني حليلة جارك) على ترتيبها في العظم، ولو جاز أن يكون فيما لم يذكره شيء يتصف بكونه أعظم منها لما طابق الجواب السؤال. نعم يجوز أن يكون فيما لم يذكر شيء يساوي ما ذكر، فيكون التقدير: في المرتبة الثانية بعد الإشراك قتل الابن وما يكون في الفحش مثله، وفي المرتبة الثالثة الزنا بحليلة الجار وما يكون في الفحش مثله أو نحوه، لكن يستلزم أن لا يكون فيما لم يذكر في المرتبة الأولى أو الثانية شيء هو أعظم مما ذكر في المرتبة الثالثة، ولا محذور في ذلك. انتهى بتصرف. ويؤخذ مما قال: أن هناك ذنوبا أعظم من المرتبة الثالثة ولم تذكر هذه الذنوب، ولو أنها ذكرت لسبقت الزنا بحليلة الجار، فكأن الترتيب هكذا بين هذه الثلاثة إن اقتصر عليها، وقد سبق أن قلنا: إن الإشراك أعظم الذنوب على الإطلاق وإن قتل الولد يليه ثم يختلف عظم الذنوب بعد ذلك باختلاف الملابسات والأضرار المترتبة عليها. والآية التي نزلت تصديقا لترتيب هذه الذنوب تعرضت للتوبة وأنها ترفع الآثام، إذ تقول: {ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما} [الفرقان: 68 - 70]. وإذا تركنا جانبا رأي الخوارج الذين يكفرون صاحب المعصية، ورأي المعتزلة الذين يخرجونه من الإيمان ويحكمون بخلوده في النار، إذا تركنا جانبا هذين الرأيين وجدنا أهل السنة على أن كلا من القاتل والزاني تقبل توبته، ونقل عن ابن عباس القول بعدم قبول توبة القاتل المتعمد، إذ روى أحمد، والطبري، وابن ماجه عن سالم بن أبي الجعد قال: كنت عند ابن عباس بعد ما كف بصره، فأتاه رجل فقال: ما ترى في رجل قتل مؤمنا متعمدا قال: "جزاؤه جهنم خالدا فيها". وساق الآية إلى "عظيما" قال: أفرأيت إن تاب وآمن وعمل عملا صالحا ثم اهتدى؟ قال: وأنى له التوبة والهدى؟ ويؤيد هذا الرأي ما أخرجه أحمد والنسائي عن معاوية: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا، والرجل يقتل مؤمنا متعمدا". قال الحافظ ابن حجر: وقد حمل جمهور السلف وجميع أهل السنة ما ورد من ذلك على التغليظ وصححوا توبة القاتل كغيره، وقالوا: معنى قوله: "فجزاؤه جهنم" أي إن شاء الله أن يجازيه، تمسكا بقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48] ثم قال: ومن الحجة في ذلك حديث الإسرائيلي الذي قتل تسعة وتسعين نفسا، ثم أتى تمام المائة فقال له: لا توبة لك، فقتله فأكمل به مائة، ثم جاء آخر فقال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟ الحديث. وهو مشهور. وإذا ثبت ذلك لمن قبلنا فمثله لهذه الأمة أولى، لما خفف الله عنهم من الأثقال التي كانت على من قبلهم. والله أعلم

(51) باب أكبر الكبائر الإشراك بالله -وعقوق الوالدين- وشهادة الزور

(51) باب أكبر الكبائر الإشراك بالله -وعقوق الوالدين- وشهادة الزور 148 - عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ (ثلاثا) الإشراك بالله وعقوق الوالدين. وشهادة الزور، (أو قول الزور) " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس. فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت. 149 - عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، في الكبائر قال "الشرك بالله. وعقوق الوالدين. وقتل النفس. وقول الزور". 150 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر (أو سئل عن الكبائر) فقال "الشرك بالله. وقتل النفس. وعقوق الوالدين" وقال "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ " قال "قول الزور (أو قال شهادة الزور) " قال شعبة: وأكبر ظني أنه شهادة الزور. -[المعنى العام]- ومرة أخرى يسأل الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكبر الكبائر، ومرة أخرى يجيب صلى الله عليه وسلم جوابا يختلف عن الجواب الأول مراعاة لمقتضيات الأحوال. نعم اتفق الجوابان على أن أعظم الذنوب وأكبر الكبائر الإشراك بالله. واختلف الجوابان في الثاني والثالث، فالحديث السابق جعل المرتبة الثانية قتل الولد، والثالثة الزنا بحليلة الجار، وهذا الحديث في روايته الأولى جعل المرتبة الثانية عقوق الوالدين، والثالثة شهادة الزور، وفي روايتيه الثانية والثالثة أضاف قتل النفس، مرة بعد عقوق الوالدين، ومرة قبله ومع أن الحديث في مجموع رواياته قد قدم عقوق الوالدين على شهادة الزور، فإنه أعطاها من الأهمية ما يجعلها في الدرجة العليا من الكبائر، لما يلابسها من أخطار جسام، فمرة نبه إلى هذه الأهمية باعتدال الجلسة، واستجماع وسائل اليقظة والانتباه، ومرة كرر شهادة الزور مسبوقة بأداة التوكيد والاستفتاح، ومرة صدرها بتوكيد خاص (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ) عافانا الله منها ومن الكبائر عامة، وأعاننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.

-[المباحث العربية]- (ألا أنبئكم) بالتشديد والتخفيف، أي ألا أخبركم و"ألا" - بفتح الهمزة وتخفيف اللام- للتنبيه والإشارة إلى أهمية ما بعدها، وهو في الأصل مركب من همزة الاستفهام و"لا" النافية، وهل فهمه الصحابة على الاستفهام فأجابوا؟ أو حمله الرسول على التنبيه فأخبر دون أن يجيبوا؟ الظاهر الأول، لرواية البخاري في كتاب الأدب "قلنا: بلى يا رسول الله" ويكون حذفه من رواياتنا اختصارا من الرواة. (بأكبر الكبائر) جمع كبيرة، وهي الفعلة القبيحة، فهي في الأصل صفة لموصوف محذوف، وفي المراد منها شرعا خلاف يأتي في فقه الحديث. (ثلاثا) مفعول لقال. أي قال لهم صلى الله عليه وسلم ذلك ثلاث مرات وكرره على عادته في تكرير الشيء ثلاث مرات تأكيدا وتنبيها للسامع على إحضار قلبه وفهمه للخبر الذي يذكره. (الإشراك بالله) قال ابن دقيق العيد: يحتمل أن يراد به مطلق الكفر [فيشمل منكر الألوهية، ومثبتها مع إنكار الرسالة واليوم الآخر] ويكون تخصيصه بالذكر لغلبته في الوجود لا سيما في جزيرة العرب، فذكر تنبيها على غيره من أصناف الكفر، ويحتمل أن يراد به خصوصه، إلا أنه يرد على هذا الاحتمال أنه قد يظهر أن بعض الكفر أعظم من الشرك، وهو التعطيل فيترجح الاحتمال الأول. اهـ. (وعقوق الوالدين) -بضم العين المهملة- مشتق من العق: وهو القطع، يقال: عق والده يعقه- بضم العين- فهو عاق: وهو الذي شق عصا الطاعة لوالديه، هذا قول أهل اللغة، وأما حقيقة العقوق المحرم شرعا، ففيه خلاف طويل يأتي في فقه الحديث. (وشهادة الزور، أو قول الزور) أصل "الزور" تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته حتى يخيل إلى من سمعه أو رآه بخلاف ما هو به، فهو تمويه الباطل بما يوهم أنه حق، وقد يضاف إلى القول، فيشمل الكذب والباطل، وقد يضاف إلى الشهادة فيخص بها، وقد يضاف إلى الفعل، ومنه: لابس ثوبي زور، ومنه تسمية الشعر الموصول زورا، وجاء في رواية "قول الزور أو شهادة الزور" بتقديم القول على الشهادة، وفي رواية بالواو بدل "أو" وفي رواية "شهادة الزور" وفي رواية "ألا قول الزور" دون عطف إحداهما على الأخرى، وسيأتي طريق الجمع بين هذه الروايات. (وكان متكئا فجلس) وفي رواية "وجلس وكان متكئا" الاتكاء: الاضطجاع على الجنب، أو هو الاعتماد على الشيء بالجنب واليد، كوضع اليد على وسادة مع تجافي الجنب عن الأرض، فالاضطجاع اتكاء وزيادة. وجلوسه صلى الله عليه وسلم من اتكائه يشعر بأنه اهتم بذلك حتى جلس بعد أن كان متكئا، وذلك يفيد تأكيد تحريمه وعظم قبحه وسيأتي سبب الاهتمام به.

(فما زال يكررها) أي يكرر هذه العبارة، أو هي "شهادة الزور". (حتى قلنا: ليته سكت) أي حتى قلنا ذلك في أنفسنا دون نطق، أي حتى تمنينا سكوته. -[فقه الحديث]- قرن الله تعالى العقوق بالشرك في قوله: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا} [الإسراء: 23، 24]. وقرن قول الزور بالشرك في قوله: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور} [الحج: 30]. أما عقوق الوالدين المحرم شرعا فقل من ضبطه. قال الإمام الشيخ أبو محمد بن عبد السلام: لم أقف في عقوق الوالدين، وفيما يختصان به من الحقوق على ضابط أعتمد عليه، فإنه لا يجب طاعتهما في كل ما يأمران به وينهيان عنه باتفاق العلماء. وقد حرم على الولد الجهاد بغير إذنهما لما يشق عليهما من توقع قتله أو قطع عضو من أعضائه، ولشدة تفجعهما على ذلك، وقد ألحق بذلك كل سفر يخافان فيه على نفسه أو عضو من أعضائه. وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح في فتاويه: العقوق المحرم كل فعل يتأذى به الوالد - أو نحوه - تأذيا ليس بالهين مع كونه ليس من الأفعال الواجبة. قال: وربما قيل: طاعة الوالدين واجبة في كل ما ليس بمعصية، ومخالفة أمرهما في ذلك عقوق، وقد أوجب كثير من العلماء طاعتهما في الشبهات قال: وليس قول من قال من علمائنا: يجوز له السفر في طلب العلم وفي التجارة بغير إذنهما مخالفا لما ذكرته، فإن هذا كلام مطلق، وفيما ذكرته بيان لتقييد ذلك المطلق. وضبطه ابن عطية بوجوب طاعتهما في المباحات، فعلا وتركا، واستحبابها في المندوبات وفرض الكفاية كذلك، ومنه تقديمها عند تعارض الأمرين، وهو كمن دعته أمه ليمرضها مثلا بحيث يفوت عليه فعل واجب إن استمر عندها، ويفوت ما قصدته من تأنيسه لها وغير ذلك أن لو تركها وفعله، وكان مما يمكن تداركه مع فوات الفضيلة كالصلاة أول الوقت أو في الجماعة. أما شهادة الزور أو قول الزور فقد قال ابن دقيق العيد: إن عطف الشهادة على القول ينبغي أن يكون تأكيدا للشهادة، لأنا لو حملناه على الإطلاق لزم أن تكون الكذبة الواحدة مطلقا كبيرة، وليس كذلك، فمراتب الكذب متفاوتة بحسب تفاوت مفاسده. وقال غيره: يجوز أن يكون من عطف الخاص على العام، لأن كل شهادة زور قول زور بغير عكس. قال الحافظ ابن حجر: والأولى ما قاله ابن دقيق العيد، ويؤيده وقوع الشك في ذلك في بعض الروايات، مما يدل على أن المراد شيء واحد، وهو شهادة الزور. وظاهر قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الثالثة: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قال: قول الزور"

ظاهره أنه خص أكبر الكبائر بقول الزور، وليس هذا الظاهر مرادا، لأن الشرك أكبر منه بلا شك، وكذا القتل، ثم إن الرواية الأولى تؤذن بأن الثلاثة المذكورات مشتركات في ذلك، فلا بد من تأويله، وفي تأويله ثلاثة أوجه: أحدها: أنه محمول على الكفر فإن الكافر شاهد بالزور وعامل به. الثاني: أنه محمول على المستحل، فيصير بذلك كافرا. الثالث: أن كلمة "من" مقدرة كما تقدم في نظائره أي ألا أنبئكم بما هو من أكبر الكبائر. قال النووي: وهذا الثالث هو الظاهر أو الصواب، فأما حمله على الكفر فضعيف، لأن هذا خرج مخرج الزجر عن شهادة الزور في الحقوق، وأما قبح الكفر وكونه أكبر الكبائر فكان معروفا عندهم، ولا يتشكك أحد من أهل القبلة في ذلك، فحمله على الكفر يخرجه من الفائدة. وإنما اهتم صلى الله عليه وسلم بشهادة الزور فوق اهتمامه بسائر الكبائر لأنها أسهل وقوعا على الناس، والتهاون بها أكثر، ومفسدتها أيسر وقوعا فإن الشرك ينبو عنه المسلم، والعقوق ينبو عنه الطبع، وأما شهادة الزور فإن الحوامل عليها كثيرة، كالعداوة والحسد وغيرها، ومفسدتها متعدية إلى غير الشاهد، فاحتيج إلى الاهتمام بتعظيمها، وليس ذلك لعظمها بالنسبة إلى ما ذكر معها من الإشراك. وكان الزور من الكبائر لأنه يتوصل به إلى إتلاف النفس والمال وتحريم الحلال وتحليل الحرام. وظاهر الأحاديث أنه لا فرق في كون شهادة الزور كبيرة بين أن تكون بحق عظيم أو حقير، حتى لو أتلف بها اليسير، وقال عز الدين: إنما ذلك إذا أتلف بها خطير، وقد يضبط بنصاب السرقة، فإن نقص احتمل أن يكون من الكبائر فطاما عن هذه المفاسد، وسدا للباب. وقد اختلفت الروايات فيما يلي الشرك من الكبائر، ففي بعضها العقوق، وفي بعضها القتل، وفي بعضها السحر، وقد ذكرت بعض الروايات أمورا لم تذكرها الأخرى. قال النووي: ووجه الجمع أنه إنما اختلف جوابه صلى الله عليه وسلم في ذلك، لأن جوابه كان بحسب ما الحاجة إلى بيانه حينئذ أمس، أي لكثرة ارتكابه أو خوف مواقعته. وقال الطحاوي: يضم ما جعل ثاني الشرك في طريق إلى ما جعل ثانيا في الأخرى، ويجعلان في درجة واحدة من الإثم، وكذا ما جعل ثالثا. اهـ. والتحقيق أن الشيء الواحد قد يختلف في الإثم باختلاف ظروفه وملابساته وما يترتب عليه من مفاسد، فالغيبة بالقذف كبيرة، ولا تساويها الغيبة بقبح الهيئة مثلا، والعقوق بالضرب كبيرة، ولا يساويه العقوق بمخالفة أمرهما في الأكل والشرب مثلا، وقتل النفس الصالحة التي تختل بقتلها أمور المسلمين في المسجد الحرام وفي الأشهر الحرم كبيرة، ولا يساويه قتل نفس فاجرة ترتاح من شرورها كثرة من الآمنين.

فاختلف جوابه صلى الله عليه وسلم في ترتيب الكبائر التي تلي الشرك لأن كلا مما يليه في بعض الروايات يكون أحق بأن يكون ثانيا في بعض الأحوال. ولا انحصار لأكبر الكبائر في عدد معين، كما أنه لا انحصار للكبائر كذلك في عدد محدود، فقد سئل ابن عباس عن الكبائر: أسبع هي؟ فقال: هي إلى سبعين (ويروى: إلى سبعمائة) أقرب. ولا خلاف في تقسيم الذنوب إلى كبائر وأكبر الكبائر، ولكن الخلاف في تقسيمها إلى كبائر وصغائر، فقد ذهبت طائفة منهم أبو إسحاق الإسفراييني إلى أنه ليس في الذنوب صغيرة، بل كل ما نهى الله عنه كبيرة، ونقل ذلك عن ابن عباس وحكاه القاضي عياض عن المحققين، واحتجوا بأن كل مخالفة لله فهي بالنسبة إلى جلاله كبيرة، ونسبه ابن بطال إلى بعض الأشعرية فقال: انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر هو قول عامة الفقهاء، وخالفهم من الأشعرية أبو بكر بن الطيب وأصحابه، فقالوا: المعاصي كلها كبائر، وإنما يقال بعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها، كما يقال: القبلة المحرمة صغيرة بإضافتها إلى الزنا، وكلها كبائر، قالوا: ولا ذنب عندنا يغفر باجتناب ذنب آخر، بل كل ذلك كبيرة، ومرتكبه في المشيئة غير الكفر، لقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48] قالوا: وجواز العقاب على الصغيرة كجوازه على الكبيرة. وذهب الجمهور إلى انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر. قال النووي: قد تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنة إلى القول بأن من الذنوب كبائر ومنها صغائر. وقال الغزالي: إنكار الفرق بين الكبيرة والصغيرة لا يليق بالفقيه. وقال القرطبي: ما أظنه يصح عن ابن عباس أن كل ما نهى الله عز وجل عنه كبيرة لأنه مخالف لظاهر القرآن في الفرق بين الصغائر والكبائر في قوله: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم} [النجم: 32]. وقوله: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} [النساء: 31] في المنهيات صغائر وكبائر، وفرق بينهما في الحكم إذ جعل تكفير السيئات في الآية مشروطا باجتناب الكبائر، واستثنى اللمم من الكبائر والفواحش فكيف يخفى ذلك على حبر القرآن. اهـ. قال النووي بعد اختياره رأي الجمهور: واختلفوا في ضبط الكبيرة اختلافا منتشرا، فروي عن ابن عباس: أنها كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب. قال: وجاء نحو هذا عن الحسن البصري. وقال آخرون: هي ما أوعد الله عليه بنار في الآخرة، أو أوجب فيه حدا في الدنيا، وممن نص على هذا الأخير الإمام أحمد، ومن الشافعية الماوردي. وقد ضبط كثير من الشافعية الكبائر بضوابط أخرى، منها قول إمام الحرمين: كل جريمة تؤذن بقلة اكثراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة. وقول الحليمي: كل محرم لعينه منهي عنه لمعنى في نفسه، وقال الرافعي: هي ما أوجب الحد واستشكل بأن كثيرا مما وردت النصوص بكونه كبيرة لا حد فيه كالعقوق.

ومن أحسن الضوابط، وهو الذي تستريح إليه النفس، ما قال القرطبي في المفهم، ونصه: الراجح أن كل ذنب نص على كبره أو عظمه أو توعد عليه بالعقاب، أو علق عليه حد، أو شدد النكير عليه فهو كبيرة. اهـ. ومما ورد النص بكونه كبيرة (غير ما ورد في حديثنا) السحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات، واليمين الفاجرة، والإلحاد في الحرم أو استحلال البيت الحرام، وشرب الخمر، والسرقة، والتعرب بعد الهجرة، وفراق الجماعة، ونكث الصفقة، والغلول، والزنا، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، والبهتان، والألد الخصم، والمنان، والديوث، ومن غير منار الأرض، والنميمة، والغيبة، وترك التنزه عن البول، والنهبة، ومنع فضل الماء، ومن أتى حائضا أو كاهنا، والتسبب في لعن الوالدين، وما لم يرد فيه نص على كونه كبيرة مع كونه كبيرة لا ضابط له، وما نشك في كونه كبيرة يجب البعد عنه حذرا أن يكون كذلك. قال الواحدي: ما لم ينص الشارع على كونه كبيرة فالحكمة في إخفائه أن يمتنع العبد من الوقوع فيه خشية أن يكون كبيرة. كإخفاء ليلة القدر. اهـ. وهذا ومع إيماننا بانقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر يجب أن نستشعر أن الذنب قد يعد بالنسبة إلى حق الأقران والزملاء صغيرة، ولكنه في حق الملك يكون كبيرة، والرب أعظم من عصي، فكل ذنب بالإضافة إلى مخالفته عظيم. ثم إن الإصرار على الصغيرة، والإكثار من الصغائر يجعلها كبائر، لأن نفس الإصرار على العصيان كبيرة، ولأن التكرار أو الإكثار من الصغائر يؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين، فقد روي عن ابن عمر وابن عباس وغيرهما رضي الله عنهما: "لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار" قال ابن عبد السلام: وحد الإصرار هو أن تتكرر منه الصغيرة تكرارا يشعر بقلة مبالاته بدينه، إشعار ارتكاب الكبيرة بذلك. أما ما يحمل على فلتات النفس أو اللسان، ولا ينفك عن تندم يمتزج به تنغيص التلذذ بالمعصية فهو صغيرة، على أن ما يعد صغيرة في حق البعض قد يعد كبيرة في حق الآخرين، فهفوة الجهلاء والفاسقين ليست كهفوة العلماء والصالحين، وما لا يعد معصية في حق العامة قد يعد ذنبا في حق الأنبياء، ومن هنا قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - قال ابن دقيق العيد: يستفاد من قوله: "أكبر الكبائر" انقسام الذنوب إلى كبير وأكبر، ويستنبط منه أن في الذنوب صغائر وكبائر، ولا يلزم من كون الذي ذكر أنه أكبر الكبائر استواؤها، فإن الشرك بالله أعظم من جميع ما ذكر معه. قال الحافظ ابن حجر: وفي استنباطه من الحديث أن في الذنوب صغائر وكبائر نظر، لأن من قال: كل ذنب كبيرة فالكبائر والذنوب عنده متواردات على شيء واحد، فكأنه قيل: ألا أنبئكم بأكبر الذنوب؟

2 - التحريض على مجانبة كبائر الذنوب. 3 - الزجر عن فعل ما ينهى عنه. 4 - تغليظ أمر شهادة الزور، لما يترتب عليها من المفاسد، وإن كانت مراتبها متفاوتة، وفي معناها كل ما كان زورا من تعاطي المرء ما ليس له أهلا. 5 - قال المهلب: يجوز للعالم والمفتي والإمام الاتكاء في مجلسه بحضرة الناس لألم يجده في بعض أعضائه، أو لراحة يرتفق بذلك، ولا يكون ذلك في عامة جلوسه. اهـ وأقول: إن محل ذلك حيث يرضى جلساؤه به ويحبونه، أما حيث يتأفف منه الجلساء ويستنكرونه ويحملونه على الإهمال وسوء الأدب فلا يجوز. 6 - استحباب إعادة الموعظة ثلاثا لتفهم. 7 - انزعاج الواعظ في وعظه ليكون أبلغ في الوعي عنه. 8 - إشفاق التلميذ على شيخه إذا رآه منزعجا. 9 - تمني عدم غضبه لما يترتب على الغضب من تغيير مزاجه. 10 - ما كان عليه الصحابة من كثرة الأدب معه صلى الله عليه وسلم والمحبة له والشفقة عليه. والله أعلم. هذا وللحديث صلة وثيقة بشرح الحديث الآتي فليراجع. والله أعلم

(52) باب السبع الموبقات

(52) باب السبع الموبقات 151 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات" قيل: يا رسول الله! وما هن؟ قال "الشرك بالله. والسحر. وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق. وأكل مال اليتيم. وأكل الربا. والتولي يوم الزحف. وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات". -[المعنى العام]- لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر كل مرة أسئلة أصحابه ليجيب عليها، بل كثيرا ما كان يستغل الظروف، وينتهز الفرص ليلقي النصيحة على مسامع الصحابة، ويغرس في نفوسهم الخوف من الله واستعظام المعاصي، مستخدما في ذلك أسلوب تغليظ الأمر، والاهتمام بمفاسده، ففي الحديث السابق يقول: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ وفي هذا الحديث يقول: اجتنبوا واحذروا القرب من السبع المهلكات. ويرتاع الصحابة، وتقشعر أبدانهم من هذا الوصف المخيف، فيقول قائلهم: وما هن يا رسول الله؟ فيقول: أولها: الشرك بالله الخالق القادر واهب الحياة وسابغ النعم. وثانيها: السحر والتغرير وخداع المسلمين وتزوير خلق الله. وثالثها: قتل النفس المعصومة التي حرم الله قتلها. ورابعها: أكل مال اليتيم واستغلال ضعفه وعجزه عن الدفاع عن نفسه. وخامسها: أكل الربا واستغلال حاجة المحتاج والزيادة عليه في القرض. وسادسها: الفرار جبنا أمام أعداء الإسلام حين القتال، وبث روح الخور والوهن في نفوس المسلمين المقاتلين. وسابعها: الاستهتار بأعراض المسلمين وتناولهم باللسان وطعنهم وقذفهم بالزنا من غير دليل. والحق أن كل كبيرة مما بعد الشرك تهز بنيان المجتمع الإسلامي، وتنخر في عظامه، وتقوض صرحه، وتفتت تماسكه، وتوقد النار التي تأتي عليه. ولو أننا عدنا إلى ديننا القويم، واجتنبنا هذه الموبقات وأمثالها لكانت لنا العزة والكرامة

والسيادة، ولكننا ارتكبنا كل الموبقات، فوصلنا إلى ما وصلنا إليه من الذل والهوان، وصدق الله العظيم إذ يقول: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} [الرعد: 11]. {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا} [الإسراء: 16]. فاللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، يا رب العالمين. -[المباحث العربية]- (اجتنبوا السبع الموبقات) أي ابتعدوا عنها، وهو أبلغ من "اتركوا" و"الموبقات" المهلكات من "وبق" بفتح الباء إذا هلك، ومنه قوله تعالى: {وجعلنا بينهم موبقا} [الكهف: 52] ووصف الكبائر بالمهلكات لأنها سبب لإهلاك مرتكبها. (السحر) يطلق على ما لطف ودق، ومنه سحرت الصبي أي خادعته واستملته، ومنه سحر العيون لاستمالتها النفوس، والطبيعة ساحرة، وحديث "إن من البيان لسحرا" ويطلق على ما يقع بخداع وتخييلات لا حقيقة لها، نحو ما يفعله المشعوذ من صرف الأبصار عما يتعاطاه بخفة يده، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى} [طه: 66] وقد يستعين في ذلك بما يكون فيه خاصية، "كالمغنطيس" وسيأتي الكلام عن حقيقة السحر في فقه الحديث. (أكل مال اليتيم) المراد من الأكل الاستيلاء، لا خصوص الأكل، وعبر عنه بالأكل الغالب، واليتم لغة: الانفراد، واليتيم في الأناسي من فقد أباه، وفي البهائم من فقد أمه بشرط الصغر فيهما، وقال الزمخشري: لا يشترط الصغر لغة إلا أنه غلب استعماله في الصغير، قال: وحديث "لا يتم بعد بلوغ" تعليم شريعة لا تعليم لغة. (وأكل الربا) أي تعاطيه بالأخذ أو الإعطاء، والربا لغة: الزيادة من ربا يربو، والزيادة إما في نفس الشيء، كقوله تعالى: {اهتزت وربت} [الحج: 5] وإما في مقابله كدرهم بدرهمين. قيل: هو حقيقة فيهما، وقيل: حقيقة في الأول مجاز في الثاني. (والتولي يوم الزحف) التولي: هو الانصراف والفرار، ويوم الزحف يوم القتال، وهل المراد به ساعة القتال أو وقت الدخول في أرض العدو؟ قولان. (وقذف المحصنات) أي رميهن بالزنا، والمحصنات - بكسر الصاد وفتحها قراءتان سبعيتان، وقد ورد الإحصان في الشرع على خمسة أقسام: العفة، والإسلام، والنكاح والتزويج، والحرية، والمراد هنا الحرائر العفيفات. (الغافلات) عن الفواحش، أو عما قذفن به، ووصف "الغافلات" لتغليظ الذنب، وليس قيدا للاحتراز يبيح قذف غير الغافلات.

-[فقه الحديث]- يزيد الحديث عن الحديث السابق بخمس كبائر: السحر، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات. 1 - أما السحر: فقد اختلف فيه: قيل هو تخييل فقط ولا حقيقة له، وإليه ذهب بعض الشافعية وبعض الحنفية وابن حزم الظاهري، ويؤيدهم ظاهر قوله تعالى: {يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى} [طه: 66]. وقال الجمهور: إن للسحر حقيقة. قال النووي: وهو الصحيح، وعليه عامة العلماء ويدل عليه الكتاب والسنة الصحيحة المشهورة. اهـ. وعلى القول بأن للسحر حقيقة هل يقع به انقلاب عين: بأن يتحول الشيء من حقيقة إلى حقيقة أخرى، كأن يصير الجماد حيوانا مثلا وعكسه؟ أو تأثيره فقط على الشخص المقصود، بحيث يغير مزاجه، ويؤثر في حواسه ووجدانه، فيرى الحلو مرا، والأبيض أصفر والساكن متحركا، والجميل قبيحا، والقبيح جميلا، والمحبوب مكروها، والمكروه محبوبا؟ أكثر الجمهور على الثاني، وذهبت طائفة قليلة إلى الأول، وهو ضعيف. والفرق بين السحر والمعجزة والكرامة- على القول بأن له حقيقة- أن السحر يكون بمعاناة أقوال وأفعال حتى يتم للساحر ما يريد، والكرامة لا تحتاج إلى ذلك، بل إنما تقع غالبا اتفاقا، وأما المعجزة فتمتاز عن الكرامة بالتحدي. ونقل إمام الحرمين الإجماع على أن السحر لا يظهر إلا من فاسق، وأن الكرامة لا تظهر على يد فاسق. قال الحافظ ابن حجر: وينبغي أن يعتبر بحال من يقع الخارق منه. فإن كان متمسكا بالشريعة، متجنبا للموبقات، فالذي يظهر على يده من الخوارق كرامة، وإلا فهو سحر. أما إنكار السحر إنكارا كليا فهو مكابرة، فالآيات والأحاديث المثبتة له لا يسهل تأويلها، من ذلك قوله تعالى: {واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم} [البقرة: 102] والآيات الكثيرة الخاصة بسحرة فرعون. ومن ذلك ما رواه البخاري من أن النبي صلى الله عليه وسلم سحره رجل من بني زريق يقال له: لبيد بن العصم حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله. ومع هذا ينبغي ألا نغفل عن أن كثيرا مما يطلق عليه السحر مما يفعله المشعوذة والدجالون في عصرنا الحاضر لا حقيقة له، وهو نصب واحتيال ينبني على خداع الجهلة والبسطاء بخفة في

الحركة، أو استخدام لخواص الأشياء التى يجهلها الراءون. وفي ذلك يقول القرطبي: السحر حيل صناعية يتوصل إليها بالاكتساب غير أنها لدقتها لا يتوصل إليها إلا آحاد الناس، ومادته الوقوف على خواص الأشياء والعلم بوجوه تركيبها وأوقاته وأكثرها تخيلات بغير حقيقة، وإيهامات بغير ثبوت، فيعظم عند من لا يعرف ذلك كما قال الله تعالى عن سحرة فرعون: {وجاءوا بسحر عظيم} [الأعراف: 116] مع أن حبالهم وعصيهم لم تخرج عن كونها حبالا وعصيا. اهـ. وقال أبو بكر الرازي في الأحكام: أخبر الله تعالى أن الذي ظنه موسى من أنها تسعى لم يكن سعيا وإنما كان تخييلا، وذلك أن عصيهم كانت مجوفة قد ملئت زئبقا، وكذلك الحبال كانت من أدم محشوة زئبقا، وقد حفروا قبل ذلك أسرابا وجعلوا لها آزاجا، ثم ملئت نارا فلما طرحت على ذلك الموضع، وحمى الزئبق حركها، لأن من شأن الزئبق إذا أصابته النار أن يطير، فلما أثقلته كثافة الحبال والعصي صارت تتحرك بحركته. فظن من رآها أنها تسعى ولم تكن تسعى حقيقة. اهـ. أما حكم السحر فقد قال النووي: عمل السحر حرام، وهو من الكبائر بالإجماع، وقد عده النبي صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات، ومنه ما يكون كفرا، ومنه ما لا يكون كفرا، بل معصية كبيرة، فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر، فهو كفر وإلا فلا. وأما تعلمه وتعليمه فحرام، فإن كان فيه ما يقتضي الكفر كفر واستتيب منه، وإلا يقتل، فإن تاب قبلت توبته، وإن لم يكن فيه ما يقتضي الكفر عزر، وعن مالك: الساحر كافر، يقتل بالسحر ولا يستتاب، بل يتحتم قتله كالزنديق، قال عياض: وبقول مالك قال أحمد وجماعة من الصحابة والتابعين. قال الحافظ ابن حجر: وقد أجاز بعض العلماء تعلم السحر لأحد أمرين: إما لتمييز ما فيه كفر عن غيره، وإما لإزالته عمن وقع فيه، فإن كان لا يتم - كما زعم بعضهم - إلا بنوع من أنواع الكفر أو الفسق فلا يحل له أصلا. والله أعلم. 2 - وأما أكل مال اليتيم ففيه يقول الله تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا} [النساء: 10] ويقول: {وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا} [النساء: 2] ويقول: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف} [النساء: 6] ولا خلاف في أن أكل الأجنبي من مال اليتيم كبيرة، قل الأكل أو كثر. وإنما الخلاف في ولي اليتيم والقائم على ماله هل له أن يأكل منه أو لا؟ . وظاهر الحديث العموم فيشمل الولي وغير الولي، وسواء في ذلك كون الولي غنيا أو فقيرا، وبه قال قوم، وأجابوا عن قوله تعالى: {ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف} أجابوا بأن المراد بالغني والفقير في هذه الآية اليتيم، أي إن كان اليتيم غنيا فلا يسرف وليه في الإنفاق عليه، وإن كان اليتيم فقيرا فليطعمه من ماله بالمعروف، ولا دلالة في الآية على أكل الولي من مال اليتيم.

كما أجابوا بجواب آخر: قالوا: وإن أردنا بالغني والفقير الولي، فإنه أمر للولي أن يأكل من مال نفسه بالمعروف، ولا يبذر خوف أن يحتاج فيمد يده إلى مال اليتيم، أو أنه أمر الولي أن يقتر على اليتيم خوف أن يحتاج، أو أنه يبيح للولي أن يأكل على وجه السلف، كما قال عمر: أنزلت نفسي في مال الله منزلة ولي يتيم، إن استغنيت استعففت، وإن احتجت أكلت بالمعروف، فإذا أيسرت قضيت. وهذا الرأي ضعيف وهذه التفاسير بعيدة. والجمهور على أن للولي أن يأكل من مال اليتيم بقدر عمالته في مال اليتيم، لكنهم اختلفوا، فقال بعضهم: يأكل عند الحاجة، وقال بعضهم: إن كان ذهبا أو فضة لم يجز أن يأخذ منه شيئا، وإن كان غير ذلك جاز بقدر الحاجة، وقال بعضهم: إن خدم المال وقام به أكل بقدر أجرته غنيا كان أو فقيرا، ومذهب الشافعي أنه يجوز للولي أن يأخذ أقل الأمرين من أجرته أو نفقته. والذي نرتضيه إزاء هذا الاختلاف، وفي هذا العصر الذي لا يكاد يوجد فيه من يعمل في مال اليتيم دون مقابل، أنه يجوز للولي أن يأخذ من مال اليتيم أجر المثل، إذا خدم المال وقام بتنميته واستثماره، وليحذر أن يزيد عن حقه، بل ليأخذ أقل أجر يمكن أن يأخذه مثله مقابل مثل عمله، يؤيدنا في هذا الرأي أن التهديد والوعيد والتخويف إنما هو من أكل مال اليتيم ظلما، وأخذ الأجر مع الاحتياط لا يسمى ظلما، بل حقا وعدلا. وأما قولة عمر فهي من قبيل الورع، مثلها في قوله تعالى: {فليستعفف} وطلب العفة هنا طلب التورع وفعل الأولى. والسر في التشديد في أكل مال اليتيم مع أن أكل أموال الناس ظلما من الكبائر أيضا أن اليتيم لا يستطيع الدفاع عن حقه غالبا، كما أن وليه قد منح سلطانا على ماله، والنفس أمارة بالسوء، ثم اليتيم مصاب بفقد والده، فلا يجمع له بين اليتم واغتصاب ماله. ومن هنا كانت رعاية مال اليتيم والعطف عليه من أفضل القربات، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين" وأشار بالسبابة والوسطى. 3 - وأما الربا ففي تحريمه يقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون} [البقرة: 278، 279]. ولا خلاف بين العلماء في أن الربا من الكبائر (آكله وموكله) ويلحق بهما شاهد الربا وكاتبه لإعانتهما على أكله، وقد جاء في مسلم من حديث جابر: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم في الإثم سواء". وروى الطبري عن قتادة "إن ربا أهل الجاهلية أن يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء زاد وأخر عنه". وعن مالك عن زيد بن أسلم في تفسير الآية "كان الربا في الجاهلية أن يكون للرجل

على الرجل حق إلى أجل، فإذا حل قال: أتقضي أم تربي؟ فإن قضاه أخذ وإلا زاده في حقه وزاده الآخر في الأجل". قال الأبي والسنوسي: والربا حقيقة وعادة إنما يستعمل في ربا الفضل والنساء وفيهما جاء التشديد في الآي والأحاديث. وهما المرادان في الحديث وإطلاقه على كل حرام مجاز. فلا يحمل الحديث عليه. إذ لا يصدق على كل حرام أنه كبيرة. اهـ. 4 - وأما التولي يوم الزحف ففيه يقول الله تعالى: {ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير} [الأنفال: 16] وقد نزلت هذه الآية بشأن أهل بدر. وقد أمر المسلمون أن يقف الواحد منهم أمام عشرة من الكفار. بقوله تعالى: {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا} [الأنفال: 65] ثم خفف ما فيها بقوله تعالى: {فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين} [الأنفال: 66] فرفع الحرج عن التولي إذا بلغ العدو أكثر من الضعف. والتولي الذي هو كبيرة هو التولي ساعة القتال، أو بعد دخول العدو أرضنا والتهيؤ لقتاله، أما التولي بعد الدخول في أرض العدو وقبل القتال ففي كونه كبيرة نظر، والظاهر أنه وإن حرم فإنه لا يبلغ حرمة الكبائر. 5 - وأما قذف المحصنات ففيه يقول الله تعالى: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم} [النور: 23] والمراد القذف بالزنا خاصة. أما القذف بغير الزنا كالرمي بالسرقة والقتل وشهادة الزور، إلخ، فهو حرام لكنه ليس من هذا القبيل من الكبائر، ولا يختص القذف بالمتزوجات بل حكم البكر كذلك بالإجماع، كما انعقد الإجماع على أن حكم قذف المحصن من الرجال حكم قذف المحصنة من النساء. وقد بين الله حد القذف في قوله: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون} [النور: 4]. وقد اقتصر الحديث هنا على سبع، ولم يذكر فيها ما ذكره في الحديث السابق تحت عنوان أكبر الكبائر، من عقوق الوالدين وشهادة الزور، ولم يذكر فيها الزنا بحليلة الجار، وقد ذكره في الحديث الذي قبله تحت عنوان أعظم الذنوب، كما ذكرت روايات أخرى كبائر غير المذكورة هنا، فرواية الطبراني ذكرت "التعرب بعد الهجرة" بدل "السحر" وذكرت رواية أخرى "اليمين الفاجرة" بدل "السحر" وفي البخاري في الأدب "الكبائر تسع" فذكر السبع المذكورة هنا وزاد "الإلحاد في الحرم، وعقوق الوالدين" وأخرج الإسماعيلي القاضي بسند صحيح إلى سعيد بن المسيب قال: هن عشرة فذكر السبعة وزاد "عقوق الوالدين واليمين الغموس، وشرب الخمر" وحذفت رواية لأبي حاتم مال اليتيم وزادت العقوق والتعرب بعد الهجرة، وفراق الجماعة، ونكث الصفقة. وفي حديث لابن عباس "الغيبة، والنميمة، وترك التنزه من البول" وعند ابن أبي حاتم

ذكر "النهبة" وعند البزار "منع فضل الماء" وعند أبي داود والترمذي عن أنس رفعه "نظرت في الذنوب فلم أر أعظم من سورة من القرآن أوتيها رجل فنسيها" وأخرج الترمذي "من أتى حائضا أو كاهنا فقد كفر". ثم بعد ذلك هناك ذنوب لم تذكر أعظم من بعض ما ذكر، كشتم الرب سبحانه وتعالى، وشتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاستهانة بالرسل عليهم السلام، وتكذيب واحد منهم، وتضميخ الكعبة بالعذرة، وإلقاء المصحف في قاذورة، كل ذلك كبائر أكبر من كثير مما ذكر. وكذلك لو أمسك امرأة محصنة لمن يزني بها، أو أمسك مسلما لمن يقتله، فلا شك أن مفسدة ذلك أعظم من مفسدة أكل مال اليتيم، مع كونه من الكبائر، وكذلك لو دل الكفار على عورات المسلمين، مع علمه أنهم يستأصلون بدلالته، ويسبون حرمهم وأطفالهم ويغنمون أموالهم، فإن مفسدة ذلك أعظم من التولي يوم الزحف بغير عذر، مع كونه معدودا من الكبائر، وكذا لو كذب على إنسان كذبا يعلم أنه يقتل بسببه، فهو غير ما إذا كذب عليه ليأخذ منه تمرة مثلا وهكذا. وأمام هذا الوضع نحتاج إلى الجواب عن الحكمة في الاقتصارعلى سبع: وأجيب بأن مفهوم العدد ليس بحجة. قال الحافظ ابن حجر: وهو جواب ضعيف، وقيل: أعلم صلى الله عليه وسلم أولا بالمذكورات السبع، ثم أعلم بما زاد، فيحسب بالزائد، وهذا الجواب لا يفيد أمام الذنوب الكبائر التي لم ترد في الأحاديث، والتي ذكرنا منها أمثلة لها. والأولى أن يقال: إن الاقتصار وقع بحسب المقام، وما ذكر إنما هو تنبيه على ما لم يذكر. ويعجبنا في هذا المقام قول ابن عبد السلام: إذا أردت أن تعرف الكبيرة فاعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها فإن نقصت على أقل مفاسد الكبائر فهي من الصغائر، وإن ساوت أدنى مفاسد الكبائر أو زادت عليه فهي من الكبائر. -[ويؤخذ من الحديث.]- 1 - أن المعاصي مهلكة لصاحبها في الدنيا والآخرة. 2 - التشويق بذكر العدد قبل تفصيله ليتمكن تفصيله في النفس فضل تمكن. 3 - تغليظ حرمة السحر لقرنه بالشرك. 4 - تعظيم قتل النفس بغير حق. 5 - التحذير من أكل مال اليتيم. 6 - ومن أكل الربا. 7 - التنفير من التولي والفرار يوم الزحف. 8 - التحذير من الرمي بالفاحشة وقذف المحصنات واتهامهن بغير بينة. والله أعلم.

(53) باب من الكبائر شتم الرجل والديه

(53) باب من الكبائر شتم الرجل والديه 152 - عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من الكبائر شتم الرجل والديه" قالوا: يا رسول الله! وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: "نعم. يسب أبا الرجل، فيسب أباه. ويسب أمه، فيسب أمه". -[المعنى العام]- إعظاما لحق الأبوين، وتقديرا لهما، وصيانة لمقامهما، يحذر صلى الله عليه وسلم من إيذائهما بأي نوع من أنواع الإيذاء، قل أو كثر، قصد أو لم يقصد، ووجها به أو لم يواجها به، باشره الابن أو تسبب فيه، فيقول صلى الله عليه وسلم: إن من أكبر الذنوب أن يشتم الرجل والديه أو أحدهما، ويستعظم الصحابة هذا الفعل القبيح، ويستبعدون وقوعه، لأن الطبع السليم يأباه ولا يقربه، فيقول قائلهم: أو يحدث ذلك يا رسول الله؟ وكيف يحدث أن يشتم الرجل أباه؟ فيقول صلى الله عليه وسلم: ليس شرطا أن يتعاطى الابن سب والديه مباشرة، فقد يتسبب فيه فيسب أبا رجل آخر، فيسب هذا الآخر أباه ويزيد المسبوب شتم أم الساب، أو يسب الرجل أم رجل آخر فيسب هذا الآخر أمه، فمن فعل ذلك فكأنما سب والديه. فما أرفع آداب الإسلام. وما أبعد المسلمين عنها في هذا العصر الذي تسمع فيه عن ضرب الأبناء للأمهات، وقتل الآباء من أجل عرض الدنيا الحقير. -[المباحث العربية]- (من الكبائر) في رواية البخاري "إن من أكبر الكبائر". (شتم الرجل والديه) التعبير بالرجل جرى على الغالب، فالحكم كذلك بالنسبة للمرأة، والتعبير بالوالدين من قبيل الشأن والكثير أيضا، إذ الحكم شامل لمن يؤدي فعله إلى شتم أحد الوالدين فقط. وقد جاء في رواية البخاري "أن يلعن الرجل والديه" والمراد من اللعن فيها الشتم، وفي رواية أخرى "من الكبائر عند الله أن يسب الرجل والده".

(قالوا: يا رسول الله) القائل واحد: ونسب القول للمجموع لرضاهم به وموافقتهم عليه، فأحدهم قائل فعلا، والآخرون قائلون حكما، وفي رواية البخاري "قيل: يا رسول الله" بالبناء للمجهول. (وهل يشتم الرجل والديه؟ ) "يشتم" -بكسر التاء- والاستفهام استبعادي، والمعنى: نستبعد أن يشتم الرجل والديه، وفي رواية البخاري "وكيف يلعن الرجل والديه" ففيها استبعاد وتعجب وسؤال عن كيفية وقوع هذا الأمر العجيب. (يسب أبا الرجل) في هذه الرواية إضمار الفاعل، وفي رواية البخاري بإظهاره، ولفظها "يسب الرجل أبا الرجل" والاستفهام عن الشتم والجواب بالسب والمراد منهما واحد هنا. (ويسب أمه فيسب أمه) ظاهر هذه الرواية أن سب الأب يؤدي إلى سب الأب، وسب الأم يؤدي إلى سب الأم، وهو واضح وكثير، وراوية البخاري " يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه" وظاهرها أن سب الأب يؤدي إلى سب الأب والأم زيادة من المسبوب، وهو كثير الوقوع أيضا. -[فقه الحديث]- لا خلاف في أن سب الوالدين والتسبب في سبهما من أفراد عقوق الوالدين، ولا خلاف في أن العقوق من الكبائر، ولكن المشكل رواية البخاري التي تصرح بأن من أكبر الكبائر التسبب في شتم الوالدين، فإذا كان التسبب في شتمهما من أكبر الكبائر، فكيف يكون حكم مباشرة شتمهما؟ لهذا كانت رواية مسلم أقرب إلى الحكم الصحيح فالتسبب في شتمهما من الكبائر، ومباشرة شتمهما من أكبر الكبائر، إذ ليس فعل السبب كفعل المسبب على كل حال، وهو لم يقصد شتم أبيه، فلا يأخذ حكم من شتمه قاصدا، ويمكن توجيه رواية البخاري بأن لفظ "أكبر" نسبي، فما هو من أكبر الكبائر قد يوجد ما هو أكبر منه، فالتسبب من أكبر الكبائر ومباشرة الشتم أكبر منه. وإنما كان شتم الوالدين من أكبر الكبائر، لأن شتم الأجنبي كبيرة وشتم الوالدين أقبح منه فيكون من أكبر الكبائر. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - سد الذرائع. 2 - وأن من آل فعله إلى محرم يحرم عليه ذلك الفعل، وإن لم يقصد إلى ما يحرم، والأصل في ذلك قوله تعالى: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم} [الأنعام: 108]. 3 - وأن من تسبب في شيء جاز أن ينسب إليه ذلك الشيء. 4 - وفيه جعل فعل السبب كفعل المسبب فيمنع بيع العنب لمن يتخذه خمرا، والحرير لمن يلبسه، والسلاح لمن يقطع به الطريق.

5 - وفيه العمل بالغالب، لأن الذي يسب أبا الرجل يجوز أن يسب الآخر أباه، ويجوز ألا يفعل، لكن الغالب أن يجيبه بمثل قوله. 6 - وفيه مراجعة التلميذ لشيخه فيما يقوله مما يشكل عليه. 7 - وفيه ما كان عليه الصحابة من حميد الأخلاق، إذ استبعدوا حصول هذا الفعل القبيح، وإلا فهو بعدهم كثير. 8 - وفيه إثبات الكبائر. 9 - وفيه دليل على عظم حق الأبوين. والله أعلم

(54) باب تحريم الكبر

(54) باب تحريم الكبر 153 - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة. قال: "إن الله جميل يحب الجمال. الكبر بطر الحق وغمط الناس". 154 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، "لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان. ولا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة خردل من كبرياء". 155 - عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر". -[المعنى العام]- رغم ما كان عليه الصحابة في أول الإسلام من الفقر، ورغم ما كان عليه أوائل الصحابة من الانكسار والتواضع، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخشى القلة من زعماء القبائل حين يؤمنون، كان يخشى أن يصطحبوا معهم ما كانوا عليه من زهو على أفراد قبيلتهم وكبرياء على ضعفائهم، ومبدأ الإسلام الذي نادى به لأول وهلة: الناس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى. {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات: 13]. من أجل هذا حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من الكبر، وخوف المتكبرين، وأوعدهم أنهم لا يدخلون الجنة، بل لا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال ذرة من كبر، ويتوهم بعض السامعين من الصحابة أن من الكبر حب الثوب الحسن والنعل الحسنة، فيقول أحدهم: يا رسول الله إن بعضنا يحب أن يكون ثوبه حسنا جميلا، ويحب أن يكون نعله غالية متينة، فهل هذا من الكبر فنتحاشاه؟ فيقول صلى الله عليه وسلم: ذلك ليس بكبر، إن الكبر هو إنكار الحق، والترفع على الناس، أما حب الجمال فهو مشروع لأن الله جميل، خلق الجمال، ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده، بشرط ألا يحقر الآخرين، فإن ترفع عن الناس بما أعطاه الله حرمه الله نعمته وجعل مأواه جهنم وبئس المصير.

-[المباحث العربية]- (مثقال ذرة من كبر) قال ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} [الزلزلة: 7] قال: إذا وضعت يدك على الأرض ثم رفعتها فكل واحدة مما لزق من التراب ذرة. وقيل: هي واحدة الهباء الذي يرى طائرا في شعاع الشمس الداخل من ثقب. (قال رجل) قيل: هو مالك بن مرارة الرهاوي، وقيل: هو عبد الله بن عمرو بن العاص. (إن الله جميل) الجميل من البشر هو الحسن الصورة، وحسنها يستلزم السلامة من النقص. فإطلاقة على الله من باب هذا اللازم، وقيل: معناه جميل الفعال، وقيل: إن معناه أن أمره سبحانه وتعالى حسن جميل، وقيل: معناه أن له صفات الجمال والكمال، وقيل: جميل بمعنى مجمل، أي جمل صوركم وأحسن خلقكم. (يحب الجمال) أي يحب منكم التجمل في الهيئة. (الكبر بطر الحق) قيل: الكبر العظمة، يقال تكبر بمعنى تعاظم، وقيل: الكبر غير العظمة إذ الكبر يقتضي متكبرا عليه، والعظمة لا تقتضي متعاظما عليه، فقد يتعاظم الإنسان في نفسه. والبطر الإبطال، فمعنى "بطر الحق" إبطال الحق والبعد عنه، قال الزجاج: هو التكبر عن الحق فلا يقبله، وقال الأصمعي: هو الحيدة عن الحق فلا يراه حقا، والأنسب في الحديث تفسير الزجاج، وأن المراد إنكار الحق ترفعا وتجبرا. (غمط الناس) بفتح الغين وإسكان الميم، ورواه الترمذي "غمص" بالصاد بدل الطاء وهما بمعنى واحد، ومعناه احتقارهم، يقال في الفعل منه غمطه بفتح الميم يغمطه بكسرها، وغمطه بكسر الميم يغمطه بفتحها. (مثقال حبة خردل) "الخردل": نبات له حب أسود مقرح صغير جدا يضرب به المثل في الصغر بين الحبوب، والواحدة خردلة. وليس المقصود من الذرة حجمها على سبيل الحقيقة، وليس المقصود من الخردلة وزنها على سبيل الحقيقة، بل المراد منهما المبالغة في الصغر. -[فقه الحديث]- تنحصر نقاط الحديث في خمس: 1 - الكبر ومظاهره. 2 - التجمل في الهيئة واللباس ومدى موافقته للشرع.

3 - إطلاق لفظ الجميل على الله. 4 - توجيه نفي دخول المتكبر الجنة وتوجيه نفي دخول المؤمن النار. 5 - ما يؤخذ من الحديث. 1 - أما الكبر فقد نهى الله تعالى عنه بقوله: {ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا} [الإسراء: 37] وبقوله: {ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير} [لقمان: 18 - 19]. وذكر جل شأنه عاقبة المستكبرين بقوله: {فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون} [فصلت: 15 - 16]. كما حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من الكبر في هذا الحديث وفيما رواه مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر" وفيما رواه أيضا في موضع آخر من قوله صلى الله عليه وسلم: "بينما رجل يتبختر، يمشي في برديه، قد أعجبته نفسه، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة". وواجبنا في هذا المقام تحديد مفهوم الكبر المذموم حتى لا تلتبس به العزة والمحافظة على الكرامة. إن الكبر - كما يوضحه الحديث- بطر الحق وغمط الناس، والبطر: الطغيان عند النعمة، بمعنى عدم التوجه إلى المنعم بالشكر، والاعتداد بالنفس والترفع عن الناس كما قال عاد: (من أشد منا قوة) والاعتقاد بأنها من صنعه كما قال قارون: {إنما أوتيته على علم عندي} [القصص: 78] والاغترار بأنها ستدوم. وأنه ما أوتيها إلا لأنه الأحق بهما كما قال صاحب الجنتين حين دخل جنته وهو ظالم لنفسه: {ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا} [الكهف: 35 - 36] إن الكبر هو الترفع عن الناس، سواء كان متمتعا فعلا بمظاهر الرفعة، أو كانت أكفه في التراب، ورأسه في السماء، لكنه من العائل الفقير أشد قبحا منه من الغني صاحب السلطان، بل إن الكبر الإحساس - ولو في أعماق النفس- بالزهو والخيلاء والترفع عمن حوله من الناس وإن لم تظهر آثار ذلك في معاملته لهم، لكنه مع التعالي في المعاملة أشد قبحا. فهو في هذه الحالة يكسب الإثم من الله والمقت من الناس. فالتواضع المطلوب هو لين الجانب لمن يساويك أو لمن هو دونك. أما الاستكانة لمن هو فوقك فكثيرا ما تكون ضعفا وجبنا وذلة وصغارا. وأما العزة فهي وضع النفس الموضع اللائق بها، والمحافظة عليها من الضعة وصيانة الكرامة عن

مواطن الذل والهوان: وفيها يقول الله تعالى: {ولا تصعر خدك للناس} ومن العزة الترفع على أهل الكبر، والاعتزاز بالإسلام على أعداء الإسلام. 2 - وليس من قبيل الكبر لبس الجميل من الثياب، وتحسين الهيئة والصورة، ما لم يصحبه عجب في النفس، وخيلاء في الإحساس والشعور، وفي ذلك يقول الله تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} [الأعراف: 32]. {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا} [الأعراف: 31]. ويقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري "كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة" ويقول ابن عباس: "كل ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك اثنتان: سرف أو مخيلة". نعم وردت أحاديث تنهى عن جر الثياب، لكنها مقيدة بالجر على سبيل الخيلاء، فقد روى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء" وقال: "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" فقال أبو بكر: يا رسول الله إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه. فقال صلى الله عليه وسلم: "لست ممن يصنعه خيلاء". فالتقييد بجر الثياب خرج مخرج الغالب، والذم موجه إلى البطر والتبختر ولو لمن شمر ثوبه، إذ الحديث الذي معنا يمتدح أن يحب الرجل ثوبه الحسن ونعله الحسنة. قال الحافظ ابن حجر: والذي يجتمع من الأدلة أن من قصد بالملبوس الحسن إظهار نعمة الله عليه مستحضرا لها شاكرا عليها، غير محتقر لمن ليس له مثله لا يضره ما لبس من المباحات، ولو كان في غاية النفاسة، فقد أخرج الترمذي قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده". أما من أحب ذلك ليتعظم به على صاحبه فهو المذموم، لما أخرجه الطبري من حديث علي "إن الرجل يعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك صاحبه فيدخل في قوله تعالى: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا} [القصص: 83]. فمدار الذم الكبر والعجب والخيلاء لا جمال الثوب أو نفاسته، بل إن التجمل والتطيب ولبس أحسن ما عند المرء من الثياب من مقاصد الشرع الحنيف عند المجتمعات، كالجمع والأعياد ولقاء الوفود والكبراء، ففي الموطأ "ما على أحدكم لو اتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته" إذ بذلك تقبل النفوس، وتجتمع القلوب، وتتآلف الناس، ويترابط المجتمع، وليست مجالسة نافخ الكير كمجالسة حامل المسك، فقد أخرج النسائي وأبو داود عن عوف بن مالك عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له - ورآه رث الثياب-: "إذا آتاك الله مالا فلير أثره عليك" فالسنة أن يلبس المرء ثيابا تليق بحاله من النفاسة والنظافة ليعرفه المحتاجون للطلب منه مع مراعاة القصد وترك الإسراف، اللهم إلا إذا أثار هذا اللباس في الناس مظنة الكبر والخيلاء عند صاحبه فيحسن التخلي عنه لرفع الاتهام، وليست مظاهر الكبر وبواعثه محصورة في الثياب وحسن الهيئة، فقد يغتر ويزهو العالم بعلمه، والغني بماله، وذو الجاه بجاهه، والقوي بسواعده وعضلاته، وإنما أفضنا في اللباس لأنه الذي يظهر به الخيلاء غالبا.

3 - ولفظ "جميل" كما ورد في هذا الحديث الصحيح ورد أيضا في حديث الأسماء الحسنى، وفي تسمية الله به خلاف، باعتباره ورد بخبر الآحاد، والمختار جواز إطلاقه على الله تعالى، ومن العلماء من منعه. قال إمام الحرمين: ما ورد الشرع بإطلاقه في أسماء الله تعالى وصفاته أطلقناه، وما منع الشرع من إطلاقه منعناه، وما لم يرد فيه إذن ولا منع لم نقض فيه بتحليل ولا تحريم، فإن الأحكام الشرعية تتلقى من موارد الشرع، ولو قضينا بتحليل أو تحريم لكنا مثبتين حكما بغير الشرع. وقال: ثم لا يشترط في جواز الإطلاق ورود ما يقطع به الشرع (أي الخبر المتواتر) ولكن ما يقتضي العمل وإن لم يوجب العلم فإنه كاف. اهـ. وقال الإمام النووي: اختلف أهل السنة في تسمية الله تعالى ووصفه من أوصاف الكمال والجلال والمدح بما لم يرد به ولا يمنعه الشرع، فأجازه طائفة، ومنعه آخرون إلا أن يرد به شرع مقطوع به، من نص كتاب الله أو سنة متواترة، أو إجماع على إطلاقه، فإن ورد خبر واحد فقد اختلفوا فيه، فأجازه طائفة، وقالوا: الدعاء به والثناء من باب العمل، وذلك جائز بخبر الواحد، ومنعه آخرون لكونه راجعا إلى اعتقاد ما يجوز أو يستحيل على الله تعالى، وطريق هذا القطع. وقال القاضي عياض: والصواب جوازه لاشتماله على العمل ولقول الله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} [الأعراف: 180]. 4 - وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" فقد اختلف في توجيهه، فذكر الخطابي فيه وجهين. أحدهما: أن المراد التكبر عن الإيمان، فصاحبه لا يدخل الجنة أصلا إذا مات عليه. والثاني: أنه لا يكون في قلبه كبر حال دخوله الجنة، كما قال الله تعالى: {ونزعنا ما في صدورهم من غل} [الأعراف: 43، الحجر: 47]. قال النووي: وهذان التأويلان فيهما بعد، فإن الحديث ورد في سياق النهي عن الكبر المعروف، وهو الارتفاع عن الناس واحتقارهم ودفع الحق، فلا ينبغي أن يحمل على هذين التأويلين المخرجين له عن المطلوب، بل الظاهر ما اختاره القاضي عياض وغيره من المحققين أنه لا يدخل الجنة دون مجازاة إن جازاه. وقيل: معناه أن هذا جزاؤه لو جازاه، وقد يتكرم بأنه لا يجازيه، بل لا بد أن يدخل كل الموحدين الجنة، إما أولا وإما ثانيا بعد تعذيب بعض أصحاب الكبائر الذين ماتوا مصرين عليها، وقيل: لا يدخلها مع المتقين الداخلين أول وهلة. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، فالمراد به أنه لا يدخل النار دخول خلود فيها كدخول الكفار، وسيأتي مزيد بحث لهذه النقطة في الحديث اللاحق إن شاء الله. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - تحريم الكبر وأنه من الكبائر. 2 - ما كان عليه الصحابة من حرص على النظافة والتجمل حتى في النعل.

3 - أن حب الثوب الحسن والنعل الحسنة وتجمل الهيئة والصورة ليس من الكبر، ما لم يصحبه ترفع عن الحق وعن الناس. 4 - جواز إطلاق لفظ الجميل على الله تعالى. 5 - يستدل بقوله: "مثقال حبة خردل من ايمان" على أن الإيمان يزيد وينقص. والله أعلم

(55) باب من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار

(55) باب من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار 156 - عن عبد الله رضي الله عنه (قال وكيع: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وقال ابن نمير سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول) "من مات يشرك بالله شيئا دخل النار" وقلت أنا: ومن مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة". 157 - عن جابر رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم، رجل فقال: يا رسول الله! ما الموجبتان؟ فقال "من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار". 158 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول "من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به دخل النار". 159 - عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال "أتاني جبريل عليه السلام. فبشرني أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق". 160 - عن أبي ذر رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وهو نائم. عليه ثوب أبيض. ثم أتيته فإذا هو نائم. ثم أتيته وقد استيقظ. فجلست إليه. فقال: "ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة" قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: "وإن زنى وإن سرق" قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: "وإن زنى وإن سرق" ثلاثا. ثم قال في الرابعة "على رغم أنف أبي ذر" قال: فخرج أبو ذر وهو يقول: وإن رغم أنف أبي ذر.

-[المعنى العام]- المؤمن الكيس من جمع بين الخوف والرجاء، يخاف الآخرة ويخاف الخاتمة والمصير وعدل ربه، ويخاف محاسبته على ما قدمت يداه، واضعا نصب عينيه قوله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} [الزلزلة: 7 - 8] {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه} [آل عمران: 30]. ويرجو رحمة ربه التي وسعت كل شيء، ويطمع في فضل الله وإحسانه {وهو الغفور الودود ذو العرش المجيد} [البروج: 14 - 15]. وقد جاءت النصوص الإسلامية بمجموعة تبعث على الخوف في نفوس المؤمنين فتدفع إلى العمل الصالح، وتقوي العزائم وتشحذ الهمم، كقوله جل شأنه: {فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون} [الماعون: 4 - 7]. {ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم} [المطففين: 1 - 5]. {ويل لكل همزة لمزة الذي جمع مالا وعدده يحسب أن ماله أخلده كلا لينبذن في الحطمة وما أدراك ما الحطمة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة إنها عليهم موصدة في عمد ممددة} [الهمزة: 1 - 9]. {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون} [التوبة: 34 - 35]. ويقول صلى الله عليه وسلم: "أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار" ومر صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال: "إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة بين الناس". كما جاءت النصوص بمجموعة تنشر الطمع والرجاء في عفو الله، وتجعل أبواب الجنة مفتوحة أمام عامة المؤمنين، بل أمام العصاة منهم وتجعل أبواب النار محجوبة عمن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. يقول جل شأنه: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم} [الزمر: 53]. {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما} [النساء: 110]. ويقول تعالى في الحديث القدسي: "عبدي. لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة". وهذا أبو ذر يحدثنا فيقول: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض وهو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ، فقال: "ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة"، واستعظم أبو ذر دخول الجنة للعصاة، ودفعته شدة نفرته من المعاصي أن يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أيدخل الجنة من قال لا إله إلا الله وإن زنى وإن سرق؟ وأجابه صلى الله عليه وسلم: نعم يدخل الجنة وإن زنى وإن سرق. وزادت غرابة

أبي ذر فأعاد: وإن زنى وإن سرق؟ وأعاد الرسول صلى الله عليه وسلم الجواب: وإن زنى وإن سرق، يكرر أبو ذر استفهام التعجب ثلاثا ويكرر رسول الله صلى الله عليه وسلم جواب الرجاء، ويختم ثالث أجوبته بقوله: على رغم أنف أبي ذر. ويهز أبو ذر رأسه متعجبا، ويخرج ممسكا بأنفه وهو يردد "على رغم أنف أبي ذر". كما جاءت النصوص أيضا بطرف يجمع بين الخوف والرجاء. يقول جل شأنه في صفة المؤمن: {يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه} [الزمر: 9]. ويقول: {غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير} [غافر: 3]. وبهذا يرسم الإسلام الطريق الصحيح، خوف يجعل السابقين لا يأمنون العاقبة، ويدفع عمر بن الخطاب [وهو المبشر بالجنة وقصورها وحورها] إلى أن يقول: لئن نادى مناد أن كل الناس يدخلون الجنة إلا واحدا لخشيت أن أكون ذلك الواحد. ويدفع أبا بكر [حبيب حبيب الله] إلى أن يقول: لا آمن مكر الله ولو كانت إحدى قدمي في الجنة. ورجاء يجعل العاصي الذي لم يعمل خيرا قط وعمل عمره بعمل أهل النار حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيكون من أهل الجنة. نعم. الطريق الصحيح خوف ورجاء، وعمل وأمل، فمن اقتصر على الخوف وأنكر الرجاء كان قانطا من رحمة الله، يائسا من روح الله. و {إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون} [يوسف: 87]. ومن اقتصر على الرجاء، وطرح الخوف من الله وحسابه كان جاهلا، مغترا، مستهترا بوعيد الله. وما أحسن جواب ابن منبه حين قيل له: أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟ قال: بلى. ولكن ليس مفتاح إلا له أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك وما أسنان المفتاح إلا العمل مع الإيمان. جعلنا الله من المؤمنين العاملين، الراجين الخائفين، إنه سميع مجيب. -[المباحث العربية]- (من مات يشرك بالله شيئا) جملة "يشرك" حال من فاعل "مات" و"شيئا" مفعول به، أي يشرك معبودا كالأصنام أو مفعول مطلق، أي إشراكا ما، وفي رواية "من مات وهو يدعو من دون الله ندا" قال القرطبي: الشرك أن يتخذ مع الله شريكا في الإلهية، لكن صار نفي الشرك بحكم العرف عبارة عن الإيمان الشرعي. (وقلت أنا) الضمير المنفصل تأكيد للضمير المتصل. (ومن مات) معطوف على محذوف، تقديره: قلت أنا: من مات يشرك بالله شيئا دخل النار، ومن مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، حاكيا الأولى منشئا الثانية.

(ما الموجبتان) بكسر الجيم، أي ما هي الكلمة أو الخصلة الموجبة للجنة؟ والكلمة أو الخصلة الموجبة للنار؟ (من لقي الله) أي من مات، كما ورد في بعض الروايات. (فبشرني أنه) "أن" وما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف (وحذف الجار قبل "أن" مطرد) أي فبشرني بدخول من مات ... الجنة. (من أمتك) أي من أمة الإجابة، ويحتمل أن يكون أعم من ذلك، أي من أمة الدعوة. (قلت: وإن زنى وإن سرق) قال ابن مالك: لا بد من تقدير أداة الاستفهام، والتقدير: أو إن زنى دخل الجنة؟ وقدر غيره: أيدخل الجنة وإن زنى؟ وحذف جواب الشرط مبالغة للعلم به وتتميما لمعنى الإنكار. (قال: وإن زنى وإن سرق) جواب الشرط محذوف للعلم به، أي وإن زنى وإن سرق دخل الجنة. (على رغم أنف أبي ذر) "رغم" بفتح الراء وضمها وكسرها، وقوله: "وإن رغم أنف أبي ذر" هو بفتح الغين وكسرها، ذكره الجوهري، وهو التراب، فمعنى أرغم الله أنفه ألصقه بالرغام، أي أذله، ومعنى "على رغم أنف أبي ذر" أي على ذل منه لوقوع الأمر مخالفا لما يريد، وقيل معناه: على كراهة منه، فهو من قبيل الكناية، أي إطلاق اللفظ وإرادة لازم معناه. -[فقه الحديث]- قد يبدو لأول وهلة أن موضوع هذا الحديث قد سبق ذكره في الجزء الأول في باب "من مات على التوحيد دخل الجنة" ولكن بعد إمعان النظر يتضح أن ذكره هناك كان القصد منه جانب الرجاء، وإن تعرض هناك بالتبع إلى جانب الخوف، وذكره هنا مقصود منه جانب الخوف وإن كان سيتعرض لجانب الرجاء على سبيل التبعية. وقد روينا في فقه الحديث هناك قوله صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" وقوله: "أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك إلا دخل الجنة" وقوله: "ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة". وقوله لأبي هريرة: "من لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة". وقوله: "حرم الله على النار من قال: لا إله إلا الله يبغي بذلك وجه الله". وقلنا: لما كان موضوع هذه الأحاديث يتعلق بالعصاة من المسلمين كان من الضروري بيان المذاهب في حكمهم، وموقف كل مذهب من هذه الأحاديث ونحوها:

1 - وقد ذهب الخوارج إلى أن المعصية تضر الإيمان، وتجعل صاحبها كافرا مخلدا في النار، وإن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. 2 - وذهب المعتزلة إلى أن العاصي بالكبيرة مخلد في النار، ولا يوصف بأنه مؤمن ولا بأنه كافر وإن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. وهذه الأحاديث تدفع هذين المذهبين وتردهما، وحديث أبي ذر الذي معنا قاطع في إبطالهما، مبعد تأويلاتهما الزائفة. 3 - وذهب غلاة المرجئة إلى أن مظهر الشهادتين يدخل الجنة وإن لم يعتقد ذلك بقلبه، وهذه الأحاديث وما معنا هنا وإن كان ظاهرها في مجموعها يوافقهم لكن في بعضها ما يرد عليهم، كقوله: "غير شاك" وقوله: "مستيقنا بها قلبه" وقوله: "وهو يعلم أن لا إله إلا الله" كل هذه النصوص ترد ما ذهبوا إليه، وتوجب اعتقاد القلب، فضلا عن الآيات القاطعة بأن المنافقين في الدرك الأسفل من النار. 4 - وقال بعضهم: إن مجرد معرفة القلب نافعة وإن لم ينطق بالشهادتين، وظاهر قوله في بعض الروايات، "وهو يعلم" يؤيدهم لكن يعارضهم لفظ "من كان آخر كلامه" ولفظ "من قال" ولفظ "ما من عبد قال" إذ فيها طلب القول. وجمعا بين الأحاديث وجب القول بأنه لا ينفع الاعتقاد وحده، ولا ينفع النطق وحده. 5 - ومذهب أهل السنة - وهو الذي يعنينا، ونحرص على عدم تعارضه مع الأحاديث وهو الذي نؤمن بأنه الحق- أن العاصي الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله مستيقنا بها قلبه، هو مؤمن وإن ارتكب الكبائر، ومصيره الجنة وإن عوقب بالنار على ذنوبه ويقولون: بما أن النصوص تظاهرت ودلت دلالة قطعية على أن بعض العصاة المؤمنين يعذبون فإنه ينبغي ألا تؤخذ أحاديث الباب على ظاهرها ولا على عمومها، وأنه ينبغي أن تحمل محملا يتفق والنصوص المتظاهرة القطعية. وللوصول إلى هذه الغاية تعددت توجيهاتهم، فمنهم من قال: أ - إن هذه الأحاديث كانت قبل نزول الفرائض، وينسب هذا القول إلى ابن المسيب كما يعزى إلى ابن شهاب قوله: ثم نزلت بعد ذلك الفرائض وأمور نرى الأمر قد انتهى فمن استطاع ألا يغتر فلا يغتر. وفي هذا القول نظر. بل قال النووي: إنه ضعيف باطل لأن راوي أحد هذه الأحاديث أبو هريرة، وهو متأخر الإسلام، أسلم عام خيبر سنة سبع باتفاق، وكانت أحكام الشريعة مستقرة، وكانت الصلاة وأكثر الواجبات قد تقرر فرضها، ويؤيد النووي في رد هذا القول ذكر الزنا والسرقة في حديث أبي ذر. ب - وقال بعضهم: إن مطلق هذه الأحاديث مقيد بمن عمل عملا صالحا، لقوله تعالى:

{إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا ... } {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} [الكهف: 107 - 110]. جـ- وقال بعضهم: إن مطلق هذه الأحاديث مقيد بمن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، تائبا مقبول التوبة ثم مات على ذلك. قال بعض المحققين: قد يتخذ من أمثال هذه الأحاديث ذريعة إلى طرح التكاليف وإبطال العمل ظنا أن ترك الشرك كاف، وهذا يستلزم طي بساط الشريعة وإبطال الحدود، وأن الترغيب في الطاعة، والتحذير عن المعصية لا تأثير له، فلا ينبغي التمسك بأحاديث الرجاء وحدها لأنه -وقد ثبت كذلك أحاديث الخوف - يجب ضم بعضها إلى بعض فإنها كلها حينئذ في حكم الحديث الواحد فيحمل مطلقها على مقيدها ليحصل العمل بجميع ما في مضمونها. د - وقيل: إن أحاديث الباب خرجت مخرج الغالب، إذ الغالب أن الموحد يعمل الطاعات ويجتنب المعاصي، فكأنه قال: الغالب والشأن فيمن قال: لا إله إلا الله مخلصا أن يدخل الجنة وتحرم عليه النار. هـ- وأظهر الأقوال وأحراها بالقبول أن المراد من دخول الجنة في الأحاديث أنه المآل عاجلا أو آجلا، من غير دخول النار للبعض وبعد دخول النار للبعض الآخر، من غير دخول النار لمن مات تائبا مقبول التوبة، أو سليما من المعاصي، أو شمله عفو الله ورحمته، وبعد دخول النار لمن أذنب وأخذ بذنبه، ففي الحديث: "من قال لا إله إلا الله نفعته يوما من الدهر، أصابه قبل ذلك ما أصابه". قال النووي: مذهب أهل السنة بأجمعهم أن أهل الذنوب في المشيئة، وأن من مات موقنا بالشهادتين يدخل الجنة، فإن كان دينا أو سليما من المعاصي دخل الجنة برحمة الله، وحرم على النار، وإن كان من المخلطين بتضييع الأوامر أو بعضها، وارتكاب النواهي أو بعضها ومات عن غير توبة فهو في خطر المشيئة، وهو بصدد أن يمضي عليه الوعيد إلا أن يشاء الله أن يعفو عنه فإن شاء أن يعذبه فمصيره الجنة. وقال الزين ابن المنير: حديث أبي ذر ونحوه من أحاديث الرجاء التي أفضى الاتكال عليها ببعض الجهلة إلى الإقدام على الموبقات، وليس هو على ظاهره، فإن القواعد استقرت على أن حقوق الآدميين لا تسقط بمجرد الموت على الإيمان، ولكن لا يلزم من عدم سقوطها ألا يتكفل الله بها عمن يريد أن يدخله الجنة، ومن هنا رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي ذر استبعاده. والحديث الأول (حديث ابن مسعود) وقع كذلك في أصول صحيح مسلم وصحيح البخاري "وقلت أنا: ومن مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة" ووجد في بعض أصول مسلم المعتمدة عكس هذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، وقلت أنا: ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار".

قال الحافظ ابن حجر: والصواب رواية الجماعة (أي الرواية الأولى) لأن جانب الوعيد ثابت بالقرآن، وجاءت السنة على وفقه، فلا يحتاج إلى استنباط، ولا يصح أن يقول فيه: وقلت أنا: فالمرفوع الوعيد والموقوف الوعد. والظاهر أن ابن مسعود استنبط جملة الوعد (وهو لم يسمعها) من جهة أنه ليس إلا جنة أو نار، فإذا انتفت إحداهما وجبت الأخرى. وقال القاضي عياض: لم يسمع ابن مسعود من النبي صلى الله عليه وسلم إلا إحداهما، وضم إليها ما علمه من كتاب الله تعالى ووحيه، أو أخذه من مقتضى ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم اهـ ومعنى هذا أن ابن مسعود لم يسمع الرواية الثانية المذكورة في حديثنا (رواية جابر) التي ذكرت اللفظين. قال الإمام النووي: وهذا الذي قاله القاضي عياض فيه نقص حيث إن اللفظين قد صح رفعهما من حديث ابن مسعود، فالجيد أن يقال: سمع ابن مسعود اللفظين من النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه في وقت حفظ إحداهما وتيقنها عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحفظ الأخرى. فرفع المحفوظة وضم إليها الأخرى، وفي وقت آخر حفظ الأخرى، ولم يحفظ الأولى مرفوعة فرفع المحفوظة وضم الأخرى إليها، فهذا جمع ظاهر بين روايتي ابن مسعود، وفيه موافقة لرواية غيره في رفع اللفظين. قال الحافظ ابن حجر تعقيبا على قول النووي: هذا الذي قاله محتمل بلا شك، لكن فيه بعد مع اتحاد مخرج الحديث، فلو تعدد مخرجه إلى ابن مسعود لكان احتمالا قريبا. اهـ. وحكمه صلى الله عليه وسلم على من مات يشرك بالله شيئا بدخول النار هو على عمومه بإجماع المسلمين، فيدخلها ويخلد فيها، ولا فرق بينه وبين الكتابي (اليهودي والنصراني) وبين عبدة الأوثان وسائر الكفرة، ولا فرق عند أهل الحق بين الكافر عنادا وغيره، ولا بين من خالف ملة الإسلام وبين من انتسب إليها، ثم حكم بكفره لجحده ما يكفر جحده وغير ذلك. ذكره النووي. والحكمة في اقتصار أبي ذر على الزنا والسرقة من بين الكبائر الإشارة إلى جنس حق الله تعالى وحق العباد، وكأن أبا ذر استحضر قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن" لأن ظاهره معارض لظاهر هذا الحديث كما أنه ثبت لديه الوعيد بدخول النار لمن عمل بعض الكبائر، وبعدم دخول الجنة لمن عمل بعض الكبائر أيضا، فلهذا استغرب الحكم ووقع منه الاستفهام. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - أن أصحاب الكبائر من المؤمنين لا يخلدون في النار. 2 - أن غير الموحدين لا يدخلون الجنة. 3 - ومن الرواية الخامسة يؤخذ استحباب لبس الثوب الأبيض، وقد أخرج أحمد "عليكم بالثياب

البيض فالبسوها فإنها أطيب وأطهر" وفي رواية: (فإنها من خير ثيابكم) وفائدة وصف أبي ذر لثوب النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: "أتيته وهو نائم" "ثم أتيته وقد استيقظ" الإشارة إلى استحضاره القصة بما فيها ليدل ذلك على إتقانه لها. 4 - وفيه المراجعة في العلم بما تقرر عند الطالب في مقابلة ما يسمعه مما يخالف ذلك. 5 - وفيه تقوى أبي ذر، واستعظامه المعاصي، وشدة نفرته من معصية الله وأهلها، وليس فيه كراهة أبي ذر لدخول العاصي الجنة، ولا ممانعة منه لذلك، وإنما صور بهذه الصورة لحرصه على الطاعات. 6 - وفيه أن الطالب إذا ألح في المراجعة يزجر بما يليق به أخذا من قوله: "على رغم أنف أبي ذر". والله أعلم

(56) باب تحريم قتل الكافر بعد قوله: لا إله إلا الله.

(56) باب تحريم قتل الكافر بعد قوله: لا إله إلا الله. 161 - عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار. فقاتلني. فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها. ثم لاذ مني بشجرة، فقال: أسلمت لله. أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تقتله" قال فقلت: يا رسول الله إنه قد قطع يدي. ثم قال ذلك بعد أن قطعها. أفأقتله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تقتله. فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله. وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال". 162 - وأما معمر ففي حديثه فلما أهويت لأقتله قال لا إله إلا الله. 163 - عن المقداد بن عمرو بن الأسود الكندي رضي الله عنه وكان حليفا لبني زهرة، وكان ممن شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار؟ ثم ذكر بمثل حديث الليث. -[المعنى العام]- ما أروع سماحة الإسلام، وما أسمى قيمه وتشريعه، كلمة واحدة تعصم وتحمي الأموال، وتمحو ما تقدم من سيئات، كلمة واحدة تجب ما قبلها، كلمة "لا إله إلا الله محمد رسول الله ". لقد كان الكفار يقتتلون مع المسلمين، فإذا دارت الدائرة عليهم، ووجدوا أنفسهم أمام قتل محقق، وأموالهم وذرياتهم أمام سبي حتمي قالوها فحقنوا بذلك دماءهم وأموالهم وأعراضهم، عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله". وعظم هذا الحكم في نفس المقداد وهو الفارس المغوار، ذو الأنفة والمنعة والشجاعة والإقدام، ففرع على هذا الحكم مسألة ظن أن حكمها يفلت من هذا الحكم العام فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أخبرني يا رسول الله:

لو لقيت رجلا من الكفار، فقاتلني، فقطع إحدى يدي بسيفه، ثم لاذ واعتصم مني بشجرة أو حجر، فتمكنت منه، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله. أسلمت لله. أأقتله بعد أن قالها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقتله، قال: يا رسول الله ما قالها إلا بعد أن أهويت سيفي إليه لأقتله، أأقتله؟ قال صلى الله عليه وسلم: لا تقتله. قال: يا رسول الله إنه قطع يدي، أأقتله؟ قال صلى الله عليه وسلم: إن قتلته في هذه الحالة كنت بمنزلته ومشابها له قبل إسلامه، وكان هو بعد إسلامه مشبها لك قبل أن تقتله فإنك تكون بعد قتلك له آثما، كما كان هو قبل إسلامه، وإنه يكون بعد قولها نقيا من الآثام كما كنت أنت قبل قتلك إياه. -[المباحث العربية]- (عن المقداد بن الأسود) المقداد هو ابن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة. هذا نسبه الحقيقي. تبناه في الجاهلية الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف، فنسب إلى الأسود، وصار به أشهر وأعرف، فلفظ (ابن) قبل الأسود يكتب بالألف، لأنه ليس واقعا بين علمين متناسلين ثانيهما أب للأول، ومثله عبد الله بن عمرو ابن أم مكتوم وعبد الله بن أبي ابن سلول، ومحمد بن علي ابن الحنفية، وإسحاق بن إبراهيم ابن راهويه، ومحمد بن يزيد (ابن ماجه) بالألف، وأن يعرب بإعراب الابن المذكور أولا: فأم مكتوم زوجة عمرو، وسلول زوجة أبي، والحنفية زوجة علي وراهويه هو إبراهيم والد إسحق، وماجه هو يزيد فهما لقبان. والمقداد من أوائل من أسلم، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أول من أظهر الإسلام بمكة سبعة، منهم المقداد، وهاجر إلى الحبشة. قاله النووي: وله موقف مشهود في بدر. (أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار) أي أخبرني، وفي بعض الأصول "أرأيت لقيت" بحذف "إن" قال النووي: والأول هو الصواب. وفي رواية: "أرأيت ... إلى لقيت كافرا فاقتتلنا". (فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها) هذا على وجه التمثيل، وقصده أو إحدى رجلي بالسيف أو بغيره. (ثم لاذ مني بشجرة) التجأ إليها واعتصم مني، وذكر الشجرة على سبيل المثال ونحوها. (أفأقتله) الفاء مؤخرة من تقديم، وهي فاء جواب الشرط لكون الجملة استفهامية، والأصل فأ أقتله، فقدمت همزة الاستفهام. (فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله) في معناها أقوال كثيرة تأتي في فقه الحديث.

(قبل أن يقول كلمته التي قال) عائد الصلة [مفعول قال] محذوف تقديره: التي قالها. (فلما أهويت لأقتله) أي ملت. يقال هويت وأهويت إليه باليد والسيف كلاهما لازم، والهمزة ليست للتعدية، وقيل: أهويته أملته، وقال بعض أهل اللغة: الإهواء التناول باليد والضرب. (قال: لا إله إلا الله) كناية عن الشهادتين، وقيل: هي وحدها كافية في الكف عن قائلها. -[فقه الحديث]- ظاهر سياق هذا الحديث أن الواقعة حصلت للمقداد، وأن رجلا كافرا قد ضرب إحدى يديه بالسيف فقطعها، لكن قال الحافظ ابن حجر: إن نفس الأمر بخلافه، وإن المقداد سأل عن الحكم في ذلك لو وقع، وقد استدل به على جواز السؤال عن النوازل قبل وقوعها، وما نقل عن بعض السلف من كراهة ذلك، محتجين بقوله تعالى: {لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} [المائدة: 101] فإنه محمول على السؤال عن الأمور التي يندر وقوعها أما ما يمكن وقوعها عادة فيشرع السؤال عنها للتعلم وتوقي الخطأ فيها. قال ابن العربي: والاحتجاج بالآية على هذا جهل، لأنها إنما هي فيما يسوء الجواب عنه. وقد روى البزار عن ابن عباس قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فيها المقداد فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا وبقي رجل له مال كثير، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقتله المقداد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كيف لك بلا إله إلا الله غدا؟ وأنزل الله قوله {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا} [النساء: 94]. فإن صحت هذه الرواية - وهي لا تكاد تصح- حمل سؤاله على المراجعة في نفس الجلسة ظنا منه أن القتل في مقابلة قطع اليد جائز، وأن منع القتل بعد لا إله إلا الله حماية للنفس والمال، يشهد لذلك إعادته السؤال مرتين -متعجبا- عن قاطع اليد، والذي يدعونا إلى هذا الحمل أنه من المستبعد أن يسمع الحكم بالنهي عن القتل بعد الشهادة ولو تعوذا ثم يفعل نقيضه فيقتل متعوذا. وليست مراجعة المقداد في حديثنا من قبيل كراهته للحكم ومما نعته له، بل من قبيل التعجب والغرابة، لمخالفته ما كان يظن وما كان يتوقع، ووجهة نظره من زاويته معقولة، فقد تستغل (لا إله إلا الله) لفرار الكفار من سطوة المؤمنين وعقابهم، دون أن يكون لها أصل في قلوبهم، ووجهة نظر الإسلام أكثر دقة وفقها، فإن الله وحده هو العالم بالقلوب، وقد أمرنا بالعمل بالظاهر والله يتولى السرائر. ولعل المقداد لم يكن سمع حديث "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" أو لعله فهم منه "حتى يقولوا لا إله إلا الله" في غير تعوذ وفي غير جناية منهم واعتداء. وقد اختلف العلماء في

المعنى المراد من قوله صلى الله عليه وسلم للمقداد: "فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال". فذهب المهلب إلى أن معناه: إنك بقصدك لقتله عمدا آثم، كما كان هو بقصده لقتلك آثما، فأنتما في حالة واحدة من العصيان. اهـ. ومعناه: إن قتلته كنت آثما كحاله قبل الإسلام، وهو بعد إسلامه صار نقيا كحالك قبل أن تقتل، فالمشابهة في مطلق الإثم والنقاء من الإثم لا في الكفر. وقيل: المراد إن قتلته مستحلا لقتله بعد سماعك الحكم فأنت بمنزلته قبل أن يسلم، أي فأنت كافر، وهو بعد قولها مسلم، بمنزلتك قبل أن تقتل، وهذا تأويل بعيد. وقيل: معناه إنه مغفور له بشهادة التوحيد، كما أنك مغفور لك بشهود بدر. وهذا التأويل أكثر بعدا من سابقه، فإنه إن صح بالنسبة للجملة الأولى "فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله" فإنه لا يصح بالنسبة للثانية "وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال". ونقل ابن التين عن الداودي أنه قال: يفسره حديث ابن عباس الذي رواه البخاري "قال": قال النبي صلى الله عليه وسلم للمقداد: إذا كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار، فأظهر إيمانه فقتلته، فكذلك كنت أنت تخفي إيمانك بمكة من قبل". والمعنى على هذا أنك إن قتلته يحتمل أن يكون بمنزلتك في مكة، وأنك كنت في مكة بمنزلته في قومه من حيث إخفاء الإيمان. وقيل: إن هذه العبارة لم يقصد منها معناها الحقيقي، وإنما قصد منها الإغلاظ بظاهر اللفظ للردع والزجر. وقال الإمام النووي: أحسن ما قيل وأظهره ما قاله الإمام الشافعي وابن القصار المالكي وغيرهما أن معناه: فإنه معصوم الدم محرم قتله بعد قوله لا إله إلا الله كما كنت أنت قبل أن تقتله، وإنك بعد قتله غير معصوم الدم ولا محرم القتل كما كان هو قبل قوله: لا إله إلا الله. قال ابن القصار: يعني لولا عذرك بالتأويل المسقط للقصاص عنك. ونحن مع الإمام النووي في أن هذا المعنى أوضح التوجيهات وأحراها بالقبول. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - أن (لا إله إلا الله) تعصم الدم، وأن الحكم بالظاهر واجب. 2 - احتج بقول المقداد، فقال: أسلمت لله، أنه يصح الدخول في الإسلام بكل ما يدل على الدخول فيه من قول أو فعل، مما يتنزل منزلة النطق بالشهادتين. وقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام بني جذيمة الذين قتلهم خالد وهم يقولون: صبأنا، صبأنا، ولم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا. فلما بلغ ذلك النبي

صلى الله عليه وسلم رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد، ثم وداهم صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ ابن حجر: في الاستدلال به على صحة إسلام من قال: أسلمت لله ولم يزد على ذلك نظر، لأن ذلك كاف في الكف وحقن الدم فقط، وليس في الحكم بالإسلام، على أنه ورد في الطريق الثاني (فقال: لا إله إلا الله) فيحتمل أن التعبير بأسلمت من تعبير راوي قول المقداد. 3 - جواز السؤال عن النوازل قبل وقوعها وقد تقدم بيانه. 4 - جواز المراجعة في العلم. 5 - حلم العالم عن السائل. والله أعلم

(57) باب قتل أسامة لمن قال: لا إله إلا الله

(57) باب قتل أسامة لمن قال: لا إله إلا الله 164 - عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية. فصبحنا الحرقات من جهينة. فأدركت رجلا. فقال: لا إله إلا الله فطعنته فوقع في نفسي من ذلك. فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أقال لا إله إلا الله وقتلته؟ " قال قلت: يا رسول الله، إنما قالها خوفا من السلاح. قال "أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا"؟ فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ. قال فقال سعد: وأنا والله لا أقتل مسلما حتى يقتله ذو البطين [يعني أسامة]. قال: قال رجل: ألم يقل الله: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} [الأنفال: 39]. فقال سعد: قد قاتلنا حتى لا تكون فتنة. وأنت وأصحابك تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة. 165 - عن أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنهما قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة من جهينة. فصبحنا القوم. فهزمناهم ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم. فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله. فكف عنه الأنصاري. وطعنته برمحي حتى قتلته. قال فلما قدمنا. بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي "يا أسامة! أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟ " قال قلت يا رسول الله، إنما كان متعوذا. قال، فقال: "أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟ " قال فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم. 166 - عن صفوان بن محرز، أنه حدث، أن جندب بن عبد الله البجلي بعث إلى عسعس بن سلامة، زمن فتنة ابن الزبير، فقال: اجمع لي نفرا من إخوانك حتى أحدثهم. فبعث رسولا إليهم. فلما اجتمعوا جاء جندب وعليه برنس أصفر. فقال: تحدثوا بما كنتم تحدثون به. حتى دار الحديث. فلما دار الحديث إليه حسر البرنس عن رأسه. فقال: إني أتيتكم ولا أريد أن أخبركم عن نبيكم. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثا من المسلمين إلى قوم من المشركين. وإنهم التقوا فكان رجل من المشركين إذا

شاء أن يقصد إلى رجل من المسلمين قصد له فقتله. وإن رجلا من المسلمين قصد غفلته. قال وكنا نحدث أنه أسامة بن زيد. فلما رفع عليه السيف قال: لا إله إلا الله، فقتله. فجاء البشير إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فسأله فأخبره. حتى أخبره خبر الرجل كيف صنع. فدعاه. فسأله. فقال "لم قتلته؟ " قال: يا رسول الله أوجع في المسلمين. وقتل فلانا وفلانا. وسمى له نفرا. وإني حملت عليه. فلما رأى السيف قال: لا إله إلا الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أقتلته؟ " قال: نعم قال "فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟ " قال: يا رسول الله! استغفر لي. قال "وكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟ " قال فجعل لا يزيده على أن يقول "كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟ ". -[المعنى العام]- في رمضان سنة سبع من الهجرة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية بإمارة غالب بن عبد الله الليثي لتأديب بطن من بطون جهينة ولتأمين المسلمين في الأرض الإسلامية، وكان في هذه السرية أسامة بن زيد. فاجأت السرية القوم صباحا فقاتلتهم، وراع المسلمين رجل من المشركين أوجع في الضرب وأكثر من قتل المسلمين، ولكن الدائرة سرعان ما دارت على المشركين فانهزموا وفروا، وتعقب أسامة ورجل من الأنصار هذا المشرك الذي قتل كثيرا من المسلمين حتى أدركاه وأحاطا به، فقال: لا إله إلا الله لينجو من القتل. وكان معلوما مشهورا أن من قالها عصم دمه وماله، فكف الأنصاري عن الرجل، لكن أسامة اعتقد أنه يخادع بها لينجو من السيف، فقاتله بالسيف فاحتمى منه، فطعنه أسامة برمحه حتى قضى عليه، وذهب البشير بخبر السرية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدثه حديث أسامة وقتيله، فلما وصل أسامة إلى المدينة سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقتلته يا أسامة بعد أن قال لا إله إلا الله؟ قال: إنه قالها خوفا من السلاح. قال له: هل شققت عن حقيقة قلبه ودخيلة نفسه لتعلم أقالها من قلبه أو خداعا؟ قال: يا رسول الله. إنه أوجع في القتل، وقتل فلانا وفلانا من المسلمين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله؟ قال أسامة: يا رسول الله استغفر لي. قال: وبم تجيب يوم القيامة إذا جاءت لا إله إلا الله تطالبك بحقها في حقن الدم والمال؟ قال استغفر لي يا رسول الله. قال: وكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟ أعاد أسامة وكرر طلب الاستغفار، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزد على قوله له: كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟ وحلف أسامة ألا يقاتل مسلما بعد اليوم، وجاء يوم الفتنة، وقامت الحرب بين علي وبعض المسلمين في الجمل وصفين، واستنفر على أصحابه، ومنهم أسامة، لكن أسامة أحجم عن مناصرة علي، لا ضنا بنفسه عن علي، ولا كراهة له، ولكن كما قال لرسوله: قل له لو كان في أشد الأماكن هولا

لأحب أن يكون معه فيه، قال لرسوله قل له: لو كنت في شدق الأسد لأحببت أن أكون معك فيه، ولكنه يكره قتال المسلمين. واقتدى بأسامة في ذلك سعد بن أبي وقاص، فكف عن الدخول في الفتنة قائلا: لا أقاتل مسلما حتى يقاتله أسامة. وكانت الحجة البالغة لسعد ألا يقاتل مسلما، حتى حين قال له أحد دعاة الحرب في الفتنة: أليس الله يقول: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} [الأنفال: 39] قال سعد: كان الدين لله، والمقاتلون اليوم يريدون بقتالهم الفتنة، وقانا الله شرها، وجمع الأمة على حبله المتين. -[المباحث العربية]- (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم) ضمير "بعثنا" للمتكلم أسامة ومن كان معه، وليس ضمير العظمة. (في سرية) -بفتح السين وكسر الراء وتشديد الياء- وهي: الجماعة تخرج بالليل قيل: سميت بذلك لأنها تخفي ذهابها. والسرية في العرف: قطعة من الجيش تخرج منه وتعود إليه، وهي من مائة إلى خمسمائة، وما افترق من السرية يسمى بعثا. وهذه السرية يقال لها سرية غالب بن عبد الله الليثي، وكانت في رمضان سنة سبع من الهجرة. (فصبحنا الحرقات من جهينة) الحرقات- بضم الحاء وفتح الراء بعدها قاف - وهم: بطن من جهينة، سموا بذلك لواقعة كانت بينهم وبين بني مرة بن عوف، فأحرقوا بني مرة بالسهام وأكثروا من قتلهم، ومكان إقامتهم بناحية نجد، على مسافة ستة وتسعين ميلا من المدينة، أي نحو (152 كيلو مترا). وفي الرواية الثانية: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة من جهينة فصبحنا القوم" أي فاجأناهم وهجمنا عليهم في الصباح قبل أن يشعروا. يقال: صبحته: أتيته صباحا بغتة، ومنه قوله تعالى: {ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر} [القمر: 38]. (فأدركت رجلا) معطوف على مطوي في الكلام، والتقدير: فقاتلناهم فهزمناهم، وكان رجل منهم قد أوجع في المسلمين وقتل كثيرا منهم، فلما انهزموا ولى هاربا، فأدركته. وهذا الرجل قيل: اسمه مرداس بن عمرو الفدكي، وقيل مرداس بن نهيك الفزاوي، وتقدير الكلام فأدركت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم. كما سيأتي في الرواية الثانية. (فقال: لا إله إلا الله) كناية عن الشهادتين، وقيل إن هذه الشهادة وحدها كافية في المنع من القتل خصوصا من مشرك. (فطعنته) برمحي ومازلت أطعنه حتى قتل. (فوقع في نفسي من ذلك) أي فوقع في نفسي شيء من هذا القتل، وظننت أني أخطأت.

(فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم) أي ذكرت الحدث والشأن والموضوع. (أقال .. وقتلته)؟ الاستفهام للتقرير، أي حمل المخاطب على الإقرار بأنه قتل بعد القول، ويصح أن يكون للتهويل والتعجب، ويصح أن يكون للتوبيخ على المعطوف بعد حصول المعطوف عليه، أي ما كان ينبغي أن تقتله بعد أن قال لا إله إلا الله. (إنما قالها خوفا من السلاح) ولم يقلها من قلبه، والضمير لكلمة الشهادة. (أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟ ) كناية عن عدم العلم بما في القلب حتى يصح الحكم المذكور، قال النووي: الفاعل في قوله "أقالها" هو القلب، فليس لك طريق إلى ما فيه، فأنكر عليه ترك العمل بما ظهر من اللسان، فقال: أفلا شققت عن قلبه لتنظر هل كانت فيه حين قالها واعتقدها أو لا؟ والمعنى أنك إذا كنت لست قادرا على ذلك فاكتف منه باللسان. اهـ. (فما زال يكررها على) أي يكرر جملة "أفلا شققت عن قلبه؟ ". (حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ) التنوين عوض عن جملة، والتقدير: يوم إذ حاسبني وعنفني رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى: تمنيت أنه لم يكن تقدم إسلامي. بل ابتدأت الآن الإسلام ليمحو عني هذا الذنب. (فقال سعد: وأنا والله لا أقتل مسلما حتى يقتله ذو البطين) المراد سعد بن أبي وقاص، والمراد من ذي البطين أسامة، وقيل له ذلك لأنه كان له بطن عظيم، فالتصغير للتعظيم. وكان أسامة قد حلف ألا يقاتل مسلما، لانزعاجه من هذه الحادثة، فاقتدى به سعد والمراد من "أقتل" أقاتل، أي لا أقاتل مسلما حتى يقاتله أسامة، أو المراد لا أقتل مسلما حتى يشرع في قتله أسامة، وليس مراد سعد أنه إن قاتل أسامة أقاتل، وإنما هو من قبيل التعليق على الممتنع وقوعه. (قال: قال رجل: ألم يقل الله .. إلخ) أي قال أسامة: قال رجل من دعاة القتال في فتنة علي، ردا على توقف أسامة وسعد عن القتال. (ولحقت أنا ورجل من الأنصار) قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسم هذا الأنصاري. (فلما غشيناه) -بفتح الغين وكسر الشين- أي لحقنا به حتى تغطى بنا. (إنما كان متعوذا) -بكسر الواو- أي طالبا العصمة. (فمازال يكررها) أي يكرر "أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله" وفي الرواية السابقة فمازال يكرر "أفلا شققت عن قلبه؟ " وفي الرواية الآتية أنه كرر "كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟ " فيحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كرر الألفاظ الثلاثة، فنقل راو واحدة، ونقل الآخر الأخرى. (وعليه برنس أصفر) البرنس -بضم الباء والنون-: كل ثوب رأسه ملتصق به.

(تحدثوا بما كنتم تحدثون به) "تحدثون" بفتح التاء، وأصله تتحدثون به، فحذفت إحدى التائين. (حتى دار الحديث) غاية لمحذوف، أي فتحدثوا بما كانوا يتحدثون حتى دار الحديث عليهم واحدا واحدا. (حسر البرنس) أي كشفه ونحاه عن رأسه، لتتضح شخصيته ويهتم بكلامه. (ولا أريد أن أخبركم) قيل "لا" زائدة، والمعنى وأريد أن أخبركم، وقيل: ليست زائدة، والمعنى أنبئكم، ولا أريد أن أخبركم عن نبيكم صلى الله عليه وسلم، بل أريد أن أعظمه، وأخبركم بكلام من عند نفسي، والتأويل الأول أقرب. (بعث بعثا من المسلمين إلى قوم من المشركين) والمراد من البعث السرية من قبيل التوسع في الإطلاق، والمراد من القوم المشركين: الحرقات من جهينة. (وأنهم التقوا) الضمير للبعث وللقوم، أي وإن الفريقين التقوا، أو البعث باعتبار أفراده، أي وإن البعث التقوا بالقوم المشركين والأول أظهر. (فكان رجل من المشركين) "كان" تامة و"رجل" فاعلها، والمراد من الرجل مرداس. (وإن رجلا من المسلمين قصد غفلته) بالفاء بعد الغين، وفي رواية: "غيلته" بالياء بعد الغين. (وكنا نحدث أنه أسامة) "نحدث" بضم النون وفتح الحاء وتشديد الدال المفتوحة. (فلما رفع عليه السيف) وفي بعض الأصول "فلما رجع عليه السيف". قال النووي: وكلاهما صحيح، "والسيف" منصوب على الروايتين، فرفع لتعديه، "ورجع" يستعمل لازما ومتعديا، والمراد هنا المتعدي. وذكر رفع السيف عليه هنا مع أنه قد سبق في الرواية الثانية "وطعنته برمحي حتى قتلته" مشكل. رفع الحافظ ابن حجر هذا الإشكال باحتمال أنه رفع عليه السيف أولا، فلما لم يتمكن من ضربه بالسيف طعنه بالرمح. (فجاء البشير إلى النبي صلى الله عليه وسلم) البشير هو الرسول الذي يسبق الغزاة ليبلغ الخبر. (فدعاه فسأله) أي دعا أسامة فسأله عما بلغه به البشير، فاعترف أسامة. واختلاف العبارة في الروايات تثير إشكالا، ذلك أن الرواية الأولى تصرح بأن أسامة هو الذي ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، والرواية الثانية والثالثة تفيد أن التبليغ لم يكن من أسامة، وللجمع. قال النووي: يحتمل أن يجمع

بينهما بأن أسامة وقع في نفسه من ذلك شيء بعد قتله ونوى أن يسأل عنه، فجاء البشير فأخبر به قبل مقدم أسامة، وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم أيضا بعد قدومهم، فسأل أسامة فذكره، وليس في قوله: "فذكرته" ما يدل على أنه قاله ابتداء قبل تقدم علم النبي صلى الله عليه وسلم به، والله أعلم. -[فقه الحديث]- قال ابن رشد: قتل أسامة الرجل ليس من العمد الذي فيه الإثم، ولا من الخطأ الذي فيه الدية والكفارة، وإنما هو عن اجتهاد تبين خطؤه، ففيه لأسامة أجر واحد، ولو أصاب لكان له أجران، وإنما عنفه صلى الله عليه وسلم لتركه الاحتياط، فإن الأحوط عدم قتله، قال: ولا يعترض على هذا بأنه صلى الله عليه وسلم أدى دية الخثعميين الذين قتلهم خالد، وقد اعتصموا بالسجود، ولا بقوله - حين قتل خالد أيضا بني جذيمة وهم يقولون: صبأنا، صبأنا - اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد، لأن خالدا اجتهد وأخطأ كأسامة، وإنما أدى النبي صلى الله عليه وسلم الدية تفضلا واستئلافا لغيره، وعنف بذلك القول خالدا بترك الأحوط أيضا، فإن الأحوط أن يقف حتى يعلم ما معنى صبأنا. ومما لا شك فيه أن أسامة اجتهد وتأول، سواء قلنا إنه ظن أن الرجل قالها خوف السلاح فقط كما اعتذر هو بذلك، أو قلنا كما قال الخطابي: لعل أسامة تأول قوله تعالى: {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا} [غافر: 85]. قال الحافظ ابن حجر: كأنه حمل نفي النفع على عمومه دنيا وأخرى، وليس ذلك المراد، والفرق بين المقامين أن في مثل تلك الحالة ينفعه نفعا مقيدا بأنه يجب الكف عنه حتى يختبر أمره، هل قال ذلك خالصا من قلبه؟ أو خشية من القتل؟ وهذا بخلاف ما لو هجم عليه الموت، ووصل خروج الروح إلى الغرغرة وانكشف الغطاء، فإنه إذا قالها لم تنفعه بالنسبة لحكم الآخرة، وهو المراد من الآية، اهـ. نقول: لا شك أن أسامة اجتهد وتأول بهذا التأويل أو بذاك، ولهذا التأويل سقط القصاص عنه باتفاق، ولكن البعيد في قول ابن رشد أن تعنيف النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان لترك الأحوط، وأنه لا تبعة على أسامة، لا من حيث الدية، ولا من حيث الكفارة، فجمهور العلماء على أن الدية والكفارة لا تسقط في مثل الحالة، لكن هل ألزمه الرسول صلى الله عليه وسلم إياها أو لم يلزمه؟ قال الداودي: لعله ألزمه وسكت الرواة عنه لعلم السامع، أو كان ذلك قبل نزول آية الدية والكفارة. وقال القرطبي: حقا لا يلزم من السكوت عنه عدم الوقوع لكن فيه بعد، لأن العادة جرت بعدم السكوت عن مثل ذلك إن وقع. ثم قال: فيحتمل أنه لم يجب عليه شيء لأنه كان مأذونا له في أصل القتل فلا يضمن ما أتلف من نفس، أو مال، كالخاتن والطبيب، أو لأن المقتول كان من العدو، ولم يكن له ولي من المسلمين يستحق ديته، قال: وهذا يتمشى مع بعض الآراء، أو لأن أسامة أقر بذلك ولم تقم بذلك بينة، والعاقلة لا تحمل بالاعتراف، ولم يكن عند أسامة مال يدفع منه. قال: ولم أر من اعتذر عن سقوط الكفارة، فلعلها أيضا لم تكن شرعت، والتأويل وإن أسقط القصاص لم يسقط التوبيخ كما وقع، ولا العقوبة في الآخرة، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "كيف

تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة"؟ أي فبم تجيب إذا قيل: لم قتلت من قال: لا إله إلا الله؟ ولذا لم يقبل عذره. اهـ. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - أن الأحكام يعمل فيها بالظاهر والله يتولى السرائر. 2 - استدل بفعل جندب من جمع النفر ووعظهم أنه ينبغي للعالم والرجل العظيم المطاع وذي الشهرة أن يسكن الناس عند الفتن، ويعظهم ويوضح لهم الدلائل. 3 - استدل به بعضهم على أن من تمنى أنه لم يكن أسلم قبل اليوم لا يكفر لأنه جازم بالإسلام في الحال والاستقبال، وفي هذا الاستدلال نظر، لأن أسامة لم يرد أنه تمنى ألا يكون مسلما قبل ذلك، وإنما قصد الإشعار بأنه استصغر ما سبق له قبل من عمل صالح في مقابلة هذه الفعلة لما سمع من الإنكار الشديد، فهو إنما أورد ذلك على سبيل المبالغة لا على سبيل التمني حقيقة. 4 - وفي الحديث جواز اللوم والتعنيف والمبالغة في الوعظ عند الأمور المهمة. 5 - قال القرطبي: في تكريره صلى الله عليه وسلم والإعراض عن قبول العذر زجر شديد عن الإقدام على مثل ذلك. 6 - قال بعضهم: يؤخذ من قوله: "أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها" إلخ إثبات كلام النفس. والله أعلم

(58) باب من حمل علينا السلاح فليس منا

(58) باب من حمل علينا السلاح فليس منا 167 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حمل علينا السلاح فليس منا". 168 - عن إياس بن سلمة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سل علينا السيف فليس منا". 169 - عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حمل علينا السلاح فليس منا". -[المعنى العام]- كم حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفتن، وكم نفر من مقاتلة المسلم للمسلم، وكم قال: "ويل للعرب من شر قد اقترب". "إني لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم كوقع القطر". "لا يحمل بعضكم السلاح على بعض". "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار". "من حمل علينا السلاح فليس منا". "من سل علينا السيف فليس منا". "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض". ولم يغن حذر من قدر، ووقعت الفتن كالليل المظلم، وتقاتل المسلمون حتى قتل منهم في معركة واحدة أكثر من عشرة آلاف مسلم، وقتل في مجموع معارك علي رضي الله عنه أكثر من سبعين ألف مسلم، قتلوا جميعا بأيد مسلمة. كان لكل منهم وجهة نظر، بناها على اجتهاد واستنباط من دليل، ولا شك أن البعض مخطئ، والبعض مصيب، ولكن تحديد المخطئ والمصيب مشكل. ولا نقول إلا أن الجميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرهم إلى الله، وكل ما يعنينا من الحديث أنه أوعد وهدد وحذر وأنذر، وأدى صلى الله عليه وسلم الرسالة، وبلغ الأمانة ونصح الأمة، وشهد الله بذلك والملائكة وأولوا العلم، فصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، ووقانا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا خاصة، إنه على كل شيء قدير.

-[المباحث العربية]- (من حمل علينا السلاح) الحمل كناية عن المقاتلة أو القتل، للملازمة الغالبة، وليس المراد مطلق الحمل، بقرينة قوله "علينا" والمراد من السلاح أي نوع من أنواع الإيذاء والقتال، سواء كان سيفا كما جاء في الرواية الثانية، أو عصا أو مدية أو نبلا، كما جاء في حديث أبي هريرة عند أحمد "من رمانا بالنبل". (فليس منا) الضمير للرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين، والمعنى ليس من المسلمين الكاملين في الإسلام المتبعين سنة رسوله عليه الصلاة والسلام. وقيل: ليس من أهل سنتنا، ففي الكلام مضافان محذوفان. (من سل علينا السيف) سل السيف إخراجه من غمده، والمراد رفعه في وجه المسلمين. -[فقه الحديث]- لما كان أهل السنة لا يكفرون المسلم بالمعاصي غير الشرك فإنهم لا يكفرونه بقتال أخيه المسلم ولا بقتله مادام لا يعتقد حل ذلك. ولهم في معنى هذا الحديث ونحوه عدة وجوه منها: 1 - أنه محمول على المستحل بغير تأويل، وكل مستحل للكبيرة المعلوم حرمتها من الدين بالضرورة كافر، ويكون معنى الحديث: من حمل السلاح على المسلم مستحلا دمه بغير حق فليس من المسلمين. 2 - أن معناه فليس على طريقنا، أو ليس متبعا لطريقنا، لأن من حق المسلم على المسلم أن ينصره ويقاتل دونه، لا أن يرعبه بحمل السلاح عليه لإرادة قتاله أو قتله. 3 - وقد توقف كثير من السلف عن تأويله، وحملوا على من أوله التأويل السابق، وكان سفيان بن عيينة -رحمه الله- يكره قول من يفسره: بليس على هدينا، ويقول: بئس هذا القول، ويأمر بالإمساك عن تأويله ليكون أبلغ في الزجر، لما يوهمه من بعد فاعل ذلك عن الإسلام وعدم اندراجه تحت لواء المسلمين. والحديث يعلق الحكم على حمل السلاح وسل السيف، سواء باشر به الضرب أو قصد به الإزعاج والتخويف ونشر الرعب، وإن كان إثم الأخير دون إثم المباشر للضرب، وإثم المقاتل من غير قتل دون القاتل. بل لقد وردت أحاديث تنهى عن حمل السلاح ولو لعبا وهزلا، ففي البخاري: "لا يشير أحدكم على أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده، فيقع في حفرة من النار" وفي الترمذي "من

أشار إلى أخيه بحديدة لعنته الملائكة" ولأحمد "مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم في مجلس يسلون سيفا يتعاطونه بينهم غير مغمود، فقال: ألم أزجر عن هذا؟ لعن الله من فعل هذا، إذا سل أحدكم سيفه، فأراد أن يناوله أخاه فليغمده، ثم يناوله إياه". قال ابن العربي: إذا استحق الذي يشير بالحديدة اللعن فكيف الذي يصيب بها؟ . قال الحافظ ابن حجر: وإنما يستحق اللعن إذا كانت إشارته تهديدا سواء أكان جادا أم لاعبا، وإنما أوخذ اللاعب لما أدخله على أخيه من الروع، ولما يخاف من الغفلة عند الإشارة فيحصل الإيذاء من غير قصد، ولا يخفى أن إثم الهازل دون إثم الجاد. وهذا الحديث يفرض علينا تساؤلا عن موقف الصحابة حين قاتل بعضهم بعضا في موقعة الجمل وصفين وغيرهما، هل كانوا يجهلون هذه الأحاديث ووعيدها؟ أو أقدموا وهم يعلمونها ويؤولونها؟ بسط القول على هذا التساؤل سيأتي إن شاء الله في كتاب الفتن، وخلاصته أن الصحابة كانوا -كما نعلم- ثلاث فرق: فرقة مع علي رضي الله عنه، وفرقة مع خصومه، وفرقة توقفت وفرت من الفتنة ولم تدخل المعارك. أما الفرقة الأولى: فقد حملت الحديث على البغاة وعلى من بدأ بالقتال ظالما، أما من قاتل البغاة من أهل الحق فإنه لا يتناوله الوعيد المذكور. وأما الفرقة الثانية: فقد حملته على الذين يقاتلون من غير تأويل واجتهاد، أو من قصر نظره عن معرفة صاحب الحق، أو الذين يقاتلون لطلب الدنيا والملك، أما الذين يحملون السلاح لنصرة الحق فإنه لا يتناولهم الوعيد المذكور. قال الطبري في تبرير موقف هاتين الفرقتين: لو كان الواجب في كل اختلاف يقع بين المسلمين الهرب منه بلزوم المنازل وكسر السيوف لما أقيم حد، ولما أبطل باطل، ووجد أهل الفسوق سبيلا إلى ارتكاب المحرمات، وإلى أخذ الأموال، وسفك الدماء، وسبي الحريم، بأن يحاربوهم ويكف المسلمون أيديهم عنهم، بأن يقولوا: هذه فتنة، وقد نهينا عن القتال، وهذا مخالف للأمر بالأخذ على أيدي السفهاء. اهـ وأما الفرقة الثالثة: فقد أحست أن هذا النذير شامل لرفع السلاح على المؤمن أيا كان دافعه، مادام بغير الثلاث الواردة، النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة. وقد اختلفت هذه الفرقة في طريقة العمل، فقالت طائفة بلزوم البيوت، وقالت طائفة بالتحول عن بلد الفتن أصلا, ثم اختلفوا: فمنهم من قال، إذا هجم عليه شيء من ذلك يكف يده ولو قتل، ومنهم من قال: بل يدافع عن نفسه وعن ماله وعن أهله، وهو معذور إن قتل أو قتل. وظاهر الحديث مع هذه الفرقة، بل تؤيدهم أحاديث كثيرة في الفتن، منها ما رواه البخاري "ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، فمن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به"، وما رواه مسلم "فإذا نزلت فمن

كان له إبل فليلحق بإبله، قال رجل: يا رسول الله. أرأيت من لم يكن له؟ قال: يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع"، وما رواه أحمد من حديث ابن مسعود في ذكر الفتنة: "قلت: يا رسول الله فما تأمرني إن أدركت ذلك؟ قال: كف يدك ولسانك، وادخل دارك، قلت يا رسول الله. أرأيت إن دخل رجل على داري؟ قال: فادخل بيتك (أي حجرة نومك) قال: أفرأيت إن دخل على بيتي؟ قال: فادخل مسجدك (وقبض بيمينه على الكوع) وقل ربي الله حتى تموت على ذلك" وما رواه الطبراني "ليمسك بيده، وليكن عبد الله المقتول لا القاتل". والحقيقة أنه لو علم المتقاتلون في الفتنة هذا المصير الذي صار إليه أمر المسلمين ما تقاتلوا سواء في ذلك منتصرهم ومهزومهم. فقد روي أن عليا رضي الله عنه سار بين القتلى بعد انتهاء معركة الجمل، فأخذ يضرب فخذيه بيديه، وهو يقول: يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا. هذا، وقد اتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك، ولو عرف المحق منهم، لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد، وقد عفا الله تعالى عن المخطئ في الاجتهاد، بل ثبت أنه يؤجر أجرا واحدا، وأن المصيب يؤجر أجرين. فلنمسك عن إدانة هذا أو ذاك، وعن قولنا: لو كان كذا كان كذا وكذا، ولنقل قدر الله وما شاء فعل. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - تحريم قتال المسلم وقتله. 2 - وتغليظ الأمر في ذلك. 3 - وتحريم تعاطي الأسباب المفضية إلى إيذائه. 4 - فيه حجة للقول بسد الذرائع. 5 - في الحديث حجة لمن لم ير القتال في الفتنة، وترك القتال مع علي في حروبه كسعد بن أبي وقاص وأسامة بن زيد وعبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة وغيرهم. والله أعلم

(59) باب من غشنا فليس منا

(59) باب من غشنا فليس منا 170 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حمل علينا السلاح فليس منا ومن غشنا فليس منا". 171 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مر على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا فقال: "ما هذا يا صاحب الطعام؟ " قال: أصابته السماء يا رسول الله. قال: "أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غش فليس مني". -[المعنى العام]- رعاية لشئون المسلمين، واهتماما بأمورهم، وحرصا على اكتشاف الأخطاء في معاملاتهم ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السوق، وتفقد أحوال البيع والشراء، ورأى بائع حب يجمع كومة من الطعام (القمح أو الشعير) ليبيعها، وخوفا أن يكون الرجل قد وضع الرديء أسفل من الجيد يخفي عيوبها أدخل النبي صلى الله عليه وسلم يده في جوفها، فأصابت يده بللا، وأحس أن الحب الأسفل مبتل بخلاف الأعلى، فغضب، معتبرا أن ذلك من غش المسلمين، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال الرجل: يا رسول الله. لقد أمطرت السماء، فأصابه المطر، ولا قبل لي بتحاشي البلل، ولا بوقاية الطعام من الماء، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عذره ونبهه إلى ما ينبغي أن يعمله في هذه الحالة، وهو أن يخرج الحب المبتل من أسفل إلى أعلى، فإن جف الأعلى فليخرج مرة ثانية من الأسفل إلى الأعلى، حتى يراه المشتري، ويكون على بينة من إصابته بالماء، فمن أخفى عيوب سلعته فقد غش، ومن غش فليس على هدى وسنة سيد المرسلين. -[المباحث العربية]- (من غشنا) الضمير للرسول والأمة الإسلامية (أمة الإجابة) وفي الرواية الثانية "من غش" بحذف المفعول للتعميم، فيشمل غش الكافرين، وإذا أردنا من الرواية الأولى أمة الدعوة توافقت الروايتان، والغش عدم تمحيص النصح، يقال: غشه إذا أظهر له خلاف ما أضمره. (صبرة طعام) -بضم الصاد وإسكان الباء-: الكومة المجموعة من الطعام فالإضافة بمعنى

"من" سميت "صبرة" لإفراغ بعضها على بعض، ومنه قيل للسحاب فوق السحاب صبر، وقيل: الصبر الحبس، والطعام المصبور هو المحبوس للبيع. (أصابته السماء) أي المطر، مجاز مرسل بعلاقة الحالية والمحلية. (فليس مني) أي فليس متبعا سنتي وطريقتي، وفي المراد منه تقال الوجوه الثلاثة التي مرت في الحديث السابق "من حمل علينا السلاح فليس منا". -[فقه الحديث]- الظاهر أن صاحب الطعام أخفى الطعام المبلل عمدا إلى الأسفل، لأن المفروض أن المطر يصيب الأعلى قبل الأسفل، اللهم إلا أن يقال: إن تعرض الطعام للشمس والهواء جفف أعلاه، ويكون للرجل عذره، وهو صادق، وهو فرض أقرب إلى القبول، لأنه لا هدف للبائع من بل الطعام إذا كان سيبيعه جملة وكذلك إذا كان سيبيعه كيلا، بل إن المبلول في هاتين الحالتين ينضغط وينكبس، فلا يكون في مصلحة البائع، فإن كان سيبيعه وزنا فلا هدف من إخفاء المبلول، لأنه سينكشف عند تجزئته للميزان، فيكون المشتري بالخيار. من أجل هذا أميل إلى أن الرجل لم يتعمد إخفاء المبلول ما دام من نفس نوع الطعام الأعلى لم يصبه فساد، غاية الأمر أن المبلول يحتاج إلى نشر وتهوية ليتقي ضرر البلل. أما أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبره غشا، ورتب عليه الحكم بأن من غش فليس مني، فهو من قبيل التغليظ، لأن شأن المؤمن أن ينصح، فإن لم ينصح ويبين لم يبارك له، وعدم بيان البلل قد يجعل المشتري مطمئنا فيهمل تجفيفه فيفسد، فهو وإن لم يكن فسادا فإنه قد يؤدي إلى الفساد، وهو وإن لم يترتب عليه نفع للبائع فقد يترتب عليه ضرر للمشتري، من أجل هذا كان في صورة الغش بالنسبة للمشتري، فحذر البائع. ويبدو لي أن أثر البلل كان ظاهرا في كيس الصبرة أو في وعائها أو في فرشها، مما دفع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن يدخل يده فيها، فليس من شأنه صلى الله عليه وسلم أن يدخل يده في كل -أو جل- الكومات. ولعل الرسول صلى الله عليه وسلم راعى كل هذه الأعذار كما راعى أن الرجل لم يتكرر منه هذا الفعل فلم يؤدبه، ولم يخرجه من السوق ولم يعمل شيئا في الطعام، وتركه يبيع، واكتفى بالقول. وقد مثل الأبي للغش أيضا ببيع التين والعنب سللا، وجعل الجيد في الأسفل وقال: إذا قوي الخلاف بين الأعلى والأسفل كان للمشتري الرجوع على البائع، لأنه من الغش، وإن لم يقو فلا رجوع له، إذ ليس من الغش، بل من الغرر اليسير الذي لا تخلو منه البياعات، فصار كالمدخول عليه، وأما ما يتفق في المقاطع من جعل طاقة التقليب (ثوب العرض) أحسن فليس من الغش، لأن المشتري لا يقتصر على تقليبها، نعم هو غش إن كان المشتري ممن يجهل ذلك كالبدوي.

ثم قال: وتحصيل القول في ذلك أن المغشوش إن تعذر تخليص الغش منه، كالخبز الناقص، واللبن بالماء، والثوب الخفيف النسيج، والجلد الدنيء الدبغ، فمن كان ذلك بيده يريده لنفسه ترك له، وإن كان لبيعه، ولم يقصد به الغش، كمن اشتراه ليبيعه، أو كان من صنعته وغلبته الصنعة، أو ذكر وجها يعذر به، بيع عليه بعد البيان ممن يستعمله لنفسه، أو يوضع عند أمين ليباع على ذلك، وإن قصد به الغش يؤدب ويخرج من السوق ليرتاح المسلمون منه، وقيل: بحرق الثياب والجلد، واختار بعضهم أن يحسب ما غش به من نقص كيل أو وزن أو غير ذلك من أنواع الغش، ويتصدق به عن أربابه، ويؤدب بقدر اجتهاد الحاكم. اهـ. وليس الغش قاصرا على البيع والشراء، فإنه كذلك يكون في الزواج بإبراز المخطوبة القبيحة الهيئة في صورة الجميلة، ومن بها عيب في صورة السليمة، والفقيرة في هيئة الغنية، والمنحطة خلقيا في إطار المهذبة الفاضلة، ثم بإبراز الزوج الخاطب بأنه من ذوي الحسب والنسب والمركز الاجتماعي المرموق وهو ليس على شيء من ذلك. كما يكون في الامتحان بإبراز الجاهل في صورة العالم أمام المصححين وبإبراز المفلسين والمهملين في صورة الأذكياء المجدين. كما يكون في الوظائف العامة والأعمال الخاصة، وفي كل المعاملات بإخفاء القبح وإبراز الحسن غير الحقيقي على سبيل التغرير والخداع. وإنما قرن الغش بالبيع والشراء لأنه أكثر ما يكون فيه، وإذا وجبت نصيحة المسلم والشفقة عليه، والسعي فيما يعود نفعه عليه، وكف وجوه الأذى عنه، وأن يحب له ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه، وجب عليه أن يبين عيوب سلعته لمن يريد شراءها، وفي ذلك يقول عليه الصلاة والسلام: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما". -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - تغليظ حرمة الغش ووجوب تبيين العيوب عند البيع. 2 - أن واجب أئمة المسلمين تفقد حالهم وأمورهم -ولو في الأسواق- وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر. 3 - استدل به بعضهم على أن للإمام أن يذهب إلى السوق بنفسه ليشتري ما يحتاج إليه. بل ذهب بعضهم إلى أن ذلك مندوب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم، إنما يفعل الأرجح، وفي هذا الاستدلال نظر، إذ ليس في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل السوق للشراء، وعلى فرض صحته فقد يفعل الشيء لبيان الجواز نعم يستدل به على جواز دخول الإمام والولاة وعظماء المسلمين الأسواق، وليس في ذلك ما يجرح الكرامة، أو يخل بالمروءة. والله أعلم

(60) باب ليس منا من ضرب الخدود

(60) باب ليس منا من ضرب الخدود 172 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليس منا من ضرب الخدود. أو شق الجيوب. أو دعا بدعوى الجاهلية". هذا حديث يحيى وأما ابن نمير وأبو بكر فقالا "وشق ودعا" بغير ألف. 173 - عن الأعمش بهذا الإسناد وقالا "وشق ودعا". -[المعنى العام]- إن الله خلق الإنسان هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا، لكنه جل شأنه أمره أن يعالج هذه الطباع بما يتفق وقواعد الشريعة السمحة، ليكون له بذلك الأجر، أمره بالصبر عند البلاء، والاستسلام للقضاء، كما أمره بالشكر على السراء، والحمد على الرخاء. عند ذلك يكون مؤمنا كاملا، ويكون حاله خيرا كله، إن أصابه شر صبر فكان له بذلك الأجر، وعوضه الله خيرا، وإن أصابه خير شكر فكان له بذلك الأجر، وزاده الله فضلا. أما الجزع والهلع، والقنوط والتسخط ومظاهر ذلك من لطم الخدود وشق الجيوب والتلفظ بما يغضب الله، فإنه لا يرد المصاب، ولا يغير الواقع ولا يخفف الآلام النفسية، بل يشعل نار الحزن والأسى، ويورث غضب الله وسخطه وعذابه. روى البخاري: أن بنت النبي صلى الله عليه وسلم أرسلت إليه تقول: إن ابنا لي قبض، فائتنا. فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئ السلام ويقول: إن لله ما أخذ، ولله ما أعطى، وكل عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب. هكذا يعلمنا الإسلام الإيمان بالله، والإيمان بالقدر خيره وشره. ولو آمنا بأن أموالنا وأولادنا وديعة عندنا، بل نحن في دنيانا وديعة يستردها الله متى شاء، ولا اعتراض على المالك عند استرداده وديعته، ولا حق لنا في الهلع على وديعة يأخذها صاحبها، لو آمنا بذلك، وعملنا بمقتضى هذا الإيمان، لكانت لنا البشرى، مصداقا لقوله تعالى: {وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} [البقرة: 155 - 157].

-[المباحث العربية]- (من ضرب الخدود) الخد: جانب الوجه، وللإنسان خدان، ولعل جمع "الخدود" على قول من يرى أن الجمع فوق الواحد. أو أن الإفراد في فاعل "ضرب" مراعاة للفظ "من" والمعنى على الجمع، فكأنه قال: من ضربوا الخدود، ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادا، فيؤول المعنى إلى من ضرب الخد، والمقصود من ضرب الخدود: لطم الإنسان خد نفسه على سبيل الهلع والجزع عند المصائب، فلا يشمل ضرب الإنسان خد غيره، فهو من قبيل العام المخصوص بحكم العرف، وإطلاق الخد لأنه الغالب، وإلا فضرب بقية الوجه داخل في ذلك. -[(أو شق الجيوب)]- الجيب: ما يفتح من الثوب لإدخال الرأس منه، والمراد بشقه: إكمال فتحته إلى الآخر، أو زيادتها على وجه الهلع والتسخط. وفي الرواية الثانية "وشق الجيوب" بالواو، وهي بمعنى "أو" لأن من فعل واحدة من الثلاث داخل في الوعيد، والتبري يقع بكل واحد من المذكورات، لا بمجموعها. (ودعا بدعوى الجاهلية) أي بدعوى أهل الجاهلية كما جاء في بعض الروايات، والمراد بالجاهلية: ما كان في الفترة قبل الإسلام، والمراد بدعواها: ما كانوا يفعلونه من النياحة، وندبة الميت والدعاء بالويل والثبور، كما سيأتي. -[فقه الحديث]- قال الحافظ ابن حجر: ليس المراد به (أي بقوله: ليس منا) إخراجه عن الدين، ولكن فائدة إيراده بهذا اللفظ: المبالغة في الردع عن الوقوع في مثل ذلك، كما يقول الرجل لولده عند معاتبته: لست منك ولست مني أي ما أنت على طريقتي. وقال ابن المنير: الأولى أن يقال: المراد أن الواقع في ذلك يكون قد تعرض لأن يهجر ويعرض عنه، فلا يختلط بجماعة السنة تأديبا له على استصحابه حالة الجاهلية التي قبحها الإسلام. وقيل: المعنى ليس على ديننا الكامل، أي إنه خرج من فرع من فروع الدين وإن كان معه أصله. حكاه ابن العربي. قال الحافظ ابن حجر: ويظهر لي أن هذا النفي يفسره التبري في رواية البخاري "برئ منه النبي صلى الله عليه وسلم" وأصل البراءة: الانفصال من الشيء، وكأنه توعده بألا يدخله في شفاعته مثلا. وقال المهلب: قوله "أنا بريء" أي من فاعل ما ذكر وقت ذلك الفعل [أي الموت]، ولم يرد نفيه عن الإسلام. اهـ. ثم قال الحافظ ابن حجر: وكأن السبب في تحريم ما ذكر ما تضمنه ذلك من عدم الرضا بالقضاء،

فإن وقع التصريح بالاستحلال مع العلم بالتحريم، أو تسخط مثلا بما وقع، فلا مانع من حمل النفي على الإخراج من الدين. اهـ. وأعتقد أن هذه الثلاثة: (ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعوى الجاهلية) إنما قصد بها التمثيل لا الحصر، لأنها هي التي كانت شائعة في هذه البيئة آنئذ، فيلحق بها ما يجري في هذه الأيام في بعض البلاد من دهان الوجه بالنيلة واللون الأزرق، وخنق الرقبة بالثياب والإمساك بطرفي الثوب بين اليدين والولولة به، ورفع التراب على الرأس، ونحو ذلك من مظاهر السخط وعدم الرضا بالقضاء. وهل يدخل في ذلك لبس السواد فوق مدة الحداد المشروعة، وترك الشعر بدون حلق، وتحريم أنواع من الأطعمة ونحوها من مظاهر الحزن؟ الظاهر: لا، وإن كان ذلك مخالفا للشرع أيضا. وقد كانت النياحة في الجاهلية مظهرا من مظاهر حب الميت وتقديره والاعتزاز به، بل كان بعض الموتى يوصي بالمبالغة فيها قبل موته، حتى قال طرفة بن العبد: إذا مت فانعيني بما أنا أهله وشقي علي الجيب يا ابنة معبد كما كان النساء يجامل بعضهن بعضا بالنياحة، وتلتزم الواحدة منهن رد ما قدمت الأخرى من النياحة عند مصيبتها، فشدد الرسول صلى الله عليه وسلم النهي عن النياحة، وكان فيما يأخذه على النساء عند البيعة ألا ينحن. وقال فيما رواه مسلم: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب". أما البكاء من غير نوح فقد رخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم. وقد يظن أن الرثاء، وذكر مآثر الميت ومحامده من المنهي عنه في قوله: "ودعا بدعوى الجاهلية". وليس الأمر كذلك، لأن المقصود بدعوى الجاهلية ألفاظ الأسى والتحسر التي كانت تصاحب المصيبة، والصراخ والعويل والندبة والدعاء بالويل والثبور. لكن مواساة الميت بالحديث الحسن عنه، وبتعداد فضائله، فلا شيء فيه، فقد ورد "اذكروا محاسن موتاكم" على ألا يكون في ذلك إثارة الشجن، أو بعث الحسرة، أو تجديد الأحزان بعد فوات الأوان، ولشرح الحديث صلة وثيقة بالحديث الآتي، فليتبع. والله أعلم

تابع باب ليس منا من ضرب الخدود 174 - عن أبي بردة بن أبي موسى. قال: وجع أبو موسى وجعا فغشي عليه. ورأسه في حجر امرأة من أهله. فصاحت امرأة من أهله. فلم يستطع أن يرد عليها شيئا. فلما أفاق قال: أنا بريء مما برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بريء من الصالقة والحالقة والشاقة. 175 - عن عبد الرحمن بن يزيد وأبي بردة بن أبي موسى قالا: أغمي على أبي موسى وأقبلت امرأته أم عبد الله تصيح برنة. قال: ثم أفاق. قال: ألم تعلمي (وكان يحدثها) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أنا بريء ممن حلق وسلق وخرق". 176 - عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث غير أن في حديث عياض الأشعري: "قال ليس منا" ولم يقل "بريء". -[المعنى العام]- مرض أبو موسى الأشعري وقت أن كان أميرا للبصرة من قبل عمر بن الخطاب، وبلغ به المرض حد الإغماء والغيبوبة وعدم التيقظ الكامل، وكان في حجر امرأة من نسائه فاسترخت أعضاؤه، وثقلت رأسه وأغمض عينيه، وانزعجت امرأته التي أقبلت في هذه الحالة، فصرخت باكية، ورفعت صوتها صائحة، وتنبه أبو موسى بعض التنبه لهذا الصياح لكنه لم يستطع أن ينهرها، ولم يقو لسانه على التحرك بكلمة، فلما أفاق وسري عنه ما كان به من غيبوبة قال لها: ألم أعظك وأعلمك أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الصائحة والحالقة شعرها والشاقة جيبها؟ وتبرأ من فعلهن؟ يا هذه، إني بريء من عاقبة صياحك، إني بريء مما تبرأ منه النبي صلى الله عليه وسلم، ألا هل بلغت، اللهم فاشهد. وانزجرت امرأته، وعوفي أبو موسى من مرضه، وعاش بعده زمنا طويلا، رضي الله عنه وأرضاه.

-[المباحث العربية]- (وجع أبو موسى وجعا) وجع -بكسر الجيم-: أصابه وجع وألم. وأبو موسى هو الأشعري وقوله: "وجعا" مفعول مطلق مؤكد للفعل أي وجع وجعا بالغا. (فغشي عليه) بضم الغين وكسر الشين، وفي الرواية الثانية "أغمي على أبي موسى" ومعناهما واحد، أي أصابته غيبوبة من شدة المرض. (ورأسه في حجر امرأة من أهله) جملة حالية، "حجر" بفتح الحاء وكسرها لغتان. (فصاحت امرأة من أهله) أي صرخت ببكاء، وهذه المرأة غير السابقة، فإن النكرة إذا أعيدت نكرة كانت الثانية غير الأولى، يؤيده الرواية الثانية "وأقبلت امرأته أم عبد الله" فالتي صاحت أم عبد الله، والتي حملت رأسه في حجرها أم أبي بردة. (فلم يستطع أن يرد عليها شيئا) من الكلام إما لشدة الوجع، وإما لغيبوبته، وهو الأنسب لقوله: "فلما أفاق". (أنا بريء مما برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم) أصل البراءة: الانفصال، والمراد منها هنا التخلي والبعد عن التبعية والإثم، وكان الظاهر أن يقول: "ممن برئ" كما قال في الرواية الثانية: "ممن حلق". قال النووي: كذا هو في الأصول "مما" وهو صحيح، أي من الشيء الذي برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم. (بريء من الصالقة) وهي التي تصرخ وتصيح، وترفع صوتها بالبكاء عند المصيبة والصالقة والسالقة -بالصاد والسين- لغتان، ومنه قوله تعالى: {سلقوكم بألسنة حداد} [الأحزاب: 19] وعليه صحت الرواية الثانية "أنا بريء ممن حلق وسلق" وحكي عن ابن الأعرابي: أن الصلق ضرب الوجه، والأول هو الذي عليه أهل اللغة. (والحالقة) هي التي تحلق شعرها عند المصيبة. (والشاقة) هي التي تشق ثوبها عند المصيبة، أي والشاقة جيبها، وهو المراد من الخرق في الرواية الثانية، إذ خرق الثوب شقه. (تصريح برنة) بفتح الراء وتشديد النون، والرنة: صوت مع البكاء فيه ترجيع. (ألم تعلمي) مفعولا "تعلمي" محذوفان، أي ألم تعلمي ما حدثتك به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وعيد الصالقة؟ والاستفهام تقريري أي: أقري بأنك تعلمين، وأني علمتك. (وكان يحدثها) وكان قبل الإغماء قد حدثها مرارا، فالتعبير بالمضارع للتجدد.

(أنا بريء ممن حلق) أي بريء من فعلهن، أو من إثمهن وما يستوجبن من عقوبة، أو من عهدة مالزمني بيانه من الحرمة، ويجوز أن يراد به ظاهره، أي أنا منفصل عن فاعل هذه الأمور ويصح أن يكون كناية عن الزجر والتحذير من الفعل، كما تقول لابنك: أنا بريء منك إذا فعلت كذا. -[فقه الحديث]- هذا الحديث أصل عظيم في النهي عن المنكر، والخروج من تبعة الوقوع فيه، وإذا كان الخلاف بين العلماء قد بلغ حده في تأثر الميت ببكاء أهله، وتعذبه بصراخهم بناء على الأحاديث الواردة في ذلك، فإنه مما لا شك فيه أن واجب المؤمن تحذير أهله من الوقوع في المنكر الذي يتوقع منهم أن يقعوا فيه، وإلا كان عليه تبعة التقصير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولنعرض لبعض النصوص في عذاب الميت ببكاء أهله، ثم نعود إلى تحقيق الموضوع: روى البخاري: تحت باب قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا} [التحريم: 6] قال عبد الله بن عمر، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله" وعن عمر: أنه قال: يا صهيب. أتبكي علي وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه"؟ وفي رواية أنه قال: "إن الميت ليعذب ببكاء الحي" وعن المغيرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من ينح عليه يعذب بما نيح عليه". وعن ابن عمر عن أبيه -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الميت يعذب في قبره بما نيح عليه". وروى مسلم: أن حفصة بكت على عمر-حين طعن- فقال: مهلا يا بنية، ألم تعلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه"؟ وعن ابن عمر قال: لما طعن عمر أغمي عليه، فصيح عليه، فلما أفاق قال: أما علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الميت ليعذب ببكاء الحي"؟ من مجموع هذه الروايات يفهم أن الميت يعذب ببكاء الحي، وعارضت عائشة في ذلك، وخصته بالكافرين، متمسكة بقوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [فاطر: 18] ومع أن تفصيل القول في هذه المسألة سيأتي في كتاب الجنائز فحاصل ما يقال فيها: 1 - أن البكاء من غير نوح مرخص فيه شرعا، أخذا بما رواه البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا يحزن القلب، ولكن يعذب بهذا - وأشار إلى لسانه - أو يرحم. وقال عمر حين قيل له إن النساء يبكين. قال: دعهن يبكين على أبي سليمان (يعني خالد بن الوليد) ما لم يكن نقع (أي تراب على الرأس) أو لقلقة (ترديد صوت النياحة) وإذا رخص في البكاء بدون نوح لم يعذب الميت به باتفاق. فتحمل أحاديث التعذيب بالبكاء على النوح.

2 - أن النوح وضرب الخدود وشق الجيوب والحلق ونحوها من مظاهر الهلع منكرات إن أوصى الميت بها عذب على هذه الوصية باتفاق. 3 - وأن من أوصي بها، ولم يتبرأ منها، وكانت في حياته من سننه يرضى بها، عذب بعد موته بفعل أهله لها، وعليه جمهور العلماء، وليست حينئذ من وزر غيره، بل من وزره. 4 - وأن من لم يكن يرضى بها في دنياه، لكنه أهمل النهي عنها، والتبري من فاعلها، وهو يعتقد -أو يظن- أنهم سيفعلونها عذب بفعلها، لأنه أهمل النهي عن المنكر مع القدرة عليه وتوقع وقوعه، ولعل هذه الأحوال الثلاث (الثانية والثالثة والرابعة) داخلة في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا} [التحريم: 6] ولعلها المرادة من أحاديث: يعذب الميت ببكاء أهله، ومن الحديث الذي رواه أحمد مرفوعا "الميت يعذب ببكاء الحي، إذا قالت النائحة: واعضداه؟ واناصراه؟ واكاسياه! جبذ الميت (أي جذب) وقيل له: أنت عضدها؟ أنت ناصرها! أنت كاسيها؟ ". ورواه الترمذي بلفظ "ما من ميت يموت، فتقوم ناديته، فتقول: واجبلاه، واسنداه؟ أو شبه ذلك من القول إلا وكل به ملكان يلهذانه (أي يضربانه بمجمع اليد في الصدر والحنك) يقولان له: أهكذا كنت"؟ 5 - أما إذا نهاهم وتبرأ من فعلهم قبل موته، أو كان لا يظن أنهم يفعلون ذلك، فهذا لا مؤاخذة عليه بفعل غيره، نعم قد يتعذب ويتألم بفعلهم إذا أحس به -وهو يشعر بخفق نعالهم -تألم المؤمن بسبب فعل غيره للمنكر، ويمكن أن يحمل قول من قال: إن الميت يعذب ببكاء أهله على من كان له فيه تسبب، ومن قال: إنه لا يعذب ببكاء أهله على من ليس كذلك. والله أعلم

(61) باب تحريم النميمة

(61) باب تحريم النميمة 177 - عن أبي وائل عن حذيفة رضي الله عنه أنه بلغه أن رجلا ينم الحديث. فقال حذيفة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا يدخل الجنة نمام". 178 - عن همام بن الحارث، قال: كان رجل ينقل الحديث إلى الأمير. فكنا جلوسا في المسجد. فقال القوم: هذا ممن ينقل الحديث إلى الأمير، قال: فجاء حتى جلس إلينا. فقال حذيفة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا يدخل الجنة قتات". 179 - عن همام بن الحارث، قال: كنا جلوسا مع حذيفة في المسجد. فجاء رجل حتى جلس إلينا. فقيل لحذيفة: إن هذا يرفع إلى السلطان أشياء. فقال حذيفة، - إرادة أن يسمعه-: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يدخل الجنة قتات". -[المعنى العام]- كان حذيفة بن اليمان وأصحابه جالسين في مسجد الكوفة يتذاكرون ويتدارسون أمورهم، في زمن تذمر الناس من ولاة عثمان بن عفان رضي الله عنه، فدخل من باب المسجد رجل عرف بين القوم بالتجسس للحاكم ونقل أخبار الناس وأحوالهم إليه، فنظر بعضهم إلى بعض ثم نظروا إلى حذيفة الذي لم يكن يعلم حقيقة الرجل، فأسروا إليه: إن هذا الرجل الداخل جاسوس، يرفع ما يرى وما يسمع إلى السلطان على طريق الوشاية والإيقاع. وجاء الرجل، وجلس إليهم، لعله يسمع أو يرى ما ينقله عنهم، ورفع حذيفة صوته بحديث سمعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصد به الرجل، ويقصد عظته، ونهيه عن هذا المنكر بأسلوب لطيف غير جارح، دون مجابهة ولا اتهام، خشية أن تنفر نفسه الأمارة بالسوء وتتأبى النصح، وترد الاتهام، وقد يبلغ السلطان، مما يسيء القوم، وقد كان هذا شأن الرسول صلى الله عليه وسلم في نصحه، لا يواجه المخطئ بخطئه، وإنما يختار الوقت لعظته، ويطلقها على العموم، فيقول مثلا: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا؟ . رفع حذيفة صوته بحديث- وكأنه في سياق كلامه مع أصحابه - فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا

يدخل الجنة نمام" ولا يتمتع بنعيمها من ينقل الحديث بقصد الإفساد والإضرار، وهكذا أدى حذيفة وأصحابه واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -رضي الله عنهم- وأرضاهم أجمعين. -[المباحث العربية]- (أن رجلا ينم الحديث) يقال: نم الحديث ينمه - بفتح الياء وضم النون - وينمه- بفتح الياء وكسر النون- وأصل النميمة: الهمس والحركة. والنم: إظهار الحديث بالوشاية. قال الحافظ ابن حجر: ولم أقف على اسم هذا الرجل. اهـ ولعل سبب عدم معرفة الحفاظ لهذا الرجل ما كان عليه الصحابة والتابعون من الستر، وعدم تسمية أصحاب العيوب. (فقال حذيفة) بن اليمان رضي الله عنه، الذي يطلق عليه أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، استعمله عمر على المدائن، ومات بعد أن نعي عثمان إلى الكوفة بأربعين ليلة، ولم يدرك موقعة الجمل. (كان رجل ينقل الحديث إلى الأمير) وفي الرواية الثالثة "إن هذا يرفع إلى السلطان أشياء" وفي رواية البخاري" إن رجلا يرفع الحديث إلى عثمان" أي ابن عفان، فالمقصود من الأمير والسلطان: الخليفة، سواء كان نقل الرجل الحديث إليه مباشرا أو بالواسطة. (فكنا جلوسا في المسجد) أي في مسجد الكوفة. (فقال القوم) أي قال واحد منهم ووافقوه، فنسب القول إليهم مجازا. (فقال حذيفة -إرادة أن يسمعه- سمعت إلخ) "إرادة أن يسمعه" معترضة بين الفاعل والمفعول، وهي في محل نصب على الحال أي: قال حذيفة مريدا أن يسمعه. (قتات) -بفتح القاف وتشديد التاء- من قت- بفتح القاف- يقت بضمها، وأصله من قت الحديث بمعنى سمعه وجمعه. قال الحافظ ابن حجر: والقتات هو النمام، وقيل: الفرق بين القتات والنمام، أن النمام: الذي يحضر القصة فينقلها، والقتات: الذي يتسمع من حيث لا يعلم به، ثم ينقل ما سمعه. -[فقه الحديث]- قال العلماء: النميمة نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض على جهة الإفساد بينهم. وقال الإمام الغزالي في الإحياء: اعلم أن النميمة إنما تطلق في الأكبر على من ينم قول الغير إلى المقول فيه، كما تقول: فلان يتكلم فيك بكذا. قال: وليت النميمة مخصوصة بهذا، بل حد النميمة:

كشف ما يكره كشفه، سواء كرهه المنقول عنه، أو المنقول إليه، أو ثالث، وسواء كان الكشف بالكتابة أو بالرمز أو بالإيماء، وسواء كان المنقول قولا أو فعلا، وسواء كان عيبا أو لا، حتى لو رأى شخصا يخفي ماله لنفسه فأفشى كان نميمة. قال: وكل من حملت إليه نميمة، وقيل له: فلان يقول فيك أو يفعل فيك كذا، فعليه ستة أمور: الأول: ألا يصدقه، لأن النمام فاسق. الثاني: أن ينهاه عن ذلك، وينصحه، ويقبح له فعله. الثالث: أن يبغضه في الله تعالى، فإنه بغيض عند الله تعالى، ويجب بغض من أبغضه الله تعالى. الرابع: ألا يظن بأخيه الغائب السوء. الخامس: ألا يحمله ما حكي له على التجسس والبحث عن ذلك. السادس: ألا يرضى لنفسه ما نهي النمام عنه فلا يحكي نميمته عنه فيقول: فلان حكى لي كذا فيصير به نماما، ويكون آتيا ما نهى عنه. اهـ. قال الإمام النووي: وكل هذا المذكور في النميمة إذا لم يكن فيها مصلحة شرعية، فإن دعت حاجة إليها فلا منع منها، وذلك كما إذا أخبره بأن إنسانا يريد الفتك به أو بأهله، أو بماله، أو أخبر الإمام، أو من له ولاية بأن إنسانا يفعل كذا، ويسعى بما فيه مفسدة، ويجب على صاحب الولاية الكشف عن ذلك وإزالته. فكل ذلك وما أشبهه ليس بحرام، وقد يكون بعضه واجبا وبعضه مستحبا. على حسب المواطن. اهـ. ومع أن النميمة كبيرة من الكبائر إلا أنها قد يكون المقول فيه كافرا فلا تحرم، كما أنه يجوز التجسس في بلاد الكفار، ونقل أخبارهم التي تفيد المسلمين. أما أنها كبيرة فلما رواه البخاري عن ابن عباس قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بعض حيطان المدينة، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما فقال "يعذبان وما يعذبان في كبير، وإنه لكبير، كان أحدهما لا يستتر من البول، وكان الآخر يمشي بالنميمة" ولقوله تعالى في الصفات الذميمة: {هماز مشاء بنميم} [القلم: 11] قال الراغب: همز الإنسان اغتيابه، والنم إظهار الحديث بالوشاية. واختلف في الغيبة والنميمة، هل هما متغايرتان أو متحدتان؟ قال الحافظ ابن حجر: والراجح التغاير، وأن بينهما عموما وخصوصا وجهيا، وذلك لأن النميمة: نقل حال الشخص لغيره على جهة الإفساد بغير رضاه، سواء كان بعلمه، أو بغير علمه، والغيبة: ذكره في غيبته بما لا يرضيه، فامتازت النميمة بقصد الإفساد، ولا يشترط ذلك في الغيبة وامتازت الغيبة بكونها في غيبة المقول فيه، واشتركتا فيما عدا ذلك. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة نمام" ففيه التأويلان المتقدمان في نظائره.

أحدهما: أن ذلك في المستحل، ومستحل الكبيرة التي علم حرمتها من الدين بالضرورة كافر، فلا يدخل الجنة أبدا. ثانيهما: أنه لا يدخل الجنة ابتداء عند دخول الفائزين وأهل السلامة، ثم إنه قد يجازى، فيمنعها عند دخولهم، ثم يدخلها بعد ذلك، وقد لا يجازى بل يعفو الله عنه. هذا، ولا يخفى أن المذموم من نقله الأخبار من يقصد الإفساد، أما من يقصد النصيحة ويتحرى الصدق، ويتجنب الأذى فلا ذم، وقل من يفرق بين البابين، فطريق السلامة في ذلك - لمن يخشى عدم الوقوف على ما يباح من ذلك مما لا يباح -الإمساك عن ذلك. ذكره في الفتح. والله أعلم

(62) باب تحريم إسبال الإزار، والمن بالعطية وترويج السلعة بالحلف

(62) باب تحريم إسبال الإزار، والمن بالعطية وترويج السلعة بالحلف 180 - عن أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم" قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرار. قال أبو ذر: خابوا وخسروا. من هم يا رسول الله؟ قال "المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب". 181 - عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة: المنان الذي لا يعطي شيئا إلا منه. والمنفق سلعته بالحلف الفاجر. والمسبل إزاره". 182 - عن شعبة قال سمعت سليمان بهذا الإسناد وقال "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم". -[المعنى العام]- من قبيل المعاملة بنقيض القصد، وجعل العقوبة من جنس العمل، يحدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جزاء ثلاثة من العاصين، ويعرض وعيدهم عرضا يثير في نفوس المستمعين المؤمنين مشاعر الغضب عليهم واللهفة إلى معرفة جريرتهم، فيقول صلى الله عليه وسلم: ثلاثة أصناف من المذنبين الذين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله يغضب الله عليهم يوم القيامة، لا يباليهم باله، يعرض عنهم ولا يكلمهم، ولا يرحمهم ولا يطهرهم من ذنوبهم، ولا يغفر لهم سيئاتهم، ويعذبهم على كبيرتهم عذابا أليما. وينصت الصحابة ينتظرون، من هم هؤلاء الأصناف؟ لكن الرسول صلى الله عليه وسلم بدلا من أن يجيب لهفتهم يعيد العبارة مرة ثانية: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم. ويتطلع الصحابة إلى وجه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو مغضب، وكلهم آذان صاغية، وقلوب واعية في انتظار معرفة هؤلاء الفاسقين، وكلهم إعظام لذنبهم، وإكبار لجرمهم، ومرة ثالثة يكرر رسول الله صلى الله عليه وسلم العبارة: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم.

ويشتد شوق الصحابة إلى معرفتهم، ولا يستطيعون بعد ذلك صبرا، فيقول أبو ذر رضي الله عنه: خابوا خيبة كبرى وخسروا خسرانا مبينا، من هؤلاء يا رسول الله؟ ويجيبه صلى الله عليه وسلم: هؤلاء هم: المسبل إزاره أو ثوبه أو رداءه إعجابا بنفسه وكبرا على غيره، وخيلاء بين الناس، يكسر قلب الفقراء ويتعالى على من حوله من العباد فيذله الله يوم القيامة، ويهينه ويحقره جزاء وفاقا. والمنان كثير المن، الذي لا يعطي عطية إلا ويمن بها على من أعطاه فيبطل ثواب عطيته، ولا يعطيه ربه يوم القيامة من فضله ورحمته. والمستهتر باسم ربه عز وجل، يحلف به ابتغاء عرض الحياة الدنيا، يشتري بعهد الله ويمينه ثمنا قليلا. {أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم} [آل عمران: 77]. -[المباحث العربية]- (ثلاثة) مبتدأ، سوغ الابتداء به وهو نكرة ملاحظة الإضافة أو الوصف، أي ثلاثة أشخاص، أو ثلاثة من الناس. (لا يكلمهم الله يوم القيامة) أي لا يكلمهم تكليم أهل الخيرات وبإظهار الرضى، بل بكلام أهل السخط والغضب، كقوله: {اخسئوا فيها ولا تكلمون} [المؤمنون: 108] وقوله لمانع فضل الماء: "اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك" وقريب من هذا قول جمهور المفسرين: لا يكلمهم كلاما ينفعهم ويسرهم، وقيل: لا يرسل إليهم الملائكة بالتحية، وقيل: عدم تكليمه لهم كناية عن الإعراض عنهم. والتقيد بيوم القيامة لأنه يوم المجازاة، وبه يحصل التهديد والوعيد. (ولا ينظر إليهم) النظر إذا أضيف إلى المخلوق صح أن يكون كناية، لأن من اعتد بالشخص التفت إليه، فنقول: نظرة يا سيدي، ثم كثر حتى صار عبارة عن الإحسان وإن لم يكن هناك نظر، ولما كان النظر على الحقيقة هو تقليب الحدقة، والله منزه عن ذلك، كان إسناد النظر إليه تعالى مجازا عن الرحمة والإحسان، لأن من نظر إلى متواضع رحمه، ومن نظر إلى متكبر مقته، فالرحمة والمقت متسببان عن النظر، فالمعنى: لا يرحمهم، بإطلاق السبب وإرادة المسبب. وقيل عدم نظره تعالى كناية عن الإعراض عنهم، فيكون تأكيدا للإعراض عن طريق نفي تكليمهم. (ولا يزكيهم) أي لا يطهرهم من ذنوبهم، فلا يغفر لهم، وقال الزجاج: لا يثني عليهم.

(ولهم عذاب أليم) مؤلم فعيل بمعنى اسم الفاعل، قال الواحدي: هو العذاب الذي يخلص إلى قلوبهم وجعه، قال: والعذاب كل ما يعيي الإنسان ويشق عليه، قال: وأصل العذاب في كلام العرب من العذب، وهو المنع، وسمي الماء عذبا لأنه يمنع العطش، فسمي العذاب عذابا لأنه يمنع المعاقب من معاودة مثل جرمه، ويمنع غيره من مثل فعله. وفائدة ذكر هذه الجملة بعد ما قبلها: التخويف بالعذاب البدني بعد التهديد بالعذاب الروحي. (فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرار) "فقرأها" أي قرأ هذه الجملة وأعادها ثلاث مرات تنبيها على اهتمامه، وإدخالا للرهبة في نفوس المخاطبين ليحذرهم. (قال أبو ذر: خابوا وخسروا) جملتان خبريتان لفظا ومعنى، أو خبريتان لفظا دعائيتان معنى، والأول أقرب. (المسبل) المفعول محذوف في هذه الرواية، مذكور في الرواية الثانية "المسبل إزاره" والإزار: هو الثوب الذي يربط في الوسط ويغطي نصف الجسم الأسفل، وذكر الإزار على سبيل المثال: فغيره من القميص والثوب والجبة وغيرها لها حكمه، وإنما خصه بالذكر لأنه كان غالب لباسهم، وإسبال الإزار: إرخاؤه وتطويله وجره، وسيأتي شرحه في فقه الحديث. (والمنان) المن: تقرير النعمة على من أسديت إليه، والمنان: صيغة مبالغة، ولذا فسره في الرواية الثانية بأنه "الذي لا يعطي شيئا إلا منه". (والمنفق سلعته بالحلف الكاذب) السلعة والمتاع ما يتجر به، ويقال: نفقت السلعة نفاقا راجت، وأنفق السلعة روجها. والحلف الكاذب هو المراد من الحلف الفاجر الوارد في الرواية الثانية. -[فقه الحديث]- إسناد الحكم إلى هؤلاء الثلاثة لا يمنع من إسناده إلى غيرهم، كما سيأتي في الحديث التالي. وترتيب هؤلاء الثلاثة ليس على سبيل التدرج التصاعدي أو التنازلي من ناحية الإثم، فإنهم ذكروا في الرواية الثانية بترتيب يغاير ترتيبهم في الرواية الأولى. أما درجة الإثم فكما سبق تتبع الآثار والأخطار المترتبة على كل معصية. وإليك الكلام عن كل واحد منهم: فالمسبل إزاره المرخي له إما أن يكون إسباله لمجرد العرف والعادة، وإما أن يكون لستر عيب، وإما أن يكون لغير قصد، وإما أن يكون بدافع الكبر والخيلاء.

ولا شك أن المقصود في الحديث هو الأخير، يدل على ذلك رواية البخاري "لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرا" وروايته "لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء" وروايته "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" فقال أبو بكر: يا رسول الله. إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لست ممن يصنعه خيلاء". (وكان أبو بكر رجلا نحيفا لا يكاد يمسك إزاره بوسطه). ففي هذه الأحاديث دلالة على أن التحريم لإسبال الثوب قاصر على ما إذا كان على وجه الكبر والخيلاء، وأما الإسبال لغير خيلاء فظاهر الروايتين اللتين نحن بصدد شرحهما أنه حرام أيضا، لكن التقييد فيما ذكرت من الأحاديث الصحيحة دل على أن الإطلاق في الزجر الوارد في ذم الإسبال محمول على المقيد، فلا يحرم الجر والإسبال إذا سلم من الخيلاء. وقد نص الشافعي على الفرق بين الجر للخيلاء ولغير الخيلاء، وقال: والمستحب أن يكون الإزار إلى نصف الساق، والجائز بلا كراهة ما تحت نصف الساق إلى الكعبين، وما نزل عن الكعبين ممنوع منع تحريم إن كان للخيلاء، وإلا فمنع تنزيه، لأن الأحاديث المطلقة الواردة في الزجر عن الإسبال يجب تقييدها بالإسبال للخيلاء. اهـ. والتحقيق أن جر الثوب لغير الخيلاء مكروه، قال بعضهم: لما فيه من الإسراف، وقال آخرون: لما فيه من التشبه بالنساء (أي المحافظات على تعليم الشرع في الصدر الأول) وقال آخرون: لتعرضه للنجاسة. وقال آخرون: لما فيه من مظنة الخيلاء. ونقول: إنه مكروه لمجموع هذه العلل. ولا يخفى أن جر الثوب خيلاء ما هو إلا مظهر من مظاهر الكبر المذموم الذي سبق شرحه قبل ثمانية أحاديث، فليراجع هناك، فإنه لا يخلو من فوائد وزيادات، والله أعلم. وأما المن ففيه يقول الله تعالى {الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [البقرة: 262] ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 264]. فالمن ولو لم يتكرر مبطل للصدقة، محبط لأجر العطية، لما فيه من إيذاء المعطى له وإذلاله، وإشعاره بفضل غيره عليه، وضعته بالنسبة لمن أعطاه، مع أن المنة كلها لله والمعطي هو الله، ولو شاء لجعل المعطي آخذا، والآخذ معطيا. أما إذا تكرر المن، وكان شأن المعطي كلما أعطى شيئا من به فهو حرام، ومن الكبائر لورود الوعيد الشديد عليه، وكون المنان أحد الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم.

قال القرطبي: المن غالبا يقع من البخيل والمعجب، فالبخيل تعظم في نفسه العطية وإن كانت حقيرة في نفسها، والمعجب يحمله العجب على النظر لنفسه بعين العظمة وأنه منعم بماله على المعطى وإن كان الآخذ أفضل منه في نفس الأمر، وموجب ذلك كله الجهل ونسيان نعمة الله فيما أنعم به عليه، ولو علم مصيره لعلم أن المنة للآخذ لما له من الفوائد. اهـ. نعم لو تدبر المنان ما من بعطيته، إذ لولا الآخذ ما تطهر ماله، ولما دفع الله عنه الضر بصدقته، ولما حصل على الثواب الذي يحصل عليه بالعطاء. وقد روى الطبراني من حديث ابن عمر مرفوعا "ما المعطي من سعة بأفضل من الآخذ إذا كان محتاجا". نعم، لو تدبر المنان ما أحس بالعجب والعظمة، وأنه أفضل من الآخذ، فقد قال ابن حبان: اليد المتصدقة أفضل من السائلة، لا الآخذة بغير سؤال، إذ محال أن تكون اليد التي أبيح لها استعمال فعل (أي الأخذ) أن تكون باستعماله دون من فرض عليه إتيان شيء فأتى به، أو تقرب إلى ربه متنفلا، فربما كان الآخذ لما أبيح له أفضل وأورع من الذي يعطي. اهـ. وأما المنفق سلعته بالحلف الكاذب فقد ارتكب أربع كبائر: الحلف الكاذب، والتغرير بالمسلم، وأخذ المال بغير حق، والاستخفاف بحق الله. وفيه يقول تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77]. وقد أوضحت الروايات بعض صور إنفاق السلعة بالحلف الكاذب فجاء في رواية البخاري "ورجل بايع رجلا بسلعة بعد العصر، فحلف بالله لقد أعطى بها كذا وكذا فصدقه فأخذها، ولم يعط بها" وفي رواية "ورجل ساوم رجلا سلعة بعد العصر فقال: والله الذي لا إله غيره لقد أعطيت بها" وفي رواية "فحلف له بالله لأخذها (أي لقد أخذها) بكذا، فالبائع سلعته بالحلف الكاذب قد يحلف أنه اشتراها بكذا، وهو على غير ذلك، وقد يحلف أنه عرض عليه ثمنا لها كذا وكذا، وهو على غير ذلك. والمشتري المروج للسلعة المشتراة بالحلف الكاذب قد يحلف أنه اشترى مثلها بكذا وهو على غير ذلك، وقد يحلف أنه عرض عليه مثلها بكذا وهو على غير ذلك. فكل هذه الصور داخلة في قوله صلى الله عليه وسلم: "والمنفق سلعته بالحلف الكاذب" وهناك من الأحاديث ما يعم لفظه هذه الصور وغيرها، ففي البخاري "من حلف على يمين صبر (هي التي تلزم ويجبر عليها حالفها) يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان" وفي رواية "وهو عنه معرض" وفي رواية "إلا أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة". فمروج سلعته بالبيع أو الشراء بغير حق مقتطع مال المسلم بغير حق كالمغتصب والسارق، وإن اختلفت طرق الحصول على هذا المال الحرام. وتخصيص "بعد العصر" في بعض الروايات للتغليظ والتنبيه على زيادة الجرم فهو وقت فضيلة

وشرف، تعظم فيه الجريمة فتعظم عليه العقوبة، لكن هذا الوعيد ليس قاصرا على من حلف بعد العصر، للروايات الكثيرة المطلقة الواردة فيه، كالروايتين اللتين نحن بصدد شرحهما، ولا يقال: إن المطلق هو الذي يرد إلى المقيد لأنه كلما ثبت الوعيد على إنفاقها بالحلف الكاذب مطلقا ثبت على إنفاقها بعد العصر بدون عكس. وإذا كان الحلف صدقا بغير ضرورة منهيا عنه بقوله تعالى: {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم} [البقرة: 224] وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تكثروا الحلف بالله وإن كنتم بررة" كان الحلف كذبا للتغرير بالمسلم من أشد المحرمات ومستحقا فاعله للوعيد الشديد. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - تحريم جر الثوب للرجال، أما النساء فقد استثنين من الوعيد حين فهمت أم سلمة أن الزجر عن الإسبال عام، فقالت: يا رسول الله فكيف تصنع النساء بذيولهن؟ فقال: يرخين شبرا. فقالت: إذا تنكشف أقدامهن. قال فيرخينه ذراعا، لا يزدن عليه. 2 - الوعيد على المن والإيذاء على العطية. 3 - التحذير من الحلف لترويج السلعة وتزويرها في نظر الآخرين. والله أعلم.

(63) باب الشيخ الزاني، والملك الكذاب ومانع فضل الماء، والمبايع لدنيا.

(63) باب الشيخ الزاني، والملك الكذاب ومانع فضل الماء، والمبايع لدنيا. 183 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم (قال أبو معاوية: ولا ينظر إليهم) ولهم عذاب أليم: شيخ زان. وملك كذاب. وعائل مستكبر". 184 - عن أبي هريرة رضي الله عنه وهذا حديث أبي بكر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثلاث لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل. ورجل بايع رجلا بسلعة بعد العصر فحلف له بالله لأخذها بكذا وكذا فصدقه، وهو على غير ذلك. ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا لدنيا، فإن أعطاه منها وفى، وإن لم يعطه منها لم يف". 185 - وعن الأعمش بهذا الإسناد مثله غير أن في حديث جرير "ورجل ساوم رجلا بسلعة". 186 - عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أراه مرفوعا. قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: رجل حلف على يمين بعد صلاة العصر على مال مسلم فاقتطعه" وباقي حديثه نحو حديث الأعمش. -[المعنى العام]- وكما توعد صلى الله عليه وسلم ثلاثة أصناف من العصاة في الحديث السابق بإعراض الله عنهم يوم القيامة وحرمانهم من رحمته ومغفرته، يتوعد صلى الله عليه وسلم أصنافا أخرى من العصاة بنفس الجزاء (لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) هؤلاء هم: 1 - الرجل البالغ سن الشيخوخة إذا زنى، ومثله المرأة البالغة سنه إذا زنت، معصية تفوق معصية الزنا من الشاب، بما مر على العجوز من تجارب وعظات، وبما تهيأ لهم من عقل وإحصان.

2 - والملك الذي تعود الكذب على الرعية، لا خوفا منهم ولا حرصا على الانتفاع بهم، بل شهوة في الكذب، واستخفافا بتعاليم الشرع الحنيف. 3 - والفقير الذي حرم المال والدنيا إذا استكبر، فإن كبره حينئذ لا يكون له مبرر، ولا دافع له سوى الطغيان، والاستهتار -زورا- بمن هم فوقه وعدم الاكتراث بمحرمات الإسلام. 4 - والرجل الذي منحه الله رزقا، وأخرج له من الأرض ينبوعا يشرب منه ويسقي ماشيته وزرعه، يكون عنده الماء الزائد عن حاجته ويرى ابن السبيل العابر عطشان، يلهث من شدة العطش، يطلب الماء فيحرمه صاحب الماء، ويمنعه منه، وليس له به حاجة، ناسيا أن ابن السبيل بحكم الشرع شريك الأغنياء فيما يملكون، باعتباره أحد مصارف الزكاة متناسيا ما قد يحدثه هذا المنع من ضرر بابن السبيل قد يهدد حياته، غافلا عن أن "القادر" الذي أنزل الماء من المزن قادر على أن يحوله غورا في غمضة عين، وما درى أن الله سيعرض عنه يوم القيامة، ويقول له: اليوم أمنعك فضلي كما منعت في الدنيا فضل ما لم تعمل يداك. 5 - والرجل يبيع سلعته ويروجها بالحلف الكاذب في أفضل الأوقات فيغرر بالمسلم ويقتطع ماله بغير حق. 6 - والرجل يبايع الإمام على السمع والطاعة، لكنه يبني مبايعته على النفع المادي إن أعطاه مالا - ولو بغير حق - رضي واستمر على بيعته، وإن كان الإمام فاسقا، وإن لم يعطه سخط ونكث وإن كان عادلا، أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون. -[المباحث العربية]- (شيخ زان) الشيخ هو من بلغ سن الشيخوخة، قيل: خمسون سنة، وقيل: إحدى وخمسون. (وملك كذاب) المراد من الملك الحاكم الذي ليس فوقه بخصوص حكمه حاكم إلا الله، فيشمل الأب بين أولاده، والوالي في ولايته، ورئيس الجمهورية في جمهوريته، وهذا الحديث لا يشمل الملك الصغير إذا كذب بين ملوك كبار، وكذا إذا كذب أمام زوجه التي يخافها، أو كذب في الحروب، ولعل صيغة المبالغة "كذاب" أي كثير الكذب وشأنه الكذب تحدد الهدف المقصود. (وعائل مستكبر) العائل: الفقير الذي عدم المال، من عال يعيل عيلا إذا افتقر. (ثلاثة لا يكلمهم الله) في إحدى الروايات "ثلاث" بدون تاء التأنيث فيقدر معدودها مؤنثا كثلاث فئات، أو ثلاث أنفس. ومعلوم أن حذف المعدود يجيز تذكير العدد وتأنيثه، وجاء الضمير في "يكلمهم" مذكرا على المعنى.

(رجل على فضل ماء) أصل الكلام: رجل عنده ماء فاضل عن حاجته، فإضافة "فضل ماء" من إضافة الصفة إلى الموصوف، والتعبير بـ"على" لإفادة تمكنه من الماء وقدرته على التصرف فيه. (بالفلاة) بفتح الفاء هي المفازة والصحراء والقفر التي لا أنيس بها، وهي المرادة بالطريق في بعض الروايات. (يمنعه من ابن السبيل) ابن السبيل هو المسافر، والسبيل: هي الطريق، وجعل المسافر ابن الطريق لانقطاعه عن أهله وبلده وأملاكه، وجملة "يمنعه من ابن السبيل" في موقع الحال من الضمير المستكن في الخبر "على فضل ماء". (فحلف له بالله لأخذها بكذا وكذا) أي لقد أخذها ... "وكذا وكذا" كناية عن عدد المال، وثمن شرائه السلعة. (فصدقه وهو على غير ذلك) فاعل "صدق" ضمير المشتري، وضمير "وهو" للبائع أو للحال والشأن، والإشارة للحال التي حلف عليها، والتقدير: فصدقه المشتري، والحال أن البائع على وضع غير الذي حلف عليه، أو فصدقه المشتري، والحال والشأن خلاف الحال التي حلف عليها. (ورجل بايع إماما) وفي رواية "بايع إمامه". (لا يبايعه إلا لدنيا) أي لا يقصد من المبايعة إلا النفع الدنيوي والعرض الزائل، فلا يقصد صلاح المحكومين، ولا صلاح الدولة، ولا صلاح الدين، فإن قصد شيئا من ذلك مع قصده الدنيا فلا يدخل في الوعيد، لأنه بني على القصر. (فإن أعطاه منها وفى) بالبيعة، ولم يخرج على الإمام، ولو كان ظالما من أكبر الفاسقين. وفي رواية: "إن أعطاه ما يريد وفى له". وفي رواية: "رضي". (وإن لم يعطه منها لم يف) بالبيعة وخرج على الإمام ولو كان عادلا مقيما لشعائر الدين، جامعا لوحدة المسلمين، وفي رواية: "لم يف له". وفي رواية: "سخط". -[فقه الحديث]- من مجموع هذه الروايات الثلاث، ومن الروايتين السابقتين يجتمع سبع خصال: 1 - المسبل إزاره (وفي معناه العائل المستكبر، وإن كان بينهما عموم وخصوص). 2 - المنان الذي لا يعطي شيئا إلا من به. 3 - المنفق سلعته بالحلف الكاذب وفي معناه "رجل بايع رجلا بسلعة بعد العصر فحلف له بالله

لأخذها بكذا وكذا، فصدقه، وهو على غير ذلك" وفي معناه: "رجل حلف على يمين بعد صلاة العصر على مال مسلم فاقتطعه" (وإن كان بينها عموم وخصوص). 4 - شيخ زان. 5 - ملك كذاب. 6 - رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل. 7 - رجل بايع إماما لا يبايعه إلا لدنيا. ويحتمل أن تبلغ أكثر من ذلك إذا اعتبرنا مطلق المغايرة، فما بينها عموم وخصوص. ولما كانت كل رواية مصدرة بعبارة: ثلاثة لا يكلمهم الله ... إلخ وأصبح العدد أكثر من ثلاثة كان لازما التوفيق بين الروايات. وفي ذلك يقول الكرماني: ليس ذلك باختلاف، لأن التخصيص بعدد لا ينفي ما زاد عليه. اهـ وهو توجيه حسن، خير من قول بعضهم: إن المجموع منصوص وبعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر، فاقتصر كل من الرواة على ثلاثة. بل هذا التوجيه الأخير غير مقبول، لأن لفظ "ثلاثة" وارد في نص قول الرسول صلى الله عليه وسلم ولما كان قد سبق قريبا شرح ما يتعلق ببعض هذه الخصال فإننا نتمم ما يتعلق بباقيها فنقول: تخصيصه صلى الله عليه وسلم الشيخ الزاني والملك الكذاب والعائل المستكبر بالوعيد المذكور، سببه أن كل واحد منهم التزم المعصية المذكورة مع بعدها منه، وعدم ضرورته إليها، وضعف دواعيها عنده. نعم. لا يعذر أحد بذنب، ولكن لما لم يكن إلى هذه المعاصي الضرورة المزعجة، ولا الدواعي القوية، أشبه إقدامهم عليها المعاندة والاستخفاف بحق الله تعالى، وقصد معصيته بدون حاجة. فالشيخ لكمال عقله، وتمام معرفته لطول ما مر عليه من الزمان، وكثرة ما سمع من المواعظ، وضعف أسباب الزنا بانكسار حدة الشهوة، وبما عنده من زوج حلال، عظم زناه عن زنا الشباب، الذي يدفع إليه الحرارة الغريزية، وقلة المعرفة، وغلبة الشهوة لضعف العقل وصغر السن، وعدم القدرة على النكاح الحلال. وكذلك الإمام، لا يخشى من أحد من رعيته، ولا يحتاج إلى مداهنته ومصانعته، فإن الإنسان إنما يداهن ويصانع بالكذب وشبهه من يحذره ويخشى أذاه ومعاتبته، أو يطلب عنده بذلك منزلة أو منفعة، والملك غني عن كل ذلك، لقدرته على نيل مآربه من غير كذب. وكذلك العائل الفقير، قد عدم المال الذي هو سبب الفخر والخيلاء والتكبر والارتفاع على القرناء، فقد حاجة الناس إليه، وظهرت حاجته إلى الناس، فلماذا يستكبر ويحتقر غيره؟ ليس هناك إلا المعاندة والاستخفاف بحق المعبود جل شأنه، ومثل ذلك الفعل بتلك الدوافع جدير بأشد العقاب.

ويلحق بالثلاثة المذكورين من شاركهم في المعنى الموجب للبعد عن المعصية، كالغني حين يسرق وليست عنده ضرورة للسرقة. والمدح لأضداد هذه الأنواع أيضا يتفاوت، فالعفة من الشاب أعلى قدرا منها من الشيخ، والصدق من غير الملك أمدح منه من الملك، والتواضع من الغني أمدح منه من الفقير، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وشاب نشأ في عبادة ربه". وأما من منع فضل الماء من ابن السبيل فقد ارتكب جرما مضاعفا، فالماء نعمة الله التي يقول عنها: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ أأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} [الواقعة: 68 - 70] وإذا كان من منع الماشية فضل مائه كان عاصيا فكيف بمن يمنعه عن الآدمي المحترم؟ ثم كيف بمن يمنعه عن ابن السبيل الذي جعله الله شريكا للأغنياء في مالهم، حيث جعله من مستحقي الصدقات مهما كان غنيا في بلده؟ لا شك في غلظ تحريم فعله، وشدة قبحه، خصوصا إذا عرض عمله هذا نفس ابن السبيل للهلاك. قال القاضي عياض: وهو في تعريضه إياه كذلك شبه قاتله، وقال الإمام مالك في المدونة في حريم البئر: ومن حفر بئرا في غير ملكه لماشيته أو زرعه فلا يمنع فضلته، فإن منعها حل قتاله، فإن لم يقو المسافرون على دفعه حتى ماتوا عطشا فدياتهم على عاقلته وعليه هو الكفارة مع وجيع الأدب. اهـ. وأما مبايع الإمام لدنيا فقد غش المسلمين، وخدع إمامهم، لأنه يظن أنه إنما بايع ديانة وهو قصد ضد ذلك، إذ الأصل في مبايعة الإمام أن يبايعه على أن يعمل بالحق، فمن جعل مبايعته لدنيا فقد خسر خسرانا مبينا، وتسبب في الفتن بنكثه بيعته، لا سيما إن كان ممن يقتدى به. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - شدة الوعيد للشيخ الزاني. 2 - والملك الكذاب. 3 - والفقير المتكبر. 4 - فيه دلالة على أن صاحب الماء أولى من ابن السبيل عند الحاجة، فإذا أخذ حاجته لم يجز له منع ابن السبيل. 5 - وفي الحديث وعيد شديد على نكث البيعة والخروج على الإمام، لما في ذلك من تفرق الكلمة. 6 - وفيه أن كل عمل لا يقصد به وجه الله، وأريد به عرض الدنيا فهو فاسد وصاحبه آثم. 7 - إثم الحالف كاذبا، خصوصا لو اقتطع بحلفه مال امرئ مسلم بغير حق. والله أعلم.

(64) باب تحريم قتل الإنسان نفسه

(64) باب تحريم قتل الإنسان نفسه 187 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا. ومن شرب سما فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا. ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا". -[المعنى العام]- إرشادا إلى أن الحياة هبة الله، وأنه ينبغي أن تترك الروح لخالقها يسلبها متى يريد ويحملها الآلام إذا شاء، يحذر الرسول صلى الله عليه وسلم من الإقدام على التخلص من الحياة، مهما كانت بواعثه، ومهما قست بالمرء نوائب الزمان، فمن المعلوم أن هذه الدنيا دار شقاء، وليس للمصائب والمتاعب إلا الرجال، وبقدر تحمل الرجل لكبار الأرزاء [أي المصائب] تكبر رجولته، وبقدر جزعه وانهياره أمام بعضها يظهر ضعفه وجبنه. وقد علمتنا التجارب أن طريق السعادة مفروش بالأشواك، ومن أراد القمة تسلق الصعاب، ودون الشهد إبر النحل، وبالجهاد والصبر والتفويض يبلغ الإنسان ما يريد، ومن ظن أنه بانتحاره يتخلص من الآلام فهو واهم، لأنه إنما يدفع بنفسه من ألم صغير إلى ألم كبير، ومن ضجر محدود، وفي زمن قصير، إلى ضجر غير محدود، وفي زمن طويل. إن الذي يقدم على الانتحار غير راض بالقضاء، محارب للقدر ساخط على الفعال لما يريد، يائس من روح الله، وإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. ومن أجل هذا كانت عقوبته عند الله قاسية، فمن قتل نفسه بحديدة، أو ضرب نفسه بمثقل، أو برصاص أو طعن نفسه بسكين أعد الله له حديدة من نار، ليطعن بها بطنه، كلما فجرها عادت كما كانت، خالدا مخلدا على هذه الحال أبدا، ومن شرب سما فقتل نفسه، أعد الله له يوم القيامة كأسا من السم، الذي يفوق سم الدنيا في صعوبة مذاقه، وشدة تأثيره وإيلامه كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم، يكلف أن يتجرعه خالدا مخلدا على هذه الحال أبدا، ومن تردى من جبل أو قذف نفسه من شاهق، فقتل نفسه، نصب الله له يوم القيامة جبلا من نار، على واد من جهنم يكلف الصعود إليه، ليهوي من الجبل في نار جهنم، خالدا على هذه الحال أبدا.

فليتدبر العاقل، وليؤمن بالقضاء والقدر، وليعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا {ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا} [الطلاق: 2 - 3]. -[المباحث العربية]- (من قتل نفسه بحديدة) لفظ الحديدة أعم من السكين، فيشمل آلات النجار وآلات الحداد وغيرهما، لكن المراد بها السكين وما شابهها لأنها التي يطعن بها البطن. (فحديدته في يده) مبتدأ وخبر، أو مبتدأ وحال. وجملة "يتوجأ" الخبر. (يتوجأ) -بواو مفتوحة وجيم مشددة- على وزن يتكبر، ويجوز تسهيله بقلب الهمزة ألفا، ومعناه يطعن. وفي رواية: "يجأ" بتخفيف الجيم وبالهمز، وقد تسهل الهمزة أيضا. وأصل "يجأ" مضارع وجا وأصله يوجئ -بفتح الياء وكسر الجيم- فحذفت الواو لوقوعها بين الياء والكسرة، ثم فتحت الجيم لأجل الهمزة. (جهنم) اسم لنار الآخرة، وأكثر النحويين على أنها أعجمية، لا تنصرف للعلمية والعجمة، وقال آخرون: هي عربية، لا تنصرف للتأنيث والعلمية، وسميت بذلك لبعد قعرها. قال رؤبة: يقال: بئر جهنام أي بعيدة القعر، وقيل: مشتقة من الجهومة وهي الغلظ سميت بذلك لغلظ أمرها. (خالدا مخلدا فيها أبدا) حال مقدرة من فاعل "يتوجأ" وفي ذكر "مخلدا" بفتح اللام المشددة بعد ذكر "خالدا" ما يشعر بالإهانة والإذلال والتحقير، و"أبدا" منصوب على الظرفية. (ومن شرب سما) -بفتح السين وضمها وكسرها- ثلاث لغات أفصحها الفتح. وفي رواية: "ومن تحسى" أي تجرع، وأصله من "حسوت المرق" إذا شربت منه شيئا فشيئا. (فقتل نفسه) فائدة ذكر هذه الجملة بعد ما قبلها توقف الجزاء المذكور عليها. (ومن تردى من جبل) أي أسقط نفسه منه، بدليل قوله: "فقتل نفسه". (فقتل نفسه) فائدة ذكرها توقف الجزاء المذكور عليها، وهي التي أفادت التعمد، إذ التردي يكون عن عمد وعن غير عمد، أما إذا تعمد الإلقاء، ولم يحدث بذلك قتل فله جزاء آخر يعلمه الله. (فهو يتردى في نار جهنم) أي يسقط، وذلك بأن يهيأ له جبل من نار، يكلف الصعود إليه والسقوط منه في نار جهنم، تشير إلى ذلك رواية البخاري "يتردى فيه" أي في الجبل، أي في مثله.

-[فقه الحديث]- اقتصر هذا الحديث على ثلاث من طرق الانتحار وقتل النفس لما أنها هي التي كانت شائعة آنذاك، فهي أمثلة فقط، وليست للحصر، فيقاس عليها: من تردى في بحر فغرق، ومن أشعل في نفسه نارا فاحترق. وقد جاءت بعض الروايات بطريقة أخرى غير الطرق الثلاثة المذكورة فقد روى البخاري "الذي يخنق نفسه يخنقها في النار" كما جاءت بعض الروايات بلفظ العموم، فقد روي في الحديث الآتي: "ومن قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة". وقد تمسك المعتزلة وغيرهم ممن قال بتخليد أصحاب المعاصي في النار بقوله "في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا" على أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار، ولما كان أهل السنة لا يقولون بتخليد العصاة من الموحدين في النار، وكانت الأحاديث الصحيحة تدل على أن مصير المؤمنين الجنة أجاب أهل السنة عن ظاهر الحديث بعدة إجابات منها: 1 - ذهب بعضهم إلى توهين ورد رواية "خالدا مخلدا فيها أبدا" لورود الحديث بدونها في كثير من الروايات الصحيحة، ورفض هذا الرأي أولى من رد الرواية وهي صحيحة. 2 - وقال بعضهم: إن المراد خالدا مخلدا فيها إلى أن يشاء الله، وهذا القول يضعفه التعبير بلفظ "أبدا". 3 - وقيل: المراد بالخلود طول المدة، لا حقيقة الدوام، كأنه يقول: يخلد مدة معينة ويبعده أيضا لفظ "أبدا". 4 - وقيل: ورد الحديث في رجل بعينه، وليس القصد منه الحكم العام، ويبعده تعديد طرق الانتحار، والرجل المعين انتحر بطريقة معينة. 5 - وقيل: ورد الحديث مورد الزجر والتغليظ، وحقيقته غير مرادة، وهذا ضعيف أيضا. 6 - وقيل: المعنى أن هذا جزاؤه الأصلي، لكن الله قد تكرم على الموحدين فأخرجهم من النار بتوحيدهم، وهو مردود أيضا بعبارات الحديث الواضحة في وقوع هذا الجزاء لكل منتحر. 7 - وقيل: إن الحديث محمول على من استحل هذا الفعل، فإنه باستحلاله يصير كافرا، والكافر مخلد بلا ريب، وهذا الرأي أقرب للقبول من سوابقه. 8 - والأولى أن يقال: إن الجزاء المذكور هو الجزاء إن لم يتجاوز الله عنه، هذا وقد نقل عن الإمام مالك: أن قاتل النفس لا تقبل توبته، ومقتضاه أنه لا يصلى عليه، وقد روى أصحاب السنن: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه". وفي رواية للنسائي أنه قال: "أما أنا فلا أصلي عليه".

ويؤخذ من الحديث 1 - التحذير من الانتحار مهما كانت أسبابه ودواعيه. 2 - أن الجزاء الأخروي من جنس العمل. 3 - وجوب الصبر على الآلام، وعدم السخط والجزع، والرضا بالقضاء، وتسليم قبض الروح لواهب الحياة. 4 - استدل به بعضهم على عدم جواز شرب السم للتداوي، لأنه يفضي إلى قتل النفس، وهذا الاستدلال باطل، قال الحافظ ابن حجر: إن مجرد شرب السم ليس بحرام على الإطلاق، لأنه يجوز استعمال اليسير منه إذا ركب معه ما يدفع ضرره. 5 - وفيه أن جناية الإنسان على نفسه كجنايته على غيره في الإثم لأن نفسه ليست ملكا له مطلقا، بل هي لله تعالى: فلا يتصرف فيها إلا بما أذن له فيه. 6 - احتج به بعضهم على أن القصاص من القاتل يكون بما قتل به محددا كان أو غيره، اقتداء بعقاب الله تعالى لقاتل نفسه، قال النووي: والاستدلال بهذا لهذا ضعيف. وقال ابن دقيق العيد في رد هذا الاحتجاج: إن أحكام الله لا تقاس بأفعاله، فليس كل ما ذكر أنه يفعله في الآخرة يشرع لعباده أن يفعلوه في الدنيا، كالتحريق بالنار مثلا، وسقي الحميم الذي يقطع به الأمعاء. 7 - وفيه إثبات عقوبة بعض أصحاب المعاصي، ففيه رد على المرجئة القائلين بأن المعاصي لا تضر. (ولشرح الحديث صلة بشرح الأحاديث الثلاثة الآتية بعد الحديث التالي، فعليك به). والله أعلم

(65) باب من حلف بملة غير الإسلام

(65) باب من حلف بملة غير الإسلام 188 - عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه أنه بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة. وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذبا فهو كما قال. ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة. وليس على رجل نذر في شيء لا يملكه". 189 - عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ليس على رجل نذر فيما لا يملك. ولعن المؤمن كقتله. ومن قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة. ومن ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله إلا قلة. ومن حلف على يمين صبر فاجرة". 190 - عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "من حلف بملة سوى الإسلام كاذبا متعمدا فهو كما قال. ومن قتل نفسه بشيء عذبه الله به في نار جهنم". هذا حديث سفيان وأما شعبة فحديثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف بملة سوى الإسلام كاذبا فهو كما قال. ومن ذبح نفسه بشيء ذبح به يوم القيامة". -[المعنى العام]- يحدثنا ثابت بن الضحاك - وهو من الذين قال الله فيهم: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} [الفتح: 18]-يحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حذر من الحلف باللات والعزى، أو بأي ملة من ملل الكفر، فمن حلف باليهودية أو النصرانية مثلا فهو في وقت حلفه بذلك مشبه للطائفة التي حلف بملتها، معظم لما عظمت، مستحق لعقوبتها، معرض لإحباط إيمانه إن كان معتقدا تعظيم ما حلف به مما لا يستحق التعظيم. كما حذر من قتل النفس بأية وسيلة، فمن قتل نفسه بشيء أعد الله له مثله من النار ليعذب به يوم القيامة، كما منع صلى الله عليه وسلم النذر فيما لا يملك الإنسان. وفي الرواية الثانية يحذرنا من لعن المسلم وسبه، فإن لعن المسلم يقطع عنه العطف والمودة، كما يقطع القتل حياته.

ويحذرنا أن نلبس ثوب الزور، وندعي لأنفسنا ما ليس عندنا من مال أو صحة أو جاه أو علم، أو غير ذلك مما يخدع الآخرين فينا، ويغرر بهم في معاملاتنا، ويخوفنا من الحلف كذبا للحصول على غرض دنيوي رخيص. ولو أن المسلمين حافظوا على أسس الشريعة السمحة، فعظموا دينهم واعتزوا بإسلامهم ولم يحلفوا بسواه، لو أنهم قويت روحهم، وتشددت عزائمهم، وصمدوا لنوائب الزمان وكافحوا للعيش في عزة وكرامة، ولم يلجأ بعضهم إلى الانتحار، والهروب من المسئولية والحياة، ولو أنهم ترفعوا عن الشتم والسب وطول اللسان، واحتقار بعضهم بعضا وإيذاء بعضهم بعضا، ولو أنهم اعترفوا بالواقع، وأحسوا بأوجه النقص فيهم، ولم يخدعوا أنفسهم وغيرهم بما ليس فيهم من محامد، ولو أنهم صدقوا في معاملاتهم، ولم يكثروا الحلف كذبا للحصول زورا على حقوق غيرهم. لو أنهم حافظوا على هذه الأسس لسعدوا في دنياهم وأخراهم ولكانوا جديرين بما كان عليه آباؤهم وأجدادهم من مكانة وسيادة، وما يتذكر إلا أولوا الألباب. -[المباحث العربية]- (أنه بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة) وهي بيعة الرضوان، التي قال الله فيها: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} [الفتح: 18] وفائدة ذكر هذه العبارة التوثيق بالرواية ببيان فضل الراوي. (من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذبا) في الرواية الثالثة "من حلف بملة سوى الإسلام كاذبا متعمدا" أي متعمدا الحلف بملة غير الإسلام، فيكون "متعمدا" حالا مترادفة من فاعل "حلف" أو متعمدا الكذب فيكون "متعمدا" حالا متداخلة من الضمير في "كاذبا" وفي رواية البخاري "من حلف على ملة غير الإسلام" فـ"على": بمعنى الباء، والملة: الدين والشريعة حقة أو باطلة، ومن إطلاقها على الباطلة قوله تعالى: {إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله} [يوسف: 37] وهي هنا نكرة في سياق الشرط، فتعم جميع الملل من أهل الكتاب، كاليهودية والنصرانية ومن لحق بهم من المجوسية والصابئة وأهل الأوثان والدهرية والمعطلة وعبدة الشياطين والملائكة وغيرهم. والملة عرفا: ما شرعه الله لعباده على ألسنة الرسل عليهم السلام. والحلف بالشيء حقيقة هو: القسم به، وإدخال بعض حروف القسم عليه، كقولهم: والله، والرحمن، وقد يطلق على التعليق بالشيء يمين كقولهم: من حلف بالطلاق، فالمراد تعليق الطلاق، وأطلق الحلف على التعليق لمشابهته باليمين في قصد المنع أو الحث، أو غيرهما. فالمعنى على الأول: من أقسم بملة غير الإسلام كأن قال: واليهودية مثلا، وعلى الثاني: من علق ملة غير الإسلام على شيء، كأن يقول: إن فعل كذا فهو يهودي أو نصراني.

(فهو كما قال) "ما" مصدرية، أو موصولة، والعائد محذوف أي فهو مثل قوله، أو فهو كالذي قاله، والمعنى الشرعي سيوضح في فقه الحديث. (ومن قتل نفسه بشيء) أعم من الحديدة والسم والتردي من الجبل المذكورات في الحديث السابق. (وليس على رجل نذر في شيء لا يملكه) كلمة "رجل" لما هو الغالب، والحكم شامل للمرأة، ورواية البخاري "وليس على ابن آدم" أي وكذا ابنة آدم، وفي "نذر" مضاف محذوف، أي ليس عليه وفاء نذر. (ولعن المؤمن كقتله) اللعن في الأصل: الإبعاد عن رحمة الله، وقد يقصد به محض السب وفي معناه الدعاء على الإنسان بالسوء، كقولهم: قاتله الله، ومن المعلوم أنه لا يشترط في المشبه مشاركة المشبه به من جميع الوجوه، ومن هنا قيل: إن تشبيه لعن المؤمن بقتله إنما هو في أصل التحريم، وإن كان القتل أغلظ، وقيل لأنه إذا لعنه فكأنما دعا عليه بالهلاك، وسيأتي توضيحه. (ومن ادعى دعوى كاذبة) هذه هي اللغة الفصيحة، يقال: دعوى باطل، وباطلة وكاذب وكاذبة، لكن التأنيث أفصح. (ليتكثر بها) قال النووي: ضبطناه بالثاء المثلثة بعد الكاف، وكذا هو في معظم الأصول، وهو الظاهر، وضبطه بعض الأئمة المعتمدين بالباء الموحدة، وله وجه، وهو بمعنى الأول، أي يصير ماله كبيرا عظيما. (ومن حلف على يمين صبر فاجرة) قال النووي: كذا وقع في الأصول هذا القدر فحسب، وفيه محذوف، إذ لم يأت في الحديث هنا الخبر عن هذا الحالف، إلا أن يعطفه على قوله قبله "ومن ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله إلا قلة" أي وكذلك من حلف على يمين صبر، فهو مثله. قال القاضي عياض: وقد ورد معنى هذا الحديث تاما مبينا في حديث آخر "من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم، هو فيها فاجر، لقي الله وهو عليه غضبان". ويمين الصبر هي التي ألزم بها الحالف عند الحاكم ونحوه، وأصل الصبر الحبس والإمساك. ومعنى "فاجرة" أي خارجة عن حدود الشرع. -[فقه الحديث]- تحصل من مجموع روايات الحديث ست خصال هي: 1 - الحلف بملة غير الإسلام. 2 - قتل النفس بالشيء.

3 - النذر فيما لا يملك. 4 - لعن المؤمن. 5 - الدعوى الكاذبة. 6 - الحلف على يمين صبر. 1 - أما الحلف بملة غير الإسلام فقد قال بعض الشافعية: ظاهر الحديث أنه يحكم عليه بالكفر إذا كان كاذبا، والتحقيق التفصيل، فإن اعتقد تعظيم ما ذكر كفر، وإن قصد حقيقة التعليق فينظر، فإن كان أراد أن يكون متصفا بذلك إن وقع الفعل كفر، لأن إرادة الكفر كفر، وإن أراد البعد عن ذلك الفعل لم يكفر، لكن هل يحرم عليه ذلك؟ أو يكره تنزيها؟ الثاني هو المشهور. قاله الحافظ ابن حجر. ثم قال: وينقدح بأن يقال: إن أراد تعظيمها باعتبار ما كانت قبل النسخ لم يكفر أيضا. وقال ابن المنذر: قوله "فهو كما قال" ليس على إطلاقه في نسبته إلى الكفر، بل المراد أنه كاذب ككذب المعظم لتلك الجهة. وقال النووي: قوله "كاذبا" ليس المراد به التقييد والاحتراز من الحلف بها صادقا، لأنه لا ينفك الحالف بها عن كونه كاذبا، وذلك لأنه لا بد أن يكون معظما لما حلف به، فإن كان معتقدا عظمته بقلبه فهو كاذب في ذلك، وإن كان غير معتقد ذلك بقلبه فهو كاذب في الصورة، لكونه عظمه بالحلف، وإذا علم أنه لا ينفك عن كونه كاذبا حمل التقييد بـ"كاذبا" على أنه بيان لصورة الحالف، ويكون التقييد خرج على سبب فلا يكون له مفهوم. وقال بعضهم: يحتمل أن يكون المراد بهذا الكلام التهديد والمبالغة في الوعيد، لا الحكم، وكأنه قال: فهو مستحق مثل عذاب من اعتقد ما قال، ونظيره "من ترك الصلاة فقد كفر" أي استوجب عقوبة من كفر. أما فيما يتعلق بكفارة من حلف بذلك ثم حنث، فقد قال ابن المنذر: اختلف فيمن قال: أكفر بالله (ونحو ذلك) إن فعلت، ثم فعل، فقال ابن عباس وأبو هريرة وعطاء وقتادة وجمهور فقهاء الأمصار: لا كفارة عليه، ولا يكون كافرا إلا إذا أضمر ذلك بقلبه، وقال الأوزاعي والثوري والحنفية وأحمد وإسحاق: هو يمين وعليه الكفارة، قال ابن المنذر: الأول أصح لما رواه البخاري "من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله"، ولم يذكر كفارة ولما جاء في الرواية الأخرى " فهو كما قال" فأراد التغليظ في ذلك حتى لا يجترئ أحد عليه، ولم يذكر كفارة ويكون من باب قول الله تعالى: {ويقتلون الأنبياء بغير حق} [آل عمران: 112] وقوله {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق} [الإسراء: 31] وقوله: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا} [النور: 33] ونظائره كثيرة. وقال الحافظ ابن حجر في توجيه رواية الأمر بقول "لا إله إلا الله": حاصله أنه أرشد من تلفظ بشيء مما لا ينبغي التلفظ به أن يبادر إلى ما يرفع الحرج عن القائل، أي لو قال ذلك قاصدا إلى معنى ما قال.

2 - وأما قتل النفس فقد مضى الكلام عليه في الحديث السابق ويأتي له تمام قول في الأحاديث الثلاثة الآتية: 3 - ومن نذر ما لا يملك، فإن كان معينا، كمن قال: لله علي أن أعتق عبد فلان فليس عليه الوفاء بنذره عند الجمهور، وإن كان غير معين، كمن قال: لله علي أن أعتق عبدا، ولا يملك، فإنه يصح عند الجمهور، ويلزمه إن ملك. واختلف فيمن نذر ما لا يملك. هل تجب عليه الكفارة؟ قال الجمهور: لا، وعن أحمد والثوري وإسحاق وبعض الشافعية والحنفية: نعم. واستدلوا بعموم حديث عقبة بن عامر "كفارة النذر كفارة اليمين" أخرجه مسلم، وأخرج أبو داود "ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين" قال بعض الحنابلة: والقياس يقتضيه لأن النذر يمين، كما وقع في حديث عقبة، لما نذرت أخته أن تحج ماشية (لتكفر عن يمينها) فسمي النذر يمينا. ومن حيث النظر هو عقيدة لله تعالى بالتزام شيء، والحالف عقد يمينه بالله ملتزما بشيء. 4 - وأما لعن المؤمن المعين، فإن كان لا يستحق اللعن فهو حرام بالإجماع، ومن الكبائر، وإن كان يستحق اللعن، فإن قصد معنى اللعن الأصلي، وهو الإبعاد عن رحمة الله فهو حرام أيضا، إذ ينبغي الدعاء للمؤمن العاصي بالتوبة والمغفرة، وإن لم يقصد، بل قصد به محض السب فهو مكروه. ويمكن أن يستأنس لذلك بحديث "لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم" قال ذلك صلى الله عليه وسلم حين لعن بعض الصحابة شاربا للخمر، وقد أخرج أبو داود بسند جيد، رفعه "إن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبواب السماء دونها ثم تهبط إلى الأرض فتأخذ يمنة ويسرة، فإن لم تجد مساغا رجعت إلى الذي لعن، فإن كان أهلا، وإلا رجعت إلى قائلها" وأما غير المعين من أهل السوء فالراجح جواز لعنه، لأن لعنه حينئذ زجر عن تعاطي ذلك الفعل، بخلاف المعين فإن في لعنه إيذاء صريحا موجها، وقد ثبت النهي عن أذى المسلم. قال النووي: وأما الدعاء على إنسان بعينه، ممن اتصف بشيء من المعاصي فالظاهر أنه لا يحرم، وأشار الغزالي إلى تحريمه، وقال في باب الدعاء على الظلمة بعد أن أورد أحاديث صحيحة في الجواز: قال الغزالي: وفي معنى اللعن الدعاء على الإنسان بالسوء، حتى على الظالم، مثل: لا أصح الله جسمه، وكل ذلك مذموم. اهـ. وصنيع البخاري يقتضي لعن المتصف بالمعصية من غير أن يعين اسمه فيجمع بين المصلحتين، لأن لعن المعين والدعاء عليه قد يحمله على التمادي، أو يقنطه من قبول التوبة، بخلاف ما إذا صرف ذلك إلى المتصف، فإن فيه زجرا وردعا عن ارتكاب ذلك، وباعثا لفاعله على الإقلاع عنه. والحديث يحذر من لعن المؤمن، أما لعن الكافر المعين فالراجح أنه ممنوع خصوصا لو تأذى به المسلم، وأما غير المعين فجائز، بل قال بعضهم. إن الكفار يتقرب إلى الله بسبهم. والأولى الدعاء لهم بالهداية والإسلام بدل اللعن. والله أعلم.

5 - وأما من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها، فقد قال القاضي عياض: هو عام في كل دعوى يتشبع بها المرء بما لم يعط: من مال يختال في التجمل به، أو نسب ينتمي إليه، أو علم يتحلى به، وليس هو من حملته، أو دين يظهره وليس هو من أهله، فقد أعلم صلى الله عليه وسلم أنه غير مبارك له في دعواه، ولا يزكو ما اكتسبه بها، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم "المتشبع بما لا يملك كلابس ثوبي زور" فمن ادعى ما ليس عنده فضلا عن كونه كاذبا فيما ادعاه - جزاه الله بنقيض قصده، ونقصه ما عنده من صنف ما ادعاه. ويستثنى من هذا مواطن منها: إظهار القوة والعدة لإرهاب الكفار، والتجلد والتظاهر بعدم التأثر بالنوائب أمام الشامتين، والتعفف وإظهار الغنى في بعض حالات توزيع الصدقات، ونحو ذلك مما يعود بالنفع المشروع. 6 - وأما من حلف على يمين صبر ليقتطع بها مال امرئ مسلم فقد يكون في البيع بالحلف على السلعة أنه أعطى بها كذا وكذا ليغري المشتري ويستولي على أكثر مما يستحق عن ثمن السلعة. فيكون مآله الخسران، وفي معنى ذلك ورد الحديث "اليمين الفاجرة منفقة للسلعة، ممحقة للكسب". وقد مرت الإشارة إليه في الحديث قبل السابق، وقد يكون في التقاضي ومحاولة الاستيلاء على حقوق الآخرين بقوة بلاغته، أو مناصرة شيعته، فكل ما يقضى له بذلك إنما هو قطعة من النار. وقد روى البخاري "من حلف على يمين صبر، وهو فيها فاجر، يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله يوم القيامة وهو عليه غضبان". -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - التحذير من الحلف بملة غير الإسلام، أو تعليق الدخول فيها على فعل شيء. 2 - التحذير من الانتحار بأية وسيلة ولأي سبب من الأسباب. 3 - أنه لا يصح النذر فيما لا يملك. 4 - تغليظ لعن المسلم، وفيه يقول الغزالي: لا يجوز لعن أحد من المسلمين ولا الدواب، ولا فرق بين الفاسق وغيره، ولا يجوز لعن أعيان الكفار، حيا كان أو ميتا، إلا من علمنا بالنص أنه مات كافرا كأبي لهب وأبي جهل وشبههما، ويجوز لعن طائفتهم كقولك: لعن الله الكفار ولعن اليهود والنصارى. اهـ. 5 - غلظ تحريم اليمين الفاجرة التي يقتطع بها مال غيره. 6 - التحذير من ادعاء المرء ما ليس فيه.

(66) باب لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر

(66) باب لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر 191 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا. فقال لرجل ممن يدعى بالإسلام "هذا من أهل النار" فلما حضرنا القتال قاتل الرجل قتالا شديدا فأصابته جراحة. فقيل: يا رسول الله، الرجل الذي قلت له آنفا "إنه من أهل النار" فإنه قاتل اليوم قتالا شديدا. وقد مات. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إلى النار" فكاد بعض المسلمين إن يرتاب. فبينما هم على ذلك إذ قيل: إنه لم يمت. ولكن به جراحا شديدا! فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه. فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال "الله أكبر! أشهد أني عبد الله ورسوله" ثم أمر بلالا فنادى في الناس "أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة. وأن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر". 192 - عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم التقى هو والمشركون فاقتتلوا. فلما مال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عسكره. ومال الآخرون إلى عسكرهم. وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل لا يدع لهم شاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه. فقالوا: ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أما إنه من أهل النار" فقال رجل من القوم: أنا صاحبه أبدا. قال فخرج معه. كلما وقف وقف معه. وإذا أسرع أسرع معه. قال فجرح الرجل جرحا شديدا. فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه. ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه. فخرج الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أنك رسول الله، قال "وما ذاك؟ " قال: الرجل الذي ذكرت آنفا أنه من أهل النار. فأعظم الناس ذلك. فقلت: أنا لكم به. فخرجت في طلبه حتى جرح جرحا شديدا. فاستعجل الموت. فوضع نصل سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه. ثم تحامل عليه فقتل نفسه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، عند ذلك "إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار. وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة".

-[المعنى العام]- في سنة سبع من الهجرة وفي غزوة خيبر، أو في سنة ثمان في غزوة حنين، وفي معسكر المسلمين، دخل قزمان الظفري على رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوله جماعة من أصحابه، فلما انصرف الرجل قال الرسول صلى الله عليه وسلم لمن حوله: من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى ذلك الرجل، وظن السامعون أنه منافق، وحرصوا على متابعته والاطلاع على تصرفاته، وبدأ القتال بين المسلمين والكفار، وإذا بالرجل يصول ويجول، ويعمل سيفه مرة، ونبله أخرى في المشركين، يقتل منهم ويجرح، ولا يدع منهم شاردة ولا واردة، ولا شاذة ولا فاذة إلا أعمل فيها سيفه، مثل رائع من أمثلة البطولة، وصورة فذة من صور الشجاعة والإقدام ومحاربة المشركين، ودهش الذين سمعوا عنه ما سمعوا من الرسول صلى الله عليه وسلم، وما كادوا يصدقون ما رأوا، وهم يصدقون ما سمعوا، وأقبل الظلام، ورجع المسلمون إلى عسكرهم، والكفار إلى عسكرهم، كل يستعد للقاء الآخر في اليوم الثاني، ودخل الجماعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: يا رسول الله. الرجل الذي قلت عنه إنه من أهل النار قاتل اليوم قتالا لم يقاتله أحد منا، وكان من أشد الناس على المشركين، فلم يترك شاردة ولا واردة منهم إلا اتبعها بسيفه. قال صلى الله عليه وسلم: أما إنه من أهل النار. وكاد القوم يفتنون ويرتابون ويشكون. قالوا: يا رسول الله، أينا من أهل الجنة إن كان هذا من أهل النار؟ وقال أخباث المنافقين: يا رسول الله، إذا كان فلان في عبادته واجتهاده ولين جانبه وحسن بلائه من أهل النار فأين نحن؟ قال صلى الله عليه وسلم: هو في النار. نظر القوم بعضهم إلى بعض في حيرة من الأمر، ودهشة من الخبر قال قائل منهم، وهو أكثم بن أبي الجون الخزاعي: أنا أكفيكم أمر هذا الرجل، دعوني أتبعه وألازمه، فخرج في الصباح معه، كلما وقف وقف معه، وإذا أسرع أسرع معه، فجرح الرجل جرحا شديدا أقعده وأثبته، وظن بعضهم أنه مات، فذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يقول له: إن الرجل قد استشهد، فقال صلى الله عليه وسلم: هو في النار، وذهل القوم، وبينما هم في ذهولهم إذ جاءهم "مسرعا" صاحبهم الذي لازمه، يقول بأعلى صوته، وقبل أن يصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: أشهد أنك رسول الله، قال: وما ذاك؟ قال: صدق الله حديثك يا رسول الله، إن الرجل الذي قلت عنه إنه من أهل النار أصابته جراحة شديدة، فلم يصبر عليها، فلما جاء الليل أخرج سهما من كنانته، وحاول أن ينحر بها نفسه، فلما لم يساعده السهم، ولم يقض عليه، وضع نصل سيفه بالأرض وذبابه إلى أعلى، ثم حرره بين ثدييه، وتحامل عليه، فخرج من ظهره ومن بين كتفيه، فقتل نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الله أكبر، أشهد أني عبد الله ورسوله، إن العبد ليعمل بعمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار، تدركه الشقاوة أو السعادة عند خروج نفسه، فيختم له بها، العمل بخواتيمه، العمل بخواتيمه، قم يا بلال، وقم يا ابن الخطاب، وقم يا ابن عوف، فنادوا في الناس: أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة بالقدر، مسلمة بالقضاء، وإن الله يؤيد الإسلام بالرجل الفاجر.

-[المباحث العربية]- (شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا) أي غزوة حنين وكانت في شوال سنة ثمان من الهجرة، "وحنين" واد إلى جنب ذي المجاز، قريب من الطائف، بينه وبين مكة بضعة عشر ميلا من جهة عرفات، وفي رواية البخاري "خيبر" بدل "حنين" وكانت غزوة خيبر في المحرم سنة سبع من الهجرة، وخيبر كانت مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع على مسافة مائة وخمسة وخمسين كيلو مترا من المدينة إلى جهة الشام. (فقال لرجل) الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخاطب الرجل بذلك ولم يسمعه، فاللام بمعنى "عن" مثلها في قوله تعالى: {وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه} [الأحقاف: 11] ويحتمل أن تكون بمعنى "في" أي قال في شأن رجل، مثلها في قوله تعالى: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة} [الأنبياء: 47] أي في يوم القيامة، واسم الرجل "قزمان الظفري" وكان قد تخلف عن المسلمين يوم أحد، فعيره النساء، فخرج حتى صار في الصف الأول، فكان أول من رمى بسهم. (ممن يدعى بالإسلام) أي ممن يتصف ظاهرا بالإسلام، وفي رواية البخاري "ممن يدعى الإسلام". (فأصابته جراحة) أفادت بعض الروايات أنه أصابه سهم. (الرجل الذي قلت له) أي عنه، أو في شأنه. (آنفا) أي قريبًا، وفيه لغتان: المد والقصر، والمد أفصح. (فكاد بعض المسلمين أن يرتاب) ويتشكك في إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا الرجل، وهو في الأصول "أن يرتاب" بإثبات "أن" في خبر كاد، وهو قليل جائز، وورد في بعض الروايات بدون "أن"، و"كاد" لمقاربة الفعل ولم يفعل إذا لم يتقدمها نفي، فإن تقدمها كقولك: ما كاد يقوم، كانت دالة على القيام. لكن بعد بطء. (فبينما هم على ذلك إذ قيل إنه لم يمت) "بينما" أصله "بين" زيدت عليه "ما" وهو من الظروف الزمانية الملازمة للإضافة إلى الجملة، ولا بد لها من جواب، وهو العامل فيها إذا كان مجردا من كلمة المفاجأة، وإلا فالعامل معنى المفاجأة. كما هنا، والتقدير فاجأهم قول الناس: إنه لم يمت وقت قرب ارتيابهم. (لكن به جراحا شديدا) كذا هو في الأصول "جراحا شديدا" ومقتضى القواعد النحوية "شديدة" ولعله على اعتبار كلمة "جراح" اسم جنس جمعي يفرق بينه وبين واحده بالتاء - جراح وجراحة- فيذكر ويؤنث.

(ثم أمر بلالا فنادى في الناس. إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وأن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر) يجوز في "أنه" و"أن" كسر الهمزة وفتحها. قال النووي: وقد قرئ في السبع {فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك} [آل عمران: 39] بفتح الهمزة وكسرها و"أل" في "الرجل الفاجر" يحتمل أن تكون للعهد. والمراد به "قزمان" المذكور، ويحتمل أن تكون للجنس. وفي رواية عند مسلم "قم يا ابن الخطاب" وفي رواية عند البيهقي أن المنادى بذلك عبد الرحمن بن عوف، ويجمع بينها بأنهم نادوا جميعا في جهات مختلفة. (فلما مال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عسكره) أي رجع بعد فراغ القتال في ذلك اليوم. (لا يدع لهم شاذة إلا اتبعها) الشاذة والشاذ: الخارجة والخارج عن الجماعة المنفرد عنهم، وهي صفة لموصوف محذوف، أي لا يدع نفسا شاذة منفردة إلا اتبعها. والضمير في "لهم" للكفار، وفي رواية البخاري "لا يدع من المشركين شاذة ولا فاذة إلا اتبعها" و"الفاذة" بمعنى الشاذة، وقيل: هما بمعنى ما كبر وما صغر، والمراد: المبالغة في أنه لا يلقى أحدا من المشركين إلا قتله. (يضربها بسيفه) جملة حالية، أي لا يترك منفردا عن الجماعة إلا اتبعه ضاربا إياه بسيفه. (فقالوا) وفي رواية "فقيل" وفي أخرى "فقال" أي قال قائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم. (ما أجزأ منا اليوم أحد ما أجزأ فلان) "أجزأ" بالهمزة، والمعنى ما أغنى أحد غناءه، وما كفى كفايته. (أما إنه من أهل النار) "أما" بتخفيف الميم أداة استفتاح لتأكيد الخبر. (فقال رجل من القوم) قال الحافظ ابن حجر: هو أكثم بن أبي الجون. (أنا صاحبه أبدا) كذا في الأصول، ومعناه أنا أصحبه في خفية وألازمه، وفي رواية "لأتبعنه" أي لأنظر السبب الذي به يصير من أهل النار. (فوضع نصل سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه) ذباب السيف طرفه الأسفل حين يتدلى، وأما طرفه الأعلى فمقبضه، ونصله حديدته، والمراد من النصل طرف المقبض، وفي رواية البخاري "فوضع نصاب سيفه بالأرض" ونصاب السيف مقبضه، فكأنه وضع حديدة المقبض على الأرض، وطرف السيف المدبب في تجويف صدره بين ثدييه، و"ثدييه" مثنى "ثدي" وهو يذكر على اللغة الفصيحة، وحكى ابن فارس والجوهري فيه التذكير والتأنيث، قيل: يطلق للرجل والمرأة، وقيل: يطلق للمرأة، ويقال لذلك الموضع من الرجل "ثندوة" فعلى هذا يكون قد استعار الثدي للرجل في الحديث.

-[فقه الحديث]- ذهب بعض المحدثين إلى أن القصة التي في حديث سهل غير القصة التي في حديث أبي هريرة بناء على أن الرجل في قصة سهل قتل نفسه بتحامله على ذباب سيفه، وأن الرجل في قصة أبي هريرة - كما رواها البخاري مفصلة ولم تفصلها رواية مسلم -قتل نفسه بأن أهوى بيده إلى كنانته، فاستخرج منها أسهما فنحر بها نفسه. وأيضا ففي حديث سهل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبروه بقصته قال "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة" الحديث. وفي حديث أبي هريرة قال لهم لما أخبروه بقصته "قم يا بلال فأذن أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ... " الحديث. لكن المحققين من المحدثين يجنحون إلى أن القصة واحدة، ويجمعون بين الروايتين باحتمال أن يكون الرجل قد نحر نفسه بأسهمه، فلم تزهق روحه، وإن كان قد أشرف على القتل، فأجهز على نفسه بأن تحامل على سيفه. وباحتمال أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم حين أخبر بقصة الرجل قال: إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة إلخ، ثم أمر بلالا أن يؤذن في الناس. فذكر أحد الرواة جانبا من القصة، وذكر غيره جانبا آخر منها. ومما لا شك فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم علم مستقبل هذا الرجل بطريق الوحي، لأنه أمر غيبي، لا مجال للرأي فيه، وما يؤخذ من الحديث يفيد أن سبب كونه من أهل النار هو قتله نفسه، ولا يعارضه ما جاء في مغازي الواقدي، من أن قتادة ابن النعمان مر بالرجل، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، فقال له: هنيئا لك بالشهادة، فقال الرجل: والله ما قاتلت على دين، وإنما قاتلت على حسب قومي، ومعنى هذا أن الرجل كان منافقا، وأنه لم يقاتل لإعلاء كلمة الله، وأن هذا سبب كونه من أهل النار، إذ ليس بعد الكفر ذنب، لا يعارض، لأن ما أخذ من المغازي لا يحتج به إذا انفرد، ومن باب أولى لا يحتج به إذا عارض الصحيح، ولأنه صلى الله عليه وسلم (حين فهم الصحابة أن سبب كونه من أهل النار قتله نفسه) وافقهم على هذا الفهم، بل حين جاءه خبر الرجل قال: "الله أكبر أشهد أني عبد الله ورسوله" مما يؤكد أن السبب هو فعلته، وليس شيئا سابقا وإلا لبينه صلى الله عليه وسلم، ولا يقال: إن ما جاء في مغازي الواقدي يتوافق مع ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم "لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة" فظاهره أن الرجل لم يكن مسلما، إذ معناه أن الرجل بعد أن قتل نفسه لم يكن مسلما بالمعنى اللغوي، أي لم يكن منقادا خاضعا لقضاء الله، بل عارض القضاء، واستعجل الموت، وتدفعنا هذه النقطة إلى التساؤل. هل هذا الرجل -على أنه غير منافق- من أهل النار المؤقتين أو المؤبدين؟ والجواب: أنه يحتمل -عند أهل السنة- أنه من أهل النار الذين يستوفون فيها عقوبة جريمتهم، ثم يحولون إلى الجنة لتوحيدهم، غاية الأمر أن الحديث يدل على أن هذا الرجل ليس ممن يشملهم عفو الله، وأنه لن يسامح عن هذه المعصية، وأنه سينفذ عليه وعيد الفساق، ولا يلزم منه أن كل من قتل نفسه يقضى عليه بالنار، لجواز عفو الله عنه.

وقال ابن التين: ويحتمل أن يكون هذا الرجل، حين أصابته الجراحة ارتاب وشك في الإيمان، أو استحل قتل نفسه، فمات كافرا، فيكون من أهل النار المؤبدين. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - التحذير من الاغترار بالأعمال، وأنه ينبغي للعبد ألا يتكل عليها، ولا يركن إليها مخافة من انقلاب الحال للقدر السابق، وكذا ينبغي للعاصي ألا يقنط، ولغيره ألا يقنطه من رحمة الله، إذ معنى "إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة" أن الأعمال بالخواتيم كما جاء في آخر رواية البخاري. 2 - وفي الحديث إخباره صلى الله عليه وسلم بالمغيبات، وذلك من معجزاته الظاهرة. 3 - وفيه جواز الإخبار عن حال الرجل السيئ إذا كان الإخبار يحقق مصلحة مشروعة. 4 - وفيه الوعيد والتحذير من قتل النفس مهما كانت الآلام. 5 - وفيه أن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وفجوره على نفسه، ولا يعارض هذا قوله صلى الله عليه وسلم "لا نستعين بمشرك" لأن الفاجر غير المشرك. 6 - استدل به بعضهم على أنه لا يطلق على كل مقتول في الجهاد أنه شهيد، لاحتمال أن يكون مثل هذا، وإن كان مع ذلك يعطى حكم الشهداء في الأحكام الظاهرة. فقد خطب عمر، فقال تقولون في مغازيكم: فلان شهيد، ومات فلان شهيدا، ولعله يكون قد أوقر راحلته. ألا لا تقولوا ذلكم، قولوا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات في سبيل الله أو قتل فهو شهيد". وعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "من تعدون الشهيد؟ قالوا: من أصابه السلاح، قال: كم من أصابه السلاح وليس بشهيد ولا حميد، وكم من مات على فراشه حتف أنفه عند الله صديق وشهيد". والله أعلم.

(67) باب تحريم الجنة على قاتل نفسه

(67) باب تحريم الجنة على قاتل نفسه 193 - عن شيبان قال: سمعت الحسن يقول: "إن رجلا ممن كان قبلكم خرجت به قرحة. فلما آذته انتزع سهما من كنانته. فنكأها. فلم يرقأ الدم حتى مات. قال ربكم: قد حرمت عليه الجنة". ثم مد يده إلى المسجد فقال: إي والله لقد حدثني بهذا الحديث جندب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المسجد. 194 - عن الحسن قال: حدثنا جندب بن عبد الله البجلي في هذا المسجد. فما نسينا. وما نخشى أن يكون جندب كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خرج برجل فيمن كان قبلكم خراج" فذكر نحوه. -[المعنى العام]- حذر صلى الله عليه وسلم من قتل النفس تحذيرا مؤكدا، وكرر هذا التحذير في صور مختلفة، وفي مناسبات متعددة: مرة بالتحديث العام "من قتل نفسه بحديدة ... " إلخ. ومرة باستغلال ظروف الجهاد الذي يظن أنه ميدان الجنة، ليبين أن هذا العمل الإسلامي الكبير لا يغطي جريرة قتل النفس، ومرة بذكر حادثة وقعت في بني إسرائيل ليؤكد أن هذه المعصية ليست كبيرة في ديننا وحده، بل مما توافقت الشرائع السابقة على تغليظها. يقص صلى الله عليه وسلم أن رجلا من الأمم السابقة أصابته جراحة في يده، فأهمل وقايتها وعلاجها فتقيحت، وأصبحت قرحة مليئة بالصديد والجراثيم، وأخذ ألمها يزداد ووجعها يشتد، حتى ضعفت قوة الرجل وعزيمته أمام عذابها، فقرر أن يتخلص من الحياة كلها ليستريح من آلام قرحته، وما حسب حسابا لما سيلاقيه من عذاب دائم بدل العذاب المؤقت، ومن نار جهنم التي لا يقرب من آلامها الجراح الدنيوية مهما بلغت قسوتها وصعوبتها. فتح جعبة سهامه، وأخرج منها سهما ماضيا، ونخس القرحة نخسة شديدة لعله يفجر شريان يده، فآلمه السهم ولم ينفجر الشريان، فأخذ سكينا مرهفا، ليسرع بالمهمة ويحقق القصد، وفي لحظة كشط القرحة ونفذ إلى الشريان الذي قذف بدمه، ولم يحاول أن يكتم المنفذ، أو يسد ما فتح، بل ترك الدم يسيل حتى مات.

فقال الله تعالى لملائكته: بادرني عبدي، وتعجل الموت، وقتل نفسه، ولم يصبر على بلائي، ولم يرض بقضائي، أشهدكم أني حرمت عليه الجنة. ألا فليعلم من يضيق بالحياة ونوائبها، ومن يحاول التخلص بالانتحار من متاعبها، أن بعد الحياة حياة، وأنه سينقل من حالة إلى حالة أشد، وسيركب طبقا عن طبق وهولا بعد هول، فليتحمل ساعة الألم، وليذكر كم سعد بالصحة والراحة سنين، وليحمد الله على السراء والضراء، وليسأله العفو والعافية في الدنيا، فإنه بعباده - جل شأنه- أرحم الراحمين. -[المباحث العربية]- (سمعت الحسن) البصري. (إن رجلا ممن كان قبلكم) قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسم هذا الرجل. (خرجت به قرحة) بفتح القاف وإسكان الراء، واحدة القروح وهي حبات تخرج في بدن الإنسان، وفي الرواية الثانية "خرج برجل فيمن كان قبلكم خراج" وهو بضم الخاء وتخفيف الراء: القرحة، وفي رواية البخاري "رجل به جرح" بضم الجيم وسكون الراء، وجمع الحافظ ابن حجر بينها فقال: كأنه كان به جرح ثم صار قرحة، ودلت رواية البخاري على أن الجرح كان في يده. (فلما آذته) أي آلمته إيلاما شديدا لم يصبر عليه، وفي رواية البخاري "فجزع". (انتزع سهما من كنانته) بكسر الكاف هي جعبة النشاب، سميت كنانة لأنها تكن السهام، أي تسترها. (فنكأها) بالنون والهمز. أي نخسها وخرقها وفتحها، وفي رواية البخاري: "فأخذ سكينا فخز بها يده" وجمع بين الروايتين باجتماع أن يكون قد فجر الجرح بذبابة السهم فلم ينفعه، فخز موضعه بالسكين. (فلم يرقأ الدم) أي لم يقطع. يقال: رقأ الدم والدمع يرقأ مثل ركع يركع، إذا سكن وانقطع. (ثم مد يده إلى المسجد. فقال) هذه الجملة من كلام "شيبان" الراوي عن الحسن. والمعنى قال شيبان: بعد أن حدث الحسن بهذا الحديث مد يده مشيرا إلى مسجد البصرة فقال. (إي والله) "إي" حرف جواب بمعنى نعم، تسبق القسم. (لقد حدثني بهذا الحديث جندب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المسجد) فجندب حدث الحسن بهذا الحديث في مسجد البصرة، والحسن حدث شيبان به في نفس المسجد، وفائدة ذكر المكان التوثيق بالرواية، والإشعار بكمال الضبط.

(فما نسينا) ما حدثنا به الحسن، أشار بذلك إلى تحققه مما حدث به، وقرب عهده به واستمرار ذكره له. -[فقه الحديث]- لما كان أهل السنة يقولون: إن المؤمن العاصي لا تحرم عليه الجنة. كان عليهم أن يجيبوا عن قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: "قال ربكم قد حرمت عليه الجنة" وقد أجابوا عن ذلك من أوجه: 1 - أنه كان قد استحل ذلك الفعل، فصار كافرا، والكافر تحرم عليه الجنة. 2 - أن المراد أن الجنة حرمت عليه في وقت ما، كالوقت الذي يدخل فيه السابقون، أو الوقت الذي يعذب فيه الموحدون في النار ثم يخرجون. والمعنى حرمت عليه الجنة فترة من الزمن. 3 - أن المراد جنة معينة كالفردوس مثلا، فـ "أل" في الجنة للعهد. 4 - أن الرجل كان كافرا في الأصل، وعوقب بهذه المعصية زيادة على كفره، وهذا الرأي بعيد، وبعده واضح. 5 - أن ذلك ورد على سبيل التغليظ والتخويف وظاهره غير مراد. 6 - أن التقدير: حرمت عليه الجنة إن شئت استمرار ذلك. 7 - قال النووي: يحتمل أن يكون ذلك شرع من مضى، وأن أصحاب الكبائر يكفرون بفعلها. ذكر هذه الوجوه الحافظ ابن حجر في الفتح، وزاد النووي نقلا عن القاضي عياض: أنه يحتمل أن تحرم عليه الجنة ويحبس في الأعراف. وهذا التوجيه الأخير لا يتمشى مع مذهب أهل السنة القائلين بدخول جميع الموحدين الجنة. وأقرب التوجيهات للقبول هو التوجيه الثاني، وأن تحريم الجنة تحريم مؤقت، وليس في الحديث بجميع رواياته ما يدل على تأبيد تحريمها عليه. قال النووي: ثم إن هذا محمول على أنه نكأها استعجالا للموت أو لغير مصلحة، فإنه لو كان على طريق المداواة التي يغلب على الظن نفعها لم يكن حراما. اهـ. ورواية البخاري صريحة في أنه فعل ذلك استعجالا للموت، ونصها" فجزع، فأخذ سكينا فخز بها يده، فما رقأ الدم حتى مات، قال الله عز وجل: بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة". وقد استشكل قوله "بادرني عبدي" في رواية البخاري، لأنه يقتضي أن يكون من قتل فقد مات قبل أجله، لما يوهمه سياق الحديث من أنه لو لم يقتل نفسه لتأخر موته عن ذلك الوقت وعاش، لكنه

بادر فتقدم، هذا الظاهر قد يتمشى مع مذهب المعتزلة، أما أهل السنة فهم يقولون: إن المقتول ميت بأجله، ولهذا يجيبون على الإشكال بأن المبادرة إنما هي من حيث التسبب في ذلك والقصد له والاختيار، وليست بخروج الروح، وأطلق على ذلك مبادرة لوجود صورتها، وإنما استحق المعاقبة لأن الله لم يطلعه على انقضاء أجله، فاختار هو قتل نفسه، فاستحق المعاقبة لعصيانه. وقال القاضي أبو بكر: قضاء الله مطلق، ومقيد بصفة، فالمطلق يمضي على الوجه بلا صارف، والمقيد على الوجهين. مثال: أن يقدر لواحد أن يعيش عشرين سنة إن قتل نفسه، وثلاثين سنة إن لم يقتل، وهذا بالنسبة إلى علم المخلوق، كذلك الموت مثلا. وأما بالنسبة إلى علم الله فإنه لا يقع إلا ما علمه. اهـ. فمعنى الحديث على هذا: بادرني عبدي بالنسبة لعلم المخلوقين: لا في الحقيقة ونفس الأمر وعلم الله تعالى. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - تحريم قتل النفس، ولئن كان الحديث يحكي شرع من قبلنا فإنه أقره، وإقرار شرع من قبلنا يجعله شرعا لنا. 2 - فيه الوقوف عند حدود الله تعالى، وأن الأنفس ملك له فلا يتصرف فيها صاحبها إلا بما شرعه المالك جل شأنه. 3 - فيه رحمة الله تعالى بخلقه، حيث حرم عليهم قتل نفوسهم. 4 - فيه الحث على الصبر على البلاء وترك الجزع. 5 - وفيه تحريم تعاطي الأسباب المفضية إلى المحرم. 6 - وفيه التحدث عن الأمم الماضية وما فعلت، بقصد الترغيب أو الترهيب. 7 - وفيه الاحتياط في التحديث، وكيفية الضبط له، والتحفظ فيه بذكر المكان، والإشارة إلى ضبط المحدث، وتوثيقه لمن حدثه ليركن السامع لذلك. 8 - قال الحافظ ابن حجر في قول الراوي: "وما نخشى أن يكون جندب كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم" إشارة إلى أن الصحابة عدول، وأن الكذب مأمون من قبلهم، ولا سيما على النبي صلى الله عليه وسلم. اهـ. والحق أن العبارة توثق جندبا، وتؤكد عدالته، ولا تتعرض لغيره من الصحابة وإن كانوا حقا عدولا لكن بأدلة أخرى. والله أعلم

(68) باب تحريم الغلول

(68) باب تحريم الغلول 195 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم خيبر أقبل نفر من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم. فقالوا: فلان شهيد. فلان شهيد. حتى مروا على رجل فقالوا: فلان شهيد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كلا. إني رأيته في النار. في بردة غلها. أو عباءة". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا ابن الخطاب! اذهب فناد في الناس أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون" قال فخرجت فناديت "ألا إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون". 196 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر. ففتح الله علينا. فلم نغنم ذهبا ولا ورقا. غنمنا المتاع والطعام والثياب. ثم انطلقنا إلى الوادي. ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد له، وهبه له رجل من جذام. يدعى رفاعة بن زيد من بني الضبيب. فلما نزلنا الوادي قام عبد رسول الله صلى الله عليه وسلم يحل رحله. فرمي بسهم. فكان فيه حتفه. فقلنا: هنيئا له الشهادة يا رسول الله! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كلا. والذي نفس محمد بيده! إن الشملة لتلتهب عليه نارا، أخذها من الغنائم يوم خيبر. لم تصبها المقاسم" قال ففزع الناس. فجاء رجل بشراك أو شراكين. فقال: يا رسول الله، أصبت يوم خيبر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "شراك من نار أو شراكان من نار". -[المعنى العام]- هاجر أبو هريرة إلى المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر فأدركه بها، وخرج معه من خيبر بعد معركتها وفتحها إلى وادي القرى، وأخذ الصحابة يتحدثون عن شهدائهم على مسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقولون: فلان شهيد، وفلان شهيد، وفلان شهيد وذكروا رجلا قتل في المعركة أو عقبها، وقالوا عنه: فلان شهيد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلا، ليس بشهيد، إني رأيته - ورؤياي وحي- في النار بسبب بردة سرقها من الغنيمة تشتعل عليه نارا يوم القيامة، ثم قال: قم يا ابن الخطاب، فناد في الناس: إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون الذين لا يغلون، فخرج عمر ونادى بما أمره به صلى الله عليه وسلم.

وبينما الصحابة على ذلك، وبينما عبد أسود لرسول الله صلى الله عليه وسلم يحل رحل ناقة النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه سهم طائش قضى عليه، فقال الصحابة: هنيئا له الشهادة، قال صلى الله عليه وسلم: كلا ليس بشهيد والله الذي نفسي بيده إن البردة التي سرقها من الغنيمة يوم خيبر قبل القسمة تشتعل عليه نارا. ففزع الناس وخافوا وانزعجوا من هذه العقوبة، وقد كانوا يحسبون مثل هذا الأمر هينا، فعلموا أنه عند الله عظيم، وكان ممن هاله الخطب رجل أخذ خفية من الغنيمة سيرا لنعله أو سيرين، فأسرع بإحضارهما وتسليمهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا: استغفر لي يا رسول الله، فقد أخذت هذين السيرين يوم خيبر، فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول لو لم تردهما لكانا سيرين من النار يلتهبان على قدميك يوم القيامة. -[المباحث العربية]- (لما كان يوم خيبر) "كان" تامة و"يوم" فاعلها، وفي "خيبر" مضاف محذوف أي يوم فتح خيبر. (أقبل نفر) النفر عدة رجال من الثلاثة إلى التسعة، وجمعه أنفار وأنفرة ونفراء، ولم تعرف أسماؤهم، وقد أقبلوا من المعركة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. (فقالوا: فلان شهيد) كلمة "فلان" من مقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وليست من مقول النفر، وهي كناية عن الاسم الصريح الذي قالوه. وإن أعربت صياغة مقولا لقالوا، والمراد من "شهيد" أي سقط في القتال بين المسلمين والكفار فيحكم له بدخول الجنة أول وهلة. (حتى مروا على رجل) أي حتى جاءوا في عدهم على اسم رجل. (كلا) حرف زجر ورد. أي ليس بشهيد. (إني رأيته في النار) رؤيا منام، وهي حق، أو الرؤية بمعنى العلم، أي علمت أنه من أهل النار بطريق الوحي. (في بردة غلها أو عباءة) جملة "غلها" صفة لبردة، وحذف هذا الوصف من "عباءة" لدلالة الوصف الأول عليه، والتقدير: أو عباءة غلها. و"في" للظرفية على أنه رئي في النار مظروفا في البردة، أو للسببية، والأول أنسب، والبردة: بضم الباء كساء مخطط، وهي الشملة، وقال أبو عبيد: هو كساء أسود، فيه صور، وجمعها برد بضم الباء وفتح الراء، وأما العباءة فمعروفة، وهي بألف ممدودة، ويقال فيها أيضا عباية بالياء والغلول -وفعله غل يغل بضم الغين-: هو الخيانة في الغنيمة خاصة، وقال بعضهم: هو الخيانة في كل شيء. قال ابن قتيبة: سمي بذلك لأن آخذه يغله في متاعه، أي يخفيه.

(ففتح الله علينا) مفعول "فتح" محذوف أي فتح الله علينا حصونها. (فلم نغنم ذهبا ولا ورقا) الورق -بفتح الواو وكسر الراء- الدراهم المضروبة، وفي رواية البخاري "ولم نغنم ذهبا ولا فضة". (غنمنا المتاع والطعام والثياب) وفي رواية البخاري "إنما غنمنا البقر والإبل والمتاع والحوائط". (ثم انطلقنا إلى الوادي) في رواية البخاري "إلى وادي القرى". (عبد له) في رواية الموطأ "عبد أسود" وفي رواية البخاري يقال له "مدعم" بكسر الميم وسكون الدال وفتح العين. (رفاعة بن زيد من بني الضبيب) بضم الضاد المعجمة، وبعدها ياء موحدة مفتوحة، ثم ياء ساكنة، وكان رفاعة قد وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس من قومه قبل خروجه إلى خيبر، فأسلموا، وعقد له على قومه فأهداه ذلك العبد. (يحل رحلا) وفي رواية البخاري: "يحط رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم "والرحل مركب الرجل على البعير. (فرمي بسهم) في رواية البخاري "إذ جاءه سهم عائر" (أي طائش لا يدرى من رمي به. وقيل: هو الحائد عن قصده). (فكان فيه حتفه) بفتح الحاء وإسكان التاء، أي موته، وجمعه حتوف، ومات حتف أنفه، أي من غير قتل ولا ضرب. (إن الشملة لتلتهب عليه نارا) الشملة هي البردة -كما سبق بيانه- يحتمل أن يكون ذلك حقيقة بأن تصير الشملة نفسها نارا تحيط به، فيعذب بها، ويحتمل أن يكون المراد أنها سبب لعذاب النار. (أخذها من الغنائم) جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب. (فجاء رجل بشراك أو شراكين) قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسم الرجل. والشراك بكسر الشين وتخفيف الراء هو السير المعروف الذي يكون في النعل على ظهر القدم، وهو السير الذي يدخل فيه أصبع الرجل. (أصبت يوم خيبر) المفعول محذوف. أي أصبته يوم خيبر أي أخذت الشراك أو الشراكين من الغنيمة قبل القسمة يوم خيبر.

(شراك من نار) خبر مبتدأ محذوف، أي هذا شراك من نار لو لم ترده، أي كان مآله أن يصير شراكا من نار. ففيه مجاز مرسل من قبيل: {إني أراني أعصر خمرا} [يوسف: 36]. -[فقه الحديث]- من المعلوم أن أبا هريرة هاجر من اليمن إلى المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر. فقد روى أحمد وابن خزيمة وابن حبان والحاكم عن أبي هريرة قال: قدمت المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر وقد استخلف على المدينة "سباع بن عرفطة" فزودنا شيئا حتى أتينا خيبر وقد افتتحها النبي صلى الله عليه وسلم فكلم المسلمين فأشركونا في سهامهم. إذا تقرر هذا كان قول أبي هريرة في الرواية الثانية: "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر" مشكلا، ولهذا قال محققو المحدثين: إن الراوي وهم في هذه الرواية، وفي هذه العبارة بالذات ولهذا كانت بقية الروايات بعيدة عن هذه العبارة، فالرواية الأولى التي معنا واضحة لا إشكال فيها ورواية البخاري كذلك، ونصها "افتتحنا خيبر ولم نغنم ذهبا ولا فضة" فإدخاله نفسه في افتتاحها باعتبار أنه قسم له في مغانمها، فاعتبر كالمفتتحين لها. ورواية ابن حبان والحاكم "انصرفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وادي القرى" وهي واضحة. ولعل الرواية الثانية التي معنا محرفة من رواية البيهقي التي نصها "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر إلى وادي القرى". -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - عظم تحريم الغلول، ونقل النووي الإجماع على أنه من الكبائر. 2 - أنه لا فرق بين قليله وكثيره حتى الشراك الذي هو سير النعل. 3 - استدل به على أن من غل شيئا من الغنيمة فعليه رده، قال ابن المنذر: أجمعوا على أن الغال يجب عليه أن يعيد ما غل قبل القسمة، وأما ما غل بعدها فقد قال النووي والأوزاعي والليث ومالك: يدفع إلى الإمام خمسه، ويتصدق بالباقي، وكان الشافعي لا يرى ذلك ويقول: إن قيل: إنه ملكه فليس عليه أن يتصدق به، وإن قيل: إنه لم يملكه فليس له الصدقة بمال غيره، قال: والواجب أن يدفعه إلى الإمام كالأموال الضائعة. 4 - أن الغال إذا رد ما غله قبل منه. 5 - وأنه لا يحرق متاعه، سواء رده أو لم يرده، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يحرق متاع صاحب الشملة وصاحب الشراك، ولو كان واجبا لفعله، ولو فعله لنقل، وأما حديث "من غل فاحرقوا متاعه واضربوه" وفي رواية: "واضربوا عنقه"، فضعيف. قال الطحاوي: ولو كان صحيحا لكان منسوخا، ويكون هذا حين كانت العقوبات في الأموال.

6 - وفيه تنبيه على أن معاقبة الغال إنما تكون بما غل، قال تعالى: {ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة} [آل عمران: 161]. 7 - وفي الحديث قبول الإمام للهدية: قال الحافظ ابن حجر: إن كانت لأمر يختص به في نفسه، أي لو كان غير وال فله التصرف فيها بما أراد، وإلا فلا يتصرف فيها إلا للمسلمين، وعلى هذا التفصيل يحمل حديث "هدايا الأمراء غلول" فيخص بمن أخذها فاستبد بها، وخالف في ذلك بعض الحنفية. فقال: له الاستبداد مطلقا، بدليل أنه لو ردها على مهديها لجاز، فلو كانت فيئا للمسلمين لما ردها. 8 - جواز الحلف بالله تعالى من غير ضرورة، قصد تأكيد الخبر لقوله صلى الله عليه وسلم "والذي نفس محمد بيده". 9 - أن الغال من الغنيمة ليس بشهيد، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قالوا عنه: شهيد. قال: كلا. قال النووي: من غل في الغنيمة وشبهه ممن وردت الآثار بنفي تسميته شهيدا إذا قتل في حرب الكفار، فهذا له حكم الشهداء في الدنيا، فلا يغسل، ولا يصلى عليه، وليس له ثوابهم الكامل في الآخرة. اهـ. فنفي الشهادة نفي لثوابها الكامل، ونفي لتحريم صاحبها على النار. والله أعلم

(69) باب قاتل النفس لا يكفر

(69) باب قاتل النفس لا يكفر 197 - عن جابر رضي الله عنه أن الطفيل بن عمرو الدوسي أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هل لك في حصن حصين ومنعة؟ (قال حصن كان لدوس في الجاهلية) فأبى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم. للذي ذخر الله للأنصار. فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. هاجر إليه الطفيل بن عمرو. وهاجر معه رجل من قومه. فاجتووا المدينة. فمرض، فجزع فأخذ مشاقص له، فقطع بها براجمه، فشخبت يداه حتى مات. فرآه الطفيل بن عمرو في منامه. فرآه وهيئته حسنة. ورآه مغطيا يديه. فقال له: ما صنع بك ربك؟ فقال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: ما لي أراك مغطيا يديك؟ قال قيل لي: لن نصلح منك ما أفسدت. فقصها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم وليديه فاغفر". -[المعنى العام]- قدم الطفيل بن عمرو الدوسي من وطنه باليمن إلى مكة، وكان من وجهاء قومه، فخافت قريش أن يتصل برسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم، فحذرته منه بأنه يفرق بين المرء وزوجه، وبأنه ساحر إلخ، فدفعه حب الاستطلاع إلى القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث لا يشعر، فسمع منه بعض آيات القرآن الكريم، فوقعت في قلبه، فما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته أدركه الطفيل، فطلب منه أن يعرض عليه الإسلام فأسلم، ورجع إلى قومه، ودعاهم إلى الإسلام، فكان ممن أجابه أبو هريرة رضي الله عنه وجماعة من أهله، وبعد مدة رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأى إيذاء قريش له وللمسلمين، فعرض عليه أن يهاجر إلى اليمن ويقيم في حصن دوس المنيع، وفي حماية جماعة من قوم الطفيل المسلمين، فاعتذر عن الهجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان ربه قد أراه أرض طيبة، وأعلمه أنها أرض الهجرة، ولم يكن قد أذن له فيها، فعاد الطفيل إلى أهله، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وبعد بدر وأحد والخندق، وفي عمرة القضية هاجر الطفيل بن عمرو، ومعه رجل من قومه، واستقر بهم المقام في المدينة، لكن هواءها لم يناسبهما، فأصابتهما بعض الأمراض، واشتد المرض بصاحبه، وبرحت به الآلام، فلم يطق عليها صبرا، فأخذ سهما عريضا حادا كالسكين، وقطع به أصابعه، ففجر شرايينه، فسال دمه بغزارة، ولم ينقطع حتى مات، فرآه الطفيل في المنام، رآه حسن الهيئة، وقد كان يعلم أنه مات عاصيا بانتحاره، فتعجب من حسن هيئته فقال له: ما صنع الله بك؟ قال: غفر لي خطاياي بفضل هجرتي إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، قال له: فما بالك تغطي يديك؟ قال: قيل لي: لن نصلح منك ما أفسدت، فبقي الأذى

الذي فعلته، بقي في يدي. فقص الطفيل رؤياه على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فعلم منه أنها حق، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه أن تشمل المغفرة والرحمة اليدين، كما شملت الرجل كله، فقال اللهم وليديه فاغفر. -[المباحث العربية]- (هل لك في حصن حصين) الحصن: القصر المسور بسور خاص لحماية من به من الأعداء، والوصف بحصين للتأكيد، فعيل بمعنى اسم الفاعل، أي محصن من بداخله. (ومنعة) بفتح الميم، وبفتح النون وإسكانها لغتان، والفتح أفصح، وهي: العز والامتناع ممن يريده، فهي بمعنى الحصن الحصين، والعطف تفسيري، وقيل: المنعة جمع مانع، كظلمة جمع ظالم، أي جماعة يمنعونك ممن يقصدك بمكروه. (قال: حصن كان لدوس في الجاهلية) أي قال الطفيل ذلك تكميلا لعرضه و"حصن" خبر لمبتدأ محذوف. أي ما أعرضه عليك حصن كان لدوس قبيلتي. (فأبى ذلك) أي لم يقبل العرض. (للذي ذخر الله للأنصار) اللام في "للذي" لام العاقبة. أي رفض العرض لتكون العاقبة [الفضل والشرف الذي ادخره الله] لأهل المدينة (الأنصار). (هاجر إليه الطفيل) كانت هجرة الطفيل في عمرة القضية، وقيل: قدم مع أبي هريرة في خيبر. (وهاجر معه رجل من قومه) لم أقف على اسمه. ولعل الرواة أغفلوا اسمه (كدأبهم) للستر على أصحاب المعاصي. (فاجتووا المدينة) بفتح الواو الأولى وضم الثانية، وضمير الجمع يعود على الطفيل والرجل المذكور ومن يتصل بهما، ومعناه: كرهوا المقام بها لضجر ونوع سقم. وأصله من الجوى وهو يصيب الجوف. وقال أبو عبيد: اجتويت البلدة كرهت المقام بها، وإن وافقتك في بدنك واستوبلتها إذا أحببتها وإن لم توافقك في بدنك. وفي رواية "فاجتوى المدينة فمرض فجزع فأخذ" بالإفراد في الجميع. وهي أنسب. (فأخذ مشاقص له) بفتح الميم والشين وبالقاف والصاد جمع مشقص، وهو سهم فيه نصل عريض، وقيل: سهم طويل ليس بالعريض، والأول هو الظاهر هنا، لقوله "فقطع بها" ولا يحصل ذلك إلا بالعريض، ولعله جرب مشقصا ثم مشقصا ثم مشقصا، حتى قطع، ولهذا جاء بصيغة الجمع "مشاقص".

(فقطع بها براجمه) البراجم بفتح الباء وبالجيم: مفاصل الأصابع واحدها برجمة. قال أبو عبيد: الرواجب والبراجم مفصل الأصابع. وقال ابن العربي: الرواجب رءوس العظام في ظهر الكف، والبراجم المفاصل التي تحتها. (فشخبت يداه) بفتح الشين والخاء. أي سال دمها، وقيل: سال بقوة. والذي أتصوره أنه شخبت يد واحدة قطع براجمها باليد الأخرى، والتثنية بناء على أنه أمسك اليد المقطوعة باليد السليمة القاطعة، فسال الدم منهما، واحدة بالفعل وواحدة في الصورة، أو بناء على أن اليدين سال دمهما وخرج عن طريق يد واحدة، وهذا احتمال بعيد، كاحتمال أن يكون قد قطع بعضا من براجم يده. ثم أمسك المشقص بما بقي فيها من أصابع فقطع براجم الأخرى، فشخبت اليدان. (ورآه مغطيا يديه) تثنية "يديه" هنا وفي قوله "مغطيا يديك" وقول النبي صلى الله عليه وسلم "اللهم وليديه فاغفر" ربما أيدت التصور الأخير: وأنه قطع بعض براجم كل من اليدين. فدعوى أن قبح اليدين وأذاهما باعتبار أن إحداهما قاطعة فأوخذت وشوهت والأخرى مقطوعة مشوهة لم تصلح. (فقصها الطفيل) أي قص الرؤيا. (اللهم وليديه فاغفر) الواو عاطفة على محذوف. أي اللهم فاغفر له وليديه. -[فقه الحديث]- استدل به أهل السنة على أن من قتل نفسه، أو ارتكب كبيرة غيرها ومات من غير توبة فليس بكافر، ولا يقطع له بالنار، بل هو في حكم المشيئة يجوز أن يعفو الله عنه، ويجوز أن يعاقبه على ذنبه. فإن قيل: هل هذا الرجل عوقب أو لم يعاقب؟ إن كان عوقب فكيف التوفيق مع قوله "غفر لي بهجرتي" وإن كان لم يعاقب فكيف بيديه. قلنا إنه لم يعاقب على قتل نفسه، إذ عقوبة القتل نار حامية، وإنما غفر له تلك المعصية وغيرها بهجرته، وأخذ مؤاخذة خفيفة بالأذى في يديه. فإن قيل: هل قبلت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم بمغفرة يديه، أو لم تقبل؟ إن كان الأول فكيف التوفيق بينه وبين قوله "لن نصلح منك ما أفسدت". قلنا: الظاهر قبول دعوته صلى الله عليه وسلم، وأنه غفر لجميعه وعفي عنه، ومعنى "لن نصلح منك ما أفسدت" أي ما لم يدع لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لن نصلح منك الآن ما أفسدت. وفي الحديث رد على المعتزلة في قولهم بتخليد العاصي في النار، وعلى الخوارج في قولهم بكفر مرتكب الكبيرة، وعلى المرجئة في قولهم: لا يضر مع الإيمان شيء.

فإن قيل: كيف يحتج برؤيا غير النبي صلى الله عليه وسلم على حكم شرعي؟ قلنا: إن الاحتجاج ليس بالرؤيا، وإنما بتقرير النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أقر صلى الله عليه وسلم ما جاء فيها، وبنى عليه طلبه المغفرة ليديه. وفي الحديث منقبة عظيمة، وفضل كبير للطفيل بن عمرو في حرصه على سلامة الرسول صلى الله عليه وسلم ورغبته في حمايته والتشرف به في دياره، وفيه حرص الصاحب على صاحبه وشفقته عليه، وشفقة الرسول صلى الله عليه وسلم بأمته. والله أعلم.

(70) باب الريح التي تكون قرب القيامة

(70) باب الريح التي تكون قرب القيامة 198 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يبعث ريحا من اليمن، ألين من الحرير، فلا تدع أحدا في قلبه (قال أبو علقمة: مثقال حبة. وقال عبد العزيز: مثقال ذرة) من إيمان إلا قبضته". -[المعنى العام]- في الحديث عن أشراط الساعة وعلاماتها، يخوف صلى الله عليه وسلم منها، ويطمئن المؤمنين الصالحين من شرورها فيقول: ستظل طائفة من أمتي متمسكين بالحق. قابضين على دينهم كالقابض على الجمر، لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله، فيبعث الله ريحا لينة طيبة من قبل اليمن، فتخرج أرواحهم مع نسيمها سهلة يسيرة، فيخلصون بذلك من نكد الحياة، ومن معايشة الأشرار، إلى رضوان ربهم راضين مرضيين فيدخلون في عباده، ويدخلون جنته، مخلفين الدنيا إلى شرار الخلق، وإلى حثالة الناس، يعيثون في الأرض الفساد، يقتل بعضهم بعضا، ويركب قويهم ضعيفهم، لا علم ولا دين يردعهم، ولا خلق ولا ضمير يحول دون سفاهتهم، يكثر فيهم الهرج، وينتشر بينهم الفجور، وعليهم تقوم الساعة بغتة فتأخذهم وهم يخصمون، أعاذنا الله من هذا البلاء، ووقانا شر ذلك اليوم ولقانا نضرة وسرورا. -[المباحث العربية]- (ريحا من اليمن) أي من جهة اليمن، ففي الكلام مضاف محذوف، وهذا بالنسبة لسكان الجزيرة العربية، أما المسلمون الذين هم شرق اليمن وجنوبه فيحتمل أن تأتيهم الريح من الجنوب الشرقي، ويحتمل أن تأتيهم من اليمن، فتكون اليمن مصدر نشر الرياح اللينة إلى جميع الاتجاهات، والظاهر: أن المقصود الريح اللينة بقطع النظر عن مصدرها، وذكر جهة اليمن في الحديث لما عهد عند العرب من لين ريحها. (إلا قبضه) أي إلا قبضه الله بواسطة ملك الموت بسببها، فالريح لا تقبض الأرواح، وفي الكلام مجاز عقلي.

-[فقه الحديث]- هدف الحديث يتلخص في نقطتين: الأولى: قبض الصالحين برفق قبل قيام الساعة. الثانية: أن الساعة تقوم على شرار الخلق، وفيهما وردت أحاديث كثيرة: تؤكد وتوضح المعنيين: ففي مسلم: قال النبي صلى الله عليه وسلم "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن"، وفيه "يبعث الله ريحا طيبة تتوفى كل من في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه" وفيه أيضا "فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحا طيبة، فتأخذهم من تحت آباطهم، فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم، ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر [يفحش الرجال بالنساء بحضرة الناس كما يفعل الحمير] فعليهم تقوم الساعة" وفيه "لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله" وفي رواية: "لا تقوم الساعة على أحد يقول: الله الله" وفي البخاري "لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم" وفيه "يذهب الصالحون الأول فالأول، ويبقى حفالة كحفالة الشعير أو التمر (ما يتساقط من قشور الشعير والتمر) لا يبالهم الله باله" وفي بعض الروايات "تذهبون الخير فالخير، حتى لا يبقى منكم إلا حثالة كحثالة التمر، ينزو بعضهم على بعض نزو المعز، على أولئك تقوم الساعة" وفي البخاري "من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء" ومن مجموع هذه الأحاديث نفهم أن الصالحين سيقبضون شيئا فشيئا، وأنهم سيتناقصون تدريجيا، حتى يكونوا في آخر الزمان قلة تموت عند هذه الريح اللينة الطيبة. وظاهر هذه الأحاديث يتعارض مع ما جاء في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم "لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى تقوم الساعة". وفي رفع هذا التناقض قال النووي: هذه الأحاديث على ظاهرها، وأما الحديث الآخر "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق إلى يوم القيامة" فليس مخالفا لهذه الأحاديث، لأن معنى هذا أنهم لا يزالون على الحق حتى تقبضهم هذه الريح اللينة قرب القيامة وعند تظاهر أشراطها، فأطلق في هذا الحديث بقاءهم إلى قيام الساعة، على أشراطها ودنوها المتناهي في القرب. اهـ. ورفع ابن بطال هذا التناقض بتقييد هذه الأحاديث السابقة وتخصيص عمومها، فقال إنها وإن كان لفظها لفظ العموم المراد بها الخصوص، ومعناها أن الساعة تقوم أيضا في الأكثر والأغلب على شرار الناس، بدليل قوله: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى تقوم الساعة" فدل هذا الخبر على أن الساعة تقوم أيضا على قوم فضلاء. اهـ. والتحقيق: أن توجيه الإمام النووي أصح وأولى بالقبول، لأن ألفاظ العموم وصيغ القصر في تلك الأحاديث تبعد تقييدها بما قيد به ابن بطال. والله أعلم.

كما جمع النووي بين قوله صلى الله عليه وسلم: "ريحا من اليمن" وبين حديث آخر رواه مسلم "ريحا من قبل الشام" بوجهين: أحدهما يحتمل أنهما ريحان: شامية ويمانية، ويحتمل أن مبدأها من أحد الإقليمين ثم تصل الآخر، وتنتشر عنده. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - أن موت الصالحين من أشراط الساعة. 2 - فيه إشارة إلى رفق الله بهم، وإكرامه لهم عند موتهم. 3 - انقراض أهل الخير في آخر الزمان حتى لا يبقى إلا أهل الشر. 4 - فيه تأييد للمذهب الصحيح القائل: إن الإيمان يزيد وينقص. 5 - فيه من أعلام النبوة الإخبار بالغيب وبما سيأتي عند قيام الساعة. والله أعلم

(71) باب الحث على المبادرة بالأعمال

(71) باب الحث على المبادرة بالأعمال 199 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم. يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا. أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا. يبيع دينه بعرض من الدنيا". -[المعنى العام]- يلهب رسول الله صلى الله عليه وسلم عزائم المؤمنين إلى العمل الصالح، ويحذرهم من التراخي مع التمكن، ويخوفهم من تأخير طاعات اليوم إلى الغد، فلا يدري المسلم ما يأتي به غده، فما أكثر الأمراض بعد الصحة، وما أكثر الفقر بعد الغنى، وما أسرع الشيب بعد الشباب، وما أكثر مشاغل الدنيا بعد الفراغ، ويخوف رسول الله صلى الله عليه وسلم بما هو أدهى من كل ذلك، بمستقبل للمسلمين مظلم ظلام الليل، لا يميزون فيه الخطأ من الصواب، ولا يحققون فيه الأمور، بل ينجرفون وراء تيارات الفتن، وينزلقون وراء الهوى، وينقادون لأهواء الحياة وزينتها، فيبيعون دينهم بعرض حقير، ويخسرون آخرتهم بدنياهم. يخوف رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المستقبل الغامض، الذي تتطاير فيه الفتن تطاير النار والشرر، فتحرق من تحرق، وتزعج من تزعج، هنالك يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا فتحرقه الفتنة فيصبح كافرا. فليحذر المؤمن، وليبادر الكيس بالعمل الصالح، وليسابق الزمن بفعل الحسنات قبل أن يفوت الأوان، فيقول: {يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين} [الزمر: 56] أو يقول: لو أن لي عمرا لأكونن من العاملين. أو يقول: لولا أخرني ربي إلى أجل قريب فأصدق وأكون من الصالحين. {ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون} [المنافقون: 11]. -[المباحث العربية]- (بادروا بالأعمال فتنا) أي: سابقوا بالأعمال الصالحة فتنا، فاسبقوا بأعمالكم هذه الفتن، والفتنة هي الابتلاء والاختبار، ووسائله كثيرة متعددة، يأتي توضيحها في فقه الحديث. (كقطع الليل المظلم) كناية عن شدتها، وهول الخوف منها، وإبهام الأمر فيها، وضعف الوصول إلى الحق، وسرعة الوقوع في الباطل، ووصف الليل بالمظلم للتأكيد.

(يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا) شك من الراوي في أي اللفظين صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وكل من اللفظين يدل على تحول من حالة الإيمان إلى حالة الكفر فيما بين الليل والنهار، وليس الليل والنهار مقصودين، بل هما كناية عن سرعة التحول، إذ يمكن أن يكون بين الصبح والظهر، أو بين الظهر والعصر مثلا، وذكر الرجل ليس للاحتراز فالمرأة كذلك. (يبيع دينه بعرض من الدنيا) جملة تعليلية لتحوله إلى الكفر. -[فقه الحديث]- قال النووي: معنى الحديث الحث على المبادرة بالأعمال الصالحة قبل تعذرها والاشتغال عنها بما يحدث من الفتن الشاغلة المتكاثرة المتراكمة كتراكم ظلام الليل المظلم لا المقمر، ووصف صلى الله عليه وسلم نوعا من شدائد تلك الفتن، وهو أنه يمسي مؤمنا ثم يصبح كافرا، أو عكسه، وهذا أعظم الفتن، ينقلب الإنسان في اليوم الواحد هذا الانقلاب. اهـ. فالحديث من قبيل قوله صلى الله عليه وسلم: "اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك، وغناك قبل فقرك". وللفتن وسائل كثيرة، منها المال والبنون، كما قال تعالى: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} [التغابن: 15] والصحة فتنة، وكل خير فتنة، بل وكل شر فتنة، وفي ذلك يقول تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون} [الأنبياء: 35]. ومن هنا يتبين أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأن حال المؤمن خير كله، إن أصابه خير فشكر كان خيرا له، وإن أصابه شر فصبر كان خيرا له، وعلى المؤمن ألا يزهد في قليل من الخير أن يفعله، ولا في قليل من الشر أن يجتنبه. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - أن على المؤمن أن يبادر بفعل الطاعات والاجتناب عن المعاصي ولا يمهل، ولا يؤخر عمل اليوم إلى غد، ولا عمل الساعة إلى ما بعدها فإنه لا يدري متى يموت؟ فإن الساعة تقوم وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما، فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أحدكم أكلته إلى فيه فلا يطعمها. كذا ورد في الحديث. وليس المقصود من المبادرة بالأعمال الإجهاد والمبالغة والتشدد في الدين، فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى، وإنما المقصود التعجيل بفعل الطاعة الميسورة، فإن خير العمل أدومه وإن قل، ففي الحديث "سددوا وقاربوا واغدوا وروحوا وشيئا من الدلجة" (أي العمل ليلا).

2 - التحذير من الفتن والابتلاء عموما، ومن مقاتلة المسلم للمسلم خصوصا، فقد شاعت الفتنة في الفتنة الكبرى التي وقعت بين المسلمين. 3 - عدم الاغترار بما قدم من صالحات، والحث على مداومة الخوف من الله، فإنما الأعمال بالخواتيم، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع -أو باع- فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع - أو باع- فيسبق عليه الكتاب. فيعمل بعمل أهل النار. فيدخلها. 4 - التمسك بالدين والحرص عليه والاحتياط عند التمتع بعرض الدنيا. والله أعلم

(72) باب خوف المؤمن أن يحبط عمله

(72) باب خوف المؤمن أن يحبط عمله 200 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: لما نزلت هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} إلى آخر الآية [الحجرات: 2]. جلس ثابت بن قيس في بيته وقال: أنا من أهل النار. واحتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم. فسأل النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ فقال "يا أبا عمرو، ما شأن ثابت؟ أشتكى؟ " قال سعد: إنه لجاري. وما علمت له بشكوى. قال فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال ثابت: أنزلت هذه الآية ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنا من أهل النار، فذكر ذلك سعد للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بل هو من أهل الجنة". 201 - عن أنس رضي الله عنه قال: لما نزلت {لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} [الحجرات: 2] ولم يذكر سعد بن معاذ في الحديث. 202 - عن أنس رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية. واقتص الحديث. ولم يذكر سعد بن معاذ. وزاد: فكنا نراه يمشي بين أظهرنا رجل من أهل الجنة. -[المعنى العام]- كان ثابت بن قيس خطيب الأنصار، وكان جهوري الصوت، فلما جاء أعراب بني تميم إلى النبي صلى الله عليه وسلم -وكان نائما- نادوه بصوت مرتفع من وراء حجرات أمهات المؤمنين: يا محمد، اخرج إلينا، ونادى، أحدهم: يا محمد، إن مدحي زين وإن ذمي شين، فخرج صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "ذاك الله" أي هو الذي مدحه زين وذمه شين. فلما خرج صلى الله عليه وسلم إليهم قام خطيبهم يفاخر ببني تميم فقام ثابت بن قيس يرد عليهم، ويفاخر بصوته الجهوري في حضور النبي صلى الله عليه وسلم فلما نزل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} [الحجرات: 2] خشي ثابت بن قيس أن يشمله هذا الوعيد، فدخل بيته، وأغلق عليه بابه، وأخذ يبكي وهو يقول: أنا من أهل النار. وغاب ثابت عن

مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير عادة، وتفقده رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسه فلم يجده، فسأل عنه سيد النصار. فقال: يا أبا عمرو، ما بال ثابت بن قيس؟ وما شأنه؟ وما أحواله؟ أخشى أن يكون به سوء أو شكاية، فقال سعد: أنا جاره، ولم أحس منه بشكوى، ولكن آتيك بخبره وما عنده، وذهب إليه سعد وعاصم بن عدي، فواجده منكسا رأسه يبكي - وقد حبس نفسه عن الخروج ومتع الحياة -فقيل له: ما يبكيك؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل عنك، وقال كيت وكيت. قال: شر أصابني. أنزلت هذه الآية، ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنا من أهل النار، وعاد إلى البكاء. فرجع سعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر له ما قال ثابت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه من أهل الجنة. اذهب إليه فقل له: إنك لست من أهل النار ولكنك من أهل الجنة، فرجع إليه بهذه البشارة العظيمة، فجاء ثابت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني أخشى أن أكون قد هلكت. فقال: وما ذاك؟ قال: نهانا الله أن نرفع أصواتنا فوق صوتك. وأنا جهير، فقال له عليه الصلاة والسلام: أما ترضى أن تعيش سعيدا، وتقتل شهيدا وتدخل الجنة، فكان الصحابة رضي الله عنهم يؤمنون بأن هذه البشارة حق، وكانوا إذا رأوا ثابت بن قيس يمشي بينهم أحسوا واعتقدوا أنه من أهل الجنة. فلما كان يوم اليمامة وحاصر المسلمون مسيلمة الكذاب وأتباعه في عهد أبي بكر، لبس ثابت ثوبين أبيضين كفن نفسه فيهما، ثم حنط جسمه بالطيب الذي يطيب به الميت، ثم ذهب إلى صفوف المسلمين. فرأى منهم انكشافا وتقهقرا فنادى بأعلى صوته: أيها المسلمون، ما هكذا كنا نفعل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كان الصف لا ينحرف عن موضعه حتى يقتل أو يقتل، ثم قال: اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء المشركون، وأعتذر إليك عما فعله المسلمون، فتجمع المسلمون وقاتلوا وانتصروا، وكان ثابت بن قيس من خيرة المقاتلين في هذه المعركة، كما كان من شهدائها الأبرار، فتحقق بذلك وعد الله له على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام. -[المباحث العربية]- {لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} أي إذا نطق ونطقتم فعليكم أن تبلغوا بأصواتكم وراء الحد الذي يبلغه صوته، وأن تغضوا منها بحيث يكون كلامه عاليا لكلامكم. {ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض} أي إذا كلمتموه وهو صامت فإياكم ورفع الصوت بعدم مراعاة مقام النبوة وجلالة قدرها. {أن تحبط أعمالكم} أي لا ترفعوا ولا تجهروا خشية أن تحبط أعمالكم، وإحباط العمل الحرمان من الثواب، قال أبو بكر بن العربي: الإحباط إحباطان: أحدهما: إبطال الشيء للشيء، وإذهابه كلية، كإحباط الإيمان للكفر، وإحباط الكفر للإيمان. وثانيهما: إحباط الموازنة بزيادة السيئات على الحسنات، إذ يوقف الانتفاع بالحسنات حتى

يستوفى جزاء السيئات، ثم تعود منفعة الحسنات، فهذا التوقف إبطال جزئي للحسنات، وهو المراد من الآية، وإطلاق اسم الإحباط عليه مجاز. (جلس ثابت بن قيس في بيته) أي حبس نفسه في بيته كئيبا حزينا خائفا. (وقال: أنا من أهل النار) قال ذلك لنفسه، أو قاله لمن اتصل به وسأله. (واحتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم) أي منع نفسه من لقاء النبي صلى الله عليه وسلم معه على خلاف عادته. (أشتكى) بهمزة الاستفهام وحذف همزة الوصل، لأن همزة الاستفهام إذا دخلت على همزة الوصل المفتوحة قلبت همزة الوصل مدة كقوله تعالى: {أالله خير} [النمل: 59] وإذا دخلت على المكسورة حذفت همزة الوصل كقوله تعالى: {أستكبرت أم كنت من العالين} [ص: 75]. (وما علمت له بشكوى) الباء زائدة داخلة على المفعول. (فكنا نراه يمشي بين أظهرنا رجل من أهل الجنة) هو في بعض الأصول "رجلا" وفي بعضها "رجل" وهو الأكثر، وكلاهما صحيح الأول على البدل من الهاء في "نراه" والثاني على الاستئناف، خبر مبتدأ محذوف. أي هو رجل من أهل الجنة. -[فقه الحديث]- أشكل على هذا الحديث أن الآية المذكورة نزلت في زمن الوفود بسبب الأقرع بن حابس سنة تسع (فقد روى البخاري عن ابن أبي مليكة قال: كاد الخيران أن يهلكا: أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما- رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس قال أبو بكر: "يا رسول الله، استعمله على قومه" وأشار الآخر برجل آخر، قال عمر: "لا تستعمله يا رسول الله واستعمل القعقاع بن معبد" فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي، قال: ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم} الآية فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه) من هذا يتبين أن الآية نزلت سنة تسع، كما يقول المحققون، وسعد بن معاذ مات قبل ذلك في بني قريظة، وذلك سنة خمس. قال الحافظ ابن حجر لرفع هذا الإشكال: ويمكن الجمع بأن الذي نزل في قصة ثابت مجرد رفع الصوت، والذي نزل في قصة الأقرع أول السورة {لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} اهـ. والحق أن هذا الجمع بعيد، لأن رواية البخاري السابقة صريحة في أن الذي نزل في قصة الأقرع {لا ترفعوا أصواتكم} ويمكن أن يقال: إن ذكر سعد بن معاذ وهم من الراوي، وصحتها سعد بن عبادة، اعتمادا على رواية ابن المنذر في تفسيره عن قتادة عن أنس في هذه القصة وفيها "فقال سعد بن عبادة: يا رسول

الله هو جاري" الحديث، قال الحافظ ابن حجر: وهذا أشبه بالصواب، لأن سعد بن عبادة من قبيلة ثابت بن قيس، فهو أشبه أن يكون جاره من سعد بن معاذ لأنه من قبيلة أخرى. اهـ. كما يمكن في الجمع أن يقال بتكرر النزول -كما ذهب إليه بعض العلماء- فتكون الآية قد نزلت قبل موت سعد بن معاذ مرة، ثم نزلت (ولو بمعنى أن جبريل ذكر بها) مرة أخرى عند خلاف أبي بكر وعمر، والله أعلم. أما الجمع بين ما ذكر هنا من أن المرسل إلى ثابت هو سعد بن معاذ وبين ما رواه الطبري وابن مردويه عن ثابت بن قيس قال: لما نزلت هذه الآية قعد ثابت يبكي، فمر به عاصم بن عدي فقال: ما يبكيك؟ قال: أتخوف أن تكون هذه الآية نزلت في، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ترضى أن تعيش حميدا؟ . إذا طرحنا جانبا نزول الآية في وفد بني تميم أمكننا الجمع بأن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل سعد بن معاذ، قال: هو جاري، وقال سعد بن عبادة: هو جاري، وذهبا إليه، كما ذهب إليه أيضا عاصم بن عدي. وجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبره. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - ما كان عليه الصحابة من شدة الخوف من الله والخوف من إحباط العمل، ولا يلزم من الخوف من ذلك وقوعه. 2 - وفيه منقبة عظيمة لثابت بن قيس رضي الله عنه وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه من أهل الجنة. 3 - وأنه ينبغي للعالم وكبير القوم أن يتفقد أصحابه ويسأل عمن غاب منهم. 4 - إيمان الصحابة بما يخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من الأمور الغيبية لقول الراوي "فكنا نراه يمشي بين أظهرنا رجل من أهل الجنة".

(73) باب هل يؤاخذ بما عمل في الجاهلية؟

(73) باب هل يؤاخذ بما عمل في الجاهلية؟ 203 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال أناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال "أما من أحسن منكم في الإسلام فلا يؤاخذ بها. ومن أساء أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام". 204 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: قلنا: يا رسول الله، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال "من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية. ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر". مثله. -[المعنى العام]- يروي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن جماعة ممن أسلموا حديثا خافوا من سيئات ارتكبوها في الجاهلية قبل إسلامهم، سمعوا بوعيد العصاة وعقوبة الكبائر، فقالوا: يا رسول الله. لقد قتلنا وزنينا وفعلنا بعض المعاصي قبل إسلامنا، فهل سيؤاخذنا الله ويعاقبنا عليها؟ . وعلم صلى الله عليه وسلم أن من السائلين من دخل الإسلام ظاهرا وهو يبطن الكفر، فلم يحسن إسلامه، ومنهم من أسلم وآمن وأخلص لله فأشار في جوابه إلى الفريقين، فقال: من أسلم وجهه للدين حنيفا وآمن إيمانا صادقا جب الإسلام ما قبله من المعاصي، وغفر الله له ما قد سلف فلا يعاقب على ما قدم من ذنوب. وأما من أساء في إسلامه، وتظاهر بالإيمان ولم يدخل الإيمان قلبه فإنه منافق، مستمر على كفره، مستصحب لمعاصيه، معاقب بما فعل في الجاهلية وبما فعل حال تظاهره بالإسلام، معاقب على ما اجترح وهو يعلن الكفر، مؤاخذ على ما اقترف وهو يعلن -كاذبا- الإسلام، محاسب على العمل الأول والعمل الآخر، لأنه لم يفصل بينهما بإسلام حقيقي يجب ما قبله، ولم يهدم أولهما بالإخلاص في ثانيهما، فهما سواء، والله جل شأنه يعلم ما في القلوب، وهو {غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير} [غافر: 3].

-[المباحث العربية]- (قال أناس) الأناس الناس، والواحد إنسي. وفي الرواية الثانية: "قلنا" مما يشعر بأن عبد الله بن مسعود كان من بين السائلين. (من أحسن منكم في الإسلام) أي دخل فيه محسنا مخلصا صادقا، يقال شرعا: حسن إسلامه إذا دخل فيه حقيقة بإخلاص، وساء إسلامه أو لم يحسن إسلامه إذا لم يكن كذلك. -[فقه الحديث]- قال النووي: الصحيح في معنى الحديث ما قاله جماعة من المحققين أن المراد بالإحسان هنا الدخول في الإسلام بالظاهر والباطن جميعا، وأن يكون مسلما حقيقيا، فهذا يغفر له ما سلف في الكفر بنص القرآن العزيز قال تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال: 38] والحديث الصحيح (الإسلام يهدم ما قبله) وبإجماع المسلمين. والمراد بالإساءة هدم الدخول في الإسلام بقلبه، بأن يكون منقادا في الظاهر، مظهرا للشهادتين غير معتقد للإسلام بقلبه، فهذا منافق باق على كفره، بإجماع المسلمين، فيؤاخذ بما عمل قبل إظهار صورة الإسلام. وبما عمل بعد إظهارها، لأنه مستمر على كفره. اهـ. وقال بعضهم: إن معنى "أحسن في إسلامه" أي استمر عليه، ومعنى "أساء في إسلامه أي كفر وارتد عن الإسلام، فالمرتد يؤاخذ بما عمل في كفره الأول، كما يؤاخذ على ما عمل بعد الردة. وقد اعترض على هذا القول بأن الإسلام الصحيح الأول قد جب ما قبله فلا يؤاخذ بما عمل قبل ذلك، وأجيب بأن الردة أحبطت أعماله الصالحة، ومن جملتها الإسلام السابق، وإذا بطل الإسلام بطل أثره فيؤاخذ بما عمل في كفره الأول، إذ لا معنى للانتفاع بإسلام باطل. اهـ. والأحسن تفسير النووي، لأن الأصل عند الأشعرية أن الرجوع إلى الذنب بعد التوبة منه لا يبطل التوبة الأولى. ولا يلزم من أن الردة تبطل الإسلام وتحبط الأعمال الصالحة التي وقعت فيه. أن تبطل جب الإسلام لما قبله، لأن الإسلام إذا صدق جب ما قبله وغفره، وما غفره الله لا يرجع فيه ولا يؤاخذ عليه. هذا وللحديث صلة بالحديثين الآتيين فليراجعا. والله أعلم.

(74) باب الإسلام يهدم ما قبله، وكذا الحج والعمرة (وفاة عمرو بن العاص)

(74) باب الإسلام يهدم ما قبله، وكذا الحج والعمرة (وفاة عمرو بن العاص) 205 - عن ابن شماسة المهري، قال: حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت. فبكى طويلا وحول وجهه إلى الجدار. فجعل ابنه يقول: يا أبتاه أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ قال فأقبل بوجهه فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. إني كنت على أطباق ثلاث. لقد رأيتني وما أحد أشد بغضا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني. ولا أحب إلي أن أكون قد استمكنت منه فقتلته. فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار. فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك. فبسط يمينه. قال فقبضت يدي. قال "ما لك يا عمرو؟ " قال قلت: أردت أن أشترط. قال "تشترط بماذا؟ " قلت: أن يغفر لي. قال "أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله؟ " وما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجل في عيني منه. وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له. ولو سئلت أن أصفه ما أطقت. لأني لم أكن أملأ عيني منه. ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة. ثم ولينا أشياء ما أدري ما حالي فيها. فإذا أنا مت، فلا تصحبني نائحة ولا نار. فإذا دفنتموني فشنوا علي التراب شنا ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور. ويقسم لحمها. حتى أستأنس بكم. وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي. -[المعنى العام]- كان عمرو بن العاص داهية العرب رأيا وعقلا ولسانا، وكان عمر بن الخطاب إذا كلم رجلا فلم يفهم كلامه قال: سبحان من خلقك وخلق عمرو بن العاص. أسلم سنة ثمان قبل فتح مكة، أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على سرية نحو الشام، ثم أرسل له مددا من مائتي فارس فيهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة، فكان أمير هذه الحملة التي سميت بغزوة ذات السلاسل. ولي مصر عشر سنين وثلاثة أشهر، أربعة من قبل عمر، وأربعة من قبل عثمان، وسنتين وثلاثة

أشهر من قبل معاوية، واشترك مع معاوية في حرب علي، وهو صاحب فكرة رفع المصاحف في موقعة صفين وموقفه مشهور في التحكيم. في سنة ثلاث وأربعين من الهجرة، وهو ابن تسعين سنة، حضرته الوفاة، فأحصى ماله، فوجده: من الذهب (325000) ثلاثمائة وخمسة وعشرين ألف دينار، ومن الفضة (2000000) ألفي ألف درهم، (أي مليوني درهم) وضيعة كبيرة قيمتها (10000000) عشرة آلاف ألف درهم (أي عشرة ملايين درهم) فنظر إلى هذا المال الوفير ثم قال: ليتك بعرا، وليتني مت في غزوة ذات السلاسل، لقد دخلت في أمور ما أدري ما حجتي فيها عند الله تعالى، أصلحت لمعاوية دنياه، وأفسدت آخرتي، عمي عني رشدي حتى حضر أجلي. ودخل عليه في هذه الحال بعض أصحابه، وبجواره ابنه، فبكى طويلا، وحول وجهه إلى الجدار يخفي ما به من أسى وحسرة، وما يذرف من بكاء، فجعل ابنه عبد الله يخفف عنه، ويربت بيديه على كتفيه، ويقول: لا تحزن يا أبتاه. فإنك قادم على رب غفور رحيم، يقبل الحسنات ويعفو عن السيئات. أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنك من الصالحين؟ أما قال فيك رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص" وقال فيك: "عمرو بن العاص من صالحي قريش"؟ فكفكف عمرو دموعه عن عينيه، وأقبل بوجهه على زائريه، ثم قال: لست أعد للقاء ربي من أعمال صالحات أفضل من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. وقد مررت في حياتي بثلاث مراحل، مرحلة كلها شر، ومرحلة كلها خير، ومرحلة خليطة لا أدري غلبة خيرها لشرها أو شرها لخيرها. أما المرحلة الأولى: فقد كانت أيام كفري، وكنت أشد الناس بغضا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت أتمنى حينذاك أن أتمكن من قتله فأقتله، فلو كنت مت على هذه الحال لكنت من أهل النار. وأما المرحلة الثانية: فمرحلة إسلامي الصادق، وعملي الصالح وصحبتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ابتدأت يوم أن ألقى الله الإيمان في قلبي، فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منشرحا مسرورا فقلت: يا رسول الله ابسط يدك أتلقاها بيدي لأبايعك على الإسلام، فلما مد يده صلى الله عليه وسلم قبضت يدي، خوفا أن أبايع بشيء لا أستطيعه، فقال صلى الله عليه وسلم: ما لك يا عمرو؟ ولماذا قبضت يدك؟ قال: فقلت: إني أردت أن أشترط قبل البيعة. قال: ما هو الشرط الذي تريده؟ قلت: أن يغفر لي ما قدمت من ذنوب قبل الإسلام. قال صلى الله عليه وسلم: اعلم يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله من المعاصي، وأن الهجرة من المصر فرارا بالدين تهدم ما قبلها من المعاصي، وأن الحج المبرور يهدم ما قبله من المعاصي، قال: فبايعت وأسلمت، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب الناس إلى قلبي، وأجلهم وأعظم في عيني، وأصبحت لا أستطيع أن أرفع عيني فيه إجلالا له وتقديسا، بل لو سئلت أن أصفه ما استطعت، لأني لم أكن أملأ عيني منه، رهبة منه واحتراما له وإعظاما، ولو أنني مت على هذه الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة. وأما المرحلة الثالثة: فكانت مرحلة انشغالي بالحياة الدنيا، وبسياسة الحكم بعد النبي صلى الله عليه وسلم، توليت فيها أشياء، وعملت فيها أعمالا، لا أدري ما حالي فيها؟ ولا بماذا أجيب ربي عليها حين

يسألني؟ إنني أطمع في عفو الله، وسندي الوحيد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. ثم أوصيكم -إذا أنا مت- أن تمنعوا النائحة من مصاحبتي، امتثالا لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولا تصحب جنازتي نار- كما كانت عادة أهل الجاهلية - رجاء ألا أكون من أهل النار، فإذا دفنتموني فصبوا شيئا من التراب علي صبا، فليس جنبي الأيمن أحق بالتراب من جنبي الأيسر، ثم انتظروا حول قبري دقائق ولحظات، قدر ما ينحر بعير ويقسم لحمه، لأستأنس بكم، وأستجمع نفسي لما أجيب الملكين السائلين، رسولي ربي إلى قبري. ثم خرج أصحابه الذين جاءوا لعيادته، وبقي هو وابنه، فقال لابنه: ائتني بجامعة (أي برباط من قماش) فشد بها يدي إلى عنقي، ففعل، ثم رفع رأسه إلى السماء، وقال: اللهم إنك أمرتني فعصيت، ونهيتني فتجاوزت، وأن محمدا عبدك ورسولك، ثم وضع إصبعه في فمه كالمفكر المتندم حتى مات، رحمه الله وغفر له، وزاد في إحسانه، وتجاوز عن سيئاته، فإنه من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. -[المباحث العربية]- (وهو في سياقة الموت) بكسر السين، أي حال حضور الموت، وفي القاموس: ساق المريض شرع في نزع الروح. (أما بشرك) "أما" بتخفيف فتحة الميم، قيل: هي اسم بمعنى حقا، وقيل: كلمتان، الهمزة للاستفهام، و"ما" اسم في موضع النصب على الظرفية بمعنى حقا، كذا في المغني. فالمعنى: حقا بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أحقا بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والاستفهام للتقرير. (فأقبل بوجهه) أي أقبل على ابنه وعلى الحاضرين بوجهه بعد أن كان موليا نحو الحائط. (إن أفضل ما نعد) بضم النون وكسر العين، أي أفضل عمل ندخره للقاء الله. (كنت على أطباق ثلاث) أي على حالات ثلاث، وأنت ثلاثا على إرادة معنى الأطباق. (وما أحد أشد بغضا) "ما" نافية تعمل عمل "ليس" و"أحد" اسمها و"أشد" منصوب خبرها، و"بغضا" تمييز، والجملة في محل النصب على الحال، والرؤية بصرية، والمعنى: لقد رأيت نفسي في هذه الحالة. (فلأبايعنك) اللام إما لام الطلب، والفعل مجزوم، وإما لام التعليل والفعل منصوب، فإن كانت للطلب فإسكانها بعد الفاء والواو أكثر من تحريكها، وإن كانت للتعليل فهي مكسورة. ولكن وقوع الفاء قبلها يقوي كونها للطلب. (تشترط بماذا) قال النووي: هكذا ضبطناه، بإثبات الباء، فيجوز أن تكون زائدة داخلة على

المفعول به للتأكيد، ويجوز أن تكون غير زائدة مع تضمين "تشترط" معنى فعل يتعدى بالباء نحو تحتاط، أي تحتاط بماذا؟ . (الإسلام يهدم ما كان قبله) الهدم في الأصل إسقاط البناء وإزالته فالهدم هنا استعارة لعدم المؤاخذة، والمعنى: الإسلام يسقط المؤاخذة على ما كان قبله من ذنوب. (وما كنت أطيق أن أملأ عيني) "أطيق" بضم الهمزة من أطاق و"عيني" بتشديد الياء على التثنية. (ثم ولينا أشياء) بفتح الواو، وكسر اللام مع تخفيفها، من ولي الأمر إذا قام به، والمراد من الأشياء ولايته المتقدمة وما حصل له فيها، وما سبقها من أمور السياسة والدنيا. (فلا تصحبني نائحة ولا نار) كانت النساء النائحات الصائحات يتبعن الجنائز، فنهى الإسلام عن ذلك، وليس مقصود عمرو رضي الله عنه النهي عن مصاحبتهن الجنازة فحسب، بل النهي عن النياحة عليه مطلقا. وكان أهل الجاهلية يحملون النار والمشاعل مع الجنازة. (فشنوا علي التراب شنا) قال النووي: ضبطناه بالسين المهملة وبالشين المعجمة والشن والسن: الصب، وقيل: السن الصب في سهولة، والشن التفريق. (قدر ما تنحر جزور) بفتح الجيم، وهي من الإبل وفي القاموس: الجزور البعير حان له أن يذبح. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث]- 1 - ترجية المحتضر بذكر أحاديث الرجاء وصالح عمله، ليموت وقد غلب عليه الرجاء، وقد استحبه وفعله كثير ممن يقتدى بهم، قال المعتمر لابنه: يا بني، حدثني بالرخص لعلي ألقى الله وأنا أحسن الظن به. وروي مثل ذلك عن ابن حنبل، ثم إن الرجاء يجلب محبة الله تعالى التي هي غاية السعادة، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، وفي الحديث القدسي "أنا عند حسن ظن عبدي بي". 2 - إن الإسلام يهدم ما كان قبله من المعاصي، وفيه تفصيل: أما الحربي إذا أسلم لم يؤاخذ بما كان قبل الإسلام من حق الله تعالى أو حق البشر، فلا يقتص منه، ولا يضمن مالا أهلكه لمسلم قبل إسلامه، ولو حلف فأسلم فلا حنث عليه، ولو زنى ثم أسلم سقط عنه الحد، واختلفوا فيمن أسلم وتحت يده مال استولى عليه حال كفره، فقال مالك: يبقى له، لهذا الحديث، ولأن له شبهة الملك، لقوله تعالى: {فلا تعجبك أموالهم} [التوبة: 55] وقال الشافعي: يرد ما تحت يده من مال إلى صاحبه، لأنه كالغاصب، واتفقوا على نزع ما أسلم عليه من أسرى المسلمين، لأن الحر لا يملك.

وأما الذمي فلا يسقط إسلامه ما وجب عليه من دم أو مال أو غيرهما، لأن حكم الإسلام جار عليه. 3 - أن الهجرة والحج يهدمان ما قبلهما، لكنه قيل: إنهما يهدمان الصغائر دون الكبائر، والأظهر أنهما إن خلصا وقبلا هدما الكبائر، وإلا لم يكن لذكرهما فائدة، فهدم الصغائر ليس مقصورا عليهما، بل يحصل بالوضوء وبالصلاة وباجتناب الكبائر. 4 - ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من توقير الرسول صلى الله عليه وسلم وإجلاله وحبه. 5 - امتثالهم للنهي عن النائحة، ووصيتهم بمنعها قبل موتهم، وقد سبق قريبا حكم النائحة وأن النياحة حرام. 6 - النهي عن مصاحبة النار للجنازة، وحكمها الكراهة، وعلل بخوف التشاؤم من المصير إلى النار، وقيل: لمخالفة أهل الجاهلية الذين كانوا يفعلونه تغاليا. 7 - استحباب صب التراب في القبر، وهل ينثر التراب فوق الكفن؟ أو فوق اللحد؟ قيل وقيل، وقال بعضهم: لا يؤخذ من الحديث أن شن التراب سنة، إذ لم يرد فيه إلا وصية عمرو هذه، وغايتها أنها مذهب صحابي. 8 - يؤخذ من قوله "ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها" استحباب المكث عند القبر بعد الدفن نحو ما ذكر لما ذكر. 9 - وأنه لا يقعد على القبر بخلاف ما يعمل في بعض البلاد. 10 - استدل به بعضهم على جواز قسمة اللحم المشترك ونحوه من الأشياء الرطبة تحريا من غير وزن ولا كيل. 11 - ويؤخذ من قوله "حتى أستأنس بكم وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي" أن الميت يحيا في القبر. 12 - ويسمع ويستأنس بمن حول القبر. 13 - وأخذ بعضهم منه مشروعية القراءة عند القبر، لأنه إذا استأنس بهم فبالقرآن أولى. 14 - وفيه حجة لفتنة القبر وسؤال الملكين فيه، وهو مذهب أهل الحق، وإنما كان طلب عمرو رضي الله عنه حجة في ذلك لأنه لا يقوله إلا عن توقيف. والله أعلم.

تابع باب الإسلام يهدم ما قبله 206 - عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا. وزنوا فأكثروا. ثم أتوا محمدا صلى الله عليه وسلم. فقالوا: إن الذي تقول وتدعو لحسن. ولو تخبرنا أن لما عملنا كفارة! فنزل: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما} [الفرقان: 68] ونزل: {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} [الزمر: 53]. -[المعنى العام]- حكمة جليلة وحكم رحيم، حكمة بالغة وتشريع سمح كريم يتجسم في أن الإسلام يجب ما قبله، ويرفع المؤاخذة عن معاصي الجاهلية لمن أسلم، لقد تجمع أناس من مشركي مكة، وقالوا: يزعم محمد أن من عبد الأوثان، وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له، فكيف نسلم ونهاجر وقد عبدنا مع الله إلها آخر؟ وقتلنا النفس التي حرم الله؟ ثم جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد إن الذي تقوله وتدعو إليه لحسن، ولو أن عندك لما عملنا في جاهليتنا كفارة لأسلمنا، فنزل قوله تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له} [الزمر: 54، 53]. ونزل قوله تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما} [الفرقان: 68 - 70] فاطمأنوا وآمنوا، وآمن مثلهم خلق كثير. نعم، حكمة بالغة، لو أن الإسلام أوجب مؤاخذتهم لما دخلوا في الدين، لو أنهم أيسوا من رحمة الله، وقنطوا من قبولهم ومسامحتهم لبقوا على كفرهم وانخرطوا في معاصيهم وطغيانهم، لو أن "وحشيا" قاتل حمزة لم يطمئن إلى العفو ما أسلم، ولما حسن إسلامه، ولما قتل مسيلمة، بل ربما كان عونا لمسيلمة على هدم الإسلام، تماما كالرجل الذي قتل تسعة وتسعين ثم سأل راهبا: هل لي من توبة؟ فلما قيل له: لا توبة لك قتل الراهب فأكمل به المائة، وما دفعه إلى ذلك إلا يأسه وعدم الرجاء في المصير، ألا أن باب السماء مفتوح لكل من عصى، وإن الله يمد يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ويمد يده بالليل، ليتوب مسيء النهار، و {إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون} [يوسف: 87].

-[المباحث العربية]- (قتلوا فأكثروا) المفعول محذوف أي قتلوا أنفسا فأكثروا القتل. (إن الذي تقول وتدعو لحسن) مفعول "تقول" ومعمول "تدعو" محذوفان، وهما عائد الصلة، والتقدير: إن الذي تقوله وتدعو الناس إليه لحسن. (ولو تخبرنا أن لما عملنا كفارة) جواب "لو" محذوف، تقديره: لأسلمنا أو "لو" للتمني أي: نتمنى أن تخبرنا أن لما عملنا كفارة. {يلق أثاما} أي عقوبة، وقيل: نكالا، وقيل جزاء إثمه، وقيل: هو واد في جهنم. -[فقه الحديث]- ذكرنا في فقه الحديث السابق حكم الكافر الحربي إذا أسلم، وكذا حكم الذمي، وبعض أحكام أخرى، ونزيد هنا أن العلماء اختلفوا في النصراني يزني ثم يسلم، وقد شهدت عليه بينة من المسلمين، فحكي عن الشافعي أنه لا حد عليه ولا تغريب، لقول الله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال: 38]. وقال أبو ثور: إذا أقر وهو مسلم أنه زنى وهو كافر أقيم عليه الحد. أما المرتد إذا أسلم، وقد فاتته صلوات، وأصاب جنايات، وأتلف أموالا، فقيل حكمه حكم الكافر الأصلي إذا أسلم، لا يؤاخذ بشيء مما أحدثه في حال ارتداده. وقال الشافعي: يلزمه كل حق لله وللآدمي، بدليل أن حقوق الآدميين تلزمه، فوجب أن تلزمه حقوق الله تعالى. وقال أبو حنيفة: ما كان لله يسقط، وما كان للآدمي لا يسقط. قال ابن العربي: وهو قول علمائنا، لأن الله تعالى مستغن عن حقه والآدمي مفتقر إليه. ألا ترى أن حقوق الله عز وجل لا تجب على الصبي، وتلزمه حقوق الآدميين؟ هذا ما يخص الكافر إذا أسلم، أما المؤمن إذا عصى فقد استدل بعضهم بعموم الآيتين الواردتين في الحديث على غفران جميع الذنوب صغيرها وكبيرها. سواء تعلقت بحق الآدميين أو لا، والمشهور عند أهل السنة أن الذنوب كلها تغفر بالتوبة, وأنها تغفر لمن شاء الله ولو مات من غير توبة، لكن حقوق الآدميين إذا تاب صاحبها من العود إلى شيء من ذلك تنفعه التوبة من العود، وأما بخصوص ما وقع منه فلا بد له من رده إلى صاحبه أو محاللته منه. نعم في سعة فضل الله ما يمكن أن يعوض

صاحب الحق عن حقه، ولا يعذب العاصي بذلك، ويرشد إليه عموم قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48]. وشذ ابن عباس عن قول الجمهور، فقال: إن المؤمن إذا قتل مؤمنا متعمدا لا توبة له. هذا هو المشور عن ابن عباس، فقد روى البخاري عن سعيد بن جبير قال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن قوله تعالى: {فجزاؤه جهنم} [النساء: 93] قال لا توبة له، وعن قوله جل شأنه: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر} [الفرقان: 68] قال: كانت هذه في الجاهلية. وروى أحمد والطبري والنسائي وابن ماجه عن سالم بن أبي الجعد قال: كنت عند ابن عباس بعد ما كف بصره، فأتاه رجل، فقال: ما ترى في رجل قتل مؤمنا متعمدا قال: جزاؤه جهنم خالدا فيها، وساق الآية إلى "عظيما" قال: لقد أنزلت في آخر ما نزل، وما نسخها شيء حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: أفرأيت إن تاب وآمن وعمل عملا صالحا ثم اهتدى؟ قال: وأنى له التوبة والهدى؟ قال الحافظ ابن حجر: وقد حمل جمهور السلف وجميع أهل السنة ما ورد من أحاديث تخليد القاتل في النار، وعدم قبول توبته، حملوه على التغليظ، وصححوا توبة القاتل كغيره وقالوا: معنى قوله: {فجزاؤه جهنم} أي إن شاء الله أن يجازيه، تمسكا بقوله تعالى في سورة النساء: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} ومن الحجة في ذلك حديث الإسرائيلي الذي قتل تسعة وتسعين ثم أتى تمام المائة، فقال له: لا توبة لك فقتله، فأكمل به مائة، ثم جاء آخر، فقال: ومن يحول بينك وبين التوبة. الحديث. وهو مشهور، وإذا ثبت ذلك لمن قتل من غير هذه الأمة، فمثله لهم أولى، لما خفف الله عنهم من الأثقال التي كانت على من قبلهم. اهـ. وفي تفسير قوله تعالى: {إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات} [الفرقان: 70] قيل: يبدلهم الله إيمانا من الشرك، وإخلاصا من الشك، وإحصانا من الفجور، وقيل: التبديل عبارة عن الغفران، والغفران من الحسنات، ومعنى هذين القولين أن السيئات لا تبدل كل منها بحسنات، لكن روي عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم "إن السيئات تبدل بحسنات" وعليه قال القرطبي: لا يبعد في كرم الله - إذا صحت توبة العبد أن يضع مكان كل سيئة حسنة، وقد قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ "أتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن". وهذا قول وجيه ينسجم مع عفو الكريم، صاحب الفضل والجود، الذي دعا إلى مقابلة الإساءة بالإحسان، فقال: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله} [الشورى: 40]: وقال: {ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا} [النور: 22] وقال: {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين} [آل عمران: 134]. والله أعلم

(75) باب حكم العمل الصالح قبل الإسلام

(75) باب حكم العمل الصالح قبل الإسلام 207 - عن حكيم بن حزام رضي الله عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت أمورا كنت أتحنث بها في الجاهلية، هل لي فيها من شيء؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "أسلمت على ما أسلفت من خير". والتحنث التعبد. 208 - عن حكيم بن حزام رضي الله عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي رسول الله! أرأيت أمورا كنت أتحنث بها في الجاهلية. من صدقة أو عتاقة أو صلة رحم. أفيها أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أسلمت على ما أسلفت من خير". 209 - عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال، قلت: يا رسول الله! أشياء كنت أفعلها في الجاهلية. (قال هشام: يعني أتبرر بها) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أسلمت على ما أسلفت لك من الخير" قلت: فوالله! لا أدع شيئا صنعته في الجاهلية إلا فعلت في الإسلام مثله. 210 - عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن حكيم بن حزام أعتق في الجاهلية مائة رقبة. وحمل على مائة بعير. ثم أعتق في الإسلام مائة رقبة. وحمل على مائة بعير. ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر نحو حديثهم. -[المعنى العام]- الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، ولقد كان كثير من العرب قبل الإسلام على صفات حميدة، يصلون الرحم، ويحملون الكل، ويكسبون المعدوم، ويقرون الضيف، ويعينون على نوائب الدهر.

ومن هؤلاء الأخيار حكيم بن حزام الصحابي الجليل رضي الله عنه وكان من الطبيعي أن يسألوا بعد إسلامهم عن أعمالهم التي عملوها في الجاهلية من خير أو شر، هل لهم أجر فيما عملوا من بر؟ وهل عليهم وزر فيما ارتكبوا من إثم؟ وقد سبقت الإجابة عن الشق الثاني في الحديث السابق، وهذا الحديث يجيب عن الشق الأول. لقد سأل حكيم بن حزام رسول الله صلى الله عليه وسلم عما قدم، فقال: يا رسول الله أخبرني عن أعمال الخير التي كنت أتقرب بها في الجاهلية، من صدقة على المحتاجين، وعتق الرقاب وصلة الرحم. هل لي فيها من أجر بعد إسلامي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لن تعدم خيرها وأجرها، فقد اكتسبت بها ثناء جميلا وذكرا حميدا، وطبعتك بطباع الخير التي تساعدك على البر في إسلامك وستزيد في ثواب ما تفعل من خير، ولعلها صاحبة الفضل في هدايتك للإسلام، ووصولك إلى الطريق المستقيم. ولما كانت ممارسة الخير تطبع بالخير وتعود عليه، ولما كان الإسلام يضاعف حسنات البر، اندفع حكيم بن حزام في إسلامه إلى ما كان يفعل قبله، فكما أعتق في جاهليته على طولها مائة رقبة، أعتق في أيام إسلامه مائة رقبة أنفس منها، وكما حمل في جاهليته زادا ومتاعا للمحتاجين على مائة بعير، حمل كذلك في إسلامه على مائة بعير حملا خيرا مما حمل في الجاهلية، ثم زاد خيرا وخيرا وخيرا حتى صار من السابقين المقربين. رضي الله عنه وأرضاه، ورضي عن الصحابة أجمعين. -[المباحث العربية]- (عن حكيم بن حزام) صحابي جليل، من مناقبه أنه ولد في الكعبة. قال بعض العلماء: ولا يعرف أحد شاركه في هذا، ومن طرف أخباره أنه عاش ستين سنة في الجاهلية وستين سنة في الإسلام، أسلم عام الفتح ومات بالمدينة سنة أربع وخمسين، فيكون المراد من الستين التي عاشها في الإسلام من حين ظهور الإسلام وانتشاره إلى حين وفاته، لا من حين إسلامه إلى وفاته. (أرأيت أمورا) أي أخبرني عن أمور، والمراد منها أمور الخير والمعروف. (كنت أتحنث بها) التحنث التعبد، كما فسره في الحديث، وفسره في الرواية الثالثة بالتبرر، وهو فعل البر، وهو الطاعة، قال أهل اللغة: أصل التحنث أن يفعل فعلا يخرج به من الحنث، وهو الإثم، وكذا: تأثم، وتحرج، وتهجد، أي فعل فعلا يخرج به من الإثم والحرج والهجود. (في الجاهلية) أي قبل إسلامه. وليس المراد قبل ظهور الإسلام فكأنه قال في جاهليتي. (هل لي فيها من شيء) أي من أجر وثواب عند الله، فلفظ "شيء" ليس على إطلاقه، فإن له بها ذكرا جميلا على ألسنة الناس، ولذا جاء في الرواية الثانية "أفيها أجر"؟ (أسلمت على ما أسلفت من خير) أي على ما قدمت من خير، وفي القاموس: والسلف كل عمل صالح قدمته. وفي المراد من هذه الجملة عدة توجيهات تأتي في فقه الحديث.

(أرأيت أمورا كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة أو صلة رحم) "من" في "من صدقة" متعلقة بمحذوف صفة أخرى لأمور، أي أمورا كائنة من صدقة إلخ، أو بيانية بمعنى أي تفسير لأمور. (أشياء كنت أفعلها في الجاهلية) "أشياء" مبتدأ والجملة بعدها صفة، والخبر محذوف، تقديره: هل لي فيها من أجر؟ (لا أدع شيئا صنعته في الجاهلية) أي شيئا من الخير والمعروف. (وحمل على مائة بعير) أي تصدق بها. -[فقه الحديث]- قضية الحديث: هل يثاب الكافر إذا أسلم وحسن إسلامه على ما فعله من خير في حال كفره؟ ذهب ابن بطال وغيره من المحققين إلى أنه: إذا أسلم الكافر، وحسن إسلامه، ومات على الإسلام يثاب على فعله من الخير في حال الكفر، واستدلوا بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أسلم الكافر، فحسن إسلامه، كتب الله له كل حسنة زلفها، ومحا عنه كل سيئة زلفها، وكان عمله بعد (أي بعد إسلامه) الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، والسيئة بمثلها، إلا أن يتجاوز الله سبحانه وتعالى". ذكره الدارقطني، وثبت في بعض طرقه "أن الكافر إذا حسن إسلامه يكتب له في الإسلام كل حسنة عملها في الشرك". قال ابن بطال بعد ذكره الحديث: ولله تعالى أن يتفضل على عباده بما يشاء، لا اعتراض لأحد عليه. اهـ. وعلى هذا القول يكون قوله صلى الله عليه وسلم لحكيم "أسلمت على ما أسلفت من خير" على ظاهره، أي أسلمت وقد ثبت لك أجر ما أسلفت من خير. وقال بعض العلماء: إن الكافر إذا أسلم لا يثاب على ما فعل من خير في حال كفره، لأن الكافر لا يصح منه التقرب، لأن من شرط المتقرب أن يكون عارفا بالمتقرب إليه، وهو في حين فعله للخير لم يحصل له العلم بالله بعد، وحيث لا يصح منه التقرب فلا يثاب على ما فعل، ولهذا قال الفقهاء: لا يصح من الكافر عبادة، ولو أسلم لم يعتد بها. وعلى هذا القول يجب تأويل قوله صلى الله عليه وسلم لحكيم "أسلمت على ما أسلفت من خير" وقد فسروه بوجوه: منها: أن معناه اكتسبت طباعا جميلة، وأنت تنتفع بتلك الطباع في الإسلام، وتكون تلك العادة تمهيدا لك، ومعونة على فعل الخير.

ومنها: أن معناه اكتسبت بذلك ثناء جميلا، فهو باق عليك في الإسلام. ومنها: أنه لا يبعد أن يزاد في حسناته التي يفعلها في الإسلام، ويكثر أجره لها، لما تقدم له من الأفعال الجميلة، وقد قالوا في الكافر: إذا كان يفعل الخير فإنه يخفف عنه به، فلا يبعد أن يزاد هذا في الأجور. هذا كلام المازري. ومنها: ما قاله القاضي عياض: قيل معناه ببركة ما سبق لك من خير هداك الله تعالى إلى الإسلام، وأن من ظهر منه خير في أول أمره فهو دليل على سعادة آخره وحسن عاقبته، وهذه التفسيرات كلها - كما ترى- بعيدة عن مقصود الشريعة من تشجيع الإحسان والإصلاح في كل المجتمعات فالعمل الذي يساير مطلوب الإسلام -وإن اختل شرطه- لا يتساوى مع العمل الذي ينفر منه الإسلام ويحاربه، إذ لا يستوي الطيب والخبيث. ثم من الذي يمنع فضل الله وكرمه أن يلحق من رجع إليه وأناب، وإذا كنا نجيز أن يبدل الله سيئات التائب إلى حسنات، أفلا نجيز أن نكافئ العاصي على ما فعل من خير حال عصيانه؟ وهي لا شك مكافأة دون مكافأة المطيع. أما قول الفقهاء: لا تصح العبادة من الكافر، ولو أسلم لم يعتد بها فمرادهم أنه لا يعتد بها في أحكام الدنيا، وليس فيه تعرض لثواب الآخرة، بل قال بعض الفقهاء: إنه يعتد ببعض أفعال الكفار في أحكام الدنيا. فقد قالوا: إذا وجب على الكافر كفارة ظهار أو غيرها، فكفر في حال كفره أجزأه ذلك، وإذا أسلم لم تجب عليه إعادتها، واختلف أصحاب الشافعي رحمه الله فيما إذا أجنب واغتسل في حال كفره، ثم أسلم. هل تجب عليه إعادة الغسل أو لا؟ وبالغ بعض الشافعية، فقال: يصح من كل كافر كل طهارة من غسل ووضوء وتيمم، وإذا أسلم صلى بها. وفي الأم: وتصح نية التقرب من الكافر، وما عللوا به من الجهل إن عنوا به أنه يجهله مطلقا منع، لأنه لا ينكر الصانع، وإن عنوا به أنه يجهله من وجه فهو استدلال بمحل النزاع، لأن محل النزاع: الجاهل بالله من وجه. هل يصح منه نية التقرب أو لا؟ ثم الذي يقضي بصحة النية منه اتفاقهم على التخفيف، لأنه لولا صحة النية لم يصح التخفيف، ولا يمتنع أن يثاب الناظر في دليل الإيمان إذا اهتدى للحق، وأيضا فالقياس يقتضي الإثابة، لأن الإسلام إذا جب السيئات صحح الحسنات. والله أعلم.

(76) باب صدق الإيمان وإخلاصه

(76) باب صدق الإيمان وإخلاصه 211 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: لما نزلت: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} [الأنعام: 82] شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لا يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليس هو كما تظنون. إنما هو كما قال لقمان لابنه: {يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13] ". ثم سمعته منه. -[المعنى العام]- ما أصدق إيمان الصحابة رضي الله عنهم، وما أشد خوفهم من الله، وما أعظم حرصهم على الهداية والأمن من عذاب الله، وما أحرصهم على تفهم كتاب الله، وما أدق فهمهم لآياته وتدبرهم لمعانيه، ومحاسبة أنفسهم على أصوله وموازينه. كل ذلك يتجلى في موقفهم حين نزل قوله تعالى من سورة الأنعام: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} هم يفهمون الظلم، أنه وضع الشيء في غير محله، ويعترفون بأنهم كثيرا ما وقعوا فيه، فمن لم يظلم منهم الناس ظلم نفسه، والآية الكريمة تجعل الأمن والهداية لمن لم يلبس إيمانه بظلم، ولا أحد منهم لم يلبس إيمانه بظلم، فلا أحد منهم إذن يكون له الأمن وتكون له الهداية. لقد انزعجوا لهذه الآية وارتاعوا، وأسرعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقولون: يا رسول الله، أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ أينا لم يظلم نفسه؟ لقد خبنا وخسرنا ووقعنا في الهلاك المبين، ونزل قول الله تعالى: {وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13] فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس المعنى كما فهمتم وليس الأمر كما تظنون، وإنما المراد من الظلم الشرك، فهو من قبيل ما قاله لقمان لابنه وهو يعظه {إن الشرك لظلم عظيم} فمعنى الآية: الذين آمنوا ولم يدخلوا

على إيمانهم شركا وردة، والذين آمنوا إيمانا صادقا لم يشبه نفاق وكفر باطني أولئك لهم الأمن من عذاب الله في الآخرة. وأولئك هم الذين يهديهم الله إلى طريق الجنة، بعد أن هداهم في الدنيا إلى الطريق المستقيم. فطابت نفوس الصحابة بهذا التفسير، وهدأ روعهم بهذا البيان، وتسابقوا في الخيرات، وفي البعد عن المنكرات، يحدوهم الرجاء في عفو الله ويدفعهم الأمل في جنته ورضوانه. -[المباحث العربية]- (لما نزلت {الذين آمنوا}) "الذين آمنوا" إلى آخر الآية مقصود لفظها فاعل "نزلت". (ولم يلبسوا) أي لم يخلطوا، تقول: لبست الأمر بتخفيف الباء المفتوحة، ألبسه بكسرها أي خلطته، ولبست الثوب بالكسر ألبس بالفتح. وألبست هذا بذاك، ألبسه بضم الهمزة أي خلطته، وخلط الإيمان بالشرك لا يتصور، فالمراد أنهم لم تحصل لهم الصفتان، كفر متأخر عن إيمان متقدم أي لم يرتدوا، ويحتمل أن يراد أنهم لم يجمعوا بينهما ظاهرا وباطنا، أي لم ينافقوا. (بظلم) الظلم في اللغة: وضع الشيء في غير محله، وفي الشرع: وضع الأمور الشرعية في غير محلها، أي مخالفة الشرع، وتتفاوت مراتبه، تبدأ بالمخالفة الصغيرة وتنتهي بالشرك. وقد فهم الصحابة أن التنوين في "بظلم" للتنكير، والنكرة في سياق النفي تفيد العموم، فيشمل إدخال أي ظلم على الإيمان، صغر هذا الظلم أو كبر. لكن قال الخطابي: كان الشرك عند الصحابة أكبر من أن يلقب بالظلم، فحملوا الظلم في الآية على ما عداه من المعاصي. اهـ قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر، والذي يظهر لي أنهم حملوا الظلم على عموم الشرك فما دونه. وقال المحققون: إن دخل على النكرة في سياق النفي ما يؤكد العموم ويقويه، نحو "من" في قولك: ما جاءني من رجل، أفاد تخصيص العموم، وإلا فالعموم مستفاد بحسب الظاهر، كما فهمه الصحابة من هذه الآية، وبين لهم صلى الله عليه وسلم أن ظاهرها غير مراد، بل هو من العام الذي أريد به خاص، فالمراد بالظلم أعلى أنواعه وهو الشرك. (أولئك لهم الأمن) ليس في هذا التعبير قصر، فلا يلزم منه أن من ألبس إيمانه بظلم لا يكون آمنا، وكل ما يقتضيه أن من لم يوجد منه الظلم يكون آمنا، لكن الصحابة أخذوا بمفهوم الصفة، أو فهموا القصر والاختصاص من تقديم الجار والمجرور في "لهم الأمن" أي لهم الأمن لا لغيرهم. (أينا لا يظلم نفسه) الاستفهام إنكاري بمعنى النفي، أي ليس منا من لا يظلم نفسه. (ليس هو كما تظنون) ضمير "هو" للحال والشأن، أو ليس المعنى كما تظنون. (إنما هو كما قال لقمان لابنه) "لقمان" قيل كان حبشيا وقيل كان نوبيا والجمهور على أنه كان حكيما ولم يكن نبيا، وكان في زمن داود عليه السلام.

{إن الشرك لظلم عظيم} لا يلزم منه أن غير الشرك لا يكون ظلما، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم باستدلاله بالآية أفاد أن التنوين في قوله "بظلم" للتعظيم، فالتقدير: ولم يلبسوا إيمانهم بظلم عظيم. أي بشرك، وقد ورد ذلك صريحا في رواية البخاري، ولفظه "قلنا يا رسول الله، أينا لم يظلم نفسه؟ قال: ليس كما تقولون، لم يلبسوا إيمانهم بظلم بشرك، أو لم تسمعوا إلى قول لقمان"؟ -[فقه الحديث]- قال النووي: وقع في صحيح البخاري: لما نزلت الآية قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أينا لم يظلم نفسه، فأنزل الله تعالى {إن الشرك لظلم عظيم} فهاتان الروايتان إحداهما تبين الأخرى، فيكون لما شق عليهم أنزل الله تعالى {إن الشرك لظلم عظيم} وأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أن الظلم المطلق هناك المراد به هذا المقيد، وهو الشرك فعلمهم صلى الله عليه وسلم ما علمه ربه، اهـ بتصرف. ومعنى هذا أن سؤال الصحابة سبب في نزول آية لقمان، لكن يعكر عليه ما رواه البخاري من طريق أخرى "أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال: ليس بذلك، ألا تسمعون إلى قول لقمان؟ " وفي رواية" ليس كما تظنون، إنما هو الشرك، ألم تسمعوا إلى ما قال لقمان؟ " إذ معنى هذا أن الآية التي في لقمان كانت معلومة عندهم، ولذلك نبههم عليها. قال الحافظ ابن حجر في رفع هذا الإشكال: يحتمل أن يكون نزولها وقع في الحال، فتلاها عليهم، ثم نبههم، فتلتئم الروايتان. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - أن الظلم درجات متفاوتة. 2 - الحمل على العموم حتى يرد دليل الخصوص. 3 - أن النكرة في سياق النفي تعم، وهذا لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليهم، ولم يخطئهم في فهمهم، وإنما بين لهم أن هذا العموم المستفاد من اللفظ مراد به خاص. 4 - أن الخاص يقضي على العام، والمبين يقضي على المجمل. 5 - أن اللفظ يحمل على خلاف ظاهره لمصلحة دفع التعارض. 6 - استنبط منه المازري جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ونازعه القاضي عياض، فقال: ليس في هذه القصة تكليف عمل، بل تكليف اعتقاد بتصديق الخبر، واعتقاد التصديق لازم لأول وروده، فما هي الحاجة؟ وقال الحافظ ابن حجر: والحق أن في القصة تأخير البيان عن وقت الخطاب، لأنهم حيث احتاجوا إليه لم يتأخر. 7 - وفيه أن المعاصي لا تسمى شركا. 8 - وأن من لم يشرك بالله شيئا فله الأمن وهو مهتد، فإن قيل: فالعاصي قد يعذب، فما هو الأمن والاهتداء الذي حصل له؟ فالجواب أنه آمن من التخليد في النار، مهتد إلى طريق الجنة.

(77) باب تجاوز الله عن حديث النفس

(77) باب تجاوز الله عن حديث النفس 212 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم {لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير} [البقرة: 284] قال فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم بركوا على الركب. فقالوا: أي رسول الله، كلفنا من الأعمال ما نطيق. الصلاة والصيام والجهاد والصدقة. وقد أنزلت عليك هذه الآية. ولا نطيقها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير". قالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. فلما اقترأها القوم ذلت بها ألسنتهم. فأنزل الله في إثرها {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} [البقرة: 285] فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى. فأنزل الله عز وجل: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} (قال: نعم) {ربنا ولا تحمل علينا

إصرا كما حملته على الذين من قبلنا} (قال: نعم) {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} (قال: نعم) {واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} (قال: نعم) [البقرة: 286]. 213 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت هذه الآية {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} [البقرة: 284] قال، دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "قولوا: سمعنا وأطعنا وسلمنا" قال، فألقى الله الإيمان في قلوبهم. فأنزل الله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} (قال: قد فعلت) {ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا} (قال: قد فعلت) {واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا} (قال: قد فعلت) [البقرة: 286]. -[المعنى العام]- لما نزل قوله تعالى: {لله ما في السموات وما في الأرض} امتلاكا حقيقيا وتصرفا كاملا، وامتلاك غيره امتلاك صوري مؤقت (وإن تبدوا) وتظهروا وتعلنوا (ما) يجول (في أنفسكم) ودواخلكم (أو تخفوه) وتضمروه (يحاسبكم به الله) الذي لا تخفى عليه خافية (فيغفر لمن يشاء) منكم بالفضل والرحمة (ويعذب من يشاء) بالحق والعدل (والله على كل شيء قدير) لا يحول دون غفرانه أو عقابه شيء. لما نزلت هذه الآية عظم ذلك واشتد على الصحابة، إنها تنذر بالمحاسبة على ما في النفس، وعلى خطرات القلوب، وأنى لهم التحكم فيها؟ وكيف يستطيعون دفعها؟ لقد همهم الأمر وغمهم، وأزعجهم هذا الحكم وأقض مضاجعهم، وقالوا: لئن آخذنا الله بهذا لنهلكن، وذهب جماعة منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فسلموا، ثم جثوا وبركوا على الركب، وسكنت أعضاؤهم، وخشعت أبصارهم، وقالوا: هلكنا يا رسول الله، قال: وما ذاك؟ قالوا: كلفنا الله بما نستطيع من صلاة وصيام وجهاد وصدقة ففعلنا، لكن قد أنزلت عليك آية لا نطيقها، ولم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا الأسلوب، وخشي أن يفتح عليهم باب الرضا ببعض الأحكام وعدم الرضا بالبعض الآخر، فأغلق الباب بحزم، وقال: أتريدون أن تقولوا كما قالت اليهود والنصارى، حين قالوا بشأن تكاليفهم: سمعنا وعصينا؟ لا تقولوا شق علينا كذا، ولكن قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. فرجعوا يقرءون الآية ثم يقولون: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، وبعد فترة من الزمان، وبعد أن لانت ألسنتهم بالآية وانصاعت نفوسهم لها، واستسلموا لأمر ربهم فيها، نزل قوله تعالى تخفيفا عنهم: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} قال النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} فاستجاب الله لهم وقال: قد فعلت قالوا: {ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا} قال الله: قد فعلت واستجبت. قالوا: {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} قال: قد فعلت واستجبت، وأكرم الله هذه الأمة بما لم يكرم به من قبلها، وثبت إيمان الصحابة رضوان الله عليهم، وأحسن إليهم، وأثنى عليهم بقوله {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله} رضي الله عنهم ورضوا عنه وشملنا بعفوه وكرمه إنه سميع مجيب.

-[المباحث العربية]- (قال: فاشتد ذلك) أعاد لفظة "قال" لطول الكلام، فإن أصله: لما نزلت اشتد ذلك، فلما طال حسن إعادة لفظ " قال" وقد جاء مثله في القرآن الكريم، في قوله تعالى: {أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون} [المؤمنون: 35] فأعاد "أنكم". والفاء في "فاشتد" عاطفة على محذوف، لأن جواب "لما" لا يلحقه الفاء، والتقدير: لما نزلت عقلنا معناها فاشتد ذلك. (ثم بركوا على الركب) جلسة الخضوع والاستسلام والضراعة. (أي رسول الله) "أي" بفتح فسكون حرف لنداء البعيد أو القريب أو المتوسط، على خلاف في ذلك. (كلفنا من الأعمال ما نطيق) بضم النون من أطاق، و"ما" موصول مفعول ثان لكلفنا، وعائد الصلة مفعول "نطيق" محذوف، والجار والمجرور المتقدم متعلق بنطيق، والتقدير: كلفنا ما نطيقه من الأعمال. (الصلاة والصيام والجهاد والصدقة) بدل من الموصول، أو بيان له، والتقدير: كلفنا الصلاة والصيام والجهاد والصدقة فقمنا بما كلفنا. (أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين) الاستفهام إنكاري توبيخي، أي لا ينبغي ولا يصح أن تريدوا ذلك، والمراد من الكتابين التوراة والإنجيل. (غفرانك ربنا) قال الفراء: "غفرانك" مصدر وقع في موضع أمر فنصب، والمعنى مغفرتك أي فاغفر لنا، والطلب للدعاء، و"ربنا" منادى بحذف حرف النداء. (فلما اقترأها القوم) في القاموس: قرأ القرآن تلاه كاقترأه. اهـ. ومن المعلوم أن زيادة المبني تدل على زيادة المعنى. أي قرأها القوم بمشقة وصعوبة. (ذلت بها ألسنتهم) أي هانت ولانت بها ألسنتهم. (فأنزل الله في إثرها) بكسر الهمزة مع إسكان الثاء، وبفتح الهمزة والثاء لغتان. وضمير "إثرها" يعود إلى الآية التي اشتدت عليهم {لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير} (فلما فعلوا ذلك) أي استجابوا لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم وقرءوا الآيتين. {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} أي إلا طاقتها، وقيل: إلا دون طاقتها، والوسع الطاقة والجهد.

{ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} أي إن جهلنا وفعلنا الخطأ عن اجتهاد. {ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا} "إصرا" ثقلا، وقيل: الإصر الأمر الغليظ الصعب، وقيل: شدة العمل وما غلظ على بني إسرائيل. وتفسيره بالعهد تفسير باللازم، لأن الوفاء بالعهد شديد، والمراد بالذين من قبلنا بنو إسرائيل، وقد حرم عليهم الطيبات بظلمهم، قيل: وكانوا إذا أذنبوا بالليل وجدوا ذلك مكتوبا على أبوابهم. {ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} أي لا تثقلنا من العمل بما لا نطيق فتعذبنا. {واعف عنا} أي عن ذنوبنا، تقول: عفوت عن ذنبه إذا تركته ولم تعاقبه. {واغفر لنا} أي استر على ذنوبنا، ولا تفضحنا، والغفر: الستر. {فانصرنا على القوم الكافرين} أي أظهرنا عليهم في الحجة والحرب وإظهار الدين. (دخل قلوبهم منها شيء) ليس المراد من الشيء الشك والارتياب، وإنما المراد منه ما فسر به في الرواية الأولى، أي دخل قلوبهم شيء من الحرج والمشقة والاستعظام. (لم يدخل قلوبهم من شيء) فاعل "يدخل" ضمير يعود على "شيء" الأولى، والتقدير: لم يدخل قلوبهم مثله من شيء قبل هذا الشيء، وهذا استعظام لما دخل في قلوبهم. -[فقه الحديث]- ظاهر قوله في الرواية الأولى "فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} " أن في الآيتين نسخا، وعليه أكثر المفسرين، لأن الراوي قد روى النسخ ونص عليه لفظا ومعنى، وطريق علم النسخ إنما هو بالخبر عنه، وبالتاريخ بأن يكون الناسخ متأخرا زمنا عن المنسوخ، وهما مجتمعان في هذه الآية، ومعنى هذا أن الآية الأولى أفادت مؤاخذة الله إياهم وتكليفهم بما لا يملك من الخواطر، وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإيمان والسمع والطاعة، فلما فعلوا ذلك وألقى الله الإيمان في قلوبهم رفع الله الحرج عنهم ونسخ هذا التكليف، ورفع هذا الثابت المستقر. وأنكر بعضهم النسخ في الآية من وجهين: الأول: أن الآية خبر، والنسخ لا يدخل في الأخبار. الثاني: أن النسخ يصار إليه إذا تعذر الجمع وبناء الكلام بناء صحيحا، ولم يمكن رد إحدى الروايتين إلى الأخرى، مع أن الجمع غير متعذر، إذ قوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} عموم يصح أن يشتمل على ما يملك من الخواطر وما لا يملك، فخصص هذا العموم بالآية الثانية، وبما يملك من الخواطر، ويكون معناها: إن تبدوا ما في أنفسكم مما هو في وسعكم وتحت كسبكم أو

تخفوه يحاسبكم به الله إلخ، ولكن لما كان اللفظ مما يمكن أن تدخل فيه الخواطر التي ليست في الوسع أشفق الصحابة والنبي صلى الله عليه وسلم فبين الله لهم ما أراد بالآية، وخصصها ونص على حكمه وأنه لا يكلف نفسا إلا وسعها، والخواطر ليست هي ولا دافعها في الوسع، بل هي أمر غالب، وليست مما يكتسب، فكان في هذا البيان فرجهم، وكشف كربهم، فتكون الآية الأولى محكمة مخصوصة. ثم إنه يمكن أن تكون محكمة مخصوصة بيقين المسلمين ونفاق الكافرين. فكأنه قال: إن تبدوا ما في أنفسكم من يقين أو نفاق يحاسبكم به الله. ثم إنه يمكن أن تكون محكمة وعلى عمومها، وأن الله يحاسب عباده على ما عملوا وعلى ما أضمروا فيغفر للمؤمنين، ويأخذ أهل الكفر، فقد روي عن ابن عباس، قال: لم تنسخ، ولكن إذا جمع الله الخلائق يقول: إني أخبركم بما أكننتم في أنفسكم، فأما المؤمنون فيخبرهم ثم يغفر لهم، وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب، فذلك قوله تعالى: {فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} [البقرة: 284] وهو أيضا قوله: {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} [البقرة: 225] فالمحاسبة وإن وقعت لكن لا تقع المؤاخذة. ويقول هذا الفريق: إن المراد بقوله: "نسخها الله" أزال ما تضمنته من الشدة بالتخصيص أو بالبيان، وكثيرا ما يطلق المتقدمون عليهما لفظ النسخ. وقد أجاب مدعو النسخ عن هذين الوجهين، فقالوا عن الأول: إن الآية وإن كانت خبرا فإنه خبر عن تكليف ومؤاخذة بما تكن النفوس، والتعبد بما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يثبتوا عليه وأن يلتزموه وينتظروا لطف الله في الغفران، وأن يقولوا سمعنا وأطعنا، وهذه أقوال وأعمال اللسان والقلب، فينسخ ذلك عنهم برفع الحرج. وعن الثاني: أن قولهم إن النسخ يصار إليه إذا تعذر البناء كلام صحيح، لكنه فيما لم يرد فيه النص بالنسخ، فإن ورد وقفنا عنده، نعم اختلف أصحاب الأصول في قول الصحابي رضي الله عنه: نسخ كذا بكذا، هل يكون حجة يثبت بها النسخ أو لا يثبت؟ لأنه قد يكون قوله هذا عن اجتهاده وتأويله، فلا يكون نسخا حتى ينقل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأخيرا قال الواحدي: والمحققون يختارون أن الآية محكمة غير منسوخة. والله أعلم. هذا وقد أخذ بعضهم من الحديث جواز التكليف بما لا يطاق، محتجا باستعاذتهم منه، بقوله: {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} ولا يستعيذون إلا بما يجوز التكليف به. ورد هذا القول بأن معنى ذلك ما لا نطيقه إلا بمشقة، أما قولهم: "كلفنا ما نطيق وقد أنزلت عليك آية لا نطيقها، فمرادهم أيضا كلفنا ما نطيق بيسر، وقد أنزلت عليك آية لا نطيقها إلا بمشقة. فلا حجة فيه على جواز التكليف بما لا يطاق. [خاتمة] قال أبو إسحاق الزجاج: هذا الدعاء الذي في قوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} إلى آخر سورة البقرة أخبر الله تعالى به النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وجعله

في كتابه ليكون دعاء من يأتي بعد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم، فهو من الدعاء الذي ينبغي أن يحفظ ويدعي به كثيرا. اهـ. وقد روى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه" قيل: كفتاه من قيام تلك الليلة، وقيل: كفتاه المكروه فيها. والله أعلم. (ملحوظة) لشرح هذا الحديث صلة وثيقة بالحديث الآتي، فليراجع.

(78) باب حكم الهم بالحسنة والهم بالسيئة

(78) باب حكم الهم بالحسنة والهم بالسيئة 214 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به". 215 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله عز وجل تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم به". 216 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قال الله عز وجل: إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه. فإن عملها فاكتبوها سيئة. وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة. فإن عملها فاكتبوها عشرا". 217 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله عز وجل: إذا هم عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة. فإن عملها كتبتها عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف. وإذا هم بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه. فإن عملها كتبتها سيئة واحدة". 218 - عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قال الله عز وجل: إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعمل. فإذا عملها فأنا أكتبها بعشر أمثالها. وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها. فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها". وقال

رسول الله صلى الله عليه وسلم "قالت الملائكة: رب! ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة (وهو أبصر به) فقال: ارقبوه. فإن عملها فاكتبوها له بمثلها. وإن تركها فاكتبوها له حسنة. إنما تركها من جراي". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف. وكل سيئة يعملها تكتب بمثلها حتى يلقى الله". 219 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة. ومن هم بحسنة فعملها كتبت له عشرا إلى سبعمائة ضعف. ومن هم بسيئة فلم يعملها، لم تكتب. وإن عملها، كتبت". 220 - عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى، قال: "إن الله كتب الحسنات والسيئات. ثم بين ذلك. فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله عز وجل عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة. وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة. وإن هم بها فعملها، كتبها الله سيئة واحدة". 221 - بمعنى حديث عبد الوارث وزاد "ومحاها الله. ولا يهلك على الله إلا هالك". -[المعنى العام]- حمدا لله على فضله وكرمه، وشكرا له على رحمته وإحسانه، أعطى هذه الأمة فأجزل عطاءها، وشملها بعفوه ومغفرته، فأحسن لها. تجاوز لها عما حدثت به نفسها من السوء، وأثابها على تفكيرها في الخير وإن لم تخرجه إلى حيز الوجود، عفو في جانب السيئات، وإحسان وإكرام في جانب الحسنات. أوحى الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبشر أمته بهذا، على أسلوب الحديث النبوي. ثم أمر ملائكته الكاتبين أن يلتزموا به، قال لهم: إذا هم عبدي بسيئة، وإذا فكر في معصية، وإذا حدثته نفسه بالإثم، فلا تكتبوا عليه ذنبا، ما لم يعمل بجوارحه ما عزم عليه، وارقبوه، فإن عمل السيئة التي صمم عليها فاكتبوها عليه سيئة واحدة، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة.

أما إذا فكر في معروف، ونوى الخير، وقصد الإحسان، فاكتبوا له هذا القصد وهذا العزم حسنة كاملة، فإن عمل ما نواه فاكتبوها عشرة حسنات. ثم ألزم نفسه، وأوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، أن يبلغ أمته على لسان ربه، وبأسلوب الحديث القدسي، أن الله جل شأنه يقول: إن الله قدر الحسنات والسيئات، وقرر في شأنهما قرارا كريما: إذا أراد عبدي أن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة كاملة ما لم يعملها، فإذا عملها فأنا أكتبها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة والله يضاعف لمن يشاء، وإذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فأنا أغفر له ولا أكتبها عليه ما لم يعملها، فإذا عملها أكتبها عليه بمثلها، وقد أمحوها وأغفر لمن أشاء. فلله الحمد، وله الشكر، ونسأله جل شأنه أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، فإن من حرم هذا الفضل، وسدت عليه أبواب الهداية وفاتته هذه السعة، فهو المحروم الهالك، فاللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، رب العالمين. -[المباحث العربية]- (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها) في القاموس: تجاوز عن ذنبه لم يؤاخذه به. اهـ فالفعل يتعدى بحرف الجر، كما جاء في الرواية الثانية "عما حدثت به أنفسها" فيكون في الرواية الأولى مضمنا معنى "غفر" مثلا. ولفظ "أنفسها" ضبطه العلماء بالنصب والرفع، ففاعل "حدثت" في حالة النصب ضمير يعود إلى الأمة. "وما" مصدرية، أو موصولة وإعرابها موصولة أوضح، والتقدير: تجاوز لأمتي عن الذي حدثت الأمة به أنفسها، ويؤيد النصب رواية "إن أحدنا يحدث نفسه" وفي حالة الرفع على الفاعلية يكون المفعول محذوفا، والتقدير: عما حدثتهم به أنفسهم فهو كقوله تعالى: {ونعلم ما توسوس به نفسه} [ق: 16] ففيه إشارة إلى أن التحديث من النفس بغير اختيار. (ما لم يتكلموا أو يعملوا به) الفعلان تنازعا الجار والمجرور، والأصل ما لم يتكلموا به أو يعملوا به، والمقصود ما لم يتحقق في الخارج، لأن ما حدثت به النفس إما أن يتحقق في الخارج باللسان كالغيبة والنميمة والكذب والقذف، وإما أن يتحقق في الخارج بالجوارح الأخرى كالزنا والسرقة وشرب الخمر والقتل. وليس المقصود من قوله "ما لم يتكلموا" ما لم يحكوه، فإن الشخص إذا قال: حدثتني نفسي بكذا فحاربتها لا يكون متكلما بما حدثته نفسه، ولكنه متكلم عنه، فلا يدخل في المؤاخذة. و"ما" مصدرية زمانية، أي مدة عدم كلامهم به، أو مدة عدم عملهم به. (ما لم تعمل أو تكلم به) هذه عبارة الرواية الثانية، ولفظ "تكلم" أصله "تتكلم" حذفت منه إحدى التاءين.

(إذا هم عبدي) الهم ترجيح قصد الفعل، تقول: هممت بكذا أي قصدته بهمتي، وهو فوق مجرد خطور الشيء بالقلب، وسيأتي زيادة إيضاح له في فقه الحديث. (كتبتها له) أي أمرت الكتبة بكتابتها له. (فلا تكتبوها) الخطاب للملائكة الكاتبين. (إلى سبعمائة ضعف) الضعف في اللغة المثل، والتحقيق أنه اسم يقع على العدد بشرط أن يكون معه عدد آخر، فإذا قيل: ضعف العشرة فهم أن المراد عشرون، ومن ذلك لو أقر بأن عليه ضعف درهم لزمه درهمان. (سيئة واحدة) "واحدة" صفة مؤكدة، إذ الوحدة مفهومة من "سيئة" وهذا التأكيد لرفع توهم التضعيف الذي ذكر مع الحسنة. (حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله) أي قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. (إذا تحدث عبدي) أي إذا تحدثت نفس عبدي، ففي الكلام مضاف محذوف. (قالت الملائكة: رب) أي قال واحد منهم "رب" فالإخبار عن المجموع، لا أن كلا منهم نادى بقوله: رب. (يريد أن يعمل سيئة) أي يهم وتحدثه نفسه بعملها، وليس المقصود العزم المباشر للعمل. (وهو أبصر به) وهو -أي الله- أبصر بهذا العبد وبإرادته من الملائكة، وهذه الجملة اعتراضية، لا محل لها من الإعراب، جيء بها لرفع إيهام أن إخبارهم له لإفادة العلم. (إنما تركها من جراي) بفتح الجيم وتشديد الراء، وبالمد "جرائي" وبالقصر "جراي"، ومعناه من أجلي. (إذا أحسن أحدكم إسلامه) أي إذا أسلم إسلاما حقيقيًا وليس كإسلام المنافقين. (فيما يروي عن ربه) يحتمل أن يكون مما تلقاه صلى الله عليه وسلم عن ربه بلا واسطة، ويحتمل أن يكون مما تلقاه بواسطة الملك وهو الراجح. قال الكرماني: يحتمل أن يكون من الأحاديث القدسية، ويحتمل أن يكون للبيان، لما فيه من الإسناد الصريح إلى الله، حيث قال: (إن الله كتب) ويحتمل أن يكون لبيان الواقع وليس فيه أن غيره ليس كذلك، لأنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، بل فيه أن غيره كذلك إذ قال: "فيما يروي" أي في جملة ما يرويه. اهـ.

(إن الله كتب الحسنات والسيئات) يحتمل أن يكون هذا من قول الله تعالى، فيكون التقدير: قال الله: إن الله كتب، ويحتمل أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، يحكيه عن فعل الله تعالى، ومعنى "كتب" أمر الحفظة أن تكتب، أو المراد قدر ذلك في علمه. (ثم بين ذلك، فمن هم) أي ثم بين الله ذلك أي فصله، وقوله: "فمن هم" شرح اسم الإشارة "ذلك" والمشار إليه كتابة الحسنات والسيئات، والمعنى: كتب الحسنات والسيئات ثم فصل هذه الكتابة بقوله: فمن هم إلخ. (كتبها الله عنده حسنة كاملة) "عنده" أي عند الله، والقصد منها الإشارة إلى الشرف، ومزيد الاعتناء به، ووصف الحسنة بالكمال لرفع توهم نقصها، لكونها نشأت عن الهم المجرد، فكأنه قيل: بل هي كاملة لا نقص فيها، وفيها تعظيم الحسنة وتأكيد أمرها. (كتبها الله سيئة واحدة) لم يصف السيئة بكاملة، كما وصف الحسنة، بل أكدها بقوله "واحدة" إشارة إلى تخفيفها، مبالغة في الفضل والإحسان. (ومحاها الله) وفي رواية "أو يمحوها" فالواو في "ومحاها" بمعنى "أو" أي كتبها الله سيئة، فأبقاها أو محاها. (ولا يهلك على الله إلا هالك) "على" بمعنى عند، أي من كثرت سيئاته مع هذا الفضل، وهذا الكرم فهو مستحق للهلاك، كأنه قال: ولا يهلك مع هذه السعة إلا مجرم متأصل الإجرام مسرف في المعاصي مستحق الهلاك. -[فقه الحديث]- ما يقع في النفس يتدرج في أربع مراتب: الأولى: الخاطر والهاجس: وهو أن يخطر الشيء في النفس، ثم يذهب سريعا لا يثبت، بل يندفع ولا يستقر، وهو من الوسوسة، وهو في السيئات معفو عنه بلا خلاف. الثانية: التردد: وهو فوق الخاطر، يخطر الشيء، فيهم به ثم ينفر عنه، ثم يهم به، ثم ينفر عنه، ولا يستمر على قصده، ولا على تركه، بالتساوي بين القصد والترك، وهو في السيئات معفو عنه أيضا بلا خلاف. الثالثة: الهم: وهو ترجيح القصد، والميل إلى الشيء، وعدم النفور عنه والرغبة في الفعل، وإرادته التي لم تصل إلى العزم والتصميم، وهو في السيئات معفو عنه أيضا بنص وفقه هذه الأحاديث. وهذه المراتب الثلاث إذا شغل أي منها بالخير والحسنات، رجونا أن تكتب حسنات بفضل الله وكرمه، وإن كانت حسنة الخاطر أقل من حسنة التردد، التي تكون أقل من حسنة الهم، وهكذا.

الرابعة: العزم والتصميم، وهو الميل إلى الشيء وعدم النفور عنه والتصميم على فعله، وقوة قصده، ورفع التردد فيه. فإذا افترضنا درجة حسابية مئوية أعطينا الخاطر ما دون الـ 50/ وتختلف مراتبه، وأعطينا التردد والتأرجح 50/ وأعطينا الهم من 51/ إلى 90/ مثلا، وتتفاوت مراتبه، وأعطينا العزم ما فوق ذلك، وتتفاوت مراتبه أيضا. ولما كانت هذه المراتب الأربع يطلق عليها حديث النفس، خشي الصحابة أن يؤاخذوا بها كلها، حين نزل قوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} فبين لهم أن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها - كما تقدم في الحديث السابق- ووضح لهم في هذه الأحاديث أن الله تجاوز لأمة محمد صلى الله عليه وسلم عما حدثت به نفسها، وأن من هم بحسنة فله كذا، ومن هم بسيئة فحكمه كذا. وقد قدمت أن المراتب الثلاث الأولى لا خلاف في تجاوز الله عنها، أما المرتبة الرابعة وهي العزم والتصميم، واستقرار الفعل في النفس، وعدم التردد فيه، فهي من حيث ما يتعلق بها به قسمان: قسم خاص بالعقيدة وهو من أعمال القلوب وحدها، كالإيمان بالله تعالى وبالرسول صلى الله عليه وسلم وباليوم الآخر وبما علم من الدين بالضرورة، فالشك فيه وإنكاره قلبا كفر، ويعاقب عليه بلا خلاف. وقسم دون ذلك من المعاصي، وفي تجاوز الله عنه خلاف بين العلماء. إذ ذهب فريق الورع وتغليب الخوف على الرجاء إلى المؤاخذة عليه، مستدلين بقوله تعالى: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة} [النور: 19] وبقوله: {ولم يصروا على ما فعلوا} [آل عمران: 135] وقوله: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم} [الحجرات: 12] وقوله: {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} [البقرة: 225] وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قيل: هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه". وحملوا أحاديث العفو التي معنا على ما دون العزم والتصميم من الخاطر والتردد والهم، نعم قالوا: إن العزم على السيئة يكتب سيئة مجردة، وليست السيئة التي هم أن يعملها، فسيئة العزم غير سيئة الفعل. ثم افترق هؤلاء فقالت طائفة: بل يعاقب عليه يوم القيامة، ولكن بالعتاب لا بالعذاب، وحملوا عليه النجوى. وذهب الذين يغلبون الرجاء إلى أن الله قد تجاوز عن حديث النفس، ولا يؤاخذ -في غير الكفر- إلا على أفعال الجوارح، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به" فما قبل الكلام والفعل متجاوز عنه بنص الحديث. ثم الحديث القدسي يقول: "إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها سيئة" ويقول في الرواية الأخرى: "وإذا هم بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه، فإن عملها كتبتها سيئة واحدة" ويقول في الرواية التي بعدها: "وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها ما لم يعملها، فإذا

عملها فأنا أكتبها عليه بمثلها" ويقول للملائكة في الرواية التي بعدها "ارقبوه، فإن عملها فاكتبوها له بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حسنة، إنما تركها من جراي". كل هذه الأحاديث واضحة وصريحة في أن الكتابة والمؤاخذة موقوفة على العمل، أي العمل بالجوارح، لأن العمل إذا أطلق في مقابلة الهم كان ظاهرا في عمل الجوارح، بعيدا عن العزم والتصميم، ثم إن المقام مقام الفضل والتسامح، فلا يليق التضييق فيه. وأجابوا عن الآية التي في سورة النور بأن المعنى: إن الذين يشيعون الفاحشة ويحبون ذلك، فالعذاب متوعد به على إشاعة الفاحشة مع حبها، لا على الحب وحده، لأنه أمر لا يملك، فلا عقاب عليه ولا مؤاخذة، وإنما العقاب على أسبابه المكتسبة، وعلى الآثار المترتبة عليه. وعن قوله تعالى: {ولم يصروا على ما فعلوا} بأن عدم الإصرار ذكر كشرط لقبول التوبة، لا على أنه أساس عقوبة جديدة، إذ الآية تقول: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} [آل عمران: 135 - 136] ومن المعلوم أن الإصرار على الذنب الذي ارتكب إنما هو امتداد لهذا الذنب. وعن قوله تعالى: {اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم} [الحجرات: 12] بأن الظن المطلوب اجتنابه هو ذو الأسباب المكتسبة، أو ذو الآثار المترتبة عليه المقدورة، وسيأتي تمام إيضاحه. وعن قوله تعالى: {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} بأنه ليس وعيدا لما كسبت القلوب وحدها، وإنما هو في مصاحبة القلوب للأعمال، والعفو عن الأعمال التي لم تصاحبها النية، إذ الآية كاملة تقول: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 225] ومن الواضح أنه لو عزم على الحلف ولم يحلف لا يعد حالفا. وعن قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" أجابوا بأن مؤاخذة المقتول ليست على العزم وحده، وإنما هي على الالتقاء، وشهر السلاح، وهو المراد بالحرص على قتل صاحبه، وهذا الفعل يؤاخذ به، حصل القتل أو لم يحصل. وهؤلاء القائلون بعدم المؤاخذة على العزم إذا لم يصاحبه عمل افترقوا ثلاث فرق: فرقة تقول بذلك على الإطلاق بدون استثناء. وفرقة تستثني منه العزم على المعصية في الحرم استدلالا بقوله تعالى: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} [الحج: 25] وتعقب هذا بأن تعظيم الله آكد من تعظيم الحرم، ومع ذلك لا يؤاخذ من عزم على معصيته، فكيف يؤاخذ بما دونه؟ ويجاب عن هذا التعقب بأن المعصية في الحرم فيها ترك تعظيم الله، وترك تعظيم الحرم، فصارت المعصية فيه أشد من المعصية في غيره،

فيحتمل المؤاخذة على العزم فيه، ويمكن أن يلحق به من عزم على المعصية قاصدا الاستخفاف بالمعاصي، وهو ملحظ حسن. وفرقة تستثني منه العزم على المعاصي التي محلها القلب، ولا تتعلق بفعل خارجي، كالكبر والعجب والمكر والحسد والظن، والتحقيق أن المؤاخذ عليه في مثل هذه الأمور إنما هو تناول الأسباب المكتسبة المؤدية إليها، والآثار الخارجية المترتبة عليها، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لا يسلم منها أحد: الطيرة، والظن، والحسد، قيل: فما المخرج منهن يا رسول الله؟ قال: إذا تطيرت فلا ترجع، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فلا تبغ". "أما بعد" ففي هذه الأحاديث موضوع البحث أحاديث قدسية، وأحاديث نبوية، وقد قيل في الفرق بينهما: إن الحديث القدسي لفظه ومعناه من عند الله، والحديث النبوي لفظه من عند الرسول صلى الله عليه وسلم ومعناه من عند الله، وأن الحديث القدسي يسند إلى الله تعالى فيقال عنه: قال الله تعالى، والحديث النبوي يسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والفرق بين القرآن الكريم والحديث القدسي -بناء على هذا- أن القرآن متواتر يكفر من جحد شيئا منه، بخلاف الحديث القدسي، وأن القرآن قصد بلفظه التحدي والإعجاز بخلاف الحديث القدسي، وإن كان في أعلى درجات البلاغة، وأن القرآن يتعبد بقراءته في الصلاة وغيرها بخلاف الحديث القدسي. -[ويؤخذ من مجموعة أحاديث الباب]- 1 - أن المؤاخذة إنما تقع لمن هم على المعصية، فشرع فيها، لا من هم بها ولم يتصل بها العمل، ولو كان لمانع خارج عن إرادته، كمن قصد امرأة يزني بها، فلم تحضر، أو جاءه من يخلف موعده. 2 - أن من تركها خوف الله كتبت له حسنة، أخذا من قوله في الرواية الخامسة، "وإن تركها فاكتبوها له حسنة، إنما تركها من جراي" وفي رواية البخاري: "وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة". 3 - فيها دليل على أن الملك يطلع على ما في قلب الآدمي، ليكتب الحسنة إذا هم بها، وذلك إما بإطلاع الله إياه، أو بأن يخلق له علما يدرك به ذلك. يؤيد الأول ما أخرجه ابن أبي الدنيا، عن أبي عمران الجوني قال: "ينادي الملك: اكتب لفلان كذا كذا، فيقول: يا رب إنه لم يعمله. فيقول: إنه نواه". 4 - إن الهم بالحسنة يكتب حسنة كاملة، لأن إرادة الخير خير، ولا يقال: إذا كانت إرادة الحسنة حسنة فلم لم تضاعف والله يقول: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} [الأنعام: 160]؟ لأنا نقول إن ذلك التضعيف خاص بأعمال الجوارح، لأن الله تعالى يقول: {من جاء بالحسنة} والمجيء بها هو العمل، وإلا لزم مساواة من نوى الخير بمن فعله.

5 - أنه إن فعل الحسنة التي هم بها كتبت له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، وليس معنى ذلك أن حسنة الإرادة تضاف إلى عشرة التضعيف فتكون الجملة إحدى عشرة كما هو ظاهر قوله: "فإذا عملها فأنا أكتبها له بعشر أمثالها" بل إن القصد أن حسنة الإرادة تندرج في عشر العمل، ولا يقال: إنه يلزم من ذلك مساواة من عمل الحسنة بغتة دون عزم، ومن عملها بعد الهم والعزم، لأنا نقول: لعل حسنة من هم وعزم تكون أعظم قدرا ممن لم يهم بها ولم يعزم. 6 - وأنه إن ترك عمل الحسنة التي هم بها كتبت له حسنة كاملة بقطع النظر عن سبب الترك، سواء أكان لمانع أم لا، نعم يمكن أن يتفاوت عظم الحسنة بحسب المانع، فإن كان خارجيا، مع بقاء قصد المحسن فهي عظيمة القدر، خصوصا إذا صاحبه ندم على التفويت، وإن كان الترك من جهة الشخص نفسه فالحسنة أقل قدرا، فإن قارنها وصاحبها في هذه الحالة قصد الإعراض عنها، والرغبة عن فعلها جملة كانت أقل قدرا من سابقتها، فإن تركها وأوقع العمل في عكسها، كأن يريد أن يتصدق بدرهم مثلا، فصرفه بعينه في معصية، فحسنة عزمه الأول أقل وأقل، بل رجح الحافظ ابن حجر ألا يكتب له حسنة أصلا. 7 - يؤخذ من قوله في الرواية السابعة: "إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة" أن الزيادة على السبعمائة ضعف ليس خاصا بالنفقة في سبيل الله -كما قيل- وإنما هو عام في وجوه الخير من حيث الزيادة في الإخلاص، وصدق العزم، وحضور القلب، وتعدي النفع. 8 - قال ابن بطال: في هذا الحديث بيان فضل الله العظيم على هذه الأمة، لأنه لولا ذلك لكاد أن لا يدخل أحد الجنة، لأن عمل العباد للسيئات أكثر من عملهم الحسنات، ويؤيد ما دل عليه حديث الباب من الإثابة على الهم بالحسنة، وعدم المؤاخذة على الهم بالسيئة قوله تعالى: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} [البقرة: 286] إذ ذكر في السوء الافتعال الذي يدل على المعالجة والتكلف فيه، بخلاف الحسنة. 9 - وفيه أن الله سبحانه وتعالى بفضله وكرمه جعل العدل في السيئة والفضل في الحسنة، فضاعف الحسنة، ولم يضاعف السيئة، بل أضاف فيها إلى العدل الفضل، فأدارها بين العقوبة والعفو، بقوله في الرواية السابعة "ومحاها" وفي رواية البخاري "فجزاؤه مثلها أو أغفر". 10 - استدل به على أن الحفظة لا تكتب المباح، للتقييد بالحسنات والسيئات. 11 - وفيه رد على الكعبي في زعمه أنه ليس في الشرع مباح، بل الفاعل إما عاص وإما مثاب، فمن اشتغل عن المعصية بشيء فهو مثاب، ووجه الرد أن تارك المعصية لا يثاب على الترك إلا إذا قصد به رضا الله تعالى كما قدمنا. 12 - أخذ بعضهم من قوله: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها" أن هذا خصوصية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.

(79) باب الوسوسة في الإيمان

(79) باب الوسوسة في الإيمان 222 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به. قال "وقد وجدتموه؟ " قالوا: نعم. قال: "ذاك صريح الإيمان". بهذا الحديث. 223 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة. قال: "تلك محض الإيمان". -[المعنى العام]- لا يفتأ الشيطان يحارب المؤمن، يأتيه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، ليحول بينه وبين الجنة، ليخرجه من حزب الله إلى حزب إبليس وجنوده. وللشيطان في هذه الحرب وسائله التي تختلف باختلاف عدوه، فمع ضعيف الإيمان يستعمل الإغواء في الشهوات، والترغيب في المعاصي والموبقات، والإبعاد عن الطاعات والتكاسل عن الواجبات حتى يصل به إلى سهولة الخلاعة من الدين، وزعزعة الإيمان واليقين. أما المؤمن القوي الذي يئس الشيطان من جره إلى المعاصي، ومنعه من الطاعات فإنه يدخل عليه باسم التفكير في الخالق وصفاته وكماله وقدرته التي خلقت السماء والأرض والكائنات، ثم يقفز به إلى التساؤل عن الذي خلق الله، فيتعاظم هذا الهاجس في نفس المؤمن، ويكبر أمام عقيدته هذه الوسوسة، ويعجب كيف وصل به الشيطان إلى هذه النقطة؟ ويستحي أن ينطق أمام أحد بما يسول له الشيطان، أمام هذا سأل ناس من الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يجدون، فطمأنهم على إيمانهم، وأخبرهم أنه إذا وصل المؤمن إلى استعظام ما يوسوس به الشيطان فإنه يكون قد وصل إلى محض

الإيمان، وصريح الإيمان، وخالص الإيمان، وعلى المؤمن أن يمسك حينئذ عن الاسترسال فيه، وأن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم. -[المباحث العربية]- (إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به) "ما" نكرة موصوفة، و"أن" وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول "يتعاظم" وفي القاموس: تعاظم الرجل الأمر أي عظم عليه، وجملة "إنا نجد" مستأنفة استئنافا بيانيا، في جواب سؤال، تقديره: ماذا قالوا في سؤالهم؟ فقيل: إنا نجد في أحاديث النفس شيئا قبيحا يعظم علينا أن ننطق به لقبحه ونفورنا عنه. فما حكمه؟ (وقد وجدتموه؟ ) الواو عاطفة على محذوف، والجملة استفهامية على تقدير حرف الاستفهام، أي أوقع هذا في نفوسكم وقد وجدتموه؟ (ذلك صريح الإيمان) المشار إليه هو اليقين والاطمئنان الذي منعهم من قبول ما يلقيه الشيطان في أنفسهم، وهو الذي دفعهم إلى تعاظمه واستنكار النطق به، و"صريح الإيمان" من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي ذاك اليقين هو الإيمان الصريح الواضح الخالص من الشوائب، وفي القاموس: الصريح هو الخالص من كل شيء. (سئل عن الوسوسة) الوسوسة: حديث النفس وحديث الشيطان بما لا نفع فيه ولا خير، و"أل" في "الوسوسة" للعهد، أي الوسوسة في الإيمان. (تلك محض الإيمان) أي تلك الحالة التي تقف أمام الوسوسة هي الإيمان المحض الخالص، ففي القاموس: فضة محضة أي خالصة. -[فقه الحديث]- في مضمون روايات هذا الحديث أخرج أبو داود عن أبي هريرة قال: جاء ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه، فقالوا: يا رسول الله، إنا نجد في أنفسنا الشيء يعظم أن نتكلم به، ما نحب أن لنا الدنيا وأنا تكلمنا به (أي لو أعطينا زينة الدنيا مقابل أن نتكلم به ما قبلنا وما تكلمنا) فقال: أوقد وجدتموه؟ ذاك صريح الإيمان. ولابن أبي شيبة من حديث ابن عباس "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أحدث نفسي بالأمر، لأن أكون حممة (بضم الحاء وفتح الميمين، أي نارا مستعرة) أحب إلي من أن أتكلم به. قال: الحمد لله الذي رد أمره إلى الوسوسة". وفي معناه وفقهه قال بعضهم: ليس المراد أن الوسوسة نفسها صريح الإيمان، بل هي من قبل

الشيطان وكيده، وإنما صريح الإيمان هو العلم بقبح تلك الوساوس، وامتناع قبولها، ووجود النفرة عنها، كل ذلك دليل على خلوص الإيمان من الشوائب، فإن الكافر يصر على ما في قلبه من الكفر ولا ينفر عنه "وإن ضعيف الإيمان يتشكك بمجرد الوسوسة ولا يتعاظم عليه أمرها، ولا يستنكر الكلام بها. وكان هؤلاء السائلون من الصحابة على درجة كبيرة من اليقين الذي لا يتزعزع، والعقيدة الراسخة التي لا تؤثر فيها هواجس النفس والشيطان. ولمعرفة هذه الوسوسة وطريقة الشيطان لزعزعة الإيمان، ووسيلة الوقاية والعلاج انظر شرح الحديث التالي. والله أعلم

تابع باب الوسوسة في الإيمان 224 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا، خلق الله الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئا فليقل: آمنت بالله". 225 - عن هشام بن عروة، بهذا الإسناد. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق السماء؟ من خلق الأرض؟ فيقول: الله" ثم ذكر بمثله. وزاد "ورسله". 226 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا وكذا؟ حتى يقول له: من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته". 227 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يأتي العبد الشيطان فيقول: من خلق كذا وكذا؟ " مثل حديث ابن أخي ابن شهاب. 228 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يزال الناس يسألونكم عن العلم، حتى يقولوا: هذا الله خلقنا. فمن خلق الله؟ ". قال، وهو آخذ بيد رجل فقال: صدق الله ورسوله. قد سألني اثنان وهذا الثالث. أو قال: سألني واحد وهذا الثاني. قال أبو هريرة رضي الله عنه، "لا يزال الناس"، بمثل حديث عبد الوارث. غير أنه لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الإسناد. ولكن قد قال في آخر الحديث: صدق الله ورسوله.

229 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يزالون يسألونك، يا أبا هريرة، حتى يقولوا: هذا الله. فمن خلق الله؟ " قال، فبينا أنا في المسجد إذ جاءني ناس من الأعراب. فقالوا: يا أبا هريرة! هذا الله. فمن خلق الله؟ قال، فأخذ حصى بكفه فرماهم. ثم قال: قوموا. قوموا. صدق خليلي. 230 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليسألنكم الناس عن كل شيء حتى يقولوا: الله خلق كل شيء. فمن خلقه؟ ". 231 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله عز وجل: إن أمتك لا يزالون يقولون: ما كذا؟ ما كذا؟ حتى يقولوا: هذا الله خلق الخلق. فمن خلق الله؟ ". وعن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بهذا الحديث غير أن إسحق لم يذكر "قال قال الله إن أمتك". -[المعنى العام]- من وسوسة الشيطان أن يحدث إلى المؤمن، من خلق السماء؟ فيجيب المؤمن: الله، فيسأل: من خلق الأرض؟ فيجيب: الله. فيسأل: الله هو الذي خلقنا وخلق كل شيء فمن خلق الله؟ وقد يتجه المؤمن بهذا التساؤل إلى العلماء لعله يجد جوابا تسكن إليه نفسه ويثبت يقينه وإيمانه. حدث بهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يأتي الشيطان أحدكم، فيقول له: من خلق كذا وكذا؟ فإذا قال: الله، قال: إذا كان الله هو خالق كل شيء فمن خلق الله؟ كان الله قبل كل شيء، فمن كان قبله؟ يقول صلى الله عليه وسلم: إذا بلغ الشيطان بالمؤمن إلى هذا السؤال فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم، وليمسك عن هذا التفكير، وليتفل عن شماله وليقل: آمنت بالله ورسوله {الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد} [الإخلاص: 1 - 4].

ثم يوصي رسول الله صلى الله عليه وسلم علماء الصحابة (إذا جاءهم العامة يسألون) أن يوصدوا باب هذا التفكير أمامهم، وأن يأمروهم ألا يسترسلوا فيما لا يفيدهم، فإن استرسال العوام في ذلك لا يزيدهم إلا حيرة وعليهم أن يلتجئوا إلى الله، وأن يعتصموا به، {ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم} [آل عمران: 101]. -[المباحث العربية]- (لا يزال الناس يتساءلون) أي يسأل بعضهم بعضا فيما لا يفيد، وفي رواية البخاري "لن يبرح الناس يتساءلون" وفي رواية "يسألون". (حتى يقال) مبني للمجهول، وقد أبرز الفاعل في بعض الروايات على أنه الشيطان "أو على أنهم القائلون. ففي الرواية الثانية والثالثة والرابعة "يأتي الشيطان أحدكم فيقول" وفي الرواية الخامسة والسادسة "حتى يقولوا" أي في أنفسهم أو لغيرهم، كما يأتي. (هذا خلق الله الخلق) قيل: إن اسم الإشارة نائب فاعل "يقال" أو مفعول "يقولون" والمعنى: حتى يقال هذا، أو حتى يقولون هذا القول وهو: خلق الله الخلق إلخ، وقيل: إن اسم الإشارة مبتدأ حذف خبره. أي هذا الأمر قد علم. (فمن خلق الله) في جواب شرط مقدر، و"من" اسم استفهام مبتدأ، والجملة بعده خبر، والتقدير: إذا ثبت أن الله خلق كل شيء فمن خلق الله؟ . (فمن وجد من ذلك شيئا) أي من هذه الوسوسة في نفسه، أو من سائل. (فليقل: آمنت بالله) أي فليقل في نفسه، أو يتلفظ لنفسه أو لغيره بقوله: آمنت بالله، وأنه منزه عن هذا، وأنه أحد صمد. لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. والمقصود من هذا القول قطع الوسوسة، والاشتغال بإثبات نقيضها. (يأتي الشيطان أحدكم) الظاهر أن المراد به شيطان الجن، إبليس أو جنده، وإتيانه إنما يعرف بالوسوسة، لأننا لا نراه. (فيقول: من خلق السماء؟ من خلق الأرض؟ فيقول: الله) فاعل "يقول" الأولى الشيطان، وفاعل الثانية "أحدكم" وسؤال الشيطان هذين السؤالين للاستدراج لما بعدهما، ولفظ الجلالة خبر مبتدأ محذوف أي خالق ذلك الله. (وزاد: ورسله) أي فليقل: آمنت بالله ورسله. (من خلق كذا وكذا) "كذا" أصلها كاف التشبيه "وذا" الإشارية، ثم استعملتا هنا كلمة واحدة مكنيا بها عن غير عدد، فهي في محل النصب، مفعول "خلق".

(فليستعذ بالله ولينته) أي فليستعذ بالله من وسوسة الشيطان، ولينته عن الاسترسال في ذلك. (يأتي العبد الشيطان) بتقديم المفعول به على الفاعل. (هذا الله خلقنا) "هذا" مبتدأ خبره محذوف، أي هذا الأمر معلوم، وهو أن الله خلقنا، ويصح أن يكون مبتدأ، ولفظ الجلالة عطف بيان، و"خلقنا" الخبر. (قال: وهو آخذ بيد رجل فقال) أعاد كلمة "قال" لطول الفصل بينها وبين مقولها، والقائل أبو هريرة: وإمساكه بيد الرجل ليشير إليه بأنه السائل الثالث. (صدق الله ورسوله) في كل ما أخبر به، وفي قوله: "لا يزال الناس يسألونكم". (قد سألني اثنان) عمن خلق الله. (أو قال: سألني واحد) شك من الراوي عن أبي هريرة [وهو محمد بن سيرين] في أي العبارتين صدر عن أبي هريرة. (هذا الله) مبتدأ وخبر، أي هذا الخالق لكل شيء الله. (فبينا أنا في المسجد إذ جاءني ناس) "بين" ظرف زمان، أشبعت فتحة النون فجاءت الألف، وهو ملازم للإضافة إلى جملة، ولا بد لها من جواب هو العامل فيها إذا كان الكلام مجردا عن كلمة المفاجأة، فإن وجدت -كما هنا- فالعامل معنى المفاجأة. (قوموا. قوموا) تأكيد لفظي، والمقصود من الأمر بالقيام الانصراف عن السؤال. (صدق خليلي) محمد صلى الله عليه وسلم في أخباره عامة، وفي قوله "لا يزالون يسألونك". (ليسألنكم الناس عن كل شيء) مبالغة في كثرة الأسئلة، وليس المقصود كل شيء حقيقة. (حتى يقولوا: الله خلق كل شيء) قال النووي: هكذا هو في بعض الأصول "يقولوا" بغير نون، وفي بعضها "يقولون" بالنون وكلاهما صحيح، وإثبات النون مع الناصب لغة قليلة، ذكرها جماعة من محققي النحويين، وجاءت متكررة في الأحاديث الصحيحة. اهـ. -[فقه الحديث]- ليضع المؤمن نصب عينيه قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27] وقوله: {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما

يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير} [فاطر: 6] ويذكر قول إبليس: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16 - 17] وهذا الحديث يبين أسلوبا من أساليب إضلاله. قال ابن بطال: إن هذا السؤال [من خلق الله] لا ينشأ إلا عن جهل مفرط، فإن الموسوس إن قال: ما المانع أن يخلق الخالق نفسه؟ قيل له: هذا ينقض بعضه بعضا، لأنك أثبت خالقا، وأوجبت وجوده، ثم قلت: يخلق نفسه، فأوجبت عدمه، والجمع بين كونه موجودا معدوما فاسد لتناقضه، لأن الفاعل يتقدم وجوده على وجود فعله، فيستحيل كون نفسه فعلا له. اهـ. وقال الخطابي: هذا السؤال متهافت، ينقض آخره أوله، لأن العقل أثبت أن المحدثات مفتقرة إلى محدث، فلو كان هو مفتقرا إلى محدث لكان من المحدثات. وقال ابن التين: لو جاز لمخترع الشيء أن يكون له مخترع لتسلسل، فلا بد من الانتهاء إلى موجد قديم، والقديم من لا يتقدمه شيء، ولا يصح عدمه، وهو فاعل لا مفعول، وهو الله تبارك وتعالى. اهـ. فإن قيل: لم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالإمساك عن التفكير وبالاستعاذة دون الحجة الواضحة الموصلة لرفع الشبهة، والإجابة عن السؤال؟ . قلنا: أما بالنسبة لوسوسة الشيطان فإنه ليس لوسوسته انتهاء، بل كلما ألزم حجة زاغ إلى غيرها، ومهما عورض بالدليل وجد مسلكا آخر من المغالطة والاسترسال، فيضيع الوقت على المؤمن إن سلم من الفتنة والحيرة، نعوذ بالله من ذلك. فلا تدبير في دفعه أقوى من الالتجاء إلى الله تعالى بالاستعاذة به، كما قال تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200]. وأما بالنسبة إلى المؤمن السائل فلنا عنه جوابان: الأول: ما أشار إليه الطيبي، وهو أن العلم باستغناء الله جل وعلا عن الموجد أمر بديهي لا يقبل المناظرة، والاسترسال فيها لا يزيد البعض إلا حيرة. وقال الكرماني: لما عرف بالضرورة أن الخالق غير المخلوق، أو بالكسب الذي يقارب الصدق كان السؤال عن ذلك تعنتا، ولا يجاب عن سؤال التعنت، وقال الحافظ ابن حجر: لما كان السؤال واهيا لم يستحق جوابا، أو الكف عن ذلك نظير الأمر بالكف عن الخوض في الذات والصفات. الثاني: أن المؤمن السائل إما أن يكون من العوام، لا يستطيع هضم الدليل العقلي، ولا فهم الحجة والبرهان، وعلاجه في إيقافه عن التفكير وعدم الاسترسال معه فيما قد يدخله في تيه عميق، وفي رده إلى الله وقرآنه، والاستعاذة به من الشيطان الرجيم. وإما أن يكون ممن يستطيع الفهم والنظر والاستدلال، فهذا ينبغي أن يجاب بالحجة والبرهان. وروايات الحديث أمرت صاحب الوسوسة بالانتهاء والاستعاذة، ولم تأمر المسئول برفض السؤال

أو الإعراض عنه، وعدم الإجابة عليه، ولعل أبا هريرة رأى سائليه من النوع الأول، بدليل قوله "من الأعراب" فزجرهم عن البحث وأمرهم بالقيام عنه. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - ذم السؤال عما لا يعني. 2 - وفيه علم من أعلام النبوة لإخباره بوقوع ما سيقع فوقع. 3 - وفيه وسوسة الشيطان وعلاجها. 4 - وأن الشيطان يندفع بالاستعاذة بالله منه. 5 - وفيه الأمر بالكف عن التفكير عند خوف الزلل. والله أعلم

(80) باب من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة

(80) باب من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة 232 - عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة". فقال له رجل: وإن كان شيئا يسيرا، يا رسول الله؟ قال "وإن قضيبا من أراك". بمثله. 233 - عن عبد الله رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال "من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم، هو فيها فاجر، لقي الله وهو عليه غضبان" قال، فدخل الأشعث بن قيس فقال: ما يحدثكم أبو عبد الرحمن؟ قالوا: كذا وكذا. قال: صدق أبو عبد الرحمن. في نزلت. كان بيني وبين رجل أرض باليمن فخاصمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال "هل لك بينة؟ ". فقلت: لا. قال "فيمينه" قلت: إذن يحلف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك "من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان". فنزلت {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا} [آل عمران: 77] إلى آخر الآية. 234 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: من حلف على يمين يستحق بها مالا هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان. ثم ذكر نحو حديث الأعمش. غير أنه قال: كانت بيني وبين رجل خصومة في بئر. فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "شاهداك أو يمينه". 235 - عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من

حلف على مال امرئ مسلم بغير حقه، لقي الله وهو عليه غضبان" قال عبد الله: ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا} [آل عمران: 77] إلى آخر الآية. 236 - عن علقمة بن وائل، عن أبيه، قال: جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمي: يا رسول الله إن هذا قد غلبني على أرض لي كانت لأبي. فقال الكندي: هي أرضي في يدي أزرعها ليس له فيها حق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للحضرمي "ألك بينة؟ " قال: لا. قال "فلك يمينه" قال: يا رسول الله إن الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه. وليس يتورع من شيء. فقال "ليس لك منه إلا ذلك" فانطلق ليحلف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما أدبر "أما لئن حلف على ماله ليأكله ظلما، ليلقين الله وهو عنه معرض". 237 - عن وائل بن حجر قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأتاه رجلان يختصمان في أرض. فقال أحدهما: إن هذا انتزى على أرضي، يا رسول الله، في الجاهلية. (وهو امرؤ القيس ابن عابس الكندي. وخصمه ربيعة بن عبدان) قال: "بينتك" قال: ليس لي بينة. قال "يمينه" قال: إذن يذهب بها. قال "ليس لك إلا ذاك" قال، فلما قام ليحلف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من اقتطع أرضا ظالما، لقي الله وهو عليه غضبان" قال إسحاق في روايته: ربيعة بن عيدان. -[المعنى العام]- إن القوة مصدر الطغيان، وكل طغيان عاقبته الهلاك والخسران، وإن الإسلام ليحرص كل الحرص على تقييد القوة بقانون العدالة، وعلى أن يقيم حارسا من النفس، ورادعا من الخلق والدين قبل الخوف من القوانين، لأن الإنسان قد يستطيع أن يفلت من عقوبة القوانين بشيء من الدهاء والحيلة، وأن يستر جريمته بالعهود والأيمان، لكنه والحالة هذه يقع في عقوبة أخروية عظيمة، ويقتص منه بنار شديدة أليمة.

من هذا الهدي الكريم، ومن هذا المبدأ الحكيم، يحذر الرسول صلى الله عليه وسلم من أن يستغل الإنسان فرصة تضليل القضاء ليستولي على حق من حقوق المسلمين. فمن قضي له بما ليس له فيه حق فإنما قضي له بقطعة من النار، فليأخذها أو ليدعها، ومن اقتطع حقا من حقوق المسلمين بيمين فاجرة ظالمة، فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة، ولا يستهين الظالم بحقارة ظلمه، فمعظم العذاب من محقرات الذنوب، كما أن معظم النار من مستصغر الشرر، وليحذر حق الغير وماله، ولو كان هذا الحق عودا صغيرا من شجر البوادي. ولقد أنزل الله وعيدا شديدا لمثل هذا الآثم، حين اختصم الأشعث بن قيس ورجل من بني عمه في بئر في قطعة أرض، هي تحت يد ابن عمه، والأشعث يدعيها لنفسه، حيث كانت ملكا لأبيه، فسطا عليها ابن عمه، قال الأشعث: يا رسول الله، بيني وبين هذا الرجل أرض غلبني عليها وجحدني، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم خصمه عن موقفه من هذه الدعوى. فقال الرجل: إنها أرضي، وتحت يدي، وأنا منذ زمن أزرعها، ولا حق له فيها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأشعث: ما بينتك؟ وما شهودك على دعواك؟ قال: ليس عندي شهود. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذن يحلف خصمك فتسقط دعواك. قال: يا رسول الله، إن أرضي أعظم شأنا من أن يحلف عليها. قال: إن يمين المسلم يدرأ بها أعظم من ذلك، قال: يا رسول الله إن الرجل فاجر لا يتورع عن الحلف زورا أو بهتانا، ولا يبالي على ما يحلف إن كان حقا أو باطلا. قال: ليس لك منه إلا ذلك، قال: إذن يحلف ويذهب بمالي. فلما تهيأ الرجل ليحلف، وأخذ إلى منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليوقع اليمين هناك نزل قوله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77] فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه. وقال لهم: إن هو حلف كاذبا أدخله الله النار، فمن حلف على يمين يلزمه بها القضاء، وهو فيها كاذب فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله يوم القيامة وهو عنه معرض وهو عليه غضبان، ومن غضب الله عليه فهو من أهل النار، فذهبوا إليه قبل أن يحلف، وأخبروه الخبر: فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: ماذا لي لو تركتها يا رسول الله؟ قال: الجنة. قال أشهدك أني قد تركتها له كلها، وتنازل الخصم للأشعث بأرض البئر وما حولها. وهكذا كانت العظات تهز القلوب، وكان الإسلام إن تزعزع عند بعض الناس واهتز، لا يلبث أن يعود ويثبت. وكانت زينة الحياة الدنيا إذا غلبت على الحق أسرع الحق إلى الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق. أما اليوم فما أكثر الحقوق الضائعة، وما أكثر الظالمين الباغين. {ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين} [الروم: 52، النمل: 80] فاللهم اجعلنا من {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [الزمر: 18].

-[المباحث العربية]- (من اقتطع حق امرئ) افتعل من القطع، كأنه قطعه عن صاحبه، أو أخذ قطعة منه وهو أبلغ من قطع لإشعاره بالعمد، والحق أعم من المال، كما سيأتي في فقه الحديث. (مسلم) القيد ليس للاحتراز، وقيل للاحتراز، وسيأتي توضيحه. (وإن كان شيئا يسيرا) اسم كان يعود على الحق المقتطع. (وإن قضيبا من أراك) نصب "قضيبا" على أنه خبر "كان" المحذوفة مع اسمها. وهو كثير مشهور بعد "إن" و"لو" وفي بعض الأصول "وإن قضيب من أراك" برفع "قضيب" على حذف "كان" وخبرها، والتقدير: وإن كان قضيب من أراك موجودا، وهو قليل، وقضيب الأراك هو عود من شجر يستاك به. (من حلف على يمين صبر) هو بإضافة "يمين" إلى "صبر" بفتح الصاد وسكون الباء. ويمين الصبر هي التي يحبس الحالف نفسه عليها، ويلزم بها عند حاكم ونحوه، وأصل الصبر الحبس والإمساك. (هو فيها فاجر) أي متعمد الكذب، وتسمى اليمين الغموس. وفي رواية "هو عليها فاجر" وتقديرهما: هو في الإقدام عليها فاجر، والتقييد بكونه فاجرا لا بد منه، ومعناه: هو فيها آثم، ولا يكون آثما إلا إذا كان متعمدا عالما بأنه غير حق. (وهو عليه غضبان) وفي الرواية الخامسة "وهو عنه معرض" والغضب والإعراض من الله هو إرادته إبعاد ذلك المغضوب عليه من رحمته، وتعذيبه وإنكار فعله وذمه. (قال: فدخل الأشعث) فاعل [قال] عبد الله بن مسعود. (ما يحدثكم أبو عبد الرحمن)؟ "ما" اسم استفهام مفعول ثان مقدم، وأبو عبد الرحمن هي كنية ابن مسعود. (قالوا: كذا وكذا) كناية عن الحديث السابق. (قال: صدق أبو عبد الرحمن) أي في الحديث الذي رواه، أي صدق في روايته. (في نزلت) الجار والمجرور متعلق بنزلت، والفاعل ضمير يعود على الآية التي ذكرها ابن مسعود في حديثه، وإن لم تذكر في هذه الرواية اختصارا من الراوي، كما هو واضح من الرواية الرابعة. (كان بيني وبين رجل أرض باليمن) لم يذكر اسمه جريا على عاداتهم الكريمة من الستر،

والمعنى: كان بيني وبين رجل خصومة ونزاع في أرض، بدليل "فخاصمته" وفي الرواية الثالثة "خصومة في بئر". (هل لك بينة؟ ) أي شاهدان يشهدان بحقك؟ . (قال: فيمينه) "يمينه" مبتدأ خبره محذوف، والفاء في جواب شرط مقدر، أي إذا لم تكن بينة فلك يمينه. (إذن يحلف) "إذن" حرف نصب وجواب، وفي كتابتها خلاف، فالجمهور يكتبونها بالألف، وكذا رسمت في المصاحف، والمازني والمبرد يكتبانها بالنون، وعن الفراء إن عملت كتبت بالألف، وإلا كتبت بالنون للفرق بينها وبين إذا، وتبعه ابن خروف. و"يحلف" قال السهيلي: بالنصب لا غير لوجود شرائطه من الاستقبال والاتصال، وحكى ابن خروف جواز الرفع في مثل هذا، على إهمال "إذن" أو على تقدير: إذن هو يحلف. {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم} العهد كتابة الشيء ومراعاته، ويطلق على الأمان، والوفاء، والوصية واليمين والمعرفة واللقاء عن قرب الزمان، والمراد منه هنا: ما أمر الله به أمرا مؤكدا، فعطف اليمين عليه عطف مغاير، وهل يعتبر قول القائل: على عهد الله لأفعلن - هل يعتبر يمينا أو لا؟ خلاف بين الفقهاء. (جاء رجل من حضرموت) بفتح الحاء وإسكان الضاد وفتح الراء والميم، ممنوع من الصرف للعلمية والتركيب المزجي، والنسب إليها حضرمي. (ورجل من كندة) بكسر الكاف وسكون النون حي باليمن، والنسب إليها كندي بسكون النون. (أما لئن حلف) "أما" بفتح الهمزة وتخفيف الميم حرف استفتاح بمنزلة "ألا". (إن هذا انتزى على أرضي) معناه غلب عليها واستولى، وأصل النزو الوثب، ثم كثر استعماله في كل ما يشبهه. (في الجاهلية) أي ما قبل النبوة، سميت بذلك لكثرة جهلهم. -[فقه الحديث]- يرد على ظاهر هذه الروايات خمس شبه: الشبهة الأولى: صريح الرواية الثانية أن الآية {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا .. } نزلت في الأشعث بن قيس وخصمه، لقوله "في نزلت" وقوله "فنزلت".

لكن جاء في حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه أنها نزلت في رجل أقام سلعته في السوق، فحلف لقد أعطي بها ما لم يعطه. وذكر الطبري أن الآية نزلت في حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف وغيرهما من اليهود الذين كتموا ما أنزل الله في التوراة، من شأن النبي صلى الله عليه وسلم، وحلفوا. ويمكن الجمع بتعدد الأسباب لمنزل واحد، ولفظ الآية عام يشمل هذه الأسباب. الشبهة الثانية: ظاهر الرواية الرابعة أن الآية نزلت قبل تخاصم الأشعث بن قيس إذ فيها: "ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله {إن الذين يشترون بعهد الله} لكن يمكن أن يقال: إن الآية نزلت في الخصومة المذكورة، وسماع عبد الله بن مسعود كان متأخرا عنها، فقرأ له رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية مصداقا للحديث. الشبهة الثالثة: جاء في الرواية الثانية "فدخل الأشعث بن قيس، فقال: ما يحدثكم أبو عبد الرحمن"؟ وجاء في رواية للبخاري في كتاب الرهن "ثم إن الأشعث بن قيس خرج إلينا، فقال: ما يحدثكم أبو عبد الرحمن"؟ وفي رواية "ما حدثكم عبد الله اليوم"؟ فالتعبير بدخل وخرج، وبيحدث وحدث ظاهره التعارض، ويمكن رفعه بأن الأشعث خرج عليهم من مكان كان فيه، فدخل المكان الذي فيه عبد الله، وبأن دخوله وقع في نهاية حديث عبد الله فسأل أصحابه عما حدثهم به، وتعبيره بالمضارع "يحدثكم" لقرب العهد واستحضار الصورة. الشبهة الرابعة: جاء في الرواية الثالثة أن الخصومة كانت في بئر، وفي غيرها من الروايات أنها كانت في أرض مما ظاهره التعارض. قال الحافظ ابن حجر: ويجمع بأن المراد أرض البئر، لا جميع الأرض التي تحيط به. الشبهة الخامسة: يؤخذ من الرواية الخامسة أن المدعي حضرمي، وأن المدعى عليه كندي، مع أن الأشعث ابن قيس كندي جزما. وليس من السهل الجمع، فينبغي أن يقال بتعدد القصة المتشابهة، وخصوصا أنه لم يرد في هذه الرواية ذكر للأشعث، ولا لنزول الآية. أما الرواية السادسة فالظاهر أنها قصة أخرى مشابهة.

-[ويؤخذ من الحديث]- 1 - غلظ تحريم حقوق المسلمين. 2 - وجوب النار لمقتطع الحقوق، وهو محمول على من مات من غير توبة، وشاء الله أن يعذبه، أو على المستحل لذلك إذا مات على ذلك، فإنه يكفر ويخلد في النار، أو معناه فقد استحق النار، ويجوز العفو عنه وقد حرم عليه دخول الجنة أول وهلة مع الفائزين. وأما تقييده صلى الله عليه وسلم بالمسلم فلا يدل على عدم تحريم حق الذمي، بل معناه أن هذا الوعيد الشديد لمن اقتطع حق المسلم، وأما الذمي فاقتطاع حقه حرام، لكن لا يلزم أن تكون فيه هذه العقوبة العظيمة. هذا كله على مذهب من يقول بالمفهوم، أما من لا يقول به فلا يحتاج إلى تأويل، قاله النووي. وقال القاضي عياض: تخصيص المسلم لكونهم المخاطبين، وعامة المتعاملين في الشريعة، لا أن غير المسلم بخلافه، بل حكمه حكمه في ذلك. والله أعلم. 3 - يدخل في الوعيد من اقتطع حقا غير مال، كجلد الميتة والسرجين وغيرهما مما ينتفع به، وكذا سائر الحقوق، كنصيب الزوجة في القسم والقذف. 4 - أنه لا فرق بين قليل الحق وكثيرة لقوله صلى الله عليه وسلم: "وإن قضيبا من أراك" قاله النووي. وقال الحافظ ابن حجر: كأن مراده عدم الفرق في غلظ التحريم، لا في مراتب الغلظ، وقد صرح ابن عبد السلام في "القواعد" بالفرق بين القليل والكثير، وكذا بين ما يترتب عليه كثير المفسدة وحقيرها. 5 - وفيه المبادأة بالسماع من الطالب. 6 - ثم من المطلوب، هل يقر أو ينكر؟ 7 - ثم طلب البينة من المدعي. 8 - وأنه لا يطلب من المدعي غير البينة، ولا يطلب منه يمين الاستظهار لأن بينته شهدت له بحق، إذ لو كانت اليمين من تمام الحكم له لقال له: بينتك ويمينك عن صدقها. 9 - أن البينة تقدم على اليد. 10 - أن المدعى عليه يلزمه اليمين إذا لم يقر. 11 - أنه لا يشترط في الخصمين أن يكونا ممن يتهم، بل ولو كان فوق الشبه، فالبينة على المدعي واليمين على من أنكر. 12 - أن وصف المدعى به وتحديده ليس بلازم لذاته، بل يكفي في صحة الدعوى تمييز المدعى به. 13 - وأنه إذا حلف المدعى عليه سقطت دعوى المدعي، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس لك منه إلا ذلك".

14 - أن يمين الفاجر المدعى عليه تقبل كيمين العدل، وتسقط عنه المطالبة. 15 - وفيه بناء الأحكام على الظاهر وإن كان المحكوم له في نفس الأمر مبطلا. 16 - أن حكم الحاكم لا يبيح للإنسان ما لم يكن حلالا له، وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على أن الحكم لا يحل حراما في الباطن في الأموال. 17 - أن يمين المدعى عليه لا تثبت له ملكية ما حلف عليه، وإنما تصرف دعوى المدعي لا غير، فإن جاء مدع آخر نظرت دعواه، ولذلك ينبغي للحاكم إذا حلف المدعى عليه ألا يحكم له بملك المدعي به: بل يقره فقط على حكم يمينه. 18 - أن كل ما يجرى بين المتداعيين من تساب بخيانة وفجور هدر. 19 - وفيه موعظة الحاكم للمدعى عليه إذا أراد أن يحلف، خوفا من أن يحلف باطلا، لعله يرجع إلى الحق بالموعظة. 20 - استدل به على أن اليمين الغموس لا كفارة فيها. 21 - وفيه إشارة إلى أن لليمين مكانا يختص به لقوله: "فانطلق ليحلف" وقد عهد في عهده صلى الله عليه وسلم الحلف عند منبره. والله أعلم

(81) باب من قتل دون ماله فهو شهيد

(81) باب من قتل دون ماله فهو شهيد 238 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: يا رسول الله! أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال "فلا تعطه مالك" قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال "قاتله" قال: أرأيت إن قتلني؟ قال "فأنت شهيد" قال: أرأيت إن قتلته؟ قال "هو في النار". -[المعنى العام]- مما هو مستقر في النفوس الأبية الدفاع عن المال، ومما جاءت به الشريعة الإسلامية حق المسلم في الذود عن ماله وعرضه ونفسه، وكأن هذا السائل فهم من العفو والإحسان اللذين دعا إليهما الإسلام عدم المقاتلة دون المال، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أخبرني يا رسول الله عما أفعله إذا جاء معتد لأخذ مالي، هل أدعه يأخذه ويمضي؟ قال: لا تمكنه من أخذه، قال: فماذا أفعل إن قاتلني من أجله؟ قال: قاتله وامنعه، قال: فما حكم الله في أمري إن قتلني؟ قال: إن قتلك فأنت شهيد لك الجنة. قال: فإن قاتلني فقتلته فما حكم الله في أمري وأمره؟ قال: لا شيء عليك وهو في النار. -[المباحث العربية]- (أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي) أي أخبرني عما ينبغي أن أفعله فجواب الشرط محذوف، تقديره: فماذا أفعل؟ . (فلا تعطه مالك) الفاء في جواب شرط مقدر، أي إن جاء فلا تعطه مالك، ومعناه: لا يلزمك أن تعطيه، وليس المراد تحريم الإعطاء. (أرأيت إن قاتلني) فماذا أفعل؟ (قال: قاتله) هذا دليل الجواب، وليس جواب شرط وإلا لاقترن بالفاء، والتقدير: قاتله إن قاتلك. (أرأيت إن قتلني) جواب الشرط محذوف، أي فما حكم الله في أمري؟ (قال: فأنت شهيد) أصل الشهادة التبيين، ومنه قوله تعالى: {شهد الله} [آل عمران: 18]

أي بين، وشهود الحق يتبين بهم الحكم، وسمي الشهيد شهيدا من "شهد" إذا حضر، لأنه يحضر دار السلام قبل غيره، أو لأن الله شهد له بالجنة، فشهيد بمعنى مشهود له، أو لأنه يشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم على الأمم يوم القيامة، فشهيد بمعنى شاهد، وقيل: لأنه يشاهد عند موته ما أعد الله له من الكرامة، وقيل: لأن ملائكة الرحمة يشهدون فيأخذون روحه، وقيل: لأنه شهد له بالإيمان وخاتمة الخير بحسب الظاهر، وقيل: لأن عليه شاهدا يشهد بكونه شهيدا، وهو دمه، فإنه يبعث يوم القيامة وجرحه يثعب دما. -[فقه الحديث]- في الحديث دليل على جواز قتال المحارب، وعلى جوازه عامة العلماء، لكن الخلاف في قتالهم إذا طلبوا الشيء اليسير، كالثوب والطعام، هل يعطونه أو يقاتلون دونه؟ جمهور العلماء على جواز مقاتلة القاصد لأخذ المال بغير حق، وإن كان المال قليلا، لعموم الحديث، وشذ من أوجبه، وقال بعض المالكية: لا يجوز إذا طلب المال الخفيف، قال القرطبي: سبب الخلاف عندنا: هل الإذن في ذلك من باب تغيير المنكر، فلا يفترق الحال بين القليل والكثير؟ أو من باب دفع الضرر، فيختلف الحال. قال الأبي: والقول بمنع إعطائهم الشيء الخفيف هو المشهور. وقال النووي: المدافعة عن المال جائزة غير واجبة، والمدافعة عن الحريم واجبة بلا خلاف، وفي المدافعة عن النفس بالقتل خلاف. وحكى ابن المنذر عن الشافعي قال: من أريد ماله، أو نفسه، أو حريمه فله الاختيار أن يكلمه (أي يجرحه) أو يستغيث، فإن منع الصائل أو امتنع لم يكن لصاحب المال قتاله، وإلا فله أن يدفعه عن ذلك ولو أتى على نفسه وليس عليه عقل ولا دية ولا كفارة. لكن ليس له عمد قتله. اهـ. قال ابن المنذر: والذي عليه أهل العلم أن للرجل أن يدفع عما ذكر -إذا أريد ظلما- بغير تفصيل، إلا أن كل من يحفظ عنه من علماء الحديث كالمجمعين على استثناء السلطان، للآثار الواردة بالأمر بالصبر على جوره وترك القيام عليه. وفرق الأوزاعي بين الحال التي للناس فيها جماعة وإمام، فحمل الحديث عليها، وأما في حالة الفتنة والاختلاف والفرقة والغوغاء واختلاط الأمر، فليستسلم ولا يقاتل أحدا، وإذا كان الحديث الذي معنا يعارض رأي الأوزاعي، لأن لفظه عام يشمل جميع الأحوال، فإن ما رواه أحمد من حديث ابن مسعود في الفتن يقيد هذا الحديث ويؤيد الأوزاعي، إذ فيه قلت: يا رسول الله، فما تأمرني إن أدركت ذلك؟ قال: كف يدك ولسانك وادخل دارك. قلت: يا رسول الله، أرأيت إن دخل رجل على داري؟ قال: فادخل بيتك (أي حجرتك) قال: قلت: أفرأيت إن دخل على بيتي؟ قال: فادخل مسجدك (أي الركن الذي تصلي فيه من حجرتك) - وقبض بيمينه على الكوع - وقل: ربي الله، حتى تموت على ذلك. وفي رواية

"قال: أرأيت إن دخل على أحدنا بيته؟ قال ليمسك بيده. وليكن عبد الله المقتول، لا القاتل". ولما كان مذهب أهل السنة أن المؤمن لا يخلد في النار وإن كان صائلا فقد وجهوا قوله صلى الله عليه وسلم: "هو في النار" إلى أن معناه أنه يستحق ذلك، وقد يجازى، وقد يعفى عنه، إلا أن يكون مستحلا لذلك بغير تأويل فإنه يكفر، ولا يعفى عنه، (وللحديث تتمة في فقه الحديث الآتي فليراجع). والله أعلم

239 - عن ثابت مولى عمر بن عبد الرحمن أنه لما كان بين عبد الله بن عمرو وبين عنبسة بن أبي سفيان ما كان. تيسروا للقتال. فركب خالد بن العاص إلى عبد الله بن عمرو، فوعظه خالد. فقال عبد الله بن عمرو: أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل دون ماله فهو شهيد". -[المعنى العام]- كان عنبسة بن أبي سفيان عاملا على الطائف من قبل أخيه معاوية، وكان لآل عمرو بن العاص بستان وحائط في الطائف، فأجرى عنبسة عينا من ماء ليسقي بها أرضا، فدنا من حائط آل عمرو، فأراد أن يخرقه ليجري العين منه إلى الأرض. فأقبل عبد الله بن عمرو ومواليه بالسلاح يدافعون عن مالهم، وقالوا: والله لا تخرقون حائطنا حتى لا يبقى منا أحد. وتأهب الفريقان للقتال. وعلم خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومي وكان عمر رضي الله عنه قد استعمله على مكة، وكذا استعمله عثمان، ثم معاوية، فرأى باعتباره أقرب وال من الأزمة أن يركب من مكة إلى الطائف، وتوجه إلى عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم القرشي السهمي، وأخذ ينصحه بالمسالمة والتسليم لعنبسة، باعتباره صاحب سلطة وأخا للسلطان العام، فعز على عبد الله بن عمرو أن يخضع، وكبر عليه أن يستسلم لعنبسة - وأبوه عمرو صاحب الفضل الأول في ملك معاوية -إن كبرياءه وعزته تأنفان أن يخضع للجبروت، وإنه ليؤثر الموت في عزة وإباء على حياة الذل والهوان، وإنه يحس أن معاوية جرح كرامته بعزله عن ولاية مصر، وولى مكانه أخاه عتبة بن أبي سفيان فلا يحتمل بطشا وهوانا آخرين على يد عنبسة بن أبي سفيان. وإنه ليؤمن بأنه في موقفه لكريم، له إحدى الحسنيين، إن عاش عاش عزيزا مرفوع الرأس، وإن مات مات شهيدا وله الجنة. فقال لخالد بن العاص يرد عليه نصيحته: ألم تعلم يا خالد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل دون ماله فهو شهيد"؟

-[المباحث العربية]- (لما كان ... ما كان) "كان" تامة، و"ما" فاعل "كان" الأولى، وفاعل الثانية ضمير يعود على "ما" و"لما" بتشديد الميم حرف وجود لوجود، وبعضهم يقول: حرف وجوب لوجوب تدخل على الماضي، فتقتضي جملتين، وجدت ثانيتهما عند وجود أولاهما. (تيسروا للقتال) أي تأهبوا وتهيئوا له، عنبسة وأتباعه، وعبد الله بن عمرو ومواليه. (فركب خالد بن العاص) بن هشام بن المغيرة المخزومي. فليس عم عبد الله بن عمرو كما يوهمه تشابه الأسماء قال النووي: ضبطناه "فركب" بالفاء وفي بعض الأصول "وركب" بالواو، وفي بعضها "ركب" من غير فاء ولا واو، وكله صحيح ا. هـ أما بالفاء أو الواو فإعرابه واضح، وأما بدونهما فعلى أن الجملة بدل من جملة "تيسروا للقتال" والمعنى: لما كان ... ما كان ركب خالد ... إلخ. والفصيح في العاص إثبات الياء. ويجوز حذفها، وهو الذي يستعمله معظم المحدثين، أو كلهم. (أما علمت) "أما" حرف استفتاح للتنبيه على الاهتمام بما بعدها. (من قتل دون ماله) قال القرطبي: "دون" في أصلها ظرف مكان بمعنى تحت، وتستعمل للسببية على المجاز، ووجهه أن الذي يقاتل عن ماله غالبا إنما يجعله خلفه أو تحته ثم يقاتل عليه. اهـ فالمعنى من قتل بسبب الدفاع عن ماله فهو شهيد. -[فقه الحديث]- في معنى هذا الحديث روى أبو داود والترمذي "من أريد ماله بغير حق، فقاتل فقتل فهو شهيد" وروى الترمذي وبقية أصحاب السنن الحديث السابق مع زيادة ذكر الأهل والدم والدين، وروى ابن ماجه "من أريد ماله ظلما فقتل فهو شهيد" وقد تقدم في فقه الحديث السابق كثير مما يتعلق بهذا الحديث. ولا يعترض على موقف عبد الله بن عمرو بحديث البخاري "لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره" لأنه قد يقال: إنه خاص بالجار للضرورة، وعنبسة لم يكن جارا، ثم إن النهي المذكور للتنزيه وهو مشروط بإذن المالك، فإن امتنع لم يجبر عند الحنفية وبعض الشافعية جمعا بين الحديث وبين الأحاديث الدالة على تحريم مال المسلم إلا برضاه. ثم إن من ألزم الجار بقبول غرز خشبة جاره اشترط عدم الإضرار بالمالك، إذ الخشبة تقوي الجدار ولا تضعفه، حتى لو ثقب الجدار فإن الخشبة تسد الثقب، بخلاف ثقب الحائط لمرور الماء منه، فإن الضرر محقق. والله أعلم.

وفي المراد من الشهادة هنا قال النووي: اعلم أن الشهيد ثلاثة أقسام: أحدها المقتول في حرب الكفار بسبب من أسباب القتال، فهذا له حكم الشهداء، في ثواب الآخرة، وفي أحكام الدنيا، وهو أنه لا يغسل، ولا يصلى عليه. والثاني: شهيد في الثواب دون أحكام الدنيا، وهو المبطون والمطعون، وصاحب الهدم، ومن قتل دون ماله، وغيرهم ممن جاءت الأحاديث الصحيحة بتسميته شهيدا، فهذا يغسل ويصلى عليه، وله في الآخرة ثواب الشهداء، ولا يلزم أن يكون مثل ثواب الأول. والثالث: من غل في الغنيمة وشبهه ممن وردت الآثار بنفي تسميته شهيدا إذا قتل في حرب الكفار، فهذا له حكم الشهداء في الدنيا فلا يغسل، ولا يصلى عليه، وليس له ثوابهم الكامل في الآخرة. والله أعلم

(82) باب الوالي الغاش لرعيته

(82) باب الوالي الغاش لرعيته 240 - عن الحسن قال: عاد عبيد الله بن زياد معقل بن يسار المزني في مرضه الذي مات فيه. فقال معقل: إني محدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لو علمت أن لي حياة ما حدثتك، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة". 241 - عن الحسن، قال: دخل عبيد الله بن زياد على معقل بن يسار وهو وجع، فسأله فقال: إني محدثك حديثًا لم أكن حدثتكه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يسترعي الله عبدا رعية، يموت حين يموت وهو غاش لها، إلا حرم الله عليه الجنة" قال: ألا كنت حدثتني هذا قبل اليوم؟ قال: ما حدثتك، أو لم أكن لأحدثك. 242 - عن الحسن، قال: كنا عند معقل بن يسار نعوده، فجاء عبيد الله بن زياد، فقال له معقل: إني سأحدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر بمعنى حديثهما. 243 - عن أبي المليح، أن عبيد الله بن زياد عاد معقل بن يسار في مرضه، فقال له معقل: إني محدثك بحديث لولا أني في الموت لم أحدثك به. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من أمير يلي أمر المسلمين، ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة". -[المعنى العام]- قدم عبيد الله بن زياد أميرا على البصرة من قبل معاوية، قدم غلاما سفيها، يسفك الدماء سفكا شديدا، ولا يرعى حرمات الناس: ولا يقيم حدود الله، وخشي الناس من ظلمه وبطشه، ولم يجرؤ أحد

أن يصارحه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا من قربت منيته، روي أن عبد الله بن مغفل المزني دخل عليه ذات يوم فقال له: انته عما أراك تصنع. فقال له: وما أنت وذاك؟ فلما خرج ابن مغفل إلى المسجد قال له أصحابه: لم صنعت ما صنعت؟ ولما كلمت هذا السفيه على رءوس الناس؟ فقال: إنه كان عندي علم، فأحببت ألا أموت حتى أقول به على رءوس الناس. ثم قام. فما لبث أن مرض مرضه الذي توفي فيه فأتاه عبيد الله بن زياد يعوده، فوعظه بمثل الحديث الذي معنا. وهذا معقل بن يسار، الصحابي الجليل، قد مرض مرضه الأخير يعوده أصحابه وفيهم الحسن البصري، ثم يدخل عليهم عبيد الله بن زياد يعوده ويسأله الدعاء له، فيقول له معقل: سأحدثك حديثًا ما حدثتك به من قبل، ولولا أني في عداد الموتى ما حدثتك به. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من وال يلي رعية من المسلمين فيموت وهو غاش لهم، إلا حرم الله عليه الجنة. قال له عبيد الله بن زياد موبخا ومهددا: لم لم تحدثني بهذا قبل اليوم؟ قال له: لم أكن لأفعل، ولو علمت أن حياتي ستمتد بعد مرضي هذا ما حدثتك به، فخرج عبيد الله يضحك ساخرا من معقل، غير عابئ بما حدث به، وبلغ معقل الأمانة، ولقي ربه راضيا مرضيا. -[المباحث العربية]- (عن الحسن) البصري. (عاد عبيد الله بن زياد) ابن أبيه، الذي يقال له: زياد بن أبي سفيان. (في مرضه الذي مات فيه) كانت وفاة معقل بالبصرة فيما بين الستين إلى السبعين من الهجرة، في خلافة يزيد بن معاوية. (قال معقل) مخاطبا عبيد الله بن زياد. (إني محدثك حديثا) "حديثا" مفعول به ثان لمحدث. (لو علمت أن لي حياة ما حدثتك) أي لو علمت أن حياتي تطول بعد مرضي هذا ما حدثتك خوفا من بطشك. (ما من عبد) "ما" نافية و"من" زائدة، لتأكيد النفي و"عبد" مبتدأ. (يسترعيه الله رعية) السين والتاء للصيرورة، أي يصيره الله راعيا لرعية، والجملة صفة (عبد) وفي رواية (استرعاه). (يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته) جملة "وهو غاش" في محل النصب على الحال من "يموت" وهذا القيد هو المقصود في الجملة وجملة "يموت" صفة ثانية لعبد.

(إلا حرم الله عليه الجنة) "إلا" ملغاة، والجملة خبر "عبد". (وهو وجع) بفتح الواو وكسر الجيم، أي متألم من مرضه، والجملة حال من "معقل". (فسأله) أي سأل عبيد الله معقلا رضي الله عنه عن حاله، والأولى أن يقال: سأله الدعاء له، فإن معقلا كان من أهل الفضل الذين يزارون ويطلب دعاؤهم. (قال: ألا كنت حدثتني هذا قبل اليوم)؟ "ألا" في الأصل للتحضيض وهي هنا للتوبيخ. (كنا عند معقل بن يسار نعوده) جملة "نعوده" في محل النصب على الحال من الضمير المستكن في خبر "كان". (لولا أني في الموت) في الكلام مضاف محذوف، أي في مرض الموت وفي مقدماته. (ثم لا يجهد لهم) "يجهد" بفتح الياء وسكون الجيم وفتح الهاء أي يجتهد، وفي القاموس: جهد كمنع جد واجتهد، وفي رواية "ثم لا يجد" بكسر الجيم وتشديد الدال من الجد ضد الهزل. (وينصح) في القاموس: نصحه ونصح له. وقال المازري: النصيحة مشتقة من نصحت العسل إذا صفيته، يقال: نصح الشيء إذا خلص، ونصح له القول إذا أخلصه له، أو مشتقة من النصح وهي الخياطة بالمنصحة وهي الإبرة، والمعنى: أنه يلم شعث رعيته بالنصح كما تلم المنصحة، ومنه التوبة النصوح، كأن الذنب يمزق الدين، والتوبة تخيطه. وقال الخطابي: النصيحة كلمة جامعة، معناها حيازة الحظ للمنصوح له. -[فقه الحديث]- في سبب عدم تحديث معقل قبل مرضه. قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: إنما فعل هذا لأنه علم قبل هذا أنه ممن لا ينفعه الوعظ، كما ظهر منه مع غيره، ثم خاف معقل من كتمان الحديث، ورأى تبليغه، أو فعله لأنه خافه لو ذكره في حياته، لما يهيج عليه هذا الحديث ويثبته في قلوب الناس من سوء حاله. اهـ. قال النووي: والاحتمال الثاني هو الظاهر، والأول ضعيف، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يسقط باحتمال عدم قبوله. اهـ. وقال الحافظ ابن حجر: سبب ذلك هو ما وصفه به الحسن البصري من سفك الدماء، إذ جاء في بعض الروايات (لولا أني ميت ما حدثتك) فكأنه كان يخشى بطشه، فلما نزل به الموت أراد أن يكف بذلك بعض شره عن المسلمين. اهـ. وهذا هو السبب الراجح، ويضم إليه الرغبة في براءة الذمة من كتمان العلم، وبذل النصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بكل ما يستطيع المؤمن.

أما تحريم الجنة على الراعي الغاش لرعيته ففيه التأويلان المتقدمان في أمثاله. أحدهما: أنه محمول على المستحل. والثاني: معناه حرم الله عليه دخولها مع الفائزين السابقين، ومعنى التحريم هنا المنع. قاله النووي. ويؤيد التأويل الثاني الرواية الرابعة، إذ فيها: "إلا لم يدخل معهم الجنة". وهذا مبني على أن الله سينفذ عليه وعيده، ولا يرضى عنه المظلومين. وأما حقيقة غش الرعية فتحصل بظلمه لهم بأخذ أموالهم، أو سفك دمائهم، أو انتهاك أعراضهم، أو حبس حقوقهم، أو ترك تعريفهم ما يجب عليهم في أمر دينهم ودنياهم أو بإهمال إقامة الحدود فيهم وردع المفسدين منهم، أو ترك حمايتهم وحماية حوزتهم، أو مجاهدة عدوهم، أو ترك سيرة العدل فيهم، فإنما استرعاه الله ليرعى شئونهم ويعينهم، ويستر عوراتهم، ويسد خلاتهم، ويدفع المضار عنهم، ويجلب المنافع لهم، ويوقر كبيرهم، ويرحم صغيرهم، ويحب لهم ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لنفسه. فمن قلب القضية وضيع ما استرعاه الله أو خانهم أو ظلمهم فقد توجه إليه الطلب بمظالم العباد يوم القيامة {ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا} [الفرقان: 27 - 28]. والله أعلم

(83) باب رفع الأمانة

(83) باب رفع الأمانة 244 - عن حذيفة رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر. حدثنا "أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال. ثم نزل القرآن. فعلموا من القرآن وعلموا من السنة". ثم حدثنا عن رفع الأمانة قال: "ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه. فيظل أثرها مثل الوكت. ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه. فيظل أثرها مثل المجل. كجمر دحرجته على رجلك. فنفط فتراه منتبرا وليس فيه شيء (ثم أخذ حصى فدحرجه على رجله) فيصبح الناس يتبايعون. لا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال: إن في بني فلان رجلا أمينا. حتى يقال للرجل: ما أجلده! ما أظرفه! ما أعقله! وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان". ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيكم بايعت. لئن كان مسلما ليردنه علي دينه، ولئن كان نصرانيا أو يهوديا ليردنه علي ساعيه. وأما اليوم فما كنت لأبايع منكم إلا فلانا وفلانا. -[المعنى العام]- من علامات الساعة رفع الأمانة بين الأفراد، وإهدارهم حقوق بعضهم بعضا، وبين الحكام والمحكومين وسيطرة الولاة على حقوق الرعية. وقد ورد في الصنف الثاني قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة قيل: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة" وفي الصنف الأول حديث حذيفة الذي يربط الأمانة بقوة الإيمان، فحيث نزل الإيمان في القلوب، وثبت في النفوس، واستوثق بقراءة القرآن والتفقه فيه، ورسخ بالسنة والعمل بها، تحققت الأمانة، وتمكنت، وأصبح الدين مانعا من الخيانة، وحائلا بين شهوات النفس والشيطان وبين حقوق الآخرين. أما حيث يضعف الدين، وتغلب الشهوات، وتسيطر المادية، فإن الأمانة ترتفع من النفوس، كما يرتفع النور من القلوب، ويحل محل هذا النور الإلهي الران والغشاوة، وينكت في القلب نكتة سوداء، وكما بدأ الإسلام غريبا سيعود غريبا، وستقل الأمانة، حتى لا يكاد الأمين يوجد، وحتى تسري بذكره

الركبان، وحتى يقال إن في مكان كذا رجلا أمينا، وترى الرجل فيعجبك منظره وقوته وذكاؤه، فإذا ما عاملته وجدته خائنا غير أمين. إن الخيانة مرض ووباء ينتقل بالعدوى، وإذا كانت بعض المواطن الإسلامية اليوم لا تزال تحتفظ بقدر من الأمانة، فإن اتصالها بالخائنين سيؤدي بها عما قريب إلى رفعها، وإن من العجيب أن الأمانة ارتفعت بين المسلمين، بينما تمسك بها وحافظ عليها كثير من الكفار في عصرنا الحديث، حتى أصبح المسلمون صورة سيئة للإسلام، وما الأمانة المادية المالية إلا صورة من صور الأمانة المشروعة، التي تتمثل في أمانة الله لدى خلقه، فالعين أمانة، والأذن أمانة، واللسان أمانة، والتكاليف الشرعية أمانة، كل ذلك طلب صاحبها وخالقها أن يحافظ عليها، وأن توضع وتستعمل في مواضعها المشروعة، فمن خالف فقد ضيع الأمانة وإذا كان حذيفة رضي الله عنه وهو المتوفى سنة ست وثلاثين من الهجرة قد أسف على الأمانة ونعى على المسلمين ضياعها، فمن لها اليوم ينعاها ويبكي عليها؟ اللهم رحمتك وهدايتك وتوفيقك فليس لنا اليوم سواك. -[المباحث العربية]- (عن حذيفة) بن اليمان، ولاه عثمان على المدائن، وقتل عثمان وهو عليها، وبايع لعلي، وحرض على المبايعة له، والقيام في نصره ومات في أوائل خلافته، وحديثه هذا إنما ساقه - والله أعلم - بالمدائن وليس بالمدينة لكثرة الأمناء بها حينئذ من الصحابة والتابعين، وكانوا يتجرون فلا يصح أن يقال: إلا فلانا وفلانا. (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين) معناه: حدثنا حديثين في الأمانة وإلا فروايات حذيفة كثيرة في الصحيحين وغيرهما، قال صاحب التحرير: وعني بأحد الحديثين قوله: حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، وبالثاني قوله: ثم حدثنا عن رفع الأمانة .... إلخ، وقيل: هذان حديث واحد، ولعل الثاني في حديث عرض الفتن الآتي في الباب التالي. (فنزلت في جذر قلوب الرجال) "الجذر" بفتح الجيم وكسرها، الأصل في كل شيء، وذكر الرجال للتغليب، ونزولها في جذر قلوب الرجال كناية عن خلق الله تعالى في تلك القلوب قابلية التزام حفظها. (فعلموا من القرآن وعلموا من السنة) في رواية البخاري "علموا من السنة" والمراد من السنة ما يتلقونه عن النبي صلى الله عليه وسلم واجبا كان أو مندوبا. (ثم حدثنا عن رفع الأمانة) المراد برفع الأمانة إذهابها وحدها أو إذهاب الأمناء وقبضهم، بحيث يكون الأمين معدوما أو شبه معدوم. والأمانة ضد الخيانة، وقيل الفرائض والتكاليف، وسيأتي توضيح هذا البحث في فقه الحديث.

(ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة) بعض القبض، وذكر النوم كناية عن ذهابها في الغفلة وضعف العقيدة والإيمان، وليس المراد أنها تقبض في الليل دون النهار، وفي القاموس: قبض مبني للمجهول: مات، فشبه ذهاب الأمانة بالموت. (فيظل أثرها مثل الوكت) بفتح الواو وسكون الكاف، الأثر اليسير، وقيل: السواد اليسير، وقيل: أثر النار من السواد في اللون. وأصل "يظل" معناه يعمل بالنهار، ثم أطلق على كل وقت، وهي هنا على بابها، لأنه ذكر الحالة التي تكون بعد النومة، والمعنى: أن الأمانة تذهب حتى لا يبقى منها إلا الأثر الخفيف الذي يشبه الوكت في ظاهر البدن. (فيظل أثرها مثل المجل) بفتح الميم وسكون الجيم وفتحها. لغتان، والمشهور الإسكان، يقال: مجلت يده بكسر الجيم تمجل بفتحها مجلا بفتحها أيضا ومجلت يده بفتح الجيم تمجل بضمها مجلا بسكونها لغتان مشهورتان، والمجل: ارتفاع في الجلد يظهر في اليد من العمل بفأس أو نحوها، وفي الرجل بسبب الحذاء ونحوه، ويصير مثل القبة، ويمتلئ بالماء. (كجمر دحرجته على رجلك) أي كأثر جمر، أو كمكان جمر، ففي الكلام مضاف محذوف. (فنفط فتراه منتبرا) نفط بفتح النون وكسر الفاء: انتفخ، وانتبر الجرح وانتفط إذا ورم وامتلأ ماء، قال النووي: ولم يقل نفطت مع أن الرجل مؤنثة، إما أن يكون ذكر "نفط" إتباعا للفظ الرجل، وإما أن يكون إتباعا لمعنى الرجل، وهو العضو. اهـ. ولكننا قلنا سابقا: إن في الكلام مضافا محذوفا، تقديره: كمكان جمر دحرجته على رجلك فنفط، ففاعل نفط يعود على مكان دحرجة الجمر وليس على الرجل. قال صاحب التحرير: معنى الحديث أن الأمانة تزول عن القلوب شيئا فشيئا، فإذا زال أول جزء منها زال نورها، وخلفته ظلمة كالوكت، وهو اعتراض لون مخالف للون الذي قبله، فإذا زال شيء آخر صار كالمجل وهو أثر محكم لا يكاد يزول إلا بعد مدة، وهذه الظلمة فوق التي قبلها، ثم شبه زوال ذلك النور بعد وقوعه في القلب وخروجه بعد استقراره فيه واعتقاب الظلمة إياه بجمر يدحرجه على رجله، حتى يؤثر فيها، ثم يزول الجمر، ويبقى التنفط، وأخذه الحصى ودحرجته إياه أراد به زيادة البيان وإيضاح المذكور. (فيصبح الناس يتبايعون) أي يبيعون ويشترون. (لا يكاد أحد يؤدي الأمانة) تصوير لقلة الأمانة وندرتها، وقرب رفعها نهائيًا. (حتى يقال: إن في بني فلان أمينا) في رواية البخاري (فيقال) وهذا تصوير ثان وكناية عن ندرة الأمين. (حتى يقال للرجل ما أجلده، ما أظرفه، ما أعقله) (ما أجلده) أي ما أقواه وأصلبه،

و"ما أظرفه" أي: ما أحسن وجهه وهيئته ولسانه، و"ما أعقله" أي: ما أقوى عقله وذهنه وتفكيره وتمييزه الحسن من القبيح. (وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان) الخردل نبات له حب أسود مقرح، صغير جدا، يضرب به المثل في الصغر بين الحبوب والواحدة خردلة، وليس المقصود من حبة الخردل هنا وزنها على الحقيقة، بل المراد المبالغة في الصغر، وهل المراد من الإيمان الأمانة باعتبارها لازمة له، أو حقيقة الإيمان؟ سيأتي توضيحه في فقه الحديث. (ولقد أتى علي زمان) يقصد زمان الصدر الأول في الإسلام. (وما أبالي أيكم بايعت) من المبايعة بالخلافة، أو من البيع والشراء. التحقيق سيأتي بيانه في فقه الحديث، و"أيكم" بالنصب مفعول مقدم لبايعت، والجملة معمول "أبالي" والمعنى: كنت في هذا الزمان لوثوقي بوجود الأمانة في الناس، أقدم على مبايعة من اتفق، من غير بحث عن حاله. (لئن كان مسلما) أي لئن كان من بايعته مسلما، وأخذ حقي خطأ. (ليردنه علي دينه) أي ليرجعنه دينه وأمانته إلي بحقي، ويحول بينه وبين الخيانة. (ليردنه علي ساعيه) أي الوالي عليه، فإنه أيضا كان يقوم بالأمانة في ولايته، فيستخرج حقي منه، وأكثر ما يستعمل الساعي في ولاة الصدقة ويحتمل أن يراد به هنا الذي يتولى قبض الجزية. (وأما اليوم فما كنت لأبايع منكم إلا فلانا وفلانا) يحتمل أن يكون ذكره بهذا اللفظ، وأبهم لعدم جرح المخاطبين بما يعادل اتهامهم بالخيانة، ويحتمل أن يكون قد سمى اثنين من المشهورين بالأمانة إذ ذاك، فأبهمهما الراوي، والأول، هو الظاهر، لأنهم إنما يبهمون في الذم، أما في الوصف بالمدح فلا داعي للإبهام، ولكن إبهامه هو ليحسن كل من المخاطبين الظن بنفسه، والمعنى: لست أثق بأحد أأتمنه على بيع ولا شراء إلا فلانا وفلانا. -[فقه الحديث]- قال الله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا} [الأحزاب: 73]. قال صاحب التحرير: الأمانة المذكورة في الحديث هي الأمانة المذكورة في الآية، وهي عين الإيمان، فإن استمكنت في القلب قام بأداء ما أمر به، واجتنب ما نهي عنه.

وقال ابن التين: الأمانة كل ما يخفى ولا يعلمه إلا الله من المكلف، وعن ابن عباس: هي الفرائض التي أمروا بها ونهوا عنها، وقيل: هي الطاعة، وقيل: هي التكاليف، وقال ابن العربي: المراد بالأمانة في حديث حذيفة الإيمان، وتحقيق ذلك فيما ذكر من رفعها: أن الأعمال السيئة لا تزال تضعف الإيمان، حتى إذا ما تناهى الضعف لم يبق إلا أثر الإيمان وهو التلفظ باللسان والاعتقاد الضعيف في ظاهر القلب، وقال حذيفة هذا القول لما تغيرت الأحوال التي كان يعرفها على عهد النبوة والخليفتين فأشار إلى ذلك بالمبايعة، وكني عن الإيمان بالأمانة، وعما يخالف أحكامه بالخيانة. اهـ. فالأمانة في قول جميعهم: الطاعة والفرائض التي يتعلق بأدائها الثواب وبتضييعها العقاب. وما الأمانة في الأموال إلا جزئية من جزئيات الأمانة في معناها الشرعي العام. أما المبايعة المذكورة في الحديث فالمراد منها المبادلة بالبيع والشراء. قال النووي: حمل بعض العلماء المبايعة هنا على بيعة الخلافة وغيرها من المعاقدة والتحالف في أمور الدين. قال صاحب التحرير، والخطابي: وهذا خطأ من قائله، وفي الحديث مواضع تبطل قوله، منها قوله: "ولئن كان نصرانيًا أو يهوديًا" ومعلوم أن النصراني واليهودي لا يعاقد على شيء من أمور الدين. اهـ. وقد يشكل على حديث حذيفة أن ظاهر قوله: "وأنا أنتظر الآخر" يفيد أن الأمانة لم ترفع، وأنه ينتظر رفعها، وقوله: "أما اليوم فما كنت لأبايع إلا فلانا وفلانا" يفيد أنها قد رفعت، وفي هذا تعارض. وقد أجاب عن هذا الحافظ ابن حجر، فقال: إن آخر الحديث يدل على قلة من ينسب للأمانة بالنسبة إلى حال الأولين، فالذين أشار إليهم بقوله: "ما كنت لأبايع إلا فلانا وفلانا" هم من أهل العصر الأخير الذي أدركه، والأمانة فيهم بالنسبة إلى العصر الأول أقل، وأما الذي ينتظره، فإنه حيث تفقد الأمانة من الجميع إلا النادر. والله أعلم.

(84) باب الفتن التي تموج موج البحر

(84) باب الفتن التي تموج موج البحر 245 - عن حذيفة رضي الله عنه قال: كنا عند عمر، فقال: أيكم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الفتن؟ فقال قوم: نحن سمعناه. فقال: لعلكم تعنون فتنة الرجل في أهله وجاره؟ قالوا: أجل، قال: تلك تكفرها الصلاة والصيام والصدقة. ولكن أيكم سمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الفتن التي تموج موج البحر؟ قال حذيفة: فأسكت القوم. فقلت: أنا. قال: أنت لله أبوك! قال حذيفة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا. فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء. وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء. حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا. فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض. والآخر أسود مربادا، كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا. إلا ما أشرب من هواه". قال حذيفة: وحدثته، أن بينك وبينها بابا مغلقا يوشك أن يكسر. قال عمر: أكسرا، لا أبا لك! فلو أنه فتح لعله كان يعاد. قلت: لا بل يكسر. وحدثته، أن ذلك الباب رجل يقتل أو يموت. حديثا ليس بالأغاليط. قال أبو خالد: فقلت لسعد: يا أبا مالك! ما أسود مربادا؟ قال: شدة البياض في سواد، قال قلت: فما الكوز مجخيا؟ قال: منكوسا. 246 - عن ربعي، قال: لما قدم حذيفة من عند عمر، جلس فحدثنا. فقال: إن أمير المؤمنين أمس لما جلست إليه سأل أصحابه: أيكم يحفظ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتن؟ وساق الحديث بمثل حديث أبي خالد. ولم يذكر تفسير أبي مالك لقوله "مربادا مجخيا". 247 - عن حذيفة رضي الله عنه أن عمر قال: من يحدثنا، أو قال: أيكم يحدثنا (وفيهم حذيفة) ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ قال حذيفة: أنا. وساق الحديث كنحو حديث أبي مالك عن ربعي. وقال في الحديث: قال حذيفة: حدثته حديثا ليس بالأغاليط. وقال: يعني أنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

-[المعنى العام]- صورة رائعة لمجالس الحكام والأمراء، صورة خالية من الغيبة والنميمة والوشاية والإيقاع بالناس، صورة يجتمع فيها الملك والدين والوعظ وملائكة الرحمة، صورة يفتتحها الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بسؤال رعيته عما يحفظون من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتن، وصورة يجيب الصحابة فيها بما يعلمون، يجيبون بفتنة الرجل وامتحانه في زوجه وولده وماله وجاره، فيقول عمر: لست عن هذه أسأل، ليس هذا أريد، لم أسأل عن فتنة الخاصة، ولكن عن التي تموج كموج البحر، فسكت الحاضرون، حيث لم يكونوا يحفظون. قال حذيفة: أنا يا أمير المؤمنين، أحفظها كما قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له عمر: أنت تحفظها يا حذيفة؟ حسنا. لله أبوك، هات إنك على ذكرها لجريء. قال حذيفة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تعرض الفتن على القلوب فتنة فتنة، كما يعرض ناسج الحصير على الخيط عودا عودا، فكل قلب يقبلها ينقط فيه نقطة سوداء، حتى يتحول نوره إلى ظلام، وحتى يطبع عليه الران، وحتى يغلق عن سماع الخير والمعروف، وحتى ينصرف إلى الشر والهوى، وحتى يندفع في تيار الإيذاء وسفك الدماء. وكل قلب ينكرها يزداد نورا على نور، وإيمانا فوق إيمان، حتى يصبح الناس أمام الفتنة أحد رجلين، رجل قلبه بياض ناصع، لا يقبل الدخن، كالحجر الأملس الذي لا يقبل الشر، ورجل قلبه أسود لا يبصر ولا يعقل، فرفع عمر يديه، وقال: اللهم لا تدركني، فقال حذيفة: لا تخف لا بأس عليك منها يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها بابا مغلقا، يوشك أن يكسر، قال عمر: لا أب لك يا حذيفة، يكسر أو يفتح؟ قال: لا يفتح، بل يكسر. قال: أكسرا؟ قال: نعم. قال: إذا كسر لم يغلق، لو أنه فتح لعله كان يعاد. قال: يكسر ولا يغلق إلى يوم القيامة. ثم قال حذيفة: يا أمير المؤمنين، إن هذا الباب الذي بينك وبينها رجل يقتل أو يموت وكان عمر رضي الله عنه يعلم أنه هو الباب علما مؤكدا، كما يعلم أن بعد النهار ليلا فاستعاذ من الفتنة. نعوذ بالله منها، ونسأله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة رب العالمين. -[المباحث العربية]- (يذكر الفتن) قال أهل اللغة: أصل الفتنة في كلام العرب الابتلاء والامتحان والاختبار، قال الراغب: أصل الفتن إدخال الذهب في النار لتظهر جودته من رداءته ويستعمل في إدخال الإنسان النار، ويطلق على العذاب، كقوله: {ذوقوا فتنتكم} [الذاريات: 14]، وعلى الاختبار كقوله: {وفتناك فتونا} [طه: 40] وفيما يدفع إليه الإنسان من شدة ورخاء، وفي الشدة أظهر معنى، وأكثر استعمالا، قال تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} [الأنبياء: 35] ومنه قوله: {وإن كادوا ليفتنونك} [الإسراء: 73] أي يوقعونك

في بلية وشدة في صرفك عن العمل بما أوحي إليك، وقال غيره: أصل الفتنة الاختبار، ثم استعملت فيما أخرجته المحنة والاختبار إلى المكروه، ثم أطلقت على كل مكروه، أو آيل إليه، كالكفر والإثم والتحريق والفضيحة والفجور وغير ذلك. (لعلكم تعنون) بفتح التاء، أي تريدون وتقصدون. (فتنة الرجل في أهله وجاره) فتنة الرجل في أهله وماله وولده ضروب من فرط محبته لهم، وشحه عليهم، وانشغاله بهم عن كثير من الخير، كما قال تعالى: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} [الأنفال: 28] أو لتفريطه في ما يلزم من القيام بحقوقهم وتأديبهم وتعليمهم، فإنه راع لهم ومسئول عن رعيته، وكذلك فتنة الرجل في جاره من هذا القبيل. وذكر "الرجل" لأنه الغالب، وصاحب الحكم في داره وأهله وإلا فالنساء شقائق الرجال في الحكم. (قالوا: أجل) حرف جواب مثل نعم، وعن الأخفش: هي بعد الخبر أحسن من نعم. (التي تموج موج البحر) أي تضطرب، ويرفع بعضها بعضا، وشبهها بموج البحر لشدة عظمها، وكثرة شيوعها، قال الحافظ ابن حجر: كني بذلك عن شدة المخاصمة وكثرة المنازعة، وما ينشأ عن ذلك من المشاتمة والمقاتلة. (فأسكت القوم) "أسكت" بهمزة قطع، كذا هو في الأصول قال جمهور أهل اللغة: سكت وأسكت لغتان بمعنى صمت، وقال الأصمعي: سكت صمت وأسكت أطرق. وإنما سكت القوم لأنهم لم يكونوا يحفظون هذا النوع من الفتنة، بل حفظوا النوع الأول. (فقلت: أنا) في رواية البخاري: قلت: "أنا كما قاله" أي أحفظه كما قاله، وفي رواية أخرى للبخاري "أنا أحفظه كما قال". (قال: أنت؟ لله أبوك) كلمة مدح تعتاد العرب الثناء بها، فإن الإضافة إلى العظيم تشريف كبيت الله وناقة الله. قال صاحب التحرير: إذا وجد من الولد ما يحمد قيل: لله أبوك حيث أتى بمثلك، وفي رواية البخاري "هات إنك لجريء" وفي رواية أخرى "إنك عليه [أي على الرسول صلى الله عليه وسلم] أو عليها [على المقالة] لجريء، فكيف قال؟ ". (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا) اختلف في ضبط "عودا عودا" على ثلاثة أوجه: بضم العين وبالدال، وهو أظهرها وأشهرها، وبفتح العين وسكون الواو مع دال في آخره، أي تعاد وتكرر شيئا بعد شيء، وبفتح العين وسكون الواو مع ذال معجمة بدل الدال، ومعناه سؤال الاستعاذة منها، كما يقال غفرانا غفرانا، أي نسألك أن تعيذنا من ذلك، ومعنى تعرض تلصق بعرض القلوب، أي جانبها كما يلصق الحصير بجنب النائم، ويؤثر شدة التصاقها به، وقال بعضهم: معناه:

تظهر على القلوب، أي تظهر على القلوب فتنة بعد أخرى، كما ينسج الحصير عودا عودا، وشظية بعد أخرى، وذلك أن ناسج الحصير عند العرب كلما صنع عودا أخذ آخر ونسجه. (فأي قلب أشربها) أي دخلت فيه دخولا تاما وألزمها، وحلت منه محل الشراب، ومنه قوله تعالى: {وأشربوا في قلوبهم العجل} [البقرة: 93] أي حب العجل، ومنه قولهم ثوب مشرب بحمرة، أي خالطته الحمرة مخالطة لا انفكاك لها. (نكت فيه نكتة سوداء) أي نقط فيه نقطة، قال ابن دريد وغيره: كل نقطة في شيء بخلاف لونه فهو نكت. (وأي قلب أنكرها) أي ردها ولم يقبلها. (حتى تصير على قلبين) أي حتى تكون الفتنة أمام نوعين من القلوب. (على أبيض مثل الصفا) "الصفا" الحجر الأملس الذي لا يعلق به شيء و (أبيض) صفة لموصوف محذوف و"مثل الصفا" صفة أخرى للموصوف المحذوف، وليس صفة لأبيض، والتقدير: على قلب أبيض على قلب مثل الصفا، فشبه شدة القلب على عقد الإيمان وسلامته من الخلل وأن الفتن لا تلصق به ولا تؤثر فيه بالحجر الأملس الذي لا يعلق به شيء. (والآخر أسود مربادا) منصوب على الحال من الضمير في "أسود" وهو بتشديد الدال، وروي "مربئد" بتشديد الدال أيضا، مع الرفع على الوصف، والمربد الذي يجمع بين شبه البياض مع السواد، أي هو ما فيه شيء من بياض يسير يخالط السواد، وقيل: مربد لون بين السواد والغبرة، وقيل: أن يختلط السواد بكدرة. (كالكوز مجخيا) "الكوز" إناء له يد يغرف به الماء "مجخيا" بضم الميم وفتح الجيم وتشديد الخاء المكسورة، أي مائلا منكوسا مقلوبا. فوصف القلب الآخر بوصفين، بالسواد مع الغبرة، وشبهه بالكوز المنكوس، فكما أن الكوز المنكوس لا يعلق به ماء كذلك هذا القلب لا يعلق به خير ولا حكمة، كما قال: (لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا) صفة ثالثة للقلب، أي لا ينصاع إلى معروف ولا يرفض منكرا. (إلا ما أشرب من هواه) استثناء منقطع، أي لكن يتبع هواه الذي تمكن منه. (قال حذيفة: وحدثته) أي وحدثت عمر رضي الله عنه. (أن بينك وبينها بابا مغلقا) أي بينك وبين الفتن المذكورة بابا مغلقا، وأنه لا يخرج منها شيء في حياتك، وفي رواية البخاري "ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها بابا

مغلقا" وكأنه مثل الفتن بدار ومثل حياة عمر بباب مغلق لها، ومثل موته بفتح ذلك الباب، فما دامت حياة عمر موجودة فالباب مغلق، لا يخرج شيء مما هو داخل تلك الدار، فإذا مات انفتح ذلك فخرج ما في الدار. (يوشك أن يكسر) "يوشك" بضم الياء وكسر الشين، ومعناه يقرب. (أكسرا؟ لا أبا لك) "كسرا" مفعول مطلق لفعل محذوف، أي أيكسر كسرا؟ و"لا أبا لك" كلمة تذكرها العرب للحث على الشيء ومعناها أن الإنسان إذا كان له أب وحزبه أمر، ووقع في شدة عاونه أبوه، ودفع عنه بعض الشدة، فلا يحتاج من الجد والاهتمام إلى ما يحتاج إليه حالة الانفراد وعدم الأب المعاون، فإذا قيل: لا أب لك. فمعناه جد في هذا الأمر وشمر وتأهب تأهب من ليس له معاون. (فلو أنه فتح لعله كان يعاد) فإن المكسور لا يمكن إعادته، بخلاف المفتوح، ولأن الكسر لا يكون غالبا إلا عن إكراه وغلبة وخلاف عادة، وفي رواية البخاري "إذن لا يغلق أبدا" وفي رواية أخرى له "ذلك أحرى ألا يغلق" وفي أخرى "ذاك أجدر ألا يغلق إلى يوم القيامة". (قلت: لا، بل يكسر) أي قلت: لا يفتح، بل يكسر. (وحدثته أن ذلك الباب رجل) جاء هذا الرجل مبينا في رواية البخاري وأنه عمر رضي الله عنه، فإن قيل: كيف يفسر الباب بعمر مع أنه قال قبل: "إن بينك وبينها بابا"؟ قلنا إن المراد أن بين الفتنة وبين حياة عمر بابا هو موته، فالباب موت عمر، وهو بين حياة عمر وبين الفتنة، ففي الكلام مضاف محذوف، أي ذلك الباب قتل أو موت رجل. (يقتل أو يموت) على الشك من حذيفة، أو أن حذيفة سمعه كذلك من النبي صلى الله عليه وسلم وسيأتي مزيد بحث له في فقه الحديث. (حديثا ليس بالأغاليط) "حديثا" مفعول مطلق لحدثته، والأغاليط جمع أغلوطة، وهي التي يغالط بها، والمعنى: حدثته حديثا صدقا محققا، ليس هو من صحف الكتابيين، ولا عن اجتهاد ذي رأي، بل من حديث النبي صلى الله عليه وسلم. (لما قدم حذيفة من عند عمر) أي لما قدم حذيفة من المدينة إلى الكوفة. (إن أمير المؤمنين أمس) المراد بأمس - هنا - الزمان الماضي، لا أمس يومه، أي ليس اليوم الذي يليه يوم تحديثه، وأكثر العرب يبني (أمس) على الكسر معرفة، ومنهم من يعربه معرفة، وكلهم يعربه إذا دخلت عليه الألف واللام، أو صيره نكرة، أو أضافه. (أيكم يحدثنا ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) "ما" موصولة مفعول (يحدثنا) والعائد محذوف أي يحدثنا الذي قاله، ويصح أن تكون مصدرية، والتقدير يحدثنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم.

-[فقه الحديث]- قال الزين بن المنير: والفتنة بالأهل تقع بالميل إليهن، أو عليهن، في القسمة والإيثار حتى في أولادهن، ومن جهة التفريط في الحقوق الواجبة لهن، وبالمال يقع الاشتغال به عن العبادة، أو بحبسه عن إخراج حق الله تعالى، والفتنة بالأولاد: تقع بالميل الطبيعي إلى الولد وإيثاره على كل أحد، والفتنة بالجار: تقع بالحسد والمغامرة، والمزاحمة في الحقوق، وإهمال التعاهد، ثم قال: وأسباب الفتنة بمن ذكر غير منحصرة فيما ذكرت من الأمثلة. وقال الحافظ ابن حجر: فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكون بالالتهاء بهم أو أن يأتي لأجلهم بما لا يحل له، أو يخل بما يجب عليه. ثم حكى إشكال ابن أبي جمرة على هذا، وحاصله، أن تكفير المحرمات والإخلال بالواجبات بالصلاة والصدقة مشكل، لأن الطاعات لا تسقط ذلك، وإن أريد تكفير الوقوع في المكروه والإخلال بالمستحب فلا يتناسب مع إطلاق التكفير. ثم أجاب عن هذا الإشكال بالتزام الشق الأول، وأن الممتنع من تكفير الحرام والواجب ما كان كبيرة فهي التي فيها النزاع والخلاف، وأما الصغائر فلا نزاع أنها تكفر لقوله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} [النساء: 31] الآية. اهـ. وقال: واحتج المرجئة بظاهر الحديث على أن أفعال الخير مكفرة للكبائر والصغائر، وحمله جمهور أهل السنة على الصغائر، عملا بحمل المطلق على المقيد. اهـ. ونحن نميل إلى هذا الرأي، وإن كان الكلام في تحديد الصغائر من المحرمات والكبائر منها غير منضبط. وقال بعض الشراح: يحتمل أن تكون كل واحدة من الصلاة والصيام والصدقة مكفرة للمذكورات كلها، لا لكل واحدة منها، ويحتمل أن يكون من باب اللف والنشر، بأن تكون الصلاة مثلا مكفرة للفتنة في الأهل والصوم في الولد .... إلخ. والاحتمال الثاني ضعيف لا يعتد به، نعم قد تستقل الصلاة بتكفير ما ذكر، ويكون الصوم والصدقة ونحوها لرفع الدرجات وزيادة الحسنات إذا لم تجد من الصغائر ما تكفرها. ثم إن المكفرات لا تختص بما ذكر، بل تعم العبادات، وإنما خصها بالذكر إشارة إلى عظم قدرها، وتنبيها بها على غيرها، فذكر من عبادة الأعمال الصلاة والصيام، ومن عبادة المال الصدقة، ومن عبادة الأقوال [في رواية البخاري] الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثم إن التكفير لا يختص بفتنة الرجل في أهله وجاره وماله [الوارد في رواية البخاري] بل نبه بها أيضا على ما عداها، والضابط أن كل ما يشغل صاحبه عن الله فهو فتنة له.

ثم إن التكفير المذكور يحتمل أن يقع بنفس فعل الحسنات، ويحتمل أن يقع بالموازنة. والله أعلم. والظاهر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يعلم ما يعلمه حذيفة عن الفتنة، وإنما أراد أن يسمعه، وأن يسمعه الصحابة ليحذروه، يدل على ذلك ما رواه البخاري من أن حذيفة سئل: أكان عمر يعلم الباب؟ قال: نعم، كما يعلم أن دون غد الليلة. أي أن ليلة غد أقرب إلى اليوم من غد. وقد روى الطبراني: "أن أبا ذر لقي عمر، فأخذ عمر بيده فغمزها، فقال له أبو ذر: أرسل يدي يا قفل الفتنة" وفيه "أن أبا ذر قال: لا تصيبكم فتنة ما دام فيكم" وأشار إلى عمر. وروى البزار عن عثمان بن مظعون أنه قال لعمر: "يا غلق الفتنة" فسأله عن ذلك، فقال: مررت ونحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "هذا غلق الفتنة، لا يزال بينكم وبين الفتنة باب شديد الغلق ما عاش". وقال ابن بطال: إنما علم عمر أنه الباب لأنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم على حراء، وأبو بكر وعثمان، فرجف، فقال: "اثبت فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان" أو فهم ذلك من قول حذيفة إنه يكسر. اهـ. والظاهر أن ابن بطال إنما أراد الاستدلال على أن عمر كان يعلم أنه سيموت شهيدا مقتولا، لأن ما ذكره ينتج ذلك ولا ينتج أنه الباب. ولهذا قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر أن عمر علم الباب بالنص كما تقدم عن أبي ذر وعن عثمان بن مظعون. فإن قيل: هل كان حذيفة يعلم أن عمر سيقتل؟ قلنا: الظاهر نعم فقد قال ابن المنير: آثر حذيفة الحرص على حفظ السر، ولم يصرح لعمر وإنما كنى كناية، وكأنه كان مأذونًا له في ذلك. وقال النووي: يحتمل أن يكون حذيفة علم أن عمر يقتل، ولكنه كره أن يخاطبه بالقتل، لأن عمر كان يعلم أنه الباب، فأتى بعبارة يحصل بها المقصود بغير تصريح بالقتل. اهـ. فإن قيل: إذا كان عمر قد علم ذلك، فهل شك فيه حتى سأل عنه؟ قلنا: يحتمل أنه شك فيه من شدة الخوف، أو خشي أن يكون نسي، فطلب التذكير أو لم يشك، وسأل ليعلم الحاضرين، وهذا هو الظاهر. فإن قيل: ألم يكن أحد من الصحابة يحفظ حديث الفتنة غير حذيفة؟ قلنا: لعل من سمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم من الصحابة ماتوا قبله. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - جواز إطلاق اللفظ العام وإرادة الخاص، إذ تبين أن عمر لم يسأل إلا عن فتنة مخصوصة. 2 - أن الأهل والأولاد والأموال والجار فتنة موقعة في الذنوب.

3 - أن هذه الفتنة ونحوها تكفرها الصلاة والصوم والصدقة والعبادات. 4 - فيه علم من أعلام النبوة، فقد أخبر صلى الله عليه وسلم بالفتنة الكبرى، ووقع ما أخبر به. 5 - أن هذه الفتنة الكبرى إذا وقعت ظل باب الشر مفتوحا بين المسلمين، ووقع بأسهم بينهم، ففي بعض الروايات (قال حذيفة: كسر ثم لا يغلق إلى يوم القيامة). 6 - تذاكر الولاة مع العلماء أمور دينهم للتبصير بالعواقب وأخذ الحذر والحيطة. والله أعلم

(85) باب بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا

(85) باب بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا 248 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ غريبا فطوبى للغرباء" 249 - عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ. وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها". 250 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها". -[المعنى العام]- كم أوذي الصحابة بسبب إسلامهم، وكم كان المتمسك بدينه كالقابض على الجمر، وكم كان الذين كفروا من الذين آمنوا يضحكون، وإذا مروا بهم يتغامزون، وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين. بدأ الإسلام هكذا غريبا بين المشركين، وهو اليوم يعود غريبا بين أهله المسلمين، أصبح المحافظ على إسلامه في نظر المجتمع متأخرا جامدا، وأصبحت شعائر الإسلام غريبة في مجتمع المسلمين، وأصبح المنكر معروفا، والمعروف منكرا، ولم يعد بينهم أمر بالمعروف أو نهي عن المنكر، بل أمر بالمنكر ونهي عن المعروف في بلاد دينهم الرسمي الإسلام، وأشخاص يسمون بأحمد ومحمد، فأي غربة للإسلام أشد من هذه الغربة؟ وأي عزلة لتعاليمه فوق هذه العزلة؟ فطوبى لمن تمسك بدينه في هذا الوسط المنحرف، وحسن مآب لمن عدوا بسبب إسلامهم من الغرباء، وهنيئا لهم تشوفهم إلى الحرمين الشريفين اللذين تهفو إليهما نفوس المؤمنين، وتهوى إليهما أفئدة العابدين، نعم ففيهما ترتوي النفوس الظامئة، وترتاح الأفئدة القلقة المضطربة، وتسر القلوب الحزينة، وترتع في رياضها - رياض الجنة - الأرواح المقيدة المكبوتة، فاللهم يسرها لنا، ويسرنا لها، واجعلنا من الغرباء.

-[المباحث العربية]- (بدأ الإسلام غريبا) قال القرطبي: "بدأ" بدون همز لازم، وبالهمز متعد، ومنه "يبدأ الله الخلق" والرواية في الحديث بالهمز لا غير، مع أنه لم يذكر له مفعول، إذ "غريبا" حال فيضمن معنى "طرأ" وأنكر بعضهم همزه، وقال إنما هو "بدا" بمعنى ظهر و"الغريب" هو النازح من وطنه إلى مكان جديد ليس وطنا له، وسيأتي شرحه في هذا الحديث. (فطوبى للغرباء) فعلى من الطيب. قاله الفراء، وقال: إنما جاءت الواو لضمة الطاء. قال: وفيها لغتان، تقول العرب: طوباك وطوبى لك، والأخيرة جاء بها القرآن قال تعالى: {طوبى لهم وحسن مآب} [الرعد: 29] وفي معناها قيل: طيب العيش، وقيل: فرح وقرة عين، وقيل: نعم ما لهم، وقيل: غبطة لهم، وقيل: حسنى لهم، وقيل: أصابوا خيرا، وقيل: خير لهم وكرامة، وقيل: دوام الخير، وقيل: الجنة. وكل هذه الأقوال قريبة، ومحتملة في الحديث. (كما بدأ) الكاف صفة لمصدر محذوف، و"ما" موصولة أو مصدرية والتقدير: وسيعود عودا شبيها بالبدء الذي بدأه. (وهو يأرز بين المسجدين) "يأرز" بياء ثم همزة ثم راء مثلثة والأفصح كسرها ثم زاي، ومعناه ينضم ويجتمع، والمراد من المسجدين مسجد مكة ومسجد المدينة. (كما تأرز الحية إلى جحرها) أي كما تنتشر الحية من جحرها في طلب ما تعيش به، فإذا راعها شيء رجعت إلى جحرها، وانكمشت فيه. -[فقه الحديث]- نقل القاضي عياض عن مالك أن الحديث خاص بالمدينة المنورة، فقال: إن معناه في المدينة، وأن الإسلام بدأ بها غريبا، وسيعود إليها، قال القاضي: وظاهر الحديث العموم وأن الإسلام بدأ في آحاد من الناس وقلة، ثم انتشر وظهر، ثم يلحقه النقص والإخلال حتى لا يبقى إلا في آحاد وقلة أيضا كما بدأ. ثم قال القاضي عياض: ومعنى أنه يأرز إلى المدينة أن الإيمان أولا وآخرا بهذه الصفة، لأنه في أول الإسلام كان كل من خلص إيمانه وصح إسلامه أتى المدينة، إما مهاجرا مستوطنا وإما متشوقا إلى رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم ومتعلما منه ومتقربا، ثم بعده هكذا في زمن الخلفاء كذلك، ولأخذ سيرة العدل منهم، والاقتداء بجمهور الصحابة رضوان الله عليهم فيها، ثم من بعدهم من العلماء الذين كانوا سرج الوقت وأئمة الهدى لأخذ المنن المنتشرة بها عنهم، فكان كل ثابت الإيمان، منشرح الصدر به يرحل إليها، ثم بعد ذلك في كل وقت إلى زماننا لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم والتبرك بمشاهدة آثاره وآثار أصحابه الكرام، فلا يأتيها إلا مؤمن. هذا كلام القاضي.

ونحن مع القاضي في تفسير أرز الإسلام إلى المدينة، ولكن تفسيره عود الإسلام غريبا بما فسره - كما فسره بذلك غيره - لا يتفق وما نرى من انتشار الإسلام، وزيادة عدد المسلمين ودخول الناس في الإسلام بين الحين والحين، ونحن في آخر الزمان. فالأولى تفسيره بأن الإسلام بدأ غريبا في نفوس الناس وسيعود غريبا في نفوسهم وإن كثر عدد من ينتسبون إليه. والله أعلم. وقد أخذ القرطبي من قوله: "إن الإيمان ليأرز إلى المدينة" دليلا على مذهب أهل المدينة، وسلامتهم من البدع، وأن عملهم حجة كما رواه مالك. ورد عليه الحافظ ابن حجر بأن هذا إن سلم اختص بعصر النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، وأما بعد ظهور الفتن وانتشار الصحابة في البلاد، ولا سيما في أواخر المائة الثانية وهلم جرا فهو بالمشاهدة بخلاف ذلك. والله أعلم

(86) باب ذهاب الإيمان آخر الزمان

(86) باب ذهاب الإيمان آخر الزمان 251 - عن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله، الله". 252 - عن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة على أحد يقول: الله، الله". -[المعنى العام]- علم من أعلام النبوة، وإخبار بالغيب أوحى الله به إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ليحذرنا من الشر ويبصرنا بعواقب الأمور، إن الإسلام سيضعف نوره في البشرية شيئا فشيئا، ويضمحل أثره في النفوس زمانا بعد زمان، حتى لا يبقى منه إلا اسمه، وحتى يقبض الله المؤمنين إيمانا صادقا، إلا حثالة معدودة في المسلمين، وليس لها من حقيقة الإسلام شيء، تتمسك بالاسم وهي بعيدة عن المسمى، وتقرأ القرآن لا يجاوز حناجرهم، وتدعي الإيمان ولا أثر له في قلوبهم، لا يؤمنون بحق، ولا يقولون: ربنا الله، بصدق، أولئك شرار الخلق، وعليهم تقوم الساعة. فاللهم اقبضنا غير مفرطين ولا مضيعين، ونعوذ بك اللهم من هذا الزمان، ونسألك العفو والإحسان، إنك على كل شيء قدير. -[المباحث العربية]- (على أحد يقول: الله، الله) هو برفع اسم الله تعالى، فلفظ الجلالة الأول مبتدأ والثاني خبر، والتقدير: الله الإله المعبود بحق، وضبطه بعضهم بالنصب على التحذير بفعل لا يظهر لنيابة التكرار عنه، والروايات كلها متفقة على تكرير اسم الله تعالى في الروايتين، وجاء في رواية "يقول: لا إله إلا الله". -[فقه الحديث]- في معنى هذا الحديث جاء في الصحيح: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس" وفي مسلم "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا

يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن) وفيه (يبعث الله ريحا طيبة، فتوفي كل من في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه) وفيه أيضا (فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحا طيبة، فتأخذهم تحت آباطهم، فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم ويبقى شرار الناس، يتهرجون فيها تهارج الحمر (أي يفحش الرجال بالنساء بحضرة الناس، كما يفعل الحمير) فعليهم تقوم الساعة" وفي البخاري: "لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه حتى تلقون ربكم" وفيه "يذهب الصالحون الأول فالأول، ويبقى حفالة كحفالة الشعير أو التمر (أي ما يتساقط من قشور الشعير والتمر) لا يبالهم الله باله" وفي بعض الروايات: "تذهبون الخير فالخير، حتى لا يبقى منكم إلا حثالة كحثالة التمر ينزو بعضهم على بعض نزو المعز، على أولئك تقوم الساعة" وفي البخاري: "من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء". وقد تقدم قبل ثمانية عشر حديثا أن شرحنا ما رواه مسلم: "إن الله يبعث ريحا من اليمن ألين من الحرير فلا تدع أحدا في قلبه مثقال حبة من إيمان إلا قبضته". وقلنا: إنه وأمثاله لا يتعارض مع ما جاء في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق إلى يوم القيامة" لأن معناه أنهم لا يزالون على الحق حتى تقبضهم الريح اللينة قبل يوم القيامة، فقوله في الحديث: "إلى يوم القيامة" معناه إلى أوائل ومقدمات يوم القيامة. قال الحافظ ابن حجر: ووجدت في هذا مناظرة: أخرج الحاكم أن عبد الله بن عمرو قال: لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، هم شر من أهل الجاهلية، فقال عقبة بن عامر: عبد الله أعلم بما يقول، وأما أنا فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله، ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك" فقال عبد الله: أجل "ويبعث الله ريحا، ريحها المسك، ومسها مس الحرير، فلا تترك أحدا في قلبه مثقال حبة من إيمان إلا قبضته، ثم يبقى شرار الناس فعليهم تقوم الساعة". قال الحافظ ابن حجر: فعلى هذا فالمراد من قوله في حديث عقبة "حتى تأتيهم الساعة" ساعتهم هم، وهي وقت موتهم بهبوب الريح. والله أعلم

(87) باب الاستسرار بالإيمان للخائف

(87) باب الاستسرار بالإيمان للخائف 253 - عن حذيفة رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أحصوا لي كم يلفظ الإسلام" قال، فقلنا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أتخاف علينا ونحن ما بين الستمائة إلى السبعمائة؟ قال: "إنكم لا تدرون لعلكم أن تبتلوا" قال: فابتلينا. حتى جعل الرجل منا لا يصلي إلا سرا. -[المعنى العام]- عند الاستعداد لإحدى الغزوات قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: اكتبوا لي وأحصوا عدد المسلمين، فأحصوا له فكان المسلمون بين ستمائة وسبعمائة رجل، وشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزهو والإعجاب من الصحابة لكثرة عددهم، فأظهر لهم الخوف عليهم، والشفقة عليهم. فقالوا: أتخاف علينا يا رسول الله وقد كثر عددنا؟ وقويت شوكتنا؟ وقد نصرنا الله ونحن في قلة وضعف؟ فبين لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الكثرة قد لا تغني عند البلاء، وأنهم سيمتحنون امتحانًا تنهار أمامه قوتهم، وتصير عنده هباء كثرتهم. فوقع لهم ما أخبرهم به صلى الله عليه وسلم، وابتلوا بالفتن التي تموج موج البحر، وامتحنوا في دينهم حتى كان الرجل يخفي صلاته عن الآخرين ويصلي سرا خوفا وفرقا. لقد نبههم صلى الله عليه وسلم ليأخذوا حذرهم، وأخبرهم بما خافه شفقة عليهم، وصدق الله العظيم حيث قال فيه: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128] صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. -[المباحث العربية]- (أحصوا لي) معناه عدوا، وقد جاء في رواية البخاري "اكتبوا لي". (كم يلفظ الإسلام) معناه كم عدد من يتلفظ بكلمة الإسلام؟ و"كم" استفهامية ومفسرها محذوف، وتقديره: كم شخصا، و"يلفظ" فعل لازم، ونصب "الإسلام" على نزع الخافض، والأصل يلفظ بالإسلام، والجملة في محل النصب مفعول "أحصوا". وفي بعض الأصول "تلفظ" بالتاء بدل

الياء، وبالفعل الماضي بدل المضارع، وفي رواية للبخاري: "اكتبوا من يلفظ بالإسلام" (من) مفعول (اكتبوا) وفي رواية النسائي: "أحصوا لي من كان يلفظ بالإسلام" وفي رواية: "أحصوا كل من تلفظ بالإسلام" (أتخاف علينا) استفهام تعجب. وفي رواية بحذف الهمزة مع إرادة الاستفهام أيضا. (ونحن ما بين الستمائة والسبعمائة) الجملة في محل النصب على الحال من ضمير "علينا" ولفظا "الستمائة والسبعمائة" وقعا بالألف واللام فيهما في رواية مسلم، مع أن الألف واللام تحذف من المضاف في الإضافة المحضة، كما هنا، وفي توجيهه قيل. إن لفظ "مائة" في الموضعين منصوب على التمييز على قول بعض النحاة، وقيل: إن "مائة" مجرورة بالإضافة والألف واللام زائدتان فلا اعتداد بدخولهما. ووقع في غير مسلم "ستمائة إلى سبعمائة" بدون أل، ولا إشكال فيه. (لعلكم أن تبتلوا) "لعل" للاستفهام على رأي الكوفيين، وعلق بها الفعل "تدرون" فجملتها في محل النصب مفعول "تدرون" ويفهم من معناها هنا الإشفاق. (قال: فابتلينا) أي قال حذيفة الراوي: فوقع لنا الابتلاء. -[فقه الحديث]- تضاربت روايات هذا الحديث في عدد الصحابة تضاربا بينا مع اتحاد المخرج، ففي البخاري: "فقلنا: تخاف ونحن ألف وخمسمائة؟ " وفي رواية له "فوجدناهم خمسمائة". قال النووي: قد يقال: وجه الجمع بين هذه الألفاظ أن يكون قولهم "ألف وخمسمائة" المراد به النساء والصبيان والرجال، ويكون المراد من قولهم "ما بين ستمائة إلى سبعمائة" الرجال خاصة، ويكون المراد برواية "خمسمائة" المقاتلين. ثم قال النووي: وهذا الجواب باطل برواية البخاري في آخر كتاب السير في "باب كتابة الإمام الناس" قال فيها: "فكتبنا له ألفا وخمسمائة رجل" والجواب الصحيح - إن شاء الله تعالى - أن يقال: لعلهم أرادوا بقولهم "ما بين الستمائة إلى السبعمائة" رجال المدينة خاصة، وبقولهم: "فكتبنا له ألفا وخمسمائة" هم من المسلمين حولهم. اهـ. وقد سلك الداودي الشارح طريقا آخر للجمع فقال: لعلهم كتبوا مرات في مواطن. اهـ. وكان الحافظ ابن حجر قد توقف عن الجمع، ولم يرتض ما ذكر، إذ قال: ويخدش في وجوه هذه الاحتمالات كلها اتحاد مخرج الحديث. اهـ. والمحقق يرى أن اتحاد المخرج لا يمنع التعدد، فقد يكون حذيفة من الذين حضروا الكتابة مرات، فحدث بما حدث في كل مرة، وقد يكون قد سمع البعض يقول: ألف وخمسمائة، قاصدا ما قصده، والبعض يقول: خمسمائة قاصدا ما قصد، والبعض يقول: ما بين الستمائة والسبعمائة، قاصدا ما قصد، فحدث بما سمع. والله أعلم.

أما متى وقع ذلك؟ فقد قال الحافظ ابن حجر: كأن ذلك وقع عند ترقب ما يخاف منه، ولعله كان عند خروجهم إلى أحد أو غيرها، ثم رأيت في شرح ابن التين الجزم بأن ذلك كان عند حفر الخندق، وحكى الداودي احتمال أن ذلك وقع لما كانوا بالحديبية لأنه قد اختلف في عددهم هل كانوا ألفا وخمسمائة؟ أو ألفا وأربعمائة؟ أو غير ذلك؟ وأما متى كان هذا الابتلاء؟ وما سببه؟ فقد قيل: لعله كان حين أتم عثمان الصلاة في السفر، وكان بعضهم يقصر سرا وحده خشية الإنكار عليه، وقيل: كان أيام قتل عثمان ورده الحافظ ابن حجر: بأن حذيفة لم يحضر ذلك، وقيل: يشبه أن يكون أشار بذلك إلى ما وقع في أواخر خلافة عثمان، من ولاية بعض أمراء الكوفة، كالوليد بن عقبة، حيث كان يؤخر الصلاة، أو لا يقيمها على وجهها، وكان بعض الورعين يصلي وحده سرا، ثم يصلي معه، خشية من وقوع الفتنة. وقال النووي: لعله كان في بعض الفتن التي جرت بعد النبي صلى الله عليه وسلم فكان بعضهم يخفي نفسه ويصلي سرا، مخافة من الظهور والمشاركة في الدخول في الفتنة والحروب. والله أعلم. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - جواز الاستسرار بالإيمان والأعمال الصالحة للخائف. 2 - مشروعية كتابة دواوين الجيوش، وقد يتعين ذلك عند الاحتياج إلى تمييز من يصلح للمقاتلة ممن لا يصلح. 3 - وفيه وقوع العقوبة على الإعجاب بالكثرة. وهو نحو قوله تعالى: {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا} [التوبة: 25] قاله الحافظ ابن حجر. وقال ابن المنير: موضع الترجمة من الفقه ألا يتخيل أن كتابة الجيش وإحصاء عدده يكون ذريعة لارتفاع البركة، بل الكتابة المأمور بها لمصلحة دينية، والمؤاخذة التي وقعت في حنين كانت من جهة الإعجاب. 4 - وفيه علم من أعلام النبوة، إذ أخبر صلى الله عليه وسلم بما سيقع فوقع كما أخبر به، قال الحافظ ابن حجر: بل وقع أشد من ذلك بعد حذيفة في زمن الحجاج وغيره. والله أعلم

(88) باب تأليف ضعيف الإيمان

(88) باب تأليف ضعيف الإيمان 254 - عن عامر بن سعد عن أبيه رضي الله عنه قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسما. فقلت: يا رسول الله، أعط فلانا فإنه مؤمن. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أو مسلم" أقولها ثلاثا. ويرددها علي ثلاثا "أو مسلم" ثم قال: "إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه، مخافة أن يكبه الله في النار". 255 - عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه سعد رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى رهطا، وسعد جالس فيهم، قال سعد: فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم من لم يعطه. وهو أعجبهم إلي. فقلت: يا رسول الله، ما لك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو مسلما" قال: فسكت قليلا، ثم غلبني ما أعلم منه، فقلت: يا رسول الله، ما لك عن فلان، فوالله إني لأراه مؤمنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو مسلما" قال: فسكت قليلا، ثم غلبني ما علمت منه. فقلت: يا رسول الله، ما لك عن فلان، فوالله إني لأراه مؤمنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو مسلما". إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه. خشية أن يكب في النار على وجهه". 256 - عن عامر بن سعد عن أبيه سعد، أنه قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطا وأنا جالس فيهم. بمثل حديث ابن أخي ابن شهاب، عن عمه. وزاد: فقمت إلى رسول الله فساررته. فقلت: ما لك عن فلان. 257 - عن محمد بن سعد يحدث هذا فقال في حديثه: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده بين عنقي وكتفي، ثم قال: "أقتالا؟ أي سعد! إني لأعطي الرجل".

-[المعنى العام]- مر رجل من سادات قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوله أصحابه وفيهم سعد بن أبي وقاص، فقال لهم ما تقولون في هذا الرجل؟ قالوا: عظيم، حري إن شفع أن يشفع، وإن خطب أن ينكح، وإن تكلم أن يسمع. فسكت صلى الله عليه وسلم حتى مر جعيل بن سراقة - وهو من فقراء المهاجرين - فقال لهم: "ما تقولون في هذا الرجل؟ " قالوا: حري إن شفع ألا يشفع، وإن خطب بنت أحدنا ألا ينكح، وإن تكلم ألا يستمع. قال صلى الله عليه وسلم: "هذا الفقير خير من ملء الأرض مثل هذا الغني". فلما كان مجلس آخر بعد زمن، وجلس سعد بن أبي وقاص في مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم جاء جماعة من فقراء المهاجرين، وفيهم جعيل بن سراقة، يتعرضون لعطاء الرسول صلى الله عليه وسلم فأعطاهم رسول الله ولم يعط جعيلا، فعظم الأمر في نفس سعد، كيف لا يعطي جعيلا وهو عند سعد أحبهم إليه منذ سمع من الرسول صلى الله عليه وسلم عنه ما سمع؟ قام سعد، وأسر في أذن الرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، قلت في جعيل كذا وكذا، وأنت تصنع به الآن ما تصنع؟ أعط جعيلا كما أعطيت زملاءه، فوالله إني لأراه مؤمنا، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يرشد سعدا إلى التوقف عن الثناء بالأمر الباطن دون الثناء بالأمر الظاهر، وإلى أنه ينبغي أن تكون التزكية بالإسلام لا بالإيمان، فقال له: أو مسلما. فسكت سعد قليلا، ولم يعط الرسول صلى الله عليه وسلم جعيلا، فلم يستطع الاستمرار على السكوت فقال مرة ثانية: يا رسول الله أعط جعيلا، فوالله إني لأراه مؤمنا، قال صلى الله عليه وسلم: "أو مسلما". فسكت قليلا، ولم يعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جعيلا، ثم لم يستطع الصبر، فقال: يا رسول الله، أعط جعيلا، فوالله إني لأراه مؤمنا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو مسلما" ثم قال: أقتالا ومدافعة يا سعد، إن الإعطاء ليس علامة الرضى والمحبة، وإن هؤلاء ضعاف الإيمان، فأنا أتألفهم، أما جعيل فهو قوي الإيمان، فأنا أتركه لإيمانه وأعطي من أخشى عليه الكفر، أحميه بالمال من الوقوع في نار جهنم، وإني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه. فرضي سعد، وآمن بحكمة الرسول صلى الله عليه وسلم ورضي جعيل بالحرمان رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين. -[المباحث العربية]- (عن عامر بن سعد عن أبيه) سعد بن أبي وقاص -كما هو مصرح به في الرواية الثانية- أحد العشرة المبشرين بالجنة، أسلم بعد أبي بكر، وله في الإسلام فضل كبير، ومات بالعقيق سنة خمس وخمسين، وعاش نحوا من ثمانين سنة. (قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسما) "قسما" مفعول به، أي قسم مالا مقسوما وكان ما أفاء الله على رسوله خمس خمس الغنيمة يحبسه رسول الله صلى الله عليه وسلم فينفق منه على أهله، وفي السلاح، وعدة الحروب، وما فضل يقسمه في فقراء المهاجرين، ولعل القسم في الحديث من هذا الأخير.

(أعط فلانا) لفظ "فلانا" كناية عن اسم أبهم بعد أن ذكره سعد صريحا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. (وغيره أحب إلي منه) جملة حالية من فاعل أعطي أي أعطي الرجل حالة حبي لغيره أكثر منه. (مخافة أن يكبه الله في النار) مخافة مفعول لأجله، والمصدر المنسبك من أن والفعل مضاف إليه، يقال: كبه الله في النار يكبه، أي قلبه وصرعه، ويقال: أكب الرجل بالهمز، أي انقلب وانصرع فهو لازم، قال النووي: وهذا بناء غريب، فإن العادة أن يكون الفعل اللازم بغير همزة، فيعدى، وهنا عكسه. اهـ. وقال ابن حجر: ويجوز أن يكون ألف "أكب" للصيرورة. (أعطى رهطا) الرهط عدد من الرجال ليس فيهم امرأة، من ثلاثة إلى عشرة، وقيل: ربما جاوزوا ذلك قليلا، وليس له واحد من لفظه. (وسعد جالس فيهم) المراد: وسعد جالس معهم، لأن سعدا ليس من الرهط المعطى أو الآتي للعطاء، وإنما عبر بـ"في" للإشارة إلى تمكنه من القصة. ولما كان سعد هو المتحدث كان قوله: "وسعد جالس فيهم" من باب التجريد، وكان في قوله: "وهو أعجبهم إلي" التفات، وفي رواية للبخاري "أعطى رهطا وأنا جالس" فساق الحديث بلا تجريد ولا التفات. (وهو أعجبهم إلي) أي أفضلهم، وأصلحهم في اعتقادي، وأحبهم إلي لدينه. (ما لك عن فلان؟ ) ما استفهام مبتدأ ولك متعلق بمحذوف خبر، وعن فلان متعلق بمحذوف حال، والتقدير: أي شيء حصل لك حالة كونك معرضا عن فلان. وفلان كناية عن جعيل بن سراقة الضمري - سماه الواقدي في المغازي. (فوالله إني لأراه مؤمنا) قال النووي: "لأراه" بفتح الهمزة أي لأعلمه، ولا يجوز ضمها، فإنه قال: "غلبني ما أعلم منه" ولأنه راجع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، ولو لم يكن جازما باعتقاده لما كرر المراجعة اهـ. وتعقبه الحافظ ابن حجر فقال: وقع في رواية البخاري في باب "إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة" عن طريق أبي ذر وغيره، وفي كتاب "الزكاة" بضم الهمزة، وكذا هو في رواية الإسماعيلي وغيره، ثم قال: ولا دلالة للشيخ محيي الدين النووي فيما ذكر على تعيين الفتح، لجواز إطلاق العلم على الظن الغالب، ومنه قوله تعالى: {فإن علمتموهن مؤمنات} [الممتحنة: 10] سلمنا، لكن لا يلزم من إطلاق العلم ألا تكون مقدماته ظنية، فيكون نظريا لا يقينيا، وهو الممكن هنا، وبهذا جزم صاحب المفهم في شرح مسلم، فقال: الرواية بضم الهمزة واستنبط منه جواز الحلف على غلبة الظن. اهـ. (أو مسلما) بإسكان الواو، لا بفتحها، فقيل: هي للتنويع، وقال بعضهم: هي للتشريك، وإنه

أمره أن يقولهما معا، لأنه أحوط. ويرد هذا رواية ابن الأعرابي في هذا الحديث فقال: "لا تقل مؤمن بل مسلم" فوضح أنها للإضراب، ليس معناه الإنكار ونفي الإيمان، بل المعنى أن إطلاق المسلم على من لم يختبر حاله الخبرة الباطنة أولى من إطلاق المؤمن، لأن الإسلام معلوم بحكم الظاهر. (قال: فسكت قليلا) بتشديد التاء، ففيها ضمير المتكلم سعد، وقليلا صفة لظرف محذوف، أي زمنا قليلا. (أقتالا أي سعد) "أي" حرف نداء، وقتالا هكذا هو فيما تحت يدي من نسخ مسلم، وفسره الأبي بقوله: أي مدافعة، ونقل عن القاضي عياض قوله: لما لم يقبل صلى الله عليه وسلم تنبيهه، وأخذ سعد يكرر شبه تكريره بالمدافعة، والمدافعة مقاتلة كقوله في حديث المرور: "فإن أبى فليقاتله" أي فليدافعه، ورواية البخاري "أقبل أي سعد" قال الحافظ ابن حجر في شرحها: أمر بالإقبال والقبول وقال: ووقع عند مسلم "إقبالا أي سعد" على أنه مصدر، أي أتقابلني إقبالا بهذه المعارضة؟ . -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث]- 1 - التفرقة بين حقيقتي الإيمان والإسلام، وفي هذه المسألة خلاف وكلام طويل فصلته في شرح حديث سؤال جبريل في أول كتاب الإيمان. 2 - وفيه دلالة لمذهب أهل الحق في قولهم: إن الإقرار باللسان لا ينفع إلا إذا اقترن به الاعتقاد بالقلب، خلافا للكرامية وغلاة المرجئة في قولهم: يكفي الإقرار باللسان، قال النووي: وهذا خطأ ظاهر يرده إجماع المسلمين، والنصوص في إكفار المنافقين، وهذه صفتهم. 3 - وفيه جواز تصرف الإمام في مال المصالح. 4 - وتقديم الأهم وإن خفي وجه ذلك على بعض الرعية. 5 - وجواز الشفاعة عند الإمام. 6 - وتنبيه الصغير للكبير على ما يظن أنه ذهل عنه. 7 - ومراجعة المشفوع إليه في الأمر إذا لم يؤد إلى مفسدة. 8 - وأن الإسرار بالنصيحة أولى من الإعلان، وقد يتعين إذا جر الإعلان إلى مفسدة. 9 - وأن من أشير عليه بما يعتقد المشير مصلحة لا ينكر عليه بل يبين له وجه الصواب. 10 - والاعتذار إلى الشافع إذا كانت المصلحة في ترك إجابته. 11 - وأن لا عيب على الشافع إذا ردت شفاعته لذلك.

12 - واستحباب ترك الإلحاح في السؤال أخذا من قوله صلى الله عليه وسلم: "أقتالا أي سعد". 13 - وفيه الأمر بالتثبت، وترك القطع بما لا يعلم القطع فيه. 14 - وأنه لا يقطع لأحد بالجنة على التعيين، إلا من ثبت فيه نص كالعشرة وأشباههم، وهذا مجمع عليه عند أهل السنة، قال الحافظ ابن حجر: منع القطع بالجنة لا يؤخذ من هذا صريحا. 15 - زعم صاحب التحرير أن في هذا الحديث إشارة إلى أن الرجل لم يكن مؤمنا وليس كما زعم، إذ ليس فيه إنكار كونه مؤمنا، بل معناه النهي عن القطع بالإيمان وأن لفظة الإسلام أولى به، فإن الإسلام معلوم بحكم الظاهر، وأما الإيمان فباطن لا يعلمه إلا الله تعالى، قال النووي: بل فيه إشارة إلى إيمانه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في جواب سعد: "إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه" ومعناه أعطي من أخاف عليه لضعف إيمانه أن يكفر، وأدع غيره ممن هو أحب إلي منه لما أعلمه من طمأنينة قلبه وصلابة إيمانه. اهـ. 16 - وفيه تألف من يخاف على إيمانه لضعفه. 17 - القسم في الأخبار على سبيل التأكيد. والله أعلم

(89) باب زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة

(89) باب زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة 258 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نحن أحق بالشك من إبراهيم صلى الله عليه وسلم إذ قال: {رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} قال: "ويرحم الله لوطا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن طول لبث يوسف لأجبت الداعي". 259 - عن الزهري، وفي حديث مالك {ولكن ليطمئن قلبي} قال: ثم قرأ هذه الآية حتى جازها. 260 - عن الزهري، كرواية مالك بإسناده وقال: ثم قرأ هذه الآية حتى أنجزها. -[المعنى العام]- مثل رائع في التواضع، والدفاع عن الغير، ونفي الشبهة عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يضربه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث. لقد قرأ الصحابة قوله تعالى: {وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم} [البقرة: 260] قرأ الصحابة هذه الآية فقالوا: شك إبراهيم ولم يشك نبينا صلى الله عليه وسلم. وقرءوا قوله تعالى حكاية عن لوط: {لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد} [هود: 80] فتوهم بعضهم أن لوطا عليه السلام نسي الله عند الشدة. وقرءوا قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام حين قال لصاحبه في السجن: {اذكرني عند ربك} [يوسف: 42] فتوهم بعضهم أن يوسف ضعف وتشوف للخروج من السجن، وطلب الخلاص منه. سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الشبه والأوهام التي حامت حول إخوانه الأنبياء عليهم السلام، فبادر

بالدفاع عنهم وإزالتها فقال: إن الأنبياء لا يقع منهم شك في إحياء الموتى، وإذا كنتم تعلمون أنني لم أشك فإبراهيم عليه السلام لم يشك لأنه أبو الأنبياء، ورأس أولي العزم، ولكنه طلب رؤية كيفية إحياء الموتى، شوقا لرؤية هذا الأمر الغريب، ونحن أولى بهذا الشوق منه، ونتمنى أن نراه، ولكننا لا نطلبه. وأما لوط رحمه الله - فقد كان يأوي ويلجأ في محنته إلى الله تعالى، على عكس ما فهمتم، فإن قوله: {لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد} [هود: 80]، قصد به الاعتذار لضيفه في أنه يجب حمايتهم بكل ما يملك، لكنه في قرارة نفسه كان معتمدا على الركن المتين، الذي لا ركن بعده وهو الله تعالى. وأما يوسف فلم يكن يتشوف للخروج من السجن بأي ثمن، بدليل أنه فعل ما لم يفعله أحد، فإنه حين جاءه الرسول يطلب خروجه لم يبادر بالخروج وإنما قال له: ارجع إلى ربك فأثبت براءتي أولا، ولو أني مكانه لأسرعت بالخروج، ولأجبت الداعي، ثم طلبت بعد ذلك إثبات براءتي، فرضي الله عن الأنبياء أجمعين، ورضوا عنه، وصلى الله وسلم عليهم ومن اتبع هداهم إلى يوم الدين. -[المباحث العربية]- (نحن أحق بالشك من إبراهيم) ضمير نحن للرسول محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، أو له صلى الله عليه وسلم وللأنبياء من قبله، أي نحن معشر الأنبياء، ويبعد أن يكون له صلى الله عليه وسلم على جهة تعظيم نفسه، والشك في الأصل: هو التوقف بين الأمرين من غير ترجيح النفي أو الإثبات، أي من غير مزية لأحد الأمرين على الآخر، وسيأتي توضيح المراد في فقه الحديث. (كيف تحيي الموتى؟ ) "كيف" اسم استفهام حال، والجملة في محل النصب، مفعول ثاني لأرني. (أولم تؤمن) معمول "تؤمن" محذوف، أي أولم تؤمن بالإحياء؟ أو أولم تؤمن بكيفية الإحياء؟ والأول هو الظاهر، والاستفهام للتقرير، وهو حمل المخاطب على الإقرار بمضمون الجملة إثباتا أو نفيا، والمعنى هنا: أقر بأنك مؤمن. (قال: بلى) "بلى" حرف جواب، وتختص بالنفي، وتفيد إبطاله، أي أنا مؤمن، أجرى النحويون النفي مع التقرير مجرى النفي المجرد في رده ببلى، ولذلك قال ابن عباس وغيره في تفسير قوله تعالى: {ألست بربكم} [الأعراف: 172] لو قالوا: نعم لكفروا، ووجهه أن (نعم) تصديق للخبر بنفي أو إيجاب. {ولكن ليطمئن قلبي} علة لمحذوف، تقديره: ولكن أطلب الرؤية ليطمئن قلبي. (ويرحم الله لوطا) جملة خبرية لفظا، دعائية معنى.

(لقد كان يأوي إلى ركن شديد) أصل الركن ما يستند إليه الشيء ويمتنع به، فشبه به الله أو العشيرة - كما سيأتي - على سبيل الاستعارة التصريحية، و"يأوي" مضارع "أوى" بمعنى يعتمد ويحتمي ويركن. (لأجبت الداعي) "أل" في "الداعي" للعهد، والمعهود رسول الملك الذي جاء يطلب خروجه من السجن لمقابلته. (حتى جازها) أي حتى جاوزها، وليس المراد الدخول فيما بعدها بل المراد الانتهاء منها، فهو في معنى الرواية الأخرى "حتى أنجزها" أي حتى أتمها. -[فقه الحديث]- يمكن حصر الموضوع في أربع نقاط: 1 - توضيح موقف إبراهيم عليه السلام. 2 - توضيح قول النبي صلى الله عليه وسلم: "نحن أحق بالشك من إبراهيم" 3 - توضيح موقف لوط عليه السلام. 4 - توضيح موقف يوسف عليه السلام، وتوجيه كلام الرسول صلى الله عليه وسلم عنه. 1 - أما موقف إبراهيم عليه السلام ففيه قال الله تعالى: {وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك} (أي اضممهن إليك، ثم جزئهن) {يأتينك سعيا} (ساعيات مسرعات) {واعلم أن الله عزيز حكيم} وإنما أمر بضمها إلى نفسه بعد أخذها ليتأملها، ويعرف أشكالها وهيئاتها لئلا تلتبس عليه بعد إحيائها، ولا يتوهم أنها غير تلك، بل روي أنه أمر بأن يذبحها ويقطعها ويخلط ريشها ودماءها ولحومها، وأن يمسك في يده رءوسها ثم يوزع أجزاءها على كل جبل ربعا من كل طائر، ثم يصيح بها: تعالين بإذن الله، فجعل كل جزء يطير إلى آخر حتى صارت جثثا، ثم أقبلن، فانضممن إلى رءوسهن كل جثة إلى رأسها. أما عن سبب سؤال إبراهيم هذا السؤال فقد قيل: إنه رأى جيفة بساحل البحر يتناولها السباع والطير ودواب البحر، فتفكر كيف يجتمع ما تفرق من تلك الجيفة. وفي مراده من السؤال قيل: أ - إن الشك على ظاهره، وكان ذلك قبل النبوة. ب - إن الشك على ظاهره، وسببه وسوسة الشيطان، لكنها لم تستقر، ولم تزلزل الإيمان الثابت،

ذكره الطبري واستدل عليه بما رواه عن ابن عباس قال: هذا لما يعرض في الصدور، ويوسوس به الشيطان. وهذان القولان المثبتان للشك بعيدان عن القبول، لأن الشك في مثل هذا يبعد وقوعه ممن رسخ الإيمان في قلبه، فكيف بمن بلغ رتبة النبوة؟ وأيضا فإن السؤال لما وقع بكيف دل على حال شيء موجود مقرر عند السائل والمسئول، فليس فيه شك. والحق أن الشك لم يقع أصلا، وفي توجيه السؤال قيل: جـ- إنه أراد الطمأنينة بعلم كيفية الإحياء مشاهدة بعد العلم بها استدلالا، وهذا مذهب الإمام أبي منصور الأزهري. د- وقريب منه ما قيل من أنه سأل الترقي من علم اليقين إلى عين اليقين فإن بين العلمين تفاوتا، أي سأل زيادة اليقين. هـ - وقيل: إنه أحب رؤية هذه الحالة، وتطلعت نفسه إلى مشاهدتها كما يحب المؤمنون أن يروا الجنة مع الإيمان بها وبما يقع فيها، ومع زوال الشكوك تماما. و- وقيل: إنه أراد إظهار منزلته عند ربه في إجابة دعائه، قال: أرني ذلك لأعلم أنك تجيب دعائي، وكأن الجواب: أولم تؤمن بأنك مجاب الدعاء؟ ز- وقريب منه ما قيل: إنه أراد إظهار عظم منزلته عند ربه واصطفائه وخلته، فكأنه قال: أرني ذلك لأعلم أني صفيك وخليلك، وكأن الجواب: أولم تؤمن بأنك صفيي وخليلي؟ ح- وقيل: إن نمروذ لما قال له: ما ربك؟ قال: "ربي الذي يحيي ويميت" سأل إبراهيم ربه ذلك ليرى النمروذ وقومه، فكأن المراد: أرني وقومي، ليطمئن قلبي بأنهم يعلمون أنك تحيي الموتى. ط- وقيل: إن معناه أقدرني على إحياء الموتى، فتأدب في السؤال. وقيل غير ذلك، لكن الأقوال الأربعة الأخيرة بعيدة. والله أعلم 2 - وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: "نحن أحق بالشك من إبراهيم" فعلى القولين الأولين المثبتين للشك يمكن حمل "نحن" على الأمة الذين يجوز عليهم الشك، وإخراجه هو منه بدلالة العصمة. كما يمكن أن يراد به مجرد الدفاع عن إبراهيم عليه السلام، من غير قصد إثبات أحقية الشك، وذلك أنه لما نزلت الآية قال بعض الصحابة: "شك إبراهيم ولم يشك نبينا"، فقال صلى الله عليه وسلم: "نحن أحق بالشك من إبراهيم" وأراد ما جرت به العادة في المخاطبة لمن أراد أن يدفع عن آخر شيئا قال: كل ما تريد أن تقوله لفلان من الإساءة قله لي، ومقصوده لا تقل عليه شيئا. وعلى القول الثالث والرابع والثامن المعنى: نحن أحق بطلب الطمأنينة وزيادة العلم واليقين من إبراهيم لكثرة المكذبين لنا والمنكرين للبعث.

وعلى القول الخامس المعنى: نحن أشد اشتياقا إلى رؤية ذلك من إبراهيم. وعلى القول السادس والسابع: نحن أحق بطلب إظهار المنزلة ومدى إجابة الدعاء من إبراهيم، ولكننا لا نطلب ذلك. وعلى القول التاسع المعنى: نحن أحق بطلب أن يحيي الله الموتى على يدي، ولكني لا أسأل ذلك اكتفاء بمعجزة القرآن. وقيل المعنى: إذا لم نشك نحن فاعلموا أن إبراهيم لم يشك، أي لو كان الشك متطرقا إلى الأنبياء لكنت أنا أحق بالشك منه، وقد علمتم أني لم أشك فاعلموا أن إبراهيم لم يشك، وإنما قال ذلك تواضعا، أو من قبل أن يعلمه الله بأنه أفضل من إبراهيم، ويؤيد هذا الأخير ما رواه مسلم عن أنس أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا خير البرية، فقال: "ذاك إبراهيم". فيكون المراد نفي الشك عنه وعن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، وقد حكى بعض علماء العربية أن أفعل ربما جاءت لنفي المعنى عن الشيئين نحو قوله تعالى: {أهم خير أم قوم تبع} [الدخان: 37] أي لا خير في الفريقين، والله أعلم 3 - وأما عن لوط عليه السلام فقد قال النووي: إن لوطا صلى الله عليه وسلم لما خاف على أضيافه، ولم يكن له عشيرة تمنعهم من الظالمين ضاق ذرعه، واشتد حزنه عليهم، فغلب ذلك عليه، فقال في ذلك الحال: {لو أن لي بكم قوة} في الدفع بنفسي {أو آوي إلى ركن شديد} أي عشيرة تمنع لمنعتكم، وقصد لوط عليه السلام إظهار العذر عند أضيافه، وأنه لو استطاع دفع المكروه عنهم بطريق ما لفعله، وأنه بذل وسعه في إكرامهم والمدافعة عنهم، ولم يكن ذلك إعراضا منه صلى الله عليه وسلم عن الاعتماد على الله تعالى، وإنما كان لما ذكرنا من تطييب قلوب الأضياف، ويجوز أن يكون نسي الالتجاء إلى الله تعالى في حمايتهم، ويجوز أن يكون التجأ فيما بينه وبين الله تعالى، وأظهر للأضياف التألم وضيق الصدر. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: يقال: إن قوم لوط لم يكن فيهم أحد يجتمع معه في نسبه، لأنهم من سدوم وهي من بلاد الشام، وكان أصل إبراهيم ولوط من العراق، فلما هاجر إبراهيم إلى الشام هاجر معه لوط فبعث الله لوطا إلى أهل سدوم، فقال لقومه لما جاءته الأضياف: لو أن لي منعة وأقارب وعشيرة لكنت أستنصر بهم عليكم ليدفعوا عن ضيفاني، ولهذا جاء في بعض طرق الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال لوط: لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد قال: فإنه كان يأوي إلى ركن شديد ولكنه عنى عشيرته، فما بعث الله نبيا إلا في ذروة من قومه، ألم تر إلى قول قوم شعيب: ولولا رهطك لرجمناك. اهـ. فالمراد من الركن الشديد في الآية عشيرته، فكأنه قال لقومه: لو أن لي عشيرة لدفعتكم بها وحميت بها ضيفي. والمراد من الركن الشديد في الحديث هو الله تعالى، والمعنى: يرحم الله لوطا لقد كان - حين قال هذا القول - يأوي في نفسه إلى الله تعالى، لكنه قال ما قال اعتذارا لضيفه.

وقيل معنى قوله: "لقد كان يأوي إلى ركن شديد" أي إلى عشيرته، لكنه لم يأو إليهم وأوى إلى الله تعالى، على معنى أنه كانت له عشيرة يمكن أن يأوي إليها لكنه أوى إلى الله تعالى، قال الحافظ ابن حجر: والأول أظهر، لما بيناه من أنه لم تكن له عشيرة. اهـ. 4 - وأما عن يوسف عليه السلام فقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شدة صبره وتأنيه، وتقديمه إثبات البراءة على الخروج من السجن، حين جاءه رسول الملك يطلب خروجه، فقال له: ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن، فلم يخرج يوسف مبادرا إلى الراحة ومفارقة السجن الطويل، بل تثبت وتوقر وراسل الملك في كشف أمره الذي سجن بسببه لتظهر براءته عند الملك وغيره، فبين النبي صلى الله عليه وسلم فضيلة يوسف في هذا، وقوة نفسه في الخير، وكمال صبره وحسن نظره، وقال صلى الله عليه وسلم عن نفسه ما قال تواضعا وإيثارا للمبالغة في كمال فضيلة يوسف عليه السلام، وهو من جنس قوله: "لا تفضلوني على يونس" والتواضع لا يحط مرتبة الكبير، بل يزيده رفعة وإجلالا. والله أعلم

(90) باب القرآن المعجزة الكبرى والرسول صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء تابعا

(90) باب القرآن المعجزة الكبرى والرسول صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء تابعا 261 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر. وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحى الله إلي. فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة". -[المعنى العام]- كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، ويجري الله على يديه أمرا خارقا للعادة، من جنس ما نبغ فيه قومه، يتحداهم به، فيظهر عجزهم عن الإتيان بمثله، فيدفع إلى الإيمان من أراد الله هدايته. لقد كانت النار بردا وسلاما على إبراهيم، وكانت ناقة صالح لها شرب ولهم شرب يوم معلوم، وكانت عصا موسى حية تلقف ما صنعوا، وكان عيسى يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله. آيات آمن بسببها من آمن، لكن معجزة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم التي تحداهم بها هي القرآن، عجزوا عن الإتيان بمثله، ثم تحداهم بعشر سور مثله فعجزوا، ثم تحداهم بسورة مثله فعجزوا، فيه خبر من قبلهم وحكم ما بينهم، صالح لكل زمان ومكان، لا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن تمسك به هدي إلى صراط مستقيم. إنه قائم محفوظ من قبل الله على مر السنين، يعتبر به المعتبرون، ويتعظ به المتعظون، وينتفع به المؤمنون إلى يوم القيامة. بهذه المعجزة الكبرى الباقية الدائمة النفع، السهلة، الميسرة للذكر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء تابعا. فاللهم اجعلنا من أتباعه الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب. -[المباحث العربية]- (ما من الأنبياء من نبي) "من" الثانية مزيدة لتأكيد النفي، والأصل: ما نبي من الأنبياء، وفي رواية البخاري، "ما من الأنبياء نبي" والمراد من النبي الرسول، لأنه الذي يدعو للإيمان.

(إلا قد أعطي من الآيات) أي المعجزات الخوارق. (ما مثله آمن عليه البشر) "ما" موصولة، وقعت مفعولا ثانيا لأعطي و"مثله" مبتدأ، و"آمن" خبره، والجملة صلة الموصول، والمثل يطلق ويراد به عين الشيء، وما يساويه، والمعنى: أن كل نبي أعطي آية أو أكثر، من شأنها أن يؤمن بالنبي لأجلها من يشاهدها. فلفظ "على" في قوله "عليه" بمعنى اللام أو الباء، والنكتة في التعبير هنا بـ "على" تضمنها معنى الغلبة، أي يؤمن بذلك مغلوبا مدفوعا بتأثيرها. ورواية مسلم "آمن" بمد الهمزة وفتح الميم من الإيمان، وجاء في رواية البخاري "ما مثله أومن - أو آمن - عليه البشر" بالشك من الراوي، فالأولى بضم الهمزة وسكون الواو وكسر الميم من الأمن، وحكي بعضهم أمن بفتح الهمزة من غير مد، وكسر الميم من الأمان. (وإنما كان الذي أوتيت وحيا) "أوتيت" بحذف الهاء وهي المفعول الثاني، وفي رواية أوتيته بذكرها، والجملة صلة الموصول و"وحيا" خبر كان والمراد به القرآن، ومعنى الحصر أن القرآن أعظم المعجزات وأفيدها وأدومها، لاشتماله على الدعوة والحجة ودوام الانتفاع إلى آخر الدهر، فلما كان لا شيء يقاربه، فضلا عن أن يساويه، كان ما عداه بالنسبة إليه كأن لم يقع، فالقصر ادعائي، أو المراد إنما معجزتي التي تحديت بها على مر الزمان هي الوحي والقرآن، فالقصر حقيقي. (أوحى الله إلي) الجملة صفة "وحيا" والرابط مفعول أوحى محذوف ذكر في رواية البخاري ولفظها "أوحاها الله إلي". (فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة) في رواية للبخاري "فأرجو أني أكثرهم تابعا يوم القيامة" والفاء في فأرجو لترتيب رجائه هذا على أن معجزته القرآن الذي يعم نفعه من حضر ومن غاب ومن وجد ومن سيوجد. -[فقه الحديث]- قال الحافظ ابن حجر: ليس المراد حصر معجزاته صلى الله عليه وسلم في القرآن، ولا أنه لم يؤت من المعجزات ما أوتي من تقدمه، بل المراد أنه المعجزة التي اختص بها دون غيره، لأن كل نبي أعطي معجزة خاصة به، لم يعطها بعينها غيره، تحدى بها قومه، وكانت معجزة كل نبي تقع مناسبة لحال قومه، كما كان السحر فاشيا عند فرعون، فجاءه موسى بالعصا على صورة ما يصنع السحرة، لكنها تلقفت ما صنعوا، ولم يقع ذلك بعينه لغيره، وكذلك إحياء عيسى الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، لكون الأطباء والحكماء كانوا في غاية الظهور فأتاهم من جنس عملهم بما لم تصل قدرتهم إليه.

ولهذا لما كان العرب الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم في الغاية من البلاغة جاءهم بالقرآن الذي تحداهم أن يأتوا بسورة مثله، فلم يقدروا على ذلك. وقيل: المراد أن القرآن ليس له مثل، لا صورة ولا حقيقة، بخلاف غيره من المعجزات، فإنها لا تخلو عن مثل، وقيل: المراد أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطي من المعجزات ما كان مثله لمن كان قبله صورة أو حقيقة، والقرآن لم يؤت أحد قبله مثله، فلهذا أردفه بقوله: "فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا". وقيل: المراد أن الذي أوتيته لا يتطرق إليه تخييل، وإنما هو كلام معجز لا يقدر أحد أن يأتي بما يتخيل منه التشبيه به، بخلاف غيره فإنه قد يقع في معجزاتهم ما يقدر الساحر أن يخيل شبهه، فيحتاج من يميز بينهما إلى نظر، والنظر عرضة للخطأ، فقد يخطئ الناظر فيظن تساويهما. وقيل: المراد أن معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم فلم يشاهدها إلا من حضرها، ومعجزة القرآن مستمرة إلى يوم القيامة وخرقه العادة في أسلوبه، وبلاغته، وإخباره بالمغيبات، فلا يمر عصر من الأعصار إلا ويظهر فيه شيء مما أخبر به أنه سيكون يدل على صحة دعواه، قال: وهذا أقوى المحتملات، وتكميله أن المعجزات الماضية كانت حسية تشاهد بالأبصار، كناقة صالح، وعصا موسى، ومعجزة القرآن تشاهد بالبصيرة، فيكون من يتبعه لأجلها أكثر، لأن الذي يشاهد بعين الرأس ينقرض بانقراض مشاهده، والذي يشاهد بعين العقل باق يشاهده كل من جاء بعد الأول مستمرا. ثم قال: ويمكن نظم هذه الأقوال كلها في كلام واحد، فإن محصلها لا ينافي بعضه بعضا. اهـ. وهو كلام نفيس لا مزيد عليه. وقد جمع بعضهم إعجاز القرآن في أربعة أشياء: أحدها: حسن تأليفه، والتئام كلمه مع الإيجاز والبلاغة. ثانيها: صورة سياقه وأسلوبه المخالف لأساليب كلام أهل البلاغة من العرب نظما ونثرا، حتى حارت فيه عقولهم، ولم يهتدوا إلى الإتيان بشيء مثله، مع توفر دواعيهم على تحصيل ذلك، وتقريعه لهم على العجز عنه. ثالثها: ما اشتمل عليه من الإخبار عما مضى من أحوال الأمم السابقة والشرائع الداثرة، مما كان لا يعلم منه بعضه إلا النادر من أهل الكتاب. رابعها: الإخبار بما سيأتي من الكوائن التي وقع بعضها في العصر النبوي وبعضها بعده. ومن غير هذه الأربعة الروعة التي تحصل لسامعه، وأن قارئه لا يمل من ترداده، وسامعه لا يمجه، ولا يزداد بكثرة التكرار إلا طراوة، ومنها جمعه لعلوم ومعارف لا تنقضي عجائبها، ولا تنتهي فوائدها. انتهى ملخصا من كلام القاضي عياض وغيره. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - أن النبي لا بد له من معجزة تقتضي إيمان من شاهدها بصدقه، ولا يضره من أصر على المعاندة.

2 - يؤخذ من صنيع البخاري استدلاله بالحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بجوامع الكلم، قال الحافظ ابن حجر: إن دخول القرآن في قوله صلى الله عليه وسلم "بعثت بجوامع الكلم" لا شك فيه، وإنما النزاع: هل يدخل غيره من كلامه من غير القرآن؟ 3 - استدل به على أن القرآن إنما نزل بالوحي الذي يأتي به الملك، لا بالمنام ولا بالإلهام. 4 - وفيه علم من أعلام النبوة، فإنه أخبر عليه السلام بهذا في زمن قلة المسلمين ثم من الله تعالى وفتح على المسلمين البلاد، وقد تأكد صلى الله عليه وسلم من تحقق رجائه فقد روى البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: "أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ " قالوا: نعم. قال: "أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ " قالوا: نعم، قال: "أترضون أن تكونوا شطر أهل الجنة؟ " قالوا: نعم، قال: "إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة، وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو الشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر". وفي رواية "بل أرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنة" وفي رواية "بل أنتم نصف أهل الجنة وتقاسمونهم في النصف الثاني". والله أعلم

(91) عموم رسالته صلى الله عليه وسلم

(91) عموم رسالته صلى الله عليه وسلم 262 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار". -[المعنى العام]- بعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، بشيرا ونذيرا، وهاديا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، بعض خاتم الأنبياء والمرسلين، ناسخا لملل السابقين، داعيا أهل الكتاب إلى الإيمان برسالته، محذرا من كفرانها والصد عنها، كما حذر المشركين ودعاهم إلى الإسلام، فكل من بلغته الدعوة [صاحب كتاب] يجب عليه الإيمان به، ويحرم عليه البقاء على ما هو عليه، سواء كان على ملة بدلت، أو على ملة لم تبدل، ومن سمع برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وبمعجزاته ثم أصر على كفره، ومات على ذلك فهو من الكافرين المخلدين في النار. -[المباحث العربية]- (والذي نفس محمد بيده) فيه تجريد، والأصل: والذي نفسي بيده، وهو حلف بالله تعالى، فإنه الذي بيده كل نفس. (لا يسمع بي أحد) فيه التفات من الغيبة إلى التكلم. (من هذه الأمة) أصل الأمة الجماعة، وتضاف للنبي صلى الله عليه وسلم فيراد بها -أحيانا- أمة الإجابة، أي من أسلم كحديث "شفاعتي لأمتي" وأحيانا أمة الدعوة، أي كل من أرسل إليه، وهو المراد منها هنا، فالإشارة إلى أمة الدعوة، الموجود منها في زمنه ومن سيوجد إلى يوم القيامة. (يهودي ولا نصراني) "يهودي" بدل بعض من كل، من "أحد" وعطف "نصراني" على "يهودي" بإعادة "لا" النافية، وهو الفصيح في العطف على منفي، ومنه قوله تعالى: {فلا صدق ولا صلى} [القيامة: 30]. (ثم يموت ولم يؤمن) جملة "ولم يؤمن" في محل النصب على الحال من فاعل "يموت" أي

ثم يموت غير مؤمن، والعطف بثم يفيد أن الإيمان ينفع ولو مع التراخي، ولو بعد مدة من البلاغ، ويصح أن يكون لاستبعاد أن يقع الموت بدون إيمان بعد السماع به كقوله تعالى: {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها} [السجدة: 22]. (إلا كان من أصحاب النار) أي ملازميها. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث]- 1 - نسخ الملل كلها برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لأن ذكر اليهودي والنصراني للتنبيه على من سواهما، إذ اليهود والنصارى لهم كتاب، فإذا كان هذا شأنهم مع أن لهم كتابا فغيرهم ممن لا كتاب لهم من باب أولى. 2 - أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم عامة لكل البشر في جميع الأزمنة اللاحقة لبعثته، وفي جميع الأمكنة، وقد جاء في الصحيحين: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي" وفيه: "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة" وفي رواية لمسلم "وبعثت إلى كل أحمر وأسود" وفي رواية "وأرسلت إلى الخلق كافة". 3 - أنه لا حكم قبل ورود الشرع على الصحيح. 4 - أن من لم تبلغه دعوة الإسلام فهو معذور، وهو أصل مجمع عليه لقوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} [الإسراء: 15]. وفي حكم من لم تبلغه الدعوة، من بلغته من الأعاجم ولم يفهمها، وبعضهم يعتبر شرط وجوب الإيمان هو بلوغ المعجزة، رؤية وسماعا لمن حضرها، ونقلا عن موثوق لمن لم يحضرها، وكون الشرط بلوغ الدعوة هو ظاهر الحديث، أما من يشترط بلوغ المعجزة فإنه يفسر الحديث بقوله: لا يسمع بي أحد وتتبين له معجزتي. والله أعلم

(92) باب أجر الكتابي إذا أسلم: ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين

(92) باب أجر الكتابي إذا أسلم: ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين 263 - عن الشعبي، قال: رأيت رجلا من أهل خراسان سأل الشعبي فقال: يا أبا عمرو، إن من قبلنا من أهل خراسان يقولون، في الرجل، إذا أعتق أمته ثم تزوجها: فهو كالراكب بدنته. فقال الشعبي: حدثني أبو بردة بن أبي موسى، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه وصدقه، فله أجران. وعبد مملوك أدى حق الله تعالى وحق سيده، فله أجران. ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن غذاءها، ثم أدبها فأحسن أدبها. ثم أعتقها وتزوجها، فله أجران". ثم قال الشعبي للخراساني: خذ هذا الحديث بغير شيء. فقد كان الرجل يرحل فيما دون هذا إلى المدينة. -[المعنى العام]- تفضل وإحسان من الله تعالى على عباده، إن هم فعلوا خيرا على خير، أن يمنحهم أجرا فوق أجر، مصداقا لقوله تعالى: {من جاء بالحسنة فله خير منها} [النمل: 89] ومن الذين يؤتون أجرهم مرتين ثلاثة خصهم بالذكر، مراعاة لظروف وبيئة معينة. لقد كان أهل الكتاب يعرفون محمدا صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، يجدونه ويجدون أوصافه عندهم مكتوبة في التوراة والإنجيل، فكان إيمانهم به وإسلامهم خيرا كبيرا لهم وللإسلام، لهم لأنهم يسلمون على ما أسلفوا من إيمان وخير، وللإسلام لاقتداء العامة بهم، ونشر الإسلام عن طريقهم، فكان لمن يسلم منهم أجران. وكان الرق في ظروف هذا الحديث منتشرا وكثيرا، وكان الأرقاء يضيقون به ذرعا، ويشعرون بسببه ذلة وهوانا، وكان السادة يسيئون معاملة الرقيق خصوصا الإماء منهم، فحارب الحديث هاتين السوأتين، ورغب في نقيضهما، لقد منح الله العبد المملوك المطيع لربه ولسيده أجرين على ما يفعل من حسنات فألقى بذلك الرضا في قلوب العبيد بالقضاء، بل وصل ببعضهم أن قيل لسيده حين أعتقه معجبا من دينه: لم حرمتني من أحد أجري؟ ووصل التطلع ببعض الأحرار إلى أجر العبيد، حتى قال أبو هريرة: والذي نفسي بيده لولا الجهاد في سبيل الله والحج وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك.

كما منح أجرين للسيد الذي يحسن معاملة أمته، يغذيها فيحسن غذاءها، ويعلمها فيحسن تعليمها، ويؤدبها فيحسن تأديبها، ثم يعتقها ويمن عليها بالحرية، ثم يتزوجها فيجعلها سيدة بيته، ولا شك أن العبد إذا أحسن معاملة سيده، وأن السيد إذا أحسن معاملة عبده أحسن كل منهما معاملة الآخرين في المجتمع من باب أولى، فيعم الأمة التواد والتعاطف والتراحم، وتصبح كالجسد الواحد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. -[المباحث العربية]- (إن من قبلنا) أي إن الذين عندنا وفي جهتنا، يقال: لي قبله كذا، بكسر القاف وفتح الباء، أي عنده. (كالراكب بدنته) البدنة بفتح الباء والدال، من الإبل والبقر كالأضحية من الغنم، تهدى إلى مكة، فكما أن من أهدى بدنته إلى مكة لا يجوز له الرجوع فيها، فكذا من أعتق أمته لله لا يليق به أن يتزوجها، فإن زواجها شبيه بالعود فيها، كذا فهموا. (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين) "ثلاثة" مبتدأ، والتقدير ثلاثة رجال والجملة بعده خبر "ويؤتون" أي كل واحد منهم. (رجل) هو بدل بعض من كل، أو بدل كل من كل إذا قصد المجموع، وكذا المرأة فذكر الرجل للتغليب. (من أهل الكتاب) لفظ الكتاب عام، لكن المراد منه نوع خاص، وهو المنزل من عند الله، بل فرد خاص من المنزل من عند الله، وهو الإنجيل وحده، وقيل: المراد به الإنجيل والتوراة، وسيأتي له مزيد إيضاح في فقه الحديث. (فآمن به واتبعه وصدقه) يحتمل أن يكون ثلاثتها مترادفات في المعنى المراد للتأكيد، ويحتمل أن المراد من الإيمان به التصديق برسالته، ومن اتباعه لزوم العمل بشريعته، ومن تصديقه تصديقه في كل ما جاء به من أحكام. (فله أجران) هو تكرير لطول الكلام، وللاهتمام به. (وعبد مملوك) وكذا الأمة المملوكة، وفائدة ذكر "مملوك" بعد "عبد" لرفع إبهام العبودية العامة لله، بإثبات أن المراد الرقاق. (كانت له أمة) وفي رواية البخاري "كانت عنده وليد" وهي ما ولد من الإيماء في ملك الرجل، ثم أطلق ذلك على كل أمة.

(فغذاها فأحسن غذاءها) أي أطعمها. (خذ هذا الحديث بغير شيء) من الأمور الدنيوية، وإلا فالأجر الأخروي حاصل له. (فقد كان الرجل يرحل فيما دون هذا إلى المدينة) أي يرحل لأجل ما هو أهون أهمية من هذا الحديث من الكوفة إلى المدينة المنورة. -[فقه الحديث]- في المراد من أهل الكتاب هنا قال الحافظ ابن حجر: تظاهرت نصوص الكتاب والسنة على أن المراد بالكتاب التوراة والإنجيل، وقيل: المراد به هنا الإنجيل خاصة إن قلنا إن النصرانية ناسخة لليهودية، كذا قرره جماعة ولا يحتاج إلى اشتراط النسخ لأن عيسى عليه السلام كان قد أرسل إلى بني إسرائيل بلا خلاف، فمن أجابه منهم نسب إليه، ومن كذبه منهم واستمر على يهوديته لم يكن مؤمنا، فلا يتناوله الخبر، لأن شرطه أن يكون مؤمنا بنبيه، نعم من دخل في اليهودية من غير بني إسرائيل، أو لم يكن بحضرة عيسى عليه السلام، فلم تبلغه دعوته يصدق عليه أنه يهودي مؤمن، إذ هو مؤمن بنبيه موسى عليه السلام، ولم يكذب نبيا آخر بعده، فمن أدرك بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، ممن كان بهذه المثابة، وآمن به لا يشكل أنه يدخل في المذكور، ومن هذا القبيل العرب الذين كانوا باليمن وغيرها ممن دخل منهم في اليهودية، ولم تبلغهم دعوة عيسى عليه السلام لكونه أرسل إلى بني إسرائيل خاصة، نعم الإشكال في اليهود الذين كانوا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت أن الآية الموافقة لهذا الحديث وهي قوله تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون} [القصص: 52 - 54] نزلت في طائفة آمنوا منهم كعبد الله بن سلام وغيره، ففي الطبراني من حديث رفاعة القرظي قال: نزلت هذه الآية في، وفيمن آمن معي، وروى الطبري بإسناد صحيح عن علي بن رفاعة القرظي قال: خرج عشرة من أهل الكتاب، منهم أبو رفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمنوا به، فأوذوا، فنزلت {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون} الآيات. فهؤلاء من بني إسرائيل ولم يؤمنوا بعيسى، بل استمروا على اليهودية إلى أن آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت أنهم يؤتون أجرهم مرتين. قال الطيبي: فيحتمل إجراء الحديث على عمومه، إذ لا يبعد أن يكون طريان الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم سببا لقبول تلك الأديان وإن كانت منسوخة. اهـ. ثم قال الحافظ ابن حجر: ويمكن أن يقال في حق هؤلاء الذين كانوا بالمدينة: إنه لم تبلغهم دعوة عيسى عليه السلام، لأنها لم تنتشر في أكثر البلاد، فاستمروا على يهوديتهم، مؤمنين بنبيهم موسى عليه السلام، إلى أن جاء الإسلام، فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فبهذا يرتفع الإشكال. اهـ.

وقال القرطبي: الكتابي الذي يضاعف أجره مرتين، هو الذي كان على الحق في شرعه، عقدا وفعلا، إلى أن آمن بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ ابن حجر: ويشكل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل "أسلم يؤتك الله أجرك مرتين" وهرقل كان ممن دخل في النصرانية بعد التبديل. وقال الداودي ومن تبعه: إنه يحتمل أن يتناول جميع الأمم فيما فعلوه من خير، كما في حديث حكيم بن حزام "أسلمت على ما أسلفت من خير" اهـ. ويعترض عليه بأن الحديث مقيد بأهل الكتاب، فلا يتناول غيرهم إلا بقياس الخير على الإيمان، وكأن النكتة في قوله: "آمن بنبيه" الإشعار بعلية الأجر، أي إن سبب الأجرين الإيمان بالنبيين، والكفار ليسوا كذلك. ويمكن أن يقال: الفرق بين أهل الكتاب وغيرهم من الكفار أن أهل الكتاب يعرفون محمدا صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى: {يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل} [الأعراف: 157] فمن آمن به واتبعه منهم كان له فضل على غيره، وكذا من كذبه منهم كان وزره أشد من وزر غيره. وذهب الكرماني إلى اختصاص هذا الأجر بمن آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم في عهد البعثة، أما من آمن من أهل الكتاب بعد وفاة محمد صلى الله عليه وسلم [مثل كعب الأحبار الذي أسلم في عهد عمر بن الخطاب] فلا يدخل في هذا الأجر، وعلل ذلك بأن نبيهم بعد البعثة إنما هو محمد صلى الله عليه وسلم، باعتبار عموم بعثته، وتعقبه الحافظ ابن حجر بأن هذه العلة ثابتة لمن آمن منهم في عهده صلى الله عليه وسلم، فإن خص بمن لم تبلغه الدعوة فلا فرق في ذلك بين عهده صلى الله عليه وسلم وبين الزمن الذي بعده. فالأظهر أن يقال: إن هذا الأجر باق إلى يوم القيامة لمؤمني أهل الكتاب، لكن هل يختص ممن كان منهم على الحق قبل الإسلام؟ أو يعم من هم على الحق وغيرهم؟ إن قلنا: إن الأجر الأول في اتباعه الحق الأول والأجر الثاني في اتباعه الحق الآخر كان مختصا بمن كان منهم على الحق قبل الإسلام، وهو الظاهر، وإن قلنا: إن الأجرين والمضاعفة في اتباع الحق الثاني بسبب التمسك بالأول [وبه قيل] كان مناسبا للعموم، والله أعلم. أما العبد المملوك فقد قال ابن عبد البر: إنه لما اجتمع عليه أمران واجبان: طاعة ربه في العبادات، وطاعة سيده في المعروف، فقام بهما جميعا كان له ضعف أجر الحر المطيع لطاعته، لأنه قد ساواه في طاعة الله، وفضل عليه بطاعة من أمره الله بطاعته، ثم قال: ومن هنا أقول: إن من اجتمع عليه فرضان، فأداهما، أفضل ممن ليس عليه إلا فرض واحد فأداه، كما وجب عليه صلاة وزكاة، فقام بهما، فهو أفضل ممن وجبت عليه صلاة فقط، ومقتضاه: أن من اجتمعت عليه فروض فلم يؤد منها شيئا كان عصيانه أكثر من عصيان من لم يجب عليه إلا بعضها. اهـ. ومقتضى هذا: أن التضعيف من جهة تعدد الواجبات، فالعمل الذي يجمع بين حق الله وحق السيد يضاعف باعتبارين، أما العمل الخاص بحق الله فلا يضاعف، وكذا الخاص بحق السيد. وقال الحافظ ابن حجر: الذي يظهر أن مزيد الفضل للعبد الموصوف بهذه الصفة، هو لما يدخل

عليه من مشقة الرق، وإلا فلو كان التضعيف بسبب اختلاف جهة العمل لم يختص العبد بذلك. اهـ. ومعنى ذلك أن كل عمل يعمله العبد يضاعف له، ومعنى ذلك أن الفرض الواحد إذا أداه العبد والسيد كان أجر العبد ضعف أجر السيد، ولا محذور في ذلك ولا يلزم منه تفضيل العبودية على الحرية، فإن للسيد جهات أخرى يستحق بها أجورا مضاعفة، لا يتمكن العبد من أدائها. وأما عتق الأمة ثم تزوجها فقد بالغ قوم فكرهوه على أنه من قبيل الرجوع في الصدقة، وقد أسند هذا إلى سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي، كما أخرج الطبراني عن ابن مسعود أنه يقول ذلك، وعن ابن عمر مثله، وعند ابن أبي شيبة عن أنس أنه سئل عنه، فقال: إذا أعتق أمته لله فلا يعود فيها. ونحن لا نميل إلى صحة إسناد هذا القول لهؤلاء الأفاضل، فإن صح فلعلهم - كما يقول الحافظ ابن حجر - لم يبلغهم هذا الحديث. نعم، الخلاف كثير بين العلماء في جواز جعل عتق الأمة صداقا لها، وإلى أن يأتي تفصيل هذا البحث في كتاب النكاح نكتفي بإيجازه فيما يأتي: ذهب الثوري وأبو يوسف وأحمد وإسحق إلى أنه إذا أعتق أمته على أن يجعل عتقها صداقها صح العقد والعتق والمهر، أخذا بظاهر ما رواه البخاري عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وجعل عتقها صداقها. وذهب الشافعي إلى أن من أعتق أمته على أن يتزوجها، فقبلت عتقت، ولم يلزمها أن تتزوج به، ولكن يلزمها له قيمتها، لأنه لم يرض بعتقها مجانا، وردوا على دليل الفريق الأول بأنه قول لأنس قاله ظنا من قبل نفسه، ولم يرفعه، أو أن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره. والذي يعنينا في هذا المقام هو أن الأجرين لمن أعتق أمته، ثم تزوجها بمهر خاص، بلا خلاف. أما من جعل عتقها صداقها فظاهر الحديث الذي معنا يشمله أيضا، لكن رواية البخاري وفيها: "ثم أعتقها ثم أصدقها" تفيد أن المراد بالتزويج في روايتنا أن يقع بمهر جديد سوى العتق، يقوي هذا ما جاء في مسند أبي داود الطيالسي بلفظ "إذا أعتق الرجل أمته ثم أمهرها مهرا جديدا كان له أجران" وما أخرجه الإسماعيلي بلفظ "ثم تزوجها بمهر جديد" والذي تستريح إليه النفس أن العتق في حد ذاته تكريم وإحسان، وأن زواج السيد من الأمة المملوكة وتمكينها من حقوق الزوجية بعد أن كانت لا تملك منها حقا نحوه، تكريم آخر وإحسان، من أجلهما استحق فاعل ذلك الأجرين، ولا يتوقف الأجران على المهر الجديد إذا ما قلنا بصحة العتق والعقد والمهر، والله أعلم. بقي أن نقول: إن حصر الذين يؤتون أجرهم مرتين في الثلاثة المذكورين لا يستقيم، فقد ثبت مثل ذلك في حق نساء النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الطبراني، ولقوله تعالى: {يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين} [الأحزاب: 30] {ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين} [الأحزاب: 31] ومضاعفة العذاب تقتضي مضاعفة الثواب، كما ثبت أن

الذي يقرأ القرآن وهو عليه شاق له أجران، وأن التي تتصدق على قريبها لها أجران: أجر الصدقة وأجر الصلة، وأن الحاكم إذا أصاب له أجران، ومن سن سنة حسنة له أجران، له أجرها وأجر من عمل بها، وبالتتبع نجد غير ذلك ممن له أجران، ولهذا قال الحافظ ابن حجر: إن العدد لا مفهوم له. {ويؤخذ من الحديث} 1 - فضل إيمان أهل الكتاب على التفصيل السابق. 2 - ترغيب العبد المملوك في طاعة ربه وطاعة سيده. 3 - أن ضعف المقدار في الدنيا قد يكون سببا في رفع المقدار في الآخرة. 4 - حرص الشارع على العتق والترغيب فيه. 5 - فيه دليل على مزيد فضل من أعتق أمته، ثم تزوجها، سواء أعتقها ابتداء، لله أو لسبب، لعموم الحديث. 6 - فيه حث على الإحسان للملوك في غذائه وتأديبه. 7 - وفيه تحريض العالم للمتعلم على المحافظة والحرص على الفتوى لقول الشعبي للخرساني: خذ هذا الحديث بغير شيء، فقد كان الرجل يرحل فيما دون هذا إلى المدينة. 8 - وقد أخذ منه ابن بطال وغيره من المالكية دليلا على تخصيص العلم بالمدينة المنورة، قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر لأن ذلك كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، ثم تفرق الصحابة في البلاد بعد فتح الأمصار وسكنوها، فاكتفى أهل كل بلد بعلمائه، إلا من طلب التوسع في العلم فرحل. 9 - فيه مدى حرص الصحابة والتابعين على العلم، وسفرهم طويلا في طلبه، وقد روى الداودي بسند صحيح عن بشر بن عبيد الله قال: إن كنت لأركب إلى المصر من الأمصار في الحديث الواحد: وعن أبي العالية قال: كنا نسمع الحديث عن الصحابة، فلا نرضى حتى نركب إليهم، فنسمعه منهم. والله أعلم.

(93) باب نزول عيسى ابن مريم حاكما

(93) باب نزول عيسى ابن مريم حاكما 264 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده! ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم صلى الله عليه وسلم حكما مقسطا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد". 265 - وفي رواية ابن عيينة: "إماما مقسطا وحكما عدلاً". وفي رواية يونس "حكما عادلا" ولم يذكر "إماما مقسطا". وفي حديث صالح "حكما مقسطا" كما قال الليث وفي حديثه من الزيادة "وحتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها". ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته} [النساء: 159] الآية. 266 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله لينزلن ابن مريم حكما عادلا، فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير، وليضعن الجزية، ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد، وليدعون (وليدعون) إلى المال فلا يقبله أحد" 267 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم، وإمامكم منكم؟ ". 268 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وأمكم؟ ".

269 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم فأمكم منكم؟ " فقلت لابن أبي ذئب: إن الأوزاعي حدثنا عن الزهري، عن نافع، عن أبي هريرة "وإمامكم منكم" قال ابن أبي ذئب: تدري ما أمكم منكم؟ قلت: تخبرني، قال: فأمكم بكتاب ربكم تبارك وتعالى وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم. 270 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، قال: فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم فيقول أميرهم: تعال صل لنا. فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء، تكرمة الله هذه الأمة". -[المعنى العام]- كلما اطمأن الإنسان لطول أجله تراخى عن العبادة، وكلما أحس بدنوه أقبل وبادر وسارع بفعل الخيرات، وكلما وثق من طول عمر الدنيا ركن إلى الملذات، واشتغل بها عن الطاعات، وكلما أشعر بقرب الساعة شمر عن ساعده وشغل عن دنياه بآخرته. ومن هنا كان من حكمة الله إيقاظ الإنسان من سباته، ومن تفانيه في دنياه، بتذكيره بنهايته، وتبصيره بالعاقبة بين الحين والحين، فكانت الآيات القرآنية المشيرة إلى قرب الساعة كقوله تعالى: {وإنه لعلم للساعة} [الزخرف، 61] {يسألونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها} [النازعات: 42، 43] {لا تأتيكم إلا بغتة} [الأعراف: 187] {وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب} [النحل: 77]. وكانت الأحاديث النبوية، تنذر وتحذر من قرب القيامة، كقوله صلى الله عليه وسلم: "بعثت أنا والساعة كهاتين، وأشار بأصبعيه" "إن الساعة تقوم وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما، فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أحدكم أكلته إلى فيه فلا يطعمها" ومن هذا النمط، وعلى ذلك المنطلق يقول صلى الله عليه وسلم والله الذي نفسي ونفس كل حي بيده لقد قربت الساعة، وأوشكت علامتها، وأوشك أن ينزل فيكم المسيح ابن مريم، يحكم بينكم

بالعدل، ويقضي بينكم بكتاب الله وسنتي، ويبطل الديانات الباطلة، ويدعو الناس إلى الإسلام، ويدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، وتجمع له الصلاة، ويكثر المال، ويعطيه الناس حتى لا يقبله أحد، وينشغل الناس بآخرتهم، فتختفي بينهم العداوة والبغضاء والشحناء والتحاسد، وتقع الأمنة في الأرض. ليوشكن أن ينزل فيكم المسيح ابن مريم كعلامة من علامات الساعة الكبرى، ينزل فيكم بينما رجل صالح منكم قد تقدم ليصلي بكم، فيرجع الإمام، فينكص ليتقدم عيسى، فيقف عيسى بين كتفيه، ثم يقول: تقدم فإنها لك أقيمت. يقول الناس: تقدم يا روح الله، فيقول: إن الله كرمكم وجعل أمراءكم منكم، فليتقدم إمامكم فليصل بكم. ألا فليشمر العاقل وليضع بين عينيه مآله ومصيره، فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والجاهل من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني. -[المباحث العربية]- (ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم) ليوشكن بضم الياء، وكسر الشين معناه ليقربن. قال الحافظ ابن حجر: أي لا بد من ذلك سريعا، ولعله أخذ ذلك من القسم والتأكيد، أما السرعة فمن فعل المقاربة وقوله: فيكم أي في هذه الأمة، فإنه خطاب لبعض الأمة، ممن لا يدرك نزوله. (مقسطا) أي عادلا، يقال أقسط يقسط إقساطا فهو مقسط إذا عدل، والقسط بكسر القاف العدل. وقسط يقسط قسطا بفتح القاف، فهو قاسط إذا جار. (فيكسر الصليب) أي يبطل دين النصرانية، بأن يكسر الصليب حقيقة كشعار لمعظم للنصارى. (ويقتل الخنزير) من قبيل إبطال دين النصرانية. (ويضع الجزية) أي يقررها ويضربها على جميع الكفار، فإنه لا يقاتله أحد فتضع الحرب أوزارها، وينقاد جميع الناس له إما بالإسلام وإما بإلقاء اليد، فيضع عليه الجزية ويضربها. هذا كلام القاضي عياض، وقيل: معناه يوقف الجزية إذ يصير الدين واحدا، فلا يبقى أحد من أهل الذمة يؤدي الجزية. وقيل معناه يترك الجزية مع وجود أهل الذمة، استغناء عنها لكثرة المال، وعدم وجود من يمكن صرفها له، وسيأتي مزيد إيضاح لذلك في فقه الحديث. (ويفيض المال) أي يكثر بنزول البركات والعدل وقلة الرغبة فيه.

(وحتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها) أي في نظر الناس حينئذ، وإلا فإن السجدة في واقع الأمر منذ القدم خير من الدنيا وما فيها، والمراد من الدنيا وما فيها من زينة وبهجة دنيوية، فلا يقال: إن الطاعات مما يقع في الدنيا، وقيل: المعنى حتى لا يتقربوا إلى الله إلا بالعبادة، لا بالتصدق بالمال، أي حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من التصدق بالدنيا وما فيها، لعدم حاجة الناس إلى الصدقة. وهل المراد بالسجدة عينها المتعارف من وضع الجبهة على الأرض، أو المراد منها الركعة من إطلاق الجزء وإرادة الكل، على سبيل المجاز المرسل؟ قيل وقيل. ورواية البخاري "حتى تكون السجدة الواحدة خير من الدنيا وما فيها" برفع "خير" وتحمل على أن اسم كان ضمير الشأن والقصة والسجدة مبتدأ وخير خبره، والجملة خبر كان. على رأي للنحاة. والتقدير: حتى تكون القصة والحال السجدة الواحدة خير من الدنيا وما فيها. {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته} "إن" نافية، والمراد من أهل الكتاب اليهود والنصارى، والظاهر من السياق أن مذهب أبي هريرة أن الضمير في "به" والضمير في "موته" يعود على عيسى، على معنى: لا يبقى أحد من اليهود والنصارى إذا نزل عيسى إلا آمن به، وعلم أنه عبد الله وابن أمته قبل أن يموت عيسى وبهذا جزم ابن عباس فيما رواه ابن جرير، قال قبل موت عيسى: والله إنه لحي، ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون وهذا مذهب جماعة من المفسرين. وقيل: إن الضمير في به لعيسى، والضمير في "موته" للكتابي، والمعنى: وما من أهل الكتاب أحد يحضره الموت إلا آمن عند الموت، قبل خروج روحه بعيسى صلى الله عليه وسلم وأنه عبد الله وابن أمته، ولكن لا ينفعه هذا الإيمان لأنه في حضرة الموت وحالة النزع. قال النووي: وهذا التفسير أظهر. فإن الأول يخص الكتابي الموجود في زمن نزول عيسى، وظاهر القرآن عمومه لكل كتابي في زمن نزول عيسى وقبل نزوله، ويؤيد هذا قراءة من قرأ "قبل موتهم" وأيده الحافظ ابن حجر بما رواه ابن جرير عن ابن عباس قال: "لا يموت يهودي ولا نصراني حتى يؤمن بعيسى"، فقال له عكرمة: أرأيت إن خر من بيت، أو احترق، أو أكله السبع؟ قال: لا يموت حتى يحرك شفتيه بالإيمان بعيسى. وقيل: إن الضمير في "به" يعود لله أو لمحمد عليه الصلاة والسلام وهو بعيد. (ولتتركن القلاص) بكسر القاف، جمع قلوص بفتحها، وهي من الإبل بمنزلة الفتاة من النساء والفتى من الرجال، وإنما ذكرت القلاص لكونها أشرف الإبل التي هي أنفس الأموال عند العرب. (فلا يسعى عليها) أي لا يعتني بها، ويتشاغل عنها أهلها، فهو شبيه بقوله تعالى: {وإذا العشار عطلت} [التكوير: 4] وقيل: لا يسعى عليها أي لا تطلب زكاتها إذ لا يوجد من يقبلها، قال النووي: وهذا تأويل باطل من وجوه كثيرة، تفهم من هذا الحديث وغيره، والصواب الأول، اهـ. وعندي أنه تأويل مقبول محتمل، بعد الذي قيل في معنى وضع الجزية وفيض المال.

(ولتذهب الشحناء) أي العداوة، للانشغال بأمور الساعة. (وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد) ضبطه النووي بضم العين وفتح الواو وتشديد النون، فيكون مبنيا للعلوم، على نمط فليكسرن، وليقتلن وليضعن" فالداعي ابن مريم. (كيف أنتم) خبر ومبتدأ، والاستفهام للتهويل. (تكرمة الله هذه الأمة) بنصب "تكرمة" على المفعول المطلق لفعل محذوف، تقديره: كرم الله هذه الأمة تكرمة، أو على المفعول له، أي لا أكون إماما لتكريم الله هذه الأمة. -[فقه الحديث]- قال بعض العلماء: إن الحكمة في نزول عيسى دون غيره من الأنبياء الرد على اليهود في زعمهم أنهم قتلوه، فبين الله تعالى كذبهم، وأنه هو الذي يقتلهم، أو نزوله لدنو أجله، ليدفن في الأرض، إذ ليس لمخلوق من التراب أن يموت في غيرها. وقيل: إنه دعا الله لما رأى من صفة محمد وأمته أن يجعله منهم فاستجاب الله دعاءه، وأبقاه حتى ينزل في آخر الزمان، مجددا لأمر الإسلام، فيوافق خروج الدجال فيقتله، ذكرهما الحافظ ابن حجر وقال: والأول أوجه. اهـ. والأحاديث الواردة في مدة إقامة عيسى بالأرض مختلفة، وفيها مقال. منها ما رواه مسلم من حديث ابن عمر أنه يقيم بالأرض بعد نزوله سبع سنين. وما رواه نعيم بن حماد في كتاب الفتن من حديث ابن عباس أن عيسى إذ ذاك يتزوج في الأرض ويقيم بها تسع عشرة سنة وبإسناد آخر يقيم أربعين سنة. وقد اختلف في موت عيسى عليه السلام قبل رفعه، والأصل فيه قوله تعالى: {إني متوفيك ورافعك إلي} [آل عمران: 55] فقيل على ظاهره، وعلى هذا فإذا نزل إلى الأرض، ومضت المدة المقدرة له يموت ثانية. وقيل: معنى "متوفيك" أي من الأرض. فعلى هذا لا يموت إلا في آخر الزمان. وإذا كنا لا نركن إلى أي من هذه الآثار في تقدير المدة التي يقيمها آخر الزمان، وإذا كنا لا نجزم بأي من القولين في وفاته، فإن الذي لا نختلف عليه هو نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان، للأحاديث الصحيحة الكثيرة البالغة حد الشهرة في إثبات نزوله. ونزوله علامة من علامات الساعة، وما يحدث على يديه آية من آياتها، ومن مجموع الروايات تبين: 1 - أنه سينشر العدل بين الناس، ويرفع الظلم عنهم.

2 - وأنه سيبطل اليهودية والنصرانية بكسر الصليب وقتل الخنزير. 3 - وأنه سيضع الجزية ولا يقبل من الكفار إلا الإسلام، وقد جاء عند أحمد، عن أبي هريرة "وتكون الدعوى واحدة" ولا يقال: إن هذا الحكم خلاف الشرع الإسلامي، فإن الكتابي إذا بذل الجزية وجب قبولها، ولم يجز قتله، ولا إكراهه على الإسلام، إن قيل هذا فجوابه كما قال النووي: إن هذا الحكم ليس بمستمر إلى يوم القيامة، بل هو مقيد بما قبل نزول عيسى عليه السلام، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث الصحيحة بنسخه، وليس عيسى عليه السلام هو الناسخ، بل نبينا صلى الله عليه وسلم هو المبين للنسخ، فإن عيسى يحكم بشرعنا، فدل على أن الامتناع عن الجزية في ذلك الوقت هو شرع نبينا صلى الله عليه وسلم. اهـ. وقال ابن بطال: وإنما قبلناها قبل نزول عيسى للحاجة إلى المال، بخلاف زمن عيسى، فإنه لا يحتاج إلى المال فإن المال في زمنه يكثر، حتى لا يقبله أحد. اهـ. وحكى الحافظ ابن حجر عن بعض مشايخه تعليلا آخر فقال: ويحتمل أن يقال: إن مشروعية قبولها من اليهود لما في أيديهم من شبهة الكتاب، وتعلقهم بشرع قديم بزعمهم، فإذا نزل عيسى عليه السلام وزالت الشبهة بحصول معاينته، فيصيرون كعبدة الأوثان في انقطاع حجتهم، وانكشاف أمرهم، فناسب أن يعاملوا معاملتهم في عدم قبول الجزية منهم. هكذا ذكره احتمالا، وإن كان بعيدا. 4 - وأن المال يفيض ويزهد فيه، ويهمل النفيس منه لكثرته وعدم الحاجة إليه، إذ تنزل البركات، وتتوالى الخيرات، وتخرج الأرض كنوزها، وتقل الرغبة في اقتناء المال، لعلم الناس بقرب الساعة. 5 - وأن الناس سيتقربون إلى الله، ويتجهون إلى العبادة، حتى تكون الركعة الواحدة أحب إليهم من الدنيا وما فيها. 6 - وأن العداوة والبغضاء والتحاسد ستختفي لانشغال كل امرئ بشأنه وشأن أخراه. 7 - وأن نزول عيسى عليه السلام على أنه فرد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وحاكم بشريعة الإسلام، بالقرآن لا بالإنجيل، وهذا معنى قوله: "وإمامكم منكم" قال ابن التين: معناه أن الشريعة المحمدية متصلة إلى يوم القيامة، وأن في كل قرن طائفة من أهل العلم وأهل الحق ظاهرين. وقد فهم الطيبي من قوله في الرواية الخامسة: "وأمكم" أن معناه أن عيسى يؤمكم حال كونه في دينكم، وهذا الفهم بعيد من ظواهر الروايات الأخرى، بل المراد من قوله وأمكم أي كان إماما أي حاكما لكم. 8 - وأن عيسى عليه السلام سيصلي مأموما خلف رجل من هذه الأمة، تصرح بذلك الرواية السابعة، وفيها "فيقول أميرهم: تعال صل لنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء، تكرمة الله هذه

الأمة" قال الجوزي: لو تقدم عيسى إماما لوقع في النفس إشكال، ولقيل: أتراه تقدم نائبا؟ أو متبدئا شرعا؟ فصلى مأموما لئلا يتدنس بغبار الشبهة. 9 - وأخذ بعضهم من الحديث فوق ما تقدم جواز الحلف من غير استحلاف، مبالغة في تأكيد الخبر. 10 - وتغيير المنكرات وكسر آلة الباطل، وأن من كسر صليبا لا يضمن، لأنه فعل مأمورا به، إذ أخبر صلى الله عليه وسلم بأن عيسى عليه السلام سيفعله، وهو مقرر لشرع نبينا صلى الله عليه وسلم قال الحافظ ابن حجر: ولا يخفى أن محل جواز كسر الصليب إذا كان مع المحاربين أو الذمي إذا جاوز به الحد الذي عوهد عليه، فإذا لم يتجاوز، وكسره مسلم كان متعديا، لأنهم على تقريرهم على ذلك يؤدون الجزية، وهذا هو السر في تعميم عيسى كسر كل صليب، لأنه لا يقبل الجزية. 11 - وتحريم اقتناء الخنزير، وتحريم أكله لأنه نجس، لأن الشيء المنتفع به لا يشرع إتلافه، قال الحافظ ابن حجر، ثم قال: وفي الحديث توبيخ عظيم للنصارى الذين يدعون أنهم على طريقة عيسى ثم يستحلون أكل الخنزير، ويبالغون في محبته. وقال النووي: وفيه دليل للمختار من مذهبنا ومذهب الجمهور أنا إذا وجدنا الخنزير في دار الكفر أو غيرها وتمكنا من قتله قتلناه، وإبطال لقول من شذ من أصحابنا وغيرهم، فقال: يترك إذا لم يكن فيه ضراوة. اهـ. والله أعلم

(94) باب الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان

(94) باب الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان 271 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها. فإذا طلعت من مغربها آمن الناس كلهم أجمعون. فيومئذ {لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا} [الأنعام: 158]. 272 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثلاث إذا خرجن، لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا: طلوع الشمس من مغربها. والدجال. ودابة الأرض". 273 - عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال، يوما أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال "إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش. فتخر ساجدة. فلا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي. ارجعي من حيث جئت. فترجع. فتصبح طالعة من مطلعها. ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش. فتخر ساجدة. ولا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي. ارجعي من حيث جئت. فترجع. فتصبح طالعة من مطلعها. ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئا حتى تنتهي إلى مستقرها ذاك، تحت العرش. فيقال لها ارتفعي. أصبحي طالعة من مغربك. فتصبح طالعة من مغربها". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أتدرون متى ذاكم؟ ذاك حين {لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا} [الأنعام: 158].

274 - عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال، يوما "أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟ " بمثل معنى حديث ابن علية. 275 - عن أبي ذر رضي الله عنه قال: دخلت المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس. فلما غابت الشمس قال "يا أبا ذر! هل تدري أين تذهب هذه؟ " قال، قلت: الله ورسوله أعلم. قال "فإنها تذهب فتستأذن في السجود. فيؤذن لها. وكأنها قد قيل لها: ارجعي من حيث جئت. فتطلع من مغربها" قال، ثم قرأ في قراءة عبد الله: (وذلك مستقر لها). 276 - عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى {والشمس تجري لمستقر لها} [يس: 38] قال "مستقرها تحت العرش". -[المعنى العام]- يحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على إيقاظ الأمة وتوجيهها إلى ربها، وربط الظواهر الطبيعية بخالقها، يخشى أن نركن إلى تتابع الليل والنهار، وأن نظن -بحكم العادة- أن طلوع الشمس وغروبها أمر طبيعي لا مدبر له، ولا حكمة لوجوده، ولا نهاية لامتداده، أو على الأقل نغفل عن ذلك، لا نذكر القاهر الحكيم، اللطيف الخبير. انتهز صلى الله عليه وسلم فرصة غروب الشمس والصحابة معه جلوس في المسجد ينظرون إلى قرصها يغيب من الأفق جزءا بعد جزء، انتهز فرصة تطلع أبي ذر لمعرفة هذا السر، وسؤاله عن معنى قوله تعالى: {والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم} [يس: 38] ولم يشأ أن يقول له وللصحابة: إنها تغيب عنا لتطلع على قوم آخرين، فليس في هذا الجواب ربط بين الخالق والمخلوق، ولم يشأ أن يقول له: إنها لا تغيب عن الكون، فإن هذا الجواب فوق مدارك عقولهم، وهم ما زالوا قريبي عهد بالبادية وأوليات العلوم. لقد قال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: مستقرها تحت عرش الرحمن، أي ما يخيل إلينا من أنه استقرار لها وغيبة إنما هو تحت العرش، كلمة حق، واجب الإيمان بها، فإن الشمس في جميع حالاتها مستقرة تحت العرش، يحتويها ويحيط بها وبغيرها من الكواكب والسموات السبع. وبذلك يربط صلى الله عليه وسلم بين حركة الشمس وبين خالقها ومدبرها الحكيم، ثم لا يكتفي

بذلك، بل يذكر الصحابة بتذليلها وخضوعها وتسخيرها، فيقول لهم: أتدرون أين تذهب هذه الشمس بعد أن تغيب عنا؟ فإذا تشرفوا للجواب، واستسلموا لعلم الله ورسوله قال: إنها تذهب تحت العرش، فتسجد لربها، وتتلقى أمره بالحركة، فيأذن لها بالاستمرار في سيرها، وتعود فتشرق لنا من الشرق، لا ننكر من أمرها شيئا، كلمة حق أخرى، واجب الإيمان بها، فإن الشمس في جميع حركاتها تخضع وتذل لمسخرها، وتجري بأمره وإذنه. وبذلك يربط صلى الله عليه وسلم بين هذا المخلوق العظيم وبين تذليله وتسخيره، حتى يزداد الإنسان الضعيف إيمانا بقدرة القاهر فوق عباده، وهو الحكيم الخبير. ثم لا يكتفي بذلك، بل يذكر الصحابة بالمصير الذي ينتظر المؤمن، وغير المؤمن، فيقول: إنها تظل على حالتها العادية في مسيرتها، حتى يأتي أمر ربها لها بأن تطلع من مغربها، ويعجب الصحابة من طلوعها من مغربها، فيقول لهم صلى الله عليه وسلم: أتدرون متى ذاكم؟ إنه يوم تنتهي الدنيا، إنه يوم تجف أقلام الكتبة، وترفع الصحف، ويختم لكل بما عمل، يوم لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل، يوم لا ينفع نفسا عملها لم تكن عملت من قبل، إن ذلك اليوم من علامات الساعة الكبرى، كالمسيح الدجال الذي يختبر الله به عباده، بما ظهر من خوارق العادات، وكالدابة التي يخرجها الله من الأرض تميز المؤمن من الكافر، وتكلم الخلق أن الناس كانوا بآيات الله لا يوقنون، فاليوم يوقنون بالمشاهدة، ويؤمنون بما كانوا ينكرونه، ويندمون على ما فاتهم، وليس تنفع الحسرة، وليس ينفع الندم، فاللهم إنا نعوذ بك من فتنة المحيا، ومن فتنة الممات، ومن المسيح الدجال. -[المباحث العربية]- (لا تقوم الساعة) الساعة في الأصل جزء من الزمن معروف، والوقت الحاضر، والمراد منها هنا القيامة، سميت بذلك لسرعة قيامها، أو لأنها عند الله سبحانه وتعالى كساعة من نهار. (ثلاث إذا خرجن) أي ثلاث من آيات الساعة إذا خرجن إلى الوجود وظهرن. (طلوع الشمس) خبر مبتدأ محذوف تقديره: إحداها، وإذا روعي المجموع كان تقديره هي كذا وكذا. (والدجال) بفتح الدال وتشديد الجيم، من الدجل، وهو التغطية، وسمي الكذاب دجالا لأنه يغطي الحق بباطله، ولقب الدجال بالمسيح كعيسى، لأن كلا منهما يمسح الأرض، لكن الدجال مسيح الضلالة، وعيسى مسيح الهدى. وبالغ ابن العربي فقال: ضل قوم فرووه المسيخ بالخاء المعجمة، وشدد بعضهم السين، ليفرقوا بينه وبين المسيح ابن مريم بزعمهم، وقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما بقوله في الدجال "مسيح الضلالة" فدل على أن عيسى مسيح الهدى.

(ودابة الأرض) أضيفت إلى الأرض مع أن الأصل في الدابة ما تدب على الأرض، للإشارة إلى أن خلقها ليس بطريق التوالد كبقية الدواب المعروفة. (والشمس تجري لمستقر لها) "مستقر" اسم مكان، واللام بمعنى "إلى" والجري المر السريع، أي تمر مرا سريعا إلى حد معين من فلكها شبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره، من حيث إن في كل انتهاء إلى محل معين. وإن للمسافر قرارا، والشمس لا قرار لها. وقيل "مستقر" اسم زمان، والمعنى: تجري إلى وقت معين، ينتهي عنده سيرها، وهو عند انقضاء الدنيا. -[فقه الحديث]- يمكن حصر فقه الحديث في النقاط التالية: 1 - الشمس وجريها وسجودها واستئذانها وطلوعها من مغربها. 2 - الدجال وما قيل فيه. 3 - دابة الأرض وما قيل فيها. 4 - منزلة هذه الآيات بين علامات الساعة. 5 - عدم نفع الإيمان وتفسير الآية. أما عن النقطة الأولى: فقد أصبح من المعلوم أن الشمس تدور حول نفسها في فلك خاص محدود، وأن الأرض تدور حول نفسها أمام الشمس من الغرب إلى الشرق، فيبدو للعين أن الشمس تجري من المشرق إلى المغرب، فإذا ما قلنا: طلعت الشمس على قوم فحقيقته طلع القوم على الشمس فظهرت لهم، وإذا قلنا: غابت الشمس عندنا فحقيقته غبنا عن الشمس، بدوران الأرض واختفاء الجزء الذي تقع عليه منها وراء الجزء الذي بدأ أمامها. فالتعبير بطلوع الشمس وغروبها في الحديث إنما هو حسب ما يبدو للعين، لا بحسب الحقيقة، أو المراد من الطلوع الظهور، وخوطب القوم على قدر ما تفهم عقولهم. وطلوع الشمس من المغرب في آخر الزمان كعلامة من علامات تبدل الأحوال، معناه: أن الله يغير حركة دوران الأرض، ويعكس اتجاهها حتى تصير دورتها من الشرق إلى الغرب، فتبدو الشمس طالعة من الغرب متجهة نحو الشرق، والله قادر على تسكين المتحرك، وتحريك الساكن، وتبديل الحركات، وذلك تقدير العزيز الحكيم. أما انتهاؤها لمستقرها تحت العرش فهي في كل لحظة منتهية إلى مكان يصلح استقرارا، وهي في جميع حركاتها تحت العرش بمعنى احتوائه عليها وكونها في جوفه كسائر الأفلاك، التي فوق فلكها، والتي تحت فلكها.

أما سجودها واستئذانها فالذي أميل إليه أن المراد به الخضوع والانقياد لتسخير القادر الحكيم، فالحديث يعبر عن لسان الحال، لا عن لسان المقال، وإن كان بعض الأفاضل قد ذهب إلى أن للشمس وغيرها من الكواكب إدراكا وتمييزا، استنادا إلى قوله تعالى: {كل في فلك يسبحون} [الأنبياء: 33] وقوله: {إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين} [يوسف: 4] بضمير العقلاء {وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} [الإسراء: 44]. قال ابن العربي: أنكر قوم سجودها، وهو صحيح ممكن. وقال الألوسي: والذي يخطر بالبال أن الشمس وكذا سائر الكواكب مدركة عاقلة، وقد مال إلى ما أميل إليه الحافظ ابن حجر، إذ قال: يحتمل أن يكون المراد بالسجود سجود من هو موكل بها من الملائكة، أو تسجد بصورة الحال، فيكون عبارة عن الزيادة في الانقياد والخضوع ذلك الحين. والله أعلم. وأما عن النقطة الثانية: فقد روى البخاري عن نافع، قال عبد الله: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يوما بين ظهراني الناس المسيح الدجال، فقال: إن الله ليس بأعور، ألا إن المسيح الدجال أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية. قال الحافظ ابن حجر: اختلف في أمر الدجال من أين يخرج؟ وما الذي يدعيه؟ وما الذي يظهر عند خروجه من الخوارق، حتى يكثر أتباعه؟ ومتى يهلك؟ ومن يقتله؟ ثم أجاب عن السؤال الأول: بأنه يخرج من قبل المشرق، واستدل على أنه يخرج من خراسان، بما أخرجه أحمد والحاكم، وعلى أنه يخرج من أصبهان بما أخرجه مسلم. وعن السؤال الثاني: بأنه يخرج أولا، فيدعي الإيمان والصلاح، ثم يدعي النبوة، ثم يدعي الإلهية، واستدل بما أخرج الطبراني عن النبي صلى الله عليه وسلم "الدجال ليس به خفاء، يجيء من قبل المشرق فيدعو إلى الدين، فيتبع ويظهر، فلا يزال حتى يقدم الكوفة، فيظهر الدين ويعمل به، فيتبع ويحث على ذلك، ثم يدعي أنه نبي، فيفزع من ذلك كل ذي لب ويفارقه، فيمكث بعد ذلك، فيقول: أنا الله، فتغشى عينه، وتقطع أذنه، ويكتب بين عينيه كافر، فلا يخفى على كل مسلم، فيفارقه كل أحد من الخلق في قلبه مثال حبة من خردل من إيمان". قال الحافظ ابن حجر: وسنده ضعيف. وعن السؤال الثالث: روي ما أخرجه نعيم بن حماد من طريق كعب الأحبار. قال: يأتي النهر فيأمره أن يسيل إليه فيسيل، ثم يأمره أن يرجع فيرجع، ثم يأمره أن ييبس فييبس، ويأمر الريح أن تثير سحابا من البحر، فتمطر الأرض. وما رواه مسلم "معه جبال من خبز ولحم ونهر من ماء" وفي رواية "معه جنة ونار، فناره جنة، وجنته نار". وعن السؤال الرابع والخامس قال: إنه يهلك بعد ظهوره على الأرض كلها إلا مكة والمدينة، ثم يقصد بيت المقدس، فينزل عيسى، فيقتله. ثم قال: أخرجه مسلم. "أما بعد" فإن النفس لا تطمئن إلى هذه الإجابات عن الأسئلة الخمسة، ولا يضرنا في ديننا أن

نمسك عن الخوض في هذه التفاصيل، ويزيدنا تمسكا بهذا الاعتقاد ما رواه البخاري عن المغيرة بن شعبة قال: ما سأل أحد النبي صلى الله عليه وسلم عن الدجال ما سألته، وإنه قال لي: ما يضرك منه؟ قلت: لأنهم يقولون: إن معه جبل خبز ونهر ماء، قال: بل هو أهون على الله من ذلك". وكل ما يجب علينا أن نؤمن بأن الدجال من علامات الساعة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر في الصحيح بذلك، وكان يستعيذ في صلاته من فتنة الدجال. والله أعلم. وأما عن النقطة الثالثة: ففيها يقول الله تعالى: {وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون} [النمل: 82]. وأخرج أحمد والترمذي وابن ماجه وغيرهم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تخرج دابة الأرض ومعها عصا موسى وخاتم سليمان عليهما السلام، فتجلو وجه المؤمن بالخاتم [أي تصقله] وتحطم أنف الكافر بالعصا، حتى يجتمع الناس على الخوان، يعرف المؤمن من الكافر" وقد بالغ كثير من الناس -استنادا إلى آثار ضعيفة - في وصف الدابة وأذنها وعينها وقرنها وعنقها وصدرها وخاصرتها وذنبها وقوائمها ولونها وصوتها -بأوصاف لا تكاد تعقل. ويعجبني ما ذكر في البحر قال: اختلفوا [في ماهيتها، وشكلها، ومحل خروجها، وعدد خروجها، ومقدار ما يخرج منها، وما تفعل بالناس، وما الذي تخرج به] اختلافا مضطربا معارضا بعضه بعضا، فليطرح ذكره لأن نقله تسويد للورق بما لا يصح، وتضييع لزمان نقله. اهـ. قال الألوسي، بعد أن نقل بعض أوصافها وأحوالها، ونقل كلام البحر، قال من كلام البحر: وهو كلام حق، وإنما نقلت بعض ذلك دفعا لشهوة من يحب الاطلاع على شيء من أخبارها، صدقا كان أو كذبا. والله أعلم. وأما عن النقطة الرابعة: فقد قال الطيبي: الآيات أمارات الساعة، إما عن قربها، وإما على حصولها: فمن الأول الدجال، ونزول عيسى، ويأجوج ومأجوج، والخسف، ومن الثاني الدخان، وطلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، والنار التي تحشر الناس. اهـ. وظاهر الرواية الثانية من رواياتنا التي معنا أن الدجال بعد طلوع الشمس من مغربها، وهو مشكل، إذ نصها "ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض" مشكل لأن طلوع الشمس من المغرب لو كان قبل الدجال لم ينفع الكفار إيمانهم في زمن عيسى ولكنه ينفعهم. وقد حاول بعضهم رفع هذا الإشكال، فقال: لعل حصول ذلك يكون متتابعا بحيث تبقى النسبة إلى الأول منها مجازية، استئناسا بما أخرجه أحمد "الآيات خرزات منظومات في سلك إذا انقطع تبع بعضها بعضا" ورده الحافظ ابن حجر فقال: هذا بعيد، لأن مدة لبث الدجال إلى أن يقتله عيسى، ثم لبث عيسى وخروج يأجوج ومأجوج، كل ذلك سابق على طلوع الشمس من مغربها. اهـ.

والتحقيق: أن العطف بالواو لا يقتضي الترتيب بين المعطوفات، والرواية لم تقصد ترتيب الآيات، وإنما قصدت أن مجموعها غاية ينتهي عندها نفع الإيمان، بقطع النظر عن أيها السابق في الوجود، ويضاف إلى ذلك احتمال كونها رواية بالمعنى، وأن الراوي أخر ما قدمه الرسول صلى الله عليه وسلم. نعم يرد على هذا ما رواه مسلم عن عمرو بن العاص رفعه "أول الآيات طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى، فأيهما خرجت قبل الأخرى فالأخرى منها قريب". ويجاب بأن الأولية أولية نسبية، فقد يكون الشيء أولا باعتبار، وليس أولا باعتبار آخر، ولهذا يقول الحافظ ابن حجر: والذي يترجح من مجموع الأخبار أن خروج الدجال أول الآيات العظام المؤذنة بتغير الأحوال العامة في معظم الأرض، وينتهي ذلك بموت عيسى ابن مريم، وأن طلوع الشمس من المغرب هو أول الآيات العظام المؤذنة بتغير أحوال العالم العلوي، وينتهي ذلك بقيام الساعة، ولعل خروج الدابة يقع في ذلك اليوم الذي تطلع فيه الشمس من المغرب، والحكمة في ذلك أنه عند طلوع الشمس من المغرب يغلق باب التوبة، فتخرج الدابة تميز المؤمن من الكافر تكميلا للمقصود من إغلاق باب التوبة. وأول الآيات المؤذنة بقيام الساعة النار التي تحشر الناس، كما جاء في الحديث: "وأما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب". وأما عن النقطة الخامسة: فقد روى مسلم عن أبي هريرة رفعه "من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه" وروى أبو داود والنسائي عن معاوية رفعه "لا تزال تقبل التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها" وأخرج أحمد والطبراني: "لا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت طبع الله على كل قلب بما فيه، وكفى الناس العمل" وأخرج الطبراني عن عبد الله بن عمرو رفعه "إذا طلعت الشمس من مغربها خر إبليس ساجدا، ينادي: إلهي مرني أن أسجد لمن شئت" وأخرج الترمذي: "إن بالمغرب بابا مفتوحا للتوبة مسيرة سبعين سنة لا يغلق حتى تطلع الشمس من نحوه" وعند ابن مردويه "فإذا طلعت من مغربها رد المصراعان فيلتئم ما بينهما، فإذا أغلق ذلك الباب لم تقبل بعد ذلك توبة، ولا تنفع حسنة، إلا من كان يعمل الخير قبل ذلك فإنه يجري لهم ما كان قبل ذلك". وعند نعيم بن حماد عن عبد الله بن عمرو قال: لا يلبثون بعد يأجوج ومأجوج إلا قليلا حتى تطلع الشمس من مغربها، فيناديهم مناد، يا أيها الذين آمنوا قد قبل منكم، ويا أيها الذين كفروا قد أغلق عنكم باب التوبة، وجفت الأقلام، وطويت الصحف" وفي رواية: "إذا طلعت الشمس من المغرب يطبع على القلوب بما فيها، وترتفع الحفظة، وتؤمر الملائكة ألا يكتبوا عملا. قال القاضي عياض: والحكمة في ذلك أن هذا أول ابتداء قيام الساعة بتغير العالم العلوي، فإذا شوهد ذلك حصل الإيمان الضروري بالمعاينة وارتفع الإيمان بالغيب، فهو كالإيمان عند الغرغرة، وهو لا ينفع، فالمشاهدة لطلوع الشمس من المغرب مثله. اهـ.

وهذا كلام جيد يؤيده ما جاء في الرواية الأولى: "فإذا طلعت من مغربها آمن الناس كلهم أجمعون، فيومئذ لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا". وقد تشبث المعتزلة بالآية للاستدلال بها على مذهبهم في أن الإيمان المجرد عن العمل لا يعتبر، ولا ينفع صاحبه، ويفسرون الآية بأن معناها: يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع الإيمان حينئذ نفسا غير مقدمة إيمانها، أو مقدمة إيمانها غير كاسبة فيه خيرا، فتقديم الإيمان من غير كسب عمل لا يفيد. وفسر ابن عطية الآية بما يساير مذهب أهل السنة، فقال ما حاصله: معنى الآية أن الكافر لا ينفعه إيمانه بعد طلوع الشمس من المغرب، وكذلك العاصي لا تنفعه توبته، ومن لم يعمل صالحا من قبل، ولو كان مؤمنا، لا ينفعه العمل بعد طلوعها من المغرب. وقال ابن المنير في الانتصاف: هذا الكلام من البلاغة يلقب باللف، وأصله: يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا لم تكن مؤمنة قبل، إيمانها بعد، ولا ينفع نفسا لم تكسب خيرا قبل، ما تكسبه من الخير بعد، فلف الكلامين، فجعلهما كلاما واحدا إيجازا. اهـ. قال الألوسي- بعد أن ساق توجيهات أهل السنة: وبعد ذلك كله يرد على المعتزلة بأن "خيرا" نكرة في سياق النفي، فيعم، ويلزم أن يكون نفع الإيمان بمجرد كسب خير ولو واحدا، وليس ذلك مذهبهم فإن جميع الأعمال الصالحة داخلة في الخير عندهم. اهـ. والله أعلم

(95) باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

(95) باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم 277 - عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها، أنها قالت: كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم. فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حبب إليه الخلاء. فكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه. (وهو التعبد) الليالي أولات العدد. قبل أن يرجع إلى أهله. ويتزود لذلك. ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها. حتى فجئه الحق وهو في غار حراء. فجاءه الملك فقال: اقرأ. قال "ما أنا بقارئ" قال، فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد. ثم أرسلني فقال: اقرأ. قال قلت: ما أنا بقارئ. قال فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد. ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد. ثم أرسلني فقال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم} [العلق: 1 - 5] فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال "زملوني زملوني" فزملوه حتى ذهب عنه الروع. ثم قال لخديجة "أي خديجة! ما لي" وأخبرها الخبر. قال "لقد خشيت على نفسي" قالت له خديجة: كلا أبشر. فوالله! لا يخزيك الله أبدا. والله! إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى. وهو ابن عم خديجة، أخي أبيها. وكان امرأ تنصر في الجاهلية. وكان يكتب الكتاب العربي، ويكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب. وكان شيخا كبيرا قد عمي. فقالت له خديجة: أي عم، اسمع من ابن أخيك. قال ورقة ابن نوفل: يا ابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رآه. فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى صلى الله عليه وسلم. يا ليتني فيها جذعا. يا ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أومخرجي هم؟ "قال ورقة: نعم. لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي. وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. 278 - عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم

من الوحي. وساق الحديث بمثل حديث يونس غير أنه قال: فوالله لا يحزنك الله أبدا. وقال: قالت خديجة: أي ابن عم! اسمع من ابن أخيك. 279 - عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها قالت: فرجع إلى خديجة يرجف فؤاده. واقتص الحديث بمثل حديث يونس ومعمر ولم يذكر أول حديثهما. من قوله: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة. وتابع يونس على قوله "فوالله لا يخزيك الله أبدا" وذكر قول خديجة "أي ابن عم اسمع من ابن أخيك". -[المعنى العام]- لقد حبب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلاء والعزلة، والبعد عن الأوثان والرجس، فكان يهرب بنفسه إلى جبل قريب من مكة، وفي فجوة من فجواته، وكهف من كهوفه وغار من غيرانه، يسمى غار حراء، كان يخلو ويتعبد، ويتفكر في الإله الخالق المدبر، ويأسف لقومه الذين يعبدون ما لا ينفع ولا يضر، ولا يغني عن الحق شيئا. لقد رحل في تجارته إلى الشام، والتقى في طريقه ببعض الرهبان، وبشروا به عمه، وأوصوه به خيرا، إنه يطمع فيما قاله الرهبان أن نبيا من العرب يبعث في آخر الزمان، لقد شهد العرب له بالأمانة والصدق، وشهد له معارفه بمكارم الأخلاق، فلم لا يكمل نفسه، ولم لا يطرق باب التبتل، ولو شهرا من كل عام، لقد اختار شهر رمضان -أو هكذا ألهمه ربه- ليكون شهر التعبد في غار حراء، فكان يأخذ زاد أيام، وماذا عساه أن يكون الزاد؟ إنه لقيمات وتمرات وقليل من اللبن، يأكل منه ما تيسر، ويطعم منه ابن السبيل، ويمنح بقاياه للطيور، ثم يعود إلى مكة وإلى زوجه خديجة، ليأخذ زادا جديدا لمدة جديدة، وإنها لنعمت الزوج، لم تكن تقدم مصلحتها ولا مصلحة بناتها عليه فتطلب منه بقاءه بجوارها، ولم تكن تتقاعس عن تزويده بما يريد، بل كانت عونا له وسندا، تسارع بإعداد زاده، وتحمله عنه خطوات تودعه بها متمنية أن لو كانت بجواره في الغار، لولا بناتها الصغيرات، وكان التبتل عنده صلى الله عليه وسلم فوق مطالب النفس، وشهوة الجسد، فكان ما أسرع أن يودع أهله، ليعيش في خلوته وعزلته، حتى إذا فقد زاده عاد فتزود حتى ينتهي آخر شهر رمضان، فينزل ليعيش بين أهله، إلى شهر رمضان من العام الآخر، وهكذا لقد صفت نفسه، واستنارت مرآة بصيرته، فكانت الرؤيا الصادقة بشرى من بشريات الله، ومقدمة من مقدمات الوحي، فكان صلى الله عليه وسلم لا يرى رؤيا إلا جاءت واضحة صادقة مثل ضوء الصبح. وفي خلوة من خلواته بغار حراء سمع صوتا يقول له: اقرأ. ماذا يقرأ وليس أمامه كتاب ولا

مكتوب؟ وكيف يقرأ وهو أمي، لا يعرف القراءة؟ قال للصوت متعجبا مجيبا: ما أنا بعارف للقراءة، وشعر بشيء يضمه ويضغط عليه، حتى لتكاد ضلوعه تتداخل، وحتى ليكاد نفسه يضيق، ثم أطلق وتنفس الصعداء، وسمع الصوت ثانيا يقول له: اقرأ. وأجاب بنفس الجواب الأول: ما تعلمت القراءة، وشعر ثانية بالضغط الشديد، ثم أطلق وسمع الصوت يقول له: اقرأ قال: ما أنا بقارئ، فشعر بالضغط ثالثة، ثم أطلق، وسمع الصوت يقول: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} الذي خلقك وخلق القوى والقدر {خلق الإنسان من علق} فسواه في أحسن تقويم {اقرأ وربك الأكرم} كرمك بالشرف والنبوة، وبالقدرة على القراءة وإن كنت أميا، فهو {الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم} [العلق: 4 - 5]. وسكت الصوت، والتفت الرسول صلى الله عليه وسلم حوله فلم ير شيئا، لقد فزع في مكانه الموحش وارتعدت فرائصه، ونفرت عروقه، وهرول إلى خديجة يستنجد برأيها السديد، ويشكو لها ما به، ويحكي لها ما رأى: يقول لها: إني أخاف على نفسي، إن ما أجد فوق طاقة البشر، إنني أخشى ألا أطيق، قالت له خديجة: أبشر ولا تخف، إنك تتحلى بكريم الصفات: تصل الأقارب، وتساعد المحتاج وتكرم الضيف، وتعين المنكوب، أبشر فمثلك لا يخزيه الله أبدا. وفكرت فيما تفسر به ما رأى وما حكى؟ وماذا عساها تفسر له ما لم يسبق لعلمها مثله؟ لكنها تطمئن إلى أن التفسير عند ابن عمها ورقة بن نوفل. الرجل المثقف. القارئ والكاتب بالعربية والعبرانية، المطلع على الكتب المنزلة، المهتدي إلى النصرانية الصحيحة قبل تحريفها، ذهبت إليه وحدها، وحكت له قصة زوجها، فقال لها: إنه النبي المنتظر الذي نقرأ عنه في التوراة والإنجيل، والذي يحذر اليهود والنصارى أبناءهم منه، والذي محا الأساقفة ذكره من الكتب المنزلة خوفا على سلطتهم. وعادت خديجة لتصحب زوجها إلى ابن عمها، ليسمع كل من الآخر. قالت له: يا ابن عم. اسمع من ابن أخيك. فقال ورقة: قال يا ابن أخي، ماذا ترى؟ فقص عليه ما رأى. قال ورقة: أبشر، هذا أمين الوحي، وصاحب السر، الذي أنزله الله على موسى، يا ليتني أبقى حيا إلى أن يحاربك قومك ويخرجوك من بلدك، وفزع صلى الله عليه وسلم لخبر إخراجه من أحب بلد إلى نفسه. فقال: أيصل بهم عدائي إلى إخراجي؟ قال: نعم. ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عاداه قومه، وإن يدركني يوم إخراجك أنصرك نصرا عظيما، نصرا لا يعادله نصر، وكان ورقة شيخا كبيرا قد عمي، فلم يلبث بعد هذا الحديث إلا قليلا حتى توفي. -[المباحث العربية]- (كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي) "أول" اسم "كان" وخبرها "الرؤيا

الصادقة" والوحي لغة الإعلام في خفاء، وقيل: أصله التفهيم، وكل ما دللت به من كلام أو كتابة أو إشارة فهو وحي. وشرعا الإعلام بالشرع، وهو المقصود في الحديث الذي معنا. وقد يطلق الوحي ويراد به اسم المفعول منه أي الموحى به. وهو كلام الله، كما يطلق ويراد به الواسطة النازلة للإعلام. وهو جبريل عليه السلام حامل الوحي، ومنه حديث "كيف يأتيك الوحي؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال ... " الحديث. و"من" في قولها "من الوحي" تبعيضية، أي من أقسام الوحي، ويحتمل أن تكون بيانية. (الرؤيا الصادقة في النوم) قال الراغب: الرؤية بالهاء: إدراك المرء بحاسة البصر، وتطلق على ما يدرك بالتخيل، نحو أرى أن زيدا ما سفر. وعلى التفكر النظري نحو "إني أرى ما لا ترون" وعلى الرأي. اهـ والرؤيا بالقصر: ما يراه الشخص في منامه، وعليه فقولها "في النوم" صفة كاشفة لزيادة الإيضاح، وقال بعض العلماء، قد تجيء الرؤيا بمعنى الرؤية، كقوله تعالى: {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس} [الإسراء: 60] فزعم أن المراد بها ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء من العجائب، وكان الإسراء جميعه في اليقظة. قال الحافظ ابن حجر: وعكس بعضهم، فزعم أنه حجة لمن قال: إن الإسراء كان مناما، والأول هو المتعمد، وتتمة الكلام عن أقسام الوحي وحقيقة الرؤيا تأتي في فقه الحديث. وفي رواية البخاري "الصالحة" بدل "الصادقة" قال النووي: وهما بمعنى واحد، قال الحافظ ابن حجر: هما بمعنى واحد بالنسبة إلى أمور الآخرة في حق الأنبياء، وأما بالنسبة إلى أمور الدنيا فبينهما عموم وخصوص. اهـ. فالصادقة هي التي تقع بعينها أو بتعبير، ورؤيا الأنبياء كلها كذلك، أي ليست أضغاث أحلام. والصالحة هي التي تسر، وليست رؤيا الأنبياء كلها كذلك في أمور الدنيا. (مثل فلق الصبح) بنصب "مثل" على الحال، أي مشبهة ضياء الصبح، أو على أنه صفة لمصدر محذوف، أي جاءت مجيئا مثل فلق الصبح، والمراد بفلق الصبح ضياؤه، وخص بالتشبيه لظهوره الواضح الذي لا شك فيه، ويقال فيه: فرق الصبح بالراء. (ثم حبب إليه الخلاء) "حبب" بالبناء للمجهول، لعدم تحقق الباعث على ذلك، والخلاء بالمد المكان الخالي، ويطلق على الخلوة وهو المراد هنا، والتعبير بثم ظاهر في أن تحبيب الخلوة متأخر عن الرؤيا الصادقة، ويحتمل أن تكون لترتيب الأخبار، فيكون تحبيب الخلوة سابقا على الرؤية الصادقة، والأول أظهر. (فكان يخلو بغار حراء) الغار: الكهف والنقب في الجبل، والغار والمغارة بمعنى واحد. و"حراء" بكسر الحاء وتخفيف الراء وبالمد مصروف، علم مذكر، هذا هو الصحيح. وقال القاضي عياض: فيه لغتان: التذكير والتأنيث، والتذكير أكثر، فمن ذكره صرفه، ومن أنثه أراد البقعة أو الجهة التي فيها الجبل، ولم يصرفه للعلمية والتأنيث.

و"حراء" جبل بينه وبين مكة نحو ثلاثة أميال عن يسار الذاهب من مكة إلى منى. (يتحنث فيه- وهو التعبد- الليالي أولات العدد) التحنث: التعبد وأصل الحنث الإثم، فمعنى "يتحنث" يتجنب الحنث، فكأنه بعبادته يمنع نفسه من الحنث، ومثله يتحرج يتجنب الحرج، و"الليالي" منصوب على الظرفية، متعلق بيتحنث لا بالتعبد، تفسير للتحنث صادر من الزهري الراوي، و"أولات" منصوب بالكسرة صفة لليالي، وأولات العدد أي الليالي الكثيرة، وإبهام العدد لاختلافه من فترة إلى أخرى. (قبل أن يرجع إلى أهله) أي زوجه خديجة وأولاده منها، أي كان يتعبد بعض الليالي، ثم يرجع إلى بيته. (ويتزود لذلك) أي للتحنث فترة أخرى، والتزود استصحاب الزاد. (ثم يرجع إلى خديجة) أي بعد التحنث فترة أخرى ليالي ذوات العدد. (فيتزود لمثلها) لمثل الليالي ذوات العدد، ويحتمل أن يكون الضمير للمرة أو الفعلة أو الخلوة أو العبادة، والأول أقرب. (حتى فجئه الحق) "حتى" هنا على بابها من انتهاء الغاية، أي انتهى توجهه لغار حراء مؤقتا بمجيء الملك، فترك ذلك، بقية شهر رمضان لانزعاجه، وليس معنى هذا أنه انقطع عن الذهاب إلى الغار نهائيا، بل إنه ذهب إليه في الغار بعد ذلك كما سيفهم من شرح الحديث التالي و"فجئه" بفتح الفاء وكسر الجيم ثم همزة، أي جاءه الوحي بغتة، قال النووي: فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن متوقعا للوحي. وفي الكلام مضاف محذوف، قال الطيبي: أي أمر الحق، وهو الوحي، أو رسول الحق، وهو جبريل، وقيل الأمر البين الظاهر، أو المراد حتى جاءه الملك بالحق، أي بالأمر الذي بعث به. (وهو في غار حراء) جملة في محل النصب على الحال وهي تفيد رفع توهم من يظن أن الملك لم يدخل إليه الغار، وأنه كلمه من الخارج والنبي صلى الله عليه وسلم بالداخل. (فجاءه الملك) أي جبريل، لا خلاف في ذلك، وهل كان صلى الله عليه وسلم يعرف حين جاءه أنه الملك جبريل؟ أو أخبر وقت ذاك بأنه جاءه جاء، والتعبير عنه بالملك من لفظ عائشة، وقصدت به ما تعهده، وما عرف بعد بأنه جبريل؟ .. قولان. والفاء في "فجاءه" تفسيرية، وليست تعقيبية، لأن مجيء الملك ليس بعد مجيء الوحي، بل هو نفسه، والتفسير عين المفسر من جهة الإجمال، وغيره من جهة التفصيل. (فقال: اقرأ) قيل: يحتمل أن تكون صيغة الأمر محذوفة، أي قل: اقرأ، وأن مراد جبريل بهذا أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم لفظ "اقرأ" وإنما لم يقل له. قل اقرأ إلى آخره لئلا يظن أن لفظة "قل" قرآن. قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون السر فيه الابتلاء في أول الأمر حتى يترتب عليه ما وقع من

الغط وغيره، ولو قال له في الأول. قل: {اقرأ باسم ربك} إلى آخره لبادر إلى ذلك، ولم يقع منه ما وقع. (ما أنا بقارئ) معناه: لا أحسن القراءة، فما نافية، والباء زائدة لتأكيد النفي، هذا هو الصواب. وقال بعضهم: يصح أن تكون استفهامية. استئناسا برواية "ما أقرأ"؟ ورواية "ماذا أقرأ"؟ ويضعفه دخول الباء. وإن حكي عن الأخفش جوازه فهو شاذ. (غطني حتى بلغ مني الجهد) غطني بفتح الغين وتشديد الطاء، ضمني وعصرني. والغط في الأصل حبس النفس "والجهد" روي بفتح الجيم ونصب الدال، أي بلغ الغط مني غاية وسعي. وروي بضم الجيم والرفع أي بلغ مني الجهد مبلغه. (ثم أرسلني) أي أطلقني. (فرجع بها) الباء للمصاحبة. أي مصاحبا للآيات الخمس المذكورة. (ترجف بوادره) البوادر جمع بادرة، وهي اللحمة التي بين المنكب والعنق، وجرت العادة بأنها تضطرب عند الفزع. وجمع فقال: "بوادره" وللإنسان بادرتان على رأي من يرى الجمع فوق الواحد. وفي الرواية الثانية "ويرجف فؤاده" فإسناد الرجفان إلى الفؤاد لأنه محله وإلى البوادر لأنها مظهره. وعلمت خديجة برجفان فؤاده عن طريق القرائن وصورة الحال. (زملوني. زملوني) مرتين. وهو كذلك في أكثر الروايات. ووقع في بعضها عند البخاري مرة واحدة، والتزميل: التلفيف. وقال ذلك لشدة ما لحقه من هول الأمر. وجرت العادة بسكون الرعدة بالتلفيف. (فزملوه حتى ذهب عنه الروع) بفتح الراء، وهو الفزع. (أي خديجة. ما لي؟ ) "أي" حرف نداء. و"ما" اسم استفهام مبتدأ وخبره "لي" يعنى أي شيء حصل لي؟ . (كلا) قال النووي وغيره "كلا" كلمة نفي وإبعاد، وقال القزاز: هي هنا بمعنى الرد لما خشي على نفسه. أي لا خشية عليك. (أبشر) لم تبين الروايات هنا المبشر به، اللهم إلا إذا اعتبرنا نفي الخزي خيرا يبشر به، لكن ورد في دلائل البيهقي "أبشر، إن هذا والله خير" وفي رواية "أبشر فإنك رسول الله حقا". (لا يخزيك الله أبدا) وفي رواية "لا يحزنك" وأحزنه لغة تميم، وحزنه لغة قريش، والخزي: الوقوع في بلية وشهرة بذلة. (وتحمل الكل) بفتح الكاف أصله الثقل، ومنه قوله تعالى: {وهو كل على

مولاه} [النحل: 76] ويدخل في حمل الكل الإنفاق على الضعيف واليتيم والعيال وغير ذلك، وهو من الكلال، وهو الإعياء. فالكل هو: من لا يستقل بأمره. (وتكسب المعدوم) روي بضم التاء، ومعناه تكسب غيرك المال المعدوم، أي تعطيه إياه تبرعا، أو تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك من نفائس الفوائد ومكارم الخلاق. فحذف أحد المفعولين. وروي بفتح التاء. قال النووي: وهذا هو الصحيح المشهور. يقال: كسبت الرجل مالا. وأكسبته مالا. لغتان. أفصحها باتفاق أهل اللغة كسبته بحذف الألف، والمعنى على الفتح يمكن أن يكون كالمعنى على الضم، وقيل: معناه تكسب المال المعدوم، وتصيب منه ما يعجز غيرك عن تحصيله، ثم تجود به في وجوه الخير، وجعل بعضهم المعدوم عبارة عن الرجل المحتاج المعدم العاجز عن الكسب، وسماه معدوما لأنه كالمعدوم الميت، حيث لم يتصرف في المعيشة كما يتصرف غيره. وقيل: معناه وتسعى في طلب عاجز فتنعشه. والكسب هو الاستفادة. (وتقري الضيف) بفتح التاء. قال أهل اللغة: يقال قريت الضيف أقريه قرى بكسر القاف، وقرى الضيف إكرامه. (وتعين على نوائب الحق) النوائب جمع نائبة، وهي الحادثة، وجملة "وتعين على نوائب الحق" كلمة جامعة لأفراد ما تقدم، ولما لم يتقدم. (فانطلقت به خديجة) أي مضت معه، فالباء للمصاحبة. (وهو ابن عم خديجة - أخي أبيها) "أخي أبيها" بدل من "عم" وفائدة ذكرها رفع توهم أن العمومة مجازية. (وكان امرأ تنصر في الجاهلية) أي صار نصرانيا قبل رسالة محمد صلى الله عليه وسلم قال الحافظ ابن حجر: وقد تطلق الجاهلية ويراد بها ما قبل دخول المحكي عنه في الإسلام، وله أمثله كثيرة. اهـ. (وكان يكتب الكتاب العربي، ويكتب من الإنجيل بالعربية) هكذا في مسلم "الكتاب العربي" و"يكتب بالعربية" ووقع في صحيح البخاري "يكتب الكتاب العبراني. فيكتب من الإنجيل بالعبرانية" وكلاهما صحيح، وحاصلهما أنه تمكن من معرفة دين النصارى، بحيث إنه صار يتصرف في الإنجيل، فيكتب أي موضع شاء منه، بالعبرانية إن شاء وبالعربية إن شاء، لتمكنه من الكتابين واللسانين، وإنما وصفته بكتابة الإنجيل دون حفظه لأن حفظ التوراة والإنجيل لم يكن متيسرا كتيسير حفظ القرآن الذي خصت به هذه الأمة. ولهذا جاء في وصفها "أناجيلها صدورها". (فقالت له خديجة: أي عم) وفي الرواية الثانية "أي ابن عم" قال النووي: هكذا هو في الأصول، وفي الأولى "عم" وفي الثانية "ابن عم" وكلاهما صحيح، أما الثاني فلأنه ابن عمها حقيقة،

كما ذكره أولا في الحديث، وأما الأول فسمته عما مجازا للاحترام، وهذه عادة العرب في آداب خطابهم، يخاطب الصغير الكبير بيا عم، احتراما له ورفعة لمرتبته، ولا يحصل هذا الغرض بقولها: يا بن عم، اهـ. ولم يرتض الحافظ ابن حجر هذا التوجيه، لأن القصة لم تتعدد، ومخرجها متحد، فلا يحمل أنها قالت ذلك مرتين، مرة "أي عم" ومرة "أي ابن عم" فوجب اعتماد الحقيقة وهي "أي ابن عم" واعتبار رواية "أي عم" وهما من الراوي. (اسمع من ابن أخيك) لأن والده عبد الله بن عبد المطلب، وورقة في عدد النسب إلى قصي ابن كلاب [الذي يجتمعان فيه] سواء، فكان من هذه الحيثية في درجة أخوته، أو قالته على سبيل التوقير لسنه. (هذا الناموس الذي أنزل على موسى) "الناموس" في اللغة صاحب سر الخير، والجاسوس صاحب سر الشر، قال الحافظ ابن حجر: والصحيح الذي عليه الجمهور أن "الناموس" صاحب السر مطلقا. ويقال: نمست السر أنمسه بكسر الميم، أي كتمته، واتفقوا على أن جبريل عليه السلام يسمى الناموس، واتفقوا على أنه المراد هنا. قال الهروي: سمي بذلك لأن الله تعالى خصه بالغيب والوحي. (يا ليتني فيها جذعا) الضمير في "فيها" يعود إلى أيام النبوة ومدتها. وقوله "جذعا" بفتح الجيم والذال، أي شابا قويا، وهو هنا استعارة، وأصل الجذع الصغير من البهائم، كأنه تمنى أن يكون عند ظهور الدعوة إلى الإسلام شابا، ليكون أمكن لنصره، وبهذا يتبين سر الوصف بكونه كان شيخا كبيرا قد عمي، والمشهور في الصحيحين وغيرهما "جذعا" بالنصب، وفي بعض الروايات "جذع" بالرفع، وإعرابها ظاهر، خبر "ليت" وأما النصب فقيل على أنه خبر "كان" المحذوفة، والتقدير: يا ليتني أكون فيها جذعا، وهذا يصح على مذهب الكوفيين، والصحيح الذي اختاره أهل التحقيق أنه منصوب على الحال، وخبر ليت الجار والمجرور، والتقدير: يا ليتني أستقر في أيام البعثة حالة كوني شابا قويا. (أومخرجي هم؟ ) بفتح الواو وتشديد الياء، هكذا الرواية، ويجوز تخفيف الياء على وجه، والصحيح المشهور تشديد الياء، وهو جمع مخرج فالياء الأولى ياء الجمع، والثانية ضمير المتكلم، وفتحت للتخفيف لئلا يجتمع الكسرة والياءان بعد كسرتين. و"هم" مبتدأ مؤخر. و"مخرجي" خبر مقدم. (لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي) في بعض الروايات "بمثل ما جئت به". (وإن يدركني يومك) أي وإن يدركني يوم بعثك ودعوتك حيا. (أنصرك نصرا مؤزرا) أي قويا بالغا. مأخوذ من الأزر وهو القوة، وقيل: من الإزار، وأشار بذلك إلى تشميره في تصرفه.

-[فقه الحديث]- قال المازري: كثر كلام الناس في حقيقة الرؤيا. وقال فيها غير الإسلاميين أقاويل كثيرة منكرة، لأنهم حاولوا الوقوف على حقائق لا تدرك بالعقل، ولا يقوم عليها برهان. وهم لا يصدقون بالسمع. فاضطربت أقوالهم: فمن ينتمي إلى الطب ينسب الرؤيا إلى الأخلاط. فيقول: من غلب عليه البلغم رأى أنه يسبح في الماء ونحوه، ومن غلبت عليه الصفراء رأى النيران والصعود في الجو، وهكذا إلى آخره، ومن ينتمي إلى الفلسفة يقول: إن صور ما يجري في الأرض هي في العالم العلوي كالنفوس. فما حاذى بعض النفوس منها انتقش فيها. قال: وهذا أشد فسادا من الأول. اهـ. وقال القرطبي: سبب تخليط غير الشرعيين إعراضهم عما جاءت به الأنبياء من الطريق المستقيم، وبيان ذلك: أن الرؤيا إنما هي من إدراكات النفس، وقد غيب عنا علم حقيقتها -أي النفس- وإذا كان كذلك فالأولى ألا نعلم علم إدراكاتها. بل كثير مما انكشف لنا من إدراكات السمع والبصر إنما نعلم منها أمورا جملية لا تفصيلية. اهـ. وقال أبو بكر بن العربي: الرؤيا إدراكات علقها الله تعالى في قلب العبد، على يدي ملك أو شيطان. إما بأسمائها -أي حقيقتها- وإما بكناها- أي بعبارتها- وإما تخليط. ونظيرها في اليقظة الخواطر فإنها قد تأتي على نسق وفي قصد، وقد تأتي مسترسلة من غير قصد. اهـ. والتحقيق أن الرؤيا أنواع: منها ما يكون بتلاعب الشيطان. ليحزن الرائي. وفي هذا النوع يقول صلى الله عليه وسلم: "وإذا رأى أحدكم غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان. فليستعذ بالله من شرها. ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره". ومنها ما يكون نتيجة لإطلاق النفس في النوم نحو رغباتها وآمالها المكبوتة في اليقظة. وفي هذا النوع يقول المثل: حلم الجائع خبز. ومنها ما يكون نتيجة لامتلاء المعدة، واختلال المزاج، فيرى صورا مفككة وأجزاء متناثرة، ومناظر مبعثرة، لا تجمعها وحدة ولا تربطها رابطة، وخير ما يطلق على هذا النوع أنه أضغاث أحلام. ومنها الرؤيا الصادقة، يراها الصالح أو ترى له، وفيها يقول صلى الله عليه وسلم: "الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة". وكون الرؤيا الصادقة جزءا من النبوة إنما هو باعتبار صدقها لا غير وإلا لساغ لصاحبها أن يسمى نبيا، وليس كذلك. والناس أمام هذا النوع ثلاث درجات، الأنبياء: ورؤياهم كلها صدق، وقد يقع فيها ما يحتاج إلى تعبير، والصالحون: والأغلب على رؤياهم الصدق وقد يقع فيها ما يحتاج إلى تعبير، ومن عداهم: يقع في رؤياهم الصدق والأضغاث وهم على ثلاثة أقسام: مستورون: فالغالب استواء الحال في حقهم، وفسقة: والغالب على رؤياهم الأضغاث، ويقل فيها الصدق، وكفار: ويندر جدا في رؤياهم الصدق، كما في رؤيا صاحبي السجن مع يوسف عليه السلام.

ويشير إلى هذا التقسيم ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا". والحديث الذي معنا صريح في أن رؤيا الأنبياء نوع من الوحي، ومن قوله تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} [النساء: 163] أخذ المفسرون أن أول أحوال النبيين في الوحي الرؤيا، كما روى أبو نعيم في الدلائل بإسناد حسن، عن علقمة قال: إن أول ما يؤتى به الأنبياء في المنام، حتى تهدأ قلوبهم، ثم يتنزل الوحي بعد في اليقظة. ومن أنواع الوحي الإلهام، بأن يقذف الله في قلب نبيه ما يريد من غير واسطة. وليس هذا النوع قاصرا على الأنبياء، فقد أوحي إلى أم موسى أن ترضعه إلخ. {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل: 68] الآيات. ومن أنواع الوحي أيضا التكليم بلا واسطة، كتكليم الله لموسى عليه السلام، وكتكليمه محمدا صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج. والمشهور والكثير من أنواعه ما كان بواسطة جبريل عليه السلام، وإن اتخذ مجيئه أشكالا مختلفة، مرة في صورته التي خلقه الله عليها، فيسد ما بين الأفق، ومرة يتقدمه مثل صلصلة الجرس فينزل فيثقل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ليتفصد جبينه عرقا في اليوم الشديد البرد، فينفصم عنه وقد وعى ما قال، ومرة يتقدمه مثل دوي النحل، ومرة في صورة رجل مجهول، ومرة في صورة دحية الكلبي. وقد اختلفت الأقوال في حالة جبريل التي جاء عليها في غار حراء بسورة: "اقرأ" فقيل. إنه جاء على صورته الحقيقية، واستند هذا القول إلى رواية عن طريق ابن لهيعة [وهو ضعيف] وفيها "ثم استعلن له جبريل من قبل حراء، ثم ذكر قصة إقرائه -اقرأ باسم ربك- ورأى حينئذ جبريل له جناحان من ياقوت يختطفان البصر" وقد مال الحافظ ابن حجر في الفتح إلى هذا الرأي. وعندي أنه بعيد، إذ لو وقع هذا لكان جديرا بأن يوصف لخديجة ثم لورقة، ولم يرد في أي من الروايات أنه وصفه لأي منهما، فضلا عن أن الغار لا يتسع له بهذه الصورة: اللهم إلا أن يكون كلمه وهو خارج الغار، والذي أميل إليه أن هذا المجيء كان من قبيل سماع الصوت من غير رؤية، وفي هذا النوع تقليل من الانزعاج، وتوثيق بأنه ليس من كلام البشر. بخلاف ما لو جاء بصورته الحقيقية، أو بصورة البشر، ولا يتنافى هذا الرأي مع الغط فإن الإنسان قد يحس بالشيء ولا يراه. والحكمة في اختيار "حراء" مقرا للعبادة أن المقيم فيه كان يمكنه رؤية الكعبة. فيجتمع لمن يخلو فيه ثلاث عبادات: الخلوة، والتعبد، والنظر إلى البيت - قاله ابن أبي جمرة. قال الحافظ ابن حجر: ولم ينازعوا النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء. مع مزيد الفضل فيه على غيره. لأن

جده عبد المطلب أول من كان يخلو فيه من قريش، وكانوا يعظمونه لجلالته وكبر سنه فتبعه على ذلك من كان يتأله، فكان صلى الله عليه وسلم يخلو بمكان جده. وسلم له ذلك أعمامه لكرامته عليهم. اهـ. وكان صلى الله عليه وسلم يخرج إلى حراء في كل عام شهرا في السنة يتنسك فيه. وكان هذا الشهر رمضان. وأما نوع تعبده صلى الله عليه وسلم فقد اختلف فيه. فذهب جماعة إلى أنه كان يتعبد بشرع سابق. ثم اختلفوا في تعيينه على أقوال: شرع آدم. نوح. إبراهيم لقوله تعالى: {أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا} [النحل: 123] (ويقويه ملازمته للحج والطواف ونحو ذلك مما بقي عندهم من شريعة إبراهيم). موسى. عيسى أي شريعة وذهب جماعة إلى كل التوقف. والجمهور على أنه لم يكن يتعبد بشرع سابق. ومستندهم أنه لو وجد لنقل. أما بماذا كان يتعبد فقد قيل: بما يلقى إليه من أنوار المعرفة، وقيل: بما يحصل له من الرؤيا، وقيل: بالتفكر" وقيل: باجتناب رؤية ما كان يقع من قومه. فالخلوة بمجردها تعبد، إذ الانعزال عن الناس - ولا سيما من كان على باطل - من جملة العبادة. كما وقع للخليل عليه السلام، حيث قال: {إني ذاهب إلى ربي} [الصافات: 99]. والله أعلم. وقد أثار هذا الحديث خلافا في بدء بعثته صلى الله عليه وسلم وفي سنه آنذاك. فقيل: إذا علم أنه كان يتنسك في غار حراء في شهر رمضان، وأن ابتداء الوحي جاءه وهو في الغار المذكور اقتضى ذلك أنه نبئ في شهر رمضان، وعلى هذا يكون سنه حينئذ أربعين سنة وستة أشهر. ويعكر عليه قول ابن إسحاق: أنه بعث على رأس الأربعين. قال الحافظ ابن حجر: ويمكن أن يكون المجيء في الغار كان أولا في شهر رمضان، وحينئذ نبئ وأنزل عليه {اقرأ باسم ربك} ثم كان المجيء الثاني في ربيع الأول بالإنذار حين أنزلت عليه {يا أيها المدثر قم فأنذر} [المدثر: 1] فيحمل قول ابن إسحاق على رأس الأربعين أي عند المجيء بالرسالة. اهـ. ولست أرى حاجة إلى هذا التأويل بهذا الاحتمال لتصحيح كلام ابن إسحاق. فضلا عن أنهم كثيرا ما كانوا يهملون الكسر، أو يجبرونه، على أنه قيل: إن مدة وحي المنام كانت ستة أشهر وابتدأت في ربيع الأول، فالأمر بالنسبة لقول ابن إسحاق سهل يسير. والحكمة من الافتتاح بهذه الآيات من سورة "اقرأ" أن هذه الآيات الخمس اشتملت على مقاصد القرآن. ففيها براعة الاستهلال، وهي جديرة أن تسمى عنوان القرآن، لأن عنوان الكتاب يجمع مقاصده بعبارة وجيزة في أوله. وبيان كونها اشتملت على مقاصد القرآن، وهي تنحصر في علوم التوحيد والأحكام، والأخبار، وقد اشتملت على الأمر بالقراءة، والبداءة فيها باسم الله، وفي هذه إشارة إلى الأحكام، وفيها ما يتعلق بتوحيد الرب وإثبات ذاته وصفاته، من صفة ذات، وصفة فعل،

وفي هذا إشارة إلى أصول الدين، وفيها ما يتعلق بالأخبار من قوله: {علم الإنسان ما لم يعلم} [العلق: 5] قاله الحافظ ابن حجر. وقد أشكل على الحديث أنه لم يرد أن جبريل ابتدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلام مع أن القرآن نص في قصة إبراهيم أن الملائكة "قالوا سلاما قال سلام" حين دخلوا عليه. وقد أجيب عن هذا الإشكال باحتمال أن يكون سلم، وحذف ذكره، لأنه معتاد، وباحتمال أن تكون مشروعية ابتداء السلام تتعلق بالبشر، لا من الملائكة، وإن وقع ذلك منهم في بعض الأحيان. قال الحافظ ابن حجر: والحالة التي سلموا فيها على إبراهيم كانوا في صورة البشر، فلا ترد هنا، ولا يرد سلامهم على أهل الجنة، لأن أمور الآخرة مغايرة لأمور الدنيا غالبا. اهـ. والحكمة في الغط والجهد والمشقة أنه إشارة إلى ما سيحصل له من الشدة عند نزول القرآن، كما في حديث ابن عباس "كان يعالج من التنزيل شدة". وكما يشير إليه في قوله تعالى: {إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا} [المزمل: 5]. وقال البلقيني: وهي حالة يؤخذ فيها عن حال الدنيا من غير موت، فهو مقام برزخي يحصل له عند تلقي الوحي. وقال السهيلي: تأويل الغطات الثلاث أنها كانت إشارة إلى أنه سيقع له ولمن تبعه ثلاث شدائد، يبتلى بها، ثم يؤتى بالفرج: شدة الحصار بالشعب، وشدة التهديد والإيذاء مما دعا إلى الهجرة إلى الحبشة، وشدة المكر به ومحاولة قتله ليلة هجرته إلى المدينة، فكانت له العاقبة في الشدائد الثلاث. اهـ. وقال البلقيني: ويمكن أن تكون المناسبة أن الأمر الذي جاءه به ثقيل من حيث القول والعمل والنية، أو من جهة التوحيد والأحكام والإخبار بالغيب الماضي والآتي، وأشار بالإرسالات الثلاث إلى حصول التيسير والتسهيل والتخفيف في الدنيا والبرزخ والآخرة عليه وعلى أمته. اهـ. وقال الحافظ ابن حجر: والحكمة في هذا الغط شغله عن الالتفات لشيء آخر، أو لإظهار الشدة والجد في الأمر تنبيها على ثقل القول الذي سيلقى إليه، فلما ظهر أنه صبر على ذلك ألقي إليه. ثم قال: وذكر بعض من لقيناه أن هذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم. إذ لم ينقل عن أحد من الأنبياء أنه جرى له عند ابتداء الوحي، مثل ذلك. وقد استشكل على قوله صلى الله عليه وسلم "لقد خشيت على نفسي" بأنه كيف يخشى على نفسه ويتشكك بعد نزول الملك؟ وقد أجاب عن ذلك القاضي عياض، فقال: ليس هو بمعنى الشك فيما أتاه من الله تعالى، لكنه ربما خشي ألا يقوى على مقاومة هذا الأمر، ولا يقدر على حمل أعباء الوحي، فتزهق نفسه، أو يكون هذا لأول ما رأى من التباشير في النوم واليقظة. وسمع الصوت قبل لقاء الملك، وقبل تحققه من

رسالة ربه، فيكون خاف أن يكون من الشيطان الرجيم، فأما منذ جاءه الملك برسالة ربه سبحانه وتعالى، فلا يجوز عليه الشك فيه، ولا يخشى من تسليط الشيطان عليه. اهـ. قال النووي: وهذا الاحتمال الثاني ضعيف، لأنه خلاف تصريح الحديث، لأن هذا كله كان بعد غط الملك وإتيانه بـ {اقرأ باسم ربك الذي خلق}. اهـ. أما قول ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى مع أنه كان قد تنصر وكان حقه أن يقول على عيسى. فلأن كتاب موسى عليه السلام مشتمل على أكثر الأحكام، بخلاف الإنجيل فإنه مواعظ، والأحكام قليلة فيه، وأغلبها موافق لما في التوراة فكان تنزل الناموس على محمد صلى الله عليه وسلم مشبها تنزله على موسى أكثر من شبه تنزله على عيسى عليهما السلام. وقيل: تحقيقا للرسالة، لأن نزول جبريل على موسى متفق عليه بين أهل الكتاب، بخلاف عيسى، فإن كثيرا من اليهود ينكرون نبوته. على أنه قد ورد في غير الصحيحين في هذه القصة أن ورقة قال: ناموس عيسى، أي إن ورقة - على هذا- كان تارة يقول: ناموس موسى وتارة ناموس عيسى. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - أن الرؤيا الصادقة كانت أولى المبتدآت من إيجاد الوحي، وأما مطلق ما يدل على ثبوته فقد تقدمت له أشياء، مثل تسليم الحجر، الذي ثبت في صحيح مسلم. 2 - إعداد الزاد للمختلي إذا كان بحيث يتعذر عليه تحصيله، لبعد مكان اختلائه مثلا، ولا يقدح ذلك في التوكل، وذلك لوقوعه من النبي صلى الله عليه وسلم بعد حصول النبوة له بالرؤيا الصالحة، وإن كان الوحي في اليقظة قد تراخى عن ذلك. 3 - استحباب العزلة والخلوة في العبادة، لأنها تساعد على التفكر ومعها فراغ القلب، وبها ينقطع عن مألوف البشر. 4 - استدل بقول جبريل لمحمد "اقرأ" وهو لا يعرف القراءة على تكليف ما لا يطاق في الحال، وإن قدر عليه بعد ذلك. 5 - استدل به على جواز تأخر البيان عن وقت الخطاب. 6 - يؤخذ من الغط ثلاثا أن من يريد التأكد في أمر، وإيضاح البيان فيه أن يكرره ثلاثا، وقد كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك. 7 - فيه دليل صريح على أن أول ما نزل من القرآن (اقرأ) وهذا هو الصواب الذي عليه الجماهير من السلف والخلف، وقيل: أوله المدثر وليس بشيء. 8 - استدل به السهيلي على أن البسملة يؤمر بقراءتها أول كل سورة، لكن لا يلزم من ذلك أن

تكون آية من كل سورة. كذا قال. وقرره الطيبي فقال: قوله {اقرأ باسم ربك} أي اقرأ مفتتحا باسم ربك، وأصح تقدير له قل "بسم الله" ثم اقرأ. قال: فيؤخذ منه أن البسملة مأمور بها في ابتداء كل قراءة. اهـ. ونقل عن أبي الحسن بن القصار من المالكية أنه قال: في هذه القصة رد على الشافعي في قوله: إن البسملة آية من كل سورة. قال: لأن هذه أول سورة أنزلت، وليس في أولها البسملة. وتعقب هذا القول بأن الأمر بالبسملة موجود فيها وإن تأخر نزولها، وقال النووي: ترتيب آيات السور في النزول لم يكن شرطا، وقد كانت الآية تنزل، فتوضع في مكان قبل التي نزلت قبلها، ثم تنزل الأخرى، فتوضع قبلها، إلى أن استقر الأمر في آخر عهده صلى الله عليه وسلم على هذا الترتيب. اهـ. 9 - استحباب تأنيس من نزل به أمر بذكر ما ييسره عليه ويهونه لديه. 10 - وأن من نزل به أمر استحب له أن يطلع عليه من يثق بنصحه وصحة رأيه. 11 - وأن مكارم الأخلاق وخصال الخير سبب للسلامة من مصارع السوء. 12 - وفيه مدح الإنسان في وجهه في بعض الأحوال للمصلحة. 13 - وفيه أعظم دليل وأبلغ حجة على كمال خديجة رضي الله عنها وجزالة رأيها، وقوة نفسها وثبات قلبها، وعظم فقهها. 14 - وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم قبل النبوة من جميل الصفات. 15 - يؤخذ من ذهاب الرسول صلى الله عليه وسلم مع خديجة، ومن قول خديجة لورقة "اسمع من ابن أخيك" إرشاد صاحب الحاجة إلى أن يقدم بين يديه من يعرف بقدره، مما يكون أقرب منه إلى المسئول. 16 - ويؤخذ من قول ورقة "يا ليتني فيها جذعا" وتقريره على ذلك بعد الرسالة جواز تمني المستحيل إذا كان فعل خير، لأن ورقة تمنى أن يعود شابا، وهو مستحيل عادة. قال الحافظ ابن حجر: ويظهر لي أن التمني ليس مقصودا على بابه، بل المراد من هذا التنبيه على صحة ما أخبره به، والتنويه بقوة تصديقه فيما يجيء به. 17 - أخذ السهيلي من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أومخرجي هم؟ " شدة مفارقة الوطن على النفس، فإنه صلى الله عليه وسلم سمع قول ورقة أنهم يؤذونه، ويكذبونه، فلم يظهر منه انزعاج لذلك، فلما ذكر له الإخراج تحركت نفسه لذلك، لحب الوطن وإلفه، فقال: أومخرجي هم؟ قال: ويؤيد ذلك إدخال الواو بعد ألف الاستفهام مع اختصاص الإخراج بالسؤال عنه، فأشعر بأن الاستفهام على سبيل الإنكار أو التفجع، ويؤكد ذلك أن الوطن المشار إليه حرم الله، وجوار بيته، وبلدة الآباء من عهد إسماعيل عليه السلام. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون انزعاجه من جهة خشية فوات ما أمله من إيمان قومه،

ويحتمل أن يكون انزعج من الأمرين معا، واستبعد النبي أن يخرجوه لأنه لم يكن فيه سبب يقتضي الإخراج، لما اشتمل عليه من مكارم الأخلاق. 18 - وفيه دليل على أن المجيب يقيم الدليل على ما يجيب به إذا اقتضاه المقام، فإن ورقة دلل وبين أن العلة في ذلك مجيئه لهم بالانتقال عن مألوفهم، ولأنه علم من الكتب أنهم لا يجيبونه. 19 - وفيه تشوق ورقة إلى يوم البعثة، وحرصه على نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد فهم بعض العلماء من ذلك إسلام ورقة، واستأنسوا بما أخرجه الترمذي عن عائشة أن خديجة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن ورقة: كأن ورقة صدقك، ولكنه مات قبل أن تظهر؟ فقال: رأيته في المنام، وعليه ثياب بيض، ولو كان من أهل النار لكان لباسه غير ذلك. وعند البزار والحاكم عن عائشة مرفوعا "لا تسبوا ورقة، فإني رأيت له جنة أو جنتين". والله أعلم

(96) باب فترة الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(96) باب فترة الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم 280 - عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما (وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم). قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي (قال في حديثه) "فبينا أنا أمشي سمعت صوتا من السماء. فرفعت رأسي. فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالسا على كرسي بين السماء والأرض قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فجئثت منه فرقا. فرجعت فقلت: زملوني زملوني. فدثروني. فأنزل الله تبارك وتعالى: {يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر} [المدثر: 1 - 5] " وهي الأوثان قال: ثم تتابع الوحي. 281 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "ثم فتر الوحي عني فترة. فبينا أنا أمشي" ثم ذكر مثل حديث يونس - الحديث السابق- غير أنه قال "فجثثت منه فرقا حتى هويت إلى الأرض" قال أبو سلمة: والرجز الأوثان. قال: ثم حمي الوحي، بعد، وتتابع. وحدثني محمد بن رافع. حدثنا عبد الرزاق. أخبرنا معمر عن الزهري بهذا الإسناد. نحو حديث يونس وقال: فأنزل الله تبارك وتعالى {يا أيها المدثر} إلى قوله {والرجز فاهجر} قبل أن تفرض الصلاة. (وهي الأوثان) وقال "فجثثت منه" كما قال عقيل. 282 - عن يحيى قال: سألت أبا سلمة: أي القرآن أنزل قبل؟ قال: {يا أيها المدثر} فقلت: أو {اقرأ} فقال: سألت جابر بن عبد الله: أي القرآن أنزل قبل؟ قال: {يا أيها المدثر} فقلت: أو {اقرأ} قال جابر: أحدثكم ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال جاورت بحراء شهرا. فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت بطن الوادي. فنوديت. فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي. فلم أر أحدا. ثم نوديت. فنظرت فلم أر أحدا. ثم

نوديت فرفعت رأسي. فإذا هو على العرش في الهواء (يعني جبريل عليه السلام) فأخذتني رجفة شديدة. فأتيت خديجة فقلت: دثروني. فدثروني. فصبوا علي ماء. فأنزل الله عز وجل: {يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر} [المدثر: 1 - 4]. 283 - عن يحيى بن أبي كثير بهذا الإسناد وقال: "فإذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض". -[المعنى العام]- بعد البشرى التي بشر بها ورقة بن نوفل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه النبي المنتظر، وأن الذي جاءه هو رسول الوحي الذي نزل على الرسل السابقين، اطمأنت نفسه صلى الله عليه وسلم، وأخذ يستعد لتلقي ما يلقى عليه، وأخذ ينتظر الوحي بين الحين والحين، وأخذ يتحنث ويترقب الملك في كل خلوة من خلواته في الغار، أو في قمم الجبال وفي بطن الوادي. ومرت الأيام والشهور، وهو على أحر من الجمر، ماذا عساه يكون سبب التأخير؟ وهل هو تأخير أو تحويل؟ إن الوساوس تهز جوانب نفسه، فتختلج منها ضلوعه، وينقبض صدره، ويخرج إلى شاهق الجبال، لعله يجد فيها عزاء، ويهبط بطن الوادي، لعله يجد عن حيرته غناء. وكلما تملكه اليأس سمع الصوت يناديه: يا محمد، أنت رسول الله حقا، فينظر يمينه فلا يرى أحدا، وينظر شماله فلا يرى أحدا، ويرفع بصره فلا يرى أحدا، ولكنه يهدأ بعض الشيء، ويستقر بعض الاستقرار ثم لا يلبث إلا قليلا حتى تعود نفسه إلى ضيقها، فيعدو إلى الجبل فيسمع الصوت، فيعود ببعض الهدوء. ثلاث سنوات لم يألف ما أصابه فيها من الجزع والحزن والخوف، حتى كان يوم هبط فيه إلى الوادي، بعد أن تحنث في الغار أياما، وسمع الصوت يناديه: يا محمد. وتلفت من حوله فلم ير أحدا، وسمع الصوت ثانيا، وكأنه يصدر من فوقه فنظر إلى السماء فرأى عجبا، رأى جبريل عليه السلام بأجنحته التي خلقه الله بها، سادا ما بين الأفق، جالسا على كرسي بين السماء والأرض، فرعب من هذا المنظر الهائل، وكاد يسقط مغشيا عليه، لكنه أسرع يجري إلى خديجة، وألقى بنفسه على سريره بين يديها، قائلا: دثروني، دثروني، زملوني، زملوني. لفوني بالثياب. فدثروه وغطوه، ونزل عليه الوحي يقول: {يا أيها المدثر} مضى زمن الراحة، وجاءت المتاعب {قم} من مضجعك قيام عزم وتصميم {فأنذر} عشيرتك الأقربين، وأنذر الناس لتخرجهم من الظلمات إلى

النور {وربك فكبر} وخصه بالتعظيم والكبرياء فلا يصدنك شيء عن الإنذار، ولا تخش إلا الله {وثيابك فطهر} طهرها ونظفها، وقصرها ولا تطولها، لئلا تحمل الخبث ولتبتعد عن مظاهر الكبر والخيلاء {والرجز فاهجر} وابتعد عن الإثم والأوثان والمعاصي التي هي سبب العذاب، واهجر كل ما عليه قومك من اللهو والفجور وعبادة الأصنام. فقام صلى الله عليه وسلم يدعو لربه، ويجاهد في سبيل نشر دينه، ويتحمل الأذى والصعاب، حتى أكمل الله دينه، وأتم على الأمة نعمته، ورضي لها الإسلام دينا. فصلى الله وسلم عليه، وآتاه الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة العالية، وبعثه المقام المحمود الذي وعده، إنه سميع مجيب. -[المباحث العربية]- (وهو يحدث عن فترة الوحي) يعني احتباسه. وعدم تتابعه وعدم تواليه في النزول. (فبينا أنا أمشي سمعت صوتا) "بينا" هي "بين" أشبعت فتحة النون، والعامل فيها "سمعت". (فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالسا) هكذا هو في أصول مسلم "جالسا" بالنصب على الحال. و"إذا" للمفاجأة، وهي حرف عند الأخفش، وظرف عند بعضهم. وفي رواية للبخاري "فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس" برفع "جالس" قال صاحب مغني اللبيب: تقول "خرجت فإذا زيد جالس أو جالسا" فالرفع على الخبرية. و"إذا" منصوب بالخبر على القول بأنها ظرف. والنصب "جالسا" على الحال. (فجئثت منه فرقا) قال النووي: بجيم مضمومة، ثم همزة مكسورة، ثم ثاء ساكنة، ثم تاء الضمير، وفي رواية بعد الجيم ثاءان. ثم قال: والروايتان بمعنى واحد، أعني رواية الهمزة ورواية الثاء، ومعناها فزعت ورعبت وقد جاء في رواية البخاري "فرعبت" وفي القاموس: وفرق كفرح: فزع، فيكون التقدير: فرعبت منه رعبا، وفزعت منه فزعا فيكون "فرقا" منصوب على المفعول المطلق بعامل من معناه. (زملوني. زملوني. فدثروني) أي قلت: لفوني بالثياب، فلفوني فالتزمل بالثياب التغطية بها. والدثار بكسر الدال هو ما فوق القميص الذي يلي البدن، والذي يسمى بالشعار. فمعنى قوله: فدثروني، أي غطوني بثياب فوق ثيابي. {وثيابك فطهر} قيل: تطهير الثياب كناية عن تطهير النفس عما تذم به من الأفعال، لأن من لا يرضى بنجاسة ثيابه لا يرضى بنجاسة نفسه، يقال: فلان طاهر الثياب، نقي الذيل، إذا وصف بالنقاء من المعايب، كما يقال: دنس الثياب لمن قبح فعله. وذهب جماعة إلى أن الثياب على حقيقتها، وتطهيرها غسلها بالماء إن كانت

متنجسة، وقيل: تقصيرها. {والرجز فاهجر} قرئ بكسر راء "الرجز" وضمها لغتان، والمعنى واحد عند جمع. وقيل: المضموم بمعنى الصنم، والمكسور بمعنى العذاب: أي اهجر أسباب العذاب. قال الحافظ ابن حجر: تفسير الرجز بالأوثان من قول أبي سلمة الراوي عن جابر، وهو تفسير معنى، أي اهجر أسباب الرجز [أي العذاب] وهي الأوثان. اهـ. (حتى هويت إلى الأرض) قال النووي: هكذا في الرواية "هويت" وهو صحيح. يقال: هوى إلى الأرض، وأهوي إليها. لغتان أي سقط. (ثم حمي الوحي بعد وتتابع) معنى "حمي" كثر نزوله وازداد من قولهم: حميت النار والشمس أي قويت حرارتهما. (فاستبطنت الوادي) أي سرت في بطنه. (فأخذتني رجفة شديدة) هكذا هو في مشهور الروايات "رجفة" بالراء. قال القاضي: ورواه السمرقندي "وجفة" بالواو وهما صحيحان متقاربان، ومعناهما الاضطراب. قال الله تعالى: {قلوب يومئذ واجفة} [النازعات: 8] وقال: {يوم ترجف الراجفة} [النازعات: 6]. -[فقه الحديث]- اختلف في مدة فترة الوحي. فقيل: كانت ثلاث سنين، وبه جزم ابن إسحاق، وقيل: كانت سنتين ونصف سنة، وأن مدة الرؤيا كانت ستة شهور، فتكون مدة الوحي مناما ويقظة قبل نزول "المدثر" ثلاث سنين. وقد جمع السهيلي بناء على هذا بين المختلفين في مدة مكثه صلى الله عليه وسلم بمكة بعد البعثة، فمن قال: مكث عشر سنين حذف مدة الرؤيا والفترة، ومن قال: ثلاث عشرة أضافهما. قال الحافظ ابن حجر: وليس المراد بفترة الوحي هذه عدم مجيء جبريل إليه، بل تأخر نزول القرآن فقط. وروي عن ابن عباس أن مدة الفترة كانت أياما، وهو مردود، لأن الوحي كثيرا ما كان ينقطع أياما، ولم يطلق أحد على مثل هذا الانقطاع "فترة الوحي" ثم إنه معارض بما جاء في البخاري من أنه صلى الله عليه وسلم لما طال عليه انقطاع الوحي حزن حزنا شديدا، عدا منه مرارا إلى شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل قلقا حزينا تبدى له جبريل، فقال: يا محمد، إنك رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه وتقر نفسه، فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك.

فهذا يدل دلالة قوية على طول مدة فتور الوحي، مما لا يصدق عليه لفظ "أيام". ولعل مراد ابن عباس في أن مدة الفترة كانت أياما، لعل مراده المدة التي لم ير فيها جبريل بعد أن جاءه بغار حراء، يؤيد هذا ما أخرجه ابن سعد عن ابن عباس ونصه "مكث أياما بعد مجيء الوحي لا يرى جبريل، فحزن حزنا شديدا حتى كان يغدو إلى ثبير مرة وإلى حراء أخرى .. " إلخ. وقد روى البخاري عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قول الزهري: "وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم [فيما بلغنا] حزنا عدا منه مرارا كي يتردى من رءوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل، لكي يلقي منه نفسه تبدى له جبريل فقال: يا محمد أنت رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه، فيرجع". وهذه الرواية تتعارض مع ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الإيمان الكامل، واليقين المطلق الذي لا تزعزعه الكوارث، والذي يستبعد معه التفكير في الانتحار، مهما كانت أسبابه ودواعيه، وقول الإسماعيلي: وأما إرادته إلقاء نفسه من رءوس الجبال بعد ما نبئ فلضعف قوته عن تحمل ما حمله من أعباء النبوة، ولخوفه مما يحصل له من القيام بها، من مباينة الخلق جميعا، كما يطلب الرجل الراحة من غم يناله في العاجل بما يكون فيه زواله عنه، ولو أفضى إلى هلاك نفسه عاجلا. وقول بعضهم: إن إرادته ذلك كانت حزنا على ما فاته من الأمر الذي بشره به ورقة، هذه الأقوال مما لا تستريح إليها النفس. والذي أستريح إليه أن هذه الزيادة من رواية معمر، وأن هذا التصور من بلاغات الزهري، وليس موصولا، فلا يثبت به ما يتنافى والطبع السليم، والله أعلم. وقال الإسماعيلي: إن فتور الوحي من مقدمات تأسيس النبوة ليتدرج فيه، ويمرن عليه، فيتحمل أعباء النبوة، ويصبر على ثقل ما يرد عليه. اهـ. وقال الحافظ ابن حجر: وكان فتور الوحي ليذهب ما كان صلى الله عليه وسلم وجده من الروع، وليحصل له التشوف إلى العود. اهـ. والرواية الرابعة تشير إلى أنه صلى الله عليه وسلم جاور في غار حراء بعد نزول "اقرأ" وقد ورد ذلك صريحا عند البيهقي أنه صلى الله عليه وسلم كان يجاور في كل سنة شهرا. وهو رمضان، وكان ذلك في مدة فترة الوحي. وقد فهم بعض العلماء من قول عائشة "قبل أن تفرض الصلاة" أن تطهير الثياب كان مأمورا به من قبل أن تفرض الصلاة. وهو جار على أن المراد من تطهير الثياب غسلها بالماء. ولا يشكل علينا قوله: "فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالسا على كرسي" إلخ. ولا يلزم منه أن تكون هذه الصورة هي الصورة التي رآها في غار حراء، وغاية ما تدل عليه أن الذات واحدة وإن اختلفت صورها، بل قد يلهم الإنسان أن هذه الصورة هي للذات التي كلمته وإن لم يرها [كما يرى النائم صورة النبي صلى الله عليه وسلم] خصوصا إذا لابستها ملابسات تؤكدها، كصوتها والرهبة منها. وأما ما تقتضيه الرواية الرابعة من أن "المدثر" نزلت قبل "اقرأ" فهو خلاف ما ذهب إليه أكثر

الأمة. بل قال بعضهم: إنه غير صحيح وأن الصحيح ما روي في الصحيحين وغيرهما عن عائشة. وهو ما تقدم شرحه في الحديث السابق. ولما كان الخبران واردين في الصحيح حاول العلماء رفع التعارض بينهما، فذكر السيوطي في الإتقان خمسة أجوبة: الأول: أن السؤال في حديث جابر كان عن نزول سورة كاملة فبين أن "المدثر" نزلت بكمالها قبل تمام سورة "اقرأ" فإن أول ما نزل منها صدرها. الثاني: أن مراد جابر بالأولية أولية مخصوصة بما بعد فترة الوحي لا أولية مطلقة. الثالث: أن مراده بالأولية أولية مخصوصة بالأمر بالإنذار فأول ما نزل للنبوة "اقرأ" وأول ما نزل للرسالة "يا أيها المدثر". الرابع: أن مراده أن المدثر أول ما نزل بسبب متقدم، وهو ما وقع من التدثر الناشئ عن الرعب، وأما "اقرأ" فنزلت ابتداء بغير سبب متقدم. الخامس: أن جابر استخرج ذلك باجتهاده، وليس هو من روايته فيقدم عليه ما روت عائشة رضي الله عنها. وأحسن هذه الأجوبة الأول. والله أعلم

(97) باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم ومعراجه

(97) باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم ومعراجه 284 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أتيت بالبراق (وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل. يضع حافره عند منتهى طرفه) قال: فركبته حتى أتيت بيت المقدس. قال: فربطته بالحلقة التي يربط به الأنبياء. قال: ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين. ثم خرجت. فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن. فاخترت اللبن. فقال جبريل صلى الله عليه وسلم: اخترت الفطرة. ثم عرج بنا إلى السماء. فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا. فإذا أنا بآدم. فرحب بي ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء الثانية. فاستفتح جبريل عليه السلام. فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا. فإذا أنا بابني الخالة عيسى ابن مريم ويحيى بن زكرياء صلوات الله عليهما. فرحبا ودعوا لي بخير ثم عرج بي إلى السماء الثالثة. فاستفتح جبريل. فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا. فإذا أنا بيوسف صلى الله عليه وسلم. إذا هو قد أعطي شطر الحسن. فرحب ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة. فاستفتح جبريل عليه السلام قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قال: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا. فإذا أنا بإدريس. فرحب ودعا لي بخير. قال الله عز وجل: {ورفعناه مكانا عليا} [مريم: 57] ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة. فاستفتح جبريل. قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا. فإذا أنا بهارون صلى الله عليه وسلم. فرحب ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء السادسة. فاستفتح جبريل عليه السلام. قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا فإذا أنا بموسى صلى الله عليه وسلم. فرحب ودعا لي بخير. ثم عرج إلى السماء السابعة. فاستفتح جبريل. فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا. فإذا أنا بإبراهيم صلى الله عليه وسلم، مسندا ظهره إلى البيت المعمور. وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه. ثم ذهب بي إلى السدرة المنتهى. وإذا ورقها كآذان الفيلة. وإذا ثمرها كالقلال. قال، فلما غشيها من أمر

الله ما غشي تغيرت. فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها. فأوحى الله إلي ما أوحى. ففرض علي خمسين صلاة في كل يوم وليلة. فنزلت إلى موسى صلى الله عليه وسلم. فقال: ما فرض ربك على أمتك؟ قلت: خمسين صلاة. قال: ارجع إلى ربك. فاسأله التخفيف. فإن أمتك لا يطيقون ذلك. فإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم. قال: فرجعت إلى ربي فقلت يا رب، خفف على أمتي. فحط عني خمسا. فرجعت إلى موسى فقلت: حط عني خمسا. قال: إن أمتك لا يطيقون ذلك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف. قال: فلم أزل أرجع بين ربي تبارك وتعالى وبين موسى عليه السلام حتى قال: يا محمد، إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة. لكل صلاة عشر. فذلك خمسون صلاة. ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة. فإن عملها كتبت له عشرا. ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئا. فإن عملها كتبت سيئة واحدة. قال: فنزلت حتى انتهيت إلى موسى صلى الله عليه وسلم فأخبرته. فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه". 285 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أتيت فانطلقوا بي إلى زمزم. فشرح عن صدري. ثم غسل بماء زمزم ثم أنزلت". 286 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل صلى الله عليه وسلم وهو يلعب مع الغلمان. فأخذه فصرعه فشق عن قلبه. فاستخرج القلب. فاستخرج منه علقة. فقال: هذا حظ الشيطان منك. ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم. ثم لأمه. ثم أعاده في مكانه. وجاء الغلمان يسعون إلى أمه (يعني ظئره) فقالوا: إن محمدا قد قتل. فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره. 287 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه يحدث عن ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة، أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه. وهو نائم في المسجد الحرام. وساق الحديث بقصته نحو الحديث السابق وقدم فيه شيئا وأخر. وزاد ونقص. 288 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو ذر يحدث، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

"فرج سقف بيتي وأنا بمكة. فنزل جبريل صلى الله عليه وسلم. ففرج صدري. ثم غسله من ماء زمزم. ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا. فأفرغها في صدري. ثم أطبقه. ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء. فلما جئنا السماء الدنيا قال جبريل عليه السلام لخازن السماء الدنيا: افتح. قال: من هذا؟ قال: هذا جبريل. قال: هل معك أحد؟ قال: نعم. معي محمد صلى الله عليه وسلم. قال: فأرسل إليه؟ قال: نعم. ففتح، قال: فلما علونا السماء الدنيا فإذا رجل عن يمينه أسودة. وعن يساره أسودة. قال: فإذا نظر قبل يمينه ضحك. وإذا نظر قبل شماله بكى. قال فقال: مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح. قال قلت: يا جبريل! من هذا؟ قال: هذا آدم صلى الله عليه وسلم. وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه، فأهل اليمين أهل الجنة. والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى. قال: ثم عرج بي جبريل حتى أتى السماء الثانية. فقال لخازنها: افتح. قال: فقال له خازنها مثل ما قال خازن السماء الدنيا. ففتح. فقال أنس بن مالك: فذكر أنه وجد في السماوات آدم وإدريس وعيسى وموسى وإبراهيم صلوات الله عليهم أجمعين. ولم يثبت كيف منازلهم. غير أنه ذكر أنه قد وجد آدم عليه السلام في السماء الدنيا. وإبراهيم في السماء السادسة. قال فلما مر جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم بإدريس صلوات الله عليه قال: مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح. قال ثم مر فقلت: من هذا؟ فقال: هذا إدريس. قال ثم مررت بموسى عليه السلام. فقال: مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح. قال قلت: من هذا؟ قال: هذا موسى. قال ثم مررت بعيسى. فقال: مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح. قلت: من هذا؟ قال: هذا عيسى ابن مريم. قال: ثم مررت بإبراهيم عليه السلام. فقال: مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح. قال قلت: من هذا؟ قال: هذا إبراهيم". 289 - قال ابن شهاب: وأخبرني ابن حزم أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري كانا يقولان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام". قال ابن حزم وأنس بن مالك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ففرض الله على أمتي خمسين صلاة. قال فرجعت بذلك حتى أمر بموسى فقال موسى عليه السلام: ماذا فرض ربك على أمتك؟ قال قلت: فرض عليهم خمسين صلاة. قال لي موسى عليه السلام: فراجع ربك. فإن أمتك لا تطيق ذلك. قال: فراجعت ربي فوضع شطرها. قال: فرجعت إلى موسى عليه السلام فأخبرته. قال: راجع ربك. فإن أمتك لا تطيق ذلك. قال: فراجعت ربي. فقال: هي خمس وهي خمسون. لا يبدل القول لدي. قال فرجعت إلى موسى. فقال: راجع ربك. فقلت: قد

استحييت من ربي. قال ثم انطلق بي جبريل حتى نأتي سدرة المنتهى. فغشيها ألوان لا أدري ما هي قال: ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ. وإذا ترابها المسك". 290 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه (لعله قال) عن مالك بن صعصعة (رجل من قومه) قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم "بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان. إذ سمعت قائلا يقول: أحد الثلاثة بين الرجلين. فأتيت فانطلق بي. فأتيت بطست من ذهب فيها من ماء زمزم. فشرح صدري إلى كذا وكذا. (قال قتادة: فقلت للذي معي: ما يعني؟ قال: إلى أسفل بطنه) فاستخرج قلبي. فغسل بماء زمزم. ثم أعيد مكانه. ثم حشي إيمانا وحكمة. ثم أتيت بدابة أبيض يقال له البراق. فوق الحمار ودون البغل. يقع خطوه عند أقصى طرفه. فحملت عليه. ثم انطلقنا حتى أتينا السماء الدنيا. فاستفتح جبريل صلى الله عليه وسلم. فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم. قال ففتح لنا. وقال: مرحبا به. ولنعم المجيء جاء. قال: فأتينا على آدم صلى الله عليه وسلم. وساق الحديث بقصته. وذكر أنه لقي في السماء الثانية عيسى ويحيى عليهما السلام. وفي الثالثة يوسف. وفي الرابعة إدريس. وفي الخامسة هارون صلى الله عليه وسلم قال: ثم انطلقنا حتى انتهينا إلى السماء السادسة. فأتيت على موسى عليه السلام فسلمت عليه. فقال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح. فلما جاوزته بكى. فنودي: ما يبكيك؟ قال: رب! هذا غلام بعثته بعدي. يدخل من أمته الجنة أكثر مما يدخل من أمتي. قال: ثم انطلقنا حتى انتهينا إلى السماء السابعة. فأتيت على إبراهيم" وقال في الحديث: "وحدث نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى أربعة أنهار يخرج من أصلها نهران ظاهران ونهران باطنان فقلت: يا جبريل، ما هذه الأنهار؟ قال: أما النهران الباطنان فنهران في الجنة. وأما الظاهران فالنيل والفرات. ثم رفع لي البيت المعمور. فقلت: يا جبريل، ما هذا؟ قال: هذا البيت المعمور. يدخله كل يوم سبعون ألف ملك. إذا خرجوا منه لم يعودوا فيه آخر ما عليهم. ثم أتيت بإناءين أحدهما خمر والآخر لبن. فعرضا علي. فاخترت اللبن. فقيل أصبت أصاب الله بك أمتك على الفطرة ثم فرضت علي كل يوم خمسون صلاة" ثم ذكر قصتها إلى آخر الحديث. 291 - عن مالك بن صعصعة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فذكر نحوه وزاد فيه "فأتيت بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا. فشق من النحر إلى مراق البطن. فغسل بماء زمزم. ثم ملئ حكمة وإيمانا".

292 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسري به فقال "موسى آدم طوال. كأنه من رجال شنوءة". وقال "عيسى جعد مربوع" وذكر مالكا خازن جهنم وذكر الدجال. 293 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مررت ليلة أسري بي على موسى بن عمران عليه السلام. رجل آدم طوال جعد. كأنه من رجال شنوءة. ورأيت عيسى ابن مريم مربوع الخلق. إلى الحمرة والبياض. سبط الرأس". وأري مالكا خازن النار، والدجال. في آيات أراهن الله إياه. {فلا تكن في مرية من لقائه} [السجدة: 23]. قال: كان قتادة يفسرها أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قد لقي موسى عليه السلام. 294 - عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بوادي الأزرق فقال "أي واد هذا؟ " فقالوا: هذا وادي الأزرق. قال "كأني أنظر إلى موسى عليه السلام هابطا من الثنية وله جؤار إلى الله بالتلبية" ثم أتى على ثنية هرشى. فقال "أي ثنية هذه؟ "قالوا: ثنية هرشى. قال" كأني أنظر إلى يونس بن متى عليه السلام على ناقة حمراء جعدة عليه جبة من صوف. خطام ناقته خلبة. وهو يلبي" قال ابن حنبل في حديثه: قال هشيم: يعني ليفا. 295 - عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة. فمررنا بواد. فقال "أي واد هذا؟ " فقالوا: وادي الأزرق. فقال "كأني أنظر إلى موسى صلى الله عليه وسلم فذكر من لونه وشعره شيئا لم يحفظه داود - الراوي عن أبي العالية واضعا إصبعيه في أذنيه. له جؤار إلى الله بالتلبية. مارا بهذا الوادي" قال "ثم سرنا حتى أتينا على ثنية". فقال "أي ثنية هذه" قالوا: هرشى أو لفت. فقال "كأني أنظر إلى يونس على ناقة حمراء. عليه جبة صوف. خطام ناقته ليف خلبة. مارا بهذا الوادي ملبيا".

296 - عن مجاهد رضي الله عنه قال: كنا عند ابن عباس رضي الله عنه، فذكروا الدجال. فقال: إنه مكتوب بين عينيه كافر. قال، فقال ابن عباس: لم أسمعه قال ذاك؟ ولكنه قال "أما إبراهيم فانظروا إلى صاحبكم. وأما موسى فرجل آدم جعد على جمل أحمر مخطوم بخلبة. كأني أنظر إليه إذا انحدر في الوادي يلبي". 297 - عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "عرض علي الأنبياء. فإذا موسى ضرب من الرجال. كأنه من رجال شنوءة. ورأيت عيسى بن مريم عليه السلام. فإذا أقرب من رأيت به شبها عروة بن مسعود. ورأيت إبراهيم صلوات الله عليه. فإذا أقرب من رأيت به شبها صاحبكم (يعني نفسه) ورأيت جبريل عليه السلام. فإذا أقرب من رأيت به شبها دحية". (وفي رواية ابن رمح) "دحية بن خليفة". 298 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "حين أسري بي لقيت موسى عليه السلام (فنعته النبي صلى الله عليه وسلم) فإذا رجل (حسبته قال) مضطرب. رجل الرأس. كأنه من رجال شنوءة. قال، ولقيت عيسى (فنعته النبي صلى الله عليه وسلم) فإذا ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس" (يعني حماما) قال، "ورأيت إبراهيم صلوات الله عليه. وأنا أشبه ولده به. قال، فأتيت بإناءين في أحدهما لبن وفي الآخر خمر. فقيل لي: خذ أيهما شئت. فأخذت اللبن فشربته. فقال: هديت الفطرة. أو أصبت الفطرة. أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك". 299 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أراني ليلة عند الكعبة. فرأيت رجلا آدم كأحسن ما أنت راء من أدم الرجال. له لمة كأحسن ما أنت راء من اللمم. قد رجلها فهي تقطر ماء. متكئا على رجلين (أو على عواتق رجلين) يطوف بالبيت. فسألت: من هذا؟ فقيل: هذا المسيح بن مريم. ثم إذا أنا برجل جعد قطط. أعور العين اليمنى. كأنها عنبة طافية. فسألت: من هذا؟ فقيل: هذا المسيح الدجال".

300 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، بين ظهراني الناس، المسيح الدجال. فقال "إن الله تبارك وتعالى ليس بأعور. ألا إن المسيح الدجال أعور عين اليمنى. كأن عينه عنبة طافية" قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أراني الليلة في المنام عند الكعبة. فإذا رجل آدم كأحسن ما ترى من أدم الرجال. تضرب لمته بين منكبيه. رجل الشعر. يقطر رأسه ماء. واضعا يديه على منكبي رجلين. وهو بينهما يطوف بالبيت. فقلت: من هذا؟ فقالوا: المسيح بن مريم. ورأيت وراءه رجلا جعدا قططا. أعور عين اليمنى. كأشبه من رأيت من الناس بابن قطن. واضعا يديه على منكبي رجلين. يطوف بالبيت. فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا المسيح الدجال". 301 - م عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "رأيت عند الكعبة رجلا آدم. سبط الرأس. واضعا يديه على رجلين. يسكب رأسه (أو يقطر رأسه) فسألت: من هذا؟ فقالوا: عيسى بن مريم، أو المسيح بن مريم (لا ندري أي ذلك قال) ورأيت وراءه رجلا أحمر. جعد الرأس. أعور العين اليمنى. أشبه من رأيت به ابن قطن. فسألت: من هذا؟ فقالوا: المسيح الدجال". 302 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لما كذبتني قريش. قمت في الحجر فجلا الله لي بيت المقدس. فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه". 303 - عن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب عن أبيه رضي الله عنهما، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "بينما أنا نائم رأيتني أطوف بالكعبة. فإذا رجل آدم سبط الشعر. بين رجلين. ينطف رأسه ماء (أو يهراق رأسه ماء) قلت: من هذا؟ قالوا: هذا ابن مريم. ثم ذهبت ألتفت فإذا رجل أحمر. جسيم. جعد الرأس. أعور العين. كأن عينه عنبة طافية. قلت: من هذا؟ قالوا: الدجال. أقرب الناس به شبها ابن قطن".

304 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لقد رأيتني في الحجر. وقريش تسألني عن مسراي. فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها. فكربت كربة ما كربت مثله قط. قال فرفعه الله لي أنظر إليه. ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به. وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء. فإذا موسى قائم يصلي. فإذا رجل ضرب جعد كأنه من رجال شنوءة. وإذا عيسى ابن مريم عليه السلام قائم يصلي. أقرب الناس به شبها عروة بن مسعود الثقفي. وإذا إبراهيم عليه السلام قائم يصلي. أشبه الناس به صاحبكم (يعني نفسه) فحانت الصلاة فأممتهم. فلما فرغت من الصلاة قال قائل: يا محمد، هذا مالك صاحب النار فسلم عليه. فالتفت إليه فبدأني بالسلام". 305 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهي به إلى سدرة المنتهى. وهي في السماء السادسة. إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض. فيقبض منها. وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها. فيقبض منها. قال: {إذ يغشى السدرة ما يغشى} [النجم: 16]. قال: فراش من ذهب. قال، فأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا: أعطي الصلوات الخمس. وأعطي خواتيم سورة البقرة. وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئا المقحمات. -[المعنى العام]- بعد أن توفي أبو طالب حامي الرسول صلى الله عليه وسلم من أذى الكفار، والمدافع عنه ضد مكائدهم وعنتهم وجهلهم، وبعد أن توفيت خديجة المؤنسة الأولى، والمواسية الكبرى، بعد أن توفيا في عام واحد واشتد ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم، وبلغ به الأسى أن سمى ذلك العام عام الحزن، وضاق ذرعا بأذى الكفار الذي بلغ منه مبلغا لم يسبق له مثيل. وفي هذه الظروف العصيبة جاءت حادثة الإسراء والمعراج، للإشارة إلى أنه إن فاتته صلى الله عليه وسلم حماية العم فإنه محاط بحماية الرب عز وجل، ولئن فاتته مؤانسة الزوج فإنه مشمول بمؤانسة الملأ الأعلى، ولئن أحاط به تكذيب أهل مكة وأذاهم فإنه مصدق من أهل السماء، مكرم فيهم غاية التكريم. جاءت حادثة الإسراء كبلسم للجراح، وكشحنة إلهية من الصبر والقوة، لتدفع محمدا صلى الله عليه وسلم

إلى زيادة استمساكه بالذي أوحي إليه إنه على صراط مستقيم، وليطمئن إلى نصرة ربه لدينه، وإلى أن الله بالغ أمره، وإلى أنه إذا أراد شيئا فإنما يقول له: كن ... فيكون. جاءت الدعوة من الرب إلى العبد، على لسان أمين الوحي جبريل وأخيه ميكائيل، جاءا إلى محمد صلى الله عليه وسلم وهو نائم في المسجد الحرام بين حمزة وجعفر رضي الله عنهما، فقال جبريل لرفيقه: إنه أحد الثلاثة، إنه الذي بين الرجلين، فأيقظاه، ثم شقا عن صدره، فغسلاه بماء زمزم، ثم جاءا بطست من الذهب مملوء حكمة وإيمانا، فأفرغاه في صدره ثم أطبقاه. بعد هذا الإعداد وذلك التطهير جيء له بالبراق، تلك الدابة العجيبة الشأن، التي تشبه المألوف في الشكل، وتخالفه في الصفات والفعل، إنها شبيهة بالحمار الكبير أو البغل الصغير، لكنها تضع حافرها عند منتهى بصرها، وإذا صعدت جبلا طالت رجلاها، وإذا هبطت واديا طالت يداها، فيظل ظهرها مستويا في الحالتين زيادة في راحة راكبها، لقد نقلت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي صحبته جبريل- عليه السلام- من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بالشام في لحظات، وهناك كانت وفود الأنبياء- عليهم السلام- في استقباله، وأذن للصلاة، فقاموا صفوفا ينتظرون من يؤمهم، فأخذ جبريل بيد محمد صلى الله عليه وسلم فأمهم، ثم نصب له المعراج، نصب له سلم رباني نوراني يرقى عليه ومعه جبريل حتى وصلا إلى السماء الدنيا، فطلب جبريل من حارسها أن يفتح. قال الحارس: من؟ قال: جبريل. قال: ومن معك؟ قال محمد. قال: وقد أرسل إليه ليعرج؟ قال: نعم. ففتح. فرأى صلى الله عليه وسلم رجلا، عن يمينه أشباح، وعن يساره أشباح، فإذا نظر إلى من هم عن يمينه ضحك، وإذا نظر إلى من هم عن شماله بكى، قال: من هذا يا جبريل؟ قال: أبوك آدم، وهذه الأسودة أرواح بنيه، فأهل اليمين أهل الجنة، وأهل الشمال أهل النار، ثم قال له: سلم عليه. فسلم، فرد عليه السلام، وقال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح، نعم المجيء جئت يا بني. ثم عرج به صلى الله عليه وسلم إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل، ففتح لهما بالتكريم والترحيب، فإذا عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا، فسلم عليهما فردا السلام، وقالا: مرحبا بالأخ الصالح، والنبي الصالح، نعم المجيء جئت. ثم عرج به إلى السماء الثالثة، فإذا فيها يوسف عليه السلام، فرحب ودعا بخير. ثم عرج به إلى السماء الرابعة فإذا فيها إدريس عليه السلام فرحب ودعا بخير. ثم عرج به إلى السماء الخامسة فإذا فيها هارون عليه السلام فرحب ودعا بخير. ثم عرج به إلى السماء السادسة فإذا هو بالكليم موسى عليه السلام فرحب بالأخ الصالح والنبي الصالح ودعا له بخير. فلما جاوزه بكى موسى فقيل له: ما يبكيك؟ قال: كنت أتمنى أن أعطى مثله، جاء بعدي، ويدخل من أمته الجنة أكثر ممن يدخلها من أمتي. ثم عرج به إلى السماء السابعة فإذا فيها أبوه إبراهيم عليه السلام. فرحب بالابن الصالح والنبي الصالح ودعا له بخير. ثم ذهب به إلى سدرة المنتهى، وهي شجرة تشبه شجر السدر من جهة وتخالفه من جهات، ليس ورقها رقيقا كورقه، ولكنه كآذان الفيلة، وليس نبقها صغيرا كنبقه، ولكنه كقلال هجر، يغشاها خلق من خلق الله، ملائكة الله وجنده، وكأنهم الطير أو الفراش، في صفاء الذهب

ولمعانه، وفي ضوء الشمس ونور القمر، فإذا غشيها من أمر الله ما غشى أصبحت شعلة من نور، ترد الطرف، فلا يستطيع مخلوق أن يصفها لحسنها وجمالها، شجرة عندها جنة المأوى، وأدخلها صلى الله عليه وسلم، فإذا فيها قباب من اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك الأذفر، ورأى صلى الله عليه وسلم أربعة أنهار: نهران ظاهران، ونهران باطنان. فقال: ما هذه الأنهار يا جبريل؟ فقال له: أما الظاهران فهما يشبهان النيل والفرات حلاوة وعذوبة، وأما الباطنان فهما نهران بالجنة، نهر الرحمة ونهر الكوثر. ثم جيء له بثلاثة آنية مغطاة. فقال له جبريل: يا محمد. ألا تشرب مما سقاك الله؟ فتناول أحدها، فإذا هو عسل، فشرب منه قليلا. ثم تناول الآخر، فإذا هو لبن، فشرب منه حتى روي. فقال له جبريل: ألا تشرب من الثالث؟ قال: قد رويت. قال جبريل: وفقك الله. الحمد لله الذي هداك للفطرة، لو أخذت الثالث -وفيه خمر- لغويت وغويت أمتك. ثم رفع له البيت المعمور. فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: البيت المعمور، يزوره الملائكة كما يزور بنو آدم الكعبة، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم يخرجون منه، لا يعودون إليه أبدا. ثم أمر صلى الله عليه وسلم بالعروج وحده، فقال: يا جبريل. أههنا يترك الخليل خليله؟ قال: يا محمد وما منا إلا له مقام معلوم، لو تقدمت أنت لاخترقت، ولو تقدمت أنا لاحترقت، فصعد صلى الله عليه وسلم إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام، وغشيه النور من كل مكان، فقال: التحيات لله المباركات الصلوات، فسمع الصوت الكريم يقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فقال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. ثم فرض الله عليه وعلى أمته خمسين صلاة في كل يوم وليلة، فرجع بها صلى الله عليه وسلم حتى جاء موسى عليه السلام في السماء السادسة فقال له: يا محمد. ماذا فرض الله عليك وعلى أمتك؟ قال: خمسين صلاة في اليوم والليلة قال: فارجع إلى ربك فاسأله أن يخفف عنكم، فإن أمتك لا تطيق ذلك، وقد خبرت بني إسرائيل قبلك، فرض عليهم ركعتان فعجزوا عنهما، وهم أشد من أمتك قوة وأعظم أجساما فرجع صلى الله عليه وسلم إلى حيث ناجى ربه أولا، فقال: رب أسألك التخفيف عن أمتي، فحط عنه خمسا، فرجع إلى موسى فأخبره، فرده إلى ربه يسأله التخفيف، فحط عنه خمسا، وهكذا أخذ يتردد بين موسى وربه، حتى صارت خمسا، وسمع النداء: يا محمد. أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي، هن خمس في العمل وخمسون في الأجر، والحسنة بعشر أمثالها، لا يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد. ورجع صلى الله عليه وسلم إلى مكة في نفس الليلة، فلما أصبح جلس يفكر، كيف يبلغ قومه، وهم يكذبونه فيما هو أقرب من ذلك، فمر به عدو الله أبو جهل، فقال له ساخرا: هل كان من شيء يا محمد؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أسري بي الليلة إلى بيت المقدس. قال: ثم أصبحت بين أظهرنا؟ قال: نعم. قال: فإن دعوت قومك أتحدثهم بذلك؟ قال: نعم. قال: يا معشر بني كعب ابن لؤي. فانفضت إليه المجالس، حتى جاءوا إليهما. فقال: حدث قومك بما حدثتني، فحدثهم فمن بين مصفق، ومن بين واضع يده على رأسه متعجبا. قال أحدهم: إن الرجل منا يضرب آباط الإبل شهرا ذهابا وشهرا عودة، وتذهب وتعود أنت في ليلة واحدة؟ قال: نعم. فقال رجل من القوم: هل مررت

بإبل لنا في طريقك؟ قال: نعم. والله قد وجدتهم قد أضلوا بعيرا لهم، فهم في طلبه. ومررت بإبل فلان انكسرت لهم ناقة حمراء. قالوا: فأخبرنا عن عدتها، وما فيها من الرعاة. وكان عن عدتها مشغولا، فرفع الله له الإبل فعدها وأخذ يخبرهم عما فيها من الرعاة، قال له المطعم بن عدي- وكان قد رأى مسجد بيت المقدس، ويعلم أن محمدا لم يكن رآه قبل ذلك- قال له: هل تستطيع أن تصف لنا المسجد؟ فطفق يخبرهم عن أوصافه، قالوا: كم له من باب؟ ولم يكن قد عدها صلى الله عليه وسلم، قال: فكربت كربا لم أكرب مثله قط، فرفع الله له بيت المقدس، فجعل ينظر إليه ويخبرهم. قال: ما يسألوني عن شيء إلا نبأتهم به. وحدث صلى الله عليه وسلم أصحابه عن الأنبياء الذين لقيهم، وأفاض في وصف كثير منهم، وتخيل عن طريق الوحي - حين مر بأصحابه على وادي الأزرق الواقع بين مكة والمدينة، تخيل موسى عليه السلام هابطا من ثنية هرشى المشرفة على هذا الوادي متجها نحو الكعبة يحجها ملبيا بصوت جهوري مرتفع، وقد وضع أصبعيه في أذنيه، كما تخيل في هذا المكان يونس عليه السلام راكبا ناقة حمراء، خطامها ليف، وعليه جبة من الصوف، مارا بهذا الوادي، بل قاصدا حج بيت الله الحرام، كما صور له عيسى عليه السلام رجلا أسمر جميل المنظر، له شعر يتدلى مجاوزا شحمة الأذنين، قد رجله وسرحه تسريحا جميلا، كأنه يقطر ماء لبهائه ونظافته، يعتمد على عواتق رجلين يطوف بالبيت، فأخبر أصحابه بذلك، مشيرا إلى أن دينه الإسلام هو الجامع للديانات الخاتم لها المصدق من قبل الأنبياء السابقين. وهكذا كان الإسراء والمعراج آية من آيات الله الكبرى، واشتمل على كثير من الآيات العظمى، فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون، وأما الذين كفروا المعاندون فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون. -[المباحث العربية]- الرواية الأولى (أتيت بالبراق) بضم الباء وتخفيف الراء، قال أبو دريد: مشتق من البرق -يعني لسرعته- وقيل: مشتق من البريق، وسمي بذلك لكونه ذا لونين. يقال: شاة برقاء إذا كان في خلال صوفها الأبيض طاقات سود، ولا ينافيه وصفه في الحديث بأن البراق أبيض، لأن البرقاء من الغنم معدودة في البيض. (وهو دابة أبيض طويل) الدابة ما دب من الحيوان، وغلب على ما يركب، ويقع على المذكر، فتذكير أبيض طويل لهذا الاعتبار. (يضع حافره عند منتهى طرفه) الطرف بفتح الطاء وسكون الراء: البصر، وفي رواية للبخاري "يضع خطوه عند أقصى طرفه" أي رجله عند منتهى ما يرى بصره.

(حتى أتيت بيت المقدس) قال النووي: بيت المقدس فيه لغتان مشهورتان غاية الشهرة، إحداهما بفتح الميم وإسكان القاف وكسر الدال المخففة، والثانية بضم الميم وفتح القاف والدال المشددة. قال الواحدي: أما من شدده فمعناه المطهر، وأما من خففه فمعناه بيت المكان الذي جعل فيه الطهارة، وتطهيره إخلاؤه من الأصنام، وإبعاده منها، قال الزجاج: أي المكان الذي يطهر فيه من الذنوب، ويقال له أيضا إيلياء. (قال فربطته بالحلقة التي يربط به الأنبياء) الحلقة بإسكان اللام على اللغة الفصيحة المشهورة، وحكى الجوهري وغيره فتح اللام أيضا، وقوله "التي يربط به" كذا هو في الأصول "به" بضمير المذكر، وكان الظاهر أن يقول "بها" لكنه أعاده على معنى الحلقة، وهو الشيء. قال صاحب التحرير: المراد حلقة باب مسجد بيت المقدس. (اخترت الفطرة) فسروا الفطرة هنا بالإسلام والاستقامة، قال النووي: ومعناه- والله أعلم- اخترت علامة الإسلام والاستقامة، وجعل اللبن علامة لكونه سهلا طيبا، طاهرا سائغا للشاربين، سليم العاقبة، وأما الخمر فإنها أم الخبائث، وجالبة لأنواع من الشر في الحال والمآل. (ثم عرج بنا) بفتح العين والراء، أي صعد جبريل بي وبنفسه. (فاستفتح جبريل) أي طلب الفتح. (وقد بعث إليه؟ ) مراد بواب السماء، وقد بعث إليه للإسراء وصعود السموات؟ وليس مراده الاستفهام عن أصل البعثة والرسالة، فإن ذلك لا يخفى عليه، هذا هو الصحيح. (فإذا أنا بابني الخالة) قال الزهري: قال ابن السكيت: يقال: هما ابنا عم، ولا يقال: هما ابنا خال، ويقال: هما ابنا خالة ولا يقال ابنا عمة. (إلى السدرة المنتهى) هكذا وقع في الأصول "السدرة" بالألف واللام، وفي الروايات بعد هذا "سدرة المنتهى" والسدرة شجرة النبق، وسميت سدرة المنتهى لأن علم الملائكة ينتهي عندها، ولم يجاوزها أحد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله ابن عباس والمفسرون، وقيل: لكونها ينتهي عندها ما يهبط من فوقها وما يصعد من تحتها من أمر الله تعالى، وقيل: إليها منتهى أرواح الشهداء. (وإذا ثمرها كالقلال) بكسر القاف، وجمع قلة بضمها، والقلة جرة عظيمة تسع قربتين أو أكثر، يريد أن ثمرها في الكبر مثل القلال وكانت معروفة عند المخاطبين، فلذلك وقع التمثيل بها، قال الخطابي: وهي التي وقع تحديد الماء الكثير بها في قوله: "إذا بلغ الماء قلتين". (فلما غشيها من أمر الله ما غشى) أي فلما أتاها وغطاها ما غطى و"ما" موصول، فاعل "غشيها" والموصول من صيغ العموم، فيفيد التعميم والتهويل، أي فلما غشيها من أمر الله الشيء الكثير الهائل الذي غشى، قال الألوسي: وفي إبهام ما يغشى من التفخيم ما لا يخفى، فكأن الغاشي أمر لا يحيط به نطاق البيان.

وفي رواية "فغشيها ألوان لا أدري ما هي" وفي الرواية العشرين، قال ابن مسعود: "يغشاها فراش من ذهب" وعن أنس: "جراد من ذهب" قال البيضاوي: ذكر الفراش وقع على سبيل التمثيل، لأن من شأن الشجر أن يسقط عليها الجراد وشبهه، وجعلها من الذهب لصفاء لونها وإضاءتها في نفسها. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: ويجوز أن يكون من الذهب حقيقة، ويخلق الله فيه الطيران، والقدرة صالحة لذلك. وعن ابن عباس: يغشاها الملائكة، وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي "على كل ورقة منها ملك". (تغيرت) في رواية عند ابن مردويه "تحولت قوتا ونحو ذلك". (فرجعت إلى ربي) أي رجعت إلى الموضع الذي ناجيته منه أولا، فناجيته فيه ثانيا. ففي الكلام محذوفان، والأصل: فرجعت إلى مكان مناجاة ربي. الرواية الثانية (فشرح عن صدري) أي شق، كما في الرواية الثالثة. (ثم أنزلت) أي ثم صرفت إلى موضعي الذي حملت منه، وقيل: "أنزلت" بمعنى تركت، وحكي عن ابن السراج أن "أنزلت" بمعنى "تركت" صحيح في جميع اللغة، وقيل: هذا وهم من الرواة وإن كان في الأصول والنسخ، وصوابه "تركت" وقيل: إن هذا طرف من الحديث، وتمامه "ثم أنزلت على طست من ذهب مملوءة حكمة وإيمانا". الرواية الثالثة (ثم غسله في طست) بفتح الطاء وإسكان السين، وكسر الطاء لغة، والمشهور الفتح، وهي مؤنثة، وهي إناء معروف، ويقال فيها طس بتشديد السين وحذف التاء، وطسة بتشديد السين مع التاء، وجمعها طساس وطسوس وطسات. (ثم لأمه) بفتح اللام والهمزة على وزن ضربه، ومعناه جمعه وضم بعضه إلى بعض. (إلى أمه -يعني ظئره-) بكسر الظاء، بعدها همزة ساكنة، وهي المرضعة، ويقال أيضا لزوج المرضعة ظئر. (وهو منتقع اللون) بالقاف المفتوحة، أي متغير اللون، قال أهل اللغة: امتقع لونه، فهو ممتقع، وانتقع، فهو منتقع، وابتقع، فهو مبتقع فيه ثلاث لغات، والقاف مفتوحة فيهن، قال الجوهري وغيره: والميم أفصحهن، ومعناه تغير من حزن أو فزع.

(كنت أرى أثر ذلك المخيط) بكسر الميم، وإسكان الخاء، وفتح الياء، وهي الإبرة. الرواية الرابعة (عن ليلة أسري) تقول: أسرى وسرى إذا سار ليلا، هذا قول الأكثر، وقيل: أسرى سار أول الليل، وسرى سار من آخره. (ثلاثة نفر) الإضافة بيانية، والتقدير: ثلاثة أي نفر، والنفر من ثلاثة إلى عشرة من الرجال ليس بينهم امرأة. الرواية الخامسة (ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا) قدمنا أن الطست مؤنثة فالتذكير في "ممتلئ" على معناها، وهو الإناء. (فأفرغها في صدري) ضمير المفعول في "فأفرغها" يعود على الطست على اللفظ، وقيل: يعود على الحكمة، والأول أظهر، لأن عوده على الطست يكون تصريحا بإفراغ الإيمان والحكمة، وعلى القول الثاني يكون إفراغ الإيمان مسكوتا عنه. وجعل الإيمان والحكمة في طست وإفراغهما مع أنهما معنيان، وهذه صفة الأجسام، معناه أن الطست كان فيها شيء يحصل به كمال الإيمان والحكمة وزيادتهما، فسمي إيمانا وحكمة، لكونه سببا لهما، وهذا من أحسن المجاز: قاله النووي. (فإذا رجل عن يمينه أسودة) جمع سواد كأزمنة وزمان. قال أهل اللغة: السواد الشخص، وقيل: السواد الجماعات. (مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح) "مرحبا" أي أصاب رحبا وسعة، وكني بذلك عن الانشراح، واقتصر الأنبياء على وصفه بالصلاح، وتواردوا عليها، لأن الصلاح صفة تشمل خلال الخير، والصالح هو الذي يقوم بما يلزمه من حقوق الله وحقوق العباد، فمن هنا كانت كلمة جامعة لمعاني الخير. (نسم بنيه) بفتح النون والسين، الواحدة نسمة، قال الخطابي وغيره: هي نفس الإنسان، والمراد أرواح بني آدم. الرواية السادسة (حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام) "ظهرت" بمعنى علوت، والمستوى

المصعد، وقيل المكان المستوي، وصريف الأقلام تصويتها حال الكتابة، قال الخطابي: هو صوت ما تكتبه الملائكة من أقضية الله تعالى ووحيه، وما ينسخونه من اللوح المحفوظ، أو ما شاء الله تعالى من ذلك أن يكتب. (حتى أمر بموسى) عبر بالمضارع بدل الماضي، لاستحضار الصورة، والأصل حتى مررت بموسى. (فوضع شطرها) الشطر يطلق على النصف، ويطلق على البعض والجزء، والمراد هنا الثاني، وفي الرواية الأولى "فحط عني خمسا" وفي بعض الروايات "فوضع عني عشرا". قال ابن المنير: ذكر الشطر أعم من كونه وقع في دفعة واحدة. وقال الحافظ ابن حجر: وكذا العشر، فكأنه وضع العشر على دفعتين، والشطر [باعتباره النصف] في خمس دفعات، والتحقيق أن التخفيف خمسا خمسا. (ثم انطلق بي جبريل حتى نأتي سدرة المنتهى) هكذا هو في الأصول "حتى نأتي" فالتعبير بالمضارع لاستحضار الصورة العجيبة، والأصل حتى أتينا، وفي بعض الأصول "حتى أتى" قال النووي: وكلاهما صحيح. (جنابذ اللؤلؤ) الجنابذ بالجيم المفتوحة وبعدها نون مفتوحة، ثم ألف، ثم باء، ثم ذال، هي القباب، واحدتها جنبذة بالضم. وفي رواية للبخاري "حبائل" قال الخطابي وغيره: وهو تصحيف. واللؤلؤ معروف، وفيه أربعة أوجه، بهمزتين، وبحذفهما، وبإثبات الأولى دون الثانية، وعكسه. (سمعت قائلا يقول: أحد الثلاثة بين الرجلين) القائل جبريل، والمقول له مرافقوه من الملائكة، و"أحد" خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: هو [أي محمد] أحد الثلاثة، والمراد من الرجلين حمزة وجعفر وكان صلى الله عليه وسلم نائما بينهما. (فشرح صدري إلى كذا وكذا) أي شق صدري و"إلى كذا وكذا" كناية عن نهاية الشق، وفسره الراوي بأنه إلى أسفل بطنه. الرواية السابعة (ولنعم المجيء جاء) قيل: المخصوص بالمدح محذوف، وفيه تقديم وتأخير، والتقدير: جاء ولنعم المجيء مجيئه، وقال ابن مالك: في هذا الكلام شاهد على الاستغناء بالصلة عن الموصول، أو الصفة عن الموصوف في باب "نعم" إلا أنها تحتاج إلى فاعل هو المجيء، وإلى مخصوص بمعناها، وهو مبتدأ، مخبر عنه بنعم وفاعلها، فهو في هذا الكلام وشبهه موصول أو موصوف بجاء، والتقدير: نعم المجيء الذي جاء، أو نعم المجيء مجيء جاءه، وكونه موصولا أجود، لأنه مخبر عنه، والمخبر عنه إذا كان معرفة أولى من كونه نكرة. اهـ.

(ورأيت أربعة أنهار يخرج من أصلها) قال النووي: هكذا هو في أصول صحيح مسلم "يخرج من أصلها" والمراد من أصل سدرة المنتهى، كما جاء مبينا في صحيح البخاري وغيره. اهـ. والرواية التي أشار إليها هي "ورفعت لي سدرة المنتهى" فإذا نبقها كأنه قلال هجر، وورقها كأنه آذان الفيول، في أصلها أربعة أنهار: نهران باطنان، ونهران ظاهران" إلخ. (أصبت، أصاب الله بك، أمتك على الفطرة) مفعول "أصبت" محذوف، أي أصبت الفطرة، ومفعول "أصاب" محذوف أيضا، أي أصاب الله بك الفطرة والخير، أي جعلك سببا في إصابة أمتك الفطرة، وقال النووي: معنى أصاب الله بك، أي أراد بك الفطرة والخير والفضل، قد جاء أصاب بمعنى أراد، قال الله تعالى: {فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب} [ص: 36] أي حيث أراد. وأما قوله: "أمتك على الفطرة" فمعناه أنهم أتباع لك، وقد أصبت الفطرة، فهم يكونون عليها. اهـ. (إذا خرجوا منه لم يعودوا فيه، آخر ما عليهم) قال صاحب مطالع الأنوار: رويناه "آخر" بالرفع والنصب، فالنصب على الظرف، والرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: ذلك آخر ما عليهم. (فشق من النحر إلى مراق البطن) بفتح الميم وتشديد القاف، وهو ما سفل من البطن ورق من الجلد، قال الجوهري: لا واحد لها. الرواية الثامنة (موسى آدم طوال) الأدمة في الإنسان السمرة، يقال: أدم كعلم وكرم، فهو آدم بفتح الدال، أي أسمر، و"طوال" بضم الطاء وتخفيف الواو، أي طويل. (كأنه من رجال شنوءة) قبيلة معروفة. قال النووي: الشنوءة التقزز والتباعد عن الأدناس، ومنه أزد شنوءة، وهم حي من اليمن وفي القاموس: أزد بن الغوث أبو حي باليمن. اهـ. وكأن وجه الشبه بين موسى وبين رجال أزد شنوءة ما بدا عليه من الترفع والاعتزاز. (عيسى جعد مربوع) المربوع هو رجل بين الرجلين في القامة ليس بالطويل البائن، وليس بالقصير الحقير، وأما الجعد، فقد تطلق على جعد الجسم، وجعد الشعر، فجعودة الجسم اجتماعه واكتنازه، وجعودة الشعر هي القطط، أو بين القطط والسبط، ولما كانت الرواية التالية تصف عيسى بأنه سبط الرأس - أي مسترسل الشعر ليس فيه تكسر - كان المراد في وصفه جعودة الجسم. الرواية التاسعة (وأري مالكا) هو بضم الهمزة وكسر الراء، و"مالكا" بالنصب، ووقع في أكثر الأصول "مالك"

ووجهه النووي بأن لفظة "مالك" منصوبة، ولكن أسقطت الألف في الكتابة، وهذا يفعله المحدثون كثيرا فيكتبون: سمعت أنس بغير ألف، ويقرءونه بالنصب، وكذلك "مالك" كتبوه بغير ألف، ويقرءونه بالنصب. (فلا تكن في مرية من لقائه) جمهور المحققين على أن المعنى فلا تكن في شك من لقاء موسى الكتاب، لكن الراوي استدل بتفسير قتادة للآية وأن معناها فلا تكن في شك من لقائه موسى. الرواية العاشرة (هابطا من الثنية) في القاموس: الثنية العقبة أو طريقها، أو الجبل. اهـ والمراد هنا الجبل المشرف على واد الأزرق. أي هابطا من هذا الجبل، مارا بهذا الوادي. (وله جؤار إلى الله بالتلبية) الجؤار بضم الجيم، وبالهمز: رفع الصوت. (ثم أتى على ثنية هرشى) بفتح الهاء، وسكون الراء وبالشين مقصورة جبل على طريق الشام والمدينة قريب من الجحفة. (خطام ناقته خلبة) الخطام بكسر الخاء هو الحبل الذي يقاد به البعير، يجعل على خطمه أي مقدم أنفه، والخلبة بضم الخاء، وسكون اللام وقد تضم، وفتح الباء، هي الليف. الرواية الحادية عشرة (واضعا إصبعيه في أذنيه) في الإصبع عشر لغات، كسر الهمزة وفتحها وضمها، مع فتح الباء وكسرها وضمها، فهذه تسع، والعاشرة أصبوع مثل عصفور، وفي الكلام مجاز مرسل علاقته الجزئية والكلية فإن الذي يوضع في الأذنين جزءان من أصبعين. (خطام ناقته ليف خلبة) روي بتنوين "ليف" وروي بإضافته إلى "خلبة" فمن نون جعل "خلبة" بدلا أو عطف بيان، ومن أضاف جعل الإضافة بيانية. الرواية الثانية عشرة (فذكروا الدجال فقال) أي قال قائل من الحاضرين، وفي رواية "فقالوا" وحاصل الرواية أن ابن عباس لم يسمع أن الدجال مكتوب بين عينيه كافر، ثم جاءت روايته خالية عن ذكر الدجال. الرواية الخامسة عشرة (أراني ليلة عند الكعبة) "أراني" بفتح الهمزة، والتعبير بالمضارع لاستحضار الصورة، والأصل رأيتني، وهو صالح لليقظة والمنام، وسيأتي في فقه الحديث إيضاحه.

(كأحسن ما أنت راء من آدم الرجال) الخطاب لكل من يتأتى خطابه أي كأحسن ما يرى كل إنسان من سمرة الرجال. (له لمة .. قد رجلها، فهي تقطر ماء) اللمة، بكسر اللام وتشديد الميم، وجمعها لمم، مثل قربة وقرب: هي الشعر المتدلي، الذي جاوز شحمة الأذنين، فإذا بلغ المنكبين فهو جمة، و"رجلها" بتشديد الجيم سرحها بمشط مع ماء أو غيره، وقوله "فهي تقطر ماء" إما على ظاهره لقرب الترجيل بالماء، وإما كناية عن النضارة والحسن. (أو على عواتق رجلين) العاتق موضع الرداء من المنكب، أو ما بين المنكب والعنق، والمنكب مجتمع رأس الكتف والعضد. ولكل رجل عاتقان ومنكبان، والمتكئ بيديه على عاتقي رجلين يضع كل يد على عاتق فمقابلة المثنى بمثنى تقتضي القسمة آحادا، أما جمع "عاتق" في روايتنا فلأنهم كرهوا إضافة المثنى للمثنى، فأحيانا يجمعون المضاف، كقوله تعالى {فقد صغت قلوبكما} [التحريم: 4] وكما في هذه الرواية "عواتق رجلين" وأحيانا يفردون المضاف، وأحيانا يبقونه على تثنيته، ويمكن تصور جمع "عواتق" على حقيقته بأن يكون المتكئ قد مد يده خلف رقبة كل من الرجلين واستند على عاتقي كل منهما فيكون مستندا على عواتق أربعة. (إذا أنا برجل جعد قطط) بفتح القاف والطاء، وروي بكسر الطاء الأولى، أي شديد القصر، قال بعضهم: الجعد في صفة الرجال ذم، وفي صفة عيسى عليه السلام مدح. الرواية السادسة عشرة والسابعة عشرة والثامنة عشرة (أعور عين اليمنى) هو عند الكوفيين على ظاهره من الإضافة، وعند البصريين بتقدير محذوف، أي أعور عين صفحة وجهه اليمنى. (كأنها عنبة طافية) أي ناتئة بارزة، وروي "طافئة" بالهمز، أي ذهب ضوؤها. (فجلا الله لي بيت المقدس) وروي "فجلا" بتخفف اللام وتشديدها ومعناهما كشف وأظهر. (ينطف رأسه ماء، أو يهراق رأسه ماء) نطف الماء ينطف، من باب نصر وضرب: أي سال، وأهرق الماء: صبه، أي يسيل الماء من رأسه، أو ينصب الماء من رأسه.

الرواية التاسعة عشرة والمتممة للعشرين (فكربت كربة ما كربت مثله قط) قال الجوهري: الكربة بالضم الغم الذي يأخذ النفس، والضمير في "مثله" يعود على معنى الكربة، وهو الكرب، أو الغم أو الهم، أو الشيء. (ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به) حذفت إحدى النونين، والأصل ما يسألونني، نون الرفع ونون الوقاية، وحذف إحدى النونين جائز تخفيفا، وقد قرئ قوله {أتحاجوني في الله} [الأنعام: 80] بحذف إحدى النونين وبإدغامهما، وبثبوتهما مخففتين. (المقحمات) بضم الميم وإسكان القاف وكسر الحاء معناه: الذنوب العظام الكبائر التي تهلك صاحبها وتورده النار وتقحمه إياها، والتقحم: الوقوع في المهالك، ومعنى الكلام: من مات من هذه الأمة غير مشرك بالله غفر له المقحمات، قال النووي: والمراد بغفرانها أنه لا يخلد في النار، ويحتمل أن يكون المراد بهذا بعض مخصوص من الأمة، أي يغفر لبعض الأمة المقحمات قال: وهذا يظهر على مذهب من يقول: إن لفظة "من" لا تقتضي العموم مطلقا، وعلى مذهب من يقول: إنها لا تقتضي العموم في الأخبار، وإن اقتضته في الأمر والنهي. -[فقه الحديث]- بعد قراءة روايات هذا الحديث يجد القارئ نفسه أمام تساؤلات كثيرة: هل كان الإسراء والمعراج يقظة أو مناما؟ ومن أين بدأ؟ وما سر اختيار بيت المقدس نهاية له؟ وبداية للمعراج؟ وما الحكمة في كون وسيلته ركوب البراق؟ وما حقيقة شق الصدر؟ ومتى كان؟ وماذا رأى من آيات ربه الكبرى في إسرائه وفي معراجه؟ وما حقيقة ما رأى؟ وما وجه اختصاص من ذكر من الأنبياء؟ ولم كانت مراكزهم في السموات كذلك؟ وماذا نأخذ من الحديث من الأحكام والعبر؟ . ونجيب عن هذه التساؤلات بنفس ترتيبها، ونزيد عليها ما يتطلبه شرح الحديث، فنقول وبالله التوفيق: هل كان الإسراء يقظة أو مناما؟ ذهب الجمهور من علماء المحدثين والفقهاء والمتكلمين إلى أن الإسراء والمعراج وقعا في ليلة واحدة، في اليقظة، بجسد النبي صلى الله عليه وسلم وروحه، بعد المبعث. قال الحافظ ابن حجر: وتواردت على ذلك ظواهر الأخبار الصحيحة ولا ينبغي العدول عن ذلك، إذ ليس في العقل ما يحيله، حتى يحتاج إلى تأويل. اهـ.

وذهب قليل من العلماء إلى أن الإسراء والمعراج كانا مناما، تشبثا، بقوله تعالى: {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس} [الإسراء: 60] على أن المراد بها ما رأى ليلة الإسراء، والرؤيا بالقصر ما يرى في المنام، وتشبثا ببعض الروايات التي يدل ظاهرها على أنه كان في المنام، وهذا القول مردود من وجوه. الأول: أنه ثبت أن قريشا كذبوه في الإسراء، واستبعدوا وقوعه، ولو كان مناما لما كذبوه، ولا استنكروه، لجواز وقوع مثل ذلك وأبعد منه لآحاد الناس. الثاني: أن الله تعالى ذكر الإسراء في كتابه بصيغة التنزيه له والتعجيب للحادث، والتشريف لنبيه فقال: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا} [الإسراء: 1] ولو كان مناما لم يستحق ذلك. الثالث: أن الله تعالى أثبت رؤيا القلب بقوله: {ما كذب الفؤاد ما رأى} [النجم: 11] ورؤيا العين بقوله: {ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى} [النجم: 17 - 18] وأما قولهم: إن الرؤيا بالقصر مختص برؤيا المنام، فيمكن رد هذا الاستدلال عليهم بأن هذا الاستعمال هنا في رؤيا العين دليل على أن هذا اللفظ ليس خاصا بالمنام. وأما الروايات التي استندوا إلى ظاهرها، كرواية البخاري: "بينا أنا عند البيت مضطجعا بين النائم واليقظان إذ أتاني ... إلخ" ورواية "بينا أنا نائم" فإنها محمولة على ابتداء الحال، ثم صار إلى اليقظة الكاملة صلى الله عليه وسلم. وذهب بعضهم إلى أن الإسراء والمعراج كانا بالروح لا بالجسد، وقالوا: ينبغي أن يعلم الفرق بين قولهم: كان الإسراء مناما وبين قولهم: بروحه دون جسده، فإن بينهما فرقا، فإن الذي يراه النائم قد يكون حقيقة بأن تصعد الروح مثلا إلى السماء، وقد يكون من ضرب المثل بأن يرى النائم ذلك وروحه لم تصعد أصلا، فمعنى أسري بروحه ولم يصعد جسده أن روحه عرج بها حقيقة، فصعدت، ثم رجعت، وجسده باق في مكانه خرقا للعادة. اهـ قال الحافظ ابن حجر: وظاهر الأخبار الواردة في الإسراء تأبى الحمل على ذلك. وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن ذلك كله وقع مرتين، مرة في المنام توطئة وتمهيدا، ومرة ثانية في اليقظة، جمعا بين ظواهر ما ورد، وجوز بعض قائلي ذلك أن تكون قصة المنام وقعت قبل المبعث، لما جاء في بعض الروايات من قول الراوي "وذلك قبل أن يوحى إليه". وذهب جماعة إلى أن الإسراء كان في اليقظة، والمعراج كان في المنام أو أن الاختلاف في كونه يقظة أو مناما خاص بالمعراج لا بالإسراء، واستدلوا على ذلك بدليلين: الأول: أن قريشا كذبوه في الإسراء واستبعدوا وقوعه، ولم يتعرضوا للمعراج، ولو أنه أخبرهم بالمعراج يقظة لكان أولى بالتكذيب. الثاني: أن الله تعالى ذكر الإسراء على وجه التنزيه والتعجيب والتشريف، ولو أن المعراج وقع في

اليقظة لكان أبلغ في الذكر، فلما لم يقع ذكره في هذا الموضع، مع كون شأنه أعجب، وأمره أغرب من الإسراء بكثير دل على أنه كان مناما. وأجيب عن الأول باحتمال أنه صلى الله عليه وسلم لما بادءوه بالتكذيب في الإسراء لم يسترسل معهم بذكر المعراج، أو أنه ذكره لهم لكن لم يقع منهم في شأنه اعتراض لأن ذلك عندهم من جنس قوله: إن الملك يأتيه من السماء في أسرع من طرفة عين، وكانوا يعتقدون استحالة ذلك، لكنهم لا يجدون طريقا واضحا لتكذيبه، بخلاف إخباره أنه جاء بيت المقدس في ليلة واحدة، ورجع، فإنهم صرحوا بتكذيبه فيه، وطلبوا منه نعت بيت المقدس، لمعرفتهم به، وعلمهم بأنه ما كان رآه قبل ذلك، فأمكنهم استعلام صدقه في ذلك، بخلاف المعراج. وعن الثاني بأنه لما كان الإسراء هو مناط التكذيب كان الجدير بالذكر للرد عليهم، وإن كان المعراج أعجب. والله أعلم. وذهب جماعة إلى أن الإسراء كان في ليلة، والمعراج كان في أخرى اعتمادا على أن بعض الروايات اقتصرت على الإسراء، وبعضها اقتصر على المعراج، وهو مردود ومحمول على أن بعض الرواة ذكر ما لم يذكره الآخر. وذهب قوم جمعا بين الروايات إلى أن الإسراء وقع مرتين مرة على انفراد، ومرة مضموما إليه المعراج وكلاهما في اليقظة، وأن المعراج وقع مرتين: مرة في المنام على انفراد، ومرة مضموما إلى الإسراء في اليقظة. قال الحافظ ابن حجر: إن من المستبعد وقوع التعدد في قصة المعراج التي وقع فيها سؤاله عن كل نبي، وسؤال أهل كل باب: هل بعث إليه؟ وفرض الصلوات الخمس. وغير ذلك، فإن تعدد ذلك في اليقظة لا يتجه فيتعين رد الروايات المختلفة إلى بعض، أو الترجيح، إلا أنه لا بد في وقوع ذلك في المنام توطئة، ثم وقوعه في اليقظة على وفقه. اهـ. من أين بدأ الإسراء؟ : ظاهر الرواية الرابعة والسابعة أنه بدأ من المسجد الحرام، إذ فيهما "وهو نائم في المسجد الحرام" و"بينا أنا عند البيت". لكن الرواية الخامسة تقول "فرج سقف بيتي، وأنا بمكة، فنزل جبريل" إلخ، وفي رواية الواقدي أنه أسري به من شعب أبي طالب، وعند الطبراني عن أم هانئ أنه بات في بيتها، قالت: ففقدته من الليل، فقال: إن جبريل أتاني ... إلخ. قال الحافظ ابن حجر: والجمع بين هذه الأقوال أنه نام في بيت أم هانئ وبيتها عند شعب أبي طالب، ففرج سقف بيته [وأضاف البيت إلى نفسه لكونه كان يسكنه] فنزل منه الملك، فأخرجه من البيت إلى المسجد فكان به مضطجعا وبه أثر النعاس، ثم أخرجه الملك إلى باب المسجد فأركبه البراق.

وقد اختلف العلماء في سنة الإسراء والمعراج اختلافا كثيرا، فقيل: كان قبل المبعث، وهو شاذ، إلا إن حمل على أنه وقع حينئذ في المنام. وقيل: كان قبل الهجرة بسنة وشهرين، وقيل: بسنة وثلاثة أشهر. وقيل بسنة وخمسة أشهر، وقيل: قبل الهجرة بثلاث سنين، وقيل: كان قبل الهجرة بخمس سنين، وقال ابن سعد وغيره: كان قبل الهجرة بسنة، وبه جزم النووي، وبالغ ابن حزم فنقل الإجماع فيه، قال الحافظ ابن حجر: وادعاء الإجماع مردود بالخلاف السابق. اهـ. وقد استدل القائلون بأنه كان قبل الهجرة بخمس سنين بأنه لا خلاف أن خديجة صلت معه بعد فرض الصلاة، ولا خلاف أنها توفيت قبل الهجرة إما بثلاث، أو بخمس، أو نحوهما، ولا خلاف أن فرض الصلاة كان في ليلة الإسراء. ورد هذا الاستدلال بأن عائشة جزمت بأن خديجة ماتت قبل أن تفرض الصلاة، وبأنهم قد اختلفوا في فرض الصلاة، فقيل كان من أول البعثة، وكان ركعتين بالغداة، وركعتين بالعشي، وإنما الذي فرض ليلة الإسراء الصلوات الخمس. وبناء على هذين الردين يحمل قول عائشة على أن مرادها قبل أن تفرض الصلوات الخمس، ويحمل القول بأنها ماتت بعد أن فرضت الصلاة، وأنها كانت تصلي معه على الصلاة التي قبل الصلوات الخمس، فيجمع بذلك بين القولين، ويرد ذلك الاستدلال، ويسلم القول بأن الإسراء كان قبل الهجرة بسنة أو نحوها. وسر اختيار بيت المقدس غاية للإسراء وبداءة للمعراج علمه عند الله. وما ذكره العلماء في ذلك لا يمثل سرا أو حكمة، ولكنه تلمس واجتهاد لا بأس به، نذكر منه ما قيل من أن باب السماء الذي يقال له مصعد الملائكة يقابل بيت المقدس، فحصل الإسراء إليه قبل العروج ليحصل العروج مستويا من غير تعويج، ورده الحافظ ابن حجر، وقال: بل كان المناسب أن يصعد من مكة ليصل إلى البيت المعمور من غير تعويج، لأنه صعد من سماء إلى سماء إلى البيت المعمور، والبيت المعمور حيال الكعبة، فلا يصح أن يكون السر عدم التعويج. وقيل: الحكمة في ذلك أن يجمع صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة بين رؤية القبلتين، وقيل: لأن بيت المقدس كان هجرة غالب الأنبياء قبله فحصل له الرحيل إليه في الجملة، ليجمع بين أشتات الفضائل، وقيل: لأنه محل الحشر، وغالب ما اتفق له في تلك الليلة يناسب الأحوال الأخروية فكان المعراج منه أليق بذلك، وقيل: للتفاؤل بحصول أنواع التقديس له حسا ومعنى، وقيل: ليجتمع بالأنبياء جملة، وقيل: إرادة إظهار الله معاندة من يعارض، لأنه لو عرج به من مكة إلى السماء لم يجد لمعاندة الأعداء سبيلا إلى البيان والإيضاح، فلما ذكر أنه أسري به إلى بيت المقدس، سألوه عن تعريفات جزئيات من بيت المقدس كانوا قد رأوها، وعلموا أنه لم يكن رآها قبل ذلك، فلما أخبرهم بها حصل التحقق بصدقه فيما ذكر من الإسراء إلى بيت المقدس في ليلة، وإذا صح خبره في ذلك لزم تصديقه في بقية ما ذكره، فكان ذلك زيادة في إيمان المؤمن، وزيادة في شقاء الجاحد.

ويمكن أن يكون جميع ما ذكر بعض الحكمة، وكلها -كما ذكرت- تلمس كالورد يشم ولا يدعك. والله أعلم. وفي وصف البراق بأنه فوق الحمار ودون البغل وبأنه أبيض إشارة إلى أن الركوب كان في سلم وأمن، لا في حرب وخوف، أو لإظهار المعجزة بوقوع الإسراع الشديد بدابة لا توصف بذلك في العادة. وفي حكمة الإسراء به صلى الله عليه وسلم راكبا مع القدرة على طي الأرض له، قيل إنه وقع كذلك تأنيسا له بالعادة، في مقام خرق العادة لأن العادة جرت بأن الملك إذا استدعى من يحبه يبعث إليه بما يركبه. وقال ابن أبي جمرة: خص البراق بذلك إشارة إلى الاختصاص به لأنه لم ينقل أن أحدا ملكه، بخلاف غير جنسه من الدواب. ثم قال: والقدرة كانت صالحة لأن يصل بنفسه من غير براق، لكن ركوب البراق كان زيادة في تشريفه، لأنه لو وصل بنفسه لكان في صورة ماش، والراكب أعز من الماشي. وقد اختلف العلماء في اختصاصه صلى الله عليه وسلم بركوب البراق فذهب الجمهور إلى أنه مركب الأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم مستأنسا برواية ابن إسحاق في ذكر الإسراء "فاستصعب البراق" وكانت الأنبياء تركبها قبله، وكانت بعيدة العهد بركوبهم. لم تكن ركبت في الفترة. وبما في مغازي ابن عائذ عن سعيد بن المسيب قال: البراق: "هي الدابة التي كان يزور إبراهيم عليها إسماعيل" وبما في كتاب مكة للفاكهي والأزرقي من أن إبراهيم كان يحج على البراق. وبما في كتاب الروض للسهيلي من أن إبراهيم حمل هاجر على البراق لما سار إلى مكة بها وبولدها. كما يستأنس الجمهور برواية للنسائي وابن مردويه عن أنس "وكانت تسخر للأنبياء قبله" وبرواية للترمذي "أتي بالبراق مسرجا ملجما، فاستصعب عليه، فقال جبريل: ما حملك على هذا؟ فوالله ما ركبك خلق قط أكرم على الله منه، قال الحافظ ابن حجر: فهذه آثار يشد بعضها بعضا. اهـ. ونفى جماعة ذلك، وتمسكوا بالخصوصية، وردوا الآثار المذكورة وأولوا قول جبريل بأن معناه ما ركبك أحد قط، فكيف يركبك أكرم منه؟ . وظاهر عبارة الإمام النووي التوقف، إذ قال: قال الزبيدي في مختصر العيني، وتبعه صاحب التحرير: كان الأنبياء يركبون البراق. ثم قال: وهذا يحتاج إلى نقل صحيح. اهـ ونحن إلى التوقف نميل، كما نميل إلى التوقف في ركوب جبريل البراق مع النبي صلى الله عليه وسلم، أو في مصاحبته له ممسكا بالركاب لعدم ركوننا لما جاء في رواية لأبي سعيد في شرف المصطفى، وفيها "فكان الذي أمسك بركابه جبريل، وبزمام البراق ميكائيل". ولا لما جاء في حديث ابن مسعود رفعه "أتيت بالبراق فركبت خلف جبريل" رواه أبو يعلى والحاكم. والله أعلم. وأما قصة شق صدره صلى الله عليه وسلم فإن الرواية الثانية لم تبين متى كان، والرواية الثالثة

صريحة وواضحة في أنه حصل وهو غلام صغير يلعب مع الغلمان في بني سعد، وثبت شق الصدر أيضا عند البعثة، والرواية الخامسة تفيد أنه حصل ليلة المعراج، والرواية السابعة تفيد أنه حصل ليلة الإسراء، ولا منافاة بين الرواية الخامسة والسابعة، غاية الأمر أن في سياق الرواية الخامسة حذفا، وأصلها "فأفرغها في صدري، ثم أطبقه، ثم أتيت بدابة أبيض ... حتى وصلنا إلى بيت المقدس ... ثم أخذ بيدي، فعرج بي إلى السماء" إلخ، فالشق ليلة الإسراء هو الشق ليلة المعراج، بناء على أنهما كانا في ليلة واحدة. وأما الجمع بين الروايات السابقة ففيه يقول الحافظ ابن حجر: وقع الشق ثلاث مرات، ولكل منها حكمة، فالأول وقع في زمن الطفولة فأخرج من الصدر علقة، وقال: هذا حظ الشيطان منك، فنشأ صلى الله عليه وسلم على أكمل الأحوال من العصمة من الشيطان، ثم وقع الشق عند البعث زيادة في إكرامه، ليتلقى ما يوحى إليه بقلب قوي، في أكمل الأحوال من التطهير، ثم وقع شق الصدر عند إرادة العروج إلى السماء ليتأهب للمناجاة. ويحتمل أن تكون الحكمة في هذا الغسل الأخير أن تقع المبالغة في الإسباغ بحصول المرة الثالثة كما تقرر في شرعه صلى الله عليه وسلم. ثم قال: وجميع ما ورد من شق الصدر، واستخراج القلب، وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة، ومما يجب التسليم به، دون التعرض لصرفه عن حقيقته، لصلاحية القدرة، فلا يستحيل شيء من ذلك. ثم نقل عن القرطبي قوله في المفهم: لا يلتفت لإنكار الشق ليلة الإسراء، لأن رواته ثقات مشاهير. اهـ. ويؤيد أن الشق على الحقيقة قول أنس في الرواية الثالثة "وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره" صلى الله عليه وسلم. وأما ما رآه صلى الله عليه وسلم في إسرائه وفي معراجه من آيات ربه فقد وردت فيه أحاديث وآثار كثيرة، نذكر منها: ما رواه الطبراني والبزار عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم "مر بقوم يزرعون ويحصدون، كلما حصدوا عاد كما كان، قال جبريل: هؤلاء المجاهدون، ومر بقوم ترضخ رءوسهم بالصخر، كلما رضخت عادت. قال: هؤلاء الذين تتثاقل رءوسهم عن الصلاة، ومر بقوم على عوراتهم رقاع يسرحون كالأغنام. قال: هؤلاء الذين لا يؤدون الزكاة، ومر بقوم يأكلون لحما نيئا خبيثا، ويدعون لحما نضيجا طيبا قال: هؤلاء الزناة، ومر برجل جمع حزمة حطب لا يستطيع حملها، ثم هو يضم إليها غيرها، قال: هذا الذي عنده الأمانة لا يؤديها، وهو يطلب أخرى. ومر بقوم تقرض ألسنتهم وشفاههم، كلما قرضت عادت. قال: هؤلاء خطباء الفتنة، ومر بثور عظيم، يخرج من ثقب صغير، ثم يريد أن يرجع فلا يستطيع، قال: هذا الرجل يتكلم بالكلمة فيندم، فيريد أن يردها فلا يستطيع". وعند البيهقي في الدلائل عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم مر بشيء يدعوه، متنحيا عن الطريق، فقال له جبريل: سر، وأنه مر على عجوز، فقال: ما هذه؟ . فقال: سر، وفي آخره "فقال: الذي دعاك إبليس، والعجوز الدنيا" وعند الطبراني في الأوسط، من حديث أبي أمامة "ثم مر بقوم بطونهم أمثال البيوت، كلما نهض أحدهم خر، وأن جبريل قال له: هم آكلوا الربا، وأنه مر بقوم مشافرهم كالإبل،

يلقمون حجرا، فيخرج من أسافلهم، وأن جبريل قال له: هؤلاء أكلة أموال اليتامى" وعندي أن هذه الأحاديث - إن صحت- هي تصوير للترغيب أو الترهيب، وربما كانت صورة لما سيحدث في الآخرة من هيئة الأجر أو العقاب، وليست أمورا واقعية، وعدها من قبيل آياته الكبرى لا يخلو عن تسامح. أما الآيات الحقيقية فيمكن أن يكون منها: 1 - شق صدره صلى الله عليه وسلم، وقد سبق الحديث عنه. 2 - والبراق وسرعته، وقد تقدم الكلام عليه. 3 - والمعراج واختراقه. 4 - ورؤيته البيت المعمور كما جاء في الرواية السابعة. 5 - ولقاؤه مالكا خازن النار، كما في الرواية الثامنة، والتاسعة، والتاسعة عشرة، وكما جاء عند أبي حاتم عن أنس وفيه "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: ما لي لم آت أهل سماء إلا رحبوا وضحكوا إلي غير رجل واحد، فسلمت عليه، فرد علي الإسلام، ورحب بي، ولم يضحك إلي، قال: يا محمد. ذاك مالك خازن جهنم، ولم يضحك منذ خلق، ولو ضحك إلى أحد لضحك إليك". 6 - ورؤيته الدجال، نعم ظاهر الرواية الخامسة عشرة، والسادسة عشرة أن رؤيته للدجال لم تكن في إسرائه أو معراجه، وإنما كانت بمكة، بل الرواية السادسة عشرة صريحة بأنها رؤيا منام، ولا مانع من رؤيته ليلة الإسراء عيانا، ورؤيته مرة أخرى مناما. نعم يشكل عن الروايتين المذكورتين ما ورد في الصحيح من أن الدجال لا يدخل مكة ولا المدينة، فكيف يرى وهو يطوف بالبيت؟ ورؤيا الأنبياء حق؟ وأجيب بأن تحريم دخول المدينة عليه إنما هو في زمن فتنته. والله أعلم. ولفظ المسيح صفة لعيسى عليه السلام، وصفة للدجال، أما كونه صفة لعيسى فسيأتي، وأما الدجال فقيل: سمي بذلك لأنه ممسوح العين، وقيل: لأنه أعور، والأعور يسمى مسيحا، وقيل: لمسحه الأرض حين خروجه، قال القاضي عياض: ولا خلاف في اسم عيسى أنه المسيح بفتح الميم وكسر السين مخففة، واختلف في الدجال، فأكثرهم يقول مثله ولا فرق بينهما في اللفظ، ولكن عيسى عليه السلام مسيح هدى، والدجال مسيح ضلالة، ورواه بعض الرواة "مسيح" بكسر الميم والسين المشددة، وبعضهم كذلك مع الخاء بدل الحاء، وبعضهم بكسر الميم وتخفيف السين. وقد جاء في وصفه "أعور العين اليمنى، وجاء في رواية أخرى "أعور العين اليسرى" وقد ذكرهما جميعا مسلم في آخر الكتاب كما وصف في الحديث بأنه "ممسوح العين، وأنها ليست جحراء، ولا ناتئة" وفي رواية "جاحظ العين، وكأنها كوكب" وفي رواية "لها حدقة جاحظة، كأنها نخاعة في حائط". وقد نقل النووي عن القاضي عياض الجمع بين هذه الروايات فقال: يجمع بين الأحاديث

وتصحيح الروايات جميعا بأن تكون المطموسة والممسوحة والتي ليست بجحراء ولا ناتئة هي العوراء الطافئة بالهمز [أي الذاهب ضوؤها] وهي العين اليمنى، كما جاء هنا، وتكون الجاحظة، والتي كأنها كوكب، وكأنها نخاعة، هي الطافية، بغير همز. وهي العين اليسرى، كما جاء في الرواية الأخرى، وكل منهما عوراء، فإن الأعور من كل شيء المعيب، لا سيما ما يختص بالعين، وكلتا عيني الدجال معيبة عوراء إحداهما بذهابها والأخرى بعيبها. هذا آخر كلام القاضي، وهو في نهاية من الحسن. والله أعلم. ولتوضيح مقدمة الرواية السادسة عشرة أي قوله صلى الله عليه وسلم "إن الله تبارك وتعالى ليس بأعور، ألا إن المسيح الدجال أعور عين اليمنى" قال النووي: معناه أن الله تعالى منزه عن سمات الحدث وعن جميع النقائص. وأن الدجال مخلوق من خلق الله تعالى، ناقص الصورة، [فلا تغتروا بجنته وناره] فينبغي لكم أن تعلموا هذا، وتعلموه للناس، لئلا يغتر بالدجال من يرى تخييلاته وما معه من الفتنة. والله أعلم. 7 - ومن الآيات الكبرى رؤيته صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى، والرواية الأولى تشبه ورقها بآذان الفيلة، وثمرها بالقلال، وتبهم وتفخم ما يغشاها من أمر الله "حتى إن أحدا من خلق الله لا يستطيع أن ينعتها لحسنها، والرواية المتممة للعشرين تفسر مبهم الرواية الأولى بأنه يغشاها فراش من ذهب. ولما كانت الرواية العشرون تصرح بأنها في السماء السادسة، والرواية الأولى ظاهرها أنها في السماء السابعة كان في هذا تعارض لا شك فيه، قال القرطبي في المفهم: وحديث أنس [الرواية الأولى] هو قول الأكثر وهو الذي يقتضيه وصفها بأنها التي ينتهي إليها علم كل نبي مرسل وكل ملك مقرب على ما قال كعب، قال: وما خلفها غيب لا يعلمه إلا الله أو من أعلمه. ثم قال القرطبي: ويترجح حديث أنس بأنه مرفوع، وحديث ابن مسعود موقوف. وقال الحافظ ابن حجر جامعا بين الروايتين: لا يعارض قوله: إنها في السادسة الرواية بأنها في السابعة، لأنه يحمل على أن أصلها في السماء السادسة، وأغصانها وفروعها في السماء السابعة، وليس في السادسة منها إلا أصل ساقها. والله أعلم. 8 - ومن الآيات الكبرى رؤيته صلى الله عليه وسلم الأنبياء عليهم السلام، وفيها - غير ما ورد في رواياتنا - ما جاء عند البيهقي في حديث أبي سعيد "فدخلت أنا وجبريل بيت المقدس فعرفت النبيين من بين قائم وراكع وساجد، فصلى كل واحد منا ركعتين، ثم أقيمت الصلاة فأممتهم، وعند أبي حاتم "فلم ألبث إلا يسيرا حتى اجتمع ناس كثير، ثم أذن مؤذن، فأقيمت الصلاة" فقمنا صفوفا، ننتظر من يؤمنا، فأخذ بيدي جبريل، فقدمني، فصليت بهم". وقد اختلف في حال الأنبياء عند لقاء النبي صلى الله عليه وسلم إياهم هل أسري بأجسادهم لملاقاة النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة؟ أو أن أرواحهم شكلت بشكل أجسادهم، فالتقت به وأجسادهم في قبورها؟

قال بعض العلماء: رؤيته صلى الله عليه وسلم للأنبياء في السماء محمولة على رؤية أرواحهم، إلا عيسى لما ثبت أنه رفع بجسده، وقد قيل في إدريس أيضا ذلك، وأما الذين صلوا معه في بيت المقدس فيحتمل الأرواح خاصة، ويحتمل الأجساد بأرواحها. والله أعلم بالحقيقة. ومما هو غني عن البيان أن الهدف من هذا اللقاء، وهذا الاستقبال هو الترحيب والتكريم والتشريف. وقد أكثر الباحثون في تلمس الحكمة في اختصاص بعض الأنبياء بالذكر دون بعض، فقيل: أمر الجميع بملاقاته، فمنهم من أدركه في أول وهلة فذكر، ومنهم من تأخر فلحق، ومنهم من فاته، وهذا القول زيف وخلط لا يليق في هذا المقام. وقيل: الحكمة في الاقتصار على هؤلاء المذكورين الإشارة إلى ما سيقع له صلى الله عليه وسلم مع قومه، من أمثال ما وقع لكل منهم. فأما آدم فكان التنبيه بما وقع له من الخروج من الجنة إلى الأرض على أنه سيقع للنبي صلى الله عليه وسلم الخروج من مكة إلى المدينة، والجامع بينهما ما حصل لكل منهما من المشقة، وكراهة فراق ما ألف من الوطن، ثم مآل كل منهما أن يرجع إلى وطنه الذي أخرج منه. وأما عيسى ويحيى فكان التنبيه بهما على ما وقع له من أول الهجرة من عداوة اليهود وتماديهم في البغي عليه، وإرادتهم وصول السوء إليه. وأما يوسف فكان التنبيه به على ما وقع له من قريش أهله وإخوته - في نصبهم الحرب له، وإرادتهم هلاكه، وكانت العاقبة له، وقد أشار إلى ذلك بقوله يوم الفتح لقريش: أقول كما قال يوسف "لا تثريب عليكم اليوم". وأما إدريس فكان التنبيه به على رفع منزلته عند الله. وأما هارون فكان التنبيه به على أن قومه رجعوا إلى محبته بعد أن آذوه. وأما موسى فكان التنبيه به على ما وقع له من معالجة قومه، وقد أشار إلى ذلك بقوله "لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر". وأما إبراهيم فكان التنبيه به على ما فرض عليه من إقامة منسك الحج وتعظيم البيت. وهذه مناسبات لطيفة أبداها السهيلي، وأوردها الحافظ ابن حجر في الفتح، ولكنها لا تصل درجة العلة والحكمة وبيان السبب، ولو ذكر غيرهم لوجدت مناسبات أخرى لهم تضاهي هذه المناسبات. وشبيه بهذا ما قيل في سر اختصاص كل منهم بالسماء التي لقيه بها إذ قال ابن أبي جمرة: الحكمة في كون آدم في السماء الدنيا أنه أول الأنبياء، وأول الآباء، وهو أصل، فكان أولى بالأولى، لتأنس البنوة بالأبوة، وعيسى في الثانية لأنه أقرب الأنبياء عهدا من محمد، ويليه يوسف، لأن أمة

محمد تدخل الجنة على صورته، وإدريس في الرابعة لقوله: {ورفعناه مكانا عليا} [مريم: 57] والرابعة من السبع وسط معتدل، وهارون لقربه من أخيه موسى، وموسى أرفع منه لفضل كلام الله، وإبراهيم لأنه الأب الأخير، فناسب أن يتجدد للنبي صلى الله عليه وسلم بلقائه أنس، لتوجهه بعده إلى عالم آخر، وأيضا فمنزلة الخليل تقتضي أن تكون أرفع المنازل، ومنزلة الحبيب أرفع من منزلته. فلذلك ارتفع النبي صلى الله عليه وسلم عن منزلة إبراهيم. وزاد ابن المنير في مناسبة لقاء إبراهيم في السماء السابعة ما اتفق له صلى الله عليه وسلم من دخول مكة في السنة السابعة، وطوافه بالبيت. وعندي أن هذه المناسبات كالوردة، تشم ولا تدعك، لأن وضع الأنبياء في هذه السموات غير متفق عليه بين الروايات. ولقد لوحظ من الروايات بصفة عامة أنها ذكرت بعض الأنبياء خاليا من أي تعليق أو وصف، وأوجزت الوصف أو التعليق للبعض، وأطنبت مع آخرين. وليس لهذا - فيما أرى- أثر في المفاضلة بين الصفوة عليهم الصلاة والسلام. فمثلا ذكرت يحيى بن زكريا وهارون خاليين من الوصف أو التعليق. وذكرت آدم [في الرواية الخامسة] وعن يمينه أسودة وعن يساره أسودة فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى. وظاهرها أن أرواح بني آدم من أهل الجنة والنار في السماء، وهو مشكل، لأنه قد جاء أن أرواح الكفار في سجين، وأن أرواح المؤمنين منعمة في عليين، فكيف تكون مجتمعة في سماء الدنيا؟ وأجاب القاضي عياض بأنه يحتمل أنها تعرض على آدم أوقاتا، فصادفت وقت عرضها مرور النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ويدل على أن كونهم في الجنة والنار إنما هو في أوقات دون أوقات قوله تعالى: {النار يعرضون عليها غدوا وعشيا} [غافر: 46]. واعترض ثانيا بأن أرواح الكفار لا تفتح لها أبواب السماء، كما هو نص القرآن، فكيف تكون عن شمال آدم وهو في السماء؟ وأجاب عنه القاضي عياض، فقال: يحتمل أن الجنة كانت في جهة يمين آدم، والنار في جهة شماله، وكان يكشف له عنهما. اهـ. وقال الحافظ ابن حجر. يحتمل أن يقال: إن النسم المرئية التي تدخل الأجساد بعد، وهي مخلوقة قبل الأجساد، ومستقرها عن يمين آدم وشماله وقد أعلم بما سيصيرون إليه، فلذلك كان يستبشر إذا نظر إلى من عن يمينه ويحزن إذا نظر إلى من عن يساره، بخلاف التي في الأجساد، فليست مرادة قطعا، وبخلاف التي انتقلت من الأجساد إلى مستقرها من جنة أو نار فليست مرادة أيضا فيما يظهر. اهـ.

وهذا الجواب بعيد، وخير منه ما ذكره الحافظ ابن حجر نفسه في موضع آخر، حيث قال: ظهر لي الآن احتمال آخر، وهو أن يكون المراد بها من خرجت من الأجساد حين خروجها [أي وقبل استقرارها في جنة أو نار] ولا يلزم من رؤية آدم لها وهو في السماء الدنيا أن يفتح لها أبواب السماء، ولا أن تلجها، ويؤيده ما وقع في حديث أبي سعيد عند البيهقي ولفظه "فإذا أنا بآدم، تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين، فيقول: روح طيبة ونفس طيبة، اجعلوها في عليين، ثم تعرض عليه أرواح ذريته الفجار، فيقول روح خبيثة، اجعلوها في سجين". وذكرت الروايات يوسف وأنه قد أعطي شطر الحسن [كما في الرواية الأولى] وكما عند البيهقي والطبراني عن أبي هريرة "فإذا أنا برجل أحسن ما خلق الله، قد فضل الناس بالحسن، كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب" ظاهر هذا أن يوسف عليه السلام كان أحسن من جميع الناس. لكن روى الترمذي من حديث أنس "ما بعث الله نبيا إلا حسن الوجه، حسن الصوت، وكان نبيكم أحسنهم وجها، وأحسنهم صوتا" فعلى هذا يحمل ما جاء في روايتنا الأولى على أن المراد أن يوسف أعطي شطر الحسن الذي أوتيه نبينا صلى الله عليه وسلم، ويحتمل ما جاء في رواية البيهقي والطبراني على أن المراد غير النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤيده قول من قال: إن المتكلم لا يدخل في عموم خطابه. وذكرت إدريس عليه السلام، وعقبت عليه بقوله تعالى: {ورفعناه مكانا عليا} قال الحافظ ابن حجر: وكون إدريس رفع وهو حي لم يثبت من طريق مرفوعة قوية. اهـ. فالظاهر أن الرفع رفع مكانة، والتنصيص على رفع مكانته لا يمنع رفع مكانة غيره من الأنبياء مثله، أو أرفع منه. والله أعلم. وذكرت إبراهيم عليه السلام، ففي الرواية الثانية عشرة "أما إبراهيم فانظروا إلى صاحبكم" وفي الرواية الثالثة عشرة" ورأيت إبراهيم صلوات الله عليه، فإذا أقرب من رأيت به شبها صاحبكم - يعني نفسه صلى الله عليه وسلم" وفي الرواية الرابعة عشرة" ورأيت إبراهيم صلوات الله عليه وأنا أشبه ولده به". وفي الرواية الأولى "فإذا أنا بإبراهيم صلى الله عليه وسلم مسندا ظهره إلى البيت المعمور". وقد أخرج الطبري عن قتادة قال: ذكر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "البيت المعمور مسجد في السماء، بحذاء الكعبة، لو خر لخر عليها". وعن علي أنه سئل عن البيت المعمور، فقال: بيت في السماء، بحيال البيت، وحرمته في السماء كحرمة هذا في الأرض. وقد أطنبت الروايات في وصف عيسى عليه السلام، فذكرت الرواية الثامنة "عيسى جعد مربوع" وفي التاسعة "ورأيت عيسى بن مريم مربوع الخلق، إلى الحمرة والبياض، سبط الرأس" وفي الرواية الثالثة عشرة "ورأيت عيسى بن مريم عليه السلام، فإذا أقرب من رأيت به شبها عروة ابن مسعود" وفي الرواية الرابعة عشرة "ولقيت عيسى" فنعته النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا هو ربعة أحمر، كأنما خرج من

ديماس" - يعني حماما - وفي الخامسة عشرة "أراني ليلة عند الكعبة فرأيت رجلا آدم، كأحسن ما أنت راء من آدم الرجال، له لمة كأحسن ما أنت راء من اللمم، قد رجلها، فهي تقطر ماء، متكئا على رجلين، أو على عواتق رجلين يطوف بالبيت، فسألت: من هذا؟ فقيل: هذا المسيح ابن مريم". ومن مجموع الروايات تبرز صورة عيسى عليه السلام، رجلا ليس بالطويل المفرط في الطول، وليس بالقصير الواضح القصر، جعد الجسم مكتنزه ممتلئه، ليس بالهزيل النحيل، وليس بالغليظ البطين، رجل يميل إلى الحمرة والبياض، أكثر مما يميل إلى الأدمة والسمرة، نضر الوجه، كأنما خرج لساعته من حمام، له شعر يتدلى، يجاوز شحمة الأذنين، قد رجله وسرحه ترجيلا حديثا، كأنه يقطر ماء، لقرب عهده بالغسيل والنظافة. وليس اتكاؤه على عواتق رجلين علامة على شيخوخته وضعفه، بل كثيرا ما يكون هذا الوضع من أوضاع الاحترام والتكريم. وأما طواف عيسى عليه السلام فإن كانت الرؤيا رؤيا منام فلا إشكال وإن كانت رؤيا عين فعيسى حي لم يمت. فلا امتناع من طوافه حقيقة، قاله القاضي عياض رحمه الله. وسيأتي مزيد إيضاح لهذه النقطة، وارتباطها بالإسراء قريبا عند الكلام عن تلبية موسى عليه السلام. أما الكلام عن موسى عليه الصلاة والسلام فقد ذكر في الروايات بإسهاب يفوق كل ما ذكر عن سائر الأنبياء، مرة بالوصف الجسمي، ومرة ببيان الحال، ومرة بالمحادثة والمراجعة. ففي الرواية الثامنة "موسى آدم" أي أسمر "طوال" أي طويل "كأنه من رجال شنوءة" المشهورين بالترفع عن الأدناس، وفي الرواية التاسعة "جعد" أي ممتلئ الجسم، وفي الرواية الرابعة عشرة، "رجل الرأس" أي مرجل شعر الرأس مسرحه، وفي الثالثة عشرة "فإذا موسى ضرب من الرجال" أي رجل بين الرجلين في كثرة اللحم وقلته. وفي الرواية السابعة "فأتيت على موسى .. فلما جاوزته بكى فنودي: ما يبكيك؟ قال: رب. هذا غلام بعثته بعدي، يدخل من أمته الجنة أكثر مما يدخل من أمتي". وفي رواية للبخاري "فقال موسى: رب، لم أظن أن يرفع علي أحد". وفي حديث أبي سعيد "قال موسى: يزعم بنو إسرائيل أني أكرم على الله. وهذا أكرم على الله مني" وفي رواية "ولو كان هذا هو وحده هان علي ولكن معه أمته، وهم أفضل الأمم عند الله" وفي رواية "أنه مر بموسى عليه السلام، وهو يرفع صوته، فيقول: أكرمته وفضلته؟ . فقال جبريل: هذا موسى. قلت: ومن يعاتب؟ قال: يعاتب ربه فيك. قلت: ويرفع صوته على ربه؟ قال إن الله قد عرف له حدته". قال الحافظ ابن حجر: قال العلماء: لم يكن بكاء موسى حسدا. معاذ الله. فإن الحسد في ذلك

العالم منزوع عن آحاد المؤمنين، قال تعالى: {ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا} [الحجر: 47] فكيف بمن اصطفاه الله تعالى؟ بل كان أسفا على ما فاته من الأجر الذي يترتب عليه رفع الدرجة بسبب ما وقع من أمته من كثرة المخالفة المقتضية لتنقيص أجورهم، المستلزم لتنقيص أجره، لأن لكل نبي مثل أجر كل من اتبعه، ولهذا كان من اتبعه من أمته في العدد دون من اتبع نبينا صلى الله عليه وسلم مع طول مدتهم بالنسبة لهذه الأمة. وأما قوله "غلام" فليس على سبيل النقص، بل على سبيل التنويه بقدرة الله وعظيم كرمه، إذ أعطى لمن كان في ذلك السن ما لم يعطه أحدا قبله ممن هو أسن منه، وقد وقع من موسى من العناية بهذه الأمة من أمر الصلاة ما لم يقع من غيره، ووقعت الإشارة لذلك في حديث أبي هريرة عند الطبري والبزار، قال عليه الصلاة والسلام: "وكان موسى أشدهم علي حين مررت به، وخيرهم لي حين رجعت إليه" وفي حديث أبي سعيد "فأقبلت راجعا فمررت بموسى- ونعم الصاحب كان لكم - فسألني: كم فرض عليك ربك"؟ . اهـ. وقال ابن أبي جمرة: إن الله جعل الرحمة في قلوب الأنبياء أكثر مما جعل في قلوب غيرهم، فذلك بكى رحمة لأمته: وأما قوله: "غلام" فإشارة إلى صغر سنه بالنسبة إليه. اهـ. وقال الخطابي: العرب تسمي الرجل المستجمع السن غلاما ما دامت فيه بقية من القوة. اهـ. وقال الحافظ ابن حجر: ويظهر لي أن موسى عليه السلام أشار إلى ما أنعم الله به على نبينا -عليهما الصلاة والسلام- من استمرار القوة في الكهولية وإلى أن دخل في سن الشيخوخة، ولم يدخل على بدنه هرم، ولا اعترى قوته نقص، حتى إن الناس في قدومه المدينة لما رأوه مردفا أبا بكر أطلقوا عليه اسم الشاب, وعلى أبي بكر اسم الشيخ، مع كونه في العمر أسن من أبي بكر. اهـ. وقال بعضهم: وقع ما وقع من موسى لأنه ليس في الأنبياء من له أتباع أكثر من موسى، ولا من له كتاب أكبر ولا أجمع للأحكام من كتابه، فكان من هذه الجهة مضاهيا للنبي صلى الله عليه وسلم، فناسب أن يتمنى أن يكون له مثل ما أنعم الله به عليه، من غير أن يريد زواله عنه. اهـ. وقد وردت مراجعة موسى لنبينا - عليهما الصلاة والسلام- بشأن الصلاة في أكثر الروايات. قال القرطبي: والحكمة في تخصيص موسى بمراجعة النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الصلاة لعلها لكون أمة موسى كلفت من الصلاة بما لم تكلف به غيرها من الأمم، فثقلت عليهم، فأشفق موسى على أمة محمد صلى الله عليه وسلم من مثل ذلك. ويشير إلى ذلك قوله: "إني قد جربت الناس قبلك". اهـ. وقال بعضهم: يحتمل أن يكون موسى لما غلب عليه الأسف في الابتداء على نقص حظ أمته بالنسبة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، حتى تمنى ما تمنى، يحتمل أن يكون قد استدرك ذلك ببذل النصيحة لهم، والشفقة عليهم، ليزيل ما عساه أن يتوهم عليه فيما وقع منه في الابتداء. اهـ. وهذا كلام جيد، ويضمه إلى ما قاله القرطبي يتم المقصود، والله أعلم.

والظاهر أن الرواية العاشرة والرواية الحادية عشرة ليستا عن ليلة الإسراء فإن رؤية النبي لموسى -عليهما الصلاة والسلام- كانت بالمسجد الأقصى وبالسماء السادسة، ولم يرد أنه رآه ليلة الإسراء بوادي الأزرق، وربما بدا للإمام مسلم أن يسوق هاتين الروايتين في حديث عن الإسراء لمجرد أنهما تتحدثان عن موسى كما تتحدث أحاديث الإسراء، كما ساق الرواية الخامسة عشرة والسادسة عشرة عن عيسى والدجال لمجرد أنهما تتحدثان عن عيسى كما تتحدث أحاديث الإسراء، وكما سيسوق أحاديث رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة وكلامهم معه جل شأنه بمناسبة أحاديث رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء وتكليمه إياه. وبعيد عندي أن يقال: إن رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لموسى في وادي الأزرق ولعيسى يطوف بالبيت وقعتا ليلة الإسراء، وأن التحديث عنهما تأخر للمناسبة، فإن الروايات في ذلك ليس فيها ما يربطها بالإسراء، ولم يرد في الأحاديث الصحيحة أنه رأى يونس على هذه الحال ليلة الإسراء، وليست هناك ضرورة لتمحل ربطها به. وقد أورد الإمام النووي نقلا عن القاضي عياض إشكالا وأجوبة للإشكال على هاتين الروايتين، ولفظه، قال: فإن قيل: كيف يحجون ويلبون وهم أموات وهم في الدار الآخرة وليست دار عمل؟ قلنا: إن للمشايخ وفيما ظهر لنا عن هذا أجوبة: أحدها: أنهم كالشهداء، بل هم أفضل منهم، والشهداء أحياء عند ربهم، فلا يبعد أن يحجوا ويصلوا، وأن يتقربوا إلى الله تعالى بما استطاعوا، لأنهم وإن كانوا قد توفوا فهم في هذه الدنيا التي هي دار العمل، حتى إذا فنيت مدتها، وتعقبتها الآخرة التي هي دار الجزاء انقطع العمل. (وهذا الجواب عندي بعيد عن القبول، فإن القرآن الكريم بين نشاطهم ومظاهر حياتهم عند ربهم بأنهم "يرزقون" {فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم} [آل عمران: 170] وليس فيها أنهم يعملون ويصلون ويحجون، وليس في حديث صحيح ما يثبت قيام الشهداء بالأعمال التي كانوا يعملونها في الدنيا، بل لهم أجرها بدون عمل إن أراد الله لهم استمرار الأجر. بل في الأحاديث الصحيحة ما يفيد انقطاع الأعمال البدنية بالانتقال من هذه الحياة، كقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له". ثانيها: أن عمل الآخرة ذكر ودعاء، قال تعالى: {دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام} [يونس: 10] (ولست أرى هذا جوابا عن الإشكال القائل: كيف يحجون ويلبون وهم أموات؟ والمعروف أن الذكر والدعاء في الدار الآخرة للتمتع والتلذذ لا للعبادة والتقرب، فلا ارتباط بين هذا الجواب وذاك الإشكال). ثالثها: أن تكون هذه رؤيا منام في غير ليلة الإسراء، أو في بعض ليلة الإسراء كما في رواية ابن

عمر رضي الله عنهما "بينا أنا نائم رأيتني أطوف بالكعبة ... " وذكر الحديث في قصة عيسى صلى الله عليه وسلم (وهذا الجواب إن صلح بالنسبة للرواية الخامسة عشرة والسادسة عشرة فإنه لا يصلح بالنسبة للرواية العاشرة والحادية عشرة). رابعها: أنه صلى الله عليه وسلم أري أحوالهم التي كانت في حياتهم ومثلوا له في حال حياتهم كيف كانوا؟ وكيف حجهم وتلبيتهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: "كأني أنظر إلى موسى" و"كأني أنظر إلى عيسى" و"كأني أنظر إلى يونس" عليهم السلام (وهذا جواب حسن، ويزيده حسنا لو قلنا: إنه صلى الله عليه وسلم تخيلهم كذلك وتمثلهم في نفسه، بناء على ما أوحي إليه من أمرهم في دنياهم، وهذا الجواب بالنسبة للرواية العاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة، وفيها كأني أنظر، أما بالنسبة للرواية الخامسة عشرة والسادسة عشرة فخير جواب أنها رؤيا منام في غير ليلة الإسراء. والله أعلم). -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - يؤخذ من قوله في الرواية السابعة "أحد الثلاثة بين الرجلين" تواضعه صلى الله عليه وسلم وحسن خلقه. 2 - وجواز نوم الجماعة في موضع واحد، وثبت من طرق أخرى أنه يشترط ألا يجتمعوا في لحاف واحد. 3 - استدل بعضهم بقوله: "ثم غسله في طست من ذهب" على جواز استعمال إناء الذهب، ورده النووي بأن هذا فعل الملائكة واستعمالهم، وليس بلازم أن يكون حكمهم حكمنا. فيحتاج إلى إثبات كونهم مكلفين بما كلفنا به، وتعقبه الحافظ ابن حجر. فقال: لا يكفي أن يقال: إن المستعمل له كان ممن لم يحرم عليه ذلك من الملائكة، لأنه لو كان قد حرم على محمد صلى الله عليه وسلم استعماله لنزه أن يستعمله غيره في أمر يتعلق ببدنه المكرم. ثم قال: ولعل ذلك كان قبل أن يحرم استعمال الذهب في هذه الشريعة. ويمكن أن يقال إن تحريم استعماله مخصوص بأحوال الدنيا، وما وقع في تلك الليلة كان الغالب أنه من أحوال الغيب، فيلحق بأحكام الآخرة. اهـ. 4 - قال الحافظ ابن حجر: وقد أبعد من استدل به على جواز تحلية المصحف وغيره بالذهب، وقال: خص الطست لكونه أشهر آلات الغسل عرفا، والذهب لكونه أغلى أنواع الأواني الحسية وأصفاها، ولأن فيه خواص ليست لغيره، يظهر لها هنا مناسبات، منها أنه من أواني الجنة، ومنها أنه لا تأكله النار ولا التراب، ولا يلحقه الصدأ، ومنها أنه أثقل الجواهر فناسب ثقل الوحي. اهـ. قال السهيلي: إن نظر إلى لفظ الذهب ناسب من جهة إذهاب الرجس عنه، وإن نظر إلى معناه فلوضاءته ونقائه وصفائه، ولأنه أعز الأشياء في الدنيا. اهـ. 5 - فيه فضيلة ماء زمزم على جميع المياه، قال ابن أبي جمرة: وإنما لم يغسل بماء الجنة لما اجتمع في ماء زمزم من كون أصل مائها من الجنة، ثم استقر في الأرض، فأريد بذلك بقاء بركة للنبي صلى الله عليه وسلم

في الأرض، وقال السهيلي: لما كانت زمزم هزمة جبريل روح القدس لأم إسماعيل جد النبي صلى الله عليه وسلم ناسب أن غسل بمائها عند دخول حضرة القدوس ومناجاته. 6 - قال ابن أبي جمرة: في قوله "ثم حشي إيمانا وحكمة" إن الحكمة ليس بعد الإيمان أجل منها، ولذلك قرنت معه، ويؤيده قوله تعالى: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ... } [البقرة: 269]. اهـ. وهذا الحشو يحتمل أن يكون على حقيقته، وتجسيد المعاني جائز، كما جاء في تجسيد الموت في صورة كبش، وكذا وزن الأعمال وغير ذلك من أحوال الغيب. قال النووي، ويحتمل أنه من باب التمثيل، وتمثيل المعاني وقع كثيرا، فقد مثلت له الجنة والنار في عرض الحائط قاله البيضاوي. 7 - قال النووي: في قوله: "كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره" دليل على جواز نظر الرجل إلى صدر الرجل، ولا خلاف في جوازه، وكذا يجوز أن ينظر إلى ما فوق سرته وتحت ركبته إلا أن ينظر بشهوة إلى كل آدمي إلا الزوج لزوجته ومملوكته، وكذا هما إليه، وإلا أن يكون المنظور إليه أمرد، حسن الصورة فإنه يحرم النظر إليه، إلى وجهه وسائر بدنه، سواء كان بشهوة أو بغيرها، إلا أن يكون لحاجة البيع والشراء والتطييب والتعليم ونحوها. اهـ. 8 - يؤخذ من قوله: (فربطته بالحلقة) الأخذ بالاحتياط في الأمور وتعاطي الأسباب، وأن ذلك لا يقدح في التوكل على الله. قاله النووي. وأنكره حذيفة، إذ روي عند أحمد والترمذي من حديث حذيفة قال: تحدثوا أنه ربطه؟ أخاف أن يفر منه وقد سخره له عالم الغيب والشهادة؟ قال البيهقي: المثبت مقدم على النافي، يعنى من أثبت ربط البراق معه زيادة علم على من نفى ذلك، فهو أولى بالقبول. 9 - فيه صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس، وأنكرها حذيفة أيضا، واحتج بأنه لو صلى فيه لكتب عليكم الصلاة فيه كما كتب عليكم الصلاة في البيت العتيق، ورده الحافظ ابن حجر فقال: إن أراد بقوله: "كتب عليكم" الفرض منع التلازم، وإن أراد التشريع فقد فرض النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في بيت المقدس، فقرنه بالمسجد الحرام وبمسجده في المدينة في شد الرحال في قوله: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى" وذكر فضيلة الصلاة فيه في غير ما حديث. 10 - أخذ منه بعضهم أن للسماء أبوابا حقيقية. 11 - وحفظة موكلين بها. 12 - وأن الباب كان مغلقا. قال ابن المنير: وحكمته التحقق من أن السماء لم تفتح إلا من أجله بخلاف ما لو وجده مفتوحا. 13 - وفيه إثبات الاستئذان.

14 - أخذ من قول الحفظة "ومن معك؟ "أنهم أحسوا برفيق معه وإلا لكان السؤال بلفظ: أمعك أحد؟ وذلك الإحساس إما بمشاهدة لكون السماء شفافة، وإما بأمر معنوي، كزيادة أنوار أو نحوها مما يشعر بتجدد أمر يحسن معه السؤال بهذه الصيغة، ذكره في الفتح، وليس بشيء لرواية البخاري في الصلاة، وروايتنا الخامسة إذ جاءت بلفظ "هل معك أحد؟ ". 15 - استدل بعضهم بقول جبريل: "محمد" على أن الاسم أدل في التعريف من الكنية، وهذا الاستدلال غير واضح، فالتعريف يكون بما اشتهر به المعرف اسما كان أو كنية أو لقبا. 16 - وفيه أنه ينبغي لمن يستأذن أن يقول: أنا فلان - ويسمي نفسه- ولا يقتصر على: أنا، لئلا يلتبس بغيره، ولأنه ينافي مطلوب الاستفهام. 17 - وأن المار يسلم على القاعد، وإن كان المار أفضل من القاعد. 18 - واستحباب تلقي أهل الفضل بالبشر والترحيب والثناء والدعاء. 19 - استنبط ابن المنير من قولهم: "مرحبا" جواز رد السلام بغير لفظ السلام، وتعقب بأن قول النبي مرحبا ليس ردا للسلام، وإنما هو تعقيب على رد السلام، ولعل سقطه من بعض الرواة للعلم به، وقد جاء مصرحا به في رواية البخاري ونصها عند كل نبي "فسلمت عليه، فرد السلام ثم قال: مرحبا". 20 - جواز مدح الإنسان في وجهه إذا أمن عليه الافتتان، قيل: اقتصر الأنبياء على وصفه بهذه الصفة، وتواردوا عليها، لأن الصلاح صفة تشمل صفات الخير، ولذلك كررها كل منهم، والصالح هو الذي يقوم بما يلزمه من حقوق الله وحقوق العباد، فمن ثم كانت جامعة لمعاني الخير. 21 - يؤخذ من قول آدم وإبراهيم "مرحبا بالابن الصالح" إشارة إلى افتخارهما بأبوة النبي صلى الله عليه وسلم. 22 - فيه أدب موسى ومراعاته جانب النبي - عليهما الصلاة والسلام- إذ أمسك عن جميع ما وقع منه، حتى فارقه النبي صلى الله عليه وسلم فلما فارقه بكى وقال ما قال. 23 - استدل باستناد إبراهيم إلى البيت المعمور على جواز الاستناد إلى القبلة بالظهر وغيره، إذ البيت المعمور كالكعبة في أنه قبلة من كل جهة، وهذا على القول بأن شرع من قبلنا شرع لنا. 24 - وأن الملائكة أكثر المخلوقات، لأنه لا يعرف من جميع العوالم من تجدد من جنسه في كل يوم سبعون ألفا غير ما ثبت من الملائكة في هذا الخبر. قال تعالى: {وما يعلم جنود ربك إلا هو} [المدثر: 31]. 25 - وفيه فضيلة ماء النيل والفرات، ورؤيتهما في السماء من قبيل التمثيل، وإنما أطلق على هذه الأنهار من الجنة تشبيها لها بأنهر الجنة لما فيها من شدة العذوبة والحسن والبركة. 26 - أخذ ابن أبي جمرة من قوله: "نهران ظاهران ونهران باطنان" أن الباطن أجل من الظاهر، لأن الباطن جعل في دار البقاء، والظاهر جعل في دار الفناء، ومن ثم كان الاعتماد على ما في الباطن.

27 - وفيه فضيلة اللبن، قال القرطبي: يحتمل أن يكون سبب تسمية اللبن فطرة أنه أول شيء يدخل بطن المولود ويشق أمعاءه، والسر في ميل النبي صلى الله عليه وسلم، إليه دون غيره أنه كان مألوفا له، ولأنه لا ينشأ عن جنسه مفسدة، وقال بعضهم: جعل اللبن علامة الإسلام والاستقامة لكونه سهلا طيبا طاهرا سائغا للشاربين، سليم العاقبة، أما الخمر فأم الخبائث، وجالبة الشر في الحال والمآل. وظاهر الرواية الأولى أن الإناءين عرضا على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة في بيت المقدس، وقبل العروج، وظاهر الرواية السابعة أنهما عرضا عليه في السماء السابعة بعد رؤية البيت المعمور، ثم إن الروايتين تفيدان أن الذي عرض عليه إناءان لا أكثر، لبن وخمر، وفي رواية للبخاري "ثم أتيت بإناء من خمر، وإناء من لبن، وإناء من عسل، فأخذت اللبن" وفي حديث أبي هريرة عن ابن عائذ في حديث المعراج، بعد ذكر إبراهيم قال: ثم انطلقنا، فإذا نحن بثلاثة آنية مغطاة، فقال جبريل: يا محمد ألا تشرب مما سقاك ربك؟ فتناولت أحدها، فإذا هو عسل، فشربت منه قليلا، ثم تناولت الآخر فإذا هو لبن، فشربت منه حتى رويت. فقال: ألا تشرب من الثالث؟ قلت: قد رويت. قال: وفقك الله" وفي حديث أبي سعيد عند ابن إسحاق "فصلى بهم -يعني بالأنبياء- ثم أتي بثلاثة آنية: إناء فيه لبن، وإناء فيه خمر، وإناء فيه ماء فأخذت اللبن". قال الحافظ ابن حجر: ويجمع بين الاختلاف إما بحمل "ثم" على غير بابها من الترتيب، وإنما هي بمعنى الواو هنا، وإما بوقوع عرض الآنية مرتين: مرة عند فراغه من الصلاة ببيت المقدس، وسببه ما وقع من العطش، ومرة عند وصوله إلى سدرة المنتهى، ورؤية الأنهار الأربعة. وأما الاختلاف في عدد الآنية وما فيها فيحمل على أن بعض الرواة ذكر ما لم يذكره الآخر ومجموعها أربعة آنية، وفيها أربعة أشياء من الأنهار الأربعة التي رآها تخرج من سدرة المنتهى، فعند الطبري: لما ذكر سدرة المنتهى "يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن، ومن لبن لم يتغير طعمه، ومن خمر لذة للشاربين، ومن عسل مصفى" فلعله عرض عليه من كل نهر إناء. 28 - وعن قوله في الرواية السادسة: "ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام" قال الخطابي: هو صوت ما تكتبه الملائكة من أقضية الله تعالى ووحيه، وما ينسخونه من اللوح المحفوظ، أو ما شاء الله تعالى من ذلك أن يكتب ويرفع، وقال القاضي عياض: في هذا حجة لمذهب أهل السنة في الإيمان بصحة كتابة الوحي والمقادير في كتب الله، من اللوح وما شاء، بالأقلام التي هو تعالى يعلم كيفيتها، على ما جاءت به الآيات من كتاب الله تعالى، والأحاديث الصحيحة، وأن ما جاء من ذلك على ظاهره لكن كيفية ذلك وصورته وجنسه مما لا يعلمه إلا الله تعالى أو من أطلعه على شيء من ذلك من ملائكته ورسله، وما يتأول هذا ويحيله عن ظاهره إلا ضعيف النظر والإيمان، والله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، حكمة من الله تعالى، وإظهارا لما يشاء من غيبه لمن يشاء من ملائكته وسائر خلقه. وإلا فهو غني عن الكتب والاستذكار. سبحانه وتعالى. 29 - قال القاضي عياض: وفي علو منزلة نبينا صلى الله عليه وسلم وارتفاعه فوق منازل سائر الأنبياء

صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وبلوغه حيث بلغ من ملكوت السموات، دليل على علو درجته وإبانة فضله. اهـ. 30 - يؤخذ من قوله عن البيت المعمور: "وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه" كثرة الملائكة، كثرة تفوق كل تصور {وما يعلم جنود ربك إلا هو} 31 - وفيه أن الصلوات الخمس فرضت بمكة، وأنها فرضت خمسين صلاة ثم خففت، ويؤخذ من قوله في الرواية الأولى: "فحط عني خمسا" أن التخفيف كان خمسا خمسا، وأما قول الكرماني اعتمادا على قوله في الرواية السادسة: "فوضع شطرها" الشطر: النصف ففي المراجعة الأولى وضع خمسا وعشرين، وفي الثانية ثلاث عشرة، يعني نصف الخمس والعشرين بجبر الكسر، وفي الثالثة سبعا. إلخ. هذا القول من الكرماني بعيد، ومجموع الروايات يأباه، والشطر كما يطلق على النصف يطلق على البعض. وهل فرضت الصلاة ليلة الإسراء على ما أقرت عليه وعلى ما انتهت إلينا؟ أو فرضت - كما روي عن عائشة - ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر؟ خلاف بين العلماء، فمن ذهب إلى الثاني كالحنفية بنى عليه أن القصر في السفر عزيمة لا رخصة، ومن ذهب إلى الأول قال: إن قول عائشة غير مرفوع، وهي لم تشهد زمان فرض الصلاة، وإن قولها هذا معارض بحديث ابن عباس "فرضت الصلاة في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين"، وقد رواه مسلم. وحاول الحافظ ابن حجر الجمع بين الروايتين فقال: والذي يظهر لي، وبه تجتمع الأدلة السابقة أن الصلوات فرضت ليلة الإسراء ركعتين ركعتين إلا المغرب، ثم زيد بعد الهجرة عقب الهجرة إلا الصبح فترك لطول القراءة، ثم بعد أن استقر فرض الرباعية خفف منها في السفر عند نزول قوله تعالى: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} [النساء: 101]. فعلى هذا: المراد بقول عائشة: "فأقرت صلاة السفر" أي باعتبار ما آل إليه الأمر بالتخفيف، لا أنها استمرت منذ أن فرضت. اهـ. وهذه المحاولة يعوزها الدليل، وسندها ضعيف، واحتمالها بعيد، والذي أميل إليه أنها فرضت ليلة الإسراء على ما هي عليه، ثم خفف الله [بالقصر] على المسافرين، ورفع عنهم الحرج والمشقة للتيسير. والله أعلم. والحكمة في وقوع فرض الصلاة ليلة الإسراء أنه لما قدس ظاهرا وباطنا حين غسل بماء زمزم وبالإيمان والحكمة، ومن شأن الصلاة أن يتقدمها الطهور ناسب ذلك أن تفرض الصلاة في تلك الحالة، وليظهر شرفه في الملأ الأعلى. كذا قيل. وقال ابن أبي جمرة: في اختصاص فرضيتها بليلة الإسراء إشارة إلى عظم بيانها، ولذلك اختص فرضها بكونه بغير واسطة جبريل. اهـ. كما أشار ابن أبي جمرة إلى الحكمة في كونها كانت كذلك بركوع وسجود بأنه لما عرج به صلى الله

عليه وسلم رأى في تلك الليلة تعبد الملائكة، وأن منهم القائم فلا يقعد، والراكع فلا يسجد، والساجد فلا يقعد، فجمع الله له ولأمته تلك العبادات كلها في كل ركعة يصليها العبد بشرائطها من الطمأنينة والإخلاص. 32 - واستدل به على عدم فرضية ما زاد على الصلوات الخمس كالوتر. 33 - واستدل به على عدم جواز النسخ قبل الفعل، ألا ترى أنه عز وجل نسخ الخمسين بالخمس قبل أن تصلي؟ ذهب إلى ذلك الأشاعرة، ومنعه المعتزلة، وفي الموضوع بحث طويل للأصوليين والشراح. 34 - استدل بقوله: "هي خمس وهي خمسون" على فضل الله على أمة محمد صلى الله عليه وسلم. 35 - واستدل من المراجعة على استحباب الإكثار من سؤال الله تعالى وتكثير الشفاعة عنده. 36 - واستدل به على فضيلة الاستحياء. 37 - وعلى بذل النصيحة لمن يحتاج إليها وإن لم يستشر الناصح في ذلك. 38 - وأن التجربة أقوى في تحصيل المطلوب من المعرفة الكثيرة، لقول موسى إني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم، وقد فرض على بني إسرائيل صلاتان، فما قاموا بهما. 39 - ويستفاد منه تحكيم العادة، والتنبيه بالأعلى على الأدنى، لأن من سلف من الأمم كانوا أقوى أبدانا من هذه الأمة. 40 - استدل به على تكليم الله لمحمد صلى الله عليه وسلم من غير واسطة. 41 - استدل به على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن خلافا للمعتزلة. 42 - استدل به على فضل السير بالليل على السير بالنهار، وقد ورد "عليكم بالدلجة فإن الأرض تطوى بالليل". 43 - استدل النووي من وضع موسى أصبعيه في أذنيه- كما جاء في الرواية الحادية عشرة - على استحباب وضع الأصبع في الأذن عند رفع الصوت بالأذان ونحوه مما يستحب له رفع الصوت، وهذا مبني على أن شرع من قبلنا شرع لنا. والله أعلم.

(98) باب رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء والمعراج

(98) باب رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء والمعراج 306 - عن الشيباني قال: سألت زر بن حبيش عن قول الله عز وجل {فكان قاب قوسين أو أدنى} [النجم: 9] قال: أخبرني ابن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح. 307 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: {ما كذب الفؤاد ما رأى} [النجم: 11] قال: رأى جبريل عليه السلام له ستمائة جناح. 308 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: {لقد رأى من آيات ربه الكبرى} [النجم: 18] قال: رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح. 309 - عن أبي هريرة رضي الله عنه {ولقد رآه نزلة أخرى} [النجم: 13] قال: رأى جبريل. 310 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: رآه بقلبه. 311 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {ما كذب الفؤاد ما رأى} [النجم: 11] {ولقد رآه نزلة أخرى} [النجم: 13] قال: رآه بفؤاده مرتين. بهذا الإسناد. 312 - عن مسروق، قال: كنت متكئا عند عائشة. فقالت: يا أبا عائشة، ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية. قلت: ما هن؟ قالت: من زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية. قال وكنت متكئا فجلست. فقلت: يا أم المؤمنين، أنظريني ولا تعجليني. ألم يقل الله عز وجل: {ولقد رآه بالأفق المبين} [التكوير: 23]

{ولقد رآه نزلة أخرى} [النجم: 13] فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال "إنما هو جبريل. لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين. رأيته منهبطا من السماء. سادا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض" فقالت: أولم تسمع أن الله يقول: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير} [الأنعام: 103] أولم تسمع أن الله يقول: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم} [الشورى: 51] قالت: ومن زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية. والله يقول: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} [المائدة: 67] قالت: ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية. والله يقول: {قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله} [النمل: 65]. 313 - نحو حديث ابن علية. وزاد: قالت: ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا مما أنزل عليه لكتم هذه الآية: {وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} [الأحزاب: 37]. 314 - عن مسروق، قال: سألت عائشة: هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟ فقالت: سبحان الله! لقد قف شعري. لما قلت وساق الحديث بقصته. وحديث داود أتم وأطول. 315 - عن مسروق، قال قلت لعائشة: فأين قوله: {ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى} [النجم: 8 - 10] قالت: إنما ذاك جبريل صلى الله عليه وسلم. كان يأتيه في صورة الرجال وإنه أتاه في هذه المرة في صورته التي هي صورته فسد أفق السماء. 316 - عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال: "نور أنى أراه".

317 - عن عبد الله بن شقيق. قال قلت لأبي ذر: لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته. فقال: عن أي شيء كنت تسأله؟ قال: كنت أسأله هل رأيت ربك؟ قال أبو ذر: قد سألت فقال: "رأيت نورا". -[المعنى العام]- شغل موضوع رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء أذهان كثير من الصحابة والتابعين والعلماء والفقهاء والمحدثين فترة طويلة من الزمن، فقد لقي ابن عباس كعبا بعرفة، فقال ابن عباس: إنا بنو هاشم نقول: إن محمدا رأى ربه مرتين، فكبر كعب، ورفع صوته بالتكبير حتى جاوبته الجبال، ثم قال: إن الله قسم رؤيته وكلامه بين موسى ومحمد، فكلم موسى مرتين ورآه محمد مرتين. وعلمت عائشة بهذا الرأي، وهي تعتقد نقيضه، فأخذت تعلن: من حدث أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الكذب والافتراء. وأصبح الباحثون وراء الحقيقة في حيرة من الأمر، مرة يذهبون إلى ابن مسعود وأخرى إلى أبي ذر، وثالثة إلى ابن عباس، ورابعة إلى عائشة، وهكذا، وممن لجأ إلى عائشة مسروق بن الأجدع المكنى بأبي عائشة التابعي الفقيه الزاهد، وكان قاضيا بالكوفة، لا يأخذ على القضاء رزقا، وكان يحب عائشة حتى اتهم بالتباطؤ عن علي في حروبه، رحل من الكوفة إلى عائشة بالمدينة ليسمع رأيها في الموضوع، فسلم من وراء حجاب، ثم جلس واتكأ، ثم قال: يا أماه. هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟ فقالت له: سبحان الله، لقد اقشعر جلدي، واهتز شعري مما قلت، أين أنت من ثلاث، من حدث بهن فقد كذب، من حدث أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب، لأن الله يقول: {لا تدركه الأبصار} [الأنعام: 103] أي لا يراه ولا يحيط به أحد من خلقه، ويقول: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء} [الشورى: 51] أي لا يكلم الله بشرا من خلقه إلا على حالة من هذه الحالات فكيف يراه محمد صلى الله عليه وسلم. ومن حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلم كتم شيئا مما أوحي إليه ولم يبلغه للأمة فقد كذب لأن الله يقول: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} [المائدة: 67] ولو كان الرسول صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا لكتم عتاب الله له في قوله: {وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} [الأحزاب: 37] ومن حدثك أن محمدا يعلم ما في غد فقد كذب، لأن الله يقول: {وما تدري نفس ماذا تكسب غدا} [لقمان: 34].

سمع مسروق من أم المؤمنين هذه الفتوى- وكان يعلم فتوى ابن عباس في قوله تعالى: {ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى ولقد رآه نزلة أخرى} [النجم: 11 - 13] وأنه قال: رآه بفؤاده مرتين، ورواية أبي ذر أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ فقال: "رأيت نورا" وكان متكئا عند عائشة - كعادة العرب المستأنسين لحديث غير العجلين على القيام، فقد جاء من سفر بعيد- ولكن هذه الفتوى المهمة جعلته يعتدل في جلسته ويتوثب - في أدب- لمناقشتها، فقال: يا أم المؤمنين رفقا بي، وصبرا علي، وحلما على جرأتي، أمهليني ولا تعجليني، وأفسحي لي صدرك وإن قف شعرك. ألم يقل الله تعالى: {ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى} [النجم: 8 - 10] فقالت: أنا أول من سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية، فقال: إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها إلا هاتين المرتين، ورأيته منهبطا من السماء عظيم الخلقة له ستمائة جناح على رفرف خضر، يسد الأفق بين السماء والأرض. ورجع مسروق إلى الكوفة ينشر فتوى أم المؤمنين بين أتباعه وتلاميذه فرضي الله عن الصحابة والتابعين، والعلماء العاملين المحققين. -[المباحث العربية]- {لقد رأى من آيات ربه الكبرى} اللام في جواب قسم محذوف و"آيات ربه" مفعول "رأى" و"من" زائدة و"الكبرى" صفة لآيات ربه، ويجوز نعت الجماعة بنعت الواحدة كقوله تعالى: {ولي فيها مآرب أخرى} [طه: 18] والتقدير: والله لقد رأى آيات ربه الكبرى، والمراد بها جميع ما رأى صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، ويصح أن يكون "الكبرى" صفة لموصوف محذوف، والجار والمجرور "من آيات ربه" متعلق بمحذوف حال، مقدم من تأخير، والتقدير: والله لقد رأى الآية مندرجة في آيات ربه وواحدة منها، والمراد بالآية الكبرى جبريل عليه السلام في صورته الحقيقية، وهذا التقدير هو المناسب للرواية التي معنا. {ولقد رآه نزلة أخرى} أي رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل -عليه السلام- في صورته الحقيقية مرة أخرى في السماء عند سدرة المنتهى بعد أن رآه المرة الأولى بنفس هيئته في الأرض، "نزلة" مصدر من نزل، نصبت نصب الظرف الذي هو مرة، لأن الفعلة اسم للمرة من الفعل، فكانت في حكمها، ولم يقل: "مرة" بدل "نزلة" ليفيد أن الرؤية كانت بنزول ودنو كالرؤية الأولى. وقال ابن عباس: رأى ربه سبحانه وتعالى، وعلى هذا معنى "نزلة أخرى" يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانت له نزلات وعرجات في تلك الليلة. (ما كذب الفؤاد ما رأى) "كذب" بتخفيف الذال، و"كذب" بتشديدها بمعنى واحد، وبهما قرئ، "وما" موصولة مفعول "كذب" و"أل" في "الفؤاد" للعهد أو عوض عن المضاف إليه، والتقدير: ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السلام، أي ما كذب الفؤاد المبصر، أي ما

أنكره، بل عرفه كما عرفه البصر، وقيل: المرئي هو الله سبحانه، رآه صلى الله عليه وسلم بعيني رأسه، وقيل: بقلبه كما سيأتي في فقه الحديث. (ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية) "ثلاث" مبتدأ، سوغ الابتداء به مراعاة الوصف أو الإضافة. أي ثلاث كلمات، والفرية بكسر الفاء الكذب، يقال فرى الشيء يفريه فريا، وافتراه يفتريه افتراء إذا اختلقه، وجمع الفرية فرى، وفي رواية البخاري "أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب"؟ . (أنظريني) أي أمهليني، واتركي لي فرصة الكلام. (رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض) قال النووي: هكذا هو في الأصول "ما بين السماء إلى الأرض" وهو صحيح، وأما "عظم خلقه" فضبط على وجهين، أحدهما بضم العين وإسكان الظاء، والثاني بكسر العين وفتح الظاء، وكلاهما صحيح. اهـ. (سبحان الله! لقد قف شعري لما قلت) "سبحان الله" مقصودها بذكره التعجب من جهل مثل هذا، وأما قولها "قف شعري" فمعناه قام شعري من الفزع، لسماعي ما لا ينبغي أن يقال. قال النضر بن شميل: القف بفتح القاف وتشديد الفاء كالقشعريرة، وأصله التقبض والاجتماع، لأن الجلد ينقبض عند الفزع والاستهوال، فيقوم الشعر لذلك. (ثم دنا فتدلى) أي "ثم دنا" جبريل من رسول الله صلى الله عليه وسلم "فتدلى" فزاد في القرب، والتدلي هو النزول بقرب الشيء فالترتيب طبيعي، وقيل: التدلي هو الامتداد إلى جهة السفل، والكلام على التقديم والتأخير، وأصله: {علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى} [النجم: 5 - 7] ثم تدلى فدنا، لأن التدلي سبب الدنو. فالفرق بين الرأيين في معنى التدلي، هل هو القرب بعد العلو فالترتيب طبيعي، أو هو الامتداد إلى جهة السفل، ففي الكلام تقديم من تأخير، وقيل على الرأي الثاني أيضا: ثم دنا جبريل من الأرض بعد استوائه في الأفق الأعلى ونزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم. (فكان قاب قوسين أو أدنى) القاب في اللغة القدر، وقد جاء التقدير بالقوس والرمح والسوط، والمعنى: فكانت مسافة القرب مقدار قوسين أو أقرب. ولما كان الأصل في معنى "أو" الشك، والله منزه عن الشك عليم بحقائق الأشياء قيل: إن "أو" بمعنى "بل" فهي للإضراب والانتقال. وقيل: إن الشك بالنظر للمخاطبين إذ الله خاطب العباد على لغتهم، ومقدار فهمهم، والمعنى: أدنى من القوسين في تقديركم. (فأوحى إلى عبده ما أوحى) المراد من العبد محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: جبريل، وفي تقدير المعنى آراء للمفسرين، أشهرها وأكثرها: فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى، وقيل: فأوحى الله تعالى إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى، وقيل: فأوحى الله إلى عبده جبريل ما أوحى، فبلغ جبريل محمدا ما أوحي إليه. وكل هذه الأقوال صالحة على أن الذي دنا فتدلى جبريل، أما على قول من يرى أنه رب العزة فلا يناسبه إلا القول الثاني.

وفي إبهام الموحى به تفخيم وتهويل، قيل: أوحي إليه أن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك. (نور أنى أراه) "نور" بالرفع خبر مبتدأ محذوف، أي الذي رأيته نور، و"أنى" بالنون المشددة المفتوحة بمعنى كيف، استفهام إنكاري بمعنى النفي، أو تعجبي، والمعنى: حجابه النور فكيف أراه؟ أي النور منعني من الرؤية، كما جرت العادة بإغشاء الأنوار الأبصار ومنعها من إدراك الشيء الذي حالت بين الرائي وبينه. قال المازري: وروي "نوراني" بضم النون وفتح الراء ممدودة وكسر النون وتشديد الياء، أي هو نوراني قال القاضي عياض: هذه الرواية لم تقع لنا، ولا رأيتها في شيء من الأصول. (قد سألت فقال) الرواية هكذا "سألت" بحذف المفعول، والتقدير: قد سألته. -[فقه الحديث]- اختلف العلماء سلفهم وخلفهم في رؤية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء والمعراج على مذاهب أربعة: الأول: إنكارها إنكارا مطلقا. الثاني: إثباتها بعيني الرأس. الثالث: إثباتها بالفؤاد. الرابع: التوقف. يتزعم الرأي الأول أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها- ويتابعها أبو هريرة وابن مسعود في المشهور عنه، وأبو ذر في رواية، وهو رأي جماعة من المحدثين والمتكلمين. وعائشة في حديثنا تؤكد إنكارها بأساليب مختلفة، وبعبارات بالغة، فهي تتعجب من جهل مثبت الرؤية بقولها في الرواية الخامسة "سبحان الله" ثم تستبشع هذا القول، تهلع له وتفزع وتقول "لقد قف شعري لما قلت" ثم تصف المتحدث بالرؤية بأنه قد أعظم على الله الفرية، ثم تجعله في درجة المتحدث بأن محمدا كتم بعض ما أوحي إليه، أو أنه يعلم الغيب. ثم تستدل على هذا الإنكار بقوله تعالى: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير} [الأنعام: 103] وبقوله: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم} [الشورى: 51]. ثم ردت دليل المثبتين وفسرت آيات سورة النجم بأن المرئي فيها جبريل عليه السلام، وأيدها بعضهم بما رواه مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا".

ويتزعم القول بإثبات الرؤية ابن عباس وكعب والحسن، وبه قال سائر أصحاب ابن عباس، وجزم به الزهري وصاحبه معمر وآخرون، وهو قول الأشعري وغالب أتباعه، نعم ذهب بعض هؤلاء إلى الرأي الثالث وهو أن الرؤيا كانت بالفؤاد لا بالعين، وقد أخرج النسائي بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: "أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم؟ . وأخرج ابن إسحاق أن ابن عمر أرسل إلى ابن عباس: هل محمد رأى ربه؟ فأرسل إليه أن نعم. وروايتنا الثالثة يقول فيها ابن عباس "رأى ربه بفؤاده مرتين". وأخرج الترمذي عن عكرمة عن ابن عباس قال: رأى محمد ربه. قلت: أليس الله يقول: {لا تدركه الأبصار} قال: ويحك. ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره، وقد رأى ربه مرتين". وقد مال النووي إلى هذا الجانب فنقل عن صاحب التحرير قوله: إن عائشة لم تخبر أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لم أر ربي، وإنما ذكرت ما ذكرت متأولة بقول الله تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم} ولقول الله تعالى: {لا تدركه الأبصار} والصحابي إذا قال قولا وخالفه غيره منهم لم يكن قوله حجة، وإذا صحت الروايات عن ابن عباس في إثبات الرؤية وجب المصير إلى إثباتها، فإنها ليست مما يدرك بالعقل ويؤخذ بالظن وإنما يتلقى بالسماع. ولا يستجيز أحد أن يظن بابن عباس أنه تكلم في هذه المسألة بالظن والاجتهاد، وقد قال معمر بن راشد حين ذكر اختلاف عائشة وابن عباس: ما عائشة عندنا بأعلم من ابن عباس، ثم إن ابن عباس أثبت شيئا نفاه غيره، والمثبت مقدم على النافي. هذا كلام صاحب التحرير. ثم النووي. فالحاصل أن الراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعيني رأسه ليلة الإسراء. لحديث ابن عباس وغيره مما تقدم. وإثبات مثل هذا مما لا يأخذونه إلا بالسماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا مما لا ينبغي أن يتشكك فيه، ثم إن عائشة -رضي الله عنها- لم تنف الرؤية بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان معها فيه حديث لذكرته، وإنما اعتمدت الاستنباط من الآيات، وسنوضح الجواب عنها. فأما احتجاج عائشة بقول الله تعالى: {لا تدركه الأبصار} فجوابه ظاهر، فإن الإدراك هو الإحاطة، والله تعالى لا يحاط به، وإذا ورد النص بنفي الإحاطة لا يلزم منه نفي الرؤية بغير إحاطة، وأما احتجاجها -رضي الله عنها- بقول الله تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب .. } الآية فالجواب عنه من أوجه: أحدها: أنه لا يلزم من الرؤية وجود الكلام حال الرؤية، فيجوز وجود الرؤية من غير كلام. الثاني: أنه عام مخصوص بما تقدم من الأدلة. الثالث: ما قاله بعض العلماء: إن المراد بالوحي الكلام من غير واسطة. اهـ. وقد حمل الحافظ ابن حجر على الإمام النووي لجزمه بأن عائشة لم تنف الرؤية بحديث مرفوع فقال: إن هذا عجيب، فقد ثبت ذلك عنها في صحيح مسلم الذي شرحه الشيخ، فعنده عن مسروق قال: وكنت متكئا فجلست، فقلت: ألم يقل الله: {ولقد رآه نزلة أخرى} فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: إنما هو جبريل. اهـ.

وعندي أن هذا التحامل من الحافظ ابن حجر هو العجيب، ذلك أن الحديث الذي ساقه، والذي شرحه الإمام النووي لا ينفي رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه، وإنما ينفي أن يكون الله هو المرئي المقصود من هذه الآية، ولا يمنع أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه بدليل آخر، فعائشة لم تنف الرؤية بحديث مرفوع قطعا، كما يقول الإمام النووي. وقد رد القرطبي استدلال عائشة بقوله تعالى: {لا تدركه الأبصار} برد آخر، فقال: الأبصار في الآية جمع محلى بأل، فيقبل التخصيص، وقد ثبت دليل ذلك سمعا من قوله تعالى: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} [المطففين: 15] فيكون المراد الكفار، بدليل قوله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} [القيامة: 22 - 23] قال: وإذا جازت الرؤية في الآخرة جازت في الدنيا، لتساوي الوقتين بالنسبة إلى المرئي. اهـ. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا" فإنه لا يمنع أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم: قد رأى ربه في الدنيا باعتبار أن المتكلم لا يدخل في عموم كلامه. هذا وقد قلنا: إن بعض المثبتين للرؤية ذهب إلى أنها كانت بالفؤاد، والمراد من رؤية الفؤاد رؤية القلب، لا بمعنى مجرد حصول العلم، لأنه صلى الله عليه وسلم كان عالما بالله على الدوام، ولكن بمعنى أن الرؤية التي حصلت له خلقت في قلبه كما تخلق الرؤية بالعين لغيره، والرؤية لا يشترط لها شيء مخصوص عقلا ولو جرت العادة بخلقها في العين. وقد اختلفت الروايات عن ابن عباس، فروايتنا الثالثة تصرح بأن الرؤية كانت بالفؤاد مرتين، بل أخرج ابن مردويه من طريق عطاء عن الخلال عن ابن عباس قال: لم يره رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينيه إنما رآه بقلبه. كما اختلفت الروايات عن أحمد، فقد روى الخلال في كتاب السنة عن المروزي: قلت لأحمد: إنهم يقولون: إن عائشة قالت: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية فبأي شيء يدفع قولها؟ قال: يقول النبي صلى الله عليه وسلم "رأيت ربي" وقول النبي صلى الله عليه وسلم أكبر من قولها. وحكى عنه بعض المتأخرين قوله: رآه بعيني رأسه. ونفى صاحب الهدى إسناد هذا القول إلى أحمد، وقال: إن نصوص أحمد موجودة وليس فيها إلا أنه قال مرة: رأى محمد ربه ومرة: رأى محمد ربه بفؤاده. أما رواية أبي ذر (السابعة والثامنة) وفيها أنه صلى الله عليه وسلم رأى نورا، فقد قيل: أن مراده أن النور حال بين رؤيته له ببصره، وليس مراده أن هذا النور هو الله، وأنه رآه ببصره، فقد جاء عن أبي ذر نفسه عند ابن خزيمة قال: رآه بقلبه، ولم يره بعينه. وأمام هذا الاختلاف في الروايات قال الحافظ ابن حجر: يمكن الجمع بين إثبات ابن عباس ونفي عائشة: بأن يحمل نفيها على رؤية البصر، وإثباته على رؤية القلب. اهـ. وأمام هذا التعارض في الأقوال رجح القرطبي في المفهم القول بالوقف في هذه المسألة، وعزاه

لجماعة من المحققين، وقواه بأنه ليس في الباب دليل قاطع، وغاية ما استدل به للطائفتين ظواهر متعارضة قابلة للتأويل. قال: وليست المسألة من العمليات فيكتفى فيها بالأدلة الظنية، وإنما هي من المعتقدات فلا يكتفى فيها إلا بالدليل القطعي، والله أعلم. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - عظم خلق جبريل عليه السلام. 2 - وأن الرسول صلى الله عليه وسلم رآه في صورته التي خلقه الله عليها. 3 - جواز قول المستدل بآية من القرآن: إن الله عز وجل يقول. وقد كره ذلك مطرق بن عبد الله التابعي المشهور، فروى ابن أبي داود بإسناده عنه أنه قال: لا تقولوا: إن الله يقول، ولكن قولوا. إن الله قال. قال النووي: وهذا الذي أنكره مطرق - رحمه الله- خلاف ما فعلته الصحابة والتابعون ومن بعدهم من أئمة المسلمين. فالصحيح المختار جواز الأمرين، ومما يدل على جوازه من النصوص قوله تعالى: {والله يقول الحق وهو يهدي السبيل} [الأحزاب: 4]. 4 - ويؤخذ من قول عائشة: أولم تسمع أن الله يقول: {ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا} مع أن التلاوة {وما كان} بإثبات الواو أن مثل هذا لا يضر في الرواية والاستدلال، لأن المستدل ليس مقصوده التلاوة على وجهها، وإنما مقصوده بيان موضع الدلالة ولا يؤثر حذف الواو في ذلك، وقد جاء لهذا نظائر كثيرة في الحديث، منها قوله: فأنزل الله تعالى: {أقم الصلاة طرفي النهار} [هود: 114] وقوله: {أقم الصلاة لذكري} [طه: 14] هكذا هو في روايات الحديثين في الصحيحين، والتلاوة بالواو فيهما. ذكره النووي والله أعلم. هذا ولشرح الحديث صلة وثيقة بموضوع رؤية الله بصفة عامة في الأحاديث الآتية إن شاء الله تعالى.

(99) باب رؤية الله تعالى في الدنيا

(99) باب رؤية الله تعالى في الدنيا 318 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات. فقال: "إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام. يخفض القسط ويرفعه. يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار. وعمل النهار قبل عمل الليل. حجابه النور. (وفي رواية أبي بكر: النار) لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه". 319 - عن الأعمش بهذا الإسناد قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات ثم ذكر بمثل حديث أبي معاوية ولم يذكر "من خلقه" وقال: حجابه النور. 320 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام. يرفع القسط ويخفضه. ويرفع إليه عمل النهار بالليل. وعمل الليل بالنهار". -[المعنى العام]- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخول أصحابه بالموعظة، ويتعاهدهم بتذكيرهم بربهم حينا بعد حين. فقال لهم في بعض عظاته - وفيهم أبو موسى الأشعري-: إن الله جل شأنه لا ينام مصداق ذلك قوله تعالى: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم} [البقرة: 255] وكيف ينام مدبر السموات والأرض؟ وكل يوم وكل لحظة هو في شأن عباده {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة} [المجادلة: 7]. {فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي} [الأنعام: 95] {فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا} [الأنعام: 96]. كل لحظة هو في شأن. {مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير} [آل عمران: 26]. يضل من يشاء ويهدي من يشاء. يرفع أقواما ويخفض آخرين.

يرفع إليه عمل عباده على كثرتهم، وشتات أعمالهم، يرفع إليه عمل الليل عند انتهاء الليل، وعمل النهار عند انتهاء النهار، وهو أعلم بها قبل رفعها، ومن كان هذا شأنه وجبت مراقبته، وحقت عبادته، ولزم الخوف من عقابه. وسع نوره السموات والأرض، حجب جلاله عن أبصار خلقه، لأنهم لا يقدرون على رؤيته، فعلى المؤمن أن يعبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإنه جل شأنه يرى جميع عباده، فلا ينبغي أن يراهم حيث نهاهم، ولا ينبغي أن يفقدهم حيث أمرهم. {من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد} [فصلت: 46]. -[المباحث العربية]- (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات) أي قام فينا متكلما بخمس كلمات، والمراد من الكلمة الجملة المترابطة في المعنى، فالكلمة الأولى "إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام" والثانية "يخفض القسط ويرفعه" والثالثة "يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل" والرابعة "حجابه النور أو النار" والخامسة "لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه". والكلمات الأربع في الرواية الثانية كانت بضم الرابعة والخامسة في كلمة واحدة، والأربع في الرواية الثالثة محذوفة الكلمة الرابعة سقطا من الراوي. (إن الله عز وجل لا ينام) أي بالفعل، فإن النوم انغمار وغلبة على العقل يسقط به الإحساس. (ولا ينبغي له أن ينام) أي بالاحتمال، فإن النوم مستحيل في حقه جل شأنه. (يخفض القسط ويرفعه) قال ابن قتيبة: القسط الميزان، وسمي قسطا لأن القسط العدل، وبالميزان يقع العدل، والمراد أن الله تعالى يخفض الميزان ويرفعه بما يوزن من أعمال العباد المرتفعة، ويوزن من أرزاقهم النازلة، وهذا تمثيل لما يقدر تنزيله، فشبه بوزن الميزان. اهـ. وقيل: المراد بالقسط الرزق الذي هو قسط كل مخلوق يخفضه فيقتره، ويرفعه فيوسعه، وهذا القول أوضح وأقرب. والله أعلم. (يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل) أي يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار الذي بعده، وعمل النهار قبل عمل الليل الذي بعده. (حجابه النور) الحجاب في اللغة المانع والساتر، وحقيقة الحجاب إنما تكون للأجسام

المحدودة، والله تعالى منزه عن الجسم والحد، فالمراد منه هنا المانع من رؤيته، وسمي ذلك المانع نورا، أو نارا لأنهما يمنعان من الإدراك في العادة لشعاعهما. (لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) السبحات بضم السين والباء جمع سبحة، ومعنى "سبحات وجهه" نوره وجلاله وبهاؤه، والمراد بالوجه الذات، والمراد بما انتهى إليه بصره جميع المخلوقات، لأن بصره سبحانه وتعالى محيط بجميع الكائنات ولفظة "من" في قوله: "من خلقه" لبيان الجنس لا للتبعيض، والتعبير مقصود منه التقريب إلى الأذهان، كقوله تعالى: {مثل نوره كمشكاة فيها مصباح} [النور: 35] الآية. إذ لا ينتهي بصره جل شأنه. والمعنى: لو أزال المانع من رؤيته، وتجلى لخلقه، لأحرق جلال ذاته جميع مخلوقاته. والله أعلم. فقه الحديث أجمع أهل السنة على أن رؤية الله تعالى ممكنة، غير مستحيلة عقلا، وذهب المعتزلة والخوارج وبعض المرجئة إلى أن رؤية الله تعالى مستحيلة عقلا، وتمسكوا بظاهر قوله تعالى لموسى: (لن تراني) ردا على قوله: {رب أرني أنظر إليك} [الأعراف: 143] وقالوا: إن "لن" لتأكيد النفي الذي يدل عليه "لا" فيكون النفي على التأبيد. ويقول المجوزون: إن الله علق الرؤية على ممكن في قوله: {انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني} واستقرار الجبل ممكن، والمعلق على الممكن ممكن. ويقول النافون: إن استقرار الجبل حالة دكه مستحيل، والمعلق على المستحيل مستحيل، فالرؤية مستحيلة، وللمجوزين أن يقولوا: إن استحالة رؤية موسى لربه لا يلزمها استحالة رؤية غير موسى له جل شأنه. كما تمسك النافون بقوله تعالى: {لا تدركه الأبصار} [الأنعام: 103] وأجاب المجوزون بأن نفي الإدراك لا يستلزم نفي الرؤية لإمكان رؤية الشيء من غير إحاطة بحقيقته. كما تمسك النافون بأن من شرط المرئي أن يكون في جهة، والله منزه عن الجهة، وأن يكون محدثا والله قديم، واشترطوا في الرؤية شروطا عقلية كالبنية المخصوصة، والمقابلة، واتصال الأشعة، وزوال الموانع كالبعد والحجب، وغير ذلك. وأجاب المجوزون بعدم اشتراط شيء من ذلك عقلا، وكل ما يشترطونه وجود المرئي، وقالوا: إن للرؤية إدراكا، يخلقه الله تعالى للرائي، فيرى المرئي. هذا وهناك شبه وردود كثيرة، واعتراضات وأجوبة مشهورة محلها كتب علم الكلام. ومن أرادها فليطلبها. ولما صار أهل السنة إلى إمكان الرؤية عقلا اختلفوا في وقوعها في الدنيا لنبينا صلى الله عليه وسلم على الوجه المتقدم في الحديث السابق مع اتفاقهم على أنها لم تقع لغيره في الدنيا، أما رؤيته في الآخرة فسيأتي بحثها في الأحاديث التالية.

وحديث الباب ظاهر في نفيها في الدنيا، وفي أن هناك مانعا من رؤيته في الدنيا لو أزال - جل شأنه- هذا المانع لأحرق جلال ذاته جميع مخلوقاته. وقال الطيبي: في الحديث إشارة إلى أن حجابه خلاف الحجب المعهودة، فهو محتجب عن الخلق بأنوار عزه وجلاله وأشعة عظمته وكبريائه، وذلك هو الحجاب الذي تدهش دونه العقول، وتبهت الأبصار، وتتحير البصائر فلو كشفه فتجلى لما وراءه بحقائق الصفات وعظمة الذات لم يبق مخلوق إلا احترق، ولا منظور إلا اضمحل، وأصل الحجاب الستر الحائل بين الرائي والمرئي، والمراد به هنا منع الأبصار من الرؤية له، فقام ذلك المنع مقام الستر الحائل. اهـ. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - أن الله لا ينام ويستحيل النوم في حقه تعالى. 2 - وأنه في كل لحظة هو في شأن، يرفع أقواما ويخفض آخرين. 3 - وأنه يصعد إليه الكلم الطيب والعمل الصالح، يرفع إليه عمل النهار في أول الليل الذي بعده، وعمل الليل في أول النهار الذي بعده. 4 - وأنه سبحانه وتعالى حجابه نور يحول بين الخلق وبين رؤيته في الدنيا. والله أعلم

(100) باب رؤية المؤمنين لربهم في الجنة

(100) باب رؤية المؤمنين لربهم في الجنة 321 - عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "جنتان من فضة. آنيتهما وما فيهما. وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما. وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه. في جنة عدن". -[المعنى العام]- لما نزل قوله تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} [الرحمن: 46] {ومن دونهما جنتان} [الرحمن: 62] اشرأبت نفوس الصحابة لمزيد المعرفة عن كل من الجنتين فقال صلى الله عليه وسلم عن الصنف الأول: هما جنتان، آنيتهما من فضة، وكل ما فيهما من سرر وأرائك وغيرهما من فضة، وعن الصنف الثاني: هما جنتان من ذهب، وكل شيء فيهما من ذهب. قال أبو موسى الأشعري: جنتان من ذهب للمقربين، ومن دونهما جنتان من فضة لأصحاب اليمين. ورغم النعيم الكبير الذي يتمتع به أصحاب هاتين وأصحاب هاتين، فإن النعمة الكبرى ينتظرونها جميعا، فيما بينهم وليس تحققها إلا مشيئته جل شأنه وإرادته، تلك هي نعمة التجلي لهم، نعمة أن يكشف الله الحجاب بينه وبينهم، ليروه كما يرون القمر ليلة البدر، فما إن تتحقق هذه السعادة حتى يستقلوا جميع ما هم فيه من النعيم بجوارها، فما أعطوا شيئا أحب إليهم منها، وصدق الله العظيم إذ يقول: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [يونس: 26]. -[المباحث العربية]- (عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه) أي عن عبد الله بن قيس وهو أبو موسى الأشعري. (جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما) "جنتان" خبر مبتدأ محذوف، أي هما جنتان و"آنيتهما" مبتدأ، و"من فضة" خبره مقدم، والجملتان في جواب السائلين عن حقيقة الجنتين، في قوله تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} [الرحمن: 46]. (وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء) "أن" وما دخلت عليه في

تأويل مصدر مجرور بالإضافة، وإذا رفعنا النفي والاستثناء كان التقدير: بين القوم وبين النظر إلى ربهم رداء الكبرياء. قال القرطبي في المفهم: الرداء استعارة كني به عن العظمة كما في الحديث الآخر "الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري" وليس المراد الثياب المحسوسة، لكن المناسبة أن الرداء والإزار لما كانا متلازمين للمخاطب من العرب عبر عن العظمة والكبرياء بهما. وقال عياض: استعار لعظيم سلطان الله وكبريائه، وعظمته وهيبته وجلاله، لمانع إدراك أبصار البشر مع ضعفها، استعار لذلك رداء الكبرياء. اهـ. والمعنى أن مقتضى عزة الله واستغنائه ألا يراه أحد، لكن رحمته للمؤمنين اقتضت أن يريهم وجهه كمالا للنعمة، فإذا زال المانع فعل معهم خلاف مقتضى الكبرياء، فكأنه رفع عنهم حجابا كان يمنعهم. وقال ابن بطال: تأويل الرداء الآفة الموجودة للأبصار، المانعة لها من رؤيته، وسماها رداء لتنزلها في المنع منزلة الرداء الذي يحجب عن الرؤية. (على وجهه) متعلق بمحذوف حال من "رداء الكبرياء". (في جنة عدن) يقال: عدن في البلد يعدن ويعدن من باب ضرب ونصر أي أقام، فجنة عدن، أي جنة إقامة، وهو اسم لجنة خاصة من جنات الآخرة، والجار والمجرور "في جنة عدن" متعلق بمحذوف في موضع الحال من القوم، أي مستقرين في جنة عدن. قاله القرطبي، وقال الطيبي: "في جنة عدن" متعلق بمعنى الاستقرار في الظرف، وقال عياض: "في جنة عدن" راجع إلى الناظرين، أي وهم في جنة عدن، لا إلى الله فإنه لا تحويه الأمكنة سبحانه. -[فقه الحديث]- ظاهر الحديث أن جنتين من فضة لا ذهب فيهما، وجنتين من ذهب لا فضة فيهما، وهذا يعارض حديث أبي هريرة "قلنا يا رسول الله، حدثنا عن الجنة ما بناؤها؟ قال لبنة من ذهب، ولبنة من فضة" أخرجه أحمد والترمذي، وعند البزار "خلق الله الجنة، لبنة من ذهب، ولبنة من فضة". ورفع هذا التعارض بأن حديث الباب في صفة ما في كل جنة من آنية وغيرها، وحديث الترمذي والبزار في صفة حوائط الجنان كلها. والله أعلم. وقد يتمسك المجسمة بظاهر الحديث لذكر الرداء والوجه، لكن ثبت استحالة أن يكون سبحانه جسما أو حالا في مكان. قال القاضي عياض: كانت العرب تستعمل الاستعارة كثيرا، وهي أرفع أدوات بديع فصاحتها

وإيجازها، ومنه قوله تعالى: {جناح الذل} [الإسراء: 24] فمخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم برداء الكبرياء على وجهه، ونحو ذلك من هذا المعنى، ومن لم يفهم ذلك تاه، فمن أجرى الكلام على ظاهره أفضى به الأمر إلى التجسيم، ومن لم يتضح له وعلم أن الله منزه عن الذي يقتضيه ظاهرها إما أن يكذب نقلتها، وإما أن يؤولها. اهـ. وقال الكرماني: هذا الحديث من المتشابهات، فإما مفوض، وإما متأول بأن المراد من الوجه الذات. ثم استشكل الكرماني على الحديث بأنه يقتضي أن رؤية الله غير واقعة (إذ حاصله أن الرداء مانع الرؤية) وأجاب بأن مفهومه بيان قرب النظر. اهـ. فكأن في الكلام حذفا، تتمته: ثم يمن عليهم برفعه، فيحصل لهم الفوز بالنظر إليه، وهذه التتمة واضحة وصريحة في الحديث الآتي. والله أعلم.

تابع باب رؤية المؤمنين لربهم في الجنة 322 - عن صهيب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا دخل أهل الجنة، الجنة قال يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل". 323 - عن حماد بن سلمة بهذا الإسناد وزاد في رواية ثم تلا هذه الآية {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [يونس: 26]. -[المعنى العام]- ما أعظم الرضا، وما أروع الشكر من جانب أهل الجنة، وما أوسع فضل الله عليهم، وإحسانه لهم، وتكريمه إياهم. إن المؤمنين إذا زحزحوا عن النار وأدخلوا الجنة آمنوا بأنهم فازوا وحمدوا وشكروا، وكبروا، وأثنوا، فإذا ما تمتعوا بنعيم الجنة بلغ بهم السرور غايته، ووصل بهم الفرح والابتهاج منتهاه، ولم تطمح نفوسهم إلى شيء بعد ما هم فيه من نعيم، وعندئذ يتجلى لهم الرب الكريم، بسؤال الفيض والتكريم. هل تريدون شيئا فوق ما أنتم فيه أعطيكموه؟ فيقولون: ماذا بعد هذا الفضل الكبير؟ ألم تكرمنا بتبييض وجوهنا؟ وبالنور الذي يسعى بين أيدينا وبأيماننا؟ ألم تنجنا من النار وعذابها؟ ألم تدخلنا الجنة وتوسع علينا من نعيمها؟ لقد وجدنا فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، ورأينا فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فماذا ننتظر بعد هذا؟ لك الحمد ربنا ولك الشكر، فيكشف الله الحجاب بينه وبينهم، ويمنحهم قوة في أبصارهم يرون بها نوره وجلاله، فيحسون السعادة التي ينسون معها كل نعيم، ويستصغرون بجوارها كل ما أعطوا من متع وسرور، فاللهم اجعلنا من المتقين الفائزين برؤية وجهك الكريم.

-[المباحث العربية]- (إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال: يقول الله) جواب "إذا" "يقول" الله، ولفظ "قال" مزيد مكرر، أعيد ذكره، وأصل الكلام: إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تبارك وتعالى. (تريدون شيئا أزيدكم؟ ) الكلام على حذف همزة الاستفهام، والمراد من الشيء أنواع النعيم، والسؤال لاستنطاق الشكر منهم. (ألم تبيض وجوهنا) الاستفهام للنفي دخل على نفي، ونفي النفي إثبات أي بيضت وجوهنا. (وتنجنا من النار) بضم التاء وفتح النون وتشديد الجيم المكسورة، وحذف الياء للجزم، عطفا على المجزوم قبله. (فيكشف الحجاب) بالبناء للمعلوم، والفاعل ضمير مستتر يعود على الله سبحانه وتعالى. (فما أعطوا) مترتب على المضارع، فينبغي أن يكون مضارعا، والتقدير: فيحسون أنهم ما أعطوا في جنتهم شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل. -[فقه الحديث]- أجمع أهل السنة على وقوع رؤية الله تعالى في الآخرة للمؤمنين، وزعمت المعتزلة والخوارج وبعض المرجئة استحالة رؤية خلقه له في الدنيا والآخرة. قال النووي: وهذا الذي قالوه خطأ صريح، وجهل قبيح، وقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، فمن بعدهم من سلف الأمة على إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة للمؤمنين، ورواها نحو من عشرين صحابيا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآيات القرآن فيها مشهورة، ثم مذهب أهل الحق أن الرؤية قوة يجعلها الله تعالى في خلقه، ولا يشترط فيها اتصال الأشعة، ولا مقابلة المرئي، ولا غير ذلك، ولكن جرت العادة في رؤية بعضنا بعضا بوجود ذلك على جهة الاتفاق، لا على سبيل الاشتراط، وقد قرر أئمتنا المتكلمون ذلك، بدلائله الجليلة، ولا يلزم من رؤية الله تعالى إثبات جهة، تعالى الله عن ذلك، بل يراه المؤمنون لا في جهة كما يعلمونه لا في جهة. اهـ. والآيات التي أشار إليها الإمام النووي هي: 1 - قوله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} [القيامة: 22 - 23] عن عكرمة "تنظر إلى ربها نظرا" وعن الحسن "تنظر إلى الخالق، وحق لها أن تنظر" وقول المخالفين: تنظر الثواب، أي

ناظرة إلى ثواب ربها، فيه مخالفة للأصل، وهو عدم التقدير، وقولهم: ناظرة بمعنى منتظرة، أي إلى أمر ربها منتظرة، فيه المخالفة السابقة، وفيه أنه لا يتعدى حينئذ بإلى، وفيه أن الآية خرجت مخرج الامتنان والبشارة، وأهل الجنة لا ينتظرون شيئا، لأنه مهما خطر لهم أتوا به، والانتظار في دار النعيم فيه تنغيص وتكدير لا يليق بأصحاب النعيم. 2 - وقوله تعالى: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} [المطففين: 15] فهي تدل نصا على ثبوت حجب الفجار عن ربهم، ومفهوما على عدم حجب المؤمنين الأبرار عن رؤيته، وإلا لم يكن لهذا التخصيص فائدة. 3 - وقوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [يونس: 26] وقد تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية عقب قوله: "فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل" كدليل على أن المراد بالزيادة هي رؤية الله تعالى. واختلف أهل السنة القائلون بثبوت الرؤية في معناها، فقال قوم: يحصل للرائي العلم بالله تعالى برؤية العين، كما في غيره من المرئيات، وهو على وفق قوله في الحديث الآتي: "هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر" إلا أنه منزه عن الجهة والكيفية وذلك أمر زائد على العلم. وقال بعضهم: إن المراد بالرؤية العلم، وعبر عنها بعضهم بأنها حصول حالة في الإنسان نسبتها إلى ذاته المخصوصة نسبة الإبصار إلى المرئيات. وقال بعضهم: رؤية المؤمن لله نوع كشف وعلم، إلا أنه أتم وأوضح من العلم. قال الحافظ ابن حجر: وهذا أقرب إلى الصواب من الأول. والرأي عندي أن نؤمن بالرؤية لقبولنا ظواهر الآيات والأحاديث الصحيحة المشهورة، ثم نتوقف عن الخوض في كيفيتها وحقيقتها، ولا ضير في ذلك، فقد ذكر الله المتقين، وفي مقدمة أوصافهم {الذين يؤمنون بالغيب} [البقرة: 3]. والله أعلم

(تابع) باب رؤية الله تعالى في الآخرة - الصراط. خروج عصاة المؤمنين من النار وإثبات الشفاعة آخر أهل الجنة دخولا الجنة 324 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن ناسا قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟ " قالوا: لا يا رسول الله، قال "هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ " قالوا: لا. يا رسول الله، قال "فإنكم ترونه كذلك. يجمع الله الناس يوم القيامة. فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبعه. فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس. ويتبع من كان يعبد القمر القمر. ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت. وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها. فيأتيهم الله تبارك وتعالى، في صورة غير صورته التي يعرفون. فيقول: أنا ربكم. فيقولون: نعوذ بالله منك. هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا. فإذا جاء ربنا عرفناه. فيأتيهم الله تعالى في صورته التي يعرفون. فيقول: أنا ربكم. فيقولون: أنت ربنا. فيتبعونه. ويضرب الصراط بين ظهري جهنم. فأكون أنا وأمتي أول من يجيز. ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل. ودعوى الرسل يومئذ: اللهم! سلم، سلم. وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان. هل رأيتم السعدان؟ " قالوا: نعم يا رسول الله، قال: "فإنها مثل شوك السعدان. غير أنه لا يعلم ما قدر عظمها إلا الله. تخطف الناس بأعمالهم. فمنهم المؤمن بقي بعمله. ومنهم المجازى حتى ينجى. حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد، وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار، أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا، ممن أراد الله تعالى أن يرحمه، ممن يقول: لا إله إلا الله. فيعرفونهم في النار. يعرفونهم بأثر السجود. تأكل النار من ابن آدم إلا أثر السجود. حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود. فيخرجون من النار وقد امتحشوا. فيصب عليهم ماء الحياة. فينبتون منه كما تنبت الحبة في حميل السيل. ثم يفرغ الله تعالى من القضاء بين العباد. ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار. وهو آخر أهل الجنة دخولا الجنة. فيقول: أي رب! اصرف وجهي عن النار. فإنه قد قشبني ريحها وأحرقني ذكاؤها. فيدعو الله ما شاء الله أن يدعوه. ثم يقول

الله تبارك وتعالى: هل عسيت إن فعلت ذلك بك أن تسأل غيره؟ فيقول: لا أسألك غيره. ويعطي ربه من عهود ومواثيق ما شاء الله. فيصرف الله وجهه عن النار. فإذا أقبل على الجنة ورآها سكت ما شاء الله أن يسكت. ثم يقول: أي رب! قدمني إلى باب الجنة. فيقول الله له: أليس قد أعطيت عهودك ومواثيقك لا تسألني غير الذي أعطيتك؟ ويلك يا ابن آدم! ما أغدرك! فيقول: أي رب! ويدعو الله حتى يقول له: فهل عسيت إن أعطيتك ذلك أن تسأل غيره؟ فيقول: لا. وعزتك! فيعطي ربه ما شاء الله من عهود ومواثيق. فيقدمه إلى باب الجنة. فإذا قام على باب الجنة. انفهقت له الجنة فرأى ما فيها من الخير والسرور. فيسكت ما شاء الله أن يسكت. ثم يقول: أي رب! أدخلني الجنة. فيقول الله تبارك وتعالى له: أليس قد أعطيت عهودك ومواثيقك أن لا تسأل غير ما أعطيت؟ ويلك يا ابن آدم! ما أغدرك! فيقول: أي رب! لا أكون أشقى خلقك. فلا يزال يدعو الله حتى يضحك الله تبارك وتعالى منه. فإذا ضحك الله منه قال: ادخل الجنة. فإذا دخلها قال الله له: تمنه. فيسأل ربه ويتمنى. حتى إن الله ليذكره من كذا وكذا، حتى إذا انقطعت به الأماني. قال الله تعالى: "ذلك لك ومثله معه". قال عطاء بن يزيد: وأبو سعيد الخدري مع أبي هريرة لا يرد عليه من حديثه شيئا. حتى إذا حدث أبو هريرة: أن الله قال لذلك الرجل: ومثله معه. قال أبو سعيد: وعشرة أمثاله معه. يا أبا هريرة! قال أبو هريرة: ما حفظت إلا قوله: ذلك لك ومثله معه. قال أبو سعيد: أشهد أني حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: ذلك لك وعشرة أمثاله. قال أبو هريرة: وذلك الرجل آخر أهل الجنة دخولا الجنة. 325 - عن أبي هريرة أن الناس قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ وساق الحديث بمثل المعنى حديث إبراهيم بن سعد. 326 - عن همام بن منبه، قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أدنى مقعد أحدكم من الجنة أن يقول له: تمن. فيتمنى ويتمنى. فيقول له: هل تمنيت؟ فيقول: نعم فيقول له: فإن لك ما تمنيت ومثله معه".

327 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن ناسا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نعم". قال "هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحوا ليس معها سحاب؟ وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحوا ليس فيها سحاب؟ " قالوا: لا. يا رسول الله، قال "ما تضارون في رؤية الله تبارك وتعالى يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما. إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن: ليتبع كل أمة ما كانت تعبد. فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله سبحانه من الأصنام والأنصاب، إلا يتساقطون في النار. حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر. وغبر أهل الكتاب. فيدعى اليهود فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزير ابن الله. فيقال: كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد. فماذا تبغون؟ قالوا: عطشنا. يا ربنا! فاسقنا. فيشار إليهم: ألا تردون؟ فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضا. فيتساقطون في النار. ثم يدعى النصارى. فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد المسيح ابن الله. فيقال لهم: كذبتم. ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد. فيقال لهم: ماذا تبغون؟ فيقولون: عطشنا. يا ربنا! فاسقنا. قال فيشار إليهم: ألا تردون؟ فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضا. فيتساقطون في النار. حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله تعالى من بر وفاجر، أتاهم رب العالمين سبحانه وتعالى في أدنى صورة من التي رأوه فيها. قال: فما تنتظرون؟ تتبع كل أمة ما كانت تعبد. قالوا: يا ربنا! فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم. فيقول: أنا ربكم. فيقولون: نعوذ بالله منك. لا نشرك بالله شيئا (مرتين أو ثلاثا) حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب. فيقول: هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم. فيكشف عن ساق. فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود. ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خر على قفاه. ثم يرفعون رءوسهم، وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة. فقال: أنا ربكم. فيقولون: أنت ربنا. ثم يضرب الجسر على جهنم. وتحل الشفاعة. ويقولون: اللهم! سلم سلم". قيل: يا رسول الله! وما الجسر؟ قال "دحض مزلة فيه خطاطيف وكلاليب وحسك. تكون بنجد فيها شويكة يقال لها السعدان. فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب. فناج مسلم. ومخدوش مرسل. ومكدوس في

نار جهنم. حتى إذا خلص المؤمنون من النار، فوالذي نفسي بيده! ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله، في استقصاء الحق، من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار. يقولون: ربنا! كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون. فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم. فتحرم صورهم على النار. فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه. ثم يقولون: ربنا! ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به. فيقول: ارجعوا. فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه. فيخرجون خلقا كثيرا. ثم يقولون: ربنا! لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا. ثم يقول: ارجعوا. فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه. فيخرجون خلقا كثيرا. ثم يقولون: ربنا! لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدا. ثم يقول: ارجعوا. فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه. فيخرجون خلقا كثيرا. ثم يقولون: ربنا! لم نذر فيها خيرا". وكان أبو سعيد الخدري يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرءوا إن شئتم: (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما) [النساء: 40] "فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون. ولم يبق إلا أرحم الراحمين. فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط. قد عادوا حمما. فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة. فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل. ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر ما يكون إلى الشمس أصيفر وأخيضر وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض؟ " فقالوا: يا رسول الله، كأنك كنت ترعى بالبادية. قال "فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم. يعرفهم أهل الجنة. هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه. ثم يقول: ادخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم. فيقولون: ربنا! أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين. فيقول: لكم عندي أفضل من هذا. فيقولون: يا ربنا! أي شيء أفضل من هذا؟ فيقول: رضاي. فلا أسخط عليكم بعده أبدا". 328 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: قلنا: يا رسول الله، أنرى ربنا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هل تضارون في رؤية الشمس إذا كان يوم صحو؟ " قلنا: لا. وسقت

الحديث حتى انقضى آخره وهو نحو حديث حفص بن ميسرة. وزاد بعد قوله: بغير عمل عملوه ولا قدم قدموه "فيقال لهم: لكم ما رأيتم ومثله معه". قال أبو سعيد: بلغني أن الجسر أدق من الشعرة وأحد من السيف. وليس في حديث الليث "فيقولون ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين وما بعده" فأقر به عيسى بن حماد. ونقص شيئا. 329 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسم قال "يدخل الله أهل الجنة الجنة. يدخل من يشاء برحمته. ويدخل أهل النار النار. ثم يقول: انظروا من وجدتم في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجوه. فيخرجون منها حمما قد امتحشوا. فيلقون في نهر الحياة أو الحيا. فينبتون فيه كما تنبت الحبة إلى جانب السيل. ألم تروها كيف تخرج صفراء ملتوية". 330 - عن عمرو بن يحيى بهذا الإسناد وقالا: "فيلقون في نهر يقال له الحياة". ولم يشكا وفي حديث خالد "كما تنبت الغثاءة في جانب السيل" وفي حديث وهيب "كما تنبت الحبة في حمئة أو حميلة السيل". 331 - عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أما أهل النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون. ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم (أو قال بخطاياهم) فأماتهم إماتة. حتى إذا كانوا فحما، أذن بالشفاعة. فجيء بهم ضبائر ضبائر. فبثوا على أنهار الجنة. ثم قيل: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم. فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل" فقال رجل من القوم: كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان بالبادية.

ولم يذكر ما بعده. 332 - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني لأعلم آخر أهل النار خروجا منها، وآخر أهل الجنة دخولا الجنة. رجل يخرج من النار حبوا. فيقول الله تبارك وتعالى له: اذهب فادخل الجنة. فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى. فيرجع فيقول: يا رب! وجدتها ملأى. فيقول الله تبارك وتعالى له: اذهب فادخل الجنة. قال فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى. فيرجع فيقول: يا رب! وجدتها ملأى. فيقول الله له: اذهب فادخل الجنة فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها. أو إن لك عشرة أمثال الدنيا. قال فيقول: أتسخر بي (أو أتضحك بي) وأنت الملك؟ " قال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه. قال فكان يقال: ذاك أدنى أهل الجنة منزلة. 333 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني لأعرف آخر أهل النار خروجا من النار. رجل يخرج منها زحفا. فيقال له: انطلق فادخل الجنة. قال فيذهب فيدخل الجنة. فيجد الناس قد أخذوا المنازل. فيقال له: أتذكر الزمان الذي كنت فيه؟ فيقول: نعم فيقال له: تمن. فيتمنى. فيقال له: لك الذي تمنيت وعشرة أضعاف الدنيا. قال فيقول: أتسخر بي وأنت الملك؟ " قال فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه. 334 - عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "آخر من يدخل الجنة رجل. فهو يمشي مرة ويكبو مرة. وتسفعه النار مرة. فإذا ما جاوزها التفت إليها. فقال: تبارك الذي نجاني منك. لقد أعطاني الله شيئا ما أعطاه أحدا من الأولين والآخرين. فترفع له شجرة. فيقول: أي رب! أدنني من هذه الشجرة فلأستظل بظلها وأشرب من مائها. فيقول الله عز وجل: يا ابن آدم! لعلي إن أعطيتكها سألتني غيرها. فيقول: لا. يا رب! ويعاهده أن لا يسأله غيرها. وربه يعذره. لأنه يرى ما لا صبر له عليه. فيدنيه منها. فيستظل بظلها

ويشرب من مائها. ثم ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى. فيقول: أي رب! أدنني من هذه لأشرب من مائها وأستظل بظلها. لا أسألك غيرها. فيقول: يا ابن آدم! ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها؟ فيقول: لعلي إن أدنيتك منها تسألني غيرها؟ فيعاهده أن لا يسأله غيرها. وربه يعذره. لأنه يرى ما لا صبر له عليه فيدنيه منها. فيستظل بظلها ويشرب من مائها. ثم ترفع له شجرة عند باب الجنة هي أحسن من الأوليين. فيقول: أي رب! أدنني من هذه لأستظل بظلها وأشرب من مائها. لا أسألك غيرها. فيقول: يا ابن آدم! ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها؟ قال: بلى. يا رب! هذه لا أسألك غيرها. وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليها. فيدنيه منها. فإذا أدناه منها، فيسمع أصوات أهل الجنة، فيقول: أي رب! أدخلنيها. فيقول: يا ابن آدم! ما يصريني منك؟ أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها؟ قال: يا رب! أتستهزئ مني وأنت رب العالمين). فضحك ابن مسعود فقال: ألا تسألوني مم أضحك؟ فقالوا: مم تضحك؟ قال: هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالوا: مم تضحك يا رسول الله؟ قال "من ضحك رب العالمين حين قال أتستهزئ مني وأنت رب العالمين؟ فيقول: إني لا أستهزئ منك، ولكني على ما أشاء قادر". 335 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أدنى أهل الجنة منزلة رجل صرف الله وجهه عن النار قبل الجنة. ومثل له شجرة ذات ظل. فقال: أي رب! قدمني إلى هذه الشجرة أكون في ظلها" وساق الحديث بنحو حديث ابن مسعود. ولم يذكر "فيقول: يا ابن آدم! ما يصريني منك" إلى آخر الحديث. وزاد فيه "ويذكره الله سل كذا وكذا. فإذا انقطعت به الأماني قال الله: هو لك وعشرة أمثاله" قال "ثم يدخل بيته فتدخل عليه زوجتاه من الحور العين. فتقولان: الحمد لله الذي أحياك لنا وأحيانا لك. قال فيقول: ما أعطي أحد مثل ما أعطيت". 336 - عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: "سأل موسى ربه: ما أدنى أهل الجنة

منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعد ما أدخل أهل الجنة الجنة فيقال له: ادخل الجنة. فيقول أي رب! كيف؟ وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت، رب! فيقول: لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله. فقال في الخامسة: رضيت، رب! فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله. ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك. فيقول: رضيت، رب! قال: رب! فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي. وختمت عليها. فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر" قال ومصداقه في كتاب الله عز وجل: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} [السجدة: 17]. 337 - عن الشعبي قال: سمعت المغيرة بن شعبة يقول على المنبر: إن موسى عليه السلام سأل الله عز وجل عن أخس أهل الجنة منها حظا. وساق الحديث بنحوه. 338 - عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا الجنة. وآخر أهل النار خروجا منها. رجل يؤتى به يوم القيامة. فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها. فتعرض عليه صغار ذنوبه. فيقال: عملت يوم كذا وكذا، كذا وكذا. وعلمت يوم كذا وكذا، كذا وكذا. فيقول: نعم. لا يستطيع أن ينكر. وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه فيقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة. فيقول: رب: قد عملت أشياء لا أراها ههنا". فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه. بهذا الإسناد. 339 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه يسئل عن الورود فقال: نجيء نحن يوم القيامة عن كذا وكذا انظر، أي ذلك فوق الناس. قال فتدعى الأمم بأوثانها وما كانت تعبد. الأول فالأول. ثم يأتينا ربنا بعد ذلك فيقول: من تنظرون؟

فيقولون: ننظر ربنا. فيقول: أنا ربكم. فيقولون: حتى ننظر إليك. فيتجلى لهم يضحك. قال فينطلق بهم ويتبعونه. ويعطى كل إنسان منهم، منافق أو مؤمن؟ نورا. ثم يتبعونه. وعلى جسر جهنم كلاليب وحسك. تأخذ من شاء الله. ثم يطفأ نور المنافقين. ثم ينجو المؤمنون. فتنجو أول زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر. سبعون ألفا لا يحاسبون. ثم الذين يلونهم كأضوإ نجم في السماء. ثم كذلك. ثم تحل الشفاعة. ويشفعون حتى يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله. وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة. فيجعلون بفناء الجنة. ويجعل أهل الجنة يرشون عليهم الماء حتى ينبتوا نبات الشيء في السيل. ويذهب حراقه. ثم يسأل حتى تجعل له الدنيا وعشرة أمثالها معها. 340 - عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم بأذني يقول "إن الله يخرج ناسا من النار فيدخلهم الجنة". 341 - عن حماد بن زيد. قال: قلت لعمرو بن دينار: أسمعت جابر بن عبد الله يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله يخرج قوما من النار بالشفاعة" قال نعم. 342 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن قوما يخرجون من النار يحترقون فيها، إلا دارات وجوههم، حتى يدخلون الجنة". 343 - عن يزيد الفقير، قال: كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد أن نحج. ثم نخرج على الناس. قال فمررنا على المدينة فإذا جابر بن عبد الله يحدث القوم -جالس إلى سارية- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإذا هو قد ذكر الجهنميين قال فقلت له: يا صاحب رسول الله! ما هذا الذي تحدثون؟ والله يقول: {إنك من تدخل النار فقد أخزيته} [آل عمران: 192]، و {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها} [السجدة: 20] فما هذا الذي تقولون؟ قال فقال: أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم.

قال: فهل سمعت بمقام محمد عليه السلام (يعني الذي يبعثه الله فيه؟ ) قلت: نعم. قال: فإنه مقام محمد صلى الله عليه وسلم المحمود الذي يخرج الله به من يخرج قال: ثم نعت وضع الصراط ومر الناس عليه. قال: وأخاف أن لا أكون أحفظ ذاك. قال: غير أنه قد زعم أن قوما يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها. قال: يعني فيخرجون كأنهم عيدان السماسم. قال: فيدخلون نهرا من أنهار الجنة فيغتسلون فيه. فيخرجون كأنهم القراطيس. فرجعنا قلنا: ويحكم! أترون الشيخ يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فرجعنا. فلا والله! ما خرج منا غير رجل واحد - أو كما قال أبو نعيم. 344 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يخرج من النار أربعة فيعرضون على الله. فيلتفت أحدهم فيقول: أي رب! إذ أخرجتني منها فلا تعدني فيها. فينجيه الله منها". -[المعنى العام]- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أصحابه باليوم الآخر وما يقع فيه من الأهوال، وفي ليلة مقمرة بدرها يسطع في السماء حدثهم صلى الله عليه وسلم عن الحشر، وعن قول الله: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، وقول المسلمين: هذا مكاننا حتى نرى ربنا. حينئذ سأل أحد الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القمر، فقال: إنكم ستعرضون على ربكم، فترونه كما ترون هذا القمر، هل يضر بعضكم بعضا إذا نظرتم إلى القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا، يا رسول الله. قال: وهل يزاحم بعضكم بعضا ويؤذيه حين ترون الشمس في وسط السماء ليس دونها سحاب! قالوا: لا، يا رسول الله، قال: فإنكم ترونه بسهولة ويسر ووضوح كما ترون القمر ليلة البدر وكما ترون الشمس ليس دونها سحاب. ثم أخذ يحدثهم عن هذه الرؤية وعن ظروفها ووقتها، فقال: يجمع الله يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد، وفي مكان واحد، في أرض واسعة مستوية، لا يخفى منهم أحد، لو دعاهم داع لسمعوه، ولو نظر إليهم ناظر لأدركهم، يقومون أربعين عاما، شاخصة أبصارهم إلى السماء لا يكلمهم ربهم، والشمس على رءوسهم، حتى يلجم العرق كل بر منهم وفاجر، غير أنه يخفف على المؤمن، فيكون ذلك اليوم أقصر عليه من ساعة من نهار، حتى إذا أذن جل شأنه بالانصراف من هذا الموقف، تطايرت الصحف وتم العرض والميزان، ونادى مناد: من كان يعبد شيئا فليتبعه، أيها

الناس: أليس عدلا من ربكم الذي خلقكم وصوركم فأحسن صوركم، ورزقكم وأحسن إليكم ثم توليتم غيره أن يولي كل عبد منكم ما كان قد تولى؟ أيها الناس لتنطلق كل أمة مع ما كانت تعبد، ويتمثل لهم الصنم والشيطان والصليب والشمس والقمر، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت والأصنام الطواغيت والأصنام، ويتبع من كان يعبد الصليب صليبهم، فيساقون هم ومعبوداتهم إلى النار، فلا يبقى في الموقف أحد كان يعبد الأصنام والأنصاب، والأوثان والشمس والقمر والنار والإنسان والحيوان والشيطان والملائكة إلا تساقط في النار، ثم يدعى المنحرفون من اليهود، فيقال لهم: ماذا كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد عزير ابن الله. فيقال لهم: كذبتم في ادعائكم أن لله ولدا، سبحانه لم يتخذ من صاحبة ولا ولد، وضللتم في عبادتكم هذه، ولا نجاة لكم اليوم، فيقولون: يا ربنا عطشنا، فاسقنا، فتبدو جهنم أمامهم كأنها ماء، فيقال لهم: هيا ألا تردون! فيحشرون إلى النار، ثم يدعى المبدلون والمحرفون من النصارى، فيقال لهم: ماذا كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال لهم: كذبتم في ادعائكم أن المسيح ابن الله. ما اتخذ الله من ولد، ولم تكن له صاحبة، فماذا بعد الكفر والضلال؟ فأنى تصرفون؟ فيقولون: يا ربنا عطشنا، فاسقنا، فتبدو لهم جهنم كأنها ماء، فيشار إليها، ويقال لهم: هيا، ألا تردون؟ فيحشرون إلى النار، فيجدونها يحطم بعضها بعضا، حتى إذا لم يبق من الخلائق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر، أتاهم أمر الله، يقول لهم: ماذا تنتظرون؟ ماذا يحبسكم وقد ذهب الناس؟ فيقولون: يا ربنا، فارقنا الناس في الدنيا حفاظا على ديننا منهم، ونحن أحوج ما نكون إليهم، هجرنا الأهل والأوطان فرارا بديننا، وأخرجنا من ديارنا وأموالنا، ونحن أحوج ما نكون إليهم، فكيف نتابعهم اليوم، لقد سمعنا: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فنحن ننتظر معبودنا، ننتظر ربنا، فيقال لهم: هل تعرفونه؟ فيقولون: إذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله بصورة لم يعهدوها، تقول لهم: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك لست ربنا، ربنا ليس كمثله شيء، فيقال لهم: هل بينكم وبينه علامة! فيقولون: نعم. فيكشف عن الساق، ويتجلى لهم رب العالمين، فيسجد له كل مؤمن، يسجد له كل من كان يعبده بإخلاص، أما المنافقون الذين كانوا يسجدون اتقاء ورياء فإن أصلابهم تتجمد كأصلاب البقر، كلما حاول أحدهم أن يسجد تقليدا للمؤمنين سقط على قفاه ثم يقال للمؤمنين: ارفعوا رءوسكم إلى نوركم بقدر أعمالكم، فيعطون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل، ومنهم من يعطى نوره مثل النخلة، ومنهم من يعطى دون ذلك حتى يكون آخرهم من يعطى نوره على إبهام قدمه، ثم يوجهون إلى الصراط، يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم. فيقول لهم المنافقون: أنظرونا وتمهلوا نسير في ركابكم ونقتبس من نوركم، فيقولون لهم تبكيتا وخذلانا: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا، فيرجعون إلى المكان الذي وزع فيه النور، فلا يجدون شيئا، فيحاولون اللحاق بالمؤمنين، فيضرب بينهم بسور له باب فيقذفون في النار. وينصب الصراط على شاطئ جهنم، جسر ممدود، أدق من الشعر وأحد من السيف، على جانبيه كلاليب وخطاطيف ذات أسهم من كل جانب، تشبه شوكة السعدان، التي تلصق بأصواف الغنم،

ويقف الأنبياء وقلوبهم وجلة، يتضرعون إلى الله، ويقولون: يا رب سلم. يا رب سلم. وتقف الملائكة ممسكة بالكلاليب المأمورة، وهي تقول: يا رب سلم، يا رب سلم وتقف الأمة الإسلامية، ولسانها يلهج بالدعاء: يا رب سلم. يا رب سلم. ومن حولها سائر الرسل وأتباعهم في انتظار أمر الله. ثم ينادي المنادي: أين محمد وأمته؟ فيقوم صلى الله عليه وسلم وتتبعه أمته، برها وفاجرها، فتفرج الأمم لهم عن الطريق. فيمرون غرا محجلين من أثر الطهور، فتقول الأمم: كادت هذه الأمة أن يكونوا أنبياء، فيأخذون الجسر، فيطمس الله أبصار أعدائه، فيتهافتون من يمين وشمال، وتتخطفهم الكلاليب، ويكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من يجتاز الصراط، وأمته أول الأمم، ويتسع الصراط لبعض المؤمنين، حتى يكون مثل الوادي، وإن بعضهم يمر عليه كطرف العين، وبعضهم كالبرق، وبعضهم كالسحاب، وبعضهم كانقضاض الكوكب، وبعضهم كالريح، وبعضهم كجياد الخيل، وبعضهم كالطير، وبعضهم كجياد الإبل، وبعضهم كأسرع البهائم، وبعضهم يسعى سعيا، وبعضهم يمشي مشيا تجري بهم أعمالهم، حتى يمر الرجل الذي أعطي نوره على إبهام قدمه يحبو على وجهه ويديه ورجليه يتكفأ به الصراط، يتلبط على بطنه، يجر نفسه بيد، ويتعلق بيد، يجر نفسه برجل ويتعلق برجل، وتضرب جوانبه النار، يقول: يا رب لم أبطأت بي؟ فيقول: أبطأ بك عملك، ويظل يحبو، حتى ينجو، فيلتفت إلى النار، ويقول: تبارك الذي نجاني منك. حتى إذا خلص المؤمنون من النار وقعت المقاصة بينهم على قنطرة بين الجنة والنار، حتى إذا انتهوا إلى الجنة تفقدوا إخوانهم فوجدوا العصاة منهم في النار، فرقت لهم أفئدتهم، واشتدت عليهم حسراتهم، فيجأرون إلى الله بالدعاء، ويناشدونه بكل تذلل أن يعفو عن إخوانهم وأن يخرجهم من النار، يقولون: يا ربنا، إخواننا، كانوا يصومون معنا، ويصلون معنا ويحجون معنا، يا ربنا، آباؤنا، وأجدادنا، أعمامنا، أخوالنا، أبناؤنا، أزواجنا اغفر لهم، شفعنا فيهم، فيقول لهم: اذهبوا فأخرجوا من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان، ويأمر ملائكته بإخراجهم، ثم يعودون فيستشفعون في غيرهم فيشفعون، وهكذا حتى يخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من خير، فيقول الله تعالى: شفع الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار، فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا أبدا، قد صاروا فحما، فيلقيهم في نهر في مقدمة الجنة، يسمى نهر الحياة، فيخرجون منه كالنبتة الصغيرة في نضارتها وحسنها، ويقال: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم من مائكم، فيرشون عليهم من ماء الجنة، فيزدادون نضارة وبهاء ثم يؤذون لهم بدخول الجنة. يقول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: إني أعلم حال آخر أهل النار خروجا من النار، وآخر أهل الجنة دخولا الجنة، هو رجل يبقى مقبلا بوجهه على النار، فيقول: يا رب، اصرف وجهي عن النار، فقد آذاني ريحها، وأحرقني حرها، يا رب اقبلني واعف عني، يا رب. أقر بذنبي وأعترف بتقصيري، وأرجو واسع رحمتك، ويدعو الله ما شاء أن يدعوه، فيقول الله لملائكته: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، وارفعوا عنه كبارها، فتعرض عليه صغار ذنوبه، فيقال: عملت كذا وكذا يوم كذا، وعملت كذا وكذا يوم كذا. فيقول: نعم يا رب، وهو مشفق من كبار ذنوبه، خائف أن تعرض عليه ويؤخذ بها، فيقول: يا رب، قد

عملت أشياء لا أراها ههنا؟ فيضحك رب العزة ويرضى عن عبده العاصي، ويقول له: لعلك إن صرفت وجهك عن النار أن تسألني غير ذلك؟ فيقول: لا، لا أسألك غيره، ويقسم ويعطي ربه من العهود والمواثيق ما شاء الله، فيصرف وجهه عن النار، فيقول لها: تبارك الذي نجاني منك "لقد أعطاني الله من الفضل والرحمة ما لم يعط أحدا من الأولين، والآخرين، ويسكت ما شاء الله أن يسكت، ثم ترفع له شجرة ذات ظل ظليل، فيقول: يا رب. أدنني من هذه الشجرة، لأستظل بظلها، وأشرب من مائها، فقد آذاني الحر والعطش، فيقول له ربه: يا ابن آدم. لعلي إن أعطيتك ما تطلب أن تسألني غيره؟ فيقول: لا يا رب لا أسألك غيره، ويعطي ربه من العهود والمواثيق ما شاء الله، وربه يقبل عذره، لأنه يرى شيئا لا يستطيع الصبر عليه، فيدنيه من الشجرة فيستظل بظلها، ويشرب من مائها، ويسكت ما شاء الله أن يسكت، ثم ترفع له شجرة أحسن من الأولى، فيقول مقالته السابقة وربه يعذره فيدنيه منها، ثم ترفع له شجرة ثالثة عند باب الجنة هي أحسن من الأوليين، فيقول مقالته السابقة، فيقول له ربه: ويلك يا ابن آدم ما أغدرك، ألم تعطني عهودك ومواثيقك ألا تسأل غيره؟ فيقول: لا أسألك غيره يا رب. ويعطي ربه من العهود والمواثيق ما شاء الله، فيدنيه منها، فيسمع أصوات أهل الجنة، أصواتا كالمزامير، فيتسمع ويتطلع فتنفتح أمامه أبواب الجنة فيرى ما فيها من نعيم وسرور وحبور، فيقول: يا رب أدخلني الجنة، فيقول له: يا ابن أدم: ما يقطع مسألتك مني؟ أين عهودك ومواثيقك ألا تسأل؟ فيقول: كرمك أوسع من مسألتي، وفضلك لا ينقصه عطائي، فيقول له: اذهب فادخل الجنة، فيدخلها، فيخيل إليه أنها ملأى، وأن الناس قد أخذوا منازلهم فيها، فيرجع، فيقول: يا رب، وجدتها ملأى، فيقول الله تبارك وتعالى له: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى. فيرجع، فيقول: يا رب، وجدتها ملأى فيقول الله تبارك وتعالى له: اذهب فادخل الجنة، فإذا دخلها قال الله له: تمنه اطلب تعط، فيتمنى قصورا وحدائق، وطعاما وشرابا وفرشا وأرائك، فإذا ما طلب ما يشتهي ذكره ربه بأشياء لم يذكرها، يقول له: اطلب كذا وكذا وكذا، مما لا يخطر على قلب بشر، حتى إذا ما انقضت به الأماني قال الله له: ذلك لك وعشرة أمثاله معه، فيقول: يا رب، لا أستحق شيئا من ذلك، لا تكاد عيني تصدق ما ترى، ولا تكاد أذني تصدق ما أسمع، أكاد أغيب عن صوابي، فيضحك رب العزة ويقول: إني لا أستهزئ منك، ولكني على ما أشاء قادر، فيدخل بيته، فتدخل عليه زوجتاه من الحور العين، فتحتضنانه وتقبلانه وتقولان له: الحمد لله الذي أحياك لنا، وأحيانا لك، فيعيش في سعادة دائمة، وسرور خالد، وهو يقول في نفسه: ما أعطي أحد مثل ما أعطيت. ذلك أدنى أهل الجنة منزلة يوم القيامة، أما أعلاهم منزلة فأولئك الذين اختارهم ربهم واصطفاهم، لهم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} [السجدة: 17] فاللهم اجعلنا من أهل الجنة، الناجين من النار، ويسر لنا الموقف العظيم، واهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين. آمين، آمين. آمين. رب العالمين.

-[المباحث العربية]- (عن أبي هريرة أن ناسا قالوا) في الرواية الرابعة، عن أبي سعيد "قلنا يا رسول الله" وفي رواية للبخاري " قال أناس: يا رسول الله" وفي رواية "إن الناس قالوا يا رسول الله" فلم يعين السائل ولعله أبو سعيد، وإسناد القول إلى الجماعة مع أن السائل واحد بتنزيل رضاهم عنه وحرصهم عليه منزلة النطق به. (هل نرى ربنا يوم القيامة؟ ) في التقييد بيوم القيامة إشارة إلى أن السؤال لم يقع عن الرؤية في الدنيا، وإنما عن الرؤية في الآخرة، وهي محل البحث. (هل تضارون) روي بتشديد الراء وضم التاء بصيغة المفاعلة، من الضر، وأصله "تضاررون" ومعناها: هل تضرون غيركم، أو يضركم أحد في حالة الرؤية، بزحمة أو مخالفة في الرؤية أو غيرها لخفائه؟ والاستفهام إنكاري بمعنى النفي، أي لا يحصل ذلك، كما لا يحصل عند رؤيتكم القمر ليلة البدر. أو تقريري، فلما أقروا، وقالوا: لا، قال: "فإنكم ترونه كذلك". وروي بتشديد الراء أيضا، لكن مع فتح التاء، وأصله تتضارون فحذفت إحدى التاءين تخفيفا، والمعنى لا يضر بعضكم بعضا بمنازعة ولا مجادلة ولا مضايقة، وروي بتخفيف الراء وضم التاء من الضير يقال: ضاره يضيره، وهو لغة في الضر، والمعنى: هل يلحقكم في رؤيته ضير؟ أي لا يخالف بعضكم بعضا فيكذبه وينازعه، فيضيره بذلك. وروي "هل تضامون" بتشديد الميم وتخفيفها، فمن شددها فتح التاء فهو بحذف إحدى التاءين، من الضم، والمعنى: هل تضامون في رؤيته، يريد لا تجتمعون لرؤيته في جهة، ولا ينضم بعضكم إلى بعض. ومن خفف الميم ضم التاء، من الضيم. وهو الغلبة على الحق. والاستبداد به، والمعنى: هل يلحقكم ضيم ومشقة وتعب؟ . وروي "هل تمارون" بضم التاء وفتحها، مع تخفيف الراء، من المرية وهي الشك، أو من المراء وهي المجادلة، والمعنى: لا يشتبه عليكم ولا تشكون، فيعارض بعضكم بعضا. (في الشمس ليس دونها سحاب) في الكلام مضاف محذوف، أي في رؤية الشمس، وجملة "ليس دونها سحاب" في محل النصب على الحال. (فإنكم ترونه كذلك) معناه تشبيه الرؤية بالرؤية في الوضوح وزوال الشك، ورفع المشقة والاختلاف، قال ابن الأثير: قد يتخيل بعض الناس أن الكاف كاف التشبيه للمرئي، وهو غلط، وإنما هي كاف التشبيه للرؤية التي هي فعل الرائي، والمعنى أنها رؤية مزاح عنها الشك مثل رؤيتكم القمر. اهـ.

(يجمع الله الناس يوم القيامة) في رواية "يحشر"، وفي رواية "يجمع الله يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد" والمراد جمعهم وحشرهم بعد بعثهم من القبور للموقف العظيم. (من كان يعبد شيئا فليتبعه) بتشديد التاء المفتوحة، وفي رواية "ألا ليتبع كل إنسان ما كان يعبد" وفي رواية "ألا لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت" جمع طاغوت، وهو الشيطان أو الصنم. وقال جماهير أهل اللغة: الطاغوت كل ما عبد من دون الله تعالى. قال الواحدي: الطاغوت يكون واحدا، وجمعا، ومؤنثا، ومذكرا، ففي الواحد قال الله تعالى: {يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به} [النساء: 60]، وفي الجمع قال تعالى: {والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات} [البقرة: 257] وفي المؤنث قال تعالى: {والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها} [الزمر: 17] قال النحويون: وزنه فعلوت. والتاء زائدة وهو مشتق من طغى. (ويضرب الصراط بين ظهري جهنم) بفتح الظاء وسكون الهاء، والمعنى: يمد الصراط عليها، وفي رواية "ويضرب جسر جهنم". (فأكون أنا وأمتي أول من يجيز) بضم الياء وكسر الجيم، ومعناه أول من يمضي عليه ويقطعه، يقال: أجزت الوادي وجزته، لغتان بمعنى واحد، وقال الأصمعي: أجزته قطعته، وجزته مشيت فيه، وفي رواية "أول من يجيزها" والضمير لجهنم. (وفي جهنم كلاليب) جمع كلوب بفتح الكاف وضم اللام المشددة وهو حديدة معطوفة الرأس، يعلق فيها اللحم، ويقال لها أيضا كلاب بفتح الكاف وتشديد اللام. وفي رواية "وبه كلاليب" والضمير للصراط، وفي رواية "وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة تأخذ من أمرت به" وفي رواية "وعليه كلاليب النار". (مثل شوك السعدان) بفتح السين وسكون العين، بلفظ التثنية، ويعرب بالحركات على النون، والسعدان جمع سعدانة، وهو نبات ذو شوك شوكته من جميع الجوانب، ونباته يضرب به المثل في طيب مرعاه، قالوا: مرعى ولا كالسعدان. (هل رأيتم السعدان؟ ) الاستفهام للتقرير، لاستحضار الصورة المذكورة، وفي رواية "أما رأيتم شوك السعدان"؟ . (فإنها مثل شوك السعدان) تشبيه الكلاليب بشوك السعدان خاص بسرعة اختطافها وكثرة الانتشاب فيها، تمثيلا لهم بما عرفوه في الدنيا، وألفوه بالمباشرة.

(غير أنه لا يعلم ما قدر عظمها إلا الله) "ما قدر عظمها" "ما" استفهام مبتدأ "وقدر عظمها" خبر، والاستفهام علق "يعلم" عن العمل في اللفظ فجملته سدت مسد مفعولي "يعلم" والفاعل لفظ الجلالة، والتقدير لا يعلم إلا الله قدر عظمها، وهذه الجملة استدراك على تشبيه الكلاليب بشوك السعدان، للإشارة إلى أن التشبيه لم يقع في مقدارهما. (تخطف الناس بأعمالهم) "تخطف" بكسر الطاء وفتحها، وفي الفصيح قال ثعلب: خطف بالكسر في الماضي وبالفتح في المضارع، وحكى القزاز عكسه، والمعنى: تخطفهم بأعمالهم، فالباء للسببية، أو تخطفهم على قدر أعمالهم فالباء للمقابلة. (فمنهم المؤمن بقي بعمله) روي على أوجه: أحدها: "المؤمن" من الإيمان و"بقي" بالباء المفتوحة والقاف المكسورة، أي بقي لم يخطف بسبب عمله. ثانيها: "المؤمن يقي بعمله "يقي" بالياء المفتوحة والقاف المكسورة من الوقاية، أي يقي نفسه بعمله، أي يقيه عمله ويستره من النار. ثالثا: "الموثق بعمله" بالثاء، من الوثاق، وهو القيد. رابعها: "الموبق بعمله" بالباء الموحدة، أي الهالك بعمله. خامسها: "الموبق يعني بعمله" "يعني" بفتح الياء، بعدها عين ساكنة بعدها نون مكسورة، قال القاضي: هذا أصحها. وقال الحافظ ابن حجر: هو تصحيف. وعلى أنه صحيح يكون لفظ "يعني" للتفسير والتوضيح. والله أعلم. (ومنهم المجازى حتى ينجي) قال النووي: ضبطناه بالجيم والزاي من المجازاة. اهـ. ورواه بعضهم "المخردل" بالميم المضمومة، والخاء والراء، والدال المفتوحة، بعدها لام، وفي رواية "ومنهم من يخردل" بالبناء للمجهول، أي إن كلاليب النار تقطعه فيهوى في النار، وقيل معناه، تقطع أعضاؤه كالخردل، وقيل معناه: تقطعهم عن لحوقهم بمن نجا، وقيل: المخردل المصروع، ورجحه ابن التين. ورواه بعضهم "المجردل" بالجيم بدل الخاء، والجردلة الإشراف على الهلاك. (حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد) قال الزين بن المنير: الفراغ إذا أضيف إلى الله معناه القضاء وحلوله بالمقضى عليه، وقال ابن أبي جمرة: معناه وصل الوقت الذي سبق في علمه أن يرحمهم. (فيخرجون من النار وقد امتحشوا) "يخرجون" بالبناء للمجهول، "امتحشوا" بفتح التاء

والحاء، أي احترقوا، وزنا ومعنى، والمحش احتراق الجلد وظهور العظم، وقال القاضي عياض: ضبطناه عن بعض شيوخنا بضم التاء وكسر الحاء، بالبناء للمجهول، ويبعده أنه لم يعرف في اللغة امتحشه متعديا. (فيصب عليهم ماء الحياة) في الرواية الثالثة "فيلقيهم في نهر، في أفواه الجنة، يقال له نهر الحياة" وفي تسمية الماء والنهر بالحياة إشارة إلى أنهم لا يحصل لهم الفناء بعد ذلك. (فينبتون منه كما تنبت الحبة في حميل السيل) "الحبة" بكسر الحاء وتشديد الباء، بذر البقول والعشب تنبت في البراري وجوانب السيول وجمعها حبب، بكسر الحاء وفتح الباء، وأما الحبة بفتح الحاء فهي ما يزرعه الناس، وجمعها حبوب "وحميل السيل" بفتح الحاء وكسر الميم، هو ما جاء به السيل من طين أو غثاء، وفي الرواية الخامسة "كما تنبت الحبة إلى جانب السيل" وفي رواية "كما تنبت الغثاءة" بضم الغين بعدها ثاء وهي في الأصل كل ما حمله السيل، من عيدان وورق وغيرها، والمراد به هنا ما حمله من البذور خاصة. وفي رواية "إلى جانب السيل" والمراد أن الغثاء الذي يجيء به السيل يكون فيه الحبة، فيقع في جانب الوادي فتصبح من يومها نابتة، وفي رواية "في حمئة السيل" بعد الميم همزة وقد تشبع كسرة الميم، فيصير بوزن عظيمة، وهو ما تغير لونه من الطين، وخص بالذكر لأنه يقع فيه النبت غالبا. قال ابن أبي جمرة: في هذا التشبيه إشارة إلى سرعة نباتهم لأن الحبة أسرع في النبات من غيرها، وفي السيل أسرع، لما يجتمع فيه من الطين الرخو الحادث مع الماء، مع ما خالطه من حرارة الزبل المجذوب معه. اهـ. وقال النووي: المراد التشبيه في سرعة النبات وحسنه وطراوته. اهـ. (فإنه قد قشبني ريحها) بفتح القاف والشين المخففة، وحكي تشديدها، ومعناه: سمني وآذاني وأهلكني، يقال: قشبه الدخان إذا ملأ خياشيمه وأخذ بكظمه، وأصل القشب خلط السم بالطعام، يقال: قشبه إذا سمه، ثم استعمل فيما إذا بلغ الدخان والرائحة منه غايته. (وأحرقني ذكاؤها) بفتح الذال، وبالمد، ومعناه لهيبها واشتعالها وشدة وهجها، وفي رواية "ذكاها" بالقصر، وهو الأشهر في اللغة حتى قال بعضهم: إن الذكاء بالمد لم يأت في النار، وإنما جاء في الفهم والفطنة. (هل عسيت إن أعطيتك ذلك أن تسأل غيره) "عسيت" بفتح السين وكسرها لغتان، والتاء للخطاب، و"أن تسأل" خبر "عسى" وجواب الشرط محذوف دلت عليه الجملة، أي إن أعطيتك يتوقع منك السؤال، والمعنى: هل يتوقع منك سؤال شيء غير ذلك، والاستفهام تقريري، لأن ذلك عادة بني آدم، والترجي راجع للمخاطب، لا إلى الرب، وهو من باب إرخاء العنان إلى الخصم ليبعثه ذلك على التفكر في أمره والإنصاف من نفسه.

(حتى إذا قام على باب الجنة انفهقت له الجنة) بفتح الفاء والهاء والقاف معناه انفتحت. (فرأى ما فيها من الخير) رواه بعض الرواة "من الحبر" بالحاء المفتوحة والباء الساكنة بدل الخاء والياء، ومعناه السرور، وفي رواية "فإذا بلغ بابها ورأى زهرتها وما فيها من النضرة". (ويلك يا ابن آدم) وفي رواية "ويحك" عبارة للزجر والتأنيب. (أي رب، لا أكون أشقى خلقك) المراد من الخلق هنا من دخل الجنة فهو لفظ عام، وأريد به خاص، ومراده: أنه يصير إذا استمر خارجا عن الجنة [وهم من داخلها] أشقاهم، وقيل: الخلق على عمومه، لأن الذي يشاهد ما يشاهده، ولا يصل إليه يصير أشد حسرة ممن لا يشاهد، وهو قول بعيد، وفي رواية "لأكونن" ومعناه: لئن أبقيتني على هذه الحالة ولم تدخلني الجنة لأكونن أشقى خلقك، الذين هم ليسوا من أهل النار. (فلا يزال يدعو حتى يضحك الله تعالى منه) نسبة الضحك إلى الله مجاز بمعنى رضاه بفعل عبده، ومحبته إياه، وإظهار نعمته عليه. ذكره النووي. (تمنه) "تمن" فعل أمر، أي سل ما تتمناه، والهاء للسكت، وقد جاء في الرواية الثانية بدون هاء السكت. (ويتمنى حتى إن الله ليذكره من كذا وكذا) أي فيسأل ويتمنى حتى إن الله يلقنه ما لا علم له به. فيقول: تمن من كذا، فيتمنى. الرواية الثالثة (ما تضارون في رؤية الله يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما) معناه لا تضارون أصلا، كما لا تضارون في رؤيتهما أصلا. (وغبر أهل الكتاب) بضم الغين وفتح الباء المشددة، معناه بقاياهم، جمع غابر، وفي رواية "وغبرات أهل الكتاب" بضم الغين وتشديد الباء المفتوحة، جمع غبر، وغبر جمع غابر، فهي جمع الجمع. (فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضا) "السراب" هو الذي يتراءى للناس في الأرض القفر والقاع المستوي وسط النهار في الحر الشديد لامعا، مثل الماء، يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، فالكفار يأتون جهنم- وهم عطاش- فيحسبونها ماء، فيتساقطون فيها، فإذا هي يحطم بعضها بعضا لشدة اتقادها، وتلاطم الأمواج فيها، والحطم الكسر والإهلاك، والحطمة اسم من أسماء النار، لكونها تحطم ما يلقى فيها.

(أتاهم رب العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها) معنى "رأوه فيها" علموها له وهي صفته المعلومة للمؤمنين، وهي أنه لا يشبهه شيء. ونسبة الإتيان إلى الله عبارة عن رؤيتهم إياه، لأن العادة أن كل من غاب عن غيره لا يمكنه رؤيته إلا بالمجيء إليه، فعبر عن الرؤية بالإتيان مجازا. وقيل: الإتيان فعل من أفعال الله تعالى، يجب الإيمان به، مع تنزيهه سبحانه وتعالى عن صفات الحوادث، وقيل: فيه حذف، تقديره: يأتيهم بعض ملائكة الله، ورجحه القاضي عياض. (قال: فما تنتظرون؟ ) وفي رواية: "ما يحبسكم وقد ذهب الناس"؟ (فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم) مقصودهم التضرع إلى الله في كشف هذه الشدة عنهم، وأنهم لزموا طاعته تعالى، وفارقوا في الدنيا أقاربهم الضالين، ممن كانوا يحتاجون في معايشهم إلى معاشرتهم كما جرى للصحابة المهاجرين الذين آثروا رضا الله تعالى. (حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب) عن الصواب، ويرجع عنه للامتحان الشديد الذي جرى، وهو في الأصول بإثبات "أن" وإثباتها مع "كاد" لغة، كما أن حذفها مع "عسى" لغة. (فيكشف عن ساق) قال النووي: ضبط "يكشف" بفتح الياء وضمها وهما صحيحان، وفسر ابن عباس وجمهور أهل اللغة وغريب الحديث "الساق" هنا بالشدة أي يكشف عن شدة وأمر مهول، وهذا مثل تضربه العرب لشدة الأمر، فيقولون: قامت الحرب على ساق، وأصله أن الإنسان إذا وقع في أمر شديد شمر ساعده، وكشف عن ساقه للاهتمام به، وقيل: المراد بالساق هنا نور عظيم، وقيل: قد يكون الساق مخلوقا جعله الله علامة للمؤمنين، خارجة عن السوق المعتادة، وقيل: معناه كشف الخوف وإزالة الرعب عنهم، فتطمئن حينئذ نفوسهم، ويتجلى سبحانه وتعالى لهم، فيخرون سجدا. (ثم يرفعون رءوسهم وقد تحول في صورته) قال النووي: هكذا ضبطناه "صورته" بالهاء في آخرها، ووقع في كثير من الأصول "في صورة" بغير هاء، ومعناه: وقد أزال المانع لهم من رؤيته، وتجلى لهم. (ثم يضرب الجسر على جهنم) "الجسر" بفتح الجيم وكسرها، لغتان مشهورتان، وهو الصراط. (وتحل الشفاعة) بكسر الحاء، وقيل: بضمها، أي تقع ويؤذن فيها. (وما الجسر؟ قال: دحض مزلة) "دحض" بدال مفتوحة وحاء ساكنة، و"مزلة" بفتح الميم، وفي الزاي الفتح والكسر، والدحض والمزلة بمعنى واحد، وهو الموضع الذي تزل فيه الأقدام ولا تستقر، ومنه {حجتهم داحضة عند ربهم} [الشورى: 16] أي مائلة، لا ثبات لها. (فيه خطاطيف وكلاليب وحسك) "الخطاطيف" جمع خطاف بضم الخاء في

المفرد "والحسك" بفتح الحاء والسين نبات له ثمر خشن يتعلق بأصواف الغنم ويتخذ مثله من الحديد آلة حرب. (وكأجاويد الخيل والركاب) من إضافة الصفة للموصوف، والأصل وكالخيل الأجاويد. يقال: فرس جواد، أي بين الجودة رائع، و"الركاب" معطوف على الخيل، أي وأجاويد الركاب، والركاب ككتاب الإبل، واحدتها راحلة. (فناج مسلم) مبتدأ محذوف الخبر، أي فمنهم ناج سالم، أو خبر مبتدأ محذوف أي فهم ناج مسلم، و"مسلم" بفتح السين وتشديد اللام المفتوحة. (ومخدوش مرسل) أصابه خدش وإصابات ثم أرسل وخلص، وفي البخاري "وناج مخدوش". (ومكدوس في نار جهنم) بالسين. يقال: تكدست الدواب في سيرها إذا ركب بعضها بعضا، ورواه بعضهم بالشين "مكدوش" وهو أنسب. يقال: كدشه يكدشه إذا ساقه ودفعه دفعا عنيفا. فهو كقوله: {يوم يدعون إلى نار جهنم دعا} [الطور: 13]. (حتى إذا خلص المؤمنون من النار، فوالذي بيده نفسي ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار) لفظة "في استقصاء الحق" ضبطت على: أربعة أوجه. 1 - "استيضاء". 2 - استضاء بحذف الياء، يقال: استضاء الأمر إذا طلب وضوحه وبيانه، والمعنى على الوجهين: إنكم إذا عرض لكم في الدنيا أمر مهم والتبس الحال فيه، وسألتم الله تعالى بيانه، وناشدتموه نحوه في استيضائه وبالغتم في هذه المناشدة، لا تكون مناشدة أحدكم أشد من مناشدة المؤمنين لله تعالى، يشفعون لإخوانهم. 3 - استيفاء بالفاء بدل الضاد. 4 - استقصاء. والمعنى على هذين الوجهين: ما منكم من أحد يناشد الله تعالى في الدنيا في استيفاء حقه أو استقصائه من خصمه المعتدى عليه، بأشد من مناشدة المؤمنين لله تعالى، يشفعون لإخوانهم. والقسم وجوابه جواب "إذا" والتقدير: إذا خلص المؤمنون كانوا في مناشدتهم الله لإخوانهم أشد منكم في مناشدتكم حقوقكم. (ربنا لم نذر فيها خيرا) أي صاحب خير.

(فيخرج قوما، قد عادوا حمما) معنى "عادوا" صاروا، وليس بلازم في "عاد" أن يصير إلى حالة كان عليها قبل ذلك، بل معناه هنا صاروا، و"الحمم" بضم الحاء وفتح الميم الأولى المخففة: الفحم، والواحدة حممة. (فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة) في "النهر" فتح الهاء وسكونها، لغتان، والفتح أجود، وبه جاء القرآن، قال تعالى: {فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر} [البقرة: 249] و"الأفواه" هنا جمع فوهة بضم الفاء وتشديد الواو المفتوحة، وهو جمع سمع من العرب على غير قياس، ففي القاموس: والفوهة كقبرة من السكة والطريق فمه، وأول الشيء، والجمع فوهات بضم الفاء وتشديد الواو المفتوحة، كأن المراد من الحديث مفتتح من مسالك قصور الجنة ومنازلها. (ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر؟ ) أي ألا ترونها تكون بيضاء مائلة إلى لون الحجر، أو صفراء وخضراء مائلة إلى لون الشجر؟ (ما يكون إلى الشمس أصيفر وأخيضر، وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض) "يكون" الأولى والثانية تامة، ليس لها خبر، "وأصيفر" و"أخيضر" مرفوعان خبر "ما" وأما "يكون" الثالثة فناقصة، و"أبيض" خبرها، أي ما يوجد ويقع جهة الشمس أصيفر وأخيضر، وما يوجد ويقع جهة الظل يكون أبيض، هذا في حبة السيل، أما ما يخص أهل الآخرة ففيه إشارة إلى أن من يكون منهم إلى الجهة التي تلي الجنة يسبق إليه البياض المستحسن، وما يكون منهم إلى جهة النار يتأخر النصوع عنه، فيبقى أصيفر وأخيضر إلى أن يتلاحق البياض، ويستوي الحسن والنور، ونضارة النعمة عليهم، ويحتمل أن يكون إشارة إلى أن الذين يرش عليهم الماء أولا يسرع إليهم النصوع، وأن الذين يتأخر عنهم الرش يتأخر نصوعهم، لكنهم يلحقون. والله أعلم. (فيخرجون كاللؤلؤ) في التلألؤ والصفاء، وفي "اللؤلؤ" أربع قراءات في السبع، بهمزتين وبحذفهما وبإثباتها في الأول وبإثباتها في الآخر. (في رقابهم الخواتم) جمع خاتم، بفتح التاء وكسرها، والمراد بها هنا أشياء من ذهب أو غير ذلك. (يعرفهم أهل الجنة. هؤلاء عتقاء الله) أي يقولون: هؤلاء عتقاء الله، وفي رواية "يقول لهم أهل الجنة: هؤلاء الجهنميون، فيقول الله: هؤلاء عتقاء الله". وليست هذه التسمية تنقيصا لهم، بل للاستذكار لنعمة الله ليزدادوا بذلك شكرا. الرواية السادسة (أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون) أي أهل

النار المستحقون للخلود لا يموتون فيها، ولا يحيون حياة ينتفعون بها، ويستريحون معها، كما قال تعالى: {لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها} [فاطر: 36] وكما قال: {ثم لا يموت فيها ولا يحيا} [الأعلى: 13]. (ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم، فأماتهم إماتة) حقيقية يذهب معها الإحساس، ويكون عذابهم على قدر ذنوبهم، ثم يميتهم، ثم يكونون محبوسين في النار من غير إحساس المدة التي قدرها الله، ثم يخرجون من النار موتى، قد صاروا فحما. (فجيء بهم ضبائر ضبائر) كذا هو في الروايات مكرر مرتين، وهو منصوب على الحال. والضبائر: الجماعات في تفرقة، جمع ضبارة بفتح الضاد وكسرها، والكسر أشهر، وروي "ضبارات، ضبارات". الرواية الثامنة (رجل يخرج من النار حبوا) وفي الرواية الثامنة "يخرج منها زحفا" قال أهل اللغة: الحبو المشي على اليدين والرجلين، وربما قالوا: على اليدين والركبتين، وربما قالوا: على يديه ومقعدته، وأما الزحف فقال بعضهم: هو المشي على الإست مع إفراشه بصدره، فالحبو والزحف متماثلان أو متقاربان ولو ثبت اختلافهما حمل على أنه في حال يحبو، وفي حال يزحف. (أتسخر بي -أو أتضحك بي- وأنت الملك) هذا شك من الراوي، فإن كان اللفظ الواقع في نفس الأمر "أتضحك بي" فمعناه: أتسخر بي، لأن الساخر في العادة يضحك ممن يسخر به، فوضع الضحك موضع السخرية مجازا، وأما معنى "أتسخر بي" هنا وفيما جاء في الرواية الأخرى "أتسخر مني" ففيه أقوال: أحدها: أنه خرج على المقابلة الموجودة في معنى الحديث دون لفظه، لأنه عاهد الله مرارا ثم غدر، فحل غدره محل الاستهزاء والسخرية، فقدر الرجل أن قول الله تعالى له: ادخل الجنة، وتردده إليها، وتخييل كونها مملوءة ضرب من الإطماع له، والسخرية به، جزاء لما تقدم من غدره، وعقوبة له فسمي الجزاء على السخرية سخرية. فقال: أتسخر بي؟ أي أتعاقبني بالإطماع؟ الثاني: أن معناه نفي السخرية التي لا تجوز على الله تعالى، كأنه قال: أعلم أنك لا تهزأ بي لأنك رب العالمين، والهمزة في "أتسخر بي" همزة نفي. وهذا كلام منبسط متدلل. الثالث: أن يكون هذا الكلام صدر من هذا الرجل وهو غير ضابط لما قاله، لما ناله من السرور ببلوغ ما لم يخطر بباله، فلم يضبط لسانه دهشا وفرحا، فقاله وهو لا يعتقد حقيقة معناه، وجرى على عادته في الدنيا في مخاطبة المخلوق.

(رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه) بالجيم والذال، والمراد بالنواجذ هنا الأنياب، وقيل: المراد هنا الضواحك، وقيل: المراد بها الأضراس، وهذا هو الأشهر في إطلاق النواجذ في اللغة. (فكان يقال: ذلك أدنى أهل الجنة منزلة) قال الكرماني: ليس هذا من تتمة كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، بل هو من كلام الراوي، نقلا عن الصحابة، أو عن غيرهم من أهل العلم وحققه الحافظ ابن حجر، فقال: قائل "فكان يقال" هو الراوي وأما قائل "ذلك أدنى أهل الجنة منزلة" فهو النبي صلى الله عليه وسلم. اهـ. وروايتنا العاشرة صريحة في ذلك، ففيها "إن أدنى أهل الجنة منزلة رجل ... " الحديث. الرواية التاسعة (فهو يمشي مرة ويكبو أخرى، وتسفعه النار مرة) "يكبو" أي يسقط على وجهه، و"تسفعه النار" بفتح التاء وسكون السين وفتح الفاء، معناه: تضرب وجهه وتسوده وتؤثر فيه أثرا. (وربه يعذره) بفتح الياء وسكون العين وكسر الذال، يقال: عذره يعذره، أي يقبل عذره. (لأنه يرى ما لا صبر له عليه) كذا هو في الأصول، في المرتين الأوليين، وأما الثالثة فوقع في أكثر الأصول "ما لا صبر له عليها" أي نعمة لا صبر له عليها، أي عنها. (فإذا أدناه منها فيسمع أصوات أهل الجنة) التقدير: فإذا أدناه منها بلغ به الرضا والسرور مبلغا كبيرا، فيسمع أصوات أهل الجنة، فيقول ... إلخ. (يا ابن آدم. ما يصريني منك؟ ) بفتح الياء وإسكان الصاد، أي ما يقطع مسألتك مني؟ والصري القطع، وفي غير مسلم "ما يصريك مني" وكلاهما صحيح، فإن السائل متى انقطع من المسئول انقطع المسئول منه، والمعنى: أي شيء يرضيك؟ ويقطع السؤال بيني وبينك؟ . الرواية العاشرة (فتدخل عليه زوجتاه) قال النووي: هكذا ثبت في الروايات والأصول "زوجتاه" بالتاء، تثنية زوجة، بالهاء، وهي لغة صحيحة معروفة، وفيها أبيات كثيرة من شعر العرب. اهـ. (فتقولان) هو بالتاء المثناة من فوق، ويخطئ فيه البعض، فيقوله بالياء، وذلك لحن لا شك فيه، قال الله تعالى: {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا} [آل عمران: 122] وقال: {ووجد من دونهم امرأتين تذودان} [القصص: 23] وقال: {إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا} [فاطر: 41] وقال: {فيهما عينان تجريان} [الرحمن: 50] ذكره النووي.

(الحمد لله الذي أحياك لنا وأحيانا لك) معناه: الذي خلقك لنا، وخلقنا لك، وجمع بيننا في هذه الدار الدائمة السرور. الرواية الحادية عشرة (ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ ) كذا هو في الأصول "ما أدنى" وكان الظاهر أن يقول: من أدنى، ولكن لما كان السؤال عن الصفة عبر بـ "ما" والمعنى: ما صفته، أو ما علامة أدنى أهل الجنة؟ . (كيف وقد نزل الناس منازلهم؟ وأخذوا أخذاتهم) بفتح الهمزة والخاء، وهو ما أخذوه من كرامة مولاهم، وحصلوه، أو يكون معناه: قصدوا منازلهم. ذكره القاضي عياض. (أولئك الذين أردت) بتاء المتكلم، ومعناه: اخترت واصطفيت. (غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها) أي اصطفيتهم وتوليتهم فلا يتطرق إلى كرامتهم تغيير. (ومصداقه) بكسر الميم، معناه: دليله وما يصدقه. الرواية الرابعة عشرة (سئل عن الورود) أي عن ورود الأمم النار، وفيه يقول الله تعالى: {وإن منكم إلا واردها} [مريم: 71] باعتبار أن الكل سيمر بالصراط المضروب عليها، وإن لم يدخلها. (نجيء نحن يوم القيامة عن كذا وكذا. انظر. أي ذلك فوق الناس) هكذا وقع اللفظ في جميع الأصول من صحيح مسلم، واتفق المتقدمون والمتأخرون على أنه تصحيف وخطأ. ولعل أصلها نجيء نحن يوم القيامة على تل أو كوم فوق الناس، فلما خفي الحرف على الناسخ أو أمحى، عبر عنه هكذا وكذا، ثم فسره بقوله: أي فوق الناس، وكتب عليه "انظر" تنبيها على أن الكلام في حاجة إلى المراجعة، فجمع الناقلون الكل، ونسقوه على أنه من متن الحديث، كذا قال القاضي عياض: وتابعه عليه جماعة من المتأخرين. والله أعلم. (فيتجلى لهم يضحك) التجلي الظهور وإزالة المانع من الرؤية، ومعنى "يتجلى لهم يضحك" أي يظهر وهو راض عنهم. (ثم يطفأ نور المنافقين) روي بفتح الياء، وضمها، وهما صحيحان، يقال: طفئ النور يطفأ، من باب سمع، فنور المنافقين فاعل على رواية فتح الياء، ويقال: أطفأ النور يطفئ، ويبنى للمجهول "يطفأ" فنور المنافقين نائب فاعل.

(فتنجو أول زمرة) الزمرة الجماعة. (حتى ينبتوا نبات الشيء في السيل) في كثير من الأصول "نبات الشيء" وهو بمعنى الروايات السابقة، وعن بعض رواة مسلم "نبات الدمن" بكسر الدال وإسكان الميم، وهو البعر، والتقدير: نبات ذي الدمن في السيل، أي كما ينبت الشيء الحاصل في البعر والغثاء الموجود في أطراف النهر، والمراد التشبيه به في السرعة والنضارة. قاله النووي. (ويذهب حراقه) بضم الحاء وتخفيف الراء، والضمير يعود على المخرج من النار، ومعنى "حراقه" أثر النار. الرواية الخامسة عشرة (إن قوما يخرجون من النار، يحترقون فيها، إلا دارات وجوههم) جمع "دارة" وهي ما يحيط بالوجه من جوانبه، ومعناه: أن النار لا تأكل دارة الوجه، لكونها محل السجود. (حتى يدخلون الجنة) هكذا هو في الأصول (حتى يدخلون) بالنون، وهو صحيح على اعتبار استحضار الصورة المستقبلة، لأن شرط رفع الفعل بعد "حتى" أن يكون حالا حقيقة أو تقديرا. الرواية السادسة عشرة (كنت قد شغفني) بالغين، أي لصق بشغاف قلبي، وهو غلافه، أو حجابه، أو سويداؤه، وروي (شعفني) بالعين، وفي القاموس: الشعفة من القلب رأسه عند معلق النياط، ومنه شعفني حبه، أي غشى الحب القلب من فوق، وقرئ بهما {قد شغفها حبا} [يوسف: 30]. (رأى من رأى الخوارج) وهو أن أصحاب الكبائر يخلدون في النار ولا يخرج منها من دخلها. (فخرجنا في عصابة) هي من الرجال ما بين العشرة إلى الأربعين، فالمراد في جماعة كبيرة. (ثم نخرج على الناس) نظهر مذهب الخوارج، وندعو إليه ونحث عليه. (يحدث القوم - جالسا إلى سارية - عن رسول الله) أي يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حالة كونه جالسا مسندا ظهره إلى سارية وعمود من سواري المسجد. (قد ذكر الجهنميين) أي أهل جهنم.

(ثم نعت وضع الصراط) ثم وصف جابر في حديثه الصراط ووضعه وكلاليبه. (ومر الناس عليه) أي وأحوال مرور الناس على الصراط. (وأخاف ألا أكون أحفظ ذلك) أي ما قاله جابر، فرويته بالمضمون ولم أحاول رواية الحديث نفسه مخافة الخطأ وعدم الحفظ. (فيخرجون كأنهم عيدان السماسم) هو بالسينين: الأولى مفتوحة والثانية مكسورة، وهو السمسم المعروف، وعيدانه- إذا قلعت وتركت في الشمس ليؤخذ حبها - تراها دقاقا سوداء، كأنها محترقة، فشبه بها هؤلاء. وقيل: لعل اللفظة محرفة، وأصلها عيدان الساسم، بحذف الميم الأولى وفتح السين الثانية وهو خشب أسود كالأبنوس، وقال بعضهم: السماسم نبت ضعيف كالسمسم والكزبرة، قال النووي: والمختار أنه السمسم المعروف. والله أعلم. (يخرجون كأنهم القراطيس) جمع قرطاس بكسر القاف وضمها لغتان، وهو الصحيفة التي يكتب فيها، ووجه الشبه البياض بعد اغتسالهم وزوال ما كان عليه من السواد. (قلنا: ويحكم، أترون الشيخ يكذب على رسول الله؟ ) أي قال: يزيد الفقير لزملائه من الخوارج: أتظنون أن الشيخ جابر بن عبد الله يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ . (فرجعنا، فلا والله ما خرج منا غير رجل واحد) معناه: رجعنا من حجنا، وقد كففنا عن رأي الخوارج وتبنا منه، ولم يخرج منا [أي لم يبق من الخوارج منا] إلا رجل واحد.؟ -[فقه الحديث]- ساق الإمام مسلم هذا الحديث هنا للاستشهاد به على رؤية الله تعالى في الآخرة، لكنه في مجموع رواياته يتناول مع ذلك أمورا مهمة هي: ما قبل الصراط من أمور الآخرة - الصراط وأحوال الناس عليه- دخول عصاة المؤمنين النار وخروجهم منها - آخر أهل النار خروجا منها وآخر أهل الجنة دخولا لها - الشفاعة - ما يؤخذ من الحديث. 1 - أما رؤية الله تعالى في الآخرة فقد تعرض الحديثان السابقان لرؤية المؤمنين لربهم سبحانه وتعالى في الجنة، وقد ذكرنا في شرحهما آراء العلماء في الرؤية، وأدلة كل فريق. أما الرؤية الواردة في هذا الحديث فقد قال الخطابي: هذه الرؤية غير التي تقع في الجنة، إكراما للمؤمنين، فإن هذه للامتحان، وتلك لزيادة الإكرام. قال: ولا إشكال في حصول الامتحان في الموقف، لأن آثار التكاليف لا تنقطع إلا بعد الاستقرار في الجنة أو النار. والألفاظ الواردة هنا في الرؤية هي: أن ناسا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال

رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحوا ليس فيها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله. قال: هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحوا ليس معها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله. قال: فإنكم ترونه كذلك" "ما تضارون في رؤية الله تبارك وتعالى يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما" "وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله - تبارك وتعالى- في صورة غير صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم. فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا، حتى يأتينا ربنا. فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله تعالى في صورته التي يعرفون. فيقول: أنا ربكم. فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه، ثم يضرب الصراط". وفي الرواية الثالثة: "حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله تعالى، من بر وفاجر، أتاهم رب العالمين -سبحانه وتعالى- في أدنى صورة من التي رأوه فيها. قال: فما تنتظرون؟ تتبع كل أمة ما كانت تعبد. قالوا: يا ربنا، فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم، ولم نصاحبهم فيقول: أنا ربكم. فيقولون: نعوذ بالله منك. لا نشرك بالله شيئا- مرتين أو ثلاثا- حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب، فيقول: هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم. فيكشف عن ساق، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة، كلما أراد أن يسجد خر على قفاه، ثم يرفعون رءوسهم، وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة، فقال: أنا ربكم. فيقولون: أنت ربنا. ثم يضرب الجسر على جهنم". ومن هذه الألفاظ يتضح أن هذه الرؤية في نهاية موقف الحشر، وقبل ضرب الصراط. وفي شرحها يقول الإمام النووي: اعلم أن لأهل العلم في أحاديث الصفات وآيات الصفات قولين: أحدهما: وهو مذهب معظم السلف أو كلهم - أنه لا يتكلم في معناها، بل يقولون: يجب علينا أن نؤمن ونعتقد لها معنى يليق بجلال الله تعالى وعظمته، مع اعتقادنا الجازم أن الله تعالى ليس كمثله شيء، وأنه منزه عن التجسم والانتقال والتحيز في جهة، وعن سائر صفات المخلوق. والقول الثاني: -وهو مذهب معظم المتكلمين- أنها تتأول على ما يليق بها على حسب مواقعها، وإنما يسوغ تأويلها لمن كان من أهله، بأن يكون عارفا بلسان العرب وقواعد الأصول والفروع، ذا رياضة في العلم، فعلى هذا المذهب يقال هنا: إن إتيان الله تعالى عبارة عن رؤيتهم إياه، لأن العادة أن من غاب عن غيره لا يمكنه رؤيته إلا بالإتيان، فعبر بالإتيان هنا عن الرؤية مجازا. وقيل: الإتيان فعل من أفعال الله تعالى، سماه إتيانا. وقيل: المراد بيأتيهم الله، يأتيهم بعض ملائكة الله. قال القاضي عياض: هذا الوجه أشبه عندي بالحديث، ويكون هذا الملك الذي جاءهم في الصورة التي أنكروها من سمات الحدث الظاهرة على الملك والمخلوق، قال: أو يكون معناه: يأتيهم الله في صورة، أي يأتيهم بصورة، ويظهر لهم من صور ملائكته ومخلوقاته التي لا تشبه صفات الإله لتختبرهم، فإذا قال لهم هذا الملك، أو هذه الصورة: أنا ربكم، رأوا عليه من علامات المخلوق ما ينكرونه ويعلمون أنه

ليس ربهم، ويستعيذون بالله منه. أما الصورة التي يعرفون فالمراد بها هنا الصفة، ومعناه: فيتجلى الله - سبحانه وتعالى- لهم على الصفة التي يعلمونها ويعرفونه بها، وإنما عرفوه بصفته وإن لم تكن تقدمت لهم رؤية له سبحانه وتعالى لأنهم يرونه لا يشبه شيئا من مخلوقاته، وقد علموا أنه لا يشبه شيئا من مخلوقاته، فيعلمون أنه ربهم، فيقولون: أنت ربنا. ومعنى "فيتبعونه" فيتبعون أمره إياهم بذهابهم إلى الجنة، أو يتبعون ملائكته الذين يذهبون بهم إلى الجنة. اهـ. وقال ابن بطال: تمسك المجسمة بهذا الحديث، فأثبتوا لله صورة، ولا حجة لهم فيه، لاحتمال أن يكون بمعنى العلامة، وضعها الله لهم دليلا على معرفته، كما يسمى الدليل والعلامة صورة، وكما تقول: صورة حديثك كذا، وصورة الأمر كذا، والحديث والأمر لا صورة لهما حقيقة. اهـ. وقال ابن الجوزي: معنى الخبر: يأتيهم الله بأهوال يوم القيامة ومن صور الملائكة بما لم يعهدوا مثله في الدنيا، فيستعيذون من تلك الحال، ويقولون: إذا جاء ربنا عرفناه، أي إذا أتانا بما نعرفه من لطفه، وهي الصورة التي عبر عنها بقوله: يكشف عن ساق" أي عن شدة. اهـ. وقال القرطبي: هو مقام هائل، يمتحن الله به عباده يميز الخبيث من الطيب، وذلك أنه لما بقي المنافقون مختلطين بالمؤمنين زاعمين أنهم منهم، ظانين أن ذلك يجوز في ذلك الوقت، كما جاز في الدنيا، امتحنهم الله بأن أتاهم بصورة هائلة، قالت للجميع: أنا ربكم. فأجابه المؤمنون بإنكار ذلك، لما سبق لهم معرفته سبحانه وأنه منزه عن صفات هذه الصورة، فلهذا قالوا: نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئا، حتى إن بعضهم ليكاد ينقلب أي يزل، فيوافق المنافقين. اهـ. وقد فهم بعضهم من قوله: "وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة" أنهم رأوه أول ما حشروا. وقال آخرون: إنهم عرفوا صورته بناء على ما عرفوه به حين أخرج ذرية آدم من صلبه، ثم أنساهم ذلك في الدنيا، ثم يذكرهم بها في الآخرة. وقال آخرون: إن العلامة التي عرفوه بها، وهي الساق، يحتمل أن الله عرفهم على ألسنة الرسل من الملائكة أن الله جعل لهم علامة تجليه سبحانه كشف الساق. وقال الكلاباذي: عرفوه بأن أحدث فيهم لطائف عرفهم بها نفسه، ومعنى كشف الساق: زوال الخوف والهول. والله أعلم. وفي تشبيه رؤيته - سبحانه وتعالى- برؤية الشمس والقمر قال الزين بن المنير: إنما خص الشمس والقمر بالذكر مع أن رؤية السماء بغير سحاب أكبر آية، وأعظم خلقا من مجرد الشمس والقمر، لما خص به من عظيم النور والضياء بحيث صار التشبيه بهما فيمن يوصف بالجمال والكمال سائغا شائعا في الاستعمال. اهـ. وقال ابن أبي جمرة: في عطف الشمس على القمر مع أن تحصيل الرؤية بذكره كاف، لأن القمر لا

يدرك وصفه الأعمى حسا بل تقليدا، والشمس يدركها الأعمى حسا بوجود حرها، إذا قابلها وقت الظهيرة مثلا فحسن التأكيد بها. اهـ. والله أعلم. 2 - وأما ما قبل الصراط من أمور الآخرة فقد تعرض الحديث لنهاية الحشر والموقف العظيم، حين يؤذن المؤذن: "ليتبع كل أمة ما كانت تعبد" "من كان يعبد شيئا فليتبعه" فيتمثل لهم ما كانوا يعبدون، فيتمثل لصاحب الصليب صليبه، ولصاحب التصاوير تصاويره"، "فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت، فيقذف بهم وبمعبوداتهم في النار". "فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله -سبحانه - من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار، ومصداقه من القرآن قوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} [الأنبياء: 98] حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر وغبر أهل الكتاب، فيدعى اليهود [الذين حرفوا وبدلوا] فيقول لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزيرا ابن الله، فيقال لهم: كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد، فماذا تبغون؟ قالوا عطشنا يا ربنا، فاسقنا، فيشار إليهم [نحو النار وهى كالسراب، فيخيل إليهم أنها ماء، ويقال لهم]. ألا تردون؟ فيحشرون إلى النار، كأنها سراب، يحطم بعضها بعضا. فيتساقطون في النار، ثم يدعى النصارى [الذين انحرفوا وبدلوا] فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال لهم: كذبتم. ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد فيقال لهم: ماذا تبغون؟ فيقولون: عطشنا يا ربنا فاسقنا. فيشار إليهم: ألا تردون؟ فيحشرون إلى جهنم، كأنها سراب يحطم بعضها بعضا فيتساقطون في النار. قال بعض الأفاضل: إن كل ما كان يعبد من دون الله، من الجماد أو الحيوان يحضر بذاته فيتبعه أتباعه إلى النار، وكذا كل من عبد من دون الله ممن يرضى بذلك كفرعون، أما من عبد من دون الله ممن لا يرضى بهذه العبادة كعزير والمسيح فقد قال بعضهم: يمثل لهم المعبود تلبيسا عليهم فيتبعونه إلى النار، وهذا بعيد فإن الروايات صريحة في أنهم يساقون إلى النار بدافع أنها ماء، فهم متبعون للسراب، وليس لمعبودهم، كما أن بقاء هذين الفريقين، بعد اتباع كل أمة معبودها دليل على أنهم لا يمثل لهم معبود يتبعونه، ولعل تأخرهم عن عبدة الأوثان باعتبار أنهم عبدوا الله، وإن كانت عبادة خاطئة، فلم تغن عنهم شيئا، وألحقوا بأصحاب الأوثان، ومصداقه قوله تعالى: {إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها} [البينة: 6]. والتكذيب الوارد في الحديث -كما قال الكرماني- لم يكذب أنهم عبدوا، وإنما كذبهم في أن عزيرا ابن الله، وأن المسيح ابن الله، ويلزم منه إنكار عبادتهم ما ليس ابن الله. نعم لم يتعرض الحديث لمصير اليهود والنصارى الذين لم يعبدوا عزيرا أو المسيح ممن لم يدركوا مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، أو لم تبلغهم دعوته والظاهر: أنهم يبقون من المسلمين، يدل على هذا باقي الحديث، وفيه في الرواية الثالثة "حتى إذ لم يبق إلا من كان يعبد الله (وحده) من بر وفاجر أتاهم رب العالمين".

وفي الرواية الأولى "وتبقى هذه الأمة، فيها منافقوها، فيأتيها الله تبارك وتعالى". قال ابن أبي جمرة: يحتمل أن يكون المراد بالأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يحمل على أعم من ذلك، فيدخل فيه جميع أهل التوحيد، حتى من الجن، ويدل عليه ما في بقية الحديث أنه يبقى من كان يعبد الله من بر وفاجر. اهـ. وقال الحافظ ابن حجر: ويؤخذ هذا أيضا من قوله في بقية الحديث "فأكون أول من يجيز" فإن فيه إشارة إلى أن الأنبياء بعده يجيزون أممهم. اهـ. ومن هذا يعلم مصير الغابرين من أهل الكتاب، فالمؤمنون منهم إيمانا صحيحا قبل المبعث سيجتازون الصراط مع أنبيائهم، أما من أدرك البعثة منهم، ثم كفر بما جاءه من الحق الذي يعرفه كما يعرف أبناءه فهو مسوق إلى النار. داخل في قوله تعالى: {إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية} أما المنافقون فإنهم يتأخرون مع المؤمنين، ويعطى كل واحد منهم نورا مع المؤمنين لما كانوا يظهرونه من الإسلام، وهم يظنون أن تسترهم بالمؤمنين ينفعهم في الآخرة، كما كان ينفعهم في الدنيا، لكن الله يميز المؤمنين حين يتجلى لهم سبحانه "فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة، كلما أراد أن يسجد خر على قفاه". "ثم يطفأ نور المنافقين" حين يتجهون إلى الصراط، فيقول المنافقون للذين آمنوا: {انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا} [الحديد: 13] فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئا، فيندفعون إلى النار. 3 - وأما عن الصراط وأحوال الناس عليه فإنه يضرب الصراط بين ظهري جهنم فيكون نبينا صلى الله عليه وسلم هو وأمته أول من يجيز، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل، ودعوى الرسل يومئذ: اللهم سلم. سلم. وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان، غير أنه لا يعلم ما قدر عظمها إلا الله، تخطف الناس بأعمالهم فمنهم المؤمن بقي بعمله (لا يخطف) ومنهم المجازى حتى ينجى "من المؤمنين من يمر" (على الصراط) كطرف العين، وكالبرق، وكالريح، وكالطير، وكأجاويد الخيل والركاب فناج مسلم، ومخدوش مرسل (ينجو بعد الإصابات) ومكدوس (مركوم) في نار جهنم". هذا ما ورد عن الصراط في رواياتنا، وقد جاءت بعض الروايات بزيادات في وصفه ووصف الكلاليب، وفي رواية لأبي هريرة "وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به" وفي رواية "عليه كلاليب النار" وفي مرسل عبيد بن عمير "أن الصراط مثل السيف وبجنبتيه كلاليب وأنه يؤخذ بالكلوب الواحد أكثر من ربيعة ومضر" وفيه "والملائكة على جنبتيه يقولون: يا رب سلم. سلم" وعند مسلم قال أبو سعيد: "بلغني أن الصراط أحد من السيف، وأدق من الشعرة، وأخرج ابن المبارك عن سعيد بن أبي هلال قال: "بلغنا أن الصراط أدق من الشعر على بعض الناس، ولبعض

الناس مثل الوادي الواسع" وعند الحاكم من حديث عبد الله بن سلام" ثم ينادي مناد أين محمد وأمته؟ فيقوم، فتتبعه أمته، برها وفاجرها، فيأخذون الجسر، فيطمس الله أبصار أعدائه، فيتهافتون عن يمين وشمال، وينجو النبي صلى الله عليه وسلم والصالحون" وفي حديث ابن عباس يرفعه "فيفرج لنا الأمم عن طريقنا، فنمر غرا محجلين من آثار الطهور، فتقول الأمم: كادت هذه الأمة أن يكونوا أنبياء" وللترمذي من حديث المغيرة "شعار المؤمن على الصراط: رب سلم. سلم" وأخرج ابن عساكر عن الفضيل بن عياض قال: "لا يجوز عليه إلا ضامر مهزول من خشية الله". وفي حديث ابن مسعود "ثم يقال لهم: انحوا على قدر نوركم، فمنهم من يمر كطرف العين، ثم كالبرق، ثم كالسحاب، ثم كانقضاض الكوكب، ثم كالريح، ثم كشد الفرس، ثم كشد الرحل، حتى يمر الرجل الذي أعطي نوره على إبهام قدمه يحبو على وجهه ويديه ورجليه، يجر بيد ويعلق بيد، ويجر برجل ويعلق برجل، وتضرب جوانبه النار حتى يخلص" وفي أخرى عن ابن مسعود بعد الذي يمر كالريح" ثم كأسرع البهائم، حتى يمر الرجل سعيا، ثم مشيا، ثم آخرهم يتلبط على بطنه، فيقول: يا رب. لم أبطأت بي؟ فيقول: أبطأ بك عملك". 4 - من هذا كله يتبين أن عصاة المؤمنين يسقطون في النار، ولا خلاف بين العلماء في سقوط من لم تشملهم رحمة الله من مرتكبي الكبائر، اللهم إلا ما قيل عن غلاة المرجئة من أنه لا يضر من الإيمان شيء، وأنه لا يدخل النار أحد من الموحدين، وهو قول واضح البطلان، ولكن الخلاف الكبير في إخراج العصاة من النار بعد أن يدخلوها، فمذهب المعتزلة أن أصحاب الكبائر مخلدون في النار، ومذهب الخوارج أن أصحاب الكبائر كفار يخلدون في النار. والرواية السادسة عشرة توضح شبهتهم وتعلقهم بقوله تعالى: {إنك من تدخل النار فقد أخزيته} [آل عمران: 192] وقوله: {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها} [السجدة: 20] والرد عليهم: أن الآيتين في الكافرين، وأن الخزي الذي يلحق مرتكب الكبيرة مؤقت بمدة عذابه، ورواياتنا المتعددة واضحة في تأييد هذا القول: ففي الرواية الأولى: "حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد، وأريد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار، أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا، ممن أراد الله تعالى أن يرحمه، ممن يقول: لا إله إلا الله، فيعرفونهم في النار، يعرفونهم بأثر السجود، تأكل النار من ابن آدم إلا أثر السجود، حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود، فيخرجون من النار وقد امتحشوا فيصب عليهم ماء الحياة فينبتون منه كما تنبت الحبة في حميل السيل". وفي الرواية الثالثة: يشفع المؤمنون الناجون لإخوانهم الذين في النار يقولون: "ربنا كانوا يصومون معنا، ويصلون ويحجون، فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم، فتحرم صورهم على النار، فيخرجون خلقا كثيرا، قد أخذت النار إلى نصف ساقيه، وإلى ركبتيه، ثم يقولون: ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به. فيقول: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا، ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال

نصف دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدا، ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا. ثم يقولون: لم نذر فيها خيرا. فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار، فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط، قد عادوا حمما، فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة، يقال له: نهر الحياة، فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل، فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم، يعرفهم أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الله، الذين أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه". وفي الرواية السادسة: "أما أهل النار الذين هم أهلها. فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم - أو قال بخطاياهم- فأماتهم إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن بالشفاعة، فجيء بهم ضبائر ضبائر، فبثوا على أنهار الجنة. ثم قيل: يا أهل الجنة، أفيضوا عليهم، فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل". وفي الرواية الخامسة عشرة "إن قوما يخرجون من النار، يحترقون فيها إلا دارات وجوههم، حتى يدخلون الجنة". وقد تمسك بعض المبتدعة بظاهر قوله في الرواية الأولى "أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا"، فزعم أن من وحد الله من أهل الكتاب يخرج من النار، ولو لم يؤمن بغير من أرسل إليه. قال الحافظ ابن حجر: وهو قول باطل، فإن من جحد الرسالة كذب الله، ومن كذب الله لم يوحده. اهـ. ولما كان ظاهر الرواية الأولى أن الملائكة هي التي تخرج من النار، وظاهر الرواية الثالثة أن المؤمنين هم الذين يخرجون إخوانهم، رفع هذا التعارض بأن الملائكة يؤمرون من الأنبياء والمؤمنين، فيباشرون الإخراج، يعرفون المؤمنين بآثار السجود. قال الزين بن المنير: تعرف صفة هذا الأثر مما ورد في قوله تعالى: {سيماهم في وجوههم من أثر السجود} [الفتح: 29] لأن وجوههم لا تؤثر فيها النار، فتبقى صفتها باقية. وقد يبدو قوله: "حرم الله على النار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود" معارضا لقوله: "حتى إذا كانوا فحما أذن بالشفاعة" لأنهم إذا صاروا فحما كيف يتميز أثر السجود، وحاصل الجواب: تخصيص أعضاء السجود من عموم الأعضاء كأنه قال: حتى إذا كانوا فحما فيما عدا أعضاء السجود أذن بالشفاعة. وقد اختلف العلماء في المراد بأثر السجود، فذهب النووي إلى أن النار لا تأكل جميع أعضاء السجود السبعة. وهي: الجبهة واليدان والركبتان والقدمان، وبهذا جزم بعض العلماء. وذهب القاضي عياض إلى أن المراد الوجه خاصة. بدليل قوله في الرواية الخامسة عشرة "يحترقون بها فيها إلا

دارت وجوههم" ويؤيده ما في الرواية الثالثة من أن بعض المخرجين كانت النار قد أخذت منه إلى نصف الساق وإلى ركبتيه. كما اختلفوا في عدم أكل النار لمحل السجود، هل ذلك خاص بمن صلى وسجد فعلا؟ أو هو عام فيمن سجد بالفعل أو بالقوة؟ فذهب ابن أبي جمرة إلى أن من كان مسلما، ولكنه كان لا يصلي لا يخرج، إذ لا علامة له لكن يحمل على أنه يخرج في القبضة لعموم قوله: "لم يعملوا خيرا قط". وقال الحافظ ابن حجر: الأظهر العموم، ليدخل فيه من أسلم مثلا وأخلص، فبغته الموت قبل أن يسجد، والله أعلم. 5 - وقد أفاضت رواياتنا في ذكر أحوال آخر أهل النار خروجا منها، وفي آخر أهل الجنة دخولا الجنة، وفي النعيم الذي يعطاه. وقد تساءل القاضي عياض فقال: إن آخر من يخرج من النار هل هو آخر من يبقى على الصراط أو هو غيره، وإن اشترك كل منهما في أنه آخر من يدخل الجنة؟ وأشار ابن أبي جمرة إلى المغايرة بين آخر من يخرج من النار، وأنه يخرج منها بعد أن يدخلها حقيقة، وبين آخر من يخرج مارا على الصراط، فإن التعبير عنه بأنه خرج من النار بطريق المجاز، لأنه أصابه من حرها وكربها ما يشارك به بعض من دخلها. هذا وقد حكت الرواية الأولى خلافا بين أبي هريرة وبين أبي سعيد في اللفظ المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما تفضل به الله على آخر أهل الجنة دخولا الجنة. هل اللفظ "ذلك لك ومثله معه"؟ أو "عشرة أمثاله معه"؟ وقد جاء في بعض الروايات على أثر هذا الخلاف "قال أحدهما لصاحبه: حدث بما سمعت، وأحدث بما سمعت". وجمع القاضي عياض بينهما باحتمال أن يكون أبو هريرة سمع أولا قوله: "ومثله معه" فحدث به، ثم حدث النبي صلى الله عليه وسلم بالزيادة فسمعه أبو سعيد، فحدث به، وقد وقع في رواية أبي سعيد أشياء كثيرة زائدة على حديث أبي هريرة. اهـ. كما جاء في الرواية السابعة: فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها" وفي الرواية الثامنة "لك الذي تمنيت وعشرة أضعاف الدنيا" فقال النووي: هاتان الروايتان بمعنى واحد، وإحداهما تفسير للأخرى، فالمراد بالأضعاف الأمثال، فإن المختار عند أهل اللغة أن الضعف المثل. كما جمع النووي بين هاتين الروايتين، وبين قوله في الرواية الحادية عشرة: "أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت. رب. فيقول: لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله. فقال في الخامسة: رضيت. رب. فقول: "هذا لك وعشرة أمثاله" قال النووي: المراد أن أحد ملوك الدنيا

لا ينتهي ملكه إلى جميع الأرض بل يملك بعضا منها، ثم منهم من يكثر البعض الذي يملكه، ومنهم من يقل بعضه، فيعطي هذا الرجل مثل أحد ملوك الدنيا خمس مرات وذلك كله قدر الدنيا كلها ثم يقال له: لك عشرة أمثال هذا فيعود معنى الرواية إلى موافقة الروايات الأخرى. والله أعلم. وقد اعتذر الكلاباذي عن نقض هذا الرجل للعهد، فقال: كان إمساكه أولا عن السؤال حياء من ربه، والله يحب أن يسأل، لأنه يحب صوت عبده المؤمن، فيباسطه أولا بقوله: "لعلك إن أعطيتك هذا تسأل غيره" وهذه حالة المقصر، فكيف حالة المطيع؟ وليس نقض هذا العبد، وتركه ما أقسم عليه جهلا منه، ولا قلة مبالاة، بل علما منه بأن نقض هذا العهد أولى من الوفاء به، لأن سؤاله ربه أولى من ترك السؤال مراعاة للقسم، وقد قال صلى الله عليه وسلم "من حلف على يمين، فرأى خيرا منها، فليكفر عن يمينه، وليأت الذي هو خير" فعمل هذا العبد على وفق هذا الخير، والتكفير قد ارتفع عنه في الآخرة. اهـ. 6 - كما تعرضت رواياتنا للشفاعة (شفاعة النبيين عليهم السلام وشفاعة، الملائكة، وشفاعة المؤمنين) كما تعرضت الرواية السادسة عشرة إلى المقام المحمود، وسنتكلم عن هاتين النقطتين عند الكلام على الشفاعة في الحديث الآتي إن شاء الله. 7 - [ويؤخذ من الحديث]- 1 - جواز مخاطبة الشخص بما لا يدرك حقيقته. 2 - وجواز التعبير عن ذلك بما يفهمه. 3 - وأن الأمور التي في الآخرة لا تشبه ما في الدنيا إلا في الأسماء. 4 - والاستدلال على العلم الضروري بالنظري. 5 - وأن التكليف لا ينقطع إلا بالاستقرار في الجنة أو النار. 6 - وأن الصراط مع دقته وحدته يسع الكثير من الخلائق. 7 - وأن النار مع عظمها وشدتها لا تتجاوز الحد الذي أمرت بإحراقه. 8 - وفيه إشارة إلى توبيخ الطغاة والعصاة. 9 - وفيه فضل الدعاء وقوة الرجاء في إجابة الدعوة، ولو لم يكن الداعي أهلا لذلك في الظاهر. 10 - وفي قوله "ما أغدرك" إشارة إلى أن الشخص لا يوصف بالفعل الذميم إلا بعد أن يتكرر ذلك منه. 11 - وفيه جواز سؤال الشفاعة، خلافا لمن منع، محتجا بأنها لا تكون إلا لمذنب، قال القاضي عياض: كل عاقل معترف بالتقصير فيحتاج إلى طلب العفو عن تقصيره، وكذا كل عامل يخشى ألا يقبل عمله، فيحتاج إلى الشفاعة في قبوله قال: ويلزم هذا القائل ألا يدعو بالمغفرة ولا بالرحمة، وهو خلاف ما درج عليه السلف في أدعيتهم.

12 - وفيه إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة. 13 - وفيه أن جماعة من مذنبي هذه الأمة يعذبون بالنار، ثم يخرجون بالشفاعة والرحمة، خلافا لمن نفى ذلك. 14 - وأن تعذيب الموحدين بخلاف تعذيب الكفار لاختلاف مراتبهم من أخذ النار بعضهم إلى ساقه، وأنها لا تأكل أثر السجود، وأنهم يموتون، فيكون عذابهم إحراقهم وحبسهم عن دخول الجنة مع السابقين كالمسجونين، بخلاف الكفار. 15 - وفيه ما طبع عليه الآدمي من قوة الطمع وجودة الحيلة في تحصيل المطلوب. ذكر ذلك ابن أبي جمرة. 16 - وفيه أن الأنبياء يجوزون الصراط مع مؤمني أممهم. 17 - استدل به على أن الإيمان يزيد وينقص. 18 - ويستفاد منه أنه صلى الله عليه وسلم كان عارفا بأمور الدنيا بتعليم الله تعالى له، وإن لم يباشر ذلك. 19 - وتمسك به من أجاز التكليف بما يطاق من الأشاعرة، وأجاب المخالفون بأن الدعوة إلى السجود للتبكيت لا للتكليف، لأن الآخرة ليست دار تكليف ومثله من التبكيت ما قيل لهم: "ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا" قال الحافظ ابن حجر: وهي مسألة طويلة الذيل. 20 - وفيه إثبات الصراط، ومذهب أهل الحق إثباته، وقد أجمع السلف على إثباته. 21 - وكمال شفقة الرسل ورحمتهم، حيث تكون دعوتهم: يا رب سلم، سلم. 22 - وأن الدعوات تكون بحسب المواطن، فيدعي في كل موطن بما يليق به. 23 - وجواز الضحك، وأنه ليس بمكروه في بعض المواطن ولا بمسقط للمروءة إذا لم يجاوز به الحد المعتاد من أمثاله في مثل تلك الحال. 24 - وسعة فضل الله تعالى، ومحبته عباده، حتى يذكر الضعيف من المؤمنين بما يتمناه مما لا يخطر على قلب بشر. والله أعلم.

فتح المنعم شرح صحيح مسلم تابع كتاب الإيمان - كتاب الطهارة - كتاب الحيض - كتاب الصلاة الجزء الثاني الأستاذ الدكتور موسى شاهين لاشين دار الشروق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

فتح المنعم شرح صحيح مسلم 2 -

جميع حقوق النشر والطبع محفوظة الطبعة الأولى 1423 - هـ - 2002 م دار الشروق القاهرة: 8 شارع سيبويه المصري -رابعة العدوية- مدينة نصر ص. ب.: 33 البانوراما -تليفون: 4023399 - فاكس: 4037567 (202) e-mail: dar@ shorouk.com - www.shorouk.com بيروت: ص. ب.: 8064 - هاتف: 315859 - 817213 - فاكس: 315859 1 (961)

تابع كتاب الإيمان

(101) باب الشفاعة

(101) باب الشفاعة 345 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يجمع الله الناس يوم القيامة فيهتمون لذلك (وقال ابن عبيد: فيلهمون لذلك) فيقولون: لو استشفعنا على ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا قال: فيأتون آدم صلى الله عليه وسلم فيقولون: أنت آدم أبو الخلق. خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه. وأمر الملائكة فسجدوا لك. اشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا. فيقول: لست هناكم. فيذكر خطيئته التي أصاب. فيستحيي ربه منها. ولكن ائتوا نوحا. أول رسول بعثه الله. قال فيأتون نوحا صلى الله عليه وسلم. فيقول: لست هناكم. فيذكر خطيئته التي أصاب فيستحيي ربه منها. ولكن ائتوا إبراهيم صلى الله عليه وسلم الذي اتخذه الله خليلا. فيأتون إبراهيم صلى الله عليه وسلم فيقول: لست هناكم. ويذكر خطيئته التي أصاب فيستحيي ربه منها. ولكن ائتوا موسى صلى الله عليه وسلم. الذي كلمه الله وأعطاه التوراة. قال فيأتون موسى صلى الله عليه وسلم. فيقول: لست هناكم. ويذكر خطيئته التي أصاب فيستحيي ربه منها. ولكن ائتوا عيسى روح الله وكلمته. فيأتون عيسى روح الله وكلمته. فيقول: لست هناكم. ولكن ائتوا محمدا صلى الله عليه وسلم. عبدا قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر". قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فيأتوني. فأستأذن على ربي فيؤذن لي. فإذا أنا رأيته وقعت ساجدا. فيدعني ما شاء الله. فيقال: يا محمد! ارفع رأسك. قل تسمع. سل تعطه. اشفع تشفع. فأرفع رأسي. فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه ربي. ثم أشفع. فيحد لي حدا فأخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة. ثم أعود فأقع ساجدا. فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقال: ارفع رأسك يا محمد! قل تسمع. سل تعطه. اشفع تشفع. فأرفع رأسي. فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه. ثم أشفع. فيحد لي حدا فأخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة. (قال فلا أدري في الثالثة أو في الرابعة قال) فأقول: يا رب! ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن أي وجب عليه الخلود" (قال ابن عبيد في روايته: قال قتادة: أي وجب عليه الخلود).

346 - وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يجتمع المؤمنون يوم القيامة. فيهتمون بذلك (أو يلهمون ذلك) " بمثل حديث أبي عوانة. وقال في الحديث "ثم آتيه الرابعة (أو أعود الرابعة) فأقول: يا رب! ما بقي إلا من حبسه القرآن". 347 - وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال "يجمع الله المؤمنين يوم القيامة فيلهمون لذلك" بمثل حديثهما. وذكر في الرابعة "فأقول: يا رب! ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن. أي وجب عليه الخلود". 348 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة. ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن برة. ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة". 349 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث إلا أن شعبة جعل مكان الذرة ذرة قال. يزيد صحف فيها أبو بسطام. 350 - عن معبد بن هلال العنزي قال: انطلقنا إلى أنس بن مالك وتشفعنا بثابت. فانتهينا إليه وهو يصلي الضحى. فاستأذن لنا ثابت. فدخلنا عليه. وأجلس ثابتا معه على سريره. فقال له: يا أبا حمزة! إن إخوانك من أهل البصرة يسألونك أن تحدثهم حديث الشفاعة. قال: حدثنا محمد صلى الله عليه وسلم قال "إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم إلى بعض. فيأتون آدم فيقولون له: اشفع لذريتك. فيقول: لست لها. ولكن عليكم بإبراهيم عليه السلام. فإنه خليل الله. فيأتون إبراهيم. فيقول: لست لها. ولكن عليكم بموسى عليه السلام. فإنه كليم الله. فيؤتى موسى فيقول: لست لها. ولكن عليكم بعيسى عليه السلام. فإنه روح الله وكلمته. فيؤتى عيسى. فيقول: لست لها. ولكن عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم. فأوتى

فأقول: أنا لها. فأنطلق فأستأذن على ربي. فيؤذن لي. فأقوم بين يديه. فأحمده بمحامد لا أقدر عليه الآن. يلهمنيه الله. ثم أخر له ساجدا. فيقال لي: يا محمد! ارفع رأسك. وقل يسمع لك. وسل تعطه. واشفع تشفع. فأقول: رب! أمتي. أمتي. فيقال: انطلق. فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه منها. فأنطلق فأفعل. ثم أرجع إلى ربي فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا. فيقال لي: يا محمد! ارفع رأسك. وقل يسمع لك. وسل تعطه. واشفع تشفع. فأقول: أمتي. أمتي. فيقال لي: انطلق. فمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه منها. فأنطلق فأفعل. ثم أعود إلى ربي فأحمده بتلك المحامد. ثم أخر له ساجدا. فيقال لي: يا محمد! ارفع رأسك. وقل يسمع لك. وسل تعطه. واشفع تشفع. فأقول: يا رب! أمتي. أمتي. فيقال لي: انطلق. فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار. فأنطلق فأفعل". هذا حديث أنس الذي أنبأنا به. فخرجنا من عنده. فلما كنا بظهر الجبان قلنا: لو ملنا إلى الحسن فسلمنا عليه، وهو مستخف في دار أبي خليفة. قال فدخلنا عليه فسلمنا عليه. فقلنا: يا أبا سعيد! جئنا من عند أخيك أبي حمزة. فلم نسمع مثل حديث حدثناه في الشفاعة. قال: هيه! فحدثناه الحديث. فقال: هيه! قلنا: ما زادنا. قال قد حدثنا به منذ عشرين سنة وهو يومئذ جميع ولقد ترك شيئا ما أدري أنسي الشيخ أو كره أن يحدثكم فتتكلوا. قلنا له: حدثنا. فضحك وقال: خلق الإنسان من عجل. ما ذكرت لكم هذا إلا وأنا أريد أن أحدثكموه. "ثم أرجع إلى ربي في الرابعة فأحمده بتلك المحامد. ثم أخر له ساجدا. فيقال لي: يا محمد! ارفع رأسك. وقل يسمع لك. وسل تعط. واشفع تشفع. فأقول: يا رب! ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله. قال: ليس ذاك لك (أو قال ليس ذاك إليك) ولكن، وعزتي! وكبريائي! وعظمتي! وجبريائي! لأخرجن من قال: لا إله إلا الله". قال فأشهد على الحسن أنه حدثنا به أنه سمع أنس بن مالك، أراه قال قبل عشرين سنة، وهو يومئذ جميع. 351 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بلحم. فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه. فنهس منها نهسة فقال "أنا سيد الناس يوم القيامة. وهل تدرون بم ذاك؟ يجمع الله يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد. فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر. وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون. وما لا يحتملون. فيقول

بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه؟ ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: ائتوا آدم. فيأتون آدم. فيقولون: يا آدم! أنت أبو البشر. خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك. اشفع لنا إلى ربك. ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله. ولن يغضب بعده مثله. وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته. نفسي. نفسي. اذهبوا إلى غيري. اذهبوا إلى نوح. فيأتون نوحا فيقولون: يا نوح! أنت أول الرسل إلى الأرض. وسماك الله عبدا شكورا. اشفع لنا إلى ربك. ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله. وإنه قد كانت لي دعوة دعوت بها على قومي. نفسي. نفسي. اذهبوا إلى إبراهيم صلى الله عليه وسلم فيأتون إبراهيم فيقولون: أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض. اشفع لنا إلى ربك. ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم إبراهيم إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله. وذكر كذباته. نفسي. نفسي. اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى. فيأتون موسى صلى الله عليه وسلم فيقولون: يا موسى! أنت رسول الله. فضلك الله، برسالاته وبتكليمه، على الناس. اشفع لنا إلى ربك. ألا ترى إلا ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم موسى صلى الله عليه وسلم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله. وإني قتلت نفسا لم أومر بقتلها. نفسي. نفسي. اذهبوا إلى عيسى صلى الله عليه وسلم. فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى! أنت رسول الله، وكلمت الناس في المهد، وكلمة منه ألقاها إلى مريم، وروح منه. فاشفع لنا إلى ربك. ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم عيسى صلى الله عليه وسلم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله. ولم يذكر له ذنبا. نفسي. نفسي. اذهبوا إلى غيري. اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم. فيأتوني فيقولون: يا محمد! أنت رسول الله وخاتم الأنبياء. وغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. اشفع لنا إلى ربك. ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي. ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه لأحد قبلي. ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك. سل تعطه. اشفع تشفع. فأرفع رأسي فأقول: يا رب! أمتي. أمتي. فيقال: يا محمد! أدخل الجنة من أمتك، من لا حساب عليه، من الباب الأيمن من أبواب الجنة. وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب. والذي نفس محمد بيده! إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهجر. أو كما بين مكة وبصرى".

352 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وضعت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قصعة من ثريد ولحم. فتناول الذراع. وكانت أحب الشاة إليه فنهس نهسة فقال: "أنا سيد الناس يوم القيامة" ثم نهس أخرى فقال: "أنا سيد الناس يوم القيامة" فلما رأى أصحابه لا يسألونه قال: "ألا تقولون كيفه؟ " قالوا: كيفه يا رسول الله؟ قال: "يقوم الناس لرب العالمين" وساق الحديث بمثل السابق. وزاد في قصة إبراهيم فقال: وذكر قوله في الكوكب: {هذا ربي} وقوله لآلهتهم: {بل فعله كبيرهم هذا} وقوله {إني سقيم} قال: "والذي نفس محمد بيده! إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة إلى عضادتي الباب لكما بين مكة وهجر أو هجر ومكة". قال: لا أدري أي ذلك قال. 353 - عن أبي هريرة رضي الله عنه وعن حذيفة رضي الله عنه؛ قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يجمع الله تبارك وتعالى الناس. فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة. فيأتون آدم فيقولون: يا أبانا استفتح لنا الجنة. فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم! لست بصاحب ذلك. اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله. قال فيقول إبراهيم: لست بصاحب ذلك. إنما كنت خليلا من وراء وراء. اعمدوا إلى موسى صلى الله عليه وسلم الذي كلمه الله تكليما. فيأتون موسى صلى الله عليه وسلم فيقول: لست بصاحب ذلك. اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروحه. فيقول عيسى صلى الله عليه وسلم: لست بصاحب ذلك. فيأتون محمدا صلى الله عليه وسلم. فيقوم فيؤذن له. وترسل الأمانة والرحم. فتقومان جنبتي الصراط يمينا وشمالا. فيمر أولكم كالبرق" قال قلت: بأبي أنت وأمي! أي شيء كمر البرق؟ قال: "ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين؟ ثم كمر الريح. ثم كمر الطير وشد الرجال. تجري بهم أعمالهم. ونبيكم قائم على الصراط يقول: رب! سلم سلم. حتى تعجز أعمال العباد. حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفا. قال وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة. مأمورة بأخذ من أمرت به. فمخدوش ناج ومكدوس في النار". والذي نفس أبي هريرة بيده! إن قعر جهنم لسبعون خريفا. 354 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنا أول الناس يشفع في الجنة. وأنا أكثر الأنبياء تبعا".

355 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنا أكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة. وأنا أول من يقرع باب الجنة". 356 - قال أنس بن مالك رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم "أنا أول شفيع في الجنة. لم يصدق نبي من الأنبياء ما صدقت. وإن من الأنبياء نبيا ما يصدقه من أمته إلا رجل واحد". 357 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "آتي باب الجنة يوم القيامة. فأستفتح. فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد. فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك". 358 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لكل نبي دعوة يدعوها. فأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة". 359 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لكل نبي دعوة. وأردت، إن شاء الله، أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة". 336 - مثل ذلك. 360 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال لكعب الأحبار: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال "لكل نبي دعوة يدعوها. فأنا أريد، إن شاء الله، أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة". فقال كعب لأبي هريرة: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال أبو هريرة: نعم. 361 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لكل نبي دعوة مستجابة.

فتعجل كل نبي دعوته. وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة. فهي نائلة، إن شاء الله، من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا". 362 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لكل نبي دعوة مستجابة يدعو بها. فيستجاب له فيؤتاها. وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة". 363 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لكل نبي دعوة دعا بها في أمته فاستجيب له. وإني أريد، إن شاء الله، أن أؤخر دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة". 364 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "لكل نبي دعوة دعاها لأمته. وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة". 342 - بهذا الإسناد 365 - عن قتادة بهذا الإسناد غير أن في حديث وكيع قال: قال أعطي وفي حديث أبي أسامة عن النبي صلى الله عليه وسلم. 344 - عن أنس رضي الله عنه 366 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم "لكل نبي دعوة قد دعا بها في أمته. وخبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة". -[المعنى العام]- تحدثا بنعمة الله تعالى، واعترافا بفضله، وتبليغا لشريعته وتحذيرا من هول الموقف العظيم،

ليأخذ المؤمن أهبته، ويتزود من دنياه لآخرته، يحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه عن أمور الآخرة، مبرزا شفاعته للناس عامة، وللمذنبين من أمته بصفة خاصة، موضحا فضل الله على عباده، ورحمته من آمن منهم، وإكرامه لهم، وإحسانه إليهم، مبينا عظيم اهتمامه صلى الله عليه وسلم بأمته، وشديد حرصه بأمنهم، وبالغ شفقته حتى على المذنبين منهم. يقول: يحشر الله الناس يوم القيامة، يجمع الأولين والآخرين منذ آدم إلى النفخ في الصور، على أرض بيضاء نقية، ملساء مستوية لا ترى فيها عوجا ولا أمتا، ولا شجرا ولا حجرا ولا مدرا، لو أن ناظرا نظر إليهم لرآهم جميعا، ولو أن متكلما ناداهم لأسمعهم جميعا، حفاة عراة، الرجال والنساء جميعا، لكن لا ينظر بعضهم إلى بعض، ولا يفكر أحدهم في غير نفسه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه؛ الخوف من المصير يتملكهم، والشعور بالصغار وحقيقة أنفسهم يملأ قلوبهم، يقفون كما يقف الجاني في قفص الاتهام، ينتظر فصل القضاء، وتدنو الشمس من رءوسهم، وتشتد حرارتها عليهم، ويطول وقوفهم، ويسيل عرقهم، أهوال وأهوال، فوق التصور والخيال، في وقت واحد، وفي مكان واحد، وفي أرض مستوية، لكن منهم من يبلغ عرقه عقبه، ومنهم من يبلغ ساقه، ومنهم من يبلغ ركبته، ومنهم من يبلغ فخده، ومنهم من يبلغ خاصرته، ومنهم من يبلغ منكبيه، ومنهم من يبلغ فاه، ومنهم من يغطيه عرقه، لا تقل: كيف والماء على الأرض المعتدلة يغطي من عليها على السواء؟ إنها خوارق الواقعة {ليس لوقعتها كاذبة* خافضة رافعة} [الواقعة: 2 - 3] {يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد} [الحج: 2] إنه ليوم عظيم {يوم يقوم الناس لرب العالمين} [المطففين: 6] {وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون} [الحج: 47] فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون، وما لا يحتملون، يفزع بعضهم إلى بعض: ألا ترون إلى ما قد وصلنا إليه ووصل إلينا من الكرب؟ أما من نهاية لما نحن فيه من الغم؟ ألا نستشفع إلى ربنا ليريحنا من مكاننا؟ فينطلقون من الضجر والجزع إلى أبيهم آدم، ومن للإنسان عند الشدة مثل أبيه؟ فيجدونه رافعا رأسه إلى السماء يقول: يا رب سلم. سلم. يقولون: يا أبانا. يا أبا الخلق. يا أبا البشر. ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فيقول: لست لها. لست لها. لقد عصيت ربي وأنا في الفردوس، وأكلت من الشجرة التي نهاني عنها، فإن يغفر لي اليوم حسبي. نفسي نفسي. فيقولون: يا أبانا، لقد خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، ونحن ذريتك، ألا تشفع لنا اليوم عند ربك؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني أستحيي لقاء ربي من ذنبي. نفسي. نفسي، اذهبوا إلى نوح، أبيكم بعد أبيكم، أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، وسماه ربه عبدا شكورا، فيأتون نوحا. فيقولون: يا نوح. أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وإن الله اصطفاك واستجاب دعاءك، فاشفع لنا عند ربك. فيقول: لقد سألت ربي ما ليس لي به علم، وأهلكت أهل الأرض بدعوتي، وإن ربي غضب اليوم غضبا أستحيي من لقائه بمعصيتي، وإن يغفر لي اليوم حسبي. نفسي. نفسي. اذهبوا إلى إبراهيم، فهو خليل الله لعله يشفع لكم، فيأتون إبراهيم فيستشفعون به، فيقول: إني كذبت ثلاث كذبات، وأشفق على نفسي منها، وإن يغفر لي اليوم حسبي. نفسي نفسي. اذهبوا إلى موسى، كلمه

الله وأعطاه التوراة، فيأتون موسى. فيقولون: يا موسى، اصطفاك الله على الناس برسالاته وبكلامه، فاشفع لنا عند ربك ليقضي بيننا، ويريحنا من مكاننا. فيقول: إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفسا بغير نفس، ولم أومر بقتلها، فإن يغفر لي اليوم حسبي. نفسي. نفسي. اذهبوا إلى عيسى عبد الله ورسوله وكلمته وروحه، فإنه كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى، أنت رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وكلمت الناس في المهد صبيا. اشفع لنا عند ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ فيقول: إني عبدت من دون الله، واتهمت بأنني قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله. نفسي. نفسي. اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. انطلقوا إلى سيد ولد آدم. فإنه أول من تنشق عنه الأرض. فيأتون محمدا صلى الله عليه وسلم فيقول: أنا لها. أنا لها. فينطلق حتى يأتي تحت العرش. فيقف حامدا شاكرا مثنيا على ربه بثناء وتحميد يلهمه إياه، حتى إذا تجلى الله له خر ساجدا لربه، يحمده ويثني عليه بمحامد لم يحمده بها أحد من قبله، ولا يحمده بها أحد بعده، ويمكث ساجدا ما شاء الله له أن يمكث. ثم يقول له: يا محمد. فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك، والمهدي من هديت، وعبدك بين يديك وبك وإليك، تباركت وتعاليت، سبحانك لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك. فيقول له: ارفع رأسك، وسل تعطه. اشفع تشفع، فيقول: يا رب. فرق جمع الأمم إلى حيث تشاء، والطف بعبادك أهل الموقف، ويسر الحكم والقضاء. هنالك تتطاير الصحف، وتنتشر الكتب، ويعض الظالم على يديه يقول: {يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا} [الفرقان: 27] هنالك تفتح أبواب جهنم وتفسح الطرق المؤدية إليها، وينادي المنادي: من كان يعبد شيئا فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الصليب الصليب، ومن كان يعبد الشمس الشمس، ومن كان يعبد القمر القمر، ومن كان يعبد العجل العجل، ويساقون مع معبوداتهم إلى النار، يدعون إلى نار جهنم دعا. يساقون إليها زمرا، كلما ألقي فيها فوج قالت: هل من مزيد. حتى إذا ما خلا الموقف من عبدة غير الله، ولم يبق إلا عبدة الله أقيم العرض، فيمر أمام العرش كل نبي وأمته، يمر النبي ومعه الأمة، والنبي ومعه النفر، والنبي ومعه العشر، والنبي ومعه الخمسة، والنبي ومعه رجل واحد، ونبينا صلى الله عليه وسلم يومئذ أكثر الأنبياء تابعا، ثم تفتح ساحة القضاء، ويوضع الميزان، ويقوم الحساب فيقول محمد صلى الله عليه وسلم: يا رب أمتي أمتي. فيقول له: أدخل من أمتك الجنة سبعين ألفا لا حساب عليهم ولا عذاب. فيقول: يا رب زدني. فيقول: ومع كل ألف سبعون ألفا، فتمر هذه الزمرة على الصراط كالبرق، تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر، وتكون أمة محمد صلى الله عليه وسلم أول الأمم حسابا، وأولها مرورا على الصراط، ويقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصراط، وأمته تعبر تجري بهم أعمالهم ولسانه لا يفتأ يقول: يا رب سلم سلم. حتى إذا سقط من أمته في النار من سقط، ونجا من نجا، تشفع الناجون إليه أن يستفتح لهم الجنة، فيأتيها، فيأخذ حلقة بابها، فيقعقعها. فيقول الخازن: من هذا؟ فيقول: محمد. فيقول: مرحبا بمحمد. بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك، فيدخل الجنة هو والسابقون وأصحاب اليمين، وينزلون منازلهم حسب أعمالهم.

ثم يخر ساجدا لربه، يحمده ويثني عليه، فيقول له: ارفع رأسك يا محمد، وسل تعط، واشفع تشفع، فيقول: يا رب. أمتي. أمتي. فيقول له: أخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان؛ فيخرجه ويدخله الجنة، ثم يخر ساجدا لربه، ويحمده، ويثني عليه فيقول له ربه: ارفع رأسك يا محمد، وسل تعط، واشفع تشفع. فيقول: يا رب أمتي أمتي. فيقول له: أخرج من النار من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال ذرة من إيمان، فيخرجه ويدخله الجنة، ثم يخر ساجدا لربه. ويحمده، ويثني عليه. فيقول له ربه: ما تريد يا محمد؟ فيقول: يا رب. أناس من عبادك، لم يشركوا بك، ولم يعملوا خيرا قط، فشفعني فيهم. فيقول له ربه: ليس ذلك لك. فوعزتي وجلالي وعظمتي وكبريائي لأخرجنهم من النار، فيخرجهم ربهم، ثم يدخلهم الجنة. ذلك المقام المحمود الذي خص به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وذلك لواء الحمد الذي منحه الله إياه يوم القيامة، وتلك شفقته صلى الله عليه وسلم بأمته في الدنيا والآخرة. وصدق الله العظيم. حيث يقول فيه: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128]. -[المباحث العربية]- (يجمع الله الناس يوم القيامة) جمع الحشر والموقف العظيم، وفي الرواية الرابعة "يجمع الله يوم القيامة الأولين والآخرين". وفي الرواية الخامسة {يوم يقوم الناس لرب العالمين} (فيهتمون لذلك -أو- فيلهمون لذلك) قال النووي: معنى اللفظتين متقارب، فمعنى الأولى أنهم يعتنون بسؤال الشفاعة وزوال الكرب الذي هم فيه، ومعنى الثانية أن الله تعالى يلهمهم سؤال ذلك، والإلهام أن يلقي الله تعالى في النفس أمرا يحمل على فعل شيء أو تركه. اهـ وأصل الكلام: فيهتمون بطلب الشفاعة لزوال كرب الجمع، أو فيلهمون طلب الشفاعة للتحول من كرب الجمع، فالإشارة للجمع وشدائده والمهتم به والملهم سؤال الشفاعة. والأولى أن يكون معنى "فيهتمون لذلك" أي فيحزنون لذلك الجمع الشديد وأهواله، ففي القاموس: همه الأمر حزنه، فاهتم. (لو استشفعنا على ربنا) السين والتاء للطلب، أي لو طلبنا من الأنبياء الشفاعة إلى ربنا -والشفاعة انضمام الأدنى إلى الأعلى- ليستعين به على ما يرومه، وفي رواية "إلى ربنا" بتضمين "شفعنا" معنى سعينا. و"لو" للتمني، أو شرطية والجواب محذوف. (حتى يريحنا من مكاننا هذا) أي من أرض الموقف العظيم، وفي رواية "فيريحنا". (فيأتون آدم) من إسناد ما للبعض للكل. (أنت آدم أبو الخلق) وفي الرواية السابعة "يا آدم. أنت أبو البشر" وفي الرواية السادسة "يا أبانا".

(خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه) الإضافة في "بيده" وفي "من روحه" للتشريف. (اشفع لنا عند ربك) وفي الرواية الرابعة "اشفع لنا إلى ربك" وفي الرواية السادسة "أستفتح لنا الجنة" أي اطلب لنا فتح الجنة. (لست هناكم) "هناك" ظرف مكان، استعمل في ظرف الزمان، ومعناه هنا: لست في هذا المقام، أي لست أهلا في هذا الوقت. قاله بعضهم، وقال آخرون: هو مستعمل في ظرف المكان على بابه، لكنه المكان المعنوي، لا الحسي، بل يمكن حمله على الحسي، لما روي أنه صلى الله عليه وسلم يباشر السؤال تحت العرش، وبعد أن يستأذن في دخول الجنة. (فيذكر خطيئته التي أصاب فيستحيي ربه منها) يقال: استحيا منه واستحياه، لازم ومتعد، ومفعول "أصاب" عائد الموصول محذوف، والتقدير: التي أصابها، وفي الرواية الرابعة "إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة، فعصيته" وفي الرواية السادسة "فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئه أبيكم آدم"، وفي رواية "إني قد أخرجت بخطيئتي من الجنة" وفي رواية "وإني أذنبت ذنبا فأهبطت به إلى الأرض" وفي رواية "إني أخطأت وأنا في الفردوس، فإن يغفر لي اليوم حسبي". (ولكن ائتوا نوحا أول رسول بعثه الله) سيأتي الكلام في أولية بعثته في فقه الحديث، وفي رواية "أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض" وفي رواية "انطلقوا إلى أبيكم بعد أبيكم، إلى نوح. ائتوا عبدا شاكرا". (لست هناكم، ويذكر خطيئته) وفي رواية "ويذكر سؤال ربه ما ليس له به علم" وفي الرواية الرابعة "وإنه قد كانت لي دعوة دعوت بها على قومي" وفي رواية "إني دعوت بدعوة أغرقت أهل الأرض" وقد سقط من الرواية الثالثة والسادسة ذكر نوح عليه السلام. (ولكن ائتوا إبراهيم) وفي الرواية الرابعة "اذهبوا إلى إبراهيم" وفي رواية "ولكن عليكم بإبراهيم". (الذي اتخذه الله خليلا) قال القاضي عياض: أصل الخلة الاختصاص والاصطفاء، وقيل: أصلها الانقطاع إلى من خاللت، مأخوذة من الخلة، وهي الحاجة، فسمي إبراهيم صلى الله عليه وسلم بذلك، لأنه قصر حاجته على ربه -سبحانه وتعالى- وقيل: الخلة صفاء المودة التي توجب تخلل الأسرار، وقيل: معناها المحبة والألطاف. اهـ وقال ابن الأنباري: الخليل معناه المحب الكامل المحبة، والمحبوب الموفي بحقيقة المحبة أي اللذان ليس في حبهما نقص ولا خلل. اهـ

قال الواحدي: وهذا القول هو الاختيار، لأن الله عز وجل خليل إبراهيم، وإبراهيم خليل الله، ولا يجوز أن يقال: الله تعالى خليل إبراهيم، من الخلة التي هي الحاجة. والله أعلم (لست هناكم، ويذكر خطيئته) وفي رواية "إني كنت كذبت ثلاث كذبات" قوله: {إني سقيم} [الصافات: 89] وقوله: {بل فعله كبيرهم هذا} [الأنبياء: 63] وقوله لامرأته: "أخبريه أني أخوك". وذكر في الرواية الخامسة قوله في الكواكب: {هذا ربي} [الأنعام: 77] بدل الكذبة الثالثة. (فيأتون موسى فيقول) لست هناكم ويذكر خطيئته، وفي الرواية الرابعة "وإني قتلت نفسا لم أومر بقتلها" وفي رواية "إني قتلت نفسا بغير نفس". (ولكن ائتوا عيسى روح الله وكلمته)، ومعنى "روح الله" أي روح مخلوقة من الله، فالإضافة إضافة تشريف. مثل: ناقة الله وبيت الله، وقيل معناه: ليس من أب، وإنما نفخ في أمه الروح، وقيل معناه رحمة الله، ومعنى "وكلمته" أنه كان بكلمة "كن" فسمي بها، كما يقال للمطر: رحمة. والله أعلم. (لست هناكم) وفي الرواية الرابعة "ولم يذكر له ذنبا" وعند الترمذي "إني عبدت من دون الله" وعند أحمد والنسائي "إني اتخذت إلها من دون الله". (ولكن ائتوا محمدا عبدا قد غفر له) "عبدا" حال، و"قد غفر له" حال مترادفة، أو متداخلة من الضمير في "عبدا" بعد تأويله بمشتق. (فيأتوني) بحذف إحدى النونين، وهو جائز. (فإذا أنا رأيته وقعت ساجدا) وفي الرواية الرابعة "فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي" وفي رواية "فيتجلى له الرب، ولا يتجلى لشيء قبله" وفي رواية "يعرفني الله نفسه، فأسجد له سجدة يرضى بها عني" وفي رواية "فإذا رأيت ربي خررت له ساجدا شاكرا له". (فيدعني ما شاء الله) أي فيتركني ساجدا مدة يشاؤها الله، فلفظ "ما" حرف مصدري زماني، ومفعول المشيئة محذوف، وقد أبرز في بعض الروايات بلفظ "فيدعني ما شاء الله أن يدعني". (فيقال: يا محمد) حذف الفاعل القائل، ودلت عليه إحدى الروايات وفيها "فأوحى الله إلى جبريل، أن اذهب إلى محمد فقل له: ارفع رأسك" فالقائل الحقيقي هو الله تعالى على لسان جبريل. (قل تسمع. سل تعطه ... إلخ) في الرواية الثالثة بواو العطف وفيها "وقل يسمع لك" والهاء في "تعطه" للسكت. (ثم أشفع فيحد لي حدا، فأخرجهم من النار) "فيحد" بفتح الياء، وضم الحاء، أي يبين

لي في كل مرة من مرات الشفاعة حدا أقف عنده، ولا أتعداه، وقد بينت الرواية الثالثة هذه الحدود. الحد الأول: من كان في قلبه مثقال برة أو شعيرة من إيمان، الحد الثاني: من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، الحد الثالث: من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان. (فلا أدري في الثالثة أو في الرابعة. قال: فأقول يا رب، ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن) أي فلا أدري أقال في الرفعة الثالثة أو في الرفعة الرابعة، وهذا الشك من الراوي جاء بطريق الجزم أنه في الرابعة في بعض الروايات. (إلا من حبسه القرآن. أي وجب عليه الخلود) أبهم في هذه الرواية قائل "أي وجب عليه الخلود" وتبين من بعض الروايات أنه قتادة أحد رواة الحديث، والمعنى: إلا من أخبر القرآن أنه مخلد في النار، وهم الكفار. الرواية الثانية (وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة) والمعنى: ما يعدل ذرة ويساويها، والذرة بفتح الذال وتشديد الراء، واحدة الذر، وهو الحيوان المعروف الصغير من النمل، قال النووي، ثم قال: ورواه بعضهم بضم الذال وتخفيف الراء، واتفقوا على أنه تصحيف. اهـ الرواية الثالثة (وتشفعنا بثابت) البناني، وكان من خاصة أنس بن مالك، وفي رواية البخاري "فذهبنا معنا بثابت البناني إليه يسأله لنا عن حديث الشفاعة، وفيه "فقلنا لثابت: لا تسأله عن شيء أول من حديث الشفاعة". (إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم إلى بعض) "ماج الناس" أي اختلطوا، يقال: ماج البحر إذا اضطربت أمواجه. (فأحمده بمحامد لا أقدر عليه) قال النووي: هكذا هو في الأصول "لا أقدر عليه" وهو صحيح، ويعود الضمير في "عليه" إلى الحمد. (فأخرجه من النار) قال النووي: اتفقت الأصول على أنه "فأخرجه" بضميره صلى الله عليه وسلم وحده، في الانطلاق الثاني والثالث، أما الانطلاق الأول ففي بعض الأصول "فأخرجوه" على لفظ الجمع، وفي بعضها "فأخرجه" وفي أكثرها "فأخرجوا" بغير هاء، وكله صحيح، فمن رواه "فأخرجوه" يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعه من الملائكة ومن حذف الهاء فلأنها ضمير المفعول، وهو فضلة، يكثر حذفه. والله أعلم.

(فلما كنا بظهر الجبان) قال أهل اللغة: الجبان والجبانة بفتح الجيم وتشديد الباء هما الصحراء، ويسمى بهما المقابر، لأنها تكون في الصحراء، وهو من تسمية الشيء باسم موضعه، وقوله: "بظهر الجبان" أي بظاهرها وأعلاها المرتفع منها. (لو ملنا إلى الحسن) يعني لو عدلنا واتجهنا إلى الحسن البصري، وجواب "لو" محذوف، أي لكان خيرا، أو هي للعرض. (وهو مستخف) أي طالب الاختفاء من الحجاج بن يوسف، وفي رواية البخاري "قلت لبعض أصحابنا: لو مررنا بالحسن وهو متوار في منزل أبي خليفة، فحدثنا بما حدثنا به أنس بن مالك. (قال: هيه) بكسر الهاء الأولى والثانية، وبينهما ياء ساكنة، قال أهل اللغة: يقال في الاستزادة من الحديث: إيه، ويقال: هيه؛ بالهاء بدل الهمزة، اسم فعل أمر، تقول للرجل إذا استزدته من حديث أو عمل: إيه بكسر الهمزة فإن وصلت نونت، فقلت: إيه حديثا. (وهو يومئذ جميع) بفتح الجيم وكسر الميم، أي مجتمع القوة والحفظ. (وما ذكرت لكم هذا إلا وأنا أريد أن أحدثكموه ثم أرجع إلى ربي) تم الكلام عند قوله: "أحدثكموه" ثم ابتدأ تمام الحديث، فقال: "ثم أرجع" ومعناه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثم أرجع إلى ربي ... ". إلخ. (وعظمتي وجبريائي) بكسر الجيم، أي سلطاني، أو قهري. الرواية الرابعة (رفع إليه الذراع، وكانت تعجبه) لنضجها، وسرعة استمرائها مع زيادة لذتها، وحلاوة مذاقها، وبعدها عن مواضع الأذى، وفائدة وصف حالة المحدث وقت التحديث التوثيق بالرواية. (فنهس منها نهسة) أكثر الرواة رووه بالسين، ووقع في بعض الروايات بالشين وكلاهما بمعنى واحد، أي أخذ بأطراف أسنانه، وقيل: النهس الأخذ بأطراف الأسنان، والنهش بالأضراس. (أنا سيد الناس يوم القيامة) قال القاضي عياض: السيد الذي يفوق قومه، والذي يفزع إليه في الشدائد، والنبي صلى الله عليه وسلم سيدهم في الدنيا والآخرة، وإنما خص يوم القيامة لارتفاع السؤدد فيها، وتسليم جميعهم له. اهـ. (يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد) الصعيد الأرض الواسعة المستوية.

(فيسمعهم الداعي) بضم الياء وكسر الميم، و"الداعي" فاعل، أي يصل صوت الداعي إليهم جميعا بقوة ودرجة واحدة. (وينفذهم البصر) بفتح الياء وضم الفاء والذال، وروي بضم الياء يقال: نفذ البصر القوم إذا بلغهم وجاوزهم، وأنفذ البصر القوم إذا خرقهم وسرى فيهم، و "أل" في البصر للعهد. قيل: بصر الرحمن، ورد بأن بصر الرحمن ينفذ في عباده، وهو مطلع عليهم في كل وقت وفي الأرض المستوية وغير المستوية، فالأصح أن المراد بصر المخلوق، والمعنى: أنه يحيط بهم الناظر، لا يخفى عليه منهم شيء، لاستواء الأرض وعدم وجود شيء عليها يستر الناظرين، ورواه بعضهم بالدال المهملة "ينفدهم" أي يبلغ أولهم وآخرهم، حتى يراهم كلهم، ويستوعبهم. (وتدنو الشمس) من رءوس الناس، كما سيوضح في فقه الحديث. (ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ ) بفتح الغين، أي ما صل وانتهى إلينا من الكرب والشدة. قال النووي: بفتح الغين هذا هو الصحيح المعروف، وضبطه بعض الأئمة المتأخرين بفتح الباء واللام وإسكان الغين، وله وجه ولكن المختار فتح الغين، ويدل عليه قوله في أول الحديث: "ألا ترون ما قد بلغكم"؟ ولو كان بإسكان الغين لقال: بلغتم. اهـ. (إن ربي غضب اليوم) المراد من الغضب لازمه، وهو ما يظهر من انتقامه وإيصال السوء لبعض عصاته، مما يشاهده أهل الموقف من الأهوال التي لم تكن، ولا يكون مثلها، كما أن الرضى في حقه تعالى ظهور رحمته ولطفه بمن أراد به الخير والكرامة، لأن الله تعالى يستحيل في حقه التغير في الغضب والرضى. (نفسي نفسي) مبتدأ وخبر، أي نفسي هي روحي وكل ما أملك وأحرص عليه في هذا الوقت. قاله بعضهم: والأولى جعل الأولى مبتدأ محذوف الخبر، أو خبرا لمبتدأ محذوف، والثانية تأكيدا، يؤيد ذلك تكرير "نفسي" في بعض الروايات ثلاث مرات، والتقدير: نفسي هي المستحقة للشفاعة، أو المستحق للشفاعة نفسي. (ثم قال: يا محمد. ارفع رأسك) فيه التعبير بالماضي بدل المضارع لتحقق الوقوع، والأصل فيقول على لسان جبريل كما سبق بيانه. (إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة) المصراعان بكسر الميم جانبا الباب، والجار والمجرور متعلق بمحذوف حال. (كما بين مكة وهجر -أو كما بين مكة وبصرى) شك من الراوي في أي اللفظتين جاء، و"هجر" اسم مدينة ببلاد البحرين. قال الجوهري في صحاحه: "هجر" اسم بلد مذكر مصروف. وقال الزجاجي في الجمل "هجر" يذكر ويؤنث. قال النووي: و"هجر"

هذه غير "هجر" المذكورة في حديث "إذا بلغ الماء قلتين بقلال هجر" تلك قرية من قرى المدينة، كانت القلال تصنع بها، وهي غير مصروفة. اهـ. وأما "بصرى" بضم الباء فهي مدينة معروفة، وهي مدينة حوران قريبة من دمشق بالشام، وهي غير البصرة بالعراق. والهدف من التعبير المبالغة في سعة باب الجنة، لا تحديد مسافة ما بين المصراعين. الرواية الخامسة (ألا تقولون: كيفه؟ قالوا: كيفه يا رسول الله؟ ) الهاء للسكت تلحق الكلمة في الوقف، أما قول الصحابة "كيفه يا رسول الله" فقد ألحقوها مع الوصل إجراء له مجرى الوقوف، أو قصدا إلى اتباع لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، الذي حثهم عليه، فلو قالوا: كيف؟ لما كانوا سائلين عن اللفظ الذي حثهم عليه. قاله النووي. (إلى عضادتي الباب) بكسر العين. قاله الجوهري: عضادتا الباب هما خشبتاه من جانبيه. اهـ و"إلى" بمعنى نهاية الحد، أي ما بين المصراعين منتهيين إلى عضادتي الباب كما بين مكة وهجر. الرواية السادسة (فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة) "تزلف" بضم التاء وإسكان الزاي مبني للمجهول، أي تقرب لهم، كقوله تعالى: {وأزلفت الجنة للمتقين} [الشعراء: 90]. (إنما كنت خليلا من وراء وراء) قال صاحب التحرير: هذه الكلمة "وراء وراء" تذكر على سبيل التواضع، أي لست بتلك الدرجة الرفيعة، ولعل المقصود منها: أن المكارم التي أعطيتها كانت بواسطة جبريل عليه السلام، ولكن ائتوا موسى، فإنه حصل له سماع الكلام من غير واسطة، فكأن إبراهيم عليه السلام قال: أنا وراء موسى الذي هو وراء محمد صلى الله عليه وسلم عليهم أجمعين. اهـ. والمشهور في ضبط "وراء وراء" الفتح فيها بلا تنوين، فالكلمة الثانية مؤكدة، كشذر مذر، وسقطوا بين بين، فركبتا وبنيتا على الفتح، وقال أبو البقاء: الصواب الضم، لأن تفسيره من وراء ذلك، أو من وراء شيء آخر. اهـ فهما مبنيان على الضم، كقبل وبعد، وقد نقل عن الأخفش أنه يقال: لقيته من وراء؛ بالضم على الغاية، كقوله: من قبل ومن بعد، وأنشد الأخفش في ذلك قول الشاعر: إذا أنا لم أومن عليك ولم يكن لقاؤك إلا من وراء وراء (اعمدوا إلى موسى) بكسر الميم، ماضيه عمد بفتحها، أي اقصدوا واتجهوا.

(وترسل الأمانة والرحم، فتقومان جنبتي الصراط) "فتقومان" بالتاء، لأن المؤنثتين الغائبتين تكونان بالتاء، وخطأ مجيئها بالياء. و"جنبتا الصراط" بفتح الجيم والنون ومعناهما جانباه؛ وإرسال الرحم والأمانة لعظم حقهما، فتصوران مشخصتين على الصفة التي يريدها الله تعالى. وفي الكلام اختصار؛ اعتمادا على فهم السامع، وأصله: فتقومان جنبتي الصراط، لتطالبا كل من يريد المرور بحقهما. (وشد الرجال) بالجيم، جمع رجل. قال النووي: هذا هو الصحيح المعروف المشهور، ونقل عن بعضهم أنه بالحاء، قال القاضي عياض: وهما متقاربان في المعنى، وشدها جريها وعدوها البالغ. اهـ. (تجري بهم أعمالهم) هو كالتفسير لقوله: فيمر أولكم كالبرق .. إلخ ومعناه: أنهم يكونون في سرعة المرور على حسب مراتبهم وأعمالهم. (وفي حافتي الصراط) هو بتخفيف الفاء، وهما جانباه، ففي القاموس: وحافتا الوادي [بفتح الفاء مخففة] وغيره جانباه؛ والجمع حافات [بتخفيف الفاء أيضا]. (فمخدوش ناج ومكدوس في النار) ووقع في أكثر الأصول هنا "مكردس" وهو قريب من معنى المكدوس، أي المتراكم بعضه على بعض من تكدست الدواب في سيرها إذا ركب بعضها بعضا. (إن قعر جهنم لسبعون خريفا) قال النووي: هكذا هو في بعض الأصول "لسبعون" بالواو، وهذا ظاهر وفيه حذف، تقديره: إن مسافة قعر جهنم سير سبعين سنة، ووقع في معظم الأصول والروايات "لسبعين" بالياء، وهو صحيح أيضا، إما على مذهب من يحذف المضاف ويبقى المضاف إليه على جره، فيكون التقدير: سير سبعين، وإما على أن قعر جهنم مصدر، يقال: قعرت بالشيء إذا بلغت قعره، ويكون "سبعين" ظرف زمان، والتقدير: إن بلوغ قعر جهنم لكائن في سبعين خريفا، والخريف السنة. اهـ. والله أعلم. -[فقه الحديث]- يمكن حصر فقه الحديث في النقاط التالية: 1 - أرض المحشر، وأحوال الناس في الحشر. 2 - استشفاعهم بالأنبياء. 3 - أقوال العلماء في معاصي الأنبياء وذنوبهم.

4 - أنواع الشفاعة وكيفيتها، ومذاهب العلماء فيها. 5 - دعوات الأنبياء واستجابتها، وكون محمد صلى الله عليه وسلم أكثرهم تبعا. 6 - ما يؤخذ من الحديث من الأحكام. وهذا هو التفصيل: 1 - أرض المحشر، وأحوال الناس في المحشر. روى البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي (أي الدقيق النقي من الغش والنخال) قال الخطابي: يريد أنها مستوية، قال سهل: ليس فيها معلم لأحد. قال عياض: ليس فيها علامة سكنى، ولا بناء، ولا أثر، ولا شيء من العلامات التي يهتدي بها في الطرقات، كالجبل والصخرة البارزة، وروايتنا الرابعة تشير إلى هذا في قولها: "يجمع الله يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيسمعهم الداعي، وينفذهم البصر". وقد اختلف السلف في المراد بقوله تعالى {يوم تبدل الأرض غير الأرض} [إبراهيم: 48] هل معنى تبديلها تغيير ذاتها وصفاتها؟ أو تغيير صفاتها فقط؟ فعن ابن مسعود: تبدل الأرض أرضا كأنها فضة، لم يسفك فيها دم حرام ولم يعمل عليها خطيئة. وعن عكرمة قال: بلغنا أن هذه الأرض -يعني أرض الدنيا- تطوى، وإلى جنبها أخرى، يحشر الناس منها إليها. وذهب آخرون إلى أن التغيير إنما يقع في صفات الأرض دون ذاتها، ويستندون إلى ما أخرجه الحاكم عن عبد الله بن عمرو قال: إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم، وحشر الخلائق. وإلى ما جاء عن ابن عباس من قوله: يزاد فيها، وينقص منها، ويذهب آكامها وجبالها وأوديتها وشجرها، وتمد مد الأديم العكاظي. وجمع الحافظ ابن حجر بين الروايتين الأخيرتين وبين القول الأول بأن ذلك كله يقع لأرض الدنيا لكن أرض الموقف غيرها. والله أعلم. ولا يعنينا في هذا المقام أن يكون التغيير في ذات الأرض، أو في صفاتها؛ وإنما الذي يعنينا أن الأولين والآخرين من الخلائق سيجمعون في صعيد واحد يوم يقوم الناس لرب العالمين، وتدنو الشمس من الرءوس كما جاء في روايتنا الرابعة، وكما جاء عند الحاكم من حديث عقبة بن عامر رفعه "تدنو الشمس من الأرض يوم القيامة، فيعرق الناس" وعند مسلم "تدني الشمس يوم القيامة من الخلق، حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على مقدار أعمالهم في العرق" ويطول الموقف، ويشتد الكرب، حتى يقول الرجل: يا رب أرحني ولو إلى النار. 2 - الاستشفاع بالأنبياء وعندئذ يقول بعضهم لبعض: ألا تنظرون من يشفع لكم عند ربكم؟ ويتوجهون إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

وتكاد تجمع الروايات على أنهم يفزعون إلى آدم ثم إلى نوح ثم إلى إبراهيم ثم إلى موسى ثم إلى عيسى ثم إلى محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. نعم أسقط بعض الرواة نوحا عليه السلام، كما في الرواية الثالثة والسادسة، ولكن العبرة بمن ذكره صلى الله عليه وسلم. ولعل اختيار الناس هؤلاء دون غيرهم لتأهلهم لذلك المقام العظيم، قاله بعضهم، والذي يبدو من الحديث أن اختيارهم مقصور على آدم عليه السلام، أما من بعده فإن اختياره راجع إلى الأنبياء أنفسهم، كل منهم وجه إلى نبي بعده، وإنما توجه الناس إلى آدم باعتباره أبا البشر، وتوجه الإنسان في الشدائد إلى أبيه أمر طبيعي، وخصوصا إذا كان له شيء من الصفات التي تؤهله لتفريج الشدة، نلمس ذلك في قولهم: يا أبانا، أنت أبو البشر، أنت آدم أبو الخلق، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك، وأسكنك جنته، وعلمك أسماء كل شيء، اشفع لذريتك، اشفع لنا عند ربك. أما وجه اختيار آدم لنوح فقد جاءت به بعض الروايات، وفيها "انطلقوا إلى أبيكم بعد أبيكم، إلى نوح، ائتوا عبدا شاكرا"، وفي روايتنا الأولى "ولكن ائتوا نوحا، أول رسول بعثه الله" وفي رواية "بعثه الله إلى أهل الأرض". وقد استشكلت هذه الأولية بأن آدم نبي مرسل، وكذا شيث وإدريس، وهم قبل نوح، وقد نقل النووي عن بعض العلماء أجوبة عن هذا الإشكال، فقال: قال الإمام أبو عبد الله المازري: قد ذكر المؤرخون أن إدريس جد نوح عليهما السلام، فإن قام دليل على أن إدريس مرسل لم يصح قول المؤرخين إنه قبل نوح، لإخبار النبي صلى الله عليه وسلم نقلا عن آدم أن نوحا أول رسول بعث، وإن لم يقم دليل جاز ما قالوه، وصح أن يحمل أن إدريس كان نبيا غير مرسل، قال القاضي عياض: وقد قيل إن إدريس هو إلياس، وأنه كان نبيا في بني إسرائيل، كما جاء في بعض الأخبار مع يوشع بن نون، فإن كان هكذا سقط الاعتراض. قال القاضي: وبمثل هذا يسقط الاعتراض بآدم وشيث ورسالتهما إلى من معهما إن كانا رسولين فإن آدم إنما أرسل لبنيه، ولم يكونوا كفارا بل أمر بتعليمهم الإيمان وطاعة الله تعالى، وكذلك خلفه شيث بعده فيهم بخلاف رسالة نوح إلى كفار أهل الأرض. قال القاضي: وقد رأيت ابن بطال ذهب إلى أن آدم ليس برسول ليسلم من هذا الاعتراض، لكن حديث أبي ذر ينص على أن آدم وإدريس رسولان. اهـ. وأما وجه اختيار نوح لإبراهيم فهو اتخاذ الله إبراهيم خليلا كما جاء في الروايات. وأما وجه اختيار إبراهيم لموسى فلأنه كليم الله، وأعطاه التوراة وفضله على الناس برسالاته وبكلامه، كما جاء في الروايات. وأما وجه اختيار موسى لعيسى فلأنه روح الله وكلمته التي ألقاها إلى مريم، وكلم الناس وهو في المهد صبيا كما جاء في الروايات.

وأما وجه اختيار عيسى لمحمد فلأنه خاتم النبيين، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولأنه سيد ولد آدم، وأول من تنشق عنه الأرض، كما جاء في الروايات الأخرى. وقال الحافظ ابن حجر: وقد قيل: إنما اختص المذكورون بذلك لمزايا أخرى، لا تتعلق بالتفضيل، فآدم لكونه والد الجميع، ونوح لكونه الأب الثاني، وإبراهيم للأمر باتباع ملته، وموسى لأنه أكثر الأنبياء تبعا، وعيسى لأنه أولى الناس بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قال: ويحتمل أن يكونوا اختصوا بذلك لأنهم أصحاب شرائع، عمل بها أتباعهم فيما بين كل واحد منهم والذي بعده. اهـ. قال النووي: والحكمة في أن الله تعالى ألهم الناس سؤال آدم ومن بعده صلوات الله وسلامه عليهم، ولم يلهمهم سؤال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ابتداء هي -والله أعلم- إظهار فضيلة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم لو سألوه ابتداء لكان يحتمل أن غيره يقدر على هذا ويحصله، وأما إذا سألوا غيره من رسل الله تعالى وأصفيائه، فامتنعوا، ثم سألوه فأجاب، وحصل غرضهم، فهو النهاية في ارتفاع المنزلة وكمال القرب وعظيم الإدلال والأنس. اهـ. وهل كان الأنبياء يعلمون صاحب الشفاعة الحقيقي حين أحال كل منهم على الآخر؟ أو لم يكونوا يعلمون؟ أجاب عن ذلك القاضي عياض فقال: قال كل منهم: لست هناكم، أو لست لها، تواضعا، وإكبارا لما يسألونه، وقد تكون إشارة من كل واحد منهم إلى أن هذه الشفاعة وهذا المقام ليس له بل لغيره، وكل واحد منهم يدل على الآخر، حتى انتهى الأمر إلى صاحبه، قال: ويحتمل أنهم علموا أن صاحبها محمد صلى الله عليه وسلم على التعيين وتكون إحالة كل منهم على الآخر لغرض تدريج الشفاعة في ذلك إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قال: وأما مبادرة النبي صلى الله عليه وسلم لذلك وإجابته لدعوتهم فلتحققه صلى الله عليه وسلم أن هذه الكرامة وهذا المقام له صلى الله عليه وسلم خاصة. اهـ. وقد تعرض الحافظ ابن حجر للذين يطلبون الشفاعة من محمد صلى الله عليه وسلم، فساق رواية للنضر بن أنس عن أبيه قال: حدثني نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني لقائم أنتظر أمتي تعبر الصراط إذ جاء عيسى فقال: يا محمد، هذه الأنبياء قد جاءتك يسألونك لتدعو الله أن يفرق جمع الأمم إلى حيث يشاء، لغم ما هم فيه" قال: فأفادت هذه الرواية تعيين موقف النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ، وأن هذا الذي وصف من كلام أهل الموقف يقع عند نصب الصراط، وأن عيسى عليه السلام هو الذي يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الأنبياء جميعا يسألونه في ذلك. اهـ. وليس في هذا ما يمنع من أن وفود الأمم تتوجه مع الأنبياء إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخذا بظاهر قوله في أكثر الروايات: "فيأتوني" بعد قوله: "فيأتون عيسى". والله أعلم. 3 - أقوال العلماء في معاصي الأنبياء وذنوبهم وقد اعتذر كل نبي قبل محمد [صلى الله وسلم عليهم جميعا] بانشغاله بنفسه ذاكرا معصيته. فآدم يذكر أنه أكل من الشجرة، وقد نهي عنها، ففي بعض الروايات "إني قد أخرجت بخطيئتي من الجنة" وفي بعضها "وإني أذنبت ذنبا فأهبطت به إلى الأرض" وفي بعضها "هل أخرجكم من

الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم"، وفي بعضها "إني أخطأت وأنا في الفردوس، فإن يغفر لي اليوم حسبي" وفي بعضها "إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني من الشجرة فعصيت. نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري". ونوح يذكر أنه دعا على قومه بالهلاك، ففي بعض الروايات "إني دعوت بدعوة أغرقت أهل الأرض" وفي رواية "ويذكر سؤال ربه ما ليس له به علم". وإبراهيم يذكر كذباته الثلاث، ففي بعض الروايات "إني كنت كذبت ثلاث كذبات" زاد في بعضها قوله: "إني سقيم" وقوله: "بل فعله كبيرهم هذا" وقوله لامرأته: "أخبريه أني أخوك"، وذكرت بعض الروايات بدل الأخيرة قوله في الكوكب: "هذا ربي". قال صلى الله عليه وسلم: "ما منها كذبة إلا ما حل بها عن دين الله" أي إلا جادل بها عن دين الله. وقال البيضاوي: الحق أن الكلمات الثلاث إنما كانت من معاريض الكلام، لكن لما كانت صورتها صورة الكذب أشفق منها استصغارا لنفسه عن الشفاعة. وموسى يذكر أنه قتل نفسا بغير نفس ومن غير أن يؤمر بقتلها. وعيسى يذكر أنه عبد من دون الله، ففي بعض الروايات "إني اتخذت إلها من دون الله، وإن يغفر لي اليوم حسبي". أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد وصف بأنه قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر مما يوحي بأنه أذنب كإخوانه الأنبياء. ومن هنا نشأ إشكال حاصله: إذا كانت مغفرة الذنب تؤهل صاحبها للشفاعة، فلم لا يؤهل موسى لذلك، مع أنه قد غفر له بنص القرآن؟ قال تعالى: {فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين* قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم} [القصص: 15 - 16] ولم أشفق موسى من المؤاخذة؟ . أجاب الحافظ ابن حجر، واختار أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يقع منه ذنب، وقال: يؤخذ من هذا التفرقة بين من وقع منه شيء، ومن لم يقع منه شيء أصلا، فإن موسى عليه السلام مع وقوع المغفرة له لم يرتفع إشفاقه من المؤاخذة بذلك، ورأى في نفسه تقصيرا عن مقام الشفاعة، مع وجود ما صدر منه، بخلاف نبينا صلى الله عليه وسلم في ذلك كله، ومن ثم احتج عيسى بأنه صاحب الشفاعة، لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، بمعنى أن الله أخبر أنه لا يؤاخذ بذنب لو وقع منه. اهـ. وقد أطال المفسرون في المراد من قوله تعالى: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} [الفتح: 2]. فقال بعضهم: المتقدم ما قبل النبوة، والمتأخر العصمة، وقيل: ما وقع من سهو أو تأويل. وقيل: المتقدم ذنب آدم، والمتأخر ذنب أمته. وقيل: المعنى أنه مغفور له غير مؤاخذ لو وقع، وقيل: المراد به

ذنوب أمته. قال النووي: فعلى هذا يكون المراد الغفران لبعضهم، أو سلامتهم من الخلود في النار، وقيل: هو تنزيه له من الذنوب، وقيل: غير ذلك. والله أعلم. وقد استدل بهذا الحديث من جواز الخطايا على الأنبياء، وأجاب القاضي عياض عن أصل المسألة فقال: لا خلاف في عصمتهم من الكفر بعد النبوة وكذا ما قبلها على الصحيح. وكذا القول في الكبيرة، ويلتحق بها ما يزري بفاعله من الصغائر. وكذا القول في كل ما يقدح في الإبلاغ من جهة القول. واختلفوا في الفعل، فمنعه بعضهم حتى في النسيان، وأجاز الجمهور السهو لكن لا يحصل التمادي. واختلفوا فيما عدا ذلك كله من الصغائر، فذهب جماعة من أهل النظر إلى عصمتهم منها مطلقا، وأولوا الحديث والآيات الواردة في ذلك بضروب من التأويل؛ ومن جملة ذلك أن الصادر عنهم إما أن يكون بتأويل من بعضهم، أو بسهو، أو بإذن، لكن خشوا ألا يكون ذلك موافقا لمقامهم فأشفقوا من المؤاخذة أو المعاتبة، قال: وهذا أرجح المقالات، ليس هو مذهب المعتزلة -وإن قالوا بعصمتهم مطلقا- لأن منزعهم في ذلك هو التكفير بالذنوب مطلقا، ولا يجوز على النبي الكفر، ومنزعنا أن أمة النبي مأمورة بالاقتداء به في أفعاله، فلو جاز منه وقوع المعصية للزم الأمر بالشيء الواحد والنهي عنه في حالة واحدة، وهو باطل، ثم قال: وجميع ما ذكر في حديث الباب لا يخرج عما قلناه، لأن أكل آدم من الشجرة كان عن سهو، وطلب نوح نجاة ولده كان عن تأويل، ومقالات إبراهيم كانت معاريض، وأراد بها الخير، وقتيل موسى كان كافرا. اهـ. والله أعلم. 4 - أنواع الشفاعة وكيفيتها ومذاهب العلماء فيها. أما أنواع الشفاعة فقد قال النووي تبعا للقاضي عياض: الشفاعة خمس: أ- في الإراحة من هول الموقف. ب- وفي إدخال قوم الجنة بغير حساب. جـ- وفي إدخال قوم حوسبوا، فاستحقوا العذاب ألا يعذبوا. د- وفي إخراج من أدخل النار من العصاة. هـ- وفي رفع الدرجات، وزاد القاضي عياض: شفاعته صلى الله عليه وسلم للتخفيف عن أبي طالب في العذاب. وزاد القرطبي: إنه أول شافع في دخول أمته الجنة قبل الناس. وسنتناول كل واحدة بشيء من التفصيل، وبالله التوفيق. الشفاعة العظمى للإراحة من هول الموقف: ودليلها ما جاء في الرواية الأولى، والثالثة،

والرابعة، والخامسة، والسادسة، من توجه الناس إلى آدم ثم إلى نوح، ثم إلى إبراهيم، ثم إلى موسى ثم إلى عيسى، ثم إلى محمد (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) وصاحب هذه الشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيها أحد من الملائكة ولا من الأنبياء، وكيفيتها طبقا لما جاء في الروايات الصحيحة: أن ينطلق صلى الله عليه وسلم، فيأتي تحت العرش، فيقع ساجدا، يثني ويحمد حتى يقال له: ارفع رأسك. ففي الرواية الأولى "فيأتوني، فأستأذن على ربي، فيؤذن لي فإذا أنا رأيته وقعت ساجدا، فيدعني ما شاء الله. فيقال: يا محمد ارفع رأسك ... " وقريب من هذا في الرواية الثالثة، وفيها من الزيادة "فأقوم بين يديه، فأحمده بمحامد لا أقدر عليه الآن يلهمنيه الله" وفي الرواية الرابعة "فأنطلق، فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي. ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه لأحد قبلي". وكأنه صلى الله عليه وسلم يلهم التحميد والثناء قبل السجود وفي أثنائه وبعده عندما يرفع رأسه. وقد روى النسائي بعض هذه المحامد من حديث حذيفة رفعه "فيقال: يا محمد. فأقول: لبيك وسعديك، والخير في يديك، والمهدي من هديت، وعبدك بين يديك، وبك وإليك، تباركت وتعاليت، سبحانك لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك. سبحانك رب البيت". فيقال: ارفع رأسك يا محمد وسل تعط واشفع تشفع. فيطلب من ربه أن يفرق جمع الأمم إلى حيث يشاء. فينادي المنادي: ألا فلتتبع كل أمة ما كانت تعبد في الدنيا، فيساق المشركون إلى النار، ويبقى في الموقف من كان يعبد الله فيوضع الميزان وتتطاير الصحف، ويقوم العرض والحساب وينصب الصراط. وهذا النوع من الشفاعة ثابت بإجماع الأمة: أهل السنة منها والمعتزلة والخوارج. وغيرهم. أما النوع الثاني وهو إدخال قوم الجنة بغير حساب: فدليله ما رواه أبو هريرة في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سألت ربي فوعدني أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا بغير حساب. فاستزدت ربي فزادني مع كل ألف سبعين ألفا" وأخرج الترمذي وحسنه، والطبراني وابن حبان في صحيحه. من حديث أبي أمامة رفعه "وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا مع كل ألف سبعون ألفا. لا حساب عليهم ولا عذاب. وثلاث حثيات من حثيات ربي" وقوله في الرواية الرابعة "فأقول: يا رب أمتي. أمتي. فيقال: يا محمد. ادخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة. وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب". وهذا النوع وإن سلم به المعتزلة والخوارج لكنهم اشترطوا ألا يكون فيهم مرتكب كبيرة لم يتب منها؛ لأن أصحاب الكبائر عندهم لا يدخلون الجنة إن لم يتوبوا.

أما النوع الثالث وهو الشفاعة في قوم حوسبوا، فاستحقوا العذاب ألا يعذبوا: فإن دليله قوله صلى الله عليه وسلم "ونبيكم على الصراط يقول: رب سلم سلم". وهذه الشفاعة ليست خاصة به صلى الله عليه وسلم فقد سبق في شرح الحديث الماضي أن الأنبياء كذلك يقفون على الصراط يقولون "يا رب سلم سلم". وهذا النوع ينكره المعتزلة والخوارج، لأن مستحق العذاب عندهم لا بد أن يعذب. وأما النوع الرابع وهو الشفاعة فيمن دخل النار أن يخرج منها: فإن دليله ما جاء في الرواية الأولى، والثانية، والثالثة من شفاعته صلى الله عليه وسلم في المذنبين، وإخراجه من النار من كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان، ثم من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، ثم من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان. وما جاء في الحديث الذي سبق شرحه من شفاعة المؤمنين لإخوانهم الذين دخلوا النار، فيخرجون خلقا كثيرا قد عادوا حمما فيلقيهم الله في نهر الحياة .. إلخ. وهذا النوع من الشفاعة ليس خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم وتنكره الخوارج والمعتزلة أشد الإنكار، وتمسكوا بقوله تعالى: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} [المدثر: 48] وأجاب أهل السنة بأنها في الكفار، وخصوصا أن الأحاديث في إثبات الشفاعة المحمدية متواترة، قاله في الفتح. وأما النوع الخامس فهو الشفاعة في رفع الدرجات: بأن يشفع لمن لم يبلغ عمله درجة عالية أن يبلغها بشفاعته، وقد أشار النووي في الروضة إلى أن هذه الشفاعة من خصائصه صلى الله عليه وسلم، لكن الظاهر أنه يشاركه فيها صالحو المؤمنين، وإلى ذلك يشير قوله تعالى: {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء} [الطور: 21] قاله كثير من المفسرين. قال القاضي عياض: أثبتت المعتزلة الشفاعة العامة في الإراحة من كرب الموقف، والشفاعة في رفع الدرجات، وأنكرت ما عداهما. اهـ. أما شفاعته صلى الله عليه وسلم في دخول أمته الجنة قبل الناس: فلها شواهد كثيرة، ففي الرواية السابعة "أنا أول الناس يشفع في الجنة" وفي الثامنة "أنا أول من يقرع باب الجنة" وفي العاشرة "آتي باب الجنة يوم القيامة، فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد. فيقول: بك أمرت. لا أفتح لأحد قبلك" وعن الترمذي "فآخذ حلقة باب الجنة، فأقعقعها، فيقال: من هذا؟ فأقول: محمد، فيفتحون لي، ويرحبون، فأخر ساجدا". نعم أخرج أحمد والنسائي والحاكم، قال: "يشفع نبيكم رابع أربعة جبريل، ثم إبراهيم ثم موسى أو عيسى، ثم نبيكم" لكنه مردود إذ لم يصرح برفعه، وقد ضعفه البخاري، وقال: المشهور قوله صلى الله عليه وسلم "أنا أول شافع" والله أعلم.

من هذا العرض لأنواع الشفاعة يتضح أن رواياتنا الأولى والثالثة والرابعة، كل منها فيها سقط وحذف كبير، كأن الراوي في كل منها ركب شيئا على غير أصله. وذلك أن أول الحديث ذكر الشفاعة في الإراحة من كرب الموقف، وفي آخره ذكر الشفاعة في الإخراج من النار، ولعل الرواية السادسة توضح هذا السقط، إذ فيها "فيأتون محمدا صلى الله عليه وسلم، فيقوم فيؤذن له (أي ويشفع للخلائق من هول الموقف، فينصرف إلى النار من ينصرف ويتم العرض والحساب، وينصب الصراط) وترسل الأمانة والرحم، فتقومان جنبي الصراط، يمينا وشمالا، فيمر أولكم كالبرق" الحديث، فبهذا يتصل الكلام، وتجتمع متون الأحاديث، لأن الشفاعة التي لجأ الناس إليها فيها هي الإراحة من كرب الموقف، وبعدها يجري من أمور القضاء بين العباد ما يجرى، ثم يمر المؤمنون على الصراط، ويسقط في النار من يسقط، ثم تحل الشفاعة في إخراج العصاة من النار. فكأن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر، وفي هذا الإشكال يقول الداودي عن رواياتنا: لا أراه محفوظا، لأن الخلائق اجتمعوا واستشفعوا، ولو كان المراد هذه الأمة خاصة لم تذهب إلى غير نبيها، فدل على أن المراد الجميع، وإذا كانت الشفاعة لهم في فصل القضاء، فكيف يخصها بقوله: أمتي أمتي" ثم قال: وأول هذا الحديث ليس متصلا بآخره، بل بقي بين طلبهم الشفاعة وبين قوله: "أمتي، أمتي" أمور كثيرة من أمور القيامة. اهـ. ومن هذا العرض لأنواع الشفاعة نستطيع فهم المراد من المقام المحمود الذي ورد في الرواية السادسة عشرة من الحديث الذي سبق أن شرحناه، والذي يقول الله تعالى فيه: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} [الإسراء: 79]. قال ابن بطال: الجمهور على أن المراد به الشفاعة، وبالغ الواحدي فنقل فيه الإجماع. وقال الطبري: قال أكثر أهل التأويل: المقام المحمود هو الذي يقومه النبي صلى الله عليه وسلم ليريحهم من كرب الموقف، ثم ساق عدة أحاديث في ذلك منها ما روي عن أبي هريرة في قوله تعالى: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا}. قال: سئل عنها صلى الله عليه وسلم. فقال: "هي الشفاعة" ومن حديث كعب بن مالك رفعه "أكون أنا وأمتي على تل، فيكسوني ربي حلة خضراء ثم يؤذن لي، فأقول ما شاء الله أن أقول، فذلك المقام المحمود" ومن حديث ابن مسعود رفعه "إني لأقوم يوم القيامة المقام المحمود إذا جيء بكم حفاة عراة"، وفيه "ثم يكسوني ربي حلة، فألبسها فأقوم عن يمين العرش مقاما لا يقومه أحد؛ يغبطني به الأولون والآخرون". قال الحافظ ابن حجر: والراجح أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة لكن الشفاعة التي وردت في المقام المحمود نوعان: الأول: العامة في فصل القضاء، والثاني: الشفاعة في إخراج المذنبين من النار. اهـ. وظاهر كثير من الأحاديث تؤيد النوع الأول، والرواية السادسة عشرة من الحديث السابق تؤيد النوع الثاني إذ فيها "فإنه مقام محمد صلى الله عليه وسلم المحمود الذي يخرج الله به من يخرج". وقيل: المقام المحمود أن يجلسه الله معه على عرشه يوم القيامة، وقيل: إعطاؤه لواء الحمد يوم القيامة، وقيل: وقوفه بين الله وبين جبريل يوم القيامة مما يغبطه بمقامه ذلك أهل الجمع، وقيل: هو ثناؤه على ربه.

قال الحافظ ابن حجر بعد أن ذكر هذه الأقوال: ويمكن رد الأقوال كلها إلى الشفاعة، فإن إعطاءه لواء الحمد، وثناءه على ربه وكلامه بين يديه، وجلوسه على كرسيه، وقيامه أقرب من جبريل، كل ذلك صفات للمقام المحمود، والذي يشفع فيه ليقضي بين الخلق، أما شفاعته في إخراج المذنبين من النار فمن توابع ذلك. والله أعلم. 5 - دعوات الأنبياء واستجابتها، وكون محمد أكثرهم تابعا. وقد تعرضت الرواية الحادية عشرة والثانية عشرة والثالثة عشرة والرابعة عشرة إلى دعوات الأنبياء، وأن لكل نبي دعوة مستجابة وقد استشكل هذا بما وقع لكثير من الأنبياء حيث استجيبت لهم دعوات كثيرة، ولاسيما نبينا صلى الله عليه وسلم، وظاهره: أن لكل نبي دعوة واحدة مستجابة فقط، وأجيب عن هذا الإشكال: بأن المراد بالإجابة في الدعوة المذكورة القطع بها وما عدا ذلك من دعواتهم فهو محل رجاء الإجابة، وقيل: معنى قوله "لكل نبي دعوة" أي أفضل دعواته. ولهم دعوات أخرى، وقيل: لكل منهم دعوة عامة مستجابة في أمته، إما بإهلاكهم، وإما بنجاتهم، أما الدعوات الخاصة فمنها ما يستجاب، ومنها ما لا يستجاب، وقيل: لكل منهم دعوة تخصه، لدنياه أو لنفسه، كقول نوح: {لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا} [نوح: 26] وقول زكريا: {فهب لي من لدنك وليا} [مريم: 5] وقول سليمان {وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي} [ص: 35]. وقال بعضهم: اعلم أن جميع دعوات الأنبياء مستجابة، والمراد بهذا الحديث أن كل نبي دعا على أمته بالإهلاك، إلا أنا فلم أدع، فأعطيت الشفاعة عوضا عن ذلك الصبر على أذاهم، والمراد أمة الدعوة، لا أمة الإجابة، وتعقبه الطيبي بأنه صلى الله عليه وسلم دعا على أحياء من العرب، ودعا على أناس من قريش بأسمائهم، ودعا على رعل وذكوان، ودعا على مضر، قال: والأولى أن يقال: إن الله جعل لكل نبي دعوة تستجاب في حق أمته، فنالها كل منهم في الدنيا. أما نبينا فإنه لما دعا على بعض أمته نزل عليه: {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم} [آل عمران: 128] فبقيت تلك الدعوة المستجابة مدخرة للآخرة. وغالب من دعا عليهم لم يرد إهلاكهم، وإنما أراد ردعهم ليتوبوا قال: وأما جزمه أولا بأن جميع أدعيتهم مستجابة ففيه غفلة عن الحديث الصحيح "سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة" الحديث. كما تعرضت الروايات السابعة والثامنة والتاسعة إلى أن محمدا صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء تابعا، ولا خلاف في ذلك، ففي البخاري عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "عرضت علي الأمم، فأجد النبي يمر معه الأمة، والنبي يمر معه النفر، والنبي يمر معه العشرة، والنبي يمر معه الخمسة، والنبي يمر وحده، فنظرت فإذا سواد كثير، قلت: يا جبريل، هؤلاء أمتي؟ قال: لا. ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت، فإذا سواد كثير، قال: هؤلاء أمتك، وهؤلاء سبعون ألفا قدامهم لا حساب عليهم ولا عذاب" وفيه عن عبد الله بن مسعود قال "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في قبة، فقال: أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قلنا: نعم. قال: أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة. قلنا: نعم. قال: أترضون أن تكونوا شطر أهل الجنة"

وفي رواية "بل أرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنة" ثم قال: "إن مثلكم في الأمم كمثل الشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود". وسيأتي مثله بعد عدة أحاديث إن شاء الله. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - من قوله: "فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون وما لا يحتملون" شدة هول الموقف. 2 - وأخذ الناس بمبدأ الاستشارة فيما بينهم عند حدوث الخطب. 3 - وأن الناس يوم القيامة يستصحبون حالهم في الدنيا من التوسل إلى الله تعالى في حوائجهم بأنبيائهم، والباعث على ذلك الإلهام. 4 - ويؤخذ من قولهم "أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك. ونحو ذلك للأنبياء" أن من طلب من كبير أمرا مهما، ينبغي أن يقدم بين يدي سؤاله وصف المسئول بأحسن صفاته وأشرف مزاياه، ليكون ذلك أدعى للإجابة. 5 - وتقديم ذوي الأسنان، والآباء على الأبناء في الأمور التي لها بال. 6 - وتواضع الأنبياء وإكبارهم الشفاعة وإشفاقهم على أنفسهم في الموقف العظيم. 7 - وأن المسئول إذا لم يقدر على تحصيل ما سئل ينبغي أن يعتذر بما يقبل منه. 8 - وأن يدل على من يظن أنه يقوم بالمهمة، فالدال على الخير كفاعله. 9 - وأن يثنى على المدلول عليه بأوصافه المقتضية لأهليته، ليكون أدعى في قبول عذره في الامتناع. 10 - قال القاضي عياض: استدل بالحديث من جوز الخطايا على الأنبياء وقد بحث هذا الاستدلال بالتفصيل في النقطة الثالثة من الشرح. 11 - جواز إطلاق الغضب على الله مرادا به اللازم. 12 - وفضيلة من ذكر من الأنبياء (آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام). 13 - تفضيل محمد صلى الله عليه وسلم على جميع المخلوقين من الرسل والملائكة، فإن هذا الأمر العظيم، وهو الشفاعة العظمى لا يقدر على الإقدام عليه غيره. 14 - وكمال شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته, ورأفته بهم، وعنايته بالنظر في مصالحهم المهمة، فأخر دعوته لأمته إلى أهم أوقات حاجاتهم. 15 - ويؤخذ من قوله: "أنا سيد الناس يوم القيامة" مشروعية التحدث بنعمة الله. 16 - وأنه يغطي على الناس يوم القيامة بعض ما عملوه في الدنيا، لأن في السائلين من سمع هذا الحديث، ومع ذلك لم يستحضر أحد منهم أن ذلك المقام يختص به نبينا صلى الله عليه وسلم، إذ لو استحضروا ذلك لسألوه من أول وهلة، ولما احتاجوا إلي التردد من نبي إلى نبي، ولعل الله أنساهم ذلك للحكمة التي تترتب عليه من إظهار فضل نبينا صلى الله عليه وسلم.

17 - ومزيد اهتمام الشرع بالأمانة والرحم. 18 - وإثبات الشفاعة العظمى. 19 - والشفاعة لإخراج عصاة المؤمنين من النار. 20 - ويؤخذ من قوله: "فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا" التبرك بالمشيئة والامتثال لقوله تعالى: {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله} [الكهف: 23 - 24]. 21 - وفيه دلالة لمذهب أهل الحق أن كل من مات غير مشرك بالله تعالى لا يخلد في النار، وإن كان مصرا على الكبائر. 22 - واستدل الغزالي بقوله: "من كان في قلبه" على نجاة من أيقن بذلك وحال بينه وبين النطق به الموت، وظاهر الحديث يؤيده، والمخالفون يؤولون، ويقدرون محذوفا، أي من كان في قلبه منضما إلى النطق به مع القدرة، جمعا بين الأدلة. 23 - ويؤخذ من قوله: "مثقال برة، ومثقال حبة خردل وأدنى من ذلك" الدلالة لمذهب السلف وأهل السنة ومن وافقهم من المتكلمين في أن الإيمان ينقص ويزيد. 24 - ويؤخذ من وصف مصراعي باب الجنة سعة أبواب الجنة. 25 - ومن وصف قعر جهنم عمق النار وهولها. 26 - ويؤخذ من قوله "فأنطلق، فآتي تحت العرش، فأقع ساجدا" استحباب أن يتحرى العبد للدعاء المكان الشريف، لأن الدعاء فيه أقرب للإجابة. 27 - وأن ناسا من الأمة الإسلامية يدخلون الجنة بغير حساب. 28 - وأن محمدا صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء تابعا. 29 - وأن محمدا صلى الله عليه وسلم أول من يفتح له باب الجنة. 30 - ويؤخذ من الرواية الثالثة تقديم الرجل الذي هو من خاصة العالم ليسأله، فقد قدموا ثابت البناني لأنه من خواص أنس. 31 - وأنه ينبغي للعالم وكبير المجلس أن يكرم فضلاء الداخلين عليه، ويميزهم بمزيد إكرام في المجلس وغيره. 32 - ويؤخذ من ضحك الحسن أنه لا بأس بضحك العالم بحضرة أصحابه، إذا كان بينه وبينهم أنس، ولم يخرج بضحكه إلى حد يعد تركا للمروءة. 33 - ومن قوله: {خلق الإنسان من عجل} [الأنبياء: 37] جواز الاستشهاد بالقرآن في مثل هذا الموطن، من غير أن يسند إلى الله تعالى. والله تعالى أعلم

(102) باب شفقة الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته

(102) باب شفقة الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته 367 - عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم {رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني} [إبراهيم: 36] الآية. وقال عيسى عليه السلام: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} [المائدة: 118] فرفع يديه وقال "اللهم! أمتي أمتي" وبكى. فقال الله عز وجل: يا جبريل! اذهب إلى محمد، وربك أعلم، فسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه السلام فسأله. فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال. وهو أعلم. فقال الله: يا جبريل! اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك. -[المعنى العام]- اصطفى الله أنبياءه من بين أممهم، وغرس في قلوبهم الرأفة والرحمة وحب الخير لمن بعثوا فيهم، وأعلاهم درجة في هذا الشأن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لقد أوذي من أهل الطائف، وأغروا به سفهاءهم يتبعونه ويقذفونه بالحجارة حتى أدموا قدميه، ونزل عليه جبريل يقول: لو شئت أطبقت عليهم الأخشبين. فقال: إني لأرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله. اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون. قال له جبريل: صدق من سماك الرءوف الرحيم؛ وفي هذا الحديث مثل رائع من شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته، وحرصه على أن تكون خير الأمم، لقد قرأ قول إبراهيم عليه السلام: {فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم} [إبراهيم: 36] وقول عيسى عليه السلام: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} [المائدة: 118] كل منهما يطلب المغفرة لأمته، فماذا عساه يفعل، وهو أكثر منهما شفقة، وأكبر منهما حرصا؟ لقد قرأ الآيتين في ليلة، وهو يبكي، ويتضرع إلى الله، ويرفع يديه إلى السماء ويقول: يا رب. أمتي. أمتي، ويسمع الله نداءه -وهو أعلم به وبما يرجوه- فيقول: يا جبريل، اذهب إلى محمد فقل له: ما يبكيك؟ وماذا تطلب من ربك؟ فسأله جبريل، فقال: أسأل الله أن يشفعني في أمتي، وأن يغفر لهم. فعاد جبريل بما سمع من محمد صلى الله عليه وسلم. فقال الله له: ارجع إلى محمد فقل له: إننا سنرضيك في أمتك، ولن نسوؤك فيها أبدا صلى الله عليه وسلم، وآتاه الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود.

-[المباحث العربية]- (تلا قول الله في إبراهيم) في القاموس: تلوت القرآن قرأته. اهـ. فالقارئ يتبع الكلام بعضه بعضا، و"في إبراهيم" فيها مضاف محذوف أي في سورة إبراهيم أو في مقالة إبراهيم. {رب إنهن أضللن كثيرا من الناس} الضمير يرجع إلى الأصنام في قوله: {واجنبني وبني أن نعبد الأصنام} ولما أسند إليها ما يسند إلى العقلاء ذكرها بضمير العاقلات فقال: إنهن، ونسبة الإضلال إليها مجازية، أي تسببن في الضلال. {فمن تبعني فإنه مني} الكلام على حذف مضاف، أي فمن تبع دعوتي فإنه من أمتي الناجين، وقيل: المعنى فإنه كبعضي في عدم الانفكاك. {ومن عصاني} فيما جئت به عن ربي، أي لم يتبعني. {فإنك غفور رحيم} دليل جواب الشرط المحذوف، والمذكور تعليل له، أي ومن عصاني فلا أدعو عليه، لأنك غفور رحيم. (وقال عيسى عليه السلام) قال النووي: هكذا هو في الأصول "وقال عيسى" قال القاضي عياض: قال بعضهم. قوله: "قال" هو اسم للقول لا فعل، يقال: قال قولا وقالا وقيلا، كأنه قال: وتلا قول عيسى. هذا كلام القاضي عياض. اهـ. {إن تعذبهم فإنهم عبادك} قيل: جواب الشرط محذوف، والتقدير: إن تعذبهم فإنهم يستحقون ذلك، لأنهم عبادك وقد عبدوا غيرك. (اذهب إلى محمد -وربك أعلم- فسله) جملة "وربك أعلم"، جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه، والمفضل عليه محمد وغيره، أي أعلم بما يبكيه من نفسه ومن غيره. (فأخبره رسول الله بما قال -وهو أعلم- فقال الله) في الكلام حذف، وأصله. فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال، فأخبر جبريل ربه -وهو أعلم- فقال الله .. إلخ. فضمير "هو أعلم" لله تعالى. (إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك) قال صاحب التحرير: "ولا نسوؤك" تأكيد للمعنى: أي لا نحزنك، لأن الإرضاء قد يحصل في حق البعض بالعفو عنهم، ويدخل الباقي النار، فقال تعالى: نرضيك، ولا ندخل عليك حزنا، بل ننجي الجميع. اهـ.

-[فقه الحديث]- في ربط الآيتين ببكائه صلى الله عليه وسلم ودعائه قال بعضهم إن إبراهيم طلب المغفرة لمن عصى من أمته بقوله: {ومن عصاني فإنك غفور رحيم} وأن عيسى عرض بطلب المغفرة لقومه بقوله: {وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} فخشي صلى الله عليه وسلم على أمته، وأشفق على العصاة منها، فسأل فيها ربه وبكى. واستدل هذا القائل بالآيتين على أنهما (إبراهيم وعيسى) سألا المغفرة للكافر، وأن الشرك يجوز أن يغفر، وهذا القول مبني على ما قاله النووي من أن مغفرة الشرك كانت في الشرائع القديمة جائزة في أممهم، وإنما امتنعت في شرعنا. وذهب بعضهم إلى أنه لا دليل في الآية على التعريض بطلب المغفرة للكافر، وسؤاله صلى الله عليه وسلم لا يدل على أن في الآية تعريضا لسؤال المغفرة للكافر، وكل ما هنالك أنه صلى الله عليه وسلم رأى أخويه قد سألا أو عرضا بسؤال المغفرة فطلبها لأمته، وقد روى النسائي والبيهقي عن أبي ذر قال: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقرأ بآية، حتى أصبح يركع ويسجد بها {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} فلما أصبح قلت: يا رسول الله، مازلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت؟ قال: إني سألت ربي سبحانه وتعالى الشفاعة، فأعطانيها، وهي نائلة -إن شاء الله- من مات لا يشرك به شيئا" وعند ابن مردويه عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله، قمت الليلة بآية من القرآن؟ قال: "دعوت الله سبحانه لأمتي". قال: فبماذا أجبت؟ قال: "أجبت بالذي لو اطلع كثير منهم عليه تركوا الصلاة". والحكمة في إرسال جبريل لسؤاله إظهار شرف النبي صلى الله عليه وسلم. -[ويؤخذ من هذا الحديث]- 1 - كمال شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته، واعتنائه بمصالحهم واهتمامه بأمرهم. 2 - استحباب رفع اليدين في الدعاء. 3 - البشارة العظيمة لهذه الأمة -زادها الله شرفا- بما وعدها الله تعالى. 4 - بيان عظم منزلة النبي صلى الله عليه وسلم عند الله تعالى، وعظم لطفه به، وأنه بالمحل الأعلى، فيسترضى، ويكرم بما يرضيه، وهذا الحديث موافق لقوله تعالى: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} [الضحى: 5]. والله أعلم

(103) باب من مات على الكفر فهو في النار

(103) باب من مات على الكفر فهو في النار 368 - عن أنس رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله! أين أبي؟ قال: "في النار" فلما قفى دعاه فقال: "إن أبي وأباك في النار". -[المعنى العام]- كثر سؤال الصحابة بأسئلة التعنت، وأسئلة الإلحاف، وأسئلة ما لا نفع فيه، حتى شق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هذه المثل ما رواه أنس من أن رجلا جاء يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مصير أبيه الذي مات قبل البعثة، أهو في الجنة أو في النار؟ فقال له صلى الله عليه وسلم بوحي من ربه: هو في النار، فقام الرجل حزينا، وأحس الرسول صلى الله عليه وسلم أنه آلمه وأحزنه، فأراد أن يخفف عنه بما هو معلوم من أن المصيبة إذا عمت هانت، فدعاه، فقال له: إن أبي وأباك وأبا الكثيرين من الصحابة الذين ماتوا كأبيك في النار، ونزل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} [المائدة: 101]. -[المباحث العريبة]- (أين أبي) أي الذي مات، أفي الجنة هو؟ أو في النار؟ (فلما قفي) أي ولى قفاه منصرفا. -[فقه الحديث]- قال النووي: في الحديث أن من مات على الكفر فهو في النار، ولا تنفعه قرابة المقربين، وفيه أن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو من أهل النار، وليس هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة، فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين. اهـ. وقال الحليمي: إن العاقل المميز إذا سمع أية دعوة كانت إلى الله تعالى فترك الاستدلال بعقله على صحتها كان بذلك معرضا عن الدعوة فكفر. اهـ. وبالغ بعضهم في اعتماد ذلك، حتى قال: فمن بلغته دعوة أحد من الرسل عليهم السلام بوجه من

الوجوه، فقصر في البحث عنها، فهو كافر من أهل النار، فلا يغتر بقول كثير من الناس بنجاة أهل الفترة مع إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن آباءهم الذين مضوا في الجاهلية في النار. اهـ. وقريب من هذا الرأي ما ذهب إليه أبو منصور الماتريدي ومتبعوه من تعذيب أهل الفترة بترك الإيمان والتوحيد. أما الأشاعرة، وأهل الأصول والشافعية من الفقهاء، فقد ذهبوا إلى أن أهل الفترة لا يعذبون، وأطلقوا القول في ذلك، وأجابوا عن هذا الحديث وغيره من الأحاديث الصحيحة الواردة في تعذيب بعض أهل الفترة بعدة أجوبة. منها: أنها أخبار آحاد، فلا تعارض قوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} [الإسراء: 15] ومنها: أنه يجوز أن يكون تعذيب من صح تعذيبه منهم لأمر مختص به، يقتضي ذلك، علمه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. ومنها: قصر التعذيب على من بدل وغير من أهل الفترة بما لا يعذر به من الضلال، كعبادة الأوثان. وخير الأجوبة الثاني. فإن قيل: إن الحديث يتعارض مع قوله صلى الله عليه وسلم "لا تؤذوا الأحياء بسبب الأموات" أجيب بأن جواب الرسول للرجل كان ردعا له ولغيره من السؤال عن أشياء إن تبد لهم تسؤهم. والله أعلم

(104) باب ما جاء في قوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يغني عن الكافرين شيئا

(104) باب ما جاء في قوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يغني عن الكافرين شيئا 369 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما أنزلت هذه الآية: {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214] دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فاجتمعوا. فعم وخص. فقال "يا بني كعب بن لؤي! أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني مرة بن كعب! أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد شمس! أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد مناف! أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني هاشم! أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد المطلب! أنقذوا أنفسكم من النار. يا فاطمة! أنقذي نفسك من النار. فإني لا أملك لكم من الله شيئا. غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها". بهذا الإسناد وحديث جرير أتم وأشبع. 370 - عن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: لما نزلت: {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214] قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا فقال: "يا فاطمة بنت محمد! يا صفية بنت عبد المطلب! يا بني عبد المطلب! لا أملك لكم من الله شيئا. سلوني من مالي ما شئتم". 371 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه: {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214] "يا معشر قريش! اشتروا أنفسكم من الله. لا أغني عنكم من الله شيئا. يا بني عبد المطلب! لا أغني عنكم من الله شيئا. يا عباس بن عبد المطلب! لا أغني عنك من الله شيئا. يا صفية عمة رسول الله! لا أغني عنك من الله شيئا. يا فاطمة بنت رسول الله! سليني بما شئت. لا أغني عنك من الله شيئا". نحو هذا.

372 - عن قبيصة بن المخارق وزهير بن عمرو رضي الله عنهما؛ قالا: لما نزلت: {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214] قال انطلق نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى رضمة من جبل. فعلا أعلاها حجرا. ثم نادى "يا بني عبد منافاه! إني نذير. إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يربأ أهله. فخشي أن يسبقوه فجعل يهتف: يا صباحاه". بنحوه. 373 - عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: لما نزلت هذه الآية {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214] ورهطك منهم المخلصين. خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا. فهتف "يا صباحاه! " فقالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا: محمد. فاجتمعوا إليه، فقال "يا بني فلان! يا بني فلان! يا بني فلان! يا بني عبد مناف! يا بني عبد المطلب! " فاجتمعوا إليه فقال "أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟ " قالوا: ما جربنا عليك كذبا. قال "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد". قال فقال: أبو لهب تبا لك؛ أما جمعتنا إلا لهذا؟ ثم قام. فنزلت هذه السورة: {تبت يدا أبي لهب وقد تب} [المسد: 1]. كذا قرأ الأعمش إلى آخر السورة. 374 - عن الأعمش، بهذا الإسناد. قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم الصفا فقال "يا صباحاه! " بنحو الحديث السابق. ولم يذكر نزول الآية: {وأنذر عشيرتك الأقربين}. -[المعنى العام]- لرفع المحاباة، وللترغيب في دعوة الإسلام، للإشعار بأنها الخير كل الخير، أمر صلى الله عليه وسلم أن يبدأ بدعوة قومه وعشيرته وأقربائه، بل أن يبدأ بأقرب الناس إليه داعيا له، ومنذرا إياه من عذاب شديد، فقال جل شأنه: {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214] وبادر صلى الله عليه وسلم فصدع بما أمر، فصعد الصفا، الذي قدسه العرب كشعيرة من شعائر الحج، ثم وضع إصبعيه في أذنيه،

وهتف بأعلى صوته: يا صباحاه. يا صباحاه. يا صباحاه، يا معشر قريش يا بني فهر، فاجتمعوا، يا بني لؤي، فأجاب بنو الأروم بن غالب، يا آل كعب، يا آل كلاب، يا آل قصي، يا آل عبد مناف، يا بني هاشم، يا بني المطلب، فاجتمعوا، وجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، قال له أبو لهب: هؤلاء عبد مناف عندك. ماذا تريد منهم؟ فقال: أخبروني. لو أنبأتكم أن عدوا لكم جاء بخيله خلف هذا الوادي، يريد أن يغير عليكم، أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم. فوالله ماجربنا عليك كذبا، وإنك عندنا لصدوق. قال: فإني رسول الله إليكم بين يدي عذاب شديد، يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار بالإيمان. يا بني مرة: اشتروا أنفسكم من الله بالإسلام، يا بني عبد شمس؛ أنقذوا أنفسكم من النار بالإسلام، يا بني عبد مناف، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب، أنقذ نفسك، فإني لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله، أنقذي نفسك، فإني لا أغني عنك من الله شيئا، يا فاطمة بنت محمد، أنقذي نفسك، فإني لا أغني عنك من الله شيئا، سليني من مالي ما شئت، فقد أنفعك، لكن لا تتكلي علي فإني لا أملك لك من الله شيئا إن لم تؤمني. فقال أبو لهب: تبا وخسرانا وهلاكا لك يامحمد. ألهذا جمعتنا؟ ألهذا القول الساحر دعوتنا؟ وأخذ حجرا يريد أن يرمي به محمدا صلى الله عليه وسلم، وهاج الناس وماجوا، وأخذ يناقش بعضهم بعضا، ونزل صلى الله عليه وسلم، فدافع الله عنه، وأجاب عنه أبا لهب بقوله جل شأنه: {تبت يدا أبي لهب وتب* ما أغنى عنه ماله وما كسب* سيصلى نارا ذات لهب} [المسد: 1 - 3] وحقق الله وعده فهلك أبو لهب حسرة وكمدا حين هزمت قريش في غزوة بدر، وأتم الله نوره رغم أنف الكافرين. -[المباحث العربية]- {وأنذر عشيرتك الأقربين} أي ذوي القرابة القريبة، والعشيرة رهط الرجل الأدنون، أو هم أهل الرجل الذي يتكثر بهم، أي يصيرون له بمنزلة العدد الكامل، وهو العشرة. (دعا قريشا فاجتمعوا فعم وخص) يقال عمهم بكذا، أي شملهم، فالمعنى عم قريشا بالدعوة وشملها، فقال: يا معشر قريش، وخص بعض بطونها، فقال: يا بني كعب إلخ، فالفاء في قوله: "فعم" للتفصيل، مثلها في قولنا: توضأ فغسل وجهه إلخ، وقوله: "فاجتمعوا" مقدمة من تأخير، والتقدير: دعا قريشا بطريق التعميم والتخصيص فاجتمعوا. (أنقذوا أنفسكم من النار) بالإيمان، وفي الرواية الثالثة "اشتروا أنفسكم من الله" أي باعتبار تخليصها من النار، كأنه قال: أسلموا تسلموا من العذاب، فكان ذلك كالشراء، كأنهم جعلوا الطاعة ثمن النجاة.

(غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها) يقال: بل رحمه إذا وصلها، من باب كتب، والبلال بكسر الباء الماء، وروي بفتح الباء، والمعنى: غير أن لكم رحما سأصلها بوصلها الحق، شبهت قطيعة الرحم بالحرارة، ووصلها بإطفاء الحرارة بالبرودة. (قام رسول الله على الصفا) الصفا الحجر الصلد الضخم لا ينبت، والصفا من مشاعر الحج، طرف جبل أبي قبيس، وفي الرواية الرابعة "انطلق نبي الله إلى رضمة من جبل، فعلا أعلاها حجرا، و"الرضمة" بفتح الراء وإسكان الضاد وفتحها، جمعها رضم ورضام، وهي صخور عظام بعضها فوق بعض. وقيل هي دون الهضاب: وقيل: الرضمة الحجارة المجتمعة ليست ثابتة في الأرض، كأنها منثورة، وقوله: "فعلا أعلاها حجرا" "حجرا" مفعول "علا" و"أعلاها" حال من "حجرا" وأصله صفة، فلما قدمت أعربت حالا، والتقدير: فعلا حجرا كائنا أعلاها. (يا فاطمة بنت محمد) "بنت" و "ابن" فيها، وفي أمثالها منصوب لا غير، لأنه مضاف تابع للمنادى، و"فاطمة" و"صفية" و"عباس" يجوز ضمها ونصبها، والنصب أفصح وأشهر، وفي بعض الأصول "يا فاطم" بحذف الهاء على الترخيم، فيصح ضم الميم وفتحها. (سلوني من مالي ما شئتم) أي فإني أعطيكم ما تسألون، ولكن لا تسألوني دفاعا عنكم عند الله إن لم تسلموا وتعملوا خيرا، وفي الرواية الثالثة "سليني بما شئت" و"سأل" تتعدى بنفسها وبعن وبالباء، ففي القاموس: سأله كذا وعن كذا وبكذا. (قال: انطلق نبي الله) "قال" معناه: قالا، لأن المراد أن قبيصة وزهير قالا، ولكن لما كانا متفقين، وهما كالرجل الواحد أفرد فعليهما، ولو حذف لفظة "قال" كان الكلام واضحا منتظما، ولكن لما حصل في الكلام بعض الطول حسن إعادة "قال" للتأكيد، ومثله في القرآن العزيز {أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون} [المؤمنون: 35] فأعاد لفظ "أنكم". ذكره النووي. (يا بني عبد منافاه) هذا هو المسمى بالندبة في عرف النحاة وهي نوع من النداء، يزيد على النداء أن المنادى فيه متفجع عليه. ويلحق آخر المنادى والمندوب ألف يفتح ما قبلها، وإذا وقف عليه لحقه بعد الألف هاء السكت. (فانطلق يربأ أهله) أي يحفظهم، ويحميهم، ويتطلع لهم و"يربأ" على وزن "يقرأ" والربئة بفتح الراء وكسر الباء وبالهمزة المفتوحة، هو العين والطليعة الذي ينظر للقوم؛ لئلا يدهمهم العدو، ولا يكون في الغالب إلا على جبل، أو شيء مرتفع، لينظر إلى أبعد. (فجعل يهتف: يا صباحاه) "يهتف" يعني يصيح ويصرخ و"يا صباحاه" كلمة يعتادونها عند وقوع أمر عظيم، فيقولونها ليجتمعوا ويتأهبوا له، وهي منادى، مندوب وأصلها مضاف إلى ياء المتكلم "يا صباحي" فقلبت الياء ألفا في النداء، أو حذفت من أجل ألف الندبة، والهاء للسكت.

(ورهطك منهم المخلصين) في القاموس: "الرهط" ويحرك. قوم الرجل وقبيلته، ومن ثلاثة أو سبعة إلى العشرة، وما فيهم امرأة، ولا واحد له من لفظه. اهـ. والمراد هنا القوم، و"المخلصين" بفتح اللام، وهي صفة المؤمنين، و"من" تبعيضية، وهو من عطف الخاص على العام تنويها به وتأكيدا. (أرأيتكم لو أخبرتكم) "أرأيتكم" معناه أخبروني، عن طريق مجازين: الأول في الاستفهام، بأن تريد معه مطلق الطلب، بدلا من طلب الفهم، بعلاقة الإطلاق بعد التقييد، والثاني: في الرؤية بأن تريد منها لازمها وهو الإخبار، فآل المعنى إلى طلب الإخبار، المدلول عليه بلفظ أخبروني. (أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل) أي الأعداء، وفي رواية "تريد أن تغير عليكم" وسفح الجبل أسفله، وقيل: عرضه، والمشار إليه جبل أبي قبيس، حيث كان وافقا على طرفه. (أكنتم مصدقي) بتشديد الياء، وأصله أكنتم مصدقين إياي، فالياء الأولى علامة النصب، والياء الثانية ضمير المفعول وحذفت النون للإضافة. (فقال أبو لهب: تبا لك) "أبو لهب" بفتح الهاء وسكونها عم النبي صلى الله عليه وسلم واسمه عبد العزى بن عبد المطلب وأمه خزاعية، وكني أبا لهب إما بابنه لهب، وإما بشدة حمرة وجنته، ووافق ذلك ما آل إليه أمره، من أنه سيصلى نارا ذات لهب، ومات بعد وقعة بدر، ولم يحضرها، بل أرسل عنه بديلا، فلما بلغه ما جرى لقريش مات غما وكمدا، وقوله: "تبا لك" أي خسرانا لك، مصدر محذوف فعله. (تبت يدا أبي لهب) في القاموس: تبت يداه ضلتا وخسرتا، والجملة دعائية معنى، أو خبرية لفظا ومعنى. (وقد تب كذا قرأ الأعمش) أي هكذا قرأها الأعمش يومئذ بزيادة "قد" وليست هذه القراءة فيما نقل القراء عن الأعمش، فالذي يظهر أنه قرأها حاكيا، لا قارئا، والمحفوظ أنها قراءة ابن مسعود وحده، والجملة على هذه القراءة حالية ويمتنع أن تكون دعائية؛ لأن "قد" لا تدخل على أفعال الدعاء، أما على القراءة الأخرى بحذف "قد" فيجوز أن تكون دعائية، ويجوز أن تكون حالية، و"قد" معها مقدرة، فيكون دعاء عليه بهلاكه كله، أو يكون إخبارا بما سيحصل، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع. قال الفراء: الأول: "تبت يدا أبي لهب" دعاء بهلاك جملته على أن اليدين إما كناية عن الذات والنفس لما بينهما من اللزوم في الجملة، أو مجاز مرسل، من إطلاق الجزء وإرادة الكل، كقوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة: 195] والثاني إخبار بالحصول، أي وكان ذلك وحصل. اهـ. وقيل: الأول: إخبار عن هلاك عمله حيث لم يفده، ولم ينفعه، لأن الأعمال تزاول بالأيدي غالبا، والثاني إخبار عن هلاك نفسه. اهـ. والظاهر أن كل من يقول: إنها إخبار يقول بأنها من قبيل التعبير عن المضارع بالماضي لتحقق الوقوع، أو إخبار عما وقع في علم الله وقضائه.

-[فقه الحديث]- قال الحافظ ابن حجر: هذا الحديث من مراسيل الصحابة، لأن أبا هريرة إنما أسلم بالمدينة، وهذه القصة وقعت بمكة، لتصريحه في حديث الباب أنه صعد الصفا، ولأن ابن عباس كان حيئنذ إما لم يولد، وإما كان طفلا. اهـ. كما أن عائشة لم يتجاوز سنها بمكة ثماني سنوات على أرجح الأقوال. ويشكل على الحديث نداء فاطمة في الرواية الثانية والثالثة، وهي لم تكن بالغة بحيث تخاطب بالأحكام، ويمكن أن يجاب على هذا الإشكال بأن نداءها لم يكن لتكليفها بالأحكام، وإنما ليعلن لقريش أنه لا يملك لها شيئا عند الله إن لم تعمل لنفسها بعد بلوغها، وإن كان يملك أن يعطيها من ماله ما تسأل. ووجه تخصيص عشيرته صلى الله عليه وسلم الأقربين بالإنذار مع عموم رسالته دفع توهم المحاباة، وأن الاهتمام بشأنهم أهم، وأن البداءة تكون بمن يلي، ثم من بعده. وقال الحافظ ابن حجر: والسر في الأمر بإنذار الأقربين أولا أن الحجة إذا قامت عليهم تعدت إلى غيرهم، وإلا فكانوا علة للأبعدين في الامتناع، وألا يأخذه ما يأخذ القريب من العطف والرأفة، فيحابيهم في الدعوة والتخويف، فلذلك نص له على إنذارهم. اهـ. وأفرد صلى الله عليه وسلم فاطمة وصفية في الرواية الثانية، وعباس في الرواية الثالثة لشدة قرابتهم، ولشدة صلته بهم من بين قراباته، وفاطمة كانت أصغر أولاده، وللصغير زيادة محبة، فإذا انتفى نفعه لمن يحب من أقاربه، ومن يحرص على نفعه، انتفى عن غيره من باب أولى. وقد جاء في الرواية الخامسة زيادة "ورهطك منهم المخلصين" قال الحافظ ابن حجر: وهذه الزيادة وصلها الطبري عن عمرو بن مرة أنه كان يقرؤها كذلك. قال القرطبي: لعل هذه الزيادة كانت قرآنا فنسخت تلاوتها، ثم استشكل ذلك بأن المراد إنذار الكفار، والمخلص صفة المؤمن، وأجيب عن ذلك: أنه لا يمتنع عطف الخاص على العام، فقوله: "وأنذر عشيرتك الأقربين" عام بمن آمن منهم ومن لم يؤمن، ثم عطف عليه الرهط المخلص تنويها بهم وتأكيدا. واستدل بعض المالكية بقوله في الروايتين الثانية والثالثة "يا فاطمة بنت محمد -بنت رسول الله- ... لا أغني عنكم من الله شيئا، سلوني من مالي ما شئتم" على أن النيابة لا تدخل في أعمال البر، إذا لو جاز ذلك لتحمل صلى الله عليه وسلم عن فاطمة ما يخلصها، فإذا كان عمله لا يقع نيابة عن ابنته فغيره أولى بالمنع، ورد عليهم بأن هذا كان من قبل أن يعلمه تعالى بأن يشفع فيمن أراد، وتقبل شفاعته حتى يدخل الجنة قوما بغير حساب، ويرفع درجات قوم آخرين، ويخرج من النار من دخلها بذنوبه من المؤمنين، أو كان المقام مقام التخويف والتحذير، أو أنه أراد المبالغة في الحض على العمل، ويكون في قوله: "لا أغنى شيئا" إضمار: إلا أن يأذن الله لي بالشفاعة.

-[ويؤخذ من الحديث]- 1 - استحباب القيام على عال أو مرتفع من الأرض لإبلاغ الدعوة أكبر عدد، فإن فيه انتشار الصوت، مع تمكين السامعين من مشاهدة المتكلم مما يساعد على استقرار الكلام في النفوس. 2 - مشروعية الهتاف بيا صباحاه ونحوها، لجمع الناس، وقد ورد عند الطبري أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع أصابعه في أذنه ورفع صوته. 3 - وضوح بيانه صلى الله عليه وسلم وقوة حجته، إذا أخذ إقرارهم أولا على صدقه في مهام أمورهم وأخطرها قبل أن يخبرهم وينذرهم. 4 - صبره صلى الله عليه وسلم على إيذاء قومه، بل على إيذاء من هو أقرب الناس إليه وهو عمه، فقد روي "أن أبا لهب أخذ بيديه حجرا ليرمي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل قوله تبا لك". 5 - قال القاضي عياض: استدل به وبالسورة على جواز تكنية الكافر، وقد اختلف العلماء في ذلك، واختلفت الرواية عن مالك في جواز تكنية الكافر، بالجواز والكراهة. وقال بعضهم: إنما يجوز من ذلك ما كان على جهة التآلف وإلا فلا، إذا في التكنية تعظيم وتكبير، وأما تكنية الله تعالى لأبي لهب فليست من هذا، ولا حجة فيه، لأنه قد ترك اسمه لقبحه لأن اسمه عبد العزى، وهذه التسمية باطلة، فلهذا كني عنه، وقيل: لأنه إنما كان يعرف بها، وقيل: إن أبا لهب لقب، وليس بكنية، وكنيته أبو عتبة، وقيل: إنما ذكر بهذه الكنية للإشارة إلى مايؤول إليه أمره من لهب جهنم، وذهب جماعة إلى أن الكنية لا تدل بمجردها على التعظيم، بل قد يكون الاسم أشرف من الكنية، ولهذا ذكر الله الأنبياء عليهم السلام بأسمائهم، دون كناهم. والله اعلم

(105) باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب

(105) باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب 375 - عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله! هل نفعت أبا طالب بشيء، فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: "نعم هو في ضحضاح من النار. ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار". 376 - عن العباس رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك. فهل نفعه ذلك؟ قال: "نعم. وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح". بنحو حديث أبي عوانة. 377 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب. فقال: "لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة. فيجعل في ضحضاح من النار. يبلغ كعبيه. يغلي منه دماغه". 378 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن أدنى أهل النار عذابا ينتعل بنعلين من النار، يغلي دماغه من حرارة نعليه". 379 - عن ابن عباس رضى الله عنهما؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أهون أهل النار عذابا أبو طالب. وهو منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه". 380 - عن النعمان بن بشير رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة، لرجل توضع في أخمص قدميه جمرتان، يغلي منهما دماغه".

381 - عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أهون أهل النار عذابا من له نعلان وشرا كان من نار، يغلي منهما دماغه. كما يغلي المرجل ما يرى أن أحدا أشد منه عذابا. وإنه لأهونهم عذابا". -[المعنى العام]- توفي والد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حمل في بطن أمه، فكفله جده عبد المطلب، حتى مات ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الثامنة من عمره، فكفله عمه أبو طالب، وكان فقيرا، كثير العيال، فأنزل محمدا منزلة أعز أبنائه بل كان يصحبه في أسفاره البعيدة، ويترك أولاده، خشية أن يشعر في غيابه بالوحشة ومرارة اليتم، وعلمه التجارة، ثم زوجه خديجة، ولما بعث صلى الله عليه وسلم وقام المشركون يعادونه ويؤذونه وقف أبو طالب يحميه ويدافع عنه، وأرسلت قريش إلى أبي طالب أن يوقف محمدا عن دعوته، أو يخلي بينهم وبينه، ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولته المشهورة: "والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري؛ على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه" سانده عمه، وشد من أزره وطمأنه على استمرار حمايته، بقولته الخالدة: اذهب يا ابن أخي فقل ما شئت، وادع من شئت، فوالله لا أخذلك ولا أسلمك إليهم أبدا، ورضي أبو طالب أن تعاديه قريش من أجل محمد صلى الله عليه وسلم وقبل الحصار الاقتصادي والمقاطعة الاجتماعية في شعب بني طالب ثلاث سنين من أجل محمد صلى الله عليه وسلم حتى إذا نقضت صحيفة المقاطعة وخرجوا من الشعب مرض أبو طالب مرضه الأخير، فقالت له قريش مستهزئة ساخرة: أرسل إلى ابن أخيك ليرسل إليك من هذه الجنة التي يذكرها دواء يشفيك، فلم يعبأ أبو طالب بهذا الاستهزاء، وأرسل إلى ابن أخيه يدعوه إلى جواره في لحظاته الأخيرة حبا فيه، وحنانا عليه، وحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينطق عمه بالشهادتين، وحرص رأسا الشرك (أبو جهل وابن أبي أمية) المحيطان به أن يظل على دينه، وكانت الإثارة من الجانبين موجهة قوية إلى أبي طالب، وكانت الخاتمة التي أرادها الله أن يموت على دين عبد المطلب. وبدافع الوفاء انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لعمه وقلبه يتقطع حسرة عليه، فنزل قوله تعالى {إنك لا تهدي من أحببت} [القصص: 56] ونزل {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم} [التوبة: 113] ومع منع الاستغفار له استجاب الله لنبيه، فخفف العذاب عن عمه، كان عذابه الغمر في النار، بل في الدرك الأسفل من النار، فخفف عنه إلى فراش من نار، جمرتان من نار، يقف عليهما، تحت باطن كل رجل جمرة، يحيط بالرجل من أعلاها سير من نار، يغلي من ذلك دماغه وأم رأسه، كما تغلي القدر بما فيها، يظن أنه أشد أهل النار عذابا وهو أقلهم عذابا.

فاللهم أجرنا من النار، ومن عذاب النار، ومن كل عمل يقربنا إلى النار، واصلح لنا شأننا بفضلك وكرمك يا عزيز يا غفار، يا حفيظ يا شافي يا كريم، يا باقي، يا رحيم، العفو يا الله. -[المباحث العربية]- (فإنه كان يحوطك) بفتح الياء وضم الحاء، يقال: حاطه يحوطه حوطا وحياطة إذا صانه، وحفظه، وذب عنه، وتوفر على مصالحه. (فهو في ضحضاح من نار) الضحضاح ما رق من الماء على وجه الأرض إلى نحو الكعبين فاستعير في النار. (ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) في "الدرك" لغتان فصيحتان مشهورتان، فتح الراء وسكونها، وقرئ بهما في القراءات السبع، ومعنى الدرك الأسفل: قعر جهنم، وأقصى أسفلها، قالوا: لجهنم أدراك، فكل طبقة من أطباقها تسمى دركا. (ووجدته في غمرات من النار) الغمرات بفتح الغين والميم، واحدتها غمرة بإسكان الميم، وهي المعظم من الشيء، وفي القاموس: الغمر الماء الكبير، ومعظم البحر، وغمرة الشيء شدته. ومعنى "وجدته" علمت مكانته بوحي ربي. (فأخرجته إلى ضحضاح) أي فتسببت في إخراجه بشفاعتي، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع. (ذكر عنده عمه أبو طالب) ببناء الفعل للمجهول، والذاكر العباس بن عبد المطلب، كما جاء مصرحا به في الروايات الأخرى. (لعله تنفعه شفاعتي) جاء في بعض الروايات ما يفيد وقوع هذا الترجي، ورواياتنا تؤيد وقوعه. (توضع في أخمص قدميه جمرتان) "أخمص" بفتح الهمزة وسكون الخاء وفتح الميم، على وزن أحمر؛ وهو ما لا يصل إلى الأرض من باطن القدم عند المشي، وفي رواية "على أخمص قدميه جمرتان" وفي رواية للبخاري "توضع في أخمص قدميه جمرة يغلي منها دماغه" فيحتمل أن الاقتصار فيها على جمرة اعتمد على علم السامع بأن لكل إنسان أخمصين، ففي الكلام مضاف محذوف، أي في كل أخمص من قدميه جمرة. (من له نعلان وشراكان من نار) الشراك بكسر الشين هو أحد سيور النعل، وهو الذي يكون على وجهها وعلى ظهر القدم.

(كما يغلي المرجل) بكسر الميم وفتح الجيم، قدر معروف، سواء كان من حديد أو نحاس أو حجارة أو خزف، وقيل: هو القدر من النحاس خاصة. والغليان: شدة اضطراب الماء ونحوه على النار لشدة اتقادها، وفي رواية للبخاري "كما يغلي المرجل بالقمقم" والقمقم إناء ضيق الرأس، يسخن فيه الماء، فارسي معرب، قد يؤنث، فيقال: قمقمة، قال ابن التين: في هذا التركيب نظر، وقال عياض: الصواب كما يغلي المرجل والقمقم بواو العطف، وجوز غيره أن تكون الباء بمعنى مع، وفي رواية "كما يغلي المرجل أو القمقم". (ما يرى أن أحدا أشد منه عذابا، وإنه لأهونهم عذابا) جملة "وإنه لأهونهم عذابا" في محل النصب على الحال من فاعل "يرى". -[فقه الحديث]- ذكرنا في الجزء الأول عند شرح حديث وفاة أبي طالب أن جمهور العلماء والرأي المعتمد أن أبا طالب مات مشركا، وأن آخر كلمة نطق بها: هو على ملة عبد المطلب. وقلنا: إنه لا يلتفت إلى القول بأنه مات مؤمنا، اعتمادا على ما روي من أن العباس قال: والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرت بها يا ابن أخي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: لم أسمعها، على أن العباس قال ذلك قبل أن يسلم، ولو أداها بعد الإسلام لقبلت منه، كما لم يلتفت إلى قول القرطبي: وقد سمعت أن الله تعالى أحيا عمه أبا طالب، فآمن به. فإن قال القائل: جاء في بعض السير: أن أبا طالب كان مصدقا بقلبه حيث جاء في الحديث، "لولا أن تعيرني قريش، يقولون: إنما حمله على ذلك الجزع، لأقررت بها عينك"، وفي صحة إيمان المصدق بقلبه دون أن ينطق بلسانه خلاف، فهل يدخل إيمان أبي طالب في هذا الخلاف؟ وهل يعد مؤمنا عند من يعتد بذلك؟ أجيب بأنه لم يدخل عند أي من المختلفين لأن محل الخلاف ما لم يعلن نقيض الإيمان، وأبو طالب صرح بالنقيض في قوله: "هو على ملة عبد المطلب" ومما يؤيد أنه مات كافرا: ما رواه النسائي عن علي -كرم الله وجهه- قال: "قلت: يا رسول الله إن عمك الشيخ الضال قد مات. قال: اذهب فواره. قلت: إنه مات مشركا: قال اذهب فواره". ويحاول بعض الروافض أن يثبتوا إسلام أبي طالب بالأحاديث الواهية، قال الحافظ ابن حجر: ولا يثبت من ذلك شيء، والله أعلم. وقلنا هناك: إن الظاهر أن الرسول صلى الله عليه وسلم بنى استغفاره لأبي طالب -بعد أن امتنع عن الإقرار بالتوحيد، ومات على ذلك- بناه على اجتهاد منه صلى الله عليه وسلم مقتديا بإبراهيم -عليه السلام- في استغفاره لأبيه، وقد حمل ابن المنير استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي طالب، وقوله: "والله لأستغفرن لك ما لم أنه عن ذلك" حمله على تخفيف العذاب، لا على طلب المغفرة العامة، والمسامحة من ذنب

الشرك، وهاجمه الحافظ ابن حجر بشدة، فقال: هذه غفلة شديدة من ابن المنير، لأن الشفاعة لأبي طالب في تخفيف العذاب لم ترد، وطلبها لم ينه عنه، وإنما وقع النهي عن المغفرة العامة، وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك الشفاعة وطلب التخفيف، بل شفع له حتى خفف عنه العذاب بالنسبة لغيره من المشركين. هذا بعض ما قلناه هناك، مما يتعلق بشرح حديث الباب؛ وقد استشكل ثبوت الشفاعة لأبي طالب بقوله تعالى: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} [المدثر: 48] وأجيب بأنه خص، ولذلك عدوه من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: معنى المنفعة في الآية تخالف معنى المنفعة في الحديث "لعله تنفعه شفاعتي" لأن المراد بها في الآية الإخراج من النار، وفي الحديث المنفعة بالتخفيف. وبهذا الجواب جزم القرطبي، وأجاب بجواب آخر، حاصله: أن النفع المنفي في الآية إنما هو بحسب شعور الكافر وإحساسه، ففي روايتنا السابعة "ما يرى أن أحدا أشد منه عذابا، وإنه لأهونهم عذابا" فلما لم يحس المخفف عنه بأثر التخفيف كان كأنه لم ينتفع في نظر نفسه. وهذان الجوابان معارضان بقوله تعالى: {ولا يخفف عنهم من عذابها} [فاطر: 36] فالأولى الرجوع إلى أنه خص. قال البيهقي: صحت الرواية في شأن أبي طالب، فلا معنى للإنكار من حيث صحة الرواية، ووجهه عندي أن الشفاعة في الكفار إنما امتنعت لوجود الخبر الصادق في أنه لا يشفع فيهم أحد؛ وهو عام في حق كل كافر، فيجوز أن يخص منه من ثبت الخبر بتخصيصه. اهـ. وهو كلام جيد. وفي الحكمة في جعل عذاب أبي طالب في قدميه يقول السهيلي: إن أبا طالب كان تابعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بحمايته، إلا أنه استمر ثابت القدم على دين قومه، فسلط العذاب على قدميه خاصة لتثبيته إياهما على دين قومه. قال الحافظ ابن حجر: كذا قال، ولا يخلو عن نظر. اهـ. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - ثبوت الشفاعة لأبي طالب خاصة من بين الكفار. 2 - الاعتراف بالفضل لأهل الفضل، والعمل على رد الجميل. 3 - خصوصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفضله عند ربه وقبول شفاعته. 4 - أن عذاب الكفار متفاوت. 5 - وأن أقله لا تطيقه الجبال. أعاذنا الله منه، ورزقنا الحسنى وزيادة، بشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

(106) باب من مات على الكفر لا ينفعه عمل

(106) باب من مات على الكفر لا ينفعه عمل 382 - عن عائشة رضى الله عنها؛ قالت: قلت: يا رسول الله! ابن جدعان. كان في الجاهلية يصل الرحم. ويطعم المسكين. فهل ذاك نافعه؟ قال: "لا ينفعه. إنه لم يقل يوما: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين". -[المعنى العام]- كان ابن جدعان من رؤساء قريش، وكان بارا بأهله، يصل بسخاء رحمه، كريما لضيوفه، عطوفا على الفقراء والمساكين، وكان لجوده وسخائه يتخذ جفنة كبرى عالية، يرقى إليها بسلم، فكان من أجل ذلك موضع تقدير وإعجاب وثناء، فلما مات على كفره، وقرأت عائشة قوله تعالى: {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم} [محمد: 1] وقوله: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا} [الفرقان: 23] قالت: يا رسول الله. ابن جدعان كان كثير الخيرات، يصل الرحم، ويحمل الكل ويطعم المسكين، ومات على الكفر، فهل ينفعه في الآخرة ما فعله من خير في دنياه؟ فقال لها صلى الله عليه وسلم: لا، لا ينفعه، لأن شرط صحة العمل الإيمان، وهو لم يصدق بيوم الجزاء ولم يقل يوما: {والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين} [الشعراء: 82]. -[المباحث العربية]- (ابن جدعان) بضم الجيم وإسكان الدال، واسمه عبد الله، من بني تيم بن مرة، أقرباء عائشة -رضى الله عنها. (إنه لم يقل يوما: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين) أي لم يصدق بالبعث، ومن لم يصدق بالبعث كافر، ولا ينفعه عمل، وجملة "إنه لم يقل .. إلخ" مستأنفة استئنافا تعليليا. -[فقه الحديث]- قال النووي: معنى هذا الحديث أن ما كان يفعله من الصلة والإطعام ووجوه المكارم لا ينفعه في الآخرة لكونه كافرا. اهـ. وقضية هذا الحديث هي قضية انتفاع الكافر في آخرته بما عمل من خير في دنياه، وعدم انتفاعه

بذلك، فهناك من الأحاديث ما يفيد انتفاعه، فقد روى البخاري "لما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشر خيبة" (أي سوء حال) قال له: ماذا لقيت؟ قال أبو لهب: لم ألق بعدكم راحة أو رخاء" غير أني سقيت في هذه "وأشار إلى النقرة التي تحت إبهامه، أي التي بين الإبهام والتي تليها من الأصابع "بعتاقتي ثويبة" فأفاد هذا الحديث أن الكافر قد ينفعه العمل الصالح في الآخرة، كما أفادنا هذه الإفادة حديث تخفيف العذاب عن أبي طالب (السابق الشرح) بفضل حياطته النبي صلى الله عليه وسلم، ونصرته إياه، كما يفيد هذه الإفادة ما رواه ابن مردويه والبيهقي من حديث ابن مسعود رفعه "ما أحسن محسن من مسلم ولا كافر إلا أثابه الله، قلنا: يا رسول الله ما إثابة الكافر؟ قال: المال والولد والصحة وأشباه ذلك. قلنا: وما إثابته في الآخرة؟ قال: عذابا دون العذاب" ثم قرأ: {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} [غافر: 46]. وهناك من الأحاديث ما يمنع انتفاع الكافر في آخرته بما عمل من صالح في دنياه، كحديث ابن جدعان الذي معنا، وما رواه مسلم عن أنس "وأما الكافر فيعطى حسناته في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة". وقوله تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا} [الفرقان: 23]. وأمام هذه القضية افترق العلماء ثلاث فرق (مع اتفاقهم جميعا على أن الكافر لا يثاب بنعيم في الآخرة). الفريق الأول: يرى عدم انتفاع الكافر في الآخرة بما عمل من صالح مطلقا، ويمثله القاضي عياض، الذي يقول: انعقد الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم، ولا يثابون عليها بنعيم ولا تخفيف عذاب، وإن كان بعضهم أشد عذابا من بعض. اهـ. ويرد حديث أبي لهب بأنه مرسل، وعلى تقدير أن يكون موصولا فالذي فيه رؤيا منام فلا حجة فيه، ولعل الذي رآها لم يكن إذ ذاك أسلم بعد، فلا يحتج به، أما بالنسبة لأبي طالب فلعلها خصوصية للرسول صلى الله عليه وسلم كما سبق. والفريق الثاني: يرى أن الكافرين ينتفعون في الآخرة بما عملوا من صالح دنياهم، بتخفيف العذاب عن جرائمهم التي ارتكبوها غير الكفر، ويمثله البيهقي الذي يقول: قد يجوز أن يكون حديث ابن جدعان وما ورد من الآيات والأخبار في بطلان خيرات الكافر إذا مات على الكفر، ورد في أنه لا يكون لها موقع التخليص من النار، وإدخال الجنة، ولكن يخفف عنه من عذابه الذي يستوجبه على جنايات ارتكبها، سوى الكفر بما فعل من الخيرات. اهـ. وإلى هذا الرأي يميل الحافظ ابن حجر. الفريق الثالث: يرى أن انتفاع الكافر في الآخرة بما عمل من صالح في دنياه ليس على إطلاقه السابق، وإنما هو خاص بمن ورد فيهم النص كأبي لهب وأبي طالب، ويمثله القرطبي الذي يقول عند شرح حديث أبي لهب هذا: التخفيف خاص بهذا (أي بغير عذاب الكفر) وبمن ورد النص فيه. اهـ. ويميل ابن المنير إلى هذا الرأي، ويوضحه؛ فيقول: هنا قضيتان:

إحداهما من المحال: وهي اعتبار طاعة الكافر مع كفره، لأن شرط الطاعة أن تقع بقصد صحيح، وهذا مفقود من الكافر. ثانيتهما: إثابة الكافر على بعض الأعمال تفضلا من الله تعالى، وهذا لا يحيله العقل، فإذا تقرر ذلك لم يكن عتق أبي لهب لثويبة قربة معتبرة، ويجوز أن يتفضل الله عليه بما شاء، كما تفضل على أبي طالب، والمتبع في ذلك التوقيف نفيا وإثباتا. اهـ. وهذا القول من الحسن بمكان. والله أعلم

(107) باب موالاة المؤمنين والبراءة من موالاة الكافرين

(107) باب موالاة المؤمنين والبراءة من موالاة الكافرين 383 - عن عمرو بن العاص رضى الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، جهارا غير سر، يقول "ألا إن آل أبي (يعني فلانا) ليسوا لي بأولياء. إنما وليي الله وصالح المؤمنين". -[المعنى العام]- إن التعاضد والتناصر، والتعاون والتآلف ينبغي أن يكون بين المؤمنين بعضهم مع بعض، ويحرم على المؤمن أن يستعين بكافر ضد مؤمن، أما استعانة المؤمن بالكافر ضد الكافر، فقد كان مشروعا أول الإسلام، حيث كان المسلمون في حاجة إلى حماية من أذى الكفار، فهذا أبو بكر الصديق رضى الله عنه حماه بعض الكافرين أول الإسلام، ومحمد صلى الله عليه وسلم حماه عمه أبو طالب، وتحالف مع بعض اليهود والكفار، لكن بعد أن قوي الإسلام، وأعزه الله بأهله نهي عن موالاة الكافرين، فتبرأ المؤمنون من موالاة أعداء الله، ويتبرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأولياء الكافرين، وينفي أن يكون آل فلان -من الكافرين الذين فهم الناس من قبل أنهم يناصرونه ويدافعون عنه- أولياءه، وصرح بأن وليه الله وصالح المؤمنين {ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون} [المائدة: 56]. ويقول تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} [الممتحنة: 1]. -[المباحث العربية]- (جهارا غير سر) "جهارا" صفة لمصدر محذوف أي قولا جهارا أي علانية لم يخفه، بل أباح به وأظهره وأشاعه، فقوله: "غير سر" وصف للتأكيد. (ألا إن آل أبي ... يعني فلانا) منطوق الرسول صلى الله عليه وسلم كان اسما معينا، قيل: هو الحكم بن أبي العاص، فكأنه قال: ألا إن آل أبي العاص ليسوا لي بأولياء، ولكن الراوي أبهم الاسم وكني عنه بفلان. -[فقه الحديث]- يؤخذ من الحديث أن ولاية المؤمنين ينبغي أن تكون من المؤمنين، وأن الولاية ينبغي أن تكون للدين والصلاح، وإن بعد في النسب، ومن ليس بمؤمن ولا صالح فليس بولي، وإن قرب نسبه، قال تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا} [المائدة: 55] أي لا تتخذوا أولئك أولياء، لأن بعضهم

أولياء بعض، وليسوا بأوليائكم، وإنما أولياؤكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون فاختصوهم بالموالاة، ولا تتخطوهم إلى الغير {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} [التوبة: 71]. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - التبرؤ من المخالفين، وإعلان ذلك ما لم يخف ترتب فتنة عليه. 2 - وما كان عليه الصحابة والرواة من الستر على المجروح، والتكنية عنه، دفعا للمفاسد المترتبة على التصريح به كفتنته هو، أو جرح شعور أقاربه المؤمنين. والله أعلم

(108) باب دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون

(108) باب دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون 384 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفا بغير حساب" فقال رجل: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم. قال "اللهم! اجعله منهم" ثم قام آخر. فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم. قال "سبقك بها عكاشة". بمثل حديث الربيع. 385 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "يدخل من أمتي زمرة هم سبعون ألفا. تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر". قال أبو هريرة: فقام عكاشة بن محصن الأسدي، يرفع نمرة عليه. فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اللهم! اجعله منهم" ثم قام رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "سبقك بها عكاشة". 386 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا، زمرة واحدة منهم، على صورة القمر". 387 - عن عمران رضي الله عنه قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب" قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ قال "هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون. وعلى ربهم يتوكلون" فقام عكاشة فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. قال "أنت منهم" قال فقام رجل فقال: يا نبي الله! ادع الله أن يجعلني منهم. قال "سبقك بها عكاشة". 388 - عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "يدخل الجنة من أمتي

سبعون ألفا بعير حساب" قالوا من هم؟ يا رسول الله! قال "هم الذين لا يسترقون. ولا يتطيرون. ولا يكتوون. وعلى ربهم يتوكلون". 389 - عن أبي حازم، عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفا، أو سبع مائة ألف (لا يدري أبو حازم أيهما قال) متماسكون. آخذ بعضهم بعضا. لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم. وجوههم على صورة القمر ليلة البدر". 390 - عن حصين بن عبد الرحمن؛ قال: كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ قلت: أنا. ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة. ولكني لدغت. قال: فماذا صنعت؟ قلت: استرقيت. قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي. فقال: وما حدثكم الشعبي؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن حصيب الأسلمي؛ أنه قال: لا رقية إلا من عين أو حمة. فقال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع. ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "عرضت علي الأمم. فرأيت النبي ومعه الرهيط. والنبي ومعه الرجل والرجلان. والنبي ليس معه أحد. إذ رفع لي سواد عظيم. فظننت أنهم أمتي. فقيل لي: هذا موسى صلى الله عليه وسلم وقومه. ولكن انظر إلى الأفق. فنظرت. فإذا سواد عظيم. فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر. فإذا سواد عظيم. فقيل لي هذه أمتك. ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب". ثم نهض فدخل منزله. فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب. فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله. وذكروا أشياء. فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "ما الذي تخوضون فيه؟ " فأخبروه. فقال "هم الذين لا يرقون. ولا يسترقون. ولا يتطيرون. وعلى ربهم يتوكلون" فقام عكاشة بن محصن. فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال "أنت منهم" ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال "سبقك بها عكاشة ". 391 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "عرضت علي الأمم" ثم ذكر باقي الحديث نحو حديث هشيم ولم يذكر أول حديثه.

-[المعنى العام]- كان حصين بن عبد الرحمن في مجلس سعيد بن جبير، صبيحة ليلة سقط فيها شهاب من كوكب فأضاء الأفق، قال سعيد بن جبير لجلسائه: أيكم شاهد الكوكب الليلة، وهو ينبعث منه شهاب من النار؟ فقال حصين: أنا شاهدته، وكان في النصف الثاني من الليل، لكن لا تحسبوا أني كنت أصلي، لا تظنوا أني كنت أقوم الليل وأتهجد، بل كنت متيقظا من آلام لدغة عقرب، قال له سعيد: فبماذا عالجت نفسك من سم العقرب؟ قال: رقيت نفسي، قال: من أنبأك أن الرقية علاج؟ قال: حملني على ذلك ودفعني إليه حديث سمعته عن الشعبي، الذي نتلقى حديثه بالقبول. قال: بماذا حدثكم الشعبي؟ قال: حدثنا عن بريدة بن حصيب الأسلمي، أنه قال: لا رقية أشفى وأولى من رقية العين الحاسدة، ومن الرقية من لدغ الحية أو العقرب أو ذوات السموم، قال سعيد بن جبير: أحسنت صنعا إذا كنت متبعا لا مبتدعا، لكني سمعت حديثا يناقض ما سمعت من حديث، سمعت ابن عباس يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال، عرض الله علي حال الأمم يوم القيامة، وأتباع كل نبي خلفه في طريقهم إلى الجنة، فرأيت النبي وليس معه أحد، وليس له تابع، ورأيت النبي ومعه تابع واحد، والنبي ومعه تابعان، والنبي ومعه دون العشرة، إذ عرض علي سواد كثير، وجمع عظيم، ففرحت به؛ وظننت أنهم أمتي فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء قوم موسى، لكن انظر إلى هذه الجهة، فنظرت فإذا جمع أكبر، قيل لي: انظر إلى الجهة الأخرى، فنظرت فإذا جمع أكبر، قيل لي: هؤلاء وهؤلاء أمتك الذين سيدخلون الجنة، وفيهم سبعون ألفا يدخلونها بغير حساب، ولا عذاب، يدخلونها أول الداخلين، وجوههم تضيء كالقمر ليلة البدر، يدخلونها صفا واحدا متماسكين، يدخلونها في لحظة واحدة، لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم، يغبطهم الخلق أجمعون، قال عكاشة بن محصن -وكان بين المستمعين لهذا الحديث-: يا رسول الله. ادع الله لي أن أكون منهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اجعل عكاشة منهم، قال رجل آخر من الجالسين: وأنا يا رسول الله. ادع لي الله أن يجعلني منهم، فخشى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتوالى الطلبات، فسد الباب، وقال للسائل: سبقك بالدعوة المستجابة عكاشة. فقال عكاشة: أنا منهم يا رسول الله؟ قال: نعم أنت منهم. ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد إلى بيت إحدى أمهات المؤمنين، فخاض الناس في صفة هؤلاء السبعين ألفا، من عساهم يكونون؟ قال بعضهم لعلهم السابقون إلى الإسلام، نحن الذين آمنا بالله واتبعنا الرسول فنحن هم، وقال آخرون: نحن ولدنا في الشرك أما أبناؤنا فقد ولدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله شيئا، فلعلهم هم، وقال بعضهم: لعلهم الشهداء، وقال آخرون: لعلهم من رق قلبهم للإسلام. فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما الذي تفيضون فيه؟ فذكروا له ما قالوا، قال: هم الذين يسندون الأمور إلى الله، فلا يكتوون على أنه العلاج والشفاء، ولا يسترقون على أن الرقية هي العلاج والشفاء، بل إن فعلوهما فعلوهما مؤمنين أن الشافي هو الله تعالى، ولا يتطيرون ولا يتشاءمون وهم في جميع أحوالهم على ربهم يتوكلون.

-[المباحث العربية]- (سبقك بها عكاشة) بضم العين وتشديد الكاف، ويجوز تخفيفها، وفي الرواية الثانية "عكاشة بن محصن" بكسر الميم وسكون الحاء وفتح الصاد، من بني أسد بن خزيمة، وكان من السابقين إلى الإسلام، وكان من أجمل الرجال، وكنيته أبو محصن، وهاجر، وشهد بدرا، وقاتل فيها، قال ابن إسحاق: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير فارس في العرب عكاشة" استشهد في قتال الردة في جيش خالد بن الوليد سنة اثنتي عشرة. (يدخل من أمتي زمرة) الزمرة الجماعة في تفرقة، بعضها في إثر بعض، وفي الرواية الثالثة "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا زمرة واحدة" روي فيها برفع "زمرة" ونصبها. (فقام رجل من الأنصار) قيل: هو سعد بن عبادة، وهو بعيد لما سيأتي في فقه الحديث. (عكاشة .. يرفع نمرة عليه) بفتح النون وكسر الميم، وهي كساء من صوف، فيه خطوط بيض وسود وحمر، كأنها أخذت من جلد النمر، لاشتراكهما في التلون، وهي من مآزر العرب. (منهم على صورة القمر) "من" بيانية، أي هم على صورة القمر، والمراد بالصورة الصفة، يعني أنهم في إشراق وجوههم على صفة القمر ليلة تمامه، وهي ليلة اليوم الرابع عشر، وفي الرواية الثانية "تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر" أي تشرق وجوههم إشراق البدر. (هم الذين لا يكتوون) أي لا يفعلون الكي بأجسامهم للعلاج، وسيأتي بيان حكمه في فقه الحديث. (ولا يسترقون) بفتح الياء وسكون السين وفتح التاء وسكون الراء، أي لا يطلبون الرقية علاجا، يقال "رقى" بالفتح في الماضي "يرقي" بالكسر في المضارع، والرقية التعويذ. (وعلى ربهم يتوكلون) في الكلام قصر، طريقة تقديم ما حقه التأخير، وهذه الجملة يحتمل أن تكون مفسرة لما تقدم، ويحتمل أن تكون من ذكر العام بعد الخاص، لأن صفة كل واحدة منها صفة أخص من التوكل، وهو أعم من ذلك. (ولا يتطيرون) الطيرة بكسر الطاء وفتح الياء، وقد تسكن: وهي التشاؤم، وأصل التطير أنهم كانوا في الجاهلية يعتمدون على الطير، فإذا خرج أحدهم لأمر زجر الطير، فإن طار يمنة تيمن واستمر، وإن طار يسرة تشاءم به ورجع، وكانوا يسمونه السانح والبارح، فالطير السانح ما ولاك ميامنه، بأن يمر عن يسارك، وكانوا يتيمنون به، والبارح بالعكس ويتشاءمون منه، وليس في شيء من سنوح الطير وبروحها ما يقضي ما اعتقدوه، وإنما هو تكلف بتعاطي ما لا أصل له، إذ لا نطق للطير،

ولا تمييز، حتى يستدل بفعله على معنى فيه، وطلب العلم من غير مظانه جهل من فاعله، وقد كان بعض عقلاء الجاهلية ينكر التطير. قال شاعر منهم: الزجر والطير والكهان كلهم مضللون ودون الغيب أقفال (متماسكون آخذ بعضهم بعضا) قال النووي: هكذا هو في معظم الأصول "متماسكون" بالواو، و"آخذ" بالرفع، ووقع في بعض الأصول "متماسكين آخذا" وكلاهما صحيح، ومعنى "متماسكين" ممسك بعضهم بيد بعض، ويدخلون معترضين صفا واحدا، بعضهم بجنب بعض. اهـ. فالنصب على الحال، والرفع على الصفة. وقال القاضي عياض: يحتمل أن يكون معنى "متماسكين" أنهم على صفة الوقار، فلا يسابق بعضهم بعضا. (لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم) ظاهره يستلزم الدور، إذ معناه أن دخول الأول موقوف على دخول الآخر، ودخول الآخر موقوف على دخول الأول، فتوقف الشيء على نفسه وهو باطل، والجواب: أن هذا الظاهر غير مراد، والكلام كناية عن دخولهم في وقت واحد. (أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة) "انقض" بالقاف والضاد، معناه سقط، و"البارحة" أقرب ليلة مضت، يقال قبل الزوال: رأيت الليلة، وبعد الزوال: رأيت البارحة، وهي مشتقة من "برح" إذا زال. (أما إني لم أكن في صلاة) قال صاحب مغني اللبيب: "أما" بالفتح والتخفيف على وجهين: أحدهما: أن تكون حرف استفتاح بمنزلة "ألا" وإذا وقعت "إن" بعدها كسرت، كما تكسر بعد "ألا" الاستفتاحية، الثاني: أن تكون بمعنى حقا، وهذه تفتح "أن" بعدها، كما تفتح بعد "حقا". اهـ. وقد ضبطت "إني" في صحيح مسلم بالكسر، وضبطت "أني" في بعض الكتب وكلاهما صحيح. (ولكني لدغت) يقال: لدغته العقرب وذوات السموم إذا أصابته بسمها. (قلت: استرقيت) أي طلبت الرقية من نفسي أو من غيري. (لا رقية إلا من عين أو حمة) بضم الحاء وتخفيف الميم، وهي سم العقرب وشبهها، وقيل: حدة السم وحرارته، وأما العين فهي إصابة العائن غيره بعينه، والعين حق. والمعنى -كما يقول الخطابي: لا رقية أشفى وأولى من رقية العين وذي الحمة. (قد أحسن من انتهى إلى ما سمع) أي قد أحسنت حيث وقفت عند الذي سمعته. (عرضت علي الأمم) برفع "الأمم" وبناء الفعل للمجهول.

(فرأيت النبي ومعه الرهيط) تصغير الرهط، وهو الجماعة دون العشرة. (إذ رفع لي سواد عظيم) وفي رواية "سواد كثير" والسواد ضد البياض، والمراد به الشخص يرى من بعيد. (انظر إلى الأفق) الأفق الناحية، والمراد به هنا ناحية السماء. (انظر إلى الأفق الآخر) أي انظر هنا وههنا في آفاق السماء. (هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا) المراد بالمعية المعية المعنوية، فإن السبعين ألفا المذكورين من جملة أمته، لكن لم يكونوا في الذين عرضوا إذ ذاك، فأريد زيادة تكثير أمته، بإضافة السبعين ألفا إليهم، وقيل "مع" بمعنى "من" أي هذه أمتك ومنهم سبعون ألفا إلخ، ويؤيده رواية "هؤلاء أمتك، ومن هؤلاء من أمتك سبعون ألفا .. إلخ" ورواية "ويدخل الجنة من هؤلاء سبعون ألفا بغير حساب". (فخاض الناس) أي تكلموا وتجادلوا وتناظروا، وفي رواية "ففاض الناس" وفي رواية "فأفاض القوم". (وذكروا أشياء) فى بعض الروايات، وقال بعضهم: "هم الشهداء" وقال بعضهم: "من رق قلبه للإسلام". -[فقه الحديث]- يتناول الحديث النقاط الست التالية: 1 - دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب. 2 - الكي. 3 - الرقية. 4 - التطير. 5 - التوكل على الله. 6 - -[ما يؤخذ من الحديث]-. وهذا هو التفصيل: 1 - دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب. يقول الله تعالى: {فأما من أوتي كتابه بيمينه* فسوف يحاسب حسابا يسيرا*

وينقلب إلى أهله مسرورا* وأما من أوتي كتابه وراء ظهره* فسوف يدعو ثبورا* ويصلى سعيرا} [الانشقاق: 7 - 12] ويروي البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك. قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله. أليس الله يقول: {فأما من أوتي كتابه بيمينه* فسوف يحاسب حسابا يسيرا} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما ذلك العرض، وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذب". وحديث الباب يفيد دخول زمرة من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب، مما يشير إلى أن وراء التقسيم في الآية أمورا أخرى. قال القرطبي: إن الحساب المذكور في الآية إنما هو أن تعرض أعمال المؤمن عليه، حتى يعرف منة الله عليه في سترها عليه في الدنيا، وفي عفوه عنها في الآخرة. اهـ. أما من نوقش في الحساب، وحوسب حساب استقصاء فإنه يعذب. وعند ابن أبي حاتم والحاكم من حديث جابر "من زادت حسناته على سيئاته فذاك الذي يدخل الجنة بغير حساب، ومن استوت حسناته وسيئاته فذاك الذي يحاسب حسابا يسيرا، ثم يدخل الجنة، ومن زادت سيئاته على حسناته فذاك الذي أوبق نفسه، وإنما الشفاعة في مثله". فإن صح هذا دل على أن الذين يدخلون الجنة بغير حساب أرفع رتبة من غيرهم مطلقا، لكن قال الحافظ ابن حجر: وليس الأمر كذلك، فقد أخرج أحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان من حديث رفاعة الجهني قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر حديثا، وفيه "وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا بغير حساب، وإني لأرجو ألا يدخلوها حتى تبوءوا أنتم ومن صلح من أزواجكم وذرياتكم مساكن في الجنة" فهذا يدل على أن مزية السبعين بالدخول بغير حساب لا تستلزم أنهم أفضل من غيرهم، بل فيمن يحاسب في الجملة من يكون أفضل منهم، وفيمن يتأخر عن الدخول، ممن تحققت نجاته، وعرف مقامه من الجنة، من هو أفضل منهم. ثم ساق حديثا رواه الطبراني عن أم قيس بنت محصن، وهي أخت عكاشة أنها خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى البقيع، فقال: يحشر من هذه المقبرة سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب كأن وجوههم القمر ليلة البدر". اهـ. ومن هذا الحديث يستدل الحافظ ابن حجر على أن مزية السبعين ألفا هذه لا تستلزم مزيتهم على الناس على الإطلاق. والذي تستريح إليه النفس أن هؤلاء السبعين ألفا -إذا استثنينا الأنبياء- أفضل من غيرهم، فهم أفضل ممن يحاسب حسابا يسيرا وممن يحاسب فيعذب، ولعلهم السابقون السابقون أو هم من السابقين على الأقل. نعم. قيل: إن هذا العدد لا مفهوم له، بل المراد به التكثير، شأنه في ذلك شأن السبعة في الآحاد، ومنه قوله تعالى: {والبحر يمده من بعده سبعة أبحر} [لقمان: 27] وقوله: {سبع سنابل} [البقرة: 261] وقوله: {إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} [التوبة: 80].

والأولى أن يعتبر العدد المذكور، ويحمل على ظاهره، لكنه يمكن أن يكون الله قد زاده بناء على طلب الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد روى أحمد والبيهقي عن أبي هريرة "فاستزدت ربي فزادني مع كل ألف سبعين ألفا" وعند أحمد من حديث أبي بكر الصديق "أعطاني مع كل واحد من السبعين ألفا سبعين ألفا" والروايات في الزيادة كثيرة ومختلفة، والعلم عند الله وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وقد ورد في مجموع الروايات وصف السبعين ألفا بأربع صفات هي: أنهم كانوا لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون. 2 - أما الكي. فقد روى البخاري عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن كان في شيء من أدويتكم شفاء ففي شرطة محجم، أو لذعة بنار، وما أحب أن أكتوي" كما روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الشفاء في ثلاثة: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وأنهي أمتي عن الكي" فأول هذا الحديث يفيد عموم الجواز، حيث نسب الشفاء إليه، وآخره يفيد الكراهية، وروى أحمد وأبو داود والترمذي عن عمران قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكي، فاكتوينا فما أفلحنا ولا أنجحنا" والنهي في هذا الحديث محمول على الكراهية، لأنه لو كان للحرمة ما فعلوه. وقال الحافظ ابن حجر: إنما نهى عنه مع إثباته الشفاء فيه إما لكونهم كانوا يرون أنه يحسم المادة بطبعه، فكرهه لذلك، ولذلك كانوا يبادرون إليه قبل حصول الداء، لظنهم أنه يحسم الداء، فيتعجل الذي يكتوي التعذيب بالنار، لأمر مظنون، وقد لا يتفق أن يقع له ذلك المرض، يقطعه الكي، ثم قال: لا يترك الكي مطلقا، ولا يستعمل مطلقا، بل يستعمل عند تعينه طريقا إلى الشفاء مع مصاحبة اعتقاد أن الشفاء بإذن الله تعالى، وعلى هذا يحمل حديث المغيرة رفعه "من اكتوى أو استرقى فقد برئ من التوكل" أخرجه الترمذي. اهـ. وقال ابن أبي جمرة: علم من مجموع كلامه صلى الله عليه وسلم في الكي أن فيه نفعا، وأن فيه مضرة، فلما نهى عنه علم أن جانب المضرة فيه أغلب، وقريب منه إخبار الله تعالى أن في الخمر منافع، ثم حرمها لأن المضار التي فيها أعظم من المنافع. اهـ. وقال الخطابي: الكي يستعمل في الخلط الباغي الذي لا تنحسم مادته إلا به، ولهذا كانت العرب تقول في أمثالها: آخر الدواء الكي، وقد كوى النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ وغيره، واكتوى غير واحد من الصحابة. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: ولم أر في أثر صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم اكتوى. اهـ. ومجمل القول في الكي: أنه جائز للحاجة، وأن الأولى تركه إذا لم يتعين علاجا، وأنه إذا تعين رفع الحرج عمن يفعله بنفسه، وعمن يفعله بغيره. والله أعلم.

3 - وأما الرقية فقد تمسك بهذا الحديث من كره الرقى، وزعم أنها قادحة في التوكل، لكن أحاديث صحيحة كثيرة وردت تبيح الرقى، بل تحث عليها، ومن ذلك ما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه "أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أتوا على حي من أحياء العرب فلم يقروهم، فبينما هم كذلك إذ لدغ سيد أولئك. فقالوا: هل معكم من دواء أو راق؟ فقالوا: إنكم لم تقرونا، ولا نفعل حتى تجعلوا لنا جعلا، فجعلوا لهم قطيعا من الشاة، فجعل يقرأ بأم القرآن، فبرأ فأتوا بالشاء، فقالوا: لا نأخذ حتى نسأل النبي صلى الله عليه وسلم: فسألوه فضحك، وقال: وما أدراك أنها رقية؟ خذوها واضربوا لي بسهم" وروي أيضا عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أمرني النبي صلى الله عليه وسلم، أو أمر أن يسترقى من العين"، وروي أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في وجهها سفعة [حمرة يعلوها سواد] فقال: "استرقوا لها، فإن بها النظرة" وروي أيضا عن عائشة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرقي وروايتنا السابقة في أولها "لا رقية إلا من عين أو حمة". وفي البخاري عن عائشة قالت: "رخص النبي صلى الله عليه وسلم الرقية من كل ذي حمة" أي ذات سم. أما هذا التعارض بين وصف السبعين ألفا بأنهم كانوا لا يسترقون وبين هذه الأحاديث الدالة على مشروعية الرقية فقد قال فيه الطبري والمازري وغيرهما: إن حديث السبعين ألفا محمول على من ابتعد عن اعتقاد الطبائعيين، في أن الأدوية تنفع بطبعها، كما كان أهل الجاهلية يعتقدون. وقال آخرون: الرقى التي يحمد تركها ما كان من كلام الجاهلية أو كانت بكلام لا يعقل معناه، لاحتمال أن يكون كفرا أو يؤدي إلى الكفر، بخلاف الرقى بالقرآن والذكر ونحوهما، ولذا قال صلى الله عليه وسلم "اعرضوا على رقاكم، ولا بأس بالرقى ما لم يكن شركا" ورد القاضي عياض هذا القول بأن الحديث يدل على أن للسبعين ألفا مزية على غيرهم، وفضيلة انفردوا بها عمن شاركهم في أصل الفضل والديانة؛ ومن كان يعتقد أن الأدوية تؤثر بطبعها، أو يستعمل رقى الجاهلية ونحوها فليس مسلما. وقال الداودي وطائفة: إن المراد بالحديث الذين يجتنبون فعل ذلك -الكي والرقية- في الصحة، خشية وقوع الداء، أما من يستعمل الدواء بعد وقوع الداء به فلا، ورد هذا القول بأنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة استعمال ذلك قبل وقوعه، فقد روى البخاري في باب المرأة ترقى الرجل، من حديث عائشة" أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه، ينفث بالمعوذات، ويمسح بهما وجهه" وروي أيضا من حديث ابن عباس "أنه صلى الله عليه وسلم كان يعوذ الحسن والحسين بكلمات الله التامة" وعند أبي داود والنسائي بسند صحيح أن رجلا قال: لدغت الليلة فلم أنم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضرك" ولا خلاف في مشروعية الفزع إلى الله، والالتجاء إليه، في كل ما وقع وما يتوقع. وقال ابن التين: الرقى بالمعوذات وغيرها من أسماء الله تعالى هو الطب الروحاني، إذا كان على لسان الأبرار من الخلق حصل الشفاء بإذن الله تعالى. فلما عز هذا النوع فزع الناس إلى الطب

الجسماني وتلك الرقى المنهي عنها، التي يستعملها المعزم وغيره، ممن يدعي تسخير الجن له فيأتي بأمور مشبهة، مركبة من حق وباطل، يجمع إلى ذكر الله وأسمائه ما يشوبه من ذكر الشياطين، والاستعانة بهم، والتعوذ بمردتهم لذلك كره من الرقى ما لم يكن بذكر الله وأسمائه خاصة، وباللسان العربي الذي يعرف معناه، ليكون بريئا من الشرك، وعلى كراهة الرقى بغير كتاب الله وسنة رسوله علماء الأمة، اهـ. وكانت رقية رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم رب الناس، مذهب الباس، اشف أنت الشافي، لا شافي إلا أنت، شفاء لا يغادر سقما" وفي رواية "امسح الباس رب الناس، بيدك الشفاء، لا كاشف له إلا أنت". وهذه الأقوال كلها تتجه إلى أن بعض السبعين ألفا كانوا يسترقون، وأن الرقى المشروعة لا تمنع من دخول الجنة بغير حساب، يصرح بهذا القرطبي فيقول: رقى النبي صلى الله عليه وسلم ورقي، وفعله السلف والخلف فلو كان مانعا من اللحاق بالسبعين، أو قادحا في التوكل لم يقع من هؤلاء، وفيهم من هو أعلم وأفضل ممن عداهم. اهـ. وهناك فريق يتجه إلى القول بأن السبعين ألفا ابتعدوا عن الكي والرقى ابتعادا كليا. قال الحليمي: يحتمل أن يكون المراد بهؤلاء المذكورين في الحديث من غفل عن أحوال الدنيا، وما فيها من الأسباب المعدة لدفع العوارض، فهم لا يعرفون الاكتواء، ولا الاسترقاء، وليس لهم ملجأ فيما يعتريهم إلا الدعاء والاعتصام بالله، والرضى بقضائه. اهـ. وقال بعضهم: إنما ترك المذكورون الرقى والاسترقاء حسما للمادة لأن فاعل ذلك لا يأمن أن يكل نفسه إليه. وقال ابن الأثير: هذا من صفة الأولياء المعرضين عن الدنيا وأسبابها وعلائقها، وهؤلاء هم من خواص الأولياء، ولا يرد على هذا وقوع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم فعلا وأمرا، لأنه كان في أعلى مقامات العرفان ودرجات التوكل، فكان ذلك منه للتشريع وبيان الجواز. اهـ. والذي تستريح إليه النفس أن الرقى مشروعة بثلاثة شروط: أن تكون بكلام الله تعالى، أو بأسمائه وصفاته، وأن تكون باللسان العربي، أو بما يعرف معناه من غيره، وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها، بل بإرادة الله تعالى، وفعلها بهذه الصفة لا يقدح في التوكل، وليس معنى كون هذه صفة السبعين ألفا أن غيرها نقص، فقد يكون من قبيل الحسن والأحسن، والله أعلم. 4 - وأما التطير والتشاؤم فقد كان من عادة الجاهلية، فأبطله الإسلام وحذر منه، فعند الطبراني "لن ينال الدرجات العلا من تكهن أو استقسم، أو رجع من سفر تطيرا" وعند ابن حبان عن ابن مسعود رفعه "الطيرة شرك". نعم قد تشفق النفوس البشرية من الشر أحيانا إذا شاهدت أو سمعت شيئا معينا، وعلى المؤمن

أن يعقب هذا الإشفاق بالاعتماد على الله، والمضي فيما اعتزم عليه، وفي ذلك يقول ابن مسعود: "وما منا إلا تطير، ولكن الله يذهبه بالتوكل" وفي الحديث "إذا تطيرت فلا ترجع" وعند البيهقي "من عرض له من هذه الطيرة شيء فليقل: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك" وعند أبي داود "إذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بالله". أما الفأل الصالح والكلمة الصالحة الحسنة فلا شيء فيه، بل كان صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل الصالح، كما جاء في الحديث، إذ الفأل من طريق حسن الظن بالله، وقد جعل الله في فطر الناس محبة الكلمة الطيبة والأنس بها، كما جعل فيهم الارتياح لمنظر الماء الصافي، وإن كان لا يملكه ولا يشربه، ويشترط في إباحة الفأل ألا يعمد إليه ولا يقصده، فإن فعل ذلك كان مذموما كالطيرة، والله أعلم. 5 - وأما التوكل على الله فقد قالت طائفة من الصوفية: لا يستحق اسم التوكل إلا من لم يخالط قلبه خوف غير الله تعالى، حتى لو هجم عليه الأسد لا ينزعج، وحتى لا يسعى في طلب الرزق، لأن الله ضمنه له. وهذا القول بعيد عن الصواب، والحق أن من وثق بالله، وأيقن أن قضاءه ماض لم يقدح في توكله تعاطيه الأسباب، اتباعا للسنة، فقد استعان صلى الله عليه وسلم في الحرب بالدرع، ولبس على رأسه المغفر وأقعد الرماة على فم الشعب، وخندق حول المدينة، وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة، وهاجر هو، وتعاطى أسباب الأكل والشراب، وادخر لأهله قوتهم ولم ينتظر أن ينزل عليه من السماء، وكان أحق الخلق أن يحصل له ذلك، وقال للذي سأله: أعقل ناقتي أو أدعها؟ قال له "اعقلها وتوكل" فأشار إلى أن الاحتراز والسعي لا يتعارض مع التوكل. وقد سئل الإمام أحمد عن رجل جلس في بيته أو في المسجد، وقال: لا أعمل شيئا حتى يأتيني رزقي؟ فقال: هذا رجل جهل العلم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله جعل رزقي تحت ظل رمحي" وقال: "لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا" فذكر أنها تغدو وتروح في طلب الرزق، وقال: وكان الصحابة يتجرون، ويعملون في نخيلهم، ولنا بهم أسوة حسنة. اهـ. وقد حثت الشريعة الإسلامية كثيرا على العمل، فقال صلى الله عليه وسلم: "أفضل ما أكل الرجل من كسبه وكان داود يأكل من كسبه"، قال تعالى: {وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم} [الأنبياء: 80] وقال تعالى: {خذوا حذركم} [النساء: 71]. وأما قول بعض الصوفية: كيف تطلب ما لا تعرف مكانه؟ أي كيف تطلب الرزق وهو مجهول لك؟ فجوابه: أن يفعل السبب المعروف المأمور به ويتوكل على الله فيما يخرج عن قدرته، فيشق الأرض مثلا ويلقي الحب ويتوكل على الله في إنباته، وإنزال الغيث له، ويحصل السلعة مثلا، وينقلها ويتوكل على الله في إلقاء الرغبة في قلب من يطلبها منه، بل ربما كان التكسب واجبا لقادر على الكسب يحتاج عياله للنفقة، فمتى ترك ذلك كان عاصيا.

والتحقيق: أن التوكل يحصل بأن يثق بوعد الله، ويوقن بأن قضاءه واقع، ويعمل ويتبع السنة في الأخذ بالأسباب، وفي ابتغاء الرزق، مصداقا لقوله تعالى: {فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه} [الملك: 15] ومع ذلك فلا يطمئن إلى الأسباب بقلبه، بل يعتقد أنها لا تجلب بذاتها نفعا، ولا تدفع ضرا، بل السبب والمسبب فعل الله تعالى، والكل بمشيئته، فإذا وقع من المرء ركون إلى السبب قدح في توكله، والناس مع التوكل على قسمين: واصل، وسالك، فالأول صفة الواصل، وهو الذي لا يلتفت إلى الأسباب ولو تعاطاها، وأما السالك فيقع له الالتفات إلى السبب أحيانا، إلا أنه يدفع ذلك عن نفسه بالطرق العلمية إلى أن يرقى إلى مقام الواصل. والمعتدلون من المتصوفة على ذلك، إذ يقول أبو القاسم القشيري: التوكل محله القلب، وأما الحركة الظاهرة فلا تنافيه إذا تحقق العبد أن الكل من الله تعالى، فإن تيسر شيء فبتيسيره، وإن تعسر فبتقديره. والله أعلم. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - فضل الله على أمة محمد صلى الله عليه وسلم. 2 - وأن أهل الجنة يختلف جمالهم وبهاؤهم كما تختلف درجاتهم. 3 - وفيه منقبة لعكاشة، حيث جاء في الخبر الصادق أنه ممن يدخل الجنة بغير حساب، وقد جاء في بعض الروايات "أمنهم أنا يا رسول الله؟ قال: نعم" وجمع الحافظ ابن حجر بين هذه الرواية وبين ما جاء في رواياتنا بأنه سأل الدعاء أولا. فدعا له ثم استفهم، فقيل له: أجيب لك الدعاء. 4 - وفي الحديث لطف النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه، وحسن أدبه معهم؛ إذ لم يقل للرجل الآخر: لست منهم، أو لست على أخلاقهم، واكتفى بقوله: "سبقك بها عكاشة" وقد كثر الكلام حول حقيقة هذا الرجل الآخر، فقيل: كان منافقا، وقيل: كان من خيار المهاجرين، وقيل: كان من خيار الأنصار. قال ابن الجوزي: يظهر لي أن الأول سأل عن صدق قلب فأجيب، وأما الثاني: فيحتمل أن يكون أريد بما حسم المادة فلو قال للثاني: نعم. لأوشك أن يقوم ثالث ورابع إلى ما لا نهاية، وليس كل الناس يصلح لذلك. وقال القرطبي: لم يكن عند الثاني من تلك الأحوال ما كان عند عكاشة فلذلك لم يجب. قال: وهذا أولى من قول من قال: كان منافقا لوجهين: أحدهما: أن الأصل في الصحابة عدم النفاق، فلا يثبت ما يخالف ذلك إلا بنقل صحيح. الثاني: أنه قل أن يصدر مثل هذا السؤال إلا عن قصد صحيح، ويقين بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم. وقال السهيلي: الذي عندي في هذا أنها كانت ساعة إجابة علمها صلى الله عليه وسلم، واتفق أن الرجل الثاني قال بعد ما انقضت. وصحح النووي أن النبي صلى الله عليه وسلم علم بالوحي أنه يجاب في حق عكاشة، ولا يجاب من الآخر. 5 - وفيه أدب الصحابة، وحسن عشرتهم، وسترهم على من يتوهم فيه النقص، فأبرزوا اسم عكاشة، وأبهموا اسم الرجل الآخر مع علمهم به.

6 - وأن الرقى والكي والتطير غير مشروعة على خلاف وتفصيل سبق في الرقى والكي. 7 - وفيه فضيلة التوكل على الله تعالى. 8 - ويؤخذ من قوله في الرواية السابعة: "فما حملك على ذلك؟ قلت حديث الخ" مدى حرص الصحابة على اتباع السنة في أمورهم وأفعالهم. 9 - ومن قوله: "قد أحسن من انتهى إلى ما سمع" مدحهم لمن هذه صفته. 10 - ومن قوله: "أما أني لم أكن في صلاة" حرصهم على إبعاد الرياء والسمعة، حيث أسرع بنفي اتهام العبادة والسهر في الصلاة عن نفسه؛ لئلا يظن به ما لم يكن عليه. 11 - ومن خوض الناس في صفة السبعين ألفا يؤخذ إباحة المناظرة في العلم، والمباحثة في نصوص الشرع على جهة الاستفادة وإظهار الحق. والله أعلم

(109) باب نصف أهل الجنة من هذه الأمة

(109) باب نصف أهل الجنة من هذه الأمة 392 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم "أما ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ " قال فكبرنا. ثم قال "أما ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ " قال فكبرنا. ثم قال "إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة. وسأخبركم عن ذلك. ما المسلمون في الكفار إلا كشعرة بيضاء في ثور أسود. أو كشعرة سوداء في ثور أبيض". 393 - عن عبد الله رضي الله عنه قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة. نحوا من أربعين رجلا. فقال "أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ " قال قلنا: نعم. فقال "أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ " فقلنا: نعم. فقال "والذي نفسي بيده! إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة. وذاك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة. وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود. أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر". 394 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسند ظهره إلى قبة أدم. فقال "ألا. لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة. اللهم! هل بلغت؟ اللهم! اشهد! أتحبون أنكم ربع أهل الجنة؟ " فقلنا نعم. يا رسول الله! فقال "أتحبون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ " قالوا: نعم يا رسول الله! قال "إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة. ما أنتم في سواكم من الأمم إلا كالشعرة السوداء في الثور الأبيض. أو كالشعرة البيضاء في الثور الأسود". 395 - عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقول الله عز وجل: يا آدم! فيقول: لبيك! وسعديك! والخير في يديك! قال يقول: أخرج بعث النار. قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسع مائة وتسعة وتسعين. قال فذاك حين يشيب الصغير {وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد)} قال فاشتد عليهم. قالوا: يا رسول الله! أينا ذلك الرجل؟ فقال "أبشروا. فإن من يأجوج ومأجوج ألفا. ومنكم رجل" قال ثم قال "والذي نفسي بيده! إني لأطمع أن

تكونوا ربع أهل الجنة" فحمدنا الله وكبرنا. ثم قال "والذي نفسي بيده! إني لأطمع أن تكونوا ثلث أهل الجنة" فحمدنا الله وكبرنا. ثم قال "والذي نفسي بيده! إني لأطمع أن تكونوا شطر أهل الجنة. إن مثلكم في الأمم كمثل الشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود. أو كالرقمة في ذراع الحمار". 396 - كلاهما عن الأعمش بهذا الإسناد غير أنهما قالا: "ما أنتم يومئذ في الناس إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض" ولم يذكر: "أو كالرقمة في ذراع الحمار". -[المعنى العام]- ما أحوج القلوب بين الحين والحين إلى ما يبعث فيها الوجل، وما يثير فيها الخوف من عقاب الله، وإذا كان ترك المعادن يصيبها بالصدأ الذي لا يذهب إلا بما يجليها، فإن ترك القلوب يصيبها بالران والغفلة، انشغالا بشهوات الحياة الدنيا، وعلاجها العظة والتذكير بما بعد الموت من جزاء، ومن أجل هذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخول أمته بالموعظة، وبتذكيرهم الهول الجسيم في يوم القيامة. قال لهم يوما بمنى، وقد جلسوا حوله نحوا من أربعين رجلا، في قبة من جلد مدبوغ. قال: أول من يدعى يوم القيامة آدم، فتتراءى له ذريته، وقد طال بهم الموقف العظيم، وبلغ بهم العرق ما بلغ. فيقول الجبار: عز وجل. يا آدم. فيقول لبيك وسعديك، والخير في يديك. فيقول له: أخرج من ذريتك بعث جهنم ووجههم إليها، انظر ما يرفع إليك من أعمالهم، وأخرج نصيب النار من بينهم، فيقول: يا رب. كم أخرج؟ فيقول: أخرج من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فعندئذ يشيب الولدان، وتذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد. وارتاع الصحابة عند سماع هذا الحديث، وشق ذلك عليهم، وظهرت الكآبة والحزن على وجوههم، وأنشئوا يبكون. قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ما دهاكم؟ قالوا: يا رسول الله، إذا أخرج إلى النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون فماذا يبقى بعد ذلك؟ من منا ذلك الواحد من الألف: ثم عادوا يبكون. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبشروا، وسأحدثكم بقلة المسلمين في الكفار يوم القيامة، إن مثلكم في الأمم كمثل الشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأبيض، فلم يكفكف ذلك القياس دمعهم، ولم يطمئنوا منه على مصيرهم، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ واستعظم ذلك الصحابة، وفرحوا، إنهم لم يكونوا يتصورون -بعد أن

سمعوا الواحد من الألف- أن يكونوا في الجنة شيئا، فكيف يطلب رضاهم ليكونوا ربع أهلها؟ لقد أنطقت النشوة ألسنتهم بالحمد لله والله أكبر، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قالوا: نعم رضينا، والحمد لله والله أكبر. قال: أترضون أن تكونوا نصف أهل الجنة؟ قالوا: نعم رضينا، والحمد لله والله أكبر. قال: بل أنتم نصف أهل الجنة، وتقاسمونهم في النصف الثاني. وفرح المسلمون بوعد الله، وأعدوا لهذا الجزاء عدته، وعملوا وجاهدوا في الله حق جهاده، فاستحقوا بذلك فضله وعفوه ورحمته، وصدق عليهم قوله: {والسابقون السابقون* أولئك المقربون* في جنات النعيم} [الواقعة: 10 - 12]. -[المباحث العربية]- (عن عبد الله) بن مسعود رضي الله عنه. (أما ترضون) "أما" بتخفيف الميم، حرف عرض، بمنزلة "ألا" وهي مختصة بالفعل. قال ابن هشام: وقد يدعى في ذلك أن الهمزة للاستفهام التقريري، وأن "ما" نافية، مثلها في "ألم" و"ألا" اهـ. ولعله الأنسب هنا. وفي رواية "أترضون"؟ وفي رواية "ألا ترضون" وفي رواية "أليس ترضون"؟ وفي رواية "أتحبون"؟ . (أن تكونوا ثلث أهل الجنة) "ثلث" بضم اللام وسكونها وكذا "الربع" بضم الباء وسكونها. (إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة) في القاموس: الشطر نصف الشيء، وجزؤه، ومنه حديث الإسراء "فوضع شطرها" أي بعضها. اهـ. والمراد هنا النصف، ففي الرواية الثانية "إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة". (وسأخبركم عن ذلك) وفي رواية "وسأحدثكم بقلة المسلمين في الكفار يوم القيامة". (إلا كشعرة بيضاء في ثور أسود) في الرواية الثانية "أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر" قال ابن التين: أطلق الشعرة، وليس المراد حقيقة الوحدة، لأنه لا يكون ثور ليس في جلده غير شعرة واحدة من غير لونه. اهـ. فالكلام كناية عن قلة المسلمين عددا بالنسبة لغيرهم من الأمم. (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة نحوا من أربعين رجلا) "في قبة" خبر "كان" و"نحوا" خبر بعد خبر، أو حال من الضمير المستكن في الخبر، وفي الرواية الثالثة "فأسند ظهره إلى قبة أدم" والإضافة في "قبة أدم" بمعنى "من" و"الأدم" بفتح الهمزة والدال: اسم جمع، والأديم: الجلد المدبوغ، واستناده إلى القبة لا ينافي كونه فيها، لأنه مستند إلى جدارها من الداخل. (لبيك وسعديك) معنى "لبيك" إجابة لك بعد إجابة، للتأكيد، وقيل: قربا منك وطاعة لك، وقيل: أنا مقيم على طاعتك، وقيل: محبتي لك. قال ابن الأنباري: ثنوا "لبيك" كما ثنوا "حنانيك"

ومعنى "سعديك" أي ساعدت طاعتك مساعدة بعد مساعدة. قاله النووي. أي ساعدتني طاعتك مساعدة بعد مساعدة، وفي القاموس. معناه إسعادا بعد إسعاد، أي سعدت بطاعتك سعادة بعد سعادة. (أخرج بعث النار) "البعث" هنا بمعنى المبعوث الموجه إلى النار، وأصلها في السرايا التي يبعثها الأمير إلى جهة من الجهات للحرب وغيرها، والمعنى هنا: ميز أهل النار عن غيرهم، وفي رواية "أخرج بعث جهنم من ذريتك" وفي رواية "أخرج نصيب النار". (وما بعث النار؟ ) قال الحافظ ابن حجر: الواو عاطفة على شيء محذوف، تقديره: سمعت وأطعت، وما بعث النار؟ أي وما مقدار مبعوث النار؟ . (اشتد ذلك عليهم) وفي رواية "فشق ذلك على قوم، ووقعت عليهم الكآبة والحزن". (أينا ذلك الرجل) الذي يبقى من الألف؟ قال الطيبي: يحتمل أن يكون الاستفهام على حقيقته، فكان حق الجواب أن ذلك الواحد فلان، أو من يتصف بالصفة الفلانية، ويحتمل أن يكون استعظاما لذلك الأمر، واستشعارا للخوف منه، فلذلك وقع الجواب بقوله "أبشروا". (فإن من يأجوج ألف ومنكم رجل) قال النووي: هكذا هو في الأصول والروايات. "ألف" و"رجل" بالرفع فيهما، وهو صحيح، وتقديره "إنه" بالهاء التي هي ضمير الشأن، وحذفت الهاء، وهو جائز معروف. اهـ. وفي رواية البخاري "ألفا" بالنصب و"منكم رجل" بالرفع. قال الحافظ ابن حجر: تقديره: والمخرج منكم، أو ومنكم رجل مخرج، وقال: ووقع في بعض الشروح لبعض الرواة "فإن منكم رجلا، ومن يأجوج ومأجوج ألفا" بالنصب فيهما. الأول على نصب اسم "إن" صريحا، والثاني بتقدير، وفي رواية الأصيلي بالرفع في "ألف" والنصب في "رجلا" ثم قال الحافظ ابن حجر: ظاهره زيادة واحد عما ذكر في تفصيل الألف، فيحتمل أن يكون من جبر الكسر، والمراد أن من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين، أو ألفا إلا واحدا. اهـ. (كالرقمة في ذراع الحمار) "الرقمة" بفتح الراء وإسكان القاف. قال أهل اللغة: الرقمتان في الحمار هما الأثران في باطن عضديه، وقيل: هي الدائرة في ذراعيه، وقيل: هي الهنة الناتئة في ذراع الدابة من داخل، وتكون في قوائم الشاة، وقال الداودي: الرقمة شيء مستدير، لا شعر فيه، سميت به لأنه كالرقم. اهـ. -[فقه الحديث]- قال النووي: أما قوله صلى الله عليه وسلم "ربع أهل الجنة، ثم ثلث أهل الجنة، ثم الشطر، ولم يقل أولا: شطر أهل الجنة فالفائدة حسنة، وهي أن ذلك أوقع في نفوسهم، وأبلغ في إكرامهم فإن إعطاء الإنسان مرة بعد

أخرى دليل على الاعتناء به، ودوام ملاحظته، وفيه فائدة أخرى، هي تكريره البشارة، مرة بعد أخرى، وفيه أيضا حملهم على تجديد شكر الله تعالى وتكبيره وتحميده على كثرة نعمه. اهـ. وقال ابن التين: ذكره بلفظ الاستفهام لإرادة البشارة بذلك، وذكره بالتدريج ليكون أعظم لسرورهم. اهـ. وظاهر الحديث أن نهاية البشرى كون المسلمين من هذه الأمة نصف أهل الجنة، وهذا يعارض ما أخرجه أحمد وابن أبي حاتم، من حديث أبي هريرة قال: لما نزلت {ثلة من الأولين* وثلة من الآخرين} [الواقعة: 39 - 40] فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، بل ثلث أهل الجنة، بل أنتم نصف أهل الجنة، وتقاسمونهم في النصف الثاني" وما أخرجه الطبراني من وجه آخر عن أبي هريرة، بلفظ "أنتم ربع أهل الجنة، أنتم ثلث أهل الجنة، أنتم نصف أهل الجنة. أنتم ثلثا أهل الجنة" وما أخرجه أحمد والترمذي من حديث بريدة رفعه "أهل الجنة عشرون ومائة صف، أمتي منها ثمانون صفا" وقد رفع هذا التعارض بأنه صلى الله عليه وسلم لما رجا رحمة ربه أن تكون أمته نصف أهل الجنة، أعطاه ما ارتجاه، وزاده، وهو نحو قوله تعالى: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} [الضحى: 5]. وقريب من هذا ما يقال للتوفيق بين الروايات التي ساقت البشرى بأسلوب الرجاء والطمع، وبين الروايات التي ساقتها بأسلوب القطع والجزم، كأنه رجا أولا فأجيب، فأخبر صلى الله عليه وسلم. وإنما خص آدم بإخراج بعث النار لكونه والد الجميع، ولكونه كان قد عرف أهل السعادة من أهل الشقاء، فقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، وعن يمينه أسودة وعن شماله أسودة، كما تقدم في حديث الإسراء، وقد أخرج ابن أبي الدنيا من مرسل الحسن قال "يقول الله لآدم: يا آدم. أنت اليوم عدل بيني وبين ذريتك، قم فانظر ما يرفع إليك من أعمالهم". وقد أشكل قوله في الحديث في روايته الرابعة "فذاك حين يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد" مما يفيد أن ذلك يقع في الموقف، أشكل بأن ذلك الوقت لا حمل فيه ولا وضع ولا شيب، وأجاب الكرماني بأن ذلك وقع على سبيل التمثيل والتهويل، والتقدير: أن الحال ينتهي إلى أنه لو كانت النساء حينئذ حوامل لوضعت، كما تقول العرب: أصابنا أمر يشيب منه الوليد؛ ونقل مثل هذا عن الحسن البصري في تفسير الآية، فقال: المعنى أن لو كانت هناك مرضعة لذهلت، وقال الحافظ ابن حجر: يحتمل أن يحمل على حقيقته، فإن كل أحد يبعث على ما مات عليه، فتبعث حاملا، والمرضع مرضعة والطفل طفلا، فإذا وقعت زلزلة الساعة، وقيل ذلك اليوم لآدم ما قيل ورأى الناس آدم، وسمعوا ما قيل له، وقع بهم من الوجل ما يسقط معه الحمل، ويشيب له الطفل، وتذهل به المرضعة. اهـ. ومال إلى هذا القرطبي فقال: يحتمل أن يكون المعنى أن ذاك حين يقع لا يهم كل أحد إلا نفسه، حتى إن الحامل تسقط من مثله، والمرضعة الخ، ونقل ما ذكره الحليمي، واستحسنه من قوله: يحتمل أن يحيي الله حينئذ كل حمل كان قد تم خلقه، ونفخت فيه الروح، فتذهل الأم حينئذ عنه، لأنها

لا تقدر على إرضاعه، إذ لا غذاء هناك ولا لبن، وأما الحمل الذي لم ينفخ فيه الروح فإنه إذا سقط لم يجيء، لأن ذلك يوم الإعادة، فمن لم يمت في الدنيا لم يجيء يوم القيامة. اهـ. وظاهر الرواية الرابعة أن نصيب أهل الجنة من كل ألف واحد، وهذا يعارض ما جاء في حديث أبي هريرة "من كل مائة تسعة وتسعين" وقد طعن بعضهم في حديث أبي هريرة لمعارضته الروايات الكثيرة المتفقة على هذا العدد [من كل ألف واحد] وأجاب الكرماني بأن مفهوم العدد لا اعتبار له، فالتخصيص بعدد لا يدل على نفي الزائد، والمقصود من العددين واحد، وهو تقليل عدد المؤمنين، وتكثير عدد الكافرين. وأجاب الحافظ ابن حجر بحمل حديث أبي سعيد وما وافقه على جميع ذرية آدم، فيكون من كل ألف واحد، وحمل حديث أبي هريرة على من عدا يأجوج ومأجوج، فيكون من كل ألف عشرة، قال: ويقرب ذلك أن يأجوج ومأجوج ذكروا في حديث أبي سعيد دون حديث أبي هريرة ثم قال: ويحتمل أن يكون المراد ببعث النار الكفار ومن يدخلها من العصاة، فيكون من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون كافرا، ومن كل مائة تسعة وتسعون عاصيا. والعلم عند الله تعالى. اهـ. هذا فيما يخص نسبة أهل النار لأهل الجنة، أما نسبة أهل الجنة من المسلمين لغيرهم فهم الشطر أو يزيد، مع مراعاة أن المقصود بأهل الجنة في أمتنا وفي الأمم السابقة من كان مصيرهم الجنة، سواء عذبوا أو لم يعذبوا. والله أعلم. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - مشروعية الحمد والتكبير عند الفرح والسرور، وعند استعظام الأمور. 2 - وهول الأعداد الموجهة إلى النار بالنسبة للناجين. 3 - إن زلزلة الساعة لشيء عظيم. 4 - وفي قوله: "لا يدخل إلا نفس مسلمة" نص صريح في أن من مات على الكفر لا يدخل الجنة أصلا، وهذا النص على عمومه بإجماع المسلمين. 5 - وحرص آدم على رعاية الأدب مع ربه، حيث نسب الخير إلى الله بقوله "والخير في يديك" مع أن الشر أيضا بتقدير الله، وفي ذلك استعطاف عظيم يناسب المقام. 6 - وشفقة النبي صلى الله عليه وسلم وحرصه على أمته ورجاؤه الخير الوفير لها في الآخرة. 7 - وإدخاله السرور على أمته وتبشيره لها بفضل الله عليها، وإسباغه النعمة لها بستر تقصيرها في دنياها، وإدخالها الجنة في أخراها بمنه وكرمه جل شأنه. نسأله جلت قدرته، وعظمت رحمته أن يشملنا بعنايته وتوفيقه، وأن يعفو عن التقصير، وأن يقبل منا هذا الجهد الذي قصدنا به وجهه الكريم.

كتاب الطهارة

كتاب الطهارة

الطهارة بفتح الطاء مصدر طهر بضم الهاء وفتحها، من باب قرب وقتل، وهي لغة النظافة، والتركيب يدل على نقاء وإزالة دنس، حسيا كان كالأنجاس أو معنويا كالعيوب والذنوب. وشرعا: زوال حدث أو خبث بمطهر. قال الإمام الغزالي: للطهارة مراتب: منها تطهير الظاهر من الحدث والخبث، ثم تطهير الجوارح من الحرام، ثم تطهير القلب من الأخلاق المذمومة، ثم تطهير السر عما سوى الله تعالى. والطهور: بضم الطاء مصدر، وبفتحها ما يتطهر به، وذهب بعض أهل اللغة إلى أنه بالفتح فيهما، وحكي الضم فيهما. والطهر: بضم الطاء الاسم، والطهرة اسم من التطهير، والطهر نقيض الحيض، وقد اشتمل كتاب الطهارة في صحيح مسلم على الوضوء والسواك وخصال الفطرة، وإعفاء اللحية والاستطابة وآداب قضاء الحاجة والمسح على الخفين والنجاسات والغسل من الحيض والنفاس والاستحاضة والجنابة وطهارة جلود الميتة. ولنبدأ بالوضوء، فنقول وبالله التوفيق.

(110) باب فضل الوضوء

(110) باب فضل الوضوء 397 - عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الطهور شطر الإيمان. والحمد لله تملأ الميزان. وسبحان الله والحمد لله تملآن (أو تملأ) ما بين السموات والأرض. والصلاة نور. والصدقة برهان. والصبر ضياء. والقرآن حجة لك أو عليك. كل الناس يغدو. فبائع نفسه. فمعتقها أو موبقها". -[المعنى العام]- شاء الله للإسلام أن يكون دين الطهارة والنظافة، فجعل النظافة من الإيمان، والطهور شطر الإيمان، ومثل الوضوء للصلاة وتنظيف الظاهر والباطن بنهر يجري بباب أحدنا يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، فلا يبقى من درنه شيئا، شاء الله للإسلام أن يكون دين طهارة الظاهر والباطن بما شرع من شرائع وعبادات، فحمد الله وتسبيحه وذكره والثناء عليه يرطب اللسان، ويجلي صدأ القلوب، كلمات خفيفة على اللسان، ثقيلة في الميزان، والصلاة تنور البصيرة وتزكي الأعضاء، وتنهي عن الفحشاء والمنكر، وتحيط صاحبها بملائكة الرحمة، وتحوطه بعناية الله تعالى، والصدقة تطهر المال، وتزكي النفس من البخل والشح وتنقيها من الأثرة والأنانية وحب الذات، والصدقة برهان على صدق الإيمان باليوم الآخر، ودليل على حب الخير للناس، وصدق الله العظيم حيث يقول {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} [التوبة: 103] والصبر طهارة للعقيدة من الاعتراض على القضاء، ونور للنفوس في ظلمات نوائب الدهر ونوازل الزمان، وصدق الله العظيم حيث يقول {وبشر الصابرين* الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون* أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} [البقرة: 155 - 157]. والقرآن الكريم طهارة في ذاته {لا يمسه إلا المطهرون} [الواقعة: 79] طهارة لقارئه وسامعه وللعامل به، وشاهد صدق يرفع صاحبه يوم القيامة. تلك مثل من طهارة الإسلام وشرائعه، وكل الناس يتحرك ويسعى، لكن منهم من يستفيد من سعيه، ويبني آخرته بحركة دنياه، ومنهم من يشقى بسعيه ويهدم آخرته بلذات فانية في دنياه، وصدق الله العظيم حيث يقول {إن سعيكم لشتى* فأما من أعطى واتقى* وصدق بالحسنى* فسنيسره لليسرى* وأما من بخل واستغنى* وكذب بالحسنى* فسنيسره للعسرى* وما يغني عنه ماله إذا تردى* إن علينا للهدى* وإن لنا للآخرة والأولى} [الليل: 4 - 13].

-[المباحث العربية]- (الطهور شطر الإيمان) بضم الطاء وفتحها وقيل: الضم اسم للفعل، والفتح اسم لما يتطهر به، والمراد من الطهور التطهر، أي رفع الحدث الأكبر أو الأصغر، والشطر في الأصل النصف، وقيل: الجزء من قولهم: أشطار الناقة أي أجزاؤها، والإيمان بمعناه الاصطلاحي: التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وقيل: المراد من الإيمان هنا الصلاة، باعتبارها مظهرا من مظاهره؛ فيكون من قبيل ما قيل في تفسير قوله تعالى: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} [البقرة: 143] وسيأتي مزيد إيضاح لهذا في فقه الحديث. (والحمد لله تملأ الميزان) المراد من الميزان ميزان الأعمال يوم القيامة، ومعنى أن الحمد يملأ الميزان: أن ذاكرها يمتلئ ميزانه بالثواب، وقيل إن الأعمال نفسها والذكر نفسه يتجسم يوم القيامة، فيكون له ثقل وحجم يملأ الميزان. (وسبحان الله والحمد لله تملآن -أو تملأ- ما بين السموات والأرض) "سبحان" اسم منصوب، على أنه واقع موقع المصدر لفعل محذوف، تقديره: سبحت الله سبحانا. ومعناه تنزيه الله عما لا يليق به من كل نقص، فيلزم منه نفي الشريك والصاحبة والولد وجميع الرذائل، ويطلق التسبيح ويراد به جميع ألفاظ الذكر، ويطلق ويراد به صلاة النافلة، والمراد منه هنا الأول، لقرنه بالحمد لله. وأما قوله "تملآن أو تملأ" قد ضبطه النووي بالتاء، فالأول " تملآن" أي الجملتان، والثاني "تملأ" أي الجملة بما فيها المعطوف والمعطوف عليه، وصحح صاحب التحرير فيهما التذكير "يملآن أو يملأ" بالياء بدل التاء، أما الأول فعلى إرادة النوعين من الكلام، أو الذكرين، وأما الثاني فعلى إرادة الذكر، والمعنى أنه لو قدر ثوابهما جسما لملأ ما بين السموات والأرض. (والصلاة نور) أي كالنور، يستضاء بها ويهتدي في ظلمات المعاصي، وقيل غير ذلك مما سيأتي في فقه الحديث. (والصدقة برهان) أي حجة ودليل على إيمان صاحبها، وقيل غير ذلك. (والصبر ضياء) "الصبر" الإمساك في ضيق، وحبس النفس على المكروه، وعقد اللسان عن الشكوى، والمكابدة في التحمل وانتظار الفرج، وتختلف معانيه بتعلقاته، فإن كان عن مصيبة سمي صبرا، وإن كان في لقاء عدو سمي شجاعة، وإن كان عن كلام سمي كتمانا، وإن كان عن تعاطي ما نهي عنه سمي عفة، ومعنى أنه ضياء أنه محمود، لا يزال صاحبه مستضيئا به مهتديا مستمرا على الصواب. وقد ذهب بعض العلماء إلى أنه لا فرق بين النور والضياء إلا في اللفظ، لكن التحقيق أن الضياء هو الحاصل في الشيء من مقابلته المضيء بذاته، فالذي نراه على الأرض منبسطا من مقابلتها

للشمس ضوء، فإذا اشتد هو ضياء، أما النور فهو الحاصل في الشيء من مقابلته المضيء بالغير، فالذي نراه على الأرض من مقابلتها القمر الذي استمد ضوءه من مقابلته الشمس هو نور، وحسبنا القرآن الكريم إذ يقول {جعل الشمس ضياء والقمر نورا} [يونس: 5]. والحاصل أن الضياء فرط الإنارة، وإنما قرن بالصبر الذي هو حبس النفس لأنه عمل الذات والداخل، بخلاف الصلاة فإنها عمل الأركان والجوارح التابعة للباطن. (والقرآن حجة لك أو عليك) أي إن أخلصت في تلاوته وعملت به كان حجة لك، وإلا كان حجة عليك، والخطاب لكل من يتأتى خطابه، وقيل: المعنى أنه الحكم الفصل عند التنازع فتحتج به أو يحتج به عليك. (كل الناس يغدو) أي يبكر ويسعى ويعمل، والغدو السير أول النهار. (فبائع نفسه) معطوف على "يغدو" أي كل الناس بائع نفسه، إما لله تعالى بطاعته إياه، وإما للشيطان والهوى باتباعهما، ففي الكلام استعارة تصريحية تبعية، شبه قطع العمر وعمل الدنيا في مقابل ما بعد الموت بالبيع، والمراد كل الناس يعمل دنياه. (فمعتقها أو موبقها) أي فمنهم معتقها ومخلصها من العذاب، ومنهم موبقها أي مهلكها، والتعبير بالمسبب وإرادة السبب، أي فمنهم من يعمل عملا يكون سببا في تخليصها وبعدها عن النار، ومنهم من يعمل عملا يكون سببا في عذابها. -[فقه الحديث]- يتناول الحديث فضل الطهور، والذكر، والصلاة، والصدقة، والصبر، والقرآن. أما الطهور فقد قال النووي: اختلف في معنى قوله صلى الله عليه وسلم "الطهور شطر الإيمان" فقيل: معناه أن الأجر ينتهي تضعيفه إلى نصف أجر الإيمان، وقيل: معناه أن الإيمان يجب ما قبله من الخطايا، وكذلك الوضوء، لأن الوضوء لا يصح إلا مع الإيمان، فصار لتوقفه على الإيمان في معنى الشطر، وقيل: إن للإيمان شطرين: تطهير السر من خبائث النفس، وتطهير الجوارح، فمن طهر ظاهره للوقوف بين يدي الله جاء بنصف الإيمان، فإذا طهر سره كمل إيمانه، وقيل: المراد بالإيمان هنا الصلاة، كما قال تعالى {وما كان الله ليضيع إيمانكم} [البقرة: 143] والطهارة شرط في صحة الصلاة، فصارت كالشطر، وليس يلزم في الشطر أن يكون نصفا حقيقيا قال: وهذا القول أقرب الأقوال. ثم قال: ويحتمل أن يكون معناه أن الإيمان تصديق بالقلب، وانقياد بالظاهر، وهما شطران للإيمان، والطهارة متضمنة الصلاة، فهي انقياد في الظاهر، والله أعلم. اهـ. والذي اختاره الإمام النووي، واعتبره أقرب الأقوال هو بعيد الاحتمال، لأن تفسير الإيمان في قوله تعالى {وما كان الله ليضيع إيمانكم} بالصلاة أحد التفسيرات البعيدة، وفيه مجاز لا ضرورة له، ثم

إنه في الحديث يضعف القصد والهدف، إذ قولنا: الوضوء شرط الصلاة لا يعطي فضل الوضوء والترغيب فيه، ولا يأتي بمعنى جديد للمخاطبين الذين لم يصلوا منذ شرعت الصلاة إلا بالوضوء. وعندي أن الهدف من الحديث هو الترغيب في استصحاب الوضوء، كما أن الغرض من المذكورات الخمسة بعده هو الحث على الإكثار منها والإخلاص فيها، لتكثير الثواب لا لتحصيل أصل الفعل. وحيث كان الهدف كذلك كان المعنى أن الطهور كشطر الإيمان، فكما يحرص المؤمن على استصحاب الإيمان كاملا في كل حين ينبغي أن يحرص على استصحاب الوضوء في كل حين، وكما أن الإيمان الكامل وقاية للمؤمن من الوقوع في المحرمات، فإن الوضوء سلاح المؤمن ضد إغواء الشيطان، فالوضوء كشطر الإيمان في انبغاء استصحابه في كل حين، وأما الذكر فقد رغب فيه في الحديث بعبارتين: "الحمد لله تملأ الميزان" "وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السموات والأرض" وظاهره أفضلية التحميد والتسبيح على سائر الأذكار، ويؤيده ما رواه مسلم عن أبي ذر قلت: يا رسول الله أخبرني بأحب الكلام إلى الله قال: "أحب الكلام إلى الله سبحان الله وبحمده" وفيه تلميح بقوله تعالى عن الملائكة {ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} [البقرة: 30]. لكن يعارضه ما رواه الترمذي والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم "أفضل الذكر لا إله إلا الله". ومن هنا قال بعضهم: التهليل أفضل، لأنه صريح في التوحيد، والتسبيح متضمن له، ولأن نفي الإله في قوله "لا إله إلا الله" فيه نفي ما يضاده ويخالفه من النقائص، فمنطوق "لا إله إلا الله" توحيد، فيكون "لا إله إلا الله" أفضل، لأن التوحيد أصل، والتنزيه ينشأ عنه. وقال الحافظ ابن حجر: الذكر بلا إله إلا الله أرجح من الذكر بالحمد لله، فقد أخرج النسائي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "قال موسى: يا رب، علمني شيئا أذكرك به قال: قل لا إله إلا الله" الحديث، وفيه "لو أن السموات السبع، وعامرهن، والأرضين السبع، جعلن في كفة، ولا إله إلا الله في كفة لمالت بهن لا إله إلا الله" قال: وملء الميزان بالحمد لله في حديث أبي مالك الأشعري يدل على المساواة، والرجحان في حديث النسائي صريح في الزيادة، فيكون أولى. اهـ. وجمع القرطبي بما حاصله: إن هذه الأذكار إذا أطلق على بعضها أنه أفضل الكلام أو أحبه إلى الله فالمراد: إذا انضمت إلى أخواتها، بدليل حديث سمرة عن مسلم "أحب الكلام إليه أربع، لا يضرك بأيهن بدأت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر" ويحتمل أن يكتفى في ذلك بالمعنى، فيكون من اقتصر على بعضها كفى، لأن حاصلها التعظيم والتنزيه، ومن نزهه فقد عظمه، ومن عظمه فقد نزهه. اهـ. وقال الحافظ ابن حجر: يحتمل أن يجمع بأن تكون "من" مضمرة في قوله "أفضل الذكر لا إله إلا الله" وفي قوله "أحب الكلام" بناء على أن لفظ "أفضل وأحب" متساويان في المعنى. اهـ. وقال النووي: هذا الإطلاق في الأفضلية محمول على كلام الآدمي، وإلا فالقرآن أفضل الذكر. اهـ.

وقال البيضاوي: الظاهر أن المراد من الكلام كلام البشر، فإن الثلاث الأول وإن وجدت في القرآن لكن الرابعة لم توجد، ولا يفضل ما ليس فيه على ما هو فيه. اهـ. ويتحقق الكلمات الأربع غيرها من الذكر كالحوقلة، والبسملة، والحسبلة والاستغفار والدعاء بخيري الدنيا والآخرة، وفي حكم الذكر قراءة التفسير والحديث ومدارسة العلم، ثم الذكر يقع تارة باللسان، ويؤجر عليه الناطق، ولا يشترط استحضاره لمعناه، ولكن يشترط ألا يقصد به غير معناه، وإن انضاف إلى النطق الذكر بالقلب فهو أكمل، فإن انضاف إلى ذلك استحضار معنى الذكر وما اشتمل عليه من تعظيم الله تعالى ونفي التناقض عنه ازداد كمالا، فإن وقع ذلك في عمل صالح من صلاة أو جهاد أو غيرهما ازداد كمالا. ثم إن هذا الفضل الوارد في حديث الباب وما شابهه إنما هو لأهل الفضل في الدين والطهارة من الجرائم العظام، ولا يلحق بهم من أصر على شهواته، وانتهك دين الله وحرماته، مصداقا لقوله جل شأنه {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون} [الجاثية: 21]. وقوله {إنما يتقبل الله من المتقين} [المائدة: 27]. وأما الصلاة: ففي معنى قوله صلى الله عليه وسلم "والصلاة نور" يقول الإمام النووي: معناه أنها تمنع من المعاصي، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، وتهدي إلى الصواب، كما أن النور يستضاء به، وقيل: معناه أن يكون أجرها نورا لصاحبها يوم القيامة، وقيل: لأنها سبب لإشراق أنوار المعارف، وانشراح القلب، ومكاشفات الحقائق، لفراغ القلب فيها، وإقباله إلى الله تعالى بظاهره وباطنه، وقد قال الله تعالى {واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة: 45]، وقيل: معناه: أنها تكون نورا ظاهرا على وجهه يوم القيامة، ويكون في الدنيا أيضا على وجهه البهاء، بخلاف من لم يصل، والله أعلم. وأما الصدقة: وأنها برهان فقد قال صاحب التحرير: معناه يفزع إليها كما يفزع إلى البراهين، كأن العبد إذا سئل يوم القيامة عن مصرف ماله، كانت صدقاته براهين في جواب هذا السؤال، فيقول: تصدقت به. قال: ويجوز أن يوسم المتصدق بسيماء يعرف بها، فيكون برهانا له على حاله ولا يسأل عن مصرف ماله. اهـ. وقال بعضهم: معناه: الصدقة حجة على إيمان فاعلها، فإن المنافق يمتنع منها، لكونه لا يعتقدها، فمن تصدق استدل بصدقته على صدق إيمانه. وأما الصبر: فقد قيل: إنه ثلاثة أقسام: صبر عن المعصية فلا يرتكبها، وصبر على الطاعة حتى يؤديها، وصبر على البلية فلا يشكو ربه فيها، والصبر سبب في حصول كل كمال، وإلى ذلك أشار صلى الله عليه وسلم بقوله "إن الصبر خير ما أعطيه العبد" ويقول جل شأنه {وبشر الصابرين* الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون* أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} [البقرة: 155 - 157]. هذا، وإظهار البلاء لا على وجه الشكوى لا ينافي الصبر، إذ هو يتحقق بعدم الاعتراض على

المقدور، ففي أيوب -عليه السلام- يقول الله تعالى {إنا وجدناه صابرا نعم العبد} [ص: 44] مع أنه قال {أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين} [الأنبياء: 83]. وأما القرآن: فهو حجة ودفاع عمن يقرؤه مخلصا مرتلا متدبرا عاملا بما فيه، وحجة على من قدر على قراءته فأهمله، أو نسيه بعد ما حفظه، أو راءى بقراءته أو اختال به على من سواه من الخلق، أو عرضه للسخرية والاستهزاء، أو لم يعمل بما فيه. القرآن شاهد صدق، وحكم عدل، فهو كلام الله جل شأنه {ومن أصدق من الله قيلا} [النساء: 122]. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - فضل الطهور واستحباب استصحابه على الدوام. 2 - فضل الحمد والتسبيح وذكر الله تعالى. 3 - فضل الصلاة والمحافظة عليها والحث على الإكثار من التنفل بها. 4 - الترغيب في الصدقة. 5 - وفي الصبر. 6 - وفي قراءة القرآن بإخلاص والعمل بما فيه. 7 - الحث على سعي الإنسان للخير، لأن الدنيا مزرعة الآخرة، والكيس من أخذ من شبابه لهرمه، ومن صحته لمرضه، ومن غناه لفقره، والسفيه من أتبع نفسه هواها فأوردها هلاكها، وصدق الله العظيم إذ يقول {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب} [الشورى: 20].

(111) باب لا تقبل صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول

(111) باب لا تقبل صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول 398 - عن مصعب بن سعد، قال: دخل عبد الله بن عمر على ابن عامر يعوده وهو مريض. فقال: ألا تدعو الله لي، يا ابن عمر؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا تقبل صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول وكنت على البصرة". -[المعنى العام]- عبد الله بن عامر هو ابن خال عثمان بن عفان، ولاه عثمان البصرة بعد أن عزل عنها أبا موسى الأشعري، وهو الذي افتتح خراسان، وأحرم من نيسابور شكرا لله تعالى، وجمع له عثمان ولاية فارس مع البصرة وهو ابن أربع وعشرين سنة، ولم يزل واليا لعثمان إلى أن قتل عثمان، ثم عقد له معاوية على البصرة، ثم عزله عنها، ومات قبل ابن الزبير بقليل، والحديث يحكي زيارة ابن عمر له في مرض وفاته، وكان ابن عامر يعرف فضل ابن عمر وصلاحه، ومن أجل ذلك حرص على استرضائه وطلب دعائه في وقت الشدة والفزع إلى الله تعالى، فقال: ألا تدعو الله لي يا ابن عمر؟ ورغم ما قيل من أن ابن عامر كان في ولايته سخيا كريما حليما، ورغم ما قيل من أنه هو الذي عمل السقايات بعرفة، فإن ابن عمر التقي الورع، الغيور على الحق والعدل كان يعتقد أن ابن عامر لم يسلم من الغلول، ولا من المال الحرام في ولايته وأن ما قام به من سخاء وكرم، ومن نفقة في الخير إنما كان مصدره حراما، وأن المال الحرام موبق لصاحبه ولو أنفق في الصدقات، وأنه لا ينجي صاحبه إلا رده إلى أصحابه، ومن هذه العقيدة أراد ابن عمر أن يوجه ابن عامر إلى اتخاذ أسباب النجاة، ولسان حاله يقول: ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ... إن السفينة لا تجري على اليبس وكأنه يقول: ماذا يفيدك دعائي لك وأنت مكبل بالمظالم؟ لقد أقمت زمنا طويلا واليا على البصرة، أكلت فيه المال الحرام، ولبست فيه ثوب الحرام، إن كنت تظن أنك تصدقت وأنك أنفقت في وجوه الخير، فاعلم أن ذلك غير نافعك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تقبل صدقة من غلول وخيانة، كما لا تقبل صلاة بغير طهارة، إن طهارة المال شرط لقبول إنفاقه كما أن طهارة البدن شرط لقبول الصلاة، فسدد وقارب قبل أن تطلب الدعاء. وإذا كان ابن عمر قد بدا في هذا الموقف شديدا فإن الذي فعله كان شدة في الحق

وتوجيها لما هو خير، إن ابن عمر يؤمن بأن الدعاء ينفع، وهو يحب الخير للناس، ولا يأبى الدعاء للمؤمن بالخير، وخاصة إذا كان على مشارف الموت، ولكنه يخشى الاتكال أو التواكل، ويدفع للعمل، ويحذر غير ابن عامر من الولاة، ويغرس في نفوسهم الخوف ويحارب ركونهم إلى الرجاء والطمع مع التهاون والمظالم. فرضي الله عنه وأرضاه ورضي عن الصحابة أجمعين. -[المباحث العربية]- (يعوده) العود الرجوع، وأطلق على زيارة المريض؛ لما أن الشأن فيها التكرار والرجوع، والجملة في محل النصب على الحال من فاعل "دخل". (وهو مريض) الجملة حال من "ابن عامر" أو من ضميره في "يعوده". (ألا تدعو الله لي) "ألا" للعرض أو التحضيض، ومعناها طلب الشيء، لكن العرض طلب بلين، والتحضيض طلب بحث، والمعنى هنا: أطلب منك الدعاء لي. (ولا صدقة من غلول) أصل الغلول السرقة من مال الغنيمة قبل القسمة، وسميت بذلك لأن الآخذ يغل المال في متاعه، أي يخفيه فيه، ويطلق على الخيانة مطلقا، والمراد منه هنا مطلق المال الحرام أخذ خفية أو جهرة. (وكنت على البصرة) أي كنت واليا على البصرة، ولم تسلم من الغلول والخيانة. -[فقه الحديث]- يمكن حصر نقاط الحديث في خمس: 1 - الوضوء، وموجبه، ومتى فرض؟ وطلبه لكل صلاة. 2 - الفرق بين القبول والصحة، وتوجيه قوله "لا تقبل صلاة بغير طهور". 3 - الطاعة بالمال الحرام، وإنفاقه في وجوه الخير. 4 - تحليل موقف ابن عمر من مطلب ابن عامر. 5 - ما يؤخذ من الحديث من الأحكام. وهذا هو التفصيل: 1 - الوضوء وموجبه، ومتى فرض؟ وطلبه لكل صلاة: في موجب الوضوء ذهب أهل الظاهر إلى أنه

القيام إلى الصلاة، مستدلين بقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ... } [المائدة: 6] وذهب آخرون إلى أنه الحدث، وذهب الأكثرون إلى أنه إرادة الصلاة بشرط الحدث. قال النووي: اختلف أصحابنا في الموجب للوضوء على ثلاثة أوجه: أحدها أنه يجب بالحدث وجوبا موسعا، والثاني لا يجب إلا عند القيام إلى الصلاة، والثالث: يجب بالأمرين وهو الراجح عند أصحابنا. اهـ. واختلفوا متى فرضت الطهارة للصلاة، فذهب ابن الجهم من المالكية إلى أن الوضوء في أول الإسلام كان سنة، ثم نزل فرضه في آية التيمم، وقال ابن حزم بأنه لم يشرع إلا بالمدينة، والجمهور أنه كان فرضا قبل نزول آية التيمم في سورة المائدة، وهذا ما لا يجهله عالم. اهـ. ويمكن الرد على من أنكر وجود الوضوء قبل الهجرة بما رواه الحاكم عن ابن عباس "دخلت فاطمة على النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، وتقول: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاهدوا ليقتلوك، فقال: إيتوني بوضوء فتوضأ" بل نقل ابن عبد البر أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل قط إلا بوضوء، قال: واختلفوا في أن الوضوء فرض على كل قائم إلى الصلاة أم على المحدث خاصة؟ فذهب جماعة من السلف إلى أن الوضوء واجب لكل صلاة ولو من غير حدث، روي ذلك عن ابن عمر وأبي موسى وجابر بن عبد الله وسعيد بن المسيب وغيرهم، واحتجوا بقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ... } فالحكم في الآية وهو الغسل معلق بالشرط، فيقتضي تكراره بتكرار الشرط. وذهب قوم إلى أن ذلك قد كان ثم نسخ، ويؤيدهم ما أخرجه أحمد وأبو داود عن عبد الله بن حنظلة الأنصاري "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء لكل صلاة، طاهرا كان أو غير طاهر، فلما شق عليه وضع عنه الوضوء إلا من حدث". وعن النخعي أنه لا يصلي بوضوء واحد أكثر من خمس صلوات. وجمهور العلماء والأئمة الأربعة وأكثر أصحاب الحديث وغيرهم أن الوضوء لا يجب إلا من حدث، ولكن تجديده لكل صلاة مستحب، قال النووي: وعلى هذا أجمع أهل الفتوى بعد ذلك، ولم يبق بينهم فيه خلاف. اهـ. واستدلوا بالأحاديث الصحيحة الكثيرة منها ما رواه البخاري "لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ" وما رواه مسلم من حديث بريدة "كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة، فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات بوضوء واحد، فقال له عمر: إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله فقال: عمدا فعلته" وفي مسند الدارمي "لا وضوء إلا من حدث" وعند أبي داود والنسائي عن أنس "كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ كل صلاة وكنا نصلي الصلوات بوضوء واحد". قال بعض العلماء: كانت هذه عادته صلى الله عليه وسلم الغالبة، وإلا فقد جمع بين صلاتين فأكثر بوضوء واحد، كما في حديث بريدة السابق، وكما جاء في حديث سويد بن النعمان عند البخاري بلفظ "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر، حتى إذا كنا بالصهباء صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر، فلما صلى دعا بالأطعمة، فلم يؤت إلا بالسويق، فأكلنا وشربنا، ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم إلى المغرب، فمضمض، ثم صلى لنا المغرب، ولم يتوضأ".

قال بعض العلماء: يحتمل أن ذلك كان واجبا عليه صلى الله عليه وسلم خاصة، ثم نسخ يوم الفتح، ويحتمل أنه كان يفعله استحبابا، ثم خشي أن يظن وجوبه، فتركه لبيان الجواز، وهذا أقرب، وأجابوا عن قوله تعالى {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ... } بأنها في حق المحدثين، أو أن الأمر بالغسل فيها للندب، وحكى الشافعي عمن لقيه من أهل العلم أن التقدير: إذا قمتم من النوم. قال الزمخشري عند تفسير الآية: فإن قلت: ظاهر الآية يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة، محدث وغير محدث، فما وجهه؟ قلنا: يحتمل أن يكون الأمر للوجوب، فيكون الخطاب للمحدثين خاصة، وأن يكون للندب، فإن قلت: هل يجوز أن يكون الأمر شاملا للمحدثين وغيرهم؟ لهؤلاء على وجه الإيجاب، ولهؤلاء على وجه الندب؟ قلت: لا. لأن تناول الكلمة الواحدة لمعنيين مختلفين من باب الإلغاز والتعمية. اهـ. وفي استحباب تجديد الوضوء ذكر النووي أوجها: أحدها: أنه يستحب لمن صلى به صلاة، سواء أكانت فريضة أم نافلة، الثاني: لا يستحب إلا لمن صلى فريضة، الثالث: يستحب لمن فعل به ما لا يجوز إلا بطهارة، كمس المصحف وسجود التلاوة، الرابع: يستحب وإن لم يفعل به شيئا أصلا بشرط أن يتخلل بين التجديد والوضوء زمن يقع بمثله تفريق. ولا يستحب تجديد الغسل على المذهب المشهور، وفي استحباب تجديد التيمم وجهان أشهرهما ولا يستحب. والوضوء واجب على المحدث عند القيام إلى أي نوع من أنواع الصلاة. قال النووي: وأجمعت الأمة على تحريم الصلاة بغير طهارة من ماء أو تراب، ولا فرق بين الصلاة المفروضة والنافلة وسجود التلاوة والشكر وصلاة الجنازة إلا ما حكي عن الشعبي ومحمد بن جرير الطبري من قولهما: تجوز صلاة الجنازة بغير طهارة، وهذا مذهب باطل، وأجمع العلماء على خلافه، ولو صلى محدثا متعمدا بلا عذر أثم، ولا يكفر عند الشافعية وعند الجماهير وحكي عن أبي حنيفة -رحمه الله تعالى- أنه يكفر لتلاعبه، ودليل الشافعية: أن الكفر للاعتقاد، وهذا المصلي اعتقاده صحيح، وهذا كله إذا لم يكن للمصلي محدثا عذر، وأما المعذور، كمن لم يجد ماء ولا ترابا ففيه أربعة أقوال للشافعي -رحمه الله تعالى- وهي مذاهب العلماء، قال بكل واحد منها قائلون: أصحها يجب عليه أن يصلي على حاله، ويجب أن يعيد إذا تمكن من الطهارة، والثاني يحرم عليه أن يصلي، ويجب القضاء، والثالث يستحب أن يصلي ويجب القضاء، والرابع يجب أن يصلي ولا يجب القضاء، وهو أقوى الأقوال دليلا، فأما وجوب الصلاة فلقوله صلى الله عليه وسلم "وإذا أمرتكم بأمر فافعلوا منه ما استطعتم" وأما الإعادة فإنها تجب بأمر مجدد، والأصل عدمه. اهـ. والقول الأول مشهور وهو مذهب الشافعية، وقول لبعض المالكية، والقول الثاني قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف: يتشبه بالمصلي فلا ينوي ولا يقرأ ويركع ويسجد، ويعيد الصلاة متى قدر على إحدى الطهارتين، والقول الرابع قول أحمد، واختاره المزني من الشافعية.

2 - والفرق بين القبول والصحة دقيق، فالقبول يفسر بوقوع الطاعة مجزئة رافعة لما في الذمة، والصحة الإتيان بها مستوفية الأركان والشروط، وقد يتخلف القبول مع تحقق الصحة، فصلاة العبد الآبق، وشارب الخمر مادام في جسده شيء منها، والصلاة في الدار المغصوبة صحيحة عند الشافعية غير مقبولة، فقد تقع العبادة صحيحة ولا تقبل لمانع. وقد يطلق القبول ويراد به الصحة لما بينهما من تلازم غالبا، كما في قوله صلى الله عليه وسلم "لا تقبل صلاة بغير طهور" أي لا تقبل ولا تصح صلاة بغير طهور، وسيأتي مزيد إيضاح لهذه النقطة في الحديث التالي. 3 - الطاعة بالمال الحرام وإنفاقه في وجوه الخير: وأما الطاعة بالمال الحرام فباطلة غير مقبولة، وإذا بطلت الصدقة بسبب ما يتبعها من معصية بنص قوله تعالى {لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} [البقرة: 264] بطلت إن قارنتها السيئة من باب أولى، بل إن المتصدق من غلول يجعل الصدقة بعين المعصية، لأن الغال في دفعه المال إلى الفقير غاصب متصرف في ملك الغير، فهو آثم باستيلائه على المال، آثم بتصرفه فيه، لأن كل من أخذ مال غيره بلا وجه شرعي لزمه رده لصاحبه إن كان حيا، وإلا رده على ورثته، ولا يغني عنه شيئا التصدق به. نعم إن لم يكن له ورثة، أو لم يدر صاحبه، أو استولى عليه بعقد فاسد ولم يتمكن من فسخه فإنه يتصدق به، وثوابه لمالكه، ويرجى لهذا الغال الخلاص يوم القيامة إن أدركه عفو الله. قال الأبي: وانظر الحج بالمال الحرام، والظاهر الصحة كالصلاة في الدار المغصوبة، وأما النكاح به فقال مالك فيه: أخاف أن يضارع الزنا. اهـ. 4 - وفي تحليل موقف ابن عمر من مطلب ابن عامر يقول النووي: معناه أنك لست بسالم من الغول، فقد كنت واليا على البصرة، وتعلقت بك تبعات من حقوق الله تعالى وحقوق العباد، ولا يقبل الدعاء لمن هذه صفته، كما لا تقبل الصلاة والصدقة إلا من متصون، والظاهر -والله أعلم- أن ابن عمر قصد زجر ابن عامر، وحثه على التوبة وتحريضه على الإقلاع عن المخالفات، ولم يرد القطع حقيقة بأن الدعاء للفساق لا ينفع، فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم والسلف والخلف يدعون للكفار وأصحاب المعاصي بالهداية والتوبة. اهـ. ويقول الأبي: لعله مذهب لابن عمر أنه لا يدعي للمتلبس بالمخالفة، وإلا فهو جائز. اهـ. والذي تستريح إليه النفس أن ابن عمر لم يقصد بكلامه أن الدعاء لا يقبل لمن هذه صفته، كما لا تقبل الصلاة والصدقة إلا من متصون، كما يقول النووي، لأن ابن عمر وفقهه يبعد هذا الفهم الخطأ، ويبعد أن يراد بالفتوى الخاطئة الزجر والتغليظ. كما أن ابن عمر وفقهه يبعد أن يكون ذلك مذهبا له كما ذهب إليه الأبي. إن الحديث لم يتعرض لدعاء ابن عمر بنفي ولا إثبات، فيحتمل الإثبات، ويكون المعنى: لقد ارتكبت ظلما في ولايتك، وما أنفقته من مال حرام غير مقبول، فرد المظالم والجأ إلى التوبة لتساعد

على قبول الدعاء، وأسأل الله لك العفو والقبول. فسكت الراوي عن حكاية الدعاء، وحكى الزجر والوعظ، ويحتمل النفي، ويكون المعنى: سأحجب دعائي عنك حتى تتخلص من معاصيك، ويكون قد قصد بذلك وعظه ودفعه إلى عدم الاتكال على الدعاء، وإلى إبراء الذمة مادام قادرا بنفسه على إبرائها. والله أعلم. -[5 - ويؤخذ من الحديث]- 1 - عيادة المريض، وهي مشروعة، وتكرارها ومقدارها يختلف باختلاف الظروف. 2 - أن الصلوات كلها مفتقرة إلى الطهارة، ويدخل فيها صلاة الجنازة وغيرها؛ لأن لفظ "صلاة" نكرة في سياق النفي، فتفيد العموم. 3 - قال الكرماني: فيه أن الطواف لا يجزئ بغير طهور، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماه صلاة فقال "الطواف صلاة إلا أنه أبيح فيه الكلام" ورد العيني هذا الاستدلال، وحمل الحديث على التشبيه، وقال: الطواف كالصلاة في الثواب دون الحكم، ثم يقول: ألا ترى أن الانحراف والمشي في الطواف لا يفسده؟ 4 - وفيه أن الصدقة من المال الحرام غير مقبولة. 5 - وفيه طلب الدعاء من أهل التقوى والصلاح، فإنه لم ينكر أحد على ابن عامر طلبه. 6 - فيه شدة ابن عمر في الدين، وقيامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خير قيام دون مجاملة أو مداراة. 7 - وفيه جمع الرسول صلى الله عليه وسلم بين الصلاة والصدقة، ووضعهما في قرن واحد كعنوان للعبادات البدنية، والعبادات المالية. والله أعلم

(112) باب الوضوء من الحدث

(112) باب الوضوء من الحدث 399 - عن همام بن منبه أخي وهب بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكر أحاديث منها: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تقبل صلاة أحدكم، إذا أحدث، حتى يتوضأ". -[المعنى العام]- الصلاة لقاء بين الإنسان وربه، فيها يقف العبد بين يدي مولاه، يناجيه ويذكره ويدعوه، ومن حق العظيم أن يكون لقاؤنا له على أجمل مظهر، وأطهر مخبر، ومن هنا وجبت الطهارة للصلاة، طهارة الثوب والبدن والمكان، ومن هنا وجب الغسل والوضوء ورفع الحدث. إن بعض الخبائث كالفساء والضراط يؤثر في البدن تأثيرا معنويا، ويحدث حالة تقوم به وإن كانت غير محسوسة، تعرف عند الفقهاء بالحدث، ولا يليق بالمؤمن أن يقف بين يدي الله بهذه الحالة الخبيثة، حتى يطهر نفسه بالوضوء أو ما يقوم مقامه عند عدمه؛ فإن الله لا يقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ. -[المباحث العربية]- (لا تقبل صلاة أحدكم) المخاطبون الحاضرون ليسوا وحدهم المقصودين بالخطاب، بل المقصود الأمة، أي لا تقبل صلاة أحدكم معشر أمة الإسلام، وفي بعض نسخ البخاري "لا تقبل صلاة من أحدث" وفي بعضها "لا يقبل الله صلاة من أحدث". (إذا أحدث) من الحدوث، وهو وجود شيء لم يكن، يقال: أحدث أي وجد منه الحدث، أو قام به الحدث، والحدث يطلق على الخارج المعتاد، وعلى نفس الخروج، وعلى الوصف الحكمي، المقدر قيامه بالأعضاء قيام الأوصاف الحسية، وعلى المنع من العبادة المترتب على كل واحد من الثلاث، والمراد في الحديث، أحد الأخيرين (الوصف الحكمي أو المنع من العبادة) لأنه جعل الوضوء رافعا للحدث، فلا يعني بالحدث الخارج المعتاد ولا نفس الخروج، لأن الواقع لا يرتفع. (حتى يتوضأ) بالماء أو ما يقوم مقامه، ومعنى "لا تقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ" أي مع باقي شروط الصلاة.

-[فقه الحديث]- بينا في الحديث السابق الفرق بين الصحة والقبول، ونزيد هنا أن بعضهم فسر الإجزاء بمطابقة الأمر، والقبول بترتب الثواب، فلم يتم الاستدلال بالحديث على نفي الصحة، قال ابن دقيق العيد: إلا أن يقال: دل الدليل على كون القبول من لوازم الصحة، فإذا انتفى انتفت، فيصح الاستدلال بنفي القبول على نفي الصحة. اهـ. وهذا التلازم الذي ذكره ابن دقيق العيد تلازم في الغالب، فقد نفى القبول بمعنى نفي الثواب مع ثبوت الصحة في قوله صلى الله عليه وسلم "من أتى عرافا لم تقبل له صلاة" رواه أحمد والبخاري. وقوله صلى الله عليه وسلم "إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة" رواه مسلم. نعم المراد من نفي القبول في هذا الحديث والذي قبله نفي الصحة، من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم، ويكفي التلازم الغالبي في هذا الإطلاق. والحدث المذكور في الحديث مقصود به الحدث الأصغر، لأنه الذي يستوجب الوضوء ويرفعه الوضوء، ويكون بخروج شيء من أحد السبيلين، سواء كان ريحا أو غيره، نعم فسر أبو هريرة الحدث في رواية البخاري بالريح، ولفظها "عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ" قال رجل من حضرموت: ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال: "فساء أو ضراط" بل فسره في رواية أخرى للبخاري بالضراط فقط، ولفظها "عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال العبد في صلاة ما كان في المسجد ينتظر الصلاة ما لم يحدث" فقال رجل أعجمي: ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال: الصوت. "يعني الضرطة". ولما كان العلماء متفقين على أن ما يخرج من السبيلين من غير الريح ناقض للوضوء وجهوا تفسير أبي هريرة للحدث بأنه تفسير بالأخص للتنبيه بالأخف على الأغلظ، ولأن الفساء والضراط قد يقعان في أثناء الصلاة، أو لعلمه أن السائل كان يعلم حكم غيرهما ويجهل كونهما حدثا، فتعرض لحكمهما بيانا لذلك. وليس في تفسير أبي هريرة حجة لمن قصر الحدث على ما يخرج من السبيلين؛ لأن تفسير أبي هريرة ليس بحجة، فقد يكون رأيا له، على أنه -كما سبق- فسره بالأخف وترك الأغلظ، على أن العلماء اتفقوا على أن زوال العقل بالجنون والإغماء والسكر ينقض الوضوء، سواء قل أو كثر، ولم يذكره أبو هريرة. وأما باقي الأحداث المختلف فيها بين العلماء فهي: 1 - النوم: وقد اختلف العلماء فيه على مذاهب ثمانية ذكرها النووي، الأول: أنه لا ينقض الوضوء على أي حال، وهو محكي عن أبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب والشيعة الإمامية، واستدلوا بما

رواه أبو داود ومسلم والترمذي عن أنس قال "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رءوسهم، ثم يصلون ولا يتوضؤون". الثاني أن النوم ينقض الوضوء بكل حال: قليله وكثيره، وهو مذهب الحسن البصري والمزني وابن المنذر، واستدلوا بما رواه أحمد والنسائي والترمذي عن صفوان بن عسال قال "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفرا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، لكن من غائط وبول ونوم" فذكر الأحداث التي ينزع منها الخف، وعد من جملتها النوم، وجعله مقترنا بالبول والغائط اللذين هما ناقضان بالإجماع، كما استدلوا بما رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "العين وكاء السه فمن نام فليتوضأ" لم يفرق بين قليل النوم وكثيره ولا بين حال للنائم وحال أخرى. الثالث: أن كثير النوم ينقض بكل حال، وقليله لا ينقض بكل حال، وهو مذهب الأوزاعي ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه، واستدلوا بحديث أنس السابق، وحملوا ما فيه على قليل النوم. الرابع: إذا نام على هيئة من هيئات المصلي كالراكع والساجد والقائم والقاعد مستلقيا على قفاه انتقض، وهو مذهب أبي حنيفة وداود وهو قول غريب للشافعي، واستدلوا بما رواه البيهقي "إذا نام العبد في سجوده باهي الله به الملائكة" الخامس: أنه لا ينقض إلا نوم الراكع والساجد، وهو مروي عن أحمد، ولعل وجهه أن الركوع والسجود مظنة للانتقاض. السادس: أنه لا ينقض إلا نوم الساجد وهو مروي أيضا عن أحمد. السابع: أنه لا ينقض النوم في الصلاة بكل حال، وينقض خارج الصلاة، ونسب إلى أبي حنيفة. الثامن: أنه إذا نام جالسا ممكنا مقعدته من الأرض لم ينقض، سواء قل أو كثر، وسواء كان في الصلاة أو خارجها، وهو مذهب الشافعي، وعنده أن النوم ليس حدثا في نفسه، وإنما هو دليل على خروج الريح، قال النووي: وهذا أقرب المذاهب عندي، وبه يجمع بين الأدلة. اهـ. 2 - لمس المرأة: ومذهب الشافعي وأصحابه وابن مسعود وابن عمر والزهري أن لمس المرأة الأجنبية من غير حائل ناقض للوضوء، صغيرة كانت أو كبيرة، تشتهي أو لا تشتهي سدا للذرائع، واستدلوا بقوله تعالى {أو لامستم النساء} [النساء: 43، المائدة: 6] فهو صريح بأن اللمس من جملة الأحداث الموجبة للوضوء، وهو حقيقة في لمس اليد ويؤيد بقاءه على معناه الحقيقي قراءة {أو لمستم} فإنها ظاهرة في مجرد اللمس، وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف وعلي وعطاء وابن عباس إلى أنه لا ينقض. قال أبو حنيفة وأبو يوسف: إلا إذا تباشر الفرجان وانتشر، حصل مذي أو لم يحصل، واستدلوا بحديث عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل بعض أزواجه، ثم يصلي -ولا يتوضأ" رواه أبو داود والنسائي، فهذا الحديث قرينة على أن المراد من اللمس في الآية الجماع، ورد بأن الحديث مرسل وضعيف.

وذهب مالك والليث وأحمد إلى أن اللمس بشهوة ينقض وبدونها لا ينقض جمعا بين الآية والحديث، فحملوا اللمس في الآية على ما إذا كان بشهوة، وفي الحديث على ما إذا كان بدونها. 3 - مس ذكر الآدمي وقبل المرأة: ومذهب الشافعي وأحمد وإسحق ومالك في المشهور عنه أنه ناقض للوضوء، سواء كان ذكر نفسه أو غيره، واستدلوا بما رواه الخمسة وصححه الترمذي عن بسرة بنت صفوان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من مس ذكره فلا يصلي حتى يتوضأ" وبما رواه ابن ماجه وصححه أحمد عن أم حبيبة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من مس فرجه فليتوضأ". ومذهب أبي حنيفة وأصحابه والثوري وغيرهم أنه لا ينقض، واحتجوا بما رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد مرفوعا بلفظ "الرجل يمس ذكره أعليه وضوء؟ قال صلى الله عليه وسلم: إنما هو بضعة منك". 4 - القيء: ومذهب أبي حنيفة أنه من نواقض الوضوء بشرط أن يكون من المعدة، وأن يكون ملء الفم، وأن يكون دفعة واحدة، ودليله ما رواه أحمد والترمذي عن أبي الدرداء "أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ" ومذهب الشافعي وأصحابه أنه لا ينقض الوضوء، وأجابوا عن الحديث بأن المراد بالوضوء غسل اليدين، أو أنه مندوب. 5 - الدم: ومذهب أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وأحمد بن حنبل أن الدم من نواقض الوضوء وقيدوه بالسيلان، واستدلوا مما رواه ابن ماجه والدارقطني عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أصابه قيء أو رعاف [وهو خروج الدم من الأنف] أو قلس [القلس بفتح اللام ما يخرج من الحلق ملء الفم وليس بقيء] أو مذي فلينصرف فليتوضأ" وذهب مالك والشافعي إلى أنه غير ناقض، وردوا الحديث السابق بأنه ضعيف، ولم يثبت عند أحد من أئمة الحديث المعتبرين. 6 - أكل لحوم الإبل: وقد ذهب أحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه وابن خزيمة وغيرهم إلى انتقاض الوضوء به، واستدلوا بما رواه أحمد ومسلم عن جابر بن سمرة "أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال إن شئت توضأ، وإن شئت فلا تتوضأ. قال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم. توضأ من لحوم الإبل" وذهب الخلفاء الأربعة ومالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم إلى أنه لا ينقض الوضوء، واحتجوا بما عند الأربعة وابن حبان من حديث جابر "إنه كان آخر الأمرين منه صلى الله عليه وسلم عدم الوضوء مما مست النار". -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - أن الوضوء لا يجب لكل صلاة، لأنه جعل نفي القبول ممتدا إلى غاية هي الوضوء وما بعد الغاية مخالف لما قبلها، فيقتضي ذلك قبول الصلاة بعد الوضوء مطلقا حتى الحدث، وتدخل تحته الصلاة الثانية قبل الوضوء لها ثانية. قاله ابن دقيق العيد. 2 - واستدل به على بطلان الصلاة بالحدث سواء كان خروجه اختياريا أو اضطراريا لعدم التفرقة في الحديث بين حدث وحدث، وأن الصلوات كلها مفتقرة إلى الطهارة.

3 - وفيه رد على أبي حنيفة حيث يقول: إذا سبقه الحدث في الصلاة يتوضأ ويبني على صلاته، ووجه الرد أنه لا يخلو حال انصرافه أن يكون مصليا أو غير مصل، فإن قيل: هو مصل رد لأن الصلاة لا تقبل مع الحدث، وإن قيل: هو غير مصل لم يقبل أن يبني على ما تقدم. 4 - وفيه رد على أبي حنيفة حيث يقول: إن من أحدث في القعدة الأخيرة من غير تعمد بعد التشهد توضأ وسلم، وإن تعمده فصلاته صحيحة، ويكون حدثه كلامه، ووجه الرد أن التحلل من الصلاة ركن منها، فلا تصح مع الحدث، إذا الحديث صريح في أن صلاة المحدث لا تقبل، أحدث قبل الصلاة أو في أثنائها. والله أعلم

(113) باب صفة الوضوء وكماله

(113) باب صفة الوضوء وكماله 400 - عن حمران مولى عثمان أن عثمان بن عفان رضي الله عنه دعا بوضوء. فتوضأ. فغسل كفيه ثلاث مرات. ثم مضمض واستنثر. ثم غسل وجهه ثلاث مرات. ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات. ثم غسل يده اليسرى مثل ذلك. ثم مسح رأسه. ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات. ثم غسل اليسرى مثل ذلك. ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم قام فركع ركعتين، لا يحدث فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه". قال ابن شهاب: وكان علماؤنا يقولون: هذا الوضوء أسبغ ما يتوضأ به أحد للصلاة. 401 - عن حمران مولى عثمان؛ أنه رأى عثمان دعا بإناء. فأفرغ على كفيه ثلاث مرار. فغسلهما. ثم أدخل يمينه في الإناء. فمضمض واستنثر. ثم غسل وجهه ثلاث مرات. ويديه إلى المرفقين ثلاث مرات. ثم مسح برأسه. ثم غسل رجليه ثلاث مرات. ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من توضأ نحو وضوئي هذا. ثم صلى ركعتين، لا يحدث فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه". -[المعنى العام]- علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه كيفية الوضوء بالقول وبالفعل، وكثيرا ما كان يلفت نظرهم إلى تتبع وضوئه، فيتوضأ أمامهم وضوءا كاملا ثم يقول "من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه". وحرص الصحابة كل الحرص على الاقتداء الكامل، فلما اتسعت رقعة الإسلام انحرف بعض المسلمين المتأخرون في إسلامهم عن الدقة في الوضوء، ورأى كبار الصحابة والغيورون أن من واجبهم تبصير العامة، وتصحيح الخطأ بوضع الصورة الحقة أمامهم، وكان عثمان بن عفان رضى الله عنه من هؤلاء الذين التزموا تعليم الأمة، وكان وقت أن كان أمير المؤمنين يجلس على مرتفع في ميدان

المسجد بين الحين والحين ليقضي بين الناس، وليجتمع بأولي الشأن وأهل العلم، وليقوم بالوعظ والنصح عندما يرى الخلل، فجلس يوما هذا المجلس ونادى مولاه حمران، وطلب منه أن يأتيه بماء للوضوء، وأمام القوم بدأ يتوضأ وهو يقول: ألا أريكم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ كان من السهل أن يطلب من حمران أن يصب عليه من الإناء، لكنه أراد أن يشعرهم بتواضعه، وأن يبين لهم طريقة استخدام الشخص لنفسه إناء الوضوء، أخذ الإناء من حمران فوضعه على الأرض، ثم شمر عن ساعديه: وأكفأ الإناء قليلا على كفيه، ثم أعاده وغسل كفيه بما فيهما من ماء، ثم أكفأه مرة ثانية على كفيه فغسلهما ثم أكفأه مرة ثالثة فغسلهما، وكان الإناء ذا فم واسع، فأدخل فيه يمينه فملأ كفها، ثم أخرجها فتمضمض واستنشق من هذه الكف، ثم استنثر فأخرج ماء أنفه بيسراه، فعل ذلك ثلاث مرات، ثم أدخل يمينه للمرة الرابعة فملأ كفها، ثم أخرجها وأسند إليها اليسرى فغسل بهما وجهه، فعل ذلك ثلاث مرات، ثم أدخل يمينه فملأ كفها وأسال ماءها على يده اليمنى إلى المرفقين تدلكها يسراه، فعل ذلك ثلاث مرات، ثم أدخل يده اليمنى في الإناء فملأ كفها، ثم أخرجها فأسند إليها كف اليسرى، ثم أسال الماء على يسراه إلى المرفقين تدلكها يمناه، فعل ذلك ثلاث مرات، ثم أدخل يده فأخرج ماء مسح به رأسه، ثم أدخل يده فأخرج ماء ثلاث مرات غسل بها رجله اليمنى إلى الكعبين، ثم ثلاثا أخرى غسل بها رجله اليسرى إلى الكعبين ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا. هذا ما كان من عثمان رضي الله عنه لكن جماعة أخرى لم يكونوا قريبين من عثمان حتى يروا منه الوضوء الصحيح لجئوا إلى فقيه من فقهاء الصحابة هو عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري وطلبوا منه أن يريهم وضوء النبي صلى الله عليه وسلم فدعا بإناء وتوضأ أمامهم مثل وضوء عثمان السابق، ثم قال: هكذا كان وضوء النبي صلى الله عليه وسلم. وهكذا حرص كل خلف أن يتمثل وضوء سلفه، وعلم الآباء الأبناء، ونقل كل جيل هيئات العبادة نقلا متواترا عن الجيل الذي قبله، حتى جاءتنا الشريعة الغراء واضحة جلية، لا لبس فيها ولا غموض، وستظل هكذا إلى يوم القيامة إن شاء الله. -[المباحث العربية]- (عن حمران مولى عثمان) "حمران" بضم الحاء وسكون الميم، كان من سبي عين التمر، سباه خالد بن الوليد رضي الله عنه، فوجده غلاما كيسا فوجهه إلى عثمان رضي الله عنه، فأعتقه، وكان كاتبه وحاجبه، وولي نيسابور من الحجاج، وهو تابعي. (أن عثمان بن عفان دعا بوضوء) في القاموس: وضؤ ككرم، فهو وضيء، والوضاءة الحسن والنظافة، وتوضأت للصلاة، وتوضيت لغية أو لغة، والميضأة الموضع يتوضأ فيه ومنه، والوضوء بضم الواو الفعل، وبالفتح ماؤه، ومصدر أيضا، أو لغتان قد يعني بهما المصدر، وقد يعني بهما الماء. اهـ.

والحديث في رواياته يجري على أنهما لغتان، فإن اللفظة التي معنا مروية بضم الواو، ومقصود بها الماء، وفي آخر الحديث "من توضأ نحو وضوئي هذا" بضم الواو أيضا، ومقصود بها الفعل. (فتوضأ) أي فتأهب للوضوء وشرع فيه، ففيه مجاز المشارفة. (فغسل كفيه) الفاء تفسيرية، لأن غسل الكفين وما بعده هو الوضوء. (ثم مضمض) يقال: مضمض وتمضمض إذا حرك الماء في فمه، وأصل المضمضة الحركة. (واستنثر) قال جمهور أهل اللغة والفقهاء والمحدثون: الاستنثار هو إخراج الماء من الأنف من مخاط وشبهه، وقال ابن الأعرابي وابن قتيبة: هو الاستنشاق. قال النووي: والصواب الأول. اهـ. ويؤيده الرواية الرابعة، إذ فيها "فمضمض واستنشق واستنثر" فجمع بين الاستنشاق والاستنثار، وكذا الرواية السابعة إذ فيها "فليستنشق بمنخريه من الماء، ثم لينتثر". (ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق) المرفق على وزن منبر، وهو موصل الذراع في العضد، أي العظم الناتئ في آخر الذراع، قيل: سمي بذلك لأنه يرتفق به في الاتكاء ونحوه. (ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين) قال النووي: اتفق العلماء على أن المراد بالكعبين العظمان الناتئان بين الساق والقدم، وفي كل رجل كعبان، وشذت الرافضة: فقالت: في كل رجل كعب، وهو العظم الذي في ظهر القدم، وحجة العلماء في ذلك نقل أهل اللغة والاشتقاق وهذا الحديث الصحيح الذي فيه، "غسل رجله اليمنى إلى الكعبين .. ثم غسل اليسرى مثل ذلك" فأثبت في كل رجل كعبين. اهـ. -[فقه الحديث]- يتناول فقه الحديث النقاط التالية: 1 - غسل الكفين قبل إدخالهما الإناء. 2 - الاغتراف للوضوء. 3 - المضمضة والاستنشاق والاستنثار. 4 - غسل الوجه. 5 - غسل اليدين إلى المرفقين. 6 - مسح الرأس. 7 - مسح الأذنين في الوضوء. 8 - غسل الرجلين إلى الكعبين. 9 - الترتيب بين الأعضاء.

10 - الوضوء ثلاثا ثلاثا. 11 - النية للوضوء. 12 - التسمية عنده. 13 - ما يؤخذ من الحديث. وإليك الكلام على هذه النقاط بالتفصيل: 1 - روايات الإمام مسلم في غسل الكفين نصها في الرواية الأولى "فغسل كفيه ثلاث مرات" وفي الثانية "فأفرغ على كفيه ثلاث مرار، فغسلهما" قال النووي: هذا دليل على أن غسل اليدين في أول الوضوء سنة، وهو كذلك باتفاق العلماء. اهـ. ثم قال: وفيه استحباب تقديم غسل الكفين قبل غمسهما في الإناء. اهـ. والتحقيق أن الكلام في نقطتين مختلفتين. النقطة الأولى: غسل اليدين في أول الوضوء، وهو سنة ثابتة، لا منازعة في سنيته، قال الحافظ ابن حجر: هو سنة في حق المستيقظ الذي لا يشك في نجاسة يده: ولا يكره ترك غسلها لعدم ورود النهي فيه. اهـ. والنقطة الثانية: غسل اليدين لمن قام من النوم أو شك في نجاستهما، وقد ورد الأمر بغسلهما في هذه الحالة قبل غمسهما في الإناء، وورد النهي عن غمسهما، ففي البخاري ومسلم "إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده" وفي رواية "إذا قام أحدكم من الليل" وفي أخرى لأبي داود "إذا قام أحدكم إلى الوضوء حين يصبح" وعند أحمد "فلا يضع يده في الوضوء حتى يغسلها" ولمسلم "فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها". ومذهب الجمهور من الفقهاء والمحققين أن غسل اليدين قبل غمسهما لمن قام من النوم أو شك في نجاستهما مندوب ويكره تركه، وذهب أحمد إلى وجوب الغسل عند القيام من نوم الليل دون نوم النهار، وفي رواية عنه أن ترك الغسل بعد القيام من نوم الليل مكروه كراهة تحريم، وتركه بعد القيام من نوم النهار مكروه كراهة تنزيه، والجمهور من المتقدمين والمتأخرين على أن الماء لا ينجس إذا غمس يده فيه قبل غسلهما، لأن الأصل في اليد والماء الطهارة، فلا ينجس بالشك، وحكي عن الحسن البصري وإسحق بن راهويه ومحمد بن جرير الطبري أنه ينجس بالغمس بعد القيام من نوم الليل، لكنه خلاف قواعد الشريعة المتظاهرة. هذا وقد اختلف في الكيفية المستحبة لغسل الكفين، هل يغسلهما مجتمعتين؟ أو يغسل اليمنى، ثم يدخلها فيخرج ما يغسل به الأخرى؟ والظاهر الأول حيث أمكن. كما اختلف في كون هذا الغسل المستحب للنظافة أو للتعبد، فمن قال للنظافة استدل بقوله صلى الله عليه وسلم "فإنه لا يدري أين باتت يده" وعليه لا يستحب غسلهما لمن أحدث في أثناء وضوئه، أو تأكد من نظافتهما ونقاوتهما، ومن قال للتعبد استدل بطلب الغسل ثلاثا، إذا لو كان للنظافة لكفت واحدة أو طلب النقاوة دون تحديد بعدد، وعليه يستحب إعادة غسلهما لمن أحدث أثناء

وضوئه أو تأكد من نظافتهما، وهذا الأخير أولى وأحوط. 2 - أما الاغتراف من الماء القليل فعبارته في الرواية الثانية "ثم أدخل يمينه في الإناء، فمضمض" وفي الرواية الأولى بعد باب "ثم أدخل يده فاستخرجها فمضمض .. ثم أدخل يده فاستخرجها، فغسل وجهه" .. ثم أدخل يده فاستخرجها، فغسل يديه إلى المرفقين. إلخ". وفي رواية البخاري لحديث عبد الله بن زيد "ثم أدخل يديه فاغترف بهما فغسل وجهه ثلاثا" وفي رواية أخرى للبخاري "ثم أخذ غرفة، فجعل بها هكذا، أضافها إلى يده الأخرى، فغسل بهما وجهه" وفي سنن أبي داود في وصف علي لوضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثم أدخل يديه في الإناء جميعا، فأخذ بهما حفنة من ماء فضرب بها على وجهه" قال النووي: فهذه أحاديث، في بعضها "يده" وفي بعضها "يده وضم إليها الأخرى" فهي دالة على جواز الأمور الثلاثة، وأن الجميع سنة. ويجمع بين الأحاديث بأنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في مرات، وهي ثلاثة أوجه لأصحابنا، ولكن الصحيح منها والمشهور الذي قطع به الجمهور، ونص عليه الشافعي أن المستحب أخذ الماء للوجه باليدين جميعا، لكونه أسهل وأقرب إلى الإسباغ، والله أعلم. اهـ. ويمكن أن يقال في الجمع بين هذه الأوجه الثلاثة: إنه إذا كان فم الإناء واسعا، أو كان الاغتراف من قناة أو بحر مثلا فالمستحب أخذ الماء باليدين معا لا غير، وإن كان فم الإناء يسمح بضم اليد الأخرى لتقرب وتساعد أختها في جمع الماء فالمستحب ضمها لا غير، وإن كان لا يسمح إلا بيد واحدة استحب بها وأن تكون اليمنى. والله أعلم. ويجرنا هذا إلى البحث في طهورية الماء المغترف منه، ومن المقرر عند جمهور العلماء والشافعي وابن حنبل ومالك في إحدى الروايتين وأبي حنيفة في رواية عنه أن الماء المستعمل في الغسل أو الوضوء يخرج عن كونه أهلا للتطهير لما رواه مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يغتسلن أحدكم في الماء الدائم وهو جنب" فقالوا: يا أبا هريرة كيف يفعل؟ قال: يتناوله تناولا". وحكم الوضوء حكم الغسل. وذهب الحسن البصري والنخعي ومالك وأبو حنيفة في إحدى الروايات عنهما وجميع أهل الظاهر إلى أن الماء المستعمل باق على طهوريته. وأصحاب الرأي الأول القائلون بزوال طهورية الماء المستعمل يقولون: إن الماء مادام مترددا على العضو لا يصير مستعملا، فإذا انفصل زالت طهوريته. ويقول النووي في المجموع: إذا غمس المتوضئ يده في إناء، فيه دون القلتين، فإن كان قبل غسل الوجه لم يصر الماء مستعملا، سواء نوى رفع الحدث أم لا (لأن ترتيب وضوء اليد بعد الوجه) وإن

كان بعد غسل الوجه فهذا وقت غسل اليد، وفيه خلاف، وإن قصد بوضع اليد في الإناء أخذ الماء لم يصر مستعملا. اهـ. 3 - وأما الروايات في المضمضة والاستنشاق والاستنثار، ففي الرواية الأولى "ثم مضمض واستنثر" وفي رواية "ثم أدخل يمينه في الإناء، فمضمض واستنثر ثم أدخل يده فاستخرجها، فمضمض واستنشق من كف واحدة، فعل ذلك ثلاثا وفي رواية "فمضمض واستنشق واستنثر من ثلاث غرفات" وفي رواية "فمضمض ثم استنثر" وفي رواية، إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء، ثم لينتثر" وفي رواية "إذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخريه من الماء، ثم لينتثر" وفي رواية "من توضأ فليستنثر" وفي رواية "إذا استيقظ أحدكم من منامه فليستنثر ثلاث مرات، فإن الشيطان يبيت على خياشيمه". قال النووي: كمال المضمضة أن يجعل الماء في فمه، ثم يديره فيه، ثم يمجه، وأما أقلها أن يجعل الماء في فمه، ولا يشترط إدارته على المشهور الذي قاله الجمهور، وأما الاستنشاق فهو إيصال الماء إلى داخل الأنف، وجذبه بالنفس إلى أقصاه، ويستحب المبالغة في المضمضة والاستنشاق إلا أن يكون صائما، قال أصحابنا: وعلى أي صفة وصل الماء إلى الفم والأنف حصلت المضمضة والاستنشاق، وفي الأفضل خمسة أوجه: الأول: يتمضمض ويستنشق بثلاث غرفات، يتمضمض من كل واحدة ثم يستنشق منها. الثاني: يجمع بينهما بغرفة واحدة، يتمضمض منها ثلاثا، ثم يستنشق منها ثلاثا. الثالث: يجمع أيضا بغرفة، ولكن يتمضمض منها ثم يستنشق، ثم يتمضمض منها، ثم يستنشق، ثم يتمضمض منها، ثم يستنشق. الرابع: يفصل بينهما بغرفتين، فيتمضمض من إحداهما ثلاثا، ثم يستنشق من الأخرى ثلاثا. الخامس: يفصل بست غرفات، يتمضمض بثلاث غرفات، ثم يستنشق بثلاث غرفات. والصحيح الوجه الأول، وبه جاءت الأحاديث الصحيحة في البخاري ومسلم وغيرهما. (ولا يخفى أن جميع الروايات تتفق مع هذا الوجه) ثم قالوا: واتفقوا على أن المضمضة على كل قول مقدمة على الاستنشاق. وهل هو تقديم استحباب أم اشتراط؟ وجهان. ثم قال: واختلفوا في وجوب المضمضة والاستنشاق على أربعة مذاهب: أحدها: مذهب مالك والشافعي وأصحابهما أنهما سنتان في الوضوء والغسل، وهو رواية عن عطاء وأحمد. والمذهب الثاني: أنهما واجبتان في الوضوء والغسل، لايصحان إلا بهما، وهو المشهور عن أحمد بن حنبل لورود الأمر بهما، وظاهر الأمر أنه للوجوب، ولم يحك أحد ممن وصف وضوءه صلى الله عليه وسلم على الاستقصاء أنه ترك الاستنشاق بل ولا المضمضة.

والمذهب الثالث: أنهما واجبتان في الغسل دون الوضوء، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه. والمذهب الرابع: أن الاستنشاق واجب في الوضوء والغسل، والمضمضة سنة فيهما، وهو مذهب داود الظاهري ورواية عن أحمد. اهـ. ومن قال بأنهما سنة حمل الأمر على الندب، بدليل أن الاستنثار مأمور به وهو ليس بواجب باتفاق، وأما مداومته صلى الله عليه وسلم فكثيرا ما تكون في السنة، فلم يؤثر أنه صلى الله عليه وسلم ترك التسمية، ومع ذلك هي سنة عند القائل بوجوب المضمضة. وقال الأبي: المضمضة تحريك الماء في الفم بالأصابع أو بقوة الفم زاد بعضهم: "ثم يمجه" فأدخل في حقيقتها "المج" فعلى هذه الزيادة لو ابتلعه لم يكن مؤديا للسنة، إلا أن يقال: إنما زاده من حيث العادة لا أن أداء السنة يتوقف عليه، وإذا كان بالأصبع استحب أن يكون باليمين، لأن الشمال مست الأذى، وإذا كان في الفم درهم أداره ليصل الماء محله. ثم قال: والاستنثار أن يدفع الماء من أنفه بنفسه، مع وضع اليد على الأنف، وكرهه في العتبية دون وضع يده لأنه يشبه فعل الدابة ويخشى تناثر ما يخرج على الآخرين أو الأماكن النظيفة، وإذا استنثر بيده فالمستحب أن يكون باليسرى. ثم قال في موضع آخر: قيل: الحكمة في تقديم المضمضة والاستنشاق اختبار طعم الماء بالذوق والرائحة، وأما اللون فمشاهد. اهـ. أما ما جاء في الرواية 223 في تعليل الأمر بالاستنثار من أن الشيطان يبيت على الخياشيم فقد قال الحافظ ابن حجر: يحتمل أن يكون المراد مبيته قريبا من المكان الذي يوسوس فيه، وهو القلب، فيكون مبيته على الأنف ليتوصل منه إلى القلب إذا استيقظ، فمن استنثر منعه من التوصل إلى ما يقصد من الوسوسة اهـ. والأولى حمل الكلام على الاستعارة للتنفير من عدم الاستنثار. والله أعلم. 4 - وأما غسل الوجه فواجب في الوضوء بالكتاب والسنن المتظاهرة والإجماع، والخلاف بين العلماء في حده الواجب غسله، فالجمهور على أنه ما بين منابت شعر الرأس إلى الذقن، ومنتهى اللحيين طولا، ومن الأذن إلى الأذن عرضا، والاعتبار بالمنابت المعتادة، لا بمن يصلع الشعر عن ناصيته، ولا بمن نزل الشعر إلى جبهته. ولا يدخل وتدا الأذن في الوجه، أما البياض الذي بين الأذن والعذار فهو من الوجه عند الشافعية، وهو محكى عن أبي حنيفة ومحمد وأحمد وداود، وعن مالك أنه ليس من الوجه، وعن أبي يوسف يجب على الأمرد غسله دون الملتحي، واللحية الكثيفة -أي التي تستر البشرة بحيث لا ترى البشرة عند المواجهة- يجب غسل ظاهرها بلا خلاف، ولا يجب غسل باطنها، ولا البشرة تحتها في المذهب الصحيح المشهور. وهو مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد، وذهب المزني إلى وجوب غسل البشرة في الوضوء قياسا على غسل الجنابة، وعلى الشارب والحاجب، وأجاب الجمهور بأن غسل الجنابة أغلظ. ولهذا وجب غسل

كل البدن، ولم يجز مسح الخف بخلاف الوضوء، ولأن الوضوء يتكرر فيشق غسل البشرة فيه مع الكثافة بخلاف الجنابة وأما الشارب والحاجب فكثافته نادرة، ولا يشق إيصال الماء إليه بخلاف اللحية. أما اللحية الخفيفة فإنه يجب غسل ظاهرها وباطنها والبشرة تحتها عند الشافعية ومالك وأحمد وداود. وقال أبو حنيفة: لا يجب غسل ما تحتها، كداخل الفم، وكما سوينا بين الخفيف والكثيف في الجنابة، وأوجبنا غسل ما تحتهما، فكذا نسوي بينهما في الوضوء فلا نوجبه. هذا. وتخليل اللحية الكثيفة سنة، ولو أخذ للتخليل ماء آخر كان أحسن، وعند المالكية أن التخليل غير مشروع، واحتج مالك على عدم التخليل بعدم وروده في هذه الأحاديث، لكن الشافعية يستدلون بما رواه أبو داود عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ كفا من ماء فأدخله تحت حنكه، فخلل بها لحيته، وقال: "هكذا أمرني ربي" ويحسن بنا في هذا المقام أن نعرف بالشعور التي في الوجه حتى لا يلتبس واجب الغسل بغيره. العذار: هو الشعر النابت على العظم الناتئ بقرب الأذن، وهو الواقع بين بياض الأذن وبياض الوجه، ويجب غسله مع الوجه، بل يجب غسل بشرته، لأن كثافته نادرة ولأن المغسول يحيط بجوانبه الثلاثة. والعارضان: هما الشعر النابت تحت العذارين حتى طرفي الفكين، والصحيح أن لهما حكم اللحية، فيفرق بين الخفيف والكثيف، وشذ من جعل حكمهما حكم العذارين، فأوجب غسل بشرتهما. واللحيان: بفتح اللام، وأحدهما لحي، وهما الفكان الأيمن والأيسر اللذان عليهما منابت الأسنان السفلى، واللحية الشعر النابت عليهما، وقد سبق حكم غسلها. والذقن هي: اللحية أو هي مجمع اللحيين. والشارب: هو الشعر النابت على الشفة العليا، وحكي عن الشافعي التعبير بالشاربين، فقيل: أراد الشعر الذي على ظاهر الشفتين وقيل: أراد الشعر الذي على الشفة العليا، وجعل ما يلي الشق الأيمن شاربا وما يلي الأيسر شاربا، وبينهما مجرى الأنف، وهذا هو الصحيح، والواجب غسل أصول شعره. والعنفقة: وهي الشعر النابت على الشفة السفلى والواجب غسل أسفل شعرها وبشرتها. وموضع التحذيف: وهو البياض الذي بين العذار والعين، سمي بذلك لأن الأشراف والنساء يعتادون حف الشعر، وإزالته عنه ليتسع الوجه قال الغزالي في الوسيط: هو القدر الذي إذا وضع طرف الخيط على رأس الأذن والطرف الثاني على زاوية الجبين وقع في جانب الوجه. اهـ. ويجب غسل بشرته، والله أعلم.

أما الدلك في غسل الوجه واليدين والرجلين في الوضوء، وفي جميع الجسم في الغسل (وهو إمرار اليد على العضو مع الماء أو بعده) ففيه خلاف: ذهب مالك وأصحابه والمزني من الشافعية إلى وجوبه في الوضوء والغسل، مستدلين بقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة في الغسل "ادلكى جسدك بيدك" والأمر للوجوب، ولا فرق على المذهب بين الوضوء والغسل، وبأنه من مسمى الغسل، أو شرط فيه. قاله الحطاب والنفراوي. وقال مالك في المدونة في الجنب يأتي للنهر فينغمس فيه انغماسا وهو ينوي الغسل من الجنابة، ثم يخرج. قال: لا يجزئه وإن نوى الغسل، إلا أن يتدلك. قال: وكذا الوضوء أيضا. قلت: أرأيت إن أمر يديه على بعض جسده ولم يمررها على جميع الجسد؟ قال: لا يجزئه ذلك حتى يمرهما على جميع جسده كله ويتدلك. اهـ. وذهب الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أنه سنة، واستدلوا بالأحاديث الكثيرة الواردة في صفة الوضوء والغسل التي ليس فيها التصريح بالدلك. والحق أن ما ذهب إليه الإمام مالك تضييق وتعسير، وإلزام بما هو متعذر، فإن بعض أماكن الظهر مثلا لا يمكن لليدين الوصول إليها إلا بصعوبة، اللهم إلا أن يأمر باستعمال حبل ونحوه، مما لم يؤثر أن عائشة (رضي الله عنها) قد أمرت به، نعم الدلك فيما يتيسر دلكه من الأعضاء مطلوب احتياطيا. 5 - وفي غسل اليدين إلى المرفقين تقول الرواية الأولى "ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات، ثم غسل يده اليسرى مثل ذلك" وتقول الرواية 401 "ويديه إلى المرفقين ثلاث مرات" وتقول الرواية 416 "فغسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين" وتقول الرواية 419 "ويده اليمنى ثلاثا، والأخرى ثلاثا". ولما كنا سنفرد لتثليث الغسل في الوضوء فصلا خاصا، فإننا نقصر الكلام هنا على الترتيب بين اليدين، وعلى غسل المرفقين نفسيهما، وعلى تخليل الأصابع، أما تقديم اليمنى على اليسرى فقد نصت عليه بعض الروايات، وفيه يقول النووي: وأجمع العلماء على أن تقديم اليمين على اليسار من اليدين والرجلين، في الوضوء، سنة لو خالفها فاته الفضل، وصح وضوؤه، وقالت الشيعة: هو واجب. ولا اعتداد بخلاف الشيعة: واعلم أن الابتداء باليسار -وإن كان مجزيا- فهو مكروه، نص عليه الشافعي، وهو ظاهر. وقد ثبت في سنن أبي داود والترمذي وغيرهما بأسانيد حميدة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا لبستم أو توضأتم فابدءوا بأيامنكم" فهذا نص في الأمر بتقديم اليمين، ومخالفته مكروهة أو محرمة، وقد انعقد إجماع العلماء على أنها ليست محرمة، فوجب أن تكون مكروهة، ثم اعلم أن من أعضاء الوضوء ما لا يستحب فيه التيامن، وهو الأذنان، والكفان، والخدان، بل يطهران دفعة واحدة، فإن تعذر ذلك كما في حق الأقطع ونحوه قدم اليمين. والله أعلم. اهـ.

وأما المرفقان فقد قال النووي: اتفق الجماهير على وجوب غسل المرفقين، وانفرد زفر وداود الظاهري بقولهما: لا يجب. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: وقد اختلف العلماء هل يدخل المرفقان في غسل اليدين أم لا؟ فقال المعظم: نعم، وخالف زفر، وحكاه بعضهم عن مالك، واحتج بعضهم للجمهور بأن "إلى" في الآية {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} [المائدة: 6] بمعنى "مع" كقوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} [النساء: 2] وتعقب بأنه خلاف الظاهر، وأجيب بأن القرينة دلت عليه، وهي كون ما بعد "إلى" من جنس ما قبلها. اهـ. وقال الزمخشري: لفظ "إلى" يفيد معنى الغاية مطلقا: فأما دخولها في الحكم وخروجها فأمر يدور مع الدليل، فقوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} [البقرة: 187] دليل عدم الدخول النهي عن الوصال، وقول القائل: حفظت القرآن من أوله إلى آخره، دليل الدخول كون الكلام مسوقا لحفظ جميع القرآن، وقوله تعالى: {إلى المرافق} لا دليل فيه على أحد الأمرين، قال: فأخذ العلماء بالاحتياط، ووقف زفر مع المتيقن. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: ويمكن أن يستدل لدخولهما بفعله صلى الله عليه وسلم، ففي الدارقطني بإسناد حسن من حديث عثمان في صفة الوضوء، "فغسل يديه إلى المرفقين حتى مس أطراف العضدين"، وفيه عن جابر قال "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه" وفي البزار والطبراني من حديث وائل بن حجر في صفة الوضوء "وغسل ذراعيه حتى جاوز المرفق" فهذه أحاديث يقوي بعضها بعضا، وقد قال الشافعي في الأم: لا أعلم مخالفا في إيجاب دخول المرفقين في الوضوء، فزفر محجوج بالإجماع قبله على هذا، وكذا من قال بذلك من أهل الظاهر، ولم يثبت ذلك عن مالك صريحا، وإنما حكى عنه أشهب كلاما محتملا. اهـ. وقال الأبي -وهو مالكي المذهب- ويغسل المرفق عند مالك والكافة لا لأنه من اليد، بل لأن "إلى" بمعنى "مع" وأيضا فلأن حد الشيء إذا كان من جنسه دخل في حكمه، وعند مالك لا يجب وأنكره عبد الوهاب. اهـ. وأما تخليل الأصابع: فإن في الروايات الواردة به مقالا فلا تنهض دليلا على الوجوب، فهي محمولة على الندب جمعا بينها وبين سائر الروايات الصحيحة الكثيرة التي لم يذكر فيها التخليل، ولذا ذهب الجمهور إلى استحباب تخليل أصابع اليدين والرجلين، والأكمل في تخليل اليدين أن يضع بطن الكف اليمنى على اليسرى، ويدخل الأصابع بعضها في بعض، وفي الرجلين أن يكون بخنصر اليد اليسرى، بادئا بخنصر الرجل اليمنى خاتما بخنصر الرجل اليسرى، لما فيه من السهولة والمحافظة على التيامن. وما ذكرناه من ندب تخليل أصابع اليدين والرجلين إنما هو إذا كان الماء يصل إليهما من غير تخليل، فلو كانت الأصابع ملتفة، لا يصل الماء إليها إلا بالتخليل فحينئذ يجب التخليل لا لذاته، لكن لأداء فرض الغسل. ذكره ابن سيد الناس. والله أعلم.

6 - وأما مسح الرأس فعنه تقول الرواية الأولى "ثم مسح رأسه" وتقول الرواية 401 "ثم مسح برأسه" والرواية 416 "ثم أدخل يده فاستخرجها، فمسح برأسه فأقبل بيديه وأدبر". والرواية 417 "فأقبل بيديه وأدبر، بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما، حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه". والرواية 418 "فمسح برأسه فأقبل به وأدبر مرة واحدة". والرواية 419 "ومسح برأسه بماء غير فضل يده". وقد اختلف العلماء في القدر الواجب مسحه من الرأس عند الوضوء، بعد أن أجمعوا على وجوب المسح، فجاحد أصل المسح كافر، لأنه إنكار لقطعي، وجاحد المقدار لا يكفر لأن النص في حق المقدار ظني. قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} [المائدة: 6]. وسر اختلافهم في المقدار هو الباء في قوله تعالى "برءوسكم" فمن رأى أنها للتبعيض اكتفى بمسح بعض الرأس، وممن أثبت أن الباء تأتي للتبعيض: الأصمعي والفارسي وابن مالك، قيل: والكوفيون، وجعلوا منه قوله تعالى {عينا يشرب بها عباد الله} [الإنسان: 6]. ومن جعل الباء للتعدية يجوز حذفها وإثباتها كقولك: مسحت رأس اليتيم، ومسحت برأسه، أو جعلها زائدة أوجب مسح الرأس كله، مع استناد كل فريق إلى الأحاديث. فالإمام مالك وأحمد وجماعة على وجوب استيعاب الرأس بالمسح، ويؤيدهم ظاهر الرواية الأولى "ثم مسح رأسه" ورواية "فأقبل بيديه وأدبر" ورواية "بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما، حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه". قال ابن القيم: إنه لم يصح عنه صلى الله عليه وسلم في حديث واحد أنه اقتصر على مسح بعض رأسه ألبتة. اهـ. وسئل مالك عن الرجل يمسح مقدم رأسه في وضوئه، أيجزئه ذلك؟ فقال: حدثني عمرو بن يحيى عن أبيه عن عبد الله بن زيد قال: مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم في وضوئه من ناصيته إلى قفاه، ثم رد يديه إلى ناصيته، فمسح رأسه كله. كما استدل أصحاب هذا الرأي بأن الكل متفق على تعميم غير الرأس من أعضاء الوضوء، فلتعمم الرأس أسوة ببقية الأعضاء. والحنفية والشافعية على أن الواجب مسح بعض الرأس، لكن أراد الحنفية بالبعض ربع الرأس، وأراد الشافعية بالبعض ما يطلق عليه الاسم، ولو شعرة واحدة. ويستدل هذا الفريق بما رواه أبو داود من حديث أنس بلفظ "إنه صلى الله عليه وسلم أدخل يده من تحت العمامة، فمسح مقدم رأسه، ولم ينقض العمامة" وبما عند مسلم وأبي داود والترمذي من حديث المغيرة بلفظ "إنه صلى الله عليه وسلم توضأ، فمسح

بناصيته وعلى العمامة" وبما رواه الشافعي من حديث عطاء "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فحسر العمامة عن رأسه، ومسح مقدم رأسه". قال الشافعي: احتمل قوله تعالى: {وامسحوا برءوسكم} جميع الرأس أو بعضه فدلت السنة على أن بعضه يجزئ. اهـ. ويرد هذا الفريق دليل الفريق الأول بأن الفعل بمجرده لا يدل على الوجوب فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحافظ على الأفضل والأحاديث التي استدلوا بها إنما وردت في كمال الوضوء، وليس فيما لا بد منه، ومسح الرأس كله مستحب باتفاق العلماء. وأما استدلالهم بقياس الرأس على بقية أعضاء الوضوء فهو قياس مع الفارق؛ إذ كون المسح مبنيا على التخفيف واضح بما لا شبهة فيه. ويضعف الفريق الأول أن أصحاب مالك لم يتفقوا معه على هذا الحكم، فقد قال ابن مسلمة: إن مسح ثلثيه أجزأه، وقال أبو الفرج: إن مسح ثلثه أجزأه، وقال أشهب: إن مسح الناصية أجزأه، وعنه أيضا: إن مسح أي شيء منه أجزأه. بل يزيده ضعفا أن ما نسب إلى الإمام مالك نفسه هو المشهور عنه؛ إذ عبارة الأبي المالكي، أن المشهور لمالك ما ذكر من أن الفرض مسح جميعه. اهـ. ومعنى هذا: أن هناك رأيا آخر له غير مشهور، وأن ما نسب إلى الإمام أحمد إنما هو إحدى الروايات عنه. والله أعلم. وقد تعرضت الروايات في الباب بعد التالي إلى كيفية المسح، والسنة في ذلك أن يمسح شعر رأسه بيديه: يبدأ بمقدم رأسه، وينتهي بهما إلى قفاه، ثم يرد يديه إلى مقدم رأسه من المكان الذي بدأ منه، وبهذا الإقبال والإدبار يستوعب جهتي الرأس بالمسح؛ لأنه يمسح في الرجوع ما لم يمسحه في الذهاب وعلى هذا يختص ذلك بمن كان له شعر، وبمن كان شعره غير مضفور، وأما من لا شعر له على رأسه، أو كان شعره مضفورا فلا يستحب له الرد، إذ لا فائدة فيه، ولو رد في هذه الحالة لم يحسب الرد مسحة ثانية، لأن الماء صار مستعملا بالنسبة إلى ما سوى تلك المسحة. قال النووي. كما تعرضت الروايات إلى كون مسح الرأس بماء جديد غير فضل يديه، وقد نقل عن القاضي عياض أن السنة تجديد الماء لمسح الرأس، وأجاز الحسن والأوزاعي وعروة مسحه ببل اليدين، وعند بعض المالكية: إن كان بلحيته بلل وبعد عن الماء مسح به، ومعنى هذا أن الرواية وإن أخبرت عن الإتيان بماء جديد فإنه لا يلزم من ذلك اشتراطه، ولكن جاء في المدونة: إن مسح الرأس ببل اللحية لم يجزه، وخرج اللخمي القولين على طهورية الماء المستعمل، فمن رأى طهوريته أجاز مسح الرأس ببقية ماء غسل اليدين، ومن رأى أنه غير طهور لم يجز مسح الرأس بفضل اليدين، والخلاف في طهورية الماء المستعمل وعدم طهوريته مشهور، فأحمد والليثي والأوزاعي والشافعي، ومالك في إحدى الروايتين عنه، وأبو حنيفة في رواية عنه ذهبوا إلى أن

الماء المستعمل غير مطهر، وتوضيح هذه المسألة وأدلة كل فريق سيأتي في باب النهي عن الاغتسال في الماء الراكد (إن شاء الله). بقي في هذه النقطة المسح على العمامة وما شاكلها، نعم لم تتعرض رواياتنا له، لكن روى أبو داود عن ثوبان قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، فأصابهم البرد، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين"، (العصائب العمائم، جمع عصابة، سميت بذلك لأن الرأس يعصب بها، فكل ما عصبت به رأسك من عمامة أو منديل أو نحو ذلك فهو عصابة، والتساخين لا واحد لها من لفظها، فارسي معرب، وهو اسم غطاء من أغطية الرأس كان العلماء وفقهاء الفرس يلبسونه على رءوسهم) كما روى أبو داود أيضا عن أنس بن مالك قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ عليه عمامة قطرية (نسبة إلى قرية بإقليم البحرين) فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه، ولم ينقض العمامة"، فهذان حديثان مختلفان في حكم الاكتفاء بمسح العمامة ونحوها، وهذه المسألة من الأهمية بمكان في عصر لبست فيه المرأة شعرا مستعارا (باروكة) ولبسه بعض الرجال أيضا، كما لبسوا ولبست قبعات وعمائم يصعب خلعها في البرد، ويعرض نزعها في تيارات الشتاء لبعض الأمراض. وليس موضوع البحث المسح على بعض شعر الرأس ولو شعرة والتكملة على العصابة، فإنه قد سبق القول بأنه جائز عند الشافعية، وليس الموضوع المسح على ربع الرأس والتكملة على العصابة، فإنه جائز عند الحنفية أيضا، وإنما موضوع المسألة الاكتفاء بمسح العصابة والعمامة بدلا من مسح شعر الرأس. والحديث الأول المروي عن أبي داود يدل بظاهره على جواز ذلك، وهو قول لبعض العلماء، قال الترمذي في جامعه: وهو قول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم أبو بكر وعمر وأنس، وبه يقول الأوزاعي وأحمد وإسحق. وقال ابن القيم في تهذيب السنن: قال عمر بن الخطاب من لم يطهره المسح على العمامة فلا طهره الله، والمسح على العمامة سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ماضية مشهورة عند ذوي القناعة من أهل العلم في الأمصار. اهـ. كما قال هذا الفريق: إن عضوا يسقط فرضه في التيمم يجوز المسح على حائله كالقدمين، واختلف القائلون بهذا القول في: هل يشترط فيمن يمسح على العمامة أن يكون قد لبسها على طهارة، قياسا على الخفين؟ ذهب إلى ذلك البعض، والأكثرون لا يشترط، كما اختلفوا في: هل لهذا المسح وقت ومدة؟ قال أبو ثور: إن وقته كوقت المسح على الخفين، وقال ابن حزم: لا يوقت ذلك بوقت. وجمهور العلماء والفقهاء، وسفيان الثوري ومالك والشافعي وأبو حنيفة على أنه لا يجوز المسح على العمامة إلا أن يمسح برأسه مع العمامة، قالوا: إن الله فرض مسح الرأس، وحديث أبي داود محتمل التأويل، فلا يترك الأصل المتيقن وجوبه بالحديث المحتمل، بل قال بعضهم: إن حديث أبي داود خاص بهذه السرية، أو بأن المسح على العمامة منسوخ. والله أعلم. 7 - ولم تتعرض روايات مسلم لمسح الأذنين، لكن روى أبو داود في وصف علي -كرم الله وجهه-

للوضوء "ثم مسح رأسه وظهور أذنيه" وروي أيضا عن المقدام بن معد يكرب الكندي في وصف وضوء النبي صلى الله عليه وسلم "ثم مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما" وأخرج ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عباس "فمسح برأسه وأذنيه، داخلهما بالسبابتين، وخالف بإبهاميه على ظاهر أذنيه. فمسح ظاهرهما وباطنهما". وروى النسائي "ثم مسح برأسه وأذنيه، باطنهما بالسبابتين، وظاهرهما بإبهاميه" وروى ابن ماجه "مسح أذنيه، فأدخلهما السبابتين، وخالف إبهاميه إلى ظهر أذنيه فمسح ظاهرهما وباطنهما". ولا خلاف بين العلماء في مشروعية مسح الأذنين في الوضوء، لكن الخلاف بينهم في اعتبارهما من الرأس أو من الوجه أو منهما فذهب جمهور من العلماء إلى أنهما من الرأس، فيمسحان معه، مستدلين برواية لابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الأذنان من الرأس" وذهب الزهري وداود إلى أنهما من الوجه فيغسلان معه، لحديث ابن عباس "سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره" وذهب جماعة من العلماء إلى أن المقبل منهما من الوجه، فيغسل معه، والمدبر منهما من الرأس، فيمسح معه. والذي تستريح إليه النفس أنهما عضوان مستقلان، وأن رواية ابن ماجه ضعيفة؛ حتى قال ابن الصلاح: إن ضعفها كثير لا ينجبر بكثرة الطرق. اهـ. كذلك الخلاف قائم بين العلماء في حكم مسحهما، فذهبت القاسمية وإسحق بن راهويه وأحمد بن حنبل إلى أنه واجب، واستدلوا بأحاديث وصف وضوء النبي صلى الله عليه وسلم التي سقناها عن أبي داود وابن حبان والنسائي وابن ماجه، وقالوا: إن أحاديث "الأذنان من الرأس" يقوي بعضها بعضا، وقد تضمنت أنهما من الرأس فيكون الأمر بمسح الرأس أمرا بمسحهما. وذهب من عداهم إلى عدم الوجوب وأجابوا عن الأحاديث المذكورة بأنها وصف أفعال لا تدل على الوجوب، والمتيقن الاستحباب، فلا يصار إلى الوجوب إلا بدليل ناهض، كذلك الخلاف في مسحهما بماء الرأس أو بماء جديد، فذهب مالك والشافعي وأحمد إلى أنه يؤخذ لهما ماء جديد، وذهب أبو حنيفة إلى أنهما يمسحان مع الرأس بماء واحد. والله أعلم. 8 - وعن غسل الرجلين تقول الرواية الأولى "ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات، ثم غسل اليسرى مثل ذلك" وتقول الرواية 401 "ثم غسل رجليه ثلاث مرات" والرواية 416 "ثم غسل رجليه إلى الكعبين" والرواية 419 "وغسل رجليه حتى نقاهما". قال النووي: ذهب جميع الفقهاء من أهل الفتوى في الأعصار والأمصار إلى أن الواجب غسل القدمين مع الكعبين، ولا يجزئ مسحهما، ولا يجب المسح مع الغسل، ولم يثبت خلاف هذا عن أحد يعتد به في الإجماع. اهـ. ويشير النووي في كلامه إلى الإمامية من الشيعة حيث قالوا: إن فرض الرجلين المسح وإنه لا

يجزئ الغسل، محتجين بقراءة الجر في قوله تعالى {وامسحوا برءوسكم وأرجلكم} قالوا: وهي قراءة صحيحة سبعية مستفيضة، وجعلوا قراءة النصب عطفا على محل "برءوسكم". كما يشير بقوله "ولا يجب المسح مع الغسل" إلى ما ذهب إليه بعض أهل الظاهر من أنه يجب الجمع بين الغسل والمسح. وقد ذهب محمد بن جرير الطبري والجبائي والحسن البصري إلى أنه مخير بين الغسل والمسح لاختلاف القراءتين. ويوجه الجمهور قراءة الجر بأن الجر للجوار، وقد أجازه جماعة من أئمة الإعراب كسيبويه والأخفش كما في قوله تعالى: {إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم} [هود: 26] حيث جر "أليم" على الجوار ليوم، وإن كان صفة للعذاب، وحملت عليه هذه القراءة مع أنه قليل نادر لمداومته صلى الله عليه وسلم على غسل الرجلين، وعدم ثبوت المسح عنه من وجه صحيح وتوعده على المسح بقوله "ويل للأعقاب من النار" ولإجماع الصحابة على الغسل، وهناك جواب ثان، وهو أن الأرجل عطفت على الرءوس، لأنها تغسل بصب الماء عليها فكانت مظنة الإسراف المنهي عنه، لا لتمسح ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها، وجيء بالغاية ليعلم أن حكمها مخالف لحكم المعطوف عليه، لأنه لا غاية في الممسوح، قاله الزمخشري، وجواب ثالث وهو أن قراءة الجر للمسح، لكن في حالة لبس الخف. وقراءة النصب على الغسل عند عدم الخف. قال الحافظ أبو بكر بن العربي: قراءتا النصب والجر مشهورتان وبينهما تعارض، والحكم في تعارض الروايتين كالحكم في تعارض الآيتين، وهو أنه إن أمكن العمل بهما مطلقا يعمل، وإن لم يمكن يعمل بهما بالقدر الممكن، وهنا لا يمكن الجمع بين الغسل والمسح في عضو واحد في حالة واحدة، لأنه لم يقل به أحد من السلف، ولأنه يؤدي إلى تكرار المسح، لأن الغسل يتضمن المسح، والأمر المطلق لا يقتضي التكرار، فيعمل في حالتين، فيحمل في قراءة النصب على ما إذا كانت الرجلان باديتين، وتحمل قراءة الخفض على ما إذا كانتا مستورتين بالخفين، توفيقا بين القراءتين وعملا بهما بالقدر الممكن. اهـ. وسيأتي مزيد إيضاح لغسل الرجلين في باب إسباغ الوضوء، وغسل الأعقاب. هذا وفي غسل الكعبين نفسيهما ما في غسل المرفقين من خلاف سابق، وكذلك في تقديم الرجل اليمنى على اليسرى ما في تقديم اليد اليمنى من أحكام. وفي تخليل أصابع الرجلين ما في تخليل أصابع اليدين، وقد سبق الكلام عنه في النقطة الخامسة من شرح هذه الأحاديث. والله أعلم. 9 - ومن العطف بثم بين الأعضاء في بعض الروايات يؤخذ وجوب الترتيب بين أركان الوضوء، وبه قال الشافعي، وهو المشهور عن أحمد، واستدلوا بأنه صلى الله عليه وسلم لم يتوضأ إلا مرتبا، ولو لم يجب لتركه في وقت بيانا للجواز، وبما رواه النسائي من قوله صلى الله عليه وسلم "ابدءوا بما بدأ الله به" ورواه مسلم بلفظ "نبدأ بما بدأ الله".

فهذا الحديث وإن كان واردا في الحج في قوله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة: 158] لكن العبرة بعموم اللفظ، والأمر فيه في رواية النسائي صريح بوجوب الترتيب. وقالوا: إن آية الوضوء وإن كانت مجملة ببنتها السنة بفعله صلى الله عليه وسلم، ثم إن الآية الكريمة ذكرت ممسوحا بين مغسولات، وتفريق التجانس لا ترتكبه العرب إلا لفائدة وقصد، وهي هنا الوجوب، وذهب مالك وأبو حنيفة إلى أن الترتيب غير واجب، لأنه من لفظ الراوي، وقالوا: إن الفعل بمجرده لا يدل على الوجوب وإن داوم عليه صلى الله عليه وسلم، وحديث النسائي إنما قصد به التبرك بالبدء بما بدأ الله به. قال ابن رشد: وسبب اختلافهم شيئان: أحدهما الاشتراك الذي في واو العطف وذلك أنه قد يعطف بها الأشياء المرتبة بعضها على بعض، وقد يعطف بها غير المرتبة، وذلك ظاهر من استقراء كلام العرب ولذلك انقسم النحويون فيها قسمين، فقال نحاة البصرة: لا تقتضي نسقا ولا ترتيبا، وإنما تقتضي الجمع فقط وقال الكوفيون: بل تقتضي النسق والترتيب، فمن رأى أن الواو في آية الوضوء تقتضي الترتيب قال بإيجاب الترتيب، ومن رأى أنها لا تقتضي لم يقل بإيجابه. السبب الثاني: اختلافهم في أفعاله صلى الله عليه وسلم هل هي محمولة على الوجوب أو على الندب؟ فمن حملها على الوجوب قال بوجوب الترتيب، لأنه لم يرد عنه صلى الله عليه وسلم أنه توضأ قط إلا مرتبا، ومن حملها على الندب قال: إن الترتيب سنة، ومن فرق بين المسنون والمفروض من الأفعال قال: إن الترتيب الواجب إنما ينبغي أن يكون في الأفعال الواجبة، ومن لم يفرق قال: إن الشروط الواجبة قد تكون في الأفعال التي ليست واجبة. اهـ. ولا يخفى أن القائلين بعدم وجوب الترتيب بين الأركان يقولون باستحبابه بينها كترتيب السنن بعضها مع بعض، والقائلين بوجوبه بين الأركان يقولون بأنه سنة بين السنن. اللهم إلا ما روي عن أحمد من قوله بوجوبه أيضا بين المضمضة والاستنشاق، لأنهما من تمام غسل الوجه عنده، وأما تقديمهما على غسل الوجه فسنة. والله أعلم. ولم تتعرض رواياتنا للموالاة التي هي متابعة أعضاء الوضوء، من غير تفرقة بينها، بحيث يغسل العضو الثاني قبل جفاف العضو الأول، مع اعتدال الزمان والمزاج والهواء، ومذهب أحمد أنها واجبة، وبوجوبها قال الشافعي في القديم، وبه قال مالك لكن قيده بالذكر والقدرة، ومذهب أبي حنيفة أنها سنة وهو قول الشافعي في الجديد. والله أعلم. 10 - والروايات تصرح بالوضوء ثلاثا ثلاثا. قال النووي: وقد أجمع المسلمون على أن الواجب في غسل الأعضاء مرة مرة وعلى أن الثلاث سنة، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة بالغسل مرة مرة، وثلاثا ثلاثا، وبعض الأعضاء ثلاثا وبعضها مرتين وبعضها مرة. قال العلماء: فاختلافها دليل على جواز ذلك كله، وأن الثلاث هي الكمال، والواحدة تجزئ، فعلى هذا يحمل اختلاف الأحاديث.

وأما اختلاف الرواة فيه عن الصحابي الواحد في القصة الواحدة فذلك محمول على أن بعضهم حفظ وبعضهم نسي، فيؤخذ بما زاده الثقة، كما تقرر من قبول زيادة الثقة الضابط. اهـ. ثم قال في موضع آخر: وقد أجمع العلماء على كراهة الزيادة على الثلاث. والمراد بالثلاث المستوعبة للعضو، وأما إذا لم يستوعب العضو إلا بغرفتين فهي غسلة واحدة. ولو شك هل غسل ثلاثا أو اثنتين جعل ذلك اثنتين؛ وأتى بثالثة، هذا هو الصواب الذي قاله الجماهير من أصحابنا، وقال الجويني: يجعل ذلك ثلاثا ولا يزيد عليها، مخافة ارتكاب بدعة بالرابعة، والأول هو الجاري على القواعد، وإنما تكون الرابعة بدعة ومكروهة إذا تعمد كونها رابعة. اهـ. وما حكاه النووي من إجماع المسلمين على أن الواجب في غسل الأعضاء مرة مرة وعلى أن الثلاثة سنة، هو المشهور، فقد قال الأبي وحكى الإسفرايني عن مالك وجوب الثانية. اهـ. وما حكاه من إجماع العلماء على كراهة الزيادة على الثلاث هو المشهور أيضا، فقد قال أحمد وإسحق وغيرهما: لا تجوز الزيادة على الثلاث، ولا يزيد على الثلاث إلا رجل مبتلى، وقال ابن المبارك: لا آمن إذا زاد في الوضوء على الثلاث أن يأثم، فهذا الرأي يجعل الزيادة على الثلاث أقوى من الكراهة، ويقابله ما نقله الحافظ ابن حجر عن الشافعي أنه قال: لا أحب أن يزيد المتوضئ على ثلاث، فإن زاد لم أكرهه. وفي المرقاة قال الإمام النسفي: هذا إذا زاد معتقدا أن السنة هذا؛ فأما لو زاد لطمأنينة القلب عند الشك أو نية وضوء آخر فلا بأس، لأنه عليه الصلاة والسلام أمر بترك ما يريبه إلى ما لا يريبه. اهـ. فتعبير الإمام النووي في الحالتين بإجماع المسلمين محمول على التسامح. والتحقيق: أن ما حكاه إنما هو قول جماهير المسلمين وجماهير العلماء. ولا يفوتنا أن ننبه أن كراهة الزيادة على الثلاث مقصورة على حالة قصد الوضوء، فإن كان على العضو وسخ وقصد إزالته أزيل بقطع النظر عن العدد، وعليه تحمل الرواية 419 التي جاء فيها "وغسل رجليه حتى أنقاهما" بل استدل بعض الفقهاء بهذه الرواية على أن غسل الرجلين في الوضوء لا يحد بالثلاث، لأن الرجل لقربها من الأرض في المشي تكثر فيها الأوساخ والأدران، فيحال الأمر فيها على مجرد الإنقاء من غير اعتبار العدد، لكن هذا الرأي مردود، وإزالة الأوساخ في أي عضو مطلوبة بقطع النظر عن العدد، والثلاث للرجل كغيرها مطلوبة حيث لا وسخ، وقد نصت الرواية الأولى والثانية على التثليث في غسل الرجلين. أما مسح الرأس فالجمهور على عدم التثليث، وجميع رواياتنا لم تذكر التثليث في مسح الرأس، بل نص في بعضها على أنه مسح مرة واحدة، وقال أبو داود في السنن: أحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس مرة واحدة، وكذا قال ابن المنذر: إن الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في

المسح مرة واحدة، وبأن المسح مبني على التخفيف، فلا يقاس على الغسل المراد منه المبالغة في الإسباغ، وبأن العدد لو اعتبر في المسح لصار في صورة الغسل، إذ حقيقة الغسل جريان الماء. وبالغ أبو عبيدة فقال: لا نعلم أحدا من السلف استحب تثليث مسح الرأس إلا إبراهيم التيمي، لكن الشافعي يستحب التثليث في المسح كما في الغسل، وتكرار المسح مسنون عند أبي حنيفة أيضا -كما صرح بذلك صاحب الهداية- ولكن بماء واحد، ولعل بعض الروايات في ظاهرها تؤيدهما، إذ جاء فيها "توضأ ثلاثا ثلاثا" فلم تستثن مسح الرأس. وقد وردت أحاديث كثيرة بالمسح ثلاثا، ففي سنن أبي داود من حديث عبد الرحمن بن وردان عن حمران "ومسح رأسه ثلاثا" وفيه أيضا من حديث علي رضي الله عنه رفعه "ومسح برأسه ثلاثا" وفي سنن الدارقطني عن عمر رضي الله عنه في وصف وضوء النبي صلى الله عليه وسلم "ومسح برأسه ثلاثا" والله أعلم. 11 - ولم تتعرض الروايات للنية، ومذهب المالكية والشافعية وأحمد أنها واجبة في الوضوء والغسل كبقية العبادات، واستدلوا بقوله تعالى {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} [البينة: 5]. وقالوا: الإخلاص هو النية، لأنه عمل من أعمال القلب، وهو مأمور به، كذلك استدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات" وقدروا معناه: إنما صحة الأعمال بالنيات. ومذهب الحنفية عدم وجوب النية في الوضوء والغسل، وقدروا المعنى في الحديث: إنما كمال الأعمال، أو ثوابها بالنيات. قال ابن رشد: وسبب اختلافهم هو تردد الوضوء بين أن يكون عبادة محضة، أي مقصودا بها القربة فقط كالصلاة وغيرها، وبين أن يكون عبادة معقولة المعنى، كغسل النجاسة، فإنهم لا يختلفون في أن العبادة المحضة مفتقرة إلى النية، والعبادة المفهومة المعنى غير مفتقرة إلى النية، والوضوء فيه شبه من العبادتين، ولذلك وقع الخلاف فيه، وذلك أنه يجمع عبادة ونظافة. اهـ. والنية محلها القلب وإن جمع اللفظ مع القلب كان آكد وأفضل عند الشافعية وجمهور العلماء، ومنع الجهر بها ابن تيمية وابن القيم وجماعة من العلماء. 12 - وأما التسمية عند الوضوء فلم تأت في شيء من الأحاديث الصحيحة، بل قال أحمد: لا أعلم فيها حديثا له سند جيد. اهـ. وأما ما رواه الدارقطني والبيهقي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من توضأ وذكر اسم الله تعالى عليه كان طهورا لجميع بدنه، ومن توضأ ولم يذكر اسم الله عليه كان طهورا لما مر عليه الماء" وما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" فإن أسانيدهما كلها ضعيفة، وأقوى ما يحتج به في مشروعية التسمية حديث "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أقطع" رواه أبو داود وابن ماجه والنسائي. ولما لم ترد التسمية في أحاديث الوضوء اختلفت المذاهب في مشروعيتها فيه: فالشافعية على أن التسمية سنة في الوضوء وجميع العبادات وغيرها من الأفعال، حتى عند الجماع، لما رواه البخاري ومسلم من قوله

صلى الله عليه وسلم "لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فقضى بينهما ولد لم يضره الشيطان". قال النووي: هذا مذهبنا، وبه قال مالك وأبو حنيفة وجمهور العلماء، وهو أظهر الروايتين عن أحمد، وعنه رواية أنها واجبة، وعن أبي حنيفة رواية أنها ليست بمستحبة في الوضوء، وعن مالك رواية أنها بدعة فيه، ورواية أنها مباحة، لا فضيلة في فعلها ولا تركها. اهـ. والله أعلم. -[ويؤخذ من مجموع هذه الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - التعليم بالفعل لأنه أبلغ وأضبط للمتعلم. 2 - جواز الاستعانة في إحضار الماء للوضوء من غير كراهة. 3 - استحباب غسل الكفين قبل إدخالهما الإناء، وإن لم يكن قد قام من النوم. 4 - الإفراغ على اليدين معا في ابتداء الوضوء. 5 - استدل بقوله "ثم أدخل يمينه في الإناء" على عدم اشتراط نية الاغتراف. قال الحافظ ابن حجر: ولا دلالة فيه نفيا ولا إثباتا. 6 - يؤخذ من الاغتراف من الماء القليل للتطهير أنه لا يصيره مستعملا. 7 - قد يستدل به على أن المضمضة والاستنشاق يكونان بغرفة واحدة. وهو أحد الأوجه المستحبة المتقدمة في الشرح. 8 - يؤخذ منه تقديم اليمنى على اليسرى. 9 - الترتيب بين أعضاء الوضوء. 10 - أن الوضوء الواحد يكون بعضه بمرة، وبعضه بمرتين، وبعضه بثلاث. 11 - الترغيب في الإخلاص. 12 - فضل إحسان الوضوء والصلاة بعده، وسيأتي قريبا في باب خاص. 13 - الوتر في الاستجمار، وسيأتي في بابه. والله أعلم

(114) باب فضل إحسان الوضوء والمشي إلى المسجد والصلاة وانتظار الصلاة والجمعة إلى الجمعة

(114) باب فضل إحسان الوضوء والمشي إلى المسجد والصلاة وانتظار الصلاة والجمعة إلى الجمعة 402 - عن حمران مولى عثمان قال سمعت عثمان بن عفان وهو بفناء المسجد فجاءه المؤذن عند العصر فدعا بوضوء فتوضأ ثم قال والله لأحدثنكم حديثا لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا يتوضأ رجل مسلم فيحسن الوضوء فيصلي صلاة إلا غفر الله له ما بينه وبين الصلاة التي تليها". وفي حديث أبي أسامة "فيحسن وضوءه ثم يصلي المكتوبة". 403 - عن حمران أنه قال: فلما توضأ عثمان قال والله لأحدثنكم حديثا والله لولا آية في كتاب الله ما حدثتكموه إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا يتوضأ رجل فيحسن وضوءه ثم يصلي الصلاة إلا غفر له ما بينه وبين الصلاة التي تليها" قال عروة الآية {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى} إلى قوله {اللاعنون} [البقرة: 159]. 404 - عن إسحق بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص حدثني أبي عن أبيه قال: كنت عند عثمان فدعا بطهور فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة وذلك الدهر كله". 405 - عن حمران مولى عثمان قال أتيت عثمان بن عفان بوضوء فتوضأ ثم قال إن ناسا يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث لا أدري ما هي إلا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ مثل وضوئي هذا ثم قال "من توضأ هكذا غفر له ما تقدم من ذنبه وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة" وفي رواية ابن عبدة أتيت عثمان فتوضأ.

406 - عن أبي أنس؛ أن عثمان توضأ بالمقاعد. فقال: ألا أريكم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ثم توضأ ثلاثا ثلاثا. 407 - سمعت حمران بن أبان قال: كنت أضع لعثمان طهوره فما أتى عليه يوم إلا وهو يفيض عليه نطفة وقال عثمان حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند انصرافنا من صلاتنا هذه (قال مسعر أراها العصر) فقال "ما أدري أحدثكم بشيء أو أسكت؟ " فقلنا: يا رسول الله! إن كان خيرا فحدثنا وإن كان غير ذلك فالله ورسوله أعلم. قال "ما من مسلم يتطهر فيتم الطهور الذي كتب الله عليه فيصلي هذه الصلوات الخمس إلا كانت كفارات لما بينها". 408 - عن جامع بن شداد قال: سمعت حمران بن أبان يحدث أبا بردة في هذا المسجد. في إمارة بشر أن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أتم الوضوء كما أمره الله تعالى. فالصلوات المكتوبات كفارات لما بينهن" 409 - عن حمران مولى عثمان قال: توضأ عثمان بن عفان يوما وضوءا حسنا. ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فأحسن الوضوء. ثم قال "من توضأ هكذا. ثم خرج إلى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة. غفر له ما خلا من ذنبه". 410 - عن حمران مولى عثمان بن عفان عن عثمان بن عفان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من توضأ للصلاة فأسبغ الوضوء. ثم مشي إلى الصلاة المكتوبة فصلاها مع الناس أو مع الجماعة أو في المسجد غفر الله له ذنوبه".

411 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الصلاة الخمس. والجمعة إلى الجمعة. كفارة لما بينهن. ما لم تغش الكبائر". 412 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن". 413 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول "الصلوات الخمس. والجمعة إلى الجمعة. ورمضان إلى رمضان. مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر". -[المعنى العام]- وترغيبا في إسباغ الوضوء وإكماله وتحسينه، وفي الصلاة بعده يقول عثمان بن عفان رضي الله عنه بعد أن توضأ فأحسن الوضوء: إن فضل الله واسع. تفضل بالأجر الكبير على العمل الصغير، وإني أعلم ثوابا جزيلا على عمل سهل يسير، أخاف إن بلغتكم نبأه أن تتكلوا وتكسلوا ولا تنشطوا، وأخاف إن لم أحدثكم أن أكون كاتما للعلم، يصدق على ما قاله الله تعالى في أهل الكتاب {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} [البقرة: 159]. إنني سأختار تحديثكم بالأمر، كما اختاره لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لنا -بعد أن توضأ فأحسن الوضوء، وصلى بنا العصر- وبعد انصرافنا من الصلاة -قال: لا أدري أحدثكم بشيء أحفظه وأعلمه، أو أترك تحديثكم به مخافة أن تتكلوا على فضل الله وتكسلوا عن العبادة؟ ونشط الصحابة وثار فيهم حب الاستطلاع والحرص على معرفة هذا الأمر، لكنهم تأدبوا في الطلب فقالوا: يا رسول الله إن كان خيرا فحدثنا به نزد خيرا، وإن كان غير ذلك فالأمر لله ولك تقرر فيه ما تشاء. ورأى صلى الله عليه وسلم أن يحدثنا، فقال: لا يتوضأ رجل مسلم، فيحسن الوضوء، ويتم الطهور الذي أمره الله تعالى به، ثم يمشي إلى المسجد، لا يدفعه إليه شيء إلا الصلاة، فتحضره المكتوبة، فيصليها في المسجد مع الجماعة، لا يحدث فيها نفسه إلا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما بينه وبين أدائه الصلاة التي تليها. فمن توضأ وضوءا حسنا غفر له ما تقدم من ذنبه، وكانت صلاته ومشيه إلى

المسجد زيادة في أجره وثوابه، ومن توضأ هكذا ثم خرج إلى المسجد لا يدفعه شيء إلا الصلاة غفر له ما تقدم من ذنبه، والصلوات الخمس كفارات لما بينها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة. فاللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. -[المباحث العربية]- (وهو بفناء المسجد) "أل" في المسجد للعهد، والمقصود المسجد النبوي بالمدينة، وفناء المسجد بكسر الفاء هو المتسع أمامه، بين يديه أو في جواره، قال الأبي: المراد ما تحت الجدار مما يلي الشارع، لا ما يأخذه الغلق لأنه لا يتوضأ في المسجد. (فدعا بوضوء) أي بماء يتوضأ به. (لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم) المفعول الثاني لحدث محذوف وقد ذكر في الرواية الثانية بلفظ "ما حدثتكموه" و"آية" مبتدأ خبره محذوف وجوبا، أي لولا آية كائنة في كتاب الله موجودة. (لا يتوضأ رجل مسلم فيحسن الوضوء) إحسان الوضوء الإتيان به تاما بصفته وآدابه وسننه، والفاء هنا ليست للترتيب والتعقيب، لأن إحسان الوضوء ليس متأخرا عن الوضوء، وإنما وقعت الفاء هنا موقع "ثم" التي لبيان الرتبة ولا شك أن الوضوء الجيد أعلى رتبة من الوضوء الخالي من الإجادة، والتعبير بالرجل من باب التغليب، والحكم شامل للمرأة والفتى والفتاة والخنثى. (فيصلي صلاة) تنكير "صلاة" يشير إلى أن الحكم المذكور تابع لأي صلاة، فرضا كانت أو نفلا، لكن الرواية الثالثة في وصفها "الصلاة" تتفق مع الرواية السادسة والسابعة والتاسعة والعاشرة والحادية عشر والثانية عشرة في أن المراد منها المكتوبة، ولعله سقط من الراوي في الرواية الأولى وصف الصلاة وكان الأصل: فيصلي صلاة مكتوبة. وسيأتي مزيد إيضاح لهذه النقطة في فقه الحديث. (إلا غفر الله له) المستثنى محذوف، والتقدير: لا يتوضأ رجل صفته كذا وكذا إلا رجل غفر الله له، أو الجملة حال والمستثنى منه محذوف أي لا يتوضأ رجل صفته كذا وكذا في حال من الأحوال إلا في حال المغفرة، فالاستثناء من عموم الأحوال. (ما بينه وبين الصلاة التي تليها) أي التي بعدها، لا الماضية قبلها، فقد جاء في الموطأ "التي تليها حتى يصليها". (عن حمران أنه قال: فلما توضأ عثمان قال) الفاء عاطفة على محذوف، تقديره: عن حمران أنه رأى عثمان دعا بإناء فأفرغ على كفيه ... إلى أن قال: ثم غسل رجليه إلى الكعبين فلما توضأ قال ... إلخ.

(ما لم يأت كبيرة) بفتح الياء، كذا هو مضبوط في النسخة التي بين أيدينا من شرح النووي، وفي كثير من النسخ "يؤت كبيرة" بضم الياء وكسر التاء من "آتي" الرباعي، و"كبيرة" بالنصب، وتحمل هذه الرواية على معنى: ما لم يأت بكبيرة، ففي اللسان عن الجوهري. آتاه: أتى به، ومنه قوله تعالى {آتنا غذاءنا} [الكهف: 62] أي ائتنا به. اهـ. كأن فاعل الكبيرة يعطيها من نفسه. وفي نسخة شرح الأبي والسنوسي "ما لم تؤت كبيرة" بالتاء الأولى مضمومة والثانية مفتوحة، مبنيا للمجهول و"كبيرة" بالرفع نائب فاعل، و"ما" على الروايتين مصدرية زمانية أي مدة عدم الإتيان بكبيرة، وليس المعنى أن ترك الكبيرة شرط في محو الصغائر بالوضوء والصلاة، وإنما المعنى أن بالوضوء والصلاة يغفر ما تقدم إلا أن يكون فيما تقدم كبيرة، فإنها لا تغفر بالوضوء والصلاة، أي إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تكن الذنوب كبيرة. (وذلك الدهر كله) "الدهر" ظرف متعلق بمحذوف خبر، والإشارة لإحسان الوضوء والخشوع والركوع والتكفير، أي وذلك الفعل والتكفير مستمر ومستقر الدهر كله، أي زمن الحياة كله. (إن ناسا يتحدثون) أصل "ناس" أناس، حذفت الهمزة تخفيفا، وحذفها كاللازم مع لام التعريف، لا يكاد يقال: الأناس. وهو من أسماء الجمع. (لا أدري ما هي)؟ أي ما حقيقتها ومدى صحتها؟ . (وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة) النافلة ما يفعل مما لم يجب، والمقصود أن صلاته ومشيه إلى المسجد لها ثواب زائد على غفران الذنب. (أن عثمان توضأ بالمقاعد) بفتح الميم، قيل: هي دكاكين عند دار عثمان بن عفان وقيل درج، وقيل: موضع بقرب المسجد اتخذه للقعود فيه لقضاء حوائج الناس والوضوء ونحو ذلك. (كنت أضع لعثمان طهوره) أي أعد وأحضر لعثمان ماء وضوئه. (فما أتى عليه يوم إلا وهو يفيض عليه نطفة) المستثنى منه عموم الأحوال و"يفيض" بضم الياء من أفاض الماء على نفسه بمعنى أفرغه، والنطفة بضم النون الماء القليل، والمعنى: ما أتى عليه يوم وهو في حال من الأحوال إلا في إفراغ الماء على نفسه، ومراده من هذه العبارة وصف عثمان بالمحافظة على الطهر والنظافة، وفهم منها بعضهم ملازمته للاغتسال وإن قل ماؤهم، رغبة في تحصيل الثواب، لكن المقام يبعد الغسل، ويفيد فقط الحرص على النظافة وإسباغ الوضوء. (ما أدري أحدثكم بشيء أو أسكت)؟ قال بعضهم: تردد صلى الله عليه وسلم في تحديثهم هذا الحديث، هل فيه مصلحة الآن أو لا مصلحة فيه الآن خوف الاتكال؟ ثم رأى أن المصلحة في تحديثهم، فحدثهم. هكذا قال، لكن لما كان التردد منه صلى الله عليه وسلم في مثل هذا غير مستحسن كان أولى أن يقال: إنه ليس بتردد، إنما هو أسلوب يقصد به تنشيط المخاطبين، وإثارة انتباههم، وإشعارهم بعظيم ما سيلقى إليهم.

(ما من مسلم يتطهر) المراد من الطهور هنا الوضوء، لقوله بعد: "فيصلي هذه الصلوات الخمس" إذ ليس الغسل مطلوبا لكل من الصلوات الخمس. (فيتم الطهور الذي كتب الله عليه) تمام الوضوء هو حسنه في الرواية الأولى والثانية والثالثة، والفاء في "فيتم الطهور" مثل الفاء في "فيحسن الوضوء" في الرواية الأولى، وقد سبق توضيحها، ومفعول "كتب" عائد الصلة محذوف، تقديره: الذي كتبه الله عليه، أي فرضه الله عليه. (فيصلي هذه الصلوات الخمس) الإشارة للمعهود ذهنا، وكذا "أل" في الصلوات للعهد الذهني. (يحدث أبا بردة في هذا المسجد في إمارة بشر) تحديد المستمع والمكان والزمان للتوثيق بالرواية، على معنى أنه يحفظها ويذكر من قيلت له والمكان والزمان الذي قيلت فيه. (كما أمره الله تعالى) على لسان نبيه، أو اقتداء بأفعاله صلى الله عليه وسلم. (لا ينهزه إلا الصلاة) بفتح الياء وسكون النون وفتح الهاء، أي لا يدفعه وينهضه ويحركه إلا الصلاة. قال أهل اللغة: نهزت الرجل أنهزه إذا دفعته، ونهز رأسه إذا حركه، قال صاحب المطالع: وضبط بعضهم "ينهزه" بضم الياء، وهو خطأ، وقيل: هي لغة، والمستثنى منه عموم الفاعلين أي لا ينهزه شيء من الأشياء إلا الصلاة. (غفر له ما خلا من ذنبه) أي ما مضى من ذنبه، ففي القاموس: خلا وقع في موضع خال. (فصلاها مع الناس، أو مع الجماعة، أو في المسجد) يحتمل أنه شك من الراوي، ويحتمل أنه سمعه كذلك، والأول أولى، لأن قوله: "مع الناس" في معنى "مع الجماعة" فلا يقصد الترديد بينهما. -[فقه الحديث]- ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأولى والثانية "غفر الله ما بينه وبين الصلاة التي تليها" وقوله في الرواية الرابعة "غفر له ما تقدم من ذنبه" وقوله في الرواية السادسة" فيصلي هذه الصلوات الخمس إلا كانت كفارات لما بينها، وقوله في الرواية السابعة "فالصلوات المكتوبات كفارات لما بينهن" وقوله في الرواية الثامنة "غفر له ما خلا من ذنبه" وقوله في الرواية التاسعة "غفر الله له ذنوبه" ظاهر هذه الألفاظ أن التكفير يشمل الصغائر والكبائر، لكن العلماء خصوه بالصغائر لوروده مقيدا في الرواية الثالثة ولفظها "إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة" فحملوا المطلق على المقيد، إذ معناها أن الذنوب كلها تغفر ما لم تكن كبيرة. وهذا هو مذهب أهل السنة، وأن الكبائر إنما تكفرها التوبة أو رحمة الله تعالى وفضله، أما المعتزلة فلا يكفر الكبيرة عندهم إلا التوبة.

ثم ظاهر الرواية الرابعة أن الوضوء يستقل بالتكفير، إذ فيها "من توضأ هكذا غفر له ما تقدم من ذنبه، وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة" وظاهر الرواية الثامنة، أن التكفير موقوف على الوضوء، والمشي إلى الصلاة، إذ فيها "من توضأ هكذا، ثم خرج إلى المسجد، لا ينهزه إلا الصلاة غفر له ما خلا من ذنبه". وظاهر الروايات الثانية والثالثة والسادسة أن التكفير موقوف على إحسان الوضوء والصلاة "فيحسن الوضوء فيصلي" وظاهر بعض هذه الروايات أن المراد من الصلاة مطلق صلاة، وظاهر بعضها أن المراد المكتوبات الخمس. وظاهر الرواية التاسعة أن التكفير موقوف على الوضوء والمشي والصلاة، إذ فيها "من توضأ للصلاة، فأسبغ الوضوء، ثم مشي إلى الصلاة المكتوبة، فصلاها مع الناس، أو مع الجماعة، أو في المسجد، غفر الله له ذنوبه". وظاهر الرواية السابعة أن التكفير للصلاة، إذ فيها "من أتم الوضوء، كما أمره الله تعالى، فالصلوات المكتوبة كفارات لما بينهن". وللجمع بين هذا الظاهر المتعارض قال العيني: يحتمل أن يكون ذلك باختلاف الأشخاص، فشخص يحصل له التكفير بالوضوء وشخص بالوضوء والمشي، وشخص بالوضوء والصلاة، وشخص بالوضوء والمشي والصلاة. اهـ. بتصرف. ويمكن أن يقال: إن كلا منها يستقل بالتكفير، بل هناك من غيرها ما يستقل بالتكفير ففي الرواية الثانية عشرة "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر" وفي الحديث "صيام عرفة يكفر سنتين، ويوم عاشوراء كفارة سنة" و"إذا وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه". ولا يقال: إذا كفر الوضوء فماذا تكفر الصلاة وغيرها، فقد قال العلماء: إن كل واحد من هذه المذكورات صالح للتكفير، فإن وجد ما يكفره من الصغائر كفره، وإن لم يصادف صغيرة كتبت به حسنات، ورفعت به درجات، وإن صادف كبيرة أو كبائر، ولم يصادف صغيرة رجونا أن يخفف من الكبائر، والله أعلم. قاله النووي. ولما كان ظاهر بعض الروايات يفيد أن التكفير إنما هو لما تقدم الفعل من الذنوب وظاهر الرواية الأولى والثانية أن التكفير لما بينه وبين الصلاة التي تليها جمع بينها بأن التكفير لما تقدم وما تأخر إلى الصلاة التي تليها، فيكون تقدير بعضها: غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر إلى الصلاة التي تليها، ويكون تقدير البعض الآخر: غفر له ما بين تكليفه والصلاة الآتية. والله أعلم. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - الحث على الاعتناء بتعلم آداب الوضوء وشروطه، والعمل بذلك، والاحتياط فيه، والحرص على أن يتوضأ على وجه عند جميع العلماء ولا يترخص بالاختلاف، فينبغي أن يحرص على التسمية،

والنية، والمضمضة، والاستنشاق، والاستنثار، واستيعاب مسح الرأس ومسح الأذنين، ودلك الأعضاء، والتتابع في الوضوء، وترتيبه، وذلك من المختلف فيه. قاله النووي. 2 - التعليم بالفعل، لكونه أبلغ وأضبط للمتعلم. 3 - يؤخذ من قوله في الرواية الثالثة "فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها" ومن قوله في الرواية الأولى من المجموعة السابقة الشرح قبل هذه المجموعة "فركع ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه" الترغيب في الإخلاص، والتحذير من الغفلة في الصلاة والتفكير في أمور الدنيا، قال الحافظ ابن حجر: المراد ما تسترسل معه النفس ويمكن المرء قطعه، أما ما يهجم من الخطرات والوساوس ويتعذر دفعه فلا. اهـ. ونقل القاضي عياض عن بعضهم: أن هذه الفضيلة لمن لم يحصل له حديث النفس أصلا ورأسا، لكن رده النووي، فقال: الصواب حصول هذه الفضيلة مع طريان الخواطر العارضة غير المستقرة. نعم من اتفق أن يحصل له عدم حديث النفس أصلا أعلى درجة بلا ريب. اهـ. 4 - يؤخذ من قوله في الرواية الأولى "فجاء المؤذن"، مشروعية إتيان المؤذن للإمام للإعلام بحضور الصلاة، لأن الظاهر أنه إنما جاء لذلك. قاله الأبي. 5 - يؤخذ من قوله "والله لأحدثنكم" جواز الحلف من غير استحلاف ولا ضرورة. 6 - يؤخذ من قوله "لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم" أن كتمان العلم حرام، والآية كما فهمها عروة هي قوله تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} [البقرة: 159] وهي وإن كانت في أهل الكتاب لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فدخل فيها كل من علم علما أمر الله العباد بمعرفته لزمه من عدم تبليغه ما لزم أهل الكتاب منه، ففي الآية تنبيه وتحذير لمن فعل فعلهم، وسلك سبيلهم، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عمهم الوعيد في الحديث المشهور "من كتم علما ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة". 7 - أخذ النووي من قوله في الرواية السادسة "فيتم الطهور الذي كتب الله عليه" أن من اقتصر في وضوئه على طهارة الأعضاء الواجبة وترك السنن، والمستحبات كانت هذه الفضيلة حاصلة له، وإن كان من أتي بالسنن أكمل وأشد تكفيرا. 8 - يؤخذ من قوله "لا ينهزه إلا الصلاة" الحث على الإخلاص في الطاعات وأن تكون متمحضة لله تعالى. ولا يخفى أن هذا المأخذ يتعارض مع المأخذ الأول الذي ذكره النووي نفسه، وقد فسرنا قوله صلى الله عليه وسلم "كما أمره الله" أي على لسان رسوله أو فعله صلى الله عليه وسلم، فقد كتب الله علينا أن نطيع رسوله وأن نقتدي به صلى الله عليه وسلم.

9 - يؤخذ من قول عثمان "إن ناسا يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث لا أدري ما هي"؟ أدب السلف الصالح، وموقفهم من روايات الحديث المختلفة، وعدم تكذيب بعضهم بعضا، واقتصارهم على نفي العلم. 10 - يؤخذ من قول الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن كان خيرا فحدثنا، وإن كان غير ذلك فالله ورسوله أعلم" أدب الصحابة في خطابه صلى الله عليه وسلم، حيث لم يقولوا: وإن كان غير ذلك فاسكت ولا تحدثنا، بل قالوا: إن كان بشارة لنا وسببا لنشاطنا وترغيبنا في الأعمال، أو تحذيرا وتنفيرا من المعاصي فحدثنا به، لنحرص على عمل الخير والإعراض عن الشر، وإن كان حديثا لا يتعلق بالأعمال، ولا ترغيب فيه ولا ترهيب فالله ورسوله أعلم، أي فانظر فيه رأيك، وقرر فيه ما تشاء، فعلم المصلحة عند الله ورسوله.

(115) باب الذكر المستحب عقب الوضوء

(115) باب الذكر المستحب عقب الوضوء 414 - عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: كانت علينا رعاية الإبل. فجاءت نوبتي. فروحتها بعشي. فأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يحدث الناس فأدركت من قوله "ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه. ثم يقوم فيصلي ركعتين. مقبل عليهما بقلبه ووجهه. إلا وجبت له الجنة" قال فقلت: ما أجود هذه! فإذا قائل بين يدي يقول: التي قبلها أجود. فنظرت فإذا عمر. قال: إني قد رأيتك جئت آنفا. قال "ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ (أو فيسبغ) الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبد الله ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء". 415 - عن عقبة بن عامر الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فذكر مثله غير أنه قال "من توضأ فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله". -[المعنى العام]- كم كان حرص الصحابة على الاجتماع برسول الله صلى الله عليه وسلم والارتواء بحديثه الشريف رغم مشاكلهم الدنيوية، وكثرة متاعبهم في سبيل الرزق، فهذا عقبة بن عامر يرعى إبله في النهار، ولا يكاد يروح بها إلى مبيتها حتى يهرع إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدرك من أقواله ووعظه ما يمكن إدراكه. لقد أدرك يوما رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا، وهو يقول ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يقوم، فيصلي ركعتين "سنة الوضوء" وهو مقبل على الصلاة بقلبه الخاشع، ووجهه الخاضع إلا استحق الجنة دون عذاب، فسر عقبة بهذه البشارة العظيمة، وتعجب من هذا الأجر الجليل على ذلك الفعل القليل، فقال لنفسه، وهو يسمعها: ما أجود هذه البشرى وما أعظمها، وسمع صوتا أمامه يقول: المقالة التي قبلها -يا عقبة- أجود منها، فاتجه ناحية الصوت، وفحص قائله في الضوء الخافت، فإذا هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه "فقال: ما هي يا أبا حفص؟ فقال: إنه صلى الله عليه وسلم قد قال آنفا قبل أن تجيء: ما منكم من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء، ثم يقول حين يفرغ من وضوئه: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء.

-[المباحث العربية]- (عن عقبة بن عامر) الجهني الصحابي المشهور، أحد الجامعين للقرآن، وله مصحف بمصر كتبه بيده، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وهو في غنم يرعاها، فتركها، ثم ذهب إليه، فقال: بايعني. فبايعه صلى الله عليه وسلم. شهد الفتوح، وشهد صفين مع معاوية، وأمره بعد ذلك على مصر وتوفي بها سنة ثمان وخمسين. (كانت علينا رعاية الإبل فجاءت نوبتي) الرعاية بكسر الراء هي الرعي، قال النووي: معنى هذا الكلام أنهم كانوا يتناوبون رعي إبلهم، فيجتمع الجماعة، ويضمون إبلهم بعضها إلى بعض، فيرعاها كل يوم واحد منهم، ليكون أرق بهم، وينصرف الباقون في مصالحهم، اهـ. وقال الأبي: يعني إبل الصدقة المنتظر بها التفرقة، أو المعدة لمصالح المسلمين. اهـ فمعنى "كانت علينا رعاية الإبل" على تفسير النووي: كنا نقوم بخدمة أنفسنا، وليس لنا خادم يرعى إبلنا، ويؤيد هذا التفسير رواية أبي داود، ولفظها عن عقبة بن عامر قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خدام أنفسنا نتناوب الرعاية: رعاية إبلنا، فكانت على رعاية الإبل ... الحديث. والمعنى على فهم الأبي: كانت علينا -أنا وجماعة- رعاية إبل الصدقة بأجر أو بدون أجر، نتناوبها. فجاءت نوبتي ... الحديث: وتفسير النووي أقوى. والنوبة الفرصة. (فروحتها بعشي) الرواح في الأصل يطلق على الذهاب أول النهار، وعلى الرجوع في آخره، وعليه قوله صلى الله عليه وسلم "من راح إلى الجمعة في أول النهار .. " أي من ذهب. لكن كثر استعمال الرواح في العودة آخر النهار، قال الأزهري: وأما راحت الإبل فهي رائحة فلا يكون إلا بالعشي، إذا أراحها راعيها على أهلها، يقال سرحت بالغداة إلى الرعي، وراحت بالعشي على أهلها، أي رجعت من المرعى إليهم، والعشي من الزوال إلى الغروب، وقيل: من الزوال إلى الصباح. (مقبل عليهما بقلبه ووجهه) قال النووي: هكذا هو في الأصول "مقبل" أي هو مقبل. اهـ. والمراد أن لفظ "مقبل" خبر لمبتدأ محذوف، والجملة في محل النصب على الحال. والإقبال في الأصل ضد الإدبار، والمراد هنا بإقبال القلب خشوعه، وبإقبال الوجه خضوع الأعضاء. (إلا وجبت له الجنة) أي استحق دخولها بدون عذاب سابق، وإلا فمطلق الدخول يكفي فيه مجرد الإيمان، كما هو مذهب أهل السنة، والاستثناء من عموم الأحوال. (ما أجود هذه) أي ما أحسن هذه الفائدة وهذه البشارة، وتعجب من جودتها من جهة أنها سهلة متيسرة، يقدر عليها كل أحد بلا مشقة، مع عظم أجرها. (فإذا قائل بين يدي يقول) أي أمامي وقريب مني.

(إني قد رأيتك جئت آنفا) أي قريبا. فلم تسمع التي قبلها، و "آنفا" بالمد على اللغة المشهورة، وبالقصر على لغة صحيحة، وقرئ بهما في السبع. (قال: ما منكم من أحد ... ) أي قال صلى الله عليه وسلم قبل أن تجيء: ما منكم من أحد .. إلخ. (فيبلغ أو فيسبغ الوضوء) "فيبلغ" بضم الياء وكسر اللام من أبلغ الوضوء إذا بالغ فيه وأتمه وأسبغه، و "أو" للشك من الراوي في أي اللفظين سمع، أو هما سمعا من النبي صلى الله عليه وسلم كذلك، والفعلان تنازعا "الوضوء" على أنه مفعول به. (أشهد أن لا إله إلا الله) "أن" مخففة من الثقيلة: واسمها ضمير الشأن محذوف و "لا" نافية للجنس، وخبرها محذوف، أي لا إله موجود، و "إلا" ملغاة ولفظ الجلالة مرفوع على البدلية من الضمير في الخبر، والجملة خبر "أن". -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث]- 1 - أنه يستحب للمتوضئ أن يقول عقب وضوئه: أشهد أن لا إله الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. قال النووي: وهذا متفق عليه، وينبغي أن يضم إليه ما جاء في رواية الترمذي متصلا بهذا الحديث "اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين" ويستحب أن يضم إليه ما رواه النسائي في كتابه "عمل اليوم والليلة" مرفوعا "سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا الله أنت وحدك لا شريك لك، أستغفرك وأتوب إليك" قال أصحابنا: وتستحب هذه الأذكار للمغتسل أيضا. اهـ. وروى الحاكم في المستدرك من حديث أبي سعيد الخدري "من توضأ" فقال: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك كتبت في رق ثم طبع بطابع، فلا يكسر إلى يوم القيامة". قال الشوكاني في شرح حديث عقبة: والحديث يدل على استحباب الدعاء المذكور، ولم يصح من أحاديث الدعاء في الوضوء وغيره، وأما ما ذكره أصحابنا والشافعية في كتبهم من الدعاء عند كل عضو، كقولهم عند غسل الوجه: اللهم بيض وجهي إلخ فقال الرافعي وغيره: ورد بهذه الدعوات الأثر عن الصالحين. اهـ. 2 - أن للجنة أبوابا ثمانية، قيل: هي باب الإيمان، وباب الصلاة، وباب الصيام، وباب الصدقة، وباب الكاظمين الغيظ، وباب الراضين، وباب الجهاد، وباب التوبة.

وقد ذكر بعض هذه الأبواب بأسماء أخرى. 3 - أن المتوضئ المسبغ للوضوء الذاكر بهذا الذكر يخير في دخول الجنة من أي باب من أبوابها، ولا يتعارض هذا مع حديث "إن باب الريان لا يدخل منه إلا الصائمون" لأنه يخير فلا يوفق للدخول من باب الريان إن لم يكن من الصائمين، وفائدة التخيير حينئذ إظهار التعظيم والتكريم. 4 - يؤخذ من قوله "ثم يقوم فيصلي ركعتين" أن القيام في صلاة النفل أكمل من الجلوس إلا لعذر. 5 - ويؤخذ منه مشروعية صلاة ركعتين بعد الوضوء، وهما سنة عند الشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة. 6 - أن الإخلاص والإقبال على العبادة وترك الشواغل الدنيوية هو روح العبادة. 7 - أن الله تعالى يعطي الثواب الكثير على العمل القليل الخالص لوجهه. 8 - حرص الصحابة على فعل الخير والترغيب فيه ودلالة الغير عليه. 9 - فضل الشهادتين وعظم كلمة التوحيد. 10 - الحث على إتقان الوضوء وفضيلة الذكر بعده. 11 - ما كان عليه الصحابة من التواضع، وخدمة الشخص نفسه، ورعيه إبله، وإن كان عظيما. 12 - مشروعية التعاون في أمور المعيشة. والله أعلم

تابع باب صفة الوضوء وكماله 416 - عن عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري رضي الله عنه (وكانت له صحبة) قال: قيل له: توضأ لنا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بإناء فأكفأ منها على يديه فغسلهما ثلاثا ثم أدخل يده فاستخرجها فمضمض واستنشق من كف واحدة ففعل ذلك ثلاثا ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل وجهه ثلاثا ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين ثم أدخل يده فاستخرجها فمسح برأسه فأقبل بيديه وأدبر ثم غسل رجليه إلى الكعبين ثم قال هكذا كان وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم. 417 - عن عمرو بن يحيى بهذا الإسناد وقال مضمض واستنثر ثلاثا ولم يقل من كف واحدة وزاد بعد قوله فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه وغسل رجليه. 418 - عن وهيب حدثنا عمرو بن يحيى بمثل إسنادهم واقتص الحديث وقال فيه فمضمض واستنشق واستنثر من ثلاث غرفات وقال أيضا فمسح برأسه فأقبل به وأدبر مرة واحدة. 419 - عن عبد الله بن زيد بن عاصم المازني يذكر أنه رأى رسول الله صلى اللهم عليه وسلم توضأ فمضمض ثم استنثر ثم غسل وجهه ثلاثا ويده اليمنى ثلاثا والأخرى ثلاثا ومسح برأسه بماء غير فضل يده وغسل رجليه حتى أنقاهما.

420 - عن أبي هريرة رضي الله عنه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا استجمر أحدكم فليستجمر وترا. وإذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينتثر". 421 - عن همام بن منبه قال هذا ما حدثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخريه من الماء ثم لينتثر". 422 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من توضأ فليستنثر ومن استجمر فليوتر". 423 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا استيقظ أحدكم من منامه فليستنثر ثلاث مرات فإن الشيطان يبيت على خياشيمه". 424 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا استجمر أحدكم فليوتر". -[المعنى العام]- يكتفي بالمعنى العام المذكور في الباب السابق. -[المباحث العربية]- (عن عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري) قال النووي: هو غير عبد الله بن زيد بن عبد ربه صاحب الأذان فقد قيل: إن صاحب الأذان لا يعرف له غير حديث الأذان. اهـ.

(وكانت له صحبة) قصد بهذه العبارة التوثيق، فهي إشارة إلى تحقيق ما رواه من صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الصاحب أقعد بمعرفة الفعل ووصفه. (قال: قيل له: توضأ لنا) إن كان فاعل "قال" عبد الله بن زيد كان أصل الكلام: قيل لي: توضأ لنا، فطلبت إناء، فأكفأت منها على يدي إلخ الحديث. وكأنه جرد من نفسه من يتحدث عنه وإن كان فاعل "قال" هو الراوي لفعل عبد الله بن زيد، -وهو الظاهر- كان المعنى: روى عمرو بن يحيى بن عمارة عن أبيه فعل عبد الله بن زيد، حيث قيل له: توضأ لنا. فدعا بإناء. إلى آخر الحديث. (فدعا بإناء فأكفأ منها على يديه) عاد الضمير على الإناء مؤنثا باعتبار كونه مطهرة أو إداوة، كذا قال النووي، وقال: هكذا هو في الأصول "منها" وقوله "أكفأ" هو بالهمز أي أمال وصب. اهـ. وقال الحافظ ابن حجر: يقال: كفأ الإناء وأكفأ بمعنى إذا أماله وقال الكسائي: كفأت الإناء كببته، وأكفأته أملته. اهـ. والمراد سواء على رواية "فأكفأ" أو "فكفأ" أفرغ الماء من الإناء على يديه، والمراد من اليدين الكفان لا غير. (فمسح برأسه فأقبل بيديه وأدبر) يقصد بالإقبال الذهاب إلى جهة القفا وبالإدبار الرجوع عنه، كما فسره في الرواية التالية، حيث قال "فأقبل بهما وأدبر، وبدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه" والمحوج لهذا التأويل أن ظاهر التعبير يقتضي البداءة من المؤخر، لأن الإقبال هو الذهاب إلى جهة الوجه، وذلك خلاف فعله صلى الله عليه وسلم. وقيل في تأويله: إن المراد أدبر بيديه وأقبل، والواو بين الإقبال والإدبار لا تقتضي ترتيبا، ويعضده أنه جاء كذلك في رواية للبخاري. وحمل بعضهم الحديث على ظاهره، وقال: يبدأ في المسح من المؤخرة، وقد يجاب بأن هذا كان لأمر ثم تغير الحكم، أو كان لوقت ثم نسخ. (فمسح برأسه فأقبل به وأدبر مرة واحدة) ضمير "به" يعود على المسح المأخوذ من قوله "فمسح برأسه". (ومسح برأسه بماء غير فضل يده) في بعض النسخ "غير فضل يديه" ومعناه أنه مسح الرأس بماء جديد لا ببقية ماء يديه. (فليستنشق بمنخريه) بفتح الميم وكسر الخاء وبكسرهما جميعا، لغتان معروفتان. (فإن الشيطان يبيت على خياشيمه) قال العلماء: الخيشوم أعلى الأنف، وقيل: هو الأنف كله، وقيل: هي عظام رقاق لينة في أقصى الأنف بينه وبين الدماغ، وقيل غير ذلك، قال النووي: وهو

اختلاف متقارب المعنى. قال القاضي عياض: يحتمل أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم "فإن الشيطان يبيت على خياشيمه" على حقيقته، فإن الأنف أحد منافذ الجسم التي يتوصل إلى القلب منها، قال: ويحتمل أن يكون الكلام على سبيل الاستعارة. اهـ. والقول الثاني أوفق وأدق، لأن الكلام لو كان على سبيل الحقيقة ما ذهب الشيطان عن الخياشيم بالغسل، ولم تزل آثار مبيته بالغسل، وإجراء الاستعارة بأن يقال: شبهنا القاذورات والأوساخ التي تتراكم ليلا في الأنف بالشيطان بجامع البشاعة والنفور من كل، واستعرنا الشيطان لأوساخ الأنف على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية. -[فقه الحديث]- يكتفي بما ذكر في الباب السابق. والله أعلم

(116) باب إسباغ الوضوء وغسل الأعقاب

(116) باب إسباغ الوضوء وغسل الأعقاب 425 - عن سالم مولى شداد. قال: دخلت على عائشة زوج النبى صلى الله عليه وسلم يوم توفي سعد بن أبى وقاص. فدخل عبد الرحمن بن أبى بكر فتوضأ عندها. فقالت: يا عبد الرحمن! أسبغ الوضوء. فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "ويل للأعقاب من النار". 426 - عن سالم مولى المهري قال: خرجت أنا وعبد الرحمن بن أبى بكر فى جنازة سعد بن أبي وقاص, فمررنا على باب حجرة عائشة. فذكر عنها, عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. 427 - عن عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما؛ قال: رجعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة. حتى إذا كنا بماء بالطريق. تعجل قوم عند العصر. فتوضئوا وهم عجال. فانتهينا إليهم. وأعقابهم تلوح لم يمسها الماء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ويل للأعقاب من النار. أسبغوا الوضوء". 428 - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما؛ قال: تخلف عنا النبى صلى الله عليه وسلم في سفر سافرناه. فأدركنا وقد حضرت صلاة العصر. فجعلنا نمسح على أرجلنا. فنادى "ويل للأعقاب من النار".

429 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا لم يغسل عقبيه فقال "ويل للأعقاب من النار". 430 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه رأى قوما يتوضئون من المطهرة. فقال: أسبغوا الوضوء فإني سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول "ويل للعراقيب من النار". 431 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ويل للأعقاب من النار". 432 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدمه. فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم. فقال "ارجع فأحسن وضوءك فرجع ثم صلى". -[المعنى العام]- قصص أربع تشترك في أمر الشريعة الغراء بإسباغ الوضوء، وإكماله وإتقانه: الأولى ما كان من سالم مولى شداد وعبد الرحمن بن أبي بكر، إذ خرجا يشيعان جنازة سعد بن أبي وقاص، وفي طريقهما وعند حجرة عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- تذكر عبد الرحمن أنه بغير وضوء، فطلب من رفيقه أن يعرجا على حجرة أخته أم المؤمنين ليتوضأ عندها، فاستأذنا ثم دخل، ودخل عبد الرحمن مكان الوضوء، وهو عجل، وأحست عائشة حرص عبد الرحمن على الإسراع وتناوله الوضوء بعجلة، وخشيت عدم إسباغه الوضوء، فقامت بواجب النصيحة والأمر بالمعروف، فقالت: يا عبد الرحمن، أسبغ الوضوء وأكمله، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هلاك للأعقاب التي يتساهل في غسلها، إذ تحرق يوم القيامة بالنار. القصة الثانية: يرويها عبد الله بن عمرو بن العاص، فيقول: رجعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، جمع غفير من الصحابة -وكان من تواضعه صلى الله عليه وسلم أن يترك للركب حرية التقدم عليه وسبقه، بل كان يتعمد كثيرا المؤخرة رفقا بضعافهم، وإيناسا لهم، واطمئنانا عليهم- فأسرع قوم وفيهم عبد الله بن عمرو، وتقدموا، وجاء وقت العصر وهم على غير ماء، فتابعوا المسير، رجاء الوصول إلى ماء، حتى إذا وصلوا إليه كان وقت العصر قد ضاق، وخشوا فواته، فأسرعوا إلى الوضوء، وهم عجال، ولعجلتهم لم يسبغوا الوضوء، وأدركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم على هذه الحال، نظر

إليهم فإذا أرجلهم تلوح وتبدو جافة بيضاء كالحة، كأنها لم يمسها الماء، ولم يستوعبها الغسل، فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسبغوا الوضوء، واستوعبوا الأعضاء بالغسل، ولا تتساهلوا حتى في الأعقاب، فما أكثر عذاب الأعقاب يوم القيامة، بسبب إهمال استيعابها بالغسل عند الوضوء. القصة الثالثة: نصح أبي هريرة، وقيامه بتعليم الأمة، وتبليغ العلم، والأمر بالمعروف حين رأى قوما يتوضئون من حوض ماء أعد لذلك، ورأى بعضهم لا يتقن غسل الأعضاء ولا يسبغها، بل رأى رجلا منهم لم يغسل عقبيه، فقال: أسبغوا الوضوء، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هلاك لكثير من الأعقاب، وواد لها تحرق فيه في النار بسبب عدم إسباغها بالماء في الوضوء. القصة الرابعة: يرويها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إذ كان مع النبي صلى الله عليه وسلم، فرأيا رجلا يتوضأ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتابع أمته في أدائها لشريعته: متابعة المعلم لتلميذه، ليرى مدى تطبيقها لتعاليمه، ومدى التزامها بحدودها، ليشجع المحسن، ويهدي المسيء، وشاهد الرجل يغسل رجليه فيترك مقدار ظفر على ظهر قدمه لم يصبه الماء، وتأكد له هذا حين اقترب الرجل من مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فقال له مشيرا إلى موضع التقصير: ارجع فأحسن وضوءك وأسبغ غسل قدمك، فرجع الرجل إلى المطهرة فغسل قدمه، ثم رجع فأقره صلى الله عليه وسلم، فصلى. -[المباحث العربية]- (عن سالم مولى شداد) وفي الرواية الثانية "عن سالم مولى المهري" قال النووي: صفات لشخص واحد، ويقال له: سالم مولى مالك بن أوس، وسالم البراد، وسالم مولى البصريين، قال أبو حاتم: كان سالم من خيار المسلمين، وقال عطاء بن السائب: كان أوثق عندي من نفسي. اهـ. وهو تابعي. (دخلت على عائشة) أي مع عبد الرحمن بن أبي بكر، لتتفق الروايتان، ودخوله على عائشة حجرتها لا يتعارض مع حجاب أمهات المؤمنين، فقد كن يحجبن شخوصهن بالثياب، ونحوها. (فدخل عبد الرحمن بن أبي بكر) أي دخل مكانا للوضوء، أو المعنى: دخلت على عائشة حجرتها، فدخل معي عبد الرحمن بن أبي بكر، لكن الأول أولى، إذ المعقول أن يدخل عبد الرحمن على أخته قبل أن يدخل عليها سالم، والفاء تفيد ترتيب وتعقيب دخول عبد الرحمن بعد سالم، مما نرجح أنه دخول إلى مكان آخر. (فتوضأ عندها) أي فشرع في الوضوء، لأن التنبيه لا يتناسب بعد الانتهاء. (أسبغ الوضوء) الإسباغ في اللغة الإتمام، ومنه: درع سابغ، وأسبغ الله النعمة. (ويل للأعقاب من النار) "ويل" نكرة سوغ الابتداء به ما فيه من معنى الدعاء، وهو في

الأصل مصدر، لا فعل له، واختلف في معناه، فقيل: كلمة تهديد ووعيد تقال لمن وقع في مهلكة، أي مهلكة للأعقاب في النار، وقيل: معناها أشد العذاب للأعقاب في النار، وقيل: معناها حزن لصاحب الأعقاب في النار، وقيل: هي علم على واد في جهنم وعليه لا يحتاج الابتداء به إلى مسوغ، والأعقاب جمع عقب بكسر القاف، وهو العظم المتأخر في القدم، مما يصيب الأرض إلى موضع الشراك، و "أل" في الأعقاب للعهد، أي الأعقاب التي لم يصبها الماء في الوضوء و "من " في قوله "من النار" قيل: للبيان، مثلها في قوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} [الحج: 30] والمعنى ويل أي نار للأعقاب، وقيل: هي بمعنى "في" مثلها في قوله {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} [الجمعة: 9] وهل الويل للأعقاب نفسها؟ أو لأصحابها، ففي الكلام مضاف محذوف؟ قولان. سيأتي توضيحهما في فقه الحديث. (رجعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة) قال العيني: لم يقع لعبد الله بن عمرو سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة على وجه التحقق إلا في حجة الوداع أما غزوة الفتح فقد كان فيها، لكن لم يرجع النبي صلى الله عليه وسلم فيها إلى المدينة من مكة، بل رجع إلى المدينة من الجعرانة، قال: ويحتمل أن تكون عمرة القضاء، فإن هجرة عبد الله بن عمرو كانت في ذلك الوقت أو قريبا منه. اهـ. (تعجل قوم عند العصر) أي تعجلوا الوضوء والصلاة لإدراك الوقت، وفي رواية البخاري "فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة" أي غشيتنا الصلاة، أي حملتنا الصلاة على أدائها لضيق وقتها. (فتوضئوا وهم عجال) بكسر العين، جمع عجلان، كغضبان وغضاب. (فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسها الماء) "لم يمسها الماء" في موضع الحال من فاعل "تلوح" التي بمعنى تبدو، وجملة "وأعقابهم تلوح" في موضع الحال من الضمير في "إليهم" أي انتهينا إليهم، والحالة أن أعقابهم تبدو غير مبتلة. (تخلف عنا النبي صلى الله عليه وسلم في سفر سافرناه) هو السفر السابق من مكة إلى المدينة، ومعنى "تخلف عنا" تأخر خلفنا. (فأدركنا وقد حضرت صلاة العصر) "أدركنا" بفتح الكاف أي لحق بنا، وجملة "وقد حضرت صلاة العصر" في محل النصب على الحال، والمراد من حضور الصلاة حضور وقتها وضيقه عن أدائها. (فجعلنا نمسح على أرجلنا) "جعل" من أفعال المقاربة، تعمل عمل "كاد" ترفع الاسم، وخبرها جملة فعلية، واسمها "نا" في "جعلنا" والمراد بالمسح هنا الغسل الخفيف المتقطع الذي يشبه المسح، وسيأتي إيضاحه في فقه الحديث. وجمع الأرجل مع أن الواحد له رجلان فقط لمقابلته بالجمع في "جعلنا" فأفاد التوزيع، والمراد من الأرجل الأقدام من إطلاق الكل وإرادة الجزء. (رأى قوما يتوضئون من المطهرة) قال النووي: قال العلماء: المطهرة كل إناء يتطهر به،

وهي -بكسر الميم وفتحها- لغتان مشهورتان، وعن ابن السكيت من كسرها جعلها آلة، ومن فتحها جعلها موضعا. اهـ. (ويل للعراقيب من النار) "العراقيب" جمع عرقوب بضم العين في المفرد وفتحها في الجمع، وهو العصبة التي فوق العقب. (فترك موضع ظفر) في الظفر لغات، أجودها ضم الظاء والفاء، وهي لغة القرآن ويقال بسكون الفاء، ويقال بكسر الظاء وسكون الفاء. -[فقه الحديث]- أورد مسلم هذا الحديث كدليل على وجوب غسل الرجلين، وأن مسحهما في الوضوء لا يجزئ، وقد سبق لنا شرح هذه المسألة في باب صفة الوضوء وكماله عند الكلام على غسل الرجلين، ونزيدها هنا إيضاحا فنقول: في المسألة مذاهب: مذهب الإمامية من الشيعة إلى أن واجب الرجلين المسح لا الغسل، وقد أوضحنا استدلالهم بقراءة الجر في الآية، والرد عليهم في الباب المشار إليه. ونزيد هنا أنهم يستدلون كذلك بالرواية الرابعة: وفيها "فجعلنا نمسح على أرجلنا، ويجعلون الإنكار والوعيد على ترك تعميم المسح، أي عمموا المسح ويل للأعقاب من النار، ويرد عليهم من وجوه: الأول: أن القائلين بالمسح لم يوجبوا مسح العقب، والحديث يتوعد العقب، فهو حجة عليهم، لا لهم، الثاني: أن المسح لا يشترط فيه التعميم، ولا يقال للماسح أسبغ الوضوء، الثالث: أن المسح لا يكاد يتبين فيه الممسوح من غير الممسوح، خصوصا لو كان المتروك قدر الظفر كما في الرواية السابعة، الرابع: أنه معارض بالرواية الخامسة، إذ هي صريحة في الغسل واردة في رجل لم يغسل عقبه. الخامس: أنه تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة وضوئه أنه كان يغسل رجليه، وهو المبين لأمر الله تعالى، وعن عطاء: والله ما علمت أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على القدمين، وعن عائشة: لأن تقطعا أحب إلي من أن أمسح على القدمين من غير خف. وادعى الطحاوي وابن حزم أن مسح الرجلين كان مشروعا، ثم نسخ، واستدلا أيضا بالرواية الرابعة، وادعيا أن الإنكار والتوعد للأعقاب إنما هو على المسح بعد وجوب الغسل، وشبهتهما التعبير بقوله "جعلنا نمسح على أرجلنا، وردت هذه الشبهة بأن المعنى نغسل غسلا خفيفا مبقعا، حتى يرى كأنه مسح، لذلك قال لهم: أسبغوا الوضوء، وأيضا إنما يكون الوعيد على من ترك الفرض، ولو لم يكن الغسل فرضا عليهم لعدم علمهم بفرضيتيه لما توجه إليها الوعيد، ولأمروا بتركه، والانتقال إلى الغسل. وذهب الطبري والجبائي والحسن البصري إلى أن المتوضئ مخير بين غسل الرجلين ومسحهما، جمعا بين القراءتين، وبين الأحاديث المتعارضة، والرد على الإمامية رد لهذا المذهب.

وذهب بعض أهل الظاهر إلى أنه يجب على المتوضئ الجمع بين غسل الرجلين ومسحهما، وهو ظاهر البطلان، لأنه لا قيمة للمسح إذا وجب الغسل، مع مخالفته لظاهر الآية ومخالفته لفعله صلى الله عليه وسلم وفعل صحابته رضي الله عنهم. وقد سبق القول في حكم غسل الكعبين والمرفقين عند الكلام على غسل اليدين إلى المرفقين، في النقطة الخامسة من شرح أحاديث باب صفة الوضوء وكماله، وحاصل ما قلناه أن غسل الكعبين نفسيهما واجب عند الجمهور، لأن "إلى" في قوله "وأرجلكم إلى الكعبين" بمعنى "مع" ولأن حد الشيء إذا كان من جنسه دخل فيه، وسيأتي حكم الزيادة على الكعبين في باب "إطالة الغرة والتحجيل" التالي لهذا الباب. وبين ظاهر الرواية الثالثة والرابعة تعارض، إذ ظاهر الرواية الثالثة أن عبد الله بن عمرو كان مع ركب النبي صلى الله عليه وسلم وظاهر الرواية الرابعة أنه كان مع القوم الذين تعجلوا وجعلوا يمسحون على أقدامهم، ويمكن الجمع بين الروايتين باعتماد ظاهر الرواية الرابعة، ويكون معنى الرواية الثالثة، رجعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، فسبقناه في المسير، حتى وصلنا إلى ماء بالطريق فتعجل السابقون منا فتوضئوا فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسها ماء وتعجلنا نحن كذلك، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فأدركنا النبي صلى الله عليه وسلم، فرآنا ورآهم، فقال: أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار. -[ويؤخذ من هذه الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - وجوب استيعاب جميع أجزاء محل الطهارة. 2 - وأن من ترك جزءا يسيرا مما يجب تطهيره لا تصح طهارته، وهذا ظاهر في الرواية السابعة "قدر الظفر" قال النووي في شرح مسلم: وهذا متفق عليه، وقال في المجموع: فإن كان على رجله شقوق وجب إيصال الماء باطن تلك الشقوق، فإن شك في وصول الماء إلى باطنها -أو باطن الأصابع- لزمه الغسل ثانيا حتى يتحقق الوصول، هذا إذا كان قد شك في أثناء الوضوء، فأما إذا شك بعد الفراغ ففيه خلاف. ثم قال: قال أصحابنا: فلو أذاب في شقوق رجليه شحما أو شمعا أو عجينا، أو خضبهما بحناء وبقي جرمه لزمه إزالة عينه، لأنه يمنع وصول الماء إلى البشرة، فلو بقي لون الحناء دون عينه لم يضره، ويصح وضوؤه، ولو كان على أعضائه أثر دهن مانع، فتوضأ وأمس بالماء البشرة وجرى عليها، ولم يثبت صح وضوؤه، لأن ثبوت الماء ليس بشرط. اهـ. وبهذه المناسبة نقول: إن ما اعتاده النساء اليوم من طلاء أظافر اليدين والقدمين بمادة ملونة (المونوكير) يضع جرما مانعا من وصول الماء للأظافر مما يبطل الوضوء ولا تصح به الصلاة. أما استيعاب أعضاء التيمم فقد قال النووي في شرح مسلم: واختلفوا في المتيمم يترك بعض وجه، فمذهبنا ومذهب الجمهور أنه لا يصح، كما لا يصح وضوؤه، وعن أبي حنيفة ثلاث روايات، إحداها: إذا ترك أقل من النصف أجزأه، والثانية: إذا ترك الربع فما دونه أجزأه، والثالثة: إذا ترك أقل من الدرهم أجزأه. وللجمهور أن يحتجوا بقياس التيمم على الوضوء. اهـ.

3 - ويؤخذ من الرواية السابعة: أن من ترك شيئا من أعضاء طهارته جاهلا لم تصح طهارته، قال النووي. ومحل ذلك طبعا إذا علم بالخطأ. 4 - وفيها تعليم الجاهل والرفق به. 5 - ومن الرواية الرابعة من قوله "فنادى" جواز رفع الصوت بالإنكار. 6 - ومن الرواية الأولى والسادسة أن العالم يستدل على ماي فتي به، ليكون أوقع في نفس سامعه. 7 - ومن الرواية السادسة جواز تطهر الجماعة من مطهرة واحدة، ولا يضر تساقط ماء الوضوء فيها. 8 - أن الأعضاء التي تقع بها المخالفة تعذب يوم القيامة، وتكون وسيلة عذاب صاحبها، وذكر العقب في هذه الأحاديث لصورة السبب، فيلتحق بها ما في معناها من جميع الأعضاء التي قد يحصل التساهل في إسباغها. والله أعلم

(117) باب فضل إحسان الوضوء

(117) باب فضل إحسان الوضوء 433 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا توضأ العبد المسلم (أو المؤمن) فغسل وجهه، خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء (أو مع آخر قطر الماء) فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء (أو مع آخر قطر الماء) فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء (أو مع آخر قطر الماء) حتى يخرج نقيا من الذنوب". 434 - عن عثمان بن عفان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره". -[المعنى العام]- ومرة أخرى يرغب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوضوء، ويبين أثره في مغفرة الذنوب ويصور هذا الأثر بصورة المحسوس ليستقر في النفس، وينشرح له الصدر، فيصور المؤمن وما اكتسب من ذنوب بلسانه وشفتيه وأنفه وحواجبه وعينيه بمن يحمل تحت جلد وجهه أجراما خبيثة تخرج مع ماء غسل الوجه للوضوء، ويصور ما اكتسب من ذنوب بيديه وأصابعه وأظافره بمن يحمل تحت جلد يديه أجراما خبيثة تخرج مع ماء غسيل اليدين في الوضوء، ويصور ما اكتسب من ذنوب برجليه بمن يحمل تحت جلد رجليه أجراما خبيثة تخرج مع آخر ما يتساقط من ماء غسيل رجليه في الوضوء، وهو بهذا التصوير يحث على إسباغ الوضوء وإحسانه ليتم إخراج الخبائث، ويتأكد من محو الذنوب، ولا شك أن الماء وحده غير كاف في محو الذنوب وغفرانها، بل الواجب على المؤمن أن يستحضر العبودية والطاعة، وأن يستحضر عند غسل الوجه أن هناك يوما تبيض فيه وجوه وتسود وجوه، وعند غسل اليدين أن هناك قوما سيعطون كتابهم بيمينهم، وآخرين سيعطونه بشمالهم، وعند مسح الرأس والأذنين أنه من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وعند غسل قدميه الثبات على الإسلام. نسأل الله العلي القدير أن يبيض وجوهنا يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، وأن يعطينا كتابنا

بيميننا وأن يحرم شعرنا وجسدنا على النار، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يثبت أقدامنا على الصراط المستقيم يوم تزل الأقدام. -[المباحث العربية]- (إذا توضأ العبد المسلم) في لفظ "توضأ" مجاز المشارفة، أي إذا أراد الوضوء وأشرف عليه، وذلك ليصح عطف "فغسل وجهه" إلخ إذ غسل الوجه واليدين والرجلين هو الوضوء، وزيادة لفظ "العبد" لإفادة إخلاص العبادة، أي إذا توضأ مستشعرا بأنه عبد مخلص مطيع الأوامر. (أو المؤمن) شك من الراوي في أي اللفظين صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم. (خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء) جملة "نظر إليها بعينيه" في محل الجر صفة لخطيئة، والخطيئة -كما في القاموس- الذنب، أو ما تعمد منه كالخطء بكسر الخاء، والخطأ ما لم يتعمد، و "مع الماء" متعلق بخرج، والتقدير: إذا غسل وجهه خرج من وجهه مع الماء كل خطيئة منظور إليها بعينيه. وفي "إليها" مجاز مرسل بعلاقة السببية لأنه لا ينظر إلى نفس الخطيئة، إذ المرأة الأجنبية مثلا سبب الخطيئة، وليست هي عين الخطيئة وخروج الخطيئة من الوجه ونحوه مجاز عن المغفرة والعفو، إذ الخطايا ليست بأجسام كامنة في الجسم حتى تخرج، ويمكن إجراؤه على الاستعارة التصريحية التبعية في "خرج" بأن يقال: شبه العفو عن ذنب الوجه والعين بالخروج بجامع الانفصال في كل، واستعير الخروج للعفو واشتق منه خرج من الوجه بمعنى عفى عن ذنب الوجه على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية. (أو مع آخر قطر الماء) شك من الراوي في أي العبارتين صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطر الماء بفتح القاف وسكون الطاء ما قطر الماء، والواحدة قطرة، أي مع النقاط الأخيرة التي تتساقط من غسل الوجه. (خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه) "كان" زائدة، وجملة "بطشتها يداه" في محل الجر صفة "خطيئة" أي كل خطيئة مبطوشة بيديه، ويحتمل أن يكون اسم "كان" ضمير الحال والشأن، وجملة "بطشتها يداه" خبر "كان" أو اسمها ضمير يعود على العبد المسلم. (حتى تخرج من تحت أظفاره) شبه محو الذنوب وغفرانها بخروجها، وشبهت الذنوب الصغيرة بالأجرام الدقيقة المستترة تحت الأظفار، وخروج ما تحت الأظافر نهاية في النظافة. -[فقه الحديث]- ظاهر قوله "خرج من وجهه" و"خرج من يديه" و"خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه" أن التكفير

يختص بأعضاء الوضوء، وبهذا قيل، لكن قوله في نهاية الحديث "حتى يخرج نقيا من الذنوب" ظاهر في تكفير عموم ذنوب بقية الأعضاء، وعلى القول الأول يختص التكفير بفعل الواجبات، فقد جاء في الموطأ "تخرج عند المضمضة من فمه، وعند الاستنشاق من أنفه، وعند غسل الوجه كل خطيئة نظر إليها بعينه، حتى تخرج من تحت أشفار جفنه، وعند غسل اليدين تخرج من تحت أظفار يديه، وفي رأسه تخرج من أذنيه، وفي رجليه حتى تخرج من تحت أظفارها". ولعل هذه الرواية تجيب عما يثور في النفس من التساؤل عن عدم ذكر الرأس، وعن تخصيصه العين من بين أعضاء الوجه كالفم والأنف، ولعل تخصيص العين بالذكر لأن خيانتها أكثر، فإذا خرج الأكثر خرج الأقل، فالعين كالغاية لما يعفى، وقيل: لأن العين طليعة القلب فإذا ذكرت أغنت من غيرها. ولا يخفى أن المراد من الخطايا هنا الصغائر. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - مدى احتياط الرواة في أداء ما تحملوه من الحديث، بذكر العبارتين المتردد بينهما، وإن كانتا متقاربتين في المعنى. 2 - فيه دليل على أن واجب الرجلين في الوضوء الغسل، لا المسح. 3 - يؤخذ من الحديث أن كل عضو يطهر بانفراده، لأن خروج الخطايا منه فرع طهارته في نفسه. 4 - أخذ منه بعضهم ترك الوضوء بالماء المستعمل، فإنه ماء قد حمل الذنوب، وهو عند أبي حنيفة نجس، وعند الشافعية طاهر في نفسه غير مطهر لغيره، وعند المالكية فيه أقوال أربعة: الأول الطهورية لكن يستحب تركه مع وجود غيره. الثاني عدم الطهورية، الثالث الكراهة. الرابع مشكوك فيه يجمع بينه وبين التيمم. والله أعلم

تابع باب فضل إحسان الوضوء وإطالة الغرة والتحجيل في الوضوء 435 - عن نعيم بن عبد الله المجمر؛ قال: رأيت أبا هريرة يتوضأ. فغسل وجهه فأسبغ الوضوء. ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد. ثم يده اليسرى حتى أشرع في العضد. ثم مسح رأسه. ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق. ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق. ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ. وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنتم الغر المحجلون يوم القيامة. من إسباغ الوضوء. فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله". 436 - عن نعيم بن عبد الله؛ أنه رأى أبا هريرة يتوضأ. فغسل وجهه ويديه حتى كاد يبلغ المنكبين. ثم غسل رجليه حتى رفع إلى الساقين. ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن أمتي يأتون يوم القيامة غرا محجلين من أثر الوضوء. فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل". 437 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن حوضي أبعد من أيلة من عدن. لهو أشد بياضا من الثلج. وأحلى من العسل باللبن. ولآنيته أكثر من عدد النجوم. وإني لأصد الناس عنه كما يصد الرجل إبل الناس عن حوضه" قالوا: يا رسول الله! أتعرفنا يومئذ؟ قال "نعم. لكم سيما ليست لأحد من الأمم. تردون علي غرا محجلين من أثر الوضوء". 438 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ترد علي أمتي الحوض. وأنا

أذود الناس عنه. كما يذود الرجل إبل الرجل عن إبله" قالوا: يا نبي الله! أتعرفنا؟ قال "نعم. لكم سيما ليست لأحد غيركم. تردون علي غرا محجلين من آثار الوضوء. وليصدن عني طائفة منكم فلا يصلون. فأقول: يا رب! هؤلاء من أصحابي. فيجيبني ملك فيقول: وهل تدري ما أحدثوا بعدك؟ ". 439 - عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن حوضي لأبعد من أيلة من عدن. والذي نفسي بيده! إني لأذود عنه الرجال كما يذود الرجل الإبل الغريبة عن حوضه" قالوا: يا رسول الله! وتعرفنا؟ قال "نعم. تردون علي غرا محجلين من آثار الوضوء. ليست لأحد غيركم". 440 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال "السلام عليكم دار قوم مؤمنين. وإنا، إن شاء الله؛ بكم لاحقون. وددت أنا قد رأينا إخواننا" قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال "أنتم أصحابي. وإخواننا الذين لم يأتوا بعد". فقالوا كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟ فقال "أرأيت لو أن رجلا له خيل غر محجلة. بين ظهري خيل دهم بهم. ألا يعرف خيله؟ " قالوا: بلى. يا رسول الله! قال "فإنهم يأتون غرا محجلين من الوضوء. وأنا فرطهم على الحوض. ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال. أناديهم: ألا هلم: فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك. فأقول: سحقا سحقا". 441 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة فقال "السلام عليكم دار قوم مؤمنين. وإنا، إن شاء الله، بكم لاحقون" بمثل حديث إسمعيل بن جعفر غير أن حديث مالك "فليذادن رجال عن حوضي". 442 - عن أبي حازم قال: كنت خلف أبي هريرة وهو يتوضأ للصلاة. فكان يمد يده حتى تبلغ إبطه. فقلت له: يا أبا هريرة! ما هذا الوضوء؟ فقال: يا بني فروخ! أنتم هاهنا؟

لو علمت أنكم هاهنا ما توضأت هذا الوضوء. سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول "تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء". -[المعنى العام]- كان أبو هريرة رضي الله عنه يحافظ على إسباغ الوضوء، وعلى التأكد من تمامه وكماله، وكان يحرص على المبالغة في غسل أعضائه بغسل جزء زائد على الواجب، بل بالغ في هذا الجزء الزائد حتى وصل في غسل يديه إلى إبطيه، وفي غسل رجليه إلى ركبتيه، فسئل عن ذلك حيث إنه قدوة، ومن أئمة الآخذين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل أكثر المكثرين من رواية الحديث. فقال: أتينا البقيع (مقابر أهل المدينة) مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. ثم التفت إلينا فقال: تمنيت أن لو قد رأينا إخواننا، قلنا: من تقصد بإخواننا يا رسول الله؟ أولسنا إخوانك؟ قال صلى الله عليه وسلم: أنتم أصحابي وإخواني، أما الذين أقصدهم فهم إخواننا وليسوا أصحابنا، هم الذين لم يأتوا بعد، وسيأتون في الأزمان التي بعدنا. إن حوضي يوم القيامة واسع الأرجاء، عرضه كما بين أيلة وعدن، يسير حوله الراكب مسيرة شهر، شرابه أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، وأطيب من المسك، آنيته لامعة كثيرة، مثل نجوم السماء، من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدا، أنادي له أصحابي وأتباعي، وأصد عنه غير أمتي. قالوا: يا رسول الله. أتعرفنا يومئذ؟ قال: نعم. قالوا: وكيف تعرف من يؤمن بك من أمتك ممن يأتي بعدك يا رسول الله؟ قال: أخبروني لو أن لأحدكم خيلا في جبهتها بياض وفي قوائمها بياض، في وسط خيل سود سوادا كاملا لا بياض في لونها، ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى يعرفها يا رسول الله، قال: فإنكم تردون حوضي يوم القيامة وفي وجوهكم نور، وفي أيديكم نور، وفي أرجلكم نور، علامة ليست لأحد من الأمم غيركم، وإنه ليبلغ نور أعضائكم حيث يبلغ الوضوء منها، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته وتحجيله، وأن يوسع نوره فليسبغ الوضوء، وليبالغ في غسل أعضائه، ولئن كان لإسباغ الوضوء هذا الفضل الكبير، والأثر العظيم، فإن فعل الواجبات، والبعد عن المحرمات أساس لهذا الفوز المبين، لأنني قد أرى (يوم القيامة، وأنا واقف على الحوض) رجالا أظنهم من أمتي، فأناديهم: تعالوا، هلموا إلى حوضي، فيحول بيني وبينهم ملك، فيحولهم عن حوضي، فأقول: إلى أين؟ فيقول: إلى النار. فأقول: وما شأنهم، وإني لأظنهم مسلمين؟ وإني لأظنهم من أصحابي؟ فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم بدلوا وغيروا، فأقول سحقا. سحقا. وبعدا لهؤلاء القوم بعدا. وما ربك بظلام للعبيد. فاللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا، أو نفتن عن ديننا، إنك غفور رحيم.

-[المباحث العربية]- (عن نعيم بن عبد الله المجمر) "نعيم" بضم النون وفتح العين، و"المجمر" بضم الميم الأولى وإسكان الجيم وكسر الميم الثانية، ويقال: المجمر بفتح الجيم وتشديد الميم الثانية المكسورة، والتجمير هو التبخير، وهو صفة لنعيم أو لأبيه أولهما، لأنهما كانا يبخران مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. (رأيت أبا هريرة يتوضأ) جملة "يتوضأ" في محل النصب على الحال، ورواية البخاري عن نعيم قال: "رقيت مع أبي هريرة على ظهر المسجد فتوضأ". (فغسل وجهه فأسبغ الوضوء) أي فأسبغ وضوء وجهه وغسله. (ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد) أي أدخل الغسل فيه ويقال: أشرع إبله إذا أوردها، وأما شرع الثلاثي فمعناه ورد الماء في نفسه، كذا يقال: شرع في كذا إذا ابتدأ. والعضد: ما بين المرفق إلى الكتف. (أنتم الغر المحجلون) قال أهل اللغة: الغرة البياض في جبهة الفرس، والتحجيل بياض في يديها ورجليها، والغر يتشديد الراء جمع أغر، أي ذو غرة. قال الحافظ ابن حجر: وأصل الغرة لمعة بيضاء تكون في جبهة الفرس، ثم استعملت في الجمال والشهرة وطيب الذكر، والمراد بها هنا النور الكائن في وجوه أمة محمد صلى الله عليه وسلم. اهـ. وقال العيني: في الكلام تشبيه بليغ، حيث شبه النور الذي يكون على موضع الوضوء يوم القيامة بغرة الفرس وتحجيله، ويجوز أن يكون كناية بأن يكون كنى بالغرة على نور الوجه. اهـ. وظاهر الحديث أن النور ينبعث من أماكن الوضوء؛ لكن قال الأبي: إن الغرة والتحجيل كناية عن إنارة كل الذات، لا أنه مقصور على أعضاء الوضوء. اهـ. ويبعد هذا القول الترغيب في إطالة الغرة والتحجيل ليزداد النور، ولو كان كما يقول الأبي لما كان للإطالة فائدة. (من إسباغ الوضوء) وفي الرواية الثانية والثالثة "من أثر الوضوء" والوضوء بضم الواو وفتحها. (فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله) مفعول "استطاع" محذوف أي من استطاع إطالة غرته وتحجيله فليطل، وإطالة التحجيل أي إطالة سبب التحجيل، بإطالة الغسل واضحة بالشروع في العضد والساق، إذ لهما طول ظاهر، أما الغرة فيمكن أن يراد من الإطالة التوسع بزيادة الغسل طولا بالشروع في منابت الشعر وصفحة العنق وعرضا بشحمة الأذنين. ولما كان الكل -غالبا- يستطيع ذلك كان الهدف من التعبير الحث على الإطالة، أي فأطيلوا الغرة والتحجيل، وليس المقصود التعليق على الاستطاعة.

(حتى كاد يبلغ المنكبين) "المنكب" بفتح الميم وكسر الكاف بينهما نون ساكنة مجتمع رأس الكتف والعضد، وأسفله الإبط. (ثم غسل رجليه حتى رفع إلى الساقين) مفعول "رفع" محذوف أي حتى رفع الغسل إلى الساقين، والغاية داخلة، لأنه كان يشرع في الساق. (إن أمتي يأتون يوم القيامة غرا محجلين) "الأمة" في اللغة الجماعة، وكل جنس من الحيوان أمة، ومن معانيها اللغوية الحين، ومنه قوله تعالى {وادكر بعد أمة} [يوسف: 45] وأمة محمد صلى الله عليه وسلم تطلق على معنيين: أمة الدعوة وهي من بعث إليهم، وأمة الإجابة وهي من آمن به وصدقه، وهذه هي المراد هنا، وإتيانهم من الموقف إلى الحوض كما يظهر من الرواية الثالثة والرابعة. (فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل) ذكر الغرة هنا دون التحجيل للاكتفاء، أو الإسقاط من الراوي، ومفعول "فليفعل" محذوف أي فليفعل الإطالة. (إن حوضي أبعد من أيلة من عدن) الحوض مجمع الماء، وسيأتي الكلام عنه في فقه الحديث، و"أيلة" مدينة كانت عامرة بطرف الشام، كان يمر بها الحاج من مصر، فتكون شمالهم: ويمر بها الحاج من غزة فتكون أمامهم. أقرب ما تكون إلى ما يسمى اليوم بالعقبة. ذكره في الفتح و"عدن" مدينة معروفة على ساحل البحر الأحمر. وفي رواية البخاري "إن قدر حوضي كما بين أيلة وصنعاء من اليمن" وفيه "حوضه ما بين صنعاء والمدينة" وعند أحمد "كما بين أيلة إلى الجحفة" وفي لفظ "ما بين مكة وعمان" وفي رواية "كما بين مكة إلى أيلة" وعند ابن ماجه "ما بين الكعبة إلى بيت المقدس". وقد جمع العلماء بين هذا الاختلاف، وأقرب الأقوال أن المقصود ضرب المثل لبعد أقطار الحوض وسعته، لا تحديد المسافة، وذكره صلى الله عليه وسلم للجهات المختلفة بحسب من حضره ممن يعرف تلك الجهات؛ فيخاطب كل قوم بالجهة التي يعرفونها. وسيأتي مزيد إيضاح لهذه النقطة ولكثير مما يتعلق بالحوض في بابه إن شاء الله تعالى. (لهو أشد بياضا من الثلج) اللام لام القسم المحذوف، وفي الكلام مضاف محذوف؛ أي لماؤه أشد بياضا من الثلج، قاله الأبي: وكونه أشد بياضا من الثلج حقيقة، لأن البياض مقول بالتفاوت. اهـ. ورواية البخاري "ماؤه أبيض من اللبن" واللبن أشد بياضا من الثلج، وما كان أشد بياضا من اللبن كان أشد بياضا من الثلج، فلا تعارض بين الروايتين، وعند أحمد "وأبرد من الثلج". (وأحلى من العسل باللبن) قال الأبي: معنى "أحلى" هنا أزكى، لأن العسل وحده أحلى منه مع اللبن. اهـ.

وفي رواية لمسلم "وأحلى من العسل" وعند أحمد "وأحلى مذاقا من العسل" زاد في البخاري "وريحه أطيب من المسك". (ولآنيته أكثر من عدد النجوم) الآنية جمع إناء، وفي البخاري "وكيزانه كنجوم السماء" وفيه أيضا "فيه من الأباريق كعدة نجوم السماء" والمقارنة بين آنيته ونجوم السماء تحتمل الحقيقة وتحتمل أنها كناية عن الكثرة وهذا الأخير أولى. زاد البخاري "من شرب منها فلا يظمأ أبدا" -أي من شرب من الكيزان أو الأباريق- وفيه "من مر علي شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدا". (وإني لأصد الناس عنه) "أل" في الناس للعهد، أي الناس غير المستحقين، وفي الرواية الرابعة "وأنا أذود الناس منه" وهما بمعنى أطرد وأمنع. (لكم سيما ليست لأحد من الأمم) السيما العلامة، وهي مقصورة وممدودة لغتان، ويقال: السيميا، بياء بعد الميم. (وليصدن عني طائفة منكم فلا يصلون) "يصدن" بضم الياء وفتح الصاد مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد، أي ليمنعن، ومعمول "يصلون" محذوف أي فلا يصلون إلي، ويحال بينهم وبين الوصول إلى الحوض، وفي رواية البخاري "ليردن على أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثم يحال بيني وبينهم" وفي رواية له أيضا "ويرد علي يوم القيامة رهط من أصحابي، فيجلون عن الحوض" وفي ثالثة له أيضا "فإذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلم. فقلت: أين؟ فقال: إلى النار. والله. قلت: وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقري، ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل بيني وبينهم، فقال: هلم. قلت: أين؟ قال: إلى النار والله. قلت: ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقري. فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم". (كما يذود الرجل الإبل الغريبة عن حوضه) الإبل الغريبة هي التي لا تعرف صاحبها، فكل واحد يضربها ليصرفها عن إبله، ومن كلام الحجاج: لأضربنكم ضرب غرائب الإبل. (أتى المقبرة) بضم الباء وفتحها وكسرها، ثلاث لغات، والكسر قليل. (السلام عليكم دار قوم مؤمنين) "دار قوم" منصوب على النداء، والمراد من الدار الجماعة أو أهل الدار، والمراد من التسليم عليهم الدعاء لهم. (وإنا -إن شاء الله- بكم لاحقون) "إن شاء الله، هنا ليس للشك، لأن الموت لا شك فيه، بل ذكرها هنا للتبرك وامتثال أمر الله تعالى في قوله {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله} [الكهف: 23].

(وددت أنا قد رأينا إخواننا) أي رأيناهم في الحياة الدنيا، قال القاضي عياض: وقيل المراد تمني لقائهم بعد الموت. (قال: أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد) لم يرد نفي الأخوة عنهم، ولكن أراد ذكرهم بالمرتبة الزائدة وهي الصحبة، فهؤلاء إخوة صحابة، والذين لم يأتوا إخوة ليسوا بصحابة، بل هو من قبيل قول الله تعالى {إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات: 10]. (أرأيت لو أن رجلا له خيل غر محجلة) "أرأيت" بمعنى أخبرني، عن طريق مجاز مرسل في الاستفهام بإرادة مطلق الطلب بدلا من طلب الفهم، ومجاز مرسل في الرؤية بإرادة المسبب عنها وهو الإخبار، فآل المعنى إلى طلب الإخبار المدلول عليه بلفظ أخبرني، والخطاب للسائل القائل كيف تعرف من لم يأت بعد؟ والمعلوم أن السائل واحد، وأسند إلى الجماعة في "فقالوا" لموافقتهم على السؤال. (بين ظهري خيل دهم بهم) "ظهري" بفتح الظاء وسكون الهاء، مثنى ظهر، قال الأصمعي: العرب تقول: بين ظهريهم وظهرانيهم، أي بينهم، فتضع لفظ الاثنين على الجمع. اهـ. والدهم جمع أدهم وهو الأسود، والدهمة السواد، والبهم الذي لا يخالط لونه لونا آخر سواه أي خالص اللون، فالمعنى خيل سود سوادا خالصا. (وأنا فرطهم على الحوض) الفرط السبق والتقدم، يقال: فرط القوم إذا تقدمهم ليرتاد الماء، ويهيئ لهم الدلاء، والمعنى: وأنا أتقدمهم على الحوض. (ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال) هؤلاء الرجال هم الطوائف التي يحال بينهم وبين الحوض والذائد لهم الملائكة. (أناديهم: ألا هلم) معناه تعالوا. قال أهل اللغة: في "هلم" لغتان: إحداهما لغة الحجازيين حيث يلزمونها حالة واحدة في المفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث، وهي على هذه اللغة اسم فعل أمر، وبهذه اللغة جاء القرآن الكريم {والقائلين لإخوانهم هلم إلينا} [الأحزاب: 18]. واللغة الثانية: لغة بني تميم، تقول: هلم يا رجل، وهلما يا رجلان، وهلموا يا رجال وهلمي يا هند ويا هندان، وهلممن يا نسوة. (فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك) في الرواية الرابعة "وهل تدري ما أحدثوا بعدك"؟ وفي رواية البخاري "لا تدري ما أحدثوا بعدك" وفي رواية أخرى له "إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أعقابهم القهقري". (فأقول: سحقا. سحقا) قال النووي: هكذا هو في الروايات "سحقا سحقا" مرتين، ومعناه

بعدا بعدا، والمكان السحيق البعيد، وفي "سحقا" لغتان قرئ بهما في السبع: إسكان الحاء وضمها، ونصب على تقدير: ألزمهم الله سحقا، أو سحقهم سحقا. اهـ. (يا بني فروخ أنتم ههنا) قال في كتب العين: بلغنا أن "فروخ" رجل من ولد إبراهيم، بعد إسماعيل وإسحق عليهم السلام، كثر نسله بالعجم الذين بوسط البلاد، وكني أبو هريرة بذلك عن الموالي، وأبو حازم هذا هو أبو سليمان الأعرج، مولى عزة الأشجعية. (لو علمت أنكم ههنا ما توضأت هذا الوضوء) لأنكم من العوام، ويخشى عدم فهمكم لدقائق الأعمال. (تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء) في النهاية: حليته ألبسته الحلية، ومراده بالحلية هنا التحجيل من أثر الوضوء. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من هذه الأحاديث]- 1 - استحباب تطويل الغرة والتحجيل، أما تطويل الغرة -عند الشافعية والحنفية- فهو غسل شيء من مقدم الرأس، وما يجاور الوجه، زائدة على الجزء الذي يجب غسله لاستيقان كمال الوجه، زاد بعضهم غسل صفحة العنق. أما تطويل التحجيل فهو غسل ما فوق المرفقين والكعبين، وهذا مستحب بلا خلاف بين الشافعية، واختلفوا في القدر المستحب على أوجه. أحدها: أنه يستحب الزيادة فوق المرفقين والكعبين من غير تحديد. والثاني يستحب إلى نصف العضد والساق. والثالث: يستحب إلى المنكبين والركبتين قال النووي: وأحاديث الباب تقتضي هذا كله. اهـ. وقال القشيري: ليس في الحديث تقييد ولا تحديد لمقدار ما يغسل من العضدين والساقين، وقد استعمل أبو هريرة الحديث على إطلاقه وظاهره، من طلب إطالة الغرة، فغسل إلى قريب المنكبين، ولم ينقل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا كثر استعماله في الصحابة والتابعين، فلذلك لم يقل به الفقهاء، ورأيت بعض الناس قد ذكر أن حد ذلك نصف العضد والساق. اهـ. قال العيني: هذا قول -لم يقل به الفقهاء- مردود؛ اهـ. أقول: قال بذلك القاضي حسين من الشافعية وآخرون، وقال البغوي: نصف العضو فما فوقه ونصف الساق فما فوقه. وقال القاضي عياض وابن بطال وبعض المالكية: لا يتعدى بالوضوء محل الفرض، وقالوا عن هذه الأحاديث: إنه مذهب لأبي هريرة، فهمه من قوله صلى الله عليه وسلم "أنتم الغر المحجلون" ومن حديث "تبلغ الحلية حيث يبلغ الوضوء، ولم يتابعه أحد عليه؛ والناس مجمعون على خلافه، وقالوا: إن الوجه لا سبيل إلى الزيادة في غسله، إذ استيعاب الوجه بالغسل واجب، فتفسير الغرة

بالزيادة على محل الفرض خطأ، وفسروا إطالة الغرة والتحجيل بالمواظبة على الوضوء لكل صلاة، فتطول الغرة بتقوية نور الأعضاء، واستدلوا بما أخرجه أبو داود وأحمد والنسائي من أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله كيف الطهور؟ فدعا بماء في إناء، فغسل كفيه ثلاثا، ثم غسل وجهه ثلاثا، ثم غسل ذراعيه ثلاثا، ثم مسح برأسه، فأدخل أصبعيه السباحتين في أذنيه، ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه وبالسباحتين باطن أذنيه، ثم غسل رجليه ثلاثا ثلاثا، ثم قال: "هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم" فحملوا الزيادة الممنوعة على الزيادة عن محل الفرض في أعضاء الوضوء. وجميع ما تمسك به هؤلاء مردود. أما قولهم: عن الأحاديث إنها مذهب لأبي هريرة فقد رده النووي في المجموع بأن أبا هريرة لم يفعله من تلقاء نفسه، بل أخبر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك -كما هو ثابت في الرواية الأولى، إذ فيها بعد أن غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق قال "هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ". وأما قولهم: لم يتابعه عليه أحد فهو مردود بما قدمنا من أنه مذهب الشافعية والحنفية حتى قال النووي في شرح مسلم: وهو مذهبنا، لا خلاف فيه عندنا، ولو خالف فيه مخالف كان محجوبا بهذه السنن الصحيحة الصريحة. اهـ. فقولهم "والناس مجمعون على خلافه" ظاهر البطلان، وفي مصنف ابن أبي شيبة عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما "أنه كان ربما بلغ بالوضوء إبطه في الصيف". أما قولهم: إن الوجه لا سبيل إلى الزيادة في غسله عن حد الواجب ففاسد، لإمكان الإطالة في الوجه بأن يغسل إلى صفحة العنق مثلا. وأما تفسيرهم الحث على إطالة الغرة والتحجيل بالمواظبة على الوضوء فباطل؛ لأن روايات مسلم صريحة في الاستحباب، فلا تعارض بالاحتمال، ثم إن الراوي أدرى بما روى. وأما استدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم: "فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم"، فهو فاسد، لأن المراد بالزيادة الزيادة في عدد المرات أو النقص عن الواجب، كمن يتنطع ويتشكك ويكثر من عدد المرات معتقدا أنها السنة، أو يغسل عضوا ليس من أعضاء الوضوء معتقدا شرعيته، أو ينقص عضوا من أعضاء الوضوء أو بعض عضو. أما حمله على الزيادة في غسل عضو من أعضاء الوضوء فمستبعد خصوصا والحديث لم يبين حدود الوجه واليدين والرجلين حتى يقال: إنه يقصد الزيادة على هذه الحدود، على أن الحديث نفسه في صحته مقال. والله أعلم. 2 - كما يؤخذ من الأحاديث الصحيحة استحباب المحافظة على الوضوء وسنته المشروعة فيه وإسباغه.

3 - وفيه فضل الوضوء لأن الفضل الحاصل بالغرة والتحجيل من آثار الزيادة على الواجب، فكيف الظن بالواجب. 4 - وفيها ما أعده الله من الفضل والكرامة لأهل الوضوء يوم القيامة. 5 - وفيها دلالة قطعية على أن واجب الرجلين في الوضوء الغسل وليس المسح. 6 - استدل به جماعة من العلماء على أن الوضوء من خصائص هذه الأمة، وقال الآخرون: ليس الوضوء مختصا بهذه الأمة، وإنما الذي اختصت به الغرة والتحجيل وادعوا أنه المشهور من قول العلماء، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم "هذا وضوئي ووضوء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبلي" وأجاب الأولون عن هذا الحديث بوجهين أحدهما أنه ضعيف والآخر أنه لو صح لاحتمل اختصاص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بهذه الخصوصية، وامتازت الأمة بالغرة والتحجيل، ولكن ورد في حديث جريج في الصحيح "أنه قام فتوضأ وصلى ثم كلم الغلام" وثبت أيضا عند البخاري في قصة سارة عليها السلام مع الملك الذي أعطاها هاجر أن سارة لما هم الملك بالدنو منها قامت تتوضأ وتصلي، فهذا دليل على أن الوضوء كان مشروعا قبل الإسلام، وعلى هذا فيكون خاصة هذه الأمة الغرة والتحجيل الناشئين عن الوضوء. ذكره النووي وابن حجر والعيني. 7 - يؤخذ من قول أبي هريرة "لو علمت أنكم ههنا ما توضأت هذا الوضوء" أنه ينبغي لمن يقتدي به إذا ترخص في شيء لضرورة، أو شدد في شيء أن لا يفعله بحضرة العوام، خوف أن يترخص فيه لغير ضرورة، أو يعتقد أن ما شدد فيه واجب. ذكره الأبي. 8 - جواز قول المؤمن: خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعارض هذا قوله صلى الله عليه وسلم "لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا" لأن الممتنع أن يتخذ النبي صلى الله عليه وسلم أحدا خليلا، لا أن يتخذه أحد خليلا. 9 - إثبات حوضه صلى الله عليه وسلم، وفي وقت وروده ومكانه خلاف بين العلماء، فقال بعضهم: الورود على الحوض يكون بعد نصب الصراط والمرور عليه، مستندين إلى ما أخرجه أحمد والترمذي عن أنس قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي فقال أنا فاعل، فقلت: أين أطلبك؟ قال: اطلبني أول ما تطلبني على الصراط قلت: فإن لم ألقك؟ قال: أنا عند الميزان. قلت فإن لم ألقك؟ قال: أنا عند الحوض". وقد استشكل كون الحوض بعد الصراط مما جاء في أحاديثنا من أن جماعة يدفعون عن الحوض، بعد أن يكادوا يردون، ويذهب بهم إلى النار، ووجه الإشكال أن الذي يمر على الصراط إلى أن يصل إلى الحوض يكون قد نجا من النار، فكيف يرد إليها؟ ويمكن أن يجاب بأنهم يقربون من الحوض، بحيث يرونه ويرون النار، ويراهم صلى الله عليه وسلم فيناديهم فيدفعون إلى النار. وقال بعض العلماء: إن الحوض قبل الصراط، فإن الناس يردون الموقف عطاشي فيرد المؤمنون

الحوض، ويتساقط الكفار في النار بعد أن يقولوا: ربنا عطشنا، فترفع لهم جنهم كأنها سراب، فقال: ألا تردون؟ فيظنونها ماء فيتساقطون فيها. وقد استشكل كون الحوض قبل الصراط بما جاء في رواية البخاري "وكيزانه كنجوم السماء، من شرب منها فلا يظمأ أبدا" ووجه الإشكال أن ظاهر اللفظ يدل على أن الشرب منه يقع بعد الحساب والنجاة من النار، لأن ظاهر حال من لا يظمأ أن لا يعذب بالنار، ومن الثابت أن بعض المؤمنين يتساقطون في النار عند مرورهم على الصراط، ومن سقط في النار أصابه الظمأ، وأجاب القاضي عياض بأنه يحتمل أن من قدر عليه التعذيب منهم أن لا يعذب فيهم بالظمأ، بل بغيره. ورد الحافظ ابن حجر هذا الاحتمال بما وقع في بعض الروايات من قوله صلى الله عليه وسلم، ومن لم يشرب منه لم يرو أبدا" واختار أن للنبي صلى الله عليه وسلم حوضين، أحدهما في الموقف قبل الصراط، والآخر داخل الجنة. والراجح عندي أنه حوض واحد، لأنه يثبت ذكر حوضين في الأحاديث الصحيحة، وأمور الآخرة تثبت بالروايات لا بالاحتمال، وكونه بعد الصراط ظاهر الأحاديث. والإشكال عليه سهل الجواب والله تعالى أعلم. وقد اشتهر اختصاص نبينا صلى الله عليه وسلم بالحوض، لكن أخرج الترمذي من حديث سمرة رفعه "إن لكل نبي حوضا" وأخرجه ابن أبي الدنيا بسند صحيح، عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن لكل نبي حوضا، وهو قائم على حوضه، بيده عصا، يدعو من عرف من أمته إلا أنهم يتباهون أيهم أكثر تبعا، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم تبعا" وأخرجه الطبراني موصولا مرفوعا. قال الحافظ ابن حجر: فإن ثبت أن لكل نبي حوضا فالمختص بنبينا صلى الله عليه وسلم الكوثر -أي النهر- الذي يصب من مائه في حوضه، فإنه لم ينقل نظيره لغيره، ووقع الامتنان عليه به في السورة المذكورة. وقال القرطبي في المفهم تبعا للقاضي عياض: مما يجب على كل مكلف أن يعلمه ويصدق به أن الله سبحانه وتعالى قد خص نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالحوض المصرح باسمه وصفته وشرابه في الأحاديث الصحيحة الشهيرة التي يحصل بمجموعها العلم القطعي، إذ روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة نيف على الثلاثين، منهم في الصحيحين ما ينيف على العشرين، وفي غيرهما بقية ذلك مما صح نقله واشتهرت رواته، ثم رواته عن الصحابة المذكورين من التابعين أمثالهم، ومن بعدهم أضعاف أضعافهم، وهلم جرا، وأجمع على إثباته السلف، وأهل السنة من الخلف، وأنكرت ذلك طائفة من المبتدعة، وأحالوه على ظاهره، وغلوا في تأويله، من غير استحالة عقلية ولا عادية تلزم من حمله على ظاهره وحقيقته، ولا حاجة تدعو إلى تأويله، فخرق من حرفه إجماع السلف، وفارق مذهب أئمة الخلف. اهـ والمنكرون له المعتزلة وبعض الخوارج. 10 - وفي الأحاديث أن بعض أتباعه صلى الله عليه وسلم يحال بينهم وبين الحوض، وفي المقصود

بهم أقوال: قيل: هم المرتدون بعده صلى الله عليه وسلم ممن أسلموا في زمنه فيناديهم صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن عليهم سيما الوضوء، لما كان يعرفه صلى الله عليه وسلم في حياته من إسلامهم، فيقال له: إنهم ارتدوا بعدك فيقول: سحقا سحقا. وهذا القول جدير بالقبول لولا أن الكلام مرتبط بالغرة والتحجيل، فصار بعيدا. وقيل: هم المنافقون، يحشرون بالغرة والتحجيل كالمؤمنين، يحشرون بالنور، لدخولهم في غمار المؤمنين لتسترهم بالإيمان في الدنيا، ثم يطفأ نورهم عند الحاجة إليه عند المرور على الصراط، فيعرفهم صلى الله عليه وسلم بالغرة والتحجيل، ويظنهم مؤمنين حقا فيناديهم حين يرى تخبطهم، فيقال له: ليس ممن وعدت بهم، إن هؤلاء بدلوا بعدك، أي لم يموتوا على ما ظهر من إسلامهم، وهذا القول بعيد، وفي تطبيق الروايات عليهم تمحل. وقيل: المراد بهم أصحاب المعاصي الكبائر الذين ماتوا على التوحيد، وأصحاب البدع الذين لم يخرجوا ببدعتهم عن الإسلام، ولا يمتنع أن يكون لهم غرة وتحجيل، سواء كانوا في زمنه صلى الله عليه وسلم أو بعده، فمعرفته لهم بالسيما. وهؤلاء المبعدون عن الحوض لا يقطع لهم بالنار، بل يجوز أن يبعدوا عن الحوض عقوبة لهم، ثم يرحمهم الله سبحانه وتعالى، فيدخلهم الجنة بغير عذاب. وهذا أقرب الأقوال، وأحراها بالقبول. قال ابن عبد البر: كل من أحدث في الدين فهو من المطرودين عن الحوض كالخوارج والروافض وأصحاب الأهواء. وقال: كذلك الظلمة المسرفون في الجور وطمس الحق والمعلنون بالكبائر، قال: وكل هؤلاء يخاف عليهم أن يكونوا ممن عنوا بهذا الخبر. والله أعلم. 11 - ويؤخذ منها أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يدري ما أحدث المسلمون بعده، وفي هذا تعارض مع ما روي من أن أعمال أمته تعرض عليه يوم الخميس ويوم الأثنين، فما وجد منها من خير حمد الله عليه، وما وجد منها غير ذلك استغفر الله له، ويمكن أن يرفع هذا التعارض بأنها تعرض عليه عرضا مجملا، فيقال: عملت أمتك خيرا، أو عملت أمتك شرا دون تعيين لفاعلي الخير والشر. 12 - ويؤخذ منها أن الرسول صلى الله عليه وسلم يذود غير المسلمين ويبعدهم عن حوضه، ولا يقال: كيف يطرد الناس عن حوضه وهو الكريم؟ فإن الذود المذكور قصد منه إرشاد كل أحد إلى حوض نبيه على ما تقدم من أن لكل نبي حوضا، وأنهم يتباهون بكثرة من يتبعهم فيكون ذلك من جملة إنصافه؛ ورعاية إخوانه النبيين عليهم السلام، لا أنه يطردهم بخلا عليهم بالماء، ويحتمل أن يطرد من لا يستحق الشرب من الحوض والعلم عند الله تعالى. ذكره الحافظ في الفتح. 13 - ويؤخذ من الرواية السادسة زيارة القبور، ولا خلاف فيها للرجال، والنهي عنه منسوخ، واختلف فيها للنساء، والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم أتاها للزيارة، لا لدفن أو غيره.

14 - السلام على أهل المقابر، وهل المقصود به تحية الموتى وأنهم يسمعون؟ أو المقصود به الدعاء لهم؟ قولان، الراجح الثاني. 15 - وتمنى لقاء الفضلاء، ووجهه القاضي عياض بأنه صلى الله عليه وسلم تمنى لهم (أي الذين لم يأتوا بعد) أن يلقوه لينتفعوا برؤيته، وهذا التوجيه كان يصح لو أن العبارة: وددت لو أن إخواننا رأونا، أما وأنها "وددت أنا قد رأينا إخواننا" فإن معناها أنه صلى الله عليه وسلم تمنى أن لو رآهم هو وأصحابه لينتفعوا برؤيته. وهل تمنى صلى الله عليه وسلم لقاءهم في الحياة؟ أو بعد الممات؟ قولان. اعترض على الأول بأنه كيف يصح أن يتمنى ذلك، وهم معدومون والمعدوم لا يرى، وأيضا كيف تمنى ما لا يكون؟ لأن عمره لا يمتد إلى أن يرى من هم في آخر الزمان؟ . ويمكن أن يقال: إن التمني لا يشترط فيه إمكان وقوع المتمني عرفا. والله أعلم. 16 - يؤخذ من قوله "وأنا فرطهم على الحوض" بشارة هذه الأمة وتشريفها. فهنيئا لمن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فرطه ليستقبله ويهيئ له المقام والنعيم. 17 - يؤخذ من قوله في الرواية الخامسة "والذي نفسي بيده" جواز الحلف من غير استحلاف ولا ضرورة. قاله النووي. 18 - وفي الأحاديث المذكورة ما أطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم عليه من المغيبات المستقبلة. والله أعلم

(118) باب فضل إحسان الوضوء

(118) باب فضل إحسان الوضوء وكثرة الخطا إلى المساجد 443 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ " قالوا: بلى. يا رسول الله! قال "إسباغ الوضوء على المكاره. وكثرة الخطا إلي المساجد. وانتظار الصلاة بعد الصلاة. فذلكم الرباط". 444 - وعن العلاء بن عبد الرحمن بهذا الإسناد وليس في حديث شعبة ذكر "الرباط" وفي حديث مالك ثنتين "فذلكم الرباط فذلكم الرباط". -[المعنى العام]- حقا حفت الجنة بالمكاره، والنار بالشهوات وكلما شقت العبادة، وتحملت النفس في سبيلها الصعاب كلما عظم الأجر. من هنا يجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا من الطاعات، في كل منها مشقة وجهاد، إسباغ الوضوء بالماء البارد في الشتاء، وكثرة المشي إلى المسجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة. بهذه الثلاث يمحو الله الخطايا ويرفع الدرجات، وإذا كان هذا الأجر العظيم عن وسائل العبادات، فما بالنا بالأجر عن الغايات؟ لا ريب أنه فضل كبير. -[المباحث العربية]- (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات) محو الخطايا كناية عن غفرانها، ويحتمل محوها من كتاب الحفظة، ورفع الدرجات إعلاء المنازل في الجنة، والاستفهام مقصود به التنبيه، واستجماع الهمم، وإثارة المشاعر. (فذلكم الرباط) الرباط في الأصل الحبس على الشيء، وفي هذه الأمور الثلاثة حبس النفس على مشقة الطاعة، والقصر بتعريف الطرفين ادعائي، كأنها أفضل الرباط، وقد تكررت هذه الجملة في بعض الروايات مرتين وفي بعضها ثلاثا للاهتمام.

-[فقه الحديث]- -[ما يؤخذ من الحديث]- 1 - الحث على إسباغ الوضوء على المكاره، وتكون ببرودة الماء في الشتاء، أو حرارته في الصيف أو ألم الجسم، أو نحو ذلك. 2 - الترغيب في كثرة الخطا إلى المساجد، وتكون ببعد المسجد، أو تكرار الذهاب إليه، أو هما معا. 3 - وانتظار الصلاة بعد الصلاة في المسجد، فإن المؤمن يعتبر في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه، فقد روى البخاري: "أما إنكم في صلاة ما انتظرتموها".

(119) باب السواك

(119) باب السواك 445 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال "لولا أن أشق على المؤمنين (وفي حديث زهير على أمتي) لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" 446 - عن المقدام بن شريح، عن أبيه؛ قال: سألت عائشة. قلت: بأي شيء كان يبدأ النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك. 447 - عن عائشة رضي الله عنها؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل بيته بدأ بالسواك. 448 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وطرف السواك على لسانه. 449 - عن حذيفة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام ليتهجد يشوص فاه بالسواك. 450 - عن حذيفة رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل بمثله ولم يقولوا "ليتهجد". 451 - عن حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك. 452 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه بات عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة. فقام نبي الله صلى الله عليه وسلم من آخر الليل. فخرج فنظر في السماء. ثم تلا هذه الآية في آل عمران {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار} حتى بلغ {فقنا عذاب النار} [آل عمران: 190، 191] ثم رجع إلى البيت فتسوك وتوضأ. ثم قام فصلى. ثم اضطجع. ثم قام فخرج فنظر إلى السماء فتلا هذه الآية. ثم رجع فتسوك فتوضأ. ثم قام فصلى.

-[المعنى العام]- لا شك أن الإسلام دين النظافة، ودين المحافظة على الصحة، ودين الألفة والمحبة بين أعضاء المجتمع، أهداف جليلة تتحقق من عمل سهل يسير، يشرعه الحكيم الخبير. تلك الأهداف العملاقة يغرسها عود الأراك المسمى بالسواك، مطهرة للفم من فضلات الطعام والروائح الكريهة التي تنشأ من بعض الأطعمة، أو من أبخرة المعدة، أو من خلل في اللثة وقواعد الأسنان. منظف للأسنان واللسان من الألوان الغريبة، والصفرة الطارئة، ثم هو بعد ذلك يحفظ الفم من كثير من الأمراض، والأضراس من الحفر والسوس، واللثة من الضعف والتشقق والارتخاء، ويحفظ المعدة من عفونات الطعام التي كانت قد تتراكم بين الأسنان، وبالرائحة الطيبة، والصحة البارزة، والنظافة الظاهرة تتم المودة والألفة بين الناس، تلك بعض فوائد السواك، بل هي الفوائد الدنيوية التي لا تقاس بالفوائد الأخروية، لقد جعلته الشريعة مرضاة للرب جل شأنه، وطلبته في كل حين، وعلى أي حال، وشددت طلبه في مواطن الإقبال على العبادة، ومواطن الإقبال على الأهل، ولولا الرفق بالمؤمنين لكان فرضا عليهم عند كل وضوء، وعند كل صلاة، وعند كل دخول للبيت، وعند كل قيام من نوم. ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى، والقدوة الكاملة، محافظا عليه في كل هذه المواطن أمام أصحابه في وضح النهار، وبين أهله في جوف الليل، ويحدثنا ابن عباس أنه بات ليلة عند خالته ميمونة أم المؤمنين، ليلة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيتها عندها، وتحراها وهو صبي ليرقب أعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتدي به، وليبلغ من وراءه ليقتدوا، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم يقوم من آخر الليل، فيخرج من حجرته، وينظر في النجوم، ويتأمل الكون، ويتلو من كتاب الله من سورة آل عمران {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب* الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار} ثم يرجع إلى البيت فيتسوك ويتوضأ ويقوم يصلي متهجدا، ثم يضطجع قليلا، ثم يقوم فيخرج متهجدا. وهكذا كان السواك شريعته كلما قام من النوم وكلما أقبل على الوضوء. فصلى الله عليه وسلم، وجعلنا من أتباعه العاملين. -[المباحث العربية]- (لولا أن أشق على المؤمنين) "لولا" كلمة تدل على انتفاء الشيء لوجود غيره، والمصدر المنسبك من "أن" والفعل مرفوع على الابتداء، وفيه مضاف محذوف، والخبر محذوف وجوبا، وجواب "لولا" لأمرتهم، والتقدير: لولا خوف المشقة على المؤمنين موجود لأمرتهم بالسواك، فانتفى الأمر بالسواك لوجود خوف المشقة. (أو أمتي) شك من الراوي في أي اللفظين صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

(لأمرتهم بالسواك) قال أهل اللغة: السواك بكسر السين يطلق على الفعل، وعلى العود الذي يتسوك به، يقال: ساك فمه يسوكه سوكا، فإذا قلت: استاك لم يذكر الفم، وجمع السواك سوك بضمتين مثل كتاب وكتب، وذكر صاحب المحكم أنه يجوز أيضا سؤك بالهمز، ثم قيل: إن السواك مأخوذ من ساك إذا دلك. وهو في الاصطلاح: استعمال عود أو نحوه في الأسنان لتذهب عنها الصفرة والتغيير. والمعنى هنا: لأمرتهم بالتسوك، أو لأمرتهم باستعمال السواك، والأول أقرب. (عند كل صلاة) أي عند إرادة الصلاة، فرضا أو نفلا. (إذا قام ليتهجد) التهجد الصلاة في أول الليل، ويقال: هجد الرجل إذا نام، وتهجد إذا خرج من الهجود (وهو النوم) بالصلاة، كما يقال: تحنث وتأثم وتحرج، إذا اجتنب الحنث والإثم والحرج، ذكره النووي في شرح مسلم، لكن المذكور في القاموس: الهجود النوم كالمتهجد، وبالفتح المصلي بالليل، وتهجد استيقظ كهجد، ضد، وهجده تهجيدا أيقظه ونومه. ضد. اهـ. (يشوص فاه بالسواك) "يشوص" بفتح الياء وضم الشين، مضارع "شاص" والشوص دلك الأسنان بالسواك عرضا. قاله ابن الأعرابي، وقال الهروي: هو الغسل، وقال أبو عبيد: هو التنقية، وقال ابن عبد البر: هو الحك قاله النووي: وأكثرها متقاربة، وأظهرها الأول. -[فقه الحديث]- في السواك وردت أحاديث كثيرة منها: 1 - عن أبي خيرة الصباحي قال: كنت في الوفد، فزودنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأراك وقال: "استاكوا بهذا" رواه البخاري في تاريخه. 2 - وروى الطبراني في الأوسط عن معاذ بن جبل قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "نعم السواك الزيتون، من شجرة مباركة، يطيب الفم، ويذهب بالحفر وهو سواكي، وسواك الأنبياء من قبلي" (الحفر داء يفسد أصول الأسنان). 3 - وروى البخاري عن أبي هريرة مرفوعا "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء". 4 - وروى أحمد والنسائي والترمذي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "السواك مطهرة للفم مرضاة للرب". 5 - وعند أحمد عن عائشة قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرقد من ليل ولا نهار فيستيقظ إلا يتسوك قبل أن يتوضأ". 6 - وروى الحاكم والبيهقي "لولا أن أشق على أمتي لفرضت عليهم السواك مع الوضوء".

وقد حافظ النبي صلى الله عليه وسلم على السواك محافظة جعلت الشافعية والمالكية يقولون بوجوبه عليه صلى الله عليه وسلم، ويؤيدهم ما رواه البيهقي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث هن على فريضة، وهن لكم تطوع. الوتر والسواك وقيام الليل" ورد الآخرون بأن الحديث ضعيف، وأنه معارض بما رواه ابن ماجه عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما جاءني جبريل إلا أوصاني بالسواك، حتى خشيت أن يفرض علي وعلى أمتي". وبما رواه أحمد بإسناد حسن عن وائلة بن الأسقع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أمرت بالسواك حتى خشيت أن يكتب علي". وإذا جاوزنا حكم السواك بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم وجدنا العلماء يتفقون على أنه سنة لعامة المسلمين، ليس بواجب في حال من الأحوال، لا في الصلاة ولا في غيرها. قال النووي: بإجماع من يعتد به في الإجماع، وحكى الإسفرايني عن داود الظاهري أنه أوجبه للصلاة، وحكاه الماوردي عن داود، وقال: هو عنده واجب، لو تركه لم تبطل صلاته، وحكي عن إسحق بن راهويه أنه قال: هو واجب، فإن تركه عمدا بطلت صلاته، وقد أنكر المتأخرون نقل الوجوب عن داود وقالوا: مذهبه سنة كالجماعة، ولو صح إيجابه عن داود لم تضر مخالفته في انعقاد الإجماع على المختار الذي عليه المحققون والأكثرون. ثم قال النووي: ثم إن السواك مستحب في جميع الأوقات، ولكن في خمسة أوقات أشد استحبابا. أحدها عند الصلاة، سواء كان متطهرا بماء أو بتراب. أو غير متطهر، كمن لم يجد ماء ولا ترابا. الثاني عند الوضوء. الثالث عند قراءة القرآن. الرابع عند الاستيقاظ من النوم. الخامس عند تغير الفم، وتغيره يكون بأشياء. منها ترك الأكل والشرب، ومنها أكل ما له رائحة كريهة، ومنها طول السكوت، ومنها كثرة الكلام، ومذهب الشافعي أن السواك يكره للصائم بعد الزوال إلى غروب الشمس، لئلا يزيل رائحة الخلوف المستحبة. اهـ. وقد حمل الفقهاء على القول بكراهة السواك للصائم، بل نقل الترمذي أن الشافعي قال: لا بأس بالسواك للصائم أول النهار وآخره، واختاره جماعة من أصحابه منهم أبو شامة وابن عبد السلام والنووي والمزني. قال ابن عبد السلام في قواعده الكبرى: وقد فضل الشافعي تحمل الصائم مشقة رائحة الخلوف على إزالته بالسواك مستدلا بأن ثوابه أطيب من ريح المسك، ولا يوافق الشافعي على ذلك، إذ لا يلزم من ذكر ثواب العمل أن يكون أفضل من غيره، لأنه لا يلزم من ذكر الفضيلة حصول الرجحان بالأفضلية، ألا ترى أن الوتر عند الشافعي في قوله الجديد أفضل من ركعتي الفجر، مع قوله صلى الله عليه وسلم "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها" ثم قال: وهذا من باب تزاحم المصلحتين اللتين لا يمكن الجمع بينهما، فإن السواك نوع من التطهير المشروع لأجل الرب سبحانه، لأن مخاطبة العظماء مع طهارة الأفواه تعظيم لا شك فيه ولأجله شرع السواك، وليس في الخلوف تعظيم ولا إجلال، فكيف يقال: إن فضيلة الخلوف تربو على تعظيم ذي الجلال بتطييب الأفواه. اهـ.

وقال الحافظ في التخليص: استدلال أصحابنا بحديث خلوف فم الصائم على كراهة الاستياك بعد الزوال لمن يكون صائما، فيه نظر. اهـ. والحق أن القول بكراهة السواك للصائم بعد الزوال ضعيف الاستدلال. والأولى قول جمهور الأئمة أن السواك مستحب للصائم أول النهار وآخره. والله أعلم. كما حمل الفقهاء على بعض المالكية القائلين بكراهة الاستياك في المسجد، لاستقذاره والمسجد ينزه عنه، فقد قال شيخ الإسلام تقي الدين: أما السواك في المسجد فما علمت أحدا من العلماء كرهه، بل الآثار تدل على أن السلف كانوا يستاكون في المسجد، ويجوز أن يبصق الرجل في ثيابه في المسجد ويمتخط في ثيابه باتفاق الأئمة وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه، بل يجوز التوضؤ في المسجد بلا كراهة عند جمهور العلماء، فإذا جاز الوضوء فيه مع أن الوضوء يكون فيه السواك، وتجوز الصلاة فيه والصلاة يستاك عندها فكيف يكره السواك؟ وإذا جاز البصاق والامتخاط فيه فكيف يكره السواك؟ . اهـ. وقد ثبت أن بعض الصحابة كانوا يضعون أسوكتهم خلف آذانهم، موضع القلم من أذن الكاتب، قال الحافظ ابن حجر: وحكمته أن وضعه في هذا الموضع يسهل تناوله ويذكر صاحبه به. اهـ. والرواية الأولى من أحاديثنا تطلب السواك عند كل صلاة، والرواية السابعة تطلبه عند كل وضوء، وقد سبقت رواية البخاري "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء" ولا معارضة بين طلب السواك عند كل وضوء وعند كل صلاة، نعم إن كانت الصلاة تعقب الوضوء مباشرة كفى الاستياك عند الوضوء، ويقال له في هذه الحالة استاك عند الصلاة، ولا داعي للاستياك مرة أخرى، كما هو ظاهر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الرواية السابعة. وقد جاء في بعض كتب الحنفية أنه يكره الاستياك عند الصلاة، معتلا بأنه قد يخرج الدم فينقض الوضوء. قال في الرقاة: وهذا القول لا وجه له. نعم من يخاف ذلك فليستعمل برفق وعلى نفس الأسنان واللسان دون اللثة. اهـ. والحكمة في مشروعية السواك نظافة الفم والأسنان من فضلات الطعام والشراب وتطييب للرائحة التي تنبعث من المتكلم فلا يتأذى بها المستمع وصيانة الأسنان من الآفات والتسوس، وتقوية لثة المؤمن وقواعد أسنانه وعضلات فمه، ثم هو فوق كونه مطهرة للفم هو مرضاة للرب كما جاء في الحديث، ومن هنا كان مشروعا لمن لا أسنان له، فعن عائشة قلت: يا رسول الله، الرجل يذهب فوه (أي يذهب أسنانه) أيستاك؟ قال: نعم. قلت: كيف يصنع؟ قال: يدخل أصبعه في فيه. رواه الطبراني في الأوسط، فهو مع كونه نظافة عبادة وطاعة كالوضوء. أما بم يستاك؟ فأفضله عود الأراك، ثم الزيتون، ثم عود أي شجر يصلح لذلك مع طيب الريح، ويحسن أن يكون في غلظ الخنصر، وفي طول الشبر وأن لا يكون شديد اليبس يجرح، ولا رطبا لا يزيل، و (فرشاة الأسنان) المعروفة تقوم مقامه.

بل قال العلماء: يحسن التسوك بالخرقة الخشنة، والإصبع، وبالعلك (اللبان) بالنسبة للنساء. ذكره في المحيط. واستعمال معجون الأسنان مستحسن. وكيفيته الكاملة أن يمسكه باليمين، وأن يكون خنصرها أسفله، والبنصر والوسطى والسبابة فوقه، والإبهام أسفل رأسه، كما رواه ابن مسعود، وأن يغسله ويرطبه قبل استعماله، وأن يمر به على طول الأسنان وعرضها، فإن اقتصر على أحدهما فالعرض أولى وأن يمر به على اللسان طولا، وعلى طرف أسنانه، وكراسي أضراسه، وسقف حلقه، وأن يبدأ في سواكه بالجانب الأيمن من فمه، وأن يستعمله برفق حسب الاستعداد لئلا يدمي لثته، أو يعرض فمه لأضرار، ويستاك حتى يطمئن بزوال النكهة ونظافة الفم. والأفضل أن لا يستاك بحضرة الغير، وأن يتمضمض بعده، فإن كان عند الوضوء فهو عند المضمضة، وألا يستعمل سواك غيره إلا لضرورة، وبعد غسله وتنظيفه والتأكد من سلامة أسنان صاحبه، لئلا تنتقل العدوى. -[ويؤخذ على الأحاديث]- 1 - ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الرفق بأمته والشفقة عليها، لأنه لم يأمر بالسواك على سبيل الوجوب مخافة المشقة عليهم. 2 - قال المهلب: فيه جواز الاجتهاد من النبي صلى الله عليه وسلم فيما لم ينزل عليه فيه نص، لكونه جعل المشقة سببا لعدم أمره، فلو كان الحكم متوقفا على النص لكان سبب انتفاء الوجوب عدم ورود النص لا وجود المشقة. اهـ. وقد رده ابن دقيق العيد والحافظ ابن حجر، لأنه لا يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم أخبر أمته بأن سبب عدم ورود النص وجود المشقة، فيكون معنى قوله (لأمرتهم) أي عن الله تعالى بأنه واجب. اهـ. 3 - ويؤخذ من الرواية الثانية والثالثة استحباب السواك عند دخول البيت. قال القاضي عياض: وخص البيت لأنه لا يفعله ذو المروءة بحضرة الناس، ولا بالمسجد لما فيه من إلقاء ما يستقذر. اهـ. وفي قوله هذا نظر. وقال القرطبي: يحتمل بداءته به لأنه كان يبدأ بالنافلة إذا لم يكن ينتفل بالمسجد. اهـ. وقال الأبي: قيل: لأن الغالب أنه كان لا يتكلم بالطريق، والسكوت يغير رائحة الفم، فكان يستاك ليزيل ذلك، وفعله هذا تعليم للأمة، وهو صلى الله عليه وسلم المنزه المبرأ عن أن يلحقه شيء من ذلك، فمن سكت ثم أراد يتكلم مع صاحبه فليستك، لئلا يتأذى صاحبه برائحة فمه. اهـ. 4 - ويؤخذ من الرواية السادسة استحباب السواك عند القيام من الليل ويلحق به القيام من نوم النهار، لأن النوم مقتض لتغير الفم لما يتصاعد إليه من أبخرة المعدة.

5 - وأخذ بعضهم من قوله (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك) دليلا على أن أمر الشرع للوجوب، وهو مذهب أكثر الفقهاء، وجماعات من المتكلمين وأصحاب الأصول قالوا: وجه الدلالة أنه مسنون بالاتفاق، فدل على أن المتروك إيجابه، إذ نفى الأمر مع ثبوت الندبية، ولو كان للندب لما جاز النفي. وجعل الأمر مشقة عليهم، وذلك إنما يتحقق إذا كان الأمر للوجوب، إذ الندب لا مشقة فيه، لأنه جائز الترك. 6 - وعلى أن طلب على جهة الندب ليس بأمر حقيقة، لأن السواك عند كل صلاة مندوب إليه، وقد أخبر الشارع أنه لم يأمر به، وفي هذا أيضا خلاف بين الفقهاء. 7 - والحديث بعمومه يدل على استحباب السواك للصائم بعد الزوال خلافا للشافعية. 8 - ويؤخذ من الرواية السابعة أنه يستحب للمستيقظ أن ينظر إلى السماء ويقرأ الآية، لما في ذلك من عظيم التدبر. والله أعلم

(120) باب خصال الفطرة

(120) باب خصال الفطرة 453 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الفطرة خمس (أو خمس من الفطرة) الختان، والاستحداد، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط وقص الشارب". 454 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "الفطرة خمس: الاختتان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط". 455 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال أنس: وقت لنا في قص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة، أن لا نترك أكثر من أربعين ليلة. 456 - عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: "أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى". 457 - عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه أمر بإحفاء الشوارب وإعفاء اللحية. 458 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خالفوا المشركين أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى". 459 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس".

460 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء" قال زكرياء: قال مصعب: ونسيت العاشرة. إلا أن تكون المضمضة. زاد قتيبة: قال وكيع: انتقاص الماء يعني الاستنجاء. -[المعنى العام]- وتلك صورة أخرى من صور نظافة الإسلام، وحرصه على كل ما يغرس المحبة والتآلف بين الناس، وإذا كان قد حث على السواك لطهارة الفم، وتطييب رائحته، وللمحافظة على شعور المستمع وأحاسيسه، فإنه هنا يحث على عشر خصال، جماعها حسن المظهر، وطيب المخبر، ورقة الشعور، وأدب الخلطة والاجتماع. أولاها: ختان الذكر والأنثى، وقطع الجلدة الزائدة التي تتجمع فيها بقايا البول حيث لا يمكن غسلها من الداخل، ولا إزالة ما تحويه من ريح كريه. ثانيتها: حلق العانة، وإزالة الشعر الذي حول القبل والدبر للرجل والمرأة، وكل إنسان يشعر بما يحمل هذا الشعر -إن طال- من عرق متراكم، تثير رائحته اشمئزاز صاحبه فضلا عن جليسه ورفيقه، ومهما غسله المؤمن فإنه لا يلبث أن تعود إليه ريحه، بل من الصعب عند الغسل استئصال مخلفاته. ثالثتها: نتف شعر الإبط، وهو لخفته عادة يسهل نتفه، فيقل تهيجه، وتضعف كثافته. رابعتها: تقليم الأظفار في اليدين وفي الرجلين، ولا يخفى ما تجمع الأظفار من أقذار بينها وبين جلد الأنامل كلما طالت، وما يصاحب ذلك من ريح كريه. خامستها: قص الشارب، فإن في طول شعره احتمال ترسب الأوساخ وسوائل الأنف فيه، مما يتعذر نظافته بغسل الوجه، ثم في طوله مظهر من مظاهر الكبر والخيلاء والافتراء، ومنظر من مناظر الجبابرة من المجوس والمشركين. سادستها: غسل البراجم وتجاويف الجلد والمناعم والمعاطف التي هي عرضة لجمع العرق والوسخ. سابعتها وثامنتها وتاسعتها: السواك والمضمضة والاستنشاق.

عاشرتها: إعفاء اللحية وعدم حلقها، وليس المقصود بهذه الخصلة نفس المقصود من غيرها بل هي خصلة قصد بها تكوين شخصية إسلامية، وإبراز كيان وهيئة تميز المسلم عن غيره من المجوس والمشركين واليهود والنصارى لقد كان الإسلام ينتشر بين قبائل العرب وغير العرب، بين متعارفين وغير متعارفين، وستكون بينه وبين غيره من الملل عداوة وحروب، وفي هذه الحالة وعلى ضوء هذه الظروف كانت الحاجة ماسة إلى سمة وعلامة يميز بها المسلم، فماذا يمكن أن تكون تلك العلامة؟ الثياب والملابس متشابهة، ومن السهل لو غايرناها أن يخدعنا بارتدائها الأعداء، إن المسلمين في حاجة شديدة إلى مخالفة في الهيئة وإن المجوس والمشركين وأهل الكتاب يطلقون شواربهم، وهم يعتزون بهذا المظهر اعتزازهم برجولتهم، فما أحسن الهيئة لو خالفهم المسلمون فقصوا الشوارب وأرخوا اللحى، وقد كان الأمر العظيم من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم "خالفوا اليهود والنصارى وخالفوا المجوس، قصوا الشارب وأعفوا اللحى". -[المباحث العربية]- (الفطرة خمس -أو خمس من الفطرة) شك من الراوي في أي اللفظين صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد جزم في الرواية الثانية، فقال "الفطرة خمس" وفي المراد من الفطرة قال الخطابي: ذهب العلماء إلى أن المراد بالفطرة هنا السنة، وكذا قال غيره، قالوا: والمعنى أنها من سنن الأنبياء، ويؤيده ما جاء في بعض الروايات "من السنة قص الشارب ونتف الإبط وتقليم الأظافر". قال الراغب: أصل الفطر بفتح الفاء الشق طولا، ويطلق على الاختراع وعلى الإيجاد، والفطرة الإيجاد على غير مثال. وقال أبو شامة: أصل الفطرة الخلقة المبتدأة، ومنه {فاطر السماوات والأرض} [يوسف: 101] أي المبتدئ خلقهن، وقوله صلى الله عليه وسلم "كل مولود يولد على الفطرة" أي على ما ابتدأ الله خلقه عليه، وفيه إشارة إلى قوله تعالى {فطرة الله التي فطر الناس عليها} [الروم: 30]؛ والمعنى أن كل أحد لو ترك من وقت ولادته وما يؤديه إليه نظره لأداه إلى الدين الحق، وهو التوحيد، ويؤيده قوله تعالى قبلها {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها} [الروم: 30] وإليه يشير في بقية الحديث حيث عقبه بقوله "فأبواه يهودانه أو ينصرانه" والمراد بالفطرة: التي فطر العباد عليها وحثهم عليها واستحبها لهم، ليكونوا على أكمل الصفات وأشرفها صورة. اهـ. وسوغ الابتداء بالنكرة في رواية "خمس من الفطرة" أن "خمس" صفة لموصوف محذوف، والتقدير: خصال خمس، أو على تقدير الإضافة، أي خمس خصال. (الختان) خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: إحداها الختان، وهو بكسر الخاء وتخفيف التاء، مصدر ختن، أي قطع، والختن بفتح الخاء وسكون التاء قطع بعض مخصوص من عضو مخصوص، والختان اسم لفعل الخاتن، ويطلق على موضع الختان أيضا، كما في حديث عائشة "إذا التقى الختانان وجب الغسل" والأول هو المراد هنا، وستأتي كيفيته الشرعية في فقه الحديث.

(والاستحداد) وهو حلق العانة، وسمي استحدادا لاستعمال الحديدة، وهي الموسى، والعانة الشعر الذي فوق ذكر الرجل وحواليه، وكذا الشعر الذي حول فرج المرأة، ونقل عن ابن عباس أنه الشعر النابت حول حلقة الدبر، وهذا القول. غريب لكن يتحصل من مجموع الأقوال: استحباب حلق جميع ما على القبل والدبر وحولهما. وفي الرواية الثالثة والثامنة "وحلق العانة" بدل الاستحداد. (وتقليم الأظافر) وفي الرواية الثامنة "وقص الأظافر" والتقليم تفعيل من القلم وهو القطع، والتقليم أعم من القص، لأن التقليم يكون بالمقص وغيره، و"الأظفار" جمع ظفر بضم الظاء والفاء، وبسكونها، وحكى أبو زيد كسر أوله، وقد قرئ بكسر أوله وثانيه. والمراد: إزالة ما يزيد على ما يلابس رأس الأصبع من الظفر. (ونتف الإبط) بكسر الهمزة والباء، وبسكون الباء وهو المشهور، وصوبه الجواليقي، وهو يذكر ويؤنث، وتأبط الشيء وضعه تحت إبطه، وفي الكلام مضاف محذوف، أي نتف شعر الإبط. (وقص الشارب) الشارب الشعر النابت على الشفة العليا، واختلف في جانبيه وهما السبالان، فقيل: هما من الشارب، وقيل: هما من شعر اللحية. وفي الرواية الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة "الشوارب" وهو من الواحد الذي فرق، وسمي كل جزء منه باسمه، فقالوا: لكل جانب منه شاربا ثم جمع "شوارب" وحكى ابن سيده عن بعضهم: من قال: الشاربان أخطأ، وإنما الشاربان ما طال من ناحية السبلة، قال: وبعضهم يسمى السبلة كلها شاربا، ويؤيده أثر عمر الذي أخرجه مالك "إنه كان إذا غضب فتل شاربه" والذي يمكن فتله من شعر الشارب السبال، وقد سماه شاربا. اهـ. (وقت لنا) بضم الواو وكسر القاف المشددة، مبني للمجهول، وأخرجه أصحاب السنن بلفظ "وقت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي جعل لنا وقتا. (أن لا نترك أكثر من أربعين ليلة) مفعول "نترك" محذوف، أي أن لا نترك القص والتقليم والنتف والحلق أكثر من أربعين ليلة، أي لا نترك واحدا منها. (احفوا الشوارب) وفي الرواية السابعة "جزوا الشوارب" قال ابن دريد: يقال: حفا الرجل شاربه يحفوه حفوا، إذا استأصل أخذ شعره، فعلى هذا تكون همزة "احفوا" همزة وصل، وجعلها غيره همزة قطع، وهو صريح الرواية الخامسة، ولفظها "أمر بإحفاء الشوارب" والجز بفتح الجيم والزاي المشددة قص الشعر والصوف إلى أن يبلغ الجلد، وقد سبق في الروايات الثلاث الأولى بلفظ "قص الشارب" فهل المراد واحد بالقص والإحفاء والجز؟ أو المراد التخيير بين الأفعال الثلاثة؟ توضيح ذلك في فقه الحديث. (واعفوا اللحي) في الرواية السادسة "وأوفوا اللحى" وفي الرواية السابعة "وأرخوا اللحى" يقال: عفوت الشعر، وأعفيته لغتان، ذكرهما في شرح هذا الحديث جماعة من الشراح منهم ابن

التين، وفسره بعضهم بأكثروا اللحى، قال ابن دقيق العيد: تفسير الإعفاء بالتكثير من إقامة السبب مقام المسبب، لأن حقيقة الإعفاء الترك، وترك التعرض للحية يستلزم تكثيرها. اهـ. و"أوفوا" بمعنى أعفوا أي اتركوها وافية كاملة، لا تقصوها، وكذا "أرخوا" بالهمزة والخاء، وروي "أرجوا" بالهمز والجيم، وأصله أرجئوا أي اتركوا، وفي رواية للبخاري بلفظ "وفروا" وهي بنفس المعنى، واللحي بكسر اللام، وحكي ضمها جمع لحية، وهي الشعر النابت على الذقن، قاله المتولي والغزالي في البسيط، والذقن مجمع اللحيين، واللحيان الفكان، وعليهما منابت الأسنان السفلى، فاللحية هي الشعر النابت على الجلد الذي يغطي الأسنان السفلى. وقال الحافظ ابن حجر: اللحية اسم لما نبت على الخدين والذقن. اهـ. ونعيد إلى الأذهان أن الشعر الذي بين العينين والأذنين يسمى العذارين وهما ليسا من اللحية باتفاق، وما تحت العذارين إلى بداية الفكين يسمى العارضين، والظاهر أنهما ليسا من اللحية على تفسير المتولي والغزالي، وهما منها على تفسير الحافظ ابن حجر. أما الشعر الذي على الشفة السفلى وتسمى (العنفقة) فليس من اللحية على الصحيح. (خالفوا المشركين) وفي الرواية السابعة "خالفوا المجوس". (وغسل البراجم) "البراجم" بفتح الباء جمع برجمة، بضم الباء والجيم وهي عقد الأصابع ومفاصلها كلها، وقيل: التي في ظهر الكف، وقال الخطابي: هي المواضع التي تتسخ، ويجتمع فيها الوسخ. اهـ. (وانتقاص الماء) بالقاف والصاد، وقد فسره الراوي بالاستنجاء، وقال أبو عبيدة وغيره: معناه انتقاص البول بسبب استعمال الماء في غسل مذاكيره وقيل: هو الانتضاح، وقد جاء في بعض الروايات "الانتضاح" بدل "انتقاص" قال الجمهور: الانتضاح نضح الفرج بماء قليل بعد الوضوء، لينفي عنه الوساوس، وقيل: هو الاستنجاء بالماء، وذكر ابن الأثير أنه روى "انتفاص الماء" بالفاء بدل القاف، قال: والمراد نضحه على الذكر، قال النووي: وهذا الذي نقله شاذ، والصواب ما سبق. والله أعلم. اهـ. -[فقه الحديث]- بمقارنة رواية أبي هريرة برواية عائشة نجد الأخيرة شملت الأولى، فيما عدا الختان وزادت ست خصال، وفي رواية للنسائي ما في رواية عائشة إلا أنها ذكرت "الختان" بدل "غسل البراجم" وفي رواية لأبي داود ما في رواية عائشة إلا أنها لم تذكر "إعفاء اللحية" "وانتقاص الماء". وذكرت بدلها "الختان والانتضاح" وفي رواية أخرى لأبي داود، قال: خمس كلها في الرأس، وذكر فيها "الفرق" ولم يذكر "إعفاء اللحية". وفي رواية لابن أبي حاتم ذكر "غسل الجمعة" بدل "الاستنجاء" قال الحافظ ابن حجر: فصار مجموع الخصال التي وردت في هذه الأحاديث خمس عشرة خصلة. اهـ.

وذكر ابن العربي أن خصال الفطرة تبلغ ثلاثين خصلة. قال الحافظ ابن حجر ردا عليه: إن أراد خصوص ما ورد بلفظ الفطرة فليس كذلك، وإن أراد أعم من ذلك فلا تنحصر في الثلاثين، بل تزيد كثيرا. اهـ. وعلى هذا فذكر صيغة "خمس" أو "عشر" لا يقصد به الحصر، فقد قيل: إن مفهوم العدد ليس بحجة، وقيل: بل كان أعلم أولا بالخمس، ثم أعلم بالزيادة، وقيل: بل الاختلاف في ذلك بحسب المقام، فذكر في كل موضع اللائق بالمخاطبين، وهذا الأخير حسن، مع ملاحظة أن ذكر العدد لا يراد به الحصر، أو مع ملاحظة لفظ "من" أي من الفطرة خمس كما في "خمس من الفطرة". والمحقق فيما ذكر من الخصال يجدها تشترك في ظاهرة نظافة البدن، كما يجدها إلى حكم الندب والاستحباب أقرب منها إلى حكم الوجوب، نعم سنجد خلافا بين العلماء في حكم بعضها، ولكن الظاهر أن القرين بالمقارن يقرن، وإذا كان البعض مقطوعا باستحبابه بلا خلاف، فإن البعض المختلف في استحبابه أو وجوبه يكون الأولى به الاستحباب، لدلالة الاقتران، فإن لفظ "الفطرة" إما أن يراد به السنة، فتكون الخصال العشر سنة، وإما أن يراد به الواجب فتكون الخصال العشر واجبة، أما أن يراد به القدر المشترك بين السنة والواجب ويجمع تحته خصال ذات أحكام مختلفة، فهو مستبعد في الأسلوب الحكيم، ولا يقال: إن القرآن الكريم جمع في الأمر بين المباح والواجب في قوله تعالى: {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام: 141] فالأكل مباح، وإيتاء الحق واجب، لا يقال هذا، فإن هناك فرقا بين الآية وبين ما نحن فيه، إذ الآية تكرر فيها الأمر واختلف فيها اللفظ المأمور به "كلوا" "وآتوا" وظاهر الأمر الوجوب -على قول- فصرف عن الأكل بدليل آخر، وبقي الإيتاء على الأصل، أو ظاهر الأمر مطلق الطلب فصرف إلى الوجوب في الإيتاء بدليل آخر، أما الحديث فقد تضمن لفظة واحدة "الفطرة" استعملت في الجميع، فتعين أن تحمل على أحد الأمرين. ومن هنا أميل إلى القول باستحباب هذه الخصال، وإن كان بعضها في السنة آكد من بعض، لكن يجمعها أن يثاب على فعلها، ولا يعاقب على تركها. ولنعرض آراء العلماء وأدلتهم في كل خصلة لتوفية الموضوع حقه، فنقول وبالله التوفيق. أولا: الختان وكيفيته: في الذكر قطع الجلدة التي تغطي الحشفة، وكماله أن تستوعب من أصلها، عند أول الحشفة، وأقله أن لا يبقى منها شيء متدل والعلماء يتفقون على الكيفية الكاملة، ويختلفون في أقله، فترى الماوردي يقول: وأقل ما يجزئ أن لا يبقي منها ما يتغشى به شيء من الحشفة، وإمام الحرمين يقول: حتى لا يبقى من الجلدة شيء متدل، وابن الصباغ يقول: حتى تنكشف جميع الحشفة، وابن كج يقول: يتأدى الواجب بقطع شيء مما فوق الحشفة وإن قل، بشرط أن يستوعب القطع تدوير رأسها. وكيفيته في الأنثى: قطع جلدة تكون في أعلى فرجها على ثقب البول، فوق مدخل الذكر، كالنواة

أو كعرف الديك، وتقطع الجلدة المستعلية منه، دون استئصاله، وفي الحديث نهي عن الإنهاك والاستئصال، وأقله ما ينطلق عليه اسم الختان وإن قل. وفائدته الإنقاء من البول، فإن هذه الجلدة المغطية للحشفة تجمع بقايا البول كما أن جلدة الأنثى كذلك تغطي قدرا من النجاسة وإن كان أقل من جلدة الذكر. هذا ما يقوله جمهور العلماء، ويقول بعضهم: إن ختان الذكر يزيد من لذته في الجماع، لأن الإحساس بسطح مكشوف أتم وأقوى من الاتصال بسطح مستور، وكمال اللذة تدعو إلى كثرة الجماع، ليؤدي إلى المقصود الحقيقي منه وهو كثرة النسل، ولا يقال: إن غير المختون تنكشف حشفته عند الجماع كالمختون، فإنه مما لا شك فيه أن غير المختون لا تنكشف حشفته جميعها، لأن جلدة الختان تنطوي عند الوطء بعضها على بعض، فتشغل جزءا من الحشفة، مما يمنع كمال اللذة. أما الأنثى فإن هذه الجلدة لو بقيت لأثارتها، وهيجت شهوتها لأقل اتصال فربما قضت شهوتها سريعا قبل أن يتمكن الزوج من تمتعه، وربما كلفته ما لا يطيق بسبب شبقها، وكثرة رغبتها في قضاء وطرها، واستئصال الجلدة وإنهاكها يؤدي بالمرأة إلى ضعف شهوتها ضعفا يضر بمقصد الشارع الحكيم ومن هنا كان الأمر بالختان والنهي عن الإنهاك في قول الرسول صلى الله عليه وسلم لأم عطية "أشهي ولا تنهكي، فإنه أسرى للوجه (أي أكثر لماء الوجه) وأحظى عند الزوج" وفي رواية "لا تنهكي فإن ذلك أحظى للمرأة" رواه أبو داود. ولعل هذا سر إطلاق العرب على ختان الذكر إعذارا، وعلى ختان الأنثى خفضا. والله أعلم. وحكمه مختلف فيه اختلافا كبيرا، فالشافعي وجمهور أصحابه، ورواية عن أحمد وبعض المالكية يقولون: الختان واجب في حق الرجال والنساء. بل بالغ بعضهم فقال: إن من أسلم وهو شيخ وجب أن يختن وإن خيف عليه، كمن سرق يقطع وإن خيف عليه. وقالوا: من مات كبيرا قبل أن يختن ختن ميتا. وفي وجه للشافعية: لا يجب في حق النساء، وذهب أكثر العلماء وبعض الشافعية إلى أنه ليس بواجب، وعن أبي حنيفة أنه واجب وليس بفرض، وعنه أنه سنة يأثم بتركه. واستدل القائلون بالوجوب بأدلة، منها: أ- أن القلفة تحبس النجاسة، فتمنع من صحة الصلاة، كمن أمسك نجاسة بفمه، ورد بأن الفم في حكم الظاهر، يسهل فتحه وإخراج ما فيه وغسله بخلاف القلفة فإنها في حكم الباطن. ب- واستدلوا بما أخرجه أبو داود من حديث كليب جد عشيم بن كثير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له "ألق عنك شعر الكفر واختتن" ورد بأن سند الحديث ضعيف. جـ- وقالوا: إن كشف العورة حرام، ولا يشرع إلا لواجب فلو لم يكن الختان واجبا ما أبيح له كشف العورة، ورد القاضي عياض بأن كشف العورة مباح لمصلحة الجسم، والنظر إليها يباح للمداواة، وليس ذلك واجبا إجماعا، كما رده أبو شامة بأنهم جوزوا لغاسل الميت أن يحلق عانة الميت، ولا يتأتى ذلك الغسل إلا بالنظر واللمس، وهما حرامان وقد أجيزا لأمر مستحب.

د- وقال بعضهم: إن الختان قطع عضو لا يستخلف من الجسد تعبدا فيكون واجبا كقطع اليد في السرقة، وتعقب بأن قطع اليد إنما أبيح في مقابلة جرم عظيم، فلم يتم القياس. هـ- وقال الماوردي: في الختان إدخال ألم عظيم على النفس، وهو لا يشرع إلا في إحدى خصال ثلاث: لمصلحة، أو عقوبة، أو وجوب، وقد انتفى الأولان، فثبت الثالث وتعقبه أبو شامة، بأن الختان فيه عدة مصالح كمريد الطهارة والنظافة، فإن القلفة من المستقذرات عند العرب، وقد كثر ذم الأقلف في أشعارهم، وكان للختان عندهم قدر، وله وليمة خاصة به، وأقر الإسلام ذلك. اهـ. وقد ذكرنا بعضا آخر من مصالحه. و- وقال الخطابي: الختان واجب لأنه من شعار الدين، وبه يعرف المسلم من الكافر حتى لو وجد مختون بين جماعة قتلى غير مختونين صلى عليه ودفن في مقابر المسلمين وتعقبه أبو شامة بأن شعائر الدين ليست كلها واجبة. وما ادعاه في المقتول مردود، لأن اليهود وكثيرا من النصارى يختتنون، فليقيد ما ذكره بالقرينة. ز- وقال البيهقي: أحسن الحجج أن يحتج بحديث أبي هريرة الذي في الصحيحين مرفوعا "اختتن إبراهيم وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم" وقد قال الله تعالى: {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا} [النحل: 123] وصح عن ابن عباس أن الكلمات التي ابتلى بهن إبراهيم فأتمهن هي خصال الفطرة، ومنهن الختان والابتلاء غالبا إنما يقع بما يكون واجبا. وتعقب بأنه لا يلزم ما ذكر، إلا إن كان إبراهيم عليه السلام قد فعله على سبيل الوجوب فإنه من الجائز أن يكون فعله على سبيل الندب، فيحصل امتثال الأمر باتباعه على وفق ما فعل، وقد قال تعالى في حق نبيه محمد صلى الله عليه وسلم {واتبعوه لعلكم تهتدون} [الأعراف: 158] واتباعه في الأمر الواجب واجب وفي المندوب مندوب، وقد تقرر في الأصل أن أفعاله بمجردها لا تدل على الوجوب. والحق أنه لم يقم دليل صحيح يدل على الوجوب، والمتيقن السنية والواجب الوقوف على المتيقن إلى أن يقوم ما يوجب الانتقال عنه. (فائدة) ذكر الشيخ أبو عبد الله بن الحاج في المدخل أنه اختلف في النساء هل يخفضن عموما؟ أو يفرق بين نساء المشرق فيخفضن، ونساء المغرب فلا يخفضن لعدم الفضلة المشروع قطعها منهن، بخلاف نساء المشرق؟ قال: فمن قال: إن من ولد مختونا استحب إمرار الموسى على الموضع امتثالا للأمر قال في حق المرأة كذلك، ومن لا فلا. اهـ. ذكره الحافظ في الفتح. والقائلون بإمرار الموسى على موضع الختان لمن ولد مختونا جماعة من الشافعية ويقصدون إمراره من غير جرح حفاظا على شكل الحكم. وعندي: أن الدين ليس طقوسا وأشكالا وهياكل، وإنما هو حكم ومنافع، وما لا فائدة منه لا يشرع وإلا لطلبنا إمرار المقص على أصبع من ليس له أظافر، وطلبنا ممن ليس له شعر إبط أن يحاكي من ينتفه، وهكذا لنصبح أضحوكة العقلاء، ومثار سخرية الأعداء.

ووقت الختان مختلف فيه كذلك. قال الماوردي: له وقتان: وقت وجوب، ووقت استحباب. فوقت الوجوب البلوغ، ووقت الاستحباب قبله، والاختيار في اليوم السابع من بعد الولادة، وقيل الاختيار من بعد يوم الولادة، فإن أخر ففي الأربعين يوما فإن أخر ففي السنة السابعة، فإن بلغ وكان نضوا نحيفا، يعلم من حاله أنه إذا اختتن تلف سقط الوجوب، ويستحب أن لا يؤخر عن وقت الاستحباب إلا لعذر. وذكر القاضي حسين: أنه لا يجوز أن يختتن الصبي حتى يصير ابن عشر سنين لأنه حينئذ يوم ضربه على ترك الصلاة، وألم الختان فوق ألم الضرب فيكون أولى بالتأخير، وزيفه النووي، وقال: إنه كالمخالف للإجماع. وقال إمام الحرمين: لا يجب قبل البلوغ، لأن الصبي ليس من أهل العبادة المتعلقة بالبدن، فكيف مع الألم؟ وقال أبو الفرج السرخسي: في ختان الصبي وهو صغير مصلحة من جهة أن الجلد بعد التمييز يغلظ ويخشن، فمن ثم جوز الأئمة الختان قبل ذلك. ونقل ابن المنذر عن الحسن ومالك كراهة الختان يوم السابع لأنه فعل اليهود. وقال مالك: يحسن إذا أثغر، أي ألقى ثغره وهو مقدم أسنانه، وذلك في السبع سنين وما حولها. وقال الليث: يستحب ما بين سبع سنين إلى عشر سنين. وعن أحمد: لم أسمع فيه شيئا. وقد ذكر الحافظ ابن حجر في أبواب الوليمة من كتاب النكاح في كتابه "فتح الباري" مشروعية الدعوة في الختان، وذكر عن عثمان بن أبي العاص أنه دعى إلى ختان فقال: ما كنا نأتي الختان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ندعي له. وذكر الشيخ أبو عبد الله بن الحاج في المدخل. أن السنة إظهار ختان الأنثى، والله أعلم. من فتح الباري بتصرف. ثانيا: الاستحداد، وهو "حلق العانة" الوارد في الرواية الثالثة والثامنة وهو سنة باتفاق ولم يشذ عن القول بسنته سوى القاضي أبي بكر بن العربي الذي أغرب فقال: عندي أن الخصال الخمس المذكورة في هذا الحديث كلها واجبة، فإن المرء لو تركها لم تبق صورته على صورة الآدميين، فكيف من جملة المسلمين؟ كذا قال في شرح الموطأ عن الرواية الأولى من رواياتنا. وتعقبه أبو شامة بأن الأشياء التي مقصودها مطلوب لتحسين الخلق، وهي النظافة لا تحتاج إلى ورود أمر إيجاب للشارع فيها اكتفاء بدواعي الأنس فمجرد الندب إليها كاف. اهـ. وقد عبرت الروايات عن إزالة شعر العانة بالاستحداد أي إزالته بالحديدة وهي الموسى أو بالحلق، كما عبرت عن إزالة شعر الإبط بالنتف. قال العلماء: وذكر الحلق في العانة لكونه هو الأغلب، وإلا فيجوز الإزالة بالنورة (وهي نوع من الحجر يدق ويطلى به المكان) والنتف وغيرهما، قال أبو شامة: ويقوم التنور مكان الحلق، وكذلك

النتف والقص، وقد سئل أحمد عن أخذ العانة بالمقراض، فقال أرجو أن يجزئ. قيل: فالنتف: قال: وهل يقوى على هذا أحد؟ وقال ابن دقيق العيد: والأولى في إزالة شعر العانة الحلق اتباعا، ويجوز النتف، بخلاف الإبط فإنه بالعكس، لأنه تحتبس تحته الأبخرة بخلاف العانة، والشعر من الإبط بالنتف يضعف، وبالحلق يقوي، فجاء الحكم في كل من الموضعين بالمناسب. وقال النووي: السنة في إزالة شعر العانة الحلق بالموسى في حق الرجل والمرأة معا، وقد ثبت الحديث الصحيح عن جابر في النهي عن طروق النساء ليلا، حتى تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة، لكن يتأدى أصل السنة بالإزالة بكل مزيل. وقال النووي في موضع آخر: والأولى في حق الرجل الحلق، وفي حق المرأة النتف. قال الحافظ ابن حجر: واستشكل بأن فيه ضررا على المرأة بالألم وعلى الزوج باسترخاء المحل، فإنه النتف يرخي المحل باتفاق الأطباء، ومن ثم قال ابن دقيق العيد: إن بعضهم مال إلى ترجيح الحلق في حق المرأة، لأن النتف يرخي المحل. قال ابن العربي: إن كانت شابة فالنتف في حقها أولى، لأنه يربو مكان النتف، وإن كانت كهلة فالأولى في حقها الحلق، لأن النتف يرخي المحل، ولو قيل: الأولى في حقها التنور مطلقا لما كان بعيدا. وحكى النووي في وجوب الإزالة عليها إذا طلب منها وجهين أصحهما الوجوب. وهناك فرق آخر بين حلق العانة ونتف الإبط، فإن نتف الإبط أو حلقه يجوز أن يتعاطاه الأجنبي، بخلاف حلق العانة فيحرم إلا في حق من يباح له المس والنظر كالزوج والزوجة. هذا والشعر الذي حول الدبر له حكم الشعر الذي حول القبل، بل قال أبو شامة: إنه من الدبر أولى، خوفا من أن يعلق شيء من الغائط، فلا يزيله المستنجي إلا بالماء، ولا يتمكن من إزالته بالاستجمار. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: وما استند إليه أبو شامة قوي، بل ربما تصور الوجوب في حق من تعين ذلك في حقه، كمن لم يجد من الماء إلا القليل وأمكنه أن لو حلق الشعر أن لا يعلق به شيء من الغائط يحتاج معه إلى غسله وليس معه ماء زائد على قدر الاستنجاء. اهـ. وأغرب أبو بكر بن العربي حيث قال: وأما حلق ما حول الدبر فلا يشرع. وكذا قال الفاكهي في شرح العمدة أنه لا يجوز، ولم يذكر أي منهما للمنع مستندا. قال ابن دقيق العيد: كأن الذي ذهب إلى استحباب حلق ما حول الدبر ذكره بطريق القياس. اهـ. ويقصد أنه لا تناوله شعر العانة الوارد في الحديث، ولكنه يمكن أن يقاس على الوارد بالطريق الأولى، لأن علوق الوسخ والرائحة به أكثر احتمالا منه في العانة، فإزالته مستحبة استحباب إزالة شعر العانة. والله أعلم. ثالثا: تقليم الأظفار: وهو سنة، والمراد إزالة ما يزيد على ما يلابس رأس الأصبع من الظفر، لأن

الوسخ يجتمع فيه، فيستقذر، وقد ينتهي إلى حد يمنع من وصول الماء إلى ما يجب غسله في الطهارة، وقد يعلق بباطن الظفر الطويل نجاسة عند الاستنجاء، وأقل ما يحمل الظفر الطويل الروائح الكريهة من حك مواضع في الجسم ذات رائحة، وقد أخرج البيهقي والطبراني أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة فأوهم فيها [أي نسي وأسقط بعضها من تفكيره في أظافر المسلمين] فسئل فقال: "ما لي لا أوهم ورفغ أحدكم بين ظفره وأنملته"؟ (والرفغ بضم الراء وبفتحها مع إسكان الفاء يجمع على أرفاغ، وهي مغابن الجسد، ومناعمه وطياته كالإبط، وما بين الأنثيين والفخدين، وكل موضع يجتمع فيه الوسخ) والمعنى: أنكم لا تقلمون أظفاركم، ثم تحكون بها أرفاغكم فيتعلق به ما في الأرفاغ من الأوساخ المجتمعة. والأمر لا يحتاج إلى دليل، إذ لو شم كل إنسان أنامله عقب قص أظفاره لآمن بالدليل الحسي البديهي، لكن النساء وبعض الشباب في هذا العصر المبتلى يبالغون في إطالة أظافرهم، حتى نافسوا مخالب الطيور ومناقير النسور باسم المدنية والتقدم الكاذب، والله الهادي إلى سواء السبيل. قال الحافظ ابن حجر: ويستحب الاستقصاء في إزالة الأظفار إلى حد لا يدخل منه ضرر على الإصبع، واستحب الإمام أحمد للمسافر أن يبقي شيئا من أظفره لحاجته إلى الاستعانة به غالبا، ولم يثبت شيء من الأحاديث في ترتيب الأصابع عند القص، لكن القاعدة الشرعية التيامن في كل شيء. بل لم يرد شيء في تقديم قص أظافر اليدين على أظافر الرجلين، اللهم إلا القياس على الوضوء، ولم يثبت أيضا شيء في استحباب قص الظفر يوم الخميس، قال الحافظ ابن حجر: وأقرب ما وقفت عليه في ذلك ما أخرجه البيهقي من مرسل أبي جعفر الباقر. قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحب أن يأخذ من أظفاره وشاربه يوم الجمعة. اهـ. ولعل الملحظ الشرعي التنظيف والتجمل وأخذ الزينة المطلوب لاجتماع يوم الجمعة. والله أعلم. رابعا: نتف الإبط: قال النووي: وهو سنة بالاتفاق. اهـ. وكأنه لم يعتبر مخالفة ابن العربي المتقدمة، إذ قال: إن الخصال الخمس الواردة في الحديث الأول واجبة. والأفضل فيه النتف لمن قوي عليه، ويحصل أيضا بالحلق، وبالنورة، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن يونس بن عبد العلي قال: دخلت على الشافعي -رحمه الله- وعنده المزين يحلق إبطه، فقال الشافعي: علمت أن السنة النتف، ولكن لا أقوى على الوجع. اهـ. قال الغزالي: وهو في الابتداء موجع، ولكن يسهل على من اعتاده، قال: والحلق كاف، لأن المقصود النظافة. اهـ. ولما كان ظاهر هذه العبارة التسوية وعدم التفضيل تعقب بأن الحكمة في نتف الإبط: أنه محل للرائحة الكريهة، وإنما ينشأ ذلك من الوسخ الذي يجتمع بالعرق فيه، فيتلبد ويهيج، فشرع فيه النتف الذي يضعفه، فتخف الرائحة به بخلاف الحلق، فإنه يقوي الشعر ويهيجه فتكثر الرائحة لذلك.

قال ابن دقيق العيد: من نظر إلى اللفظ وقف مع النتف، ومن نظر إلى المعنى أجازه بكل مزيل. اهـ. ومما ذكرنا في التعقب على الغزالي يتضح أن النتف مقصود من جهة المعنى، وهو معنى ظاهر لا يهمل، ثم إن مورد النص إذا احتمل معنى مناسبا يمكن أن يكون مقصودا في الحكم ينبغي أن لا يترك، ولهذا نعود إلى القول بأن النتف أفضل لمن قوي عليه. ويستحب البدء بالإبط الأيمن مستخدما أصابع اليد اليسرى، استصحابا لسنة التيامن. خامسا: قص الشارب، وقد اعتبر من الفطرة في الرواية الأولى والثانية والثالثة والثامنة، وخص بالذكر مع اللحية في الرواية الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة. قال النووي في المجموع: وأما قص الشارب فمتفق على أنه سنة. اهـ. وقال ابن دقيق العيد: لا أعلم أحدا قال بوجوب قص الشارب من حيث هو هو. قال الحافظ ابن حجر: واحترز بذلك من وجوبه بعارض، حيث يتعين .. ثم قال: ولعل ابن دقيق العيد لم يقف على كلام ابن حزم في ذلك، فإنه قد صرح بالوجوب في ذلك وفي إعفاء اللحية. اهـ. وإذا صرفنا النظر عن رأي ابن حزم وابن العربي وجدنا العلماء يتفقون على أن قص الشارب سنة، لكنهم يختلفون في مقدار القص المستحب، أو في الحالة الفضلى. فأبو حنيفة وأصحابه يقولون: الإحفاء أفضل من التقصير، وقال الأثرم كان أحمد يحفي شاربه إحفاء شديدا، ونص على أنه أولى من القص. وأخرج الطبري عن عبد الله بن أبي رافع قال: رأيت أبا سعيد الخدري وجابر بن عبد الله وابن عمر ورافع بن خديج وأبا أسيد الأنصاري وسلمة بن الأكوع وأبا رافع ينهكون شواربهم كالحلق، وفي أثر آخر أن ابن عمر كان يحفي شاربه حتى ينظر إلى بياض الجلد. وهذا الفريق يسانده ظاهر ما جاء في الرواية الرابعة والخامسة والسادسة بلفظ "أحفوا الشوارب" وظاهر ما جاء في الرواية السابعة بلفظ "جزوا الشوارب" وظاهر رواية البخاري ولفظها "وأنهكوا الشوارب". فكل هذه الألفاظ تدل على أن المطلوب المبالغة في الإزالة. الفريق الثاني يرى أن الأفضل القص، قال النووي في شرح المهذب: هو مذهبنا، بل قال أشهب: سألت مالكا عمن يحفي شاربه، فقال: أرى أن يوجع ضربا، وقال لمن يحلق شاربه: هذه بدعة ظهرت في الناس، اهـ. وهذا الفريق يفسر قوله "وأحفوا الشوارب" و"جزوا الشوارب" بأن المعنى أزيلوا ما طال على الشفتين، وفسر ابن بطال النهك بالتأثير في الشيء من غير الاستئصال، ويستدلون بما رواه البيهقي عن المغيرة بن شعبة، قال "ضفت النبي صلى الله عليه وسلم وكان شاربي وفيا فوضع السواك تحت الشارب وقص عليه" وبما أخرجه البزار من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر رجلا وشاربه طويل، فقال: ائتوني بمقص وسواك فجعل السواك، على طرفه، ثم أخذ ما جاوزه، وبما أخرجه الترمذي من حديث ابن عباس وحسنه "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقص شاربه".

وروى أن عمر بن الخطاب كان إذا غضب فتل شاربه. ويرى هذا الفريق أن يقص الشارب حتى يبدو طرف الشفة العليا ويقولون: إن المعنى في مشروعية قص الشارب يتحقق بذلك، ففيه مخالفة المجوس والمشركين، وفيه الأمن من التشويش على الآكل، والأمن من بقاء زهومة المأكول فيه، وفيه جمال المنظر. وهناك فريق ثالث يرى تساوي الأمرين، ويترك الخيار بينهما للمسلم، ويمثله الطبري حيث حكى قول مالك، وقول أبي حنيفة وأصحابه، ونقل أقوال أهل اللغة، ثم قال: دلت السنة على الأمرين، ولا تعارض، فإن القص يدل على أخذ البعض والإحفاء يدل على أخذ الكل، وكلاهما ثابت، فيتخير فيما شاء. اهـ. ويستحب أن يبدأ في قص الشارب باليمين، وهو مخير بين أن يقص ذلك بنفسه، أو يقوم به غيره، لحصول المقصود من غير هتك مروءة بخلاف الإبط، ومن غير ارتكاب حرمة بخلاف العانة. قال الحافظ ابن حجر: ومحل ارتكاب الحرمة أو هتك المروءة في العانة والإبط حيث لا ضرورة، فإن وجدت ضرورة لم يكن في الاستعانة بالغير حرمة أو هتك مروءة، أما الأخذ من الشارب فينبغي فيه التفصيل بين من يحسن أخذه بنفسه بحيث لا يتشوه، وبين من لا يحسن، فيستعين بغيره، ويلتحق به من لا يجد مرآة ينظر وجهه فيها عند أخذه. اهـ. قال النووي: ويتأدى أصل السنة بأخذ الشارب بالمقص وبغيره، وتوقف ابن دقيق العيد في قرضه بالسن، ثم قال: من نظر إلى اللفظ منع، ومن نظر إلى المعنى أجاز. اهـ. وقد سئل الإمام أحمد عمن يأخذ شيئا من شعره وأظفاره، أيدفنه، أم يلقيه؟ فقال: يدفنه. قيل له: بلغك فيه شيء؟ قال: كان ابن عمر يدفنه، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بدفن الشعر والأظفار. قال الحافظ ابن حجر: وهذا الحديث أخرجه البيهقي، وقد استحب أصحابنا دفنها؛ لكونها أجزاء من الآدمي. اهـ. وظاهر الرواية الثالثة ونصها "وقت لنا في قص الشارب، وتقليم الأظفار ونتف الإبط، وحلق العانة، أن لا تترك أكثر من أربعين ليلة" ظاهر هذه الرواية أن لهذه الخصال وقتا تؤدى فيه، لكن الحد النهائي للترك هو أربعون ليلة. وقد ذهب بعضهم إلى استحبابها يوم الجمعة قبل الزوال، وذهب آخرون إلى استحبابها يوم الخميس، والمعتمد أنه يستحب كيفما احتاج إليه، فينتف إبطه كلما طلع، ولا يدع شاربيه يطولان، وأن يقلم أظفاره كلما طالت، والضابط في ذلك الاحتياج، قال النووي: ينبغي أن يختلف ذلك باختلاف الأحوال والأشخاص، والضابط الحاجة في هذا وفي جميع الخصال المذكورة. اهـ. وقال الحافظ ابن حجر: لكن لا يمنع من التفقد يوم الجمعة، فإن المبالغة في التنظيف فيه مشروع. والله أعلم.

سادسا: إعفاء اللحية: وقد ورد الأمر به في الرواية الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة، وورد أنه من خصال الفطرة العشر في الرواية الثامنة، ولم يعد من الخمس في الرواية الأولى والثانية. وجمهور العلماء على أن إعفاء اللحية سنة، وأن حلقها مكروه، والخلاف بينهم في تفسير الإعفاء، هل المراد منه عدم التعرض لها أصلا؟ أو لا يتنافى مع الأخذ من طولها وعرضها؟ أو بعبارة أخرى: اختلفوا في الأفضل، هل هو عدم التعرض لها أو الأخذ منها؟ اختار النووي القول الأول، قال: والمختار تركها على حالها، وأن لا يتعرض لها بتقصير ولا غيره. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: وكأن مراده بذلك في غير النسك، لأن الشافعي نص على استحباب الأخذ منها في النسك. اهـ. وجمهور العلماء على أنه يجوز أن يأخذ من طولها وعرضها، وحملوا النهي على منع ما كانت الأعاجم تفعله من قصها، وقالوا: إن الرجل لو ترك لحيته، لا يتعرض لها، حتى أفحش طولها وعرضها لعرض نفسه لمن يسخر به، واستدلوا بما أخرجه الترمذي "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها" قال القاضي عياض: يكره حلق اللحية وقصها وتحذيفها. وأما الأخذ من طولها وعرضها إذا عمت فحسن بل تكره الشهرة في تعظيمها كما يكره تقصيرها. اهـ. ويختلف هؤلاء في الحد الذي ينتهي إليه الأخذ منها، فبعضهم لا يرى حدا ويترك الأمر لفحش الطول وفحش التقصير، فعن الحسن البصري: يؤخذ من طولها وعرضها ما لم يفحش. وبعضهم يجعل الحد مقدار قبضة اليد، متمسكا بما روي أن ابن عمر كان يمسك بيده على لحيته، فيزيل ما شذ منها، فيمسك من أسفل ذقنه بأصابعه الأربعة ملتصقة، فيأخذ ما سفل عن ذلك، ليتساوى طول لحيته. هذا ما عليه جمهور العلماء والمحققين، وشذ جماعة فقالوا بوجوب إعفاء اللحية وتحريم حلقها، معتمدين على الأمر بالإعفاء والإرخاء والإرجاء وجعلوه للوجوب لمخالفة المشركين والمجوس، وغالى هؤلاء الناس حتى رموا مخالفيهم بما يشبه الكفر والتشبه بالمجوس والمشركين. ونقل النووي عن الغزالي قوله: يكره في اللحية عشر خصال: (1) خضبها بالسواد لغير الجهاد. (2) وبغير السواد إيهاما للصلاح لا لقصد الاتباع. (3) وتبييضها استعجالا للشيخوخة لقصد التعاظم على الأقران. (4) ونتفها إبقاء للمرودة. (5) وكذا تحذيفها. (6) ونتف الشيب (ورجح النووي تحريمه لثبوت الزجر عنه). (7) وتصفيفها طاقة طاقة تصنعا ومخيلة. (8) وترجيلها. (9) وتركها شعثة إيهاما للزهد. (10) والنظر إليها إعجابا. اهـ. فوائد: (أ) قال النووي في شرح المهذب: وأما الأخذ من الحاجبين إذا طالا فلم أر فيه شيئا لأصحابنا، وينبغي أن يكره، لأنه تغيير لخلق الله لم يثبت فيه شيء فكره، وذكر بعض أصحاب أحمد أنه لا بأس به، قال: وكان أحمد يفعله.

(ب) قال الغزالي: يكره أن يزيد في شعر العذارين من شعر الصدغين إذا حلق. (جـ) وقال: ويكره نتف جانبي العنفقة. (د) اختار ابن عرفة جواز إزالة شعر الخدين. (هـ) استحب بعض الفضلاء قص شعر الأنف، لا نتفه. (و) قال النووي: قال أصحابنا: يستحب ترجيل الشعر ودهنه غبا، لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان له شعر فليكرمه" رواه أبو داود. سابعا: غسل البراجم قال النووي: وهي سنة مستقلة، ليست مختصة بالوضوء، أي من السنة غسلها في الوضوء والغسل والتنظيف العام، ثم قال: قال العلماء: ويلحق بالبراجم ما يجتمع من الوسخ في معاطف الأذنين، وهو الصماخ، فيزيله بالمسح. لأنه ربما أضرت كثرته بالسمع، وكذلك ما يجتمع في داخل الأنف (ويمكن أن يدخل في خصلة الاستنشاق والاستنثار الواردة ضمن خصال الفطرة) وكذلك جميع الوسخ المجتمع على أي موضع كان من البدن بالعرق والغبار، ونحوها. اهـ. ثامنا: انتقاص الماء، وفسره الراوي بالاستنجاء، وفسره بعض العلماء بالانتضاح، بمعنى أن يأخذ قليلا من الماء فينضح به مذاكيره بعد الوضوء لينفي عنه الوسواس. قال الخطابي: انتضاح الماء الاستنجاء به، فعلى هذا هو والاستنجاء خصلة واحدة، وعلى الأول هو غيره ويشهد له ما أخرجه أصحاب السنن عن سفيان بن الحكم عن أبيه، أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ: ثم أخذ حفنة من ماء، فانتضح بها، وأخرج البيهقي من طريق سعيد بن جبير أن رجلا أتى ابن عباس، فقال: إني أجد بللا إذا أصلي؟ فقال له ابن عباس: انضح بماء فإذا وجدت من ذلك شيئا فقل: هو منه. اهـ. (ملحوظة) أما السواك والمضمضة والاستنشاق فقد سبق الكلام عنها قريبا. والله أعلم. هذا ونختم هذا الموضوع بما قاله الحافظ ابن حجر في الفتح، إذ قال: ويتعلق بهذه الخصال مصالح دينية ودنيوية تدرك بالتتبع، منها تحسين الهيئة وتنظيف البدن جملة وتفصيلا، والاحتياط للطهارتين، والإحسان إلى المخالط والمقارن بكف ما يتأذى به من رائحة كريهة، ومخالفة شعار الكفار من المجوس واليهود والنصارى وعباد الأوثان، وامتثال أمر الشارع، والمحافظة على ما أشار إليه قوله تعالى: {وصوركم فأحسن صوركم} [غافر: 64] لما في المحافظة على هذه الخصال من مناسبة ذلك، وكأنه قيل: قد حسنت صوركم، فلا تشوهوها بما يقبحها، أو حافظوا على ما يستمر به حسنها، وفي المحافظة عليها محافظة على المروءة، وعلى التآلف المطلوب، لأن الإنسان إذا بدا في الهيئة الجميلة، كان أدعى لانبساط النفس إليه، فيقبل قوله، ويحمد رأيه، والعكس بالعكس. اهـ. والله أعلم

(121) باب الاستنجاء وآداب قضاء الحاجة

(121) باب الاستنجاء وآداب قضاء الحاجة 461 - عن سلمان رضي الله عنه قال: قيل له: قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء. حتى الخراءة. قال، فقال: أجل. لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول. أو أن نستنجي باليمين. أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار. أو أن نستنجي برجيع أو بعظم. 462 - عن سلمان رضي الله عنه قال: قال لنا المشركون: إني أرى صاحبكم يعلمكم. حتى يعلمكم الخراءة. فقال: أجل. إنه نهانا أن يستنجي أحدنا بيمينه. أو يستقبل القبلة. ونهي عن الروث والعظام. وقال "لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار". 463 - عن جابر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتمسح بعظم أو ببعر. 464 - عن أبي أيوب رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها، ببول ولا غائط. ولكن شرقوا أو غربوا". قال أبو أيوب: فقدمنا الشام. فوجدنا مراحيض قد بنيت قبل القبلة. فننحرف عنها ونستغفر الله؟ قال: نعم. 465 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال "إذا جلس أحدكم على حاجته، فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها". 466 - عن واسع بن حبان قال: كنت أصلي في المسجد. وعبد الله بن عمر مسند ظهره إلى القبلة. فلما قضيت صلاتي انصرفت إليه من شقي. فقال عبد الله: يقول ناس: إذا قعدت للحاجة تكون

لك، فلا تقعد مستقبل القبلة ولا بيت المقدس. قال عبد الله: ولقد رقيت على ظهر بيت. فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدا على لبنتين مستقبلا بيت المقدس، لحاجته. 467 - عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال: رقيت على بيت أختي حفصة. فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدا لحاجته، مستقبل الشام، مستدبر القبلة. 468 - عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول. ولا يتمسح من الخلاء بيمينه. ولا يتنفس في الإناء". 469 - عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا دخل أحدكم الخلاء فلا يمس ذكره بيمينه". 470 - عن أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتنفس في الإناء. وأن يمس ذكره بيمينه. وأن يستطيب بيمينه. 471 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحب التيمن في طهوره إذا تطهر. وفي ترجله إذا ترجل. وفي انتعاله إذا انتعل. 472 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيمن في شأنه كله. في نعليه، وترجله، وطهوره. 473 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "اتقوا اللعانين" قالوا: وما اللعانان يا رسول الله؟ قال "الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم". 474 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل حائطا. وتبعه غلام معه

ميضأة. هو أصغرنا. فوضعها عند سدرة. فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته. فخرج علينا وقد استنجى بالماء. 475 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الخلاء. فأحمل أنا، وغلام نحوي، إداوة من ماء. وعنزة. فيستنجي بالماء. 476 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبرز لحاجته. فآتيه بالماء. فيتغسل به. 477 - عن همام قال بال جرير ثم توضأ ومسح على خفيه فقيل تفعل هذا؟ فقال نعم، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه. قال الأعمش قال إبراهيم كان يعجبهم هذا الحديث لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة. 478 - عن الأعمش في هذا الإسناد بمعنى حديث أبي معاوية غير أن في حديث عيسى وسفيان قال "فكان أصحاب عبد الله يعجبهم هذا الحديث لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة" 479 - عن حذيفة رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم. فانتهى إلى سباطة قوم. فبال قائما. فتنحيت. فقال "ادنه" فدنوت حتى قمت عند عقبيه. فتوضأ، فمسح على خفيه. 480 - عن أبي وائل قال: كان أبو موسى يشدد في البول. ويبول في قارورة ويقول: إن بني إسرائيل كان إذا أصاب جلد أحدهم بول قرضه بالمقاريض. فقال حذيفة:

لوددت أن صاحبكم لا يشدد. هذا التشديد فلقد رأيتني أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نتماشى. فأتى سباطة خلف حائط. فقام كما يقوم أحدكم. فبال. فانتبذت منه. فأشار إلي فجئت. فقمت عند عقبه حتى فرغ. -[المعنى العام]- كان العرب في جاهليتهم تغلب عليهم البداوة، وتتسم حياتهم بالانسياب مع الطبيعة والبساطة، يتبرز الراعي منهم خلف غنمه أو بقره أو إبله، والزارع في مزرعته، ولا يخرج من بالبلدة إلى الخلاء وتخرج النساء لحاجتها ليلا إلى الصحراء، ويتلمس الماشي في شوارعها خرابة أو مزبلة، يقضي فيها بوله، وفي جميع هذه الحالات لا يكادون يعرفون الاستنجاء بالماء، لعدم وجوده تارة ولصعوبة حمله تارة أخرى. وجاء الإسلام، دين النظافة، دين الاجتماع، دين الشعور المرهف، دين الإنسانية والحياء، لم يشأ أن يطلب إليهم بناء الكنف والمراحيض، لأنهم لم يألفوا الرائحة الكريهة في بيوتهم التي لم تكن تضم غالبا إلا حجرة واحدة، فشرع آداب قضاء الحاجة بقطع النظر عن مكانها، وعجب الكفار من محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به الإسلام، فقال قائلهم لسلمان الفارسي مستهزئا "علمكم نبيكم كل شيء حتى أمور الخراءة؟ " ولم يعبأ سلمان بسخريته بل أجاب بكل فخر واعتزاز: نعم. علمنا كل شيء، حتى ما ينبغي أن نكون عليه عند قضاء الحاجة علمنا احترام القبلة وتقديسها، وتنزيهها عن أن نستقبلها أو نستدبرها ببول أو غائط، وعلمنا أن نحافظ على نظافة يميننا لطعامنا وشرابنا، وأن نجعل الشمال لاستنجائنا، ودعانا إلى النظافة والتخلص من آثار فضلاتنا، وأن نتتبع كلا من مخرج البول والغائط بثلاثة أحجار على الأقل، بل علمنا أن لا نستخدم في هذا الإنقاء العظم والروث والبعر وكل رجيع. ورغم المشقة في تنفيذ هذه التعليمات بحكم البيئة، فقد حافظ عليها المسلمون وحرصوا على القيام بها بكل عناية، حتى يوم أن قدموا الشام واضطروا إلى قضاء الحاجة بالمراحيض، ووجدوها في بنائها مستقبلات للقبلة أو مستدبرات، كان الواحد منهم ينحرف عند الجلوس عن الاستقبال والاستدبار، حتى إذا فرغ استغفر الله مما عساه يكون قد قصر فيه. ورأى بعض الغيورين على سماحة الإسلام أن في هذا تشددا لا يقصده الدين في تشريعاته فدعا إلى التيسير، وبين أن النهي عن استقبال القبلة أو استدبارها ليس على سبيل الحرمة والإلزام، بل على سبيل التنزيه وعدم قصد الإهانة والتحقير، وعلى رأس هؤلاء الميسرين كان عبد الله بن عمر الذي حكى أنه صعد يوما بيت أخته حفصة، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقام حائطا قصيرا من الطوب، وأعد حفرة لبوله وغطائه هو ونساؤه ليحجبهن عن الصحراء، ووجده وقد جلس يقضي حاجته على لبنتين وقد استدبر القبلة. ولم يقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما ذكرنا من آداب قضاء الحاجة، بل نهي عن مس الذكر باليمين، وعن الاستنجاء باليمين، وعن البول قائما، وعن البول في الماء الراكد، وعن البول في طريق الناس، أو في ظلهم، وحث على الاستنجاء بالماء، وعلى التستر عند قضاء الحاجة، والابتعاد عن أعين الناس،

وحذر من التساهل في البول وآثاره، وشدد على التنزه منه، وبين أنه من أسباب عذاب القبر، لأن التساهل فيه يؤدي إلى نجاسة الثوب والبدن، فلا تصح معها الصلاة كما نهي في أحاديث كثيرة عن خروج الرجلين معا إلى الخلاء، وعن خروج المرأتين كذلك يكلم بعضهما بعضا على البول والغائط، وعن الأكل والشرب أو الكلام أو الذكر أثناء قضاء الحاجة، ونهي عن إدخال المصحف وكتب العلم إلى مكان قضاء الحاجة، وسن ذكرا خاصا عند الدخول، وآخر عند الخروج، اعترافا بنعمة الله وشكرا له جل شأنه على آلائه، وعلى الفضل الذي لا يحس به إلا من فقده أو أصيب فيه. وهكذا نجد الإسلام في صورته المشرقة، وآدابه الراقية، التي تصل بالإنسانية إلى أعلى الدرجات في المجتمعات الحضارية، وإلى أسمى معالم الإحساس والحياء. -[المباحث العربية]- (عن سلمان قال: قيل له) هو سلمان الفارسي رضي الله عنه، وكان الأصل أن يقول: قيل لي، لكنه جرد من نفسه شخصا حكى عنه، والقائل له أحد المشركين، كما سيأتي في الرواية الثانية. (قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة) قصد بهذا القول السخرية والاستهزاء وعدم الاستحياء، وكان من حق سلمان أن يهدد أو يؤنب أو يسكت عن جوابه إهمالا له، لكنه تجاهل قصده، ورد سهمه في نحره، وأنزله منزلة المسترشد على طريقة الأسلوب الحكيم، كأنه يقول له: إن موقف السخرية والاستهزاء لا يليق بالعقلاء، وإنه كان الأجدر بك أن تسأل على سبيل الجد والاستفهام، لأجيبك بأجل، و"حتى" حرف عطف لإفادة الغاية و"الخراءة" بكسر الخاء وتخفيف الراء اسم لهيئة الحدث، أي فعل التغوط معطوف على "كل شيء"، وأما ما يخرج من الدبر فهو بحذف التاء مع المد وفتح الخاء وكسرها. (قال: فقال: أجل) أي قال سلمان: فقال سلمان: أجل، وكان الأصل: قال: فقلت: أجل، أي نعم. علمنا كل شيء نحتاج إليه في ديننا، حتى الخراءة التي ذكرتها أيها المستهزئ، فإنه علمنا آدابها. و"أجل" بتخفيف اللام مثل "نعم" حرف جواب. قال الأخفش: هي أحسن من نعم في الخبر، و"نعم" أحسن منها في الاستفهام، وهما معا حرفا تصديق في الثبوت والنفي. (لقد نهانا أن نستقبل القبلة) اللام في جواب قسم محذوف، لتأكيد الجملة لمناسبة إنكار السائل، و"أن" وما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف أي نهانا عن استقبال القبلة، و"أل" في القبلة للعهد، والمراد بها الكعبة. (لغائط أو بول) قال النووي: كذا ضبطه في مسلم "لغائط" باللام، وروي في غيره "بغائط" كما روي "بالغائط" بالباء واللام. والغائط كناية عن إخراج الفضلات من الدبر، وهو في الأصل المنخفض من الأرض في الفضاء، ومنه قيل لموضع قضاء الحاجة، لأنهم كانوا يقصدونه للتستر فيه، وعدم التعرض لكشف الثياب بفعل الريح. ثم اتسع فيه، حتى صار يطلق على الخارج المعروف من دبر الآدمي.

(وأن نستنجي باليمين) المصدر مجرور بحرف جر محذوف، معطوف على المصدر قبله، مسلط عليه النهي أيضا. أي ونهانا عن الاستنجاء باليد اليمنى، والاستنجاء إزالة الأذى عن المحل بالماء، مأخوذ من نجوت العود إذا قشرته، لأن فيه تقشير النجاسة وتنحيتها كما تنحى القشرة عن العود. (أو أن نستنجي برجيع أوعظم) الرجيع هو الروث والعذرة، ونبه به على كل نجس فإنه يزيد المحل نجاسة. (قال لنا المشركون: إني أرى صاحبكم يعلمكم) قال النووي: هكذا هو في الأصل. وهو صحيح، وتقديره: قال لنا قائل المشركين. أو أنه أراد واحدا من المشركين، وجمعه لكون باقيهم يوافقونه. اهـ. ومفعول "يعلمكم" الثاني محذوف، تقديره: يعلمكم كل شيء، كما جاء في الرواية الأولى. وجملة "يعلمكم" في محل المفعول الثاني لأرى على أنها علمية، والتقدير: إني أرى صاحبكم معلما إياكم كل شيء. (أو يستقبل القبلة) في الكلام حذف مفهوم من المقام، أي نهانا عن أن يستقبل أحدنا القبلة عند قضاء الحاجة. (ونهي عن الروث والعظام) في الكلام مضاف محذوف أي نهي عن استعمال الروث والعظام في الاستجمار. (وقال: لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار) "لا" نافية، والفعل "يستنجي" مرفوع، والنفي أبلغ من النهي، إذ يصور أن الفعل امتثل، وأصبح يخبر عنه. (نهى أن يتمسح بعظم أو ببعر) "البعر" بسكون العين وفتحها، وهو رجيع ذي الخف والظلف، واحدته بعرة، أما "الروث" فقد قال التيمي: إنما تكون للخيل والبغال والحمير، فالرجيع أعم من الروث والبعر. (إذا أتيتم الغائط) "أتيتم" من الإتيان، وهو المجيء، والظاهر أن المراد من "الغائط" المعنى الأصلي، أي المكان المنخفض المقصود بقضاء الحاجة. (ولا تستدبروها ببول ولا غائط) في الكلام مضاف محذوف، أي تستدبروها بإنزال بول ولا بإنزال غائط، والمراد من الغائط هنا الفضلة الخارجة. (ولكن شرقوا أو غربوا) أي اتجهوا ناحية المشرق، أو ناحية المغرب والخطاب لأهل المدينة، وقبلتهم في الجنوب، فلو اتجهوا جنوبا استقبلوا القبلة ولو اتجهوا شمالا استدبروها، ويلحق بهم من كانت قبلتهم على ذلك السمت أما من كانت قبلتهم إلى جهة المشرق أو المغرب، فإنهم لا يشرقون ولا يغربون بل يتيامنون أو يتشاءمون.

(فوجدنا مراحض) جمع مرحاض، وهو البيت المتخذ لقضاء الحاجة، ويقال له: الكنيف والخلاء، والمرفق، والحش مثلثة الحاء، لأنهم كانوا يقضون حاجاتهم في البساتين. (قد بنيت قبل القبلة) أي يكون الجالس فيها متجها نحو القبلة. (فننحرف عنها) أي فكنا ننحرف ونميل عن جهة القبلة قدر استطاعتنا. (ونستغفر الله) من اتجاهنا هذا الذي اضطررنا إليه، أو نستغفر الله للبانين الذين أخطئوا في وضع هذا البناء. (قال: نعم) أي قال سفيان ليحيى بن يحيى، ردا على سؤاله: نعم سمعت الزهري يذكر عن عطاء عن أبي أيوب هذا الحديث. (إذا جلس أحدكم على حاجته) ذكر الجلوس لكونه الغالب، وإلا فحكم القيام كذلك، وقوله: "على حاجته" كناية عن التبرز وإخراج الفضلات. (كنت أصلي في المسجد) أل في "المسجد" للعهد، والمراد المسجد النبوي بالمدينة. (انصرفت إليه في شقي) بكسر الشين والقاف المشددة. (ولقد رقيت على ظهر بيت) "رقيت" بكسر القاف هي اللغة الفصيحة وحكي فيها فتح القاف، مع الياء أو مع الهمزة، والمعنى صعدت، والمراد من البيت بيت أخته حفصة كما جاء في الرواية التالية. (قاعدا على لبنتين) مثنى "لبنة" بفتح اللام وكسر الباء، ويجوز إسكان الباء مع فتح اللام وكسرها، وهي ما يصنع من الطين للبناء، قبل أن يحرق. (ولا يتمسح من الخلاء بيمينه) أصل "الخلاء" بفتح الخاء الموضع الخالي وسمي به موضع الحاجة لأنهم كانوا يقصدونه عندها، والمراد من الخلاء هنا -كما يقول النووي- الغائط وليس التقييد بالخلاء للاحتراز عن البول، بل هما سواء. اهـ. والمراد من التمسح المسح، وصيغة التفعل للتكلف، أي لا يتكلف المسح باليمين، أي لا يستنجى باليمين. (إذا دخل أحدكم الخلاء) المراد من الخلاء هنا موضع قضاء الحاجة. (فلا يمس ذكره بيمينه) يقال: مسست الشيء بالكسر، أمس مسا. هذه اللغة الفصيحة، وحكى أبو عبيدة: مسسته بالفتح، أمسه بالضم. (وأن يستطيب بيمينه) في القاموس: واستطاب استنجى كأطاب. اهـ. (إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحب التيمن) "إن" مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن والحال، والمراد بالتيمن البدء باليمين.

(وفي ترجله إذا ترجل) أي ترجيل شعره، وهو تسريحه ودهنه، قال في المشارق: رجل شعره، إذا مشطه بماء أو دهن ليلين. اهـ. (يحب التيمن .. في نعليه) أي هيئة تنعله ولبسه نعليه. (اتقوا اللعانين) قال النووي: كذا وقع في مسلم، ووقع في رواية أبي داود "اتقوا اللاعنين" والروايتان صحيحتان، قال الخطابي: المراد باللاعنين الأمران الجالبان للعن الحاملان الناس عليه، والداعيان إليه، وذلك أن من فعلهما شتم ولعن، يعني عادة الناس لعنه، فلما صارا سببا لذلك أضيف اللعن إليهما: قال: وقد يكون اللاعن بمعنى الملعون، والملاعن مواضع اللعن. اهـ. قال النووي: فعلى هذا يكون التقدير: اتقوا الأمرين الملعون فاعلهما، وهذا على رواية أبي داود، وأما على رواية مسلم فمعناها -والله أعلم- اتقوا فعل اللعانين، أي صاحبي اللعن، وهما اللذان يلعنهما الناس في العادة. اهـ. وعندي أن رواية مسلم بمعنى رواية أبي داود، غاية الأمر أن رواية أبي داود على صيغة اسم الفاعل، ورواية مسلم على صيغة المبالغة وهي بمعنى اسم الفاعل مع إرادة الكثرة، وما قيل في توجيه رواية أبي داود يقال في توجيه رواية مسلم، والله أعلم. (دخل حائطا) أي بستانا. (وتبعه غلام) قال الخليل: الغلام هو الذي طر شاربه، وقال الزمخشري: هو الصغير إلى حد الالتحاء، فإن أجرى عليه بعد ما صار ملتحيا اسم الغلام فهو مجاز. قالت ليلى الأخيلية في الحجاج: غلام إذا هز القناة تباهيا والمراد من الغلام هنا في الحديث أبو هريرة، وقيل: ابن مسعود، وقيل: جابر. (معه ميضأة) بكسر الميم، وهي الإناء الذي يتوضأ به، كالإبريق. (هو أصغرنا) قيل في السن، وقيل في الوصف والحال، لقرب العهد بالإسلام، والأول هو الظاهر. (فوضعها عند سدرة) أي فوضع الميضأة عند شجرة نبق. (فأحمل أنا وغلام نحوي) أي مقارب لي في السن. (إداوة من ماء) الإداوة بكسر الهمزة إناء صغير من جلد، وقوله "من ماء" أي مملوءة من ماء. (وعنزة) بفتح العين والنون والزاي، وهي عصا طويلة، في أسفلها زج أي سنان، ويقال رمح قصير. (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبرز لحاجته) "يتبرز" يأتي البراز بفتح الباء، وهو المكان الواسع الظاهر من الأرض ليخلو لحاجته، ويتستر، ويبعد عن أعين الناظرين. قاله النووي. وقال الحافظ ابن

حجر: والبراز موجه لأن يطلق بكسر الباء على نفس الخارج، فمن فتح أراد الفضاء، فإن أطلقه على الخارج فهو من إطلاق اسم المحل على الحال، كما تقدم مثله في الغائط، ومن كسر أراد نفس الخارج. اهـ. (فيغتسل به) معناه: فيستنجي به، ويغسل محل الاستنجاء. (فقيل: تفعل هذا)؟ الكلام على تقدير حرف الاستفهام والمشار إليه المسح على الخفين، بدل غسل الرجلين، وسيأتي الموضوع في الباب التالي. (فانتهى إلى سباطة قوم) "السباطة" بضم السين وتخفيف الباء، وهي ملقى القمامة والتراب والكناسة، وهي المزبلة، تكون بفناء الدور مرفقا لأهلها، كما تكون خارجها بجوار جدارها. والثاني هو المراد هنا، وتكون في الغالب سهلة لا يرتد فيها البول على البائل. (فتنحيت. فقال: أدنه) أي ابتعدت. والهاء في "أدنه" للسكت. (كان أبو موسى يشدد في البول) أي يشدد في التحذير من رشاش البول، ويشدد في كيفية التبول. (ويبول في قارورة) زيادة في التشدد والحذر. (إن بني إسرائيل كان إذا أصاب جلد أحدهم بول قرضه بالمقاريض) قال القرطبي: مراده بالجلد واحد الجلود التي كانوا يلبسونها وحمله بعضهم على ظاهره، وزعم أنه من الإصر الذي حملوه، ويؤيده رواية أبي داود، ففيها "كان إذا أصاب جسد أحدهم" لكن رواية البخاري صريحة في الملابس، إذ فيها "إذا أصاب ثوب أحدهم" والمراد من القرض هنا القطع، لا الغسل، والمقاريض جمع مقراض وهو المقص، وفائدة ذكره دفع حمل القرض على الغسل بالماء. (فانتبذت منه) أي فانتحيت جانبا بعيدا عنه. -[فقه الحديث]- تتناول هذه المجموعة النقاط التالية: 1 - حكم استقبال القبلة أو استدبارها ببول أو غائط، وحكمته، وأدلته. 2 - حكم الاستجمار بالأحجار، والاستنجاء بالماء، وكيفيته، وحكمة مشروعيته. 3 - حكم الاستنجاء وعدم مس الذكر باليمين، وحكمته. 4 - حكم التيامن في الأمور، وبيان ما يتناول بالشمال. 5 - حكم التبرز في طريق الناس أو في ظلهم. 6 - حكم البول قائما، وحكمته، وأدلته. 7 - ما يؤخذ من الأحاديث من حكم وأحكام أخرى.

8 - آداب أخرى لقاضي الحاجة لم تذكر في أحاديثنا. وهذا هو التفصيل: أولا: حكم استقبال القبلة أو استدبارها ببول أو غائط، وحكمته، وأدلته: قبل الكلام على حكم استقبال القبلة أو استدبارها نوضح أن أماكن قضاء الحاجة إما صحراء خالية من ساتر، وإما صحراء مع الساتر، وإما فضاء دون ساتر داخل المدن كالأسطح والميادين، وإما بناء غير معد لقضاء الحاجة داخل المدن، وإما مرحاض معد لذلك داخل المدن أو خارجها. وقد اختلف الفقهاء في الحكم على مذاهب: الأول: تحريم استقبال القبلة، أو استدبارها ببول أو غائط مطلقا، في صحراء أو في غيرها، في بنيان أو غير بنيان، حتى المراحيض المعدة لذلك، وهو المشهور عن أبي حنيفة وأحمد، وقال به أبو ثور صاحب الشافعي، ورجحه من المالكية ابن العربي، ومن الظاهرية ابن حزم، وهو مذهب مجاهد وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري، وهو مذهب أبي أيوب الأنصاري راوي الرواية الرابعة في مجموعة أحاديثنا. وحجتهم عموم النهي "نهانا أن نستقبل القبلة، لغائط أو بول". إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة، ولا تستدبروها ببول ولا غائط، ولكن شرقوا أو غربوا". "إذا جلس أحدكم على حاجته فلا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها" فهذه الأحاديث كلها تدل على العموم؛ ولم يصححوا حديث جابر، ولفظه عند أحمد "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نستدبر القبلة أو نستقبلها بفروجنا إذا هرقنا الماء؛ قال: ثم رأيته قبل موته بعام يبول مستقبل القبلة" وادعوا الخصوصية للرسول صلى الله عليه وسلم بالنسبة لحديث ابن عمر في روايتيه السادسة والسابعة. وقالوا: إن المنع لأجل تعظيم القبلة، وهو موجود في الصحراء والبنيان فالجواز في البنيان إن كان لوجود الحائل فهو موجود في الصحراء لأن بينها وبين الكعبة جبالا وأودية وغير ذلك. الثاني: جواز استقبال القبلة أو استدبارها بالبول والغائط مطلقا؛ وهو قول عائشة وعروة وربيعة وداود، واعتلوا بأن الأحاديث تعارضت فليرجع إلى أصل الإباحة. واستندوا إلى حديث جابر المروي عن أحمد، وحديث ابن عمر المذكور في الروايتين السادسة والسابعة، قالوا: ودعوى الخصوصية لا دليل عليها، والخصوصيات لا تثبت بالاحتمال. كما استدلوا بحديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن أناسا يكرهون استقبال القبلة بفروجهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أو قد فعلوها؟ حولوا بمقعدي" أي إلى القبلة. رواه أحمد في مسنده وابن ماجه. وإسناده حسن. بل قيل: إنهم ذهبوا إلى أن الأحاديث التي استند إليها الفريق الأول منسوخة بما ذكروه. الثالث: تحريم استقبال القبلة أو استدبارها ببول أو غائط في الصحراء دون البنيان وهو مذهب مالك والشافعي وإسحق، وأحمد في إحدى روايتيه. واحتجوا بحديث ابن عمر، فإنه يدل على جواز استدبار القبلة في الأبنية وبحديث جابر، فإنه

يدل على جواز استدبار القبلة، وهو محمول على أنه رآه في بناء أو نحوه، لأن ذلك هو المعهود من حاله صلى الله عليه وسلم، لمبالغته في التستر، وبحديث مروان الأصفر: قال: رأيت ابن عمر رضي الله عنه أناخ راحلته مستقبل القبلة، ثم جلس يبول إليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن، أليس قد نهي عن هذا؟ فقال: بلى. إنما هي عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس. رواه أبو داود وغيره. قال النووي: فهذه أحاديث صحيحة، مصرحة بالجواز في البنيان، وحديث أبي أيوب وسلمان وأبي هريرة وغيرهم وردت بالنهي، فيحمل على الصحراء ليجمع بين الأحاديث، ولا خلاف بين العلماء أنه إذا أمكن الجمع بين الأحاديث لا يصار إلى ترك بعضها، بل يجب الجمع بينها والعمل بجميعها، وقد أمكن الجمع على ما ذكرناه، فوجب المصير إليه، وفرقوا بين الصحراء والبنيان من حيث المعنى بأنه يلحقه المشقة في البنيان في تكليفه ترك القبلة بخلاف الصحراء. اهـ. وقال الحافظ ابن حجر عن هذا الرأي: هو أعدل الأقوال لإعماله جميع الأدلة، ويؤيده من جهة النظر ما قاله ابن المنبر من أن استقبال القبلة إنما يتحقق في الفضاء، وأما الجدار والأبنية فإنها إذا استقبلت أضيف إليها الاستقبال عرفا. اهـ. نعم ذهب بعض المالكية إلى التفرقة في البنيان، فأجازوا الاستقبال والاستدبار في المرحاض ومنعوه في غيره من المباني. واشترط بعض الشافعية وبعض المالكية لجواز الاستقبال والاستدبار في البنيان شروطا منها: أن يكون قريبا من الساتر بحيث يكون بينه وبينه ثلاثة أذرع فما دونها، وأن يكون الحائل مرتفعا بحيث يستر أسافل الإنسان، وإلا فهو حرام كالصحراء. إلا إذا كان في بيت بني لذلك، فلا حجر فيه كيف كان. وقال بعضهم: ولو كان في الصحراء وتستر بشيء على الشرط المذكور زال التحريم، ولا فرق بين أن يكون الساتر دابة أو جدارا أو وهدة أو كثيب رمل أو جبلا فالاعتبار بوجود الساتر المذكور وعدمه، فيحل في الصحراء والبنيان بوجوده، ويحرم لعدمه. وبعضهم يعتبر الصحراء والبنيان مطلقا، ولا يعتبر الحائل، فيبيح في البنيان بكل حال، ويحرم في الصحراء بكل حال. الرابع: أنه لا يجوز الاستقبال في الأبنية والصحراء، ويجوز الاستدبار فيهما وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة وأحمد رحمهما الله. وحجتهم حديث ابن عمر، فإنه يدل على جواز استدبار القبلة، وحديث سلمان بروايتيه الأولى والثانية فإن النهي فيهما عن استقبال القبلة، ولا تعرض فيهما لاستدبارها. وهذه الأقوال الأربعة أو المذاهب الأربعة هي المشهورة عن العلماء ولم يحك النووي في شرح المهذب غيرها.

قال الحافظ ابن حجر: وفي المسألة ثلاثة مذاهب أخرى، منها: 1 - جواز الاستدبار في البنيان فقط، وهو قول أبي يوسف. 2 - وتحريم الاستقبال والاستدبار للقبلة ولبيت المقدس، وهو محكي عن إبراهيم وابن سيرين عملا بحديث معقل الأسدي "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلتين ببول أو بغائط" رواه أبو داود وغيره، وضعفه الحافظ ابن حجر، ثم قال: وقد ادعى الخطابي الإجماع على عدم تحريم استقبال بيت المقدس لمن لا يستدبر في استقباله الكعبة قال: وفيه نظر لما ذكرناه عن إبراهيم وابن سيرين. اهـ. 3 - وقالت المذاهب غير المشهورة إن التحريم مختص بأهل المدينة ومن كان على سمتها، فأما من كانت قبلته في جهة المشرق أو المغرب فيجوز له الاستقبال والاستدبار مطلقا، لعموم قوله: "شرقوا أو غربوا" قاله أبو عوانة صاحب المزني. اهـ. ولا يفوتني في هذا المقام أن أوضح المراد باستقبال القبلة واستدبارها هل هو عين الكعبة أو وجهتها؟ فأنقل ما ذكره العيني عن بعضهم أنه قال: البيت قبلة لمن في المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لسائر أهل الأرض. اهـ. لكن ظاهر الحديث أن المقصود الجهة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أباح لهم قضاء الحاجة في جهة المشرق والمغرب، فيكون معناه أن لا قبلة ما بينهما، وقد روى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما بين المشرق والمغرب قبلة" قاله بالنسبة لأهل المدينة، وقال ابن عمر: إذا جعلت المغرب عن يمينك، والمشرق عن يسارك، فما بينهما قبلة. والرأي عندي -بعد هذا العرض الواضح لمذاهب العلماء- أن قصد استقبال القبلة أو استدبارها ببول أو غائط حرام، سواء كان بالصحراء أو بالمرحاض في جوف المدينة، وأما مع عدم القصد فليس حراما ولو كان في الصحراء، والسين والتاء في "استقبل" و"استدبر" للطلب، فطلب كونها قبل وجهه، أو طلب كونها خلف دبره هو المحرم، لما في ذلك من إهانة ما يجب تعظيمه، نعم الأولى عند عدم القصد اجتناب الاستقبال والاستدبار حيث أمكن وحيث خطر بالبال، كما أن الأولى لمن يبني مكانا لقضاء الحاجة أن يجعل وضعه في غير استقبال أو استدبار، خروجا من الخلاف، ورفعا لتوهم المتوهمين، وما يقال في القبلة يقال في المصحف الكريم، وفي القبر النبوي الشريف. وأعتقد أن النهي عن استقبال القبلة بالبول والغائط قصد منه تعظيم القبلة وتقديسها في نفوس المسلمين، وصيانتها عن قصدها بالخبائث، وإلا فكيف نفهم استقبالها بالغائط، وهو ينزل من أعلى إلى أسفل، ولا يوصف بمواجهة ولا استدبار، ولا بيمين أو يسار. ولا يقال: إننا نصونها عن استقبالها بالقبل والدبر، لأنه إن أريد مع الساتر فإننا نستقبل بهما الحجر الأسود في الطواف وليس علينا إلا الإزار، وإن أريد مع الكشف فإن من قال بالحرمة لم يمنع الاغتسال عريانا مستقبل القبلة، بل قال: إذا تجنب استقبال القبلة واستدبارها حال خروج البول والغائط، ثم أراد الاستقبال أو الاستدبار حال الاستنجاء جاز. قاله النووي في شرح مسلم،

ثم قال: ويجوز الجماع مستقبل القبلة في الصحراء والبنيان، هذا مذهبنا ومذهب أبي حنيفة وأحمد وداود الظاهري، واختلف فيه أصحاب مالك، فجوزه ابن القاسم، وكرهه ابن حبيب، والصواب الجواز. اهـ. إذن الهدف الإسلامي للتوجه نحو الكعبة في الأمور المحمودة، كالدعاء والاستغفار وقراءة القرآن، وعدم قصدها في الأحوال المستقبحة كالبول والغائط وممارسة سائر النجاسات. والله أعلم. ثانيا: حكم الاستجمار بالأحجار، والاستنجاء بالماء، وكيفيته، وحكمة مشروعيته: أما عن الاستنجاء بالأحجار فتقول الرواية الأولى "لقد نهانا ... أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو عظم" وتقول الرواية الثانية "ونهى عن الروث والعظام، وقال: لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار" وظاهر هاتين الروايتين أن الثلاثة شرط وإن حصل الإنقاء بواحدة، وبهذا قال الشافعية والحنابلة وإسحق وأبو ثور، وتؤيدهم أحاديث أخرى صحيحة ففي البخاري عن ابن مسعود "فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار" وعن أبي هريرة "ولا يستنجى بدون ثلاثة أحجار" وعن عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن" رواه ابن ماجه وأحمد. وقالوا: لابد في الاستنجاء بالأحجار من إزالة عين النجاسة واستيفاء ثلاث مسحات فلو مسح مرة أو مرتين فزالت عين النجاسة وجب مسحة ثالثة. وقالوا: لو كان القصد الإنقاء فقط لخلا اشتراط العدد عن الفائدة، فلما اشترط العدد لفظا، وعلم الإنقاء فيه معنى، دل على إيجاب الأمرين. وقالوا: ولو استنجى بحجر له ثلاثة أحرف، ومسح بكل حرف مسحة أجزأه، لأنه حينئذ يقوم مقام ثلاثة أحجار في عدد المسحات، وإن كانت الأحجار الثلاثة أفضل من حجر له ثلاثة أحرف، وللقبل ثلاثة أحجار، وللدبر ثلاثة أحجار، إذا حصل الإنقاء بها، فإن لم يحصل الإنقاء بها وجب رابع، فإن حصل الإنقاء به استحب الإيتار بخامس، وهكذا يجب الإنقاء مهما زاد ويستحب الإيتار لحديث "ومن استجمر فليوتر". وذهب المالكية والحنفية إلى أن الشرط الإنقاء فقط، ولو حصل بحجر واحد ومسحة واحدة أجزأ، وقالوا: إن الأحاديث المذكورة محمولة على الندب مبالغة في الإنقاء، لأن الثلاثة أكثر ما تستعمل غالبا، وقلما تكفي الواحدة. وقالوا: إن أحاديث الأمر بثلاثة أحجار متروكة الظاهر عند المستدلين بها لأنهم يجيزون حجرا واحدا بثلاثة أحرف. واستدلوا بحديث البخاري عن عبد الله بن مسعود، وفيه "فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت

حجرين، والتمست الثالث، فلم أجده، فأخذت روثة فأتيته بها، فأخذ الحجرين، وألقى الروثة، وقال: هذا ركس". قالوا: فقوله: "فأخذ الحجرين" دليل على الاكتفاء بهما، لأنه لو كان الثالث شرطا لطلب الثالث، فحيث لم يطلب دل على كفاية ما أخذ. ورده الحافظ ابن حجر، قال: لقد ثبت فيما رواه أحمد في مسنده عن ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم طلب الحجر الثالث، وفيه "فألقى الروثة وقال: إنها ركس، إيتني بحجر" قال: ورجاله ثقات. على أنه يحتمل أن يكون قد اكتفى بالأمر الأول في طلب الثلاثة، فلم يجدد الأمر بطلب الثالث، أو اكتفى بطرف أحدهما عن الثالث. وأرى أن الخلاف هين، حيث إن الكل مجمع على شرط الإنقاء، وعلى طلب الثلاثة مع الإنقاء بواحد، لكن على سبيل الندب أو على سبيل الوجوب؟ الأمر هين، ولهذا قال بعض الشافعية بما ذهب إليه المالكية والحنفية، وقال بعض المالكية والحنفية بما ذهب إليه الشافعية، والله أعلم. هذا وقد تمسك داود بلفظ الأحجار، وقال: لا يجزئ غيرها، وذهب العلماء كافة من الطوائف كلها إلى أن الحجر ليس متعينا، بل تقوم الخرق والخشب وغير ذلك مقامه، وأن المعنى فيه كونه مزيلا، وهذا يحصل بغير الحجر: نعم اشترطوا في الخرقة أن تكون صفيقة، لا ينفذ بلل جانب إلى الجانب الآخر وإنما قال صلى الله عليه وسلم "ثلاثة أحجار" لكونها الغالب المتيسر، فلا يكون له مفهوم: فهو من قبيل تعليق الحكم على الاسم، وهو لا يدل على نفيه عن غيره عند أكثر الأصوليين، وتعليق الحكم على الاسم هو المسمى بمفهوم اللقب، ولم يقل به إلا الدقاق وبعض الحنابلة. ويدل على عدم تعيين الحجر نهيه صلى الله عليه وسلم عن العظام والبعر والرجيع ولو كان الحجر متعينا لنهي عما سواه مطلقا. قال الشافعية: والذي يقوم مقام الحجر كل جامد، طاهر، مزيل للعين، ليس له حرمة ولا هو جزء من حيوان؛ فخرج بالجامد الرطب والمبتل من حجر أو ثوب، لأنه وإن قلع الجرم فليس بغسل ولا مسح، وخرج بالطاهر النجس والمتنجس، فإنه يزيد المحل نجاسة وخرج بمزيل العين الزجاج، فإنه ينشر النجس ولا يزيله، وخرج بما ليس له حرمة، حيطان المساجد، وأوراق كتب العلم وخرج بما ليس جزءا من حيوان اليد وغيرها. وزاد بعضهم أن لا يكون مطعوما ليخرج مأكول الإنسان والحيوان، وأن لا يكون ذا سرف ليخرج الذهب والفضة والآلئ. وقد ورد في الرواية الأولى والثانية النهي عن الاستنجاء بالعظام، قال القاضي عياض: لأن العظام طعام، إذ يؤكل في الشدائد؛ ويمشش الرخو منه وقيل: لأنه لا يخلو من بقية دسم، وجوز بعض الشافعية الاستنجاء بالعظم إن كان طاهرا لا زهومة فيه، لحصول المقصود. قال النووي: ولا فرق في النجس بين المائع والجامد، فإن استنجى بنجس لم يصح استنجاؤه،

ووجب عليه بعد ذلك الاستنجاء بالماء، ولا يجزئه الحجر، لأن الموضع صار نجسا بنجاسة أجنبية، ولو استنجى بمطعوم أو غيره من المحترمات الطاهرات، فالأصح أنه لا يصح استنجاؤه، ولكن يجزئه الحجر بعد ذلك، إن لم يكن نقل النجاسة من موضعها، وقيل: إن الاستنجاء الأول يجزئه مع المعصية. وقد ذكر الحديث الرابع عشر من مجموعتنا استنجاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالماء، وفيه "فقضى حاجته، فخرج علينا، وقد استنجى بالماء" وفي الحديث الخامس عشر "فيستنجى بالماء" وفي الحديث السادس عشر "يتبرز لحاجته، فآتيه بالماء، فيغتسل به". قال النووي: يؤخذ من هذه الأحاديث جواز الاستنجاء بالماء، واستحبابه ورجحانه على الاقتصار على الحجر. قال: وقد اختلف الناس في هذه المسألة فالذي عليه الجماهير من السلف والخلف، وأجمع عليه أهل الفتوى من أئمة الأمصار أن الأفضل أن يجمع بين الماء والحجر، فيستعمل الحجر أولا لتخف النجاسة، وتقل مباشرتها بيده، ثم يستعمل الماء، فإن أراد الاقتصار على أحدهما جاز الاقتصار على الحجر مع وجود الماء، ويجوز عكسه. فإن اقتصر على أحدهما فالماء أفضل من الحجر، لأن الماء يطهر المحل طهارة حقيقية، وأما الحجر فلا يطهره، وإنما يخفف النجاسة، ويبيح الصلاة مع النجاسة المعفو عنها. اهـ. واستحب بعضهم الأحجار، وكره الاستنجاء بالماء. فقد روى ابن أبي شيبة عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه سئل عن الاستنجاء بالماء. فقال: إذا لا يزال في يدي نتن. وعن نافع أن ابن عمر كان لا يستنجي بالماء، وعن ابن الزبير قال: ما كنا نفعله. وممن ذكر عنه إنكار الماء سعد بن أبي وقاص. وقال عطاء: غسل الدبر محدث. وقال سعيد بن المسيب في الاستنجاء بالماء: إنه وضوء النساء. واختلف النقل عن مالك وابن حبيب، فبينما يذكر ابن حجر أن ابن التين نقل عن مالك أنه أنكر أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم استنجى بالماء، وعن ابن حبيب من المالكية أنه منع الاستنجاء بالماء لأنه مطعوم. نجد الأبي يقول: قال مالك وابن حبيب: إن استعمال الأحجار ترك. ويقول ابن حبيب، ولا نجيزه اليوم. ولا نفتي به إلا لمن عدم الماء، وقال: إنما اقتصروا على الأحجار لأنهم كانوا يبعرون بعيدا [أي فلا يجدون الماء] ثم قال الأبي: اختلف في قول مالك وابن حبيب هذا، فقال اللخمي: هو الحق؛ لأن أحاديث الأحجار إنما جاءت في السفر، وقد تكون لعذر. قال: والأصل في إزالة النجاسة الماء، والصلاة أولى ما احتيط لها وحمل الباجي قولهما على الندب. قال: وإلا فهو خلاف الإجماع. اهـ. وأعجب من هذا الخلاف الخلاف في حكم الاستنجاء من أساسه، فالشافعي وأحمد وأبو ثور وإسحق وأبو داود ومالك في رواية علي أنه واجب وشرط في صحة الصلاة، وروي عن مالك أنه من باب إزالة النجاسة، وإزالتها عنده سنة. وحكى عنه عبد الوهاب أنها واجبة. قال الأبي المالكي: وعلى القول بوجوبها عندنا قيل: إنها شرط في صحة الصلاة، يعيد تاركها أبدا، وقيل: شرط مع الذكر دون النسيان، وقيل: واجبة دون شرط. اهـ.

ومن قال بأنه غير شرط في صحة الصلاة استدل بما رواه أحمد وأبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من اكتحل فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج، ومن استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج" وقالوا: إنه كدم البراغيث، لأنه نجاسة لا تجب إزالة أثرها، فكذا عينيها لا يجب إزالتها بالماء فلا يجب بغيره، وقال المزني: لأنا أجمعنا على جواز مسحها بالحجر فلم تجب إزالتها كالمني، ولا يخفى أن استدلالهم بالحديث غير تام، لأنه مع ضعفه مراد برفع الحرج فيه -رفع الحرج في ترك الإيتار- وليس المراد ترك أصل الاستنجاء، بل قيل: إنه في استعمال الجمر والبخور وليس في الاستنجاء، ولا يخفى أن هذا المذهب بعيد عن نظافة الإسلام، بعيد كل البعد عن الصواب. والله أعلم. ثالثا: حكم الاستنجاء ومس الذكر باليمين، وحكمته: وقد صرحت الأحاديث بالنهي عن الاستنجاء باليمين، ومس الذكر باليمين، ففي الحديث الأول "نهانا أن نستنجي باليمين" وفي الثاني "نهانا أن يستنجى أحدنا بيمينه" وفي الثامن "لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه" وفي التاسع "إذا دخل أحدكم الخلاء فلا يمس ذكره بيمينه" وفي العاشر "نهى أن يمس ذكره بيمينه، وأن يستطيب بيمينه". وهذا النهي للتنزيه عند الجمهور، والقرينة الصارفة له عن التحريم أن ذلك أدب من الآداب، وذهب أهل الظاهر إلى أنه للتحريم، وقالوا من استنجى بيمينه أساء ولم يجزئه، وقال بعضهم: يجزئ مع الإساءة، وفي كلام جماعة من الشافعية ما يشعر به، لكن النووي صرف إشارتهم إلى الكراهة فقال: مراد من قال منهم: لا يجوز الاستنجاء باليمين أي لا يكون مباحا يستوى طرفاه، بل هو مكروه، راجح الترك. ومحل هذا الخلاف إذا كانت اليد اليمنى تباشر الاستنجاء بالماء أو بالأحجار، أما إذا باشرت المسح بنفسها فحرام غير مجزئ بلا خلاف -كما تقدم- واليسرى في ذلك كاليمنى. وقد أثار الخطابي بحثا حاصله: أن المستجمر متى استجمر بيسراه مس ذكره بيمينه، ومتى أمسك بيسراه استجمر بيمينه، وكلاهما قد شمله النهي، فماذا يعمل؟ وأجاب عن هذا بأن قصد الأشياء الضخمة التي لا تزول بالحركة كالجدار ونحوه من الأشياء البارزة فيستجمر بها بيساره، فإن لم يجد فليلصق مقعدته بالأرض، ويمسك ما يستجمر به بين عقبيه أو إبهامي رجليه، ويستجمر بيساره، فلا يكون متصرفا في شيء من ذلك بيمينه. اهـ. وهذا الجواب -فضلا عن الهيئة المنكرة التي يصفها، والتي يتعذر فعلها في غالب الأوقات- يتنافى مع واقع الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم، فلم يؤثر عن أحد منهم مثل هذا الفعل، بل كانوا يستجمرون بالأحجار بسهولة ويسر. وأجاب الطيبي عن إشكال الخطابي، بأن النهي عن الاستجمار باليمين مختص بالدبر والنهي عن المس مختص بالذكر، قال: فبطل الإيراد من أصله. اهـ. يقصد استجمار الدبر باليسار. ويمسك ذكره بيساره ويستجمر بيمينه. ورده الحافظ ابن حجر، فقال: ما ادعاه من تخصيص الاستنجاء بالدبر مردود، والمس وإن كان

مختصا بالذكر لكن يلحق به الدبر قياسا، والتنصيص على الذكر لا مفهوم له، بل فرج المرأة كذلك، وإنما خص الذكر بالذكر لكون الرجال في الغالب هم المخاطبون والنساء شقائق الرجال في الأحكام إلا ما خص. ثم قال: والصواب في الصورة التي أوردها الخطابي ما قاله إمام الحرمين ومن بعده كالغزالي في "الوسيط" والبغوي في "التهذيب" أنه يمر العضو بيساره على شيء يمسكه بيمينه، وهي قارة غير متحركة، فلا يعد مستجمرا باليمين ولا ماسا بها، ومن ادعى أنه في هذه الحالة يكون مستجمرا بيمينه فقد غلط وإنما هو كمن صب بيمينه الماء على يساره حالة الاستنجاء. اهـ. وأرى أن الكل يعقد الصورة من غير موجب: فكل من الدبر والذكر سهل الاستجمار بالحجر بالشمال من غير إمساك بإمرار الحجر على مخرج الغائط والبول، فالملازمة التي ذكرها الخطابي غير لازمة، ولو استدعى الأمر إمساك الذكر لسبب من الأسباب فليمسك بحائل، على أن النهي للتنزيه، بل وقع في العتبية عن مالك عدم الكراهة، وذكر العلماء للحكمة، أنها كون اليمين معدة للأكل بها، فلو تعاطى ذلك بها لأمكن أن يتذكره عند الأكل، فيتأذى بذلك وأنه من قبيل إكرام اليمنى، وصيانتها عن الأقذار، وذكر العلماء لهذه الحكمة يوحى بأن التعقيد هنا لا موجب له، وخصوصا أنه لم يقل أحد بمنع معاونة اليمين للشمال في غسل الدم وغيره من النجاسات في غير الاستنجاء، فإن قيل: إن المنع خاص بالقبل والدبر قلنا: إن الظاهرية أنفسهم الذين حملوا النهي على التحريم يجيزون مس المرأة فرجها وذكر زوجها بيمينها، واستدل ابن أبي جمرة على إباحة مس الذكر في غير الاستنجاء بقوله صلى الله عليه وسلم لطلق بن علي، حين سأله عن مس ذكره "إنما هو بضعة منك" وحمل العلماء المطلق في الحديث العاشر "نهى أن يمس ذكره بيمينه" على المقيد بحالة الاستنجاء ليبيحوه في غير الاستنجاء، وإن خالف في ذلك بعضهم، ومنع مس الذكر في الاستنجاء وغيره، مدعيا أنه نهي عنه مع مظنة الحاجة فيكون منهيا عنه في غيرها من باب أولى. ولو قلنا إن الموضوع كله للتنزيه وللكمال والأفضل لم نبعد، فقد روى أبو داود بسند صحيح من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه، وكانت يده اليسرى لخلائه وما كان من الأذى" وفي الحلية عن عثمان رضي الله عنه "ما مسست ذكري بيميني منذ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم". رابعا: حكم التيامن في الأمور، وبيان ما يتناول بالشمال: ولا يتعارض النهي عن الاستنجاء باليمين مع الحديث الثاني عشر ونصه "عن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب اليمن في شأنه كله، في نعليه وترجله وطهوره" فإن عموم شأنه مخصص بما تقدم فيه الشمال. قال الحافظ ابن حجر: "في شأنه كله" متعلق بيحب، لا بالتيمن، أي يحب في شأنه كله التيمن، أي لا يترك ذلك سفرا ولا حضرا، ولا في فراغه ولا شغله. اهـ. قال الأبي: والضابط أن الفعل إن استعملت فيه الجارحتان قدمت اليمين في فعل الراجح، والشمال في فعل المرجوح، فيبدأ باليمين في دخول المسجد وبالشمال في

الخروج منه، واستعمال الجارحتين على هذا النحو إنما هو إن تيسر، فإن شق ترك، كالركوب، فإن البداءة بوضع اليسرى في الركوب أيسر وأسهل، وإن كان مما تستعمل فيه إحداهما خصت اليمين بالراجح، والشمال بالمرجوح، فيأكل بيمينه، ويتناول من الغير بيمينه، ويستنجي ويمتخط بشماله. اهـ. وقال النووي: هذه قاعدة مستمرة في الشرع، وهي أن ما كان من باب التكريم والتشريف، كلبس الثوب والسراويل والخف ودخول المسجد والسواك والاكتحال، وتقليم الأظفار وقص الشارب وترجيل الشعر ونتف الإبط وحلق الرأس والسلام من الصلاة وغسل أعضاء الطهارة والخروج من الخلاء والأكل والشرب والمصافحة واستلام الحجر الأسود، وغير ذلك مما هو في معناه يستحب التيامن فيه، وأما ما كان بضده، كدخول الخلاء والخروج من المسجد والامتخاط والاستنجاء وخلع الثوب والسراويل والخف وما أشبه ذلك فيستحب التياسر فيه، وذلك كله لكرامة اليمين وشرفها. ثم قال: وأجمع العلماء على أن تقديم اليمين على اليسار من اليدين والرجلين في الوضوء سنة لو خالفها فاته الفضل، وصح وضوؤه، وقالت الشيعة: هو واجب، ولا اعتداد بخلاف الشيعة. قال الحافظ ابن حجر: وقد استدل بالحديث على استحباب الصلاة عن يمين الإمام، وفي ميمنة المسجد. اهـ. وقال القاضي عياض: وسبب محبته صلى الله عليه وسلم اليمين التبرك باسم اليمين، وقيل: لأنه كان يحب الفأل الحسن، إذ أصحاب اليمين أهل الجنة. والله أعلم. خامسا: حكم التبرز في طريق الناس أو في ظلهم: أما التبرز في طريق الناس أو في ظلهم فقد جاءت عبارة النهي عنه بلفظ "التخلي" وهو يشمل التبرز والتبول، إذ التخلي هو التفرد لقضاء الحاجة من بول أو غائط، لكن النووي فسره بالتغوط فقط، ولعل وجهه أن التضرر في الغائط محقق بخلاف البول، فقد لا يحصل به التضرر، لكن بقاء الحديث على إطلاقه أولى، لما يجلبه البول وخاصة إذا تكرر في موضع واحد من روائح شديدة الكراهة وأمراض يصعب تجنبها، وإلى هذا التعميم يذهب أكثر العلماء، نعم يؤيد النووي ما رواه أبو داود عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل" فكأن النووي حمل العام على بعض أفراده، أو حمل المطلق على المقيد، لكن إسناد الحكم لفرد لا يمنع من إسناده لآخر ضمن اللفظ العام. والمراد من الطريق كل موضع يمر به الناس ويطرقونه ويسلكونه غالبا وليست الطرق المهجورة، ولا الطرق الخاصة المملوكة، لأن إضافته للناس تفيد الشيوع، والمنفعة العامة. والمراد من "ظلهم" مستظلهم الذي اتخذوه مقيلا ومناخا، ينزلونه ويقعدون فيه، فيخرج عن ذلك ظل الشجرة التي لا تتخذ لذلك لبعدها عن الناس، فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قعد لحاجته تحت حائش من النخل، أي تحت نخل ملتف مجتمع، كما يخرج عن ذلك الظل المملوك للشخص، فإن صاحبه لا يدخل في النهي، ويحرم على غير صاحبه بدون إذنه اتفاقا. وحكم التبرز في طريق الناس أو ظلهم الحرمة كما ذهب النووي والرافعي بل قال

الذهبي: إنه من الكبائر، وعده الحافظ ابن حجر في كتابه "الزواجر" من الكبائر، لأنه صلى الله عليه وسلم جعل هذا الفعل سببا للعن فاعله، وفعل موجب اللعن كبيرة، كلاعن والديه عن طريق لعن رجل آخر، فيلعن هذا الآخر والديه. وقال بعض العلماء: إنه مكروه. والرأي عندي أن حكمه يختلف باختلاف الطرق والظلال، وموقع البراز منها، ودرجة التضرر من هذا الفعل القبيح، وأقل ما فيه الكراهة. والله أعلم. سادسا: حكم البول قائما، وحكمته، وأدلته: أما البول قائما فإن الحديث الثامن عشر والتاسع عشر ظاهرهما إباحته، ففيهما "فانتهى إلى سباطة قوم فبال قائما "و" فأتى سباطة خلف حائط، فقام كما يقوم أحدكم، فبال". وهذا الحديث ذكره حذيفة ردا على تشدد أبي موسى في البول، إذ رأى رجلا يبول قائما. فقال: ويحك. أفلا قاعدا، ثم ذكر قصة بني إسرائيل. فلما بلغ حذيفة روى هذا الحديث كدليل على أن التشديد مخالف للسنة. والباحث في هذه المسألة يجد الصحابة والسلف الصالح أمامها فريقين كما يجد لكل فريق وجهة نظره ودليله. الفريق الأول: فمن فريق أبي موسى نجد أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- تقول: "ما بال قائما منذ أنزل عليه القرآن" وتقول: "من حدثكم أنه كان يبول قائما فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعدا" رواه أحمد والترمذي والنسائي وآخرون، قال النووي: وإسناده جيد. ونجد مجاهدا يقول: ما فعله إلا مرة واحدة. ونجد ابن مسعود يقول: البول قائما من الجفاء. ونجد إبراهيم بن سعد لا يجيز شهادة من بال قائما. ونجد جمهور العلماء من الخلف يقولون بكراهة البول قائما. كراهة تنزيه. ويذكرون أن ابن ماجه حكى عن بعض مشايخه أنه قال: كان من شأن العرب البول قائما. فلما بال رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا قالوا: انظروا إليه. يبول كما تبول المرأة. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالفهم في ذلك، فيقعد، لكونه أستر، وأبعد عن نجاسة البول ورذاذه. ويجيب هذا الفريق عن حديث حذيفة بعدة أجوبة منها: 1 - ما ذكره ابن حبان في سبب قيامه. حيث قال: لأنه لم يجد مكانا يصلح للقعود. فقام لكون الطرف الذي يليه من السباطة كان عاليا، فأمن أن يرتد إليه شيء من بوله. 2 - وقيل: لأن السباطة كانت رخوة، فخشي لو قعد أن يتخللها البول فيرتد إليه منه شيء. 3 - وقيل: لعل السباطة كانت نجسة رطبة؛ فخاف إن جلس أن تصيب ثيابه. 4 - وقيل: إنما بال قائما لأنها حالة يؤمن معها خروج الريح بصوت. فعل ذلك لكونه كان قريبا من الديار، وفي ذلك يقول عمر: البول قائما أحسن للدبر.

5 - وقيل: إن العرب كانت تستشفى لوجع الصلب بالبول قائما. فربما كان به صلى الله عليه وسلم وجع الصلب إذ ذاك. الفريق الثاني: ومن فريق حذيفة: عمر، وابنه، وعلي، وأنس، وأبو هريرة وغيرهم من الصحابة. نقل ابن المنذر أنهم بالوا قياما. وقال ابن المنذر. البول جالسا أحب إلي، وقائما مباح، وكل ذلك ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونجد في المدونة: لا بأس بالبول قائما، حيث لا يتطاير، وإلا كره. بل استدل مالك بحديث حذيفة على الرخصة في مثل رءوس الإبر من البول. قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر، لأنه صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة لم يصل إلى بدنه منه شيء. اهـ. وأجاب هذا الفريق عن حديث عائشة بأنه مستند إلى علمها، فيحمل على ما وقع منه في البيوت، وأما غير البيوت فلم تطلع هي عليه، وقد حفظه حذيفة وهو من كبار الصحابة، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عنه شيء. وأمام هذه الأدلة والتوجيهات أرى أن القيام والقعود عند البول ليس هدفا للشرع، لذاته، وأنه يخضع للظروف، ظروف المتبول وظروف المكان، والهدف الأساسي البعد عن الرذاذ وإصابة النجاسة، والتستر عن الغير، وسهولة الأداء والاستبراء. والله أعلم. سابعا: -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - يؤخذ من الحديث الأول: صبر الصحابة وحكمتهم إزاء ما لا قوة من عنت المشركين واستهزائهم وقلة حيائهم. 2 - بذاءة لسان المشركين، وتصريحهم بما تستهجنه الأسماع "كالخراءة". 3 - طهارة لسان المسلمين، وصيانته عن الرد بالمثل. 4 - ومن الحديث الرابع: أخذ ابن التين المنع من استقبال الشمس والقمر بالبول والغائط، قياسا على المنع من استقبال القبلة. قال العيني: وفي هذا القياس نظر. 5 - ورع أبي أيوب واستغفاره من غير ذنب، وخوفه من التقصير مع انحرافه عن القبلة. 6 - ومن الحديث الخامس وغيره: استحباب الكناية بالحاجة والخلاء عن البول والغائط. 7 - ومن الحديث السادس: جواز الجلوس في المسجد مع إسناد الظهر للقبلة. 8 - وفيه دليل على أن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يختلفون في معاني السنة، وكان كل واحد منهم يستعمل ما سمع. 9 - وفيه حرص الصحابة على تتبع أحوال النبي صلى الله عليه وسلم كلها، ونقلها، وأنها كلها أحكام شرعية. 10 - جواز رؤية الشيء الممنوع، قصدا لغرض مشروع. فقد قيل: لعل ابن عمر قصد أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في تلك الحالة، ورأى رأسه دون ما عداه من بدنه، ثم تأمل قعوده، فعرف كيف هو جالس ليستفيد، وينقل ما شاهد. قاله الكرماني. وقيل: إن رؤية ابن عمر وقعت اتفاقا من غير قصد لذلك،

فنقل ما رآه، لأنه لا يجوز له أن يقصد الرؤية في تلك الحالة، كما لا يجوز أن يتعمد الشهود النظر إلى الزنا، فإن وقعت أبصارهم عليه تحملوا الشهادة، وهذا الأخير هو المناسب لأدب ابن عمر وفقهه وورعه. 11 - ومن الحديث الثامن: النهي عن التنفس في الإناء، وهو نهي أدب وتنزيه، فإنه إن فعل ذلك لم يأمن أن يبرز من فيه الريق، فيخالط الماء، فيعافه الشارب، وربما يتأثر برائحة فمه، إذا كانت متغيرة، والماء للطفه ورقة طبعه تسرع إليه الروائح، ثم إنه يعد من فعل الدواب، إذا كرعت في الأواني جرعت ثم تنفست فيها، ثم عادت فشربت، وإنما السنة أن يشرب الماء في ثلاثة أنفاس، كلما شرب نفسا من الإناء نحاه عن فمه، ثم عاد، مصا له غير عب، إلى أن يأخذ ريه منه، والتنفس خارج الإناء أحسن في الأدب، وأبعد عن الشره وأخف للمعدة، والنهي المذكور ليس خاصا بشرب الماء، بل غيره مثله وكذلك النفخ في الطعام والشراب، فقد روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن النفخ في الشرب، فقال رجل: القذاة أراها في الإناء؟ قال: اهرقها. قال: فإني لا أروى من نفس واحد؟ قال: "فأين القدح إذن عن فيك". 12 - جواز الشرب من نفس واحد، لأنه إنما نهى عن التنفس في الإناء والذي شرب في نفس واحد لم يتنفس فيه، فلا يكون مخالفا للنهي، وكرهه جماعة؛ محتجين بما رواه الترمذي "لا تشربوا واحدا كشرب البعير، ولكن اشربوا مثنى وثلاث، وسموا إذا أنتم شربتم، واحمدوا إذا أنتم رفعتم" ولا شك أن هذا أفضل أدبا وصحة، وإن جاز الشرب من نفس واحد. 13 - ومن الحديث الثالث عشر: حرص الإسلام على شعور الناس، وعدم إيذائهم ونظافة الأماكن العامة، بتحريم التخلي في طريق الناس وظلهم. 14 - ومن الحديث الرابع عشر: من قوله "دخل حائطا" استحباب التباعد -لقضاء الحاجة- عن الناس، والاستتار عن أعين الناظرين. 15 - ومن الحديث الخامس عشر: استحباب استصحاب عصا ونحوها عند المشي في الخلاء، وخصوصا في الليل، للتوكؤ عليها، وللحماية مما يعرض من هوام الأرض. 16 - ومن الحديث الثامن عشر: جواز البول قرب الديار ومن قوله "فتنحيت" استحباب الإعراض عن قاضي الحاجة والبعد عن مكانه، قال بعض العلماء: إنما يستحب هذا عند الغائط أو البول قاعدا، أما عند البول قائما فلا. والحديث أصل في ذلك، وقد جاء في بعض الآثار "كان إذا بال لم يبعد، ولم يبعد الناس عنه، بل أدنى حذيفة منه حين بال قائما، وفي مراسيل عطاء: "أنه بال جالسا، فدنا رجل منه، فقال: تنح عني، فإن كل بائلة نفيح". 17 - لكن ظاهر الأحاديث التنحي والإبعاد عن قاضي الحاجة أيا كانت. 18 - وجواز طلب البائل من صاحبه الذي يدل عليه القرب منه ليستره. 19 - وفيه استحباب التستر، ولو كانت الحاجة بولا. 20 - استخدام الرجل الفاضل بعض أصحابه في حاجته.

21 - خدمة الصالحين وأهل الفضل والتبرك بذلك. 22 - ومن وقوف حذيفة خلف النبي صلى الله عليه وسلم دفع أشد المفسدتين بأخفهما والإتيان بأعظم المصلحتين إذا لم يمكنا معا. 23 - مدى تشدد أبي موسى، وخوفه من آثار البول، وأنه كان يبول في قارورة خشية أن يصيبه رذاذ البول، وقد روى أبو داود والنسائي، كان للنبي صلى الله عليه وسلم قدح من عيدان [أي من النخل الطويل] تحت سريره، يبول فيه بالليل". 24 - رحمة الله بالأمة الإسلامية، ورفع الحرج عنهم والتيسير عليهم في العبادة حيث جعل طهارة النجاسة الغسل بالماء، بينما كتب على بني إسرائيل إذا أصاب ثوب أحدهم بول أن يقص من الثوب ما لاقى النجاسة. ثامنا: ولقضاء الحاجة آداب أخرى. نذكر منها 1 - أنه يحرم إدخال المصحف الخلاء لغير ضرورة، ويكره إدخال كتب الحديث، وكتب العلم، وكل ما فيه ذكر اسم الله تعالى؛ فقد أخرج ابن حبان والحاكم والنسائي عن أنس قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء نزع خاتمه" وروى الحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس خاتما: نقشه محمد رسول الله، فكان إذا دخل الخلاء وضعه له" ومحل هذا ما لم يخش على المتروك خارجا الضياع. 2 - أنه يحرم على الرجلين أن يخرجا للخلاء معا، وأن يكشفا أنفسهما متجاورين، فقد أخرج ابن السكن وابن القطان من حديث جابر بلفظ "إذا تغوط الرجلان فليتوار كل واحد منهما عن صاحبه، ولا يتحدثا" وروى أبو داود وأحمد وابن ماجه عن أبي سعيد قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "لا يخرج الرجلان يضربان الغائط، كاشفين عذرتهما، يتحدثان، فإن الله يمقت على ذلك" والمرأتان في حكم الرجلين، وأقبح منهما الرجل والمرأة. 3 - أنه يشرع الإبعاد والاستتار للتخلي في الفضاء، فقد روى ابن ماجه عن جابر قال "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فكان لا يأتي البراز حتى يغيب فلا يرى" ولأبي داود "كان إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد". ولا يشرع التسليم على قاضي الحاجة، ويكره رده السلام، وسيأتي توضيحه في باب التيمم -حيث وضع الإمام مسلم حديثه، وسنتكلم عنه في المأخذ الخامس والثلاثين ويسن الذكر بعد قضاء الحاجة. والله أعلم

(122) باب المسح على الخفين

(122) باب المسح على الخفين 481 - عن عروة بن المغيرة عن أبيه المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أنه خرج لحاجته. فاتبعه المغيرة بإداوة فيها ماء. فصب عليه حين فرغ من حاجته. فتوضأ ومسح على الخفين. وفي رواية ابن رمح (مكان "حين"، "حتى"). 482 - وعن يحيى بن سعيد بهذا الإسناد وقال: "فغسل وجهه ويديه ومسح برأسه ثم مسح على الخفين". 483 - عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة. إذ نزل فقضى حاجته. ثم جاء فصببت عليه من إداوة كانت معي. فتوضأ ومسح على خفيه. 484 - عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر. فقال "يا مغيرة! خذ الإداوة" فأخذتها. ثم خرجت معه. فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توارى عني. فقضى حاجته. ثم جاء وعليه جبة شامية ضيقة الكمين. فذهب يخرج يده من كمها فضاقت عليه. فأخرج يده من أسفلها فصببت عليه فتوضأ وضوءه للصلاة. ثم مسح على خفيه ثم صلى. 485 - عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقضي حاجته. فلما رجع تلقيته بالإداوة. فصببت عليه فغسل يديه. ثم غسل وجهه. ثم ذهب ليغسل ذراعيه فضاقت الجبة فأخرجهما من تحت الجبة. فغسلهما. ومسح رأسه ومسح على خفيه ثم صلى بنا.

486 - عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في مسير. فقال لي "أمعك ماء؟ " قلت: نعم. فنزل عن راحلته. فمشي حتى توارى في سواد الليل. ثم جاء فأفرغت عليه من الإداوة. فغسل وجهه. وعليه جبة من صوف. فلم يستطع أن يخرج ذراعيه منها. حتى أخرجهما من أسفل الجبة. فغسل ذراعيه. ومسح برأسه. ثم أهويت لأنزع خفيه فقال "دعهما. فإني أدخلتهما طاهرتين" ومسح عليهما. 487 - عن عروة بن المغيرة رضي الله عنه عن أبيه أنه وضأ النبي صلى الله عليه وسلم. فتوضأ ومسح على خفيه. فقال له فقال "إني أدخلتهما طاهرتين". 488 - عن عروة بن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن أبيه رضي الله عنه قال: تخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخلفت معه. فلما قضى حاجته قال "أمعك ماء؟ " فأتيته بمطهرة. فغسل كفيه ووجهه. ثم ذهب يحسر عن ذراعيه فضاق كم الجبة. فأخرج يده من تحت الجبة. وألقى الجبة على منكبيه وغسل ذراعيه. ومسح بناصيته وعلى العمامة وعلى خفيه. ثم ركب وركبت. فانتهينا إلى القوم وقد قاموا في الصلاة. يصلي بهم عبد الرحمن بن عوف وقد ركع بهم ركعة، فلما أحس بالنبي صلى الله عليه وسلم ذهب يتأخر. فأومأ إليه. فصلى بهم. فلما سلم قام النبي صلى الله عليه وسلم وقمت. فركعنا الركعة التي سبقتنا. 489 - عن المغيرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين، ومقدم رأسه، وعلى عمامته. 490 - عن ابن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن أبيه رضي الله عنه قال بكر وقد سمعت من ابن المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ. فمسح بناصيته. وعلى العمامة. وعلى الخفين.

491 - عن بلال رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين والخمار. 492 - عن شريح بن هانئ قال: أتيت عائشة أسألها عن المسح على الخفين. فقالت: عليك بابن أبي طالب فسله. فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسألناه فقال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر. ويوما وليلة للمقيم. 493 - عن شريح بن هانئ قال: سألت عائشة عن المسح على الخفين. فقالت ائت عليا. فإنه أعلم بذلك مني. فأتيت عليا. فذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله. 494 - عن سليمان بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد. ومسح على خفيه. فقال له عمر: لقد صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه. قال "عمدا صنعته يا عمر". -[المعنى العام]- كان المسلمون منذ بزغ نور الإسلام في كفاح وجهاد، ما آبوا من سرية إلا استعدوا لأخرى، وما رجعوا من غزوة إلا وتأهبوا لغزوة. في عشر سنين خرج النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه في سبع وعشرين غزوة، وأرسل بعوثا وسرايا بلغت ستا وخمسين أو تزيد، قطعوا مئات الأميال شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، ركبانا تارة، ومشاة تارات، لبسوا خفافا ونعالا تصون أقدامهم من الغوص في الرمال والتآكل فوق صخور الجبال، وتحميها من أشواك الصحراء وحصائها وتقيها حرها وبردها، كانوا يستريحون وهي في أقدامهم، وينامون بها في ليلهم، لا يخشون تلويث فراش، أو تمزيق غطاء، فما أبسط فراشهم وغطاءهم. ومن هنا راعت الشريعة السمحة ظروفهم، وقدرت قلة مائهم، فرخصت لهم المسح على الخفين

بدل غسل الرجلين في الوضوء يوما وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليهن للمسافر، وليس في هذا التيسير تنقيص للنظافة فالشرط أن يلبسوا خفافهم بعد غسل أقدامهم وطهارتها، وأن لا يخلعوها مدة المسح، فإن خلعوها وجب غسل الأقدام. ونزلت آية المائدة بفرائض الوضوء قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بعام أو بعض عام، وظن البعض أن المسح على الخفين قد انتهى بنزولها، وأن ظروف المشقة بالخلع قد ضاق نطاقها لكن الرسول صلى الله عليه وسلم مسح بعدها حضرا وسفرا، ليثبت أن منحة الله للأمة مستمرة، وأن الرخصة باقية، فهذا جرير بن عبد الله الذي أسلم بعد نزول آية المائدة يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على خفيه في الحضر، وهذا المغير بن شعبة يروي أنه صلى الله عليه وسلم مسح في السفر، وهذا علي يروي أنه صلى الله عليه وسلم جعل مدة المسح على الخفين للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوما وليلة، وهذا عمر رضي الله عنه يروي أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين يوم الفتح. أما جرير رضي الله عنه فقد قضى حاجته ثم استجمر ثم توضأ حتى بلغ غسل رجليه، فلم يخلع خفيه، بل مسح عليهما، فقيل له: تمسح على الخفين في الحضر ومع كثرة الماء؟ قال: نعم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل هذا في الحضر ومع وجود الماء الكثير. أما المغيرة بن شعبة رضي الله عنه فيحكي أنه كان في صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وفي الليل والجيش يسير قال صلى الله عليه وسلم: يا مغيرة أمعك ماء؟ قال: نعم. قال: انزل به معي، فأوقفا دابتيهما، ونزلا وتخلفا عن القوم، وانحرفا عن الطريق إلى الصحراء ووقف المغيرة، وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توارى عنه، ثم قضى حاجته، واستجمر بالأحجار، ثم رجع، فتلقاه المغيرة في سواد الليل فقال له: أمعك الماء؟ قال: نعم. فجلس ومد يديه، فصب المغيرة عليهما من فم الإداوة الضيق فغسل كفيه، ثم تمضمض واستنشق ثم غسل وجهه، ثم شرع يكشف كمه عن ذراعه، فضاقت ولم ينكشف الذراع، فخلع الكمين، وألقى بهما على كتفيه، وأخرج يديه من أسفل الجبة، فغسل يديه إلى المرفقين، ثم مسح بمقدم رأسه بناصيته، وكمل المسح على عمامته، ثم أقبل نحو رجليه، فأسرع المغيرة إليهما يخلع خفيه، فقال صلى الله عليه وسلم: دعهما، فإني لبستهما على طهارة، ثم ركب وركب المغيرة، فأدركا القوم، في صلاة الفجر، يصلي بهم إماما عبد الرحمن بن عوف فلما أحسوا به صلى الله عليه وسلم أسفوا إذ لم ينتظروه، وانزعجوا، وأخذوا في التسبيح ينبهون إمامهم، فتأخر عبد الرحمن بن عوف يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن صلى بهم ركعة، فأشار إليه صلى الله عليه وسلم أن يستمر في إمامته، وأن يكمل الصلاة، وصلى خلفه، فلما سلم الإمام قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام المغيرة فصليا الركعة التي سبقتهما، ثم سلما. وأما علي -كرم الله وجهه- فقد جاء شريح بن هانئ بعد أن سأل عائشة -رضي الله عنها- عن حكم المسح على الخفين، فقالت له: عليك بابن أبي طالب، فاسأله، فإنه أعلم بذلك مني، لأنه كان يصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا في السفر، فسأل عليا. فقال له: نعم. حدد رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسافر ثلاثة أيام وللمقيم يوما وليلة، يمسح فيها ما لم ينزع.

وأما عمر رضي الله عنه فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة يتوضأ ويمسح على خفيه، ثم يصلي بهذا الوضوء صلوات، فقال: يا رسول الله صليت اليوم صلوات بوضوء واحد، ولم تكن تفعله من قبل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: فعلت ذلك عمدا لتعلموا أنه جائز، وإن كان الأفضل تجديد الوضوء لكل صلاة. -[المباحث العربية]- (أنه خرج لحاجته) أي لقضاء حاجته، كناية عن التبرز والتبول. (فاتبعه المغيرة بإداوة) "اتبع" من الاتباع، بتشديد التاء، وروي "فأتبعه" بالهمزة مع سكون التاء و"الإداوة" والركوة والمطهرة والميضأة بمعنى متقارب. إناء الوضوء. قاله النووي. (فصب عليه حين فرغ من حاجته) مفعول "صب" محذوف للعلم به، والمعنى: بعد رجوعه من قضاء حاجته، وانتقاله صلى الله عليه وسلم إلى موضع آخر صب المغيرة الماء عليه في وضوئه، وفي رواية لمسلم "فصب عليه حتى فرغ من حاجته" قال النووي: لعل معناها فصب عليه في وضوئه حتى فرغ من الوضوء، فيكون المراد بالحاجة الوضوء، وقد جاء في الرواية الأخرى مبينا أن صبه عليه كان بعد رجوعه من قضاء الحاجة. اهـ. (فتوضأ ومسح على الخفين) من عطف الجزء على الكل، إذ المسح على الخفين جزء الوضوء، ففيه مجاز المشارفة. (فغسل وجهه ويديه إلخ) هذه الفاء تفصيلية. (بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة إذ نزل) "بين" ظرف زمان، والألف للإطلاق، وهي منصوبة بمعنى المفاجأة في "إذ" والتقدير، فاجأني بنزوله صلى الله عليه وسلم وقت وجودي معه. (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر) في رواية أبي داود أنه كان في غزوة تبوك. (فتوضأ وضوءه للصلاة، ثم مسح على خفيه) أي توضأ وضوءه للصلاة فيما عدا غسل الرجلين فمسح على الخفين بدل غسلهما، إذ لا قائل بالجمع بين غسل الرجلين والمسح على الخفين. (ثم أهويت لأنزع خفيه) أي مددت يدي. قال الجوهري: يقال: أهوى إليه بيديه ليأخذه، وقال التيمي: أهويت أي قصدت الهوى من القيام. (فقال: دعهما) أي دع الخفين لا تنزعهما، "دع" فعل أمر معناه اترك، وهو من الأفعال التي أماتوا ماضيها. (فإني أدخلتهما طاهرتين) أي أدخلت الرجلين طاهرتين فيهما، فالضمير يعود على الرجلين المفهومين من المقام.

(ومسح عليهما) أي على الخفين. (فقال له ... فقال إني أدخلتهما طاهرتين) مقول المغيرة محذوف في هذه الرواية، لكن في رواية أبي داود عن المغيرة "فقلت يا رسول الله أنسيت؟ قال: بل أنت نسيت، بهذا أمرني ربي عز وجل". (تخلف النبي صلى الله عليه وسلم وتخلفت معه) أي عن القافلة والجيش، والمراد من التخلف التأخر القليل. (فأتيته بمطهرة) بكسر الميم وسكون الطاء أداة الطهارة، وهي إناء الوضوء. (ثم ذهب يحسر عن ذراعيه) "يحسر" بفتح الياء وكسر السين، أي يكشف، والمفعول محذوف، أي يحسر الجبة عن ذراعيه. (فركعنا الركعة التي سبقتنا) قال النووي كذا ضبطناه، وكذا هو في الأصول بفتح السين والباء والقاف، وبعدها مثناة من فوق ساكنة، أي وجدت قبل حضورنا. اهـ. (مسح على الخفين والخمار) يعني بالخمار العمامة، لأنها تخمر الرأس، أي تغطيه. -[فقه الحديث]- يمكن حصر الكلام في النقاط الآتية: 1 - آراء العلماء في مشروعية المسح على الخفين بدل غسل الرجلين في الوضوء وأدلتهم. 2 - التحديد الشرعي للخف وما يقوم مقامه. 3 - الحالة المطلوبة للبسه، وكيفية المسح عليه. 4 - آراء العلماء في مدة المسح، وما يبطله، وأدلتهم. 5 - ما يؤخذ من الأحاديث من الأحكام. وهذا هو التفصيل: أولا: آراء العلماء في مشروعية المسح على الخفين في الوضوء وأدلتهم: قال النووي في شرح مسلم: أجمع من يعتد به في الإجماع على جواز المسح على الخفين في السفر والحضر، سواء كان لحاجة، أو لغيرها، حتى يجوز للمرأة الملازمة بيتها، وللزمن الذي لا يمشي، وإنما أنكرته الشيعة والخوارج، ولا يعتد بخلافهم، وقد روي عن مالك -رحمة الله تعالى- روايات فيه، والمشهور من مذهبه كمذهب الجماهير، وقد روي المسح على الخفين خلائق لا يحصون من الصحابة. قال

الحسن البصري -رحمه الله تعالى: حدثني سبعون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمسح على الخفين. اهـ. ولإيضاح ما أشار إليه النووي من رأي الشيعة والخوارج والرواية عن مالك نقول: ذهب الشيعة والخوارج وأبو بكر بن داود الظاهري إلى أنه لا يجزئ المسح عن غسل الرجلين، واستدلوا بآية المائدة {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} [المائدة: 6] وبقوله صلى الله عليه وسلم لمن علمه "واغسل رجلك" ولم يذكر المسح على الخفين، وقوله صلى الله عليه وسلم "ويل للأعقاب من النار". قالوا: والأخبار بمسح الخفين [كأحاديثنا] منسوخة بآية المائدة. وأجاب الجمهور عن شبههم بأنه قد ثبت المسح عنه صلى الله عليه وسلم بعد نزول آية المائدة، فحديثنا الأول عن جرير بيان عما بعد نزول الآية، ففي أبي داود "فقال جرير لما سئل: هل كان ذلك قبل المائدة أو بعدها؟ قال: ما أسلمت إلا بعد المائدة". فإن قدح الشيعة في جرير بأنه فارق عليا، فترد روايته. قلنا: إنه لم يفارقه، وإنما احتبس عنه بعد إرساله إلى معاوية لأعذار، وعلى فرض أنه فارق عليا فقد نقل الإجماع من طرق أكابر أئمة الآل وأتباعهم على قبول رواية الصحابة قبل الفتنة وبعدها، فالتخلص من مشروعية المسح بالقدح في هذا الصحابي الجليل مناف لما عليه سائر علماء الإسلام. على أن حديث المغيرة بن شعبة كان عن غزوة تبوك -كما قرره الحافظ ابن حجر، وغزوة تبوك متأخرة بالاتفاق عن آية المائدة. فالقول بنسخ آية المائدة للمسح مردود. أما استدلالهم بالأمر بغسل الرجلين في الحديث فليس فيه قصر، فهو في حالة عدم لبس الخف، وأما حديث "ويل للأعقاب من النار" فهو وعيد لمن مسح رجليه ولم يغسلهما ولم يرد في المسح على الخفين. فآية المائدة عامة مطلقا باعتبار حالتي لبس الخف وعدمه، فتكون أحاديث الخفين مخصصة أو مقيدة، ولا نسخ. أما الإمام مالك فقد تضاربت الروايات في النقل عنه، وفي تفسير هذا المنقول، ففي الأبي [المسح على الخفين في الحضر والسفر أجازه مالك مرة، ومنعه مرة، وأجازه مرة في السفر دون الحضر، ورواية المنع شاذة أنكرها أكثر أصحابه، وأظن صيغتها أنه قال "لا أمسح" فإن كانت هكذا فهو شيء أخذ به في نفسه، وإن كان لفظ الرواية يقتضي المنع فهو لأنه قدم الآية على الحديث، وروي عنه ما ينحو إلى ذلك، قال "إنما هي أحاديث وكتاب الله أحق أن يتبع" وقال القاضي عياض: في النوادر من طريق ابن وهب قال مالك: "لا أمسح في سفر ولا حضر" وهي في المبسوط بنص أجلي، قال ابن نافع: قال لي عند موته: المسح في السفر والحضر يقين لا شك فيه، ولكني كنت آخذ في نفسي بالطهور، فمن مسح فلا أراه مقصرا. وقال ابن العربي: رواية

المنع نقلها عن مالك وهم لأنه لم ينكر المسح، وإنما قال: أقام صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- بالمدينة حياتهم، ولم ير أحدكم مسح. اهـ. هذا ما قيل عن الإمام مالك، ومنه يتبين أن المشهور من مذهبه -كما يقول النووي- هو مذهب الجمهور، والمعروف المستقر عن المالكية الآن قولان: الجواز مطلقا، والجواز للمسافر دون المقيم. أما ما نسب إلى عائشة من أنها لم تر المسح، وأنها توقفت عن القول به وأحالت السائل إلى الإمام علي -كرم الله وجهه- فهو خطأ، فإن تحويل السائل معلل في الحديث بأنه أعلم منها في هذه المسألة لكثرة سفره مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأن كل ما عندها ضعف العلم أو عدم العلم على الأكثر، وهذا لا يثبت به نفي، خصوصا وقد أجاب علي -كرم الله وجهه- بالإثبات. وما نسب إلى ابن عمر من أنه أنكر المسح على الخفين ثبت أنه رجع عنه، فقد روى أحمد والبخاري واللفظ لأحمد عن ابن عمر قال: "رأيت سعد بن أبي وقاص يمسح على خفيه بالعراق حين توضأ. فأنكرت ذلك عليه، فلما اجتمعنا عند عمر، قال لي سعد: سل أباك، فسألت عمر عن ذلك، فقال: نعم. إذا حدثك سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فلا تسأل عنه غيره". ومن هنا نقل ابن المنذر عن ابن المبارك أنه قال: ليس في المسح على الخفين عن الصحابة اختلاف، لأن كل من روى عنه منهم إنكاره فقد روى عنه إثباته. وقال الحافظ ابن حجر: وقد صرح جمع من الحفاظ بأن المسح على الخفين متواتر، وجمع بعضهم رواته فجاوزوا الثمانين، منهم العشرة. وقال ابن عبد البر في الاستذكار: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم المسح على الخفين نحو أربعين من الصحابة، وذكر أبو القاسم بن معدة أسماء من رواه في تذكرته فكانوا ثمانين صحابيا. اهـ. وإذا كانت أحاديثنا -فيما عدا الأول- في المسح في السفر، فإن الحديث الأول نص في الموضوع، وفي المسح في الحضر، ولهذا يقول النووي: روينا في سنن البيهقي عن إبراهيم بن أدهم قال: ما سمعت في المسح على الخفين أحسن من حديث جرير، وعن أبي حنيفة "أخاف الكفر على من لم ير المسح على الخفين، لأن الآثار التي جاءت فيه في حيز التواتر" وقال العيني: لا ينكره إلا المبتدع الضال. والله أعلم. وبعد أن ثبتت مشروعية المسح نرى العلماء يختلفون في الأفضل في الوضوء. هل المسح على الخفين أفضل؟ أو غسل الرجلين أفضل؟ فالشافعية والحنفية والمالكية على أن الغسل أفضل، لكونه الأصل، وهو قول جماعة من الصحابة منهم: عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وأبو أيوب الأنصاري. قال النووي: صرح جمع من الأصحاب بأن الغسل أفضل، بشرط ألا يترك المسح رغبة عن السنة. اهـ.

وذهب جماعة منهم الشعبي والحاكم وحماد، وأحمد في أصح الروايتين عنه إلى أن المسح أفضل، قال ابن المنذر: والذي أختاره أن المسح أفضل، لأجل من طعن فيه من أهل البدع من الخوارج والروافض قال: وإحياء ما طعن فيه المخالفون من السنن أفضل من تركه. اهـ. وذهب جماعة إلى أن المسح والغسل سواء. هذا: ولو أخذنا بعين الاعتبار حكمة مشروعية المسح على الخفين، وهي أن الحاجة تدعو إلى لبسه، وتلحق المشقة في نزعه، فألحق بالجبيرة، كما يقول الشافعية، وأخذنا بعين الاعتبار أن الأصل الغسل، والمسح فرع، وأن الغسل متفق عليه، والمسح مختلف فيه ولو كان الاختلاف تافها، وأن الغسل هو عامة فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وأن القصد في هذا الباب إثبات وقوع المسح منه صلى الله عليه وسلم ومشروعيته، لو أخذنا كل هذا بعين الاعتبار ما جازت المفاضلة بين الغسل والمسح، ولكان القول واحدا لا تردد فيه، وهو أن الغسل أفضل والمسح جائز. والله أعلم. ثانيا: ولتحديد مفهوم الخف أو ما يقوم مقامه نعرض إلى ما كان معروفا عند العرب مما يلبس في القدمين فقد كانوا يعرفون الخف والنعل والجورب والجرموق. أما الخف فقد كان من جلد غالبا، وهو نظير "الحذاء" في زماننا، ويغطي الجزء المفروض غسله من الرجلين في الوضوء، وفي معناه ما كان من اللبود و "الكاوتشوك" و"البلاستيك" والمعجونات الصناعية المشهورة في زماننا. وشرط المسح عليه أن يكون سليما، فإن كان ممزقا في مكان الفرض بحكم القدم أو بالصناعة لم يجز المسح عليه عند الحنابلة والصحيح من مذهب الشافعية، وعن أبي ثور جواز المسح على جميع الخفاف، وعن الأوزاعي إن ظهرت طائفة من رجله مسح، وإن كان كثيرا لم يجز المسح، وعن أبي حنيفة وأصحابه: إن كان الخرق قدر ثلاثة أصابع لم يجز المسح، وإن كان دونه جاز وعن الحسن البصري: إن ظهر الأكثر من أصابعه لم يجز، قال ابن المنذر: وبقول الثوري أقول، لظاهر إباحة رسول الله صلى الله عليه وسلم المسح على الخفين قولا عاما، فيدخل فيه جميع الخفاف. اهـ. وهو قول حسن. أما النعل، وهو يشبه إلى حد ما المعروف في مصر باسم "الصندل" أو نوعا من "الشباشب" وصورته -كما كانت عند العرب- مسطح من الجلد، ترتكز عليه القدم يجعل في وسطه سير يكون على ظهر القدم قريبا من الساق، ويسمى هذا السير بالقبال، ولبعض النعال قبالان، أحدهما يكون بين الإبهام والتي تليها والآخر يكون بين الوسطى والتي تليها، ويجتمع السيران إلى السير الذي على ظهر القدم. قال ابن العربي: النعل لباس الأنبياء، وإنما اتخذ الناس غيره [من أحذية كاسية ونحوها] لما في أرضهم من الطين، وكانت نعله صلى الله عليه وسلم ليس فيها شعر، ولها قبالان. وكل ما ورد في المسح على النعلين ما رواه أبو داود عن المغيرة بن شعبة "أن رسول

الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الجوربين والنعلين" وليس فيه دليل على جواز المسح على النعلين. ولا خلاف بين العلماء في عدم جواز المسح على النعلين وحدهما، إنما الخلاف في المسح عليهما مع الجوربين. واختلفت صفة الجورب باختلاف اصطلاح أهل الجهات العربية الأولى فبعضهم يطلقه على ما يصنع من قطن أو كتان أو صوف على هيئة الخف ويلبس بديله في البيوت أو في الأماكن النظيفة، التي يقل المشي فيها، وبعضهم يطلقه على خف يلبس فوق الخف إلى الكعب للبرد، ولصيانة الخف الأسفل من الدرن والغسالة، وبعضهم يطلقه على ما يلبسه أهل البلاد الشامية الشديدة البرد، وهو يتخذ من غزل الصوف المفتول يلبس في القدم إلى ما فوق الكعب. وهو بهذا المعنى الأخير هو المستعمل في أكثر بلاد العالم، ويصنع من أنسجة مختلفة وهو الذي سنبني عليه الحكم الفقهي، فقد ذهبت الحنفية وأحمد وإسحاق والثوري، وابن المبارك إلى جواز المسح على الجوربين سواء أكانا مجلدين [أي موضوع في أسفلهما جلد] أم منعلين [أي ملبوسين داخل نعلين] أم ثخينين [والثخين ما يثبت على الساق من غير ربط، ويمكن تتابع المشي عليه، ولا يرى ما تحته] وذهبت المالكية إلى جواز المسح عليهما بشرط أن يكونا مجلدين من أعلاهما وأسفلهما. واختلفت أقوال الشافعية، فبعضهم اشترط كونه مجلدا أو منعلا، وبعضهم اشترط كونه صفيقا، يمكن متابعة المشي فيه. قال النووي: والصواب ما ذكره جماعات من المحققين أنه إن أمكن متابعة المشي فيه جاز كيف كان، وإلا فلا. اهـ. قال أبو داود: ومسح على الجوربين علي بن أبي طالب وابن مسعود والبراء بن عازب، وأنس بن مالك، وعمر بن الخطاب، وابن عباس -رضي الله عنهم. اهـ. أما الأثر المروي عن علي بن أبي طالب، فقد أخرجه البيهقي عن كعب بن عبد الله قال: رأيت عليا بال، فمسح على جوربيه ونعليه، ثم قام يصلي، وأما أثر ابن مسعود فرواه عبد الرزاق عن إبراهيم أن ابن مسعود كان يمسح على خفيه وعلى جوربيه، وأما أثر البراء بن عازب فرواه عبد الرزاق أيضا عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه قال: رأيت البراء بن عازب يمسح على جوربيه ونعليه، وأثر عمر رواه ابن أبي شيبة أن عمر توضأ ومسح على جوربيه ونعليه. وهكذا نجد آثار المسح على الجوربين غير قوية، وكلها تقريبا تجمع بين الجوربين والنعلين، ولو قيل: إن العمدة في جواز المسح على الجوربين القياس على الخفين، إذ لا يوجد فرق مؤثر يصح أن يحال الحكم عليه لكان أولى من الاستدلال بهذه الآثار. والله أعلم. وأما الجرموق فهو خف كبير يلبس فوق الخف، والمسح عليه جائز عند أبي حنيفة وأحمد، بشرط صلاحيته للمسح، ولبسه قبل المسح على الخف وقبل الحدث، وعند المالكية يصح المسح على

الجرموق بشرط أن يكون من جلد، وأن يلبسه مع الخف على طهارة كاملة، وعند الشافعية في جواز المسح عليه قولان. وقد روى أبو داود أن عبد الرحمن بن عوف سأل بلالا عن وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كان يخرج يقضي حاجته، فآتيه بالماء، فيتوضأ، ويمسح على عمامته وموقيه. [وهما تثنيه "موق" وهو الخف -فارسي معرب- وفي المحكم: هو ضرب من الخفاف عربي صحيح. وقال ابن العربي في شرح الترمذي: الخف جلد مبطن مخروز يستر القدم كلها والموق جلد مخروز لا بطانة له، وقال الخطابي: هو خف قصير الساق، وقال الجوهري: هو ما يلبس فوق الخف، ويقال له: الجرموق]. والله أعلم. ثالثا: الحالة المطلوبة للبسه، وكيفية المسح عليه: وأما عن الحالة المطلوبة للبسه فتقول الرواية الخامسة والسادسة "فإني أدخلتهما طاهرتين" ومن هذه العبارة أخذ أن المسح على الخفين لا يجوز إلا إذا لبسهما على طهارة كاملة، قال النووي: بأن يفرغ من الوضوء بكماله، ثم يلبسهما، لأن حقيقة إدخالهما طاهرتين أن تكون كل واحدة منهما أدخلت وهي طاهرة، قال: وقد اختلف العلماء في هذه المسألة، فمذهبنا أن يشترط لبسهما على طهارة كاملة، حتى لو غسل رجله اليمنى، ثم لبس خفها، وغسل اليسرى، ثم لبس خفها لم يصح لبس اليمنى، فلا بد من نزعها، وإعادة لبسها، ولا يحتاج إلى نزع اليسرى. لكونها ألبست بعد كمال الطهارة. وهذا هو مذهب مالك وأحمد وإسحاق، قال أبو حنيفة وسفيان الثوري والمزني وأبو ثور: يجوز اللبس على حدث، ثم يكمل طهارته. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: والحديث حجة عليهم، لأنه جعل الطهارة قبل لبس الخف شرطا لجواز المسح، والمعلق بشرط لا يصح إلا بوجود ذلك الشرط. اهـ. وحمل داود الطهارة في قوله: "فإني أدخلتهما طاهرتين" على طهارة القدمين من النجاسة، فلو لبسهما على حدث، وكانتا طاهرتين من النجاسة جاز المسح عليهما. واشترط الفقهاء للمسح على الخفين أن يكون في الحدث الأصغر، فلا مسح في الجنابة والحيض والنفاس، وأن تكون الطهارة مائية لا ترابية، فلو تيمم ثم لبسهما، لم يبح له المسح، لأن التيمم مبيح، لا رافع، وأن يكون الخف طاهرا، لا نجسا، فلا مسح على خف من جلد خنزير أو جلد لم يدبغ، وأن لا يكون عاصيا بلبسه، كمحرم بحج أو عمرة، ولم يضطر للبسه، شرطه المالكية وللشافعية فيه خلاف. والواجب في المسح أقل جزء من أعلى الخف، عند الشافعية، وقال أبو حنيفة: يجب مسح قدر ثلاث أصابع، وقال أحمد: يجب مسح أكثر ظاهره، وعن مالك مسح جميعه ويستحب أن يمسح أعلاه وأسفله، فيغمس يديه في الماء، ثم يضع كفه اليسرى تحت عقب الخف، وكفه اليمنى على أطراف أصابعه، ثم يمر اليمنى إلى ساقه، واليسرى إلى أطراف أصابعه، ولو اقتصر على مسح

الأسفل لم يجزئ عند الجمهور، إذ لم يثبت الاقتصار على الأسفل، والمعتمد في الرخص الاتباع، فلا يجوز غير ما ثبت التوقيف فيه، وعن علي رضي الله عنه "لو كان الدين بالرأي كان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه" رواه أبو داود. ويجزئ المسح بغير اليد كالخشبة والخرقة والفرشاة، ولا يستحب تكرار المسح، بل قيل: إنه مكروه، ولو كان في أسفل الخف نجاسة لم يمسح على الأسفل، لأنه لو مسحه زاد التلويث، ولزمه غسل اليد، وغسل أسفل الخف والذي تستريح إليه النفس أن المسح على الخفين جاز للتيسير ورفع المشقة ويكفي ما يطلق عليه مسح، ولو موضع أنملة، ولا يطلب أكثر من ذلك، لما فيه من المشقة، وتعريض الخف للتلف، ثم إن المسح على الخفين أبيح في ظروف خاصة، ومعظمها كان سفرا وحربا، وقلة ماء، وأرض نظيفة خالية من النجاسة أو قليلتها، وجو شديد الحرارة أو شديد البرودة، يشق معه نزع الخف وغسل الرجلين. أما في مثل ظروفنا فلا داعي للجوء إلى هذه الرخصة. رابعا: آراء العلماء في مدة المسح، وما يبطله، وأدلتهم: والحديث الثاني عشر يحدد مدة المسح على الخفين، وفيه "جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوما وليلة للمقيم". وهذا التوقيت مذهب الشافعية والحنفية والحنابلة، وجمهور العلماء عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم. ويبدأ اليوم والليلة للمقيم والثلاثة أيام للمسافر من حين يحدث بعد لبس الخفين عند الشافعية وأبي حنيفة وجمهور العلماء وهو أصح الروايتين عن أحمد. وقال الأوزاعي وأبو ثور: من حين يمسح بعد الحدث، وأكثر ما يمكن للمقيم أن يصلي بالمسح من فرائض الوقت سبع صلوات إذا جمع الصلاتين في المطر، فإن لم يجمع فست صلوات، وصورته أن يحدث في نصف اليوم الأول، بعد قليل من أول وقت الظهر، فيمسح ويصلي، ثم في أول وقت ظهر اليوم الثاني يصلي الظهر والعصر جمع تقديم، ومثل ذلك يفعل المسافر في اليوم الرابع فيصلي سبع عشرة، وإن لم يجمع فست عشرة هذا مذهب الشافعية، وحكى ابن المنذر عن الشافعي وأبي ثور وإسحاق وسليمان بن داود أنه لا يصلي بالمسح إلا خمس صلوات إن كان مقيما، وخمس عشرة إن كان مسافرا. قال النووي: وهذا مذهب باطل، إذ الأحاديث الصحيحة في التوقيت بالزمان، لا بالصلوات. اهـ. ويصلي في مدة المسح ما شاء من الصلوات قضاء ونذرا وتطوعا بلا خلاف. وقالت طائفة: لا توقيت، ويمسح ما شاء، ما لم ينزع خفيه أو يجنب، حكي هذا عن الشعبي وربيعة والليث ومذهب الشافعي القديم وأكثر أصحاب مالك وهو المشهور عن مالك، وفي رواية عنه أنه مؤقت كالجمهور، وفي رواية أخرى أنه مؤقت للحاضر دون المسافر، وعن سعيد بن جبير: يمسح من غدوه إلى الليل.

واحتج من قال بعدم التوقيت بما روي عن أبي بن عمارة -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله. أمسح على الخف؟ قال: نعم. قلت: يوما؟ قال: ويومين. قلت: وثلاثة؟ قال: نعم وما شئت. وروي "وما بدالك" وروي "حتى بلغ سبعا. قال: نعم وما بدا لك" وبحديث إبراهيم النخعي عن أبي عبد الله الجدلي عن خزيمة بن ثابت قال: "جعل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا، ولو استزدناه لزادنا" يعني المسح على الخفين للمسافر وبحديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا توضأ أحدكم، ولبس خفيه فليصل فيهما، وليمسح عليهما، ثم لا يخلعها إن شاء إلا من جنابة" وبحديث عقبة بن عامر قال: خرجت من الشام إلى المدينة يوم الجمعة فدخلت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: متى أولجت خفيك في رجليك؟ قلت: يوم الجمعة واليوم يوم الجمعة، ثمان. قال: أصبت السنة. رواه البيهقي وغيره، وعن ابن عمر أنه كان لا يوقت في الخفين وقتا. قالوا: ولأنه مسح بالماء، فلم يتوقت كالمسح على الجبيرة. واحتج القائلون بالتوقيت بالحديث الثاني عشر السابق الذكر، وبأحاديث كثيرة في التوقيت، منها: ما رواه الشافعي في مسنده والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم بأسانيد صحيحة عن صفوان بن عسال رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا مسافرين أو سفرا ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ومنها: ما رواه أبو بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن المسح على الخفين. فقال: للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة، وهو حديث حسن. قال البيهقي والترمذي: قال البخاري: هو حديث حسن. ومنها ما رواه خزيمة بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسح على الخفين: للمسافر ثلاث، وللمقيم يوم (حديث صحيح رواه أبو داود والترمذي وغيرهما. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح) ومنها حديث عوف بن مالك الأشجعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر في غزوة تبوك بالمسح على الخفين ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر. وللمقيم يوم وليلة. قال البيهقي: قال الترمذي: قال البخاري: هذا الحديث حسن. وأجابوا عن أدلة الفريق المخالف بأن حديث أبي بن عمارة ضعيف بالاتفاق، ولو صح لكان محمولا على جواز المسح أبدا بشرط مراعاة التوقيت لأنه إنما سأل عن جواز المسح، لا عن توقيته، وبأن حديث خزيمة في عدم التوقيت، وقوله "ولو استزدناه لزادنا" ضعيف بالاتفاق، وكذا حديث أنس وما روي عن ابن عمر، وقيل: إنهما رجعا عن رأيهما إلى التوقيت. واشترط العلماء أن يكون السفر طويلا، وهو السفر الذي تقصر فيه الصلاة، وهو ثمانية وأربعون ميلا، وأن لا يكون السفر في معصية، فإن كان لمعصية كقطع الطريق أو قصد الفاحشة أو لشهادة الزور لم يجز أن يمسح ثلاثة أيام بلا خلاف، قال القاضي عياض وسائر أصحاب الشافعي: إنه لا يستبيح بسفر المعصية شيئا من رخص السفر من القصر والفطر، والمسح ثلاثا، والجمع والتنفل على الراحلة، وترك الجمعة، وأكل الميتة. والخلاف بين العلماء في جواز المسح يوما وليلة للمسافر في معصية، فقيل: لا يجوز تغليظا عليه، والمشهور القطع بالجواز، لأن ذلك جائز بلا سفر.

فإن لبس في الحضر، وأحدث ومسح، ثم سافر أتم مسح مقيم، لأنه بدأ بالعبادة في الحضر، فلزمه حكم الحضر، وإن مسح في السفر، ثم أقام أتم مسح مقيم، قالوا: لأنها عبادة تتغير بالسفر والحضر، فإذا اجتمع فيها السفر والحضر غلب حكم الحضر، ولم يقسط عليهما، كالصلاة، فإن من صلى في سفينة في السفر، فدخلت دار الإقامة، وقد صلى ركعة، لزمه الإتمام بالإجماع، ولا يوزع فيقال: يتمها ثلاث ركعات مثلا. ويبطل المسح بالجنابة، ويجب نزع الخف والاغتسال، كذلك يبطل المسح بانتهاء المدة، وينزع الخفين أو أحدهما من الرجل، ومن خلع خفيه أو انقضت مدته، وهو على طهارة المسح ففيه أربعة مذاهب، قيل: يكفيه غسل القدمين وهو الراجح من مذهب الشافعية، وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد، وقيل: يلزمه استئناف الوضوء، وهو أصح الروايتين عن أحمد. وقيل: إن غسل رجليه عقب النزع كفاه، وإن أخر حتى طال الفصل استأنف الوضوء، وبه قال مالك والليث. وقيل: لا شيء عليه، لا غسل القدمين ولا غيره، بل طهارته صحيحة، يصلي بها ما لم يحدث، كما لو لم يخلع. وهو محكي عن داود واختاره ابن المنذر. ويجرنا هذا إلى التساؤل: هل المسح على الخفين يرفع الحدث عن الرجلين؟ أو لا يرفع الحدث عنهما، وإنما يبيح الصلاة والعبادة؟ ذهب الجرجاني في التحرير إلى أنه لا يرفع الحدث، لأنه طهارة تبطل بظهور الأصل، فلم ترفع الحدث، كالتيمم، ولأنه مسح قائم مقام الغسل، فلم يرفع الحدث كالتيمم والجمهور على أن الأصح أنه يرفع الحدث، لأنه مسح بالماء، فيرفع كمسح الرأس، ولأنه يجوز أن يصلي به فرائض، ولو كان لا يرفع لما جمع به فرائض كما هو الشأن في التيمم. والله أعلم. -[خامسا: ويؤخذ من حديث المغيرة برواياته التسع فوق ما تقدم]- 1 - جواز الصلاة في الخفاف، لأن قوله في الرواية الثالثة "ثم مسح على خفيه، ثم صلى" ظاهر في أنه صلى في خفيه، لأنه لو نزعهما بعد المسح لوجب غسل رجليه، ولو غسلهما لنقل. 2 - جواز الاستعانة في الوضوء. قال النووي: وهي على ثلاثة أقسام: إحداها: أن يستعين في إحضار الماء، فلا كراهة فيه. الثاني: أن يستعين في غسل الأعضاء، ويباشر الأجنبي بنفسه غسل الأعضاء، فهذا مكروه إلا لحاجة. والثالث: أن يصب عليه، فهذا مكروه في أحد الوجهين، والأولى تركه [ولا يقال: كيف يقال عن فعل فعله الرسول صلى الله عليه وسلم: الأولى تركه؟ لأن الصحابة كانوا يتبركون بمعاونته صلى الله عليه وسلم، فلا يقاس عليه غيره في مثل هذا]. 3 - وفيه خدمة العالم. 4 - وقد أخذ منه المتصوفة اختصاص الشيخ بخادم يقتصر عليه، فإن المغيرة أحد الأحرار المختصين بخدمته صلى الله عليه وسلم في السفر، كأنس في الحضر ذكره الأبي. 5 - الإبعاد عند قضاء الحاجة، والتواري عن الأعين.

6 - الانتفاع بثياب الكفار حتى يتحقق من نجاستها، لأنه صلى الله عليه وسلم لبس الجبة الرومية، ولم يستفصل. 7 - استدل به القرطبي على أن الصوف لا ينجس بالموت، لأن الجبة كانت شامية وكانت الشام إذ ذاك دار كفر، ومأكول أهلها الميتات. 8 - استدل به بعضهم على لبس الضيق من الثياب الذي لا يصف العورة. قال القرطبي: يحتمل أن تضييق الأكمام كان للسفر، أو أنه الموجود، فلا يحتج به لرجحان تضييق الأكمام، وما يحكى من أن شريحا عزل رجلا ضيق كميه بعيد. 9 - التشمير في السفر، ولبس الثياب الضيقة فيه، لكونها أعون على مشاقه. 10 - جواز إخراج اليدين من أسفل لمثل هذه الضرورة، فإن لم تكن ضرورة فلا تفعل في المحافل، قال النووي: لأن ذلك يخل بالمروءة. 11 - وفيه أن الاقتصار على غسل معظم العضو المفروض غسله لا يجزئ، لأنه صلى الله عليه وسلم أخرج يديه من تحت الجبة، ولم يكتف بغسل ما أمكن حسر الجبة عنه منهما ومسح ما لم يمكن حسرها عنه. 12 - احتج أبو حنيفة بقوله في الرواية السابعة "ومسح بناصيته وعلى عمامته" على أن الواجب الناصية فقط، وأحمد على جواز المسح على العمامة ومالك لا يكفي عنده الناصية، ولا يجيزه على العمامة، والحديث عند أصحابه محمول على أنه كان برأسه مرض وفيمن خاف ضررا من كشف رأسه. 13 - استدل به القرطبي على الاقتصار على فروض الوضوء، أخذ ذلك من الرواية السادسة. لكن في الرواية الرابعة "فغسل يديه" وفي السابعة "فغسل كفيه" وغسل الكفين قبل الوضوء من سننه، فإن قيل: لعل غسلهما بسبب ما أصابهما من الأذى في قضاء الحاجة. قلنا ما قاله الحافظ ابن حجر: بل فعل صلى الله عليه وسلم السنن، وذكره المغيرة. ففي رواية البخاري في الجهاد أنه "تمضمض واستنشق وغسل وجهه". 14 - ومن غسل الكفين أخذ مواظبته صلى الله عليه وسلم على سنن الوضوء حتى في السفر. 15 - وفيه أن الأفضل تقديم الصلاة في أول الوقت فإنهم فعلوها في أول الوقت ولم ينتظروا النبي صلى الله عليه وسلم قاله النووي. لكن قال القاضي عياض: صلاتهم قبل أن يأتيهم يحتمل أنهم بادروا فضل أول الوقت، أو ظنوا أنه أخذ غير طريقهم، أو أنه لا يأتي إلا وقد صلى وفزعهم حين أدركهم يصلون يدل على أنهم لم يبادروا لفضل أول الوقت ولا أنهم أخروا الصلاة حتى خافوا خروج الوقت، فالأشبه أنهم انتظروه، فلما تأخر عن وقته المعتاد صلوا. 16 - قال النووي: وفيه أن الإمام إذا تأخر عن أول الوقت استحب للجماعة أن يقدموا أحدهم، فيصلي بهم، إذا وثقوا بحسن خلق الإمام، وأنه لا يتأذى من ذلك، ولا يترتب

عليه فتنة، فأما إذا لم يأمنوا أذاه فإنهم يصلون في أول الوقت فرادى، ثم إن أدركوا الجماعة بعد ذلك استحب لهم إعادتها معهم. اهـ. 17 - وفيه تقديم الجماعة إماما بغير إذن الإمام. 18 - وفيه أدب القوم مع كبيرهم، إذ فزعوا حين أحسوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وذهب إمامهم ليتأخر. 19 - وجواز اقتداء الفاضل بالمفضول. 20 - وجواز صلاة النبي صلى الله عليه وسلم خلف بعض أمته، ولا يقال: لم لم يتأخر عبد الرحمن كما تأخر أبو بكر، وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى كل منهما بعدم التأخر؟ أو لم تأخر أبو بكر، ولم يستجب للأمر كما استجاب له عبد الرحمن؟ لأن الفرق بين القضيتين كبير، فعبد الرحمن كان قد ركع ركعة، فترك النبي صلى الله عليه وسلم التقدم لئلا يختل ترتيب صلاة القوم، بخلاف قضية أبي بكر، فإنه لم يكن ركع وقت مجيئه صلى الله عليه وسلم، وفهم أبو بكر أن سلوك الأدب أولى من امتثال الأمر الذي ليس للوجوب. 21 - وفيه كيفية قضاء المسبوق، واتباعه إمامه، حتى في جلوسه، ولو في غير محل جلوس المسبوق. 22 - وأنه لا يقضي إلا بعد سلام الإمام. 23 - وأنه لا يطالب بسجود السهو، خلافا لما ذهب إليه أبو سعيد الخدري وابن الزبير وابن عمر، فقد روى ابن أبي شيبة موصولا عن عطاء عن أبي سعيد وابن عمر وابن الزبير في الرجل يدخل مع الإمام، وقد فاته بعض الصلاة؟ قالوا: يصنع كما يصنع الإمام، فإذا قضى الإمام صلاته قام يقضي، وسجد سجدتين. اهـ. وبقولهم قال أيضا جماعة، منهم عطاء وطاووس وإسحاق ومجاهد ووجهة نظرهم: احتمال أن يكون على الإمام سهو، أو لما يترتب على السبق من الجلوس للتشهد في موضع الجلوس. أو لما يترتب عليه من الزيادة والنقص. 24 - ويؤخذ من الرواية الحادية عشرة والثانية عشرة ورع السيدة عائشة -رضي الله عنها- وإنصافها وإرشادها السائل إلى الأخذ عن الأعلم، قال الأبي: هذا إذا ثبت أنه كان عندها علم بالمسألة، وإلا فالإرشاد متعين على من يسأل عما ليس له به علم. اهـ. ونقول: إن وجه الورع والإنصاف في توجيه السائل إلى علي -كرم الله وجهه- بالذات، مع ما هو معلوم مما كان بينها وبينه، ومع ما هو معلوم من ملازمة بعض الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم في السفر أكثر من علي كالمغيرة وأنس -رضي الله عنهما. 25 - يؤخذ من الحديث الثالث عشر أن من اشتبه عليه أمر، يطلب منه أن يسأل عنه العالم، ولا تمنعه هيبة المسئول، وإن كان عظيما. 26 - وجواز الجمع بين الصلاتين فأكثر بوضوء واحد. قال القاضي عياض: فعله صلى الله عليه وسلم ليدل على الجواز، خوف أن يعتقد وجوب ما كان يفعله من الوضوء لكل صلاة.

(123) باب كراهة غمس المتوضئ يده المشكوك في نجاستها في الإناء قبل غسلها ثلاثا

(123) باب كراهة غمس المتوضئ يده المشكوك في نجاستها في الإناء قبل غسلها ثلاثا 495 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده". 496 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا استيقظ أحدكم فليفرغ على يده ثلاث مرات قبل أن يدخل يده في إنائه فإنه لا يدري فيم باتت يده". -[المعنى العام]- أعلى درجات النظافة، وأسمى مراتب الطهارة أن تطلب من النظيف أن يزداد، وأن تكلف بالمتوهم للاحتياط، هذا هدف الحديث الشريف، وما يدعو إليه ديننا الحنيف، إذ يطلب من المسلم إذا استيقظ من نومه أن لا يدخل يده في ماء أو إناء فيه مائع أو سائل حتى يغسلها ثلاث مرات، قل نومه أو كثر، فخر فراشه أو حقر، غسل يده قبل النوم أو لم يغسلها، فإنه لا يدري إلى أين تحركت يده أثناء نومه، وعلى أي موضع من جسمه وقعت، وإلى أي القاذورات تعرضت، قد تكون احتكت بمناعم الجسم بين الفخذين أو تحت الإبط فعلق بها عرق خبيث، أو ريح كريه، وقد تكون قد دلكت مداخل الأنف أو إفرازات العين، أو صماخ الأذن فأصابها ما لو وضع في الإناء لآذاه، ومبدأ الإسلام الحرص

على طهارة اليد، وطهارة الماء، وليس القصد طهارة الماء لصلاحيته للوضوء فقط، بل لصلاحيته كذلك للشرب، ولا شك أن غمس اليد في الإناء بعد القيام من النوم، وقبل غسلها ثلاث مرات، يجعله أمام النفوس الأبية ملوثا تعاف النفس شربه، وتشمئز من رؤية من يشربه. وإذا كان حكم الإسلام غسل يدى المستيقظ من النوم قبل غمسها، كان نفس الحكم لمن شك في نجاسة يده بدون نوم من باب أولى. فلنغسل اليد بالصب عليها ثلاث مرات قبل إدخالها الإناء، ولنحمد الله على هذا التوجيه السديد، ولنستغفر الله عما بدر منا من مثل هذه الأخطاء، مؤمنين بقوله جل شأنه: {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} [البقرة: 222]. -[المباحث العربية]- (إذا استيقظ أحدكم من نومه) ظاهره عموم النوم بالليل أو النهار، لكن رواية أبي داود "إذا قام أحدكم من الليل". (فلا يغمس يده) في الرواية الثانية "فليفرغ على يده ثلاث مرات قبل أن يدخل يده" والتعبير بالغمس أوضح، والمراد باليد هنا الكف دون ما زاد عليه. (في الإناء) أي في ماء الوضوء الذي في الإناء، لأن إدخال اليد في الإناء دون أن تمس الماء لا شيء فيه، ورواية البخاري "في وضوئه". (فإنه لا يدري أين باتت يده) أي من جسده، ففي رواية الدارقطني "أين باتت يده منه" وفي رواية "ولا علام وضعها" والمعنى لا يدري الموضع الذي باتت فيه يده. -[فقه الحديث]- الأمر بالغسل عند الجمهور محمول على الندب، وقال إسحاق وداود والطبري: إن الأمر بالغسل للوجوب، وحمله الإمام أحمد على الوجوب في نوم الليل دون نوم النهار. وينبني على هذا أنه لو غمس يده لم يضر الماء عند من قال بالندب، وينجس الماء عند من قال بالوجوب، واستدل الجمهور بآخر الحديث، إذ فيه التعليل بأمر يقتضي الشك، والشك لا يقتضي وجوبا في هذا الحكم، استصحابا لأصل الطهارة، فيكون ذلك قرينة صارفة للأمر عن الوجوب، كما استدل أبو عوانة على عدم الوجوب بوضوئه صلى الله عليه وسلم، من الشن المعلق، بعد قيامه من النوم، وتعقب بأن قوله "أحدكم" يقتضي اختصاصه صلى الله عليه وسلم. وأجيب بأنه صح عنه غسل يديه قبل إدخالهما في الإناء حال اليقظة، فاستحبابه بعد النوم أولى، ويكون تركه لبيان الجواز. قاله الحافظ ابن حجر. وقال: وأيضا فقد قال هو في الحديث "فليغسلهما ثلاثا" والتقييد بالعدد في غير

النجاسة العينية بدل على الندبية. اهـ. وفيما قاله الحافظ ابن حجر نظر، لأن الندبية في غير النجاسة العينية إنما هي في العدد لا في أصل الغسل، فليس فيه دليل على عدم الوجوب. واحتج من قال بالوجوب بالأمر بإراقة الماء فيما أخرجه ابن عدي من قوله صلى الله عليه وسلم "فإن غمس يده في الإناء قبل أن يغسلها فليرق ذلك الماء" ورد الجمهور بأن هذا الحديث ضعيف، بل قال المحدثون: إن هذه الزيادة منكرة. والمحققون على أن هذا الحكم ليس خاصا بالقيام من نوم الليل، خلافا لأحمد والطبري وداود الظاهري حيث اعتمدوا على لفظ "المبيت" والتصريح بالليل فيما أخرجه أبو داود ونصه "إذا قام أحدكم من الليل فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات، فإنه لا يدري أين باتت يده" وقالوا: إن الإنسان لا ينكشف في نوم النهار، كما ينكشف في نوم الليل، ونوم النهار قصير، ونوم الليل طويل، فاحتمال إصابة النجاسة فيه أكثر. وأجاب الجمهور بأن لفظ "المبيت" "ولفظ الليل" خرجا مخرج الغالب والعلة تقتضي إلحاق نوم النهار بنوم الليل. نعم يمكن أن تكون الكراهة في الغمس لمن نام ليلا أشد منها لمن نام نهارا. قال الشافعي -رحمه الله- وأحب لكل مستيقظ من النوم، قائلة كانت أو غيرها، أن لا يدخل يده في وضوئه حتى يغسلها، فإن أدخل يده قبل أن يغسلها كرهت ذلك له، ولم يفسد ذلك الماء، إذا لم يكن على يده نجاسة. اهـ. وقال النووي: مذهبنا ومذهب المحققين أن هذا الحكم ليس مخصوصا بالقيام من النوم بل المعتبر فيه الشك في نجاسة اليد، فمتى شك في نجاستها كره له غمسها في الإناء قبل غسلها. سواء قام من نوم الليل أو النهار، أو شك في نجاستها من غير نوم، وهذا مذهب جمهور العلماء. ثم قال: هذا كله إذا شك في نجاسة اليد، أما إذا تيقن طهارتها [كمن لف عليها خرقة أو لبس قفازا، أو أحاط أماكن الرطوبة من جسمه بما يحفظها] فقد قال جماعة من أصحابنا: أنه لا كراهة فيه، بل هو في خيار بين الغمس أولا والغسل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر النوم، ونبه على العلة، وهي الشك، فإذا انتفت العلة انتفت الكراهة، ولو كان النهي عاما لقال: إذا أراد أحدكم استعمال الماء فلا يغمس يده حتى يغسلها، وكان أعم وأحسن. اهـ. ونحن لا نوافق الإمام النووي في قوله "هو في خيار بين الغمس أولا والغسل" لأن ظاهر هذا القول أنهما متساويان، والحق أنه ليس كذلك، بل الغسل قبل الغمس مستحب أو هو الأولى مهما تحقق من طهارة اليد، ومهما رفعت كراهة الغمس، لأن اليد لا تسلم من حك الجسد، ومس مواطن العرق وفتل الشارب، ولمس ما يخرج من الأنف، ومس أشياء غير نظيفة، إلى غير ذلك مما يجعل الغمس والغسل غير متساويين. كما لا نوافق الإمام مالك في عدم التفرقة بين الشاك وبين متيقن الطهارة وكراهة الغمس لكل منهما، وحمل الأمر على التعبد.

هذا كله في غمس اليد في الإناء الصغير الذي يحمل دون القلتين، أما الماء الكثير فلا كراهة في غمس اليد فيه، وإن كان راكدا كماء البرك والأحواض الكبرى. وإذ قد انتهينا إلى أن الأمر بالغسل للقائم من النوم للندب عند الجمهور فإننا نعجب لتشدد بعض الشافعية في رسم الوسيلة إذا كان الإناء كبيرا لا يمكن الصب منه على اليدين. فيقول النووي: قال أصحابنا وإذا كان الماء في إناء كبير، أو صخرة، بحيث لا يمكن الصب منه، وليس معه إناء صغير، يغترف به، فطريقه أن يأخذ بفمه، ثم يغسل به كفيه، أو يأخذ بطرف ثوبه النظيف، أو يستعين بغيره. اهـ. وأعجب من هذا ما يقوله العيني بعد أن ساق ما ذكرنا. قال: لو فرضنا أنه عجز عن أخذه بفمه، ولم يعتمد على طهارة ثوبه، ولم يجد من يستعين به. ماذا يفعل؟ قال: قال أصحابنا [الأحناف] إذا كانت الآنية كبيرة، وليست معه آنية صغيرة، فالنهي محمول على الإدخال على سبيل المبالغة، حتى لو أدخل أصابع يده اليسرى، مضمومة في الإناء، دون الكف، يرفع الماء من الحب، ويصب على يده اليمنى، ويدلك الأصابع بعضها ببعض فيفعل كذلك مرات، ثم يدخل يده اليمنى بالغا ما بلغ، في الإناء إن شاء. قال: وهذا الذي ذكره أصحابنا أوسع وأحسن. اهـ. عجبا لهؤلاء الأصحاب ولأولئك الأصحاب، لو أن الظاهرية قالوها لكان لهم عذر، أما الشافعية والحنفية، وهم يقولون بالندب، فلا عذر لهم، فالدين يسر والحمد لله والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" وما أحسن قول الحسن البصري في مثل هذا المقام "إنا لنرجو من رحمة الله وفضله ما هو أوسع من هذا" والله أعلم. وفي علة النهي عن غمس اليد للنائم قبل غسلها يقول الشافعي: كانوا يستجمرون وبلادهم حارة، فربما عرق أحدهم إذا نام، فيحتمل أن تطوف يده على المحل، أو على بثرة أو قذر غير ذلك. وتعقبه الباجي بأن ذلك يستلزم الأمر بغسل ثوب النائم، لجواز ذلك عليه. وأجيب بأنه محمول على ما إذا كان العرق في اليد، لا في المحل، أو أن المستيقظ لا يريد غمس ثوبه في الماء، حتى يؤمر بغسله، بخلاف اليد، فإنه محتاج إلى غمسها. وقيل: إن النهي للتعبد، والمذكور ليس بعلة. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - أن موضع الاستنجاء لا يطهر بالأحجار، بل يبقى نجسا معفوا عنه في حق الصلاة، حتى إذا أصاب موضع المسح بلل وابتل به سراويله أو قميصه فإنه يتنجس. 2 - استحباب غسل النجاسات ثلاثا، لأننا أمرنا بالتثليث عند توهمها فعند تيقنها أولى. 3 - أن النجاسة المتوهمة يستحب فيها الغسل، ولا يؤثر فيها الرش، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: "حتى يغسلها، ولم يقل: حتى يغسلها أو يرشها.

4 - إيجاب الوضوء من النوم، فإنه إذا لم يدر أين باتت يده فإنه لا يدري ماذا خرج منه. وقيل: إن الأصل عدم خروج شيء. بدون يقظته، لكن هذا القول خلاف الواقع. 5 - فيه تقوية لمن يقول بالوضوء من مس الذكر. حكاه أبو عوانة لكنه غير ظاهر. 6 - أن القليل من الماء لا يصير مستعملا بإدخال اليد فيه لمن أراد الوضوء. قاله الخطابي. 7 - أن الماء القليل تؤثر فيه النجاسة وإن لم تغيره، وهذه حجة قوية لمن قال بنجاسة القلتين لوقوع النجاسة فيه وإن لم تغيره، وإلا فلا يكون للنهي فائدة. ذكره العيني. 8 - استدل به الحنفية على أن الإناء يغسل من ولوغ الكلب ثلاث مرات، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر القائم من الليل بإفراغ الماء على يديه مرتين أو ثلاثا؛ وذلك لأنهم كانوا يتغوطون ويبولون، ولا يستنجون بالماء، وربما كانت أيديهم تصيب المواضع النجسة فتتنجس، فإذا كانت الطهارة تحصل بهذا العدد من البول والغائط، وهما أغلظ النجاسات كان أولى وأحرى أن تحصل مما هو دونهما من النجاسات. ذكره العيني. وقوله: "وهما أغلظ النجاسات" غير مسلم وسيأتي حكم نجاسة الكلب في الباب التالي. 9 - سحب الحكم على غير إناء الوضوء، من الآنية التي تحمل مائعا أو رطبا. قاله الحافظ ابن حجر. 10 - استدل به على التفرقة بين ورود الماء على النجاسة، وبين ورود النجاسة على الماء، وأنها إذا وردت عليه نجسته. وإذا ورد عليها أزالها، وتقريره أنه نهى عن إدخال اليدين في الإناء، لاحتمال النجاسة، وذلك يقتضي أن ورود النجاسة على الماء مؤثرة فيه، والحث بغسلها بإفراغ الماء عليها للتطهير، وذلك يقتضي أن وروده عليها يزيلها. 11 - أخذ بعضهم من قوله: "فإذا استيقظ أحدكم .. فإنه لا يدري" أن القائم من النوم إن كان صبيا أو مجنونا فإنه لا يؤثر إن غمس يده، والحق أنه كالبالغ العاقل، لأنه لا يدري أين باتت يده من باب أولى. 12 - أخذ بعضهم من قوله: "من نومه" إخراج الغفلة ونحوها. 13 - وفيه استحباب استخدام الكنايات عما يستحيا منه إذا حصل الإفهام بها حيث لم يقل: لعل يده وقعت على دبره أو ذكره أو على نجاسة، فإن لم يحصل بها الإفهام فلا بد من التصريح لينتفي اللبس والوقوع في خلاف المطلوب، وعلى هذا يحمل ما جاء من ذلك مصرحا به، كقوله في الحديث الصحيح: "إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان له ضراط حتى لا يسمع التأذين". 14 - العمل بالاحتياط في العبادات، ما لم يخرج إلى حد الوسوسة. (ملحوظة) ذكرنا حكم غسل الكفين قبل الوضوء باعتباره سنة من سنن الوضوء في النقطة الأولى من باب صفة الوضوء وكماله، وذكر هنا من حيث نظافة الماء وطهارته من النجاسات والأقذار.

(124) باب حكم نجاسة الكلب

(124) باب حكم نجاسة الكلب 497 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه. ثم ليغسله سبع مرار". 498 - عن الأعمش بهذا الإسناد مثله ولم يقل "فليرقه". 499 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات". 500 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "طهور إناء أحدكم، إذا ولغ فيه الكلب، أن يغسله سبع مرات. أولاهن بالتراب". 501 - عن همام بن منبه. قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكر أحاديث منها. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "طهور إناء أحدكم، إذا ولغ الكلب فيه، أن يغسله سبع مرات". 502 - عن ابن المغفل رضي الله عنه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب. ثم قال "ما بالهم وبال الكلاب؟ " ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم. وقال "إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات. وغفروه الثامنة في التراب". 503 - عن شعبة في هذا الإسناد بمثله غير أن في رواية يحيى بن سعيد من الزيادة "ورخص في كلب الغنم والصيد والزرع".

-[المعنى العام]- خلق الله جل شأنه جميع ما خلق لحكمة، وخلق في بيئة الإنسان مخلوقات يحتاجها ويفهم حكمة خلقها وفائدتها بالنسبة له، كالأنعام التي خلقها {لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون* ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون* وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم} [النحل: 5 - 7] وخلق مخلوقات لا يكاد يحتاجها، بل هي خطر وضرر عليه، ولا يدرك حكمة خلقها، من ذلك الخمس الفواسق التي يباح قتلها حتى في الحرم: الحدأة والغراب والفأرة والعقرب والكلب العقور. وخلق مخلوقات تجمع بين الشر والخير، فيها إثم وفيها منافع، من ذلك الكلب فإنه نجس اللعاب والبدن نجاسة مغلظة، إذا ولغ في الإناء وجب غسله سبع مرات إحداهن بالتراب، ووجب إراقة السائل الذي شرب منه مهما غلا ثمنه، ومهما عز الحصول عليه. حاجب حلول رحمة الله تعالى، إذ لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب. منقص لأجر صاحبه على عمل الخير فمن اقتنى كلبا لغير حاجة نقص من عمله قيراطان، ومع هذه المضار هو حارس أمين، ووفي مخلص وحساس إلى حد كبير، يحتاجه صاحب الغنم لحراسة غنمه، وصاحب الزرع لحماية زرعه، ومحترف الصيد لاقتناص صيده، ومن منطلق شروره أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بقتل الكلاب، فتقربوا إلى الله بقتلها، حتى إن المرأة كانت تأتي من البادية إلى المدينة معها كلبها، فيبادر الصحابة بقتله، وشق الأمر على الناس، وشكا أصحاب الحاجة، وتمنوا أن لو أذن الله لهم في اقتناء بعض الكلاب، وسيحافظون على أنفسهم من نجاستها، وسينفذون أمر الشارع بغسل ما يصيبهم منها، وأحس الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم برغبة منهم جامحة، وولع شديد لتربية الكلاب، فلامهم على التململ من حكم الشريعة، رغم سمعهم لها وطاعتهم إياها. فقال: ما شأنكم وشأن الكلاب، وما هذا الحرص الشديد على اقتنائها؟ قالوا: يا رسول الله، غلبنا الصيد، وعدا الذئب على الغنم، وأفسدت السائبة الزرع وانتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ربه، فرخص لهم في كلب الصيد وكلب الزرع وكلب الغنم، على أن يغسلوا ما أصابهم منه سبع مرات إحداهن بالتراب. -[المباحث العربية]- (إذا ولغ الكلب) يقال: ولغ يلغ بفتح اللام فيهما إذا شرب بطرف لسانه، أو أدخل لسانه فيه فحركه. وقال ثعلب: هو أن يدخل لسانه في الماء وغيره من كل مائع فيحركه؛ زاد ابن درستويه "شرب أو لم يشرب" وقال ابن مكي: فإن كان غير مائع يقال: لعقه. وقال المطرزي: فإن كان فارغا يقال: "لحسه". وأل في "الكلب" للنجس، فيصدق على كل نوع من أنواع الكلاب.

(في إناء أحدكم) الإناء مفرد، وجمعه آنية، وجمع الجمع أوان، فلا يستعمل في أقل من تسعة إلا مجازا، والإضافة التي في "إناء أحدكم" ملغاة المفهوم المخالف، لأن الحكم بالنجاسة ووجوب الغسل لا يتوقف على الملكية أو الاختصاص. (فليرقه) ضمير الفاعل يعود على "أحدكم" لكن لا يشترط أن يكون المريق هو المالك، وضمير المفعول يعود على الإناء من إطلاق المحل وإرادة الحال، أي فليرق ماء الإناء. (إذا شرب الكلب) المشهور من روايات أبي هريرة "إذا ولغ" قال الكرماني: ضمن "شرب" معنى "ولغ" فعدى تعديته. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: والشرب أخص من الولوغ، فلا يقوم مقامه في الرواية بالمعنى. (طهور إناء أحدكم) قال النووي: الأشهر فيه ضم الطاء، ويقال بفتحها لغتان تقدمتا في أول كتاب الوضوء. (ما بالهم وبال الكلاب)؟ البال هو الحال والشأن أي ما شأنهم وشأن الكلاب والاستفهام توبيخي، أي لا ينبغي أن يكون شأنهم الحرص على اقتناء الكلاب. أي إنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، ثم أحس أنهم كانوا مولعين بتربيتها، فوبخهم على هذا الحرص، وفي رواية أبي داود: "أمر بقتل الكلاب، ثم قال: ما لهم ولها"؟ -[فقه الحديث]- يمكن حصر النقاط في: 1 - أقوال العلماء في نجاسة سؤر الكلب، وهل يلحق به باقي أعضائه؟ مع الأدلة ومناقشتها. 2 - أقوالهم في تسبيع الغسل، وعلته، والترتيب وحكمته وكيفيته. 3 - أقوالهم في تربية الكلاب، وبيعها وقتلها، وأدلة كل فريق. 4 - ما يؤخذ من الحديث من الأحكام. وهذا هو التفصيل: أولا: أقوال العلماء وأدلتهم في نجاسة الكلب: مذهب الشافعية: أن الكلب نجس، ولا فرق بين الكلب المأذون في اقتنائه وغير المأذون في اقتنائه، ولا بين كلب البدوي والحضري لعموم لفظ الكلب في الحديث. أما نجاسة سؤره فللأمر بغسله، والتعبير بطهور الإناء منه، والطهارة إنما تكون عن حدث أو نجس، وليس هنا حدث، فتعين النجس، ثم إن الرواية الأولى تأمر بإراقة ما في الإناء، مما يدل

على تنجيس ما ولغ فيه، لأن إراقته إضاعة له فلو كان طاهرا لم يأمرنا بإراقته، بل قد نهينا عن إضاعة المال. قالوا: ولا فرق بين ولوغه وغير الولوغ من أجزائه، فإذا أصاب بوله أو روثه أو دمه أو عرقه أو شعره أو لعابه أو عضو من أعضائه شيئا طاهرا في حال رطوبة أحدهما، وجب غسله سبع مرات، لأنه إذا ثبت هذا الحكم لفمه -وهو أشرف أعضائه- ثبت لباقي أعضائه من باب أولى. قالوا: ولو ولغ كلبان، أو كلب واحد مرات في إناء، فالصحيح أنه يكفي الجميع سبع مرات، ولو وقعت نجاسة أخرى في الإناء الذي ولغ فيه الكلب كفى عن الجميع سبع مرات. قالوا: ولو ولغ في طعام مائع حرم أكله، لأننا أمرنا بإراقته، ووجب غسل الإناء منه. وممن قال بنجاسته أيضا أحمد وأبو حنيفة والأوزاعي وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد وداود. أما المالكية فقد اختلفت أقوالهم في نجاسة الكلب وسؤره اختلافا كثيرا. قال الرهوني في حاشيته على عبد الباقي: وأما الكلب فاختلف فيه، للحديث الوارد بغسل الإناء بولوغه فيه سبع مرات، ثم قال: فتحصل أن في سؤر الكلب أربعة أقوال: أحدها: أنه طاهر، وهو قول ابن وهب وأشهب، لأن الكلب سبع من السباع، وهي طاهرة، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة، لكن روايته عن مالك فيها: أن الكلب ليس كغيره من السباع. الثاني: أنه نجس ليس كسائر السباع، وهو قول مالك في رواية ابن وهب عنه لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأمر بغسل الإناء سبعا من ولوغه فيه، وهو قول سحنون في رواية ابن العربي. الثالث: الفرق بين الكلب المأذون في اتخاذه وغيره. وهو أظهر الأقوال، لأن علة الطهارة التي نص عليها النبي صلى الله عليه وسلم في الهرة، موجودة في الكلب المأذون في اتخاذه. وهو قول سحنون في رواية اللخمي. الرابع: الفرق بين البدوي والحضري، وهو قول ابن الماجشون في رواية أبي زيد عنه. اهـ. ونعرض إلى ما استند إليه من قال بطهارته. فقد احتجوا بقوله تعالى {فكلوا مما أمسكن عليكم} [المائدة: 4] وبقوله صلى الله عليه وسلم في كلب الصيد: "ما أمسك عليك فكل" ووجه الدلالة أنه أذن في أكل ما صاده الكلب، ولم يقيد ذلك بغسل موضع فمه، ومن ثم قال مالك: كيف يؤكل صيده ويكون لعابه نجسا؟ وأجيب بأن قصد الآية والحديث الإفادة بأن قتل الكلب ذكاة، وليس فيهما إثبات نجاسة ولا نفيها. ويدل لذلك أنه لم يقل: اغسل الدم إذا خرج من جرح نابه، لكنه وكله إلى ما تقرر من وجوب غسل الدم، فلعله وكله أيضا إلى ما تقرر عنده من غسل ما يماسه فمه، فإباحة الأكل مما أمسكن لا تنافي وجوب تطهير ما تنجس من الصيد، ولو سلم فغايته الترخيص في الصيد بخصوصه للحاجة. واستدلوا بما ثبت عند البخاري من حديث ابن عمر "كانت الكلاب تقبل وتدبر زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك" وأخرجه الترمذي بزيادة "وتبول" ورد بأن البول مجمع على نجاسته فلا يصح حديث بول الكلاب في المسجد حجة يعارض بها الإجماع. وأما الإقبال والإدبار فلا يدلان على الطهارة لاحتمال عدم الرطوبة في أجسامها أو في أرض

المسجد. وقال الحافظ ابن حجر: الأقرب أن يقال: إن ذلك كان في ابتداء الحال على أصل الإباحة، ثم ورد الأمر بتكريم المساجد وتطهيرها وجعل الأبواب عليها. واستدلوا كذلك بالترخيص في كلب الصيد والزرع والماشية، واعتبروا الترخيص باقتنائها دليلا على طهارتها. وأجيب بأنه لا منافاة بين الترخيص وبين الحكم بالنجاسة. وقالوا عن أحاديثنا: إن الأمر بالغسل فيها تعبدي، وليس لنجاسة الكلب [على معنى أنه لم يظهر لنا وجهه، لا أنه لا وجه له، لأن لكل حكم وجها، لأن الأحكام مربوطة بالمصالح، ودرء المفاسد، فما لم تظهر مصلحته ومفسدته اصطلحوا على أن يسموه تعبدا]. ولذا حد بالسبع. ولو كان نجسا كان المطلوب الإنقاء. ورد بأن القول بالتعبد في تشريع الأحكام خلاف الأصل. فالقول به ينقصه الدليل. على أن القول بأن الغسل لإزالة النجاسة ترجحه الرواية الثالثة والرابعة. وفيهما "طهور إناء أحدكم" فالغسل للتطهير. قالوا: المراد من الطهارة في هذا الحديث الطهارة اللغوية. كقوله صلى الله عليه وسلم "السواك مطهرة للفم" ورد هذا القول بأن ألفاظ الشرع إذا دارت بين الحقيقة اللغوية والشرعية حملت على الشرعية إلا إذا قام دليل. فالقول بطهارة الكلب وسؤره محجوج. وأبعد بعضهم فقال: يحل أكله. والعياذ بالله. ثانيا: أقوال العلماء في تسبيع الغسل، وعلته، والترتيب وحكمته وكيفيته: وغسل الإناء من ولوغ الكلب سبع مرات إحداهن بالتراب مذهب الشافعية والحنابلة، بل في رواية عن أحمد الغسل ثمان غسلات، عملا بظاهر رواية ابن المغفل، ومعنى الغسل بالتراب أن يخلط التراب في الماء حتى يتكدر، ولا فرق بين أن يطرح الماء على التراب، أو التراب على الماء، أو يؤخذ الماء الكدر من موضع فيغسل به، فأما مسح موضع النجاسة بالتراب فلا يجزئ، ولا يحصل الغسل بالتراب النجس على الأصح، ولو كانت نجاسة الكلب دمه أو روثه وجب إزالة عين النجاسة مهما زاد عن السبع، ولو زال عينها بست غسلات مثلا قيل: تحسب الست واحدة وقيل: تحسب ستا، ولو غمس الإناء في بحر، ومكث فيه قدر سبع غسلات جاز. وفي قيام هذا مقام التراب خلاف، وفي قيام الصابون ونحوه مقام التراب خلاف، والأصح عدم قيامه، لأنه كان ميسورا يوم أمر بالتراب. مما يحمل على أن للشرع في تحديد التراب حكمة. وقد ذكر بعض الأطباء الثقات في عصرنا وجود جراثيم في الكلب يقضي عليها التراب، وقيل: لأنه يحقق اجتماع طهرين: الماء والتراب. وقد جاء في الروايات الأربع "سبع مرات" وفي رواية لمسلم "أولاهن بالتراب" وفي رواية للبزار "إحداهن" وفي رواية "السابعة بالتراب" وفي رواية "أخراهن أو أولاهن بالتراب" وفي روايتنا الخامسة "وعفروه الثامنة بالتراب". قال النووي في الجمع بينها: وقد روى البيهقي وغيره هذه الروايات كلها، وفيها دليل على أن التقييد بالأولى وبغيرها ليس على الاشتراط، بل المراد إحداهن، وأما رواية "وعفروه الثامنة

بالتراب" فمذهبنا ومذهب الجماهير أن المراد اغسلوه سبعا، واحدة منهن بالتراب مع الماء، فكأن التراب قائم مقام غسلة، فسميت ثامنة لهذا. والله أعلم. اهـ. وقال الحافظ ابن حجر في الترجيح بين رواية "أولاهن" ورواية "السابعة" قال: "أولاهن" أرجح من حيث أكثرية الرواة وأحفظيتهم، ومن حيث المعنى أيضا، لأن تتريب الأخيرة يقتضي الاحتياج إلى غسلة أخرى لتنظيفه، وقد نص الشافعي على أن الأولى أولى. اهـ. وهذا كله فيما إذا كان الماء قليلا، أما إذا ولغ في ماء كثير، بحيث لم ينقص ولوغه عن قلتين لم ينجسه. قالوا: ولو ولغ في ماء قليل، أو طعام مائع، فأصاب ذلك الماء أو الطعام ثوبا أو بدنا أو إناء آخر، وجب غسله سبعا إحداهن بالتراب، ولو ولغ في إناء فيه طعام جامد ألقى ما أصابه وما حوله، وانتفع بالباقي على طهارته السابقة، كما في الفأرة تموت في السمن الجامد، قاله النووي في شرح مسلم. وإراقة ما في الإناء من ماء أو مائع واجبة، قيل على الفور، ولو لم يرد استعمال الإناء، عملا بمطلق الأمر الذي يقتضي الوجوب على المختار، وقيل: لا تجب إلا إذا أراد استعمال الإناء، عملا بالقياس على باقي المياه النجسة، فإنه لا تجب إراقتها على الفور بلا خلاف، وإن استحب ذلك، وذهب أكثر الفقهاء إلى وجوب الإراقة الفورية في نجاسة الكلب، زجرا وتغليظا وتنفيرا عن الكلاب. أما المالكية فيقولون بالغسل من ولوغ الكلب سبع مرات ويقولون بالترتيب، لأنه لم يقع في رواية مالك، والمشهور عندهم أن التسبيع واجب. وعن مالك رواية أن الأمر بالتسبيع للندب، والغسل عندهم للتعبد، لأن الكلب طاهر، وعن مالك رواية بأنه نجس لكن الغسل أيضا للتعبد، لأن قاعدته أن الماء لا ينجس إلا بالتغير. وذهب بعض المالكية إلى أن المأمور بالغسل من ولوغه الكلب المنهي عن اتخاذه، دون المأذون فيه، قال الحافظ ابن حجر: وهذا يحتاج إلى ثبوت تقديم النهي عن الاتخاذ على الأمر بالغسل، وإلى قرينة تدل على أن المراد ما يؤذن في اتخاذه. ثم قال: ومثله تفرقة بعضهم بين البدوي والحضري، وكذا دعوى بعضهم أن الغسل مخصوص بالكلب الكلب [أي المصاب بداء الكلب] وأن الحكمة في الأمر بغسله من جهة الطب، قال: وهذا التعليل وإن كان فيه مناسبة لكنه يستلزم التخصيص بلا دليل. أما إراقة ما في الإناء فالمشهور عن المالكية التفرقة بين إناء الماء؛ فيراق ويغسل، وبين إناء الطعام، فيؤكل ثم يغسل الإناء تعبدا. قالوا: لأن الأمر بالإراقة عام. فيخص الطعام منه بالنهي عن إضاعة المال. قال الحافظ ابن حجر: وعورض بأن النهي عن الإضاعة مخصوص بالأمر بالإراقة، ويرجحه الإجماع على إراقة ما تقع فيه النجاسة من قليل المائعات ولو عظم ثمنه، فثبت أن عموم النهي عن الإضاعة مخصوص، بخلاف الأمر بالإراقة. اهـ. ووجهة نظرهم أن الطعام غير

نجس، فإراقته إضاعة للمال وإراقة الطاهر إضاعة بلا خلاف، فالنزاع في مبنى الإراقة وسببها، لا في الإراقة نفسها، فالمعارضة غير سليمة. والله أعلم. وأما الحنفية فلم يقولوا بوجوب السبع، ولم يقولوا بالتراب، واستندوا إلى أن أبا هريرة رضي الله عنه راوي الغسل سبعا أفتى بثلاث غسلات، فثبت بذلك نسخ السبع، وتعقب بأنه يحتمل أن يكون أفتى بذلك لاعتقاده ندبية السبع، لا وجوبها، أو كان نسي ما رواه، والنسخ لا يثبت بالاحتمال، وأيضا فقد ثبت أنه أفتى بالغسل سبعا. قال الحافظ ابن حجر: ورواية من روى عنه موافقة فتياه لروايته أرجح من رواية من روى عنه مخالفتها من حيث الإسناد، ومن حيث النظر. اهـ. كما استندوا إلى أن العذرة أشد في النجاسة من سؤر الكلب، ولم يقيد التطهير منها بالسبع، فيكون الولوغ كذلك من باب أولى، وأجيب بأنه لا يلزم من كونها أشد منه في الاستقذار أن لا يكون أشد منها في تغليظ الحكم، وبأنه قياس في مقابلة النص، ولا قياس مع النص. وأجاب الحنفية عن الرواية الخامسة -حديث عبد الله بن المغفل- بأن الأمر بالغسل سبعا كان عند الأمر بقتل الكلاب، تغليظا عليهم، وفطما لهم عن الولع بها، فلما نهي عن قتلها نسخ الأمر بالغسل سبعا، وتعقب بأن الأمر بقتلها كان في أوائل الهجرة، والأمر بالغسل متأخر جدا، لأنه من رواية ابن المغفل، وقد ذكر ابن المغفل أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالغسل، وكان إسلامه سنة سبع، وسياق روايته واضح في أن الأمر بالغسل كان بعد الأمر بقتل الكلاب. قالوا: إن الشافعية أنفسهم لم يأخذوا بحديث ابن المغفل، لأنهم لم يوجبوا ثماني غسلات، عملا بظاهر قوله: "وعفروه الثامنة بالتراب" قلنا: إن ترك الشافعية العمل بظاهره لا يبرر للحنفية ترك العمل به رأسا، لأنهم اعتذروا عن ظاهره بالجمع بينه وبين حديث أبي هريرة. فقالوا: لما كان التراب جنسا غير الماء، جعل اجتماعهما في المرة الواحدة معدودا باثنتين، فإطلاق الغسلة الثامنة على الترتيب مجاز. والله أعلم. ثالثا: أقوال العلماء وأدلتهم في تربية الكلاب، وبيعها، وقتلها: وفي تربية الكلاب قال الحافظ ابن حجر: في الكلب بهيمية وسبعية، كأنه مركب وفيه منافع للحراسة والصيد، وفيه من اقتفاء الأثر وشم الرائحة والحراسة وخفة النوم والتودد وقبول التعليم ما ليس لغيره. وقيل: إن أول من اتخذه للحراسة نوح عليه السلام. اهـ. وقد صرح الحديث الخامس بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، وسبب ذلك كما في صحيح مسلم عن ابن عباس عن ميمونة أن جبريل وعد النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيه، فلم يأته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما والله ما أخلفني. قال: فظل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومه ذلك على ذلك، ثم وقع في نفسه جرو كلب كان تحت فسطاط لنا، فأمر به، فأخرج. ثم أخذ بيده ماء، فنضح مكانه فلما أمسى لقيه جبريل عليه السلام. فقال له: قد كنت وعدتني أن تلقاني البارحة؟ قال: أجل. ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، فأمر بقتل الكلاب.

وقيل: إنما أمر بذلك تغليظا عليهم، لأنهم كانوا مولعين بها، فقد أخرج مسلم عن جابر قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب، حتى إن المرأة تقدم من البادية بكلبها فنقتله، ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها، وقال: عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين، فإنه شيطان. [لعل سر الأمر بقتل الأسود البهيم قبح منظره، والاشمئزاز منه، وتشبيهه بالشيطان للتنفير من اقتنائه] ونقل النووي عن إمام الحرمين أن الأمر بقتل الأسود البهيم كان في الابتداء. وهو الآن منسوخ. اهـ. لكن الإمام أحمد يحرم اقتناءه مهما كانت الحاجة إليه. وقد اتفقوا على أن الكلب العقور يقتل، ويحرم اقتناؤه، وهو الكلب الذي يعقر الناس، ويعدو عليهم، ويخيفهم. فقد روى البخاري ومسلم عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: "خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح: الغراب والحدأة والفأرة والعقرب والكلب العقور" وإذا جاز للمحرم قتله فغيره من باب أولى. كما اتفقوا على أنه لا يجوز اقتناء الكلاب لغير حاجة، كأن يقتني كلبا إعجابا بصورته، أو للمفاخرة به، فهذا حرام، وشذ من قال: إنه مكروه. كما اتفقوا على جواز اقتناء الكلب للصيد، ولحراسة الماشية، ولحراسة الزرع، للنص على الترخيص بها. واختلف في اقتنائه لحراسة الدور والدروب، وفي اقتناء الجرو ليعلم، وفي اتخاذه لاقتفاء الأثر. والصحيح إلحاق الحاجات المشروعة بالصيد والماشية والزرع، لأن الترخيص فيها للحاجة، فيرخص لكل ما شابهها، مما يجلب منفعة أو يدفع مضرة، قياسا. هذا عن حكم الاقتناء، أما حكم القتل فالأصح أنه يجوز قتل غير المأذون فيه، ولا يجوز قتل المأذون في تربيته، فإن قتل غرم، فقد روى الطحاوي عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه قضى في كلب صيد قتله رجل بأربعين درهما، وقضى في كلب ماشية بكبش. وقد وردت أحاديث ظاهرها منع بيع الكلب، وتحريم ثمنه، ففي البخاري عن أبي مسعود الأنصاري "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، ومهر البغي وحلوان الكاهن" وروى أبو داود من حديث ابن عباس مرفوعا "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب. وقال: إن جاء يطلب ثمنه فاملأ كفه ترابا". وعند ابن أبي حاتم من حديث ابن عمر "نهى عن ثمن الكلب وإن كان ضاربا، يعني مما يصيد". فهذه الأحاديث حجة للشافعي في تحريم بيع الكلب مطلقا، معلما كان أو غير معلم مما يجوز اقتناؤه أو مما لا يجوز، ومن لازم ذلك أن لا قيمة على متلفه، والعلة في تحريم بيعه نجاسته، وهي قائمة في المعلم وغيره. وعند الحنفية يجوز بيعه، وتجب القيمة على متلفه، لأنه منتفع به حراسة واصطيادا، وأجابوا عن أحاديث النهي عن ثمنه بأنها صدرت أيام الأمر بقتل الكلاب، وكان الانتفاع بها يومئذ محرما.

وعن مالك ثلاث روايات: رواية كالشافعية، ورواية كالحنفية، ورواية لا يجوز بيعه وتجب القيمة على متلفه، وقال القرطبي: مشهور مذهب مالك جواز اتخاذ الكلب، وكراهية بيعه، ولا يفسخ إن وقع. اهـ. وقال عطاء والنخعي: يجوز بيع كلب الصيد دون غيره، فقد أخرج النسائي من حديث جابر قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب إلا كلب صيد". (ملحوظة) حكم الخنزير حكم الكلب في كل ما سبق عند الشافعية وذهب أكثر العلماء إلى أن الخنزير لا يفتقر إلى غسله سبعا، وهو قول الشافعي قال النووي: وهو قوي في الدليل. والله أعلم. -[رابعا: ويؤخذ من الحديثين من الأحكام فوق ما تقدم]- 1 - أن حكم النجاسة يتعدى عن محلها إلى ما يجاورها، بشرط كونه مائعا. 2 - وأن المائعات تنجس إذا وقع في جزء منها نجاسة. 3 - وأن الإناء ينجس إذا اتصل بالمائع النجس. 4 - وأن الماء القليل ينجس بوقوع النجاسة فيه، وإن لم يتغير، لأن ولوغ الكلب لا يغير الماء الذي في الإناء غالبا. 5 - وأن ورود الماء على النجاسة يخالف ورودها عليه، لأنه أمر بإرقة الماء لما وردت عليه النجاسة، وهو حقيقة في إراقة جميعه، وأمر بغسله، وحقيقته تتأدى بما يسمى غسلا ولو كان ما يغسل به أقل مما أريق. 6 - أخذ الأوزاعي من قوله "في إناء أحدكم" إخراج ماء المستنقع، لكن الجمهور على أن العبرة بالماء القليل. 7 - وفيه بيان لطف الله ورأفته بعباده، حيث أباح لهم اقتناء الكلاب للحاجة كالصيد والحراسة، ومنعهم من اقتنائها لغير حاجة لما فيه من ترويع الناس. والله أعلم

(125) باب البول والاغتسال في الماء الراكد

(125) باب البول والاغتسال في الماء الراكد 504 - عن جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يبال في الماء الراكد. 505 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه". 506 - عن همام بن منبه قال هذا ما حدثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تبل في الماء الدائم الذي لا يجري ثم تغتسل منه". 507 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب" فقال: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولا. -[المعنى العام]- كانت العرب في بداوتهم لا يحافظون على نظافة مائهم، فترقى بهم الإسلام إلى أعلى درجات المحافظة على النظافة، نهاهم أولا عن البول في الماء الراكد، ثم نهاهم عن الاغتسال في الماء الذي لا يجري، نهاهم عن الانغماس في الآبار والمستنقعات لرفع جنابتهم، لأنهم بذلك يفسدون نقاوة الماء، وإقبال النفوس عليه، ويحولون النفس الأبية عن استعماله في الوضوء أو الشرب، أو طهي الطعام، روى أبو هريرة في ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب" وسمعه السائب مولى هشام بن زهرة فقال: فكيف يفعل يا أبا هريرة من يريد الاغتسال وهو جنب؟ وليس أمامه سوى ماء دائم قليل؟ أجاب أبو هريرة بما يحفظ للماء الباقي نقاوته ونظافته، فقال: يتناوله بإناء صغير ويغترف منه ويصب على نفسه، بعيدا عن مجمع الماء وحوضه، فإن لم يجد إناء، فليغسل كفيه، ثم يغترف بهما.

-[المباحث العربية]- (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه) الرواية الصحيحة "ثم يغتسل" بالرفع، تنبيها على المانع، أي لا يبل فيه وهو يحتاجه للاغتسال منه وأجاز بعضهم الجزم عطفا على محل "يبولن" وليس بشيء، لأنه يكون الاغتسال منهيا عنه. وليس المعنى عليه، أما النصب فلا يجوز بحال، لأنه يكون بإجراء "ثم" مجرى الواو، في النصب بعدها بإضمار "أن" وهو يقتضي أن المنهي عنه الجمع بينهما، دون إفراد أحدهما، وهذا لم يقله أحد، بل البول فيه منهي عنه، سواء أراد الاغتسال فيه، أو منه، أم لا. (هذا ما حدثنا أبو هريرة) مفعول "حدثنا" محذوف، وهو الرابط، والتقدير: حدثنا إياه. (لا تبل في الماء الدائم الذي لا يجري) "الدائم" هو الراكد، وقوله "الذي لا يجري" تفسير للدائم وإيضاح لمعناه، قال النووي: ويحتمل أنه احترز به راكد لا يجري بعضه كالبرك ونحوها. (لا يغتسل أحدكم) "يغتسل" بالجزم على أن "لا" ناهية، وبالرفع على أنها نافية والنفي أبلغ في النهي، لما فيه من ادعاء الاستجابة، وأنه امتثل وأصبح يخبر عنه. (في الماء الدائم) أي الساكن، قال الحافظ ابن حجر: يقال: دوم الطائر تدويما إذا صف جناحيه في الهواء، فلم يحركهما. (وهو جنب) جملة حالية من فاعل "لا يغتسل". (كيف يفعل يا أبا هريرة؟ ) استفهام حقيقي عن كيفية الاغتسال إذا كان الماء دائما. والمستفهم السائب الراوي عن أبي هريرة. (يتناوله تناولا) أي يغترف منه، ويصب على نفسه، فيصير مغتسلا من الماء، وليس مغتسلا في الماء. -[فقه الحديث]- موضوع هذه الأحاديث نقطتان: الأولى: حكم البول في الماء الراكد وأضراره. الثانية: حكم الماء القليل المستعمل في رفع حدث. أولا: حكم البول في الماء الراكد، وأضراره: أما البول في الماء الراكد فإن الحديث الأول من مجموعتنا يقول عنه "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبال في الماء الراكد" ويقول الحديث الثاني

"لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه" ويقول الحديث الثالث "لا تبل في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم تغتسل منه". ولا يخفى أن للماء أحوالا أربعة: 1 - فقد يكون كثيرا جاريا، كماء النهر، أو ماء القناة الكبيرة [والمراد من الكثرة ما فوق القلتين وبالقليل ما دونهما] وهذه الحالة غير داخلة في منطوق أحاديثنا، لكن مفهومها يفيد أنه لا يحرم البول فيه، وإن كان الأولى اجتنابه، لأنه وإن لم ينجسه فإنه يجعل النفس تشمئز منه. 2 - وقد يكون قليلا جاريا، كماء القناة الضيفة القصيرة [والقلة باعتبار مجموع مائها من أصل الجري إلى منتهاه، وقيل: من محل سقوط النجاسة إلى منتهى الجري] وهذه الحالة غير داخلة في منطوق أحاديثنا كذلك، ومفهومها يفيد أنه لا يحرم البول فيه، لكن المختار أنه يحرم، لأنه يقذره وينجسه على المشهور من مذهب الشافعي وغيره. 3 - وقد يكون كثيرا راكدا، كماء البرك، والأحواض الكبيرة، وخزانات المياه، وهذه الحالة داخلة في منطوق أحاديثنا، ويشملها النهي عن البول فيه، وإن كان هذا الماء لا ينجس بالبول فيه، وعلى ذلك قال بعضهم: يكره لضعف الضرر المترتب عليه، والمختار عند المحققين أنه يحرم، لأن النهي يقتضي التحريم عند الأكثرين من أهل الأصول، وفيه من المعنى أنه يقذره، وربما أدى إلى تنجيسه بتكرار البول فيه. 4 - وقد يكون قليلا راكدا، كماء حوض صغير، أو منخفض قليل، والجمهور على أن هذه الحالة هي المقصودة بالأحاديث، والصواب المختار أن البول فيه حرام، لأنه ينجسه ويتلف ماليته، ويغر غيره باستعماله. قال العلماء: والتغوط في الماء كالبول فيه وأقبح، وكذلك إذا بال في إناء ثم صبه في الماء. قال النووي: ولم يخالف في هذا أحد من العلماء، إلا ما حكي عن داود بن علي الظاهري من أن النهي مختص ببول الإنسان بنفسه، وأن الغائط ليس كالبول، وكذا إذا بال في إناء، ثم صبه في الماء، قال: وهذا الذي ذهب إليه خلاف إجماع العلماء، وهو أقبح ما نقل عنه في الجمود على الظاهر. اهـ. وقال العلماء كذلك: يكره البول والتغوط بقرب الماء وإن لم يصل إليه لعموم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البراز في الموارد، ولما فيه من إيذاء المارين بالماء، ولما يخاف من وصوله إلى الماء، أما إذا غلب وصوله إلى الماء، أو وصول الماء عليه فإنه يأخذ حكم البول فيه، وتطبق عليه الأحوال الأربع السابقة. ثانيا: وأما انغماس من لم يستنج في الماء، ليستنجي فيه، فإن كان كثيرا لا ينجس بوقوع النجاسة فيه وكان جاريا كالنهر، فلا بأس، وإن كان راكدا فالظاهر الكراهة. وأما إن كان قليلا، بحيث

ينجس بوقوع النجاسة فيه فهو حرام لما فيه من تلطخه بالنجاسة وتنجيس الماء. قاله النووي في شرح مسلم. والله أعلم. منهم من يقول: إنه نجس، فالنهي في "لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب" للتحريم، والعلة ما يسببه هذا الاغتسال من تنجيسه. ومنهم من يقول: إنه طاهر في نفسه غير مطهر لغيره، فالنهي للتحريم أيضا، والعلة ما يسببه هذا الاغتسال من صيرورته غير صالح لتطهير غيره. ومنهم من يقول: إنه طاهر في نفسه مطهر لغيره، فالنهي للكراهة، والعلة ما يسببه هذا الاغتسال من الاستقذار. ولنعرض لهذه المذاهب وأدلتها بشيء من التفصيل. فأبو يوسف، وأبو حنيفة في روايتين عنه على أنه نجس، وإحدى الروايتين تقول بالنجاسة المخففة، والأخرى بالنجاسة المغلظة. واحتج لهما بقوله صلى الله عليه وسلم في رواية أبي داود في سننه "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه، ولا يغتسل فيه من الجنابة" قالوا: فهذا الحديث جمع بين البول والاغتسال، والبول ينجس الماء، فكذا الاغتسال. ورد هذا الاستدلال بأن دلالة الاقتران ضعيفة، لا يلزم اشتراك القرينين في الحكم، فقد قال تعالى: {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام: 141] فقد قرن الأكل والإيتاء، ولم يشتركا في الحكم، إذ الأكل مباح، والإيتاء واجب، ثم إن هذا الحديث رواه البخاري ومسلم بلفظ "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ثم يغتسل منه"، [روايتنا الثانية] فهو نهي عن الاغتسال في الماء الدائم الذي حصل فيه البول، وفي روايتنا الرابعة "لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب" وليس فيها الاقتران بين البول والاغتسال. فهاتان الروايتان خلاف رواية أبي داود، وروايتهما رواية الحافظ عن أبي هريرة. قالوا: إنه نجس لأنه أدى به فرض طهارة فكان نجسا، كالمزال به نجاسة. ورد بأنه قياس مع الفارق لأن المزال به نجاسة إنما حكمنا بنجاسته لملاقاته محلا نجسا فانتقلت إليه النجاسة، بخلاف الماء المستعمل، فإنه لاقى طاهرا، فمن أين تأتيه النجاسة؟ وعلل نجاسته بعضهم بأنه ماء الذنوب، فيجب إبعاده، محتجا بما جاء في مسلم "إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن، فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، حتى يخرج نقيا من الذنوب".

ورد هذا الاستدلال بما ثبت في البخاري من الأحاديث الدالة على أنهم كانوا يقتتلون على وضوء النبي صلى الله عليه وسلم يشربون منه، فلو كان يجب إبعاده لم يتبرك به ولم يشرب، ثم إن خروج الذنوب مع الماء لا ينجس الماء، فلم يقل أحد إن الماء ينجس بالذنوب إلا على سبيل المجاز. وضعف هذا الرأي بأدلة أخرى، ساقها القائلون بأنه طاهر في نفسه، وهم الشافعية والمالكية والحنابلة وجمهور السلف والخلف ورواية عن أبي حنيفة، من هذه الأدلة: أنه ماء طاهر، لاقى محلا طاهرا، فكان طاهرا، كما لو غسل به ثوب طاهر. ومنها ما قاله ابن المنذر من إجماع أهل العلم على أن البلل الباقي على أعضاء المتوضئ، وما قطر منه على ثيابه طاهر، وقد ثبت بلا خلاف أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه -رضي الله عنهم- كانوا يتوضئون، ويتقاطر الماء على ثيابهم، ولا يغسلونها. ومنها ما رواه البخاري ومسلم عن جابر رضي الله عنه قال: "مرضت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه يعوداني، فوجداني قد أغمى علي، فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم، وصب علي من وضوئه" فإن قيل: خصوصية قلنا: إن الأصل أن حكمه وحكم أمته واحد، إلى أن يقوم دليل يقضي بالاختصاص، ولا دليل. ومنها: أن الأصل في الماء الطهارة، والحكم بكونه نجسا حكم شرعي يحتاج إلى دليل لا يتطرق إليه الاحتمال، ولا دليل. ومنها: أنه يلزمهم أن يقولوا بتحريم شربه، وهو لا يقولون به. واختلف القائلون بطهارة الماء المستعمل، هل تجوز به الطهارة أو لا؟ فذهب أحمد، والليث، والأوزاعي، والشافعي، ومالك في إحدى الروايتين عنهما وأبو حنيفة في رواية عنه إلى أن الماء المستعمل غير مطهر، قال النووي في أحكام فروع هذا المذهب: إن كان قلتين فصاعدا لم يصر الماء مستعملا، ولو اغتسل فيه جماعات في أوقات متكررات، وأما إذا كان دون القلتين، فإن انغمس فيه الجنب بغير نية، ثم لما صار تحت الماء نوى ارتفعت جنابته، وصار الماء مستعملا، وإن نزل فيه إلى ركبتيه مثلا ثم نوى، قبل انغماس باقيه صار الماء في الحال مستعملا بالنسبة إلى غيره، وارتفعت الجنابة عن ذلك القدر المنغمس، بلا خلاف، وارتفعت أيضا عن القدر الباقي إذا تمم انغماسه، على المذهب الصحيح، لأن الماء إنما يصير مستعملا بالنسبة إلى المتطهر إذا انفصل عنه، أما لو انفصل، ثم عاد إليه، لم يجزئه ما يغسله به بعد ذلك بلا خلاف، ولو انغمس رجلان تحت الماء الناقص عن قلتين، ثم نويا دفعة واحدة ارتفعت جنابتهما، وصار الماء مستعملا، فإن نوى أحدهما قبل الآخر ارتفعت جنابة الناوي، وصار الماء مستعملا بالنسبة إلى رفيقه، فلا ترتفع جنابته على المذهب الصحيح، وقال في شرح المهذب: والماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر لا يصلح لرفع الحدث الأصغر وبالعكس، وفي جواز استعماله في إزالة النجاسة خلاف، والمذهب أنه لا يجوز. ولو جمع المستعمل، حتى صار

قلتين فالأصح زوال حكم الاستعمال، ولو استعمل في نفل الطهارة، كتجديد الوضوء فالصحيح أنه ليس بمستعمل، ويجرى هذا في جميع أنواع نفل الطهارة، كغسل الجمعة، وسائر الأغسال المسنونة، وماء المضمضة والاستنشاق والغسلة الثانية والثالثة. واتفقوا على أن المستعمل في الغسلة الرابعة ليس بمستعمل، لأنها ليست بنفل. اهـ. وهذه التفريعات مبنية على القول بأن الماء المستعمل غير مطهر، وقد استدل أصحاب هذا القول بأن النهي عن الاغتسال في الماء الدائم يخرجه عن كونه أهلا للتطهير، لأن النهي ههنا عن مجرد الغسل، فدل على وقوع المفسدة بمجرده، والوضوء كالغسل في هذا الحكم لأن المقصود التنزه عن التقرب إلى الله بالمتقذرات. وأجيب عن هذا الاستدلال بأن علة النهي ليست صيرورته مستعملا، بل صيرورته خبيثا بتوارد الاستعمال، فيستقذر. ولو سلم فالدليل أخص من الدعوى، لأنه في المستعمل في الجنابة، والدعوى كل مستعمل. كما استدلوا بما رواه أبو داود والترمذي والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة" ووجه الاستدلال أن المراد بفضل طهورها ما سقط عن أعضائها، لأن الباقي في الإناء مطهر باتفاق المنازعين. ورد هذا الاستدلال بأن الدليل أخص من الدعوى، لأن الدعوى خروج كل مستعمل عن الطهورية، لا خصوص المستعمل في طهارة المرأة، على أن الحديث المذكور فيه مقال، وهو معارض بما أخرجه مسلم وأحمد من حديث ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بفضل ميمونة" وبما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي بلفظ "اغتسل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في جفنة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليتوضأ منها، أو يغتسل، فقالت له: يا رسول الله، إني كنت جنبا. فقال: إن الماء لا يجنب" وطريق رفع المعارضة حمل النهي عن أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة على التنزيه. كما استدلوا بأن السلف اختلفوا فيمن وجد من الماء بعض ما يكفيه لطهارته، هل يستعمله، ثم يتيمم للباقي، أم يتيمم ويتركه؟ ولم يقل أحد: يستعمله، ثم يجمعه، ثم يستعمله في بقية الأعضاء، ولو كان مطهرا لقالوه. قال النووي: وأقرب شيء يحتج به أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه -رضي الله عنهم- احتاجوا في مواطن في أسفارهم الكثيرة إلى الماء، ولم يجمعوا المستعمل لاستعماله مرة أخرى. فإن قيل: تركوا الجمع، لأنه لا يتجمع منه شيء. فالجواب أن هذا لا يسلم ولو سلم في الوضوء لم يسلم في الغسل. فإن قيل: لا يلزم من عدم جمعه منع الطهارة به، ولهذا لم يجمعوه للشرب والطبخ والعجن والتبرد ونحوها مع جوازها به بالاتفاق، فالجواب أن ترك جمعه للشرب، ونحوه للاستقذار. فإن النفوس تعافه في العادة وإن كان طاهرا، كما استقذر النبي صلى الله عليه وسلم الضب وتركه، فقيل: أحرام هو قال: "لا ولكني أعافه". اهـ.

ورد هذا الاحتجاج بتكميل السلف للطهارة بالتيمم، لا بما تساقط، وعدم استعمال السلف للماء المستعمل، رد بأنه لا يكون حجة إلا بعد تصحيح النقل عن جميعهم، ولا سبيل إلى ذلك، لأن القائلين بطهورية المستعمل كثير منهم كالحسن البصري، والنخعي ومالك، والشافعي، وأبي حنيفة في إحدى الروايات عن ثلاثتهم، ونسبه ابن حزم إلى عطاء وسفيان الثوري وأبي ثور وجميع أهل الظاهر. كما رد بأن سبب الترك -بعد تسليم صحته عن السلف- هو الاستقذار وليس زوال الطهورية، وهذا القول هو الذي تستريح إليه النفس، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ، فمسح رأسه بفضل ماء في يده، وفي حديث آخر "مسح رأسه ببل لحيته" ولأنه ماء طاهر مطهر، لاقى طاهرا، فبقي مطهرا، كما لو غسل به ثوب طاهر، ولأن ما أدى به الفرض مرة لا يمتنع أن يؤدي به ثانيا، كما يجوز للجماعة أن يتيمموا من موضع واحد وبتراب واحد، وكما يصلي في الثوب الواحد مرارا، ويؤدي بالوضوء الواحد فرائض متعددة، ولأنه لو لم تجز الطهارة بالمستعمل لامتنعت الطهارة أصلا، لأنه بمجرد حصول الماء على العضو يصير مستعملا، فإذا سال على باقي العضو ينبغي أن لا يرفع الحدث. لكن المنازعين يقولون برفعه، ويوقفون عدم طهوريته على الانفصال، والانفصال لا يصلح أساسا لسلب الطهورية. ثم إن طهورية الماء بالكتاب والسنة والإجماع، فلا يخرجه عنها إلا دليل صحيح صريح، وما ذكر من الأدلة على أنه غير طهور، ليست صالحة للاحتجاج بحكم الردود التي ذكرناها عليها. ومع ذلك يكره اغتسال الجنب في الماء القليل الراكد، لما يترتب عليه من القذارة. قال النووي في شرح مسلم: قال العلماء من أصحابنا وغيرهم: يكره الاغتسال في الماء الراكد، قليلا كان أو كثيرا، وكذا يكره الاغتسال في العين الجارية. قال الشافعي -رحمه الله تعالى- في البويطي: أكره للجنب أن يغتسل في البئر، معينة كانت أو دائمة، وفي الماء الراكد الذي لا يجري. قال الشافعي: وسواء قليل الراكد وكثيره أكره الاغتسال فيه. هذا نصه، وكذا صرح أصحابنا وغيرهم بمعناه، وهذا كله على كراهة التنزيه، لا التحريم. اهـ. والله أعلم

(126) باب إزالة النجاسات إذا حصلت في المسجد

(126) باب إزالة النجاسات إذا حصلت في المسجد 508 - عن أنس رضي الله عنه أن أعرابيا بال في المسجد. فقام إليه بعض القوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "دعوة ولا تزرموه" قال فلما فرغ دعا بدلو من ماء، فصبه عليه. 509 - عن أنس بن مالك أن أعرابيا قام إلى ناحية في المسجد. فبال فيها. فصاح به الناس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "دعوه" فلما فرغ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذنوب فصب على بوله. 510 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي. فقام يبول في المسجد. فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. مه مه. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لاتزرموه. دعوه" فتركوه حتى بال. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر. إنما هي لذكر الله عز وجل، والصلاة، وقراءة القرآن"، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال فأمر رجلا من القوم، فجاء بدلو من ماء، فشنه عليه. -[المعنى العام]- انتشر الإسلام في البدو والحضر، وسطع نوره في المدينة وشعاب الصحاري، وغزا شغاف القلوب الهينة واللينة، والقلوب القاسية الجافية، كان الأعراب خلف أغنامهم يسمعون به فيؤمنون، وتبلغهم دعوته فيستجيبون، ثم ينتهزون فرصة قربهم من المدينة فينزلون إليها، ويقصدون مسجدها، لينعموا برؤية رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم. ولتطمئن قلوبهم بمشافهة الحق، وسماع الوحي من نبيهم صلى الله عليه وسلم، ومن هؤلاء الأعراب الجفاة ذو الخويصرة اليماني، دخل المسجد النبوي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه، فسلم، ثم صلى، ثم قال بصوته الجهوري: اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم لقد تحجرت واسعا، لقد ضيقت ساحة رحمة الله التي وسعت كل شيء، بل قل: اللهم ارحمني ومحمدا والمسلمين والمسلمات وجميع عبادك يا كريم.

ثم قام ذو الخويصرة: فانتحى ناحية من المسجد، والتجأ إلى زاوية من زواياه، ثم وقف يبول، ورآه الصحابة فثارت ثائرتهم، وصاحوا به. مه. مه. اكفف. اكفف. به. به. توقف. توقف. وثاروا عليه، واتجهوا نحوه يزجرونه، فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعالوا. تعالوا. دعوه دعوه. لا تزرموه ولا تقطعوا عليه بوله. دعوه فليكمل بوله. قالوا: يا رسول الله. إنها لكبيرة. قال: إنما هو جاهل بالحكم، إنه لا يقصد إساءة المسجد، إنه لا يعرف النجاسة، إنه يظن المكان الذي هو فيه كبقية أماكن الصحراء إن هو بعد عن الناس تبول كيف شاء. وقد بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين، يسروا ولا تعسروا، وتحملوا أخف الضررين، تنجس المكان وانتهى الأمر، وقطع بوله سيحدث به تضررا، وسيلوث بدنه وثوبه وأماكن أخرى من المسجد، قالوا: فما العمل يا رسول الله؟ قال ائتوني بدلو كبير مملوء ماء، فجاءوا به فقال: صبوه على مكان بوله شيئا فشيئا، تطهر الأرض. ففعلوا. ثم دعا الرجل، وبمنتهى الرفق واللين قال له: إن هذه المساجد لا يليق بها البول والقذر، وقد خصصت لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن: قال: أحسنت يا رسول الله. وجزاك الله خيرا بأبي أنت وأمي. لن أعود لمثلها. -[المباحث العربية]- (أن أعرابيا بال في المسجد) الأعرابي واحد الأعراب، وهم من سكن البادية، عربا كانوا أو عجما، فالأعرابي مقابل الحضري، والعربي مقابل العجمي، قيل: إن الأعرابي المذكور هو ذو الخويصرة اليماني، وقيل: إنه الأقرع بن حابس، ولعل في عدم ذكر اسمه تسترا عليه، وفي وصفه بالأعرابي اعتذارا عن فعله، و"أل" في "المسجد" للعهد، والمراد المسجد النبوي، وفي الكلام مضاف محذوف، أي بال في ناحية المسجد وزاوية من زواياه، ففي الرواية الثانية "فقام إلى ناحية في المسجد" وفي رواية للبخاري "فبال في طائفة المسجد". (فقام إليه بعض القوم) في هذه الرواية حذف، أي فقام إليه بعض القوم يلومونه ففي الرواية الثانية "فصاح به الناس" وفي الثالثة "فقالوا: مه. مه" وفي رواية للبخاري "فتناوله الناس" أي بالزجر واللوم. وفي أخرى للبخاري "فزجره الناس" وللبخاري في الأدب "فثار إليه الناس" أي بألسنتهم، لا بأيديهم. (دعوه ولا تزرموه) بضم التاء وسكون الزاي وكسر الراء، أي لا تقطعوا عليه بوله، يقال: أزرم الدم والدمع إذا انقطعا، وأزرمته أي قطعته. (دعا بدلو من ماء) "الدلو" يذكر ويؤنث، واستعمل مذكرا وفي رواية لابن ماجه "بسجل من ماء" و"السجل" بفتح السين وسكون الجيم الدلو العظيمة. (فصب عليه) الصب السكب، وفاعل الصب يعود على الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن لا باعتباره باشر الصب، بل باعتباره الآمر به، وضمير "عليه" يعود على البول على أرض المسجد، المفهوم من المقام،

وضمير المفعول في "فصبه" يعود على الدلو، من إطلاق المحل وإرادة الحال، أو على "الماء" في قوله "من ماء". (أمر بذنوب فصب على بوله) "الذنوب" بفتح الذال وضم النون الدلو المملوءة ماء، وقال ابن فارس: الدلو العظيمة، وقال ابن السكيت: فيها ماء قريب من الملء، ولا يقال: لها وهي فارغة ذنوب، اهـ. وقوله: "فصب على بوله" هكذا هو في الأصول، بحذف مفعول "صب" مع بنائه للمعلوم، والتقدير: فصبه، أي أمر بصب ما فيه. (مه. مه) اسم فعل أمر مبني على السكون، بمعنى اكفف، فإن وصلت نونته، و "مه" الثاني تأكيد، كما تقول: صه. صه. وقال صاحب المطالع: هي كلمة زجر، قيل: أصلها ما هذا؟ ثم حذف تخفيفا، قال: وتقال مكررة: مه. مه. وتقال مفردة. مه. ومثله: به. به. وقال يعقوب: هي لتعظيم الأمر كبخ. بخ. وقد تنون مع الكسر، وينون الأول ويكسر الثاني بغير تنوين. اهـ. (فشنه عليه) قال النووي: يروى بالشين وبالسين، وهو في أكثر الأصول والروايات بالشين، ومعناه: صبه. وفرق بعض العلماء بينهما، فقال: هو بالسين الصب في سهولة، وبالشين التفريق في صبه. اهـ. وقال ابن الأثير: هو بالسين الصب المتصل، وبالشين الصب المتقطع. -[فقه الحديث]- يتعرض الحديث للتطهير من النجاسة "ولما كان الإمام مسلم لم يخرج من أحاديث تطهير النجاسات سوى هذا الحديث وأحاديث بول الصبي والمني والدم، الآتية قريبا كان من المناسب أن نعرض هنا إلى مذاهب العلماء في تطهير النجاسات. والتعبير الدقيق أن تطلق على عين النجاسة وجرمها لفظ "نجس" وعلى ما أصابته من مائع أو جامد لفظ "متنجس". فالعين النجسة لا تطهر، إلا ما كان من جلود الميتة، على خلاف بين العلماء، أوجزه النووي في سبعة مذاهب: أحدها: لا يطهر بالدباغ شيء من جلود الميتة. وهو مروي عن عمر وابنه وعائشة، وهو أشهر الروايتين عن أحمد ورواية عن مالك. ثانيها: يطهر بالدباغ جلد مأكول اللحم دون غيره، وهو مذهب الأوزاعي وابن المبارك وأبي داود وإسحاق بن راهويه. ثالثها: يطهر بالدباغ كل جلود الميتة إلا الكلب والخنزير، وما تولد من أحدهما وهو مذهب الشافعية، وحكوه عن علي وابن مسعود.

رابعها: يطهر بالدباغ كل الجلود إلا جلد الخنزير، وهو مذهب أبي حنيفة. خامسها: يطهر بالدباغ جميع الجلود حتى الكلب والخنزير، إلا أنه يطهر ظاهره، دون باطنه، فيستعمل في اليابس دون الرطب، ويصلي عليه، لا فيه، وهو مذهب مالك فيما حكي عنه. سادسها: يطهر بالدباغ جميع جلود الميتة، والكلب والخنزير، ظاهرا وباطنا، قاله داود وأهل الظاهر، وحكاه الماوردي عن أبي يوسف. سابعها: ينتفع بجلود الميتة بلا دباغ، ويجوز استعمالها في الرطب واليابس، حكي عن الزهري. ولكل مذهب أدلته تطلب من مواضعها، ولهذه النقطة باب خاص في آخر كتاب الطهارة إن شاء الله تعالى. أما ما كان من العين النجسة كالبول والعذرة، فإنه لا يطهر في ذاته، وكل ما نفعله إذا أصاب ثوبا أن نزيله ونحوله عنه، وإذا أصاب ماء أو مائعا أن يكثر الماء أو المائع عليه كثرة تضعف أو تخفي تأثيره، فيصلح الماء أو المائع للاستعمال. وإزالة النجاسة لا تجوز إلا بالماء عند الشافعية والجمهور، وهو منقول عن مالك ومحمد بن الحسن وزفر وإسحق بن راهويه، وهو أصح الروايتين عن أحمد. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وداود: يجوز إزالة النجاسة من الثوب والبدن بكل مائع يسيل، إذا غسل به ثم عصر، كالخل وماء الورد، ولا يجوز بدهن أو مرق، ولو وقعت نجاسة في ماء فغيرت طعمه أو لونه أو ريحه فهو نجس بالإجماع، سواء كان الماء جاريا أو راكدا كثيرا أو قليلا، تغير تغيرا يسيرا أو فاحشا. أما إذا لم يتغير الماء بالنجاسة ففيه مذاهب. فالشافعية: يرون أنه إن كان الماء قلتين فأكثر لم ينجس، وإن كان دون القلتين نجس، والقلتان خمسمائة رطل، أو ما يقرب من خمس قرب. والحنفية يرون أنه إن كان الماء بحيث لو حرك جانبه تحرك الجانب الآخر نجس، وإلا فلا. والمالكية: والأوزاعي وسفيان الثوري وداود يرون أن الماء لا ينجس بوقوع النجاسة فيه، إلا إذا تغير، قل الماء أو كثر، قال ابن المنذر: وبهذا المذهب أقول واختاره الغزالي في الإحياء، والروياني في كتابيه "البحر والحلية". ولو وقعت النجاسة في جامد، كالفأرة تموت في السمن، أخرجت وما حولها، وانتفع بالباقي. والحديث الذي معنا في النجاسة تقع على الأرض، فالحنفية -كما ذكر العيني- يرون أنه إذا أصابت الأرض نجاسة رطبة كالبول، إن كانت الأرض رخوة صب عليها الماء حتى يتسفل فيها، وإذا لم يبق على وجهها شيء من النجاسة وتسفل الماء يحكم بطهارتها، وإن كانت الأرض صلبة فإن

كانت صعودا، يحفر في أسفلها حفيرة، ويصب الماء عليها ثلاث مرات، ويتسفل إلى الحفيرة، ثم تكبس الحفيرة. وإن كانت مستوية بحيث لا يزول عنها الماء لا يغسل لعدم الفائدة في الغسل، بل تحفر، وعن أبي حنيفة لا تطهر الأرض حتى تحفر إلى الموضع الذي وصلت إليه النداوة وينقل التراب. ودليلهم على الحفر ما أخرجه الدارقطني عن أنس ... فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "احفروا مكانه، ثم صبوا عليه ذنوبا من ماء" وما أخرجه أبو داود عن عبد الله بن معقل بن مقرن "خذوا ما بال عليه من التراب، فألقوه وأهريقوا على مكانه ماء" وما رواه عبد الرزاق في مصنفه عن طاوس قال: بال أعرابي في المسجد فأرادوا أن يضربوه فقال النبي صلى الله عليه وسلم "احفروا مكانه، واطرحوا عليه دلوا من ماء، علموا، ويسروا ولا تعسروا". قالوا: والقياس أيضا يقتضي هذا الحكم، لأن الغسالة نجسة، فلا تطهر الأرض ما لم تحفر، وينقل التراب. قال العيني: فإن قلت: قد تركتم الحديث الصحيح، واستدللتم بالحديث الضعيف، قلت: قد عملنا بالصحيح فيما إذا كانت الأرض صلبة، وعملنا بالضعيف -على زعمكم لا على زعمنا- فيما إذا كانت الأرض رخوة، والعمل بالكل أولى من العمل بالبعض وإهمال البعض. اهـ. والظاهر أن العيني اشتبه عليه الأمر، فعكس القول، حيث إنه في الأول قرر أن الحفر في الأرض الصلبة، والصب في الأرض الرخوة، ومقتضاه أنهم عملوا بالصحيح "صب الماء" في الأرض الرخوة وعملوا بالضعيف "الحفر" في الأرض الصلبة. عكس ما يقول. وعلى كل فهي مغالطة مكشوفة، لأن الواقعة واحدة، والأرض التي بال عليها الأعرابي واحدة، [صلبة أو رخوة] فمن أين جاءوا بالحالة الثانية؟ فالحكم إما صب وإما حفر، إن قالوا: إن أرض المسجد كانت صلبة فقد عطلوا الحديث الصحيح، وإن قالوا: إنها كانت رخوة فقد عطلوا الأحاديث التي استدلوا بها فهم على أي حال لم يعملوا بالحديثين معا. ثم إنه لماذا الأمر بصب الماء حيث أمر بإزالة ما بال عليه من التراب في الأحاديث التي استدلوا بها؟ ثم إن قولهم في القياس: لأن الغسالة نجسة غير مسلم، فإن الغسالة لا تعد نجسة إلا إذا انفصلت متغيرة. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - أن الاحتراز من النجاسة كان مقررا في نفوس الصحابة، ولهذا بادروا إلى الإنكار بحضرته صلى الله عليه وسلم قبل استئذانه. 2 - وأنه كان مقررا عندهم الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. 3 - وفيه إثبات نجاسة بول الآدمي، وهو مجمع عليه، ولا فرق بين الكبير والصغير بإجماع من يعتد به، لكن بول الصغير يكفي فيه النضح، قاله النووي. 4 - وفيه أن الأرض تطهر بصب الماء عليها وهو مذهب الجمهور.

5 - وفيه تعيين الماء لإزالة النجاسة عن الأرض المتنجسة، ولا يكفي الجفاف بالريح أو الشمس، لأنه لو كفى ذلك لما حصل التكليف بصب الماء وهو مذهب الشافعي ومالك والحنابلة وزفر، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: هما مطهران، لأنهما يحيلان الشيء. 6 - وفيه أن غسالة النجاسة الواقعة على الأرض طاهرة، لأن البلة الباقية على الأرض غسالة نجاسة، فإذا لم يثبت أن التراب نقل، وعلمنا أن المقصود التطهير، تعين الحكم بطهارة البلة، وإذا كانت طاهرة فالمنفصلة أيضا مثلها، لعدم الفارق. 7 - واستدل به على عدم اشتراط نضوب الماء، لأنه لو اشترط لتوقفت طهارة الأرض على الجفاف، وكذا لا يشترط عصر الثوب، إذا لا فارق. 8 - واستدل به على جواز التمسك بالعموم إلى أن يظهر الخصوص، قال ابن دقيق العيد: والذي يظهر أن التمسك يتحتم عند احتمال التخصيص عند المجتهد، ولا يجب التوقف عن العمل بالعموم لذلك، لأن علماء الأمصار ما برحوا يفتون بما بلغهم، من غير توقف على البحث عن التخصيص، ولهذه القصة لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على الصحابة، ولم يقل لهم: لم نهيتم الأعرابي؟ بل أمرهم بالكف عنه للمصلحة الراجحة. 9 - وفيه دفع أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما، وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما، لقوله صلى الله عليه وسلم "دعوه" قال العلماء: إنما أمروا بتركه يبول في المسجد لمصلحتين: إحداهما: أنه لو قطع عليه بوله تضرر، وأصل التنجيس قد حصل، فكان احتمال زيادته أولى من إيقاع الضرر به. والثانية: أن التنجيس قد حصل في جزء يسير من المسجد، فلو أقاموه في أثناء بوله لتنجست ثيابه وبدنه ومواضع كثيرة من المسجد. 10 - وفيه المبادرة إلى إزالة المفاسد عند زوال المانع، لأمرهم عند فراغه بصب الماء. 11 - وفيه الرفق بالجاهل، وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف، إذا لم يكن ذلك منه عنادا، ولا سيما إذا كان ممن يحتاج إلى استئلافه، يؤخذ ذلك من إنكاره صلى الله عليه وسلم لفعل الصحابة، ودعوة الأعرابي وتبصيره بحرمة المساجد. 12 - وفيه رأفة النبي صلى الله عليه وسلم، وحسن خلقه. 13 - وفيه صيانة المساجد، وتنزيهها عن الأقذار والقذى؟ قال الحافظ ابن حجر: والحصر في قوله "إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن" مفهومه أنه لا يجوز في المسجد شيء غير ما ذكر، وهذا المفهوم غير معمول به بالإجماع. اهـ. وذكر النووي وغيره جملة مما يجوز عمله في المسجد وما لا يجوز، نذكر منها:

أنه لا يجوز البصاق ولا النخامة، فإن اضطر ففي منديله أو ثوبه، فإن لم يجد وكانت أرض المسجد ترابا حفر ودفنها، وإلا لزمه الخروج من المسجد وقذفها. ولا يجوز إدخال النجاسات فيه، بل قال النووي: يحرم إدخالها؛ قال اللخمي: ومن رأى بثوبه كثير دم يخرجه، وقيل: يتركه بين يديه، ويستر الدم ببعض الثوب. اهـ. وأرى إخراجه إن لم يخف عليه، فإن خاف عليه وضعه بين يديه وستره، وكذا يقال في نعله. ومن دمي فمه، أو أنفه في المسجد خرج منه فورا لئلا يلوثه، ولا يدخل حجاما فيه وإن جمع في إناء، قال النووي: إن كان في غير إناء فحرام، وإن كان في إناء فمكروه. اهـ. وإن بال في إناء في المسجد، فإن كان لحاجة فمكروه، وإن لم يكن لحاجة فحرام، ومن كان على بدنه أو ثوبه نجاسة، فإن خاف تنجيس المسجد لم يجز له الدخول، فإن أمن ذلك جاز: ويمنع إدخال البهائم والمجانين والصبيان الذين لا يميزون، لغير حاجة مقصودة، لأنه لا يؤمن تنجيسهم المسجد، قال النووي: ويجوز أن يمكن الكافر من دخول المسجد بإذن المسلمين، ويمنع من دخوله بغير إذن، وكره مالك قتل القملة فيه، وقتل البرغوث أخف، وتقتل به العقرب والفأرة، وكره في العتبية أكل الطعام به، إلا للمضطر، واستخف للضيف أن يأكل به جاف الطعام كالتمر المنزوع النوى، وليحذر وقوع الفتات، ويكره الدخول بريح الثوم وكذا البصل والكراث والفجل إن آذى، ولا ترفع فيه الأصوات، ولا تجوز فيه الخصومات، ولا البيع، ولا الشراء، ولا سائر العقود، ولا ينشد به ضالة، وينهى عن السؤال فيه، قال ابن عبد الحكم: ولا يعطى فيه للسائل. قال في المدونة: ولا يأخذ المعتكف من شعره وأظفاره فيه. ولا يحدث به حدث الريح، وجازت القراءة فيه للكتب الحلال، قال ابن حبيب: ولا بأس بالشعر غير الهجاء، ولا يقرأ به ما فيه كذب وفحش، قال سحنون: لا يعلم الصبيان به، وهو خلاف عمل الشيوخ فالصحيح جوازه مع تعليمهم آداب المسجد. أما الوضوء في المسجد فقد قال ابن المنذر: أباح كل من يحفظ عنه العلم الوضوء في المسجد، إلا أن يتوضأ في مكان يبله، أو يتأذى به الناس فإنه مكروه، وكره مالك وسحنون الوضوء بالمسجد، وقال ابن القاسم: ترك الوضوء بصحنه أحب إلي، وقال المحققون: إن كان فيه موضع معد للوضوء، فلا بأس به، وإلا فلا. فينبغي أن تكون أماكن قضاء الحاجة بعيدة ومنفصلة عن المسجد، لئلا يحصل منها الأذى بالتلويث أو الرائحة. وأما الجلوس في المسجد، فإن كان لعبادة، أو قراءة علم، أو درس، أو سماع موعظة أو انتظار صلاة، أو نحو ذلك فهو مستحب، ويثاب عليه، وإن كان لأمور الدنيا المباحة غير المحرمة، وغير المكروهة فقد قال بعض الشافعية: إنه مكروه، والصحيح أنه مباح وتركه أولى، ويكره أن يوضع فيه فراش أو وسادة للجلوس عليها. وأما النوم في المسجد فقد قال النووي: يجوز النوم عندنا في المسجد، نص عليه الشافعي -رحمه الله تعالى- في الأم قال ابن المنذر في الإشراق: رخص في النوم في المسجد ابن المسيب

والحسن وعطاء والشافعي. وقال ابن عباس. لا تتخذوه مرقدا. وروي عنه أنه قال: إن كنت تنام فيه لصلاة فلا بأس. وقال الأوزاعي: يكره النوم في المسجد. وقال مالك: لا بأس بذلك للغرباء، ولا أرى ذلك للحاضر. وقال أحمد: إن كان مسافرا أو شبهه فلا بأس، وإن اتخذه مقيلا أو مبيتا فلا. واحتج من جوزه بنوم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عمر وأهل الصفة والمرأة صاحبة الوشاح، وثمامة بن أثال، وصفوان بن أمية وغيرهم، وأحاديثهم في الصحيح مشهورة. ثم قال: ويجوز الاستلقاء في المسجد، وهز الرجل، وتشبيك الأصابع للأحاديث الصحيحة المشهورة في ذلك من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال: ويستحب استحبابا متأكدا كنس المسجد وتنظيفه للأحاديث الصحيحة المشهورة فيه. والله أعلم

(127) باب حكم بول الطفل الرضيع

(127) باب حكم بول الطفل الرضيع 511 - عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالصبيان فيبرك عليهم ويحنكهم. فأتي بصبي فبال عليه. فدعا بماء. فأتبعه بوله ولم يغسله. 512 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبي يرضع فبال في حجره. فدعا بماء فصبه عليه. 513 - عن أم قيس بنت محصن رضي الله عنها أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن لها لم يأكل الطعام. فوضعته في حجره. فبال. قال فلم يزد على أن نضح بالماء. 514 - عن الزهري بهذا الإسناد وقال "فدعا بماء فرشه". 515 - عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن أم قيس بنت محصن (وكانت من المهاجرات الأول اللاتي بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أخت عكاشة بن محصن. أحد بني أسد بن خزيمة) قال: أخبرتني؛ أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن لها لم يبلغ أن يأكل الطعام. قال عبيد الله: أخبرتني؛ أن ابنها ذاك بال في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فنضحه على ثوبه ولم يغسله غسلا. -[المعنى العام]- تتمثل الإنسانية الحقة في العطف والمودة، واللطف والمحبة بين الناس، وأعلى درجاتها ما يكون بين الرجل والأطفال، فإنها آنذاك خالصة بريئة، لا تستهدف مقابلا، ولا ترجو من الطفل نفعا، إنها أنذاك نابعة من القلب والوجدان والإحساس المرهف، والصدر الحنون ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في هذا العطف، فقد كان يحمل الصبيان، ويتحمل أذاهم بصدر رحب، ونفس راضية، يركبون

على ظهره في سجوده، فيظل صلى الله عليه وسلم ساجدا إشفاقا عليهم، وخوفا عليهم من الوقوع، ويبولون على ثيابه، فينزعج من حوله من الصحابة، وتحاول أم الطفل خطفه، فيقول: دعوه حتى يتم بوله ولا تقطعوه، ويراه بعضهم يقبل طفلا، فيعجب، فيقول: تقبلون الأطفال يا رسول الله؟ نحن لا نقبلهم، فيقول صلى الله عليه وسلم: وما لنا وقد قدت قلوبكم من الحجارة؟ من لا يرحم لا يرحم. ومن أجل غمر الأطفال بالحنان، وعدم التحرز أو التأفف ممن حملهم خفف الله عن الأمة معالجة أذاهم وتبعاتهم، وعفا عن غسل بولهم، واكتفى بصورة الغسل لا حقيقته، بل بمجرد الرش، ونضح قليل الماء. وشاعت هذه الشريعة السمحة بين أمهات الأطفال، كما شاع حب الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، ورأفته بهم، وتحنيكه ودعاؤه لهم، فأسرعت كثيرات من الأمهات بحمل أطفالهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يلتمسن منه الدعاء، ويرجون منه التحنيك، ومن هؤلاء أم قيس، حملت طفلها الذي يقتصر على رضاعة اللبن ولم يأكل بعد الطعام وذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعته في حجره، فمضغ تمرة ثم أخذها يدلك بها سقف حلق الطفل والحنك، ثم دعا له بالبركة، وبينما هو كذلك بال الطفل في حجره صلى الله عليه وسلم، ورأت الأم البول يسيل على ثوب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فأسرعت تخطفه من حجره. فقال دعيه. وتركه حتى أكمل بوله، ثم أعطاه لها، ودعا بقليل من ماء فرشه على ثيابه، ومكان بلله فصدق من سماه الرءوف الرحيم، وخاطبه بقوله: {وإنك لعلى خلق عظيم} [القلم: 4]. -[المباحث العربية]- (كان يؤتى بالصبيان) بكسر الصاد، ويجوز ضمها، جمع صبي، قال الجوهري: الصبي الغلام، والجمع صبية وصبيان، وفي المخصص: يكون صبيا مادام رضيعا، وفي المنتخب: أول ما يولد الولد يقال له: وليد وطفل وصبي. اهـ. والصبايا جمع صبية. (فيبرك عليهم) بضم الياء وفتح الباء وكسر الراء المشددة، أي يدعو لهم بالبركة وفي القاموس: البركة النماء والزيادة والسعادة، والتبريك الدعاء بها وبارك الله لك وفيك، وعليك، وباركك. اهـ. يتعدى باللام، و"في"، و"على" وبنفسه، وخص الصبيان بهذه الدعوة لأن الصبي في أول الأمر، قابل للبركة والزيادة، مبتدئ لها في جسمه وعقله وحياته. (ويحنكهم) في القاموس: الحنك -بفتح الحاء والنون- باطن أعلى الفم من داخل، أو الأسفل من طرف مقدم اللحيين، وحنكه تحنيكا دلك حنكه وحنك الصبي مضع تمرا أو غيره فدلكه بحنكه. اهـ. وفيه لغتان: حنكته بتشديد النون، وحنكته بتخفيفها، والرواية هنا "فيحنكهم" بالتشديد، وهي أشهر اللغتين. (فأتي بصبي) قال الحافظ ابن حجر: يظهر لي أن المراد به ابن أم قيس المذكور في الرواية

بعده، ويحتمل أن يكون الحسن بن علي، أو الحسين، فقد ثبت في الأحاديث بول كل منهما في حجره صلى الله عليه وسلم. اهـ. ويحتمل غيرهما، فقد كان يؤتى بالصبيان كما في أول الرواية، ولا يتوقف على معرفة شخصية الصبي شيء في المقصود من الحديث، اللهم إلا إثبات البركة لمن تثبت شخصيته، لما هو معلوم من قبول دعائه صلى الله عليه وسلم. (فدعا بماء فأتبعه بوله) أي أتبع الرسول صلى الله عليه وسلم البول الذي على الثوب أتبعه الماء فصبه عليه. (أتي بصبي يرضع) بفتح الياء، أي رضيع، وهو الذي لم يفطم. (فبال في حجره) بفتح الحاء وكسرها، لغتان مشهورتان. (لم يأكل الطعام) قال الحافظ ابن حجر: المراد بالطعام ما عدا اللبن الذي يرتضعه والتمر الذي يحنك به، والعسل الذي يلعقه للمداواة وغيرها، فكأن المراد أنه لم يحصل له الاغتذاء بغير اللبن على الاستقلال. وحمل المرفق الحموي في شرح التنبيه قوله "لم يأكل" على ظاهره، فقال: معناه لم يستقل بجعل الطعام في فيه. وقال ابن التين: يحتمل أنها أرادت أنه لم يتقوت بالطعام، ولم يستغن به عن الرضاع ويحتمل أنها إنما جاءت به عند ولادته، ليحنكه صلى الله عليه وسلم فيحمل النفي على عمومه. والأول أولى. (أم قيس بنت محصن) بكسر الميم وسكون الحاء وفتح الصاد. (وكانت من المهاجرات الأول) من مكة إلى المدينة، فقد أسلمت بمكة قديما وهي من المعمرات. (وهي أخت عكاشة بن محصن) "عكاشة" بتشديد الكاف على المشهور وهو صاحب القولة المشهورة "سبقك بها عكاشة" التي أصبحت مثلا، وأصلها في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفا بغير حساب" قال أبو هريرة: فقام عكاشة بن محصن، فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اللهم اجعله منهم" وفي رواية قال: "أنت منهم" فقام آخر فقال: يا رسول الله. ادع الله أن يجعلني منهم، قال: "سبقك بها عكاشة". (لم يبلغ أن يأكل الطعام) "أن" وما دخلت عليه في تأويل مصدر، مفعول "يبلغ" والتقدير: لم يبلغ أكل الطعام. (فنضحه على ثوبه) قال ابن سيده: نضح الماء عليه، ينضحه نضحا، إذا ضربه بشيء، فأصابه منه رشاش، ونضح عليه الماء رش.

-[فقه الحديث]- الحديث دليل للشافعية على أن بول الصبي يكتفى فيه باتباع الماء إياه، ولا يحتاج إلى الغسل. والمذاهب في المسألة يحكيها النووي: فيقول: الخلاف في كيفية تطهير الشيء الذي بال عليه الصبي، ولا خلاف في نجاسته، وقد نقل بعض أصحابنا إجماع العلماء على نجاسة بول الصبي، وإنه لم يخالف فيه إلا داود، ثم قال: وكيفية طهارة بول الصبي والجارية على ثلاثة مذاهب، وفيها ثلاثة أوجه لأصحابنا. الصحيح المشهور المختار أنه يكفي النضح في بول الصبي، ولا يكفي في بول الجارية، بل لا بد من غسله، كغيره من النجاسات. الثاني: أنه يكفي النضح فيهما. الثالث: لا يكفي النضح فيهما. قال: وهما شاذان ضعيفان. اهـ. فمشهور مذهب الشافعية وأحمد وداود التفرقة بين بول الصبي وبول الجارية، فيرش على مكان بول الصبي، ويغسل مكان بول الجارية، واستدلوا بحديث عائشة وأم قيس السابقين. وبما أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الرضيع: "يغسل بول الجارية، وينضح بول الغلام". وبما أخرجه أبو داود وابن ماجه وابن خزيمة والبيهقي والطحاوي من حديث لبابة بنت الحارث، أخت ميمونة بنت الحارث، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: "كان الحسين بن علي -رضي الله عنهما- في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبال عليه، فقلت: البس ثوبا، وأعطني إزارك حتى أغسله، قال: إنما يغسل من بول الأنثى، وينضح من بول الذكر". وبما أخرجه الطبراني في الكبير "أنه يصب من الغلام، ويغسل من الجارية". وبما أخرجه الطبراني في الأوسط "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بصبي، فبال عليه فنضحه، وأتى بجارية، فبالت عليه، فغسله". وبما أخرجه ابن ماجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بول الغلام ينضح، وبول الجارية يغسل". وقالوا في سر التفرقة: إن النفوس أعلق بالذكور منها بالإناث، فحصلت الرخصة في الذكور، لكثرة المشقة، وقيل. إن بول الجارية أغلظ وأشد رائحة من بول الغلام، فروعيت كثافة النجاسة فيه، فوجب غسله. والله أعلم. ومذهب مالك وأبي حنيفة وأصحابهما أنه لا يفرق بين بول الصغير والصغيرة في نجاسته، وجعلوهما سواء في وجوب الغسل منهما. قالوا: والنضح والرش يذكران ويراد بهما الغسل، فيحمل ما جاء في هذا الباب من النضح والرش على الغسل، وقالوا عن حديث أم قيس: إن المراد من قولها "ولم يغسله غسلا" أي غسلا مبالغا فيه.

وواضح أن هذه التأويلات خلاف الظاهر، ويبعدها ما ورد في الأحاديث التي ذكرناها من التفرقة بين بول الصبي والجارية. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - الرفق بالصغار والشفقة عليهم، برسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث كان يأخذهم في حجره، ويتلطف بهم، حتى إن منهم من يبول على ثوبه، فلا يؤثر فيه ذلك، ولا يتغير، بل ثبت أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يزعج الصبي أو يحركه أو يدفعه إلى من بجواره، بل كان يرد من يحاول ذلك، وكان صلى الله عليه وسلم يخفف الصلاة عند سماعه بكاء الصبي وأمه وراءه. 2 - وحمل الأطفال إلى أهل الفضل والصلاح، لتبريكهم والدعاء لهم. 3 - قال النووي: وفيه التبرك بأهل الصلاح والفضل. 4 - وفيه ندب تحنيك الأطفال. والله أعلم

(128) باب حكم المني

(128) باب حكم المني 516 - عن علقمة والأسود أن رجلا نزل بعائشة. فأصبح يغسل ثوبه. فقالت عائشة: إنما كان يجزئك؛ إن رأيته، أن تغسل مكانه. فإن لم تر، نضحت حوله. ولقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركا. فيصلي فيه. 517 - عن عائشة رضي الله عنها في المني. قالت: كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم. مثله. 518 - عن عمرو بن ميمون قال: سألت سليمان بن يسار عن المني يصيب ثوب الرجل. أيغسله أم يغسل الثوب؟ فقال: أخبرتني عائشة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغسل المني ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب. وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه. وأما ابن المبارك وعبد الواحد ففي حديثهما قالت كنت أغسله من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم 519 - عن عبد الله بن شهاب الخولاني قال: كنت نازلا على عائشة. فاحتلمت في ثوبي. فغمستهما في الماء. فرأتني جارية لعائشة. فأخبرتها. فبعثت إلي عائشة فقالت: ما حملك على ما صنعت بثوبيك. قال قلت: رأيت ما يرى النائم في منامه. قالت: هل رأيت فيهما شيئا؟ قلت. لا. قالت: فلو رأيت شيئا غسلته. لقد رأيتني وإني لأحكه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يابسا بظفري.

-[المعنى العام]- كانت عائشة - زوج النبي صلى الله عليه وسلم- أما للمؤمنين بحق، إليها يلجأ المؤمنون عند شدائدهم، ويقصدونها في مشاكلهم، ويأوون إلى دارها في أسفارهم وكانت نعم الأم أعدت دارها لاستقبال الفقير والمسكين والسائل وابن السبيل أعدت دارا للضيافة ملحقة بدارها، وأسندت خدمة الضيوف والنازلين إلى جاريتها. ونزل بساحتها عبد الله بن شهاب الخولاني، فبات ليله، فأصبح يذكر أنه رأى في منامه ما يرى النائم، رأى في منامه أنه مع امرأة يجامعها، وظن أنه بذلك نجس الفراش الذي نام عليه، فأخذ الفراش المكون من ثوبين وغمسهما كلهما في الماء، رأته جارية عائشة فأخبرت بذلك أم المؤمنين، فأسفت لما فعل، وقالت: لم أفسد علينا ثوبنا؟ إنما كان يكفيه أن يفركه بأصبعه، إن كان قد أمنى، فربما فركته من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصبعي. ثم أمرت خادمتها أن تدعوه إليها. فجاء، ومن وراء حجاب سلم على أم المؤمنين، فردت السلام، ثم قالت: ما حملك على ما صنعت بثوبيك؟ ولماذا غمستهما كلهما في الماء؟ قال: يا أم المؤمنين. رأيت ما يرى النائم في منامه، فأردت تطهير الثوبين. قالت له: هل رأيت فيهما بللا؟ قال: لا. قالت: لو كنت رأيت بللا لكفاك غسل مكان البلل دون غمس الثوب كله، ولو كنت رأيت يابسا لكفاك فركه بأصبعك، أما وقد اشتبه عليك الأمر، ولم تعرف إن كان قد أصاب الثوب شيء أو لم يصبه؟ ولم تعرف مكان الإصابة إن كان قد أصاب فقد كان يكفيك أن ترش المكان المشتبه فيه ببعض الماء، وأن تنضح المكان المظنون وحوله، طردا للوسوسة والشك وتثبيتا للاطمئنان، ولقد كنت أحك المني اليابس من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأظافري، فيخرج بثوبه هذا، فيصلي فيه. -[المباحث العربية]- (أن رجلا نزل بعائشة) الظاهر أنه هو عبد الله بن شهاب الخولاني المصرح به في الرواية الرابعة، وفي الكلام حذف، أي نزل ضيفا ببيت عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها. (فأصبح يغسل ثوبه) جملة "يغسل ثوبه" خبر "أصبح" والمراد من الثوب الجنس، بما يصدق على المثنى والجمع، للتوفيق بين ما هنا وبين الرواية الرابعة "ثوبي" بالتثنية. (إنما يجزئك أن تغسل مكانه) الضمير في "مكانه" وفي "إن رأيته" يرجع إلى المفهوم من الفحوى والمقام، إذ لم يسبق له ذكر، والمراد به المني الناشئ عن رؤية ما يراه النائم، والمصدر المنسبك من "أن تغسل" فاعل "يجزئك" بضم الياء والهمز. (فإن لم تر نضحت حوله) مفعول "ترى" محذوف، والمعنى فإن لم تحدد مكانه وتر آثاره نضحت مكانه تقديرا واجتهادا، وزدت على المكان شيئا.

(ولقد رأيتني أفركه فركا) جملة "أفركه" في محل النصب على الحال، أي ولقد رأيتني فاركة إياه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، و"فركا" مفعول مطلق مؤكد لعامله. (فيصلي فيه) الضمير المجرور يعود على الثوب الذي أصابه المني ونظف بالفرك. (عن المني يصيب ثوب الرجل) جملة "يصيب" في محل النصب على الحال من "المنى" وسمي المنى منيا لأنه يمنى، أي يصب، يقال: أمنى، ومني بالتخفيف، ومني بالتشديد، والأولى أفصح، وبها جاء القرآن. قال تعالى: {ألم يك نطفة من مني يمنى} [القيامة: 37]؟ وقال: {أفرأيتم ما تمنون} [الواقعة: 58] وللمني صفات يتميز بها عن غيره مما يخرج من القبل. قال النووي: فمني الرجل في حال صحته أبيض ثخين، يتدفق في خروجه دفعة بعد دفعة، ويخرج بشهوة. ويتلذذ بخروجه، ثم إذا خرج يعقبه فتور، ورائحته كرائحة طلع النخل، قريبة من رائحة العجين، وإذا يبس كانت رائحته كرائحة البيض. هذه صفات، وقد يفقد بعضها مع أنه مني موجب للغسل بأن يرق ويصفر لمرض، أو يخرج بغير شهوة ولا لذة لاسترخاء وعائه، أو يحمر لكثرة الجماع ويصير كماء اللحم، وربما خرج دما عبيطا ويكون طاهرا موجبا للغسل. وأما مني المرأة فأصفر رقيق، ولا خاصية له إلا التلذذ، وفتور شهوتها عقب خروجه. اهـ. (أيغسله) أي: أيغسل المكان الذي أصيب من الثوب؟ (أم يغسل الثوب) كله، ما أصيب وما لم يصب؟ (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغسل المني) من ثوبه، أي يزيله عن ثوبه بالغسل، أو يغسل مكانه من الثوب، وإسناد الغسل إلى ضميره صلى الله عليه وسلم قيل: على سبيل الحقيقة، وأنه فعل ذلك بنفسه، وقيل: على سبيل المجاز وأن التي كانت تغسل زوجه، والثاني هو الموافق لعموم الروايات، وإن جاز أن يكون قد فعل ذلك بنفسه مرة تواضعا ومشاركة. (ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب، وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه) جملة "وأنا أنظر" إلخ حال من فاعل "يخرج" والرابط محذوف، أي يخرج في حالة نظري إلى أثر غسل ثوبه، أو من "الثوب" أي يخرج بثوبه المبلل حالة كونه منظورا إليه مني. والجملة كناية عن الخروج بالثوب مبللا، وعدم انتظار الجفاف، للحاجة إلى الخروج إلى الصلاة، وعدم وجود غير الثوب المبلل. (فاحتلمت في ثوبي) في القاموس: حلم بفتح اللام، واحتلم رأى رؤيا والاحتلام الجماع في النوم. اهـ. وفي الكلام حذف، والأصل رأيت رؤيا جماع وأنزلت في ثوبي. (فغمستهما في الماء) أي غمست الثوبين في الماء لغسلهما، والظاهر أنه غمس الثوبين كلهما، ولم يكتف بغمس مكان الإصابة منهما.

(رأيت ما يرى النائم في منامه) المراد من الموصول رؤيا الجماع، لا أي رؤيا وهذا أدب رفيع في التعبير عما يستهجن. (هل رأيت فيهما شيئا) المراد من الشيء المني، والمعنى هل رأيت في الثوبين بلل المني؟ أو جرمه أو أثره؟ (لو رأيت شيئا غسلته) الأسلوب يتسم بالإنكار، أي لو كنت رأيت شيئا لحسن غسلك، لكن حيث لم تر شيئا فما كان ينبغي لك أن تغسل معتقدا وجوب الغسل. وقال النووي: قولها "فلو رأيت شيئا غسلته" هو استفهام إنكار، حذفت منه الهمزة، وتقديره: أكنت غاسله معتقدا وجوب غسله؟ . اهـ. وتقدير الاستفهام هنا بعيد متكلف. (أحكه يابسا بظفري) أي أفركه جافا وأحكه بظفري. -[فقه الحديث]- ذهب الشافعي وأحمد وإسحق وداود إلى أن المني طاهر، وأنه لا يفسد الماء إن وقع فيه، وأن حكمه في ذلك حكم النخامة، واستدلوا: بأحاديث الباب وهي تفيد الغسل تارة والفرك أخرى، فحملوا الغسل على الاستحباب للتنظيف، لا على الوجوب، قالوا: وبهذا يعمل بالأحاديث وبالقياس معا، لأنه لو كان نجسا لكان القياس وجوب غسله، دون الاكتفاء بفركه، كالدم وغيره وقالوا: ما لا يجب غسل يابسه، لا يجب غسل رطبه، كالمخاط، فسقوط الغسل في يابسه يدل على طهارته. كما استدلوا بقوله تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم} [الإسراء: 70] وتكريمه لا يتناسب وجعل أصله نجسا، وبقوله تعالى: {وهو الذي خلق من الماء بشرا} [الفرقان: 54] فقد سماه ماء، وهو في الحقيقة ليس بماء، فدل على أنه أراد به التشبيه في الحكم، ومن حكم الماء أن يكون طاهرا. وقالوا: إن المني أصل الأنبياء والأولياء، فيجب أن يكون طاهرا. كما استدلوا بما رواه ابن خزيمة عن عائشة -رضي الله عنها- "كانت تسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر [أي تمسح المني الرطب بعود من الإذخر وهو نبت طيب الرائحة] ثم يصلي فيه، وتحته من ثوبه يابسا، ثم يصلي فيه" فإن هذا الحديث يتضمن ترك الغسل في الحالتين. وبما رواه أيضا عن عائشة "أنها كانت تحكه من ثوبه صلى الله عليه وسلم". قالوا: وعلى تقدير عدم ورود شيء من ذلك، فليس في حديث الغسل ما يدل على نجاسة المني، لأن غسلها فعل، وهو لا يدل على الوجوب بمجرده قاله الحافظ ابن حجر. وذهب مالك وأبو حنيفة وآخرون إلى أن المني نجس، أما المالكية فلم يعرفوا الفرك والعمل عندهم على وجوب غسله رطبا ويابسا.

وحمل بعضهم أحاديث الفرك على الدلك بالماء، وهو مردود برواية مسلم -الرواية الرابعة في الباب- وفيها "وإني لأحكه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يابسا بظفري" وقال بعضهم: الثوب الذي اكتفت فيه بالفرك ثوب النوم، والثوب الذي غسلته ثوب الصلاة والثياب النجسة بالغائط والبول والدم لا يطهرها الفرك، ومع ذلك لا بأس بالنوم فيها، ولا تجوز الصلاة فيها حتى تغسل، فالمني كذلك، وهذا القول مردود أيضا بما جاء في مسلم، في الرواية الأولى بلفظ "ولقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركا، فيصلي فيه" فهذا الحديث نص في فرك ثوب الصلاة. قالوا: يحتمل أن يكون في هذا الحديث حذف وأصله "ولقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركا [فأغسله] فيصلي فيه فالفاء في "فيصلي فيه" عاطفة على محذوف. قلنا: هذا احتمال بعيد واه، إذ الأصل في الفاء أنها للترتيب والتعقيب. وقال بعضهم: إن أحاديث فرك ثوب الرسول صلى الله عليه وسلم لا تدل على تطهير المني بالفرك لاحتمال أن مني النبي صلى الله عليه وسلم طاهر خصوصية له. قلنا: إن الخصوصية لا تثبت بالاحتمال ولو كان خصوصية لكانت عائشة أعلم الناس بها، ولما أنكرت على ضيفها الغسل، ولما قالت عنه لجاريتها في رواية الترمذي "إنما يكفيه أن يفركه بأصبعه". قال الحافظ ابن حجر: وعن تقدير صحة كونه من الخصائص أن منيه كان عن جماع فيخالط مني المرأة. اهـ. يعني إن كان منيه صلى الله عليه وسلم طاهرا وصح فركه فكيف صح فركه حين امتزج بمني غيره؟ وهذا الرد ضعيف لاحتمال أن المرأة لم تمن في هذه المرة فالامتزاج غير ثابت. والأولى ما رددنا به أولا. وأما الحنفية فقد قالوا: إن المني نجس، والقياس وجوب غسله مطلقا رطبا ويابسا، ولكن خص هذا العموم بحديث الفرك يابسا، فالفرك بخصوص المني اليابس مطهر. قال العيني مدافعا عن الحنفية: فإن قلت: ما لا يجب غسل يابسه لا يجب غسل رطبه كالمخاط؟ قلت: لا نسلم أن القياس صحيح، لأن المخاط لا يتعلق بخروجه حدث ما أصلا، والمني موجب لأكبر الحدثين وهو الجنابة. اهـ. وهذا دفاع واه، كما لا يخفى، لأن موطن النزاع عين المني وجرمه، هل هو طاهر أو نجس، وليس النزاع في أثر خروجه، فقد تحدث الجنابة بالطاهر، كالتقاء الختانين دون إنزال. ودافع مرة ثانية، فقال: فإن قلت: سقوط الغسل في يابسه يدل على الطهارة؟ قلت: لا نسلم ذلك، كما في موضع الاستنجاء. اهـ. وهذه مغالطة مكشوفة لأن النزاع: هل الفرك يطهر النجاسة أو لا بد من غسلها، ولم يقل الحنفية ولا غيرهم إن الأحجار تطهر من الغائط، وإنما تبيح الصلاة مع وجود أثر النجاسة بل الغسل ساقط في الرطب في الاستنجاء بالأحجار فالمقصود من قولهم هو: سقوط الغسل في اليابس عند تطهير ما يجب تطهيره يدل على الطهارة، وسقوط الغسل عند الاستنجاء ليس عند تطهير المحل، بل عند استباحة الصلاة.

ثم دافع مرة ثالثة فقال: قياسكم المني على الدم قياس فاسد، لأنه لم يأت نص بجواز الفرك في الدم ونحوه، وإنما جاء في يابس المني على خلاف القياس فيقتصر على مورد النص. اهـ. وكان الأولى بالعيني أن يقول: قياسكم قياس صحيح، لكنا [أهل الرأي والقياس] تركنا القياس هذه المرة واقتصرنا على النص. ودافع مرة رابعة فقال: والرد على الحنفية برواية ابن خزيمة عن عائشة -رضي الله عنها- "كانت تسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر، ثم يصلي فيه، وتحته من ثوبه يابسا، ثم يصلي فيه" وأن هذه الرواية تدل على ترك الغسل في الحالتين. قال: هذا الرد غير صحيح وليس فيه دليل على طهارته، وقد يجوز أن يكون عليه الصلاة والسلام كان يفعل ذلك. فيطهر الثوب، والحال أن المني في نفسه نجس. اهـ. وهذا الدفاع من العيني أو هي دفاع، إذ لم يقل الحنفية ولا غيرهم أن نجاسة ما رطبة، أصابت ثوبا، فتشربها، يمكن تطهيره بمسحها بعود من نبات. والله أعلم. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - جواز سؤال النساء عما يستحيا منه، لمصلحة تعلم الأحكام. 2 - وخدمة المرأة زوجها في غسل ثيابه ونحو ذلك، خصوصا إذا كان من أمر يتعلق بها، وهو من حسن العشرة وجميل الصحبة. 3 - خروج المصلي إلى المسجد بثوبه الذي غسل، قبل جفافه. 4 - استدل بعضهم بقولها في الرواية الثالثة: "وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه على أن بقاء الأثر بعد زوال العين في إزالة النجاسة وغيرها لا يضر. ذكره الحافظ ابن حجر. 5 - قال النووي: وقد استدل جماعة من العلماء بهذا الحديث على طهارة رطوبة فرج المرأة، وفيها خلاف مشهور عندنا وعن غيرنا، والأظهر طهارتها وتعلق المحتجون بهذا الحديث بأن قالوا: الاحتلام مستحيل في حق النبي صلى الله عليه وسلم لأنه من تلاعب الشيطان بالنائم، فلا يكون المني الذي على ثوبه صلى الله عليه وسلم إلا من الجماع، ويلزم من ذلك مرور المني على موضع أصاب رطوبة الفرج، فلو كانت الرطوبة نجسة لتنجس بها المني، ولما تركه في ثوبه، ولما اكتفى بالفرك. والله أعلم

(129) باب نجاسة الدم وكيفية غسله

(129) باب نجاسة الدم وكيفية غسله 520 - عن أسماء رضي الله عنها قالت: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقالت: إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيضة كيف تصنع به؟ قال "تحته. ثم تقرصه بالماء. ثم تنضحه. ثم تصلي فيه". -[المعنى العام]- حرص الإسلام على تعلم المرأة أمور دينها، وشجعها على حضور مجلس الوعظ وحضور المساجد، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" ولما كثر الرجال في مجالس العلم، وبعد النساء على مسامع الصوت طلبن من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهن يوما فجعل لهن يوما، وحرضت عائشة على عدم الحياء في العلم، وبمدح نساء الأنصار، إذ قالت: نعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين. ومن هذا المنطلق السمح الحنيف تأتي أسماء بنت أبي بكر الصديق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتسأله عن حكم دم الحيض. تسأله عن حكم ما يصيب ثوبها من دم الحيض، تقول: يا رسول الله إذا لم يكن للمرأة إلا ثوب واحد تحيض فيه فأصابه الدم من الحيضة، كيف تصنع به لتصلي؟ قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أصاب ثوب إحداكن الدم من الحيضة فلتقرضه، وتحته بإصبعها، ثم تغسله وتدلكه بالماء، ثم ترشه بالماء، ثم تصلي فيه. قالت: يا رسول الله إن لم يخرج أثره؟ وإن لم يزل لونه من الثوب بعد الحت والغسل؟ قال: يكفيك الماء ولا يضرك أثره. قالت عائشة: كانت إحدانا تحيض، ثم تقرص الدم من ثوبها عند طهرها، فتغسله، وتنضح وترش على سائره، ثم تصلي فيه. -[المباحث العربية]- (عن أسماء) بنت أبي بكر الصديق -رضي الله عنهما-. (جاءت امرأة) في رواية الشافعي عن هشام في هذا الحديث أن "أسماء" هي السائلة، وأنكر النووي هذا، وضعف الرواية، قال الحافظ ابن حجر: ولا وجه لإنكاره، لأنه لا يبعد أن يبهم الراوي اسم نفسه.

(إحدانا) مبتدأ، والجملة بعده خبر، قال الحافظ ابن حجر: "إحدانا" أي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. اهـ. وهو مبني على أن السائلة أسماء، والأولى أن يكون المراد إحدانا معشر النساء، أعم من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولو كانت السائلة أسماء. (يصيب ثوبها من الحيضة) "الحيضة" بفتح الحاء الحيض و"من" اسم بمعنى "بعض" فاعل "يصيب" والتقدير: يصيب ثوبها بعض الحيضة. (كيف تصنع به؟ ) "كيف" اسم استفهام مفعول مقدم لتصنع. أي ماذا تصنع بثوبها المصاب؟ . (قال: تحته) بفتح التاء، وضم الحاء وتشديد التاء، أي تحكه، وتفركه وتقشره وتنحته، وقيل: الحت دون النحت. (ثم تقرصه بالماء) بفتح التاء، وسكون القاف، وضم الراء، وبالصاد أو الضاد، قال في المغرب: الحت القرص باليد، والقرص بأطراف الأصابع، وفي المحكم: القرص التخميش والقرض بالأصبع، وقد قرضه وقرصه. اهـ. والمعنى: تحكه وتفركه جافا بدون ماء، ثم تدلك موضع الدم بأطراف أصابعها مع الماء ليتحلل بذلك، ويخرج ما تشربه الثوب منه مع الماء. قال القاضي عياض: رويناه بفتح التاء وسكون القاف وضم الراء، وبضم التاء وفتح القاف وكسر الراء المشددة قال: وهو الدلك بأطراف الأصابع، مع صب الماء عليه، حتى يذهب أثره. (ثم تنضحه) بفتح الضاد وضم الحاء، أي تغسله. قاله الخطابي وقال القرطبي: المراد به الرش، لأن غسل الدم استفيد من قوله "تقرضه بالماء" وأما النضح فهو لما شك فيه من الثوب. قال الحافظ ابن حجر: فعلى هذا يكون الضمير في "تنضحه" عائدا على الثوب، بخلاف "تحته" فإنه يعود على الدم. فيلزم منه اختلاف الضمائر، وهو خلاف الأصل، فالأحسن ما قاله الخطابي. -[فقه الحديث]- -[يستفاد من الحديث]- 1 - أن الدم نجس، قال النووي: والدلائل على نجاسته متظاهرة، ولا أعلم فيه خلافا عن أحد المسلمين إلا ما حكاه صاحب الحاوي عن بعض المتكلمين أنه قال: هو طاهر، ولكن المتكلمين لا يعتمد بهم في الإجماع، قال: وفي دم السمك والجراد والدم المتحلب من الكبد والطحال وجهان مشهوران، والأصح في الجميع النجاسة. وممن قال بنجاسة دم السمك مالك وأحمد وداود. وقال أبو حنيفة: طاهر. وأما دم القمل والبراغيث والبق ونحوها فنجسة عندنا، لكن يعفى عنها في الثوب والبدن للحاجة، وممن قال:

بنجاسة هذه الدماء مالك. وقال أبو حنيفة: هي طاهرة، ومما تعم به البلوى الدم الباقي على اللحم وعظامه، فيعفى عنه، ولو غلبت حمرة الدم في القدر، لعسر الاحتراز. اهـ. 2 - وأنه يجب غسل النجاسات من الثياب عند إرادة الصلاة فيها. 3 - وأن إزالة النجاسة لا يشترط فيها العدد. قال النووي: واعلم أن الواجب في إزالة النجاسة الإنقاء، فإن كانت النجاسة حكمية -وهي التي لا تشاهد بالعين، كالبول ونحوه- وجب غسلها مرة، ولا تجب الزيادة، ولكن يستحب الغسل ثانية وثالثة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا"، وأما إذا كانت النجاسة عينية كالدم وغيره، فلا بد من إزالة عينها، ويستحب غسلها بعد زوال العين ثانية وثالثة، وهل يشترط عصر الثوب إذا غسله؟ فيه وجهان. الأصح أنه لا يشترط. وإذا غسل النجاسة العينية فبقي لونها لم يضره، بل قد حصلت الطهارة، وإن بقى طعمها فالثوب نجس، فلا بد من إزالة الطعم، وإن بقيت الرائحة ففيه قولان للشافعي: أصحهما يطهر، والثاني لا يطهر. اهـ. وهذا في نجاسة غير الكلب والخنزير، وقد سبق بيان حكمها. 4 - قال الخطابي: فيه دليل على أن النجاسات إنما تزال بالماء، دون غيره من المائعات، قال الحافظ ابن حجر: لأن جميع النجاسات بمثابة الدم، ولا فرق بينه وبينها إجماعا، قال: وتعين الماء لإزالة النجاسة هو قول الجمهور. وعن أبي حنيفة وأبي يوسف وداود أنه يجوز تطهير النجاسة من الثوب والبدن بكل مائع طاهر [كالبنزين والغاز والخل والكحول] ولا يجوز بدهن ومرق. واحتجوا بحديث عائشة "ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد، تحيض فيه، فإذا أصابه شيء من دم الحيض قالت بريقها [أي بلته بريقها، كما جاء في رواية أبي داود] فمصعته بظفرها" أي فركته وحللته بظفرها. رواه البخاري. قالوا: لو كان الريق لا يطهر لزادت النجاسة باستعماله، وأجيب بأنها ربما فعلت ذلك تحليلا لأثره، ثم غسلته بعد ذلك. كما استدلوا بحديث مسح النعل، وفرك المني، وحته، وإماطته بإذخرة. ورد بأننا لا نسلم النجاسة حتى نسلم التطهير بالمسح. وقالوا: إن مجرد الأمر بالماء في بعض النجاسات لا يستلزم الأمر به مطلقا فذكر الماء في حديث الباب خرج مخرج الغالب لا مخرج الشرط، كقوله تعالى: {وربائبكم اللاتي في حجوركم} [النساء: 23] والمعنى أن الماء أكثر وجودا من غيره، ثم إن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه، ثم إنه مفهوم، ولا يعمل به عندنا؛ ولم يأت دليل يقتضي حصر التطهير في الماء. ورد عليهم بأن الحديث نص على الماء، فإلحاق غيره به يكون بالقياس وشرطه أن لا ينقص الفرع

عن الأصل في العلة، وليس في غير الماء ما في الماء من رقته وسرعة نفوذه فلا يلحق به. قاله الحافظ ابن حجر. ومن الإنصاف القول بأن بعض المائعات كالخل والبنزين لا تنقص عن الماء في إزالة آثار النجاسة، بل تزيد عليه، وحيث كان القصد الإنقاء وإزالة عين النجاسة -طعمها وريحها ولونها- وسال المائع وعصر، فإنه يلحق بالماء. نعم الماء أصل في التطهير، لوصفه بذلك في قوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا} [الفرقان: 48] وقوله صلى الله عليه وسلم: "الماء طهور" فهو يطهر كل فرد من أفراد النجاسة المنصوص على تطهيرها، وقد يتعين غيره مطهرا، كالدباغ في جلود الميتة مثلا، لكن كونه أصلا لا يمنع قيام غيره مقامه إذا أدى مؤداه، ومن الإنصاف أيضا القول بأن بعض المائعات إن أدى مؤدي الماء في إزالة النجاسة فإنه لا يؤدي مؤداه في رفع الحدث، خلافا لما ذهب إليه ابن أبي ليلى، حيث جوز رفع الحدث وإزالة النجس بكل مائع طاهر، وخلافا لما روي عن أبي حنيفة من أنه جوز الوضوء بالنبيذ، وهو مردود بقوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} [النساء: 43]. بقي أن يقال: إذا لم يمكن إزالة جرم النجاسة بالماء وحده وجب إضافة ما يزيل جرمها، [كالصابون والبوتاس] ووجب الحت والقرض، فقد أخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان من حديث أم قيس بنت محصن أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دم الحيضة يصيب الثوب، فقال "حكيه بضلع واغسليه بماء وسدر" قال ابن الأعرابي: الضلع هنا العود. 5 - ويستفاد من الحديث أنه لا فرق بين قليل الدم وكثيره في وجوب تطهيره، لقوله صلى الله عليه وسلم. "تحته، ثم تقرصه بالماء" حيث لم يفرق بين قليله وكثيره، ولم يسألها عن مقداره، وهو مذهب الشافعية، ويؤيدهم قوله تعالى: {وثيابك فطهر} [المدثر: 4] ولم يرخصوا إلا في دم البراغيث لعدم التمكن من التحرز عنه. أما المالكية والحنفية فقد حملوا الحديث على الدم الكثير. قال مالك: قليل الدم معفو عنه، ويغسل قليل سائر النجاسات. وحدد الحنفية القليل بما دون الدرهم، واستندوا إلى ما روي عن علي وابن مسعود أنهما قدرا النجاسة بالدرهم. قال العيني: وكفى بهما في حجة الاقتداء. وقدر العيني الدرهم بمثل عرض الكف، ونقل ذلك عن المحيط، وأيد هذا التقدير بما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قدره بظفره. قال: وفي المحيط: وكان ظفره قريبا من كفنا. اهـ. وليس من السهل علينا أن نتصور أن ظفر عمر كان قدر كف طفل، فضلا عن كونه قدر كفنا. ومما استدل به ما روي عن أبي هريرة من أنه كان لا يرى بالقطرة والقطرتين بأسا في الصلاة، وما روي عن ابن عمر أنه عصر بثرة، فخرج منها دم، فمسحه بيده وصلى. ورغم أن هذه الآثار

واهية، ورغم أنها لا تدل على ما ذهب إليه الحنفية من العفو عن قدر الكف نجد العيني يتحامل على الشافعية، ويقول: فالشافعية ليسوا بأكثر احتياطا من أبي هريرة وابن عمر، ولا أكثر رواية عنهما حتى خالفوهما، حيث لم يفرقوا بين القليل والكثير. اهـ. ومما استدل به العيني ما نقله عن ابن بطال من استدلاله على حمل الحديث على الدم الكثير، بقوله: إن الله تعالى شرط في نجاسته أن يكون مسفوحا. قال: وهو كناية عن الكثير الجاري. اهـ. والذي عليه المفسرون أن المراد بالسفوح السائل، وليس فيه معنى الكثرة، بل كل ما إذا وضع على شيء تجاوز موضعه وسال إلى ما حوله، وهذا احتراز عن الكبد والطحال. 6 - وفيه جواز سؤال المرأة عما يستحيا من ذكره. 7 - والإفصاح بذكر ما يستقذر للضرورة. 8 - وجواز مشافهتها الرجال فيما يتعلق بأمور الدين. 9 - واستحباب فرك النجاسة اليابسة ليهون غسلها. والله أعلم

(130) باب وجوب الاستبراء من البول وعقوبة من يتهاون فيه

(130) باب وجوب الاستبراء من البول وعقوبة من يتهاون فيه 521 - حدثنا الأعمش قال: سمعت مجاهدا يحدث عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال "أما إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله" قال فدعا بعسيب رطب فشقه باثنين ثم غرس على هذا واحدا وعلى هذا واحدا ثم قال "لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا". 522 - عن سليمان الأعمش بهذا الإسناد غير أنه قال "وكان الآخر لا يستتزه عن البول (أو من البول) ". -[المعنى العام]- الإسلام دين نظافة، نظافة الباطن، ونظافة الظاهر، نظافة السلوك، ونظافة البدن والثياب، يمثل السلوك الخاطئ المشي بالنميمة بين الناس، ويمثل القذر في الثياب والبدن عدم التنزه من البول، والتعرض للتلوث من بقاياه، بسبب عدم الاستبراء منه بالحجارة أو الماء. أمران قد يستهين بهما المسلم، ولا يحسبهما من الكبائر التي يعذب عليها بعد الموت، مع أنهما من أول ما يعذب من أجله المؤمن في قبره. يصور الحديث هذا المنظر. رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر مع بعض أصحابه بمقابر المدينة، فيقول لأصحابه: إني أسمع صوت إنسانين في هذين القبرين يعذبان، أسمعني الله بقدرة أودعها في سمعي، إن أصواتهما أصوات تأوه وتضجر وتألم، وقد أخبرني ربي أنهما يعذبان في أمرين استهانا بهما، يعذبان في معصيتين ليستا كبيرتين في حسبان الناس، لكنهما عند الله كبيرتان، كان أحدهما في دنياه لا يتحرز من بقايا بوله، فكان البول يصيب بدنه وثوبه، فتبطل صلاته وهو لا يدري، وكان الآخر في دنياه ينقل الحديث السيئ من القائل إلى المقول فيه، ويزيد عليه للوشاية والإيقاع بين الناس. وأخذت الشفقة والرحمة برسول الله صلى الله عليه وسلم، فتوجه إلى الله بالدعاء أن يخفف عنهما، ثم طلب من

أصحابه جريدة خضراء لينة، بما عليها من خوص أخضر، فشقها نصفين، ووضع على كل قبر من القبرين نصفا، وقال: لعل الله يخفف عن المعذبين هذين بسبب تسبيح الجريدة الخضراء مادامت رطبة، إلى أن تيبس وتجف. صلى الله عليه وسلم. -[المباحث العربية]- (أما إنهما ليعذبان) في الكلام مضاف محذوف، أي إن صاحبيهما ليعذبان، وقيل: إن الضمير للقبرين، من قبيل إطلاق المحل وإرادة الحال فيه و"أما" حرف استفتاح مثل "ألا". (وما يعذبان في كبير) "ما" نافية، والمعنى: وليسا يعذبان في أمر كبير شاق، بل في أمر سهل الترك يسير. (أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة) "أما" حرف شرط وتفصيل، قامت مقام مهما يكن من شيء، والفاء لازمة في تلو تاليها، و"النميمة" نقل كلام الغير بقصد الإضرار. (وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله) وفي الرواية الملحقة "لا يستنزه من البول" وفي رواية البخاري "لا يستبرئ من البول" قال النووي: وكلها صحيحة، ومعناها لا يتجنبه، ولا يتحرز منه. اهـ. فمعنى "لا يستتر من بوله" لا يجعل بينه وبينه سترة، يعني لا يتحفظ منه وحمله بعضهم على ظاهره، فقال: معناه لا يستر عورته، وهو مردود لأن التعذيب لو وقع على كشف العورة لاستقل الكشف بالسببية، فيترتب العذاب عليه، سواء وجد البول أم لا، وسياق الحديث يدل على أن للبول بالنسبة إلى عذاب القبر خصوصية، فلو حمل على مجرد كشف العورة زال هذا المعنى، فتعين الحمل على المعنى الأول لتجتمع ألفاظ الحديث على معنى واحد، لأن مخرجه واحد. (فدعا بعسيب رطب) "العسيب" بفتح العين وكسر السين: الجريد والغصن من النخل، قاله النووي. وقال الحافظ ابن حجر: العسيب هي الجريدة التي لم ينبت فيها الخوص، فإن نبت فهي السعفة، وخص الجريد بذلك لأنه بطيء الجفاف. اهـ. (فشقه باثنين) قال النووي: الباء زائدة، و"اثنين" منصوب على الحال. (ثم غرس على هذا واحدا وعلى هذا واحدا) المراد بالواحد النصف. وفي رواية للبخاري "فغرز" وفي أخرى له أيضا "فوضع". (لعله أن يخفف عنهما) شبه "لعل" بعسى، فأتى بأن في خبرها. ذكره الكرماني. قال ابن مالك: يجوز أن تكون الهاء ضمير الشأن، وجاز تفسيره بأن وصلتها لأنها في حكم جملة، لاشتمالها على مسند ومسند إليه، قال: ويحتمل أن تكون "أن" زائدة مع كونها ناصبة، كزيادة الباء مع كونها جارة. اهـ.

و"لعل" للترجي، وقيل: للتعليل بناء على أنه أوحى إليه صلى الله عليه وسلم أن ذلك يخفف عنهما. (ما لم ييبسا) "ما" مصدرية زمانية، أي مدة عدم اليبس. -[فقه الحديث]- في الحديث وجوب التنزه من البول، وعقوبة مخالفة: أما عدم التنزه من البول فإن الحديث صريح في أنه من أسباب عذاب القبر، ويرى العلماء أنه من الكبائر، ويؤولون قوله صلى الله عليه وسلم "وما يعذبان في كبير" فيقول النووي: وقد ذكر العلماء فيه تأويلين. أحدهما: أنه ليس بكبير في زعمهما وإن كان كبيرا في حقيقته. والثاني: أنه ليس بكبير تركه عليهما، وحكى القاضي عياض تأويلا ثالثا. فقال: ليس بأكبر الكبائر. اهـ. ويؤيد أنه من الكبائر رواية البخاري "وما يعذبان في كبير، وإنه لكبير" ورواية البخاري في باب الوضوء "وما يعذبان في كبير، بل إنه كبير" قال النووي: فثبت بهاتين الزيادتين الصحيحتين أنه كبير. ثم قال: وسبب كونه كبيرا أن عدم التنزه من البول يلزم منه بطلان الصلاة، فتركه كبيرة بلا شك. اهـ. ولما كانت رواية مسلم "لا يستتر من بوله" ظنه بعضهم من كشف العورة وحمله على ذلك، ولم يضع في حسابه الروايات الأخرى للحديث "لا يستنزه". "لا يستبرئ". "لا يتوقى" وقد هاجمه ابن دقيق العيد. فقال: لو حمل "الاستتار" على حقيقته للزم أن مجرد كشف العورة كان سبب العذاب المذكور، وسياق الحديث يدل على أن للبول بالنسبة إلى عذاب القبر خصوصية. قال الحافظ ابن حجر: يشير إلى ما صححه ابن خزيمة من حديث أبي هريرة مرفوعا "أكثر عذاب القبر من البول" أي بسبب ترك التحرز منه، ويؤيده أن لفظ "من" في هذا الحديث لما أضيف إلى البول اقتضى نسبة الاستتار -الذي عدمه سبب العذاب- إلى البول، بمعنى أن ابتداء سبب العذاب من البول، فلو حمل على مجرد كشف العورة زال هذا المعنى، فتعين على المجاز، لتجتمع ألفاظ الحديث على معنى واحد، لأن مخرجه واحد، ويؤيده أنه في حديث أبي بكرة عند أحمد وابن ماجه "أما أحدهما فيعذب في البول" ومثله للطبراني عن أنس. اهـ. والله أعلم. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - الإيمان بعذاب القبر، كما هو مذهب أهل السنة خلافا للمعتزلة. 2 - ونجاسة الأبوال مطلقا، قليلها وكثيرها، وهو مذهب عامة الفقهاء وذهب أبو حنيفة إلى العفو عن قدر الدرهم الكبير، اعتبارا للمشقة. وفي الجواهر للمالكية: أن البول والعذرة من بني آدم الآكلين نجسان. وهما طاهران من كل حيوان مباح الأكل، ومكروهان من المكروه أكله.

3 - ويستدل به على وجوب إزالة النجاسة. خلافا لمن خص الوجوب بوقت إرادة الصلاة. 4 - وفيه دليل -كما قال الخطابي- على استحباب قراءة القرآن على القبور، لأنه إذا كان يرجى عن الميت التخفيف بتسبيح الشجر، فتلاوة القرآن أعظم رجاء وبركة. ومذهب أبي حنيفة وأحمد وصول ثواب القراءة إلى الميت. قال النووي: والمشهور من مذهب الشافعي وجماعة أن قراءة القرآن لا تصل إلى الميت. قال: والأحاديث حجة عليهم، ولكن أجمع العلماء على أن الدعاء ينفعهم، ويصلهم ثوابه. لقوله تعالى: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} [الحشر: 10] وغير ذلك من الآيات والأحاديث المشهورة، منها قوله صلى الله عليه وسلم "اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد" وقوله "اغفر لحينا وميتنا". 5 - استدل به ابن بطال على أن التعذيب لا يختص بالكبائر بل قد يقع على الصغائر. قال: لأن الاحتراز من البول لم يرد فيه وعيد. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: يعني قبل هذه القصة، وتعقب بالزيادة الواردة في بعض الروايات وهي تثبت أنه كبيرة كما سبق قريبا. 6 - وفيه حرمة النميمة، وهي كبيرة بلا خلاف. 7 - استدل به بعضهم على استحباب وضع الجريد الأخضر على القبور، ويطرد في كل ما فيه رطوبة من الأشجار والزهور وغيرها. قال النووي: قيل لكونهما يسبحان ماداما رطبين. وليس لليابس تسبيح. وهذا مذهب كثيرين أو الأكثرين من المفسرين في قوله تعالى: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} [الإسراء: 44] قالوا: معناه: وإن من شيء حي. ثم قالوا: حياة كل شيء بحسبه، فحياة الخشب ما لم ييبس والحجر ما لم يقطع، وذهب المحققون من المفسرين وغيرهم إلى أنه على عمومه، ثم اختلف هؤلاء: هل يسبح حقيقة أم فيه دلالة الصانع. فيكون مسبحا منزها بصورة حاله؟ والمحققون على أنه يسبح حقيقة، وقد أخبر الله تعالى بقوله {وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله} [البقرة: 74] وإذا كان العقل لا يحيل جعل التمييز فيها، وجاء النص به، وجب المصير إليه. اهـ. وأنكر الخطابي ما يفعله الناس على القبور من الأخواص ونحوها متعلقين بهذا الحديث. وقال: لا أصل له. ولا وجه له. وقال عن الحديث إنه محمول على أنه دعا لهما بالتخفيف مدة بقاء النداوة. لا أن في الجريد معنى يخصه ولا أن في الرطب معنى ليس في اليابس. وقال الطيبي: الحكمة في كونهما مادامتا رطبتين تمنعان العذاب يحتمل أن تكون غير معلومة لنا. كعدد الزبانية. اهـ. وقال الطرطوشي: لأن ذلك خاص ببركة يده صلى الله عليه وسلم. قال القاضي عياض: لأنه علل غرزها على القبر بأمر مغيب. وهو قوله "ليعذبان" اهـ. والهدف من هذا كله أنه لا يقتدي به صلى الله عليه وسلم في هذا الفعل. وقد حمل على ذلك الحافظ ابن حجر فقال: لا يلزم من كوننا لا نعلم أيعذب أم لا؟ أن لا نتسبب

له في أمر يخفف عنه العذاب لو عذب. كما لا يمنع كوننا لا ندري أرحم أم لا؟ أن ندعو له بالرحمة. وقد تأسى بريدة بن الحصيب الصحابي بذلك. فأوصى أن يوضع على قبره جريدتان [كما جاء ذلك في البخاري] وهو أولى أن يتبع من غيره. اهـ. (فائدة) لم يعرف اسم صاحبي القبرين، ولا أحدهما. والظاهر أن ذلك كان على عمد من الرواة. لقصد الستر عليهما، وهو عمل مستحسن، وينبغي أن لا يبالغ في الفحص عن تسمية من وقع منه ما يذم به. قاله الحافظ ابن حجر، ثم قال: والظاهر أنهما كانا مسلمين، إذ حصر سبب عذابهما في البول والنميمة ينفي كونهما كافرين؛ لأن الكافر وإن عذب على ترك أحكام الإسلام فإنه يعذب مع ذلك على الكفر بلا خلاف. اهـ. وقال بعضهم: إنهما لو كانا كافرين لم يدع لهما بتخفيف العذاب ولا ترجاه. والله أعلم

كتاب الحيض

كتاب الحيض

(131) باب مباشرة الحائض فوق الإزار والاضطجاع معها في لحاف واحد

(131) باب مباشرة الحائض فوق الإزار والاضطجاع معها في لحاف واحد 523 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان إحدانا، إذا كانت حائضا، أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأتزر بإزار، ثم يباشرها. 524 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان إحدانا، إذا كانت حائضا، أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تأتزر في فور حيضتها، ثم يباشرها. قالت: وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك إربه. 525 - عن ميمونة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر نساءه فوق الإزار، وهن حيض. 526 - عن ميمونة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضطجع معي وأنا حائض، وبيني وبينه ثوب. 527 - عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: بينما أنا مضطجعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخميلة. إذ حضت. فانسللت. فأخذت ثياب حيضتي فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنفست؟ " قلت: نعم. فدعاني فاضطجعت معه في الخميلة. قالت: وكانت هي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسلان، في الإناء الواحد، من الجنابة. -[المعنى العام]- هبطت حواء من الجنة إلى الأرض، من عالم الطهر والراحة إلى دنيا الأذى والشقاء، وكان مما

أصابها زيادة على آدم ما نزل عليها من دم الحيض والنفاس، وهكذا كتب الله عليها وعلى بناتها هذا الأذى، دم يسيل من الرحم أياما في كل شهر، من يوم وليلة إلى خمسة عشر يوما، دم أسود كريه الرائحة يتكرر شهريا مادامت خالية من الحمل وحتى سن اليأس، فإن هي حملت، وانقطع عنها مدة حملها نزل بعد الولادة أياما قد تبلغ الأربعين يوما تشمئز منه نفسها، فضلا عن زوجها، دم يحد من تشوف المرأة إلى الرجل، وتشوف الرجل إليها. وقد اختلفت معاملات الناس للحائض قبل الإسلام، فكانوا في الجاهلية يتجنبونها فإذا غلبت عليهم شهوتهم أتوها في دبرها، وكان النصارى يجامعونها في فرجها، وكان اليهود والمجوس يبالغون في هجرانها، ويتجنبونها ويعتزلونها حتى بعد انقطاع الدم لمدة سبعة أيام، ويزعمون أن ذلك في كتابهم. وجاء الإسلام، وتساءل المسلمون؛ فنزل قوله تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} [البقرة: 222] فكان وسطا في المعاملة، وخير الأمور الوسط، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم الحائض أن تستر ما بين سرتها وركبتها عن زوجها، لئلا تتقزز نفسه منها، وشرع مباشرتها أعلى إزارها، كما شرع مضاجعتها في الفراش الواحد واللحاف الواحد، لكنه منع وطأها في فرجها، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي سأله: ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ قال: "لتشد عليها إزارها، ثم شأنك بأعلاها". -[المباحث العربية]- (كان إحدانا إذا كانت حائضا) قال النووي: هكذا وقع في الأصول "كان إحدانا" من غير تاء في "كان" وهو صحيح، فقد حكى سيبويه في كتابه، في باب ما جرى من الأسماء التي هي من الأفعال وما أشبهها من الصفات مجرى الأفعال قال: وقال بعض العرب: قال امرأة. فهنا نقل الإمام هذه الصيغة، أنه يجوز حذف التاء من فعل ما له فرج، من غير فصل، وقد نقله أيضا ابن خروف في شرح الجمل. قال النووي: ويجوز أن تكون "كان" هنا التي للشأن والقصة. أي كان الأمر أو الحال، ثم ابتدأت، فقالت: إحدانا إذا كانت حائضا أمرها. اهـ. ثم قال: وأصل الحيض في اللغة السيلان، يقال: حاض الوادي إذا سال. والحيض جريان دم المرأة في أوقات معلومة، يرخيه رحم المرأة بعد بلوغها، والاستحاضة جريان الدم في غير أوانه، قال الأزهري والهروي وغيرهما: ودم الحيض يخرج من قعر الرحم، ودم الاستحاضة يسيل من العاذل، وهو عرق، فمه الذي يسيل منه في أدنى الرحم دون قعره وقال أهل اللغة: يقال: حاضت المرأة تحيض حيضا ومحيضا ومحاضا، فهي حائض، بلا هاء. هذه اللغة الفصيحة المشهورة، وحكى الجوهري عن الفراء حائضة بالهاء، ويقال: حاضت وتحيضت ودرست وطمثت وعركت وضحكت ونفست، كله بمعنى واحد، وزاد بعضهم: أكبرت وأعصرت بمعنى حاضت.

(أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأتزر بإزار) المأمور به محذوف، لدلالة "فتأتزر" عليه، والتقدير: أمرها بأن تأتزر فتأتزر، بأن تشد إزارا تستر به ما بين سرتها وركبتها. (ثم يباشرها) من المباشرة التي هي أن يمس الجلد الجلد، وليس المراد به الجماع وإن كانت ترد بهذا المعنى. (أن تأتزر في فور حيضها) "فور الحيضة" بفتح الفاء وسكون الواو معناه معظمها ووقت كثرتها، قال الجوهري: فورة الحر شدته، وفار القدر فورا إذا جاشت. (وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك إربه؟ ) قيل: المراد بالإرب العضو الذي يستمتع به، أي الفرج، وهو بكسر الهمزة وسكون الراء في أكثر الروايات قال النووي: ورواه جماعة بفتح الهمزة والراء، ومعناه حاجته، وهي شهوة الجماع. اهـ. والاستفهام إنكاري بمعنى النفي، أي لا أحد منكم يضبط شهوته، ويملك نفسه من الوقوع في المحرم وهو مباشرة فرج المرأة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك. (يباشر نساءه فوق الإزار) أي فوق السرة وأعلى الجسم، أي فوق المكان الذي يستره الإزار، وليس المراد المباشرة مع الحائل الذي هو الإزار، لأن لفظ المباشرة في معناه وضع البشرة على البشرة، ومس الجلد الجلد. (وهن حيض) بضم الحاء وتشديد الياء المفتوحة، جمع حائض. (يضطجع معي) أي في فراش واحد وغطاء واحد. (بينما أنا مضطجعة) "بينما" أصله "بين" ظرف زمان، وزيدت عليه الميم والألف والعامل فيه جوابه "إذ حضت" والتقدير: فاجأني الحيض وقت أن كنت مضطجعة. (في الخميلة) بفتح الخاء وكسر الميم، ويقال: الخميل بحذف الهاء. قال السكري: هو القطيفة ذات الخمل، والخمل هدب القطيفة ونحوها، مما ينسج ويفضل له فضول، وفي البخاري "مضجعة في خميصة" وفي آخر الرواية "فدعاني فاضطجعت معه في الخميلة" والخميصة كساء مربع، وقيل: ثوب من خزثخين، له علمان، وهو أسود، فلعل الغطاء كان من قطعتين إحداهما خميصة، والأخرى خميلة. (فانسللت) أي انسحبت من الفراش في رفق وخفية، لعدم إزعاجه صلى الله عليه وسلم، وكأنها استقذرت نفسها، وترفعت بمضاجعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الحالة، أو خافت وصول شيء من الدم إليه، أو أن يطلب منها الاستمتاع بها، أو أن ينزل الوحي عليه صلى الله عليه وسلم. (فأخذت ثياب حيضتي) قال النووي: بكسر الحاء، وهي حالة الحيض أي أخذت الثياب

المعدة لزمن الحيض. هذا هو الصحيح المشهور المعروف في ضبط "حيضتي" في هذا الموضع، قال القاضي عياض: ويحتمل فتح الحاء هنا أيضا، أي الثياب التي ألبسها في حال حيضتي، فإن الحيضة بالفتح هي الحيض. اهـ. (أنفست؟ ) بفتح النون وكسر الفاء. قال النووي: هذا هو المعروف في الرواية، وهو الصحيح المشهور في اللغة أن "نفست" بفتح النون وكسر الفاء معناه حاضت، وأما في الولادة فيقال: "نفست" بضم النون وكسر الفاء، وقال الهروي: في الولادة "نفست" بضم النون وفتحها، وبالحيض بالفتح لا غير. ونقل أبو حاتم عن الأصمعي الوجهين في الحيض والولادة، وذكر ذلك غير واحد، وأصل ذلك كله خروج الدم، والدم يسمى نفسا. اهـ. (قالت: وكانت هي) جردت من نفسها من تتحدث عنها، وكان الأصل: قالت: وكنت. (يغتسلان في الإناء الواحد من الجنابة) أي من الحدث الأكبر، يقال: أجنب يجنب إجنابا، والجنابة الاسم، وهو في اللغة البعد، وسمي الإنسان جنبا لأنه نهي أن يقرب من مواضع الصلاة ما لم يتطهر. -[فقه الحديث]- قسم النووي في شرح مسلم مباشرة الحائض إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: أن يباشرها في الفرج بالجماع. فهذا حرام بإجماع المسلمين وبنص القرآن، قال تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} [البقرة: 222] وبالأحاديث الصحيحة المتضافرة. قال: قال أصحابنا: ولو اعتقد مسلم حل جماع الحائض في فرجها صار كافرا مرتدا، ولو فعله إنسان غير معتقد حله، فإن كان ناسيا أو جاهلا بوجود الحيض، أو جاهلا بتحريمه، أو مكرها، فلا إثم عليه، ولا كفارة، وإن وطئها عامدا، عالما بالحيض والتحريم، مختارا، فقد ارتكب معصية كبيرة، نص الشافعي على أنها كبيرة، وتجب عليه التوبة، وفي وجوب الكفارة قولان للشافعي: أصحهما وهو الجديد وقول مالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين وجماهير السلف، أنه لا كفارة عليه وممن ذهب إليه من السلف عطاء وابن أبي مليكة والشعبي والنخعي وكثيرون غيرهم. والقول الثاني: وهو القديم الضعيف أنه يجب الكفارة، وهو مروي عن ابن عباس والحسن البصري وسعيد بن جبير وقتادة والأوزاعي وإسحق، وأحمد في الرواية الثانية عنه، قالوا: لأنه وطء محذور، كالوطء في نهار رمضان. واختلف هؤلاء في الكفارة، فقال الحسن وسعيد: عتق رقبة، وقال الباقون: أو نصف دينار، على اختلاف منهم في الحال الذي يجب فيه الدينار، ونصف الدينار، هل الدينار في أول الدم؟ ونصفه في آخره؟ أو الدينار في زمن الدم؟ ونصفه بعد انقطاعه؟

وتعلقوا بحديث ابن عباس المرفوع "من أتى امرأة وهي حائض، فليتصدق بدينار أو نصف دينار" وهو حديث ضعيف باتفاق الحفاظ، فالصواب أن لا كفارة. وعلى فرض صحة الحديث تكون الصدقة على الاستحباب. القسم الثاني: المباشرة فيما فوق السرة وتحت الركبة، وبالذكر، أو بالقبلة أو المعانقة، أو اللمس أو غير ذلك. وهو حلال باتفاق العلماء. وقد نقل الشيخ أبو حامد الإسفراييني وجماعة كثيرة الإجماع على هذا، وأما ما حكي عن عبيدة السلماني وغيره من أنه لا يباشر منها شيئا بشيء منه فشاذ منكر غير معروف ولا مقبول، ولو صح عنه لكان مردودا بالأحاديث الصحيحة المشهورة المذكورة في الصحيحين وغيرهما في مباشرة النبي صلى الله عليه وسلم فوق الإزار، وإذنه في ذلك بإجماع المسلمين قبل المخالف وبعده. ثم إنه لا فرق بين أن يكون على الموضع الذي يستمتع به شيء من الدم، أو لا يكون؛ هذا هو الصواب المشهور الذي قطع به جماهير أصحابنا وغيرهم من العلماء للأحاديث المطلقة، وحكى المحلي من أصحابنا وجها لبعض أصحابنا أنه يحرم مباشرة ما فوق السرة وتحت الركبة، إذا كان عليه شيء من دم الحيض. وهذا الوجه باطل، لا شك في بطلانه. القسم الثالث: المباشرة فيما بين السرة والركبة، في غير القبل والدبر، وفيها ثلاثة أوجه لأصحابنا، أصحها عند جماهيرهم، وأشهرها في المذهب أنها حرام والثاني أنها ليست بحرام، ولكنها مكروهة كراهة تنزيه، وهذا الوجه أقوى من حيث الدليل وهو المختار. والوجه الثالث: إن كان المباشر يضبط نفسه عن الفرج، ويثق من نفسه باجتنابه، إما لضعف شهوته، وإما لشدة ورعه جاز، وإلا فلا. وهذا الوجه الحسن. وممن ذهب إلى الوجه الأول، وهو التحريم مطلقا مالك وأبو حنيفة وهو قول أكثر العلماء، وممن ذهب إلى الجواز عكرمة ومجاهد والشعبي والنخعي والثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل ومحمد بن الحسن وأبو ثور وابن المنذر وداود، واحتجوا بحديث أنس الآتي "اصنعوا كل شيء إلا النكاح" قالوا: وأما اقتصار النبي صلى الله عليه وسلم في مباشرته على ما فوق الإزار فمحمول على الاستحباب. ثم قال النووي: واعلم أن تحريم الوطء والمباشرة على قول من يحرمهما يكون في مدة الحيض، وبعد انقطاعه إلى أن تغتسل، أو تتيمم إن عدمت الماء بشرطه، هذا مذهبنا ومذهب مالك وأحمد وجماهير السلف والخلف. وقال أبو حنيفة: إذا انقطع الدم لأكثر الحيض -وهو عشرة أيام عنده- حل وطؤها في الحال، واحتج الجمهور بقوله تعالى: {ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله} اهـ. وقال داود الظاهري: إذا غسلت فرجها حل الوطء، واحتج لأبي حنيفة بأنه يجوز الصوم والطلاق قبل الغسل، فكذا الوطء، لأن تحريم الوطء هو للحيض وقد زال، وصارت كالجنب، ومن الإنصاف القول بأن القياس مع أبي حنيفة والنص مع الجمهور. والله أعلم.

-[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - أن الحائض لا بد لها من الاتزار في أيام حيضها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عائشة بذلك وذلك لتمتنع المرأة به عن الجماع، وقد روى أبو داود عن ميمونة -رضي الله عنها- "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يباشر المرأة من نسائه وهي حائض، إذا كان عليها إزار إلى أنصاف الفخذ أو الركبتين، تحتجز به" أي تمتنع المرأة بالإزار عن الجماع. وفي رواية "محتجزة به" أي حال كون المرأة ممتنعة به عن الجماع، فالإزار وقاية وحماية من ثورة الشهوة، وعقبة أمام جموحها نحو مخالفة الشرع. 2 - أن المباشرة فوق الإزار ودون الركبة إنما تجوز لمن يضبط نفسه ويمنعها من الاسترسال والوقوع في الجماع، أما من لا يملك إربه فلا يجوز له ذلك، لأن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه. 3 - أخذ بعضهم من قولها "في فور حيضتها" الفرق بين ابتداء الحيض وبعده، فالمباشرة في نهايته أخف منها في بدايته، ويشهد له ما رواه ابن ماجه في سننه عن أم سلمة -رضي الله عنها- "أنه صلى الله عليه وسلم كان يتقي سورة الدم ثلاثا، ثم يباشرها بعد ذلك". 4 - وفيه ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضبط النفس وقوة الإرادة. 5 - جواز النوم مع الحائض في ثيابها، والاضطجاع معها في لحاف واحد إذا كان هناك حائل يمنع من ملاقاة البشرة فيما بين السرة والركبة. 6 - استحباب اتخاذ المرأة ثيابا للحيض، غير ثيابها المعتادة. 7 - استدل به بعضهم على أن عرق الحائض طاهر، لأن اضطجاعها معه في لحاف واحد لا يخلو من إصابة العرق زوجها أو ثيابه أو غطاءه، فقوله تعالى: {فاعتزلوا النساء في المحيض} معناه فاعتزلوا وطأهن، ولا تقربوا وطأهن. 8 - واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم "أنفست" على أن حكم الحيض والنفاس واحد. 9 - وفيه محافظة أمهات المؤمنين -رضي الله عنهن- على شعور النبي صلى الله عليه وسلم وحرصهن على إبعاد الأذى عنه. 10 - وفيه عطفه صلى الله عليه وسلم ولطفه وحسن عشرته لأزواجه. 11 - وجواز اغتسال الرجل مع امرأته من إناء واحد. 12 - وفيه أن من سنة أهل الخير النوم مع الزوجة، على خلاف طريقة العجم. والله أعلم

(132) باب طهارة يد الحائض وسؤرها وحجرها

(132) باب طهارة يد الحائض وسؤرها وحجرها 528 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم، إذا اعتكف، يدني إلي رأسه فأرجله. وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان. 529 - عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: إن كنت لأدخل البيت للحاجة. والمريض فيه. فما أسأل عنه إلا وأنا مارة. وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخل علي رأسه وهو في المسجد فأرجله. وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة. إذا كان معتكفا. وقال ابن رمح: "إذا كانوا معتكفين". 530 - عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلي رأسه من المسجد. وهو مجاور. فأغسله وأنا حائض. 531 - عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدني إلي رأسه وأنا في حجرتي. فأرجل رأسه وأنا حائض. 532 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أغسل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حائض. 533 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "ناوليني الخمرة من المسجد" قالت فقلت: إني حائض. فقال "إن حيضتك ليست في يدك". 534 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أناوله الخمرة من المسجد. فقلت: إني حائض. فقال "تناوليها فإن الحيضة ليست في يدك".

535 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد. فقال: "يا عائشة! ناوليني الثوب" فقالت: إني حائض. فقال "إن حيضتك ليست في يدك" فناولته. 536 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أشرب وأنا حائض. ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم. فيضع فاه على موضع في. فيشرب. وأتعرق العرق وأنا حائض. ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع في. ولم يذكر زهير "فيشرب". 537 - عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكئ في حجري وأنا حائض. فيقرأ القرآن. 538 - عن أنس رضي الله عنه أن اليهود كانوا، إذا حاضت المرأة فيهم، لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت. فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} إلى آخر الآية [البقرة: 222] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اصنعوا كل شيء إلا النكاح" فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه. فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله! إن اليهود تقول: كذا وكذا. فلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أن قد وجد عليهما. فخرجا فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فأرسل في آثارهما. فسقاهما. فعرفا أن لم يجد عليهما. -[المعنى العام]- كان اليهود إذا حاضت منهم المرأة أخرجوها من البيت، ولم يخالطوها في مسكن، ولم يجلسوا معها في مكان، ولم يؤاكلوها أو يشاربوها، بل كانوا لا يأكلون شيئا صنعته يداها، كانوا يعتبرونها نجسة نجاسة شاملة، بل كانوا يعدونها تنجس كل شيء تمد يدها فيه. ربما كانت المرأة اليهودية بسلوكها تستحق هذه المعاملة، ربما كانت تهمل دم الحيض فيلطخ ثيابها، وتلوث به يدها، وتنتن به ريحها.

فلما جاء الإسلام، دين الطهارة والنظافة، دين المودة والإنسانية، وتعلمت منه المسلمة نقاء موضع البول والغائط، والتطهر للصلاة خمس مرات في اليوم والليلة، وطهارة الثوب والبدن والمكان، والغسل الواجب والمندوب، واستعمال المسك والطيب، وتعلم منه الرجل المسلم إكرام المرأة والوصية بها، والعطف عليها وحبها، وحفظ كرامتها وتقديرها كان لا بد من تغير النظرة، وتبدل المعاملة. لقد كان أهل المدينة جيرانا لليهود، يعلمون أحوالهم، ويشاهدون سلوكهم ويقتدون بهم فيما يعجبهم، ويخالفونهم فيما لا يرضيهم، وجاءهم الإسلام فبرزت شخصيتهم، ونزل الدين بأصوله وفروعه، يرسم لهم حياتهم، وشاء الله أن يقوم أسيد بن حضير وعباد بن بشر، الصحابيان الجليلان، السابقان إلى الإسلام، شاء الله أن يقوما بسؤال النبي صلى الله عليه وسلم يقولان: يا رسول الله. لقد علمت ما يفعله اليهود مع الحائض من نسائهم، فبماذا يأمرنا ديننا في هذا الأمر؟ وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلب إليهما التريث حتى يأتي أمر الله. ونزل قوله تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} [البقرة: 222]. وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه ما ينبغي أن يكون، لكن الذين يسمعون بالآية كانوا أكثر من الذين يسمعون شرحها وتفسيرها، ففهمها بعض الأعراب على غير وجهها، وجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: يا رسول الله البرد شديد والثياب قليلة، فإن آثرناهن هلك سائر أهل البيت، وإن استأثرنا بها هلكت الحيض، فقال: إنما أمرتم أن تعتزلوا وطأهن، ولم تؤمروا بإخراجهن من البيوت، خالطوهن في البيوت، وجالسوهن في المجالس، وشاركوهن في الفراش وآكلوهن وشاربوهن، وافعلوا كل شيء إلا النكاح. لقد كانت الآية -حقا- في حاجة إلى بيان الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان العرف والعادة الراسخة في حاجة إلى قوة لاجتثاثها، لقد كانت أمهات المؤمنين -حتى بعد نزول الآية وبعد بيانها وتفسيرها- إذا حاضت الواحدة منهن وهي في لحاف الرسول صلى الله عليه وسلم انسلت من اللحاف، فيناديها صلى الله عليه وسلم، ليعيدها إليه، ويروي أبو داود عن عائشة أنها قالت: "كنت إذا حضت نزلت عن المثال على الحصير [المثال فراش النبي صلى الله عليه وسلم وكان من جلد مدبوغ حشوه ليف يشبه المعروف في أيامنا المرتبة] فلم نقرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ندن منه حتى نطهر". إن الأمر في حاجة إلى حملة شديدة، وقد قام بها صلى الله عليه وسلم خير قيام، لقد كان يأمر الحائض من أزواجه بل في فورة حيضتها أن تأتزر ثم يباشرها فوق إزارها، ولم تكن به شهوة جامحة، بل كان أقدر الناس على أن يملك إربه، ولكنه التشريع الحكيم والبلاغ المبين. كان يؤتي بقطعة اللحم، فيناولها زوجه الحائض لتأكل منها قبله، فتعتذر في لطف وأدب، فيقسم عليها أن تأكل قبله، فتأخذها، فتعض منها عضة، ثم تناولها له، فيعض من المكان الذي عضت منه، ويدعو بالشراب فيأتيه، فيناوله لها فتعتذر، فيقسم عليها، فتشرب منه، ثم يأخذه فيضع فمه حيث وضعت فمها فيشرب.

كان يأتي زوجه الحائض، فيضع رأسه في حجرها، ثم يقرأ القرآن، وهو يعلم علم اليقين أن القراءة على المصلى في مكان سجوده، وباستقبال القبلة أفضل منها على هذه الحالة، ولكنه التشريع الحكيم. كان يدخل المسجد للاعتكاف، فينادي زوجه الحائض من بيتها، فتفتح بابها المتصل بالمسجد، فيطلب منها أن تغسل له رأسه، وترجل له شعره، ومرة أخرى يناديها: ناوليني المصلى، فتتحرج من إدخال يدها في المسجد، فتقول: إني حائض، فكيف أمد يدي في المسجد، فيقول لها -والصحابة يسمعون- ناوليني، فإن حيضتك ليست في يدك. فتناوله. وأزعجت هذه الحملة اليهود. فقالوا: عجبا لهذا الرجل! ما يريد أن يترك شيئا من أمرنا إلا خالفنا فيه، وسمع مقالتهم هذه أسيد بن حضير وعباد بن بشر، فسرا لغيظ اليهود، وانشرحت صدورهما لانزعاجهم، ورغبا أن يزيدهم الإسلام غيظا، فذهبا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله. إن اليهود تقول كذا وكذا، ومازلنا نوافقهم في اعتزال وطء الحائض. أفلا يشرع الله لنا جماع الحائض، لتتم المخالفة بيننا وبينهم؟ فغضب رسول الله تعالى صلى الله عليه وسلم كيف يحرص الصحابة على إغاظة الأعداء ولو على حساب الطهر الذي جاء به الإسلام؟ غضب ولم يتكلم، وكان إذا غضب تغير وجهه، وخافا على أنفسهما من غضب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ فانسلا وخرجا، وجاءت هدية لبن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحس أن غضبه أزعجهما، وعذرهما في خطئهما لحسن قصدهما، فأرسل من يتبعهما ويأتي بهما، فحضرا فسقاهما من الهدية، وأزال بذلك خوفهما، فصلى الله وسلم وبارك عليه، ورضي الله عن أصحابه أجمعين. -[المباحث العربية]- (إذا اعتكف) الاعتكاف في اللغة الحبس؛ وفي الشرع حبس النفس في المسجد خاصة مع النية. (يدني إلي رأسه) كانت حجرة عائشة ملاصقة للمسجد؛ ولها باب يفتح فيه، فكان صلى الله عليه وسلم يجلس في المسجد معتكفا، ويقرب رأسه من باب الحجرة، وعائشة في داخلها، أو يدخل رأسه الحجرة وجسمه في المسجد كما هو ظاهر الرواية الثانية، وقد جاء هذا الوضع صريحا في رواية النسائي: "كان يأتيني وهو معتكف في المسجد، فيتكئ على باب حجرتي، فأغسل رأسه وسائر جسده في المسجد. (فأرجله) وفي الرواية الثالثة "فأغسله" ولا منافاة، فقد كانت تغسل له شعر رأسه ثم ترجله، أي تمشطه وتدهنه، وتسرحه، وفي هذه الرواية حذف صرح به في الرواية الثالثة والرابعة، وأصله: "فأرجله وأنا حائض".

(وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان) فسرها الزهري بالبول والغائط، وسيأتي لها مزيد إيضاح في فقه الحديث. (إن كنت لأدخل البيت للحاجة) "إن" مخففة من الثقيلة، وتفيد التأكيد، والمراد من البيت بيتها، والمعنى: أثناء اعتكافي بالمسجد كنت أدخل بيتي لقضاء الحاجة، ولا أمكث فيه لئلا يبطل اعتكافي. (والمريض فيه، فما أسأل عنه إلا وأنا مارة) أي وحينما يكون في بيتي مريض لا أقف عنده، وإنما أسأل عن صحته وأنا مارة، ثم أعود إلى المسجد لمتابعة الاعتكاف، وسيأتي في فقه الحديث مزيد إيضاح لاعتكاف عائشة. (وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخل على رأسه) "إن" مخففة من الثقيلة كذلك، وتفيد تأكيد الجملة أي وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم .. إلخ. (إذا كانوا معتكفين) أي هو وأصحابه صلى الله عليه وسلم. (وهو مجاور) أي معتكف. (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ناوليني الخمرة من المسجد) "والخمرة" بضم الخاء وإسكان الميم، قال النووي: قال الهروي وغيره: هي السجادة، وهي ما يضع عليه الرجل جزء وجهه في سجوده من حصير، أو نسيجة من خوص، هكذا قاله الهروي والأكثرون، وصرح جماعة منهم بأنها لا تكون إلا هذا القدر. وقال الخطابي: هي السجادة يسجد فيها المصلي. وقد جاء في سنن أبي داود عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "جاءت فأرة فأخذت تجر الفتيلة، فجاءت بها، فألقتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، على الخمرة التي كان قاعدا عليها، فأحرقت منها مثل موضع درهم". فقوله: "قاعدا عليها" تصريح بإطلاق الخمرة على ما زاد على قدر الوجه، وسميت خمرة لأنها تخمر الوجه، أي تغطيه، وأصل التخمير التغطية، ومنه خمار المرأة، ومنه الخمر، لأنها تغطي العقل. اهـ. قال القاضي عياض: وقولها "من المسجد" معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها ذلك من المسجد، أي وهو في المسجد لتناوله إياها وتدخل يدها وهي خارج المسجد، لا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تخرجها له من المسجد، لأنه صلى الله عليه وسلم كان في المسجد معتكفا وكانت عائشة في حجرتها، وهي حائض، لقوله صلى الله عليه وسلم "إن حيضتك ليست في يدك" فإنها إنما خافت من إدخال يدها المسجد ولو كان أمرها بدخول المسجد لم يكن لتخصيص اليد معنى. اهـ. وهو كلام حسن، لكنه لم يبين هل كانت الخمرة في البيت ويراد مناولتها له صلى الله عليه وسلم؟ فيكون "من المسجد" متعلقا بقال، أي قال من المسجد: ناوليني الخمرة من البيت، أو كانت الخمرة في المسجد في متناول يد عائشة، بعيدة عن متناول يد الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فيكون "من المسجد" متعلقا بناوليني؟ وكون الخمرة في البيت أظهر، لما رواه النسائي عن ميمونة قالت "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع رأسه في حجر إحدانا، فيتلو

القرآن، وهي حائض وتقوم إحدانا بالخمرة إلى المسجد [أي بيديها وجسمها خارجه] فتبسطها وهي حائض" وفي الرواية الثامنة "ناوليني الثوب" وقد قيل باتحاد الواقعة، وقيل بتعددها. (قالت: فقلت: إني حائض) يقال: حائض وحائضة، كريح عاصف وعاصفة، فحذف التاء لأنه من الصفات الخاصة بالنساء، فاستغنى فيه عن علامة التأنيث لعدم الالتباس. (إن حيضتك ليست في يدك) قال النووي: هو بفتح الحاء، هذا هو المشهور في الرواية، وهو الصحيح. وقال الخطابي: المحدثون يقولونها بفتح الحاء، وهو خطأ، والصواب بالكسر، أي الحالة والهيئة، وأنكر القاضي عياض هذا على الخطابي. وقال: الصواب هنا ما قاله المحدثون من الفتح، لأن المراد الدم، وهو الحيض بالفتح بلا شك، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليست في يدك" معناه أن النجاسة التي يصان المسجد عنها، وهي دم الحيض ليست في يدك، وهذا بخلاف حديث أم سلمة "فأخذت ثياب حيضتي" فإن الصواب فيه الكسر. قال النووي: هذا كلام القاضي عياض، وهذا الذي اختاره من الفتح هو الظاهر هنا، ولما قاله الخطابي وجه. اهـ. (كنت أشرب وأنا حائض، ثم أناوله، النبي صلى الله عليه وسلم) ضمير المفعول في "أناوله" يعود على المفهوم من المقام، وهو الإناء، أو الشراب، أي ثم أناول الشراب، أو ثم أناول الإناء. (فيضع فاه على موضع في) أي فيشرب من مكان شربي من الكأس فيضع فمه على الموضع الذي وضعت عليه فمي. (وأتعرق العرق) "العرق" بفتح العين وإسكان الراء، وهو العظم الذي عليه بقية من لحم، هذا هو الأشهر في معناه، وقال أبو عبيد: هو القدر من اللحم وقال الخليل: هو العظم بلا لحم، وهو بعيد، ويقال: عرقت العظم وتعرقته، واعترقته إذا أخذت عنه اللحم بأسنانك، وقيل: إذا استأصلت أكل ما عليه، حتى عروقه أي عصبه المتعلقة بالعظم. (كان يتكئ في حجري) بفتح الحاء وسكون الجيم، ويجوز كسر الحاء وحكي ضمها، وهو حضن الإنسان، ما دون الإبطء إلى الكشح، وقد بينت رواية البخاري كيفية هذا الاتكاء، وفيها "كان يقرأ القرآن، ورأسه في حجري" وكلمة "في" بمعنى "على" كقوله تعالى: {ولأصلبنكم في جذوع النخل} [طه: 71] أي على حجري، وإنما جيء بـ"في" لإفادة تمكنه من حجرها تمكن المظروف من ظرفه. (لم يؤاكلوها) أي لم يأكلوا معها في إناء واحد، ولا في مكان واحد. (ولم يجامعوهن) عاد الضمير مفردا في "لم يؤاكلوها" على المرأة باعتبار اللفظ، وعاد عليها هنا جمعا باعتبار المعنى والجنس، والمراد من المجامعة الاجتماع والاختلاط، أي لم يساكنوهن في بيت واحد.

(فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم الحيض)، وما ينبغي أن تكون عليه معاملة الرجال للنساء أوقات الحيض. {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى} المراد بالمحيض هنا الدم والمراد بالأذى المستقذر، وكان أذى لقبح لونه ورائحته ونجاسته. {فاعتزلوا النساء في المحيض} أي فاعتزلوا جماعهن ووطأهن في المحيض، والمراد بالمحيض هنا نفس الدم، وقيل: هو الفرج، وقيل: هو زمن الحيض. (اصنعوا كل شيء إلا النكاح) أي اصنعوا كل شيء يحرمه "اليهود" إلا النكاح فليس "كل شيء" على إطلاقه. (فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر) الأنصاريان، شهدا بدرا وأحدا والمشاهد كلها. (إن اليهود تقول كذا وكذا) "كذا وكذا" كناية عن مقولهم أي تقول عن مخالفتك إياهم في مؤاكلة الحائض ومشاربتها ومصاحبتها: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه. (أفلا نجامعهن؟ ) الفاء عاطفة على محذوف، والهمزة للاستفهام الإنكاري بمعنى النفي، ونفي النفي إثبات، والتقدير: أنخالف اليهود فنجامع النساء في الحيض، لتكون المخالفة تامة؟ (فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم) في رواية أبو داود: "فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم" وأصل التمعر التغير من النضارة والإشراق والتفتح إلى عكسها، وهو مظهر من مظاهر الغضب، وتغير من قولهما ذلك لاقتراحهما ما يصادم النص. (حتى ظننا أن قد وجد عليهما) "أن" مخففة من الثقيلة، والجملة بعدها خبرها "وأن" وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول "ظن" و"وجد" بمعنى غضب. يقال: وجد عليه يجد وجدا وموجدة غضب، واسم "أن" يصح أن يكون ضمير الشأن والحال، ويصح أن يكون ضميرا يعود على رسول الله صلى الله عليه وسلم. (فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي صلى الله عليه وسلم) تذكير الفعل "فاستقبلهما" لأن الفاعل مجازي التأنيث، و"من لبن" صفة "هدية" و"إلى النبي" صفة أخرى أي هدية مرسلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. (فأرسل في آثارهما) أي أرسل وراءهما من يردهما، والآثار جمع أثر، والمراد بها آثار الأقدام، والكلام كناية عن سرعة الإرسال وراءهما، لأن أثر المشي لا يبقى طويلا. (فسقاهما) معطوف على محذوف، أي فحضرا، فسقاهما من الهدية، تطييبا لخاطرهما.

-[فقه الحديث]- -[يستفاد من الحديث]- 1 - منع الحائض من الجلوس في المسجد. قال الأبي: وإنما منعت المسجد خوف ما يكون منها من تلويثه بما قد يقع من دم، وجاز للجنب دخوله للأمن من ذلك. وحكى ابن الخطابي عن مالك والشافعي وأحمد جواز دخول الحائض المسجد كعابرة سبيل، ومشهور قول مالك منع دخولها جملة. قال الشافعية: إن خافت تلويثه، لعدم الاستيثاق بالشد، أو لغلبة الدم حرم العبور بلا خلاف، وإن أمنت ذلك فوجهان، والصحيح منها جوازه كالجنب وكمن على بدنه ما لا يخاف تلويثه، أما اللبث في المسجد فحرام عليها باتفاق. 2 - جواز مس المرأة زوجها في الاعتكاف لغير لذة، وترجيلها شعره ومناولتها الشيء له، ولا يضر ذلك باعتكافه، وأن المباشرة الممنوعة للمعتكف هي الجماع ومقدماته. 3 - قال ابن بطال: في الحديث حجة على الشافعي في قوله: إن المباشرة مطلقا تنقض الوضوء. وقال الحافظ ابن حجر: لا حجة فيه، لأن الاعتكاف لا يشترط فيه الوضوء وليس في الحديث أنه عقب ذلك الفعل بالصلاة. 4 - أن جسد الحائض وعرقها وثوبها طاهر ما لم تصبه نجاسة، إذ لو كان نجسا لم يقرأ القرآن في حجرها، لأنه من الثابت تنزيه القرآن عن قراءته في المحل النجس. قال في المرقاة: وما نسب لأبي يوسف من أن بدنها نجس غير صحيح. 5 - واستدل به بعضهم على جواز حمل الحائض للمصحف، ونزل قراءة الرجل في حجرها بمنزلة المصحف، باعتبار أن القرآن في جوف القارئ، كما هو في جوف المصحف. واستند إلى ما روي عن ابن عباس أنه قرأ قرآنا وهو جنب، فقيل له في ذلك، فقال: في جوفي أكثر مما قرأت. والحق أن هذا التنزيل في غاية البعد، لأنه إن كان على سبيل التشبيه فهو تشبيه معكوس، تشبيه محسوس بمعقول، وإن كان على سبيل القياس فشروطه غير موجودة. ومسألة مس المصحف وحمله، للحائض والجنب متشعبة، طويلة الذيل في كتب الفروع، وأساس المنع قوله تعالى: {لا يمسه إلا المطهرون} [الواقعة: 79] وما رواه الدارقطني في سننه بسند صحيح متصل عن أنس "خرج عمر بن الخطاب متقلدا السيف، فدخل على أخته وزوجها خباب، وهم يقرءون سورة طه. فقال: أعطوني الكتاب الذي عندكم فأقرؤه. فقالت له أخته: إنك رجس {لا يمسه إلا المطهرون} فقم، فاغتسل، أو توضأ، فقام وتوضأ، ثم أخذ الكتاب". وما رواه الدارقطني بسند صحيح عن سالم عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يمس القرآن إلا طاهر".

وأساس الإباحة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث كتابا فيه قرآن للنصارى، فيه {قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} [آل عمران: 64] وقد أرسل هذا الكتاب وهو متيقن أنهم سيمسونه، وهم لا يغتسلون من جنابة أو حيض. ورد على الآية بأنها في اللوح المحفوظ، لا في المصحف، والمطهرون هم الملائكة، وعلى فرض أنها في القرآن فهي خبر، ولا يصرف الخبر إلى الأمر إلا بدليل ظاهر. وعن المذاهب فيها قال العيني: حمل الحائض المصحف بعلاقته، وكذا الجنب أجازه عبد الله بن عمر بن الخطاب وعطاء والحسن البصري ومجاهد وطاووس وأبو وائل وأبو رزين، وأبو حنيفة ومالك والشافعي والأوزاعي والثوري وأحمد وإسحق وأبو ثور. قال ابن بطال: ورخص في حمله [بدون علاقته] الحكم وعطاء وسعيد بن جبير وحماد وأهل الظاهر، ومنع الحكم مسه بباطن الكف. وقال ابن حزم: وقراءة القرآن، ومس المصحف، وذكر الله تعالى جائز كل ذلك بوضوء، وبلا وضوء، وللجنب والحائض. اهـ. 6 - قال ابن دقيق العيد: في الحديث أن الحائض لا تقرأ القرآن، لأن قولها "فيقرأ القرآن" إنما يحسن التنصيص عليه إذا كان هناك ما يوهم منعه، ولو كانت قراءة القرآن للحائض جائزة لكان هذا الوهم منفيا، أي توهم امتناع قراءة القرآن في حجر الحائض. اهـ. 7 - وفيه جواز قراءة القرآن مضطجعا ومتكئا. 8 - استدل به النووي على عدم كراهة قراءة القرآن بقرب موضع النجاسة، والحق أنه ينبغي أن يكره، تعظيما للقرآن، لأن مقارب الشيء يخشى أن يصيبه بعض حكمه. 9 - فيه خدمة المرأة زوجها في الغسل والطبخ والخبز وغيرها برضاها قال النووي: وعلى هذا تظاهرت دلائل السنة وعمل السلف وإجماع الأمة، أما بغير رضاها فلا يجوز، لأن الواجب عليها تمكين الزوج من نفسها وملازمة بيته فقط. اهـ. 10 - وأن المعتكف إذا خرج بعضه من المسجد كيده ورجله ورأسه لم يبطل اعتكافه. 11 - وأن من حلف لا يدخل دارا أو مسجدا لا يحنث بإدخال يد فيه أو بعض جسده، ما لم يدخله بجميع بدنه، فقد أدخلت عائشة يدها في المسجد ولم يعد دخولا لها وأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه ولم يعد خروجا له. 12 - وفيه جواز الصلاة في الخمرة. 13 - ويؤخذ من قولها "وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان" أن خروج المعتكف للبول والغائط لا يبطل اعتكافه. قال الحافظ ابن حجر: ويلتحق بهما القيء والفصد لمن احتاج إليه، ثم قال: وقد اختلفوا في غير ذلك من الحاجات كالأكل والشرب.

14 - ويؤخذ من قولها في الرواية الثانية "إن كنت لا أدخل البيت للحاجة والمريض فيه، فما أسأل عنه إلا وأنا مارة" جواز اعتكاف النساء وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم لحفصة وعائشة أن تضرب كل منهما خباء في المسجد تعتكف فيه. 15 - وأن المعتكف لا يعود مريضا، وإنما يسأل عنه في مروره، وقد روى أبو داود عن عائشة قالت: السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة، إلا لما لا بد منه. 16 - ويؤخذ من قولها في الرواية التاسعة "كنت أشرب، وأنا حائض، ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم، فيضع فاه على موضع في، فيشرب ... " إلخ الرواية جواز مؤاكلة الحائض ومشاربتها، وطهارة سؤرها من طعام وشراب، وكذا ريقها وهذا بلا خلاف. ولا يقال: إن ابتداءها بالشرب والتعرق قبله صلى الله عليه وسلم ليس من الأدب، لا يقال هذا لأنه صلى الله عليه وسلم هو الذي كان يلجئها إلى الابتداء، ففي النسائي "كان يأخذ العرق، فيقسم على فيه، فأعترق منه، ثم أضعه، فيأخذه، فيعترق منه ويضع فمه حيث وضعت فمي من العرق، ويدعو بالشراب، فيقسم على فيه قبل أن يشرب منه فآخذه، فأشرب منه ثم أضعه فيأخذه فيشرب منه، ويضع فمه وضعت فمي من القدح"، وعند النسائي وابن ماجه وأحمد والبيهقي عن المقدام عن أبيه. قال: "سألت عائشة: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل معك وأنت حائض؟ قالت: إن كان ليناولني العرق، فأعض منه ثم يأخذه مني، فيعض مكان الذي عضضت. قال قلت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب من شرابك؟ قالت: كان يناولني الإناء، فأشرب منه، ثم يأخذه فيضع فاه حيث وضعت في، فيشرب". 17 - وفيه كمال تواضعه صلى الله عليه وسلم، وطيب نفسه. 18 - وأنه ينبغي للزوج أن يلاطف زوجه، ويعمل معها ما يدخل السور عليها. 19 - تؤخذ من الرواية الحادية عشرة كراهة إخبار المسلم بما يغضبه ويسيئه. 20 - ومشروعية الغضب على من ارتكب ما لا يليق. 21 - وأنه لا يصح إغاظة العدو بما يخالف الشرع. 22 - ومشروعية قبول الهدايا. 23 - واستحباب التفريق منها. 24 - وأنه لا ينبغي استمرار غضب المسلم على المسلم. 25 - وسكوت التابع عند غضب المتبوع. 26 - ومشروعية الملاطفة والمؤانسة بعد الغضب. والله أعلم

(133) باب حكم المذي

(133) باب حكم المذي 539 - عن علي رضي الله عنه قال: كنت رجلا مذاء وكنت أستحيي أن أسأل النبي صلى الله عليه وسلم. لمكان ابنته. فأمرت المقداد بن الأسود. فسأله فقال "يغسل ذكره ويتوضأ". 540 - عن علي رضي الله عنه أنه قال: استحييت أن أسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المذي من أجل فاطمة. فأمرت المقداد فسأله. فقال "منه الوضوء". 541 - عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: قال علي بن أبي طالب: أرسلنا المقداد بن الأسود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسأله عن المذي يخرج من الإنسان. كيف يفعل به؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "توضأ وانضح فرجك". -[المعنى العام]- علم الصحابة حكم المني، يخرج من الإنسان، فيجب الغسل، ويصيب الثوب، فيفرك منه أو يغسل، وعلموا حكم البول، يخرج من الإنسان، فينقض الوضوء، ويجب الاستنجاء أو الاستجمار، ويصيب الثوب أو البدن فيجب غسله. لكنهم لم يعلموا حكم المذي، إنهم يعرفون صفاته، وأنه ماء أبيض رقيق لزج، يخرج عند الشهوة، بدون تدفق أو اندفاع، بل بسيلان ولا يعقبه فتور إنهم يعرفون أنه يخالف المني، ويخالف البول في الصفات والمقومات. وجلس ثلاثة أصحاب يتذاكرون الرأي فيه -علي بن أبي طالب والمقداد بن الأسود وعمار بن ياسر- قال علي: إنني أظنه كالمني في الحكم وإنني رجل كثير المذي، وكلما امتذيت اغتسلت، وما أكثر ما أغتسل منه مع البرد الشديد حتى تشقق جلدي، وشق علي أمري. قال له صاحباه: ولم لا تسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: تعلمون أن ابنته فاطمة تحتي، وأن المذي ينزل عند مداعبة النساء وإثارة الشهوة، وإني أستحيى أن أذكر هذا الأمر أمام أبيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فليسأله المقداد نيابة عني، أو فاسأله يا عمار. والتقوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجلس علي بين صاحبيه، ثم غمز المقداد أن يسأل، وغمز عمارا أن

يسأل، فسأل المقداد. فقال: يا رسول الله ما حكم المذي يخرج من الإنسان؟ كيف يفعل به؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأيت المذي فاغسل منه ذكرك، وما أصاب من ثوبك، وتوضأ وضوءك للصلاة. (ملحوظة) كان الأولى بهذا الباب أن يكون عقب البول والمني، ولا يفرق الحيض بينما. -[المباحث العربية]- (كنت رجلا مذاء) أي كثير المذي، وفي المذي لغات: مذي بفتح الميم وسكون الذال، ومذي بفتح الميم وكسر الذال وتشديد الياء، ومذي بفتح الميم وكسر الذال وتخفيف الياء، وفي الفعل يقال: مذي الرجل يمذي من باب ضرب يضرب، وأمذى الرجل. ويقال: مذي بالتشديد أيضا، والمذي ماء أبيض، رقيق لزج، يخرج عند شهوة، لا بشهوة ولا دفق، ولا يعقبه فتور، وربما لا يحس بخروجه، ويشترك الرجل والمرأة فيه، وهو أغلب فيهن منه في الرجال. ويختلف عن الودي في أسبابه وصفاته، فالودي يخرج عقب البول إذا كانت الطبيعة مستمسكة، وعند حمل شيء ثقيل، يخرج قطرة أو قطرتين، وهو ماء أبيض كدر ثخين، يشبه المني في الثخانة، ويخالفه في الكدرة، ولا رائحة له. (وكنت أستحيي أن أسأل النبي صلى الله عليه وسلم) يقال: استحيا يستحي، والحياء انقباض النفس خشية ارتكاب ما يكره، فالسين والتاء للصيرورة. و"أن" وما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، أي فصرت منقبض النفس عن سؤال النبي صلى الله عليه وسلم. (لمكان ابنته) في الرواية الثانية "من أجل فاطمة" وفي رواية النسائي "وكانت ابنة النبي صلى الله عليه وسلم تحتي، فاستحييت أن أسأله". (فأمرت المقداد بن الأسود) ليس الأمر أمر وجوب للقرينة الدالة على عدم الوجوب، وأيضا الدال على الوجوب هو صيغة الأمر، لا لفظة أمر، وليست ههنا صيغة أمر. والمقداد بن الأسود هو المقداد بن عمرو بن ثعلبة البهراني الكندي، أصاب أبوه عمرو دما في بهراء، فهرب منهم، ولحق بحضرموت، فحالف بني كندة فكان يقال له الكندي، وتزوج هناك امرأة، فولدت له المقداد، فلما كبر المقداد وقع بينه وبين أبي شمر بن حجر الكندي نزاع، فضرب المقداد رجله بالسيف ثم هرب إلى مكة، فحالف الأسود بن عبد يغوث، وكتب إلى أبيه، فقدم عليه فتبنى الأسود المقداد. وصار يقال له المقداد بن الأسود. وهو من السابقين في الإسلام. يقال: إنه سادس ستة شهدوا بدرا، وكان فيها فارسا، وهو صاحب المقالة المشهورة التي قال عنها ابن مسعود: شهدت من المقداد مشهدا لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عدل به، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم [حينما قال بعض الصحابة يوم بدر: والله ما لنا طاقة بقتال القوم] فقال: لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى. ولكن نقول: إنا معكما مقاتلون، وشهد المشاهد كلها، مات سنة ثلاث وثلاثين من الهجرة، وهو ابن سبعين سنة.

(يغسل ذكره ويتوضأ) الرواية بالرفع، خبر في معنى النهي، والمراد من الذكر الحشفة وما تلوث منه، من إطلاق الكل وإرادة الجزء، مجازا مرسلا. وقيل: الغسل لكله، وسيأتي توضيح الحكم في فقه الحديث. (منه الوضوء) خبر مقدم، ومبتدأ مؤخر، أي الوضوء واجب منه. (أرسلنا المقداد بن الأسود) المرسل علي وبعض الصحابة، فقد روي عن أنس قال: "تذاكر علي والمقداد، وعمار المذي .. " الحديث. (فسأله عن المذي يخرج من الإنسان) جملة "يخرج" في محل النصب على الحال. وفي الكلام مضاف محذوف، أي عن حكم المذي حالة خروجه من الإنسان. (كيف يفعل به) "كيف" مفعول به مقدم: وفاعل "يفعل" ضمير يعود على "الإنسان" أي يفعل الإنسان به أي شيء؟ (توضأ وانضح فرجك) بفعل الأمر فيهما، والنضح بكسر الضاد. قال النووي: معناه اغسله، فإن النضح يكون غسلا، ويكون رشا، وقد جاء في الرواية الأخرى "يغسل ذكره" فيتعين حمل النضح عليه. اهـ. وقد وقع في الرواية الأولى بتقديم الغسل على الوضوء، ووقع في الرواية الثالثة بتقديم الأمر بالوضوء على النضح، والواو لا ترتب، قال الحافظ ابن حجر: فيجوز تقديم الغسل على الوضوء، وهو أولى، ويجوز تقديم الوضوء على الغسل، لكن من يقول بنقض الوضوء بمس الذكر يشترط أن يكون ذلك بحائل. اهـ. -[فقه الحديث]- يستفاد من الحديث 1 - أنه لا يجب الغسل بخروج المذي. قال النووي: وقد أجمع العلماء على ذلك. 2 - وأن خروجه ناقض للوضوء، وحكمه حكم البول وغيره مما يخرج من السبيلين. قال أبو عمر: المذي عند جميعهم يوجب الوضوء، ما لم يكن خارجا عن علة وزمانة، فإن كان كذلك فهو أيضا كالبول عند جميعهم فإن كان سلسا لا ينقطع فحكمه حكم سلس البول عند جميعهم أيضا، إلا أن طائفة توجب الوضوء [على من كانت هذه حاله] لكل صلاة، قياسا على المستحاضة عندهم وطائفة تستحبه، ولا توجبه؛ وأما المذي المعهود والمتعارف، وهو الخارج عند ملاعبة الرجل أهله، لما يجرى من اللذة، أو طول عزبة، فهو موضع إجماع، لا خلاف بين المسلمين في إيجاب الوضوء منه. اهـ.

3 - وأن المذي نجس، ولهذا وجب غسل الذكر منه. 4 - واستدل به بعض المالكية والحنابلة على إيجاب استيعاب الذكر بالغسل عملا بالحقيقة، لكن الشافعية والجمهور نظروا إلى المعنى. فقالوا: يغسل ما أصابه منه، لأن الموجب لغسله إنما هو خروج الخارج، فلا تجب المجاوزة إلى غير محله، ويؤيده ما عند الإسماعيلي في رواية "فقال: توضأ واغسله" فأعاد الضمير على المذي، واختلف القائلون بوجوب غسله جميعه هل هو معقول المعنى أو للتعبد؟ فعلى الثاني تجب النية فيه. قال الطحاوي: لم يكن الأمر بغسله لوجوب غسله كله، بل ليتقلص فيبطل خروجه كما في الضرع إذا غسل بالماء البارد يتفرق لبنه إلى داخل الضرع فينقطع خروجه. اهـ. وهذا يعني أن الغسل للكل، لكنه على سبيل الاستحباب، وهو معقول المعنى. وعن أحمد روايتان: إحداهما: غسل الذكر وحده، والأخرى غسله مع الأنثيين، ويدل له حديث ابن سعد وفيه "فتغسل فرجك وأنثييك" قال النووي: وهو محمول على ما إذا أصاب المذي الأنثيين، أو على الاستحباب. 5 - وأخذ منه ابن دقيق العيد تعين الماء في طهارة الذكر منه، دون الأحجار، لأن ظاهره يعين الغسل، والمعين لا يقع الامتثال إلا به. والمعروف في مذهب الشافعية جواز الاقتصار على الأحجار، إلحاقا له بالبول وحملا للأمر بغسله على الاستحباب، أو على أنه خرج مخرج الغالب. 6 - ويؤخذ منه جواز الوضوء قبل الاستنجاء إذا كان الاستنجاء على وجه لا ينتقض معه الطهارة. وقال الأبي: إن الاستنجاء من باب إزالة النجاسة فيجوز تأخيره، ولا حاجة إلى أخذه من الحديث. 7 - ويؤخذ منه جواز الاستنابة في الاستفتاء. 8 - وجواز دعوى الوكيل بحضرة موكله. 9 - والاعتماد على الخبر المظنون، مع القدرة على المقطوع. 10 - وعلى قبول خبر الواحد. وهذان المأخذان مبنيان على أن عليا لم يحضر السؤال والجواب، وحينئذ يقال: إنه اكتفى بخبر الواحد، مع قدرته على اليقين بالسماع شفاها فهو كالاجتهاد مع القدرة على النص. ورد هذا التشبيه بأن عليا إنما طلب النص، ووثق بطريقه، لأن الناقل صحابي، يوثق بعلمه، أثنى الله ورسوله عليه، بعيد عن الكذب، لا سيما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فارتفع الأمر بهذه القرائن إلى أعلى درجات الظن، الذي لم يبق معه إلا تجويز بعيد، واعترض الأبي على هذا فقال: إن الإشكال باق، لأن أعلى درجات الظن ظن، ثم أجاب بأن عليا لم يكتف بالظن، بل إنما عمل بالعلم، لما تقرر من أن خبر الواحد المحتف بالقرائن يفيد العلم، وخبر المقداد من هذا القبيل، والقرائن هي ما ذكر.

وقال ابن دقيق العيد: المراد بالاستدلال به على قبول خبر الواحد مع كونه خبر واحد، أنه صورة من الصور التي تدل، وهي كثيرة، تقوم الحجة بجملتها، لا بفرد معين منها. اهـ. والظاهر أن عليا كان حاضرا السؤال. كما قال الحافظ ابن حجر: فقد أطبق أصحاب المسانيد والأطراف على إيراد هذا الحديث في مسند علي، ولو حملوه على أنه لم يحضر لأوردوه في مسند المقداد، ويؤيده ما في رواية النسائي في هذا الحديث عن علي قال: "فقلت لرجل جالس إلى جنبي: سله فسأله". بل يؤخذ من مجموع الروايات أن عليا أمر المقداد أن يسأل، وأمر عمارا أن يسأل وسأل بنفسه، فأحاديث الباب صريحة في سؤال المقداد، وفي سنن أبي داود "أن عليا أمر عمارا أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يغسل مذاكيره ويتوضأ" وفي بعض رواياته عن علي "كنت رجلا مذاء، فأمرت عمار بن ياسر يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل ابنته عندي"، وفي رواية ابن حبان عن علي قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ... " وجمع ابن حبان بين هذا الاختلاف بأن عليا أمر عمارا أن يسأل، ثم أمر المقداد بذلك، ثم سأل بنفسه. قال الحافظ ابن حجر: وهو جمع جيد. اهـ. فعلى هذا الجمع لا يستدل بالحديث على الاعتماد على الخبر المظنون مع القدرة على المقطوع، ولا على قبول خبر الواحد، لكن هذا الجمع عندي مستبعد، لأن سؤال أحدهم بعد علمه بسؤال الآخر غير مستساغ، خصوصا مع رواية النسائي "فقلت لرجل جالس إلى جنبي: سله. فسأله" والأولى في الجمع أن نقول: إن عليا طلب من المقداد ومن عمار أن يسألا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تذاكروا المذي، ولما اجتمعوا ثلاثتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم طلب منهما أن يسأل أحدهما، فسأل المقداد، فنسب إليه السؤال على الحقيقة، ونسب إلى عمار وعلي سبيل المجاز، باعتبار قصد عمار وموافقته، وباعتبار كون علي الآمر. والله أعلم. 11 - استدل بالحديث على أن القضايا تتعدى صاحبها إلى من هذه صفته لأن المقداد سأل عن نفسه، وأجيب بقوله صلى الله عليه وسلم: "توضأ واغسل ذكرك" كما في رواية البخاري، أو "توضأ وانضح فرجك" كما في روايتنا الثالثة، أو سأل عن طريق الإبهام كما في الرواية نفسها" فسأله عن المذي يخرج من الإنسان كيف يفعل به"؟ وعلى كل لم يرد أن المقداد سمى عليا في سؤاله، مما يجعل القضية لغيره، ويجعل عليا ممن يرى أن القضايا تتعدى صاحبها. وهو خلاف بين أهل الأصول. 12 - ويؤخذ من الحديث ما كان عليه الصحابة من حفظ حرمة النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره. 13 - وفيه استحباب حسن العشرة مع الأصهار، وترك ذكر ما يتعلق بالجماع ونحوه بحضرة أقارب الزوجة. 14 - وفيه ترك المواجهة لما يستحيا منه عرفا. 15 - وفيه استعمال الحياء مع عدم التفريط في العلم، فيجمع بذلك بين المصلحتين. والله أعلم

(134) باب وضوء الجنب قبل نومه وغسل فرجه قبل أكله أو شربه أو جماعه

(134) باب وضوء الجنب قبل نومه وغسل فرجه قبل أكله أو شربه أو جماعه 542 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قام من الليل فقضى حاجته. ثم غسل وجهه. ويديه ثم نام. 543 - عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن ينام. وهو جنب، توضأ وضوءه للصلاة، قبل أن ينام. 544 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان جنبا، فأراد أن يأكل أو ينام، توضأ وضوءه للصلاة. 545 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر قال: يا رسول الله! أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال "نعم. إذا توضأ". 546 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر استفتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل ينام أحدنا وهو جنب؟ قال: "نعم. ليتوضأ ثم لينم. حتى يغتسل إذا شاء". 547 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ذكر عمر بن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تصيبه جنابة من الليل. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "توضأ. واغسل ذكرك. ثم نم". 548 - عن عبد الله بن أبي قيس قال: سألت عائشة عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكر

الحديث. قلت: كيف كان يصنع في الجنابة؟ أكان يغتسل قبل أن ينام؟ أم ينام قبل أن يغتسل؟ قالت: كل ذلك قد كان يفعل. ربما اغتسل فنام. وربما توضأ فنام. قلت: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة. 549 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أتى أحدكم أهله، ثم أراد أن يعود، فليتوضأ". زاد أبو بكر في حديثه: بينهما وضوءا. وقال "ثم أراد أن يعاود". 550 - عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه بغسل واحد. (ملحوظة) لست أجد مبررا لتسلسل أرقام هذه الأحاديث تحت كتاب الحيض ولم يكن لي محيد من أجل المعجم. -[المعنى العام]- جاء الإسلام بالطهارة من الخبث والنجس، وجاء بالطهارة من الحدث الأصغر والأكبر، وقد فهمت الطباع السليمة ضرورة الطهارة الأولى، وخفي على الكثيرين حكمة الطهارة الثانية. إن الحدث الأصغر وخروج شيء من السبيلين أحدث بالوجه واليدين والشعر والرجلين حالة معنوية، لا تراها الأبصار، وإن الجماع وإنزال المني والحيض والنفاس يحدث بكل جزء من أجزاء البدن حالة معنوية لا تراها الأبصار، حالة من الخمول والكسل والقذر النفسي لا يدركها إلا مرهف الحس وسليم الوجدان، حالة تتنافى وصفاء المؤمن وتتعارض مع مناجاته ربه، ومن هنا شرع الوضوء، وشرع الغسل، ومع ذلك شاءت حكمة الله وسماحة الإسلام أن لا يشق على المؤمن الذي يجنب بالليل فرخص له أن ينام جنبا حتى الصباح، ويحسن به أن يتوضأ، وأن لا يشق على المؤمن الذي يجنب، فرخص أن يأكل وأن يشرب وأن يعاود الجماع قبل أن يغتسل، ويستحب له أن يتوضأ. إن دعوة الإسلام للنظافة، وللبقاء على الطهارة، أخذت صورة الحرص والاهتمام إلى حد كبير، حتى تصور الغيورون لزومها في أوقات الحرج والضيق، فعمر بن الخطاب يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: يا رسول الله، أيرقد أحدنا وهو جنب، فلا يغتسل، حتى يطلع الفجر؟ فيقول له صلى الله عليه وسلم: نعم. ليتوضأ، ثم لينم، حتى يصبح فيغتسل. وآخر يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيغتسل أحدنا إذا جامع قبل أن يعاود؟ فيجيبه صلى الله عليه وسلم "إذا أتى أحدكم أهله، ثم أراد أن يعاود الجماع

فليتوضأ بينهما وضوءا، وثالث يسأل عائشة: أيأكل الجنب أو يشرب قبل أن يغتسل؟ وتجيبه رضي الله عنها: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان جنبا فأراد أن يأكل أو ينام توضأ وضوءه للصلاة". ويحكي عبد الله بن أبي قيس، فيقول: سألت عائشة، فقلت: يا أم المؤمنين. أرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر أول الليل أم في آخره؟ قالت: كل ذلك كان يفعل، ربما أوتر في أول الليل، وربما أوتر في آخره. قلت: الله أكبر. الحمد الله الذي جعل في الأمر سعة. قلت: أرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجهر بالقرآن أم يخافت به؟ قالت: ربما جهر به، وربما خفت. قلت: الحمد الله الذي جعل في الأمر سعة. قلت: أرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من الجنابة في أول الليل أم في آخره؟ قالت: كل ذلك كان يفعل، ربما اغتسل فنام. وربما توضأ فنام. قلت: الله أكبر، الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة. -[المباحث العربية]- (فقضى حاجته) قال النووي: الظاهر أن المراد بها الحدث. (أيرقد أحدنا وهو جنب) في القاموس: الرقد النوم، كالرقاد والرقود بضمهما، أو الرقاد خاص بالليل. والمراد من "أحدنا" الرجل، ويلحق به المرأة في الحكم باعتبار كون النساء شقائق الرجال في الأحكام إلا ما خص. (أن عمر استفتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال) السين والتاء للطلب، أي طلب الفتوى، وفي القاموس: والفتيا والفتوى بضم الفاء وتفتح، ما أفتى به الفقيه. والفاء في "فقال" تفسيرية. (ليتوضأ، ثم لينم) اللام لام الأمر، وحركتها الكسر، وسليم تفتحها، وإسكانها بعد الفاء والواو أكثر من تحركها، وقد تسكن بعد "ثم". (حتى يغتسل إذا شاء) "حتى" غاية للنوم المسبوق بالوضوء. (كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع في الجنابة؟ ) "كيف" مفعول مقدم ليصنع و"في" للسببية، والتقدير: يصنع أي شيء بسبب الجنابة. (كل ذلك قد كان يفعل) جملة "قد كان يفعل" خبر "كل ذلك" وخلوها عن الرابط جائز عند بعض النحاة. (ربما اغتسل فنام) "ربما" كافة ومكفوفة، فـ"ما" كفت "رب" عن عمل الجر، وهي تفيد التقليل والتكثير، لكنها هنا لا تصلح للتقليل للمقابلة في قولها ربما ... وربما، وتصلح للتكثير، أي كثيرا كان يفعل كذا، وكثيرا كان يفعل كذا.

(إذا أتى أحدكم أهله) المراد من الأهل هنا الزوجة، وفي القاموس: أهل الرجل عشيرته وذوو قرباه، وأهل الأمر ولاته، وأهل البيت سكانه، وأهل المذهب من يدين به، وأهل الرجل زوجته. اهـ. وإتيان الأهل كناية عن جماع الزوجة. (ثم أراد أن يعود) أي إلى إتيان أهله، أي يعود إلى الجماع مرة أخرى في نفس الوقت. (كان يطوف على نسائه بغسل واحد) كناية عن جماعهن. -[فقه الحديث]- لا خلاف بين العلماء في أنه يجوز للجنب أن ينام ويأكل ويشرب ويجامع قبل الاغتسال قال النووي: وهذا مجمع عليه. اهـ. وأحاديثنا بجميع رواياتها صريحة في ذلك، والكلام إنما هو في وضوء الجنب قبل أن ينام، أو يأكل، أو يشرب، أو يجامع. والروايات صريحة في طلب الوضوء، وظاهرها يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يواظب عليه. ولهذا ذهب ابن حبيب من أصحاب مالك وأهل الظاهر إلى وجوب الوضوء الكامل كوضوء الصلاة قبل الإتيان بهذه الأمور، وأجابوا عما رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن عائشة -رضي الله عنها- "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينام وهو جنب، ولا يمس ماء" بأن هذا الحديث ضعيف، بل قال أبو داود: وهم الراوي أبو إسحاق في قوله: "لا يمس ماء" وقال الترمذي: يرون أن هذا غلط من أبي إسحاق. وقال البيهقي: طعن الحفاظ في هذه الجملة. قالوا: وعلى فرض صحته فالمراد أنه لا يمس ماء للغسل. وذهب الأوزاعي والليث وأبو حنيفة ومحمد والشافعي ومالك وأحمد إلى أن وضوء الجنب وضوءا كوضوء الصلاة قبل أن يأكل أو يشرب أو ينام أو يجامع غير واجب، واحتجوا بحديث أبي داود السابق، وحملوه على أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لبيان الجواز، كما استندوا إلى ما رواه ابن ماجه والطحاوي عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رجع من المسجد صلى ما شاء الله، ثم مال إلى فراشه وإلى أهله فإن كانت له حاجة قضاها، ثم نام كهيئته، ولا يمس طيبا" وفسروا الطيب بالماء، حملا على رواية أبي داود "ولا يمس ماء". فالوضوء عند الجمهور مستحب غير واجب، وإن اختلفوا في المراد من الوضوء، أهو التنظيف كما في أصل معناه اللغوي عند العرب؟ أم هو الاصطلاح المعروف شرعا؟ فقال أحمد في رواية عنه: يستحب للجنب إذا أراد أن ينام أو يطأ ثانيا أو يأكل أن يغسل فرجه ويتوضأ. وقال مالك في رواية عنه: لا ينام الجنب حتى يتوَضأ وضوءه للصلاة، قال: وله أن يعاود أهله ويأكل قبل أن يتوضأ، إلا أن يكون في يديه قذر فيغسلهما. اهـ.

فكأنه أخذ بأحاديث الوضوء قبل النوم، ولم يأخذ بروايات الوضوء قبل الأكل ومعاودة الأهل، وعند أحمد والنسائي وابن خزيمة ما يؤيده في الأكل والشرب، ففي لفظ النسائي عن عائشة -رضي الله عنها- "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة، وإذا أراد أن يأكل أو يشرب غسل يديه، ثم يأكل أو يشرب" واللفظ عند ابن خزيمة في صحيحه من حديثها "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يأكل أو يشرب غسل يديه ثم يطعم" وظاهر الرواية الثامنة من أحاديث الباب تؤيده في معاودة الجماع، إذ ليس فيها ذكر للوضوء ولفظها "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه بغسل واحد" كما يؤيده ما رواه الطحاوي من حديث عائشة قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يجامع، ثم يعود، ولا يتوضأ" وهذا الذي رواه عن مالك روى مثله عن أحمد والشافعي. لكن الرواية الثانية والسابعة من رواياتنا تعارضه، ففي الثانية "إذا كان جنبا، فأراد أن يأكل أو ينام توضأ وضوءه للصلاة" وفي السابعة "إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ" ولعلهم يحملونها على الأولى. والجمهور على استحباب الوضوء الشرعي للجنب قبل النوم أو الأكل أو الشرب أو معاودة الجماع، وروايات الباب تؤيدهم، لأن الوضوء إذا ذكر انصرف إلى الحقيقة الشرعية حيث لا قرينة تمنع منها، وما استدلوا به من روايات أحمد والنسائي وابن خزيمة لا تناهض ما في الصحيحين، وما احتجوا به من أن ابن عمر -وهو راوي الرواية الخامسة- "كان يتوضأ وهو جنب ولا يغسل رجليه" كما رواه مالك في الموطأ عن نافع مجاب عنه بأن مخالفة الراوي لما روى لا تقدح في المروي، ولا تصلح لمعارضته، أو يحمل ترك ابن عمر غسل رجليه على أن ذلك كان لعذر. وذهب الثوري وأبو يوسف إلى أن وضوء الجنب لا يستحب حتى قبل النوم، متعلقين بحديث أبي داود "ولا يمس ماء". ولا نظنهما يقصدان بنفي الاستحباب إباحة الأمرين واستواء الطرفين، بل مرادهما -والله أعلم- أن طلب الوضوء على درجة أقل من الاستحباب، فهو الأولى. والذي تستريح إليه النفس في هذا الخلاف أن وضوء الجنب قبل النوم وقبل المعاودة وقبل الأكل أو الشرب مستحب لا واجب، وهو أفضل ما ينبغي عمله في هذا المقام، فإن لم يتوضأ استحب له غسل ذكره قبل معاودة الجماع، ولا سيما إذا أراد جماع أخرى لم يجامعها، فإنه أنشط للعود وأبعد عن إدخال النجاسة في الفرج، وأكمل في اللذة، كما استحب له غسل مذاكيره ويديه وما أصاب من ثوبه قبل النوم، فإنه أهدأ للنفس، وأطيب للبال، وفيه تخفيف للرائحة الكريهة، وحفاظ للفراش، واستحب له غسل يديه وأن يتمضمض قبل الأكل والشرب، وكلما وجد القذى والوسخ على هذه الأعضاء كلما تأكد استحباب الغسل. وبهذا يمكن الجمع بين الأحاديث، والعمل بها جميعا، ففعل النبي صلى الله عليه وسلم وأمره هنا لبيان الاستحباب، وتركه الوضوء أحيانا لبيان الجواز. ومن فوائد الوضوء في هذه الحالات، أو الحكمة في طلبه أنه يخف به الحدث، يدل على ذلك ما رواه ابن أبي شيبة "إذا أجنب أحدكم من الليل ثم أراد أن ينام فليتوضأ، فإنه نصف غسل الجنابة" فالوضوء يرفع الحدث عن أعضاء الوضوء، عند كثير من العلماء، ولا سيما من يقول بجواز تفريق الغسل.

وقال ابن الجوزي: الحكمة فيه أن الملائكة تبعد عن الوسخ والريح الكريهة بخلاف الشياطين، فإنها تقرب من ذلك، والمراد من الملائكة ملائكة الرحمة والبركة، لا الحفظة التي لا تفارق. وقال المازري: ليبت على إحدى الطهارتين، خشية أن يموت في منامه [وهذا التعليل خاص بالوضوء قبل النوم] وعلى هذا يقوم التيمم مقامه، وقيل: لعله أن ينشط إلى الغسل لأنه إذا نال الماء أعضاءه تشجع على استيعاب بقية بدنه وزال عنه كسله. وفوق كل ما قيل نرى أن الوضوء نظافة يدعو إليها الإسلام، ويزهو بها على جميع الأديان. ولا يستبيح بهذا الوضوء محرما على الحدث الأصغر أو الأكبر، فلا يمس القرآن ولا يمكث في المسجد، وهذا الوضوء للنظافة والتعبد فلا ينقضه ما ينقض الوضوء. والله أعلم. واختلف في موجب الغسل في الجنابة. هل هو حصول الجنابة؟ أو هو القيام إلى الصلاة؟ أو هو حصول الجنابة مع القيام إلى الصلاة؟ ثلاثة أوجه، ومن قال: يجب بالجنابة قال: وهو وجوب موسع. وهذا الخلاف جار في موجب الوضوء. هل هو الحدث؟ أو القيام إلى الصلاة؟ أو المجموع؟ -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - استحباب غسل الوجه واليدين إذا قام من النوم. قال النووي: والحكمة من غسل الوجه إذهاب النعاس وآثار النوم، وأما غسل اليدين فللاحتياط. 2 - ويستفاد من الرواية الأولى أيضا أن النوم بعد الاستيقاظ في الليل ليس بمكروه قال النووي: وقد جاء عن بعض السلف كراهة ذلك، ولعلهم أرادوا من لم يأمن استغراق النوم، بحيث يفوته وظيفته، ولا يكون مخالفا لما فعله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يأمن فوات أوراده ووظيفته. 3 - أن غسل الجنابة ليس على الفور، وإنما يتضيق على الإنسان عند القيام إلى الصلاة. قال النووي: وهذا بإجماع المسلمين. 4 - وأن بدن الجنب وعرقه طاهران. 5 - وجواز استقرار الجنب في البيت يقظان، لحصول اليقظة بين وضوئه ونومه، قال الحافظ ابن حجر: ولا فرق في ذلك بين القليل والكثير. 6 - ويؤخذ من طوافه صلى الله عليه وسلم على نسائه بغسل واحد أن الجنب يجوز له أن يخرج وأن يمشي في السوق وغيره، وذلك لأن نساءه كانت لهن حجر منفصلة وبالضرورة كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد الطواف عليهن يحتاج إلى المشي من حجرة إلى حجرة. 7 - واستدل به البخاري على استحباب الاستكثار من النساء، وأشار إلى أن القسم لم يكن واجبا عليه صلى الله عليه وسلم، وهو قول طوائف من أهل العلم، والمشهور الوجوب، ويحتاج من قال به إلى الجواب عن هذا الحديث إما بأن ذلك كان برضا صاحبة النوبة، كما استأذنهن أن يمرض في بيت عائشة وإما بأن ذلك كان يحصل عند استيفاء القسمة، ثم يستأنف القسمة، وإما بأن ذلك كان قبل وجوب القسمة، ثم ترك بعدها.

8 - واستدل به على ما أعطي النبي صلى الله عليه وسلم من القوة على الجماع، وهو دليل على كمال البنية، وصحة الذكورية. 9 - وأن الغسل لا يجب بين الجماعين، سواء كان الجماع الثاني لنفس المرأة أو لغيرها. 10 - وعلى عدم كراهة كثرة الجماع عند الطاقة. 11 - واستدل به بعضهم على طهارة رطوبة الفرج، لأنه لو كانت نجسة لأمر بغسل ما أصاب منها بين الجماعين. ورطوبة الفرج نجسة عند المالكية، لما يخالطها من النجاسة الجارية عليها كالحيض والبول، وعند الشافعية فيها أقوال. قال النووي: نقل بعض أصحابنا الإجماع على طهارة الجنين يخرج وعليه رطوبة فرج أمه، قال: ولا يدخله الخلاف الذي في رطوبة الفرج. والله أعلم

(135) باب مني المرأة ووجوب الغسل عليها بخروجه

(135) باب مني المرأة ووجوب الغسل عليها بخروجه 551 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاءت أم سليم (وهي جدة إسحق) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت له، وعائشة عنده: يا رسول الله! المرأة ترى ما يرى الرجل في المنام. فترى من نفسها ما يرى الرجل من نفسه. فقالت عائشة: يا أم سليم! فضحت النساء. تربت يمينك. فقال لعائشة "بل أنت. فتربت يمينك. نعم. فلتغتسل يا أم سليم! إذا رأت ذاك". 552 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن أم سليم حدثت؛ أنها سألت نبي الله صلى الله عليه وسلم عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا رأت ذلك المرأة فلتغتسل" فقالت أم سليم: واستحييت من ذلك. قالت: وهل يكون هذا؟ فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم "نعم. فمن أين يكون الشبه. إن ماء الرجل غليظ أبيض. وماء المرأة رقيق أصفر. فمن أيهما علا، أو سبق، يكون منه الشبه". 553 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سألت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل في منامه؟ فقال "إذا كان منها ما يكون من الرجل، فلتغتسل". 554 - عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: جاءت أم سليم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نعم. إذا رأت الماء" فقالت أم سلمة: يا رسول الله! وتحتلم المرأة؟ فقال "تربت يداك. فبم يشبهها ولدها". 555 - عن هشام بن عروة بهذا الإسناد، مثل معناه. وزاد: قالت قلت: فضحت النساء.

556 - عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها أن أم سليم (أم بني أبي طلحة) دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم. بمعنى حديث هشام. غير أن فيه قال قالت عائشة: فقلت لها: أف لك! أترى المرأة ذلك؟ . 557 - عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تغتسل المرأة إذا احتلمت وأبصرت الماء؟ فقال "نعم" فقالت لها عائشة: تربت يداك. وألت. قالت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "دعيها. وهل يكون الشبه إلا من قبل ذلك. إذا علا ماؤها ماء الرجل أشبه الولد أخواله. وإذا علا ماء الرجل ماءها أشبه أعمامه". 558 - عن ثوبان رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كنت قائما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاء حبر من أحبار اليهود فقال: السلام عليك يا محمد! فدفعته دفعة كاد يصرع منها. فقال: لم تدفعني؟ فقلت: ألا تقول يا رسول الله! فقال اليهودي: إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن اسمي محمد الذي سماني به أهلي" فقال اليهودي: جئت أسألك. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "أينفعك شيء إن حدثتك؟ " قال: أسمع بأذني. فنكت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعود معه. فقال "سل" فقال اليهودي: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هم في الظلمة دون الجسر" قال: فمن أول الناس إجازة؟ قال "فقراء المهاجرين" قال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ قال: "زيادة كبد النون" قال: فما غذاؤهم على إثرها؟ قال "ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها" قال: فما شرابهم عليه؟ قال "من عين فيها تسمى سلسبيلا" قال: صدقت. قال: وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض. إلا نبي أو رجل أو رجلان. قال "ينفعك إن حدثتك؟ " قال: أسمع بأذني. قال جئت أسألك عن الولد؟ قال "ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر. فإذا اجتمعا، فعلا مني الرجل مني المرأة، أذكرا بإذن الله. وإذا علا مني المرأة مني الرجل، آنثا بإذن الله" قال اليهودي: لقد

صدقت. وإنك لنبي. ثم انصرف فذهب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لقد سألني هذا عن الذي سألني عنه. وما لي علم بشيء منه. حتى أتاني الله به". 559 - عن معاوية بن سلام في هذا الإسناد بمثله. غير أنه قال: كنت قاعدا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال "زائدة كبد النون" وقال: "أذكر وآنث". ولم يقل: "أذكرا وآنثا". -[المعنى العام]- الحياء من الإيمان، والحياء لا يأتي إلا بخير، بهذا حث الإسلام على التخلق بخلق الحياء، حث على انقباض النفس وعدم إقبالها على أمر تخاف أن تلام وتذم عليه، وإذا خاف المسلم من اللوم والذم اجتنب السيئات، وفي الوقت الذي دعا فيه الإسلام إلى التخلق بهذا الخلق الكريم دعا إلى الجرأة في العلم وفي الحق، عملا بقوله تعالى: {والله لا يستحيي من الحق} [الأحزاب: 53] وقوله: {إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها} [البقرة: 26] لأن العلم يضيع بين الكبر والحياء، ولا يتعلم العلم مستحي، ومن هنا نجد الرجال والنساء في عهده صلى الله عليه وسلم يسألون عما يحتاجون من أمور دينهم ودنياهم، حتى قالت عائشة: "نعم النساء نساء الأنصار. لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين. واتباعا لهذه التعاليم الحكيمة جاءت أم سليم، أم أنس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة وأم سلمة. فقالت: يا رسول الله، إني سائلتك عن مسألة تستحي المرأة من ذكرها لكن الله لا يستحي من الحق. إن المرأة ترى في المنام أن زوجها يجامعها وأنها تنزل، وتصبح فتجد بللا في قبلها، فهل عليها من غسل إذا هي احتلمت ورأت الماء؟ فتبسمت أم سلمة تعجبا، وغطت وجهها حياء، وقالت: تربت يمينك يا أم سليم. وقالت عائشة: أف لك يا أم سليم. فضحت النساء بذكر هذا الكلام الذي يستحيا من ذكره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل أنتما المستحقتان للإنكار والزجر، كيف تنكران على من تسأل عن دينها؟ دعوها تسأل. نعم يا أم سليم؟ . إذا كان منها ما يكون من الرجل وجب عليها الغسل قالت أم سلمة: وتحتلم المرأة وترى ذلك يا رسول الله؟ قال: نعم. النساء شقائق الرجال، وللمرأة ماء كما أن للرجل ماء، لكن ماء الرجل مختلف عن ماء المرأة فماؤه أبيض غليظ، وماؤها أصفر رقيق، وتعجبت أم سلمة وعائشة، إذ هما تحسان بماء الرجل ويريانه، لكن كل واحدة منهما لم تحتلم، ولم تر ماء يخرج من قبلها، فقال لهما صلى الله عليه وسلم: ألستما تشاهدان شبه الولد بأمه أحيانا كما تشاهدان شبهه بأبيه أحيانا؟ قالتا: نعم، قال: فمن أين يأتي شبهه بأمه إذا لم يكن لها ماء وشهوة يلتقي بماء الرجل وشهوته؟ واقتنعت عائشة وأم سلمة وعلمتا علما يجهله أهل زمانهما، علمتا ما جاء

به اليهودي عبد الله بن سلام يسأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم متحديا مختبرا صدقه ونبوته. جاء فقال: السلام عليك يا محمد. فدفعه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: لم لا تناديه برسول الله؟ قال: لم أومن برسالته بعد، ولكني أدعوه بما سماه به أهله. ثم قال: جئت أسألك عن شيء لا يعلمه إلا نبي أو رجل أو رجلان. قال له صلى الله عليه وسلم: أينفعك جوابي إن أجبتك وتؤمن؟ قال: أسمع بأذني، وأفكر بعقلي: قال له: سل قال: ما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ قال: طرف كبد الحوت، قال: فما غذاؤهم بعده؟ قال ينحر لهم ثور خلقه الله في الجنة يأكل من أطرافها قال: فما شرابهم عليه؟ قال: يشربون من عين فيها تسمى سلسبيلا. قال: فما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: إن سبق وعلا ماء الرجل نزع الولد إلى أبيه، وإن سبق وعلا ماء المرأة نزع الولد إلى أمه. قال: صدقت. وأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. ثم قال: يا رسول الله إن اليهود قوم بهت، يكذبون ويكذبون، فادعهم واسألهم عني قبل أن يعلموا بإسلامي، فإنهم إن علموا بإسلامي قالوا في ما ليس في، فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فجاءوا -وعبد الله في داخل الدار- قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: أي رجل فيكم ابن سلام؟ قالوا: سيدنا وابن سيدنا، وأفضلنا وابن أفضلنا، وأعلمنا وابن أعلمنا. قال: أفرأيتم إن أسلم؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك. فأعاد عليهم ثلاثا. فقالوا ذلك. فخرج إليهم ابن سلام، فقال: يا معشر اليهود. اتقوا الله الذي لا إله إلا هو، إنكم لتعلمون أنه رسول الله، وأنه جاء بالحق، فقالوا: هذا شرنا وابن شرنا، وتنقصوه. فقال: هذا ما كنت أخاف يا رسول الله. -[المباحث العربية]- (جاءت أم سليم) بضم السين وفتح اللام، تزوجها مالك بن النضر فولدت له أنسا، ثم قتل عنها مشركا، فأسلمت، فخطبها أبو طلحة، وهو مشرك، فأبت حتى يسلم فأسلم، فتزوجها. (فقالت له -وعائشة عنده) جملة "وعائشة عنده" مبتدأ وخبر في موضع الحال من الضمير في "له". (المرأة ترى ما يرى الرجل في المنام) "ما" اسم موصول، والمقصود ما يراه الرجل من أحلام المداعبة والجماع. والمراد من الرؤية هنا رؤية المنام، أي ترى في منامها أحلاما جنسية مثلما يرى الرجل. (فترى من نفسها ما يرى الرجل من نفسه) الرؤية هنا بصرية أو علمية منشؤها الحس -كما سيوضح في فقه الحديث، والمعنى: فترى من نفسها المني الذي يراه الرجل من نفسه، نتيجة لهذا الاحتلام. (فضحت النساء) أي حكيت عنهن أمرا يستحيا من وصفهن به ويكتمنه، وذلك أن نزول المني منهن يدل على شدة شهوتهن للرجال.

(تربت يمينك) قال النووي: فيه خلاف كثير منتشر جدا للسلف والخلف من الطوائف كلها، والأصح الأقوى الذي عليه المحققون في معناه أنها كلمة أصلها افتقرت [قال: ترب بكسر الراء، أي لصق بالتراب، ويكنى به عن الفقر قال تعالى: {أو مسكينا ذا متربة} [البلد: 16]، قال الهروي: ويقال: أترب الرجل إذا استغنى كأن ماله صار بعده التراب] ولكن العرب اعتادت استعمالها غير قاصدة حقيقة معناها الأصلي، فيذكرون: تربت يداك وقاتلك الله ما أشجعك، ولا أم لك ولا أب لك، وثكلتك أمك، وما أشبه هذا من ألفاظهم، يقولونها عند إنكار الشيء، أو الزجر عنه، أو الذم عليه، أو استعظامه، أو الحث عليه، أو الإعجاب به. اهـ. والأنسب هنا الإنكار والزجر. (فقال لعائشة: بل أنت) "بل" للإضراب الإبطالي، فهو صلى الله عليه وسلم يبطل قول عائشة لأم سليم: تربت يمينك. ثم يقول لها ما أبطله عن أم سليم. و "أنت" مبتدأ محذوف الخبر، أي أنت أحق أن يقال لك ذلك، فإنها فعلت ما يجب عليها من السؤال عن دينها، فلا تستحق الإنكار، وتستحقين أنت الإنكار لإنكارك ما لا إنكار فيه. (فتربت يمينك) الفاء فصيحة، في جواب شرط، تقديره: إذا لم تستحق هي الإنكار، وكنت أنت أحق به فتربت يمينك. (نعم) جواب السؤال المطوي في هذه الرواية، ويصرح به في الرواية الرابعة، بلفظ "فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ " وفي الرواية السادسة بلفظ "هل تغتسل المرأة إذا احتلمت وأبصرت الماء"؟ (فلتغتسل -يا أم سليم- إذا رأت ذاك) "ذا" اسم إشارة، والكاف حرف خطاب للمؤنثة، فيكسر، والمشار إليه المني. وفي الرواية الثانية "إذا رأت ذلك" واللام للبعد. (فقالت أم سليم: واستحييت من ذلك. قالت: وهل يكون هذا؟ ) ظاهر هذا الأسلوب أن أم سليم هي التي قالت: وهل يكون هذا؟ وهو مستبعد ولعل الأصل: قالت عائشة، كما تشير الرواية الخامسة، أو قالت: أم سلمة كما تصرح الرواية الرابعة، وسيأتي مزيد إيضاح لهذا في فقه الحديث، والاستفهام للإنكار أو للتعجب. (نعم فمن أين يكون الشبه) أي مشابهة الولد أمه، ورواية البخاري "فيم يشبهها ولدها"؟ كالرواية الرابعة، وفي الرواية السادسة "وهل يكون الشبه إلا من قبل ذلك" والاستفهام في هذه الرواية للإنكار بمعنى النفي، أي لا يكون الشبه إلا من جهة مائها. والشبه بفتح الشين والباء، وبكسر الشين وسكون الباء بمعنى المشابهة، وهي الاشتراك ولو في بعض الصفات. (فمن أيهما علا أو سبق يكون منه الشبه) قال النووي: يجوز أن يكون المراد بالعلو هنا السبق، ويجوز أن يكون المراد الكثرة والقوة بحسب كثرة الشهوة. اهـ. والأولى أن يراد بالعلو والسبق الغلبة، أي: فمن الذي تتغلب صفاته وخواصه على صفات وخواص الآخر يكون شبه الولد.

(إذا كان منها ما يكون من الرجل فلتغتسل) "كان" تامة، والمعنى إذا وجد منها ما يوجد من الرجل من المني نتيجة للاحتلام فلتغتسل. {والله لا يستحيي من الحق} "لا يستحيي" بياءين، ويقال أيضا: يستحي بياء واحدة في المضارع. اهـ. والحياء تغير وانكسار، يعتري الإنسان من خوف ما يصاب به، أو يذم عليه. وهذا محال على الله. نعم في الحديث نفي الاستحياء لا إثباته، لكن مفهوم نفي الاستحياء من الحق إثبات الاستحياء من غير الحق، ولهذا قال علماء الحديث إن الكلام هنا على غير حقيقته، فيكون جاريا على الاستعارة التمثيلية، فتشبه حالة ترك الحق وما يحيط بتاركه، وما يكون عليه بالاستحياء، فكأنها قالت: إن الله لا يترك الحق، أي لا يمتنع من بيان الحق، فكذا أنا لا أمتنع من سؤالي عما أنا محتاجة إليه، وقيل: معناه. إن الله لا يأمر بالحياء في الحق ولا يبيحه، وإنما قالت ذلك اعتذارا بين يدي سؤالها عما دعت الحاجة إليه مما تستحيي النساء في العادة من السؤال عنه بحضرة الرجال. (فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ ) الفاء فصيحة في جواب شرط مقدر: أي وإذا كان الحياء من الحق مذموما فهل على المرأة من غسل؟ و "من" زائدة داخلة على المبتدأ في سياق الاستفهام، والاحتلام افتعال من الحلم بضم الحاء وسكون اللام، وهو ما يراه النائم في نومه، يقال: حلم بفتح اللام واحتلم، والمراد أمر خاص من الأحلام، وهو الجماع، وشاع في الإنزال في جماع المنام، فإذا قال الرجل: احتلمت، فالمتبادر أنزلت من لذة منامية، والظاهر أن سؤالها عن الاحتلام بمعنى اللذة الشهوانية في النوم، أنزلت أم لم تنزل، فكان الجواب اشتراط الإنزال ورؤية الماء، يؤيد هذا رواية أحمد، من حديث أم سليم أنها قالت "إذا رأت أن زوجها يجامعها في المنام أتغتسل"؟ (وتحتلم المرأة؟ ) معطوف على محذوف، والاستفهام مقدر، أي أترى المرأة الماء وتحتلم؟ وفي رواية "وهل تحتلم المرأة"؟ وفي رواية "أو تحتلم المرأة"؟ (أف لك) في "أف" عشر لغات، بضم الهمزة مع كسر الفاء، وفتحها وضمها بغير تنوين، وبالتنوين، فهذه ست لغات، والسابعة "إف" بكسر الهمزة وفتح الفاء، والثامنة "أف" بضم الهمزة وإسكان الفاء، والتاسعة "أفي" بضم الهمزة وبالياء، و "أفه" بالهاء، ذكرهن ابن الأنباري وقال أبو البقاء: من كسر بناه على الأصل، ومن فتح طلب التخفيف، ومن ضم أتبع، ومن نون أراد التنكير، ومن لم ينون أراد التعريف، ومن خفف الفاء حذف أحد المثلين تخفيفا. وقال ابن الأنباري في اللغة التاسعة بالياء، كأنه أضافه إلى نفسه. اهـ. والظاهر أنها اسم فعل ماض، أي كرهت وضجرت، وأصل الأف وسخ الأظفار، وهي كلمة تستعمل في الاحتقار والاستقذار والإنكار، قال الباجي: والمراد بها هنا الإنكار. (تربت يداك وألت) بضم الهمزة وفتح اللام المشددة وإسكان التاء، ومعناها: أصابتها الآلة، بفتح الهمزة وتشديد اللام، وهي الحربة، فكأنها قالت: افتقرت يداك وطعنت.

(جاء حبر من أحبار اليهود) "الحبر" بفتح الحاء وكسرها لغتان مشهورتان هو العالم، والمراد به هنا عبد الله بن سلام، كما جاء في روايات البخاري، وكان أعلم اليهود، وكان اسمه الحصين، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم -لما أسلم- عبد الله. (جئت أسألك) جملة "أسألك" في محل النصب على الحال المقدرة، أي جئت مقدرا وقاصدا سؤالك. (أينفعك شيء إن حدثتك) الاستفهام تقريري، أي قر بأن قصدك الانتفاع بالحديث، وليس التحدي والمعاكسة، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله. (قال: أسمع بأذني) تثنية "أذني" ليس مراده: أسمع بأذني ولا أعقل ولا أتأثر، وإنما مراده: لا ألتزم المتابعة، وإنما أسمع بأذني وأنظر فيما أسمع. (فنكت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعود معه) "نكت" بفتح النون والكاف، أي خط بالعود في الأرض، وأثر به فيها، وهذا يفعله المفكرون. (يوم تبدل الأرض غير الأرض) قيل: إن التبديل تبديل صفات، بأن تمد مد الأديم، وتستوى، وتزال جبالها، وتصبح بيضاء عفراء، وليس فيها علم ولا شيء يستر، وقيل: إن التبديل تبديل ذات، بأن تزال هذه الأرض، ويؤتى بغيرها. (هم في الظلمة دون الجسر) بفتح الجيم وكسرها، لغتان مشهورتان وهو ما يعبر عليه، والمراد منه هنا الصراط. (فمن أول الناس إجازة؟ ) بكسر الهمزة، ومعناه جوازا وعبورا. (فما تحفتهم؟ ) بإسكان الحاء وفتحها، لغتان، والتحفة ما يهدى إلى الرجل ويخص ويلاطف به. (زيادة كبد النون) وفي رواية "زائدة كبد النون" والزيادة والزائدة شيء واحد، والنون الحوت وزيادة الكبد طرفه، وهو أطيبه، وتعريف النون يشعر بأنه حوت مخصوص. وهذا من الأمور السمعية التي ينبغي الإيمان بها تعبدا. (فما غذاؤهم على إثرها؟ ) "غذاؤهم" روي على وجهين: أحدهما: بالذال وكسر الغين، وهو الطعام أو الشراب الذي يتغذى به الجسم في أي وقت من الأوقات، وثانيهما: بالدال وفتح الغين، وهو الأكل أول النهار. قال القاضي عياض: هذا الثاني هو الصحيح وهو رواية الأكثرين، والأول ليس بشيء [لأن السؤال عن طعامهم في وقت معين، وليس عن طعامهم في جميع الأوقات] وقال النووي: وللأول وجه، وتقديره: ما غذاؤهم في ذلك الوقت؟ . اهـ. وهو وجه حسن، يساعده قوله: "على إثرها". والإثر بكسر الهمزة وإسكان الثاء، والأثر بفتح الهمزة والثاء لغتان مشهورتان.

(ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها) هذا الأسلوب يشعر بأنه ثور معهود، ليس في الجنة غيره. وهل هو موجود الآن -على القول بأن الجنة موجودة- أو يوجد فيما بعد؟ . الله أعلم. (فما شرابهم عليه؟ ) أي على هذا الغذاء؟ أو على هذا الثور؟ (قال: من عين فيها تسمى سلسبيلا) قال جماعة من أهل اللغة والمفسرين: السلسبيل اسم للعين: وقال مجاهد وغيره: هي شديدة الجري، وقيل: هي السلسة اللينة، قاله النووي. اهـ. والباحث يرى أن الجواب لم يطابق السؤال، إنه السؤال عن المشروب، والجواب عن مكان المشروب، ولو قصد مطابقته لقال: ماء غير آسن، أو لبنا، أو خمرا، أو عسلا مصفى، لكنه جرى على الأسلوب الحكيم، كأنه قال: شرابهم من الفخامة بحيث لا يوصف، لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، لكنه يخرج من عين في الجنة تسمى سلسبيلا. (أذكرا بإذن الله وآنثا بإذن الله) "أذكرا" أنجبا ذكرا، و "آنثا" أنجبا أنثى، وقد روي بالمد وتخفيف النون، وروي بالقصر وتشديد النون. (ثم انصرف فذهب) قد يكون العطف عطف تفسير، لرفع وهم أنه انصرف عن قبول الحق مع بقائه في المجلس، وقد يكون عطف مغاير، بأن يراد من الانصراف تولية الظهر، ومن الذهاب البعد عن المجلس بحيث لا يسمع، وهذا هو الظاهر. -[فقه الحديث]- -[يستفاد من هذه الروايات]- 1 - أن خروج المني من موجبات الغسل على الرجل والمرأة قال النووي: وقد أجمع المسلمون على وجوب الغسل على الرجل والمرأة بخروج المني، أو إيلاج الذكر في الفرج وأجمعوا على وجوبه عليها بالحيض والنفاس، واختلفوا في وجوبه على من ولدت ولم تر دما أصلا، والأصح عند أصحابنا وجوب الغسل، وكذا الخلاف فيما إذا ألقت مضغة أو علقة. والأصح وجوب الغسل. وقال: ثم إن مذهبنا أنه يجب الغسل بخروج المني، سواء كان بشهوة ودفق أم لا، في النوم أو في اليقظة، وسواء أحس بخروجه أم لا، وسواء خرج من العاقل أم من المجنون. ثم إن المراد بخروج المني أن يخرج إلى الظاهر، أما ما لم يخرج فلا يوجب الغسل، وذلك بأن يرى النائم أنه يجامع، وأنه قد أنزل، ثم يستيقظ فلا يرى شيئا فلا غسل عليه بإجماع المسلمين، وكذا لو اضطرب بدنه لمبادئ خروج المني فلم يخرج، وكذا لو نزل المني إلى أصل الذكر، ثم لم يخرج فلا غسل، وكذا لو صار المني في وسط الذكر، وهو في صلاة، فأمسك بيده على ذكره، فوق

حائل فلم يخرج المني حتى سلم من صلاته صحت صلاته، فإنه مازال متطهرا حتى خرج، والمرأة كالرجل في هذا، إلا أنها إذا كانت ثيبا فنزل المني إلى فرجها، ووصل الموضع الذي يجب عليها غسله في الجنابة والاستنجاء، وهو الذي يظهر حال قعودها لقضاء الحاجة، وجب عليها الغسل بوصول المني إلى ذلك الموضع لأنه في حكم الظاهر، وإن كانت بكرا لم يلزمها الغسل ما لم يخرج المني من فرجها، لأن داخل فرجها كداخل إحليل الرجل، اهـ. 2 - وفيه أن المرأة تحتلم كالرجل، قال ابن بطال: فيه دليل على أن كل النساء يحتلمن، قال الحافظ ابن حجر: والظاهر أن مراده الجواز لا الوقوع، أي فيهن قابلية الاحتلام، وعكسه ابن عبد البر، فقال: فيه دليل على أن بعض النساء لا يحتلمن، أخذا من إنكار أم سلمة بقولها: "وهل يكون هذا"؟ "وتحتلم المرأة"؟ وقال السيوطي. وأي مانع أن يكون ذلك خصوصية لأزواجه صلى الله عليه وسلم أنهن لا يحتلمن، كما أن من خصائص الأنبياء أنهم لا يحتلمون، لأنه من الشيطان، فلم يسلطه عليهم، وكذا لا يسلط على أزواجه تكريما له. اهـ. ورده الزرقاني، فقال: المانع من ذلك أن الخصائص لا تثبت بالاحتمال، وعلل بعضهم منع وقوعه من أزواجه صلى الله عليه وسلم بأنهن لا يطعن غيره، لا يقظة ولا مناما، والشيطان لا يتمثل به، وفيه نظر، لأنهن قد يحتلمن من غير رؤية، كما يقع لكثير من الناس. 3 - واستدل به على أن ماء المرأة قد يبرز ويرى، وزعم بعضهم أن ماء المرأة لا يبرز، وإنما ينعكس إلى الرحم، وحمل الرؤية في الحديث على العلم، أي تغتسل إذا علمت أنها أنزلت بشهوة، والجمهور على خلافه، وأن المرأة كالرجل لا يجب عليها الغسل بالإنزال إلا إذا برز ماؤها. 4 - وفيه بيان صفات مني الرجل والمرأة. قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم "إن ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر" أصل عظيم في بيان صفة المني، وهذه صفته في حال السلامة وفي الغالب؛ قال العلماء: مني الرجل في حال الصحة أبيض ثخين يتدفق في خروجه دفقة بعد دفقة، ويخرج بشهوة ويتلذذ بخروجه، وإذا خرج استعقب خروجه فتورا، ورائحته كرائحة طلع النخل، ورائحة الطلع قريبة من رائحة العجين، وقيل: تشبه رائحته إذا يبس رائحة البول، فهذه صفاته، وقد يفارقه بعضها مع بقاء ما يستقل بكونه منيا، وذلك بأن يمرض فيصير منيه رقيقا أصفر، أو يسترخي وعاء المني، فيسيل من غير تلذذ ولا شهوة، أو يستكثر من الجماع فيحمر، ويصير كماء اللحم، وربما خرج دما عبيطا، وإذا خرج المني أحمر فهو طاهر، موجب للغسل، كما لو كان أبيض، ثم إن خواص المني التي عليها الاعتماد في كونه منيا ثلاث: أحدها: الخروج بشهوة مع الفتور عقبه، والثانية: الرائحة التي تشبه رائحة الطلع، والثالثة الخروج بزريق ودفق ودفعات، وكل واحدة من هذه الثلاث كافية في إثبات كونه منيا، ولا يشترط اجتماعها فيه، وإذا لم يوجد شيء منها لم يحكم بكونه منيا، وغلب علي الظن كونه ليس منيا، هذا كله في مني الرجل، وأما مني المرأة فهو أصفر رقيق، وقد يبيض لفضل قوتها، وله خاصيتان، يعرف بواحدة منهما: إحداهما: أن رائحته كرائحة مني الرجل. والثانية: التلذذ بخروجه وفتور شهوتها عقب خروجه. قالوا: ويجب الغسل بخروج المني بأي صفة وأي حال. اهـ.

5 - وفيه إثبات الوراثة، وشبه الولد لأبيه أو أمه، ومازال العلم -رغم تقدمه- عاجزا عن التحكم في علو ماء الرجل أو سبقه، وعلو ماء المرأة أو سبقه، بل عاجزا عن إدراك كيفية هذا العلو وأسبابه. يقول علماء الطب الحديث: إن ثلاثة سنتيمترات مكعبة من مني الرجل تحوي مائتين وخمسين مليونا من الحيوان المنوي، كل حيوان منها يمكن أن يكون جنينا، ويحمل ثلاثة وعشرين من العوامل الوراثية ولكل عامل من هذه العوامل مكونات داخلية، تبلغ المائة وتسمى بالمورثات. أما الأنثى فإن مبيضها يقذف ببويضة واحدة كل شهر، تحمل هذه البويضة ثلاثة وعشرين من العوامل الوراثية للمرأة أيضا. ويتكون الجنين باختراق حيوان منوي واحد جدار البويضة واستقراره فيها وهنا تلتقي العوامل الوراثية للذكر بالعوامل الوراثية للأنثى، فتعلوا وتغلب إحداهما الأخرى. ولا يتنافى هذا التشريع الطبي مع أحاديثنا التي تثبت للمرأة ماء، ولا مع تفسير المفسرين لقوله تعالى: {فلينظر الإنسان مم خلق* خلق من ماء دافق* يخرج من بين الصلب والترائب} [الطارق: 5 - 7] حيث قالوا: من بين صلب الرجل، ومن بين ترائب المرأة، فإن مني الرجل الذي يتم تكوينه في الخصية مر بالصلب كمرحلة من مراحله، وإن بويضة المرأة التي تتكون في المهبل، هي في أصلها ماء يخرج من بين ترائب المرأة كمرحلة من مراحله. إن الطب لا ينكر أن المرأة تحتلم كما يحتلم الرجل، ولا ينكر أن المرأة تفرز عند شهوتها ماء رقيقا أصفر، وإن قال: إن اللقاح يتم عن طريق البويضة. لقد كان الهنود قبل المسيحية يعتقدون أن الأب هو عامل التكوين في إيجاد الطفل. إذ يضع البذرة في بطن المرأة، وأن المرأة ليست أكثر من حقل لإنماء هذه البذرة، وأخذ عنهم المصريون القدامى هذه الفكرة، وتأثر بهم كذلك اليونان والرومان، وكان هذا هو الشائع حين سأل اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: "لا يعلمه أحد إلا نبي أو رجل أو رجلان" وكان جوابه صلى الله عليه وسلم دليلا على صدقه، بل إن أوربا لم تكتشف مشاركة ماء المرأة لماء الرجل في تكوين الجنين إلا عام 1667 م حين اكتشف عالم التشريح الفلورنسي "ستينو" البويضة عند المرأة، ثم تابع العلم اكتشافات وراثة الطفل لأبويه في الصفات، ولكنه -كعادته- حين يعجز عن إدراك الطريقة والسبب يعزو الأمر إلى الصدفة. يقول الدكتور فاخر عاقل رئيس قسم علم النفس بجامعة دمشق: أما الثلاثة والعشرين صبغيا [أي عاملا وراثيا] الموجودة في النطفة، والتي ستلتقي بالثلاثة والعشرين صبغيا الأخرى، الموجودة في البويضة. والتي ستكون المخلوق الجديد، فأمرها متروك للصدفة مرة أخرى، وهكذا تكون قوانين الوراثة قوانين متصلة بالصدفة في تجمع الصبغيات في كل بويضة أو نطفة. اهـ. ولكن الإسلام يقول: إن علو عوامل الوراثة في ماء الرجل وغلبتها لمثيلاتها عند المرأة مرتبط بعلم الله ومشيئته، جلت قدرته {يخلق ما يشاء ويختار} [القصص: 68]. {يهب

لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور* أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير} [الشورى: 49 - 50]. 6 - وفي الحديث جواز استفتاء المرأة بنفسها من الرجال. 7 - وأنه لا حياء في الدين، وأن من عرضت له مسألة ينبغي أن يسأل عنها، ولا يمتنع من السؤال حياء من ذكرها، فإن ذلك ليس بحياء حقيقي، لأن الحياء كله خير، والحياء لا يأتي إلا بخير، والإمساك عن السؤال في هذه الحال ليس بخير، بل هو شر، فكيف يكون حياء؟ قاله النووي. 8 - يؤخذ من قول أم المؤمنين "فضحت النساء" حياء أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في بعض روايات البخاري "فغطت أم سلمة وجهها" ولما كانت الرواية الأولى والخامسة والسادسة تصرح بأن التي أنكرت على أم سليم هي عائشة وكانت الرواية الثالثة والرابعة تصرحان بأنها أم سلمة جمع النووي بين الروايات بأنه يحتمل أن تكون عائشة وأم سلمة جميعا أنكرتا على أم سليم، قال الحافظ ابن حجر: وهو جمع حسن، لأنه لا يمتنع حضور أم سلمة وعائشة عند النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس واحد. 9 - وفيه مشروعية زجر من يلوم الذي يسأل عما يجهل. 10 - وفيه التمهيد للعذر، وأنه خير من تأخيره، لأن الذي يقدم العذر عن المعتذر منه يهيئ المخاطب لقبول الوضع خاليا من العتب، وإذا تأخر العذر استثقلت النفس المعتذر منه، فتأثرت بقبحه، ثم يأتي العذر رافعا، وعلى الأول يأتي دافعا، ودفع الشيء المستكره قبل وقوعه أيسر من رفعه بعد وقوعه. 11 - ويؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان منها ما يكون من الرجل فلتغتسل" حسن العشرة ولطف الخطاب، واستعمال اللفظ الجميل موضع الذي يستحيا منه في العادة. 12 - ومن حديث الحبر يؤخذ أدب العلم الذي اتصف به عبد الله بن سلام، إذ بدأ بالسلام، وسأل عن سبب دفعه، ولم يعنف الدافع، وقال: إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله، ولم يقل كما قالت قريش في الحديبية: لو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك. 13 - وإنصافه صلى الله عليه وسلم، وحسن خلقه، واستئلافة الخلق إلى الإيمان حيث قال: إن اسمي الذي سماني به أهلي محمد. 14 - وجواز النكت بالعود في الأرض عند التفكر، وأنه ليس مخلا بالمروءة كما يتصور البعض. 15 - وفيه فضل فقراء المهاجرين، وليس معنى ذلك أن فقراء المهاجرين أفضل من أغنيائهم، للإجماع على أن عثمان وعبد الرحمن بن عوف أفضل من أبي هريرة وأبي ذر -رضوان الله عليهم- أجمعين، وقد يختص المفضول بخاصية ليست في الفاضل، ولا يكون بسببها أفضل، ولهذا المعنى لا يحتج به لترجيح الفقراء. ذكره الأبي. والله أعلم

(136) باب الصفة الكاملة لغسل الجنابة

(136) باب الصفة الكاملة لغسل الجنابة 560 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة، يبدأ فيغسل يديه. ثم يفرغ بيمينه على شماله. فيغسل فرجه. ثم يتوضأ وضوءه للصلاة. ثم يأخذ الماء. فيدخل أصابعه في أصول الشعر. حتى إذا رأى أن قد استبرأ، حفن على رأسه ثلاث حفنات. ثم أفاض على سائر جسده. ثم غسل رجليه. عن هشام في هذا الإسناد وليس في حديثهم غسل الرجلين. 561 - عن عائشة رضي الله عنها؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل من الجنابة. فبدأ فغسل كفيه ثلاثا. ثم ذكر نحو حديث أبي معاوية ولم يذكر غسل الرجلين. 562 - عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان، إذا اغتسل من الجنابة، بدأ فغسل يديه قبل أن يدخل يده في الإناء. ثم توضأ مثل وضوئه للصلاة. 563 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حدثتني خالتي ميمونة قالت: أدنيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم غسله من الجنابة. فغسل كفيه مرتين أو ثلاثا. ثم أدخل يده في الإناء. ثم أفرغ به على فرجه. وغسله بشماله. ثم ضرب بشماله الأرض. فدلكها دلكا شديدا. ثم توضأ وضوءه للصلاة. ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات ملء كفه. ثم غسل سائر جسده. ثم تنحى عن مقامه ذلك. فغسل رجليه. ثم أتيته بالمنديل فرده. 564 - عن الأعمش بهذا الإسناد وليس في حديثهما إفراغ ثلاث حفنات على الرأس. وفي حديث وكيع وصف الوضوء كله. يذكر المضمضة والاستنشاق فيه. وليس في حديث أبي معاوية ذكر المنديل.

565 - عن ميمونة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بمنديل. فلم يمسه. وجعل يقول "بالماء هكذا" يعني ينفضه. 566 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا اغتسل من الجنابة، دعا بشيء نحو الحلاب. فأخذ بكفه. بدأ بشق رأسه الأيمن. ثم الأيسر. ثم أخذ بكفيه. فقال بهما على رأسه. -[المعنى العام]- حقا كان لا بد أن نأخذ شطر الدين عن أمهات المؤمنين، لأنهن اللاتي باشرن العلاقة الزوجية والأعمال الداخلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إن كثيرا من التشريعات لم يكن من السهل تبليغها للأمة إلا عن طريقهن، وكانت عائشة -رضي الله عنها- أولاهن لأداء هذه الرسالة؛ لأنها كانت أحب أزواجه إليه صلى الله عليه وسلم، وأقربهن منه، وتمرض مرضه الأخير في بيتها، وكانت أطول نسائه حياة بعده، فأدت الأمانة هي وأخواتها -رضي الله عنهن- بكل إخلاص. وهذا مثل من أمثلة الأعمال السرية التي كان من الصعب العلم بها بدون تحديثهن. ها هي عائشة وميمونة تتحدثان عن غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجنابة وتشرحان أن أمهات المؤمنين كن يهيئن له الماء، ويقفن بجواره ينتظرن أوامره ويحضرن المنشفة لتنشيفه، وأنه كان لا يستعين بهن في نفس الغسل تقربا وتعبدا، وأنه كان يفرغ بيمينه على شماله ليغسل بها فرجه، بعد أن يغسل يديه قبل أن يدخلهما الإناء فإذا غسل فرجه أكد نظافة يسراه بدلكها في الأرض ليزيل ما قد يكون قد علق بها من ريح كريه، ثم يأخذ الماء بيديه فيدخل أصابعهما في أصول شعره، ويفركه ويدلكه، حتى يصل الماء إلى البشرة ومنابت الشعر وحتى يلين ويترطب ويستعد لأن يغمر بالغسل، حتى إذا اطمأن لذلك أخذ ثلاث حفنات فصبها على رأسه، ثم أفاض الماء على سائر جسده، ثم انتقل من مكان وقوفه إلى مكان جديد نظيف يغسل فيه رجليه اللتين غمرهما ماء الغسل أو لوثهما تراب الأرض، ثم يأخذ في نفض الماء عن جسده ويديه، فتناوله أم المؤمنين منديلا ليتنشف به، فمرة يأخذه، ومرة يعرض عنه تعجلا أو تواضعا. فصلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. -[المباحث العربية]- (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة) أي إذا أراد أن يغتسل، والأسلوب يدل على

العادة والغالب والشأن الكثير، والغسل بضم الغين اسم مصدر من "اغتسل" وبفتح الغين مصدر "غسل" ويجوز فيه الضم أيضا. قاله أهل اللغة. والمشهور في استعماله عند الفقهاء فتح الغين إذا أضيف إلى المغسول، كغسل الثوب. وضم الغين إذا أضيف إلى غيره كغسل الجنابة. وغسل الجنابة لغة الإسالة، وشرعا إيصال الماء إلى جميع ظاهر الجسد بنية رفع الجنابة. والجنابة في الأصل البعد، وسمي من اتصف بها جنبا لأنه منهي عن قربان مواضع الصلاة حتى يتطهر، وشرعا أمر معنوي. يقوم بالبدن يمنع من صحة الصلاة حيث لا مرخص. (ثم يتوضأ وضوءه للصلاة) الكلام على التشبيه، أي وضوءا مثل وضوئه للصلاة كما في الرواية الثانية، واحترز به عن الوضوء اللغوي. (فيدخل أصابعه في أصول الشعر) أي في منابته وما يتصل منه بجلدة الرأس. (حتى إذا رأى أن قد استبرأ) "أن" مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، أو ضميره صلى الله عليه وسلم، وجملة "قد استبرأ" خبرها، و"رأى" بمعنى "ظن ظنا قويا" والمعنى حتى إذا ظن ووثق أنه أوصل البلل إلى جميع أصول الشعر. (حفن على رأسه ثلاث حفنات) الحفنة ملء الكفين، قال النووي: معنى "حفن" أخذ الماء بيديه جميعا، وسيأتي تثليث الغسل في فقه الحديث. (ثم أفاض على سائر جسده) أي أسال الماء، فالمفعول محذوف للعلم به، والإفاضة الإسالة. (أدنيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم غسله من الجنابة) وفي رواية أبي داود: "وضعت للنبي صلى الله عليه وسلم غسلا يغتسل به من الجنابة" والمراد من الغسل هنا -وهو بضم الغين- الذي يغتسل به، وفي رواية للبخاري "عن ميمونة قالت: وضعت له صلى الله عليه وسلم ماء الغسل". (فغسل كفيه مرتين أو ثلاثا) شك من الراوي. (ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات ملء كفه) سبق القول: إن الحفنة ملء الكفين، فلعل الإفراد في "ملء كفه" تحريف. ولهذا قال النووي: هكذا هو في الأصول التي ببلادنا "كفه" بلفظ الإفراد، وكذا نقله القاضي عياض عن رواية الأكثرين، وفي رواية الطبري "كفيه" بالتثنية وهو مفسر لرواية الأكثرين إذ الحفنة ملء الكفين جميعا. اهـ وقال الداودي. الحفنة باليد الواحدة، لكن غيره من العلماء على أنها باليدين جميعا، أما الحثية فباليد الواحدة، والكف تذكر وتؤنث. (ثم تنحى عن مقامه ذلك) أي تحول عن مكان اغتساله إلى مكان آخر، وسيأتي بيان الحكمة فيه. والمقام مكان القيام، فيفيد أنه كان يغتسل وافقا، كذا قيل، وفيه نظر فالمقام مكان اللبث، عن قيام أو غيره.

(ثم أتيته بالمنديل فرده) "المنديل" بكسر الميم معروف. قال ابن فارس: لعله مأخوذ من الندل، وهو النقل، وقال غيره: هو مأخوذ من الندل، وهو الوسخ، لأنه يندل به ويقال: تندلت بالمنديل. (وجعل يقول بالماء هكذا -يعني ينفضه-) كان الظاهر أن يقول: وجعل يفعل الماء هكذا، لكن العرب تجعل القول عبارة عن الأفعال، وتطلقه أيضا على غير الكلام فتقول: قال بيده كذا، أي أشار، وذلك على المجاز والاتساع، والنفض الإسقاط، يقال: نفضت الورق عن الشجرة أسقطته ونفضت الوسخ عن الثوب أسقطته. (دعا بشيء نحو الحلاب) لفظ "نحو" هنا بمعنى "مثل" أي دعا بإناء مثل الحلاب، والحلاب وعاء يملؤه قدر حلب الناقة، ووصفه أبو عاصم بأنه أقل من شبر في شبر، وفي رواية للبيهقي "قدر كوز يسع ثمانية أرطال". (بدأ بشق رأسه الأيمن) أي بجانب رأسه الأيمن، والشق بكسر الشين يطلق أيضا على نصف الشيء، ومنه "تصدقوا ولو بشق تمرة". (ثم أخذ كفيه فقال بهما على رأسه) أي ففعل بهما على رأسه، أي أخذ كفين من الماء فصبهما على رأسه. -[فقه الحديث]- يتناول فقه الحديث المسائل التالية: 1 - حكم غسل الجنب يديه قبل إدخالهما الإناء. 2 - تنظيف اليد بعد الاستنجاء. 3 - الوضوء قبل الغسل، أو بعده. 4 - المضمضة والاستنشاق فيه. 5 - تخليل الشعر وغسل أصوله في الرجل والمرأة. 6 - الدلك في الغسل. 7 - التثليث في الغسل الكامل. 8 - التنشيف من ماء الغسل. 9 - ما يؤخذ من الحديث من أحكام أخرى.

وهذا هو التفصيل: 1 - حكم غسل الجنب يديه قبل إدخالهما الإناء: تصرح الرواية الأولى والثانية والثالثة بأنه صلى الله عليه وسلم كان يبدأ الغسل بغسل كفيه، وقد تناولنا حكم غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء في باب صفة الوضوء وكماله، ولما كان كل ما قيل في هذه المسألة في الوضوء يقال في الغسل من باب أولى فإنا نعيد ما قلناه، لبعد العهد به وتيسيره فقد جاء في مسلم عن غسل الكفين قبل الوضوء في وصف وضوئه صلى الله عليه وسلم "فغسل كفيه ثلاث مرات". "فأفرغ على كفيه ثلاث مرار، فغسلهما" "فدعا بإناء" فأكفأ منها على يديه، فغسلهما ثلاثا". قال النووي في شرحه: هذا دليل على أن غسل اليدين في أول الوضوء سنة، وهو كذلك باتفاق العلماء، ثم قال: وفيه استحباب تقديم غسل الكفين قبل غمسهما في الإناء. اهـ. والتحقيق: أن الكلام في نقطتين مختلفتين: الأولى: غسل اليدين في أول الوضوء وهو سنة ثابتة، لا نزاع في سنيته. قال الحافظ ابن حجر: هو سنة في حق المستيقظ الذي لا يشك في نجاسة يده، ولا يكره ترك غسلهما، لعدم ورود النهي فيه. والنقطة الثانية: غسل اليدين لمن قام من النوم، أو شك في نجاستهما. وقد ورد الأمر بغسلهما في هذه الحالة قبل غمسهما في الإناء، وورد النهي عن غمسهما في الإناء قبل غسلهما -وقد عقد لهذه المسألة باب خاص في هذا الكتاب- ومذهب الجمهور من الفقهاء والمحققين أن غسل اليدين قبل غمسهما لمن قام من النوم، أوشك في نجاستهما مندوب، ويكره تركه، وذهب أحمد إلى وجوب غسلهما عند القيام من نوم الليل، دون نوم النهار، وفي رواية عنه أن ترك الغسل بعد القيام من نوم الليل مكروه كراهة تحريم، وتركه بعد القيام من نوم النهار مكروه كراهة تنزيه. والجمهور من المتقدمين والمتأخرين على أن الماء لا ينجس إذا غمس يده فيه قبل غسلهما، لأن الأصل في اليد والماء الطهارة، فلا ينجس بالشك. وحكي عن الحسن البصري وإسحق بن راهويه ومحمد بن جرير الطبري أنه ينجس بالغمس بعد القيام من نوم الليل، لكنه خلاف قواعد الشريعة المتظاهرة. وقد اختلف في الكيفية المستحبة لغسل الكفين، هل يغسلهما مجتمعتين؟ أو يغسل اليمنى، ثم يدخلها، فيخرج ما يغسل به الأخرى؟ والظاهر الأول حيث أمكن. كما اختلف في كون هذا الغسل المستحب للنظافة أو للتعبد، فمن قال للنظافة استدل بقوله صلى الله عليه وسلم "فإنه لا يدري أين باتت يده" وعليه لا يستحب غسلهما لمن أحدث في أثناء وضوئه، أو تأكد من نظافتهما ونقاوتهما، ومن قال للتعبد استدل بطلب الغسل ثلاثا، إذ لو كان للنظافة لكفت واحدة، أو طلب النقاوة دون تحديد بعدد وعليه يستحب إعادة غسلهما لمن أحدث أثناء وضوئه، أو تأكد من نظافتهما، وهذا أولى وأحوط، والله أعلم. 2 - تنظيف اليد بعد الاستنجاء: أما عن استنجاء الجنب، وتنظيف اليد بعده فتقول الرواية الأولى "ثم

يفرغ بيمينه على شماله، فيغسل فرجه" وتقول الرواية الثالثة "ثم أدخل يده في الإناء، ثم أفرغ به على فرجه، وغسله بشماله، ثم ضرب بشماله الأرض، فدلكها دلكا شديدا". قال النووي: وينبغي لمن اغتسل من إناء كالإبريق ونحوه أن يتفطن لدقيقة قد يغفل عنها، وهي أنه إذا استنجى وطهر محل الاستنجاء بالماء، فينبغي أن يغسل محل الاستنجاء بعد ذلك بنية غسل الجنابة، لأنه إذا لم يغسله الآن ربما غفل عنه بعد ذلك، فلا يصح غسله لترك ذلك، وإن ذكره احتاج إلى مس فرجه فينتقض وضوؤه، أو يحتاج إلى كلفة في لف خرقة على يده. اهـ. ويستحب للمستنجي بالماء إذا فرغ أن يغسل يده بتراب أو أشنان [الصابون] أو يدلكها بالتراب أو حائط، ليذهب الاستقذار منها، قال ابن دقيق العيد: وإذا بقيت رائحة النجاسة بعد الاستقصاء في الإزالة لم يضر على مذهب بعض الفقهاء، وفي مذهب الشافعي خلاف، وقد يؤخذ العفو عنه من هذا الحديث لأن ضرب الأرض باليد بعد انفصالها عن محل الاستنجاء، بناء عن ظن طهارته دليل على أن هذا الضرب لطلب الأكمل فيما لا تجب إزالته، لأن اليد لو كانت نجسة بعد انفصالها لم يكن المحل طاهرا، لأنها لابسته مبتلا، فلزم أن تكون طاهرة عند انفصالها عنه طاهرا، ولزم أن يكون الضرب لفائدة، فلزم أن يكون لإزالة الريح طلبا للأكمل إذ لا جائز أن يكون الضرب لإزالة الطعم، لأن بقاء الطعم دليل على بقاء العين، ولا لإزالة اللون، لأن الجنابة بالإنزال أو بالمجامعة لا تقتضي لونا يلصق باليد، وإن اتفق فنادر، وسهل الزوال بقليل الماء. انتهى بتصرف. والله أعلم. 3 - الوضوء قبل الغسل أو بعده: وصرحت الروايات بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ وضوءه للصلاة مع غسل الجنابة، وبها أخذ أبو ثور وداود الظاهري فقالا بوجوب الوضوء قبل الغسل، ومن عداهما يقولون: الوضوء مع الغسل سنة غير واجب، أما كونه سنة فلفعله صلى الله عليه وسلم وهو محمول على الاستحباب جمعا بين الأدلة، وأما كونه غير واجب فلأنه يدخل في الغسل كالحائض إذا أجنبت يكفيها غسل واحد، ولأن الله تعالى أمر بالغسل ولم يذكر وضوءا، ولقوله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة: "يكفيك أن تفيضي عليك الماء" وقد روي عن الشافعي رواية ضعيفة أنه يلزم الجنب الوضوء في الجنابة مع الحدث، ولا يعتد بها، فقد نقل ابن بطال الإجماع على أن الوضوء لا يجب مع الغسل، وكأنه لم يعتبر خلاف أبي ثور وداود الظاهري. نعم يقع البحث في هذا الوضوء، هل هو وضوء حقيقة؟ أي غسل أعضائه بنية الوضوء فقط وتجب إعادة الماء على سائر الجسد في الغسل؟ أو هو كذلك ولا تجب إعادة الماء على أعضاء الوضوء، اكتفاء بغسلهما، باعتبار أن موجب الطهارتين بالنسبة إلى هذه الأعضاء واحد؟ الظاهر أنه يلزمه إعادة غسل أعضاء الوضوء ما لم ينو رفع الجنابة. أو هو وضوء غير حقيقي؟ أي وضوء في الصورة فقط، وحقيقته تقديم غسل هذه الأعضاء على بقية الجسد، في غسل الجنابة، تكريما لها وتشريفا ويسقط غسلها الوضوء باندراج الطهارة الصغرى في الطهارة الكبرى؟ ظاهر قولهما في الرواية الأولى "ثم أفاض على سائر جسده" وقولهما في

الرواية الثالثة "ثم غسل سائر جسده" يدل على أن المطلوب وضوء حقيقي مستقل عن إفاضة الماء على سائر الجسد، لتحصل فضيلة الوضوء. قال النووي: والوضوء سنة، فلو أفاض الماء على جميع بدنه من غير وضوء صح غسله، واستباح به الصلاة وغيرها، ولكن الأفضل أن يتوضأ وتحصل الفضيلة بالوضوء قبل الغسل، أو بعده، وإذا توضأ أولا [قبل الغسل] لا يأتي به ثانيا [بعد الغسل] فقد اتفق العلماء على أنه لا يستحب وضوءان. اهـ. وقد استشكل على الرواية الأولى والثالثة إذا تفيدان البدء بوضوء الصلاة ثم الغسل ثم غسل الرجلين؛ مما يترتب عليه أن الوضوء الأول غير كامل، أو أن الرجلين تغسلان مرتين. ففي الرواية الأولى "فيغسل فرجه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر، حتى إذا رأى أن قد استبرأ حفن على رأسه ثلاث حفنات، ثم أفاض على سائر جسده، ثم غسل رجليه". وفي الرواية الثالثة "ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات ملء كفه، ثم غسل سائر جسده، ثم تنحى عن مقامه ذلك فغسل رجليه". وأجيب عن هذا الإشكال باحتمال أن المراد بوضوء الصلاة أكثره، على سبيل المجاز من إطلاق الأكثر، وإرادة الكل، ويؤيده رواية ميمونة عند البخاري، ونصها "توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وضوءه للصلاة غير رجليه، ثم أفاض عليه الماء، ثم نحى رجليه، فغسلهما". قال الحافظ ابن حجر: وليس في شيء من الروايات عن عائشة وميمونة التصريح بإكمال الوضوء أو الغسل، بل الروايات إما محتملة، كرواية "توضأ وضوءه للصلاة" أو ظاهرة في تأخير الرجلين، كرواية "توضأ وضوءه للصلاة غير رجليه" فتحمل المحتملة على الصريحة. انتهى بتصرف. وأجاب بعضهم عن الإشكال باختلاف فعله صلى الله عليه وسلم لاختلاف الحالتين فكان يتم وضوءه قبل الغسل، ويعيد غسل رجليه حينما يكون المغتسل غير نظيف. وأجاب النووي بجواب ثالث: حاصله أنه صلى الله عليه وسلم كان يكمل الوضوء ويعيد غسل الرجلين بعد الفراغ، لزيادة النظافة لا لأجل الجنابة، فكان صلى الله عليه وسلم يواظب على ذلك، لأنه الأكمل والأفضل، وحمل النووي رواية ميمونة في البخاري "توضأ وضوءه للصلاة غير رجليه" على أنه فعل ذلك مرة لبيان الجواز. قال: وهذا كما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا، ومرة مرة، فكان الثلاث في معظم الأوقات، لكونه الأفضل، والمرة في نادر من الأوقات لبيان الجواز. اهـ. وتعقبه الحافظ ابن حجر بأن في رواية أحمد ما يدل على المواظبة، ولفظه "كان إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه ... " الحديث. ونتيجة لهذا الإشكال وأجوبته اختلف العلماء، فذهب الجمهور إلى استحباب تأخير غسل

الرجلين في الغسل، وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الأفضل إكمال الوضوء أولا إن كان الاغتسال في محل لا يجتمع فيه الماء وتأخير غسل القدمين إن كان يغتسل في نحو طست. وعن مالك: إن كان المكان غير نظيف فالمستحب تأخير غسلهما، وإلا فالتقديم، وعند الشافعية قولان في الأفضل، أصحهما وأشهرهما أنه يكمل وضوءه. والله أعلم. 4 - المضمضة والاستنشاق في وضوء الغسل: جاء في ملحق الرواية الثالثة ذكر المضمضة والاستنشاق في وضوء الغسل، وقد سبق لنا بيان حكم المضمضة والاستنشاق بالتفصيل في باب صفة الوضوء وكماله، وقلنا: إن العلماء اختلفوا في حكم المضمضة والاستنشاق على أربعة مذاهب: أحدها: مذهب مالك والشافعي وأصحابهما أنهما سنتان في الوضوء والغسل، رواية عن عطاء وأحمد، أما أنهما سنتان في الوضوء فللآية الكريمة: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} [المائدة: 6] وليس فيها ذكر المضمضة والاستنشاق وأما أنهما سنتان في الغسل فلأنهما من توابع الوضوء، فإذا سقط الوضوء سقط توابعه، وقد قام الإجماع -كما سبق- على أن الوضوء في غسل الجنابة غير واجب. ثانيها: أنهما واجبتان في الوضوء والغسل، لا يصحان إلا بهما، وهو المشهور عن أحمد بن حنبل، واستدل له بورود الأمر بهما في الوضوء، وظاهر الأمر أنه للوجوب، ولم يحك أحد ممن وصف وضوءه صلى الله عليه وسلم على الاستقصاء أنه ترك المضمضة والاستنشاق، فدل ذلك على المواظبة، وهي تدل على الوجوب، ورد بحمل الأمر بهما على الندب جمعا بين الأدلة، وبدليل أن الاستنثار مأمور به، وهو ليس بواجب باتفاق، وأما مداومته صلى الله عليه وسلم فكثيرا ما تكون في السنن، فلم يؤثر أنه صلى الله عليه وسلم ترك التسمية، ومع ذلك هي سنة عند القائل بوجوب المضمضة. المذهب الثالث: أنهما واجبتان في الغسل دون الوضوء، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن تحت كل شعرة جنابة، فاغسلوا الشعر، وأنقوا البشر" قال العيني: بهذا الحديث احتج أبو حنيفة على أن المضمضة والاستنشاق فرضان في الجنابة، أما الاستنشاق فلقوله صلى الله عليه وسلم: "إن تحت كل شعرة جنابة" وفي الأنف شعور، وأما المضمضة فلأن الفم من مظاهر البدن، بدليل أنه لا يقدح في الصوم [أي لا يفطر ما دخل فيه] فيطلق عليه ما يطلق على البدن، فلهذا الاعتبار فرضت المضمضة. اهـ. المذهب الرابع: أن الاستنشاق واجب في الوضوء والغسل، والمضمضة سنة فيهما وهو مذهب داود الظاهري، ورواية عن أحمد. وقد أوضحنا في باب صفة الوضوء وكماله كيفية المضمضة والاستنشاق وكمالهما ومباحث أخرى تتعلق بهما، فمن أراد المزيد فليرجع إليه. والله أعلم.

5 - تخليل الشعر وغسل أصوله في الرجل والمرأة: وتصف الرواية الأولى والخامسة غسل شعر رأسه صلى الله عليه وسلم بأنه كان يأخذ الماء في يده فيدخل أصابعه في أصول الشعر، يبدأ بشق رأسه الأيمن، ثم الأيسر، حتى إذا اطمأن أن الماء قد وصل إلى أصول الشعر والبشرة حفن على رأسه ثلاث حفنات. ولا خلاف بين العلماء في وجوب إيصال الماء إلى جميع الشعر والبشرة في غسل الجنابة والحيض والنفاس، وإنما الخلاف في تخليل الشعر ومباشرته باليد والأصابع للاستيثاق من تعميم الماء. فمذهب الحنفية والشافعية والحنابلة استحباب تخليل شعر اللحية والرأس إن وصل الماء إلى أصول الشعر بدون تخليل وإلا فلا بد من التخليل. وذهب المالكية إلى وجوب تخليل الشعر مطلقا، لا فرق بين لحية وغيرها خفيفا كان الشعر أو كثيفا، لقوله صلى الله عليه وسلم: "خللوا الشعر وأنقوا البشرة فإن تحت كل شعرة جنابة" رواه النسائي والترمذي وهو معتمد المذهب، وقيل: يفرق في اللحية بين الخفيفة والكثيفة، فيجب إذا كانت خفيفة، ويندب إذا كانت كثيفة، والمراد بالتخليل الواجب عندهم عرك الشعر وتحريكه حتى يصل الماء للبشرة، فلا يجب إدخال الأصابع تحته. كذلك الخلاف في وجوب نقض الضفائر في شعر الرجل والمرأة، فالمالكية على أنه إذا كان مضفورا بنفسه، واشتد وجب نقضه في الغسل دون الوضوء وإن كان مضفورا بخيوط ثلاثة فأكثر وجب نقضه في الغسل والوضوء، اشتد أم لا، وإن كان بخيط أو خيطين واشتد نقض، وإلا فلا، لا فرق بين الرجل والمرأة ولا بين غسل الجنابة وغيرها، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن تحت كل شعرة جنابة، فاغسلوا الشعر، وأنقوا البشر" رواه أبو داود. وقالت الشافعية: إن وصل الماء إلى جميع الشعر والبشرة بدون نقض لم يجب وإلا وجب، لا فرق بين الرجل والمرأة، ولا بين الجنابة والحيض والنفاس واستدلوا بما استدلت به المالكية. وقالت الحنفية: لا يجب على المرأة نقض ضفيرتها إن بل الماء أصلها، ويجب على الرجل نقض ضفائره ولو وصل الماء إلى أصول الشعر على الصحيح واستدلوا بما رواه أبو داود عن أم سلمة "أن امرأة من المسلمين قالت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي [أي أحكم ضفر شعر رأسي] أفأنقضه للجنابة؟ قال: إنما يكفيك أن تحفني عليه ثلاثا، ثم تفيضي على سائر جسدك، فإذا أنت قد طهرت". وقد حمله الشافعية على أن شعرها كان خفيفا، فعلم النبي صلى الله عليه وسلم أن الماء يعم شعرها ويصل إلى أصوله، فلذا لم يأمرها بالنقض، وفرق الحنفية بين المرأة والرجل باعتبار أن في النقض عليها حرجا ومشقة، وفي الحلق مثله فسقط عنها النقض، بخلاف الرجل، فيجب عليه النقض مطلقا لعدم الحرج. وقالت الحنابلة: يجب نقضه في الحيض والنفاس، ولا يجب في الجنابة إن بل الماء أصوله،

واستدلوا على التفرقة بقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة -رضي الله عنها- وكانت حائضا -"انقضي رأسك وامتشطي" رواه البخاري. وسيأتي باب خاص بهذه النقطة بعد بابين. 6 - الدلك في الغسل: ويستفاد من قولهما في الرواية الأولى "ثم أفاض على سائر جسده" أن الدلك غير واجب، وقد سبق إيضاح حكم الدلك في باب صفة الوضوء وكماله، وقلنا: إن المراد بالدلك في الوضوء وفي الغسل إمرار اليد على العضو، مع الماء أو بعده، وفي وجوبه خلاف. فقد ذهب مالك وأصحابه والمزني من الشافعية إلى وجوبه في الوضوء والغسل مستدلين بقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة في الغسل: "ادلكي جسدك بيدك" والأمر للوجوب. ولا فرق على المذهب بين الوضوء والغسل وبأنه من مسمى الغسل، أو شرط فيه، قاله الحطاب والنفراوي. وقال مالك في المدونة، في الجنب يأتي النهر، فينغمس فيه انغماسا وهو ينوي الغسل من الجنابة، ثم يخرج قال: لا يجزئه وإن نوى الغسل إلا أن يتدلك، قال: وكذا الوضوء أيضا. قلت: أرأيت إن أمر يديه على بعض جسده، ولم يمرها على جميع الجسد؟ قال: لا يجزئه ذلك حتى يمرهما على جميع جسده كله ويتدلك. اهـ. وعلل القاضي عياض وجوب الدلك بأن في البدن مغابن يقطع بأنه لا يصل الماء إليها بإمرار اليد، ورد هذا القول بأنه لا يتعين في وصول الماء إلى تلك المغابن أن يكون بالدلك. وذهب الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أنه سنة، واستدلوا بالأحاديث الكثيرة الواردة في صفة الوضوء والغسل التي ليس فيها التصريح بالدلك. والحق أن فيما ذهب إليه الإمام مالك تضييقا وتعسيرا، وإلزاما بما هو متعذر، فإن بعض الأماكن من الجسم لا يمكن وصول اليد إليها إلا بصعوبة اللهم إلا أن يأمر باستعمال حبل ونحوه، مما لم يؤثر أن عائشة -رضي الله عنها- قد أمرت به. نعم الدلك فيما يتيسر دلكه من الأعضاء مطلوب احتياطا- والله أعلم. 7 - التثليث في الغسل الكامل: واستدل بقولهما في الرواية الأولى والثالثة "حفن على رأسه ثلاث حفنات" استدل به على أن المسنون في الغسل ثلاث مرات، وعليه إجماع العلماء، وأما الفرض منه فغسل سائر البدن بالإجماع. قالت الشافعية: استحباب صب الماء على الرأس ثلاثا متفق عليه، وألحق به سائر الجسد قياسا على الرأس وعلى أعضاء الوضوء، وهو أولى بالثلاث من الوضوء فإن الوضوء مبني على التخفيف لتكراره، فإذا استحب فيه الثلاث فالغسل أولى. وقال النووي: ولا نعلم فيه خلافا إلا ما تفرد به الماوردي، حيث قال: لا يستحب التكرار في الغسل، وهو شاذ متروك. اهـ. وبما قاله النووي قالت الحنفية والحنابلة. وقالت المالكية: ليس في الغسل شيء يندب فيه التثليث سوى الرأس بخلاف الوضوء، والفرق كثرة المشقة في الغسل، وسيأتي في باب خاص بهذه النقطة بعد باب واحد إن شاء الله تعالى.

8 - صفة الغسل وكماله: ويحسن بنا هنا أن نورد ما ذكره العلماء في صفة الغسل وكماله، تتميما للفائدة، فنقول: قال النووي: قال أصحابنا: كمال غسل الجنابة أن يبدأ المغتسل، فيغسل كفيه ثلاثا، قبل إدخالهما في الإناء، ثم يغسل ما على فرجه وسائر بدنه من الأذى، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة بكماله ثم يدخل أصابعه كلها في الماء، فيغرف غرفة يخلل بها أصول شعره من رأسه ولحيته، ثم يحثى على رأسه ثلاث حثيات، ويتعاهد معاطف بدنه، كالإبطين وداخل الأذنين والسرة، وما بين الإليتين وأصابع الرجلين وعكن البطن وغير ذلك، فيوصل الماء إلى جميع ذلك، ثم يفيض الماء على سائر جسده ثلاث مرات يدلك في كل مرة ما تصل إليه يداه من بدنه، وإن كان يغتسل في نهر أو بركة انغمس فيها ثلاث مرات، ويوصل الماء إلى جميع بشرته والشعور الكثيفة والخفيفة، ويعم بالغسل ظاهر الشعر وباطنه وأصول منابته، والمستحب أن يبدأ بميامنه وأعالي بدنه، وأن يكون مستقبل القبلة وأن يقول بعد الفراغ: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وينوي الغسل من أول شروعه فيما ذكرناه ويستصحب النية إلى أن يفرغ من غسله. فهذا كمال الغسل، والواجب من هذا كله النية في أول ملاقاة أول جزء من البدن للماء، وتعميم البدن شعره وبشره بالماء، ومن شرطه أن يكون البدن طاهرا من النجاسة، وما زاد على هذا مما ذكرناه سنة. اهـ. وهذا مذهب الشافعية. وذهبت المالكية إلى أن فرائضه النية، وتعميم الجسد بالماء، والدلك وتخليل الشعر والموالاة. وذهبت الحنفية إلى أن فرائضه غسل فمه، وأنفه، وتعميم سائر جسده بالماء. وقالت الحنابلة: إن فرائضه إزالة ما على بدنه من نجاسة أو غيرها مما يمنع وصول الماء إلى البشرة، والنية، والتسمية، وتعميم الجسد بالماء حتى أنفه وفمه وظاهر الشعر وباطنه. وهل يشترط أن يكون الماء قراحا؟ أو يصح بالماء المختلط [بالصابون ونحوه] خلاف. ذهبت الحنفية إلى صحة الغسل والوضوء بالماء المخلوط بطاهر، واحتجوا بما رواه أبو داود عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يغسل رأسه بالخطمي [بكسر الخاء وقد تفتح، نبات يوضع في الماء فيحلل الأوساخ عند الغسل كالصابون] وهو جنب، يجتزئ، ولا يصب عليه الماء". ولا حجة لهم فيه، لأن فيه اضطرابا، وراويا مجهولا، وعلى تقدير صحته فهو محمول على أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع الخطمي على رأسه، ثم صب عليه الماء، فهو وإن كان فيه اختلاط إلا أنه يسير، لا يخرج الماء عن كونه مطلقا تزال به الجنابة وغيرها. بهذا يقول الجمهور وقال ابن رسلان: المراد أنه صلى الله عليه وسلم كان يكتفي بالماء المخلوط به الخطمي الذي يغسل به، وينوي به غسل الجنابة ولا يستعمل بعده ماء آخر صافيا يخص به الغسل وهذا فيما إذا وضع السدر أو الخطمي على الرأس، وغسله به: فإنه يجزئ ذلك، ولا يحتاج إلا أن يصب عليه الماء ثانيا مجردا للغسل، وأما إذا طرح السدر في الماء، ثم غسل به رأسه فإنه لا يجزئه ذلك، بل لا بد من الماء القراح بعده. فليتنبه لذلك لئلا يلتبس، ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم غسل رأسه بالماء الصافي قبل أن

يغسله بالخطمي فارتفعت الجنابة عن رأسه، ثم يغسل سائر الأعضاء، ويحتمل أن الخطمي كان قليلا والماء لم يفحش تغيره. اهـ. والله أعلم. 9 - التنشيف من ماء الغسل: وقد استدل بقول ميمونة -رضي الله عنها- في الرواية الثالثة "ثم أتيته بالمنديل فرده" من قال بكراهة التنشيف في الغسل والوضوء، كما استندوا إلى أن الماء أثر عبادة، فيكره إزالته، كدم الشهيد وخلوف فم الصائم. ومنهم جابر بن عبد الله وابن أبي ليلى وسعيد بن المسيب. قال الحافظ ابن حجر: ولا حجة في الحديث، لأنها واقعة حال، يتطرق إليها الاحتمال، فيجوز أن يكون عدم الأخذ لأمر آخر لا يتعلق بكراهة التنشيف، بل لأمر يتعلق بالخرقة، أو لكونه كان مستعجلا، أو غير ذلك. قال المهلب: يحتمل تركه الثوب لإبقاء بركة الماء، أو للتواضع، أو لشيء رآه في الثوب من حرير أو وسخ، وقد وقع عند أحمد في هذا الحديث، عن الأعمش قال: فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي. فقال: لا بأس بالمنديل، وإنما رده مخافة أن يصير عادة. وقال التيمي في شرحه: في هذا الحديث دليل على أنه كان يتنشف، إذ لولا ذلك لم تأته بالمنديل، وقال ابن دقيق العيد: نفضه الماء بيده يدل على أن لا كراهة في التنشيف، لأن كلا منهما إزالة. اهـ. واستدل من أباح التنشيف بأحاديث كثيرة، وهي وإن كانت ضعيفة فإنها يقوي بعضها بعضا، منها حديث أم هانئ عند الشيخين: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غسله، فسترت عليه فاطمة، ثم أخذ ثوبه فالتحف به" ومنها حديث قيس بن سعد "أتانا النبي صلى الله عليه وسلم، فوضعنا له ماء، فاغتسل، ثم أتيناه بملحفة ورسية، فاشتمل بها، فكأني أنظر إلى أثر الورس عليه" رواه أبو داود، وصححه ابن حزم [الملحفة الورسية هي المصبوغة بالورس وهو نبات كالسمسم، يزرع باليمن ويصبغ به] ومنها ما رواه ابن ماجه عن سلمان "أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ، فقلب جبة صوف كانت عليه، فمسح بها وجهه" ومنها حديث عائشة "كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خرقة، يتنشف بها بعد الوضوء" رواه الترمذي، وصححه الحاكم. ومنها حديث معاذ "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا توضأ مسح وجهه بطرف ثوبه" رواه الترمذي، ومنها حديث أبي بكر "كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خرقة يتنشف بها بعد الوضوء" رواه البيهقي. قال النووي: وقد اختلف الصحابة وغيرهم في التنشيف على ثلاثة مذاهب: أحدها: أنه لا بأس به في الوضوء والغسل، وهو قول أنس بن مالك والثوري [وعليه أبو حنيفة ومالك وأحمد]. والثاني: مكروه فيهما، وهو قول ابن عمر وابن أبي ليلى. والثالث: يكره في الوضوء دون الغسل، وهو قول ابن عباس -رضي الله عنهما. أما عن مذهب الشافعية فقد قال النووي: اختلف علماء أصحابنا في تنشيف الأعضاء في الوضوء والغسل على خمسة أوجه: أشهرها أن المستحب تركه، ولا يقال: فعله مكروه. الثاني: أنه مكروه. الثالث: أنه مباح يستوي فعله وتركه، وهذا هو الذي نختاره فإن المنع والاستحباب يحتاج إلى

دليل ظاهر. والرابع: أنه مستحب لما فيه من الاحتراز عن الأوساخ. الخامس: يكره في الصيف دون الشتاء. اهـ. ووقته بعد الانتهاء من الوضوء، أو من الغسل، لئلا يحدث به تفريقهما وعدم الموالاة فيهما. والله أعلم. -[10 - ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم: ]- أ- تقديم غسل الكفين على غسل الفرج لمن يريد الاغتراف أما إذا كان الماء في إبريق مثلا فالأولى تقديم غسل الفرج لتوالي أعضاء الوضوء. ب- الصب باليمين على الشمال لغسل الفرج بها. ج- جواز الاستعانة في إحضار ماء الغسل أو الوضوء. د- خدمة الزوجات للأزواج. هـ- أن المغتسل يستحب له تجهيز الإناء الذي فيه الماء ليغتسل منه. و- استدل به على استحباب البدء بالرأس في الغسل، ولعله لكونها أكثر شعثا من بقية البدن. ز- ويستحب له أن يبدأ بشقه الأيمن، ثم بالشق الأيسر، ثم على وسط رأسه. ح- استدل به المالكية على أن وضوء الغسل لا تمسح فيه الرأس بل يكتفى عنه بغسلها. ط- طهارة الماء المتقاطر من أعضاء المتطهر. والله أعلم

(137) باب القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة

(137) باب القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة 567 - عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من إناء. هو الفرق من الجنابة. 568 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل في القدح. وهو الفرق. وكنت أغتسل أنا وهو في الإناء الواحد. وفي حديث سفيان "من إناء واحد". قال سفيان: والفرق ثلاثة آصع. 569 - عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: دخلت على عائشة، أنا وأخوها من الرضاعة. فسألها عن غسل النبي صلى الله عليه وسلم من الجنابة؟ فدعت بإناء قدر الصاع. فاغتسلت وبيننا وبينها ستر. وأفرغت على رأسها ثلاثا. قال: وكان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يأخذن من رءوسهن حتى تكون كالوفرة. 570 - عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل بدأ بيمينه. فصب عليها من الماء فغسلها. ثم صب الماء، على الأذى الذي به، بيمينه. وغسل عنه بشماله. حتى إذا فرغ من ذلك صب على رأسه. قالت عائشة: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد. ونحن جنبان. 571 - عن حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر (وكانت تحت المنذر بن الزبير)؛ أن عائشة أخبرتها؛ أنها كانت تغتسل هي والنبي صلى الله عليه وسلم في إناء واحد. يسع ثلاثة أمداد. أو قريبا من ذلك. 572 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد. تختلف أيدينا فيه. من الجنابة.

573 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء، بيني وبينه، واحد. فيبادرني حتى أقول: دع لي، دع لي. قالت: وهما جنبان. 574 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أخبرتني ميمونة؛ أنها كانت تغتسل، هي والنبي صلى الله عليه وسلم، في إناء واحد. 575 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بفضل ميمونة. 576 - عن أم سلمة رضي الله عنها؛ قالت: كانت هي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسلان في الإناء الواحد من الجنابة. 577 - عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل بخمس مكاكيك. ويتوضأ بمكوك. وقال ابن المثنى "بخمس مكاكي". 578 - عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع. إلى خمسة أمداد. 579 - عن سفينة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسله الصاع، من الماء، من الجنابة. ويوضئه المد. 580 - عن سفينة رضي الله عنه (قال أبو بكر: صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال: كان رسول الله

صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع ويتطهر بالمد. وفي حديث ابن حجر، أو قال: ويطهره المد. وقال: وقد كان كبر وما كنت أثق بحديثه. -[المعنى العام]- ومرة أخرى كان من الضروري أن نأخذ شطر الدين عن أمهات المؤمنين وإلا فكيف كنا نصل إلى وصف غسل النبي صلى الله عليه وسلم مع أزواجه؟ وكيف كنا نصل إلى اختلاف الأحوال في كمية الماء الذي يغتسل به؟ لقد حدثتنا أمهات المؤمنين أنه صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بما يتيسر له من الماء، مرة بما يقرب من أربعة أرطال، وأخرى بخمسة وثلث، وثالثة بسبعة، ورابعة بثمانية، وخامسة بستة عشر رطلا. وأنه صلى الله عليه وسلم كان يغتسل هو والواحدة من أمهات المؤمنين من إناء واحد، يوضع بينهما، وقد خلعا جميع ثيابهما يتسابقان في الاغتراف منه، ويتبادلان النظرات والابتسامات، والأنس والمداعبات، تختلف أيديهما في الإناء، وتتنازع فضلات الماء، حتى تقول له صلى الله عليه وسلم: دع لي ما تبقى، ويضحك صلى الله عليه وسلم ويقول لها: دعي لي أنت ما تبقى ولا يدع أحدهما لصاحبه، بل تبقى المنافسة في الخير حتى ينفد ما بينهما من ماء. إنه البيت السعيد. والزوجية المثالية، والمودة والمحبة، والأنس والائتلاف واللطف وحسن الخلق، وجمال العشرة، وخفة الروح، والتودد والملاطفة، حتى بعد قضاء الوطر والشهوة وفي لحظات الاغتسال. فصلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه أمهات المؤمنين. -[المباحث العربية]- (كان يغتسل من إناء) "من" للابتداء، وفي الكلام مضاف محذوف، والتقدير: كان يغتسل من ماء إناء. (هو الفرق) بفتح الفاء والراء، وإسكان الراء لغة، قال الجوهري: وهو مكيال معروف بالمدينة، ويسع ستة عشر رطلا من الماء، وهو ثلاثة آصع. (من الجنابة) الجار والمجرور متعلق بالفعل "يغتسل"، وهي تحترز بذلك عن الاغتسال المسنون. (يغتسل في القدح) قال النووي: هكذا هو في الأصول "في القدح" وهو صحيح، ومعناه من القدح. اهـ. أي إن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض، والقدح هو الإناء. (وكنت أغتسل أنا وهو في الإناء الواحد) أي من الإناء الواحد كما سبق، وقد جعلت نفسها أصلا، وهو تابعا، وكان المفروض العكس، قال الحافظ ابن حجر: هو من باب تغليب المتكلم على الغائب، لكونها هي السبب في الاغتسال، فكأنها أصل في الباب. اهـ.

والكلام يحتمل أن يكون اغتسالهما من الإناء الواحد على سبيل التتابع، بعد أن ينتهي أحدهما يبدأ الآخر، ويحتمل أن يكون بالمشاركة في الماء في وقت واحد، وهو المراد بدليل الرواية السادسة، إذ فيها "تختلف أيدينا فيه". (عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: دخلت على عائشة أنا وأخوها من الرضاعة) الرضاعة والرضاع بفتح الراء وكسرها فيهما، لغتان، والفتح أفصح. وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف بن أخت عائشة من الرضاعة أرضعته أم كلثوم بنت أبي بكر، أما الرجل الآخر أخو عائشة من الرضاع، فقد قال النووي: إن اسمه عبد الله بن يزيد، قال الحافظ ابن حجر: ولم يتعين عندي أنه المراد هنا، لأن لها أخا آخر من الرضاعة، وهو كثير بن عبيد، رضيع عائشة ويحتمل غيرهما. اهـ. (فسألها عن غسل النبي صلى الله عليه وسلم من الجنابة) في الكلام مضاف محذوف، أي سألها عن كيفيته ومقدار مائه. (فدعت بإناء قدر الصاع) "قدر" بالجر، صفة "إناء" والمقصود أنها دعت بإناء قدر الصاع مملوء ماء، والصاع مكيال كان يصنع من خشب، والصواع لغة فيه، وجمع الصاع أصوع وآصع، وقد يختلف قدر الصاع في المدينة عنه في العراق مثلا، بل قد يختلف قدر صاع اللبن عن قدر صاع القمح مثلا، ومن هنا ذهب الحنفية إلى أن الصاع قدر ثمانية أرطال، وذهب غيرهم إلى أنه قدر خمسة أرطال وثلث، وتوسط بعض الشافعية. فقال: الصاع الذي لماء الغسل ثمانية أرطال. والذي لزكاة الفطر وغيرها خمسة أرطال وثلث. (وكان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يأخذن من رءوسهن حتى تكون كالوفرة) قال الأصمعي: الوفرة أشبع وأكثر من اللمة، واللمة ما يلم بالمنكبين من الشعر، وقال غيره: الوفرة أقل من اللمة، وهي ما لا يجاوز الأذنين. وقال أبو حاتم: الوفرة ما على الأذنين من الشعر. قال القاضي عياض: المعروف أن نساء العرب إنما كن يتخذن القرون والذوائب، ولعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعلن هذا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لتركهن التزين واستغنائهن عن تطويل الشعر، وتخفيفا لمؤنة رءوسهن من الدهن والطيب. اهـ. قال النووي: وهذا الذي قاله القاضي عياض من كونهن فعلنه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لا في حياته قاله أيضا غيره، وهو متعين، ولا يظن بهن فعله في حياته صلى الله عليه وسلم. اهـ. (ثم صب الماء على الأذى الذي به بيمينه) أي صب الماء بيمينه على موضع البول والغائط، وغسل الموضع بشماله. (وغسل عنه بشماله) كان الظاهر أن يقول: وغسله بشماله، أي غسل الأذى لكنه ضمن "غسل" معنى "أزال" وحذف مفعوله، والمعنى: وأزاله عنه بشماله. (ونحن جنبان) قال النووي: هذا جار على إحدى اللغتين في الجنب أنه يثنى ويجمع،

فيقال: جنب وجنبان وجنبون وأجناب، واللغة الأخرى: رجل جنب، ورجلان جنب، ورجال جنب، ونساء جنب، بلفظ واحد قال الله تعالى: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} [المائدة: 6] وقال: {ولا جنبا} [النساء: 43] وهذه اللغة أفصح وأشهر، وأصل الجنابة في اللغة البعد، وتطلق على الذي وجب عليه غسل بجماع، أو خروج مني، لأنه يجنب الصلاة والقراءة والمسجد ويتباعد عنها. (في إناء واحد يسع ثلاثة أمداد) أي من إناء واحد، كما سبق، والمد رطل وثلث، فيكون هذا الإناء أصغر من الإناء المذكور في الرواية الثالثة والمقدر بخمسة أرطال وثلث. (تختلف أيدينا فيه) يداه ترفع، ويداها تدخل، والمراد أنها تختلف وتلتقي، ولكن الكثرة الاختلاف، ليتمكن كل منهما من الاغتراف. (كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء بيني وبينه واحد) أصل الكلام: من إناء واحد كائن بيني وبينه، فأخر الوصف بالمفرد، وقدم بالظرف، وهو جائز. (فيبادرني حتى أقول: دع لي. دع لي) أي فيسابقني بالاغتراف، حتى أخشى أن لا يبقى لي ما يكفيني، فأقول: دع لي ما بقي من الماء، وفي رواية النسائي زيادة "وأبادره حتى يقول: دعي لي". (وهما جنبان) كان الأصل "ونحن جنبان" فإن كان هذا اللفظ من عائشة فهو على التجريد كأنها جردت من نفسها شخصا تتحدث عنه، وإن كان من الراوي فهو على الرواية بالمعنى. (كان يغتسل بفضل ميمونة) المراد به الماء الفاضل في الإناء بعد غسل ميمونة منه. (يغتسل بخمس مكاكيك) جمع مكوك بفتح الميم وضم الكاف المشددة، ويجمع أيضا على مكاكي بفتح الميم وكسر الكاف الثانية وتشديد الياء، قال النووي: لعل المراد بالمكوك هنا المد، كما قال في الرواية الأخرى "يتوضأ بالمد؛ ويغتسل بالصاع، إلى خمسة أمداد". وقال القاضي عياض: المكوك مكيال أهل العراق. اهـ. (ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد) علم مما تقدم أن الصاع أربعة أمداد، فكأنه قال: من أربعة أمداد إلى خمسة أمداد. (عن سفينة) بفتح السين، وهو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومولاه، قيل: اسمه مهران بن فروخ، وكنيته المشهورة أبو عبد الرحمن، وسبب تسميته "سفينة" أنه حمل متاعا كثيرا لرفقة في الغزو، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنت سفينة: ذكره النووي. (عن سفينة -قال أبو بكر- صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم) "صاحب" بالجر، صفة "سفينة" يعني مسلم في سنده أن أبا بكر بن أبي شيبة هو الذي وصف سفينة بهذا الوصف، وليس من وصف أحد غيره من الرواة.

-[فقه الحديث]- تتناول هذه المجموعة مسألتين رئيستين: الأولى: مقدار ماء الغسل من الجنابة. والثانية: وضوء الرجل بفضل المرأة، ووضوء المرأة بفضل الرجل. المسألة الأولى: والناظر في روايات الباب يجدها تقدر الماء تارة بالفرق [ستة عشر رطلا تقريبا] وتارة بالصاع [خمسة أرطال وثلث أو ثمانية على خلاف بين الفقهاء] وتارة بإناء يسع ثلاثة أمداد [أربعة أرطال تقريبا]. ولا تعارض بين هذه الروايات، فقد تعددت مرات الغسل، وتعدد إناؤه، واختلف مقدار مائه، وكل ما تفيده روايات الباب هو حد أدنى، وحد أعلى لماء غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجنابة، فلم يقل ماؤه عن أربعة أرطال، ولم يزد على ستة عشر رطلا. تختلف أحواله باختلاف البرودة والحرارة، أو باختلاف عسر الماء ويسره. ومن هنا كان ماء الغسل غير خاضع للتحديد بالإجماع، قال النووي: أجمع المسلمون على أن الماء الذي يجزئ في الوضوء والغسل غير مقدر، بل يكفي فيه القليل والكثير، إذا وجد شرط الغسل، وهو جريان الماء على الأعضاء، وقال: قال الشافعي: وقد يرفق بالقليل فيكفي، ويخرق بالكثير فلا يكفي، وقال النووي أيضا: قال العلماء: والمستحب أن لا ينقص في الغسل عن خمسة أرطال وثلث، ولا ينقص في الوضوء عن رطل وثلث، وذلك معتبر على التقريب لا على التحديد. اهـ. والمشهور في مذهب المالكية أنه لا تحديد في ماء الوضوء والغسل، لكن تقليل الماء في كل منهما مستحب. وقال ابن شعبان: لا يجزئ أقل من المد في الوضوء [رطل وثلث] ولا من الصاع في الغسل [خمسة أرطال وثلث] على ما ورد من فعله صلى الله عليه وسلم. اهـ. ولعل هذا القول لا يؤثر في الإجماع المنقول عن النووي، أما الشك الذي يؤدي إلى الإسراف فهو مذموم مهما كان الماء كثيرا. قال النووي: وأجمع العلماء على النهي عن الإسراف في الماء، ولو كان على شاطئ بحر، والأظهر أنه مكروه كراهة تنزيه، وقال بعض أصحابنا: الإسراف حرام. والذي تستريح إليه النفس أن الماء كالمال، والمتطهرين كالمنفقين، فكما أن تبذير المال شرعا يختلف باختلاف قدرة المالكين، فما يعد تبذيرا بالنسبة لشخص قد يعد تقتيرا بالنسبة لآخر، ويختلف باختلاف أبواب الإنفاق كذلك، فما ينفق في الخير غير ما ينفق في الشر كذلك الماء، قد يكون محتاجا إليه فيلزم التقليل وقد يكون كثيرا فائضا على الحاجة ويقصد المسلم زيادة النظافة أو التبرد فيباح الكثير.

وإذا كان العلماء قد كرهوا الإسراف في الماء ولو على شاطئ البحر فإنهم قصدو بذلك عدم تعود الإسراف، خشية أن يؤدي هذا التعود إلى الإسراف فيما يحتاج إليه من الماء، أو الشك في تمام الغسل عند قلة الماء. وإن كانت الحقيقة أن الوضوء أو الاغتسال في البحر لا يوصف بالإسراف لأنه ليس فيه إضاعة ماء، وينبغي أن يلاحظ أن التحديد التقريبي الذي أشارت إليه روايات الباب خاص باستعمال الماء بقصد الغسل من الجنابة، أما الغسل للنظافة وحدها، أو مع الجنابة، فبقدر ما تحتاج إليه النظافة وإزالة الأدران والروائح. والله أعلم. المسألة الثانية: أما غسل الرجل بفضل المرأة والمرأة بفضل الرجل فهو جائز عند الشافعية، ولا كراهة فيه، سواء خلت به أو لا، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة وجمهور العلماء وقال أحمد وداود: لا يجوز الغسل بفضل المرأة إذا خلت به وحكى أبو عمر في هذه المسألة خمسة مذاهب: أحدها: أنه لا بأس أن يغتسل الرجل بفضلها ما لم تكن جنبا أو حائضا. والثاني: يكره أن يغتسل بفضلها أو أن تغتسل بفضله. الثالث: يكره أن يغتسل بفضلها ويرخص لها أن تغتسل بفضله. والرابع: لا بأس بشروعهما في الغسل معا. والخامس: لا بأس بفضل كل منهما، شرعا في الغسل معا، أو سبق أحدهما في الابتداء به من إناء واحد أو خلا كل منهما به، وهذا ما عليه فقهاء الأمصار. ونقل الطحاوي والقرطبي والنووي الاتفاق بين العلماء على جواز اغتسال الرجال والنساء من إناء واحد وروايات الباب -الثانية والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والعاشرة- صريحة في ذلك ناطقة بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل مع نسائه من إناء واحد، وكلها حجة على من كره أن يغتسل الرجل بفضل المرأة إذا اشتركا في الغسل من إناء واحد. وقد استدل أحمد وداود على منع الغسل بفضل المرأة، إذا خلت بالماء بما أخرجه الطحاوي والدارقطني عن عبد الله بن سرخس قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغتسل الرجل بفضل المرأة، والمرأة بفضل الرجل، ولكن يشرعان جميعا" وبما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث الحكم الغفاري قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة أو بسؤر المرأة" ومع اعتراف الإمام أحمد بضعف هذه الأحاديث [فقد نقل عنه قوله: إن الأحاديث الواردة في منع التطهير بفضل المرأة وفي جواز ذلك مضطربة]. ولكنه قال: صح من الصحابة المنع فيما إذا خلت به. اهـ. والحق أن هذا الرأي ضعيف والاستدلال له مردود معارض بما صح في مسلم في الرواية التاسعة عن ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بفضل ميمونة" وبحديث بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: اغتسلت من جنابة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليتوضأ منها أو يغتسل، فقلت له: يا رسول الله، إني كنت جنبا. فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الماء لا يجنب" أخرجه أصحاب السنن والدارقطني وصححه الترمذي وابن خزيمة، ثم الروايات السابقة الكثيرة تدل على أن كلا من الرسول صلى الله عليه وسلم وزوجه كان يأخذ من الماء بعد أن يأخذ صاحبه، أي كان كل منهما يأخذ من فضل الآخر. وقد جمع الخطابي بين ما استدل به أحمد وما استدل به الجمهور بحمل أحاديث النهي على

ما تساقط من الأعضاء، وأحاديث الجواز على ما بقي من الماء، وجمع الحافظ ابن حجر بحمل النهي على التنزيه جمعا بين الأدلة. -[ويؤخذ من هذه الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - أن الجنابة لا تؤثر في الماء، قال الحافظ ابن حجر: لأنها لو كانت تؤثر في الماء لامتنع الاغتسال من الإناء الذي تقاطر فيه ما لاقى بدن الجنب من ماء اغتساله، ثم قال: وفيها جواز اغتراف الجنب من الماء القليل، وأن ذلك لا يمنع من التطهير بذلك الماء، ولا بما يفضل منه، ويدل على أن النهي عن انغماس الجنب في الماء الدائم إنما هو للتنزيه، كراهية أن يستقذر، لا لكونه يصير نجسا بانغماس الجنب فيه، لأنه لا فرق بين جميع بدن الجنب وبين عضو من أعضائه. اهـ. 2 - استدل بها الداودي على جواز نظر الرجل إلى عورة امرأته، ونظر المرأة إلى عورة زوجها، ويؤيده ما رواه ابن حبان من طريق سليمان بن موسى "أنه سئل عن الرجل ينظر إلى فرج امرأته، فقال: سألت عطاء، فقال: سألت عائشة، فذكرت "كنت أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد". وهذا وإن دل على رؤية كل من الزوجين عورة الآخر فإنه لا يدل على رؤية كل منهما فرج الآخر، نعم فيه جواز خلع كل من الزوجين جميع ملابسه عند لقاء الآخر، وأن تلاقيهما عريانين جائز بلا كراهة. 3 - أخذ من غسل عائشة أمام محرمها استحباب التعليم بالفعل، فإنه أوقع في النفس من القول، وهو يثبت في الحفظ ما لا يثبت بالقول. قال القاضي عياض: والظاهر أنهما رأيا عملها في رأسها وأعالي جسدها مما يحل نظره للمحرم، لأنها خالة أبي سلمة من الرضاع، وإنما سترت أسافل بدنها مما لا يحل للمحرم النظر إليه، ولولا أنهما شاهدا ذلك ورأياه لم يكن لاستدعائها الماء وطهارتها بحضرتهما معنى، إذ لو فعلت ذلك كله في ستر عنهما لكان عبثا، ورجع الأمر إلى وصفها لهما، ففيه أنه لا بأس برؤية شعر ذات المحرم، وما فوق الجيب منها، وكرهه ابن عباس، وإليه أميل حيث لا ضرورة. 4 - قال النووي: وفيه دليل على جواز تخفيف الشعور للنساء. 5 - استدل به على أن العدد والتكرار في إفاضة الماء ليس بشرط، والشرط وصول الماء إلى جميع البدن.

(138) باب استحباب إفاضة الماء ثلاثا في الغسل

(138) باب استحباب إفاضة الماء ثلاثا في الغسل 581 - عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: تماروا في الغسل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال بعض القوم: أما أنا، فإني أغسل رأسي كذا وكذا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أما أنا، فإني أفيض على رأسي ثلاث أكف". 582 - عن جبير بن مطعم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه ذكر عنده الغسل من الجنابة. فقال: "أما أنا، فأفرغ على رأسي ثلاثا". 583 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن وفد ثقيف سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن أرضنا أرض باردة. فكيف بالغسل؟ فقال "أما أنا، فأفرغ على رأسي ثلاثا". قال ابن سالم في روايته: حدثنا هشيم. أخبرنا أبو بشر. وقال: إن وفد ثقيف قالوا: يا رسول الله! . 584 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا اغتسل من جنابة، صب على رأسه ثلاث حفنات من ماء. فقال له الحسن بن محمد: إن شعري كثير. قال جابر: فقلت له: يا ابن أخي! كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من شعرك وأطيب. -[المعنى العام]- كثرت المجادلات بين الصحابة في مقدار ماء الغسل، وفي عدد الغسلات المستحبة بعضهم يحرص على التقليل، والاكتفاء بمرة واحدة، خوف البرد أو لقلة الماء، وبعضهم يحرص على الزيادة والتكثير للمبالغة والاستيثاق. وكان الحكم الفاصل بين الفريقين المفرطين هو فعل الرسول صلى الله عليه وسلم. يمثل الفريق الأول وفد ثقيف، جاء يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: يا رسول الله إن بلادنا شديدة البرودة، وإن كثرة الماء تؤذينا وتؤلمنا، فما القدر الذي تغتسل به؟ وأجابهم صلى الله عليه وسلم بما يوحى بأنه يجزئ سيلان الماء على جميع الجسم، وإن كان الأولى والأفضل الإفراغ ثلاث مرات، فقال: "أما أنا فإني أفيض على رأسي ثلاث أكف".

ويمثل الفريق الثاني الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب، جاء إلى جابر بن عبد الله في جماعة من أصحابه، يسألون عن المرات المستحبة في الغسل، فقال جابر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من جنابة صب على رأسه ثلاث حفنات من ماء، فقال له الحسن: إن لي شعرا كثيرا، لا يكفيني ثلاث حفنات، أفلا أزيد على الثلاث؟ وفهم جابر أن الحسن يتشدد في الدين باسم الورع، وخشي عليه وعلى السامعين من التحول عن الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم كلما ظنوا خيرا في فعلهم، فألزمه وألزمهم بالاقتداء وقال: يا ابن أخي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكثر منك شعرا وهو أتقى الأمة وأخشاها لله، وأعلمها بقدره وشرعه، واكتفى بثلاث حفنات، وقبل الحسن القول وسمع وأطاع، كما سمع وفد ثقيف وأطاع فنعم التوسط والاعتدال، وبئس الإفراض والتفريط. -[المباحث العربية]- (تماروا في الغسل) أي تنازعوا فيه، فقال أحدهم: صفته كذا وكذا، وقال آخرون: صفته كذا وكذا. وفي رواية أبي داود "ذكروا الغسل من الجنابة" وهي قريبة من رواية الباب الثالثة. وفي رواية أحمد: "تذاكرنا الغسل" فهذه الروايات تدل على أن المماراة في روايتنا ليست من المنازعة والمجادلة والمخاصمة، وإنما هي أخذ أطراف النقاش الهادئ ومدارسة العلم. ويفهم من كلام الحافظ ابن حجر أن المتمارين هم وفد ثقيف المذكور في الرواية الثالثة. وفي الكلام مضاف محذوف، أي تماروا في صفة الغسل وعدد مراته ومقدار مائه. (أما أنا فإني أغسل رأسي كذا وكذا) "أما" حرف شرط وتفصيل وتأكيد والدليل على الشرط لزوم الفاء بعدها، ودليل كونها للتفصيل حاجتها إلى القسم، فإن لم يكن لها قسم أفادت التأكيد. قال الزمخشري: فائدة "أما" في الكلام أن تعطيه فضل توكيد تقول: زيد ذاهب، فإذا قصدت ذلك، وأنه لا محالة ذاهب، وأنه بصدد الذهاب، وأنه منه عزيمة، قلت: أما زيد فذاهب. اهـ. وهي هنا للتفصيل، لأن المقابل مذكور -قول بعض القوم، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم- أما في رواية البخاري، ونصها عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما أنا فأفيض على رأسي ثلاثا وأشار بيديه كلتيهما" فيمكن أن تكون للتأكيد وأن تكون للتفصيل بمراعاة حذف المقابل المذكور في رواية مسلم، وفي بعض نسخ مسلم "أما أنا فإني أغسل رأسي بكذا وكذا". و"كذا وكذا" كناية عن عدد وكيفية غسل رأسه، وبما أن القائل من وفد ثقيف. وهم يشكون البرد، فالظاهر أن هذا القائل كان يقصد قلة العدد عما كان يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم أي أغسل رأسي مرة أو مرتين بدلك أو بدون دلك لكن الحافظ ابن حجر يقول: ودل قوله "ثلاثا" على أن المراد بكذا وكذا أكثر من ذلك. اهـ. (أما أنا فإني أفيض على رأسي ثلاث أكف) "أفيض" بضم الهمزة من

الإفاضة وهي الصب والإسالة، وثلاثيه "فاض" بمعنى كثر. قال الكرماني: فإن قلت: "الكف" مؤنثة فلم دخلت التاء في رواية "ثلاثة أكف"؟ قلت: المراد من الكف قدر الكف وما فيها، فباعتباره دخلت، أو باعتبار العضو. اهـ. والأحسن أن يقال ما قلناه سابقا: إن الكف يذكر ويؤنث، فيجوز دخول التاء وتركه على الاعتبارين، والمراد أنه يأخذ في كل مرة كفين، لأن الكف اسم جنس، فيجوز حمله على الاثنين، وهو المراد هنا بدلالة قول جبير بن مطعم في رواية البخاري وأبي داود "وأشار بيديه كلتيهما". (إن أرضنا باردة) أي في الشتاء، وكانت ثقيف تسكن الطائف، وهي مصيف أهل الحجاز، لأن جوها بارد شتاء، معتدل صيفا. (فكيف بالغسل) الفاء فصيحة في جواب شرط مقدر، أي إذا كانت أرضنا باردة فعلى أي حالة؟ وبكم حفنة نغتسل؟ و"كيف" خبر مقدم، والباء زائدة، و"الغسل" مبتدأ مؤخر. (فقال له الحسن بن محمد) بن علي بن أبي طالب، الذي يعرف أبوه بابن الحنفية، والحنفية كانت زوج علي بن أبي طالب، تزوجها بعد فاطمة -رضي الله عنها- فولدت له محمدا، فاشتهر بالنسبة إليها. (إن شعري كثير) وفي رواية البخاري "إني رجل كثير الشعر" أي فأحتاج إلى أكثر من الحفنات الثلاث، التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبها على رأسه. (يا ابن أخي) عبارة تلطف وإشفاق، وليست بينه وبين أبيه أخوة في النسب، لأن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب هاشمي، وجابر بن عبد الله أنصاري، ولعل المراد من الأخوة هنا المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، أو الأخوة في الإسلام. (كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من شعرك وأطيب) أي وكان يكفيه ثلاث حفنات، وفي رواية البخاري "كان يكفي من هو أوفى منك شعرا، وخير منك" والمراد من الكثرة الطول والغزارة. -[فقه الحديث]- ذكرنا قريبا في باب "الصفة الكاملة لغسل الجنابة" في النقطة السابعة من فقه الحديث أن المسنون في الغسل ثلاث مرات، وأن الفرض غسل سائر البدن ونقلنا قول الشافعية: إن استحباب صب الماء على الرأس ثلاثا متفق عليه وألحق به سائر الجسد، قياسا على الرأس وعلى أعضاء الوضوء، وهو أولى بالثلاث من الوضوء، فإن الوضوء مبني على التخفيف لتكراره، فإذا استحب فيه الثلاث فالغسل أولى. قال النووي: ولا نعلم خلافا إلا ما تفرد به الماوردي حيث قال: لا يستحب التكرار في الغسل، وهو شاذ متروك. اهـ. وبما قاله النووي قالت الحنفية والحنابلة.

وقالت المالكية: ليس في الغسل شيء يندب فيه التثليث سوى الرأس بخلاف الوضوء، والفرق كثرة المشقة في الغسل. قال في الفتح: قال ابن بطال: تستفاد المرة الواحدة من قوله: "ثم أفاض على سائر جسده" [هذه الرواية الأولى في باب الصفة الكاملة لغسل الجنابة] لأنه لم يقيده بعدد فيحمل على أقل ما يسمى، وهو المرة الواحدة لأن الأصل عدم الزيادة عليها. اهـ. قال المالكية: ولو ثبت تثليث الغسل لنقل إلينا كغيره، وقول من قال: إن الغسل أولى بالتثليث لا يخلو عن نظر، لأنه قد غلظ فيه بإيصال الماء إلى تمام الأعضاء، فلا يغلظ فيه ثانيا من حيث التثليث، وأيضا في تثليثه من الحرج ما ليس في تثليث الوضوء. وما قاله المالكية هو ظاهر الأحاديث الواردة في غسله صلى الله عليه وسلم" وقد مر الكثير فيها، والتثليث فيها وقع للرأس دون الجسد. لكن القياس لا يساعدهم، فإن الغسل أولى بالتثليث من الوضوء بالبداهة لأن الروائح الكريهة محققة في الجنابة محتملة في الوضوء، أما التغليظ بإيصال الماء إلى تمام الأعضاء والمشقة في التثليث فإنهما إن صلحا علة لعدم الوجوب لا يصلحان علة لمنع الاستحباب، إذ على قدر المشقة في العبادات تكون زيادة الأجر والثواب. والله أعلم. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - جواز المناظرة والمباحثة في أمور الدين. 2 - وجواز مناظرة المفضولين بحضرة الفاضل، ومناظرة الأصحاب بحضرة إمامهم وكبيرهم. 3 - وجواز الاكتفاء بثلاث أكف على الرأس، وإن كان كثير الشعر. 4 - وتقديم ذلك على إفاضة الماء على الجسد. 5 - وما كان عليه السلف من الاحتجاج بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم والانقياد إلى ذلك. 6 - وجواز الرد بعنف على من يمارى بغير علم، مادام قصد الراد إيضاح الحق وتحذير السامعين من مثل ذلك، فقد قصد جابر بن عبد الله بزيادة طيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخيريته الرد بعنف على طلب الازدياد من الماء، مثيرا إلى أن الدافع إلى ذلك إن كان هو الورع فرسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الورعين، وأتقى الناس لله، وأعلمهم به، وقد اكتفى بثلاث أكف، وإن كان التنطع والشك والوسوسة فلا يلتفت إليه. والله أعلم

(139) باب نقض ضفائر المرأة عند الغسل

(139) باب نقض ضفائر المرأة عند الغسل 585 - عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله! إني امرأة أشد ضفر رأسي. فأنقضه لغسل الجنابة؟ قال "لا. إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات. ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين". 586 - وفي حديث عبد الرزاق: "فأنقضه للحيضة والجنابة؟ فقال: "لا" ثم ذكر بمعنى حديث ابن عيينة. 587 - عن روح بن القاسم حدثنا أيوب بن موسى بهذا الإسناد وقال أفأحله فأغسله من الجنابة؟ ولم يذكر: الحيضة. 588 - عن عبيد بن عمير قال: بلغ عائشة أن عبد الله بن عمرو يأمر النساء، إذا اغتسلن، أن ينقضن رءوسهن. فقالت: يا عجبا لابن عمرو هذا! يأمر النساء، إذا اغتسلن، أن ينقضن رءوسهن، أفلا يأمرهن أن يحلقن رءوسهن! لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد. ولا أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات. -[المعنى العام]- لقد حرص المسلمون رجالا ونساء على تنفيذ تعاليم الإسلام بمنتهى الدقة وحينما كانوا يعجزون -أو يشق عليهم أمر- يرجعون إلى الله ورسوله، وقد وجدت أم سلمة أن وجوب وصول الماء إلى الشعر والبشرة في غسل الجنابة والحيض يضطرها إلى حل ضفائرها، وفي ذلك مشقة حل وامتشاط، وتعريض الشعر للتساقط والانتزاع، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يلزمني فك ضفيرتي عند الغسل؟ قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يلزمك، فما جعل الله علينا من حرج في الدين، ملة أبينا إبراهيم، وإنما يكفيك أن تصبي على رأسك قدر ثلاث حفنات، ثم تصبين الماء على جسمك، فتطهرين، وبلغ عائشة أن

عبد الله بن عمرو يأمر بأن ينقض النساء ضفائرهن عند الغسل، فغضبت، وقالت: عجبا لابن عمرو، لم يبق إلا أن يأمرهن بحلق شعورهن. ما هذا التشدد الذي ما أنزل الله به من سلطان لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، ولا أزيد على ثلاث حفنات من ماء على رأسي، ولم أكن أنفض شعري، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني بذلك. -[المباحث العربية]- (إني امرأة أشد ضفر رأسي) "أشد" بفتح الهمزة، وضم الشين وكسرها من باب نصر أو ضرب، أي أحكم ضفر شعر رأسي، ففي الكلام مضاف محذوف، و"ضفر" بفتح الضاد وإسكان الفاء، هذا هو المشهور المعروف في رواية الحديث، والمستفيض عند المحدثين والفقهاء وغيرهم، ومعناه: أحكم فتل شعر رأسي، وقال الإمام ابن بري في الجزء الذي صنفه في لحن الفقهاء: من ذلك قولهم في حديث أم سلمة: أشد ضفر رأسي، يقولونه بفتح الضاد وإسكان الفاء، وصوابه ضم الضاد والفاء، جمع ضفيرة، كسفينة وسفن، قال النووي: وهذا الذي أنكره -رحمه الله- ليس كما زعمه، بل الصواب جواز الأمرين ولكل منهما معنى صحيح، ولكن يترجح فتح الضاد وسكون الفاء لكونه المروي المسموع في الروايات الثابتة المتصلة. اهـ. (أفأنقضه لغسل الجنابة؟ ) الهمزة داخلة على محذوف، أي ألا يجزئني غسل الشعر مضفورا فأنقضه لغسل الجنابة؟ والنقض الحل والفك. والفعل "نقض" من باب نصر وضرب. (إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات) الحثي مصدر حثى يحثى حثيا، وسمع حثا يحثو، وأصل الحثو الإثارة، فثلاث حثيات معناه ثلاث إثارات، والحثيات هنا بمعنى الحفنات، والحفنة ماء الكفين من أي شيء كان. (ثم تفيضين عليك الماء) بضم التاء، أي تصبين وتسيلين على باقي بدنك الماء. (فأنقضه للحيضة) بفتح الحاء، وفي الكلام مضاف محذوف، والأصل لغسل الحيضة، والاستفهام مقدر، والنقض ضد الشد والإبرام. (أن عبد الله بن عمرو) بن العاص. (أن ينقضن رءوسهن) "أن" وما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، وفي الكلام مضاف محذوف، والتقدير: يأمر النساء بنقض شعر رءوسهن إذا اغتسلن غسلا واجبا. (فقالت: يا عجبا لابن عمرو هذا) "يا" حرف تنبيه، و"عجبا" مفعول مطلق لفعل محذوف.

(يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رءوسهن) الكلام على الاستفهام التوبيخي، أي لا ينبغي أن يأمر، أو التعجبي، وهو المناسب لقولها: يا عجبا، أي أعجب لأمره. (أفلا يأمرهن أن يحلقن رءوسهن؟ ) الاستفهام إنكاري بمعنى النفي، دخل على نفي، ونفي النفي إثبات، والفاء عاطفة على محذوف. مثلها في قوله تعالى: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت} [الغاشية: 17] أي أعموا فلا ينظرون، أي فلينظروا إلى الإبل كيف خلقت، والتقدير هنا: أتهاون في دينه فلا يأمرهن بحلق رءوسهن؟ أي فليأمرهن بحلق رءوسهن، والكلام على سبيل التهكم. -[فقه الحديث]- قلنا في باب الصفة الكاملة لغسل الجنابة في النقطة الخامسة من فقه الحديث: إن العلماء اختلفوا في وجوب نقض الضفائر في شعر الرجل والمرأة. فالمالكية: على أنه إذا كان مضفورا بنفسه واشتد وجب نقضه في الغسل دون الوضوء، وإن كان مضفورا بخيوط، ثلاثة فأكثر وجب نقضه في الغسل والوضوء، اشتد أم لا، وإن كان بخيط أو خيطين واشتد نقض، وإلا فلا، لا فرق بين الرجل والمرأة، ولا بين غسل الجنابة وغيرها، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم "إن تحت كل شعرة جنابة فاغسلوا الشعر، وأنقوا البشر" رواه أبو داود. وقالت الشافعية: إن وصل الماء إلى جميع الشعر والبشرة بدون نقض لم يجب وإلا وجب، لا فرق بين الرجل والمرأة، ولا بين الجنابة والحيض والنفاس، واستدلوا بما استدل به المالكية. وقالت الحنفية: لا يجب على المرأة نقض ضفيرتها إن بل الماء أصلها، ويجب على الرجل نقض ضفائره، ولو وصل الماء إلى أصول الشعر على الصحيح واستدلوا بما رواه مسلم وأبو داود عن أم سلمة قالت: قلت: يا رسول الله. إني امرأة أشد ضفر رأسي، أفأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: "لا. إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء، فتطهرين" وحمله الشافعية على أن شعرها كان خفيفا، فعلم النبي صلى الله عليه وسلم أن الماء يعم شعرها، ويصل إلى أصوله، فلذا لم يأمرها بالنقض. وفرق الحنفية بين المرأة والرجل، باعتبار أن في النقض عليها حرجا ومشقة، وفي الحلق تقبيحا ومثلة، فسقط عنها النقض بخلاف الرجل، فيجب عليه النقض مطلقا لعدم الحرج. وقالت الحنابلة: يجب نقضه في الحيض والنفاس، ولا يجب في الجنابة إن بل الماء أصوله، واستدلوا على التفرقة بقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة -رضي الله عنها- وكانت حائضا "انقضي رأسك وامتشطي" رواه البخاري. وحكي عن النخعي وجوب نقض المرأة شعرها بكل حال. وحديث أم سلمة يؤيد في ظاهره مذهب الحنفية، لكن شرطهم أن يبل الماء أصل الشعر، كما

يقيده الشافعية بوصول الماء إلى جميع الشعر والبشرة، والمالكية يقولون: إن شعر أم سلمة لم يكن مستوفيا شروط النقض. أما أمر عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- بنقض النساء رءوسهن إذا اغتسلن فيحمل على أنه أراد إيجاب ذلك عليهن، ويكون ذلك في شعور لا يصل إليها الماء، أو يكون مذهبا له أنه يجب النقض بكل حال. كما حكي عن النخعي، ولا يكون قد بلغه حديث أم سلمة وعائشة، ويحتمل أنه كان يأمرهن على الاستحباب والاحتياط، لا للإيجاب. قاله النووي في شرح مسلم. وفي الحديث فوق ما تقدم أن نساء العرب كن يضفرن شعورهن، وأن حلق المرأة رأسها كان نقيصة ومثلة. قال الخطابي: وفيه دليل على أنه إذا انغمس في الماء، أو أفاض الماء على بدنه فعمه من غير دلك باليد، ومن غير إمرار بها عليه فقد أجزأه، وهو قول عامة الفقهاء إلا مالك بن أنس، فإنه قال: إذا اغتسل من الجنابة فإنه لا يجزئه حتى يمر يده على جسده، وكذا قال: إذا غمس يده أو رجله في الماء لم يجزئه وإن نوى الطهارة، حتى يمر يده على رجليه يتدلك بها. اهـ. وقد يستدل بقوله صلى الله عليه وسلم "ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين" أن التثليث في غسل البدن غير مطلوب، فإنه ذكر الثلاث في الرأس، ولم يذكرها في البدن. وقد سبق إيضاح هذا الحكم في الباب السابق. والله أعلم

(140) باب استعمال المرأة قطعة من المسك عند غسلها من الحيض

(140) باب استعمال المرأة قطعة من المسك عند غسلها من الحيض 589 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم: كيف تغتسل من حيضتها؟ قال: فذكرت أنه علمها كيف تغتسل. ثم تأخذ فرصة من مسك فتطهر بها. قالت: كيف أتطهر بها؟ قال "تطهري بها. سبحان الله! " واستتر (وأشار لنا سفيان بن عيينة بيده على وجهه) قال قالت عائشة: واجتذبتها إلي. وعرفت ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم: فقلت: "تتبعي بها أثر الدم". وقال ابن أبي عمر في روايته: "فقلت: تتبعي بها آثار الدم". 590 - عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم: كيف أغتسل عند الطهر؟ فقال "خذي فرصة ممسكة فتوضئي بها" ثم ذكر نحو حديث سفيان. 591 - عن عائشة رضي الله عنها أن أسماء سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسل المحيض؟ فقال "تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها فتطهر. فتحسن الطهور. ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكا شديدا: حتى تبلغ شؤون رأسها. ثم تصب عليها الماء. ثم تأخذ فرصة ممسكة فتطهر بها" فقالت أسماء: وكيف تطهر بها؟ فقال "سبحان الله! تطهرين بها" فقالت عائشة (كأنها تخفي ذلك) تتبعين أثر الدم. وسألته عن غسل الجنابة؟ فقال "تأخذ ماء فتطهر، فتحسن الطهور. أو تبلغ الطهور. ثم تصب على رأسها فتدلكه. حتى تبلغ شؤون رأسها. ثم تفيض عليها الماء". فقالت عائشة: نعم النساء نساء الأنصار؛ لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين. 592 - حدثنا شعبة في هذا الإسناد نحوه وقال: قال "سبحان الله تطهري بها" واستتر.

593 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت أسماء بنت شكل على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: يا رسول الله! كيف تغتسل إحدانا إذا طهرت من الحيض؟ وساق الحديث. ولم يذكر فيه غسل الجنابة. -[المعنى العام]- لقد شجع الإسلام المرأة أن تخرج للمسجد، وأن تسعى لطلب العلم، وأن تمكن من أداء رسالتها وفهمها لأمور دينها، ودخلت المرأة ميدان الثقافة وتحولت عن ميدان الجهالة حتى أطلق على بطلة قصتنا: خطيبة النساء. تلك أسماء الأنصارية، التي لم يمنعها الحياء الذي جبلت عليه المرأة من أن تسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أخص شئونها، وعما تستحيي منه قريناتها. سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام زوجه عائشة -رضي الله عنها- فقالت: يا رسول الله، كيف أغتسل من حيضتي؟ كيف أتطهر؟ إن الغسل من الجنابة والحيض كان معلوما أوليا، ولم يكن مجهولا لأسماء حتى تسأل عن كيفيته، لكنها كانت مؤدبة مهذبة في سؤالها، إنها قصدت ما وراء الغسل من نقاوة لمكان الحيض وتنظيفه، فذكرت شيئا وأرادت مستلزماته، وفهم الرسول الفطن صلى الله عليه وسلم ما تقصده أسماء، لكنه كان أكثر منها أدبا وتهذبا، فأجاب عن الشيء ثم أتبعه مستلزماته المقصودة. قال: تأخذ إحداكن ماء غسلها ومواد نظافتها، فتغسل مواطن النجاسة، ثم تتوضأ وضوء الصلاة، ثم تصب على رأسها وتدلكه وتدخل أصابعها في أصول شعرها، حتى تستوثق من وصول الماء إلى جميع الشعر وبشرته، ثم تصب الماء على جسدها باستيعاب تام، ثم تأخذ قطعة من قطن أو صوف وتضع عليها شيئا من المسك أو الطيب فتطهر بها، ولما كان التطهر في فهم أسماء عبارة عن الوضوء والغسل تعجبت كيف تتطهر بقطعة القطن الممسكة فقالت: كيف أتطهر بها؟ ولم يكن من السهل على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول لها: ادلكي بها داخل فرجك. فقال: سبحان الله كيف لا تفهمين بالإشارة؟ تطهري بها، وغطي وجهه بيديه، وفهمت عائشة مقصده وحياءه، فجذبت أسماء بعيدا وأسرت إليها، وقالت لها بخفاء في أذنها وبمنتهى الأدب وطهارة اللفظ: تتبعي بها أثر الدم، وامسحي بها المكان الذي خرج منه الدم. وفهمت أسماء وخرجت وضحكت عائشة من هذا الموقف الصعب، لكنها قدرت أسماء قدرها، وقدرت فيها شجاعة المرأة المسلمة في سؤالها عما ينفعها وما تحتاجه في دينها، فقالت: نعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن حياؤهن من أن يتفقهن في دينهن. -[المباحث العربية]- (سألت امرأة) هي أسماء بنت شكل المصرح باسمها في الرواية الرابعة و"شكل" بفتح

الشين والكاف، وقيل: إن اسمها الحقيقي أسماء بنت يزيد الأنصارية التي يقال لها خطيبة النساء، لأنه ليس في الأنصار من اسمه "شكل" ففي رواية مسلم الرابعة تصحيف. (كيف تغتسل من حيضتها؟ ) "كيف" في محل النصب على الحال، أي على أي صفة وأي حالة يكون غسلها من الحيض؟ (علمها كيف تغتسل) "كيف تغتسل" مفعول "علم" وتعليمها كيفية الاغتسال موضح في الرواية الثالثة. (ثم تأخذ فرصة من مسك) "فرصة" بكسر الفاء وسكون الراء وفتح الصاد وحكى ابن سيده تثليث الفاء، هي القطعة من الصوف أو القطن أو الجلدة عليها صوف "والمسك" هو الطيب المشهور وأصله بعض دم الغزال، والمقصود أن تأخذ قطعة مطيبة بالطيب وتستعملها في الفرج لتغيير الرائحة الكريهة المتخلفة عن دم الحيض. وقال ابن قتيبة: إنهم لم يكونوا في سعة يمتهذون المسك بهذا الاستعمال ولهذه الدرجة، وإنما هي "قرضة" بالقاف والضاد المفتوحتين بينهما راء ساكنة وقوله من "مسك" بفتح الميم والمراد قطعة الجلد. قال الحافظ ابن حجر: وما استبعده ابن قتيبة ليس ببعيد، لما عرف من شأن أهل الحجاز من كثرة استعمال الطيب، وقد يكون المأمور به من يقدر عليه. (فتطهر بها) بفتح التاء والطاء وتشديد الهاء المفتوحة، وأصله فتتطهر بها وحذفت إحدى التاءين تخفيفا، أي تتنظف وتغير الرائحة الكريهة بها. (قالت: كيف أتطهر بها؟ ) أي بالفرصة، وإنما قالت ذلك لأنها فهمت أن المراد بالتطهير الغسل، فلم تعقل أن يكون بالقطعة الممسكة. (سبحان الله) مصدر منصوب بفعله المحذوف، وهذه الكلمة تقال في مثل هذا الموضع للتعجب وكذا "لا إله إلا الله" ومعنى التعجب هنا: كيف يخفى عليك مثل هذا الظاهر، الذي لا يحتاج الإنسان في فهمه إلى فكر؟ (واستتر) صلى الله عليه وسلم حياء، وفي رواية للبخاري "استحيا فأعرض بوجهه" وللإسماعيلي "فلما رأيته استحيا علمتها". (وأشار الراوي بيديه على وجهه) يفسر بذلك استتاره صلى الله عليه وسلم أي ستر وجهه بيديه. (قالت عائشة: واجتذبتها إلي) وفي بعض الروايات "فاجتبذتها" يقال: جذبت واجتذبت، واجتبذت بمعنى واحد، أي شددتها إلي، وأخذتها ناحيتي بعيدا عنه صلى الله عليه وسلم.

(تتبعي بها أثر الدم) "أثر" بفتحتين. وفي رواية "آثار" جمع أثر، وأثر الشيء ما بقي من رسمه، والمراد من أثر الدم مكان أثره، أي الفرج، قاله النووي. (خذي فرصة ممسكة فتوضئي بها) المراد من الوضوء هنا الوضوء اللغوي بمعنى النظافة والحسن، أي تنظفي بها، و"ممسكة" بضم الميم الأولى وفتح الثانية وفتح السين المشددة، أي قطعة من قطن أو صوف أو خرقة مطيبة بالمسك، قال الخطابي: يحتمل أن يكون المراد بقوله "ممسكة" بضم الميم الأولى وسكون الثانية وفتح السين، أي مأخوذة باليد، يقال: أمسكته ومسكته، لكن يبقى الكلام ظاهر الركاكة، لأنه يصير هكذا: خذي قطعة مأخوذة. (سألت عن غسل المحيض) أي الحيض، فهما مصدران. (تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها فتطهر فتحسن الطهور) "السدرة" شجرة النبق، وكانوا يستخدمون بعض أعشابه للتنظيف وإزالة الرائحة الكريهة، كما يستعمل "الصابون" في أيامنا، والمراد من التطهر هنا الوضوء قبل الغسل، كما سبق، وإحسان الطهور الإتيان به تاما على خير وجه. (حتى تبلغ شئون رأسها) بضم الشين معناه أصول شعر رأسها، وأصول الشئون الخطوط التي في عظم الجمجمة، وهو مجتمع شعب عظامها، الواحد منها شأن. قاله النووي. (فقالت عائشة كأنها تخفي ذلك -تتبعين أثر الدم) معناه قالت عائشة همسا وسرا بحيث تسمعه المخاطبة ولا يسمعه غيرها، كأنها تخفي كلامها عن الحاضرين. قالت: تتبعين أثر الدم "تتبعين" فعل مضارع مرفوع، وأصله "تتتبعين" فحذفت إحدى التاءات وليس فعل أمر، وإلا -كان تتبعي. (نعم النساء نساء الأنصار) "نعم" فعل جامد للمدح، و"النساء" فاعل و"نساء الأنصار" المخصوص بالمدح. (لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين) "الحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان عند خوف ما يعاب عليه أو يذم عليه، والمراد هنا ما يقع إجلالا للأكابر، ولا يترتب عليه ترك أمر شرعي، و"أن يتفقهن في الدين" في محل النصب على المفعولية، والتقدير لم يكن يمنعهن الحياء التفقه في الدين عن طريق السؤال. -[فقه الحديث]- قال النووي: السنة في حق المغتسلة من الحيض أن تأخذ شيئا من مسك فتجعله في قطنة أو خرقة أو نحوها، وتدخلها في فرجها بعد اغتسالها، ويستحب هذا للنفساء أيضا، لأنها في معنى الحائض. قال: وذكر المحاملي في كتابه "المقنع" أنه يستحب للمغتسلة من الحيض والنفاس أن

تطيب جميع المواضع التي أصلها الدم من بدنها [ومن المعلوم أن دم الحيض يصيب غالبا المناطق المحيطة بالفرج] قال النووي: وهذا الذي ذكره المحاملي من تعميم مواضع الدم من البدن غريب، لا أعرفه لغيره بعد البحث عنه. قال: واختلف العلماء في الحكمة في استعمال المسك، والصحيح المختار أن المقصود باستعمال المسك تطييب المحل، ورفع الروائح الكريهة، وحكى أقضى القضاة الماوردي من الشافعية وجهين لأصحابنا: أحدهما هذا، والثاني: أن المراد كونه أسرع إلى علوق الولد [أي إلى الحمل، على معنى أنه يساعد على تكوين البويضة وتهيئة المناخ الصالح لإعدادها لاستقبال الحيوان المنوي والحمل] قال النووي: فمن قال بالأول قال: تستعمل الطيب بعد الغسل، ومن قال بالثاني قال: تستعمله قبل الغسل، وإن قلنا بالأول، ففقدت المسك استعملت ما يخلفه في طيب الرائحة، وإن قلنا بالثاني استعملت ما يقوم مقامه في ذلك من القسط والأظفار وشبههما [في القاموس: القسط بالضم عود هندي وعربي مدر نافع للكبد جدا والمغص شربا، وللزكام والنزلات والوباء بخورا -وفيه: والأظفار شيء من العطر، وظفر به ثوبه تظفيرا طيبه به]. قال النووي: هذا آخر كلام الماوردي، وهذا الذي حكاه من استعماله قبل الغسل ليس بشيء، ويكفي في إبطاله رواية مسلم "تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها، فتطهر، فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها، فتدلكه، ثم تصب عليها الماء، ثم تأخذ فرصة ممسكة فتطهر بها" وهذا نص في استعمال الفرصة بعد الغسل، وأما قول من قال: إن المراد الإسراع في العلوق والحمل فضعيف أو باطل، فإنه على مقتضى قوله ينبغي أن يخص به ذات الزوج الحاضر الذي يتوقع جماعه في الحال، وهذا شيء لم يصر إليه أحد نعلمه، وإطلاق الأحاديث يرد على من التزمه، بل الصواب أن المراد تطييب المحل وإزالة الرائحة الكريهة وأن ذلك مستحب لكل مغتسلة من الحيض أو النفاس، سواء ذات الزوج وغيرها. وتستعمله بعد الغسل، فإن لم تجد مسكا فتستعمل أي طيب وجدت، فإن لم تجد طيبا استحب لها استعمال أي شيء مكانه يزيل الكراهة، فإن لم تجد شيئا من هذا فالماء كاف لها، لكن إن تركت التطيب مع التمكن منه كره لها وإن لم تتمكن فلا كراهة في حقها. والله أعلم. اهـ. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - سعى النساء لتعلم أحكام الدين، وامتداحه شرعا بقول عائشة "نعم النساء نساء الأنصار". 2 - سؤال المرأة العالم عن أحوالها التي تحتشم منها، وإنه لا حياء في الدين. 3 - أنه لا عار على من سأل عن أمر دينه. 4 - جواز التسبيح عند التعجب من الشيء واستعظامه، وكذلك يجوز عند التثبت على الشيء والتذكير به. 5 - استحباب استعمال الكنايات فيما يتعلق بالعورات. 6 - الاكتفاء بالتعريض والإشارة في الأمور المستهجنة.

7 - الاستحياء عند ذكر ما يستحيا منه، لا سيما ما يذكر من ذلك بحضرة الرجال والنساء. 8 - وتكرير الجواب لإفهام السائل، وإنما كرره صلى الله عليه وسلم مع أنها لم تفهمه أولا لأن الجواب به يؤخذ من إعراضه بوجهه عند قوله "تطهري بها" أي في المحل الذي يستحيا من مواجهة المرأة بالتصريح به، فاكتفى بلسان الحال عن لسان المقال وفهمت عائشة -رضي الله عنها- فتولت تعليمها، وبوب البخاري عليه في الاعتصام: الأحكام التي تعرف بالدلائل. 9 - وفيه تفسير كلام العالم بحضرته لمن خفي عليه، إذا عرف أن ذلك يعجبه. 10 - وفيه الأخذ عن المفضول بحضرة الفاضل. 11 - وفيه صحة العرض على المحدث، إذا أقره، ولو لم يقل عقبه: نعم. 12 - وأنه لا يشترط في صحة التحمل فهم السامع لجميع ما يسمعه. 13 - وفيه الرفق بالمتعلم، وإقامة العذر لمن لا يفهم. 14 - وأن المرء مطلوب منه ستر عيوبه وإن كانت مما جبل عليها، من جهة أمر المرأة بالتطيب لإزالة الرائحة الكريهة. 15 - وفيه طلب دلك الرأس في الغسل. 16 - تقديم غسل الرأس على باقي الجسد. 17 - استدل المحاملي بقول عائشة "تتبعين بها أثر الدم" أنه يستحب للمغتسلة من الحيض والنفاس أن تطيب جميع المواضع التي بها الدم من بدنها. قال النووي: وظاهر الحديث معه. 18 - وفيه حسن خلقه صلى الله عليه وسلم وعظيم حلمه وحيائه. والله أعلم

(141) باب المستحاضة وغسلها وصلاتها

(141) باب المستحاضة وغسلها وصلاتها 594 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقالت: يا رسول الله! إني امرأة أستحاض فلا أطهر. أفأدع الصلاة؟ فقال "لا. إنما ذلك عرق وليس بالحيضة. فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة. وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم. وصلي". 595 - عن جرير "جاءت فاطمة بنت أبي حبيش بن عبد المطلب بن أسد وهي امرأة منا" قال وفي حديث حماد بن زيد زيادة حرف تركنا ذكره. 596 - عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: استفتت أم حبيبة بنت جحش رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: إني أستحاض. فقال "إنما ذلك عرق فاغتسلي. ثم صلي" فكانت تغتسل عند كل صلاة. قال الليث بن سعد: لم يذكر ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أم حبيبة بنت جحش أن تغتسل عند كل صلاة. ولكنه شيء فعلته هي. وقال ابن رمح في روايته: (ابنة جحش). ولم يذكر (أم حبيبة). 597 - عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن أم حبيبة بنت جحش (ختنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحت عبد الرحمن بن عوف) استحيضت سبع سنين. فاستفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن هذه ليست بالحيضة. ولكن هذا عرق. فاغتسلي وصلي". قالت عائشة: فكانت تغتسل في مركن في حجرة أختها زينب بنت جحش. حتى تعلو حمرة الدم الماء. قال ابن شهاب: فحدثت بذلك أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. فقال: يرحم الله هندا. لو سمعت بهذه الفتيا. والله! إن كانت لتبكي. لأنها كانت لا تصلي.

598 - وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: جاءت أم حبيبة بنت جحش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت استحيضت سبع سنين. بمثل حديث عمرو بن الحارث إلى قوله: تعلو حمرة الدم الماء. ولم يذكر ما بعده. 599 - وعن عائشة رضي الله عنها؛ "أن ابنة جحش كانت تستحاض سبع سنين" بنحو حديثهم. 600 - عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إن أم حبيبة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدم؟ فقالت عائشة: رأيت مركنها ملآن دما. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم "امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك. ثم اغتسلي وصلي". 601 - عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: إن أم حبيبة بنت جحش. التي كانت تحت عبد الرحمن بن عوف. شكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الدم. فقال لها "امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك. ثم اغتسلي" فكانت تغتسل عند كل صلاة. -[المعنى العام]- تعلمت النساء المسلمات ما يفعلن أثناء الحيض، يجتنبن الصلاة وقراءة القرآن ومس المصحف وحمله والاعتكاف ودخول المسجد والصيام، ويعتزلهن الرجال فيما بين السرة والركبة، وتعلمن كيف يغتسلن من الحيض، وكيف ينظفن أنفسهن بقطعة قطن مطيبة بمسك أو طيب، ورأى بعضهن دما غير دم الحيض، اختبرهن الله به، لا ينقطع أو لا يكاد، وتحيرن في أمره، هل يفعلن بشأنه ما يفعلن بشأن الحيض؟ أو ماذا عساه يكون الحكم؟ ولم هذه الحيرة وقد شجعهن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الاستفتاء والسؤال والتفقه في الدين؟ وجاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسأله وتقول: يا رسول الله، إني امرأة أستحاض، يستمر نزول الدم فلا أطهر، أأدع الصلاة كما أدعها في الحيض؟ قال صلى الله عليه وسلم: لا تدعي الصلاة، ليس هذا الدم بحيض، وإنك لتعلمين حيضتك، فإذا أقبلت

فدعي الصلاة وإذا انقطع دمها، وجاء الدم الآخر الناشئ عن عرق يخالف منشأ الحيض فاغتسلي، ثم اغسلي عنك الدم، وتوضئي لكل صلاة وصلي. وجاءت أم حبيبة بنت جحش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأل نفس السؤال، وأجابها صلى الله عليه وسلم بنفس الجواب، لكنها اشتبهت في أيام الحيض وأيام الاستحاضة، وكأنها لم تستطع أن تميز بين الدمين، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: امكثي كحائضة مدة تساوي مدة حيضتك قبل دم الاستحاضة ثم اغتسلي وتوضئي لكل صلاة وصلي. وبلغ الورع والحرص على النظافة عند النساء المسلمات حدا جعلهن يحافظن على الغسل عند كل صلاة تطوعا وتقربا، وهكذا يضربن المثل الأعلى على طهر الإسلام ونقائه وعلى استجابتهن لأوامره أكمل الاستجابة، وعلى السمع والطاعة لتعاليمه وزيادة، فرضي لله عنهن ورضين عنه، ورضي عن التابعين بإحسان إلى يوم الدين. -[المباحث العربية]- (جاءت فاطمة بنت أبي حبيش بن عبد المطلب بن أسد، وهي امرأة منا) "حبيش" بضم الحاء وفتح الباء بعدها ياء ثم شين، وأبو حبيش اسمه قيس بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي. قال النووي: وقع في الأصول "ابن عبد المطلب" واتفق العلماء على أنه وهم، والصواب "ابن المطلب" بحذف "عبد" وأما قوله: "وهي امرأة منا" فمعناه من بني أسد، والقائل هو هشام بن عروة، أو القائل أبوه عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزي. اهـ. (إني امرأة أستحاض) بضم الهمزة، مبني للمجهول، كما يقال: استحيضت، ولم يبن هذا الفعل للفاعل، قاله العيني، وقال الأبي: وفي بعض الروايات "أستحيض" بالبناء للفاعل، وأصل الكلمة من الحيض، والزوائد للمبالغة، وأصل الحيض السيلان، ويقال: الحيض لغة الدم الخارج، ثم خصه العرف الشرعي بدم خاص، والاستحاضة بدم آخر. (فلا أطهر) قال القاضي عياض: يحتمل الحقيقة، وأنه لا يفارقها، ويحتمل أنه كناية عن قرب بعضه من بعض. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: كانت تفهم أن طهارة الحائض لا تعرف إلا بانقطاع الدم فكنت بعدم الطهر عن اتصاله. (أفأدع الصلاة؟ ) كانت قد علمت أن الحائض لا تصلي، فظنت أن ذلك الحكم مقترن بجريان الدم من الفرج، فأرادت تحقق ذلك. (إنما ذلك عرق وليس بالحيضة) "ذلك" بكسر الكاف لخطاب المؤنثة و"عرق" بكسر العين وإسكان الراء، ويقال له: العادل، أي إنما ذلك الدم ناشئ عن عرق خاص، وليس هو الدم المعروف بالحيض، والباء في "بالحيضة" زائدة، داخلة على خبر "ليس" والحيضة يجوز فيها كسر

الحاء بمعنى الحالة وفتحها بمعنى الحيض، قال النووي: فتح الحاء في هذا الموضع متعين أو قريب من المتعين، فإن المعنى يقتضيه، لأنه صلى الله عليه وسلم أراد إثبات الاستحاضة ونفي الحيض، وأما ما يقع في كثير من كتب الفقه: إنما ذلك عرق انقطع وانفجر. فهي زيادة لا تعرف في الحديث، وإن كان لها معنى. اهـ. (فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي) قال النووي: يجوز في "الحيضة" هنا فتح الحاء وكسرها جوازا حسنا. اهـ. والمراد من إقبالها نزول الدم، ومن إدبارها انقطاع الدم. وفي الكلام حذف مفهوم، والأصل: فاغسلي عنك الدم "واغتسلي" وصلي. (استفتت أم حبيبة بنت جحش) أخت أم المؤمنين زينب بنت جحش. قال القاضي عياض: اختلف أصحاب الموطأ في هذا عن مالك، وأكثرهم يقولون: زينب جحش، وأكثر الرواة يقولون: عن ابنة جحش، وهذا هو الصواب، ويبين الخطأ في القول الأول قوله: "وكانت تحت عبد الرحمن بن عوف، وزينب أم المؤمنين لم يتزوجها عبد الرحمن بن عوف قط، والتي كانت تحت عبد الرحمن هي أم حبيبة أختها. اهـ. والروايات كلها تؤكد أنها أم حبيبة وليست زينب، وقد سبق أن فاطمة بنت أبي حبيش قد سألت عن الاستحاضة، وروي أن أم سلمة سألت كذلك، وكذا أسماء بنت عميش، ولا منافاة بين الروايات، لتعدد الوقائع. (ولكنه شيء فعلته هي) أي تطوعا، واسم "لكن" يعود على الغسل عند كل صلاة، و"هي" تأكيد للضمير المستتر في "فعلته". (ختنة رسول الله صلى الله عليه وسلم) "ختنة" بفتح الخاء والتاء، ومعناه قريبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم والأختان جمع ختن كفرح وأفراح، وهم أقارب زوجة الرجل، والأحماء أقارب زوج المرأة والأصهار يعم الجميع. (وتحت عبد الرحمن بن عوف) أي زوجته. (فكانت تغتسل في مركن) بكسر الميم وفتح الكاف بينهما راء ساكنة، وهو إناء كبير كانت الثياب تغسل فيه، وكانت أم حبيبة تقعد فيه، وتصب على نفسها الماء. (حتى تعلو حمرة الدم الماء) أي كان الماء يختلط بالدم، فيحمر الماء، ثم تخرج من المركن، وتغسل ما أصاب رجلها من ذلك الماء المتغير بالدم. (لو سمعت بهذه الفتيا والله إن كانت لتبكي) "إن" مخففة من الثقيلة، وأصل الكلام قبل القسم: لو سمعت بهذه الفتيا كانت تبكي. (رأيت مركنها ملآن دما) قال النووي: هكذا هو في الأصول ببلادنا، وذكر القاضي عياض أنه روي أيضا "ملأى" وكلاهما صحيح، الأول على لفظ المركن، وهو مذكر، والثاني على معناه وهو الإجانة وهي مؤنثة، وظاهر العبارة أنه كان مملوءا بالدم الخالص، وليس كذلك، بل المراد أنه كان مملوءا بالماء الأحمر المشبه للدم، أي ماء كالدم ففي الكلام استعارة تصريحية أصلية.

(امكثي قدر ما كنت تحبسك حيضتك) أي انتظري بلا صلاة ولا صوم عدد الأيام التي كانت تمنعك حيضتك فيها عن الصلاة ونحوها، ثم اغتسلي وافعلي ما كنت ممنوعة منه أيام الحيض. -[فقه الحديث]- الاستحاضة جريان الدم في غير أوان خروجه المعتاد؛ ولدم الحيض صفات تخالف صفات دم الاستحاضة، قال القاضي عياض: والنساء يزعمن معرفته برائحته ولونه. اهـ. فدم الحيض نتن الرائحة، قاتم اللون، والمميزة التي اعتادت الحيض تستطيع التفرقة بين دم الحيض ودم الاستحاضة بحكم التجارب والإلف والتكرار، فهي تدرك الرائحة والثخانة وتعرف مثلا الأيام التي يكون فيها لون دم حيضتها أسود، واليوم أو الأيام التي يكون فيها غير ذلك من الحمرة أو الشقرة أو الصفرة أو الكدرة، ثم تعرف حيضتها بحكم العادة كم يوما تكون؟ وفي أي الأيام من الشهر تبدأ؟ فإن نزل دم مخالف لما اعتادته لونا ورائحة يوما أو يومين مثلا في غير أيام حيضها فله حكم الاستحاضة. لكن لو اتصل دم الاستحاضة بدم الحيض بأن كان الدم مستمرا، أو كان مجاوزا لخمسة عشر يوما، فلا يخلو الأمر عن أحوال أربعة: الأول: أن تكون مبتدأة ولا تميز ألوان الدم وصفاته. الثاني: أن تكون مبتدأة تميز ألوان الدم وصفاته. الثالث: أن تكون معتادة ولا تميز ألوان الدم وصفاته. الرابع: أن تكون معتادة وتميز ألوان الدم وصفاته. ولكل حالة حكمها الحال الأول: فإن كانت مبتدأة -أي ابتدأها الدم لزمان إمكانه- ولا تميز صفاته أمسكت عما تمسك عنه الحائض، فإن جاوز خمسة عشر يوما تيقن أنها مستحاضة، وتبين لها ثلاثة أحوال: حال طهر بيقين، وهو ما بعد الخمسة عشر يوما، وحال حيض بيقين، وهو اليوم والليلة، وحال طهر مشكوك فيه، وهو ما بعد يوم وليلة إلى آخر خمسة عشر يوما [هذا مذهب الشافعية، وتراعي المذاهب الأخرى في أقل الحيض وأكثره] وفي حكم المدة المشكوك فيها خلاف طويل، قيل: يعتبر حيضها يوما وليلة، وما بعده طهر يجرى عليه أحكام الاستحاضة في الشهر الأول وما بعده، وتمام الدورة ثلاثون يوما، فكل ثلاثين يوما يكون حيضها يوما وليلة، وطهرها تسعة وعشرين، وهو قول للشافعية ورواية عن أحمد ومحكي عن زفر.

وقيل ترد حيضتها إلى ست أو سبع، وما بعد ذلك طهر، وهو قول للشافعية ورواية عن أحمد، وبه قال عطاء والأوزاعي والثوري وإسحاق. وعن أبي حنيفة ترد إلى أكثر الحيض عنده، وهو عشرة أيام، وما بعدها طهر. وعن أبي يوسف ترد في إعادة الصلاة إلى ثلاثة أيام، وهو أقل الحيض عنده، وفي الوطء إلى أكثره احتياطا للأمرين. وعن مالك رواية خمسة عشر يوما، ورواية أنها تعامل معاملة أقرانها في مدة الحيض. الحال الثاني: وإن كانت مبتدأة مميزة، تفرق بين دم الحيض وغيره عملت بتمييزها، واعتبرت الدم القوي حيضا والضعيف استحاضة بشرط أن لا يزيد القوي عن خمسة عشر يوما، وأن لا ينقص عن يوم وليلة. الحال الثالث: وإن كانت معتادة غير مميزة ورأت الدم قد تجاوز عادتها وجب عليها الإمساك عما تمسك الحائض، لاحتمال الانقطاع قبل مجاوزة خمسة عشرة، فإن انقطع كان الجميع حيضا، وإن جاوز خمسة عشر يوما علمنا أنها مستحاضة فيجب عليها أن تغتسل، وأن ترد إلى عادتها فيكون حيضها أيام العادة في القدر والوقت، وما عدا ذلك فهو طهر تقضي صلاته. الحال الرابع: وإن كانت معتادة مميزة، ووافق التمييز العادة عملت بالدلالتين بلا خلاف، كأن كانت عادتها خمسة أيام، فاستمر الدم عشرة وكانت الخمسة الأولى دما شديدا أسود فيه صفات دم الحيض، والخمسة الثانية دما ضعيفا أصفر، فالخمسة الأولى حيض، والثانية استحاضة، وإن لم يوافق التمييز العادة ردت إلى التمييز على الصحيح من مذهب الشافعية، وردت إلى العادة عند الحنفية وأحمد، وقال الأبي المالكي: المستحاضة من زاد دمها على قدر عادتها والاستظهار [الاستظهار والاستيثاق بثلاثة أيام أخرى]، وعن مالك اعتبار التمييز وتغير الدم. والله أعلم. وقد بسطنا القول في هذه المسألة لما يترتب على تحديد نوع الدم من أحكام فالحائض تترك الصلاة المفروضة والنافلة، ويحرم عليها الطواف وصلاة الجنازة وسجود التلاوة وسجود الشكر، وقد أجمع العلماء على أنها ليست مكلفة بالصلاة، وعلى أنها لا قضاء عليها، أما المستحاضة فلها حكم الطاهرات في معظم الأحكام، فلها حكم الطاهرات في الصلاة والصيام والاعتكاف وقراءة القرآن ومس المصحف وحمله وسجود التلاوة وسجود الشكر ووجوب العبادات عليها. أما كيف تتطهر وتصلي فقد قال النووي: وإذا أرادت المستحاضة الصلاة فإنها تؤمر بالاحتياط في طهارة الحدث وطهارة النجس، فتغسل فرجها قبل الوضوء، وتحشو فرجها بقطنة أو خرقة رفعا للنجاسة أو تقليلا لها، فإن كان دمها قليلا يندفع بذلك وحده فلا شيء عليها غيره، وإن لم يندفع شدت مع ذلك على فرجها، وتلجمت، وهو أن تشد على وسطها خرقة أو خيطا أو نحوه على صورة التكة، وتأخذ خرقة أخرى مشقوقة الطرفين فتدخلها بين فخديها وإليتيها، وتشد الطرفين بالخرقة التي في وسطها، أحدهما قدامها عند صرتها

والآخر خلفها، وتحكم ذلك الشد، وتلصق هذه الخرقة المشدودة بين الفخذين بالقطنة التي على الفرج إلصاقا جيدا، وهذا الفعل يسمى تلجما واستثفارا وتعصيبا، قال أصحاب الشافعية: وهذا الشد والتلجم واجب إلا في موضعين: أحدهما: أن تتأذى بالشد، ويحرقها اجتماع الدم، فلا يلزمها، لما فيه من الضرر، والثاني: أن تكون صائمة، فتترك الحشو في النهار، وتقتصر على الشد، قالوا: ويجب تقديم الشد والتلجم على الوضوء، وتتوضأ عقيب الشد من غير إمهال، فإن شدت وتلجمت وأخرت الوضوء وتطاول الزمان ففي صحة وضوئها وجهان، الأصح أنه لا يصح، وإذا استوثقت بالشد على الصفة التي ذكرناها ثم خرج منها دم من غير تفريط لم تبطل طهارتها ولا صلاتها، ولها أن تصلي بعد فرضها ما شاءت من النوافل، لعدم تفريطها، ولتعذر الاحتراز عن ذلك، أما إذا خرج الدم لتقصيرها في الشد، أو زالت العصابة عن موضعها لضعف الشد فزاد خروج الدم بسببه فإنه يبطل طهرها، فإن كان ذلك في أثناء الصلاة بطلت، وإن كان بعد فريضة لم تستبح النافلة لتقصيرها، أما تجديد غسل الفرج وحشوه وشده لكل فريضة فينظر فيه إن زالت العصابة عن موضعها زوالا له تأثير، أو ظهر الدم على جوانب العصابة وجب التجديد، وإن لم تزل العصابة عن موضعها، ولا ظهر الدم ففيه وجهان. ثم قال: واعلم أن مذهبنا أن المستحاضة لا تصلي بطهارة واحدة أكثر من فريضة واحدة، مؤداة كانت أو مقضية، وتستبيح معها ما شاءت من النوافل، قبل الفريضة وبعدها، [لما رواه أبو داود من أنه صلى الله عليه وسلم قال لبنت أبي حبيش: اغتسلي ثم توضئي لكل صلاة وصلي] وبمثل مذهبنا قال سفيان وأحمد وأبو ثور، وقال أبو حنيفة: طهارتها بالوقت، فتصلي في الوقت بطهارتها الواحدة ما شاءت من الفرائض الفائتة. وفسرت رواية أبي داود بتوضئي لوقت كل صلاة. وقال مالك وداود: دم الاستحاضة لا ينقض الوضوء، فإذا تطهرت، أي اغتسلت من حيضها أو توضأت فلها أن تصلي بطهارتها ما شاءت من الفرائض إلى أن تحدث بغير الاستحاضة. ثم قال: قال أصحابنا: وكيفية نية المستحاضة في وضوئها أن تنوي استباحة الصلاة، ولا تقتصر على نية رفع الحدث، وهل يقال بعد الوضوء ارتفع حدثها؟ الأصح أنه لا يرتفع شيء من حدثها، بل تستبيح الصلاة بهذه الطهارة مع وجود الحدث. ثم قال: واعلم أنه لا يجب على المستحاضة الغسل لشيء من الصلاة، ولا في وقت من الأوقات إلا مرة واحدة في وقت انقطاع حيضها، وبهذا قال جمهور العلماء من السلف والخلف، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحمد، وروي عن ابن عمر وابن الزبير وعطاء أنهم قالوا يجب عليها أن تغتسل لكل صلاة وروي عن عائشة أنها قالت: تغتسل كل يوم غسلا واحدا، وعن ابن المسيب والحسن قالا: تغتسل من صلاة الظهر إلى صلاة الظهر دائما، ودليل الجمهور: أن الأصل عدم الوجوب فلا يجب إلا ما ورد الشرع بإيجابه، ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمرها بالغسل إلا مرة واحدة عند انقطاع حيضها، وهو قوله صلى الله عليه وسلم "إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي" وليس في هذا ما يقتضي تكرار الغسل، وأما الأحاديث الواردة في سنن أبي داود والبيهقي وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها فليس

فيها شيء ثابت، وقد بين البيهقي ومن قبله ضعفها، وإنما صح في هذا ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما "أن أم حبيبة بنت جحش -رضي الله عنها- استحيضت، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما ذلك عرق، فاغتسلي ثم صلي، فكانت تغتسل عند كل صلاة" قال الشافعي -رحمه الله تعالى: إنما أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل وتصلي، وليس فيه أنه أمرها أن تغتسل لكل صلاة. قال: ولا شك -إن شاء الله تعالى- أن غسلها كان تطوعا، غير ما أمرت به. والله أعلم. أما وطء المستحاضة فقد قال عنه النووي: يجوز لزوجها وطؤها في حال جريان الدم عندنا وعند جمهور العلماء، وبه قال مالك وأبو حنيفة والأوزاعي والثوري وإسحاق وأبو ثور قال ابن المنذر: وبه أقول. قال: وروينا عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: لا يأتيها زوجها. وبه قال النخعي. وقال أحمد: لا يأتيها إلا أن يطول ذلك بها، وفي رواية عنه أنه لا يجوز وطؤها إلا أن يخاف العنت. والمختار مذهب الجمهور، والدليل عليه ما روي عن حمنة بنت جحش -رضي الله عنها- "أنها كانت مستحاضة، وكان زوجها يجامعها" رواه أبو داود. وقال البخاري في صحيحه: قال ابن عباس: المستحاضة يأتيها زوجها، إذا صلت الصلاة أعظم، ولأن المستحاضة كالطاهرة في الصلاة والصوم وغيرهما، فكذا في الجماع، ولأن التحريم إنما يثبت بالشرع، ولم يرد الشرع بتحريمه. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - جواز استفتاء المرأة بنفسها وجواز مشافهتها الرجال فيما يتعلق بالطهارة وأحداث النساء. 2 - وجواز سماع صوتها عند الحاجة. والله أعلم

(142) باب قضاء الحائض الصوم دون الصلاة

(142) باب قضاء الحائض الصوم دون الصلاة 602 - عن معاذة أن امرأة سألت عائشة فقالت: أتقضي إحدانا الصلاة أيام محيضها؟ فقالت عائشة: أحرورية أنت؟ قد كانت إحدانا تحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لا تؤمر بقضاء. 603 - عن معاذة أنها سألت عائشة: أتقضي الحائض الصلاة؟ فقالت عائشة: أحرورية أنت؟ قد كن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم يحضن. أفأمرهن أن يجزين؟ قال محمد بن جعفر: تعني يقضين. 604 - عن معاذة قالت: سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أحرورية أنت؟ قلت: لست بحرورية. ولكني أسأل. قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة. -[المعنى العام]- خفي الكثير من حكمة التشريع على بعض الصحابة، وبخاصة النساء، وكان عدم إدراك الحكمة دافعا إلى التساؤل، وتلك محمدة للشريعة الإسلامية التي خاطبت العقول والأرواح معا، وركزت على العقول، وقللت من أمور التعبد التي لا بد منها، ليشعر العقل بالقصور، وليسلم وجهه إلى الله وهو محسن، لقد علمت معاذة أن الحائض يجب عليها اجتناب الصلاة والصوم مدة حيضها، فإذا هي طهرت وجب عليها قضاء الصوم، ولم يجب عليها قضاء الصلاة، ولم تدرك الفرق بين الصلاة والصوم حتى وجب قضاء عبادة دون عبادة، فسألت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: ما بال الحائض يجب عليها قضاء الصوم، ولا يجب عليها قضاء الصلاة؟ ألا تقضي إحدانا الصلاة التي فاتتها أيام حيضها؟ فقالت لها عائشة: لا تقولي هذا، فإنه لا يقول به إلا الخوارج، ولا يصح أن تتشبهي بهم في هذا القول، إن من يسمعك يقول: إنك حرورية خارجة. قالت: لست من الخوارج، ولكني أسأل للتعلم. ولم تشأ عائشة أن تبين الفرق بين الصلاة والصيام، وإنما قصدت إلى إثبات الحكم وترسيخه ووجوب السمع والطاعة له، فقالت: لقد كنا نحيض عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنا نترك الصلاة والصوم أثناء الحيض، فكان يأمرنا بعد الحيض بقضاء الصوم، ولا يأمرنا بقضاء الصلاة فكوني من {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب} [الزمر: 18].

-[المباحث العربية]- (عن معاذة أن امرأة سألت عائشة) أبهمت السائلة في هذه الرواية، وصرح بها في الرواية الثانية والثالثة وهي معاذة نفسها. (أتقضي إحدانا الصلاة أيام حيضها؟ ) الظرف "أيام حيضها" لا يصح تعليقه بالفعل "تقضي" لأن القضاء لا يقع في أيام الحيض، وإنما هو متعلق بمحذوف حال من الصلاة، والمعنى: أتقضي إحدانا الصلاة الواجبة أيام الحيض؟ (أحرورية أنت) خبر ومبتدأ، والحرورية المنسوبة إلى حروراء، قرية بقرب الكوفة، وكان أول اجتماع الخوارج فيها، قال العيني: وكبار فرق الحرورية ستة: الأزارقة والصفرية والنجدات، والعجاردة، والإباضية، والثعالبة. والباقون فروع، وهم الذين خرجوا على علي رضي الله عنه، يجمعهم القول بالتبري من عثمان وعلي -رضي الله عنهما- ويقدمون ذلك على كل طاعة، ولا يصححون المناكحات إلا على ذلك، وكان خروجهم على عهد علي رضي الله عنه لما حكم أبا موسى الأشعري وعمرو بن العاص، وأنكروا على علي في ذلك، وقالوا: شككت في أمر الله، وحكمت عدوك، وطالت خصومتهم، ثم أصبحوا يوما وقد خرجوا، وهم ثمانية آلاف، وأميرهم ابن الكوا عبد الله، فبعث إليهم علي رضي الله عنه عبد الله بن عباس، فناظرهم، فرجع منهم ألفان، وبقيت ستة آلاف، فخرج إليهم علي، فقاتلهم، وكانوا يشددون في الدين، ومنه قضاء الصلاة على الحائض. اهـ. وتقديم الخبر يفيد الحصر، أي: ألست إلا حرورية؟ والاستفهام إنكاري، أي لا ينبغي أن تكوني كذلك. (كانت إحدانا تحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي فيما يعهده رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعرفه، والغرض بيان أنه صلى الله عليه وسلم كان مطلعا على حالهن من الحيض وتركهن الصلاة في أيامه. (ثم لا تؤمر بقضاء) في الكلام حذف، أي تحيض وتترك الصلاة أيام الحيض، ثم لا تؤمر بقضائها بعد الطهر، والمراد من عدم الأمر عدم الوجوب، لأن الواجب مأمور به. (قد كن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم يحضن) "نساء" بالرفع اسم كان، ونون النسوة في "كن" حرف على قول، فإن كانت اسم "كان" أعرب "نساء" بدلا منها، وهي على نمط "أكلوني البرغيث". (أفأمرهن أن يجزين؟ ) بفتح الياء وسكون الجيم وكسر الزاي، وفسره الراوي بقوله: يعني يقضين. قال النووي: وهو تفسير صحيح، يقال: جزى يجزي، أي قضى، وبه فسروا قوله تعالى: {لا تجزي نفس عن نفس شيئا} [البقرة: 48]، ويقال: هذا الشيء يجزي عن كذا، أي يقوم مقامه. قال القاضي عياض: وقد حكى بعضهم فيه الهمز. اهـ. والاستفهام إنكاري، أي فلم يأمرهن بالقضاء.

(ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة) في القاموس: البال الحال والخاطر والقلب. اهـ. أي ما الحال والشأن في قضاء الصوم وعدم قضاء الصلاة؟ والاستفهام حقيقي، فهي تسأل عن العلة في هذه التفرقة. (لست بحرورية ولكني أسأل) الباء زائدة في خبر "ليس" أي لست أوجب قضاء الصلاة كالحروريين، ولكني أسألك عن الحكم سؤالا مجردا لطلب العلم، لا للتعنت. (كان يصيبنا ذلك) الإشارة للحيض، والكاف مكسورة لخطاب المؤنثة، أي كان يصيبنا الحيض، فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة. -[فقه الحديث]- قبل الكلام على موضوع قضاء الحائض والصلاة والصوم نقول: إنه يحرم على الحائض والنفساء الطواف، وقد أجمع العلماء على أنه لا يصح منهما طواف مفروض ولا تطوع، وأجمعوا على أنهما لا تمنعان من شيء من مناسك الحج إلا الطواف وركعتيه. نقل الإجماع في هذا كله ابن جرير وغيره. وذهب الشافعية إلى أنه يحرم عليهما كذلك قراءة القرآن، ومس المصحف وحمله والمكث في المسجد، ويحرم الاستمتاع بهما فيما بين السرة والركبة كما سبق. أما الصلاة فقد أجمعت الأمة على أنه يحرم على الحائض الصلاة، فرضها ونفلها، وقال النووي: مذهبنا ومذهب جمهور العلماء والخلف أنه ليس على الحائض وضوء ولا تسبيح ولا ذكر في أوقات الصلاة ولا في غيرها، وممن قال بهذا الأوزاعي ومالك والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وعن الحسن البصري قال: تطهر وتسبح، وعن أبي جعفر قال: نأمر نساء الحيض أن يتوضأن في وقت الصلاة، ويجلسن ويذكرن الله عز وجل، ويسبحن. اهـ. وقال العيني: وفي منية المفتي للحنفية: يستحب لها عند وقت كل صلاة أن تتوضأ، وتجلس في مسجد بيتها، تسبح وتهلل مقدار أداء الصلاة لو كانت طاهرة، حتى لا تبطل عادتها، وفي الدراية: يكتب لها ثواب أحسن صلاة كانت تصلى. اهـ. قال النووي: أما استحباب التسبيح فلا بأس به، وإن كان لا أصل له على هذا الوجه المخصوص، وأما الوضوء فلا يصح عندنا وعند الجمهور، بل تأثم به إن قصدت العبادة. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: وهل تثاب على ترك الصلاة مدة الحيض لكونها مكلفة بهذا الترك؟ كما يثاب المريض على النوافل التي كان يعملها في صحته وشغل بالمرض عنها؟ قال النووي: الظاهر أنها لا تثاب، والفرق بينها وبين المريض أنه كان يعملها بنية الدوام عليها مع أهليته، والحائض ليس كذلك. قال: وعندي في كون هذا الفرق مستلزما لكونها لا تثاب وقفة. اهـ. والذي تستريح إليه النفس أنها لا تعامل في ذلك معاملة المريض؛ لأن المريض يكافأ على مصابه

وآلامه بثواب ما كان يفعله من النوافل، ولم نقل بثواب ما كان يفعله من الفرائض، ثم إن الثواب تفضل من الله، وقد ورد في شأن المريض، ولم يرد في شأن الحائض، بل ورد ما ينفيه عنها في قوله صلى الله عليه وسلم " .... أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ قلن: بلى قال: فذلك من نقصان دينها" إذ لو كانت تثاب على تركها الصلاة ما نقص دينها. كذلك يحرم على الحائض الصوم. قال ابن جرير في كتابه "اختلاف الفقهاء": أجمعوا على أن عليها اجتناب كل الصلوات، فرضها ونفلها، واجتناب جميع الصيام، فرضه ونفله. اهـ. قال النووي: ولو أمسكت الحائض عن الطعام والشراب بقصد الصوم أثمت، وإن أمسكت بلا قصد لم تأثم. اهـ. وقد أجمع المسلمون على أنه لا يجب على الحائض قضاء الصلاة -ولا عبرة بخلاف الخوارج- ويجب عليها قضاء الصوم، قال العلماء: والفرق بينهما أن الصلاة كثيرة متكررة فيشق قضاؤها، بخلاف الصوم، فإنه يجب في السنة مرة واحدة، وربما كان الفطر بسبب الحيض يوما أو يومين. وقد يتساءل العقل: إذا كان ترك الحائض الصلاة لعدم وجود شرطها وهو الطهارة فلم أمرت بترك الصوم، والطهارة ليست بشرط فيه؟ ولم أعثر فيما قرأت على علة معقولة، والظاهر أن الأمر بترك الصوم في هذه الحالة للتعبد، ولعل هذا من أسباب وجوب قضاء الصوم دون الصلاة. قال النووي: قال الجمهور: وليست الحائض مخاطبة بالصيام في زمن الحيض، وإنما يجب عليها القضاء بأمر جديد. قال: وذكر بعض أصحابنا وجها: أنها مخاطبة بالصيام في حالة الحيض مأمورة بتأخيره، كما يخاطب المحدث بالصلاة وإن كانت لا تصح منه في زمن الحدث. قال: وهذا الوجه ليس بشيء فكيف يكون الصيام واجبا عليها ومحرما عليها بسبب لا قدرة لها على إزالته؟ بخلاف المحدث، فإنه قادر على إزالة الحدث. اهـ. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - وجوب قضاء الحائض الصوم. 2 - أنه لا يجب عليها قضاء الصلاة، ولا يقال: إن كل ما يؤخذ من الحديث عدم الأمر بقضاء الصلاة، وهو لا يدل على عدم وجوب القضاء، لاحتمال الاكتفاء بالدليل العام على وجوب القضاء، قال ابن دقيق العيد: إن اكتفاء عائشة في الاستدلال على إسقاط القضاء بكونها لم تؤمر به يحتمل وجهين: أحدهما أنها أخذت إسقاط القضاء من إسقاط الأداء فيتمسك به حتى يوجد المعارض، وهو الأمر بالقضاء، كما في الصوم، ثانيهما أن الحاجة داعية إلى بيان هذا الحكم لتكرار الحيض منهن، وحيث لم يبين دل على عدم الوجوب، لا سيما وقد اقترن بالأمر بقضاء الصوم. اهـ. 3 - استدل به على وجوب ترك الحائض الصلاة والصوم أثناء الحيض؛ لأن القضاء وعدم القضاء مترتب على الترك. قال النووي: فإن قيل: ليس في الحديث دليل على تحريم

الصوم وإنما فيه جواز الفطر، وقد يكون الصوم جائزا لا واجبا كالمسافر. قلنا: قد ثبت شدة اجتهاد الصحابيات -رضي الله عنهن- في العبادات، وحرصهن على الممكن منها، فلو جاز الصوم لفعله بعضهن، كما في القصر وغيره، ويدل أيضا على التحريم حديث البخاري ومسلم "أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم". 4 - استدل به على أن قول الصحابي: "كنا نؤمر أو ننهي" في حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث أخرج في الصحيح. والله أعلم

(143) باب حفظ العورة والتستر عند البول والاغتسال

(143) باب حفظ العورة والتستر عند البول والاغتسال 605 - عن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها قالت: ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح. فوجدته يغتسل. وفاطمة ابنته تستره بثوب. 606 - عن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها أنه لما كان عام الفتح، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بأعلى مكة. قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غسله. فسترت عليه فاطمة. ثم أخذ ثوبه فالتحف به. ثم صلى ثمان ركعات سبحة الضحى. 607 - عن سعيد بن أبي هند بهذا الإسناد وقال فسترته ابنته فاطمة بثوبه. فلما اغتسل أخذه فالتحف به. ثم قام فصلى ثمان سجدات وذلك ضحى. 608 - عن ميمونة رضي الله عنها قالت: وضعت للنبي صلى الله عليه وسلم ماء وسترته فاغتسل. 609 - عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل. ولا المرأة إلى عورة المرأة. ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد. ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد". 610 - وعن الضحاك بن عثمان بهذا الإسناد وقالا "عورة" "عرية الرجل وعرية المرأة". 611 - عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكر أحاديث منها. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة. ينظر بعضهم

إلى سوأة بعض. وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده. فقالوا: والله! ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر. قال فذهب مرة يغتسل. فوضع ثوبه على حجر. ففر الحجر بثوبه. قال فجمح موسى بإثره يقول: ثوبي حجر! ثوبي حجر! حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى. قالوا: والله! ما بموسى من بأس. فقام الحجر حتى نظر إليه. قال فأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضربا". قال أبو هريرة: والله! إنه بالحجر ندب ستة أو سبعة ضرب موسى بالحجر. 612 - - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لما بنيت الكعبة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وعباس ينقلان حجارة. فقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم اجعل إزارك على عاتقك، من الحجارة. ففعل. فخر إلى الأرض. وطمحت عيناه إلى السماء. ثم قام فقال "إزاري إزاري" فشد عليه إزارة. قال ابن رافع في روايته "على رقبتك" ولم يقل "على عاتقك". 613 - عن جابر بن عبد الله؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينقل معهم الحجارة للكعبة. وعليه إزاره. فقال له العباس، عمه: يا ابن أخي! لو حللت إزارك، فجعلته على منكبك، دون الحجارة. قال فحله فجعله. على منكبه. فسقط مغشيا عليه. قال فما رئي بعد ذلك اليوم عريانا. 614 - عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه قال: أقبلت بحجر، أحمله، ثقيل. وعلي إزار خفيف. قال فانحل إزاري ومعي الحجر. لم أستطع أن أضعه حتى بلغت به إلى موضعه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ارجع إلى ثوبك فخذه ولا تمشوا عراة". 615 - عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خلفه. فأسر إلي حديثا لا أحدث به أحدا من الناس. وكان أحب ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته، هدف أو حائش نخل. قال ابن أسماء في حديثه: يعني حائط نخل.

-[المعنى العام]- كرم الله ابن آدم، وميزه عن الحيوانات بالعقل والستر، فكما خلق فيه الإدراك والتمييز والاستعداد للعلم. خلق فيه الانطباع على اللباس والتستر، بل جعل الحياة الكريمة مرتبطة بالغذاء والكساء، يوم قال الله تعالى لآدم حين أسكنه الجنة {إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى} [طه: 118] وكان طبيعيا حين وسوس الشيطان لآدم وحواء، وحين نزع عنهما لباسهما، وحين بدا لهما ما ووري عنهما من سوآتهما، أن طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ويستران به عوراتهما. وبهذه الطبيعة نزل آدم إلى الأرض، وعلم بنيه ستر العورة، وسارت ذريته بحكم الجبلة على المحافظة على اللباس، ومن لم يجد لم يفرط في ستر السوأتين: قبله ودبره. نعم قد تخالف هذه الطبيعة سفها وشذوذا في بعض العصور والبيئات المنحرفة، فنسمع أن بني إسرائيل كانوا يغتسلون عراة مجتمعين، ينظر بعضهم إلى عورة بعض، ونسمع أن الرجال والنساء كانوا قبل الإسلام يطوفون بالكعبة عراة، ويقولون: لا نعبد الله في ثيات أذنبنا فيها، ونرى في هذه الأيام على شواطئ البحار الرجال والنساء شبه عراة، ونرى المرأة المسلمة وقد كشفت عن ساقيها، بل فخذيها في بعض الأحبان. مخالفات للطبيعة، ومخالفات للمروءة، ومخالفات للحياء ومكارم الأخلاق وقد جاءت الشريعة الإسلامية ترسم للبشرية المثل العليا، والطريق القويم للحياة الدنيوية والأخروية، وأعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم قانون السماء: لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا الرجل إلى عورة المرأة، ولا المرأة إلى عورة الرجل، فإن الله لعن الناظر والمنظور، لعن الناظر لاستخدامه نعمة العين فيما حرم الله، نعم نرجو عفو الله عن النظرة الأولى التي تقع على المحرم عفوا ودون قصد، وبدافع الحاجة إلى تمييز الطريق وإمكان المشي والحركة، لكن النظرة الثانية، ومد النظرة الأولى لحظة فوق تلك اللحظة جرم وإثم كبير، فهي سهم من سهام إبليس، بل سهم مسموم قلما يطيش، ولعن المنظور لتقصيره في حدود الله، وارتكابه ما حرم الله بكشف ما وجب ستره؛ وإثارة مشاعر الناظرين وغرائزهم، وفتح أبواب الشر، وغرس بذور الفتنة والافتتان. كانت هذه الفقرة الأولى من قانون السماء، وكانت الثانية "لا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد" أي كما وجب حفظ العورة عن النظر، وجب حفظها عن اللمس، إذ الأخطار المترتبة على أحدهما تنتج عن الآخر، وما يحتمل من شر في أولهما هو محتمل من باب أولى في ثانيهما، والإسلام يحرص على إغلاق الروافد، وسد الذرائع. مع إعلان القانون باللسان نجد العمل والقدوة الصالحة، يضربها محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، ويتحدث بها عن أحد إخوته الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وصدق الله العظيم {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [الأحزاب: 21].

إن اللباس العربي يتكون من إزار ورداء، فالإزار ثوب طويل يلف حول الوسط ويغطي من فوق السرة إلى ما تحت الركبة، والرداء ثوب يغطي الجسم من الكتفين إلى ما يقرب من القدمين غالبا، فالإزار زيادة في الاحتياط والأمن والتوثيق من ستر العورة. وقبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم قامت قريش ببناء الكعبة، ومحمد فتى من فتيانها، عرف بالمروءة والشهامة، وما كان لها أن تبني دون مساهمة منه في بنائها، ومشاركة فعلية قوية في أعمالها، فقام بحمل الحجارة على كتفه ونقلها، حتى جرح كتفه أو كاد، ورآه عمه يتأوه ويتضجر، فقال له: يا ابن أخي لو حللت إزارك فجعلته على كتفك، بين الحجارة وبين جسمك كان ألين وأيسر، فحل صلى الله عليه وسلم إزاره، ولم يكن قد تعود حل الإزار، وتصور أنه عريان، وما هو بعريان، وتصور الناس ينظرون إليه، ينتقصون بذلك من كرامته، فسقط على الأرض مغشيا عليه، وما أفاق إلا وهو يقول: إزاري إزاري. أريد أن أربط إزاري، فربطه وما حله أمام الناس بعد. بل كان إذا أراد قضاء حاجته ترك رفقته وأبعد، ولم يكتف بالبعد بل يتستر بحائط أو كومة شجر، ثم يقضي حاجته، ولم تكن الدور محكمة البناء ذات حجرات وحمام خاص، كما هو الحال اليوم، فكيف كان يغتسل صلى الله عليه وسلم في خيمته أو في فناء داره؟ هذا ما تحدثنا عنه أم هانئ بنت عمه أبي طالب، والتي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعزها ويستريح في بيتها قبل الهجرة، ونزل فيه لحظات يوم الفتح، ثم عاد إلى القبة التي ضربت له عند شعب أبي طالب حيث حصر هو وأهله، جاءته أم هانئ يوم الفتح في خيمته، فوجدته يغتسل وقد أقام ساترا تمسك به فاطمة ابنته، فسلمت عليه، فرد السلام، وكان الساتر كثيفا، فلم يعرف من التي تسلم، فقال: من هذه؟ قالت: أم هانئ. فقال: مرحبا بأم هانئ. فلما فرغ من غسله، التحف في ثوبه، ثم صلى ثماني ركعات سبحة الضحى، فلما انصرف من صلاته قالت: يا رسول الله، أتاني يوم الفتح حموان لي فأجرتهما، فجاء ابن أبي وأمي -تقصد عليا بن أبي طالب- يريد قتلهما [كانت زوجة لهبيرة وكان له أولاد من غيرها، منهم ولدان قاتلا خالدا ولم يقبلا الأمان ولا إلقاء السلاح، فلما تم دخول مكة لجأ إلى أم هانئ يستجيران بها، وذهب خلفهما أخوها علي، يريد قتلهما فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم] فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم "قد أجرنا من أجرت، وأمنا من أمنت يا أم هانئ". أما حديثه صلى الله عليه وسلم عن محافظة إخوته الأنبياء على ستر العورة فيتمثل في قصة موسى عليه السلام، وقومه بني إسرائيل. لقد كانوا يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى عورة بعض، وكان موسى عليه السلام، يغتسل وحده، حتى لا يراه أحد، أو ينكشف على عورته إنسان. فقال بعضهم لبعض: ما لموسى لا يغتسل معنا؟ لا نظنه إلا أنه يخفي عيبا علينا، إن به مرضا في خصيتيه يخشى أن نراه فنعيره به لو كان سليما لما تحرج من مشاركتنا والاغتسال معنا، وشاءت حكمة الله أن يبرئ موسى مما قالوا، ويثبت لبني إسرائيل أن موسى كان عند الله وجيها وأنه رسول الله، وعلى يديه تظهر المعجزات الخارقات، شاءت حكمة الله أن يعوض موسى على صبره على إيذاء قومه خيرا، شاءت حكمة الله أن يسخر حجرا يقوم بمهمة دفع الأذى والطعن عن نبي الله. ولقد قام الحجر بما أمر، فما إن خلع موسى ثيابه

ليغتسل في النهر، وما إن وضعها عليه حتى جرى الحجر بالثياب، وجرى موسى خلفه ينادي. هات ثوبي يا حجر. أعطني ثوبي يا حجر، وكلما قرب موسى من الحجر كلما فر الحجر أمامه، يوهم موسى أنه سيدركه حتى وصل به إلى الملأ الذين آذوا موسى باتهامهم له في خلقته، ووقف الحجر بينهم، ودخل موسى إلى الحجر عندهم، فرأوه سليما معافى خاليا من العيوب مبرأ من العاهات، وأخذ ثيابه فلبسها، ثم أخذ يضرب الحجر مؤدبا، وراع بني إسرائيل أن الضربات الست التي ضربها موسى للحجر قد أثرت فيه وعلمت وهبطت أماكن الضرب عن غيرها، وغاصت في الحجر الصلب، فصلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وهدانا الصراط المستقيم. -[المباحث العربية]- (عن أم هانئ) أخت علي بن أبي طالب شقيقته رضي الله عنهما، فهي ابنة عم النبي صلى الله عليه وسلم، أسلمت يوم الفتح، واسمها فاختة، وقيل: فاطمة، وقيل: هند كنيت بابنها هانئ بن هبيرة. (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بأعلى مكة) دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح من أعلاها من الموضع المسمى "كداء" وضربت له قبة هناك، بدار أم هانئ في هذه المنطقة، فاغتسل وصلى، ثم عاد إلى قبته، فمجيء أم هانئ إليه من بيت آخر لها إلى بيتها الذي نزل فيه، وسبب مجيئها ما مر في المعنى العام من أنها جاءت تطلب منه أن يجير من أجارت. (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غسله) الراجح أنها جملة حالية بتقدير "قد" كما قيل في قوله تعالى {أو جاءوكم حصرت صدورهم} [النساء: 90] والتقدير: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حالة كونه قائما إلى غسله، وكونها مستأنفة بعيد. (ثم صلى ثمان ركعات) بفتح النون، وفي رواية للبخاري "ثمانى" بفتح الياء مفعول "صلى" وتثبت ياء "ثمانى" عند الإضافة كما تثبت ياء القاضي، وتسقط مع التنوين عند الرفع والجر، وتثبت عند النصب. (سبحة الضحى) السبحة بضم السين، وإسكان الباء، هي النافلة، سميت بذلك للتسبيح الذي فيها. (فصلى ثمان سجدات) المراد ثمان ركعات، وسميت الركعة سجدة لاشتمالها عليها، من إطلاق الجزء وإرادة الكل. مجاز مرسل. (لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل) يجوز في الفعل الجزم على أن "لا" ناهية، وتكسر الراء للتخلص من التقاء الساكنين، ويجوز الرفع على أن "لا" نافية، وهي في النهي أبلغ، إذ فيه ادعاء أن المنهي عنه قد امتثل، وأصبح يخبر عنه بعدم الوقوع. و"العورة" كل ما يستحى منه إذا ظهر، والمراد منها هنا ما بين السرة والركبة، أو السوأتان على ما سيأتي في فقه الحديث.

(ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد) أي لا يخلو الرجل إلى الرجل ولا يدخل معه في ثوب واحد. (لا ينظر الرجل إلى عرية الرجل) بضم العين وسكون الراء، وبكسر العين وإسكان الراء، وبضم العين وفتح الراء وتشديد الياء، قال النووي: وكلها صحيحة. (كانت بنو إسرائيل) أي جماعتهم، وهو كقوله تعالى {قالت الأعراب آمنا} [الحجرات: 14] فتأنيث الفعل على قول من يقول: حكم ظاهر الجمع مطلقا حكم ظاهر المؤنث غير الحقيقي، وأما على قول من يقول: كل جمع مؤنث، إلا جمع السلامة المذكر فتأنيثه على خلاف القياس، أو باعتبار القبيلة. (يغتسلون عراة) جمع "عار" كقضاة وقاض، وانتصابها على الحال. (ينظر بعضهم إلى سوأة بعض) الجملة في محل النصب على الحال و"السوأة" العورة المغلظة، أي القبل والدبر، سميت بذلك لأن صاحبها يسوؤه كشفها. (وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده) أي منفردا، فلفظ "وحده" حال على التأويل. (إلا أنه آدر) بهمزة ممدودة؛ ثم دال ثم راء مخففتين. قال في المنتخب: الأدرة فتق يكون في إحدى الخصيتين، وفي المخصص لابن سيده: الأدرة الخصية العظيمة، وفي المحكم: الآدر والمأدور هو الذي يصيبه فتق في إحدى الخصيتين. (فجمح موسى بإثره) قال ابن سيده: يقال: جمح الفرس بصاحبه جمحا وجماحا ذهب يجري جريا عاليا، وكل شيء مضى ليس على وجهه فقد جمح، والإثر بكسر الهمزة وسكون التاء، وبفتح الهمزة والثاء: البقية وما تخلف عن الشيء، أي مضى موسى مسرعا مقتفيا الحجر، ومتتبعا آثاره قبل أن يغيرها الريح، كناية عن السرعة وعدم الإمهال. (يقول: ثوبي حجر. ثوبي حجر) "ثوبي" مفعول به لفعل محذوف أي أعطني ثوبي، أو رد لي ثوبي، و"حجر" منادى مبني على الضم في محل نصب، وفي رواية البخاري "ثوبي يا حجر" والجملة في محل نصب مقول القول، وجملة "يقول" في محل النصب على الحال من فاعل "جمح" قال الحافظ ابن حجر: وإنما خاطبه لأنه أجراه مجرى العقلاء، لكونه فر بثوبه، فانتقل عنده من حكم الجماد إلى حكم الحيوان فناداه. (والله ما بموسى من بأس) "بموسى" خبر مقدم، و"بأس" مبتدأ مؤخر و"من" زائدة، والبأس: الشدة والضر، والمقصود ليس به ما كنا نظنه فيه من عيب خلقي. (فقام الحجر حتى نظر إليه) أي توقف الحجر عن الجري حتى نظر القوم إلى موسى

وسوأته، أي لم يكتف برؤيتهم لموسى وهو يجري، بل أوقف الله الحجر وموسى عندهم ليتأكدوا من براءته مما آذوه به. (فطفق بالحجر ضربا) "طفق" بكسر الفاء وفتحها، لغتان، وهي من أفعال المقاربة وتدل على الشروع، والباء زائدة، و"الحجر" مفعول به لفعل محذوف أي يضرب الحجر ضربا، والجملة خبر "طفق" والمعنى جعل وأقبل وصار ملتزما بضرب الحجر. قيل: يحتمل أنه أراد بضربه إظهار المعجزة بتأثير ضربه فيه، ويحتمل أنه أوحى إليه أن يضربه لإظهار المعجزة. (إنه بالحجر ندب) اسم "إن" ضمير الحال والشأن، و"بالحجر ندب" خبر ومبتدأ والجملة خبر "إن" والندب بفتح النون والدال هو الأثر. (ستة أو سبعة ضرب موسى بالحجر) "ستة أو سبعة" خبر مقدم و"ضرب موسى بالحجر" مبتدأ مؤخر، والباء زائدة في مفعول المصدر. (لما بنيت الكعبة) أي لما بدأ بناؤها، والكعبة ذاك البيت المبني في الحرم المكي، سميت بذلك لعلوها وارتفاعها، ومنه الكعب للعظم البارز في القدم، وقيل: لاستدارتها وعلوها، ومنه قيل: للفتاة كاعب، إذا برز ثديها واستدار، وقيل: لأنها مكعبة الشكل طولها مثل عرضها مثل ارتفاعها. (اجعل إزارك على عاتقك من الحجارة) وفي رواية "على عنقك" وفي رواية "على منكبك" والعاتق ما بين المنكب والعنق، وهو مذكر، وبعض العرب يؤنثه، وأنكره بعضهم، وقال: هذا لا يعرف. وقد أنشد ابن عصفور في ذكر الأعضاء التي تذكر وتؤنث: وهاك من الأعضاء ما قد عددته ... يؤنث أحيانا وحينا يذكر لسان الفتى، والعنق، والإبط، والقنا ... وعاتقه. والمتن والضرس يذكر وعندي ذراع، والكراع، مع المعا ... وعجز الفتى، ثم القريض المحبر كذا كل نحوي حكى في كتابه ... سوى سيبويه وهو فيهم مكبر يرى أن تأنيث الذراع هو الذي ... أتى، وهو للتذكير في ذاك منكر (فخر إلى الأرض، وطمحت عيناه إلى السماء) أي فسقط رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأرض مغشيا عليه، أي مغمى عليه، وذلك لظنه انكشاف عورته، و"طمحت عيناه" بفتح الطاء والميم أي ارتفعت إلى السماء. (لو حللت إزارك فجعلته على منكبك دون الحجارة) "المنكب" بفتح الميم وسكون النون وكسر الكاف مجتمع رأس الكتف مع العضد، وجواب "لو" محذوف إن كانت شرطية، وتقديره: لكان أسهل عليك، وإن كانت للتمني فلا حذف، والمراد: وضع الإزار على المنكب ليكون حائلا بين الحجارة والكتف تخفيفا لصلابة الحجارة على الكتف.

(أقبلت بحجر أحمله ثقيل) "ثقيل" صفة "حجر" وجملة "أحمله" صفة أخرى، والصفة المفردة أولى بالتقديم من الجملة، لكنه هنا على خلاف الأولى. (هدف) بفتح الهاء والدال: كل مرتفع من بناء أو كثيب رمل أو جبل. (أو حائش نخل) قال النووي: بالحاء والشين، وقد فسره في الكتاب بحائط النخل وهو البستان، وهو تفسير صحيح، ويقال فيه أيضا: حش بفتح الحاء وضمها. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من هذه الروايات]- 1 - حرمة كشف العورة أمام الناس، وعورة الرجل مع الرجل ما بين السرة والركبة، وعورة المرأة مع المرأة ما بين السرة والركبة. قال النووي: وفي السرة والركبة نفسيهما ثلاثة أوجه لأصحابنا: أصحها: ليستا بعورة، والثاني: هما عورة. والثالث: السرة عورة، والركبة ليست بعورة. وعورة المرأة مع محرمها -وهو الذي لا يباح له نكاحها- ما بين السرة والركبة على الصحيح، وقيل: لا يحل له إلا ما يظهر في حال الخدمة والتصرف. وعورة الرجل أمام محارمه ما بين السرة والركبة، وأما عورة المرأة مع الأجنبي فجميع بدنها، وعورة الرجل مع المرأة الأجنبية جميع بدنه كذلك. قاله النووي. اهـ. وهذا الذي ذكره هو مذهب الشافعية، لم يشذ منهم عن ذلك إلا الإصطخري، حيث قال: إن عورة الرجل هي القبل والدبر. كما أنه هو مذهب أبي حنيفة، ومالك في أصح أقواله، وأحمد في أصح روايتيه وأبي يوسف ومحمد وزفر. وعن أحمد في إحدى الروايات، ومالك في رواية عنه أن عورة الرجل هي القبل والدبر فقط. وبه قال أهل الظاهر وابن جرير، قال ابن حزم في المحلى: والعورة المفروض سترها عن الناظر وفي الصلاة من الرجال الذكر وحلقه الدبر فقط، وليس الفخذ منه عورة، وهي من المرأة جميع جسدها، حاشا الوجه والكفين فقط. اهـ. ومما احتجوا به الرواية السادسة والسابعة من روايات الباب، وفيهما أن النبي صلى الله عليه وسلم حل إزاره، ووضعه على عاتقه، فكشف بذلك عن فخذيه. كما احتجوا بما رواه البخاري "عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا خيبر فأجرى نبي الله صلى الله عليه وسلم في زقاق خيبر، وإن ركبتي لتمس فخذ النبي صلى الله عليه وسلم ثم حسر الإزار عن فخذه، حتى أني أنظر إلى بياض فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم". قالوا: ظاهره أن المس كان بدون حائل، ومس العورة بدون حائل لا يجوز وحيث جاز المس لم تكن عورة، وقالوا: لو كانت الفخذ عورة ما حسر الإزار عنها.

كما احتجوا بما رواه الطحاوي عن حفصة قالت "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم قد وضع ثوبه بين فخذيه، فجاء أبو بكر، فاستأذن، فأذن له صلى الله عليه وسلم على هيئته ثم جاء عمر بمثل هذه الصفة، ثم جاء أناس من أصحابه والنبي صلى الله عليه وسلم على هيئته، ثم جاء عثمان فاستأذن عليه فأذن له، ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه فجلله، قالت: فقلت: يا رسول الله. جاء أبو بكر وعمر وعلي وأناس من أصحابك وأنت على هيئتك، فلما جاء عثمان جللت بثوبك، فقال: "أو لا أستحي ممن تستحي منه الملائكة"؟ . وأجاب الجمهور عن هذه الأدلة بأن روايتي بناء الكعبة كانت قبل النبوة، فقد قال ابن بطال: كان عمره صلى الله عليه وسلم خمس عشرة سنة، وقال الزهري: لما بنت قريش الكعبة لم يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم الحلم، وقال هشام: بين بناء الكعبة والمبعث خمس سنين، والمشهور أن بناء الكعبة بعد تزوج خديجة بعشر سنين، فيكون عمره صلى الله عليه وسلم إذ ذاك خمسا وثلاثين، فبناء الكعبة قبل البعثة، ولا يستدل بمثل هذا العمل في التشريع. وأجابوا عن حديث أنس في خيبر بأنه ليس فيه التصريح بأن المس كان بدون حائل فلا يصح الاستدلال به لتطرق الاحتمال إليه، ولو سلم أنه كان بدون حائل فتلك كانت حالة زحام وشدة، فانكشاف الفخذ كان على غير قصد، يدل لذلك رواية مسلم "فانحسر الإزار عن فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم "وفي بعض روايات البخاري "فحسر الإزار عن فخذ رسول الله" بالبناء للمجهول ولو سلم القصد فإن هذه قضية معينة في وقت خاص وحالة خاصة، يتطرق إليها من الاحتمال ما لا يتطرق للأحاديث الآتية التي تعطي حكما كليا بأن الفخذ عورة. وأجابوا عن حديث الطحاوي بأنه على هذا الوجه غريب. قال أبو عمر: الحديث الذي رووه عن حفصة فيه اضطراب، وقال البيهقي: قال الشافعي: والذي روي في قصة عثمان من كشف الفخذين مشكوك فيه. وقال الطبري: والأخبار التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخل عليه أبو بكر وعمر، وهو كاشف فخذه واهية الأسانيد، لا يثبت بمثلها حجة في الدين، والأخبار الواردة بالأمر بتغطية الفخذ والنهي عن كشفها أخبار صحاح. اهـ. وقد روى جماعة من أهل البيت حديث الطحاوي على غير الوجه الذي رواه. فقد أخرج مسلم عن سعيد بن العاص أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وعثمان رضي الله عنه حدثاه أن أبا بكر استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على فراشه لابس مرط عائشة، فأذن لأبي بكر وهو كذلك، فقضى إليه حاجته ثم انصرف ثم استأذن عمر رضي الله عنه، فأذن له وهو على تلك الحال، فقضى إليه حاجته ثم انصرف. قال عثمان: ثم استأذنت عليه فجلس، وقال لعائشة: اجمعي عليك ثيابك، فقضيت إليه حاجتي ثم انصرفت. فقالت عائشة: يا رسول الله، مالي لم أرك فزعت لأبي بكر وعمر، كما فزعت لعثمان؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن عثمان رجل حيي، وإني خشيت إن أذنت له على تلك الحالة أن لا يبلغ إلي في حاجته". وأخرجه الطحاوي أيضا، وقال: فهذا أصل هذا الحديث، ليس فيه ذكر كشف الفخذين أصلا. اهـ.

قال العيني: فإن قلت: روى مسلم أيضا في صحيحه، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعا في بيته، كاشفا عن فخذيه -أو ساقيه- فاستأذن أبو بكر، فأذن له وهو على تلك الحال، فتحدث، ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك، فتحدث ثم استأذن عثمان، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسوى ثيابه فلما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهش له، ثم دخل عمر فلم تهش له ولم تباله، فلما دخل عثمان جلست وسويت ثيابك؟ فقال: ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة"؟ قلت: قال الشافعي: إن هذا مشكوك فيه، لأن الراوي قال: "فخذيه أو ساقيه" وقال أبو عمر: هذا حديث مضطرب. والأحاديث التي استدل بها الجمهور على عورة الفخذين كثيرة، منها ما أخرجه مالك في الموطأ وابن حبان في صحيحه، والترمذي وحسنه وصححه عن ابن جرهد الأسلمي عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به وهو كاشف عن فخذه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "غط فخذك فإنها من العورة" ومنها ما رواه أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه عن أبي كثير مولى محمد بن جحش رضي الله عنه قال "كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، فمر على معمر وهو جالس عند داره بالسوق، وفخذاه مكشوفتان، فقال: يا معمر. غط فخذيك فإن الفخذين عورة" ومنها ما رواه الترمذي عن عبد الله بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الفخذ عورة". أما مذاهب العلماء في عورة المرأة فقد قال القاضي عياض من المالكية: وعورة المرأة على الأجنبي ما عدا الوجه والكفين. وقيل: ما عدا الوجه. اهـ وقال الأبي: قال أبو عمر: وقيل: ما عدا الوجه والكفين والقدمين. قال القاضي عياض: وعورتها على ذي المحرم ما سوى الذراعين، وما سوى ما فوق المنحر، وعورتها على المرأة المسلمة عورتها على ذي محرم، وقيل كالرجل مع الرجل. ثم قال: وتستر الحرة في الصلاة ما سوى الوجه والكفين وقال أحمد: تستر حتى الظفر وأجمعوا على أنها تعيد الصلاة إن صلت منكشفة الرأس. واختلفوا في كشف بعضه، فقال الشافعي: إن كشفت بعضه تعيد، وقال أبو حنيفة: إن كشفت أقل من ربعه لم تعد، وكذلك أقل من ربع بطنها أو فخذها، وقال أبو يوسف: لا تعيد في أقل من النصف، وقال مالك: تعيد في الوقت في القليل والكثير من ذلك، وكذا لو صلت منكشفة الصدر والقدمين. وعند المالكية خلاف طويل في ستر العورة في الصلاة، قيل: الستر فيها واجب وشرط في صحة الصلاة، والكشف حرام، وقيل: الستر واجب وليس شرطا في صحة الصلاة، وقيل: كشفها في الصلاة مكروه. أما الشافعية والحنفية وعامة الفقهاء وأهل الحديث فإن ستر العورة عندهم فرض في الصلاة، وشرط في صحتها، فرضها ونفلها. وأما كشف العورة في حال الخلوة ففيه خلاف. قال النووي: كشف الرجل عورته في حال الخلوة

بحيث لا يراه آدمي، فإن كان لحاجة، كحالة الاغتسال والبول ومعاشرة الزوجة ونحو ذلك جاز. قال العلماء: والتستر بمئزر ونحوه في حال الاغتسال في الخلوة أفضل من التكشف، وخالف فيه ابن أبي ليلى، وحرم التكشف في الخلوة، وكأنه تمسك بما رواه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يغتسل عريانا وحده، فقال "إذا اغتسل أحدكم فليستتر" وبما أخرجه أصحاب السنن وحسنه الترمذي وصححه الحاكم عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت: يا نبي الله، عوراتنا، ما نأتي منها وما نذر؟ قال "احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك" قلت: يا رسول الله أحدنا إذا كان خاليا؟ قال "الله أحق أن يستحيا منه من الناس". وحمله الجمهور على الندب والأفضل، واستدلوا على جواز الكشف خاليا بحديث موسى عليه السلام، ووجه الدلالة منه -على ما قال ابن بطال- أنه ممن أمرنا بالاقتداء به وقد اغتسل وحده عريانا. قال الحافظ ابن حجر: وهذا إنما يتأتى على رأي من يقول: شرع من قبلنا شرع لنا، والذي ظهر أن وجه الدلالة منه أن النبي صلى الله عليه وسلم قص القصة، ولم يتعقب فدل على موافقتها لشرعنا، وإلا فلو كان فيها شيء غير موافق لبينه، فعلى هذا يجمع بين الحديثين، فيحمل حديث بهز بن حكيم على الأفضل، ورجح بعض الشافعية تحريم الكشف خاليا لغير حاجة. قال النووي: والزيادة على قدر الحاجة حرام على الأصح. قال الحافظ ابن حجر: والمشهور عند متقدميهم كغيرهم الكراهة فقط. اهـ. وتستر الرسول صلى الله عليه وسلم في الغسل كما في الرواية الأولى والثانية، وفي البول كما في الرواية التاسعة محمول على الأفضل والكمال، أو على حالة خشية رؤية الناس. قال النووي: ويتساهل كثير من الناس بالاجتماع في الحمام، فيجب على الحاضر فيه أن يصون بصره ويده وغيرها عن عورة غيره، وأن يصون عورته عن بصر غيره ويد غيره، ويجب عليه إذا رأى من يخل بشيء من هذا أن ينكر عليه، قال العلماء: ولا يسقط عنه الإنكار بكونه يظن أن لا يقبل منه، بل يجب عليه الإنكار إلا أن يخاف على نفسه وغيره فتنة اهـ. وقد نقل ابن بطال عن أئمة الفتوى أن من دخل الحمام بغير مئزر تسقط شهادته بذلك، وهذا قول مالك والثوري وأبي حنيفة وأصحابه والشافعي -رضي الله عنهم- واختلفوا فيما إذا نزع مئزره ودخل الحوض وبدت عورته عند دخوله، فقال مالك والشافعي تسقط شهادته، وقال أبو حنيفة والثوري: لا تسقط شهادته، ويعذر، لأنه لا يمكن التحرز عنه. والله أعلم. وأما نظر أحد الزوجين لعورة الآخر فقد قال النووي: لكل واحد من الزوجين النظر إلى عورة صاحبه جميعها إلا الفرج نفسه، ففيه ثلاثة أوجه لأصحابنا: أصحها أنه مكروه لكل واحد منهما النظر إلى فرج صاحبه من غير حاجة، وليس بحرام، والثاني أنه حرام عليهما، والثالث أنه حرام على الرجل مكروه للمرأة، والنظر إلى باطن فرجها أشد كراهة وتحريما. اهـ. وفي نظر عورة الأجنبي والأجنبية يقول النووي: ويحرم نظر الرجل إلى عورة الرجل والمرأة إلى عورة المرأة، وكذلك نظر الرجل إلى عورة المرأة والمرأة إلى عورة الرجل بالإجماع. ونبه صلى الله عليه وسلم بنظر الرجل إلى عورة الرجل على نظره إلى عورة المرأة، وذلك بالتحريم أولى، فيحرم

عليه النظر إلى أي شيء من بدنها، وكذلك يحرم عليها النظر إلى أي شيء من بدنه، سواء كان نظره ونظرها بشهوة أم بغيرها، وقال بعض أصحابنا: لا يحرم نظرها إلى وجه الرجل بغير شهوة. وكذلك يحرم على الرجل النظر إلى وجه الأمرد إذا كان حسن الصورة سواء كان نظره بشهوة أم لا، وسواء أمن الفتنة أم خافها، هذا هو المذهب الصحيح المختار عند العلماء المحققين، نص عليه الشافعي وحذاق أصحابه -رحمهم الله تعالى- ودليله أنه في معنى المرأة، فإنه يشتهي كما تشتهي، وصورته في الجمال كصورة المرأة، بل ربما كان كثير منهم أحسن صورة من كثير من النساء، بل هم في التحريم أولى لمعنى آخر، وهو أنه يتمكن في حقهم من طرق الشر ما لا يتمكن من مثله في حق المرأة. والله أعلم. قال: وهذا الذي ذكرناه من تحريم النظر هو فيما إذا لم تكن حاجة، أما إذا كانت حاجة شرعية فيجوز النظر كما في حالة البيع والشراء والتطيب والشهادة ونحو ذلك، ولكن يحرم النظر في هذه الحال بشهوة، فإن الحاجة تبيح النظر للحاجة إليه، وأما الشهوة فلا حاجة إليها قال أصحابنا: النظر بالشهوة حرام على كل أحد غير الزوج والسيد، حتى يحرم على الإنسان النظر إلى أمه وبنته بالشهوة. والله أعلم. اهـ. 2 - ويؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم "ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد" تحريم لمس عورة غيره بأي موضع من بدنه، والنهي نهي تحريم باتفاق، والمقصود من الإفضاء المنهي عنه الإفضاء بدون حائل، ولما كان التجرد مظنة مس أحدهما عورة الآخر ومس العورة حرام كالنظر نهي عن الإفضاء في الثوب الواحد، سدا للذرائع. 3 - ومن الرواية الأولى والثانية يؤخذ جواز اغتسال الإنسان بحضرة امرأة من محارمه، إذا كان يحول بينها وبينه ساتر من ثوب أو غيره. 4 - وجواز تستر الرجال بالنساء. 5 - ومن الرواية التاسعة يؤخذ استحباب الاستتار عند قضاء الحاجة بحائط أو هدف أو شجر أو وهدة أو نحو ذلك، بحيث يغيب جميع شخص الإنسان عن أعين الناظرين. 6 - ويستفاد من حديث أم هانئ سنة صلاة الضحى، وأنها ثماني ركعات. 7 - ويؤخذ من قوله في الرواية السادسة "فخر إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء" بعض ما أكرم الله سبحانه وتعالى نبيه ورسوله، وأنه صلى الله عليه وسلم كان مصونا محميا في صغره عن القبائح وأخلاق الجاهلية. 8 - ومن نفس الرواية ما جبل عليه صلى الله عليه وسلم من الأخلاق الحسنة والحياء الكامل، حتى كان أشد حياء من العذراء في خدرها. 9 - ومن حديث موسى عليه السلام أخذ بعضهم أن شريعة بني إسرائيل كانت تجيز رؤية العورة، وإلا لما أقرهم موسى على ذلك، وإنما اغتسل موسى وحده استحياء، وأخذا بالأفضل، وأغرب ابن بطال فقال: هذا يدل على أنهم كانوا عصاة لموسى. اهـ وتبعه القرطبي على قوله، وأطال في ذلك.

10 - قال الحافظ ابن حجر: وفيه أن الأنبياء في خلقهم وخلقهم على غاية من الكمال، وأن من نسب نبيا من الأنبياء إلى نقص في خلقته فقد آذاه ويخشى على فاعله الكفر. 11 - وجواز المشي عريانا للضرورة. وقال ابن الجوزي: لما كان موسى في خلوة وخرج من الماء فلم يجد ثوبه تبع الحجر، بناء على أن لا يصادف أحدا وهو عريان، فاتفق أنه كان هناك قوم، فاجتاز بهم، كما أن جوانب الأنهار، وإن خلت غالبا، لا يؤمن وجود قوم قريب منها، فبني الأمر على أنه لا يراه أحد لأجل خلاء المكان، فاتفق رؤية من رآه، والذي يظهر أنه استمر يتبع الحجر على ما في الخبر، حتى وقف على مجلس لبني إسرائيل كان فيهم من قال فيه ما قال. وبهذا تظهر الفائدة، وإلا فلو كان الوقوف على قوم منهم في الجملة لم يقع في ذلك الموقع. اهـ. ونقل ابن الجوزي عن النيسابوري أن موسى نزل إلى الماء مؤتزرا، فلما خرج تتبع الحجر، والمئزر مبتل بالماء، فعلموا عند رؤيته أنه غير آدر، لأن الأدرة تبين تحت الثوب المبلول بالماء. اهـ، قال الحافظ ابن حجر: إن كان هذا على سبيل الاحتمال احتمل، لكن المنقول يخالفه، لأن رواية أنس عند أحمد في هذا الحديث "أن موسى كان إذا أراد أن يدخل الماء لم يلق ثوبه حتى يوارى عورته في الماء". 12 - استدل برؤيتهم جسد موسى على جواز النظر إلى العورة عند الضرورة الداعية لذلك، من مداواة أو براءة من عيب، كما لو ادعى أحد الزوجين على آخر البرص ليفسخ النكاح فأنكر. 13 - وفيه دلالة على معجزة موسى عليه السلام من مشي الحجر بثوبه إلى ملأ من بني إسرائيل، وندائه للحجر، وتأثير ضربه فيه. 14 - وفيه ما غلب على موسى عليه السلام من البشرية حتى ضرب الحجر. 15 - وفيه ما كان عليه الأنبياء -عليهم السلام- من تحمل الأذى والصبر على الجهال وأن العاقبة لهم على من آذاهم. 16 - ويؤخذ من حلف أبي هريرة جواز الحلف على الأخبار، وبخاصة الغريب منها.

(144) باب وجوب الغسل بالجماع وإن لم ينزل

(144) باب وجوب الغسل بالجماع وإن لم ينزل 616 - عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه رضي الله عنه قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأثنين إلى قباء. حتى إذا كنا في بني سالم وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على باب عتبان. فصرخ به. فخرج يجر إزاره. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أعجلنا الرجل" فقال عتبان: يا رسول الله! أرأيت الرجل يعجل عن امرأته ولم يمن. ماذا عليه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما الماء من الماء". 617 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إنما الماء من الماء". 618 - عن أبي العلاء بن الشخير رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينسخ حديثه بعضه بعضا. كما ينسخ القرآن بعضه بعضا. 619 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على رجل من الأنصار. فأرسل إليه. فخرج ورأسه يقطر. فقال "لعلنا أعجلناك؟ " قال: نعم. يا رسول الله! قال "إذا أعجلت أو أقحطت. فلا غسل عليك. وعليك الوضوء". وقال ابن بشار: "إذا أعجلت أو أقحطت". 620 - عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يصيب من المرأة ثم يكسل؟ فقال "يغسل ما أصابه من المرأة. ثم يتوضأ ويصلي". 621 - عن أبي بن كعب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "في الرجل يأتي أهله ثم لا ينزل قال يغسل ذكره ويتوضأ".

622 - عن زيد بن خالد الجهني أنه سأل عثمان بن عفان. قال قلت: أرأيت إذا جامع الرجل امرأته ولم يمن؟ قال عثمان: "يتوضأ كما يتوضأ للصلاة. ويغسل ذكره". قال عثمان: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. أن أبا أيوب أخبره أنه سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم. 623 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها. فقد وجب عليه الغسل". وفي حديث مطر "وإن لم ينزل". قال زهير من بينهم "بين أشعبها الأربع". 624 - عن قتادة بهذا الإسناد مثله غير أن في حديث شعبة "ثم اجتهد" ولم يقل "وإن لم ينزل". 625 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال: اختلف في ذلك رهط من المهاجرين والأنصار. فقال الأنصاريون: لا يجب الغسل إلا من الدفق أو من الماء. وقال المهاجرون: بل إذا خالط فقد وجب الغسل. قال: قال أبو موسى: فأنا أشفيكم من ذلك. فقمت فاستأذنت على عائشة. فأذن لي. فقلت لها: يا أماه! (أو يا أم المؤمنين! ) إني أريد أن أسألك عن شيء. وإني أستحييك. فقالت: لا تستحيي أن تسألني عما كنت سائلا عنه أمك التي ولدتك. فإنما أنا أمك. قلت: فما يوجب الغسل؟ قالت: على الخبير سقطت. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا جلس بين شعبها الأربع، ومس الختان الختان، فقد وجب الغسل".

626 - عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها قالت: إن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل. هل عليهما الغسل؟ وعائشة جالسة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني لأفعل ذلك. أنا وهذه. ثم نغتسل". -[المعنى العام]- كان العرب من المولعين بالنساء، وكانوا يكثرون من إتيانهن، وكان يشق على المسلمين اعتزال النساء أسبوع المحيض، فأذن لهم بمباشرتهن فيما فوق السرة وتحت الركبة، وصعب عليهم اعتزالهن في رمضان، وعلم الله أنهم كانوا يختانون أنفسهم، فتاب عليهم وعفا عنهم، وأحل لهم ليلة الصيام الرفث إلى نسائهم، وأباح للرجل جمع أربع من النسوة، ولم يحارب الإسلام هذه النزعة الشهوانية مادامت في الحلال، اعتبرها مصدر الإعفاف للرجل والمرأة على السواء، وشرع الإسلام الغسل من دفق المني، وكثرت العملية الجنسية بإنزال وبغير إنزال، ولم يشأ الإسلام أول الأمر أن يوجب الغسل لمجرد الإيلاج، تخفيفا على الأمة، وتأليفا للقلوب، وتدرجا فيما يشق من التكاليف، وهو يقدر قلة الماء عند القوم وحاجتهم إلى ما عندهم منه في الطعام والشراب وضرورات الحياة لكن بعضهم التزمه ظنا أنه واجب على كل حال، وعملا بما فهم من قوله تعالى: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} [المائدة: 6] حيث يدرك تحقق الجنابة بالوطء ولو بدون إنزال لكن الرسول صلى الله عليه وسلم بين لهم يسر الدين، وعدم وجوب الغسل في حالة الإكسال وتعددت الوقائع بخصوص هذا الأمر، تحكيها لنا روايات الحديث. ومنها ما رواه الإمام مسلم، أنه خرج صلى الله عليه وسلم في بعض الأيام، ومعه بعض أصحابه، يقصد ضاحية من ضواحي المدينة، يقصد قباء، ومر في طريقه بمنازل بني سالم في أطراف المدينة، ورأى نفسه أمام منزل عتبان الأنصاري الصحابي الجليل، فناداه، وانتظر، وإذا به يخرج مسرعا، ورأسه يقطر ماء، وإزاره يجر خلفه، يحاول لفه حول وسطه قبل أن يصل، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وقال: لقد أعجلنا الرجل، وأخرجناه من حاجته قبل أن يقضيها، ثم التفت إليه وقال: لعلنا أعجلناك. قال: نعم يا رسول الله إني كنت مع أهلي، فلما سمعت صوتك أقلعت، فاغتسلت، أخبرني يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أن الرجل أعجل عن أهله، فلم ينزل منيا، ماذا عليه؟ فقال صلى الله عليه وسلم لا غسل عليه؛ إنما الغسل من المني. ومنها ما رواه الطحاوي عن أبي هريرة من "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى رجل من الأنصار، فأبطأ عليه، فلما جاء قال له: ما حبسك؟ وما أخرك؟ قال: كنت حين أتاني رسولك على امرأتي، فقمت، فاغتسلت، فقال: كان عليك أن لا تغتسل ما لم تنزل.

ومنها حديث عبد الرحمن بن عوف أخرجه أبو يعلى "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق ذات يوم في طلب رجل من الأنصار، فدعاه، فخرج الأنصاري ورأسه يقطر ماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لرأسك؟ فقال: دعوتني وأنا مع أهلي فخفت أن أحتبس عليك، فعجلت فقمت وصببت على الماء، ثم خرجت. فقال: هل كنت أنزلت؟ قال: لا. قال: إذا فعلت ذلك لا تغتسلن. اغسل ما مس المرأة منك. وتوضأ وضوءك للصلاة، فإن الماء من الماء". ومنها حديث رافع بن خديج أخرجه الطبراني وأحمد قال: "ناداني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا على بطن امرأتي، فقمت، ولم أنزل منيا، فاغتسلت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا عليك إنما الماء من الماء". ومنها ما أخرجه ابن راشد في جامعه "أن النبي صلى الله عليه وسلم سلم على سعد بن عبادة فلم يأذن له كان على حاجته، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم، فقام سعد سريعا، فاغتسل، ثم تبعه، فقال: يا رسول الله. إني كنت على حاجة، فقمت فاغتسلت، فقال صلى الله عليه وسلم: الماء من الماء". ومضى الأمر على هذا حتى كانت أخريات أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان الإسلام قد أشرب في قلوب أهله، واستقر في نفوسهم، وحرص أكثرهم على التطوع والمبالغة في العبادات، ووسع الله عليهم في الثياب والخير والمياه، فجاءت الشريعة بوجوب الغسل على من أولج ولو لم ينزل، فقال صلى الله عليه وسلم: "إذا التقى الختانان وجب الغسل". و"جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ماذا يفعل الرجل الذي يجامع أهله، ثم يكسل ولا ينزل؟ -وعائشة جالسة- فقال صلى الله عليه وسلم عليه الغسل، إني لأفعل ذلك أنا وهذه، ثم نغتسل". وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الحكم الجديد لم ينتشر بعد، مما جعل الأنصار وبعض الصحابة يتمسكون بالحكم الأول، واتسعت دائرة الخلاف والجدل، واستفتى العامة الخاصة، فسأل زيد بن خالد الجهني عثمان بن عفان، فقال: أخبرني عن حكم الرجل يجامع أهله ثم يكسل، ولم يمن، فقال: يغسل ذكره ويتوضأ كما يتوضأ للصلاة. سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسئل علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله، فأجابوا بما أحاب به عثمان، وسئل أبو هريرة فقال: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا جلس الرجل بين شعب المرأة الأربع وتمكن منها وأولج وجب الغسل وإن لم ينزل، وسئلت عائشة فقالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا التقى الختانان وجب الغسل"، وسئل أبي بن كعب فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما جعل ذلك رخصة للناس في أول الإسلام لقلة الثياب، ثم أمر بالغسل". واتسعت دائرة الخلاف أكثر وأكثر، وتعصب كل لرأيه، "فقد أخرج الطحاوي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: قلت لإخواني من الأنصار: اتركوا الأمر، ولا داعي لهذا الجدل والتعصب، أرأيتم لو أننا اغتسلنا ونحن على ما نقول من أنه لا يجب الغسل؟ هل من ضرر؟ قالوا: لا والله لا نغتسل ولا تغتسل، حتى لا يكون في نفسك حرج مما قضى الله ورسوله في الرجل يأتي امرأته ولا ينزل. واجتمع رهط من المهاجرين والأنصار، وحمي النقاش بينهما في المسألة وبينهم أبو موسى الأشعري، فقال: لا ينبغي أن نختلف وبيننا من يعلم الأمر حق العلم، أنا أكفيكم المهمة، وأشفي داء الخلاف، وقام وذهب إلى عائشة أم المؤمنين، فاستأذن. فأذنت له بالدخول: فقال: يا أم المؤمنين

لقد شق علي اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر، إني أعظم أن أستقبلك به، واستحيي أن أسألك فيه. فقالت: ما هو؟ لا تستحي أن تسألني عما كنت سائلا عنه أمك التي ولدتك، إنني أمك وأم المؤمنين. فقال لها: الرجل يصيب أهله فيكسل ولا ينزل، فهل يجب عليه الغسل؟ قالت: إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل. فقال أبو موسى: لا أسأل أحدا عن هذا بعدك أبدا. وبلغ القوم بما روي، لكن الجدل لم يتوقف، وبلغ عمر أن نساء الأنصار تدخلت في نشر الفتوى بعدم الغسل: فقام يخطب فقال: إن نساء الأنصار يفتين أن الرجل إذا جامع فلم ينزل فإن على المرأة الغسل، ولا غسل عليه، وإنه ليس كما أفتين، وإذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل. وكان المفروض أن ينتهي كل شيء بخطبة الفاروق، لكنه بلغه أن زيد بن ثابت يفتي الناس برأيه في الغسل من الجنابة، فقال علي به. فجاء زيد، فلما رآه عمر قال: أي عدو نفسه. "قد بلغت أنك تفتي الناس برأيك؟ فقال: يا أمير المؤمنين. بالله ما فعلت، لكني سمعت من أعمامي حديثا فحدثت به، من أبي أيوب ومن أبي بن كعب ومن رفاعة بن رافع، فأقبل عمر على رفاعة بن رافع فقال: وقد كنتم تفعلون ذلك؟ إذا أصاب أحدكم من المرأة فأكسل لم يغتسل؟ فقال: قد كنا نفعل ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يأتنا فيه تحريم، ولم يكن من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه نهي، قال عمر: ويعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك؟ فقال: لا أدري، فأمر عمر بجمع المهاجرين والأنصار، فجمعوا له، فشاورهم، فأشار كثير منهم: لا غسل، وقال معاذ وعلي: إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل. فقال عمر: هذا وأنتم أصحاب بدر، وقد اختلفتم، فمن بعدكم أشد اختلافا. فقال علي: يا أمير المؤمنين. إنه ليس أحد أعلم بهذا الأمر من أمهات المؤمنين. أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلى حفصة، فقالت: لا علم إلي بهذا، فأرسل إلى عائشة. فقالت: إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل. فقال عمر رضي الله عنه: لا أسمع برجل فعل ذلك ثم لم يغتسل إلا أوجعته ضربا، وجعلته نكالا. ولم ينكر ذلك عليه منكر، وصار إجماعا من الأمة وحسم الخلاف، ولم يشذ عن الجماعة إلا الظاهرية. والله أعلم. -[المباحث العربية]- (يوم الإثنين إلى قباء) مكان قريب من المدينة، وهو الذي استقبل فيه صلى الله عليه وسلم من أهل المدينة يوم الهجرة، وفائدة ذكره وذكر يوم الأثنين في الحديث التوثيق من الرواية، وأنه متأكد من كل ما جاء فيها حتى الزمان والمكان "وقباء" بضم القاف ممدود مذكر مصروف، وفي لغة مؤنث غير مصروف، وفي ثالثة مقصور. (فصرخ به) أي ناداه بصوت عال، وفي القاموس: الصرخة الصيحة الشديدة والصراخ كغراب: الصوت، أو شديده، وعليه يرجح كون المعنى: فناداه بصوت معتدل لأنه المناسب لمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقاره، ولا يقال: إن تعجل عتبان دليل على أن الصرخة كانت عالية مزعجة، لأنا نقول: إن الصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا يهتمون بلقائه، ويسارعون إليه، بمجرد العلم به وبمكانه صلى الله عليه وسلم.

(فخرج يجر إزاره) قلنا: إن الإزار ثوب طويل، وإن شئت قلت: عرض من النسيج طويل، يلف حول الوسط، أعلاه فوق السرة، وأسفله تحت الركبة، فمعنى "خرج يجر إزاره" أي لم يكمل لفه، حتى إن طرفه الأخير يجر وراءه. (أعجلنا الرجل) بندائنا، أي جعلناه يعجل، أي يسرع، والمراد من الرجل عتبان بكسر العين، وقيل بضمها، ولعل التعبير عنه بالرجل للإشارة إلى أنه كان في مهمة الرجولة مع الأنوثة، كأنه قال: أعجلنا رجولته. (أرأيت الرجل يعجل عن امرأته) "يعجل" بضم الياء وسكون العين وفتح الجيم، مضارع "أعجل" بالبناء للمجهول، أي يدفع إلى العجلة والإسراع و"أرأيت" معناها أخبرني، عن طريق مجازين: أحدهما في همزة الاستفهام بإرادة مطلق الطلب بدلا من طلب الفهم، والثاني في الرؤية بإرادة المسبب عنها، وهو الإخبار، قال الأمر إلى طلب الإخبار المدلول عليه بلفظ "أخبرني" وجملة "يعجل" في محل النصب على الحال، وفي الكلام مضافان محذوفان، والمعنى: أخبرني عن حكم الرجل يضطر إلى العجلة والإسراع عن جماع امرأته. (ولم يمن) الرواية بضم الياء وسكون الميم وكسر النون مضارع "أمني" أي ولم ينزل المني، وهذه اللغة هي الأفصح والأشهر، وبها جاء القرآن الكريم، قال الله تعالى {أفرأيتم ما تمنون} [الواقعة: 58]. وهناك لغة ثانية "يمنى" بفتح الياء، مضارع "منى" ولغة ثالثة "يمنى" بضم الياء وفتح الميم وتشديد النون، مضارع "منى" بفتح الميم وتشديد النون. حكاها أبو عمرو. (ماذا عليه) أي ما الذي يجب عليه؟ الغسل؟ أم الوضوء؟ (إنما الماء من الماء) المراد من الماء الأول ماء الغسل، ومن الماء الثاني المني فـ"أل" فيه للعهد الذهني، وفيه جناس تام، و"من" للسببية، والمعنى: إنما يجب الغسل بسبب إنزال المني، والقصر المستفاد من "إنما قصر" إفراد، أي إثبات الحكم لشيء، ونفيه عن شيء آخر، لأن المخاطب كان يعتقد أن الغسل واجب بسبب الجماع وبسبب الإنزال، وليس قصرا حقيقيا، حتى ينفى الغسل عن الأسباب الأخرى كالحيض والنفاس. (عن أبي العلاء بن الشخير) بكسر الشين والخاء المشددتين، وهو تابعي، ومراد مسلم بروايته هذا الكلام عن أبي العلاء أن حديث "الماء من الماء" منسوخ. (ينسخ حديثه بعضه بعضا) "حديثه" بالرفع، فاعل "ينسخ" و"بعضه" بدل بعض من كل والتقدير: ينسخ بعض حديثه بعضا. (كما ينسخ القرآن بعضه بعضا) الكاف بمعنى "مثل" صفة لمصدر محذوف و"ما" مصدرية، والتقدير نسخا مثل نسخه بعض القرآن بعضا.

(فخرج ورأسه يقطر) ماء، وهو كناية عن الغسل العجل، والخروج السريع قبل التنشيف. (إذا أعجلت أو أقحطت) قال النووي: أما "أعجلت" فهو في الموضعين بضم الهمزة، وإسكان العين، وكسر الجيم، و"أما" "أقحطت" فهو في الرواية الأولى بفتح الهمزة والحاء، وفي الرواية الثانية بضم الهمزة وكسر الحاء، مثل "أعجلت" والروايتان صحيحتان، ومعنى الإقحاط هنا عدم الإنزال، وهو استعارة من قحوط المطر، وهو انحباسه، وقحوط الأرض، وهو عدم إخراجها النبات. اهـ. (يصيب من المرأة ثم يكسل) قال النووي: ضبطناه بضم الياء، ويجوز فتحها، يقال: أكسل الرجل في جماعه إذا ضعف عن الإنزال، وكسل أيضا بفتح الكاف وكسر السين والأول أفصح. اهـ. و"من" في "يصيب من المرأة" زائدة داخلة على المفعول، أو المفعول محذوف، والتقدير: يصيب لذة من جماع المرأة. (يغسل ما أصابه من المرأة) أي يغسل الرطوبة التي أصابت عضوه من فرج المرأة. (قال في الرجل يأتي أهله) كناية عن جماع الزوجة. (سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم) الضمير المنصوب فيه يرجع إلى ما ذكره عثمان من قوله "يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ويغسل ذكره" وذلك بتقديره بالمذكور، قال العيني: وهذا سماع ورواية، وقوله أولا فتوى. اهـ. (إذا جلس بين شعبها الأربع) بضم الشين وفتح العين جمع "شعبة" وفي الرواية الأخرى "أشعبها" جمع الجمع، والشعبة الطائفة من كل شيء، والقطعة منه، والشعب النواحي. قاله ابن الأثير. واختلفوا في المراد بالشعب الأربع، فقيل: هي اليدان والرجلان، وقيل: الفخذان والرجلان، وقيل: الفخذان والشعران، واختار القاضي عياض أن المراد من الشعب الأربع نواحيها الأربع، واختار ابن دقيق العيد أن المراد بها اليدان والرجلان، أو الرجلان والفخذان، ويكون التعبير كناية عن الجماع، واكتفى بما ذكر عن التصريح، لأن القعود كذلك مظنة الجماع، وما قاله ابن دقيق العيد أرجح، لأنه أقرب إلى الحقيقة في الجلوس بينها، والضمير في "إذا جلس" يعود إلى الرجل الواطئ المفهوم من المقام، وإن لم يسبق ذكره، كما في قوله تعالى: {حتى توارت بالحجاب} [ص: 32] كذلك الضمير في "شعبها" يعود إلى المرأة الموطوءة. (ثم جهدها) بفتح الجيم والهاء، أي بلغ جهده فيها، وقيل: بلغ مشقتها يقال: جهدته وأجهدته إذا بلغت مشقته، قال القاضي عياض: الأولى أن يكون "جهدها" بلغ جهده في عملها، وإلا فأي مشقة تلحقها؟ وصححه بعضهم بقوله: إن المعنى أجهدها وكدها بحركته، وقيل: المعنى نكحها وجامعها، والجهد من أسماء النكاح.

وفي ملحق الرواية السابعة "ثم اجتهد" وهي تؤيد المعنى الأول، وأن الكد والمشقة للرجل. (اختلف في ذلك رهط) الإشارة إلى وجوب الغسل بالإجماع وإن لم ينزل و"الرهط" الجماعة من الناس، من ثلاثة إلى عشرة. (لا يجب الغسل إلا من الدفق أو الماء) "أو" للشك في أي اللفظين وقع عند الاختلاف، والمراد من كل من اللفظين المني، و"من" سببية. (بل إذا خالط فقد وجب الغسل) المخالطة كناية عن المبالغة في الجماع واختلاط العضوين، قال الحربي: والخلط من أسماء الجماع. (قال أبو موسى: فأنا أشفيكم من ذلك) الفاء في جواب شرط مقدر أي إذا كنتم مختلفين فأنا أشفيكم من الخلاف، فالإشارة إلى الاختلاف في هذا الموضوع، كأنه داء، ورفعه دواء. (يا أماه) منادى مضاف إلى ياء المتكلم، وأصله: يا أمي: قلبت ياء المتكلم ألفا وألحق به هاء السكت. (وإني أستحييك) في القاموس: واستحيا منه واستحياه. اهـ يتعدى بنفسه، وبحرف الجر، والمعنى: وإني ذو حياء منك. (لا تستحيي أن تسألني) الرواية "تستحيي" بياءين، و"لا" نافية، والفعل مضارع "استحيا" مرفوع، والمصدر "أن تسألني" مفعول به، أو مجرور بحرف جر محذوف، كما سبق. (قلت: فما يوجب الغسل؟ ) الفاء في جواب شرط مقدر، أي إذا أذنت ورفعت حيائي فما موجبات الغسل للرجل؟ (قالت: على الخبير سقطت) معناه: صادفت خيبرا بحقيقة ما سألت عنه عارفا بخفيه وجليه، حاذقا فيه، وهذا القول منها يدل على أنها فهمت أن سؤاله عما يوجبه من الجماع، لفهمها ذلك عن طريق اختلاف الصحابة في المسألة وأصل المثل لأحد حكماء العرب، وبه تمثل الفرزدق حين لقيه الحسين، وهو يريد العراق للبيعة، وقال للفرزدق: ما وراءك؟ فقال: على الخبير سقطت، قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني أمية، والأمر ينزل من السماء، فقال الحسين: صدقتني. (ومس الختان الختان) الختان للرجل قطع قطعة الكمرة المغطية للحشفة وللمرأة قطع جلدة من أعلى الفرج، تشبه عرف الديك، مجاورة لمخرج البول بينها وبين مدخل الذكر جلدة رقيقة. قيل: يطلق الختان للرجل والمرأة، بخلاف "الخفاض" فلا يقال إلا للمرأة وقيل: الختان للرجل والخفاض للمرأة، وعليه فالتثنية على سبيل التغليب وقاعدته رد الأثقل إلى الأخف والأدنى إلى الأعلى.

والمراد هنا الموضع الذي قطعت عنه الجلدة، فإن كان الختان يطلق على القطع، وعلى مكانه -كما قيل- فلا حذف، وإن كان معناه المصدر فالكلام على حذف مضاف، أي موضع الختان. ومس الختان الختان كناية عن مغيب الحشفة، وليس المقصود حقيقة المس لأن ختان المرأة -كما قلنا- في أعلى الفرج، لا يمسه الذكر في الجماع، ولو وضع عليه فمسه، ولم تغيب الحشفة لا يجب الغسل بالإجماع، فمس الختان كناية عن إدخال الحشفة، ومثل هذا يقال في رواية "إذا التقى الختانان" ورواية "إذا جاوز الختان الختان" ورواية "إذا التقى الرفغان" -والرفغ ما حول فرج المرأة والأنثيين من الرجل- ورواية "إذا التقى المواسي" أي موضع المواسي، جمع موسى، آلة القطع وسيأتي إيضاح هذا الحكم في فقه الحديث. -[فقه الحديث]- قال النووي في شرح مسلم: اعلم أن الأمة مجتمعة الآن على وجوب الغسل بالجماع، وإن لم يكن معه إنزال، وعلى وجوبه بالإنزال. ثم قال: فإيجاب الغسل لا يتوقف على نزول المني، بل متى غابت الحشفة في الفرج وجب الغسل على الرجل والمرأة، وهذا لا خلاف فيه اليوم، وقد كان فيه خلاف لبعض الصحابة ومن بعدهم، ثم انعقد الإجماع على ما ذكرنا. قال أصحابنا: ولو غيب الحشفة في دبر امرأة أو دبر رجل أو فرج بهيمة أو دبرها وجب الغسل، سواء كان المولج فيه حيا أو ميتا، صغيرا أو كبيرا، وسواء كان ذلك عن قصد أم نسيان وسواء كان مختارا أو مكرها أو استدخلت المرأة ذكره وهو نائم وسواء انتشر الذكر أم لا، وسواء كان مختونا أم أغلف، فيجب الغسل في كل هذه الصور على الفاعل والمفعول به، إلا إذا كان الفاعل أو المفعول به صبيا أو صبية، فإنه لا يقال وجب عليه، لأنه ليس مكلفا، ولكن يقال: صار جنبا، فإن كان مميزا وجب على الولي أن يأمره بالغسل، كما يأمره بالوضوء، فإن صلى من غير غسل لم تصح صلاته، وإن لم يغتسل، حتى بلغ وجب عليه الغسل وإن اغتسل في الصبا ثم بلغ لم يلزمه إعادة الغسل قال أصحابنا والاعتبار في الجماع بتغييب الحشفة من صحيح الذكر بالاتفاق، فإذا غيبها بكمالها تعلقت به جميع الأحكام ولا يشترط تغييب جميع الذكر بالاتفاق ولو غيب بعض الحشفة لا يتعلق به شيء من الأحكام بالاتفاق، إلا وجها شاذا منكرا متروكا، وأما إذا كان الذكر مقطوعا فإن بقي منه دون الحشفة لم يتعلق به شيء من الأحكام، وإن كان الباقي قدر الحشفة فحسب تعلقت الأحكام بتغييبه بكماله، وإن كان زائدا على قدر الحشفة، ففيه وجهان مشهوران لأصحابنا: أصحهما أن الأحكام تتعلق بقدر الحشفة منه، والثاني لا يتعلق شيء من الأحكام إلا بتغيب جميع الباقي، ولو لف على ذكره خرقة، وأولجه في فرج امرأة، ففيه ثلاثة أوجه لأصحابنا: الصحيح منها والمشهور أنه يجب عليهما الغسل، والثاني لا يجب، لأنه أولج في خرقة، والثالث إن كانت الخرقة غليظة تمنع وصول اللذة والرطوبة لم يجب الغسل وإلا وجب، ولو استدخلت المرأة ذكر بهيمة وجب عليها الغسل، ولو استدخلت ذكرا مقطوعا فوجهان أصحهما يجب عليها الغسل. والله أعلم.

وهذا الذي ذكره النووي تعبير عن مذهب الشافعية، أما غيره من المذاهب فيقول اللأبي عن المالكية: وفي سماع ابن القاسم ورواه مطرف: لا غسل على الوطء في الدبر، وروى إسماعيل: لا غسل على نائمة أو مكرهة إلا أن تلتذ، ولا تغتسل الكبيرة بوطء غير المراهق، واختلف في غسل الصغيرة من وطء الكبير؟ والصحيح الغسل. اهـ. وقال أبو حنيفة: لا يجب الغسل بوطء البهيمة أو الميتة إلا بالإنزال. والله أعلم. هذا وروايات الباب تصرح بخلاف وقع حول هذه المسألة بين الصحابة، بل اتخذ الخلاف مظهرا طائفيا، فبرز بين المهاجرين والأنصار، ومرجع هذا الخلاف الأحاديث التي لا توجب الغسل، كالروايات الأولى والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة، والأحاديث التي توجبه كالروايات السابعة والثامنة والتاسعة. ومن المجموعة الأولى ما أخرجه الطحاوي وابن ماجه عن أبي أيوب قال "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل من الأنصار، فأبطأ، فقال: ما حبسك؟ قال: كنت قد أصبت من أهلي فلما جاءني رسولك اغتسلت من غير أن أحدث شيئا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الماء من الماء والغسل على من أنزل" ومنها حديث رافع بن خديج "ناداني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا على بطن امرأتي، فقمت، ولم أنزل فاغتسلت، فأخبرته أنك دعوتني وأنا على بطن امرأتي، فقمت ولم أمن فاغتسلت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا عليك الماء من الماء" أخرجه الطبراني وأحمد، ومنها حديث عبد الله بن عبد الله بن عقيل، قال "سلم النبي صلى الله عليه وسلم على سعد بن عبادة، فلم يأذن له، كان على حاجته، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم، فقام سعد سريعا فاغتسل، ثم تبعه، فقال: يا رسول الله إني كنت على حاجة، فقمت فاغتسلت فقال النبي صلى الله عليه وسلم الماء من الماء". ومن المجموعة الثانية ما أخرجه الطحاوي والترمذي عن عائشة قالت "إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم. وممن رأى أنه لا غسل من الإيلاج في الفرج إن لم يكن هناك إنزال عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص وابن مسعود ورافع بن خديج وأبو سعيد الخدري وأبي بن كعب وأبو أيوب الأنصاري وابن عباس والنعمان بن بشير وزيد بن ثابت وجمهرة الأنصار -رضي الله عنهم- وهو قول عطاء بن أبي رباح، وأبي سلمة بن عبد الرحمن وهشام بن عروة والأعمش والظاهرية ووجهة نظرهم الأحاديث الكثيرة الصريحة في عدم إيجاب الغسل إلا من الإنزال، ووجهة نظر الآخرين الأحاديث الموجبة للغسل إذا التقى الختانان، قالوا: والآية تعضد المنطوق في إيجاب الغسل فإنه تعالى قال: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} قال الشافعي: إن كلام العرب يقتضي أن الجنابة تطلق بالحقيقة على الجماع وإن لم يكن فيه إنزال. قال: فإن كان من خوطب بأن فلانا أجنب عن فلانة عقل أنه أصابها وإن لم ينزل، ولم يختلف أن الزنا الذي يجب به الحد هو الجماع، ولو لم يكن معه إنزال، فتعاضد الكتاب والسنة على إيجاب الغسل من الإيلاج. اهـ. وقالوا عن أحاديث عدم الغسل إنما كان ذلك رخصة للناس، فقد روى أبو داود عن أبي بن كعب

"أن الفتيا التي كانوا يفتون أن الماء من الماء كانت رخصة رخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدء الإسلام، ثم أمر بالاغتسال بعد" وأخرجه أيضا البيهقي وأحمد، وكذا الترمذي، وقال حديث حسن صحيح وأخرجه أيضا ابن ماجه وصححه ابن خزيمة وابن حبان، وقال الحافظ ابن حجر: إسناده صالح لأن يحتج به. فهذا دليل على أن تلك الأحاديث منسوخة، كما تصرح الرواية الثانية بأن الحديث كان ينسخ بعضه بعضا. قال النووي: وأما حديث "إنما الماء من الماء" فالجمهور من الصحابة ومن بعدهم قالوا: إنه منسوخ ويعنون بالنسخ أن الغسل من الجماع بغير إنزال كان ساقطا، ثم صار واجبا. اهـ. وظاهر كلام النووي أن عدم وجوب الغسل في هذه الحالة ثابت بالبراءة الأصلية، والحكم الطارئ على البراءة الأصلية لا يسمى نسخا، وإلا كانت أكثر الأحكام الشرعية ناسخة، وهذا الذي قاله النووي بعيد، لأن مفهوم الحصر في قوله صلى الله عليه وسلم "إنما الماء من الماء" إثبات وجوب الغسل من المني، ونفي وجوب الغسل عن الإيلاج بدون إنزال، فكأنه قال: لا غسل من غير إنزال المني، فالحكم الأول مستفاد من الحديث وليس من البراءة الأصلية. وقد حاول البعض الوصول إلى هذا الحكم من غير احتياج للنسخ فابن عباس يرى أنه ليس بمنسوخ، بل المراد به نفي وجوب الغسل بالرؤيا في النوم إذا لم ينزل، ففي الترمذي عن ابن عباس قال "إنما الماء من الماء في الاحتلام" وقد ذكر النسائي حديث "الماء من الماء" تحت ترجمة "باب الذي يحتلم ولا يرى الماء" مشيرا إلى تأويل ابن عباس بأن الحديث محمول على ما يقع في المنام من الاحتلام. ورد هذا الاحتمال بأن مورد الحديث "إنما الماء من الماء" في الجماع وليس في الاحتلام، والرواية الأولى في الباب صريحة في ذلك، لا تقبل التأويل ولعل ابن عباس لم يطلع على هذا الحديث بهذه الرواية ولا على الأحاديث الأخرى الصريحة بعدم وجوب الغسل عن الجماع بدون إنزال، كما يحاول البعض تأويل حديث عائشة وحديث أبي بن كعب ونحوهما يحملهما على ما إذا باشرها فيما دون الفرج، لكن هذه الاحتمالات بعيدة عن الصواب. قال العيني: عدم دعوى الاحتياج إلى القول بالنسخ غير صحيح، لأن المستنبطين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ما وفقوا بين أحاديث هذا الباب المتضادة إلا بإثبات النسخ. اهـ. قال النووي: واعلم أن الأمة مجتمعة الآن على وجوب الغسل بالجماع، وإن لم يكن معه إنزال، وكان جماعة من الصحابة على أنه لا يجب إلا بالإنزال، ثم رجع بعضهم، وانعقد الإجماع بعد الآخرين. اهـ. وقال ابن القصار: وأجمع عليه التابعون ومن بعدهم بعد خلاف من تقدم، والإجماع يرفع الخلاف، وقد روي أن عمر حمل الناس على ترك الأخذ به حين اختلفوا [كما وضحته في المعنى العام] ولا يعلم من قال به بعد خلاف الصحابة إلا ما روي عن الأعمش وداود. اهـ. -[ويؤخذ من الحديث بالإضافة إلى ما تقدم]- 1 - استدل بعضهم بقوله "يغسل ما أصابه من المرأة" على نجاسة رطوبة فرج المرأة قال النووي:

وبها خلاف معروف، والأصح عند بعض أصحابنا نجاستها، ومن قال بالطهارة يحمل الحديث على الاستحباب. 2 - أخذ النووي من قوله في الرواية التاسعة "إني لأفعل هذا أنا وهذه ثم نغتسل" جواز ذكر مثل هذا بحضرة الزوجة، إذا ترتبت عليه مصلحة، ولم يحصل به أذى، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم هذه العبارة ليكون أوقع في نفس السائل، ولا يدخل هذا في النهي عن كشف ما يقع بين الرجل وزوجه. 3 - وفيه أن فعله صلى الله عليه وسلم للوجوب، ولولا ذلك لم يحصل جواب السائل به. 4 - أخذ القاضي عياض من قوله في الرواية الثامنة "وإني أستحييك" حياء الصحابة من ذكر جماع النساء وهو مما يستحيا منه، لا سيما بحضرة النساء، ولا سيما عائشة -رضي الله عنها- ومكادتها من التوقير. 5 - ويؤخذ منه ذكاء عائشة ومركزها في الفتوى، وأثرها في نشر شطر الدين. والله أعلم

(145) باب الوضوء مما مست النار ومن لحوم الإبل

(145) باب الوضوء مما مست النار ومن لحوم الإبل 627 - عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "الوضوء مما مست النار". 628 - قال ابن شهاب: أخبرني عمر بن عبد العزيز؛ أن عبد الله بن إبراهيم بن قارظ أخبره؛ أنه وجد أبا هريرة يتوضأ على المسجد. فقال: إنما أتوضأ من أثوار أقط أكلتها. لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "توضئوا مما مست النار". 629 - قال ابن شهاب: أخبرني سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان، وأنا أحدثه هذا الحديث؛ أنه سأل عروة بن الزبير عن الوضوء مما مست النار؟ فقال عروة: سمعت عائشة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "توضئوا مما مست النار". 630 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ. 631 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل عرقا (أو لحما) ثم صلى ولم يتوضأ ولم يمس ماء. 632 - عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري عن أبيه رضي الله عنه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتز من كتف يأكل منها. ثم صلى ولم يتوضأ. 633 - عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري عن أبيه رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتز من كتف شاة. فأكل منها. فدعي إلى الصلاة. فقام وطرح السكين وصلى ولم يتوضأ.

634 - عن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل عندها كتفا ثم صلى ولم يتوضأ. 635 - عن أبي رافع قال: أشهد لكنت أشوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم بطن الشاة. ثم يصلي ولم يتوضأ. 636 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب لبنا. ثم دعا بماء فتمضمض وقال "إن له دسما". 637 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع عليه ثيابه ثم خرج إلى الصلاة. فأتى بهدية خبز ولحم. فأكل ثلاث لقم. ثم صلى بالناس. وما مس ماء. 638 - عن محمد بن عمرو بن عطاء قال كنت مع ابن عباس وساق الحديث بمعنى حديث ابن حلحلة وفيه أن ابن عباس شهد ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم وقال "صلى" ولم يقل "بالناس". 639 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: "إن شئت فتوضأ. وإن شئت فلا توضأ" قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال "نعم. فتوضأ من لحوم الإبل" قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: "نعم" قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: "لا".

-[المعنى العام]- بدأ الإسلام في أمة أمية، وجماعات بدوية، فكان المسلمون الأولون غير حريصين على النظافة، بحكم العرف والعادة والبيئة، يأكلون الأرز والإدام واللحم والزبد بأيديهم، ثم يلعقون أصابعهم، ويمسحونها بما قرب منهم، ثم يمسحون أفواههم. وجاء دين النظافة فأمر بالوضوء من كل حدث أصغر، والغسل من كل حدث أكبر، وبإزالة الروائح التي يتأذى منها المجتمع، جاء بالاستنجاء، وغسل اليدين قبل إدخالهما الإناء، وبالمضمضة عند كل وضوء، وزيادة في الحث على النظافة أمر بالوضوء من أكل أو شرب ما مست النار، ومن المعروف أن الكثير من الطعام مطهي بواسطة النار، فقال صلى الله عليه وسلم "توضئوا مما مست النار" وفهم بعض الصحابة من هذا الأمر الوجوب، وفهم بعضهم منه الندب وفهم آخرون أن المراد من الوضوء فيه الوضوء اللغوي وهو النظافة فعمل به على أساس غسل اليدين والفم. وساعد كلا ما فهم عمل الرسول صلى الله عليه وسلم، فأبو طلحة يراه يأكل ثور أقط، أي قطعة من اللبن المطبوخ على النار، فيتوضأ منه، وابن عباس يراه يأكل كتف الشاة مطهية على النار، ثم يصلي دون أن يتوضأ، وعمرو بن أمية الضمري يراه يقطع من كتف الشاة بالسكين ويأكل، ثم يدعي إلى الصلاة وهو على هذه الحال، فيطرح السكين من يده، ويصلي بالناس، ولا يتوضأ، وميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تروي أنه أكل عندها كتف شاة مطهية على النار، وصلى ولم يتوضأ، وأبو رافع يشوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ما تحويه بطن الشاة، فيأكله، ثم يصلي، ولا يتوضأ، وابن عباس يراه يخرج للصلاة، فيقابل بهدية من خبز ولحم، فيأكل منها، ثم يصلي، ولا يمس ماء. ويسأله رجل: أأتوضأ يا رسول الله من أكل لحوم الغنم؟ فيقول: إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ، فيسأله: أأتوضأ يا رسول الله من أكل لحوم الإبل؟ فيقول: نعم فتوضأ من لحوم الإبل، ويثور الجدل بين الصحابة في هذا الحكم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويناظر ابن عباس أبا هريرة، فيقول ابن عباس: لو وجب الوضوء مما مست النار لم يجز الوضوء بالماء الحار، وإنا نستحم بالماء المسخن ونتوضأ به، وندهن بالدهن المطبوخ، فيقول أبو هريرة يا ابن أخي. إذا حدثتك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تضرب لذلك مثلا. ويقول ابن مسعود: لأن أتوضأ من الكلمة المنتنة أحب إلي من أن أتوضأ من اللقمة الطيبة. وينتهي الخلاف والنقاش والجدل بانتهاء الصدر الأول، ثم أجمع العلماء بعده على أنه لا يجب الوضوء مما مسته النار، عملا بحديث ابن عباس رضي الله عنه "كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما غيرت النار". -[المباحث العربية]- (الوضوء مما مست النار) الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، والتقدير الوضوء

واجب مما مست النار، أو مندوب مما مست النار، و"من" سببية، و"ما" اسم موصول، صفة لموصوف محذوف، وفي الكلام مضاف محذوف، والأصل: الوضوء مطلوب بسبب أكل الطعام الذي مسته النار. (ابن قارظ) بالقاف وكسر الراء بعدها ظاء. (يتوضأ على المسجد) أي يتوضأ على سطح المسجد، وكان يصلي على السطح أحيانا. (إنما أتوضأ من أثوار أقط أكلتها) "الأثوار" جمع "ثور" والثور -كما في القاموس- القطعة من الأقط، و"الأقط" بتثليث الهمزة وسكون القاف، وقد تحرك القاف بالكسر، على وزن كتف وإبل، وبالضم على وزن جل وهو طعام يتخذ من اللبن المخيض، ويطبخ على النار، وجملة "أكلتها" في محل الجر، صفة "أثوار" وفي الكلام قصر، طريقه "إنما" أي لا أتوضأ الآن من شيء سوى أكل أثوار. (أكل كتف شاة) "الكتف" العظم بما فيه من لحم، وهي أنثى، والجمع أكتاف، يقال: "كتف" بفتح الكاف وكسر التاء، و"كتف" بكسر الكاف وسكون التاء، وقيل: هي عظم عريض خلف المنكب، وكتف الشاة أعلى يدها، وفي الكلام مضاف محذوف إن فسر الكتف بالعظم، أي أكل لحم كتف شاة. (أكل عرقا أو لحما) بفتح العين وسكون الراء، وهو العظم عليه قليل من اللحم. (يحتز من كتف يأكل منها) "يحتز" بالحاء وبالزاي، أي يقطع، وفي البخاري "يأكل ذراعا يحتز منها". (فقام وطرح السكين) يذكر ويؤنث، يقال سكين جيد، وجيدة، وسميت سكينا لتسكينها حركة المذبوح. وحكى الكسائي سكينة. (أشهد لكنت أشوي) "أشهد" في معنى القسم، و"لكنت أشوي" جوابه بتقدير "قد" لأن لام الابتداء لا تدخل على الماضي المجرد، وقد أجاز النحاة هذا الأسلوب على قلة. (بطن الشاة) قال النووي: يعني الكبد وما معه من حشوها، وفي الكلام حذف تقديره أشوي بطن الشاة، فيأكل منه ثم يصلي ولا يتوضأ. اهـ. (أصلي في مرابض الغنم)؟ بحذف همزة الاستفهام، و"المرابض" جمع "مربض" بفتح الميم وكسر الباء يقال: ربض في الأرض يربض من باب ضرب إذا لصق بها وأقام ملازما لها، واسم المكان "مربض" قال القاضي عياض: مرابض الغنم حيث تقيل أو تبيت، وقال الأبي: الربوض للغنم كالاضطجاع للإنسان والبروك للإبل. اهـ وفي رواية "أصلي في مباءة الغنم"؟ . والمباءة المنزل الذي تأوى إليه.

(أصلي في مبارك الإبل؟ ) "المبارك" جمع "مبرك" وهو موضع بروك الجمل عند الماء أو في أي مكان، وفي رواية توضئوا من لحوم الإبل ولا تصلوا في مناخها" والمناخ بضم الميم المكان الذي تناخ فيه، وفي رواية "لا تصلوا في أعطان الإبل" و"الأعطان" جمع "عطن" وهو اسم لمبرك الإبل عند الماء، وفي رواية "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في مرابض الغنم ولا يصلي في مرابد الإبل والبقر" و"المرابد" جمع "مربد" بالدال، وهي الأماكن التي تحبس فيها الإبل وغيرها من البقر والغنم. -[فقه الحديث]- قال النووي: ذكر مسلم رحمه الله تعالى في هذا الباب الأحاديث الواردة بالوضوء مما مست النار، ثم عقبها بالأحاديث الواردة بترك الوضوء مما مست النار، فكأنه يشير إلى أن الوضوء منسوخ. وهذه عادة مسلم وغيره من أئمة الحديث، يذكرون الأحاديث التي يرونها منسوخة، ثم يعقبونها بالناسخ. ثم قال: وقد اختلف العلماء في قوله صلى الله عليه وسلم "توضئوا مما مست النار" فذهب جماهير العلماء من السلف والخلف إلى أنه لا ينتقض الوضوء بأكل ما مسته النار، وممن ذهب إليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبو الدرداء وابن عباس وابن عمر وأنس وجابر بن سمرة، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري وأبو هريرة وأبي بن كعب وأبو طلحة وعامر بن ربيعة وأبو أمامة وعائشة -رضي الله عنهم أجمعين. وهؤلاء كلهم صحابة، وذهب إليه جماهير التابعين، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحق وأبي ثور وأبي خيثمة رحمهم الله تعالى. وذهبت طائفة إلى وجوب الوضوء الشرعي، وضوء الصلاة، بأكل ما مسته النار، وهو مروي عن عمر بن عبد العزيز والحسن البصري والزهري وأبي قلابة وأبي مجاز. ثم قال: ثم إن هذا الخلاف الذي حكيناه كان في الصدر الأول، ثم أجمع العلماء بعد ذلك على أنه لا يجب الوضوء بأكل ما مسته النار. وقال: واحتج الجمهور بالأحاديث الواردة بترك الوضوء مما مسته النار، وقد ذكر مسلم هنا منها جملة، وباقيها في كتب أئمة الحديث المشهورة. اهـ. والجملة التي ذكرها مسلم هي الرواية الرابعة عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل كتف شاة، ثم صلى ولم يتوضأ"، والرواية الخامسة عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل عرقا أو لحما، ثم صلى ولم يتوضأ، ولم يمس ماء" والرواية السادسة عن عمرو بن أمية الضمري قال "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتز من كتف شاة، فأكل منها، فدعى إلى الصلاة، فقام وطرح السكين، وصلى ولم يتوضأ" والرواية الثامنة عن ميمونة "أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل عندها كتفا، ثم صلى ولم يتوضأ" والرواية التاسعة عن أبي رافع قال: أشهد لكنت أشوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم بطن الشاة، ثم يصلي ولم يتوضأ" والرواية الحادية عشرة عن ابن

عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع عليه ثيابه، ثم خرج إلى الصلاة، فأتي بهدية -خبز ولحم- فأكل ثلاث لقم ثم صلى بالناس وما مس ماء" والرواية الثانية عشرة عن جابر بن سمرة أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: "إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا تتوضأ". ومما ذكر في غير مسلم ما رواه الطبراني بإسناد حسن من طريق سليمان بن عامر قال: "رأيت أبا بكر وعمر وعثمان أكلوا مما مست النار، ولم يتوضئوا" وما رواه ابن أبي شيبة عن محمد بن المنكدر قال "أكلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر وعثمان خبزا ولحما، فصلوا ولم يتوضئوا" وما أخرجه الطحاوي عن ابن مسعود وعلقمة أنهما خرجا يريدان الصلاة، فجيء بقطعة من بيت علقمة، فيها ثريد، ولحم، فأكلا، فمضمض ابن مسعود، وغسل أصابعه ثم قام إلى الصلاة" وعن ابن مسعود قال "لأن أتوضأ من الكلمة المنتنة أحب إلي من أن أتوضأ من اللقمة الطيبة". أما الأحاديث المقابلة الداعية إلى الوضوء مما مسته النار فمنها الرواية الأولى عن زيد بن ثابت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الوضوء مما مست النار" والرواية الثانية عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "الوضوء مما مست النار" والرواية الثانية عن أبي هريرة قال "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: توضئوا مما مست النار" والرواية الثالثة عن عائشة قالت: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: توضئوا مما مست النار". ومما ذكر في غير مسلم، ما رواه الطحاوي عن أبي طلحة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل ثور أقط توضئوا منه" وما رواه الطحاوي والنسائي والطبراني عن زيد بن ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "توضئوا مما غيرت النار" وما رواه الطحاوي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم توضئوا مما غيرت النار ولو من ثور أقط" وما رواه الطحاوي عن سهل بن الحنفية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أكل لحما فليتوضأ". ويجيب الجمهور عن هذه الأحاديث بتأويل الوضوء فيها بالوضوء اللغوي وليس الشرعي، أي النظافة وغسل الفم والكفين، وعلى فرض أن المراد بالوضوء الوضوء الاصطلاحي فإنه منسوخ بالأحاديث الأخرى الدالة على ترك الوضوء مما مسته النار، ولا يقال: إن النسخ يحتاج إلى ضبط التاريخ، وليس في مسلم ذكر للتاريخ، ولا ما يشير إليه، فقد ورد في الموطأ أن ترك الوضوء من ذلك كان بحنين، وهي متأخرة، كما روى أبو داود عن جابر قال "كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما غيرت النار". قال الحافظ ابن حجر نقلا عن ابن بطال: أمر صلى الله عليه وسلم بالوضوء مما مسته النار لأنهم كانوا ألفوا في الجاهلية قلة التنظيف، فأمروا بالوضوء منه فلما تقررت النظافة في الإسلام وشاعت نسخ. اهـ. وقد جمع ابن تيمية بين هذه الأحاديث المتعارضة بحمل الأمر بالوضوء على الاستحباب، وحمل أحاديث الترك على أنه ليس بواجب، حيث قال: وهذه النصوص -يعني الأحاديث الدالة على ترك

الوضوء مما مست النار- إنما تنفي الإيجاب، لا الاستحباب ولهذا قال صلى الله عليه وسلم للذي سأله: أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ، ولولا أن الوضوء من ذلك مستحب لما أذن فيه، لأنه إسراف وتضييع للماء بغير فائدة. اهـ. والله أعلم. وظاهر الرواية الثانية عشرة أن أكل لحوم الإبل يوجب الوضوء، وكأن لحوم الإبل مستثناة مما مسته النار، إذ جاء في هذه الرواية "أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا توضأ. قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم فتوضأ من لحوم الإبل" وإلى هذا ذهب الإمام أحمد وإسحق بن راهويه وابن المنذر وابن خزيمة، وفي توجيه هذا الحكم قال الدهلوي: والسر في إيجاب الوضوء من لحوم الإبل على قول من قال به أنها كانت محرمة في التوراة، واتفق جمهور أنبياء بني إسرائيل على تحريمها، فلما أباحها الله تعالى لنا شرع الوضوء منها لمعنيين: أحدهما: أن يكون الوضوء شكرا لما أنعم الله علينا من إباحتها بعد تحريمها على من قبلنا. وثانيهما: أن يكون الوضوء علاجا لما عسى أن يختلج في بعض الصدور من إباحتها بعد ما حرمها الأنبياء من بني إسرائيل، فإن النقل من التحريم إلى كونه مباحا يناسبه إيجاب الوضوء منه ليكون أقرب إلى اطمئنان نفوسهم. اهـ. وقال الطحاوي: قد فرق قوم بين لحوم الغنم ولحوم الإبل، فأوجبوا في أكل لحوم الإبل الوضوء، ولم يوجبوا ذلك في أكل لحوم الغنم لما في لحوم الإبل من الغلظ، ومن غلبة ودكها على يد آكلها، وأباح أن لا يتوضأ من لحوم الغنم لعدم ذلك منها. اهـ. وذهب الجمهور -ومنهم الخلفاء الأربعة وابن مسعود وأبي بن كعب وابن عباس وأبو الدرداء ومالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابه إلى أن أكل لحوم الإبل غير ناقض للوضوء. وقالوا: إن المراد من الوضوء في الحديث الوضوء اللغوي، أي الغسل والتنظيف، وهو من لحوم الإبل آكد منه من غيرها من اللحوم. وقالوا: لما كان لحم الإبل فردا مما مسته النار، وقد نسخ وجوب الوضوء منه بجميع أفراده استلزم نسخ وجوبه من لحوم الإبل، فهو فرد من أفراد العام الذي نسخ، وإذا نسخ العام الذي هو وجوب الوضوء مما مست النار نسخ كل فرد من أفراده ومنه لحوم الإبل، وقالوا: إن الإبل والغنم سواء في حل بيعهما وشرب لبنهما وطهارة لحومهما، وأنه لا تفترق أحكامهما في شيء من ذلك، فاقتضى أن يكونا في أكل لحومهما سواء: فكما صح أنه لا وضوء من أكل لحوم الغنم فكذلك لا وضوء من أكل لحوم الإبل. كما أن ظاهر الرواية الثانية عشرة جواز الصلاة في مرابض الغنم، وعدم جوازها في مبارك الإبل، ومثل ذلك روى الترمذي عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل" وروى أبو داود حديث البراء وفيه "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مبارك الإبل، فقال: لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشيطان" كما روى ابن ماجه عن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل، فإنها خلقت

من الشيطان" وذكر الطبراني في الأوسط حديث أسيد بن حضير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "توضئوا من لحوم الإبل، ولا تصلوا في مناخها". وذكر أبو يعلى في مسنده حديث طلحة بن عبيد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ من ألبان الإبل ولحومها، ولا يصلي في أعطانها" وذكر أحمد في مسنده حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يصلي في مرابض الغنم، ولا يصلي في مرابد الإبل والبقر" وذكر أحمد والطبراني أيضا حديث يعيش الجهني قال: "عرض أعرابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: تدركنا الصلاة ونحن في أعطان الإبل، أفنصلي فيها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا". ولا خلاف بين العلماء في أن الأمر بالصلاة في مرابض الغنم للإباحة وليس للوجوب اتفاقا، ولا للندب، وقد قصد بهذا الأمر الترغيب في تربية الغنم، بإبعادها في هذا الحكم عن حكم الإبل، إذ وصف أصحاب الإبل بالغلظ والقسوة، ووصف أصحاب الغنم بالسكينة والوقار. وإنما الخلاف في النهي عن الصلاة في مبارك الإبل، هل هو للتنزيه؟ أو للكراهة؟ أو للحرمة؟ وذهب أحمد في الرواية المشهورة عنه أنه إذا صلى في أعطان الإبل فصلاته فاسدة وهو مذهب أهل الظاهر وكرهها الحسن البصري وإسحق وأبو ثور، وأحمد في رواية عنه. والجمهور وأبو حنيفة ومالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد، على جواز الصلاة في أعطان الإبل، وأن النهي للتنزيه. وهذا الخلاف حيث لا يتصل المصلي بالنجاسة، فإن لم يكن بين المصلي وبين النجاسة حائل فإنه لا تجوز صلاته في أي مكان كان. واختلفوا كذلك في سبب التفرقة بين مرابض الغنم وأعطان الإبل فقال شريك بن عبد الله: نهى عن الصلاة في أعطان الإبل لأن أصحابها من عادتهم التغوط بقرب إبلهم والبول في مباركها، فينجسون بذلك أعطان الإبل، فنهى عن الصلاة فيها لذلك، لا لعلة الإبل، وإنما هو لعلة النجاسة التي تمنع من الصلاة في أي موضع، بخلاف مرابض الغنم، فإن أصحابها من عادتهم تنظيف مواضعها، وترك البول والتغوط فيها، فأبيحت الصلاة في مرابضها لذلك. قال العيني: وهذا بعيد جدا، مخالف لظاهر الحديث: وقال الطحاوي: هذا التعليل يقتضي النهي عن الصلاة حيث يكون البول والغائط، سواء كان عطنا أو غيره. وقيل: إن علة النهي هي كون أبوال الإبل وأرواثها تكون غالبا في معاطنها. قال العيني: وهذا أيضا بعيد، لأن مرابض الغنم تشركها في ذلك. وقال يحيى بن آدم: إن العلة في اجتناب الصلاة في معاطن الإبل أن الإبل يخاف وثوبها، فتعطب من تلاقي حينئذ، فالمصلي في معاطنها يظل مشغولا بها بخلاف الغنم، لأنه لا يخاف منها ما يخاف من الإبل. اهـ وهذه العلة أقرب للقبول، ولا عبرة لاعتراض الطحاوي عليها بأنها تقتضي أن تكون الصلاة مكروهة حيث يخاف على النفوس، سواء كانت في عطن أو في غير عطن وسواء كانت

إبلا أو غير إبل، لأن الحق ذلك، وأن الصلاة مكروهة حيث يخاف على النفوس، وهذا موطن من مواطن الخوف على النفوس والتنصيص عليه لا يمنع من إلحاق غيره به، حيث توجد العلة. ولا عبرة أيضا لقوله: إن النظر يقتضي عدم التفرقة بين مرابض الغنم وأعطان الإبل، لأنا رأينا حكم لحم الإبل كحكم لحم الغنم في طهارته، ورأينا حكم أبوالها كحكم أبوالها في طهارتها أو نجاستها، فالنظر يقتضي أن يكون حكم الصلاة في مواضع الإبل كحكمه في مواضع الغنم. اهـ. فإن ظاهر هذا القول معارضة الحديث الصحيح المصرح بالتفرقة. ويصل بنا البحث إلى الكلام عن نجاسة أبوال الغنم والإبل أو طهارتها، وقد ذهب مالك إلى طهارة بول ما يؤكل لحمه، وبه قال أحمد ومحمد بن الحسن والإصطخري والروياني الشافعيان، وهو قول الشعبي وعطاء والنخعي والزهري وابن سيرين والحكم والثوري. وذهب أبو داود بن علية إلى أن بول كل حيوان طاهر، سواء كان مأكول اللحم أو غير مأكوله، إلا بول الإنسان، فإنه نجس. وذهب الشافعي وأبو حنيفة وأبو يوسف وأبو ثور وكثيرون آخرون إلى أن الأبوال كلها نجسة إلا ما عفي عنه. استدل القائلون بطهارته بما رواه البخاري وغيره في قصة العرنيين أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يشربوا من أبوال اللقاح وألبانها. قالوا: لو كانت أبوال الإبل نجسة لحرم شربها، ولما أمر به صلى الله عليه وسلم. ويجيب المخالفون بأن ما في حديث العرنيين قد كان للضرورة، فليس فيه دليل على أنه يباح في غير حال الضرورة، لأن هناك أشياء أبيحت في الضرورات، ولم تبح في غيرها، كما في لبس الحرير، فإنه حرام على الرجال وقد أبيح لبسه في الحرب أو للحكة أو لشدة البرد إذا لم يجد غيره، وله أمثال كثيرة في الشرع. ويحاول ابن بطال ومن يقول بطهارة بول وروث ما يؤكل لحمه أن يستدل على هذا الحكم بالرواية الثانية عشرة من روايات الباب. قالوا: لأن المرابض لا تسلم من البعر والبول، فدل على أنهم كانوا يباشرونها في صلواتهم، فلا تكون نجسة، ويجيب الشافعية ومن يقول بنجاسة الأبوال والأرواث باحتمال وجود الحائل، حينئذ، أو بعدم التيقن من وجود الأبوال والأرواث في مكان الصلاة. قال الحافظ ابن حجر: الأصل الطهارة، وعدم السلامة من الأبوال والأرواث في مرابض الغنم غالب، وإذا تعارض الأصل والغالب قدم الأصل. اهـ. ومن أدلة الشافعية عموم حديث "استنزهوا من البول، فإن عامة عذاب أهل القبر منه" وهو ظاهر في تناول جميع الأبوال، وحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أتى الغائط، وطلب ثلاثة أحجار، فأتي بحجرين وروثة، أخذ الحجرين ورد الروثة وقال: هو رجس أي نجس، والله أعلم.

-[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - من الرواية العاشرة يؤخذ استحباب المضمضة من شرب اللبن، ومن التعليل بأن له دسما استحباب المضمضة من كل ما له دسم أو لزوجة أو بقايا تتعلق بالفم، وأما ما جاء في سنن أبي داود من "أنه صلى الله عليه وسلم شرب لبنا ولم يتمضمض ولم يتوضأ" فهو محمول على الجواز، والأمر بالمضمضة من اللبن في رواية ابن ماجه، ولفظها "مضمضوا من اللبن، فإن له دسما" للاستحباب. ومثل المضمضة غسل اليدين قبل الطعام وبعده، قال النووي: والأظهر استحباب غسل اليدين قبل الطعام، إلا أن يتيقن نظافة اليدين من النجاسة والوسخ، واستحباب غسلهما بعد الفراغ من الطعام إلا أن لا يبقى على اليد أثر الطعام، بأن كان يابسا، أو لم يمسسه بها، كمن يأكل [بالشوكة والملعقة] ومالك يكره غسل اليدين قبل الطعام إلا أن يكون بها قذر، وبعده إلا أن يكون للطعام دسم يعلق باليد، أو رائحة كريهة كزفورة السمك، انتهى بتصرف. 2 - ومن الرواية السابعة جواز قطع اللحم بالسكين للأكل، قال النووي: وذلك حين تدعو إليه الحاجة، كصلابة اللحم، أو كبر القطعة. اهـ وقال الحافظ ابن حجر: وفي النهي عنه حديث ضعيف في سنن أبي داود، فإن ثبت خص بعدم الحاجة الداعية إلى ذلك، لما فيه من التشبه بالأعاجم وأهل الترف. 3 - ومن الرواية الأولى جواز الوضوء في المسجد، قال النووي: وقد نقل ابن المنذر إجماع العلماء على جوازه ما لم يؤذ به أحدا. اهـ. 4 - ومن الرواية السابعة، من قوله: "فدعى إلى الصلاة" جواز، بل استحباب استدعاء الأئمة إلى الصلاة إذا حضر وقتها. 5 - ومن قوله في الرواية نفسها "وصلى ولم يتوضأ" أن الشهادة على النفي تقبل، إذا كان المنفي محصورا مثل هذا. قاله النووي. 6 - وفيها أن الوضوء مما مست النار ليس بواجب. والله أعلم

(146) باب من تيقن الطهارة وشك في الحدث

(146) باب من تيقن الطهارة وشك في الحدث 640 - عن سعيد وعباد بن تميم عن عمه رضي الله عنه شكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم: الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة. قال "لا ينصرف حتى يسمع صوتا، أو يجد ريحا". 641 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه. أخرج منه شيء أم لا. فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا". -[المعنى العام]- سبحان من خلق، ويعلم من خلق، وهو اللطيف الخبير، خلق الإنسان وفي طبعه الشك والنسيان، ثم سلط عليه الشيطان الوسواس الخناس، ليقعد له من بين يديه ومن خلفه ليوسوس له، ويشككه في عبادته، ويخرجه من الإقبال على ربه وأمام هذين التيارين رسم له طريق العمل في حالة الحيرة وعدم الاهتداء، ولو أنه تركه في تخبطه لأصبحت حياته مزيجا من الوسوسة وخليطا من التردد والارتباك، رسم له قاعدة استصحاب الأصل، وطرح الشك، وإبقاء ما كان على ما كان، وتكفل جل شأنه، رحمة منه وفضلا، أن يعفو عن الخطأ، ويتقبل العمل على ذلك الوجه وإن وقع على خلاف أصله. فالمصلي الذي يخيل إليه أنه أحدث وخرج منه الريح المبطل للوضوء، المبطل للصلاة، لا ينبغي أن يخرج من صلاته، ولا أن يعتقد بطلانها، بل عليه أن يستصحب في نفسه طهارته التي دخل بها، وأن يطرح الشك الذي طرأ عليه، وأن لا ينصرف حتى يتيقن الحدث يقينا، لا يمازجه شك، يقينا ناشئا عن الحواس الموجبة للعلم، يقينا صادرا عن السمع أو الشم، فلا ينصرف حتى يسمع بأذنه صوت الضراط، أو يشم بأنفه ريح الفساء، أو يتأكد بواسطة حس آخر أنه أحدث. بهذا الطريق الشرعي المرسوم يسد المسلم على الشيطان أبواب ولوجه، ويدفع عن نفسه، أخطار الشك والتردد ويخطو إلى الإمام بعزم وثبات. -[المباحث العربية]- (عن عباد بن تميم عن عمه) أي عم عباد، وهو عبد الله بن زيد بن عاصم المازني الأنصاري، قال الحافظ ابن حجر: واختلف: هل هو عم عباد لأبيه أو لأمه. اهـ.

(شكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل) قال النووي: "شكي" بضم الشين وكسر الكاف، و"الرجل" مرفوع، ولم يسم هنا الشاكي، وجاء في رواية البخاري أن السائل هو عبد الله بن زيد الراوي، وينبغي ألا يتوهم بهذا أنه "شكى" مفتوحة الشين والكاف، ويجعل الشاكي هو المذكور، فإن هذا الوهم غلط. اهـ. وإنما كان هذا الوهم غلطا لأن "شكا" بفتح الشين والكاف بالألف، ليس لأن توهم كون السائل عمه خطأ، فرواية البخاري "عن عباد بن تميم عن عمه أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل الذي يخيل إليه ... " إلخ قال الحافظ ابن حجر "شكا" بألف، ومقتضاه أن الراوي هو الشاكي، وصرح بذلك ابن خزيمة ولفظه "عن عمه عبد الله بن زيد قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل ... " إلخ. (شكى ... الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة) جملة "يخيل إليه" في محل النصب على الحال من "الرجل" أي شكى إليه حالة الرجل. و"يخيل" بضم أوله، وفتح الخاء، وتشديد الياء الثانية المفتوحة، وأصله من الخيال. قال الحافظ ابن حجر: والمعنى: يظن، والظن هنا أعم من تساوي الاحتمالين، أو ترجيح أحدهما، على ما هو أصل اللغة من أن الظن خلاف اليقين، اهـ والمراد من الشيء الحدث، والعدول عن ذكره للأدب وصيانة اللسان عن المستقذر بخاص اسمه حيث لا ضرورة، ومعنى وجدانه الحدث ظن خروجه منه، وقوله "في الصلاة" قيد لبيان الواقع وحال الحادثة، وليس للاحتراز، فالحكم خارج الصلاة هو الحكم فيها على ما ذهب إليه الجمهور وجعله المالكية للاحتراز، وسيأتي شرحه في فقه الحديث. (لا ينصرف) بالجزم على النهي، ويجوز الرفع، على أن "لا" نافية، ورواية البخاري "لا ينفتل أو لا ينصرف" بالشك من الراوي. (حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا) معناه حتى يعلم وجود أحدهما، ولا يشترط السماع والشم بإجماع المسلمين. والمراد من سماع الصوت أو وجدان الريح الخارجين من مخرجه. (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا) أي ريحا يتحرك ليخرج. (فأشكل عليه) أي فالتبس عليه أمره. (فلا يخرجن من المسجد) أي من الصلاة، وليس المراد المكان المعد للصلاة للتصريح بذلك في الرواية الأولى، ولأنه لا يترتب على الحدث الأصغر الخروج من المسجد. -[فقه الحديث]- قال النووي: هذا الحديث أصل من أصول الإسلام، وقاعدة عظيمة من قواعد الفقه، وهي أن الأشياء يحكم ببقائها على أصولها حتى يتيقن خلاف ذلك، ولا يضر الشك الطارئ عليها، فمن ذلك مسألة الباب التي ورد فيها الحديث وهي أن من تيقن الطهارة وشك في الحدث حكم ببقائه على

الطهارة، ولا فرق بين حصول هذا الشك في نفس الصلاة وحصوله خارج الصلاة. هذا مذهبنا ومذهب جماهير العلماء من السلف والخلف، وحكي عن مالك -رحمه الله- روايتان: إحداهما أنه يلزمه الوضوء إن كان شكه خارج الصلاة، ولا يلزمه إن كان في الصلاة، والثانية يلزمه على كل حال [أي سواء كان الشك أثناء الصلاة أو كان خارجها] قال الشافعية ولا فرق في الشك بين أن يستوي الاحتمالان في وقوع الحدث وعدمه، أو يترجح أحدهما، أو يغلب على ظنه، فلا وضوء عليه بكل حال، ويستحب له أن يتوضأ احتياطا فلو توضأ احتياطا ودام شكه فذمته بريئة، وإن علم بعد ذلك [أي بعد أن توضأ احتياطا] أنه كان محدثا، فهل تجزيه تلك الطهارة الواقعة في حال الشك؟ فيه وجهان للشافعية، أصحهما عندهم أنه لا تجزيه، لأنه كان مترددا في نيته. وأما إذا تيقن الحدث، وشك في الطهارة فإنه يلزمه الوضوء بإجماع المسلمين، وأما إذا تيقن أنه وجد منه -بعد طلوع الشمس مثلا- حدث وطهارة، ولا يعرف السابق منهما، فإن كان لا يعرف حاله قبل طلوع الشمس لزمه الوضوء، وإن عرف حاله ففيه أوجه لأصحابنا أشهرها عندهم أنه يكون بضد ما كان قبل طلوع الشمس، فإن كان قبلها محدثا فهو الآن متطهر، وإن كان قبلها متطهرا فهو الآن محدث، والوجه الثاني -وهو الأصح عند جماعات من المحققين- أنه يلزمه الوضوء بكل حال. الثالث يبنى على غالب ظنه، والرابع يكون كما كان قبل طلوع الشمس، ولا تأثير للأمرين الواقعين بعد طلوع الشمس، وهذا الوجه غلط صريح، إذا كيف يحكم بأنه على حالة تيقن بطلانها بما وقع بعدها؟ . قال: ومن مسائل القاعدة المذكورة أن من شك في طلاق زوجته، أو عتق عبده، أو نجاسة الماء الطاهر، أو طهارة الماء النجس، أو نجاسة الثوب أو الطعام أو غيره، أو أنه صلى ثلاث ركعات أو أربعا، أو أنه ركع وسجد أم لا، أو أنه نوى الصوم أو الصلاة أو الوضوء أو الاعتكاف، وهو في أثناء هذه العبادات وما أشبه هذه الأمثلة، فكل هذه الشكوك لا تأثير لها، والأصل عدم هذا الحادث. انتهى بتصرف. والروايات عن مالك -رحمه الله- في هذه المسألة مختلفة، فقد روي عنه نقض الوضوء مطلقا، وروي عنه النقض خارج الصلاة دون داخلها، وروى ابن نافع عنه: لا وضوء عليه مطلقا، كقول الجمهور، وروى ابن وهب عنه "أحب إلي أن يتوضأ". ومشهور مذهب مالك -كما يقول القرطبي- النقض داخل الصلاة وخارجها، وحمل بعض أتباعه الحديث على من كان به وسواس، وتمسك بأن الشكوى لا تكون إلا عن علة، قال الحافظ ابن حجر: وأجيب بما دل على التعميم، وهو حديث أبي هريرة عند مسلم [روايتنا الثانية]، ولفظه "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا، فأشكل عليه، أخرج منه شيء أم لا؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا". وقال العراقي: ما ذهب إليه مالك راجح، لأنه احتاط للصلاة، وهي مقصد، وألغى الشك في السبب المبرئ. وغيره احتاط للطهارة وهي وسيلة، وألغى الشك في الحدث الناقض لها، والاحتياط للمقاصد أولى من الاحتياط للوسائل. اهـ.

قال الحافظ ابن حجر: وجوابه أن ذلك من حيث النظر قوي، لكنه مغاير لمدلول الحديث، لأنه أمر بعدم الانصراف إلى أن يتحقق، والنهي عن إبطال العبادة متوقف على صحتها، فلا معنى للتفريق بذلك، لأن هذا التخيل إن كان ناقضا خارج الصلاة فينبغي أن يكون كذلك في الصلاة، كبقية النواقض. اهـ. والله أعلم

(147) باب طهارة جلود الميتة بالدباغ

(147) باب طهارة جلود الميتة بالدباغ 642 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: تصدق على مولاة لميمونة بشاة. فماتت. فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هلا أخذتم إهابها، فدبغتموه، فانتفعتم به؟ " فقالوا: إنها ميتة. فقال: "إنما حرم أكلها". 643 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد شاة ميتة، أعطيتها مولاة لميمونة، من الصدقة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هلا انتفعتم بجلدها" قالوا: إنها ميتة فقال: "إنما حرم أكلها". 644 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بشاة مطروحة. أعطيتها مولاة لميمونة، من الصدقة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به؟ ". 645 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ميمونة أخبرته؛ أن داجنة كانت لبعض نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم. فماتت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخذتم إهابها فاستمتعتم به؟ ". 646 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بشاة لمولاة لميمونة. فقال: "ألا انتفعتم بإهابها؟ ".

647 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا دبغ الإهاب فقد طهر". بمثله. 648 - عن أبي الخير قال: رأيت على ابن السبئي فروا. فمسسته. فقال: ما لك تمسه؟ قد سألت عبد الله بن عباس. قلت: إنا نكون بالمغرب. ومعنا البربر والمجوس نؤتى بالكبش قد ذبحوه. ونحن لا نأكل ذبائحهم. ويأتونا بالسقاء يجعلون فيه الودك. فقال ابن عباس: قد سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال: "دباغه طهوره". 649 - عن ابن وعلة السبئي قال: سألت عبد الله بن عباس قلت: إنا نكون بالمغرب. فيأتينا المجوس بالأسقية فيها الماء والودك. فقال: اشرب. فقلت: أرأي تراه؟ فقال ابن عباس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "دباغه طهوره". -[المعنى العام]- إن الشريعة السمحة، التي تحل الطيبات وتحرم الخبائث، تدعو إلى الانتفاع بكل ما يمكن الانتفاع به، فليس معنى خبثه وتحريم أكله تحريم الاستفادة منه، ليس معنى تحريم أكل الميتة إبطال جميع منافعها، وإنما الذي حرم أكلها، محافظة على صحة الإنسان من خبث لحمها، أما الانتفاع بجلدها بعد الدبغ فعمل مشروع، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا عمليا يضع القول عند العمل، وينتهز الفرصة والواقعة ليبين للأمة شريعتها الغراء، ويطبقها في بيته قبل أن يطالب بها الآخرين. رأى شاة ميتة في بيت زوجه ميمونة، أخرجوها وطرحوها في خربة مهجورة، فقال: ما هذه؟ قالوا: شاة أعطيتها مولاة زوجك ميمونة، فماتت فطرحناها، قال: كان خيرا أن تسلخوها وتأخذوا جلدها وتدبغوه وتنتفعوا به بشتى أنواع الانتفاع قالوا: إنها ميتة وقد حرم الله علينا الميتة؟ قال صلى الله عليه وسلم إنما حرم الله أكل الميتة، ولم يحرم الانتفاع بجلدها، فسلخوها وأخذوا جلدها ودبغوه

وانتفعوا به، واستفاد بجلد الميتة من علم، واستفهم من لم يعلم فهذا أبو الخير يجهل الحكم، ويرى ابن السبئي يلبس جلد شاة، فمسه متعجبا فقال ابن السبئي: لم تعجب؟ إنني استفتيت ابن عباس قبل أن أفعله، قلت له: إننا ببلاد فيها مجوس لا نأكل ذبائحهم، ولكنهم يأتوننا بالماء والشحم في قرب اتخذوها من جلود ذبائحهم التي هي في حكم الميتة، فماذا نفعل؟ قال ابن عباس: اشرب من قربهم وكل. قلت: أهذا رأي لك أو حكم الشريعة عن الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دباغ الجلد طهوره". -[المباحث العربية]- (تصدق على مولاة لميمونة بشاة) "تصدق" بضم التاء والصاد، مبني للمجهول، وفي الرواية الثانية "أعطيتها مولاة لميمونة من الصدقة" وفي رواية للبخاري عن ابن عباس قال: "مر النبي صلى الله عليه وسلم بعنز ميتة" قال الحافظ ابن حجر: العنز هي الماعزة، وهي الأنثى من المعز، ولا ينافي رواية "ماتت شاة" لأنه يطلق عليها شاة كالضأن. اهـ. وعندي أن العنز غير الشاة، وحمل الروايتين على حادثتين مختلفتين أولى من حمل العنز والشاة على ذات واحدة. (هلا أخذتم إهابها فدبغتموه) "هلا" بتشديد اللام حرف تحضيض، مختص بالجمل الفعلية الخبرية، وهي في دخولها على الماضي الذي لا يمكن تداركه للتنديم، لكنها هنا للتحضيض، لأن الماضي يمكن تداركه وعمله. والإهاب بكسر الهمزة وتخفيف الهاء هو الجلد قبل أن يدبغ، وقيل: هو الجلد دبغ أو لم يدبغ، وجمعه "أهب" بفتحتين، ويجوز بضمتين، وفي الرواية الثانية "هلا انتفعتم بجلدها"؟ (إنها ميتة) بسكون الياء، ويجوز في غير الرواية تشديد الياء المكسورة، ففي القاموس: هي ميتة وميتة وميت، والميتة ما لم تحلقه الذكاة. اهـ وفي اللسان: وقيل: الميت بسكون الياء الذي مات، والميت بالتشديد والمأت بالهمز الذي لم يمت بعد. قال تعالى: {إنك ميت وإنهم ميتون} [الزمر: 30]. (إنما حرم أكلها) "حرم" بضم الراء المخففة، وروي بضم الحاء وكسر الراء المشددة، والضمير في "أكلها" يعود للميتة، أي إنما حرم أكل الميتة، والقصر إضافي، وهو قصر إفراد، لأن المخاطبين كانوا يعتقدون حرمة الأكل والانتفاع. (ألا أخذوا إهابها فدبغوه) "ألا" هنا بفتح الهمزة وتخفيف اللام حرف عرض وتحضيض، ومعناهما طلب الشيء، لكن العرض طلب بلين، والتحضيض طلب بحث.

(أن داجنة كانت لبعض نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم) يقال: دجن بالمكان يدجن دجونا أقام به وألفه، ودجن في بيته إذا لزمه، وبه سميت دواجن البيوت وهي ما ألف البيت من الشاء وغيرها، الواحدة داجن وداجنة، وظاهر هذه الرواية أن الشاة كانت لواحدة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، والروايات الأخرى صريحة بأنها كانت لمولاة ميمونة، فإن كانت القصة واحدة كانت الرواية هنا على المجاز، فما كان لمولاة ميمونة هو لميمونة مجازا وإن كانت القصة مختلفة فلا مجاز وهو الظاهر، ففي البخاري عن ابن عباس عن سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "ماتت لنا شاة فدبغنا مسكها". (إذا دبغ الإهاب فقد طهر) يقال: طهر الشيء بفتح الهاء وضمها لغتان، والفتح أفصح. (رأيت على ابن السبئي فروا) ابن السبئي هو عبد الرحمن بن وعلة السبئي بفتح السين والباء بعدهما همزة ثم ياء النسب، والفرو بدون هاء هو الصحيح المشهور في اللغة، وجمعه فراء، ككعب وكعاب، ويقال فروة بالهاء كما يقولها العامة، وهي لغة قليلة حكاها ابن فارس. (فمسسته) بكسر السين الأولى على اللغة المشهورة، وفي لغة قليلة بفتحها، فعلى الأولى المضارع يمسه بفتح الميم، وعلى الثانية بضمها. (ويأتونا بالسقاء) أصله ويأتوننا حذفت النون الأولى تخفيفا، والسقاء القربة من الجلد المدبوغ. (يجعلون فيه الودك) بفتح الواو والدال، هو الشحم، قال النووي: هكذا هو في الأصول ببلادنا "يجعلون" بالعين بعد الجيم، وكذا نقله القاضي عياض عن أكثر الرواة قال: ورواه بعضهم "يجملون" بالميم بعد الجيم، ومعناه يذيبون، يقال: يجملون بفتح الياء وضمها، لغتان، يقال: جملت الشحم وأجملته أذبته. اهـ. -[فقه الحديث]- اختلف العلماء في طهارة جلود الميتة بالدباغ على سبعة مذاهب: أحدها: مذهب الشافعي، وهو أنه يطهر بالدباغ جميع جلود الميتة إلا جلد الكلب والخنزير، وما تولد منهما أو من أحدهما، وذلك لنجاسة عينهما في المذهب، ويطهر بالدباغ ظاهر الجلد وباطنه، ويجوز استعماله في الأشياء المائعة واليابسة، ولا فرق بين مأكول اللحم وغيره، وروي هذا المذهب عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود -رضي الله عنهما- وهو مذهب الأكثرين. ومجموع الأحاديث تؤيده، والرواية السادسة "إذا دبغ الإهاب فقد طهر" صريحة في عموم المأكول وغير المأكول، ومن المعلوم أن نجس العين لا يطهر، والرواية السابعة والثامنة صريحة في طهارة ظاهر الجلد وباطنه بعد الدبغ، وصريحة في استعماله في الماء والودك.

ثانيها: لا يطهر شيء من جلود الميتة بالدباغ. روي هذا عن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وعائشة رضي الله عنه، وهو أشهر الروايتين عن أحمد وإحدى الروايتين عن مالك، وتمسكوا بحديث عبد الله بن عكيم قال: أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مونه "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" أخرجه الشافعي وأحمد والأربعة، وصححه ابن حبان وحسنه الترمذي وفي رواية الشافعي "قبل موته بشهر". وأجاب الجمهور عن هذا الحديث بأنه معارض للأحاديث الصحيحة له وأنها عن سماع، وهذا كتابة كتاب، وأنها أصح مخارج، بل طعن بعضهم فيه بالاضطراب، وأعله بعضهم بالانقطاع، وعلى فرض صحته وقوته يحمل على الجلد قبل الدبغ، فالإهاب هو الجلد قبل الدبغ على المشهور وأنه بعد الدبغ لا يسمى إهابا. ثالثها: يطهر بالدباغ جلد مأكول اللحم، ولا يطهر غيره، وهو مذهب الأوزاعي وابن المبارك وأبي ثور وإسحق بن راهويه، واحتجوا بأن الأحاديث وردت في الشاة، بل جزم الرافعي وبعض أهل الأصول بأن اللفظ العام "إذا دبغ الإهاب فقد طهر" ورد أيضا في شاة مولاة ميمونة، فلهذا السبب يقصر الجواز على المأكول، ويتقوى ذلك بأن الدباغ لا يزيد في التطهير على الذكاة، وغير المأكول لو ذكي لم يطهر بالذكاة عند الأكثر، فكذلك الدباغ، وأجاب الجمهور بالتمسك بلفظ العموم، وأن العدرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وبعموم الإذن بالمنفعة، ولأن الحيوان طاهر ينتفع به قبل الموت، فكان الدباغ بعد الموت قائما له مقام الحياة. رابعها: يطهر بالدباغ جلود جميع الميتات إلا جلد الخنزير، وهو مذهب أبي حنيفة، ولا يختلف عن مذهب الشافعي إلا في جلد الكلب. خامسها: يطهر بالدباغ جلود جميع الميتات بدون استثناء، إلا أنه يطهر ظاهر الجلد، دون باطنه، ويستعمل في اليابسات دون المائعات، ويصلي عليه لا فيه وهذا مذهب مالك المشهور في حكاية أصحابه عنه. والرواية السابعة والثامنة تعارضه، فإن جلود ما ذكاه المجوس نجسة، وقد نص على طهارتها بالدباغ واستعمالها في الماء والودك. سادسها: يطهر بالدباغ جلود جميع الميتات بدون استثناء طاهرا وباطنا، وهو مذهب داود وأهل الظاهر وحكي عن أبي يوسف. سابعها: أنه ينتفع بجلود الميتة وإن لم تدبغ، ويجوز استعمالها في المائعات واليابسات، وهو مذهب الزهري ووجه شاذ لبعض الشافعية، وقد يحتج له بالرواية الثانية والرابعة والخامسة "هلا انتفعتم بجلدها"؟ "ألا أخذتم إهابها فاستمتعتم به"؟ "ألا انتفعتم بإهابها"؟ حيث لم يذكر دباغها. وأجاب الجمهور بأن هذه الروايات المطلقة، وأخواتها الباقيات مقيدة بالدبغ، وأن الدباغ طهور الجلد، فيحمل المطلق على المقيد. هذا، ويجوز الدباغ بكل شيء ينشف فضلات الجلد ويطيبه ويمنع من ورود الفساد عليه. ولا يحصل الدبغ بالتشميس عند الشافعية، ويحصل عند الحنفية ويحصل بالأدوية النجسة على الصحيح، ويجب غسله بعد الفراغ من الدباغ بلا خلاف.

-[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - استدل بها على جواز بيع جلود الميتة، لأنها تجيز الاستمتاع والانتفاع وكل ما ينتفع به يصح بيعه، وما لا فلا. 2 - أخذ ابن أبي جمرة من قولهم: "إنها ميتة" مراجعة الإمام فيما لا يفهم السامع معنى ما أمره، كأنهم قالوا: كيف تأمرنا بالانتفاع بها وقد حرمت علينا؟ فبين له وجه التحريم. 3 - وفيه حسن مراجعتهم وبلاغتهم في الخطاب، لأنهم جمعوا معاني كثيرة في كلمة واحدة، هي قولهم: "إنها ميتة". 4 - وأخذ منها بعضهم جواز تخصيص الكتاب بالسنة، لأن لفظ القرآن: {حرمت عليكم الميتة} [المائدة: 3] وهو شامل لجميع أجزائها في كل حال، فخصت السنة ذلك بالأكل. قاله الحافظ ابن حجر: ويمكن أن يرد بأن المخصص هو قوله تعالى: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه ... } [الأنعام: 145] حيث خصت التحريم بالأكل. 5 - استدل بها ابن أبي جمرة على جواز تنمية المال، لأنهم نصحوا بأخذ جلد الميتة ودبغه والانتفاع به بعد أن كان مطروحا. والله أعلم

(148) باب التيمم

(148) باب التيمم 650 - عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره. حتى إذا كنا بالبيداء (أو بذات الجيش) انقطع عقد لي فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه. وأقام الناس معه. وليسوا على ماء. وليس معهم ماء. فأتى الناس إلى أبي بكر فقالوا: ألا ترى إلى ما صنعت عائشة "أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس معه. وليسوا على ماء. وليس معهم ماء. فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام. فقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس. وليسوا على ماء وليس معهم ماء. قالت: فعاتبني أبو بكر. وقال ما شاء الله أن يقول. وجعل يطعن بيده في خاصرتي. فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي. فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح على غير ماء فأنزل الله آية التيمم فتيمموا. فقال أسيد بن الحضير (وهو أحد النقباء): ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر فقالت عائشة فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته". 651 - عن عائشة رضي الله عنها أنها استعارت من أسماء قلادة. فهلكت فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا من أصحابه في طلبها. فأدركتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء. فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم شكوا ذلك إليه فنزلت آية التيمم. فقال أسيد بن حضير: جزاك الله خيرا. فوالله! ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لك منه مخرجا. وجعل للمسلمين فيه بركة. 652 - عن شقيق قال: كنت جالسا مع عبد الله وأبي موسى. فقال أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن! أرأيت لو أن رجلا أجنب فلم يجد الماء شهرا. كيف يصنع بالصلاة؟ فقال عبد الله: لا يتيمم وإن لم يجد الماء شهرا. فقال أبو موسى: فكيف بهذه الآية في سورة المائدة، (فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا) [المائدة: 6] فقال عبد الله: لو رخص لهم في هذه الآية، لأوشك إذا برد عليهم الماء، أن يتيمموا بالصعيد. فقال أبو موسى لعبد الله: ألم تسمع قول عمار: بعثني

رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنبت. فلم أجد الماء. فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة. ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له. فقال: "إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا" ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة. ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه، ووجهه؟ فقال عبد الله: أولم تر عمر لم يقنع بقول عمار؟ . 653 - عن شقيق قال: قال أبو موسى لعبد الله. وساق الحديث بقصته. نحو حديث أبي معاوية. غير أنه قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما كان يكفيك أن تقول هكذا" وضرب بيديه إلى الأرض. فنفض يديه فمسح وجهه وكفيه. 654 - عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه؛ أن رجلا أتى عمر فقال: إني أجنبت فلم أجد ماء. فقال: لا تصل. فقال عمار: أما تذكر، يا أمير المؤمنين! إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا. فلم نجد ماء. فأما أنت فلم تصل. وأما أنا فتمعكت في التراب وصليت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض. ثم تنفخ. ثم تمسح بهما وجهك وكفيك" فقال عمر: اتق الله. يا عمار! قال: إن شئت لم أحدث به. قال الحكم وحدثنيه ابن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه مثل حديث ذر قال وحدثني سلمة عن ذر في هذا الإسناد الذي ذكر الحكم فقال عمر نوليك ما توليت. 655 - عن ابن عبد الرحمن بن أبزى قال قال الحكم وقد سمعته من ابن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه أن رجلا أتى عمر فقال: إني أجنبت فلم أجد ماء. وساق الحديث. وزاد فيه قال عمار: يا أمير المؤمنين! إن شئت -لما جعل الله علي من حقك- لا أحدث به أحدا. ولم يذكر حدثني سلمة عن ذر. 656 - عن عبد الرحمن بن هرمز عن عمير مولى ابن عباس؛ أنه سمعه يقول: أقبلت أنا وعبد الرحمن بن يسار، مولى ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. حتى دخلنا على أبي الجهم بن الحارث بن الصمة الأنصاري. فقال أبو الجهم: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل.

فلقيه رجل فسلم عليه. فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه. حتى أقبل على الجدار فمسح وجهه ويديه. ثم رد عليه السلام. 657 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلا مر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبول، فسلم. فلم يرد عليه. -[المعنى العام]- تزوجت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بنت تسع سنين، وخرجت معه في هذه السفرة في غزوة بني المصطلق وهي لم تتجاوز الخامسة عشرة، صبية في تلك السن، تحرص على التجمل لزوج له ست نساء غيرها، لكنها لا تحافظ على ما تحت يدها، قليلة الخبرة مستهينة بالأمور، لا يمتد غور تفكيرها إلى النتائج والعواقب، استعارت من أختها أسماء قلادتها وهي عقد جميل من خرز يمني، ولبسته وسافرت به، ويبدو أنها لم تتعود إحكام غلقه فسقط منها ليلة عند بئر المريسيع واضطرب بسبب بحثها عنه إلى التأخر عن الجيش الذي رحل وتركها، وكانت العاقبة حديث الإفك، وفي نفس طريق العودة وقريبا من المدينة ينزل الجيش ليستريح، فيسقط منها العقد مرة أخرى، لكنها في هذه المرة أسرعت وأبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث صلى الله عليه وسلم رجالا على رأسهم أسيد بن حضير للبحث عنه، وانطلقوا هنا وهناك، يفتشون المظان في الطريق، وغابوا وأدركتهم الصلاة، فصلوا بغير وضوء لعدم الماء، وتأخروا، وطال انتظار القوم، وهم لا يجدون الماء في مكان نزولهم، وكاد ينفد ما عندهم منه. إن بعضهم يسمع همس المنافقين بحديث الإفك، فيألم، ويحمل في نفسه على عائشة أن وضعت نفسها موضع التهم، ثم هي الآن بسبب إهمال آخر تعرض الجيش للقحط والعطش، لقد ضاقوا ذرعا، فذهبوا إلى أبي بكر يشكونها، يقولون: ألم تر يا أبا بكر إلى ما صنعت ابنتك عائشة؟ أضاعت عقدها للمرة الثانية، فحبستنا وحبست رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الصحراء حيث لا ماء، وكان أبو بكر ممن سمع همس المنافقين، وقلبه يتقطع أسى وحسرة، فدخل مغضبا على ابنته، يعنفها ويؤنبها، ويحرص على عدم إزعاج رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي وجده نائما على فخذها، يطعنها بيده في جنبها، يقول لها: ما أكثر عناءك وبلاءك على الناس، تحبسينهم في قلادة تافهة وهم على غير ماء، يطعنها فتتألم ولا تتحرك، يطعنها فتشد على أسنانها وتكتم أنفاسها وآهاتها، وما الفائدة في الطعن والشتم وقد حصل ما حصل، والليل المخيم على الناس لا يشجع على الرحيل، أصبح الناس ليسمعوا فضل الله ورحمته بأمة محمد صلى الله عليه وسلم ليسمعوا آية التيمم المختومة بقوله جل شأنه: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} [المائدة: 6] فيبتهجون بهذه البشرى، ويقول حبيبهم: ما أكثر بركاتكم يا آل أبي بكر، ما أنزل الله بكم ضيقا إلا جعل لكم منه مخرجا، وجعل

للمسلمين من ورائه خيرا وبركة، ويعود الباحثون عن العقد دون أن يجدوه، فلما أقاموا البعير الذي كانت تركبه عائشة وجدوا العقد تحته. وهكذا أسباب ومسببات، يقدرها الله، {إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا} [الطلاق: 3]. وتعلم الصحابة التيمم، وتيمموا، لكنهم لم يسألوا عن التيمم في حال الجنابة حتى سافر عمار بن ياسر مع عمر بن الخطاب في سرية، فحدثت لهما جنابة، فأما عمر فلم يصل، وأما عمار فتمرغ في التراب كما يتمرغ الحيوان، وصلى، فلما رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره، قال له: إن التيمم للجنابة كالتيمم للحدث الأصغر، فكان يكفيك أن تضرب الأرض بيديك ثم تمسح بهما وجهك وكفيك. وعلم عمار حكم التيمم للجنابة، وظل عمر على ما يفهم، حتى جاءه رجل يسأله عمن أجنب ولم يجد الماء، فقال عمر: لا يصلي، فقال عمار: بل يتيمم ويصلي، وساق ما علم، فقال عمر لعمار: استوثق يا عمار مما تقول: قال عمار: إن شئت -يا أمير المؤمنين أن لا أحدث بهذا أحدا، قال عمر: لا. تول ما توليت، وأد ما تحملت، وتمسك عبد الله بن مسعود بموقف عمر، وأن الجنب لا يتيمم ولا يصلي، وتمسك الناس بموقف عمار، ودار الحوار بين أبي موسى الأشعري وعبد الله بن مسعود، يحكي أبو موسى ما حكاه عمار ويحكي عبد الله بن مسعود ما حكاه عمر، لكنه حين يعلم أن عمر أذن لعمار أن ينشر حديثه يعود فيرجع عن رأيه إلى رأي الجماعة، ويقبل تيمم الجنب الفاقد للماء ليؤدي الصلاة. وبهذه الصورة نرى مدى حرص الصحابة على دقة الاتباع وتحريهم أحكام الشريعة الغراء فجزاهم الله عنا خير الجزاء. -[المباحث العربية]- (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره) أي خرجت عائشة والصحابة، وكان صلى الله عليه وسلم إذا خرج أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها، فأصابت القرعة عائشة في هذه السفرة وكانت غزوة بني المصطلق، وهي غزوة المريسيع. (حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش) "حتى" غاية للسفرة في عمومها فإن العقد انقطع في العودة في طريقهم إلى المدينة قريبا منها، و"البيداء" بفتح الباء، مرتفع قريب من ذي الحليفة في طريق مكة، و"ذات الجيش" بفتح الجيم موضع قريب منه، وبينه وبين المدينة نحو عشرين كيلو مترا. (انقطع عقد لي) أي انفك من موضع ربط الطرفين، ولم ينفرط فإنه وجد غير مبعثر ولم يضع منه حبة، وكان العقد من خرز يمني، وقيمته نحو اثنى عشر درهما، كما جاء في بعض الروايات، والعقد في اللغة بكسر العين كل ما يعقد ويعلق في العنق، والقلادة ما يجعل في العنق، فلا تعارض بين التعبير بالعقد في الرواية الأولى وبالقلادة في الرواية الثانية. وأما قولها "عقد لي" في الرواية الأولى، والتصريح في الرواية الثانية بأنه كان لأسماء أختها

استعارته منها فقد قال النووي: لا مخالفة بينهما، فهو في الحقيقة ملك لأسماء، وأضافته في الرواية إلى نفسها لكونه في يدها. (فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه) أي فتوقف عن المسير، وأقام بالمكان لأجل التماسه وطلبه والبحث عنه. (وليس معهم ماء) الظاهر أن المراد ليس معهم ماء للوضوء، وأما ما يحتاجون إليه للشرب فيحتمل أن يكون معهم. (فعاتبني أبو بكر) أي لامني وعنفني. قال الحافظ ابن حجر: والنكتة في قول عائشة "فعاتبني أبو بكر" ولم تقل: أبي. لأن قضية الأبوة الحنو، وما وقع من العتاب بالقول والتأديب بالفعل، مغاير لذلك في الظاهر، فلذلك أنزلته منزلة الأجنبي، فلم تقل: أبي. اهـ. وفيه نظر. (وقال ما شاء الله أن يقول) كناية عن كلام مؤلم كثير، وكان مما قال -على ما تذكره بعض الروايات- حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس في قلادة لا تساوي اثنى عشر درهما؟ في كل سفرة تكونين عناء وبلاء على الناس؟ . (وجعل يطعن بيده في خاصرتي) "يطعن" بضم العين، وكذا في جميع ما هو حسي، وأما المعنوي فيقال: "يطعن" بالفتح هذا هو المشهور، وحكي فيهما معا الفتح، كما حكي فيهما معا الضم، وخاصرة الإنسان وسطه. (فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي) المستثنى منه عموم الفاعل، فلا يمنعني من التحرك شيء إلا كون رسول الله على فخذي. (فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح على غير ماء) في رواية البخاري "فقام حين أصبح على غير ماء" والمعنى فيهما متقارب، لأن كلا منهما يدل على أن قيامه من نومه كان عند الصبح، فـ"حتى" غاية للنوم، وقال بعضهم: ليس المراد بيان غاية النوم إلى الصباح، بل بيان غاية فقد الماء إلى الصباح، لأنه قيد قولها "حتى أصبح" بقولها "على غير ماء" أي آل أمره إلى أن أصبح على غير ماء، وهو كلام حسن. (فأنزل الله أية التيمم) من باب تسمية الكل باسم الجزء، لقوله تعالى فيها: {فتيمموا} والتيمم لغة القصد، وشرعا القصد إلى التراب ونحوه لمسح الوجه واليدين بنية استباحة الصلاة ونحوها. {فتيمموا} أي فامتثلها الصحابة وتيمموا وصلوا. قال الحافظ ابن حجر: يحتمل أن يكون خبرا عن فعل الصحابة، أي فتيمم الناس بعد نزول الآية، ويحتمل أن يكون حكاية لبعض الآية، وهو الأمر في قوله: {فتيمموا صعيدا طيبا} بيانا لقوله: "آية التيمم" أو بدلا. اهـ. والأول هو الظاهر. (فقال أسيد بن حضير) "أسيد" تصغير "أسد" وهو صحابي جليل من كبار الصحابة،

زادته عائشة تعظيما بقولها "وهو أحد النقباء" وهدفها الاعتزاز بشهادته فيها، لأن شهادة العظيم يعتز بها. (ما هي بأول بركتكم) أي ما هذه البركة والخير الذي جاء على يديكم بأول بركة وخير يأتي عنكم، بل هي مسبوقة بغيرها من بركاتكم. (فبعثنا البعير الذي كنت عليه) أي أثرنا البعير الذي كنت عليه في حالة السفر. (فوجدنا العقد تحته) في الإسناد مجاز، لأن الذي وجد العقد هو أسيد بن حضير، كما ورد في بعض الروايات. (فهلكت) أي فضاعت، تعني هلكت بعض الوقت. {فتيمموا صعيدا طيبا} اختلف في المراد بالصعيد، والأكثرون على أنه هنا التراب، وقال الآخرون: هو كل ما صعد على وجه الأرض، وسيأتي مزيد إيضاح له في فقه الحديث، أما الطيب فقيل: الطاهر، وقيل: الحلال، والأول أولى بالقبول. (لأوشك إذا برد عليهم الماء أن يتيمموا). قال النووي: معنى "أوشك" قرب وأسرع، وقد زعم بعض أهل اللغة أنه لا يقال: أوشك، وإنما يستعمل مضارعا، فيقال: يوشك كذا وكذا. وليس كما زعم هذا القائل، بل يقال: أوشك أيضا، ومما يدل عليه هذا الحديث مع أحاديث كثيرة في الصحيح مثله. وقوله: "برد" هو بفتح الباء والراء، وقال الجوهري "برد" بضم الراء، والمشهور الفتح. اهـ. (كما تمرغ الدابة) "تمرغ" بفتح التاء وضم الغين، وأصله تتمرغ، فحذفت إحدى التاءين. (إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا) استعمل القول بدل الفعل أي إنما كان يكفيك أن تفعل بيديك هكذا، ولعل في هذا التعبير إشارة إلى مصاحبة قول القلب أي النية لعمل اليدين، ورواية البخاري "إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا". و"ها" في "هكذا" للتنبيه، والكاف صفة لمصدر محذوف و"ذا" اسم إشارة، والتقدير أن تفعل بيديك فعلا مثل هذا. (أما تذكر يا أمير المؤمنين) "أما" حرف عرض بمنزلة "ألا" ويمكن أن يقال فيها: إن الهمزة للاستفهام التقديري، و"ما" نافية. (وأما أنا فتمعكت في التراب) في القاموس: معكه في التراب كمنعه دلكه وتمعك تمرغ. (اتق الله يا عمار) أي اتق الله فيما ترويه وتثبت، فلعلك نسيت أو اشتبه عليك الأمر، فإني كنت معك ولا أتذكر شيئا من هذا.

(إن شئت لم أحدث به) معناه إن رأيت المصلحة في إمساكي عن التحديث به راجحة على التحديث به وافقتك وأمسكت، فإني قد بلغته، فلم يبق علي فيه حرج، ولم أعد كاتما للعلم، وطاعتك واجبة علي في غير المعصية. ويحتمل أنه أراد إن شئت لم أحدث به تحديثا شائعا، بحيث يشتهر بين الناس بل لا أحدث به إلا نادرا، قاله النووي، لكنه لا تساعده الرواية الآتية "لا أحدث به أحدا". (قال عمر: نوليك ما توليت) أي لا يلزم من كوني لا أتذكره ألا يكون حقا في نفس الأمر فليس لي منعك من التحديث به. (أقبلت أنا وعبد الرحمن بن يسار) قال النووي: هكذا هو في أصول صحيح مسلم، وقوله "عبد الرحمن" خطأ صريح، وصوابه عبد الله بن يسار. (حتى دخلنا على أبي الجهم بن الحارث بن الصمة) قال النووي: أما "الصمة" فبكسر الصاد وتشديد الميم، وأما أبو الجهم فبفتح الجيم وبعدها هاء ساكنة، هكذا هو في مسلم، وهو غلط، وصوابه ما وقع في صحيح البخاري وغيره "أبو الجهيم" بضم الجيم وفتح الهاء وزيادة ياء. (من نحو بئر جمل) بفتح الجيم والميم، ورواية النسائي "بئر الجمل" بالألف واللام، وهو موضع بقرب المدينة، أي من جهة الموضع الذي يعرف بذاك. -[فقه الحديث]- قال النووي: اعلم أن التيمم ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، وهو خصيصة خص الله سبحانه وتعالى به هذه الأمة، زادها الله تعالى شرفا، وأجمعت الأمة على أن التيمم لا يكون إلا في الوجه واليدين، سواء كان عن حدث أصغر أو أكبر، وسواء تيمم عن الأعضاء كلها أو بعضها. ثم قال: واختلف العلماء في كيفية التيمم، فمذهبنا ومذهب الأكثرين أنه لا بد من ضربتين، ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين، وممن قال بذلك من العلماء سفيان الثوري ومالك وأبو حنيفة وأصحاب الرأي وآخرون -رضي الله عنهم أجمعين-. وذهبت طائفة إلى أن الواجب ضربة واحدة للوجه والكفين، وهو مذهب أحمد وإسحق وابن المنذر وعامة أصحاب الحديث. وحكي عن الزهري أنه يجب مسح اليدين إلى الإبطين. قال الخطابي: لم يختلف أحد من العلماء في أنه لا يلزم مسح ما وراء المرفقين وحكي عن ابن سيرين أنه قال: لا يجزئه أقل من ثلاث ضربات. ضربة للوجه، وضربة ثانية لكفيه، وثالثة لذراعيه. وأجمع العلماء على جواز التيمم عن الحدث الأصغر، وكذلك أجمع أهل هذه الأعصار ومن قبلهم على جوازه للجنب والحائض والنفساء، ولم يخالف فيه أحد من الخلف ولا من السلف، إلا ما جاء عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود، وقيل إن عمر وعبد الله بن مسعود رجعا عنه، وقد جاءت بجوازه للجنب الأحاديث الصحيحة المشهورة.

وإذا صلى الجنب بالتيمم ثم وجد الماء وجب عليه الاغتسال بإجماع العلماء إلا ما حكي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن الإمام التابعي أنه قال: لا يلزمه، وهو مذهب متروك بإجماع من قبله ومن بعده وبالأحاديث الصحيحة المشهورة في أمره صلى الله عليه وسلم للجنب بغسل بدنه إذا وجد الماء. ويجوز للمسافر والمغرب في الإبل وغيرهما أن يجامع زوجته وإن كانا عادمين للماء، ويغسلان فرجيهما، ويتيممان ويصليان، ويجزيهما التيمم، ولا إعادة عليهما إذا غسلا فرجيهما، وأما إذا كان على بعض أعضاء المحدث نجاسة فأراد التيمم بدلا عنها فمذهبنا ومذهب جمهور العلماء أنه لا يجوز، وقال أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: يجوز أن يتيمم إذا كانت النجاسة على بدنه، ولم يجز إذا كانت على ثوبه، واختلف أصحابه في وجوب إعادة هذه الصلاة، وقال ابن المنذر: كان الثوري والأوزاعي وأبو ثور يقولون: يمسح موضع النجاسة بتراب ويصلي. وأما إعادة الصلاة التي بالتيمم فمذهبنا أنه لا يعيد إذا تيمم للمرض أو الجراحة ونحوهما، وأما إذا تيمم للعجز عن الماء فإن كان في موضع يعدم فيه الماء غالبا كالسفر لم تجب الإعادة، وإن كان في موضع لا يعدم فيه الماء إلا نادرا وجبت الإعادة على المذهب الصحيح. وأما جنس ما يتيمم به فاختلف العلماء فيه، فذهب الشافعي وأحمد وابن المنذر وداود الظاهري وأكثر الفقهاء إلى أنه لا يجوز التيمم إلا بتراب طاهر له غبار يعلق بالعضو. وقال أبو حنيفة ومالك: يجوز التيمم بجميع أنواع الأرض، حتى بالصخرة المغسولة، وزاد بعض أصحاب مالك فجوزه بكل ما اتصل بالأرض من الخشب وغيره، وعن مالك في الثلج روايتان، وذهب الأوزاعي وسفيان الثوري إلى أنه يجوز بالثلج وكل ما على الأرض. وأما حكم التيمم فمذهبنا ومذهب الأكثرين أنه لا يرفع الحدث، بل يبيح الصلاة فيستبيح به فريضة، وما شاء من النوافل، ولا يجمع بين فريضتين بتيمم واحد، وإن نوى بتيممه الفرض استباح الفريضة والنافلة، وإن نوى النفل استباح النفل ولم يستبح به الفرض، وله أن يصلي على جنائز بتيمم واحد، وله أن يصلي بالتيمم الواحد فريضة وجنائز، ولا يتيمم قبل دخول وقتها، وإن رأى المتيمم لفقد الماء ماء وهو في الصلاة لم تبطل صلاته، بل له أن يتمها إلا إذا كان ممن تلزمه الإعادة، فإن صلاته تبطل برؤية الماء انتهى بتصرف. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - جواز الإقامة في موضع لا ماء فيه، وإن احتاج إلى التيمم، وكذا سلوك الطريق الذي لا ماء فيها. قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر، لأن المدينة كانت قريبة منهم وهم على قصد دخولها، ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم لم يعلم بعدم وجود الماء مع الركب، وإن كان قد علم بأن المكان لا ماء فيه، ويحتمل أن يكون قوله "ليس معهم ماء" أي كثير. 2 - استدل به على أن الوضوء كان واجبا عليهم قبل نزول آية الوضوء، ولهذا استعظموا نزولهم على غير ماء، وقال الحافظ ابن حجر: قال ابن عبد البر: معلوم عند جميع أهل المغازي أنه صلى الله عليه

وسلم لم يصل منذ افترضت الصلاة عليه إلا بوضوء ولا يدفع ذلك إلا جاهل أو معاند. قال: وفي قوله في هذا الحديث "آية التيمم: إشارة إلى الذي طرأ عليهم من العلم حينئذ حكم التيمم، لا حكم الوضوء. قال: والحكمة في نزول آية الوضوء مع تقدم العمل به ليكون فرضه متلوا بالتنزيل. اهـ. وقال غيره: ويحتمل أن يكون أول آية الوضوء نزل قديما، فعلموا به الوضوء، ثم نزل بقيتها وهو ذكر التيمم في هذه القصة، وإطلاق آية التيمم على هذا من تسمية الكل باسم البعض. قال الحافظ ابن حجر: لكن الرواية التي أخرجها البخاري في التفسير تدل على أن الآية نزلت جميعها في هذه القصة، فالظاهر ما قاله ابن عبد البر. اهـ. وهذا الإشكال مبني على أن المراد بآية التيمم في الحديث آية المائدة {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} [المائدة: 6]. أما لو أريد بآية التيمم آية النساء {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا} [النساء: 43] فلا إشكال. قال ابن العربي: هذه مشكلة ما وجدت لدائها من دواء لأنا لا نعلم أي الآيتين عنت عائشة. قال ابن بطال: هي آية النساء أو آية المائدة، وقال القرطبي: هي آية النساء ووجهه بأن آية المائدة تسمى آية الوضوء وآية النساء لا ذكر فيها للوضوء فيتجه تخصيصها بآية التيمم. وأورد الواحدي في أسباب النزول هذا الحديث عند ذكر آية النساء أيضا. قال الحافظ ابن حجر: وخفي على الجميع ما ظهر للبخاري من أن المراد بها آية المائدة بغير تردد، لرواية عمرو بن الحارث، إذ صرح فيها بقولها فنزلت {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} الآية. 3 - استدل بقوله في الآية "فتيمموا" على وجوب النية في التيمم، لأن معنى "فتيمموا" اقصدوا، وهو قول فقهاء الأمصار إلا الأوزاعي. 4 - واستدل بهذه اللفظة أيضا على أنه يجب نقل التراب، ولا يكفي هبوب الريح، بخلاف الوضوء كما لو أصابه مطر، فنوى الوضوء به، فإنه يجزئ، قال الحافظ ابن حجر: والأظهر الإجزاء لمن قصد التراب من الريح الهابة، بخلاف من لم يقصد.

5 - واستدل بقوله "إذا قمتم إلى الصلاة" على أنه يجب التيمم لكل فريضة. 6 - وبقوله {وإن كنتم مرضى أو على سفر} على عدم جواز التيمم في الحضر لمن فقد الماء، وقد اختلف السلف في أصل المسألة، فذهب مالك إلى عدم وجوب الإعادة على من تيمم في الحضر، ووجهه ابن بطال بأن التيمم إنما ورد في المسافر والمريض لإدراك وقت الصلاة، فيلتحق بهما الحاضر إذا لم يقدر على الماء، قياسا، وقال الشافعي: تجب عليه لندور ذلك، وعن أبي يوسف وزفر لا يصلي إلى أن يجد الماء ولو خرج الوقت، والرواية الخامسة، وتيمم الرسول صلى الله عليه وسلم من الجدار تجيز التيمم في الحضر. 7 - استدل بقوله "صعيدا طيبا" على تعين الصعيد الطيب للتيمم، لكن اختلف العلماء في المراد بالصعيد الطيب، وقد سبق بيان هذا الاختلاف. 8 - استدل بقوله في ملحق الرواية الثالثة "فنفض يديه" وبقوله في الرواية الرابعة "ثم تنفخ" على استحباب تخفيف التراب. 9 - وعلى سقوط استحباب التكرار في التيمم، لأن التكرار يستلزم عدم التخفيف. 10 - بل استدل بالنفخ والنفض على أن التراب ليس شرطا، بل الشرط القصد فجوزوا التيمم بالحجارة وما لا غبار عليه، قالوا: إذ لو كان الغبار معتبرا لم ينفض اليد، وهذا القول بعيد عن القبول: لأن المراد بالنفض تخفيف الغبار الكثير، لا إزالته كله، إذ يصير الضرب عبثا. 11 - استدل بقوله في الرواية الثالثة "ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ... إلخ" على الاكتفاء بضربة واحدة في التيمم للوجه والكفين جميعا، وللآخرين أن يجيبوا عنه بأن المراد هنا صورة الضرب للتعليم، وليس المراد بيان جميع ما يحصل به التيمم، وهو جواب ضعيف. 12 - استدل بقوله في ملحق الرواية الثالثة "فمسح وجهه وكفيه" وقوله في الرواية الرابعة "ثم تمسح بهما وجهك وكفيك" على أن ما زاد على الكفين ليس بفرض وإليه ذهب أحمد وإسحق وابن جرير وابن المنذر ونقله ابن الجهم وغيره عن مالك، ونقله الخطابي عن أصحاب الحديث. وهذا القول وإن كان مرجوحا لدى جمهور العلماء هو القوي في الدليل، ولا يقاومه قياس التيمم على الوضوء في البلوغ باليدين إلى المرفقين، لأن القياس فاسد الاعتبار في مقابلة النص. والله أعلم. 13 - استدل بقوله في الرواية الثانية "فأدركتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء" على أن من عدم الماء والتراب يصلي على حاله، نعم ليس في الحديث فقد التراب، وكان قبل نزول التيمم، لكن وجه الدلالة أنهم صلوا معتقدين وجوب الصلاة عند فقد المطهر، ولو كانت الصلاة حينئذ ممنوعة لأنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وبهذا قال الشافعي وأحمد وجمهور المحدثين، وأكثر أصحاب مالك اختلفوا في وجوب الإعادة فالمنصوص عن الشافعي وجوبها وصححه أكثر أصحابه، واحتجوا بأنه عذر نادر، فلم يسقط الإعادة، والمشهور عن أحمد، وبه قال المزني وسحنون وابن المنذر لا تجب، واحتجوا بحديث الباب، وبأنها لو كانت واجبة لبينها لهم النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ورد عليهم بأن الإعادة لا تجب على الفور، فلم يتأخر البيان عن وقت الحاجة، وقال مالك

وأبو حنيفة في المشهور عنهما: لا يصلي فاقد الطهورين، ولا يجب عليه القضاء عند مالك فيما حكاه عنه المدنيون، ويجب عند أبي حنيفة وأصحابه، وبه قال الثوري والأوزاعي، ونقل عن الشافعي في القديم: تستحب له الصلاة وتجب الإعادة. 14 - أخذ من قصة عمار جواز الاجتهاد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن عمارا رضي الله عنه اجتهد في صفة التيمم، واستعمل القياس، لأنه لما رأى أن التيمم إذا وقع بدل الوضوء وقع على هيئته وأعضائه، رأى أن التيمم عن الغسل يقع على هيئة الغسل. قال النووي: وقد اختلف أهل الأصول في هذه المسألة على ثلاثة أوجه: أصحها، يجوز الاجتهاد في زمنه صلى الله عليه وسلم بحضرته وفي غير حضرته، والثاني: لا يجوز بحال، والثالث: لا يجوز بحضرته ويجوز في غير حضرته. 15 - كما أخذ من تمرغ عمار في التراب حيث أجزأه ذلك أن من غسل رأسه بدل المسح في الوضوء أجزأه. 16 - وجواز الزيادة على الضربتين في التيمم. 17 - وسقوط إيجاب الترتيب في التيمم عن الجنابة. 18 - استدل بقولها في الرواية الأولى "فنام حتى أصبح" على الرخصة للنبي صلى الله عليه وسلم في ترك التهجد في السفر، إن ثبت أن التهجد كان واجبا عليه. 19 - ويؤخذ من الرواية الخامسة جواز التيمم بالجدار. 20 - وجواز التيمم للنوافل والفضائل، فإن قيل: كيف تيمم بالجدار من غير إذن مالكه أجيب بأنه محمول على العلم برضا صاحبه. 21 - ويؤخذ من الرواية الأولى شكوى المرأة إلى أبيها وإن كان لها زوج، وكأنهم إنما شكوا إلى أبي بكر لكون النبي صلى الله عليه وسلم كان نائما، وكانوا لا يوقظونه. 22 - ويؤخذ منها نسبة الفعل إلى من كان سببا فيه، لقولهم، وصنعت وحبست. 23 - وجواز دخول الرجل على ابنته، وإن كان زوجها عندها، إذا علم رضاه بذلك، ولم تكن حالة مباشرة. 24 - وتأديب الرجل ولده بالقول والفعل والضرب ونحوه. 25 - تأديب الرجل ابنته وإن كانت كبيرة وزوجة وخارجة عن بيته. 26 - وجواز مسافرة الزوج بزوجته الحرة. 27 - وجواز العارية. 28 - وجواز عارية الحلي. 29 - وجواز المسافرة بالعارية، وهو محمول على رضا صاحبها.

30 - وجواز اتخاذ النساء الحلي تجملا لأزواجهن. 31 - واعتناء الإمام بحفظ حقوق المسلمين وأموالهم وإن قلت، فقد ثبت أن العقد لم يكن يساوي اثنى عشر درهما وأقام صلى الله عليه وسلم بالناس على التماسه. 32 - وفيه إشارة إلى ترك إضاعة المال. 33 - وفيه حب عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشدة حرصها على راحته وعدم إزعاجه. 34 - وفيه دليل على فضل عائشة وأبيها وتكرار البركة منها. 35 - ويكره الكلام أثناء قضاء الحاجة، كما يكره ذكر الله ولو كان واجبا. تشير إلى ذلك الرواية الخامسة والسادسة، قال العلماء: ولا يستحق المسلم في تلك الحال جوابا. قال النووي: وهذا متفق عليه. ثم قال: ويكره أن يسلم على المشتغل بقضاء حاجة البول والغائط، "فإن سلم عليه كره رد السلام، وكذا يكره الكلام على قضاء الحاجة بأي نوع كان من أنواع الكلام، ويستثنى من هذا كله موضع الضرورة. كما إذا رأى ضريرا يكاد أن يقع في بئر أو رأى حية أو عقربا يقصد إنسانا أو نحو ذلك فإن الكلام في مثل هذه المواضع ليس بمكروه بل هو واجب، وهذا الذي ذكرناه مذهب الأكثرين. وحكي عن النخعي وابن سيرين عدم كراهة الكلام مطلقا عند قضاء الحاجة. واختلف في العاطس يحمد الله، والأولى أن يحمد بقلبه؛ لتشريف الذكر وتعظيمه وتنزيهه. والله أعلم

(149) باب المسلم لا ينجس

(149) باب المسلم لا ينجس 658 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه لقيه النبي صلى الله عليه وسلم في طريق من طرق المدينة وهو جنب. فانسل فذهب فاغتسل. فتفقده النبي صلى الله عليه وسلم. فلما جاءه قال: "أين كنت؟ يا أبا هريرة! " قال: يا رسول الله! لقيتني وأنا جنب. فكرهت أن أجالسك حتى أغتسل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله! إن المؤمن لا ينجس". 659 - عن حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقيه وهو جنب. فحاد عنه فاغتسل. ثم جاء فقال: كنت جنبا قال "إن المسلم لا ينجس". -[المعنى العام]- كان من عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقى بصحابي أن يمسح عليه، وأن يربت عليه بيده، وأن يصاحبه فيجالسه، تلطفا وتأنيسا وتكرما وتوددا، وفي يوم من الأيام، وفي بعض طرق المدينة، وجد أبو هريرة نفسه مقابلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق واحد، وكان جنبا، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وجالسه وهو في هذه الحالة غير المستحبة، فاستخفى وتسلل وانصرف، وذهب إلى بيته، فاغتسل، وعاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن لم يحدث شيء. وكان صلى الله عليه وسلم قد أحس به ينخنس وينسل، ويتوارى في خفاء، فلما جاء سأله: ماذا بك يا أبا هريرة؟ أين كنت؟ وأين ذهبت؟ وماذا فعلت! قال: يا رسول الله. لقيتني وأنا جنب، فكرهت أن أجالسك حتى أغتسل، وكان أدبا حسنا من أبي هريرة أن يفعل ذلك احتراما وتقديسا لحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، وفهم صلى الله عليه وسلم أن أبا هريرة يعتقد نجاسة الجنب، وأنه لا يصح للنجس أن يجالس النبي صلوات الله وسلامه عليه، فقال: سبحان الله؟ عجبا لك يا أبا هريرة في فهمك الخطأ، إن المؤمن لا ينجس حيا ولا ميتا، فلا تكن الجنابة مانعة من لقاء الأصحاب، وإن حسن التعجيل بالغسل. وحسن اللقاء على أحسن هيئة وأبلغ نظافة. -[المباحث العربية]- (لقيه النبي صلى الله عليه وسلم ... فانسل) عطف على محذوف أبرزته رواية البخاري "لقيني

رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جنب، فأخذ بيدي فمشيت معه حتى قعد، فانسللت" أي ذهبت خفية. وفي رواية البخاري "فانخنست، أي مضيت عنه مستخفيا، ولذلك وصف الشيطان بالخناس وروي "فانبجست" أي جريت واندفعت، وروي "فانبخست" من البخس وهو النقص، أي اعتقدت نقصان نفسي، قال الحافظ ابن حجر: وقد نقل الشراح فيها ألفاظا مختلفة مما صحفه بعض الرواة، لا معنى للتشاغل بذكرها. (فذهب) إلى رحله، كما بينته رواية البخاري "فانسللت فأتيت الرحل فاغتسلت". (سبحان الله) مصدر منصوب بفعله المحذوف، وهذه الكلمة تقال في مثل هذا الموضع للتعجب، وكذا "لا إله إلا الله" ومعنى التعجب هنا: كيف يخفى عليك مثل هذا الظاهر الذي لا يحتاج الإنسان في فهمه إلى فكر؟ (إن المؤمن لا ينجس) لغتان في الماضي والمضارع يقال نجس بضم الجيم فيها من باب كرم، وبكسر الجيم في الماضي وفتحها في المضارع من باب سمع. (فحاد عنه) أي مال وعدل عنه. -[فقه الحديث]- قال الإمام النووي: هذا الحديث أصل عظيم في طهارة المسلم حيا وميتا، فأما الحي فطاهر بإجماع المسلمين، حتى الجنين إذا ألقته أمه وعليه رطوبة فرجها، قال أصحابنا: هو طاهر بإجماع المسلمين. قال: ولا يجيء فيه الخلاف المعروف في نجاسة رطوبة فرج المرأة، ولا الخلاف المذكور في كتب أصحابنا في نجاسة ظاهر بيض الدجاج ونحوه. هذا حكم المسلم الحي، وأما الميت ففيه خلاف للعلماء، وللشافعي فيه قولان الصحيح منهما أنه طاهر، ولهذا غسل، ولقوله صلى الله عليه وسلم "إن المسلم لا ينجس حيا ولا ميتا" هذا حكم المسلم. وأما الكافر فحكمه في الطهارة والنجاسة حكم المسلم. هذا مذهبنا ومذهب الجماهير من السلف والخلف، وأما قول الله عز وجل {إنما المشركون نجس} [التوبة: 28] فالمراد نجاسة الاعتقاد والاستقذار، وليس المراد أن أعضاءهم نجسة كنجاسة البول والغائط ونحوهما، فإذا ثبتت طهارة الآدمي مسلما كان أو كافرا فعرقه ولعابه ودمعه طاهرات، سواء كان محدثا أو جنبا أو حائضا أو نفساء، وهذا كله بإجماع المسلمين، وكذلك الصبيان، أبدانهم وثيابهم ولعابهم محمولة على الطهارة حتى تتيقن النجاسة، فتجوز الصلاة في ثيابهم، والأكل معهم من المائعات إذا غمسوا أيديهم فيها، ودلائل هذا كله من السنة والإجماع مشهورة. اهـ. وقال الحافظ ابن حجر: تمسك بعض أهل الظاهر بمفهوم قوله "المؤمن لا ينجس" فقال: إن

الكافر نجس العين، وقواه بقوله تعالى: {إنما المشركون نجس} وأجاب الجمهور عن الحديث بأن المراد أن المؤمن طاهر الأعضاء، لاعتياده مجانبة النجاسة، بخلاف المشرك، لعدم تحفظه عن النجاسة، وعن الآية بأن المراد أنهم نجس في الاعتقاد والاستقذار وحجتهم أن الله أباح نكاح نساء أهل الكتاب، ومعلوم أن عرقهن لا يسلم منه من يضاجعهن، ومع ذلك فلم يجب عليه من غسل الكتابية إلا مثل ما يجب عليه من غسل المسلمة، فدل على أن الآدمي الحي ليس ينجس العين، إذ لا فرق بين النساء والرجال. وأغرب القرطبي في الجنائز من شرح مسلم، فنسب القول بنجاسة الكافر إلى الشافعي. اهـ. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - استصحاب الطهارة عند ملابسة الأمور المعظمة. 2 - استحباب احترام أهل الفضل، وأن يوقرهم جليسهم ومصاحبهم فيكون على أكمل الهيئات وأحسن الصفات، وقد استحب العلماء لطالب العلم أن يحسن حاله في حال مجالسة شيخه، فيكون متطهرا متنظفا، بإزالة الشعور المأمور بإزالتها، وقص الأظفار، وإزالة الروائح الكريهة، والملابس المكروهة وغير ذلك، فإن ذلك من إجلال العلم والعلماء، ذكره النووي. 3 - أن العالم إذا رأى من متابعه أمرا يخاف عليه فيه خلاف الصواب سأله عنه، وقال له صوابه وبين له حكمه. 4 - وفيه استحباب استئذان التابع للمتبوع إذا أراد أن يفارقه، لقوله: أين كنت؟ فأشار إلى أنه كان ينبغي له أن لا يفارقه حتى يعلمه. 5 - وفيه جواز تأخير الاغتسال عن أول وقت وجوبه. 6 - وبوب عليه ابن حبان: الرد على من زعم أن الجنب إذا وقع في البئر فنوى الاغتسال أن ماء البئر ينجس. 7 - واستدل به البخاري على طهارة عرق الجنب، لأن بدنه لا ينجس بالجنابة فكذلك ما تحلب منه. 8 - وعلى جواز تصرف الجنب في حوائجه قبل أن يغتسل. والله أعلم

(150) باب أكل المحدث الطعام وذكر الله حال الجنابة

(150) باب أكل المحدث الطعام وذكر الله حال الجنابة 660 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على أحيانه. 661 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من الخلاء. فأتي بطعام. فذكروا له الوضوء فقال "أريد أن أصلي فأتوضأ؟ ". 662 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم. فجاء من الغائط. وأتي بطعام. فقيل له: ألا توضأ؟ فقال "لم أأصلي فأتوضأ؟ ". 663 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغائط. فلما جاء، قدم له طعام. فقيل: يا رسول الله! ألا توضأ؟ قال: "لم أللصلاة؟ ". 664 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قضى حاجته من الخلاء. فقرب إليه طعام فأكل ولم يمس ماء. قال وزادني عمرو بن دينار عن سعيد بن الحويرث؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: إنك لم توضأ؟ قال: "ما أردت صلاة فأتوضأ" وزعم عمرو أنه سمع من سعيد بن الحويرث. -[المعنى العام]- جاء الإسلام وسطا بين مادية اليهود ورهبانية النصارى، جاء بخيري الدنيا والآخرة، جاء باليسر والرفق في الأمور وكانت القاعدة "أوغل في الدين برفق، فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى" جاء بصفاء الروح والتقشف والزهد، كما جاء بالتمتع بالمتع الدنيوية المباحة {وابتغ فيما أتاك الله

الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا} [القصص: 77] ويضرب الرسول صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى لأمته، والقدوة الصالحة الحسنة. فيلازم الوضوء في عامة أحواله، ولا يخرج من الخلاء فيشتغل بأمر أهم من الوضوء، ويلحظ الصحابة هذه الملازمة، فيظنون التزامها، ويكاد يستقر في نفوسهم وجوبها، لكنه صلى الله عليه وسلم رسول من أنفسنا، عزيز عليه عنتنا، حريص علينا بالمؤمنين رءوف رحيم، كان إذا واظب على أمر خالفه ولو مرة، خشية أن يفرضه الله على أمته فيعجزوا عنه، وليزيل من عقائدهم المشادة في الدين، ووجوب ما ليس بواجب، ومن هذا القبيل ما يحكيه هذا الحديث. لقد خرج من الخلاء، وانتهى من قضاء الحاجة ولم يتجه نحو الوضوء، بل وجد أهله قد أعدوا الطعام فاتجه إليه، فقال أصحابه: يا رسول الله إنك لم تتوضأ كعادتك، ألا تتوضأ قبل أن تأكل؟ فقال: إني لم أقصد الصلاة، وإنما يجب الوضوء عند إرادة الصلاة، وفي الوقت متسع، وإن لبدنك عليك حقا، والدين يسر، فيسروا ولا تعسروا، وإذا حضر العشاء والعشاء فقدموا العشاء على العشاء؛ ولا صلاة كاملة بحضرة طعام. فصلى الله وسلم عليه. -[المباحث العربية]- (كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه) "على" بمعنى "في" أي في كل أوقاته، وفي جميع أحواله، متوضئا كان أو محدثا، جنبا أو غير جنب، والمقصود من "كل" الغالب والكثير، فلم يكن يذكر حين قضاء الحاجة، ولا وهو مستغرق في النوم مثلا. (خرج من الخلاء) أصل الخلاء بفتح الخاء الموضع الخالي، وسمي به موضع قضاء الحاجة، لأنهم كانوا يقصدون المكان الخالي للحاجة، وخروجه صلى الله عليه وسلم من الخلاء يشعر بأن هذا الموضع كان ميسورا مهيأ لذلك، حتى يدخل إليه صاحب الحاجة، ويخرج منه. (فأتي بطعام) التعبير بالفاء للإشارة إلى الترتيب والتعقيب، وعدم الفصل بين الخروج من الخلاء والإتيان بالطعام بوضوء. (فذكروا له الوضوء) معطوف على محذوف، أي فأقبل على الطعام، فظنوا أنه نسي أن يتوضأ قبل أن يأكل، فذكروه، بأن قالوا له: يا رسول الله. ألا تتوضأ قبل الطعام؟ (فقال: أريد أن أصلي فأتوضأ؟ ) الكلام على الاستفهام، والأصل: أأريد أن أصلي فأتوضأ؟ والاستفهام إنكاري بمعنى النفي أي لا أريد أن أصلي حتى أتوضأ. (فجاء من الغائط) "الغائط" في الأصل المنخفض من الأرض في الفضاء، وسمي به موضع قضاء الحاجة؛ لأنهم كانوا يقصدونه للتستر فيه، ومنه هذا الحديث وقوله تعالى: {أو جاء أحد منكم

من الغائط} ثم اتسع فيه حتى صار يطلق على الخارج المعروف من دبر الآدمي. وليس مرادا هنا، لاحتمال أنه جاء من البول. (ألا توضأ؟ ) أصله: ألا تتوضأ؟ فحذف إحدى التاءين، و"ألا" للعرض. (أأصلي فأتوضأ)؟ أي أأريد الصلاة وأقصدها فأتوضأ لها؟ والاستفهام إنكاري كما سبق. (إنك لم توضأ) أصله: إنك لم تتوضأ، والمقصود التذكير ليتوضأ. -[فقه الحديث]- قال النووي: اعلم أن العلماء مجمعون على أن للمحدث أن يأكل ويشرب ويذكر الله سبحانه وتعالى، ويقرأ القرآن، ويجامع، ولا كراهة في شيء من ذلك، وقد تظاهرت على هذا كله دلائل السنة الصحيحة المشهورة، مع إجماع الأمة. وقد اختلف أصحابنا -رحمهم الله- في وقت وجوب الوضوء، هل هو بخروج الحدث ويكون وجوبا موسعا؟ أم لا يجب إلا بالقيام إلى الصلاة! أم يجب بخروج الحدث والقيام إلى الصلاة معا! ثلاثة أوجه، أصحها عندهم الثالث. ثم قال: والمراد من الوضوء في هذا الحديث الوضوء الشرعي، وحمله القاضي عياض على الوضوء اللغوي، وجعل المراد غسل الكفين، وحكي اختلاف العلماء في كراهة غسل الكفين قبل الطعام، واستحبابه، وحكي الكراهة عن مالك والثوري -رحمهما الله تعالى- والظاهر ما قدمناه أن المراد الوضوء الشرعي. اهـ. وسبب تذكير الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم عهدوه إذا خرج من الخلاء توضأ وأنه كان محافظا على الوضوء في جميع أوقاته، وهو الداعي إلى مداومة الوضوء، لأنه سلاح المؤمن. وإنما تركه صلى الله عليه وسلم هذه المرة متعمدا البيان الجواز وتبليغ التشريع ورفع ما يمكن أن يحل بنفوس أصحابه أنه لا يجوز لمن خرج من الخلاء أن يأكل قبل أن يتوضأ. أما ذكر الله تعالى فقد قال النووي: ويكره للقاعد على قضاء الحاجة أن يذكر الله تعالى بشيء من الأذكار، فلا يسبح ولا يهلل، ولا يرد السلام ولا يشمث العاطس، ولا يحمد الله تعالى إذا عطس، ولا يقول مثل ما يقول المؤذن، ولا يأتي بشيء من هذه الأذكار في حال الجماع، وإذا عطس في هذه الأحوال يحمد الله تعالى في نفسه، ولا يحرك به لسانه. ثم قال: وهذا الذي ذكرناه من كراهة الذكر في حال البول والجماع هو كراهة تنزيه لا تحريم، فلا إثم على فاعله، فقول عائشة "كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على جميع أحواله" مخصوص بما سوى هذه الأحوال، والكثير الغالب ينزل منزلة الكل. والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله متطهرا ومحدثا وجنبا، وقائما وقاعدا ومضطجعا وماشيا.

ثم قال: واختلف العلماء في جواز قراءة القرآن للجنب والحائض. فالجمهور على تحريم القراءة عليهما جميعا، ولا فرق عندنا بين آية وبعض آية، فإن الجميع يحرم، ولو قال الجنب: بسم الله أو الحمد لله، ونحو ذلك، إن قصد به القرآن حرم عليه؛ وإن قصد به الذكر، أو لم يقصد شيئا لم يحرم، ويجوز للجنب والحائض أن يجريا القرآن على قلوبهما، وأن ينظرا في المصحف، ويستحب لهما إذا أرادا الاغتسال أن يقولا: بسم الله، على قصد الذكر. والله أعلم

(151) باب ما يقول إذا دخل الخلاء

(151) باب ما يقول إذا دخل الخلاء 665 - عن أنس رضي الله عنه (في حديث حماد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وفي حديث هشيم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الكنيف) قال: "اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث". 666 - عن عبد العزيز بهذا الإسناد وقال "أعوذ بالله من الخبث والخبائث". -[المعنى العام]- يكتفى بما سيأتي في فقه الحديث -[المباحث العربية]- (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) "الخبث" بضم الباء وإسكانها وجهان مشهوران، قال الخطابي: الخبث جماعة الخبيث، والخبائث جمع الخبيثة، قال: يريد ذكران الشياطين وإناثهم. اهـ. وقيل: الخبث الشياطين والخبائث المعاصي، وقيل: هما الشر. قال ابن الأعرابي: الخبث في كلام العرب المكروه، فإن كان من الكلام فهو الشتم، وإن كان من الملل فهو الكفر، وإن كان من الطعام فهو الحرام، وإن كان من الشراب فهو الضار. -[فقه الحديث]- ويسن إذا دخل الخلاء أن يقول: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث، فقد روى الجماعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك. وهذا في الأمكنة المعدة، وأما في غيرها فيسن أن يقول ذلك في أول الشروع في تشمير الثياب. ويسن أن يقول عند الخروج من الخلاء: غفرانك، الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني، فالاستغفار لترك الذكر حال قضاء الحاجة، ولما عساه أن يكون قد وقع من كشف أو خطأ. والحمد للإشعار بأن هذه نعمة جليلة ومنة عظيمة، فإن انحباس ذلك الخارج من أسباب الهلاك، فخروجه

من النعم التي لا تتم الصحة بدونها، وحق على من أكل ما يشتهيه، فسد به جوعته وحفظ به صحته وقوته، ثم لما قضى غايته واستحال إلى تلك الصفة الخبيثة المنتنة خرج بسهولة، فزال الأذى. حق على من هذا شأنه أن يستكثر من حمد الله جل جلاله وعظمت آلاؤه. فاللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. والله أعلم

(152) باب نوم الجالس لا ينقض الوضوء

(152) باب نوم الجالس لا ينقض الوضوء 667 - عن أنس رضي الله عنه قال أقيمت الصلاة ورسول الله صلى الله عليه وسلم نجي لرجل "وفي حديث عبد الوارث ونبي الله صلى الله عليه وسلم يناجي الرجل) فما قام إلى الصلاة حتى نام القوم. 668 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أقيمت الصلاة والنبي صلى الله عليه وسلم يناجي رجلا. فلم يزل يناجيه حتى نام أصحابه ثم جاء فصلى بهم. 669 - عن أنس رضي الله عنه قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينامون. ثم يصلون ولا يتوضئون قال قلت سمعته من أنس قال إي والله. 670 - عن أنس رضي الله عنه أنه قال أقيمت صلاة العشاء فقال رجل لي حاجة فقام النبي صلى الله عليه وسلم يناجيه حتى نام القوم (أو بعض القوم) ثم صلوا. -[المعنى العام]- كتب الله النوم على الإنسان راحة لبدنه من مشاق الحياة، وامتن عليه بهذه النعمة، فقال {وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا} [الفرقان: 47] وقال {وجعلنا نومكم سباتا} [النبأ: 9] أي راحة وانقطاعا عن العمل، وقطعا لكمال الإحساس والحياة، كما قال {وهو الذي يتوفاكم بالليل} [الأنعام: 60]. ولما كان النوم بهذه المثابة كان شبيها بالإغماء في ضعف الإدراك والإحساس، مما يعلم بالبداهة والمشاهدة. ولما كان كذلك كان النائم عرضة لأن يقع منه الحدث، وخروج الريح دون أن يشعر فمن باب الحيطة للعبادة رأى بعض الفقهاء أن النوم ناقض للوضوء، ورأى الآخرون أنه لا ينقض الوضوء، وأحاديث الباب مع الآخرين.

-[المباحث العربية]- (أقيمت الصلاة ورسول الله صلى الله عليه وسلم نجي لرجل) أي يناجي رجلا ويناجيه رجل، وفي الرواية الرابعة "أقيمت صلاة العشاء فقال رجل" أي لرسول الله صلى الله عليه وسلم "لي حاجة" أي لي مطلب أسر به إليك، فاستجاب له صلى الله عليه وسلم فطالت المناجاة، ومازال يناجيه حتى نام القوم. (فما قام إلى الصلاة) أي فما وقف موقف الصلاة، واستعد لها. -[فقه الحديث]- سبق في أول كتاب الطهارة وفي باب (112) باب الوضوء من الحدث أن تكلمنا عن المذاهب في نقض النوم للوضوء، ونعيد ما قلناه هناك لطول العهد، فنقول: وقد اختلف العلماء في النوم على مذاهب ثمانية ذكرها النووي: الأول: أنه لا ينقض الوضوء على أي حال، وهو محكي عن أبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب والشيعة الإمامية، واستدلوا بما رواه أبو داود ومسلم والترمذي عن أنس قال "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رءوسهم، ثم يصلون ولا يتوضئون". الثاني: أن النوم ينقض الوضوء بكل حال: قليله وكثيره، وهو مذهب الحسن البصري والمزني وابن المنذر، واستدلوا بما رواه أحمد والنسائي والترمذي عن صفوان بن عسال قال "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفرا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، لكن من غائط وبول ونوم" فذكر الأحداث التي ينزع منها الخف، وعد من جملتها النوم، وجعله مقترنا بالبول والغائط اللذين هنا ناقضان بالإجماع، كما استدلوا بما رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "العين وكاء السه فمن نام فليتوضأ" لم يفرق بين قليل النوم وكثيره ولا بين حال للنائم وحال أخرى. الثالث: أن كثير النوم ينقض بكل حال، وقليله لا ينقض بكل حال، وهو مذهب الأوزاعي ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه. واستدلوا بحديث أنس السابق، وحملوا ما فيه على قليل النوم. الرابع: إذا نام على هيئة من هيئات المصلي كالراكع والساجد والقائم والقاعد مستلقيا على قفاه انتقض، وهو مذهب أبي حنيفة وداود وهو قول غريب للشافعي، واستدلوا بما رواه البيهقي "إذا نام العبد في سجوده باهى الله به الملائكة". الخامس: أنه لا ينقض إلا نوم الراكع والساجد، وهو مروي عن أحمد، ولعل وجهه أن الركوع والسجود مظنة للانتقاض. السادس: أنه لا ينقض إلا نوم الساجد وهو مروي أيضا عن أحمد.

السابع: أنه لا ينقض النوم في الصلاة بكل حال، وينقض خارج الصلاة، ونسب إلى أبي حنيفة. الثامن: أنه إذا نام جالسا ممكنا مقعدته من الأرض لم ينقض، سواء قل أو كثر، وسواء كان في الصلاة أو خارجها، وهو مذهب الشافعي، وعنده أن النوم ليس حدثا في نفسه، وإنما هو دليل على خروج الريح، قال النووي: وهذا أقرب المذاهب عندي، وبه يجمع بين الأدلة. اهـ. والله أعلم

كتاب الصلاة

كتاب الصلاة

(153) بدء الأذان

(153) بدء الأذان 671 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلوات وليس ينادي بها أحد فتكلموا يوما في ذلك فقال بعضهم اتخذوا ناقوسا مثل ناقوس النصارى وقال بعضهم قرنا مثل قرن اليهود فقال عمر أو لا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا بلال قم فناد بالصلاة". -[المعنى العام]- كان المسلمون بمكة قليلي العدد، يستخفون كثيرا في صلاتهم، ولا يكادون يجتمعون، وإذا اجتمعوا ترقبوا دخول الوقت، وقدروا حينه وزمنه، ثم قاموا إلى الصلاة، دون أذان أو إقامة، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنى المسجد النبوي، وكثر الناس، ولم يعودوا يخشون الجهر بالعبادات استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في وسيلة يجمع بها الناس للصلاة، فقال بعضهم: نرفع راية، فإذا رآها المسلمون علموا أنه قد حان وقت الصلاة فجاءوا، ورد هذا الاقتراح، لأن الذين يرون الراية قلة من المسلمين، ثم هي لا ترى بالليل فلا تنفع للإعلان عن وقت العشاء والفجر، قال بعضهم: نوقد نارا عند حلول وقت الصلاة، قال صلى الله عليه وسلم: إن رفع النار من فعل المجوس، ولا نحب أن نقتدي بهم، قال آخر: نتخذ بوقا، ننفخ فيه، فيرتفع الصوت، فيسمعه من يريد الصلاة، قال صلى الله عليه وسلم: اتخاذ البوق من فعل اليهود ولا نحب أن نفعل مثلهم. قال رابع: نتخذ ناقوسا، نضربه عند حلول وقت الصلاة قال صلى الله عليه وسلم: اتخاذ الناقوس من فعل النصارى، وسكت صلى الله عليه وسلم يفكر، أليس النصارى أقرب الناس مودة للذين آمنوا؟ أليست المشابهة في عمل من أعمالهم أقل خطرا على المسلمين من مشابهة غيرهم؟ لم لا نتخذ ناقوسا حتى يأتي أمر الله؟ فأمر صلى الله عليه وسلم بصنع ناقوس، قال عمر: لا نتشبه بالمجوس ولا باليهود ولا بالنصارى، وينبغي أن نبعث رجلا إلى مكان مرتفع، أو إلى باب المسجد، ينادي، يجمع الناس للصلاة. ورضي رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه المشورة، فقال: يا بلال. قم وناد بالصلاة، فقام بلال إلى باب المسجد ونادى بأعلى صوته الحسن: الصلاة جامعة. الصلاة جامعة. وانصرف الصحابة إلى بيوتهم تلك الليلة، وهم مشغولون بما دار من حديث، وفيهم عبد الله بن زيد، قال: انصرفت وأنا مهتم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيت في منامي، وأنا بين النائم واليقظان رجلا يحمل ناقوسا في يده، فقلت يا عبد الله. أتبيع الناقوس؟ فقال: وما تصنع به؟ فقلت: ندعو به إلى الصلاة قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت له: بلى. فقال: تقول:

الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمدا رسول الله. أشهد أن محمدا رسول الله. حي على الصلاة. حي على الصلاة. حي على الفلاح. حي على الفلاح. الله أكبر الله أكبر. لا إله إلا الله [وعلمه الإقامة أيضا] فلما أصبح عبد الله بن زيد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بما رأى، وكان الوحي قد نزل مؤيدا الأذان، فقال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن زيد: إنها لرؤيا حق قم مع بلال، فألق عليه ما رأيت. فليؤذن به، فإنه أندى منك صوتا، فقام، فجعل يلقى، وبلال يؤذن به، فسمع ذلك عمر بن الخطاب، وكان قد رأى نفس ما يسمع، فخرج يجري يجر رداءه، فقال: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق، لقد رأيت مثل هذا، فقال صلى الله عليه وسلم: وما منعك أن تخبرنا؟ قال: سبقني عبد الله، قال. صلى الله عليه وسلم: {الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله} [الأعراف: 43]. -[المباحث العربية]- (كتاب الصلاة) الصلاة لغة الدعاء، وقيل الرحمة، وعرفا أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم بشرائط مخصوصة. وهل هي مأخوذة من الصلاة بمعنى الدعاء لاشتمالها عليه؟ أو من الصلاة بمعنى الرحمة لأنها سببها؟ الأول قول جماهير أهل العربية والفقهاء وغيرهم، وقيل: مشتقة من الصلة، لأنها صلة بين العبد وربه، ويرد هذا بأن الصلة معتلة الفاء، لأنها مصدر "وصل" والصلاة معتلة اللام، وقيل: مشتقة من صليت العود على النار إذا أقمته وقومته، لأنها تقوم العبد على الطاعة كما قال تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45]، ورد هذا بأن صليت العود على النار يائي والصلاة واوي. وقيل مشتقة من الصلوين، وهما عرقان من الردف، أو عظمان ينحنيان في الركوع والسجود، قالوا: ولهذا كتبت الصلاة بالواو في المصحف، ورد هذا بأنه والحالة هذه من الجوامد، وقيل غير ذلك مما هو بعيد. (بدء الأذان) أصل الأذان الإعلام، يقال فيه الأذان والأذين والتأذين قاله الجوهري. وقال الأزهري: يقال أذن المؤذن تأذينا وأذانا، أي أعلم الناس بوقت الصلاة، فوضع الاسم موضع المصدر، قال: وأصله من الأذن كأنه يلقي في آذان الناس بصوته ما يدعوهم إلى الصلاة. (كان المسلمون حين قدموا المدينة) مهاجرين من مكة. (فيتحينون الصلوات) أي يقدرون أحيانها، ليأتوا إليها، والحين الوقت والزمان. (وليس ينادي بها أحد) الجملة حالية من "الصلوات" ورواية البخاري "ليس ينادى لها" واسم "ليس" ضمير الحال والشأن والجملة خبرها.

(اتخذوا ناقوسا مثل ناقوس النصارى) كان ناقوس النصارى أولا خشبة طويلة تضرب بخشبة أصغر منها، فتحدث صوتا، ثم صاروا إلى الناقوس المعروف اليوم في الكنائس والمدارس. (وقال بعضهم: قرنا مثل قرن اليهود) "قرنا" مفعول به لفعل محذوف، أي اتخذوا قرنا، والقرن والبوق أسطوانة واسعة من الطرف البعيد، ضيقة من الطرف الذي ينفخ فيه، تضخم الصوت وترفعه، وهو مستعمل في الجيش، وفي بعض النداءات الشعبية، ويقال له "الصور" و"الشابور". (أو لا تبعثون رجلا) الهمزة للاستفهام، والواو للعطف على مقدر، أي أتقتدون بالنصارى واليهود ولا تبعثون رجلا؟ فالهمزة لإنكار الجملة الأولى وتقرير الجملة الثانية، توبيخا على القول باللاقتداء بأهل الكتاب، وحثا وبعثا على الاستقلال بالنداء. ومراده من النداء الإعلام بالصلاة بأي لفظ، لا بلفظ الأذان، وسيأتي في فقه الحديث زيادة إيضاح. (يا بلال: قم فناد بالصلاة) قال القاضي عياض: المراد الإعلام المحض بحضور وقت الصلاة، لا بخصوص الأذان المشروع، اهـ وهذا قول حسن، لأن هذا القول كان قبل رؤيا الأذان، وهل المراد من الأمر بـ"قم" الوقوف؟ أو الذهاب إلى البعد؟ خلاف يأتي توضيحه. -[فقه الحديث]- ذكرنا في حديث الإسراء أن جماعة من العلماء ذهبوا إلى أنه لم يكن قبل الإسراء صلاة مفروضة إلا ما كان وقع الأمر به من صلاة الليل من غير تحديد، وأن بعضهم ذهب إلى أن الصلاة كانت مفروضة ركعتين بالغداة، وركعتين بالعشي، وذكرنا أن المحققين من العلماء يرون أن الصلاة فرضت في الحضر والسفر ركعتين ركعتين، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة واطمأن زيد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان، وتركت صلاة الفجر لطول القراءة، وصلاة المغرب لأنها وتر النهار، ثم بعد أن استقر فرض الرباعية خفف منها في السفر عند نزول قوله تعالى: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} [النساء: 101]. واختلف في السنة التي شرع فيها الأذان، والراجح أن ذلك كان في السنة الأولى، وقيل: كان في الثانية، أما الأحاديث التي وردت بأن الأذان شرع بمكة قبل الهجرة فهي ضعيفة لا تصح، وقد ذكر الطبراني منها عن ابن عمر عن أبيه قال: "لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم أوحى الله إليه الأذان، فنزل به، فعلمه بلالا" وذكر الدارقطني منها: "عن أنس أن جبريل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالأذان حين فرضت الصلاة" وذكر ابن مردويه منها عن عائشة مرفوعا "لما أسري بي أذن جبريل، فظنت الملائكة أنه يصلي بهم، فقدمني، فصليت" وذكر البزار منها من حديث علي قال "لما أراد الله أن يعلم رسوله الأذان أتاه جبريل بدابة يقال لها البراق، فركبها .... الحديث. وفيه، "إذ خرج ملك من وراء الحجاب، فقال: الله أكبر ... الله أكبر ... وفي آخره، ثم أخذ الملك بيده، فأم أهل السماء".

قال الحافظ ابن حجر: والحق أنه لا يصح شيء من هذه الأحاديث، وقد جزم ابن المنذر بأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بغير أذان منذ فرضت الصلاة بمكة إلى أن هاجر إلى المدينة، وإلى أن وقع التشاور في ذلك. اهـ. وجمع القرطبي بأنه لا يلزم من كونه سمعه ليلة الإسراء أن يكون مشروعا في حقه، وجمع بعضهم بحمل الأذان فيها على المعنى اللغوي، وجمع آخرون بتعدد الإسراء، والحق أن كل ذلك تكلف وتعسف، والأخذ بما صح أولى، وحديث ابن عمر المذكور في هذا الباب ظاهر في أن الأذان إنما شرع بعد الهجرة: فإنه نفى النداء بالصلاة قبل ذلك مطلقا. وظاهر حديث الباب أن النداء الأول للصلاة الذي قام به بلال بني على كلامهم في طريقة الإعلام، وفي جلسة تشاورهم في ذلك، وعقب قول عمر الصادر عن رأيه "أو لا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة" وهذا الظاهر حسن على أن يكون المراد بالنداء الإعلام المحض بحضور الوقت، لا خصوص الأذان المشروع، وقد أخرج ابن سعد في الطبقات أن اللفظ الذي كان ينادي به بلال للصلاة قوله "الصلاة جامعة" لكن الحديث على هذا لا يتعرض لبدء الأذان المشروع المعروف، بمعنى أنه لا يتعرض لألفاظه كيف جاءت؟ ومن جاء بها؟ وكيف أقرت؟ وإن تعرض للبدء به في الجملة. والأحاديث التي تعرضت لذلك كثيرة، منها ما رواه أبو داود: "اهتم النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة، كيف يجمع الناس لها؟ فقيل له: انصب راية عند حضور الصلاة، فإذا رأوها آذن بعضهم بعضا، فلم يعجبه ذلك، قال: فذكر له: القنع -يعني الشبور- وقال زياد شبور اليهود فلم يعجبه ذلك [والشبور هو القرن] وقال: هو من أمر اليهود، فذكر له الناقوس، فقال هو من أمر النصارى، فانصرف عبد الله بن زيد، وهو مهتم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرى الأذان في منامه، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال: يا رسول الله، أني لبين نائم يقظان إذ أتاني آت، فأراني الأذان -وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد رآه قبل ذلك، فكتمه عشرين يوما، ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: "ما منعك أن تخبرني؟ فقال: سبقني عبد الله بن زيد، فاستحييت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بلال، قم فانظر ما يأمرك به عبد الله بن زيد فافعله فأذن بلال". وما رواه أبو داود أيضا عن عبد الله بن زيد قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس، يعمل ليضرب به للناس لجمع الصلاة، طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسا في يده، فقلت: يا عبد الله، أتبيع الناقوس. فقال: وما تصنع به. فقلت له: ندعو به إلى الصلاة. قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت له: بلى. قال: تقول: الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمدا رسول الله. أشهد أن محمدا رسول الله. حي على الصلاة. حي على الصلاة. حي على الفلاح. حي على الفلاح. الله أكبر. الله أكبر. لا إله إلا الله. قال: ثم استأخر عني غير بعيد، ثم قال. ثم تقول: إذا أقمت الصلاة: الله أكبر. الله أكبر. أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمدا رسول الله. حي على الصلاة. حي على الفلاح. قد قامت الصلاة. قد قامت الصلاة. الله أكبر. الله أكبر. لا إله إلا الله. فلما أصبحت. أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيت، فقال: إنها لرؤيا حق، فقم مع

بلال فألق عليه ما رأيت، فليؤذن به، فإنه أندى صوتا منك، فقمت مع بلال، فجعلت ألقيه، ويؤذن به. قال: فسمع ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو في بيته، فخرج يجر رداءه، ويقول: والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما أرى. فقال صلى الله عليه وسلم: فلله الحمد". وروى ابن ماجه هذا الحديث غير أن فيه "وأمر بالناقوس فنحت" ولا تعارض بين هذه الرواية وبين قوله في الرواية السابقة "هو من أمر النصارى" لأن هذا القول كان ابتداء، ولما اضطر إلى اتخاذ شيء يجمع الناس به إلى الصلاة أمر أن يعمل، ولعله صلى الله عليه وسلم اختار ناقوس النصارى لأنهم أكثر طواعية له صلى الله عليه وسلم، وأكثر مودة إليه من اليهود، قال تعالى: {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى} [المائدة: 82]. قال الحافظ ابن حجر: قوله "وكان عمر قد رآه قبل ذلك، فكتمه عشرين يوما، ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم" لا يخالفه أن عبد الله بن زيد لما قص منامه، فسمع عمر الأذان "فجاء، فقال: لقد رأيت ..... " لأنه يحمل على أنه لم يخبر بذلك عقب إخبار عبد الله، بل متراخيا عنه لقوله "ما منعك أن تخبرنا"؟ أي عقب إخبار عبد الله. فاعتذر بالاستحياء، فدل على أنه لم يخبر بذلك على الفور. اهـ. ويبعد هذا الجمع الذي جمع به الحافظ ابن حجر سياق الرواية، إذ فيها "فكتمه عشرين يوما، ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: ما منعك أن تخبرني؟ فقال: سبقني عبد الله بن زيد، فاستحييت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بلال، قم فانظر ما يأمرك به عبد الله بن زيد، فافعله فأذن بلال". فهذا السياق صريح في أن إخبار عمر لم يكن متراخيا عن إخبار عبد الله، والأولى أن يقال: لعل عمر رآه فلم يحفظه، فتردد وكتمه، وانتظر لعله يراه مرة أخرى أو ينزل به الوحي، وأشار على القوم بالنداء، أي نداء، حتى إذا سمعه خرج يؤيده، فعاتبه صلى الله عليه وسلم على عدم الإخبار فاعتذر بأن الله أراد لعبد الله بن زيد أن يسبقه، فحصل له حينئذ الحياء من التأخير والخجل من التردد. ويكون قوله "وكان عمر بن الخطاب قد رآه قبل ذلك فكتمه عشرين يوما ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما منعك أن تخبرني؟ فقال سبقني عبد الله بن زيد، فاستحييت" هذا القول معترض بين كلام عبد الله، إذ أتاني آت، فأراني الأذان، وبين فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: يا بلال، قم فانظر ما يأمرك به عبد الله ... إلخ ولو أنه أخر هذا الكلام المعترض لم يكن هناك توهم لإشكال. وقد حاول القرطبي أن يجعل حديث الباب في بدء الأذان المعروف المشروع، وأن يجعل بالنداء في قول عمر "أو لا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة" أي ينادي بالأذان المعروف، فقال: يحتمل أن يكون عبد الله بن زيد لما أخبر برؤياه، وصدقه النبي صلى الله عليه وسلم بادر عمر فقال: أو لا تبعثون رجلا ينادي أي يؤذن للرؤيا المذكورة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم "قم يا بلال" فعلى هذا فالفاء في سياق حديث ابن عمر هي الفصيحة، والتقدير فافترقوا، فرأى عبد الله بن زيد، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقص عليه، فصدقه فقال عمر .. إلخ. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: إن سياق حديث عبد الله بن زيد الذي رواه أبو داود يخالف ذلك، فإنه يدل

على أن عمر لم يكن حاضرا لما قص عبد الله بن زيد رؤياه، والظاهر أن إشارة عمر بإرسال رجل ينادي للصلاة كانت عقب المشاورة فيما يفعلونه، وأن رؤيا عبد الله بن زيد كانت بعد ذلك. اهـ. ولم يخرج البخاري ومسلم حديث عبد الله بن زيد كما أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم لأنه ليس على شرطهما وإن كان صحيحا. والله أعلم. وقد استشكل إثبات حكم الأذان برؤيا عبد الله بن زيد، حيث إن رؤيا غير الأنبياء لا ينبني عليها حكم شرعي إذ لا يؤمن عليها الخطأ، وأجيب باحتمال مقارنة الوحي لذلك، أو لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بمقتضاها، لينظر أيقر على ذلك أم لا؟ ولا سيما لما رأى أن نظمها يبعد دخول الوسواس فيه، وهذا ينبني على القول بجواز اجتهاده صلى الله عليه وسلم في الأحكام، وهو القول الراجح في الأصول. قال الحافظ ابن حجر: وهذا أصح مما حكى الداودي عن ابن إسحاق "أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالأذان قبل أن يخبره عبد الله بن زيد وعمر بثمانية أيام". اهـ. والحكمة في إعلام الناس بالأذان على غير لسانه صلى الله عليه وسلم التنويه بقدره والرفع لذكره على لسان غيره. ليكون أقوى لأمره، وأفخم لشأنه، قاله السهيلي، وقال عنه الحافظ ابن حجر: حسن بديع. وقد ذكر العلماء في حكمة الأذان أربعة أشياء: إظهار شعائر الإسلام وكلمة التوحيد، والإعلام بدخول وقت الصلاة، وبمكانها، والدعاء إلى الجماعة. والحكمة في اختيار القول له دون الفعل، سهولة القول وتيسره لكل أحد، في كل زمان ومكان. وأما السبب في تخصيص بلال بالنداء والإعلام فقد جاء مبينا في سنن أبي داود والترمذي وغيرهما في الحديث الصحيح، حديث عبد الله بن زيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "ألقه على بلال، فإنه أندى صوتا منك" قيل معناه أرفع صوتا، وقيل أطيب، وقيل أرفع وأطيب. وذكر بعضهم مناسبة حسنة في اختصاص بلال بالأذان، فقال: إنما خص بذلك دون غيره؛ لأنه كان لما عذب ليرجع عن الإسلام كان يقول: أحد. أحد. فجوزي بولاية الأذان المشتملة على التوحيد في ابتدائه وانتهائه. اهـ. ومما كثر السؤال عنه. هل باشر النبي صلى الله عليه وسلم الأذان بنفسه؟ قال الحافظ ابن حجر: وقد وقع عند السهيلي "أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في سفر، وصلى بأصحابه، وهم على رواحلهم، السماء من فوقهم، والبلة من أسفلهم" أخرجه الترمذي وقواه، ولكن وجدناه في مسند أحمد من الوجه الذي أخرجه الترمذي، ولفظه "فأمر بلالا فأذن" فعرف أن في رواية الترمذي اختصارا، وأن معنى قوله "أذن" أمر بلالا به. اهـ. وفي حكم الأذان قال النووي: الأذان والإقامة مشروعان للصلوات الخمس بالنصوص الصحيحة والإجماع، ولا يشرع الأذان ولا الإقامة لغير الخمس بلا خلاف، سواء كانت منذورة، أو جنازة، أو سنة،

وسواء سن لها الجماعة كالعيدين والكسوفين والاستسقاء أم لا، كالضحى، ولكن ينادي للعيد والكسوف والاستسقاء: الصلاة جامعة، وكذا ينادي للتراويح: الصلاة جامعة، إذا صليت في جماعة، ولا يستحب ذلك في صلاة الجنازة على أصح الوجهين. ثم قال: وفي الأذان والإقامة ثلاثة أوجه: أصحهما أنهما سنة. والثاني: فرض كفاية، والثالث: فرض كفاية في الجمعة، سنة في غيرها، ومما احتجوا به لكونهما سنة قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي المسيء صلاته، افعل كذا وكذا، ولم يذكرهما، مع أنه صلى الله عليه وسلم ذكر الوضوء، واستقبال القبلة، وأركان الصلاة، قال أصحابنا: فإن قلنا فرض كفاية فأقل ما يتأدى به الفرض أن ينتشر الأذان في جميع أهل ذلك المكان، فإن كانت قرية صغيرة، بحيث إذا أذن أحد سمعوا كلهم سقط الفرض بواحد، وإن كان بلدا كبيرا وجب أن يؤذن في كل موضع واحد، بحيث ينتشر الأذان في جميعهم، فإن أذن واحد فقط سقط الحرج عن الناحية التي سمعوه، دون غيرهم. وحكى إمام الحرمين عن صاحب الإبانة أن فرض الكفاية يسقط بالأذان لصلاة واحدة في كل يوم وليلة، ولا يجب لكل صلاة، وقال ولم أر لأصحابنا إيجابه لكل صلاة. قال: ودليله أنه إذا حصل مرة في كل يوم وليلة لم يندرس الشعار. قال النووي: وهذا الذي ذكره خلاف ظاهر كلام جمهور أصحابنا، فإن مقتضى كلامهم وإطلاقهم أنه إذا قيل: إنه فرض كفاية وجب لكل صلاة، وهذا هو الصواب، وإذا قلنا: إن الأذان سنة حصلت بما يحصل به إذا قلنا فرض كفاية، والقول في الإقامة كالقول في الأذان في جميع ما ذكرناه. ثم قال: والمشهور في مذهب الشافعية أنهما سنة لكل الصلوات في الحضر والسفر، للجماعة والمنفرد، لا يوجبان بحال، فإن تركهما صحت صلاة المنفرد والجماعة، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وجمهور العلماء، وقال ابن المنذر: هما فرض في حق الجماعة في الحضر والسفر. قال: وقال مالك: تجب في مسجد الجماعة، وقال عطاء والأوزاعي: وإن نسي الإقامة أعاد الصلاة، وقال العبدري: هما سنة عند مالك، وفرض كفاية عند أحمد، وقال داود: هما فرض لصلاة الجماعة، وليسا بشرط لصحتها. قال الحافظ ابن حجر: ومنشأ الخلاف أن مبدأ الأذان لما كان عن مشورة أوقعها صلى الله عليه وسلم بين أصحابه حتى استقر برؤيا بعضهم فأقره كان ذلك بالمندوبات أشبه، ثم لما واظب على تقريره، ولم ينقل أنه تركه، ولا أمر بتركه، كان ذلك بالواجبات أشبه. اهـ. ثم قال النووي: وهل يسن للفوائت؟ ثلاثة أقوال: قال في الأم: يقيم لها ولا يؤذن، لأن الأذان للإعلام بالوقت، وقد فات الوقت، والإقامة لاستفتاح الصلاة، وذلك موجود: وقال في القديم: يؤذن ويقيم للأولى وحدها، ويقيم للتي بعدها، لأنهما صلاتان، جمعهما وقت واحد فكانتا بأذان وإقامتين، كالمغرب والعشاء بالمزدلفة فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلاهما بأذان وإقامتين. وقال في الإملاء: إن أمل اجتماع الناس أذن وأقام، وإن لم يؤمل أقام، لأن الأذان يراد لجمع الناس، فإذا لم يؤمل الجمع لم يكن للأذان

وجه، وإذا أمل له وجه قال أبو إسحاق: وهذا يقال للصلاة الحاضرة أيضا، إذا أمل الاجتماع لها أذن وأقام، وإن لم يؤمل أقام ولم يؤذن. اهـ. وهذا الخلاف مبني على الخلاف في: هل الأذان حق الوقت، أو حق الفريضة؟ أو حق الجماعة؟ ثم قال النووي: والمنفرد في صحراء أو بلد يؤذن على المذهب، وقيل: لا يؤذن وقيل: إن رجا حضور جماعة أذن، وإلا فلا، وإذا قلنا يؤذن، فهل يرفع صوته؟ نظر. إن صلى في مسجد قد صليت فيه جماعة لم يرفع، لئلا يوهم دخول وقت صلاة أخرى، وإن لم يكن كذلك فوجهان. وإن جمع بين صلاتين، فإن جمع بينهما في وقت الأولى منهما أذن وأقام للثانية، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بمعرفة، وإن جمع بينهما في وقت الثانية فهما كالفائتتين، لأن الأولى قد فات وقتها والثانية تابعة لها. ولا يجوز الأذان لغير الصبح قبل دخول الوقت، لأنه يراد للإعلام بالوقت، فلا يجوز قبله، وأما الصبح فيجوز أن يؤذن له بعد نصف الليل، لقول النبي صلى الله عليه وسلم "إن بلالا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم" لأن الصبح يدخل وقتها والناس نيام، وفيهم الجنب والمحدث، فاحتيج إلى تقديم الأذان، وأما الإقامة فلا يجوز تقديمها على الوقت، لأنها تراد لاستفتاح الصلاة، فلا تجوز قبل الوقت. وبهذا قال مالك وأحمد وداود، وقال أبو حنيفة ومحمد: لا يجوز قبل الفجر. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - مشروعية التشاور في الأمور، لا سيما المهمة، وذلك مستحب في حق الأمة بإجماع العلماء. قال النووي واختلف أصحابنا: هل كانت المشاورة واجبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أم كانت سنة في حقه صلى الله عليه وسلم، كما في حقنا؟ والصحيح عندهم وجوبها، وهو المختار، قال الله تعالى: {وشاورهم في الأمر} [آل عمران: 159] والمختار الذي عليه جمهور الفقهاء، ومحققو أهل الأصول أن الأمر للوجوب. 2 - وأنه ينبغي للمتشاورين أن يقول كل منهم ما عنده، ثم صاحب الأمر يفعل ما ظهرت له مصلحة. 3 - وأنه لا حرج على أحد من المتشاورين إذا أخبر بما أدى إليه اجتهاده ولو أخطأ. 4 - وفيه أن المطلوب مخالفة أهل الباطل في أعمالهم. 5 - وفيه منقبة عظيمة لعبد الله بن زيد، وعمر بن الخطاب -رضي الله عنهما. 6 - وأن رؤيا المؤمن قد تكون حقا وصريحة. 7 - وفيه مراعاة المصالح، والعمل بها، وذلك أنه لما شق عليهم التبكير إلى الصلاة، فتفوتهم أشغالهم، أو التأخير فيفوتهم وقت الصلاة نظروا في ذلك. 8 - قال القاضي عياض: في قوله "يا بلال. قم فناد بالصلاة" حجة لشرع الأذان من قيام،

وأنه لا يجوز الأذان قاعدا، قال: وهو مذهب العلماء كافة إلا أبا ثور، فإنه جوزه، ووافقه أبو الفرج المالكي. قال النووي: وهذا الذي قاله ضعيف لوجهين، أحدهما: أنا قدمنا عنه أن المراد بهذا الإعلام بالصلاة، لا الأذان المعروف، والثاني: أن المراد "قم" فاذهب إلى موضع بارز، فناد بالصلاة ليسمعك الناس من البعد، وليس فيه تعرض للقيام في حال الأذان لكنه يحتج للقيام في الأذان، بأحاديث معروفة غير هذا، وأما قوله: مذهب العلماء كافة أن القيام واجب، فليس كما قال بل مذهبنا المشهور أنه سنة، فلو أذن قاعدا بغير عذر صح أذانه، لكن فاتته الفضيلة، وكذا لو أذن مضجعا مع قدرته على القيام صح أذانه على الأصح، لأن المراد الإعلام، وقد حصل، ولم يثبت في اشتراط القيام شيء. اهـ. وقال الأبي: أجاز مالك الأذان قاعدا لمن به علة، أو أذن لنفسه. اهـ. وقال الحافظ ابن حجر: والمشهور عند الحنفية كلهم أن القيام سنة، وأنه لو أذن قاعدا صح، والصواب ما قاله ابن المنذر من أنهم اتفقوا على أن القيام من السنة. اهـ. 9 - قد يؤخذ من الحديث أن الأذان للرجال، وأنه لا يصح أذان المرأة. قال النووي في المجموع: لا يصح أذان المرأة للرجال. هذا هو المذهب، وبه قطع الجمهور، ونقل إمام الحرمين الاتفاق عليه، وهناك وجه ضعيف بأنه يصح كما يصح خبرها، وأما إذا أراد جماعة نسوة الصلاة استحب لهن الإقامة، وكره لهن الأذان. لأن في الأذان ترفع الصوت وفي الإقامة لا ترفع، وقيل لا تستحب الإقامة لهن. وقيل يستحب لهن الأذان والإقامة بشرط ألا ترفع صوتها فوق ما تسمع صواحبها، فإن رفعت فوق ذلك حرم كما يحرم تكشفها بحضرة الرجال، لأنه يفتتن بصوتها، وممن صرح بتحريمه إمام الحرمين والغزالي والرافعي، وقال السرخسي: رفع صوتها مكروه. اهـ. 10 - ويؤخذ من اختيار بلال وتعليل ذلك بحسن صوته في بعض الروايات استحباب كون المؤذن رفيع الصوت وحسنه. قال النووي: وهذا متفق عليه. والله أعلم (ملحوظة) للحديث صلة قوية بالحديث الآتي، وشرح كل منهما يتمم الآخر فليراجع.

(154) باب ألفاظ الأذان والإقامة وشفع الأذان وإيتار الإقامة

(154) باب ألفاظ الأذان والإقامة وشفع الأذان وإيتار الإقامة 672 - عن أنس رضي الله عنه قال أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة زاد يحيى في حديثه عن ابن علية فحدثت به أيوب فقال إلا الإقامة. 673 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه فذكروا أن ينوروا نارا أو يضربوا ناقوسا فأمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة. 674 - حدثنا خالد الحذاء بهذا الإسناد لما كثر الناس ذكروا أن يعلموا بمثل حديث الثقفي غير أنه قال أن يوروا نارا. 675 - عن أنس رضي الله عنه قال أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة. 676 - عن أبي محذورة رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم علمه هذا الأذان "الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله" ثم يعود فيقول "أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله حي على الصلاة (مرتين) حي على الفلاح (مرتين) زاد إسحق "الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله". -[المعنى العام]- لزيادة الإعلام بوقت الصلاة، شرع تكرير ألفاظ الأذان، وأن تنطق كلماته مرتين وتعددت الجمل في الأذان ولم يكتف بجملة أو جملتين للمبالغة في تحقيق الغرض منه، وأختيرت هذه العبارات من الشرع الحكيم لما فيها من معان سامية يقول عنها القاضي عياض:

اعلم أن الأذان كلام جامع لعقيدة الإيمان، مشتمل على نوعه من العقليات والسمعيات، فأوله إثبات الذات، وما يستحقه من الكمال والتنزيه عن أضدادها وذلك بقوله "الله أكبر" وهذه اللفظة مع اختصارها دالة على ما ذكرناه، ثم صرح بإثبات الوحدانية، ونفي ضدها من الشركة المستحيلة في حقه سبحانه وتعالى، وهذه عمدة الإيمان والتوحيد، المقدمة على كل وظائف الدين، ثم صرح بإثبات النبوة، والشهادة بالرسالة لنبينا صلى الله عليه وسلم، وهي قاعدة عظيمة بعد الشهادة بالوحدانية، وموضعها بعد التوحيد وتلك المقدمات من باب الواجبات، وبعد هذه القواعد كملت العقائد العقليات فيما يجب ويستحيل ويجوز في حقه سبحانه وتعالى، ثم دعا إلى ما دعاهم إليه من العبادات، فدعا إلى الصلاة، وجعلها عقب إثبات النبوة لأن معرفة وجوبها من جهة النبي صلى الله عليه وسلم، لا من جهة العقل، ثم دعا إلى الفلاح، وهو الفوز والبقاء في النعيم المقيم، وفيه إشعار بأمور الآخرة من البعث والجزاء، وهي آخر تراجم عقائد الإسلام ثم كرر ذلك بإقامة الصلاة، للإعلام بالشروع فيها، وهو متضمن لتأكيد الإيمان وتكرار ذكره عند الشروع في العبادة بالقلب واللسان، وليدخل المصلي فيها على بينة من أمره، وبصيرة من إيمانه، ويستشعر عظيم ما دخل فيه، وعظمة حق من يعبده، وجزيل ثوابه. اهـ. "جعلنا الله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم ألو الألباب". -[المباحث العربية]- (أمر بلال) بضم الهمزة وكسر الميم، مبني للمجهول، أي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم قال النووي: هذا هو الصواب الذي عليه جمهور العلماء من الفقهاء وأصحاب الأصول وجميع المحدثين، وشذ بعضهم فقال: هذا اللفظ وشبهه موقوف، لاحتمال أن يكون الآمر غير رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا خطأ والصواب أنه مرفوع، لأن إطلاق ذلك إنما ينصرف إلى صاحب الأمر والنهي، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا اللفظ قول الصحابي: أمرنا بكذا، ونهينا عن كذا، أو أمر الناس بكذا ونحوه فكله مرفوع، سواء قال الصحابي ذلك في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بعد وفاته، والله أعلم. اهـ. (أن يشفع الأذان) بفتح الياء معناه أن يأتي به مثنى، أي يكون ألفاظه مرتين مرتين، قال الزين بن المنير: ذلك يقتضي أن تستوي جميع ألفاظه في ذلك، لكن لم يختلف في أن كلمة التوحيد التي في آخره "لا إله إلا الله" مفردة، فقوله "يشفع" محمول على ما سواها. اهـ. (ويوتر الإقامة) معناه يأتي بها وترا، ولا يثنيها، بخلاف الأذان. (إلا الإقامة) معناه إلا لفظ الإقامة، وهي قوله "قد قامت الصلاة" فإنه لا يوترها، بل يثنيها، فالمراد من لفظ الإقامة المثبت غير المراد من لفظ الإقامة المستثنى، فالمراد بالمثبت جميع الألفاظ المشروعة عند القيام إلى الصلاة، والمراد من المستثنى خصوص قوله "قد قامت الصلاة" ففي الكلام جناس تام، وسيأتي إيضاح الحكم في فقه الحديث.

(ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة) "يعلموا" بضم الياء وإسكان العين، أي يجعلوا له علامة يعرف بها. (فذكروا أن ينوروا نارا) أي يظهروا نورها. (أن يوروا نارا) أي يوقدوها، يقال: وري الزند إذا خرجت ناره وأوريته إذا أخرجته، ويقال: أوريت النار أي أشعلتها. قال الله تعالى: {أفرأيتم النار التي تورون} [الواقعة: 71] ومعنى الروايتين متقارب. (عن أبي محذورة) هو قرشي، أسلم بعد حنين في طريق عودة النبي صلى الله عليه وسلم من حنين، وكان من أحسن الناس صوتا، أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤذن بمكة، ولم يزل مقيما بها حتى توفي سنة تسع وخمسين، وتوارثت ذريته الأذان -رضي الله عنهم. (حي على الصلاة) "حي" اسم فعل أمر، بمعنى هلم وأقبل، وفتحت الياء لسكونها وسكون الياء السابقة المدغمة، والمعنى تعالوا إلى الصلاة وأقبلوا إليها، قال الخليل: لا تأتلف العين والحاء في كلمة واحدة أصلية في الحروف، لقرب مخرجيهما، إلا أن يتألف فعل من كلمتين، مثل "حي على" فيقال: حيعلة، ومثل الحيعلة من المركبات "البسملة" في "بسم الله" "والحمدله" في "الحمد لله" و"الحوقلة" في "لا حول ولا قوة إلا بالله" وأشباهها. (حي على الفلاح) أي تعالوا وأقبلوا على الفوز والنجاة، أي إلى سببهما، وهو الصلاة، وقيل: المراد بالفلاح البقاء، أي أقبلوا إلى سبب البقاء في الجنة. -[فقه الحديث]- ألفاظ الأذان اختلف العلماء في عدد ألفاظ الأذان، فذهب الشافعية إلى أن الأذان تسع عشرة كلمة، هي: الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمدا رسول الله. أشهد أن محمدا رسول الله. يسمع بالشهادتين نفسه، ثم يرجع فيمد صوته، ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمدا رسول الله. أشهد أن محمدا رسول الله. [وذكر الشهادتين مرتين سرا قبل الجهر هو المسمى بالترجيع] حي على الصلاة. حي على الصلاة. حي على الفلاح. حي على الفلاح. الله أكبر. الله أكبر. لا إله إلا الله. وقال أبو حنيفة، هو خمس عشرة كلمة، فأسقط الترجيع، واحتج بحديث عبد الله بن زيد المذكور في شرح حديث الباب السابق، إذ ليس فيه ترجيع. واحتج الشافعية والمالكية والحنابلة لإثبات الترجيع بحديث أبي محذورة المذكور في هذا

الباب، وفيه الترجيع، وردوا على أبي حنيفة وموافقيه بأن حديث أبي محذورة متأخر عن حديث عبد الله بن زيد، فإن حديث أبي محذورة سنة ثمان من الهجرة، بعد حنين، وحديث عبد الله بن زيد في أوائل الهجرة، كما أن حديث أبي محذورة فيه زيادة، وزيادة الثقة مقبولة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي لقنه إياه؛ فالعمل بحديث أبي محذورة في زيادته أولى من العمل بحديث عبد الله بن زيد، ثم إن الترجيع عمل أهل الحرمين، وهم أعرف بالسنن من غيرهم. نعم حديث أبي محذورة في روايته المذكورة في هذا الباب لم يتعرض لرفع الصوت أو خفضه في الشهادتين، ولكن روايته في أبي داود تعرضت له، إذ فيها "الله أكبر الله أكبر. الله أكبر الله أكبر" ترفع بها صوتك، ثم تقول: "أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمدا رسول الله. أشهد أن محمدا رسول الله" تخفض بها صوتك، ثم ترفع صوتك بالشهادة. "أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمدا رسول الله. أشهد أن محمدا رسول الله". واختلف القائلون بالترجيع، هل هو ركن، لا يصح الأذان بدونه؟ أو هو سنة ليس ركنا؟ حتى لو تركه صح الأذان مع فوات كمال الفضيلة؟ الأصح أنه سنة. قال الحافظ ابن حجر: وإنما اختص الترجيع بالشهادتين لأنهما أعظم ألفاظ الأذان. اهـ. وقال مالك: إن الأذان سبع عشرة كلمة، فأسقط تكبيرتين من أوله. واحتج بحديث أبي محذورة المذكور في هذا الباب، كما احتج بأنه عمل أهل المدينة، وهم أعرف الناس بالسنن. واحتج الجمهور على التربيع [أي ذكر الله أكبر في أول الأذان أربع مرات] بأنه عمل أهل مكة وهي مجمع المسلمين في المواسم وغيرها، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة وغيرهم، وأجابوا عن رواية الباب لحديث أبي محذورة بأنه وقع في غير مسلم: الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. أربع مرات. قال القاضي عياض: ووقع في بعض طرق الفارسي في صحيح مسلم، أربع مرات، وكذلك اختلف في حديث عبد الله بن زيد في التثنية والتربيع، والمشهور فيه التربيع. اهـ. وذهب البصريون إلى تربيع التكبير الأول، وتثليث الشهادتين وحي على الصلاة، وحي على الفلاح، فيبدأ المؤذن بالتكبير أربعا، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله حتى يصل إلى حي على الفلاح، ثم يعيد كذلك مرة ثانية، ثم يعيد مرة ثالثة، وهو مروي عن الحسن البصري وابن سيرين. والسبب في هذا الاختلاف اختلاف الآثار، واختلاف اتصال العمل عند كل فريق، فالمدنيون يحتجون لمذهبهم بالعمل المتصل بذلك في المدينة، والمكيون كذلك أيضا يحتجون بالعمل المتصل عندهم، والكوفيون [وهو مذهب أبي حنيفة] يحتجون نفس الاحتجاج، وكذلك البصريون. وأمام هذا الاختلاف قال أحمد [على طريقته إذا صحت الأحاديث وتعارضت] إن هذه الصفات المختلفة إنما وردت على التخيير، لا على التحديد والإيجاب، فهو من التخيير المباح، فإن ربع

التكبير الأول في الأذان، أو ثناه، أو رجع في التشهد، أو لم يرجع، أو ثنى الإقامة كلها أو أفردها كلها، أو ثنى الإقامة إلا "قد قامت الصلاة" فالجميع جائز، قاله ابن عبد البر. اهـ. وأما التثويب في أذان الفجر، وهو أن يقول بعد حي على الفلاح: الصلاة خير من النوم، مرتين فهو مشروع عند الشافعية والمالكية، واستدلوا برواية أبي داود لحديث أبي محذورة، وفيها "حي على الفلاح. حي على الفلاح" فإن كان صلاة الصبح قلت: "الصلاة خير من النوم. الصلاة خير من النوم. الله أكبر. الله أكبر. لا إله إلا الله" وأصل مشروعيته كما رواه الطبراني بسنده "أن بلالا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يؤذنه بالصبح، فوجده راقدا، فقال: الصلاة خير من النوم مرتين. قال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا يا بلال، اجعله في أذانك إذا أذنت الصبح" وروى ابن ماجه نحوه عن سعيد بن المسيب، ولا يشكل على هذا ما رواه مالك في الموطأ من أن المؤذن جاء عمر بن الخطاب، يؤذنه بصلاة الصبح، فوجده نائما، فقال: الصلاة خير من النوم، فقال: اجعلها في نداء الصبح، لأن مراد عمر الإنكار على المؤذن، حيث جعل هذه الكلمة في غير موضعها، وهو نداء الصبح، فكأنه قال: اجعلها في الموضع الذي جعلها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يتوهم أن عمر أتى بها من نفسه. وشذ من جعل التثويب في الفجر والعشاء، والصحيح الاقتصار على فعله في الصبح. وذهب الحنفية والشافعي في أحد قوليه إلى أن التثويب بدعة، وقال في البحر: أحدثه عمر، فقال ابنه: هذه بدعة، والتحقيق أن ابن عمر لم ينكر مطلق التثويب، بل أنكره في صلاة الظهر، فعند أبي داود عن مجاهد قال "كنت مع ابن عمر، فثوب رجل في الظهر أو في العصر، فقال: اخرج بنا، فإن هذه بدعة". وعلى القول بأن الصبح له أذانان، هل يكون التثويب فيهما؟ أو في الأول دون الثاني؟ الراجح أنه في الأول دون الثاني، لأنه المقصود لإيقاظ النائم، أما الثاني فهو إعلام بدخول الوقت، ويؤكده ما رواه النسائي في سننه الكبرى عن أبي محذورة قال: "كنت أؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكنت أقول في أذان الفجر الأول: حي على الفلاح، الصلاة خير من النوم"، ومثل ذلك في سنن البيهقي من حديث أبي محذورة. قال صاحب سبل السلام: ليس "الصلاة خير من النوم" من ألفاظ الأذان المشروع للدعاء إلى الصلاة والإخبار بدخول وقتها، بل هو من الألفاظ التي شرعت لإيقاظ النائم، وإذا عرفت هذا هان عليك ما اعتاده الفقهاء من الجدال في التثويب، هل هو من ألفاظ الأذان أو لا؟ وهل هو بدعة أو لا؟ . اهـ. وأما لفظ "حي على خير العمل" فقد ذهب العترة إلى إثباته، وأنه بعد أن يقول المؤذن "حي على الفلاح، يقول مرتين" حي على خير العمل" واحتجوا بما في كتب أهل البيت [كأمالي أحمد بن عيسى والتجريد والإحكام وجامع آل محمد] من إثبات ذلك مسندا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الإحكام: قد صح لنا أن "حي على خير العمل" كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذن بها، ولم تطرح إلا في زمن عمر.

لكن النووي يقول في المجموع: يكره أن يقال في الأذان "حي على خير العمل، لأنه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى البيهقي فيه شيئا موقوفا على ابن عمر وعلي بن الحسين، قال البيهقي: لم تثبت هذه اللفظة عن النبي صلى الله عليه وسلم فنحن نكره الزيادة في الأذان. والله أعلم. ألفاظ الإقامة كذلك اختلف العلماء في عدد ألفاظ الإقامة، فالمشهور والمذهب عند الشافعية أنها إحدى عشرة كلمة هي: [الله أكبر. الله أكبر. أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمدا رسول الله. حي على الصلاة. حي على الفلاح قد قامت الصلاة. قد قامت الصلاة. الله أكبر. الله أكبر. لا إله إلا الله]. وبهذا قال أحمد، وهو قول أكثر العلماء. واحتجوا بحديث عبد الله بن زيد، وقد أوردناه في فقه الحديث في الباب السابق، وقد رواه أبو داود بإسناد صحيح، وروى الترمذي بعضه وقال صحيح حسن. وقال مالك: الإقامة عشر كلمات، وأفرد "قد قامت الصلاة". والزيادة التي في الرواية الأولى من هذا الباب، وهي "ويوتر الإقامة، إلا الإقامة" تعارضه. وقال أبو حنيفة: الإقامة سبع عشرة كلمة، مثل الأذان عندهم خمس عشرة كلمة، مع زيادة (قد قامت الصلاة) مرتين. واحتج لأبي حنيفة وموافقيه بحديث أبي محذورة، أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة، رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وبما روي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن زيد، قال: "كان أذان رسول الله صلى الله عليه وسلم شفعا شفعا، في الأذان والإقامة" قالوا: وقياسا على الأذان. وعورضوا بالرواية الأولى من روايات الباب، وفيها عن أنس "أمر بلال أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة". وقد رواها البخاري ومسلم والبيهقي بإسنادين صحيحين، فأجاب بعضهم بدعوى النسخ وأن إفراد الإقامة كان أولا، ثم نسخ بحديث أبي محذورة، الذي رواه أصحاب السنن، وفيه تثنية الإقامة، وهو متأخر عن حديث أنس، فيكون ناسخا، وقد أنكر أحمد على هؤلاء الذين ادعوا النسخ، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم رجع بعد الفتح إلى المدينة وأقر بلالا على إفراد الإقامة، وعلمه سعد القرظ فأذن به بعده، كما رواه الدارقطني والحاكم. وأجاب الجمهور عن رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن زيد التي احتج بها الحنفية بأن حفاظ الحديث اتفقوا على أن ابن أبي ليلى لم يدرك عبد الله بن زيد، وبأن المشهور عن عبد الله بن زيد، إفراد الإقامة كما سبق. كما أجابوا عن حديث أبي محذورة الذي احتج به الحنفية بأن الرواية اختلفت عنه، فروى

جماعة عنه إفراد الإقامة، وروى آخرون تثنيتها، ولهذا روى مسلم في صحيحه الأذان عن أبي محذورة، ولم يرو الإقامة عنه لعدم صحتها عنده، ثم إن الجمهور وأصحاب أبي حنيفة متفقون على عدم العمل بظاهر حديث أبي محذورة، لأن فيه الترجيع وتثنية الإقامة، والحنفية لا يقولون بالترجيع والجمهور لا يقول بتثنية الإقامة، فلابد للجمهور وللحنفية من تأويله، فكان الأخذ بإفراد الإقامة أولى، لأنه الموافق لباقي الروايات والأحاديث الصحيحة كحديث أنس وغيره، ثم إن الثابت أن أبا محذورة وأولاده من بعده في مكة كانوا على ترجيع الأذان وإفراد الإقامة، وأن سعد القرظ وأولاده من بعده في المدينة المنورة كانوا على إفراد الإقامة إلى عهد الدولة الفاطمية. ثم إن قياس الإقامة على الأذان قياس مع الفارق، لاختلاف الغرض من كل منهما، ولذا شرع الأذان على مكان عال، بخلاف الإقامة، وأن يكون الصوت في الأذان أعلى منه في الإقامة، وأن يكون الأذان مرتلا والإقامة مسرعة. والله أعلم. هذه هي المذاهب الرئيسة في ألفاظ الإقامة، وهناك أقوال متفرقة في المذاهب، منها ما حكاه إمام الحرمين أنها تسع كلمات، بإفراد [قد قامت الصلاة، والتكبير في آخرها] وما حكاه القاضي حسين من أنها ثمان كلمات بإفراد التكبير في أولها وآخرها، مع إفراد لفظ الإقامة. والله أعلم. قال النووي: والحكمة في إفراد الإقامة وتثنية الأذان أن الأذان لإعلام الغائبين، فيكرر ليكون أبلغ في إعلامهم، والإقامة للحاضرين فلا حاجة إلى تكرارها، وإنما كرر لفظ الإقامة خاصة لأنه مقصود الإقامة. وقال: فإن قيل: قد قلتم: إن المختار الذي عليه الجمهور أن الإقامة إحدى عشرة كلمة، منها [الله أكبر. الله أكبر] أولا وآخرا، وهذا تثنية، والجواب: أن هذا وإن كان صورة تثنية فهو بالنسبة إلى الأذان إفراد، ولهذا قال أصحابنا: يستحب للمؤذن أن يقول كل تكبيرتين بنفس واحد، فيقول في أول الأذان [الله أكبر الله أكبر] بنفس واحد. ثم يقول: [الله أكبر الله أكبر] بنفس آخر. اهـ. قال الحافظ ابن حجر معقبا: وهذا إنما يأتي في أول الأذان، لا في التكبير الذي في آخره، فينبغي للمؤذن أن يفرد كل تكبيرة من اللتين في آخره بنفس. اهـ. وقد ذكر النووي في المجموع مسائل كثيرة متعلقة بالأذان، ولتمام الفائدة نورد منها: أنهم اتفقوا على اشتراط ووجوب ترتيب ألفاظ الأذان، لأنه إذا عكس لا يعلم السامع أن ذلك أذان، فإن أتى بالنصف الثاني أولا، ثم بالنصف الأول فالنصف الثاني باطل، والأول صحيح، له أن يبني عليه، ويأتي بعده بالنصف الثاني، ولو استأنف الأذان كان أولى، ولو ترك بعض كلماته أتى بالمتروك وما بعده، ولو استأنف كان أولى. وأما الكلام أثناء الأذان فقد قال الشافعية: إنه مكروه بلا خلاف، فإن عطس حمد الله في نفسه، وبنى، وإن سلم عليه إنسان أو عطس لم يجبه ولم يشمته حتى يفرغ، فإن أجابه أو شمته، أو تكلم بغير ذلك لمصلحة لم يكره، وكان تاركا للفضل، ولو رأى أعمى يخاف وقوعه في بئر وجب إنذاره، ويبني

على أذانه، وإذا تكلم فيه لمصلحة أو لغير مصلحة لم يبطل أذانه إن كان يسيرا؛ لأنه ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم تكلم في الخطبة، فالأذان أولى ألا يبطل، وإن طال الكلام أو سكت سكوتا طويلا أو نام أو أغمى عليه في الأذان فالأرجح وجوب الاستئناف. وأما إذا تكلم أثناء الإقامة فمذهب الشافعية أنه لا يضر اليسير، وعن الزهري: تبطل إقامته، ودليلنا أنه لم تبطل الخطبة، وهي شرط لصحة الصلاة، فالإقامة أولى. ولو زاد في الأذان ذكرا، أو زاد في عدد كلماته لم يبطل أذانه إذا لم يؤد إلى اشتباه الأذان بغيره عند السامعين. والمستحب أن يترسل في الأذان، أي يرتل ويتأنى في كلماته ولا يتعجل، وأن يدرج في الإقامة أي يصل كلماتها بعضها ببعض، بدون مهلة بينها، لأن الأذان للغائبين، فكان الترسل فيه أبلغ، والإقامة للحاضرين، فكان الإدراج فيها أحسن. ويستحب أن يقف المؤذن على أواخر الكلمات في الأذان، لأنه روي موقوفا. قال الهروي: وعوام الناس يقولون [الله أكبر] بضم الراء وكان أبو العباس المبرد يفتح الراء، فيقول [الله أكبر الله أكبر] الأولى مفتوحة والثانية ساكنة، قال لأن الأذان سمع موقوفا، كقوله [حي على الصلاة. حي على الفلاح] فكان الأصل أن يقول [الله أكبر. الله أكبر] بإسكان الراء، فحركت فتحة الألف من اسم الله تعالى في اللفظة الثانية لسكون الراء قبلها، ففتحت كقوله تعالى: {ألم* الله لا إله إلا هو} [آل عمران: 1 - 2] وقال صاحب التتمة: يجمع كل تكبيرتين بصوت، لأنه خفيف، وأما باقي الكلمات فيفرد كل كلمة بصوت، وفي الإقامة يجمع كل كلمتين بصوت والله أعلم. ويكره التمطيط والتمديد الزائد، ويكره تفخيم ألفاظه والتشدق فيه وحكاية كلام الجبابرة والمتكبرين والمتفيقهين، وينبغي أن يكون صوته بتحزين وترقيق، ليس فيه جفاء كلام الأعراب، ولا لين كلام المتماونين. ولو أذن بلغة أجنبية كالفارسية والإنجليزية، فإن كان أذانه لنفسه وهو يحسن العربية لم يجزئه، كأذكار الصلاة، وإن كان لا يحسنها أجزأه وعليه أن يتعلمها وإن أذن لجماعة، فإن كان فيهم من يحسن العربية لم يجزئه فإن لم يكن صح. ولا يصح الأذان إلا من مسلم عاقل، لأنه عبادة، والمجنون وغير المسلم ليسا من أهل العبادة، وأما أذان السكران فإن كان في أول النشوة صح، وإلا فلا يصح على المشهور. ويصح أذان الصبي المميز كما تصح إمامته، لأنه من أهل العبادات لأنه يقبل خبره فيما طريقه المشاهدة. هذا هو المذهب عند الشافعية، وبه قال مالك وأحمد ومذهب أبي حنيفة وداود أن أذان الصبي لا يصح. لكن القائلين بصحته يقولون بكراهته لجماعة الرجال، لأنه يخاف غلطه ولأن فيه تغريرا بالسامعين وإيهاما أنه ليس بأذان، وأنه من عبث الصبيان.

ويستحب أن يكون المؤذن عدلا، يصون دينه ومروءته، لأنه أمين على المواقيت، ولأنه يقف على مكان عال، فإن لم يكن أمينا لم يؤمن أن ينظر إلى العورات فإن أذن فاسق صح أذانه وهو مكروه، قال الشافعية: وإنما يصح أذانه في تحصيل وظيفة الأذان، ولا يجوز تقليده وقبول خبره في دخول الوقت، لأن خبره غير مقبول. وأن يكون عارفا بالمواقيت، ويشترط هذا فيمن يولى ويرتب للأذان أما من يؤذن لنفسه، أو يؤذن لجماعة مرة فلا يشترط معرفته بمواقيت الصلاة، بل إذا علم دخول وقت الأذان لتلك الصلاة صح أذانه لها، بدليل صحة أذان الأعمى وسيأتي الكلام عنه بالتفصيل في شرح الحديث التالي. ويستحب أن يكون على طهارة، فإن أذن وهو محدث أو جنب أو أقام الصلاة وهو محدث أو جنب صح أذانه وإقامته، لكنه مكروه باتفاق، والكراهة في الجنب أشد منها في المحدث، وفي الإقامة أغلظ منها في الأذان، هذا مذهب الشافعية، وبه قال الحسن البصري وقتادة وأبو حنيفة وأحمد وأبو ثور وداود وابن المنذر. وقالت طائفة منهم عطاء ومجاهد والأوزاعي وإسحاق: لا يصح أذانه ولا إقامته. وقال مالك: يصح الأذان، ولا يقيم إلا متوضئا. وأصح ما يحتج به في المسألة حديث المهاجر بن قنفذ رضي الله عنه قال "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول، فسلمت عليه فلم يرد علي حتى توضأ، ثم اعتذر إلي، فقال: "إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر" أو قال "على طهارة" حديث صحيح، رواه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم بأسانيد صحيحة. لكنه إن دل فإنما يدل على الكراهة، لا على عدم الصحة، وأما ما رواه الترمذي عن الزهري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يؤذن إلا متوضو" فقد قال الحافظ أنه موقوف على أبي هريرة، ومنقطع، لأن الزهري لم يدرك أبا هريرة. ويستحب أن يؤذن على مكان عال من منارة أو غيرها، لأنه أبلغ في الإعلام، ولا يستحب في الإقامة أن تكون على موضع عال إلا إذا كان المسجد كبيرا، تدعو الحاجة فيه إلى العلو للإعلام [والأذان والإقامة في مكبر الصوت في هذه الأيام يغني عن المكان العالي]. والسنة أن يؤذن قائما مستقبل القبلة، فلو أذن قاعدا أو مضطجعا أو إلى غير القبلة كره وصح أذانه، لأن المقصود الإعلام، وقد حصل. وقد سبق شرح هذه النقطة بالتفصيل في الحديث السابق فلتراجع. والسنة أن يلتفت في الحيعلتين يمينا وشمالا ولا يستدبر. والمستحب عند الشافعية وأحمد أن يكون المقيم هو المؤذن، لأن زياد بن الحارث الصدائي أذن، فجاء بلال ليقيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم". رواه أبو داود والترمذي وغيرهما، وفي إسناده ضعف، وذهب مالك وأكثر أهل الحجاز وأبو حنيفة

وأكثر أهل الكوفة إلى جواز أن يؤذن الرجل ويقيم غيره، واختلفوا في الأولوية، وقال أكثرهم: لا فرق، واستدلوا بما رواه أبو داود من حديث عبد الله بن زيد "أن بلالا أذن فقال عبد الله: يا رسول الله، إني أرى الرؤيا، ويؤذن بلال؟ قال: فأقم أنت" وفي إسناده ومتنه اختلاف. وطريق الإنصاف أن يقال: الأمر في هذا الباب على التوسعة. ولا يقال: مكروه، وتختلف الأولوية باختلاف الأحوال. ويستحب أن يكون الأذان بقرب المسجد، وأن لا يكتفي أهل المساجد المتقاربة بأذان بعضهم، بل يؤذن في كل مسجد واحد. ويستحب أن يقعد بين الأذان والإقامة قعدة ينتظر فيها الجماعة، لأنه إذا وصل الأذان بالإقامة فات الناس الجماعة، فلم يحصل المقصود بالأذان وهذا في غير المغرب، أما في المغرب فالمستحب عند الشافعية أن يفصل بين أذانها وإقامتها فصلا يسيرا بقعدة أو سكوت أو نحوهما، وبه قال أحمد وأبو يوسف ومحمد، وهو رواية عن أبي حنيفة، وقال مالك: لا يقعد بينهما، وهو المشهور عن أبي حنيفة، ويستحب أن يتحول للإقامة إلى غير موضع الأذان باتفاق العلماء. ويكره الخروج من المسجد بعد الأذان وقبل الصلاة إلا لعذر والله أعلم. (ملحوظة) لشرح هذا الحديث علاقة بشرح الحديث السابق والحديث اللاحق فليراجعا.

(155) باب استحباب اتخاذ مؤذنين للمسجد الواحد

(155) باب استحباب اتخاذ مؤذنين للمسجد الواحد 677 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنان بلال وابن أم مكتوم الأعمى. 678 - عن عائشة رضي الله عنها قالت كان ابن أم مكتوم يؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعمى. -[المعنى العام]- اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا مؤذنا له في المدينة، حين أمر عبد الله بن زيد أن يلقي ما رآه في المنام على مسامع بلال، ليرفع به صوته، ثم لما رأى بعض الصحابة يعتكفون ليلا، فيفاجئهم الفجر قبل أن يستريحوا، وأن بعضهم يصوم فيفاجئهم الفجر قبل أن يتسحروا، وبعضهم يغلبه النوم فيفاجئهم الفجر قبل أن يغتسلوا ويتأهلوا للصلاة، اتخذ ابن مكتوم ليؤذن الفجر مع بلال، يؤذن بلال قبل دخول وقته، ليرجع القائم وينبه النائم، ثم ينزل من مرتفعه عند دخول وقت الفجر، فيرقى ابن أم مكتوم ليؤذن، فيمتنع الصائم عن الأكل، ويحضر المصلى للصلاة. ولما كان أذان بلال قد اعتبر تكريما له، ومكافأة على صبره وتحمله أذى الكفار شاء صلى الله عليه وسلم أن يكرم ابن مكتوم، ويرفع من قدره، وأن يشرفه بالتأذين مع أنه أعمى، مكفوف البصر، لا يرى طلوع الفجر، ويعتمد قول الناس له: قم فأذن فقد أصبحت ودخل الفجر، شاء صلى الله عليه وسلم له هذا التكريم لقاء ما لحقه من أذى العبوس والتولي، حين أراد أن يستزيد من علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن شرائع الإسلام الحنيف، فتلقاه صلى الله عليه وسلم بالعبوس وعاتبه فيه ربه بقوله: {عبس وتولى* أن جاءه الأعمى* وما يدريك لعله يزكى* أو يذكر فتنفعه الذكرى* أما من استغنى* فأنت له تصدى* وما عليك ألا يزكى* وأما من جاءك يسعى* وهو يخشى* فأنت عنه تلهى* كلا إنها تذكرة} [عبس: 1 - 11] فصلى الله وسلم على رسوله، ورضي عن صحابته الطيبين الطاهرين.

-[المباحث العربية]- (كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنان) أي في المدينة، وفي وقت واحد وقت الصبح، فقد كان أبو محذورة مؤذنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وسعد القرط أذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم مرات بقباء. (بلال) وكان مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرا وحضرا إلى أن توفي صلى الله عليه وسلم وبقي مؤذن أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى أن توفي. (وابن أم مكتوم) واسمه عبد الله بن قيس بن زائدة القرشي، وهو ابن خال خديجة أم المؤمنين، واسم أم مكتوم عاتكة بنت عبد الله بن عنكشة المخزومية، زعم بعضهم أنه ولد أعمى، فكنيت أمه أم مكتوم لانكتام نور بصره، أسلم قديما. وهاجر إلى المدينة قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم واستخلفه على المدينة ثلاث عشرة مرة، وشهد القادسية، وقتل شهيدا وكان معه اللواء يومئذ وقيل: رجع إلى المدينة، ومات بها، وهو الأعمى المذكور في سورة {عبس وتولى* أن جاءه الأعمى} وكان صلى الله عليه وسلم يكرمه ويلقاه يقول: أهلا بمن عاتبني فيه ربي. -[فقه الحديث]- لم تتعرض روايات مسلم في هذا الباب للوقت الذي كانا يؤذنان له، وقد صرحت روايات البخاري وغيره بأنه الفجر خاصة، ففي البخاري "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن بلالا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم" وفيه "عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يمنعن أحدكم -أو أحدا منكم- أذان بلال من سحوره، فإنه يؤذن أو ينادي بليل ليرجع قائمكم ولينبه نائمكم". ولا خلاف في جواز الأذان بعد دخول الوقت مهما تعدد، وكذا لا خلاف في منع الأذان قبل دخول الوقت في غير الفجر، والخلاف في مشروعية الأذان قبل دخول وقت الفجر. فالشافعية يقولون: إن السنة أن يؤذن للصبح مرتين. إحداهما قبل الفجر والأخرى عقب طلوعه، لقوله صلى الله عليه وسلم "إن بلالا يؤذن بليل" الحديث والأفضل أن يكون مؤذنان، يؤذن واحد قبل الفجر، والآخر بعده، فإن اقتصر على أذان واحد جاز أن يكون قبل الفجر، وأن يكون بعده، والأفضل أن يكون الفجر على ما هو المعهود في سائر الصلوات. واختلفوا في مبدأ الوقت الذي يجوز فيه الأذان قبل الفجر، فقيل: من نصف الليل، وقيل: في الشتاء لسبع يبقى من الليل، وفي الصيف لنصف سبع وجمهورهم على أنه قبيل طلوع الفجر في السحر، فالشافعية على جواز الأذان قبل الفجر وبعده، وبه قال مالك والأوزاعي، وأبو يوسف، وأبو ثور، وأحمد وإسحق، وداود، واختلف هؤلاء في الاكتفاء بالأذان قبل الفجر للصلاة، فذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور أصحابنا إلى صحة الاكتفاء، مستدلين بما رواه أبو داود "إن بلالا أذن قبل الفجر

بأمر صلى الله عليه وسلم، وإنه استأذنه في الإقامة فمنعه إلى أن طلع الفجر فأمره فأقام" قال الحافظ ابن حجر: لكن في إسناده ضعف، وأيضا فهي واقعة عين، وكانت في سفر، ومن ثم قال القرطبي: إنه [أي عدم الاكتفاء] مذهب واضح، غير أن العمل المنقول بالمدينة على خلافه. اهـ. وذهب ابن خزيمة وابن المنذر وطائفة من أهل الحديث إلى عدم الاكتفاء، وبه قال الغزالي في الإحياء، وادعى بعضهم أنه لم يرد في شيء من الحديث ما يدل على الاكتفاء. أما النووي وأبو حنيفة ومحمد فقد قالوا: لا يجوز الأذان قبل الفجر واستدلوا بما رواه أبو داود والبيهقي أن بلالا أذن قبل طلوع الفجر فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع فينادي: "ألا إن العبد قد نام. ألا إن العبد قد نام" أي غلب النوم على عينيه فمنعه من تبين الفجر، وأمره صلى الله عليه وسلم بذلك ليعلم الناس، لئلا ينزعجوا من نومهم. قالوا: وقياسا على بقية الأوقات، وقالوا: إن الأذان الشرعي مقصود به الإعلام بدخول وقت الصلاة، والأذان قبل الوقت يتعارض مع المقصود من الأذان. وأجاب الجمهور عن الحديث بأنه ضعيف، وعلى فرض صحته فهو محمول على أن ذلك كان قبل مشروعية الأذان الأول، فإن بلالا كان المؤذن الأول ثم اتخذ ابن أم مكتوم بعد ذلك مؤذنا معه، فكان بلال يؤذن يرجع القائم، ويوقظ النائم، فإذا طلع الفجر أذن ابن أم مكتوم، ولا يقاس الفجر على غيره، لأنه يأتي غالبا بعد نوم، فناسب أن ينصب من يوقظ الناس قبل دخول وقتها، ليتأهبوا فيغتسل الجنب، ويتسحر الصائم، وليس ذلك في بقية الأوقات، ثم إنه لا قياس مع النص، وحديث "إن بلالا يؤذن بليل" صحيح لا مطعن فيه. وأما قولهم: إن الأذان للإعلام بدخول الوقت، فالجواب عنه أن الإعلام بالوقت أعم من أن يكون إعلاما بأنه دخل، أو أنه قارب أن يدخل. والله أعلم. وأما ما ادعاه بعض الحنفية، وحكاه السروجي منهم، من أن النداء قبل الفجر لم يكن بألفاظ الأذان، وإنما كان تذكيرا أو تسحيرا، كما يقع للناس اليوم فقد قال عنه الحافظ ابن حجر: هذا مردود، فقد تضافرت الطرق على التعبير بلفظ الأذان، فحمله على معناه الشرعي مقدم، ولأن الأذان الأول لو كان بألفاظ مخصوصة لما التبس على السامعين، وسياق الخبر أنه خشى عليهم الالتباس، أما ما يفعله الناس اليوم فهو محدث قطعا. وذهب ابن القطان إلى أن الأذان قبل الفجر كان في رمضان خاصة، وفيه نظر، فقد قال مالك: لم يزل أذان الفجر عندنا بليل، وقال الزرقاني: قال الكرخي من الحنفية: كان أبو يوسف يقول بقول أبي حنيفة [لا يؤذن للفجر قبل الوقت] حتى أتى المدينة، وعلم أن الأذان قبل الفجر على طول أيام السنة هو عملهم المتصل، فرجع إلى قول مالك. والله أعلم. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - مشروعية اتخاذ مؤذنين للمسجد الواحد، قال الشافعية: فإذا احتاج إلى أكثر من مؤذنين اتخذ

ثلاثة وأربعة فأكثر بحسب الحاجة، ويستحب أن لا يزاد على أربعة، حيث اتخذ عثمان أربعة للحاجة لما كثر الناس. قال النووي: قال أصحابنا: وإذا ترتب للأذان اثنان فصاعدا فالمستحب أن لا يؤذنوا دفعة واحدة، بل إن اتسع الوقت ترتبوا فيه، فإن تنازعوا في الابتداء أقرع بينهم، وإن ضاق الوقت فإن كان المسجد كبيرا أذنوا متفرقين في أقطاره [كما يفعل بالحرم] وإن كان ضيقا وقفوا معا، وأذنوا، وهذا إذا لم يؤد اختلاف الأصوات إلى تهويش، فإن أدى إلى ذلك لم يؤذن إلا واحد، قال أصحابنا: ولا يقيم في المسجد الواحد إلا واحد إلا إذا لم تحصل الكفاية بواحد، وقال بعض أصحابنا: لا بأس أن يقيموا معا إذا لم يؤد إلى تهويش. اهـ. 2 - أن أذان الأعمى صحيح إذا كان له من يخبره بالوقت، لأن الوقت في الأصل مبني على المشاهدة. قال الحافظ ابن حجر: وعلى هذا القيد يحمل ما روى ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن مسعود وابن الزبير وغيرهما أنهم كرهوا أن يكون المؤذن أعمى، وأما ما نقله النووي عن أبي حنيفة وداود أن أذان الأعمى لا يصح فقد تعقبه السروجي بأنه غلط على أبي حنيفة، نعم في المحيط للحنفية أنه يكره. اهـ والساعات الحديثة الحساسة التي يستعملها المكفوفون في هذه الأيام تغني الأعمى عن المرشد من الناس. والله أعلم. 3 - وأخذ منه الحافظ ابن حجر: جواز شهادة الأعمى. 4 - وجواز العمل بخبر الواحد. 5 - وجواز الاعتماد على الصوت في الرواية إذا كان عارفا به وإن لم يشاهد الراوي. قال: وخالف في ذلك شعبة لاحتمال الاشتباه. 6 - وجواز نسبة الرجل إلى أمه إذا اشتهر بذلك واحتيج إليه. 7 - وجواز وصف الإنسان بعيب فيه للتعريف، أو مصلحة تترتب عليه، لا على قصد التنقيص، قال النووي: وهذا أحد وجوه الغيبة المباحة. والله أعلم

(156) باب ما يقول إذا سمع الأذان

(156) باب ما يقول إذا سمع الأذان 679 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير إذا طلع الفجر وكان يستمع الأذان فإن سمع أذانا أمسك وإلا أغار فسمع رجلا يقول الله أكبر الله أكبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "على الفطرة" ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خرجت من النار" فنظروا فإذا هو راعي معزي. 680 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن". 681 - عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة". 682 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم الله أكبر الله أكبر ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله قال أشهد أن لا إله إلا الله ثم قال أشهد أن محمدا رسول الله قال أشهد أن محمدا رسول الله ثم قال حي على الصلاة قال لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال حي على الفلاح قال لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال الله أكبر الله أكبر قال الله أكبر الله أكبر ثم قال لا إله إلا الله قال لا إله إلا الله من قلبه دخل الجنة". 683 - عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "من قال حين يسمع المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله رضيت

بالله ربا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا غفر له ذنبه" قال ابن رمح في روايته "من قال حين يسمع المؤذن وأنا أشهد" ولم يذكر قتيبة قوله وأنا. -[المعنى العام]- لما كان من مقاصد الأذان الدعوة إلى الصلاة، سيقت أحاديث للإشعار بهذا المقصد، ولما كان من ثمراته فضيلة أذان المنفرد، وحقن الدماء عند وجود الأذان، وإثابة السامع إذا قال مثل ما يقول المؤذن، وإثابة الداعي عقب الأذان، سيقت هذه الأحاديث للإعلام بهذه الثمرات. فالرواية الأولى يبين فيها الراوي عادة الرسول صلى الله عليه وسلم وشأنه حين كان يريد الإغارة على مجموعة من الأعداء، فقد كان يختار لهجومه وقت الفجر، لأنه الوقت الذي يغفل فيه السهران، ويأمن فيه المترقب للشر، وكان قبل هجومه يتسمع القوم، فإن سمع منهم أذانا استدل به على أنهم مسلمون مسالمون، فيرجع عنهم، فإن لم يسمع بينهم أذان الفجر، باغتهم وهجم عليهم، وفي سفر من الأسفار، وعند الفجر تسمع، فإذا صوت يقول: الله أكبر. الله أكبر. قال عليه الصلاة والسلام: أنت على فطرة الإسلام يا صاحب الصوت، فسمع: أشهد أن لا إله إلا الله. قال عليه الصلاة والسلام: خرجت بهذا القول من النار واستحققت دخول الجنة، فنظر أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم مصدر الصوت فإذا هو بدوي يرعى معزي، ويؤذن لنفسه ليؤدي صلاة الفجر، ومن مدحه صلى الله عليه وسلم فهم الصحابة فضل أذان المنفرد، وغبطوا المؤذنين على فضيلة التأذين، فجاءوا يقولون يا رسول الله: إن المؤذنين يفضلوننا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا كما يقولون، فإذا انتهيتم فسلوا الله يستجب لكم، إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول: فإذا قال: حي على الصلاة، فقولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله، وإذا قال: حي على الفلاح فقولوا كذلك: لا حول ولا قوة إلا بالله، فإن من تابع حتى ينتهي، يقول بلسانه مثلما يقول، ويصدق بقلبه ما ينطق به لسانه دخل الجنة، فإذا ما انتهيتم من محاكاة الأذان، فصلوا علي وسلموا تسليما. فإن من صلى علي مرة واحدة كافأه الله بعشر من أمثالها، وأعطاه ثواب عشر صلوات، ثم اسألوا الله لي الوسيلة، وهي الدرجة الفريدة العالية التي لا ينالها إلا عبد واحد من عباد الله. وأرجو أن أكون ذلك الرجل، اسألوا الله لي الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة العالية في الجنة تنالوا شفاعتي، ثم قولوا: رضينا بالله ربا، وبمحمد رسولا، وبالإسلام دينا، ثم سلوا الله ما شئتم تنفتح لدعائكم أبواب السموات. -[المباحث العربية]- (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير إذا طلع الفجر) الغارة كبس القوم على غفلة، وهي بليل أولى، ولعل تأخيرها للفجر لاستماع الأذان، للتحقق من عدم إسلام من يغير عليهم، والتعبير بالمضارع "يغير" مع "كان" لإفادة أنها كانت عادته المستمرة.

(فإذا سمع أذانا أمسك) أي عن الإغارة. (فسمع رجلا) لم أقف على حادثته، وعند أي غزوة كانت؟ لكن الأسلوب يعطي أنها كانت عند إغارة ما، وظاهره أنه لم يثبت من أذان الراعي إسلام القوم المقصود الإغارة عليهم، باعتباره بدويا راعيا متنقلا. (على الفطرة) خبر لمبتدأ محذوف، أي أنت في نطقك بالتكبير على الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهي الطبيعة والاستعداد للدين والانطباع عليه. (خرجت من النار) أي بالتوحيد، وقد أشار بذلك إلى استمراره على الفطرة، وعدم تصرف أبويه فيه بالتهويد أو التنصير، والتعبير بالماضي للتفاؤل باستمراره على الإسلام حتى الموت. (فإذا هو راعي معزي) بكسر الميم، وسكون العين، وفتح الزاي اسم جنس، كالمعز، بفتح الميم وسكون العين، وقد تحرك، وواحدها ماعز للذكر والأنثى. (إذا سمعتم النداء) أي الأذان، فالألف واللام للعهد. (فقولوا مثل ما يقول المؤذن) "مثل" منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف، أي قولوا قولا مثل قول المؤذن، على أن "ما" مصدرية، أو قولوا قولا مثل الذي يقوله المؤذن، على أنها موصولة، والمثل والمثيل الشبيه والنظير، والمراد المشابهة في الألفاظ، لا في النغمة ورفع الصوت. (ثم صلوا علي) الصلاة في اللغة الدعاء، والمراد هنا ادعوا الله لي بتعظيم شأني في الدنيا، بإعلاء ذكري، وإظهار سنتي، وفي الآخرة بتشفيعي في أمتي وبإكثار أجري ومثوبتي، وكيفيتها وحكمها في فقه الحديث. (صلى الله عليه بها عشرا) الصلاة من الله الرحمة والمثوبة، أي أعطاه الله تعالى في مقابل صلاته على أجر عشر صلوات. (ثم سلو الله لي الوسيلة) الوسيلة هي ما يتقرب به إلى الكبير، يقال: توسلت أي تقربت، وتطلق على المنزلة العلية، قال الحافظ ابن حجر: ويمكن ردها إلى الأول بأن الواصل إلى تلك المنزلة قريب من الله، فتكون كالقربة التي يتوسل بها. اهـ. وقد فسرها الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها منزلة في الجنة. (لا تنبغي إلا لعبد) وفي رواية "لا ينبغي" بالياء، أي لا تتيسر ولا تكون إلا لعبد واحد. (وأرجو أن أكون أنا هو) قيل "أنا" تأكيد للضمير المستتر في "أكون" و"هو" خبر "أكون" وضع بدل ضمير النصب "إياه" ويحتمل أن لا يكون "أنا" تأكيدا، بل مبتدأ، و"هو" خبره والجملة خبر "أكون" ويمكن أن يقال: إن "هو" وضع موضع اسم الإشارة أي أكون أنا ذلك العبد. (فمن سأل الوسيلة حلت له الشفاعة) أي استحقت ووجبت، وقد وقع في الطحاوي من

حديث ابن مسعود "وجبت له" أو نزلت عليه الشفاعة ونالته يقال: حل يحل بضم الحاء إذا نزل، واللام بمعنى على، يؤيد ذلك رواية "حلت عليه الشفاعة" ولا يجوز أن يكون "حلت" من الحل، لأنها لم تكن قبل ذلك محرمة. (وإذا قال المؤذن: الله أكبر. الله أكبر ... إلخ) قال النووي: معناه قال كل نوع من هذا مثنى، كما هو المشروع، فاختصر صلى الله عليه وسلم من كل نوع شطره، تنبيها على باقيه. (لا حول ولا قوة إلا بالله) قال النحاة: يجوز فيها خمسة أوجه. [لا حول ولا قوة] بفتحهما دون تنوين، وفتح الأول ونصب الثاني منونا ورفعهما منونين، وفتح الأول ورفع الثاني منونا، وعكسه، والحول الحركة، أي لا حركة ولا استطاعة إلا بمشيئة الله، وقيل: لا حول في دفع شر، ولا قوة في تحصيل خير إلا بالله، وقيل: لا حول عن معصيته إلا بعصمته، ولا قوة على طاعته إلا بمعونته، ويقال في التعبير عن قولهم: لا حول ولا قوة إلا بالله: الحوقلة، هكذا قاله الأزهري والأكثرون. وقال الجوهري: الحولقة، فعلى الأول، وهو المشهور الحاء والواو من الحول، والقاف من القوة، واللام من اسم الله تعالى، وعلى الثاني الحاء واللام من الحول، والقاف من القوة، والأول أولى، لئلا يفصل بين الحروف، ومثل الحوقلة الحيعلة في حي على الصلاة حي على الفلاح. حي على كذا. ولم يقولوا: حيفل، في حي على الفلاح، ولا حيصل، في حي على الصلاة لأن الباب مسموع، قال المطرز: الأفعال التي أخذت من أسمائها سبعة: بسمل إذا قال بسم الله، وسبحل إذا قال سبحان الله وحمدل إذا قال الحمد لله وهيلل إذا قال لا إله إلا الله، وحوقل إذا قال لا حول ولا قوة إلا بالله وحيعل إذا قال حي على الفلاح، وجعفل إذا قال جعلت فداءك. وزاد الثعالبي طبلق إذا قال أطال الله بقاءك ودمعز إذا قال أدام الله عزك. (من قلبه) أي إذا خالصا من قلبه مثلما قال المؤذن، فقوله "من قلبه" راجع إلى جميع ما ذكر من ألفاظ الأذان. (من قال حين يسمع المؤذن) أي بعد انتهائه من الأذان فإن ما ذكر من قبيل الذكر والدعاء عقب الأذان. (رضيت بالله ربا) أي اخترته واكتفيت به، ولم أطلب غيره، ورضيت بجميع قضائه وقدره، و"ربا" تمييز محول عن المضاف، أي رضيت بربوبيته ويحتمل أن يكون حالا، أي رضيت بالله مربيا ومالكا، وكذا يقال في "رسولا" و"دينا" في الجملتين التاليتين. (وأنا أشهد) الواو عاطفة على محذوف، والتقدير: شهدت أيها المؤذن بكذا، وأنا أشهد مثلك.

-[فقه الحديث]- قال النووي: واعلم أنه يستحب إجابة المؤذن، بالقول مثل قوله لكل من سمعه، من متطهر ومحدث وجنب وحائض وغيرهم ممن لا مانع له من الإجابة ومن أسباب المنع أن يكون في الخلاء أو جماع أهله، أو نحوهما. اهـ. فإذا فرغ من ذلك تابع. وظاهر الرواية الثانية والثالثة، وفيهما "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول" أن المطلوب محاكاة المؤذن في جميع كلمات الأذان، وبهذا قيل، لكن الرواية الرابعة عن عمر بن الخطاب تدل على أنه يستثنى من ذلك [حي على الصلاة، وحي على الفلاح] فيقول بدلهما: لا حول ولا قوة إلا بالله، وهذا هو المشهور، وما عليه الجمهور، ووجه من حيث المعنى بأن الأذكار الزائدة على الحيعلة يشترك السامع والمؤذن في ثوابها، وأما الحيعلة فمقصودها الدعاء إلى الصلاة، وذلك يحصل من المؤذن، فعوض السامع عما يفوته من ثواب الحيعلة بثواب الحوقلة، وقال الطيبي: معنى الحيعلتين هلم بوجهك وسريرتك إلى الهدى عاجلا والفوز بالنعيم آجلا، فناسب أن يقول السامع: هذا أمر عظيم، لا أستطيع القيام به مع ضعفي، اللهم إلا إذا وفقني الله بحوله وقوته. اهـ وهذا القول يحمل رواية العام على رواية الخاص. وحكى بعض المتأخرين عن بعض أهل الأصول أن الخاص والعام إذا أمكن الجمع بينهما وجب إعمالهما، وعليه يشرع للسامع أن يجمع بين الحيعلة والحوقلة، وهو وجه عند الحنابلة، وقال ابن المنذر: يحتمل أن يكون ذلك من الاختلاف المباح، فيقول تارة كذا وتارة كذا. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: ويقرب من ذلك الخلاف في قول المأموم [سمع الله لمن حمده -أو ربنا ولك الحمد]. وذهب بعض الحنفية إلى أنه يسن لسامع "حي على الصلاة" أن يقول لا حول ولا قوة إلا بالله، ولسامع "حي على الفلاح" أن يقول: ما شاء الله، روي مثله عن عثمان، وروي عن سعيد بن جبير قال: يقول في جواب الحيعلة: سمعنا وأطعنا. قال الحافظ ابن حجر: ووراء ذلك وجوه من الاختلاف أخرى قيل: لا يجيبه إلا في التشهدين فقط، وقيل هما والتكبير، وقيل: يضيف إلى الحوقلة دون ما في آخره، وقيل: مهما أتى به مما يدل على التوحيد والإخلاص كفاه، وهو اختيار الطحاوي، وحكوا أيضا خلافا. هل يجيب في الترجيع أولا؟ وفيما إذا أذن مؤذن آخر، هل يجيبه بعد إجابته للأول أولا؟ اهـ. وظاهر الرواية الثانية والثالثة أن السامع يقول أيضا "الصلاة خير من النوم" عندما يسمعها في أذان الصبح، وقد حكى النووي في ذلك خلافا، فقال: يقول فيها: صدقت وبررت، وقيل يقول: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة خير من النوم. وقد ذهب أبو الفتح اليعمري إلى أن القول مثلما يقول المؤذن محله بعد انتهاء المؤذن من أذانه،

والصحيح الذي تدل عليه الأحاديث إجابة كل كلمة عقب انتهائه منها، والرواية الرابعة في هذا الباب صريحة في ذلك. واختلفوا في المصلي يسمع الأذان، فقالت الحنفية: لا يجيب في الصلاة مطلقا، فرضا كانت أو نفلا، ويجيب بعد الفراغ منها، وقالت الشافعية: تكره الإجابة في الصلاة، لأنه إعراض عنها ولو بالذكر، لكنه إن قال في صلاته: حي على الصلاة، أو حي على الفلاح، أو الصلاة خير من النوم، بطلت صلاته، إن كان عالما بتحريمه، لأنه كلام آدمي قال النووي: وفرق ابن عبد السلام بين ما إذا كان يقرأ الفاتحة فلا يجيب، بناء على وجوب موالاتها، وإلا فيجيب، وعلى هذا إن أجاب في الفاتحة بالذكر استأنف. اهـ وعند المالكية أقوال، قيل: يحكي في النافلة دون الفريضة، وقيل: يحكي فيهما، وقيل: لا يحكي فيهما. وحكم الإقامة في الإجابة حكم الأذان، إلا في قوله: قد قامت الصلاة" فيقول: أقامها الله وأدامها. وهل القول مثلما يقول المؤذن واجب أو مستحب؟ ذهب الحنفية وابن وهب من أصحاب مالك والظاهرية إلى أنه واجب واحتجوا بأن الأمر المطلق المجرد عن القرائن يدل على الوجوب، لا سيما وقد تأيد ذلك بما روي من الأخبار والأثار في الحث على الإجابة، وقد روى ابن أبي شيبة عن المسيب بن رافع عن عبد الله قال "من الجفاء، أن تسمع المؤذن ثم لا تقول مثلما يقول" قال العيني: ولا يكون من الجفاء إلا ترك الواجب، وترك المستحب ليس من الجفاء، ولا تاركه جاف. وقالوا: إنه يجب على السامع قطع القراءة، وترك الكلام والسلام ورده وكل عمل غير الإجابة، فهذا كله أمارة الوجوب. وأجابوا عن الرواية الأولى من بابنا وفيها أن الرسول صلى الله عليه وسلم أجاب الراعي بغير لفظ الأذان، قالوا: يجوز أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال مثله ولم ينقله الراوي اكتفاء بالعادة، ونقل القول الزائد. ويجوز أن يكون ذلك وقع قبل صدور الأمر. وقال الشافعي ومالك وأحمد وجمهور الفقهاء: إن الأمر محمول على الاستحباب، واستدلوا بالرواية الأولى من روايات الباب، وقالوا: إن الأذان الذي هو الأصل ليس بواجب على كل أحد، فالإجابة لا تكون واجبة من باب أولى، وتبعية قول الحاكي القول المحكي الذي هو الأذان قرينة صارفة للأمر عن الوجوب، وأنه على الاستحباب والندبة إلى الخير وإصابة الفضل، كما قد علم الناس من الدعاء الذي أمرهم أن يقولوه دبر كل صلاة، وما أشبه ذلك، والله أعلم. وتأمر الرواية الثالثة بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عقب الأذان، فتقول "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا". والأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث محمول على الندب عند الجمهور، وقالوا: صرفه عن الوجوب ما في الحديث من الترغيب في الثواب فإن مثله يستعمل في المستحب غالبا، وذهب قليل من العلماء إلى أنه باق على الوجوب، والعيني يميل إلى هذا الرأي، حيث يقول: يستفاد من الحديث وجوب الحكاية، ووجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الإجابة ولا سيما وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الأذان، فإن الطحاوي أوجب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم كلما سمع ذكره.

وظاهر الحديث جواز الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مفرده بدون السلام فتقول مثلا: صلى الله عليه. وإلى ذلك ذهب كثيرون، وقال بعضهم: يكره إفراد الصلاة عن السلام. قال الحافظ ابن حجر: الحق أن المراد بالكراهة خلاف الأولى، لأنه لم يوجد مقضيها من النهي المخصوص. اهـ. والكيفية الكاملة للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هي فيما رواه الشيخان والنسائي وأبو داود وغيرهم أنه لما نزل قوله تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} [الأحزاب: 56] قال رجل: يا رسول الله. أما السلام عليك فقد علمناه، فكيف الصلاة عليك؟ قال: قل: "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد". والأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث موجه لمن سمع الأذان، ومثله في ذلك المؤذن، لفراغه من الأذان حينئذ، ولعدم ما يشغله، ولأنه دخل في قوله: "من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا". وكيفما وقعت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عقب الأذان حصل المقصود وأجيب الأمر، لكن بعض المتشددين يحملون على الكيفية التي اعتادها غالب مؤذني زماننا، من رفع الصوت بها عقب الأذان، ويقولون: إنها بدعة تخالف هدى الرسول صلى الله عليه وسلم وقد حدثت في عهد صلاح الدين بن أيوب (سنة 781 هـ) ويستدلون على مذهبهم بقول الحافظ ابن حجر: وقد أحدث المؤذنون رفع الصوت بالصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم عقب الأذان، في الفرائض الخمس ... وقد استفتى مشايخنا وغيرهم في الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان على الكيفية التي يفعلها المؤذنون، فأفتوا بأن الأصل سنة والكيفية بدعة. اهـ. وعندي أن الحديث لم يتعرض للسر والجهر، فكيفما وقعت الصلاة حصل المقصود، وذكر الله تعالى مطلوب جهرا وسرا، حيث لا يؤدي جهره إلى الرياء والسمعة، وقد يفيد الجهر ما لا يفيده السر من الحث على الاقتداء، أو الإثابة بالسماع، وقد ضعفت الهمم في زماننا، وقل تيقظ الناس للسنن، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عقب الأذان بهذه الكيفية تدفع السامعين إلى محاكاتها، وترديدها مع المؤذن، أو الإصغاء لها واستشعارها، ولو أننا اعتبرنا كل كيفية لم تكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بدعة منكرة لمنعنا قراءة القرآن في المذياع، ومنعنا المصاحف المكتوبة بكيفية غير الكيفية التي كانت عليها، وهكذا، والمسألة فيما أعتقد أنه لا يؤمر بهذه الكيفية ولا ينهي عنها، إلا إذا أحدثت ضررا من تشويش على المصلين أو نحوه. والله أعلم. هذا ما يتعلق بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عقب الأذان، أما حكمها عموما فقد قال الأبي: الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم فرض في الجملة، مرة في العمر وحمل الطبري الآية على الندب، قال في الشفاء: ولعله فيما زاد على المرة، وهي في التشهد قيل: سنة، وقيل: فرض، وقيل: فضيلة، وتستحب في غير ذلك، عند الفراغ من حكاية قول المؤذن، لهذا الحديث، وعند ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم، أو كتابته، لحديث "رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي" وحديث "من صلى علي في كتاب لم تزل الملائكة تستغفر له مادام اسمي في هذا الكتاب" وتستحب بعد البسملة في الرسائل، ومضى عليه

عمل الأمة، ولم يكن في الصدر الأول وإنما حدث عند ولاية بني هاشم، ثم استمر عمل المسلمين عليه بجميع الأقطار ومنهم من يختم به أيضا. اهـ. والمتتبع لكتب الحديث يجد الرواة جميعا بدون استثناء، وعلى رأسهم الصحابة والخلفاء الراشدون وأمهات المؤمنين، يلتزمون الصلاة عليه والتسليم كلما ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم ولو تكرر في الحديث الواحد مرات ومرات، وهذا الالتزام الذي لم يتخلف سند للطحاوي في قوله بوجوب الصلاة عليه كلما ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم، وإن كنت أميل إلى الاستحباب. والله أعلم. أما سؤال الوسيلة فقد جاء في رواية البخاري "من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة" قال الحافظ ابن حجر: و"الفضيلة" يحتمل أن تكون منزلة أخرى، أو تفسيرا للوسيلة، وقال ابن الجوزي: "والأكثر على أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة". اهـ. فاشتملت رواية البخاري على سؤال الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود فهي أوفى من رواية مسلم، قال بعضهم: والحكمة في سؤال ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم مع كونه واقعا له بوعد الله تعالى -حيث قال: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} [الإسراء: 79] وعسى من الله للواقع، وليس على بابه من الترجي- الحكمة في سؤال ذلك إظهار شرفه، وعظم منزلته، والعبادة بالدعاء، ونيل الأجر عليه، وهذا القول أولى من قول بعضهم: إنه صلى الله عليه وسلم قاله قبل أن يوحى إليه بوقوعه ومن قول بعضهم: إن هذا السؤال لطلب الدوام والثبات. والله أعلم. قال الحافظ ابن حجر: استشكل بعضهم جعل الشفاعة جزاء لسؤال الوسيلة مع أن الشفاعة للمذنبين، وأجيب بأن له صلى الله عليه وسلم شفاعات أخرى، كإدخال الجنة بغير حساب، وكرفع الدرجات، فيعطي كل أحد ما يناسبه. اهـ. واستشكل بعضهم على الرواية الرابعة أنها جعلت دخول الجنة في مقابلة حكاية الأذان، والقول مثلما يقول المؤذن، مع أن كل مؤمن لابد له من دخول الجنة حيث مات على الإيمان، وإن لم يحك قول المؤذن، وأجاب بأن المراد أنه يدخل الجنة مع السابقين، وليس جوابه بجواب، بل الجواب أن من قال بلسانه ومن قلبه -كما ينص الحديث- مثلما يقول المؤذن كان مسلما مؤمنا، ومن كان كذلك دخل الجنة، فالإشكال غير وارد من أساسه، وإنما يرد الإشكال لو أن الحديث قال: من لم يقل مثل قول المؤذن لا يدخل الجنة. وقد تعرضت الرواية الخامسة لذكر ودعاء آخر عقب الأذان، غير الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وسؤال الوسيلة، وهو "أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، رضيت بالله ربا، وبمحمد نبيا ورسولا وبالإسلام دينا" والجمع بينهما مستحب، بل هناك من الأدعية الأخرى غير ما ورد ولا مانع من الجمع والإكثار من الدعاء في هذا الوقت المفضل، الذي يكون فيه الدعاء أقرب ما يكون إلى الإجابة، من تلك ما رواه أحمد والطبراني عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قال حين

ينادي المنادي: اللهم رب هذه الدعوة القائمة والصلاة النافعة، صل على محمد، وأرض عني رضا لا سخط بعده استجاب الله دعوته "وما رواه الحاكم عن أبي أمامة مرفوعا: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع المؤذن قال: اللهم رب هذه الدعوة المستجابة، المستجاب لها دعوة الحق وكلمة التقوى، توفني عليها، وأحيني عليها، واجعلني من صالحي أهلها عملا يوم القيامة" وهذه الروايات، وإن لم تكن قوية يعمل بها في فضائل الأعمال. ولم تتعرض أحاديثنا لما يقال من الذكر والدعاء عقب الإقامة، لكن النووي في الأذكار يقول: روينا في كتاب ابن السني عن أبي هريرة "أنه كان إذا سمع المؤذن يقيم يقول: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، صل على محمد، وآته سؤله يوم القيامة". والله أعلم. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - استحباب التكبير عند الإغارة، لأنه وقت غفلة الأعداء. 2 - أن الأذان يمنع الإغارة ويحقن الدماء. 3 - أن الأذان شعار لدين الإسلام، وأنه أمر واجب، لا يجوز تركه، ولو أن أهل بلد اجتمعوا على تركه، وامتنعوا كان للسلطان قتالهم عليه، قال التيمي: وإنما يحقن الدم بالأذان لأن فيه الشهادة بالتوحيد والإقرار بالنبي صلى الله عليه وسلم. 4 - أن الأذان مشروع للمنفرد. 5 - ويؤخذ من قوله في الرواية الأولى "خرجت من النار" أن النطق بالشهادتين يكون إسلاما. 6 - ويؤخذ منه استحباب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من الأذان. 7 - ويستحب لمن رغب غيره في خير أن يذكر له شيئا من آثاره؛ لينشطه لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشرا". و"من سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة". 8 - وفيه مضاعفة الأجر للأمة. 9 - واستحباب سؤال الوسيلة له صلى الله عليه وسلم. 10 - وفيه اختصاص الوسيلة المذكورة بنبينا صلى الله عليه وسلم. 11 - وفيه تواضعه صلى الله عليه وسلم، حيث رغب الأمة في الدعاء له. 12 - وفيه إثبات الشفاعة لمن سأل ذلك. 13 - وأن الأعمال يشترط لها القصد والإخلاص، لقوله صلى الله عليه وسلم "من قلبه". 14 - وأن حكاية الأذان فيها فضل عظيم، وأنه يكون بقول السامع كل كلمة بعد فراغ المؤذن منها. 15 - استحباب أن يقول السامع عقب الأذان: رضيت بالله ربا .. إلخ الدعاء. 16 - الحض على الدعاء في أوقات الصلوات، لأنه حال رجاء الإجابة. والله أعلم

(157) باب فضل الأذان

(157) باب فضل الأذان 684 - عن طلحة بن يحيى عن عمه قال كنت عند معاوية بن أبي سفيان فجاءه المؤذن يدعوه إلى الصلاة فقال معاوية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة". 685 - عن جابر رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "إن الشيطان إذا سمع النداء بالصلاة ذهب حتى يكون مكان الروحاء" قال سليمان فسألته عن الروحاء فقال: هي من المدينة ستة وثلاثون ميلا. 686 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشيطان إذا سمع النداء بالصلاة أحال له ضراط حتى لا يسمع صوته فإذا سكت رجع فوسوس فإذا سمع الإقامة ذهب حتى لا يسمع صوته فإذا سكت رجع فوسوس". 687 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان وله حصاص". 688 - عن سهيل قال: أرسلني أبي إلى بني حارثة قال ومعي غلام لنا (أو صاحب لنا) فناداه مناد من حائط باسمه قال وأشرف الذي معي على الحائط فلم ير شيئا فذكرت ذلك لأبي فقال لو شعرت أنك تلق هذا لم أرسلك ولكن إذا سمعت صوتا فناد بالصلاة فإني سمعت أبا هريرة يحدث عن رسول الله أنه قال "إن الشيطان إذا نودي بالصلاة ولى وله حصاص".

689 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان له ضراط حتى لا يسمع التأذين فإذا قضي التأذين أقبل حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر حتى إذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه يقول له اذكر كذا واذكر كذا لما لم يكن يذكر من قبل حتى يظل الرجل ما يدري كم صلى". 690 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله. غير أنه قال "حتى يظل الرجل إن يدري كيف صلى". -[المعنى العام]- للأذان فضل على كثير من العبادات؟ والتأذين منزلة وشرف منحها الرسول صلى الله عليه وسلم لبلال مقابل صموده أمام التعذيب، وجهره بأحد أحد في وجه عتاة الكافرين. الأذان صاروخ يصم آذان أعداء الإسلام، ويكبتهم ويشعل الحسرة في صدورهم، الأذان رفع لشأن الإسلام، وإعلاء لكلمته وإعلان عن شعائره، ورفع لرأس المؤذن، وعزة للمسلمين، ومن هنا كان المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة، وأكثرهم عزة وكرامة وفضلا وشأنا، ومن هنا كان الأذان إرغاما للشيطان، وإذلالا، ومجابهة له وخذلانا، إنه إذا سمع الأذان ولى وأدبر، يجري كأنه حمر مستنفرة فرت من قسورة، يجري ويحدث صوتا حين يجري يغطي بصوته على أذنيه كيلا تسمع الأذان، صوت قبيح كالضراط، وحقا لا يخرج الخبيث إلا الخبائث، ولا يهرب الخبيث إلا من الطيبات، يجري ويبتعد مد صوت المؤذن مادام يؤذن، فإذا فرغ من أذانه عاد إليه وإلى أهل المسجد، يوسوس لهم ويغويهم ويأتيهم من خلفهم ومن بين أيديهم، فإذا سمع إقامة الصلاة فر كما تفر الفيران من القط، فر بعيدا عن صوت التوحيد والدعوة إلى الله، فإذا انقضت إقامة الصلاة عاد إلى المصلين، يخطر بينهم وبين قلوبهم، يوسوس لهم، ويزين أمور الدنيا في نفوسهم ويذكرهم في صلاتهم بمتاعهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم، ليحول بينهم وبين الخشوع، ويباعد بينهم وبين الإقبال على الله بكل الجوارح، وبقدر جهاد المؤمن للشيطان وبقدر تغلبه عليه في هذا الميدان، وبقدر خشوعه لربه، يكون له من ثواب الصلاة، فقد قال صلى الله عليه وسلم "ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها" وإن كثيرا من المصلين يتغلب عليهم شيطانهم، فيخرجون من الصلاة كأنهم ما دخلوا فيها، يقرءون ويركعون ويسجدون وهم لا يشعرون أجسامهم في الصفوف، وأفكارهم مع الشيطان، لا يدركون كم ركعة صلوا؟ ولا ماذا قرءوا؟ ولا كيف بدءوا؟ ولا متى انتهوا؟ إنهم الذين

استجابوا لوسوسة الشيطان، إنهم الذين لم يأخذوا حذرهم منه، إنهم الذين نسوا قوله لربه، رب العزة والجبروت: {لأقعدن لهم صراطك المستقيم* ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين} [الأعراف: 16 - 17] نعوذ بالله من الشيطان الرجيم. -[المباحث العربية]- (المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة) قال النضر: طول العنق حقيقة، وذلك أنه عندما يلجم الناس العرق يوم القيامة تطول أعناقهم، لئلا ينالهم ذلك الكرب والعرق. وعامة شراح الحديث على أنه كناية، واختلفوا في المراد، فقيل: كناية عن أنهم أكثر الناس تشوقا وتطلعا إلى رحمة الله، وذلك أنه يلزم المتطلع أن يطيل عنقه غالبا إلى ما يتطلع إليه، ويلزمه كثرة ما يرون من ثواب، وقيل: كناية عن أنهم سادة ورؤساء، وذلك أن أطول الناس عنقا أبرزهم وأعلاهم حسا، فأريد أبرزهم وأعلاهم مكانة وقدرا، وقيل: كناية عن أنهم أكثر اتباعا، وهو بعيد، وقيل: كناية عن أنهم أكثر الناس أعمالا حسنة، وهو بعيد أيضا، وأحسن ما قرأت ما قاله الأبي من أنه كناية عن عدم الخجل من الذنوب، لأن الخجل يقصر عنقه، وينكس رأسه، قال تعالى {ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم} [السجدة: 12] ومن المعلوم أن الكناية لفظ أطلق وأريد منه لازم معناه مع صحة إرادة المعنى الأصلي، فالكنايات المذكورة لا تمنع من طول عنقهم على الحقيقة، وكان الجزاء من جنس العمل، فإنهم كانوا في الدنيا يطيلون أعناقهم ويلوونها يمينا وشمالا بالأذان، وقد جاء عند ابن حبان "يعرفون بطول أعناقهم يوم القيامة". قال القاضي عياض وغيره: ورواه بعضهم "إعناقا" بكسر الهمزة أي أشد الناس إسراعا إلى الجنة. (إن الشيطان) الشيطان كل متمرد من الإنس والجن، ولكن المراد هنا شيطان الجن خاصة، قيل المراد به إبليس، وقيل: شيطان المؤذن، وقيل شيطان سامع الأذان، وقيل جنس المتمرد من الجن. (إذا سمع النداء بالصلاة) أي إذا سمع الأذان لأجل الصلاة، فالباء للسببية، ويحمل رواية مسلم على رواية البخاري في المعنى، ولفظها "إذا نودي للصلاة". (حتى يكون مكان الروحاء) بفتح الراء وبالحاء والمد، وقد بين الرواي المسافة بينها وبين المدينة بستة وثلاثين ميلا، وليس المقصود من الحديث ذهاب الشيطان إلى هذا المكان خاصة، بل هو كناية عن البعد عن المؤذن مسافة طويلة حتى لا يسمع صوته، وكلما ارتفع صوت المؤذن كلما زاد ابتعاد الشيطان عنه.

(إذا سمع النداء بالصلاة أحال) يقال: أحال إلى المكان إذا ذهب إليه، وبالمكان إذا أقام به، وعن المكان إذا ذهب عنه، فهو من التحول والتغير، والمراد هنا: ذهب عن مكان المؤذن، وابتعد هاربا. (له ضراط) "الضراط، بضم الضاد خروج الريح من الدبر بصوت، والجملة إسمية وقعت حالا بدون واو لحصول الارتباط بالضمير، وفي رواية "وله ضراط" بالواو، قال القاضي عياض: يمكن حمله على ظاهره لأن الشيطان جسم متغذ، يصح منه خروج الريح، ويحتمل أنه كناية عن شدة نفاره، ويقويه رواية "له حصاص" بضم الحاء، فقد فسرها الأصمعي وغيره بشدة العدو، قال الطيبي: شبه شغل الشيطان نفسه عن سماع الأذان بالصوت الذي يملأ السمع ويمنعه عن سماع غيره، ثم سماه ضراطا تقبيحا له. اهـ. فكأنه قال: ولى هاربا محدثا صوتا يشغل به أذنيه عن الأذان، صوتا قبيحا شبيها بالضراط. ففي الكلام استعارة تصريحية أصلية. قال العيني: هذا تمثيل لحال الشيطان عند هروبه من سماع الأذان بحال من دهاه أمر عظيم، واعتراه خطب جسيم حتى حصل له الضراط من هول ما هو فيه، لأن الواقع في شدة عظيمة من خوف وغيره تسترخي مفاصله، ولا يقدر على أن يملك نفسه، فينفتح منه مخرج البول والغائط. ولما كان الشيطان -لعنة الله- تعتريه شدة عظيمة، وداهية جسيمة عند النداء إلى الصلاة، فيهرب حتى لا يسمع الأذان، شبه حاله بحال ذلك الرجل، وأثبت له على وجه الادعاء الضراط، الذي ينشأ من كمال الخوف الشديد، وفي الحقيقة ليس هناك ضراط. اهـ. وهو كلام جيد. (وله حصاص) قيل: هو الضراط، وقيل هو شدة العدو والفرار. (فإذا قضي التأذين أقبل) "قضي" بضم القاف، مبني للمجهول، والمراد بالقضاء الفراغ والانتهاء، ويروى بفتح القاف والضاد، ونصب "التأذين" على المفعول به، والتقدير: فإذا قضى المؤذن التأذين أي الأذان. (حتى إذا ثوب للصلاة أدبر): "ثوب" بضم الثاء، وتشديد الواو المكسورة، قيل: هو من ثاب إذا رجع، والمراد من التثويب بالصلاة إقامتها ومقيم الصلاة راجع إلى الدعاء إليها، فإن الأذان دعاء إلى الصلاة، والإقامة دعاء إليها، ووجهه الطيبي توجيها آخر، فقال: "ثوب" بفتح الثاء وتشديد الواو المفتوحة، أي صرخ بالإقامة مرة بعد مرة، وكل مردد صوته بشيء مثوب. اهـ وهذا التوجيه بعيد، لأنه يجيز إطلاق التثويب على كل كلمات الأذان، مع أن الذي أطلق عليه التثويب من كلمات الأذان قول المؤذن "الصلاة خير من النوم" لأنه تكرر لمعنى الحيعلتين، وقال الخطابي: التثويب الإعلام بالشيء ووقوعه، وأصله، من ثوب الرجل إذا جاء فزعا، ولوح بثوبه مستصرخا. اهـ وهذا القول بعيد عن المراد، فإنه بهذا المعنى يطلق على الأذان، وهو ليس المقصود بل المقصود الإقامة، والتوجيه الأول خير توجيه. وزعم بعض الحنفية أن المراد بالتثويب هنا قول المؤذن بين الأذان والإقامة [حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة] ففي سنن أبي داود عن ابن عمر أنه كره التثويب بين

الأذان والإقامة، وهذا الزعم بعيد عن الصواب، فقد جاء المراد صريحا في الرواية الثالثة من هذا الباب، ولفظها "فإذا سمع الإقامة ذهب". (حتى يخطر بين المرء ونفسه) "يخطر" بضم الطاء وكسرها، حكاهما القاضي عياض، قال: ضبطناه عن المتقنين الكسر، وسمعناه من أكثر الرواة بالضم، قال: والكسر هو الوجه، ومعناه يوسوس، وهو من قولهم: خطر الفحل بذنبه إذا حركه، فضرب به فخذيه، وأما بالضم فمن السلوك والمرور، أي يدنو منه، فيمر بينه وبين قلبه، فيشغله عما هو فيه، وبهذا فسره الشارحون للموطأ، وبالأول فسره الخليل. والمراد من النفس هنا القلب، وقد وقع في رواية البخاري "بين المرء وقلبه" وبهذا التفسير يحصل الجواب عما يقال: كيف يتصور خطوره بين المرء ونفسه، وهما عبارتان عن شيء واحد؟ وقد يجاب بأن ذلك تمثيل لغاية القرب منه. (يقول له: اذكر كذا، واذكر كذا) قال الحافظ ابن حجر: وقع بواو العطف، وفي رواية البخاري بدونها، وفي رواية له "اذكر كذا وكذا" ووقع في بعض الروايات "فهناه ومناه، وذكره من حاجاته ما لم يكن يذكر". (لما لم يكن يذكر من قبل) أي لشيء لم يكن على ذكره قبل دخوله في الصلاة، قيل: خصه بما يعلم، دون ما لا يعلم، لأنه يميل لما يعلم أكثر لتحقق وجوده، قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر أنه لأعم من ذلك فيذكره بما سبق له علم، ليشتغل باله به، وبما لم يكن سبق له، ليوقعه في الفكرة فيه، وهذا أعم من أن يكون في أمور الدنيا، أو في أمور الدين، كالعلم، لكن هل يشتمل ذلك التفكير في معاني الآيات التي يتلوها؟ لا يبعد ذلك، لأن غرضه نقص خشوعه وإخلاصه بأي وجه كان. اهـ ويؤيده قوله "حتى يظل الرجل ما يدري كم صلى". (حتى يظل الرجل ما يدري كم صلى)؟ غاية لوسوسة الشيطان، أي أنه يوسوس للرجل حتى يصير لا يدري كم صلى من الركعات؟ أثلاثا أم أربعا؟ و"يظل" بالظاء، ومعناه في الأصل الاتصاف بالوصف نهارا، لكنه هنا بمعنى يصير ويبقى ومنه قوله تعالى {ظل وجهه مسودا} [النحل: 58] ووقع عند الأصيلي "حتى يضل الرجل" بالضاد المكسورة، أي ينسى، ومنه قوله تعالى {أن تضل إحداهما} [البقرة: 282] أو يخطئ، ومنه قوله تعالى {لا يضل ربي ولا ينسى} [طه: 52] والمشهور الأول. (حتى يظل الرجل إن يدري كيف صلى) بكسر همزة "إن" وسكون النون، وهي حرف نفي بمعنى "ما" أو "لا" وحكى ابن عبد البر عن الأكثر، "أن" بفتح الهمزة وسكون النون، وقال القرطبي: ليست رواية الفتح بشيء إلا مع رواية الضاد، فتكون "أن" مع الفعل بتأويل مفعول "يضل" بإسقاط حرف الجر أي حتى يضل الرجل عن درايته كم صلى. والله أعلم.

-[فقه الحديث]- يكاد العلماء يجمعون على أن المراد من الشيطان شيطان الجن، وأن إدباره لسماع الأذان حقيقة لا مجاز فيه، ويتلمس كل فريق منهم حكمة هذا الإدبار والهروب. فبعضهم يرى أنه يهرب حتى لا يشهد للمؤذن يوم القيامة، فإنه قد ورد في البخاري قول النبي صلى الله عليه وسلم "ارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة" ورد بأنه عام مخصوص، وأنه لا يشهد إلا المؤمن، وقيل: إن هذا الرد غير مسلم إذ يشهد له الجميع حتى الجماد وإلى هذا ذهب ابن عمر، حتى قال لمؤذن: شهد لك كل رطب ويابس. وبعضهم يرى أنه يهرب لأن الأذان دعوة إلى الصلاة المشتملة على السجود الذي أباه وعصى بسببه، ورد بأنه يعود للسجود، فلو كان هربه لأجله لم يعد إلا عند فراغه، وأجيب بأنه يهرب عند سماع الدعاء بذلك، ليغالط نفسه بأنه لم يخالف أمرا، ثم يرجع ليفسد على المصلي سجوده الذي أباه. وبعضهم يرى أنه يهرب لاتفاق الجميع على الإعلان بشهادة الخلق وإقامة الشريعة، واعترض بأن الاتفاق على ذلك حاصل قبل الأذان وبعده من جميع من يصلي، وأجيب بأن الإعلان أخص من الاتفاق، فإن الإعلان المختص لا يشاركه فيه غيره من الجهر بالتكبير، والتلاوة مثلا، ولهذا قال لعبد الله بن زيد "ألقه على بلال: فإنه أندى صوتا منك" أي أقعد في المد والإطالة والإسماع، ليعم الصوت ويطول أمد التأذين فيكثر الجمع، ويفوت على الشيطان مقصوده من إلهاء الآدمي عن إقامة الصلاة في جماعة، أو إخراجها عن وقتها، أو وقت فضيلتها فيفر حينئذ وقد يئس عن أن يردهم عما أعلنوا به، ثم يرجع لما طبع عليه من الأذى والوسوسة: قاله الحافظ ابن حجر. وبعضهم يرى أنه يهرب نفورا عن سماع الأذان، قال ابن الجوزي: على الأذان هيبة، يشتد انزعاج الشيطان بسببها، لأنه لا يكاد يقع في الأذان رياء ولا غفلة عند النطق به، بخلاف الصلاة، فإن النفس تحضر فيها، فيفتح لها الشيطان أبواب الوسوسة. وبعضهم يرى أنه يهرب لأن الأذان إعلام بالصورة التي هي أفضل الأعمال، بألفاظ هي من أفضل الذكر، لا يزاد فيها، ولا ينقص منها، بل تقع على وفق الأمر، فيفر من سماعها، وأما الصلاة فلما يقع من كثير من الناس فيها من التفريط، فيتمكن الشيطان الخبيث من المفرط، فلو قدر أن المصلي وفى بجميع ما أمر به فيها لم يقربه، إذا كان وحده، وهو نادر، وكذا إذا انضم إليه من هو مثله، فإنه يكون أندر. أشار إلى ذلك ابن أبي جمرة. وبعضهم يرى أنه يهرب لعظم أمر الأذان، لما اشتمل عليه من قواعد التوحيد وإظهار شعائر الإسلام، وإعلانه، ويأسه من وسوسة الإنسان عند الإعلان بالتوحيد. وكل ما ذكروه إنما هو حكم متلمسة تقرب الحكم إلى العقول، وليس عللا ينتقل منها إلى المعلول،

فالتفتيش فيها يضعفها، والاعتراضات عليها تحبطها فشأنها شأن النكتة البلاغية، أو شأن الوردة، تشم ولا تدعك. ولو قلنا. إن الحكمة في كل ما ذكر، وفي أن الأذان هو العبادة التي تصم آذان أعداء الإسلام رغم أنوفهم، وأنه يقع على الكافرين موقع الصاعقة، فعلى الشيطان العدو الأول للمسلم من باب أولى، لو قلنا ذلك كنا أقرب إلى القبول: والله أعلم. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - فضل الأذان، وأنه عظيم القدر، حتى إن الشيطان يلحقه منه هول كبير. 2 - فضيلة المؤذن إذا قام به احتسابا لله تعالى، قال النووي: واختلف أصحابنا: هل الأفضل للإنسان أن يرصد نفسه للأذان؟ أو للإمامة؟ على أوجه أصحها: الأذان أفضل، وهو نص الشافعي في الأم، وهو قول أكثر أصحابنا ولقوله تعالى: {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا} [فصلت: 33] قالت عائشة -رضي الله عنها-: نزلت في المؤذنين، وللرواية الأولى من الباب ولفظها: "المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة" ولحديث البخاري ومسلم "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا". وقيل: الإمامة أفضل، وهو قول الحنفية، واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم ثم الخلفاء الراشدون من بعده كانوا أئمة، ولم يكونوا مؤذنين، وكذا كبار العلماء بعدهم وفي الصحيحين عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم" ورد على هذا المذهب بأن مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على الإمامة وكذا من بعده من الخلفاء والأئمة، ولم يؤذنوا، كانت بسبب أنهم كانوا مشغولين بمصالح المسلمين، التي لا يقوم بها غيرهم فيها مقامهم، فلم يتفرغوا للأذان ومراعاة أوقاته، وأما الإمامة فلابد لهم من صلاة، ويؤيد هذا التأويل ما رواه البيهقي بإسناد صحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لو كنت أطيق الأذان مع الخلافة لأذنت. وقيل: هما سواء، وقيل: إن علم من نفسه القيام بحقوق الإمامة وجمع خصالها فهي أفضل، وإلا فالأذان أفضل، ثم قال النووي: وأما جمع الرجل بين الإمامة والأذان فإن جماعة من أصحابنا يستحب أن لا يفعله، وقال بعضهم: يكره، وقال محققوهم وأكثرهم أنه لا بأس به، بل يستحب. وهذا أصح. والله أعلم. اهـ. 3 - استدل بالرواية الثالثة والسادسة وفيهما أن الشيطان يرجع إلى الوسوسة بين الأذان، والإقامة على أنه كان بين الأذان والإقامة فصل خلافا لمن شرط في إدراك فضيلة أول الوقت أن ينطبق أول التكبير على أول الوقت. 4 - واستدل به على أن السهو الذي يحصل للمصلي في صلاته يكون من وسوسة الشيطان. 5 - استدل به على استحباب رفع الصوت في الأذان، على أن يكون الأذان على مرتفع، ليكون أبعد لذهاب الصوت، وكان بلال رضي الله عنه يؤذن إلى بيت امرأة من بني النجار، بيتها أعلى بيت حول المسجد.

6 - وفيه أن الجن يسمعون أصوات بني آدم. قاله العيني. 7 - يشبه أن يأخذ منه الزجر عن خروج المرء من المسجد بعد أن يؤذن المؤذن، لئلا يكون متشبها بالشيطان الذي يفر عند سماع الأذان. 8 - ويؤخذ منه أن الشيطان له تسلط على الإنسان -غير الأنبياء- بالوسوسة حتى حال الصلاة. 9 - وأن الشيطان شديد الحرص على إضرار الإنسان في دينه. 10 - يؤخذ من التصريح بلفظ الضراط أن استحباب الكناية عن المعايب المستقبح سماع لفظها، إنما هو حيث لا تدعو الحاجة والضرورة إلى التصريح، وحيث لا مصلحة من ذكره، كالتقبيح والتنفير المرادين من هذا الحديث. 11 - فهم بعض السلف من الأذان في هذا الحديث الإتيان بصورة الأذان وإن لم يوجد فيه شرائط الأذان، من وقوعه في الوقت، فطلب الأذان عند الخوف من الجن كما هو مفهوم من الرواية الأولى. والله أعلم

(158) باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام والركوع وفي الرفع من الركوع

(158) باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام والركوع وفي الرفع من الركوع 691 - عن سالم عن أبيه رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي منكبيه وقبل أن يركع وإذا رفع من الركوع ولا يرفعهما بين السجدتين. 692 - عن سالم بن عبد الله أن ابن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام للصلاة رفع يديه حتى تكونا حذو منكبيه ثم كبر فإذا أراد أن يركع فعل مثل ذلك وإذا رفع من الركوع فعل مثل ذلك ولا يفعله حين يرفع رأسه من السجود. 693 - عن الزهري بهذا الإسناد كما قال ابن جريج كان رسول الله إذا قام للصلاة رفع يديه حتى تكونا حذو منكبيه ثم كبر. 694 - عن أبي قلابة أنه رأى مالك بن الحويرث إذا صلى كبر ثم رفع يديه وإذا أراد أن يركع رفع يديه وإذا رفع رأسه من الركوع رفع يديه وحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل هكذا. 695 - عن مالك بن الحويرث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا كبر رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه وإذا ركع رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه وإذا رفع رأسه من الركوع فقال سمع الله لمن حمده فعل مثل ذلك. 696 - عن قتادة بهذا الإسناد أنه رأى نبي الله صلى الله عليه وسلم وقال حتى يحاذي بهما فروع أذنيه.

-[المعنى العام]- شرع الله الصلاة ذات أقوال وأفعال، ليشغل اللسان بذكره، والقلب بالخشوع لسلطانه وجلاله، والجوارح بالاستجابة لأمره، إنها مناجاة المخلوق للخالق، وإنها الإقبال من العبد المطيع الخاضع نحو ربه الغني الكبير المتعال، يأخذ المسلم لها أهبتها من الطهارة الكاملة، طهارة الثوب والبدن والمكان، ومن ستر العورة، واستقبال القبلة، مع حضور وقتها المأمور به، ثم يفتتحها بالتعظيم والتمجيد بلفظ [الله أكبر] رافعا يديه على هيئة المستسلم، واضعا إبهامه بجوار شحمتي أذنيه، وراحتيه حذو منكبيه، مستقبل القبلة بباطن كفيه، ناشرا أصابعه بحيث تحاذي أطرافها أعالي أذنيه، ذاك شعار الخضوع، وطرح الدنيا، والإقبال بجميع أعضائه على ربه، يرفع الشعار عند تكبيرة الإحرام، وعند الهوي إلى الركوع وعند الرفع منه، وعليه أن يلتزم هيئات أخرى غير هذه الهيئة في وقوفه لقراءة الفاتحة، وفي جلسته للتشهد، وفي الركوع والسجود. هيئات منسجمة مع حركاتها، ولها دلالتها الظاهرة على أن صاحبها في عبادة ومناجاة، ولها حكمتها الباطنة التي إن وصلنا إليها آمنا واستسلمنا بعقولنا وجوارحنا، وإن عجزنا عن إدراكها استجبنا وقلنا ما يقوله الراسخون في العلم: {آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب* ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب} [آل عمران: 7 - 8]. -[المباحث العربية]- (حتى تكونا حذو منكبيه) "حذو" بفتح الحاء وسكون الذال، أي مقابل وإزاء، و"منكبيه" تثنية "منكب" بفتح الميم وكسر الكاف بينهما نون ساكنة، وهو مجمع عظم العضد والكتف. (إذا قام للصلاة) أي شرع فيها، وباشر افتتاحها، وسيأتي أيهما يسبق: تكبيرة الإحرام أو رفع اليدين، وكذا المراد من قوله في الرواية الثالثة "إذا صلى" أي إذا شرع. (فإذا أراد أن يركع فعل مثل ذلك) ليس رفع اليدين مرتبطا بالإرادة وحدها، بل حين مباشرة الركوع، وهذا هو المراد من قوله في الرواية الأولى "وقبل أن يركع" وقوله في الرواية الرابعة "وإذا ركع رفع يديه". (وإذا رفع من الركوع) تجمع الروايات في مسلم على أن رفع اليدين إنما يكون بعد الرفع فعلا من الركوع، وليس عند الشروع في الرفع، كما هو الحال عند الشروع في الركوع، وهو المراد من رواية أبي داود: "ثم إذا أراد أن يرفع صلبه رفعهما حتى يكونا حذو منكبيه". (ولا يفعله حين يرفع رأسه من السجود) وفي الرواية الأولى "ولا يرفعهما بين السجدتين". ورواه البخاري: "ولا يفعل ذلك في السجود" والمقصود إنه لا يرفع يديه في الهوى إلى

السجود، ولا في الرفع منه، وقد جاء ذلك صريحا في رواية للبخاري، ولفظها "ولا يفعل ذلك حين يسجد، ولا حين يرفع رأسه من السجود". (وحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك) فاعل "حدث" مالك بن الحويرث، والجملة حالية، وليست معطوفة على "رأى" فيبقى فاعله "أبو قلابة" فيصير مرسلا، وليس الأمر كذلك، والتقدير: رأى أبو قلابة مالك بن الحويرث يفعل كذا وكذا محدثا مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك. (حتى يحاذي بهما فروع أذنيه) أي أعلاهما. -[فقه الحديث]- قال النووي: أجمعت الأمة على استحباب رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، واختلفوا في رفع اليدين فيما سواهما، فقال الشافعي وأحمد وجمهور العلماء من الصحابة فمن بعدهم: يستحب رفعهما أيضا عند الركوع، وعند الرفع منه، وهو رواية عن مالك، وحديث الباب برواياته الأربع تؤيد هذا الرأي. وذهب أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من أهل الكوفة إلى إنه لا يستحب في غير تكبيرة الإحرام، وهو أشهر الروايات عن مالك. اهـ بل بالغ بعضهم، فقال: إن الرفع عند الركوع، وعند الرفع منه يبطل الصلاة، ونسب بعض متأخري المغاربة فاعله إلى البدعة، ولهذا مال بعض محققيهم إلى تركه، درءا لهذه المفسدة. واحتجوا بما رواه أبو داود عن البراء بن عازب قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كبر لافتتاح الصلاة رفع يديه حتى يكون إبهاماه قريبا من شحمتي أذنيه، ثم لا يعود "وقالوا عن أحاديث الباب": إنها محمولة على أنه كان في ابتداء الإسلام، علامة للاستسلام، لقرب عهدهم بالجاهلية فلما أنسوا واطمأنت قلوبهم خفف، وأبقى في أول الصلاة، علامة للدخول فيها لمن يسمع التكبير، واستدلوا على ذلك بأن عبد الله بن الزبير رأى رجلا يرفع يديه في الصلاة عند الركوع، وعند رفع رأسه من الركوع فقال له: لا تفعل، فإن هذا شيء فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تركه، وأيدوا النسخ بما رواه الطحاوي عن مجاهد قال "صليت خلف ابن عمر، فلم يكن يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى من الصلاة، قال الطحاوي: فهذا ابن عمر قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم يرفع [كما روي في روايتنا الثانية] ثم ترك هو الرفع بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يكون ذلك إلا وقد ثبت عنده نسخ ما قد كان رأى النبي صلى الله عليه وسلم فعله. ورد الجمهور بأن أكثر الرواة عن البراء بن عازب لم يذكروا "ثم لا يعود" قال الخطابي: لم يقل واحد في هذا "ثم لا يعود" غير شريك، وقال أبو عمر: تفرد به يزيد، ورواه عنه الحفاظ فلم يذكر واحد منهم قوله "ثم لا يعود" وقال البزار: لا يصح حديث يزيد في رفع اليدين "ثم لا يعود" وقال أحمد: هذا حديث واه، وقد كان يزيد يحدث به لا يذكر "ثم لا يعود" ثم كان يغير في آخر حياته فذكره.

ثم دعوى النسخ لا تقبل عن غير دليل، ورواية مجاهد إنه صلى خلف ابن عمر فلم يره يفعل ذلك مطعون فيها. قال الحافظ ابن حجر: لأن راويها أبو بكر بن عياش ساء حفظه في آخر أيامه. وعلى تقدير صحته فقد أثبت ذلك عنه سالم ونافع وغيرهما، والعدد الكثير أولى من واحد، لا سيما وهم مثبتون، وهو ناف، والمثبت مقدم على النافي، مع أن الجمع بين الروايتين ممكن، وهو أنه لم يكن يراه واجبا ففعله تارة، وتركه أخرى، ومما يدل على ضعفه ما رواه البخاري عن مالك أن ابن عمر كان إذا رأى رجلا لا يرفع يديه إذا ركع وإذا رفع رماه بالحصا. فالحاصل أن رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام مشروع باتفاق العلماء والخلاف في رفعهما عند الركوع، وعند الرفع منه. وقد نقل النووي أنهم أجمعوا على أن الرفع غير واجب، إلا ما حكي عن داود، فإنه قال بوجوبه عند تكبيرة الإحرام، وممن قال بوجوبه عند تكبيرة الإحرام أيضا الأوزاعي والحميدي شيخ البخاري وابن خزيمة، وحكاه القاضي حسين عن الإمام أحمد. قال ابن عبد البر: كل من نقل عنه الإيجاب لا يبطل الصلاة بتركه إلا في رواية عن الأوزاعي والحميدي اهـ وقال الحافظ ابن حجر: ونقل بعض الحنفية أنه يأثم تاركه، اهـ هذا وللشافعي قول: إنه إذا قام من التشهد الأول رفع يديه، قال النووي: وهذا القول هو الصواب، فقد صح فيه حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يفعله. اهـ والحديث الذي أشار إليه النووي رواه البخاري، ولفظه "وإذا قام من الركعتين رفع يديه". وهناك قول غريب لبعض أهل الحديث، أنه يستحب رفع اليدين في السجود أيضا، وهو بعيد. كما أنه نقل عن الزيدية أنه لا يرفع يديه عند الإحرام، ولا يعتد بهم، والله أعلم. هذا حكم رفع اليدين، أما كيفيته فقد قال النووي: المشهور من مذهبنا ومذهب الجماهير أنه يرفع يديه حذو منكبيه، بحيث تحاذي أطراف أصابعه فروع أذنيه، أي أعلى أذنيه، وإبهاماه شحمتي أذنيه، وراحتاه منكبيه، وبهذا جمع الشافعي رضي الله عنه بين روايات الأحاديث فاستحسن الناس ذلك منه. اهـ. وفي رواية عن مالك: يرفع يديه حذاء صدره، وفي رواية لابن حبيب يرفعهما فوق رأسه، وعند بعض المالكية يرفعهما فوق أذنيه مدا مع رأسه. وقال الطحاوي: إنه لاختلاف الحال، فإلى الصدر والمنكبين أيام البرد، وأيديهم تحت أكسيتهم، ومع آذانهم وفوق رءوسهم عند إخراجها. وقال الطحاوي أيضا: يرفع ناشرا أصابعه، مستقبلا لباطن كفيه القبلة، وفي المحيط: ولا يفرج بين الأصابع تفريجا، وفي الحاوي للماوردي: يجعل باطن كل كف إلى الأخرى، وعن سحنون: ظهورهما إلى السماء وبطونهما إلى الأرض، وعن القاضي: يقيمهما محنيتين شيئا يسيرا، ونقل المحاملي عن أصحابه: يستحب تفريق الأصابع، وقال الغزالي: لا يتكلف ضما ولا تفريقا، بل يتركهما على هيئتهما، وقال الرافعي: يفرق تفريقا وسيطا، وفي المغنى لابن قدامة: يستحب أن يمد أصابعه، ويضم بعضها إلى بعض. قال ابن عبد البر: وكلها آثار محفوظة مشهورة، دالة على التوسعة والتخيير. والله أعلم.

وأما وقت الرفع فقد قال عنه النووي في المجموع: في وقت استحباب الرفع خمسة أوجه: أصحها أن يكون ابتداء الرفع مع ابتداء التكبير وانتهاؤه مع انتهائه، وهذا هو المنصوص. قال الشافعي في الأم: يرفع مع افتتاح التكبير ويرفع يديه عند الرفع مع انقضائه ويثبت يديه مرفوعة حتى يفرغ من التكبير كله. قال: فإن أثبت يديه بعد انقضاء التكبير مرفوعتين قليلا لم يضره. الوجه الثاني: يرفع بلا تكبير، ثم يبتدئ التكبير مع إرسال اليدين وينهيه مع انتهائه. والوجه الثالث: يرفع بلا تكبير، ثم يكبر، ويداه قارتان، ثم يرسلهما بعد فراغ التكبير. الوجه الرابع: يبتدئ بهما معا، وينهي التكبير مع انتهاء الإرسال لا مع انتهاء الرفع كما في الوجه الأول. الوجه الخامس: يبتدئ الرفع مع ابتداء التكبير، ولا استحباب في الانتهاء. اهـ. وهي أوجه عند الشافعية، والوجه الأول هو المرجح عند المالكية وبه قال أحمد، والوجه الثاني هو قول مشايخ الحنفية، ففي شرح الهداية يرفع ثم يكبر. والناظر في روايات الباب الأربع يجدها لا تتعرض لنهاية الرفع، وتختلف في وقت ابتدائه، فالرواية الأولى والرابعة ظاهرهما المقارنة، ففي الأولى "إذا افتتح الصلاة رفع يديه" وفي الرابعة "إذا كدر رفع يديه" والرواية الثانية تقدم الرفع على التكبير، ولفظها "وإذا قام للصلاة رفع يديه حتى تكونا حذو منكبيه، ثم كبر" والرواية الثالثة تقدم التكبير على الرفع ولفظها "إذا صلى كبر، ثم رفع يديه". فهذه الروايات بيان لحالات الجواز، ولا خلاف في ذلك، والخلاف في الوجه الأفضل. والحافظ ابن حجر يقول: ولم أر من يقول بتقديم التكبير على الرفع، بعد أن قال: وقد ورد تقديم الرفع على التكبير، وعكسه، أخرجهما مسلم اهـ. ومعنى هذا أن القول بتقديم التكبير على الرفع وارد في الحديث متروك عند الفقهاء أي متروك في الأفضلية، جائز في العمل وإن كان خلاف الأولى. ففعله في الحديث لبيان الجواز. وقال الحافظ ابن حجر: لم يرد ما يدل على التفرقة في الرفع بين الرجل والمرأة، وعن الحنفية: يرفع الرجل إلى الأذنين، والمرأة إلى المنكبين لأنه أستر لها والله أعلم. وأما وقت رفع اليدين عند الركوع، عند من يقول به، فهو عندما يكبر للركوع، وقبل أن يهوى، بحيث تهوى يداه وتنساب مع هوى رأسه، والرواية الأولى والثانية والثالثة تشير إلى ذلك، فلفظ الأولى "وقبل أن يركع" ولفظ الثانية والثالثة "وإذا أراد أن يركع" وعلى الروايات الثلاث تحمل الرواية الرابعة، ولفظها "وإذا ركع رفع يديه" ليكون المراد منها: وإذا أراد أن يركع رفع يديه، إذ القول برفع اليدين بعد الركوع لا قائل به. ووقته عند رفع رأسه في الركوع أن يقارن رفع اليدين رفع الرأس بحيث يتم محاذاتهما المنكبين

مع تمام الانتصاب، وعلى هذا تحمل رواياتنا الأربع، ولفظها "إذا رفع رأسه من الركوع" أي إذا ابتدأ رفع رأسه. قال الحافظ ابن حجر: وأما رواية الزهري عند أحمد وأبي داود بلفظ "وبعد ما يرفع رأسه من الركوع" فمعناه بعد ما يشرع في الركوع، لتتفق الروايات. اهـ. وفي حكمة رفع اليدين مع التكبير قال الحافظ ابن حجر وغيره: الحكمة في اقترانهما أن يراه الأصم ويسمعه الأعمى، وقيل: والإشارة إلى الاستسلام والانقياد (فإن رفع اليدين علامة التسليم) ليناسب فعله قوله "الله أكبر" وقيل: إشارة إلى استعظام ما دخل فيه، وقيل: إشارة إلى تمام القيام، وقيل: إشارة إلى رفع الحجاب بين العبد والمعبود، وقيل: يستقبل بجميع بدنه. قال القرطبي: وهو أنسبها، وقال الربيع: قلت للشافعي: ما معنى رفع اليدين؟ قال: تعظيم الله، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وقال ابن عبد البر عن ابن عمر إنه قال: رفع اليدين من زينة الصلاة. اهـ. والذي تستريح إليه النفس أنه أمر تعبدي، وكذا كل قراءة وكل حركة وكل سكون في الصلاة، وكل ما قيل من حكم لا يستقيم إذا تعقب، ويكفي في التعقيب عليه أن نتساءل: لم لم يفعل ذلك عند الرفع من السجود للتشهد أو للقيام؟ والله أعلم. والحديث برواياته الأربع يتعرض لتكبيرة الإحرام، وهي ركن من أركان الصلاة، لا تصح إلا بها، وهذا مذهب الشافعي ومالك وأحمد وجمهور السلف والخلف، لما رواه أبو داود والترمذي وغيرهما عن علي -كرم الله وجهه-، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "مفتاح الصلاة الوضوء، وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم" ولما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة في المسيء صلاته، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له "إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة، فكبر ... " الحديث، ولم يذكر له صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إلا الفروض خاصة. ولما ثبت في الصحيحين عن جماعات من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر للإحرام، وروايات حديث الباب واضحة في هذا الاستدلال. وقال الكرخي من أصحاب أبي حنيفة: تكبيرة الإحرام شرط لا تصح إلا بها، ولكن ليست من الصلاة، بل هي كستر العورة، ومنهم من حكاه عن أبي حنيفة، وتظهر فائدة الخلاف بينه وبين الجمهور فيما لو كبر وفي يده نجاسة، ثم ألقاها في أثناء التكبيرة، فإن صلاته لا تصح عند الجمهور، وتصح عند الكرخي كستر العورة، واحتج له بقوله تعالى: {وذكر اسم ربه فصلى} [الأعلى: 15] فعقب الذكر بالصلاة، فدل على إنه ليس منها وبقوله "وتحريمها التكبير"، والإضافة تقتضي أن المضاف غير المضاف إليه، كدار زيد. وحكى ابن المنذر عن الزهري أنه قال: تنعقد الصلاة بمجرد النية بلا تكبير. قال ابن المنذر: ولم يقل به غير الزهري، واحتج له بالقياس على الصوم والحج، ورد بأن هاتين العبادتين ليستا مبنيتين على النطق بخلاف الصلاة. وصيغة التكبير أن يقول: "الله أكبر" لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل به في الصلاة وقال "صلوا كما

رأيتموني أصلي" قال النووي: فإن قال: الله أكبر انعقدت صلاته على المذهب الصحيح عند الشافعية، وذهب مالك وأحمد وداود أنها لا تنعقد، فالجمهور متفق على تعيين لفظ التكبيرة ولا يجزئ ما قرب منها، كقوله: الرحمن الأكبر أو العزيز أكبر أو الله كبير، أو الرب أكبر وغيرها، وأما إذا كبر وزاد ما لا يغيره كقوله: الله أكبر وأعز وأجل وأعظم فإنه يجزئ. وقال أبو حنيفة ومحمد: يجوز بكل لفظ يقصد به التعظيم من حيث اللغة كما في قوله تعالى: {فلما رأينه أكبرنه} [يوسف: 31] أي عظمنه وقوله {وربك فكبر} [المدثر: 3] أي فعظم، فكل لفظ دل على التعظيم وجب أن يجوز الشروع به، قال: ومن أين قالوا: إن التكبير وجب بعينه، حتى يقتصر على لفظ [أكبر] والأصل في خطاب الشرع أن تكون نصوصه معلومة معقولة، والتقييد خلاف الأصل على ما عرف في الأصول، وقال تعالى {وذكر اسم ربه فصلى} وذكر اسمه تعالى أعم من أن يكون باسم الله أو باسم الرحمن، فجاز الرحمن أعظم، كما جاز الله أكبر، لأنهما في كونهما ذكرا سواء، قال الله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} [الأعراف: 180] وقال صلى الله عليه وسلم "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله" فمن قال: لا إله إلا الرحمن أو العزيز كان مسلما، فإذا جاز ذلك في الإيمان الذي هو أصل، ففي فروعه أولى. اهـ. قال النووي: فإن كبر بالفارسية، وهو يحسن العربية لم يجزه، وإن لم يحسن العربية، وضاق الوقت عن أن يتعلم كبر بلغته، وإن اتسع الوقت لزمه أن يتعلم، فإن لم يتعلم وكبر بغير العربية بطلت صلاته؛ لأنه ترك اللفظ مع القدرة عليه. اهـ. ثم قال: ويستحب للإمام أن يجهر بالتكبير، ليسمع من خلفه، ويستحب لغيره أن يسر به، وأدناه أن يسمع نفسه، ويجب أن يكبر للإحرام قائما، حيث يجب القيام، وكذا المسبوق الذي يدرك الإمام راكعا، يجب أن تقع تكبيرة الإحرام بجميع حروفها في حال قيامه، وقال بعض الشافعية: إن وقع بعضها في انحنائه، وتمت قبل بلوغه حد الركوع انعقدت صلاته فرضا، لأن ما قبل حد الركوع من جملة القيام، ولا يضر الانحناء اليسير، والحد الفاصل بين حد الركوع وحد القيام أن تنال راحتاه ركبتيه لو مد يديه، فهذا حد الركوع، وما قبله حد القيام، قال النووي: وهذا وجه ضعيف، والأصح أنه متى انحنى بحيث يكون حد الركوع أقرب لم يكن قائما، ولا تصح تكبيراته. اهـ. وقال: ويشترط مقارنة النية مع ابتداء التكبير، ويجب استصحاب النية إلى انقضاء التكبير على الصحيح، وقيل: لا يجب. والنية هي القصد فيحضر في ذهنه ذات الصلاة، وما يجب التعرض له من صفاتها، كالظهرية، وفي اشتراط الفرضية والأداء والقضاء خلاف. والله أعلم

(159) باب التكبير عند الرفع والخفض في الصلاة

(159) باب التكبير عند الرفع والخفض في الصلاة 697 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يصلي لهم فيكبر كلما خفض ورفع فلما انصرف قال والله إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم. 698 - عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم ثم يكبر حين يركع ثم يقول: "سمع الله لمن حمده" حين يرفع صلبه من الركوع ثم يقول وهو قائم "ربنا ولك الحمد" ثم يكبر حين يهوي ساجدا ثم يكبر حين يرفع رأسه ثم يكبر حين يسجد ثم يكبر حين يرفع رأسه ثم يفعل مثل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها ويكبر حين يقوم من المثنى بعد الجلوس ثم يقول أبو هريرة إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم. 699 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم بمثل حديث ابن جريج ولم يذكر قول أبي هريرة إني أشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم. 700 - عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة كان حين يستخلفه مروان على المدينة إذا قام للصلاة المكتوبة كبر فذكر نحو حديث ابن جريج وفي حديثه فإذا قضاها وسلم أقبل على أهل المسجد قال والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم. 701 - عن أبي سلمة أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يكبر في الصلاة كلما رفع ووضع فقلنا يا أبا هريرة ما هذا التكبير قال إنها لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. 702 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يكبر كلما خفض ورفع ويحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك.

703 - عن مطرف قال صليت أنا وعمران بن حصين خلف علي بن أبي طالب فكان إذا سجد كبر وإذا رفع رأسه كبر وإذا نهض من الركعتين كبر فلما انصرفنا من الصلاة قال أخذ عمران بيدي ثم قال لقد صلى بنا هذا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم أو قال قد ذكرني هذا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم. -[المعنى العام]- كان لفظ (الله أكبر) شعار الجهر بالدعوة، ثم كان شعار النداء للصلاة، ثم كان مفتاحها، ثم صار شعارها في كل رفع وخفض فيها، كان صلى الله عليه وسلم إذا قام للصلاة، واستقبل القبلة، افتتح الصلاة بالتكبير، ثم إذا أراد أن يركع كبر، وإذا رفع من الركوع قال سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، ثم يكبر حين يهوى ساجدا، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يفعل ذلك في الصلاة كلها. حتى يقضيها، ويكبر حين يقوم من التشهد الأوسط، وتلقى الصحابة هذا التكبير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان بعضهم قد خفى عليه الصوت لبعده فظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يواظب عليه، وربما كان قد تركه في بعض الأحيان لبيان الجواز، فلما كان عهد عثمان بن عفان، وضعف صوته ترك الجهر ببعض التكبير، وتعمد تركه خلفاؤه من بني أمية في إمامتهم الناس، وكادت هذه السنة أن تندثر لولا أن هيأ الله لها أمثال علي -كرم الله وجهه- وأبي هريرة رضي الله عنه، فأعادوا للناس إيمانهم بها، ومحافظتهم عليها، واستقر العمل على التكبير في الصلاة بمثل ما في حديث أبي هريرة، فرضي الله عن الصحابة أجمعين. -[المباحث العربية]- (فيكبر كلما خفض ورفع) ظاهره العموم في جميع الانتقالات في الصلاة، لكنه خص منه الرفع من الركوع بالإجماع، فإنه شرع فيه التحميد، كما في الرواية الثانية. (فلما انصرف) أي عن الصلاة. (إذا قام إلى الصلاة) أي إذا تهيأ لها واستعد. (يكبر حين يقوم) أي حين يقف للصلاة. (ربنا ولك الحمد) في بعض الروايات "ربنا لك الحمد" بدون الواو، وفي بعضها "اللهم ربنا لك الحمد".

قال الأصمعي: سألت أبا عمرو عن الواو في قوله "ربنا ولك الحمد" فقال: هذه زائدة. تقول العرب: هذا الثوب جميل، فيقول المخاطب: نعم. وهو لك بدرهم. فالواو زائدة. وقيل: عاطفة على محذوف، أي ربنا حمدناك ولك الحمد. (ثم يفعل مثل ذلك في الصلاة كلها) أي في خفض ورفع الصلاة كلها. (حتى يقضيها) أي حتى ينتهي منها ويؤديها. (ثم يكبر حين يهوى ساجدا) "يهوى" بفتح الياء وكسر الواو يقال: هوى بفتح الهاء والواو، يهوى أي سقط إلى أسفل. (ويكبر حين يقوم من المثنى بعد الجلوس) في رواية البخاري "حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس" أي للتشهد. (خلف علي بن أبي طالب) كان ذلك بالبصرة، بعد وقعة الجمل. (لقد صلى بنا هذا) أي علي بن أبي طالب. (وقد ذكرني) بتشديد الكاف وفتح الراء. -[فقه الحديث]- جمهور العلماء من السلف والخلف على أن التكبير كلما رفع وكلما خفض مشروع، فيما عدا الرفع من الركوع، فإنه شرع فيه التحميد. قال النووي، وهذا مجمع عليه اليوم، ومن الأعصار المتقدمة، وقد كان فيه خلاف في زمن أبي هريرة، وكان بعضهم لا يرى التكبير إلا للإحرام، وبعضهم يزيد عليه ما جاء في حديث أبي هريرة واستقر العمل على ما في حديث أبي هريرة هذا. ففي كل صلاة ثنائية إحدى عشرة تكبيرة، وهي: تكبيرة الإحرام وخمس في كل ركعة، وفي الثلاثية سبع عشرة تكبيرة، وهي تكبيرة الإحرام وتكبيرة القيام من التشهد الأول، وخمس في كل ركعة، وفي الرباعية اثنتان وعشرون، ففي المكتوبات الخمس أربع وتسعون تكبيرة، ثم قال: واعلم أن تكبيرة الإحرام واجبة، وماعداها سنة، لو تركه صحت صلاته، ولكن فاتته الفضيلة وموافقة السنة. اهـ. وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وجمهور العلماء ومالك في المشهور، وقالت الظاهرية وأحمد في رواية عنه: كلها واجبة، قال الأبي المالكي: قال المازري في كتابه الكبير: رأى بعض المتأخرين وجوب التكبير، لقول مالك: إن طال عدم السجود لتركه بطلت، ونقل العيني عن ابن القاسم المالكي: من أسقط ثلاث تكبيرات فأكثر سوى تكبيرة الإحرام يسجد قبل السلام، وإن لم يسجد قبل السلام سجد بعده، وإن لم يسجد حتى طال بطلت صلاته.

واستدل القائلون بوجوب التكبير بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" وثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يكبرهن، ودليل الجمهور أن النبي صلى الله عليه وسلم علم الأعرابي الصلاة، فعلمه واجباتها، فذكر منها تكبيرة الإحرام، ولم يذكر ما زاد، وهذا موضع البيان ووقته، ولا يجوز التأخير عنه. وحديث الباب في رواياته المختلفة يوحي بأن السلف لم يكونوا متفقين على شرعية التكبير في الرفع والخفض، وقد ورد أن بعضهم كان لا يكبر إلا تكبيرة الإحرام، وإن بعضهم لا يكبر إذا هوى للركوع وللسجود، وكذلك لا يكبر إذا هوى للسجدة الثانية، وإن بعضهم فرق بين المنفرد وغيره، فلم يشرعه للمنفرد، وشرعه للإمام، لأنه في نظره للإعلام بحركة الإمام، فلا يحتاج إليه المنفرد، وقد جاء في الرواية السادسة عند أحمد "عن مطرف قال: قلنا لعمران بن حصين: يا أبا نجيد. من أول من ترك التكبير؟ قال: عثمان بن عفان حين كبر وضعف صوته" وروى الطبراني عن أبي هريرة، "أن أول من ترك التكبير معاوية": وروى أبو عبيد "أن أول من تركه زياد" قال الحافظ ابن حجر: وهذا لا تنافي بينه، لأن زيادا تركه بترك معاوية، وكان معاوية تركه بترك عثمان، وقد حمل ذلك جماعة من أهل العلم على الإخفاء وترك الجهر، لا ترك التكبير بالكلية، لكن في قول عمران، في الرواية السادسة قد ذكرني هذا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم "إشارة إلى أن التكبير الذي ذكره كان قد ترك. اهـ. وفي كيفية التكبير ووقته يقول النووي: في قوله "يكبر حين يهوى ساجدا، ثم يكبر حين يرفع، ويكبر حين يقوم من المثنى" دليل على مقارنة التكبير لهذه الحركات، وبسطه عليها، فيبدأ بالتكبير حين يشرع في الانتفال إلى الركوع ويمده حتى يصل حد الراكعين، ثم يشرع في تسبيح الركوع، ويبدأ بالتكبير حين يشرع في الهوى إلى السجود، ويمده حتى يضع جبهته على الأرض، ثم يشرع في تسبيح السجود، ويشرع في التكبير للقيام من التشهد الأول حين يشرع في الانتقال ويمده حتى ينتصب قائما. قال: هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة، إلا ما روي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه -وبه قال مالك- إنه لا يكبر للقيام من الركعتين حتى يستوي قائما، ودليل الجمهور ظاهر هذا الحديث. اهـ قال الحافظ ابن حجر: معقبا: ودلالة لفظ الحديث على بسط التكبير ومده غير ظاهرة. اهـ وهو تعقيب حسن. وفي الحكمة من هذا التكبير يقول ابن المنير: الحكمة في مشروعية التكبير في الخفض والرفع أن المكلف أمر بالنية أول الصلاة مقرونة بالتكبير، وكان من حقه أن يستصحب النية إلى آخر الصلاة، فأمر أن يجدد العهد في أثنائها بالتكبير الذي هو شعار النية. اهـ. ولو قلنا في الحكمة: إن هذه الانتقالات من رفع وخفض إنما هي حركات الإنسان الضعيف أمام ربه الكبير المتعال، وهو في كل حركة منها محتاج إلى حوله وقوته جل شأنه، فناسب اقتران هذه الانتقالات بذكر يناسبها، وأنسب الأذكار في هذا المقام هو [الله أكبر] لو قلنا ذلك ما بعدنا عن الصواب. والله أعلم. وأما التحميد عند الرفع من الركوع فإنه لما كانت الفاتحة حمدا وثناء ودعاء وأعقبها تكبير الركوع ناسب عند رفع الصلب إعلان الرجاء بسماع الله لمن حمد. وإثابته على الحمد بقوله [سمع

الله لمن حمده] أي جزاه وأثابه، ثم يعقب ذلك بالحمد مرة ثانية بقوله [ربنا ولك الحمد] استجابة لقوله تعالى {لئن شكرتم لأزيدنكم} [إبراهيم: 7]. قال النووي: ويبدأ في قوله "سمع الله لمن حمده" حين يشرع في الرفع من الركوع، ويمده حتى ينتصب قائما، ثم يشرع في ذكر الاعتدال، وهو (ربنا لك الحمد) ثم قال: وفي هذا الحديث دلالة لمذهب الشافعي رضي الله عنه وطائفة أنه يستحب لكل مصل، من إمام ومأموم ومنفرد أن يجمع بين [سمع الله لمن حمده] و [ربنا لك الحمد] فيقول: سمع الله لمن حمده في ارتفاعه، وربنا لك الحمد في حال استوائه وانتصابه في الاعتدال؛ لأنه ثبت أنه صلى الله عليه وسلم فعلهما جميعا، وقال صلى الله عليه وسلم "صلوا كما رأيتموني أصلي" وسيأتي بسط الكلام في هذه المسألة وفروعها وشرح ألفاظها ومعانيها بعد عدة أبواب حيث ذكرها الإمام مسلم رحمه الله تعالى بعد باب: متابعة الإمام والعمل بعده. والله أعلم. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - من قول أبي هريرة "والله إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم" حرص الصحابة على تبليغ الشريعة، وحرصهم على اتباع السنة. 2 - ومن الرواية الثانية مشروعية جمع الإمام بين "سمع الله لمن حمده" و"ربنا لك الحمد" وهو مذهب الشافعي، وعند أبي يوسف ومحمد يقول الإمام "ربنا لك الحمد" في نفسه، وبه قال أحمد في رواية، وعند أبي حنيفة لا يقول الإمام: ربنا لك الحمد، وبه قال مالك، وأحمد في رواية. 3 - وأن التسميع عند الرفع من الركوع، والتحميد عند القيام بعد الركوع. 4 - يؤخذ من قولهم في الرواية الرابعة: ما هذا التكبير؟ أن التكبير الذي ذكره كان قد ترك. 5 - قال ابن بطال: يؤخذ منه أن السلف لم يتلقوا التكبير المذكور على أنه ركن من أركان الصلاة، وإلا لما تركوه. 6 - قال الحافظ ابن حجر: استدل بعضهم بما في الرواية السادسة من صلاة مطرف وعمران خلف علي رضي الله عنه على أن موقف الاثنين يكون خلف الإمام، خلافا لما قال: يجعل أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله قال: وفيه نظر، لأن فيه أنه لم يكن معهما غيرهما. والله أعلم

(160) باب قراءة الفاتحة في كل ركعة

(160) باب قراءة الفاتحة في كل ركعة 704 - عن عبادة بن الصامت يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". 705 - عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا صلاة لمن لم يقترئ بأم القرآن". 706 - عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن". 707 - عن الزهري بهذا الإسناد مثله وزاد "فصاعدا". 708 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج" ثلاثا غير تمام فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام فقال: اقرأ بها في نفسك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد {الحمد لله رب العالمين} قال الله تعالى حمدني عبدي وإذا قال {الرحمن الرحيم} قال الله تعالى أثنى علي عبدي وإذا قال {مالك يوم الدين} قال مجدني عبدي (وقال مرة فوض إلي عبدي) فإذا قال {إياك نعبد وإياك نستعين} قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل" قال سفيان: حدثني به العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب دخلت عليه وهو مريض في بيته فسألته أنا عنه. - - بمثله.

709 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من صلى صلاة فلم يقرأ فيها بأم القرآن" بمثل حديث سفيان وفي حديثهما "قال الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي". 710 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج" يقولها ثلاثا بمثل حديثهم. 711 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا صلاة إلا بقراءة" قال أبو هريرة فما أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلناه لكم وما أخفاه أخفيناه لكم. 712 - عن عطاء قال: قال أبو هريرة في كل الصلاة يقرأ فما أسمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمعناكم وما أخفى منا أخفينا منكم فقال له رجل إن لم أزد على أم القرآن؟ فقال إن زدت عليها فهو خير وإن انتهيت إليها أجزأت عنك. 713 - عن عطاء قال: قال أبو هريرة في كل صلاة قراءة فما أسمعنا النبي صلى الله عليه وسلم أسمعناكم وما أخفى منا أخفيناه منكم ومن قرأ بأم الكتاب فقد أجزأت عنه ومن زاد فهو أفضل. 714 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل فصلى ثم جاء فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام قال: "ارجع فصل فإنك لم تصل" فرجع الرجل فصلى كما كان صلى ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وعليك السلام" ثم قال "ارجع فصل فإنك لم تصل" حتى فعل ذلك ثلاث مرات فقال الرجل والذي بعثك بالحق ما أحسن غير هذا علمني، قال "إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها".

715 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا دخل المسجد فصلى ورسول الله صلى الله عليه وسلم في ناحية وساقا الحديث بمثل هذه القصة وزادا فيه "إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر". 716 - عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر (أو العصر) فقال: "أيكم قرأ خلفي بسبح اسم ربك الأعلى؟ " فقال رجل: أنا. ولم أرد بها إلا الخير قال "قد علمت أن بعضكم خالجنيها". 717 - عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر فجعل رجل يقرأ خلفه بسبح اسم ربك الأعلى فلما انصرف قال: "أيكم قرأ" و"أيكم القارئ" فقال رجل: أنا. فقال "قد ظننت أن بعضكم خالجنيها". 718 - عن قتادة بهذا الإسناد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر وقال "قد علمت أن بعضكم خالجنيها". -[المعنى العام]- الصلاة هي الصلة بين العبد وربه، خمس مرات في كل يوم وليلة يتجه الإنسان إلى خالقه، ويقف بين يديه، منقطعا عن شواغل الحياة الدنيا، مقبلا عليه بالحمد والشكر والثناء والدعاء، ومن هنا كانت مباهاة الله لملائكته بالمؤمنين المصلين، وكانت شهادة الملائكة لهم بحسن العبادة من أجلها، حين يسألهم ربهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون، ومن هنا حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على المحافظة عليها، وإعلانها، والحث على جماعتها، لينقلها السلف واضحة جلية إلى الخلف، ولم يكتف بتنصيب نفسه القدوة العملية، بل أخذ يبين ما قد يخفى، ويزيل ما قد يعلق بالنفس من شبهات، لقد كان إمام المسلمين، وكان يجهر في مواطن الجهر، ويسر في مواطن الإسرار، فعرف الناس حكم الإمام في جهره، وخفي على بعضهم قراءته في سره، وقراءة

المنفرد والمأموم، حتى ذهب بعضهم في حكمها مذاهب مختلفة، فقام عبادة بن الصامت يبلغ عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" وقام أبو هريرة يبلغ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج [أي ناقصة] غير تمام" ويشتبه المشتبه، فيسأل أبا هريرة كيف يقرأ المأموم خلف الإمام؟ لو قرأ الناس خلف إمامهم لصار المسجد سوقا يعج بالتهويش؟ فيقول: أبو هريرة: اقرأ بها في نفسك ولا ترفع صوتك، ولا تسمع بقراءتك غيرك، فلا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى في الحديث القدسي: قسمت الفاتحة بيني وبين عبدي المصلي نصفين، لي نصفها، وله نصفها، نصفها الأول حمد وثناء علي، أجزيه عليه خير الجزاء، ونصفها الثاني تضرع ودعاء، أستجيب دعاءه وأعطيه ما سأل، فإذا قال العبد {الحمد لله رب العالمين} قلت: حمدني عبدي. وإذا قال {الرحمن الرحيم} قلت: أثنى علي عبدي، وإذا قال: {مالك يوم الدين} قلت: مجدني وفوض الأمر إلى عبدي، وإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين} قلت: هذا بيني وبين عبدي، فالنصف الأول اعتراف بالألوهية، واستجابة بالعبادة، والنصف الثاني دعاء بالاستعانة، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم* صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قلت هذا تضرع ودعاء من عبدي، وقد أجبت دعاءه، ولعبدي ما سأل. فيا سعادة من حافظ عليها، ويا ضيعة من لا يقرؤها. قال رجل لأبي هريرة حسنا ما قلت بشأن الفاتحة، فما الحكم لو لم أزد عليها؟ ولم أقرأ بعدها سورة؟ قال أبو هريرة: إن اكتفيت بها أجزأت عنك، وإن قرأت بعدها سورة كان أفضل، ويزيد أبو هريرة قراءة الفاتحة تأكيدا فيروي قصة المسيء صلاته، فيقول: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في ناحية المسجد إذ دخل أعرابي، فصلى صلاة عاجلة، لا يدري فيها أقرأ أم لا؟ ولا يدري كيف ركع؟ ولا كيف سجد؟ فلما انتهى جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فألقى السلام، فرد عليه، وقال له: صلى الله عليه وسلم ارجع فصل، فإنك لم تصل، وما فعلت ليس الصلاة المطلوبة، فرجع الرجل فصلى مثل ما كان صلى، ثم جاء فسلم فرد صلى الله عليه وسلم السلام، وقال له: ارجع فصل، فإن صلاتك هذه ليست الصلاة المطلوبة، فرجع فصلى مثل التي قبلها، ثم جاء فسلم، فرد الرسول صلى الله عليه وسلم السلام، ثم قال له: ارجع فصل، فإنك كمن لم يصل. فقال: والذي بعثك بالحق لا أعرف غير هذا فعلمني، فعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم كيف يدخل في الصلاة، وكيف يقرأ وكيف يركع، وكيف يرفع وكيف يسجد، وكيف يجلس، وأكد له القراءة في الصلاة. ويزيد عمران بن حصين الأمر وضوحا، ويحكى أن الصحابة كانوا يقرءون خلف النبي صلى الله عليه وسلم، بل كانوا يقرءون السورة في نفسهم، ولما رفع أحدهم صوته بقراءة السورة حتى سمعه الرسول صلى الله عليه وسلم عن بعد قال حين سلم: من منكم الذي قرأ بصوت مرتفع {سبح اسم ربك الأعلى} قال رجل: أنا يا رسول الله، ولم أرد بذلك إلا الخير، قال: لا تعد لرفع الصوت، حتى لا يظن أنك تنازع الإمام القراءة، وأنك تغالبه بصوتك، فقال: سمعا وطاعة، وكف الناس عن الجهر بالقراءة خلف الإمام. -[المباحث العربية]- (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) أي لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب في نفس الصلاة،

إذ قد يتوهم أن الشرط أن يقرأ المصلي الفاتحة، ولو قبل الصلاة. كما نقول: لا صلاة لمن لم يتطهر. والباء في: "بفاتحة الكتاب" للمصاحبة والتقدير. لا صلاة لمن لم يقرأ مصاحبا في قراءته فاتحة الكتاب. وفي القاموس: قرأه وقرأ به. وسميت هذه السورة بفاتحة الكتاب لأن الله جل شأنه افتتح بها كتابه المجيد، والكتاب بالنسبة للمسلمين أصبح علما بالغلبة على القرآن، كما غلب لفظ المدينة على مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبالنسبة لليهود والنصارى التوراة والإنجيل، فقد أطلق عليهم القرآن أهل الكتاب، وأصل الكتاب ما يكتب فيه. (لا صلاة لمن لم يقترئ بأم القرآن) قرأ القرآن، واقترأه تلاه، لكن في "اقترأ" معنى المعالجة والتحمل، وزيادة المبني تدل على زيادة المعنى غالبا، وسميت الفاتحة بأم القرآن، -كما يقول القاضي عياض- لأنها أصله كما قيل لمكة [أم القرى]. قال الأبي: لأنها أول الأرض وأصلها ومنها دحيت. اهـ وفي كلامه نظر. وقيل: لأنها مجمع العلوم والخيرات كما سمي الدماغ [أم الرأس] لأنه مجمع الحواس والمنافع. وقال ابن دريد: الأم في كلام العرب للراية ينصبها الأمير للعسكر يفزعون إليها في حياتهم وموتهم، وقال الحسن بن الفضل: سميت بذلك لأنها إمام لجميع القرآن، وتقدم على كل سورة، كأم القرى لأهل الإسلام، وقيل: سميت بذلك لأنها أعظم سورة في القرآن. والأقوال كلها متقاربة المعنى. قال النووي في المجموع: لفاتحة الكتاب عشرة أسماء، حكاها الإمام أبو إسحق الثعلبي وغيره: أحدها: فاتحة الكتاب، الثاني: سورة الحمد، الثالث: أم القرآن. الرابع: أم الكتاب. الخامس: الصلاة، لحديث: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي" روايتنا الثالثة. السادس: السبع المثاني (أي الآيات السبع التي تثنى وتكرر في كل صلاة) السابع: الوافية بالفاء، لأنها لا تنقص، فلا يقرأ بعضها في ركعة وبعضها في أخرى، بخلاف غيرها. الثامن: الكافية، لأنها تكفي عن غيرها، التاسع: الأساس، العاشر: الشفاء، وفيه حديث مرفوع (ولا يخفى أن أسماء السور توقيفية على الصحيح) قال الماوردي في تفسيره: واختلفوا في جواز تسميتها بأم الكتاب، فجوزه الأكثرون، لأن الكتاب تبع لها، ومنعه الحسن وابن سيرين وزعما أن هذا اسم للوح المحفوظ، فلا يسمى به غيره، قال النووي: وهذا غلط، فقد ورد تسميتها بذلك في حديث مسلم. اهـ. وهو يقصد روايتنا السابعة. والله أعلم. (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن فصاعدا). قال الأبي: أي فما زاد عليها، كقولهم: اشتريته بدرهم فصاعدا، وهو منصوب على الحال، أي فزاد الثمن صاعدا، قال القرطبي: وهذا يقتضي أن السورة واجبة، ولا أعلم من قال به. اهـ وسيأتي إيضاح هذه النقطة في فقه الحديث. (فهي خداج) بكسر الخاء، وآخرها جيم، قال أهل اللغة: الخداج النقصان، يقال خدجت الناقة إذا ألقت ولدها قبل أوان النتاج، وإن كان تام الخلق، وأخدجته إذ ولدته ناقصا، وإن كان لتمام الولادة، ومنه قيل لقصير اليد: مخدج اليد: أي ناقصها، قالوا: فقوله صلى الله عليه وسلم "فهي خداج" أي ذات خداج. اهـ. فالخداج مصدر، ولا يقع خبرا إلا بتأويله بمشتق، أو بتقدير مضاف، كقولنا، زيد عدل، أي عادل، أو ذو عدل.

(غير تمام) خبر ثان لقوله "فهي خداج" أو خبر لمبتدأ محذوف، والجملة تفسير لما قبلها، أو تأكيد. (اقرأ في نفسك) معناها اقرأها سرا بحيث تسمع نفسك، وحمل ذلك على التدبر غير سليم، لأن القراءة لا تطلق إلا على حركة اللسان، وسيأتي مزيد إيضاح لذلك في فقه الحديث. (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي) قال النووي قال العلماء المراد بالصلاة هنا الفاتحة. سميت بذلك لأنها لا تصح إلا بها، كقوله صلى الله عليه وسلم "الحج عرفة". اهـ. ففي الكلام مجاز مرسل من إطلاق الكل وإرادة الجزء. (نصفين) المراد المناصفة من حيث المعنى والمدلول، فجزؤها الأول تحميد لله تعالى وتمجيد وثناء عليه وتفويض إليه. وشقها الثاني سؤال وطلب وتضرع وافتقار، وليس المراد قسمة الكلمات، لأن الشطر الأخير يزيد على الأول من جهة الألفاظ والحروف. (حمدني عبدي، أثنى علي عبدي، مجدني عبدي) في القاموس حمده كسمعه، وفي الألفاظ الثلاثة (الحمد والثناء والتمجيد) قال القاضي عياض: الحمد الثناء بصفات الأفعال، والتمجيد الثناء بصفات الجلال، والثناء يكون بهما، ولذا جاء الثناء مع "الرحمن الرحيم" لاشتمال الاسمين على صفة الذات من الرحمة، مدلول الرحمن، ولذا اختص به تبارك وتعالى، فلا يتصف به غيره وذلك نهاية العظمة، فالرحمن صفة الجلال، وصفة الفعل مدلول الرحيم، لأن الرحيم هو العائد برحمته على عباده، ووجه مطابقة التمجيد؛ لقوله: {مالك يوم الدين} أن الله تعالى هو المنفرد بالملك ذلك اليوم، وبجزاء العباد وحسابهم (والدين الحساب، وقيل: الجزاء) ولا دعوى لأحد ذلك اليوم، ولا تجاز، وأما في الدنيا فلبعض العباد ملك مجازي، ويدعي بعضهم دعوى باطلة، وهذا كله ينقطع في ذلك اليوم، وهذا معناه، وإلا فالله سبحانه وتعالى هو الملك والمالك على الحقيقة للدارين، وما فيهما ومن فيهما، وكل من سواه مربوب له، وعبد مسخر، ففي هذا الاعتراف من التعظيم والتمجيد وتفويض الأمر ما لا يخفى. اهـ. (وقال مرة: فوض إلي عبدي) وفي رواية "وربما قال: فوض إلي عبدي" قال القرطبي: أي يقول هذا، ويقول هذا (أي يقول مرة: مجدني عبدي، ويقول مرة: فوض إلي عبدي) غير أن قوله "فوض إلي عبدي" قليلا يقال. فليست الصيغة شكا فيما يقول. (فإذا قال {إياك نعبد وإياك نستعين} قال: هذا بيني وبين عبدي) فالجملة الأولى ثناء وخضوع، والجملة الثانية طلب وسؤال ودعاء. (فما أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلناه لكم، وما أخفاه أخفيناه لكم) أي ما جهر به بالقراءة جهرنا به، وما أسر به أسررنا به، وقيل: معناه ما عين لنا كالفاتحة عيناه لكم، وما لم يعينه كغيرها لم نعينه لكم، والأول أظهر وأصح.

(في كل الصلاة يقرأ) بضم الياء، مبني للمجهول، ورواية البخاري "في كل صلاة يقرأ". (وإن انتهيت إليها أجزأت عنك) أي كفت عنك. (صلاة الظهر أو العصر) شك من الراوي، وجاءت الرواية الحادية عشرة بالظهر، بدون شك، وهي كذلك في أكثر الطرق. (وقد علمت أن بعضكم خالجنيها) أي نازعنيها، كأنه ينزعها من لسانه كما قال في رواية "ما لي أنازع القرآن"؟ . -[فقه الحديث]- اختلف العلماء في هذا الموضوع اختلافا متشعبا، فمنهم من لم يوجب القراءة في الصلاة مطلقا، ومنهم من أوجبها، ومن أوجبها منهم من عين الفاتحة ولم يقبل بدلها، ومنهم من أجاز قراءة غير الفاتحة، ومن أوجب القراءة منهم من أوجبها في جميع الركعات، ومنهم من أوجبها في الأوليين فقط إذا كانت رباعية أو ثلاثية، ثم منهم من أوجبها على الإمام والمأموم والمنفرد، ومنهم من أوجبها على المنفرد والإمام، دون المأموم، وسنعرض للمذاهب وأدلتها محاولين ضبط الشوارد، مع التنسيق والاختصار جهد الطاقة، وبالله التوفيق. أولا: حكى القاضي أبو الطيب ومتابعوه عن الحسن بن صالح وأبي بكر الأصم أنهما قالا: لا تجب القراءة في الصلاة، بل هي مستحبة، واحتج لهما بما رواه أبو سلمة ومحمد بن علي "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه صلى المغرب، فلم يقرأ، فقيل له؟ فقال: كيف كان الركوع والسجود؟ قالوا: حسنا، قال: فلا بأس" رواه الشافعي في الأم، وعن الحارث الأعور "أن رجلا قال لعلي رضي الله عنه إني صليت ولم أقرأ؟ قال: أتممت الركوع والسجود؟ قال نعم. قال: تمت صلاتك" رواه الشافعي، وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال "القراءة سنة" رواه البيهقي. ومذهب الشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة ومذهب العلماء كافة وجوب القراءة، ولا تصح الصلاة إلا بها، وحجتهم الأحاديث الصحيحة التي لا معارض لها ومنها أحاديث الباب، وأجابوا عن الأثر عن عمر رضي الله عنه بثلاثة أجوبة: أحدها أنه ضعيف، لأن أبا سلمة ومحمد بن علي لم يدركا عمر، الثاني أنه محمول على أنه أسر بالقراءة، على فرض صحته، الثالث أن البيهقي رواه من طريقين موصلين عن عمر رضي الله عنه أنه صلى المغرب ولم يقرأ، فأعاد. قال البيهقي: وهذه الرواية موصولة موافقة للسنة في وجوب القراءة، والقياس في أن الأركان لا تسقط بالنسيان. وأما الأثر عن علي رضي الله عنه فضعيف أيضا، لأن الحارث الأعور متفق على ضعفه وترك الاحتجاح به، وأما الأثر عن زيد فقال البيهقي وغيره: مراده أن القراءة لا تجوز إلا على حسب ما في المصحف فلا تجوز مخالفته، وإن كان على مقاييس العربية، بل حروف القراءة سنة متبعة.

ثانيا: قال أبو حنيفة: لا تتعين الفاتحة للوجوب، لكن تستحب، وقيل: تجب بمعنى إنه يأثم بتركها، ولو قرأ غيرها أجزأ، ولو ترك القراءة جملة بطلت، واختلف الحنفية في أقل قدر يجزئ بدلا من الفاتحة، فقال أبو حنيفة: تجزئ آية واحدة: وقال أصحابه: ثلاث آيات، أو آية طويلة. وقال الطبري: سبع آيات، عدد أي الفاتحة وحروفها. واستدلوا بقوله تعالى {فاقرءوا ما تيسر من القرآن} [المزمل: 20] فقد أمر تعالى بقراءة ما تيسر من القرآن مطلقا، وتقييده بالفاتحة زيادة على مطلق النص، وذلك لا يجوز، لأنه نسخ، فيكون أقل ما ينطلق عليه القرآن فرضا، لكونه مأمورا به والقراءة خارج الصلاة ليست بفرض، فتعين أن يكون في الصلاة، كما استدلوا بحديث في الأوسط "في كل صلاة قراءة ولو بفاتحة الكتاب" وبروايتنا الخامسة لا صلاة إلا بقراءة، والسابعة "في كل صلاة قراءة" والثامنة "إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن". وذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحق وأبو ثور وداود إلى وجوب قراءة الفاتحة بعينها في الصلاة، ولا يغنى عنها شيء من القرآن. واستدلوا بأحاديث الباب، بالرواية الأولى "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" وبالرواية الثانية": لا صلاة لمن لم يقترئ بأم القرآن" قالوا: إن المعنى: لا صلاة صحيحة، وقال الحنفية: من المعروف أن الأصوليين اختلفوا في مثل قوله: "لا صلاة" فقيل: هو مجمل، لأنه حقيقة في نفي الذات، والذات واقعة، لا ترتفع، فينصرف لنفي الحكم، وهو متردد بين نفي الكمال، ونفي الصحة وليس أحدهما أولى من الآخر، فأنتم تقولون: لا صلاة صحيحة، ونحن نقول: لا صلاة كاملة، كقوله صلى الله عليه وسلم "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" وقوله "لا صلاة بحضرة الطعام" وأجاب الجمهور بأن أحدهما هنا أولى من الآخر، لأنه في نفي الصحة أظهر، لأن مثل هذا اللفظ يستعمل عرفا لنفي الفائدة، كقولهم: لا علم إلا ما نفع، ونفي الصحة أظهر في بيان نفي الفائدة وأيضا اللفظ يشعر بالنفي العام، ونفي الصحة أقرب إلى العموم من نفي الكمال لأن الفاسد لا اعتبار له بوجه، وأيضا يمكن أن يقال: لا يمتنع نفي الذات، أي الحقيقة الشرعية، فإن الصلاة في عرف الشرع اسم للصلاة الصحيحة، فإذا فقد شرط صحتها انتفت كما استدلوا بالرواية الثانية، "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج غير تمام" فهذا يدل على الركنية، قال الحنفية: لا نسلم لأن معناه أن صلاته ناقصة، ونحن نقول بنقصانها، بمعنى أنها لم تبلغ حد الكمال ولهذا قلنا باستحباب قراءة الفاتحة. كما استدل الجمهور بما رواه الدارقطني عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا تجزئ صلاة لا يقرأ الرجل فيها بفاتحة الكتاب" وأجابوا عن الآية التي احتج بها الحنفية بأنها وردت في قيام الليل، لا في قدر القراءة، وعن حديث المسيء صلاته في قوله "ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن" بأن الفاتحة مما تيسر فيحمل عليها جمعا بين الأدلة، أو يحمل على من لا يحسنها، وعن حديث الأوسط

"في كل صلاة قراءة ولو بفاتحة الكتاب" بأنه ضعيف، ولو صح كان معناه أن أقل ما يجزئ فاتحة الكتاب، كما يقال: صم ولو ثلاثة أيام من الشهر، أي أكثر من الصوم، فإن نقصت فلا تنقص عن ثلاثة أيام، وعن الرواية الخامسة "لا صلاة إلا بقراءة" والسابعة "في كل صلاة قراءة" بأن القراءة لفظ عام أو مطلق فيحمل على الخاص أو المقيد، الذي ثبت به الأحاديث الصحيحة، وهو تعين الفاتحة في القراءة، والله أعلم. ثالثا: قال الثوري والأوزاعي في رواية وأبو حنيفة رضي الله عنه لا تجب القراءة في الركعتين الأخيرتين، بل هو بالخيار، إن شاء قرأ، وإن شاء سبح، وإن شاء سكت، قال صاحب الهداية وغيره من الحنفية: إلا أن الأفضل أن يقرأ، واستدلوا بقوله تعالى: {فاقرءوا ما تيسر منه} قالوا: فالمصلي مأمور بالقراءة، والأمر لا يقتضي التكرار، فتتعين الركعة الأولى منها، وإنما أوجبناها في الثانية استدلالا بالأولى، لأنهما تتشاكلان من كل وجه، كذلك استدلوا بروايات هذا الباب "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". "لا صلاة لمن لم يقترئ بأم القرآن". "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج". "لا صلاة إلا بقراءة" "في كل صلاة قراءة" وقالوا: هذه أحاديث لا تقتضي القراءة أكثر من مرة. كما استدلوا بما رواه أبو داود بإسناد صحيح ولفظه "دخلنا على ابن عباس، فقلنا لشاب: سل ابن عباس أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر؟ فقال: لا. فقيل له: لعله كان يقرأ في نفسه؟ فقال: خمش (أي خمش الله وجه هذا القائل وجلده) هذه شر من الأولى، كان عبدا مأمورا، بلغ ما أرسل به"، وبما رواه أبو داود بإسناد صحيح أيضا عن عكرمة عن ابن عباس قال: "لا أدري أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر أم لا". وقال بعض أصحاب داود: لا تجب القراءة إلا في ركعة من كل الصلوات وعن مالك في رواية: إن ترك القراءة في ركعة من الصبح لم تجزه، وإن تركها في ركعة من غيرها أجزأه. وذهب الشافعية والحنابلة والأوزاعي وأبو ثور في رواية عنهما وهو الصحيح عن مالك وداود أن قراءة الفاتحة واجبة في كل ركعة، واحتجوا بحديث المسيء صلاته، وفيه "ثم افعل ذلك في صلاتك كلها" وبرواية البيهقي له بلفظ "ثم افعل ذلك في كل ركعة"، وبحديث مالك بن الحويرث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "صلوا كما رأيتموني" رواه البخاري، وقد ثبت بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في كل الركعات وبما رواه مسلم عند أبي قتادة رضي الله عنه قال "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورتين، ويسمعنا الآية أحيانا ويقرأ في الركعتين الآخيرتين بفاتحة الكتاب، وأصله في صحيح البخاري. قال النووي في المجموع: وأما الجواب عن احتجاجهم بالآية فهو أنها وردت في قيام الليل، وعن حديث ابن عباس أنه نفى، وغيره أثبت، والمثبت مقدم على النافي، كيف وهم أكثر منه؟ وأكبر سنا؟ وأقدم صحبة؟ وأكثر اختلاطا بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ لا سيما أبو هريرة وأبو قتادة وأبو سعيد، فتعين تقديم أحاديثهم على حديثه، والرواية الثانية عن ابن عباس تبين أن نفيه في الرواية الأولى كان على سبيل التخمين والظن، لا عن تحقيق، فلا يعارض الأكثرين الجازمين بإثبات القراءة. اهـ.

رابعا: قال أبو حنيفة: لا تجب على المأموم قراءة، بل نقل القاضي أبو الطيب والعبدري عن أبي حنيفة أن قراءة المأموم معصية، فالحنفية أسقطوا قراءة الفاتحة عن المأموم مطلقا، أسر أو جهر. والصحيح عند الشافعية وجوب قراءة الفاتحة على المأموم في كل الركعات من الصلاة السرية والجهرية، قال الترمذي في جامعه: القراءة خلف الإمام هي قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين. وبه يقول مالك (أي في رواية) وابن المبارك (أي في رواية) والشافعي وأحمد (أي في رواية) وإسحاق (أي في رواية). اهـ. قال ابن المنذر: قال الزهري ومالك (أي في رواية) وابن المبارك (أي في رواية) وأحمد (أي في رواية) وإسحق (أي في رواية) لا يقرأ في الجهرية، وتجب القراءة في السرية. ويحكي ابن العربي في أحكام القرآن مذهب المالكية، فيقول: لعلمائنا في ذلك ثلاثة أقوال: الأول: يقرأ إذا أسر الإمام خاصة، قاله أبو القاسم، الثاني: قاله ابن وهب وأشهب في كتاب محمد: لا يقرأ، الثالث: قال محمد بن عبد الحكم: يقرؤها خلف الإمام، فإن لم يفعل أجزأه، كأنه رأى ذلك مستحبا. والأصح عندي وجوب قراءتها فيما أسر، وتحريمها فيما جهر، إذا سمع قراءة الإمام؛ لما فيه من فرض الإنصات له، والاستماع لقراءته، فإن كان منه مقام بعيد فهو بمنزلة صلاة السر. اهـ. فتحصل في هذه المسألة ثلاثة مذاهب أساسية: لا يقرأ مطلقا، يقرأ مطلقا، لا يقرأ في الجهرية ويقرأ في السرية، ولكل من هذه المذاهب أدلته. فالقائلون: لا يقرأ مطلقا يحتجون بحديث مروي عن أبي حنيفة عن موسى بن أبي عنبسة عن أبي عبد الله بن شداد عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى خلف الإمام فإن قراءة الإمام له قراءة"، ويروي ابن عمر مثله، وبروايتنا العاشرة والحادية عشرة عن عمران بن حصين ولفظها في بعض الروايات الضعيفة "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، ورجل يقرأ خلفه، فلما فرغ قال: من الذي يخالجني سورتي، فنهى عن القراءة خلف الإمام". وبما روي عن أبي الدرداء قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم، أفي كل صلاة قراءة؟ فقال: نعم. فقال رجل من الأنصار: وجبت هذه؟ . فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم -وكنت أقرب القوم إليه- "وما أرى الإمام إذا أم القوم إلا قد كفاهم". وبما روي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج إلا أن يكون وراء الإمام". وبما أسند إلى سعد بن أبي وقاص من قوله "وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام في فيه حجر". وبما أسند إلى علي من قوله: "من قرأ خلف الإمام فليس على الفطرة"، أو "فقد أخطأ الفطرة". وبما أسند إلى زيد بن ثابت من قوله: "من قرأ وراء الإمام فلا صلاة له". والقائلون: يقرأ مطلقا يحتجون بعموم قوله صلى الله عليه وسلم، "لا صلاة لمن لم يقرأ

بفاتحة الكتاب" قالوا: هذا عام في كل مصل، ولم يثبت تخصيصه بغير المأموم بمخصص صريح، فبقى على عمومه. وبما رواه أبو داود عن عبادة بن الصامت قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال: إني لأراكم تقرءون خلف إمامكم. قلنا: والله أجل يا رسول الله، نفعل هذا، قال: لا تفعلوا إلا بأم الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها" ورواه كذلك الترمذي والدارقطني والبيهقي وغيرهم وقال الترمذي: حديث حسن. كما احتجوا بروايتنا الثالثة، وفيها "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج"، فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام؟ فقال: "اقرأ بها في نفسك". قالوا: والجواب عن الأحاديث التي احتج بها القائلون بإسقاط القراءة أنها كلها ضعيفة، وليس فيها شيء صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضها موقوف وبعضها مرسل، وبعضها في رواته ضعيف أو ضعفاء، وقد بين البيهقي علل جميعها وأوضح تضعيفها. قال النووي: وأجاب أصحابنا عنها على تقدير صحتها بأنها محمولة على قراءة المأموم للسورة خلف الإمام، بعد قراءة الفاتحة جمعا بين الأدلة، كما هو صريح روايتنا العاشرة والحادية عشرة، إذ فيها أن المأموم كان يقرأ بسبح اسم ربك الأعلى، وقراءة السورة سنة، فتركت لاستماعه قراءة إمامة القرآن بخلاف الفاتحة. والقائلون بالقراءة في السرية دون الجهرية يحتجون بقوله تعالى {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} [الأعراف: 204] وبما رواه مسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبين لنا سننا وعلمنا صلاتنا، فقال: "أقيموا صفوفكم، ثم ليؤمكم أحدكم، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا". وبما رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة، فقال: هل قرأ معي أحد منكم. فقال رجل: نعم يا رسول الله. قال إني أقول ما لي أنازع القرآن؟ فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه بالقرآن من الصلوات حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم". ورد الشافعية على هذا الفريق بالأحاديث السابقة المذكورة في الاحتجاج على المانعين مطلقا، وأجابوا عن الآية بأنها في قراءة القرآن خارج الصلاة، وهذا إذا سلمنا أن المراد بها قراءة القرآن حقيقة، وإلا فقد روي عن مجاهد وغيره أنها نزلت في الخطبة، حيث كان الناس يتكلمون أثناءها وسميت قرآنا لاشتمالها عليه. وأجابوا عن حديث مسلم "إذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا، بأن القرآن المأمور بالإنصات له قراءة السورة، وقراءة الإمام لها قراءة للمأموم". بل إننا نقول: بأنه يستحب للإمام أن يسكت بعد الفاتحة قدر ما يقرأ المأموم الفاتحة، ودليل هذه النكتة حديث الحسن البصري أن سمرة بن جندب

وعمران بن حصين تذاكرا، فحدث سمرة أنه "حفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم سكتتين، سكتة إذا كبر، وسكتة إذا فرغ من قراءة {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فحفظ ذلك سمرة، وأنكر عليه عمران، وكتبا في ذلك إلى أبي بن كعب فكان في كتابه إليهما أن سمرة قد حفظ" رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن. وأجابوا عن قول أبي هريرة فيما رواه أبو داود والترمذي "فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما جهر فيه بالقراءة من الصلوات حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم"، بأنهم انتهوا عن قراءة السورة، لا عن قراءة الفاتحة على أن الحفاظ طعنوا في هذا الحديث، وقالوا: إنه ضعيف، فيه راو مجهول، وإن هذه الزيادة ليست من كلام أبي هريرة، بل هي من كلام الزهري، مدرجة في الحديث. والله أعلم. -[ويؤخذ من أحاديث الباب فوق ما تقدم]- 1 - قال النووي: واحتج القائلون بأن البسملة ليست من الفاتحة بحديث أبي هريرة [الرواية الثالثة] وهو أوضح ما احتجوا به، قالوا: لأنها سبع آيات بالإجماع، فثلاث في أولها ثناء، أولها [كما ذكرها أبو هريرة] "الحمد لله" وثلاث دعاء، أولها "اهدنا الصراط المستقيم" والسابعة متوسطة، وهي "إياك نعبد وإياك نستعين" قالوا: ولأنه سبحانه وتعالى قال "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين" فإذا قال العبد: {الحمد لله رب العالمين} فلم يذكر البسملة، ولو كانت منها لذكرها، وأجاب أصحابنا وغيرهم ممن يقول إن البسملة من الفاتحة؟ بأجوبة: أحدهما "أن التنصيف عائد إلى جملة الصلاة، لا إلى الفاتحة وهذا حقيقة اللفظ، والثاني: أن التنصيف عائد إلى ما يختص بالفاتحة من الآيات الكاملة، والثالث: معناه فإذا انتهى في قرائته إلى {الحمد لله رب العالمين} اهـ. ثم قال: وفي هذه الرواية دليل على أن {اهدنا الصراط المستقيم} وما بعده إلى آخر السورة ثلاث آيات، لا آيتان، وفي المسألة خلاف مبني على أن البسملة من الفاتحة أو لا، فمذهبنا ومذهب الآكثرين أنها من الفاتحة وأنها آية "واهدنا" وما بعده آيتان، ومذهب مالك وغيره ممن يقول: إنها ليست من الفاتحة يقول: "اهدنا" وما بعده ثلاث آيات. اهـ. وللكلام عن البسملة باب خاص وهو الباب التالي، فليراجع. والله أعلم. (ملحوظة) لم يتعرض هذا الحديث للتأمين وسيأتي شرحه في باب التحميد والتسميع والتأمين .. إن شاء الله بعد خمسة أبواب. 2 - أخذ من قول أبي هريرة في الرواية الخامسة "فما أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلناه لكم وما أخفاه أخفيناه لكم" مشروعية الجهر بالقراءة والإسرار بها، قال النووي: وقد أجمعت الأمة على الجهر بالقراءة في ركعتي الصبح والجمعة والأوليين من المغرب والعشاء، وعلى الإسرار في الظهر والعصر وثالثة المغرب والأخريين من العشاء، واختلفوا في العيد والاستسقاء، ومذهبنا الجهر

فيهما ونوافل الليل قيل: يجهر فيها، وقيل: بين الجهر والإسرار، ونوافل النهار يسر بها، والكسوف يسر بها نهارا ويجهر ليلا، والجنازة يسر بها ليلا ونهارا، وقيل: يجهر ليلا ولو فاته صلاة ليل كالعشاء، فقضاها في ليلة أخرى جهر، وإن قضاها نهارا فوجهان، والأصح يسر، وإن فاته نهارية كالظهر، فقضاها نهارا أسر، وإن قضاها ليلا فوجهان، والأصح يجهر، وحيث قلنا: يجهر أو يسر فهو سنة، فلو تركت صحت صلاته، ولا يسجد للسهو عندنا، وبه قال الأوزاعي وأحمد في أصح الروايتين، وقال مالك والثوري وأبو حنيفة وإسحق: يسجد للسهو. اهـ. وقال في المجموع: وأما المرأة فقال أكثر أصحابنا، إن كانت تصلي خالية أو بحضرة نساء أو رجال محارم جهرت بالقراءة، سواء صلت بنسوة أو منفردة، وإن صلت بحضرة أجنبي أسرت. قال البندنيجي، ويكون جهرها أخفض من جهر الرجل، وأطلق صاحب الحاوي أنها تسر، سواء صلت منفردة أو إمامة. اهـ. وفي حد السر قال صاحب الحاوي: أن يسمع نفسه، وقال النووي: ويشترط في القراءة وفي كل الأذكار إسماع نفسه. اهـ. وفي العتبية: أحبه أن يسمع نفسه، وتحريك اللسان يجزئ، وفي حد الجهر قال ابن رشد: والجهر أن يسمع غيره، وأحبه فوق ذلك. 3 - ويؤخذ من الرواية العاشرة والحادية عشرة نهي المأموم عن الجهر خلف الإمام قال النووي: ولا خلاف في مشروعية الجهر للإمام في مواضع الجهر، وأما المنفرد فيسن له الجهر عندنا وعند الجمهور، قال العبدري: هو مذهب العلماء كافة إلا أبا حنيفة فقال: جهر المنفرد وإسراره سواء، دليلنا أن المنفرد كالإمام في الحاجة إلى الجهر للتدبر، فسن له الجهر كالإمام وأولى، لأنه أكثر تدبرا لقراءته لعدم ارتباط غيره به، وقدرته على إطالة القراءة، ويجهر به للتدبر كيف شاء ويخالف المنفرد المأموم فإنه مأمور بالاستماع ولئلا يهوش على الإمام، وأجمعت الأمة على أن المأموم يسن له الإسرار ويكره له الجهر، سواء سمع قراءة الإمام أو لا. اهـ. ثم قال: قال القاضي أبو الطيب: وحكم التكبير في الجهر والإسرار حكم القراءة. اهـ. هذا وسيعقد باب خاص للجهر والإسرار بالقراءة في الصلاة بعد سبعة عشر بابا فليراجع. 4 - ويؤخذ من الرواية السادسة والسابعة، من قوله "ومن قرأ بأم الكتاب أجزأت عنه، ومن زاد فهو أفضل"، استحباب السورة بعد الفاتحة. قال النووي: وهذا مجمع عليه في الصبح والجمعة والأوليين من كل الصلوات، وهو سنة عند جميع العلماء، وحكى القاضي عياض عن بعض أصحاب مالك وجوب السورة وهو شاذ مردود، وأما السورة في الثالثة والرابعة فاختلف العلماء هل تستحب أو لا؟ وكره ذلك مالك، والأصح عند الشافعية عدم استحبابها، وتستحب السورة في صلاة النافلة، ولا تستحب في صلاة الجنازة على الأصح، لأنها مبنية على التخفيف، وقال عن الرواية العاشرة: فيه أنهم كانوا يقرءون بالسورة في الصلاة السرية، وفيه إثبات قراءة السورة في

الظهر للإمام وللمأموم، فإن الإنكار على الرجل كان في جهره ورفع صوته بحيث أسمع غيره، لا عن أصل القراءة. اهـ. وسيعقد باب خاص لما يقرأ من السور في الصلاة عقب الفاتحة بعد ثمانية عشر بابا فليراجع. 5 - قال النووي بخصوص حديث المسيء صلاته [الرواية الثامنة] هذا الحديث مشتمل على فوائد كثيرة، وليعلم أولا أنه محمول على بيان الواجبات دون السنن، فإن قيل: لم يذكر فيه كل الواجبات، فقد بقي واجبات مجمع عليها، ومختلف فيها، فمن المجمع عليه النية، والقعود في التشهد الأخير، وترتيب أركان الصلاة، ومن المختلف فيه التشهد الأخير والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه، والسلام، وهذه الثلاثة أوجه عند الشافعي -رحمه الله تعالى-، وقال بوجوب السلام الجمهور، وأوجب التشهد كثيرون وأوجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مع الشافعي الشعبي وأحمد بن حنبل وأصحابهما، وأوجب جماعة من الشافعية نية الخروج من الصلاة، وأوجب أحمد -رحمه الله تعالى- التشهد الأول، وكذا التسبيح، وتكبيرات الانتقال. فإن قيل هذا فالجواب أن الواجبات الثلاثة المجمع عليها كانت معلومة عند السائل، فلم يحتج إلى بيانها. وكذا المختلف فيه عند من يوجبه يحمله على أنه كان معلوما عنده. اهـ. 6 - قال النووي: وفي هذا الحديث دليل على أن إقامة الصلاة ليست واجبة. اهـ. ويمكن الرد عليه بنفس رده السابق، فتحمل على أنها كانت معلومة عند السائل، مؤداة على وجهها الصحيح. 7 - ويؤخذ من الرواية التاسعة "إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة، فكبر" وجوب الطهارة. 8 - ووجوب استقبال القبلة. 9 - ووجوب تكبيرة الإحرام. 10 - قال النووي: وفيه أن التعوذ، ودعاء الافتتاح، ورفع اليدين في تكبيرة الإحرام، ووضع اليد اليمنى على اليسرى، وتكبيرات الانتقالات، وتسبيحات الركوع والسجود، وهيئات الجلوس، ووضع اليد على الفخذ، وغير ذلك مما لم يذكره في الحديث ليس بواجب إلا ما ذكرناه من المجمع عليه والمختلف فيه. اهـ. وهذا المأخذ من الإمام النووي -رحمه الله تعالى- عجيب، فإن عدم الذكر ليس دليل النفي، وقولهم إن الاقتصار في مقام البيان يفيد القصر قد دفعه النووي نفسه بإيجاب أشياء لم يذكرها الحديث باتفاق. والتحقيق أنه ليس في الحديث ما يفيد إيجابها أو عدم إيجابها. 11 - وفيه دليل على وجوب الاعتدال عن الركوع. 12 - والجلوس بين السجدتين. 13 - ووجوب الطمأنينة في الركوع، والسجود، والجلوس بين السجدتين قال النووي: وهذا مذهبنا

ومذهب الجمهور، ولم يوجبها أبو حنيفة -رحمه الله تعالى- وطائفة يسيرة، وهذا الحديث حجة عليهم، وليس عنه جواب صحيح، وأما الاعتدال فالمشهور من مذهبنا ومذاهب العلماء أنه يجب الطمأنينة فيه، كما تجب في الجلوس بين السجدتين، وتوقف في إيجابها بعض أصحابنا، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم، في هذا الحديث "ثم ارفع حتى تعتدل قائما" فاكتفى بالاعتدال، ولم يذكر الطمأنينة كما ذكرها في الجلوس بين السجدتين وفي الركوع والسجود. 14 - وفيه أن المفتي إذا سئل عن شيء، وكان هناك شيء آخر يحتاج إليه السائل ولم يسأله عنه يستحب أن يذكره له، ويكون هذا من النصيحة، لا من الكلام فيما لا يعني، وموضع الدلالة أنه قال: "علمني يا رسول الله" أي علمني الصلاة، فعلمه الصلاة، واستقبال القبلة والوضوء ليسا من الصلاة، لكنهما شرطان لها. 15 - وفيه الرفق بالمتعلم والجاهل وملاطفته، وإيضاح المسألة له وتلخيص المقاصد، والاقتصار، في حقه على المهم دون المكملات التي لا يحتمل حاله حفظها والقيام بها. 16 - وفيه استحباب السلام عند اللقاء وأنه يستحب تكراره إذا تكرر اللقاء، وإن قرب العهد. 17 - وأنه يجب رده في كل مرة. 18 - وأن صيغة الجواب "وعليكم السلام" أو "وعليك السلام" بالواو مستحبة عند الجمهور، وأوجبها بعض أصحابنا، وليس بشيء بل الصواب أنها سنة، قال الله تعالى: {قالوا سلاما قال سلام} [هود: 69] بدون الواو. 19 - وفيه أن من أخل ببعض واجبات الصلاة لا تصح صلاته ولا يسمى مصليا، بل يقال له: لم تصل. قال النووي: فإن قيل كيف تركه مرارا يصلي صلاة فاسدة؟ فالجواب: أنه لم يؤذن له في صلاة فاسدة، ولا علم من حاله إنه يأتي بها في المرة الثانية والثالثة فاسدة، بل هو محتمل أن يأتي بها صحيحة، وإنما لم يعلمه أولا ليكون أبلغ في تعريفه وتعريف غيره بصفة الصلاة المجزئة اهـ. قال الأبي: لم يعلمه ابتداء لأن التعليم بعد تكرار الخطأ أثبت من التعليم ابتداء، وقيل: تأديبا له، إذ لم يسأل، واكتفى بعلم نفسه، ولذا لما سأل، وقال: لا أحسن غير هذا علمه، وليس فيه تأخير البيان عن وقت الحاجة، لأنه كان في الوقت سعة. اهـ. 20 - أخذ منه الأبي أن المخطئ في صلاته لا يطالب بالإعادة إلا في الوقت، لأن الرجل كان يصلي في الأيام السابقة، ولم يؤمر بإعادة صلاتها. والله أعلم

(161) باب البسملة

(161) باب البسملة 719 - عن أنس رضي الله عنه قال صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم. حدثنا شعبة في هذا الإسناد وزاد قال شعبة فقلت لقتادة أسمعته من أنس قال نعم ونحن سألناه عنه. 720 - عن عبدة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يجهر بهؤلاء الكلمات يقول سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك وعن قتادة أنه كتب إليه يخبره عن أنس بن مالك أنه حدثه قال صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها. 721 - عن أنس رضي الله عنه قال بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما فقلنا ما أضحكك يا رسول الله قال "أنزلت علي آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم {إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر)} ثم قال "أتدرون ما الكوثر؟ " فقلنا الله ورسوله أعلم قال "فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد النجوم فيختلج العبد منهم فأقول رب إنه من أمتي فيقول ما تدري ما أحدثت بعدك" زاد ابن حجر في حديثه بين أظهرنا في المسجد وقال "ما أحدث بعدك". 722 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة بنحو

حديث ابن مسهر غير أنه قال "نهر وعدنيه ربي عز وجل في الجنة عليه حوض" ولم يذكر "آنيته عدد النجوم". -[المعنى العام]- وصلت إلينا الصلاة عن طريق التواتر العملي، يتناقلها الأبناء عن الآباء والأصاغر عن الأكابر، تحت حراسة ورقابة رجال الدين العلماء الغيورين، ولقد حرص كبار الصحابة، وفقهاؤهم على تتبع دقائق الصلاة حين كانوا يصلون خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وخلف خلفائه الراشدين من بعده، ثم حرصوا على تبليغ الأمة بما تحملوه من علم، وما حفظوه من أحكام. وها هو ذا أنس بن مالك، وقد رأى بعض الناس يجهرون قبل قراءة الفاتحة في الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم، وبعضهم لا يجهر بها، ولكن يسر بها، وبعضهم لا يجهر بها ولا يسر، فقال لأصحابه: لقد صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وخلف أبي بكر وعمر وعثمان، فلم أسمع أحدا منهم يجهر قبل الفاتحة ببسم الله الرحمن الرحيم، ولقد سمعت عمر بن الخطاب يجهر بدعاء الاستفتاح بعد تكبيرة الإحرام، ويقول: سبحانك الله وبحمدك، تبارك اسمك، وتعالى جدك وعظمتك، ولا إله غيرك: وكأن أصحاب أنس قالوا له: إذن البسملة ليست آية من الفاتحة ولا من غيرها من السور؟ وكأنه قال لهم: افهموا ما تفهمون، ولكني أنقل لكم ما أعلم، وقد كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم في المسجد، فأغفى إغفاءة، وأخذته سنة خفيفة من النوم، فانتبه وهو يبتسم، فقلنا: مم تضحك يا رسول الله؟ أضحك الله سنك: قال: لقد أنزلت علي في هذه اللحظات سورة، فقرأ {بسم الله الرحمن الرحيم* إنا أعطيناك الكوثر* فصل لربك وانحر* إن شانئك هو الأبتر} لقد كان العاص بن وائل يقول إن محمدا لا عقب له، فإذا مات مات ذكره، فنزلت هذه السورة تبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بفضل الله عليه، وتكريمه إياه بالكوثر، وتتوعد العاص وأمثاله بانقطاع ذكرهم في الدنيا من بعدهم. قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أتدرون ما الكوثر؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فأخبرنا يا رسول الله. قال: هو نهر عظيم في الجنة، ماؤه أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، آنيته عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا، وإن أمتي ترده يوم القيامة، أعرفهم من بين الناس، إذ هم غر محجلون من آثار الوضوء وقد أجد أحدهم يذاد عن الحوض، فأقول: يا رب هذا من أمتي؟ فيقول لي: لا تدري ما أحدث بعدك، لقد ارتد على أدباره، فأقول ما قال أخي عيسى {وكنت عليهم شهيدا مادمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد* إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} [المائدة: 117 - 118]. -[المباحث العربية]- (سبحانك اللهم وبحمدك) سئل الزجاج عن الواو في قوله "وبحمدك" فقال: معناه سبحانك اللهم، وبحمدك سبحتك. اهـ فالجار والمجرور متعلق بمحذوف، والجملة معطوفة على سابقتها.

(وتعالى جدك) الجد هنا العظمة. (فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم) بسم الله الرحمن الرحيم، مقصود لفظها وحكايتها في محل نصب، مفعول يقرأ، أي يقرأ هذه الجملة. (عن عبدة أن عمر بن الخطاب) هذا الإسناد مرسل، لأن عبدة بسكون الباء هو ابن أبي لبابة، وهو لم يسمع من عمر، فقول مسلم في نفس الرواية: وعن قتادة معطوف على (عن عبدة) أي عن قتادة عن أنس. (عن قتادة أنه كتب إليه يخبره عن أنس بن مالك) أي كتب قتادة إلى عبدة يخبره عن أنس بن مالك، وهذه هي الرواية المتصلة المقصودة للإمام مسلم. (فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين) "الحمد" بضم الدال مرفوع على الحكاية، والجملة كلها في محل جر بالباء. (لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها) أي ولا في آخر قراءة، أي لا يذكرونها في أول الفاتحة، ولا في أول السورة، في أول ركعة ولا في آخر ركعة. قال الأبي "ولا في آخرها": تأكيد لنفي قراءتها إذ لا تتوهم قراءتها في الآخر. اهـ. وكأنه رحمه الله. حمل الآخرية على آخرية القراءة الأولى، على معنى آخر آية في المقروء، وعلى هذا قال: لا يتوهم قراءتها في الآخر، أما لو حملها كما حملناها لرفع التوهم. وهو أولى، لأن حمل الأبي يجعل اللفظة مهملة. (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة) "إذ" للمفاجأة و"بينا" هي "بين" ظرف الزمان، أشبعت الفتحة فصارت ألفا، وربما زيدت عليها "ما" فقيل "بينما" قال الجوهري: بينا نحن نرقبه أتانا، معناه أتانا بين أوقات رقبتنا إياه ثم حذف المضاف الذي هو أوقات. اهـ. وقوله "بين أظهرنا" معناه بيننا، وقوله "أغفى إغفاءة" بفتح الهمزة في الأول، أي نام، قال النووي: والإغفاءة هي السنة من النوم، دون الاستغراق، قال القرطبي: وهي حالة من الحالات التي كان يوحى إليه فيها. اهـ. (قلنا: ما أضحكك)؟ عبروا بالضحك عن التبسم، لأن التبسم منه صلى الله عليه وسلم كان واضحا قاله الأبي. وفي القاموس: التبسم أقل من الضحك وأحسنه. اهـ. فتعبيرهم حقيقة، لا يعلل له، ولعله يفرق بينهما بأن الضحك يبين عن الأسنان، فإن الضاحكة هي كل سن تبدو عند الضحك، أما الابتسام فهو انفراج الأسارير والشفتين دون ظهور الأسنان. (أنزلت علي آنفا سورة) في القاموس: {ماذا قال آنفا} [محمد: 16] "آنف" كصاحب بالمد، وبالقصر ككتف، وقرئ بهما، أي منذ ساعة، أي في أول وقت يقرب منا. اهـ. فمعنى "أنزلت علي آنفا" أي حالا وقريبا من الآن.

{إنا أعطيناك الكوثر} في القاموس: الكوثر الكثير من كل شيء والنهر، ونهر في الجنة. اهـ. قال النووي: والكوثر هنا نهر في الجنة كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في موضع آخر عبارة عن الخير الكثير. {إن شانئك هو الأبتر} الشانئ المبغض والأبتر هو المنقطع العقب، وقيل: المنقطع عن كل خير: نزلت في العاص بن وائل، وكان يقول: إن محمدا لا عقب له ولا ولد، فإذا مات انقطع ذكره. (عليه خير كثير، هو حوض) ضمير "هو": يعود على "خير" فكأنه قال: عليه حوض، وهذا الحوض خير كثير، تشرب منه الأمة فلا تظمأ أبدا. (آنيته عدد النجوم) المراد من الآنية ما يشرب بها الشاربون من الحوض، وليس المقصود من العبارة مساواة أعدادها بأعداد نجوم السماء، بل كناية عن الكثرة بحيث تكفي الواردين عليه، دون تزاحم. (فيختلج العبد منهم) قال النووي: يختلج أي ينتزع ويقتطع اهـ. وفي القاموس: خلج يختلج جذب وانتزع. اهـ فالمعنى فينجذب وينتزع العبد من أمتي إلى ناحية بعيدة عن الحوض، ويذاد عنه ويطرد ويدفع. (لا تدري ما أحدثت بعدك) أي ما أحدثت أمتك بعدك، وفي الرواية الأخرى "ما أحدث بعدك" أي ما أحدث العبد المختلج المطرود عن الحوض. -[فقه الحديث]- لا خلاف بين المسلمين في أن بسم الله الرحمن الرحيم في سورة النمل جزء آية من القرآن الكريم في قوله جل شأنه {إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم} [النمل: 30] وإن منكرها أو منكر حرف من حروفها كافر بالإجماع. والخلاف بين العلماء في {بسم الله الرحمن الرحيم} الموجودة في أول كل سورة من القرآن غير سورة براءة، ويمكن حصر شوارد الخلاف في أربعة آراء. الرأي الأول: أن البسملة في أوائل السور كلها ليست قرآنا، لا في الفاتحة ولا في غيرها، وهو مذهب مالك والأوزاعي ومشهور مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد، ورواية عن داود. الرأي الثاني: يرى أن البسملة آية في أول الفاتحة فقط، وليست بقرآن في أوائل السور، وهو مشهور مذهب أحمد وهو قول إسحق وأبي عبيد وجماعة من أهل الكوفة ومكة وأكثر أهل العراق. الرأي الثالث: يرى أنها آية قبل كل سورة غير التوبة، وليست من السورة بل هي قرآن، كسورة قصيرة، وهو مشهور قول داود، ونحوه لأبي حنيفة، قال الأبي: وفي حكايته عن أبي حنيفة نظر، لأن

الواقع له أنه قال: لا يجهر بها، وأما الكلام فيها بالنفي والإثبات فلم يقع له ولا لأحد من أصحابه، حتى قال بعضهم: تورع أبو حنيفة وأصحابه فلم يتكلموا في المسألة؛ ولذا قال الكرخي: لا نص لأحد من متقدمي أصحابنا في المسألة، إلا أن أمرهم بإخفائها يدل على أنها ليست من السورة، قال يعلى: سألت عنها محمد بن الحسن، فقال: ما بين دفتي المصحف كلام الله تعالى. قلت: فلم تسر فيها؟ فسكت ولم يجبني. الرأي الرابع: يرى أنها آية من أول الفاتحة، وهو قول الشافعية بلا خلاف بينهم، وهي كذلك آية كاملة من أول كل سورة غير براءة على الصحيح عندهم، ثم اختلفوا هل هي في الفاتحة وغيرها قرآن على سبيل القطع كسائر القرآن؟ أو على سبيل الحكم، على معنى أنه لا تصح الصلاة إلا بقراءتها في أول الفاتحة، ولا يكون قارئا لسورة غيرها بكمالها إلا إذا ابتدأها بالبسملة، ولا يمسها المحدث؟ جمهورهم [وهو الصحيح] أنها آية على سبيل الحكم، لاختلاف العلماء فيها، ولأنه لا خلاف بين المسلمين أن نافيها لا يكفر، ولو كانت قرآنا قطعا لكفر، كمن نفى غيرها. ويتلخص لنا من هذا العرض الموجز أن الرأي الأول والثاني على أنها ليست قرآنا في أوائل السور. وسنعرض لدليل كل من الفريقين، وموقفه من أحاديث الباب، باذلين الجهد في الحصر والإيجاز، فقد بلغ اهتمام الأوائل بهذه المسألة أن ألفوا فيها كتبا، وصنفوا فيها تصانيف مقررة، وقد جمع الشيخ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي الدمشقي معظم الأقوال والمصنفات فيها في كتابه المشهور، وهو مجلد كبير، وبالله التوفيق. احتج من نفاها في أول الفاتحة وغيرها من السور (أ) بأن القرآن لا يثبت بالظن، ولا يثبت إلا بالتواتر. (ب) وبحديث أبي هريرة [الرواية الثالثة من روايات الباب السابق] وفيه "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين ... " إلى آخر الحديث، ولم يذكر البسملة. (جـ) وبحديث أبي هريرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن من القرآن سورة ثلاثون آية، شفعت لرجل حتى غفر له، وهي {تبارك الذي بيده الملك} [الملك: 1] " رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن. وقد أجمع القراء على أنها ثلاثون آية سوى البسملة. (د) وبحديث عائشة في مبدأ الوحي "أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {اقرأ بسم ربك الذي خلق* خلق الإنسان من علق* اقرأ وربك الأكرم} [العلق: 1 - 3] ولم يذكر البسملة في أولها" رواه البخاري ومسلم. (هـ) وبحديث أنس [روايتنا الثالثة من هذا الباب] وفيه "صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون بسم الله الرحمن الحيم في أول قراءة ولا في آخرها".

(و) وقالوا: لو كانت من القرآن لكفر جاحدها، لكن الأمة أجمعت على أنه لا يكفر. (ز) وقالوا: وأهل العدد مجمعون على ترك عدها آية من غير الفاتحة واختلفوا في عدها في الفاتحة. (ح) وقالوا: نقل أهل المدينة بأسرهم عن آبائهم التابعين عن الصحابة -رضي الله عنهم- افتتاح الصلاة بالحمد لله رب العالمين. "ملحوظة" بعض هذه الأدلة لا تتعارض مع القول بأنها قرآن مستقل كسور قصيرة، فلا تنفي قرآنيتها، كالدليل "ب"، و"جـ" و"د" و"هـ" و"ز" و"حـ" ولكن كل هذه الأدلة تعارض مذهب الشافعية. ويحتج المثبتون لقرآنيتها (أ) بأن الصحابة -رضي الله عنهم- أجمعوا على إثباتها في المصحف في أوائل السور سوى براءة، وبخط المصحف، بخلاف الأعشار وتراجم السور، فإن العادة كتابتها بحمرة ونحوها، فلو لم تكن قرآنا لما استجازوا إثباتها بخط المصحف من غير تميز، لأن ذلك يحمل على اعتقاد أنها قرآن فيكونون مغررين بالمسلمين حاملين لهم على اعتقاد ما ليس بقرآن قرآنا، وهذا مما لا يجوز اعتقاده في الصحابة -رضي الله عنهم- قال الحافظ البيهقي: أحسن ما يحتج به أصحابنا الشافعية كتابتها في المصاحف التي قصدوا بكتابتها نفي الخلاف عن القرآن، فكيف يتوهم عليهم أنهم أثبتوا مائة وثلاث عشرة آية ليست من القرآن؟ وقال الغزالي في المستصفى: أظهر الأدلة كتابتها بخط القرآن. قال: فإن قيل: لعلها أثبتت للفصل بين السور، فجوابه من أوجه، أحدها أن هذا فيه تغرير، لا يجوز ارتكابه لمجرد الفصل. والثاني لو كان للفصل لكتبت بين براءة والأنفال، ولما حسن كتابتها في أول الفاتحة. والثالث: أن الفصل كان ممكنا بتراجم السور، كما حصل بين براءة والأنفال. فإن قيل: لعلها كتبت للتبرك بذكر الله. فجوابه من هذه الأوجه الثلاثة ومن وجه رابع أنه لو كانت للتبرك لا كتفى بها في أول المصحف أو لكتبت في أول براءة، ولما كتبت في أول السور التي فيها ذكر الله كالفاتحة والأنعام والإسراء والكهف والفرقان والحديد ونحوها، فلم يكن حاجة إلى البسملة. ولأنهم قصدوا تجريد المصحف مما ليس بقرآن، ولهذا لم يكتبوا التعوذ والتأمين، مع أنه صح الأمر بهما، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما تلا الآيات النازلة في براءة عائشة -رضي الله عنها- لم يبسمل، فلو كانت للتبرك لكانت الآيات النازلة في براءة عائشة أولى بالتبرك، لما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وأهله وأصحابه من السرور بذلك. (ب) وبما روي عن أم سلمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم في أول الفاتحة في الصلاة وعدها آية، رواه ابن خزيمة والبيهقي.

(جـ) وبحديث ابن عباس في قوله تعالى: {ولقد آتيناك سبعا من المثاني} [الحجر: 87] قال: هي فاتحة الكتاب. قال فأين السابعة؟ قال: {بسم الله الرحمن الرحيم} رواه ابن خزيمة والبيهقي وغيرهما. (د) وبحديث أنس [روايتنا الثالثة في هذا الباب] وفيه "أنزلت علي آنفا سورة، فقرأ": {بسم الله الرحمن الرحيم* إنا أعطيناك الكوثر ... } [الكوثر: 1]. (هـ) وبحديث أنس رضي الله عنه "أنه سئل عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كانت مدا، ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم. يمد بسم الله ويمد الرحمن، ويمد الرحيم" رواه البخاري. (و) وبحديث ابن عباس قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف فصل السورة حتى نزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم" رواه الحاكم. وقال: حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم. ورواه أبو داود وغيره. (ز) وقالوا: يعترف النافون لقرآنية البسملة بأن البسملة كتبت بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوائل السور مع إخباره صلى الله عليه وسلم أنها منزلة، وهذا موهم كل أحد أنها قرآن، ودليل قاطع أو كالقاطع أنها قرآن، فلا وجه لترك بيانها لو لم تكن قرآنا. وأجاب الشافعية عن أدلة النافين (أ) بأن قولهم: القرآن لا يثبت بالظن ولا يثبت إلا بالتواتر، إنما هو فيما يثبت على سبيل القطع، أما ما يثبت قرآنا على سبيل الحكم فيكفى فيه الظن، والبسملة قرآن على سبيل الحكم على الصحيح على أن إثباتها في المصحف في معنى التواتر. (ب) وعن حديث أبي هريرة بالأجوبة الثلاثة التي ذكرناها في الباب السابق، ويزيدون عليها أن البسملة إنما لم تذكر لاندراجها في الآيتين بعدها، أو لعله قاله قبل نزول البسملة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه الآية، فيقول: ضعوها في سورة كذا. على أنه قد جاء ذكر البسملة في رواية الدارقطني والبيهقي فقال: "فإذا قال العبد: بسم الله الرحمن الرحيم يقول الله ذكرني عبدي". (جـ) وعن حديث شفاعة "تبارك" أن المراد ما سوى البسملة، لأنها غير مختصة بهذه السورة، ويحتمل أن يكون هذا الحديث قبل نزول البسملة فيها، فلما نزلت أضيفت إليها بدليل كتابتها في المصحف. (د) وعن حديث مبدأ الوحي بأن البسملة نزلت بعد ذلك كنظائر لها من الآيات المتأخرة. (هـ) وعن حديث أنس بأنه في الجهر بها وعدم الجهر، وسيأتي بعد قليل عند الكلام على الجهر بها مع الفاتحة. (و) وأما قولهم: لو كانت قرآنا لكفر جاحدها فجوابه من وجهين الأول: أن يقلب عليهم الاستدلال، فيقال: لو لم تكن قرآنا لكفر مثبتها، لكن الأمة أجمعت على أنه لا يكفر، الثاني: أن الكفر لا يكون بالظنيات، بل بالقطعيات والبسملة ظنية.

(ز) وأما قولهم: أجمع أهل العدد على أنه لا تعد آية فجوابه من وجهين أحدهما: أن أهل العدد ليسوا كل الأمة، فيكون إجماعهم حجة، بل هم طائفة من الناس عدوا كذلك، إما لأن مذهبهم نفى البسملة وإما لاعتقادهم أنها بعض آية، وأنها مع أول السورة آية، الثاني: أنه معارض بما ورد عن ابن عباس وغيره "من تركها فقد ترك مائة وثلاث عشرة آية". (ح) وأما نقل أهل المدينة وإجماعهم فإننا لا نسلم هذا الإجماع، بل لقد اختلف أهل المدينة في ذلك، وإنكار المهاجرين والأنصار على معاوية حين تركها يبطل القول بإجماع أهل المدينة، على أن أهل مكة لم يختلفوا أن {بسم الله الرحمن الرحيم} أول آية من الفاتحة، فلو ثبت إجماع أهل المدينة لم يكن حجة مع وجود الخلاف لغيرهم. ومن هنا قال الغزالي في آخر كلامه: الغرض بيان أن المسألة ليست قطعية بل ظنية، وأن الأدلة وإن كانت متعارضة فجواب الشافعي فيها أرجح وأغلب. اهـ. وقال الأبي: الأولى ترك الكلام في المسألة، لأنه -كما قيل- إن كان الحق الثبوت فالنافي أسقط آية، وإن كان الحق النفي فالمثبت زاد آية، والزيادة والنقص في كتاب الله تعالى كفر، قال القاضي: والخطأ في المسألة وإن لم يبلغ التكفير لكثرة القائل بكل قول فلا أقل من التفسيق. اهـ وقال ابن الحاجب: وقوة الشبهة من الجانبين منعت من التكفير. اهـ ورأى الفخر الرازي أن المخلص من ذلك جعل المسألة اجتهادية. للمخطئ فيها أجر وللمصيب أجران. اهـ. والله أعلم. بقى الكلام على الجهر بها في الصلاة، قال النووي في المجموع: واعلم أن مسألة الجهر ليست مبنية على مسألة إثبات البسملة، لأن جماعة ممن يرى الإسرار بها لا يعتقدونها قرآنا، بل يرونها من سننه، كالتعوذ والتأمين، وجماعة ممن يرى الإسرار يعتقدونها قرآنا، وإنما أسروا بها وجهر غيرهم لما ترحج عند كل فريق من الأخبار والآثار. اهـ والتحقيق أن الجهر بها مبني على إثبات أنها قرآن، لا كما ذكر الإمام النووي، وإنما الإسرار بها غير مبني على أنها ليست بقرآن، فإن بعض من يسر بها يعتقدونها قرآنا. ومذهب الشافعية استحباب الجهر بها حيث يجهر بالقراءة في الفاتحة والسورة جميعا، فلها في الجهر حكم باقي الفاتحة والسورة، قال النووي: وهذا قول أكثر العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الفقهاء والقراء، ثم أخذ يسرد من القائلين به من كل فريق. إلى أن قال: وهو قول سائر أهل مكة، وهو أحد قولي ابن وهب صاحب مالك، وحكي عن ابن المبارك وأبي ثور، ثم قال: وفي الخلافيات للبيهقي عن جعفر بن محمد قال: أجمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم. وقال أبو محمد: واعلم أن أئمة القراء السبعة منهم من يرى البسملة بلا خلاف عنه، ومنهم من روي عنه الأمران، وليس فيهم من لم يبسمل بلا خلاف عنه، فقد بحثت عن ذلك أشد البحث، فوجدته كما ذكرته، ثم كل من رويت عنه البسملة ذكرت بلفظ الجهر بها إلا روايات شاذة جاءت عن حمزة. اهـ.

وذهبت طائفة إلى أن السنة الإسرار بها في الصلاة السرية والجهرية، حكاه ابن المنذر عن علي ابن أبي طالب وابن مسعود وعمار بن ياسر وابن الزبير والحكم وحماد والأوزاعي وأبي حنيفة، وهو مذهب أحمد بن حنبل وأبي عبيد. وحكي عن النخعي وابن أبي ليلى والحكم أن الجهر والإسرار بها سواء. ومن المالكية من لا يقرؤها في الصلاة نفلا ولا فرضا جهرا ولا سرا ومنهم من يقرؤها سرا في النفل. قال القاضي عياض: المشهور عندنا يقرؤها في النفل دون الفرض، وروى ابن نافع: يقرؤها ولا يتركها بحال، وروى غيره: يقرؤها في النوافل في أوائل السور. اهـ. وقال الأبي: والمتحصل في قراءتها في الفرض من المذهب أربعة: كرهها في المدونة، واستحبها ابن مسلمة فيما حكى ابن رشد، وأجازها ابن نافع فيما حكى أبو عمر، والرابع ما ذكر عياض من روايته، يقرؤها ولا يتركها بحال، قال وظاهرها الوجوب، قال ابن رشد: في قراءتها في النفل روايتان. اهـ. واحتج من يرى الإسرار بها بحديث أنس (روايتنا الثانية من هذا الباب) وفيه "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها" وفي رواية "فلم أسمع أحدا منهم يقرأ .... ". وفي رواية الدارقطني فلم أسمع أحدا منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم "وروي عن ابن عبد الله بن مغفل قال "سمعني أبي وأنا أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم فقال: أي بني. إياك والحدث. فإني صليت مع رسول صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر وعثمان. فلم أسمع رجلا منهم يقوله، فإذا قرأت فقل "الحمد لله رب العالمين" رواه الترمذي والنسائي. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ما جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة مكتوبة ببسم الله الرحمن الرحيم، ولا أبو بكر ولا عمر". وسئل الدارقطني بمصر، حين صنف كتاب الجهر فقال: لم يصح في الجهر بها حديث. وقالوا: وقياسا على التعوذ، قالوا: ولأنه لو كان الجهر ثابتا لنقل نقلا متواترا أو مستفيضا كوروده في سائر القراءة. واحتج الشافعية على استحباب الجهر بقول أبي هريرة [في الرواية الخامسة والسادسة من الباب السابق] "فما أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلناه لكم، وما أخفاه أخفيناه لكم" وفي رواية "فما أسمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمعناكم، وما أخفى منا أخفيناه منكم" وقد ثبت عن أبي هريرة أنه كان يجهر في صلاته بالبسملة، فدل على أنه سمع الجهر بها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبحديث أنس [روايتنا الثالثة من هذا الباب] وفيه "أنزلت علي آنفا سورة، فقرأ: {بسم الله

الرحمن الرحيم* إنا أعطيناك الكوثر ... } وهذا تصريح بالجهر بها خارج الصلاة، فكذا في الصلاة كسائر الآيات، وبما رواه الدارقطني وغيره عن أنس بن مالك قال "صلى معاوية بالمدينة صلاة يجهر فيها بالقراءة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم لأم القرآن، ولم يقرأ بها للسور التي بعدها حتى قضى تلك القراءة، ولم يكبر حين يهوي حتى قضى تلك الصلاة، فلما سلم ناداه من شهد من المهاجرين والأنصار في كل مكان، يا معاوية. أسرقت الصلاة أم نسيت؟ أين بسم الله الرحمن الرحيم؟ قال: فلم يصل بعد ذلك إلا قرأ بسم الله الرحمن الرحيم، لأم القرآن وللسورة" أخرجه الحاكم في المستدرك، وقال: هذا صحيح على شرط مسلم. "أما بعد" فإن الجهر بالبسملة أو الإسرار بها أمر هين إذا قيس بمسألة ثبوت كونها قرآنا أو لا، والذي تستريح إليه النفس أن الإسرار بها أولى من الجهر لأن الصحيح عند الشافعية أنفسهم أنها قرآن حكما لا قطعا. فلا تتساوى مع غيرها من القرآن القطعي، ثم إن ما استدلوا به من أحاديث الجهر لا تقاوم ما ثبت من عدم الجهر بها، وأسلم الطرق أن نقول مثل ما قال أبو حاتم بن حبان: هذا من الاختلاف المباح. والله أعلم. -[ويؤخذ من أحاديث الباب فوق ما تقدم]- 1 - جواز النوم في المسجد. 2 - جواز نوم الإنسان بحضرة أصحابه. 3 - وأنه إذا رأى التابع من متبوعه تبسما أو غيره مما يقتضي حدوث أمر يستحب له أن يسأل عن سببه. 4 - وفيه إثبات الحوض، والإيمان به واجب. والله أعلم

(162) باب وضع اليدين على الصدر في الصلاة

(162) باب وضع اليدين على الصدر في الصلاة 723 - عن علقمة بن وائل ومولى لهم أنهما حدثاه عن أبيه وائل بن حجر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه حين دخل في الصلاة كبر (وصف همام حيال أذنيه) ثم التحف بثوبه ثم وضع يده اليمنى على اليسرى فلما أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب ثم رفعهما ثم كبر فركع فلما قال "سمع الله لمن حمده" رفع يديه فلما سجد سجد بين كفيه. -[المعنى العام]- هذه صورة أخرى لحركات الصلاة وسكناتها، وأقوالها وأفعالها ينقلها وائل بن حجر، بعد الصورة التي حكاها أنس في الباب السابق، يقول لأصحابه -وقد رآهم يختلفون في بعض الهيئات- يقول لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم حين توضأ واستقبل وأشرف على الدخول في الصلاة، رأيته قد رفع يديه في مقابلة أذنيه، فكبر ثم ضم ثوبه إلى صدره وغطى به يديه، وقد وضع يمناه فوق يسراه على صدره، ثم قرأ الفاتحة والسورة. فلما أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب، ثم رفعهما بمحاذاة أذنيه، ثم كبر، فركع، فلما رفع من الركوع وهو يقول: سمع الله لمن حمده، رفع يديه حيال أذنيه، فلما سجد رأيته يضع جبهته بين كفيه اللذين وضعهما على الأرض للسجود صلى الله عليه وسلم، ورضى عن صحابته أجمعين. -[المباحث العربية]- (رأى النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه حين دخل في الصلاة كبر حيال أذنيه) أصل الترتيب رأى النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل في الصلاة رفع يديه حيال أذنيه مكبرا. "وحيال أذنيه" بكسر الحاء، أي قبالتهما محاذيا لهما في الارتفاع. (ثم التحف بثوبه) أي تغطى بثوبه، أي جمع أطراف ثوبه، فغطى صدره ويديه، ولعل ذلك من شدة البرد. (ثم وضع اليمنى على اليسرى) من إطلاق الكل وإرادة الجزء، أي وضع كف اليمنى على كف أو رسخ اليسرى، كما سيأتي بيانه في فقه الحديث. (فلما سجد سجد بين كفيه) في "سجد" الأولى مجاز المشارفة، أي فلما أشرف على السجود سجد باسطا كفيه على الأرض ساجدا بجبهته بينهما.

-[فقه الحديث]- ساق مسلم هذا الحديث كدليل على استحباب وضع اليمين على الشمال في وقوف الصلاة، والكلام في هذه المسألة يتشعب إلى حكم وضع اليمين على الشمال، وإلى صفته، وإلى مكانه، وإلى وقته، وإلى حكمته. أما الحكم فقد اتفق العلماء على أنه ليس بواجب، ثم ذهب الشافعية والحنفية والحنابلة وسفيان الثوري وإسحق وأبو ثور وداود وجمهور العلماء إلى أن وضع اليمين على الشمال في وقوف الصلاة سنة. قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، اهـ. أما المالكية فالأقوال عندهم خمسة، الأول ما حكاه ابن المنذر عن مالك أنه سنة كقول الجمهور، الثاني: رواية ابن القاسم عن مالك الإرسال، قال النووي: وهو الأشهر، وعليه جميع أهل المغرب من أصحابه أو جمهورهم. قال الأبي: وقال مالك أيضا والليث وجماعة بكراهة وضع اليمين على الشمال، وعللت بخوف أن يعتقد وجوبه، وقيل: لئلا يظهر من خشوعه خلاف الباطن، الثالث أنه يكره لمن يفعله اعتمادا، الرابع: أنه يكره في الفرض، دون النفل، الخامس: أنه مخدر بين الوضع والإرسال، وهو قول الأوزاعي. وقال الليث بن سعد: يرسلهما، فإن طال ذلك عليه وضع اليمنى على اليسرى للاستراحة. واحتج لمن يمنع وضع اليمين على الشمال بحديث المسيء صلاته، إذ علمه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر وضع اليمنى على اليسرى، وأجيب بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلمه إلا الواجبات فقط. وحديث الباب صريح في استحباب وضع اليمين على الشمال، وهو حجة الجمهور، كما يحتج أيضا بحديث البخاري عن سهل بن سعد قال: "كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه في الصلاة .... " وبحديث أبي داود عن ابن مسعود "أنه كان يصلي، فوضع يده اليسرى على اليمنى فرآه النبي صلى الله عليه وسلم: فوضع يده اليمنى على اليسرى" صحيح على شرط مسلم. وعن ابن الزبير قال "صف القدمين، ووضع اليد على اليد من السنة" رواه أبو داود بإسناد حسن. وأما صفة الوضع عند القائلين به فقد قيل: يضع بطن كف اليمنى على رسغ اليسرى فيكون الرسغ وسط الكف [الرسغ بضم الراء وإسكان السين، ويقال بالصاد بدل السين، هو المفصل بين الكف والساعد] ويقبض على الرسغ بالخنصر والإبهام، وتمتد الأصابع الثلاث الوسطى على الذراع، وهو المختار عند الحنفية، وقيل: يضع باطن أصابعه على الرسغ طولا، ولا يقبض، وقيل: يتخير بين وسط أصابع اليمنى في عرض المفصل وبين نشرها صوب الساعد، وقيل: يقبض المفصل بأصابعه الأربعة من جهة وبالإبهام من جهة، واضعا بطن كفه اليمنى على كفه اليسرى، وعن مالك: إن شاء أمسك بالكف، وإن شاء أمسك بالرسغ، وقيل: يضع كف اليمنى على ذراع اليسرى، والظاهر أن الكل من قبيل التخير المباح.

وأما مكان الوضع فإن الصحيح والمنصوص عليه عند الشافعية أن يجعلها تحت صدره وفوق سرته، أما الحنفية فالسنة عندهم وضعهما تحت سرته، وكل من الفريقين استند إلى حديث، والحنابلة يقولون بكل من الرأيين كما يقولون بأن يتخير بينهما، ونحن مع الترمذي حيث يقول: العمل عند أهل العلم من الصحابة والتابعين فمن بعدهم وضع اليمين على الشمال في الصلاة، ورأى بعضهم أن يضعها فوق السرة، ورأى بعضهم أن يضعها تحت السرة، وكل ذلك واسع. اهـ. وأما وقته فالأصل فيه أن كل قيام فيه ذكر مسنون توضع فيه اليمنى على اليسرى، وما لا فلا، فتوضع في حالة القنوت وصلاة الجنازة، ولا توضع في القومة من الركوع وبين تكبيرات العيدين، وقيل توضع في كل قيام سواء كان فيه ذكر مسنون أو لا. ذكره العيني. وأما الحكمة فيه فقد قال العيني: الوضع على الصدر أبلغ في الخشوع، وفيه حفظ نور الإيمان في الصلاة، فكان أولى من إشارته إلى العورة بالوضع تحت السرة، قال: ونحن نقول: الوضع تحت السرة أقرب إلى التعظيم، وأبعد من التشبه بأهل الكتاب، وأقرب إلى ستر العورة، وحفظ الإزار عن السقوط، وذلك كما يفعل بين يدي الملوك، وفي الوضع على الصدر تشبه بالنساء، فلا يسن. اهـ. وقال الحافظ ابن حجر: الحكمة في هذه الهيئة أنها صفة السائل الذليل وهي أمنع من العبث، وأقرب إلى الخشوع، وكأن البخاري لحظ ذلك فعقبه بباب الخشوع، ومن اللطائف قول بعضهم: القلب موضع النية، والعادة أن من احترز على حفظ شيء جعل يديه عليه. اهـ. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - أن العمل القليل في الصلاة لا يبطلها، لقوله "كبر ثم التحف". 2 - وفيه استحباب رفع يديه عند الدخول في الصلاة، وعند الركوع وعند الرفع منه. 3 - وفيه استحباب كشف اليدين عند الرفع. 4 - ووضعهما في السجود على الأرض. وستأتي أعضاء السجود في باب خاص إن شاء الله. والله أعلم

(163) باب التشهد في الصلاة

(163) باب التشهد في الصلاة 724 - عن عبد الله قال كنا نقول في الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام على الله السلام على فلان فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم "إن الله هو السلام فإذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإذا قالها أصابت كل عبد لله صالح في السماء والأرض أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ثم يتخير من المسألة ما شاء". 725 - عن منصور بهذا الإسناد مثله ولم يذكر "ثم يتخير من المسألة ما شاء". 726 - عن منصور بهذا الإسناد مثل حديثهما وذكر في الحديث "ثم ليتخير بعد من المسألة ما شاء (أو ما أحب) ". 727 - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال كنا إذا جلسنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة بمثل حديث منصور وقال "ثم يتخير بعد من الدعاء". 728 - عن ابن مسعود رضي الله عنه قال علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد كفي بين كفيه كما يعلمني السورة من القرآن واقتص التشهد بمثل ما اقتصوا. 729 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن فكان يقول التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله وفي رواية ابن رمح كما يعلمنا القرآن.

730 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن. 731 - عن حطان بن عبد الله الرقاشي قال صليت مع أبي موسى الأشعري صلاة فلما كان عند القعدة قال رجل من القوم أقرت الصلاة بالبر والزكاة قال فلما قضى أبو موسى الصلاة وسلم انصرف فقال أيكم القائل كلمة كذا وكذا قال فأرم القوم ثم قال أيكم القائل كلمة كذا وكذا فأرم القوم فقال لعلك يا حطان قلتها قال ما قلتها ولقد رهبت أن تبكعني بها فقال رجل من القوم أنا قلتها ولم أرد بها إلا الخير فقال أبو موسى أما تعلمون كيف تقولون في صلاتكم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبنا فبين لنا سنتنا وعلمنا صلاتنا فقال "إذا صليتم فأقيموا صفوفكم ثم ليؤمكم أحدكم فإذا كبر فكبروا وإذ قال غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين يجبكم الله فإذا كبر وركع فكبروا واركعوا فإن الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فتلك بتلك وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا لك الحمد يسمع الله لكم فإن الله تبارك وتعالى قال على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم سمع الله لمن حمده وإذا كبر وسجد فكبروا واسجدوا فإن الإمام يسجد قبلكم ويرفع قبلكم" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فتلك بتلك" وإذا كان عند القعدة فليكن من أول قول أحدكم التحيات الطيبات الصلوات لله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله". 732 - عن قتادة في هذا الإسناد بمثله وفي حديث جرير عن سليمان عن قتادة من الزيادة "وإذا قرأ فأنصتوا" وليس في حديث أحد منهم "فإن الله قال على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: سمع الله لمن حمده" إلا في رواية أبي كامل وحده عن أبي عوانة.

733 - عن قتادة بهذا الإسناد وقال في الحديث "فإن الله عز وجل قضى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم سمع الله لمن حمده". -[المعنى العام]- قد بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم الرسالة بأجلى بلاغ، وأدى الأمانة على خير الوجوه كان صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه، كما يعلم الفقيه تلاميذه في المكتب بل كان يأخذ كف التلميذ بين كفيه، ويقرأ عليه ثم يسمع منه، ليستوثق من كمال التحمل وسلامة الأداء، ولم يكن تعليمه قاصرا على تعليم القرآن الكريم، بل كان يحفظ أذكار الصلاة كما يحفظ السورة من القرآن، ثم بعد ذلك يراقب العمل، ويتابع القول، فإذا رأى أو سمع خللا بادر بإصلاحه وتقويمه. لقد أباح للمسلمين أن يذكروا الله في جلسة الصلاة الأخيرة وقبل السلام بالذكر الجميل، حيث لم يكن التشهد قد شرع بعد، فكانوا -ومنهم ابن مسعود- يقولون في جلستهم هذه: السلام على الله من عباده. السلام على جبريل. السلام على ميكائيل. السلام على إسرافيل يعددون من أسماء الملائكة ما شاءوا. وشرع الله للأمة التحيات، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: لا تقولوا: السلام على الله. فإن السلام هو الله، ومنه السلام، وإليه السلام، ولا تقولوا السلام على فلان وفلان من الملائكة، ولكن إذا قعد أحدكم في آخر الصلاة فليقل: التحيات لله والصلوات والطيبات. السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ثم يتخير من الأدعية ما شاء. واستجاب الصحابة، وعلموا وعملوا، ونصبوا أنفسهم حراسا على تعاليم الإسلام. بل نصب الخلفاء الراشدون أئمة الصحابة وفقهاءهم ولاة وأئمة ودعاة في الولايات الإسلامية التي انتشرت في البقاع، وكثر الداخلون في دين الله من العرب والعجم وكثر الخطأ في التعاليم الدينية، وسهر الولاة على الإصلاح والتقويم. والحديث يروي لنا صورة من هذه الصور. لقد كان أبو موسى الأشعري واليا على البصرة من قبل الخليفة عمر يؤمهم ويعظهم، ويجبي زكاتهم، ويحكم بينهم وبينما هو يصلي بهم سمع مأموما يقول في تشهده: أقرت الصلاة وقرنت بالبر والزكاة ويخيل إلي أنه كان فقيرا يعرض بذلك للمساعدة، فأسمع بها بعض جيرانه، كما أسمع بها إمامه، فلما قضى أبو موسى الصلاة انصرف إلى المأمومين واتجه إليهم، وقال: من منكم الذي قال: قرنت الصلاة بالبر والزكاة؟ وسكت الناس، وخاف القائل أن يعلن عن نفسه، فقد رأى من وجه أبي موسى الأشعري ونبرات صوته علامة الاستنكار، وكرر أبو موسى السؤال، وسكت الناس واستخفى القائل، فاتجه أبو موسى نحو أحد المصلين -حطان- يظنه القائل اعتمادا على بعض الملابسات، فقال: أنت يا حطان قلتها؟ قال حطان: ما قلتها ولقد توقعت من نظراتك أنك ستلصقها بي وتتهمني بها، وما قلتها، ورأى القائل الحقيقي أن المسألة تطورت، وإن البريء منها سيتهم بها فأعلن

عن نفسه وقال أنا الذي قلتها، ولم أرد بها إلا الخير. فقال أبو موسى إن بعضكم يخفى عليه ما ينبغي أن يقول في صلاته، وإني أعلمكم ما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد خطبنا، وبين لنا سنتنا وشريعتنا وصلاتنا فقال: إذا أردتم الصلاة، وأشرفتم على أدائها فسووا صفوفكم، ثم ليتقدم أعلمكم فيؤمكم، فإذا كبر تكبيرة الإحرام فكبروا، وإذا قرأ الفاتحة، وبلغ {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فقولوا: آمين، فإن الله يجيب لكم الدعاء مصداقا لقوله جل شأنه {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} [غافر: 60] فإذا كبر وركع فكبروا واركعوا ولا تسبقوه، فإن الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم، فلحظة سبقه لكم تقابل لحظة إدراككم له، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقالوا: اللهم ربنا ولك الحمد يسمع الله قولكم وحمدكم فيزدكم، وإذا كبر وسجد فكبروا واسجدوا، ولا تسبقوه، فإن الإمام يسجد ويرفع قبلكم فتلك اللحظة التي تأخرتم بها عنه، وإذا قعدتم آخر الصلاة فقولوا: التحيات الطيبات. الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. فإذا انتهيتم من التشهد فادعوا الله بما شئتم من الدعاء يستجب لكم. -[المباحث العربية]- (التشهد) هو تفعل من "تشهد" سمي بذلك لاشتماله على النطق بشهادة الوحدانية والرسالة، تغليبا لها على بقية أذكاره لشرافها. (عن عبد الله) أي ابن مسعود، وهو راوي الرواية الثانية. كنا نقول في الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الأبي: الأظهر أنه استحسان منهم، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يسمعه إلا حين أنكره عليهم [فإن قلت] قول الصحابي، كنا نفعل كذا من قبيل المسند، وهو يشعر أيضا بتكرار ذلك منهم، والتكرار مظنة سماعه ذلك، فقولهم ذلك ليس استحسانا، بل هو مسند مقر عليه، نسخه قوله صلى الله عليه وسلم "إن الله هو السلام" [قلت] كان الشيخ يقول ذلك ويقرر الحديث به، ولا يصح، لأن النسخ إنما يكون فيما صح معناه، ولا يصح لعدم استقامة المعنى، لأنه عكس ما يجب أن يقال، فإن السلام بمعنى السلامة والرحمة، وهما له ومنه وهو مالكهما، فكيف يدعي له بهما وهو المدعو؟ فهو تبيين عدم صواب لا نسخ، وإنما الجواب أنه يتعين في "كنا كذا" أن يكون مسندا وليس تكرار ذلك منهم مظنة سماعهم له، لأنه في التشهد والتشهد سر. اهـ. ومعنى قوله "كنا نقول في الصلاة" أي في التشهد من الصلاة، بدليل رده صلى الله عليه وسلم. (السلام على الله) في هذه الرواية اختصار. ورد في رواية أخرى "السلام على الله من عباده". (السلام على فلان) في رواية البخاري "السلام على فلان فلان" وفي رواية لابن إسحق "قلنا: السلام على جبريل" وعند ابن ماجه "يعنون الملائكة" وللإسماعيلي "فنعد الملائكة" وللسراج "فنعد من الملائكة ما شاء الله".

(إن الله هو السلام) وفي رواية للبخاري "لا تقولوا: السلام على الله فإن الله هو السلام" قال البيضاوي: أنكر التسليم على الله، وبين أن ذلك عكس ما يجب أن يقال، فإن كل سلام ورحمة له ومنه، وهو مالكها ومعطيها. وقال التوربشتي: وجه النهي عن السلام على الله لأنه المرجوع إليه بالمسائل المتعالى عن المعاني المذكورة، فكيف يدعي له وهو المدعو على الحالات؟ وقال الخطابي: المراد أن الله هو ذو السلام فلا تقولوا: السلام على الله، فإن السلام منه بدأ، وإليه يعود، ومرجع الأمر في إضافته إليه أنه ذو السلام من كل آفة وعيب، ويحتمل أن يكون مرجعها إلى حظ العبد فيما يطلبه من السلامة من الآفات والمهالك. وقال النووي معناه أن السلام اسم من أسماء الله تعالى، يعني السالم من النقائص، ويقال: المسلم أولياءه، وقيل: المسلم عليهم. قال ابن الأنباري أمرهم أن يصرفوه إلى الخلق، لحاجتهم إلى السلامة، وغناه سبحانه وتعالى عنها. (وإذا قعد أحدكم في الصلاة) المراد القعود بعد الركعتين والقعود الأخير، أو الأخير فقط، على خلاف يأتي في فقه الحديث. (التحيات لله) التحيات جمع تحية، ومعناها السلام، وقيل: البقاء، وقيل العظمة، وقيل السلامة من الآفات والنقص، وقيل: الملك. قال ابن قتيبة: لم يكن يحيا إلا الملك خاصة، وكان لكل ملك خاصة، وكان لكل ملك تحية تخصه فلهذا جمعت، فكأن المعنى: التحيات التي كانوا يسلمون بها على الملوك كلها مستحقه لله. اهـ. وقال الخطابي: ولم يكن في تحياتهم شيء يصلح للثناء على الله [كانت تحية بعضهم أبيت اللعن، وتحية بعضهم أنعم صباحا، وتحية العجم عش عشرة آلاف سنة] فلهذا أبهمت ألفاظها، واستعمل منها معنى التعظيم، فقال: قولوا: التحيات لله. أي أنواع التعظيم له. (والصلوات والطيبات) قيل: المراد بالصلوات الصلوات الخمس، وقيل: ما يشمل الفرائض والنوافل في كل شريعة، وقيل: المراد العبادات كلها، وقيل: الدعوات، وقيل: الرحمة، قال ابن دقيق العيد: إذا حملت الصلاة على العهد أو الجنس كان التقدير أنها لله واجبة، لا يجوز أن يقصد بها غيره، وإذا حملت على الرحمة فيكون معنى قوله "لله" أنه المتفضل بها لأن الرحمة التامة لله، يؤتيها من يشاء، وإذا حملت على الدعاء فظاهر. اهـ. والطيب في الأصل ما يستلذ، والمراد هنا ما طاب من الكلام وحسن أن يثنى به على الله، دون ما لا يليق بصفاته مما كان الملوك يحيون به، وقيل الطيبات ذكر الله، وقيل: الأقوال الصالحة، كالدعاء والثناء، وقيل الأعمال الصالحة وهو أعم، فيشمل الأقوال والأفعال والأوصاف، وطيب الأوصاف كونها كاملة خالصة من الشوائب. وقال النسفي: التحيات العبادات القولية، والصلوات العبادات الفعلية، والطيبات العبادات المالية. اهـ والأولى التعميم كما سبق. قال البيضاوي يحتمل أن يكون "الصلوات والطيبات" عطفا على "التحيات" ويحتمل أن تكون "الصلوات" مبتدأ، وخبره محذوف و"الطيبات" معطوفة عليها والواو الأولى لعطف الجملة على

الجملة والثانية لعطف المفرد على المفرد، وقال العيني: كل واحدة من "الصلوات" و"الطيبات" مبتدأ وخبره محذوف، تقديره: الصلوات لله، والطيبات لله فتكون هاتان الجملتان معطوفتين على الجملة الأولى وهي "التحيات لله". (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته) قال الطيبي: أصل "سلام عليك" "سلمت سلاما عليك" ثم حذف الفعل، وأقيم المصدر مقامه وعدل عن النصب إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبوت المعنى واستقراره، ثم التعريف إما للعهد التقديري، أي ذلك السلام الذي وجه إلى الرسل والأنبياء عليك أيها النبي، وكذلك السلام الذي وجه إلى الأمم السالفة علينا وعلى إخواننا، وإما للجنس، والمعنى حقيقة السلام الذي يعرفه كل واحد ينزل عليك وعلينا، قال: ولا شك أن هذه التقادير أولى من تقدير النكرة. اهـ. والمراد من "رحمة الله" إنعامه، وهو المعنى الغائي، لأن معناها اللغوي، وهو الحنو والعطف لا يجوز أن يوصف الله به، والبركات جمع بركة، وهو الخير الكثير من كل شيء، واشتقاقه من البرك وهو صدر البعير، وبرك البعير ألقى بركه، وسمي محبس الماء بركة للزوم الماء فيها. وقال الطيبي البركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء، سمي بذلك لثبوت الخير فيه ثبوت الماء في البركة، ولما كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا يحس وعلى وجه لا يحصى، قيل لكل من يشاهد فيه زيادة غير محسوسة: "مبارك" أو فيه بركة. اهـ. (السلام علينا) أراد به الحاضرين من الإمام والمأمومين، والملائكة عليهم الصلاة والسلام. (وعلى عباد الله الصالحين) الصالح هو القائم بما عليه من حقوق الله تعالى وحقوق العباد، والصلاح وهو استقامة الشيء على حالة كماله، كما أن الفساد ضده، والمراد هنا الصالحون في الجملة، أي غلب على أعمالهم الصلاح ليعم الدعاء أكبر عدد ممكن من المؤمنين. قال العيني: ولا يحصل الصلاح الحقيقي إلا في الآخرة، لأن الأحوال العاجلة وإن وصفت بالصلاح في بعض الأوقات لا تخلو من شائبة فساد وخلل ولا يصفو ذلك إلا في الآخرة، ومن ثم كانت هذه المرتبة مطلوبة للأنبياء والمرسلين قال تعالى في حق الخليل {وإنه في الآخرة لمن الصالحين} [البقرة: 130]. (فإذا قالها) أي فإذا قال أحدكم "وعلى عباد الله الصالحين" وهو كلام معترض بين "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" وبين "أشهد أن لا إله إلا الله" وإنما قدمت للاهتمام بها، لكنه أنكر عليهم عد الملائكة واحدا واحدا، ولا يمكن استيعابهم لهم مع ذلك، فعلمهم لفظا يشمل الجميع مع غير الملائكة من النبيين والمرسلين والصديقين وغيرهم بغير مشقة وهذا من جوامع الكلم. (أصابت كل عبد لله صالح في السماء والأرض) أي لحقت الدعوة وشملت كل عبد صالح في السماء والأرض، وفي رواية "أو بين السماء والأرض" بالشك من الرواي، وفي رواية "من أهل

السماء والأرض"، وقد استدل بقوله "أصابت كل عبد صالح" على أن الجمع المضاف والجمع المحلى بالألف واللام يفيد العموم، لقوله أولا "عباد الله الصالحين" ثم قال "أصابت كل عبد صالح" وقال القرطبي: فيه دليل على أن جمع التكسير للعموم. قال الحافظ ابن حجر: وفي هذه العبارة نظر. اهـ. (كفي بين كفيه) جملة معترضة. (أقرت الصلاة بالبر والزكاة) قالوا: معناه قرنت بها، وأقرت معهما وصار الجميع مأمورا به قال القاضي عياض: قيل: لعل اللفظ المروي قرنت؟ والتحقيق أنه "أقرت" والباء بمعنى "مع" أي أقرت مع البر والزكاة، فصارت معهما مستوية، وأحكامها واحدة، فهو بمعنى قرنت. (فلما قضى أبو موسى الصلاة) أي أداها، وانتهى منها. (انصرف) نحو القوم، وتحول بوجهه إليهم. (أيكم القائل كلمة كذا كذا؟ ) كذا كذا من كلام الراوي كناية عن كلام أبي موسى، ولو حكي بلفظه لقال أيكم القائل: أقرت الصلاة بالبر والزكاة؟ والاستفهام خبر مقدم، و"القائل" مبتدأ مؤخر. (فأرم القوم) بفتح الراء، وتشديد الميم، أي سكتوا. (لعلك يا حطان قلتها؟ ) تخصيصه "حطان" بالاتهام لعله لما يعلم من جسارته، أو لقربه منه، وصدور الصوت من جهته، أو لشبه الصوت بصوته، أو لصلته به مما لا يؤذيه اتهامه، ويدفع الفاعل الحقيقي إلى الاعتراف. (ولقد رهبت أن تبكعني بها) أي ولقد خشيت وخفت -قبل أن تتكلم- أن تتهمني وتوبخني بهذه الكلمة، وكأن حطان كان يتوقع اتهام أبي موسى له لما بينهما، أو لما عرف من حطان. "وتبكعني" بفتح التاء وسكون الباء وفتح الكاف، أي تستقبلني بالتوبيخ، من بكعت الرجل إذا استقبلته بما يكره وهو نحو التبكيت في الوجه. قال القاضي عياض: "تبكعني" رويناه عن الأكثر وهو عند الكثير "تنكتني" بالنون قبل الكاف المضمومة. اهـ وهو بمعنى تبكتني وتوبخني، وفي القاموس: النكت أن تضرب في الأرض بقضيب، فيؤثر فيها، ونكته ألقاه على رأسه. اهـ. (ثم ليؤمكم أحدكم) اللام لام الأمر، وإسكانها بعد الفاء والواو أكثر من تحريكها، وكسرها بعد "ثم" أكثر من سكونها، ورواية الحديث بالسكون كقوله تعالى: {ثم ليقضوا} [الحج: 29] في قراءة الكوفيين، قال ابن هشام: وفي ذلك رد على من قال: إنه خاص بالشعر. الفعل "يؤم" مجزوم، وحرك بالفتح للتخلص من التقاء الساكنين. (فقولوا: آمين) في القاموس: "آمين" بالمد والقصر، وقد يشدد الممدود، وعن الواحدي في

البسيط: اسم من أسماء الله تعالى، ومعناه: اللهم استجب، كما أن رويد وحيعل وهلم "أصوات سميت بها الأفعال التي هي: أمهل وأسرع وأقبل". اهـ. ولهذا البحث اللغوي تتمة في المباحث العربية في باب التسميع والتحميد والتأمين، ويأتي قريبا. (يجبكم الله) أي يستجب لكم دعاءكم. (فتلك بتلك) قال النووي: معناه اجعلوا تكبيركم للركوع وركوعكم بعد تكبيره وركوعه، وكذلك رفعكم من الركوع يكون بعد رفعه، ومعنى "تلك بتلك" أن اللحظة التي سبقكم بها الإمام في تقدمه إلى الركوع تنجبر لكم بتأخيركم الركوع بعد رفعه لحظة، فتلك اللحظة بتلك اللحظة، وصار قدر ركوعكم كقدر ركوعه، وقال مثل ذلك في السجود. اهـ. وقال الأبي: وقيل: الإشارة إلى ربط صحة الصلاة بالمتابعة أي صحة تلك الأفعال منكم بتلك المتابعة، وقيل: إلى ربط "آمين" بـ"ولا الضالين" و"ربنا ولك الحمد" بـ"سمع الله لمن حمده" أي تلك الكلمة أو الدعوة التي في السورة متعلقة بـ"آمين" وبـ"ربنا ولك الحمد" لارتباط إحداهما بمعنة الأخرى. اهـ. وكلام الإمام النووي أظهر وأقرب إلى القبول. (سمع الله لمن حمده) أي أجاب دعاء من حمده، ومعنى "يسمع الله لكم" يستجب دعاءكم، فالمراد من السمع لازمه غالبا، وهو الإجابة. (اللهم ربنا لك الحمد) قال النووي: هكذا هو هنا بلا واو، وفي غير هذا الموضع "ربنا ولك الحمد" بالواو، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة بإثبات الواو وبحذفها، وعلى إثبات الواو يكون قوله "ربنا" متعلقا بما قبله، تقديره: سمع الله لمن حمده، يا ربنا فاستجب حمدنا ودعاءنا، ولك الحمد على هدايتنا لذلك، ولهذا البحث تتمة في باب التسميع والتحميد والتأمين. فإن الله قضى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم "سمع الله لمن حمده" معناه: فإن الله وعد على لسان نبيه أن يسمع ويستجيب لمن حمده، أو فإن الله شرع على لسان نبيه هذه الجملة عند الرفع من الركوع. -[فقه الحديث]- اختلف العلماء في أفضل عبارة للتشهد على ثلاثة مذاهب: فمذهب الشافعي وبعض أصحاب مالك أن تشهد ابن عباس وهو الرواية الثالثة ولفظها (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن فكان يقول: التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله). وقال أبو حنيفة وأحمد وجمهور الفقهاء وأهل الحديث: تشهد ابن مسعود أفضل، وهو الرواية الأولى، ولفظها (كنا نقول في الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم: السلام على الله. السلام على فلان. فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: إن الله هو السلام، فإذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل: التحيات لله والصلوات والطيبات).

واختار مالك وأصحابه تشهد عمر، وقد أخرجه الطحاوي عن عبد الرحمن بن عبد القارئ أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعلم الناس التشهد على المنبر وهو يقول: قولوا: التحيات لله الزاكيات لله والصلوات لله. وتوجيه الشافعية لتفضيل تشهد ابن عباس أنه مناسب للفظ القرآني في قوله تعالى {تحية من عند الله مباركة طيبة} [النور: 61] وأن الزيادة فيه لا تنافي رواية ابن مسعود، وهي لفظ المباركات" وبأن أخذ ابن عباس للتشهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في الأخير. قال الشافعي: رويت أحاديث في التشهد مختلفة. وكان تشهد ابن عباس أحب إلي، لأنه أكملها. وقال في موضع آخر. وقد سئل عن اختياره تشهد ابن عباس. قال: لما رأيته واسعا وسمعته عن ابن عباس صحيحا، كان عندي أجمع وأكثر لفظا من غيره وأخذت به غير معنف لمن يأخذ بغيره مما صح. وتوجيه الحنفية والحنابلة ومن تابعهم لتفضيل تشهد ابن مسعود أنه أصح حديث في التشهد، فقد روي عن نيف وعشرين طريقا، وهو متفق عليه، ورواه الستة عنه، وإن رواته من الثقات لم يختلفوا في ألفاظه بخلاف غيره، فإن حديث ابن عباس لم يروه البخاري، وحديث عمر موقوف، وأنه يتفق مع ابن عباس في كونه تلقاه عن النبي صلى الله عليه وسلم، تلقينا، وروايتنا الثانية تقول "علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد -كفي بين كفيه- كما يعلمني السورة من القرآن" ورواية الطحاوي له "أخذت التشهد من في رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقننيه كلمة كلمة "بل يزيد عن ابن عباس ما جاء في رواية أحمد من حديث ابن مسعود "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه التشهد، وأمر أن يعلمه الناس" ولم ينقل ذلك لغيره، ففيه دليل على مزيته. ورجح أيضا بثبوت الواو في الصلوات والطيبات" التي تقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، فتكون كل جملة ثناء مستقلا، بخلاف ما إذا حذفت فإنها تكون صفة لما قبلها، وتعدد الثناء في العطف صريح، فتكون أولى. وتوجيه المالكية لتفضيل تشهد عمر أنه وإن كان موقوفا على عمر لكنه أفضل، لأنه علمه للناس على المنبر، ولم ينازعه أحد، فصار كالمجمع عليه، ودل ذلك على تفضيله، قال القاضي عياض: واختار مالك في الموطأ تشهد عمر رضي الله عنه الذي كان يعلمه الناس على المنبر، وهو وإن لم يكن مسندا فهو كالمسند، بل هو أرجح، فإن دوام تعليمه بمحضر من لا يقر على خطأ صيره كالمعلوم عنده. قال النووي في المجموع بعد أن ذكر هذه المذاهب وهذه الأحاديث وغيرها في ألفاظ التشهد، قال: فهذه الأحاديث الواردة في التشهد وكلها صحيحة، وأشدها صحة باتفاق المحدثين حديث ابن مسعود ثم حديث ابن عباس. ثم قال: وقد أجمع العلماء على جواز كل واحد منها. اهـ. وقال الحافظ ابن حجر: لا خلاف في أن ألفاظ التشهد الأول كألفاظ التشهد الأخير [يقصد الحد المذكور في أحاديث الباب] وكان ابن عمر لا يسلم في التشهد الأول، أي لا يقول: السلام عليك أيها النبي إلى الصالحين. اهـ. كما اختلف العلماء في أفضل تشهد اختلفوا في حكم التشهد الأول بعد الركعة الثانية من الصلاة الثلاثية والرباعية، وفي حكم التشهد الأخير.

فمن حكم التشهد الأول ذهب فقهاء الأمصار مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري وإسحق والليث وأبو ثور إلى أن التشهد الأول غير واجب. وذهب أحمد وداود إلى أنه واجب، وقد نقل هذا عن الليث وأبي ثور، قال أحمد: إن ترك التشهد عمدا بطلت صلاته، وإن تركه سهوا سجد للسهو وأجزأت صلاته. اهـ. وفي شرح الهداية، قراءة التشهد في القعدة الأولى واجبة عند أبي حنيفة، وهو المختار والصحيح، وقيل سنة وهو الأقيس. واستدل من قال بوجوبه بأنه صلى الله عليه وسلم فعله، وداوم عليه، وقال "صلوا كما رأيتموني أصلي" وأمر به حديث ابن عباس، بقوله "قولوا: التحيات لله" وجبره بسجود السهو حين نسيه، وقال في حديث لابن مسعود "إذا قعدتم في كل ركعتين فقولوا: التحيات" رواه النسائي. واحتجوا أيضا بأن الصلاة فرضت أولا ركعتين، وكان التشهد فيها واجبا؟ فلما زيدت لم تكن الزيادة مزيلة لذلك الواجب. كما احتجوا بأن من ترك الجلوس الأول بطلت صلاته. واحتج الجمهور بما رواه البخاري من أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر فقام من الركعتين الأوليين، لم يجلس. فقام الناس معه، حتى إذا قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه كبر وهو جالس. فسجد سجدتين قبل أن يسلم، ثم سلم. قالوا: لو كان واجبا لوجب عليه الرجوع إليه حين علم تركه، وقال ابن المنير: لو كان واجبا لسبحوا به ولم يسارعوا إلى الموافقة على الترك غفلة. اهـ ولو كان واجبا لما جبره بسجود السهو. قال التيمي: سجوده ناب عن التشهد والجلوس، ولو كانا واجبين لم ينب منابهما سجود السهو، كما لا ينوب عن الركوع وسائر الأركان. اهـ وقال ابن بطال: والدليل على أن سجود السهو لا ينوب عن الواجب أنه لو نسي تكبيرة الإحرام لم تجبر، فكذلك التشهد. اهـ. وأجابوا عن الأمر به في حديث ابن عباس وابن مسعود بأن الأمر للاستحباب لا للوجوب جمعا بين الأدلة، وعن حديث "صلوا كما رأيتموني أصلي": بأنه متناول للفرض والنفل، وقد قامت دلائل على تميزهما، أما عن قولهم: إن الصلاة فرضت أولا ركعتين إلخ فقد أجيب بأن الزيادة لم تتعين في الأخيرتين، بل يحتمل أن يكونا هما الفرض الأول، والمزيد هما الركعتان الأوليان بتشهدهما، ويؤيده استمرار السلام بعد التشهد الأخير كما كان. وأما عن قولهم: من تعمد ترك الجلوس الأول بطلت صلاته فقد أجيب بأن من لا يوجبه لا يقول ببطلان الصلاة بترك الجلوس، والله أعلم. وعن حكم التشهد الأخير قال الشافعي: إنه فرض، لكن قال: لو لم يزد رجل على قوله التحيات لله. سلام عليك أيها النبي إلخ كرهت ذلك له، ولم أر عليه إعادة. اهـ. فالتشهد والجلوس له فرضان عند الشافعية، لا تصح الصلاة إلا بهما، وبه قال الحسن البصري وأحمد وإسحق وداود، واحتجوا بحديث ابن مسعود في رواية الدارقطني والبيهقي وفيها: كنا نقول

قبل أن يفرض علينا التشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام على الله .... " الحديث وبروايتنا الأولى وفيها "فليقل التحيات" وهذا أمر، والأمر للوجوب ولم يثبت شيء صريح في خلافه، قال الشافعية: ولأن التشهد شبيه بالقراءة، لأن القيام والقعود لا تتميز العبادة منها عن العادة، فوجب فيما ذكر ليتميز بخلاف الركوع والسجود. وقال أبو حنيفة ومالك: الجلوس بقدر التشهد واجب، ولا يجب التشهد. قال النووي: في المجموع: وحكى الشيخ أبو حامد عن علي بن أبي طالب والزهري والنخعي ومالك والأوزاعي والثوري أنه لا يجب التشهد الأخير ولا جلوسه، إلا أن الزهري ومالكا والأوزاعي قالوا لو تركه سجد للسهو وعن مالك رواية كأبي حنيفة، والأشهر عنه أن الواجب الجلوس بقدر السلام فقط. واحتج من لا يوجب التشهد بحديث المسيء صلاته، وبحديث عبد الله بن عمرو بن العاص، قال "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا قعد الإمام في آخر صلاته، ثم أحدث قبل أن يتشهد فقد تمت صلاته" وفي رواية "ثم أحدث قبل أن يسلم فقد تمت صلاته"، رواه أبو داود والترمذي والبيهقي وغيرهم وألفاظهم مختلفة. قالوا: وقياسا على التشهد والتسبيح للركوع. وأجاب الجمهور عن حديث المسيء صلاته بأنه لم يذكره له لأنه كان معلوما عنده، ولهذا لم يذكر له النية -وقد أجمعنا على وجوبها- ولم يذكر القعود للتشهد -وقد وافق أبو حنيفة على وجوبه- ولم يذكر السلام، وقد وافق مالك والجمهور على وجوبه. وأجابوا عن حديث عبد الله بن عمرو بأنه ضعيف باتفاق الحفاظ وعن القياس على التشهد الأول بأن النبي صلى الله عليه وسلم جبر تركه بالسجود ولو كان فرضا لم يجبر، قال إمام الحرمين: ولم يزل المسلمون يجبرون الأول بالسجود دون الثاني وعن القياس على التسبيح في الركوع بما سبق بيانه في الفرق بين القيام والقعود وبين الركوع والسجود. والله أعلم. أما السلام على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى عباد الله الصالحين في التشهد فعنه يقول النووي: واعلم أن السلام الذي في قوله "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" يجوز فيه حذف الألف واللام فيقال سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، ولا خلاف في جواز الأمرين هنا ولكن الألف واللام أفضل، وهو الموجود في روايات صحيحي البخاري ومسلم، وأما الذي في آخر الصلاة وهو سلام التحلل، فاختلف أصحابنا فيه، فمنهم من جوز الأمرين فيه، ويقول: الألف واللام، أفضل، كما هنا ومنهم من أوجب فيه الألف واللام، لأنه لم ينقل إلا بالألف واللام، ولأنه تقدم ذكره في التشهد، فينبغي أن يعيده بالألف واللام وليعود التعريف إلى سابق كلامه. اهـ. وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد فسيأتي حكمها ولفظها في الباب التالي، إن شاء الله تعالى.

وفي صفة قعدة التشهد اختلف العلماء، فذهب مالك إلى أن المصلي ينصب رجله اليمنى، ويثني رجله اليسرى ويقعد بالأرض، في القعدة الأولى وفي الأخيرة وفي القعدة بين السجدتين، قال العيني: وهذا هو التورك الذي ينقل عن مالك، وفي الجواهر، المستحب في الجلوس كله الأول والأخير وبين السجدتين أن يكون توركا. اهـ ولزيادة الإيضاح في صفة التورك نقول: إنه ينصب رجله اليمنى خارجة إلى اليمين من قعدته، ويضع أطراف أصابعها على الأرض موجهة إلى القبلة، ويفرش رجله اليسرى على جنبها الأيسر، ويخرجها من تحته إلى يمين قعدته، من تحت رجله اليمنى المنتصبة، ويجلس بوركه الأيسر على الأرض وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن السنة أن يفرش رجله اليسرى، ويجلس عليها، وينصب اليمنى نصبا في القعدتين جميعا، وهو المسمى بالافتراش، وهو سنة الجلوس في الصلاة عند أبي حنيفة في جميع جلسات الصلاة. وقال الشافعي: السنة أن يجلس كل الجلسات مفترشا إلا التي يعقبها السلام، فإنه يجلس متوركا. قال النووي: فلو كان مبسوقا، وجلس إمامه في آخر صلاته متوركا جلس المسبوق مفترشا، لأن جلوسه لا يعقبه سلام، ولو كان على المصلي سجود سهو، فالأصح أنه يجلس مفترشا في تشهده فإذا سجد سجدتي السهو تورك، ثم سلم. هذا تفصيل مذهب الشافعي. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: وقد قيل في حكمة المغايرة بين جلستي التشهدين: إنه أقرب إلى تذكر الصلاة وعدم اشتباه عدد الركعات، ولأن الأول تعقبه حركة بخلاف الثاني، ولأن المسبوق إذا رأى هيئة السابق علم قدر ما سبق. اهـ قال النووي في المجموع، ولأن السنة تخفيف التشهد الأول، فيجلس مفترشا ليكون أسهل للقيام، والسنة تطويل الثاني ولا قيام بعده، فيجلس متوركا ليكون أعون له، وأمكن ليتوفر الدعاء. اهـ. واختلف قول أحمد، والمشهور عنه أنه إن كانت الصلاة ركعتين افترش، وإن كانت أربعا أو ثلاثا افترش في الأول وتورك في الثاني. ولكل من هذه المذاهب أدلة ترجيح تأتي بعد ستة وعشرين بابا في باب "صفة الصلاة". أما جلوس المرأة في الصلاة فإنه كجلوس الرجل عند الجمهور من العلماء وبه قال الشافعية والحنفية والمالكية، وعن مالك أنها تجلس على وركها الأيسر، وتضع فخذها الأيمن على الأيسر، وتضم بعضها إلى بعض قدر طاقتها، ولا تفرج في ركوع ولا سجود ولا جلوس، بخلاف الرجل. وقال قوم: تجلس كيف شاءت إذا تجمعت، وبه قال عطاء والشعبي. وكانت صفية -رضي الله عنها- تصلي متربعة، ونساء ابن عمر كن يفعلنه والله أعلم. قال النووي: وصلاة النفل كصلاة الفرض في الجلوس، وعن بعضهم التربع في النافلة، والصواب الأول، وقال: ثم هذه الهيئة مسنونة، فلو جلس في الجميع مفترشا، أو متوركا، أو متربعا، أو مقعيا أو مادا رجليه، صحت صلاته وإنه كان مخالفا. اهـ والإقعاء أن يرجع على صدور قدميه، ويمس عقبه بإليتيه.

وقال ابن عبد البر: اختلفوا في التربع في النافلة وفي الفريضة للمريض فأما الصحيح فلا يجوز له التربع في الفريضة بإجماع العلماء، قال العيني: وهذا يشعر بتحريمه عنده، ولكن المشهور عند أكثر العلماء أن هيئة الجلوس في التشهد سنة. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: لعل ابن عبد البر أراد بنفي الجواز إثبات الكراهية. اهـ. هذا وللقعود في الصلاة زيادة بسط في باب صفة الصلاة الآتي بعد ستة وعشرين بابا، والله أعلم. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - استحباب الدعاء بعد التشهد، والدعاء في قوله "ثم يتخير من المسألة ما شاء" ورد في البخاري بصيغة الأمر، ولفظه "ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه" قال ابن رشد: ليس التخيير في آحاد الشيء بدال على عدم وجوبه، فقد يكون أصل الشيء واجبا، ويقع التخيير في وصفه. قال الزين ابن المنير: ادعى بعضهم الإجماع على عدم الوجوب، وفيه نظر فقد روي عن طاوس ما يدل على أنه يرى وجوب الاستعاذة المأمور بها في حديث أبي هريرة الوارد في مسلم مرفوعا ولفظه "إذا فرغ أحدكم من التشهد ليتعوذ بالله" وبه قال أهل الظاهر، وأفرط ابن حزم، فقال بوجوبها في التشهد الأول أيضا. وقال ابن المنذر: لولا حديث ابن مسعود "ثم ليتخير من الدعاء" لقلت بوجوبها. اهـ. 2 - استدل بالحديث على جواز الدعاء في الصلاة بما اختار المصلي من أمر الدنيا والآخرة. قال ابن بطال: خالف في ذلك النخعي وطاوس وأبو حنيفة فقالوا: لا يدعو في الصلاة إلا بما يوجد في القرآن. قال الحافظ ابن حجر: كذا أطلق هو ومن تبعه عن أبي حنيفة، والمعروف في كتب الحنفية أنه لا يدعو في الصلاة إلا بما جاء في القرآن أو ثبت في الحديث، وعبارة بعضهم "ما كان مأثورا" قال قائلهم: والمأثور أعم من أن يكون مرفوعا أو غير مرفوع، لكن ظاهر حديث الباب يرد عليهم، وكذا يرد على ابن سيرين في قوله: لا يدعو في الصلاة إلا بأمر الآخرة، واستثنى بعض الشافعية ما يقبح من أمر الدنيا، فإن أراد الفاحش من اللفظ فمحتمل، فلا شك أن الدعاء بالأمور المحرمة مطلقا لا يجوز. اهـ. [ومراد الشافعية بما يقبح من أمر الدنيا نحو قوله: اللهم أعطني امرأة جميلة عينها كذا، وشعرها كذا، وخصرها كذا. إلخ، وهذا في خارج الصلاة غير محرم لكنه غير مستساغ]. وقال الكرماني: قالت الشافعية: يجوز الدعاء في الصلاة بما يشاء من أمر الدنيا والآخرة؛ ما لم يكن إثما، قال ابن عمر: إني لأدعو في صلاتي حتى بشعير حماري وملح بيتي. اهـ. واستدل الحنفية بحديث "إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" ويجاب عنه بأن المراد من كلام الناس غير الدعاء، فالدعاء والتوجه إلى الله بطلبه من قبيل العبادة، ولا شك أن الدعاء بالوارد والمأثور أفضل. وقد ورد فيما يقال بعد التشهد أخبار. قال الحافظ ابن حجر من أحسنها ما رواه سعيد بن منصور وأبو بكر بن أبي شيبة من طريق عمير بن سعد قال: "كان عبد الله [يعنى ابن مسعود] يعلمنا التشهد في الصلاة ثم يقول

إذا فرغ أحدكم من التشهد فليقل: اللهم إني أسألك من الخير كله ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله، ما علمت منه وما لم أعلم، اللهم إني أسألك من خير ما سألك منه عبادك الصالحون، وأعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبادك الصالحون. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. قال: ويقول: لم يدع نبي ولا صالح بشيء إلا دخل في هذا الدعاء. اهـ. وقد ورد في صحيح البخاري عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات. اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم، فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم، فقال: إن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف، قال الحافظ ابن حجر: الذي يظهر لي أن البخاري أشار [حيث ذكر هذا الحديث تحت باب "الدعاء قبل السلام"] إلى ما ورد في بعض الطرق من تعيينه بهذا المحل، فقد روي بلفظ "إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير، فذكر الحديث، فهذا فيه تعيين هذه الاستعاذة بعد الفراغ من التشهد فيكون سابقا على غيره من الأدعية، وما ورد الإذن فيه أن المصلي يخير من الدعاء ما شاء بعد هذه الاستعاذة، وقبل السلام. اهـ. ومن الأدعية المأثورة ما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم "علمني دعاء أدعو به في صلاتي. فقال: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم". 3 - وفي الرواية الرابعة أمر بإقامة الصفوف. قال النووي: وهو مأمور به بإجماع الأمة، وهو أمر ندب، والمراد تسويتها، والاعتدال فيها، وتتميم الأول فالأول منها، والتراص فيها، وسيأتي بسط الكلام فيها بعد تسعة أبواب إن شاء الله. 4 - استدل الجمهور بروايات الحديث على أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير ليست واجبة، وخالف في ذلك الشافعي وأحمد وبعض أصحاب مالك، وسيأتي إيضاح المسألة في الباب الآتي إن شاء الله. 5 - استدل بقوله "ثم ليؤمكم أحدكم" على وجوب صلاة الجماعة، وقد اختلف العلماء في أنه أمر ندب أو أمر إيجاب على أربعة مذاهب حكاها النووي، فقال: الراجح في مذهبنا، وهو نص الشافعي -رحمه الله تعالى- وقول أكثر أصحابنا أنها فرض كفاية، إذا فعله من يحصل به إظهار هذا الشعار سقط الحرج عن الباقين، وإن تركوه كلهم أثموا كلهم، وقالت طائفة من أصحابنا: هي سنة، وقال ابن خزيمة من أصحابنا: فرض عين، لكن ليست بشرط، فمن تركها وصلى منفردا بلا عذر أتم وصحت صلاته، وقال بعض أهل

الظاهر: هي شرط لصحة الصلاة، وقال بكل قول من الثلاثة المتقدمة طوائف من العلماء، وستأتي المسألة في بابها بعد أربعة وسبعين بابا إن شاء الله. 6 - استدل بقوله "فإذا كبر فكبروا" على وجوب كون تكبيرة الإحرام للمأموم عقب تكبيرة الإمام، قال النووي: ويتضمن الأمر مسألتين: إحداهما أنه لا يكبر قبله ولا معه، بل بعده، فلو شرع المأموم في تكبيرة الإحرام ناويا الاقتداء بالإمام، وقد بقي للإمام منها حرف لم يصح إحرام المأموم بلا خلاف لأنه نوى الاقتداء بمن لم يصر إماما بل بمن سيصير إماما إذا فرغ من التكبير، والثانية أنه يستحب كون تكبيرة المأموم عقيب تكبيرة الإمام، ولا يتأخر، فلو تأخر جاز، وفاته كمال الفضيلة. 7 - وفيه وجوب متابعة المأموم للإمام في الركوع والسجود وغيرهما من أفعال الصلاة، وسيأتي بسط المسألة بعد بابين إن شاء الله. 8 - قال النووي: وفيه دلالة ظاهرة لما قاله أصحابنا وغيرهم أن تأمين المأموم يكون مع تأمين الإمام، لا بعده فإذا قال الإمام، ولا الضالين، قال الإمام والمأموم معا آمين. وتأولوا قوله صلى الله عليه وسلم، إذا أمن الإمام فأمنوا، قالوا: معناه إذا أراد التأمين ليجمع بينه وبين هذا الحديث. اهـ. وستأتي المسألة بعد باب واحد إن شاء الله. 9 - وفيه حث عظيم على التأمين، فيتأكد الاهتمام به. 10 - قال النووي: وفيه دلالة لما قاله أصحابنا وغيرهم: أنه يستحب للإمام الجهر بقوله سمع الله لمن حمده. وحينئذ يسمعونه، فيقولون. اهـ. 11 - قال وفيه دلالة لمذهب من يقول: لا يزيد المأموم على قوله ربنا ولك الحمد، ولا يقول مع الإمام: سمع الله لمن حمده، ومذهبنا أنه يجمع بينهما الإمام والمأموم والمنفرد، لأنه ثبت أنه صلى الله عليه وسلم جمع بينهما وسيأتي بسط الكلام فيه بعد باب واحد إن شاء الله. 12 - استدل جماعة بقوله "وإذا كان عند القعدة فليكن من أول قول أحدكم التحيات" على أنه يقول في أول جلوسه: التحيات، ولا يقول: بسم الله وليس هذا الاستدلال بواضح، لأنه قال "فليكن من أول" ولم يقل. فليكن أول. اهـ. 13 - استدل الأبي بقوله "فأقيموا صفوفكم، ثم ليؤمكم أحدكم" على أن الإمام لا يتقدم إلا بعد إقامة الصفوف. وفيه نظر. 14 - في قوله "وإذا قرأ فأنصتوا" حجة لمنع قراءة المأموم مع الإمام في الجهرية، وقد سبق بيانه. (فائدة) قال النووي في المجموع: أجمع العلماء على الإسرار بالتشهدين، وكراهة الجهر بهما، واحتجوا بحديث ابن مسعود قال "من السنة أن يخفى التشهد" رواه أبو داود والترمذي والحاكم في المستدرك، وقال: حسن صحيح على شرط البخاري ومسلم، قال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم.

(164) باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد

(164) باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد 734 - عن أبي مسعود الأنصاري قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس سعد بن عبادة فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله تعالى أن نصلي عليك يا رسول الله فكيف نصلي عليك؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد والسلام كما قد علمتم". 735 - عن ابن أبي ليلى قال لقيني كعب بن عجرة فقال ألا أهدي لك هدية خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا قد عرفنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ قال: "قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد". مثله. 736 - عن الحكم بهذا الإسناد مثله غير أنه قال "وبارك على محمد ولم يقل اللهم". 737 - عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أنهم قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ قال "قولوا اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد".

738 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشرا". -[المعنى العام]- علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه التشهد كما يعلمهم السورة من القرآن، ومما علمهم فيه قوله "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" وعرف الصحابة مشروعية السلام على نبيهم صلى الله عليه وسلم في التشهد، وواظبوا عليه ونزل قوله تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} [الأحزاب: 56] وتأكدوا أن للصلاة عليه صيغة مشروعة، قياسا على علمهم بصيغة مخصوصة للسلام عليه، فما إن اجتمع بهم بعد نزول الآية حتى سألوه: يا رسول الله، هذا السلام عليك قد عرفناه، وقد أمرنا الله بالصلاة عليك، فكيف نصلي عليك في صلاتنا؟ وسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن أمر بعد بصيغة معينة، وانتظر الوحي، وظن الصحابة أنهم بذلك السؤال أخطئوا، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرض عنه. وكان شأنه صلى الله عليه وسلم السكوت عند رؤية أو سماع ما لا يرضي، تألم الصحابة، ولاموا أنفسهم، ونظر بعضهم إلى بعض آسفا ومعاتبا، وكان الوحي: وكان جواب الرسول صلى الله عليه وسلم قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. وبهذه الصلاة يدعو المؤمن لنبيه صلى الله عليه وسلم، ويكافئه على أن نصح الأمة وكشف الغمة، وأنار بدعوته قلوب أتابعه، ورسم لهم الطريق المستقيم، طريق الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، جاءهم بالهدى ودين الحق، وهداهم إلى طريق الجنة، وإلى السعادة الأبدية، بهذه الصلاة ينال المسلم عشر رحمات، وعشر صلوات من أكرم الأكرمين، ينال المسلم بالصلاة الواحدة عشر صلوات، ويكتب له بها عشر حسنات، ويمحي عنه بها عشر سيئات، ويرفع بها عشر درجات فما أجزل الأجر الكبير على اللفظ الصغير، وما أسهل طريق الثواب الجزيل. -[المباحث العربية]- (فقال له بشير بن سعد) ذكر هذا الاسم بعد ذكر "ونحن في مجلس سعد بن عبادة، قد يوهم أن بشير بن سعد بن عبادة، ولكنه والد النعمان بن بشير بن سعد بن ثعلبة بن الجلاس الخزرجي، وبشير هذا صحابي شهير من أهل بدر وشهد غيرها، وهو صاحب الحديث المشهور في تفضيل بعض الأولاد على بعض، توفي في خلافة أبي بكر. (أمرنا الله تعالى أن نصلي عليك يا رسول الله) يشير إلى أمر الله تعالى في قوله: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما}

(فكيف نصلي عليك)؟ "كيف" اسم استفهام حال مقدم، والفاء في جواب شرط مقدر، أي إذا كان الله قد أمر بالصلاة عليك فكيف نصلي عليك؟ قال الحافظ ابن حجر: اختلف في المراد بقولهم: كيف؟ فقيل: المراد السؤال عن معنى الصلاة المأمور بها، بأي لفظ تؤدى؟ وقيل: عن صفتها، لا عن جنسها، لأن لفظ "كيف" ظاهر في الصفة، وأما الجنس فيسأل عنه بلفظ "ما" وبه جزم القرطبي فقال: هذا سؤال من أشكلت عليه كيفية ما فهم أصله، وذلك أنهم عرفوا المراد بالصلاة، فسألوا عن الصفة التي تلبق بها ليستعملوها. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: والحامل لهم على هذا السؤال أن السلام لما تقدم بلفظ مخصوص، وهو "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" فهموا منه أن الصلاة أيضا تقع بلفظ مخصوص، وعدلوا عن القياس، لإمكان الوقوف على النص، ولا سيما في ألفاظ الأذكار، فإنها تجيء خارجة عن القياس غالبا، فوقع الأمر كما فهموا، فإنه لم يقل لهم: قولوا الصلاة عليك أيها النبي، ولا تقولوا: الصلاة والسلام عليك إلخ، بل علمهم صيغة أخرى. (فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله) معناه كرهنا سؤاله مخافة أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كره سؤاله، وشق عليه، وذلك لما تقرر عندهم من النهي عن ذلك، بقوله تعالى: {لا تسألوا عن أشياء إن تبدلكم تسؤكم} [المائدة: 101] ووقع عند الطبري من وجه آخر في هذا الحديث "فسكت حتى جاءه الوحي فقال ... ". (قولوا: اللهم صل على محمد) "اللهم" كثر استعمالها في الدعاء، وهي بمعنى يا الله، والميم عوض عن حرف النداء، وصلاة الله على نبيه صلى الله عليه وسلم ثناؤه عليه عند ملائكته وتعظيمه، وصلاة الملائكة وغيرهم عليه طلب ذلك له من الله تعالى، والمراد طلب الزيادة، لا طلب أصل الثناء والتعظيم، قال الحليمي: معنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تعظيمه، فمعنى قولنا: اللهم صل على محمد: عظم محمدا والمراد تعظيمه في الدنيا بإعلاء ذكره، وإظهار دينه وإبقاء شريعته، وفي الآخرة بإجزال مثوبته وتشفيعه في أمته، وإبداء فضيلته بالمقام المحمود، وعلى هذا فالمراد بقوله تعالى {صلوا عليه} ادعوا ربكم بالصلاة عليه. اهـ. وصلاة الملائكة عليه في قوله تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي} كصلاتنا عليه، أي طلب تعظيمه والثناء عليه صلى الله عليه وسلم. (وعلى آل محمد) صلاة الله على آل محمد رحمته لهم، وهي من قبيل صلاته جل شأنه على غير الأنبياء من عباده، في قوله تعالى: {هو الذي يصلي عليكم وملائكته} [الأحزاب: 43] فدعاؤنا بالصلاة على آل محمد دعاؤنا لهم بالرحمة. وقيل معنى صلاة الله على عباده عموما ثناؤه عليهم. وتعظيمه لهم، فالصلاة على الآل، وعلى الأزواج والذرية، وعلى المتقين من المؤمنين من هذا القبيل، ولا يمتنع أن يدعي لهؤلاء بالثناء والتعظيم، كما يدعي للرسول صلى الله عليه وسلم، فإن تعظيم كل أحد بحسب ما يليق به.

و"آل" قيل: أصلها "أهل" قلبت الهاء همزة، ثم سهلت، ولهذا إذا صغر رد إلى الأصل، فقيل: أهيل. وقيل: بل أصله "أول" من "آل" بمعنى رجع، سمي بذلك من يئول إلى الشخص، ويضاف إليه، وقد يطلق آل فلان على نفسه وعلى من يضاف إليه جميعا، وضابطه أنه إذا قيل: فعل آل فلان كذا دخل هو فيهم إلا بقرينة، ومن شواهده قوله صلى الله عليه وسلم "إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة" وإن ذكروا معا فلا، ومنه رواية "إن هذه الصدقة أوساخ الناس وأنها لا تحل لمحمد ولا آل محمد" واختلف في المراد بآل محمد صلى الله عليه وسلم في حديث الباب، والراجح أنهم من حرمت عليهم الصدقة، وهم بنو هاشم وبنو المطلب على أرجح أقوال العلماء، وهذا ما نص عليه الشافعي، واختاره الجمهور وقيل: المراد بآل محمد أزواجه وذريته، ويساعده أن الرواية الأولى والثانية لفظها "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد" وفي الرواية الثالثة لفظها "اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته" فدل على أن المراد بالآل الأزواج والذرية، وتعقب بأنه ثبت الجمع بين الثلاثة، فالمراد بالآل في التشهد من حرمت عليهم الصدقة والأزواج والذرية منه، وأفردوا بالذكر تنويها بشأنهم وقيل: المراد بالآل الذرية، أي فاطمة خاصة وذريتها، حكاه النووي، وهو قول يميل نحو التشيع، وقيل: جميع أمة الإجابة، وقد مال إلى ذلك مالك واختاره الأزهري وحكي عن بعض الشافعية، ورجحه النووي في شرح مسلم، وقيده القاضي حسين والراغب بالأتقياء منهم. والله أعلم. (كما صليت على آل إبراهيم) جميع روايات الباب، كما صليت على آل إبراهيم، بذكر الآل. وقد سبق القول: أن آل فلان يطلق على نفسه وعلى من يضاف إليه، فالمراد إبراهيم وآله، أي ذريته من إسماعيل وإسحق، أي المسلمون منهم، بل المتقون، فيدخل فيهم الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون، دون من عداهم، وفيه ما تقدم في آل محمد صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ ابن حجر: اشتهر السؤال عن موقع التشبيه مع أن المقرر أن المشبه دون المشبه به، والواقع هنا عكسه، لأن محمدا صلى الله عليه وسلم وحده أفضل من آل إبراهيم، ومن إبراهيم، ولا سيما وقد أضيف إليه آل محمد، وقضية كونه أفضل أن تكون الصلاة المطلوبة أفضل من كل صلاة حصلت أو تحصل لغيره، وأجيب عن ذلك بأجوبة. الأول: أنه قال ذلك قبل أن يعلم أنه أفضل من إبراهيم، وتعقب بأنه لو كان كذلك لغير لهم صفة الصلاة المطلوبة بعد أن علم أنه أفضل. الثاني: أنه قال ذلك تواضعا، وشرع ذلك لأمته ليكتسبوا بذلك الفضيلة. الثالث: أن التشبيه إنما هو لأصل الصلاة، لا للقدر بالقدر فهو كقوله تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح} [النساء: 163]، وقوله {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم} [البقرة: 183] وكقولك: أحسن إلى ولدك كما أحسنت إلى فلان، تريد بذلك أصل الإحسان، لا قدره. ورجح هذا الجواب القرطبي. الرابع: أن المراد أن يجعله خليلا، كما جعل إبراهيم خليلا، وأن يجعل له لسان صدق في الآخرين

كما جعل لإبراهيم، وذلك بالإضافة إلى ما حصل لمحمد صلى الله عليه وسلم من المحبة. وقربه بعضهم بأنه مثل رجلين يملك أحدهما ألفا، ويملك الآخر ألفين، فسأل صاحب الألفين أن يعطي ألفا أخرى نظير الذي أعطيها الأول، فيصير المجموع للثاني أضعاف ما للأول. الخامس: أن قوله "اللهم صل على محمد" مقطوع عن التشبيه، فيكون التشبيه متعلقا بقوله "وعلى آل محمد" واستبعده ابن القيم. السادس: أن التشبيه إنما هو المجموع بالمجموع، فإن في الأنبياء من آل إبراهيم كثرة، فإذا قوبلت تلك الذوات الكثيرة من إبراهيم وآل إبراهيم بالصفات الكثيرة التي لمحمد أمكن انتفاء التفاضل. قال الحافظ ابن حجر: ويعكر على هذا الجواب أنه وقع في بعض روايات البخاري مقابلة الاسم فقط، ولفظه: "اللهم صل على محمد كما صليت على إبراهيم". السابع: رد قاعدة أن المشبه به يكون أرفع من المشبه، بأن ذلك ليس مطردا، بل قد يكون التشبيه بالمثل، بل وبالدون، كما في قوله تعالى: {مثل نوره كمشكاة} [النور: 35]. قال ابن القيم -بعد أن زيف أكثر الأجوبة إلا تشبيه المجموع بالمجموع- وأحسن منه أن يقال هو صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم وقد ثبت ذلك عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين} [آل عمران: 33] قال محمد من آل إبراهيم فكأنه أمرنا أن نصلي على محمد وعلى آل محمد خصوصا بقدر ما صلينا عليه مع إبراهيم وآل إبراهيم عموما، فيحصل لآله ما يليق بهم، ويبقى الباقي كله له، وذلك القدر أزيد مما لغيره من آل إبراهيم قطعا، ويظهر حينئذ فائدة التشبيه وأن المطلوب له بهذا اللفظ أفضل من المطلوب بغيره من الألفاظ. انتهى من فتح الباري مع بعض التصرف. (وبارك على محمد) المراد من البركة هنا الزيادة من الخير والكرامة وقيل: المراد التطهير من العيوب والتزكية. وقيل: المراد إثبات ذلك وتثبيته واستمراره من قولهم: بركت الإبل، أي ثبتت على الأرض، وبه سميت بركة الماء -بكسر الباء وسكون الراء- لإقامة الماء فيها. والحاصل أن المطلوب أن يعطي من الخبر أوفاه، وأن يثبت ذلك ويستمر دائما. (في العالمين) قيل: هم أصناف الخلق، وقيل: ما حواه بطن الفلك، وقيل كل محدث، وقيل: ما فيه روح، وقيل: العقلاء مما فيه روح، وقيل الإنس والجن فقط. (إنك حميد مجيد) "حميد" فعيل من الحمد، بمعنى محمود، وأبلغ منه، وهو من حصل له من صفات الحمد أكملها، وقيل: هو بمعنى الحامد، أي يحمد أفعال عباده، وأما "مجيد" فهو من المجد، وهو صفة من كمل في الشرف، وهو مستلزم للعظمة والجلال، كما أن الحمد يدل على صفة الإكرام، ومناسبة ختم هذا الدعاء بهذين الاسمين العظيمين أن المطلوب تكريم الله لنبيه، وثناؤه عليه، والتنويه به وزيادة تقريبه، وذلك مما يستلزم طلب الحمد والمجد، ففي ذلك إشارة إلى أنهما كالتعليل للمطلوب، أو هو كالتذييل له، والمعنى أنك فاعل ما تستوجب به الحمد من النعم المترادفة، كريم بكثرة الإحسان إلى جميع عبادك. ذكره الحافظ ابن حجر.

(والسلام كما قد علمتم) معناه قد أمركم الله تعالى بالصلاة والسلام علي، فأما الصلاة علي فهذه صفتها، وأما السلام علي فكما علمتم في التشهد وهو السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، ولفظ "كما قد علمتم" روي بفتح العين وكسر اللام المخففة وروي بضم العين وتشديد اللام، أي علمتكموه. قال النووي: وكلاهما صحيح. (ألا أهدي لك هدية؟ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم) في هذا السياق إضمار، تقديره: قال ابن أبي ليلى: نعم، وقد وقع ذلك صريحا في بعض الروايات "قال: قلت: بلى" وفي بعضها "فقلت: بل اهدها لي". (فقلنا: قد عرفنا كيف نسلم عليك) قال الفكهاني: الظاهر أن السؤال صدر من بعضهم، لا من جميعهم، ففيه التعبير عن البعض بالكل، ثم قال: ويبعد جدا أن يكون كعب هو الذي باشر السؤال منفردا فأتى بالنون التي للتعظيم، بل لا يجوز ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب بقوله "قولوا" فلو كان السائل واحدا لقال له: قل، ولم يقل: قولوا. اهـ. وهو كلام حسن من حيث إن الصحابي لا يأتي بالنون التي للتعظيم، ولكنه لا يمنع أن يكون السائل واحدا، ويأتي بالنون لبيان أن السؤال كان له ولغيره، فهو قائل لفظا، وغيره قائلون حكما، أي قد عرفت أنا وغيري كيف نسلم عليك، وهذا هو الظاهر. والمستبعد أن يسأل جماعة في وقت واحد بلفظ واحد. إذ ليس ذلك من الأدب ولا من النظام في شيء، بل يصح أن يكون كعب بن عجرة قائلا حكما. والناطق غيره، نعم رواية الطبري، ولفظها "قمت إليه، فقلت: السلام عليك قد عرفناه، فكيف الصلاة عليك يا رسول الله؟ ترجح أنه المتلفظ بالسؤال، أما الرواية الأولى، ولفظها "فقال له ابن سعد ... " فإنها تفيد أن المتلفظ بالسؤال بشير، فإن صحت الروايتان، ولم ترجح روايتنا على رواية الطبري قلنا بتعدد المجالس والسؤال فإن كان في مجلس واحد قلنا: إن أحدهما سأل أولا وأيده الثاني بتأكد السؤال وإعادته والله أعلم. -[فقه الحديث]- لخص الحافظ ابن حجر مذاهب العلماء في حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرة مذاهب. أولها: قول ابن جرير الطبري إنها من المستحبات مطلقا. وادعى الإجماع على ذلك. ثانيها: أنها تجب في الجملة بغير حصر. نقل ابن القصار فيه الإجماع [ولعل مراده بالإجماع هو وابن جرير إجماع أصحاب كل منهما، لا إجماع الأمة]. ثالثها: تجب في العمر مرة، في صلاة أو غيرها، وهي مثل كلمة التوحيد قاله أبو بكر الرازي من الحنفية، وابن حزم وغيرهما، وقال القرطبي المفسر: لا خلاف في وجوبها في العمر مرة، وأنها واجبة في كل حين وجوب السنن المؤكدة. رابعها: يجب الإكثار منها من غير تقييد بعدد. قاله أبو بكر بن بكير من المالكية.

خامسها: تجب في كل مجلس مرة، ولو تكرر ذكره مرارا، حكاه الزمخشري. سادسها: تجب في كل دعاء، حكاه الزمخشري أيضا. سابعها: تجب كلما ذكر، قاله الطحاوي وجماعة من الحنفية والحليمي وجماعة من الشافعية، وقال ابن العربي من المالكية، إنه الأحوط، وكذا قال الزمخشري. ثامنها: تجب في الصلاة من غير تعيين المحل، نقل ذلك عن أبي جعفر الباقر. تاسعها: تجب في التشهد، وهو قول الشعبي وإسحق بن راهويه. عاشرها: تجب في القعود آخر الصلاة، بين قول التشهد وسلام التحلل، قاله الشافعي. ومن تبعه. اهـ والذي يعنينا في هذا المقام حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، بين التشهد وسلام التحلل، وقد أجمل النووي مذاهب العلماء فيها فقال: ذهب أبو حنيفة ومالك -رحمهما الله تعالى- والجماهير إلى أنها سنة، ولو تركت صحت الصلاة. وذهب الشافعي وأحمد -رحمهما الله تعالى- إلى أنها واجبة، ولو تركت لم تصح الصلاة، قال: وقد نسب جماعة الشافعي -رحمه الله تعالى- في هذا إلى مخالفة الإجماع، ولا يصح قولهم هذا، فإنه مذهب الشافعي، وهو مروي عن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله رضي الله عنهما. اهـ. والعلماء يرون أن في استدلال الشافعية على وجوبها خفاء، فهم يحتجون بحديث أبي مسعود الأنصاري [روايتنا الأولى] ولفظه، "أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله فكيف نصلي عليك؟ .... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد والسلام كما علمتم" قالوا: فقولهم أمرنا الله يشيرون به إلى أمر الله في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} قالوا والأمر للوجوب. وقد اعترض على هذا الاستدلال بأنه إن دل على الوجوب، فإنه لا يدل على كون هذا الوجوب في الصلاة. وأجابوا عن هذا الاعتراض برواية ابن حبان والحاكم لهذا الحديث، وفيه زيادة "فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا" وهذه الزيادة صحيحة، قال فيها الدارقطني: إسناده حسن متصل، وقال البيهقي: إسناده حسن صحيح، وصححه الترمذي وابن خزيمة. قالوا: واحتمال كون ذلك التعليم ليصلي عليه خارج الصلاة بعيد، وقال بعضهم في ذلك: إن الصلاة عليه واجبة بالإجماع، وليست الصلاة عليه خارج الصلاة واجبة، فتعين أن تجب في الصلاة. وقالوا: إن قوله صلى الله عليه وسلم "والسلام كما قد علمتم" بعد تعليمهم الصلاة عليه وبعد تعليمهم السلام عليه في التشهد قرينة على أن المراد بالصلاة عليه الصلاة عليه في الصلاة. واعترض على هذا الجواب بأنه إن دل على طلب الصلاة عليه في الصلاة فإنه لا يدل على تعين إيقاعها بين التشهد والسلام.

وأجابوا عن هذا الاعتراض، فقالوا: أخرج الحاكم بسند قوي عن ابن مسعود قال: "يتشهد الرجل، ثم يصلي على النبي، ثم يدعو لنفسه"، فإن ابن مسعود ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم التشهد في الصلاة، وأنه قال: "ثم ليتخير من الدعاء ما يشاء" فلما ثبت عن ابن مسعود الأمر بالصلاة عليه قبل الدعاء دل على أنه اطلع على زيادة بين التشهد والدعاء ويتقوى هذا بما أخرجه الترمذي عن عمر موقوفا: "الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم"، قال ابن العربي: ومثل هذا لا يقال من قبل الرأي، فيكون له حكم الرفع. واعترض على كل هذا بأن أقصى ما يدل عليه طلب الصلاة عليه ويكفي في هذا الاستحباب، ولا دلالة على الوجوب، وخصوصا أن الشافعية أنفسهم لم يوجبوا إلا "اللهم صل على محمد" وما زاد على ذلك جعلوه سنة مع أن تعليمهم الصلاة عليه اشتمل على الصلاة على الآل والذرية، وهي واجبة بالإجماع. وأجيب عن هذا الاعتراض بما أخرجه البيهقي بسند قوي عن الشعبي وهو من كبار التابعين قال: "من لم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد فليعد صلاته" وبما قاله الشافعي: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم التشهد في الصلاة، وروي عنه أنه علمهم كيف يصلون في الصلاة، فلا يجوز أن نقول: التشهد في الصلاة واجب والصلاة عليه فيه غير واجبة. اهـ ورد بأن هذا رأي ومذهب للشعبي والشافعي خال من الدليل. وقد شنع جماعات على مذهب الشافعية، ونسبوه في ذلك إلى الشذوذ، ومنهم الطبري والطحاوي وابن المنذر والخطابي، وتصدى الحافظ ابن حجر للدفاع عن المذهب، فقال: إن فقهاء الأمصار لم يتفقوا على مخالفة الشافعي في ذلك، بل جاء عن أحمد روايتان، وعن إسحاق الجزم به في العمد فقال: إذا تركها يعيد والخلاف أيضا عند المالكية، ذكره ابن الحاجب في سنن الصلاة، قال: على الصحيح، فقال شارحه بن عبد السلام: يريد أن في وجوبها قولين، وهو ظاهر كلام ابن المواز منهم، وأما الحنفية فألزم بعض شيوخنا من قال منهم بوجوب الصلاة كلما ذكر، كالطحاوي ألزمهم بعض شيوخنا أن يقولوا بوجوبها في التشهد، لتقدم ذكره صلى الله عليه وسلم في آخر التشهد. كما انتصر ابن القيم للشافعي فقال: أجمعوا على مشروعية الصلاة عليه في التشهد، وإنما اختلفوا في الوجوب والاستحباب، وفي تمسك من لم يوجبه بعمل السلف الصالح نظر، لأن عملهم كان بوفاقه، وقال: وأما قول عياض: إن الناس شنعوا على الشافعي فلا معنى له، فأي شناعة في ذلك؟ وهو لم يخالف نصا ولا إجماعا ولا قياسا ولا مصلحة راجحة؟ بل القول بذلك من محاسن مذهبه. اهـ. واختلف العلماء في الصيغة المطلوبة سواء على وجه الوجوب أو الاستحباب، وبقي الخلاف على اختلاف الروايات، وقد قال النووي في شرح المهذب والأفضل في صفة الصلاة أن يقول: "اللهم صل على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي، وعلى آل محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم وعلى آل

إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد. فيجمع بذلك ما في الأحاديث الصحيحة. اهـ. وتعقبه الأسنوي فقال: لم يستوعب ما ثبت في الأحاديث، ومع اختلاف كلامه في شرح المهذب، عنه في الأذكار، وعنه في التحقيق والفتاوي، فمرة أسقط "النبي الأمي" في "بارك" ومرة زاد "أمهات المؤمنين" بعد قوله: "أزواجه وزاد، أهل بيته" بعد قوله "ذريته". وقال الأوزاعي: لم يسبق النووي إلى ما قال، والذي يظهر أن الأفضل لمن تشهد أن يأتي بأكمل الروايات، ويقول كل ما ثبت، هذا مرة وهذا مرة. وأما التلفيق فإنه يستلزم إحداث صفة في التشهد لم ترد مجموعة في حديث واحد. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: وكأن الأوزاعي أخذ كلامه من كلام ابن القيم، فإنه قال: إن الكيفية لم ترد مجموعة في طريق من الطرق. والأولى أن يستعمل كل لفظ ثبت على حدة. فبذلك يحصل الإتيان بجميع ما ورد بخلاف ما إذا قال الجميع دفعة واحدة. فإن الغالب على الظن أنه صلى الله عليه وسلم لم يقله كذلك. وقد نص الشافعي على أن الاختلاف في ألفاظ التشهد ونحوه كالاختلاف في القراءات. ولم يقل أحد من الأئمة باستحباب التلاوة بجميع الألفاظ المختلفة في الحرف الواحد من القرآن. وإن كان بعضهم أجاز ذلك عند التعليم للتمرين. انتهى كلام ابن القيم. قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر إن اللفظ إن كان بمعنى اللفظ الآخر كما في "أزواجه" و"أمهات المؤمنين" فالأولى الاقتصار في كل مرة على أحدهما. وإن كان اللفظ يستقل بزيادة معنى ليس في اللفظ الآخر البتة فالأولى الإتيان به، ويحمل على أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر. اهـ. ولا يخفى أن هذا الخلاف إنما هو في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، أما الصلاة عليه خارج الصلاة فللمصلي عليه أن يأتي بما يشاء من الألفاظ، ففي لفظ لابن مسعود "اللهم اجعل صلواتك وبركاتك ورحمتك على سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين محمد عبدك ورسولك"، أخرجه ابن ماجه والطبري، وفي لفظ لعلي كرم الله وجهه، اللهم داحي المدحوات ... اجعل شرائف صلواتك ونواحي بركاتك. ورأفة تحيتك. على محمد عبدك ورسولك "أخرجه الطبري والطبراني". وادعى بعضهم أنه لا يقال: وترحم على محمد، وبالغ ابن العربي في إنكار ذلك فقال: حذار من زيادة "وترحم" قال الحافظ ابن حجر: إن كان إنكاره لكونه لم يصح فمسلم. وإلا فدعوى من يدعي أنه لا يقال: اللهم ارحم محمدا مردودة، لثبوت ذلك في عدة أحاديث أصحها في التشهد "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" ثم قال هذا فيما يقول مضموما إلى السلام أو الصلاة. أما مفردا فلا. ونقل القاضي عياض عن الجمهور الجواز مطلقا، وخالف غيره، ففي الذخيرة من كتب الحنفية: عن محمد: يكره ذلك لإيهامه النقص، لأن الرحمة غالبا إنما تكون عن فعل ما يلام عليه، وجزم ابن عبد البر بمنعه، فقال لا يجوز لأحد إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: رحمة الله، لأنه قال: "من صلى علي" ولم يقل: من ترحم علي، ولا من دعا لي، وإن كان معنى الصلاة الرحمة، لكنه خص هذا اللفظ تعظيما له، فلا يعدل عنه إلى غيره، ويؤيده قوله تعالى: {لا

تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا} [النور: 63]. اهـ. واختلف العلماء في حكم الصلاة على غير النبي صلى الله عليه وسلم من الملائكة والأنبياء والمؤمنين. أما الأنبياء فقد ثبت عن ابن عباس اختصاص الصلاة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فعن عكرمة عن ابن عباس قال "ما أعلم الصلاة تنبغي على أحد من أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم"، أخرجه ابن أبي شيبة. وحكي القول به عن مالك وجاء نحوه عن عمر بن عبد العزيز، وعن مالك يكره. والجمهور على جواز الصلاة على الأنبياء، قال عياض: عامة أهل العلم على الجواز. قال سفيان: ووجدت بخط بعض شيوخ مذهب مالك، لا يجوز أن يصلي إلا على محمد، وهذا غير معروف عن مالك، وإنما قال. أكره الصلاة على غير الأنبياء، وما ينبغي لنا أن نتعدى ما أمرنا به. اهـ. وبهذا يتبين أن عامة العلماء على جواز الصلاة على الأنبياء تبعا واستقلالا فنقول: مثلا: موسى عليه الصلاة والسلام، وقال شعيب عليه الصلاة والسلام ونحو ذلك، بل في الأحاديث ما يدل على مشروعيتها واستحبابها، فقد أخرج البيهقي عن بريدة رفعه "لا تتركن في التشهد الصلاة علي وعلى أنبياء الله" وأخرج الإسماعيلي من حديث أبي هريرة، رفعه "صلوا على أنبياء الله" وأخرج الطبراني عن ابن عباس، رفعه "إذا صليتم علي فصلوا على أنبياء الله فإن الله بعثهم كما بعثني"، فهذه الأحاديث وإن كانت ضعيفة الإسناد نقوي القول بالجواز على الأقل. وأما الملائكة فقد قال عنهم الحافظ ابن حجر: لا أعرف في الصلاة عليهم حديثا نصا، وإنما يؤخذ ذلك من الذي قبله، لأن الله تعالى سماهم رسلا. اهـ. فهو يرى أن حكم الصلاة عليهم كحكم الصلاة على الأنبياء. وأما المؤمنون فقد قال طائفة بجواز الصلاة عليهم مطلقا، سواء كانت بطريق الاستقلال. أو بطريق التبعية، واستدلوا بالرواية الأولى والثانية ولفظها "قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد"، وبالرواية الثالثة ولفظها "قولوا: اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته" كما استدلوا بقوله تعالى {وصل عليهم} [التوبة: 103] وبقوله {هو الذي يصلي عليكم وملائكته} [الأحزاب: 43] وبما رواه البخاري عن ابن أبي أوفى، قال "كان إذا أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم بصدقته قال: اللهم صل عليه. فأتاه أبي بصدقته، فقال اللهم صل على آل أبي أوفى" وما رواه أبو داود عن قيس بن سعد بن عبادة "أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يده، وهو يقول اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة"، وبما أخرجه أحمد وصححه ابن حبان من حديث جابر أن امرأته قالت للنبي صلى الله عليه وسلم صل علي وعلى زوجي ففعل. كما احتجوا بأن الصلاة دعاء بالرحمة فلا تمنع إلا بنص أو إجماع. وهذا القول جاء عن الحسن ومجاهد، ونص عليه أحمد في رواية أبي داود وبه قال إسحق وأبو ثور وداود والطبري. ويميل ابن القيم إلى هذا الرأي، لكنه يقيده بعض الشيء، فيقول: المختار أن يصلي على الأنبياء، والملائكة، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وآله وذريته، وأهل الطاعة على سبيل الإجمال، وتكره في غير الأنبياء

لشخص مفرد بحيث يصير شعارا، ولا سيما إذا ترك في حق مثله، أو أفضل منه كما يفعله الرافضة؟ فلوا اتفق وقوع ذلك مفردا في بعض الأحايين من غير أن يتخذ شعارا لم يكن به بأس، ولهذا لم يرد في حق غير من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقول ذلك لهم، وهم من أدى زكاته إلا نادرا كما في قصة زوجة جابر وآل سعد بن عبادة. اهـ. والجمهور عن منع الصلاة على غير الأنبياء والملائكة استقلالا، لا تبعا، فلا يقال: قال أبو بكر صلى الله عليه وسلم، وإن كان معناه صحيحا. يقال: صلى الله على النبي وعلى صديقه وعلى خليفته، ونحو ذلك، والحجة فيه أنه صار شعارا للنبي صلى الله عليه وسلم فلا يشاركه غيره فيه. قالوا: وقريب من هذا أنه لا يقال: قال محمد عز وجل وإن كان معناه صحيحا. لأن هذا الثناء صار شعارا لله سبحانه وتعالى، فلا يشاركه غيره فيه. قالوا: ولا حجة لمن أجاز ذلك منفردا، استدلالا بالآيتين، وبحديث ابن أبي أوفى وبحديث جابر السابقين، فإن ذلك كله وقع من النبي صلى الله عليه وسلم، ولصاحب الحق أن يتفضل من حقه بما يشاء، وليس لغيره أن يتصرف إلا بإذنه. ولم يثبت عنه إذن في ذلك، ويقوي المنع أن الصلاة على غير النبي صلى الله عليه وسلم في بعض البلاد صارت شعارا لأهل الأهواء، يصلون على من يعظمونه من أهل البيت، والصلاة على غير الأنبياء استقلالا لم تكن من الأمر المعروف، وإنما أحدثت في دولة بني هاشم. والخلاف بين الجمهور في اعتبار هذا المنع حراما، أو مكروها، أو خلاف الأولى، كما أن الخلاف جار في الصلاة على المؤمنين تبعا، هل هي جائزة مطلقا أو فيمن ورد النص بهم؟ فقالت طائفة: لا تجوز الصلاة على المؤمنين استقالا -أي تحرم- وتجوز تبعا فيما ورد بالنص، أو ألحق به، لقوله تعالى: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا} لأنه لما علمهم السلام قال "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" ولما علمهم الصلاة قصر ذلك عليه وعلى أهل بيته وهذا القول اختاره القرطبي وأبو المعالي من الحنابلة. وقالت طائفة: لا تجوز الصلاة على المؤمنين استقلالا -أي تحرم- وتجوز تبعا مطلقا: وهذا قول أبي حنيفة وجماعة. وقالت طائفة: تكره استقلالا، لا تبعا، وهي رواية عن أحمد. وقال النووي: هي خلاف الأولى. والذي تميل إليه النفس أن الصلاة على المؤمنين استقلالا، إذا كانت على وجه التعظيم، ومعادلة النبي صلى الله عليه وسلم، أو على وجه رفع مفضول على فاضل حرمت أما إذا كانت على وجه الدعاء بالرحمة والبركة فلا تحرم، والأولى أن يذكر غير الأنبياء بالرضا والغفران، دون الصلاة، ودون السلام، فقد قال الحويني: والسلام في معنى الصلاة، فإن الله تعالى قرن بينهما فلا يفرد بالسلام غائب غير الأنبياء. أي لا يقال: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي عليهم السلام، وإنما يقال السلام خطابا للأحياء والأموات فيقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والله أعلم.

واستدل بالحديث برواياته الثلاث الأوليات على فضيلة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، من جهة ورود الأمر بها، واعتناء الصحابة بالسؤال عن كيفيتها، وقد ورد فضلها صريحا في الرواية الرابعة، ولفظها "من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشرا" قال القاضي عياض: أي رحمه، وضعف أجره، من باب قوله تعالى {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} [الأنعام: 160] الآية ويحتمل أن الله يصلي عليه حقيقة بكلام تسمعه الملائكة عليهم السلام كما جاء في الحديث القدسي "وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم". اهـ. قال الحافظ ابن حجر: وقد ورد التصريح بفضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث قوية، منها ما أخرجه مسلم "من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشرا" وله شاهد عند أحمد والنسائي، وعند النسائي عن بردة "من صلى علي من أمتي صلاة مخلصا من قلبه صلى الله عليه بها عشر صلوات ورفعه بها عشر درجات، وكتب له بها عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات"، وعند الترمذي: "إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة" وعند البيهقي "صلاة أمتي تعرض علي في كل يوم جمعة: فمن كان أكثرهم علي صلاة كان أقربهم مني منزلة". وعند الترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم، "البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي" وعند ابن ماجه والبيهقي "من نسي الصلاة علي خطئ طريق الجنة" وعند الترمذي "رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي" وعند الحاكم "بعد من ذكرت عنده فلم يصل علي" وعند الطبراني "شقي عبد ذكرت عنده فلم يصل علي" وعند عبد الرزاق "من الجفاء أن أذكر عند رجل فلا يصلي". ثم قال الحافظ ابن حجر: فهذا الجيد من الأحاديث الواردة في ذلك، وفي الباب أحاديث ضعيفة وواهية، وأما ما وضعه القصاص في ذلك فلا يحصى كثرة، وفي الأحاديث القوية غنية عن ذلك، ثم قال: وقد تمسك بالأحاديث المذكورة من أوجب الصلاة عليه كلما ذكره، لأن الدعاء بالرغم والإبعاد والشقاء، والوصف بالبخل والجفاء يقتضي الوعيد، والوعيد على الترك من علامات الوجوب، من حيث المعنى: وإن فائدة الأمر بالصلاة عليه مكافأته على إحسانه، وإحسانه مستمر، فيتأكد إذا ذكر، وأجاب من لم يوجب ذلك بأجوبة: منها أن الوجوب قول مخترع، لم يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين، ولو كان ذلك على عمومه للزم المؤذن إذا أذن، والسامع والقارئ إذا مر بذكره، ولكان الثناء على الله كلما ذكر أحق بالوجوب، ولم يحفظ عن أحد من الصحابة أنه خاطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله صلى الله عليك، وأجابوا عن الأحاديث المذكورة بأنها خرجت مخرج المبالغة في تأكيد ذلك، وطلبه، وفي حق من اعتاد ترك الصلاة عليه ديدنا، وفي الجملة لا دلالة على وجوب تكرر ذلك بتكرر ذكره صلى الله عليه وسلم. قال الأبي: ومقتضى الوعد بمضاعفة الأجر عشرا. أنه يحصل بأي لفظ كانت الصلاة، وإن كان الراجح ما تقدم من الصفة الواردة سابقا، وما يستعمل من لفظ السيد والمولى حسن، وإن لم يرد [فيقال مثلا: اللهم صل على سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم] والمستند فيه ما صح من قوله صلى الله عليه وسلم "أنا سيد ولد آدم" ثم قال: وانظر لو قال: اللهم صل على محمد عدد كذا. هل يثاب بعدد ما ذكر؟ أو يثاب ثواب من صلى أكثر من واحدة؟ واستشهد الأبي لفضيلة هذه الصيغة بحديث "من قال

سبحان الله عدد خلقه ... " من حيث دلالته على أن للتسبيح بهذا اللفظ مزية، وإلا لم تكن له فائدة". قال الحليمي: والمقصود بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم التقرب إلى الله بامتثال أمره وقضاء حق النبي صلى الله عليه وسلم علينا، وتبعه ابن عبد السلام فقال: ليست صلاتنا على النبي صلى الله عليه وسلم شفاعة له، فإن مثلنا لا يشفع لمثله، ولكن الله أمرنا بمكافأة من أحسن إلينا، فإن عجزنا عنها كافأناه بالدعاء، فأرشدنا الله لما علم عجزنا عن مكافأة نبينا إلى الصلاة عليه. وقال ابن العربي: فائدة الصلاة عليه ترجع إلى الذي يصلي عليه، لدلالة ذلك على نصوع العقيدة، وخلوص النية، وإظهار المحبة والمداومة على الطاعة والاحترام للوساطة الكريمة صلى الله عليه وسلم. اهـ. ومن المواطن التي يتأكد فيها طلب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم سواء على طريق الوجوب أو الاستحباب: التشهد الأول، وخطبة الجمعة وغيرها من الخطب وصلاة الجنازة، وتتأكد عقب إجابة المؤذن، وأول الدعاء وأوسطه وآخره، وفي آخر القنوت، وفي أثناء تكبيرات العيد، وعند دخول المسجد والخروج منه وعند الاجتماع والتفرق، وعند السفر والقدوم وعند القيام من الليل، عند ختم القرآن، وعند الهم والكرب، وعند التوبة من الذنب، وعند قراءة الحديث وتبليغ العلم والذكر، وعند نسيان الشيء، وعند استلام الحجر، وعند طنين الأذن، وعند البلبلة، وعقب الوضوء، وورد الأمر بالإكثار منها يوم الجمعة. والله أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه ورضي عن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.

(165) باب التسميع والتحميد والتأمين

(165) باب التسميع والتحميد والتأمين 739 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا لك الحمد فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه". 740 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه" قال ابن شهاب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "آمين". 741 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث مالك ولم يذكر قول ابن شهاب. 742 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا قال أحدكم في الصلاة آمين والملائكة في السماء آمين فوافق إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه". 743 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء آمين فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه". 744 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا قال القارئ {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فقال من خلفه آمين فوافق قوله قول أهل السماء غفر له ما تقدم من ذنبه".

-[المعنى العام]- من أهم أهداف صلاة الجماعة واقتداء المأموم بالإمام، وربط أقواله وأفعاله بأقوال الإمام وأفعاله تعليم النظام والدقة في التسليم للقيادة، إن متابعة الحركات قد تكون مع الغفلة، فلا تؤتى الإمامة ثمارها، ولا تحقق الغاية المنشودة منها، ومن هنا تنبه الأحاديث على يقظة المأموم لأقوال إمامه، ليضع قوله في المكان والزمان المشروع، إن الملائكة تتابع أقوال الإمام، وتوافقه حين يقول في نهاية الفاتحة "آمين" تدعو له ولمن خلفه بإجابة الدعاء الوارد في الفاتحة، وتوافقه عند رفعه من الركوع في قوله "سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد" فتدعو له ولمن خلفه بأن يسمع الله حمدهم ويثيبهم عليه. ومن هنا تنبه الأحاديث إلى استحباب اليقظة ومتابعة الإمام حين يقول: سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد فنقول عقب قوله مثلما يقول. وإلى استحباب اليقظة للإمام حين يقرأ {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فنقول معه "آمين" ليوافق قولنا قول الإمام والملائكة، فمن وافق قوله قول الملائكة، ولم يسبقه أو يتأخر عنه غفر الله له ما تقدم من ذنوبه. كلمات سهلة يسيرة يمحو الله بها الخطايا. فسبحان الغفور الرحيم، واسع الفضل والجود. وهنيئا للمؤمنين الطائعين ما ينالهم من ثواب عظيم. -[المباحث العربية]- (سمع الله لمن حمده) يحتمل أن يكون خبرا، والمراد من سمع الحمد الإثابة عليه. والمعنى يسمع الله حمد الحامد. ويثيبه عليه. ويحتمل أن يكون دعاء. والمعنى اللهم اقبل حمدي لك: وأثبني عليه. (اللهم ربنا لك الحمد) قال الحافظ ابن حجر: ثبت في أكثر الطرق "اللهم" وفي بعضها بحذفها، وكلاهما جائز، وثبوتها أرجح، لأن فيه تكرير النداء. كأنه قال يا ربنا. وقد ثبت في طرق كثيرة "اللهم ربنا ولك الحمد" بزيادة الواو، وفي بعضها -كما هنا- بحذفها، قال النووي: المختار أنه لا ترجيح لأحدهما على الآخر وقال ابن دقيق العيد: كأن إثبات الواو دال على معنى زائد، لأنه يكون التقدير مثلا: ربنا استجب، ولك الحمد، فيشتمل على معنى الدعاء ومعنى الخبر. اهـ وقيل: عاطفة على محذوف أي ربنا حمدناك ولك الحمد، وقال الأصمعي: سألت أبا عمر عن الواو في "ربنا ولك الحمد" فقال: هي زائدة، تقول العرب بعنى هذا الثوب، فيقول المخاطب: نعم وهو لك بدرهم، فالواو زائدة.

(فإنه من وافق قوله قول الملائكة) قيل: معناه الموافقة في الوقت بداية ونهاية، وقيل: معناه الموافقة في الصفة والخشوع والإخلاص، والأول هو الصحيح والصواب، واختلف في هؤلاء الملائكة، فقيل: هم الحفظة، ورد بالرواية الثالثة والرابعة والخامسة، وهي تصرح بأنهم أهل السماء، وأجيب بأنه إذا قالها الحاضرون من الحفظة قالها من فوقهم، وحتى ينتهي إلى أهل السماء قاله النووي: وهذا الجواب في الحقيقة رجوع عن أن المراد بهم الحفظة إلى أن المراد ما يعم الحفظة وغيرهم، وهذا هو الأولى، ومثل ذلك يقال في التأمين. (إذا أمن الإمام فأمنوا) يقال: أمن يؤمن إذا قال: آمين والمراد إذا قال الإمام: آمين. بعد قراءة الفاتحة فقولوا: آمين. ولما كان ظاهر العبارة يؤدي إلى كون تأمين المأموم يكون عقب تأمين الإمام مع أن الجمهور يقول بموافقتهما قالوا: إن المراد إذا أراد أن يؤمن الإمام فأمنوا ليكون تأمينكم وتأمينه في وقت واحد، ولما كان بعضهم يرى أن الإمام لا يؤمن قال معنى "أمن الإمام" بلغ موضع التأمين، أي وصل في قراءته الفاتحة إلى {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} كما يقال: أحرم وأنجد إذا دخل في الحرم أو بلغ نجدا، أو أن معنى "أمن الإمام" دعا بقوله {اهدنا الصراط المستقيم} والداعي يسمى مؤمنا، كما أن المؤمن يسمى داعيا. وسيأتي البحث مبسوطا في فقه الحديث. (إذا قال أحدكم في الصلاة: آمين) وزن آمين ليس من أوزان كلام العرب، وهو مثل هابيل وقابيل، وهو اسم فعل، ويوقف عليه بالسكون فإن وصل بغيره حرك لالتقاء الساكنين، ويفتح طلبا للخفة لأجل البناء كأين وكيف، إذ الكسرة بعد الياء ثقيلة، وأما معناه فقيل: ليكن كذلك، وقيل: اقبل. وقيل: لا تخيب رجاء. وقيل: لا يقدر على هذا غيرك. وقيل: هو اسم من أسماء الله، حذف منه حرف النداء. والأصل: يا آمين استجب دعاءنا، وهو أبعد الأقوال عن القبول. (فوافقت إحداهما الأخرى) أي فوافقت إحدى المقالتين المقالة الأخرى والمراد مقالة المؤمنين ومقالة الملائكة: آمين. -[فقه الحديث]- يتعرض الحديث لمسألتين منفصلتين: التسميع والتحميد، ثم التأمين، وقد قدم الإمام مسلم وكثير من المحدثين أحاديث التسميع والتحميد، على أحاديث التأمين، مع أن التأمين مقدم في الصلاة على التسميع والتحميد، ولعلهم لم يلتزموا ترتيب أفعال الصلاة، فقد قدموا التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه على التسميع والتحميد والتأمين. وموافقة لترتيبهم نقول: إن ظاهر الرواية الأولى -ولفظها "إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد"-

أن الإمام لا يقول: ربنا لك الحمد، وإن المأموم لا يقول: سمع الله لمن حمده. وهو مذهب مالك وأبي حنيفة ومن تبعهما، ووجه هذا الدليل بأنه قسم التسميع والتحميد، فجعل التسميع للإمام والتحميد للمأموم، والقسمة تنافي الشركة، واحتجوا كذلك بأن معنى "سمع الله لمن حمده" طلب التحميد، فيناسب حال الإمام، وأما المأموم فتناسبه حال الإجابة بقوله "ربنا لك الحمد" ويقويه حديث أبي موسى الأشعري المذكور قبل قليل في باب التشهد، ولفظه "وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقالوا: اللهم ربنا لك الحمد يسمع الله لكم". وقال الثوري والأوزاعي وأبو يوسف ومحمد وأحمد: يجمع الإمام الذكرين ويقتصر المأموم على "ربنا لك الحمد". ومذهب الشافعية أنه يستحب لكل من الإمام والمأموم أن يقول في حال ارتفاعه: سمع الله لمن حمده، فإذا استوى قائما قال: ربنا لك الحمد فيستحب للإمام والمأموم الجمع بين هذين الذكرين، وبهذا قال عطاء وإسحق وداود واستدلوا بأنه صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين التسميع والتحميد، ففي البخاري ومسلم في باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع -وسيأتي بعد أبواب- عن ابن أبي أوفى قال "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد" وقال "صلوا كما رأيتموني أصلي" فيقتضي هذا مع ما قبله أن كل مصل يجمع بينهما، قالوا: ولأنهما ذكر كالتسبيح، فيستحب للإمام وغيره، لأن الصلاة مبنية على أن لا يفتر عن الذكر في شيء منها، فإن لم يقل بالذكرين في الرفع والاعتدال بقي أحد الحالين خاليا عن الذكر. وأجابوا عن الرواية الأولى في بابنا بأنها ليس فيها ما يدل على النفي، بل فيها أن قول المأموم "ربنا ولك الحمد" يقول عقب قول الإمام "سمع الله لمن حمده" والواقع في التصوير ذلك، لأن الإمام يقول التسميع في حال انتقاله، والمأموم يقول التحميد في حال اعتداله، فقوله يقع عقب قول الإمام. وكأن المعنى: قولوا "ربنا ولك الحمد" مع ما قد علمتموه من قول "سمع الله لمن حمده" وإنما خص هذا بالذكر لأنهم كانوا يسمعون جهر النبي صلى الله عليه وسلم بـ"سمع الله لمن حمده" فإن السنة فيه الجهر، ولا يسمعون قوله "ربنا لك الحمد" لأنه يأتي به سرا، وكانوا يعلمون قوله صلى الله عليه وسلم "صلوا كما رأيتموني أصلي" مع قاعدة التأسي به صلى الله عليه وسلم مطلقا، وكانوا يوافقون في "سمع الله لمن حمده" فلم يحتج إلى الأمر به، ولا يعرفون "ربنا لك الحمد" فأمروا به. قاله النووي في شرح المذهب. اهـ. وأجابوا عما احتج به المالكية والحنفية من حيث المعنى بأنه لا يدل على أن الإمام لا يقول "ربنا لك الحمد" إذ لا يمتنع أن يكون طالبا ومجيبا. هذا حكم الإمام والمأموم، أما المنفرد فهو عند الشافعية كالإمام والمأموم يجمع بين الذكرين، وعند مالك وأبي حنيفة: يقول كما يقول الإمام "سمع الله لمن حمده" فقط، وفي قول للحنيفة: يجمع المنفرد بين الذكرين، وحملوا عليه الحديث الذي استدل به الشافعية

من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الذكرين فقال العيني: يمكن أن يكون هذا من النبي صلى الله عليه وسلم وهو منفرد: وأبو حنيفة أيضا حمله على حالة الانفراد. اهـ. أما التأمين فمذهب الشافعية أنه سنة لكل مصل فرغ من قرأة الفاتحة سواء الإمام والمأموم والمنفرد، والرجل والمرأة والصبي، والقائم والقاعد والمضطجع والمفترض والمتنقل، في الصلاة السرية والجهرية، فإن كانت الصلاة سرية أسر الإمام وغيره بالتأمين تبعا للقراءة وإن كان جهرية، وجهر الإمام أو المنفرد بالقراءة استحب لهما الجهر بالتأمين بلا خلاف بين الشافعية، وخلافهم في المأموم حيث يجهر إمامه بالتأمين، وجمهورهم على أنه يجهر، وذهب جماعة منهم إلى أنه لا يجهر، ولعل منشأ الخلاف بينهم ما نقل عن الشافعي، ففي المذهب القديم يجهر وعبارته في المذهب الجديد تفيد عدم استحباب الجهر، ولفظها في المختصر وهو من الجديد "يرفع الإمام صوته بالتأمين، ويسمع من خلفه أنفسهم، ولفظهما في الأم يرفع الإمام بها صوته فإذا قالوها أسمعوا أنفسهم ولا أحب أن يجهروا، فإن فعلوا فلا شيء عليهم". ووجهة نظر القائلين بجهر الإمام أن القول إذا وقع به الخطاب مطلقا حمل على الجهر، ومتى أريد به الإسرار أو حديث النفس قيد بذلك في الحديث الآمر بقول المأمومين: آمين. ثم إن الحديث قابل تأمين المأمومين بتأمين الإمام، ومقابلة القول بالقول ظاهرها الاتفاق في الصفة، والإمام قد استحب له الجهر، فالمأموم كذلك: وفي البخاري "أمن ابن الزبير ومن وراءه، حتى إن للمسجد للجة" ويروى "لجلبة" أي لصوت مرتفع. وحكى القاضي أبو الطيب والعبدري الجهر بالتأمين للإمام والمأموم والمنفرد في الجهرية عن طاوس وأحمد وإسحق وابن خزيمة وابن المنذر وداود. وعن مالك في التأمين ثلاث روايات: الأولى: لا يؤمن الإمام مطلقا في سرية ولا في جهرية، وكذا المنفرد، ويؤمن المأموم سرا في الجهرية. الثانية: لا يؤمن الإمام في الجهرية. ويؤمن سرا في السرية ويؤمن المنفرد سرا فيهما، الثالثة: يؤمن الإمام سرا في الجهرية والسرية ويؤمن المأموم والمنفرد سرا. واحتج بعض المالكية للرواية الأولى -رواية عدم تأمين الإمام مطلقا بأن الإمام داع، بقوله {اهدنا الصراط المستقيم ... } إلخ فناسب أن يختص المأموم بالتأمين، واستدلوا بما رواه مسلم في باب التشهد (إذا قال: ولا الضالين، فقولوا: آمين) فإنه صلى الله عليه وسلم قسم ذلك بين الإمام والمأموم، والقسمة تنافي الشركة، وأجابوا عن حديث (إذا أمن الإمام فأمنوا) وظاهره أن الإمام يؤمن أجابوا بأنها قضية شرطية لا تثبت وقوع فعل الشرط، وعلى التسليم بأن (إذا) تشعر بتحقيق وقوع فعل الشرط فإن المراد من (أمن) موضع التأمين، بقوله {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} كما يقال: أنجد إذا بلغ نجدا، وإن لم يدخلها، وقال بعضهم. معنى إذا أمن الإمام، إذا دعا بقوله {اهدنا الصراط المستقيم} وتسمية الداعي مؤمنا سائغة، لأن المؤمن يسمى داعيا، كما جاء في قوله تعالى {قد أجيبت دعوتكما} [يونس: 89] وكان موسى داعيا، وهارون مؤمنا.

ورد هذا الاحتجاج بجميع وجوهه، فإن قولهم: إن الإمام داع فناسب أن يختص التأمين بالمأموم، لأنه جواب للدعاء، مردود بأن التأمين دعاء قائم مقام التخليص بعد البسط، فالمناسب للإمام أن يقوله، لأنه في مقام الداعي، ثم إنه إذا استحب التأمين للسامع، فالداعي أولى بالاستحباب. ثم إن استدلالهم برواية مسلم "إذا قال: ولا الضالين، فقولوا: آمين "غير مسلم، لأنه قصد منه موافقة تأمين المأموم لتأمين الإمام، أي إذا بلغ "ولا الضالين" فقولوا: آمين ليوافق تأمينكم تأمينه، فقد روى أبو داود وابن ماجه "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال آمين حتى يسمع من الصف الأول "زاد ابن ماجه "فيرتج بها المسجد". وإجابتهم عن حديث "إذا أمن الإمام" بأن معنى "أمن" بلغ موضع التأمين قال عنها ابن العربي: هذا بعيد لغة وشرعا، وقال عنها ابن دقيق العيد: هذا مجاز، فإن وجد دليل يرجحه عمل به، وإلا فالأفضل عدمه اهـ والواقع أنه لا دليل يرجحه، بل الدليل على خلاف هذا التأويل، وقول بعضهم: "إذا أمن" معناه إذا دعا إلخ مردود بأنه لا يلزم من تسمية المؤمن داعيا تسمية الداعي مؤمنا، ثم إنه لم يصح أن هارون كان مؤمنا ولم يكن داعيا، ولو صح كان إطلاق دعوتكما من قبيل التغليب. وأما الرواية الثانية عن مالك، وهي أن الإمام لا يؤمن في الجهرية ويؤمن سرا في السرية فيمكن الاستدلال لها والرد عليها بالاستدلال السابق والرد عليه. بقيت الرواية الثالثة عن مالك، وهي استحباب التأمين سرا للإمام والمأموم والمنفرد وهو مذهب الحنفية، وقد استدل له برواية شعبة عن علقمة بن وائل عن أبيه أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما بلغ (غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال: آمين، وأخفى بها صوته) ولفظ الحاكم (وخفض بها صوته) كما استدل له بما رواه محمد بن الحسن في كتاب الآثار: حدثنا أبو حنيفة حدثنا حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي قال: (أربع يخفيهن الإمام. التعوذ، وبسم الله الرحمن الرحيم، وسبحانك اللهم، وآمين). وقد ورد هذا الاستدلال بأن رواية شعبة عند أبي داود بلفظ "قال: آمين ورفع بها صوته" ولفظ الترمذي "ومد بها صوته" وحيث تعارضت لا تصلح دليلا بل روايات الرفع أقوى، أما أثر إبراهيم النخعي فهو ضعيف لا يحتج به. ثم إنه لو لم يكن التأمين مسموعا للمأموم لم يعلم به، وقد علق تأمينه بتأمينه فترجح أن الإمام يؤمن فيجهر به في الجهرية، كما هو مذهب الشافعية. وهناك في التأمين مذهبان شاذان على طرفي نقيض، أحدهما للإمامية إذ قالوا: إن التأمين يبطل الصلاة، لأنه لفظ ليس بقرآن ولا ذكر. وثانيهما للظاهرية، إذ أوجبوه على كل مصل، وحكي عن ابن حزم أنه سنة للإمام واجب على المأموم، عملا بظاهر الأمر والله أعلم. والمراد بموافقة الملائكة في التسميع والتحميد والتأمين الموافقة في القول والزمان خلافا لمن

قال: المراد الموافقة في الإخلاص والخشوع كابن حبان، قال ابن المنير: الحكمة في إيثار الموافقة في القول والزمان أن يكون المأموم على يقظة للإتيان بالوظيفة في محلها، لأن الملائكة لا غفلة عندهم فمن وافقهم كان متيقظا. اهـ. قال النووي في شرح المهذب: يستحب أن يقع تأمين المأموم مع تأمين الإمام، لا قبله ولا بعده، لقوله صلى الله عليه وسلم "فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه" فينبغي أن يقع تأمين الإمام والمأموم والملائكة دفعة واحدة: وقال إمام الحرمين: كان شيخي يقول: لا يستحب مقارنة الإمام في شيء إلا في هذا، قال الإمام: يمكن تعليل استحباب المقارنة بأن القوم لا يؤمنون لتأمينه، وإنما يؤمنون لقراءته، وقد فرغت قراءته. فإن قيل: هذا مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم (إذا أمن الإمام فأمنوا) فجوابه أن الحديث الآخر "إذا قال الإمام: غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا: آمين" وكلاهما في الصحيح يقتضي الجمع بينهما، وهذا كقولهم: إذا رحل الأمير فارحلوا، أي إذا تهيأ للرحيل فتهيئوا ليكون رحيلكم معه، وبيانه في الحديث الآخر "إذا قال أحدكم: آمين، وقالت الملائكة: آمين، فوافق أحدهما الآخر، فظاهره الأمر بوقوع تأمين الجميع في حالة واحدة اهـ واختار ابن بزيزة أن المراد من الملائكة جميعهم، وهو بعيد إذ لا يتصور أن يؤمن جميع الملائكة كلما أمن إمام في الأرض، وإلا لم يكن لهم عمل غير التأمين الذي لا تكاد لحظة تخلو منه على وجه الأرض، وقيل الحفظة منهم، وقيل: الذين يتعاقبون منهم إذا قلنا: إنهم غير الحفظة، قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر أن المراد بهم من يشهد تلك الصلاة من الملائكة، ممن في الأرض، أو في السماء، وهو قول وجيه ويؤيده رواياتنا الثالثة والرابعة والخامسة إذ فيها "والملائكة في السماء" وفيها "فوافق قوله قول أهل السماء" وروى عبد الرزاق عن عكرمة قال: "صفوف أهل الأرض على صفوف أهل السماء فإذا وافق آمين في الأرض آمين في السماء غفر للعبد" قال الحافظ ابن حجر. ومثله لا يقال بالرأي، فالمصير إليه أولى. اهـ. هذا والموافقة في الجهرية معقولة ويسيرة لمن سمع الإمام حتى قرأ المأموم خلف الإمام فبلغ الإمام التأمين قبل المأموم استحب له أن يقطع قراءته ويوافق الإمام في التأمين، بهذا القول قال أكثر الشافعية، ثم اختلفوا هل تنقطع بذلك الموالاة؟ قولان، أصحهما أنها تنقطع. لكن الموافقة في السرية، أو في الجهرة لمن لا يسمع الإمام عسيرة، فهل يستحب له أن يتحرى؟ أو غير مطالب بالموافقة؟ الظاهر الثاني. ثم ظاهر الحديث أن هذا الوعد، وهو غفران ما تقدم من الذنب إنما هو للمأموم الذي وافق تأمينه تأمين الملائكة، أما الإمام الذي أمن فوافقه المأموم والملائكة، فلا يدخل في هذا الوعد وكذا المنفرد الذي أمن، لكن لا يمنع من أن لكل منهما ثواب آخر غير هذا الوعد، إذ ربط هذا الوعد بيقظة المأموم، وإيقاعه التأمين موافقا للملائكة، لكن الحافظ ابن حجر يرى دخول الإمام في الوعد من باب أولى، كما سيأتي فيما يؤخذ من الحديث، والمراد من الذنب الذي وعد بغفرانه الصغائر من الذنوب وإن كان ظاهر الحديث جميعها، ولكن العلماء حملوه على الصغائر، كما مضى أمثاله فيمن توضأ كوضوئه

صلى الله عليه وسلم، ومن صام رمضان إيمانا واحتسابا، ومن انتظر الصلاة، إلى غير ذلك من الطاعات، فإن لم توجد صغائر تغفر أثيب بحسنات تقابل ذلك. والله أعلم. وظاهر الأحاديث الحث على التأمين في الصلاة خاصة، ولكن يمكن أن يقال: إن طلبه في الصلاة وهي محدودة الألفاظ والدعاء يجعل طلبه في غيرها من باب أولى، بل في بعض الروايات عند أحمد ما يفيد العموم، إذ جاء "إذا أمن القارئ فأمنوا" واستحب ابن العربي وغيره التأمين في كل دعاء لما في أبي داود عن أبي زهر النميري، وكان من الصحابة رضي الله عنهم، قال: فإذا دعا أحدنا قال: اختمه بآمين، فإن آمين مثل الطابع على الصحيفة، قال أبو زهر: ألا أخبركم بذلك؟ "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات مرة، فإذا رجل قد ألح في المسألة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد أوجب إن ختمه فقال رجل من القوم: بأي شيء يختم؟ قال: بآمين فإنه إن ختم بآمين فقد أوجب". -[ويؤخذ من الأحاديث]- 1 - أن الإمام يؤمن، وقد سبق بيان الخلاف فيه. 2 - وأنه يجهر بالتأمين، وقد سبق كذلك بيان الخلاف فيه. 3 - واستدل بعضهم بقوله "إذا أمن الإمام فأمنوا" على تأخير تأمين المأموم عن تأمين الإمام لأنه رتب بالفاء وقد سبق توجيهه. 4 - وفيه حجة على الإمامية في قولهم: إن التأمين يبطل الصلاة. 5 - قال الحافظ ابن حجر: وفيه فضيلة الإمام، لأن تأمين الإمام يوافق تأمين الملائكة، ولهذا شرعت للمأموم موافقته. اهـ. 6 - استدل به القرطبي على تعيين قراءة الفاتحة للإمام، لأن التأمين لا يكون إلا عقبها، وظاهر السياق يقتضي أن قراءة الفاتحة كانت أمرا معلوما عندهم. 7 - قال القاضي عياض: فيه حجة على أنه لا يقرأ مع الإمام في الجهر لأنه ذكر قراءة الإمام، ولم يذكر قراءة المأموم. اهـ وهو مردود لأن عدم الذكر لا يدل على عدم المشروعية. 8 - وقال القاضي عياض أيضا: وفيها حجة لمن لا يرى السكتة [وهم المالكية والحنفية] إذ لو كانت من حكم الصلاة لقال: فإذا سكت فاقرءوا كما قال "وإذا قال: غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا: آمين". وهو مردود بأن عدم القول لا يدل على المشروعية، وقد سبق حكم السكتة قبل أبواب. 9 - وفيه أن الملائكة تتابع عبادات المؤمنين، وتدعو لهم. 10 - واستدل به بعض المعتزلة على أن الملائكة أفضل من الآدميين لأن مجرد موافقتهم في جزئية كانت سببا في غفران الذنوب، وسيأتي البحث في ذلك في باب الملائكة عند الكلام عن بدء الخلق إن شاء الله تعالى.

(فائدة) قال النووي في شرح المهذب: قال أصحابنا: إذا ترك التأمين حتى اشتغل بغيره فات ولم يعد إليه، ولو قرأ المأموم الفاتحة مع الإمام وفرغ منها قبل فراغه، فالأولى بل الصواب أن يؤمن لقراءة نفسه، ثم يؤمن مرة أخرى بتأمين الإمام، وإذا أمن المأموم بتأمين الإمام، ثم قرأ المأموم الفاتحة أمن ثانيا لقراءة نفسه، فلو فرغا من الفاتحة معا كفاه أن يؤمن مرة واحدة. ويستحب أن لا يصل لفظة "آمين" بقوله "ولا الضالين" بل يسكت سكتة لطيفة جدا ليعلم أن "آمين" ليست من الفاتحة. والله أعلم

(166) باب ائتمام المأموم بالإمام

(166) باب ائتمام المأموم بالإمام 745 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال سقط النبي صلى الله عليه وسلم عن فرس فجحش شقه الأيمن فدخلنا عليه نعوده فحضرت الصلاة فصلى بنا قاعدا فصلينا وراءه قعودا فلما قضى الصلاة قال "إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا سجد فاسجدوا وإذا رفع فارفعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا أجمعون". 746 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال خر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فرس فجحش فصلى لنا قاعدا ثم ذكر نحوه. 747 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صرع عن فرس فجحش شقه الأيمن بنحو حديثهما وزاد "فإذا صلى قائما فصلوا قياما". 748 - عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب فرسا فصرع عنه فجحش شقه الأيمن بنحو حديثهم وفيه "إذا صلى قائما فصلوا قياما". 749 - عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سقط من فرسه فجحش شقه الأيمن وساق الحديث وليس فيه زيادة يونس ومالك. 750 - عن عائشة رضي الله عنها قالت اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليه ناس من أصحابه يعودونه فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا فصلوا بصلاته قياما فأشار إليهم أن اجلسوا فجلسوا فلما انصرف قال "إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا". بهذا الإسناد نحوه.

751 - عن جابر رضي الله عنه قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد وأبو بكر يسمع الناس تكبيره فالتفت إلينا فرآنا قياما فأشار إلينا فقعدنا فصلينا بصلاته قعودا فلما سلم قال "إن كدتم آنفا لتفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا ائتموا بأئمتكم إن صلى قائما فصلوا قياما وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا". 752 - عن جابر رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر خلفه فإذا كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر أبو بكر ليسمعنا ثم ذكر نحو حديث الليث. 753 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إنما الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا لك الحمد وإذا سجد فاسجدوا وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون". 754 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا يقول "لا تبادروا الإمام إذا كبر فكبروا وإذا قال ولا الضالين فقولوا آمين وإذا ركع فاركعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا لك الحمد". 755 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه إلا قوله "ولا الضالين فقولوا آمين" وزاد "ولا ترفعوا قبله". 756 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما الإمام جنة فإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا لك الحمد فإذا وافق قول أهل الأرض قول أهل السماء غفر له ما تقدم من ذنبه". 757 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "إنما جعل الإمام ليؤتم به

فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا لك الحمد وإذا صلى قائما فصلوا قياما وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا أجمعون". -[المعنى العام]- في ذي الحجة سنة خمس من الهجرة ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا سار به في بعض شوارع المدينة المنورة، ولعل الفرس رأى في جوانب الطريق ما يزعجه فنفر فسقط رسول الله صلى الله عليه وسلم على جذع نخلة فانفكت قدمه، وخدشت ساقه، وقشر بعض الجلد في كتفه ودخل صلى الله عليه وسلم بيت عائشة وصعد المشربة وهي مرتفع يصعد إليه بدرجات خشبية، شبيهة بما يسمى اليوم "بالفرندة أو البلكون الدخلي" وعلم الصحابة بالحادث، فذهب إليه أبو بكر وأنس وعمر وجابر يعودونه وحضرت صلاة الظهر أو العصر فأقيمت الصلاة، ولم يستطع صلى الله عليه وسلم الوقوف مما أصابه، فصلى من قعود، وأحس من تحركات من خلفه أن من وراءه وقوف، فالتفت التفافة خفيفة، ونظر إليهم نظرة خاطفة فوجدهم قياما، فأشار إليهم بيده وأومأ إليهم برأسه: أن اجلسوا، فجلسوا وأتموا الصلاة خلفه جلوسا، يكبر بصوت خافت لحالته الصحية، وأبو بكر خلفه يصلي بعده مباشرة، ليسمع القوم تكبيره، وليؤدي مشروعية الجهر بالتكبير، فلما سلم التفت إليهم فقال: لقد كدتم [في صلاتكم وقوفا خلفي قاعدا] أن تشبهوا فارس والروم في فعلهم القبيح، يقفون على رءوس ملوكهم تعظيما لهم، لا تفعلوا ذلك ثانية وائتموا بأئمتكم، فإن صلوا قياما فصلوا قياما. وإن صلوا قعودا فصلوا قعودا وإذا كبر الإمام فكبروا، ولا تبادروه، ولا تسبقوه في فعل من أفعال الصلاة، بل إذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا قال: "سمع الله لمن حمده" فقولوا: "ربنا لك الحمد" فإن الملائكة في السماء. تقول ذلك، فمن وافق قوله من أهل الأرض قول الملائكة أهل السماء ونطق بذلك وقت ما ينطقون غفر له ما تقدم من ذنبه. -[المباحث العربية]- (سقط النبي صلى الله عليه وسلم عن فرس) في الرواية الثانية "خر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فرس" وفي الرواية الثالثة "صرع عن فرس" وفي الرواية الخامسة "سقط من فرسه" والسقوط: الوقوع. فإن لوحظ الانفصال قيل: سقط عن الفرس، وإن لوحظ البداية قيل: سقط من الفرس. ويقال: خر بفتح الخاء وتشديد الراء، يخر بكسرها، خرا بفتحها، ويخر ضم الخاء خرورا. إذا سقط، أو إذا سقط من علو إلى أسفل، والصرع الطرح على الأرض، وواقع الحادثة أن الرسول صلى الله عليه وسلم ركب فرسا بالمدينة فسقط عنه على جذع نخلة. (فجحش شقه الأيمن) بضم الجيم وكسر الحاء، والجحش الخدش أو أشد منه قليلا،

والخدش قشر الجلد، ورواياتنا "جحش شقه الأيمن" وفي رواية للبخاري "فجحشت ساقه أو كتفه" بالشك من الراوي، وعند الإسماعيلي "انفكت قدمه" ولا تنافي فقد انفكت قدمه، وخدش في ساقه الأيمن، أو كتفه الأيمن أو فيهما، وعبارة "شقه الأيمن" أشمل من ذكر الساق أو الكتف. فكل رواية ذكرت وضعا لا ينافي ما ذكرته الأخرى. (فدخلنا عليه نعوده) معطوف على محذوف، أي فدخل بيته واحتجب عن الخروج، فدخلنا عليه، وجملة "نعوده" في محل النصب على الحال، وسميت زيارة المريض عيادة لما أن الغالب فيها التكرار. والداخلون -كما يؤخذ من الروايات- كانوا أنسا الراوي وأبا بكر وجابرا وعمر رضي الله عنه عنهم، وهم المقصودون من قول عائشة في الرواية السادسة: "فدخل عليه ناس يعودونه". (فحضر الصلاة) قال القرطبي: اللام للعهد ظاهرا، والمراد الفرض لأن المعهود من عاداتهم اجتماعهم للفرض بخلاف النافلة، وقال عياض عن ابن القاسم: إن هذه الصلاة كانت نفلا. والتحقيق ما قاله القرطبي. (فصلينا وراءه قعودا) هذا بيان لما آل إليه الحال، بعد أمره لهم بالجلوس وبذلك تصرح الرواية السادسة، ولفظها "فصلوا بصلاته قياما" فأشار إليهم أن اجلسوا، فجلسوا، وجمع القرطبي بين الحديثين باحتمال أن يكون بعضهم قعد من أول الحال، وهو الذي حكاه أنس في الرواية الأولى، وبعضهم قام حتى أشار إليه بالجلوس، وهو الذي حكته عائشة في الرواية السادسة، وتعقب باستبعاد قعود بعضهم بغير إذنه صلى الله عليه وسلم لأنه يستلزم النسخ بالاجتهاد، لأن فرض القادر في الأصل القيام. (إنما جعل الإمام ليؤتم به) الائتمام الاقتداء والاتباع، أي جعل الإمام إماما ليقتدي به، ويتبع، ومن شأن التابع أن لا يسبق متبوعه ولا يساويه. ولا يتقدم عليه في موقفه، بل يراقب أحواله، ويأتي على أثره بنحو فعله، ومقتضى ذلك أن لا يخالفه في شيء من الأحوال، وسيأتي مزيد إيضاح لهذا في فقه الحديث. (فإذا كبر فكبروا) قال بعضهم: الفاء في "فكبروا" وفي "فاسجدوا" وفي "فارفعوا" للتعقيب، واستدل بها على أن المقتدي لا يسبق الإمام بالركوع ولا بالسجود، ولا بالرفع، والتحقيق أن الفاء التي للتعقيب هي العاطفة، وأما التي هنا فهي للربط فقط، لأنها وقعت جوابا للشرط. نعم يمكن الاستدلال بتقدم الشرط على الجواب، وقد قال قوم: إن الجزاء يكون مع الشرط، فعلى هذا لا تنتفى المقارنة إلا بدليل آخر، كرواية أبي داود، ولفظها "ولا تركعوا حتى يركع، ولا تسجدوا حتى يسجد". (وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا أجمعون) كذا في جميع الطرق في الصحيحين "أجمعون" بالرفع، فهو تأكيد لضمير الفاعل في "صلوا" لكن خلاف المحدثين في رواية أبي هريرة، الرواية الثامنة فقد رواها بعضهم "أجمعين" بالنصب على الحال، أي فصلوا جلوسا مجتمعين.

(إن كدتم آنفا لتفعلون فعل فارس والروم) "إن" مخففة من الثقيلة مهملة لا عمل لها، و"فعل فارس" مفعول مطلق مبين لنوعه و"تفعلون" منزل منزلة اللازم، وفي الكلام تشبيه، والتقدير: تفعلون مثل فعل فارس، و"آنفا" نصب على الظرفية، وهو من استأنفت الشيء إذا ابتدأته، والمعنى: كدتم في أول الوقت الذي يقرب منا أن تفعلوا فعل فارس، وفي بعض النسخ "إن كدتم آنفا تفعلون" بدون اللام. (يقومون على ملوكهم وهم قعود) جملة "وهم قعود" حال من "ملوكهم" وجملة "يقومون على ملوكهم" لا محل لها من الإعراب مستأنفة استئنافا بيانيا، كأنها في جواب سؤال، تقديره: وما فعل فارس؟ ويجوز أن تكون في موضع النصب على الحال من (فارس والروم). (فلا تفعلوا) الفاء فصيحة، في جواب شرط مقدر، أي إذا كان هذا فعل فارس والروم فلا تفعلوه، لئلا تتشبهوا بهم في فعل لا يرضاه الشرع، ومفعول "تفعلوا" محذوف. (ائتموا بأئمتكم إن صلى قائما فصلوا قياما) كان الظاهر أن يقول: إن صلوا قياما فصلوا قياما، لأن الضمير عائد على "أئمتكم" لكن التقدير إن صلى أحدهم قائما. (إنما الإمام ليؤتم به) "يؤتم" مؤول بمصدر مجرور باللام، والجار والمجرور متعلق بكون خاص، والتقدير: إنما الإمام جعل للائتمام به. (سمع الله لمن حمده ... اللهم ربنا لك الحمد) سبق شرحه في الباب السابق. (لا تبادروا الإمام) أي لا تسبقوه، ففي القاموس: بادره مبادرة وبدارا، وابتدره عاجله. (إنما الإمام جنة) بضم الجيم وتشديد النون المفتوحة، أي وقاية وساتر لمن خلفه، ومانع من خلل يعرض لصلاتهم بسهو أو مرور، أي كالجنة، وهي الترس الذي يستر من وراءه، ويمنع وصول مكروه إليه. (فإذا وافق قول أهل الأرض قول أهل السماء غفر له ما تقدم من ذنبه)، "قول أهل الأرض" فاعل "وافق" و"قول أهل السماء" مفعوله، و"غفر" مبني للمجهول، و"ما تقدم" نائب فاعل، وضمير "له" يعود على الإمام أو على الموافق من أهل الأرض، وهو أولى ليوافق الرواية الأولى من الباب السابق ولفظها "فإنه من وافق قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه". -[فقه الحديث]- النقطة الأساسية في هذا الحديث، برواياته الإحدى عشرة، هي: إذا صلى الإمام جالسا، فهل يجلس المأموم أو يقف؟

وصريح الروايات الأمر بمتابعة الإمام في جلوسه ووقوفه، فإن صلى جالسا جلس المأموم، وإن صلى واقفا وقف المأموم، وبهذا الظاهر قال أحمد بن حنبل والأوزاعي وطائفة. وقال مالك في المشهور عنه: لا يجوز صلاة القادر على القيام خلف القاعد مطلقا، لا قائما، ولا قاعدا وسنعرض قريبا لدليله ومناقشته. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف والشافعي ومالك في رواية عنه وجمهور السلف: لا يجوز للقادر على القيام أن يصلي خلف القاعد إلا قائما، واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في مرض وفاته بعد هذا قاعدا وأبو بكر والناس خلفه قياما، كما ذكره مسلم في الباب التالي ولم يأمرهم بالجلوس، فصلاة الإمام قاعدا بالناس قعودا نسخت بصلاته صلى الله عليه وسلم قاعدا وهم قيام، وهو الأحدث من فعله صلى الله عليه وسلم. وقوله صلى الله عليه وسلم "إنما جعل الإمام ليؤتم به" ليس على عمومه، بل دخله التخصيص. ويزيد مالك في المشهور عنه على ما ذهب إليه الجمهور أن صلاة القائم خلف القاعد نسخت كذلك بقوله صلى الله عليه وسلم "لا يؤمن أحد بعدي جالسا" فهذا الحديث ينسخ أمره في روايات الباب بالجلوس لما صلوا خلفه قياما، وينسخ صلاتهم خلفه قياما في مرض موته، فيثبت عدم جواز صلاة القادر خلف القاعد. ويحتج بعض المالكية لهذا المذهب بأنه صلى الله عليه وسلم إنما صلى بهم قاعدا لأنه لا يصح التقدم بين يديه، لنهي الله عن ذلك، فلا يصح أن يكون إماما له، مهما قعد صلى الله عليه وسلم. قال بعض أشياخهم: إن حال النبي صلى الله عليه وسلم والتبرك به، وعدم العوض عنه يقتضي الصلاة معه على أي حال كان عليها، وليس ذلك لغيره، وأيضا فنقص صلاة القاعد عن القائم لا يتصور في حقه، ويتصور في حق غيره، فالصلاة خلف القاعد كانت من خصوصياته صلى الله عليه وسلم. ورد الاستدلال بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحد بعدي جالسا" بأنه لا حجة فيه، لأنه مرسل، ومن رواية رجل يرغب أهل العلم عن الرواية عنه وهو جابر الجعفي. وقال ابن بزيزة: وعلى فرض صحته لم يكن فيه حجة لأنه يحتمل أن يكون المراد منع الصلاة بالجالس، فيعرب "جالسا" مفعولا لا حالا. اهـ. ثم إن القول بأن هذا الحديث ينسخ عمله صلى الله عليه وسلم في مرض موته بعيد، لأنه يحتاج إثبات أن تاريخه متأخر عن صلاة مرض الموت ودونه خرط القتاد. فإن قيل: إن مواظبة الخلفاء الراشدين على عدم صلاة الإمام قاعدا تشهد له، قلنا: إن عدم النقل لا يدل على عدم الوقوع ولو سلم لا يستدل به على عدم الجواز، لاحتمال أن يكونوا اكتفوا باستخلاف القادر على القيام للاتفاق، على أن صلاة القاعد بالقائم مرجوحة بالنسبة إلى صلاة القائم بمثله وهذا كاف في بيان تركهم الإمامة من قعود. وأما قول بعضهم: لا يصح أن يكون أحد إماما له صلى الله عليه وسلم فهو مردود بما ثبت في الصحيح عند مسلم، وسيأتي بعد باب، أنه صلى الله عليه وسلم صلى خلف عبد الرحمن بن عوف، مما يدل على أن المراد بمنع التقدم بين يديه صلى الله عليه وسلم إنما هو في غير الإمامة. وأما نقص صلاة القاعد عن القائم فهو في حق القادر في النافلة وأما المعذور في الفريضة فلا

نقص في صلاته عن القائم، ثم إن جعل هذا من خصوصياته صلى الله عليه وسلم لا دليل يعتمد عليه، بل هو معارض بعموم قوله صلى الله عليه وسلم "صلوا كما رأيتموني أصلي". ومن هنا قال أبو بكر بن العربي المالكي: لا جواب لأصحابنا عن حديث مرض النبي صلى الله عليه وسلم يخلص عند السبك، واتباع السنة أولى والتخصيص لا يثبت بالاحتمال. اهـ. وننتقل إلى مذهب الحنابلة، وهم ينكرون نسخ روايات الباب بحديث صلاته صلى الله عليه وسلم في مرضه الأخير، ويجمعون بين الحديثين بتنزيلهما على حالتين، إحداهما إذا ابتدأ الإمام الراتب الصلاة قاعدا لمرض يرجى برؤه فحينئذ يصلون خلفه قعودا، ثانيتهما إذ ابتدأ الإمام قائما لزم المأمومين أن يصلوا خلفه قياما، سواء طرأ ما يقتضي صلاة إمامهم قاعدا أم لا فالحالة الأولى كروايات الباب، والحالة الثانية كحديث صلاته صلى الله عليه وسلم في مرض موته، فإن تقريره لهم على القيام دل على أنه لا يلزمهم الجلوس في تلك الحالة، لأن أبا بكر ابتدأ الصلاة بهم قائما، وصلوا معه قياما بخلاف الحالة الأولى، ويقوي هذا الجمع أن الأصل عدم النسخ، لا سيما وهو في هذه الحالة يستلزم دعوى النسخ مرتين، لأن الأصل في حكم القادر على القيام أن لا يصلي قاعدا، وقد نسخ إلى القعود في حق من صلى إمامه قاعدا، بروايات الباب، فدعوى نسخ القعود بعد ذلك تقتضي وقوع النسخ مرتين، وهو بعيد. وقد قال بقول أحمد جماعة من محدثي الشافعية، كابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان، وأجابوا في الجمع بين الحديثين بأجوبة أخرى، منها قول ابن خزيمة، إن الأحاديث التي وردت بأمر المأموم أن يصلي قاعدا تبعا لإمامه لم يختلف في صحتها ولا في سياقها، وأما في صلاته صلى الله عليه وسلم قاعدا فاختلف فيها هل كان إماما أو مأموما؟ وما لم يختلف فيه لا ينبغي تركه لمختلف فيه. ومنها ما قاله بعضهم: إن الأمر بالجلوس كان للندب، وتقريره قيامهم خلفه كان لبيان الجواز، فعلى هذا الأمر من أم قاعدا لعذر تخير من صلى خلفه بين القعود والقيام، والقعود أولى، لثبوت الأمر بالائتمام والاتباع، ولكثرة الأحاديث الواردة في ذلك، واستدل لهذا بما رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن قيس بن فهد الأنصاري "أن إماما لهم اشتكى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فكان يؤمنا وهو جالس ونحن جلوس". وروى ابن المنذر بإسناد صحيح عن أسيد بن حضير أنه كان يؤم قومه فاشتكى، فخرج إليهم بعد شكواه، فأمروه أن يصلي بهم. فقال: إني لا أستطيع أن أصلي قائما. فاقعدوا. فصلى بهم قاعدا وهم قعود. وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن جابر أنه اشتكى. فحضرت الصلاة، فصلى بهم جالسا، وصلوا معه جلوسا. ولهذا المذهب أميل، وإن كنت أفضل القيام للمأمومين خلف الإمام القاعد لعذر، والله أعلم. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - وجوب متابعة المأموم لإمامه في التكبير والقيام والقعود والركوع والسجود، ومع وجوب المتابعة

ليس شيء منها شرطا في صحة القدوة إلا تكبيرة الإحرام، واختلف في السلام والمشهور عند المالكية اشتراطه مع الإحرام والقيام من التشهد الأول، قال النووي: وأنه يفعلها بعد الإمام، فيكبر تكبيرة الإحرام بعد فراغ الإمام منها، فإن شرع فيها قبل فراغ الإمام منها لم ننعقد صلاته، ويركع بعد شروع الإمام في الركوع وقبل رفعه منه، فإن قارنه أو سبقه، فقد أساء، ولكن لا تبطل صلاته، وكذا السجود، ويسلم بعد فراغ الإمام من السلام، فإن سلم قبله بطلت صلاته إلا أن ينوي المفارقة، ففيه خلاف مشهور، وإن سلم معه لا قبله ولا بعده فقد أساء، ولا تبطل صلاته على الصحيح. وقيل: تبطل. اهـ. وهذا ظاهر في قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام ليؤتم به"، وقوله: "فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا" وخالف الحنفية، فقالوا: تكفي المقارنة لأن معنى الائتمام الامتثال، ومن فعل مثل فعل إمامه عد ممتثلا. 2 - استدل المالكية والحنفية بقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام ليؤتم به" على عدم صلاة الفرض خلف النفل وعكسه، والظهر خلف العصر وعكسه، والظهر خلف العصر وعكسه، قالوا: لأن معنى الحديث ليؤتم به في الأفعال والنيات، كما استدلوا بقوله في الرواية الثامنة "فلا تختلفوا عليه" وقالوا: مقتضى ذلك أن لا يخالفه في شيء من الأحوال، ولا اختلاف أشد من الاختلاف في النيات في صلاة فرضين أو نفل وفرض. وأجاب الشافعية -وهم يجيزون ذلك- بأن معنى الحديث: ليؤتم به في الأفعال الظاهرة، إذ هي التي نبه عليها في الحديث، فذكر الركوع وغيره، بخلاف النية، فإنها لم تذكر، وقد خرجت من قوله صلى الله عليه وسلم: "فلا تختلفوا عليه" بدليل آخر، فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه، ببطن نخل صلاة الخوف مرتين، بكل فرقة مرة، فصلاته الثانية وقعت له نفلا، وللمقتدين فرضا وأيضا حديث معاذ "كان يصلي العشاء مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يأتي قومه فيصليها بهم، هي له تطوع، ولهم فريضة"، بل يمكن أن يستدل من أحاديث الباب على عدم دخولها. لأنها تقتضي الحصر في الاقتداء به في أفعاله [القيام، والقعود والركوع والسجود، والرفع، والتكبير والتسبيح والتأمين] لا في جميع أحواله. والله أعلم. 3 - استدل بعض المالكية بقوله في الرواية السابعة: "وأبو بكر خلفه فإذا كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر أبو بكر" على جواز الصلاة بالسمع، فالمقتدي به مقتد بالإمام، وقيل عند المالكية أيضا: إن أذن له الإمام صحت لأن مع الإذن يصير المقتدي به كالمقتدي بالإمام. وقيل: إنما يجوز في مثل الأعياد والجنائز والصلوات المجتمع لها من غير الفرض. وقيل: يجوز: في الجمعات، لضرورة كثرة الناس والجمهور على عدم صحة الاقتداء بمقتد والمقتدي به مقتدي بغير إمام. 4 - استدل بقوله: "فحضرت الصلاة" على جواز صلاة الفرض جماعة في المنزل، وهو مذهب الجمهور؛ وأجاب المخالف بأن من في المسجد صلى بصلاته صلى الله عليه وسلم، لأن منزله في المسجد، إذا لم يثبت أنه استخلف. قال الحافظ ابن حجر: وهذا محتمل، ويحتمل أيضا أن يكون استخلف وإن لم ينقل. اهـ.

5 - استدل بقوله في الرواية السابعة: "فالتفت إلينا" على جواز العمل اليسير، وشرط بعضهم أن يكون لمصلحة الصلاة لأنه التفت ليرى هل امتثلوا وصلوا كما صلى أولا؟ قال الأبي: أما الالتفات لغير مصلحة الصلاة فمكروه وخلسة من الشيطان اهـ والتحقيق أن العمل اليسير لا يبطل الصلاة سواء كان لمصلحتها أم لا، وأما كراهته فمسلمة إلا لضرورة. 6 - استدل بقوله في الرواية السادسة: "فأشار إليهم" وفي الرواية السابعة "فأشار إلينا" على جواز الإشارة في الصلاة، وأن مخاطبة المصلي بالإشارة أولى من مخاطبته بالعبارة. 7 - استدل المالكية والحنفية ومن تبعهما بالرواية التاسعة على أن الإمام لا يقول ربنا لك الحمد، وأن المأموم لا يقول سمع الله لمن حمده، قال الحافظ ابن حجر في رده هذا الاستدلال: ليس في السياق ما يقتضي المنع من ذلك، لأن السكوت عن الشيء لا يقتضي ترك فعله، نعم مقتضاه أن المأموم يقول "ربنا لك الحمد" عقب قول الإمام "سمع الله لمن حمده" فأما منع الإمام من قول "ربنا لك الحمد" فليس بشيء. اهـ وقد سبق بيان الحكم وأدلته في باب التسميع، في الباب السابق. 8 - قال الحافظ ابن حجر: فيه أنه يجوز عليه صلى الله عليه وسلم ما يجوز على البشر من الأسقام ونحوها من غير نقص في مقداره بذلك، بل ليزداد قدره رفعة ومنصبه جلالة. اهـ وقال الأبي: الأمراض الحسية، الأنبياء عليهم السلام فيها كغيرهم، تعظيما لأجرهم، ولا يقدح في رتبتهم، بل هو تثبيت لأمرهم وأنهم بشر، إذ لو لم يصبهم ما أصاب البشر، مع ما يظهر على أيديهم من خرق العادة لقيل فيهم ما قالت النصارى في عيسى ابن مريم عليه السلام ويستثنى من ذلك ما فيه نقص كالجنون. اهـ. 9 - قال الحافظ ابن حجر: فيه مشروعية ركوب الخيل، والتدرب على أخلاقها، والتأسي لمن يحصل له سقوط ونحوه بما اتفق للنبي صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة وبه الأسوة الحسنة. 10 - أخذ النووي من الرواية السابعة النهي عن قيام الغلمان والأتباع على رأس متبوعهم الجالس، لغير حاجة، قال: وأما القيام للداخل إذا كان من أهل الفضل والخير فليس من هذا، بل هو جائز: قد جاءت به أحاديث، وأطبق عليه السلف والخلف. اهـ. وقال الأبي: قاموا على رأس عمر بن عبد العزيز فقال: إن تقوموا نقم، وإن تقعدوا نقعد، فلم يكره القيام إلا على رأس القاعد، وعليه يحمل حديث: "من أحب أن يتمثل له الناس قياما" وأما القيام للقادم فقد قام صلى الله عليه وسلم لجعفر وعكرمة وأسامة بن زيد رضي الله عنهم، وقال للأنصار رضي الله عنهم: قوموا لسيدكم، وعمم بعضهم النهي في الجميع، إذا كان للتعظيم، وهو ظاهر مذهب مالك رحمه الله تعالى. اهـ. 11 - وفيه فضل أبي بكر على عامة الصحابة. والله أعلم

(167) باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر ونسخ القعود خلف الإمام القاعد لعذر ومرض رسول الله صلى الله عليه وسلم

(167) باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر ونسخ القعود خلف الإمام القاعد لعذر ومرض رسول الله صلى الله عليه وسلم 758 - عن عبيد الله بن عبد الله قال: دخلت على عائشة فقلت لها ألا تحدثيني عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: بلى ثقل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أصلى الناس؟ " قلنا لا وهم ينتظرونك يا رسول الله قال: "ضعوا لي ماء في المخضب" ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه ثم أفاق فقال: "أصلى الناس؟ " قلنا لا وهم ينتظرونك يا رسول الله فقال: "ضعوا لي ماء في المخضب" ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه ثم أفاق فقال "أصلى الناس؟ " قلنا لا وهم ينتظرونك يا رسول الله فقال "ضعوا لي ماء في المخضب" ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه ثم أفاق فقال: "أصلى الناس؟ " فقلنا: لا وهم ينتظرونك يا رسول الله، قالت والناس عكوف في المسجد ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة قالت فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر أن يصلي بالناس فأتاه الرسول فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تصلي بالناس فقال أبو بكر وكان رجلا رقيقا يا عمر صل بالناس قال فقال عمر أنت أحق بذلك قالت فصلى بهم أبو بكر تلك الأيام ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد من نفسه خفة فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر وأبو بكر يصلي بالناس فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يتأخر وقال لهما "أجلساني إلى جنبه" فأجلساه إلى جنب أبي بكر وكان أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد قال عبيد الله فدخلت على عبد الله بن عباس فقلت له ألا أعرض عليك ما حدثتني عائشة عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هات فعرضت حديثها عليه فما أنكر منه شيئا غير أنه قال أسمت لك الرجل الذي كان مع العباس قلت لا قال: هو علي. 759 - عن عائشة رضي الله عنها قالت أول ما اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة فاستأذن أزواجه أن يمرض في بيتها وأذن له قالت فخرج ويد له على الفضل بن

عباس ويد له على رجل آخر وهو يخط برجليه في الأرض فقال عبيد الله فحدثت به ابن عباس فقال: أتدري من الرجل الذي لم تسم عائشة؟ هو علي. 760 - عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها قالت لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد به وجعه استأذن أزواجه أن يمرض في بيتي فأذن له فخرج بين رجلين تخط رجلاه في الأرض بين عباس بن عبد المطلب وبين رجل آخر قال عبيد الله فأخبرت عبد الله بالذي قالت عائشة فقال لي عبد الله بن عباس هل تدري من الرجل الآخر الذي لم تسم عائشة؟ قال قلت لا قال ابن عباس هو علي. 761 - عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها قالت: لقد راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك وما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلا قام مقامه أبدا وإلا أني كنت أرى أنه لن يقوم مقامه أحد إلا تشاءم الناس به فأردت أن يعدل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر. 762 - عن عائشة رضي الله عنها قالت لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي قال "مروا أبا بكر فليصل بالناس" قالت فقلت يا رسول الله، إن أبا بكر رجل رقيق إذا قرأ القرآن لا يملك دمعه فلو أمرت غير أبي بكر قالت والله ما بي إلا كراهية أن يتشاءم الناس بأول من يقوم في مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت فراجعته مرتين أو ثلاثا فقال ليصل بالناس أبو بكر فإنكن صواحب يوسف. 763 - عن عائشة رضي الله عنها قالت لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بلال يؤذنه بالصلاة فقال "مروا أبا بكر فليصل بالناس" قالت فقلت يا رسول الله، إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس فلو أمرت عمر فقال "مروا أبا بكر فليصل بالناس" قالت فقلت لحفصة قولي له إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس فلو أمرت عمر فقالت له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم

"إنكن لأنتن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصل بالناس" قالت فأمروا أبا بكر يصلي بالناس قالت فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه خفة فقام يهادى بين رجلين ورجلاه تخطان في الأرض قالت فلما دخل المسجد سمع أبو بكر حسه ذهب يتأخر فأومأ إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قم مكانك فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس عن يسار أبي بكر قالت فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس جالسا وأبو بكر قائما يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر. 764 - عن الأعمش بهذا الإسناد نحوه وفي حديثهما لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم مرضه الذي توفي فيه وفي حديث ابن مسهر فأتي برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أجلس إلى جنبه وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس وأبو بكر يسمعهم التكبير وفي حديث عيسى فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وأبو بكر إلى جنبه وأبو بكر يسمع الناس. 765 - عن عائشة رضي الله عنها قالت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يصلي بالناس في مرضه فكان يصلي بهم قال عروة فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه خفة فخرج وإذا أبو بكر يؤم الناس فلما رآه أبو بكر استأخر فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أي كما أنت فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم حذاء أبي بكر إلى جنبه فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر. 766 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن أبا بكر كان يصلي لهم في وجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه حتى إذا كان يوم الأثنين وهم صفوف في الصلاة كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة فنظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف ثم تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكا قال فبهتنا ونحن في الصلاة من فرح بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خارج للصلاة فأشار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده أن أتموا صلاتكم قال ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرخى الستر قال فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه ذلك.

767 - عن أنس رضي الله عنه قال آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كشف الستارة يوم الإثنين بهذه القصة وحديث صالح أتم وأشبع. 768 - عن أنس رضي الله عنه قال لم يخرج إلينا نبي الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا فأقيمت الصلاة فذهب أبو بكر يتقدم فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم بالحجاب فرفعه فلما وضح لنا وجه نبي الله صلى الله عليه وسلم ما نظرنا منظرا قط كان أعجب إلينا من وجه النبي صلى الله عليه وسلم حين وضح لنا قال فأومأ نبي الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى أبي بكر أن يتقدم وأرخى نبي الله صلى الله عليه وسلم الحجاب فلم نقدر عليه حتى مات. 769 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال: مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتد مرضه فقال "مروا أبا بكر فليصل بالناس" فقالت عائشة يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق متى يقم مقامك لا يستطع أن يصلي بالناس فقال "مري أبا بكر فليصل بالناس فإنكن صواحب يوسف". قال فصلى بهم أبو بكر حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. -[المعنى العام]- ما أشد حرص السلف الصالح على طلب العلم، وعلى انتقالهم إلى مصدره وإلى اختيار من هو أعلم بالمطلوب، وعلى الاستيثاق ممن يأخذون. هذا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود يروي أنه ذهب إلى أم المؤمنين عائشة يسألها عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه، فقال لها -وبينهما الحجاب-: يا أم المؤمنين، أرجو أن تحدثيني عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وفهمت عائشة بذكائها أنه لا يسأل عن نوع المرض أو مكانه أو صفته، وإنما يسأل عن ملابسات المرض من الاستخلاف في الصلاة والحرص في أحرج الأوقات على إقامتها، فأجابت رضي الله عنها إجابة شفت السائل، وأشبعت استفهاماته، وصورت الموقف المخزن بأنه صلى الله عليه وسلم قد مرض في مرضه الأخير عشرة أيام قبل وفاته، أمضى الأيام الثلاثة الأولى منه يتحامل على نفسه، وينتقل بين أزواجه منفذا القسم بينهن، وفيهن كبيرة السن التي لا تستطيع خدمة المريض خدمة كاملة، وفيهن ذات العيال التي يتعذر على المريض الراحة التامة عندها، لقد كان يسائلهن: أين أنا غدا؟ أين سأبيت الليلة القادمة؟ عند من من نسائي سأكون غدا؟ يتشوف إلى يوم عائشة، التي يستريح قلبه عندها، إنها حبيبته أو أحب

زوجاته إليه، وابنة أحب الناس إليه، وفهمت ابنته فاطمة مقصده، فقالت لهن: إنه لا يستطيع أن يدور على البيوت، وإنه يستأذن في الإقامة في بيت واحدة، فقلن -رضي الله عنهن-: يا رسول الله قد وهبنا ليالينا لأختنا عائشة، فذهب إلى بيت عائشة يوم الإثنين وتوفي صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين بعد أسبوع، ولقد كان بيت عائشة ملاصقا للمسجد بل يفتح فيه، وليس بينهما إلا ستارة، وكان لشدة حرصه صلى الله عليه وسلم على إقامة الصلاة يتكلف الصعب والمشقة، ويخرج إلى الجماعة يصلي بالناس، فلما اشتد عليه المرض، وانتابه الإغماء ثم أفاق أخذ يسأل صلى الله عليه وسلم: أصلى الناس؟ فأجيب: لا، وهم ينتظرون في المسجد، لتخرج فتصلي بهم، فقال: ضعوا لي ماء أغتسل منه وأتوضأ، فوضعوا الماء فاغتسل فلما أراد القيام لم يستطع وعاوده الإغماء، فلما أفاق سأل: أصلى الناس؟ قيل: لم يصلوا وهم ينتظرونك، قال: ضعوا لي ماء في المغسل، أغتسل منه وأتوضأ، ففعلوا فاغتسل وتوضأ، فلما أراد القيام عاوده الإغماء، تكرر هذا ثلاث مرات أو أكثر، فلما أفاق واستيقن أنه من الصعب أن يخرج قال: مروا أبا بكر أن يصلي بالناس، وأشفقت عائشة على أبيها، أن يتشاءم الناس منه إن هو قام مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخافت على أبيها كراهية الناس له إذا ارتبطت إمامته بمرض من يحبون أو بموت أحب الناس إليهم، فقالت: يا رسول الله، إن أبا بكر رقيق القلب سريع الدمع، إن هو وقف موقفك لا يملك نفسه من البكاء، فلا يسمع الناس الصلاة، فمر عمر الرجل القوي الشديد أن يصلي بالناس، فأعاد صلى الله عليه وسلم: مروا أبا بكر فليصل بالناس. فأعادت عائشة المراجعة. فأعاد صلى الله عليه وسلم الأمر، فهمست عائشة لحفصة أن تقول له ما قالت، فاستجابت لها حفصة وقالت: يا رسول الله، إن أبا بكر رجل رقيق لا يسمع الناس من البكاء إن قام مقامك فمر عمر أن يصلي بالناس. وغضب صلى الله عليه وسلم من طول المراجعة، فوجه اللوم لعائشة قائلا: إنكن -معشر النساء- صواحب يوسف، إن طبائعكن كطبائع زليخا امرأة العزيز، تكثرن الإلحاح، وتبدين ما لا تخفين، مروا أبا بكر فليصل بالناس، وجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فأمروه أن يذهب إلى أبي بكر ليصلي بالناس، فذهب إليه في المسجد يقول له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تصلي بالناس، وأحس أبو بكر بثقل التبعة، وشعر بضعفه عن أن يتحمل هذا الموقف الصعب، وخشي أن يبكي في الصلاة فيثير الشجن في المصلين، وينشر البكاء والضجيج في المسجد، فقال لعمر: صل أنت بالناس فقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرك، ولا سبيل إلى تغيير أمره، فصل بالناس: فصلى بهم أبو بكر صلاة العشاء الآخرة، ثم صلى بهم الصبح، فلما جاءت صلاة الظهر في اليوم التالي وجد صلى الله عليه وسلم من نفسه خفة ونشاطا يمكنه من الصلاة في المسجد، فخرج بين عمه العباس وابن عمه علي بن أبي طالب، يتوكأ عليهما، ويخط برجليه في الأرض، لعدم قدرته على رفعهما، وكان أبو بكر قد بدأ الصلاة بالناس، فلما رآه أبو بكر تخلى عن إمامته، وأراد أن يتأخر. ليصل إلى الصف، فقبل منه صلى الله عليه وسلم الإمامة ولم يقبل أن يتأخر إلى الصف تكريما لأبي بكر. وإشارة إلى تقديمه على المسلمين. فأشار إليه صلى الله عليه وسلم أن لا يتأخر. وقال للعباس ولعلي: اجلساني بجانبه. فأجلساه. فصلى وصوته خافت لا يبلغ الناس. فكان أبو بكر ينقل تكبيراته ويسمعهم، وهو يصلي كالناس واقفا، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، وتعدد خروج النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة مع أبي بكر، وكان يجلس مرة

عن يمينه: ومرة عن شماله بحذائه، كما استند في خروجه مرة على أسامة بن زيد، ومرة على الفضل بن عباس، ومرة على بريرة، ومرة على نوبة، وهو عبد أسود، وربما توكأ على بعض هؤلاء ذهابا، وعلى بعضهم إيابا، حتى إذا لم يبق على وفاته صلى الله عليه وسلم إلا ثلاث لم يستطع الخروج، لكنه كان يطمئن بين الحين والحين على اهتمام الصحابة بصلاة الجماعة، وعلى إمامة أبي بكر فلما كان يوم الأثنين الذي توفي فيه صلى الله عليه وسلم، وكانت صلاة الظهر، ودخل الناس في الصلاة رفع صلى الله عليه وسلم الستارة التي بينه وبين المسجد، فرأى صحابته صفوفا خلف أبي بكر يقيمون شعائر الإسلام، ويحافظون على تعاليمه، فأشرق وجهه وأضاء، وهز رأسه راضيا مطمئنا، وتبسم فرحا وسرورا، وأحس الصحابة برفع الحجاب، ولحظوا بعيونهم إشراقة وجهه ونور ابتسامته التي حرموها منذ ثلاث فكادوا يفتنون فرحا، وتهللت وجوههم بشرا، وبهتوا حيرة ودهشة وشوقا وظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خارج إليهم بعد غيبة صعبة، وسمع في المسجد صوت الذكر والتسبيح، ينبه أبا بكر للحدث الجلل والبشر العظيم، فرجع أبو بكر على عقبيه، وتأخر عن الإمامة لهفة عليه، فأشار إليهم صلى الله عليه وسلم أن أتموا صلاتكم، ثم أرخى الستر، وأنزل الحجاب ودخل، وكانت آخر نظرة منه على صلاتهم، وآخر نظرة منهم إلى وجهه الوضاء، ولحق من يومه بالرفيق الأعلى صلى الله عليه وسلم، نشهد أنه رسول الله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، ونحن على ذلك من الشاهدين، اللهم أعطه الوسيلة والفضيلة، والدرجة الرفيعة العالية في الجنة، وابعثه اللهم المقام المحمود الذي وعدته، إنك لا تخلف الميعاد. -[المباحث العربية]- (ألا تحدثيني عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم) "ألا" للعرض أو التحضيض ومعناهما طلب الشيء، لكن العرض طلب برفق، والتحضيض طلب بحث أي حدثيني، والمراد من المرض مرضه الأخير الذي توفي فيه. (قالت: بلى) "بلى" حرف جواب عن النفي، وكأنه روعي في جوابها أصل "ألا" وأنها مركبة من همزة الاستفهام، و "لا" النافية. (ثقل النبي صلى الله عليه وسلم) ثقل في مرضه، بفتح الثاء وضم القاف إذا تناهى في الضعف، وركدت أعضاؤه عن خفة الحركة، حتى لا تكاد تحمله رجلاه. (قلنا: لا، وهم ينتظرونك) القائل عائشة، ونسب للحاضرين لموافقتهم وجملة "وهم ينتظرونك" في موقع الحال من الضمير الواقع في مضمون "لا" إذ أصلها: لم يصلوا منتظرين حضورك، وفيها التعريض لأن يخرج، فيصلي بهم. (ضعوا لي ماء في المخضب) "المخضب" بكسر الميم وفتح الضاد بينهما خاء ساكنة، والمشهور أنه الإناء الذي يغسل فيه الثياب من أي جنس كان.

(فاغتسل) حمله بعض العلماء على الوضوء، وحمله بعضهم على الغسل الكامل، وسيأتي توضيحه في فقه الحديث. (ثم ذهب لينوء) أي ثم أخذ يقوم وينهض بجهد، ففي القاموس: ناء نهض بجهد ومشقة، وبالحمل نهض مثقلا، وفلان ثقل فسقط، والنوء النجم مال للغروب. اهـ. (قالت: والناس عكوف في المسجد) أي مجتمعون منتظرون لخروج النبي صلى الله عليه وسلم وأصل الاعتكاف اللزوم والحبس، وهذه الجملة قالتها عائشة عند روايتها لعبيد الله، ولم تقلها للرسول صلى الله عليه وسلم ولهذا جاء الراوي بكلمة "قالت". (فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر أن يصلي بالناس) "أن" وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول "أرسل" بتضمينه معنى طلب أي طلب إليه الصلاة بالناس. (فأتاه الرسول) أي فأتى أبا بكر رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بلال. (كان رجلا رقيقا) أي رقيق القلب، وفد فسره في الرواية الخامسة بأنه لا يملك دمعه إذا قرأ القرآن. (فصلى بهم أبو بكر تلك الأيام) أي التي مرض فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وانقطع عن الذهاب فيها إلى المسجد، وهي ثلاثة على أرجح الأقوال وسيأتي توضيح المسألة في فقه الحديث. (فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر) قولها "صلاة الظهر" بعد قولها من قبل "لصلاة العشاء الآخرة" صريح في أن الخروج كان في غير وقت الإغماء السابق، فهو خروج غير خروج. (فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يتأخر) "أن" وما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، أي أومأ إليه بعدم التأخر. (وقال لهما: اجلساني) أي قال للرجلين اللذين خرج بينهما. (قال: هات) اسم فعل أمر، بمعنى احضر، مبني على الكسر. (أول ما اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة) "في بيت ميمونة" متعلق بمحذوف خبر، و"ما" مصدرية، أي أول شكايته صلى الله عليه وسلم كان في بيت ميمونة إحدى زوجاته صلى الله عليه وسلم. (فاستأذن أزواجه أن يمرض في بيتها) "يمرض" بضم الياء وفتح الميم والراء المشددة، أي يخدم في مرضه، وقول الراوي "في بيتها" أي في بيت عائشة، والمفروض أنها قالت "في بيتي" كما هو لفظ الرواية الثالثة واستأذن طلب الإذن، وكان طلبه بطريق التلميح والتعريض، لا بطريق

التصريح على الصحيح، فقد روى البخاري "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم" كان يسأل في مرضه الذي مات فيه، يقول: أين أنا غدا؟ أين أنا غدا؟ يريد يوم عائشة، فأذن له أزواجه يكون حيث شاء "وروى ابن سعد" أن فاطمة هي التي خاطبت أمهات المؤمنين بذلك، فقالت لهن: إنه يشق عليه الاختلاف "نعم جاء عند أحمد" أنه صلى الله عليه وسلم قال لنسائه: إني لا أستطيع أن أدور ببيوتكن، فإذا شئتن أذنتن لي" وكان هذا الاستئذان قبل موته صلى الله عليه وسلم بسبعة أيام، فعند ابن أبي مليكة عن عائشة "أن دخوله في بيتها كان يوم الإثنين، ومات يوم الإثنين الذي يليه". (وأذن له) بكسر الذال وتشديد النون المفتوحة أي أذن الأزواج له. (وهو يخط برجليه في الأرض) كناية عن الضعف وعدم اعتماده على رجليه وتحامله على الرجلين، أي يجرهما في الأرض لدرجة أنهما يجعلان فيها خطا. (واشتد به وجعه) أي مرضه، والعرب تسمي كل مرض وجعا. قاله القاضي عياض. (لقد راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك) أي في أمر استخلاف أبي بكر للصلاة بالناس. (فأردت أن يعدل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر) كذا ضبطتها النسخة التي بيدي، "رسول" بالرفع، والمعنى عليها فأردت أن يعدل رسول الله الإمامة عن أبي بكر، أي أن يحولها عنه، والإشارة لأمر الإمامة، ولو أن لفظ "رسول الله" بالنصب تكون الإشارة لتوقف عائشة ومراجعتها. (مروا أبا بكر فليصل بالناس) "مروا" أصله اؤمرو، لأنه من أمر فحذفت الهمزة للاستثقال، واستغنى عن الألف، فحذفت، فبقي مروا، على وزن علوا، لأن المحذوف فاء الكلمة. (فلو أمرت غير أبي بكر) "لو" للعرض، أي الطلب برفق أو للتمني أي ليتك تأمر غير أبي بكر، أو للشرط، وجوابها محذوف أي لو أمرت غير أبي بكر كان خيرا. (والله ما بي إلا كراهية أن يتشاءم الناس) "ما" نافية، و"بي" جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم، و"كراهية تشاؤم الناس" مبتدأ مؤخر. (فراجعته مرتين أو ثلاثا) شك من عائشة في عدد مراجعتها وظاهر روايتنا أن المراجعة كانت مرتين، مرة بنفسها، ومرة بواسطة حفصة، لكن في البخاري "وأعاد فأعادوا له، فأعاد الثالثة فقال: إنكن صواحب يوسف" مما ظاهره أن المراجعة بلغت ثلاثا. (فإنكن صواحب يوسف) أي مثل صواحب يوسف، ففي الكلام تشبيه بليغ، وصواحب يوسف جمع صاحبة، والخطاب إن كان لعائشة وحفصة باعتبار أن أقل الجمع اثنان، أو كان لهما وللحاضرات باعتبار موافقتهن فظاهر، وإن كان لعائشة وحدها فهو من قبيل خطاب الجماعة وإرادة الواحد، تخفيفا عليه في الزجر، كما أن "صواحب" صيغة جمع والمراد بها زليخا فقط، ووجه المشابهة بينهما في ذلك أن زليخا استدعت النسوة وأظهرت لهن الإكرام بالضيافة ومرادها زيادة

على ذلك، وهو أن ينظرن إلى حسن يوسف، ويعذرنها في محبته وأن عائشة أظهرت أن سبب إرادتها صرف الإمامة عن أبيها كونه لا يسمع المأمومين القراءة لبكائه، ومرادها زيادة على ذلك، وهو ألا يتشاءم الناس به قاله الحافظ ابن حجر، وقال القاضي عياض: وجه الشبه التظاهر والإلحاح على ما أرادته عائشة وحفصة، كتظاهر امرأة العزيز ونسائها على يوسف عليه السلام ليصرفنه عن رأيه في الاستعصام. وقال السنوسي قيل: إن وجه الشبه كون المظهر شيئا والمراد غيره فإن نساء امرأة العزيز لمنها على المراودة، وبهن من حب يوسف عليه السلام والرغبة في مراودته ما بامرأة العزيز أو أشد، اهـ ولا مانع من كون وجه الشبه الأمرين معا، الإلحاح وإظهار غير المقصود. (إن أبا بكر رجل أسيف) بوزن فعيل، وهو بمعنى فاعل، من الأسف وهو شدة الحزن، والمراد أنه رقيق القلب، سريع البكاء، والأسف عند العرب شدة الحزن والندم، وقول يعقوب عليه السلام {يا أسفى على يوسف} [يوسف: 84] يعني واحزناه توجعا لفقده، وأما الأسف بكسر السين فهو الغضبان المتهلف، قال تعالى: {فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا} [الأعراف: 150] ذكره العيني. (فأمروا أبا بكر يصلي بالناس) "يصلي" مسبوك بمصدر من غير سابك والمصدر مجرور بحرف جر محذوف والتقدير: فأمروا أبا بكر بالصلاة بالناس. (فقام يهادى بين رجلين) "يهادى" بضم الياء وفتح الدال، مبني للمجهول، يقال: جاء فلان يهادى بين اثنين إذا كان يمشي بينهما معتمدا عليهما من ضعفه متمايلا إلى هذا مرة، وهذا مرة، من شدة الضعف والتهادي التمايل في المشي البطيء. (فلما دخل المسجد سمع أبو بكر حسه) في القاموس: الحس بفتح الحاء الجلبة، والحس بكسرها الحركة وأن يمر بك قريبا، فتسمعه ولا تراه والرواية بكسر الحاء: أي سمع أبو بكر حركته. (قال عروة ... إلخ) في الرواية السابعة. قال الكرماني: من هنا إلى آخر الحديث موقوف على عروة، وهو من مراسيل التابعين ويحتمل دخوله تحت الإسناد الأول، وأخرجه ابن ماجه بهذا الإسناد متصلا، ويحتمل أن يكون عروة أخذه عن غير عائشة، فقطع الجزء الثاني عن الجزء الأول. (فأشار إليه صلى الله عليه وسلم أي كما أنت) "ما" موصولة و"أنت" مبتدأ وخبرها وعائد الصلة محذوف تقديره "عليه" والكاف للتشبيه، والجملة خبر "كان" المحذوفة مع اسمها، أي كن مشابها للذي أنت عليه. أي يكون حالك في المستقبل مشابها لحالك في الماضي. (فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم حذاء أبي بكر إلى جنبه) أي محاذيا أبا بكر من جهة الجنب، لا من جهة القدام والخلف، أي بجواره لا يسبقه ولا يتأخر عنه.

(حتى إذا كان يوم الإثنين) روي برفع "يوم" على جعل "كان" تامة وبالنصب على خبر كان، أي حتى إذا كان الزمن يوم الإثنين، والأول أوضح. (كأن وجهه ورقة مصحف) وجه الشبه الجمال البارع، وحسن الوجه وصفاء البشرة، وفي ميم المصحف الحركات الثلاث. قال الأبي: والمصحف هو من لفظ الراوي، لأنه لم يكن حينئذ. (فبهتنا ونحن في الصلاة من فرح بخروج رسول الله) "بهتنا" بالبناء للمجهول، أي أخذنا بغتة، وانتابتنا الحيرة، ففي القاموس: والبهت بفتح الباء الأخذ بغتة والحيرة، فعلهما كعلم ونصر وكرم وزهي وهو مبهوت لا باهت. اهـ. وفي رواية البخاري، "فهممنا أن نفتتن من الفرح برؤية النبي صلى الله عليه وسلم". (ونكص أبو بكر على عقبيه) أي رجع إلى الخلف. (ليصل الصف) قال العيني: "الصف" منصوب بنزع الخافض أي إلى الصف. اهـ لكن في القاموس: وصل الشيء وإليه وصولا بلغه وانتهى إليه. اهـ فيكون هنا منصوبا على أنه مفعول به. (أن أتموا صلاتكم) "أن" هنا تفسيرية بمعنى أي، وهي مسبوقة بجملة فيها معنى القول دون حروفه، فالجملة بعدها تفسير لإشارته صلى الله عليه وسلم. (آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) مبتدأ، خبره الجملة المحكية "كشف" الستارة إلى آخر القصة. (لم يخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا) أي ثلاث ليال، وكان ابتداء الثلاث من حين خرج، فصلى بهم جالسا. (فقال صلى الله عليه وسلم بالحجاب) أي أخذ صلى الله عليه وسلم بالحجاب، وإجراء لفظ قال بمعنى "فعل" شائع في كلام العرب. (فلما وضح لنا وجه النبي صلى الله عليه وسلم) أي فلما ظهر لنا وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن التين: فلما ظهر لنا بياضه وحسنه، لأن الوضاح عند العرب هو الأبيض اللون لحسنه. اهـ. (ما نظرنا منظرا قط) بفتح القاف وتشديد الطاء مضمومة في أفصح اللغات، ويختص بالنفي، ظرف لاستغراق ما مضى، أي ما نظرنا منظرا فيما مضى من عمرنا، والعامة تقول: لا أفعله قط، وهو لحن، ذكره ابن هشام في مغنى اللبيب. (فأومأ نبي الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى أبي بكر أن يتقدم) "أن" وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول "أومأ" بتضمينه معنى "طلب" أي طلب إليه التقدم.

(فلم نقدر عليه حتى مات) "نقدر" بفتح النون وكسر الدال. أي فلم نقدر على رؤيته حتى مات، وفي رواية للبخاري "فلم يقدر" بالياء بدل النون وبالبناء للمجهول. (فصلى بهم أبو بكر حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي منذ أن اعتكف حتى مات صلى الله عليه وسلم. -[فقه الحديث]- -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - قال النووي: في قول عائشة "وهم ينتظرونك يا رسول الله" دليل على أنه إذا تأخر الإمام عن أول الوقت، ورجي مجيئه على قرب ينتظر، ولا يتقدم غيره. وسنبسط المسألة في الباب التالي. 2 - وأن الإمام إذا عرض له عذر عن حضور الجماعة استخلف من يصلي بهم، وأنه لا يستخلف إلا أفضلهم. 3 - وفي الحديث دليل على نسخ القعود خلف الإمام القاعد لعذر ووجوب وقوف المأموم القادر على القيام وإن جلس إمامه لعذر. وقد بسطت المسألة والمذاهب فيها وأدلة كل مذهب في الباب السابق. 4 - يؤخذ من قوله في الرواية الأولى "فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر" وفي الرواية السادسة "فلما دخل المسجد سمع أبو بكر حسه، فذهب يتأخر" وفي الرواية السابعة "فلما رآه أبو بكر استأخر" وفي الرواية الثامنة "ونكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف" يؤخذ من هذه العبارات أن من دخل ليؤم الناس فجاء الإمام الراتب، فتأخر الأول، أو لم يتأخر جازت صلاته، وبهذا قال جمهور الشافعية، فجوزوا التأخير اعتمادا على تقرير النبي صلى الله عليه وسلم لتأخر أبي بكر، وجوزوا عدم التأخر لإشارته صلى الله عليه وسلم لأبي بكر بعدم التأخر، وجمهور الفقهاء على أنه لا يجوز للإمام الأول التأخر، وحملوا الحديث على أنه من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا يجوز التقدم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وليس لسائر الناس اليوم من الفضل من يجب أن يتأخر له، وحكى ابن عبد البر الإجماع على هذا القول، لكن حكايته الإجماع مردودة بخلاف الشافعية السابق الذكر. 5 - استدل بجلوس النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنب أبي بكر على جواز وقوف مأموم واحد بجنب الإمام لحاجة أو مصلحة، كإسماع المأمويين وضيق المكان ونحو ذلك. قال النووي: والمعلوم أنه إذا كان مع الإمام مأمومان فأكثر، فالحكم أن يتقدم الإمام عليهما أو عليهم، كما لو كانوا عراة أما تقدم واحد من المأمومين ليقف بجوار الإمام فإنه يجوز لحاجة أو مصلحة، ويقف بجوار الإمام عن يمينه، وقوله في الرواية السادسة "حتى جلس عن يسار أبي بكر" دليل على ذلك، إذ هي صريحة في أن

أبا بكر كان عن يمين الرسول صلى الله عليه وسلم مقتديا به، فالمأموم عن يمين الإمام، وهكذا الحكم لو كان المأموم واحدا، فإنه يقف عن يمين الإمام قريبا منه متأخرا عنه، وقد نقل بعضهم الاتفاق على أن المأموم الواحد يقف عن يمين الإمام، إلا النخعي فقال: إذا كان الإمام ورجل، قام الرجل خلف الإمام، فإن ركع الإمام قبل أن يجيء أحد قام عن يمينه، فإبراهيم النخعي يقول: إن المأموم الواحد يقف خلف الإمام إذا ظن ظنا قويا مجيء مأموم ثان. 6 - وقد يستشعر من الحديث صحة صلاة المأموم وإن لم يتقدم الإمام عليه كما هو في مذهب المالكية، لقوله "إلى جنبه" ويجيب الجمهور بأن هذه العبارة تحتمل أن يكون إلى جنبه مع تقدم عقب الإمام، كما تحتمل المحاذاة فلا دليل فيها على ما ذهب إليه المالكية. 7 - وفيه جواز الصلاة الواحدة بإمامين، أحدهما بعد الآخر، وهذا ظاهر من روايتنا السادسة، ففيها "فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس جالسا، وأبو بكر يسمعهم التكبير" ففيها أن الصحابة ائتموا بأبي بكر أولا، ثم برسول الله صلى الله عليه وسلم ثانيا. 8 - استدل بالحديث بعضهم على جواز ائتمام بعض المأمومين ببعض أخذا من قوله في الرواية الأولى، وكان أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر، وفي الرواية السادسة "يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر" وفي الرواية السابعة" فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر "وهو قول الشعبي، واختيار الطبري، وجمهرة العلماء على أنه لا يجوز الاقتداء بالمقتدي في حالة اقتدائه، وردوا استدلال الشعبي والطبري بأن أبا بكر إنما كان مبلغا فمعنى اقتداء الناس بأبي بكر في هذه الروايات اقتداؤهم بصوته، فهو في حقهم كالإمام، لكنه ليس إماما، إذ كان صلى الله عليه وسلم جالسا، وكان أبو بكر قائما، فكان بعض أفعاله يخفى على بعض المأمومين. 9 - استدل به على جواز رفع الإمام صوته بالتكبير، ليسمعه الناس ويتبعوه. 10 - قال النووي: وفيه أنه يجوز للمقتدي اتباع صوت المكبر وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور، ونقلوا فيه الإجماع، وما أراه يصح الإجماع فيه، فقد نقل القاضي عياض عن مذهبهم (مذهب المالكية) أن منهم من أبطل صلاة المقتدي ومنهم من لم يبطلها، ومنهم من قال: إن أذن له الإمام في الإسماع صح الاقتداء به، وإلا فلا، ومنهم من أبطل صلاة المسمع، ومنهم من صححها، ومنهم من شرط إذن الإمام، ومنهم من قال: إن تكلف صوتا بطلت صلاته وصلاة من ارتبط بصلاته، وكل هذا ضعيف، والصحيح جواز كل ذلك، وصحة صلاة المسمع والسامع، ولا يعتبر إذن الإمام. اهـ. 11 - استدل به الطبري على أن للإمام أن يقطع الاقتداء به، ويقتدي هو بغيره، من غير أن يقطع الصلاة. 12 - وعلى جواز إنشاء القدوة في أثناء الصلاة. 13 - وعلى جواز تقدم إحرام المأموم على الإمام.

وهذه المآخذ الثلاثة مبنية على أن أبا بكر كان قد دخل في الصلاة ثم قطع القدوة وائتم برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ويؤيده أن في بعض الروايات عن ابن عباس "فابتدأ النبي صلى الله عليه وسلم القراءة من حيث انتهى أبو بكر". 14 - وفيه تأكيد أمر الصلاة، وأنها أهم ما يسأل عنه، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم في شدته لم يسأل عن شيء غير الصلاة. 15 - وفيه الحرص على المبادرة إليها أول الوقت وإنما لم يبادر الصحابة في هذه الواقعة كما بادروا في حديث خروجه إلى بني عوف [الآتي في الباب التالي] لأنهم هنا رجوا خروجه عن قرب، وهناك علموا بعده أو ظنوا أنه قد صلى. 16 - وفيه تأكيد أمر صلاة الجماعة، والأخذ فيها بالأشد، وإن كان المرض يرخص في تركها، ويحتمل أن يكون فعل ذلك لبيان جواز الأخذ بالأشد، وتحمل المشقة، وإن كانت الرخصة أولى، وقال الطبري: إنما فعل ذلك وخرج مع الشدة التي هو فيها لئلا يعذر أحد من الأمة بعده نفسه بأدنى عذر، فيتخلف عن الإمامة، ويحتمل أن يكون قصد إفهام الناس أن تقديمه لأبي بكر كان لأهليته لذلك، حتى إنه صلى خلفه. 17 - وفيه فضيلة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وترجحه على جميع الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- وتفضيله، وتنبيهه على أنه الأحق بالخلافة، لأن إمامة الصلاة للخليفة، وتحاول الشيعة رد هذه الفضيلة وتزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم عزله عنها بخروجه وإمامته وتخلف أبي بكر ليكون مأموما، وهو زعم فاسد، فإن الرواية الثامنة والتاسعة والعاشرة صريحة في أن أبا بكر صلى بالناس بعد ذلك أياما ثلاثة لم يخرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرد هذا الزعم من أساسه أن الصحابة حين تشاوروا في الخلافة قالوا: رضينا لدنيانا من رضيه النبي صلى الله عليه وسلم لديننا. 18 - ويؤخذ من قول أبي بكر -في الرواية الأولى- "يا عمر صل بالناس" فضيلة عمر بن الخطاب بعد أبي بكر- رضي الله عنهما- لأن أبا بكر لم يعدل إلى غيره. 19 - كما يؤخذ من هذا القول أن للمستخلف في الصلاة أن يستخلف، ولا يتوقف على إذن خاص له بذلك. قاله القرطبي: وقال الحافظ ابن حجر: استدل به على جواز استخلاف الإمام لغير ضرورة، لصنيع أبي بكر. اهـ. والظاهر أن أبا بكر لم يرد بعرضه الأمر على عمر ما أرادت عائشة. قال النووي: تأوله بعضهم على أنه قاله تواضعا، وليس كذلك، بل قاله للعذر المذكور، وهو كونه رقيق القلب، كثير البكاء، فخشي أن لا يسمع الناس. اهـ. وقال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون رضي الله عنه فهم من الإمامة الصغرى الإمامة العظمى، وعلم ما في تحملها من الخطر، وعلم قوة عمر على ذلك، فاختاره، ويؤيده أنه عند البيعة أشار عليهم أن يبايعوا عمر، أو يبايعوا أبا عبيدة بن الجراح، والظاهر أنه لم يطلع على مراجعة عائشة، وفهم من الأمر له بذلك تفويض الأمر له في ذلك، سواء باشر بنفسه أو استخلف. اهـ.

20 - ويؤخذ من قول عمر "أنت أحق" جواز الثناء في الوجه لمن أمن عليه الإعجاب والفتنة. 21 - وأن المفضول إذا عرض عليه الفاضل مرتبة لا يقبلها بل يدعها للفاضل إذا لم يمنع مانع. 22 - وفي هذا القول من عمر رد على الشيعة في زعمهم أن عمر لم يكن راضيا عن استخلاف أبي بكر للصلاة، ويؤكد هذا الرد على ما جاء من أن عمر عند البيعة قال للصحابة: من كانت تطيب نفسه منكم أن يؤخره عن مقام أقامه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ 23 - يؤخذ من قول عائشة: -في الرواية السادسة- "جاء بلال يؤذنه بالصلاة" استحباب إيذان الإمام للصلاة، قال النووي: فيه دليل لما قاله أصحابنا أنه لا بأس باستدعاء الأئمة للصلاة. اهـ. 24 - وفي الحديث مراجعة الصغير الكبير، ومراجعة رأي الإمام، لما يظهر أنه مصلحة، لكن بعبارة لطيفة، لا على وجه المعارضة. 25 - وملاطفة النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه، وخصوصا لعائشة. 26 - وأن توبيخ الإمام لمن خالفه لا يكون لأول الأمر، بل حتى يتكرر لأنه لأول الأمر يحتمل أنه نصيحة، فإذا تكرر صار مكابرة. 27 - قال القاضي عياض: في مراجعة عائشة التورية بالحجة الصحيحة لغرض آخر. اهـ. وقال الأبي: فيه أن لمن وقع به مؤلم أن يدفعه عن نفسه، وإن علم أنه يقع بالغير. اهـ. وقد ذكر في سبب مراجعة عائشة وجه آخر غير الذي ذكرته في الرواية الرابعة، وهو أنها علمت أن الناس علموا أن أباها يصلح للخلافة، فإذا رأوه استشعروا بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف غيره. 28 - ويؤخذ من تعليل مراجعة عائشة بأن أبا بكر لا يملك دمعه أن البكاء في الصلاة من عوامل التشويش، وأنه لا ينبغي للإمام أن يتعاطى أسباب كثرة البكاء. قاله الأبي: وقال الحافظ ابن حجر: فيه أن البكاء ولو كثر لا يبطل الصلاة، لأنه صلى الله عليه وسلم بعد أن علم حال أبي بكر في رقة القلب وكثرة البكاء لم يعدل عنه، ولا نهاه عن البكاء. 29 - ومن قوله صلى الله عليه وسلم "مروا أبا بكر فليصل بالناس" التعرض إلى مسألة طال فيها الخلاف بين علماء الأصول، وهي: هل الأمر بالأمر بالشيء أمر به أو لا؟ على معنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعتبر آمرا لأبي بكر في هذه الحالة أو لا؟ قال جماعة: نعم، قال آخرون: لا، بل المعني بلغوا أبا بكر. قال الحافظ ابن حجر: وفصل النزاع أن النافي إن أراد أنه ليس أمرا حقيقة فمسلم لأنه ليس فيه صيغة أمر للثاني، وإن أراد أنه لا يستلزمه فمردود. اهـ. 30 - ويؤخذ من إشارة الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر أن الإيماء يقوم مقام النطق قال الحافظ ابن حجر: واقتصار النبي صلى الله عليه وسلم على الإشارة يحتمل أن يكون لضعف صوته، ويحتمل أن يكون للإعلام بأن مخاطبة من يكون في الصلاة بالإيماء أولى من النطق. اهـ.

31 - ويؤخذ من هم أبي بكر بالرجوع إلى الصف الأدب مع الكبير. 32 - ومن عدم تركه صلى الله عليه وسلم ليصل إلى الصف، واستبقائه بجانبه إكرام الفاضل. 33 - ويؤخذ من الرواية الأولى جواز الإغماء على الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- قال النووي: ولا شك في جوازه، فإنه مرض، والمرض يجوز عليهم، بخلاف الجنون، فإنه لا يجوز عليهم، لأنه نقص، والحكمة في جواز المرض عليهم ومصائب الدنيا تكثير أجرهم، وتسلية الناس بهم، ولئلا يفتتن الناس بهم ويعبدوهم، لما يظهر عليهم من المعجزات والآيات البينات. اهـ. 34 - وفي اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم عقب الإغماء دليل على استحباب الغسل من الإغماء، وإذا تكرر الإغماء استحب تكرار الغسل لكل مرة، فإن لم يغتسل إلا بعد الإغماء مرات كفى غسل واحد، وقد حمل القاضي عياض الغسل هنا على الوضوء، من حيث إن الإغماء ينقض الوضوء قال النووي: والصواب أن المراد غسل جميع البدن، فإنه ظاهر اللفظ. ولا مانع يمنع منه، فإن الغسل من الإغماء مستحب، بل قال بعض أصحابنا: إنه واجب، وهذا شاذ ضعيف. اهـ. 35 - يؤخذ من استئذان الرسول صلى الله عليه وسلم زوجاته أن يمرض في بيت عائشة فضل عائشة رضي الله عنها وحب الرسول صلى الله عليه وسلم لها، قال النووي: فيه فضل عائشة ورجحانها على جميع أزواجه الموجودات ذلك الوقت وكن تسعا إحداهن عائشة، رضي الله عنها، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء، وإنما اختلفوا في عائشة وخديجة، رضي الله عنهما. اهـ. 36 - وبهذا الاستئذان يستدل من يقول: إن القسم كان واجبا على النبي صلى الله عليه وسلم بين أزواجه في الدوام، كما يجب في حقنا، وقال القاضي عياض: لم يكن القسم عليه واجبا، لقوله تعالى: {ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك} [الأحزاب: 51] ولكن لحسن عشرته التزمه صلى الله عليه وسلم تطييبا لنفوسهن؛ وأوجبه بعض المالكية وبعض الشافعية لهذا الحديث، ولحديث "اللهم هذا قسمي فيما أملك". 37 - إكرام عائشة للعباس بذكره باسمه في مقام التشريف مع إبهامها اسم الرجل الثاني، وقد حاول النووي الدفاع عن عائشة في إبهامها الاسم الآخر فقال عند شرحه رواية "فخرج ويد له على الفضل بن عباس، ويد له على رجل آخر"، وجاء في غير مسلم "بين رجلين أحدهما أسامة بن زيد" قال: وطريق الجمع بين هذا كله أنهم كانوا يتناوبون الأخذ بيده الكريمة صلى الله عليه وسلم تارة هذا، وتارة ذاك، ويتنافسون في ذلك، وهؤلاء هم خواص أهل بيته الرجال الكبار، وكان العباس رضي الله عنه أكثرهم ملازمة للأخذ بيده الكريمة المباركة صلى الله عليه وسلم أو أنه -أدام الأخذ بيده، وإنما يتناوب الباقون في اليد الأخرى، وأكرموا العباس باختصاصه بيد واستمرارها له لما له من السن والعمومة وغيرهما، ولهذا ذكرته عائشة رضي الله عنه مسمى، وأبهمت الرجل الآخر إذ لم يكن أحد الثلاثة الباقين ملازما في جميع الطريق ولا معظمه، بخلاف العباس. اهـ. يحاول النووي أن يبعد عن عائشة أنها أبهمت اسم "علي" كرم الله وجهه تحاشيا من ذكر اسمه

على لسانها، لحاجة منه في نفسها، وهذه محاولة مكشوفه يبعدها الواقع، والروايات الكثيرة الصريحة، لأن ابن عباس في جميع الروايات الصحيحة جازم بأن المبهم "علي" وزاد الإسماعيلي "ولكن عائشة لا تطيب نفسا له بخير" ولابن إسحاق" ولكنها لا تقدر على أن تذكره بخير": وليس في هذا طعن على عائشة تحتاج الدفاع عنه. فإنها تحمد حيث لم تذكره بشر، ولا شيء في الإمساك عن ذكر اسم لا تستريح لذكره، ولكننا مع ذلك ننكر على الكرماني إذ وصفها في ذلك بعبارة شنيعة، إذ قال: لم ما سمته؟ ثم قال: ما سمته تحقير أو عداوة. اهـ. ننكر على الكرماني هذه العبارة المسيئة من غير سند ولا دليل. 38 - ويؤخذ من دخول عبيد الله على عائشة، وقوله لها: إلا تحدثيني عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ عنايتهم بطلب العلم، وحرصهم على استقائه من مصادره. 39 - كما يؤخذ من عرض عبيد الله هذا الحديث على ابن عباس حرصهم على فهم الأمور من جوانبها المتعددة، والاستيثاق مما يأخذون عن طريق العرض على أهل الخبرة والمتخصصين. والله أعلم

(168) باب تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام وتسبيح الرجل وتصفيق المرأة في الصلاة إذا نابهما شيء

(168) باب تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام وتسبيح الرجل وتصفيق المرأة في الصلاة إذا نابهما شيء 770 - عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم فحانت الصلاة فجاء المؤذن إلى أبي بكر فقال أتصلي بالناس فأقيم؟ قال نعم. قال فصلى أبو بكر، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس في الصلاة فتخلص حتى وقف في الصف؛ فصفق الناس وكان أبو بكر لا يلتفت في الصلاة فلما أكثر الناس التصفيق التفت فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمكث مكانك؛ فرفع أبو بكر يديه فحمد الله عز وجل على ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فصلى ثم انصرف، فقال "يا أبا بكر ما منعك أن تثبت إذ أمرتك" قال أبو بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما لي رأيتكم أكثرتم التصفيق؟ من نابه شيء في صلاته فليسبح فإنه إذا سبح التفت إليه وإنما التصفيح للنساء". 771 - عن سهل بن سعد بمثل حديث مالك وفي حديثهما فرفع أبو بكر يديه فحمد الله ورجع القهقري وراءه حتى قام في الصف. 772 - عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال ذهب نبي الله صلى الله عليه وسلم يصلح بين بني عمرو بن عوف بمثل حديثهم وزاد فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرق الصفوف. حتى قام عند الصف المقدم. وفيه: أن أبا بكر رجع القهقري. 773 - عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك، قال المغيرة فتبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الغائط فحملت معه إداوة قبل صلاة الفجر، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أخذت أهريق على يديه من الإداوة وغسل يديه ثلاث مرات، ثم غسل وجهه، ثم

ذهب يخرج جبته عن ذراعيه فضاق كما جبته؛ فأدخل يديه في الجبة حتى أخرج ذراعيه من أسفل الجبة وغسل ذراعيه إلى المرفقين ثم توضأ على خفيه ثم أقبل. قال المغيرة فأقبلت معه حتى نجد الناس قد قدموا عبد الرحمن بن عوف فصلى لهم فأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى الركعتين فصلى مع الناس الركعة الآخرة، فلما سلم عبد الرحمن بن عوف قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يتم صلاته؛ فأفزع ذلك المسلمين فأكثروا التسبيح، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته أقبل عليهم ثم قال "أحسنتم" أو قال "قد أصبتم" يغبطهم أن صلوا الصلاة لوقتها. 774 - عن حمزة بن المغيرة نحو حديث عباد قال المغيرة فأردت تأخير عبد الرحمن فقال النبي صلى الله عليه وسلم "دعه". 775 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "التسبيح للرجال والتصفيق للنساء" زاد حرملة في روايته: قال ابن شهاب: وقد رأيت رجالا من أهل العلم يسبحون ويشيرون. بمثله. 776 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله وزاد "في الصلاة". -[المعنى العام]- بنو عمر بن عوف بطن كثير من الأوس، فيه عدة أحباء، كانوا يسكنون قباء قريبا من المدينة. اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، وعلم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لبعض أصحابه: اذهبوا بنا نصلح بينهم، كان ذلك بعد صلاة الظهر، وخشى صلى الله عليه وسلم أن يشغل بالصلح في قباء، ويحين وقت العصر، وينتظره الصحابة أو يختلفون فيمن يؤمهم، فقال لبلال: إن حضرت صلاة العصر ولم آتك

فمر أبا بكر فليصل بالناس. فلما حضرت صلاة العصر أذن بلال ثم قال لأبي بكر: أتصلي بالناس فأقيم الصلاة؟ أم تنتظر ربما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وكان أبو بكر يعلم بالأمر، ويعلم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم للتكبير بالصلاة في أول وقتها ويعلم حرصه على التخفيف عن الصحابة وعدم المشقة عليهم بتطويل الانتظار ومنهم المريض وصاحب العمل وذو الحاجة، فقال لبلال: نعم أقم الصلاة. فأقام بلال، وتقدم أبو بكر، فكبر واستفتح وبدأ في الصلاة، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلف الصفوف، فاخترقها برفق حتى وصل إلى الصف الأول، فوقف فيه، يبغي الاقتداء بأبي بكر، وانزعج الصحابة لوقوف النبي صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر، فصفقوا. وصفقوا. وصفقوا. ينبهون بذلك أبا بكر، وكان من عادة أبي بكر ألا يلتفت في صلاته، لأنه يعلم النهي عن الالتفات في الصلاة وأنه اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة الرجل، كما كان من عادته أن يستغرق في صلاته خشوعا وخضوعا حتى لا يكاد يحس بما حوله، فلم ينتبه للتصفيق حتى أكثروا وأكثروا فالتفت فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحرك ليتأخر وليقف في الصف، وليقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا بالرسول صلى الله عليه وسلم يشير إليه أن ابق في مكانك، واستمر في إمامتك، ولكن الصديق يفضل استعمال الأدب، ويعتذر عما ورد إليه من الأمر، فيرفع يديه إلى السماء شاكرا الله تعالى على التكريم الذي كرمه به رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يرجع إلى الصف، وتقدم صلى الله عليه وسلم، فصلى بالناس، فلما فرغ من صلاته التفت إلى أبي بكر، فقال له: لم لم تثبت في إمامتك إذ أمرتك؟ فقال أبو بكر: كيف أتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن أبي قحافة الذي لا يمتاز على كثير من قريش؟ ورضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجوابه وأقره عليه، وقدر له أدبه وشعوره النبيل والتفت صلى الله عليه وسلم إلى الصحابة يؤاخذهم على التصفيق في الصلاة فقال لهم: ما لكم قد صفقتم في الصلاة وأكثرتم التصفيق؟ لا تعودوا لمثلها. إن التصفيق في الصلاة للنساء، ومن حصل له في الصلاة شيء، يريد أن ينبه الغير عنه فليسبح، وليقل: سبحان الله، فبذلك ينتبه إليه. وبصدد الاستدلال على أن التسبيح في الصلاة للرجال، والتصفيق للنساء يروي الإمام مسلم حديثا آخر، في واقعة أخرى، يروي عن المغيرة بن شعبة أنه صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر إلى غزوة تبوك، وفي الطريق وقبيل الفجر أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاء الحاجة، فانتحى عن الجيش إلى ناحية منعزلة، وبرز واتجه إلى مكان التغوط، وتبعه المغيرة يخدمه ويحمل له ماء الوضوء، ووقف منه على بعد، فلما قضى صلى الله عليه وسلم حاجته، واستجمر بالأحجار توجه إلى المكان الذي وقف فيه المغيرة، وتهيأ للوضوء، وأخذ المغيرة يصب عليه الماء من إنائه، فغسل يديه ثلاث مرات. ثم غسل وجهه، ثم حاول أن يخرج يديه من الجبة ليغسلهما إلى المرفقين فلم يستطع لضيق كم الجبة، فأدخل كفيه من كمي الجبة إلى أسفلها، فأخرج ذراعيه وغسلهما إلى المرفقين، ثم مسح شعره ثم مسح على خفيه، ثم اتجه صلى الله عليه وسلم وخلفه المغيرة حيث مكان الصلاة فوجدا القوم قد قدموا عبد الرحمن بن عوف يؤمهم، وكأن الصحابة خافوا على ضياع وقت الفضيلة لصلاة الصبح، وتوقعوا تأخر النبي صلى الله عليه وسلم لعذر في قضاء الحاجة، وهم يعلمون حرصه صلى الله عليه وسلم على أداء الصلاة في أول وقتها، ويعلمون إذنه صلى الله عليه وسلم في أن يؤمهم أحدهم إذا تأخر عنهم. جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صلى بهم عبد الرحمن بن عوف ركعة فوقف في الصف خلف عبد الرحمن بن عوف، وأراد المغيرة أن

ينبه عبد الرحمن بن عوف ليتأخر ويترك الإمامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "دعه إماما" فامتثل الأمر، لكن الصحابة لم يعجبهم أن يصلي عبد الرحمن إماما لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأكثروا التسبيح لينبهوا عبد الرحمن فلم ينتبه، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف عبد الرحمن ركعة فلما سلم عبد الرحمن قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتم صلاته، فلما انتهى أعلن رضاه وإقراره واستحسانه لما حدث، أعلن استحسانه وسروره بتبكيرهم للصلاة في أول وقتها، وأعلن استحسانه لتسبيحهم وعدم تصفيقهم فقال لهم: أصبتم وأحسنتم، التسبيح في الصلاة للرجال والتصفيق للنساء. -[المباحث العربية]- (فحانت الصلاة) أل في الصلاة للعهد، والمراد بها صلاة العصر، ففي رواية البخاري "فلما حضرت صلاة العصر". (فجاء المؤذن) هو بلال، ففي رواية البخاري "فلما حضرت صلاة العصر أذن بلال ثم أقام" (فقال: أتصلي بالناس فأقيم؟ ) وفي رواية للبخاري "أتصلي للناس فأقيم؟ " باللام بدل الباء، والاستفهام قيل: للتقرير، أي صل بالناس. وليس المقصود الاستفهام الحقيقي، لأن صلاة أبي بكر بالناس كان مأمورا بها من النبي صلى الله عليه وسلم ففي رواية لأحمد وأبي داود "فقال النبي صلى الله عليه وسلم لبلال: إن حضرت العصر ولم آتك فمر أبا بكر فليصل بالناس" ويصح أن يكون الاستفهام على الحقيقة، وأن بلالا خشى أن يكون عند أبي بكر زيادة علم من النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخصوص فاستفهم أو أن بلالا استفهم: هل يبادر أول الوقت؟ أو ينتظر قليلا لعل النبي صلى الله عليه وسلم يأتي؟ وكون الاستفهام حقيقيا أولى، لورود الجواب بنعم، وللتصريح بالتفويض من بلال في رواية للبخاري بلفظ "أتصلي للناس فأقيم إن شئت"؟ . ويمكن الجمع بين روايتنا وبين رواية البخاري الواردة في الأحكام بلفظ "فلما حضرت صلاة العصر أذن وأقام وأمر أبا بكر فتقدم" بأن بلالا أذن وأقام بإذن أبي بكر، ثم أمر أبا بكر فتقدم للإمامة كأمر النبي صلى الله عليه وسلم وقوله "فأقيم" بالرفع والنصب، فالرفع على أن الجملة خبر مبتدأ محذوف، أي فأنا أقيم، والنصب بأن مضمرة بعد فاء السببية المسبوقة باستفهام. (فصلى أبو بكر) ليس على حقيقته، بل معناه: دخل في الصلاة، بدليل قوله "فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس في الصلاة"، وبدليل ما جاء في رواية أخرى "وتقدم أبو بكر فكبر" وفي رواية "فاستفتح أبو بكر الصلاة". (فجاء النبي صلى الله عليه وسلم والناس في الصلاة) يعنى شرعوا فيها مع شروع أبي بكر، وجملة "والناس في الصلاة" حالية. (فتخلص حتى وقف في الصف) أي فتخلص رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصفوف بشقها برفق

حتى وصل إلى الصف الأول، فوقف فيه، وقد وضح هذا المعنى بالزيادة الواردة في آخر روايتنا، ولفظها "فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرق الصفوف، حتى قام عند الصف المقدم". (فصفق الناس) التصفيق التصويت باليدين، قيل هو التصفيح وقيل: التصفيح الضرب بظاهر إحدى اليدين على صفحة الأخرى، والتصفيق الضرب بإحدى الصفحتين على الأخرى، كما يفعل في اللهو واللعب. والمراد من الناس المصلون أي بعضهم، والظاهر أن البعض المصفق استمر في تصفيقه فترة، بدليل رواية "فلما رأى التصفيح لا يمسك عنه التفت" وروايتنا "فلما أكثر الناس التصفيق التفت". (فأشار إليه صلى الله عليه وسلم أن امكث مكانك) "أن" تصلح مصدرية والتقدير: فأشار إليه بالمكث، وتصلح مفسرة لأنها مسبوقة بجملة فيها معنى القول دون حروفه، والتقدير: فأشار إليه أي امكث مكانك. وفي رواية "فأشار إليه يأمره بأن يصلي". (حمد الله على ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك) أي من ذلك التكريم وطلب بقائه إماما لرسول الله صلى الله عليه وسلم. (ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف) أي تأخر، والسين والتاء للمعالجة أو الصيرورة أو للمبالغة، في التأخر، والتعبير بثم ليس للتراخي الزمني بل للتراخي الرتبي، وفي الرواية الملحقة "فرفع أبو بكر يديه فحمد الله ورجع القهقري وراءه حتى قام في الصف". (وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فصلى) في رواية المسعودي "فلما تنحى تقدم النبي صلى الله عليه وسلم". (ثم انصرف) أي انصرف من الصلاة وانتهى منها بالتسليم. (ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم) "وأبي قحافة" بضم القاف وتخفيف الحاء، واسمه عثمان بن عامر القرشي. أسلم عام الفتح وعاش إلى خلافة عمر رضي الله عنه، ومات سنة أربع عشرة من الهجرة، واختار أبو بكر هذه العبارة، ولم يقل مثلا: ما كان لي، أو ما كان لأبي بكر تواضعا وهضما لنفسه، واستصغارا لمرتبته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. (ما لي رأيتكم قد أكثرتم التصفيق؟ ) أسلوب تعريض، والغرض مالكم قد أكثرتم التصفيق. و"مالي" مبتدأ وخبر، أي أي شيء حدث لي حالة رؤيتي لكم في هذه الحالة، والمراد أي شيء حصل لكم حالة إكثاركم التصفيق؟ . (من نابه شيء في صلاته فليسبح) أي من أصابه شيء في صلاته فليقل سبحان الله. (فإنه إذا سبح التفت إليه) "التفت" بالبناء للمجهول، والمقصود انتبه إلى المسبح، وليس المقصود خصوص الالتفات.

(وإنما التصفيح للنساء) ظاهر هذه العبارة أن المراد من التصفيح هو التصفيق، إذ عبر عن الحالة التي كانوا عليها مرة بالتصفيق ومرة بالتصفيح. (فتبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الغائط) "البراز" بفتح الباء المكان الواسع الظاهر من الأرض، ويقصد لقضاء الحاجة بعيدا عن أعين الناظرين، والبراز بكسر الباء نفس الخارج، والغائط المكان المنخفض المقصود لقضاء الحاجة ويطلق على نفس الخارج، فالمعنى هنا: تبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي اتجه إلى المكان الواسع البعيد المتجه نحو المكان المنخفض لقضاء الحاجة. (فحملت معه إداوة) الإداوة بكسر الهمزة إناء صغير من جلد قال النووي: والإداوة والركوة والمطهرة بكسر الميم، والميضأة بكسر الميم أيضأ بمعنى متقارب: إناء الوضوء. اهـ. (ثم ذهب يخرج جبته عن ذراعيه) أي يزيح جبته عن ذراعيه ففي رواية لمسلم في باب المسح على الخفين "ثم ذهب يحسر عن ذراعيه" أي يحسر الجبة عن ذراعيه، وأصل المعنى: يخرج ذراعيه من كمي جبته، ومن المعلوم أن الجبة لها فتحتان بدون طول في الأكمام، ولعل هذه الجبة قد لبست في هذا السفر لأول مرة، وكانت ضيقة الفتحتين، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف ضيق كميها. فحاول إخراج ذراعيه منهما. (ثم توضأ على خفيه) أي مسح على خفيه، ففي رواية مسلم في باب المسح على الخفين "ثم مسح على خفيه". (فأقبلت معه حتى نجد الناس قد قدموا عبد الرحمن بن عوف) كان الظاهر أن يقول: حتى وجدنا الناس قد قدموا. لأن الكلام عن الماضي ولكنه عبر بالمضارع استحضارا للصورة الغريبة في نظر المغيرة. -[فقه الحديث]- يتعرض كل من الحديثين إلى مسألتين أساسيتين. أولاهما: تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام، ثانيتهما: التسبيح للرجال في الصلاة والتصفيق للنساء. أما عن المسألة الأولى: فقد تقدم شرحها في الحديث السابق، وقد قلنا: إن الإمام إذا عرض له عذر عن حضور الجماعة استخلف من يصلي بهم وأنه لا يستخلف إلا أفضلهم، وفصلنا قول الفقهاء ووجهة نظرهم في حكم تأخر الإمام الأول إلى الصف ليفسح للإمام الثاني، وهل يجوز أو لا يجوز؟ أما عن المسألة الثانية: فقد ذهب مالك في رواية عنه أن المرأة تسبح كالرجل في الصلاة إذا نابها شيء، لأن "من" في قوله صلى الله عليه وسلم: "من نابه شيء في صلاته فليسبح" تقع على الذكور والإناث، قال: والتصفيق منسوخ بقوله "من نابه شيء في صلاته فليسبح" وهذا القول أنكره

جمهور العلماء لأنه لا يقبل أن ينسخ أول الحديث آخره. فالحديث صريح في أن التسبيح للرجال والتصفيق للنساء. قال الإمام النووي في شرح مسلم: تضرب المرأة بطن كفها الأيمن على ظهر الأيسر، ولا تضرب بطن كف على بطن كف، على وجه اللعب واللهو، فإن فعلت هكذا على جهة اللعب بطلت صلاتها، لمنافاتها الصلاة. اهـ وعليه لو فعلت هكذا على وجه التنبيه لا على وجه اللعب فإنه لا يضر. وإن كان الأولى أن تضرب بطن كفها الأيمن على ظهر كفها الأيسر. -[ويؤخذ من الحديث الأول فوق ما تقدم]- 1 - فضل الإصلاح بين الناس وجمع الكلمة، وحسم مادة القطيعة. 2 - توجه الإمام بنفسه إلى بعض رعيته للإصلاح. 3 - تقديم الإمام الإصلاح على مصلحة الإمام بنفسه، لأن في ذلك دفع المفسدة. 4 - توجه الحاكم لسماع دعوى بعض الخصوم إذا رجح ذلك على استحضارهم إليه. 5 - جواز الصلاة الواحدة بإمامين، أحدهما بعد الآخر. 6 - أن الإمام الراتب إذا غاب أوصى باستخلاف غيره. 7 - أنه إذا حضر الإمام الراتب بعد أن دخل نائبه في الصلاة يتخير الإمام الراتب بين أن يأتم أو يؤم هو ويصير النائب مأموما، من غير أن يقطع الصلاة ولا يبطل شيء من ذلك صلاة أحد من المأمومين، هذا هو الصحيح المشهور عند الشافعية، وادعى ابن عبد البر أن ذلك من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لا يجوز لغيره أن يجعل النائب مأموما، ووجهه العيني فقال: لأنه لا يجوز التقدم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وليس لسائر الناس اليوم من الفضل من يجب التأخر له اهـ وادعى ابن عبد البر الإجماع على ذلك. لكن هذا الادعاء منقوض بما اشتهر عن الشافعية كما سبق: وقد جاء عن ابن القاسم [في الإمام يحدث فيستخلف، ثم يرجع فيخرج المستخلف ويتم الأول] أن الصلاة صحيحة. 8 - وفيه جواز إحرام المأموم قبل الإمام، وهو مذهب الشافعي والجمهور على خلافه، لقوله صلى الله عليه وسلم "إذا كبر الإمام فكبروا" فقد رتب تكبير المأموم على تكبير الإمام، فلا يصح أن يسبقه، قال ابن بطال: لا أعلم من يقول: إن من كبر قبل إمامه فصلاته تامة إلا الشافعي، وسائر الفقهاء لا يجيزون ذلك. اهـ. والحق أن استدلال الشافعي بالحديث بعيد، لأن تكبير أبي بكر قبل النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن في حال كون أبي بكر مأموما والنبي صلى الله عليه وسلم إماما حتى يقال: إن المأموم كبر قبل الإمام، ولكن التعبير الدقيق أن يقال: إن من سيصير مأموما كبر قبل من سيصير إماما. 9 - وأن المرء قد يكون في بعض صلاته إماما وفي بعضها مأموما.

10 - وفيه فضل أبي بكر رضي الله عنه، واتفاق الصحابة على رجحانه عليهم. 11 - وفيه تقديم الصلاة في أول وقتها، وأنه مقدم على انتظار الإمام الأفضل. 12 - وأن الإقامة لا تصلح إلا عند إرادة الدخول في الصلاة، لقوله: "أتصلي فأقيم"؟ . 13 - وأن المؤذن هو الذي يقيم الصلاة، وهذا هو السنة، ولو أقام غيره كان خلاف السنة، لكن يعتد بإقامته عند الشافعية، وجمهور العلماء سواء كان بإذن المؤذن أو بدون إذنه، ففي بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن زيد حين رأى الأذان "ألقها على بلال فإنه أمد منك صوتا، وأقم أنت" وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "من أذن فهو يقيم" فقد كان في حق زياد بن الحارث الصدائي، وكان حديث عهد بالإسلام، أمره بها كيلا تدخله الوحشة، قاله العيني. 14 - وأن إقامة الصلاة واستدعاء الإمام من وظيفة المؤذن. 15 - وأن المؤذن وغيره يعرض التقدم على الفاضل. 16 - وأن الفاضل يوافقه بعد أن يعلم أن ذلك برضا الجماعة. 17 - وأن المقيم لا يقيم إلا بإذن الإمام. 18 - وفيه جواز التسبيح والحمد في الصلاة، لأنه من ذكر الله، ولو كان مراد المسبح إعلام غيره بما صدر منه. 19 - وفيه رفع اليدين في الصلاة عند الدعاء والثناء. 20 - وفيه استحباب حمد الله لمن تجددت له نعمة، ولو كان في الصلاة. 21 - وفيه جواز حرق الصفوف والمشي بين المصلين لقصد الوصول إلى الصف الأول، لكنه مقصور على من يليق ذلك به، كالإمام، أو من كان بصدد أن يحتاج الإمام إلى استخلافه، أو من أراد سد فرجة في الصف الأول أو ما يليه ولا يكون ذلك معدودا من الأذى. 22 - وفيه جواز الالتفات للحاجة، وجمهور الفقهاء على أن الالتفات لا يبطل الصلاة إذا كان يسيرا، ولكنه مكروه لغير حاجة وأما ما رواه أبو داود "لا صلاة لمتلفت" فهو ضعيف. 23 - وأن الفعل القليل لا يبطل الصلاة، لقوله: "فصفق الناس". 24 - وجواز المشي خطوة أو خطوتين في الصلاة، وأن هذا القدر لا يكره إذا كان لحاجة، لكنها إذا كانت للخلف لا يستدبر القبلة ولا ينحرف عنها. 25 - وفيه جواز استخلاف المفضول للفاضل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر بالثبات إماما له. 26 - وفيه جواز استخلاف المصلي بالقوم من يتم الصلاة لهم. 27 - وفيه أن التابع إذا أمره المتبوع بشيء وفهم منه أن المقصود تكريمه بذلك الشيء، لا يتحتم

الفعل، فله أن يتركه، ولا يكون بهذا مخالفا للأمر، بل يكون متأدبا متواضعا حذقا في فهم المقاصد، ولهذا لم يتعقب النبي صلى الله عليه وسلم اعتذار أبي بكر برده عليه، فإن قيل: قد ثبت أن أبا بكر قد استمر إماما حين صلى النبي صلى الله عليه وسلم خلفه الركعة الثانية من الصبح في مرض موته أجيب بأنه إذا كان قد مضى من الصلاة معظمها حسن الاستمرار كما في حال مرضه صلى الله عليه وسلم وكما في حال عبد الرحمن بن عوف في الحديث الثاني، وإذا كان لم يمض منها إلا اليسير لم يحسن الاستمرار كما في هذا الحديث. 28 - وفيه ملازمة الأدب مع الكبار. 29 - وفيه سؤال الرئيس عن سبب مخالفة أمره قبل الزجر عن ذلك. 30 - وفيه إكرام الكبير بمخاطبته بالكنية. 31 - فيه ذكر الرجل لنفسه بما يشعر بالتواضع، لقول أبي بكر: "ما كان لابن أبي قحافة ... " إلخ. 32 - استدل به بعضهم على أن الممنوع كثرة التصفيق، لا أصل التصفيق لقوله صلى الله عليه وسلم: "مالي رأيتكم أكثرتم التصفيق"؟ وهو مردود بإنكار أصل التصفيق للرجال في آخر الحديث. والله أعلم. 33 - ومن الرواية الثانية خدمة العالم. 34 - أخذ منه المتصوفة اختصاص الشيخ بخادم يقتصر عليه، فإن المغيرة كان أحد الأحرار المختصين بخدمته صلى الله عليه وسلم في السفر، كأنس في الحضر ذكره الأبي. 35 - الإبعاد عند قضاء الحاجة والتواري عن الأعين. 36 - جواز الاستعانة في الوضوء. قاله النووي، وهي على ثلاثة أقسام: أحدها أن يستعين في إحضار الماء، فلا كراهية فيه. الثاني أن يستعين في غسل الأعضاء، ويباشر الأجنبي بنفسه غسل الأعضاء، فهذا مكروه إلا لحاجة؛ الثالث أن يصب عليه، فهذا مكروه في أحد الوجهين والأولى تركه. اهـ[ولا يقال: كيف يقال عن فعل فعله الرسول صلى الله عليه وسلم والأولى تركه؟ لأن الصحابة كانوا يتبركون بمعاونته صلى الله عليه وسلم، فلا يقاس عليه غيره في مثل هذا]. 37 - استدل به بعضهم على جواز لبس الضيق من الثياب الذي لا يصف العورة، قال القرطبي: يحتمل أن تضييق الأكمام كان للسفر وأنه الموجود، فلا يحتج به لرجحان تضييق الأكمام، وما يحكى أن شريحا عزل رجلا ضيق كميه بعيد. 38 - جواز إخراج اليدين من أسفل لمثل هذه الضرورة، فإن لم تكن ضرورة فلا تفعل في المحافل، قال النووي: لأن ذلك يخل بالمروءة، وشرط هذا الجواز أن لا يتبين شيء من العورة. 39 - وفيه أن الاقتصار على غسل معظم العضو المفروض غسله لا يجزئ لأنه صلى الله عليه وسلم

أخرج يديه من تحت الجبة ولم يكتف بغسل ما أمكن حسر الجبة عنه منهما ومسح ما لم يمكن حسره عنه. 40 - وفيه غسل الكفين في أول الوضوء ثلاثا، وهو من السنن، ففيه مواظبته صلى الله عليه وسلم على السنن حتى في السفر. 41 - وجواز لبس الجلباب، ذكره النووي. 42 - وفيه جواز المسح على الخفين، وقد تقدمت كيفيته وشروطه في باب المسح على الخفين من كتاب الطهارة، فليراجع. 43 - وفيه جواز الصلاة في الخفاف، لأن قوله: "ثم توضأ على خفيه ثم أقبل ... فصلى مع الناس" ظاهر في أنه صلى في خفيه، لأنه لو نزعهما بعد المسح لوجب غسل رجليه، ولو غسلهما لنقل. 44 - وفيه أن الأفضل تقديم الصلاة في أول الوقت، فإنهم فعلوها في أول الوقت ولم ينتظروا النبي صلى الله عليه وسلم قاله النووي. وقال القاضي عياض: صلاتهم قبل أن يأتيهم يحتمل أنهم بادروا فضل أول الوقت، أو ظنوا أنه أخذ غير طريقهم، أو أنه لا يأتي إلا وقد صلى، وفزعهم حين أدركهم يصلون يدل على أنهم لم يبادروا الفضل أول الوقت، ولا أنهم أخروا الصلاة حتى خافوا خروج الوقت، فالأشبه أنهم انتظروه فلما تأخر عن وقته المعتاد صلوا، والحق مع الإمام النووي لقول الراوي في نهاية الحديث [فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته أقبل عليهم ثم قال: أحسنتم -أو قال: قد أصبتم- يغبطهم أن صلوا الصلاة لوقتها]. 45 - قال النووي: وفيه أن الإمام إذا تأخر عن أول الوقت استحب للجماعة أن يقدموا أحدهم فيصلي بهم، إذا وثقوا بحسن خلق الإمام، وأنه لا يتأذى من ذلك، ولا يترتب عليه فتنة، فأما إذا لم يأمنوا أذاه فإنهم يصلون في أول الوقت فرادى، ثم إن أدركوا الجماعة بعد ذلك استحب لهم إعادتها معهم. اهـ. 46 - وفيه تقديم الجماعة إماما بغير إذن الإمام. 47 - وفيه أدب القوم مع كبيرهم، إذ فزعوا حين أحسوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وذهب إمامهم ليتأخر، وهذا المأخذ مبني على ملاحظة الروايات الأخرى التي تعتبر متممة وموضحة لهذه الرواية، وهي مذكورة في باب المسح على الخفين، وإلا فظاهر روايتنا أن الفزع والتسبيح كان بعد أن سلم عبد الرحمن، وليس فيها محاولة عبد الرحمن التأخر، ففي الروايات هناك "ثم ركب وركبت، فانتهينا إلى القوم وقد قاموا في الصلاة، يصلي بهم عبد الرحمن بن عوف، وقد ركع بهم ركعة، فلما أحس بالنبي صلى الله عليه وسلم ذهب يتأخر، فأومأ إليه، فصلى بهم". 48 - وفيه جواز اقتداء الفاضل بالمفضول.

49 - وجواز صلاة النبي صلى الله عليه وسلم خلف بعض أمته. 50 - وفيه كيفية قضاء المسبوق، واتباعه إمامه حتى في جلوسه ولو في غير محل جلوس المسبوق. 51 - وأنه لا يقضي إلا بعد سلام الإمام. 52 - وأنه لا يطالب بسجود السهو خلافا لما ذهب إليه أبو سعيد الخدري وابن الزبير وابن عمر، فقد روى ابن أبي شيبة موصولا عن عطاء عن أبي سعيد وابن عمر وابن الزبير في الرجل يدخل مع الإمام وقد فاته بعض الصلاة؟ قالوا: يصنع كما يصنع الإمام، فإذا قضى الإمام صلاته قام يقضي وسجد سجدتين. اهـ. وبقولهم هذا قال جماعة منهم عطاء وطاووس وإسحق ومجاهد، ووجهة نظرهم احتمال أن يكون على الإمام سهو، أو لما يترتب على السبق من الجلوس للتشهد في غير موضع الجلوس، أو لما يترتب عليه من الزيادة والنقص. والله أعلم

(169) باب الأمر بتحسين الصلاة وإتمامها والخشوع فيها

(169) باب الأمر بتحسين الصلاة وإتمامها والخشوع فيها 777 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله يوما ثم انصرف فقال "يا فلان ألا تحسن صلاتك؟ ألا ينظر المصلي إذا صلى كيف يصلي؟ فإنما يصلي لنفسه. إني والله لأبصر من ورائي كما أبصر من بين يدي". 778 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "هل ترون قبلتي ها هنا؟ فوالله ما يخفى على ركوعكم ولا سجودكم إني لأراكم وراء ظهري". 779 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أقيموا الركوع والسجود فوالله إني لأراكم من بعدي (وربما قال: من بعد ظهري) إذا ركعتم وسجدتم". 780 - عن أنس رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال "أتموا الركوع والسجود. فوالله إني لأراكم من بعد ظهري إذا ما ركعتم وإذا ما سجدتم" وفي حديث سعيد "إذا ركعتم وإذا سجدتم". -[المعنى العام]- كان صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الصلاة وأركانها وكيفيتها بالقول كما كان يعلمهم بالفعل، يصلي أمامهم، ثم يقول لهم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" ولم يكن يكتفي بالتعليم بل كان يراقب ويتابع تنفيذهم لتعاليمه، وكان إذا رأى خطأ أصلحه وأرشد إلى الصواب. كان صلى الله عليه وسلم يستشعر أحوال أصحابه وتحركاتهم في صلاتهم وهم خلفه، وقد وهبه ربه حسا مرهفا، وإدراكا "إشعاعيا" حتى كأنه يبصر من وراءه بعيني رأسه. أحس أن رجلا ممن يصلي خلفه لا يحسن الركوع والسجود، ولا يطمئن فيهما، ولا تخشع جوارحه لهما، فلما انتهى من صلاته قال له: يا فلان لماذا لا تحسن صلاتك؟ لماذا لا تتم ركوعها وسجودها

وخشوعها؟ إنك تصلي لنفسك اجعل نفسك الرقيب على نفسك في صلاتك؟ لأن ثواب صلاتك لك لا لغيرك وما يعمله الإنسان لنفسه ينبغي أن يكون على ما يجب من الجودة والإتقان. ثم التفت صلى الله عليه وسلم إلى المصلين، فقال: ليفكر المصلي في صلاته وليتدبر ما يجب عليه فيها، وليحرص على أن تكون صلاته على الكيفية الصحيحة المطلوبة، ليكن كل منكم رقيبا على نفسه، محاسبا إياها على الإحسان في صلاتها، إنني حريص عليكم، إنني مراقب حركاتكم. إنني وإن كنت متوجها بوجهي وصدري إلى القبلة فإن بصيرتي تراقب من ورائي، وكأنني أبصر من خلفي كما أبصر من أمامي، أقيموا الركوع والسجود وأحسنوهما والتزموا الطمأنينة فيهما، ولتخشع جوارحكم كدليل على خشوع قلوبكم. وهكذا يدفع صلى الله عليه وسلم من لم يراقب نفسه إلى أن يراقب غيره فإن بعض النفوس تخشى الناس كخشية الله، وإن بعض النفوس تطمئن إلى عفو الله وتحسب الحساب مرة ومرة للوم المخلوقين، فاللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ووفقنا لعمل الخير وخير العمل، إنك أنت السميع العليم. -[المباحث العربية]- (ثم انصرف) من الصلاة، أي انتهى منها، أو انصرف عن الاتجاه إلى المصلين. (فقال يا فلان) لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم النطق باسم الصحابي، ولكن الراوي كنى عن اسمه وأخفاه، جريا على عادتهم -رضي الله عنهم في الستر على أصحاب الخطأ والتقصير. (ألا تحسن صلاتك) "ألا" للعرض أو التخضيض، أي الطلب برفق، أو بشيء من القوة، أي أحسن صلاتك، وأصلها الهمزة التي للاستفهام التوبيخي بمعنى لا ينبغي، دخلت على "لا" النافية، فصار الكلام: لا ينبغي أن لا تحسن صلاتك، ونفي النفي إثبات، فيصير المعنى: ينبغي أن تحسن صلاتك. (ألا ينظر المصلي إذا صلى كيف يصلي)؟ أي ينبغي أن ينظر المصلي والمراد من النظر التفكر والتأمل، أي ليفكر المصلي في صلاته ويقارن بين ما يؤدى وبين ما ينبغي. (فإنما يصلي لنفسه) الفاء للتعليل، وفي الكلام مضاف محذوف، أي لنفع نفسه وفائدة نفسه، فالله غني عن الإنسان وعن عبادته، وما أوجب الصلاة إلا لمثوبة العبد ومجازاته، ومن عرف أن الفعل لفائدة نفسه أحسنه فليس هناك من هو أحب إلى الإنسان من نفس الإنسان غالبا. (إني والله لأبصر من ورائي كما أبصر من بين يدي) ضبطناه في النسخ التي بين أيدينا "من ورائي. من بين يدي" بكسر الميم في "من" ويصح من حيث المعنى فتح الميم، بل هو أقرب إلى الروايات التالية و"إني لأراكم".

وقد ذهب بعض العلماء إلى أن المراد من الإبصار الإبصار الحقيقي، فقال النووي: قال العلماء معناه أن الله تعالى خلق له صلى الله عليه وسلم إداركا في قفاه، يبصر به من ورائه، وقد انخرقت العادة له صلى الله عليه وسلم بأكثر من هذا، وليس يمنع من هذا عقل ولا شرع، بل ورد الشرع بظاهره فوجب القول به. قال القاضي: قال أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى وجمهور العلماء هذه الرؤية بالعين حقيقة. اهـ. ونحن لا ننكر أن هذا ممكن وهين على قدرة الله تعالى، ولكنه لم يعهد واقعا، لم يعهد أن عينيه صلى الله عليه وسلم وهي متجهة إلى الأمام ترى من هو في الخلف كما ترى من هو في الأمام، ولسنا في حاجة إلى تكلف خوارق العادات خصوصا حيث لا دليل عليها، إذ المقصود في الحديث علمه صلى الله عليه وسلم بحركات من خلفه علما يشبه في تمامه إبصار العين، والأصل في التشبيه أن يكون المشبه به أقوى من المشبه في وجه الشبه، ولو كان بالعين لم يحسن التشبيه إذ يكون الخلف والأمام سواء. والذي نرتضيه أن الله تعالى أعطى رسوله صلى الله عليه وسلم إحساسا وإدراكا لما خلفه وشعورا بالحركات الخفيفة التي لا تراها عينه، وهذا أمر يعطي الله قدرا منه للأعمى تعويضا عما فقد من البصر، لكن لا يقال: إنه يبصر بعينيه، بل يقال: إنه يبصر ببصيرته، ويقوي هذا الفهم بقية الروايات، ولفظها "فو الله ما يخفى على ركوعكم ولا سجودكم، إني لأراكم وراء ظهري". "إني لأراكم من بعد ظهري" بل ذهب بعض العلماء إلى أن المراد أنه صلى الله عليه وسلم يرى ركوع أمته وسجودها بعد موته. وهو فهم غريب بعيد جدا عن مرمى الحديث. (هل ترون قبلتي ها هنا) الإشارة إلى القبلة، أي هل ترون توجهي إلى جهة القبلة فتظنوا أنني أرى ما في المواجهة فقط؟ والاستفهام إنكاري، أي لا تظنوا قبلتي ورؤيتي على هذه الجهة فقط. (أقيموا الركوع والسجود) يقال: أقمت العود إذا قومته وعدلته وأصلحت حاله، فهذه الرواية بمعنى الرواية الأخيرة: "أتموا الركوع والسجود" أي ائتوا بهما تامين. -[فقه الحديث]- قال النووي: في الحديث جواز الحلف بالله تعالى من غير ضرورة، لكن المستحب تركه إلا لحاجة، كتأكيد أمر وتفخيمه والمبالغة في تحقيقه وتمكينه من النفوس، وعلى هذا يحمل ما جاء في الأحاديث من الحلف. اهـ. أما إتمام الركوع والسجود وكيفيتهما وما يقال من الذكر فيهما فسيأتي شرحه وإيضاحه بعد أبواب إن شاء الله. والله أعلم

(170) باب تحريم سبق الإمام بركوع أو سجود ونحوهما ومتابعة الإمام والعمل بعده

(170) باب تحريم سبق الإمام بركوع أو سجود ونحوهما ومتابعة الإمام والعمل بعده 781 - عن أنس رضي الله عنه قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فلما قضى الصلاة أقبل علينا بوجهه فقال: "أيها الناس إني إمامكم. فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود. ولا بالقيام ولا بالانصراف. فإني أراكم أمامي ومن خلفي" ثم قال: "والذي نفس محمد بيده لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا" قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: "رأيت الجنة والنار". 782 - عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث وليس في حديث جرير "ولا بالانصراف". 783 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال محمد صلى الله عليه وسلم "أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار؟ ". 784 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله "ما يأمن الذي يرفع رأسه في صلاته قبل الإمام أن يحول الله صورته في صورة حمار". 785 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا غير أن في حديث الربيع بن مسلم "أن يجعل الله وجهه وجه حمار". -[المعنى العام]- شرع الله صلاة الجماعة ليتم اللقاء ويتعدد، فتزول الجفوة، وتشيع المودة، وتتداول المنافع

والمصالح. وشرع لها حدودا وضوابط لتعليم المسلمين النظام في الحركة والسكون، والانقياد للقائد الذي ارتضوه وقدموه إماما، ومقتضى النظام والدقة والانقياد أن لا يسبقوا قائدهم، فلا يحنوا ظهورهم إلا بعد أن يحني، ولا يرفعوا رءوسهم قبل أن يرفع. بالتزام هذه الحدود والضوابط يتحقق الهدف الأكبر لصلاة الجماعة، ولهذا كثر أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه باتباع الإمام "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا ... وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا لك الحمد ... " إلخ. لكن العجلة طبيعة الإنسان {خلق الإنسان من عجل} [الأنبياء: 37] والشيطان يحركه إلى هذه الطبيعة في الصلاة ليخرجه بسرعة من المناجاة، ويحركه في صلاة الجماعة إلى هذه الطبيعة بصفة خاصة، ليفقده ثوابها، وليوقعه في إثم ما بعده إثم ويعرضه لعقوبة من أشد العقوبات. لقد كان صلى الله عليه وسلم يراقب من خلفه في صلاة الجماعة، وكان حريصا على التزامهم ومتابعتهم لصلاته، فكان يقوم المعوج، ويصحح الخطأ. صلى رجل خلفه فجعل يركع قبل أن يركع، ويرفع قبل أن يرفع، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته، قال: من الفاعل هذا؟ قال: أنا يا رسول الله. قال: إذا ركع الإمام فاركعوا وإذا رفع فارفعوا". كثرت هذه النصيحة، وكثرت معها المخالفات، فلم يكن بد من التشديد ولم يكن بد من الوعيد، ولقد صلى بأصحابه في يوم من الأيام وأحس بعدم الالتزام، فلما قضى صلاته توجه إليهم، فقال: أيها الناس. إنني إمامكم، وإنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالانصراف، فتعرضوا أنفسكم لعقاب الله. والله الذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم من عقوبة المخالف لإمامه لخفتم على أنفسكم، واقشعرت أبدانكم وانصرفتم عن السرور بدنياكم والفرح بما آتاكم، والضحك في لهوكم، إلى الانقباض والعبوس والبكاء، قالوا: وماذا رأيت وعلمت يا رسول الله؟ قال: رأيت الجنة والنار، رأيت الجنة لمن أطاع والتزم، والنار لمن جعل إمامه كلا إمام. ومع هذا التشديد والوعيد وجد المخالفون، فترقى بالوعيد، وارتفعت الشريعة بالتهديد، فقال صلى الله عليه وسلم: "أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام ويسبق الإمام في حركاته أن يجعل الله رأسه في صورة رأس الحمار، وأن يجعل وجهه في صورة وجه الحمار، وأن يجعل شكله وهيئته في شكل وهيئة الحمار في الدنيا بالمسخ؟ أو في الآخرة للتشهير والتوبيخ؟ ". وقام علماء الأمة من بعده صلى الله عليه وسلم على حراسة الشريعة واهتموا الاهتمام اللائق بهذه الشعيرة، فهذا البراء بن عازب -وقد رأى المأمومين يسبقون الإمام- يخطب الناس على المنبر، فيقول: أيها الناس. تابعوا الإمام ولا تسبقوه، بل ولا تلاحقوه بسرعة المتعجل، فقد كنا نصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم فإذا رفع رأسه من الركوع لم نر واحدا من المأمومين يحني ظهره للسجود حتى يضع رسول الله صلى الله عليه وسلم جبهته على الأرض ساجدا ثم يخر من وراءه سجدا. أيها الناس، كنا لا نركع إلا بعد أن يركع، ولا نرفع إلا بعد أن يرفع. وهذا ابن مسعود، يرى رجلا يسبق إمامه، فينهره ويقول له: لا وحدك صليت، ولا بإمامك اقتديت.

فصلى الله وسلم عليك يا رسول الله، ورضي عن أصحابك والتابعين، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين. -[المباحث العربية]- (ولو رأيتم ما رأيت) "ما" موصولة، وعائد الصلة محذوف والتقدير: لو رأيتم الذي رأيته. (لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا) "قليلا" و"كثيرا" صفة لمفعول مطلق محذوف، أي ضحكا قليلا وبكاء كثيرا، أو صفة لظرف محذوف أي زمنا قليلا وزمنا كثيرا. والأول أظهر. (رأيت الجنة والنار) إن قلنا: الرؤية بصرية، يحتمل أنهما صورتا له صلى الله عليه وسلم فرآهما ومن فيهما من المنعمين والمعذبين في عرض الحائط، كما نرى شاشة "التلفزيون" بتصوير ما سيكون في صورة ما هو كائن، فليس فيه دليل على أن الجنة والنار موجودتان كما استدل به النووي، وإن قلنا: إن الرؤية علمية سقط الاستدلال من أساسه. (أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام) في رواية البخاري "أو لا يخشى" وفي رواية له أيضا "أما يخشى أو ألا يخشى" بالشك و"أما" بفتح الهمزة وتخفيف الميم حرف استفتاح، مثل "ألا" وأصلها "ما" النافية دخلت عليها همزة الاستفهام، وهو هنا للتوبيخ، بمعنى لا ينبغي، فكأن المعنى في الأصل لا ينبغي أن لا يخشى، ونفي النفي إثبات فيصبح المعنى ينبغي أن يخشى. (أن يحول الله رأسه رأس حمار) في الرواية التالية: "أن يحول الله صورته في صورة حمار" وفي رواية بعدها "أن يجعل الله وجهه وجه حمار". قال الحافظ ابن حجر: الظاهر أنه من تصرف الرواة. قال عياض: هذه الروايات متفقة، لأن الوجه في الرأس ومعظم الصورة فيه. اهـ. ثم قال الحافظ ابن حجر: لفظ الصورة يطلق على الوجه أيضا، وأما الرأس فرواتها أكثر، وهي أشمل، فهي المعتمدة. وخص وقوع الوعيد عليها لأن بها وقعت الجناية، وهي أشمل. أما المراد من التحويل فقد قال الكرماني: قيل هذا مجاز عن البلادة، لأن المسخ لا يجوز في هذه الأمة، وقال القاضي أبو بكر بن العربي: ليس التحويل بموجود في هذه الأمة لأن المسخ فيها مأمون، وإنما المراد به معنى الحمار، من قلة البصيرة، وكثرة العناد، فإن من شأن الحمار إذا قيد حرن، وإذا حبس طفر، لا يطيع قائدا، ولا يعين حادسا اهـ قال العيني: القول بأن المسخ في هذه الأمة مأمون فيه نظر، فقد روي أنه يقع في آخر الزمان. وقال الشيخ تقي الدين: إن الحديث يقتضي تغيير الصورة الظاهرة، ويحتمل أن يرجع إلى أمر معنوي مجازا، فإن الحمار موصوف بالبلادة ويستعار هذا المعنى للجاهل بما يجب عليه من فروض

الصلاة ومتابعة الإمام، وربما يرجح هذا المجاز بأن التحويل في الصورة الظاهرة لم يقع مع كثرة رفع المأمومين قبل الإمام. والتحقيق ما قاله بعضهم من أنه يصح أن يكون التهديد بتحويل الصورة وتغييرها على سبيل الحقيقة ولا يلزم من التهديد بالشيء وقوعه، وكل ما يدل عليه الحديث أن فاعله يكون متعرضا لذلك، وهذا أنسب من المجاز، لأن التهديد بالبلادة لا يتناسب مع هذا الفعل، لأن فاعله بليد فعلا، فلا يهدد بالبلادة، ثم إن ألفاظ الحديث [أن يحول الله رأسه -أن يجعل الله وجهه] ظاهرة في الحقيقة بعيدة عن المجاز، والله أعلم. -[فقه الحديث]- قال الحافظ ابن حجر: ظاهر الحديث [وهو يتكلم عن الروايتين الثانية والثالثة] يقتضي تحريم الرفع قبل الإمام، لكونه توعد عليه بالمسخ، وهو أشد العقوبات، وبذلك جزم النووي في شرح المهذب. ومع القول بالتحريم فالجمهور على أن فاعله يأثم وتجزئ صلاته، وعن ابن عمر تبطل، وبه قال أحمد في رواية، وبه قال أهل الظاهر، بناء على أن النهي يقتضي الفساد، وفي المغنى عن أحمد أنه قال في رسالته: ليس لمن سبق الإمام صلاة لهذا الحديث، قال: ولو كانت له صلاة لرجي له الثواب ولم يخش عليه العقاب. اهـ. وقال القرطبي: من خالف الإمام فقد خالف سنة المأموم. اهـ وظاهر عبارته عدم الحرمة وثبوت الكراهة لكن الجمهور على الحرمة. وقد فصل الإمام النووي هذه المسألة في شرح المهذب تفصيلا جديرا بالاعتبار، فقال: قال أصحابنا: يجب على المأموم متابعة الإمام، ويحرم عليه أن يتقدمه بشيء من الأفعال، والمتابعة أن يجري على إثر الإمام، بحيث يكون ابتداؤه لكل فعل متأخرا عن ابتداء الإمام، ومقدما على فراغه منه فلو خالفه في المتابعة فله أحوال: 1 - إن قارنه في تكبيرة الإحرام لم تنعقد صلاته باتفاق أصحابنا، وبه قال مالك وأبو يوسف وأحمد وداود، وقال الثوري وأبو حنيفة وزفر ومحمد: تنعقد كما لو قارنه في الركوع. 2 - إن قارنه في السلام فوجهان، قيل: تبطل، والصحيح الكراهة وعدم البطلان. 3 - إن قارنه فيما سوى تكبيرة الإحرام والسلام لم تبطل صلاته باتفاق ولكن يكره، قال الرافعي: وتفوت به فضيلة الجماعة. 4 - أن يتقدم على الإمام بركوع أو غيره من الأفعال، فإن لم يسبق بركن كامل [كأن ركع قبل الإمام فلم يرفع رأسه حتى ركع الإمام أو رفع رأسه قبل الإمام فلم يهو حتى رفع الإمام رأسه] لم تبطل صلاته لأنها مخالفة يسيرة، ولكن هل يعود فورا إلى حال الإمام أو ينتظر؟ قيل: يستحب له

العود، وقيل: يلزمه العود، وقيل: يحرم عليه العود [والذي أميل إليه أنه إن عهد تطويل الإمام في هذا الركن استحب له العود، وإن عهد تقصيره استحب له انتظاره]. 5 - إن سبق إمامه بركن كامل [كأن ركع قبل الإمام، ثم رفع قبل أن يركع إمامه] بطلت صلاته إن كان عامدا عالما بتحريمه، ولا تبطل إن كان ساهيا أو جاهلا على الصحيح. 6 - إن سبق إمامه بأقوال غير تكبيرة الإحرام لم تبطل صلاته ولا نضر هذه المخالفة على الصحيح، والأفضل أن يعيد القراءة مع قراءة الإمام أو بعده. هذا في سبق المأموم، أما تأخر المأموم عن إمامه بركن واحد فإنه لا يبطل صلاته على الصحيح، وإن تخلف بركنين بطلت بالاتفاق لمنافاته للمتابعة، انتهى بتصرف. -[ويؤخذ من الحديث بعد ما تقدم]- 1 - استدل ابن الجوزي بالحديث على أن المأموم لا يشرع في الركن حتى يتمه الإمام، وتعقب بأنه ليس فيه إلا التأخر حتى يتلبس الإمام بالركن الذي ينتقل إليه. 2 - قال ابن بزيزة: استدل بظاهر قوله: "أن يحول الله رأسه رأس حمار" قوم لا يعقلون على جواز التناسخ، قال الحافظ ابن حجر: وهو مذهب رديء مبني على دعاوي بغير برهان. 3 - وفي الحديث كمال شفقته صلى الله عليه وسلم بأمته، وبيانه لهم الأحكام وما يترتب عليها من الثواب والعقاب. (ملحوظة) للحديث صلة وثيقة بباب متابعة الإمام والعمل بعده، وسيأتي بعد ثلاثة عشر بابا فليراجع. والله أعلم

(171) باب النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة

(171) باب النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة 786 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لا ترجع إليهم". 787 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لينتهين أقوام عن رفعهم أبصارهم عند الدعاء في الصلاة إلى السماء أو لتخطفن أبصارهم". -[المعنى العام]- ظن الصحابة أن التوجه إلى السماء بالوجه واليدين حين الدعاء مستحسن ومحبوب، لقوله تعالى {وفي السماء رزقكم وما توعدون} [الذاريات: 22] ولأنها -كما قيل- قبلة الدعاء، كما أن الكعبة قبلة الصلاة، فكان بعضهم يرفع رأسه وبصره إلى السماء في الدعاء في الصلاة، ونهاهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك، لأنه ينافي الخشوع والخضوع المطلوب في الصلاة. ويبدو أن بعض الصحابة خانته العادة فرفع بصره إلى السماء بعد النهي المتكرر، مما أغضب النبي صلى الله عليه وسلم فقد روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم" فاشتد قوله في ذلك حتى قال: "لينتهين عن ذلك أو لنخطفن أبصارهم" وهكذا شدد النبي صلى الله عليه وسلم الوعيد، وخيرهم بين الانتهاء من رفع الأبصار إلى السماء في الدعاء في الصلاة وبين العمى وخطف الأبصار، فكان هذا التهديد الفظيع كافيا في الانتهاء وامتثال الشرع الحنيف. -[المباحث العربية]- (لينتهين أقوام) بفتح اللام والياء وسكون النون وفتح التاء وكسر الهاء وفتح الياء بعدها نون مشددة، واللام فيه للتأكد وهو في جواب قسم محذوف وفي رواية البخاري "لينتهين عن ذلك" بضم الياء وسكون النون وفتح التاء والهاء وضم الياء وتشديد النون على صيغة المبني للمجهول وذكر "أقوام" دون ذكر أسماء الفاعلين لئلا ينكسر خاطرهم -كما هي عادته صلى الله عليه وسلم في الستر عند النصيحة.

(يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة) الجملة في محل رفع صفة أقوام. (أو لتخطفن أبصارهم) قال الطيبي: كلمة "أو" هنا للتخيير تهديدا وهو خبر في معنى الأمر، أي ليكونن منكم الانتهاء عن رفع البصر، أو خطف الأبصار عند الرفع. اهـ. -[فقه الحديث]- ظاهر الرواية الأولى النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة مطلقا سواء أثناء الدعاء فيها أم في غير حال الدعاء، فإن حملنا المطلق على المقيد كان المقصود من الحديث النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة أثناء الدعاء فقط، وبهذا قال جماعة وحكمه عند الجمهور الكراهة. وإن أبقينا المطلق على إطلاقه، والمقيد على تقييده، دل على أن رفع البصر إلى السماء في الصلاة مطلقا منهيا عنه، وقد نقل الإجماع على ذلك، قال ابن التين: أجمع العلماء على كراهة النظر إلى السماء في الصلاة لهذا الحديث وقال القاضي عياض: رفع البصر إلى السماء في الصلاة فيه نوع إعراض عن القبلة وخروج عن هيئة الصلاة. اهـ. وذهب ابن حزم إلى أنه لا يحل ذلك، بل يحرم لما ورد من النهي الأكيد والوعيد الشديد، وذلك يقتضي أن يكون حراما، وبه قال قوم من السلف، بل بالغ ابن حزم فقال: تفسد صلاته. وقال الزين ابن المنير: نظر المأموم إلى الإمام من مقاصد الائتمام فإذا تمكن من مراقبته بغير التفات كان ذلك من إصلاحه صلاته. وقال ابن بطال: يرى مالك أن نظر المصلي يكون إلى جهة القبلة. وقال الشافعي والكوفيون: يستحب له أن ينظر إلى موضع سجوده، لأنه أقرب للخشوع. قال الحافظ ابن حجر: ويمكن أن يفرق بين الإمام والمأموم فيستحب للإمام النظر إلى موضع السجود، وكذا المأموم إلا حيث يحتاج إلى مراقبة إمامه، وأما المنفرد فحكمه حكم الإمام. اهـ. أما إذا غمض عينيه في الصلاة، فقد قال الطحاوي: كرهه أصحابنا وقال مالك: لا بأس به في الفريضة والنافلة، وقال النووي: المختار أنه لا يكره إذا لم يخف ضررا، لأنه يجمع الخشوع، ويمنع من إرسال البصر وتفريق الذهن. اهـ. أما رفع البصر إلى السماء في الدعاء في غير الصلاة فقد كرهه شريح وطائفة، فقد قال شريح لرجل رآه يرفع بصره ويده إلى السماء: اكفف يدك واخفض بصرك، فإنك لن تراه ولن نناله. والجمهور على جوازه، لأن السماء قبلة الدعاء، كما أن الكعبة قبلة الصلاة. والله أعلم

(172) باب الأمر بالسكون في الصلاة والنهي عن الإشارة باليد فيها

(172) باب الأمر بالسكون في الصلاة والنهي عن الإشارة باليد فيها 788 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس؟ اسكنوا في الصلاة" قال ثم خرج علينا فرآنا حلقا. فقال "ما لي أراكم عزين؟ " قال ثم خرج علينا فقال "ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ " فقلنا: يا رسول الله وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال "يتمون الصفوف الأول ويتراصون في الصف". بنحوه. 789 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال كنا إذا صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا السلام عليكم ورحمة الله السلام عليكم ورحمة الله وأشار بيده إلى الجانبين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "علام تومئون بأيديكم كأنها أذناب خيل شمس؟ إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه. ثم يسلم على أخيه من على يمينه وشماله". 790 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنا إذا سلمنا قلنا بأيدينا السلام عليكم السلام عليكم فنظر إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "ما شأنكم تشيرون بأيديكم كأنها أذناب خيل شمس؟ إذا سلم أحدكم فليلتفت إلى صاحبه ولا يومئ بيده". -[المعنى العام]- لما كانت الصلاة مناجاة بين العبد وربه وجب أن يقف المصلي في خشوع وخضوع، وأن يمسك أعضاؤه وجوارحه عن الحركة، وأن يتسم بالسكون والهدوء، إن الإنسان إذا وقف أمام رئيس حكم جوارحه، وقيد تحركاته والتزم آداب الخضوع، وإن الجند إذا وقفوا لتحية قائدهم تراصوا وانتظموا كالبنيان: فهل الرئيس أحق بالتقدير والاحترام ومظاهر الخضوع والنظام من رب الرؤساء جميعا؟ .

بهذا المطهر الكريم أمرنا الإسلام، وتعهد الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه وما كان ليترك إخلالا بهذا الوضع إلا عالجه في حينه صلى الله عليه وسلم. لقد رأى في يوم من الأيام أصحابه يصلون وحدهم، فلما انتهوا من الصلاة وسلموا رآهم يقولون عن اليمين: السلام عليكم، ويشيرون بأيديهم إلي من على يمينهم بإشارة السلام، ويقولون ويفعلون جهة الشمال مثلما قالوا ومثلما فعلوا جهة اليمين. فقال لهم: مالكم ترفعون أيديكم وتحركونها، وتشيرون بها؟ كأنها أذناب خيل مستنفرة؟ شرسة شاردة لا تستقر أمام صاحبها؟ اسكنوا ولا تتحركوا بحركات تخل بالصلاة. وخرج صلى الله عليه وسلم مرة أخرى على أصحابه، فرآهم في صلاتهم معوجة صفوفهم مخلخلة غير متصلة، كأنها حلقات مكسرة متحطمة، فقال لهم: مالكم متفرقين منقطعين في صلاتكم؟ ينبغي أن تكون صفوفكم كصفوف الملائكة. قالوا: وكيف يصف الملائكة أنفسهم؟ قال: يتراصون ويتلاصقون في الصف، ويكملون الصف الأول فالثاني فالثالث إلى آخر الصفوف. وصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة أخرى، فلما سلم ونظر إليهم وجدهم يشيرون بأيديهم حين سلامهم عن اليمين وعن الشمال، فقال لهم: لماذا تشيرون بأيديكم؟ لا يحرك أحدكم يده، وليبقها ساكنة على فخذه وليكتف حين السلام بالالتفات عن اليمين، يسلم على إخوته الذين عن اليمين، ثم الالتفات عن الشمال، يسلم على إخوته الذين على الشمال. -[المباحث العربية]- (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي من بيته إلى المسجد، أو المراد من الخروج الطلوع والظهور. (فقال: مالي أراكم) "ما" اسم استفهام مبتدأ، و"لي" جار ومجرور خبر وجملة "أراكم" في محل النصب على الحال، وجملة: فقال: "معطوف على محذوف، أي فرآنا في حالة كذا فقال: أي شيء حصل لي حالة رؤيتي لكم؟ والاستفهام وإن كان في صورته استفهاما عن رؤية نفسه، وتعجبا من هذه الرؤية، إلا أن المقصود التعجب من حالهم وكان حقه أن يقول: مالكم تفعلون كذا؟ لكنه آثر أسلوب التعريض. (رافعي أيديكم) "رافعي" حال من مفعول "أراكم" لأنها بصرية، والمراد من رفع الأيدي رفعها عن الفخذ والإشارة بها يمينا وشمالا، وجمع الأيدي لجمع أصحابها. ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادا، كأنه قال: ما لي أراكم رافعا كل منكم يده، أي يمينه يشير بالسلام. (كأنها أذناب خيل شمس) بضم الشين وسكون الميم وضمها، جمع شموس والشموس من الدواب الذي لا يستقر لشغبه وحدته، والمقصود من هذا التشبيه التنفير، وقد استخدم فيه ثلاثة مشبهات بها منفرة. تشبيه الأيدي التي في مقدمة الإنسان ورمز قوته بالأذناب التي في المؤخرة،

وهي مثل للحقارة والضعف والتبعية، وتشبيه الإنسان بالحيوان، وتشبيه الحركة بالشغب والنفور، وجملة "كأنها" حال من "أيديكم". (اسكنوا في الصلاة) أي في غير التحركات المشروعة كرفع اليدين عند الرفع والخفض. (فرآنا حلقا) بكسر الحاء وفتحها لغتان، جمع حلقة بفتح الحاء وإسكان اللام، وحكي فتحها في لغة ضعيفة، وهي ما استدار من أي شيء، والمقصود أنه رآهم كذلك في الصلاة، فيستبعد فهم الحلق على الاستدارة الكاملة ويكون المراد اعوجاج الصفوف وتقوسها كأنها حلق. (ما لي أراكم عزين) بكسر العين وكسر الزاي مع التخفيف، جمع عزة بتخفيف الزاي المفتوحة، أي متفرقين جماعة جماعة، فيكون المراد النهي عن التفرق، والأمر بالاجتماع، وسيأتي إيضاح المطلوب في فقه الحديث. (ألا تصفون؟ ) "ألا" للتحضيض، و"تصفون" بفتح التاء وضم الصاد. (كما تصف الملائكة) "تصف" بفتح التاء وضم الصاد. (عند ربها) في رواية أبي داود والنسائي "عند ربهم". (يتمون الصفوف الأول) "يتمون" بضم الياء و"الأول" بضم الهمزة وفتح الواو المخففة، وفي رواية "يتمون الصف الأول" أي فالثاني فالثالث إلخ، وفي رواية لأبي داود "يتمون الصفوف المتقدمة"، أي إذا وجد نقص كان في الصف الأخير وحده وليس في الصفوف المتأخرة كما يفهم من ظاهر العبارة. (ويتراصون في الصف) بتشديد الصاد، أي يتلاصقون من غير فرج بينهم. (كنا إذا صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) "مع رسول الله" ليس قيدا للاحتراز، وإنما هو لبيان الواقع، كما هو ظاهر من الرواية الأولى. (قلنا: السلام عليكم ورحمة الله) أي في نهاية الصلاة، وعند نية الخروج منها. (وأشار بيده إلى الجانبين) أي إلى اليمين والشمال، وجملة "وأشار بيده إلى الجانبين" من كلام عبيد الله بن القبطية الراوي عن جابر بن سمرة، فالذي أشار بيده جابر، والمراد بالإشارة إشارة السلام. (علام تومئون بأيديكم) "تومئون" مضارع أومأ بمعنى أشار والجار والمجرور "علام" متعلق بالفعل بعده، والاستفهام توبيخي بمعنى لا ينبغي ولا يصح. (إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه) أي أن يبقي يده موضوعة على فخذه، إذ

السنة وضعها كذلك من أول التشهد، والمصدر "أن يضع" فاعل "يكفي" وسيأتي مكان وضع اليد من الفخذ بعد أبواب. (ثم يسلم على أخيه من على يمينه وشماله) "من" بفتح الميم اسم موصول صفة أو بدل من "أخيه" والمراد من الأخ الأخ في الإسلام، أي المصلي الذي على يمينه وشماله. -[فقه الحديث]- قال النووي: السنة في السلام من الصلاة أن يقول: السلام عليكم ورحمة الله عن يمينه، السلام عليكم ورحمة الله عن شماله، ولا يسن زيادة "وبركاته" وإن كان قد جاء فيها حديث ضعيف، وأشار إليها بعض العلماء ولكنها بدعة إذ لم يصح فيها حديث، بل صح هذا الحديث وغيره في تركها، والواجب منه "السلام عليكم" مرة واحدة، ولو قال: السلام عليك بغير ميم لم تصح صلاته وفي الحديث استحباب تسليمتين، وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور. اهـ وقال في المجموع: إن اقتصر على تسليمة واحدة جعلها تلقاء وجهه، وإن سلم تسليمتين فالسنة أن تكون إحداهما عن يمينه والأخرى عن يساره. ثم قال: قال صاحب التهذيب وغيره: يبتدئ السلام مستقبل القبلة ويتمه ملتفتا بحيث يكون آخر سلامه مع آخر الالتفات، ففي التسليمة الأولى يلتفت حتى يرى من على يمين خده الأيمن، وفي الثانية يلتفت حتى يرى من على يسار خده الأيسر، ولو سلم التسليمتين عن يمينه أو عن يساره أو تلقاء وجهه أجزأه وكان تاركا السنة. قال إمام الحرمين والغزالي وغيرهما: إذا قلنا يستحب التسليمة الثانية فهي واقعة بعد فراغ الصلاة ليست منها، وقد انقضت الصلاة بالتسليمة الأولى حتى لو أحدث مع الثانية لم تبطل صلاته. ثم قال: قال أصحابنا ويستحب للإمام أن ينوي بالتسليمة الأولى السلام على من على يمينه من الملائكة ومسلمي الجن والإنس، وبالثانية على من على يساره منهم، وينوي المأموم مثل ذلك ويستحب أن ينوي بعض المأمومين الرد على بعض. اهـ. هذا مذهب الشافعية والجمهور. وقال أبو حنيفة: لا يجب السلام، ولا هو من الصلاة، بل إذا قعد قدر التشهيد ثم خرج من الصلاة بما ينافيها من سلام أو كلام أو حدث أو قيام أو غير ذلك أجزأه وتمت صلاته، واحتج له بحديث المسيء صلاته، والجواب عنه أنه ترك بيان السلام للمسيء صلاته لعلمه به كما ترك بيان النية والجلوس للتشهد وهما واجبان بالاتفاق. وحكى الطحاوي والقاضي أبو الطيب وآخرون عن الحسن بن صالح أنه أوجب التسليمتين جميعا، وهي رواية عن أحمد، وبالرأيين قال بعض أصحاب مالك. لكن قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن صلاة من اقتصر على تسليمة واحدة جائزة. اهـ.

ولعل مراد المخالفين بالواجب مالا يبطل الصلاة تركه. والله أعلم. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - الحث على الخشوع في الصلاة وعدم التحرك فيها بغير ما ورد، وفي ذلك يقول الله تعالى: {قد أفلح المؤمنون* الذين هم في صلاتهم خاشعون} [المؤمنون: 1 - 2] والخشوع تارة يكون من فعل القلب كالخشية، وتارة من فعل البدن كالسكون وقيل لا بد من اعتبارهما، قال بعضهم: الخشوع معنى يقوم بالنفس يظهر منه سكون في الأطراف يلائم مقصود العبادة، ففي الحديث حين رأى صلى الله عليه وسلم رجلا يحرك جوارحه في الصلاة قال: "لو خشع هذا خشعت جوارحه". 2 - وفيه استحباب تسليمتين، وقد مضى توضيح هذا الحكم. 3 - واستحباب الالتفات عند التسليمتين. 4 - وأن التسليم من الصلاة حيث نهاهم عن رفع الأيدي عند التسليم ثم قال: "اسكنوا في الصلاة" وفيه حجة على أبي حنيفة رحمه الله تعالى. 5 - وفيه الأمر بتسوية الصفوف وإقامتها وعدم اعوجاجها أو تقطعها قطعا وترك فواصل بين أعضاء الصف الواحد وتكملة الصفوف الأول فالأول. 6 - وفيه استحباب وضع اليد على الفخذ في جلوس التشهد. 7 - وفيه أن الملائكة يصلون. 8 - وأنهم يصفون في صلاتهم. 9 - وأن صفوفهم على هذه الصفة التي ذكرها صلى الله عليه وسلم. والله أعلم

(173) باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول منها

(173) باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول منها 791 - عن أبي مسعود رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول "استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم ليلني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" قال أبو مسعود فأنتم اليوم أشد اختلافا. وبنحوه. 792 - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليلني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثلاثا وإياكم وهيشات الأسواق". 793 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "سووا صفوفكم فإن تسوية الصف من تمام الصلاة". 794 - عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أتموا الصفوف فإني أراكم خلف ظهري". 795 - عن همام بن منبه قال هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها. وقال "أقيموا الصف في الصلاة. فإن إقامة الصف من حسن الصلاة". 796 - عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم".

797 - عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوي صفوفنا. حتى كأنما يسوي بها القداح. حتى رأى أنا قد عقلنا عنه. ثم خرج يوما فقام حتى كاد يكبر. فرأى رجلا باديا صدره من الصف. فقال: "عباد الله لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم". 798 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لا ستهموا ولو يعلمون ما في التهجير لا ستبقوا إليه ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا". 799 - عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في أصحابه تأخرا. فقال لهم "تقدموا فأتموا بي وليأتم بكم من بعدكم لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله". 800 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما في مؤخر المسجد فذكر مثله. 801 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لو تعلمون أو يعلمون ما في الصف المقدم لكانت قرعة" وقال ابن حرب: "الصف الأول ما كانت إلا قرعة". 802 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها".

-[المعنى العام]- صلاة الجماعة تدريب على النظام والطاعة، وكما سبق أن قلنا إنها تدرب على دقة متابعة الجندي لقائده نقول: وإنها للاجتماع، فإذا ما التزمنا كون الإمام أعلم القوم، ووليه أصحاب العقول والعلم، الأرسخ فالأقل رسوخا، وإذا ما التزمنا تسوية الصفوف واعتدالها واستقامتها، وإذا ما التزمنا الهدوء والسكينة عند إقامة الصفوف، ثم تابعنا حركات الإمام فلم نتقدم عليه ولم نتأخر كثيرا عنه، إذا ما التزمنا كل ذلك حققنا هدف صلاة الجماعة. وظفرنا بأجر يعادل أجر صلاة الفرد سبعا وعشرين مرة. ولقد حرص صلى الله عليه وسلم على أن يعلم أمته هذه المبادئ عملا وقولا، فكان صلى الله عليه وسلم يمر بين الصفوف يعدل الناس فيها، ويضع منكب وكتف الواحد موازيا لمنكب وكتف الآخر، يسوي بيده الشريفة المناكب ويرص القوم في الصف رصا كالبنيان المستقيم، حتى إذا اطمأن إلى استجابتهم، وإلى محافظتهم جهد الطاقة على الاعتدال وتسوية الصفوف اكتفى بالقول عن الفعل، وأصبح يذكرهم في كل صلاة بواجب تسوية الصفوف، فيلتفت يمينا ويقول: استووا. سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة ومن محاسنها، ثم يلتفت يسارا فيقول مثل ذلك لمن على يساره، وكان صلى الله عليه وسلم حينما يرى خللا في استواء الصفوف بعد طول التذكير والوعظ يلجأ إلى الشدة والوعيد، ويحذر من اختلاف الصفوف بأنه يؤدي إلى اختلاف القلوب واختلاف الكلمة، فيقول: استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، بل كان يخوف ويدفع النفوس الضعيفة إلى استشعار أنه صلى الله عليه وسلم يراهم من خلف ظهره. وكان يقدم تسوية الصفوف على الإسراع بالصلاة، بل كان يوقف تكبيرة الإحرام وقد تهيأ للدخول في الصلاة لينذر المخالف للصف، فقد وقف يؤم القوم يوما، وطلب عن يمين وشمال تسوية الصفوف، فلحظ رجلا لا يسوي صدره مع صدر الآخرين، فغضب. وقال: يا عباد الله لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم وقلوبكم، وأصبح المسلمون قائمين بأمر الله وعلى أمره، يعدل كل منهم نفسه، ويعدل من يخالف ممن يجاوره، فنشأ نتيجة لهذه الحركات بعض الجلبة والضوضاء، فهناهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لهم احذروا المنازعات والاحتكاكات فليست الصلاة كالأسواق، واعتدلوا في هدوء وعدلوا أنفسكم في سكينة ووقار. ولقد طلب صلى الله عليه وسلم من أصحابه أن يتقدم إلى الصف الأول أولو العقول والفهم والعلم، ولكن كيف يستجيبون لذلك وهم المتواضعون الذين يحسنون الظن بغيرهم قبل أن يحسنوه بأنفسهم، من منهم الذي يدعي لنفسه أنه خير القوم عقلا وعلما حتى يتقدم؟ لقد دفعهم تواضعهم وهضمهم لأنفسهم أن يتأخروا عن الصف الأول، حتى كاد يختل توازنه، بل حتى خلا الصف الأول، وأصبح بين الإمام وبين المأمومين ما يسع صفا أو أكثر، ولم يتغلب الترغيب في الصف الأول على هذا الشعور، لم يتغلب على هذا الشعور قوله صلى الله عليه وسلم: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول [من الأجر الكبير] لتسابقوا حتى يقترعوا، لو تعلمون ما في الصف الأول لكانت قرعة لمن يقف فيه، إن

خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء المصليات مع الرجال آخرها وشرها أولها". لم يتغلب هذا الترغيب على تواضع القوم، فظلوا يتأخرون عن الصف الأول، حتى قال لهم صلى الله عليه وسلم: "لا يزال قوم يتأخرون عن الصف الأول حتى يؤخرهم الله عن رحمته" تقدموا يا أولي النهي فائتموا بي، وليأتم بي من بعدكم، مستشعرا حركاتي عن طريقكم. فتقدم كبار الصحابة وأئمتهم إلى الصف الأول رضوان الله عليهم أجمعين. -[المباحث العربية]- (يمسح مناكبنا) المنكب مجتمع العضد والكتف. والمعنى يسوي مناكبنا ويقيمها في الصفوف ويعدلها بيده ويجعلها على خط مستقيم، بحيث يكون منكب كل واحد من المصلين موازيا لمنكب الآخر، فتكون المناكب والأعناق على سمت واحد. (في الصلاة) "أل" للعهد، أي في صلاة الجماعة. (استووا ولا تختلفوا) عطف تفسير وتأكيد، فالمراد من الاختلاف اختلاف الأجسام، وليس ما يتبادر من الاختلاف في العقائد والآراء. (فتختلف قلوبكم) الفاء للسببية، والفعل بعدها منصوب بأن مضمرة واختلاف القلوب كناية عن وقوع العداوة والبغضاء والتقاطع، كأن مخالفة الظواهر سبب في مخالفة البواطن. (ليلني منكم أولو الأحلام والنهى) "ليلني" بكسر اللامين وتخفيف النون من غير ياء قبل النون، قال النووي: ويجوز إثبات الياء مع تشديد النون على التوكيد، وأولو الأحلام هم العقلاء، وقيل البالغون، والنهى بضم النون العقول، فعلى القول بأن أولي الأحلام هم العقلاء يكون اللفظان بمعنى، فلما اختلف اللفظ عطف أحدهما على الآخر تأكيدا. وعلى الثاني معناه البالغون العقلاء، قال أهل اللغة: واحدة النهى نهية بضم النون وهي العقل، وسمي العقل نهية لأنه ينتهي إلى ما أمر به ولا يتجاوزه، وقيل: لأنه ينهي عن القبائح. (فأنتم اليوم أشد اختلافا) في صفوفكم عما كنا عليه أيام نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاختلاف، فأنتم اليوم أشد تعرضا لاختلاف القلوب. (وإياكم وهيشات الأسواق) أي احذروا هيشات الأسواق، أي اختلاط الأسواق والمنازعات والخصومات وارتفاع الأصوات واللغط والفتن فيها، أي احذروا في صلاتكم وصفوفكم ما يشبه هيشات الأسواق من الهرج والاختلاف والمنازعة. (سووا صفوفكم) في الصلاة، أي اجعلوها، مستوية ولا خلل فيها.

(فإن تسوية الصف من تمام الصلاة) "الصف" مراد به الجنس، وفي رواية البخاري "فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة" قيل: في الكلام مضاف محذوف تقديره: فإن تسوية الصف من كمال تمام الصلاة، أو من حسن تمام الصلاة، والداعي لهذا التقدير أن تسوية الصف ليست من حقيقة الصلاة، وإنما هي من حسنها وكمالها، سواء كانت واجبة في نفسها أم سنة أم مستحبة على اختلاف في الأقوال، ويتفق مع هذا التقدير روايتنا الخامسة، وفيها "فإن إقامة الصف من حسن الصلاة" وحسن الشيء زائد على حقيقته. (فإني أراكم خلف ظهري) سواء أردنا من الرؤية، الرؤية البصرية بقدرة يخلقها الله فيه صلى الله عليه وسلم أم الرؤية العلمية بوحي أو إلهام، فإن المقصود بهذه الجملة التحذير وزيادة المراقبة. (أقيموا الصف) أي سووه وعدلوه وتراصوا فيه، فالمقصود استقامته وسد الفرج فيه. (أو ليخالفن الله بين وجوهكم) إن لم تسووا، واختلف في هذا الوعيد فقيل: هو على حقيقته، والوعيد بالمسخ كالوعيد فيمن رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار، أو الوعيد بتحويل خلقه عن وضعه، بجعله موضع القفاء أو نحو ذلك، فهو كالوعيد المذكور في قوله تعالى: {من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها} [النساء: 47] وهذان الرأيان مبنيان على أن المراد بالوجه العضو المخصوص، وحمل بعضهم هذا الوعيد على المجاز، قال النووي: والأظهر أن معناه يوقع بينكم العداوة والبغضاء واختلاف القلوب، كما يقال: تغير وجه فلان علي، أي طهر لي من وجهه كراهة لي وتغير قلبه علي. اهـ ويؤيد هذا الرأي روايتنا الأولى ففيها "ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم" ورواية أبي داود ولفظها "أو ليخالفن الله بين قلوبكم" وقريب من هذا قول القرطبي: معناه تفترقون، فيأخذ كل واحد وجها غير الذي أخذه صاحبه، لأن تقدم الشخص على غيره مظنة الكبر المفسد للقلب الداعي إلى القطيعة. قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يراد بالمخالفة المخالفة في الجزاء، فيجازى المسوي بخير، ومن لا يسوي بشر. اهـ وهو احتمال بعيد. (يسوي صفوفنا حتى كأنما يسوي بها القداح) "القداح" بكسر القاف هي خشب السهام حين تنحت وتبرى، واحدها قدح بكسر القاف وإسكان الدال وهو السهم قبل أن يراش ويركب فيه النصل، والمعنى يسوي صفوفنا ويقومها، ويبالغ في تسويتها حتى تصير كأنما يقوم بها السهام لشدة استوائها واعتدالها. (حتى أرى أنا قد عقلنا عنه) أي ظل يتعهدنا بذلك حتى ظن أو اعتقد أننا فهمنا الحكم وحرصنا عليه والتزمناه، فتركنا. (فقام حتى كاد يكبر) أي قام إلى الصلاة واستعد للدخول فيها حتى قرب من تكبيرة الإحرام.

(لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول) النداء هو الأذان، أي لو يعلم الناس ما في مباشرة الأذان وأدائه من الأجر والثواب، والمراد من الصف الأول ما يلي الإمام مطلقا، وقيل أول صف تام يلي الإمام، لا ما يتخلله شيء كمقصورة. وقيل المراد به من سبق إلى الصلاة ولو صلى آخر الصفوف، قال النووي: والقول الأول هو الصحيح. (ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا) الاستهام الاقتراع والمعنى أنهم لو علموا فضيلة الأذان ثم لم يجدوا طريقا يحصلونه به لضيق الوقت عن أذان بعد أذان، ولكونه لا يؤذن للمسجد إلا واحد لاقترعوا في تحصيله. (ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه) و"التهجير" التبكير إلى الصلاة أي صلاة كانت، قال الهروي وغيره وخصه الخليل بالجمعة، والصواب المشهور الأول. (ولو يعلمون ما في العتمة والصبح) أي صلاة العشاء والفجر وهما أثقل الصلاة على المنافقين. (لأتوهما ولو حبوا) بفتح الحاء وإسكان الباء، وهو المشي على اليدين والرجلين. (رأى في أصحابه تأخرا) أي عدم المبادرة إلى الصف الأول، وتأخرا عن القرب من الإمام. (وليأتم بكم من بعدكم) أي يقتدوا بي مستدلين على أفعالي بأفعالكم. (لا يزال قوم يتأخرون) عن الصفوف الأول. (حتى يؤخرهم الله) عن العلم ورفع المنزلة، أو عن الرحمة وعظيم الفضل أو عن رتبة السابقين. (لو تعلمون ما في الصف المقدم) أي الصف الأول مما يلي الإمام. (لكانت قرعة) اسم كانت ضمير، "قرعة" خبرها. أي لكانت المسألة والفاصلة بينهم قرعة. (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها) قال النووي: هي على عمومها فخيرها أولها أبدا، وشرها آخرها أبدا. (وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها) قال النووي: ليس على عمومها، فالمراد من الحديث صفوف النساء اللواتي يصلين مع الرجال، وأما إذا صلين متميزات لا مع الرجال فهن كالرجال، خير صفوفهن أولها، وشرها آخرها، والمراد بشر الصفوف في الرجال والنساء أقلها ثوابا وأبعدها من مطلوب الشرع، وخيرها بعكسه.

-[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث]- 1 - قال النووي: في هذا الحديث تقديم الأفضل فالأفضل إلى الإمام لأنه أولى بالإكرام، ولأنه ربما احتاج الإمام إلى استخلاف فيكون هو أولى، ولأنه يتفطن لتنبيه الإمام على السهو لما لا يتفطن له غيره، وليضبطوا صفة الصلاة ويحفظوها، وينقلوها ويعلموها الناس، وليقتدي بأفعالهم من وراءهم، ولا يختص هذا التقديم بالصلاة، بل السنة أن يقدم أهل الفضل في كل مجمع إلى الإمام وكبير المجلس، كمجالس العلم والقضاء، والذكر والمشاورة ومواقف القتال وإمامة الصلاة والتدريس والإفتاء وإسماع الحديث ونحوها؛ ويكون الناس فيها على مراتبهم في العلم والدين والعقل والشرف والسنن والكفاءة في ذلك الباب، والأحاديث الصحيحة متعاضدة على ذلك. اهـ 2 - وفيه اعتناء الإمام بتسوية الصفوف بالفعل والحث عليها بالقول. 3 - وفيه مشروعية تسوية الصفوف، وقد استدل ابن حزم بقوله: "فإن تسوية الصف من تمام الصلاة" ومن رواية "فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة" على أن التسوية واجبة، لأن تمام الشيء يتوقف على ما لا تتم الحقيقة إلا به. والجمهور على أن تسوية الصفوف من السنة، اعتمادا على رواية البخاري "فإن إقامة الصف من حسن الصلاة" قال ابن بطال: لأن حسن الشيء زيادة على تمامه، وهي سنة عند أبي حنيفة والشافعي ومالك. 4 - استدل بالوعيد في الحديث على إثم من لم يتم الصفوف، لأن مثل هذا الوعيد يستلزم التأثيم، والتأثيم لا يقع على ترك السنة، وأما قول ابن بطال: إن تسوية الصفوف لما كانت من السنن المندوب إليها التي يستحق فاعلها المدح عليها دل على أن تاركها يستحق الذم، فهذا القول تعقبه الحافظ ابن حجر من جهة أنه لا يلزم من ذم تارك السنة أن يكون آثما. اهـ. ويمكن أن يؤخذ وجوب التسوية من صيغة الأمر "سووا صفوفكم" "أتموا الصفوف" ومن عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" ومن الوعيد على تركه. لكن الجمهور يرى أن هذا الوعيد من باب التغليظ والتشديد تأكيدا وتحريضا على فعلها، ومع القول بأن التسوية واجبة فصلاة من خالف ولم يسو صحيحة، وأفرط ابن حزم فجزم بالبطلان. 5 - يؤخذ من قوله "فقام حتى كاد يكبر، فرأى رجلا باديا صدره من الصف، فقال ... إلخ" جواز الكلام بين الإقامة والدخول في الصلاة، قال النووي: وهذا مذهبنا ومذهب جماهير العلماء، ومنعه بعض العلماء والصواب الجواز سواء كان الكلام لمصلحة الصلاة أو لغيرها أو لا لمصلحة. 6 - وفي الحديث فضيلة الأذان والمؤذن.

7 - وفضيلة الصف الأول فالأول. 8 - ومشروعية القرعة عند التنازع وعدم المرجح. 9 - وفضيلة التهجير والتبكير إلى الصلاة. 10 - وجواز تسمية العشاء عتمة، وقد ثبت النهي عنه، قال النووي: وجوابه من وجهين. أحدهما: أن هذه التسمية بيان للجواز، وأن ذلك النهي ليس للتحريم. والثاني: -وهو الأظهر- أن استعمال العتمة هنا لمصلحة ولنفي مفسدة، لأن العرب كانت تستعمل لفظ العشاء في المغرب، فلو قال: لو يعلمون ما في العشاء والصبح فحملوها على المغرب، فسد المعنى وفات المطلوب، فاستعمل العتمة التي يعرفونها ولا يشكون فيها، وقواعد الشرع تظاهر على احتمال أخف المفسدتين لدفع أعظمهما. اهـ. 11 - فيه الحث العظيم على حضور جماعة العشاء والفجر، والفضل الكثير في ذلك لما فيها من المشقة على النفس، من تنغيص أول نومها وآخره، ولهذا كانتا أثقل الصلاة على المنافقين. 12 - أخذ الشعبي من قوله: "وليأتم بكم من وراءكم" أن كل صف إمام لمن وراءه، وعامة أهل العلم يخالفونه. 13 - استدل به على جواز اعتماد المأموم في متابعة الإمام الذي لا يراه ولا يسمعه على مبلغ عنه أو صف أمامه يراه متابعا للإمام. 14 - وفيه فضل آخر صفوف النساء الحاضرات مع الرجال لبعدهن عن مخالطة الرجال ورؤيتهم وتعلق القلب بهم عند رؤية حركاتهم وسماع كلامهم ونحو ذلك، وذم أول صفوفهن لعكس ذلك. والله أعلم

(174) باب أمر المصليات وراء الرجال أن لا يرفعن رءوسهن من السجود حتى يرفع الرجال

(174) باب أمر المصليات وراء الرجال أن لا يرفعن رءوسهن من السجود حتى يرفع الرجال 803 - عن سهل بن سعد قال: لقد رأيت الرجال عاقدي أزرهم في أعناقهم مثل الصبيان من ضيق الأزر خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال قائل: يا معشر النساء لا ترفعن رءوسكن حتى يرفع الرجال. -[المعنى العام]- كان المسلمون الأولون في ضيق، وكان كثير منهم لا يملك إلا ثوبا واحدا لا يغطي كل بدنه، وقد أمروا بستر العورة، فهل تراهم يضعون الثوب على أعناقهم ويشتملون به من أعلى فتنكشف بعض عورتهم؟ أو الأولى بهم أن يأتزروا به من وسطهم، ويستروا به ما بين سرتهم وركبتهم؟ لا شك أن الأولى ستر العورة، ولكن ماذا يفعلون ليمنعوا انزلاق الإزار من وسطهم إلى أسفل؟ وماذا يفعلون في نصفهم الأعلى؟ أيتركونه كله عاريا؟ لقد أمرهم صلى الله عليه وسلم أن يربطوا طرف الثوب في أعناقهم فقال "لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقيه شيء" "من صلى في ثوب واحد فليخالف بين طرفيه". وكان الثوب في ذلك العهد مستطيلا أشبه ما يكون "بالبشكير" في عهدنا الحاضر، فكانوا تنفيذا لأمره صلى الله عليه وسلم يضعون طرفه على عاتق، ثم يلفون الثوب على وسطهم من أسفل كإزار، ثم يضعون طرفه الثاني على العاتق الثاني فيعقدون الطرفين حول العنق. لقد غطوا بذلك جزءا من النصف الأعلى، وأمنوا بهذا العقد من انزلاق الإزار، لكن بقي أمر خطير. إنهم إن سجدوا -وهم بدون سراويل- قد يبدو لمن خلفهم شيء من عوراتهم، حين يرفع من خلفهم رأسه قبل أن ينهضوا من سجودهم، والأمر أدهى وأعظم إذا كان من خلفهم النساء، فلم يكن بد من نهي النساء أن يرفعن رءوسهن من السجود حتى يرفع الرجال وينهضوا من سجودهم، لئلا يلمحن عند رفع رءوسهن من السجود شيئا من عورة الرجال. -[المباحث العربية]- (لقد رأيت الرجال) اللام في "الرجال" للجنس الصادق بالبعض، فهو في حكم النكرة، ورواية البخاري "كان رجال" وهو يقتضي أن بعضهم كان بخلاف ذلك.

(عاقدي أزرهم في أعناقهم) "عاقدي" جمع عاقد، وحذفت النون للإضافة، وهو في موضع الحال، والأزر جمع إزار، وهو ما يحيط بالنصف الأسفل من الجسم من السرة إلى ما تحت الركبة، وعقد الإزار في العنق يكون بربط طرفه أو طرفيه في العنق حيث لا رداء يستر أعلى البدن، وبهذا العقد يحصل الستر لجزء من أعالي البدن، وبه يتمكن من ستر العورة. (مثل الصبيان) فقد كانت تلك عادتهم، لأن الصبي قد يسهو فيسقط الإزار وهو يلهو، فحماية له كانوا يربطون له طرفي الإزار في عنقه. (من ضيق الأزر) أي من قلة مساحة الثوب، فمن المعلوم أن الثوب إذا كان كبيرا واسعا جعل بعضه على العاتقين وائتزر ببعضه، ففي الحديث: "من صلى في ثوب واحد فليخالف بين طرفيه على عاتقيه"، وفيه: "لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقيه شيء". والمراد أنه لا يتزر في وسطه ويشد طرفي الثوب في حقويه، بل يتوشح بالطرفين على عاتقيه. (فقال قائل: يا معشر النساء) في رواية البخاري "وقال للنساء" قال الكرماني: فاعل، "قال" هو النبي صلى الله عليه وسلم وفي رواية "ويقال للنساء" قال الحافظ ابن حجر: فكأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من يقول لهن ذلك، ويغلب على الظن أنه بلال. -[فقه الحديث]- من صلى في ثوب واحد وكان واسعا كبيرا يمكن أن يتزر ببعضه وأن يجعل بعضه على عاتقيه فلم يفعل واتزر به وترك عاتقيه فصلى لم تصح صلاته عند أحمد، وفي رواية عنه تصح ويأثم. قال الحافظ ابن حجر: الظاهر التفصيل بين ما إذا كان الثوب واسعا فيجب أن يوضع على العاتق منه شيء، وبين ما إذا كان ضيقا فلا يجب وضع شيء منه على العاتق، ثم قال: وإذا كان الثوب واسعا وأمكن الالتفاف به كان أولى من الائتزار به، لأنه أبلغ في التستر. اهـ. ثم قال الحافظ: وإنما نهي النساء عن رفع رءوسهن لئلا يلمحن عند الرفع من السجود شيئا من عورات الرجال بسبب ذلك عند نهوضهم، وعند أحمد وأبي داود بذلك من حديث أسماء بنت أبي بكر ولفظه "فلا ترفع رأسها حتى يرفع الرجال رءوسهم كراهية أن يرين عورات الرجال" ويؤخذ منه أنه لا يجب التستر من أسفل. اهـ. ومن المعلوم أن النظر إلى العورة محرم على الرجال والنساء جميعا، فيرد على هذا النهي الصف الثاني وما وراءه من صفوف الرجال. اللهم إلا أن يقال: إن كل صف متأخر منهي عن أن يرفع رأسه من السجود حتى يستوي رجال الصف الذي أمامه جلوسا وذلك في حالة الصلاة في الثوب الواحد الضيق ويجب على صاحبه أن يضم إليه ثوبه ولا يرسله ولا يسدله إذا خاف أن تنكشف عورته، أما النهي الوارد عن كف الثياب في الصلاة فمحمول على غير هذه الحالة. -[ويؤخذ من الحديث]- أن صفوف النساء تكون خلف صفوف الرجال، وأن صلاتهن مع الرجال جائزة.

(175) باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة وأنها لا تخرج مطيبة

(175) باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة وأنها لا تخرج مطيبة 804 - عن الزهري سمع سالما يحدث عن أبيه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها". 805 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها" قال فقال بلال بن عبد الله والله لنمنعهن قال فأقبل عليه عبد الله فسبه سبا سيئا ما سمعته سبه مثله قط وقال أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول والله لنمنعهن. 806 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله". 807 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إذا استأذنكم نساؤكم إلى المساجد فأذنوا لهن". 808 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تمنعوا النساء من الخروج إلى المساجد بالليل" فقال ابن لعبد الله بن عمر لا ندعهن يخرجن فيتخذنه دغلا قال فزبره ابن عمر وقال أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول لا ندعهن. 809 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ائذنوا للنساء

بالليل إلى المساجد" فقال ابن له يقال له واقد إذن يتخذنه دغلا قال فضرب في صدره وقال أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: لا. 810 - عن بلال بن عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد إذا استأذنوكم" فقال بلال والله لنمنعهن فقال له عبد الله أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول أنت لنمنعهن. 811 - عن بسر بن سعيد أن زينب الثقفية رضي الله عنها كانت تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا شهدت إحداكن العشاء فلا تطيب تلك الليلة". 812 - عن زينب امرأة عبد الله رضي اله عنها قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبا". 813 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة". 814 - عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ما أحدث النساء لمنعهن المسجد كما منعت نساء بني إسرائيل. قال فقلت لعمرة: أنساء بني إسرائيل منعن المسجد؟ قالت: نعم.

-[المعنى العام]- كانت المرأة قبل الإسلام قعيدة البيت، حبيسة الجدران، إلا ما كان من النساء الممتهنات القائمات بالخدمات، وإلا ما كان من الإماء والجواري. ولم يكن يؤذن لهن بالخروج إلا في حالات الضرورة القصوى، وقد لا يؤذن لها فيها، وجاء الإسلام فكرم المرأة ورفع من شأنها، ومنحها حرية الإنسان في عقيدته وحرية الإنسان في إبداء رأيه، وحرية الإنسان في الدفاع عن حقه، وحرية الإنسان في التحرك إلى ما هو مشروع. لقد آمن النساء بالرسول صلى الله عليه وسلم كما آمن الرجال، وبايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما بايع الرجال، وحضرن مجالس العلم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يحضر الرجال، وأذن لهن في صلاة الجماعة في المسجد مع الرجال. صورة من الحرية لم يعهدها الزمان ولم تعهدها الجزيرة العربية، كانت نتيجتها صراعا نفسيا بين ما ألفه الرجال وما اعتادوا من حكم النساء والتحكم فيهن وبين بزوغ شمس الحرية للنساء وما أعطينه من حقوق. وتغلبت الأنفة العربية على بعض النفوس، وتحركت غرائز السيطرة عند بعض الأزواج فمنعوا نساءهم من الخروج إلى المسجد، واستأذن النساء فلم يؤذن لهن، فشكوا إلى رسول الحرية وبشير النور والسلام، فقال لأصحابه صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا رغبن فيها واستأذنكم إليها. إذا استأذنت المرأة زوجها إلى المسجد ليلا فلا يمنعها. ائذنوا للنساء بالخروج إلى المساجد". وأحس صلى الله عليه وسلم ما يختلج في صدور أصحابه من خوف الفتنة، وخشي انفلات زمام المرأة وتعرضها للريبة، فوضعت الشريعة القيود التي تضمن الأمان والسلامة لهذا الانفتاح. وأمرت النساء بالخروج في الظلام، متلفعات بثيابهن، غير متطيبات، ولا متزينات "إذا شهدت إحداكن العشاء فلا تطيب تلك الليلة" إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبا "أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة". ولتلزم المرأة حافة الطريق في ذهابها وإيابها، ولا نتوسطه لئلا تختلط بالرجال، إذا سلم النساء من صلاة الفجر فليسرعن بالخروج من المسجد متلفعات بثيابهن إلى بيوتهن في الغلس والظلمة قبل أن يظهر ضوء النهار فيعرفن، وليمكث الرجال بعد السلام حتى ينصرف النساء، وليصطف النساء، في آخر المسجد خلف الرجال، ولا يرفعن أصواتهن حتى في الصلاة الجهرية، وإذا نابهن شيء في الصلاة صفقن ولا يسبحن، ولا تخرج من بيتها إلا بإذن زوجها. واستجاب الصحابة إلى هذا التشريع بشيء من المشقة على نفوسهم، وكانوا يتمنون في قرارة أنفسهم أن لا تستأذنهم نساؤهم، ولكن هيهات، ما كاد النساء يصدقن أن ينفتح باب السجن حتى تدفقن، وما كدن يشعرن بانحسار سيف القهر والإذلال حتى هرولن.

والمرأة هي المرأة بطبيعتها وأنوثتها، لم تكد تفتر فيها جذوة التدين حتى برزت طلائع غريزتها ولم يكد يخبو فيها نور الشريعة حتى ظهرت حرارة عواطفها. لم يمض ربع قرن حتى تطيبت عند خروجها، ولبست أحسن ثيابها وحليها وبدت في أبهى زينتها، وتحركت غيرة الرجال على نسائهم، وبدءوا يمنعون نساءهم، ورأى عبد الله بن عمر هذه الرغبة في بنيه، فذكرهم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها" "لا تمنعوا النساء من الخروج إلى المساجد بالليل". قال أحدهم: أما أنا فسأمنع نسائي، فمن شاء أن يسرح نساءه فليفعل، وقال الآخر: والله لنمنعهن، والله لا ندعهن يخرجن فيتخذن الخروج وسيلة للفساد ويتسترن وراءه بالخداع. فقام عبد الله ينهر ولديه، يضرب أحدهما في صدره ويقول له: أف لك. فعل الله بك كذا وكذا، ويسب الآخر غاضبا، ويقول لهما: أقول لكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولان لا. والله لا أكلمكما حتى تتوبا. ولم تكن الغيرة على هذا الخلل مقصورة على الرجال، بل شملت الحريصات على شعائر الإسلام من النساء، فتلك عائشة رضي الله عنها وقد رأت ما وصل إليه الأمر من التطيب للخروج والتزين والاختلاط، تقول: لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ما أحدث النساء بعده من عدم الالتزام بتعاليمه لمنعهن الخروج إلى المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل من الخروج إلى المساجد حين استشرفن للرجال وبرزن لهم وأثرن فيهم نوازع الفسوق والعصيان. -[المباحث العربية]- (فسبه سبا سيئا) فسر السب المذكور في بعض الروايات باللعن ثلاث مرات، وفي رواية "قال: أف لك" وفي رواية "قال: فعل الله بك وفعل". (ما سمعته سبه مثله قط) أي ما سمعت عبد الله سب بلالا مثل هذا السب قط. (إماء الله) أي النساء، وسمين إماء الله كما يسمى الرجال عباد الله واختيرت هذه اللفظة هنا لمناسبتها "مساجد الله". (لا تمنعوا النساء من الخروج إلى المساجد بالليل) قيد "بالليل" ورد في بعض الروايات دون بعضها، وقد حملوا المطلق على المقيد. وهل يؤذن لها في غير الليل من باب أولى حيث إن الليل عرضة للفساد والإفساد؟ أولا يؤذن لها في غير الليل لما فيه من الستر والتخفي وعدم التمييز بين النساء؟ سنتعرض لهذا المبحث في فقه الحديث إن شاء الله. (فقال ابن لعبد الله بن عمر) هذا الابن سمي في الرواية الثانية والسابعة ببلال، وفي الرواية السادسة سمي بواقد، قال الحافظ ابن حجر: والراجح أن صاحب القصة بلال، لورود ذلك من

روايته نفسه [روايتنا السابعة] ومن رواية أخيه سالم، ولم يختلف عليهما في ذلك، ثم قال: فإن كانت رواية تسميته واقدا محفوظة فيحتمل أن يكون كل من بلال وواقد وقع منه ذلك، إما في مجلس أو مجلسين، وأجاب ابن عمر كلا منهما بجواب يليق به، ويقويه اختلاف النقله في جواب ابن عمر، فالسب العنيف والزبر كان لبلال، والدفع في الصدر كان لواقد. (فيتخذنه دغلا) بفتح الدال والغين، وهو الفساد والخداع والريبة، وأصل الدغل الشجر الملتف، ثم استعمل في المخادعة، لكون المخادع يلف في ضميره أمرا ويظهر غيره. (فزبره ابن عمر) أي نهره وعنفه. (فضرب في صدره) أي ضربه ودفعه بيده في صدره. (لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد إذا استأذنوكم) حظ الإنسان نصيبه من الخير والفضل. وقوله: "إذا استأذنوكم" قال النووي: هكذا وقع في أكثر النسخ "استأذنوكم" وفي بعضها "استأذنكم" وهذا ظاهر، والأول صحيح أيضا وعوملن معاملة الذكور لطلبهن الخروج إلى مجلس الذكور. اهـ. (إذا شهدت إحداكن العشاء) معناه إذا أرادت شهودها، أما من شهدتها ثم عادت إلى بيتها فلا تمنع من التطيب، وكذا "إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبا. [الوارد في الرواية التاسعة] معناه إذا أرادت شهود المسجد. (فلا تطيب تلك الليلة) أصله تتطيب فحذفت إحدى التاءين، والمقصود لا تتطيب قبل خروجها في تلك الليلة. (أيما امرأة أصابت بخورا) "ما" زائدة، و"امرأة: مضافة لأي، والتقدير أي امرأة أصابت بخورا أي تبخرت، والبخور بفتح الباء وتخفيف الخاء عود يحرق في النار فتفوح رائحته ويدخل دخانه وريحه في ثنايا الثياب، فيظل ريحه مصاحبا فترة طويلة. (ما أحدث النساء) قال النووي: يعني من الزينة وحسن الثياب اهـ وكذا من التمايل والتبختر والتزاحم والاختلاط. (كما منعت نساء بني إسرائيل) قال العيني: "يحتمل أن يكون شريعتهم المنع، ويحتمل أن يكون منعهن بعد الإباحة، ويحتمل غير ذلك مما لا طرق لنا إلى معرفته إلا بالخبر. اهـ. (قال: قلت لعمرة) القائل يحيى بن سعيد الراوي عن عمرة. (قالت: نعم) قال الحافظ ابن حجر: قول عمرة نعم في جواب سؤال يحيى بن سعيد لها يظهر أنها تلقته عن عائشة، ويحتمل أن يكون عن غيرها، وقد ثبت ذلك من حديث عروة عن عائشة

موقوفا أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح ولفظه قالت: "كان نساء بني إسرائيل يتخذن أرجلا من خشب يتشرفن للرجال في المساجد، فحرم الله عليهن المساجد، وسلطت عليهن الحيضة" وهذا وإن كان موقوفا فحكمه حكم الرفع، لأنه لا يقال بالرأي. اهـ. -[فقه الحديث]- قال النووي في شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله "هذا وشبهه من أحاديث الباب ظاهر في أنها لا تمنع المسجد، لكن بشروط ذكرها العلماء مأخوذة من الأحاديث، وهي أن لا تكون متطيبة ولا متزينة ولا ذات خلاخل يسمع صوتها، ولا ثياب فاخرة، ولا مختلطة بالرجال ولا شابة ونحوها ممن يفتتن بها، وأن لا يكون في الطريق ما يخاف به مفسدة ونحوها. وهذا النهي عن منعهن من الخروج محمول على كراهة التنزيه إذا كانت المرأة ذات زوج ووجدت الشروط المذكورة. اهـ وقال العيني: إن الإذن المذكور غير واجب، لأنه لو كان واجبا لا نتفى معنى الاستئذان، لأن ذلك إنما يتحقق إذا كان المستأذن مخيرا في الإجابة أو الرد. اهـ. ومعنى هذا أنه يكره للزوج أن يمنع زوجته من الخروج للصلاة في المسجد إذا استوفيت الشروط المذكورة، ولا يحرم عليه منعها حتى مع استيفاء هذه الشروط، وله أن يمنعها بدون كراهة إذا ظن اختلال شرط مما ذكر، فإن تحقق الاختلال وجب عليه منعها. هذا واجب الزوج، أما واجب الزوجة فينبغي أن يكون حرصها على صيانة سمعتها وعرضها فوق حرصها على حضور المساجد، ولتعلم أن شهودها الجماعة في المساجد لا يزيدها ثوابا عن حضورها في منزلها، فقد ورد في بعض طرق هذا الحديث ما يدل على أن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد ولفظها "لا تمنعوا نساءكم المساجد وبيوتهن خير لهن" أخرجه أبو داود وصححه ابن خزيمة، ولأحمد والطبراني من حديث أم حميد الساعدية "أنها جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني أحب الصلاة معك. قال: قد علمت وصلاتك في بيتك [أي في مخدعك ومكان نومك] خير من صلاتك في حجرتك وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجد الجماعة". قال الحافظ ابن حجر: ووجه كون صلاتها في الإخفاء أفضل لتحقق الأمن فيه من الفتنة، ويتأكد ذلك بعد وجود ما أحدث النساء من التبرج والزينة ومن ثم قالت عائشة ما قالت. اهـ. فإن قيل: إذا كان الأمر كذلك وأن صلاة المرأة في مخدعها خير من صلاتها مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم نهى الرجال عن منعهن من الخروج إلى المساجد؟ أجيب بأن هناك فرقا بين إعطاء حق الحرية، وبين استخدام هذه الحرية، لقد جاء الإسلام والمرأة كم مهمل، كقطعة من متاع البيت، إن كان للرجل بها حاجة طلبها وإلا فهي قعيدة لا تتدخل حتى برأيها في شأن من الشئون، فمنحها الحرية، وحملها المسئولية، وأراد لها أن تمتنع هي، لا أن تمنع ورضي الله عن عمر وزوجه حين أراد أن يمنعها من الخروج إلى المسجد

دون أن يخالف النهي، فعرض لها في زاوية، وهي في طريقها إلى المسجد لصلاة الفجر فغمزها، فرجعت دون أن تصلي، فلما عاد من صلاته سألها عن سبب رجوعها فقالت: كنت أظن الناس ناسا. ولم تخرج بعد ذلك إلى المسجد. وقد قيدت الرواية الخامسة النهي عن منع الخروج بالليل، وأطلقت بقية الروايات، قال العيني: يحمل المطلق على المقيد، للإشارة إلى أن حكم النهار خلاف الليل. اهـ ويؤخذ من بقية كلام العيني أن الإذن خاص بالليل، لأنه أستر لهن، ولحديث البخاري "كانت نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر متلفعات بمروطهن، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفهن أحد من الناس" قيل في معناه: لا يعرفن أنساء أم رجال؟ وقيل: لا يعرف أعيانهن فلا يفرق بين خديجة وزينب. وكأن الحافظ ابن حجر: حمل المقيد على المطلق، واستنبط منه جواز خروج النساء إلى المساجد لشهود الصلاة في النهار من باب أولى، قال: لأن الليل مظنة الريبة أكثر من النهار. اهـ والذي تستريح إليه النفس أن الإذن بالليل لا يستلزم الإذن بالنهار، لأن الفتنة بالليل ومظنة الريبة فيه إنما تقع من جانبها هي، أما الفتنة بالنهار ومظنة الريبة فيه فإنها تقع من جانبها ومن جانب الرجل، فاحتمال الفتنة في النهار أقوى وأعظم. بقي أن نقول: إن للعلماء في خروج المرأة للصلاة في المسجد أقوالا وتفاصيل، يحسن بنا أن نذكر بعضها، فقال صاحب الهداية: ويكره لهن حضور الجماعات. قال الشراح: ويعني الشواب منهن. وعن الشافعي: يباح لهن الخروج عند أمن الفتنة. وعند أبي حنيفة وأصحابه: يحرم خروجهن، قالوا: "لأن في خروجهن خوف الفتنة، وهو سبب للحرام، وما يفضي إلى الحرام فهو حرام. قال العيني: فعلى هذا قولهم يكره مرادهم يحرم، لا سيما في هذا الزمان لشيوع الفساد في أهله، قال: ولا بأس للعجوز أن تخرج في الفجر والمغرب والعشاء لحصول الأمن، وهذا عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد أن العجائز يخرجن في الصلوات كلها، لأنه لا فتنة فيها لقلة الرغبة. اهـ. والمالكية يفرقون بين الشابة والعجوز، ويحملون الإذن المطلوب في الحديث على الإذن للعجائز دون الشابات. وتمسك بعضهم بقول عائشة: فمنع النساء مطلقا من الخروج، وحاول ابن حجر وهو شافعي أن يرد هذا القول فقال: وفيه نظر، إذ لا يترتب على عبارتها تغير الحكم، لأنها علقته على شرط ولم يوجد، بناء على ظن ظنته، فقالت: "لو رأى لمنع" فيقال عليه: لم ير ولم يمنع، فاستمر الحكم، حتى إن عائشة لم تصرح بالمنع، وإن كان كلامها يشعر بأنها كانت ترى المنع، وأيضا فقد علم الله سبحانه ما سيحدثن، فما أوحى إلى نبيه بمنعهن، ولو كان ما أحدثن يستلزم منعهن من المساجد لكان منعهن من غيرها كالأسواق أولى، وأيضا فالإحداث إنما وقع من بعض النساء، لا من جميعهن، فإن تعين المنع فليكن لمن أحدثت. اهـ.

ولست مع الحافظ ابن حجر في هذا الرأي، فإن حكم الرسول صلى الله عليه وسلم بالخروج مشروط بشروط، والحكم إذا كان مشروطا يتغير إذا اختلت الشروط، وعائشة رأت في زمانها اختلال الشروط، وكون الرسول صلى الله عليه وسلم لم ير ولم يمنع لا يوجب على من بعده استمرار الحكم، وكون عائشة لم تصرح بالمنع ليس دليلا على عدم المنع، بل يكفي إشعار كلامها بأنها ترى المنع، وأما أن الله يعلم ما سيحدث فهذا مسلم وبين، ولكن قوله: فما أوحى إلى نبيه بالمنع غير مسلم، لأنه أوحى إلى نبيه بالمنع، ففي روايتنا العاشرة "أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة" والحافظ ابن حجر نفسه يقول: ويلحق بالطيب ما في معناه لأن سبب المنع منه ما فيه تحريك الشهوة كحسن الملبس والحلي الذي يظهر والزينة الفاخرة والاختلاط بالرجال. اهـ. وأما ربطه بين المنع من المساجد والمنع من الأسواق فمسلم، ونحن نرى المنع منهما معا، وأما كون وقوع الإحداث من البعض يجعل المنع خاصا بهذا البعض فغير مسلم، لأن الشرع يعطي الحكم للعموم إذا وقع من البعض واحتمل وقوعه من البعض الآخر، فما وقع من أحد المثلين جاز وقوعه من الآخر، وفي الباب السابق حديث نهي النساء عن أن يرفعن رءوسهن حتى يرفع الرجال، مخافة أن يروا عورة الرجال، مع أن الاحتمال خاص بالبعض وصدر النهي للكل، لا لمن أحدثت النظرة إلى العورة. والله أعلم. بقي الكلام على خروج النساء لغير المساجد، كالأسواق والعمل في المكاتب والمدارس وغيرها وواضح أن الحكم لا يختلف، بل إن الخروج إلى المساجد أبعد من الفتنة والريبة من الخروج إلى غير المساجد، لأن المفروض في أهل المساجد التقوى والعبادة عكس أهل الأسواق وغيرها، فضلا عن أن المساجد تمنع الاختلاط وتوجب وضع النساء خلف الرجال. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - قال النووي: استدل به على أن المرأة لا تخرج من بيت زوجها إلا بإذنه، لتوجه الأمر إلى الأزواج بالإذن. ويتقوى هذا بأن يقال: إن منع الرجال نساءهم أمر مقرر، وإنما علق الحكم بالمساجد لبيان محل الجواز، فيبقى ما عداه على المنع. 2 - ويؤخذ من الحديث نهي الأزواج عن منع نسائهم من الخروج إلى فعل واجب كأداء شهادة، أو أداء فريضة حج، أو زيارة آبائهن وأمهاتهن وذوي محارمهن، لأنه إذا نهوا عن منعهن من شهود الجماعة في المسجد وهو سنة فالنهي عن منعهن من أداء واجب من باب أولى. 3 - يؤخذ من إنكار عبد الله بن عمر لابنه تأديب المعترض على السنن، وبلال عارض الخبر برأيه، وكأنه قال ذلك لما رأى من فساد بعض النساء في ذلك الوقت، وحملته الغيرة المحمودة على ذلك، وليس إنكار أبيه موجهاً إلى هذه الغيرة، بل لتصريحه بمخالفة الحديث، فلو أنه قال مثلاً: إن الزمان قد تغير، وإن بعضهن ربما ظهر منه قصد المسجد وإضمار غيره، ربما لم يكن أنكر عليه أبوه ولا عنفه هذا التعنيف، فقد أشارت عائشة بنحو هذا الكلام في الحديث.

4 - ويؤخذ منه تأديب الرجل ولده وإن كان كبيراً، إذا تكلم بما لا ينبغي له. 5 - وحرص الصحابة على صيانة السنة من الاعتراض، وغضبهم لذلك أشد الغضب. 6 - قال النووي: فيه دليل على جواز قول الإنسان: العشاء الآخرة، أما ما نقل عن الأصمعي أنه قال: من المحال قول العامة: العشاء الآخرة، لأنه ليس لنا إلا عشاء واحدة، فلا توصف بالآخرة، فهذا القول غلط لهذا الحديث، وقد ثبت في صحيح مسلم عن جماعات من الصحابة وصفها بالعشاء الآخرة، وألفاظهم بهذا مشهورة. اهـ. والله أعلم

(176) باب التوسط في القراءة في الصلاة الجهرية بين الجهر والإسرار إذا خاف من الجهر مفسدة

(176) باب التوسط في القراءة في الصلاة الجهرية بين الجهر والإسرار إذا خاف من الجهر مفسدة 815 - عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها} [الإسراء: 110] قال: نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوار بمكة. فكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمع ذلك المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {ولا تجهر بصلاتك} فيسمع المشركون قراءتك {ولا تخافت بها} عن أصحابك. أسمعهم القرآن. ولا تجهر ذلك الجهر {وابتغ بين ذلك سبيلاً}. يقول بين الجهر والمخافتة. 816 - عن عائشة رضي الله عنها في قوله عز وجل {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها} قالت أنزل هذا في الدعاء. -[المعنى العام]- الصلاة مناجاة بين العبد وربه، وقد يستطيب المناجي خفض الصوت لأن الله سميع بصير، يعلم السر وأخفى، وقد يتلذذ بإسماع إذنيه ورفع صوته وتعليم من حوله، ونشر الدعوة ليستفيد من الأجر بما فوق السر، ومن هنا كانت الصلاة جامعة بين الجهر والسر، الجهر في الفجر وفي الأوليين من المغرب والعشاء والسر في الظهر والعصر وثالثة المغرب والأخيرتين من العشاء. لقد كان صلى الله عليه وسلم في أول الدعوة يحرص على إسماع القرآن للكافرين لعل الله يهديهم به إلى الإسلام، لكن طغاة المشركين كانوا يعاندون فيسبون القرآن ويسبون من أنزل القرآن، ومن أنزل عليه القرآن، فأمر صلى الله عليه وسلم أن يخفض من صوته في قراءته وصلاته بحيث يسمع أصحابه ولا يستفز الكافرين، بل عليه أن يكون بين الجهر والإسرار، فلا يسر الإسرار الذي يحجب القرآن عن المؤمنين، ولا يجهر الجهر الذي يغيظ الكافرين، حيث كان المسلمون ضعافاً عاجزين عن مواجهة الكافرين.

وإذا كان هذا مطلوباً في الصلاة التي هي مناجاة فإن الوضع نفسه يكون أشد طلباً حين الدعاء، فعلى المسلم أن لا يديم الجهر بالدعاء، فإنه لا يدعو أصم، ولكن يدعو سميعاً بصيراً، ولا يخفض صوته حتى لا يحرك لسانه ولا يسمع أذنه، فإن تحريك اللسان عبادة، وإن انشغال الأذنين بصوت التضرع والدعاء عبادة. وعلى المسلم أن يكون في دعائه بين الأمرين، أن يرفع صوته بالدعاء في وقت لا شبهة للرياء فيه، ويخفض صوته في وقت تشوبه شائبة الرياء والسمعة. وما أجمل قول الله تعالى: {واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين} [الأعراف: 205]. -[المباحث العربية]- (ولا تجهر بصلاتك) ظاهره أن المراد بالصلاة هنا القراءة فيها، وهي جزء من أجزائها، فيكون من قبيل المجاز المرسل، من إطلاق الكل وإرادة الجزء، أو مجاز بالحذف بتقدير مضاف، أي ولا تجهر بقراءة صلاتك. وعلى فهم عائشة للآية وأن المراد من الصلاة الدعاء يكون المراد من الصلاة معناها اللغوي. وقيل: الصلاة على حقيقتها الشرعية، والمعني لا تصل صلاة رياء، ولا تدع الصلاة حياء، كذا قيل، وهو بعيد. (ولا تخافت بها) المخافتة إسرار الكلام بحيث لا يسمعه المتكلم، وعليه يحمل قول ابن مسعود [لم يخافت من أسمع أذنيه] وخفت من باب ضرب. (ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوار بمكة) أي متخف بالدعوة مسر بها قبل الجهر بها. (وابتغ بين ذلك سبيلا) أي اقصد بين الجهر والمخافتة، واتخذ هذا التوسط طريقاً وسنة. -[فقه الحديث]- أخرج ابن أبي حاتم عن الربيع قال: كان أبو بكر إذا صلى بالليل خفض صوته جداً، وكان عمر إذا صلى من الليل رفع صوته جداً. فقال عمر: يا أبا بكر، لو رفعت من صوتك شيئاً؟ وقال أبو بكر: يا عمر، لو خفضت من صوتك شيئاً؟ فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه بأمرهما، فأنزل الله تعالى الآية فأرسل عليه الصلاة والسلام إليهما فقال: يا أبا بكر، ارفع من صوتك شيئاً وقال لعمر: اخفض من صوتك شيئاً. وفي رواية: قيل لأبي بكر لم تصنع هذا؟ فقال: أناجي ربي وقد عرف حاجتي. وقيل لعمر: لم تصنع هذا؟ قال: أطرد الشيطان، وأوقظ الوسنان.

وظاهر هذه الرواية أن التوسط في القراءة بين الجهر والمخافتة إنما هو في صلاة الليل. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن المعنى لا تجهر بصلاتك كلها، ولا تخافت بها كلها، وابتغ بين ذلك سبيلاً، بأن تجهر في بعضها كالصبح والأوليين من المغرب والعشاء، وأن تسر في بعضها كالظهر والعصر والأخيرة من المغرب والأخريين من العشاء. والآية على رأي جمهور المفسرين محكمة، وقيل: منسوخة بناء على ما أخرجه ابن مردويه وابن أبي حاتم عن ابن عباس من أنه صلى الله عليه وسلم أمر بمكة بالتوسط، بأن لا يجهر جهراً شديداً، ولا يخفض حتى لا يسمع أذنيه فلما هاجر إلى المدينة سقط ذلك، وقيل: هي منسوخة بقوله تعالى: {ادعوا ربكم تضرعاً وخفية} [الأعراف: 55]، والصحيح أن الآية محكمة. والله أعلم

(177) باب الاستماع للقراءة

(177) باب الاستماع للقراءة 817 - عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل {لا تحرك به لسانك} [القيامة: 16 - 19] قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه جبريل بالوحي كان مما يحرك به لسانه وشفتيه فيشتد عليه فكان ذلك يعرف منه فأنزل الله تعالى {لا تحرك به لسانك لتعجل به} أخذه {إن علينا جمعه وقرآنه} إن علينا من نجمعه في صدرك وقرآنه فتقرؤه {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} قال أنزلناه فاستمع له {إن علينا بيانه} من نبينه بلسانك فكان إذا أتاه جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما وعده الله. 818 - عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله {لا تحرك به لسانك لتعجل به} قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة كان يحرك شفتيه فقال لي ابن عباس أنا أحركهما كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما فقال سعيد أنا أحركهما كما كان ابن عباس يحركهما فحرك شفتيه فأنزل الله تعالى {لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه} قال جمعه في صدرك ثم تقرؤه {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} قال فاستمع وأنصت ثم إن علينا من تقرأه قال فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه جبريل استمع فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما أقرأه. -[المعنى العام]- القرآن كلام الله، وفضله على سائر الكلام كفضل الله على سائر خلقه، وإذا كان من الأدب العام أن يستمع الصغير إذا تكلم الكبير، وأن ينصت البشر عند سماع محدثهم فأولى بالمسلمين إذا قرئ القرآن أن يستمعوا له وينصتوا، يجب عليهم أن لا يشغلوا عنه بكلامهم ولا بكلام غيرهم، يجب عليهم أن لا يشغلوا عنه بأكل أو شرب أو ملهاة، فالسلف الصالح كانوا على غير ما عليه المسلمون اليوم {إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً} [مريم: 58]. {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً} [الأنفال: 2]. {الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} [الزمر: 23].

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول المؤمنين، كان أول المستجيبين، وكان أول الخاشعين لسماع القرآن، لكنه عند تلقيه من جبريل عليه السلام كان يقع في حالة شبيهة بالحمى من ثقل الوحي الذي يتلقاه، وكان وهو في هذه الحالة حريصاً على عدم تفلت شيء مما يسمع، فكان يحرك لسانه وشفتيه يتابع ما ينطق به جبريل، ومع هذا القصد الطيب، ومع هذا الهدف الجميل كان العتب شديداً، وكان الأمر الإلهي {لا تحرك به لسانك لتعجل به} بل أنصت واخشع واستمع {إن علينا جمعه} في صدرك {وقرآنه} وعلينا إعدادك لقراءته قراءة سليمة. {فإذا قرأناه} ونطق به جبريل عليه السلام وانتهى من قراءته {فاتبع قرآنه} وكرر قراءته {ثم إن علينا بيانه} والإيحاء إليك لتبينه للناس. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ عليه جبريل عليه السلام أطرق واستمع وأنصت فإذا ذهب الوحي قرأ. فما أحوج المسلمين إلى الخشوع عند سماع القرآن، وما أحوجهم إلى تدبر معانيه والاشتغال به عما سواه. -[المباحث العربية]- (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه جبريل بالوحي كان مما يحرك به لسانه) قال النووي: إنما كرر لفظة "كان" لطول الكلام "وقد قال العلماء: إذا طال الكلام جازت إعادة اللفظ ونحوها قوله تعالى: {أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون} [المؤمنون: 35] فأعاد "أنكم" لطول الكلام. اهـ. والأولى أن تكون "كان" الثانية غير الأولى، وأن يكون اسمها ضمير الوحي والتقدير: إذا نزل عليه جبريل بالوحي كان الوحي مما يحرك به لسانه. (فيشتد عليه) أي فيثقل عليه ويصعب عليه النطق خلف جبريل. (فكان ذلك يعرف منه) يعني يعرفه من رآه لما يظهر على وجهه وبدنه من أثره، كما قالت عائشة رضي الله عنها: لقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ما يفصد عرقاً. (لتعجل به) أي لتأخذه وتستوعبه على عجل. (فإذا قرأناه) أي فإذا قرأه عليك الملك. (فاتبع قرآنه) فاتبع قراءته لك بالسمع والإصغاء والتدبر. أو فإذا قرأه الملك وانتهى فابدأ قراءته لنفسك والأول تفسير ابن عباس. (ثم إن علينا بيانه) لك بالوحي لتبينه للناس عن طريق الحديث النبوي وتفسير ابن عباس يعني: إن علينا بيانه لأمتك بلسانك عن طريق إيحائنا لك.

(فإذا ذهب قرأه) للحفظ والتدبر والتعبد. (يعالج من التنزيل شدة) أي يتكلف ويتحمل من تنزيل القرآن عليه شدة، قال النووي: وسبب الشدة هيبة الملك، وما جاء به، وثقل الوحي، قال تعالى: {إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً} [المزمل: 5] والمعالجة المحاولة للشيء والمشقة في تحصيله. اهـ (فاستمع وأنصت) قال النووي: الاستماع الإصغاء له، والإنصات السكوت، فقد يستمع ولا ينصت، فلهذا جمع بينهما. قال الله تعالى {فاستمعوا له وأنصتوا} [الأعراف: 204]. اهـ. -[فقه الحديث]- قيل في سبب تعجيل النبي صلى الله عليه وسلم أخذ القرآن: أنه كان حريصاً على حفظه، وقيل: كان يحرك لسانه مخافة أن ينفلت منه شيء، وقيل: لأن الوحي كان يصاحبه من المشقة ما لا قبل له به فكان يتعجل أخذه لتزول المشقة سريعاً، وهذا التعليل ليس بشيء، وقيل: كان يتعجل النطق به لحبه إياه. قال الحافظ ابن حجر: ولا بعد في تعدد السبب. ويؤخذ من الحديث مدى حرص الصحابة على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والمحافظة عليه قولاً وعقلاً وعملاً. كما استدل بالحديث على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب كما هو مذهب الجمهور من أهل السنة، ونص عليه الشافعي، لما تقتضيه "ثم" من التراخي. والله أعلم. ومن الواضح أن المقصود من ذكر هذا الحديث هنا هو الاستدلال به على وجوب الاستماع والإصغاء لقراءة القرآن، وإذا وجب ذلك خارج الصلاة وجب في الصلاة من باب أولى.

(178) باب الجهر في القراءة في الصبح والقراءة على الجن

(178) باب الجهر في القراءة في الصبح والقراءة على الجن 819 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن وما رآهم، انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا ما لكم؟ قالوا حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب. قالوا ما ذاك إلا من شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها، فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة (وهو بنخل عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر) فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فرجعوا إلى قومهم فقالوا يا قومنا {إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً} فأنزل الله عز وجل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم {قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن} [الجن: 1]. 820 - عن عامر قال: سألت علقمة هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود فقلت هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: لا، ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة. ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب. فقلنا: استطير أو اغتيل. قال فبتنا بشر ليلة بات بها قوم. فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء. قال فقلنا: يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة بات بها قوم. فقال "أتاني داعي الجن. فذهبت معه. فقرأت عليهم القرآن" قال فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم. وسألوه الزاد. فقال "لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم، أوفر ما يكون لحماً. وكل بعرة علف لدوابكم" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم". 821 - عن داود بهذا الإسناد إلى قوله وآثار نيرانهم.

822 - قال الشعبي: وسألوه الزاد. وكانوا من جن الجزيرة. إلى آخر الحديث من قول الشعبي. مفصلاً من حديث عبد الله. 823 - عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوله: وآثار نيرانهم. ولم يذكر ما بعده. 824 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: لم أكن ليلة الجن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ووددت أني كنت معه. 825 - عن معن قال سمعت أبي قال سألت مسروقاً من آذن النبي صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة استمعوا القرآن فقال حدثني أبوك (يعني ابن مسعود) أنه آذنته بهم شجرة. -[المعنى العام]- الجن خلق من خلق الله، يرانا من حيث لا نراه، منهم المسلمون، ومنهم القاسطون، عاثوا في الأرض فساداً، وعادى إبليس وجنوده منهم آدم وذريته قعدوا لهم صراط الله المستقيم، يوسوسون لهم ويغوونهم ويضلونهم بشتى وسائل الإضلال. وكان من أساليبهم الصعود إلى السماء، وتسمع ملائكة الله تتكلم بينها بالأمر يوكل إليها، فيسترقون السمع، فينزلون بالخبر الغيبي ويكذبون عليه أخباراً وأخباراً، ويلقونها للكهان وسدنة الأصنام حتى إذا ذهب بنو آدم للأصنام يعبدونها ويسألونها أخبروا ببعض الغيب الذي تنزلت به الشياطين فيزيدونهم اعتقاداً في ألوهيتها، ويستميتون في عبادتها فينتشر الضلال والإضلال. وبعث محمد صلى الله عليه وسلم، وشاء الله تعالى أن تكون بعثته نهاية لهذا السلاح الشيطاني الخبيث، صعد الشياطين كعادتهم إلى السماء، فوجدوها ملئت حرساً شديداً وشهباً، من يحاول استراق السمع منهم يجد شهاباً واقفاً له بالمرصاد، صاروخاً من نار يثقب الجني فيفتته ويحرقه، لقد حاول بعضهم فاحترقوا، وخلص بعضهم إلى الأرض فراراً، ينذرون قومهم بهذا الأمر الخطير يقولون: {لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشهباً* وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً} [الجن: 8 - 9] واغتاظ زعيمهم إبليس وجمع كبار جنده، وأجمعوا على أن حدثاً بالأرض كان وراء هذه

الظاهرة فأرسل رسله إلى مشارق الأرض ومغاربها يبحثون، فكانت الطائفة التي اتجهت إلى تهامة بشيرة الخير، ونذيرة الشر، لقد وجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الصبح بأصحابه في وادي نخلة بين مكة والطائف، واستمعت إليه وهو يقرأ ويجهر بالقرآن، استمعت واستمعت، وأصغت وأنصتت إنهم يعلمون الكثير عن التوراة والإنجيل، ويعلمون خصائص كلام الله، إن ما يسمعون اليوم ليس من كلام البشر، لقد آمنوا بأنه من كلام الله: {فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين* قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم* يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم .... } [الأحقاف: 29 - 31] وأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم يعلمه أن الجن سمعوه بقوله: {قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً* يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً ... } [الجن: 1 - 2]. وأمر صلى الله عليه وسلم أن يقرأ على الجن القرآن مرة ومرة فكان يخرج إليهم خارج مكة يقرأ عليهم، مرة يراهم ومرة لا يراهم، مرة يكلمهم ويكلمونه، ومرة لا يحس بوجودهم لولا أن تعلمه شجرة بهم، ومرة سألوه ماذا يأكلون؟ وماذا يحل لهم من طعام؟ ولعلهم كانوا قبل ذلك يأكلون النجاسات والميتة، ولعلهم كانوا يسرقون ويخطفون من البشر -فأباح لهم العظم الذي ذكر اسم الله عليه -وكان صلى الله عليه وسلم يخرج إليهم دون علم من أصحابه، وفي ليلة افتقده أصحابه، وبحثوا عنه فلم يجدوه، وتوقعوا له شراً وباتوا في حزن وضيق وانزعاج، وفي الصباح وجدوه ينزل من قبل غار حراء وسألوه، فأجاب أنه كان يقرأ على الجن القرآن. فاطمأنوا عليه، وودوا أن لو كانوا معه حرصاً عليه، صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عن أصحابه أجمعين. -[المباحث العربية]- (في طائفة من أصحابه) قال الجوهري: الطائفة من الشيء قطعة منه وفي قوله تعالى {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} [الجن: 2] قال ابن عباس: الواحد فما فوقه. وقال مجاهد: الطائفة الرجل الواحد إلى الألف، وقال عطاء: أقلها رجلان وهو الذي نميل إليه. (عامدين إلى سوق عكاظ) أي قاصدين، وهو منصوب على الحال و"عكاظ بضم العين وتخفيف الكاف، يصرف ولا يصرف، والسوق تؤنث وتذكر لغتان، قيل: سميت السوق سوقاً لقيام الناس فيها على سوقهم، ذكره النووي: وقيل من سوق الناس إليها بضائعهم. و"عكاظ" إن كانت اسماً للسوق فالإضافة من إضافة الشيء إلى نفسه، قال ابن التين، وإن كانت السوق تقام بمكان عكاظ فالإضافة بمعنى في. وسوق عكاظ كانت في صحراء مستوية ناحية مكة، قريبة من عرفات وهي من عمل الطائف، على عشرة أميال منها، وكانت العرب تجتمع بها كل سنة يتفاخرون بها ويحضرها الشعراء والخطباء،

وتقوم السوق صبح هلال ذي القعدة، وتستمر عشرين يوماً، واتخذت سوقاً بعد الفيل بخمس عشرة سنة وظلت إلى سنة تسع وعشرين ومائة من الهجرة فخرج إليها الخوارج الحرورية فنهبوها فتركت إلى الآن. (وقد حيل بين الشياطين) بكسر الحاء، يقال: حال الشيء بيني وبينك أي حجر ومنع، والشياطين جمع شيطان، واشتقاقه من شطن إذا بعد، لبعده عن الصلاح والخير، فالنون أصلية، أو من شاط إذا بطل، فالنون زائدة، والشياطين العصاة من الجن. وقال الجوهري: كل عات متمرد من الجن والإنس والدواب شيطان، وقال ابن عبد البر: إن خبث الجن فهو شيطان، فإن زاد خبثه فهو مارد، فإن زاد على ذلك وقوي أمره فهو عفريت، والجمع عفاريت. اهـ وقال العيني: الجن والشيطان نوع واحد، غير أنهما صارا صنفين باعتبار أمر عرض لهما، وهو الكفر والإيمان، فالكافر منهم يسمى بالشيطان، والمؤمن بالجن. اهـ. (وبين خبر السماء) المراد جنس الأخبار التي في السماء عند الملائكة. (وأرسلت عليهم الشهب) بضم الشين والهاء جمع شهاب، وهو شعلة نار ساطعة تنفصل من بعض الكواكب. (فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها) أي سيروا في الأرض كلها فالمشارق والمغارب كناية عن الكل، ويقال: فلان ضرب في الأرض أي سار فيها، ومنه قوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض} [النساء: 101]. (الذين أخذوا نحو تهامة) بكسر التاء، وفي الموعب: تهامة اسم مكة، وفي كتاب الرشاطي: تهامة ما ساير البحر من نجد، ومكة وجدة من تهامة، وأصلها اسم لكل مكان غير عال من بلاد الحجاز. (وهو بنخل) قال النووي: هكذا وقع في مسلم "بنخل" وصوابه بنخلة بالهاء، وهو موضع معروف هناك، كذا جاء صوابه في صحيح البخاري، ويحتمل أن يقال فيه نخل ونخلة. اهـ ونخلة على ليلة من مكة، وهي التي ينسب إليها بطن نخل، وضمير "وهو بنخل" للرسول صلى الله عليه وسلم فقد جاء صريحاً في رواية البخاري ولفظها "فانصرف أولئك الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فقوله: "عامدين إلى سوق عكاظ" معترض بين الجملتين، مؤخر من تقديم. (فلما سمعوا القرآن استمعوا له) أي أنصتوا، والفرق بين السماع والاستماع، أن الاستماع تصرف بالقصد والإصغاء، والسماع أعم. {قرآناً عجباً} أي بديعاً مبايناً لسائر الكتب، وانتصاب "عجباً" على أنه مصدر وضع موضع التعجب، وفيه مبالغة.

{يهدي إلى الرشد} يدعو إلى الصواب والتوحيد والإيمان. (استطير أو اغتيل) معنى "استطير" طارت به الجن، ومعنى "اغتيل" قتل سراً، والغيلة بكسر الغين هي القتل في خفية. (من آذن النبي صلى الله عليه وسلم بالجن؟ ) أي من أعلمه حين القراءة بأنه يقرأ على الجن؟ -[فقه الحديث]- قصد الإمام مسلم من ذكر هذا الحديث هنا هو الاستدلال على الجهر في قراءة الصبح، أخذاً من سماع الجن للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر. لكن أحاديث الباب تتعرض لثلاث مسائل مهمة، هي: 1 - الروايات المتعارضة في قراءته صلى الله عليه وسلم على الجن والتوفيق بينها ما أمكن. 2 - حقيقة الجن والشياطين وأصل خلقتهم ومعايشهم وتكليفهم وثوابهم. 3 - استراقهم السمع ورميهم بالشهب. وسنحاول الإلمام مع الاختصار، فإن الآراء في هذه المسائل كثيرة، وغير محكومة بالعقل، وغير يقينية الدليل. والله ولي التوفيق: 1 - بالإضافة إلى روايات الباب يروي أبو داود وغيره عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أتلو القرآن على الجن، فمن يذهب معي؟ فسكتوا. ثم قال الثانية فسكتوا، ثم قال الثالثة، فقال ابن مسعود: أنا أذهب معك يا رسول الله، فانطلق حتى جاء الحجون، عند شعب أبي دب [فيه مدفن آمنة بنت وهب أم النبي صلى الله عليه وسلم] فخط علي خطاً، فقال: لا تجاوزه، ثم مضى إلى الحجون، فانحدر عليه أمثال الحجل، يحدرون الحجارة بأقدامهم، يمشون يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة في دفوفها، حتى غشوه فلا أراه، فقمت، فأومأ إلي بيده أن اجلس فتلا القرآن، فلم يزل صوته يرتفع ولصقوا بالأرض حتى ما أراهم؟ فلما انفلت إلي قال: أردت أن تأتيني؟ قلت: نعم يا رسول الله، فقال: ما كان ذلك لك. هؤلاء الجن أتوا يستمعون القرآن، ثم ولوا إلى قومهم منذرين، فسألوني الزاد فزودتهم العظم والبعر" قال عكرمة: وكانوا اثنى عشر ألفاً من جزيرة الموصل. ومن غير هذا الوجه يروي ابن مسعود: "انطلق بي عليه السلام، حتى إذا جئنا المسجد الذي عند حائط عوف خط لي خطأ، فأتاه نفر منهم، كأنهم رجال الزط [جنس من الهنود] فقالوا: من أنت؟ قال: أنا نبي الله. قالوا: فمن يشهد لك على ذلك؟ قال: هذه الشجرة، فقال: يا شجرة. فجاءت تجر عروقها حتى انتصبت بين يديه. فقال: على ماذا تشهدين؟ قالت: أشهد أنك رسول الله فرجعت كما جاءت".

وروي أنه عليه الصلاة والسلام لما فرغ من لقاء الجن وضع رأسه على حجر ابن مسعود فرقد، ثم استيقظ، فقال: هل من وضوء؟ قال: لا. إلا أن معي إداوة فيها نبيذ، هل هو إلا تمر وماء؟ فتوضأ منه، وقال: تمرة طيبة وماء طهور. هذه الروايات بينها وبين روايات الباب تعارض واضح، إذ هي تثبت بوضوح أن ابن مسعود كان مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، وروايات الباب تنفي بشكل قاطع أنه كان معه، بل ولم يكن أحد معه ليلة ذهب للقراءة على الجن، والأحاديث التي تنفي متأخرة، ففيها التابعي يسأل ابن مسعود فينفي، فيستحيل بناء على هذا الجمع بتعدد الواقعة، فلم يكن مناص من الأخذ برواية ورد الأخرى، ولهذا قال النووي في شرح مسلم بعد أن ذكر روايات الباب: هذا صريح في إبطال الحديث المروي، في سنن أبي داود وغيره، المذكور فيه الوضوء بالنبيذ وحضور ابن مسعود معه صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، فإن هذا الحديث [أي الذي في رواية مسلم من روايات الباب] صحيح، وحديث النبيذ ضعيف باتفاق المحدثين ومداره على زيد مولى عمر بن حريث، وهو مجهول. اهـ. بقي التوفيق بين روايات الباب نفسها، فالرواية الأولى تنفي أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على الجن، وتنفي أنه رآهم، على معنى أنه صلى الله عليه وسلم حين قرأ على أصحابه في صلاة الفجر لم يكن يقصد القراءة على الجن، ولا يعلم باستماعهم حتى أعلمه الله بعد، والرواية الثانية تثبت أنه صلى الله عليه وسلم ذهب إليهم قاصداً وقرأ عليهم عالماً بهم وسألوه وأجابهم. وأمام هذا التعارض يقول الحافظ ابن حجر: كأن البخاري حذف من حديث ابن عباس [الرواية الأولى] عبارة "ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم"، وبدأ حديثه بلفظ "انطلق" لأن ابن مسعود أثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على الجن فكان ذلك مقدماً على نفي ابن عباس. اهـ ومعنى ذلك رد هذا الجزء من رواية ابن عباس وترجيح رواية ابن مسعود. ثم قال الحافظ ابن حجر: ويمكن الجمع بالتعدد على معنى أن الجن أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين إحداهما بمكة وهي التي ذكرها ابن مسعود، والثانية بنخلة وهي التي ذكرها ابن عباس. اهـ وهذا الجمع أولى من إهمال جزء من رواية واردة في الصحيح، وقد جزم بذلك النووي، حيث قال: قال العلماء: هما قضيتان، فحديث ابن عباس في أول الأمر، وأول النبوة حين أتوا فسمعوا قراءة {قل أوحي} [ولعل مراد النووي: حين أتوا فسمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في صلاة الصبح، فنزل عليه بعد ذلك {قل أوحي} واختلف المفسرون. هل علم النبي صلى الله عليه وسلم استماعهم حال استماعهم بوحي أوحي إليه؟ [وحينئذ يتعارض ظاهره مع قول ابن عباس: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن] أم لم يعلم بهم إلا بعد ذلك؟ وأما حديث ابن مسعود فقضية أخرى جرت بعد ذلك بزمان، الله أعلم بقدره، وكان بعد اشتهار الإسلام. اهـ أما متى كانت القراءة الأولى والثانية فيقول ابن إسحاق والواقدي: لما أيس رسول الله صلى الله عليه وسلم من

أهل مكة خرج إلى ثقيف بالطائف قبل الهجرة بثلاث سنين وقبل الإسراء، وأقام خمسة وعشرين ليلة وفي طريق عودته من الطائف، وعند بطن نخلة قام من جوف الليل يصلي الفجر، فمر نفر من الجن الذين ذكرهم الله تعالى، وهم من جن نصيبين [قرية باليمن] قيل كانوا سبعة وقيل كانوا تسعة وقيل: كانوا اثنى عشر. وأقام بمكة ثلاثة أشهر، وقرأ على جن الحجون. وهذا القول من أصحاب السيرة يفتقر إلى الدليل والتوثيق حتى تطمئن إليه النفس، وقد استشكل عليه الحافظ ابن حجر بأن ذهابه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف وعودته منها لم يكن معه من أصحابه سوى زيد بن حارثة، فكيف يقال: "وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر"؟ وأيضاً من المعلوم أن الصلاة فرضت بأوقاتها ليلة الإسراء، فكيف تصح هذه العبارة [أي صلاة الفجر وصلاة الجماعة] قبل فرض الصلوات؟ وحاول أن يجيب عن الإشكال الأول بجواز مرور بعض أصحابه فالتقوا به في هذا الوقت فصلوا معه، وعن الإشكال الثاني باحتمال أن يكون قد فرضت الصلاة بمكة قبل الإسراء صلاة بالغداة وصلاة بالعشي قبل أن تفرض الصلوات الخمس على هيئتها الحالية، فتكون صلاة الفجر الواردة في الحديث إحدى الصلاتين الواجبتين، وهو جواب لا تطمئن إليه النفس، ويبقى كلام أصحاب السير في حاجة إلى دليل، ونحن لا يعنينا كثيراً وقت القراءتين، وإنما المهم ثبوتهما، والأحاديث في ذلك صحيحة وقوية، بل قيل بتعدد القراءة على الجن أكثر من مرتين في مكة والمدينة. والله أعلم. 2 - أما عن الجن: (أ) وحقيقة وجودهم فقد نقل إمام الحرمين أن كثيراً من الفلاسفة والزنادقة والقدرية ينكرون وجودهم رأساً، وبعض هؤلاء يثبت وجودهم في الماضي وينفي وجودهم الآن، وبعض آخر منهم يثبت وجودهم، وينفي صلتهم بالإنسان وتسلطهم عليه ووسوستهم له. أما أهل السنة وجمهور المعتزلة فيثبتون وجودهم. قال عبد الجبار المعتزلي: الدليل على إثباتهم السمع دون العقل، إذ لا طريق إلى إثبات أجسام غائبة، لأن الشيء لا يدل على غيره من غير أن يكون بينهما تعلق، ولو كان إثباتهم باضطرار لما وقع الاختلاف فيه، إلا أنا قد علمنا بالاضطرار أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتدين بإثباتهم، وذلك أشهر من أن يتشاغل بإيراده. (ب) وإذا ثبت وجودهم فقد اختلف في أصلهم، فقيل: إن أصلهم من ولد إبليس، فمن كان منهم كافراً سمي شيطاناً، وقيل إن الشياطين أولاد إبليس، ومن عداهم ليسوا من ولده. وفي كتاب المبتدأ عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: خلق الله الجن قبل آدم بألفي سنة، وعن ابن عباس: كان الجن سكان الأرض والملائكة سكان السماء، وقال بعضهم: عمروا الأرض ألفي سنة، وقيل: أربعين سنة، وعن عكرمة عن ابن عباس قال: خلق الله شوما أبا الجن، وهو الذي خلق من مارج من نار. وكل هذه أقوال مصدرها إسرائيليات لا يعتمد عليها. والله أعلم.

(ج) واختلف في صفتهم فقال بعض المعتزلة: الجن أجسام رقيقة بسيطة. وقال أبو يعلى بن الفراء: الجن أجسام مؤلفة، وأشخاص ممثلة، يجوز أن تكون رقيقة، وأن تكون كثيفة، خلافاً للمعتزلة في دعواهم أنها رقيقة، وأن امتناع رؤيتنا لهم من جهة رقتها، قال: وهو مردود، فإن الرقة ليست بمانعة من الرؤية، ويجوز أن يخفى عن رؤيتنا بعض الأجسام الكثيفة إذا لم يخلق الله فينا إدراكها. اهـ. أما عن رؤيتهم في صورتهم الحقيقية أو صورة متطورة فقد روى البيهقي في مناقب الشافعي بإسناده عن الربيع، سمعت الشافعي يقول: من زعم أنه يرى الجن أبطلنا شهادته إلا أن يكون نبياً. اهـ وهو محمول على من يدعي رؤيتهم على صورتهم التي خلقوا عليها، وأما من ادعى أنه يرى شيئاً منهم بعد أن يتطور على صور شتى فلا يقدح فيه، وقد تواردت الأخبار بتطورهم في الصور. قال الحافظ ابن حجر: واختلف أهل الكلام في ذلك، فقيل هو تخييل فقط ولا ينتقل أحد عن صورته الأصلية، وقيل: بل ينتقلون، لكن لا باقتدارهم على ذلك، بل بضرب من الفعل إذا فعله انتقل كالسحر. قال: وهذا يرجع إلى الأول. اهـ (د) واختلف أيضاً: وهل يأكلون ويشربون ويتناكحون؟ أو لا؟ فقيل: نعم، وقيل: لا. ومن قال نعم اختلفوا. فقيل: أكلهم وشربهم تشمم واسترواح، لا مضغ ولا بلع، وهو مردود بما رواه أبو داود: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً ورجل يأكل ولم يسم، ثم سمى في آخره فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مازال الشيطان يأكل معه، فلما سمى استقاء ما في بطنه". وروى مسلم من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يأكل أحدكم بشماله ويشرب بشماله، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله". والرواية الثانية من أحاديث الباب تفيد أن الزاد الذي أبيح لهم كل عظم ذكر اسم الله عليه، وقد قيل: إن هذا لمؤمنهم، أما الكافرون فطعامهم ما لم يذكر اسم الله عليه. قاله النووي. واستدل من قال: إنهم يتناكحون بقوله تعالى: {لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان} [الرحمن: 56] وبقوله {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو} [الكهف: 50]؟ وأما كونهم مكلفين فقد قال ابن عبد البر: الجن عند الجماعة مكلفون. وقال عبد الجبار: لا نعلم خلافاً بين أهل النظر في ذلك، إلا ما حكى زرقان عن بعض الحشوية أنهم مضطرون إلى أفعالهم وليسوا مكلفين. قال: والدليل للجماعة ما في القرآن من ذم الشياطين والتحرز من شرهم، وما أعد لهم من العذاب، وهذه الخصال لا تكون إلا لمن خالف الأمر وارتكب النهي، مع تمكنه من أن لا يفعل، والآيات والأخبار الدالة على ذلك كثيرة جداً. وإذا تقرر كونهم مكلفين فقد اختلفوا. هل كان فيهم نبي منهم أولاً؟ فروى الطبري من طريق الضحاك بن مزاحم إثبات ذلك، ومن قال بقول الضحاك احتج بأن الله

تعالى أخبر أن من الجن والأنس رسلاً أرسلوا إليهم: {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم} [الأنعام: 130]. فلو جاز أن المراد برسل الجن رسل الإنس لجاز عكسه، وهو فاسد. اهـ وأجاب الجمهور بأن معنى الآية أن رسل الإنس رسل من قبل الله إليهم، ورسل الجن بثهم الله في الأرض، فسمعوا كلام الرسل من الإنس، وبلغوا أممهم، ولهذا قال قائلهم: {إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى} [الأحقاف: 30] واحتج ابن حزم بأنه صلى الله عليه وسلم قال: "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة" قال: وليس الجن من قوم الإنس، فثبت أنه كان فيهم أنبياء إليهم. قال: ولم يبعث إلى الجن من الإنس نبي إلا نبينا صلى الله عليه وسلم لعموم بعثه للجن والإنس باتفاق. اهـ وقال ابن عبد البر: لا يختلفون أنه صلى الله عليه وسلم بعث إلى الإنس والجن، وهذا مما فضل به محمد على الأنبياء. اهـ وقال ابن تيمية: اتفق على ذلك علماء السلف من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين. قال ابن حجر: وثبت التصريح بذلك في حديث "وكان النبي يبعث إلى قومه، وبعثت إلى الإنس والجن". وإذا تقرر أنهم مكلفون فهم مكلفون بالتوحيد وأركان الإسلام، وأما ما عداه من الفروع فاختلف فيه، لما ثبت من النهي عن الروث والعظم، وأنها زاد الجن، مما يدل على جواز تناولهم الروث، وذلك حرام على الإنس. اهـ ولم يختلف من أثبت تكليفهم أنهم يعاقبون على المعاصي، واختلف هل يثابون؟ فروى الطبري وابن أبي حاتم موقوفاً "إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار قال الله لمؤمني الجن وسائر الأمم [أي من غير الإنس] كونوا تراباً فحينئذ يقول الكافر: {يا ليتني كنت تراباً} [النبأ: 40] وروى ابن أبي الدنيا عن ليث بن أبي سليم قال: ثواب الجن أن يجاروا من النار، ثم يقال لهم كونوا تراباً. وروي عن أبي حنيفة هذا القول، ويؤيد هذا الرأي قوله تعالى: {يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم} [الأحقاف: 31] حيث جعل نتيجة الإيمان الإجارة من النار، ويرده أن مثل ذلك وارد في الإنس أيضاً، وعدم ذكر الجنة ليس دليلاً على عدم استحقاقها. وذهب الجمهور إلى أنهم يثابون على الطاعة، وهو قول الأئمة الثلاثة والأوزاعي وأبي يوسف ومحمد وغيرهم، واختلفوا هل يدخلون الجنة مدخل الإنس على أربعة أقوال: (1) [نعم]، وهو قول الأكثر. (2) يكونون في ربض الجنة، وهو منقول عن مالك وطائفة. (3) أنهم أصحاب الأعراف. (4) التوقف.

وفي قوله تعالى: {ولكل درجات مما عملوا} [الأنعام: 132، الأحقاف: 19]. {أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس} [الأحقاف: 18] بعدها {ولكل درجات مما عملوا} {ولمن خاف مقام ربه جنتان} [الرحمن: 46] والخطاب للإنس والجن، بدليل قوله تعالى: {فبأي آلاء ربكما تكذبان} في ذلك كله دليل كاف على أنهم يدخلون الجنة. 3 - وأما عن استراقهم السمع فقد قال النووي: ظاهر قوله "وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب" أن هذا حدث بعد نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكن قبلها، ولهذا أنكرته الشياطين وارتاعت له، وضربوا مشارق الأرض ومغاربها ليعرفوا خبره، ولهذا كانت الكهانة فاشية في العرب حتى قطع بين الشياطين وبين صعود السماء واستراق السمع. اهـ وذكر ابن إسحق أن العرب أنكرت وقوع الشهب. وأشدهم إنكاراً ثقيف، وأنهم جاءوا إلى رئيسهم عمرو بن أمية بعد ما عمي، فسألوه، فقال انظروا، إن كانت هي التي يهتدي بها في ظلمات البر والبحر فهو خراب الدنيا وزوالها، وإن كان غيرها فهو لأمر حدث. وذهب جماعة من العلماء وابن عباس والزهري إلى أن الشهب مازالت منذ كانت الدنيا، يؤيده ما في صحيح مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم: "ورمي بنجم ما كنتم تقولون إن كان مثل هذا في الجاهلية؟ قالوا: يموت عظيم أو يولد عظيم" الحديث. وذكر بعضهم أن السماء كانت محروسة قبل النبوة، ولكن إنما كانت تقع الشهب عند حدوث أمر عظيم من عذاب ينزل، أو إرسال رسول إليهم، وعليه فسروا قوله تعالى: {وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً} [الجن: 10]. وقيل: كانت الشهب مرئية معلومة، لكن رجم الشياطين وإحراقهم لم يكن إلا بعد نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وعن ابن عباس: كانت الشياطين لا تحجب عن السموات، فلما ولد عيسى عليه السلام منعت من ثلاث سموات، فلما ولد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم منعت منها كلها. وقال ابن الجوزي: الذي أميل إليه أن الشهب لم ترم إلا قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم استمر ذلك وكثر حين بعث، وعن الزهري: كانت الشهب قليلة فغلظ أمرها وكثرت حين البعثة. قال العيني: فإن قيل: كيف تتعرض الجن لإتلاف نفسها بسبب سماع خبر بعد أن صار الرمي بالشهب معلوماً لهم؟ أجيب بأنه قد ينسيهم الله تعالى ذلك لينفذ فيهم قضاؤه، على أن السهيلي وغيره زعموا أن الشهاب تارة يصيبهم فيحرقهم، وتارة لا يصيبهم، فإن صح هذا كان تعرضهم لعدم تيقنهم الهلاك وعدم جزمهم به. وقد تحصل لنا في هذه المسألة أقوال:

(أ) الحراسة والشهب لم تكن أصلاً قبل البعثة. (ب) الحراسة والشهب كانت موجودة قبل البعثة لكن لا تستخدم الشهب إلا عند حدوث أمر عظيم. وهل كانت موجهة إلى الجن أولا؟ الظاهر لا. (جـ) الحراسة والشهب كانت موجودة قبل البعثة. وكانت توجه إلى الشياطين لكن إحراقهم بها لم يكن إلا بعد البعثة. (د) الحراسة والرجم كانا موجودين وحاصلين قبل البعثة ولكنهما غلظا وكثرا وأحكما بعد البعثة. ولا يستطيع باحث منصف أن يجزم برأي، فالأمور غيبية والتأويلات سائغة، والله أعلم بالصواب. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - الجهر بالقراءة في الصبح. 2 - إثبات صلاة الجماعة وأنها مشروعة في السفر، وأنها كانت مشروعة من أول النبوة. 3 - أخذ منه المازري أن الجن آمنوا عند سماع القرآن، قال: ولا بد لمن آمن عند سماعه أن يعلم حقيقة الإعجاز وشروط المعجزة، وبعد ذلك يقع له العلم بصدق الرسول، فيكون الجن علموا ذلك من كتب الرسل المتقدمين قبلهم على أنه هو النبي الصادق المبشر به. اهـ. 4 - يؤخذ في قوله: "لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه" أن الجن يطعمون ذلك. قال النووي: قال بعض العلماء: هذا لمؤمنيهم، وأما غيرهم فجاء في حديث آخر أن طعامهم ما لم يذكر اسم الله عليه. 5 - من قوله "وددت أني كنت معه" يؤخذ الحرص على مصاحبة أهل الفضل في أسفارهم ومهماتهم ومشاهدهم ومجالسهم مطلقاً والتأسف على فوات ذلك. 6 - قال الحافظ ابن حجر: وفيه أن الاعتبار بما قضى الله تعالى للعبد من حسن الخاتمة، لا بما يظهر منه الشر ولو بلغ ما بلغ، لأن هؤلاء الذين بادروا إلى الإيمان بمجرد استماع القرآن كانوا عند إبليس في أعلى مقامات الشر، وإلا ما اختارهم لهذه المهمة، ونحو ذلك قصة سحرة فرعون. 7 - قال النووي: في قوله "آذنت بهم شجرة" دليل على أن الله تعالى يجعل فيما يشاء من الجماد تميزاً، ونظيره قوله تعالى: {وإن منها لما يهبط من خشية الله} [البقرة: 74] وقوله تعالى: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} [الإسراء: 44] وقوله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي". وحديث الشجرتين اللتين انتقلتا إليه صلى الله عليه وسلم، وقد ذكره مسلم في آخر الكتاب، وحديث حنين الجذع، وتسبيح الطعام، وفرار حجر موسى. والله أعلم

فتح المنعم شرح صحيح مسلم تابع كتاب الصلاة - كتاب المساجد ومواضع الصلاة - كتاب صلاة المسافرين الجزء الثالث الأستاذ الدكتور موسى شاهين لاشين دار الشروق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

فتح المنعم شرح صحيح مسلم 3 -

جميع حقوق النشر والطبع محفوظة الطبعة الأولى 1423 - هـ - 2002 م دار الشروق القاهرة: 8 شارع سيبويه المصري -رابعة العدوية- مدينة نصر ص. ب.: 33 البانوراما -تليفون: 4023399 - فاكس: 4037567 (202) e-mail: dar@ shorouk.com - www.shorouk.com بيروت: ص. ب.: 8064 - هاتف: 315859 - 817213 - فاكس: 315859 1 (961)

تابع كتاب الصلاة

(179) باب القراءة في الظهر والعصر

(179) باب القراءة في الظهر والعصر 826 - عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا فيقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورتين ويسمعنا الآية أحيانا وكان يطول الركعة الأولى من الظهر ويقصر الثانية وكذلك في الصبح. 827 - عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين الأوليين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة ويسمعنا الآية أحيانا ويقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب. 828 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا نحزر قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر قراءة ألم تنزيل - السجدة وحزرنا قيامه في الأخريين قدر النصف من ذلك وحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من العصر على قدر قيامه في الأخريين من الظهر وفي الأخريين من العصر على النصف من ذلك ولم يذكر أبو بكر في روايته ألم تنزيل وقال قدر ثلاثين آية. 829 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية وفي الأخريين قدر خمس عشرة آية أو قال نصف ذلك وفي العصر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر قراءة خمس عشرة آية وفي الأخريين قدر نصف ذلك. 830 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه أن أهل الكوفة شكوا سعدا إلى عمر بن الخطاب فذكروا من صلاته فأرسل إليه عمر فقدم عليه فذكر له ما عابوه به من أمر الصلاة فقال إني

لأصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخرم عنها إني لأركد بهم في الأوليين وأحذف في الأخريين فقال ذاك الظن بك أبا إسحق. 830 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال عمر لسعد قد شكوك في كل شيء حتى في الصلاة. قال: أما أنا فأمد في الأوليين وأحذف في الأخريين. وما آلو ما اقتديت به من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ذاك الظن بك أو ذاك ظني بك. 832 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه بمعنى حديثهم وزاد: فقال: تعلمني الأعراب بالصلاة. 833 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: لقد كانت صلاة الظهر تقام. فيذهب الذاهب إلى البقيع. فيقضي حاجته ثم يتوضأ. ثم يأتي ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى. مما يطولها. 834 - عن قزعة قال: أتيت أبا سعيد الخدري وهو مكثور عليه. فلما تفرق الناس عنه، قلت إني لا أسألك عما يسألك هؤلاء عنه. قلت: أسألك عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما لك في ذاك من خير. فأعادها عليه. فقال: كانت صلاة الظهر تقام. فينطلق أحدنا إلى البقيع. فيقضي حاجته ثم يأتي أهله فيتوضأ. ثم يرجع إلى المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى. -[المعنى العام]- قراءة السورة بعد الفاتحة في الصلاة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد واظب على قراءتها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة الجهرية والسرية على السواء، علم ذلك في الصلاة الجهرية بسماع أصحابه، وفي السرية بما كان يبدو من صوته صلى الله عليه وسلم أحيانًا، وبحركة شفتيه واهتزاز لحيته بالقراءة أحيانا، وبإخباره لهم بعد الصلاة أنه قرأ كذا وكذا أحيانًا، فكان الصحابة يعرفون ما يقرأ في الجهرية على التحديد، ويعرفون ما يقرأ في السرية على سبيل التقدير، وكانوا يهتمون بهذه المعرفة للاقتداء به

صلى الله عليه وسلم والتبليغ عنه لمن لم يبلغه، وبالمتابعة قدروا ما يقرأ في كل ركعة من الركعة الأولى والثانية من صلاة الظهر بما يقرب من ثلاثين آية، وقدروا قراءته في كل من الركعتين الثالثة والرابعة بما يقرب من خمس عشرة آية، الفاتحة وبعض الذكر أو الفاتحة وسورة على خلاف بينهم، وقدروا ما يقرأ في كل من الأوليين من صلاة العصر بنحو خمس عشرة آية، وما يقرأ في كل من الأخريين من صلاة العصر بما يقرب من سبع آيات قدر الفاتحة. والحكمة في إطالة الظهر ومثله الصبح أنهما وقت غفلة النوم - آخر الليل والقيلولة - فيطولهما ليدركهما المتأخر بغفلة ونحوها، أما العصر ففي وقت تعب أهل الأعمال فخففت عن الظهر. بل قدروا أنه صلى الله عليه وسلم يطيل في الركعة الأولى عن الثانية في صلاة الظهر، ليمكن الغافل والمتأخر من اللحاق به مستفيدا بنشاط المصلين في أول الصلاة لدرجة أن غير المتوضئ كان يمكنه بعد إقامة الصلاة أن يذهب إلى مكان التغوط في خارج المباني فيقضي حاجته، ثم يعود إلى أهله فيتوضأ، ثم يدرك الرسول صلى الله عليه وسلم وهو مازال في الركعة الأولى. واقتدى الصحابة بما كان عليه صلى الله عليه وسلم، واتبع أئمتهم وولاتهم الأسلوب نفسه مع المسلمين حين يؤمونهم. وفترت همم المسلمين، فرغبوا في التخفيف، وعابوا على أئمتهم هذا التطويل، لكن الأئمة المتمسكين لم يخففوا من أجل الرغبة في التخفيف، إنهم أمروا بالتخفيف للمريض والضعيف وذي الحاجة، ولم يؤمروا بالتخفيف استجابة للمتكاسلين، من هؤلاء الأئمة سعد بن أبي وقاص والي الكوفة من قبل الخليفة عمر بن الخطاب. إنه الرجل الذي قاد جيوش المسلمين، وفتح الله على يديه العراق، وهو الذي خطط لبناء مدينة الكوفة، إنه المسلم القوي الذي يأخذ بالعزيمة ويربأ المسلمين على الرخص والضعف والقصور، طلبوا إليه التخفيف فأبى، فشكوه إلى خليفة المسلمين عمر بن الخطاب، واتهموه تهما باطلة ليقووا دعواهم. فذهب قلة منهم إلى المدينة يقولون لعمر: إن سعدا لا يحسن يصلي وإنه حابى في بيع خمس باعه، وإنه صنع على داره بابًا من خشب له مغلق، وإنه يطلب من أهل السوق ألا يرفعوا أصواتهم لعدم إزعاجه، لأن بيته قريب من السوق، وزعموا أنه كان يلهيه الصيد عن الخروج مع السرايا. ولم يجد العادل عمر بدا من أن يرسل إليه يستقدمه، وقدم سعد على عمر قال له عمر: لقد شكوك في كل شيء حتى الصلاة، ودافع سعد، فقال: إنها صلاة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأنا لا أعدل عنها، وكيف يعلمنا هؤلاء الأعراب الصلاة؟ إنني أطول بهم في الركعتين الأوليين، وأخفف في الركعتين الأخريين، كما كان يفعل معنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمر: أحسنت يا أبا إسحق لا نظن بك إلا كل خير، ولا نظنك تحيد عن السنة. ودافع سعد عن بقية التهم: وماذا يفعل عمر ليتبين الحقيقة؟ لقد أرسل رسولين مع سعد إلى الكوفة ليسألا الناس عن سعد، وعما جاء في الاتهام، فلم يتركا مسجدا من مساجد الكوفة إلا سألا

أهله عن سعد فكان الكل يثني خيرا حتى جاء مسجد لبني عبس، ومنهم الشاكون فقام رجل منهم فقال: إن سعدا لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية، قال سعد: أما والله لأدعون عليك بثلاث. اللهم إن كان عبدك هذا كاذبا، قام رياء وسمعة، فأطل عمره وأطل فقره، وعرضه للفتن. فعاش حتى سقط حاجباه على عينيه، وكان فقيرا معدما وعنده عشر بنات، وعمي، وكان يتعرض للجواري في الطريق يغمزهن، إذا قيل له. قال: شيخ فقير مفتون أصابته دعوة سعد. أما عمر فقد عزل سعدا وقال: ما عزلته من خيانة ولا عجز، وأوصى في وصيته أن يكون من أهل الشورى، ويبدو أنه عزله اتقاء الفتنة. فإن عمر رضي الله عنه اطمأن إلى أن التهم كلها باطلة رضي الله عنهم أجمعين. -[المباحث العربية]- (في الركعتين الأوليين) بياءين، تثنية الأولى، وكذا الأخريين. (بفاتحة الكتاب) أي في كل ركعة من الأوليين. (وسورتين) أي وسورة في كل ركعة منهما. (ويسمعنا الآية أحيانا) أي قاصدًا إسماعنا، أو غير قاصد - وسيأتي البحث في فقه الحديث وفي بعض الروايات "فنسمع منه الآية بعد الآية" و"أحيانا" جمع حين، ويدل على تكرر ذلك منه. (وكان يطول الركعة الأولى) من التطويل، بزيادة في الآيات المقروءة، أو ببطء في قراءتها، أو بزيادة الأذكار ودعاء الاستفتاح، وسيأتي البحث مفصلا في فقه الحديث. (كنا نحزر رسول الله صلى الله عليه وسلم) "نحزر" بفتح النون وسكون الحاء وضم الزاي وكسرها لغتان من نصر وضرب، والحزر التقدير (فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر) أي في كل ركعة من الركعتين الأوليين، لتتفق مع الرواية الرابعة. (قدر قراءة ألم تنزيل - السجدة) "ألم تنزيل" مقصود لفظها مضاف إلى قراءة والسجدة إما بدل منه، أو خبر لمبتدأ محذوف، أو مفعول محذوف تقديره: أعني (عن جابر بن سمرة) صحابي، وأبوه صحابي، وهو ابن أخت سعد بن أبي وقاص، سكن الكوفة، وابتنى بها دارًا، وتوفي سنة ست وستين. (أن أهل الكوفة) في الكلام مضاف محذوف، أي بعض أهل الكوفة، أو مجاز مرسل من

إطلاق الكل وإرادة البعض، والكوفة مدينة في العراق على نهر الفرات، بناها المسلمون في عهد عمر بعد أن فتحوا العراق سنة أربع عشرة من الهجرة. (شكوا سعدا إلى عمر بن الخطاب) هو سعد بن أبي وقاص، وقد ذكرنا في المعنى العام موضوع الشكوى ونتيجتها. (فذكروا من صلاته) أي فذكروا شكاية من صلاته، أي إنه لا يحسن الصلاة بهم. وفي رواية: "حتى ذكروا أنه لا يحسن يصلي". (إني لأصلي بهم صلاة رسول الله) أي مثل صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. (ما أخرم عنها) أخرم بفتح الهمزة وسكون الخاء وكسر الراء، أي لا أنقص، وحكى ابن التين عن بعض الرواة إنه بضم الهمزة الرباعي، واستضعفه. (إني لأركد بهم في الأوليين) بضم الكاف أي أسكن وأمكث في الركعتين الأوليين يقال: ركد يركد ركودا إذا ثبت ودام، ومنه الماء الراكد والمراد: أطيل في القراءة في الأوليين وأمد فيهما، كما جاء في الرواية السادسة. (وأحذف في الأخريين) في رواية البخاري "وأخف في الأخريين" بضم الهمزة وكسر الخاء، يعني أقصرهما عن الأوليين، ومراده حذف الركود والتطويل، لا أنه يخل بالقراءة ويحذفها كلها. (ذاك الظن بك) مبتدأ وخبر و"بك" متعلق بالظن، أي هذا الذي تقوله هو الذي يظن بك، وفي الرواية السادسة "ذاك ظني بك". (أبا إسحاق) أي يا أبا إسحاق، وقد كني باسم أكبر أولاده. (قد شكوك في كل شيء حتى في الصلاة) أي شكوك في أشياء كثيرة منها أنهم زعموا إنه حابى في بيع خمس باعه، وإنه صنع على داره بابا مبوبا من خشب، وكان السوق مجاورا له فكان يتأذى بأصواتهم، فزعموا أنه قال: لينقطع التصويت، وزعموا أنه كان يلهيه الصيد عن الخروج في السرايا. (أما أنا فأمد في الأوليين) "أما" بتشديد الميم للتقسيم، والقسيم هنا محذوف تقديره: أما هم فقالوا ما قالوا وأما أنا فأمد. (وما آلو ما اقتديت به من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم) "آلو" بمد الهمزة وضم اللام أي لا أقصر ما أخذته من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بل أقتدي به في قراءته دون تقصير. (تعلمني الأعراب بالصلاة) الكلام على الاستفهام الإنكاري، والباء زائدة، أي أنكر أن تعلمني الأعراب الصلاة، فقد تعلمتها من مصدر التشريع من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والأعراب ساكنوا البادية من العرب الذين لا يقيمون في الأمصار ولا يدخلونها إلا لحاجة، والعرب اسم لهذا الجيل المعروف من الناس ولا واحد له من لفظه. (فيذهب الذاهب إلى البقيع) صحراء قريبة من المسجد النبوي وكانوا يتبولون ويتغوطون عندها حيث لم تكن كنف، وفيها مقبرة أهل المدينة. (فيقضي حاجته) من البول أو الغائط. (وهو مكثور عليه) أي عنده ناس كثيرون للاستفادة منه. (مالك في ذاك من خير) معناه أنك لا تستطيع الإتيان بمثلها لطولها وكمال خشوعها، وإن تكلفت ذلك شق عليك ولم تحصله، فتكون قد علمت السنة وتركتها. -[فقه الحديث]- ذكرت الرواية الثالثة أن ما يقرأ في الأوليين من صلاة الظهر نحو سورة السجدة وهي ثلاثون آية، ومقصوده ما يقرأ في كل ركعة من الركعتين الأوليين فهي تتفق مع ما ذكرته الرواية الرابعة من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في كل ركعة من الركعتين الأوليين من صلاة الظهر قدر ثلاثين آية، أي في الركعتين قدر ستين آية، وسيأتي في صحيح مسلم في الباب التالي عن جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الظهر بالليل إذا يغشى - وهي إحدى وعشرون آية قصيرة - وفيه عن جابر بن سمرة أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الظهر - بـ {سبح اسم ربك الأعلى} - وهي تسع عشرة آية، وعند أبي داود والترمذي "أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الظهر والعصر بالسماء ذات البروج، والسماء والطارق، ونحوهما من السور". قال النووي: قال العلماء: كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم تختلف في الإطالة والتخفيف باختلاف الأحوال، فإذا كان المأمومون يؤثرون التطويل، ولا شغل هناك له ولا لهم طول، وإذا لم يكن كذلك خفف، وقد يريد الإطالة، ثم يعرض ما يقتضي التخفيف كبكاء الصبي ونحوه، وينضم إلى هذا أنه قد يدخل في الصلاة في أثناء الوقت فيخفف، وقيل: إنما طول في بعض الأوقات وهو الأقل، وخفف في معظمهما، فالإطالة لبيان جوازها، والتخفيف لأنه الأفضل، وقد أمر صلى الله عليه وسلم بالتخفيف، وقال: "إن منكم منفرين، فأيكم صلى بالناس فليخفف، فإن فيهم السقيم والضعيف وذا الحاجة". وقيل: طول في وقت وخفف في وقت ليبين أن القراءة فيما زاد على الفاتحة لا تقدير فيها من حيث الاشتراطات، بل يجوز قليلها وكثيرها، وإنما يشترط الفاتحة، ولهذا اتفقت الروايات عليها، واختلف فيما زاد، وعلى الجملة السنة التخفيف. اهـ. -[ويؤخذ من أحاديث الباب: ]- 1 - أخذ من قوله "بفاتحة الكتاب وسورتين" أن قراءة السورة القصيرة بكمالها أفضل من قراءة

قدرها من سورة طويلة، لأن المستحب للقارئ أن يبتدأ من أول الكلام المترابط، ويقف عند انتهاء المرتبط، وقد يخفى الارتباط على أكثر الناس، ذكره النووي. 2 - استدل بعضهم بقوله في الرواية الأولى: "وكان يطول الركعة الأولى من الظهر، ويقصر الثانية" وبالرواية السابعة والثامنة على أنه يستحب تطويل القراءة في الأولى قصدا في جميع الصلوات، وبه قال جمهور الشافعية ومحمد من أصحاب أبي حنيفة. قال الحافظ ابن حجر: كأن السبب في ذلك أن النشاط في الأولى يكون أكثر، فناسب التخفيف في الثانية حذرا من الملل اهـ وقيل لإدراك الناس الركعة، فعند عبد الرزاق في نهاية هذا الحديث "فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة" ويقول عطاء: إني لأحب أن يطول الإمام الركعة الأولى من كل صلاة حتى يكثر الناس. وعند أبي حنيفة وأبي يوسف وبعض الشافعية يسوى بين الركعتين إلا في الفجر، فإنه يطول الأولى على الثانية، ويجيبون عن الحديث بأن تطويل الأولى كان بدعاء الاستفتاح والتعوذ لا في القراءة. 3 - أخذ من قوله في الرواية الأولى والثانية "ويسمعنا الآية أحيانا" على أن الإسرار ليس بشرط في صحة الصلاة السرية، بل هو سنة، فالحديث بيان لجواز الجهر في الصلاة السرية. قال النووي: ويحتمل أن الجهر بالآية كان يحصل بسبق اللسان للاستغراق في التدبر، أو ليعلمهم أنه يقرأ، أو أنه يقرأ سورة كذا، وأنه لا سجود سهو على من جهر في السرية، خلافا لمن قال ذلك من الحنفية وغيرهم. 4 - أخذ من قوله في الرواية الثانية "ويقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب" أن قراءة الفاتحة مطلوبة في جميع الركعات وهو قول الجمهور، وقال الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة في رواية: لا يجب القراءة في الركعتين الأخريين، بل هو بالخيار إن شاء قرأ، وإن شاء سبح، وإن شاء سكت. قال صاحب الهداية وغيره من الحنفية: إلا أن الأفضل أن يقرأ، وقد سبق بسط هذه المسألة في باب قراءة الفاتحة في كل ركعة. 5 - أخذ بعضهم من قوله في الرواية الرابعة "وفي الأخريين قدر خمس عشرة آية" استحباب قراءة السورة في الركعتين الأخريين من الصلاة الرباعية والثالثة من المغرب، وهو قول للشافعي وهو نصه في الأم، والجمهور على خلافه، ويؤيده ما في الرواية الثانية، نعم لو أدرك المسبوق الأخريين أتى بالسورة في الباقيتين عليه، لئلا تخلو صلاته من سورة على الأصح. 6 - وفي الأحاديث جواز الاكتفاء بظاهر الحال في الأخبار، دون التوقف على اليقين، لأن الطريق إلى العلم بقراءة السورة في السرية لا يكون إلا بسماع كلها، فالراوي أخذه من سماع بعضها مع قيام قرينة على قراءة باقيها. قاله ابن دقيق العيد.

7 - استدل بعض الشافعية من تطويل القراءة في الأولى على جواز تطويل الإمام في الركوع لأجل الداخل، حيث إن تطويل القراءة في الأولى لتمكين المتأخر من إدراك الركعة. 8 - استدل ابن العربي باختلاف المقروء على عدم مشروعية سور معينة في صلاة معينة قال الحافظ ابن حجر: وهو واضح فيما اختلف، لا فيما لم يختلف "كتنزيل" و"هل أتى" في صبح الجمعة. 9 - ومن أحاديث شكاية سعد، خطاب الرجل الجليل بكنيته ومدحه في وجهه إذا لم يخف عليه فتنة. 10 - وأن الإمام إذا شكى إليه نائبه بعث إليه واستفسر عن ذلك. 11 - ويؤخذ من قول سعد: "تعلمني الأعراب بالصلاة" أن الذين شكوه كانوا جهالا. 12 - استدل بقوله: "أركد في الأوليين" على تطويل الركعتين الأوليين على الأخريين في الصلوات كلها، وهو مذهب الشافعي، وفي الروضة الأصح التسوية بينهما وبين الثالثة والرابعة. والله أعلم

(180) باب القراءة في الصبح والمغرب

(180) باب القراءة في الصبح والمغرب 835 - عن محمد بن عباد بن جعفر قال: أخبرني أبو سلمة بن سفيان وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن المسيب العابدي عن عبد الله بن السائب قال صلى لنا النبي صلى الله عليه وسلم الصبح بمكة. فاستفتح سورة المؤمنين. حتى جاء ذكر موسى وهارون أو ذكر عيسى (محمد ابن عباد يشك أو اختلفوا عليه) أخذت النبي صلى الله عليه وسلم سعلة. فركع. وعبد الله بن السائب حاضر ذلك. وفي حديث عبد الرزاق: فحذف، فركع. وفي حديثه: وعبد الله بن عمرو. ولم يقل: ابن العاص. 836 - عن عمرو بن حريث رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر {والليل إذا عسعس} [التكوير: 17] 837 - عن قطبة بن مالك رضي الله عنه قال: صليت وصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ {ق والقرآن المجيد} حتى قرأ {والنخل باسقات} قال فجعلت أرددها ولا أدري ما قال. 838 - عن قطبة بن مالك رضي الله عنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر {والنخل باسقات لها طلع نضيد} 839 - عن زياد بن علاقة عن عمه أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم الصبح فقرأ في أول ركعة {والنخل باسقات لها طلع نضيد} وربما قال {ق} 840 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر بـ {ق والقرآن المجيد} وكان صلاته بعد تخفيفا.

841 - عن سماك قال: سألت جابر بن سمرة عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كان يخفف الصلاة ولا يصلي صلاة هؤلاء قال وأنبأني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر بـ {ق والقرآن} ونحوها. 842 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر بـ {الليل إذا يغشى} وفي العصر نحو ذلك وفي الصبح أطول من ذلك. 843 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الظهر بـ {سبح اسم ربك الأعلى} وفي الصبح بأطول من ذلك. 844 - عن أبي برزة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الغداة من الستين إلى المائة. 845 - عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر ما بين الستين إلى المائة آية. 846 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن أم الفضل بنت الحارث سمعته وهو يقرأ {والمرسلات عرفا} [المرسلات: 1] فقالت: يا بني لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة. إنها لآخر ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في المغرب. 847 - عن الزهري بهذا الإسناد وزاد في حديث صالح ثم ما صلى بعد حتى قبضه الله عز وجل.

848 - عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بالطور في المغرب. -[المعنى العام]- نكتفي بالمعنى العام للباب التالي. -[المباحث العربية]- (صلى لنا النبي صلى الله عليه وسلم) وفي الرواية الثالثة "صلى بنا" فكل من اللام والباء مقصود به المصاحبة، أي صلى لنا إماما أو صلى بنا إماما. (بمكة) أخذ منه بعضهم أن سورة المؤمنين مكية، قال الحافظ ابن حجر: وهو قول الأكثر، ولمن خالف أن يعتمد على رواية النسائي والطبراني وفيها "يوم الفتح". (فاستفتح سورة المؤمنين) أي جعل بداية قراءته فاتحة سورة المؤمنين {قد أفلح المؤمنون} قال النووي: يقال. سورة بلا همز وبالهمز لغتان ذكرهما ابن قتيبة وغيره، وترك الهمزة هنا هو المشهور الذي جاء به القرآن العزيز، ويقال قرأت السورة، وقرأت بالسورة، وافتتحتها وافتتحت بها. اهـ (حتى جاء ذكر موسى وهارون) في قوله تعالى: {ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين} [المؤمنون: 45] (أو ذكر عيسى) في قوله تعالى: {وجعلنا ابن مريم وأمه آية} [المؤمنون: 50] وذكر عيسى متصل في الآيات بذكر قصة موسى، وفي رواية الطحاوي "على ذكر موسى وعيسى" بقصد نهاية قصة موسى وبداية قصة عيسى، بقوله تعالى: {ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون. وجعلنا ابن مريم وأمه آية} [المؤمنون: 49 - 50] (أخذت النبي صلى الله عليه وسلم سعلة) بفتح السين وسكون العين. وفتح اللام من السعال، ويجوز ضم

السين، وفي رواية لابن ماجه "فلما بلغ ذكر عيسى وأمه أخذته سعلة - أو قال - شهقة" وفي رواية "شرقة" بفتح الشين وسكون الراء وفتح القاف. (فحذف فركع) قال الحافظ ابن حجر: "فحذف" أي ترك القراءة. {(والليل إذا عسعس)} أي بالسورة التي فيها {والليل إذا عسعس} وهي سورة التكوير، قال جمهور أهل اللغة: معنى عسعس الليل أدبر، كذا نقله صاحب المحكم عن الأكثرين، ونقل القراء إجماع المفسرين عليه. قال: وقال آخرون: معناه أقبل وقال آخرون: هو من الأضداد، يقال إذا أقبل، وإذا أدبر. {(والنخل باسقات)} أي طويلات. {(لها طلع نضيد)} قال النووي: قال أهل اللغة والمفسرون: معناها منضود متراكب بعضه فوق بعض. قال ابن قتيبة: هذا قبل أن ينشق فإذا انشق كمامه وتفرق فليس هو بعد ذلك بنضيد. (وربما قال) "ق" (والنخل باسقات لها طلع نضيد) هي الآية العاشرة من سورة "ق" فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرأ "ق" ويصل الآية المذكورة وما بعدها، فالإخبار بـ "ق" صحيح والإخبار بهذه الآية أو غيرها من سورة "ق" صحيح وليس مراد الراوي بيان عدد الآيات المقروءة من السورة، فعدد آيات "ق" خمس وأربعون آية، والظاهر أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرأ السورة في ركعتين كما يفهم من الروايات التالية. (وكان صلاته بعد تخفيفا) أي بعد القراءة، فلم يكن يطيل في الركوع والسجود مثلا فوق ما يتحمل المأمومون. (وفي الصبح أطول من ذلك) هذه الجملة هي التي أدخلت الحديث تحت الترجمة والباب. "وأطول" وإن كانت تحتمل طوال السور إلا أن المراد ما يلي السورة المذكورة في الطول. (من الستين إلى المائة) "من الستين" كحد أقل، وإلى "المائة" كحد أعلى، وهذا بيان لبعض حالاته صلى الله عليه وسلم، وكل راو عبر عن أكثر ما شاهد، والظاهر أن هذا العدد مقسوم على الركعتين. (عن ابن عباس قال: إن أم الفضل بنت الحارث) هي والدة ابن عباس الراوي عنها، وكان الظاهر أن يقول: أمي دون ذكر اسمها، ولكن الإسلام وقد رفع من شأن المرأة جعل المسلمين لا يستنكفون ذكر أسماء النساء، بل يجدون في ذلك فخرا وبرا، وخصوصا إذا كان الاسم مشتهرا أو مشعرا بالمدح، وقد جاء الجمع بين ذكر الأمومة واسمها في رواية الترمذي وفيها "عن ابن عباس عن أمه أم الفضل" واسمها لبابة بنت الحارث، كنيت بابنها الفضل بن العباس، وهي أخت ميمونة بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ويقال: إنها أول امرأة أسلمت بعد خديجة، والصحيح أن أخت عمر سبقتها إلى الإسلام.

(سمعته) أي سمعت ابن عباس، وفيه التفات من التكلم إلى الغيبة، لأن ابن عباس قال: إن أم الفضل سمعته، كما في الرواية، فكان الأصل أن يقول: سمعتني. (يا بني) تصغير ابن للشفقة والترحم. (لقد ذكرتني) بتشديد الكاف وسكون الراء. (بقراءتك هذه السورة) "هذه السورة" تنازعها "ذكرتني" و"قراءتك" فهي معمول للأول عند الكوفيين وللثاني عند البصريين. (إنها لأخر ما سمعت) أي إن السورة لآخر ما سمعت ويروى "ما سمعته". (يقرأ بها) في موضع الحال، أي سمعته في حال قراءته. (في المغرب) قال الحافظ ابن حجر: تقدم في حديث عائشة أن الصلاة التي كانت آخر صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه في مرض موته كانت الظهر، وقد جمعنا بينه وبين حديث أم الفضل هذا بأن الصلاة التي حكتها عائشة كانت في المسجد، والتي حكتها أم الفضل كانت في بيته كما رواه النسائي. (جبير بن مطعم) كان سماعه لهذه السورة سبب إسلامه، فقد روى أنه جاء من مكة يكلم النبي صلى الله عليه وسلم في أسرى بدر، فاضطجع في المسجد بعد العصر، فأصابه النعاس، فنام، فأقيمت صلاة المغرب، فقام فزعا بقراءة النبي صلى الله عليه وسلم في المغرب بسورة "الطور" قال: فلما بلغ (إن عذاب ربك لواقع) فكأنما صدع قلبي، وكان يومئذ أول ما دخل الإسلام قلبي. فقه الحديث سندمج فقه الحديث عن هذا الباب في فقه الحديث في الباب التالي.

(181) باب القراءة في العشاء

(181) باب القراءة في العشاء 849 - عن عدي قال سمعت البراء يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان في سفر فصلى العشاء الآخرة فقرأ في إحدى الركعتين {والتين والزيتون} [التين: 1] 850 - عن البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء فقرأ بالتين والزيتون. 851 - عن عدي بن ثابت قال: سمعت البراء بن عازب قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في العشاء بالتين والزيتون فما سمعت أحدًا أحسن صوتًا منه. 852 - عن جابر رضي الله عنه قال كان معاذ يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يأتي فيؤم قومه فصلى ليلة مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ثم أتى قومه فأمهم فافتتح بسورة البقرة فانحرف رجل فسلم ثم صلى وحده وانصرف فقالوا له أنافقت يا فلان قال لا والله ولآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأخبرنه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنا أصحاب نواضح نعمل بالنهار وإن معاذا صلى معك العشاء ثم أتى فافتتح بسورة البقرة فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على معاذ فقال: "يا معاذ أفتان أنت؟ اقرأ بكذا واقرأ بكذا" قال سفيان: فقلت لعمرو: إن أبا الزبير حدثنا عن جابر أنه قال "اقرأ والشمس وضحاها. والضحى. والليل إذا يغشى. وسبح اسم ربك الأعلى" فقال عمرو نحو هذا. 853 - عن جابر رضي الله عنه أنه قال: صلى معاذ بن جبل الأنصاري لأصحابه العشاء فطول عليهم فانصرف رجل منا فصلى فأخبر معاذ عنه فقال إنه منافق فلما بلغ ذلك الرجل دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ما قال معاذ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أتريد أن تكون فتانا يا معاذ إذا أممت الناس فاقرأ بالشمس وضحاها. وسبح اسم ربك الأعلى. واقرأ باسم ربك. والليل إذا يغشى".

854 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن معاذ بن جبل كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة. 855 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان معاذ يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء ثم يأتي مسجد قومه فيصلي بهم. -[المعنى العام]- مما لا خلاف في استحبابه قراءة سورة من القرآن بعد الفاتحة في الأوليين من كل صلاة، جهرًا في الصلاة الجهرية، وسرًا في الصلاة السرية، والخلاف في مقدار ما يقرأ، وأي السور أفضل في كل الصلوات، ولو تتبعنا قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم لوجدناها تختلف اختلافًا بينًا، ففي الظهر قرأ بالسماء ذات البروج وبالسماء والطارق، وبالليل إذا يغشى، وبسورة لقمان وبالذاريات في ركعتين، فتراوحت قراءته في ركعة الظهر بين أربع وثلاثين آية وبين سبع عشرة آية، وفي العصر دون ذلك، وفي المغرب قرأ بسورة المرسلات، وبسورة الطور، وبقصار المفصل، وفي العشاء قرأ بسورة التين وأمر معاذا أن يقرأ بالشمس وضحاها، وبالضحى والليل إذا سجى، وبسورة الليل إذا يغشى، وبسورة اقرأ، وفي الفجر قرأ بسورة المؤمنين في ركعتين وبالتكوير في ركعة وبسورة ق وبسورة إذا زلزلت الأرض وبسورة السجدة وبسورة الدهر. ولا شك أن هذا الاختلاف دليل جواز الكل، والكلام فيما هو أفضل، ولا شك أن المصلي المنفرد ومن يؤم قوما محصورين راضين بالتطويل له أن يقرأ بما شاء بشرط أن لا يؤدي طول القراءة إلى ضياع وقت الصلاة. أما الذي يؤم قوما غير محصورين، أو يؤم من لا يرضى بالتطويل فواجبه التخفيف من القراءة بالقدر الذي لا يتألم منه مأموم، فإن الإسلام حريص على عدم التنفير من صلاة الجماعة، فهي مهما قلت القراءة فيها أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة. ولا يظن الإمام الذي يتعب المأمومين بقراءته أنه بذلك يتقرب إلى الله، بل إنه يخالف سنة الرسول الكريم الذي كان يدخل الصلاة ينوي تطويلها بصحابته رجالا ونساء فيسمع بكاء الطفل فيخفف القراءة إشفاقًا على أمه التي ستشغل عليه وتتألم لبكائه. إن معاذ بن جبل كان يؤم قومه فحرص على أن ينال من فضل القراءة ما يطيل منها، فاستفتح

في صلاة العشاء بسورة البقرة، وخلفه المريض وذو الحاجة والمتعب من عمل النهار، وصبر المتعب قدر طاقته وهو يظن أن معاذا سيقف عند قريب، لكنه يئس من وقوفه، واعتقد أنه سيتم بهم سورة البقرة في ركعة واحدة، فسلم وصلى منفردا وانصرف، وعلم بأمره معاذ فقال عنه: إنه منافق: وسأله أصحابه: أنافقت يا فلان حيث انفصلت عن الإمام. وصليت وحدك؟ قال: لا والله ولآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأخبرنه، وشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تطويل معاذ، فعنف رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا، وأمره أن يقرأ بقصار السور إذا أم القوم لئلا ينفروا عن الجماعة، فإن فيهم الضعيف والمريض وذا الحاجة. التزم الصحابة هذه النصيحة من بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم يطيلون حيث لا خوف ولا ضرر، ويخففون حيث راحة المأمومين، فما أجمل سماحة الإسلام، وما أعظم عطف الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. وصدق الله العظيم حيث يقول فيه: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128] -[المباحث العربية]- (ثم يأتي فيؤم قومه) في رواية "ثم رجع إلى بني سلمة فيصليها بهم ولا مخالفة، فإن قومه هم بنو سلمة. (فانحرف رجل فسلم) المفروض أنه سلم ثم انحرف أي انصرف فالمراد أنه أراد الانحراف فسلم. (فقالوا له: أنافقت يا فلان؟ ) "فلان" كناية عن اسم الرجل، وقد نودي فعلا باسمه، ولكن الراوي كنى عنه كعادتهم في الستر، كأنه صان اسمه عن أن يتهم بالنفاق. وفي الرواية الخامسة أن معاذًا قال: إنه منافق، فكأن القوم بلغوه على لسانهم لا على لسان معاذ ابتعادا عن النميمة. (إنا أصحاب نواضي) جمع "ناضح" وهو ما استعمل من الإبل في سقي النخل والزرع. (نعمل بالنهار) أي نعمل بجهد ومشقة وتعب طول النهار. (أفتان أنت) الاستفهام إنكاري توبيخي، أي لا ينبغي أن تكون فتانًا، أي منفرًا عن الدين وصادًا عنه، قال الحافظ ابن حجر: ومعنى الفتنة ههنا أن التطويل يكون سببًا لخروجهم من الصلاة وللتكره للصلاة في الجماعة، وقال النووي: يحتمل أن يريد بقوله "فتان" أي معذب لأنه عذبهم بالتطويل، ومنه قوله تعالى: {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات} [البروج: 10] قيل: معناه عذبوهم.

-[فقه الحديث]- قلنا في باب القراءة في الظهر والعصر: إنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ في كل من الأوليين من الظهر قدر ثلاثين آية، وإنه كان يقرأ في الظهر والعصر بالسماء ذات البروج، وهي اثنتان وعشرون آية قصيرة، وبالسماء والطارق وهي سبع عشرة آية قصيرة. وفي روايتنا الثامنة "كان يقرأ في الظهر بالليل إذا يغشى، وفي العصر نحو ذلك". وسورة الليل إذا يغشى "إحدى وعشرون آية، وفي النسائي" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا الظهر، فنسمع منه الآية بعد الآيات من سورة لقمان والذاريات" ولقمان أربع وثلاثون آية والذاريات ستون آية، وتحمل على الركعتين ففي كل ركعة نحو ثلاثين آية. ومن مجموع هذه الروايات يثبت أن قراءته صلى الله عليه وسلم في كل من ركعتي الظهر تتراوح بين أربع وثلاثين آية وبين سبع عشرة آية وقراءاته في العصر دون ذلك. أما القراءة في الصبح فقد مر في باب القراءة في الصبح أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في الركعة من أول سورة المؤمنين إلى ذكر عيسى [نحو خمسين آية] وأنه قرأ في ركعة الصبح بالسورة التي فيها {والليل إذا عسعس} وهي سورة التكوير، وعددها تسع وعشرون آية، وأنه كان يقرأ في الفجر بـ "ق" وهي خمس وأربعون آية، وأنه كان يقرأ في الفجر ما بين الستين إلى المائة آية [أي في الركعتين] ففي رواية البخاري "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الصبح، فينصرف الرجل فيعرف جليسه، وكان يقرأ في الركعتين أو إحداهما ما بين الستين إلى المائة. وفي أبي داود أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في الصبح: {إذا زلزلت الأرض زلزالها} في الركعتين كلتيهما [وهي ثمان آيات] قال الراوي: فلا أدري أنسي رسول الله صلى الله عليه وسلم أم قرأ ذلك عمدًا، أي تكريره السورة في الركعتين. وفي البخاري عن أبي هريرة "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر يوم الجمعة {ألم تنزيل} السجدة و {هل أتى على الإنسان} والأولى ثلاثون آية والثانية إحدى وثلاثون آية. ومن مجموع هذه الروايات يثبت أن قراءته صلى الله

عليه وسلم في كل من ركعتي الصبح تراوحت بين خمسين آية وبين ثماني آيات. أما القراءة في المغرب فقد مضى في الباب السابق، في الرواية الثانية عشرة أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بسورة المرسلات (أي في ركعة) وهي خمسون آية قصيرة، وفي الرواية الثالثة عشرة أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعة المغرب بسورة الطور، وهي تسع وأربعون آية، وهناك رواية في البخاري يطالب فيها زيد بن ثابت مروان بن الحكم أمير المدينة أن يقرأ في ركعتي المغرب بالمائدة والأعراف، والأولى مائة وعشرون آية والثانية مائتان وست آيات. وللعلماء فيما يقرأ في المغرب بحث طويل يأتي فيما يؤخذ من الحديث أما قراءته صلى الله عليه وسلم في العشاء فروايتنا الثانية تفيد أنه قرأ في ركعة العشاء بسورة {والتين والزيتون} وهي ثماني آيات، وفي روايتنا الرابعة أمر صلى الله عليه وسلم معاذا أن يقرأ بـ {والشمس وضحاها} وهي خمس عشرة آية، وبـ {والضحى. والليل إذا سجى} وهي إحدى عشرة آية، وبـ {والليل إذا يغشى} وهي إحدى وعشرون آية، وبـ {سبح اسم ربك الأعلى} وهي تسع عشرة آية، وفي روايتنا الخامسة أمر معاذا أن يقرأ بسورة اقرأ، وهي تسع عشرة آية فقراءاته صلى الله عليه وسلم وأمره بالقراءة في كل من الأوليين من العشاء تتراوح بين إحدى وعشرين آية وبين ثماني آيات. قال النووي في شرح المهذب: قال العلماء: واختلاف قدر القراء في الأحاديث كان بحسب الأحوال، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم من حال المأمومين في وقت أنهم يؤثرون التطويل فيطول، وفي وقت لا يؤثرونه لعذر ونحوه فيخفف، وفي وقت يريد إطالتها فيسمع بكاء الصبي فيخفف، كما ثبت في الصحيحين. اهـ ثم قال: يستحب أن يقرأ في الصبح بطوال المفصل، وفي الظهر بقريب من ذلك، وفي العصر والعشاء بأوساطه، وفي المغرب بقصاره، فإن خالف وقرأ بأطول أو أقصر من ذلك جاز. وهذا إذا كان منفردا أو علم رضا المأمومين وإلا فليخفف. اهـ والمفصل السبع السابع من القرآن، سمي بذلك لكثرة فصوله وصغر آياته، وهو من صورة محمد إلى آخر القرآن، وقصاره من {لم يكن} إلى آخر القرآن، وأوساطه من {والسماء ذات البروج} إلى {لم يكن} وطواله من سورة محمد إلى {والسماء ذات البروج} -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - قال النووي: يؤخذ منها استحباب أن يقرأ الإمام والمنفرد بعد الفاتحة شيئا من القرآن في الصبح، وفي الأوليين من سائر الصلوات، ويحصل أصل الاستحباب بقراءة شيء من القرآن، ولكن سورة كاملة أفضل حتى إن سورة قصيرة أفضل من قدرها من طويلة ... قال الزين ابن المنير: ذهب مالك إلى أن يقرأ المصلي في كل ركعة بسورة، ولا تقسم السورة في ركعتين، ولا يقتصر على بعضها ويترك الباقي، ولا يقرأ بسورة قبل سورة يخالف ترتيب المصحف، فإن فعل ذلك كله لم تفسد صلاته، بل هو خلاف الأولى، وجميع ما استدل به البخاري لا يخالف ما قال مالك لأنه محمول على الجواز. اهـ 2 - يؤخذ من سعلته صلى الله عليه وسلم وركوعه جواز قطع القراءة، قال النووي: وهذا جائز بلا خلاف، ولا كراهة فيه إن كان القطع لعذر، وإن لم يكن له عذر فلا كراهة فيه أيضا، ولكنه خلاف الأولى. وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور، وبه قال مالك في رواية عنه، والمشهور عنه كراهته. اهـ 3 - وجواز القراءة ببعض السورة. 4 - واستدل به على أن السعال لا يبطل الصلاة، وهو واضح فيما إذا غلبه. 5 - واستدل به بعضهم على أن سورة المؤمنين مكية، وقد رد برواية أنه كان في الفتح.

6 - قال الحافظ ابن حجر: ويؤخذ منه أن قطع القراءة لعارض السعال ونحوه أولى من التمادي في القراءة مع السعال والتنحنح، ولو استلزم تخفيف القراءة فيما استحب فيه تطويلها. 7 - يؤخذ من رواية جبير بن مطعم [الرواية الثالثة عشرة من الباب السابق] صحة أداء ما تحمله الراوي في حال الكفر، وكذا في الفسق إذا أداه في حال العدالة، لأن جبيرا تحمل الحديث وهو مشرك وأداه وهو عدل. 8 - استدل بالرواية الثانية عشرة والثالثة عشرة على استحباب القراءة في المغرب بالسور الطوال كالطور والمرسلات، وقال الترمذي: نقل عن مالك أنه كره أن يقرأ في المغرب بالطوال نحو الطور والمرسلات. وقال الشافعي: لا أكره ذلك. بل أستحب. وكذا نقله البغوي في شرح السنة عن الشافعي والمعروف عند الشافعية أنه لا كراهة في ذلك ولا استحباب، وأما مالك فاعتمد العمل بالمدينة لا بغيرها. قال ابن دقيق العيد: استمر العمل في تطويل القراءة في الصبح وتقصيرها في المغرب. قال الحافظ ابن حجر: والحق عندنا أن ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وثبتت مواظبته عليه فهو مستحب، وما لا تثبت مواظبته عليه فلا كراهة فيه. اهـ وقال ابن خزيمة في صحيحه: وهذا من الاختلاف المباح، فجائز للمصلي أن يقرأ في المغرب وفي الصلوات كلها بما أحب، إلا أنه إذا كان إماما استحب له أن يخفف في القراءة، اهـ. وقال القرطبي: ما ورد في مسلم وغيره من تطويل القراءة فيما استقر عليه التقصير أو عكسه فهو متروك اهـ والذي تستريح إليه النفس أن المستحب في المغرب قراءة قصار المفصل، وهو من {لم يكن} إلى آخر القرآن، قال العيني: وهو مذهب الثوري والنخعي وعبد الله بن المبارك وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وأحمد ومالك وإسحق، وقد روى الطحاوي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بالتين والزيتون وروي بسند صحيح عن ابن عمر "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب {قل يا أيها الكافرون} و {قل هو الله أحد} وروى عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى أن اقرأ في المغرب آخر المفصل، وفي الأثر أن ابن عباس كان يقرأ في المغرب {إذا جاء نصر الله والفتح} وأن عمران بن حصين كان يقرأ في المغرب {إذا زلزلت} {والعاديات} وهذه الآثار وإن كان في بعضها ضعف تركن إليها النفس والله أعلم. 9 - ويؤخذ من حديث معاذ [الرواية الرابعة والخامسة] جواز صلاة المفترض خلف المنتفل، لأن معاذا كان يصلي الفريضة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسقط فرضه، ثم يصلي مرة ثانية بقومه، هي له تطوع ولهم فريضة، وقد جاء هكذا مصرحا به في غير مسلم، وهذا جائز عند الشافعي رحمه الله وآخرين، ولم يجزه ربيعة ومالك وأبو حنيفة رضي الله عنهم والكوفيون، وتأولوا حديث معاذ رضي الله عنه على أنه كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم تنفلا، ومنهم من تأوله على أنه لم يعلم به النبي صلى الله عليه وسلم [وهذا مستبعد فإن الرواية الرابعة تفيد علمه صلى الله عليه وسلم من الشاكي ولم ينكر عليه ذلك] ومنهم من قال: حديث معاذ كان أول الأمر، ثم نسخ. قال النووي: وكل هذه التأويلات دعاوى لا أصل لها، فلا يترك ظاهر الحديث بها.

10 - استدل بعض الشافعية على أنه يجوز للمأموم أن يقطع القدوة ويتم صلاته منفردا وإن لم يخرج منها، قال النووي: وهذا الاستدلال ضعيف، لأنه ليس في الحديث أنه فارقه وبنى على صلاته، بل في الرواية الأولى أنه سلم وقطع الصلاة من أصلها، ثم استأنفها، وهذا لا دليل فيه للمسألة المذكورة. اهـ 11 - وفيه أن الحاجة من أمور الدنيا عذر في تخفيف الصلاة. 12 - وفيه إعادة الصلاة الواحدة في اليوم الواحد مرتين. 13 - وجواز خروج المأموم من الصلاة لعذر. 14 - وفيه جواز صلاة المنفرد في المسجد الذي يصلي فيه بالجماعة إذا كان بعذر. 15 - وأن التخلف عن الجماعة من صفة المنافقين. قاله الحافظ ابن حجر وفيه نظر. 16 - أخذ من قوله "فافتتح بسورة البقرة" جواز قول سورة البقرة وسورة النساء وسورة المائدة ونحوها ومنعه بعض السلف، وزعم أنه لا يقال إلا السورة التي يذكر فيها البقرة ونحو هذا، وهذا خطأ صريح والصواب جوازه. اهـ 17 - وأخذ من قوله "أفتان أنت يا معاذ؟ " الإنكار على من ارتكب ما ينهى عنه وإن كان مكروها غير محرم. 18 - وجواز الاكتفاء في التعزير بالكلام. 19 - والأمر بتخفيف الصلاة والتعزير على إطالتها إذا لم يرض المأمومون ذكره النووي. والله أعلم

(182) باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام

(182) باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام 856 - عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان مما يطيل بنا فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ فقال: "يا أيها الناس إن منكم منفرين. فأيكم أم الناس فليوجز. فإن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجة". 857 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا أم أحدكم الناس فليخفف فإن فيهم الصغير والكبير والضعيف والمريض فإذا صلى وحده فليصل كيف شاء". 858 - عن همام بن منبه قال هذا ما حدثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا ما قام أحدكم للناس فليخفف الصلاة فإن فيهم الكبير وفيهم الضعيف وإذا قام وحده فليطل صلاته ما شاء". 859 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا صلى أحدكم للناس فليخفف فإن في الناس الضعيف والسقيم وذا الحاجة" 860 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثله غير أنه قال (بدل السقيم): الكبير. 861 - عن عثمان بن أبي العاص الثقفي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "أم قومك" قال قلت: يا رسول الله إني أجد في نفسي شيئا قال: "ادنه" فجلسني بين يديه ثم وضع

كفه في صدري بين ثديي ثم قال: "تحول" فوضعها في ظهري بين كتفي ثم قال "أم قومك. فمن أم قوما فليخفف. فإن فيهم الكبير وإن فيهم المريض وإن فيهم الضعيف. وإن فيهم ذا الحاجة. وإذا صلى أحدكم وحده فليصل كيف شاء". 862 - عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال آخر ما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أممت قوما فأخف بهم الصلاة". 863 - عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوجز في الصلاة ويتم. 864 - عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من أخف الناس صلاة في تمام. 865 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم صلاة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. 866 - عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع بكاء الصبي مع أمه وهو في الصلاة فيقرأ بالسورة الخفيفة أو بالسورة القصيرة. 867 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني لأدخل الصلاة أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأخفف من شدة وجد أمه به". -[المعنى العام]- صدق الله العظيم حيث يقول {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا} [النساء: 28] وحيث يقول {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185] ولقد حرص الإسلام في تشريعه السمح على أن لا يشق على الأمة، وراعى حالة الضعفاء والمرضى

والمشتغلين بمطالب الحياة {علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله} [المزمل: 20]، فجعل الضعيف أمير الركب، وطلب من الأقوياء أن يسيروا بخطى الضعفاء، وكان صلى الله عليه وسلم خير مطبق لهذا القانون بطبعه ووجدانه {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128] لقد غضب صلى الله عليه وسلم على معاذ حين طول القراءة على المأمومين، واستفتح بسورة البقرة، فعنفه، وحذره من مثل ذلك لئلا ينصرف الناس عن الإسلام وصلاة الجماعة، ولعل أئمة لم يعلموا بقصته فطولوا رغبة في زيادة الثواب، أو لعلهم ظنوا أن الصبح غير العشاء، فالعشاء يحتاج أهلها للنوم، أما الصبح فقد شبعوا من النوم واستقبلوا الحركة والحياة بكثير من النشاط والرغبة في الخير. وكان من هؤلاء الأئمة أبي بن كعب في مسجد قباء، وشكا الشاكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله، إني ضعيف لا أقوى على صلاة الصبح جماعة مع أبي، لأنه يطيل القراءة، فأضطر إلى التخلف عن صلاة الجماعة وأصلي منفردا، أو أتشاغل ببعض مصالحي حتى يقطع شوطا من قراءته، ثم أحاول اللحاق به فلا أكاد أدرك الصلاة. فغضب صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا، ودعا أبي بن كعب، ودعا جمعا من الأئمة، وقال: أيها الناس: إن منكم منفرين، ينفرون الناس عن صلاة الجماعة بطول القراءة، إذا ما قام أحدكم إماما للناس فليخفف، فإن من ورائه يصلي الصغير والكبير والضعيف والمريض والحامل والمرضع وابن السبيل وذو الحاجة، وإذا صلى أحدكم وحده فليطل في صلاته ما شاء. أيها الناس: إنني لا أراعي المرضى والضعفاء فحسب. بل أراعي أحاسيس من خلفي ومشاغلهم ووجدهم، إنني أدخل في الصلاة وأنا أنوي وأريد تطويلها، فأسمع بكاء الطفل، فأقدر انشغال أمه ببكائه، وحرصها على سرعة لقائه واحتضانه، فأقرأ بالسورة القصيرة، وأخفف من صلاتي من أجل الصبي وأمه. أفلا تقدرن أن خلفكم المريض والمسن والضعيف وذا الحاجة؟ أيها الناس يسروا ولا تعسروا، وخففوا ولا تطولوا، مع المحافظة على أركان الصلاة وسننها واستجاب الصحابة رضي الله عنهم، فكان عبد الرحمن بن عوف يقرأ بأقصر سورتين في القرآن {إنا أعطيناك الكوثر} {إذا جاء نصر الله والفتح} واقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال عنه أنس بن مالك كان صلى الله عليه وسلم من أخف الناس صلاة في تمام، وما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم صلاة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. -[المباحث العربية]- (إني لأتأخر عن صلاة الصبح) "أي فلا أحضرها جماعة" وفي رواية "إني لأتأخر عن

صلاة الغداة" وهي الصبح، وفي رواية "والله إني لأتأخر" بزيادة القسم، وفي رواية "إني لا أكاد أدرك الصلاة" أي لاطمئنانه إلى تطويل الإمام يتشاغل عن الإسراع إليه فتكاد تفوته الجماعة. وخص الصبح من بين بقية الصلوات لأنها تطول فيها القراءة غالبا، ولأن الانصراف منها في وقت التوجه إلى الأعمال والحرف. (من أجل فلان) المقصود به أبي بن كعب، قال الحافظ ابن حجر: وهم من فسره بمعاذ، لأن قصة معاذ كانت في صلاة العشاء، وفي مسجد بني سلمة، وهذه كانت في الصبح وفي مسجد قباء. اهـ (مما يطيل بنا) أي في القراءة، كما هو ظاهر في العلاج والأمر بالتخفيف، وما مصدرية. (فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب في موعظة قط) قط بفتح القاف وتشديد الطاء ظرف زمان لاستغراق ما مضى، وبنيت لتضمنها معنى مذ وإلى وتختص بالنفي، فالمعنى ما رأيته فيما انقطع من عمري وما مضى من زمان. (أشد مما غضب) "أشد" بالنصب، نعت لمصدر محذوف، أي غضبًا أشد من غضبه وما مصدرية. (يومئذ) التنوين عوض عن جملة، أي يوم أخبر بذلك. (إن منكم منفرين) بصيغة الجمع من التنفير، يقال: نفر ينفر نفورا، إذا فر وذهب، ونفره بتشديد الفاء إذا دفعه إلى النفور. (فأيكم أم الناس) أي فأي واحد منكم، وفي رواية "فأيكم ما صلى" بما الزائدة، وفي رواية "فمن أم الناس" وذلك بالإضافة إلى روايات الباب. (فليوجز) اللام لام الأمر، وفي رواية "فليتجوز" والإيجاز التقليل والتخفيف وهو ضد الإطناب. (فإن من ورائه) وفي الروايات الآتية "فإن فيهم" وفي رواية "فإن خلفه" وفي رواية "فإن منهم" (الكبير والضعيف وذا الحاجة) المراد من الكبير المسن الذي وهن بالشيخوخة، والمراد بالضعيف الذي لا يحتمل، أعم من أن يكون الضعف بسبب المرض، أو بسبب في أصل الخلقة كالنحيف، أو بسبب السن، فيكون من ذكر العام بعد الخاص، وفي الرواية الثانية "فإن فيهم الصغير والكبير والضعيف والمريض، فالمراد من الصغير الذي لا يحتمل التطويل بسبب صغر السن، ومن الكبير الذي لا يحتمل بسبب الشيخوخة ومن الضعيف الذي لا يحتمل بسبب في خلقته، ومن المريض الذي لا يحتمل بسبب مرضه.

وفي الرواية الرابعة "الضعيف والسقيم" والمراد من السقيم المريض، وكان من الممكن أن يجمعها بقوله "فإن فيهم من لا يحتمل" لكن ذكر هذه الأوصاف مدعاة إلى الإشفاق وإلى الاستجابة بالتخفيف، أما ذو الحاجة فيراد به صاحب المصلحة العاجلة كالمسافر والعامل والمشغول بأمر من أموره الداعية إلى الإسراع. فقد جاء في رواية "والعابر السبيل" وفي أخرى "الحامل والمرضع". (فإذا صلى وحده فليصل كيف شاء) أي مخففًا أو مطولاً، وفي الرواية الثالثة "فليطل صلاته ما شاء" من أطال، وفي رواية "فيطول ما شاء" من طول، و"ما" زمانية، أي فليطول المدة التي يشاؤها، "وكيف" في رواية "كيف شاء" شرطية، وجوابها محذوف، دليله ما قبلها. (إذا ما قام أحدكم للصلاة) "ما" زائدة بعد أداة الشرط غير الجازمة، وهي "إذا" (إني أجد في نفسي شيئًا) قال النووي: يحتمل أنه أراد الخوف من حصول شيء من الكبر والإعجاب له بتقديمه على الناس، ويحتمل أنه أراد الوسوسة في الصلاة، فإنه كان موسوسًا، ولا يصلح للإمامة الموسوس. اهـ (قال: ادنه) الهاء هاء السكت، و"أدن" فعل أمر. (فجلسني بين يديه) بتشديد اللام، أي أجلسني أمامه. (ثم وضع كفه في صدري) أي على صدري، وحروف الجر ينوب بعضها عن بعض، وفي أدخل في التمكن كتمكن المظروف في ظرفه. (بين ثديي) بتشديد الياء على التثنية، قال النووي وفيه إطلاق الثدي على حلمة الرجل، وهذا هو الصحيح، ومنهم من منعه اهـ (ثم قال: تحول) أي ضع صدرك جهة ظهرك، وظهرك جهة صدرك. (فوضعها في ظهري بين كتفي) بتشديد الياء، تثنية كتف، أي فوضع كفه على وسط ظهري. (إذا أممت قوما فأخف بهم الصلاة) هذه الجملة مقصود لفظها وحكايتها، خبر المبتدأ أي آخر عهده إلى هذا القول. (ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم صلاة من رسول الله صلى الله عليه وسلم) "قط" وأخف صفة إمام مجرور بالفتحة لأنه ممنوع من الصرف وصلاة تمييز. (إني لأدخل الصلاة أريد إطالتها) جملة "أريد" في محل النصب على الحال، وفي رواية "إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطول فيها".

(أسمع بكاء الصبي) قال العيني، البكاء إذا مددت أردت به الصوت الذي يكون معه، وإذا قصرت أردت خروج الدمع، وهنا ممدود لا محالة بقرينة "فأسمع" إذ السماع لا يكون إلا في الصوت. اهـ وليس المقصود بالصبي خصوص الذكر، بل ومثله الصبية. (فأخفف من شدة وجد أمه به) أي فأخفف الصلاة، وقال النووي: الوجد يطلق على الحزن وعلى الحب أيضًا، وكلاهما سائغ هنا، والحزن أظهر أي من حزنها واشتغال قلبها به. اهـ. -[فقه الحديث]- قال ابن دقيق العيد: التطويل والتخفيف من الأمور الإضافية فقد يكون الشيء خفيفا بالنسبة إلى عادة قوم، طويلا بالنسبة لعادة آخرين. اهـ وظاهر الأحاديث أن تخفيف الصلاة إنما هو مراعاة لحال المأمومين، ومن هنا قال بعضهم: لا يكره التطويل إذا علم رضا المأمومين، واعترض بأن الإمام لو فرض علمه بحال من بدأ الصلاة معه فإنه لا يعلم حال من قد يأتي فيأتم به بعد دخوله في الصلاة، قال الحافظ ابن حجر: فعلى هذا يكره التطويل مطلقا إلا إذا فرض في مصل بقوم محصورين راضين بالتطويل في مكان لا يدخله غيرهم. اهـ وقال اليعمري: الأحكام إنما تناط بالغالب، لا بالصورة النادرة فينبغي للأئمة التخفيف مطلقا. وهذا كما شرع القصر في صلاة المسافر، وعلل بالمشقة، وهو مع ذلك يشرع ولو لم يشق، عملا بالغالب لأنه لا يدري ما يطرأ عليه وكذلك هنا. -[ويؤخذ من الأحاديث: ]- 1 - قال النووي: في الأحاديث الأمر للإمام بتخفيف الصلاة، بحيث لا يخل بسننها ومقاصدها، وأنه إذا صلى لنفسه طول ما شاء في الأركان التي تحتمل التطويل، وهي القيام والركوع والسجود والتشهد، دون الاعتدال والجلوس بين السجدتين. اهـ وسيأتي مزيد لهذا البحث في الباب التالي. 2 - يؤخذ من قوله "إني لأتأخر عن صلاة الصبح" جواز التأخر عن صلاة الجماعة إذا علم أن من عادة الإمام التطويل الكثير، حيث لم يعنف رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل. 3 - وفيه جواز ذكر الإنسان بهذا ونحوه في معرض الشكوى والاستفتاء. 4 - وفيه الغضب لما ينكر من أمور الدين والغضب في الموعظة، قال ابن دقيق العيد: وسبب غضبه صلى الله عليه وسلم إما مخالفة الموعظة [إن قلنا بسبق العلم، باحتمال كون هذه القصة بعد قصة معاذ، وعليه أتى بصيغة الجمع هنا] أو للتقصير في تعلم ما ينبغي تعلمه، ويحتمل أن يكون ما ظهر من الغضب لإرادة الاهتمام بما يلقيه لأصحابه، ليكونوا من سماعه على بال، لئلا يعود من فعل ذلك إلى مثله اهـ قال الحافظ ابن حجر: وهذا أحسن في الباعث على أصل إظهار الغضب، أما كونه أشد فالاحتمال الثاني أوجه. اهـ

5 - استدل بعضهم بقوله "فإذا صلى وحده فليصل كيف شاء" على جواز إطالة القراءة ولو خرج الوقت وفيه نظر، لأنه يعارض عموم قوله في بعض الأحاديث "إنما التفريط أن يؤخر الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى" رواه مسلم قال الحافظ ابن حجر: وإذا تعارضت مصلحة المبالغة في الكمال بالتطويل ومفسدة إيقاع الصلاة في غير وقتها كانت مراعاة ترك المفسدة أولى. 6 - قال الحافظ ابن حجر: واستدل بعمومه على جواز تطويل الاعتدال والجلوس بين السجدتين اهـ وفيه نظر، لأن الشكوى وعلاجها في القراءة، ولا تتعرض لباقي الأركان 7 - ويؤخذ من حديث بكاء الصبي جواز صلاة النساء مع الرجال في المسجد. 8 - وأن الصبي يجوز إدخاله المسجد، وإن كان الأولى تنزيه المسجد عمن لا يؤمن منه حدث. 9 - وفيه دليل على الرفق بالمأمومين وسائر الأتباع ومراعاة مصالحهم، وأن لا يدخل ما يشق عليهم وإن كان يسيرا من غير ضرورة، ذكره النووي. 10 - استدل بقوله "إني لأدخل الصلاة أريد إطالتها" إلخ أن من قصد في الصلاة الإتيان بشيء مستحب لا يجب عليه الوفاء به، خلافا لأشهب، حيث ذهب إلى أن من نوى التطوع قائما ليس له أن يتمه جالسا. 11 - قال ابن بطال: احتج به من قال: يجوز للإمام إطالة الركوع إذا سمع بحس داخل ليدركه، وتعقبه ابن المنير بأن التخفيف نقيض التطويل، فكيف يقاس عليه؟ قال: ثم إن فيه مغايرة للمطلوب لأن فيه إدخال المشقة على جماعة من أجل الواحد. اهـ قال الحافظ ابن حجر: ويمكن أن يقال: إن محل ذلك ما لم يشق على الجماعة، وبذلك قيده أحمد وإسحق وأبو ثور، وما ذكره ابن بطال سبقه إليه الخطابي، ووجهه بأنه إذا جاز التخفيف لحاجة من حاجات الدنيا كان التطويل لحاجة من حاجات الدين أجوز: وتعقبه القرطبي بأن التطويل هنا زيادة عمل في الصلاة غير مطلوب بخلاف التخفيف، فإنه مطلوب اهـ وفي المسألة خلاف عند الشافعية وتفصيل وبالكراهة قال الأوزاعي وأبو حنيفة وأبو يوسف وقال محمد بن الحسن: أخشى أن يكون شركا. والله أعلم

(183) باب اعتدال أركان الصلاة وتخفيفها في تمام

(183) باب اعتدال أركان الصلاة وتخفيفها في تمام 868 - عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال رمقت الصلاة مع محمد صلى الله عليه وسلم فوجدت قيامه فركعته فاعتداله بعد ركوعه فسجدته فجلسته بين السجدتين فسجدته فجلسته ما بين التسليم والانصراف قريبا من السواء. 869 - عن الحكم قال: غلب على الكوفة رجل قد سماه زمن ابن الأشعث فأمر أبا عبيدة بن عبد الله أن يصلي بالناس فكان يصلي فإذا رفع رأسه من الركوع قام قدر ما أقول اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد قال الحكم فذكرت ذلك لعبد الرحمن بن أبي ليلى فقال سمعت البراء بن عازب يقول كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وركوعه وإذا رفع رأسه من الركوع وسجوده وما بين السجدتين قريبا من السواء قال شعبة: فذكرته لعمرو بن مرة فقال قد رأيت ابن أبي ليلى فلم تكن صلاته هكذا. 870 - عن الحكم أن مطر بن ناجية لما ظهر على الكوفة أمر أبا عبيدة أن يصلي بالناس وساق الحديث. 871 - عن أنس رضي الله عنه قال: إني لا آلو أن أصلي بكم كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا قال فكان أنس يصنع شيئا لا أراكم تصنعونه كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائما حتى يقول القائل قد نسي وإذا رفع رأسه من السجدة مكث حتى يقول القائل قد نسي. 872 - عن أنس رضي الله عنه قال: ما صليت خلف أحد أوجز صلاة من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تمام كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم متقاربة وكانت صلاة أبي بكر متقاربة فلما كان

عمر بن الخطاب مد في صلاة الفجر وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال "سمع الله لمن حمده" قام. حتى نقول: قد أوهم. ثم يسجد. ويقعد بين السجدتين. حتى نقول: قد أوهم. -[المعنى العام]- لم يهتم المسلمون برصد ركن من أركان الإسلام اهتمامهم برصد حركات الصلاة وسكناتها وقراءتها وذكرها، وكيف لا وهي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر؟ وكيف لا وهي عماد الدين؟ وكيف لا وهي الفارق بين المسلم والكافر؟ لقد كان الصحابة يرمقون صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقلدونها ويقتدون بها وكان التابعون يرصدون صلاة الصحابة ويحاكونها، ومن كان يرى خلافا لما علم سأل من هو أعلم منه به، ومن رأى منهم خللا نبه عليه، وهكذا صانوها وحفظوها ونقلوها إلينا خلفا عن سلف مع كمال العناية، وبالغ الاهتمام. وهذه الأحاديث تحكي صورة حية ناطقة بتبليغ الرسالة وحفظ الأمانة ونصح الأمة. فهذا البراء بن عازب يروي أنه رصد ورمق صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، رمق كم من الوقت كان وقوفه؟ وكم كان ركوعه؟ كم كان رفعه من الركوع؟ وكم من الوقت قضى في سجوده؟ وكم قضى في جلوسه بين السجدتين؟ ويحكى أن الزمن الذي استغرق في كل كان متقاربا. وهذا أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود التابعي يؤم الناس، فيطمئن بعد الرفع من الركوع ويقرأ الذكر الجميل الطويل في وقوفه كرسم لمقدار الطمأنينة المطلوبة، ويحكي الحكم التابعي للتابعي الجليل عبد الرحمن بن أبي ليلى ما رآه من تطويل أبي عبيدة فيحسب ابن أبي ليلى مقدار هذا التطويل على بقية أركان الصلاة. ويرى أنس بن مالك الصحابي الجليل، يرى الناس، وقد أخلوا بالطمأنينة في الصلاة، وأخذوا ينقرون الصلاة نقرا، فقال لهم: ألا أنبئكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ تعالوا أريكم إني والله لا آلو جهدا أن أصلي بكم كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا، وصلى بهم صلاة يطمئن فيها في الركوع وفي الرفع منه وفي السجود وفي الرفع منه اطمئنانا لا يطمئن القوم مثله، وحين يلمس التعجب في وجوه القوم يقول لهم: كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك، وكان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائما، وظل قائما حتى يقول الناس إنه نسي الهوي للسجود، وإذا رفع رأسه من السجود جلس واستمر جالسا بين السجدتين حتى يقول الناس إنه نسي الهوي للسجدة الثانية. وقد سار أبو بكر على نهجه صلى الله عليه وسلم، وصار عمر على نهجه بل وزاد في طمأنينة صلاة الفجر عما كان عليه العهد في صلاة أبي بكر، فرضي الله عمن اتبع هداك يا رسول الله، وصلى الله وسلم وبارك عليك وعلى أصحابك أجمعين.

-[المباحث العربية]- (رمقت الصلاة مع محمد صلى الله عليه وسلم) أي راقبتها وحاولت فهمها. (قريبًا من السواء) "قريبًا" مفعول ثان لـ"فوجدت" وهذا التعبير ظاهر في التفاوت اليسير بين الأركان، وسيأتي زيادة إيضاح في فقه الحديث. (غلب على الكوفة رجل) قال النووي: هو مطر بن ناجية المسمى في الرواية الثانية. (فأمر أبا عبيدة بن عبد الله) بن مسعود رضي الله عنه. (فذكرت ذلك لعبد الرحمن بن أبي ليلى) الأنصاري الكوفي، كان أصحابه يعظمونه، أدرك مائة وعشرين صحابيا، مات سنة ثلاث وثمانين. (إني لا آلو) بهمزة ممدودة بعد حرف النفي ولام مضمومة بعدها واو، أي لا أقصر. (فكان أنس يصنع شيئًا لا أراكم تصنعونه) قال الحافظ ابن حجر: فيه إشعار بأنهم كانوا يخلون بتطويل الاعتدال. (حتى يقول القائل: قد نسي) أي قد نسي وجوب الهوي إلى السجود أو أنسي أنه في صلاة، أو ظن أنه وقت القنوت حيث كان معتدلاً، أو وقت التشهد حيث كان جالسًا. (خلف أحد أوجز صلاة) أوجز صفة أحد مجرور بالفتحة، وصلاة تمييز. (حتى نقول: قد أوهم) في كتب اللغة: أوهم فلان وهم بفتح الهاء، أي ذهب وهمه إلى شيء وهو يريد سواه، ووهم في الصلاة سها، فهي كما في الرواية الرابعة "قد نسي". -[فقه الحديث]- قال النووي: واعلم أن هذا الحديث محمول على بعض الأحوال، وإلا فقد ثبتت الأحاديث السابقة بتطويل القيام، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصبح بالستين إلى المائة، وفي الظهر بـ"ألم تنزيل" السجدة، وأنه كان تقام الصلاة فيذهب الذاهب إلى البقيع، فيقضي حاجته، ثم يرجع، فيتوضأ، ثم يأتي المسجد فيدرك الركعة الأولى، وأنه قرأ سورة المؤمنين حتى بلغ ذكر موسى وهارون وأنه قرأ في المغرب بالطور وبالمرسلات، وأشباه هذا. وكله يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كانت له في إطالة القيام أحوال بحسب الأوقات. وهذا الحديث الذي نحن فيه جرى في بعض الأوقات. اهـ وما قاله الإمام النووي هو محاولة للتوفيق بين قول البراء بن عازب "فوجدت قيامه فركعته ...

إلخ قريبًا من السواء" وبين ما ثبت من قراءاته صلى الله عليه وسلم في وقوفه، وهذه المحاولة غير مسلمة، إذ من المستبعد أن يتساوى ركوعه مع قراءة دعاء الاستفتاح والفاتحة وسورة مهما كانت قصيرة، والذي يبدو لي أن المعادلة التي قصدها البراء معادلة بين قيامه بدون قراءة وبين الركوع إلخ أي معادلة بين الوقت الذي يبدأ بتكبيرة الإحرام وينتهي بالبدء في الفاتحة، ويشغل بدعاء الاستفتاح، يرشح هذا أنه لم يذكر مسافة الجلوس للتشهد، بل ذكر مسافة الجلوس بين السلام والانصراف، مما يوحي بأن وقوف القراءة وجلوس القراءة غير داخلين في المعادلة، ويؤكد هذا الفهم الرواية الثانية للبراء، وفيها عقد المقارنة في غير الوقف للقراءة والجلوس للتشهد، ويؤيد هذا الفهم تأكيدا رواية البخاري عن البراء نفسه، ولفظها "كان ركوع النبي صلى الله عليه وسلم وسجوده، وبين السجدتين وإذا رفع من الركوع - ما خلا القيام والقعود - قريبًا من السواء". وعلى ذلك فقول النووي: في الحديث دليل على تخفيف القراءة والتشهد. هذا القول غير مسلم. وهناك من العلماء من فهم أن مقارنة البراء ليست بين أركان الصلاة بعضها مع بعض وإنما هي مقارنة بين الركن الواحد في الصلوات المختلفة، أو في الركعات المختلفة، فكأنه قال: كان ركوعه في جميع الركعات وجميع الصلوات قريبا من السواء وكان اعتداله في جميع الركعات وفي جميع الصلوات قريبا من السواء، ويساعد هذا الفهم عبارته في الرواية الثانية "كانت صلاته، قريبًا من السواء" قال الحافظ ابن حجر: ولا يخفى تكلفه. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - استحباب إطالة الطمأنينة في الركوع والسجود، وفي الاعتدال عن الركوع وعن السجود، وفي مقدارها تفصيل وآراء تأتي في أبوابها التي تلي هذا الباب إن شاء الله. 2 - قال الحافظ ابن حجر: استدل بظاهره على أن الاعتدال ركن طويل ولا سيما قول أنس "حتى يقول القائل: "قد نسي". 3 - قال القرطبي: هذا الحديث يدل على أن بعض الأركان أطول من بعض، غير أنها غير متباعدة. 4 - قال النووي: وفيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يجلس بعد التسليم شيئًا يسيرًا في مصلاه. والله أعلم

(184) باب متابعة الإمام والعمل بعده

(184) باب متابعة الإمام والعمل بعده 873 - عن أبي إسحق عن عبد الله بن يزيد قال: حدثني البراء وهو غير كذوب أنهم كانوا يصلون خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا رفع رأسه من الركوع لم أر أحدًا يحني ظهره حتى يضع رسول الله صلى الله عليه وسلم جبهته على الأرض ثم يخر من وراءه سجدًا. 874 - عن البراء رضي الله عنه (وهو غير كذوب) قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال "سمع الله لمن حمده" لم يحن أحد منا ظهره حتى يقع رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجدًا ثم نقع سجودًا بعده. 875 - عن محارب بن دثار قال: سمعت عبد الله بن يزيد يقول على المنبر حدثنا البراء أنهم كانوا يصلون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا ركع ركعوا وإذا رفع رأسه من الركوع فقال "سمع الله لمن حمده" لم نزل قياما حتى نراه قد وضع وجهه في الأرض ثم نتبعه. 876 - عن البراء رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم لا يحنو أحد منا ظهره حتى نراه قد سجد. فقال زهير: حدثنا سفيان قال: حدثنا الكوفيون: أبان وغيره قال: حتى نراه يسجد. 877 - عن عمرو بن حريث رضي الله عنه قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم الفجر فسمعته يقرأ {فلا أقسم بالخنس. الجوار الكنس} [التكوير: 15، 16]. وكان لا يحني رجل منا ظهره حتى يستتم ساجدًا.

-[المعنى العام]- شرع الله صلاة الجماعة ليتم اللقاء ويتعدد، فتزول الجفوة، وتشيع المودة وتتداول المنافع والمصالح، وشرع لها حدودا وضوابط لتعليم المسلمين النظام في الحركة والسكون، والانقياد للقائد الذي ارتضوه وقدموه إماما، ومقتضى النظام والدقة والانقياد أن لا يسبقوا قائدهم، فلا يحنوا ظهورهم إلا بعد أن يحني، ولا يرفعوا رءوسهم قبل أن يرفع. بالتزام هذه الحدود والضوابط يتحقق الهدف الأكبر لصلاة الجماعة ولهذا كثر أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه باتباع الإمام "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد .. " إلخ. لكن العجلة طبيعة الإنسان {خلق الإنسان من عجل} [الأنبياء: 37] والشيطان يحركه إلى هذه الطبيعة في الصلاة ليخرجه بسرعة من المناجاة، ويحركه في صلاة الجماعة إلى هذه الطبيعة بصفة خاصة، ليفقده ثوابها، وليوقعه في إثم ما بعده إثم ويعرضه لعقوبة من أشد العقوبات. لقد كان صلى الله عليه وسلم يراقب من خلفه في صلاة الجماعة، وكان حريصًا على التزامهم ومتابعتهم لصلاته، فكان يقوم المعوج، ويصحح الخطأ. صلى رجل خلفه فجعل يركع قبل أن يركع، ويرفع قبل أن يرفع، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته، قال: من الفاعل هذا؟ قال: أنا يا رسول الله. قال: "إذا ركع الإمام فاركعوا وإذا رفع فارفعوا". -[المباحث العربية]- (وعن أبي إسحق عن عبد الله بن يزيد قال: حدثني البراء - وهو غير كذوب) قال يحيى بن معين: القائل [وهو غير كذوب] هو أبو إسحق. قال: ومراده أن عبد الله بن يزيد غير كذوب، وليس المراد أن البراء غير كذوب. لأن البراء صحابي، لا يحتاج إلى تزكية، ولا يحسن فيه هذا القول. اهـ قال النووي: وهذا الذي قاله ابن معين خطأ عند العلماء، بل الصواب أن القائل: "وهو غير كذوب" هو عبد الله بن يزيد، ومراده أن البراء غير كذوب ومعناه تقوية الحديث وتفخيمه، والمبالغة في تمكينه من النفس، لا التزكية التي تكون في مشكوك فيه، ونظيره قول ابن عباس رضي الله عنه حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق، وعن أبي هريرة مثله، ونظائر، فمعنى الكلام حدثني البراء وهو غير متهم كما علمتم، فثقوا بما أخبركم عنه اهـ وقال الخطابي: هذا القول لا يوجب تهمة في الراوي، إنما يوجب حقيقة الصدق له اهـ فهذا القول لا يقصد به تعديل الراوي حتى ينزه عنه البراء لأجل صحبته.

وقد اعترض بعضهم على ابن معين بأنه حين نزه البراء عن هذه العبارة ألصقها بعبد الله بن يزيد وهو صحابي أيضا، لكنه أجيب بأن ابن معين لا يعد عبد الله بن يزيد في الصحابة وإن عده كثير من العلماء منهم. بقي قولهم: إن نفي الكذوبية لا يستلزم نفي الكاذبية، أي إن نفي المبالغة في الكذب لا يستلزم نفي أصل الكذب وقليله، فكان الواجب نفي مطلق الكذب وأجيب بأن المعنى غير كذب، فهو من قبيل قوله تعالى: {وما ربك بظلام للعبيد} [فصلت: 46] (لم أر أحدًا يحني ظهره) أي للسجود، وفي الرواية الرابعة "لا يحنو أحد منا ظهره" قال النووي وكلاهما صحيح فهما لغتان حكاهما الجوهري وغيره يقال: حنيت وحنوت، ولكن الياء أكثر ومعناه عطفته، ومثله حنيت العود وحنوته عطفته. اهـ (لم يحن أحد منا ظهره) يحن بفتح الياء وسكون الحاء من حنيت العود إذا قوسته. {(فلا أقسم بالخنس الجواري الكنس)} قال المفسرون وأهل اللغة: هي النجوم الخمسة، وهي المشترى وعطارد والزهرة والمريخ وزحل هكذا قال أكثر المفسرين، وهو مروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وفي رواية عنه أنها هذه الخمسة والشمس والقمر، وعن الحسن هي كل النجوم، وقيل غير ذلك، والخنس التي تخنس، أي ترجع في مجراها، والكنس التي تكنس أي تدخل كناسها أي تغيب في المواضع التي تغيب فيها، والكنس جمع كانس قاله النووي. -[فقه الحديث]- قال الحافظ ابن حجر: ظاهر الحديث [وهو يتكلم عن حديث التهديد بصورة حمار] يقتضي تحريم الرفع قبل الإمام، لكونه توعد عليه بالمسخ، وهو أشد العقوبات، وبذلك جزم النووي في شرح المهذب. ومع القول بالتحريم فالجمهور على أن فاعله يأثم وتجزئ صلاته، وعن ابن عمر تبطل، وبه قال أحمد في رواية، وبه قال أهل الظاهر، بناء على أن النهي يقتضي الفساد، وفي المغني عن أحمد أنه قال في رسالته: ليس لمن سبق الإمام صلاة لهذا الحديث، قال: ولو كانت له صلاة لرجي له الثواب ولم يخش عليه العقاب اهـ وقال القرطبي: من خالف الإمام فقد خالف سنة المأموم. اهـ وظاهر عبارته عدم الحرمة وثبوت الكراهة لكن الجمهور على الحرمة. وقد فصل الإمام النووي هذه المسألة في شرح المهذب تفصيلاً جديرًا بالاعتبار فقال: قال أصحابنا يجب على المأموم متابعة الإمام، ويحرم عليه أن يتقدمه بشيء من الأفعال،

والمتابعة أن يجري على إثر الإمام، بحيث يكون ابتداؤه لكل فعل متأخرًا عن ابتداء الإمام، ومقدمًا على فراغه منه فلو خالفه في المتابعة فله أحوال: إن قارنه في تكبيرة الإحرام لم تنعقد صلاته باتفاق أصحابنا وبه قال مالك وأبو يوسف وأحمد وداود، وقال الثوري وأبو حنيفة وزفر ومحمد تنعقد، كما لو قارنه في الركوع. وقد سبق تفصيل هذا القول وتوضيحه. والله أعلم

(185) باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع

(185) باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع 878 - عن ابن أبي أوفى رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع ظهره من الركوع قال "سمع الله لمن حمده. اللهم ربنا لك الحمد. ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد". 879 - عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بهذا الدعاء "اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد". 880 - عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: "اللهم لك الحمد ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد. اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد. اللهم طهرني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الوسخ". 881 - وفي رواية معاذ "كما ينقى الثوب الأبيض من الدرن" وفي رواية يزيد "من الدنس" 882 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال "ربنا لك الحمد ملء السموات والأرض وملء ما شئت من شيء بعد. أهل الثناء والمجد. أحق ما قال العبد. وكلنا لك عبد: اللهم لا مانع لما أعطيت. ولا معطي لما منعت. ولا ينفع ذا الجد منك الجد". 883 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع قال "اللهم ربنا لك الحمد. ملء السموات وملء الأرض، وما بينهما. وملء ما

شئت من شيء بعد. أهل الثناء والمجد. لا مانع لما أعطيت. ولا معطي لما منعت. ولا ينفع ذا الجد منك الجد". 884 - عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوله "وملء ما شئت من شيء بعد" ولم يذكر ما بعده. -[المعنى العام]- الصلاة مجموعة من القراءة والأذكار، بعضها واجب وركن، وبعضها مشروع ومستحب، ومن الأذكار المستحبة ما يقال عند الرفع من الركوع وكان صلى الله عليه وسلم يحافظ على دعاء معين ويداوم عليه جهرا مثل "سمع الله لمن حمده" أو سرًا مثل "ربنا لك الحمد" كما كان يكثر من دعاء معين بعد هذا، مثل "ملء السموات والأرض وملء ما شئت من شيء بعد" وقد يزيد "أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد - وكلنا لك عبد - اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لمن منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد" وقد يزيد "اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد، اللهم طهرني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الوسخ". كانت أحواله صلى الله عليه وسلم في الذكر مختلفة، يطيل به أحيانًا اطمئنانًا إلى رضا من خلفه من المأمومين بالتطويل، ويقصر إذا ظن حاجة بعض من خلفه إلى التقصير، وهو في هذا وذاك مشرع، مشرع للتطويل في العبادة، ومشرع للتقصير والتيسير، وصدق الله العظيم حيث يقول: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78] {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} [المائدة: 6] -[المباحث العربية]- (سمع الله لمن حمده) قال العلماء: معنى "سمع" هنا أجاب، ومعناه أن من حمد الله تعالى متعرضا لثوابه استجاب الله تعالى له وأعطاه ما تعرض له. فإنا نقول: ربنا لك الحمد لتحصيل ذلك. (اللهم ربنا لك الحمد) في بعض الطرق بحذف "اللهم" وثبوتها أرجح. وفي بعض الروايات "ولك الحمد" بزيادة الواو.

(ملء السموات والأرض) "ملء" بنصب الهمزة ورفعها، والنصب أشهر، وحكي عن الزجاج أنه يتعين الرفع ولا يجوز غيره، وبالغ في إنكار النصب، والأول أصح. قال العلماء: معناه: لك الحمد حمدا لو كان أجساما لملأ السموات والأرض. (اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد) استعارة للمبالغة في الطهارة من الذنوب وغيرها، وإجراء الاستعارة بتشبيه التوبة والندم والاستغفار بالثلج والماء البارد بجامع التطهير والتنظيف بكل، وحذف المشبه وأقيم المشبه به مقامه على سبيل الاستعارة التصريحية، والأصل طهرني من ذنوبي بالتوبة والاستغفار والندم التي هي في تطهير الذنوب كالثلج والبرد والماء في تطهيرها للثياب. (اللهم طهرني من الذنوب والخطايا) قال النووي: يحتمل أن يكون الجمع بينهما كما قال بعض المفسرين في قوله تعالى: {ومن يكسب خطيئة أو إثما} [النساء: 112] قال: الخطيئة المعصية بين العبد وبين الله تعالى، والإثم بينه وبين الآدمي. اهـ ويحتمل أن يكون عطف مرادف مبالغة في التذلل والاعتراف بالتقصير. (كما ينقى الثوب الأبيض من الوسخ) الوسخ والدرن والدنس كله بمعنى واحد، والمعنى اللهم طهرني طهارة كاملة معتنى بها كما يعتنى بتنقية الثوب الأبيض من الوسخ. (أهل الثناء والمجد) "أهل" منصوب على النداء، قال النووي: هذا هو المشهور، وجوز بعضهم رفعه على تقدير: أنت أهل الثناء، والمختار النصب والثناء الوصف الجميل والمدح، والمجد العظمة ونهاية الشرف وفي رواية أهل الثناء والحمد وله وجه اهـ (أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد) هكذا هو في مسلم وغيره "أحق" بالألف، و"كلنا" بالواو، وأما ما وقع في كتب الفقه "حق ما قال العبد، كلنا" بحذف الألف والواو فغير معروف من حيث الرواية، وإن كان صحيحا، وعلى الرواية المعروفة تقديره: أحق قول العبد لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت إلخ، واعترض بينهما بقوله: "وكلنا لك عبد". والاعتراض هنا للاهتمام مع ارتباطه بما قبله وما بعده. كذا قاله النووي بتصرف. (ولا ينفع ذا الجد منك الجد) ذا الجد المشهور فتح الجيم هكذا ضبطه العلماء المتقدمون والمتأخرون، قال ابن عبد البر: ومنهم من رواه بالكسر. قال: وهذا خلاف ما عرفه النقل. قال: ومعناه على ضعفه الاجتهاد، أي لا ينفع ذا الاجتهاد منك اجتهاده، إنما ينفعه وينجيه رحمتك. وقيل المراد "ذا الجد" والسعي التام في الحرص على الدنيا وقيل: معناه الإسراع في الهرب، أي لا ينفع ذا الإسراع في الهرب منك هربه، فإنه في قبضتك وسلطانك، والصحيح المشهور "الجد" بالفتح، وهو الحظ والغنى والعظمة والسلطان، أي لا ينفع ذا الحظ في الدنيا بالمال والولد والعظمة

والسلطان منك حظه، أي لا ينجيه حظه منك، وإنما ينفعه وينجيه العمل الصالح كقوله تعالى: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك} [الكهف: 46] قاله النووي. -[فقه الحديث]- قال النووي في المجموع شرح المهذب: الاعتدال من الركوع فرض وركن من أركان الصلاة، لا تصح إلا به عند الشافعية بلا خلاف، والواجب هو أن يعود بعد ركوعه إلى الهيئة التي كان عليها قبل الركوع، سواء صلى قائمًا أو قاعدًا وبهذا قال أحمد وداود وأكثر العلماء، وقال أبو حنيفة: لا يجب، بل لو انحط من الركوع إلى السجود أجزأه، وعن مالك روايتان. وتجب الطمأنينة في الاعتدال بلا خلاف عند الشافعية، وقال إمام الحرمين: في قلبي من إيجابها شيء، وسببه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث المسيء صلاته "حتى تعتدل قائمًا" وفي باقي الأركان "حتى تطمئن" والصواب الأول لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطمئن، وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" هذا ما يتعلق بواجب الاعتدال، أما أكمله ومندوباته فمنها: أن يرفع يديه حذو منكبيه، ويكون ابتداء رفعهما مع ابتداء الرفع، فإذا اعتدل قائما حط يديه، والسنة أن يقول في حال ارتفاعه: سمع الله لمن حمده، فإذا استوى قائما استحب أن يقول: ربنا لك الحمد، ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد - وكلنا لك عبد - لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد. قال الشافعي والأصحاب: يستوي في استحباب هذه الأذكار كلها الإمام والمأموم والمنفرد، فيجمع كل واحد منهم بين "سمع الله لمن حمده" و"ربنا لك الحمد" إلى آخره. لكن قال الأصحاب: إنما يأتي الإمام بهذا كله إذا رضي المأمومون بالتطويل وكانوا محصورين، فإن لم يكن كذلك اقتصر على قوله: "سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد". قال صاحب الحاوي وغيره: يستحب للإمام أن يجهر بقوله: "سمع الله لمن حمده" ليسمع المأمومون ويعلموا انتقاله كما يجهر بالتكبير، ويسر بقوله: "ربنا لك الحمد" لأنه في الاعتدال، فأسر به كالتسبيح في الركوع والسجود، وأما المأموم فيسر بهما كما يسر بالتكبير، فإن أراد تبليغ غيره انتقال الإمام كما يبلغ التكبير جهر بقوله: "سمع الله لمن حمده" لأنه المشروع في حال الارتفاع ولا يجهر بقوله: "ربنا لك الحمد" لأنه إنما يشرع في حال الاعتدال. ثم قال النووي: هذا مذهبنا، وقال أبو حنيفة: يقول الإمام والمنفرد "سمع الله لمن حمده" فقط، ويقول المأموم "ربنا لك الحمد" فقط. حكاه ابن المنذر عن ابن مسعود وأبي هريرة والشعبي ومالك وأحمد، وقال الثوري والأوزاعي وأبو يوسف ومحمد وأحمد: يجمع الإمام الذكرين، ويقتصر المأموم على "ربنا لك الحمد" اهـ بتصرف. قال الحافظ ابن حجر: الذكر المشروع في الاعتدال أطول من الذكر المشروع في الركوع، فتكرير

"سبحان ربي العظيم" يجيء قدر "اللهم ربنا لك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه" وقد شرع في الاعتدال "ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد، اللهم طهرني بالثلج" ومن هنا اختار النووي جواز تطويل الركن القصير بالذكر. ثم قال: والعجب ممن يرى بطلان الصلاة بتطويل الاعتدال بحجة أن ذلك ينفي الموالاة. والرد أن نفي الموالاة أن يتخلل فصل طويل بين الأركان بما ليس منها. وما ورد به الشرع لا يصح نفي كونه منها. اهـ بتصرف. والله أعلم

(186) باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود

(186) باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود 885 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر. فقال: "أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم. أو ترى له. ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا. فأما الركوع فعظموا فيه الرب عز وجل. وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم" 886 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم الستر ورأسه معصوب في مرضه الذي مات فيه فقال "اللهم هل بلغت؟ " ثلاث مرات "إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا. يراها العبد الصالح أو ترى له" ثم ذكر بمثل حديث سفيان. 887 - عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ راكعًا أو ساجدًا. 888 - عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قراءة القرآن وأنا راكع أو ساجد. 889 - عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القراءة في الركوع والسجود ولا أقول نهاكم.

890 - عن علي رضي الله عنه قال نهاني حبي صلى الله عليه وسلم أن أقرأ راكعًا أو ساجدًا. 891 - عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم كلهم قالوا: نهاني عن قراءة القرآن وأنا راكع ولم يذكروا في روايتهم النهي عنها في السجود. كما ذكر الزهري وزيد بن أسلم والوليد بن كثير وداود بن قيس. 892 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال نهيت أن أقرأ وأنا راكع لا يذكر في الإسناد عليا. (ملحوظة) ستشرح هذه الأحاديث مع ما بعدها.

(187) باب ما يقال في الركوع والسجود

(187) باب ما يقال في الركوع والسجود 893 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء". 894 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده: "اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله وأوله وآخره وعلانيته وسره". 895 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي" يتأول القرآن. 896 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول قبل أن يموت: "سبحانك وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك" قالت قلت: يا رسول الله ما هذه الكلمات التي أراك أحدثتها تقولها؟ قال: "جعلت لي علامة في أمتي إذا رأيتها قلتها {إذا جاء نصر الله والفتح} إلى آخر السورة 897 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم منذ نزل عليه: {إذا جاء نصر الله والفتح} يصلي صلاة إلا دعا أو قال فيها "سبحانك ربي وبحمدك اللهم اغفر لي". 898 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من قول "سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه" قالت: فقلت: يا رسول الله أراك تكثر من قول "سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه" فقال: "خبرني ربي أني سأرى علامة في أمتي. فإذا رأيتها أكثرت من قول: سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه. فقد

رأيتها. {إذا جاء نصر الله والفتح فتح مكة ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا} 899 - عن ابن جريج قال قلت لعطاء: كيف تقول أنت في الركوع؟ قال: أما سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت. فأخبرني ابن أبي مليكة عن عائشة: قالت: افتقدت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة. فظننت أنه ذهب إلى بعض نسائه. فتحسست ثم رجعت. فإذا هو راكع أو ساجد يقول: "سبحانك وبحمدك. لا إله إلا أنت" فقلت: بأبي أنت وأمي إني لفي شأن وإنك لفي آخر. 900 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش. فالتمسته. فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد. وهما منصوبتان. وهو يقول "اللهم أعوذ برضاك من سخطك. وبمعافاتك من عقوبتك. وأعوذ بك منك. لا أحصي ثناء عليك. أنت كما أثنيت على نفسك". 901 - عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده "سبوح قدوس رب الملائكة والروح". بمثل هذا الحديث. (ملحوظة): ستشرح هذه الأحاديث مع ما قبلها، وما بعدها.

(188) باب فضل السجود والحث عليه

(188) باب فضل السجود والحث عليه 902 - عن معدان بن أبي طلحة اليعمري قال لقيت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أخبرني بعمل أعمله يدخلني الله به الجنة. أو قال: قلت: بأحب الأعمال إلى الله. فسكت. ثم سألته فسكت. ثم سألته الثالثة فقال: سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "عليك بكثرة السجود لله. فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة. وحط عنك بها خطيئة". قال معدان: ثم لقيت أبا الدرداء فسألته. فقال لي مثل ما قال لي ثوبان. 903 - عن ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه قال: كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته. فقال لي: "سل" فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة. قال: "أو غير ذلك؟ " قلت: هو ذاك. قال: "فأعني على نفسك بكثرة السجود". -[المعنى العام]- ثلاث مجموعات من الأحاديث، تنهى عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، وتوضح ما ينبغي أن يقال فيهما من الأذكار، وتبين فضل السجود ومكانته بين الطاعات. المجموعة الأولى: تتحدث عن صورة مشرقة لحرص النبي صلى الله عليه وسلم على محافظة أمته على تعاليم الإسلام وحرصه على الاطمئنان على تطبيقهم العملي لسنته، حتى ساعة أقعده المرض الأخير عن الخروج إلى الصلاة، وكان يغشى عليه من الحمى، ثم يفيق، فإذا أفاق سأل أزواجه عن أداء المسلمين الصلاة: هل صلى الناس؟ فيقلن: لا، وهم ينتظرونك. فيقول: مروا أبا بكر فليصل بهم، حتى إذا أمروا أبا بكر، فقام يصلي بالناس كشف الرسول صلى الله عليه وسلم الستارة التي بين بيته وبين المسجد، كشف الستارة ورأسه معصوب من شدة الألم، فرأى الناس صفوفا خلف أبي بكر كما علمهم أن يصفوا أنفسهم كصفوف الملائكة، فاطمأن على إقامتهم للركن الأساسي في الإسلام، وبشرهم ببقاء جزء من أربعين جزءا من النبوة بينهم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، قال لهم: إلا إنه لا نبي بعدي، ولن يبقى بعد وفاتي من طلائع النبوة وأحوالها وروافدها إلا الرؤيا الصادقة في المنام، يراها المسلم الصالح أو يراها غيره له، يطلعه الله على بعض غيبه، يبشره بما سيأتيه من خير، لكيلا يفرح بما آتاه عند إتيانه،

ولتتهيأ نفسه لاستقباله دون مفاجأة أو طغيان، وينذره مما سيصيبه من شر، ليستعد له، ويروض نفسه على احتماله قبل وصوله، فإذا وصل لم يكن صدمة يفزع لها، أو يفقد من هولها صوابه، كل ذلك لطف من الله بالمسلم ليرضى بالقضاء، ويشكر عند السراء والضراء. بعد هذه البشرى بما أفاض ويفيض الله على عبده الصالح وضع صلى الله عليه وسلم اللمسات الأخيرة على هيئة الصلاة فقال: أيها الناس. ألا إني نهيت أن أقرأ القرآن راكعا وساجدا، فلا تقرءوا القرآن في الركوع والسجود فعظموا فيه الرب، وقولوا: سبحان ربنا العظيم، وأما السجود فهو أقرب ما يكون العبد من ربه، فادعوا الله فيه، واجتهدوا في الدعاء، وأكثروا وألحوا، فجدير أن يستجيب الله لكم وأنتم سجود. أيها الناس. ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد. اللهم قد بلغت. اللهم فاشهد. اللهم قد بلغت اللهم فاشهد ثم أرخى الستر فلم يره الصحابة بعد، ولحق بالرفيق الأعلى صلى الله عليه وسلم. والمجموعة الثانية: تدعو إلى كثرة الدعاء في السجود، وتبرز ما كان يدعو به صلى الله عليه وسلم في سجوده في أيامه الأخيرة، وأنه كان يقول أحيانًا في سجوده اللهم اغفر لي ذنبي كله، صغيره وكبيره، حقيره وجليله، وأوله ووسطه وآخره، علانيته وسره. وإنه كثيرًا ما كان يقول في ركوعه وفي سجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي. وأحيانًا ما كان يقول: سبحانك وبحمدك. لا إله إلا أنت. اللهم إني أعوذ برضاك عن سخطك، وبمعافاتك عن عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك. أنت كما أثنيت على نفسك. وأحيانا كان يقول في ركوعه وسجوده: سبوح قدوس رب الملائكة والروح. ولاحظت أم المؤمنين عائشة - وهي مشهورة بالذكاء واليقظة، ومتابعة حركاته وسكناته صلى الله عليه وسلم - لاحظت أنه منذ وقت قريب يكثر من التسبيح والتحميد والتوبة والاستغفار على غير ما كانت تعهد من قبل، لاحظت أنه لا يقوم ولا يقعد، ولا يذهب ولا يجيء، ولا يركع ولا يسجد، إلا ويذكر هذه الكلمات فقالت: يا رسول الله، ما هذه الكلمات التي أسمعها منك حديثا؟ ولم أكن أسمعك تواظب عليها قديما؟ قال: يا عائشة أخبرني ربي أنني سأرى علامة، وأمرني أنني إذا رأيتها أكثر من هذه الكلمات، وقد رأيتها، فأنا أكثر منها. هذا الإخبار كان بنزول قوله تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح. ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا. فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا} وقد رأيت هذه العلامة، ففتح الله مكة، ودخل الناس في دين الله أفواجا، فأنا أقولها إيذانا بقرب نهايتي فقد أكمل الله لكم دينكم، وأتم عليكم نعمته، ورضي لكم الإسلام دينا، ولم يبق إلا أن أسبح، وأحمد وأستغفر وأتوب وأنتظر اللحوق بالرفيق الأعلى. المجموعة الثالثة: تحكي أن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله معدان بن أبي طلحة اليعمري عن أحب الأعمال إلى الله: فسكت ثوبان مبديا إعجابه وسروره بالسؤال مما شجع معدان أن يعيد السؤال، وسكت ثوبان للمرة الثانية وفي وجهه بشاشة السرور بحرص المسلمين على الترقي بالأعمال

الصالحة، فسأله معدان نفس السؤال للمرة الثالثة، فقال ثوبان: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: عليك بكثرة السجود - سجود الصلاة، وسجود "شكر" وسجود التلاوة - فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وأعطاك بها حسنة، وغفر لك بها سيئة. كما تحكي هذه المجموعة أن ربيعة بن كعب الأسلمي كان يبيت ليلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الصحابة يتقربون بخدمته صلى الله عليه وسلم ويحرصون على مساعدته في وضوئه بإحضار الماء وصبه، فلما قام بذلك ربيعة أراد صلى الله عليه وسلم أن يكافئه، فقال له: ماذا تطلب لأدعو لك به، فقال ربيعة: أسألك مرافقتك في الجنة. قال: سألت عظيما، أو غير هذا السؤال؟ قال: لا، هو ذاك ليس غير، قال صلى الله عليه وسلم: فأعني على إجابة سؤالك بكثرة السجود، وكثرة الدعاء فيه. فأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. فاللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك وكثرة السجود لك، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. -[المباحث العربية]- (كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم الستارة) أي رفع الستارة التي كانت بين بيته وبين مسجده صلى الله عليه وسلم، والستارة بكسر السين الستر الذي يكون على باب البيت والدار، واستعملت حديثا بعد الأبواب على النوافذ. (والناس صفوف خلف أبي بكر) يصلي بهم خلفًا للنبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته. (ألا وإني نهيت أن أقرأ ... ) "ألا" بفتح الهمزة وتخفيف اللام حرف تنبيه، تدل على تحقق ما بعدها، ويقول عنها المعربون: حرف استفتاح، والواو بعدها عاطفة، والتقدير: إلا إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة وإني نهيت أن أقرأ، وأن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بحرف محذوف، والتقدير: نهيت عن قراءتي القرآن في الركوع. (فأما الركوع فعظموا فيه الرب) أي مجدوه ونزهوه عن النقائص، بقولكم: سبحان ربي العظيم. (وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء) فيه، أكثروا، أو رددوا، أو ألحوا، على ما سيأتي في فقه الحديث. (فقمن أن يستجاب لكم) "قمن" بفتح الميم وكسرها لغتان، ويقال أيضًا: قمين بزيادة ياء، ومعناه حقيق وجدير. (نهاني ... ولا أقول: نهاكم) معناه أن النهي في صورته كان موجهًا لي في هذه القصة، ولم يتوجه إلى أحد من الحاضرين: وهذا لا يمنع من شمول النهي للجميع، ولا من توجهه لهم في قصة

أخرى، وربما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًا - كرم الله وجهه - يقرأ القرآن في ركوعه أو سجوده فنهاه - لأن الأصل في النهي عن شيء إنما يكون عند الوقوع فيه أو عند الخوف من الوقوع فيه - فيكون في هذا القول من على صورة رائعة لإبراز الحق ودفع الشبهة عن الآخرين، فكأنه يقول: أنا الذي أخطأت فنهيت لا أنتم. (نهاني حبي) بكسر الحاء والباء المشددة، أي محبوبي (أقرب ما يكون العبد من ربه) في الكلام مضاف محذوف، أي أقرب ما يكون العبد من رحمة ربه وفضله. (اللهم اغفر لي ذنبي كله. دقه وجله) "دقه" بكسر الدال وتشديد القاف المفتوحة، أي دقيقه وصغيره، وجله أي عظيمه، فالمراد قليله وكثيره. (وأوله وآخره) ليس المراد الأول والآخر دون ما بينهما، بل العبارة كناية عن الإحاطة والشمول، أي الكل. وكذا يقال في "دقه وجله" و"علانيته وسره" والمراد من العبارات الثلاث التأكيد لقوله "ذنبي كله" إثر تأكيد. (يكثر أن يقول .... ) أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول به. والتقدير: يكثر قول سبحانك اللهم في ركوعه وسجوده. (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي) قال الواحدي: أجمع المفسرون وأهل المعاني على أن معنى تسبيح الله تعالى تنزيهه وتبرئته من السوء. قال: وأصله في اللغة التبعيد، من قولك: سبحت في الأرض إذا ضربت فيها. اهـ فسبحانك اللهم معناه براءة وتنزيهًا لك من كل نقص وسبحانك منصوب على المصدر، يقال: سبحت الله بتشديد الباء تسبيحًا وسبحانًا فجعل السبحان موضع التسبيح، فحذف الفعل "سبحت" اختصارًا، ولكثرة الاستعمال صار حذفه لازمًا. و"اللهم" منادى، أي يا ربنا، "وبحمدك أسبح"، والمراد من الحمد لازمه مجازًا، وهو ما يوجبه من التوفيق والهداية، والمعنى بتوفيقك لي وهدايتك وفضلك سبحتك، لا بحولي وقوتي، ففيه شكر الله على هذه النعمة، والاعتراف بها، والتفويض إلى الله تعالى، وأن كل الأفعال له، فالواو في "وبحمدك" إما للحال، إما لعطف الجملة على الجملة. (يتأول القرآن) المراد من القرآن بعضه، والمراد بهذا البعض قوله تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح. ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا. فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا} فهو صلى الله عليه وسلم يتأول قوله تعالى {فسبح بحمد ربك واستغفره} أي يفعل ما أمر به فيقول في ركوعه وسجوده وفي كثير من أوقاته: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي. (يكثر أن يقول قبل أن يموت) أي في الفترة بين نزول سورة النصر وبين موته صلى الله عليه وسلم.

(ما هذه الكلمات التي أراك أحدثتها تقولها؟ ) جملة "تقولها" بيان لجملة "أحدثها" أي تقولها حديثًا. (جعلت لي علامة في أمتي) "علامة" بالرفع نائب فاعل، أي جعل الله لي علامة في أمتي. (إذا رأيتها قلتها) أي إذا رأيت هذه العلامة قلت هذه الكلمات، وهذه العلامة هي فتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجًا وقد رأيتها، فلذلك أقولها وأكثر من قولها، عملاً بقوله تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح. ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا. فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا} (كيف تقول أنت في الركوع؟ ) كان الظاهر أن يقول: ماذا تقول أنت في الركوع؟ لأنه يسأل عما يقول، لا عن كيفيته، ولكنه أراد السؤال عن القول بدقة حتى كأنه يسأل عنه وعن كيفيته. (افتقدت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة) في الرواية الثامنة "فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش" وفقد وافتقد بمعنى، والمقصود أنها لم تجده في فراشه. (فتحسست ثم رجعت) وفي الرواية الثامنة "فالتمسته" والتحسس البحث بإحدى الحواس، والالتماس في أصله البحث باللمس، والظاهر أنها تسمعت لصوته أو نفسه في نواحي البيت، فلما لم تجده رجعت إلى مكان النوم، ثم بدا لها أن تتجه إلى المسجد، وبين حجراته والمسجد ستر كما ذكرنا، وفي الظلام تحسست بيدها. (فإذا هو راكع أو ساجد) في الرواية الثامنة "فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان وهذه الهيئة لا تكون في الركوع، ولا تكون إلا في السجود فقولها في روايتنا "فإذا هو راكع أو ساجد" مشكل. إلا إذا قلنا بتعدد القصة، تعدد افتقاده صلى الله عليه وسلم والتماسه، فالرواية السابعة تحكي أنها سمعته يقول هذا الذكر ولم تلمسه، ولم تتبين إن كان في ركوع أو في سجود، والرواية الثامنة تحكي أنها لمسته بيدها، لمست بطن قدميه فكان في سجود، يساعد على هذا الفهم اختلاف الذكر الوارد في كل من الروايتين. والله أعلم. (بأبي أنت وأمي) كثيرة الاستعمال لحسن حذف فعلها، والأصل: أفديك بأبي وأمي يا رسول الله. تقال عند مشاهدة فعل عظيم. (إني لفي شأن وإنك لفي آخر) أي إني لفي ظني ما ظننت، وإنك لعلى نقيض من ظني، حيث تركت متعة النساء إلى متعة عبادة ربك. (أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك) قال الخطابي: في هذا معنى لطيف، وذلك أنه استعاذ بالله تعالى وسأله أن يجيره برضاه من سخطه، وبمعافاته من عقوبته، والرضا والسخط ضدان متقابلان، وكذلك المعافاة والعقوبة، فلما صار إلى ذكر ما لا ضد له،

وهو الله سبحانه وتعالى استعاذ به منه لا غير، ومعناه الاستغفار من التقصير في بلوغ الواجب من حق عبادته والثناء عليه. (لا أحصي ثناء عليك) أي لا أطيقه ولا آتي عليه، وقيل: لا أحيط به، وقال مالك: معناه لا أحصي نعمتك وإحسانك والثناء بها عليك وإن اجتهدت في الثناء عليك. (أنت كما أثنيت على نفسك) قال النووي: هذا اعتراف بالعجز عن تفصيل الثناء، وأنه لا يقدر على بلوغ حقيقته، ورد للثناء إلى الجملة دون التفصيل والتعيين، فوكل ذلك إلى الله تعالى المحيط بكل شيء جملة وتفصيلاً، وكما أنه لا نهاية لصفاته لا نهاية للثناء عليه، لأن الثناء تابع للمثنى عليه، وكل ثناء أثنى به عليه، وإن كثر وطال وبولغ فيه، فقدر الله أعظم، وسلطانه أعز، وصفاته أكبر وأكثر، وفضله وإحسانه أوسع وأسبغ. اهـ (سبوح قدوس) بضم السين والقاف، وقد يفتحان، والضم أفصح وأكثر، قال أهل اللغة: هما صفتان لله تعالى: وقال ابن فارس والترمذي: اسمان لله تعالى. فالمراد بالسبوح المسبح، أي المبرأ من النقائص والشريك وكل ما لا يليق بالإلهية، والمراد بالقدوس المقدس، أي المطهر من كل ما لا يليق بالخالق، وقال الهروي: قيل: القدوس المبارك. والرواية هكذا برفع "سبوح قدوس" وقال القاضي عياض: وقيل: سبوحًا قدوسًا بالنصب، أي أسبح سبوحًا أو أذكر أو أعظم أو أعبد. (رب الملائكة والروح) قيل: الروح جبريل، وقيل: ملك عظيم أعظم الملائكة خلقًا، وقيل: أشرف الملائكة، وعلى كل هذا هو من عطف الخاص على العام لمزيد عناية بهذا الخاص، والأصح أنه جبريل، فقد عطف صريحا في قوله تعالى: {من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين} [البقرة: 98] كما أطلق عليه الروح في قوله: {نزل به الروح الأمين. على قلبك لتكون من المنذرين} [الشعراء: 193 - 194] ومن الأقوال الضعيفة ما قيل: إن المراد بالروح خلق كالناس ليسوا بناس، وما قيل: إنهم خلق لا تراهم الملائكة كما لا نرى نحن الملائكة. والله أعلم. -[فقه الحديث]- يمكن حصر الكلام في فقه الحديث في أربع نقاط: الأولى: حكم القراءة في الركوع والسجود. الثانية: حكم التسبيح في الركوع والسجود، والأذكار الواردة فيهما. الثالثة: الرؤيا الصالحة

الرابعة: -[ما يؤخذ من الحديث من أحكام]- وإليك التفصيل: 1 - قال الإمام النووي: لو قرأ في ركوع أو سجود غير الفاتحة عمدًا كره ولم تبطل صلاته، وإن قرأ الفاتحة عمدًا فالأصح أنه يحرم وتبطل صلاته، لأنه نقل ركنا إلى غير موضعه، كما لو ركع أو سجد في غير موضعه وقيل: يكره ولا تبطل. هذا مذهب الشافعية، وعند جمهور الحنفية: أنه يكره ولا تبطل. أما إن قرأ سهوًا فلا كراهة، وسواء قرأ عمدًا أو سهوًا يسجد للسهو عند الشافعي رحمه الله تعالى اهـ 2 - وظيفة الركوع التسبيح والذكر، وكره مالك الدعاء في الركوع، ووظيفة السجود التسبيح والذكر والدعاء، والمستحب أن يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، لما ورد أنه لما نزل قوله تعالى: {فسبح باسم ربك العظيم} [الواقعة: 74] قال صلى الله عليه وسلم: اجعلوها في ركوعكم، ويستحب أن يقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى، لما ورد أنه لما نزل قوله تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى: 1] قال صلى الله عليه وسلم: اجعلوها في سجودكم. ويستحب أن يكرر كل واحدة منها ثلاث مرات، ويضم إليها ما شاء من أذكار تأتي، هذا للمفرد، وللإمام الذي يعلم أن المأمومين يؤثرون التطويل، فإن شك لم يزد على التسبيح، ولو اقتصر الإمام والمنفرد في تسبيحه على واحدة، فقال: سبحان الله أو سبحان ربي حصل أصل سنة التسبيح، لكن ترك كمالها وأفضلها، وأدنى الكمال أن يقول: سبحان ربي العظيم في الركوع، وسبحان ربي الأعلى في السجود ثلاث مرات، ولو سبح خمسا أو سبعا أو تسعا أو إحدى عشرة كان أفضل وأكمل. قال النووي: واعلم أن التسبيح في الركوع والسجود سنة غير واجب هذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي والجمهور، وأوجبه أحمد وطائفة من أئمة الحديث لظاهر الحديث في الأمر به، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي". وأجاب الجمهور بأنه محمول على الاستحباب، واحتجوا بحديث المسيء صلاته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره به، ولو وجب لأمره به. اهـ والأذكار الواردة في الركوع والسجود كثيرة منها ما ورد في روايات الباب، ففي الرواية الثانية "كان يقول في سجوده: اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله، وأوله وآخره، وعلانيته وسره". وفي الرواية الثالثة: "كان يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي". وفي الرواية السابعة: فإذا هو راكع أو ساجد يقول: سبحانك وبحمدك، لا إله إلا أنت". وفي الرواية الثامنة: "اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك".

وفي الرواية التاسعة: "كان يقول في ركوعه وسجوده: سبوح قدوس رب الملائكة والروح". وعن علي رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع قال: اللهم لك ركعت: وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي، وإذا سجد قال: اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد لك وجهي، سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين". وعند أبي داود: كان يقول في ركوعه: "سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة". 3 - والروايتان الأولى والثانية تتحدثان عن الرؤيا الصالحة وأنها من مبشرات النبوة فتقولان "إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا" وفي معناهما يقول ابن التين: إن الوحي ينقطع بموته صلى الله عليه وسلم، ولا يبقى ما يعلم منه ما سيكون إلا الرؤيا اهـ والتعبير بلفظ "مبشرات" خرج مخرج الغالب، فإن الرؤيا قد تكون منذرة وهي صادقة يريها الله المؤمن رفقا به ليستعد لما يقع قبل وقوعه. كذلك التعبير بلفظ "يراها العبد الصالح" خرج مخرج الغالب والكثير، وإلا فالصالح قد يرى الأضغاث، ولكنه نادر لقلة تمكن الشيطان منه، بخلاف غير الصالح فإن الصدق في رؤياه نادر وقليل، لغلبة تسلط الشيطان عليه. قال المهلب: فالناس على هذا ثلاث درجات: الأنبياء ورؤياهم كلها صدق، وقد يقع فيها ما يحتاج إلى التعبير، والصالحون والأغلب على رؤياهم الصدق، وقد يقع فيها ما لا يحتاج إلى تعبير. ومن عداهم قد يقع في رؤياهم الصدق، وقد وقعت الرؤيا الصادقة من بعض الكفار، كما في رؤيا صاحبي السجن مع يوسف عليه السلام ورؤيا ملكهما. اهـ هذا ما يقوله الدين، ويصدقه الواقع، ولعلماء النفس كلام غير هذا فيه بعد ونظر، وسنتعرض له إن شاء الله عند الكلام على كتاب الرؤيا. فذكرها هنا عرض وفيما ذكرناه كفاية. والله أعلم. 4 - ويؤخذ من هذه الأحاديث فوق ما تقدم: 1 - يؤخذ من قوله في الرؤية الأولى من الباب الأول "وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم" الحث على الدعاء في السجود، بل يؤخذ من قوله: "فاجتهدوا في الدعاء" استحباب الإكثار من الدعاء في السجود، وقد جاء هذا صريحا في الرواية الأولى من الباب الثاني، ولفظها "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء". قال الحافظ ابن حجر: والأمر بإكثار الدعاء في السجود يشمل الحث على تكثير الطلب لكل حاجة كما في حديث أنس "ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها، حتى شسع نعله" أي: زمام نعله ورباطه، أخرجه الترمذي، ويشمل التكرار للسؤال الواحد. اهـ 2 - يؤخذ من الرواية الثانية في الباب الثاني. من قوله: "اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله، وأوله وآخره، وعلانيته وسره" توكيد الدعاء، وتكثير ألفاظه، وإن أغنى بعضها عن بعض.

ذكره النووي، ثم قال: واستغفاره صلى الله عليه وسلم مع أنه مغفور له من باب العبودية والإذعان والافتقار إلى الله تعالى. اهـ وقال العيني بعد ما ذكر قول النووي: أو الاستغفار عن ترك الأولى، أو التقصير في بلوغ حق العبادة، مع أن نفس الدعاء هو عبادة، وهذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم عمل بما أمر به في قول الله تعالى {فسبح بحمد ربك واستغفره} على أحسن الوجوه، فإن قلت: إتيانه بهذا في الركوع والسجود ما حكمته؟ قلت: أما كونه في حال الصلاة فلأنها أفضل من غيرها، وأما في هاتين الحالتين فلما فيهما من زيادة خشوع وتواضع ليس في غيرهما والله تعالى أعلم. اهـ 3 - يؤخذ من الرواية السابعة من الباب الثاني من قولها "فظننت أنه ذهب إلى نسائه فتحسست" غيرة المرأة، وأنها لا تلام عليها لما في طبيعتها، وشرط ذلك أن تكون مبنية على أساس، وبقدر محدود من غير مغالاة، لا تتحرك لشبهة تافهة، ولا تصل إلى الثورة وفقدان التوازن لمجرد الظن، وذهابه صلى الله عليه وسلم لبعض نسائه في ليلة عائشة ليس ممنوعا شرعا، وإنما الممنوع المبيت المجاوز للقسم. 4 - يؤخذ من الرواية الثالثة من الباب الثاني، من قولها: كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي" إباحة الدعاء في الركوع، وإباحة التسبيح في السجود، ولا يعارضه قوله في الرواية الأولى من المجموعة الأولى "أما الركوع فعظموا فيه الرب عز وجل، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء" إذ يمكن أن تحمل رواية الباب الأول على الأولوية، ورواية الباب الثاني على الجواز، ويحتمل أن يكون قد أمر في السجود بتكثير الدعاء لإشارة "فاجتهدوا" والذي وقع في الركوع ليس كثيرًا، فلا يعارض ما أمر به في السجود، ذكره الحافظ ابن حجر. 5 - قال النووي: يؤخذ من قوله في الرواية الثانية من الباب الأول "ورأسه معصوب في مرضه" عصب الرأس عند وجعه. 6 - وقال النووي: يؤخذ من الرواية السادسة من الباب الثاني وفيها "أستغفر الله وأتوب إليه" أنه يجوز بل يستحب أن يقول أستغفرك وأتوب إليك، وحكي عن بعض السلف كراهته، لئلا يكون كاذبا قال: بل يقول: اللهم اغفر لي وتب علي. وهذا الذي قاله من قوله: "اللهم اغفر لي وتب علي" حسن لا شك فيه، وأما كراهة قوله: "أستغفر الله وأتوب إليه" فلا يوافق عليها. اهـ 7 - عن الرواية الثامنة في الباب الثاني عن قولها: "فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد" ... إلخ. قال النووي: استدل به من يقول: لمس المرأة لا ينقض الوضوء، وهو مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه وآخرين، وقال مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله والأكثرون: ينقض، واختلفوا في تفصيل ذلك، وأجيب عن هذا الحديث بأن الملموس لا ينقض على قول الشافعي رحمه الله تعالى وغيره، وعلى قول من قال ينقض وهو الراجح عند أصحابنا يحمل هذا اللمس على أنه كان على حائل، فلا يضر. اهـ

8 - ومن الرواية الثامنة من قولها: "وهما منصوبتان" يؤخذ أن السنة نصبهما في السجود. 9 - وعن الرواية الثامنة أيضًا عن قوله: "أعوذ برضاك من سخطك" قال النووي: فيه دليل لأهل السنة في جواز إضافة الشر إلى الله تعالى كما يضاف إليه الخير. 10 - استدل بقوله: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" على أن السجود أفضل من القيام ومن سائر أركان الصلاة. قال النووي: وفي هذه المسألة ثلاثة مذاهب. أحدها أن تطويل السجود، وتكثير الركوع والسجود أفضل. حكاه الترمذي والبغوي عن جماعة. والمذهب الثاني مذهب الشافعي رضي الله عنه وجماعته أن تطويل القيام أفضل، لأن ذكر القيام القراءة، وذكر السجود التسبيح، والقراءة أفضل، لأن المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يطول القيام أكثر من تطويل السجود. والمذهب الثالث أنهما سواء، وتوقف أحمد بن حنبل رضي الله عنه في المسألة ولم يقض فيها بشيء اهـ. ثم قال عند شرحه لحديثي الباب الثالث: فيه دليل لمن يقول تكثير السجود أفضل من إطالة القيام، وقرب العبد من ربه وهو ساجد موافق لقوله تعالى: {واسجد واقترب} [العلق: 19] ولأن السجود غاية التواضع والعبودية لله تعالى، وفيه تمكين أعز أعضاء الإنسان وأعلاها وهو وجهه من التراب الذي يداس ويمتهن. والله أعلم

(189) باب أعضاء السجود، والنهي عن كف الشعر والثوب

(189) باب أعضاء السجود، والنهي عن كف الشعر والثوب وعقص الرأس في الصلاة 904 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسجد على سبعة ونهي أن يكف شعره وثيابه. هذا حديث يحيى وقال أبو الربيع على سبعة أعظم ونهي أن يكف شعره وثيابه الكفين والركبتين والقدمين والجبهة. 905 - عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم ولا أكف ثوبًا ولا شعرًا". 906 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسجد على سبع ونهي أن يكفت الشعر والثياب. 907 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أمرت أن أسجد على سبعة أعظم الجبهة (وأشار بيده على أنفه) واليدين والرجلين وأطراف القدمين ولا نكفت الثياب ولا الشعر". 908 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أسجد على سبع ولا أكفت الشعر ولا الثياب الجبهة والأنف واليدين والركبتين والقدمين". 909 - عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سجد العبد سجد معه سبعة أطراف وجهه وكفاه وركبتاه وقدماه".

910 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه رأى عبد الله بن الحارث يصلي ورأسه معقوص من ورائه فقام فجعل يحله فلما انصرف أقبل إلى ابن عباس فقال ما لك ورأسي فقال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما مثل هذا مثل الذي يصلي وهو مكتوف". (ملحوظة) ستشرح هذه الأحاديث مع ما بعدها

(190) باب الاعتدال في السجود ووضع الكفين على الأرض

(190) باب الاعتدال في السجود ووضع الكفين على الأرض ورفع المرفقين عن الجنبين ورفع البطن عن الفخذين في السجود - 911 - عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب". 912 - عن شعبة بهذا الإسناد وفي حديث ابن جعفر "ولا يتبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب". 913 - عن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك". 914 - عن عبد الله بن مالك بن بحينة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى فرج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه. 915 - عن جعفر بن ربيعة بهذا الإسناد وفي رواية عمرو بن الحارث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد يجنح في سجوده حتى يرى وضح إبطيه وفي رواية الليث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد فرج يديه عن إبطيه حتى إني لأرى بياض إبطيه. 916 - عن ميمونة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد لو شاءت بهمة أن تمر بين يديه لمرت. 917 - عن ميمونة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول

الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد خوى بيديه (يعني جنح) حتى يرى وضح إبطيه من ورائه وإذا قعد اطمأن على فخذه اليسرى. 918 - عن ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد جافى حتى يرى من خلفه وضح إبطيه قال وكيع يعني بياضهما. -[المعنى العام]- السجود أكبر صور العبادة، وأقواها في إبراز معنى الخضوع والتذلل والاستسلام، ومن هنا فهو المقرب الأول بين العبد وربه، مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء في السجود" وقوله جل شأنه: {واسجد واقترب} [العلق: 19] وقد حرص الإسلام على إعطاء السجود في الصلاة كل مظاهر الخضوع والاستسلام: انحناء الهامة وخفض الرأس، وإلصاق الوجه بالأرض، وتمكين الجبين والأنف منها، والجثو على الركب، مظهر العجز وعدم القدرة، وقلب القدمين بجعل ظهرهما باطنًا وباطنهما ظاهرًا، أمارة سلب الحركة وضعف النهوض، ووضع الكفين مفروشتي الأصابع على الأرض، فلا حول لليد ولا طول. هكذا رسم الإسلام سجود الصلاة، فقال صلى الله عليه وسلم: أمرني ربي أن أسجد أنا وأمتي على سبعة أعظم (سبحانك ربي: تلك لفتة دقيقة لبني البشر إنهم ينظرون إلى العظام نظرة الحقارة وعدم التقدير، إنهم يرمزون للشيء التافه بالعظم، لهذا عبر صلى الله عليه وسلم عن الأعضاء التي يعتز بها الإنسان ويشمخ بها، ويتعالى بعضه على بعض بها، يشيح بوجهه، ويضع أنفه في السماء، ويتخايل بهامته وانتصابه، ويطغى بقوة يديه ورجليه. كل هذه الأعضاء وسيلة العدوان والتعالي والطغيان ما هي إلا عظام، مآلها إلى العظام، وفي غمضة عين يمكن أن تسلب الحياة فتصبح كالعظم) الوجه بجبهته وأنفه، واليدان براحتيهما وأصابعهما، والرجلان بركبتيهما وساقيهما، والقدمان بأصابعهما وأمرت في صلاتي أن أرسل شعري ولا أضم ثوبي، إعراضًا عن مظاهر التجمل والحسن، وجمعًا للحس والشعور وعدم الحركة بغير حركات الصلاة. لم يكتف صلى الله عليه وسلم برسم صورة السجود بالقول، بل أخذ يشرح لهم الهيئة المطلوبة بالعمل، وهو القدوة الحسنة صلى الله عليه وسلم، من رآه اقتدى به، ومن لم يسعد بالرؤية سمع وصف من رأى. فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا سجد فرج بين يديه، وباعد بين كل منهما وبين الجنب الذي يليها، فتكون هذه فرجة، وسعة بين الجنب وبين المرفق تسمح بمرور شاة صغيرة لو أرادت

المرور من يمينه إلى شماله من بين يديه وجنبيه، ونتيجة لهذه الهيئة التي تشبه تجنيح الطائر وفرشه جناحيه ينكشف الإبط ويبدو بعد أن كان مستورًا بضم اليد إلى الجنب في العادة وأغلب الأحوال. ولم يكتف صلى الله عليه وسلم برسم صورة السجود بالقول والعمل، بل تابع أصحابه في أدائهم وتنفيذهم، وأرشد مخطئهم إلى الصواب، فقد رأى مصليًا يضع ذراعيه ممدودتين على الأرض من المرفقين إلى الكفين، فقال له صلى الله عليه وسلم: إذا سجدت فضع كفيك على الأرض، وارفع مرفقيك عن الأرض ولا تبسط ذراعيك على الأرض كما يفعل الكلب. بهذا التشبيه زجر المخطئ ليهتم بالصواب ويحرص عليه. وتابع أصحابه رضي الله عنهم مسيرته من بعده، يحرسون الشريعة، ويقومون اعوجاج من يحيد عنها بالفعل والقول، فقد رأى عبد اللَّه بن عباس ابْنَ عبد اللَّه بن الحارث يصلي وشعر رأسه مربوط مجموع من ورائه - كما يفعل بعض النساء اليوم [فرمة ذيل حصان]- فأخذ ابن عباس يحل رباط شعر ابن الحارث، وابن الحارث يصلي، فلما انتهى ابن الحارث من الصلاة قال لابن عباس: ما لك وشعري؟ قال ابن عباس: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن ربط الرجال شعرهم في الصلاة، وقال: إن من يصلي مكتوف الشعر مربوطه كمن يصلي وهو مكتوف. وتقبل ابن الحارث نصيحة الدين بصدر رحب، وتقبل فعل ابن عباس بدين سمح، وهكذا حفظ اللَّه دينه وشريعته بقيام الغيورين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واستجابة المخطئين واتباعهم الطريق المستقيم. -[المباحث العربية]- (أمر النبي صلى الله عليه وسلم) "أمر" بضم الهمزة وكسر الميم مبني للمجهول والمراد بالآمر اللَّه سبحانه وتعالى، عرف ذلك بالعرف، ولما كان هذا السياق يحتمل الخصوصية جاءت الرواية السادسة "إذا سجد العبد سجد معه سبعة أطراف" فأبعدت الخصوصية. قال الكرماني: فإن قلت: بم عرف ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك؟ قلت: إما بإخباره له، أو إخباره لغيره أو باجتهاده، لأنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، اهـ والظاهر الأول. (أن يسجد على سبعة) وفي الرواية الثانية والرابعة "على سبعة أعظم" وفي الرواية الثالثة والخامسة "على سبع" والمعدود إذا حذف جاز تذكير العدد وتأنيثه على تأويل المعدود بمؤنث أو بمذكر، والعظم يجمع على أعظم وعظام وعظامة والمراد سبعة أعضاء، تسمى كل عضو عظمًا، وإن كان فيه عظام كثيرة، وفي رواية للبخاري "سبعة أعضاء". (ونهى أن يكف شعره وثيابه) وفي الرواية الثالثة "ونهى أن يكفت الشعر والثياب" وفي

الرواية الرابعة "ولا نكفت الثياب ولا الشعر" وفي الرواية الخامسة "لا أكفت الشعر ولا الثياب" والكف المنع، والكفت الجمع والضم ومنه قوله تعالى: {ألم نجعل الأرض كفاتا} [المرسلات: 25] أي كافتة تجمع الناس في حياتهم وموتهم، قال الثوري: والكفت في الحديث بمعنى الكف في الرواية الأخرى، اهـ. والمراد أنه لا يجمع ثيابه ولا شعره، بل يتركهما على وضعهما وطبيعتهما والمراد بالشعر شعر الرأس. وقوله في الرواية الخامسة "ولا أكفت الشعر ولا الثياب" معترض بين البيان والمبين. (الجبهة -وأشار بيده على أنفه-) في الرواية الخامسة "الجبهة والأنف" والرواية السادسة "وجهه" وقوله "الجبهة" بالجر، عطف بيان لقوله "سبعة أعظم" وفي رواية "وأشار بيده إلى أنفه" فرواية "على أنفه" فيها تضمين "أشار" معنى "أمر" تعدى بعلى دون إلى، وفي رواية "ووضع يده على جبهته وأمرها على أنفه وقال: هذا واحد". قال القرطبي: هذا يدل على أن الجبهة في السجود، والأنف تبع، وقال ابن دقيق العيد: قيل: معناه أنهما جعلا كعضو واحد، وإلا لكانت الأعضاء ثمانية وللبحث تتمة في فقه الحديث تأتي إن شاء اللَّه. (واليدين) قال ابن دقيق العيد: المراد بهما الكفان؛ لئلا يدخل تحت النهي عنه من افتراش السبع والكلب. اهـ. والرواية السادسة نص في أن المراد الكفان، ففيها "وجهه وكفاه وركبتاه وقدماه" والرواية الأولى كذلك، وفيها "الكفين والركبتين" ... إلخ. (والرجلين) المراد بهما الركبتان، كما جاء في الرواية الأولى والخامسة والسادسة. (والقدمين) المراد بهما أطراف القدمين، أي أصابعهما، كما جاء في الرواية الرابعة. (ورأسه معقوص) العقص أن يجمع شعره على وسط رأسه، ويشده بخيط أو بصمغ ليتلبد. كذا في عمدة القارئ. والظاهر من الحديث أن المراد من العقص مطلق جمع الشعر، سواء على الوسط أو على الجنب أو على الإمام أو على الخلف لأن، ابن الحارث كان جامعًا شعره من ورائه. (إنما مثل هذا مثل الذي يصلي وهو مكتوف) "مثل" بفتح الميم والثاء والمشار إليه الوضع القائم والشعر المعقوص، أي إنما مثل الذي يصلي بهذا الوضع كمثل الذي يصلي وهو مكتوف، لأن تكتيف جزء يشبه تكتيف جزء آخر، فتكتيف الشعر يشبه تكتيف اليدين. (اعتدلوا في السجود) الاعتدال وضع كل شيء في موضعه المطلوب والاعتدال في السجود وضع أعضاء السجود في مواضعها الشرعية. (ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب) الذراع من الإنسان من طرف

المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى، وبسط الذراعين المنهي عنه في السجود هو مد هذين العضوين على الأرض وملاصقتهما لها بطولهما، كهيئة الكلب حين يفرش ذراعيه على الأرض، وكان الظاهر أن يقول، ويبسط أحدكم ذراعيه بسط الكلب - ليكون المفعول المطلق مصدر الفعل المذكور لكنه عبر بلفظ "انبساط" مصدر انبسط، وهذا جائز عند النحاة، وكثير في الكلام العربي، وفي القرآن الكريم {والله أنبتكم من الأرض نباتا} [نوح: 17] و {فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا} [آل عمران: 37] وفيه يقول النحاة: إنه مصدر لفعل محذوف، والتقدير: ولا يبسط أحدكم ذراعيه فتنبسط انبساط الكلب. وفي الرواية الثانية "ويتبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب" يقال: تبسط أي اتخذ بساطًا، والمعنى لا يتخذ أحدكم ذراعيه بساطًا، وما قيل في الرواية الأولى يقال في هذه الرواية من حيث الإعراب. وهل عطف جملة "ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب" على جملة "اعتدلوا في السجود" من قبيل عطف التفسير والبيان على معنى الأمر بالشيء نهي عن ضده، فيكون المراد من الاعتدال في السجود رفع المرفقين عن الأرض والتجنيح الآتي في الروايات الثانية؟ أو هو من قبيل الأمر بأشياء والنهي عن ضد واحد منها لمزيد عناية به، فيكون المراد من الاعتدال في السجود وضع جميع أعضاء السجود في مواضعها المطلوبة؟ الظاهر الأول. واللَّه أعلم. إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك هذه الرواية تبين المراد من بسط الذراعين المنهي عنه، وذلك بوضع الكفين على الأرض وسيأتي في الروايات اللاحقة زيادة إيضاح. فرج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه أي باعد كل يد عن الجنب الذي يليها حتى ينكشف الإبط، وتنفرج زاوية اتصال اليد بالجسم، وحين تلتصق اليد بالجسم يظلم الإبط، وحين تنفرج وتبتعد يبدو الإبط غير مظلم ولو كان لابسًا ثوبًا غير أبيض. (إذا سجد يجنح في سجوده حتى يرى وضح إبطيه) "يجنح" بضم الياء وفتح الجيم وكسر النون المشددة، أي يفرج بين يديه ويجعلهما كجناحي الطائر المبسوطين، ووضح الصبح بياضه، فوضح إبطيه بمعنى بياض إبطيه. (إذا سجد لو شاءت بهمة أن تمر بين يديه لمرت) قال أهل اللغة: البهمة واحدة البهم، وهي أولاد الغنم من الذكور والإناث، والسخلة بنت الماعز، والمقصود بهذا الفرض والتصوير إبراز التفريج بين اليدين وبين الجنبين.

(إذا سجد خوى بيديه) "خوى" بفتح الخاء وتشديد الواو المفتوحة أي فرج وباعد، فروايات "فرج" و"يجنح" و"خوى" و"جافى" بمعنى واحد. واللَّه أعلم. -[فقه الحديث]- يمكن أن تحدد نقاط الحديث الفقهية في ثلاث نقاط: 1 - أعضاء السجود وآراء الفقهاء فيها. 2 - كيفية وضع هذه الأعضاء في السجود والهيئة المطلوبة، والحكمة في هذه الهيئة. 3 - ما يؤخذ من الأحاديث من أحكام وحكم. 1 - أما أعضاء السجود فهي - كما يؤخذ من ملحق الرواية الأولى ومن الرواية الرابعة والخامسة والسادسة - الجبهة مع الأنف واليدان والرجلان والقدمان. فالسجود على الجبهة واجب عند الشافعية بلا خلاف، والسجود على الأنف مع الجبهة مستحب عندهم، فلو تركه جاز، ولو اقتصر عليه وترك الجبهة لم يجز. هذا مذهب الشافعي ومالك وأبي يوسف من أصحاب أبي حنيفة والأكثرين، وقال أبو حنيفة وابن القاسم من أصحاب مالك: له أن يقتصر على أيهما شاء، وقال أحمد وابن حبيب من أصحاب مالك يجب أن يسجد على الجبهة والأنف جميعًا. دليل الجمهور: ملحق الرواية الأولى، وفيها [الجبهة] وليس فيها الأنف وأمثال هذه الرواية كثير في الصحيح، وذكر الأنف في بعض الروايات الصحيحة للاستحباب، لأنه لو اعتبر عضوًا يجب السجود عليه كانت الأعضاء ثمانية، والروايات تعد الأعضاء سبعة. ودليل أبي حنيفة: الرواية الخامسة، وفيها [الجبهة والأنف] والرواية الرابعة وفيها [الجبهة وأشار بيده على أنفه] فدل على أن الأنف عضو للسجود ولتكون الأعضاء سبعة كانت الجبهة كافية وكانت الأنف وحده كافيًا. كما استدل له بأن المأمور به في السجدة وضع بعض الوجه على الأرض لأنه لا يمكن بكله، فيكون بالبعض مأمورًا، والأنف بعضه. فكما أن الاقتصار على الجبهة يجوز عند الجمهور، لكونها بعض الوجه ومسجدًا فكذا الاقتصار على الأنف، لأنه بعض الوجه ومسجد، وسئل طاووس عن السجود على الأنف فقال، أليس أكرم الوجه؟ قال ابن المنذر: لا يحفظ الاقتصار على الأنف عن أحد غير أبي حنيفة. اهـ. وقد سبق أن قلنا: إنه رأى ابن القاسم من أصحاب مالك. ودليل أحمد: ظاهر الرواية الرابعة والخامسة إذ فيهما الجبهة والأنف وأحاديث أخرى صحيحة كحديث أبي حميد "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد أمكن جبهته وأنفه من الأرض".

هذا، وهل يجب وضع الجبهة كلها على الأرض أو يكفي بعضها؟ قال النووي: والأولى أن يسجد عليها كلها، فإن اقتصر على ما يقع عليه الاسم منها أجزأه مع أنه مكروه كراهة تنزيه، ولو سجد على الجبين - وهو الذي في الجبهة - أو على خده، أو مقدم رأسه، ولم يضع شيئًا من جبهته على الأرض لم يجزئه. اهـ. أما السجود على اليدين والركبتين والقدمين فقد ذهب أحمد وإسحق إلى أنه يجزيه من ترك السجود على شيء من الأعضاء السبعة، وهو مذهب ابن حبيب من المالكية. وقال النووي: عن الشافعية في وجوب السجود عليها قولان: أحدهما: أن عليه أن يسجد على جميع أعضائه التي وردت في الأحاديث فإن ترك عضوًا منها لم يوقعه الأرض وهو يقدر على إيقاعه لم يكن ساجدًا، كما إذا ترك جبهته فلم يوقعها الأرض وهو يقدر، وإن سجد على ظهر كفيه أو على حروفها لم يجزئه، وإن مس الأرض ببعض العضو لا بكله صح كما قيل في الجبهة، والاعتبار في القدمين ببطون الأصابع فلو وضع غير ذلك لم يجزئ. ثانيهما: أنه إذا سجد على جبهته، أو على شيء منها دون ما سواها أجزأه مع الكراهة. اهـ بتصرف. والقول الأول أشهر وأصح، وهو الموافق لظاهر ما ورد من الأحاديث. واللَّه أعلم. 2 - أما الكيفية الكاملة لوضع هذه الأعضاء في السجود فإن عامة الفقهاء يرون أن يقدم الركبتين ثم اليدين ثم الجبهة والأنف، وبهذا قال أكثر العلماء وقال مالك في إحدى روايتين: يقدم يديه على ركبتيه. وفي الرواية الأخرى له: يقدم أيهما شاء ولا ترجيح. والمشهور عند الشافعية أنه لا يكفي في وضع الجبهة الإمساس، بل يجب أن يتحامل على موضع سجوده بثقل رأسه وعنقه حتى تستقر جبهته، وفي قول عندهم أنه يكفي إرخاء رأسه، ولا حاجة إلى التحامل. فإن حال دون الجبهة حائل متصل به كمن سجد على كفه أو طرف عمامته أو طرف كمه وهما يتحركان بحركته في القيام والقعود لم تصح صلاته بلا خلاف عند الشافعية إن تعمده مع علمه بتحريمه، أما إن كان ساهيًا لم تبطل لكن يجب عليه إعادة السجود. وبهذا قال داود وأحمد في رواية، وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد في رواية يصح، وبه قال أكثر العلماء، واحتج لهم بحديث أنس عند البخاري: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شدة الحر، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض يبسط ثوبه فيسجد عليه. والسنة في السجود أن يفرج بين يديه بأن ينحى كل يد عن الجنب الذي يليها، وأن يبدي وسط العضد من الداخل، وأن يضم فخذيه، وأن يضع كفيه ويرفع مرفقيه. وأن

يستقبل القبلة بأطراف رجليه. وأن يجعل قدميه قائمتين على بطون أصابعهما وعقباه مرتفعان. وأن يضم الأصابع ولا يفرقها. قال القرطبي: والحكمة في استحباب هذه الهيئة في السجود أنه يخف بها اعتماده على وجهه. وقال غيره: هذه الهيئة أشبه الهيئات بالتواضع. وأبلغ في تمكين الجبهة والأنف من الأرض مع مغايرته لهيئة الكسلان. وقيل: الحكمة فيه أن يظهر كل عضو بنفسه ويتميز حتى يكون الإنسان الواحد في سجوده كأنه عدد ومقتضى هذا أن يستقل كل عضو بنفسه، ولا يعتمد بعض الأعضاء على بعض في سجوده. وظاهر الرواية الأولى من المجموعة الثانية أن هذه الهيئة تبعد الإنسان عن هيئة الحيوان. -[3 - ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - النهي عن كف الشعر والثياب في الصلاة. قال النووي: اتفق العلماء على النهي عن الصلاة وثوبه مشمر، أو كمه، أو رأسه معقوص [مربوط الشعر في الوسط] أو مردود شعره تحت عمامته، أو نحو ذلك، فكل هذا منهي عنه باتفاق العلماء، وهو كراهة تنزيه، فلو صلى كذلك فقد أساء، وصحت صلاته. ثم مذهب الجمهور أن النهي مطلقًا لمن صلى كذلك، سواء تعمده للصلاة أم كان قبلها كذلك، لا لها بل لمعنى آخر. وقال الداودي: يختص النهي بمن فعل ذلك للصلاة، والمختار الصحيح هو الأول، وهو ظاهر المنقول عن الصحابة وغيرهم والحكمة في النهي عنه أن الشعر يسجد معه، ولهذا مثله بالذي يصلي وهو مكتوف، اهـ بتصرف. وقال الحافظ ابن حجر: النهي الوارد عن كف الثياب في الصلاة محمول على غير حالة الاضطرار، فإن من ضم إليه ثوبه إذا خاف أن تنكشف عورته لا كراهة عليه، بل هو يفعل الواجب. اهـ. ووجه إدخال النهي عن تشمير الثياب في الصلاة في أحكام السجود من جهة أن حركة السجود والرفع منه تسهل مع ضم الثياب لا مع إرسالها وسدلها فخشي أن يتوجه إلى الأسهل مع ما في غيره من الأفضلية. 2 - يؤخذ من الرواية السادسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 3 - وأن ذلك لا يؤخر، إذ لم يؤخره ابن عباس حتى يفرغ ابن الحارث من الصلاة. 4 - وأن المكروه ينكر كما ينكر المحرم. 5 - وأن من رأى منكرًا وأمكنه تغييره بيده غيره بيده. 6 - وأن خبر الواحد مقبول ذكره النووي. 7 - قال الحافظ ابن حجر عن الرواية الثالثة في المجموعة الثانية. قال ابن التين: في قوله، "حتى يبدو بياض إبطه" دليل على أنه صلى اللَّه عليه وسلم لم يكن عليه قميص لانكشاف إبطيه، وتعقب باحتمال أن يكون القميص واسع الأكمام. 8 - واستدل به على أن إبطيه صلى اللَّه عليه وسلم لم يكن عليهما شعر، وفيه نظر.

(191) باب ما يجمع صفة الصلاة، وما يفتتح به ويختم به، وصفة الركوع، والاعتدال منه، والسجود والاعتدال منه، والتشهد بعد كل ركعتين من الرباعية، وصفة الجلوس بين السجدتين، وفي التشهد الأول

(191) باب ما يجمع صفة الصلاة، وما يفتتح به ويختم به، وصفة الركوع، والاعتدال منه، والسجود والاعتدال منه، والتشهد بعد كل ركعتين من الرباعية، وصفة الجلوس بين السجدتين، وفي التشهد الأول 919 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بـ {الحمد لله رب العالمين} وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه ولكن بين ذلك وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائمًا وكان إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي جالسًا وكان يقول في كل ركعتين التحية وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى وكان ينهى عن عقبة الشيطان وينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع وكان يختم الصلاة بالتسليم وفي رواية ابن نمير عن أبي خالد وكان ينهى عن عقب الشيطان. -[المعنى العام]- كان حرص الصحابة على متابعة أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله شديدًا، بل عجيبًا خصوصًا في أركان الصلاة وهيئاتها. وكانت مراقبتهم لتنفيذ تعاليمه صلى الله عليه وسلم دقيقة وناقدة وكانت توجيهاتهم عند رؤية الأخطاء واضحة وسديدة، وكان تبليغهم ما تحملوه من شريعة لمن لم يعلموا وافيًا وصافيًا. رأينا منهم من كان يتوضأ أمام أصحابه أكمل وضوء، ثم يقول: كان هذا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان منهم من يصلي أتم صلاة، ثم يقول: إني أشبهكم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان منهم من يصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بأقوالها وأفعالها وحركاتها، وسكناتها وصفًا لا يدع منها شيئًا. وكان منهم من يصف ركنًا خاصًا يرى تقصيرًا أو قصورًا في أداء المسلمين له، وكان منهم من يصف بعض الهيئات والأركان. والحديث الذي معنا من هذا القبيل. تصف عائشة رضي اللَّه عنها صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فتترك من الصلاة أركانًا وسننًا، وتتعرض لأركان وسنن، لعلها رأت تقصيرًا فيها أو قصورًا.

تحكي كيف كان يفتتح صلى اللَّه عليه وسلم الصلاة بتكبيرة الإحرام وكيف كان يفتتح القراءة فيها بالفاتحة {الحمد لله رب العالمين} وكان يضع رأسه في استقامة مع ظهره في الركوع بحيث لا يخفضها ولا يرفعها، بل كان بين ذلك قوامًا، وكيف كان يعتدل بعد الرفع من الركوع حتى يطمئن واقفًا، وكيف كان يعتدل بعد السجود الأول حتى يطمئن جالسًا، وكيف كان يقرأ التشهد "التحيات للَّه" إلخ بعد الركعتين الأوليين في الصلاة الرباعية والثلاثية، وكيف كان يقرأ التشهد الأخير؟ وكيف كان يجلس بين السجدتين وعند التشهد، كيف كان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى، وكيف كان يكره وينهى عن أن يجلس المصلى على إليتيه وينصب رجليه كما يفعل الكلب والسباع، وكيف كان يكره وينهى عن أن يفرش الإنسان ذراعيه في السجود افتراش السبع وكيف كان يختم الصلاة بالتسليم. فاللَّهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه ودعا بدعوته إلى يوم الدين، ورضي اللَّه عمن بلغ الرسالة وأدى الأمانة، وأحيا السنة وأمات البدعة السيئة، وقام على شرع اللَّه القويم. -[المباحث العربية]- (يستفتح الصلاة بالتكبير) أي يدخل فيها بقوله: اللَّه أكبر. (والقراءة بـ {الحمد لله رب العالمين}) "والقراءة" بالنصب، عطفًا على "الصلاة" و"الحمد للَّه رب العالمين" بضم دال الحمد على الحكاية، فالباء حرف جر، والحمد للَّه إلخ مجرور بكسرة مقدرة على آخره منع ظهورها اشتغال المحل بحركة الحكاية، والمعنى: كان يستفتح القراءة بهذا اللفظ، أو بهذا اللفظ وما يليه، أي سورة الفاتحة، كما سيأتي في فقه الحديث. (لم يشخص رأسه ولم يصوبه) "يشخص" بضم الياء وسكون الشين وكسر الخاء، أي يرفع، و"يصوب" بضم الياء وفتح الصاد وكسر الواو المشددة، أي يخفضه خفضًا بليغًا. أي لم يكن يرفع رأسه عن مستوى ظهره ولم يخفض رأسه عن مستوى ظهره. (ولكن بين ذلك) بين الرفع والخفض، أي مستويًّا. (وكان يقول في كل ركعتين التحية) أي التشهد، التحية للَّه، أو التحيات للَّه ... إلخ. (وكان يفرش رجله اليسرى) "يفرش" بضم الراء وكسرها، والضم أشهر. أي يبسطها ويمدها على الأرض. (وكان ينهى عن عقبة الشيطان) "عقبة" بضم العين، وفي الرواية الثانية "عقب الشيطان" بفتح العين وكسر القاف. هذا هو الصحيح المشهور، وحكي بضم العين، وهو ضعيف، وفسره

أبو عبيد وغيره بالإقعاء المنهي عنه، وهو أن يلصق إليتيه بالأرض وينصب ساقيه ويضع يديه على الأرض، كما يفرش الكلب وغيره من السباع. -[فقه الحديث]- أكثر أحكام هذا الحديث قد مرت مفصلة في بابها من الكتاب، وسنعرض هنا لما هو ضروري ثم نحيل التفصيل إلى بابه، وقد اشتمل هذا الحديث على: 1 - افتتاح الصلاة بالتكبير. 2 - وقراءة الفاتحة. 3 - واستواء الرأس في الركوع. 4 - والاعتدال والاستواء قائمًا بعد الرفع من الركوع. 5 - والاعتدال والاستواء في الجلوس بين السجدتين. 6 - والتشهد بعد الركعة الثانية. 7 - وصفة جلسة التشهد وجلسة ما بين السجدتين. 8 - والتسليم آخر الصلاة. 1 - أما عن تكبيرة الإحرام فيقول النووي: في الحديث إثبات التكبير في أول الصلاة، وأنه يتعين لفظ التكبير، لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله، وأنه صلى الله عليه وسلم قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" وهذا الذي ذكرناه من تعيين التكبير، هو قول مالك والشافعي وأحمد - رحمهم اللَّه تعالى - وجمهور العلماء من السلف والخلف، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه يقوم غيره من ألفاظ التعظيم مقامه. اهـ. وللموضوع تفصيل وأدلة مبسوطة في باب رفع اليدين مع تكبيرة الإحرام من هذا الكتاب. 2 - وقولها: ويستفتح القراءة بالحمد للَّه رب العالمين يحتمل أن مرادها ويستفتح قراءة الفاتحة بالحمد للَّه رب العالمين ولا يقرأ بسم اللَّه الرحمن الرحيم فيكون دليلاً للمالكية وغيرهم ممن يقول: إن البسملة ليست من الفاتحة، ويحتمل أن مرادها ويستفتح القراءة في الصلاة بالفاتحة المسماة بالحمد للَّه رب العالمين لا بالسورة الأخرى المطلوبة مع الفاتحة، فيسقط استدلال المالكية وغيرهم به في هذا الشأن. وللموضوع بحث واف في باب قراءة الفاتحة وباب الجهر بالبسملة. 3 - وتسوية الظهر والرأس في الركوع من سنن الصلاة، بحيث يستوي رأس المصلي ومؤخرته. قال النووي: أقل الركوع أن ينحني بحيث تنال راحتاه ركبتيه لو أراد وضعهما عليهما، ولا يجزيه دون

هذا بلا خلاف عند الشافعية ما دام معتدل الخلقة سليم اليدين والركبتين وليست بظهره علة. وأما أكمل الركوع في الهيئة فإنه ينحني بحيث يستوي ظهره وعنقه ويمدهما كالصفيحة، وينصب ساقيه، ولا يثني ركبتيه، فإن رفع رأسه عن ظهره، أو ظهره عن رأسه، أو جافى ظهره حتى يكون كالمحدودب به فهو مكروه. هذا مذهب الشافعي، وبهذا قال مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: يكفيه في الركوع أدنى انحناء، وتجب الطمأنينة. اهـ. ولكن أبا حنيفة يتفق مع الجمهور في هيئة كمال الركوع، واستحباب الانحناء التام واستواء الظهر والرأس، كما هو وارد في الحديث. 4 - وفي الحديث وجوب الاعتدال إذا رفع من الركوع، وأنه يجب أن يستوي قائمًا، والاعتدال من الركوع ركن الصلاة، لا تصح الصلاة إلا به وبهذا قال أحمد وأكثر العلماء، مستدلين بحديث المسيء صلاته، وبتعليمه صلى اللَّه عليه وسلم المروى في هذا الحديث، وقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي". وقال أبو حنيفة: لا يجب الاعتدال، لكن يستحب، فلو انحط من الركوع إلى السجود أجزأ، واحتج له بقوله تعالى {اركعوا واسجدوا} [الحج: 77] وعن مالك روايتان، وللاعتدال وما يقال فيه من أذكار باب مضى في هذا الكتاب. 5 - وفي الحديث وجوب الجلوس بين السجدتين: والاستواء فيه. قال النووي: والجلوس بين السجدتين فرض، والطمأنينة فيه فرض، وينبغي أن لا يطوله طولاً فاحشًا. ثم قال: هذا مذهبنا، وبه قال جمهور العلماء. وقال أبو حنيفة: لا تجب الطمأنينة، ولا الجلوس، بل يكفي أن يرفع رأسه عن الأرض أدنى رفع، ولو كحد السيف، وعنه وعن مالك أنهما قالا: يجب أن يرتفع بحيث يكون إلى القعود أقرب منه، ويحملون حديث الباب على الاستحباب، وليس لهما دليل يصح التمسك به، ودليلنا حديث المسيء صلاته الذي طلب منه إعادة الصلاة، وقال له: "ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا" انتهى بتصرف. 6 - وقول عائشة: "وكان يقول في كل ركعتين التحية" دليل لأحمد ومن وافقه من فقهاء أصحاب الحديث أن التشهد الأول والأخير واجبان، وقال مالك وأبو حنيفة والأكثرون: هما سنتان ليسا واجبين وقال الشافعي: الأول سنة، والثاني واجب. واحتج أحمد بهذا الحديث وبحديث "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد، كما يعلمنا السورة من القرآن" وبقوله صلى اللَّه عليه وسلم: "إذا صلى أحدكم فليقل التحيات" والأمر للوجوب. واحتج مالك وأبو حنيفة والأكثرون بأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك التشهد الأول وجبره بسجود السهو، ولو وجب لم يصح جبره كالركوع وغيره من الأركان قالوا: وإذا ثبت هذا في الأول فالأخير بمعناه، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلمه الأعرابي حين علمه فروض الصلاة. واحتج الشافعية للتشهد الأول بما احتج به الأكثرون. واحتجوا للتشهد الأخير بحديث ابن مسعود

قال: "كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: السلام على اللَّه قبل عباده. السلام على جبريل وميكائيل. والسلام على فلان. فقال صلى اللَّه عليه وسلم: لا تقولوا: السلام على اللَّه، فإن اللَّه هو السلام، ولكن قولوا: التحيات للَّه" وهو حديث صحيح فقوله: "قبل أن يفرض التشهد" دليل على أنه فرض، وقوله: "ولكن قولوا: التحيات للَّه" أمر والأمر للوجوب، ولم يثبت شيء صريح في خلافه. قالوا: ولأن التشهد شبيه بالقراءة، لأن القيام والقعود لا تتميز العبادة منهما عن العادة، فوجب فيهما ذكر، ليتميز، بخلاف الركوع والسجود. قاله النووي. واللَّه أعلم. وللموضوع تفصيل وشرح سبق في باب التشهد في الصلاة. 7 - أما الجلوس في التشهد وبين السجدتين فمذهب أبي حنيفة في هيئته المستحبة الافتراش، سواء فيه جميع الجلسات [بين السجدتين، وفي التشهد الأول، وفي التشهد الأخير] والافتراش أن يفرش رجله اليسرى بقدمها، وينصب اليمنى. ومذهب مالك: يسن التورك في جميع الجلسات في الصلاة، والتورك أن يخرج رجله اليسرى من تحته، ويفضي بوركه إلى الأرض. ومذهب الشافعي: يسن أن يجلس مفترشًا، إلا التي يعقبها السلام، فيسن أن يجلس فيها متوركًا. وقال أحمد: إن كانت الصلاة ركعتين افترش، وإن كانت أربعًا افترش في الأول، وتورك في الثاني. واحتج لأبي حنيفة في الافتراش في الصلاة بقول عائشة في حديث الباب "وكان يفرش رجله اليسرى، وينصب رجله اليمنى". واحتج مالك في التورك بحديث عبد اللَّه بن الزبير "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قعد في الصلاة جعل قدمه اليسرى بين فخذه وساقه، وفرش قدمه اليمنى" رواه مسلم. واحتج الشافعية بما رواه البخاري عن أبي حميد أنه وصف بين عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى، وينصب اليمنى، فإذا جلس في الركعة الأخيرة قدم رجله اليسرى، ونصب الأخرى، وقعد على مقعدته". قال الشافعي والأصحاب: فحديث أبي حميد وأصحابه صريح في الفرق بين التشهدين، وباقي الأحاديث مطلقة، فيجب حملها على موافقته، فمن روى التورك أراد الجلوس في التشهد الأخير، ومن روى الافتراش أراد الأول، وهذا متعين للجمع بين الأحاديث الصحيحة، ولا سيما وحديث أبي حميد وافقه عليه عشرة من كبار الصحابة رضي اللَّه عنهم. قاله النووي.

ثم قال: قال أصحابنا: الحكمة في الافتراش في التشهد الأول والتورك في الثاني أنه أقرب إلى تذكر الصلاة، وعدم اشتباه عدد الركعات، ولأن السنة تخفيف التشهد الأول، فيجلس مفترشًا ليكون أسهل للقيام، والسنة تطويل الثاني، ولا قيام بعده، فيجلس متوركًا ليكون أعون له وأمكن ليتوفر الدعاء ولأن المسبوق إذا رآه علم أنه في أي التشهدين. اهـ واللَّه أعلم. أما عقبة الشيطان التي ينهى عنها الحديث فالمراد بها الإقعاء، وهو جلوس الإنسان على إليتيه ناصبًا فخذيه، مثل إقعاء الكلب والسبع. أما الإقعاء بمعنى أن يضع أطراف أصابع رجليه على الأرض، ويضع إليتيه على عقبيه، ويضع ركبتيه على الأرض فليس بمنهي عنه، فقد كان العبادلة يفعلونه عند الرفع من السجدة الأولى. وأما افتراش الذراعين فقد سبق الكلام عليه وافيًا في الحديث السابق، واللَّه أعلم. قال النووي: وجلوس المرأة كجلوس الرجل، وصلاة النفل كصلاة الفرض في الجلوس، هذا مذهب الشافعي ومالك والجمهور، وحكي عن بعض السلف أن سنة المرأة التربع، وعن بعضهم التربع في النافلة. والصواب الأول. ثم هذه الهيئة التي ذكرناها مسنونة وليست بواجبة، فلو جلس في الجميع مفترشًا، أو متوركًا، أو متربعًا صحت صلاته، وإن كان مخالفًا. اهـ. 8 - قال النووي: وفي الحديث دليل على وجوب التسليم، واختلف العلماء فيه، فقال مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء من السلف والخلف: السلام فرض، ولا تصح الصلاة إلا به. وقال أبو حنيفة: هو سنة، لو تركه صحت صلاته. وقال أبو حنيفة: لو فعل فعلاً منافيًا للصلاة من حدث أو غيره في آخرها صحت صلاته. اهـ هذا وقد مر تفصيل القول في حكم السلام آخر الصلاة وأدلة العلماء فيه في باب الأمر بالسكون في الصلاة والنهي عن الإشارة باليد ورفعها عند السلام. واللَّه أعلم

(192) باب سترة المصلي والندب إلى الصلاة خلف سترة والنهي عن المرور بين يدي المصلي، وحكم المرور ودفع المار وجواز الاعتراض بين يدي المصلي، والصلاة إلى الراحلة والأمر بالدنو من السترة، وبيان قدر السترة وما يتعلق بذلك

(192) باب سترة المصلي والندب إلى الصلاة خلف سترة والنهي عن المرور بين يدي المصلي، وحكم المرور ودفع المار وجواز الاعتراض بين يدي المصلي، والصلاة إلى الراحلة والأمر بالدنو من السترة، وبيان قدر السترة وما يتعلق بذلك 920 - عن موسى بن طلحة عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل ولا يبال من مر وراء ذلك". 921 - عن موسى بن طلحة عن أبيه رضي الله عنه قال كنا نصلي والدواب تمر بين أيدينا فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "مثل مؤخرة الرحل تكون بين يدي أحدكم ثم لا يضره ما مر بين يديه" وقال ابن نمير فلا يضره من مر بين يديه. 922 - عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سترة المصلي فقال: "مثل مؤخرة الرحل". 923 - عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل في غزوة تبوك عن سترة المصلي فقال: "كمؤخرة الرحل". 924 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة فتوضع بين يديه فيصلي إليها والناس وراءه وكان يفعل ذلك في السفر فمن ثم اتخذها الأمراء.

925 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يركز (وقال أبو بكر: يغرز) العنزة ويصلي إليها. زاد ابن أبي شيبة: قال عبيد الله: وهي الحربة. 926 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرض راحلته وهو يصلي إليها. 927 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى راحلته وقال ابن نمير: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى بعير. 928 - عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وهو بالأبطح في قبة له حمراء من أدم قال فخرج بلال بوضوئه فمن نائل وناضح. قال فخرج النبي صلى الله عليه وسلم عليه حلة حمراء كأني أنظر إلى بياض ساقيه. قال فتوضأ وأذن بلال. قال فجعلت أتتبع فاه ها هنا وها هنا (يقول: يمينًا وشمالاً) يقول حي على الصلاة حي على الفلاح. قال ثم ركزت له عنزة. فتقدم فصلى الظهر ركعتين. يمر بين يديه الحمار والكلب لا يمنع ثم صلى العصر ركعتين ثم لم يزل يصلي ركعتين حتى رجع إلى المدينة. 929 - عن عون بن أبي جحيفة أن أباه رضي الله عنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة حمراء من أدم ورأيت بلالاً أخرج وضوءًا فرأيت الناس يبتدرون ذلك الوضوء فمن أصاب منه شيئًا تمسح به ومن لم يصب منه أخذ من بلل يد صاحبه ثم رأيت بلالاً أخرج عنزة فركزها وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلة حمراء مشمرًا فصلى إلى العنزة بالناس ركعتين ورأيت الناس والدواب يمرون بين يدي العنزة. 930 - عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو حديث سفيان

وعمر بن أبي زائدة يزيد بعضهم على بعض وفي حديث مالك بن مغول فلما كان بالهاجرة خرج بلال فنادى بالصلاة. 931 - عن الحكم قال: سمعت أبا جحيفة قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة إلى البطحاء فتوضأ فصلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين وبين يديه عنزة قال شعبة وزاد فيه عون عن أبيه أبي جحيفة وكان يمر من ورائها المرأة والحمار. 932 - عن شعبة بالإسنادين جميعًا مثله وزاد في حديث الحكم فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه. 933 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أقبلت راكبًا على أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى فمررت بين يدي الصف فنزلت فأرسلت الأتان ترتع ودخلت في الصف فلم ينكر ذلك علي أحد. 934 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أخبره أنه أقبل يسير على حمار ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي بمنى في حجة الوداع يصلي بالناس قال فسار الحمار بين يدي بعض الصف ثم نزل عنه فصف مع الناس. 935 - عن الزهري بهذا الإسناد قال والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بعرفة. 936 - عن الزهري بهذا الإسناد ولم يذكر فيه منى ولا عرفة وقال: في حجة الوداع أو يوم الفتح. 937 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدًا يمر بين يديه وليدرأه ما استطاع فإن أبى فليقاتله. فإنما هو شيطان".

938 - عن ابن هلال قال: بينما أنا وصاحب لي نتذاكر حديثًا إذ قال أبو صالح السمان أنا أحدثك ما سمعت من أبي سعيد ورأيت منه قال بينما أنا مع أبي سعيد يصلي يوم الجمعة إلى شيء يستره من الناس إذ جاء رجل شاب من بني أبي معيط أراد أن يجتاز بين يديه فدفع في نحره فنظر فلم يجد مساغًا إلا بين يدي أبي سعيد فعاد فدفع في نحره أشد من الدفعة الأولى فمثل قائمًا فنال من أبي سعيد ثم زاحم الناس فخرج فدخل على مروان فشكا إليه ما لقي قال ودخل أبو سعيد على مروان فقال له مروان ما لك ولابن أخيك جاء يشكوك فقال أبو سعيد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفع في نحره فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان". 939 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدًا يمر بين يديه فإن أبى فليقاتله. فإن معه القرين". 940 - عن بسر بن سعيد أن زيد بن خالد الجهني أرسله إلى أبي جهيم يسأله ماذا سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في المار بين يدي المصلي؟ قال أبو جهيم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرًا له من أن يمر بين يديه" قال أبو النضر لا أدري قال أربعين يومًا أو شهرًا أو سنة؟ . 941 - عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال كان بين مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الجدار ممر الشاة. 942 - عن سلمة رضي الله عنه (وهو ابن الأكوع) أنه كان يتحرى موضع مكان المصحف

يسبح فيه وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتحرى ذلك المكان. وكان بين المنبر والقبلة قدر ممر الشاة. 943 - عن يزيد قال: كان سلمة يتحرى الصلاة عند الأسطوانة التي عند المصحف. فقلت له: يا أبا مسلم أراك تتحرى الصلاة عند هذه الأسطوانة. قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى الصلاة عندها. 944 - عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود". قلت: يا أبا ذر ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر؟ قال: يا ابن أخي سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني فقال: "الكلب الأسود شيطان". 945 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب ويقي ذلك مثل مؤخرة الرحل". 946 - عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل وأنا معترضة بينه وبين القبلة كاعتراض الجنازة. 947 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي صلاته من الليل كلها وأنا معترضة بينه وبين القبلة فإذا أراد أن يوتر أيقظني فأوترت.

948 - عن عروة بن الزبير قال: قالت عائشة ما يقطع الصلاة؟ قال فقلنا المرأة والحمار، فقالت إن المرأة لدابة سوء لقد رأيتني بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم معترضة كاعتراض الجنازة وهو يصلي. 949 - عن عائشة رضي الله عنها وذكر عندها ما يقطع الصلاة الكلب والحمار والمرأة فقالت عائشة: قد شبهتمونا بالحمير والكلاب. والله لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وإني على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة فتبدو لي الحاجة فأكره أن أجلس فأوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنسل من عند رجليه. 950 - عن عائشة رضي الله عنها قالت عدلتمونا بالكلاب والحمر لقد رأيتني مضطجعة على السرير فيجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتوسط السرير فيصلي فأكره أن أسنحه فأنسل من قبل رجلي السرير حتى أنسل من لحافي. 951 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي وإذا قام بسطتهما قالت والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح. 952 - عن ميمونة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا حذاءه. وأنا حائض. وربما أصابني ثوبه إذا سجد. 953 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل وأنا إلى جنبه وأنا حائض. وعلي مرط. وعليه بعضه إلى جنبه.

-[المعنى العام]- حرص الشارع الحكيم على تقديس الصلاة، وحمايتها من مظاهر اللَّهو والعبث، وحماية ساحتها من الذهاب والمجيء، وتوفير وسائل الخشوع والاستغراق في مناجاة اللَّه فيها. فأمر المصلي بأن يحجز مكان صلاته عن مرور الناس بجدار أو بعصا أو بساتر ما، وحذر المار من أن يمر بين هذا الساتر وبين المصلي، وخوفه بالوعيد الشديد الذي يستصغر أمام عظمه أن يقف أربعين سنة انتظارًا لانتهاء المصلي من صلاته لو قدر له أن يبقى في صلاة هذه المدة. وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم القدوة الصالحة، فلم يكن يصلي إلا إلى ساتر، بل كان إذا سافر أو تعرض للصلاة في بيداء أخذ معه عصا يغرسها أمامه كساتر وكان أحيانًا يتخذ بعيره ساترًا، وأحيانًا يتخذ الجدار، وأحيانًا يتخذ الأسطوانة في المسجد. وحرض المصلي إن اعتدى على قداسة موضع صلاته بمرور أحد بين يديه أن يدفعه بيده دفعًا خفيفًا، فإن لم يمتنع دفعه بما هو أشد إلى أن يصل إلى المنع، حتى ولو لم يكن إلا بالمقاتلة كان له أن يقاتله. ونفذ الصحاب تعاليمه، ولم يعبئوا بغضب المخطئ ولا بشكايته. ولما كان الهدف من منع المرور توفير أكبر قدر من الخشوع والتفرغ للصلاة كان ما يثير الانشغال بدرجة أكبر جديرًا بالتحذير بدرجة أشد، ومن ذلك المرأة، أحبولة الشيطان، فالمرأة أشد فتنة على الرجل من أي كائن آخر، تتحرك لها العين، ويرهف لها السمع، ويهفو إليها الفؤاد، ومن ذلك الحمار، أبلد الحيوانات طبعًا، وأنكرها صوتًا وأكثرها نفورًا، ومن ذلك الكلب الأسود الذي جمع إلى نجاسته قبح صورته، لذا حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الثلاث، بل بالغ في التحذير بأنها بمرورها تقطع الصلاة على المصلي. ودافعت عائشة رضي الله عنها عن المرأة، وروت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهي أمامه، فلم يكن ليفعل ذلك لو أن مرورها مبطل لصلاته. وزادت الدفاع حتى وصل إلى أنه كان يغمزها لتقبض رجليها من قبلته. وانضمت أم المؤمنين ميمونة إلى عائشة في الدفاع عن المرأة فروت كل منهما صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بجوار المرأة الحائض، وفي ثوب يتصل ويغطي المرأة الحائض فصلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه الطاهرات المطهرات أمهات المؤمنين. -[المباحث العربية]- (بين يديه) أي أمامه بالقرب منه. (مثل مؤخرة الرحل) أي مقدار مؤخرة الرحل، و"مؤخرة الرحل" بضم الميم وكسر الخاء بينهما همزة ساكنة، ويقال بفتح الخاء مع فتح الهمزة وتشديد الخاء، ويقال: آخرة الرحل، بهمزة ممدودة وكسر الخاء، وهو العمود الذي في آخر الرحل الذي يستند إليه الراكب.

(كان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة فتوضع بين يديه) كانت صلاة العيد في صحراء لا علامة فيها تستره لهذا احتيج إلى غرس الحربة، والحربة قيل هي العنزة، وقيل: إن الحربة يقال لها عنزة إذا كانت قصيرة، وسيأتي تفسير العنزة. (فيصلي إليها والناس وراءه) قال الحافظ ابن حجر: "والناس" بالرفع عطفًا على فاعل "فيصلي". اهـ، ويصح أن يكون مبتدأ وما بعده خبره والجملة حال من فاعل "يصلي". (وكان يفعل ذلك في السفر) أي كان يفعل نصب الحربة بين يديه حيث لا يكون جدار. (فمن ثم أخذها الأمراء) أي فمن هنا أخذ الأمراء سنة غرس الحربة في صحراء العيد. (كان يركز -أو يغرز- العنزة) "يركز" بفتح الياء وضم الكاف، وهو بمعنى "يغرز" في الرواية الثانية، و"العنزة" بفتح العين والنون عصى أكبر من الرمح لها سنان، وقيل: هي الحربة القصيرة، وفي الطبقات لابن سعد أن النجاشي كان أهداها للنبي صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ ابن حجر: وهذا يؤكد كونها كانت على صفة الحربة لأنها من آلات الحبشة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحملها أو تحمل معه في السفر لنبش الأرض الصلبة، أو لمنع ما يعرض من هوام الأرض. (كان يعرض راحلته وهو يصلي إليها) "يعرض" بفتح الياء وكسر الراء، وروي بضم الياء وتشديد الراء ومعناها يجعلها معترضة بينه وبين القبلة. (وهو الأبطح) موضع معروف على باب مكة، ويقال لها البطحاء. (في قبة له حمراء من أدم) بفتح الهمزة والدال، وهو الجلد المدبوغ. (فخرج بلال بوضوئه فمن نائل وناضح فخرج النبي ... فتوضأ) "بوضوئه" بفتح الواو، وهو الماء. و"النائل" من ينال، والمعنى: فمنهم من ينال من ماء الوضوء شيئًا ومنهم من ينضح عليه غيره شيئًا مما ناله، ويرش عليه بللاً مما حصل له، وهو معنى ما جاء في الرواية العاشرة بلفظ "فرأيت الناس يبتدرون ذلك الوضوء، فمن أصاب منه شيئًا تمسح به، ومن لم يصب منه أخذ من بلل يد صاحبه". وفي الكلام تقديم وتأخير، تقديره: فخرج بلال بوضوئه، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ، فمن نائل وناضح. (عليه حلة حمراء) قال أهل اللغة: الحلة ثوبان: إزار ورداء ونحوهما [فتطلق على البدلة في العصر الحاضر] ولا تكون حلة إلا من ثوبين أو ثوب له بطانة. كذا في القاموس. (يمر بين يديه الحمار والكلب لا يمنع) بضم الياء وفتح النون مبني للمجهول، أي لا يمنع واحد منهما. ومعناه: يمر الحمار والكلب وراء الستر، وبين الستر والقبلة، وهو المراد من قوله في

الرواية العاشرة "ورأيت الناس والدواب يمرون بين يدي العنزة" وهو المراد من قوله في ملحق الرواية الحادية عشرة "وكان يمر من ورائها المرأة والحمار" فالمراد بين العنزة والقبلة وليس بينه وبين العنزة. (ثم صلى العصر ركعتين) يحتمل أنه بعد دخول وقتها، ويحتمل أنه جمع بين الظهر والعصر وسيأتي بسط المسألة في فقه الحديث. (في حلة حمراء مشمرًا) يعني رافعًا حلته إلى أنصاف ساقيه ونحو ذلك ذكره النووي. (أقبلت راكبًا على أتان) في رواية للبخاري: على "حمار أتان" والحمار اسم جنس يشمل الذكر والأنثى، وقد شذ حمارة في الأنثى، حكاه في الصحاح: والأتان بفتح الهمزة وشذ كسرها، الأنثى من الحمير، وربما قالوا للأنثى أتانة. وذكر ابن الأثير أن فائدة التنصيص على كونها أنثى للاستدلال بطريق الأولى على أن الأنثى من بني آدم لا تقطع الصلاة، لأنهن أشرف. اهـ. وهذا الملحظ بعيد، فإن الرواة غالبًا ما يقصدون بمثل هذه الألفاظ التوثيق بالرواية بذكر دقائق ملابساتها. وذكر الحمار في الرواية الثالثة عشرة لا يتعارض وأنها أنثى، فكما ذكرنا قبل قليل أن الحمار يطلق على الذكر والأنثى. (وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام) أي قاربته، واختلف العلماء في سن ابن عباس رضي الله عنهما عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل: عشر سنين، وقيل: ثلاث عشرة، وقيل: خمس عشرة. (يصلي بالناس بمنى) فيه لغتان: الصرف وعدمه، ولهذا يكتب بالألف والياء، والأجود صرفها وكتابتها بالألف، سميت "منى" لما يمنى بها من الدماء، أي يراق، ووقع في ملحق الرواية الثالثة عشرة "يصلي بعرفة" قال النووي: يحمل ذلك على أنهما قضيتان، وتعقب بأن الأصل عدم التعدد، ولا سيما مع اتحاد مخرج الحديث، قال الحافظ ابن حجر: إن قول "بعرفة" شاذ. (فمررت بين يدي الصف) مجاز عن مروره أمام الصف، وفي الرواية الثالثة عشرة "فسار الحمار بين يدي بعض الصف" قال الحافظ ابن حجر: بعض الصف يحتمل أن يراد به صف من الصفوف أو بعض من أحد الصفوف. (نزلت) أي عن الأتان، وكان قبل راكبًا. (فأرسلت الأتان ترتع) بفتح التاءين بينهما راء ساكنة، والعين مضمومة من "رتع" أسرع في المشي، قيل معناه تأكل ما تشاء، قال الحافظ ابن حجر: وجاء أيضًا بكسر العين، من الرعي، وأصله ترتعي لكن حذفت الياء تخفيفًا، والأول أصوب، ويدل عليه رواية البخاري في الحج "نزلت عنها فرتعت". اهـ. (ودخلت في الصف) في بعض الروايات "فدخلت الصف".

(في حجة الوداع أو الفتح) قال الحافظ ابن حجر: هذا الشك من الراوي لا يعول عليه والحق أن ذلك كان في حجة الوداع. اهـ. (وليدرأه ما استطاع) أي وليمنعه ما استطاع، وليدفعه قدر استطاعته. (فإن أبى فليقاتله) أي يزيد في منعه أشد من الأول، فالمراد بالمقاتلة المنع والمدافعة. وقيل: المراد المقاتلة حقيقتها، وقيل غير ذلك مما سيأتي في فقه الحديث. (فإنما هو الشيطان) في القاموس: الشيطان كل عات متمرد إنس أو جن أو دابة. اهـ. ومعنى الحديث على هذا واضي، وقيل: معناه أن فعله فعل الشيطان، لأنه أبى إلا التشويش، فالكلام على التشبيه، وأصله: فإنما هو كالشيطان، والشيطان على هذا الجني، وقيل: إن المعنى على حذف مضاف. والتقدير: فإنما هو قرين شيطان، أي الحامل له على ذلك شيطان، ويؤيده ما جاء في الرواية السادسة عشرة "فإن معه القرين". (من بني أبي معيط) قيل: ورد في الرواية أنه الوليد بن عقبة بن أبي معيط. قال الحافظ ابن حجر: لم يكن الوليد يومئذ شابًا، بل كان في عمر الخمسين، فلعله ابن للوليد بن عقبة. (فدفعه في نحره) بيده في لطف. (فمثل قائمًا) بفتح الميم وفتح الثاء وضمها، لغتان، والفتح أشهر، ومعناه انتصب. (فنال من أبي سعيد) أي عابه وتناوله بسوء. (ثم زاحم الناس) الخارجين من المسجد ليسرع بالشكوى. (فدخل على مروان) وكان أميرًا على المدينة في خلافة معاوية. (ما لك ولابن أخيك؟ ) قال الحافظ ابن حجر: أطلق الأخوة باعتبار الإيمان، وهذا يؤيد أن المار غير الوليد، لأن أباه عقبة قتل كافرًا، فلا يكون أخًا لأبي سعيد. (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه)؟ أي مقدار ما عليه من الإثم وما يترتب على ما فعله من عقوبة. (لكان أن يقف أربعين) أي لاختار أن يقف أربعين ينتظر انتهاء المصلي من صلاته. (خيرًا له أن يمر بين يديه) "خيرًا" بالنصب خبر "كان" وفي رواية الترمذي "خير" بالرفع على أنه اسم كان، وجوز الابتداء به وهو نكرة كونه موصوفًا، ويحتمل أن يقال: اسمها ضمير الشأن والجملة خبرها.

وقال الكرماني: جواب "لو" ليس المذكور، بل التقدير: لو يعلم ما عليه لوقف أربعين، ولو وقف أربعين لكان خيرًا له. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: وليس ما قاله الكرماني متعينًا. (كان بين مصلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وبين الجدار) أي بين مكان مقامه في الصلاة وبين جدار المسجد مما يلي القبلة. وقال النووي: يعني بالمصلى موضع السجود. (ممر الشاة) "ممر" بالرفع اسم "كان" والتقدير: كان مقدار ممر الشاة بين ... وبين الجدار، فالظرف خبر، وأعرب الكرماني "ممر" بالنصب خبر "كان" واسمها محذوف، والأصل: كان قدر المسافة بين المصلى والجدار ممر الشاة. (كان يتحرى موضع مكان المصحف) قال الحافظ ابن حجر: هذا دال على أنه كان للمصحف موضع خاص به. وفي رواية "يصلي وراء الصندوق" وكأنه كان للمصحف صندوق يوضع فيه. (يسبح فيه) قال النووي: المراد بالتسبيح صلاة النافلة. (كان يتحرى الصلاة عند الأسطوانة التي عند المصحف) قال الحافظ ابن حجر: حقق لنا بعض مشايخنا أنها الأسطوانة المتوسطة في الروضة المكرمة، وأنها تعرف بأسطوانة المهاجرين، إذ كانوا يجتمعون عندها. (إن المرأة لدابة سوء؟ ) الكلام على الاستفهام الإنكاري، أي ليست المرأة دابة سوء. (قد شبهتمونا بالحمير والكلاب؟ ) وفي الرواية السادسة والعشرين "عدلتمونا بالكلاب والحمر"؟ : وفي وجه آخر: "يا أهل العراق" عدلتمونا "أي ساويتمونا" بالحمير والكلاب"؟ والاستفهام إنكاري توبيخي، أي ما ينبغي أن تقولوا ذلك. (فتبدو لي الحاجة) أي الرغبة في القيام لإصلاح شأني. (فأكره أن أسنحه) بفتح الهمزة وإسكان السين وفتح النون، أي أظهر لها وأعترض، يقال: سنح لي كذا أي عرض، تريد أنها كانت تخشى أن تستقبله وهو يصلي ببدنها أي منتصبة. (فانسل من قبل رجلي السرير حتى أنسل من لحافي) وفي الرواية الخامسة والعشرين "فانسل من رجليه" الضمير في "رجليه" للسرير، فتتوافق الروايات. ومعنى "أنسل" أخرج بخفية أو برفق، وكأن عائشة كرهت إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم بتحركها أمامه وهو يصلي، وعلى هذا فمرورها بين يدي المصلي أشد، لكنها - رضي اللَّه عنها - تقصد إنكار أن مرور المرأة بين يدي المصلي يقطع صلاته، فعلة امتناعها عدم التشويش لا قطع الصلاة.

(والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح) أرادت بذلك الاعتذار، أي لو كان فيها مصابيح لقبضت رجلي عند إرادته السجود، ولما أحوجته إلى غمزي. (وعلى مرط) أي كساء. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من مجموع هذه الأحاديث أحكام كثيرة، نحاول ضبطها فيما يلي: ]- 1 - مشروعية وضع المصلي سترة أمامه، قال النووي: السنة أن يكون بين يدي المصلي سترة من جدار، أو سارية، أو غيرهما. ونقل الإجماع فيه. ثم قال: والحكمة في السترة كف البصر عما وراء الساتر [أي حبس نظر المصلي فإنه أمكن للخشوع] ومنع من يجتاز بقربه. ثم قال: ولا خلاف أن السترة مشروعة إذا كان في موضع لا يأمن المرور بين يديه، واختلفوا إذا كان في وضع يأمن المرور بين يديه، وهما قولان في مذهب مالك، ومذهبنا أنها مشروعة مطلقًا لعموم الأحاديث. 2 - أن أقل السترة عصا مثل مؤخرة الرحل، وهي قدر عظم الذراع، ويحصل بأي شيء أقامه بين يديه، وشرط مالك أن يكون في غلظ الرمح. 3 - ويؤخذ من الرواية الخامسة والعشرين جواز الستر بالسرير. 4 - ومن الرواية السابعة والثامنة صحة التستر بالحيوان، وجواز الصلاة بقرب البعير، بخلاف الصلاة في أعطان الإبل، أي موضع إقامتها، وكراهة الصلاة حينئذ عندها إما لشدة نتنها، وإما لأنهم كانوا يتبولون بينها مستترين بها، وإما لأنها في أعطانها لا تخلو من الحركة. وأما قول الشافعي في البويطي: لا يستتر بامرأة ولا دابة فمحمول على الاختيار، ووجود ساتر آخر غيرهما، وأما ما روي عن ابن عمر أنه كان يكره أن يصلي إلى بعير إلا وعليه رحل فالظاهر أن الحكمة في ذلك أنه في حالة شد الرحل عليه يكون أقرب إلى السكون من حالة تجريده. 5 - ومن ملحق الرواية التاسعة عشرة الصلاة عند الأسطوانة وجعلها سترة واستدل ابن بطال على صحة الصلاة إلى الأسطوانة بثبوت صلاته صلى الله عليه وسلم إلى الحربة، قال: وحيث صلى إلى الحربة كانت الصلاة إلى الأسطوانة أولى، لأنها أشد سترة، اهـ. قال النووي: لكن الأفضل أن يصمد إليها [أي لا يجعلها تلقاء وجهه] بل يجعلها عن يمينه أو شماله. ثم قال: وأما الصلاة بين الأساطين فلا كراهة فيها عندنا. واختلف قول مالك في كراهتها إذا لم يكن عذر، وسبب الكراهة عنده أنه يقطع الصف، ولأنه يصلي إلى غير جدار قريب. اهـ.

وقد روى الحاكم النهي عن الصلاة بين السواري من حديث أنس بإسناد صحيح، وهو في السنن الثلاثة وحسنه الترمذي مما يؤيد ما ذهب إليه مالك، وجمع بعضهم بجواز الصلاة بين الساريتين إذا لم يكن في جماعة. 6 - ويؤخذ من الرواية الخامسة الاحتياط للصلاة في الخلاء في السفر باستصحاب عنزة أو عصا إذ المألوف والمعهود من عادته صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يصلي في الفضاء إلا والعنزة أمامه، وفي الرواية الخامسة ما يدل على المداومة من قول ابن عمر "وأن يفعل ذلك في السفر فمن ثم أخذها الأمراء". وهل الخط يقوم مقام السترة عند عدمها؟ قال النووي: قولان، والمختار استحباب الخط إذ به يثبت حريم للمصلي. اهـ. لكن الروايات الأولى التي معنا تفيد أن الخط لا يكفي. ولو قلنا باستحباب الخط فما كيفيته؟ قال أحمد بن حنبل: يجعله مقوسًا كالهلال، وقيل أفقيًا معترضًا بينه وبين القبلة، وقيل: يخطه يمينًا وشمالاً. والله أعلم. 7 - ويؤخذ من الرواية التاسعة والعاشرة والحادية عشرة، وفيها صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالأبطح - وهو على باب مكة - أن مكة في السترة شأنها شأن غيرها من الأماكن. قال ابن المنير: يدفع بهذا وهم من يتوهم أن السترة قبلة، ولا ينبغي أن يكون لمكة قبلة إلا الكعبة، فلا يحتاج فيها إلى سترة. اهـ. وهذا هو المعروف عند الشافعية، وأنه لا فرق في منع المرور بين يدي المصلي وبين مكة وغيرها. واغتفر بعض الفقهاء ذلك للطائفين دون غيرهم للضرورة، وعن بعض الحنابلة جواز ذلك في مكة كلها. قاله الحافظ ابن حجر في الفتح. 8 - ويؤخذ من الرواية الثامنة عشرة، وفيها "كان بين مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الجدار ممر الشاة" استحباب الدنو من السترة بحيث يكون بينه وبينها قدر إمكان السجود، وكذلك بين الصفوف. قال ابن بطال: أقل ما يكون بين المصلي وسترته قدر ممر الشاة، وقيل أقل من ذلك ثلاثة أذرع، وجمع الداودي بأن أقله ممر الشاة، وأكثره ثلاثة أذرع. 9 - ويؤخذ من الروايات أن سترة الإمام سترة لمن خلفه. قال القاضي عياض: واختلفوا: هل سترة الإمام بنفسها سترة لمن خلفه؟ أم هي سترة له خاصة، وهو سترة لمن خلفه؟ مع الاتفاق على اعتبار المأمومين يصلون إلى سترة. اهـ. 10 - ويؤخذ من الروايات الرابعة عشرة والخامسة عشرة والسادسة عشرة استحباب دفع المار بين يدي المصلي ومقاتلته قال النووي: والأمر بالدفع أمر ندب، هو ندب متأكد. قال القاضي عياض: وأجمعوا على أنه لا يلزمه مقاتلته بالسلاي، ولا ما يؤدي إلى هلاكه، فإن دفعه بما يجوز فهلك من ذلك فلا قود عليه باتفاق العلماء، وهل يجب ديته أم يكون هدرًا؟ فيه مذهبان للعلماء، قال: واتفقوا على أن هذا كله لمن لم يفرط في صلاته، بل احتاط وصلى إلى سترة، أو في مكان يأمن المرور بين يديه، ويدل عليه في حديث أبي سعيد: "إذا صلى أحدكم إلى

شيء يستره فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفع في نحره. فإن أبى فليقاتله" قال: وكذا اتفقوا على أنه لا يجوز له المشي إليه في موضعه ليرده، وإنما يدفعه ويرده من موقفه، لأن مفسدة المشي في صلاته أعظم من مروره من بعيد بين يديه، وإنما أبيح له قدر ما تناله يده من موقفه، ولهذا أمر بالقرب من سترته، وإنما يرده إذا كان بعيدًا منه بالإشارة والتسبيح. قال: وكذلك اتفقوا على أنه إذا مر لا يرده لئلا يصير مرورًا ثانيًا. اهـ. هذا وقد أطلق جماعة من الشافعية أن له أن يقاتله حقيقة، وهو بعيد وأبعد منه ما قاله الباجي من أن المراد بالمقاتلة في الحديث اللعن أو التعنيف. اهـ. وهذا يستلزم التكلم في الصلاة وهو مبطل بخلاف الفعل اليسير، ووجهه الحافظ ابن حجر باحتمال أن يكون مراد الباجي أن يلعنه داعيًا لا مخاطبًا. وهذا التوجيه بعيد، لأنه والحالة هذه لا يزجر المار ولا يدفعه، والله أعلم. 11 - ويؤخذ من الرواية السابعة عشرة إثم المار بين يدي المصلي، وفيها "لكان أن يقف أربعين خيرًا له من أن يمر بين يديه" وفي رواية لابن ماجه وابن حبان "لكان أن يقف مائة عام خيرًا من الخطوة التي خطاها" فإطلاق الأربعين كالمائة للمبالغة في تعظيم الأمر على المار. وعند أحمد: "لكان أن يقف أربعين خريفًا". قال النووي: فيه دليل على تحريم المرور، فإن معنى الحديث النهي الأكيد والوعيد الشديد على ذلك. قال ابن بطال: الإثم يختص بمن يعلم النهي وارتكبه، إذ قوله: "لو يعلم المار" دليل توقف هذا الجزاء على العلم. قال الحافظ ابن حجر: وظاهر الحديث أن الوعيد المذكور يختص بمن مر، لا بمن وقف عامدًا مثلاً بين يدي المصلي أو قعد أو رقد، لكن إن كانت العلة فيه التشويش على المصلي فهو في معنى المار. ثم قال: وظاهره عموم النهي في كل مصل، وخصه بعض المالكية بالإمام والمنفرد، لأن المأموم لا يضره من مر بين يديه، لأن سترة إمامه سترة له، وإمامه سترة له. قال الحافظ ابن حجر: والتعليل المذكور لا يطابق المدعي، لأن السترة تفيد رفع الحرج عن المصلي لا عن المار، فاستوى الإمام والمأموم والمنفرد في ذلك. وقد ذكر ابن دقيق العيد أن بعض الفقهاء [أي المالكية] قسم أحوال المار والمصلي في الإثم وعدمه إلى أربعة أقسام: أولاً: يأثم المار دون المصلي كأن يصلي إلى سترة في غير شارع مطروق. ثانيًا: يأثم المصلي دون المار، كأن يصلي في طريق مسلوك بغير سترة، لكن لا يجد المار مندوحة. ثالثًا: يأثم المصلي والمار جميعًا، كأن يصلي في طريق مسلوك بغير سترة، لكن يجد المار مندوحة، فيأثمان.

رابعًا: لا يأثمان، كأن يصلي إلى سترة في غير طريق مشروع ولم يجد المار مندوحة. اهـ. وظاهر الحديث يدل على منع المرور مطلقًا ولو لم يجد مسلكًا، بل يقف حتى يفرغ المصلي من صلاته، كما في قصة أبي سعيد مما يجعل التقسيم المذكور غير سليم. والله أعلم. 12 - ويؤخذ من الرواية المتممة للعشرين والحادية والعشرين أن مرور المرأة والحمار والكلب بين يدي المصلي يقطع الصلاة وفي الروايات الثانية والعشرين والثالثة والعشرين والخامسة والعشرين والسادسة والعشرين والسابعة والعشرين معارضة لهذا المأخذ. قال الحافظ ابن حجر: وقد اختلف العلماء في العمل بهذه الأحاديث. فمال الطحاوي وغيره إلى أن حديث أبي ذر وما وافقه منسوخ بحديث عائشة وغيرها، وتعقب بأن النسخ لا يصار إليه إلا إذا علم التاريخ وتعذر الجمع، والتاريخ هنا لم يتحقق والجمع لم يتعذر. ومال الشافعي وغيره إلى تأويل لفظ القطع في حديث أبي ذر بأن المراد به نقص الخشوع، لا الخروج من الصلاة، ويؤيده أن الصحابي راوي الحديث سأل عن الحكمة في التقيد بالأسود، فأجيب بأنه شيطان، وقد علم أن الشيطان لو مر بين يدي المصلي لم تفسد صلاته. وقال بعضهم: حديث أبي ذر مقدم، لأن حديث عائشة على أصل الإباحة. وقال أحمد: يقطع الصلاة الكلب الأسود، وفي النفس من الحمار والمرأة شيء ووجهه ابن دقيق العيد وغيره بأنه لم يجد في الكلب الأسود ما يعارضه، ووجد في الحمار حديث ابن عباس [الرواية الثانية عشرة والثالثة عشرة] ووجد في المرأة حديث عائشة. اهـ. ووجه الدلالة من حديث عائشة أن حديث "يقطع الصلاة المرأة ... إلخ" يشمل ما إذا كانت مارة أو قائمة أو قاعدة أو مضطجعة، فلما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى وهي مضطجعة أمامه دل ذلك على نسخ الحكم في المضطجع وفي الباقي بالقياس عليه. قال الحافظ ابن حجر: وهذا يتوقف على إثبات المساواة بين الأمور المذكورة. وقد قال بعضهم: إن الفرق بين المار وبين النائم في القبلة أن المرور حرام بخلاف الاستقرار نائمًا كان أم غيره، فهكذا المرأة يقطع مرورها دون لبثها، فلو ثبت أن حديثها متأخر عن حديث أبي ذر لم يدل إلا على نسخ الاضطجاع فقط. وقد نازع بعضهم في الاستدلال بحديث عائشة من أوجه أخرى. أحدها: أن العلة في قطع الصلاة بها ما يحصل من تشويش، وقد قالت إن البيوت يومئذ لم يكن فيها مصابيح، فانتفى المعلول بانتفاء علته. ثانيها: أن المرأة في حديث أبي ذر مطلقة، وفي حديث عائشة مقيدة بخلاف الزوجة. ثالثًا: أن حديث عائشة واقعة حال، يتطرق إليها الاحتمال، بخلاف حديث أبي ذر، فإنه مسوق مساق التشريع العام. وقد أشار ابن بطال إلى أن ذلك كان من خصائصه صلى الله عليه وسلم لأنه كان يقدر أن يملك إربه. والخلاصة أن الشافعية وعامة أهل العلم يقولون: إن مرور الرجل أو المرأة أو الصبي أو الكافر أو

الحمار أو الكلب الأسود أو الخنزير. إن مرور شيء من ذلك بين يدي المصلي لا يبطل الصلاة. وقال الحسن البصري: تبطل بمرور المرأة والحمار والكلب الأسود، وقال أحمد وإسحق: تبطل بمرور الكلب الأسود فقط. والله أعلم. 13 - يؤخذ من الرواية التاسعة من قوله: "فخرج بلال بوضوئه" جواز الاستخدام. 14 - ومن قوله: "فمن نائل وناضح" التبرك بآثار الصالحين واستعمال فضل وضوئهم وطعامهم وشرابهم ولباسهم. ذكره النووي. 15 - وفيه تعظيم الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. 16 - ومن قوله: "وعليه حلة حمراء" جواز لبس الثوب الأحمر، وفيه خلاف يذكر في كتاب اللباس. 17 - ومن قوله: "كأني أنظر إلى بياض ساقيه" أن الساق ليست بعورة قال النووي: وهذا مجمع عليه، فيجوز النظر إلى ساق الرجل حيث لا فتنة. 18 - ومنه ومن قوله في الرواية العاشرة "مشمرًا" استحباب تشمير الثياب، ورفع الثوب عن الكعبين، لا سيما في السفر. 19 - ومن قوله: "فأذن بلال" مشروعية الأذان في السفر، قال الشافعي: ولا أكره من تركه في السفر ما أكره من تركه في الحضر، لأن أمر المسافر مبني على التخفيف. 20 - ومن قوله: "يقول يمينًا وشمالاً حي على الصلاة" أنه يسن للمؤذن الالتفات في الحيعلتين يمينًا وشمالاً برأسه وعنقه، قال الفقهاء: ولا يحول قدميه وصدره عن القبلة، وإنما يلوي رأسه وعنقه. 21 - ومن قوله "فصلى الظهر ركعتين ... ثم صلى العصر ركعتين، ثم لم يزل يصلي ركعتين حتى رجع إلى المدينة" أن الأفضل قصر الصلاة في السفر وإن كان بقرب بلده، لما يشعر به الخبر من مواظبته صلى الله عليه وسلم. 22 - وأن ابتداء القصر من حين مفارقة البلد الذي يخرج منه. 23 - ومن الرواية الثانية عشرة، من قوله "وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام" أن البلوغ ليس شرطًا في التحمل، وأن الصبي يقبل سماعه، قال يحيى بن معين: أقل سن التحمل خمس عشرة، وقال أحمد بن حنبل: بل إذا عقل ما يسمع. قال الحافظ ابن حجر: وهذا هو المعتمد. وقد احتج الأوزاعي لذلك بحديث "مروهم بالصلاة لتسع". 24 - ومن مرور ابن عباس بين يدي الصف للدخول فيه جواز تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة الخفيفة، لأن المرور مفسدة خفيفة، والدخول في الصلاة مصلحة راجحة. 25 - ومن الرواية الرابعة عشرة، من قوله "وليدرأه ما استطاع، فإن أبى فليقاتله" جواز الفعل اليسير في الصلاة للضرورة.

26 - ومن قوله: "فإنما هو شيطان" قال ابن بطال: فيه جواز إطلاق لفظ الشيطان على من يفتن في الدين، وأن الحكم للمعاني دون الأسماء. 27 - ومن الرواية السابعة عشرة أخذ القرين عن قرينه ما فاته، أو استثباته فيما سمع معه. 28 - وفيها الاعتماد على خبر الواحد، لأن زيدًا اقتصر على النزول مع القدرة على العلو اكتفاء برسوله المذكور. قاله في الفتح. 29 - وفيها استعمال "لو" في باب الوعيد، ولا يدخل ذلك في النهي، لأنه يشعر بما يعاند المقدور. 30 - ومن الرواية التاسعة عشرة من تحري الصلاة عند الأسطوانة أنه لا بأس بإدامة الصلاة في مكان واحد إذا كان فيه فضل. 31 - ومن الرواية الثانية والعشرين جواز صلاة الرجل إلى المرأة، قال النووي: وكره العلماء أو جماعة منهم الصلاة إليها لغير النبي صلى الله عليه وسلم، لخوف الفتنة بها، وتذكرها، واشتعال القلب بها بالنظر إليها. 32 - ومن الرواية الثالثة والعشرين جواز الصلاة خلف النائم، وكره مجاهد ومالك الصلاة إلى النائم خشية أن يبدو منه ما يلهي المصلي عن صلاته. 33 - استحباب تأخير الوتر إلى أخر الليل، وأنه يستحب لمن وثق باستيقاظه من آخر الليل إما بنفسه وإما بإيقاظ غيره أن يؤخر الوتر وإن لم يكن له تهجد. 34 - وفيها استحباب إيقاظ النائم للصلاة في وقتها. 35 - ومن الرواية الخامسة والعشرين، ومن قوله: "فأكره أن أجلس فأوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم" أن التشويش بالمرأة وهي قاعدة يحصل منه ما لا يحصل بها وهي راقدة، قال الحافظ ابن حجر: والظاهر أن ذلك من جهة الحركة والسكون، وعلى ذلك فمرورها أشد اهـ. 36 - ومن الرواية السابعة والعشرين، من قولها: "وإذا سجد غمزني فقبضت رجلي" جواز السجود مكان رجلي المرأة. 37 - وأن لمس النساء لا ينقض الوضوء، والجمهور على أنه ينقض، وحملوا الحديث على أنه غمزها فوق حائل، قال النووي: وهذا هو الظاهر من حال النائم، فلا دلالة فيه على عدم النقض. 38 - من الرواية الثامنة والعشرين والتاسعة والعشرين أن وقوف المرأة الحائض بجنب المصلي لا يبطل صلاته، قال النووي: وهو مذهبنا ومذهب الجمهور، وأبطلها أبو حنيفة. 39 - وفيها أن ثياب الحائض طاهرة، إلا موضعًا ترى عليها دمًا أو نجاسة أخرى. 40 - وفيها جواز الصلاة بحضرة الحائض. 41 - وجواز الصلاة في ثوب بعضه على المصلي وبعضه على الحائض أو غيرها. والله أعلم

(193) باب الصلاة في ثوب واحد وصفة لبسه

(193) باب الصلاة في ثوب واحد وصفة لبسه 954 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن سائلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في الثوب الواحد؟ فقال "أولكلكم ثوبان؟ ". 955 - عَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: نَادَى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أيصلي أحدنا في ثوب واحد؟ فقال "أوكلكم يجد ثوبين؟ ". 956 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقيه منه شيء". 957 - عن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد مشتملا به في بيت أم سلمة واضعًا طرفيه على عاتقيه. 958 - عن هشام بن عروة بهذا الإسناد غير أنه قال متوشحًا ولم يقل مشتملا. 959 - عن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في بيت أم سلمة في ثوب قد خالف بين طرفيه. 960 - عن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد ملتحفًا مخالفًا بين طرفيه. زاد عيسى بن حماد في روايته قال على منكبيه.

961 - عن جابر رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد متوشحًا به. 962 - عن سفيان بهذا الإسناد وفي حديث ابن نمير قال دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم. 963 - عن أبي الزبير المكي أنه رأى جابر بن عبد الله يصلي في ثوب متوشحًا به وعنده ثيابه. وقال جابر: إنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك. 964 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم قال فرأيته يصلي على حصير يسجد عليه. قال: ورأيته يصلي في ثوب واحد متوشحًا به. 965 - عن الأعمش بهذا الإسناد. وفي رواية أبي كريب: واضعًا طرفيه على عاتقيه. ورواية أبي بكر وسويد، متوشحًا به. -[المعنى العام]- كانوا فقراء، وكان الكثير منهم لا يملك إلا ثوبًا واحدًا، وخشي أصحاب الثوب الواحد أن يكونوا مقصرين في صلاتهم، فسألوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأجابهم بصحة صلاتهم. ودلهم على كيفية استعماله استعمالاً أفضل، دلهم على أنه يسن أن يضع على عاتقيه شيء من ثوبه، إن كان يكفي ستر العورة، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم أمامهم بثوب واحد، يلفه حول وسطه يستر عورته، ثم يأخذ طرفه فيلقيه من الأمام على كتفه الأيمن، ويمر من ظهره إلى تحت يده اليسرى، ويأخذ الطرف الثاني فيلقيه من الأمام على كتفه الأيسر، ويمر به من خلفه إلى تحت يده اليمنى، ثم يجمع الطرفين فيعقدهما على صدره، وفي هذا الوضع ستر لجزء من العاتق مع ستر العورة ومع تمكن الثوب من الجسم بحيث لا تنكشف العورة أثناء الركوع والسجود. واللَّه أعلم.

-[المباحث العربية]- (أولكلكم ثوبان) الواو عاطفة على محذوف، والاستفهام إنكاري بمعنى النفي، والتقدير: أأنتم قادرون ولكل منكم ثوبان؟ أي لستم قادرين وليس لكل منكم ثوبان. (لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد) قال ابن الأثير: كذا هو في الصحيحين "لا يصلي" بإثبات الياء، فهو خبر بمعنى النهي، وفي رواية "لا يصل" على أن لا ناهية، وفي أخرى "لا يصلين". (ليس على عاتقه منه شيء) "العاتق" هو ما بين المنكبين إلى أصل العنق، وهو مذكر، وحكي تأنيثه. (يصلي في ثوب واحد مشتملاً به) وفي الرواية السابعة "متوشحًا به" وفي الرواية الخامسة "قد خالف بين طرفيه" قال النووي المشتمل والمتوشح والمخالف بين طرفيه معناها واحد هنا. وهو أن يأخذ طرف الثوب الذي ألقاه على منكبه الأيمن من تحت يده اليسرى، ويأخذ طرفه الذي ألقاه على منكبه الأيسر من تحت يده اليمنى، ثم يعقدهما على صدره. (وعنده ثيابه) في رواية للبخاري "وثيابه موضوعة على المشجب". -[فقه الحديث]- قال النووي: يستحب أن يصلي الرجل في أحسن ثيابه المتيسرة له، ويتقمص ويتعمم، فإن اقتصر على ثوبين فالأفضل قميص ورداء، أو قميص وإزار، أو قميص وسروال، وإذا أراد الاقتصار على ثوب واحد فالقميص أولى [وقميص العرب أشبه بقميص الفلاح يستر ما تحت الركبة] لأنه أعم في الستر، ولأنه يستر العورة ويحصل على الكتف، فإن كان القميص واسع الفتح بحيث إذا نظر رأى العورة زره ولو بشوكة [دبوس] فإن لم يكن قميص فالرداء أولى لأنه يمكنه أن يستر به العورة ويبقى منه ما يطرحه على الكتف، فإن لم يكن فالإزار أولى من السراويل، وقيل السراويل أولى. ثم قال: والنهي عن الصلاة في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء للتنزيه، فلو صلى مكشوف العاتقين صحت صلاته مع الكراهة عند الشافعية، ومالك وأبي حنيفة وجمهور السلف والخلف، وقال أحمد وطائفة قليلة: يجب وضع شيء على العاتق لظاهر الحديث. ويؤخذ من الرواية التاسعة جواز الصلاة على شيء يحول بينه وبين الأرض، من ثوب وحصير وصوف وشعر وغير ذلك، وسواء نبت من الأرض أم لا. وهذا مذهب الشافعية والجمهور، وقال القاضي عياض: أما ما نبت من الأرض فلا كراهة فيه، أما البسط واللبود وغيرها مما ليس من نبات الأرض فتصح الصلاة فيه بالإجماع، لكن الأرض أفضل إلا لحاجة حر أو برد أو نحوهما، لأن الصلاة سرها التواضع والخضوع. ذكره النووي.

كتاب المساجد ومواضع الصلاة

كتاب المساجد ومواضع الصلاة

(194) باب الأرض كلها مسجد وتربتها طهور

(194) باب الأرض كلها مسجد وتربتها طهور 966 - عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: "المسجد الحرام" قلت: ثم أي؟ قال: "المسجد الأقصى" قلت: كم بينهما؟ قال: "أربعون سنة وأينما أدركتك الصلاة فصل فهو مسجد" وفي حديث أبي كامل "ثم حيثما أدركتك الصلاة فصله. فإنه مسجد". 967 - عن إبراهيم بن يزيد التيمي قال: كنت أقرأ على أبي القرآن في السدة فإذا قرأت السجدة سجد. فقلت له يا أبت أتسجد في الطريق؟ قال: إني سمعت أبا ذر يقول: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الأرض؟ قال: "المسجد الحرام" قلت: ثم أي؟ قال: "المسجد الأقصى" قلت: كم بينهما؟ قال: "أربعون عامًا ثم الأرض لك مسجد. فحيثما أدركتك الصلاة فصل". 968 - عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي. كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود. وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي. وجعلت لي الأرض طيبة طهورًا ومسجدًا. فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان. ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر. وأعطيت الشفاعة". 969 - عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة. وجعلت لنا الأرض كلها مسجدًا. وجعلت تربتها لنا طهورًا، إذا لم نجد الماء" وذكر خصلةً أخرى.

970 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم. ونصرت بالرعب. وأحلت لي الغنائم. وجعلت لي الأرض طهورًا ومسجدًا. وأرسلت إلى الخلق كافة. وختم بي النبيون". 971 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بعثت بجوامع الكلم. ونصرت بالرعب. وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت بين يدي" قال أبو هريرة: فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتم تنتثلونها. 972 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "نصرت بالرعب على العدو. وأوتيت جوامع الكلم. وبينما أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي". 973 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نصرت بالرعب. وأوتيت جوامع الكلم". -[المعنى العام]- يسوق الإمام مسلم في هذه المجموعة حديثين أحدهما في أفضلية بعض أماكن الأرض بالنسبة لعبادة اللَّه تعالى، والثاني في صلاحية الأرض عمومًا للتيمم من ترابها عند الحاجة والصلاة على أي موضع فيها. أما الحديث الأول فيحكي إبراهيم بن زيد التيمي أنه كان يتعلم القرآن على أبيه، فكان يقرأ وأبوه يسمع، فلاحظ على أبيه أمرًا تعجب منه، رأى أباه كلما سمع من ابنه آية سجدة سجد، ويبدو أن الصبي لم يتابع أباه لأنه مع حداثته كان يظن أن الطريق العام وحوافه لا تصلح للسجود، بل الذي عهده الصبي هو السجود في المساجد أو على الفرش في أماكن الصلاة، ولما كان الصبي وأبوه في رحبة المسجد الخارجة من المسجد والمتصلة بالطريق، وهي ليس لها حكم المسجد، لما كان الأمر كذلك سأل الصبي أباه متعجبًا: أتسجد في الطريق يا أبي؟ هل هذا يصح؟ فقال له أبوه: إني سمعت

أبا ذر يقول: سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أي المساجد في الأرض وضعها اللَّه أولاً للناس للصلاة فيها؟ ومن الطبيعي أن يكون أول مكان وضع للعبادة وقامت فيه العبادة أفضل الأماكن - قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أول مسجد وضع في الأرض للعبادة هو المسجد الحرام بمكة، قال أبو ذر: ثم ما هو المسجد الثاني؟ قال صلى اللَّه عليه وسلم: المسجد الأقصى ببيت المقدس، قال أبو ذر كم سنة كانت بينهما! قال صلى اللَّه عليه وسلم: أربعون سنة، وخشي صلى اللَّه عليه وسلم أن تحرص أمته على السفر إلى هذين المسجدين فأشار إلى أن الأرض كلها صالحة للصلاة عليها، ورب مصل بقلب خاشع وإخلاص في غير هذين المسجدين أفضل من بعض من يصلي فيهما بالليل والنهار. وفي الحديث الآخر يسوق مسلم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: فضلت على من سبقني من الأنبياء بخصال: لا أقول ذلك فخراً وكبراً إنما أتحدث بنعمة الله تعالى لأزداد شكراً، ولتشكر أمتي ربها على تكريمها وتكريم نبيها، من هذه الخصائص: كان كل نبي يرسل إلى قوم محددين تنتهي رسالته عندهم وتنتهي بعده وبعدهم، لكن محمداً صلى الله عليه وسلم أرسل إلى أهل الأرض جميعاً من يوم بعثته إلى يوم القيامة، وكان من قبله إذا غنموا لم تحل لهم الغنائم، بل كانت تترك في العراء حتى تهلك فأحل الله له ولأمته الغنائم، وكان من قبله لا يصلون إلا في كنائسهم ومعابدهم، ولا يصح طهورهم إلا بالماء فجعل الله لمحمد وأمته الأرض كلها صالحة للصلاة عليها وترابها صالحاً للتيمم والتطهر، فأي مسلم أدركته الصلاة وحان وقتها وكاد يخرج ولم يجد ماء فعنده مسجده وطهوره فليتيمم وليصل، ومن خصوصياته صلى الله عليه وسلم أن الله كان يلقي الرعب في قلوب أعدائه، مما يسهل له النصر عليهم، وأنه أعطي الشفاعة العظمى يوم القيامة، وختم به النبيون فلا نبي بعده، وأعطي القرآن وهو جوامع الكلم، قليل اللفظ كثير المعنى، وبشره الله بأن أمته سيفتح الله عليها كنوز الأرض، فتصبح مالكة لكثير من بقاعها، مالكة لكثير من كنوزها وخيراتها، وقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم وما بشر به. نسأل الله أن يجعل هذه الكنوز وهذه الخيرات في خدمة الآخرة، إنه سميع مجيب. -[المباحث العربية]- (أي مسجد) في بعض الروايات "أي بيت" والمراد من البيت المسجد، كما في قوله تعالى {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا} [آل عمران: 96]. (وضع في الأرض) أي وضع للعبادة. (أولا) في رواية البخاري "أول" بالبناء على الضم، لقطعه عن الإضافة، مثل قبل وبعد، والتقدير: أول كل شيء، وروايتنا بالنصب والتنوين، ويجوز فيه المنع من الصرف. (المسجد الحرام) خبر مبتدأ محذوف. أي أول مسجد وضع في الأرض المسجد الحرام بمكة.

(ثم أي)؟ بالتنوين، وبعدم التنوين، وقيل: الصواب أنه غير منون لأن السائل ينتظر الجواب، والتنوين لا يوقف عليه، فتنوينه ووصله بما بعده خطأ، فيوقف عليه وقفة لطيفة، ثم يؤتى بما بعده، وهو مضاف تقديراً، والمضاف إليه محذوف لفظاً، والتقدير: ثم أي مسجد وضع بعد المسجد الحرام؟ . (المسجد الأقصى) قيل: سمي الأقصى لبعده عن المسجد الحرام في المسافة، وقال الزمخشري: سمي الأقصى لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد، وقيل: لبعده عن الأقذار والخبث، وهو ببيت المقدس. (كم بينهما)؟ أي من الزمن؟ أي كم سنة بين وضعهما في الأرض؟ . (أينما أدركتك الصلاة فصل) "أينما" أداة شرط للمكان، و"ما" زائدة، والمقصود إدراك وقت الصلاة، أي في أي مكان أدركك وقت الصلاة فصل. (فهو مسجد) فالمكان مسجد. (ثم حيثما أدركتك الصلاة فصله) الهاء في "فصله" هاء السكت، فهي بمعنى رواية "فصل". (كنت أقرأ على أبي القرآن في السدة) بضم السين وتشديد الدال، واحدة السدد، وهي المواضع التي تطل حول المسجد وليست منه، وليس لها حكم المسجد إذا كانت خارجة عنه. (أعطيت خمسًا) في الرواية الرابعة "فضلنا على الناس بثلاث" وفي الرواية الخامسة "فضلت على الأنبياء بست" واختلاف الروايات في العدد مشكل عند من يرى أن مفهوم العدد حجة، وفي فقه الحديث نذكر الإجابات عن هذا الإشكال. (لم يعطهن أحد قبلي) أي من الأنبياء، بدليل قوله "كان كل نبي" إلخ. (كان كل نبي يبعث) أي كان كل رسول يبعث .... إلخ. (وبعثت إلى كل أحمر وأسود) قيل: المراد بالأحمر وبالأسود العرب، وقيل: الأحمر الإنس والأسود الجن: والأولى جعل ذلك كناية عن الكل، كأنه قال: إلى كل لون، يؤكده رواية للبخاري "إلى الناس عامة" وروايتنا الخامسة، "إلى الخلق كافة". (وأحلت لي الغنائم) وفي رواية "المغانم". (فأيما رجل) أي مبتدأ فيه معنى الشرط، و"ما" مزيد للتأكيد، وذكر الرجل للتغليب والحكم يشمل النساء. (وجعلت لنا الأرض كلها مسجدًا) أي موضع سجود، لا يختص السجود منها بموضع،

ويصح أن يراد بالمسجد المعروف، والكلام على التشبيه، أي جعلت لنا الأرض كلها كالمسجد في صحة الصلاة عليها. (وجعلت تربتها لنا طهورًا) تربة كل مكان ما فيه من تراب أو غيره. (وذكر خصلة أخرى) اعتبر جعل الأرض مسجدًا وتربتها طهورًا خصلة واحدة، فلم يذكر الراوي سوى ثنتين من ثلاث. وهذه الخصلة المبهمة بينها ابن خزيمة والنسائي "وهي" وأعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش". (أتيت بمفاتيح خزائن الأرض) كناية عما فتح اللَّه لأمته من المال والدنيا. (فوضعت في يدي) بلفظ التثنية، وهو كناية عن امتلاكها، والمراد امتلاك أمته لها. (وأنتم تنتثلونها) أي تستخرجون ما في خزائن الأرض وتنتفعون بها. -[فقه الحديث]- تتناول هذه الأحاديث مسألتين أساسيتين: الأولى: وهي المقصودة بكتاب المساجد، جعل الأرض لنا مسجدًا وطهورًا. الثانية: خصائصه صلى اللَّه عليه وسلم وخصائص أمته. وفيما يتعلق بالمسألة الأولى يتشعب البحث إلى أفضل بقاع الأرض من حيث العبادة، ثم صلاحية عامة الأرض للصلاة عليها وللتيمم من ترابها. والرواية الأولى والثانية تنصان على فضل المسجد الحرام ثم المسجد الأقصى من حيث تقدم وضعهما في الأرض لعبادة الناس. والروايتان تصرحان بأن المسجد الحرام أول مسجد وضع للناس في الأرض، وهو موافق لقوله تعالى: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا وهدى للعالمين} [آل عمران: 96] ولا خلاف في ذلك، وإنما الخلاف في أول من بناه، ففي بعض الآثار أن أول من بناه الملائكة، ثم آدم ثم شيث، ثم غمره طوفان وأزال معالمه، ثم بوأ اللَّه مكانه لإبراهيم وعرفه إياه فبناه. والروايتان تصرحان بأن بين بناء المسجد الحرام والمسجد الأقصى أربعين عامًا، وهذا مشكل بالنسبة لما هو مشهور من أن باني البيت الحرام إبراهيم عليه السلام، وباني المسجد الأقصى داود ثم ابنه سليمان عليهما السلام، وبين بناء إبراهيم وبنائهما مدة تزيد على الأربعين بأمثالها، حتى قيل: إن بينهما أكثر من ألف عام، وأجيب عن هذا الإشكال بأجوبة كثيرة، منها: أن الحديث يشير إلى أول بناء المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وأول من وضع أساسهما، وليس إبراهيم أول من بنى الكعبة،

ولا سليمان أول من بنى المسجد الأقصى، يصرح بذلك القرطبي حيث يقول: إن الحديث لا يدل على أن إبراهيم وسليمان لما بنيا المسجدين ابتدآ وضعهما، بل ذلك تجديد لما كان أسسه غيرهما. وقيل: إن إبراهيم عليه السلام هو الذي بنى المسجد الحرام والمسجد الأقصى وبين بنائه لهما أربعون سنة، وما حصل من داود وسليمان تجديد لا تأسيس، قال الحافظ ابن حجر: والأول أوجه. هذا من ناحية أولية الوضع والبناء، أما من ناحية الأجر وثواب العبادة فإن مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة أصبح في الدرجة الثانية بعد المسجد الحرام، فقد روى الإمام أحمد وصححه ابن حبان "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا" وعند ابن ماجه "صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه" وروى البزار والطبراني "الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة". ولأفضلية العبادة في هذه المساجد روى البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومسجد الأقصى" وأما صلاحية الأرض عامة للصلاة عليها وللتيمم من تربتها فهي المقصود الأساسي لإيراد أحاديث الباب، وقد استدل بقوله "وأينما أدركتك الصلاة فصل فهو مسجد" على جواز الصلاة في جميع المواضع التي لا نتيقن نجاستها، مع مراعاة ما استثناه الشرع كالصلاة في المقابر والمزابل والمجازر، وأعطان الإبل وقارعة الطريق، والحمام، وغير ذلك مما ورد النهي بها على خلاف في المذاهب. كما استدل المالكية والحنفية بقوله في الرواية الثالثة "وجعلت لي الأرض طيبة طهوراً ومسجداً" على أنه يجوز التيمم بجميع أجزاء الأرض، ولا يختص التيمم بالتراب، فالتعبير بأن الأرض طهور -أي مطهر- عام في جميع أجزائها، فإن قيل لهم: إن المراد بالطهور في هذه الرواية الطاهرة، أي صالحة للصلاة عليها، قالوا: إن معنى "طيبة" طاهرة، فلو كان معنى "طهوراً" طاهرة للزم التكرار وتحصيل الحاصل، لكن المعنى على تفسيرنا: طاهرة مطهرة، ويؤيد هذا القول رواية البيهقي "فأيما رجل من أمتي أتى الصلاة فلم يجد ماء وجد الأرض طهوراً ومسجداً"، وعند أحمد "فعنده طهوره ومسجده" وفي رواية "فأينما أدركتني الصلاة تيممت وصليت" فكل هذه الألفاظ في مطلق الأرض ولا خصوص التراب. واستدل الشافعية والحنابلة بالرواية الرابعة، وفيها "وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً، وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء" فهذه الرواية مقيدة لما يطهر من الأرض، وهو التراب، ويحمل المطلق في الروايات السابقة على المقيد فإن قيل لهم: إن التعبير بالتربة لا يقتصر على التراب، فقد قيل: إن تربة كل مكان ما فيه من تراب أو غيره قالوا: بل ورد في الحديث المذكور بلفظ "التراب" أخرجه ابن خزيمة وغيره، وفي حديث علي أخرجه أحمد والبيهقي بإسناد حسن وجعل التراب لي طهوراً، والله أعلم.

والمتحصل من روايات الباب عشر خصال اختص بها النبي صلى الله عليه وسلم هي: 1 - كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود. 2 - أحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي. 3 - جعلت لي الأرض طيبة طهوراً ومسجداً. 4 - نصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر. 5 - أعطيت الشفاعة. 6 - جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة. 7 - أعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش [وهي الخصلة المبهمة في الرواية الرابعة]. 8 - أعطيت جوامع الكلم. 9 - ختم بي النبيون. 10 - أتيت بمفاتيح خزائن الأرض. وفي كتب أخرى روايات بها زيادات، منها: 1 - وسميت أحمد [رواها أحمد]. 2 - وجعلت أمتي خير الأمم [رواها أحمد]. 3 - غفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر [رواها البزار]. 4 - وأعطيت الكوثر [رواها البزار]. 5 - وإن صاحبكم لصاحب لواء الحمد يوم القيامة تحته آدم فمن دونه [رواها البزار]. 6 - وكان شيطاني كافراً فأعانني الله عليه فأسلم [رواها البزار]. فينتظم بهذا ست عشرة خصلة، قال الحافظ ابن حجر: ويمكن أن يوجد أكثر من ذلك لمن أمعن التتبع، وقد ذكر النيسابوري في كتاب "شرف المصطفى" أن عدد الذي اختص به نبينا صلى الله عليه وسلم على الأنبياء ستون خصلة. اهـ والذي يعنينا الآن ما ورد في روايات الباب، وسأقتصر في الكلام عليه. ولا إشكال في قوله "خمساً" وقوله "بثلاث" وقوله "بست" مع وصول العدد إلى ما وصل إليه، لأن بعضهم يقول: إن مفهوم العدد ليس بحجة. والبعض يرفع الإشكال بأنه صلى الله عليه وسلم اطلع أولاً على بعض ما اختص به، فأخبر عنه، ثم اطلع على غيره فأخبر عنه.

والذي أميل إليه هو الأول، لأن قولنا: فيك عشر خصال لا يعتبر في اللغة العربية من أساليب القصر، ولا يمنع أن يكون فيك خصال أخرى، ويمكن أن أقول: خصصت بخمس فلا تمنع العبارة أن أكون خصصت بغيرها، وكل ما تدل عليه العبارة أن كل واحدة مما اختص به صلى الله عليه وسلم لم تكن لأحد قبله. والمتمعن في الخصال العشر يرى أن بعضها خاص به صلى الله عليه وسلم، لا تشاركه فيها أمته كالخصلة الأولى والرابعة والثامنة والتاسعة، وبعضها تشترك معه فيها أمته، كحل الغنائم، وطيب الأرض، وآخر سورة البقرة، ومفاتح خزائن الأرض، وبعضها خصوصية لأمته كجعل صفوفها كصفوف الملائكة. فإسناد الخصوصيات إليه صلى الله عليه وسلم في حالة كونها للأمة إسناد تشريف وتكريم، لأنها إنما خصت بذلك من أجله تكريماً له فهي خصوصية له صلى الله عليه وسلم، ولنعرض بشيء من التفصيل للخصوصيات العشر: 1 - فعموم رسالته صلى الله عليه وسلم للناس كافة منذ بعثته إلى يوم القيامة محل إجماع المسلمين، وكونها خاصة به لم تعط لنبي قبله أمر واضح، لكنه أشكل عليه أولاً بأن نوحاً عليه السلام دعا على أهل الأرض بالهلاك بقوله {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارًا} [نوح: 26] ولو لم يكن مرسلاً إليهم ما دعا عليهم، وثانيًا بأن نوحًا بعد الطوفان كان مرسلاً إلى الناجين، وهم الأحياء على الأرض، وثالثًا أنه صح أن أهل الموقف يوم القيامة يسألون نوحًا الشفاعة بقولهم أنت أول رسول إلى أهل الأرض. إذ كل ذلك يوهم عموم رسالة نوح عليه السلام. وأجيب عن الشبهة الأولى بجواز أن يكون غيره أرسل إليهم في أثناء مدته، وعلم نوح بأنهم لم يؤمنوا فدعا على من لم يؤمن من قومه ومن غيرهم، فأجيب، ويحتمل أن يكون دعاؤه قومه إلى التوحيد بلغ بقية الناس، فتمادوا على الشرك، فاستحقوا العقاب، ويحتمل أنه لم يكن في الأرض عند إرسال نوح إلا قوم نوح فبعثته خاصة، لكونها إلى قومه فقط، وهي عامة في الصورة، لعدم وجود غيرهم، لكن لو اتفق وجود غيرهم لم يكن مبعوثاً إليهم، ويمكن أن يكون هذا جواباً للإشكال الثاني، وهو أن نوحاً بعد الطوفان كان مرسلاً إلى الناجين، وهم الأحياء على الأرض، كما يمكن أن يكون جواباً للإشكال الثالث وهو قول أهل الموقف لنوح عليه السلام: "أنت أول رسول إلى أهل الأرض" على أنه يمكن أن يكون مرادهم من هذا القول إثبات أولية إرساله لا عموم بعثته. وإذن لا دليل على عموم رسالة نوح عليه السلام، وكل ما استدل به على ذلك تطرق إليه الاحتمال فسقط به الاستدلال، على أن القرآن الكريم صرح في غير موضع على أن إرسال نوح كان إلى قومه. 2 - وأما الغنائم فقد قال الخطابي: كان من تقدم على ضربين، منهم من لم يؤذن له في الجهاد، فلم تكن لهم مغانم، ومنهم من أذن له فيه، لكن كانوا إذا غنموا شيئاً لم يحل لهم أن يأكلوه، وجاءت نار فأحرقته. وقيل: المراد أنه خص بالتصرف في الغنيمة يصرفها كيف شاء. قال الحافظ ابن حجر: والأول أصوب.

3 - وأما الخصوصية في جعل الأرض طهوراً ومسجداً فقال ابن التيمي: قيل: المراد جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وجعلت لغيري مسجداً ولم تجعل له طهوراً، لأن عيسى عليه السلام كان يسيح في الأرض، ويصلي حيث أدركته الصلاة، وقيل: إنما أبيح لهم الصلاة في موضع يتيقنون طهارته، بخلاف هذه الأمة فأبيح لها في جميع الأرض إلا فيما تيقنوا نجاسته. قال الحافظ ابن حجر: والأظهر ما قاله الخطابي، وهو أن من قبله إنما أبيحت لهم الصلوات في أماكن مخصوصة، كالبيع والصوامع، ويؤيده رواية "وكان من قبلي إنما كانوا يصلون في كنائسهم" وما أخرجه البزار بلفظ "ولم يكن من الأنبياء أحد يصلي حتى يبلغ محرابه" قال الحافظ ابن حجر: وهذا نص في موضع النزاع. 4 - وأما خصوصية النصر بالرعب ففي رواية أحمد زيادة "يقذف في قلوب أعدائي" قال الحافظ ابن حجر مفهوم رواية "نصرت بالرعب مسيرة شهر" أنه لم يوجد لغيره النصر بالرعب في هذه المدة، ولا في أكثر منها، أما ما دونها فلا، لكن رواية "ونصرت على العدو بالرعب ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر" ظاهرها اختصاصه به مطلقاً، وإنما جعل الغاية شهراً لأنه لم يكن بين بلده وبين أحد من أعدائه أكثر منه. وهذه الخصوصية حاصلة له على الإطلاق، حتى ولو كان وحده بغير عسكر، ثم قال: وهل هي حاصلة لأمته من بعده؟ فيه احتمال. اهـ وهذا الاحتمال إنما يصح إذا كانت أمته قائمة على شريعته وسنته. والله أعلم. 5 - وأما الشفاعة فقد قال ابن دقيق العيد: الأقرب أن اللام فيها للعهد، والمراد بها الشفاعة العظمى في إراحة الناس من هول الموقف، ولا خلاف في وقوعها، وكذا جزم النووي وغيره. وقيل: الشفاعة التي اختص بها أنه لا يرد فيما يسأل، وقيل: الشفاعة لخروج من في قلبه مثقال ذرة من إيمان، لأن شفاعة غيره تقع فيمن في قلبه أكثر من ذلك، وفيها أقوال أخرى. والأول هو الصواب. 6 - وأما صفوف الملائكة فالمقصود الصفوف في صلاة الجماعة، ووجه الشبه الاستقامة في المساجد صفًا صفًا كقوله تعالى: {وجاء ربك والملك صفًا صفًا} [الفجر: 22] والاستدارة حول الكعبة كقوله تعالى: {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم} [غافر: 7]. 7 - وخواتيم سورة البقرة إشارة إلى قوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} [البقرة: 286]. 8 - وأما جوامع الكلم فقيل المراد بها القرآن الكريم، لأنه قليل اللفظ كثير المعاني، وقيل: كلامه صلى الله عليه وسلم، حيث أوتي الحكمة وفصل الخطاب. 9 - وأما ختمه للنبيين فهو صريح قوله تعالى: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين} [الأحزاب: 40].

10 - وأما مفاتيح خزائن الأرض فهو إخبار منه صلى الله عليه وسلم بفتح البلاد لأمته، ووقع كما أخبر، فهو علم من أعلام النبوة. قاله النووي. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم: ]- 1 - مشروعية تعديد نعم الله. 2 - وإلقاء العلم قبل السؤال. 3 - واستدل به على كرامة الآدمي، لأنه خلق من ماء وتراب وكل منهما طهور كذا قيل. والله أعلم

(195) بناء مسجد المدينة - والصلاة في مرابض الغنم

(195) بناء مسجد المدينة - والصلاة في مرابض الغنم 974 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فنزل في علو المدينة في حي يقال لهم بنو عمرو بن عوف فأقام فيهم أربع عشرة ليلة ثم إنه أرسل إلى ملإ بني النجار فجاءوا متقلدين بسيوفهم قال فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته وأبو بكر ردفه وملأ بني النجار حوله حتى ألقى بفناء أبي أيوب قال فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حيث أدركته الصلاة ويصلي في مرابض الغنم ثم إنه أمر بالمسجد قال فأرسل إلى ملإ بني النجار فجاءوا فقال: "يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا" قالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله. قال أنس: فكان فيه ما أقول: كان فيه نخل وقبور المشركين وخرب. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنخل فقطع. وبقبور المشركين فنبشت. وبالخرب فسويت. قال فصفوا النخل قبلة. وجعلوا عضادتيه حجارة. قال فكانوا يرتجزون ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم. وهم يقولون: اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة فانصر الأنصار والمهاجرة. 975 - عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي في مرابض الغنم. قبل أن يبنى المسجد. -[المعنى العام]- تواترت الأخبار بورود النبي صلى الله عليه وسلم قباء يوم الاثنين لثمان خلون من ربيع الأول وله من العمر ثلاث وخمسون سنة، فنزل على كلثوم بن هدم في حي بني عمرو بن عوف، ونحر جزورًا، وأقام في قباء أربع عشرة ليلة، ثم أرسل إلى أشراف بني النجار في المدينة وهم أخوال جده عبد المطلب فجاءوا متقلدين سيوفهم معلقيها على أكتافهم استعدادًا للدفاع ورمزًا للنجدة، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقته القصواء وأردف أبا بكر خلفه عليها، وملأ بني النجار ووجهاؤهم حوله يحيطون بركبه تكريمًا وتشريفًا، وسار الركب حتى دخل المدينة، وكل يريد أن يشرف بنزول رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره أو بجوارها، يحاولون إيقاف الناقة فيقول صلى اللَّه عليه وسلم: دعوها فإنها مأمورة حتى وصلوا إلى بيت أبي أيوب، وفي فناء البيت بركت الناقة، فأخذ جبار بن صخر ينخسها برجله لتقوم يبغى أن

تصل إلى داره، ورآه أبو أيوب، فقال: يا جبار، أعن منزلي تنخسها؟ أما والذي بعثه بالحق لولا الإسلام لضربتك بالسيف. وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعتزم بناء مسجد، ووقع اختياره على أرض لبني النجار فيها نخل وفيها قبور المشركين وفيها آثار بناء محطم وبها حفر، فقال: يا بني النجار. ساوموني على هذه الأرض لأشتريها فأقيم عليها مسجدًا نصلي فيه. قالوا: لا. واللَّه لا نأخذ لها ثمنًا إنما هي للَّه تعالى. فأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أصحابه بقطع النخل فقطعوه، وأمر بقبور المشركين فنبشت، وجمع عظامها وترابها وغيبت في باطن الأرض، وأمر بآثار الهدم والحجارة فسويت ومهدت الأرض واستوت ثم بنى المسجد، صفوا النخل حائطًا جهة القبلة، جهة القدس بطول مائة ذراع، وبنيت جدرانه باللبن بعد أساس من الحجارة، وجعل ارتفاع الجدار قامة وبسطة، وجعل طول الضلع مائة ذراع، فهو مربع، وجعل له ثلاثة أبواب: باب في مؤخره، وباب يقال له باب الرحمة، وهو الباب الذي يدعى باب العاتكة، والثالث الذي يدخل منه عليه الصلاة والسلام، وهو الباب الذي يلي آل عثمان، وجعل جانبي الباب من الحجارة، وجعل عمد المسجد من جذوع النخل وسقفه من جريد النخل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل معهم الحجارة واللبن بنفسه وهو ينشد معهم: اللَّهم لا خير إلا خير الآخرة، فانصر الأنصار والمهاجرة. ولم يزد فيه أبو بكر شيئًا، وزاد فيه عمر، وبناه على بنائه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم باللبن والجريد، وأعاد عمده خشبًا. ثم غيره عثمان فزاد فيه زيادة كبيرة، وبنى جداره بحجارة منقوشة والقصة، وجعل عمده حجارة منقوشة، وسقفه بالساج وكان صلى اللَّه عليه وسلم يصلي على الأرض حيث أدركته الصلاة في أي مكان، وبعد أن بنى المسجد لم يكن يصلي إلا في المسجد حيث أمكنه صلى اللَّه عليه وسلم وكان يصلي في مرابض الغنم وأماكن نومها ومبيتها، فالأرض كلها مسجد وطهور. واللَّه أعلم. -[المباحث العربية]- (قدم المدينة) المنورة في الهجرة. (فنزل في علو المدينة) قال النووي: هو بضم العين وكسرها لغتان مشهورتان. اهـ. وعلو المدينة هو العالية، وفي رواية للبخاري "فنزل في أعلى المدينة". (في حي) بتشديد الياء وهي القبيلة. (فأقام فيهم أربع عشرة ليلة) هذه رواية الأكثرين، وفي رواية "بضع عشرة ليلة" ولا خلاف بينهما، لكن في رواية المستعلي والحموي "أربعًا وعشرين ليلة" قال الحافظ ابن حجر: والأول هو الصواب. (ثم أرسل إلى ملإ بني النجار) في رواية البخاري "إلى ملإ من بني النجار" والملأ الجماعة، والملأ أشراف القوم ورؤساؤهم، وهو المراد هنا، وبنو النجار هم بنو تيم اللات بن ثعلبة، وتيم

اللات هو النجار، وإنما طلب بني النجار لأنهم كانوا أخواله صلى اللَّه عليه وسلم، لأن هاشمًا جده صلى اللَّه عليه وسلم تزوج من بني النجار بالمدينة فولدت له عبد المطلب، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم النزول عندهم لما تحول من قباء، ففي الكلام حذف، والأصل أقام في حي عمر بن عوف أربع عشرة ليلة ثم نزل المدينة، ثم أرسل إلى ملإ بني النجار. (فجاءوا متقلدين بسيوفهم) منصوب على الحال، وفي رواية للبخاري "مقلدي السيوف" بالإضافة، وفي رواية الأكثرين "متقلدين السيوف" بنصب السيوف على المفعولية، وتقلد السيف، جعل بجاده على المنكب، مظهر من مظاهر القوة والنجدة. (على راحلته) الراحلة المركب من الإبل ذكرًا كان أو أنثى وكانت راحلته صلى اللَّه عليه وسلم ناقة تسمى "القصواء". (وأبو بكر ردفه) جملة إسمية في محل النصب على الحال، والردف بكسر الراء وسكون الدال المرتدف وهو الذي يركب خلف الراكب، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم أردفه تشريفًا له وتنويهًا بقدره. وقد كان لأبي بكر ناقة هاجر عليها، فلعلها كانت معهم وتركها لشرف الارتداف، أو لعله تركها في بني عمرو بن عوف لمرض أو غيره، أو لعله ردها إلى مكة ليحمل عليها أهله. (وملأ بني النجار حوله) قال الحافظ ابن حجر: وكأنهم مشوا حوله ومعه أدبًا. (حتى ألقى) أي ألقى رحله. (بفناء أبي أيوب) أي بفناء دار أبي أيوب، والفناء بكسر الفاء سعة أمام الدار، أو هو ما امتد من جوانب الدار مكشوفًا: وأبو أيوب هو خالد بن زيد الأنصاري. (ويصلي في مرابض الغنم) جمع مربض بفتح الميم وكسر الباء، قال أهل اللغة: هي مباركها ومواضع مبيتها ووضعها أجسادها على الأرض للاستراحة، ويقال ذلك أيضًا لكل دابة من ذوات الحوافر والسباع قاله ابن دريد، وفي الصحاح: ربض الغنم والبقر والفرس والكلب مثل بروك الإبل وجثوم الطير. اهـ. (ثم إنه أمر بالمسجد) قال النووي: ضبطناه "أمر" بفتح الهمزة والميم و"أمر" بضم الهمزة وكسر الميم، وكلاهما صحيح. اهـ. وهمزة "إنه" مكسورة لأنه كلام مستقل بذاته، والضمير للنبي صلى الله عليه وسلم على رواية "أمر" بالبناء للمعلوم، وهو ضمير الشأن في رواية بنائها للمجهول. قاله العيني، وهو مبني على أن المأمورين الصحابة والآمر المحذوف هو الرسول لكن لو قدرنا الآمر هو اللَّه والمأمور هو الرسول صح جعل الضمير في "إنه" للرسول أيضًا كرواية البناء للمعلوم. والمسجد بكسر الجيم وفتحها، هو الموضع الذي يسجد فيه، وفي الصحاح: المسجد بفتح الجيم موضع السجود وبكسرها البيت الذي يصلي فيه، ومن العرب من يفتح كلا الوجهين، وعن الفراء: سمعنا المسجد بكسر الجيم، والفتح جائز وإن لم نسمعه. اهـ. والمعنى أمر ببناء المسجد.

(ثامنوني بحائطكم هذا) قال الكرماني: معناه، بيعونيه بالثمن، وقال بعضهم: اذكروا لي ثمنه، قال العيني: هو من ثامنت الرجل في البيع أثامنه إذا قاولته في ثمنه، وساومته على بيعه وشرائه قال الحافظ ابن حجر: معناه: اذكروا لي ثمنه لأذكر لكم الثمن الذي اختاره. قال ذلك على سبيل المساومة. فكأنه قال: ساوموني في الثمن. والحائط هنا البستان بدليل وجود النخل فيه، وفي رواية "كان مربدًا" وهو الموضع الذي يجعل فيه التمر ليجف، ولا مانع من أن يكون تجفيف التمر في بستان. (لا نطلب ثمنه إلا إلى اللَّه) قال الحافظ ابن حجر: تقديره لا نطلب الثمن، لكن الأمر فيه إلى اللَّه، فـ"إلا" فيه بمعنى "لكن" - أو "إلى" بمعنى "من" ويقويه رواية الإسماعيلي "لا نطلب ثمنه إلا من اللَّه" وزاد ابن ماجه "أبدًا". (فكان فيه ما أقول) أي كان في الحائط ما سأقوله لكم. (كان فيه نخل) بيان "ما أقول" بإعادة الجملة. (وقبور المشركين) "أل" في المشركين للعهد، أي مشركي هذه الديار. (وخرب) في رواية البخاري "وفيه خرب" بإعادة الجار والمجرور في الكل. قال النووي: "وخرب" ضبطناه بفتح الخاء المعجمة وكسر الراء، قال القاضي: رويناه هكذا، ورويناه بكسر الخاء وفتح الراء، وكلاهما صحيح، وهو ما تخرب من البناء، قال الخطابي: لعل صوابه بضم الخاء جمع خربة بالضم، وهي الخروق في الأرض، أو لعله حرف، قال القاضي: لا حاجة إلى هذا التكلف لأنه كما أمر بقطع النخل لتسوية الأرض أمر بالخرب فرفعت رسومها وسويت مواضعها لتصير جميع الأرض مبسوطة مستوية للمصلين، وكذا فعل بالقبور. اهـ. (وبقبور المشركين فنبشت) أي وأمر بقبور المشركين فنبشت، وأمر بالعظام أن تجمع وأن يحفر لها وأن تغيب. (فصفوا النخل قبلة) أي جهة القبلة وكانت بيت المقدس، وليس المراد بالقبلة هنا المحراب المعهود الذي يرمز إلى الجهة في مساجد اليوم، فإنه لم يكن كذلك في ذلك الوقت. (وجعلوا عضادتيه حجارة) أي وجعلوا عضادتي المسجد حجارة، فالضمير يعود على معهود، ورواية البخاري أوضح، ولفظها "فصفوا النخل قبلة المسجد وجعلوا عضادتيه الحجارة" والعضادة بكسر العين جانب الباب، وعضادتا الباب ما كان عليهما يطبق الباب إذا أغلق، وفي التهذيب للأزهري: عضادتا الباب الخشبتان المنصوبتان عن يمين الداخل منه وشماله وفوقهما العارضة، وهو ما يسمى في هذه الأيام بحلق الباب.

(فكانوا يرتجزون) أي يتعاطون نوعًا من ضروب الشعر، وأكثر العروضيين وأهل الأدب على أن الرجز لا يكون شعرًا. قال ابن التين: لا يطلق على الرجز شعر، إنما هو كلام مرجز مسجع، بدليل أنه يقال لصانعه راجز، ولا يقال أنشد شعرًا والتحقيق أنه من الشعر. (فاغفر للأنصار والمهاجرة) في رواية المستعلي والحموي "فاغفر الأنصار" بحذف اللام، قال الحافظ ابن حجر: ووجهه أن يضمن "اغفر" معنى "استر" وقد رواه أبو داود "فانصر الأنصار" وقال الكرماني: واعلم أنه لو قرئ هذا البيت بوزن الشعر ينبغي أن يوقف على الآخرة والمهاجرة بالهاء، إلا أنه قيل: إنه صلى اللَّه عليه وسلم قرأهما بالتاء متحركة خروجًا عن وزن الشعر. -[فقه الحديث]- ذكر الحديث في مسلم بدون ترجمة تابعًا لباب: الأرض كلها مسجد، ومقصوده الصلاة في مرابض الغنم، وصدر الحديث يناسب كتاب الهجرة وسنتعرض في شرح الحديث إلى النقاط التالية: 1 - الجمع بين رواية هبة أرض المسجد الواردة هنا وبين روايات شراء الرسول صلى الله عليه وسلم للأرض. 2 - حكم نبش القبور وبناء مساجد مكانها. 3 - الصلاة في مرابض الغنم. 4 - ما يؤخذ من الحديث. وهذا هو التفصيل: 1 - ظاهر الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ أرض المسجد تبرعًا من بني النجار، محتسبين أجرها عند اللَّه تعالى، وهذا هو المشهور المروي في الصحيحين، وذكر محمد بن سعد في الطبقات عن الواقدي أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتراه منهم بعشرة دنانير دفعها أبو بكر الصديق، ويقال: كان ذلك مربد اليتيمين، فدعاهما النبي صلى الله عليه وسلم، فساومهما ليتخذه مسجدًا، فقالا: بل نهبه لك يا رسول اللَّه، فأبى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى ابتاعه منهما بعشرة دنانير وأمر أبا بكر أن يعطيهما ذلك، وفي المغازي لأبي معشر فاشتراه أبو أيوب منهما وأعطاهما الثمن، فبناه مسجدًا، واليتيمان هما سهل وسهيل ابنا رافع بن عمرو من بني النجار، كانا في حجر أسعد بن زرارة، وقيل معاذ بن عفراء، وقال معاذ: يا رسول اللَّه، أنا أرضيهما فاتخذه مسجدًا، ويقال: إن بني النجار جعلوا حائطهم وقفًا، وأجازه النبي صلى الله عليه وسلم، واستدل ابن بطال بهذا على صحة وقف المشاع، وقال: وقف المشاع جائز عند مالك، وهو قول أبي يوسف والشافعي خلافًا لمحمد، والصحيح أن بني النجار لم يوقفوا شيئًا، بل باعوه، ووقفه النبي صلى الله عليه وسلم فليس وقف مشاع. اهـ. ذكره العيني، ويمكن الجمع بين روايات الشراء وروايات الصحيحين بأن ما في الصحيحين تعبير عن أول الأمر وما ذكر في غيرهما تعبير عما لحق، فبنو النجار عرضوا التبرع به على أساس أن يعوضوا اليتيمين وهم أولياؤهما، فلما علم الرسول صلى الله عليه وسلم ملكية اليتيمين أصر على الشراء وليس في الروايات ما يدل على أن أبا بكر دفع الثمن نيابة عن

الرسول صلى الله عليه وسلم، بل كل ما فيها أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر بالدفع، فيحتمل أن أبا أيوب قام بالدفع فيكون هو الذي اشترى وأوقف، وليس في الروايات ما يمنع من أن اليتيمين أخذا الثمن من أية جهة، ولا يؤخذ منها أن أشراف بني النجار أخذوا الثمن، فلا تعارض. 2 - أما نبش قبور المشركين فجائز لأنهم لا حرمة لهم، وإقامة المساجد عليها جائزة إذا لم يسجد المصلي على تراب أجسامهم أو عظامهم، بأن غيبت العظام وستر تراب الأجساد بتراب طاهر جديد، وليس في اتخاذ قبور المشركين مساجد بهذه الصفة تعظيم لهم، لأنه بعد النبش وتغييب العظام وتراب الرفات لم تعد قبورًا ويصير سطح الأرض طاهرًا منهم، والأرض كلها مسجد. أما نبش قبور المسلمين فلا يجوز لأن حرمة المسلم لا تزول حيًا وميتًا، نعم القبور الدارسة التي لا يعرف حائزوها إذا دعت مصلحة لنبشها وتغييب ترابها وعظامها جاز. وقد استشكل على الحديث بأنه كيف جاز إخراج المشركين من قبورهم والقبر مختص بمن دفن فيه، وقد حازه، فلا يجوز بيعه ولا نقله عنه، وأجاب العيني عن هذا الإشكال بأن تلك القبور التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بنبشها لم تكن ملكًا لمن دفن فيها، بل لعلها غصبت. فلذلك باعها ملاكها، وعلى تقدير التسليم أنها حبست فليس بلازم، إنما اللازم تحبيس المسلمين لا الكفار، ولهذا قالت الفقهاء: إذا دفن المسلم في أرض مغصوبة يجوز إخراجه، فضلاً عن المشرك، وقد يجاب بأنه دعت الضرورة والحاجة إلى نبشهم فجاز. اهـ. ثم قال: فإن قلت: هل يجوز في هذا الزمان نبش قبور الكفار ليتخذ مكانها مساجد؟ قلت: أجاز ذلك قوم محتجين بهذا الحديث، وليست حرمتهم موتى بأعظم منها وهم أحياء، وإلى جواز نبش قبورهم ذهب الحنفية والشافعي. وقال الأوزاعي: لا يفعل. اهـ. ثم قال: فإن قلت: هل يجوز أن تبنى المساجد على قبور المسلمين؟ قلت: قال ابن القاسم: لو أن مقبرة من مقابر المسلمين عفت فبنى عليها قوم مسجدًا لم أر بذلك بأسًا، وذلك لأن المقابر وقف من أوقاف المسلمين لدفن موتاهم لا يجوز لأحد أن يملكها، فإذا درست واستغنى عن الدفن فيها جاز صرفها إلى المسجد، لأن المسجد أيضًا وقف من أوقاف المسلمين لا يجوز تملكه لأحد، فمعناهما على هذا واحد، وذكر أصحابنا أن المسجد إذا خرب ودثر ولم يبق حوله جماعة، والمقبرة إذا عفت ودثرت تعود ملكًا لأربابها، فإذا عادت ملكًا يجوز أن يبنى موضع المسجد دارًا وموضع المقبرة مسجدًا وغير ذلك، فإذا لم يكن لها أرباب تكون لبيت المال. اهـ. والكلام في بناء المساجد على القبور يجرنا إلى الكلام عن حكم بناء المساجد بجوار القبور، أو دفن بعض الموتى الصالحين في ناحية من المسجد أو قريبًا منه، وفي هذا يقول البندنيجي، يكره أن يبنى عند القبر مسجد فيصلى فيه إلى القبر، وأما المقابر الكثيرة إذا بني فيها مسجد ليصلى فيه فلم أر فيه بأسًا. وقال البيضاوي: لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيمًا لشأنهم ويجعلونها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها، واتخذوها أوثانًا لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم ومنع

المسلمين عن مثل ذلك، فأما من اتخذ مسجدًا في جوار صالح وقصد التبرك بالقرب منه لا للتعظيم له ولا للتوجه إليه فلا يدخل في الوعيد المذكور. اهـ. والحق أنه وإن لم يدخل في الوعيد المذكور المصحوب باللعن إلا أنه لا يحل هذا الفعل شرعًا خصوصًا إذا وضع القبر جهة القبلة، وكذا إذا أدى إلى تعظيم صاحب القبر والتوجه إليه بالدعاء، فعلة النهي تعظيم الميت المقبور مما أدى مع تطاول الأزمان إلى عبادته، ولا يخفى أن سد الذرائع أصل شرعي واجب الاتباع، فبناء المسجد ملاصقًا لقبر، أو بناء قبر صالح في ناحية من المسجد لا يجوز. واللَّه أعلم. أما الصلاة في المقابر فمكروهة، سواء أكانت بجانب القبر، أو عليه أو إليه، استدلالاً بما رواه البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها قبورًا" وبما رواه أبو داود والترمذي عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام". وقال النووي في المجموع: إن تحقق أن المقبرة منبوشة لم تصح صلاته فيها إذا لم يبسط تحته شيء لأنه قد اختلط بالأرض صديد الموتى، وإن كانت جديدة لم تنبش صحت صلاته مع الكراهة، هذا مذهب الشافعية، وذهب أبو حنيفة إلى كراهة الصلاة في المقابر مطلقًا، وعن مالك روايتان أشهرهما لا يكره ما لم يعلم نجاستها، وقال أحمد: الصلاة فيها حرام، وفي صحتها روايتان وإن تحقق طهارتها. 3 - ومورد الحديث في هذا الباب الصلاة في مرابض الغنم، وفي الرواية الثانية منه "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في مرابض الغنم قبل أن يبنى المسجد" قال الحافظ ابن حجر: أي بعد بناء المسجد صار لا يحب الصلاة في غيره إلا لضرورة، وقال ابن بطال: هذا الحديث حجة على الشافعي في قوله بنجاسة أبوال الغنم وأبعارها، لأن مرابض الغنم لا تسلم من ذلك، فدل على أنهم كانوا يباشرونها في صلاتهم فلا تكون نجسة، وتعقب بأن الطهارة هي الأصل، وعدم السلامة منها غالب، وإذا تعارض الأصل والغالب قدم الأصل ورد بأن التعبير بكان يدل على الملازمة والكثرة والدوام مما تتحقق معه حالة وجود البول والروث وقد حاول البعض أن ينازع هذا الدليل باحتمال وضعهم حائلاً بينهم وبين مواضع البول والروث، وهو احتمال بعيد، فإنهم لم يكونوا يفرشون بينهم وبين الأرض، وحاول ابن حزم أن يجعل الإباحة منسوخة بقوله "قبل أن يبنى المسجد" قال الحافظ ابن حجر وفيه نظر، لأن إذنه صلى الله عليه وسلم في الصلاة في مرابض الغنم ثابت عند مسلم، "عن جابر بن سمرة أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم، قال أصلي في مبارك الإبل؟ قال: لا". ولم يقل أحد بالفرق بين أبوال الغنم وأبوال الإبل وأرواثهما، فدل على أن الإذن في مرابض الغنم والنهي في مبارك الإبل لشيء لا يتعلق بالطهارة ولا النجاسة، وهو أن الغنم ذات سكينة - لا يخاف من نفارها بخلاف الإبل. والحق أن الحديث دليل قوي للقائلين بطهارة بول وروث ما يؤكل لحمه وهم المالكية وأحمد ومحمد بن الحسن، والاصطخري والروياني من الشافعية، وهو قول الشعبي وعطاء والنخعي

والزهري وابن سيرين والحكم والثوري، وردود المانعين لا تنهض على المعارضة، وهم الشافعي وأبو حنيفة وأبو يوسف وأبو ثور وآخرون. واللَّه أعلم. -[4 - ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - جواز الإرداف. 2 - جواز التصرف في المقبرة المملوكة بالهبة والبيع. قاله الحافظ ابن حجر، وقال النووي: فيه أن الأرض التي دفن فيها الموتى ودرست يجوز بيعها وأنها باقية على ملك صاحبها وورثته من بعده إذا لم توقف. 3 - جواز قطع الأشجار المثمرة للحاجة، أخذًا من قوله "وأمر بالنخل فقطع" قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر لاحتمال أن يكون النخل بما لا يثمر، إما بأن تكون ذكورًا، وإما أن يكون طرأ عليه ما قطع ثمرته، وقال النووي: فيه جواز قطع الأشجار المثمرة للحاجة والمصلحة لاستعمال خشبها، أو ليغرس موضعها غيرها أو لخوف سقوطها على شيء تتلفه، أو لاتخاذ موضعها مسجدًا أو قطعها في بلاد الكفار إذا لم يرج فتحها، لأن فيه نكاية وغيظًا لهم وإضعافًا وإرغامًا، اهـ. وما ذكره النووي من حالات عدا بناء المسجد مكانها لا يؤخذ من الحديث وإنما هو على سبيل القياس أو لأدلة أخرى، ويبقى اعتراض الحافظ ابن حجر قائمًا. 4 - قال النووي: وفيه جواز نبش القبور الدارسة وأنه إذا أزيل ترابها المخلط بصديدهم ودمائهم جازت الصلاة في تلك الأرض: قال الحافظ ابن حجر: إذا لم تكن القبور محترمة. وهو قيد حسن. 5 - جواز الصلاة في مقابر المشركين بعد نبشها وإخراج ما فيها. 6 - وجواز بناء المساجد في أماكنها. 7 - قال النووي: فيه جواز الارتجاز وقول الأشعار في حال الأعمال والأسفار ونحوها لتنشيط النفوس وتسهيل الأعمال والمشي عليها، اهـ. ولما كان إنشاد الشعر محرمًا على النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له} [يس: 69] قال بعض العلماء: إن الرجز ليس من الشعر وعلى هذا القول يحمل تناوله صلى اللَّه عليه وسلم في هذا الموضع، وقال القرطبي: الصحيح في الرجز أنه من الشعر، وإنما أخرجه من الشعر من أشكل عليه إنشاد النبي صلى الله عليه وسلم إياه، فقال، لو كان شعرًا لما علمه قال: وهذا ليس بشيء، لأن من أنشد القليل من الشعر أو قاله أو تمثل به على وجه الندور لم يستحق اسم شاعر، ولا يقال فيه إنه يعلم الشعر ولا ينسب إليه. اهـ. 8 - وفيه جواز الصلاة في مرابض الغنم. واللَّه أعلم

(196) باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة

(196) باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة 976 - عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا حتى نزلت الآية التي في البقرة {وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [البقرة: 144] فنزلت بعد ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق رجل من القوم فمر بناس من الأنصار وهم يصلون فحدثهم فولوا وجوههم قبل البيت. 997 - عن البراء رضي الله عنه قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا ثم صرفنا نحو الكعبة. 998 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: بينما الناس في صلاة الصبح بقباء إذ جاءهم آت فقال إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة. 999 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: بينما الناس في صلاة الغداة إذ جاءهم رجل بمثل حديث مالك. 1000 - عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي نحو بيت المقدس فنزلت {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام} [البقرة: 144] فمر رجل من بني سلمة وهم ركوع في صلاة الفجر وقد صلوا ركعة فنادى ألا إن القبلة قد حولت فمالوا كما هم نحو القبلة. -[المعنى العام]- كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في مكة يصلي مستقبلاً بيت المقدس جاعلاً الكعبة بينه وبينه، فلما هاجر

إلى المدينة لم يعد من الممكن استقبال الكعبة وبيت المقدس معًا لأن بيت المقدس في الشمال والكعبة في الجنوب، ومستقبل أحدهما مستدبر الآخر، فاستقبل بيت المقدس بوحي من اللَّه وخصوصًا أنه في أول هجرته كان يحب موافقة اليهود تأليفًا لهم، فلما استقر الإسلام بالمدينة وقويت شوكته وبرزت شخصيته كان صلى اللَّه عليه وسلم يتمنى أن يؤمر بالتوجه في صلاته إلى الكعبة قبلة أبيه إبراهيم وأول بيت وضع للناس، وكان يقلب وجهه في السماء ينتظر أمر اللَّه بذلك ويتعجله، حتى نزل قوله تعالى: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام} كان ذلك بعد ستة عشر شهرًا من قدومه المدينة أو تزيد قليلاً، نزل هذا الأمر والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بمسجده بالمدينة وقد صلى ركعتين إلى بيت المقدس فاستدار وصلى الركعتين الأخيرتين إلى الكعبة، وصلى معه رجال خرج أحدهم إلى مسجد بني حارثة فوجد المسلمين يصلون العصر مستقبلين القدس فأعلن لهم ما علم وقال أشهد باللَّه أن النبي صلى الله عليه وسلم أنزل عليه، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستدار المصلون نحو الكعبة، وخرج رجل آخر فجرًا إلى قباء فوجدهم يصلون الصبح مستقبلين الشام وقد صلوا ركعة فأخبرهم، فاستداروا نحو الكعبة وأكملوا صلاتهم، وصدق اللَّه العظيم {يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} [البقرة: 142]. -[المباحث العربية]- (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس) قال النووي: المقدس فيه لغتان مشهورتان، إحداهما فتح الميم وإسكان القاف، والثانية ضم الميم وفتح القاف، ويقال فيه أيضًا إيلياء وإلياء، وأصل القدس والتقديس من التطهير. اهـ. (فانطلق رجل من القوم) قال الحافظ ابن حجر: واسمه عباد بن بشر بن قيظي، وقيل: عباد بن نهيك. (فمر بناس من الأنصار وهم يصلون) قيل: هم من بني سلمة، وقيل أهل قباء. (بينما الناس في صلاة الصبح بقباء إذ جاءهم آت) "بينما" أصله "بين" فأشبعت الفتحة فصارت "بينا" وزيدت الميم، فصارت "بينما" وهي ظرف زمان بمعنى المفاجأة وتضاف إلى جملة من فعل وفاعل، أو مبتدأ وخبر، وتحتاج إلى جواب يتم به المعنى، والأفصح في جوابها أن لا يكون فيه "إذ" و"إذا" وقد جاء بإذ وإذا كثيرًا، وأضيفت هنا إلى المبتدأ والخبر، وجوابها قوله "إذ جاءهم آت" وأل في "الناس" للعهد الذهني، لأن المراد أهل قباء ومن حضر معهم في الصلاة، و"قباء" فيها ست لغات المد والقصر، والتذكير والتأنيث، والصرف والمنع، وأفصحها المد. (إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة) أطلق الليلة على بعض اليوم الماضي وما يليه مجازًا.

(وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها) قال النووي: روى "فاستقبلوها" بكسر الباء وفتحها والكسر أصح وأشهر، وهو الذي يقتضيه الكلام بعده، اهـ. فالكسر على صيغة الأمر، والآمر الرجل الآتي لهم من مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ويؤيده رواية البخاري في التفسير "ألا فاستقبلوها" وفتح الباء رواية الأكثر فعل ماض، يحكي الراوي استجابتهم وتنفيذهم للتشريع، والفاعل يصح أن يقصد به الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويصح أن يقصد به أهل قباء. (وكانت وجوههم إلى الشام) هو من كلام ابن عمر، لا من كلام الرجل المخبر. (فاستداروا إلى الكعبة) وقد وقع بيان كيفية التحول في بعض الروايات، وفيها، "فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء" قال الحافظ: وتصويره أن الإمام تحول من مكانه في مقدم المسجد إلى مؤخر المسجد، لأن من استقبل الكعبة في المدينة استدبر بيت المقدس، وهو لو دار في مكانه لم يكن خلفه الصفوف. (في صلاة الغداة) صلاة الصبح. -[فقه الحديث]- ظاهر الحديث أن استقبال بيت المقدس إنما وقع بعد الهجرة إلى المدينة لكن أخرج الإمام أحمد عن ابن عباس "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه" قال الحافظ ابن حجر: ويمكن الجمع بينهما بأن يكون صلى اللَّه عليه وسلم قد أمر لما هاجر بأن يستمر على الصلاة لبيت المقدس. وأخرج الطبراني من طريق ابن جريج قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم أول ما صلى إلى الكعبة، ثم صرف إلى بيت المقدس وهو بمكة، فصلى ثلاث حجج، ثم هاجر فصلى إليه بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرًا، ثم وجهه اللَّه إلى الكعبة. وما رواه الطبراني لا يتنافى مع ما رواه أحمد لجواز أن يكون الاستقبال بدأ إلى الكعبة ثم صرف إلى بيت المقدس فحدث ابن عباس عن الحالة الثانية: قال الحافظ ابن حجر: وزعم ناس أنه لم يزل يستقبل الكعبة بمكة، فلما قدم المدينة استقبل بيت المقدس، ثم نسخ قال: وهذا ضعيف، والأول أصح لأنه جمع بين القولين. اهـ. واختلف العلماء في أن استقبال بيت المقدس هل كان ثابتًا بالقرآن أو باجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم، والذي ذهب إليه أكثر العلماء أنه كان بسنة لا بقرآن، فعلى هذا يكون فيه دليل لقول من قال: إن القرآن ينسخ السنة، وهو قول أكثر الأصوليين المتأخرين، والقول الثاني وبه قال الشافعي وآخرون لا يجوز أن ينسخ القرآن السنة، لأن السنة مبينة للكتاب فكيف ينسخها؟ وهؤلاء يقولون: لم يكن استقبال بيت المقدس بسنة، بل كان بوحي، قال تعالى: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ... } [البقرة: 143] الآية، وفي تحرير القول بالمدة التي استقبل بها بيت المقدس في المدينة

قال الحافظ ابن حجر: وقع الشك في الرواية الثانية، وفي الرواية الأولى وبعض الروايات "ستة عشر" من غير شك، ووقع في بعض الروايات "سبعة عشر شهرًا من غير شك، والجمع بين الروايتين سهل بأن يكون من جزم بستة عشر لفق من شهر القدوم وشهر التحويل شهرًا وألغى الزائد، ومن جزم بسبعة عشر شهرًا عدهما معًا، ومن شك تردد في ذلك. وذلك أن القدوم كان في شهر ربيع الأول بلا خلاف، وكان التحويل في نصف شهر رجب من السنة الثانية على الصحيح. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - جواز النسخ ووقوعه. 2 - وفيه قبول خبر الواحد. 3 - وفيه دليل على أن النسخ لا يثبت في حق المكلف حتى يبلغه. قال النووي: فإن قيل: هذا نسخ لمقطوع به بخبر الواحد، وذلك ممتنع عند أهل الأصول؟ فالجواب أنه احتفت به قرائن ومقدمات أفادت العلم، وخرج عن كونه خبر واحد مجردًا، اهـ. 4 - وفيه جواز الصلاة الواحدة إلى جهتين، وهذا هو الصحيح عند الشافعية، فمن صلى إلى جهة بالاجتهاد ثم تغير اجتهاده في أثنائها فيستدير إلى الجهة الأخرى، حتى لو تغير اجتهاده أربع مرات في الصلاة الواحدة فصلى كل ركعة منها إلى جهة صحت صلاته على الأصح، لأن أهل هذا المسجد المذكور في الحديث استداروا في صلاتهم واستقبلوا الكعبة ولم يستأنفوها وبهذا قال أحمد وجمهور العلماء. 5 - وفيه جواز تعليم من ليس في الصلاة من هو فيها. 6 - وفيه أن استماع المصلي لكلام من ليس في الصلاة لا يضر صلاته. 7 - وفيه أن ما يؤمر به النبي صلى الله عليه وسلم يلزم أمته. 8 - وفيه أن العمل الذي هو في مصلحة الصلاة لا يضر الصلاة، لأن التحول وتغيير الصفوف وانتقال النساء أعمال كثيرة، وقيل: يحتمل أن ذلك وقع قبل تحريم العمل الكثير، ويحتمل أن يكون قد اغتفر العمل المذكور من أجل المصلحة المذكورة. واللَّه أعلم

(197) باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها والنهي عن اتخاذ القبور مساجد

(197) باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها والنهي عن اتخاذ القبور مساجد 1001 - عن عائشة رضي اللَّه عنها أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند اللَّه يوم القيامة". 1002 - عن عائشة رضي الله عنها أنهم تذاكروا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه فذكرت أم سلمة وأم حبيبة كنيسة ثم ذكر نحوه. 1003 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: ذكرن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كنيسة رأينها بأرض الحبشة يقال لها مارية بمثل حديثهم. 1004 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه "لعن اللَّه اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" قالت فلولا ذاك أبرز قبره. غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا. وفي رواية ابن أبي شيبة: ولولا ذاك لم يذكر: قالت. 1005 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قاتل اللَّه اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". 1006 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".

1007 - عن عائشة رضي الله عنها وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما قالا لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه. فإذا اغتم كشفها عن وجهه. فقال وهو كذلك "لعنة اللَّه على اليهود والنصارى. اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر مثل ما صنعوا. 1008 - عن جندب رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فإن الله تعالى قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً ولو كنت متخذًا من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك". -[المعنى العام]- مرض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مرضه الأخير، ولم يستطع أن يدور على نسائه كل واحدة منهن في ليلة، ورغب أن يمرض في بيت من بيوتهن، وأحب البيوت إليه بيت عائشة ولكن كيف يحصل على موافقة الأزواج على أن يمرض في بيت عائشة؟ فكان يسأل: أين أنا غدًا؟ أين أبيت غدًا؟ في بيت من سأكون غدًا، وفهم أمهات المؤمنين أنه صلى اللَّه عليه وسلم يسأل عن ليلة عائشة ويتشوف إلى بيت عائشة فأذن له أن يمرض في بيتها، ويجتمعن عنده صلى اللَّه عليه وسلم في كل يوم. وكانت أم حبيبة وأم سلمة قد هاجرتا إلى الحبشة فيمن هاجر، ورأتا في الحبشة في كنيسة تسمى "مارية" تماثيل مصورة يسجد عندها الناس على أنها معبودات أو على أنها رمز لصالحين عابدين، يرجى خيرهم ونفعهم، رأتا كيف يقدس الناس هذه التماثيل في الكنيسة وكيف يركعون لها، ولا شك أنهما وبقية أمهات المؤمنين يفترضون وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه، وقد خطر في نفس كل منهن ولا ريب النهاية والمصير، وقد خطر في نفوسهن ما يصير إليه الأمر بعده، وكيف يكون قبره؟ وكيف يصبح مسجده؟ . وبرزت صورة ما كان في الكنيسة من تماثيل في مخيلة أم حبيبة وأم سلمة، فقامت إحداهن تروي ما رأت والأخرى تؤمن على ما تقول: قالت يا رسول اللَّه، رأينا ونحن بالحبشة في كنيسة

تسمى مارية تماثيل كثيرة تمثل أشخاصًا وتصورهم كأنهم أجساد بشرية أحياء، ورأينا الناس يعظمونها ويقدسونها ويسجدون عندها. وكان في عرض هذه الواقعة تنبيه لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خشي على إثره أن يحدث معه بعد موته ما حدث مع غيره، فقال صلى اللَّه عليه وسلم لعن اللَّه اليهود والنصارى كانوا إذا مات فيهم النبي أو الرجل الصالح بنوا على قبره كنيسة يجتمع إليها الناس، وصوروا فيها هذه الصور تقديسًا وتعظيمًا ولتكون ذكرى للصلاح ليقتدوا بهم، فلما طال عليهم الزمن سول لهم الشيطان أن أجدادهم كانوا يعبدون هذه التماثيل فعبدوها. ألا وإني أنهاكم أن يتخذ قبري مسجدًا، ألا وإني أنهاكم أن تصور بعدي عند قبري الصور والتماثيل. أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة. ولم يفتأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم طيلة مرضه يحذر الناس من مثل هذا الفعل، فكلما هدأت حرارة الحمى غطى وجهه صلى اللَّه عليه وسلم يفكر ويستعد للقاء ربه، وكلما اشتدت حرارتها كشف عن وجهه ليبرد الحرارة بالماء، فإذا رأى بعض الصحابة بجواره حذرهم من اتخاذ قبره مسجدًا، وحذرهم من تقديسه بعد موته، يقول: إن من كان قبلكم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا لا تتخذوا قبري مسجدًا. إني أنهاكم عن ذلك وأبرأ إلى اللَّه من فعل يزيد في تقديسي، ثم أشار إلى الخلافة من بعده فقال: إن اللَّه قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذًا من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً. فصلى اللَّه وسلم عليه، بلغ الأمانة وأدى الرسالة ونصح الأمة وكشف الغمة فجزاه اللَّه خيرًا. -[المباحث العربية]- (أم حبيبة) أم المؤمنين، واسمها رملة بنت أبي سفيان، هاجرت إلى الحبشة مع زوجها عبد اللَّه بن جحش فتوفي هناك، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في الحبشة سنة ست من الهجرة، وكان النجاشي قد أمهرها من عنده عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وبعثها إليه. (أم سلمة) أم المؤمنين هند بنت أبي أمية المخزومي، هاجر بها أبو سلمة إلى الحبشة، فلما رجعا إلى المدينة مات زوجها، فتزوجها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. (ذكرتا كنيسة) "ذكرتا" كذا لأكثر الرواة بلفظ التثنية للمؤنث من الماضي، والضمير فيه يرجع إلى أم حبيبة وأم سلمة، والظاهر أن إحداهما ذكرت والأخرى أمنت فنسب الذكر إليهما، وفي رواية "ذكرا"، وهو خلاف الأصل والأظهر أنه من النساخ، والكنيسة معبد النصارى، وفي الرواية الثالثة "يقال لها: مارية" بكسر الراء وتخفيف الياء التحتية، قال العيني: والمارية بتخفيف الياء البقرة. (رأينها بالحبشة) بصيغة جمع المؤنث من الماضي، أي هما ومن كان معهما. وفي رواية "رأتاها" على الأصل بضمير التثنية.

(فيها تصاوير) المراد من التصاوير هنا التماثيل. (إن أولئك) بكسر الكاف، ويجوز فتحها. (بنوا على قبره مسجدًا) معبد النصارى يسمى بيعة بكسر الباء وكنيسة، فالتعبير عنه بمسجد أي مكان سجود، وليس المراد المسجد المعروف للمسلمين. (وصوروا فيه تلك الصور) وفي رواية "تيك الصور"، والكاف فيها الكسر والفتح. (أولئك شرار الخلق) الشرار بكسر الشين جمع الشر كالخيار جمع الخير والبحار جمع البحر، وأما الأشرار فقيل واحدها شر أيضًا، وقيل شرير كيتيم وأيتام. (ذكرن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كنيسة) قال النووي: هكذا ضبطناه "ذكرن" بالنون، وفي بعض الأصول "ذكرت بالتاء، والأول أشهر، وهو جائز على تلك اللغة القليلة لغة أكلوني البراغيت، ومنها "يتعاقبون فيكم ملائكة" اهـ. (لعن اللَّه اليهود والنصارى. اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) "اتخذوا" جملة مستأنفة على سبيل البيان لموجب اللعن: كأن سائلاً سأل: ما سبب لعنهم؟ فأجيب "اتخذوا" وقد استشكل ذكر النصارى في الحديث مع أنهم ليس لهم نبي بين عيسى والرسول صلى الله عليه وسلم غير عيسى عليه السلام وليس له قبر، وأجيب عنه بأنه كان فيهم أنبياء لكنهم غير مرسلين كالحواريين ومريم في قول، وكالثلاثة الذين أرسلوا إلى إنطاكية وجاء ذكرهم في سورة يس {إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما ... } [يس: 14] الآية. على أن الرواية الأولى وفيها "إذا كان فيهم الرجل الصالح" والثامنة وفيها "اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم" ترفع الإشكال، وتحمل هذه الرواية عليهما. (غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا) قال النووي: ضبطناه "خشي" بضم الخاء وفتحها، وهما صحيحان. (قاتل اللَّه اليهود) أي قتلهم، فهو دعاء بالقتل، و"فاعل" يأتي بمعنى فعل، ويقال: معناه لعنهم اللَّه، ويقال: عاداهم اللَّه، ويقال: القتال هنا عبارة عن الطرد والإبعاد عن الرحمة، فمؤداه ومؤدى اللعن واحد، وإنما خص اليهود هنا بالذكر بخلاف ما تقدم لأنهم أسسوا هذا الاتخاذ وابتدءوا به، فهم أظلم، أو لأنهم أشد غلوًا فيه. (لما نزلت برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم) هكذا هو في أكثر الأصول "نزلت" بفتح الحروف الثلاثة، وبتاء التأنيث، أي لما حضرت الميتة والوفاة، ولم يسبق لها ذكر اعتمادًا على العهد الذهني. وفي بعض الروايات "نزل" قال النووي: ضبطناه بضم النون وكسر الزاي بالبناء للمجهول، وفي رواية لأبي ذر "نزل" بالبناء للمعلوم، فالفاعل محذوف اعتمادًا على العهد الذهني. أي الموت أو ملك الموت.

(طفق يطرح خميصة له على وجهه) "طفق" جواب "لما" وهو من أفعال المقاربة، ويدل على الشروع في الخبر، ويعمل عمل "كان" إلا أن خبره يجب أن يكون جملة وهو من باب ضرب وعلم، والثاني أشهر وأفصح، وبه جاء القرآن، والخميصة كساء له أعلام سوداء مربعة. (فإذا اغتم كشفها عن وجهه) أي إذا تسخن وحمى، ولعله كان في وقت هدوء الآلام يغطي وجهه ليشتغل بنفسه وما يستقبله وما يفكر فيه من نصائح أخيرة لأمته، فإذا ملأته الحمى بحرارتها وشدتها كشف وجهه يتنسم الراحة في الهواء. (فقال - وهو كذلك) "وهو كذلك" جملة معترضة من كلام الراوي بين القول والمقول، أي قال وهو على هذه الحال - حال الطرح والكشف - وهدف ذكر هذه الصفة الإشعار بأهمية هذا الأمر حيث لا يشتغل الإنسان في شدة البلوى إلا بعظائم الأمور. وقال الحافظ ابن حجر: وفائدة التنصيص على زمن النهي وأنه كان في مرض موته وقبل أن يتوفى بخمس الإشارة إلى أنه من الأمر المحكم الذي لم ينسخ، لكونه صدر في آخر حياته. (يحذر ما صنعوا) "يحذر" ينصب مفعولين. قال تعالى {ويحذركم الله نفسه} [آل عمران: 28] فالمفعول الأول هنا محذوف، أي يحذر الرسول المسلمين ما صنع هؤلاء، والجملة مستأنفة، وهي من كلام الراوي، كأنه سئل عن حكمة ذكر ذلك في ذلك الوقت، فأجاب بذلك. (قبل أن يموت بخمس) أي بخمس ليال. (إني أبرأ إلى اللَّه أن يكون لي منكم خليل) أي أمتنع من هذا وأنكره. والخليل هو المنقطع إليه، وقيل: المختص بشيء دون غيره، قيل: مشتق من الخلة بفتح الخاء، وهي الحاجة، وقيل من الخلة بضم الخاء، وهي تخلل المودة في القلب، ينفي صلى اللَّه عليه وسلم أن تكون حاجته وانقطاعه إلى غير اللَّه تعالى، وقيل: الخليل من لا يتسع القلب لغيره، قاله الإمام النووي في شرح مسلم. -[فقه الحديث]- قال الحافظ ابن حجر: إنما بنى الأوائل على قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، وصوروا صورهم فيها ليأتنسوا برؤية تلك الصور، ويتذاكروا أحوالهم الصالحة، فيجتهدوا كاجتهادهم، ثم خلف من بعدهم خلوف جهلوا مرادهم، ووسوس لهم الشيطان أن أسلافكم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها، فعبدوها، فحذر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك سدًا للذريعة المؤدية إلى ذلك. اهـ. وظاهر كلام الحافظ أن الخوف الحقيقي منشؤه الصور والتماثيل وليس بناء المساجد على القبور، على معنى أنه لو وضعت هذه التماثيل على القبور من غير مساجد، أو على أماكن أخرى غير

القبور، كما كانت على الصفا والمروة، أو في البيوت والنوادي لكان النهي، لأن المحذور المخيف هو التماثيل وبالتالي بناء المسجد على القبر بدون التصاوير لا يؤدي إلى هذا المحذور، وبالتالي يحذر النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعل معه بعد موته مثل ما صنع مع أنبياء اليهود من تصويره صلى اللَّه عليه وسلم. وقد يؤيد هذا الاتجاه أن عمر رضي الله عنه لما قدم الشام ودعي إلى الكنيسة قال: إنا لا ندخل كنائسكم من أجل الثماثيل التي فيها الصور، وكان ابن عباس يصلي في البيعة إلا بيعة فيها تماثيل. ذكر ذلك البخاري ولم يبحث أي منهما ولم يبن فعله على كون الكنيسة بها قبر أو لا. لكن الرواية الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة أوعدت باللعن والقتل لاتخاذهم القبور مساجد دون ذكر للتماثيل والصور مما يفيد أن اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد معرض للعن والطرد من رحمة اللَّه، ومما لا شك فيه أنهم لم يكونوا يتخذون القبر وحده مسجدًا بل كان القبر جزء مسجد، وعلى ذلك فلا فرق بين أن يكون القبر في زاوية من المسجد أو في وسطه غاية الأمر أن الحرمة تشتد، والجرم يعظم إذا جعل القبر في القبلة بحيث يستقبله المصلون، وكذا لا فرق بين أن يسبق بناء المسجد أو العكس، فكل من الوضعين في النهاية يؤدي إلى تعظيم صاحب القبر مما يهدد مستقبلاً بالمحظور، وإذا كانت العلة في المنع أن يؤدي إلى تعظيم وتقديس صاحب القبر مما يؤدي إلى عبادته أو إلى احتمال عبادته ولو بنسبة واحد في الألف كان ممنوعًا، كذلك كل مظهر من مظاهر التعظيم كبناء القبة والمقام ولو بغير مسجد استصحابًا للعلة وإغلاقًا لباب الفتنة وسدًا للذرائع. واللَّه أعلم. ومن المعلوم أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد دفن بحجرة عائشة هو وصاحباه، وكانت خارجة عن المسجد، ولما احتاج الصحابة رضوان اللَّه عليهم والتابعون إلى الزيادة في مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين كثر المسلمون، وامتدت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أمهات المؤمنين فيه، ومنها حجرة عائشة رضي اللَّه عنها بنوا على القبر حوائط مرتفعة مستديرة حوله لئلا يظهر في المسجد فيصلي إليه العوام، ويؤدي للمحذور، ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا، حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره صلى اللَّه عليه وسلم. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - جواز حكاية ما يشاهده المؤمن من العجائب. 2 - وجوب بيان حكم ذلك على العالم به. 3 - ذم فاعل المحرمات. 4 - أن الاعتبار في الأحكام بالشرع لا بالعقل. 5 - النهي عن اتخاذ القبور مساجد، وبناء المساجد على القبور، ومقتضاه التحريم، حيث ثبت اللعن عليه، وذهب الشافعي وأصحابه إلى القول بالكراهة. وقال البيضاوي: لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيمًا لشأنهم، ويجعلونها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها، واتخذوها

أوثانًا لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم، ومنع المسلمين عن مثل ذلك، فأما من اتخذ مسجدًا في جوار صالح، وقصد التبرك بالقرب منه لا للتعظيم له ولا للتوجه إليه فلا يدخل في الوعيد المذكور. اهـ. هذا وليس معنى عدم دخوله في الوعيد المذكور عدم حرمته أو عدم كراهته، بل بعده عن أن يكون من الكبائر، حيث قيل في تحديدها: ما أنذر فيها بلعن أو بوعيد شديد. واللَّه أعلم. 6 - وفي الحديث دليل على تحريم التصوير، قال الحافظ ابن حجر: وقد حمل بعضهم الوعيد على ما كان في ذلك الزمان لقرب العهد بعبادة الأوثان، وأما الآن فلا: وقد أطنب ابن دقيق العيد في رد ذلك. واللَّه أعلم

(198) باب فضل بناء المساجد والحث عليها

(198) باب فضل بناء المساجد والحث عليها 1009 - عن عثمان بن عفان رضي الله عنه عند قول الناس فيه حين بنى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم إنكم قد أكثرتم وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من بنى مسجدًا لله تعالى (قال بكير: حسبت أنه قال: يبتغي به وجه الله) بنى الله له بيتًا في الجنة" وقال ابن عيسى في روايته "مثله في الجنة". 1010 - عَنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه أَنَّهُ أَرَادَ بِنَاءَ الْمَسْجِدِ فَكَرِهَ النَّاسُ ذَلِكَ فأحبوا من يدعه على هيئته فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من بنى مسجدًا لله بنى الله له في الجنة مثله". -[المعنى العام]- بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده بالمدينة كما سبق، من اللبن وسقفه بجريد النخل وجعل أعمدته جذوع النخل وارتفاع حوائطه قامة أو تزيد، وظل المسجد كذلك في عهد أبي بكر، وفي عهد عمر رأى الجريد قد نخر وتساقط، والحوائط قد تهشمت فأعاد بناءه على الهيئة التي بناه عليها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم باللبن وجريد النخل، غير أنه زاد في سعته حيث دعت الضرورة إلى هذه الزيادة، وفي عهد عثمان وفي سنة ثلاثين من الهجرة فكر عثمان في إعادة بناء المسجد، وكان التقدم العمراني غير ما سبق، فاتصال المسلمين بالفرس والروم وكثرة الأموال حدًا بالمسلمين إلى عمران آخر في بيوتهم يستغلون فيه الحجارة بأنواعها والجص والألوان والأخشاب الثمينة، ورأى عثمان أن المسجد ينبغي أن يساير التقدم البنائي، وأن يكون بآلات حديثة كالحجارة والأخشاب لما لها من طول بقاء وحسن منظر وهيبة وجلال، فجلب للمسجد نوعًا مشهورًا من الخشب يسمى بالساج، جلبه من بلاد الهند ليسقف المسجد به، وجلب أنواعًا جيدة من الحجارة المنقوشة ليبني بها حوائطه، ويقيم بها أعمدته، وجلب القصة والجص والجير ليطلي به البناء بعد تمامه، وشعر بعض المسلمين أن في هذا التغيير الشكلي لبناء المسجد إسرافًا لا داعي له، وأن إعادة بنائه بالوضع السابق يذكر الناس بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه من الزهد والتقشف وخصوصًا في وقت وأماكن العبادة، وخشوا أن يفتح هذا العمل باب التنافس في المظاهر وفي عمارة المساجد على حساب التنافس في البواطن والإيمان والعبادة وفي عمارة المساجد بالورود عليها والإقبال والإقامة.

هذه المخاوف دفعت الكثير من الصحابة أن ينتقد عثمان رضي الله عنه في هذا العزم ويحاول إثناءه عن تنفيذه، لكن الخليفة الثالث كان مقتنعًا فروى للقوم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من بنى وشيد مسجدًا يصلي فيه الناس يبتغي بهذا العمل وجه الله ومرضاته بنى الله له بيتًا مثله في الجنة، ورضي كثير من الصحابة وأقروا عثمان على عزمه ووافقوه، ولم تبق المعارضة طويلاً، وتم لعثمان ما قصد، وبنى المسجد النبوي بناء متينًا كريمًا. جزاه الله خير الجزاء ورضي عن الصحابة أجمعين، لقاء حرصهم على تعاليم الشرع ودفاعهم ضد ما يمس الإسلام. -[المباحث العربية]- (عند قول الناس فيه) أي في عثمان، وذلك أن بعضهم أنكر عليه تغييره بناء المسجد وتكلموا في عثمان يخطئونه ويلومونه، والجار والمجرور "عند قول الناس فيه" متعلق بقال المحذوفة أي قال عثمان في هذه الحالة. (حين بنى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم) في الكلام مجاز المشارفة، أي حين أراد أن يبني، لأن النقد والإنكار توجه إليه حين خطط للبناء وأعد أدواته قبل أن يبني، ويوضح ذلك ما جاء في الرواية الثانية، أن عثمان أراد بناء المسجد فكره الناس" قال البغوي في شرح السنة: لعل الذي كرهه الصحابة من عثمان بناؤه بالحجارة المنقوشة لا مجرد توسيعه. اهـ. ولم يبن عثمان المسجد إنشاء، وإنما وسعه وشيده، فيؤخذ منه إطلاق البناء في حق من جدده كما يطلق في حق من أنشأه أو المراد بالمسجد هنا بعض المسجد من إطلاق الكل على البعض. (إنكم قد أكثرتم) هذا مقول عثمان، ومفعول "أكثرتم" محذوف تقديره أكثرتم الكلام والإنكار على فعلي. (من بنى مسجدًا لله) التنكير فيه للشيوع، فيدخل فيه الكبير والصغير، ووقع عند الترمذي، "صغيرًا أو كبيرًا" والمراد بالمسجد ما يتبادر إلى الذهن، وهو المكان الذي يتخذ للصلاة فيه، ويمكن أن يراد به موضع السجود وهو ما يسع الجبهة، لكن قوله "بنى" يشعر بوجود بناء على الحقيقة، ويؤيده رواية "من بنى لله بيتًا" ويؤيد الثاني رواية "ولو كمفحص قطاة" والقطاة طائر صغير ومفحصه وعشه الذي يضع فيه البيض قدر مكان سجود الجبهة. وسيأتي مزيد إيضاح لهذه المسألة في فقه الحديث. (قال الراوي: حسبت أنه قال يبتغي به وجه اللَّه) أصل السند: "عن بكير بضم الباء أن عاصم بن عمر بن قتادة حدثه أنه سمع عبد الله الخولاني أنه سمع عثمان بن عفان يقول .... " قال الحافظ ابن حجر: قال بكير: حسبت أنه أي شيخه عاصمًا قال: يبتغي به وجه الله. أي يطلب به رضا الله، والمعنى بذلك الإخلاص، وهذه الجملة لم يجزم بها بكير في الحديث ولم أرها إلا من طريقه

هكذا كأنها ليست في الحديث بلفظها، فإن كل من روى حديث عثمان من جميع الطرق إليه لفظهم "من بنى لله مسجدًا" فكأن بكيرًا نسيها فذكر بالمعنى مترددًا في اللفظ الذي ظنه، فإن قوله "لله" بمعنى قوله "يبتغي به وجه الله" لاشتراكهما في المعنى المراد وهو الإخلاص. (بنى الله له بيتًا في الجنة) إسناد البناء إلى الله تعالى مجاز قطعًا، وإبراز الفاعل فيه لتعظيم ذكره جل اسمه، و"في الجنة" يتعلق ببنى. (بنى الله له بيتًا مثله في الجنة) لا شك أن المماثلة لا يقصد منها المساواة من كل وجه، إذ موضع شبر في الجنة خير من الدنيا وما فيها، وبناء الجنة من در وياقوت وسعة الملك فيها مد البصر، ولهذا يكاد العلماء يتفقون أن المماثلة في الكم غير مرادة، واختلفوا في التوجيه على أقوال شتى، فمن قائل: مثله في الجودة والحصانة وطول البقاء، ومن قائل: مثله في مسمى البيت. وأما صفته في السعة وغيرها فمعلوم فضلها، فإنها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ومن قائل مثله أي مثل فضله أي بمقدار فضل المسجد على بيوت الدنيا يكون فضل البيت الذي يجزى به على بيوت الجنة إلى آخر ما قالوا. ولعل المماثلة في أصل الصفات لا في مقدارها، فالمسجد الواسع يجازى ببيت واسع وليس في مقدار السعة، والمسجد المشيد يجازى ببيت مشيد بقطع النظر عن ماهية ومدى التشييد، والمسجد في موقع يحتاج إليه ويؤمه الكثيرون يجازى ببيت يتطلع إليه أهل الجنة ويغبطونه عليه. وهكذا، استنبط هذا الفهم من قول بعض شراح الترمذي: يحتمل أنه أراد أن ينبه بقوله "مثله" على الحض على المبالغة في إرادة الانتفاع به في الدنيا في كونه ينفع المصلين ويكنهم عن الحر والبرد، ويكون في مكان يحتاج إليه ويكثر الانتفاع به، ليقابل الانتفاع به في الدنيا انتفاعه هو بما يبنى له في الجنة، اهـ وهو كلام حسن. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث]- 1 - حرص الصحابة على الشريعة وحمايتهم لها وإنكارهم على ولي الأمر ما يرونه منكرًا لا يخشون في الله لومة لائم، وإذا عرفنا حال المسجد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وما زاده عليه عمر حيث لم نجد إنكارًا، عرفنا القدر الذي أنكر على عثمان رضي الله عنه. بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده باللبن على أساس قليل من الحجارة، وجعل ارتفاع الجدار قامة وبسطة، أي قامة، وزيادة، وجعل طول الضلع مائة ذراع وأضلاعه متساوية، وجعل عمده من جذوع النخل، وسقفه من جريد النخل، مما يمنع الشمس ولا يقي من المطر، حتى رأيناه صلى الله عليه وسلم ليلة القدر يسجد في ماء وطين، ولم يغير فيه أبو بكر شيئًا فقد كانت مدة خلافته قصيرة

وكان مشغولاً بحروب الردة، فلما كان عمر وكثر الناس أعاد بناءه على بنيانه صلى الله عليه وسلم باللبن وبالارتفاع وغير جريد السقف المتآكل بجريد جديد وبدل جذوع النخل المتآكلة التي كانت عمدًا بعمد من خشب، وزاد فيه ووسعه طولاً وعرضًا، فكانت الهيئة التي تم عليها بناء عمر مشابهة للهيئة التي بناها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تكاد تفترق إلا في السعة. وفي عهد عثمان كان بناء عمر قد تداعى، جريد النخل نخر، واللبن تهدم بالأمطار والرياح وعوامل الزمن، ورأى عثمان أن الناس قد غيروا بناء بيوتهم جريًا على سنة التطور وسعة الرزق، فجلب لبناء المسجد حجارة منقوشة ليبني بها الحوائط والأعمدة، وعزم على رفع البناء ليتمشى مع ارتفاع البيوت وأحضر له القصة وهي الجص (الجير أو المصيص) ليطلي به الجدران بعد البناء وجلب من الهند خشبًا خاصًا يسمى بالساج للسقف، وعزم على الزيادة في المسجد زيادة كبيرة، من هنا يتضح أن الإنكار لم يتوجه إلى إعادة البناء ولا إلى التوسع وإنما توجه إلى الغلو في الآلات وعدم القصد في البنيان. 2 - محاولة الحاكم إقناع المحكومين بوجهة نظره مع استمساكه بشرع الله ولم أر فيما قرأت من شفى غلتي في مطابقة رد عثمان للإنكار، وكيف صلح ردًا مقنعًا؟ هم ينكرون الغلو ولا ينكرون البناء وفضله، وعثمان يدلل على فضل البناء، فكيف التقى الرد مع الإنكار؟ . ولو أننا تعلقنا بالمثلية الواردة في بعض الروايات كالرواية الثانية في حديثنا وأن المماثلة في التشييد والمغالاة لتنافس المسلمون في ذلك بدرجة لا يقول بها أحد من العلماء، ويبدو لي أن عثمان رضي الله عنه أقنع الناس بما لم يذكر في الحديث لعله قال لهم: إن عمر الحجارة يفوق بكثير عمر اللبن، وأن خشب الساج يفوق متانة الجريد، فطول البناء بهما يعادل زيادة تكاليفهما، على أن زيادة التكاليف في تلك الأيام لم تكن ليحسب عند القوم حسابها، فقد امتلأت خزائن الدولة وخزائن الناس بما يستهان معه بهذه النفقات، لعله قال لهم: إن المسجد يجب أن يجد المصلي فيه راحته وأمنه من الحر والبرد ليتفرغ قلبه ومشاعره للتوجه إلى الله تعالى، لعله قال لهم أمثال ذلك مما يقنع فمما لا شك فيه أن القوم اقتنعوا بفعل عثمان، أو اقتنع أكثرهم على الأقل، وإلا ما فعل رضي الله عنه ما فعل. 3 - وفيه إنكار زخرفة المسجد، فإن الصحابة إذا كانوا قد أنكروا التشييد بالخشب والجص مع فائدتهما للمصلي، فإن الإنكار للزخرفة لا شك فيه لعدم وجود الفائدة، بل للإضرار بالخشوع ولانشغال المصلي بها ومن ذلك الزركشة بالألوان المختلفة وكتابة الآيات والأحاديث على الجدران، وطلاء السقف بالنقوش المستوردة، كل ذلك بدع سيئة، أول من بدعها الوليد بن عبد الملك بن مروان في أواخر عصر الصحابة رضي الله عنهم. قال الحافظ ابن حجر: وسكت كثير من أهل العلم عن إنكار ذلك خوفًا من الفتنة، وقال: ورخص في ذلك بعضهم - وهو قول أبي حنيفة - إذا وقع ذلك على سبيل التعظيم للمساجد ولم يقع الصرف على ذلك من بيت المال، وقال ابن المنير: لما شيد الناس بيوتهم وزخرفوها ناسب أن يصنع ذلك بالمساجد صونًا لها عن

الاستهانة وتعقب بأن المنع إن كان للحث على اتباع السلف في ترك الرفاهية فهو كما قال، وإن كان لخشية شغل بال المصلي بالزخرفة فلا، لبقاء العلة. اهـ وقد حاول البدر العيني - وهو حنفي المذهب - أن يوهن من القول الذي نسب إلى أبي حنيفة فقال: مذهب أصحابنا أن ذلك مكروه، وقول بعض أصحابنا: ولا بأس بنقش المسجد معناه تركه أولى، ولا يجوز من مال الوقف، ويغرم الذي يخرجه، سواء كان ناظرًا أو غيره، إما لاشتغال المصلي به، وإما لأنه إخراج المال في غير وجهه، اهـ والحق أن المنع من الزخرفة للعلتين معًا، شغل المصلي ووضع المال في غير وجهه، وكلام ابن المنير مردود، فعدم الزخرفة لا يؤدي إلى الاستهانة، وما أكثر العمارات الخالية من الزخرفة المشيدة كأحسن تشييد وهي تدعو إلى التقدير والإعجاب والإكبار فلنشيد المساجد بما يغيظ الكفار وبما يريح المصلي ويحفظ عليه خشوعه وخضوعه ويحبب إليه المساجد وطول الإقامة فيها. لقد كان عمر قادرًا على زخرفة المسجد، ولكنه قال للصانع: أكن الناس من المطر وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس، رواه البخاري. وقال ابن عباس لتزخرفن المساجد كما زخرفت اليهود كنائسهم والنصارى بيعهم، قال الخطابي: وإنما زخرفت اليهود والنصارى كنائسها وبيعها حين حرفت الكتب وبدلتها، فضيعوا الدين، وعرجوا على الزخارف والتزيين، وقال محي السنة: إنهم زخرفوا المساجد عندما بدلوا دينهم، وأنتم تصيرون إلى مثل حالهم: وسيصير أمركم إلى المراءاة بالمساجد والمباهاة بتزيينها. 4 - ويؤخذ من قوله "لله" أو "يبتغي به وجه الله" توقف الجزاء على الإخلاص، أما من يقصد ببناء المسجد المباهاة أو المراءاة فإن عمله محبط، وهل يدخل في ذلك من شهر مسجدًا باسمه، أو كتب اسمه عليه؟ يقول ابن الجوزي: من كتب اسمه على المسجد الذي يبنيه كان بعيدًا من الإخلاص. 5 - ويؤخذ من قوله "من بنى" أن الجزاء المذكور مرتبط بالبناء، أما من جعل بقعة الأرض مسجدًا واكتفى بتحويطها من غير بناء، أو من عمد إلى بناء كان يملكه فوقفه مسجدًا فظاهر اللفظ أنه لا يستحق الجزاء المذكور، وإن استحق جزاء آخر. قال الحافظ ابن حجر: لكن لو نظرنا إلى المعنى والحكمة فنعم يحصل الجزاء نفسه، وهو المتجه، اهـ. وهل يحصل الأجر نفسه من أمر بالبناء ولم يباشره؟ ومن أنفق على البناء؟ ومن اشترك فيه متطوعًا؟ ومن عمل فيه بأجر؟ ظاهر كلام العلماء أن الله يمنح هذا الأجر بواسع فضله لكل هؤلاء، فقد روى أصحاب السنن وابن خزيمة والحاكم من حديث عقبة بن عامر مرفوعًا "إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة. صانعه المحتسب في صنعته [وهو أعم من أن يكون متطوعًا أو بأجرة مادام يقصد بذلك إعانة المجاهد] والرامي به، والممد به".

6 - ويؤخذ من قوله "مسجدًا" بالتنكير أن الثواب المذكور يحصل على المسجد الكبير والمسجد الصغير، وهو كذلك فقد جاء في بعض الروايات "من بنى لله مسجدًا ولو كمفحص قطاة" أي عش طائر صغير "بنى الله له بيتًا في الجنة" نعم حمل كثير من العلماء هذا التشبيه على المبالغة لا على حقيقته، إذ مفحص القطاة لا يتسع لوضع الجبهة لكنه على كل حال يشير إلى الصغر واستحقاق صاحبه الأجر المذكور، قال الحافظ ابن حجر: وقد شاهدنا كثيرًا من المساجد في طرق المسافرين يحوطونها إلى جهة القبلة وهي في غاية الصغر وبعضها لا تكون أكثر من قدر موضع السجود، وروى البيهقي في الشعب من حديث عائشة نحو الحديث الذي معنا، وزاد "قلت وهذه المساجد التي في الطرق؟ قال: نعم". وهل يدخل معنا من أعد لنفسه في بيته مكانًا للصلاة فيه أو لا؟ الظاهر لا؛ لأن المقصود الحث على مكان يجمع الناس للصلاة، وإن كان فاعل ذلك يثاب ثوابًا آخر غير المذكور. 7 - ويؤخذ من الحديث أن الجزاء في الآخرة من جنس العمل في الدنيا وقد سبق الكلام في المباحث العربية عن المماثلة الواردة في بعض الروايات. 8 - وفي الحديث إشارة إلى أن فاعل ذلك يدخل الجنة، إذ المقصود بالبناء له أن يسكنه وهو لا يسكنه إلا إذا دخل الجنة. واللَّه أعلم

(199) باب وضع الأيدي على الركب في الركوع

(199) باب وضع الأيدي على الركب في الركوع 1011 - عن الأسود وعلقمة قالا أتينا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في داره فقال أصلى هؤلاء خلفكم؟ فقلنا: لا، قال فقوموا فصلوا فلم يأمرنا بأذان ولا إقامة، قال وذهبنا لنقوم خلفه فأخذ بأيدينا فجعل أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، قال فلما ركع وضعنا أيدينا على ركبنا، قال فضرب أيدينا وطبق بين كفيه ثم أدخلهما بين فخذيه، قال فلما صلى قال إنه ستكون عليكم أمراء يؤخرون الصلاة عن ميقاتها ويخنقونها إلى شرق الموتى، فإذا رأيتموهم قد فعلوا ذلك فصلوا الصلاة لميقاتها واجعلوا صلاتكم معهم سبحة، وإذا كنتم ثلاثة فصلوا جميعًا وإذا كنتم أكثر من ذلك فليؤمكم أحدكم، وإذا ركع أحدكم فليفرش ذراعيه على فخذيه وليجنأ وليطبق بين كفيه فلكأني أنظر إلى اختلاف أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراهم. 1012 - عن علقمة والأسود أنهما دخلا على عبد الله بمعنى حديث أبي معاوية وفي حديث ابن مسهر وجرير فلكأني أنظر إلى اختلاف أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راكع. 1013 - عن علقمة والأسود أنهما دخلا على عبد الله فقال أصلى من خلفكم؟ قال نعم. فقام بينهما وجعل أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، ثم ركعنا فوضعنا أيدينا على ركبنا فضرب أيدينا ثم طبق بين يديه ثم جعلهما بين فخذيه فلما صلى قال هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. 1014 - عن مصعب بن سعد قال صليت إلى جنب أبي قال وجعلت يدي بين ركبتي فقال لي أبي اضرب بكفيك على ركبتيك، قال ثم فعلت ذلك مرة أخرى فضرب يدي وقال إنا نهينا عن هذا وأمرنا أن نضرب بالأكف على الركب.

1015 - عن أبي يعفور بهذا الإسناد إلى قوله فنهينا عنه ولم يذكرا ما بعده. 1016 - عن مصعب بن سعد قال ركعت فقلت بيدي هكذا يعني طبق بهما ووضعهما بين فخذيه فقال أبي قد كنا نفعل هذا ثم أمرنا بالركب. 1017 - عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال: صليت إلى جنب أبي فلما ركعت شبكت أصابعي وجعلتهما بين ركبتي فضرب يدي، فلما صلى قال قد كنا نفعل هذا ثم أمرنا من نرفع إلى الركب. -[المعنى العام]- عبد الله بن مسعود إمام أهل الكوفة وقارئها، يجتمع به أصحابه يتداولون الشريعة ويأخذون عنه علومها، ويرجعون إليه في أمورهم المهمة. رأى الأسود وعلقمة أن الجماعة لا تقام في المدينة وفي مسجد الجماعة في أول وقت الصلاة، وأن الأمير يتأخر فتتأخر الجماعة حتى قرب الوقت التالي، فقاما إلى بيت شيخهما عبد الله بن مسعود يشكوان إليه، فقال لهما أصلى القوم وصليتما؟ قالا: لا. لم يصل القوم ولم نصل، فقام يصلي بهما وأوقفهما حسبما يرى أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله مع أن السنة عند العلماء أن يقف الاثنان صفًا خلف الإمام، فلما ركع وضعا أكفهما على ركبهما حسب السنة المشروعة عن جمهور العلماء، لكن ابن مسعود يذهب مذهبًا آخر كان قبل أن ينسخ وهو تطبيق الكفين بعضهما على بعض ووضعهما أثناء الركوع بين الفخذين، فنزع ابن مسعود يدي صاحبيه من فوق الركب وأشار لهما بيديه وطبقهما ووضعهما بين فخذيه، فلما انتهوا من الصلاة قال لهما: هذه الهيئة من تطبيق اليدين ووضعهما بين الفخذين هي الهيئة التي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلها، وقال لهما: إذا تأخر الأمراء عن الصلاة في أول الوقت فصلوا لتنالوا فضيلة أول الوقت ثم صلوا معهم تحسب صلاتكم معهم نافلة. ثم ساق مسلم حديث مصعب بن سعد بن أبي وقاص: وفيه أن تطبيق اليدين في الركوع قد نسخ وأن السنة هي وضع الأكف على الركب، وقد أخذ سعد بيدي ابنه مصعب المطبقتين أثناء الركوع ووضعهما على الركب، ولما انتهى من الصلاة قال له: كانت السنة التطبيق لكنا نهينا عنه وأمرنا بوضع الأكف على الركب، فرضي الله عن الصحابة حملة الشريعة الناشرين للسنة المعلمين لها ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

-[المباحث العربية]- (أصلى هؤلاء خلفكم) كان حقه أن يقول "خلفكما" لأن المخاطب اثنان والإشارة بهؤلاء إلى الأمير وأتباعه، والمعنى أصلى الأمير وأتباعه الذين هم خلفكم ومن ورائكم والذين تركتموهم وراءكم؟ . (قال: قوموا فصلوا) كان من حقه أيضًا أن يقول "قوما فصليا" لأن الخطاب لهما أيضًا وسيصف أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله. (قال: وذهبنا ... إلخ) كان الأصل أن يقول: "قالا" كما هو السابق لكنه هنا، وفيما بعد أفرد القائل، وهذا هو الأصل واحد يتكلم والآخر موافق فيسند القول إليهما، لكن المفروض أن يسير الأسلوب على وتيرة واحدة بالإفراد أو بالتثنية. (فلما ركع وضعنا أيدينا على ركبنا) في الكلام حذف اعتمادًا على المقام، والأصل: فلما ركع ركعنا ووضعنا أيدينا على ركبنا، والمراد من اليد الكف من إطلاق الكل وإرادة الجزء، أي وضع كل كف على كل ركبة. (وطبق بين كفيه) أي ألصق بطن الكف اليمنى ببطن الكف اليسرى. (ثم أدخلهما بين فخذيه) أي أدخل كفيه الملصقتين بين رجليه، بين فخذيه قريبًا من ركبتيه. (ستكون عليكم أمراء) أنث الفعل لأن الفاعل جمع تكسير، وهو جائز، والشائع التذكير. والظاهر أنه لم يقصد التسويف والمستقبل ويقصد الحال: أي عليكم أمراء يفعلون كذا وكذا لكنه استخدم أسلوب المستقبل سياسة وتقية. (يؤخرون الصلاة عن ميقاتها) أي يؤخرونها عن وقتها المختار، وهو أول وقتها، لا عن جميع وقتها. (ويخنقونها) بضم النون، أي يضيقون وقتها، ويؤخرون أداءها، يقال: هم في خناق من كذا أي في ضيق. (إلى شرق الموتى) أي حالة تشبه حالة شرق الموتى، وشرق الموتى هي الفترة التي لا تبقى الموتى بعدها إلا يسيرًا. أي قرب خروج الروح، أي إلى قرب انتهاء وقت الصلاة. (واجعلوا صلاتكم معهم سبحة) أي نافلة، أي صلوا قبلهم حفاظًا على وقت الصلاة ثم صلوا معهم، خوف الفتنة، وصلاتكم معهم تعتبر نافلة. وسيأتي الحكم في فقه الحديث.

(وإذا كنتم ثلاثة فصلوا جميعًا) أي جماعة في صف واحد. وهذا مخالف لما أجمعت عليه الأمة. وسيأتي الحكم في فقه الحديث. (وإذا كنتم أكثر من ذلك فليؤمكم أحدكم) أي ليتقدم عليكم وتكونوا صفًا خلفه. (وليجنأ) بفتح الياء وإسكان الجيم آخره همزة، ومعناه ولينعطف وليحن ظهره ولا يصلبه إلى أعلى، وضبطه كثير من الشيوخ "وليحن" بضم النون وكسرها، من حنا يحنو، وحنى يحني، ومعناهما الانعطاف والانحناء. (فكأني أنظر إلى اختلاف أصابع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأراهم) كان حقه أن يقول "فأراها" ويقصد بهذه الجملة التوثيق بالرواية وأن الحالة التي يرويها وإن كانت غائبة فهي كالحاضرة، ولما كان نظر الشيء قد يكون عارضًا غير مستقيم في النفس لانشغالها بآخر عطف عليها الرؤية لإفادة الوثوق والاستقرار والتيقظ لما نظر. ومراده من اختلاف أصابعه صلى الله عليه وسلم تطبيقها. (فضرب يدي وقال) أي ضرب يدي في الصلاة، وقال بعد انتهاء الصلاة كما تصرح بذلك الرواية إذ لا يصح أن يقول ذلك في الصلاة. -[فقه الحديث]- يتعرض الحديث إلى نقطتين أساسيتين جمهور العلماء على خلافهما. الأولى تطبيق اليدين ووضعهما بين الفخذين في الركوع والثانية وضع الاثنين مع الإمام في صلاة الجماعة، وإلى نقط تابعة أخرى. أما عن النقطة الأولى فيقول الإمام النووي: مذهبنا ومذهب العلماء كافة أن السنة وضع اليدين على الركبتين وكراهة التطبيق إلا ابن مسعود وصاحبيه علقمة والأسود، فإنهم يقولون: إن السنة التطبيق، لأنهم لم يبلغهم الناسخ، وهو رواية سعد بن أبي وقاص [وهو روايتنا الثالثة والرابعة والخامسة وما كان بينه وبين ابنه مصعب] والصواب ما عليه الجمهور لثبوت الناسخ الصريح، اهـ وقال الحافظ ابن حجر في شرحه لحديث مصعب بن سعد، عند قوله "كنا نفعله ونهينا عنه وأمرنا" قال: استدل به على نسخ التطبيق المذكور، بناء على أن المراد بالآمر والناهي في ذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الصيغة مختلف فيها، والراجح أن حكمها الرفع، وهو مقتضى تصرف البخاري، وكذا مسلم إذ أخرجه في صحيحه ..... ثم قال الترمذي: التطبيق منسوخ عند أهل العلم لا خلاف بين العلماء في ذلك إلا ما روي عن ابن مسعود وبعض أصحابه أنهم كانوا يطبقون وحمل الحافظ روايتنا الأولى والثانية على أن ابن مسعود لم يبلغه الناسخ. ثم قال: وقد روى ابن المنذر عن ابن عمر بإسناد قوي قال: إنما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مرة. يعني التطبيق. ثم ساق الحافظ ابن حجر روايات أخرى تؤكد نسخ

التطبيق، ثم قال: واستدل ابن خزيمة بقوله "فنهينا عنه" على أن التطبيق غير جائز، وفيه نظر لاحتمال حمل النهي على الكراهة، ويدل على أنه ليس بحرام كون عمر وغيره ممن أنكره لم يأمر من فعله بالإعادة، اهـ قال الشوكاني: والظاهر ما قاله ابن خزيمة لأن المعنى الحقيقي للنهي على ما هو الحق التحريم. اهـ والمحقق في المسألة يرى أن التطبيق لا يتعدى الكراهة، فإن هيئات الصلاة من رفع اليدين عند الهوي أو وضع اليمنى على اليسرى عند القراءة أو وضع اليدين على الفخذين في الجلوس إلخ، هيئات في درجة السنن، ومخالفة السنة مكروهة، فما بالنا وقد طلب التطبيق فترة من الزمن وفعله النبي صلى الله عليه وسلم؟ يؤكد أنها سنن ما أخرجه الترمذي ولفظه "قال لنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن الركب سنت فخذوا بالركب" وفي رواية له "سنت لكم الركب فأمسكوا بالركب". ولست مع القائلين بأن الحكم في هذه المسألة التخيير استدلالاً بما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن علي رضي الله عنه قال: إذا ركعت فإن شئت قلت: هكذا - يعني وضعت يديك على ركبتيك - وإن شئت طبقت. فقد قال عنه الحافظ ابن حجر: هو ظاهر في أن عليًا كان يرى التخيير، فإما أنه لم يبلغه النهي، وإما حمله على كراهة التنزيه. اهـ وأرجح أنه لم يبلغه النهي لأن حمله على كراهة التنزيه لا يجيز له أن يخير بين الأمرين. واللَّه أعلم. وأما عن النقطة الثانية: فقد قال الإمام النووي: وقوف أحد الاثنين على يمين الإمام والآخر عن يساره مذهب ابن مسعود وصاحبيه، وخالفهم جميع العلماء من الصحابة فمن بعدهم إلى الآن، فقالوا: إذا كان مع الإمام رجلان وقفا وراءه صفًا لحديث جابر قال: "قمت عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بأيدينا جميعًا فدفعنا حتى أقامنا خلفه" رواه مسلم. ولحديث أنس قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصففت أنا واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا، فصلى بنا ركعتين رواه البخاري ومسلم. وفي الحديث أنه لم يؤذن للصلاة ولم يقم لها، قال النووي: هذا مذهب ابن مسعود رضي الله عنه وأصحابه وبعض السلف من غيرهم وهو أنه لا يشرع أذان ولا إقامة لمن يصلي وحده في البلد الذي يؤذن فيه ويقام لصلاة الجماعة العظمى، بل يكفي أذانهم وإقامتهم، وذهب جمهور العلماء من السلف والخلف إلى أن الإقامة سنة في حقه ولا يكفيه إقامة الجماعة، واختلفوا في الأذان، فقال بعضهم: يشرع له، وقال بعضهم لا يشرع، ومذهبنا الصحيح أنه يشرع له الأذان إن لم يكن سمع أذان الجماعة، وإلا فلا يشرع. اهـ والتحقيق أن الحادثة الواردة في الحديث إنما هي في قوم يصلون وحدهم في دار بعيدة عن مسجد الجماعة، ثم إن الجماعة لم يقيموا الصلاة بعد لتأخيرهم لها، فكيف يعتمد المصلي على إقامة لاحقة لصلاته؟ والرأي في ذلك أنهم يقيمون، والمخالف في ذلك ابن مسعود وأصحابه، أما الأذان فالخلاف في: هل يؤذن المنفرد في بيت أو في صحراء أو لا يؤذن؟ سمع أذان الجماعة أو لم يسمع؟ هذا الخلاف مبني على أن الأذان هل هو عبادة من حق الصلاة نفسها أو هو إعلام لجمع الناس؟ فمن قال بالأول قال يؤذن ولو سمع أذان الجماعة لكن لا يرفع صوته، ومن قال بالثاني قال لا يؤذن إلا إذا

ظن إقبال من يسمع الأذان للصلاة معه. وجوز الإمام أحمد الأمرين، ففي المغني: ومن دخل مسجدًا قد صلى فيه فإن شاء أذن وأقام، نص عليه أحمد، وإن شاء صلى من غير أذان ولا إقامة، وهذا قول الحسن والشعبي والنخعي، إلا أن الحسن قال: كان أحب إلي أن يقيم. واللَّه أعلم. ومن قوله "فصلوا الصلاة لميقاتها واجعلوا صلاتكم معهم سبحة" نستفيد مشروعية إعادة الصلاة مع الإمام إذا كانت قد صليت بدونه مفردة أو جماعة وذلك خوف الفتنة وخوف الاتهام بفرقة الجماعة، وظاهر كلام ابن مسعود أن الصلاة الثانية تقع موقع النافلة وأن الفريضة تسقط بالأولى، ويؤيده ما رواه الترمذي وأبو داود من أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الغداة في مسجد الخيف، فرأى في آخر القوم رجلين لم يصليا معه، فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: يا رسول الله، قد صلينا في رحالنا. قال: "فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة". وفي الحديث إنكار تأخير الصلاة عن وقتها المفضل، والظاهر أن ابن مسعود اكتفى بالإنكار القلبي وصلى في بيته هو وأصحابه، ولم ينكر على الأمراء مواجهة. ومن الرواية الأولى والثانية، من قوله "فضرب أيدينا" ومن الرواية الثالثة والخامسة من قوله "فضرب يدي" يؤخذ مشروعية تعديل أحوال المصلي الآخر بالأفعال ولا تضر الحركات القليلة. (ملحوظة) في الرواية الأولى "أصلى هؤلاء خلفكم؟ فقلنا: لا" وفي الرواية الثانية "أصلي من خلفكم؟ قالا: نعم" هذا التناقض في جواب الأسود وعلقمة لا يمكن حمله على تعدد الواقعة، إذ من المستبعد أن يوضع أحدهما عن اليمين والآخر عن الشمال في يوم ويعودا للمخالفة في يوم آخر، ومن المستبعد أن يؤمرا بالتطبيق وينهيا عن وضع اليد على الركب ثم يعودا لما نهيا عنه في يوم آخر. فالحادثة واحدة، ولا توجيه لهذا التناقض إلا أن تكون الرواية الثانية خاطئة من النساخ أو من الطبعة التي في يدي [وهي طبعة المطبعة المصرية بسوق الأوقاف أرض شريف بالقاهرة] وصحتها "قالا: لا" لأن سبب الصلاة مع ابن مسعود تأخير الأمراء للصلاة، ولو أنهما صليا مع الأمراء ما صلى بهما ابن مسعود. واللَّه أعلم

(200) باب جواز الإقعاء على العقبين

(200) باب جواز الإقعاء على العقبين 1018 - عن طاوس قال قلنا لابن عباس في الإقعاء على القدمين فقال هي السنة فقلنا له إنا لنراه جفاء بالرجل فقال ابن عباس بل هي سنة نبيك صلى الله عليه وسلم. -[المعنى العام]- مازال حرص الصحابة والتابعين على التوصل إلى السنة وإلى الأفضل في أفعال الصلاة وهيئاتها مضرب الأمثال وموطن العجب، فهذا طاووس وقد سمع في الإقعاء قولاً يكرهه في الصلاة يسأل عنه ابن عباس حبر الأمة يقول له: ماذا ترى في حكم الإقعاء ووضع الإليتين على القدمين في الصلاة؟ فيقول ابن عباس: هذا الوضع هو سنة نبيكم في الصلاة، فيقول له طاووس: إنا لنراه جفاء بالرجل غير لائق بالمسلم لأنها قعدة مذمومة في نظرنا، فيقول ابن عباس: بل هي سنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ويخضع طاووس للحكم ويسلم لأمر الشريعة تسليمًا. -[المباحث العربية]- (في الإقعاء) قال النووي: الصواب الذي لا معدل عنه أن الإقعاء نوعان أحدهما أن يلصق إليتيه بالأرض، وينصب ساقيه، ويضع يديه على الأرض، كإقعاء الكلب. هكذا فسره أبو عبيد معمر بن المثنى وصاحبه أبو عبيد القاسم بن سلام وآخرون من أهل اللغة، وهذا النوع هو المكروه الذي ورد فيه النهي، والنوع الثاني أن يجعل إليتيه على عقبيه بين السجدتين، وهذا هو مراد ابن عباس بقوله: سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم. (إنا لنراه جفاء الرجل) الجفوة هي الغلظة وعدم اليسر وعدم اللين، وقد ضبط لفظ "الرجل" في الحديث بفتح الراء وضم الجيم أي الإنسان، والمعنى أن الإقعاء صعب وشديد على الإنسان المصلي، وضبط كذلك بكسر الراء وسكون الجيم، والمعنى أن الإقعاء صعب وشديد على أرجل الإنسان، قال ابن عبد الله: والصواب ضم الجيم وهو الذي يليق به إضافة الجفاء إليه. -[فقه الحديث]- قال النووي: نص الشافعي رضي الله عنه على استحباب الإقعاء في الجلوس بين السجدتين [بمعنى وضع

الإليتين على العقبين] وحمل حديث ابن عباس عليه، قال القاضي عياض: وقد روي عن جماعة من الصحابة والسلف أنهم كانوا يفعلونه. قال: وكذا جاء مفسرًا عن ابن عباس رضي الله عنهما "من السنة أن تمس عقبيك إليتيك" هذا هو الصواب في تفسير حديث ابن عباس، وقد ذكرنا أن الشافعي رضي الله عنه على استحبابه في الجلوس بين السجدتين، وحاصله أنهما سنتان، وأيهما أفضل؟ فيه قولان. اهـ. وفي كيفية الجلوس في الصلاة عامة بحث مطول شرحناه في السابق ولا نرى بأسًا في إعادته، قلنا: أما الجلوس في الصلاة فمذهب أبي حنيفة في هيئته المستحبة الافتراش في جميع الجلسات، والافتراش أن يفرش رجله اليسرى بقدمها، وينصب اليمنى. ومذهب مالك: يسن التورك في جميع الجلسات في الصلاة، والتورك أن يخرج رجله اليسرى من تحته ويفضي بوركه إلى الأرض. ومذهب الشافعي: يسن أن يجلس كل الجلسات مفترشًا إلا التي يعقبها السلام فيسن أن يجلس فيها متوركًا - وقلنا رأيًا آخر للشافعي بالإقعاء في الجلوس بين السجدتين. وقال أحمد: إن كانت الصلاة ركعتين افترش، وإن كانت أربعًا افترش في التشهد الأول وتورك في التشهد الثاني. واحتج لأبي حنيفة في الافتراش في الصلاة بقول عائشة في حديث مسلم المروي في باب صفة الصلاة "وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى". واحتج لمالك في التورك بحديث عبد الله بن الزبير "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قعد في الصلاة جعل قدمه اليسرى بين فخذه وساقه وفرش قدمه اليمنى، رواه مسلم. واحتج الشافعية بما رواه البخاري عن أبي حميد أنه وصف بين عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى وينصب اليمنى، فإذا جلس في الركعة الأخيرة قدم رجله اليسرى ونصب الأخرى وقعد على مقعدته" قال الشافعي والأصحاب: فحديث أبي حميد وأصحابه صريح في الفرق بين التشهدين، وباقي الأحاديث مطلقة، فيجب حملها على مقيده. فمن روى التورك أراد الجلوس في التشهد الأخير، ومن روى الافتراش أراد الأول، وهذا متعين للجمع بين الأحاديث الصحيحة، لا سيما وحديث أبي حميد وافقه عليه عشرة من كبار الصحابة رضي الله عنهم. قال النووي: وجلوس المرأة كجلوس الرجل، وصلاة النفل كصلاة الفرض في الجلوس، هذا مذهب الشافعي ومالك والجمهور، وحكي عن بعض السلف أن سنة المرأة التربع وعن بعضهم التربع في النافلة. والصواب الأول. اهـ. هذا وسيعقد باب بعنوان [صفة الجلوس في الصلاة] بعد أربعة عشر بابًا. واللَّه أعلم

(201) باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان

(201) باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان 1019 - عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم. فقلت: يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم. فقلت: وا ثكل أمياه ما شأنكم؟ تنظرون إلي فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم. فلما رأيتهم يصمتونني. لكني سكت فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه. فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني. قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن". أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت يا رسول الله إني حديث عهد بجاهلية. وقد جاء الله بالإسلام وإن منا رجالاً يأتون الكهان. قال "فلا تأتهم" قال: ومنا رجال يتطيرون. قال: "ذاك شيء يجدونه في صدورهم. فلا يصدنهم (قال ابن الصباح: فلا يصدنكم) قال قلت: ومنا رجال يخطون. قال "كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك قال وكانت لي جارية ترعى غنمًا لي قبل أحد والجوانية. فاطلعت ذات يوم فإذا الذيب قد ذهب بشاة من غنمها وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون لكني صككتها صكة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم ذلك علي. قلت: يا رسول الله أفلا أعتقها؟ قال "ائتني بها" فأتيته بها. فقال لها "أين الله؟ " قالت: في السماء قال "من أنا؟ " قالت: أنت رسول الله، قال "أعتقها فإنها مؤمنة". 1020 - عن عبد الله رضي الله عنه قال كنا نسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فيرد علينا فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا فقلنا يا رسول الله كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا فقال: "إن في الصلاة شغلاً". 1021 - عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل

صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت وقوموا لله قانتين فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام. 1022 - عن جابر رضي الله عنه أنه قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني لحاجة ثم أدركته وهو يسير. (قال قتيبة: يصلي) فسلمت عليه: فأشار إلي. فلما فرغ دعاني فقال "إنك سلمت آنفًا وأنا أصلي وهو موجه حينئذ قبل المشرق". 1023 - عن جابر رضي الله عنه قال أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى بني المصطلق فأتيته وهو يصلي على بعيره فكلمته فقال لي بيده هكذا (وأومأ زهير بيده) ثم كلمته فقال لي هكذا (فأومأ زهير أيضًا بيده نحو الأرض) وأنا أسمعه يقرأ يومئ برأسه فلما فرغ قال: "ما فعلت في الذي أرسلتك له؟ فإنه لم يمنعني من أكلمك إلا أني كنت أصلي". قال زهير وأبو الزبير جالس مستقبل الكعبة. فقال بيده أبو الزبير إلى بني المصطلق. فقال بيده إلى غير الكعبة. 1024 - عن جابر رضي الله عنه قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فبعثني في حاجة فرجعت وهو يصلي على راحلته ووجهه على غير القبلة فسلمت عليه فلم يرد علي فلما انصرف قال: "إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كنت أصلي". 1025 - عن جابر رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة بمعنى حديث حماد. -[المعنى العام]- معاوية بن الحكم السلمي حديث عهد بإسلام، لا يعلم أن الكلام في الصلاة يبطلها، يصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فيسمع مصليًا يعطس، فيشمته وهو في الصلاة، ويقول له: يرحمك الله، ورأى الصحابة ينظرون إليه نظرة استنكار ودهشة، وظن معاوية في نفسه أنه لم يأت شيئًا ينكر، فنظر فيهم نظرة استغراب كذلك وقال: فقدتني أمي. ماذا فعلت؟ وماذا أنكرتم علي حتى نظرتم إلي هذه النظرات، وكان كلامه هذا أثناء الصلاة مثارًا آخر لزيادة الاستنكار فأخذوا يضربون أفخاذهم ببطن أكفهم ثم يقلبونها، فلما رأى معاوية أن الاستنكار يزداد سكت وأتم صلاته. فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم من

الصلاة استدعاه وتوقع معاوية نهرًا وتعنيفًا بل شتمًا وضربًا نظرًا لما لاقاه من الصحابة من استنكار، فإذا به يجد العطف والرحمة والخلق الحسن العظيم يتلقاه على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى لسانه، فيسمع تعليمًا هادئًا لينًا، وتعلم منه أن الصلاة لا يحل فيها كلام الناس، وإنما هي تسبيح وتكبير وقراءة القرآن، واطمأن معاوية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وطمع في زيادة عطفه ومروءته واستعذب الحديث معه فاستخرج ما في نفسه من أسئلة دينية، فقال: يا رسول الله، إني حديث عهد بالإسلام. حديث عهد بالجاهلية فاعذرني إذا أخطأت واعذرني إذا استفهمت وفتح له الرسول صلى الله عليه وسلم صدره الرحيم. قال معاوية: منا رجال يتكهنون ورجال يأتون الكهان الذين يزعمون علم الغيب فيسمعون ويعتقدون؟ قال صلى الله عليه وسلم لا تأت الكهان ولا تسمع منهم ولا تعتقد صحة ما يزعمون. قال معاوية: ومنا رجال يتطيرون يتفاءلون بأمر ويتشاءمون من آخر، فما حكم التطير؟ قال صلى الله عليه وسلم: ما يقع في الصدر من الانقباض أو الانبساط أمر غير مكتسب لا حساب عليه، ولكن على المسلم أن لا يعمل على مقتضى التشاؤم، فلا يحل له أن يمتنع من القيام بمصلحة لما حصل في نفسه من التشاؤم. قال: ومنا رجال يخطون على الرمل وغيره ويدعون أنهم يعرفون الغيب عن طريق هذه الخطوط، قال صلى الله عليه وسلم: كان نبي من الأنبياء قد أعطاه الله علم بعض الغيب عن طريق هذه الخطوط لكن لا نبي بعدي ومدعي علم الغيب بهذه الخطوط كاذب ومنجم وقد يوافق قوله واقعًا صدفة لا علمًا، لا تصدقوهم في مزاعمهم. قال معاوية: وكانت لي أمة جارية ترعى غنمًا لي قرب أحد، فأهملت الحراسة فأكل الذئب شاة من غنمي وأنا إنسان يغضب كما يغضب البشر، فغضبت ولطمتها لطمة قوية. وهأنذا نادم على ما فعلت فكيف أكفر عن ذنبي؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذنبك عظيم. إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فعاملوهم بالحسنى قال: يا رسول الله، أأعتقها عقابًا لي على ما فعلت؟ قال: أهي مؤمنة ليكون لك أجر كبير؟ قال: لا أدري. قال: ائتني بها. فأتاه بها، فسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تعبد أوثان الأرض أم تعبد الله؟ قال لها: أين الله؟ قالت في السماء. قال لها: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة. فأعتقها. وفي مجال النهي عن الكلام في الصلاة يورد الإمام مسلم: (1) حديث عبد الله بن مسعود وقوله: كنا إذا دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة سلمنا عليه، فكان يرد علينا السلام، فلما رجعنا من هجرتنا إلى الحبشة من عند النجاشي دخلنا عليه وهو في الصلاة فسلمنا عليه، فلم يرد علينا السلام، فلما انتهى من الصلاة قلنا: يا رسول الله، كنا قبل مهاجرتنا إلى الحبشة نسلم عليك وأنت في الصلاة فترد علينا، فلما سلمنا عليك اليوم لم ترد علينا. فماذا حدث؟ قال: إن الصلاة ينبغي أن يكون الاشتغال بها مانعًا من الاشتغال بغيرها، وإن الله قد أحدث من أمره أن لا نتكلم في الصلاة. (2) وحديث زيد بن أرقم الأنصاري وأنه قال: كنا نتكلم في الصلاة كلام البشر، يكلم الرجل منا صاحبه الذي بجواره في أمورهما، حتى نزل قوله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين} [البقرة: 238] أي ساكنين خاشعين لا تتكلمون إلا بالتسبيح والتحميد والتكبير وقراءة القرآن، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسكوت ونهانا عن الكلام في الصلاة.

(3) وأحاديث جابر بن عبد الله - وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسله في مهمة، فلما جاء من المهمة - وكان يعلم أن الكلام في الصلاة ممنوع - جاء فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته ووجهه إلى غير القبلة، فسلم عليه يظن أنه في غير صلاة. فلم يرد الرسول عليه سلامه، فكلمه فلم يستمع إلى كلامه، فأرخى جابر سمعه فإذا الرسول يقرأ أو يومئ بالركوع وهو مسنود على راحلته، فلما انتهى ناداه صلى الله عليه وسلم ماذا فعلت فيما أرسلت فيه؟ فأجابه. قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منعني من الرد عليك إلا أني كنت أصلي. -[المباحث العربية]- (فرماني القوم بأبصارهم) أي نظروا إلي بأبصارهم نظرة استنكار، وفي "رماني" استعارة تصريحية تبعية، شبه توجيه الأبصار برمي السهم في قوة تصويبه وشدته، واستعير الرمي للنظر، واشتق منه رمي بمعنى نظر. (واثكل أمياه) "وا" حرف ندبة، و"ثكل" بضم الثاء، وإسكان الكاف وبفتحهما جميعًا لغتان، وهو فقدان المرأة ولدها وحزنها عليه لفقده، وهو مندوب في حكم المنادي، و"أمياه" بضم الهمزة وكسر الميم المشددة، وأصله أمي، زيدت عليه ألف الندبة، وأردفت بهاء السكت و"ثكل" مصدر مضاف لفاعله والمفعول محذوف، والأصل يا ثكل أمي إياي، أي أدعو وأندب فقد أمي لي وحزنها علي، وهذه الجملة من الجمل التي اعتادتها العرب عند التفجع وأماتوا معناها لكثرة الاستعمال فلم يقصدوا بها الدعاء بالموت. وفي رواية "أماه" بألف الندبة وهاء السكت وبحذف ياء المتكلم. (ما شأنكم تنظرون إلي)؟ "ما" اسم استفهام خبر مقدم، و"شأنكم" أي حالكم مبتدأ مؤخر، وجملة "تنظرون إلي" حال. والمعنى: أي شيء حصل لكم حالة نظركم إلي؟ والاستفهام تعجبي إذا كان قد أدرك الخطأ فإنه يتعجب من زيادة الإنكار على ما ينبغي، أو حقيقي إذا لم يكن قد أدرك خطأه وتكلم هذا الكلام وهو في الصلاة وهو لا يعرف أن الكلام ممنوع. (فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم) الظاهر أنهم كانوا في جلوس، ولما وجدوا نظرات الاستنكار لم تفد أخذوا يضربون أفخاذهم بأكفهم ويقلبونها تعبيرًا عن مزيد الاستنكار والتعجب قال النووي: وهذا محمول على أنه كان قبل أن يشرع التسبيح لمن نابه شيء في الصلاة. (فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت) "يصمتونني" بضم الياء وفتح الصاد وتشديد الميم المكسورة أي يسكتونني، وجواب "لما" المستدرك عليه لكن محذوف والتقدير: فلما رأيتهم يصمتونني بهذه الصورة كدت أغضب وأثور لكنني سكت، أي لم أتكلم. (فبأبي هو وأمي) متعلق بفعل محذوف تقديره فهو بأبي وأمي أفديه.

(فوالله ما كهرني) أي ما انتهرني، والكهر الانتهار قاله أبو عبيد، وقرأ عبد الله بن مسعود: وأما السائل فلا تكهر، وقيل: الكهر العبوس في وجه من تلقاه. (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس) أي لا يحل كما جاء في بعض الروايات. (إني حديث عهد بجاهلية) قال النووي: قال العلماء: الجاهلية ما قبل ورود الشرع، سموا جاهلية لكثرة جهالتهم وفحشهم. اهـ. (ذاك شيء يجدونه في صدورهم) أي التطير انقباض أو انبساط يجدونه في صدورهم نتيجة وأثرًا لرؤية شيء أو سماع شيء لا يقدرون على دفعه من الصدور. (فلا يصدنهم) أي لكن الممنوع شرعًا أن يؤثر هذا على تحركاتهم، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم "إذا تطيرت فلا ترجع" عما كنت تقصده قبل التطير. (قال ابن الصباح: فلا صدنكم) أصل السند: حدثنا أبو جعفر محمد بن الصباح وأبو بكر بن أبي شيبة، وتقاربا في لفظ الحديث قالا: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن حجاج الصواف عن يحيى بن أبي كثير عن هلال بن أبي ميمونة عن عطاء بن يسار عن معاوية بن الحكم السلمي ... الحديث. فرواية ابن الصباح بأسلوب الخطاب "فلا يصدنكم" ورواية ابن أبي شيبة بأسلوب الغيبة "فلا يصدنهم". (ومنا رجال يخطون) خطوطًا في الرمل أو غيره للتنجيم. وسيأتي الحكم والشرح في فقه الحديث. (قبل أحد والجوانية) "قبل" بكسر القاف وفتح الباء أي جهة، و"الجوانية" بفتح الجيم وتشديد الواو وبعد الألف نون مكسورة ثم ياء مشددة. قال النووي: هكذا ضبطناه، وحكي عن بعضهم تخفيف الياء، والمختار التشديد والجوانية موضع بقرب أحد في شمال المدينة. (وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون) "آسف" بمد وفتح السين مضارع أسف، أي أغضب كما يغضبون. (لكني صككتها صكة) أي لطمتها. قال علماء اللغة: "لكن" لا بد أن يتقدمها كلام مناقض لما بعدها، نحو ما هذا ساكنًا لكنه متحرك، أو ضد له، نحو ما هذا أبيض لكنه أسود، وظاهر الأسلوب هنا جرى على غير ذلك. ويمكن أن يكون الاستدراك على محذوف والتقدير: أغضب كما يغضبون، وكان ينبغي إسلامًا أن أكظم غيظي لكني صككتها، و"صكة" لإفادة المرة، أي صكة واحدة والتنكير فيها للتعظيم والتهويل.

(فأتيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فعظم ذلك على) ليس المراد أنه جاء بهذا الكلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل هذا المجلس، وإنما المراد فعلت كذا وكذا فجئتك اليوم لتقول ما ترى في هذا الفعل، فعظم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الفعل وجعله كبيرًا وأنكره إنكارًا شديدًا. (أفلا أعتقها) بضم الهمزة من "أعتق" أي جزاء لي على صكها؟ . (كنا نسلم على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة) أي ونحن قادمون خارج الصلاة. (فلما رجعنا من عند النجاشي) كان رجوع ابن مسعود من الحبشة من عند النجاشي بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين كما قيل. (إن في الصلاة شغلاً) قال النووي: معناه أن المصلي وظيفته أن يشتغل بصلاته فيتدبر ما يقوله ولا يعرج على غيرها، فلا يرد سلامًا ولا غيره. اهـ. أي إن في الصلاة شغلاً كافيًا عن غيره. (وقوموا للَّه قانتين) قيل: معناه مطيعين، وقيل: ساكنين، وقيل: ساكتين وهو أنسب المعاني للمراد. (فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام) ذكر "ونهينا عن الكلام"، بعد ما قبلها ظاهرها أن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده، وهي مسألة أصولية مختلف فيها. (وهو موجه حينئذ قبل المشرق) "موجه" بكسر الجيم المشددة، أي موجه وجهه وراحلته جهة المشرق وليس إلى جهة القبلة. (فقال لي بيده هكذا) فيه استعمال القول مكان الفعل، والأصل ففعل لي بيده هكذا. (وأومأ زهير بيده) أصل السند: حدثنا أحمد بن يونس. حدثنا زهير. حدثني أبو الزبير عن جابر قال ... الحديث. فالقائل "وأومأ زهير بيده، الراوي عن زهير. أحمد بن يونس. -[فقه الحديث]- ظاهر الرواية الثالثة وفيها "عن زيد بن أرقم كنا نتكلم في الصلاة ... " إلخ أن تحريم الكلام في الصلاة كان بالمدينة بعد الهجرة، لأن زيد بن أرقم مدني وهو يخبر أنهم كانوا يتكلمون خلف الرسول صلى الله عليه وسلم في الصلاة إلى أن نهوا، ويؤيد هذا الظاهر اتفاق المفسرين على أن قوله تعالى: {وقوموا لله قانتين} [البقرة: 238] نزلت بالمدينة. ولكن هذا الظاهر مشكل مع حديث ابن مسعود [روايتنا الثانية] وفيه أنه لما رجع من الحبشة كان تحريم الكلام في الصلاة، وكان رجوعه من الحبشة قبل الهجرة قطعًا. وقد حاول العلماء رفع هذا الإشكال فقال ابن حبان: إن زيد بن أرقم كان من الأنصار الذين

أسلموا وصلوا قبل الهجرة، وكانوا يصلون بالمدينة كما يصلي المسلمون بمكة في إباحة الكلام في الصلاة لهم، فلما نسخ ذلك بمكة نسخ بالمدينة، فحكى زيد ما كانوا عليه، ورد بعض العلماء هذا القول بإيراد قول زيد في رواية الترمذي "كنا نتكلم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة" فقوله "خلف رسول الله" يدل على أن الكلام كان مباحًا بالمدينة إذ لم يصل زيد خلف رسول الله إلا بالمدينة. ودفع بعضهم الإشكال بأن قول الرسول صلى الله عليه وسلم "إن في الصلاة شغلاً" في حديث ابن مسعود كان اجتهادًا منه صلى الله عليه وسلم، وأوحي إليه بتحريم الكلام عند نزول الآية المذكورة بالمدينة. وهذا القول بعيد عن الصواب إذ يستحيل أن يعمل ويأمر غيره أن يعملوا باجتهاده سنوات حتى ينزل القرآن. ودفع بعضهم الإشكال بأن الكلام نسخ بمكة ثم أبيح ثم نسخت الإباحة بالمدينة، وهذا قول لا يلتفت إليه لأنه قول بتكرير النسخ بدون دليل. ودفع بعضهم الإشكال بأن زيدًا أراد أن يحكي ما كان يفعل المسلمون، لا ما كان يفعله هو، كما يقول القائل: فعلنا كذا وهو يريد بعض قومه، وهذا قول بعيد. ودفع بعضهم الإشكال بترجيح حديث ابن مسعود والمصير إليه والسكوت عن حديث زيد، حكاه ابن سريج والقاضي أبو الطيب، وهذا غير مقبول لأن فيه أخذًا بحديث وتركًا لآخر والجمع بين الحديثين مع العمل بهما خير من الترجيح ولا يصار إليه إلا إذا لم يمكن الجمع. والذي يظهر لي أن حديث زيد رواه الجماعة إلا ابن ماجه، وحديث ابن مسعود متفق عليه، وليس من السهل أن يرد أحد الحديثين، وإذا تأملنا حديث ابن مسعود وجدناه لا يحمل نهيًا للصحابة عن الكلام، وكل ما فيه أنه لم يرد وأنه قال إن الصلاة تشغله صلى الله عليه وسلم عن الكلام. وهذا غير صريح في نهي الأمة عن الكلام في الصلاة. بخلاف حديث زيد فإنه صريح بالنهي عن الكلام في الصلاة بالمدينة، فلا تعارض بين الحديثين، ونسخ ما كان من جواز الكلام في الصلاة كان بالمدينة. والله أعلم. فإن قيل: إن لابن مسعود رواية عند أحمد والنسائي وفيها " ... فسلمنا عليه فلم يرد، فأخذني ما قرب وما بعد حتى قضوا الصلاة، فسألته، فقال: إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإنه قد أحدث من أمره أن لا نتكلم في الصلاة" أجيب بأن العراقي قال عن هذه الرواية: إنها لا تقاوم الرواية الأولى للاختلاف في راويها. أما حكم الكلام في الصلاة فيمكن تقسيم كلام المصلي إلى ثلاثة أقسام: أحدها: أن يتكلم عامدًا بكلام ليس في مصلحة الصلاة، فتبطل صلاته بالإجماع، نقل الإجماع فيه ابن المنذر وغيره لحديث معاوية بن الحكم [روايتنا الأولى] وفيه "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس" وحديث ابن مسعود [روايتنا الثانية] وحديث جابر [روايتنا الرابعة والخامسة والسادسة] وحديث زيد بن أرقم [روايتنا الثالثة] وغيرها من الأحاديث.

الثاني: أن يتكلم عامدًا بكلام هو في مصلحة الصلاة "كأن يقوم الإمام إلى خامسة فيقول المأموم: صليت أربعًا. أو نحو ذلك. ومذهب الشافعية وجمهور العلماء أنها تبطل، وقال الأوزاعي لا تبطل، وهي رواية عن مالك وأحمد لحديث ذي اليدين، فقد حصل كلام بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين ذي اليدين وبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما صلى وأكمل النقص، ودليل الجمهور عموم الأحاديث الصحيحة في النهي عن الكلام، ولقوله صلى الله عليه وسلم "من نابه شيء في صلاته فليسبح الرجال وليصفق النساء" ولو كان الكلام لمصلحة الصلاة مباحًا لكان أسهل وأبين من التسبيح والتصفيق وأما حديث ذي اليدين فإن ما وقع فيه من كلام كان خارج الصلاة وبعد السلام. الثالث: أن يتكلم ناسيًا ولا يطول كلامه فمذهب الشافعية والمالكية وأحمد في رواية أنها لا تبطل، وكذا الجاهل بالحكم، ومن أدلتهم حديث معاوية بن الحكم [روايتنا الأولى] فإنه تكلم جاهلاً بالحكم ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة. ومذهب أبي حنيفة وأحمد في رواية أنها تبطل ودليلهم عموم الأحاديث المذكورة في الباب، وعدم ورود الأمر لمعاوية بالإعادة لا يصلح دليلا لجواز أنه أمره ولم يبلغنا. وإذا تركنا كلام الناس، وبحثنا الكلام بذكر أو دعاء وجدنا الإمام النووي يقول: الكلام المبطل للصلاة هو ما سوى القرآن والذكر والدعاء ونحوها، فأما القراءة والذكر ونحوها فلا تبطل الصلاة بلا خلاف عندنا، فلو أتى بشيء من نظم القرآن بقصد القرآن فقط أو بقصد القراءة مع غيرها كتنبيهه جماعة بالإذن بالدخول فقرأ {ادخلوها بسلام آمنين} [الحجر: 46] أو استؤذن في أخذ شيء فقرأ {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} [مريم: 12] وما أشبه ذلك فهذا كله لا يبطل الصلاة سواء قصد القراءة أو القراءة مع الإعلام، أما إن قصد الإعلام وحده فتبطل. اهـ. هذا مذهب الشافعية ورواية عن أحمد، وعند الحنفية ورواية عن أحمد تبطل صلاته لأنه خطاب آدمي، فأشبه ما لو كلمه. وإذا أرتج على الإمام ففتح المأموم عليه لا يضر عند الجمهور، وقال أبو حنيفة: تبطل الصلاة به. وإن كلمه إنسان وهو في الصلاة فأراد أن يعلم أنه في صلاة، أو سها الإمام فأراد أن يعلمه السهو استحب له إن كان رجلاً أن يسبح، وتصفق المرأة بأن تضرب ظهر كفها الأيمن على بطن كفها الأيسر. هذا مذهب الشافعية وأحمد، وقال مالك تسبح المرأة أيضًا، ووافقنا أبو حنيفة إذا قصد المصلي بذلك شيئًا من مصلحة الصلاة، ومنعه إذا لم يكن في مصلحة الصلاة وقال ببطلانها حينئذ. ولو قرأ قرآنًا أو ذكرًا من سبب غير الصلاة ومن غير تنبيه الآدمي، كأن يعطس فيحمد الله، أو يرى عجبًا فيقول: سبحان الله. أو يسمع أن قد ولد له غلام فيقول: الحمد لله، أو يقال له: سرق بيتك فيقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، أو يقال له: مات أخوك، فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، فهذا كله لا يبطل الصلاة عند الشافعي ومالك وأحمد، وقال أبو حنيفة: تفسد صلاته لأنه كلام آدمي. وإذا سلم على المصلي لم يكن له رد السلام كما يؤخذ من الرواية الثانية والرابعة والسادسة من

روايات الباب، فإن فعل بطلت صلاته، يقول بذلك مالك والشافعي وأحمد وأبو حنيفة، لأنه كلام آدمي فأشبه تشميت العاطس الوارد في الرواية الأولى من الباب، وهل يرد السلام بالإشارة؟ يجيز ذلك مالك والشافعي وأحمد، والأحسن أن ينتظر بالرد حتى يفرغ من الصلاة، أما كيفية الإشارة الواردة فقد روى صهيب قال. مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فسلمت عليه وكلمته، فرد إشارة. قال بعض الرواة: فرد إشارة بإصبعه. وعن ابن عمر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء فصلى فيه قال فجاءته الأنصار فسلموا عليه وهو يصلي قال فقلت لبلال كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو يصلي؟ قال يعقوب: هكذا. وبسط يعني كفه، وجعل بطنه أسفل، وظهره إلى فوق، قال الترمذي: كلا الحديثين صحيح رواهما أبو داود. وهل يسن لمن دخل على قوم يصلون أن يسلم عليهم؟ نعم قال بذلك بعض العلماء. قال النووي: وأما ابتداء السلام على المصلي فمذهب الشافعي أنه لا يسلم عليه، فإن سلم لم يستحق جوابًا. وقال به جماعة من العلماء، وعن مالك روايتان، إحداهما كراهة السلام والأخرى جوازه. هذا. والضحك. والتأوه والنحنحة إن بان منها حرفان بطلت الصلاة عند الجمهور، وفي كتب الفروع تفصيلات كثيرة يضيق المقام بذكرها، فمن أرادها فليرجع إليها. -[ويؤخذ من روايات الباب فوق ما تقدم]- 1 - النهي عن تشميت العاطس في الصلاة. قال النووي: وتفسد به الصلاة إذا أتى به عالمًا عامدًا. قال أصحابنا: إن قال: يرحمك اللَّه بكاف الخطاب بطلت صلاته، وإن قال: يرحمه اللَّه أو اللَّهم ارحمه لم تبطل صلاته، لأنه ليس بخطاب. اهـ، والأصوب القول ببطلان الصلاة خاطب أو لم يخاطب مادام مشمتًا لعاطس. 2 - قال النووي: وفي الحديث دليل على أن من حلف ألا يكلم الناس فسبح أو كبر أو قرأ قرآنًا لا يحنث. 3 - قال النووي: وفيه دلالة لمذهب الشافعي والجمهور أن تكبيرة الإحرام فرض من فروض الصلاة وجزء منها، وقال أبو حنيفة: ليست منها، بل هي شرط خارج عنها متقدم عليها. اهـ والحديث حقًا ضد أبي حنيفة، لكنه لا يدل على أن تكبيرة الإحرام فرض، فعبارة الحديث "إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" وهذه العبارة لا تنص على تكبيرة الإحرام أو غيرها، وهي تجمعها مع التسبيح وليس فرضًا، فاستدلال النووي بها غير واضح. 4 - قال النووي: وفي ضربهم على أفخاذهم دليل على جواز الفعل في الصلاة، ولا تبطل به الصلاة، وأنه لا كراهة فيه إذا كان لحاجة. اهـ وليس مقصود النووي أن ما فعلوه لا كراهة فيه اليوم فمن المعلوم أن ما فعلوه قبل أن يشرع التسبيح لمن نابه شيء في صلاته، فمقصود النووي أن الفعل القليل إذا لم يغن عنه التسبيح وكان لحاجة لا يكره، كما إذا لم يمتنع المار بين يدي المصلي بالتسبيح فلا يكره منعه باليد.

5 - وفيه بيان ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عظيم الخلق والرفق بالجاهل ورأفته بأمته وشفقته عليهم. 6 - وفيه النهي عن إتيان الكهان. قال النووي: قال العلماء: إنما نهي عن إتيان الكهان لأنهم يتكلمون في مغيبات قد يصادف بعضها الإصابة، فيخاف الفتنة على الإنسان بسبب ذلك، لأنهم يلبسون على الناس كثيرًا من أمر الشرائع، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بالنهي عن إتيان الكهان وتصديقهم فيما يقولون، وتحريم ما يعطون من الحلوان، وهو حرام بإجماع المسلمين: قال البغوي: اتفق أهل العلم على تحريم حلوان الكاهن، وهو ما أخذه المتكهن على كهانته، لأن فعل الكهانة باطل، لا يجوز أخذ الأجرة عليه، وقال الماوردي في الأحكام السلطانية: ويمنع المحتسب الناس من التكسب بالكهانة واللهو، ويؤدب عليه الآخذ والمعطي، وقال الخطابي: وحلوان العراف حرام أيضًا، قال: والفرق بين العراف والكاهن أن الكاهن إنما يتعاطى الأخبار عن الكوائن في المستقبل، ويدعي معرفة الأسرار، والعراف يتعاطى معرفة الشيء المسروق ومكان الضالة ونحوهما، وقال الخطابي أيضًا في حديث "من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد برئ مما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم". قال: كان في العرب كهنة يدعون أنهم يعرفون كثيرًا من الأمور، فمنهم من كان يزعم أن له رئيًا من الجن يلقي إليه الأخبار، ومنهم من يدعي استدراك ذلك بفهم أعطيه، ومنهم من يسمى عرافًا، وهو الذي يزعم معرفة الأمور بمقدمات أسباب استظل بها كمعرفة من سرق الشيء الفلاني، ومعرفة من يتهم به المرأة، ونحو ذلك، ومنهم من يسمي المنجم كاهنًا. قال: والحديث يشتمل على النهي عن إتيان هؤلاء كلهم والرجوع إلى قولهم وتصديقهم فيما يدعونه. قال النووي: هذا كلام الخطابي، وهو نفيس. اهـ 7 - وفي الحديث أن ما يقع في الصدر من التطير لا إثم فيه ولكن المنهي عنه العمل به والامتناع عن التصرف بسببه، وأحاديث النهي عن الطيرة محمولة على النهي عن العمل بها، لا على ما يوجد في النفس من غير عمل على مقتضاها. 8 - وفي الخط الوارد في هذا الحديث يقول النووي: اختلف العلماء في معناه، فالصحيح أن معناه من وافق خطه فهو مباح له، ولكن لا طريق لنا إلى العلم اليقيني بالموافقة، فلا يباح، والمقصود أنه حرام، لأنه لا يباح إلا بيقين الموافقة، وليس لنا يقين بها، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم "فمن وافق خطه فذاك". ولم يقل: هو حرام بغير تعليق على الموافقة لئلا يتوهم متوهم أن هذا النهي يدخل فيه ذاك النبي الذي كان يخط، فحافظ النبي صلى الله عليه وسلم على حرمة ذلك النبي مع بيان الحكم في حقنا، فالمعنى أن ذلك النبي لا منع في حقه، وكذا لو علمتم موافقته، ولكن لا علم لكم بها. وقال الخطابي: هذا الحديث يحتمل النهي عن هذا الخط إذا كان علمًا لنبوة ذلك النبي وقد انقطعت، فنهينا عن تعاطي ذلك. وقال القاضي عياض: المختار أن معناه أن من وافق خطه فذاك الذي يجدون إصابته فيما يقول، لا أنه أباح ذلك لفاعله، قال: ويحتمل أن هذا نسخ في شرعنا. فحصل من مجموع كلام العلماء فيه الاتفاق على النهي عنه الآن. اهـ

وكل هذه التوجيهات غير مقنعة في الاستدلال بالحديث على الحرمة والمنع فليس اللفظ كاللفظ في إتيان الكاهن مثلاً، إذ كان من الممكن أن يقول: لا تأتهم، أو لا ينبغي أن يخطوا. بل ذكر النبي وخطه يرجح عندي أن الحديث يبيح ويخوف، وربما كان هذا أسلوب تشريع تدريجي كقوله تعالى: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس} [البقرة: 219] وكأنه يقول: الخط نفسه لا يعلم الغيب، ولئن كان نبي آتاه الله بعض الغيب بوسيلة الخط فلستم أنبياء، فما يقوله من يخط رجم بالغيب فما وافق منه الواقع وافق صدقه. فلا تكترثوا به ولا بما يقول. ثم نهي عن الخط وغيره من وسائل أدعياء علم الغيب منعًا قاطعًا والقول الآن بحرمته باتفاق العلماء. 9 - وعن قوله "وكانت لي جارية ترعى غنمًا لي" قال النووي: فيه دليل على جواز استخدام السيد جاريته في الرعي، وإن كانت تنفرد في المرعى [أخذ ذلك من عدم إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على قوله] ثم قال: وإنما حرم الشارع مسافرة المرأة وحدها، لأن السفر مظنة الطمع فيها وانقطاع ناصرها والذاب عنها وبعدها منه، بخلاف الراعية، ومع هذا فإن خيف مفسدة من رعيها لريبة فيها أو لفساد من يكون في الناحية التي ترعى فيها أو نحو ذلك لم يسترعها، ولم تمكن الحرة ولا الأمة من الرعي حينئذ، لأنه حينئذ يصير في معنى السفر الذي حرم الشرع على المرأة، فإن كان معها محرم أو نحوه ممن تأمن على نفسها فلا منع حينئذ كما لا يمنع من المسافرة في هذا الحال. اهـ. 10 - يؤخذ من قوله "فعظم ذلك علي" حسن معاملة الإسلام للخدم والإماء، والدعوة إلى الحسنى مهما قصر المخطئ، فالجارية بحكم العادة لا بد أنها قصرت في جمع الشياه فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية. ومع ذلك عنف الرسول صلى الله عليه وسلم سيدها لصكه لها صكة واحدة. وحبب إليه عتقها. 11 - ويؤخذ من مشروعية القول بأن الله في السماء، فقد قبله منها صلى الله عليه وسلم: وصدق الله العظيم إذ يقول: {أأمنتم من في السماء ... } [الملك: 16 - 17] {وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله} [الزخرف: 84]، وقد علم الرسول صلى الله عليه وسلم من قولها "في السماء" أنها موحدة، وليست من عبدة الأوثان. 12 - ويؤخذ من قوله "أعتقها فإنها مؤمنة" أن الكافر لا يصير مؤمنًا إلا بالإقرار بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. قال النووي: ولعله يقصد صيرورته مؤمنًا بالنسبة لأحكام الدنيا، أما بالنسبة لما عند الله فالإيمان التصديق بالقلب بذلك. 13 - وأن من أقر بالشهادتين واعتقد ذلك جزمًا كفاه ذلك في صحة إيمانه وكونه من أهل القبلة والجنة، ولا يكلف مع هذا إقامة الدليل والبرهان على ذلك، ولا يلزمه معرفة الدليل، قال النووي: وهذا هو الصحيح الذي عليه الجمهور. 14 - وأن إعتاق المؤمن أفضل من إعتاق الكافر: وأجمع العلماء على جواز عتق الكافر في غير

الكفارات، وأجمعوا على أنه لا يجزئ الكافر في كفارة القتل كما ورد به القرآن، واختلفوا في كفارة الظهار واليمين والجماع في نهار رمضان، فقال الشافعي ومالك والجمهور: لا يجزئه إلا مؤمنة حملاً للمطلق على المقيد في كفارة القتل، وقال أبو حنيفة والكوفيون: يجزئه للكافر للإطلاق، لأنها تسمى رقبة. 15 - ويؤخذ من الرواية الرابعة من قوله "فسلمت عليه فأشار إلي" أن السلام بالإشارة الخفيفة في الصلاة لا تضر خلافًا لأبي حنيفة وقد مر الحكم قريبًا. 16 - ومن قوله في الرواية الخامسة والسادسة "إنه لم يمنعني أن أكلمك ... إلخ" أنه ينبغي لمن سلم عليه ومنعه من رد السلام مانع، أو كلمه متكلم ومنعه من إجابته مانع أن يعتذر ويبين المانع، لإزالة ما قد يحاك بصدر المسلم من الأفكار. 17 - ويؤخذ من الرواية السادسة جواز النافلة في السفر على الراحلة حيث توجهت به، قال النووي: وهو مجمع عليه. 18 - يؤخذ من قوله في الرواية السادسة "بعثني في حاجة" حرص الصحابة على كتمان السر والمحافظة عليه وعدم إفشائه. لذا لم يبين المأمورية التي أسندت إليه. واللَّه أعلم

(202) باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة والتعوذ منه وجواز العمل القليل في الصلاة

(202) باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة والتعوذ منه وجواز العمل القليل في الصلاة 1026 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن عفريتًا من الجن جعل يفتك علي البارحة ليقطع علي الصلاة، وإن الله أمكنني منه فذعته، فلقد هممت أن أربطه إلى جنب سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا تنظرون إليه أجمعون (أو كلكم) ثم ذكرت قول أخي سليمان: رب اغفر لي وهب لي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي. فرده الله خاسئًا". وقال ابن منصور: شعبة عن محمد بن زياد. 1027 - عن شعبة في هذا الإسناد وليس في حديث ابن جعفر قوله: فذعته وأما ابن أبي شيبة فقال في روايته: فدعته. 1028 - عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعناه يقول: "أعوذ بالله منك" ثم قال: "ألعنك بلعنة اللَّه" ثلاثًا. وبسط يده كأنه يتناول شيئًا. فلما فرغ من الصلاة قلنا: يا رسول اللَّه، قد سمعناك تقول في الصلاة شيئًا لم نسمعك تقوله قبل ذلك. ورأيناك بسطت يدك. قال: "إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي. فقلت: أعوذ باللَّه منك. ثلاث مرات. ثم قلت: ألعنك بلعنة اللَّه التامة. فلم يستأخر. ثلاث مرات. ثم أردت أخذه. واللَّه لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقًا يلعب به ولدان أهل المدينة". -[المعنى العام]- الجن خلق من خلق اللَّه يعيش معنا على هذا الكوكب، يرانا من حيث لا نراه، شاء اللَّه في خلقته أن يكون قادرًا على التشكل بأشكال مختلفة، إذا قدر لابن آدم أن يراه، فإذا ظهر بصورة وقبض عليه فيها لم يستطع الخروج منها والرجوع إلى أصل خلقته بل تحكم عليه الصورة حتى يطلقه القابض عليه، وقل أن يراه إنسان خلا سيدنا سليمان عليه السلام وبعض أهل عصره. فقد سخر الله له الشياطين كل بناء وغواص، وآخرين مقرنين في الأصفاد، حكمه الله في الجن فسخر منهم في البناء

والغوص في البحار لإخراج الجواهر والكنوز ما سخر، وحبس منهم وقيد ما حبس وما قيد، وقد رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مرات وقرأ عليهم القرآن في مكة، وآمن بعض الجن برسالته كما ثبت في القرآن والحديث، وروي أن أبا هريرة رضي الله عنه قد رآه في صورة لص سارق وأمسكه ثم أطلقه، وفي هذا الحديث الشريف يحدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن متمرد من الجن حاول شغله عن الصلاة وإخراجه منها، فتمثل له وهو في صلاته في صورة قط يحمل في يده صاروخًا من نار يشرعه في وجه الرسول الكريم وهو يؤم الناس ليلاً، فقال صلى الله عليه وسلم بصوت سمعه بعض المصلين معه: أعوذ بالله منك. أعوذ بالله منك. أعوذ بالله منك. ألعنك بلعنة الله التامة. ألعنك بلعنة الله التامة - يشير إلى قوله تعالى مخاطبًا إبليس {وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين} [الحجر: 35] وأمكن اللَّه رسوله من هذا المتمرد، فلم يستأخر وقفز في وجه الرسول، فقبض عليه وخنقه خنقًا شديدًا حتى خرج لسانه وأحس صلى الله عليه وسلم برد لسانه على يده، وهم أن يربطه في أحد أعمدة المسجد حتى يراه الناس ويلعب به صبيان المدينة. لكنه ذكر أن التحكم في الجن كان ملك أخيه سليمان عليه السلام، الذي سأل الله تعالى أن لا يكون هذا الملك لأحد من بعده فرأى صلى الله عليه وسلم تواضعًا وأدبًا مع أخيه سليمان أن يترك له هذه الجزئية من الملك وأن لا يشاركه فيها، فدفع المتمرد دفعًا شديدًا بعيدًا، فهرب خاسئًا ذليلاً، وقد رأى الصحابة المصلون معه تحركات يده بعد سماعهم استعاذته ولعنته للشيطان فسألوه عما رأوا وسمعوا، فحكى لهم ما رأى وما قال، وما هم به وما رجع عنه وما فعله، صلوات الله وسلامه عليه، ورضي الله عن صحابته أجمعين. -[المباحث العربية]- (إن عفريتًا من الجن) قال ابن الحاجب وزنه فعليت من عفر، وفي المحكم: عفريت بين العفارة خبيث منكر، وقال الزجاج: العفريت النافذ في الأمر المبالغ فيه من خبث ودهاء، والجن نوع من العالم، والجمع جنان وهم الجنة، والجني منسوب إلى الجن، قال ابن دريد: الجن خلاف الإنس، وكل شيء استتر فقد جن عنك، وقال ابن عقيل: إنما سمي الجن جنًا لاستجنانهم واستتارهم عن العيون، ومنه سمي الجنين جنينًا، فالمعنى المراد: إن متمردًا خبيثًا من الجن. (جعل يفتك علي البارحة) "الفتك" الأخذ في غفلة وخديعة، وفي رواية البخاري "تفلت علي البارحة" أي تعرض لي فلتة أي بغتة، وفي المحكم أفلت الشيء إذا أخذ بغتة في سرعة، و"البارحة" أقرب ليلة مضت، ويقال لكل زائل بارح، والبارحة منصوب على الظرفية. (فذعته) بذال معجمة وتخفيف العين، وبعدها تاء مشددة، أي خنقته، وفي رواية "فدعته" بالدال بدل الذال، ومعناه دفعته شديدًا، والدعت والدع الدفع الشديد، قال النووي: والمعجمة [أي رواية الذال] أوضح وأشهر.

(فلقد هممت أن أربطه إلى جنب سارية من سواري المسجد) السارية هي الأسطوانة أي العمود المستدير. (حتى تصبحوا) أي تدخلوا في الصباح، فهي تامة لا تحتاج إلى خبر. (تنظرون إليه أجمعون - أو كلكم) "أجمعون" أو "كلكم" تأكيد للضمير المرفوع في "تنظرون". (قول أخي سليمان) الأخوة بينهما بحسب أصول الدين. (فرده الله خاسئًا) أي ذليلاً صاغرًا مطرودًا مبعدًا، يقال: خسأت الكلب طردته، وخسأ الكلب يخسأ ذل. (ألعنك بلعنة الله التامة) قال النووي: قال القاضي: يحتمل تسميتها تامة أي لا نقص فيها، ويحتمل الواجبة له المستحقة عليه أو الموجبة عليه العذاب سرمدًا. (يلعب به ولدان أهل المدينة) قال النووي: المراد من الولدان الصبيان. -[فقه الحديث]- قال النووي: في الحديث دليل على أن الجن موجودون، وإنهم قد يراهم بعض الآدميين، وأما قول الله تعالى: {إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم} [الأعراف: 27]، فمحمول على الغالب، فلو كانت رؤيتهم محالاً لما قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال من رؤيته إياه، ومن أنه كاد يربطه لينظروا كلهم إليه ويلعب به ولدان أهل المدينة. قال القاضي: وقيل: إن رؤيتهم على خلقهم وصورهم الأصلية ممتنعة لظاهر الآية، إلا للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ومن خرقت له العادة. وإنما يراهم بنو آدم في صور غير صورهم كما جاء في الآثار. قال النووي: هذه دعوى مجردة فإن لم يصح لها مستند فهي مردودة. قال الإمام أبو عبد الله المازري: الجن أجسام لطيفة روحانية فيحتمل أنه تصور بصورة يمكن ربطها معها، ثم يمتنع من أن يعود إلى ما كان عليه حتى يتأتى اللعب به. اهـ ويؤيد هذا القول رواية عبد الرزاق "عرض لي في صورة هر". وظاهر قوله صلى الله عليه وسلم "ثم ذكرت قول أخي سليمان إلى آخره ... " أنه صلى الله عليه وسلم كان قادرًا على ربطه، وكان ربطه ممكنًا لكنه صلى الله عليه وسلم تركه ليحقق لسليمان عليه السلام استجابة دعوته، ويبدو لي أن ذلك لم يكن يؤثر في دعوة سليمان، فملك سليمان كان أكبر بكثير من التحكم في جني واحد متفلت فقد كان الجن والريح مسخرين له وعلم لغة الطير وسخر الطير له وأوتي من كل شيء، ودعوته أن يكون هذا الملك الواسع خاصًا به لا يعطى لغيره، وهذا لا يمنع من حصول الغير على بعضه، وما قيمة التحكم في جني بجوار هذا الذي كان لسليمان، وأعتقد

أن ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم زيادة تقدير وأدب لأخيه سليمان عليهما وعلى جميع الأنبياء السلام. ولست مع القاضي عياض في قوله: معناه أنه مختص بهذا فامتنع صلى الله عليه وسلم من ربطه، إما لأنه لم يقدر عليه لذلك، وإما لكونه لما تذكر ذلك لم يتعاط ذلك لظنه أنه لم يقدر عليه. اهـ قال النووي: وفي الحديث دليل لجواز دعاء المصلي لغيره وعلى غيره بصيغة المخاطبة لقوله في الحديث "ألعنك بلعنة الله" ثلاثًا. وجمهور العلماء على خلافه والأحاديث السابقة في الباب الذي قبله في السلام على المصلي تؤيد الجمهور ويحمل هذا الحديث على أنه كان قبل تحريم الكلام في الصلاة. واستدل بهذا الحديث أن العمل القليل لا يبطل الصلاة أخذًا من دعه صلى الله عليه وسلم للعفريت، وليس من محاولة ربطه لأنه يحتمل أن يكون ربطه بعد تمام الصلاة. ومن قوله "والله لولا دعوة أخي سليمان ... " أخذ جواز الحلف من غير استحلاف لتفخيم ما يخبر به الإنسان وتعظيمه والمبالغة في صحته وصدقه. قال النووي: وقد كثرت الأحاديث بمثل هذا. واستدل به البخاري على جواز ربط الأسير والغريم بالمسجد، وقال المهلب: إن في الحديث جواز ربط من خشي هروبه بحق عليه أو دين والتوثق منه في المسجد أو غيره. وقال العيني: في الحديث دليل على أن الجن ليسوا باقين على عنصرهم الناري، لأنه صلى الله عليه وسلم قال "إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي" ولو كانوا باقين على عنصرهم الناري وأنهم نار محرقة لما احتاجوا إلى أن يأتي الشيطان أو العفريت منهم بشعلة من نار، ولكانت يد الشيطان أو العفريت أو شيء من أعضائه إذا مس ابن آدم أحرقه كما تحرق الآدمي النار الحقيقية بمجرد اللمس، فدل على أن تلك النارية انغمرت في سائر العناصر حتى صار إلى البرد، ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم "حتى وجدت برد لسانه على يدي". واللَّه أعلم

(203) باب جواز حمل الصبيان في الصلاة وأن ثيابهم محمولة على الطهارة حتى تتحقق نجاستها وأن الفعل القليل لا يبطل الصلاة وكذا إذا فرق الأفعال

(203) باب جواز حمل الصبيان في الصلاة وأن ثيابهم محمولة على الطهارة حتى تتحقق نجاستها وأن الفعل القليل لا يبطل الصلاة وكذا إذا فرق الأفعال 1029 - عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي العاص بن الربيع فإذا قام حملها وإذا سجد وضعها؟ قال يحيى: قال مالك: نعم. 1030 - عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يؤم الناس وأمامة بنت أبي العاص وهي ابنة زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم على عاتقه فإذا ركع وضعها وإذا رفع من السجود أعادها. 1031 - عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي للناس وأمامة بنت أبي العاص على عنقه فإذا سجد وضعها. 1032 - عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: بينا نحن في المسجد جلوس خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو حديثهم. غير أنه لم يذكر أنه أم الناس في تلك الصلاة. -[المعنى العام]- أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف من رجال مكة المعدودين مالاً وأمانة وتجارة، وأمه هدلة وقيل هند بنت خويلد أخت خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم لأبيها وأمها، ومن المعلوم أن خديجة ولدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة من الذكور ماتوا جميعًا أطفالاً وولدت له أربع إناث كبراهن زينب وصغراهن فاطمة وبينهما رقية وأم كلثوم. أما زينب فقد تزوجت من أبي العاص بن الربيع قبل البعثة بناء على طلب خديجة من رسول

الله صلى الله عليه وسلم وكان لا يحب مخالفتها، فلما أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنت به خديجة وبناته الأربع، وثبت أبو العاص زوج زينب على شركه. أما رقية وأم كلثوم فكان قد تزوجهما قبل البعثة عتبة وعتيبة ابنا أبي لهب، فلما أنذر صلى الله عليه وسلم عشيرته ونزل قوله تعالى: (تبت يدا أبي لهب وتب) فارق عتبة وعتيبة رقية وأم كلثوم، وكانا لم يدخلا بهما، وتزوجت رقية عثمان بن عفان، وهاجرت معه الهجرتين إلى الحبشة ثم إلى المدينة، وتوفيت رقية عند عثمان أثناء غزوة بدر الكبرى، أما أم كلثوم وفاطمة فقد هاجرتا إلى المدينة عقب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم فلما توفيت رقية تزوج عثمان أم كلثوم سنة ثلاث من الهجرة، وماتت عنده سنة تسع من الهجرة، ولم تلد له وتزوج على فاطمة بعد مقدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وهي الوحيدة من أولاده صلى الله عليه وسلم التي مات قبلها إذ ماتت بعده بستة أشهر. ونعود إلى زينب وقد هاجر أبوها وأخواتها إلى المدينة، وبقيت مع زوجها المشرك بمكة. فلما كان يوم بدر أسر زوجها أبو العاص بن الربيع ضمن أسرى بدر، وأرسل أهل الأسرى من قريش بفداء أسراهم، وأرسلت زينب تفتدي زوجها، أرسلت مالاً وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة رضي الله عنها أدخلتها بها على أبي العاص حين تزوجها، تقول عائشة رضي الله عنها: فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق رقة شديدة، وقال لأصحابه: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردوا عليها الذي لها فافعلوا. قالوا: نعم يا رسول الله، فأطلقوه وردوا عليها الذي لها. وأخذ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم العهد أن يخلي سبيل زينب لتهاجر إلى المدينة، فوفى أبو العاص بعهده، ولحقت بأبيها في المدينة ومعها طفلتها الرضيع "أمامة" صاحبة القصة. ووقع أبو العاص مرة ثانية في الأسر، وتذكرت زينب حسن عشرته ووفاءه، تذكرت أنه بعد أن فارق عتبة وعتيبة أختيها ذهبت قريش إلى أبي العاص تقول له: فارق ابنة محمد وننكحك أي نساء العرب شئت. فقال: لا أفارق صاحبتي، وما أحب أن لي بامرأتي امرأة من قريش. ذكرت أنه لم يتزوج عليها على الرغم من كثرة زواج العرب، ذكرت وفاءه بعهده لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإرسالها إلى أبيها وصبره على بعدها. ذكرت كل ذلك فبرزت من طاقة في بيتها تطل على المسجد والمسلمون في صلاة الفجر، فقالت: أيها الناس. قد أجرت أبا العاص بن الربيع، فلما انتهوا من الصلاة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المسلمون ذمة واحدة يجير عليهم أدناهم، وأطلق سراح أبا العاص بن الربيع مرة ثانية، وكانت عنده أمانات وأموال لقريش، فذهب إلى مكة ورد أمانات الناس وأموالهم ثم أعلن إسلامه وهاجر إلى المدينة قبل الفتح، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه زينب على النكاح الأول، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يثني عليه في مصاهرته، ولم تطل عشرة زينب معه فتوفيت سنة تسع من الهجرة، ولم يعش بعدها أبو العاص طويلاً. إذ توفي في خلافة أبي بكر، أما "أمامة" صاحبة القصة فقد تزوجها "علي" كرم الله وجهه بعد وفاة فاطمة بوصية من فاطمة قبل وفاتها. قال الحافظ ابن حجر: ولم تعقب. لقد أطلت في ذكر الظروف المحيطة بالحديث، وبدون شعور أجدني منساقًا إلى السيرة العطرة كلما طرقت بابها، وأجدني آثمًا لو حاولت حذف شيء مما كتبت عنها. ومن هذه الظروف يتضح لنا كيف ومتى وصلت "أمامة" لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد غيبة وإشفاق على أمها؟ ومدى ما يتصوره قلب والد

أو جد من عطف على أطفال بنته وحب لهم فضلاً عمن قال فيه ربه {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128] أضف إلى ذلك أنه معلم البشرية يحب أن يستأصل من عادات الجاهلية تفضيل الذكور وحبهم دون الإناث، فيضرب لهم المثل الأعلى في عطفه وحبه للبنت حتى يضعها فوق رقبته وهو يعبد الله ويصلي بالناس، ولو أنه استطاع أن لا يزعجها وأن لا يكسر بخاطرها لحظة لفعل، ولكن حركات الصلاة تحول دون ذلك فكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يركع أخذها بيديه من عاتقه ووضعها على الأرض بين يديه ثم ركع ثم رفع ثم سجد ثم جلس بين السجدتين ثم سجد الثانية ثم وضعها على عاتقه وقام بها، وهكذا حتى انتهت الصلاة. ورأى الصحابة المثل الأعلى في الرحمة والحب والعطف والشفقة والتكريم والإكرام فصلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين. -[المباحث العربية]- (كان يصلي) هذه العبارة تشعر بتكرار الفعل بخلاف ما لو قال "صلى" لكن هذا التعبير غير مراد به التكرار وإن أشعر بذلك، حيث لم يتكرر منه صلى الله عليه وسلم ذلك. (وهو حامل أمامة) قال الحافظ ابن حجر: المشهور في الروايات بتنوين "حامل" ونصب "أمامة" وروي بالإضافة، كما قرئ {إن الله بالغ أمره} [الطلاق: 3] و"أمامة" بضم الهمزة وتخفيف الميمين. (بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم) "بنت" الأولى منصوب صفة لأمامة و"بنت" الثانية مجرور صفة لزينب. (ولأبي العاص بن الربيع) أي "أمامة" بنت لزينب وبنت لأبي العاص بن الربيع، فالإضافة في "بنت زينب" بمعنى اللام التي ظهرت في المعطوف، وأبو العاص بن الربيع اسمه لقيط وقيل مقسم وقيل القاسم، وهو مشهور بكنيته أسلم قبل الفتح وهاجر وكانت وفاته في خلافة أبي بكر، وأشار ابن العطار إلى الحكمة في نسبة أمامة أولاً إلى أمها على غير المعتاد، فقال: الحكمة في ذلك كون والد أمامة كان إذ ذاك مشركًا، فنسبت إلى أمها، تنبيهًا على أن الولد ينسب إلى أشرف أبويه دينًا ونسبًا، ثم بين أنها من أبي العاص تبيينًا لحقيقة نسبها. اهـ وهذا الكلام في ظاهره حسن وجميل حسب الحكم الشرعي الذي استقر أخيرًا بالمدينة، ولكن من المستبعد أن يقصد أبو قتادة هذا المقصد حيث كان آنذاك كثير من أبناء المشركين الذين أسلمت أمهاتهم وفرق الإسلام بين الأمهات والآباء بعد نزول سورة الممتحنة وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن} [الممتحنة: 10] لم يعرف أن أبناء هؤلاء المؤمنات نسبوا إليهن آنذاك ولم ينسبوا لآبائهم الكفار. والذي أراه أن السبب في ذلك هو أن زينب آنذاك كانت عند أبيها بالمدينة

وأن أبا العاص كان مشركًا بمكة، وكان كل من رأى أمامة وسأل عنها قيل: بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تكريمًا لها وحبًا لحب جدها فجرى على لسان الناس هذه النسبة، لا قصد الشرع، ولكن بحكم جريان الألسنة، ولما لم يستسغ الراوي الاكتفاء بهذه النسبة نسبها النسب الحقيقي لأبيها وهو مشرك، ولو قصد الشرع ما نسبها النسبة الثانية. يؤكد ما ذهبت إليه أن الرواية الثالثة من رواياتنا نسبتها إلى أبيها فقط، وأن الرواية الثانية عكست نسبة الرواية الأولى، فنسبتها إلى أبيها أولاً ثم زادتها تعريفًا بنسبتها إلى أمها. والله أعلم. -[فقه الحديث]- يجتهد العلماء في توجيه هذا الحديث لدلالته على وقوع الحركات الكثيرة في الصلاة مما يتنافى وما تقرر من أن الحركات الكثيرة تبطلها، فبعضهم يرى: 1 - أن ذلك العمل منه صلى الله عليه وسلم لم يكن عن عمد فيقول الخطابي: يشبه أن يكون الصبية كانت قد ألفته، فإذا سجد تعلقت بأطرافه والتزمته فينهض من سجوده، فتبقى محمولة كذلك إلى أن يركع فيرسلها قال: هذا وجهه عندي. وتوضيح وجهه أنه يقصد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يرفعها وكل أعماله أنه كان يضعها عند الركوع، وهذا العمل قليل معفو عنه، وقريب من هذا القول قول ابن دقيق العيد، إذ قال: من المعلوم أن لفظ حمل لا يساوي لفظ وضع في اقتضاء فعل الفاعل. لأنا نقول: فلان حمل كذا، ولو كان غيره حمله، بخلاف وضع، فعلى هذا فالفعل الصادر منه هو الوضع لا الرفع، فيقل العمل. اهـ وكان ابن دقيق العيد يشرح الرواية الأولى في بابنا وهي في البخاري ولم يكن اطلع على روايتنا الثانية، فلما اطلع عليها قال - رحمه الله - وقد كنت أحسب هذا التوجيه حسنًا إلى أن رأيت في بعض طرق الحديث الصحيحة "وإذا رفع من السجود أعادها". اهـ وهذه الرواية ترد كذلك توجيه الخطابي، وأصرح منها في ذلك رواية أبي داود وهي "أخذها فردها في مكانها" ورواية أحمد "وإذا قام حملها فوضعها على رقبته". 2 - وبعضهم يرى أن ذلك كان في النافلة، فيغتفر فيها ما لا يغتفر في الفريضة، روى ذلك ابن القاسم عن مالك، ورده العلماء بأنه تأويل بعيد، قال المازري: لأن إمامته صلى الله عليه وسلم بالناس في النافلة ليست بمعهودة ويعارضه صريح بعض الروايات، فعند أبي داود "بينما نحن ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر أو العصر وقد دعاه بلال إلى الصلاة إذ خرج علينا وأمامة على عاتقه، فقام في مصلاه، فقمنا خلفه، فكبر فكبرنا وهي في مكانها". 3 - وبعضهم يرى أن ذلك جاز للضرورة. قال القرطبي: روى أشهب وعبد الله بن نافع عن مالك أن ذلك للضرورة حيث لم يجد من يكفيه أمرها. اهـ وزاد بعض أصحابه، فقالوا لأنه لو تركها لبكت وشغلت سره في صلاته أكثر من شغله بحملها، وزاد بعض أصحابه أيضًا، فقال الباجي: إن وجد من يكفيه أمرها جاز في النافلة دون الفريضة، وإن لم يجد جاز فيهما. اهـ وهذا مردود برواية

خروجه بها من البيت، وأمها في الأغلب فيه، وبجوار بيتها بيت عائشة وسودة. فالضرورة مستبعدة، ولا دليل عليها. 4 - وقال بعضهم: إن هذا منسوخ، قال القرطبي: روى عبد الله بن يوسف التنبسي عن مالك أن الحديث منسوخ، ولفظه: قال التنبسي قال مالك عندما سئل: من حديث النبي صلى الله عليه وسلم ناسخ ومنسوخ وليس العمل على هذا. اهـ ووجهه ابن عبد البر بقوله: لعله نسخ بتحريم العمل في الصلاة. قال الحافظ ابن حجر: وتعقب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، وبأن هذه القصة كانت بعد قوله صلى الله عليه وسلم "إن في الصلاة لشغلاً" لأن ذلك كان قبل الهجرة [انظر حديث ابن مسعود في الباب قبل السابق ففيه أنه كان قبل الهجرة بثلاث سنين] وهذه القصة كانت بعد الهجرة قطعًا بمدة مديدة [راجع المعنى العام لهذا الحديث لترى أن زينب وبنتها جاءتا المدينة بعد بدر بمدة]. 5 - وبعضهم يرى أن ذلك كان من خصوصياته صلى الله عليه وسلم وقال: كان من خصائصه صلى الله عليه وسلم [لكونه كان معصومًا من أن تبول وهو حاملها]، ورد بأن الأصل عدم الاختصاص وبأنه لا يلزم من ثبوت الاختصاص في أمر ثبوته في أمر غيره بغير دليل، ولا مدخل للقياس في ذلك. ذكره القاضي عياض. 6 - ومن هذا العرض يتبين أن الذي تولى حملة الرد هم المالكية وجمهور العلماء على أن مثل هذا العمل المتفرق لا يضر الصلاة. قال النووي: كل هذه الدعاوى باطلة ومردودة، فإنه لا دليل عليها، ولا ضرورة إليها، بل الحديث صحيح صريح في جواز ذلك، وليس فيه ما يخالف قواعد الشرع، فالأفعال في الصلاة لا تبطلها إذا قلت أو تفرقت، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا بيانًا للجواز. اهـ وقال أيضًا في المجموع: أما حكم المسألة فمختصر ما قال أصحابنا أن الفعل الذي ليس من جنس الصلاة إن كان كثيرًا متواليًا أبطل الصلاة بلا خلاف، ثم قال: واختلفوا في حد الكثير والتوالي. والصحيح المشهور وبه قطع الجمهور أن الرجوع في الكثرة والقلة إلى العادة والعرف. فلا يضر ما يعده الناس قليلاً كالإشارة برد السلام، ورفع العمامة ووضعها، ولبس ثوب خفيف ونزعه، وحمل صغير ووضعه. وخطوة واحدة أو خطوتان، وأشباه هذا. ثم قال: واتفق الأصحاب على أن الكثير إنما يبطل إذا توالى، فإن تفرق بأن خطا خطوة ثم سكت زمنًا، ثم خطا أخرى، أو خطوتين ثم خطوتين بينهما زمن، وتكرر ذلك مرات كثيرة حتى بلغ مائة خطوة فأكثر لم يضر بلا خلاف، وحد التفريق أن يجد الفعل الثاني منقطعًا عن الأول. انتهى بتصرف. وظاهر الحديث أن الآدمي وما في جوفه من النجاسة معفو عنه لكونه في معدته. قال النووي: ودلائل الشرع متظاهرة على هذا. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - قال ابن بطال: أراد البخاري أن حمل المصلي الجارية إذا كان لا يضر الصلاة فمرورها بين يديه لا يضر، لأن حملها أشد من مرورها، وأشار إلى نحو هذا الاستنباط الشافعي.

2 - وفي الحديث دليل واضح على حسن معاملة الإسلام للإناث، قال الفكهاني: وكأن السر في حمله صلى الله عليه وسلم أمامة في الصلاة أن يدفع ما كانت العرب تألفه من كراهة البنات وحملهن، فخالفهم في ذلك حتى في الصلاة للمبالغة في ردعهم. 3 - واستدل به على جواز إدخال الصبيان في المساجد. 4 - وأن لمس الصغار الصبايا غير مؤثر في الطهارة. قاله الحافظ ابن حجر. وفيه نظر لأن الصبية هنا ليست أجنبية فهي بنت بنته واللمس الضار بالوضوء لمس الأجنبية. 5 - وأن الصلاة لا تبطل بحمل آدمي وكذا بحمل حيوان طاهر، وللشافعية تفصيل بين المستجمر وغيره. 6 - واستدل به على ترجيح العمل بالأصل على الغالب. 7 - وفيه تواضعه صلى الله عليه وسلم وشفقته على الأطفال وإكرامه لهم جبرًا لهم ولوالديهم. واللَّه أعلم

(204) باب الخطوة والخطوتين في الصلاة، وأنه لا كراهة في ذلك إذا كان لحاجة وجواز صلاة الإمام على موضع أرفع من المأمومين للحاجة كتعليمهم الصلاة أو غير ذلك

(204) باب الخطوة والخطوتين في الصلاة، وأنه لا كراهة في ذلك إذا كان لحاجة وجواز صلاة الإمام على موضع أرفع من المأمومين للحاجة كتعليمهم الصلاة أو غير ذلك 1033 - عن عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه أن نفراً جاءوا إلى سهل بن سعد قد تماروا في المنبر. من أي عود هو؟ فقال: أما والله إني لأعرف من أي عود هو ومن عمله ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أول يوم جلس عليه قال فقلت له: يا أبا عباس فحدثنا. قال: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى امرأة (قال أبو حازم: إنه ليسميها يومئذ) "انظري غلامك النجار. يعمل لي أعوادًا أكلم الناس عليها". فعمل هذه الثلاث درجات. ثم أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعت هذا الموضع. فهي من طرفاء الغابة. ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عليه فكبر وكبر الناس وراءه وهو على المنبر. ثم رفع فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر. ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته. ثم أقبل على الناس فقال "يا أيها الناس إني صنعت هذا لتأتموا بي. ولتعلموا صلاتي". 1034 - عن أبي حازم قال: أتوا سهل بن سعد فسألوه من أي شيء منبر النبي صلى الله عليه وسلم؟ وساقوا الحديث نحو حديث ابن أبي حازم. -[المعنى العام]- عجب جماعة من متانة خشب منبر مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، وتجادلوا في نوعه، ومن أي الأشجار هو، فذهبوا إلى الصحابي الجليل سهل بن سعد الساعدي يرفعون إليه الأمر ليحكم في جدلهم واختلافهم في نوع الخشب الذي صنع منه المنبر، فقال لهم سهل: على خبير وقعتم، فوالله إني أعلم الأحياء بهذا الأمر. لقد عايشته ورأيته وسمعته. إني أعرف نوع عوده، وأعرف من قام بصنعه، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أول مرة يجلس عليه. وكان أبو حازم حاضرًا المجلس، فقال لسهل: إذا كان الأمر

كذلك، فحدثنا يا أبا العباس. قال: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى امرأة من الأنصار. لها غلام نجار. يقول لها: مري غلامك النجار يصنع لي خشبات وأعوادًا درجًا أصعد عليه وأخطب الناس عليه. فأمرت غلامها وكان النجار الوحيد في المدينة واسمه ميمون فصنع المنبر من ثلاث درجات من خشب طرفاء الغابة، أو أثل الغابة الشجر المعروف في الغابة التي تبعد عن المدينة أربعة أميال، وأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع في المكان الذي ترونه، بجوار القبلة لا يفصله عن الحائط إلا قدر مرور العنز. ثم قال: ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصعد المنبر مستقبل القبلة وظهره للقوم، فنوى الصلاة وكبر، فكبر الناس خلفه وقام فقرأ ثم ركع ثم رفع وهو على المنبر، ثم رجع بظهره ونزل خطوتين درجتي المنبر، فوصل أصل المنبر فسجد على أرض المسجد بجوار المنبر ثم جلس بين السجدتين، ثم سجد الثانية ثم نهض، فصعد المنبر فقرأ ثم ركع ثم رفع ثم نزل راجعًا القهقرى حتى وصل إلى أصل المنبر فسجد ثم جلس ثم نهض فصعد حتى أتم الصلاة، فأقبل على الناس، فخطبهم فقال: أيها الناس إنما صليت في أعلى المنبر لتروا صلاتي فتتعلموها ولتقتدوا بي [صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين]. هذا وقد كان صلى الله عليه وسلم يخطب القوم بدون منبر مدة طويلة وكان يسند ظهره إلى جذع من جذوع النخل التي رصت في الجدار الذي جهة القبلة، ويروى أنه بعد فترة وضعت له مصطبة كدرجة واحدة من اللبن، ولعلها وضعت أمام الجذع الذي يستند إليه عند الخطبة، لأنه من الثابت أن الجذع الذي كان يخطب عليه قد تأثر حتى روى البخاري عن جابر قال "كان جذع يقوم إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما وضع له المنبر سمعنا للجذع مثل أصوات العشار، حتى نزل النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليه". وفي سنة صنع المنبر خلاف بين العلماء، فقد جزم ابن سعد بأنه كان في السنة السابعة، وجزم ابن النجار بأنه كان في السنة الثامنة، وبقي المنبر على حاله ثلاث درجات في عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وفي خلافة معاوية زاده مروان عامله في المدينة ست درجات من أسفله، وبقي على هذا الوضع إلى أن احترق مسجد المدينة سنة أربع وخمسين وستمائة فاحترق، ثم جدد المظفر صاحب اليمن سنة ست وخمسين وستمائة منبرًا ثم أرسل الظاهر بيبرس منبرًا، فأزيل منبر المظفر ووضع. وتوالت عليه بعد ذلك التعديلات والتغييرات. والله أعلم. -[المباحث العربية]- (أن نفرًا جاءوا) النفر من ثلاثة إلى عشرة، قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على أسمائهم. (قد تماروا في المنبر) معناه تجادلوا وتنازعوا واختلفوا، ومنه قوله تعالى: {فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا} [الكهف: 22] والمنبر كما قال أهل اللغة مشتق من النبر وهو الارتفاع، واللام في المنبر للعهد: أي منبره عليه الصلاة والسلام. (من أي عود هو)؟ في الرواية الثانية "من أي شيء منبر النبي صلى الله عليه وسلم" أي من أي نوع من الخشب؟ .

(أما والله إني لأعرف من أي عود هو)؟ "أما" أداة استفتاح، وقصد بهذه الجملة وبالقسم التوثيق مما يقول، وفي رواية للبخاري "ما بقي بالناس أعلم مني" ومعنى روايتنا: إني لأعرف جواب: من أي عود هو؟ . (ومن عمله) أي والله إني لأعرف من عمله، فالموصول معطوف على مفعول "أعرف". (قال: فقلت يا أبا عباس فحدثنا) أي قال أبو حازم لسهل: يا أبا عباس كنية سهل بن سعد الساعدي، وكان أبو حازم موجودًا عند إتيان النفر المتجادلين، والظاهر أنه لم يكن منهم وإلا لقال: تمارينا. والفاء في "فحدثنا" فصيحة في جواب شرط مقدر، أي إذا كنت أعلم الناس به فحدثنا. (أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى امرأة - قال أبو حازم: إنه ليسميها يومئذ) يعني أن سهلاً ذكر اسم المرأة ونسيه أبو حازم، وفي رواية للبخاري "أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فلانة - امرأة قد سماها سهل -" وقد أجهد العلماء أنفسهم في محاولة الوصول إلى اسم هذه المرأة واختلفوا اختلافات كثيرة ذكرها الحافظ ابن حجر والعيني وغيرهما، ولم يصلوا إلى قرار في اسمها. (انظري غلامك النجار) أي انظريه نظرة طلب وأمر، وفي رواية للبخاري "مري غلامك النجار" وقد وصل الخلاف في اسم الغلام النجار صانع المنبر إلى سبعة آراء. قال الحافظ ابن حجر بعد أن سردها بأسانيدها وليس في جميع هذه الروايات التي سمي فيها النجار شيء قوي السند إلا حديث ابن عمر وليس فيه التصريح بأن الذي اتخذ المنبر تميم الداري، بل تبين من رواية ابن سعد أن تميمًا لم يعمله [وحديث ابن عمر ورواية ابن سعد اللذان أشار إليهما ابن حجر نصها: روى أبو داود والبيهقي بطرقهما عن نافع عن ابن عمر أن تميمًا الداري قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما كثر لحمه: "ألا نتخذ منبرًا يحمل عظامك؟ قال: بلى. فاتخذ له منبرًا" فضمير "فاتخذ له منبرًا" يمكن أن يعود لرسول الله صلى الله عليه وسلم فليس في الحديث تصريح بأن الذي صنع المنبر تميم، أما رواية ابن سعد التي تبعد أن يكون تميم الصانع للمنبر فنصها: روى ابن سعد في الطبقات من حديث أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب وهو مستند إلى جذع، فقال: إن القيام قد شق علي، فقال له تميم الداري: ألا أعمل لك منبرا كما رأيت يصنع بالشام؟ فشاور النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين في ذلك، فرأوا أن يتخذه، فقال العباس بن عبد المطلب: إن لي غلامًا يقال له "كلاب" أعمل الناس. فقال: مره أن يعمل"] وأشبه الأقوال بالصواب قول من قال: هو ميمون، لكون الإسناد عن طريق سهل بن سعد أيضًا [والرواية التي يقصدها ابن حجر أخرجها قاسم بن أصبغ وأبو سعد في "شرف المصطفى" جميعًا عن طريق يحيى بن بكير عن ابن لهيعة حدثني عمارة بن غزية عن عباس بن سهل عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إلى خشبة، فلما كثر الناس قيل له: لو كنت جعلت منبرًا؟ قال: وكان بالمدينة نجار واحد، يقال له ميمون، فذكر الحديث] وأما الأقوال الأخرى فلا اعتداد بها لوهائها، ويبعد جدًا أن يجمع بينها بأن النجار كانت له أسماء متعددة وأما احتمال كون الجميع اشتركوا في عمله فيمنع منه قوله

في كثير من الروايات "لم يكن بالمدينة إلا نجار واحد، إلا إن كان يحمل على أن المراد بالواحد الماهر في صناعته، والبقية أعوانه، فيمكن. اهـ قال الإمام النووي: والرواية التي معنا "انظري غلامك النجار يعمل لي أعوادًا" مخالفة في ظاهرها لرواية جابر في صحيح البخاري "أن المرأة قالت: يا رسول الله، ألا أجعل لك شيئًا تقعد عليه، فإن لي غلامًا نجارًا؟ قال: إن شئت. فعملت المنبر" قال: والجمع بينهما أن المرأة عرضت هذا أولاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعث إليها النبي صلى الله عليه وسلم يطلب تنجيز ذلك. (يعمل لي أعوادًا) "يعمل" مضارع مجزوم في جواب الأمر، أي يعمل لي أعوادًا منبرًا. (أكلم الناس عليها) "أكلم" بالرفع، أي أكلم الناس وأخطبهم عليها، وفي رواية البخاري "أجلس عليهن". (فعمل هذه الثلاث درجات) قال النووي: هذا مما ينكره أهل العربية والمعروف عندهم أن يقول: ثلاث الدرجات، أو الدرجات الثلاث، وهذا الحديث دليل لكونه لغة قليلة. اهـ. وفي أبي داود "فاتخذ له منبرًا مرقاتين" وجمع بينهما بأن من قال مرقاتين لم يعتبر الدرجة التي كان يجلس عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم. (فوضعت هذا الموضع) أي فوضعت الأعواد التي صارت منبرًا هذا الموضع، ووضع تجاه حائط القبلة بينه وبين حائط القبلة قدر ما تمر العنزة، وكان صلى الله عليه وسلم يقوم في الصلاة بجنب المنبر، ولم يكن لمسجده محراب. (فهي من طرفاء الغابة) وفي رواية للبخاري "من أثل الغابة، و"من أثلة الغابة" ولا تناقض، فقد فسر الخطابي الأثل بالطرفاء، وقال ابن سيده: الأثل يشبه الطرفاء إلا أنه أعظم منه، وهو نبت مستقيم الخشبة، وخشبه جيد يحمل إلى القرى، فيبنى عليه بيوت المدن، وليس له شوك، وتصنع منه القصاع والأواني الصغار والكبار والمكاييل والأبواب، وهو معروف في قرى مصر بالأتل بالتاء، والغابة في الأصل كل شجر ملتف، والمراد بها هنا أرض كانت معروفة بهذا الشجر تقع على بعد تسعة أميال وقيل أربعة أميال من المدينة من طريق الشام. قال البكري: هما غابتان عليا وسفلى. (ورأيت النبي صلى الله عليه وسلم قام عليه) أي وقف عليه للصلاة على مرتفع للتعليم. (ثم رفع) أي قرأ، ثم ركع، ثم رفع وهو على المنبر. (فنزل القهقرى) "القهقرى" بالقصر المشي إلى الخلف، وقد رجع بظهره صلى الله عليه وسلم ونزل من أعلى المنبر إلى أصله وهو مستقبل القبلة قال العيني: يقال: رجع القهقرى ولا يقال: نزل القهقرى، لأنه نوع من الرجوع لا من النزول، وصح باعتبار النزول رجوعًا من فوق إلى تحت.

(حتى سجد في أصل المنبر) أي على الأرض إلى جنب الدرجة السفلى. (حتى فرغ من آخر صلاته) أي صلى هكذا. ينزل للسجود في كل ركعة السجدتين والجلوس بينهما ثم يصعد. (ولتعلموا صلاتي) بكسر اللام الأولى وبفتح العين واللام المشددة، أي تتعلموا صلاتي بالمشاهدة، فإن الصلاة على المنبر يراها كل المصلين بخلاف الصلاة على الأرض فإنه لا يراها إلا بعضهم ممن قرب منه. فقه الحديث يؤخذ من الحديث أحكام نذكرها فيما يلي 1 - أن الفعل الكثير في الصلاة إذا تفرق لا يبطلها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وكان ينزل خطوتين إلى أصل المنبر، ثم يصعدها، وتكرر ذلك في الركعات كلها وجملته كثيرة، لكن أفراده المتفرقة كل واحد منها قليل. قاله النووي. 2 - وجواز صلاة الإمام على موضع أعلى من موضع المأمومين، ولكنه يكره ارتفاع الإمام على المأموم وارتفاع المأموم على الإمام لغير حاجة، فإن كان لحاجة بأن أراد تعليمهم أفعال الصلاة لم يكره، بل يستحب لهذا الحديث، وكذا إن أراد المأموم إعلام المأمومين بصلاة الإمام واحتاج إلى الارتفاع. قاله النووي. وقال ابن دقيق العيد: من أراد أن يستدل بالحديث على جواز الارتفاع من غير قصد التعليم لم يستتم، لأن اللفظ لا يتناوله، ولانفراد الأصل بوصف معتبر تقتضي المناسبة اعتباره، فلا بد منه. وعلى ما ذكره النووي قول أحمد والليث والشافعي في قول، وعن مالك والشافعي، المنع وحكي المنع أيضًا عن أبي حنيفة إلا أن العيني يقول: وهو غير الصحيح، بل مذهبه الجواز مع الكراهة، وعن بعض الحنفية جوازه إذا كان الإمام مرتفعًا مقدار قامة، وعن مالك تجوز في الارتفاع اليسير. اهـ. والتحقيق أنه يجوز إذا كان لعذر أو مصلحة كما إذا كان المسجد الذي في مستوى الإمام يسع المأمومين، أو كان بجزء منه أذى من مطر أو حر أو برد يحول دون خشوع المصلي. والله أعلم. 3 - وفيه مشروعية اتخاذ المنبر لكونه أبلغ في مشاهدة الخطيب والسماع منه. 4 - ومشروعية الخطبة على المنبر لكل خطيب خليفة كان أو غيره، وقال ابن بطال: إن كان الخطيب هو الخليفة فسنته أن يخطب على المنبر. وإن كان غيره يخير بين أن يقوم على المنبر أو على الأرض، وتعقبه الزين بن المنبر بأن هذا

إخبار عن شيء أحدثه بعض الخلفاء، قال الحافظ ابن حجر: وهذا التفصيل غير مستحب، ولعل مراد من استحبه أن الأصل ألا يرتفع الإمام عن المأمومين، ولا يلزم من مشروعية ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم لمن ولي الخلافة أن يشرع لمن جاء بعدهم، وحجة الجمهور وجود الاشتراك في وعظ السامعين وتعليمهم أمور دينهم، والله الموفق. والحق مشروعية الخطبة على المنبر لكل خطيب وجرى عليه العمل منذ عهد النبوة حتى اليوم فأصبح إجماعًا، والله أعلم. 5 - وفي الحديث استحباب الافتتاح بالصلاة في كل شيء جديد، إما شكرًا وإما تبركًا، قاله الحافظ ابن حجر. اهـ وفي هذا الاستنباط بعد ونظر فإن الصلاة في الحديث فرض وللتعليم. 6 - ويستفاد من الحديث أن من فعل شيئًا يخالف العادة عليه أن يبين حكمته لأصحابه. 7 - وقيد قصد التعليم بالفعل بعد القول، فقد قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم تعليم المأمومين الصلاة بالفعل. 8 - وجواز الحلف من غير استحلاف لتأكيد الخبر وتوثيقه. والله أعلم

(205) باب كراهة الاختصار في الصلاة

(205) باب كراهة الاختصار في الصلاة 1035 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يصلي الرجل مختصرًا. وفي رواية أبي بكر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم. -[المعنى العام]- لما كانت الصلاة مناجاة بين العبد وربه، ولما كان الخشوع ومظاهر الخضوع والتسليم صورتها وحقيقتها وجب أن تكون أعضاء المسلم على هيئة تنطق بتلك الحقيقة، ومن هنا نهي عن الالتفات فيها، وعن كثرة التحرك، وتحريك الأيدي ورفع الرأس والبصر إلى أعلى إلى آخره. ومن الصور المنهي عنها وضع اليد في الخاصرة، سواء أكانت يدًا واحدة أو اليدين معًا، وهي هيئة ذميمة تعد في عرف المخاطبين قلة أدب خصوصًا إذا حصلت أمام كبير، فما بالنا بالوقوف بين يدي الخالق البارئ المصور العزيز الجبار المتكبر؟ الذي تذل لعظمته الجباه، وتسكن في ذلة وخشوع جميع الجوارح في مناجاته. -[المباحث العربية]- (أن يصلي الرجل مختصرًا) في رواية البخاري "نهي عن الخصر في الصلاة" قال النووي: اختلف العلماء في معناه، فالصحيح الذي عليه المحققون والأكثرون من أهل اللغة والغريب والمحدثين أن المختصر هو الذي يصلي ويده على خاصرته، وقال الهروي قيل: هو أن يأخذ بيده عصا يتوكأ عليها والعصا تسمى مخصرة، وقيل: أن يختصر السورة، فيقرأ من آخرها آية أو آيتين، وقيل: هو أن يحذف فلا يؤدي قيامها وركوعها وسجودها وحدودها، والصحيح الأول. قيل لأنه فعل اليهود، وقيل لأنه فعل المتكبرين. اهـ. -[فقه الحديث]- قال الشوكاني بعد أن ذكر المعاني للاختصار: وقد اختلف في المعنى الذي نهى عن الاختصار في الصلاة لأجله على أقوال: الأول التشبه بالشيطان قاله الترمذي في سننه، والثاني أنه تشبه

باليهود، قالته عائشة فيما رواه البخاري عنها في صحيحه، والثالث: أنه راحة أهل النار، روى ذلك ابن أبي شيبة عن مجاهد ورواه أيضًا عن عائشة، وروى البيهقي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الاختصار في الصلاة راحة أهل النار" قال العراقي: وظاهر إسناده الصحة ورواه أيضًا الطبراني. الرابع: أنه فعل المتكبرين والمختالين. قاله المهلب بن أبي صفرة. والخامس: أنه شكل من أشكال أهل المصائب يضعون أيديهم على الخواصر إذا قاموا في المأتم. قاله الخطابي. اهـ وهذه العلل كلها يمكن أن تكون حكمة وسببًا مجتمعة وهي قاصرة على المعنى الأول في الاختصار. وحكمه بهذا المعنى مكروه متفق على كراهته للرجال والنساء كما يقول النووي، وقال الشوكاني: والحديث يدل على تحريم الاختصار، وقد ذهب إلى ذلك أهل الظاهر، وذهب ابن عباس وابن عمر وعائشة ومالك والشافعي وأهل الكوفة وآخرون إلى أنه مكروه، والظاهر ما قاله أهل الظاهر لعدم قيام قرينة تصرف النهي عن التحريم الذي هو معناه الحقيقي كما هو الحق. اهـ. والحق مع الجمهور لأن العلل التي استنبطت لهذا الحكم رغم عدم ثبوتها لا تعطي الحرمة. والله أعلم

(206) باب كراهة مسح الحصى وتسوية التراب في الصلاة

(206) باب كراهة مسح الحصى وتسوية التراب في الصلاة 1036 - عن معيقيب رضي الله عنه قال ذكر النبي صلى الله عليه وسلم المسح في المسجد يعني الحصى قال "إن كنت لا بد فاعلاً فواحدة". 1037 - عن معيقيب رضي الله عنه أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن المسح في الصلاة؟ فقال "واحدة". 1038 - عن معيقيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الرجل يسوي التراب حيث يسجد قال "إن كنت فاعلاً فواحدة". -[المعنى العام]- من تمام الخشوع في الصلاة الاستغراق في العبادة والانشغال بها عن بعض ما يقع للمصلي من أذى محتمل، أو مشقة يسيرة، فالحصى الذي يفرش به المسجد في الزمن الأول كان ذا نتوء، ارتفاع وانخفاض مما لو ضغط عليه أثر في الجبهة غالبًا، وقد يفكر المصلي أن يهيئ عند سجوده تسوية مكان جبهته بمسح الحصى بيده أو الضغط عليه باليد ليقرب من التسوية، وهذا العمل بحركاته يتنافى والخشوع، فنهى عنه صلى اللَّه عليه وسلم، لكنه أباح عند الحاجة تسوية واحدة بإمرار اليد مرة واحدة، لأن تكرار المسح يخرج عن الخشوع ويضعف الانشغال بالصلاة، والأمر كذلك إذا كانت الأرض رملية أو ترابية، قد يجد المصلي مكان سجوده غير مستو مما يجعل بعض الجبهة ملاقية للأرض دون بعض فيسوي التراب أو الرمل مرة واحدة، وهكذا كل أذى يجده المصلي عند سجوده من ورق أو خرق أو قش فله أن يمهده بحركة واحدة لا بكثير من الحركات. أما مسح الجبهة من التراب بعد الصلاة فقد كرهه كثير من العلماء مادام المصلي في المسجد، فإن هو خرج فلا كراهة في مسحه جبهته، بل يسن له إن خاف من ذلك السمعة. واللَّه أعلم. -[المباحث العربية]- (عن معيقيب) بن أبي فاطمة الدويسي، أسلم قديمًا، وهاجر إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، وشهد بدرًا، واستعمله أبو بكر وعمر رضي الله عنهما على بيت المال، توفى آخر خلافة عثمان رضي الله عنه.

(المسح في المسجد) "أل" في المسح للعهد، ولما أحس الراوي أن العهد بعيد فسره بقوله: يعني. أي مسح الحصى وتسويته في المسجد في موضع السجود. (إن كنت -لا بد- فاعلاً فواحدة) "لا بد" اعتراضية بمعنى لا مفر. روي "واحدة" بالنصب والرفع، أما النصب فهو صفة لمصدر محذوف مع فعل أمره، والتقدير: فامسح مسحة واحدة، وأما الرفع فعلى الابتداء، وخبره محذوف تقديره: فواحدة تكفيك. -[فقه الحديث]- المسح في الصلاة يحتمل مسح الجبهة مما علق بها أثناء السجود، ويحتمل مسح الأرض وتسويتها وتمهيدها لمكان الجبهة في السجود، والظاهر أن المراد من الأحاديث الثاني، لأن الرواية الأولى تفسر الممسوح بالحصى، وقلما يعلق بالجبهة، كما أن الرواية الثالثة صريحة في أن المقصود بالمسح التسوية وهي لا تقال على مسح الجبهة. قال النووي: ومعنى "إن كنت لا بد فاعلاً فواحدة" أي لا تفعل، وإن فعلت فافعل واحدة، فهو نهي عن المسح. وهو نهي كراهة تنزيه. قال: واتفق العلماء على كراهة المسح. اهـ. ومراده جمهور العلماء وليس الإجماع. وقد حكى الشوكاني أن مالكًا لم ير به بأسًا، وكان يفعله في الصلاة، قال العراقي: وكان ابن مسعود وابن عمر يفعلانه في الصلاة، وذهب أهل الظاهر إلى تحريم ما زاد على الواحدة. اهـ. وعندي أن يفرق بين المسح لحاجة ولمصلحة الصلاة، وبين ما كان للتنعم وكمال الارتياح، فإذا كانت الأرض مليئة بحصى مدبب كالشوك، أو بتراب به عيدان وقش يحول دون التمكن من السجود كان المسح الموصل إلى التسوية مسحة أو مسحتين لا كراهة فيها، لأنها لصالح الصلاة، وعلى هذه الحالة يحمل عمل الإمام مالك وابن مسعود وابن عمر وغيرهم. واللَّه أعلم. والعلة في النهي أنه ينافي التواضع ولأنه يشغل المصلي. قاله النووي. وعن أبي ذر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الرحمة تواجهه فلا يمسح الحصى" ومعناه أن المسح في الصلاة يشغل خاطر المصلي ويلهيه عن مواجهة رحمة اللَّه في الصلاة. وظاهره أن النهي موجه للمصلي في حال صلاته، أما من يسوي مكانًا قبل الصلاة استعدادًا لها فلا شيء فيه، نعم قيل: بدخوله في النهي لئلا يشتغل بغير الصلاة عند إرادتها. ولكن هذا القول لا يعتد به، ولا يحتج له برواية الترمذي "إذ قام أحدكم إلى الصلاة" فإن رواية معيقيب وهي أولى بالقبول عن المسح في الصلاة. وقيل: إن الحكمة في النهي عن مسح الحصى أن لا يغطي شيئًا من الحصى المكشوف، فيفوت بمسحه السجود عليه، واستند لهذه الحكمة بما رواه ابن أبي شيبة في المصنف عن أبي صالح قال: "إذا سجدت فلا تمسح الحصى، فإن كل حصاة تحب أن تسجد عليها" وهذا قول بعيد. والتقييد بالحصى في كثير من الروايات خروج على الغالب حيث كان الغالب على مساجدهم فرشها بالحصى. ولا فرق بينه وبين التراب والرمل، يؤكد هذا الرواية الثالثة وفيها تسوية التراب. قال النووي: وكره السلف مسح الجبهة مما يعلق بها من غبار ونحوه في الصلاة وقبل الانصراف من المسجد.

(207) باب النهي عن البصاق في المسجد في الصلاة وغيرها والنهي عن بصاق المصلي بين يديه وعن يمينه

(207) باب النهي عن البصاق في المسجد في الصلاة وغيرها والنهي عن بصاق المصلي بين يديه وعن يمينه 1039 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى بصاقًا في جدار القبلة فحكه ثم أقبل على الناس فقال "إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قبل وجهه فإن الله قبل وجهه إذا صلى". 1040 - عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى نخامة في قبلة المسجد إلا الضحاك فإن في حديثه نخامة في القبلة بمعنى حديث مالك. 1041 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في قبلة المسجد فحكها بحصاة ثم نهى أن يبزق الرجل عن يمينه أو أمامه ولكن يبزق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى. 1042 - عن حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة وأبا سعيد أخبراه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى نخامة بمثل حديث ابن عيينة. 1043 - عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى بصاقًا في جدار القبلة أو مخاطًا أو نخامة فحكه. 1044 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في قبلة المسجد فأقبل على الناس فقال "ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه فيتنخع أمامه؟ أيحب أحدكم أن يستقبل

فيتنخع في وجهه؟ فإذا تنخع أحدكم فليتنخع عن يساره. تحت قدمه. فإن لم يجد فليقل هكذا" ووصف القاسم فتفل في ثوبه ثم مسح بعضه على بعض. 1045 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث ابن علية وزاد في حديث هشيم قال أبو هريرة: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد ثوبه بعضه على بعض. 1046 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا كان أحدكم في الصلاة فإنه يناجي ربه فلا يبزقن بين يديه ولا عن يمينه ولكن عن شماله تحت قدمه". 1047 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها". 1048 - عن شعبة قال: سألت قتادة عن التفل في المسجد؟ فقال: سمعت أنس بن مالك يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "التفل في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها". 1049 - عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق. ووجدت في مساوئ أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن". 1050 - عن يزيد بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته تنخع فدلكها بنعله. 1051 - عن أبي العلاء يزيد بن عبد الله بن الشخير عن أبيه أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم قال فتنخع فدلكها بنعله اليسرى.

-[المعنى العام]- يضرب الإسلام المثل الأعلى في المحافظة على النظافة، والمثل الأعلى في مراعاة شعور الآخرين، والمثل الأعلى في التواضع. أما الأول فيتمثل في صيانة المساجد ووقايتها من الأوساخ مهما كانت دوافع هذه الأوساخ. إن العرب في بداوتهم لم تكن لديهم مناديل، وكانت أطعمتهم وحياتهم وبيئتهم يكثر معها التنخم والبصاق وكانت عادتهم - وأرضهم رملية وشاسعة يغوص فيها البصاق ولا يظهر له أثر - كانت عادتهم إذا رغبوا في البصق أو النخامة قذفوها على أي جهة وقعت، يمينًا أو شمالاً أو أمامًا. فلما بنيت المساجد وأقيم حائط القبلة كان بعض منهم في الصف الأول يبصقون على الجدار المواجه لهم أحيانًا. ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة على جدار القبلة - ومن حكمته كمعلم للإنسانية أن ينتهز الفرص، ويختار الظرف المناسب للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - رأى نخامة، فقام في الناس فقال: إن أحدكم إذا قام إلى الصلاة ناجى ربه، ومن شأن المناجي والمناجى أن يواجه كل منهما الآخر، إن ربكم في مواجهتكم، فلا يبصق أحد في وجهه؟ إذا تنخع أحدكم واحتاج إلى دفع البصاق فليدفعه عن يساره وتحت قدمه، فإن لم يستطع فليأخذ بطرف ثوبه وليبصق فيه وليطبق طياته بعضها على بعض يمسح بها بصاقه ويزيل جرمه. بقي أن يظنوا أن النهي خاص بحائط القبلة، وأنه لا نهي عن البصاق على أرض المسجد، فقال صلى الله عليه وسلم البصاق في المسجد في أي مكان فيه خطيئة وذنب لا يمحوها إلا إزالة البصاق، وإزالته بدفنه في التراب، وعلى المسلم أن يجتنب الخطيئة أصلاً ويبتعد عنها فلا يبصق، فإن وقع في الخطيئة وبصق فليسرع بالتكفير عن خطيئته ويدفن نخامته في التراب. إن البصاق قبيح المنظر تشمئز منه النفس، ويجب على كل مسلم أن يراعي شعور أخيه المسلم ولا يؤذيه. إن الإسلام حريص على التجاوب والتقارب بين أبنائه، ويحارب كل ما يورث الكراهية أو تأذي المسلم من المسلم، فنهى عن البصق وأمر بإزالته إذا وقع. الأمر الواضح في هذه الأحاديث أن يتنازل الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الإمام والقائد، ويضرب المثل لكل فرد من أفراد أمته أن يقتدوا به، فيتقدم بنفسه ويأخذ حصاة من الأرض ويتجه إلى البصاقة في جدار المسجد فيحكها حكًا مستمرًا حتى يزيل جرمها وأثرها. فما أعظم التشريع السماوي في نظافته وحرصه على شعور الآخرين. وعلى كل ما يحبب المسلم للمسلم ويباعد بينه وبين ما يورث الكراهية والبغضاء. وما أعظمك وأجلك يا صفوة خلق الله، وما أحلمك وما أشد تواضعك حين تضرب لنا المثل الأعلى لما ينبغي أن يكون عليه الحاكم والقائد. فصلى الله وسلم عليك وعلى آلك وأصحابك أجمعين.

-[المباحث العربية]- (رأى بصاقًا) وفي ملحق الرواية الأولى "رأى نخامة" وهي كذلك في الرواية الثانية والرابعة والثامنة "نخامة" وفي الرواية الثالثة، "رأى بصاقًا أو مخاطًا أو نخامة" وفي الرواية الرابعة والتاسعة والعاشرة "فيتنخع" أي النخاعة، وفي الرواية الخامسة "فلا يبزقن" أي البزاق، وهو في الرواية السادسة، وفي الرواية السابعة "التفل" ويمكن التفرقة بينها بأن ما يتجمع في الفم من اللعاب العادي إن أخرج رذاذًا لا يكاد يرى يسمى بالنفث. ولم يرد في الحديث لأنه خفيف لا يتجمع ولا يرى له جرم على سطح خارجي اللهم إلا الزجاج وأمثاله، وإن أخرج قليلاً متجمعًا فوق الرذاذ يسمى بالتفل: ولما كان التفل عادة لا يبقى أثره كثيرًا على السطح الخارجي أريد منه في الرواية السابعة البصق، لأن الذي يحتاج إلى الدفن البصق لا التفل، وإن كان التفل في المسجد في حد ذاته مكروهًا وجد أثره خارجًا أو لم يوجد، وإن أخرج كثيرًا متجمعًا سمي بالبصاق ويقال له: البزاق بالزاي كما ورد في الرواية الخامسة، قال النووي: ولغة قليلة بالسين "بساق" وعدها جماعة غلطًا اهـ فالنفث ثم التفل ثم البصاق كلها من السائل الرقيق العادي في الفم الذي هو اللعاب. أما الغليظ اللزج الذي ينزل من الرأس فيخرج عن طريق الأنف فهو مخاط وإن أخرج عن طريق الفم فهو النخامة. والذي يصعد من الصدر مع الكحة غالبًا هو النخاعة بالعين وبعضهم يطلق النخامة والنخاعة على شيء واحد وكثيرًا ما يطلق واحد من المذكورات على الآخر إذا وجد خارجًا من غير أن يرى الفعل لاشتباه أوصافها أحيانًا، وقد يشك الراوي في حقيقة المرئي خصوصًا اللزج منه فيطلق عليه إطلاقات مختلفة كما في الرواية الثالثة. (في جدار القبلة) وهو كذلك في الرواية الثالثة، وفي الرواية الثانية "في قبلة المسجد" وهو كذلك في الرواية الرابعة، وفي ملحق الرواية الأولى "في القبلة" وفي رواية للبخاري "في جدار المسجد" والمراد واحد في الجميع وهو جدار قبلة المسجد. (فحكه) وفي الرواية الثانية "فحكها بحصاة" وفي رواية للبخاري "فحكه بيده" قال الشراي: أي تولى ذلك بنفسه، لا أنه باشر النخامة بيده الشريفة والوارد أنه قلعها مرة بحصاة، ومرة بعرجون، رواه أبو داود. والعرجون بضم العين هو العود الأصفر الذي فيه الشماريخ إذا يبس واعوج. (فلا يبصق قبل وجهه) "قبل" بكسر القاف وفتح الباء، أي جهة ما يواجهه، أي جهة القبلة، وفي رواية للبخاري "قبل قبلته" أي جهة قبلته. (فإن اللَّه قبل وجهه إذا صلى) وفي الرواية الرابعة "يقوم مستقبل ربه" وفي رواية للبخاري "أو أن ربه بينه وبين القبلة" قال النووي، قيل معناه: إن قبلة الله قبل وجهه، وقيل: ثواب الله قبل وجهه، أو عظمة الله قبل وجهه، وقال الخطابي في شرح رواية "إن ربه بينه وبين القبلة" معناه أن توجهه إلى القبلة مفض بالقصد منه إلى ربه، فصار في التقدير: فإن مقصوده بينه وبين

قبلته. اهـ وقد نفهم معنى آخر، وهو أن المصلي يناجي ربه في صلاته كما هو صريح الرواية الخامسة، والمناجي والمناجى لا فاصل بينهما في الشأن والعادة فكأن الله أمامه وبين القبلة، فإن الله بينه وبين القبلة تقديرًا واعتبارًا وتصورًا. والله أعلم. (فإن لم يجد فليقل هكذا) أي فإن لم يجد صلاحية عن يساره تحت قدمه كأن كان على يساره رجل أو كان تحت قدمه ثياب تتلوث، ولفظ القول مستعمل هنا في الفعل، أي فإن لم يجد متسعًا فليفعل هكذا [أي الهيئة التي وصفها الراوي]. (ووصف القاسم) أصل السند: حدثنا ابن علية عن القاسم بن مهران عن أبي رافع عن أبي هريرة، فالقائل: ووصف القاسم هو ابن علية، والقاسم نقل هذا الوصف عن أبي رافع، وأبو رافع نقل الوصف نفسه عن أبي هريرة فالمعنى: ووصف القاسم الهيئة المطلوبة. (فتفل في ثوبه ثم مسح بعضه على بعض) في رواية البخاري يصف أنس فعل النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: "ثم أخذ طرف ردائه، فبصق فيه، ثم رد بعضه على بعض". (فإنه يناجي ربه) قال العيني: المناجاة والنجوى هو السر بين الاثنين ومناجاة الرب مجاز، لأن القرينة صارفة عن إرادة الحقيقة، إذ لا كلام محسوس إلا من طرف واحد هو العبد، فيكون المراد لازم المناجاة، وهو إرادة الخير. (ولكن عن شماله تحت قدمه) أي اليسرى، وفي الرواية الثانية "ولكن يبزق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى، بأو وهي تبيح له أن يبزق عن يساره بعيدًا عن قدمه إذا كان في خلاء مثلاً. وسيأتي توضيح الحكم الشرعي. -[فقه الحديث]- يمكن ضبط نقاط الحديث وآداب البصاق وحكمه في ست نقاط. الأولى: آداب البصاق وحكمه خارج المسجد وخارج الصلاة. الثانية: آداب وحكم البصاق داخل المسجد في غير صلاة وبعيدًا عن حائط القبلة. الثالثة: آداب وحكم البصاق داخل المسجد في صلاة وبعيدًا عن حائط القبلة. الرابعة: آداب وحكم البصاق داخل المسجد في صلاة وفي حائط القبلة. الخامسة: واجب من رأى بصاقًا في المسجد. السادسة: ما يؤخذ من الأحاديث من الأحكام والحكم. أولاً: أما عن النقطة الأولى فإن الإسلام - ولا ريب - دين النظافة، ودين منع الأذى ودين مراعاة شعور

المسلمين، ودين تكريم اليمين، ودين التقديس لأماكن العبادة، ولا شك أن ما يخرج من الفم بأنواعه، ابتداء من النفث وانتهاء بالنخاعة أمر مستقذر، لكنه قد يضطر إليه المسلم، أو يحتاجه، أو يعتاده عادة تغلب عليه، وحينئذ يجب عليه أن يستخدم وسائل تحقق أهداف الإسلام ومقاصده التي ذكرناها. ففي خارج المسجد وخارج الصلاة ونعني بالمسجد أماكن الصلاة المعتادة ولو مصلى، كما لو كان في البيت أو في المكتب أو في الطريق أو في صحراء فإن كان معه أحد، أو يحتمل أن يراه أحد فليحذر من إيذائه بذلك ولو بالرؤية، وإن لم يكن معه أحد ولا يحتمل أن يراه أحد فليحذر القذف إلى الأمام أو إلى اليمين، وليحذر الإساءة إلى المكان بالقذر، ولو كان المكان بيت الخلاء. وإذا كانت أحاديث الباب قد تعرضت للتفل والنخامة في حائط المسجد أو في الصلاة فإن أحاديث أخرى جاءت مطلقة، ففي البخاري، "إذا تنخم أحدكم فلا يتنخم قبل وجهه ولا عن يمينه وليبصق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى" وفيه "لا يتفلن أحدكم بين يديه ولا عن يمينه، ولكن عن يساره أو تحت رجله". ولسنا مع الذين يحملون المطلق على المقيد فيخصون النهي بالمسجد وبالصلاة مراعاة لخصوص السبب، ولا مع الذين يحصرون العلة في تقديس المسجد وحمايته من القاذورات، فإن عمل الصحابة بعد صدور النهي يوحي بأنهم اعتمدوا التعميم والإطلاق، فعن ابن مسعود أنه كره أن يبصق عن يمينه وليس في الصلاة، وعن معاذ بن جبل قال: ما بصقت عن يميني منذ أسلمت وعن عمر بن عبد العزيز أنه نهى ابنه عنه مطلقًا، وهذه كلها تشهد المنع المطلق ويعجبنا في هذا المقام ما جزم به النووي من المنع في كل حالة داخل الصلاة وخارجها وسواء أكان في المسجد أم في غيره. إن الأذى بالنخامة لا يقتصر على المسجد، كما هو معروف ومشاهد، بل إن بعض النخامات تحمل "ميكروبًا" وجراثيم تعدي السليم إذا لاقاها، بل قد تنتقل منها الجراثيم محمولة على الهواء القريب، أضف إلى ذلك التقزز والاشمئزاز الذي يصيب الرائي فيؤثر على غدده وأمعائه. وإذا كانت الأحاديث قد عالجت النخامة بدلكها بالقدم اليسرى أو بتغييبها في الأرض، فإنما كان ذلك اقتصارًا على الوسيلة المقدورة آنذاك، مع وضعها في بعض أجزاء الثوب إن خيف من تلك الوسيلة أو لم تتيسر. وفي هذه الأزمان. وقد أصبحت الأرض في أكثر أماكن إقامتنا مفروشة أو صلبة مبلطة ونظيفة لا يغيب معها أثر النخامة، بل قد تزيدها القدم سوءًا وقذرًا. وجب أن لا يستخدم المسلم قدمه اليسرى، ووجب أن يتخذ لنفسه منديلاً أو قطعة من القماش أو الورق، فإن لم يجد فجزء ثوبه، وبحيث لا يراه أحد ولا يتأذى به ما أمكن، ولو أدى ذلك إلى كتمان نفسه بعض الشيء ومغالبة النازل. وإذا كان بعض العلماء قد ذهب إلى أن النهي لكراهة التنزيه، فإننا نرى أن الأمر ليس على

إطلاقه، فليس التفل في درجة النخاعة، وليس الأثر هنا كالأثر هناك، فالأولى أن يختلف الحكم باختلاف آثاره، أحيانًا للتنزيه وأحيانًا للحرمة. والله أعلم. ثانيًا: وما قيل في البصاق خارج المسجد وخارج الصلاة يقال في البصاق داخل المسجد في غير صلاة، وفي غير جدار القبلة، ويزيد الإثم بحرمة المسجد والرواية السادسة والسابعة والثامنة ظاهرة في إنكار هذا الفعل واعتباره خطيئة وسيئة، وإذا كانت الروايتان السادسة والسابعة حكمتا بذلك على التفل والبصاق فإن الخطيئة في المخاط والنخامة والنخاعة أشد وأعظم. وقد أثار العلماء جدلاً حول هاتين الروايتين، وهل التفل في المسجد في حد ذاته خطيئة؟ أو هو خطيئة إذا لم تدفن؟ على معنى: هل تكتب سيئة ثم تمحى هذه السيئة بالدفن، مصداقًا لقوله تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات} [هود: 114]؟ أو إذا دفنت فلا كتابة ولا محو، وإذا لم تدفن كتبت سيئة؟ المآل واحد وهو أنه لا إثم إذا دفنت، والإثم ثابت إذا لم تدفن، ولكن الجدل حول الكتابة وعدمها في حالة الدفن، وللفائدة نسوق ما قيل في ذلك. قال الحافظ ابن حجر في الفتى: قال القاضي عياض: إنما يكون خطيئة إذا لم يدفنه، وأما من أراد دفنه فلا. ورد النووي فقال: هو خلاف صريح الحديث. قال الحافظ قلت: وحاصل النزاع أن هنا عمومين تعارضًا، وهما قوله "البزاق في المسجد خطيئة" وقوله "وليبصق عن يساره أو تحت قدمه" فالنووي يجعل الأول عامًا، ويخص الثاني بما إذا لم يكن في المسجد: والقاضي بخلافه، يجعل الثاني عامًا، ويخص الأول بما لم يرد دفنها، وقد وافق القاضي جماعة منهم ابن مكي في "التنقيب" والقرطبي في "المفهم" وغيرهما، ويشهد لهم ما رواه أحمد بإسناد حسن من حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعًا قال "من تنخم في المسجد فليغيب نخامته أن تصيب جلد مؤمن أو ثوبه فتؤذيه"، وأوضح منه في المقصود ما رواه أحمد أيضًا والطبراني بإسناد حسن من حديث أبي أمامة مرفوعًا قال" من تنخع في المسجد فلم يدفنه فسيئة وإن دفنه فحسنة" فلم يجعله سيئة إلا بقيد عدم الدفن، ونحوه حديث أبي ذر عند مسلم مرفوعًا قال "وجدت في مساوئ أعمال أمتي النخاعة تكون في المسجد لا تدفن". قال القرطبي: فلم يثبت لها حكم السيئة لمجرد إيقاعها في المسجد، بل به وبتركها غير مدفونه. اهـ وروى سعيد بن منصور عن أبي عبيدة بن الجراح أنه تنخم في المسجد ليلة فنسي أن يدفنها حتى رجع إلى منزله، فأخذ شعلة من نار، ثم جاء فطلبها حتى دفنها، ثم قال: الحمد لله الذي لم يكتب علي خطيئة الليلة. فدل على أن الخطيئة تختص بمن تركها لا بمن دفنها، وعلة النهي ترشد إليه، وهي تأذي المؤمن بها، ومما يدل على أن عمومه مخصوص جواز ذلك في الثوب ولو كان في المسجد بلا خلاف. اهـ وليس غريبًا على القاضي عياض والقرطبي هذا الاتجاه المالكي، فقد نقل عن الإمام مالك رضي الله عنه أنه قال: لا بأس بالبصق خارج الصلاة، ولكن ميل الحافظ ابن حجر لهذا الرأي يحتاج إلى وقيفة. وما ذكره من أنه يشهد لهم ما روي عن سعد بن أبي وقاص لا يشهد لهم، فإنه أمر بتغييب النخامة، وهو يصلح أن يكون لرفع ما كتب من سيئة، وأن يكون لعدم كتابتها، وحديث أبي أمامة فإن المراد منه أنه إذا لم يدفنها بقيت سيئة فلم تمح. نعم كان يصلح دليلاً لو أنه قال: من تنخع في

المسجد فليس بسيئة إلا إذا لم يدفنها، ثم إن في حديث أبي أمامة إشكالاً في قوله "وإن دفنه فحسنة" إذ لو حملت هذه الحسنة على ما يمحو سيئة النخع لتنخع الناس عمدًا ودفنوا ليحصلوا حسنات. فهو دليل عليهم لا لهم. كذلك حديث "مساوئ أعمال الأمة النخاعة التي لا تدفن" أي فيبقى حكم السيئة ويثبت مادامت لم تدفن. أما أبو عبيدة فمراده أنه يحمد الله أن لم تبق عليه سيئة لا أنها لم تكتب أصلاً. وإلا لو فرضنا أن مسلمًا أوذي بهذه النخامة في الفترة التي وصل فيها بيته ألا يكون قد أساء وكتبت عليه سيئة؟ الحق مع الإمام النووي في أن الفعل نفسه خطيئة يكفر بالدفن. والله أعلم. ثالثًا: وما قيل في البصاق خارج المسجد وخارج الصلاة، وما قيل في البصاق داخل المسجد في غير صلاة يقال هو وأشد منه في البصاق في المسجد في الصلاة، بل الدفن صعب في الصلاة، ويزيد الحكم حرمة كون المصلي مستقبل ربه يناجيه، ومن ألفاظ التقبيح والوعيد قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الرابعة "وما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه فيتنخع أمامه؟ أيحب أحدكم أن يُسَتْقبل فَيتُنخَعَ في وَجْهِهِ"؟ . رابعًا: أما البصاق في حائط القبلة ممن كان في صلاة أو ممن لم يكن في صلاة فهو أشد الأنواع سوءًا، إذ العلل السابقة متوفرة فيه بالإضافة إلى وجوب احترام القبلة، ثم التأذي به أشد من التأذي بالحالات الأخرى. قال الحافظ ابن حجر: والتعليل بأن ربه بينه وبين القبلة يدل على أن البزاق في القبلة حرام سواء كان في المسجد أم لا ولا سيما من المصلي. خامسًا: ويؤخذ من حك الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه البصاق من حائط القبلة كما جاء في الرواية الأولى وجوب الإزالة على كل من رآه وأن يتخذ لذلك الوسائل سواء احتاج إلى آلة أو لم يحتج، فإن كان يابسًا أزالته الحصاة والعرجون ونحوها وإن كان رطبًا لم تفد الحصاة، بل قد تنشره وتزيد التلوث، وقد روي عن ابن عباس "إن كان رطبًا فاغسله" ذكره البخاري. -[سادسًا: ويؤخذ من الأحاديث الواردة في الباب]- 1 - طلب إزالة الأقذار من المسجد وتنزيهه عنها. 2 - ومن الرواية التاسعة والعاشرة جواز الفعل في الصلاة، وأن المصلي قد يبصق في الصلاة ولا تفسد صلاته. 3 - وأن البزاق والمخاط والنخاع. طاهرات. قال النووي: وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين إلا ما حكاه الخطابي عن إبراهيم النخعي أنه قال: البزاق نجس. قال النووي: ولا أظنه يصح عنه. 4 - قال النووي: ويؤخذ من قوله "ووجدت في مساوئ أعمالها النخامة تكون في المسجد لا تدفن" في الرواية الثامنة أن هذا القبح والذم لا يختص بصاحب النخاعة، بل يدخل فيه هو وكل من رآها ولا يزيلها بدفن أو حك أو نحوه. 5 - يؤخذ من الرواية الرابعة البيان بالفعل بعد القول، وهو أوقع في نفس السامع.

6 - وفي الحديث تفقد الإمام أحوال المساجد وتعظيمها وصيانتها. 7 - وأن المصلي إذا نفخ أو تنحنح جاز لأن النخامة لا بد أن يقع معها شيء من نفخ أو تنحنح. كما قالوا. ولكن هذا إذا كان التنحنح بغير اختياره أما إذا كان باختياره فإن ظهر منه حرفان فأكثر فسدت صلاته، وعن أبي حنيفة أن النفخ. إذا كان يسمع فهو بمنزلة الكلام يقطع الصلاة. 8 - وأن التحسين والتقبيح إنما هو بالشرع لكون اليمين مفضلة على اليسار، واليد مفضلة على القدم. 9 - والحث على الاستكثار من الحسنات وإن كان صاحبها مليًا، لكونه صلى الله عليه وسلم باشر الحك بنفسه وهو دال على عظم تواضعه. زاده الله تشريفًا وتعظيمًا صلى الله عليه وسلم. واللَّه أعلم

(208) باب جواز الصلاة في النعلين

(208) باب جواز الصلاة في النعلين 1052 - عن أبي مسلمة سعيد بن يزيد قال: قلت لأنس بن مالك أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في النعلين؟ قال: نعم. -[المعنى العام]- كانت المساجد مفروشة بالرمل، وكانت الطرق رملية غالبًا، وكانت النعال تزيل قذارتها بالمشي فيها على هذه الرمال، فأباح صلى اللَّه عليه وسلم الصلاة في النعال، وصلى متنعلاً وحافيًا لبيان الجواز. وكل ما طلبه في النعال أن يدلكها صاحبها بالتراب قبل دخوله المسجد لإزالة ما بها من قاذورات. لكن لما كان من مظاهر الأدب خلع النعلين، مصداقًا لقوله تعالى: {فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى} [طه: 12] كان الأفضل خلع النعلين عند دخول المسجد وعند الصلاة خصوصًا في هذا العصر الذي لو دخلنا فيه المسجد بنعالنا لوقعت فتنة كبرى. صان اللَّه مساجد اللَّه. ووفقنا لما يحبه ويرضاه. -[المباحث العربية]- (يصلي في النعلين) أي على النعلين، أو بالنعلين قال العيني: لأن الظرفية غير صحيحة والنعل الحذاء، مؤنثة. -[فقه الحديث]- لا خلاف بين العلماء في جواز الصلاة بالنعال إذا لم نتحقق من نجاستها، والخلاف بينهم حينئذ في كونها من الرخص أو المستحبات. قال ابن دقيق العيد: هي من الرخص لا من المستحبات، لأن ذلك لا يدخل في المعنى المطلوب من الصلاة، وهو وإن كان من ملابس الزينة إلا أن ملامسته الأرض التي تكثر فيها النجاسات قد تقصر عن هذه المرتبة. وإذا تعارضت مراعاة مصلحة التحسين ومراعاة إزالة النجاسة قدمت الثانية، لأنها من باب دفع المفاسد والأخرى من باب جلب المصالح. قال: إلا أن يرد دليل بإلحاقه بما يتجمل به فيرجع إليه ويترك هذا النظر. اهـ.

قال الحافظ ابن حجر: وقد روى أبو داود والحاكم من حديث شداد بن أوس مرفوعًا "خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم" فيكون استحباب ذلك من جهة قصد المخالفة المذكورة. اهـ. وحكى الغزالي في الإحياء عن بعضهم أن الصلاة في النعال أفضل. فإن كان في النعلين نجاسة فهل يكفي دلكهما وإباحة الصلاة فيهما أو يجب غسلهما وإزالة النجاسة؟ وإلا ما صحت الصلاة فيهما؟ بالقول الثاني قال الشافعية سواء أكانت النجاسة رطبة أم جافة، ولا يجزئ الدلك لأنه لا يزيل جميع أجزاء النجاسة، ويحملون حديث الصلاة في النعلين على حالة طهارتهما وعدم تحقق نجاستهما. وقال مالك وأبو حنيفة: إن القذر الرطب لا يطهر إلا بالماء، والجاف يجزيه الدلك، وذهب جماعة منهم الأوزاعي وإسحق أن القذر في النعال يجزئ دلكه في الأرض وتصح الصلاة فيه سواء كان رطبًا أو يابسًا، لما روى أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا وطئ بنعليه أحدكم الأذى فإن التراب له طهور" فالحديث لم يفرق بين الرطب والجاف، وعند الحنابلة أقوال ثلاثة. قال العيني: ويستنبط من الحديث جواز المشي في المسجد بالنعل. اهـ. وينبغي أن يقيد بما إذا أمن تلويث المسجد. واللَّه أعلم

(209) باب كراهة الصلاة في ثوب له أعلام

(209) باب كراهة الصلاة في ثوب له أعلام 1053 - عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة لها أعلام وقال "شغلتني أعلام هذه فاذهبوا بها إلى أبي جهم وأتوني بأنبجانيه". 1054 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في خميصة ذات أعلام فنظر إلى علمها فلما قضى صلاته قال "اذهبوا بهذه الخميصة إلى أبي جهم بن حذيفة وأتوني بأنبجانيه فإنها ألهتني آنفًا في صلاتي". 1055 - عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له خميصة لها علم فكان يتشاغل بها في الصلاة فأعطاها أبا جهم وأخذ كساء له أنبجانيًا. -[المعنى العام]- الصلاة مناجاة من العبد للرب، حمد وشكر، ودعاء. وتقديس واستغفار وخضوع وتذلل، وشأن من هذا موقفه أن يخشع وأن يستجمع كل حواسه ومشاعره لما هو فيه، وإذا كان حال البشر إذا وقف المرءوس أمام رئيسه جمع أفكاره ومشاعره لمخاطبته وفهم كلامه كان حال العبد إذا وقف بين يدي ربه أدعى إلى عدم الاشتغال بغير مناجاته. وكانت هذه حالة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته حيث يقول صلى الله عليه وسلم "وجعلت قرة عيني في الصلاة". ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر، يشغله ما يشغل البشر لكنه يبادر بفطم النفس عن نزعاتها وسد الذرائع، وإغلاق أبواب الشر ومسارب الشيطان. لقد أهدى أبو جهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خميصة، أهدى له ثوبًا أسود فيه أعلام وخطوط، فقبل الرسول صلى الله عليه وسلم الهدية، ولبسه ثم قام يصلي، فوقعت عينه على خطوط وأعلام الثوب، فشغل بها لحظات عن الخشوع، فلما انتهى من الصلاة خلع هذا الكساء وقال ردوه إلى أبي جهم، لأن أعلامه كادت تفتنني وتؤثر على خشوعي. إن أبا جهم كان عنده كساء آخر لا أعلام فيه، وهو أقل قيمة من الخميصة التي أهداها لي، ردوا

الخميصة وهاتوا لي الكساء الآخر الذي احتفظ به لنفسه وآثرني بهذا الكساء. وردوه وجاءوا بالكساء الثاني الذي لا أعلام ولا خطوط فيه. وهكذا ينبه صلى الله عليه وسلم أمته أن يزيلوا كل ما من شأنه أن يلهي المصلي في صلاته، وألا يضعوا أمام المصلي ما يحول بينه وبين الخشوع والخضوع، فاللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. إنك سميع مجيب. -[المباحث العربية]- (صلى في خميصة لها أعلام) "الخميصة" بفتح الخاء وكسر الميم كساء أسود له علمان أو أعلام ويكون من خز أو صوف، ولا يسمى خميصة إلا أن تكون سوداء معلمة، سميت بذلك للينها، ورقتها وصغر حجمها إذا طويت مأخوذ من الخمص وهو ضمور البطن. وجملة "لها أعلام" صفة لخميصة، صفة كاشفة، لأن الخميصة كما قلنا لا تكون إلا معلمة، وهذا الوصف الملازم ذكر لبيان أنه السبب في المنع، وليس الجمع شرطًا، ففي الرواية الثالثة "لها علم". (شغلتني أعلام هذه) في الرواية الثانية "ألهتني" وفي رواية للبخاري "فأخاف أن تفتنني" قال النووي: معنى هذه الألفاظ متقارب، وهو اشتغال القلب بها عن كمال الحضور في الصلاة. و"ألهى" رباعي "لهى" يقال: لهى الرجل عن الشيء يلهى إذا غفل، وهو من باب علم، وأما "لها" يلهو إذا لعب فهو من باب نصر. (فاذهبوا بها إلى أبي جهم) بفتح الجيم وسكون الهاء، واسمه عامر بن حذيفة العدوي القرشي المدني الصحابي، أسلم يوم الفتح، وكان معظمًا في قريش، وعالمًا بالنسب، شهد بنيان الكعبة مرتين مات في آخر خلافة معاوية. (وائتوني بأنبجانية) قال الحافظ ابن حجر: "الأنبجانية" بفتح الهمزة وسكون النون وكسر الباء وتخفيف الجيم وبعد النون ياء النسب كساء غليظ لا علم له، وقال ثعلب: يجوز فتح همزته وكسرها، وكذا الباء وقال بعض أهل اللغة: وهذه النسبة إلى موضع يقال له: أنبجان. وقال ابن حبيب في شرح الموطأ: هي كساء غليظ، يشبه الشملة، يكون سداه قطنًا غليظًا أو كتانًا غليظًا ولحمته صوف ليس بالمبرم في فتله لين غليظ، يلتحف به في الفراش، وقد يشتمل بها في شدة البرد. اهـ و"أنبجانية" في الأصل صفة لمؤنث "أي كسوة أنبجانية". (آنفًا) أي ابتداء، وكذلك الاستئناف، ومنه أنف كل شيء، وهو أوله، وانتصابه على الظرفية. قال ابن الأثير: قلت الشيء آنفًا أي في أول وقت يقرب مني. (وأخذ كساء له أنبجانيا) "له" أي لأبي جهم، أي أخذ صلى الله عليه وسلم من أبي جهم كساء له من هذا النوع الذي لا علم فيه.

-[فقه الحديث]- يمكن حصر نقاط الحديث على الوجه الآتي: 1 - الصلاة في ثوب له أعلام أو فيه صور ورسوم. 2 - الرسوم والصور والكتابات في القبلة وحوائط المسجد وفرشه. 3 - اتخاذ الرسوم والصور بعيدًا عن أماكن الصلاة. 4 - ما ورد على الحديث من إشكال وجوابه. 5 - ما يؤخذ من الحديث من الأحكام. 1 - قال النووي: تصح الصلاة في ثوب له أعلام وإن كان غيره أولى. اهـ وقال ابن بطال: من صلى في ثوب به تصاوير فصلاته مجزئه، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعد الصلاة، ولأنه صلى الله عليه وسلم قال: "ألهتني في صلاتي" ولم يقل: قطعت صلاتي وقال المهلب: وإنما أمر باجتناب هذا لإحضار الخشوع في الصلاة وقطع دواعي الشغل. 2 - قال النووي: ويؤخذ من الحديث كراهة تزويق محراب المسجد وحائطه ونقشه وغير ذلك من الشاغلات، لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل العلة في إزالة الخميصة هذا المعنى. اهـ وقد روى البخاري عن أنس: كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أميطي عنا قرامك هذا، فإنه لا تزال تصاويره تعرض في صلاتي" وكانت رضي الله عنها قد اشترت سترًا رقيقًا من صوف ذا ألوان فيه رسوم خيل ذات أجنحة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، وقد سترت به فتحة في بيتها، فلما قدم صلى الله عليه وسلم وقام إلى الصلاة كان في مواجهة هذه السترة فأمر بنزعها. 3 - وفي لفظ البخاري ومسلم عن عائشة في الستر السابق قالت: فقطعته وسادتين فكان يرتفق عليهما، أي يتكئ على مرفق يده على الوسادتين، وعلى هذا ذهب الحنفية إلى أن الصور التي تكون في بسط ويفرش ويمتهن خارجة عن النهي الوارد في هذا الباب، وبه قال الثوري والنخعي ومالك وأحمد في رواية. وقال أبو عمر ذكر أبو القاسم قال: كان مالك يكره التماثيل في الأسرة والقباب، أما البسط والوسائد والثياب فلا بأس به، وقال الثوري: لا بأس بالصور في الوسائد، لأنها توطأ ويجلس عليها، وكان أبو حنيفة وأصحابه يكرهون التصاوير في البيوت بتمثال، ولا يكرهون ذلك فيما يبسط، ولم يختلفوا أن التصاوير في الستور المعلقة مكروهة. وأما الشافعية فإنهم كرهوا الصور مطلقًا، سواء أكانت على الثياب أم على الفرش والبسط ونحوها واحتجوا بعموم الأحاديث الواردة في النهي عن ذلك ولم يفرقوا. قال النووي: قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم، وهو من الكبائر، لأنه متوعد عليه بالوعيد الشديد المذكور في الأحاديث، وسواء صنعه لما يمتهن أو

لغيره فصنعته حرام بكل حال، لأن فيه مضاهاة لخلق الله تعالى، وسواء ما كان في ثوب أو بساط أو درهم أو دينار أو إناء أو حائط أو غيرها، وأما تصوير غير الحيوان من الشجر والجبال والأرض وغير ذلك فليس بحرام. اهـ وقال بعض السلف: إنما ينهى عما كان له ظل ولا بأس بالصور التي ليس لها ظل. وأجمعوا على منع ما كان له ظل ووجوب تغييره، قال القاضي عياض: إلا ما ورد في اللعب بالبنات لصغار البنات والرخصة في ذلك. 4 - وقد يقال: كيف يرضى صلى الله عليه وسلم لأبي جهم ما لم يرضه لنفسه حيث أرسل إليه الخميصة؟ وأجيب بأنه لم يقصد أن يصلي فيها أبو جهم بل لينتفع بها في غير الصلاة، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم في خلة عطارد حيث بعث بها إلى عمر: "إني لم أبعث بها إليك لتلبسها". وقيل: إن أبا جهم كان أعمى، فالإلهاء مفقود عنه، وقيل: إن مقام الرسول العالي جعله يرسل بها إلى أبي جهم، وكأن هذا الصفاء المطلوب في الصلاة هو المناسب لمقام النبوة، فهو من قبيل قوله صلى الله عليه وسلم "كل فإني أناجي من لا تناجي" وهذا القول بعيد، فالحكم عام. فإن قيل: ما وجه تعيين أبي جهم في الإرسال إليه؟ أجيب بأن أبا جهم هو الذي أهداها له صلى الله عليه وسلم، فلذلك ردها عليه، فقد روى الطحاوي عن عائشة قالت: "أهدى أبو جهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم خميصة شامية لها أعلام، فشهد فيها النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة، فلما انصرف قال: ردي هذه الخميصة إلى أبي جهم فإنها كادت تفتنني". فإن قيل: كيف خاف صلى الله عليه وسلم على نفسه الافتتان وهو لا يلتفت إلى الأكوان، بل إن مراقبة الله شملت خلقًا من أتباعه حتى قيل: إن السقف وقع إلى جانب مسلم بن يسار فلم يعلم به؟ أجيب بأن للنبي صلى الله عليه وسلم حالتين. حالة يقول فيها "لست كأحدكم" أو يقول "وأيكم مثلي" وحالة يقول فيها "إنما أنا بشر مثلكم" فكانت الخميصة من الحالة الثانية. -[5 - ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - الحث على حضور القلب في الصلاة وتذكر أذكارها وتلاوتها ومقاصدها. 2 - منع النظر من الامتداد إلى ما يشغل، قال النووي: قال أصحابنا: يستحب له النظر إلى موضع سجوده، ولا يتجاوزه، وقال بعضهم: يكره تغميض العينين، قال النووي: وعندي لا يكره إلا أن يخاف ضررًا. 3 - إزالة ما يشغل القلب ويلهي عن الصلاة. 4 - أن اشتغال الفكر اليسير في الصلاة غير قادح فيها، وأن الصلاة تصح وإن حصل فيها فكر في شاغل ونحوه مما ليس متعلقًا بالصلاة، قال النووي: وهذا بإجماع الفقهاء، وحكي عن بعض السلف والزهاد أنه يضر، وهذا القول غير معتد به في الإجماع.

5 - وفيه تكنية العالم لمن دونه، وكذلك الإمام، لقوله "أبي جهم". 6 - وفيه قبول الهدية من الأصحاب والإرسال إليهم والطلب منهم، قال الطيبي: إنما أرسل إليه لأنه كان أهداها إياه، واستبدل بها أنبجانية كيلا يتأذى قلبه بردها إليه. 7 - وفيه أن الواهب إذا ردت عليه عطيته من غير أن يكون هو الراجع فيها فله أن يقبلها من غير كراهة. 8 - وفيه مبادرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مصالح الصلاة. 9 - وفيه إيذان بأن للصور والأشياء الظاهرة تأثيرًا في القلوب الطاهرة والنفوس الزكية فضلاً عمن دونها. والله أعلم

(210) باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله في الحال وكراهة الصلاة مع مدافعة الحدث ونحوه

(210) باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله في الحال وكراهة الصلاة مع مدافعة الحدث ونحوه 1056 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء". 1057 - حدثني أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا قرب العشاء وحضرت الصلاة فابدءوا به قبل أن تصلوا صلاة المغرب ولا تعجلوا عن عشائكم". بمثله. 1058 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء ولا يعجلن حتى يفرغ منه". 1059 - عن ابن أبي عتيق قال تحدثت أنا والقاسم عند عائشة رضي الله عنها حديثًا وكان القاسم رجلاً لحانة وكان لأم ولد، فقالت له عائشة ما لك لا تحدث كما يتحدث ابن أخي هذا، أما إني قد علمت من أين أتيت، هذا أدبته أمه وأنت أدبتك أمك. قال فغضب القاسم وأضب عليها فلما رأى مائدة عائشة قد أتي بها قام، قالت أين؟ قال أصلي، قالت اجلس، قال إني أصلي قالت اجلس غدر إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا صلاة بحضرة الطعام ولا هو يدافعه الأخبثان".

1060 - عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله ولم يذكر في الحديث قصة القاسم. -[المعنى العام]- الصلاة مناجاة من العبد للرب، والتلذذ بالمناجاة يقتضي التفرغ لها من كل الشواغل النفسية المقدور عليها، وكلما صفت المناجاة من هذه الشوائب كلما كان تجلي الرب على عبده أعظم، وكان القبول أسرع، وكان الجزاء أجزل. ومن الشواغل التي يستطيع المسلم التخلص منها بسهولة شهوة البطن إذا قدم الطعام عند إقامة الصلاة، إن الجائع ومن يشتهي ما قدم يسيل لعابه وتنفتح للطعام أو الشراب شهواته، وتتعلق به نفسه. فإذا قام يصلي والحالة هذه صلى بلسانه وجوارحه دون قلبه، صلى صلاة جسد لا روح فيه، صلى وقلبه معلق بالطعام، وفكره شارد وراءه، ولما كان الهدف الأول من هذه المناجاة الخشوع والتوجه كانت الأحاديث الشريفة تأمر بتقديم العشاء والأكل على الصلاة، ولما كانت الرغبة في البول، والغائط وضغطهما على حواس المسلم عائقًا عن خلوص المناجاة ومانعًا من الصفاء لها والاستغراق فيها، بل كثيرًا ما يكون مؤثرًا على أداء أركانها، وواجباتها حائلاً دون الطمأنينة فيها مما قد يبطلها نهي الحديث عن الصلاة مع موافقة الأخبثين. وكان الله بعباده رءوفًا رحيمًا. جعل أوقات الصلوات ممتدة بما يسمح بقضاء الشواغل الدنيوية للتفرغ لعبادته بقلب سليم. وقد استخدمت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قوله صلى الله عليه وسلم "لا صلاة بحضرة الطعام ولا وهو يدافعه الأخبثان" في رد ابن أخيها القاسم بن محمد بن أبي بكر إلى كظم غيظه، حين أغلظت له في النصح فغضب واغتاظ وأراد مقاطعة طعامها الذي قدم آنئذٍ بحجة رغبته في الصلاة، فلم يجد بدًا من كظم غيظه والأكل من الطعام الذي حضر، محترمًا أم المؤمنين وأمرها، قابلاً النصح مهما كان مرًا. -[المباحث العربية]- (إذا حضر العشاء) في الرواية الثانية "إذا قرب العشاء" وفي الثالثة "إذا وضع العشاء أحدكم" والحضور أعم من الوضع ومن التقريب، إذ يصدق بالحضور بعيدًا عن الآكلين وعدم وضعه

وتقريبه لهم للأكل. قال الحافظ ابن حجر: يحمل قوله "حضر" أي بين يدي الآكل لتأتلف الروايات لاتحاد المخرج فلا يناط الحكم بحضور الطعام بعيدًا دون تقريب كما إذا لم يفرغ من جمعه. و"العشاء" بفتح العين طعام الليل، وليس الحكم قاصرًا عليه بدليل الرواية الرابعة وفيها "لا صلاة بحضرة طعام". (وأقيمت الصلاة) قال ابن دقيق العيد: الألف واللام في "الصلاة" لا ينبغي أن تحمل على الاستغراق ولا على تعريف الماهية، بل ينبغي أن تحمل على "المغرب" لقوله "فابدءوا بالعشاء" ويترجح حمله على المغرب لقوله في الرواية الأخرى [للبخاري وفي روايتنا الثانية] "فابدءوا به قبل أن تصلوا صلاة المغرب" والحديث يفسر بعضه بعضًا، وفي رواية صحيحة [عند ابن حبان والطبراني] "إذا وضع العشاء وأحدكم صائم" اهـ. والجمهور على خلافه، وأن الألف واللام فيه للاستغراق، وسيأتي توضيح الحكم في فقه الحديث. والتعبير في الرواية الثانية بقوله "وحضرت الصلاة" مراد به الإقامة، فيكون الحكم عند حضور الوقت دون الإقامة من باب أولى. (ولا تعجلوا عن عشائكم) "تعجلوا" بفتح التاء وضمها والجيم مفتوحة فيهما، ويروى بضم التاء وكسر الجيم. [من أعجل] قاله الحافظ ابن حجر. (إذ وضع عشاء أحدكم .. فابدءوا ... ولا يعجلن) قال الطيبي: "أحد" إذا كان في سياق النفي يستوي فيه الواحد والجمع وهو في هذا الحديث في سياق الإثبات، فكيف وجه الأمر إليه تارة بالجمع "فابدءوا" وأخرى بالإفراد "ولا يعجلن"؟ وأجاب بأنه جمع نظرا إلى لفظ "كم" في "أحدكم" وأفرد نظرًا إلى لفظ "أحد" والمعنى: إذا وضع عشاء أحدكم فابدءوا أنتم بالعشاء، ولا يعجل هو حتى يفرغ معكم منه. (عن ابن أبي عتيق) هو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه. (حدثت أنا والقاسم عند عائشة) هو القاسم بن محمد بن أبي بكر فعائشة جدة ابن أبي عتيق وعمه القاسم. (وكان القاسم رجلاً لحانة) بفتح اللام وتشديد الحاء، أي كثير اللحن في كلامه وفي إعرابه. قال القاضي: ورواه بعضهم "لحنة" بضم اللام وإسكان الحاء، وهو بمعنى لحانة. (وكان لأم ولد) أي كانت أمه جارية لأبيه، وليست زوجة حرة. (أما إني قد علمت من أين أتيت) أي من أين ولدت، وعلمت مصدر لحنك، وهو من قبل أمك. (هذا أدبته أمه) الإشارة لابن أبي عتيق، أي علمته أمه الأدب البلاغي والنطق العربي السليم. (وأنت أدبتك أمك) أي علمتك من الأدب اللغوي ما أنت عليه من اللحن.

(فغضب القاسم وأضب عليها) "أضب" بفتح الهمزة والضاد وتشديد الباء، حقد عليها واغتاظ من كلامها. (اجلس غدر) بضم الغين وفتح الدال، منادى بحذف حرف النداء، أي بإغادر. قال أهل اللغة: الغدر بفتح الغين وسكون الدال ترك الوفاء، ويقال لمن غدر: غادر وغدر، وأكثر ما يستعمل في النداء بالشتم، وإنما قالت له "غدر" لأنه مأمور باحترامها، لأنها أم المؤمنين، وعمته، وأكبر منه، وناصحة له ومؤدبة فكان حقه أن يحتملها ولا يغضب عليها. قاله النووي. (ولا وهو يدافعه الأخبثان) يقال: دافع الأخبثين، ويدافعه الأخبثان وهما البول والغائط، فبينه وبينهما مدافعة، والمراد هما أو أحدهما أو ما يلحق بهما من الريح ونحوه. -[فقه الحديث]- سواء قصد من "الصلاة" في الحديث صلاة المغرب أو أي صلاة فالحكم يعم كل صلاة، فرضًا أو نفلاً، مغربًا أو غير مغرب، لأنه إن طلب تقديم الطعام على الصلاة في المغرب وهو مضيق الوقت كان طلب ذلك في موسع الوقت من باب أولى، وإذا طلب ذلك في صلاة الفرض طلب في النفل من باب أولى. وظاهر الروايات أن تقديم الطعام على الصلاة إذا وضع الطعام وأقيمت الصلاة قبل البدء فيه، أما إذا كان قد بدأ في الطعام قبل أن تقام الصلاة فأقيمت فالحكم فيه يجري مجرى الحكم في: هل يظل يأكل حتى يقضي حاجته منه؟ أو يكتفي بلقيمات؟ استدل بعض الشافعية بقوله صلى الله عليه وسلم "فابدءوا" على تخصيص ذلك بمن لم يشرع في الأكل، وأما من شرع ثم أقيمت فلا يتمادى، بل يقوم إلى الصلاة، قال النووي: وصنيع ابن عمر يبطل ذلك وهو الصواب. اهـ وصنيع ابن عمر ساقه البخاري عقب روايتنا الثالثة مقولاً لنافع، إذ الرواية عن نافع عن ابن عمر، قال نافع: "وكان ابن عمر يوضع له الطعام وتقام الصلاة فلا يأتيها حتى يفرغ، وإنه ليسمع قراءة الإمام" والتعبير في روايتنا الثالثة بقوله "ولا يعجلن حتى يفرغ منه" ورواية البخاري "فلا يعجل حتى يقضي حاجته منه وإن أقيمت الصلاة، يؤيد صنيع ابن عمر، ويمكن به أن نرد على من عقب على كلام النووي بأن صنيع ابن عمر اختيار له، وأن النظر إلى المعنى اقتضى عدم الاكتفاء بلقيمات يكسر بها الجوع. كما يمكن أن نؤكد تصويب النووي بما رواه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة بإسناد حسن عن أبي هريرة وابن عباس "أنهما كانا يأكلان طعامًا وفي التنور شواء، فأراد المؤذن أن يقيم، فقال له ابن عباس: لا تعجل لئلا نقوم وفي أنفسنا منه شيء" وفي رواية ابن أبي شيبة "لئلا يعرض لنا في صلاتنا". والأولى في المسألة ما ذهب إليه الحافظ ابن حجر حيث قال: إن العلة في ذلك تشوف النفس إلى الطعام، فينبغي أن يدار الحكم مع علته وجودًا وعدمًا ولا يتقيد بكل الأكل أو بعضه، ويستثنى من

ذلك الصائم، فلا تكره صلاته بحضرة الطعام، إذ الممتنع بالشرع لا يشغل نفسه به، لكن إذا غلب استحب له التحول من ذلك المكان. اهـ وحكم الصلاة بحضور الطعام مع الميل إليه الكراهة، وتصح الصلاة عند الجمهور. قال النووي: في هذه الأحاديث كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله لما فيه من اشتغال القلب به، وذهاب كمال الخشوع، وكراهيتها مع مدافعة الأخبثين، ويلحق بهذا ما كان في معناه مما يشغل القلب ويذهب كمال الخشوع، وهذه الكراهة عند جمهور الشافعية وغيرهم إذا صلى كذلك وفي الوقت سعة، فإذا ضاق بحيث لو أكل خرج الوقت صلى على حاله محافظة على حرمة الوقت، ولا يجوز تأخيرها، وحكى المتولي عن بعض الشافعية أنه لا يصلي بحاله، بل يأكل وإن خرج الوقت. لأن مقصود الصلاة الخشوع، فلا يفوته. اهـ قال الحافظ ابن حجر تعليقًا على الرأي الثاني: وهذا إنما يجيء على قول من يوجب الخشوع، ثم فيه نظر، لأن المفسدتين إذا تعارضتا اقتصر على أخفهما. وخروج الوقت أشد من ترك الخشوع، بدليل صلاة الخوف، وصلاة الغريق وغير ذلك. اهـ ثم قال النووي: وإذا صلى على حاله وفي الوقت سعة فقد ارتكب المكروه وصلاته صحيحة عند الجمهور لكن يستحب إعادتها ولا يجب. اهـ وعلى هذا فالأمر بتقديم العشاء على الصلاة للندب عند الجمهور، لكن منهم من قيده بمن كان محتاجًا إلى الأكل، ومنهم من قيده بذلك وبما إذا خشى فساد المأكول، ومنهم من لم يقيده، وهو قول الثوري وأحمد، وأفرط ابن حزم الظاهري فجعل الأمر للوجوب، وقال: تبطل الصلاة. ومن الجمهور من اختار البداءة بالصلاة إلا إن كان الطعام خفيفًا، نقله ابن المنذر عن مالك، وعند أصحابه تفصيل، قالوا: يبدأ بالصلاة إن لم يكن متعلق النفس بالأكل، أو كان متعلقًا به لكن لا يعجله عن صلاته، فإن كان يعجله عن صلاته بدأ بالطعام واستحبت له الإعادة. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - أخذ بعضهم من قوله في الرواية الثالثة "إذا وضع عشاء أحدكم" أن المراد عشاء من يريد الصلاة، فلا يتناول ما إذا وضع عشاء غير من يريد الصلاة. قال الحافظ ابن حجر: يحتمل بالنظر إلى المعنى أن يقال: لو كان جائعًا واشتغل خاطره بطعام غيره كان كذلك، وسبيل خلاصه من ذلك أن ينتقل عن ذلك المكان، أو يتناول مأكولاً يزيل شغل باله ليدخل في الصلاة وقلبه فارغ ويؤيد هذا عموم الروايات الأخرى [أي روايتنا الأولى والثانية والرابعة]. 2 - قصر ابن دقيق العيد الحكم على الصائم، وحمل الروايات المطلقة على المقيدة بلفظ العشاء وبلفظ المغرب، وبما جاء في ابن حبان والطبراني في رواية صحيحة "إذا وضع العشاء وأحدكم صائم" والجمهور على العموم قال الحافظ ابن حجر نقلاً عن الفاكهاني: إن العلة التشويش المفضي إلى ترك الخشوع والجائع غير الصائم قد يكون أشوق إلى الأكل من الصائم. 3 - ادعى ابن حزم أن في الحديث دليلاً على امتداد الوقت في حق من وضع له الطعام ولو خرج

الوقت المحدود، وقال مثل ذلك في حق النائم والناسي، وهو مردود، لأن قبول العذر وإعذار حاضر الطعام والنائم والناسي لا يغير الواقع، ولا يطيل الزمن المحدد. 4 - قال النووي: وفي الرواية الثانية دليل على امتداد وقت المغرب، وفيه خلاف بين العلماء. اهـ واعترضه ابن دقيق العيد بأنه إن أريد بذلك التوسعة إلى غروب الشفق ففيه نظر، وإن أريد به مطلق التوسعة فمسلم، ولكن ليس محل الخلاف المشهور، فإن بعض من ذهب إلى ضيق وقتها جعله مقدرًا بزمن يدخل فيه مقدار ما يتناول لقيمات يكسر بها سورة الجوع. 5 - استدل القرطبي بالحديث على أن شهود صلاة الجماعة ليس بواجب لأن ظاهره أن يشتغل بالأكل وإن فاتته صلاة الجماعة. قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر، لأن بعض من ذهب إلى وجوب الجماعة كابن حبان جعل حضور الطعام عذرًا في ترك الجماعة، فلا دليل فيه حينئذ على إسقاط الوجوب مطلقًا. 6 - استدل بالحديث على تقديم فضيلة الخشوع في الصلاة على فضيلة أول الوقت. 7 - قال الحافظ ابن حجر: قال ابن الجوزي: ظن قوم أن هذا من باب تقديم حق العبد على حق الله، وليس كذلك، وإنما هو صيانة لحق الله، ليدخل الخلق في عبادته بقلوب مقبلة. 8 - يؤخذ من الحديث الرابع حزم عائشة رضي الله عنها وحرصها على أدب المسلمين. 9 - وأن الإغلاظ في التأديب مقبول خصوصًا من الكبير الناصح. 10 - وأن الناصح إذا أحس غضب المنصوح هدأ من غضبه ولم يتركه لثورته. واللَّه أعلم

(211) باب نهي من أكل ثوما أو بصلا أو كراثا أو نحوها مما له رائحة كريهة عن حضور المسجد حتى تذهب تلك الريح، وإخراجه من المسجد

(211) باب نهي من أكل ثومًا أو بصلاً أو كراثًا أو نحوها مما له رائحة كريهة عن حضور المسجد حتى تذهب تلك الريح، وإخراجه من المسجد 1061 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في غزوة خيبر: "من أكل من هذه الشجرة (يعني الثوم) فلا يأتين المساجد" قال زهير في غزوة ولم يذكر خيبر. 1062 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أكل من هذه البقلة فلا يقربن مساجدنا حتى يذهب ريحها (يعني الثوم) ". 1063 - عن عبد العزيز (وهو ابن صهيب) قال سئل أنس عن الثوم فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنا ولا يصلي معنا". 1064 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أكل من هذه الشجرة فلا يقربن مسجدنا ولا يؤذينا بريح الثوم". 1065 - عن جابر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل البصل والكراث فغلبتنا الحاجة فأكلنا منها فقال: "من أكل من هذه الشجرة المنتنة فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تأذى مما يتأذى منه الإنس". 1066 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال (وفي رواية حرملة وزعم) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أكل ثومًا أو بصلاً فليعتزلنا أو ليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته".

وإنه أتي بقدر فيه خضرات من بقول فوجد لها ريحاً فسأل فأخبر بما فيها من البقول فقال: "قربوها" إلى بعض أصحابه. فلما رآه كره أكلها قال: "كل فإني أناجي من لا تناجي". 1067 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أكل من هذه البقلة الثوم (وقال مرة: من أكل البصل والثوم والكراث) فلا يقربن مسجدنا. فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم". 1068 - عن ابن جريج بهذا الإسناد "من أكل من هذه الشجرة (يريد الثوم) فلا يغشنا في مسجدنا" ولم يذكر البصل والكراث. 1069 - عن أبي سعيد قال: لم نعد أن فتحت خيبر فوقعنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك البقلة. الثوم. والناس جياع. فأكلنا منها أكلاً شديدًا. ثم رحنا إلى المسجد فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الريح. فقال "من أكل من هذه الشجرة الخبيثة شيئًا فلا يقربنا في المسجد" فقال الناس: حرمت. حرمت. فبلغ ذاك النبي صلى الله عليه وسلم فقال "أيها الناس إنه ليس بي تحريم ما أحل الله لي ولكنها شجرة أكره ريحها". 1070 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على زراعة بصل هو وأصحابه فنزل ناس منهم فأكلوا منه. ولم يأكل آخرون. فرحنا إليه. فدعا الذين لم يأكلوا البصل. وأخر الآخرين حتى ذهب ريحها. 1071 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خطب يوم الجمعة فذكر نبي الله صلى الله عليه وسلم. وذكر أبا بكر. قال: إني رأيت كأن ديكًا نقرني ثلاث نقرات. وإني لا أراه إلا حضور أجلي. وإن أقوامًا يأمرونني أن أستخلف. وإن الله لم يكن ليضيع دينه ولا خلافته ولا الذي بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم. فإن عجل بي أمر. فالخلافة شورى بين هؤلاء الستة. الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو

عنهم راض. وإني قد علمت أن أقوامًا يطعنون في هذا الأمر. أنا ضربتهم بيدي هذه على الإسلام فإن فعلوا ذلك فأولئك أعداء الله الكفرة الضلال ثم إني لا أدع بعدي شيئًا أهم عندي من الكلالة ما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما راجعته في الكلالة وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيه حتى طعن بإصبعه في صدري فقال "يا عمر ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء؟ " وإني إن أعش أقض فيها بقضية. يقضي بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن. ثم قال: اللهم إني أشهدك على أمراء الأمصار. وإني إنما بعثتهم عليهم ليعدلوا عليهم وليعلموا الناس دينهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ويقسموا فيهم فيئهم ويرفعوا إلي ما أشكل عليهم من أمرهم ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين هذا البصل والثوم لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع فمن أكلهما فليمتهما طبخًا. في هذا الإسناد مثله. -[المعنى العام]- الإسلام دين المجتمعات، دين المحبة والتآلف والتواد، يرغب في كل ما يحقق ذلك، وينفر من كل ما يحول دون ذلك مهما قل العائق، ومهما كان مؤقتًا. لهذا دعا إلى الطيب والرائحة الجميلة والاغتسال، وغسل الأماكن الناعمة من البدن، ودعا إلى النظافة وإزالة الروائح الكريهة، ويتأكد طلب هذه الأمور عند كل اجتماع سواء كان بالمساجد أو بالمجتمعات العامة المشروعة. من هذه القاعدة حذر الشارع من أكل الثوم والبصل قبيل ملاقاة الآكل بغيره من المسلمين لئلا يؤذيه بريحه الخبيث. إن أكل الثوم والبصل نيئًا مباح في ذاته، ولكن المباح قد يمنع إذا أدى إلى محرم عملاً بقاعدة: للوسيلة حكم الغاية، ولا شك أن إيذاء المسلم حرام، فما أدى إلى الحرام حرام، أو على الأقل مكروه وقد عبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن إيذاء المسلم يريح أخيه بذكر الثوم والبصل والكراث كعنوان لكل ما يشبهها في آثارها، وعبر عن ذلك بعبارات مختلفة "من أكل من هذه الشجرة - يعني الثوم - فلا يأتين المساجد" [وفي هذا التعبير إشارة إلى أن ذنوب آكل الثوم إذا حضر المسجد أكثر من حسناته عن صلاة الجماعة. وفيه كذلك العمل بقاعدة: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح] "من أكل من هذه

البقلة فلا يقربن مساجدنا حتى يذهب ريحها". "من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنا ولا يصلي معنا". "من أكل من هذه الشجرة فلا يقربن مسجدنا، ولا يؤذينا بريح الثوم". "من أكل من هذه الشجرة المنتنة فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنس". "من أكل ثومًا أو بصلاً فليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته". "من أكل من هذه الشجرة الخبيثة شيئًا فلا يقربنا في المسجد". ولكثرة النهي بالأساليب المختلفة كاد الصحابة يعتقدون حرمة أكل الثوم والبصل والكرات النيئ لولا أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لهم أن أصل حل الكل قائم، وأن المنع إنما هو لمن أدى أكله إلى إيذاء الآخرين لكنهم مع ذلك ظل همهم الخوف من أكلها، لأن المسلم عرضة للقاء المسلم بين الحين والحين حتى لو قعد في بيته. ويتضح هذا الاهتمام جليًا أن هذا الأمر كان ضمن وصايا عمر الأساسية عند وفاته، فإنه بعد أن طعن رضي الله عنه خطب يوم الجمعة كعادته، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم بالتجلة والإكبار والإعظام والثناء عليه، ثم ذكر أبا بكر فمدحه وأثنى على ما قام به من خدمات الإسلام، ثم قال للناس: إني رأيت في المنام كأن ديكًا نقرني بمنقاره ثلاث نقرات، وكان عمر ممن يعبر الرؤى، فعبر النقر بنهاية الأجل، وعبر الثلاث بتأكيده، فقال للناس: وإني لا أرى ولا أظن تفسير ذلك إلا أنه قد حان أجلي، وإن جماعة من المسلمين يطلبون مني أن أعين الخليفة بعدي، وإن آخرين يطلبون مني أن أترك الأمر شورى بين المسلمين. فإن أجبت الأولين واستخلفت فأبو بكر فعل ذلك، وإن أترك الأمر فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، وقد قررت أن أجمع بين الحسنيين، فأستخلف ستة من خيرة المسلمين وممن زكاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم [وهم عثمان بن عفان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف] لا ليحكموا سويًا، وإنما إذا عجل بي اجتمعوا واختاروا من بينهم خليفة للمسلمين، وقد علمت أن أقواماً يطمعون في الخلافة، أو لهم ميول الآخرين للخلافة، لا يقصدون بذلك وجه الله، فإن جهروا وتمردوا على ذلك، وأثاروا بين المسلمين فتناً فأولئك هم المنافقون الكفرة الضلال، الذين لا يقدرون على مواجهتي بما في أنفسهم لأن الله يكشفهم ويخزيهم على يدي إن فعلوا ذلك، إنهم منافقون خنسوا بحزمي وعزمي، ينتهزون فرصة غيابي ليبعثوا الفوضى بينكم وليحققوا أحلامًا ضد دينكم، فإن فعلوا فاضربوا على أيديهم. ثم إني لا أخشى عليكم في دينكم "وليس عندي ما أوصيكم به، وما يشغلني في أشد لحظاتي وأضيقها سوى أمرين. أمر الكلالة [أي من يرث الميت إذا لم يترك أصلاً ولا فرعًا وارثًا وترك زوجًا وإخوة لأم وإخوة لأم وأب] وقد راجعت في حكمها رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً راجيًا أن ينزل من السماء ما يشفي صدري في حكمها. وأمر الشجرة التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أكلها عند اجتماعات المسلمين، فمن أكلها منكم فليأكلها مطبوخة ميتة الرائحة. أما قاتلي فإن أعش حكمت فيه بحكم المسلمين من يقرأ القرآن ويفهم أحكامه ومن لا يقرؤه، وأما من وليتهم أمور المسلمين فقد بذلت جهدي في اختيارهم وفي توصيتهم بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله.

-[المباحث العربية]- (قال في غزوة خيبر) في الرواية الثامنة قال أبو سعيد: لم نعد أن فتحت خيبر، أي لم نتعد الوقت الذي فتحت فيه خيبر حتى أكلنا الثوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلخ، فالمراد من قوله "في غزوة خيبر" عقب فتح خيبر، وعلى هذا فقوله "المسجد" يراد به المكان الذي أعد ليصلى فيه مدة إقامته في الطريق أو المراد بالمسجد الجنس، ويؤيده قوله في الرواية الأولى "فلا يأتين المساجد" وقوله في الرواية الثانية "مساجدنا" أي مساجد المسلمين، وهذا يدفع قول من قال: خص النهي بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم أخذاً من قوله في الرواية الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة "مسجدنا". وكان فتح خيبر في السنة السادسة أو السابعة. (من أكل) أي من وجد منه الأكل، وهو أعم من كونه مباحاً أو غير مباح وسيأتي في فقه الحديث. (من هذه الشجرة - يعني الثوم) "الثوم" بالثاء المشددة المضمومة، قال الحافظ ابن حجر: وفي قوله عن الثوم شجرة مجاز، لأن المعروف في اللغة أن الشجرة ما كان لها ساق، وما لا ساق له كالبقول يقال له: نجم، وبهذا فسر ابن عباس وغيره قوله تعالى: {والنجم والشجر يسجدان} [الرحمن: 6]. ومن أهل اللغة من قال: كل ما ثبتت له أرومة - أي أصل - في الأرض يخلف ما قطع منه فهو شجر، وإلا فنجم. وقال الخطابي. في هذا الحديث إطلاق الشجر على الثوم والعامة لا تعرف الشجر إلا ما كان له ساق. اهـ. ومنهم من قال: بين الشجر والنجم عموم وخصوص، فكل نجم شجر من غير عكس. اهـ. (من أكل من هذه البقلة) قال أهل اللغة: البقل كل نبات اخضرت به الأرض. (سئل أنس عن الثوم) في رواية البخاري "سأل رجل أنسًا: ما سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول في الثوم"؟ قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على تسمية السائل. (فلا يقربنا ولا يصلي معنا) قال النووي: وقع في أكثر الأصول "ولا يصلي" بإثبات الياء على الخبر الذي يراد به النهي، وضبطناه "ولا يصل" على النهي. وكلاهما صحيح. اهـ. (فلا يقربن مسجدنا: ولا يؤذينا بريح الثوم) "يقربن" بفتح الراء والباء وتشديد النون، "ولا يؤذينا" قال النووي: هو بتشديد النون، وإنما نبهت عليه لأني رأيت من خففه، ثم استشكل عليه إثبات الياء، مع أن إثبات الياء المخففة جائز على إرادة الخبر. (عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل البصل والكراث) في مسند الحميدي بإسناد على شرط الصحيح "سئل جابر عن الثوم فقال: ما كان بأرضنا يومئذ ثوم، إنما الذي نهى

رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه البصل والكراث" وهذا الحديث يعطي سر اقتصار جابر في الرواية الخامسة على البصل والكراث وكأنهم سألوا عنهما فأجيبا، ثم علم جابر أنه نهى عن أكل الثوم وإن لم يكن في بلاده، إذ لا مانع أنه جلب إلى بلاده، فأخبر عن حكمه في الرواية السادسة والسابعة. فمراد الحديث في الرواية الخامسة من لفظ "من أكل من هذه الشجرة المنتنة" شجرة البصل والكراث. (فإن الملائكة تأذى مما يتأذى منه الإنس) قال النووي: هكذا ضبطناه بتشديد الذال فيهما، وهو ظاهر، ووقع في أكثر الأصول "تأذى مما يأذى منه الإنس" بتخفيف الذال فيهما، وهي لغة، يقال. أذى يأذى مثل عمى يعمى ومعناه تأذى وليس المراد من الملائكة الحفظة. كذا قال القاضي عياض. (وزعم أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال) قال الخطابي: لم يقل "زعم" على وجه التهمة. لكنه لما كان أمرًا مختلفًا فيه أتى بلفظ الزعم، لأن هذا اللفظ لا يكاد يستعمل إلا في أمر يرتاب به أو يختلف فيه انتهى، ولست أدري أين الأمر المختلف فيه هنا أو المرتاب فيه؟ فقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثابت لم يشك فيه الراوي. والأولى ما قاله الكرماني من أن "زعم" هنا بمعنى "قال" والزعم قد يستعمل للقول المحقق، ففي الحديث "زعم جبريل". (فليعتزلنا أو فليعتزل مسجدنا) قال الحافظ ابن حجر: هذا شك من الراوي، وهو الزهري، وأصل السند: أخبرني يونس عن ابن شهاب قال حدثني عطاء بن أبي رباح أن جابر بن عبد الله قال ... الحديث. (وليقعد في بيته) في رواية للبخاري "أو ليقعد في بيته" بالشك، والقعود في البيت أخص من الاعتزال لأن الاعتزال أعم من أن يكون في البيت أو غيره. (وإنه أتى ... إلخ) قال الحافظ ابن حجر: هذا حديث آخر، وهو معطوف على الإسناد المذكور، وهذا الحديث الثاني كان متقدماً على الحديث الأول بست سنين، لأن الأول وقع منه صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر، وكانت في سنة سبع، وهذا وقع في السنة الأولى عند قدومه صلى الله عليه وسلم ونزوله في بيت أبي أيوب الأنصاري كما جاء في الصحيح. (أتى بقدر فيه خضرات من بقول) قال النووي: هكذا هو في نسخ صحيح مسلم كلها "بقدر" اهـ قال الحافظ ابن حجر: والقدر بكسر القاف هو ما يطبخ فيه، ويجوز فيه التأنيث والتذكير، والتأنيث أشهر، لكن الضمير في قوله "فيه خضرات" يعود على الطعام الذي في القدر، فالتقدير: أتى بقدر من طعام فيه خضرات، ولهذا لما أعاد الضمير على القدر أعاده بالتأنيث حيث قال "فأخبرني بما فيها" وحيث قال "قربوها" اهـ قال النووي: ووقع في صحيح البخاري وسنن أبي داود وغيرهما من الكتب المعتمدة "أتى ببدر" والبدر الطبق قال: سمي بدراً لاستدارته كاستدارة البدر. قال النووي: قال العلماء: إن لفظ "ببدر" هو الصواب. اهـ

قال الحافظ ابن حجر بعد أن ذكر البخاري الروايتين؛ زعم بعضهم أن لفظة "بقدر" تصحيف لأنها تشعر بالطبخ، وقد ورد الإذن بأكل البقول مطبوخة، بخلاف الطبق، فظاهره أن البقول كانت فيه نيئة. والذي يظهر لي أن رواية القدر أصح ما جاء في حديث أبي أيوب، إذ فيه التصريح بالطعام ولا تعارض بين امتناعه صلى الله عليه وسلم من أكل الثوم وغيره مطبوخاً وبين إذنه لهم في أكل ذلك مطبوخاً، فقد علل ذلك في حديث أبي أيوب عند مسلم في قصة نزول النبي صلى الله عليه وسلم بقوله "إني لست كأحد منكم" وقد جمع القرطبي بين الروايتين بأن الذي في القدر لم ينضج حتى تضمحل رائحته فبقي في حكم النيئ. انتهى كلام الحافظ. والذي يظهر لي أن كلام القرطبي ليس جمعاً بين الروايتين، وإنما هو جمع بين امتناعه صلى الله عليه وسلم عن أكل هذا الطعام وفيه الثوم مطبوخاً وبين إذنه لهم في أكله مطبوخاً وطريق الجمع بين روايتي "بقدر" و"ببدر" أن يقال: إن القوم كانوا لبداوتهم وضيق حالهم يستخدمون قدورهم الصغيرة كأطباق: ومازال هذا الوضع قائماً في ريف مصر، فيصح أن يطلق عليه "قدر" باعتبار الحقيقة، و"بدر" باعتبار الاستعمال، ولا يتوقف الإطلاق على ما فيه من طعام، سواء كان مطبوخاً أم نيئاً، والله أعلم. وقوله "فيه خضرات" بضم الخاء وفتح الضاد، كذا ضبط في بعض الروايات، وضبط في بعضها بفتح الخاء وكسر الضاد، وهو جمع خضرة، ويجوز مع ضم أوله ضم الضاد وتسكينها أيضاً. ذكره الحافظ ابن حجر. وقوله "من بقول" كلمة "من" فيه بيانية، والمعنى فيه خضرات أي بقول، ويجوز أن تكون تبعيضية. (فقال: قربوها ... إلى بعض أصحابه) قال الكرماني: ففي هذا جواز النقل بالمعنى، إذ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقله بهذا اللفظ، بل قال: قربوها إلى فلان مثلاً أو فيه حذف، أي قال: قربوها مشيرًا أو أشار إلى بعض أصحابه. (فإني أناجي من لا تناجي) أي الملائكة. (من أكل من هذه البقلة الثوم) "الثوم" بدل من هذه البقلة. (فلا يغشنا في مسجدنا) "يغشنا" بفتح الياء وسكون الغين وفتح الشين: مضارع مجزوم بحذف حرف العلة، والغشيان الإتيان، وفي رواية البخاري "فلا يغشانا في مساجدنا" بصيغة النفي التي يراد بها النهي، قال الكرماني: أو على لغة من يجري المعتل مجرى الصحيح، أو أشبع الراوي الفتحة، فظن أنها ألف. (فوقعنا -أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم- في تلك البقلة) أي فوجدنا أنفسنا في مزرعة ثوم أو أمامها. وقوله "أصحاب رسول اللَّه" منصوب على الاختصاص. (من أكل من هذه الشجرة الخبيثة) سماها خبيثة لقبح رائحتها قال أهل اللغة: الخبيث في كلام العرب المكروه من قول أو فعل أو مال أو طعام أو شراب أو شخص. قاله النووي.

(مر على زراعة بصل) قال النووي: هي بفتح الزاي وتشديد الراء، وهي الأرض المزروعة. (عن معدان بن أبي طلحة) أصل السند: حدثنا محمد المثنى حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا هشام حدثنا قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة أن عمر إلخ. قال النووي: هذا الحديث مما استدركه الدارقطني على مسلم، وقال: خالف قتادة في هذا الحديث ثلاثة حفاظ. وهم منصور بن المعتبر وحصين بن عبد الرحمن وعمر بن مرة، فرووه عن سالم عن عمر منقطعاً، لم يذكروا فيه معدان. قال الدارقطني: وقتادة وإن كان ثقة. وزيادة الثقة مقبولة عندنا فإنه مولى، ولم يذكر فيه سماعه من سالم، فأشبه أن يكون بلغه عن سالم فرواه عنه. اهـ قال النووي: وهذا الاستدراك مردود، لأن قتادة وإن كان مدلساً فقد قدمنا في مواضع من هذا الشرح أن ما رواه البخاري ومسلم عن المدلسين وعنعنوه فهو محمول على أنه ثبت من طريق آخر سماع ذلك المدلس هذا الحديث ممن عنعنه عنه، وأكثر هذا أو كثير منه يذكر مسلم وغيره سماعه من طريق آخر متصلاً به، وقد اتفقوا على أن المدلس لا يحتج بعنعنته كما سبق بيانه، ولا شك عندنا في أن مسلماً رحمه الله تعالى يعلم هذه القاعدة، ويعلم تدليس قتادة، فلولا ثبوت سماعه عنده لم يحتج به، ومع هذا كله فتدليسه لا يلزم منه أن يذكر معدان من غير أن يكون له ذكر، والذي يخاف من المدلس أن يحذف بعض الرواة، أما زيادة من لم يكن فهذا لا يفعله المدلس، وإنما هذا فعل الكاذب المجاهر بكذبه، وإنما ذكر معدان زيادة ثقة، فيجب قبولها، والعجب من الدارقطني رحمه الله تعالى في كونه جعل التدليس موجباً لاختراع ذكر رجل لا ذكر له، ونسبه إلى مثل قتادة الذي محله من العدالة والحفظ والعلم بالغاية العالية. وبالله التوفيق. اهـ. (فذكر نبي الله صلى الله عليه وسلم وذكر أبا بكر. قال ... ) أي ذكرهما بخير وأثنى عليهما ودعا لهما، ثم قال: (إني رأيت ديكًا) أي في المنام. (وإني لا أراه إلا حضور أجلي) "أراه" بضم الهمزة، أي أظنه، والمعنى: وإني لا أظن تفسير الرؤيا إلا أنها إشارة إلى حضور أجلي وقربه. (أن أستخلف، وإن اللَّه لم يكن ليضيع دينه ولا خلافته) "يضيع" هو في الأصل بضم الياء وفتح الضاد وتشديد الياء المكسورة، مضارع ضيع بالتشديد. ويجوز يضيع بكسر الضاد الممدودة من أضاع وبها جاء القرآن {وما كان الله ليضيع إيمانكم} [البقرة: 143] والمعنى: يطلب مني أقوام أن أعين خليفة بعدي، وأنا واثق من أن الله لن يضيع الإسلام ولا المسلمين، سواء استخلفت أم لم أستخلف فإن أستخلف فحسن لأن أبا بكر قد استخلف، وإن أترك الاستخلاف فحسن فقد تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم. (فإن عجل بي أمر فالخلافة شورى بين هؤلاء الستة) أي يتشاورون فيما بينهم بشأنها،

ويتفقون على واحد منهم، وليس المراد أنهم يحكمون معاً وهم عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف. (وإني علمت أن أقوامًا يطعنون في هذا الأمر) "يطعنون" بضم العين وفتحها وهو الأصح هنا. قاله النووي: والمراد بالأمر جعل الخلافة في أحد الستة. (أنا ضربتهم بيدي هذه على الإسلام) أي إن حزمي وقوتي أرغمتهم على الاستسلام وعدم الخروج وعدم إثارة الفتن. (فإن فعلوا ذلك) أي طعنوا في استخلافي وأثاروا الفتن. (فأولئك أعداء الله الكفرة الضلال) "الضلال" بضم الضاد وتشديد اللام الممدودة، أي المغرقون في الضلال، قال النووي: معناه إن استحلوا ذلك فهم كفرة ضلال، وإن لم يستحلوا ذلك ففعلهم فعل الكفرة، أي فخذوا على أيديهم. (لا أدع شيئًا أهم عندي من الكلالة) الكلالة الميت يكون له إخوة وزوج، ولا يترك أصلاً ولا فرعًا وارثًا، ومشكلتها فيمن مات عن إخوة أشقاء وإخوة لأم، وزوج، وقد أشرك عمر الأشقاء مع الإخوة لأم. لأن تطبيق الأنصباء، النصف للزوج، والثلث للإخوة لأم، لا يبقى للأشقاء سوى السدس. فقال الأشقاء لعمر: اجعل أبانا حجرًا في اليم، فنحن نشاركهم في الأم التي يرثون بسببها، فأشركهم، وهذه المسألة تسمى الحجرية أو المشتركة أو العمرية. (ألا تكفيك آية الصيف) أي الآية التي نزلت في الصيف. (التي في آخر سورة النساء)؟ وهي قوله تعالى {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} [النساء: 176]. (فأخرج إلى البقيع) مدافن أهل المدينة. (فمن أكلهما) أي فمن أراد أكلهما. (فليمتهما طبخًا) أي فليمت رائحتهما بالطبخ. وإماتة كل شيء كسر قوته وحدته، ومنه قولهم: قتلت الخمر، إذا مزجها بالماء وكسر حدتها. -[فقه الحديث]- قال النووي هذه الأحاديث تصرح بنهي من أكل الثوم ونحوه عن دخول كل مسجد، وهذا مذهب العلماء كافة إلا ما حكاه القاضي عياض عن بعض العلماء أن النهي خاص في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، لقوله في الرواية الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة "مسجدنا" وحجة الجمهور "فلا يأتين

المساجد" لفظ الرواية الأولى، و"فلا يقربن مساجدنا" لفظ الرواية الثانية، ثم قال: وقال القاضي: وقاس العلماء على هذا مجامع الصلاة غير المسجد كمصلى العيد والجنائز ونحوهما من مجامع العبادات وكذا مجامع العلم والذكر والولائم ونحوها، اهـ وقال الحافظ ابن حجر: قد ألحق بعضهم هذه الأماكن بالمسجد عن طريق القياس لكن دخولها بطريق العموم أولى، ويؤكد هذا ما جاء في الرواية السادسة بلفظ "وليقعد في بيته" وقال: وحكم رحبة المسجد وما قرب منه حكمه، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحها في شخص في المسجد أمر بإخراجه إلى البقيع كما في الرواية العاشرة. اهـ وهل يعم الحظر جميع أحوال المسجد حتى ولو لم يكن به أحد؟ أو كان به جماعة كلهم أكلوا فلا يتأذون؟ وهل تدخل الأسواق في المجتمعات المنهي عن دخولها لآكل الثوم؟ . يقول الحافظ ابن حجر: علل المنع في الحديث بترك أذى الملائكة وترك أذى المسلمين، فإن كان كل منهما جزء علة اختص النهي بالمساجد وما في معناها، ولا تدخل الأسواق، وهذا هو الأظهر، ويؤيده قوله في روايتنا الثامنة "فلا يقربنا في المسجد" قال القاضي ابن العربي: ذكر الصفة في الحكم "في المسجد" يدل على التعليل بها، اهـ أقول: والأظهر عندي أن كلاً منهما علة كافية في المنع، فمن أذى ملائكة الرحمة التي تتجمع في مجامع العبادة والذكر والعلم ونحوها منع من إيذائها ولو لم يؤذ غيرها، كمن دخل المسجد برائحة الثوم ولا أحد فيه، أو فيه جماعة كلهم أكلوا الثوم، ومن آذى المسلمين برائحة الثوم في أي اجتماع لهم ولو كان لا يجتمع فيه ملائكة الرحمة كالأسواق منع أيضاً. يؤكد ذلك عبارة "فلا يأتين المساجد" في الرواية الأولى، وعبارة "فلا يقربن مساجدنا حتى يذهب ريحها" في الرواية الثانية، وعبارة "فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تأذى مما يتأذى منه الإنس" في الرواية الخامسة والسابعة، كل ذلك ظاهره النهي ولو لم يكن بالمسجد أحد من الإنس وعبارة "فلا يقربنا" في الرواية الثالثة، وعبارة "فليعتزلنا وليقعد في بيته" في الرواية السادسة تؤكد منع قدوم آكل الثوم على الجماعة وإن لم تكن في أماكن العبادة والله أعلم. أما أكل الثوم ونحوه فلا يتعلق به النهي. قال النووي: فهذه البقول حلال بإجماع من يعتد به، وحكى القاضي عياض عن أهل الظاهر تحريمها، لأنها تمنع عن حضور الجماعة، وهي عندهم فرض عين، وحجة الجمهور قوله صلى الله عليه وسلم في أحاديث الباب "كل فإني أناجي من لا تناجي" وقوله صلى الله عليه وسلم "أيها الناس إنه ليس لي تحريم ما أحل الله لي" قال العلماء: ويلحق بالثوم والبصل والكراث كل ما له رائحة كريهة من المأكولات وغيرها قال القاضي: ويلحق به من أكل فجلاً وكان يتجشى، قال: وقال ابن المرابط: ويلحق به من به بخر فيه، أو به جرح له رائحة، اهـ وألحق بعضهم بذلك أصحاب الصنائع كالسماك والدباغ والقصاب ونحوهم. وقال ابن المنير: ألحق بعض أصحابنا المجذوم وغيره بآكل الثوم في المنع من المسجد. قال: وفيه نظر، لأن أكل الثوم أدخل على نفسه باختياره هذا المانع، والمجذوم علته سماوية. قال النووي: وقد اختلف أصحابنا في الثوم. هل كان حراماً على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كان يتركه

تنزهاً؟ وظاهر الحديث أنه ليس بمحرم عليه صلى الله عليه وسلم، ومن قال بالتحريم يقول: المراد: ليس لي أن أحرم على أمتي ما أحل الله لها. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - استدل بها على أن صلاة الجماعة ليست فرض عين، قال ابن دقيق العيد: لأن اللازم من منعه أحد أمرين. إما أن يكون أكل هذه الأمور مباحًا فتكون صلاة الجماعة لست فرض عين، أو حرامًا فتكون صلاة الجماعة فرضًا. وجمهور الأمة على إباحة أكلها، فيلزم ألا تكون الجماعة فرض عين، وتقريره بالدليل المنطقي أن يقال: أكل هذه الأمور جائز ومن لوازمه ترك الصلاة الجماعة وترك الجماعة في حق آكلها جائز، ولازم الجائز جائز، وذلك ينافي الوجوب ويمكن رد هذا الاستدلال بأن الجماعة فرض عين بشروطها، ونظيره أن صلاة الجمعة فرض عين بشروطها، ومع ذلك تسقط بالسفر، وهو في أصله مباح. 2 - قال ابن دقيق العيد: قد يستدل بهذه الأحاديث على أن أكل هذه الأمور من الأعذار المرخصة في ترك حضور الجماعة، وقد يقال: إن هذا الكلام خرج مخرج الزجر: فلا يقتضي ذلك أن يكون عذرًا في تركها إلا أن تدعو إلى أكلها ضرورة. قال: ويبعد هذا من وجه تقريبه إلى بعض أصحابه، فإن ذلك ينفي الزجر، اهـ. قال الحافظ ابن حجر: ويمكن حمله على حالتين، والفرق بينهما أن الزجر وقع في حق من أراد إتيان المسجد، والإذن في التقريب وقع في حالة لم يكن فيها ذلك، بل لم يكن المسجد النبوي إذ ذاك بني حيث كان المقدم له أبا أيوب الأنصاري عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، قال الخطابي: توهم بعضهم أن أكل الثوم عذر في التخلف عن الجماعة، وإنما هو عقوبة لآكله على فعله إذ حرم فضل الجماعة. اهـ. هذا، وبما أن الأحاديث صريحة في أن نهي آكل الثوم عن دخول المسجد إنما هو بسبب الريح الكريه فإنه يمكن أن يقال: إن الحكم منوط بالرائحة، فلو أكل وأزال الرائحة بمزيل أو استبدل بها رائحة طيبة زال المنع، وقد جاء ذلك صريحًا في الرواية الثانية ولفظها "فلا يقربن مساجدنا حتى يذهب ريحها". 3 - استدل المهلب من قوله "فإني أناجي من لا تناجي" على أن الملائكة أفضل من الآدميين، وتعقب بأنه لا يلزم من تفضيل بعض الأفراد على بعض تفضيل الجنس على الجنس. 4 - استدل بالحديث العاشر على إخراج من وجد منه ريح الثوم والبصل ونحوهما من المسجد. 5 - واستدل به أيضًا على إزالة المنكر باليد لمن أمكنه ذلك. 6 - ومن الرواية العاشرة جواز استخلاف الحاكم وعدم جوازه، وسيأتي في المناقب. 7 - وفيها موقف عمر رضي الله عنه من مسألة الكلالة، وبسطها في كتب المواريث. واللَّه أعلم

(212) باب النهي عن نشد الضالة في المسجد وما يقوله من سمع الناشد

(212) باب النهي عن نشد الضالة في المسجد وما يقوله من سمع الناشد 1072 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا". 1073 - عن سليمان بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه أن رجلاً نشد في المسجد فقال من دعا إلى الجمل الأحمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لا وجدت إنما بنيت المساجد لما بنيت له". 1074 - عن سليمان بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى قام رجل فقال من دعا إلى الجمل الأحمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لا وجدت إنما بنيت المساجد لما بنيت له". 1075 - عن ابن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: جاء أعرابي بعد ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر فأدخل رأسه من باب المسجد فذكر بمثل حديثهما قال مسلم: هو شيبة بن نعامة أبو نعامة روى عنه مسعر وهشيم وجرير وغيرهم من الكوفيين. -[المعنى العام]- جعلت المساجد في الأرض للصلاة والذكر ومدارسة العلم والوعظ وما يؤدى إلى تقوى الله وعبادته، وما بعد ذلك إما أمور دنيوية لها جانب أخروي، فتلك يحسن إبعادها عن المساجد، وإما أمور دنيوية ذات مصلحة فردية كنشد الدابة والبيع والشراء، فهذه يجب صيانة المساجد عنها، ومن هنا جاء الحديث يهدد من يفعل ذلك بخسارة ما يبتغيه، وبعدم الوصول إلى ما ينشده، وذلك بحث المسلمين المصلين والقائمين والذاكرين بالمسجد أن يدعوا عليه، ولا شك أن دعاء الصالحين أهل المساجد قريب من الله قريب من الإجابة، وخصوصًا إذا كان هذا الدعاء مأمورًا به من الشرع مثابًا عليه من الله. يحدث الحديث أن أعرابيًا يجهل قدسية المساجد أدخل رأسه بعد صلاة الفجر من

باب المسجد ورفع صوته للمصلين يقول: من وجد أو يعلم شيئًا عن جمل أحمر فليخبرني، فقد ضاع جملي الأحمر، فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم تأديبًا له وزجرًا لغيره، وقال: لا رده الله عليك. أسأل الله أن لا تجده. إن المساجد لا تصلح لمثل هذا. إنما بنيت المساجد لغير هذا، ثم قال صلى الله عليه وسلم للمصلين: من سمع منكم رجلاً يسأل عن ضالته وما ضاع منه في المسجد فعاقبوه بالدعاء عليه أن لا يجد ما ضاع منه. إنما بنيت المساجد لعبادة الله تعالى. -[المباحث العربية]- (من سمع رجلاً ينشد ضالة) قال أهل اللغة: يقال: نشدت الدابة إذا طلبتها، وأنشدتها إذا عرفتها قال النووي: ورواية هذا الحديث "ينشد ضالة" بفتح الياء وضم الشين، من نشدت إذا طلبت، ومثله قوله في الرواية الثانية "أن رجلاً نشد في المسجد" أي ضالة. (من دعا إلى الجمل الأحمر) أي من وجد الجمل الأحمر؟ فدعا إليه ونادى عليه؟ . (لا وجدت) مفعوله محذوف، والكلام على الدعاء عليه. أي لا وجدت ضالتك، وهي في معنى "لا ردها الله عليك". (إنما بنيت المساجد لما بنيت له) أي لذكر الله تعالى والصلاة والعلم والمذاكرة في الخير، ونحوها. -[فقه الحديث]- قال النووي: في الحديث النهي عن نشد الضالة في المسجد، ويلحق به ما في معناه من البيع والشراء والإجارة ونحوها من العقود، وكراهة رفع الصوت في المسجد. قال القاضي: وفيه دليل على منع عمل الصانع في المسجد، كالخياطة وشبهها. قال: قال بعض شيوخنا: إنما يمنع في المسجد من عمل الصنائع التي يختص بنفعها آحاد الناس ويكتسب به، فلا يتخذ المسجد متجرًا، أما الصنائع التي يشمل نفعها المسلمين في دينهم كالمثاقفة وإصلاح آلات الجهاد مما لا امتهان للمسجد في عمله فلا بأس به. ورفع الصوت في المسجد كرهه مالك مطلقًا سواء بالعلم أم غيره، وفي رواية عنه التفريق بين رفع الصوت بالعلم ونحوه من الأغراض الدينية وبين رفع الصوت بنفع فردي دنيوي أو ما لا فائدة فيه. وقد روى البخاري عن السائب بن يزيد قال: كنت قائمًا في المسجد، فحصبني رجل، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب، فقال: اذهب فائتني بهذين فجئته بهما: فقال: من أنتما؟ أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف. قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

وفي الشعر في المسجد روى ابن خزيمة في صحيحه والترمذي وحسنه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تناشد الأشعار في المساجد. والتحقيق حمل هذا النهي على تناشد أشعار الجاهلية والمبطلين، وما سلم من ذلك مأذون فيه، بل الشعر المشتمل على الحق، وما كان حقًا جاز في المسجد كسائر الكلام الحق، وإنما يمنع ما كان غير الحق كما يمنع من الكلام الخبيث واللغو الساقط. هذا والدعاء على من ينشد الضالة إنما هو عقوبة له على مخالفته وعصيانه، قال النووي: وينبغي لسامعه أن يقول: لا وجدت. فإن المساجد لم تبن لهذا، أو يقول: لا وجدت. إنما بنيت المساجد لما بنيت له، كما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله أعلم

(213) باب السهو في الصلاة والسجود له

(213) باب السهو في الصلاة والسجود له 1076 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أحدكم إذا قام يصلي جاءه الشيطان فلبس عليه حتى لا يدري كم صلى فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس". 1077 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا نودي بالأذان أدبر الشيطان له ضراط حتى لا يسمع الأذان، فإذا قضي الأذان أقبل، فإذا ثوب بها أدبر، فإذا قضي التثويب أقبل يخطر بين المرء ونفسه يقول اذكر كذا اذكر كذا لما لم يكن يذكر، حتى يظل الرجل إن يدري كم صلى، فإذا لم يدر أحدكم كم صلى فليسجد سجدتين وهو جالس". 1078 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشيطان إذا ثوب بالصلاة ولى وله ضراط". فذكر نحوه وزاد "فهناه ومناه". وذكره من حاجاته ما لم يكن يذكر. 1079 - عن عبد الله ابن بحينة رضي الله عنه قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين من بعض الصلوات ثم قام فلم يجلس فقام الناس معه فلما قضى صلاته ونظرنا تسليمه كبر فسجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم ثم سلم. 1080 - عن عبد الله ابن بحينة الأسدي حليف بني عبد المطلب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في صلاة الظهر وعليه جلوس فلما أتم صلاته سجد سجدتين يكبر في كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلم وسجدهما الناس معه مكان ما نسي من الجلوس. 1081 - عن عبد الله بن مالك ابن بحينة الأزدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في

الشفع الذي يريد أن يجلس في صلاته فمضى في صلاته فلما كان في آخر الصلاة سجد قبل أن يسلم ثم سلم. 1082 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى؟ ثلاثًا أم أربعًا؟ فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم. فإن كان صلى خمسًا شفعن له صلاته. وإن كان صلى إتمامًا لأربع كانتا ترغيمًا للشيطان". 1083 - عن زيد بن أسلم بهذا الإسناد وفي معناه قال "يسجد سجدتين قبل السلام" كما قال سليمان بن بلال. 1084 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (قال إبراهيم: زاد أو نقص) فلما سلم قيل له: يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء؟ قال "وما ذاك؟ " قالوا: صليت كذا وكذا. قال فثنى رجليه واستقبل القبلة فسجد سجدتين ثم سلم. ثم أقبل علينا بوجهه فقال "إنه لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكم به ولكن إنما أنا بشر أنسى كما تنسون. فإذا نسيت فذكروني. وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب. فليتم عليه ثم ليسجد سجدتين". 1085 - عن منصور بهذا الإسناد وفي رواية ابن بشر "فلينظر أحرى ذلك للصواب" وفي رواية وكيع "فليتحر الصواب". 1086 - عن منصور بهذا الإسناد وقال منصور "فلينظر أحرى ذلك للصواب". 1087 - عن منصور بهذا الإسناد وقال "فليتحر الصواب"

1088 - عن منصور بهذا الإسناد وقال "فليتحر أقرب ذلك إلى الصواب". 1089 - عن منصور بهذا الإسناد وقال "فليتحر الذي يرى أنه الصواب". 1091 - عن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر خمسًا فلما سلم قيل له: أزيد في الصلاة؟ قال "وما ذاك؟ " قالوا: صليت خمسًا. فسجد سجدتين. 1092 - عن علقمة أنه صلى بهم خمسًا. 1093 - عن إبراهيم بن سويد قال: صلى بنا علقمة الظهر خمسًا. فلما سلم قال القوم: يا أبا شبل قد صليت خمسًا. قال: كلا ما فعلت. قالوا: بلى. قال وكنت في ناحية القوم. وأنا غلام فقلت: بلى. قد صليت خمسًا. قال لي: وأنت أيضًا يا أعور تقول ذاك؟ قال قلت: نعم. قال: فانفتل فسجد سجدتين ثم سلم. ثم قال: قال عبد الله: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسًا. فلما انفتل توشوش القوم بينهم فقال "ما شأنكم؟ " قالوا: يا رسول الله هل زيد في الصلاة؟ قال "لا" قالوا: فإنك قد صليت خمسًا. فانفتل ثم سجد سجدتين. ثم سلم ثم قال "إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون" وزاد ابن نمير في حديثه "فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين". 1094 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسًا. فقلنا يا رسول الله أزيد في الصلاة؟ قال: "وما ذاك؟ " قالوا: صليت خمسًا. قال: "إنما أنا بشر مثلكم أذكر كما تذكرون وأنسى كما تنسون" ثم سجد سجدتي السهو. 1095 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فزاد أو نقص (قال إبراهيم:

والوهم مني) فقيل: يا رسول الله أزيد في الصلاة شيء؟ فقال "إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس". ثم تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجد سجدتين. 1096 - عن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد سجدتي السهو بعد السلام والكلام. 1097 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإما زاد أو نقص (قال إبراهيم: وايم الله ما جاء ذاك إلا من قبلي) قال: فقلنا يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء؟ فقال "لا" قال فقلنا له الذي صنع فقال "إذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين" قال ثم سجد سجدتين. 1098 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي إما الظهر وإما العصر فسلم في ركعتين ثم أتى جذعًا في قبلة المسجد فاستند إليها مغضبًا وفي القوم أبو بكر وعمر. فهابا أن يتكلما وخرج سرعان الناس قصرت الصلاة فقام ذو اليدين فقال: يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فنظر النبي صلى الله عليه وسلم يمينًا وشمالاً. فقال: "ما يقول ذو اليدين؟ " قالوا: صدق لم تصل إلا ركعتين، فصلى ركعتين وسلم. ثم كبر ثم سجد. ثم كبر. فرفع. ثم كبر وسجد. ثم كبر ورفع. قال وأخبرت عن عمران بن حصين أنه قال: وسلم. 1099 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي بمعنى حديث سفيان. 1100 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر فسلم في ركعتين فقام ذو اليدين فقال أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم

"كل ذلك لم يكن" فقال: قد كان بعض ذلك يا رسول الله فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال "أصدق ذو اليدين؟ " فقالوا: نعم: يا رسول الله فأتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بقي من الصلاة. ثم سجد سجدتين. وهو جالس. بعد التسليم. 1101 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين من صلاة الظهر ثم سلم فأتاه رجل من بني سليم فقال: يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت؟ وساق الحديث. 1102 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينا أنا أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الركعتين فقام رجل من بني سليم واقتص الحديث. 1103 - عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى العصر فسلم في ثلاث ركعات ثم دخل منزله فقام إليه رجل يقال له الخرباق وكان في يديه طول فقال: يا رسول الله فذكر له صنيعه وخرج غضبان يجر رداءه حتى انتهى إلى الناس فقال "أصدق هذا؟ " قالوا: نعم. فصلى ركعة. ثم سلم. ثم سجد سجدتين. ثم سلم. 1104 - عن عمران بن الحصين رضي الله عنه قال: سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاث ركعات من العصر ثم قام فدخل الحجرة فقام رجل بسيط اليدين فقال: أقصرت الصلاة؟ يا رسول الله فخرج مغضبًا. فصلى الركعة التي كان ترك. ثم سلم. ثم سجد سجدتي السهو. ثم سلم. -[المعنى العام]- سبحان من أودع في كل قلب ما شغله، وسبحان من أرسل رسلاً من البشر مبشرين ومنذرين، يعلمون الناس الكتاب والحكمة، اصطفاهم الله فلم يترفعوا على أممهم، ولم يدعوا لأنفسهم ما ليس

لهم، فأعلنوا مرارًا بألسنتهم أنهم بشر. وشاء الله أن تشهد حياتهم وتصرفاتهم بأنهم بشر، بشر يحبون ويكرهون يصومون ويفطرون، ويقومون وينامون، ويفكرون وينشغلون، وينسون ويذكرون. ومن مثل صفوة الخلق محمد صلى الله عليه وسلم فيما كلف به؟ ومن حمله مثل حمل محمد صلى الله عليه وسلم في رسالته. إنه رسول البشر عامة أبيضهم وأحمرهم، وغيره من إخوانه رسول قومه خاصة، إنه يحارب من هم أهله ووطنه، فيهاجر إلى وطن آخر يغرس فيه شجر الإيمان، ويرسل منه إلى الآفاق أشعة نور الإسلام، استخدم كل وسائل السلم بالحكمة والموعظة الحسنة، واضطر إلى استخدام السيف لحماية نفسه ودعوته وكانت حروبًا ضارية غير متكافئة العدد والعدة، ولكن النصر كان لمحمد وأصحابه من عند الله وبقوة الإيمان، وطئت قدمه صلى الله عليه وسلم أرض وطنه الثاني بدأ يبني أمته من الداخل، ويذب عنها سهام الأعداء من الخارج بنى مسجده مدرسة تعليمية لشريعة الله، وما إن بدأت الغزوات حتى كانت الواحدة تلو الأخرى، وكلما عاد من غزوة وري بغيرها، وما وضع سلاحه حتى لبسه، وقد تهون حروب السيف أمام حروب المنافقين ومكايدهم، حتى وصل بهم الكيد أن تناولوا عرضه صلى الله عليه وسلم في زوجته، حشود من الأفكار يشحن بها قلبه نتيجة لما نيط به من أمور جسام، وكلما عظمت عظمت معها مشاكله، ومشاغله، فهل نعجب إذا نسي صلى الله عليه وسلم في صلاته كم صلى؟ وهل نعجب إذا قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني"؟ إن هما واحدًا من المهام الكثيرة التي حملها صلى الله عليه وسلم لو حمل على أحد أمته لنسي نفسه معظم وقته، ولكنها الرسالة والاصطفاء والإعداد الإلهي مع البشرية والإنسانية. لقد نسي، وقام صلى الله عليه وسلم في صلاة رباعية بعد ثنتين ولم يجلس للتشهد، فسبح القوم ليذكروه، وما كان له صلى الله عليه وسلم حسب وحي الله له أن يعود إلى الجلوس بعد ما تلبس بالوقوف، وما كان لأصحابه رضي الله عنهم إلا أن يتابعوه بعد ما نبهوه، فمضي في صلاته، فلما أتم الركعات الأربع وجلس وتشهد، وانتظر الناس سلامه، رأوه يسجد سجدتي السهو، فسجدوا معه، فسلم فسلموا مثله. ثم علمهم حكم الله بالقول بعد أن حكاه لهم بالفعل. ومرة أخرى بعد أن رفع من السجدة الثانية من ركعة رابعة في صلاة رباعية وجده أصحابه، يقوم لركعة خامسة ولم يجلس للتشهد الأخير كما علمهم فسبحوا، فلم يلتفت إلى تنبيههم، فقاموا مثله، وتابعوه، حتى قضى صلاته وسلم، فسلموا. وتحول عن القبلة فاستقبلهم. وكانت الأحكام الشرعية تنزل من الله تباعًا، وظنوا أنه قد يكون الوضع المعلوم قد تغير، فسأل سائلهم: أحدث في الصلاة شيء يا رسول الله؟ قال: لا. فماذا لاحظتم من تغيير؟ قالوا: صليت خمسًا بدل أربع، فنظر صلى الله عليه وسلم في وجوه المصلين، فإذا هي تعبر عن تصديق السائل، وتذكر صلى الله عليه وسلم ما نسي، وتأكد من صدقهم، فانفتل عنهم، وتحول من استقبالهم إلى استقبال القبلة، وثني رجليه إلى جلسة السجود، فسجد سجدتين، ثم سلم، ثم أقبل على القوم بوجهه يعلمهم، يقول: لو حدث في الصلاة زيادة أو نقص لأخبرتكم به ولم أفجأكم، وإنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون. أصبتم بتنبيهي وأحسنتم،

فإذا نسيت فذكروني وكأني شككت فبنيت على اليقين، واعتقدت أني صليت ثلاثًا فجئت برابعة في حسباني، وعليكم إذا شككتم، اثنتين صليتم أم ثلاثًا فاجعلوها ثنتين، وإذا شككتم في الثلاث والأربع فاجعلوها ثلاثًا: ثم أتموا صلاتكم، حتى يكون الوهم في الزيادة خيرًا من النقصان، ثم اسجدوا سجدتين، فإن كانت صلاتكم تمامًا كانت السجدتان إذلالاً للشيطان الذي وسوس لكم في صلاتكم، وإن كانت صلاتكم قد زيدت ركعة تجعل الفرد زوجًا مثابًا عليها عند الله إن شاء الله. ومرة ثالثة سلم من ثنتين في صلاة رباعية، وخرج المتسرعون من المسجد فرحين، يقولون: قصرت الصلاة وأصبح الفرض ثنتين، وجلس المتقون ينظر بعضهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضهم ينظر إلى بعض في تعجب وترقب، وكان الغضب والانشغال باديًا على وجهه الشريف صلى الله عليه وسلم، فهابه القوم وكأن على رءوسهم الطير، ولم يطل صلى الله عليه وسلم الجلوس عقب الصلاة كعادته، ولكنه قام إلى جذع نخل يعترض جهة القبلة، فشبك كفيه، ووضع إحداهما على الجذع، وأسند خده على الأخرى، هيئة مزعجة جدًا، يرتجف لها قلوب المقربين منه صلى الله عليه وسلم، ويهابه تلك الحظة بدرجة كبيرة من يهابه في عامة أحواله، ومن أقرب منه من أبي بكر وعمر؟ لقد أطرقا في وجوم. وفي القوم رجل عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم معه ملاطفة ومداعبة وأنسًا، حتى كان يدعوه بذي اليدين لطول في يديه عن المعتاد، فجمع شجاعته، وتقدم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أقصرت الصلاة فصارت ثنتين أم نسيت يا رسول الله؟ قال: لم أنس ولم تقصر. قال: بل نسيت يا رسول الله مادامت لم تقصر. فاتجه صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه قائلاً. أحقًا ما يقول ذو اليدين؟ قالوا: نعم، وتيقن صلى الله عليه وسلم ما قد نسي، فصلى ركعتين، ثم تشهد، ثم سجد سجدتين، ثم سلم. -[المباحث العربية]- (إذا قام يصلي) جملة "يصلي" في محل النصب على الحال من فاعل "قام" والمراد من القيام بدء المباشرة، وليس المراد منه الوقوف، حيث يحصل ذلك أيضًا لمن صلى قاعدًا. (فلبس عليه) "لبس" بتخفيف فتحة الباء، أي خلط عليه صلاته وشككه فيها، وجعل الحقيقة ملتبسة عليه بغير الحقيقة. (حتى لا يدري كم صلى)؟ غاية للتلبيس، وجملة الاستفهام [المكونة من مفعول به مقدم وفعل وفاعل] علقت "يدري" عن العمل في اللفظ، وهي في محل نصب سدت مسد مفعولي "يدري". (فإذا وجد ذلك) التلبيس في صدره. (إذا نودي بالأذان) في رواية البخاري "إذا نودي للصلاة" وفي رواية أبي داود "إذا نودي بالصلاة" وكلها محمولة على معنى واحد. (أدبر الشيطان له ضراط) الإدبار ضد الإقبال، يقال: دبر وأدبر إذا ولى والألف واللام في "الشيطان" للعهد، والمراد الشيطان المعهود بالوسوسة والإغراء. وجملة "له ضراط" وقعت حالاً،

بدون الواو، وفي بعض الروايات "وله ضراط" بالواو على أصل الجملة الإسمية إذا وقعت حالاً. والضراط الريح الذي يخرج من الدبر مع الصوت، قال عياض: يمكن حمله على ظاهره لأن الشيطان جسم وله منفذ يصح خروج الريح منه. والحق أن هذا تمثيل لحال الشيطان عند هروبه من سماع الأذان بحال من اعتراه خطب جسيم فاسترخت مفاصله من الخوف والانزعاج حتى لم يعد يملك نفسه، فينفتح منه مخرج البول والغائط، وقد شاع قولهم: بال على نفسه من الخوف. فشبه حال الشيطان بهذه الحال وأثبت للشيطان الضراط على وجه الادعاء، وفي الحقيقة ما حصل ضراط. وقال الطيبي: شبه شغل الشيطان نفسه عند سماع الأذان بالصوت الذي يحدثه ليملأ به سمعه ليحول دون سماع غيره بالضراط تقبيحًا له، وكان الأصل: أدبر وله صوت كالضراط. (حتى لا يسمع الأذان) غاية لإدباره، أي أدبر وولى حتى لا يسمع ويحتمل أن تكون غاية لضراطه على قول من يقول بضراط حقيقي، أو غاية للصوت الذي يخرجه على رأي من يقول به. والتحقيق أن هذه الغاية لأجل إدباره، فقد وقع بيان ذلك في رواية لمسلم جاء فيها "حتى يكون مكان الروحاء" والروحاء تبعد عن المدينة نحو ستة وثلاثين ميلاً. (فإذا قضي الأذان أقبل) "قضي" بالبناء للمجهول، وروي بالبناء للمعلوم، ويكون الفاعل ضميرًا للمؤذن، والقضاء هنا بمعنى الفراغ والانتهاء كما تقول: قضيت حاجتي إذا فرغت منها. (فإذا ثوب بها أدبر) في رواية البخاري "حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر" أي حتى إذا أقيم للصلاة أدبر حتى لا يسمع التثويب، والتثويب في الأصل الإعلام بالشيء والإنذار بوقوعه، وأصله أن يلوح الرجل لصاحبه بثوبه عند طلب النجدة، ثم كثر استعماله في كل إعلام يجهر به صوت، ثم استعمل في تكرار الإعلام، وسميت الإقامة تثويبًا لأنها عود إلى ما يشبه الأذان، قال القرطبي، وكل مردد صوتًا فهو مثوب، وقيل، من ثاب إلى كذا إذا عاد إليه، والإقامة عود إلى الأذان. ولم يقل هنا "وله ضراط" كما قال في سماع الأذان لأنها تتم بصوت أقل ارتفاعًا منه. وقيل: لأن الشدة في الأول تلحقه في سبيل الغفلة فيكون أعظم، وقيل: اكتفى بذكره في الأول عن ذكره في الثاني. والله أعلم. (يخطر بين المرء ونفسه) بضم الطاء وكسرها، قال القاضي عياض: والكسر هو الوجه، ومعناه يوسوس، من قولهم: خطر الفحل بذنبه إذا حركه يضرب به فخذيه، وأما الضم فمن المرور، أي يدنو منه فيما بينه وبين قلبه فيشغله عما هو فيه، قال الباجي: فيحول بين المرء وما يريد من محاولة إقباله على صلاته، اهـ. والمراد من النفس القلب، وكذا وقع للبخاري في بدء الخلق، قال العيني: وبهذا التفسير يحصل الجواب عما قيل: كيف يتصور خطوره بين المرء ونفسه، وهما عبارتان عن شيء واحد؟ اهـ. والأولى أن يكون التعبير تمثيلاً لغاية القرب منه. (اذكر كذا. اذكر كذا) هكذا هو بدون واو العطف في رواية الأكثرين ووقع في رواية بواو العطف. (لما لم يكن يذكر) أي لشيء لم يكن على ذكره قبل دخوله الصلاة، وفي رواية "لما لم يكن

يذكر من قبل" قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر أنه يذكره بما سبق له به علم، ليشغل باله به، وبما لم يسبق له به علم ليوقعه في التفكير فيه، وهذا أعم من أن يكون من أمور الدنيا أو في أمور الدين كالعلم، لكن هل يشمل ذلك التفكير في معاني الآيات التي يتلوها؟ لا يبعد ذلك، لأن غرضه نقص خشوعه وإخلاصه بأي وجه كان، اهـ. وهذا الذي ذكره الحافظ بعيد لأن الشيطان لا يرضيه أن يفكر المصلي في معاني الآيات، ولا يسره أن يتدبر المصلي ما يقرأ، بل القراءة في الصلاة وخارجها تدبر معانيها وإلا كانت جسدًا بلا روح والله أعلم. (حتى يظل الرجل إن يدري كم صلى)؟ "يظل" بفتح الظاء، أي حتى يصير الرجل لا يدري كم صلى من الركعات؟ ووقع في رواية الأصيلي "يضل" بالضاد المكسورة، أي ينسى ويذهب وهمه ويسهو، و"إن" في قوله "إن يدري" بكسر الهمزة حرف نفي، بمعنى ما يدري، وحكى ابن عبد البر عن الأكثر في الموطأ فتح همزة "إن" وتعقبه جماعة والصحيح الكسر، وإنما يتوجه الفتح على رواية "يضل" ويكون المعنى حتى يضل الرجل عن درايته عدد الركعات. (عن عبد الله بن مالك ابن بحينة) قال النووي: الصواب في هذا أن ينون "مالك" ويكتب "ابن بحينة" بالألف، لأن عبد الله هو ابن مالك فإذا قرئ كما ذكرناه انتظم على الصواب، ولو قرئ بإضافة "مالك" إلى "ابن" فسد المعنى، واقتضى أن يكون "مالك" ابنًا لـ"بحينة" وهذا غلط. اهـ أي إن عبد الله هو ابن مالك وابن بحينة، فمالك أبوه وبحينة أمه، وهي زوجة مالك، فيكتب "ابن بحينة" بالألف، لأن ما بعد "ابن" ليس أبًا لما قبلها. (الأسدي) بسكون السين، ويقال فيه: الأزدي كما في الرواية السادسة والأزد والأسد بإسكان السين قبيلة واحدة، وهما اسمان مترادفان لها، وهم أزد شنوءة. ذكره النووي. (حليف بني عبد المطلب) قال النووي: كذا هو في نسخ صحيح البخاري ومسلم، والذي ذكره ابن سعد وغيره من أهل السير والتواريخ أنه حليف بني المطلب، وكان جده حالف المطلب بن عبد مناف. (صلى لنا) أي بنا، أو لأجلنا. (ركعتين من بعض الصلوات) أي الرباعية، وقد فسرت بالظهر في الرواية الخامسة. (ثم قام فلم يجلس) للتشهد الوسط. (فقام الناس معه) زاد الضحاك بن عثمان عن الأعرج في رواية عند ابن خزيمة "فسبحوا به، فمضى حتى فرغ من صلاته". (فلما قضى صلاته) أي فرغ منها. (ونظرنا تسليمه) أي انتظرنا تسليمه، وفي رواية "وانتظر الناس تسليمه .... ".

(وسجدهما الناس معه مكان ما نسي من الجلوس) أي مقابل ما نسي وجبرًا لما نسي من الجلوس. (قام في الشفع) أي بعد الشفع، أي بعد ركعتين. (الذي يريد أن يجلس في صلاته) أي الذي كان يريد ويقصد - قبل بلوغ وقته - أن يجلس بعد صلاة هذا الشفع. لكنه لما جاء وقته نسي. (فمضى في صلاته) معطوف على محذوف، أي فسبح الناس ليعود إلى الجلوس المنسي فلم يعد فمضى. (فليطرح الشك وليبن على ما استيقن) إذا شك هل الركعة التي أداها رابعة أو ثالثة كانت الثلاث يقينية الأداء، والشك في الرابعة، وطرح الشك يكون بطرح المشكوك فيه وهو الرابعة والبناء على ما عليه اليقين وهي الثلاث وليصل ركعة، ثم يسجد سجدتين. (فإن كان صلى خمسًا شفعن له صلاته) يعني أن السجدتين بمنزلة الركعة، لأنهما ركناها، فكأنه بفعلهما قد فعل ركعة سادسة، فصارت الصلاة شفعًا. (وإن كان صلى إتمامًا لأربع كانتا ترغيمًا للشيطان) أي وإن كانت الركعة التي صلاها هي متممة للأربع كانت السجدتان إغاظة للشيطان، وإذلالاً له، مأخوذ من الرغام وهو التراب، ومنه أرغم الله أنفه، والقصد أن الشيطان لبس عليه صلاته وتعرض لإفسادها ونقصها، فجعل الله تعالى للمصلي طريقًا إلى جبر صلاته وإرغام الشيطان ورده خاسئًا مبعدًا عن مراده وكملت صلاة ابن آدم، وامتثل أمر الله تعالى الذي عصى به إبليس من امتناعه من السجود. قاله النووي. (قال إبراهيم: زاد أو نقص) هذا الشك من إبراهيم النخعي الراوي عن علقمة الراوي عن عبد الله بن مسعود. فرواية ابن مسعود لا شك فيها، ولفظها في الرواية الحادية عشرة "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسًا" ثم رواية علقمة عن عبد الله لا شك فيها، ويعترف إبراهيم بأن الشك من جهته هو في الرواية الثانية عشرة، إذ يقول: والوهم مني، وفي الرابعة عشرة يقصر الشك على نفسه إذ يقول: "وايم الله ما جاء ذاك إلا من قبلي" أي من جهتي، ولو أنه تدبر في الرواية لطرح الشك، إذ يروى في الرواية الثانية عشرة "فقيل: يا رسول الله، أزيد في الصلاة شيء"؟ فالنسيان إذن كان بالزيادة صراحة. (إنما أنا بشر) قصر نفسه صلى الله عليه وسلم على البشرية، فهو من قصر الموصوف على الصفة، فليس قصرًا حقيقيًا، إذ قصر الموصوف على صفة حقيقية لا يكاد يوجد، لأن لكل إنسان صفات متعددة فلا يقصر على واحدة، فلا أقل من أنه حي موجود مميز متحرك، ومثل هذا التعبير يكون قصرًا إضافيًا، أي إنما أنا بشر لا ملك. (أنسى كما تنسون) وجه الشبه مطلق النسيان لا كميته ولا نوعيته.

(فليتحر الصواب) "فلينظر أحرى ذلك للصواب". "فليتحر أقرب ذلك إلى الصواب". "فليتحر الذي يرى أنه الصواب" هذه الروايات توضح معنى التحري، إذ التحري للصواب في اللغة طلب ومحاولة الوصول إلى الصواب، أو إلى ما يقرب من الصواب، والتحري في الأصل هو القصد، ومنه قوله تعالى: {فأولئك تحروا رشدًا} [الجن: 14] والشك في اللغة التردد بين وجود الشيء وعدمه - سواء مستوى الطرفين أو الراجح والمرجوح، وفي اصطلاح الأصوليين هو ما استوى طرفاه، وقد أمر الحديث بالتحري، وأمر بطرح الشك والبناء على اليقين والتحري مقدم على البناء على اليقين، فإذا عرض الشك وجب التحري ومحاولة الوصول، فإن أمكن الخروج بالتحري عن دائرة الشك والوصول إلى الاستيقان بأنه صلى ثلاثًا أو أربعًا عمل بهذا التحري، ولا يطلب منه أن يبني على الأقل لأن الحديث قد شرط للبناء على الأقل عدم الدراية، إذ قال "إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى"؟ الرواية السابعة، وإن لم يصل به تحريه إلى اليقين وبقي الشك وعدم الدراية بنى على الأقل وطرح الشك. وهذا طريق جيد للجمع بين الأحاديث. وسيأتي البحث في فقه الحديث. (فانفتل) أي تحول بجسمه إلى جهة القبلة، حيث كان مستقبل القوم بعد انتهاء الصلاة. (توشوش القوم بينهم) قال النووي: ضبطناه بالشين المعجمة، وقال القاضي: روي بالمعجمة وبالمهملة، وكلاهما صحيح، ومعناه تحركوا، ومنه وسواس الحلي، وهو تحركه، ووسوسة الشيطان، قال أهل اللغة: الوشوشة بالمعجمة صوت في اختلاط، قال الأصمعي: ويقال: رجل وشواش أي خفيف. (ثم سجد سجدتي السهو) السهو الغفلة عن الشيء وذهاب القلب إلى غيره، قال الحافظ ابن حجر: وفرق بعضهم بين السهو والنسيان، وليس بشيء اهـ قال العيني: بل بينهما فرق دقيق وهو أن السهو أن ينعدم له شعور والنسيان له فيه شعور، اهـ والحق مع الحافظ ابن حجر فإن السجود سمى سجود السهو، والذي حصل من النقص أو الزيادة عبر عن سببه بالنسيان، فكل منهما مستعمل هنا بمعنى الآخر دون تفرقة. (وهو جالس) جملة حالية متعلقة بقوله "فليسجد" أي فلينشئ السجود جالسًا. وإنما شرحنا هذا الشرح لأن حالة السجود غير حالة الجلوس. (ثم تحول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم) أي من مواجهة المصلين إلى استقبال القبلة فهو بمعنى "انفتل". (إحدى صلاتي العشى إما الظهر وإما العصر) قال الأزهري: العشى عند العرب ما بين زوال الشمس وغروبها. وفي الرواية السادسة عشرة "صلاة العصر" وفي السابعة عشرة "صلى ركعتين من صلاة الظهر" وكذا في الرواية الثامنة عشرة صلاة الظهر، قال الحافظ ابن حجر: والظاهر أن الاختلاف من الرواة، وأبعد من حمل الاختلاف على تعدد القصة وأنها وقعت مرتين. بل روى النسائي أن الشك من أبي هريرة، ولفظه صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشى. قال أبو هريرة: ولكني

نسيت، فالظاهر أن أبا هريرة رواه كثيرًا على الشك، وكان ربما غلب على ظنه أنها الظهر فجزم بها، وتارة غلب على ظنه أنها العصر فجزم بها، اهـ (ثم أتى جذعًا في قبلة المسجد فاستند إليها مغضبًا) قال النووي: هكذا هو في كل الأصول "فاستند إليها" والجذع مذكر، ولكن أنثه على إرادة الخشبة، اهـ. وفي رواية البخاري "ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد" أي في جهة القبلة، وفي رواية "فقام إلى خشبة معروضة في المسجد" أي موضوعة بالعرض، قال الحافظ ابن حجر: ولا تنافي بين هذه الروايات، لأنها تحمل على أن الجذع كان قبل اتخاذ المنبر ممتدًا بالعرض، وكأنه الجذع الذي كان صلى الله عليه وسلم يستند إليه قبل اتخاذ المنبر، وبذلك جزم بعض الشراح، اهـ وفي رواية البخاري "فوضع يده عليها" أي استند إلى الخشبة بواسطة يده صلى الله عليه وسلم، ووقع في بعض الروايات الصحيحة "فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان ووضع يده اليمنى على اليسرى، وشبك بين أصابعه، ووضع خذه الأيمن على ظهر كفه اليسرى" و"مغضبًا" بفتح الضاد، ولم أقف على سر غضبه صلى الله عليه وسلم، لكن هذه العبارة تبين سبب السهو وأنه صلى الله عليه وسلم ما سها في صلاته إلا لأمر جلل. (وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يتكلما) في رواية البخاري "فهابا أن يكلماه" وفي رواية "فهاباه" والمعنى أنه غلب عليهما احترامه وتعظيمه عن الاعتراض عليه، أما ذو اليدين فغلب عليه حرصه على تعلم العلم. (وخرج سرعان الناس) قال النووي: والسرعان بفتح السين والراء، هذا هو الصواب الذي قاله الجمهور من أهل الحديث واللغة، وهكذا ضبطه المتقنون، والسرعان المسرعون إلى الخروج من المسجد، وهم أهل الحاجات غالبًا، ونقل القاضي عياض عن بعضهم إسكان الراء، قال: وضبطه الأصيلي في البخاري بضم السين وإسكان الراء، ويكون جمع سريع مثل كثيب وكثبان. (قصرت الصلاة) بضم القاف وكسر الصاد على البناء للمجهول "أي الله قصرها، وبفتح ثم ضم، على البناء للفاعل، أي صارت قصيرة. قال النووي: هذا أكثر وأرجح، والمعنى أن السرعان خرجوا من المسجد يقولون ذلك. (فقام ذو اليدين) في رواية البخاري "ورجل يدعوه النبي صلى الله عليه وسلم ذا اليدين فقال: وفي رواية "وفي القوم رجل في يده طول، يقال له: ذو اليدين" قال الحافظ ابن حجر: وهو محمول على الحقيقة، ويحتمل أن يكون كناية عن طولهما بالعمل أو البذل. قال القرطبي: وجزم ابن قتيبة بأنه كان يعمل بيديه جميعًا وذهب الأكثرون إلى أن اسم ذي اليدين الخرباق بكسر الخاء وسكون الراء بعدها باء ممدودة آخره قاف، اعتمادًا على روايتنا التاسعة عشرة والرواية العشرين، قال الحافظ ابن حجر: وهذا صنيع من يوحد حديث أبي هريرة بحديث عمران، وهو الراجح في نظري، اهـ وذو اليدين عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم وهو سلمي، وعبر عنه في الرواية السابعة عشرة بقوله، فأتاه رجل من بني سليم". ولما وقع الحديث عند الزهري بلفظ "فقام ذو الشمالين" وذو الشمالين [واسمه عمير بن عمرو بن

نضلة وهو خزاعي - قتل ببدر قال: إن القصة وقعت قبل بدر، وتسبب هذا في أن الطحاوي حمل قول أبي هريرة في الرواية الخامسة عشرة "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" على المجاز، لأن أبا هريرة لم يكن أسلم أيام بدر وقال: إن المراد به صلى بالمسلمين، ويدفع هذا المجاز ويرد قول الطحاوي صريح روايتنا الثامنة عشرة، ولفظها "بينما أنا أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم" وقد اتفق معظم أهل الحديث من المصنفين وغيرهم على أن ذا الشمالين غير ذي اليدين، ونص على ذلك الشافعي رحمه الله في اختلاف الحديث. وسيأتي في فقه الحديث طرق الجمع بين حديث أبي هريرة وحديث عمران بن حصين. (وأخبرت عن عمران بن حصين أنه قال: وسلم) لفظ أبي داود "فقيل لمحمد بن سيرين: سلم في السجود؟ فقال: لم أحفظه من أبي هريرة، ولكن نبئت أن عمران بن حصين قال: ثم سلم "فهم قد سألوا ابن سيرين الراوي عن أبي هريرة الذي وصف سجدتي السهو بهيئاتهما: هل رويت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سلم بعد سجدتي السهو؟ إلخ. (كل ذلك لم يكن) قال النووي: فيه تأويلان. أحدهما قاله جماعة من أصحابنا في كتب المذهب أن معناه لم يكن المجموع، فلا ينفي وجود أحدهما. والثاني - وهو الصواب - معناه لم يكن هذا ولا ذاك في ظني، بل ظني أني أكملت الصلاة أربعًا، ويدل على صحة هذا التأويل، وأنه لا يجوز غيره أنه جاء في رواية البخاري في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لم تقصر ولم أنس" فنفى الأمرين، اهـ. ويؤيد ما قاله النووي ما قاله أصحاب المعاني من أن لفظ "كل" إذا تقدم وعقبها النفي كان نفيًا لكل فرد، لا للمجموع، بخلاف ما إذا تأخرت. كأن يقول: لم يكن كل ذلك. ولهذا أجاب ذو اليدين "قد كان بعض ذلك، وفي بعض الروايات قال ذو اليدين "بلى قد نسيت". (سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الركعتين) قال النووي: هكذا هو في بعض الأصول المعتمدة "من الركعتين" وهو الظاهر الموافق لباقي الروايات، وفي بعضها "بين الركعتين" وهو صحيح أيضًا، ويكون المراد بين الركعتين الثانية والثالثة. اهـ. (وخرج غضبان يجر رداءه) يعني لكثرة اشتغاله بشأن الصلاة خرج يجر رداءه ولم يتمهل ليلبسه. (ثم قام فدخل الحجرة) أي حجرة إحدى أزواجه، فقد كانت بيوت أزواجه صلى الله عليه وسلم محيطة بالمسجد تفتح فيه. -[فقه الحديث]- يمكن حصر الكلام عن هذه الأحاديث في سبع نقاط: 1 - الشيطان ووسوسته وحكم الصلاة مع الانشغال. 2 - المواضع التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم للسهو، والمواضع الأخرى التي تقع للمصلي.

3 - مكان السجدتين من الصلاة، قبل السلام أو بعده وتحرير الخلافات المذهبية وأدلتها. 4 - حكم السجدتين وأركانهما وهيئاتهما. 5 - الجمع بين ما ظاهره التعارض من الروايات. 6 - نسيان الأنبياء. 7 - ما يؤخذ من الأحاديث من الأحكام والحكم الأخرى. وهذا هو التفصيل: 1 - قال الحافظ ابن حجر: الظاهر أن المراد بالشيطان إبليس، وعليه يدل كلام كثير من الشراح، ويحتمل أن المراد جنس الشيطان، وهو كل متمرد من الجن والإنس، لكن المراد هنا شيطان الجن خاصة، ثم قال: وقد اختلف العلماء في الحكمة في هروب الشيطان عند سماع الأذان والإقامة دون سماع القرآن والذكر في الصلاة، فقيل: يهرب حتى لا يشهد للمؤذن يوم القيامة، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس إلا شهد له، وقيل: يهرب نفورًا عن سماع الأذان، ثم يرجع موسوسًا ليفسد على المصلي صلاته، فصار رجوعه من جنس فراره، والجامع بينهما الاستخفاف، وقيل لأن الأذان دعاء إلى الصلاة المشتملة على السجود الذي أباه وعصى بسببه، واعترض بأنه يعود قبل السجود، فلو كان هربه لأجله لم يعد إلا عند فراغه، وأجيب بأنه يهرب عند سماع الدعاء بذلك ليغالط نفسه بأنه لم يخالف أمرًا، ثم يرجع ليفسد على المصلي سجوده الذي أباه، وقيل: إنما يهرب لاتفاق الجميع على الإعلان بشهادة الحق وإقامة الشريعة، واعترض بأن الاتفاق على ذلك حاصل قبل الأذان وبعده من جميع من يصلي، وأجيب بأن الإعلان أخص من الاتفاق، فإن الإعلان المختص بالأذان لا يشاركه فيه غيره من الجهر بالتكبير والتلاوة مثلاً. وقال ابن الجوزي: على الأذان هيبة يشتد انزعاج الشيطان بسببها، لأنه لا يكاد يقع في الأذان رياء ولا غفلة عند النطق به، بخلاف الصلاة فإن النفس تحضر فيها فيفتح لها الشيطان أبواب الوسوسة. اهـ وكل ما ذكر لا يسلم من الاعتراض، وتلمس الحكمة إنما هو لتقريب فهم الحكم، لا لبيان علته، ويمكن اعتبار هذه الحكم مجتمعة، كما يمكن أن يقال: إن غايته في إضلال المؤذن ضعيفة، أما غايته في إفساد الصلاة أو فقدها روحها وأثرها - وهي التي قال الله تعالى في شأنها {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45] فهي غاية كبرى، فكأنه عند الأذان يهرب استخفافًا واستهتارًا وكأنه يقول للمؤذن. ناد ما شئت. وارفع صوتك ما شئت، واجمع من شئت فوربك لأغوينهم أجمعين. إلا القليل المخلصين، فوربك لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين، فالصلاة ميدان إبليس وليس الأذان. والخشوع في الصلاة وخشية الله فيها، واتجاه قلب المصلي ووجدانه إلى مناجاة الرب يدفع الأعضاء إلى السكون وعدم الحركة، حتى ولو وجد ما يدعو إلى الحركة من العوامل الجسيمة أو الخارجية، كمعاكسة الذباب أو وخز الحصى، فخشوع الجوارح عنوان خشوع القلب. ومن هنا كرهت الصلاة بحضرة الطعام ومع مدافعة الأخبثين، كما مر قبل بابين، والخشوع وإن كان

مطلوبًا في الصلاة لكنه ليس بواجب، نعم حكى المحب الطبري قولاً منسوبًا إلى القاضي أبي زيد أن الخشوع شرط في صحة الصلاة. ثم قال: وهو محمول على أن يحصل في الصلاة في الجملة لا في جميعها. والخواطر التي تعرض في الصلاة لا قبل للإنسان بها، ولا يؤاخذ عليها وإن كان مطالبًا بمدافعتها، قال ابن بطال: بحسب الإنسان أن يقبل على صلاته بقلبه ونيته، يريد بذلك وجه الله تعالى، ولا طاقة له بما اعترضه من الخواطر. اهـ وقال المهلب: التفكير أمر غالب لا يمكن الاحتراز عنه في الصلاة ولا في غيرها، لما جعل الله للشيطان من السبيل على الإنسان، ولكن إن كان في أمر أخروي ديني فهو أخف مما يكون في أمر دنيوي. اهـ. وقد روى البخاري عن عمر أنه قال "إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة" وأحاديث الباب تدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم شغل بالخواطر في الصلاة، حتى نسي أصلى ثنتين أم أربعًا؟ ثم لم تطلب أحاديث الباب أن يتخلص المصلي من خواطر الشيطان، وإلا كان تكليفًا بما لا يطاق، وإنما طلبت جبر هذه الخواطر إذا أحدثت شكا، وذلك بإرغام الشيطان وإحباط سعيه بسجدتي السهو. نعم كلما قلت سيطرة الخواطر على المصلي كثر ثوابه على صلاته، فقد روى النسائي بإسناد صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "منكم من يصلي الصلاة كاملة ومنكم من يصلي النصف، والثلث والربع والخمس" حتى بلغ العشر. 2 - والمواضع التي سجد من أجلها رسول الله صلى الله عليه وسلم سجود السهو والتي نصت عليها أحاديث الباب أربعة: أحدها: قام من ثنتين ناسيًا التشهد الأوسط وجلوسه، سند ذلك الروايات الرابعة والخامسة والسادسة من أحاديث الباب. ثانيها: سلم من ثنتين والصلاة رباعية، سند ذلك الروايات الخامسة عشرة والسادسة عشرة والسابعة عشرة والثامنة عشرة من أحاديث الباب. ثالثها: صلى الرباعية خمسًا، سند ذلك الروايات التاسعة والعاشرة والحادية عشرة من أحاديث الباب. رابعها: سلم من ثلاث والصلاة رباعية، سند ذلك روايتا عمران بن حصين [التاسعة عشرة والعشرون] إن لم نجمع بينهما وبين روايات أبي هريرة في التسليم من ثنتين. أما المواضع الأخرى التي يشرع فيها للمصلي سجود السهو فقد قال النووي في المجموع: إن ترك فرضًا ساهيًا، أو شك في تركه وهو في الصلاة لم يعتد مما فعله بعد المتروك حتى يأتي بما تركه، ثم قال أصحابنا: إذا ترك المصلي سنة وتلبس بغيرها لم يعد إليها، سواء تلبس بفرض أم بسنة أخرى، كمن ترك دعاء الاستفتاح وتلبس بقراءة الفاتحة أو بالاستعاذة، وسواء كان الترك عمدًا أم سهوًا، فإن عاد إلى السنة القولية بعد أن تلبس بقولي لم تبطل صلاته، أما إن عاد إلى التشهد الوسط بعد أن تلبس بالقيام بطلت صلاته إن كان عامدًا عالمًا بالتحريم، فإن كان ناسيًا أو

جاهلاً لم تبطل، ويسجد للسهو، ولو ترك بعضًا من الأبعاض (وهي التشهد الأول والجلوس له والقنوت والقيام له، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله في التشهد الأول، وكذا الآل في التشهد الأخير) جبر بسجود السهو إذا تركه سهوًا، وإن تركه عمدًا فوجهان: أحدهما لا يسجد لأن السجود مشروع للسهو، وبه قال أبو حنيفة، وقيل يسجد. أما غير الأبعاض من السنن كالتعوذ ودعاء الاستفتاح، ورفع اليدين والتكبيرات والتسبيحات والجهر والإسرار والتورك والافتراش والسورة بعد الفاتحة ووضع اليدين على الركبتين وسائر السنن القولية غير الأبعاض فلا يسجد لها، سواء تركها عمدًا أم سهوًا، لأنه لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم السجود لشيء منها والسجود زيادة في الصلاة فلا يجوز إلا بتوقيف، ويخالف الأبعاض، فإنه قد ورد التوقيف في التشهد الأول وجلوسه، وقسنا عليه باقيها، وحكى جماعة من أصحابنا قولاً قديمًا أنه يسجد لترك كل مسنون ذكرًا كان أو فعلاً، وهو ضعيف. أما إذا فعل منهيًا عنه مما لا تبطل الصلاة بعمده كالالتفات والخطوة ووضع اليد على الفم وكف الثوب والشعر ومسح الحصى والتثاؤب وأشباه ذلك فلا يسجد للسهو لعمده ولا لسهوه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حمل أمامة ووضعها وخلع نعليه في الصلاة ولم يسجد لشيء من ذلك. فإن فعل ساهيًا منهيًا عنه تبطل الصلاة بعمده كالكلام والركوع والسجود الزائدين فهذا يسجد لسهوه إذا لم تبطل به الصلاة، وقال أبو حنيفة: يسجد للجهر والإسرار، وقال مالك: يسجد لترك جميع الهيئات. والله أعلم. 3 - وفي موضع سجود السهو من الصلاة نقول: إن الرواية الأولى والثانية من روايات الباب فيمن لم يدر كم صلى، وفيهما "فليسجد سجدتين وهو جالس" ولم يذكر فيهما السلام. والروايات الرابعة والخامسة والسادسة فيمن قام من ثنتين في صلاة رباعية (ومثلها الثلاثية) ولم يجلس للتشهد الوسط، وفيها كلها أنه سجد للسهو قبل أن يسلم. والرواية السابعة فيمن شك فبنى على اليقين، وأتم صلاته، وفيها "يسجد سجدتين قبل أن يسلم" والرواية الثامنة حتى الرابعة عشرة فيمن صلى الرباعية خمسًا (أي فيمن زاد ركعة) بعضها سكت عن السلام بعد السجدتين كالتاسعة والحادية عشرة والثانية عشرة والرابعة عشرة، وبعضها صرح بالسلام بعد السجدتين كالثامنة والعاشرة، وبما أن الراوي واحد، والواقعة واحدة فيحمل ما لم يصرح فيه بالسلام على ما صرح فيه به. أما الرواية الثالثة عشرة، وهي عن الراوي نفسه وعن الواقعة نفسها، وفيها "سجد سجدتي السهو بعد السلام والكلام" فهي كالتي أغفل فيها ذكر السلام لأنها تحكي عن السلام الذي حدث عقب صلاة الخمس، لا عن السلام بعد سجود السهو، بدليل ذكر الكلام في قوله "بعد السلام والكلام" فالسلام المذكور فيها لا يدخل في موضوع النزاع. أما الرواية الخامسة عشرة والسادسة عشرة فهما فيمن سلم من ثنتين في رباعية [ومثلها الثلاثية] وفيهما أنه أكمل الصلاة ثم سلم، ثم سجد للسهو.

أما التاسعة عشرة والعشرون فهما فيمن سلم من ثلاث في رباعية، وفيهما أنه أكمل الصلاة ثم سلم، ثم سجد للسهو، ثم سلم. وإذا تجاوزنا روايات الإمام مسلم التي استعرضناها في هذا الباب وجدنا الأحاديث الصحيحة في الكتب الأخرى لا تخرج عما ذكرنا، وما روي مخالفًا لذلك لا يقاوم الصحيح كما سيأتي. وقد كثر خلاف الفقهاء في مشروعية السلام قبل سجود السهو وبعده. (أ) فذهب داود الظاهري إلى أنه لا يسجد للسهو إلا في المواضع التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم للسهو، وبالأوضاع الواردة نفسها، فيقتصر على ما ورد، وغير ذلك إن كان فرضًا أتى به، وإن كان ندبًا فليس عليه شيء. (ب) وذهب الإمام أحمد والحنابلة إلى أنه يسجد قبل السلام في المواضع التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل السلام، وبعد السلام في المواضع التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد السلام، وما كان من السجود في غير تلك المواضع يسجد له أبدًا قبل السلام، قال ابن قدامه في المغني: السجود كله عند أحمد قبل السلام إلا في الموضعين اللذين ورد النص بسجودهما بعد السلام، وما عداهما يسجد له قبل السلام. (جـ) وذهب الإمام مالك والشافعي في قول له إلى التفرقة بين السهو بالزيادة والسهو بالنقص، فيسجد للزيادة بعد السلام وللنقص قبله. قال ابن عبد البر: وبهذا القول يصح استعمال الخبرين جميعًا، قال: واستعمال الأخبار على وجهها أولى من ادعاء النسخ، ومن جهة النظر والفكر الفرق بين الزيادة والنقص بين في ذلك، لأن السجود في النقصان إصلاح وجبر، ومحال أن يكون الإصلاح والجبر بعد الخروج من الصلاة، وأما السجود في الزيادة فإنما هو ترغيم للشيطان، وذلك ينبغي أن يكون بعد الفراغ. قال ابن العربي: مالك أسد قيلاً وأهدى سبيلاً. اهـ، وقال ابن دقيق العيد: لا شك أن الجمع أولى من الترجيح وادعاء النسخ، ويترجح الجمع المذكور بالمناسبة المذكورة، وإذا كانت المناسبة ظاهرة، وكان الحكم على وفقها كانت علة، فيعم الحكم جميع محالها، فلا تخصص إلا بنص اهـ وتعقب بأن كون السجود في الزيادة ترغيمًا للشيطان فقط ممنوع، بل جبر أيضًا لما وقع من الخلل، فإنه وإن كان زيادة فهو نقض وقصر في المعنى، وإنما سمى النبي صلى الله عليه وسلم سجود السهو ترغيمًا للشيطان في حالة الشك وليس في حالة الزيادة كما ذهب إليه المالكية. وقال الخطابي: لم يرجع من فرق بين الزيادة والنقصان إلى فرق صحيح، وأيضًا فقصة ذي اليدين وقع فيها السجود بعد السلام وهي عن نقصان، اهـ[يشير إلى روايتنا الخامسة عشرة]. (د) وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري -وحكى قولاً للشافعي: إن سجود السهو كله بعد السلام، واستدلوا بحديث ذي اليدين، روايتنا الخامسة عشرة وفيها "فصلى ركعتين وسلم، ثم كبر ثم سجد، ثم كبر فرفع، ثم كبر وسجد ثم كبر ورفع، وروايتنا السادسة عشرة، وفيها "فأتم ما بقي من الصلاة، ثم سجد سجدتين وهو جالس بعد التسليم" كما استدلوا بحديث عمران بن حصين، روايتنا التاسعة عشرة، وفيها "فصلى ركعة ثم سلم، ثم سجد سجدتين ... " وروايتنا المتممة للعشرين، وفيها "فصلى الركعة التي كان ترك، ثم سلم، ثم سجد سجدتي السهو ... "

كما احتجوا بما رواه الترمذي من حديث الشعبي قال: "صلى بنا المغيرة بن شعبة، فنهض في الركعتين، فسبح به القوم وسبح بهم، فلما صلى بقية صلاته سلم، ثم سجد سجدتي السهو وهو جالس ثم حدثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل بهم مثل الذي فعل" وبما رواه الطبراني من حديث محمد بن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس قال: "صليت خلف أنس بن مالك صلاة، فسها فيها، فسجد بعد السلام، ثم التفت إلينا وقال: أما إني لم أصنع إلا كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع" وبأحاديث أخرى في ابن خزيمة وأبي داود وابن ماجه وأحمد وعبد الرزاق والطبراني، وكلها أحاديث لا تقاوم الصحيح. كما استدلوا بحديث ابن مسعود - روايتنا التاسعة - وفيها أنه صلى الله عليه وسلم سجد بعد ما صلى خمسًا وسلم، وتعقب بأنه لم يعلم بزيادة الركعة إلا بعد السلام، حين سألوه، هل زيد في الصلاة؟ وقد اتفق العلماء في هذه الصورة على أن سجود السهو بعد السلام، لتعذره قبله، لعدم علمه بالسهو وإنما تابعه الصحابة -ولم يسجدوا للسهو قبل السلام - لتجويزهم الزيادة في الصلاة، لأنه كان في زمن توقع النسخ. وقال ابن خزيمة: لا حجة للعراقيين في حديث ابن مسعود، لأنهم خالفوه، فقالوا: إن جلس المصلي في الرابعة مقدار التشهد أضاف إلى الخامسة سادسة، ثم سلم، وسجد للسهو، وإن لم يجلس في الرابعة لم تصح صلاته، ولم ينقل في حديث ابن مسعود إضافة سادسة ولا إعادة، ولا بد من أحدهما عندهم. اهـ كما استدلوا بالزيادة الواردة في حديث ابن مسعود. وهي "إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه، ثم ليسلم، ثم يسجد سجدتين" ورد بأن هذا معارض بحديث أبي سعيد عند مسلم - روايتنا السابعة، وفيها "فليطرح الشك، وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم". (هـ) وذهب الشافعي في الجديد إلى أن سجود السهو كله قبل السلام واستدلوا بالأحاديث التي ذكر فيها السجود قبل السلام كالروايات الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والعاشرة، وبما جاء في الترمذي عن عبد الرحمن بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم "إذا سها أحدكم في صلاته فليسجد سجدتين قبل أن يسلم" وقال الترمذي. حسن صحيح. وما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة المروي في مسلم في الرواية الثانية من زيادة "فليسجد سجدتين قبل أن يسلم، ثم ليسلم" وما رواه الدارقطني من حديث ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا شك أحدكم في صلاته ... فإذا فرغ فلم يبق إلا التسليم فليسجد سجدتين وهو جالس ثم ليسلم". (و) وذهب إسحق بن راهويه إلى أنه يستعمل كل حديث كما ورد، وما لم يرد فيه شيء، فما كان نقصًا سجد له قبل السلام، وما كان زيادة فبعد السلام، قال الحافظ ابن حجر: فحرر إسحق مذهبه من قولي أحمد ومالك، وهو أعدل المذاهب فيما يظهر، اهـ هذه أهم المذاهب في موضع سجود السهو من الصلاة، ولو ذهبنا نرجح ونختار لطال بنا المقام، وتعرض قولنا للرد، ويكفي أن نرى بعض الشافعية يؤيدون المالكية، فنرى النووي يقول: أقوى المذاهب فيها قول مالك ثم أحمد وغيره، ويقول: بل طريق أحمد أقوى، لأنه قال: يستعمل كل حديث فيما ورد فيه، وما لم يرد فيه شيء يسجد قبل السلام. وقال: ولولا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في

ذلك لرأيته كله قبل السلام، ولأنه من شأن الصلاة فيفعله قبل السلام، اهـ ورأينا الخطابي يرد قول المالكية. وأخيرًا رجح البيهقي طريقة التخيير في سجود السهو قبل السلام أو بعده. ولو عرفنا حكم تقديم السجدتين على السلام أو تأخيرهما عنه لهان الأمر ووجدناها معركة في غير ميدان، أو زوبعة في فنجان، فقد نقل الماوردي وغيره الإجماع على جواز هذا أو ذاك، وإنما الخلاف في الأفضل، وكذا قال ابن عبد البر: إنه لا خلاف عن مالك أنه لو سجد للسهو كله قبل السلام أو بعده أن لا شيء عليه، وصرح صاحب الهداية بأن الخلاف عند الحنفية في الأولوية، نعم حكى إمام الحرمين في النهاية خلافًا في الإجزاء على المذهب الشافعي، وحكى القرطبي خلافًا في الإجزاء في مذهب المالكية، وحكى القدوري خلافًا في الإجزاء في مذهب الحنفية، قال الحافظ ابن حجر: ويمكن أن يقال: إن الإجماع الذي نقله الماوردي وغيره قبل هذه الآراء في المذاهب المذكورة، اهـ ويمكن أن يقال على هذا: إن المعتمد في المسألة أن الخلاف في الأولى والأفضل، والله أعلم. 4 - وسجود السهو مسنون كله عند الشافعية، وعند المالكية هو واجب للنقص دون الزيادة، وعند الحنابلة التفصيل بين الواجبات غير الأركان، فيجب السجود لتركها سهوًا، وبين السنن القولية فلا يجب، وكذا يجب إذا سها بزيادة فعل أو قول يبطلها عمده، وعند الحنفية واجب كله، وحجتهم قوله في حديث ابن مسعود "ثم ليسجد سجدتين" والأمر للوجوب وقد ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم، وأفعاله صلى الله عليه وسلم محمولة على البيان، وبيان الواجب واجب، لا سيما مع قوله "صلوا كما رأيتموني أصلي". أما كيفيته فقد وصفتها روايتنا الخامسة عشرة، وفيها "ثم كبر ثم سجد، ثم كبر فرفع، ثم كبر وسجد، ثم كبر ورفع" فهو سجدتان، فلو اقتصر على واحدة ساهيًا لم يلزمه شيء، أو عامدًا بطلت صلاته، لأنه تعمد الإتيان بسجدة زائدة ليست مشروعة. كذا عند الشافعية، وعند الحنفية لا شيء عليه لو اقتصر على سجدة واحدة ساهيًا أو عامدًا، قال العيني: كيف تبطل الصلاة إذا زاد فيها شيئًا من جنسها؟ اهـ. ونسأله ماذا يرى لو زاد ركعة عامدًا في أي صلاة؟ لو لم نقل بالبطلان لصلى المسلمون الثنائية ثلاثية، والثلاثية رباعية والرباعية خماسية عامدين، وانتهى التشريع الإلهي. والتكبير في سجدتي السهو مشروع بالإجماع كما هو في سجود الصلاة والجهر به كما في الجهر به في سجود الصلاة، وتكبير الصلوات كله سنة غير تكبيرة الإحرام، فهي ركن، وهو قول الجمهور، وعند أحمد والظاهرية أن تكبير الصلوات كله واجب. ولا خلاف أن سجود السهو الواقع قبل السلام لا يحتاج إلى تكبيرة إحرام إنما الخلاف في السجود الذي يقع بعد السلام، هل يشترط له تكبيرة الإحرام، أو يكتفى بتكبيرة السجود؟ قال الحافظ ابن حجر: الجمهور على الاكتفاء، وهو ظاهر غالب الأحاديث. وحكى القرطبي أن قول مالك لم يختلف في وجوب السلام بعد سجدتي السهو، قال: وما يتحلل منه بالسلام لا بد له من تكبيرة الإحرام. اهـ والجلوس بين سجدتي السهو مشروع، ولا خلاف فيه. ومن مجموع الأحاديث في هذا الباب يستفاد أنه لا تشهد بعد سجود السهو وهذا ما عليه الجمهور

إذا كان سجود السهو قبل السلام، فلا يعيد التشهد وحكى ابن عبد البر عن الليث أنه يعيده، وعن عطاء يتخير، واختلف فيه عند المالكية. أما من سجد بعد السلام فعند الحنفية يتشهد، وكذا عند أحمد وإسحق وبعض المالكية. ومستندهم إحدى الروايات في حديث عمران، وفيها "أن النبي صلى الله عليه وسلم سها فسجد سجدتين ثم تشهد، ثم سلم" لكن الترمذي قال عن هذا الحديث: حسن غريب، وقال الحاكم عنه: صحيح على شرط الشيخين، وضعفه البيهقي وابن عبد البر وغيرهما، فإن المحفوظ عن ابن سيرين في حديث عمران ليس فيه ذكر التشهد [روايتنا التاسعة عشرة، والعشرين] وروى السراج من طريق سلمة بن علقمة في هذه القصة: قلت لابن سيرين: في سجدتي السهو تشهد؟ قال: ليس في حديث أبي هريرة، وفي رواية قال: لم أسمع في التشهد شيئًا، لهذا قال ابن المنذر: لا أحسب التشهد في سجود السهو يثبت، لكن قد ورد التشهد في سجود السهو عن ابن مسعود عند أبي داود والنسائي، وعن المغيرة عند البيهقي، وفي إسنادهما ضعف. قاله الحافظ ابن حجر: أما السلام فلا شك في مشروعيته إذا كان سجود السهو قبل سلام الصلاة، أما إذا وقع سجود السهو بعد سلام الصلاة فالقائلون بمشروعية التشهد يقولون بالسلام غير النخعي، فإنه قال يتشهد ولا يسلم. والصحيح عند الشافعية أنه يسلم ولا يتشهد، وهكذا في سجود التلاوة كصلاة الجنازة، وقد ثبت السلام بسجدتي السهو إذا فعلتا بعد السلام في حديث ابن مسعود وحديث ذي اليدين. وعن أنس والشعبي والحسن وعطاء: ليس فيهما تشهد ولا تسليم. وجمهور من قال بالتسليم قال: يسلم ثنتين عن يمينه وشماله، وفي المحيط: يسلم واحدة عن يمينه كالجنازة، وقيل: يسلم تلقاء وجهه، فهما روايتان عن مالك. واستدل الشافعية بالروايات الرابعة والخامسة والسادسة على الاكتفاء بسجدتين للسهو في الصلاة، ولو تكرر السهو، من حيث إن الذي فات في هذه القصة الجلوس والتشهد الوسط، وكل منهما لو سها المصلي عنه على انفراده سجد لأجله، ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم سجد في هذه الحالة غير سجدتين. قال الحافظ ابن حجر: وتعقب هذا الاستدلال بأنه مبني على ثبوت مشروعية السجود لترك أي من التشهد الوسط والجلوس له، ولم يستدلوا على مشروعية ذلك بغير هذا الحديث، فيستلزم إثبات الشيء بنفسه. وفيه ما فيه وقد صرح في بقية الحديث بأن السجود مكان ما نسي من الجلوس. نعم حديث ذي اليدين دال لذلك. اهـ وروى ابن أبي شيبة عن النخعي والشعبي أن لكل سهو سجدتين قال الحافظ ابن حجر: وورد على وفقه حديث ثوبان عند أحمد وإسناده منقطع وروى البيهقي من حديث عائشة "سجدتا السهو تجزئان من كل زيادة ونقصان". 5 - (أ) وظاهر قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الثانية "فإذا لم يدر أحدكم كم صلى فليسجد سجدتين وهو جالس" يفيد أن ليس عليه إلا سجدتا السهو، وهذا يتعارض مع قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية السابعة "إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر كم صلى؟ ثلاثًا أم أربعًا؟ فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسًا شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتمامًا لأربع كانتا ترغيمًا للشيطان" ومع قوله في الرواية

الثامنة "وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه، ثم ليسجد سجدتين" فإن ظاهر الروايتين أن يبنى على اليقين ويكمل، حتى ولو صلى الرباعية خمسًا. وقد اختلف العلماء في فهم هذه الأحاديث وفي الأخذ ببعضها أو الجمع بينها، فنقل الطبري عن بعض أهل العلم أن للمصلي أن يأخذ بأيهما شاء، وقال الحسن البصري وطائفة من السلف بظاهر الرواية الثانية، وقالوا: إذا شك المصلي فلم يدر زاد أو نقص فليس عليه إلا سجدتان وهو جالس، عملاً بظاهر هذا الحديث، وقالوا: إن حديث أبي سعيد مختلف في وصله وإرساله، فيرجح حديث أبي هريرة. ورد هذا القول بأن حديث أبي سعيد وصله مسلم وصححه. والأخذ بالحديثين أولى من الترجيح. وقال مالك والشافعي وأحمد والجمهور: متى شك في صلاته، هل صلى ثلاثًا أو أربعًا لزمه البناء على اليقين فيجب أن يأتي برابعة ويسجد للسهو، عملاً بحديث أبي سعيد - روايتنا السابعة - عند أبي داود "إذا شك أحدكم في صلاته فليلق الشك، وليبن على اليقين، فإذا استيقن التمام سجد سجدتين، فإن كانت صلاته تامة كانت الركعة [التي زادها] نافلة والسجدتان، وإن كانت ناقصة كانت الركعة تمامًا لصلاته وكانت السجدتان مرغمتين للشيطان" أي مغيظتين له. قالت الشافعية: فحديث أبي سعيد هذا مفسر لحديث أبي هريرة -روايتنا الثانية - غير معارض له، إذ حديث أبي هريرة يذكر حكم كل ساه - بعد أن يرجع في حكم ما سها عنه إلى سائر الأحاديث الموضحة للحكم - فحكم كل ساه في نهاية أمره أن يسجد سجدتين. وقال بعضهم: إن حديث أبي هريرة فيما إذا طرأ عليه الشك وقد فرغ قبل أن يسلم. فإنه لا يلتفت إلى ذلك الشك، ويسجد للسهو، كمن طرأ عليه الشك بعد أن سلم، وحديث أبي سعيد فيمن طرأ عليه الشك قبل ذلك فيبنى على اليقين. قاله الحافظ ابن حجر: وقال: وعلى هذا فقوله في حديث أبي هريرة "وهو جالس" يتعلق بقوله "لم يدر" لا بقوله "فليسجد" انتهى بتصرف. وقال الحنفية: إن كان الشك عرض له أول مرة بطلت صلاته وأعاد لتقع صلاته على وصف الصحة بيقين [في إسناد هذا القول لأبي حنيفة نظر والظاهر أن كثيرًا من الحنفية لم يصرحوا بالبطلان، وطلبوا الإعادة على أنها الأفضل] وإن صار الشك عادة له اجتهد وعمل بغالب ظنه، وإن لم يظن شيئًا عمل بالأقل. وقد خالف الحنفية الجمهور في قولهم بالعمل على أكبر ظنه، وبه فسروا الأمر بطلب تحري الصواب في الرواية الثامنة وملحقاتها لكن مجموع الروايات في المسألة ضدهم، ففي الترمذي "إذا سها أحدكم في صلاته فلم يدر واحدة صلى أو اثنتين فليجعلها واحدة، وإذا شك في الثنتين والثلاث فليجعلها ثنتين وإذا شك في الثلاث والأربع فليجعلها ثلاثًا ثم ليتم ما بقي من صلاته، حتى يكون الوهم في الزيادة، ثم يسجد سجدتين وهو جالس قبل أن يسلم"، وأخرجه الحاكم في المستدرك، وفيه "فإن الزيادة خير من النقصان" وقال: صحيح الإسناد، ورواه الترمذي أيضًا، وقال: حسن صحيح. ولم يعمل جماعة بالحديثين، فقد قال الشعبي والأوزاعي وجماعة من السلف: إذا لم يدر كم

صلى لزمه أن يعيد مرة بعد أخرى أبدًا حتى يستيقن، وقال بعضهم: يعيد ثلاث مرات، فإذا شك في الرابعة فلا إعادة عليه، وبعضهم فرق بين المبتلى بالشك فيعمل بالتحري، وبين المبتدئ غير المبتلى فيعيد، وهذه أقوال لا يلتفت إليها وإن استندت إلى روايات ضعيفة. (ب) وظاهر حديث أبي هريرة عن ذي اليدين، في رواياته الخامسة عشرة والسادسة عشرة والسابعة عشرة والثامنة عشرة يتعارض مع حديث عمران بن حصين، في روايته التاسعة عشرة والمتممة للعشرين، إذ في روايات أبي هريرة أن التسليم كان من ركعتين، وفي روايتي عمران أن التسليم كان من ثلاث وفي الرواية الخامسة عشرة، وهي لأبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة أتى جذعًا في قبلة المسجد فاستند إليها، وفي رواية عمران أنه صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة دخل منزله ثم خرج يجر رداءه. من هذا التعارض جنح ابن خزيمة ومن تبعه إلى القول بتعدد الواقعة، لكن المحققين من المحدثين جنحوا إلى الجمع، فمن جهة الركعتين والثلاث فقد نقل الحافظ ابن حجر عن العلائي أن بعض شيوخه حمله على أن المراد به أنه سلم في ابتداء الركعة الثالثة، واستبعده. قال: ولكن طريق الجمع يكتفى فيه بأدنى مناسبة، وليس بأبعد من دعوى التعدد، فإنه يلزم منه كون ذي اليدين في كل مرة استفهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، واستفهم النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة عن صحة قوله. اهـ ولا يبعد عندي للجمع بين الحديثين أن نقول: إن عمران ربما كان قد سها في صلاته فلم يدر، فحسب أن الرسول صلى الله عليه وسلم سلم من ثلاث ثم أكملها بواحدة والحقيقة أنه سلم من ثنتين وأكملهما بثنتين. والله أعلم. وأما عن استناده صلى الله عليه وسلم إلى الجذع أو دخوله منزله عقب الصلاة فقد قال الحافظ ابن حجر في الجمع بينهما: لعل الراوي لما رآه تقدم من مكانه إلى جهة الخشبة ظن أنه دخل منزله لكون الخشبة كانت في جهة منزله. اهـ ولا يبعد عندي أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد استند إلى الجذع، ثم دخل منزله فأخبر بالنقص فجاء فأتم وسجد، وكل من أبي هريرة وعمران ذكر واقعة لم يتعرض لها الآخر، والقصة واحدة. والله أعلم. 6 - وفي سهو الأنبياء يقول النووي: في قوله صلى الله عليه وسلم "إنما أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني" دليل على جواز النسيان عليه صلى الله عليه وسلم في أحكام الشرع، وهو مذهب جمهور العلماء، وهو ظاهر القرآن والحديث، واتفقوا على أنه صلى الله عليه وسلم لا يقر عليه، بل يعلمه الله تعالى به، ثم قال الأكثرون: شرطه تنبهه صلى الله عليه وسلم على الفور متصلاً بالحادثة ولا يقع فيه تأخير، وجوزت طائفة تأخيره مدة حياته صلى الله عليه وسلم واختاره إمام الحرمين، وجوزت طائفة من العلماء السهو عليه صلى الله عليه وسلم في الأفعال البلاغية والعبادات، كما أجمعوا على منعه واستحالته عليه صلى الله عليه وسلم في الأقوال البلاغية، وأجابوا عن الظواهر الواردة في ذلك، وإليه مال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني،

والصحيح الأول، فإن السهو لا يناقض النبوة، وإذا لم يقر عليه لم يحصل منه مفسدة، بل تحصل فيه فائدة، وهو بيان أحكام الناسي، وتقرير الأحكام. قال القاضي: واختلفوا في جواز السهو عليه صلى الله عليه وسلم في الأمور التي لا تتعلق بالبلاغ وبيان أحكام الشرع من أفعاله وعاداته وأذكار قلبه، فجوزه الجمهور. ثم قال القاضي رحمه الله تعالى: والحق الذي لا شك فيه ترجيح قول من منع السهو على الأنبياء في خبر من الأخبار، كما لا يجوز عليهم خلف في خبر لا عمدًا ولا سهوًا، لا في صحة ولا في مرض، ولا رضاء ولا غضب، وحسبك في ذلك أن سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم وكلامه وأفعاله مجموعة معتني بها على مر الزمان، يتداولها الموافق والمخالف والمؤمن والمرتاب، فلم يأت في شيء منها استدراك غلط في قول، ولا اعتراف بوهم في كلمة، ولو كان لنقل كما نقل سهوه في الصلاة، ونومه عنها، واستدراكه رأيه في تلقيح النخل، وفي نزوله بأدنى مياه بدر، وقوله صلى الله عليه وسلم "والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا فعلت الذي هو خير وكفرت عن يميني" وغير ذلك، وأما جواز السهو في الاعتقادات في أمور الدنيا فغير ممتنع. اهـ وقال الحافظ ابن حجر: والحديث حجة لمن قال: إن السهو جائز على الأنبياء فيما طريقه التشريع، أما من منع السهو فأجابوا عن الحديث: بأن ما حصل منه صلى الله عليه وسلم كان متعمدًا، ليقع التشريع منه بالفعل، لكونه أبلغ من القول، فقوله "لم أنس ولم تقصر" كلام على ظاهره وحقيقته، ورد بما ورد في الرواية الثامنة من قوله صلى الله عليه وسلم "إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني" فأثبت العلة وقيد الحكم بقوله "إنما أنا بشر" ولم يكتف بإثبات وصف النسيان حتى دفع قول من عساه يقول: ليس نسيانه كنسياننا، دفع ذلك بقوله "كما تنسون". وقالوا: إن قوله صلى الله عليه وسلم "إني لا أنسى، ولكن أنسى لأسن" يدل على عدم النسيان منه، مما يؤكد أن ما حصل منه في سهو الصلاة كان متعمدًا. ورد بأن حديث "إني لا أنسى" لا أصل له، فإنه من بلاغات مالك التي لم توجد موصولة بعد البحث الشديد. قاله الحافظ ابن حجر. وقالوا: إن حديث "بئسما لأحدكم أن يقول: نسيت آية كذا وكذا" ينكر أن ينسب إليه صلى الله عليه وسلم النسيان، لأنه إذا نهى غيره عن أن ينسب النسيان إلى نفسه كان بالنسبة له أولى. ورد بأنه لا يلزم من ذم إضافة نسيان الآية ذم إضافة نسيان كل شيء، فإن الفرق بينهما واضح جدًا. قاله الحافظ ابن حجر. والحق جواز السهو، والحديث دليل لا يسهل رده. والله أعلم. -[7 - ويؤخذ من مجموعة أحاديث الباب فوق ما تقدم]- 1 - استدل بهرب الشيطان عند الأذان على فضل الأذان، حيث إن هذا الفضل لا ينال بغير الأذان، واعتبره أبو عوانة دليلاً على أن المؤذن في أذانه وإقامته منفي عنه الوسوسة والرياء لتباعد الشيطان منه. 2 - أن الوسوسة في الصلاة لا تبطلها، ولا طاقة للعبد في منعها، وإن أدت إلى نقصان الثواب.

3 - استدل بقيامه صلى الله عليه وسلم في الرواية الرابعة، وعدم عودته للتشهد الوسط أن التشهد الوسط ليس واجبًا، لأن سجود السهو لا ينوب عن الواجب، وقد ناب عنه. فليس بواجب. وممن قال بوجوبه الليث وإسحق وأحمد في المشهور، وهو قول للشافعي ورواية عند الحنفية. واحتج بعضهم لوجوبه بأن الصلاة فرضت أولاً ركعتين، وكان التشهد فيها واجبًا، فلما زيدت لم تكن الزيادة مزيلة لذلك الواجب، وأجيب بأن الزيادة لم تتعين في الركعتين الأخيرتين، بل يحتمل أن يكون هما الفرض الأول، والمزيد هما الركعتان الأوليان بتشهدهما، ويؤيده استمرار السلام بعد التشهد الأخير كما كان: قاله الحافظ ابن حجر. وجمهور الفقهاء على أن من نسي التشهد الوسط وقام لا يرجع إلى الجلوس إن استتم قائمًا، وقالت طائفة: إذا فارقت إليته الأرض لا يرجع، فإن رجع قيل: بطلت صلاته، وقيل: لا تبطل. 4 - استدل بقيام الناس معه صلى الله عليه وسلم تاركين التشهد الوسط على أن متابعة الإمام عند القيام من هذا الجلوس واجبة. 5 - استدل أبو حنيفة بقوله في الرواية الرابعة "فلما قضى صلاته ونظرنا تسليمه" على أن السلام ليس من الصلاة، حتى لو أحدث بعد أن جلس وقبل أن يسلم صحت صلاته، وتعقب بأن السلام لما كان للتحليل من الصلاة كان المصلي إذا انتهى إليه كمن فرغ من صلاته، ويدل على ذلك رواية ابن ماجه "حتى إذا فرغ من الصلاة إلا أن يسلم" فدل أن بعض الرواة حذف الاستثناء لوضوحه، والزيادة من الحافظ مقبولة. 6 - يؤخذ من قوله في الرواية الخامسة "وسجدهما الناس معه مكان ما نسي من الجلوس" أن المؤتم يسجد مع إمامه لسهو الإمام، وقد ذهب الحنفية والشافعية إلى أن المؤتم يسجد لسهو الإمام ولا يسجد لسهو نفسه. 7 - كما يؤخذ منه أن السجود خاص بالسهو، فلو تعمد ترك شيء مما يجبر بالسجود لا يسجد، وهو قول الجمهور، ورجحه الغزالي وجماعة من الشافعية. 8 - يؤخذ من الرواية الثانية أن الإمام يرجع لقول المأمومين في أفعال الصلاة ولو لم يتذكر، وبه قال مالك وأحمد وغيرهما، ومنهم من قيده بما إذا كان الإمام مجوزًا لوقوع السهو منه، بخلاف ما إذا كان متحققًا لخلاف ذلك ومن حجتهم قوله في حديث ابن مسعود "فإذا نسيت فذكروني" وذهب الشافعية إلى أنه لا يجوز للمصلي الرجوع في قدر صلاته إلى قول غيره، إمامًا كان أو مأمومًا، ولا يعمل إلا على يقين نفسه، ويجيبون عن الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذي اليدين سألهم ليتذكر، فلما ذكروه تذكر فعلم السهو، فبنى عليه، لا أنه رجع إلى مجرد قولهم، ولو جاز ترك يقين نفسه والرجوع إلى قول غيره لرجع ذو اليدين حين قال النبي صلى الله عليه وسلم "لم تقصر ولم أنس". وفرق بعضهم بين ما إذا كان المخبرون ممن يحصل العلم بخبرهم فيقبل ويقدم على ظن الإمام أنه كمل الصلاة، بخلاف غيرهم. 9 - يؤخذ من قوله في الرواية الثامنة "إنه لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكم به" أن البيان لا يؤخر عن وقت الحاجة.

10 - ومن قوله "فإذا نسيت فذكروني" يؤخذ أمر التابع بتذكير المتبوع بما ينساه. 11 - قال الحافظ ابن حجر: واستدل به أن من صلى خمسًا ساهيًا ولم يجلس في الرابعة أن صلاته لا تفسد خلافًا للكوفيين، وقولهم يحمل على أنه قعد في الرابعة يحتاج إلى دليل، بل السياق يرشد إلى خلافه، وأن الزيادة في الصلاة على سبيل السهو لا تبطلها، خلافًا لبعض المالكية إذا كثرت، وقيد بعضهم الزيادة بما يزيد على نصف الصلاة. 12 - وأن من لم يعلم بسهوه إلا بعد السلام يسجد للسهو، فإن طال الفصل فالأصح عند الشافعية أنه يفوت محله، واحتج له بعضهم من هذا الحديث بتعقيب إعلامهم لذلك بالفاء، وتعقيبه السجود أيضًا بالفاء. 13 - وأن الكلام العمد فيما يصلح به الصلاة لا يفسدها، وفيه نظر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلم إلا ناسيًا وأما كلام ذي اليدين والصحابة فجوابه في المأخذ الثامن عشر، وقد مر تفصيل الكلام في هذه المسألة قبل أبواب. 14 - وأن من تحول عن القبلة ساهيًا لا إعادة عليه. 15 - وفيه إقبال الإمام على الجماعة بعد الصلاة. 16 - ومن توشوش القوم يؤخذ ما كان عليه الصحابة من عظيم الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. 17 - ومن قوله "فهابا أن يكلماه" زيادة التوقير والاحترام والتقدير والهيبة من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم. 18 - وأن العمل الكثير والخطوات إذا كانت سهوًا في الصلاة لا تبطلها كما لا يبطلها الكلام سهوًا، خلافًا للحنفية، وأما قول بعضهم: إن قصة ذي اليدين كانت قبل نسخ الكلام في الصلاة فبعيدة، فقد ثبت شهود أبي هريرة وعمران بن حصين للقصة، وإسلامهما متأخر. وقال ابن بطال: يحتمل أن يكون قول زيد بن أرقم "ونهينا عن الكلام" أي إلا إذا وقع سهوًا، أو عمدًا لمصلحة الصلاة، فلا يعارض قصة ذي اليدين، اهـ قاله النووي: فإن قيل: كيف تكلم ذو اليدين والقوم، وهم بعد في الصلاة؟ فجوابه من وجهين: أحدهما أنهم لم يكونوا على يقين من البقاء في الصلاة، لأنهم كانوا مجوزين نسخ الصلاة من أربع إلى ركعتين، ولهذا قال: أقصرت الصلاة أم نسيت؟ والثاني أن هذا كان خطابًا للنبي صلى الله عليه وسلم وجوابًا، وذلك لا يبطل الصلاة عندنا وغند غيرنا، والمسألة مشهورة بذلك، وفي رواية لأبي داود بإسناد صحيح "أن الجماعة أومئوا - أي نعم" فعلى هذه الرواية لم يتكلموا. اهـ 19 - وفيه جواز البناء على الصلاة لمن أتى بالمنافي سهوًا، قال سحنون: إنما يبني من سلم من ركعتين، كما في قصة ذي اليدين، لأن ذلك وقع على غير القياس، فيقتصر فيه على مورد النص، وألزم بقصر ذلك على إحدى صلاتي العشى، فيمنعه مثلاً في الصبح، والذين قالوا: يجوز البناء مطلقًا قيدوه بما إذا لم يطل الفصل، واختلفوا في قدر الطول، فحده الشافعي في الأم بالعرف، وفي البويطي بقدر ركعة، وعن أبي هريرة قدر الصلاة التي يقع فيها السهو. 20 - وفيه أن الباني لا يحتاج إلى تكبيرة الإحرام.

21 - وأن السلام ونية الخروج من الصلاة سهوًا لا يقطع الصلاة. 22 - وفي قوله "أقصرت الصلاة أم نسيت" دليل على ورع الصحابة، إذ لم يجزموا بوقوع شيء بغير علم. 23 - وفيه جواز التعريف باللقب "ذي اليدين". 24 - وفيه العمل بالاستصحاب، وأن الأصل بقاء الأحكام على ما قررت عليه، لأن ذا اليدين استصحب حكم الإتمام، فسأل، مع كون أفعال النبي صلى الله عليه وسلم للتشريع، والأصل عدم السهو، والوقت قابل للنسخ، وبقية الصحابة ترددوا بين الاستصحاب وتجويز النسخ فسكتوا، والسرعان هم الذين بنوا على النسخ فجزموا بأن الصلاة قصرت، وخرجوا يرددون ذلك. 25 - وفيه أن الثقة إذا انفرد بزيادة خبر، وكان المجلس متحدًا، أو منعت العادة غفلتهم عن ذلك أن لا يقبل خبره، قاله الحافظ ابن حجر، وفيه نظر، لأن سبب عدم القطع به كونه عارض اعتقاد المسئول، فأحدث شكا دفع إلى سؤال الصحابة، وليس في ذلك رد خبر الثقة إذا انفرد بحضرة جمع لا يخفى عليهم الحال، بل يقبل ما داموا لم يكذبوه. 26 - واستدل به بعضهم على الترجيح بكثرة الرواة، وتعقبه ابن دقيق العيد بأن المقصود كان تقوية الأمر المسئول عنه، لا ترجيح خبر على خبر. 27 - واستدل به الحنفية على أن الهلال لا يقبل بشهادة الآحاد إذا كانت السماء مصحية بل لا بد فيه من عدد الاستفاضة، وتعقب بأن سبب الاستثبات كونه أخبر عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم، بخلاف رؤية الهلال. 28 - ويؤخذ من الحديث أن المرفوع في حديث "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" إنما هو إثم الخطأ والنسيان وحكمهما، خلافًا لمن قصره على الإثم. 29 - استدل بالرواية الأولى، وفيها "إن أحدكم إذا قام يصلي جاءه الشيطان، فلبس عليه حتى لا يدري كم صلى، فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس" استدل به على أن سجود السهو في الفرض والتطوع لا يفترق حكمه، وهو مذهب الجمهور، إذ المراد من الصلاة الصلاة الشرعية وهي أعم من الفرض والتطوع. قال الحافظ ابن حجر: فإن قيل: إن قوله في الرواية الثانية "إذا نودي بالأذان أدبر .... فإذا ثوب بها أدبر" قرينة على أن المراد الفريضة، وأجيب بأن ذلك لا يمنع من تناول النافلة، لأن الإتيان بها حينئذ مطلوب، لقوله صلى الله عليه وسلم "بين كل أذانين صلاة". والله أعلم

(214) باب سجود التلاوة

(214) باب سجود التلاوة 1105 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن فيقرأ سورة فيها سجدة فيسجد ونسجد معه حتى ما يجد بعضنا موضعًا لمكان جبهته. 1106 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ربما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن فيمر بالسجدة فيسجد بنا حتى ازدحمنا عنده حتى ما يجد أحدنا مكانًا ليسجد فيه في غير صلاة. 1107 - عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ: والنجم. فسجد فيها. وسجد من كان معه. غير أن شيخًا أخذ كفًا من حصى أو تراب فرفعه إلى جبهته وقال يكفيني هذا. قال عبد الله: لقد رأيته بعد قتل كافرًا. 1108 - عن عطاء بن يسار أنه سأل زيد بن ثابت عن القراءة مع الإمام فقال: لا قراءة مع الإمام في شيء وزعم أنه قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم والنجم إذا هوى فلم يسجد. 1109 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قرأ لهم {إذا السماء انشقت} فسجد فيها فلما انصرف أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها. 1110 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سجدنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في إذا السماء انشقت واقرأ باسم ربك.

1111 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في إذا السماء انشقت واقرأ باسم ربك. 1112 - عن أبي رافع قال: صليت مع أبي هريرة صلاة العتمة فقرأ: إذا السماء انشقت فسجد فيها. فقلت له ما هذه السجدة؟ فقال: سجدت بها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه. وقال ابن عبد الأعلى فلا أزال أسجدها. 1113 - عن التيمي بهذا الإسناد غير أنهم لم يقولوا خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم. 1114 - عن أبي رافع قال: رأيت أبا هريرة يسجد في إذا السماء انشقت فقلت تسجد فيها؟ فقال: نعم. رأيت خليلي صلى الله عليه وسلم يسجد فيها فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه. قال شعبة قلت: النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. -[المعنى العام]- السجود رمز للعبودية والخضوع، رمز للطاعة للخالق جل شأنه، آية على الاعتراف بألوهيته، والاستجابة لأمره، كان الاستنكاف عنه سببًا في طرد إبليس من الجنة، وحرمانه من الرحمة، والغضب عليه ولعنته إلى يوم الدين، وكان أداؤه من المسلم غيظًا للشيطان وإذلالاً له، فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويلاه. أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار". وكان السجود لله والصلاة له دعوة الأنبياء والمرسلين، وكان الركن الوحيد المكرر مرتين في كل ركعة من صلاتنا، وكان أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، وكان موطن الدعاء وأمل الإجابة، وكان أن طلبه الله من قارئي القرآن ومستمعيه في خمسة عشر موضعًا من القرآن، وكان أن شرع الله السجود عند التلاوة والسماع، ليزداد القارئ والسامع تقربًا إلى بارئهم ومن من المسلمين يدعى إلى التقرب من المنعم وفضله ثم لا يستجيب؟ .

لقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته سجود التلاوة، فكان يقرأ آية السجدة أمامهم فيسجد ويسجدون معه، بل دعا المشركين إلى السجود حين تلا عليهم سورة النجم فسجدوا مع المسلمين، حتى لم يجد أحدهم مكانًا لوضع جبهته على الأرض من كثرة الزحام، وحتى لم يمتنع أحد من المشركين من السجود إلا شيخًا من كبار كفارهم استكبر أن يضع جبهته على الأرض، فأخذ منها كفًا من حصى وتراب ووضع عليه جبهته، وقال: يكفيني هذا علامة على استجابتي، فلم يقبل الله منه، وظل على ضلاله وشركه حتى مات كافرًا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يترك المواظبة على فعل المستحب بيانًا للفرق بينه وبين الواجب، وخشية أن تؤدي المواظبة إلى أن يفرض المستحب فتعجز الأمة عن الوفاء ويكون فيه حرج عليها. من هنا خفي على بعض الصحابة بعض مواطن السجود، فظن الموطن غير موطن، وعلم الملازمون حكمة أفعاله صلى الله عليه وسلم وغالب أموره، فتمسكوا بها ودعوا إليها، ومنهم أبو هريرة رضي الله عنه، حيث التزم السجود في سجدات المفصل، وفي الانشقاق والعلق اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم. فرضي الله عن أبي هريرة وعن الصحابة أجمعين، ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين. -[المباحث العربية]- (حتى ما يجد بعضنا موضعًا لمكان جبهته) لعل هذه القراءة كانت في حالات الدرس، حينما تكون الحلقة قائمة أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم جلوس متضامون للقرب منه صلى الله عليه وسلم. (ربما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال ابن هشام في مغني اللبيب: رب حرف جر خلافًا للكوفيين في دعوى أسميته، وإذا زيدت "ما" بعدها فالغالب أن تكفها عن العمل وأن تهيئها للدخول على الجمل الفعلية، وليس معناها التقليل دائمًا خلافًا للأكثرين، ولا التكثير دائمًا خلافًا لجماعة. اهـ والظاهر أنها هنا للتكثير. (فيمر بالسجدة) أي بآية السجدة. (فيسجد بنا) قال النووي: معناه يسجد ونسجد معه، كما في الرواية الأولى. (حتى ازدحمنا عنده) أي لضيق المكان وكثرة الساجدين. (أنه قرأ "والنجم") أي سورة {والنجم إذا هوى} (فسجد فيها) أي بعد ما قرأ قوله تعالى في آخر السورة: {فاسجدوا لله واعبدوا} [النجم: 62]. (غير أن شيخًا أخذ كفًا من حصا) سماه البخاري في تفسير سورة النجم أمية بن خلف، ووقع في سير ابن إسحاق أنه الوليد بن المغيرة، وفيه نظر، لأنه لم يقتل، وقيل: عتبة بن ربيعة، وفي المصنف بسند صحيح "عن أبي هريرة قال: سجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في النجم إلا رجلين، أرادا

بذلك الشهرة" ويمكن أن يجمع بأن عبد الله بن مسعود يحكي عما رأى، وقد رأى أمية بن خلف، ولكثرة الزحام لم ير غيره، ورأى آخرون من ورد ذكرهم. فلا تنافي. (فرأيته بعد قتل كافرًا) "بعد" بضم الدال، أي بعد ذلك في بدر، والرائي عبد الله بن مسعود. (عن القراءة مع الإمام) أي قراءة المأموم في الجماعة في وقت قراءة الإمام أو بعده، وهل المراد الفاتحة أو السورة؟ سيأتي الحكم في فقه الحديث. (وزعم أنه قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم {والنجم إذا هوى} فلم يسجد) أي قرأ السورة حتى آخرها وفيها آية السجدة، والمراد من الزعم الإخبار، والمقصود وأخبر أنه قرأ. والزعم يطلق على المحقق قليلاً، وعلى المشكوك فيه كثيرًا، ويطلق على الكذب، وينزل في كل موضع على ما يليق به. (صليت مع أبي هريرة صلاة العتمة) أي صلاة العشاء، لأنها تكون في العتمة وظلمة الليل. (ما هذه السجدة) التي سجدت بها في الصلاة؟ . (فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه) بالقاف، أي حتى أموت. -[فقه الحديث]- في حكم سجود التلاوة يقول الإمام النووي: وقد أجمع العلماء على مشروعية سجود التلاوة، وهو عندنا وعند الجمهور سنة، ليس بواجب، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه واجب ليس بفرض على اصطلاحه في الفرق بين الواجب والفرض، وهو سنة للقارئ والمستمع له، ويستحب أيضًا للسامع الذي لا يسمع [أي للسامع عرضًا الذي لا يتسمع ولا يقصد السماع] لكن لا يتأكد في حقه تأكده في حق المستمع المصغي. اهـ. وحاصل المذاهب في حكم سجود التلاوة وأدلتهم أن مذهب الشافعي ومالك في أحد قوليه، وأحمد وداود أنه سنة، وعند المالكية خلاف في كونه سنة أو فضيلة. وقد احتج أصحاب هذا المذهب: (1) بما رواه البخاري عن ربيعة بن عبد الله التيمي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل، حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد، وسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها، حتى إذا جاء السجدة قال: يا أيها الناس. إنا نمر بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه، ولم يسجد عمر رضي الله عنه. وفي رواية "فمن سجد فقد أصاب السنة" والسنة إذا أطلقت يراد بها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي رواية الترمذي "ثم قرأها في الجمعة الثانية، فتهيأ الناس للسجود فقال: إنها لم تكتب علينا إلا أن نشاء فلم يسجد، ولم يسجدوا". وفي رواية البيهقي "ثم قرأ يوم الجمعة الأخرى، فتهيئوا للسجود، فقال عمر: على رسلكم. إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء، وقرأها ولم يسجد ومنعهم". فقوله "ومن لم يسجد فلا إثم عليه" دليل على عدم الوجوب، وقوله "إلا أن نشاء" دليل على أن المرء مخير في السجود، فيكون ليس بواجب. ثم قالوا: إن عمر قال هذا القول والصحابة حاضرون، ولم ينكر عليه أحد والإجماع السكوتي حجة عند الجمهور. (2) كما احتجوا بحديث زيد بن ثابت [روايتنا الرابعة] وفيها أنه قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم {والنجم إذا هوى} فلم يسجد" ولفظ البخاري عن زيد قال: "قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم "والنجم" فلم يسجد فيها". (3) وبحديث الأعرابي "هل على غيرها؟ قال: لا: إلا أن تطوع" متفق عليه. (4) وبما رواه البخاري معلقًا، وقال: قال سلمان: ما لهذا غدونا، ووصله ابن أبي شيبة عن أبي عبد الرحمن قال: دخل سلمان الفارسي المسجد وفيه قوم يقومون، فقرءوا سجدة فسجدوا، فقال له صاحبه: يا أبا عبد الله لو أتينا هؤلاء؟ فقال: ما لهذا غدونا. وذهب أبو حنيفة إلى وجوبها على التالي والسامع سواء قصد السماع أو لم يقصد، واستدل له صاحب الهداية بما روي "السجدة على من سمعها، السجدة على من تلاها" ثم قال: "على" للإيجاب، ورد بأن هذا الحديث لم يثبت. واستدل أيضًا بالآيات {فما لهم لا يؤمنون وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون} [الانشقاق: 20، 21] {فاسجدوا لله واعبدوا} [النجم: 62]. {واسجد واقترب} [العلق: 19] وقالوا: الذم لا يتعلق إلا بترك واجب، والأمر في الآيتين للوجوب. والأمر هين في هذا الخلاف، فبعد أن عرفنا أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في مواضع السجود عرفنا أن السجود مشروع مؤكد وما يطلق عليه الحنفية لفظ الواجب قريب من السنة المؤكدة، والكل مجمع على أنه ليس بفرض، فقد روى البخاري "زاد نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: إن الله لم يفرض السجود إلا أن نشاء"، وما كان الصحابة يفرقون بين الواجب والفرض، والتفرقة هنا اصطلاح للحنفية، فيمكن حمل قولهم بالوجوب على السنة المؤكدة. والله أعلم. أما مواضع السجود في القرآن فخمسة عشر موضعًا على خلاف في بعضها سيأتي: 1 - بعد آخر آية في سورة الأعراف، بعد قوله تعالى: {إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون}

2 - بعد الآية (15) الخامسة عشرة من سورة الرعد، بعد قوله تعالى: {ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعًا وكرهًا وظلالهم بالغدو والآصال} 3 - بعد الآية (50) الخمسين من سورة النحل، بعد قوله تعالى: {ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون * يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون} 4 - بعد الآية (109) التاسعة بعد المائة من سورة الإسراء (بني إسرائيل) بعد قوله تعالى: {قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدًا * ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعًا).} 5 - بعد الآية (58) الثامنة والخمسين من سورة مريم بعد قوله تعالى: {أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدًا وبكيًا).} 6 - بعد الآية (18) الثامنة عشرة من سورة الحج، بعد قوله تعالى: {ألم ترى أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء} 7 - بعد الآية (77) السابعة والسبعين من سورة الحج أيضًا، بعد قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون} وفيها خلاف سيأتي. 8 - بعد الآية (60) الستين من سورة الفرقان، بعد قوله تعالى {وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورًا} 9 - بعد الآية (26) السادسة والعشرين من سورة النمل، بعد قوله تعالى: {ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون * الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم} هذا هو الصواب عند الشافعية، وبه قال مالك. وقيل بعد الآية الخامسة والعشرين، بعد قوله تعالى: {ويعلم ما تخفون وما تعلنون} 10 - بعد الآية (15) الخامسة عشرة من سورة السجدة "الم تنزيل" بعد قوله تعالى: {إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدًا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون} 11 - بعد الآية (24) الرابعة والعشرين من سورة (ص) بعد قوله تعالى: {قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرًا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعًا وأناب} وفي هذه السجدة خلاف سيأتي. 12 - بعد الآية (38) الثامنة والثلاثين من سورة فصلت "حم تنزيل" بعد قوله تعالى: {ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه

تعبدون فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون} بهذا قطع أكثر الشافعية وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد، ومذهب مالك وأكثر الشافعية أن السجدة بعد الآية (37) السابعة والثلاثين، بعد قوله تعالى: {إن كنتم إياه تعبدون} 13 - وثلاث سجدات في المفصل على خلاف سيأتي: إحداها: بعد آخر آية من سورة النجم، بعد قوله تعالى: {أفمن هذا الحديث تعجبون، وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون فاسجدوا لله واعبدوا} 14 - ثانيتها: بعد الآية (21) الحادية والعشرين من سورة الانشقاق، بعد قوله تعالى: {فما لهم لا يؤمنون وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون} 15 - ثالثتها: بعد الآية الأخيرة من سورة العلق "اقرأ" بعد قوله تعالى: {كلا لا تطعه واسجد واقترب} وقد اتفق العلماء من هذه المواضع على عشرة، واختلفوا في خمسة على النحو التالي: 1 - ثانية الحج، المرقمة عندنا برقم (7) بعد قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم ... } أثبتها الشافعية ومالك وأحمد وداود، قال ابن المنذر: قال أبو إسحق [يعني السبيعي التابعي الكبير] أدركت الناس منذ سبعين سنة يسجدون في الحج سجدتين" قال ابن المنذر: وبإثباتها أقول. اهـ. قال النووي في المجموع: والعمدة في السجدة الثانية في الحج حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه قال "أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة سجدة في القرآن" منها ثلاث في المفصل، وفي الحج سجدتان، رواه أبو داود والحاكم بإسناد حسن وأما حديث عقبة بن عامر قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: في الحج سجدتان" قال: نعم، ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما" فرواه أبو داود والترمذي وقالا: ليس إسناده بالقوي وفيه ابن لهيعة وهو متفق على ضعف روايته. اهـ. وأسقط هذا الموضع من السجدات أبو حنيفة رضي الله عنه، وحكى ابن المنذر هذا الرأي عن سعيد بن جبير والحسن البصري والنخعي. ولعلهم يحملون السجود المأمور به في الآية على سجود الصلاة لقرنه بالركوع. والله أعلم. 2 - سجدة "ص" المرقمة عندنا برقم (11) بعد قوله تعالى: {وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعًا وأناب} والمنصوص عند الشافعية وبه قطع جمهورهم أن سجدة "ص" سجدة شكر، وليست سجدة تلاوة، وجمهور العلماء على أنها سجدة تلاوة لحديث عمرو بن العاص السابق، والذي عد في القرآن خمس عشرة سجدة، فقرنها بسجدات التلاوة، فهي منها ويحتج جمهور الشافعية بما رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، فقرأ "ص" فلما مر بالسجدة تهيأنا للسجود فلما رآنا قال: إنما هي توبة نبي. ولكن قد

استعددتم للسجود، فنزل وسجد" وبما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "سجدها نبي الله داود توبة، وسجدناها شكرًا" رواه النسائي والبيهقي وضعفه. وأثبتها سجدة تلاوة أبو حنيفة، وعن مالك روايتان أشهرهما إسقاطها، وعن أحمد روايتان أشهرهما إثباتها. 3 - سجدة النجم المرقمة عندنا برقم (13) بعد قوله تعالى: {فاسجدوا لله واعبدوا} وقد احتج مالك في المشهور عنه بحديث زيد بن ثابت [روايتنا الرابعة] وفيه "أنه قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم " {والنجم إذا هوى} فلم يسجد" على أنه لا سجود في النجم، كما احتج بحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة" على أن لا سجود في المفصل، ومنها النجم. قال النووي: وهذا مذهب ضعيف. اهـ والجمهور على إثبات سجدة النجم، وقالوا في حديث زيد بن ثابت: إنه محمول على بيان جواز ترك السجود، وأنه سنة ليس بواجب. يؤيد هذا حديث عبد الله بن مسعود [روايتنا الثالثة] وفيه "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ "والنجم" فسجد فيها وسجد من كان معه" قال الحافظ ابن حجر ويحتمل "أن يكون المنفي في حديث ابن عباس المواظبة على ذلك، لأن المفصل تكثر قراءته في الصلاة، فترك السجود فيه كثيرًا لئلا تختلط الصلاة على من لم يفقه، وقال ابن القصار: الأمر بالسجود في النجم ينصرف إلى الصلاة، ورد بفعله صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الرواية الثانية، وزعم بعضهم أن عمل أهل المدينة استمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم على ترك السجود فيها، وفيه نظر لما رواه الطبراني بإسناد صحيح عن عمر أنه قرأ والنجم في الصلاة فسجد فيها، ثم قام فقرأ. اهـ 4 - ، 5 - سجدة {إذا السماء انشقت} المرقمة عندنا برقم (14) وسجدة العلق المرقمة برقم (15) وقد أسقطهما الإمام مالك في المشهور عنه، كما أسقط سجدة النجم بدعوى أن سجدات المفصل منسوخة بحديث زيد بن ثابت سابق الذكر، أو بحديث ابن عباس سابق الذكر أيضًا. قال النووي: وهذا مذهب ضعيف، فقد ثبت حديث أبي هريرة رضي الله عنه [روايتنا الخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتاسعة] وفيه السجود في "إذا السماء انشقت" و"أقرأ" قال: وقد أجمع العلماء على أن إسلام أبي هريرة رضي الله عنه كان سنة سبع من الهجرة فدل على السجود في المفصل بعد الهجرة، وأما حديث ابن عباس فضعيف الإسناد، لا يصح الاحتجاج به. اهـ وقد سبق تأويل حديث زيد بن ثابت للجمع بينه وبين حديث أبي هريرة. وتلخص من هذا العرض أن الصحيح من مذهب الشافعية أن سجدات التلاوة في القرآن أربع عشرة، فأسقطوا سجدة "ص". وعند الحنفية هي أربع عشرة. لكنهم أسقطوا ثانية الحج، وأثبتوا "ص". وعن مالك روايتان. إحداهما أربع عشرة بإسقاط "ص" كالشافعية وأشهرهما أنها إحدى عشرة فأسقط كذلك سجدات المفصل الثلاث.

وعن أحمد روايتان. إحداهما أربع عشرة بإسقاط "ص" كالشافعية، والثانية خمس عشرة فأثبت "ص" وثانية الحج والمفصل. وفي سبب سجود التلاوة وموجبه قال النووي في المجموع: سجود التلاوة سنة للقارئ والمستمع بلا خلاف [عند الشافعية] وسواء كان القارئ في صلاة أم لا، وفي وجه شاذ ضعيف لا يسجد المستمع لقراءة مصل غير إمامه وسواء سجد القارئ أم لم يسجد، هذا هو الصحيح، وقيل: لا يسن له السجود إذا لم يسجد القارئ، ولو استمع إلى قراءة محدث أو كافر أو صبي فالصحيح استحباب السجود، وهذا قول أبي حنيفة، وأما السامع بدون استماع ولا إصغاء ففيه ثلاثة أوجه، الصحيح أنه يستحب له، ولا يتأكد في حقه تأكده في حق المستمع، والثاني أنه كالمستمع، والثالث لا يسن له السجود. ثم قال: ويكره للمصلي الإصغاء إلى قراءة غير إمامه، فإن سمع لم يجز له السجود، فإن سجد بطلت صلاته، وإذا سجد الإمام لزم المأمور السجود معه، فإن لم يسجد بطلت صلاته، ولو لم يسجد الإمام لم يسجد المأموم، فإن خالف وسجد بطلت صلاته، ويستحب أن يسجد بعد سلامه، ولا يتأكد، ولو سجد الإمام ولم يعلم المأموم حتى رفع الإمام رأسه من السجود لا تبطل صلاة المأموم، لأنه تخلف بعذر، ولكن لا يسجد، فلو علم والإمام في السجود لزمه السجود، ولو هوى المأموم ليسجد مع الإمام، فرفع الإمام والمأموم في الهوي رفع معه ولم يسجد بخلاف سجود الصلاة فإنه لا بد أن يأتي به وإن رفع الإمام، لأنه فرض. ثم قال: ويكره للمأموم قراءة السجدة فلو سجد لقراءة نفسه بطلت صلاته. اهـ وقال العيني: قال بعض أصحابنا: لا خلاف في كون التلاوة سببًا، وإنما الاختلاف في سببية السماع، فقال بعضهم: هو سبب، وقال بعضهم ليس السماع بسبب. اهـ وفي كيفية وشروط سجود التلاوة قال النووي: قال أصحابنا: حكم سجود التلاوة في الشرط حكم صلاة النفل، فيشترط فيه الطهارة عن الحدث والنجس وستر العورة واستقبال القبلة ودخول وقت السجود، بأن يكون قد قرأ الآية أو سمعها، فلو سجد قبل الانتهاء إلى آخر آية السجدة ولو بحرف واحد لم يجز. وهذا كله لا خلاف فيه عندنا. اهـ قال البخاري: "وكان ابن عمر يسجد على غير وضوء" قال الحافظ ابن حجر: لم يوافق ابن عمر على جواز السجود بلا وضوء إلا الشعبي. اهـ وقال البخاري: قال الزهري: "لا تسجد إلا أن تكون طاهرًا فإذا سجدت وأنت في حضر فاستقبل القبلة، وإن كنت راكبًا فلا عليك حيث كان وجهك". ثم قال النووي: وينبغي أن يسجد عقب قراءة السجدة أو استماعها، فإن أخر وقصر الفصل سجد، وإن طال فاتت. وهل يقضي؟ قولان. أظهرهما لا يقضي. ثم قال: فإن سجد للتلاوة في الصلاة لم يكبر للافتتاح، لأنه متحرم بالصلاة لكن يستحب أن يكبر في الهوي إلى السجود، ولا يرفع يديه، لأن اليد لا ترفع في الهوي إلى السجود، ويكبر عند رفعه رأسه من السجود، كما يفعل في سجدات الصلاة، وهذا التكبير سنة ليس بشرط، وقيل: لا يستحب التكبير

للهوي ولا للرفع، وهو ضعيف شاذ، وإذا رفع رأسه من السجود قام ولا يجلس للاستراحة، فإذا قام استحب أن يقرأ شيئًا ثم يركع، فإن انتصب قائمًا، ثم ركع بلا قراءة جاز، ولا خلاف في وجوب الانتصاب قائمًا، فإن قام من السجود إلى وضع الركوع ولم ينتصب لم يجز، لأن الهوي إلى الركوع من القيام واجب. وإن كان في غير صلاة كبر للإحرام، ويرفع يديه في هذه التكبيرة حذو منكبيه كما يفعل في تكبيرة الإحرام في الصلاة، ثم يكبر تكبيرة أخرى للهوي من غير رفع يديه، وتكبيرة الهوي مستحبة، وتكبيرة الإحرام شرط على الصحيح، وقيل: مستحبة، وهل يستحب لمن أراد سجود التلاوة وهو جالس أن يستوي قائمًا فينوي ويكبر؟ الأصح أنه لا يستحب. ويستحب أن يقول في سجوده ما مدحه القرآن {سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا} [الإسراء: 108] سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره بحوله وقوته. اللهم اكتب لي بها عندك أجرًا، وضع عني بها وزرًا، واجعلها لي عندك ذكرًا، وتقبلها مني كما قبلتها من عبدك داود. ويراعى في صفات السجود ما يراعى في سجود الصلاة من كشف الجبهة ووضع اليدين والركبتين والقدمين والأنف ومجافاة المرفقين عن الجنبين ورفع أسافله على أعاليه، وتوجيه أصابعه إلى القبلة وغير ذلك. والطمأنينة ركن والذكر مستحب. ثم يرفع رأسه مكبرًا. وهذا التكبير مستحب، وهل السلام شرط لصحة السجود؟ قولان مشهوران. نص الشافعي على أنه لا يسلم. ولا يكره للإمام قراءة السجدة، كما لا يكره للمنفرد سواء كانت الصلاة سرية أو جهرية، ويسجد متى قرأها، وقال مالك: يكره مطلقًا، والرواية الثامنة ترد عليه، وقال ابن حبيب: لا يقرأ الإمام السجدة فيما يسر به، ويقرؤها فيما يجهر به. وقال أبو حنيفة: يكره في السرية دون الجهرية قال العيني: قال شيخنا زين الدين: هذا مشكل مع قول الحنفية بوجوب سجود التلاوة، فإن كان يقول: إنه لا يسجد لقراءتها كما حكاه البيهقي عنه. فهو مشكل، وإن قال: إنه لا يقرأ آية للسجدة - كما حكاه ابن العربي عنه فهو أقرب، إلا أن الحنفية قالوا: إنه يكره أن يقرأ السورة التي فيها السجدة ولا يسجد فيها في صلاة كان أو في غيرها لأنه كالاستنكاف عن السجود، فالاحتياط أن لا يقرأ في الصلاة السرية سورة فيها سجدة، وقال صاحب البحر: وعلى مذهبنا يستحب تأخير السجود في السرية حتى يسلم، لئلا يشوش على المأمومين. ولا يكره سجود التلاوة في أوقات النهي عن الصلاة، وبه قال أبو حنيفة وأصحاب الرأي ومالك في رواية عنه، وقالت طائفة يكره. ولا يقوم الركوع مقام السجود في حال الاختيار عند الجمهور، وقال أبو حنيفة يقوم مقامه مستدلاً بقوله تعالى: {وخر راكعًا وأناب} [ص: 24] وقد حمله المفسرون والجمهور على السجود، اهـ وهل يشرع السجود لمن كتب آية سجدة، أو وقعت عينه عليها مكتوبة؟ لم أر فيها نصًا، والظاهر أنه يشرع، قياسًا على من سمع دون تسمع، والله أعلم.

ولا فرق في الصلاة بين الفريضة والنافلة من حيث مشروعية سجود التلاوة، وبه قال الشافعي وأحمد. وظاهر الرواية الأولى يفيد تعذر السجود عند الزحام، فإن حمل على أنه في غير صلاة - كما قيد في الرواية الثانية فواضح وإن شمل الصلاة توقف حكمه على حكم "سجود الصلاة عند الزحام، وقد قال ابن بطال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: من لا يقدر على السجود على الأرض من الزحام في صلاة الفريضة يسجد على ظهر أخيه، وقال الكوفيون وأحمد: يومئ إيماء، وقال عطاء والزهري: يمسك عن السجود فإذا رفعوا سجد هو، وهو قول مالك وجميع أصحابه، وقال مالك: إن سجد على ظهر أخيه يعيد الصلاة، فعلى قول من أجاز السجود في صلاة الفريضة على ظهر أخيه فسجود التلاوة أولى بذلك، لأن السجود في الصلاة فرض بخلافه. والذي تستريح إليه النفس أن سجود التلاوة له حكم صلاة النافلة فيؤدي بقدر المستطاع سجودًا على الأرض أو على ظهر أخيه أو إيماء والله أعلم. والرواية الثالثة تشير إلى أن المسلمين والكافرين سجدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ورواية البخاري أصرح من روايتنا، ولفظها "عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس" كما روى البخاري عن الأسود عن عبد الله "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم فسجد بها، فما بقي أحد من القوم إلا سجد، فأخذ رجل من القوم كفًا من حصى أو تراب، فرفعه إلى وجهه، وقال: يكفيني هذا. فلقد رأيته بعد قتل كافرًا. وهذه الحادثة كانت بمكة حين قرأ الرسول صلى الله عليه وسلم على المسلمين والمشركين سورة النجم، ولعل المشركين أو بعضهم ظنوه يمدح آلهتهم ويذكرها بخير حين قرأ {أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى} [النجم: 19، 20] فسجدوا، وظلوا ساجدين حتى سمع المسلمون {فاسجدوا لله واعبدوا} فسجدوا. وقد ملئت كتب التفاسير بروايات فاسدة عن هذه القصة، منها ما رواه البزار في مسنده عن ابن عباس قال: فيما أحسب أشك في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة فقرأ سورة النجم حتى انتهى إلى {أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى} فجرى على لسانه "تلك الغرانيق العلى. الشفاعة منهم ترتجى" قال: فسمع ذلك مشركو مكة، فسروا بذلك، فلما بلغ آخرها سجد وسجد معه المسلمون والمشركون. فاشتد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته} [الحج: 52] قال البزار: ولا نعلمه يروى بإسناد متصل يجوز ذكره. اهـ. وقال المحققون من المحدثين: إن هذه القصة رويت من ثلاث طرق، ولا يحتج بطريق منها. أما الإسناد الأول عن ابن عباس [وهو الذي ذكرناه آنفًا] فإن الراوي شك فيه كما أخبر بذلك عن نفسه، فإما شك في رفعه فيكون موقوفًا أو في وصله فيكون مرسلاً، وكلاهما ليس بحجة، خصوصًا فيما فيه قدح في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بل لو جزم الثقة برفعه ووصله حملناه على الغلط والوهم.

وأما الإسناد الثاني ففيه محمد بن السائب الكلبي وهو ضعيف متفق على ضعفه ونسبته إلى الكذب، وأما الإسناد الثالث - وقد رواه ابن مردويه في تفسيره - فإسناده وسلسلته كلها ضعفاء. قال القاضي عياض: هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل، وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المتلقنون من الصحف كل صحيح وسقيم. اهـ وقال العيني: والأمر كذلك، فإن غالب هؤلاء مثل الطرقية والقصاص وليس عندهم تمييز، يخبطون خبط عشواء، ويمشون في ظلمة ظلماء، وكيف يقال مثل هذا والإجماع منعقد على عصمة النبي، ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة ولو وقعت هذه لوجدت قريش على المسلمين بها الصولة، ولأقامت عليهم اليهود بها الحجة، كما علم من عادة المنافقين وعناد المشركين. اهـ. وقال: وأما قول من قال: إن إبليس لعنه الله هو الذي قال: تلك الغرانيق العلى، الشفاعة منهم ترتجى، فظنوا أنه صلى الله عليه وسلم هو الذي قال ذلك، فهذا باطل باطل. وإذا كان لا يستطيع أن يتشبه به في النوم - كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في الحديث الصحيح، وهو قوله "من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتشبه بي، ولا يتمثل بي فإذا كان لا يقدر على التشبه به في المنام من الرائي له، والنائم ليس في محل التكليف والضبط، فكيف يتشبه به في حالة استيقاظ من يسمع قراءته؟ هذا من المحال الذي لا يقبله قلب مؤمن، وأما قول من قال: إن إبليس أجرى ذلك على لسانه صلى الله عليه وسلم؛ وأنه اشتبه عليه ما ألقاه الشيطان بوحي الملك إليه فهذا ممتنع قطعًا في حقه صلى الله عليه وسلم خصوصًا فيما حقه البلاغ، وكيف يشتبه عليه مزج الذم بالمدح فقوله تعالى: {ألكم الذكر وله الأنثى} [النجم: 21]؟ ذم اللات والعزى ومناة. وادعاء الغرانيق العلى والشفاعة ترتجى مدح لها، فكيف يشتبه هذا المزج على أدنى العقلاء؟ . اهـ وقد تطرق المحدثون إلى بحث جانبي لهذه القصة: فأثاروا: كيف سجد الكفار وسمي فعلهم سجودًا وهم ليسوا أهلاً للطاعة، لأن الطاعة موقوفة على الإيمان؟ ثم كيف وهم غير متطهرين ولا متوضئين وشرط السجود الطهارة؟ وأجيب بأن فعلهم كان صورة سجود، ولم يكن سجودًا شرعيًا. كما أثاروا أن ظاهر الروايات أن سورة النجم أول سجدة نزلت، حتى أفاد البخاري في رواية أن النجم أول سورة أنزلت فيها سجدة، كيف مع أن سورة "اقرأ" نزلت قبلها؟ وأجيب بأن الذي نزل قبلها صدر سورة اقرأ، وليس آخرها، أو أن النجم أول سورة فيها سجدة استعلن بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أول سجدة تلاها جهرًا على المشركين. والله أعلم. وبالرواية الرابعة استدل أبو حنيفة وغيره ممن يقول: لا قراءة على المأموم في الصلاة، سواء كانت سرية أو جهرية، ومذهب الشافعية أن قراءة الفاتحة واجبة على المأموم في الصلاة السرية، وكذا في الجهرية على أصح القولين، والجواب عن قول زيد بن ثابت هذا من وجهين: أحدهما أنه قد ثبت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن" وقوله صلى الله عليه وسلم "إذا كنتم خلفي فلا تقرءوا إلا القرآن"، وغير ذلك من الأحاديث، وهي مقدمة على قول زيد وغيره، والثاني أن قول زيد

محمول على قراءة السورة التي بعد الفاتحة في الصلاة الجهرية، فإن المأموم لا يشرع له قراءتها، وهذا التأويل متعين، ليحمل قوله على موافقة الأحاديث الصحيحة، ويؤيد هذا أنه يستحب عندنا وعند جماعة للإمام أن يسكت في الجهرية بعد الفاتحة قدر ما يقرأ المأموم الفاتحة، وجاء فيه حديث حسن في سنن أبي داود وغيره، وفي تلك السكتة يقرأ المأموم الفاتحة، فلا يحصل قراءته مع قراءة الإمام، بل في سكتته. ذكره النووي، وتقدم تفصيل المسألة. والله أعلم

-[سجود الشكر]- وبمناسبة سجود التلاوة ذكر النووي في المجموع حكم سجود الشكر فقال: سجود الشكر عند الشافعية سنة عند تجدد نعمة ظاهرة، أو اندفاع نقمة ظاهرة، سواء خصته النعمة أو النقمة، أو عمت المسلمين، وكذا إذا رأى مبتلى ببلية في بدنة أو بنيه. في كل هذا يستحب أن يسجد شكرًا لله تعالى، ولا يشرع السجود لاستمرار النعم، لأنها لا تنقطع ويفتقر سجود الشكر إلى شروط الصلاة، وحكمه في الصفات وغيرها حكم سجود التلاوة خارج الصلاة، واتفق الشافعية على تحريم سجود الشكر في الصلاة، ولو تصدق من تجددت له النعمة أو اندفعت عنه النقمة، أو صلى شكرًا لله تعالى مع فعله سجدة الشكر كان حسنًا. هذا مذهب الشافعية، وبه قال أكثر العلماء، وهو مذهب الليث وأحمد. وسنده ما رواه أبو داود والترمذي، وقال الترمذي حديث حسن، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، عن أبي بكرة رضي الله عنه قال "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاء الشيء يسر به خر ساجدًا شكرًا لله تعالى". وقال أبو حنيفة: يكره، وعن مالك روايتان، أشهرهما الكراهة، والثانية ليس بسنة، واحتج لمن كرهه بأن النبي صلى الله عليه وسلم "شكا إليه رجل القحط وهو يخطب، فرفع يديه ودعا، فسقط المطر في الحال، ودام المطر إلى الجمعة الأخرى، فقال رجل: يا رسول الله، تهدمت البيوت، وتقطعت السبل فادع الله يرفعه عنا، فدعا، فرفع في الحال" والحديث في الصحيحين، وموضع الدلالة أنه لم يسجد لتجدد نعمة المطر ولا لدفع نقمته، وقالوا: إن الإنسان لا يخلو من نعمة، فإن كلفه لزم الحرج. قال النووي: والجواب عن ذلك أنه ترك السجود في بعض الأحوال بيانًا للجواز، أو لأنه كان على المنبر وفي السجود حينئذ مشقة، أو اكتفى بسجود الصلاة، والجواب بأحد هذه الأوجه أو غيرها متعين، للجمع بين الأدلة، ففي الصحيحين عن كعب بن مالك في حديث توبته قال: "فخررت ساجدًا، وعرفت أنه قد جاء الفرج". وروى البيهقي وغيره سجود الشكر من فعل أبي بكر الصديق وعمر وعلي رضي الله عنهم. والله أعلم

(215) باب صفة الجلوس في الصلاة وكيفية وضع اليدين على الفخذين

(215) باب صفة الجلوس في الصلاة وكيفية وضع اليدين على الفخذين 1115 - عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قعد في الصلاة جعل قدمه اليسرى بين فخذه وساقه وفرش قدمه اليمنى ووضع يده اليسرى على ركبته اليسرى ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى وأشار بإصبعه. 1116 - عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قعد يدعو وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى ويده اليسرى على فخذه اليسرى وأشار بإصبعه السبابة ووضع إبهامه على إصبعه الوسطى ويلقم كفه اليسرى ركبته. 1117 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه ورفع إصبعه اليمنى التي تلي الإبهام فدعا بها ويده اليسرى على ركبته اليسرى باسطها عليها. 1118 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قعد في التشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى وعقد ثلاثة وخمسين وأشار بالسبابة. 1119 - عن علي بن عبد الرحمن المعاوي أنه قال رآني عبد الله بن عمر وأنا أعبث بالحصى في الصلاة فلما انصرف نهاني فقال: اصنع كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع فقلت وكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع؟ قال: كان إذا جلس في الصلاة وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى وقبض أصابعه كلها وأشار بإصبعه التي تلي الإبهام ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى.

1120 - عن علي بن عبد الرحمن المعاوي قال: صليت إلى جنب بن عمر فذكر نحو حديث مالك وزاد قال سفيان فكان يحيى بن سعيد حدثنا به عن مسلم ثم حدثنيه مسلم. -[المعنى العام]- تحرص الشريعة الإسلامية على أن تكون هيئة المصلي في الصلاة الهيئة التي هي أقرب إلى الخشوع وعدم الحركة، والتي ترمز إلى الأدب والاستسلام والتفويض والخضوع، ففي الوقوف وضعت اليد اليمنى على اليسرى، وفي السجود وضعت الأكف ملتصقة بالأرض كالجبهة، وفي الجلوس بين السجدتين أو للتشهد تتحدث هذه الأحاديث عن وضع اليدين وأصابع الكفين، بعد حديثها عن وضع الرجلين والفخذين والقدمين، ونصب القدم اليمنى وتوجيه أصابعها نحو القبلة، وهو أمر متفق عليه، والمختلف فيه اليسرى، هل تفرش القدم ثم يجلس عليها، أو توضع بين ساق اليمنى وفخذها ويجلس المصلي بإليته اليسرى على الأرض، كما تشير الرواية الأولى، خلاف بين الفقهاء، بعضهم استحب الهيئة الأولى في جميع الجلسات، وبعضهم استحب الهيئة الثانية في جميع الجلسات، وبعضهم استحب الهيئة الأولى في جميع الجلسات ما عدا الأخيرة فاستحب لها الهيئة الثانية. أما الذراعان فيستحب وضع اليمنى على الفخذ اليمنى، ووضع اليسرى على الفخذ اليسرى، لا خلاف في ذلك. وأما الكف اليسرى فالمستحب وضعها على الركبة اليسرى، مبسوطة الأصابع في اتجاه القبلة، أو معطوفة الأصابع على الركبة كالقابضة عليها، وفي ذلك يتحقق لها السكون وعدم العبث في الصلاة. وأما الكف اليمنى فتوضع على الركبة اليمنى مقبوضة الخنصر والبنصر مشيرة بالسبابة، وفي الوسطى والإبهام أوضاع مستحبة نوضحها في فقه الحديث. وكل وضع من ذلك أو هيئة من هذه الهيئات استند إلى حديث أو أثر وكان هدفه الأول تحقيق الوضع الأمثل للخشوع والخضوع المقصود الأول من الصلاة وهيئاتها. فاللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. واهدنا الصراط المستقيم. -[المباحث العربية]- (إذا قعد يدعو) أي في التشهد في الصلاة، كما هو موضح في الرواية الأولى، وجملة "يدعو" في محل النصب على الحال من فاعل "قعد".

(ويلقم كفه اليسرى ركبته) أي يجوف كفه اليسرى قابضة على ركبته اليسرى، كما لو كانت فما يلتقم الركبة. (وضع يديه على ركبتيه) أي وضع كفي يديه على ركبتيه، وأما الساعدان فعلى أعلى الفخذين. (ورفع إصبعه اليمنى التي تلي الإبهام) أي السبابة. (فدعا بها) أي نصبها وحركها إلى أعلى وأسفل. (باسطها عليها) "باسطها" بالرفع خبر بعد خبر، وبالنصب على الحال وروي بهما، والمعنى أن كف اليسرى مبسوط مفتوح الأصابع لا مقبوضها وليس كما هو الحال في كف اليمنى. (وعقد ثلاثة وخمسين) أي يضع الإبهام بجنب المسبحة على حرف راحته أسفل من المسبحة، فيكون الخنصر والبنصر والوسطى وهي ممتدة الرقم الحسابي المعروف بثلاثة ويكون الإبهام مع السبابة خلفه يشبه رقم الخمسة. وقال النووي: مراده أن يضع الخنصر على الراحة كما يضع البنصر والوسطى عليها - أي قابضًا الأصابع الثلاث - ويرسل الإبهام مع المسبحة. (وأشار بالسبابة) قال النووي: سميت سبابة لأنها يشار بها عند المخاصمة والسب، وتسمى مسبحة، لإشارتها إلى التوحيد والتنزيه، وهو التسبيح. اهـ. -[فقه الحديث]- الافتراش أن يضع ظهر قدمه اليسرى على الأرض ويجلس واضعًا وركه الأيسر على كعبها وينصب قدمه اليمنى، ويضع أطراف أصابعها على الأرض موجهة إلى القبلة. والتورك أن يخرج قدمه اليسرى من جهة يمينه، ويمكن وركه الأيسر من الأرض، مع انتصاب قدمه اليمنى كهيئتها عند الافتراش. وهاتان الهيئتان هما المشروعتان في الصلاة، أما انتصاب القدمين والجلوس عليهما فمنهي عنه. ولما كان الأمر كذلك كان قوله في الرواية الأولى "وفرش قدمه اليمنى" مشكلاً إذ لم يقل به أحد في جلسات الصلاة. قال الإمام النووي: هذا الذي ذكره من صفة القعود هو التورك، لكن قوله "وفرش قدمه اليمنى" مشكل، لأن السنة في القدم اليمنى أن تكون منصوبة باتفاق العلماء، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على ذلك في صحيح البخاري وغيره، قال القاضي عياض: قال الفقيه أبو محمد الخشني صوابه "وفرش قدمه اليسرى" ثم أنكر القاضي قوله، لأنه قد ذكر في هذه الرواية ما يفعل باليسرى،

وأنه جعلها بين فخذه وساقه. قال: ولعل الصواب "ونصب قدمه اليمنى" قال: وقد تكون الرواية صحيحة في اليمنى، ويكون معنى فرشها أنه لم ينصبها على أطراف أصابعه في هذه المرة، ولا فتح أصابعها كما يفعل في غالب الأحوال. هذا كلام القاضي، وهذا التأويل الأخير الذي ذكره هو المختار، ويكون فعل هذا لبيان الجواز، وأن وضع أطراف الأصابع على الأرض وإن كان مستحبًا يجوز تركه، وهو أولى من تغليط رواية ثابتة في الصحيح واتفق عليها جميع نسخ مسلم. اهـ. والجلوس في جلسات الصلاة لا تتعين له هيئة بحيث تبطل الصلاة بدونها، بل كيف وجد جلوس أجزأ، سواء تورك، أو افترش، أو مد رجليه، وفي التربع خلاف، والصحيح عدم جواز التربع في الفريضة كما قال ابن عبد البر لكن الحافظ ابن حجر يقول: المشهور عن أكثر العلماء أن هيئة الجلوس في التشهد سنة، فلعل ابن عبد البر أراد بنفي الجواز إثبات الكراهة. واختلف العلماء في السنة، والأفضل بين التورك والافتراش، وقد وردت أحاديث بالتورك مطلقًا في الجلوس، وأحاديث بالافتراش مطلقًا، وأحاديث بالافتراش في بعض الجلسات والتورك في البعض الآخر، فاختار المالكية التورك في جميع الجلسات، وعملوا بحديثها، وظاهر الرواية الأولى معهم، فوضع القدم اليسرى بين الفخذ والساق تورك، وقوله "إذا قعد في الصلاة" مطلق، فحملوه على جميع الجلسات. كما احتجوا بما رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما "سنة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى وتثني اليسرى"، والحديث لم يبين ماذا يفعل بعد ثني اليسرى. هل يجلس عليها أو يتورك؟ لكن الإمام مالك روى في الموطأ أن القاسم بن محمد أراهم الجلوس في التشهد فنصب رجله اليمنى وثنى اليسرى وجلس على وركه اليسرى، ولم يجلس على قدمه، ثم قال: أراني هذا عبد الله بن عبد الله بن عمر وحدثني أن أباه كان يفعل ذلك. فبينت هذه الرواية المراد من ثني اليسرى. وقال أبو حنيفة وأهل الرأي: إن السنة أن يفرش رجله اليسرى ويجلس عليها وينصب اليمنى نصبًا في جلستي التشهد، واحتجوا بحديث عائشة رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفرش رجله اليسرى، وينصب رجله اليمنى". ومذهب الشافعي أن جميع الجلسات في الصلاة يسن لها الافتراش إلا الجلسة الأخيرة فيسن لها التورك، فلو كان مسبوقًا وجلس إمامه في آخر الصلاة متوركًا جلس المسبوق مفترشًا، واستدلوا بما رواه البخاري عن أبي حميد في عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقد وصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى، ونصب اليمنى، فإذا جلس في الركعة الأخيرة قدم رجله اليسرى، ونصب الأخرى، وقعد على مقعدته"، قال الشافعي والأصحاب: فحديث أبي حميد صريح في الفرق بين التشهدين، وباقي الأحاديث مطلقة، فيجب موافقته، فمن روى التورك أراد الجلوس في التشهد الأخير، ومن روى الافتراش أراد الأول، وهذا متعين للجمع بين الأحاديث الصحيحة لا سيما وحديث أبي حميد وافقه عليه عشرة من كبار الصحابة رضي الله عنهم. اهـ قال الشافعية: والحكمة في الافتراش في التشهد الأول والتورك في الثاني أنه أقرب إلى تذكر الصلاة وعدم اشتباه عدد الركعات ولأن السنة تخفيف التشهد الأول، فيجلس مفترشًا ليكون أسهل للقيام، والسنة تطويل

التشهد الثاني، ولا قيام بعده، فيجلس متوركًا، ليكون أعون له وأمكن ليتوفر الدعاء، ولأن المسبوق إذا رآه علم في أي التشهدين. والله أعلم. وقال الإمام أحمد: إن كانت الصلاة ركعتين افترش في التشهد، وإن كانت غير ذلك افترش في الأول وتورك في الأخير. وقال الطبري: إن فعل هذا فحسن، وإن فعل هذا فحسن، لأن ذلك كله قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. هذا ما يتعلق بهيئة الجلوس في الصلاة، أما ما يتعلق بوضع اليدين حالة الجلوس فالروايات مجمعة على وضع اليد اليمنى على الفخذ اليمنى. واليد اليسرى على الفخذ اليسرى، أما الأصابع فقد قال النووي: وقد أجمع العلماء على استحباب وضع الكف اليسرى عند الركبة أو على الركبة وبعضهم يقول: بعطف أصابعها على الركبة، وهو معنى قوله في الرواية الثانية "ويلقم كفه اليسرى ركبته" وبعضهم يقول: ينشر أصابعه اليسرى جهة القبلة ويجعلها قريبة من طرف الركبة، بحيث تساوي رءوسها الركبة، وهل يستحب أن يفرج الأصابع أو يضمها؟ وجهان. أما كف اليمنى فيضعها على طرف الركبة اليمنى، ويقبض خنصرها وبنصرها، ويرسل المسبحة، أما الإبهام والوسطى ففي وضعهما أقوال: قيل: يقبض الوسطى مع الخنصر والبنصر، ويضع الإبهام بجنب المسبحة على حرف راحته أسفل من المسبحة، كأنه عاقد ثلاثًا وخمسين، لحديث ابن عمر [روايتنا الرابعة] وقيل: يقبض الوسطى مع الخنصر والبنصر، ويضع الإبهام على حرف إصبعه الوسطى، لحديث عبد الله بن الزبير [روايتنا الثانية، وفيها "ووضع إبهامه على إصبعه الوسطى"] وقيل: يقبض الخنصر والبنصر والوسطى، ويبسط المسبحة والإبهام، لحديث أبي حميد، وقيل: يقبض الخنصر والبنصر، ويحلق الإبهام مع الوسطى، لما روى وائل بن حجر "أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع مرفقه الأيمن على فخذه الأيمن، ثم عقد أصابعه الخنصر والتي تليها، وحلق حلقة بإصبعه الوسطى على الإبهام، ورفع السبابة، ورأيته يشير بها، وفي كيفية تحليق الإبهام مع الوسطى قيل: يحلقها برأسهما، وقيل: يضع أنملة الوسطى بين عقدتي الإبهام. وكيف فعل من هذه الهيئات فقد أتى بالسنة أما المسبحة فعلى جميع الأقوال السابقة يسن أن يشير بها، فيرفعها إذا أتى الهمزة من قوله "لا إله إلا الله"، قال الشافعية: ولا يشير بها إلا مرة واحدة وهل يحركها عند الرفع بالإشارة؟ أقوال: أحدها: يكره تحريكها، والثاني يحرم تحريكها، وهذا القول ضعيف وشاذ الثالث: يستحب تحريكها، ويحتج له بحديث وائل بن حجر، وفيه "ثم رفع أصبعه، فرأيته يحركها يدعو بها" رواه البيهقي بإسناد صحيح. قال البيهقي: ويحتمل أن يراد بالتحريك الإشارة بها لا تكرير تحريكها، فيكون موافقاً لرواية ابن الزبير، وذكر عن ابن الزبير "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشير بإصبعه إذا دعا لا يحركها" رواه أبو داود بإسناد صحيح. قال البيهقي: وأما الحديث المروي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تحريك الأصابع في الصلاة مذعرة للشيطان" فليس بصحيح. تفرد به الواقدي، وهو ضعيف. اهـ وتكون الإشارة بها إلى جهة القبلة هذا ويستحب أن ينوي بالإشارة

الإخلاص والتوحيد وأن لا يجاوز بصره إشارته والمستحب أن تجلس المرأة في التشهد كما يجلس الرجل، قال به أبو حنيفة ومالك، وعن مالك أنها تجلس على وركها الأيسر، وتضع فخذها الأيمن على الأيسر، وتضم بعضها إلى بعض قدر طاقتها، ولا تفرج في ركوع ولا سجود ولا جلوس بخلاف الرجل، وقال قوم تجلس كيف شاءت وكيف تيسر لها التجمع ولو تربعت. وهذا قول حسن. والله أعلم

(216) باب السلام للتحليل من الصلاة عند فراغها وكيفيته

(216) باب السلام للتحليل من الصلاة عند فراغها وكيفيته 1121 - عن أبي معمر أن أميرًا كان بمكة يسلم تسليمتين فقال عبد الله: أنى علقها؟ قال الحكم في حديثه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله. 1122 - عن عبد الله قال شعبة رفعه مرة أن أميرًا أو رجلاً سلم تسليمتين فقال عبد الله أنى علقها؟ . 1123 - عن عامر بن سعد عن أبيه رضي الله عنه قال كنت أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه وعن يساره حتى أرى بياض خده. -[المعنى العام]- للصلاة بداية ونهاية، بدايتها تكبيرة الإحرام، ونهايتها السلام، بدايتها لفظ وقصد ونية الدخول فيها، ونهايتها لفظ وقصد ونية الخروج منها. هكذا يرى الجمهور من العلماء، وهكذا تشهد صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم ولنا فيه أسوة حسنة وهكذا تشهد صلاة الصحابة والتابعين، فأمير مكة يصلي بالناس ويسلم تسليمتين في نهاية الصلاة، ويمدحه ابن مسعود لاتباعه السنة: ويحكي ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسلم عن يمينه وعن شماله حتى يرى بياض خده" لكن أبا حنيفة اعتبر تكبيرة الإحرام خارج الصلاة ليست منها، وهو هنا يعتبر السلام ليس ركنًا من الصلاة، ويكتفي بقصد الخروج من الصلاة وفعل ما يتنافى معها بعد الانتهاء منها. وفي اختلافهم رحمة، وكلهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ملتمس والله أعلم. -[المباحث العربية]- (قال عبد الله) أي ابن مسعود. (أنى علقها) "أنى" بفتح الهمزة، والنون المشددة المفتوحة. و"علق" بفتح العين وكسر اللام أي متى حصل هذه السنة وظفر بها؟ وهو استفهام تعجب ويبدو أن هذه السنة كانت تخفى على كثيرين كما سنوضحه في فقه الحديث.

-[فقه الحديث]- في الحديث مشروعية التسليم تسليمتين في آخر الصلاة، أما حكمهما وكيفيتهما ففي ذلك يقول النووي: مذهبنا أن التسليم فرض وركن من أركان الصلاة، لا تصح إلا به، وبهذا قال جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم [وبهذا قال مالك والشافعي وأحمد وأصحابهم، وقالوا: إذا انصرف المصلي من صلاته بغير لفظ التسليم فصلاته باطلة]. وقال أبو حنيفة: لا يجب السلام، ولا هو من الصلاة، بل إذا قعد قدر التشهد، ثم خرج من الصلاة بما ينافيها من سلام أو كلام أو حدث أو قيام أو فعل أو غير ذلك أجزأه وتمت صلاته. واحتج الجمهور بحديث "تحريمها التكبير وتحليلها التسليم" أخرجه الترمذي وابن ماجه، وأخرجه الحاكم في مستدركه، وقال صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، وقال الترمذي: هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب وقالوا: السلام أحد طرفي الصلاة، فوجب فيه نطق كالطرف الأول، كما استدلوا بمواظبة فعله صلى الله عليه وسلم، كما تدل عليه روايتنا الثانية، وقوله "صلوا كما رأيتموني أصلي" وعند أبي داود والترمذي عن ابن مسعود "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسلم عن يمينه وعن شماله حتى يرى بياض خده: السلام عليكم ورحمة الله". قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وفي مسلم عن جابر بن سمرة قال: "كنا إذا صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، وأشار بيده إلى الجانبين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "علام تؤمنون بأيديكم كأنهم أذناب خيل شمس، إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذيه ثم يسلم على أخيه من على يمينه وشماله"، واحتج لأبي حنيفة بحديث المسيء صلاته، وبحديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه التشهد، وقال: "إذا قضيت هذا فقد تمت صلاته، إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد"، وعن ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أحدث وقد قعد في آخر صلاته قبل أن يسلم فقد جازت صلاته" وعن علي رضي الله عنه قال: "إذا جلس قدر التشهد، ثم أحدث فقد تمت صلاته". قال النووي: وأجمع العلماء الذين يعتد بهم على أنه لا يجب إلا تسليمة واحدة، فإن سلم واحدة استحب له أن يسلمها تلقاء وجهه، وإن سلم تسليمتين جعل الأولى عن يمينه والثانية عن يساره، ويلتفت في كل تسليمة حتى يرى من عن جانبه خده. هذا هو الصحيح، وقال بعض أصحابنا: حتى يرى خده من على جانبه، وينوي بالتسليمة الأولى الخروج من الصلاة والسلام على من على يمينه وعلى الحفظة، وينوي بالثانية السلام على من على يساره وعلى الحفظة، ولو سلم التسليمتين عن يمينه، أو عن يساره أو تلقاء وجهه، أو الأولى عن يساره، والثانية عن يمينه صحت صلاته وحصلت تسليمتان، ولكن فاتته الفضيلة في كيفيتهما. اهـ والتسليمة الثانية سنة عند الجمهور، وقال مالك وطائفة يسلم تسليمة واحدة، قال ابن المنذر: وقال ابن عمار بن أبي عمار: كان مسجد الأنصار يسلمون فيه تسليمتين، ومسجد المهاجرين يسلمون فيه تسليمة، وقال ابن المنذر: وبالأول أقول. واحتج القائلون بتسليمة واحدة بحديث عائشة رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمة

واحدة تلقاء وجهه" رواه الترمذي وابن ماجه وآخرون. قال الحاكم في المستدرك على الصحيحين: هو حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم، وقال آخرون هو ضعيف. وهناك متابعات يضعفها الشافعية. أو يقولون: إنها لبيان الجواز. وعند الشافعي في القديم تسليمة واحدة، وفيه أيضًا عنه: إن كان منفردًا أو في جماعة قليلة ولا لغط عندهم فتسليمة واحدة، وإلا فثنتان. والله أعلم. وينبغي للمأموم أن يسلم بعد سلام الإمام، قال البغوي: ويستحب أن لا يبتدئ السلام حتى يفرغ الإمام من التسليمتين، وقال المتولي: يستحب أن يسلم بعد فراغ الإمام من التسليمة الأولى. ولا يستحب للمسبوق أن يقوم ليأتي بما بقي عليه إلا بعد فراغ الإمام من التسليمتين. واللَّه أعلم

(217) باب الذكر بعد الصلاة

(217) باب الذكر بعد الصلاة 1124 - عن عمرو قال: أخبرني بذا أبو معبد (ثم أنكره بعد) عن ابن عباس قال: كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكبير. 1125 - عن عمرو بن دينار عن أبي معبد مولى ابن عباس أنه سمعه يخبر عن ابن عباس قال: ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير. قال عمرو: فذكرت ذلك لأبي معبد فأنكره. وقال: لم أحدثك بهذا. قال عمرو وقد أخبرنيه قبل ذلك. 1126 - عن أبي معبد مولى ابن عباس أن ابن عباس أخبره أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأنه قال: قال ابن عباس كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته. (ملحوظة) سنشرح أحاديث هذا الباب مع أحاديث الباب الذي يلي أحاديث الباب الآتى، باب استحباب الذكر بعد الصلاة، وبيان صفته.

(218) باب استحباب التعوذ من عذاب القبر وعذاب جهنم وفتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال ومن المأثم والمغرم بين التشهد والتسليم

(218) باب استحباب التعوذ من عذاب القبر وعذاب جهنم وفتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال ومن المأثم والمغرم بين التشهد والتسليم 1127 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي امرأة من اليهود وهي تقول: هل شعرت أنكم تفتنون في القبور؟ قالت: فارتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال "إنما تفتن يهود" قالت عائشة: فلبثنا ليالي. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هل شعرت أنه أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور؟ " قالت عائشة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يستعيذ من عذاب القبر. 1128 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يستعيذ من عذاب القبر. 1129 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت علي عجوزان من عجز يهود المدينة فقالتا: إن أهل القبور يعذبون في قبورهم. قالت: فكذبتهما. ولم أنعم أن أصدقهما. فخرجتا. ودخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: يا رسول الله إن عجوزين من عجز يهود المدينة دخلتا علي. فزعمتا أن أهل القبور يعذبون في قبورهم. فقال: "صدقتا. إنهم يعذبون عذابًا تسمعه البهائم" قالت: فما رأيته بعد في صلاة إلا يتعوذ من عذاب القبر. 1130 - عن عائشة رضي الله عنها بهذا الحديث وفيه قالت: وما صلى صلاة بعد ذلك إلا سمعته يتعوذ من عذاب القبر. 1131 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ في صلاته من فتنة الدجال.

1132 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع. يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم. ومن عذاب القبر. ومن فتنة المحيا والممات. ومن شر فتنة المسيح الدجال". 1133 - عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة "اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر. وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال. وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات. اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم" قالت: فقال. له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم يا رسول الله. فقال "إن الرجل إذا غرم حدث فكذب. ووعد فأخلف". 1134 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر. فليتعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم. ومن عذاب القبر. ومن فتنة المحيا والممات. ومن شر المسيح الدجال". 1135 - عن الأوزاعي بهذا الإسناد وقال: "إذا فرغ أحدكم من التشهد" ولم يذكر "الآخر". 1136 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم "اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر. وعذاب النار. وفتنة المحيا والممات. وشر المسيح الدجال". 1137 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "عوذوا بالله من عذاب

الله. عوذوا بالله من عذاب القبر. عوذوا بالله من فتنة المسيح الدجال. عوذوا بالله من فتنة المحيا والممات". 1138 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتعوذ من عذاب القبر. وعذاب جهنم. وفتنة الدجال. 1139 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم هذا الدعاء. كما يعلمهم السورة من القرآن. يقول: "قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم. وأعوذ بك من عذاب القبر. وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال. وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات". قال مسلم بن الحجاج بلغني أن طاوسًا قال لابنه: أدعوت بها في صلاتك؟ فقال: لا. قال: أعد صلاتك. لأن طاوسًا رواه عن ثلاثة أو أربعة. أو كما قال. -[المعنى العام]- كانت عجوز من يهود المدينة تقوم بخدمة السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وكانت كلما أحسنت إليها عائشة تدعو لها العجوز بقولها: وقاك الله عذاب القبر. ولما تكرر منها هذا الدعاء قالت عائشة: أفي القبر عذاب؟ قالت العجوز: نعم، أو ما بلغك أنكم ونحن والناس تفتنون وتعذبون في قبوركم؟ ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة: يا رسول الله، أسمعت ما تزعم العجوز؟ تزعم أننا نفتن في قبورنا، ولم يكن الوحي قد نزل بعذاب القبر، فقال صلى الله عليه وسلم: كذبت يهود. ليس هناك عذاب بعد الموت قبل يوم القيامة، إنما المستحق للعذاب اليهود. ومضت أيام وليال. ونزل الوحي يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن عذاب القبر حق نزل الوحي ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، فلما انفصل عنه الوحي نادى بأعلى صوته. أيها الناس استعيذوا بالله من عذاب القبر، إن عذاب القبر حق. ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت عائشة وإذا بعجوزين تناقشان عائشة في عذاب القبر، وعائشة تكذبهما كما كذبت وكذب رسول الله صلى الله عليه وسلم العجوز الأولى. قالت عائشة: أو ما سمعت يا رسول الله، هاتان العجوزان تزعمان أننا نعذب في قبورنا؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم. صدقتا. لقد أوحي إلي يا عائشة أن عذاب القبر حق. تقول عائشة. فما رأيته صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يصلي إلا ويستعيذ في صلاته من عذاب القبر وكان صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه أن يستعيذوا في صلاتهم بعد نهاية التشهد الأخير وقبل السلام من أربع. عذاب القبر، ومن فتنة وامتحان نزول المسيح الدجال

الذي سينزل في آخر الزمان ومعه مغريات وجنة ونار ونعيم وعذاب يخدع الناس لينصرفوا عن عبادة الله وحده وعن الطاعات إلى الإشراك وإلى المعاصي فمن أطاعه ليدخل جنته كان من أهل النار، ومن عصاه ولم ينخدع به كان من أهل الجنة ومن فتنة الحياة وزخارف الدنيا وملذاتها وشهواتها، ومن فتنة الممات والخاتمة. نسأل الله حسن الختام حين يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم، ومن عذاب جهنم، وعذاب النار في الآخرة. وكان صلى الله عليه وسلم يكثر أمام أصحابه من الاستعاذة من المأثم والمغرم، أي من الإثم والعصيان، ومن غلبة الدين والغرامة التي لا قدرة على تحملها وأدائها، فقيل له: يا رسول الله، ما أكثر ما تستعيذ من المغرم، فما خطره الذي أزعجك حتى أكثرت من الاستعاذة منه؟ قال صلى الله عليه وسلم: إن المغرم باب شر كبير، لأن الرجل إذا غرم ولم يستطع الأداء اختلق لصاحب الدين الأكاذيب، ووعد أن يوفي الدين يوم كذا ثم لا يوفي، فيورث المغرم شعبتين من شعب المنافقين، الكذب وخلف الوعد، وما أقبح هاتين الرذيلتين وما أقبح من يتصف بهما. هكذا علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته دعاء يقيهم الشرور في الدنيا والآخرة وصدق الله العظيم إذ يقول فيه: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128] فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين. -[المباحث العربية]- (هل شعرت أنكم ... ) أي هل علمت علمًا مبدئيًا عاجلاً؟ أو هل بلغك قريبًا؟ يقال: شعر بكذا إذا بدأه الشعور، وعرض له الخبر أول وهلة، والخطاب في "أنكم" لعائشة والمسلمين ولذلك كان جواب النبي صلى الله عليه وسلم برده على اليهود ومقصودها: أنكم معشر المسلمين وعامة الناس. (تفتنون في القبور) قال أهل اللغة: الفتنة الامتحان والاختبار، قال عياض: استعمالها في العرف لكشف الحال المكروه. اهـ وتطلق على القتل والإحراق والنميمة والتعذيب. وأضيفت الفتنة والعذاب إلى القبر لكون معظمه فيه، ولكون الغالب على الموتى أن يقبروا، وإلا فالعذاب يقع على من شاء الله تعذيبه بعد موته ولو لم يدفن، ولكن ذلك محجوب عن الخلق. (فارتاع النبي صلى الله عليه وسلم) أي ففزع صلى الله عليه وسلم من قول اليهود مجوزًا صدق الخبر مع عدم علمه به، وخشي أن يكون صحيحًا فيكون الأمر عسيرًا. (وقال: إنما تفتن يهود) لا نحن معشر المسلمين، أي إن كان عندكم علم فلعله خاص بكم. (فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يستعيذ من عذاب القبر) أي بعد أن أوحى إليه بفتنة القبر. و"يستعيذ" أي يطلب الحصانة والحماية منه.

(دخلت علي عجوزان ... فقالتا) هو محمول على أن إحداهما تكلمت والأخرى أقرتها على كلامها، ونسب القول إلى الثانية مجازًا. قال الحافظ ابن حجر: ولم أقف على اسم واحدة منهما. (إن أهل القبور يعذبون في قبورهم) أطلق التعذيب باعتبار الغالب والكثير، قال الكرماني: لعله سمى أحوال العباد في القبر تعذيبًا تغليبًا لفتنة العاصي على فتنة الطائع لأجل التخويف، ولأن القبر مقام الهول والوحشة ولأن ملاقاة الملائكة مما يهاب منه ابن آدم في العادة، اهـ. (ولم أنعم أن أصدقهما) أي لم تطب نفسي أن أصدقهما، ومنه قولهم في التصديق: نعم، وهو بضم الهمزة وإسكان النون وكسر العين. وسيأتي الجمع بين الحديثين في فقه الحديث. (يستعيذ في صلاته من فتنة الدجال) لم تحدد هذه الرواية في أي موضع من الصلاة كانت الاستعاذة، ولكن الرواية الرابعة والسادسة صرحتا بأن موضعها بعد الفراغ من التشهد الآخر، وجاء في الرواية الرابعة "من شر فتنة المسيح الدجال" و"المسيح" بتخفيف السين المكسورة بعد الميم المفتوحة وآخره حاء مهملة يطلق على الدجال، وعلى عيسى عليه السلام، لكن إذا أريد الدجال قيد به، وقال أبو داود "المسيح" بتشديد السين المكسورة الدجال وبتخفيف السين عيسى، والمشهور الأول. قال الجوهري: من قاله بالتخفيف فلمسحه الأرض، ومن قاله بالتشديد فلكونه ممسوح العين، وحكى بعضهم أنه قال بالخاء في الدجال واختلف في تلقيب الدجال بالمسيح فقيل: لأنه ممسوح العين، وقيل لأن أحد شقي وجهه خلق ممسوحًا لا عين فيه ولا حاجب، وقيل: لأنه يمسح الأرض إذا خرج، وأما عيسى فقيل: سمي بذلك لأنه خرج من بطن أمه ممسوحًا بالدهن، وقيل: لأن زكريا مسحه، وقيل: لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برئ، وقيل لأنه كان يمسح الأرض بسياحته. وقيل: لأن رجله كانت لا أخمص لها، وقيل: للبسه المسوح، وقيل: هو بالعبرانية ماشيخا فعرب المسيح: ذكره في الفتح. (اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم) في رواية البخاري "من عذاب النار" كما هو في الرواية السابعة. قال أهل اللغة: العذاب كل ما يعني الإنسان ويشق عليه، وأصله المنع، وسمي عذابًا لأنه يمنعه من المعاودة، ويمنع غيره من مثل ما فعله. ذكره النووي في المجموع. (ومن فتنة المحيا والممات) المحيا والممات مصدران ميميان، بمعنى الحياة والموت، ويحتمل زمان ذلك، لأن ما كان معتلاً من الثلاثي فقد يأتي منه المصدر والزمان والمكان بلفظ واحد، أما فتنة الحياة فهي التي تعرض للإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات وأشدها وأعظمها والعياذ بالله تعالى أمر الخاتمة عند الموت، وأما فتنة الممات، فاختلفوا فيها، فقيل: فتنة القبر وقيل: الفتنة عند الاحتضار،

أضيفت إلى الموت لقربها منه، وإذا أردنا فتنة القبر أريد بها غير عذابه، بل سبب عذابه، وإذا أردنا بها عند الاحتضار كانت تالية لفتنة المحيا، والأولى إرادة ما قبل الموت من فتنة المحيا، وشدة الموت وسوء الخاتمة عنده من فتنة الممات. والله أعلم. (اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم) أي من الإثم الذي يجر إلى الذم والعقوبة، أي أعوذ بك من الوقوع في الذنب، أو من قبيل وضع المصدر موضع الاسم، أي أعوذ بك من الذنب نفسه. والمغرم الدين، يقال: غرم الرجل بكسر الراء إذا استدان فيما يجوز، وفيما لا يجوز، ثم يعجز عن الأداء، وقد استعاذ صلى الله عليه وسلم من غلبة الدين، وقيل: الغرم والمغرم ما ينوب ويصيب الإنسان في ماله من ضرر بغير جناية منه، وكذا ما يلزمه أداؤه من غير جناية ومنه الغرامة والغريم. (ما أكثر ما تستعيذ من المغرم) "ما" الأولى تعجبية، و"ما" الثانية مصدرية أي ما أكثر استعاذتك من المغرم. (إذا غرم) بكسر الراء، يعني إذا لحقه غرم. (حدث فكذب) بأن يحتج بشيء غير صحيح لعدم الوفاء بما عليه. (ووعد فأخلف) بأن قال لصاحب الدين: أوفيك دينك يوم كذا، أو شهر كذا، ثم لا يفي بوعده، والكذب والخلف من صفات المنافقين. -[فقه الحديث]- بين روايتي عائشة في قصة اليهودية أو اليهوديتين مخالفة، ففي الرواية الأولى أنكر صلى الله عليه وسلم قول اليهودية، وفي الرواية الثانية أقرها. قال النووي تبعًا للطحاوي وغيره: هما قصتان، فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم قول اليهودية في القصة الأولى، ثم أعلم النبي صلى الله عليه وسلم وأوحي له بذلك، ولم يعلم عائشة، فجاءت اليهوديتان، فذكرتا، فأنكرت عليهما، مستندة إلى الإنكار الأول، فأعلمها النبي صلى الله عليه وسلم بأن الوحي نزل بإثبات عذاب القبر. اهـ ويؤيد هذا ما رواه الإمام أحمد بإسناد على شرط البخاري عن عائشة "أن يهودية كانت تخدمها، فلا تصنع عائشة إليها شيئًا من المعروف إلا قالت لها اليهودية، وقاك الله عذاب القبر. قالت: فقلت: يا رسول الله، هل للقبر عذاب؟ قال: كذبت يهود. لا عذاب دون يوم القيامة، ثم مكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث، فخرج ذات يوم نصف النهار وهو ينادي بأعلى صوته: أيها الناس. استعيذوا بالله من عذاب القبر، فإن عذاب القبر حق". قال الحافظ ابن حجر: وفي هذا كله أنه صلى الله عليه وسلم إنما علم بحكم عذاب القبر إذ هو بالمدينة في آخر الأمر. اهـ.

وهل عذاب القبر يقع على الروح فقط، أو عليها وعلى الجسد؟ خلاف مشهور عند المتكلمين؛ لكن قوله في الرواية الثانية "إنهم يعذبون عذابًا تسمعه البهائم، يرجح أنه يقع على الجسد والروح، فإن الشأن في عذاب الروح أن لا يسمع، وعذاب القبر ثابت بهذه الأحاديث وغيرها، واستدلوا له بقوله تعالى: {فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم} [محمد: 27] وقوله تعالى عن آل فرعون {النار يعرضون عليها غدوًا وعشيًا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} [غافر: 46]. وأنكره بعض الخوارج وبعض المعتزلة، وذهب بعض المعتزلة إلى أنه يقع على الكفار دون المؤمنين، وأحاديث الباب ترد عليهم، فهي صريحة في أنه يقع على المؤمنين والكفار من أمتنا ومن الأمم السابقة وحيث ثبت العذاب في القبر ثبت أن الأرواح باقية بعد فراق الأجساد، وأنها تتصل بها، إذ لا تعذيب بدون الروح. خلافًا لابن جرير وجماعة من الكرامية حيث ذهبوا إلى أن سؤال القبر يقع على البدن فقط، وأن الله يخلق فيه إدراكًا بحيث يسمع ويعلم ويلذ ويألم. وذهب ابن حزم وابن هبيرة إلى أن السؤال يقع على الروح فقط من غير عود إلى الجسد، حملهم على هذا أن الميت قد يشاهد في قبره حال المسألة، ولا أثر فيه من إقعاد أو ضرب أو ضيق أو سعة، وكذلك غير المقبور كالمصلوب. قال الحافظ ابن حجر، وجوابهم أن ذلك غير ممتنع في القدرة، والغلط من قياس الغائب على الشاهد، وأحوال ما بعد الموت على ما قبله. والظاهر أن الله تعالى صرف أبصار العباد وأسماعهم عن مشاهدة ذلك وستره عنهم إبقاء عليهم، لئلا يتدافنوا، وليست للجوارح الدنيوية قدرة على إدراك أمور الملكوت إلا ما شاء الله. وقد ثبتت الأحاديث بما ذهب إليه الجمهور. كقوله "إنه ليسمع خفق نعالكم" وقوله "تختلف أضلاعه لضمة القبر" وقوله "يسمع صوته إذا ضربه بالمطراق" وقوله "يضرب بين أذنيه" وقوله "فيقعدانه" وكل ذلك من صفات الأجساد. اهـ ولنا عودة إلى هذا الموضوع في الجنائز وفي صفة أهل النار. والله أعلم. والاستعاذة الواردة في أحاديث الباب مستحبة بعد التشهد وقبل السلام وليست بواجبة، وإن كانت قد وردت بصيغة الأمر في كثير من الروايات، ففي الرواية الرابعة "إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع ... " وفي السادسة "إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر فليتعوذ بالله من أربع .... " وفي الثامنة "عوذوا بالله .... " وفي العاشرة "قولوا: اللهم إنا نعوذ بك .... " وقد ادعى بعضهم الإجماع على عدم وجوب الدعاء بعد التشهد، ورد هذا الادعاء مما فهم من طاووس وابنه، وأنه أمره بالإعادة مما يدل على أنه كان يرى وجوب الاستعاذة، وبه قال أهل الظاهر، وأفرط ابن حزم فقال بوجوبها في التشهد الأول أيضًا، والجمهور على خلافه.

وقد استشكل دعاؤه صلى الله عليه وسلم واستعاذته مما ذكر بما ذكر من أنه معصوم مغفور له ما تقدم وما تأخر، قال الحافظ ابن حجر: وأجيب بأجوبة. أحدها: أنه قصد التعليم لأمته. ثانيها: أن المراد السؤال منه لأمته، فيكون المعنى هنا أعوذ بك لأمتي، ثالثها: سلوك طريق التواضع وإظهار العبودية وإلزام خوف الله تعالى وإعظامه والافتقار إليه وامتثال أمره في الرغبة إليه، ولا يمتنع تكرار الطلب مع تحقق الإجابة، لأن ذلك يحصل الحسنات، ويرفع الدرجات، وفيه تحريض لأمته على ملازمة ذلك، لأنه إذا كان مع تحقق المغفرة لا يترك التضرع فمن لم يتحقق ذلك أحرى بالملازمة. وأما الاستعاذة من فتنة الدجال مع تحقق أنه لا يدركه فلا إشكال فيه على الوجهين الأولين، وقيل على الثالث: يحتمل أن يكون ذلك قبل تحقق عدم إدراكه، ويدل عليه قوله في حديث رواه مسلم "إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه". اهـ. قال العيني: وفائدة استعاذته من المسيح الدجال أن ينتشر خبره بين الأمة من جيل إلى جيل، وجماعة إلى جماعة بأنه كذاب مبطل مفتر ساع على وجه الأرض بالفساد، مموه ساحر، حتى لا يلتبس على المؤمنين أمره عند خروجه - عليه اللعنة - ويتحققوا أمره، ويعرفوا أن جميع دعاويه باطلة كما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا وقد اختلف العلماء فيما يدعو به الإنسان في صلاته، فعند أبي حنيفة وأحمد لا يجوز الدعاء إلا بالأدعية المأثورة، أو الموافقة للقرآن الكريم، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم قريبًا "إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس. إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن". وقال الشافعي ومالك: يجوز أن يدعو فيها بكل ما يجوز الدعاء به خارج الصلاة من أمور الدنيا والدين، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري بعد أن علمهم التشهد "ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو". وفي رواية "ثم ليتخير من الدعاء ما أحب" واستثنى بعض الشافعية ما يقبح من أمر الدنيا، قال الحافظ ابن حجر: فإن أراد الفاحش من اللفظ فمحتمل، وإلا فلا شك أن الدعاء بالأمور المحرمة مطلقًا لا يجوز. اهـ. ولا شك أن الدعاء بالمأثور وبأمور الآخرة أولى وأفضل، والخلاف في الجواز وعدم الجواز وبطلان الصلاة وعدم بطلانها. والله أعلم. وقد ورد فيما يقال بعد التشهد من أدعية أخبار من أحسنها ما رواه ابن أبي شيبة عن عبد الله بن مسعود "اللهم إني أسألك من الخير كله، ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله، ما علمت منه وما لم أعلم. اللهم إني أسألك من خير ما سألك منه عبادك الصالحون، وأعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبادك الصالحون. ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار". وما رواه البخاري عن أبي بكر الصديق قال: قلت: يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي.

فقال "قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم": وعن علي رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول بين التشهد والتسليم: اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر. لا إله إلا أنت". واللَّه أعلم

(219) باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته

(219) باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته 1140 - عن ثوبان رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً وقال: "اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ذا الجلال والإكرام" قال الوليد فقلت للأوزاعي كيف الاستغفار؟ قال: تقول أستغفر الله أستغفر الله. 1141 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول "اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ذا الجلال والإكرام". وفي رواية ابن نمير "يا ذا الجلال والإكرام". 1142 - عن عاصم بهذا الإسناد وقال "يا ذا الجلال والإكرام". 1143 - عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بمثله غير أنه كان يقول "يا ذا الجلال والإكرام". 1144 - عن وراد مولى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: كتب المغيرة بن شعبة إلى معاوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من الصلاة وسلم قال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد". 1145 - عن وراد مولى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: كتب المغيرة بن شعبة إلى معاوية (كتب ذلك الكتاب له وراد) إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين سلم بمثل حديثهما إلا قوله "وهو على كل شيء قدير" فإنه لم يذكر.

بمثل حديث منصور والأعمش. 1146 - عن وراد كاتب المغيرة بن شعبة قال: كتب معاوية إلى المغيرة: اكتب إلي بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال فكتب إليه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا قضى الصلاة "لا إله إلا الله وحده لا شريك له. له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. اللهم لا مانع لما أعطيت. ولا معطي لما منعت. ولا ينفع ذا الجد منك الجد". 1147 - عن أبي الزبير قال: كان ابن الزبير يقول في دبر كل صلاة حين يسلم "لا إله إلا الله وحده لا شريك له. له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. لا حول ولا قوة إلا بالله. لا إله إلا الله. ولا نعبد إلا إياه. له النعمة وله الفضل. وله الثناء الحسن. لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون". وقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهلل بهن دبر كل صلاة. 1148 - عن أبي الزبير مولى لهم أن عبد الله بن الزبير كان يهلل دبر كل صلاة بمثل حديث ابن نمير. وقال في آخره: ثم يقول ابن الزبير: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهلل بهن دبر كل صلاة. 1149 - حدثني أبو الزبير قال: سمعت عبد الله بن الزبير يخطب على هذا المنبر. وهو يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا سلم في دبر الصلاة أو الصلوات. فذكر بمثل حديث هشام بن عروة. 1150 - عن موسى بن عقبة أن أبا الزبير المكي حدثه أنه سمع عبد الله بن الزبير وهو يقول في إثر الصلاة إذا سلم بمثل حديثهما. وقال في آخره: وكان يذكر ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

1151 - عن أبي هريرة رضي الله عنه (وهذا حديث قتيبة) أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم. فقال: "وما ذاك؟ " قالوا: يصلون كما نصلي. ويصومون كما نصوم. ويتصدقون ولا نتصدق. ويعتقون ولا نعتق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أفلا أعلمكم شيئًا تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم؟ ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم" قالوا: بلى يا رسول الله قال "تسبحون وتكبرون وتحمدون، دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين مرة". قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا. ففعلوا مثله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ذلك فضل الله يؤته من يشاء". وزاد غير قتيبة في هذا الحديث عن الليث عن ابن عجلان: قال سمي: فحدثت بعض أهلي هذا الحديث. فقال: وهمت. إنما قال "تسبح الله ثلاثًا وثلاثين وتحمد الله ثلاثًا وثلاثين وتكبر الله ثلاثًا وثلاثين" فرجعت إلى أبي صالح فقلت له ذلك. فأخذ بيدي فقال: الله أكبر وسبحان الله والحمد لله. الله أكبر وسبحان الله والحمد لله. حتى تبلغ من جميعهن ثلاثة وثلاثين. قال ابن عجلان: فحدثت بهذا الحديث رجاء بن حيوة. فحدثني بمثله عن أبي صالح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. 1152 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم. بمثل حديث قتيبة عن الليث. إلا أنه أدرج في حديث أبي هريرة قول أبي صالح: ثم رجع فقراء المهاجرين: إلى آخر الحديث. وزاد في الحديث: يقول سهيل: إحدى عشرة. إحدى عشرة. فجميع ذلك كله ثلاثة وثلاثون. 1153 - عن كعب بن عجرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "معقبات لا يخيب قائلهن أو فاعلهن دبر كل صلاة مكتوبة ثلاث وثلاثون تسبيحة وثلاث وثلاثون تحميدة وأربع وثلاثون تكبيرة". 1154 - عن كعب بن عجرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "معقبات لا يخيب

قائلهن أو فاعلهن ثلاث وثلاثون تسبيحة وثلاث وثلاثون تحميدة وأربع وثلاثون تكبيرة في دبر كل صلاة". 1155 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين. وحمد الله ثلاثًا وثلاثين. وكبر الله ثلاثًا وثلاثين. فتلك تسعة وتسعون. وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر". -[المعنى العام]- في الصلوات قرب من الله، وإذا تقرب العبد إلى ربه كان جديرًا بأن يجاب دعاؤه، ويحسن عمله، ويطيب صباحه ومساؤه، ومن وصل القرب أن يذكر المسلم ربه عقب الصلاة بما هو أهله من التنزيه والشكر والإجلال، وعلى هذه السنة الحميدة سار الصحابة بتعليم من قدوتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا سلم من الصلاة كبر وذكر فيكبر معه الصحابة ويذكرون حتى تسمع أصواتهم خارج المسجد، فلما تعلموا ما ينبغي من ذكر، وقرءوا قوله تعالى: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا} [الإسراء: 110] وسمعوا الحديث الشريف حين ارتفعت أصواتهم بالتهليل والتكبير: "يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، إنه منكم سميع قريب" اتجهوا واتجه الرسول بهم إلى خفض الصوت بالذكر والدعاء. ولقد علمهم صلى الله عليه وسلم كثيرًا من الذكر والثناء والتكبير، ليختار المقل منه ما يستطيع، وليستزيد من يريد الزيادة في الخير. فقد كان صلى الله عليه وسلم عقب السلام من الصلاة يستغفر ثلاثًا بقوله: أستغفر اللَّه العظيم، ثم يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام. وأحيانًا كان يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد، [أي لا أحد يستطيع منع عطائك إذا أعطيت ولا أحد يستطيع العطاء إذا لم تعط أنت، ولا ينفع الغني غناه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم]. وأحيانًا كان يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. لا حول ولا قوة إلا الله. لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل [فكل نعمة في الوجود ملكه، وكل فضل في الوجود من عنده] وله الثناء الحسن [وهو المستحق

للثناء الحسن] لا إله إلا الله، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون. وجاء بعض فقراء المسلمين، يغبطون الأغنياء على غناهم وبذلهم أموالهم في سبيل الخير والمعروف، يقولون: يا رسول الله ذهب الأغنياء بكثرة الثواب دوننا، ذهبوا بالدرجات العلا في الجنة وبالنعيم المقيم دوننا، قال صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ ما هذا الأمر؟ ماذا تقصدون؟ قالوا: إن الأغنياء يصدقون كما نصدق، ويؤمنون كما نؤمن، ويصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويذكرون كما نذكر، ويجاهدون كما نجاهد، ولهم أموال يتصدقون منها، ويصلون منها الرحم، ويحجون بها ويعتقون منها الرقاب، وينفقونها في سبيل الله. ونحن مساكين لا نقدر على ذلك. فقال صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بشيء إذا أنتم فعلتموه أدركتم مثل فضلهم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: تسبحون الله بعد السلام من الصلاة ثلاثًا وثلاثين، وتحمدون الله ثلاثًا وثلاثين وتكبرون الله ثلاثًا وثلاثين، ففعلوا. وأخبروا الأغنياء بما سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم، فقام الأغنياء بعمل ما يعمله الفقراء وذكروا الله وسبحوه وحمدوه وكبروه خلف كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وعلم الفقراء ما فعله الأغنياء، وأحسوا أنهم شاركوهم ميزتهم، فذهبوا يشكون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء} [المائدة: 54]. وهكذا وجب على المسلم أن يبذل جهده في الطاعة وفي ذكر الله، وما أسهل الذكر، وما أكثر أجره، فالذكر كلمات خفيفة على اللسان ثقيلة في الميزان، ورب عمل قليل يحصل الأجر الجزيل، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً. -[المباحث العربية]- (عن عمرو قال: أخبرني بذا أبو معبد ثم أنكره) كذا في الرواية الأولى من الباب رقم (214) باب الذكر بعد الصلاة، والإشارة إلى الحديث التالي المروي عن ابن عباس، أي أخبرني بما سأرويه لكم أبو معبد، وظاهر من الرواية الثانية في الباب المذكور أن أبا معبد حدث عمرو بن دينار بهذا ثم أنكر أنه حدثه به، لا لعدم مشروعية ما روى، ولكن لتحقق التحديث وعدم تحققه، ولم يغير هذا الإنكار من ثقة عمرو في أبي معبد، فقد روى البخاري عن علي المديني عن سفيان عن عمرو بن دينار قال: كان أبو معبد أصدق موالي ابن عباس، ولا شك عند المحدثين أن عمرو بن دينار عدل، وأن أبا معبد عدل، ومن هنا قال الشافعي: كأنه نسيه بعد أن حدثه به. اهـ. وسيأتي حكم قبول مثل هذا في ما يؤخذ من الحديث من الأحكام. (كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكبير) "كنا" تعبير عنه وعن أمثاله من الصبية الذين لم يكونوا يصلون ويقفون خارج المسجد، أو ممن يصلون خلف الصفوف فلا يسمعون التسليم، وفي الرواية الثالثة "كنت أعلم" والمراد منها أيضًا المعرفة، وفيها أيضًا الذكر بدل التكبير، والذكر أعم من التكبير، فيطلق على التكبير وغيره، وما كان يحصل هو ذكر: تكبير وغير تكبير كما

سيأتي في فقه الحديث. قال الكرماني: المراد بالتكبير الذكر. اهـ. ويمكن أن يراد بالتكبير ذاته، وبالذكر ما هو أعم، فتكون وسيلة المعرفة التكبير مرة وغيره من الذكر مرة أخرى، وقال الحافظ ابن حجر: وكأنهم كانوا يبدءون بالتكبير قبل التسبيح والتحميد. اهـ. (حين ينصرف الناس من المكتوبة) أي حين ينتهون منها. وليس المراد الانصراف من المسجد. (كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي على زمانه، ومثل هذا يحكم له بالرفع عند الجمهور إلا من شذ. (كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته) الإشارة إلى رفع الصوت بالذكر، والتقدير: إذا سمعت ارتفاع صوتهم بالذكر كنت أعلم به وقت انتهائهم من الصلاة. (إذا انصرف من صلاته) كذا في الرواية الأولى من بابنا، استحباب الذكر بعد الصلاة، وبيان صفته، قال النووي: المراد بالانصراف السلام. (استغفر ثلاثًا) قال الوليد الراوي عن الأوزاعي الراوي عن أبي عمار الراوي عن أبي أسماء الراوي عن ثوبان، قال الوليد: قلت للأوزاعي: كيف الاستغفار؟ قال: تقول: أستغفر الله أستغفر الله. رواه مسلم. (تباركت ذا الجلال والإكرام) "ذا" منادى بحذف حرف الدعاء، وقد ثبت الحرف في الرواية الملحقة بالرواية الثانية، والمعنى تقدست وتنزهت عن النقائص يا صاحب العظمة والإكرام. (كتب المغيرة بن شعبة إلى معاوية) وفي الرواية الرابعة "كتب معاوية إلى المغيرة اكتب إلي" فكتابة المغيرة لمعاوية كانت بناء على طلب معاوية. والكاتب المباشر إلى معاوية "وراد" كاتب المغيرة، ففي البخاري "عن وراد كاتب المغيرة بن شعبة قال: "أملي على المغيرة بن شعبة في كتاب إلى معاوية" وكان المغيرة إذ ذاك أميرًا على الكوفة من قبل معاوية. (لا إله إلا اللَّه) كلمة توحيد بالإجماع، وهي مشتملة على نفي الألوهية عن غير الله، وإثباتها لله تعالى. و"لا" نافية للجنس، وخبرها محذوف، تقديره: لا إله موجود غير اللَّه. (وحده) منصوب على الحال بتأويله بمشتق، أي موحدًا منفردًا. (لا شريك له) تأكيد لقوله "وحده" لأن المتصف بالوحدانية لا شريك له. (له الملك) له امتلاك جميع المخلوقات والتصرف فيها. (وله الحمد) أي جميع أصناف المحامد تنتهي إليه.

(وهو على كل شيء قدير) قال العيني: هو من باب التتميم والتكميل لأن الله تعالى لما كانت الوحدانية له، والملك له، والحمد له، فبالضرورة يكون قادرًا على كل شيء". اهـ. (ولا ينفع ذا الجد منك الجد) قال الحافظ ابن حجر: الجد مضبوط في جميع الروايات بفتح الجيم، ومعناه الغنى أو الحظ، و"منك" بمعنى "عندك" أي لا ينفع ذا الغنى عندك غناه، وإنما ينفعه العمل الصالح، وهذا أقرب التقديرات وقيل: إن "منك" بمعنى البدل، وفي الكلام مضاف محذوف، أي بدل طاعتك، أي لا ينفع ذا الغنى منك غناه، وقيل ضمن "ينفع" معنى "يمنع" أي لا يمنع ذا الغنى منك غناه، كقوله {يوم لا ينفع مال ولا بنون} [الشعراء: 88] وقريب من هذا من فسر "الجد" بأب الأب، وأب الأم، أي لا ينفع أحدًا نسبه. وحكي عن أبي عمرو الشيباني أنه روى "الجد" بالكسر، وقال معناه: لا ينفع صاحب الاجتهاد اجتهاده، واعترض بأن الاجتهاد في العمل نافع، لأن الله قد دعا إليه، وأجيب بأن المراد أنه لا ينفع الاجتهاد في طلب الدنيا وتضييع أمر الآخرة، أو لا ينفع بمجرده ما لم يقارنه القبول، وذلك لا يكون إلا بفضل الله ورحمته، كما في حديث "لن يدخل أحدًا عمله بالجنة". (كتب معاوية إلى المغيرة اكتب إلي بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم) لفظ "بشيء" ليس على إطلاقه، بل هو مقيد بما جاء في رواية للبخاري "اكتب إلي ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول خلف الصلاة" وعند أبي داود "أي شيء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا سلم من الصلاة"؟ (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا قضى الصلاة) أي المكتوبة، كما جاء في رواية البخاري، قال الحافظ ابن حجر: فكأن المغيرة فهم ذلك من قرينة في السؤال. (في دبر كل صلاة حين يسلم) بضم الدال، قال النووي: هذا هو المشهور في اللغة والمعروف في الروايات، وفي اليواقيت: دبر كل شيء - بفتح الدال - آخر أوقاته من الصلاة وغيرها. وعن ابن الأعرابي: دبر الشيء ودبره بالضم والفتح آخر أوقاته، والصحيح الضم، ولم يذكر الجوهري غيره. اهـ. وقال الأزهري: دبر الأمر بضمتين، ودبره بفتح ثم سكون، وفي رواية البخاري "خلف كل صلاة" وفي بعض الروايات "إثر كل صلاة" قال في الفتح، وهو تفسير الرواية "دبر كل صلاة". (فقراء المهاجرين أتوا ... ) سمي منهم في بعض الروايات أبو ذر الغفاري، وفي بعضها أبو الدرداء، قال الحافظ ابن حجر: والظاهر أن أبا هريرة منهم، ويمكن أن يقال: إن زيد بن ثابت كان معهم، ولا يعارضه ما جاء عند مسلم (روايتنا السابعة) "فقراء المهاجرين" لكون زيد بن ثابت من الأنصار لاحتمال التغليب. (أهل الدثور) بضم الدال والثاء جمع دثر بفتح ثم سكون، وهو المال الكثير. قال ابن سيده: لا يثنى ولا يجمع، وقيل: يثنى ويجمع، ووقع عند الخطابي "ذهب أهل الدور من الأموال" قال الحافظ ابن حجر: والصواب "الدثور" اهـ.

(بالدرجات العلى والنعيم المقيم) "العلى" بضم العين جمع العلياء، وهي تأنيث الأعلى، ويحتمل أن يراد بالدرجات العلى درجات الجنة الحسية، ويحتمل أن يراد الدرجات المعنوية بمعنى علو القدر عند الله. ووصف النعيم بالإقامة إشارة إلى ضده وهو النعيم العاجل، فإنه قل ما يصفو، وإن صفا فهو بصدد الزوال. (أفلا أعلمكم شيئًا تدركون به من سبقكم)؟ أي من أهل الأموال الذين امتازوا عليكم بالصدقة والإعتاق، والأسبقية هنا يحتمل أن تكون معنوية وأن تكون حسية، والأول أقرب. (وتسبقون به من بعدكم) ممن لا يعمل بعملكم. (تسبحون وتكبرون وتحمدون) "تحمدون" بفتح التاء وسكون الحاء وفتح الميم وفي رواية البخاري "تسبحون وتحمدون وتكبرون" بتأخير التكبير على الحمد كما هو صريح الروايتين الثامنة والتاسعة، وفي بعض الروايات "تكبر وتحمد وتسبح" قال الحافظ ابن حجر: وهذا الاختلاف دال على أن لا ترتيب فيها، ويستأنس لذلك بقوله في حديث البخاري في حديث الباقيات الصالحات "لا يضرك بأيهن بدأت" لكن يمكن أن يقال: الأولى البداءة بالتسبيح، لأنه يتضمن نفي النقائص عن الباري سبحانه وتعالى، ثم التحميد، لأنه يتضمن إثبات الكمال، ثم التكبير، إذ لا يلزم من نفي النقائص وإثبات الكمال أن لا يكون هناك كبير آخر، ثم يختم بالتهليل (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) الدال على انفراده سبحانه وتعالى بجميع ذلك. اهـ. (ثلاثًا وثلاثين) قال في الفتح: يحتمل أن يكون المجموع للجميع، فإذا وزع كان لكل واحد إحدى عشرة، وهو الذي فهمه الراوي سهيل (في ملحق روايتنا السابعة) لكن لم يتابع سهيل على ذلك، بل لم أر في شيء من طرق الحديث كلها التصريح بإحدى عشرة إلا في حديث ابن عمر عند البزار، وهو ضعيف والأظهر أن المراد أن المجموع لكل فرد فرد، فعلى هذا ففيه تنازع ثلاثة أفعال في ظرف ومصدر، والتقدير: تسبحون خلف كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وتحمدون كذلك، وتكبرون كذلك. اهـ. (قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين) قال الحافظ ابن حجر: لم يصح بهذه الزيادة إسناد، نعم جاءت عند البزار موصولة وهي رواية ضعيفة، وعند الخطيب برواية ضعيفة، إلا أن هذين الطريقين يقوى بهما إرسال أبي صالح والله أعلم. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ظاهره القريب من النص أنه فضل الغنى، أي زيادة الأغنياء بالصدقة والإعتاق مع عملهم مثل عمل الفقراء فضل الله يؤتيه من يشاء، وبعضهم يجعل الإشارة إلى الفضل المترتب على الذكر المذكور، فجعل الفضل لقائله كائنًا من كان، وبعضهم تأول فجعل الإشارة راجعة إلى الثواب المترتب على العمل الذي يحصل به التفضيل عند الله، فكأنه قال: ذلك الثواب الذي أخبرتكم به لا يستحقه أحد بحسب الذكر ولا بحسب الصدقة، وإنما هو بفضل الله. فقصد المؤول بذلك عدم الدلالة على تفضيل الغني، قال العلماء: وهذا تأويل بعيد. وسيأتي في فقه الحديث شرح المفاضلة بين الغني والفقير.

(معقبات لا يخيب قائلهن) قال الهروي: قال سمرة: معناه تسبيحات تفعل أعقاب الصلاة، وقال أبو الهيثم: سميت معقبات لأنها تفعل مرة بعد أخرى وقوله تعالى: {له معقبات} [الرعد: 11] أي ملائكة يعقب بعضهم بعضًا. (وأربع وثلاثون تكبيرة) قال الحافظ ابن حجر: ويخالف هذا الحديث أبي هريرة (روايتنا التاسعة) وفيها ختم المائة بلا إله إلا الله وحده لا شريك له إلى آخره، وقال النووي: ينبغي أن يجمع بين الروايتين بأن يكبر أربعًا وثلاثين ويقول معها لا إله إلا الله. إلخ. وقال غيره: بل يجمع بأن يختم مرة بزيادة تكبيرة، ومرة بلا إله إلا الله ... إلخ. وسيأتي بقية الكلام على تحديد الأعداد في فقه الحديث. واللَّه أعلم. -[فقه الحديث]- أما عن الباب الأول [باب الذكر بعد الصلاة - باب 214] فقد استدل بعض السلف بحديث ابن عباس على استحباب رفع الصوت بالتكبير والذكر بعد الصلاة المكتوبة. قال ابن حبيب: كانوا يستحبون التكبير في العساكر والبعوث إثر صلاة الصبح والعشاء تكبيرًا عاليًا ثلاثًا. قال: وهو قديم من شأن الناس، وقال الطبري: في الحديث البيان على صحة فعل من كان يفعل ذلك من الأمراء والولاة، يكبر بعد صلاته، ويكبر من خلفه. وحمل الشافعي هذا الحديث على أنه صلى الله عليه وسلم جهر ليعلمهم صفة الذكر، لا أنه كان دائمًا: قال: وأختار للإمام والمأموم أن يذكرا الله بعد الفراغ من الصلاة، ويخفيان ذلك إلا أن يقصدا التعليم، فيعلما، ثم يسرا. اهـ والظاهر أن الأمر لم يستمر على ارتفاع الصوت بالذكر، لهذا قال ابن بطال: إن قول ابن عباس "كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم" فيه دلالة على أنه لم يكن يفعل حين حدث به، لأنه لو كان يفعل لم يكن لقوله معنى، فكأن التكبير في أثر الصلوات بصوت مرتفع لم يواظب الرسول صلى الله عليه وسلم عليه طول حياته، وفهم أصحابه أن ذلك ليس بلازم، فتركوه خشية أن يظن أنه مما لا تتم الصلاة إلا به. وقال ابن بطال أيضًا: أصحاب المذاهب المتبعة وغيرهم متفقون على عدم استحباب رفع الصوت بالتكبير والذكر حاشا ابن حزم. اهـ أما الأذكار الواردة دبر كل صلاة فكثيرة، منها ما رواه مسلم في هذا الباب، ومنها ما رواه البخاري في أول كتاب الجهاد عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ دبر كل صلاة بهؤلاء الكلمات: اللهم إني أعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا وأعوذ بك من عذاب القبر". وما رواه أبو داود بإسناد صحيح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم من

الصلاة قال: اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت". وما رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح عن معاذ رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده، وقال: يا معاذ والله إني لأحبك، أوصيك يا معاذ، لا تدعهن دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك". وما رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ بالمعوذتين دبر كل صلاة" قال النووي: وينبغي أن يقرأ "قل هو الله أحد" مع المعوذتين، لرواية أبي داود "بالمعوذات". وروى الطبري في معجمه أحاديث في فضل آية الكرسي دبر الصلاة المكتوبة قال النووي: لكنها كلها ضعيفة. وقد جمع الإمام النووي أحاديث كثيرة في الذكر والدعاء في كتاب الأذكار، فمن شاء الزيادة رجع إليه. والأحاديث الصحيحة تجمع على استحباب ذكر الله تعالى بعد السلام للإمام والمأموم والمنفرد والرجل والمرأة والحاضر والمسافر وغيرهم، ولا خلاف في ذلك، فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: "قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الدعاء أسمع؟ قال: جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات". رواه الترمذي، وقال: حديث حسن. وهذه الأذكار كلها مستحبة، لكن بأيها يبدأ؟ قال النووي: يستحب أن يبدأ من هذه الأذكار بحديث الاستغفار. اهـ يعني حديث ثوبان: يستغفر ثلاثًا، ثم يقول: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت ذا الجلال والإكرام، ثم يتبع ذلك ما كتبه المغيرة لمعاوية: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد. ثم زيادة ابن الزبير: لا حول ولا قوة إلا بالله. لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله. مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون، ثم يسبح ويحمد ويكبر ثلاثًا وثلاثين، ثم يدعو بما شاء من الأدعية المأثورة. واختلفت الروايات في العدد المطلوب من التسبيح والتحميد والتكبير، وقد رأينا في ملحق الرواية السابعة قول الراوي سهل: إحدى عشرة. إحدى عشرة. فجميع ذلك كله ثلاثة وثلاثون. قال الحافظ ابن حجر: ووقع في رواية ورقاء عن سمي عند البخاري في الدعوات في هذا الحديث "تسبحون عشرًا، وتحمدون عشرًا" قال: ولم أقف في شيء من طرق حديث أبي هريرة على من تابع ورقاء على ذلك، لا عن سمي ولا عن غيره، ويحتمل أن يكون تأول ما تأول سهيل من التوزيع، ثم ألغى الكسر، ويعكر عليه أن السياق صريح في كونه كلام النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال: وقد وجدت لرواية العشر شواهد، منها عن علي عند أحمد، وعن سعد بن أبي وقاص عند النسائي، وعن عبد الله بن عمرو عند

النسائي وأبي داود والترمذي، وعن سلمة عند البزار، وعن أم مالك الأنصارية عند الطبراني. وجمع البغوي في شرح السنة بين هذا الاختلاف باحتمال أن يكون ذلك صدر في أوقات متعددة، أولها عشرًا. عشرًا، ثم إحدى عشرة، ثم ثلاثًا وثلاثين، ويحتمل أن يكون ذلك على سبيل التخيير، أو يفترق بافتراق الأحوال، وقد جاء من حديث ابن ثابت وابن عمر "أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يقولوا كل ذلك خمسًا وعشرين ويزيدوا فيها "لا إله إلا الله خمسًا وعشرين" ولفظ زيد بن ثابت "أمرنا أن نسبح في دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، ونحمد ثلاثًا وثلاثين، ونكبر أربعًا وثلاثين، فأتى رجل في منامه، فقيل له: أمركم محمد أن تسبحوا ... ؟ قال: نعم. قال: اجعلوها خمسًا وعشرين، واجعلوا فيها التهليل. فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: فافعلوه" أخرجه النسائي وابن خزيمة وابن حبان، واستنبط النسائي أن مراعاة العدد المخصوص في الأذكار معتبرة، وإلا لكان يمكن أن يقال لهم: أضيفوا لهما التهليل ثلاثًا وثلاثين؛ وقد كان بعض العلماء يقول: إن الأعداد الواردة كالذكر عقب الصلوات إذا رتب عليها ثواب مخصوص، فزاد الآتي بها على العدد المذكور لا يحصل له ذلك الثواب المخصوص، لاحتمال أن يكون لتلك الأعداد حكمة وخاصية وتفوت بمجاوزة ذلك العدد. قال الحافظ أبو الفضل في شرح الترمذي: وفيه نظر. لأنه أتى بالمقدار الذي رتب الثواب على الإتيان به، فحصل له الثواب بذلك، فإذا زاد عليه من جنسه كيف تكون الزيادة مزيلة الثواب بعد حصوله؟ قال الحافظ ابن حجر: يمكن أن يفترق الحال فيه بالنية، فإن نوى عند الانتهاء إليه امتثال الأمر الوارد، ثم أتى بالزيادة فالأمر كما قال شيخنا الحافظ أبو الفضل لا محالة، وإن زاد بغير نية بأن يكون الثواب رتب على عشرة مثلاً. فرتبه هو على مائة فيتجه القول الماضي، وقد بالغ القرافي في القواعد، فقال: من البدع المكروهة الزيادة في المندوبات المحددة شرعًا، لأن شأن العظماء إذا حددوا شيئًا أن يوقف عنده، ويعد الخارج عنه مسيئًا للأدب. اهـ قال الحافظ ابن حجر: وقد مثله بعض العلماء بالدواء، يكون مثلاً فيه أوقية سكر، فلو زيد فيه أوقية أخرى لتخلف الانتفاع به، فلو اقتصر على الأوقية في الدواء، ثم استعمل بعد ذلك من السكر ما شاء لم يتخلف الانتفاع، ويؤيد ذلك أن الأذكار المتغايرة إذا ورد لكل منها عدد مخصوص مع طلب الإتيان بجميعها متوالية لم تحسن الزيادة على العدد المخصوص لما في ذلك من قطع الموالاة، لاحتمال أن يكون للموالاة في ذلك حكمة تفوت بفواتها. والله أعلم. انتهى. ولست مع هذا التزمت، وأنه لو زاد بغير نية فات الثواب، كل ما هو مطلوب أن لا يظن أن ما يفعله خير من التشريع، لكن إن جرى لسانه بزيادة ما دون قصد حصل له الثواب المذكور، وإذا كنا قد حكمنا لمن صلى الرباعية خمسًا بدون نية الزيادة بصحة صلاته، فكيف نحكم على من زاد في الذكر بدون نية بعدم الثواب؟ ثم التشبيه بالدواء وبالسكر تشبيه باطل فالزيادة في السكر مضرة نوى المريض أو لم ينو، والأمر هنا بخلافه، فهو قياس مع الفارق، نعم قصد الاقتداء واتباع الأوامر وعدم التنطع بالزيادة عمدًا أولى. والله أعلم. كما اختلف العلماء في كيفية التسبيح والتحميد والتكبير ثلاثًا وثلاثين، هل يجمعها في كل مرة، ويعد ثلاثًا وثلاثين كما قال أبو صالح في ملحق روايتنا السابعة، أو يأتي بالتسبيح وحده ثلاثًا وثلاثين، ثم بالتحميد ثلاثًا وثلاثين، ثم بالتكبير ثلاثًا وثلاثين، كما فسره بعض أهل سمي في الرواية

نفسها؟ وكما هو ظاهر الرواية الثامنة والرواية التاسعة. قال القاضي عياض: الإفراد أولى. قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر أن كلا الأمرين حسن، إلا أن الإفراد يتميز بأمر آخر، وهو أن الذاكر يحتاج إلى العدد، وله على كل حركة توصل إلى ذلك - سواء كان بأصابعه أو بغيرها - ثواب لا يحصل لصاحب الجمع منه إلا الثلث. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - قال ابن دقيق العيد: يؤخذ من حديث ابن عباس [روايات عمرو بن دينار] أنه لم يكن هناك مبلغ جهير الصوت يسمع من بعد. 2 - وفي إيراد مسلم لهذا الحديث دليل على أنه كان يرى صحة الحديث ولو أنكره راويه إذا كان الناقل عنه عدلاً، ولا شك أن عمرو بن دينار كان عدلاً. ولأهل الحديث فيه تفصيل: قالوا: إن أنكر الراوي روايته جاحدًا ومكذبًا للفرع، وجازمًا ومصرحًا بتكذيب الفرع، فالاتفاق على رده، إذ ليس قبول أحدهما بأولى من الآخر، وإن لم يجزم بالرد، كأن قال: لا أذكر فالجمهور على قبوله، وإن جزم بالرد، ولم يصرح بالتكذيب، كأن قال: لم أرو هذا، أو لم أحرفه فالراجح عند المحدثين قبوله، أما الفقهاء فاختلفوا، فذهب الجمهور في هذه الصورة إلى القبول، ونسيان الأصل لا يقدح فيه، كما لو جن أو مات، وعن بعض الحنفية ورواية عن أحمد لا يقبل. وللإمام فخر الدين في المحصول في هذه المسألة تقسيم جيد. قال: الراوي الفرع إما أن يكون جازمًا بالرواية أولاً، فإن كان جازمًا فالأصل إما أن يكون جازمًا بالإنكار أو لا. فإن كان كل منهما جازمًا فقد تعارضا، فلا يقبل الحديث، وإن كان الفرع جازمًا والأصل غير جازم قبل، وإن كان الفرع غير جازم والأصل جازمًا تعين الرد، وإن كان كل منهما غير جازم تعارضا، ولم يقبل. ومحصل كلامه أنهما إن تساويا فالرد، وإن رجح أحدهما عمل به. وهذا الحديث مما رجح فيه الفرع. والله أعلم. 3 - ومن حديث عائشة [الرواية الثانية من الباب الثاني] من قولها "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ذا الجلال والإكرام" أخذ بعضهم كراهة مكث الإمام في مصلاه، وقال ابن بطال عن الجمهور: لا يمكث الإمام إذا كان إمامًا راتبًا إلا أن يكون مكثه لعلة كأن يشعر المأمومين بالانتظار حتى ينصرف النساء، قال: وهو قول الشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة: كل صلاة يتنفل بعدها يقوم، وحمل حديث عائشة على هذه الحالة، وما لا يتنفل بعدها كالعصر والصبح فهو مخير، وقال أبو محمد من المالكية: يتنفل في الصلوات كلها، ليتحقق المأموم أنه لم يبق عليه شيء من سجود السهو ولا غيره، وقال ابن مسعود "كان صلى الله عليه وسلم إذا قضى صلاته انتقل سريعًا، إما أن يقوم وإما أن ينحرف"، وقال ابن عمر: الإمام إذا سلم قام، وقال عمر رضي الله عنه: جلوس الإمام بعد السلام بدعة، وعن ابن عباس

"صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان ساعة يسلم يقوم، ثم صليت مع أبي بكر رضي الله عنه فكان إذا سلم وثب من مكانه، وكأنه يقوم عن رضفة" أي عن قطعة حجر محماة قال النووي: قال الشافعي والأصحاب يستحب للإمام إذا سلم أن يقوم من مصلاه عقب سلامه، إذا لم يكن خلفه نساء. وقال: وللمأموم أن ينصرف إذا قضى الإمام السلام قبل قيام الإمام، قال: وتأخير ذلك حتى ينصرف بعد انصراف الإمام أو معه أحب إلي. اهـ 4 - ومن كتابة المغيرة إلى معاوية استدل على العمل بالمكاتبة وإجرائها مجرى السماع في الرواية ولو لم تقترن بالإجازة. 5 - واستدل به على الاعتماد على خبر الشخص الواحد. وتعقب من بعضهم بأنه يحتمل أن معاوية كان قد سمع الحديث المذكور، فأراد التثبت من المغيرة. 6 - وفيه المبادرة إلى امتثال السنن وإشاعتها، ففي البخاري عن وراد قال: ثم وفدت بعد على معاوية، فسمعته يأمر الناس بذلك. 7 - ومن قوله في روايتنا الثامنة "دبر كل صلاة مكتوبة" أخذ أكثر العلماء أن الذكر مستحب عقب الفرض دون النفل، وحملوا المطلق في "دبر كل صلاة" على هذا المقيد. 8 - ويؤخذ من قوله "دبر كل صلاة" أن الذكر يعقب السلام، حتى ولو كانت الصلاة مما يتنفل بعدها. قال الحافظ ابن حجر: وهذا الذي عليه عمل الأكثر، وعند الحنفية يبدأ بالتطوع، وزعم بعض الحنابلة أن المراد بدبر الصلاة ما قبل السلام، وهو احتمال بعيد، ففي الرواية السادسة "يقول إذا سلم في دبر الصلاة" فكذلك بقية الروايات. 9 - ومن حديث أهل الدثور أخذ بعضهم أن العالم إذا سئل عن مسألة يقع فيها الخلاف أن يجيب بما يلحق به المفضول درجة الفاضل، ولا يجيب بنفس الفاضل، لئلا يقع الخلاف. كذا قال ابن بطال، قال الحافظ ابن حجر: وكأنه أخذه من كونه صلى الله عليه وسلم أجاب بقوله "ألا أدلكم على أمر تساوونهم فيه"، وعدل عن قوله: نعم هم أفضل منكم بذلك. 10 - وفيه التوسعة في الغبطة، وفرق بينها وبين الحسد المذموم. 11 - وفيه المسابقة إلى الأعمال المحصلة للدرجات العالية، لمبادرة الأغنياء إلى العمل بما بلغهم، ولم ينكر عليهم صلى الله عليه وسلم. 12 - وفيه أن العمل السهل قد يدرك به صاحبه فضل العمل الشاق. 13 - واستدل به البخاري على فضل الدعاء عقيب الصلاة. 14 - وفيه أن العمل القاصر قد يساوي المتعدي نفعه إلى الغير، خلافًا لمن قال: المتعدي نفعه إلى الغير أفضل مطلقًا. 15 - قال ابن بطال: في هذا الحديث فضل الغنى نصًا لا تأويلاً، إذا استوت أعمال الغني والفقير فيما

افترض الله عليهما، فللغني حينئذ فضل عمل البر من الصدقة ونحوها مما لا سبيل للفقير إليه؛ قال: ورأيت بعض المتكلمين ذهب إلى أن الفضل المرتب على الذكر يخص الفقراء دون غيرهم. قال: وغفل هذا القائل عن قوله في الحديث "إلا من عمل مثله" فجعل الفضل لقائله غنيًا أو فقيرًا. وقال ابن دقيق العيد: ظاهر الحديث القريب من النص أنه فضل الغنى. قال: والذي يقتضيه النظر أنهما إن تساويا. وفضلت العبادة المالية أن يكون الغنى أفضل، وهذا لا شك فيه، وإنما النظر إذا تساويا وانفرد كل منهما بمصلحة ما هو فيه. أيهما أفضل؟ إن فسر الفضل بزيادة الثواب فالقياس يقتضي أن المصالح المتعدية أفضل من القاصرة، فيترجح الغنى، وإن فسر بالأشرف بالنسبة إلى صفات النفس فالذي يحصل لها من التطهير بحسب الفقر أشرف، فيترجح الفقر ومن ثمة ذهب جمهور الصوفية إلى ترجيح الفقير الصابر. اهـ وقال الكرماني: قضية الحديث أن شكوى الفقر تبقى بحالها، وأجاب بأن مقصودهم كان تحصيل الدرجات العلا والنعيم المقيم لهم أيضًا، لا نفي الزيادة عن أهل الدثور مطلقًا. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر أن مقصودهم إنما كان طلب المساواة ويظهر أن الجواب وقع قبل أن يعلم النبي صلى الله عليه وسلم أن متمني الشيء يكون شريكًا لفاعله في الأجر كما سبق في كتاب العلم، في الكلام على حديث "لا حسد إلا في اثنتين" فإن في رواية الترمذي التصريح بأن المنفق والمتمني إذا كان صادق النية في الأجر سواء، وكذا قوله "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من يعمل بها من غير أن ينقص من أجره شيء" فإن الفقراء في هذه القصة كانوا السبب في تعلم الأغنياء الذكر المذكور، فإذا استووا معهم في قوله امتاز الفقراء بأجر السبب مضافًا إلى التمني، فلعل ذلك يقاوم التقرب بالمال، وتبقى المقايسة بين صبر الفقير على شظف العيش وشكر الغني على التنعم بالمال، ومن ثم وقع التردد في تفضيل أحدهما على الآخر. اهـ. وقال القرطبي: إن في هذه المسألة خمسة أقوال: فمن قائل بتفضيل الغني ومن قائل بتفضيل الفقير، ومن قائل بتفضيل الكفاف، ومن قائل برد هذا إلى اعتبار أحوال الناس في ذلك، ومن قائل بالتوقف، لأنها مسألة لها غور، وفيها أحاديث متعارضة. قال: والذي يظهر لي أن الأفضل ما اختاره الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ولجمهور صحابته رضي الله عنهم، وهو الفقير غير المدقع، ويكفيك من هذا أن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام، وأصحاب الأموال محبوسون على قنطرة بين الجنة والنار، يسألون عن فضول أموالهم. اهـ. وبعد استعراض هذه الآراء نجد أنفسنا في حاجة إلى تحرير مواطن النزاع والمفروض عند المقارنة بين حالين أن نفترض المساواة التامة بين المقارنين في جميع الصفات ماعدا حالتي المقارنة، فالمقارنة بين فقير وغني أتى كل منهما بأعمال تساوي تمامًا ما أتى به الآخر، حتى في النية ودرجة الإخلاص، ولم تبق ميزة بينهما سوى صبر الفقير على حاله، وشكر الغني وصدقته وإعتاقه، وحينئذ إن كان المقصود أيهما أكثر ثوابًا عند الله؟ فليس لأحد أن يحكم إلا الله، فله

جل جلاله أن يثيب على القليل كثيرًا، وإن كان المقصود أي الاختيارين أشق بحيث لو أدى كل منهما في ميدانه ما هو مطلوب منه شرعًا بدرجة واحدة، هل يكون أداء الفقير وعطاؤه أكثر؟ فيستحق عادة وقياسًا ثوابًا أكثر؟ أو يكون الغني وعطاؤه أكثر، فيستحق عادة وقياسًا ثوابًا أكثر؟ الظاهر أن الابتلاء بالمال أشق والقيام بحق الله فيه أصعب، لقوله تعالى: {إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى} [العلق: 6، 7] وقصة قارون وقصة من "عاهد الله لئن آتاه من فضله ليصدقن وليكونن من الصالحين" خير شاهد، والحديث صريح في فضل الغنى فإن الفقراء حينما قارنوا ساووا بين الفريقين في الصلاة والصيام أي وبقية المتيسر للفقراء من الصالحات، وشكوا زيادة الأغنياء بالتصدق والإعتاق، فلم يقل لهم الحديث: إن صبركم على الفقر يعادل تصدقهم وإعتاقهم، بل أرشدهم إلى عمل لو لم يعمله الأغنياء يعدل تصدق الأغنياء وإعتاقهم، فلما عمله الأغنياء بقيت ميزتهم التي عللت بقوله "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" وأما استدلال القرطبي بدخول الفقراء الجنة قبل الأغنياء فإن كان قصده كل الفقراء وكل الأغنياء فغير مسلم وإن كان قصده أن كثرة الأولين من الفقراء فمسلم، لأن الفقراء غالبا ليس أمامهم إلا الصبر، أما الأغنياء فقليل منهم الشكور، وليس هذه محل النزاع. وكذا كلام الحافظ ابن حجر: في غير موضوع النزاع، فهو في فقراء بعينهم تسببوا في أجر لهم ولغيرهم، وموضوع النزاع في الفقراء والأغنياء عامة، وبناء على هذا التحرير لو قلنا: هل يطلب المسلم من ربه أن يكون فقيرًا صابرًا؟ أو غنيًا شاكرًا؟ لقلنا: ليطلب أن يكون غنيًا شاكرًا، وليحذر فإن الغنى منزلق خطر والله خير حافظًا وهو أرحم الراحمين. واللَّه أعلم

(220) باب ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة

(220) باب ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة 1156 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر في الصلاة سكت هنية قبل أن يقرأ. فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال "أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب. اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس. اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد". 1157 - عن أبي زرعة قال: سمعت أبا هريرة يقول كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نهض من الركعة الثانية استفتح القراءة بـ {الحمد لله رب العالمين} ولم يسكت. 1158 - عن أنس رضي الله عنه أن رجلا جاء فدخل الصف وقد حفزه النفس. فقال: الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه. فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال "أيكم المتكلم بالكلمات؟ " فأرم القوم. فقال "أيكم المتكلم بها؟ فإنه لم يقل بأسًا" فقال رجل: جئت وقد حفزني النفس فقلتها. فقال "لقد رأيت اثني عشر ملكًا يبتدرونها. أيهم يرفعها". 1159 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: بينما نحن نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال رجل من القوم: الله أكبر كبيرًا. والحمد لله كثيرًا. وسبحان الله بكرة وأصيلاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من القائل كلمة كذا وكذا؟ قال رجل من القوم: أنا يا رسول الله قال "عجبت لها. فتحت لها أبواب السماء" قال ابن عمر: فما تركتهن منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك. -[المعنى العام]- الصلاة مناجاة بين العبد وربه، يقبل عليه مستقبلاً القبلة متطهرًا بقوله: الله أكبر، ثم يناجيه

بالحمد له والثناء عليه بكافة أنواع الحمد والثناء، وطهارة الظاهر لمناجاة الرب يستلزمها بل يتأكد معها تطهير الباطن، ولهذا حرص صلى الله عليه وسلم على أن يعلم أمته هذه الطهارة المطلوبة، فسكت بين تكبيرة الإحرام وبين قراءة الفاتحة سكتة تقدر بلحظات، يحس من بجواره حركة فمه ولسانه، ولا يسمع صوتًا، نوع فريد من التعليم، يشعر المتعلمين الحريصين على الاقتداء بأنه يعمل، ولا يأمرهم بالعمل، حتى إذا سألوا عن العمل وأجيبوا فاقتدوا كانوا مختارين راغبين، والعمل برغبة وشوق وحب وطواعية أعظم أجرًا وقبولاً وإخلاصًا عند الله. وكان ما أراد، سأله أبو هريرة. أفديك بأمي وأبي يا رسول الله، وأراك تسكت بين التكبيرة وبين القراءة سكتة أحس أنك فيها تقول ذكرًا، فماذا تقول في سكوتك؟ قال صلى الله عليه وسلم: أسأل الله أن يغفر لي ما قدمت، وأن يعصمني في مستقبل أيامي من الزلل، فأقول: اللهم باعد بيني وبين الخطايا والذنوب ولا تجمع بيني وبين الذنوب، بقدر ما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني ونظفني وطهرني من ذنوبي كما ينظف الثوب الأبيض من الوسخ فيعود أبيض صافيًا نقيًا، اللهم اغسلني من ذنوبي ونظفني منها كما ينظف الشيء بالماء مرة وبالثلج أخرى وبالبرد ثالثة. وتعلمها أبو هريرة وتعلمها الصحابة، وعملوا بها، وقالوها في صلاتهم. بل كان بعضهم يزيد في الذكر والثناء على ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يرفع به صوته ليرى، أيقر على ما يفعل أو ينهى؟ فهذا أنس رضي الله عنه يروي أن رجلاً جاء فدخل الصف خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاضطرب نفسه واشتد، فعطس فقال: "الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، فلما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة التفت إلى أصحابه فقال: أيكم الذي حمد الله بهذه الكلمات؟ وخاف المتكلم أن يقول: أنا. وظن أنه قد أخطأ، وخشي أن يساء إليه فيفضح ويعرفه من لم يعرفه ورجا أن يعفو الله ورسوله عنه دون افتضاح، وسكت الصحابة أدبًا ورحمة في انتظار أن يعلن عن نفسه، فلما لم يجيبوا أعاد صلى الله عليه وسلم السؤال: من منكم تكلم بهذه الكلمات؟ وسكت للمرة الثانية وسكتوا، وعلم صلى الله عليه وسلم أنهم ظنوا أن ما حصل خطأ، فقال للمرة الثالثة: من المتكلم بهذه الكلمات؟ إنه لم يأت خطأ، إنه محسن. فقال الرجل: أنا يا رسول الله، قلتها ولا أريد بها إلا خيرًا قال صلى الله عليه وسلم: لقد فتحت لها أبواب السماء ورأيت الملائكة يتسابقون في كتابتها ورفعها. وسمع المصلون وتعلموا أن يقولوا مثله. صلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. -[المباحث العربية]- (كان إذا كبر) أي تكبيرة الإحرام. (سكت هنية) بضم الهاء وفتح النون وتشديد الياء بغير همزة، وهي تصغير هنة، أصلها هنوة، صغرت على هنيوة، فاجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت في الياء، قال النووي: ومن همزها فقد أخطأ، ورواه بعضهم "هنيهة" وهو صحيح أيضًا. اهـ. أي بقلب الياء هاء، قال الحافظ ابن حجر: قال غير النووي: لا يمنع ذلك إجازة رواية الهمزة، فقد تقلب الياء همزة. اهـ والمراد بالهنية الزمن القصير. وفي رواية للبخاري "إسكاتة" أي يسيرة.

(بأبي أنت وأمي) الجار والمجرور متعلق بمحذوف اسم أو فعل في محل الخبر، و"أنت" مبتدأ مؤخر، والتقدير: أنت مفدي بأبي وأمي، أو أنت أفديك بأبي وأمي. (أرأيت سكوتك) "سكوتك" مفعول "أرأيت". (ما تقول)؟ "ما" اسم استفهام مبتدأ، والجملة بعده خبره، والرابط محذوف أي ما تقول فيه؟ وجملة الاستفهام في محل المفعول الثاني لـ "أرأيت" والمعنى أخبرني عما تقول في سكوتك بين التكبير والقراءة، فإن قيل إن السكوت مناف للقول، فكيف يصح أن يقال: ما تقول في سكوتك؟ أجيب بأنه سكوت ظاهري وقول خفي، ولعل السائل استدل عليه بحركة الفم، كما استدل غيره على قراءة القرآن في الظهر والعصر باضطراب اللحية. (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب) "باعد" بمعنى أبعد، والمفاعلة أفادت المبالغة والتكثير، و"ما" في "كما باعدت" مصدرية، والتقدير: كمباعدتك بين المشرق والمغرب، وموقع التشبيه أن التقاء المشرق والمغرب مستحيل، فكأنه أراد ألا يبقى للخطايا منه اقتراب بالكلية، فإن كان يراد بالخطايا الخطايا اللاحقة فمعناه إذا قدر لي ذنب واحتمل وقوعه فباعد بيني وبين وقوعه، وإن كان يراد بها السابقة فمعناه المحو والغفران، وهذا معنى قول الحافظ ابن حجر: المراد بالمباعدة محو ما حصل منها والعصمة عما سيأتي منها، وفي الكلام مجاز لأن حقيقة المباعدة في الزمان والمكان، وتكرير لفظ "بين" في قوله "بيني وبين خطاياي" لأن العطف على الضمير المجرور يعاد فيه الخافض. قاله الكرماني. (اللهم نقني من خطاياي) التنقية مجاز عن إزالة الذنوب ومحو أثرها. (كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس) الدنس الوسخ، واختار الثوب الأبيض لأن الدنس القليل يظهر فيه، وإذا نقي كان أظهر الألوان. (اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد) رواية البخاري "اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد" والبرد حب صغير متجمد من البرودة قال الخطابي: ذكر الثلج والبرد بعد ذكر الماء تأكيد، أو لأنهما ماءان لم تمسهما الأيدي ولم يمتهنهما الاستعمال، وقال ابن دقيق العيد: عبر بذلك عن غاية المحو، فإن الثوب الذي يتكرر عليه ثلاثة أشياء منقية يكون في غاية النقاء وقال الكرماني: جعل الخطايا بمنزلة نار جهنم، لأنها مستوجبة لها، فعبر عن إطفاء حرارتها بالغسل تأكيدًا في الإطفاء، وبالغ فيه باستعمال المبردات ترقيًا عن الماء إلى أبرد منه، وهو الثلج، ثم إلى أبرد من الثلج وهو البرد. بدليل جموده، لأن ما هو أبرد فهو أجمد، وأما تثليث الدعوات [اللهم ... اللهم ... اللهم ... ] فيحتمل أن يكون نظرًا إلى الأزمنة الثلاثة، فالمباعدة للمستقبل والتنقية للحال والغسل الماضي. (استفتح القراءة بالحمد للَّه رب العالمين) الباء حرف جر "الحمد لله" برفع الحمد على الحكاية فهو مجرور بكسرة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الحكاية.

(ولم يسكت) بين تكبيرة القيام والقراءة، لا كما يفعل بين تكبيرة الإحرام والقراءة. (وقد حفزه النفس) قال النووي: هو بفتح حروفه وتخفيفها، أي ضغطه لسرعته. ولعل هذه العبارة لبيان سر ظهور صوته بالحمد والثناء. (الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا) أي خالصًا عن الرياء والسمعة. (مباركًا فيه) أي كثير الخير. (فأرم القوم) بفتح الراء وتشديد الميم، أي سكتوا. قال القاضي عياض: ورواه بعضهم في غير صحيح مسلم "فأزم القوم" بالزاي المفتوحة وتخفيف الميم من الأزم، وهو الإمساك، وهو صحيح المعنى. (فإنه لم يقل بأسًا) أي لم يقل خطأ يؤلم أو يضر. (يبتدرونها) أي يسعون في المبادرة، يقال: ابتدروا السلاح أي سارعوا إلى أخذه. (أيهم يرفعها) في رواية البخاري "أيهم يكتبها أول" قال العيني: يحمل على أنهم يكتبونها ثم يصعدون بها. (الله أكبر كبيرًا) قال النووي: أي كبرت كبيرًا. -[فقه الحديث]- دعاء الاستفتاح من سنن الصلاة عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد، وقال مالك: لا يستحب دعاء الاستفتاح بعد تكبيرة الإحرام، بل يقرأ الفاتحة عقب التكبيرة، واستدل بما في الصحيحين عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين قال الحافظ ابن حجر: وحديث أبي هريرة [وهو حديث الباب] يرد عليه، وقد تحرر أن حديث أنس بيان ما يفتتح به القراءة، فليس فيه تعرض لنفي دعاء الافتتاح. اهـ وقد دافع ابن بطال عن مذهب المالكية. فقال: لو كانت هذه السكتة فيما واظب عليه الشارع لنقلها أهل المدينة عياناً وعملاً، فيحتمل أنه صلى الله عليه وسلم فعلها في وقت ثم تركها، ورد عليه بأن الحديث ورد بلفظ "كان إذا قام إلى الصلاة" وبلفظ "كان إذا قام يصلي تطوعاً" وبلفظ "كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة" وكان هنا يشعر بالمداومة عليه. ومع اتفاق الحنفية والشافعية والحنابلة على استحباب دعاء الاستفتاح اختلفوا في الصيغة المستحبة فمذهب أحمد والحنفية على صيغة رواها أبو داود وابن ماجه والترمذي عن عائشة قالت:

"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استفتح الصلاة قال: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك" ومثله عند النسائي والترمذي من رواية أنس وأبي سعيد، وعمل به عمر بين يدي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلذلك اختاره أحمد، وجوز الاستفتاح بغيره لكونه قد صح وعند الحنفية لا يستفتح إلا بهذا الدعاء، قال العيني الحنفي: وأما الأدعية الأخرى الواردة في هذا الباب فيدعو بها بعد الفراغ من التشهد في الفرض أو يدعو بها في النفل، لأن باب النفل واسع، وكل ما جاء في هذه الأدعية فمحمول على صلاة الليل وذهب الشافعي إلى الاستفتاح بما رواه مسلم في باب التهجد عن علي بن أبي طالب" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة قال: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين" وبما رواه مسلم أيضاً في هذا الباب من "اللهم باعد بيني وبين خطاياي ... إلخ" وقد رواه البخاري كذلك. وقال ابن الأثير في شرح المسند: الذي ذهب إليه الشافعي في الأم أنه يأتي بهذه الأذكار جميعاً من أولها إلى آخرها في الفريضة والنافلة. أي يجمع بين دعاء الحنفية وما روي هنا، وهل يستعيذ قبل القراءة أولاً؟ الشافعية والحنفية والحنابلة على استحباب الاستعاذة لقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل: 98] وقال مالك: لا يستعيذ لحديث أنس السابق "كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين" وقد سبق توجيهه. -[ويؤخذ من أحاديث الباب فوق ما تقدم]- 1 - أن دعاء الاستفتاح سنة في حق الإمام والمأموم والمنفرد، خلافًا للمزني الذي سنه في حق الإمام فقط. قال الحافظ ابن حجر: هذا الدعاء صدر منه صلى الله عليه وسلم على سبيل المبالغة في إظهار العبودية، وقيل: قاله على سبيل التعليم لأمته، واعترض بكونه لو أراد ذلك لجهر به، وأجيب بورود الأمر بذلك في حديث سمرة عند البزار. 2 - ما كان عليه الصحابة من المحافظة على تتبع أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في حركاته وسكناته وإسراره وإعلانه حتى حفظ الله بهم الدين. 3 - وفيه تفدية الرسول صلى الله عليه وسلم بالآباء والأمهات. وهل يجوز تفدية غيره من المؤمنين؟ الأصح نعم بلا كراهة، وقيل بالمنع مطلقًا وأن ذلك خاص به صلى الله عليه وسلم، وقيل: يجوز تفدية العلماء والصالحين الأخيار دون غيرهم. 4 - استدل بالرواية الأولى بعض الشافعية على أن الثلج والبرد مطهران واستبعده ابن عبد السلام. 5 - استدل به بعض الحنفية على نجاسة الماء المستعمل وهذا الاستدلال أشد بعدًا من سابقه. 6 - استدل بالرواية الثالثة على جواز إحداث ذكر في الصلاة غير مأثور إذا كان غير مخالف للمأثور. 7 - وعلى جواز رفع الصوت بالذكر ما لم يشوش على من معه. وظاهر صنيع مسلم أن الذكر الوارد في الرواية الثالثة والرابعة يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة،

وهو غير صحيح، فقد ساق البخاري هذا الحديث على أنه يقال عند الرفع من الركوع، وهو الظاهر. 8 - ومن الرواية الثالثة يؤخذ ما كان عليه الصحابة من الهيبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سكتوا مع علمهم بالمتكلم حتى كرر الرسول صلى الله عليه وسلم السؤال ثلاثاً كما في بعض الروايات. وإذ سكت الذاكر نفسه، وهو رفاعة بن رافع، إذ جاء في بعض الروايات "أنه قال في نفسه: وددت أني خرجت من مالي، وأني لم أشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم تلك الصلاة". واعتذر الحافظ ابن حجر عنهم بأنه لما لم يعين واحدًا بعينه في سؤاله لم تتعين المبادرة بالجواب، من المتكلم، ولا من واحد بعينه، فكأنهم انتظروا بعضهم ليجيب، وحملهم على ذلك خشية أن يبدو في حقه شيء، ظناً منهم أنه أخطأ فيما فعل، ورجوا أن يقع العفو عنه، وكأنه صلى الله عليه وسلم لما رأى سكوتهم فهم ذلك فعرفهم أنه لم يقل بأسًا. 9 - واستدل بالرواية الثالثة على أن بعض الطاعات قد يكتبها غير الحفظة وفي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعًا "إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر". والظاهر أن العدد [اثنى عشر ملكًا] غير مقصود لذاته ولا مفهوم له، والمراد كثرة المبتدرين، إذ رواية الطبراني "ثلاثة عشر ملكًا" ورواية البخاري "بضعة وثلاثين ملكًا". 10 - ويؤخذ من قول ابن عمر في الرواية الرابعة "فما تركتهن منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك" ما كان عليه الصحابة من الحرص على السنن والمحافظة عليها. واللَّه أعلم

(221) باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة والنهي عن إتيانها سعيا

(221) باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة والنهي عن إتيانها سعيًّا 1160 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وأتوها تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا". 1161 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا ثوب للصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة". 1162 - عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا نودي بالصلاة فأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا". 1163 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا ثوب بالصلاة فلا يسع إليها أحدكم ولكن ليمش وعليه السكينة والوقار صل ما أدركت واقض ما سبقك". 1164 - عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه رضي الله عنه قال بينما نحن نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمع جلبة فقال "ما شأنكم؟ " قالوا: استعجلنا إلى الصلاة. قال "لا تفعلوا. إذا أتيتم الصلاة فعليكم السكينة. فما أدركتم فصلوا وما سبقكم فأتموا".

-[المعنى العام]- لصلاة الجماعة فضيلة يسعى إليها كل مسلم، وللمبادرة إلى أداء الصلاة في وقتها فضيلة يحرص عليها كل مصل، وهكذا كان الصحابة يحرصون على هذه الفضائل كل الحرص، وكانوا يتسابقون ويسارعون لدرجة الجري والقفز. ولما كان للصلاة قدسيتها لأنها مناجاة، وساحة المناجاة والتهيؤ لها يعطي حكمها من التقديس والوقار، ولما كان العامد إليها يعد فيها، إعطاء للوسيلة حكم الغاية كانت دعوة الشارع إلى إتيان الصلاة بالسكينة والخشوع والوقار منذ يخرج من بيته حتى يقف في الصف. لقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصوات وحركات أصحابه يسعون ويهرولون للحاق به وهو في الصلاة، فلما سلم قال لهم: ما هذه الجلبة؟ ولماذا تلك الحركات؟ قالوا: أسرعنا وتعجلنا اللحاق بك لإدراك أكبر قدر من الفضيلة. قال: لا تعودوا لمثلها، ولا تسعوا عند إتيانكم الصلاة، وائتوها مشيًا قريب الخطا، وعليكم بالسكينة في طريقكم، وعليكم بالخشوع والوقار في إتيانكم، فإن أحدكم في طريقه إلى الصلاة عامدًا إليها يعطي الثواب كما لو كان في صلاة، فما أدركتم مع الإمام فصلوا معه، وما سبقكم فيه فأتموه بعد تسليم الإمام، فإن لكم أجركم. وهكذا دعت الشريعة إلى التبكير إلى الصلاة وانتظارها كما دعت إلى الوقار والسكينة في الذهاب إليها، فالحريص عليها ينبغي أن يبكر لها، فإن لم يبكر فلا يسرع في مشيه رفقًا به وتكريمًا وتقديسًا لساحة الصلاة، وأدبًا في التوجه إلى الله، هدانا الله لما يحبه ويرضاه. -[المباحث العربية]- (إذا أقيمت الصلاة) في الرواية الثانية "إذا ثوب للصلاة" وفي رواية البخاري "إذا سمعتم الإقامة" والمراد من التثويب الإقامة، وسميت الإقامة تثويبًا لأنها دعاء إلى الصلاة بعد الدعاء بالأذان، من قولهم: ثاب إذا رجع. وفي الرواية الثالثة "إذا نودي بالصلاة" والمراد من النداء الثاني وهو الإقامة، وفي الرواية الخامسة "إذا أتيتم الصلاة" وهو أعم من الإقامة، لكن الأولى حمل الإتيان على الإتيان عند سماع الإقامة جمعًا بين الروايات، ولأنه إذا نهى عن الإسراع عند خوف فوات الفضيلة وإدراك تكبيرة الإحرام فقد نهى عن الإسراع عند عدم الخوف من باب أولى. (فلا تأتوها تسعون) "جملة تسعون" في محل النصب على الحال، والمراد من السعي هنا الجري، لمقابلته هنا بقوله "وأتوها تمشون" وجملة "تمشون" حال أيضًا. (وعليكم السكينة) "السكينة" بالرفع - كما ضبطها النووي - مبتدأ مؤخر، و"عليكم" خبر مقدم، والجملة في موضع النصب على الحال، وضبطها القرطبي شارح مسلم بالنصب على الإغراء،

و"عليكم" اسم فعل بمعنى الزموا وفي رواية البخاري "وعليكم بالسكينة" بالباء الزائدة الداخلة على المفعول ومثلها كثير في الأحاديث الصحيحة كقوله "عليكم برخصة الله". "فعليه بالصوم". "وعليكم بقيام الليل" وفي الرواية الرابعة "وعليه السكينة والوقار" قال القاضي عياض والقرطبي: هما بمعنى واحد، وجمع بينهما للتأكيد، وقال: والظاهر أن بينهما فرقًا، وأن السكينة التأني في الحركات واجتناب العبث ونحو ذلك، والوقار في الهيئة وغض البصر وخفض الصوت والإقبال على طريقه من غير التفات ونحو ذلك. (فما أدركتم فصلوا) الفاء الأولى في جواب شرط محذوف، أي إذا فعلتم ما أمرتكم به من السكينة والوقار فما أدركتم [أي فالقدر الذي أدركتموه في الصلاة مع الإمام] فصلوا معه. (وما فاتكم فأتموا) لفظ الإتمام يقع على باق من شيء قد تقدم أكثره أو بعضه، فظاهره أن ما أدركه هو أول الصلاة، وما فاته هو آخرها وتكملتها. لكن في الرواية الرابعة "صل ما أدركت واقض ما سبقك" ومعناها في المتبادر أن ما أدركه هو آخر الصلاة وما فاته هو أولها عليه قضاؤه، والحكم يختلف على المعنيين كما سيأتي في فقه الحديث. (فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة) أي يقصدها ويتحرك لها. (فهو في صلاة) أي في ثواب صلاة وفي أجر صلاة، ولا بد من تقدير هذا المضاف لأنه لا يكون في صلاة فعلية. (بينما نحن نصلي ... ) "بينما" أصله "بين" زيدت عليه الميم والألف، وربما تزاد الألف فقط، فيقال "بينا" وهي ظرف الزمان بمعنى المفاجأة، ويضاف إلى جملة من فعل وفاعل، أو من مبتدأ وخبر، ويحتاج إلى جواب يتم به المعنى ويصدر بإذ، أو "إذا" أو الفاء، وبدون شيء من ذلك أكثر. (فسمع جلبة) جواب "بينما" وفي رواية البخاري "إذ سمع جلبة رجال" وفي رواية له "جلبة الرجال" أي أصواتًا لحركتهم وكلامهم واستعجالهم. (ما شأنكم)؟ خبر مقدم ومبتدأ مؤخر، والشأن بالهمزة وبالتخفيف الحال. (استعجلنا إلى الصلاة) السين والتاء للطلب أو للصيرورة، أي طلبنا من أنفسنا العجلة إلى الصلاة، أو صرنا عجلين إلى الصلاة. (قال: فلا تفعلوا) الفاء في جواب شرط مقدر، أي إذا تأخرتم فلا تفعلوا العجلة والإسراع، والنهي عن الاستعجال بلفظ النهي عن الفعل فيه مبالغة، لأنه من العام الذي يدخل ضمنه الخاص. كذا قيل.

-[فقه الحديث]- قال النووي: في الحديث الندب الأكيد إلى إتيان الصلاة بسكينة ووقار والنهي عن إتيانها سعيًا، سواء فيه صلاة الجمعة وغيرها، وسواء خاف فوت تكبيرة الإحرام أم لا. ثم قال: وقوله صلى الله عليه وسلم "إذا أقيمت الصلاة" إنما ذكر الإقامة للتنبيه بها على ما سواه، لأنه نهى عن إتيانها سعيًا في حال الإقامة، مع خوفه فوت بعضها فقبل الإقامة أولى، وأكد ذلك ببيان العلة، فقال صلى الله عليه وسلم "فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة" وهذا يتناول جميع أوقات الإتيان إلى الصلاة، وأكد ذلك تأكيدًا آخر، قال: "فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا" فحصل فيه تنبيه وتأكيد لئلا يتوهم متوهم أن النهي إنما هو لمن لم يخف فوت بعض الصلاة، فصرح بالنهي، وإن فات من الصلاة ما فات، وبين ما يفعل فيما فات. اهـ وهذا التعميم الذي ذكره النووي هو ما عليه عامة العلماء، فالنهي عن الإسراع إلى الصلاة ولو لم يخف الفوات، ولو قبل الإقامة واضح بالقياس الأولى الذي ذكره، وواضح من الرواية الخامسة، ولفظها "إذا أتيتم الصلاة" والحكمة في ذلك أن الذاهب إلى الصلاة ينبغي أن يكون متأدبًا بآدابها، وعلى أكمل الأحوال، ومادام - والحالة هذه - في حكم المصلي فترة توصله إليها فعليه أن يلتزم الوجل والخشوع المطلوب لها، واعتماد ما ينبغي للمصلي اعتماده واجتناب ما ينبغي للمصلي اجتنابه. وقد شذ بعضهم فجعل النهي خاصًا بمن سمع الإقامة أو خاف الفوات، ومعنى هذا أنه لا يكره الإسراع لمن جاء قبل الإقامة، وملحظه أن المسرع إذا أقيمت الصلاة يصل إليها وقد ضاق به النفس فيقرأ بغير ترتيل، ويقف في الصلاة مضطربًا من غير تمام الخشوع، بخلاف من جاء قبل ذلك فإن الصلاة قد لا تقام حتى يستريح. والنهي عن الإسراع بعد الإقامة وخوف الفوات واضح وصريح لكن الإمام أحمد يقول: ولا بأس إذا طمع أن يدرك التكبيرة الأولى أن يسرع شيئًا، ما لم يكن عجلة تقبح، فقد جاء الحديث عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يعجلون شيئًا إذا خافوا فوات التكبيرة الأولى. ذكره صاحب المغني. وحكى قبل ذلك عن إسحق بن راهويه، وأنه يرى أن الإسراع المنهي عنه هو الإسراع المفضي إلى عدم الوقار. والأصح ما ذكره النووي. ولا يقال: إن النهي عن السعي إلى الصلاة هنا يتعارض مع الأمر به في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} [الجمعة: 9] لأن المراد من السعي المنهي عنه في الحديث -كما قلنا في المباحث العربية - الجري والعجلة لمقابلته بالمشي. والمراد من السعي المأمور به في الآية المضي والذهاب لمقابلته بترك البيع، والاستعمالان لغويان. قال الحافظ ابن حجر: وعدم الإسراع يستلزم كثرة الخطا، وهو معنى مقصود لذاته، وردت فيه

أحاديث، كحديث جابر عند مسلم "إن بكل خطوة درجة"، ولأبي داود "إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لم يرفع قدمه اليمنى إلا كتب الله له حسنة، ولم يوضع قدمه اليسرى إلا حط الله عنه سيئة. فإن أتى المسجد فصلى في جماعة غفر له، فإن أتى وقد صلوا بعضًا وبقي بعض، فصلى ما أدرك، وأتم ما بقي، كان كذلك، وإن أتى المسجد وقد صلوا فأتم الصلاة كان كذلك". وفي مسند ابن حميد عن زيد بن ثابت قال: "أقيمت الصلاة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وأنا معه، فقارب في الخطا، ثم قال: أتدري لم فعلت هذا؟ لتكثر خطانا في طلب الصلاة". ويستحب أن يقول ما رواه ابن عباس وأخرجه الإمام مسلم "أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصلاة وهو يقول: اللهم اجعل في قلبي نورًا، واجعل في سمعي نورًا واجعل في بصري نورًا، واجعل من خلفي نورًا، ومن أمامي نورًا، واجعل من فوقي نورًا، ومن تحتي نورًا، وأعطني نورًا". واختلف الفقهاء فيما يدركه المسبوق مع الإمام، هل هو أول صلاته؟ أو آخرها على ثلاثة أقوال: الأول: أن ما أدركه هو أول صلاته، وما يأتي به بعد سلام الإمام هو آخرها، وهو مذهب الشافعي وجمهور العلماء من السلف والخلف، ورواية عن مالك ورواية عن أحمد، ودليله روايات "وما فاتكم فأتموا والإتمام لا يكون إلا عن شيء تقدمه، وروايات "أتموا" هي الصحيحة، ورواية "فاقضوا" فيها كلام، وهي قليلة بالنسبة لروايات "أتموا" ثم القضاء وإن كان يطلق على الفائت غالبا لكنه يطلق على الأداء أيضًا، فحمله على الأداء يوافق الرواية الأخرى، ولما كان مخرج الحديث واحدًا، والاختلاف في لفظة منه وأمكن رد الاختلاف إلى معنى يتم به الاتفاق كان ذلك أولى، ويؤيد هذا المذهب ما رواه البيهقي عن علي رضي الله عنه "ما أدركت فهو أول صلاتك" فلو أدرك المأموم الإمام في الركعتين الأخيرتين من العشاء مثلاً كانتا بالنسبة له الأوليين فإذا سلم الإمام أتم المأموم صلاته بركعتين لا يجهر فيهما ولا يقرأ سورة بعد الفاتحة، وأوضح دليل يؤيد هذا المذهب أنه يجب عليه أن يتشهد في آخر صلاته على كل حال، فلو كان ما يدركه مع الإمام آخرا له لما احتاج إلى إعادة التشهد. ويؤيده أيضًا أنهم أجمعوا على أن تكبيرة الإحرام لا تكون إلا في الركعة الأولى، فما أدركه المأموم إنما هو أول صلاته. المذهب الثاني: أن ما أدركه المأموم هو آخر صلاته، وعليه بعد تسليم الإمام أن يقضي أول صلاته بما ينبغي له من أقوال وأفعال على الهيئة اللازمة للأول وهو مذهب أبي حنيفة، ورواية عن أحمد ورواية عن مالك، بل هو قول كبار المالكية، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الرابعة "صل ما أدركت واقض ما سبقك" وبما رواه ابن أبي شيبة "وما فاتكم فاقضوا" وقد سبق رد هذا الدليل. المذهب الثالث: أنه أول صلاته بالنسبة إلى الأفعال، فلا يجهر في الإتمام بعد تسليم الإمام، وآخر صلاته بالنسبة إلى الأقوال فيقضي الأوليين بالفاتحة والسورة، وهو قول مالك في المشهور، قال ابن

بطال عنه: ما أدرك فهو أول صلاته إلا إنه يقضي مثل الذي فاته من القراءة بأم القرآن وسورة، وقال سحنون عنه: هذا الذي لم يعرف خلافه، ودليله ما رواه البيهقي عن علي "ما أدركت مع الإمام فهو أول صلاتك" واقض ما سبقك من القرآن". -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - يؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم "وما فاتكم فأتموا" جواز قول: فاتتنا الصلاة، وأنه لا كراهة فيه، وبهذا قال جمهور العلماء، وكرهه ابن سيرين وقال: إنما يقال: لم ندركها فالكراهة من جهة اللفظ، لأن قوله: لم ندركها فيه نسبة عدم الإدراك إلينا، بخلاف فاتتنا. وكلام ابن سيرين غير صحيح لثبوت النص بخلافه. 2 - قال النووي: في قوله "فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة" دليل على أنه يستحب للذاهب إلى الصلاة أن لا يعبث بيده، ولا يتكلم بقبح، ولا ينظر نظرًا قبيحًا، ويجتنب ما أمكنه مما يجتنبه المصلي، فإذا وصل المسجد وقعد ينتظر الصلاة كان الاعتناء بما ذكرناه آكد. 3 - قال الحافظ ابن حجر: استدل بقوله "فسمع جلبة" على أن التفات خاطر المصلي إلى الأمر الحادث لا يفسد صلاته. 4 - واستدل بالحديث على حصول فضيلة الجماعة بإدراك جزء من الصلاة لقوله "فما أدركتم فصلوا" ولم يفصل بين القليل والكثير. قال الحافظ ابن حجر: وهذا قول الجمهور، وقيل: لا تدرك الجماعة بأقل من ركعة، لحديث "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك" قال: وقياسًا على الجمعة. اهـ وسيأتي الكلام عليه بعد باب. 5 - واستدل به على استحباب الدخول مع الإمام في أي حالة وجد عليها وفيه حديث صريح عند ابن أبي شيبة "من وجدني راكعًا أو قائمًا أو ساجدًا فليكن معي على حالتي التي أنا عليها". 6 - قال الحافظ ابن حجر: واستدل به على أن من أدرك الإمام راكعًا لم تحسب له تلك الركعة، للأمر بإتمام ما فاته وقد فاته الوقوف والقراءة فيه، وهو قول أبي هريرة وجماعة، بل حكاه البخاري في القراءة خلف الإمام عن كل من ذهب إلى وجوب القراءة خلف الإمام، وحجة الجمهور حديث أبي بكرة، حيث ركع دون الصف، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "زادك الله حرصًا ولا تعد" ولم يأمره بإعادة تلك الركعة. واللَّه أعلم

(222) باب متى يقوم الناس للصلاة

(222) باب متى يقوم الناس للصلاة 1165 - عن أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني". وقال ابن حاتم "إذا أقيمت أو نودي". 1166 - عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وزاد إسحق في روايته حديث معمر وشيبان "حتى تروني قد خرجت". 1167 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أقيمت الصلاة فقمنا فعدلنا الصفوف قبل أن يخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا قام في مصلاه قبل أن يكبر ذكر فانصرف. وقال لنا "مكانكم" فلم نزل قيامًا ننتظره حتى خرج إلينا. وقد اغتسل. ينطف رأسه ماء. فكبر فصلى بنا. 1168 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أقيمت الصلاة وصف الناس صفوفهم وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام مقامه فأومأ إليهم بيده أن مكانكم فخرج وقد اغتسل ورأسه ينطف الماء فصلى بهم. 1169 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الصلاة كانت تقام لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فيأخذ الناس مصافهم. قبل أن يقوم النبي صلى الله عليه وسلم مقامه. 1170 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كان بلال يؤذن إذا دحضت فلا يقيم حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم فإذا خرج أقام الصلاة حين يراه.

-[المعنى العام]- إن الدقة الإسلامية، وتبحر العلماء المسلمين في دقائق الشريعة وفروعها، وكيفية استنباط الأحكام الدقيقة من نصوصها تتجلى في هذا الباب: متى يقوم المصلون لصلاة الجماعة؟ أعند بداية إقامة الصلاة؟ أم في نهايتها؟ أم عند قوله: حي على الصلاة؟ أم عند قوله: قد قامت الصلاة؟ ثم. هل تقام الصلاة قبل أن يصل الإمام؟ وهل يصطف المصلون قبل وصوله؟ . دقائق فقهية، وكلها في الاستحباب أو عدم الاستحباب، ولا بطلان على أي وجه، ولا إثم على أي اتجاه، لقد كان بلال يؤذن للصلاة أحيانًا ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته - وبيوت أزواجه صلى الله عليه وسلم كانت محيطة بالمسجد تفتح فيه - وكانت تقام الصلاة أحيانًا ويصطف الناس قبل أن يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك مشقة عليهم قد تطول لعذر، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. نهى بلالاً أن يقيم الصلاة حتى يراه، ونهى أصحابه أن يقوموا - ولو بعد الإقامة - حتى يروه، فإن وقفوا ووقف إمامهم، ثم بدا له عذر يضطره للخروج والعودة السريعة انتظروه قيامًا حتى يعود، ففي ذلك أجر لهم كما لو كانوا في الصلاة وقد شاء الله لنبيه صلى الله عليه وسلم أن ينسى أنه جنب فيحضر للصلاة ثم يتذكر، فيخرج، ثم يغتسل، ويعود، ليعلمهم أن النسيان طبيعة البشر وهو بشر مثلهم، وأنه لا حياء في الدين، فصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين. -[المباحث العربية]- (إذا أقيمت الصلاة) إذا ذكرت ألفاظ الإقامة. (حتى تروني) أي حتى تروني قد خرجت إليكم، فإذا رأيتموني خرجت فقوموا واصطفوا للصلاة. (قبل أن يكبر ذكر) أي قبل أن يدخل في الصلاة، وقبل أن ينطق بتكبيرة الإحرام تذكر أنه جنب، ففي رواية البخاري في باب الغسل "فلما قام في مصلاه ذكر أنه جنب" وفي رواية أبي نعيم "ذكر أنه لم يغتسل" وفي رواية البخاري "وانتظرنا تكبيره، وكل ذلك صريح في أنه لم يكبر ولم يدخل في الصلاة، فتحمل رواية أبي داود أنه كان دخل في الصلاة على أن المراد بقوله "دخل في الصلاة" أن قام في مقامه للصلاة وتهيأ للإحرام بها، قال النووي: ويحتمل أنهما قضيتان، وهو الأظهر. اهـ. (فانصرف) من المسجد إلى حجرته صلى الله عليه وسلم. (مكانكم) أي الزموا مكانكم، وفي رواية البخاري "على مكانكم" أي كونوا على مكانكم. (فلم نزل قيامًا ننتظره) "قيامًا" حال، وجملة "ننتظره" خبر "نزل" أو العكس، أو هما خبران.

(حتى خرج إلينا وقد اغتسل) جملة "وقد اغتسل" حالية. (ينطف رأسه ماء) "ينطف" بكسر الطاء وضمها، أي يقطر، كما جاء في رواية للبخاري. و"ماء" تمييز، والجملة حال مترادفة من فاعل "خرج" أو متداخلة من فاعل "اغتسل" والأول أوضح. (فأومأ إليهم بيده أن مكانكم) "أن" هنا تفسيرية بمعنى أي، مفسرة لمعنى "أومأ" وهي مسبوقة بجملة فيها معنى القول دون حروفه، وفي الرواية السابقة "وقال: مكانكم" فيجمع بين الروايتين بأن المراد من القول الإشارة والإيماء، أو أنه تكلم وأشار، فوضع كل منهما في رواية. (فخرج وقد اغتسل) الظاهر أن الخروج هنا من الحجرة إلى المسجد ليتفق مع الرواية السابقة في اللفظ، فهو معطوف على محذوف، أي فانصرف إلى حجرته فخرج منها إلينا وقد اغتسل. (كان بلال يؤذن) أي للظهر. (إذا دحضت) بفتح الدال والحاء والضاء، أي زالت، والضمير للشمس وإن لم يسبق لها ذكر للعلم بها، كقوله تعالى: {حتى توارت بالحجاب} [ص: 32]. -[فقه الحديث]- اختلف العلماء في: متى يقوم المأمومون للصلاة؟ . فقال مالك في الموطأ: لم أسمع في قيام الناس حين تقام الصلاة بحد محدود إلا أني أرى ذلك على طاقة الناس، فإن منهم الثقيل والخفيف. ومذهب الشافعي وطائفة أنه يستحب أن لا يقوم حتى يفرغ المؤذن من الإقامة، وهو قول أبي يوسف. وقال أبو حنيفة ومحمد: يقومون في الصف إذا قال: حي على الصلاة. وعند أحمد يستحب القيام إلى الصلاة عند قول المؤذن: قد قامت الصلاة وبهذا قال مالك في رواية، وهو قول زفر. قال ابن المنذر: على هذا أهل الحرمين. ووجهه أن قوله: قد قامت الصلاة، خبر بمعنى الأمر، ومقصوده الإعلام ليقوموا، فيستحب المبادرة إلى القيام امتثالاً للأمر. وكان عمر بن عبد العزيز ومحمد بن كعب وسالم وأبو قلابة والزهري وعطاء يقومون عند أول كلمة من الإقامة. وعن سعيد بن المسيب قال: إذا قال المؤذن: الله أكبر وجب القيام، وإذا قال: حي على الصلاة عدلت الصفوف.

هذا إذا كان الإمام في المسجد أو قريبًا منه، أما إذا لم يكن الإمام في المسجد فذهب الجمهور إلى أنهم لا يقومون، ولا يقام للصلاة حتى يروه، وعن أحمد: ينبغي أن تقام الصفوف قبل أن يدخل الإمام فلا يحتاج أن يقف. أما عن: متى يفتتح الإمام الصلاة؟ فقد قال أبو حنيفة ومحمد وزفر: إذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة كبر الإمام، لأنه أمين الشرع، وقد أخبر بقيامها، فيجب تصديقه. وعامة العلماء على أنه لا يكبر الإمام إلا بعد فراغ المؤذن من الإقامة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يكبر بعد فراغه، دل على ذلك ما روي أنه كان يعدل الصفوف بعد إقامة الصلاة، ويقول في الإقامة مثل قول المؤذن، وروى أنس قال: أقيمت الصلاة، فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه، فقال: "أقيموا صفوفكم وتراصوا، فإني أراكم من وراء ظهري" رواه البخاري. وعنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة قال هكذا وهكذا عن يمينه وشماله: "استووا وتعادلوا". وعلى هذا فروايات الباب ظاهرة التعارض، فالرواية الثانية والثالثة والرابعة أن الصلاة كانت تقام، ويصطف المصلون، وتعدل الصفوف قبل أن يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجرته، وقبل أن يراه الناس، والرواية الخامسة أن الصلاة لم تكن تقام حتى يخرج ويراه الناس. وقد جمع الحافظ ابن حجر بأن روايات أبي هريرة [الثانية والثالثة والرابعة] وقعت لبيان الجواز، وبأن صنيعهم فيها كان سبب النهي الوارد في الرواية الأولى، وأنه نهاهم عن ذلك لاحتمال أن يقع له شغل يبطئ فيه عن الخروج فيشق عليهم انتظاره. وهناك تعارض آخر في الظاهر بين الرواية الأولى والرواية الخامسة، فالرواية الأولى "إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني" ظاهرها أن الصلاة قد تقام قبل أن يروا النبي صلى الله عليه وسلم، والرواية الخامسة، وفيها "فإذا خرج الإمام أقام [بلال] الصلاة حين يراه" واضحة في أنه لم يكن يقيم حتى يراه، وقد جمع الحافظ ابن حجر بينهما نقلاً عن القرطبي بأن بلالاً كان يراقب خروج النبي صلى الله عليه وسلم، فأول ما يراه يشرع في الإقامة قبل أن يراه غالب الناس، ثم إذا رأوه قاموا، فلا يقوم في مقامه حتى تعتدل صفوفهم. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - استحباب تعديل الصفوف والتراص فيها. 2 - أنه لا يضر الفصل القليل بين الإقامة والصلاة، حيث لم يجددوا إقامة الصلاة لما اغتسل وخرج. قال الحافظ ابن حجر، الظاهر أنه مقيد بالضرورة وبأمن خروج الوقت، وعن مالك: إذا بعدت الإقامة عن الإحرام تعاد، وينبغي أن يحمل على ما إذا لم يكن عذر. 3 - جواز النسيان في العبادات على الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وقد سبق بيان ذلك في سجود السهو. 4 - استدل بقطر الماء من رأسه صلى الله عليه وسلم على طهارة الماء المستعمل.

5 - وفيه جواز الإقامة والإمام في منزله إذا كان يسمعها وقد أذن بذلك. 6 - وفيه جواز انتظار المأمومين مجيء الإمام قيامًا عند الضرورة، وقد قيل للبخاري: إذا وقع هذا لأحدنا يفعل مثل هذا؟ قال: نعم. قيل: فينتظرون الإمام قيامًا أو قعودًا؟ قال: إن كان قبل التكبير فلا بأس أن يقعدوا، وإن كان بعد التكبير انتظروه قيامًا. 7 - وفيه أنه لا حياء في أمر الدين، ويمكن لمن يغلبه الحياء أن يأتي بعذر موهم، كأن يمسك بأنفه ليوهم أنه راعف، ذكره الحافظ ابن حجر. 8 - وأنه لا يجب على من احتلم في المسجد فأراد الخروج منه أن يتيمم خلافًا لبعضهم. 9 - وفيه جواز تأخير الجنب الغسل عن وقت الحدث. 10 - وفيه رد على الحنفية في قولهم بأن الإمام يكبر إذا قال المؤذن في الإقامة، قد قامت الصلاة. 11 - وفيه أنه يجوز الخروج من المسجد بعد إقامة الصلاة لعلة وضرورة وفي ذلك تخصيص لما رواه مسلم وأبو داود عن أبي هريرة "أنه رأى رجلاً خرج من المسجد بعد أن أذن المؤذن فقال: أما هذا فقد عصى أبا القاسم" فيخص نحو هذا بمن ليس له ضرورة، ويلحق بالجنب المحدث والراعف والحاقن ونحوهم. والله أعلم

(223) باب من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك تلك الصلاة

(223) باب من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك تلك الصلاة 1171 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة". 1172 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة". 1173 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث يحيى عن مالك. وليس في حديث أحد منهم "مع الإمام" وفي حديث عبيد الله قال "فقد أدرك الصلاة كلها". 1174 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح. ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر". 1175 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أدرك من العصر سجدة قبل أن تغرب الشمس أو من الصبح قبل أن تطلع فقد أدركها" والسجدة إنما هي الركعة. 1176 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك. ومن أدرك من الفجر ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك".

-[المعنى العام]- فضل من اللَّه ورحمة أن يسر الصلاة إن ضاق وقتها. كما تفضل بقبولها قضاء إذا خرج وقتها. نعم مع المسئولية عن التأخير، ومع نقص الأجر والثواب إن لم يكن بعذر شرعي. قد يدرك المأموم الإمام في ركعة، فهل يكتب له ثواب صلاة الجماعة؟ وقد يبلغ الصبي، ويسلم الكافر، ويدرك ركعة من الصلاة قبل خروج وقتها فهل تقبل منه صلاته كاملة؟ وقد يضيق الوقت على المصلي فلا يدرك من الصلاة إلا ركعة فهل يتم وتقبل صلاته أداء؟ لقد تفضل الكريم الحليم الرحيم فشرع أن من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة. من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك فضيلة الجماعة ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته بعد طلوع الشمس وقد أدرك وقت الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته وقد أدرك وقت العصر. هذا الفضل والكرم ينبغي أن لا يقابل بالاستهتار والإهمال لأوقات الصلوات، بل لا يقابل بالإهمال للصلاة في أول وقتها، لأن الفضل إنما يكون لمن هو أهله الحريص على اتباع الأوامر الذي يغفل عن غير قصد وعن غير إهمال. -[المباحث العربية]- (من أدرك ركعة) الإدراك هنا الوصول إلى الشيء. (فقد أدرك الصلاة) ظاهره أنه يكتفي بالركعة عن الصلاة، وليس مرادًا إجماعًا، ففي الكلام مضاف محذوف، أي أدرك وقت الصلاة، وقوله في ملحق الرواية الثانية "فقد أدرك الصلاة كلها" أي فليتم وتقع كلها كما لو كانت في الوقت. وقيل في المضاف المحذوف: فقد أدرك وجوب الصلاة، وذلك في الصبي يبلغ، والكافر يسلم، والمجنون يفيق، والحائض تطهر ... إلخ، وقيل: فقد أدرك فضيلة جماعتها مع الإمام، كما تصرح الرواية الثانية. (والسجدة إنما هي الركعة) هذا تفسير من حرملة الراوي، وأصل السند عن حرملة عن ابن وهب قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب أن عروة بن الزبير حدثه عن عائشة قالت ... الحديث، ويعبر بالسجدة عن الركعة، قال الخطابي: السجدة هنا معناها الركعة، بركوعها وسجودها، والركعة إنما يكون تمامها بسجودها، فسميت على هذا المعنى سجدة. اهـ. وقيل: المراد بالركعة والسجدة جزء الصلاة، ولو تكبيرة الإحرام، وسيأتي التفصيل في فقه الحديث.

-[فقه الحديث]- الرواية الثانية ظاهرة في فضل صلاة الجماعة، فلفظها "من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام" والثالثة والرابعة والخامسة صالحة لإدراك الوقت، أو إدراك الوجوب، والرواية الأولى مطلقة تصلح للحالات الثلاث. ومن هنا قال النووي: قال أصحابنا: يدخل فيه ثلاث مسائل: إحداها: إذا أدرك من لا يجب عليه الصلاة ركعة من وقتها لزمته تلك الصلاة، وذلك في الصبي يبلغ؛ والمجنون والمغمى عليه يفيقان، والحائض والنفساء تطهران، والكافر يسلم فمن أدرك من هؤلاء ركعة قبل خروج وقت الصلاة لزمته تلك الصلاة، وإن أدرك دون الركعة كتكبيرة ففيه قولان للشافعي، أحدهما لا تلزمه لمفهوم هذا الحديث، وأصحهما عند أصحابنا تلزمه لأنه أدرك جزءًا من الوقت، فاستوى قليله وكثيره، وأجابوا عن الحديث بأن التقييد بركعة خرج مخرج الغالب، فإن غالب ما يمكن معرفة إدراكه ركعة ونحوها، وأما التكبيرة فلا يكاد يحس بها [قال الحافظ ابن حجر: وهذه الصلاة في حق أصحاب الأعذار أداء]. المسألة الثانية: إذا دخل في الصلاة في آخر وقتها، فصلى ركعة، ثم خرج الوقت كان مدركًا لأدائها، ويكون كلها أداء، وهذا هو الصحيح عند أصحابنا، وقال بعض أصحابنا يكون كلها قضاء، وقال بعضهم: ما وقع في الوقت أداء. وما بعده قضاء. وتظهر فائدة الخلاف في مسافر نوى القصر وصلى ركعة في الوقت، وباقيها بعده، فإن قلنا: الجميع أداء فله قصرها، وإن قلنا: كلها قضاء أو بعضها وجب إتمامها أربعًا على القول بأن فائتة السفر إذا قضيت في السفر يجب إتمامها. هذا كله إذا أدرك ركعة في الوقت، فإن كان دون ركعة فقال بعض أصحابنا: هو كالركعة، وقال الجمهور يكون كلها قضاء، واتفقوا على أنه لا يجوز تعمد التأخير إلى هذا الوقت. المسألة الثالثة: إذا أدرك المسبوق مع الإمام ركعة كان مدركًا لفضيلة الجماعة بلا خلاف، وإن لم يدرك ركعة، بل أدركه قبل السلام ففيه وجهان كالوجهين في المسألة الأولى. اهـ. وقال الحافظ ابن حجر في إدراك الركوع مع الإمام: مفهوم التقييد بالركعة أن من أدرك دون الركعة لا يكون مدركًا لها وهو الذي استقر عليه الاتفاق، وكان فيه شذوذ قديم، فقد قيل: إدراك الإمام راكعًا يجزئ ولو لم يدرك معه الركوع، وقيل يدرك الركعة ولو رفع الإمام رأسه ما لم يرفع بقية من ائتم به رءوسهم ولو بقي واحد، وقيل: من أدرك تكبيرة الإحرام وتكبيرة الركوع أدرك الركعة وإن لم يشارك الإمام الركوع والهوي. وما ذكره النووي تفصيل لمذهب الشافعية، ومذهب مالك أنه لا يكون مدركًا للحكم أو الفضل أو الوقت إذا أدرك أقل من ركعة، ومذهب أبي حنيفة أنه يكون مدركًا لحكم الصلاة، واختلف الفقهاء في الجمعة، فمذهب مالك وزفر ومحمد والشافعي وأحمد أن من أدرك منها ركعة أضاف إليها أخرى، ومن لم يدرك صلى ظهرًا، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: إذا أحرم في الجمعة قبل سلام الإمام صلى ركعتين.

وفي هذا الحديث دليل صريح على أن من صلى ركعة من العصر، ثم خرج الوقت لا تبطل صلاته بل يتمها، وهذا بالإجماع، وفي الصبح كذلك عند الشافعي ومالك وأحمد، وعند أبي حنيفة تبطل صلاة الصبح بطلوع الشمس فيها، لأنه دخل في وقت النهي عن الصلاة. وفي الرواية الثالثة والرابعة والخامسة رد على أبي حنيفة، ففيها "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح" ومعناها لا تبطل صلاته، بل يتمها وهي صحيحة. وأصرح من هذا رواية البخاري "وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته". وقد حاول الطحاوي الدفاع عن الحنفية بحمل الإدراك على إدراك الصبيان والحيض والكافرين ونحوهم من أصحاب الأعذار، ورواية البخاري السابقة ترد عليه، لأنه يقول: يجب عليهم قضاؤها لا إتمامها. وادعى بعض الحنفية أن هذه الأحاديث منسوخة بأحاديث النهي عن الصلاة حين طلوع الشمس. قال: وإذا اجتمع المحرم والمبيح يكون العمل للمحرم ويكون المبيح منسوخًا. قال الحافظ ابن حجر: وهي دعوى تحتاج إلى دليل، فإنه لا يصار إلى النسخ بالاجتماع، والجمع بين الحديثين ممكن، بأن تحمل أحاديث النهي على ما لا سبب له من النوافل، ولا شك أن التخصيص أولى من ادعاء النسخ. اهـ. واللَّه أعلم

(224) باب أوقات الصلوات الخمس

(224) باب أوقات الصلوات الخمس 1177 - عن ابن شهاب أن عمر بن عبد العزيز أخر العصر شيئًا فقال له عروة أما إن جبريل قد نزل فصلى إمام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له عمر: اعلم ما تقول يا عروة. فقال سمعت بشير بن أبي مسعود يقول: سمعت أبا مسعود يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "نزل جبريل فأمني. فصليت معه. ثم صليت معه. ثم صليت معه. ثم صليت معه. ثم صليت معه". يحسب بأصابعه خمس صلوات. 1178 - عن ابن شهاب أن عمر بن عبد العزيز أخر الصلاة يومًا فدخل عليه عروة بن الزبير فأخبره أن المغيرة بن شعبة أخر الصلاة يومًا وهو بالكوفة فدخل عليه أبو مسعود الأنصاري فقال: ما هذا؟ يا مغيرة أليس قد علمت أن جبريل نزل فصلى؛ فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صلى؛ فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم صلى؛ فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: بهذا أمرت. فقال عمر لعروة: انظر ما تحدث يا عروة أو إن جبريل عليه السلام هو أقام لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقت الصلاة؟ فقال عروة: كذلك كان بشير بن أبي مسعود يحدث عن أبيه. 1179 - قال عروة: ولقد حدثتني عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها. قبل أن تظهر. 1180 - عن عائشة رضي الله عنها كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي العصر والشمس طالعة في حجرتي. لم يفئ الفيء بعد. وقال أبو بكر: لم يظهر الفيء بعد. 1181 - عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها. لم يظهر الفيء في حجرتها.

1182 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر والشمس واقعة في حجرتي. 1183 - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا صليتم الفجر فإنه وقت إلى أن يطلع قرن الشمس الأول. ثم إذا صليتم الظهر فإنه وقت إلى أن يحضر العصر. فإذا صليتم العصر فإنه وقت إلى أن تصفر الشمس. فإذا صليتم المغرب فإنه وقت إلى أن يسقط الشفق. فإذا صليتم العشاء فإنه وقت إلى نصف الليل". 1184 - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "وقت الظهر ما لم يحضر العصر ووقت العصر ما لم تصفر الشمس ووقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق. ووقت العشاء إلى نصف الليل. ووقت الفجر ما لم تطلع الشمس". 1185 - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "وقت الظهر إذا زالت الشمس. وكان ظل الرجل كطوله. ما لم يحضر العصر. ووقت العصر ما لم تصفر الشمس. ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق. ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط. ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر، ما لم تطلع الشمس. فإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة؛ فإنها تطلع بين قرني شيطان". 1186 - عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الصلوات؟ فقال "وقت صلاة الفجر ما لم يطلع قرن الشمس الأول. ووقت صلاة الظهر إذا زالت الشمس عن بطن السماء، ما لم يحضر العصر. ووقت صلاة

العصر ما لم تصفر الشمس، ويسقط قرنها الأول. ووقت صلاة المغرب إذا غابت الشمس، ما لم يسقط الشفق. ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل". 1187 - عن عبد الله بن يحيى بن أبي كثير قال: سمعت أبي يقول: لا يستطاع العلم براحة الجسم. 1188 - عن سليمان بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً سأله عن وقت الصلاة؟ فقال له "صل معنا هذين" (يعني اليومين) فلما زالت الشمس أمر بلالاً فأذن. ثم أمره فأقام الظهر. ثم أمره فأقام العصر، والشمس مرتفعة بيضاء نقية. ثم أمره فأقام المغرب حين غابت الشمس. ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق. ثم أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر. فلما أن كان اليوم الثاني أمره فأبرد بالظهر؛ فأبرد بها. فأنعم أن يبرد بها. وصلى العصر والشمس مرتفعة، أخرها فوق الذي كان. وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق. وصلى العشاء بعدما ذهب ثلث الليل. وصلى الفجر فأسفر بها. ثم قال "أين السائل عن وقت الصلاة؟ " فقال الرجل: أنا. يا رسول الله قال: "وقت صلاتكم بين ما رأيتم". 1189 - عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم. فسأله عن مواقيت الصلاة؟ فقال "اشهد معنا الصلاة" فأمر بلالاً فأذن بغلس. فصلى الصبح، حين طلع الفجر. ثم أمره بالظهر، حين زالت الشمس عن بطن السماء. ثم أمره بالعصر، والشمس مرتفعة. ثم أمره بالمغرب، حين وجبت الشمس، ثم أمره بالعشاء، حين وقع الشفق. ثم أمره الغد فنور بالصبح. ثم أمره بالظهر فأبرد. ثم أمره بالعصر والشمس بيضاء نقية لم تخالطها صفرة. ثم أمره بالمغرب قبل أن يقع الشفق. ثم أمره بالعشاء عند ذهاب ثلث الليل أو بعضه (شك حرمي). فلما أصبح قال "أين السائل؟ ما بين ما رأيت وقت". 1190 - عن أبي بكر بن أبي موسى عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أتاه سائل يسأله عن مواقيت الصلاة؟ فلم يرد عليه شيئًا. قال فأقام الفجر حين انشق الفجر، والناس لا

يَكَادُ يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ بِالظُّهْرِ، حِينَ زَالَتْ الشَّمْسُ، وَالْقَائِلُ يَقُولُ قَدْ انْتَصَفَ النهَارُ، وَهُوَ كَان أَعْلَمَ مِنْهُمْ. ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ بِالْعَصْرِ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ. ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ بِالْمَغْرِبِ حِينَ وَقَعَتْ الشَّمْسُ. ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ. ثُمَّ أَخَّرَ الْفَجْرَ مِنْ الْغَدِ حَتَّى انْصَرَفَ مِنْهَا، وَالْقَائِلُ يَقُولُ قَدْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ أَوْ كَادَتْ. ثُمَّ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى كَانَ قَرِيبًا مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ بِالأَمْسِ. ثُمَّ أَخَّرَ الْعَصْرَ حَتَّى انْصَرَفَ مِنْهَا، وَالْقَائِلُ يَقُولُ قَدْ احْمَرَّتْ الشَّمْسُ. ثُمَّ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ حَتَّى كَانَ عِنْدَ سُقُوطِ الشَّفَقِ. ثُمَّ أَخَّرَ الْعِشَاءَ حَتَّى كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الأَوَّلِ. ثُمَّ أَصْبَحَ فَدَعَا السَّائِلَ فَقَالَ "الْوَقْتُ بَيْنَ هَذَيْنِ". 1191 - عَنِ أَبِي مُوسَى - رضي الله عنه - أَنَّ سَائِلا أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -. فَسَأَلَهُ عَنِ مَوَاقِيتِ الصَّلاةِ؟ بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ نُمَيْرٍ. غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: فَصَلَّى الْمَغْرِبَ قَبْلَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ. فِي الْيَوْمِ الثَّانِي. -[المعنى العام]- فرض الله تعالى على المسلمين خمس صلوات في اليوم والليلة، وحدد لكل صلاة وقتا معينا له بداية ونهاية، وجعل الفضل الأكبر للصلاة في أول وقتها وتيسيرا على الأمة، ورفعا للحرج والمشقة فسح لها في الوقت ليؤدي المعذور والمشغول ما عليه. حدد الشارع مواقيت الصلاة بأسلوبين: أسلوب الوحي إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - بالقول، والوحي إليه بالعمل، حيث نزل جبريل عليه السلام في يومين، يصلي إماما بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في أول وقت كل صلاة يومًا، وفى آخر وقت كل صلاة يومًا، واستخدم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، الأسلوب نفسه في التبليغ للأمة، يحدد الوقت بالقول أحيانًا، ويقول للسائل: صل معنا يومين أحيانًا أخرى، فإذا صلى معه صلى الصلوات الخمس في أول وقتها يومًا، وفى آخر وقتها يومًا، ثم قال للسائل: الوقت الصالح للصلاة ما بين الوقتين اللذين صلينا فيهما أمس واليوم. وحرص الصحابة والتابعون على التمسك بالشريعة، وحرص الأئمة على أول الوقت حيث لا ضرورة، فإذا رأوا إماما أخر الصلاة عن أول وقتها نهوه وطلبوا إليه مراعاة السنة، وكان تحديد الأوقات بالوسيلة الميسورة آنذاك، بل الميسورة في كل العصور للمسافرين والبعيدين عن الحضر، كانت بتحركات الشمس وآثارها، فالفجر من ظهور الفجر الصادق إلى طلوع الشمس، والظهر من زوالها حتى يصير ظل كل شئ مثله، والعصر من انتهاء وقت الظهر إلى غروب الشمس، والمغرب من الغروب حتى غياب الشفق، والعشاء من غياب الشفق حتى الفجر. أعاننا الله على ذكره وشكره وحسن عبادته.

المباحث العريية (أخر العصر شيئا) أي قدرا عن أول وقته، يوما ما، وكان أميرا على المدينة زمن الوليد بن عبد الملك. قال ابن عبد البر: المراد أنه أخرها حتى خرج الوقت المستحب. (أما إن جبريل قد نزل) " أما" بفتح الهمزة وتخفيف الميم حرف استفتاح. (فصلى إمام رسول الله) "إمام" بكسرالهمزة، يوضحه قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية نفسها "نزل جبريل فأمني". (أن المغيرة بن شعبة أخر الصلاة يوما، وهو بالكوفة) أميرًا عليها من قبل معاوية، والصلاة المذكورة صلاة العصر أيضًا. (نزل فصلى، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) كرر هكذا خمس مرات، ومعناه أنه كلما فعل جزءًا من أجزاء الصلاة فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - بعده حتى تكاملت صلاته وهذا معنى "أمني" في الرواية السابقة، لا كما توهمه العبارة من أن جبريل يصلي الفريضة وينتهي منها ثم يصليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحده. (ثم قال: بهذا أمرت) أي قال جبريل: بهذا أمرت يا محمد، فالتاء للمخاطب، أو بهذا أمرت أن أعلمك يا محمد، فالتاء للمتكلم، والإشارة إلى تعدد الصلوات إلى خمس في أوقاتها. (انظر ما تحدث يا عروة) أي تأكد وتثبت مما تحدث يا عروة، ولم يكن هذا الحديث قد بلغ عمر بن عبد العزيز فطلب التأكد. (أو إن جبريل عليه السلام هو أقام لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقت الصلاة)؟ الهمزة للاستفهام، الواو مفتوحة عاطفة على محذوف، "وأقام" بمعنى حدد وعدل، والمعنى أصلى جبريل بالرسول وإن جبريل هو الذي حدد أوقات الصلاة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ . (قال عروة: كذلك كان بشير يحدث) أي نعم هكذا سمعت من بشير عن أبيه. (قال عروة: ولقد حدثتني عائشة) استدلال آخر من عروة على عدم تأخير العصر. (والشمس في حجرتها قبل أن تظهر) في الرواية الثالثة "والشمس طالعة في حجرتي" وفى الرواية الرابعة "والشمس في حجرتها" وفي الرواية الخامسة "والشمس واقعة في حجرتي" فمعنى "والشمس في حجرتها قبل أن تظهر" أي قبل أن ترتفع، قال الحافظ ابن حجر: فالمراد بظهور الشمس خروجها من الحجرة، وأما ظهور الفئ فالمراد انبساطه في الحجرات. (والشمس طالعة في حجرتي لم يفئ الفئ) أي والشمس ظاهرة في حجرتي لم يغطها الظل تغطية كاملة، بأن غطى معظمها وبقي في الحجرة جزء به شمس.

قال النووي: والمعنى على هذه الروايات التبكير بصلاة العصر في أول وقتها، وهو حين يصير ظل كل شيء مثله، وكانت الحجرة ضيقة العرصة [الفراغ] قصيرة الجدار، بحيث يكون طول جدارها أقل من مساحة العرصة [أي أقل من ضلع الفراغ] بشيء يسير، فإذا صار ظل الجدار مثله دخل وقت العصر وتكون الشمس ما زالت في أواخر العرصة، لم يقع الفيء في الجدار الشرقي. وكل الروايات محمولة على ما ذكرناه. اهـ. (إلى أن يطلع قرن الشمس الأول) أي قوسها الأعلى. (إلى أن يسقط الشفق) أي يغيب الشفق من الأفق. وهو لفظ الرواية الثامنة، وفى الرواية الحادية عشرة "حين وقع الشفق". وفى الرواية السابعة "ما لم يسقط ثور الشفق" أي ثورته وانتشاره، وهل المراد الشفق الأحمر أو الأبيض؟ خلاف بين الفقهاء. (فإنها تطلع بين قرني شيطان) قال النووي: قيل: المراد بقرنه أمته وشيعته، وقيل: قرنه جانب رأسه، وهذا ظاهر الحديث، فهو أولى، ومعناه أنه يدني رأسه إلى الشمس في هذا الوقت ليكون الساجدون للشمس من الكفار في هذا الوقت كالساجدين له. وحينئذ يكون له ولشيعته تسلط وتمكن من أن يلبسوا على المصلي صلاته، فكرهت الصلاة في هذا الوقت لهذا المعنى، اهـ. (والشمس مرتفعة بيضاء نقية) أي لا صفرة فيها. (فأبرد بالظهر) أي أخر صلاته إلى أن يبرد الوقت وينكسر وهج الشمس وحرارتها. (فأنعم أن يبرد بها) "أنعم" بفتح العين والميم، أي فأحسن الإبراد بها. (أخرها فوق الذي كان) أي بالأمس. (وصلى الفجر فأسفر بها) في الرواية الحادية عشرة "فنور بالصبح، أي أسفر، من النور وهو الإضاءة، أي صلى الفجر والضوء منتشر قبل طلوع الشمس. (فأذن بغلس) بفتح الغين واللام، وهو ظلمة آخر الليل. (ثم أمره بالمغرب حين وجبت الشمس) أي حين غابت. (فلم يرد عليه شيئًا) أي لم يرد جوابا ببيان الأوقات باللفظ، بل قال له: صل معنا لتعرف ذلك ويحصل لك البيان بالفعل. قاله النووي، وقال: وإنما تأولناه لنجمع بينه وبين بريدة [الرواية العاشرة والحادية عشرة] ولأن المعلوم من أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يجيب إذا سئل عما يحتاج إليه. اهـ. (والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضا) من الظلمة.

فقه الحديث يمكن أن نجمع ألفاظ الروايات المختلفة عن كل وقت على حدة، تم نتبين منها وقت كل صلاة على الوجه التالي: 1 - وقت الصبح: [إذا صليتم الفجر فإنه وقت إلى أن يطلع قرن الشمس الأول] الرواية السادسة. [ووقت الفجر ما لم تطلع الشمس] الرواية السابعة [ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس] الرواية الثامنة [ووقت صلاة الفجر ما لم يطلع قرن الشمس الأول] الرواية التاسعة [فأقام الفجر حين طلع الفجر] [وصلى الفجر فأسفر بها] الرواية العاشرة [فأذن بغلس فصلى الصبح حين انشق الفجر والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضا] [ثم أخر الفجر من الغد حتى انصرف منها والقائل يقول: قد طلعت الشمس أو كادت] الرواية الثانية عشرة. قال الفقهاء: يبدأ وقت صلاة الصبح بطلوع الفجر الصادق بالإجماع والفجر الصادق هو البياض المستطير المنتشر في الأفق، أما الفجر الكاذب -وهو البياض المستدق الصاعد من غير اعتراض- فلا يتعلق به حكم. وأما نهاية وقت صلاة الصبح فالجمهورعلى أنه عند طلوع أول جزء من الشمس، فإذا طلع أول جزء من الشمس خرج وقت الأداء وصارت قضاء ودليله الرواية السادسة والسابعة والثامنة والتاسعة، وفى الكل تصريح بطلوع الشمس كغاية لوقت صلاة الصبح. قال النووي: قال أبو سعيد الاصطخري من الشافعية: إذا أسفر الفجر صارت قضاء بعد الإسفار لأن جبريل عليه السلام صلى في اليوم الثاني حين أسفر الفجر، وقال: الوقت ما بين هذين [وحديث جبريل الذي يشير إليه النووي رواه أبو داود وابن خزيمة والطبراني بمثل روايتنا الثانية، وزاد أن جبريل أم النبي - صلى الله عليه وسلم - في يومين لوقتين مختلفين لكل صلاة، فصلى في اليوم الثاني في آخر الوقت] قال النووي: ودليل الجمهور هذا الحديث [أي الروايات التي ذكرناها] قالوا: وحديث جبريل عليه السلام لبيان وقت الاختيار، لا لاستيعاب وقت الجواز، للجمع بينه وبين الأحاديث الصحيحة في امتداد الوقت إلى أن يدخل وقت الصلاة الأخرى إلا الصبح، وهذا التأويل أولى من قول من يقول أن هذه الأحاديث ناسخة لحديث جبريل عليه السلام، لأن النسخ لا يصار إليه إلا إذا عجزنا عن التأويل، ولم نعجز في هذه المسألة. والله أعلم. اهـ. والرواية العاشرة "وصلى الفجر فأسفر بها" والحادية عشرة "فنور بالصبح" تشهدان للأصطخري، حيث قصد بالصلاة بيان نهاية وقتها وكان في الإسفار ونور الصبح، ولكن الجمهرة على خلافه وعلى اعتبار النهاية القولية "ما لم يطلع قرن الشمس الأول". وقد سبق القول في الحديث السابق أن من أدرك ركعة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، وليتم صلاته خلافا للحنفية القائلين ببطلان صلاته، لأنه صلى في وقت النهي عن الصلاة. وقد يشهد لهم الرواية الثامنة، وفيها "فإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة".

2 - ووقت الظهر جاء في رواياته "إذا صليتم الظهر فإنه وقت إلى أن يحضر العصر" الرواية السادسة "ووقت الظهر ما لم يحضر العصر" الرواية السابعة "ووقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر العصر" الرواية الثامنة "ووقت الظهر إذا زالت الشمس عن بطن السماء ما لم يحضر العصر" الرواية التاسعة "فلما زالت الشمس أمر بلالا فأذن" "فلما كان اليوم الثاني أمره فأبرد بالظهر" الرواية العاشرة "ثم أمره بالظهر حين زالت الشمس عن بطن السماء" "ثم أمره بالظهر فأبرد" الرواية الحادية عشرة "ثم أمره فأقام بالظهر حين زالت الشمس، والقائل يقول: قد انتصف النهار" "ثم أخر الظهر حتى كان قريبًا من وقت العصر بالأمس". قال الفقهاء: أول وقت الظهر إذا زالت الشمس. أجمع على ذلك أهل العلم، والروايات المذكورة واضحة في ذلك، ومعنى زوال الشمس ميلها عن كبد السماء، ويعرف ذلك بطول ظل الشيء بعد تناهي قصره، فإذا أردت أن تضبط وقت الزوال فانظر ظل عود مثبت على الأرض المستوية، فكلما رأيت الظل ينقص فأنت قبل الزوال، وإذا رأيت الظل يزيد فأنت بعد الزوال واللحظة التي بين النقصان والزيادة هي لحظة الزوال، ويختلف طول الظل لحظة الزوال من بلد إلى آخر ومن فصل إلى آخر. وآخر وقت الظهر عندما يصير ظل كل شيء مثله زيادة على ظل الزوال على معنى أن تضبط طول الظل لحظة الزوال ثم تضيف إليه طول الشيء فعندما يصير ظل الشيء مثله انتهى وقت الظهر وبدأ وقت العصر وأحاديث الباب لم تحدد وقت انتهاء الظهر إلا بحضور وقت العصر بل هي لم تحدد ابتداء وقت العصر كما سيأتي، وقال إسحاق: آخر وقت الظهر أول وقت العصر يشتركان في قدر الصلاة، فلو أن رجلين يصليان معا، أحدهما يصلي الظهر والآخر يصلي العصر حين صار ظل كل شيء مثله كان كل واحد منهما مصليا لها في وقتها، وحكى ذلك عن ابن المبارك، لكن الجمهور على خلافه وأن أول الوقت يكون بانتهاء وقت السابق إلا في الظهر مع الصبح، ولا يشترك صلاتان في وقت واحد إلا في الجمع بينهما في السفر أو في الحضر للحاجة أو الضرورة على ما سيأتي: 3 - ووقت العصر جاء في رواياته "عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي العصر والشمس في حجرتها قبل أن تظهر" الرواية الثانية "وعنها: كان يصلي العصر والشمس طالعة في حجرتي لم يفيء الفيء بعد" الرواية الثالثة "كان يصلي العصر والشمس في حجرتها لم يظهر الفيء في حجرتها" الرواية الرابعة وقريب منها الرواية الخامسة "فإذا صليتم العصر فإنه وقت إلى أن تصفر الشمس" الرواية السادسة ومثلها السابعة والثامنة "ووقت صلاة العصر ما لم تصفر الشمس ويسقط قرنها الأول" الرواية التاسعة "ثم أمره أن يقيم العصر والشمس بيضاء نقية" "وصلى العصر والشمس مرتفعة" الرواية العاشرة وقريب منها الحادية عشرة "ثم أخر العصر حتى انصرف منها والقائل يقول قد احمرت الشمس" الرواية الثانية عشرة. ومن الواضح أن روايات الباب لم تتعرض إلى أول وقت العصر، وقد ذكرنا أنه يحين بانتهاء وقت الظهر حين يصير ظل كل شيء مثله بعد ظل الزوال. قال الحافظ ابن حجر ولم ينقل عن أحد من أهل العلم مخالفة في ذلك إلا عن أبي حنيفة

فالمشهور عنه أنه قال: أول وقت العصر مصير ظل كل شيء مثليه -بالتثنية- قال القرطبي: خالفه الناس كلهم في ذلك حتى أصحابه -يعني الآخذين عنه- وقد انتصر له جماعة من الحنفية، فقالوا ثبت الأمر بالإبراد، ولا يحصل الإبراد إلا بعد ذهاب اشتداد الحر، ولا يذهب في تلك البلاد إلا بعد أن يصير ظل الشيء مثليه، فيكون أول وقت العصر مصير الظل مثليه. قال الحافظ ابن حجر: وحكاية مثل هذا تغني عن رده. أما آخر وقت العصر فظاهر روايات الباب أنه اصفرار الشمس أو احمرارها، وفي الرواية التاسعة تصريح بأنه ينتهي عند بداية غروب الشمس فلفظها "ما لم تصفر الشمس ويسقط قرنها الأول" وفي الباب السابق ذكرنا أن "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر". ومن هنا قال جمهور العلماء: إن للعصر وقت اختيار ووقت ضرورة وعذر أما الثاني فهو إلى غروب الشمس وسقوط قرنها الأول، وأما وقت الاختيار فقد اختلفوا في التعبير عنه، فعن أحمد في بعض الروايات أنه حين يصير ظل كل شيء مثليه، وهو قول مالك والشافعي؛ وأصح الروايات عن أحمد أنه حين تصفر الشمس، وهو قول أبي يوسف ومحمد، وهو الموافق لروايات الباب. والتحقيق أن التعبيرين قريبان في مؤداهما. هذا. وقد روى البخاري عن ابن عباس "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بالمدينة سبعا وثمانيا، الظهر والعصر، والمغرب والعشاء" أي جمع في الحضر بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء. ورواه مالك وقال بدل "بالمدينة": "من غير خوف ولا سفر" ورواه مسلم وأصحاب السنن بلفظ "من غير خوف ولا مطر" قال الحافظ ابن حجر: فانتفى أن يكون الجمع المذكور للخوف أو السفر أو المطر وجوز بعض العلماء أن يكون الجمع المذكور للمرض، وقواه النووي. قال الحافظ: وفيه نظر لأنه لو كان جمعه صلى الله عليه وسلم بين الصلاتين لعارض المرض لما صلى معه إلا من كان به نحو ذلك العذر، والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم جمع بأصحابه. صرح بذلك ابن عباس في روايته. قال النووي: ومنهم من تأوله على أنه كان في غيم، فصلى الظهر ثم انكشف الغيم مثلا فبان أن وقت العصر دخل فصلاها. قال النووي: وهو باطل لأنه وإن كان فيه أدنى احتمال في الظهر والعصر، فلا احتمال فيه في المغرب والعشاء، قال: ومنهم من تأوله على أن الجمع المذكور صوري، بأن يكون أخر الظهر إلى آخر وقتها، وعجل العصر في أول وقتها، قال. وهو احتمال ضعيف أو باطل، لأنه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل. قال الحافظ ابن حجر وقد ذهب جماعة من الأئمة إلى الأخذ بظاهر هذا الحديث، فجوزوا الجمع في الحضر للحاجة مطلقا، لكن بشرط أن لا يتخذ ذلك عادة، وممن قال به ابن سيرين وربيعة وأشهب وابن المنذر والقفال الكبير وحكاه الخطابي عن جماعة من أصحاب الحديث، واستدل لهم بما وقع عند مسلم في هذا الحديث من طريق سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: لم فعل ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أحدا من أمته. وقد جاء مثله عن ابن مسعود مرفوعا فيما أخرجه الطبراني، ولفظه "جمع

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء. فقيل له في ذلك، فقال: صنعت هذا لئلا تحرج أمتي". والذي تستريح إليه النفس أن الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء في الحضر لا يرخص به إلا عند مشقة عارضة تورث حرجًا على المصلي لكل منهما في وقته، على أن لا تتخذ قاعدة وعادة له مهما كانت المشقة عادة. والله أعلم. 4 - ووقت المغرب جاء في رواياته "فإذا صليتم المغرب فإنه وقت إلى أن يسقط الشفق" الرواية السادسة "ووقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق" الرواية السابعة "ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق" الرواية الثامنة "ووقت صلاة المغرب إذا غابت الشمس ما لم يسقط الشفق" الرواية التاسعة "فأقام المغرب حين غابت الشمس" "وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق" الرواية العاشرة "ثم أمره بالمغرب حين وجبت الشمس" "ثم أمره بالمغرب قبل أن يقع الشفق" الرواية الحادية عشرة "فأقام بالمغرب حيث وقعت الشمس" "ثم أخر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق" الرواية الثانية عشرة، وواضح من الروايات أن أول وقت المغرب من غروب الشمس، أي من انتهاء سقوط جميع قرص الشمس، وأن نهاية وقت المغرب نهاية سقوط وغياب الشفق، ومن المعروف أن الشفق شفقان: الشفق الأحمر والشفق الأبيض، والأحمر يغيب أولا. وفي المراد منهما كعلامة لنهاية وقت المغرب وبداية وقت العشاء خلاف، فمذهب الإمام أحمد ومالك والشافعي وصاحبي أبي حنيفة أن المعتمد هو الشفق الأحمر. وعند أبي حنيفة أن المعتمد هو الشفق الأبيض. نعم قال قوم باعتماد الشفق الأحمر في السفر، لأن الأفق يكون ظاهرًا، واعتماد الشفق الأبيض في الحضر لأن في الحضر قد تنزل الحمرة فتختفي في الجدار فيظن أنها قد غابت، فإذا غاب البياض فقد تيقن سقوط الشفق. وامتداد وقت المغرب إلى غروب الشفق أحد قولين في مذهب الشافعية. والقول الآخر أنها ليس لها إلا وقت واحد وهو عقب غروب الشمس بقدر ما يتطهر ويستر عورته ويؤذن ويقيم، فإن أخر الدخول في الصلاة عن هذا الوقت أثم وصارت قضاء، وحجتهم أن جبريل صلى المغرب في اليومين في وقت واحد، والقول الأول هو الراجح وهو الموافق لأحاديث الباب. والله أعلم. 5 - ووقت العشاء جاء في رواياته "فإذا صليتم العشاء فإنه وقت إلى نصف الليل" الرواية السادسة، وقريب منها الرواية السابعة والتاسعة "ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط" "فأقام العشاء حين غاب الشفق" "وصلى العشاء بعدما ذهب ثلث الليل" الرواية العاشرة، وقريب منها الرواية الحادية عشرة والثانية عشرة. ولا خلاف في أول وقت العشاء وأنه غياب الشفق، والخلاف في نهاية وقت العشاء وظاهر الروايات أن آخر وقت صلاة العشاء نصف الليل والروايات العاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة التي تفيد أن صلاة العشاء وقعت بعد الثلث الأول لا تخالف أن نهاية الوقت نصف الليل، وهذا وقت الاختيار وهذا مذهب أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وأحد قولي أحمد، ويؤيده ما رواه أبو داود عن عبد الله بن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "وقت العشاء إلى نصف الليل". وهؤلاء يقولون: إن الأولى أن لا

يؤخرها عن ثلث الليل وإن أخرها إلى نصف الليل جاز للاختيار. وذهب مالك إلى أن نهاية وقت الاختيار ثلث الليل، وهو أحد قولي الإمام أحمد وأحد قولي الشافعي، قالوا: إن ثلث الليل يجمع الروايات، والزيادة تعارضت الأخبار فيها، فكان ثلث الليل أولى. فإذا ذهب ثلث الليل على الرأي الثاني، أو نصفه على الرأي الأول بقي وقت الضرورة والأعذار حتى يطلع الفجر الثاني، وهو البياض الذي يرى من قبل المشرق وينتشر ولا ظلمة بعده. والله أعلم. هذا وما ذكر عن أوقات الصلاة في هذا الباب بيان لبداية الوقت ونهايته، وسيأتي في أبواب لاحقة ما كان عليه صلى الله عليه وسلم في صلاته، وما كان يقدمه أو يؤخره على أنه الأولى والأفضل في إقامة الصلاة. ويؤخذ من أحاديث الباب غير ما تقدم 1 - فيها دليل على أن وقت الصلاة من فرائضها، وأنها لا تجزى قبل وقتها. قال الحافظ ابن حجر وهذا لا خلاف فيه. 2 - وفيها المبادرة بالصلاة في أول وقتها، وهذا هو الأصل وإن روى الإبراد بالظهر والإسفار بالفجر وتأخير العشاء بالأحاديث الصحيحة. 3 - في الحديث الأول دخول العلماء على الأمراء، وإنكارهم عليهم ما يخالف السنة. 4 - ومن مراجعة عمر بن عبد العزيز يؤخذ جواز مراجعة العالم لطلب البيان والرجوع إلى السنة. 5 - ومن حديث صلاة جبريل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ ابن العربي جواز صلاة المفترض خلف المتنفل من جهة أن الملائكة ليسوا مكلفين بمثل ما كلف به الإنس، وهذا الاستدلال غير سليم، لأن جبريل والحالة هذه كان مكلفا وليس متنفلا. 6 - وفي الأحاديث أن للصلاة وقت فضيلة، ووقت اختيار ووقت ضرورة. 7 - وفي الأحاديث أن وقت المغرب ممتد إلى سقوط الشفق. 8 - وفي حديث جبريل وحديث بريدة البيان بالفعل، وهو أبلغ في الإيضاح، وتعم فائدته السائل وغيره. 9 - وفيه تأخير البيان إلى وقت الحاجة، وهو مذهب جمهور الأصوليين. 10 - وفيه جواز تأخير الصلاة عن أول وقتها، وترك فضيلة أول الوقت لمصلحة راجحة. والله أعلم

(225) باب استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر لمن يمضي إلى الجماعة ويناله الحر في طريقه

(225) باب استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر لمن يمضي إلى الجماعة ويناله الحر في طريقه 1192 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة. فإن شدة الحر من فيح جهنم". 1193 - ، 3 عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا كان اليوم الحار فأبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم". قال عمرو: وحدثني أبو يونس عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أبردوا عن الصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم". 1194 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن هذا الحر من فيح جهنم فأبردوا بالصلاة". 1195 - عن همام بن منبه قال هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أبردوا عن الحر في الصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم". 1196 - عن أبي ذر رضي الله عنه قال أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالظهر فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أبرد أبرد". أو قال "انتظر انتظر" وقال "إن شدة الحر من فيح جهنم. فإذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة". قال أبو ذر حتى رأينا فيء التلول. 1197 - عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اشتكت النار إلى ربها.

فقالت: يا رب أكل بعضي بعضًا. فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف. فهو أشد ما تجدون من الحر. وأشد ما تجدون من الزمهرير". 1198 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا كان الحر فأبردوا عن الصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم". وذكر "أن النار اشتكت إلى ربها. فأذن لها في كل عام بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف". 1199 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "قالت النار: رب أكل بعضي بعضًا. فأذن لي أتنفس فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف. فما وجدتم من برد أو زمهرير فمن نفس جهنم. وما وجدتم من حر أو حرور فمن نفس جهنم". -[المعنى العام]- تشتد الحرارة في الجزيرة العربية، ويقل فيها الزرع كما يقل فيها الظل الذي يخفف شدة الحرارة ويتيح للمصلين الذهاب إلى الجماعة بالمساجد في صلاة الظهر. أمام هذه المشقة أذن الشارع بتأخير صلاة الظهر عن أول وقتها حتى تخف الحرارة، فطلب صلى الله عليه وسلم من المؤذن أن يؤخر أذان الظهر وقال للمسلمين إذا اشتد الحر فأخروا صلاة الظهر حتى يبرد الحر أي إلى قبيل انتهاء وقت الظهر، وذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشدة حر جهنم ليحذروها ويعملوا على اتقائها فقال لهم: إن ما لا تحتملون من حر الدنيا ما هو إلا نفس من أنفاس جهنم، أما نارها فنعوذ بالله منها، فقد أكل بعضها بعضاً من شدة استعارها. فاللهم قنا عذاب النار، ونعوذ بك من كل عمل يقرب من النار. -[المباحث العربية]- (فأبردوا الصلاة) كذا في بعض النسخ، و"أبردوا" بهمزة قطع وكسر الراء، أي أخروا الصلاة إلى أن يبرد الوقت، يقال: أبرد إذا دخل في البرد، والمراد بالصلاة صلاة الظهر، إذ هي التي تكون في شدة الحر غالباً، والمعنى أدخلوا صلاة الظهر في البرد فأبردوا ضمن معنى أدخلوا.

وفي الرواية الثانية "فأبردوا بالصلاة" فالباء زائدة. وفي الرواية الثالثة والثامنة "أبردوا عن الصلاة" فعن بمعنى الباء، وقيل هي للمجاورة أي تجاوزوا وقتها المعتاد إلى أن تنكسر شدة الحر. وفي الرواية الخامسة "أبردوا عن الحر في الصلاة" أي ادخلوا في البرد متجاوزين الحر في صلاة الظهر. (فإن شدة الحر من فيح جهنم) "فيح جهنم" بفتح الفاء وسكون الياء بعدها حاء، سطوع حرها. وانتشاره، يقال: فاحت القدر تفوح إذا غلت، وفاح الحر يفيح فيحاً إذا سطع وهاج، وظاهر التعبير أن شدة الحر على سطح الأرض من وهج جهنم حقيقة، واختاره بعض الشراح، والأولى جعل هذا من قبيل التشبيه والتمثيل، لما علم أن الحرارة على الأرض من تسلط أشعة الشمس والشمس في غليانها ونارها مثل جهنم، كأنه قال: إن شدة الحر من ثوران وغليان مثل جهنم. (أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر) المؤذن هو بلال، ومعنى "أذن" أراد أن يؤذن، ففيه مجاز المشارفة، كقولهم: توضأ فغسل وجهه ويديه، إلخ. (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أبرد، أبرد) ظاهره أن الأمر بالإبراد وقع بعد تقدم الأذان. وليس كذلك، بل أنه أراد أن يؤذن وتهيأ له، فقيل له: أبرد. أبرد. يؤكد هذا رواية أبي داود "فأراد المؤذن أن يؤذن الظهر فقال: أبرد. ثم أبرد. ثم أراد أن يؤذن فقال: أبرد مرتين أو ثلاثاً" ورواية البخاري في باب الأذان للمسافرين "فأراد المؤذن أن يؤذن، فقال له: أبرد. ثم أراد أن يؤذن فقال له: أبرد، ثم أراد أن يؤذن، فقال له: أبرد، حتى ساوى الظل التلول". (حتى رأينا فيء التلول) الفيء رجوع الظل من جانب المشرق إلى صائب المغرب، وقال أهل اللغة: كل ما كانت عليه الشمس فزالت فهو فيء، وقيل: الفيء لا يكون إلا بعد الزوال، والظل يطلق على ما قبل الزوال وما بعده و"التلول" بضم التاء جمع "تل" وهو ما اجتمع على الأرض من تراب أو رمل أو نحو ذلك، وهي في الغالب منبطحة غير عالية، فلا يظهر لها ظل إلا إذا ذهب أكثر وقت الظهر. والغاية في "حتى رأينا" قيل: متعلقة بقوله "أبرد" أي حتى ترى، أو متعلقة بمحذوف أي قال له: أبرد فأبرد حتى رأينا. وهذا هو الأوضح. (اشتكت النار إلى ربها، فقالت: يا رب. أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين) رجح البيضاوي حمل هذا على المجاز، فقال: شكواها مجاز عن غليانها، وأكلها بعضاً بعضاً مجاز عن ازدحام أجزائها، وتنفسها مجاز عن خروج ما يبرز منها. وعامة المحدثين يرجحون الحقيقة. وأن الشكوى بلسان المقال. قال القرطبي: لا إحالة -أي لا استحالة- في حمل اللفظ على حقيقته، وإذا أخبر الصادق بأمر جائز لم يحتج إلى تأويله، فحمله على حقيقته أولى.

وقال النووي بعد أن حكى القولين قلت: والصواب الأولى، لأنه ظاهر الحديث، ولا مانع من حمله على حقيقته، فوجب الحكم بأنه على ظاهره. وقال التوربشتي: قدرة الله أعظم من ذلك، فقد يخلق فيها آلة الكلام، كما خلق لهدهد سليمان ما خلق من العلم والإدراك، وقد حكى عن النار أن تقول {هل من مزيد} [ق: 30]. وقال ابن المنير: حمله على الحقيقة هو المختار لصلاحية القدرة لذلك والشكوى والإذن والقول والتنفس وقصره على اثنين فقط بعيد عن المجاز خارج عما ألف من استعماله. اهـ ونحن نرجح المجاز مع إيماننا بأن قدرة الله فوق كل ذلك، وفرق بين صلاحية القدرة والتسليم بأنها أنجزت، وقد ثبت بالحس والإدراك والعلم الجازم أن شدة الحر من الشمس، وأن شدة البرد من بعدها وكيف نفهم حقيقة التنفس الحار في الصيف؟ أيكون نهاراً لا ليلاً؟ وفي أيام دون أيام؟ وهل يكون في بلاد دون بلاد؟ وهل تتنفس زمهريراً طول العام في القطبين؟ وحروراً طول العام عند خط الاستواء؟ وهل يمكن حمل أكل بعضها بعضاً على الحقيقة مما يؤدي إلى فنائها أو انضغاطها؟ وهل يمكن حمل تنفسها على الحقيقة والتنفس خروج الهواء من مخرج من مخارج الحيوان؟ أظن كل ذلك قرائن مانعة من إرادة المعنى الحقيقي، وما ذكره ابن المنير من قرائن يبعد المجاز في نظره هي ترشيحات للمجاز تقرب المعنى المراد، وهي كثيرة في استعمالات العرب، قال عنترة يصف فرسه في حالة البأس: فشكا إلي بعبرة وتحمحم (نفس في الشتاء ونفس في الصيف) بالجر فيهما على البدل أو البيان ويجوز الرفع فيهما على أنهما خبر مبتدأ محذوف، أي أحدهما نفس في الشتاء وثانيهما نفس في الصيف. ويجوز النصب على تقدير أعني. (فهو أشد ما تجدون من الحر، وهو أشد ما تجدون من الزمهرير) في الكلام لف ونشر مشوش، ولو رتب لقدم الزمهرير لتقدم نفس الشتاء والزمهرير شدة البرد. (وما وجدتم من حر أو حرور فمن نفس جهنم) الحرور شدة الحر قال العلماء. و"أو" في قوله "فما وجدتم من برد أو زمهرير" وقوله "وما وجدتم من حر أو حرور" يحتمل أن يكون شكا من الراوي، ويحتمل أن يكون للتقسيم. والله أعلم. فقه الحديث اختلف الفقهاء في الأمر بالإبراد في الأحاديث. هل هو أمر استحباب؟ أو أمر إرشاد، أي الترخيص بالإبراد مع أن التعجيل أفضل؟ أو الأمر للوجوب؟ .

والإبراد -كما قلنا- تأخير صلاة الظهر عن أول وقتها إلى أن يبرد الوقت وينكسر الحر، بشرط أن لا يؤخرها إلى آخر وقتها، بل يصليها في وقت إذا فرغ يكون بينه وبين آخر الوقت فضل. فمذهب الشافعي استحباب الإبراد بثلاثة شروط: (أ) شدة الحر (ب) أن يكون في البلدان الحارة (جـ) أن تكون الصلاة في مساجد الجماعات، أما من صلاها في بيته، أو في مسجد بفناء بيته فالأفضل تعجيلها، لأن التأخير إنما يستحب لينكسر الحر، ويتسع الظل بجوار الحيطان، ويكثر السعي إلى الجماعات، ومن لا يصلي في جماعة لا حاجة به إلى التأخير. فالشافعي استنبط من النص العام -وهو الأمر بالإبراد- معنى يخصه، وليس في سياق الحديث ما يخالفه، بل فيه ما يؤيده فقوله في الرواية الأولى "إذا اشتد الحر" مفهومه أن الحر إذا لم يشتد لم يشرع الإبراد، ثم ظاهر التعليل "فإن شدة الحر من فيح جهنم" تؤيد أن الإبراد لرفع المشقة، فإذا لم تحصل فلا حاجة للرخصة. واشترط أكثر المالكية شرطاً واحداً، وهو أن تكون صلاة الظهر في جماعة أما المنفرد فالتعجيل في حقه أفضل. والمشهور عن أحمد والحنفية أنه يستحب تعجيل صلاة الظهر في الشتاء والإبراد بها في الحر، لا فرق بين البلدان الحارة وغيرها، ولا بين كون المسجد ينتابه الناس أو لا. وحجتهم الأخذ بظاهر الخبر، وحديث أبي ذر عند البخاري والترمذي قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أبرد، ثم أراد أن يؤذن، فقال له: أبرد. حتى رأينا فيء التلول" قالوا: فلو كان على ما ذهب إليه الشافعي لم يأمر بالإبراد. لاجتماعهم في السفر، وكانوا لا يحتاجون إلى أن ينتابوا من البعد، ورد الكرماني أن العادة في العسكر الكثير تفرقتهم في أطراف المنزل للتخفيف وطلب الرعي، فلا نسلم اجتماعهم في تلك الحالة قال الحافظ ابن حجر: وأيضاً لم تجر عادتهم باتخاذ خباء كبير يجمعهم، بل كانوا يتفرقون في ظلال الشجر، وليس هناك من يمشون فيه، فليس في سياق حديث أبي ذر ما يخالف ما قاله الشافعي. اهـ وذهب بعضهم إلى أن تعجيل الظهر أفضل مطلقاً، وقالوا: معنى "أبردوا" صلوا في أول الوقت. أخذا من برد النهار، وهو أوله، قال الحافظ ابن حجر: وهو تأويل بعيد، ويرده قوله "فإن شدة الحر من فيح جهنم" إذ التعليل بذلك يدل على أن المطلوب التأخير وحديث أبي ذر -روايتنا السادسة- صريح في ذلك، حيث قال "انتظر. انتظر". كما قالوا: إن الصلاة حينئذ تكون أكثر مشقة، فتكون أولى، قال الحافظ: والحامل لهم على ذلك حديث خباب -الآتي في الباب التالي- "شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء في جباهنا فلم يشكنا" أي فلم يزل شكوانا وتمسكوا أيضاً بعموم الأحاديث الدالة على فضيلة أول الوقت. قال: والجواب عن حديث خباب أنه محمول على أنهم طلبوا تأخيراً زائداً عن وقت الإبراد وهو زوال حر الرمضاء، وذلك قد يستلزم خروج الوقت فلم يجبهم، أو منسوخ بأحاديث الإبراد، فإنها متأخرة عنه.

والجواب عن أحاديث أول الوقت أنها عامة أو مطلقة، والأمر خاص، فهو مقدم، قال: ولا التفات إلى قولهم: التعجيل أكثر مشقة فيكون أفضل، لأن الأفضلية لم تنحصر في الأشق، بل قد يكون الأخف أفضل، كما في قصر الصلاة في السفر. اهـ ثم قال: وقضية التعليل المذكور قد يتوهم منها مشروعية تأخير الصلاة في وقت شدة البرد، ولم يقل به أحد، لأنها تكون غالباً في وقت الصبح، فلا تزول إلا بطلوع الشمس، فلو أخرت لخرج الوقت. اهـ وقد يحتج بمشروعية الإبراد بالجمعة، وبه قال بعض الشافعية، والجمهور على خلافه لأنه لم يبلغنا أنه صلى الله عليه وسلم أخرها، بل كان يعجلها، حتى قال سهل بن سعد: ما كنا نقيل، ولا نتغدى إلا بعد الجمعة، أخرجه البخاري وقد ثبت في الصحيح أنهم كانوا يرجعون من صلاة الجمعة وليس للحيطان ظل يستظلون به من شدة التبكير لها أول الوقت، ولأن السنة التبكير بالسعي إليها، فلو أخرها لتأذى الناس بتأخير الجمعة. هذا وفي الحديث رد على من زعم من المعتزلة وغيرهم أن النار لا تخلق إلا يوم القيامة، قاله الحافظ ابن حجر، وقد سبق القول باحتمال المجاز فلا رد فيه. والله أعلم

(226) باب استحباب تقديم الظهر في أول الوقت في غير شدة الحر

(226) باب استحباب تقديم الظهر في أول الوقت في غير شدة الحر 1200 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر إذا دحضت الشمس. 1201 - عن خباب رضي الله عنه قال شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة في الرمضاء. فلم يشكنا. 1202 - عن خباب رضي الله عنه قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكونا إليه حر الرمضاء. فلم يشكنا. قال زهير قلت لأبي إسحق: أفي الظهر؟ قال: نعم. قلت: أفي تعجيلها؟ قال: نعم. 1203 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شدة الحر. فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه. -[المعنى العام]- ومع أن الشريعة رفعت الحرج عن تأخير صلاة الظهر في شدة الحر وطلبت الإبراد بالظهر فإنها دعت إلى تحمل شيء من المشقة في سبيل أداء صلاة الظهر في أول وقتها، فقد كانت المساجد غير مسقوفة وكان فراشها الرمل لا فرش فوقه، فإذا ما تسلطت أشعة الشمس على الرمل في شدة الحر وصلت حرارته إلى درجة لا تحتمل الملامسة بالجبهة، بل بالأكف، ولهذا شكا بعض الصحابة من هذه المشقة لعله يسمح لهم بتأخير الظهر أو جمعه مع العصر، ولما كانت هذه المشقة يمكن أن تعالج بوضع ثياب فوق الرمال وتحت أعضاء السجود لم يستجب رسول الله صلى الله عليه وسلم للشكوى، وقال لهم، بل صلوا الظهر إذا زالت الشمس، وتحايلوا على حرارة الرمال، ولو بقلب أسفلها أعلاها حرصًا على فضل الصلاة في أول وقتها، فذلك من أفضل أعمال الإسلام. -[المباحث العربية]- (يصلي الظهر إذا دحضت الشمس) "دحضت" بفتح الدال والحاء، أي زالت.

(الصلاة في الرمضاء) أي الرمل الذي اشتدت حرارته. (فلم يشكنا) بضم الياء وسكون الشين، أي لم يزل شكوانا. -[فقه الحديث]- ذكرنا في الباب السابق طريق الجمع بين أحاديث الإبراد بالظهر وبين حديث خباب، وقد ساق مسلم هذا الحديث وحديث أنس بعد باب الإبراد بالظهر ليعلم أن الأمر بالإبراد لا ينافي تعجيل صلاة الظهر في أول وقتها فهذا جائز وهذا جائز والخلاف في الأولى، فبعضهم قال: الإبراد أفضل وحديث خباب للجواز، وبعضهم قال عكس ذلك، وقيل: إن معنى قول خباب "فلم يشكنا" أي فلم يحوجنا إلى شكوى، بل أذن لنا في الإبراد، ويرده ما جاء في الحديث نفسه في رواية المنذر من زيادة "وقال: إذا زالت الشمس فصلوا" وإنما لم يستجب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه الشكوى لأن الرمضاء لا تبرد إلا بعد فترة طويلة قد يضيع معها وقت الظهر، وفي الحديث دليل على استحباب تقديم الظهر في أول وقتها، وفي حديث أنس دليل لمن أجاز السجود على طرف ثوبه المتصل به المتحرك بحركته، وبه قال مالك، وأبو حنيفة والجمهور، ولم يجوزه الشافعي، وتأول الحديث وشبهه على السجود على ثوب منفصل. واللَّه أعلم

(227) باب استحباب التبكير بالعصر

(227) باب استحباب التبكير بالعصر 1204 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس مرتفعة حية فيذهب الذاهب إلى العوالي فيأتي العوالي والشمس مرتفعة ولم يذكر قتيبة فيأتي العوالي. 1205 - عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر بمثله سواء. 1206 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا نصلي العصر ثم يذهب الذاهب إلى قباء فيأتيهم والشمس مرتفعة. 1207 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا نصلي العصر ثم يخرج الإنسان إلى بني عمرو بن عوف فيجدهم يصلون العصر. 1208 - عن العلاء بن عبد الرحمن أنه دخل على أنس بن مالك في داره بالبصرة، حين انصرف من الظهر، وداره بجنب المسجد. فلما دخلنا عليه قال: أصليتم العصر؟ فقلنا له: إنما انصرفنا الساعة من الظهر. قال: فصلوا العصر. فقمنا فصلينا. فلما انصرفنا قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "تلك صلاة المنافق. يجلس يرقب الشمس، حتى إذا كانت بين قرني الشيطان، قام فنقرها أربعًا. لا يذكر الله فيها إلا قليلاً". 1209 - عن أبي أمامة بن سهل قال: صلينا مع عمر بن عبد العزيز الظهر. ثم خرجنا حتى دخلنا على أنس بن مالك. فوجدناه يصلي العصر. فقلت: يا عم ما هذه الصلاة التي صليت؟ قال: العصر. وهذه صلاة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم التي كنا نصلي معه. 1210 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر. فلما

انصرف أتاه رجل من بني سلمة. فقال: يا رسول الله إنا نريد أن ننحر جزورًا لنا. ونحن نحب أن تحضرها. قال "نعم" فانطلق وانطلقنا معه. فوجدنا الجزور لم تنحر فنحرت. ثم قطعت. ثم طبخ منها. ثم أكلنا. قبل أن تغيب الشمس. وقال المرادي: حدثنا ابن وهب عن ابن لهيعة وعمرو بن الحارث في هذا الحديث. 1211 - عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: كنا نصلي العصر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم تنحر الجزور، فتقسم عشر قسم، ثم تطبخ، فنأكل لحمًا نضيجًا، قبل مغيب الشمس. 1212 - عن الأوزاعي بهذا الإسناد غير أنه قال: كنا ننحر الجزور على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد العصر. ولم يقل كنا نصلي معه. -[المعنى العام]- سئل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة لوقتها، ولما ذكر في الأحاديث السابقة مشروعية الإبراد بالظهر وتأخير وقت صلاته في شدة الحر ناسب أن ينص هنا على عدم شمول الحكم صلاة العصر، وأنها بقيت على استحباب التعجيل في أول الوقت، واستدل على ذلك بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر، ثم يذهب بعض المصلين إلى عوالي المدينة نحو ثلاثة أميال مشيًا على الأقدام فيصلها والشمس مرتفعة لم تنخفض انخفاضًا يقرب من الغروب واستدل على ذلك أيضًا أنه بمجرد رجوع المصلين من صلاة الظهر مع عمر بن عبد العزيز إلى دار أنس بن مالك المجاورة كان أنس قد صلى العصر، وطلب من زائريه سرعة الصلاة، وحذرهم من التأخير بأن الرسول صلى الله عليه وسلم وصف تأخير صلاة العصر بدون عذر بأنه فعل المنافقين، كما استدل على ذلك أيضًا بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العصر ثم دعي إلى جزور فذبح أمامه، ثم قسم ثم طبخ حتى نضج اللحم فأكل وأكلوا من الجزور قبل أن تغرب الشمس. وهكذا يثبت بلا خلاف إلا من الحنفية - استحباب صلاة العصر في أول وقتها، واللَّه أعلم. المباحث العربية (كان يصلي العصر والشمس مرتفعة حية) قال الخطابي: حياتها صفاء لونها قبل أن تصفر أو تتغير، فهو مثل قوله قبل بابين "بيضاء نقية" وفي أبي داود عن خيثمة التابعي قال: حياتها أن تجد حرها.

وهذا المعنى هو الظاهر، وجملة "والشمس مرتفعة حية" في محل النصب على الحال. (فيذهب الذاهب إلى العوالي) العوالي هي القرى المجتمعة حول المدينة من جهة نجد، وأما ما كان من جهة تهامة فيقال لها: السافلة، وأقرب العوالي من جهة المدينة على ميلين، وأبعدها على ثمانية أميال، وبهذا فالتفسيرات بالثلاثة وبالأربعة وبالستة الواردة لا تخالف بينها من حيث تحديد العوالي. وما يعنينا هو المسافة التي يقصدها الراوي، إذ بها يحدد الزمن ففي رواية البخاري بعد قوله "والشمس مرتفعة" "وبعض العوالي من المدينة على أربعة أميال أو نحوه" وقد قال المحققون: إن هذا الإدراج من الزهري الراوي عن أنس، وفي رواية عبد الرزاق: قال الزهري: والعوالي من المدينة على ميلين أو ثلاثة، فالذي يبدو قريبًا أو مقبولاً كحد وسط ثلاثة أميال، ويقطعه الراجل تقريبًا في ساعة من الزمن - ستين دقيقة. (والشمس مرتفعة) هذا الارتفاع غير الارتفاع السابق، أدنى منه، لكنها لم تصل إلى الحد الذي توصف بأنها منخفضة. (ثم يذهب الذاهب إلى قباء) كأن أنسًا أراد بالذاهب نفسه، وقباء من العوالي، وفي قوله "إلى قباء" مضاف محذوف، أي إلى أهل قباء فيأتيهم والشمس مرتفعة. (ثم يخرج الإنسان إلى بني عمرو بن عوف فيجدهم يصلون العصر) كانت منازلهم على ميلين من المدينة بقباء، والمراد بالعصر عصر ذلك اليوم ولعلهم كانوا يؤخرون صلاة العصر عن أول الوقت لانشغالهم بأراضيهم وحروثهم، فكانوا يصلون العصر في وسط وقته. (عن العلاء بن عبد الرحمن أنه دخل على أنس بن مالك) أي دخل مع بعض المسلمين. (حين انصرف من الظهر) أي حين انصرف العلاء من صلاة الظهر. (وداره بجنب المسجد) يشير بهذا إلى قرب الوقت الذي صلى فيه الظهر وأنه لم يفصل فاصل زمني له شأن. (فلما انصرفنا) أي من الصلاة وسلمنا وانتهينا منها. (تلك صلاة المنافق) الإشارة إلى صلاة العصر آخر وقته. (حتى إذا كانت بين قرني الشيطان) قال النووي: اختلفوا فيه، فقيل: هو على حقيقته وظاهر لفظه، والمراد أنه يحاذيها بقرنيه عند غروبها وكذا عند طلوعها، لأن الكفار يسجدون لها حينئذ، فيقارنها ليكون الساجدون لها في صورة الساجدين له، ويخيل لنفسه ولأعوانه أنهم إنما يسجدون له، وقيل: هو على المجاز، والمراد بقرنه وقرنيه علوه وارتفاعه وسلطانه وتسلطه وغلبته

وأعوانه، قال الخطابي: هو تمثيل، ومعناه أن تأخيرها بتزيين الشيطان ومدافعته لهم عن تعجيلها مدافعة ذوات القرون لما تدفعه. اهـ قال النووي: والصحيح الأول. (قام فنقرها أربعًا) كناية عن الإسراع بها بحيث لا يكمل الخشوع والطمأنينة والأذكار، فالمراد سرعة الحركات كنقر الطائر. (صلينا مع عمر بن عبد العزيز الظهر) قال النووي: وهذا كان حين ولي عمر بن عبد العزيز المدينة، لا في خلافته، لأن أنسًا رضي الله عنه توفي قبل خلافة عمر بن عبد العزيز بنحو تسع سنين، قال الحافظ ابن حجر وفي القصة دليل على أن عمر بن عبد العزيز كان يصلي الصلاة في آخر وقتها تبعًا لسلفه. اهـ. (فقلت: يا عم) بكسر الميم، وأصله: يا عمي، حذفت الياء تخفيفًا، وقال: يا عم، على سبيل التوقير، لكونه أكبر سنًا منه، لكنه ليس عمه على الحقيقة. (ما هذه الصلاة التي صليت)؟ عائد الصلة مفعول "صليت" محذوف والتقدير صليتها. (وهذه صلاة رسول الله) أي وهذه الصلاة في ساعتها ووقتها صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. (رجل من بني سلمة) بفتح السين وكسر اللام. (إنا نريد أن ننحر جزورًا لنا) الجزور بفتح الجيم لا يكون إلا من الإبل. (فنأكل لحمًا نضيجًا) أي تام الطبخ، وتام النضج دون عجلة. -[فقه الحديث]- قال النووي: المراد بهذه الأحاديث المبادرة لصلاة العصر أول وقتها لأنه لا يمكن أن يذهب بعد صلاة العصر ميلين وثلاثة والشمس بعد لم تتغير بصفرة ونحوها إلا إذا صلى العصر حين صار ظل الشيء مثله، ولا يكاد يحصل هذا إلا في الأيام الطويلة، ثم قال: قال العلماء: ومنازل بني عمرو بن عوف على ميلين من المدينة، وهذا يدل على المبالغة في تعجيل صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت صلاة بني عمرو بن عوف في وسط الوقت، ولولا هذا لم يكن فيه حجة، ولعل تأخير بني عمرو لكونهم كانوا أهل أعمال، فإذا فرغوا من أعمالهم تأهبوا للصلاة بالطهارة وغيرها، ثم اجتمعوا لها، فتتأخر صلاتهم إلى وسط الوقت لهذا المعنى. ثم قال: وفي هذه الأحاديث دليل لمذهب الشافعي ومالك وأحمد، وجمهور العلماء أن وقت العصر يدخل إذا صار ظل كل شيء مثله، وقال أبو حنيفة: لا يدخل حتى يصير ظل الشيء مثليه، وهذه الأحاديث حجة للجماعة عليه مع حديث ابن عباس رضي الله عنه في بيان المواقيت وحديث جابر وغير ذلك.

-[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - في قوله "تلك صلاة المنافق" تصريح بذم تأخير العصر بلا عذر. وقولنا بلا عذر مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم "يجلس يرقب الشمس". 2 - ويؤخذ من الرواية السادسة إجابة الدعوة. 3 - وأن الدعوة للطعام مستحبة في كل وقت سواء أول النهار أو آخره. والله أعلم

(228) باب التغليظ في تفويت صلاة العصر

(228) باب التغليظ في تفويت صلاة العصر 1213 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله". 1214 - عن سالم بن عبد الله عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من فاتته العصر فكأنما وتر أهله وماله". -[المعنى العام]- يحذر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من تفويت صلاة العصر عن وقتها، فيشبه من فاتته صلاة العصر بمن ضاع أهله وماله وأصبح وترًا فريدًا بلا أهل ولا مال، وأصبح موترًا مصابًا آسفًا مغتمًا، فعلى المسلمين أن لا تشغلهم أموالهم ولا أولادهم ولا مزارعهم ولا تجاراتهم ولا صناعاتهم عن ذكر اللَّه في كل الصلوات وبخاصة صلاة العصر، ففضل صلاتها كبير، ومن كبر فضله كبر إثم تركه. هدانا اللَّه لما فيه رضاه. -[المباحث العربية]- (الذي تفوته صلاة العصر) في الرواية الثانية "من فاتته العصر" أي صلاة العصر، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وظاهر التعبير يشمل من تعمد التفويت كسلاً، ومن سها عنها حتى فاتت، ومن فاتته بعذر. لكن الجزاء يصلح لمن فاتته كسلاً مع العمد، أما الساهي ومن له عذر شرعي فلا يستحق هذا الجزاء. وقد بوب الترمذي على هذا الحديث [ما جاء في السهو عن وقت العصر] فحمله على الساهي لا وجه له بل لا وجه لمن حمله على العموم. (كأنما وتر أهله وماله) "وتر" بمعنى نقص يتعدى إلى مفعولين، قوله تعالى: {ولن يتركم أعمالكم} [محمد: 35] فأصل الحديث: كأنما وتره اللَّه أهله وماله، بمعنى نقصه اللَّه كل أهله وكل ماله، أو نقصه اللَّه في أهله وماله، حذف الفاعل، وأقيم المفعول الأول مقامه لبناء الفعل للمجهول، "أهله وماله" منصوبان على المفعولية. هذا في رواية الأكثرين. قال النووي: وروي برفع اللامين، ووجهه أنه لا يضمر شيء في "وتر" و"أهله وماله" نائب فاعل.

وقال الجوهري الموتر الذي قتل له قتيل فلم يدرك بدمه. اهـ. فالحديث يشبه من فاتته العصر، بمن ضاع أهله وماله، وهدفه: فليحذر من تفويتها بالحذر من ذهاب الأهل والمال، وقال الداودي: هدفه أن يتوجه عليه من الاسترجاع ما يتوجه على من فقد أهله وماله، فيتوجه عليه الندم والأسف. اهـ. والأولى مراعاة الأمرين. أي ليحذر، فإن وقع فليأسف وليعمل. -[فقه الحديث]- يتناول الحديث مسألتين أساسيتين: الأولى: المراد من تفويت العصر. الثانية: لم خص العصر بالتحذير؟ وهل غيره مثله؟ . أما الأولى فقد قال القاضي عياض المالكي: واختلفوا في المراد بفوات العصر في هذا الحديث، فقال ابن وهب وغيره: هو فيمن لم يصلها في وقتها المختار، وقال سحنون: هو أن تفوته بغروب الشمس، وقيل: أن يفوتها إلى أن تصفر الشمس، كذا ورد مفسرًا في رواية الأوزاعي. قال: وفواتها أن تدخل الشمس صفرة، قال الحافظ ابن حجر: ولعله مبني على مذهبه في خروج وقت العصر. والظاهر أن المراد من تفويتها إخراجها عن وقتها، يؤيد ذلك ما رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن نافع فذكر نحو هذا الحديث، وزاد: قلت لنافع: حين تغيب الشمس؟ قال: نعم. قال الحافظ ابن حجر: وتفسير الراوي إذا كان فقيهًا أولى من غيره. اهـ. وقال المهلب ومن تبعه من الشراح: إنما أراد فواتها في الجماعة، لا فواتها باصفرار الشمس أو بمغيبها، قال: ولو كان لفوات وقتها كله لبطل اختصاص العصر، لأن ذهاب الوقت موجود في كل صلاة، قال الحافظ: ونوقض بعين ما ادعاه، لأن فوات الجماعة موجود في كل صلاة. اهـ. وحمله الترمذي على السهو عن وقت العصر، ووجهه الحافظ ابن حجر بأن معناه التنبيه على أن أسف العامد أشد. والحق أن الحديث في المتعمد تكاسلاً ولا عذر، يؤيده شدة الوعيد والتحذير، وحديث البخاري "من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله". أما الثانية فقد قال ابن عبد البر: يحتمل أن يكون هذا الحديث خرج جوابًا لسائل سأل عن صلاة العصر فأجيب، فلا يمنع ذلك إلحاق غيرها من الصلوات بها. اهـ. وتعقبه النووي بأنه إنما يلحق غير المنصوص بالمنصوص إذا عرفت العلة واشتركا فيها، قال: والعلة في هذا الحكم لم تتحقق، فلا يلتحق غير العصر بها. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: وهذا لا يدفع الاحتمال، وقد احتج ابن عبد البر بما رواه ابن أبي شيبة "من ترك صلاة مكتوبة حتى تفوته" وروى ابن حبان "من فاتته الصلاة فكأنما وتر أهله وماله" وأخرج عبد الرزاق "لأن يوتر أحدكم أهله وماله خير له من أن يفوته وقت صلاة".

واعترض الحافظ ابن حجر على هذه الأحاديث بالضعف وقال: الظاهر اختصاص العصر بذلك، وفي تعليل اختصاص العصر بذلك قيل: لاجتماع المتعاقبين من الملائكة، ورد بأن الفجر أيضًا فيه اجتماع المتعاقبين، فلا يختص العصر بذلك. وقيل: لأنه وقت اشتغال الناس بالبيع والشراء في هذا الوقت بأكثر من وقت غيره، ورد بأن الظهر كذلك وأن الفجر وقت النوم فيعادله. قال ابن المنير: والحق أن اللَّه تعالى يختص ما شاء من الصلوات بما شاء من الفضيلة. اهـ. وفي الحديث إشارة إلى تحقير الدنيا، وأن قليل العمل الأخروي خير من كثير منها، وفي الحديث توضيح واف عن المراد بالمحافظة على الصلاة حتى قال ابن بطال: لا يوجد حديث يقوم مقام هذا الحديث، لأن اللَّه تعالى قال: {حافظوا على الصلوات} [البقرة: 238] وقال: ولا يوجد حديث فيه تكييف المحافظة غير هذا الحديث. واللَّه أعلم

(229) باب الدليل لمن قال: الصلاة الوسطى هي صلاة العصر

(229) باب الدليل لمن قال: الصلاة الوسطى هي صلاة العصر 1215 - عن علي رضي الله عنه قال: لما كان يوم الأحزاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارًا كما حبسونا وشغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس". 1216 - عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب "شغلونا عن صلاة الوسطى حتى آبت الشمس ملأ الله قبورهم نارًا أو بيوتهم أو بطونهم". (شك شعبة في البيوت والبطون). 1217 - عن قتادة بهذا الإسناد وقال: بيوتهم وقبورهم (ولم يشك). 1218 - عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب وهو قاعد على فرضة من فرض الخندق "شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس ملأ الله قبورهم وبيوتهم (أو قال قبورهم وبطونهم) نارًا". 1219 - عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارًا" ثم صلاها بين العشاءين بين المغرب والعشاء. 1220 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس أو اصفرت؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارًا" أو قال "حشا الله أجوافهم وقبورهم نارًا".

1221 - عن أبي يونس مولى عائشة أنه قال: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفًا. وقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} [البقرة: 238] فلما بلغتها آذنتها. فأملت علي: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر. وقوموا لله قانتين. قالت عائشة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. 1222 - عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية حافظوا على الصلوات وصلاة العصر. فقرأناها ما شاء الله. ثم نسخها الله. فنزلت: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى فقال رجل كان جالسًا عند شقيق له: هي إذن صلاة العصر. فقال البراء: قد أخبرتك كيف نزلت. وكيف نسخها الله. والله أعلم. قال مسلم: ورواه الأشجعي عن سفيان الثوري، عن الأسود بن قيس عن شقيق بن عقبة عن البراء بن عازب قال قرأناها مع النبي صلى الله عليه وسلم زمانا بمثل حديث فضيل بن مرزوق. 1223 - عن جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب يوم الخندق جعل يسب كفار قريش وقال: يا رسول الله والله ما كدت أن أصلي العصر حتى كادت أن تغرب الشمس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فوالله إن صليتها" فنزلنا إلى بطحان، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوضأنا، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر بعد ما غربت الشمس. ثم صلى بعدها المغرب. -[المعنى العام]- يتجلى من هذه الأحاديث مدى حرص الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته على أداء الصلاة في أول وقتها، وعند العذر في وقتها، حتى في ساحة الحرب والوقوف أمام الأعداء، لقد كادت تغرب الشمس في غزوة الخندق ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يراقبون المشركين وتحركاتهم، وكان عمر متوضئًا فخطف صلاة العصر والشمس تكاد تغرب، ولم يدرك الرسول صلى الله عليه وسلم وكثير من أصحابه صلاة العصر وقد غربت الشمس. فأعلن أمام أصحابه أسفه وحزنه على فوات وقت الصلاة، ليحرص أصحابه من بعده على الصلوات في وقتها، ودعا على من كان سببًا في هذا التأخير. دعا على المشركين بأن يملأ اللَّه بيوتهم

وقلوبهم بنار الفتنة والفرقة والاختلاف، وجاءه عمر يشكو أنه أدرك صلاة العصر بصعوبة قبل الغروب، فقال له صلى الله عليه وسلم أنت أدركت، ولكني والله ما صليتها بعد، وقد غربت الشمس، وقام صلى الله عليه وسلم فتوضأ وصلى العصر قضاء ثم المغرب، ولما ورد في مساق هذه القصة لفظ "شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس" ولفظ "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر" استدل به العلماء على أن المراد من الصلاة الوسطى في الآية الكريمة {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} هي صلاة العصر، وساق مسلم دليلاً آخر على ذلك، هو إملاء عائشة لمولاها الآية الكريمة قبل النسخ، كما ساق حديث البراء وأن التصريح بأنها صلاة العصر كان فيما نزل ثم نسخ، واللَّه أعلم. -[المباحث العربية]- (لما كان يوم الأحزاب) "كان" تامة، و"يوم الأحزاب" فاعل، والمراد الغزوة المعروفة بغزوة الأحزاب أو الخندق وكانت سنة أربع من الهجرة، وقيل سنة خمس. (ملأ اللَّه قبورهم وبيوتهم نارًا) دعاء على المشركين الذين تحزبوا ضد المسلمين. (كما حبسونا) الكلام على التعليل أي لأنهم حبسونا عن الصلاة الوسطى، أي منعونا وحالوا بيننا وبينها بانشغالنا بهم. (عن صلاة الوسطى) قال النووي: هكذا هو في النسخ وأصول السماع "صلاة الوسطى" وهو من باب قوله تعالى: {وما كنت بجانب الغربي} [القصص: 44] وهو على مذهب الكوفيين من إضافة الشيء إلى صفته، ولا يجيزه البصريون ويقدرون فيه محذوفًا، وتقديره هنا عن صلاة الصلاة الوسطى أي عن فعل الصلاة الوسطى. اهـ. (حتى آبت الشمس) الإياب الرجوع، والمعنى حتى رجعت الشمس إلى مكانها بالليل، أي غربت. (قبورهم أو بيوتهم أو بطونهم) ذكر القبور في جميع الروايات، والبيوت في أكثرها، والبطون والأجواف في بعضها، وقد يكون الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر الجميع، فاقتصر بعض الرواة على البعض، أو ذكر بعضها وشك الراوي فيما ذكر، والمقصود بالدعاء عليهم بملء القبور نارًا تعذيبهم في قبورهم، والمقصود بملء البيوت نارًا احتراقهم في الدنيا، أو اشتعال الفتن في بيوتهم، والمقصود بملء البطون والأحشاء نارًا كثرة مصائبهم واحتراق قلوبهم بالكوارث والبلوى في أموالهم وأولادهم وصحتهم ونحو ذلك. (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر) قال النووي: هكذا هو في الروايات "وصلاة العصر" بالواو، واستدل به بعض أصحابنا على أن الوسطى ليست العصر، لأن العطف يقتضي المغايرة.

واعتبر بعضهم الواو زائدة للتطابق بين الروايات لكن زيادة الواو في مثله غير معروف. {وقوموا لله قانتين} القنوت قيل هو الطاعة، أي قوموا للَّه مطيعين، وقيل القنوت السكوت، لقول زيد بن أرقم: كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت {وقوموا لله قانتين} [البقرة: 238] فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام. (أن عمر بن الخطاب يوم الخندق جعل يسب كفار قريش) لأنهم كانوا السبب في تأخيرهم الصلاة عن وقتها، إذ تأخر عمر بصلاته عن وقتها المختار كما في الحديث، وتأخر غيره عنها مطلقًا. (واللَّه ما كدت أن أصلي حتى كادت أن تغرب الشمس) لفظ "كاد" من أفعال المقاربة، فإذا قلت: كدت أقع فمعناه قاربت الوقوع ولم أقع. فقول عمر: ما كدت أصلي العصر معناه أنه صلى العصر، وقوله: حتى كادت أن تغرب الشمس معناه قرب الغروب ولم تغرب، فالمعنى أنه صلى قرب غروب الشمس، لأن نفي الصلاة مع كاد يقتضي إثباتها، وإثبات الغروب يقتضي نفيه، فتحصل من ذلك لعمر ثبوت الصلاة مع نفي الغروب أما قول الكرماني: حاصله عرفًا: ما صليت حتى غربت الشمس فغير مسلم، فإنه كان يصح لو قال عمر: ما كدت أصلي حتى غربت الشمس بدون كاد. (فواللَّه إن صليتها) "إن" نافية بمعنى ما، والمعنى "واللَّه ما صليتها" وهي رواية البخاري، أي ما صليت العصر. (فنزلنا إلى بطحان) بضم الباء وسكون الطاء واد بالمدينة، وقيل هو بضم أوله وكسر ثانيه. -[فقه الحديث]- اختلف العلماء من الصحابة فمن بعدهم في الصلاة الوسطى المذكورة في القرآن، في قوله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} وهي في الآية من ذكر الخاص بعد العام لمزيد عناية بالخاص، والثالثة من كل خمس هي الوسطى كيفما بدأت العد، وكان سبب الاختلاف ملاحظة كل منهم لأهمية خاصة للصلاة التي أرادها، فقال جماعة هي العصر، إذ هي الواقعة بين صلاتي نهار وصلاتي ليل، وتأتي في وقت انشغال الناس بمعايشهم وأعمالهم، وقد وردت أحاديث كثيرة في فضلها والتحذير من تفويتها، ويكفي الحديث الوارد في الباب السابق "من فاتته العصر فكأنما وتر أهله وماله" وأحاديث هذا الباب صريحة وواضحة في أنها العصر. وممن قال بذلك علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة والحسن البصري وإبراهيم النخعي، وقتادة والضحاك والكلبي ومقاتل وأبو حنيفة وأحمد وداود وابن المنذر وغيرهم. قال الترمذي: وهو قول أكثر العلماء من الصحابة فمن بعدهم، وقالت طائفة: هي

الصبح واحتجوا بأنها تأتي وقت مشقة بسبب برد الشتاء، وطيب النوم في الصيف وفتور الأعضاء، وغفلة الناس. وهي أثقل صلاة على المنافقين، فخصت بالمحافظة لأنها معرضة للضياع، بخلاف غيرها، واستأنسوا بقوله تعالى: {والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين} والقنوت طول القيام وهو مختص بالصبح، وهي أولى إحدى صلاتين كثر الحض على المحافظة عليهما، يقول تعالى: {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب} [ق: 39] وقال صلى اللَّه عليه وسلم "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ... " الحديث متفق عليه. وممن نقل عنهم القول بذلك عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وابن عباس وابن عمر وجابر وعطاء وعكرمة ومجاهد ومالك بن أنس والشافعي وجمهور أصحابه، واعتذر الماوردي من الشافعية عن الشافعي في قوله: إنها الصبح، أنه لم يبلغه الأحاديث الصحيحة في العصر، ومذهبه اتباع الحديث، فالعصر مذهب الشافعي رحمه الله لصحة الأحاديث. ولست أرى كبير فائدة من هذا الخلاف، فقد ورد الكثير في فضل الصبح والعصر والتحذير من تضييعهما فليحافظ عليهما أكثر مما يحافظ على غيرهما. وإن كانت المحافظة واجبة للجميع. والله أعلم. وقالت طائفة: هي الظهر، إذ هي كالعصر تأتي وقت اشتغال الناس بمعايشهم وأعمالهم، نقلوه عن زيد بن ثابت وأسامة بن زيد وأبي سعيد الخدري وعائشة ورواية عن أبي حنيفة. وقيل: هي المغرب، لأنها وسطى في عدد الركعات، لأن عدد ركعاتها ثلاث، فهي وسطى بين الأربع والاثنتين، ووقتها في آخر النهار وأول الليل وخصت من بين الصلاة بأنها وتر، والله يحب الوتر. وقيل: هي العشاء، لأنها إحدى صلاتين هما أثقل الصلاة على المنافقين لقوله صلى الله عليه وسلم "إن أثقل الصلاة على المنافقين صلاة الغداة والعشاء الآخرة، ولو يعلمون ما فيهما لآتوهما ولو حبوًا" متفق عليه. وقيل: الصلاة الوسطى إحدى الخمس مبهمة. وقيل: الوسطى جميع الخمس، حكاه القاضي عياض. وقيل: هي الجمعة. قال النووي: والصحيح من هذه الأقوال قولان: العصر والصبح، وأصحهما العصر، وأما من قال: هي الجمعة فمذهب ضعيف جدًا، لأن المفهوم من الإيصاء بالمحافظة عليها إنما كان لأنها معرضة للضياع، وهذا لا يليق بالجمعة، فإن الناس يحافظون عليها في العادة أكثر من غيرها، لأنها تأتي في الأسبوع مرة، ومن قال: هي جميع الخمس فضعيف أو غلط، لأن العرب لا تذكر الشيء مفصلا ثم تجمله، وإنما تذكره مجملاً ثم تفصله، أو تفصل بعضه تنبيهًا على فضيلته. اهـ.

-[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - قال النووي: أخذ من الأحاديث أن الصلاة الفائتة على رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت صلاة العصر، وظاهرها أنه لم يفت غيرها، وفي الموطأ أنها الظهر والعصر، وفي غيره أنه أخر أربع صلوات: الظهر والعصر والمغرب والعشاء وطريق الجمع بين هذه الروايات أن وقعة الخندق بقيت أيامًا، فكان هذا في بعض الأيام وهذا في بعضها. 2 - يؤخذ من الأحاديث أن تأخير هذه الصلاة كان بسبب الاشتغال بالعدو، وهل كان نسيانًا؟ أو عمدًا لعذر، قيل بالأول، واستدل له بما رواه أحمد "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الأحزاب صلى المغرب، فلما فرغ قال: هل علم أحد منكم أني صليت العصر؟ قالوا: لا. يا رسول الله، ما صليتها. فأمر المؤذن فأقام فصلى العصر ثم أعاد المغرب" ويمكن الجمع بتعدد التأخير كما جمع النووي ويمكن بهذا الحديث الذي رواه أحمد أن تجمع بين الرواية الرابعة، وفيها "ثم صلاها بين العشاءين" وبين الرواية الثامنة، وفيها "فصلى العصر بعد ما غربت الشمس" ثم صلى بعدها المغرب" فإذا افترضنا اتحاد الواقعة قلنا: صلى المغرب، ثم صلى العصر، ثم أعاد المغرب، فهو في هذه الحالة صلى العصر بين العشاءين، وصلاها بعد ما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب. والله أعلم. قال الحافظ ابن حجر: ويستبعد أن يقع النسيان مع الجميع، إذ التأخير كان من الجميع كما هو الظاهر، ثم إن قوله صلى الله عليه وسلم لعمر: والله ما صليتها يبعد النسيان. وقيل: كان تأخير العصر عمدًا لكونهم شغلوه وحبسوه عنها ولم يمكنوه منها، وظاهر الأحاديث تشهد له، فإن قيل: هل يجوز اليوم تأخير الصلاة بسبب الاشتغال بالعدو والقتال؟ قلنا: لا. لا يجوز اليوم تأخيرها عمدًا عن وقتها، بل يصلي صلاة الخوف، أما ما حصل فكان قبل صلاة الخوف. 3 - ويؤخذ من حلف الرسول صلى الله عليه وسلم في الرواية الثامنة جواز الحلف من غير استحلاف، قال النووي: وهي مستحبة إذ كان فيه مصلحة من توكيد الأمر، أو زيادة الطمأنينة، أو نفي توهم نسيان أو غير ذلك من المقاصد السائغة، وقد كثرت اليمين في الأحاديث. قال: وإنما حلف النبي صلى الله عليه وسلم تطييبًا لقلب عمر رضي الله عنه، فإنه شق عليه تأخير العصر إلى قريب من المغرب، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يصلها بعد، ليكون لعمر به أسوة، ولا يشق عليه ما جرى، وتطيب نفسه، وأكد ذلك الخبر باليمين. اهـ 4 - يؤخذ من الرواية الثامنة أن من فاتته صلاة، وذكرها في وقت أخرى ينبغي له أن يبدأ بقضاء الفائتة، ثم يصلي الحاضرة، وهذا مجمع عليه، لكنه عند الشافعي وطائفة على الاستحباب، فلو صلى الحاضرة ثم الفائتة جاز، وعند مالك وأبي حنيفة وآخرين على الإيجاب، فلو قدم الحاضرة لم يصح، ويؤيده ما رواه أحمد عما قريب من أنه صلى الله عليه وسلم لما صلى العصر بعد المغرب أعاد المغرب.

5 - واستدل بالحديث على عدم مشروعية الأذان للفائتة، وأجاب من اعتبره بأنه يحتمل أن الراوي لم يذكره مع وقوعه، بدليل أن المغرب كانت حاضرة ولم يذكر الراوي الأذان لها. 6 - وفيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق وحسن التأني مع أصحابه وتألفهم وينبغي الاقتداء به في ذلك. 7 - وفيه جواز سب المشركين، ولكن المراد ما ليس بفاحش، إذ هو اللائق بمنصب عمر رضي الله عنه. 8 - وفيه جواز الدعاء على المشركين بالحرق. واللَّه أعلم

(230) باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما

(230) باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما 1224 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون". 1225 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "والملائكة يتعاقبون فيكم" بمثل حديث أبي الزناد؟ 1226 - عن جرير بن عبد الله قال: كنا جلوسًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال "أما إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها" يعني العصر والفجر. ثم قرأ جرير {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها} [طه: 130]. 1227 - عن عبد الله بن نمير وأبي أسامة ووكيع بهذا الإسناد وقال "أما إنكم ستعرضون على ربكم فترونه كما ترون هذا القمر" وقال: ثم قرأ. ولم يقل: جرير. 1228 - عن أبي بكر بن عمارة بن رؤيبة عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها" يعني الفجر والعصر. فقال له رجل من أهل البصرة: آنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال الرجل: وأنا أشهد أني سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. سمعته أذناي ووعاه قلبي. 1229 - عن ابن عمارة بن رؤيبة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يلج النار

من صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها" وعنده رجل من أهل البصرة فقال: آنت سمعت هذا من النبي صلى الله عليه وسلم قال: نعم. أشهد به عليه. قال: وأنا أشهد. لقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقوله بالمكان الذي سمعته منه. 1230 - عن أبي بكر عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى البردين دخل الجنة". -[المعنى العام]- كما فضل الله بعض الناس على بعض وفضل بعض الأماكن على بعض فضل بعض الأوقات على بعض، وتفضيل الأماكن والأوقات تفضيل للعبادة فيهما على العبادة في غيرهما، وقد فضل الله وقتي العصر والفجر على بقية الأوقات، لأن الفجر وقت النوم ووقت الخلود إلى الراحة، ووقت الخوف من البرد في الشتاء، ولأن العصر وقت انشغال الناس بالكسب والأعمال، فكان الترغب في المحافظة على الصلاة في هذين الوقتين، وكان فضل الله في الإثابة على صلاتهما عظيمًا، فأنزل الله ملائكة من السماء في كل من العصر والفجر، تنزل ملائكة الفجر فتشهد الصلاة مع المصلين وتستمر حتى صلاة العصر فتنزل طائفة أخرى تجتمع مع الأولى في صلاة العصر مع المصلين ثم تصعد طائفة النهار إلى ربها، وتبقى ملائكة الليل فتبيت حتى الفجر، فتنزل الملائكة فتجتمع مع ملائكة الليل في صلاة الفجر، ثم تصعد ملائكة الليل فيسألهم ربهم سؤال استنطاق: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون، وكثيرًا ما رغب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المحافظة على هاتين الصلاتين، وحذر من تضييعهما، فقال لأصحابه يومًا وقد رأوا البدر: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تزاحم بينكم في رؤيته، يساعدكم على الفور برؤيته جل شأنه المحافظة على صلاة العصر وصلاة الفجر، فإن رأيتم واستطعتم ألا يغلبكم الشيطان عليهما فافعلوا وحافظوا، فإنه لا يلج النار من حافظ على الصلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، وإنه من حافظ على صلاة البردين اللذين يصليان في برد النهار وانكسار حرارته وهما الصبح والعصر، من حافظ على هاتين الصلاتين دخل الجنة. -[المباحث العربية]- (يتعاقبون فيكم ملائكة) مذهب الأخفش ومن تابعه من النحويين في هذا وفي أمثاله أن الواو في "يتعاقبون" علامة جمع المذكر، وليست الفاعل، وإنما الفاعل "ملائكة" قالوا: يجوز إظهار ضمير الجمع والتثنية في الفعل مع وجود الفاعل، وحكوا فيه قولهم: أكلوني البراغيث، وحملوا عليه قوله تعالى: {وأسروا النجوى الذين ظلموا} [الأنبياء: 3].

وقال سيبويه وأكثر النحويين: لا يجوز إظهار الضمير مع وجود الفاعل الظاهر، ويتأولون هذا وأمثاله، ولا يرفعون الاسم الظاهر "ملائكة" على أنه فاعل الفعل المذكور، ويجعلون الضمير هو الفاعل، ويقدرون له ما يعود عليه، نحو: "لله ملائكة يتعاقبون فيكم" و"ملائكة" المذكورة بعد الفعل إما بدل من الضمير وإما خبر لمبتدأ محذوف، والجملة بيان، كأن قيل: من هم؟ فقيل: هم ملائكة بالليل، إلخ. ولكل من المذهبين وجهة نظر سليمة، فالأولون على لغة للحارث، وهي لغة فاشية، قال القرطبي: ولها وجه في القياس صحيح، والآخرون تؤيدهم روايتنا الثانية "والملائكة يتعاقبون فيكم" ... إلخ ورواية النسائي "إن الملائكة يتعاقبون فيكم"، ورواية البخاري في بدء الخلق "الملائكة يتعاقبون ملائكة بالليل وملائكة بالنهار" ... إلخ. ومعنى "يتعاقبون" تأتي طائفة عقيب طائفة ثم تعود الأولى عقب الثانية. قال ابن عبد البر: وإنما يكون التعاقب بين طائفتين أو رجلين، ومنه تعقيب الجيوش بأن يجهز الأمير بعثًا إلى مدة ثم يأذن لهم في الرجوع بعد أن يجهز غيرهم إلى مدة ثم يأذن لهم في الرجوع بعد أن يجهز الأولين. والخطاب في "فيكم" للمصلين، وقيل: مطلق المؤمنين، والأول أوضح وأقرب، والتنكير في "ملائكة" للدلالة على أن الثانية غير الأولى، فإن النكرة إذا أعيدت نكرة كانت الثانية غير الأولى، بخلاف ما إذا أعيدت المعرفة معرفة كانت عين الأولى غالبًا - ولذا ورد في قوله تعالى: {فإن مع العسر يسرًا إن مع العسر يسرًا} [الشرح: 5، 6] قوله صلى الله عليه وسلم .. "لن يغلب عسر يسرين". {ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر} قال الزين بن المنير: التعاقب مغاير للاجتماع، لكن ذلك منزل على حالين، فالتعاقب وحلول جماعة مكان جماعة يكون بعد اجتماعهم. (ثم يعرج الذين يأتون فيكم) يقال: عرج من باب نصر، والعروج الصعود، ويقال: عرج يعرج عرجانًا إذا عجز عن شيء أصابه، وعرج تعريجًا إذا قام. (فيسألهم ربهم) سؤال استنطاق وإقرار. (تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون) جملة "وهم يصلون" حال، وكان الترتيب الطبيعي أن يخبروا عن حالة الإتيان ثم عن حالة الترك لكنهم لم يراعوا الترتيب الوقوعي لأنهم طابقوا السؤال: كيف تركتم عبادي؟ فقدموا الجواب المطلوب ثم زادوا عليه، قال الحافظ ابن حجر: ولأن المخبر به صلاة العباد، والأعمال بخواتيمها، فناسب ذلك إخبارهم عن آخر عملهم قبل أوله. اهـ وحاصل الجواب أن حالة الترك قدمت للاهتمام بها. (كنا جلوسًا ... إذ نظر إلى القمر ليلة البدر) يحتمل أن "ليلة البدر" تنازعها كل من "كنا جلوسًا" و"إذ نظر" أي: كنا جلوسًا ليلة البدر إذ نظر إلى القمر ليلة البدر. (كما ترون هذا القمر) أي: ترونه رؤية محققة لا شك فيها ولا مشقة، كما ترون هذا القمر رؤية محققة بلا مشقة، فهو تشبيه للرؤية بالرؤية، لا المرئي بالمرئي. (لا تضامون في رؤيته) "تضامون" روى بتشديد الميم مع فتح التاء، وأصله "تتضامون"

بتاءين حذفت إحداهما، من الضم، أي لا تتزاحمون عند رؤيته، بل كل واحد منكم وادع مكانه لا ينازعه في رؤيته أحد، وروى بتخفيف الميم مع ضم التاء، من الضيم وهو الغلبة على الحق والاستبداد به، والمعنى لا يضيم بعضكم بعضًا في رؤيته، ولا يلحقكم ضيم ولا مشقة ولا تعب. (فإن استطعتم أن لا تغلبوا) بلفظ المبني للمجهول، و"أن" مصدرية والتقدير: فإن استطعتم عدم غلبة النوم والمشاغل لكم، وجواب "إن" محذوف للعلم به، وقد ذكر في رواية البخاري بلفظ "فافعلوا" أي: الصلاة في هذين الوقتين. (ثم قرأ جرير) الصحابي - فهو مدرج - وفي جميع روايات البخاري "ثم قرأ" بإبهام الفاعل، فحمله بعض الشراح على أنه النبي صلى الله عليه وسلم، والأولى ما ذكر فيها الفاعل. (من صلى البردين) بفتح الباء وسكون الراء تثنية "برد" بفتح الباء وسكون الراء، والمراد بهما صلاة الفجر والعصر، وسميًا بذلك لأنهما يصليان في بردي النهار، أي طرفاه، قاله الخطابي. -[فقه الحديث]- ذهب أكثر العلماء إلى أن هؤلاء الملائكة هم الحفظة الذين يكتبون أعمال العباد فسؤاله لهم عما أمرهم به من حفظهم لأعمالهم وكتبهم إياها عليهم، وقال القاضي عياض: وقيل يحتمل أن يكونوا غير الحفظة، فسؤاله لهم إنما هو على جهة التوبيخ لمن قال {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} [البقرة: 30]؟ وأنه ظهر لهم ما سبق في علمه بقوله: {إني أعلم ما لا تعلمون} وقال القرطبي: وهذه حكمة اجتماعهم في هاتين الصلاتين، أو يكون سؤاله لهم استدعاء لشهادتهم لهم، ولذلك قالوا: "تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون" قال: وهذا من خفي لطفه وجميل ستره، إذ لم يطلعهم إلا على حال عباداتهم، ولم يطلعهم على حالة شهواتهم وما يشبهها، اهـ. وهذا القول يصح مع من قال: إنهم غير الحفظة، لأن الحفظة يطلعون على أحوالهم كلها، اللهم إلا أن تكون الحفظة غير الكاتبين. وقد فهم بعضهم من الرواية الأولى من قوله: "ثم يعرج الذين باتوا فيكم" أن العروج خاص بملائكة الليل، دون ملائكة النهار، وحاول بعضهم أن يجعل المبيت للفرقتين وأن العروج في صلاة الفجر، وأن النزول في الصلاتين، قال: وفيه التعاقب. قال: وصورته أن تنزل طائفة عند العصر وتبيت، ثم تنزل طائفة ثانية عند الفجر، فيجتمع الطائفتان في صلاة الفجر، ثم يعرج الذين باتوا فقط ويستمر الذين نزلوا وقت الفجر إلى العصر، فتنزل الطائفة الأخرى، فيحصل اجتماعهم عند العصر أيضًا، ولا يصعد منهم أحد، بل تبيت الطائفتان أيضًا، ثم تعرج إحدى الطائفتين ويستمر ذلك فتصبح صورة التعاقب مع اختصاص النزول بالعصر، والعروج بالفجر، فلهذا خص السؤال بالذين باتوا، قاله في الفتح. وهو غير مستقيم لأن:

1 - قوله: "وأما النزول فيقع في الصلاتين معًا" يتناقض مع قوله: "مع اختصاص النزول بالعصر والعروج بالفجر". 2 - ولأن الصورة التي صورها تجعل الفرقتين يبيتون، فيصدق عليهم جميعًا "ثم يعرج الذين باتوا فيكم" وليس على إحداهما. 3 - ولأن الصورة التي صورها لا يصدق عليها قوله: "ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر" لأنهم والحالة هذه يجتمعون في صلاة العصر ويستمر اجتماعهم إلى صلاة الفجر. 4 - ولأن الصورة التي صورها لا يصدق عليها قوله: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار" بل يصدق على الجميع ملائكة الليل، أو ملائكة النهار أو ملائكة الليل والنهار، لأن كل فرقة ستنزل العصر وتصعد فجر اليوم الثاني. وقال الكرماني: فإن قلت: ما وجه التخصيص بالذين باتوا وترك الذين ظلوا؟ قلت: إما للاكتفاء بذكر أحدهما عن الآخر كقوله: {سرابيل تقيكم الحر} [النحل: 81] وإما لأن الليل مظنة المعصية ومظنة الاستراحة، فلما لم يعصوا واشتغلوا بالطاعة فالنهار أولى بذلك. اهـ ومعنى كلام الكرماني أن العروج يحصل من الفرقتين على الرأي الأول، وأنه يحصل من الذين باتوا دون الذين ظلوا على الرأي الثاني للعلة التي ذكرها وهي أن العروج والسؤال عن الحالة الأصعب، ومنها يعلم أمر الحالة الأسهل، ويمكن أن يكون ما ذكره الكرماني على أنه رأي ثان يمكن أن يكون تتميمًا للرأي الأول، ففي الحديث اكتفاء، وخص في الاكتفاء هذا الجانب بالذكر دون الآخر للعلة التي ذكرها، وهي القياس بالأولى وقد جاء مصرحًا بعروج كل من ملائكة الليل والنهار وسؤالهم في رواية ابن خزيمة، ولفظها عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر وصلاة العصر، فيجتمعون في صلاة الفجر فتصعد ملائكة الليل، وتثبت ملائكة النهار، ويجتمعون في صلاة العصر، فتصعد ملائكة النهار، وتثبت ملائكة الليل، فيسألهم ربهم: كيف تركتم عبادي؟ " الحديث. فلا حاجة إلى التكلف في تصوير الصورة التي صورت في الفتح. والله أعلم. -[ويؤخذ من أحاديث الباب فوق ما تقدم]- 1 - أن الصلاة أعلى العبادات، لأنه عليها وقع السؤال والجواب، قال الحافظ ابن حجر: قوله "تركناهم وهم يصلون" ظاهره أنهم فارقوهم عند شروعهم في العصر، سواء تمت أو منع مانع من إتمامها، وسواء شرع الجميع فيها أم لا، لأن المنتظر في حكم المصلي. وقال ابن التين: لا يلزم أنهم فارقوهم قبل انقضاء الصلاة فلم يشهدوها معهم، إذ هو محمول على أنهم شهدوا الصلاة مع من صلاها في أول وقتها، وشهدوا من دخل فيها بعد ذلك، ومن شرع في أسبابها. اهـ وقال ابن عبد البر: الأظهر أنهم يشهدون معهم الصلاة في الجماعة. اهـ وما قاله غير ظاهر فإن اللفظ محتمل للجماعة وغيرها، وإن كان فضل الجماعة معلومًا، بل ظاهر الحديث يتناول من صلاهما ولو مفردًا إذ مقتضاه التحريض على فعلهما أعم من كونه جماعة أو لا. قاله في الفتح. 2 - استدل بعض الحنفية بقوله: "ثم يعرج الذين باتوا فيكم" على استحباب تأخير صلاة العصر، وبيان ذلك أن الذين باتوا "هم الذين نزلوا عصرًا وأدركوا صلاة العصر، وإطلاق المبيت عليهم

يقتضي نزولهم قرب المبيت، ورد بأن اسم المبيت يصدق عليهم ولو تقدمت إقامتهم قطعة من النهار قبل إقامتهم بالليل، وقالوا: إن صعود ملائكة النهار عند صلاة العصر يقتضي أنهم قضوا النهار قبل الصعود، وذلك يتحقق بتأخير صلاة العصر إلى آخر النهار، ورد بأن الحديث ليس فيه ما يقتضي أنهم لا يصعدون إلا ساعة الفراغ من الصلاة، بل جائز أن تفرغ الصلاة ويتأخروا بعد ذلك إلى آخر النهار، ولا مانع أيضًا من أن تصعد ملائكة النهار وبعض النهار باق، ويطلق عليهم ملائكة النهار لأنهم أقاموا أكثر النهار وأغلبه. والله أعلم. 3 - وفي الحديث إشارة إلى عظم هاتين الصلاتين، لما فيهما من المشاق ومن التكاسل والتشاغل، ومن حافظ عليهما حافظ على غيرهما بالأولى غالبًا. 4 - وفيه إشارة إلى فضل هذين الوقتين، لكونهما تجتمع فيهما الطائفتان وفي غيرهما طائفة واحدة. 5 - وفيه إشارة إلى تشريف هذه الأمة على غيرها، ويلزم من ذلك تشريف نبينا على غيره من الأنبياء عليهم السلام. 6 - وفيه الإيذان بأن الملائكة تحب هذه الأمة لتزداد حبًا لهم، ولتزداد تقربًا إلى الله ليزدادوا حبًا لنا. 7 - وفيه الدلالة على أن الله تعالى يتكلم مع ملائكته. 8 - وفيه الإخبار بالغيب، ويترتب عليه زيادة الإيمان. 9 - وفيه الإخبار بأن الملائكة تضبط أحوالنا حتى نتيقظ ونتحفظ في الأوامر والنواهي. 10 - ويؤخذ من الرواية الثالثة إثبات رؤية المؤمنين لله تعالى في الآخرة قال العيني: استدل بهذا الحديث وأمثاله وبالقرآن وإجماع الصحابة ومن بعدهم على إثبات رؤية الله في الآخرة للمؤمنين، وقد روى أحاديث الرؤية أكثر من عشرين صحابيًا، ومنع من ذلك المعتزلة والخوارج وبعض المرجئة. اهـ. وقد بسطنا القول في هذا الموضوع في الجزء الثاني من هذا الكتاب. 11 - ظاهر الرواية الرابعة والخامسة تحريم النار على من حافظ على صلاة الفجر والعصر، وإن ارتكب المحرمات، وظاهر الرواية السادسة أن من حافظ عليهما دخل الجنة وإن عصى ولم يفعل غيرهما. وهذا الظاهر غير مراد، لأن الكلام خرج مخرج الغالب، لأن الغالب أن من صلاهما وراعاهما انتهى عما ينافيهما من فحشاء ومنكر، لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. واللَّه أعلم

(231) باب بيان أن أول وقت المغرب عند غروب الشمس

(231) باب بيان أن أول وقت المغرب عند غروب الشمس 1231 - عن سلمة بن الأكوع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي المغرب إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب. 1232 - عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: كنا نصلي المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فينصرف أحدنا وإنه ليبصر مواقع نبله. 1233 - عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: "كنا نصلي المغرب" بنحوه. -[المعنى العام]- لا خلاف بين العلماء في استحباب تعجيل صلاة المغرب بحيث تقع عقيب غروب الشمس وتوارى جميع جسمها في الأفق، وذلك حيث لا غيم يعمى على المرء غروبها، وبالأحرى يسن التعجيل بصلاة المغرب بمجرد تيقن غياب قرص الشمس جميعه، وهو الوقت الذي يباح فيه الفطر للصائم، ولا يقال إن الصائم يسن له التعجيل بالفطر فيتعارض مع استحباب التعجيل بصلاة المغرب، لأنا نقول أن بالإمكان الجمع بين التعجيلين، فيأخذ عجالة من فطره ثم يصلي ثم يعود لفطوره، وبذلك يأتي بالسنة في كل منهما. والله أعلم. -[المباحث العربية]- (إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب) قال النووي: اللفظان بمعنى، وأحدهما تفسير للآخر. اهـ. أي توارت بما يحجبها، وهو الأفق، وهذا اللفظ أصرح في المراد من رواية عبد بن حميد بلفظ "كان يصلي المغرب ساعة تغرب الشمس، حين يغيب حاجبها"، والمراد قطعًا حاجبها الذي يبقى بعد أن يغيب أكثرها، وحاجب الشمس وإن كان يطلق على نواحيها إلا أنه أظهر في طرفها الأعلى لأنه أول ما يبدو كحاجب الإنسان. (ليبصر مواقع نبله) النبل هو السهم يخرج عن القوس، وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه،

وقيل: واحده نبلة كتمر وتمرة، أي يرمي أحدنا النبل عن القوس فيندفع النبل مسافة ثم يسقط، فيراه صاحبه بعد سقوطه، ولا يكون ذلك إلا مع بقاء الضوء، وفي رواية أحمد "فما يخفى علينا مواقع سهامنا". -[فقه الحديث]- قال النووي: في هذين الحديثين أن صلاة المغرب تعجل عقب غروب الشمس، وهذا مجمع عليه، وقد حكي عن الشيعة فيه شيء لا التفات إليه، ولا أصل له، وأما الأحاديث السابقة في تأخير المغرب إلى قريب سقوط الشفق فكانت لبيان جواز التأخير كما سبق إيضاحه، فإنها كانت جواب سائل عن الوقت، وهذان الحديثان إخبار عن عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم المتكررة التي واظب عليها إلا لعذر، فالاعتماد عليها، اهـ. وفي معنى الحديثين وردت أحاديث كثيرة منها ما رواه أبو داود عن كعب بن مالك "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي المغرب ثم يرجع الناس إلى أهليهم ببني سلمة وهم يبصرون موقع النبل حين يرمي بها". وعند الشافعي عن إبراهيم "ثم نخرج نتناضل حتى ندخل بيوت بني سلمة فننظر مواقع النبل من إسفار" أي من الضوء، ومساكن بني سلمة في عوالي المدينة على نحو ميلين من المسجد النبوي. وعند النسائي عن رجل من أسلم "أنهم كانوا يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم المغرب ثم يرجعون إلى أهليهم إلى أقصى المدينة، ثم يرمون فيبصرون مواقع نبلهم". وعند الطبراني من حديث زيد بن خالد "كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم المغرب، ثم ننصرف حتى نأتي السوق وإنا لنرى مواضع النبل". واللَّه أعلم

(232) باب وقت العشاء وتأخيرها

(232) باب وقت العشاء وتأخيرها 1234 - عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي بصلاة العشاء. وهي التي تدعى العتمة. فلم يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال عمر بن الخطاب نام النساء والصبيان، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لأهل المسجد حين خرج عليهم "ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم" وذلك قبل أن يفشو الإسلام في الناس. زاد حرملة في روايته: قال ابن شهاب: وذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "وما كان لكم أن تنزروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصلاة" وذاك حين صاح عمر بن الخطاب. 1235 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: أعتم النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة حتى ذهب عامة الليل وحتى نام أهل المسجد، ثم خرج فصلى، فقال "إنه لوقتها. لولا أن أشق على أمتي" وفي حديث عبد الرزاق "لولا أن يشق على أمتي". 1236 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال مكثنا ذات ليلة ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة فخرج إلينا حين ذهب ثلث الليل أو بعده فلا ندري أشيء شغله في أهله أو غير ذلك فقال حين خرج "إنكم لتنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم ولولا أن يثقل على أمتي لصليت بهم هذه الساعة" ثم أمر المؤذن فأقام الصلاة وصلى. 1237 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شغل عنها ليلة فأخرها حتى رقدنا في المسجد ثم استيقظنا ثم رقدنا ثم استيقظنا ثم خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال "ليس أحد من أهل الأرض الليلة ينتظر الصلاة غيركم".

1238 - عن ثابت رضي الله عنه أنهم سألوا أنسًا عن خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء ذات ليلة إلى شطر الليل. أو كاد يذهب شطر الليل. ثم جاء فقال "إن الناس قد صلوا وناموا. وإنكم لم تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة". قال أنس: كأني أنظر إلى وبيص خاتمه من فضة. ورفع إصبعه اليسرى بالخنصر. 1239 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: نظرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة حتى كان قريب من نصف الليل، ثم جاء فصلى ثم أقبل علينا بوجهه، فكأنما أنظر إلى وبيص خاتمه في يده من فضة. 1240 - عن قرة بهذا الإسناد ولم يذكر: ثم أقبل علينا بوجهه. 1241 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال: كنت أنا وأصحابي الذين قدموا معي في السفينة نزولاً في بقيع بطحان ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فكان يتناوب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند صلاة العشاء كل ليلة نفر منهم، قال أبو موسى فوافقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأصحابي وله بعض الشغل في أمره حتى أعتم بالصلاة حتى ابهار الليل، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم فلما قضى صلاته قال لمن حضره "على رسلكم. أعلمكم وأبشروا أن من نعمة الله عليكم أنه ليس من الناس أحد يصلي هذه الساعة غيركم" أو قال "ما صلى هذه الساعة أحد غيركم" (لا ندري أي الكلمتين قال) قال أبو موسى: فرجعنا فرحين بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. 1242 - عن ابن جريج قال: قلت لعطاء أي حين أحب إليك أن أصلي العشاء التي يقولها الناس العتمة إمامًا وخلوًا؟ قال: سمعت ابن عباس يقول: أعتم نبي الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة العشاء. قال حتى رقد ناس واستيقظوا. ورقدوا واستيقظوا فقام عمر بن الخطاب فقال: الصلاة. فقال عطاء: قال ابن عباس: فخرج نبي الله صلى الله عليه وسلم كأني أنظر إليه الآن. يقطر رأسه ماء. واضعًا يده على شق رأسه. قال "لولا أن يشق على أمتي لأمرتهم أن يصلوها كذلك".

قال فاستثبت عطاء كيف وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على رأسه كما أنبأه ابن عباس. فبدد لي عطاء بين أصابعه شيئًا من تبديد. ثم وضع أطراف أصابعه على قرن الرأس. ثم صبها. يمرها كذلك على الرأس، حتى مست إبهامه طرف الأذن مما يلي الوجه، ثم على الصدغ وناحية اللحية لا يقصر ولا يبطش بشيء إلا كذلك. قلت لعطاء: كم ذكر لك أخرها النبي صلى الله عليه وسلم ليلتئذ؟ قال: لا أدري. قال عطاء: أحب إلي أن أصليها إمامًا وخلوًا مؤخرة. كما صلاها النبي صلى الله عليه وسلم ليلتئذ. فإن شق عليك ذلك خلوًا أو على الناس في الجماعة وأنت إمامهم. فصلها وسطًا، لا معجلة ولا مؤخرة. 1243 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤخر صلاة العشاء الآخرة. 1244 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الصلوات نحوًا من صلاتكم وكان يؤخر العتمة بعد صلاتكم شيئًا وكان يخف الصلاة. وفي رواية أبي كامل: يخفف. 1245 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم ألا إنها العشاء وهم يعتمون بالإبل". 1246 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء فإنها في كتاب الله العشاء وإنها تعتم بحلاب الإبل". -[المعنى العام]- اعتاد العرب النوم مبكرًا في أوائل الليل، وجاء الإسلام فأقر هذه العادة وحرص على النوم بعد صلاة العشاء ونهى عن السهر والسمر بعد العشاء، ذلك لأن الليل مظنة الانحراف، والسمر فيه عادة أهل اللهو واللعب، وكل سهر فيه قد يكون على حساب النشاط والجهد والإنتاج في النهار، بل قد يكون على حساب صلاة الفجر في وقته، فلما أمن الإسلام على أهله من الانحراف، ولما أشربت

قلوب الصحابة حب قيام الليل والتطوع بالصلاة فيه بدأ التشجيع على السهر في الطاعة، وبدأ الحض على تأخير صلاة العشاء عن أول وقتها، وبدأ هذا الأمر عمليًا عن طريق توجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يقدم صلاة العشاء أحيانًا. ويؤخرها عن أول وقتها أحيانًا أخرى، كان إذا رآهم اجتمعوا صلى بهم ولم ينتظرها، لأن فيهم المريض والسقيم وذا الحاجة، والأم ينام صبيانها، والأب تنتظره زوجه وأولاده، وإذا رآهم أبطئوا ولم يتجمعوا [لاسترخاء بعضهم اعتمادًا على موافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم على التأخير وحبه له] أخر صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء حتى يتجمعوا، وشجع على التأخير بنفسه في ليلة من الليالي، إذ تجمع الصحابة وانتظروا خروجه صلى الله عليه وسلم للصلاة وقد مضى من وقتها ساعة وأكثر فلم يخرج، حتى ذهب ثلث الليل أو يقرب من الثلث، حتى نام النساء والصبيان الموجودون بالمسجد، وحتى نام بعض الرجال وتيقظوا وناموا وتيقظوا، وحتى قام عمر قريبًا من باب بيته صلى الله عليه وسلم ونادى الصلاة. نام النساء والصبيان، وخرج صلى الله عليه وسلم وعليه آثار الغسل وشعره يقطر ماء، فقال لأصحابه: هذا الوقت المفضل لصلاة العشاء، ولولا المشقة على بعضكم لصليت بكم كل ليلة في هذا الموعد، لأنكم طالما تنتظرون الصلاة فأنتم في صلاة، وأنتم بانتظاركم صلاة العشاء إلى ثلث الليل تكونون الأمة الوحيدة التي تعبد ربها في هذا الوقت من الليل، فتكونون الأمة الوحيدة المستحقة للأجر الكبير والدرجات العلى، ففرح الصحابة بهذه البشرى وانتظروا وأخروا العشاء حين يؤخرونها راضين مسرورين. -[المباحث العربية]- (أعتم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي بصلاة العشاء) ذكر ابن سيده: العتمة ثلث الليل الأول بعد غيبوبة الشفق، وقيل: العتمة الإبطاء، يقال أعتم الشيء إذا أخره، والأول أظهر. يقال: أعتم دخل في وقت العتمة، والمعنى هنا أخر صلاة العشاء حتى اشتدت عتمة الليل، وهي ظلمته، و"ليلة" ظرف زمان أي أعتم في ليلة من الليالي. (وهي التي تدعى العتمة) تدعى كذلك من العرب والأعراب. (نام النساء والصبيان) أي الذين ينتظرون منهم الصلاة بالمسجد، وليس المراد من بالبيوت، وإنما خصهم بذلك لأنهم مظنة قلة الصبر عن النوم ومحل الشفقة والرحمة، بخلاف الرجال. (وذلك قبل أن يفشو الإسلام في الناس) أي قبل أن يظهر وينتشر في غير المدينة، وإنما انتشر في غير المدينة بعد فتح مكة. (وما كان لكم أن تنزروا رسول اللَّه) "تنزروا" بالتاء المفتوحة، ثم النون الساكنة، ثم زاي مضمومة، ثم راء، أي تلحوا عليه، ونقل القاضي عن بعض الرواة أنه ضبطه تبرزوا بضم التاء بعدها باء ساكنة فراء مكسورة فزاي من الإبراز، أي تخرجوا. قال النووي: والرواية الأولى هي الصحيحة المشهورة التي عليها الجمهور.

(حتى ذهب عامة الليل) قال النووي: أي كثير منه، وليس المراد أكثره ولا بد من هذا التأويل لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنه لوقتها" ولا يجوز أن يكون المراد بهذا القول ما بعد نصف الليل، لأنه لم يقل أحد من العلماء: إن تأخيرها إلى ما بعد نصف الليل أفضل. اهـ. وهو كلام حسن، لكنه يحتاج إلى توجيه عبارة "عامة الليل" ويمكن أن يقال: إن "أل" في الليل للعهد، أي الليل الصالح للوقت المختار للعشاء. (وحتى نام أهل المسجد) يجوز أن يراد بأهل المسجد النساء والصبيان على الرواية الأولى، أو ما هو أعم منهما على الرواية الرابعة. (إنه لوقتها) الضمير المنصوب للوقت الذي خرج فيه، والمراد من الوقت الوقت المفضل، أي إن هذا الوقت هو الوقت المختار لصلاة العشاء لولا أن أشق على أمتي. (لولا أن يشق على أمتي) أي لولا أن يشق الوقت وانتظاره على أمتي. (ما ينتظرها أهل دين غيركم) أي ما ينتظر الصلاة في هذه الساعة غيركم، إما لأنه لا يصلي حينئذ إلا بالمدينة، وإما لأن سائر الأقوام ليس في أديانهم صلاة في هذا الوقت. (لولا أن يثقل على أمتي لصليت بهم هذه الساعة) أي لداومت على الصلاة بهم في مثل هذه الساعة من كل ليلة. (شغل عنها ليلة) أي شغل عن صلاة العشاء، فمرجع الضمير معلوم للمخاطبين بمقتضى الحال، أو في الكلام حذف من الراوي للعلم به، وقوله: "شغل عنها" ظاهر في أن تأخير النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الغاية لم يكن قصدًا، وقوله: "ليلة" ظاهر في أن ذلك لم يكن من شأنه. (حتى رقدنا في المسجد ثم استيقظنا) هو محمول على أن الذي رقد بعضهم لا كلهم، ونسب الرقاد إلى الكل مجازًا، من تنزيل الأكثر منزلة الجميع. (أنهم سألوا أنسًا عن خاتم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم) صيغة السؤال - كما ورد في بعض الروايات - "هل اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتمًا؟ " الخاتم بكسر التاء وفتحها. (كأني أنظر إلى وبيص خاتمه من فضة) وبيص الخاتم بريقه ولمعانه والجار والمجرور "من فضة" متعلق بمحذوف حال من "خاتمه". (ورفع إصبعه اليسرى بالخنصر) المعنى رفع الإصبع الخنصر من يده اليسرى. قال النووي: هكذا هو في الأصول "بالخنصر" وفيه محذوف تقديره مشيرًا بالخنصر، أي إن الخاتم كان في خنصر اليد اليسرى، وهذا الذي رفع إصبعه هو أنس رضي الله عنه، وفي الإصبع عشر لغات، كسر الهمزة وفتحها وضمها، مع كسر الباء وفتحها وضمها، والعاشر أصبوع، وأفصحهن كسر الهمزة مع فتح الباء، اهـ.

(نظرنا ... حتى كان قريب من نصف الليل) قال النووي: هكذا هو في بعض الأصول "قريب" وفي بعضها "قريبًا" وكلاهما صحيح، وتقدير المنصوب حتى كان الزمان قريبًا، وقوله: "نظرنا" أي انتظرنا، يقال: نظرته وانتظرته بمعنى. (كنت أنا وأصحابي ... نزولاً) جمع نازل، كشهود جمع شاهد أي كنا نازلين. (في بقيع بطحان) "البقيع" بفتح الباء، وهو من الأرض المكان المتسع، ولا يقال بقيع إلا وفيه شجر، و"بطحان" بضم الباء وسكون الطاء. هكذا يرويه المحدثون أجمعون، وحكى أهل اللغة فيه فتح الباء وكسر الطاء، وهو علم على واد بالمدينة، ممنوع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون. (حتى ابهار الليل) بإسكان الباء وتشديد الراء، قال أبو سعيد الضرير: أي طلعت نجومه واشتبكت، والباهر الممتلئ نورًا، وعن سيبويه: ابهار الليل كثرت ظلمته، وابهار القمر كثر ضوؤه، وقال الأصمعي: ابهار انتصف، مأخوذة من بهرة الشيء وهو وسطه، ويؤيده ما جاء في بعض الروايات "حتى إذا كان قريبًا من نصف الليل". (على رسلكم) بكسر الراء وفتحها، لغتان، والكسر أفصح وأشهر، أي ابقوا واستمروا على هيئتكم، أي تأنوا وانتظروا. (أعلمكم وأبشروا) "أعلمكم" بضم الهمزة وسكون العين وكسر اللام مخففة، والجملة كالتعليل للأمر بالانتظار، و"أبشروا" فعل أمر، يقال: بشرت الرجل بتخفيف فتحة الشين، وبتشديدها وأبشرته، ثلاث لغات، أي ليؤثر الخبر على بشرتكم سرورًا. (أن من نعمة اللَّه عليكم أنه ليس من الناس أحد يصلي هذه الساعة غيركم) ليس واسمها وخبرها خبر "أنه" بفتح الهمزة، و"أنه" وخبرها مسبوك بمصدر اسم "أن" الأولى بفتح الهمزة أيضًا، و"من نعمة الله، خبرها، والتقدير: أن عدم صلاة أحد غيركم في هذه الساعة من نعمة الله عليكم. و"أن" واسمها وخبرها معمول لأعلمكم وأبشروا على التنازع. أي أعلمكم بهذا وأبشروا به. (قلت لعطاء) قال الحافظ ابن حجر: هو ابن أبي رباح، ووهم من زعم أنه ابن يسار. (إمامًا وخلوًا) بكسر الخاء، أي منفردًا؟ . (قام عمر ... فقال: الصلاة) قال الحافظ ابن حجر: "الصلاة" بالنصب بفعل مضمر، تقديره مثلاً: صل الصلاة، وساغ هذا الحذف لدلالة السياق عليه. (يقطر رأسه ماء) "ماء" تمييز محول عن الفاعل، أي يقطر ماء رأسه والجملة حال من "نبي الله" أو من الضمير في "كأني أنظر إليه الآن". وفي رواية "كأنه كان اغتسل قبل أن يخرج". (كما أنبأه ابن عباس) أي كما أخبر ابن عباس.

(فبدد لي عطاء بين أصابعه شيئًا من تبديد) أي فرق أصابعه بعض التفريق. (ثم وضع أطراف أصابعه على قرن الرأس) قرن الرأس بسكون الراء جانبها. (ثم صبها) قال النووي: هكذا هو في أصول روايتنا. قال القاضي: وضبطه بعضهم "قلبها" وفي البخاري "ضمها" والأول هو الصواب قال عياض: لأنه يصف عصر الماء من الشعر باليد. اهـ. وهذا المعنى يتأتى في رواية ضم الأصابع وبينها الشعر. (لا يقصر ولا يبطش بشيء إلا كذلك) "لا يقصر" من التقصير، أي لا يبطئ، وفي بعض نسخ البخاري "لا يعصر" بالعين، أي لا يعصر عصرًا خفيفًا ولا يبطش أي ولا يسرع ولا يعصر عصرًا شديدًا. أي برفق ولين غير متعجل وغير متراخ. (كم - ذكر لك - أخرها النبي صلى الله عليه وسلم ليلتئذ)؟ جملة "ذكر لك" مؤخرة من تقديم لأن الاستفهام له الصدارة، وتمييز "كم" محذوف. أي (ذكر لك) كم ساعة أخرها النبي صلى الله عليه وسلم؟ والتنوين في "ليلتئذ" عوض عن المضاف إليه، أي ليلة إذ أخرها النبي صلى الله عليه وسلم. (لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم) قال الطيبي: يقال غلبه على كذا إذا غصبه وأخذه منه قهرًا، والمعنى لا تتعرضوا لما هو من عاداتهم من تسمية العشاء بالعتمة، فيغصب منكم الأعراب اسم العشاء التي سماها اللَّه تعالى بها فالنهي على الظاهر للأعراب، وعلى الحقيقة لهم. اهـ والأعراب أهل البادية. (وهم يعتمون بالإبل) أي يؤخرون حلب الإبل إلى شدة الظلام، فمن أجل ذلك يسمون العشاء العتمة. (فإنها في كتاب اللَّه العشاء) في قوله تعالى: {ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم} [النور: 58]. -[فقه الحديث]- في تفضيل تعجيل صلاة العشاء أو تأخيرها ثلاثة آراء: الأول: أن تعجيلها أفضل مطلقًا، وهو قول الشافعي في القديم، ودليله عموم قوله صلى الله عليه وسلم في أفضل الأعمال: "الصلاة لوقتها" أي الصلاة لأول وقتها، وفي رواية "أحب الأعمال إلى اللَّه عز وجل الصلاة لأول وقتها" ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤخرها، وإنما أخرها ليلة واحدة أو ليلتين، ولو كان التأخير أفضل لواظب عليه صلى الله عليه وسلم ولو كان فيه مشقة، لأنه صلى الله عليه وسلم لا يواظب إلا على الأفضل، ثم إن ظاهر أحاديث التأخير أنه كان لشغل شغله صلى الله عليه وسلم. الثاني: أن المستحب تأخير صلاة العشاء إلى ما قبل الثلث، وقيل: إلى الثلث وبه قال مالك

وأحمد، وأكثر الصحابة والتابعين، وهو قول الشافعي في الجديد ودليلهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نبه على تفضيل التأخير بالألفاظ الواردة في أحاديث الباب، وصرح بأن ترك التأخير إنما هو للمشقة، قال النووي: ومعناه - واللَّه أعلم - أنه خشي أن يواظبوا عليه فيفرض عليهم، فلهذا تركه كما ترك صلاة التراويح، وعلق تركها بخشية افتراضها والعجز بها، وأجمع العلماء على استحبابها لزوال العلة التي خيف منها، وهذا المعنى موجود في العشاء. اهـ وقد علل الخطابي استحباب التأخير بأنه يؤدي إلى طول مدة انتظار الصلاة، ومنتظر الصلاة في صلاة. اهـ. وهذه العلة مردودة، إذ لو صحت لاستحب تأخير كل صلاة عن أول وقتها. هذا، ومذهب أبي حنيفة أن التأخير أفضل إلا في ليالي الصيف. الثالث: أنه يستحب تأخيرها إلى الثلث للمنفرد والجماعة الراضين بالتأخير فأما مع المشقة على المأمومين أو بعضهم فلا يستحب، وهو اختيار كثير من أهل الحديث من الشافعية وغيرهم. وظاهر الأحاديث يؤيده، ويقويه حديث "والعشاء أحيانًا يؤخرها وأحيانًا يعجل. كان إذا رآهم اجتمعوا عجل، وإذا رآهم أبطئوا أخر" رواه البخاري ومسلم. فعلى هذا من وجد به قوة على تأخيرها، ولم يغلبه النوم، ولم يشق على أحد من المأمومين فالتأخير إلى الثلث في حقه أفضل. ولا يخفى أن الكلام في التأخير لا يشمل التأخير إلى ما بعد الثلث الأول (عند مالك والشافعي) أو إلى ما بعد النصف عند أصحاب الرأي وأهل الحديث لأن الكلام في تعجيل الصلاة أي تأخيرها إلى نهاية وقت الاختيار، أما بعد نصف الليل إلى طلوع الفجر فهو وقت جواز، خلافًا للاصطخري الذي يعد ما بعد نصف الليل قضاء. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - يؤخذ من الرواية العاشرة والحادية عشرة النهي عن تسمية العشاء بالعتمة. قال النووي: وقد جاء في الأحاديث الصحيحة تسميتها بالعتمة كحديث "لو يعلمون ما في الصبح والعتمة لأتوهما ولو حبوًا" رواه البخاري وغيره، والجواب عنه من وجهين: أحدهما: أنه استعمل لبيان الجواز، وأن النهي عن العتمة للتنزيه لا للتحريم. والثاني: يحتمل أنه خوطب بالعتمة من لا يعرف العشاء. فخوطب بما يعرفه واستعمل لفظ العتمة لأنه أشهر عند العرب، وكانوا يطلقون العشاء على المغرب. اهـ وقال الحافظ ابن حجر: اختلف السلف في ذلك، فمنهم من كرهه، ومنهم من أطلق جوازه، ومنهم من جعله خلاف الأولى، وهو الراجح، وكذلك نقله ابن المنذر عن مالك والشافعي. ثم قال: وقيل إن النهي عن تسمية العشاء عتمة نسخ الجواز، ولا بعد في أن ذلك كان جائزًا، فلما كثر إطلاقهم له نهوا عنه لئلا تغلب السنة الجاهلية على السنة الإسلامية. اهـ فالنهي أيضًا للتنزيه لثبوت ورود

التسميتين شرعًا. والنهي موجه لتسمية الصلاة عتمة، وأما "أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم" فهو من قبيل إطلاق الفعل، ولا شيء فيه. 2 - يؤخذ من قوله في الرواية الثالثة: "العشاء الآخرة" جواز وصفها بالآخرة، وأنه لا كراهة فيه خلافًا لما حكي عن الأصمعي من كراهة هذا. 3 - ويؤخذ منه أنه يستحب للإمام والعالم إذا تأخر عن أصحابه أو جرى منه ما يظن أنه يشق عليهم أن يعتذر إليهم. 4 - ومن قوله: "رقدنا ثم استيقظنا" استدل على أن النوم لا ينقض الوضوء. قال النووي: وهو محمول على نوم لا ينقض الوضوء وهو نوم الجالس ممكنًا مقعده من الأرض. 5 - وفيه جواز لبس خاتم الفضة، قال النووي: وهو إجماع المسلمين. 6 - وفيه جواز الحديث بعد صلاة العشاء إذا كان في خير، وإنما نهي عن الكلام في غير الخير. 7 - وفيه جواز النوم قبل العشاء لمن غلب، والكراهة مختصة بمن تعاطى ذلك مختارًا. 8 - وفيه فضل انتظار الصلاة. 9 - وفي قوله عمر: الصلاة. دليل على جواز الإعلام للإمام أن يخرج إلى الصلاة إذا كان في بيته. 10 - ومن الرواية السابقة يؤخذ أن التبشير لأحد بما يسره محبوب، لأن فيه إدخال السرور في قلب المؤمن. واللَّه أعلم

(233) باب استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها وهو التغليس، وبيان قدر القراءة فيها

(233) باب استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها وهو التغليس، وبيان قدر القراءة فيها 1247 - عن عائشة رضي الله عنها أن نساء المؤمنات كن يصلين الصبح مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرجعن متلفعات بمروطهن لا يعرفهن أحد. 1248 - عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لقد كان نساء من المؤمنات يشهدن الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم متلفعات بمروطهن ثم ينقلبن إلى بيوتهن وما يعرفن من تغليس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة. 1249 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي الصبح فينصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس. وقال الأنصاري في روايته: متلففات. 1250 - عن محمد بن عمرو بن الحسن بن علي قال: لما قدم الحجاج المدينة فسألنا جابر بن عبد الله فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة. والعصر والشمس نقية. والمغرب إذا وجبت. والعشاء أحيانًا يؤخرها وأحيانًا يعجل. كان إذا رآهم قد اجتمعوا عجل. وإذا رآهم قد أبطئوا أخر. والصبح كانوا أو (قال) كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها بغلس. 1251 - عن محمد بن عمرو بن الحسن بن علي قال: كان الحجاج يؤخر الصلوات فسألنا جابر بن عبد الله بمثل حديث غندر. 1252 - عن سيار بن سلامة قال: سمعت أبي يسأل أبا برزة عن صلاة رسول

الله صلى الله عليه وسلم قال: قلت: آنت سمعته؟ قال فقال: كأنما أسمعك الساعة. قال: سمعت أبي يسأله عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: كان لا يبالي بعض تأخيرها (قال يعني العشاء) إلى نصف الليل، ولا يحب النوم قبلها ولا الحديث بعدها. قال شعبة: ثم لقيته بعد فسألته فقال: وكان يصلي الظهر حين تزول الشمس. والعصر يذهب الرجل إلى أقصى المدينة والشمس حية. قال: والمغرب لا أدري أي حين ذكر. قال: ثم لقيته بعد فسألته. فقال: وكان يصلي الصبح فينصرف الرجل فينظر إلى وجه جليسه الذي يعرف فيعرفه. قال: وكان يقرأ فيها بالستين إلى المائة. 1253 - عن أبي برزة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبالي بعض تأخير صلاة العشاء إلى نصف الليل. وكان لا يحب النوم قبلها ولا الحديث بعدها. قال شعبة: ثم لقيته مرة أخرى فقال: أو ثلث الليل. 1254 - عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤخر العشاء إلى ثلث الليل ويكره النوم قبلها والحديث بعدها. وكان يقرأ في صلاة الفجر من المائة إلى الستين. وكان ينصرف حين يعرف بعضنا وجه بعض. -[المعنى العام]- يستدل الإمام مسلم على استحباب التبكير بصلاة الصبح في أول وقتها، وعلى مقدار القراءة فيها بمجموعتين من الأحاديث. المجموعة الأولى: عن عائشة تحكي ما كان عليه النساء المؤمنات من شهود صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، وبعد انتهائهن من الصلاة يرجعن إلى بيوتهن مع بقايا الظلمة التي لا يعرفهن الرائي بسببها مما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي الصبح بغلس أي في أول وقتها وفي بقايا الظلمة التي تسبق الإسفار. المجموعة الثانية يثيرها تأخير الأمويين وولاتهم للصلاة بالناس عن أول وقتها، مما دفع الغيورين إلى اللجوء إلى أئمة الصحابة يسألونهم عن حال رسول الله صلى الله عليه وسلم في التبكير بالصلوات في أول وقتها، فحين قدم الحجاج المدينة والياً عليها من قبل عبد الملك أخر الصلاة، فقام محمد بن عمرو بن

الحسن بن علي يسأل جابر بن عبد الله فحكى ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من التبكير بالصلوات عدا العشاء، وصرح بأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي الصبح بغلس أي بالظلمة التي قبل الإسفار. ثم سيار بن سلامة يروي أنه سمع أباه يسأل أبا برزة الأسلمي عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخبره أبو برزة بأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي الصلوات في أول وقتها إلا العشاء، فكان أحيانًا يؤخرها إلى ثلث الليل، لكنه كان يكره النوم قبل صلاتها، ويكره الكلام في غير خير بعد صلاتها. وكان مما صرح به أبو برزة بخصوص الفجر قوله: وكان يقرأ في صلاة الفجر بعد الفاتحة من الستين إلى المائة آية، فيكون تسليمه وانصرافه من الصلاة عند بداية الإسفار وعند تمكن الجار من معرفة وجه جاره الذي يعرفه، فصلى الله وسلم على رسول الله ورضي عن الصحابة والتابعين ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين. -[المباحث العربية]- (أن نساء المؤمنات) قال النووي: صورته صورة إضافة الشيء إلى نفسه واختلف في تأويله وتقديره، فقيل: تقديره نساء الأنفس المؤمنات، وقيل: نساء الجماعات المؤمنات، وقيل: إن "نساء" هنا بمعنى الفاضلات، أي فاضلات المؤمنات، كما يقال: رجال القوم، أي فضلاؤهم ومقدموهم. (يصلين الصبح) "الصبح" مفعول به. (ثم يرجعن متلفعات بمروطهن) "متلفعات" بالعين بعد الفاء، أي متلحفات ومتلففات، من التلحف، وهو شد اللفاع، وهو ما يغطي الوجه ويلتحف به، والمروط جمع مرط بكسر الميم، وهو كساء من صوف أو خز يؤتزر به. (لا يعرفهن أحد) قال الداودي: ما يعرفهن أحد أنساء أم رجال؟ وقيل: ما يعرف أعيانهن. قال النووي: وهذا ضعيف، لأن المتلفعة في النهار أيضًا لا يعرف عينها، فلا يبقى في الكلام فائدة. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: وفي كلام النووي نظر، لأن لكل امرأة هيئة غير هيئة الأخرى في الغالب، ولو كان بدنها مغطى. اهـ. وقال بعضهم: هذا يدل على أنهن كن سافرات، إذ لو كن منتقبات لمنع تغطية الوجه من معرفتهن، لا الغلس. اهـ. والظاهر ما قاله الحافظ ابن حجر. (ثم ينقلبن إلى بيوتهن) أي يرجعن إلى بيوتهن. (وما يعرفن من تغليس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالصلاة) الغلس هو بقايا ظلام الليل. (إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي) "إن" مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، وجملة "كان" واسمها وخبرها خبر إن، والتقدير إن الحال والشأن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي.

(لما قدم الحجاج المدينة) جواب "لما" محذوف تقديره: أخر الصلوات عن أول وقتها، وقد صرح بهذا الجواب في الرواية الخامسة. وكان قدوم الحجاج للمدينة سنة أربع وسبعين من الهجرة، بعد قتل ابن الزبير حيث ولاه عبد الملك على الحرمين. (فسألنا جابر بن عبد الله) "فسألنا" معطوف على جواب "لما" المحذوف ولم يبين المسئول عنه، وهو معلوم من الجواب، والأصل: سألناه عن مواقيت الصلاة وكيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي؟ وفي أي وقت كان يصلي كل صلاة؟ . (يصلي الظهر بالهاجرة) الهاجرة شدة الحر نصف النهار عقب الزوال قيل: سميت هاجرة من الهجرة وهو الترك، لأن الناس يتركون التصرف والأعمال بسبب شدة الحر، ويقيلون. (والعصر والشمس نقية) "والعصر" بالنصب عطفًا على الظهر، وجملة "والشمس نقية" حال، والمعنى صافية لم تتغير بصفرة آخر النهار. (والمغرب إذا وجبت) "والمغرب" بالنصب عطفًا على الظهر، ومعنى "وجبت" سقطت والضمير للشمس، أي إذا سقط قرص الشمس عن الأفق. (والعشاء أحيانًا يؤخرها وأحيانًا يعجل) أي يعجلها، أي يعجل صلاة العشاء، و"أحيانًا" منصوب على الظرفية. (كان إذا رآهم قد اجتمعوا عجل) بيان لقوله: "وأحيانًا يعجل". (وإذا رآهم قد أبطئوا أخر) بيان لقوله: "أحيانًا يؤخرها" ففي الكلام لف ونشر مشوش. (والصبح كانوا ... أو كان ... ) قال الكرماني: الشك من الراوي عن جابر (محمد بن عمرو بن الحسن بن علي). (قال: قلت: آنت سمعته) أي قال شعبة: قلت لسيار بن سلامة مستوثقًا من السماع: أأنت يا سيار سمعت أباك بأذنك يسأل أبا برزة؟ . (فقال: كأنما أسمعك الساعة) أي فقال: نعم سمعته سماعًا مؤكدًا مشبهًا سماعي لك الآن في اليقين والتأكد. (كان لا يبالي بعض تأخيرها) أصل الكلام: كان لا يبالي بتأخير العشاء بعض تأخير. (ثم لقيته بعد فسألته) أي عن وقت الظهر الذي كان يصلي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأن شعبة اكتفى بوقت العشاء في اللقاء الأول، وكأنه كان سؤال الساعة المطلوب وفي اللقاء الثاني سأل عن وقت الظهر.

(يذهب الرجل إلى أقصى المدينة والشمس حية) هي في معنى "نقية" السابق تفسيرها، وحياة الشمس عبارة عن بقاء حرها وبقاء لونها. (فينظر إلى وجه جليسه الذي يعرف فيعرفه) في الرواية الثامنة "وكان ينصرف حين يعرف بعضنا وجه بعض" والمعنى واحد، وهو أنه ينصرف، أي يسلم في أول ما يمكن أن يعرف بعضنا وجه من يعرفه، ولا يعارض هذا الإخبار بعدم معرفة النساء، لأن معرفة وجه الجليس بناء عن رؤية من قرب، وعدم معرفة النساء بناء عن رؤية من بعد، والوقت واحد. (وكان يقرأ بالستين إلى المائة) أي يقرأ بسورة بعد الفاتحة يتراوح عدد آياتها بين الستين آية وبين المائة آية. -[فقه الحديث]- التغليس بصلاة الفجر بمعنى صلاتها في أول وقتها مع بقايا ظلمة الليل أفضل من تأخيرها عند مالك والشافعي وأحمد، والإسفار بمعنى تأخيرها إلى بداية ضوء النهار أفضل من تعجيلها عند الحنفية. والرواية الرابعة وفيها: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يغلس" والأولى والثانية والثالثة، وفيها "أن النساء كن يصلين مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرجعن إلى بيوتهن بعد الصلاة ولا يعرفن من تغليس النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة" دليل للجمهور في أفضلية التعجيل والمبادرة بصلاة الصبح في أول الوقت، وأصرح من هذا دلالة للجمهور ما رواه أبو داود من حديث ابن مسعود "أنه صلى الله عليه وسلم أسفر بالصبح مرة، ثم كانت صلاته بعد بالغلس حتى مات، لم يعد إلى أن يسفر". واستدل الحنفية بما رواه أصحاب السنن وصححه الترمذي من حديث رافع بن خديج قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر بل ذهب بعض الحنفية أن هذا الحديث ناسخ للصلاة في الغلس، والقول بالنسخ بعيد جدًا كما يقول المحققون، فقد حافظ على التغليس أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم. وقد حمل الشافعي وغيره هذا الحديث على أن المراد بالإسفار المطلوب التحقق من طلوع الفجر، وحمله الطحاوي على أن المراد به الأمر بتطويل القراءة في صلاة الصبح حتى يخرج من الصلاة مسفرًا، أي يشرع في الغلس ويمد الصلاة إلى وقت الإسفار، فليس فيه دليل للحنفية على البدء في الصلاة عند الإسفار، كما استدلوا من روايات الباب بقوله في الرواية السادسة "فينصرف الرجل فينظر إلى وجه جليسه الذي يعرف فيعرفه" وفي الرواية الثامنة "وكان ينصرف حين يعرف بعضنا وجه بعض" والحق أن هاتين الروايتين دليل للجمهور لا للحنفية، لأنهما تصرحان بأن انتهاء الصلاة كان عند بداية الإسفار وتصرحان بأنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح من الآيات بما بين الستين إلى المائة" مما يؤكد أنه كان يبتدئ صلاة الصبح بغلس.

ومن هنا قال ابن عبد البر: صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر وعمر وعثمان أنهم كانوا يغلسون، ومحال أن يتركوا الأفضل، ويأتوا الدون، وهم النهاية في إتيان الفضائل. اهـ. هذا وقد روي عن أحمد رحمه الله أن الاعتبار بحال المأمومين، فإن أسفروا فالأفضل الإسفار، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك في العشاء، فكذلك في الفجر وهذه الرواية غير المعتمد في المذهب، وقياس الفجر على العشاء قياس مع الفارق الكبير. واللَّه أعلم. -[ويؤخذ من الأحاديث]- 1 - من الرواية الأولى والثانية والثالثة جواز حضور النساء صلاة الجماعة في المسجد بالليل، قال النووي: وهو إذا لم يخش فتنة عليهن وبهن. 2 - ويؤخذ منها أيضاً لزوم تستر النساء حتى مع استبعاد رؤية الرجال لهن فإنهن كن يتلفعن بمروطهن مع أن الغلس مانع من معرفتهن. 3 - أنه يستحب للنساء إذا حضرن الجماعة في المسجد أن يسرعن عقب الصلاة بالانصراف إلى بيوتهن قبل أن ينصرف الرجال. 4 - ومن الرواية الرابعة استحباب المبادرة بالصلاة في أول الوقت إلا ما نص الشارع على تأخيره كالإبراد بالظهر، وتأخير العشاء، وقد مر قريبًا الكلام فيهما. 5 - مدى حرص التابعين على الحفاظ على السنة والشريعة، وذلك حين أخر ولاة بني أمية الصلاة عن أول وقتها قام التابعون بالسؤال والتنبيه. 6 - ومن قوله في الرواية السادسة "آنت سمعته"؟ حرصهم على الاستيثاق من الرواية، ويؤخذ من الرد التوثيق والتأكيد. 7 - ويؤخذ من الرواية السادسة والثامنة مقدار القراءة المستحب في صلاة الفجر (ما بين الستين والمائة). 8 - ومن الرواية السادسة والسابعة والثامنة كراهة النوم قبل صلاة العشاء. قال النووي: وسبب الكراهة أنه يعرضها لفوات وقتها باستغراق النوم، أو لفوات وقتها المختار والأفضل، ولئلا يتساهل الناس في ذاك فيناموا عن صلاتها جماعة. اهـ. وممن قال بالكراهة عمر رضي الله عنه "فقد روي أنه كتب: لا ينام قبل أن يصلي العشاء فمن نام فلا نامت عيناه. وكره ذلك أبو هريرة وابن عباس وكثير من السلف، ومالك والشافعية ورخص فيه علي وابن مسعود والكوفيون، وقال الطحاوي: يرخص فيه بشرط أن يكون معه من يوقظه. وقال الترمذي: كره أكثر أهل العلم النوم قبل صلاة العشاء، ورخص بعضهم فيه في رمضان خاصة.

قال الحافظ ابن حجر: ومن نقلت عنهم الرخصة قيدت عنهم في أكثر الروايات بما إذا كان له من يوقظه أو عرف من عادته أنه لا يستغرق وقت الاختيار بالنوم، وهذا جيد حيث قلنا: إن علة النهي خشية خروج الوقت. اهـ 9 - ويؤخذ من الروايات نفسها كراهة الحديث بعد صلاة العشاء، قال النووي: سبب كراهة الحديث بعدها أنه يؤدي إلى السهر، ويخاف منه غلبة النوم عن قيام الليل أو الذكر فيه، أو عن صلاة الصبح في وقتها الجائز، أو في وقتها المختار، أو الأفضل، لأن السهر في الليل سبب للكسل في النهار عما يتوجه من حقوق الدين والطاعات ومصالح الدنيا. قال العلماء: والمكروه من الحديث بعد العشاء هو ما كان في الأمور التي لا مصلحة فيها، أما ما فيه مصلحة وخير فلا كراهة فيه، وذلك كمدارسة العلم وحكايات الصالحين ومحادثة الضيف والعروس للتأنيس، ومحادثة الرجل أهله وأولاده للملاطفة والحاجة، ومحادثة المسافرين بحفظ متاعهم أو أنفسهم، والحديث في الإصلاح بين الناس والشفاعة إليهم في خير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإرشاد إلى مصلحة، ونحو ذلك، فكل هذا لا كراهة فيه، وقد جاءت أحاديث صحيحة ببعضه، والباقي في معناه، والمراد بكراهة الحديث بعد العشاء كراهته بعد صلاتها، لا بعد دخول وقتها. اهـ وقال الحافظ ابن حجر: يفرق بين الليالي الطوال والقصار، ويمكن أن تحمل الكراهة على الإطلاق حسماً للمادة، لأن الشيء إذا شرع لكونه مظنة قد يستمر. واللَّه أعلم

(234) باب كراهة تأخير الصلاة عن وقتها المختار وما يفعله المأموم إذا أخرها الإمام

(234) باب كراهة تأخير الصلاة عن وقتها المختار وما يفعله المأموم إذا أخرها الإمام 1255 - عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها أو يميتون الصلاة عن وقتها؟ " قال قلت: فما تأمرني؟ قال "صل الصلاة لوقتها. فإن أدركتها معهم فصل. فإنها لك نافلة" ولم يذكر خلف: عن وقتها. 1256 - عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا أبا ذر إنه سيكون بعدي أمراء يميتون الصلاة فصل الصلاة لوقتها فإن صليت لوقتها كانت لك نافلة وإلا كنت قد أحرزت صلاتك". 1257 - عن أبي ذر رضي الله عنه قال: إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع. وإن كان عبدًا مجدع الأطراف. وأن أصلي الصلاة لوقتها. "فإن أدركت القوم وقد صلوا كنت قد أحرزت صلاتك وإلا كانت لك نافلة". 1258 - عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وضرب فخذي "كيف أنت إذا بقيت في قوم يؤخرون الصلاة عن وقتها؟ " قال: قال: ما تأمر؟ قال "صل الصلاة لوقتها. ثم اذهب لحاجتك. فإن أقيمت الصلاة وأنت في المسجد فصل". 1259 - عن أبي العالية البراء قال: أخر ابن زياد الصلاة. فجاءني عبد الله بن الصامت، فألقيت له كرسيًا، فجلس عليه. فذكرت له صنيع ابن زياد؛ فعض على شفته وضرب فخذي، وقال: إني سألت أبا ذر كما سألتني فضرب فخذي كما ضربت فخذك. وقال إني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني. فضرب فخذي كما ضربت فخذك وقال "صل الصلاة لوقتها فإن أدركتك الصلاة معهم فصل. ولا تقل: إني قد صليت فلا أصلي".

1260 - عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال: "كيف أنتم" أو قال "كيف أنت إذا بقيت في قوم يؤخرون الصلاة عن وقتها، فصل الصلاة لوقتها. ثم إن أقيمت الصلاة فصل معهم، فإنها زيادة خير". 1261 - عن أبي العالية البراء قال: قلت لعبد الله بن الصامت نصلي يوم الجمعة خلف أمراء فيؤخرون الصلاة. قال فضرب فخذي ضربة أوجعتني. وقال: سألت أبا ذر عن ذلك. فضرب فخذي. وقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. فقال: "صلوا الصلاة لوقتها واجعلوا صلاتكم معهم نافلة". قال وقال عبد الله: ذكر لي أن نبي الله صلى الله عليه وسلم ضرب فخذ أبي ذر. -[المعنى العام]- حرص الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم على أن يحث أمته على المبادرة بالصلاة في أول وقتها بالأسوة الحسنة ومواظبته صلى الله عليه وسلم على ذلك. وبالقول بأن أفضل الأعمال الصلاة في أول وقتها، ولم يكتف بذلك وبالتزام الصحابة بإشارته بغاية الدقة والاتباع، فحذرهم من زمن يأتي، تغلب الدنيا على أمرائهم، ويخلف من بعدهم خلف يضيعون الصلوات ويتبعون الشهوات، ولقد حمل هذا التحذير من رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابي الجليل أبو ذر، إذ بينما هو جالس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم على فخذه، فانتبه واشرأبت نفسه لسماع ما يلقي عليه، فقال له: كيف حالك وماذا تفعل يا أبا ذر لو أدركك زمن يضيع فيه الأمراء وقت الصلاة فيؤخرونها؟ قال: بماذا تأمرني أن أفعل يا رسول الله إذا أدركت هذا الابتلاء؟ قال: تصلي الصلاة في أول وقتها منفردًا، فإذا أقاموا الصلاة فلا تعرض نفسك لأذاهم ولا تعلن مغاضبتك لهم، ولا تقل لهم: لا أصلي لأني صليت، بل صل معهم مرة ثانية، تحسب لك نافلة ولها أجرها، وإن لم تحضرهم وخرجت من المسجد قبل أن يجتمعوا ويصلون أديت فرضك وأدركت الصلاة في أول وقتها ولك أجرك. -[المباحث العربية]- (كيف أنت إذا كانت عليك أمراء) "كيف أنت" خبر مقدم ومبتدأ مؤخر، و"إذا" ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه منصوب بجوابه و"أمراء" اسم "كان" وأنث الفعل لأن اسمه جمع تكسير يجوز معه تأنيث الفعل والجار والمجرور "عليك" خبر كان، وجواب "إذا" محذوف، دل عليه ما قبله والتقدير: "إذا كان عليك أمراء فكيف أنت وماذا ستفعل"؟ .

(يؤخرون الصلاة عن وقتها) في الكلام مضاف محذوف، والتقدير عن أول وقتها. كذا قيل، وسيأتي توضيحه في فقه الحديث، والجملة صفة "أمراء". (أو يميتون الصلاة عن وقتها) قال النووي: معنى يميتون الصلاة يؤخرونها. فيجعلونها كالميت الذي خرجت روحه. اهـ. ففي الكلام استعارة تصريحية تبعية، بأن شبه تأخير الصلاة بالموت بجامع فقدان الأثر المرجو من كل واستعيروأواو ببب الموت للتأخير، واشتق منه يميتون بمعنى يؤخرون على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية. (فما تأمرني)؟ الفاء في جواب شرط مقدر، أي إذا حصل ذلك وأدركت هذا الأمر فما تأمرني أن أفعل؟ . (صل الصلاة لوقتها) في الكلام مضاف محذوف، أي لأول وقتها. (فإن أدركتها معهم فصل) أي فصلها، والأصل، فإن بقيت في المسجد وأدركت صلاتهم لها فصلها. (فإنها لك نافلة) ضمير "فإنها" يصح أن يعود على الصلاة منفردًا، وعلى صلاة الجماعة، وبكل قيل كما سيأتي في فقه الحديث، والأولى جعله لصلاة الجماعة لأنها أقرب مذكور. (إن خليلي) يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخليل الحبيب. (وإن كان عبدًا مجدع الأطراف) أي أسمع للأمير وأطيع وإن كان من أمر علينا عبدًا، و"مجدع الأطراف" بضم الميم وفتح الجيم والدال المشددة، أي مقطع الأطراف، والجدع القطع، قال النووي: والمجدع أردأ العبيد لخسته، ولقلة قيمته ومنفعته، ونفرة الناس منه. اهـ. (فإن أدركت القوم) في الكلام التفات وانتقال من التكلم إلى الخطاب والكلام على تقدير قول محذوف مفسر ومبين للوصية، أي قال لي: صل الصلاة لوقتها فإن أدركت القوم ... إلخ. (وقد صلوا كنت قد أحرزت صلاتك) أي أجزأتك صلاتك، والمعنى: صل منفردًا، ثم اذهب لحاجتك، وتصرف في شغلك، فإن أدركتهم وقد صلوا جماعة بدونها فقد أجزأتك صلاتك التي صليتها منفردًا. (وإلا كانت لك نافلة) أي وإن لم تفتك جماعتهم بأن صليت معهم كانت صلاتك الأولى أو الثانية نافلة وزيادة أجر. (عن أبي العالية البراء) قال النووي: هو بتشديد الراء، وبالمد، كان يبري النبل، واسمه زياد بن فيروز البصري، وقيل: اسمه كلثوم، توفي يوم الإثنين في شوال سنة تسعين. اهـ.

-[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث]- 1 - الحث على الصلاة في أول وقتها. 2 - قال النووي: وفيه أن الإمام إذا أخرها عن أول وقتها يستحب للمأموم أن يصليها في أول الوقت منفردًا، ثم يصليها مع الإمام فيجمع فضيلتي أول الوقت والجماعة، فلو أراد الاقتصار على إحداهما فهل الأفضل الاقتصار على فعلها منفردًا في أول الوقت؟ أو الاقتصار على فعلها جماعة في آخر الوقت؟ فيه خلاف مشهور، والمختار استحباب الانتظار إن لم يفحش التأخير. اهـ. 3 - يؤخذ من قوله "كنت قد أحرزت صلاتك" أن الصلاة الأولى لمن صلى مرتين تكون هي الفريضة، والثانية تكون نافلة، والمسألة فيها خلاف بين العلماء على أربعة أقوال: الأول: الفرض هو الأولى للحديث، المذكور، ولقوله صلى الله عليه وسلم للرجلين اللذين لم يصليا معه: "إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة" أخرجه أصحاب السنن، ولأن الخطاب سقط بها، بدليل أنها لا تجب ثانيًا، وإذا برئت الذمة بالأولى استحال كون الثانية فريضة وجعل الأولى نافلة. قال بعضهم: إذا نوى الرجل الفريضة وصلاها وكتبتها الملائكة، فمن أين يستطيع أن يحولها نافلة؟ . وبهذا قال النووي وأبو حنيفة وإسحاق والشافعي في الجديد وأحمد، وهو الصحيح في مذهب الشافعية. الثاني: أن الفرض أكملهما، وهي الثانية في الجماعة، وبهذا قال سعيد بن المسيب وعطاء والشعبي وهو قول عند الشافعية. الثالث: كلاهما فرض، وهو قول لبعض الشافعية، وهو ضعيف. الرابع: الفرض إحداهما على الإبهام، يحتسب الله تعالى بأيتهما شاء. وهو ضعيف أيضًا، وهو قول عند الشافعية. 4 - قال النووي: وفي هذا الحديث أنه لا بأس بإعادة الصبح والعصر والمغرب، كباقي الصلوات، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق الأمر بإعادة الصلاة، ولم يفرق بين صلاة وصلاة، وهذا هو الصحيح في مذهبنا، ولنا وجه ضعيف أنه لا يعيد الصبح والعصر، لأن الثانية نفل، ولا تنفل بعدهما ولا يعيد المغرب لئلا تصير شفعًا. اهـ. وعند الحنابلة: إذا أعاد المغرب شفعها برابعة، نص عليه أحمد، قالوا: إن هذه الصلاة نافلة، ولا يشرع التنفل بوتر غير الوتر فكان زيادة ركعة أولى من نقصانها، ولئلا يفارق إمامه قبل إتمام صلاته. وقال الحنابلة أيضًا: إن أقيمت الصلاة في وقت نهي لم يستحب له الدخول في الصلاة معهم، فإن دخل وصلى معهم فلا بأس.

5 - على القول بأن الثانية تقع نافلة يؤخذ من الحديث جواز صلاة التنفل خلف المفترض. 6 - ويؤخذ من الحديث جواز صلاة المنفرد في المسجد الذي يصلي فيه بالجماعة إذا كان بعذر. 7 - وفيه حرص الصحابة والتابعين على إقامة السنة ومحاربة البدعة قدر الطاقة. 8 - وفيه علم من أعلام النبوة، فإن الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم من تأخير الأمراء للصلاة قد وقع في عهد بني أمية، قال النووي: إن المنقول عن الأمراء المتقدمين والمتأخرين إنما هو تأخيرها عن وقتها المختار، ولم يؤخرها أحد منهم عن جميع وقتها، فوجب حمل هذه الأخبار على ما هو الواقع. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: هذا مخالف للواقع، فقد صح أن الحجاج وأميره الوليد وغيرهما كانوا يؤخرون الصلاة عن وقتها، والآثار في ذلك مشهورة منها ما رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال: أخر الوليد الجمعة حتى أمسى، فجئت فصليت الظهر قبل أن أجلس ثم صليت العصر وأنا جالس إيماء وهو يخطب. قال: وإنما فعل ذلك عطاء خوفًا على نفسه من القتل، ومنها ما رواه ابن نعيم شيخ البخاري في كتاب الصلاة من طريق أبي بكر بن عتبة قال: صليت إلى جنب أبي جحيفة، فمسي الحجاج بالصلاة، فقام أبو جحيفة فصلى، ومن طريق ابن عمر: أنه كان يصلي مع الحجاج، فلما أخر الصلاة ترك أن يشهدها معه، ومن طريق محمد بن أبي إسماعيل قال: كنت بمنى وصحف تقرأ للوليد، فأخروا الصلاة، فنظرت إلى سعيد بن جبير وعطاء يومئان إيماء وهما قاعدان. 9 - ويؤخذ من الأمر بالصلاة خلف هؤلاء الأمراء جواز الصلاة خلف البر والفاجر. 10 - وفيه الحث على موافقة الأمراء في غير معصية لئلا تتفرق الكلمة وتقع الفتنة، والحث على الطاعة، والمنع من الخروج على السلاطين وإن جاروا لأن القيام عليهم يفضي غالبًا إلى أشد مما ينكر عليهم، قال الحافظ ابن حجر: ووجه الدلالة من الحديث أنه أمر بطاعة العبد والإمامة العظمى إنما تكون بالاستحقاق في قريش، فيكون غيرهم متغلبًا، فإذا أمر بطاعته استلزم عدم مخالفته والخروج عليه. 11 - ويؤخذ من الرواية الخامسة، من ضرب الفخذ حرص الصحابة والتابعين ومن بعدهم على المحافظة على الهيئات في الرواية زيادة في التأسي ورمزًا للتوثيق، وإنما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذ أبي ذر لتنبيهه وجمع ذهنه لاستيعاب ما يقول. واللَّه أعلم

(235) باب فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف عنها وأنها فرض كفاية

(235) باب فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف عنها وأنها فرض كفاية 1262 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءًا". 1263 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "تفضل صلاة في الجميع على صلاة الرجل وحده خمسًا وعشرين درجة قال وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر" قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودًا} [الإسراء/ الآية 78]. 1264 - - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول. بمثل حديث عبد الأعلى عن معمر. إلا أنه قال "بخمس وعشرين جزءًا". 1265 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صلاة الجماعة تعدل خمسًا وعشرين من صلاة الفذ". 1266 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صلاة مع الإمام أفضل من خمس وعشرين صلاة يصليها وحده". 1267 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة".

1268 - عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "صلاة الرجل في الجماعة تزيد على صلاته وحده سبعًا وعشرين". 1269 - - قال ابن نمير عن أبيه: "بضعًا وعشرين" وقال أبو بكر في روايته "سبعًا وعشرين درجة". 1270 - عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بضعًا وعشرين". 1271 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ناسًا في بعض الصلوات فقال "لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس ثم أخالف إلى رجال يتخلفون عنها. فآمر بهم فيحرقوا عليهم بحزم الحطب بيوتهم. ولو علم أحدهم أنه يجد عظمًا سمينًا لشهدها" يعني صلاة العشاء. 1272 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم انطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار". 1273 - عن همام بن منبه ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكر أحاديث منها. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لقد هممت أن آمر فتياني أن يستعدوا لي بحزم من حطب، ثم آمر رجلاً يصلي بالناس، ثم تحرق بيوت على من فيها". 1274 - عن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة "لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم".

1275 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال: يا رسول الله إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد. فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له فيصلي في بيته. فرخص له. فلما ولى دعاه فقال "هل تسمع النداء بالصلاة؟ " قال: نعم. قال "فأجب". 1276 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه أو مريض، إن كان المريض ليمشي بين رجلين حتى يأتي الصلاة، وقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا سنن الهدى، وإن من سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه. 1277 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: من سره أن يلقى الله غدًا مسلمًا فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن فإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة ويرفعه بها درجة ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف. 1278 - عن أبي الشعثاء قال: كنا قعودًا في المسجد مع أبي هريرة فأذن المؤذن، فقام رجل من المسجد يمشي فأتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد؛ فقال أبو هريرة: أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم. 1279 - عن أشعث بن أبي الشعثاء المحاربي عن أبيه قال سمعت أبا هريرة ورأى رجلاً يجتاز المسجد خارجًا بعد الأذان فقال أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم. 1280 - عن عبد الرحمن بن أبي عمرة قال: دخل عثمان بن عفان المسجد بعد

صلاة المغرب، فقعد وحده فقعدت إليه، فقال يا ابن أخي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله". 1281 - عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من صلى الصبح فهو في ذمة الله فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء فيدركه فيكبه في نار جهنم". 1282 - عن جندب القسري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من صلى صلاة الصبح فهو في ذمة الله فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه ثم يكبه على وجهه في نار جهنم". 1283 - - عن جندب بن سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا ولم يذكر "فيكبه في نار جهنم". -[المعنى العام]- من أبرز أهداف الإسلام ترابط المجتمع، وغرس المودة والمحبة بين أبنائه، حتى يصبح كالجسد الواحد، إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، لقد ولد الإسلام في مجتمع متفرق لا يضمه هدف ولا تجمعه غاية؛ يغير بعضه على بعض، وتترفع قبيلة على الأخرى، فحارب الإسلام هذه العصبية وسوى بين الناس كأسنان المشط، ونادى {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير} [الحجرات: 13]. "لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أحمر إلا بالتقوى". وكان لا بد من وسائل تقود إلى غرس هذا المبدأ، وكان لا بد من تدريبات عملية تطبع المسلمين على الإحساس بهذه المساواة، فكانت صلاة الجماعة إمامها رسول الله محمد بن عبد الله، خيار من خيار، ومناديها بلال بن أبي رباح العبد الحبشي، ويقف المسلمون فيها صفوفًا كصفوف الملائكة مستقيمة متراصة، المناكب ملاصقة للمناكب، والأقدام مساوية للأقدام، الغني بجوار الفقير والعظيم بجوار الضعيف، الكل يتحرك حركة واحدة، ويسكن سكونًا واحدًا فإذا ما قضيت التقى الناس بعضهم ببعض، فعرفوا ودرسوا مصالحهم، وساعد بعضهم بعضًا، وسأل بعضهم عن أحوال بعض، وعرفوا

غائبهم فحفظوه وأعانوه، لقاءات في مسجد واحد خمس مرات في اليوم والليلة يدعو إليها الإسلام، ويرغب فيها بقوله صلى الله عليه وسلم "صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءًا، وتسابق المسلمون إلى الجماعات بل تسابق نساء المسلمين، وصبيانهم إليها، حتى في الفجر في شدة إغراء النوم، وحتى في العشاء في ظلمة الليل، وكثر المسلمون، ودخل في الإسلام منافقون، ثقلت عليهم صلاة الفجر والعشاء، وثقلت عليهم الجماعات، فكانوا يتخلفون، وكرر الرسول صلى الله عليه وسلم على مسامعهم الترغيب في الجماعة "ما من رجل يتطهر فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة"، "من صلى الصبح في جماعة فهو في عهد الله ورعايته طول يومه، ومن لم يصلها طالبه الله بحقه ومن طالبه الله بحقه كبه على وجهه في نار جهنم" لكن بعض المنافقين دأب على التخلف عن الجماعة، والمنافقون جبناء، يخافون ولا يستحون، فكان المناسب لهم التهديد والوعيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لقد فكرت وهممت أن يؤذن المؤذن للصلاة ويقيم، ثم آمر رجلاً يصلي بالناس بدلاً مني، ثم آخذ بعض الفتية ومعهم حزم من الحطب فتحرق بيوت المتخلفين عن الجماعة وهم فيها" وبلغ ذلك المنافقين فحافظوا على الجماعة، وازداد المسلمون حرصًا عليها، حتى الأعمى والمريض والمعذور لم يكن يستهين بها أو يتخلف عنها، لقد كان المريض الذي لا يستطيع المشي وحده يسنده رجلان، يمشي بينهما يترنح ويتهادى حتى يوقفانه في الصف، ولقد جاء ابن أم مكتوم الأعمى يشكو تعثره في الطريق في الظلماء وفي السيل، يطلب الرخصة له أن يصلي في بيته إذا لم يجد قائدًا وتعرض للأخطار، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تسمع الأذان وأنت في بيتك؟ قال: نعم. قال: أجب النداء واحضر الجماعة فلا رخصة لك. وهكذا كانت صلاة الجماعة في المسجد لا يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، معرض نفسه لغضب الله وغضب الناس، بل صار من يخرج من المسجد قبل صلاة الجماعة مغاضبًا لله ورسوله {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيًا} [مريم: 59]. -[المباحث العربية]- (أفضل من صلاة أحدكم وحده) حال جامدة مؤولة بمشتق، أي منفردًا. (تفضل صلاة في الجميع) أي في الجماعة. (قال: وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار) هذا هو الموجب لتفضيل صلاة الفجر مع الجماعة. (وقرآن الفجر) كناية عن صلاة الفجر، لأن الصلاة مستلزمة للقرآن. (كان مشهودًا) أي محضورًا فيه، تحضره الملائكة بطائفتيها.

(بخمس وعشرين جزءًا) قال النووي: هكذا هو في الأصول، ورواه بعضهم "خمسًا وعشرين درجة" و"خمسة وعشرين جزءًا" هذا هو الجاري على اللغة، والأول مؤول عليه، وأنه أراد بالجزء الدرجة. (من صلاة الفذ) بالفاء والذال، أي المنفرد، يقال: فذ الرجل من أصحابه إذا بقي منفردًا وحده، فهي في معنى الرواية الأولى. (فقد ناسا في بعض الصلوات) الظاهر أنها العشاء كما تشير إلى ذلك الرواية السابعة، أو الجمعة كما تصرح الرواية العاشرة، وهل كان الناس المتخلفون عن الجماعة منافقين أو أعم؟ تشير إلى الأول الرواية الثامنة، والظاهر العموم، ففي سند السراج "أخر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء حتى تهور الليل وذهب ثلثه أو نحوه ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس عزون، [متفرقون] وإذا هم قليلون، فغضب غضبًا شديدًا، ثم قال: لقد هممت ... إلخ. (لقد هممت) اللام جواب القسم، ومعنى هممت قصدت، والهم العزم وقيل دون العزم. (ثم أخالف إلى رجال) أي آتيهم من خلفهم، وقيل: أتخلف عن الجماعة وأذهب إليهم، والتقييد بالرجال يخرج النساء والصبيان. (يتخلفون عنها) أي عن العشاء، كما سيفسر الراوي آخر الحديث. (فيحرقوا عليهم بحزم الحطب بيوتهم) أي فيحرق الرجال أو الفتية الذين أصحبهم على المتخلفين بيوتهم بحزم الحطب و"أحرق" بضم الهمزة وبفتح الحاء وتشديد الراء المكسورة، والصيغة تفيد التكثير. (ولو علم أحدهم أنه يجد عظمًا سمينًا لشهدها) أي عظمًا عليه قليل من اللحم أو الشحم، والمقصود به الخسيس الحقير من متاع الدنيا. (إن أثقل صلاة على المنافقين) فيه إثبات أن بقية الصلوات ثقيلة على المنافقين. (لأتوهما ولو حبوًا) حبو الصبي الصغير مشيه على يديه ورجليه، أي لو يعلمون ما فيهما من الفضل والخير، ثم لم يستطيعوا الإتيان إليهما إلا حبوا لأتوهما، والضمير في "يعلمون" للمنافقين أو المتخلفين عنهما. (ثم أنطلق معي برجال) "معي" جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من "رجال" والتقدير أنطلق برجال مصاحبين لي. (إلى قوم لا يشهدون الصلاة) أي لا يحضرون الجماعة. (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى) قال النووي: هذا الأعمى هو ابن أم مكتوم جاء مفسرًا في سنن أبي داود وغيره. اهـ.

(إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد) زاد أحمد "وإن بيني وبين المسجد شجرًا ونخلاً، ولا أقدر على قائد كل ساعة". (هل تسمع النداء بالصلاة)؟ المراد بالنداء الأذان، فعند ابن حبان "أتسمع الأذان "؟ وقيل الإقامة أخذًا من رواية أحمد "أتسمع الإقامة"؟ والأول هو الظاهر. (قال: فأجب) في رواية أحمد "قال: فاحضرها، ولم يرخص له" وفي رواية ابن حبان "فأتها ولو حبوا". (لقد رأيتنا) يعني نفسه والصحابة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. (وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق) أي عن صلاة الجماعة، والجملة حالية. (إن كان المريض ليمشي) "إن" مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن محذوف، أي إن الحال والشأن كان المريض يأتي الصلاة بين الرجلين. (علمنا سنن الهدى) "سنن" روي بضم السين وفتحها، وهما بمعنى متقارب، أي طرائق الهدى وأوجه الصواب. (لقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين) أي يمسكه رجلان من جانبيه بعضديه يعتمد عليهما، وهو مراده بقوله في الرواية الثانية عشرة "إن كان المريض ليمشي بين رجلين". (من صلى الصبح فهو في ذمة الله) قال النووي: قيل: الذمة هنا الضمان، وقيل الأمان. اهـ (فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء فيدركه) من معاني الذمة العهد والحق وهو المناسب هنا، والجار والمجرور "من ذمته" متعلق بمحذوف حال من "شيء" والتقدير فلا يطالبكم الله بشيء من حقه فيدركه، والمعنى فحافظوا على صلاة الصبح، ولا تعرضوا أنفسكم لمطالبة الله لكم بحقه، فمن طالبه بحقه أدركه. (فيكبه) أي فيكب صاحبه المقصر في الحق. -[فقه الحديث]- الكلام عن أحاديث الباب يتناول فضل صلاة الجماعة، وآراء الفقهاء وأدلتهم في حكمها، ومسائل أخرى تؤخذ من الروايات. أما فضل صلاة الجماعة فالأحاديث صريحة في أنها تفضل صلاة الفرد ببضع وعشرين درجة ولا خلاف في ذلك، وكل ما في الموضوع الجمع بين ألفاظ الأحاديث، فالرواية الأولى والثانية والثالثة

والرابعة أن الأفضلية بخمس وعشرين درجة، والرواية الخامسة والسادسة أن الأفضلية بسبع وعشرين درجة. قال النووي: والجمع بينها من ثلاثة أوجه. أحدها: أنه لا منافاة بينها، فذكر القليل لا ينفي الكثير، ومفهوم العدد باطل عند جمهور الأصوليين بمعنى: أن إثبات أفضلية سبع وعشرين درجة تتضمن أفضلية خمس وعشرين درجة ولا تنافيها، وإنما يحصل التنافي لو قلنا بمفهوم العدد، بمعنى أن إثبات الأفضلية بخمس وعشرين مفهومه ليس بغير خمس وعشرين، ومفهوم العدد معطل عند جمهور الأصوليين. والثاني: أنه أخبر أولاً بالقليل، ثم أعلمه الله بزيادة الفضل، فأخبر بها - ومعنى هذا أن رواية سبع وعشرين ناسخة لرواية خمس وعشرين، وهذا الرأي ضعيف، لأن النسخ لا يصار إليه إلا عند تعذر الجمع، وعند معرفة المتقدم والمتأخر. والثالث: أنه يختلف باختلاف أحوال المصلين والصلاة، فيكون لبعضهم خمس وعشرون، ولبعضهم سبع وعشرون، بحسب كمال الصلاة ومحافظته على هيآتها وخشوعها وكثرة جماعتها وفضلهم وشرف البقعة، ونحو ذلك. فهذه هي الأجوبة المعتمدة، وقد قيل: إن الدرجة غير الجزء، وهذا غفلة من قائله، فإن في الصحيحين سبعًا وعشرين درجة وخمسًا وعشرين درجة، فاختلف القدر مع اتحاد لفظ الدرجة. اهـ وقال الحافظ ابن حجر بعد أن ذكر بعض وجوه الجمع غير المعتمدة: السبع مختصة بالجهرية، والخمس بالسرية، لأن في الجهرية الإنصات عند قراءة الإمام والتأمين عند تأمينه ليوافق تأمين الملائكة. قال: وهذا الوجه عندي أوجهها. اهـ وحاول بعض العلماء أن يربطوا العدد المذكور بفضائل في صلاة الجماعة كقول الكرماني: المكتوبات خمس، فضربت في مثلها، فصارت خمسًا وعشرين وقول غيره: الحسنة بعشر أمثالها للمصلي المنفرد فإذا انضم إليه آخر بلغت عشرين، ثم زيد بقدر عدد الصلوات الخمس، وقول الحافظ ابن حجر في الأسباب المقتضية للدرجات المذكورة. أولها: إجابة المؤذن بنية الصلاة في الجماعة، والتبكير إليها في أول الوقت والمشي إلى المسجد بالسكينة، ودخول المسجد داعيًا، وصلاة التحية عند دخوله. كل ذلك بنية الصلاة في الجماعة. فهذه خمس. سادسها: انتظار الجماعة. سابعها: صلاة الملائكة عليه واستغفارهم له. ثامنها: شهادتها له. تاسعها: إجابة الإقامة. عاشرها: السلامة من الشيطان حين يفر من الإقامة.

حادي عشرها: الوقوف منتظر إحرام الإمام. ثاني عشرها: إدراك تكبيرة الإحرام. ثالث عشرها: تسوية الصفوف وسد الفرج. رابع عشرها: جواب الإمام عند قوله: سمع الله لمن حمده. خامس عشرها: الأمن من السهو غالبًا وتنبيه الإمام إذا سها بالتسبيح أو الفتح عليه. سادس عشرها: حصول الخشوع والسلامة عما يلهي غالبًا. سابع عشرها: تحسين الهيئة غالبًا. ثامن عشرها: احتفاف الملائكة به. تاسع عشرها: التدرب على تجويد القراءة وتعلم الأركان والأبعاض. العشرون: إظهار شعائر الإسلام. الحادي والعشرون: إرغام الشيطان بالاجتماع على العبادة والتعاون على الطاعة ونشاط المتكاسل. الثاني والعشرون: السلامة من صفات النفاق ومن إساءة غيره الظن بأنه ترك الصلاة رأسًا. الثالث والعشرون: رد السلام على الإمام. الرابع والعشرون: الانتفاع باجتماعهم على الدعاء والذكر وعود بركة الكامل على الناقص. الخامس والعشرون: قيام نظام الألفة بين الجيران وتعاهدهم في أوقات الصلاة. ثم قال: فهذه خمس وعشرون خصلة ورد في كل منها أمر أو ترغيب يخصه. اهـ والمحقق يجد تداخلاً فيما ذكر كما يجد بعض الفضائل لم تذكر، والتحقيق أن الحكمة في هذا العدد الخاص غير محققة المعنى، لأن ذلك لا يدرك بالرأي، بل مرجعه إلى علم النبوة. وكل من خاض في تعيين الأسباب المقتضية للدرجة المذكورة أجهد نفسه ولم يأت بطائل. والرواية الأولى والرابعة والخامسة والسادسة تفيد أن صلاة الجماعة أفضل من خمس وعشرين أو سبع وعشرين من صلاة المنفرد، والرواية الثالثة تفيد أنها تعدلها وتساويها ولا تفضل عليها ولا تزيد، وظاهر هذا التعارض بين الروايات وقد اختار الحافظ ابن حجر أن صلاة الجماعة تساوي صلاة المنفرد وتزيد عليها العدد المذكور، فيكون للمصلي في جماعة ثواب ست وعشرين، أو ثمان وعشرين من صلاة المنفرد، ومعنى هذا تقييد الرواية الثالثة ليصح، تقديرها: صلاة الجماعة تعدل خمسًا وعشرين من صلاة الفذ زيادة عن صلاته وحده وهذا الاتجاه حسن يتسق مع فضل الله وجوده. ولما كانت الروايات الست الأولى تربط الفضل بصلاة الجماعة بقطع النظر عن كونها في

المسجد أو في البيت أو في المتجر أو في المصنع أو في المدرسة ولما كانت الروايات الثمان التي بعدها تربط صلاة الجماعة بالمسجد قال ابن دقيق العيد: والذي يظهر أن المراد بمقابل الجماعة في المسجد الصلاة في غيره منفردًا، لكنه خرج مخرج الغالب في أن من لم يحضر الجماعة في المسجد صلى منفردًا. اهـ وقد جاء عن بعض الصحابة قصر التضعيف إلى خمس وعشرين على التجميع في المسجد الذي يصلي فيه الجمعة، مع تقرير نوع من الفضل للجماعة في غيره، وجاء عن بعضهم قصر التضعيف إلى خمس وعشرين على التجميع في أي مسجد، دون البيت والسوق، أخذًا بظاهر حديث البخاري "صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسًا وعشرين ضعفًا" مع تقرير نوع من الفضل للجماعة في البيت والسوق ونحوهما. والذي تستريح إليه النفس أن التضعيف إلى خمس وعشرين عام في الجماعات في أي مكان، مع تقرير نوع زائد من الفضل للجماعة في المسجد ونوع أكثر زيادة من الفضل للجماعة في مسجد الجماعة. وهذا الرأي يعم كل الأحاديث مطلقها ومقيدها، خصوصًا ورواية البخاري التي قارنت بين المسجد وبين البيت والسوق جاءت بلفظ المضاعفة، وقد تطلق المضاعفة على المثلين كما تطلق على المثل. أما حكم صلاة الجماعة ففيه أربعة مذاهب: الأول: أنها فرض عين وشرط لصحة الصلاة، فلا تصح الصلاة بدونها إلا لعذر، وهو مذهب داود الظاهري، ورواية عن أحمد، ودليلهم ظاهر التهديد بالتحريق. وهي عقوبة لا يعاقب بها إلا الكفار، وهو مبني على أن ما وجب في العبادة كان شرطًا فيها، فلما كان الهم المذكور دالاً على لازمه وهو الحضور ووجوب الحضور دالاً على لازمه وهو الاشتراط ثبت الاشتراط، وهذا المذهب أضعف المذاهب وأبعدها عن الصواب لما سيتضح من مناقشات الأدلة. المذهب الثاني: أنها فرض عين، وليست شرطًا لصحة الصلاة، فتصح الصلاة بدونها مع الإثم واستحقاق العقوبة، وهو مذهب عطاء والأوزاعي وأحمد وجماعة من محدثي الشافعية كأبي ثور وابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان ودليلهم كأصحاب المذهب الأول أحاديث الهم بالتحريق، لكنهم لا يقولون: بأن ما وجب في العبادة كان شرطًا فيها، وإنما الغالب أن يكون شرطًا، وقد ينفك عن الشرطية. وقالوا: لو كانت فرض كفاية لكان قيام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بها كافيًا، ولو كانت سنة فتارك السنة لا يحرق عليه بيته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يهم إلا بحق، كما استدلوا على فرضيتها ووجوبها بصلاة الخوف، إذ فيها أعمال منافية للصلاة ارتكبت من أجل الجماعة، ولم يرخص بترك الجماعة في هذه الشدة، ولا يعمل ذلك لأجل فرض الكفاية، ولا للسنة، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص لابن أم مكتوم الأعمى في ترك الجماعة، ولو كانت فرض كفاية أو سنة لرخص له.

وسيرد الرد على هذا المذهب وعلى أدلته عند استعراضنا للمذهبين الآتيين. المذهب الثالث: أنها فرض كفاية، وهو مذهب جمهور المتقدمين من الشافعية، وهو ظاهر نص الشافعي، وبه قال كثير من الحنفية والمالكية. المذهب الرابع: أنها سنة مؤكدة، وهو المشهور عن الآخرين. ولما كان هذان المذهبان متقاربين، وكان القائلون بفرض الكفاية يقولون بأنها سنة مؤكدة في حق الباقين إذا أقامها البعض، وكان الفرق هو ما إذا تركها أهل محلة هل يأثمون جميعًا ويقاتلون بالسلاح، كتاركي فرض الكفاية؟ أو لا يأثمون كتاركي السنن؟ . لما كان الأمر كذلك كان هدف المذهبين الرد على أدلة المذهبين الأولين بحيث ينتفى أنها فرض عين، وقد أطنب العلماء في ذلك، وحق علينا أن نوفي المسألة حقها لرفع ظاهر التعارض بين الأحاديث. قال الحافظ ابن حجر: وقد أجابوا عن ظاهر حديث الباب [حديث الهم بالتحريق] بأجوبة. منها: 1 - أن الحديث نفسه يدل على عدم الوجوب، لكونه صلى الله عليه وسلم هم ولم يفعل، ولو كانت فرض عين لنفذ ما هم به، فتركه صلى الله عليه وسلم التحريق بعد التهديد دليل على عدم الفرضية. 2 - لو كانت فرض عين لقال حين توعد بالإحراق: من تخلف عن الجماعة لم تجزه صلاته، ولقال للذين صليا في رحالهما من غير جماعة أعيدا صلاتكما أو أنتما آثمان، ولكنه قال "إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما المسجد، فصليا فإنها لكما نافلة". 3 - قال الباجي وغيره: إن الحديث ورد مورد الزجر، وحقيقته غير مرادة وإنما المراد المبالغة، يرشد إلى ذلك وعيدهم بالعقوبة التي يعاقبها الكفار، وقد انعقد الإجماع على منع عقوبة المسلمين بذلك. 4 - أن المراد بالتهديد قوم تركوا الصلاة رأسًا، لا مجرد الجماعة. 5 - أن الحديث ورد في الحث على مخالفة فعل أهل النفاق والتحذير من التشبه بهم، لا لخصوص ترك الجماعة، فلا يتم الدليل. 6 - أن الحديث ورد في حق المنافقين، فليس التهديد لترك الجماعة بخصوصه، فلا يتم الدليل، والرواية الثامنة، ولفظها "إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا، ولقد هممت ... " إلخ تؤيد أن الحديث في المنافقين، قال الحافظ ابن حجر: لكن المراد به نفاق المعصية لا نفاق الكفر، بدليل قوله في رواية عجلان: "لا يشهدون العشاء في الجميع"، وقوله في حديث أسامة: "لا يشهد الجماعة، وأصرح منه رواية أبي هريرة عند أبي داود "ثم آتي قومًا يصلون في بيوتهم ليست بهم علة" فهذا يدل على أن نفاقهم نفاق

معصية لا كفر، لأن الكافر لا يصلي في بيته، إنما يصلي في المسجد رياء وسمعة، فإذا خلا في بيته كان كما وصفه الله به من الكفر والاستهزاء. وأيضًا فقوله في رواية المقبري: "لولا ما في البيوت من النساء والذرية "يدل على أنهم لم يكونوا كفارًا، لأن تحريق بيت الكافر إذا تعين طريقًا إلى الغلبة عليه لم يمنع ذلك وجود النساء والذرية في بيته. 7 - حكى القاضي عياض قول بعضهم: فرضية الجماعة كان في أول الإسلام، لأجل سد باب التخلف عن الصلوات على المنافقين، ثم نسخ، قال الحافظ: ويمكن أن يتقوى بثبوت نسخ الوعيد المذكور، وهو التحريق بالنار وكذا ثبوت نسخ ما يتضمنه الحريق من جواز العقوبة بالمال، ويدل على النسخ الأحاديث في تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفرد، لأن الأفضلية تقتضي الاشتراك في أصل الفضل، ومن لازم ذلك الجواز. 8 - أن المراد بالصلاة صلاة الجمعة، لا باقي الصلوات - والرواية العاشرة تؤيد هذا القول - ونصره القرطبي، وتعقب بالأحاديث المصرحة بالعشاء. انتهى بتصرف. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - قال النووي: قال بعضهم: في الحديث دليل على أن العقوبة كانت في أول الأمر بالمال، لأن تحريق البيوت عقوبة مالية. وقال بعضهم: أجمع العلماء على منع العقوبة بالتحريق في غير المتخلف عن الصلاة والغال من الغنيمة واختلف السلف فيهما، والجمهور على منع تحريق متاعهما. 2 - وفيه أن الإمام إذا عرض له شغل يستخلف من يصلي بالناس. 3 - وفيه جواز الانصراف بعد إقامة الصلاة لعذر. 4 - قال بعضهم: ويؤخذ من الرواية الحادية عشرة وظاهرها عدم قبول العذر أن الجماعة فرض عين، قال النووي: وأجاب الجمهور بأنه سأل هل له رخصة أن يصلي في بيته وتحصل له فضيلة الجماعة بسبب عذره؟ فقيل: لا. ويؤيد هذا أن حضور الجماعة يسقط بالعذر بإجماع المسلمين، ودليله من السنة حديث عتبان الآتي في الباب التالي. وأما ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم له ثم رده؛ وقوله "فأجب" فيحتمل أنه بوحي نزل في الحال، ويحتمل أنه تغير اجتهاده صلى الله عليه وسلم إذا قلنا بالصحيح وقول الأكثرين أنه يجوز له الاجتهاد، ويحتمل أنه رخص له أولاً، وأراد أنه لا يجب عليه الحضور، إما لعذر وإما لأن فرض الكفاية حاصل بحضور غيره، وإما للأمرين، ثم ندبه إلى الأفضل، فقال: الأفضل والأعظم لأجرك أن تجيب وتحضر، فأجب. 5 - ويؤخذ من الرواية الرابعة عشرة والخامسة عشرة كراهة الخروج من المسجد بعد الأذان حتى يصلي المكتوبة إلا لعذر. 6 - وفي حديث الهم بالتحريق تقديم الوعيد والتهديد على العقوبة، وسره أن المفسدة إذا ارتفعت بالأهون من الزجر اكتفى به عن الأعلى من العقوبة.

7 - وفيه جواز أخذ أهل الجرائم على غرة، لأنه صلى الله عليه وسلم هم بذلك في الوقت الذي عهد منه فيه الاشتغال بالصلاة بالجماعة، فأراد أن يبغتهم في الوقت الذي يتحققون فيه أنه لا يطرقهم فيه أحد. 8 - ترجم عليه البخاري في كتاب الأحكام: باب إخراج أهل المعاصي والريب من البيوت بعد المعرفة، يريد أن من طلب منهم بحق فاختفى أو امتنع في بيته إنكارًا ومماطلة أخرج منه بكل طريق يتوصل إليه بها، كما أراد صلى الله عليه وسلم إخراج المتخلفين عن الصلاة بإلقاء بالنار عليهم في بيوتهم. 9 - استدل به ابن العربي وغيره على مشروعية قتل تارك الصلاة متهاونًا بها، ونوزع في ذلك، ورواية أبي داود التي تفيد أنهم كانوا يصلون في بيوتهم تعكر عليه، قال الحافظ ابن حجر: ولا يلزم من التهديد بالتحريق حصول القتل لا دائمًا ولا غالبًا. 10 - وفيه الرخصة للإمام أو نائبه في ترك الجماعة لأجل إخراج من يستخفي في بيته ويتركها، ومن الأعذار في تخلفه خوف فوات الغريم وأصحاب الجرائم. 11 - استدل به على جواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل إذا كان في ذلك مصلحة. 12 - استدل به ابن العربي على جواز إعدام محل المعصية كما هو مذهب الإمام مالك، وتعقب بأنه منسوخ، كما قيل في العقوبة بالمال. والله أعلم

(236) باب الرخصة في التخلف عن الجماعة لعذر

(236) باب الرخصة في التخلف عن الجماعة لعذر 1284 - عن عتبان بن مالك رضي الله عنه وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ممن شهد بدرًا من الأنصار أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني قد أنكرت بصري، وأنا أصلي لقومي. وإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم، ولم أستطع أن آتي مسجدهم، فأصلي لهم. وددت أنك يا رسول الله تأتي فتصلي في مصلى، فأتخذه مصلى. قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "سأفعل، إن شاء الله" قال عتبان: فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق حين ارتفع النهار. فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأذنت له. فلم يجلس حتى دخل البيت. ثم قال "أين تحب أن أصلي من بيتك؟ " قال فأشرت إلى ناحية من البيت. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر، فقمنا وراءه. فصلى ركعتين ثم سلم. قال وحبسناه على خزير صنعناه له. قال فثاب رجال من أهل الدار حولنا. حتى اجتمع في البيت رجال ذوو عدد. فقال قائل منهم: أين مالك بن الدخشن؟ فقال بعضهم: ذلك منافق لا يحب الله ورسوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تقل له ذلك. ألا تراه قد قال: لا إله إلا الله، يريد بذلك وجه الله؟ " قال قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإنما نرى وجهه ونصيحته للمنافقين. قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فإن الله قد حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله" قال ابن شهاب: ثم سألت الحصين بن محمد الأنصاري وهو أحد بني سالم وهو من سراتهم عن حديث محمود بن الربيع فصدقه بذلك. 1285 - عن عتبان بن مالك رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وساق الحديث بمعنى حديث يونس. غير أنه قال: فقال رجل: أين مالك بن الدخشن أو الدخيشن؟ وزاد في الحديث: قال محمود: فحدثت بهذا الحديث نفرًا فيهم أبو أيوب الأنصاري. فقال: ما أظن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما قلت. قال فحلفت إن رجعت إلى عتبان أن أسأله. قال فرجعت إليه فوجدته شيخًا كبيرًا قد ذهب بصره، وهو إمام قومه. فجلست إلى جنبه، فسألته عن هذا

الحديث. فحدثنيه كما حدثنيه أول مرة. قال الزهري. ثم نزلت بعد ذلك فرائض وأمور نرى أن الأمر انتهى إليها. فمن استطاع أن لا يغتر فلا يغتر. 1286 - عن محمود بن الربيع قال: إني لأعقل مجة مجها رسول الله صلى الله عليه وسلم من دلو في دارنا قال محمود: فحدثني عتبان بن مالك قال: قلت: يا رسول الله إن بصري قد ساء. وساق الحديث إلى قوله: فصلى بنا ركعتين. وحبسنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على جشيشة صنعناها له. ولم يذكر ما بعده من زيادة يونس ومعمر. -[المعنى العام]- يحدث عتبان بن مالك الصحابي الجليل الأنصاري الخزرجي الذي شهد بدرًا عن ظروف زيارة الرسول صلى الله عليه وسلم له في بيته فيقول: كنت إمام قومي، أنتقل عند كل فريضة إلى مسجد محلتهم فأصلي بهم، فرأيت أن بصري جعل يكل ويضعف، ويسوء شيئًا فشيئًا حتى أصبحت أتعثر في طريق المسجد، وحتى أصبح من العسير على أن أجتاز الوادي الذي بيني وبين المسجد إذا جاء المطر وسال الوادي، ولم يكن مفر من أن أصلي في بيتي بعض الأوقات، فأردت أن أعوض ما يفوتني من الصلاة في المسجد بالصلاة في مكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت يا رسول الله: قد أنكرت بصري، إذ أصابني فيه ضعف شديد وأنا إمام قومي، فإذا كانت الأمطار وسال الوادي بيني وبينهم لم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلي بهم، ووددت يا رسول الله أنك تأتيني فتخط لي مكانًا في بيتي، فتصلي فيه، فأتخذه مصلى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سأفعل إن شاء الله. ولشدة لهفة عتبان ترقب قدوم رسول الله في اليوم نفسه، فلما لم يأت أصبح فأعد طعامًا له صلى الله عليه وسلم ولمن عساه يأتي معه، وبعث إليه رسولاً يقول له: يا رسول الله، إن عتبان يحب أن تأتيه فتصلي في منزله فيتخذه مصلى، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ارتفع النهار بالتوجه إلى بيت عتبان ومعه بعض أصحابه على رأسهم أبو بكر الصديق، فلما وصلوا المنزل استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن عتبان له بالدخول، فدخل فلم يجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل قال لعتبان: أين تحب أن أصلي من بيتك؟ قال عتبان: هنا. وأشار إلى ناحية من الحجرة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام من حضر فصفوا خلفه، فصلى بهم ركعتين، ثم جلسوا، وقام صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين أخريين، فتناولوا بحديثهم مالك بن الدخشن، وهو من قوم عتبان، قال قائل منهم: أين مالك بن الدخشن؟ لماذا لم يحضر الصلاة هنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وقال الآخر: إنه منافق لا يحب الله ورسوله. وقال آخر: إنه يجالس المنافقين ويصغي إليهم، وقال الرابع: ليت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو عليه فيهلك، وقال الخامس: ليته يصاب بمكروه يحول بينه وبين المنافقين.

كل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع فلما قضى صلاته قال: لا تقولوا هذا القول في مالك بن الدخشن. أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قالوا: إنه يشهد بلسانه دون قلبه، فإنا نراه يتجه بوجهه ونصيحته للمنافقين قال: ألا ترونه قد قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال صلى الله عليه وسلم: لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فيدخل النار أو تطعمه النار. فصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. -[المباحث العربية]- (عتبان بن مالك) قال النووي: بكسر العين على المشهور، وحكى ضمها. (إني قد أنكرت بصري) في الرواية الثالثة "إن بصري قد ساء" وفي رواية مسلم في كتاب الإيمان "أصابني في بصري بعض الشيء" وفي بعض الروايات "جعل بصري يكل" وفي رواية "لما ساء بصري" وهذه الروايات تدل على أنه لم يكن قد عمي كلية، لكن رواية لمسلم في كتاب الإيمان تقول "حدثني عتبان بن مالك أنه عمي" ورواية للبخاري في باب الرخصة في المطر تقول" قال محمود: إن عتبان كان يؤم قومه وهو أعمى، ففي هاتين الروايتين تصريح بأنه عمي بالفعل. وجمع الحافظ ابن حجر بين الروايات بأن قول محمود: "إن عتبان كان يؤم قومه وهو أعمى" أي حين لقيه محمود وسمع منه الحديث - كما هو ظاهر روايتنا الثانية - لا حين سؤاله النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنى هذا أن عتبان حين طلب الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن قد تم عماه. ويعكر على هذا الجمع رواية البخاري، وفيها أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها تكون الظلمة والسيل وأنا رجل ضرير البصر" إذ ظاهرها أنه حين طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أعمى، وجمع بعضهم بحمل الروايات الدالة على ضعف البصر على المجاز، وأنه أراد بضعف البصر العمى الكلي من إطلاق الجزء وإرادة الكل. أو يحمل رواية البخاري الأخيرة "وأنا رجل ضرير" على المجاز وإرادة ضعف البصر وذهاب معظمه، ويطلق على ذلك العمى لقربه منه، ومشاركته له في فوت بعض ما كان حاصلاً في حال السلامة، وهذا الجمع هو الجدير بالقبول. (فلم يجلس حتى دخل البيت) قال النووي: هكذا هو في جميع نسخ صحيح مسلم "فلم يجلس حتى دخل" وزعم بعضهم أن صوابه "حين دخل" قال القاضي عياض: هذا غلط، بل الصواب "حتى دخل" كما ثبتت الروايات ومعناه لم يجلس في الدار ولا في غيرها حتى دخل البيت، مبادرًا إلى قضاء حاجته التي طلبها وجاء بسببها وهي الصلاة في بيته، وهذا الذي قاله القاضي واضح متعين، ووقع في بعض نسخ البخاري "حين دخل" وفي بعضها "حتى" وكلاهما صحيح. اهـ. وكلام النووي غير متسق، لأن قوله: "وكلاهما صحيح" لا يتفق مع قوله: "والذي قاله القاضي واضح متعين" مع أن الذي قاله القاضي: إن رواية "حين" غلط، والصواب "حتى".

وعندي أنه إذا أريد من البيت حجرة داخل الدار صحت رواية "حتى" واتجه كلام القاضي عياض، وإلا فرواية "حين" أوضح وأصح. (وحبسناه على خزير صنعناه له) هو بالخاء وبالزاي، آخره راء، ويقال: خزيرة بالهاء، قال ابن قتيبة: الخزيرة لحم يقطع صغارًا، ثم يصب عليه ماء كثير فإذا نضج ذر عليه دقيق فإن لم يكن فيها لحم فهي عصيدة قال النووي: وفي صحيح البخاري: قال: قال النضر: الخزيرة من النخالة، والحريرة بالحاء وراءين من اللبن، وقال أبو الهيثم: إذا كانت من نخالة فهي خزيرة، وإذا كانت من دقيق فهي حريرة، والمراد نخالة فيها غليظ الدقيق. اهـ. والجشيشة الواردة في الرواية الثالثة هي الخزيرة، فلا تعارض، قال شمر: الجشيشة أن تطحن الحنطة طحنًا جليلاً، ثم يلقي فيها لحم أو تمر فتطبخ به. (فثاب رجال من أهل الدار حولنا) أي اجتمع رجال من أهل الديار التي حولنا. قال النووي: والمراد من الدار المحلة. (مالك بن الدخشن) بضم الدال وإسكان الخاء وضم الشين آخره نون وفي الرواية الثانية "أو الدخيشن" تصغير الدخشن، وفي روايات مسلم في كتاب الإيمان "الدخشم" بالميم بدل النون. (ذلك منافق) أي ذلك الرجل منافق، وفي روايات مسلم في كتاب الإيمان "ودوا أنه دعا عليه فهلك"، "وودوا أنه أصابه شر". (لا تقل له ذلك) أي لا تقل في حقه ذلك، قال النووي: وقد جاءت اللام بمعنى "في" في مواضع كثيرة نحو هذا. (قال: قالوا: اللَّه ورسوله أعلم) أي قال عتبان: قال هذا البعض: الله ورسوله أعلم، ردًا على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله. (قال: فإنما نرى وجهه ونصيحته للمنافقين) قائل ذلك هو البعض المتهم لمالك بن الدخشن. (ثم نزلت بعد ذلك فرائض وأمور) أي نزل بعد هذا الرجاء الواسع فرائض وواجبات ووعيد وتخويف، فلم يبق على إطلاقه. (نرى أن الأمر انتهى إليها) قال النووي: ضبطناه "نرى" بفتح النون وضمها، أي أن الأمر الشرعي انتهى إلى الخوف والرجاء، وليس إلى الرجاء وحده. (إني لأعقل مجة مجها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم) المج طرح الماء من الفم بالتزريق وكان الكبار يفعلونه مع الصبيان ملاطفة لهم وتأنيسًا ومزاحًا، وكان من رسول الله صلى الله عليه وسلم بركة للصبيان وإكرامًا لآبائهم، وكان سن محمود بن الربيع حين هذه المجة أربع سنين. أو خمسًا. قال النووي.

-[فقه الحديث]- تدل روايات الباب على أن عتبان أتى النبي صلى الله عليه وسلم، وشكا إليه ما أصابه وطلب منه الحضور إلى بيته، وتدل روايات مسلم في كتاب الإيمان على أن عتبان أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذهب بنفسه، إذ لفظها "أصابني في بصري بعض الشيء، فبعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أحب أن تأتيني، فتصلى في منزلي، فأتخذه مصلى" وقد جمع بين الروايات باحتمال أنه أسند إتيان رسوله إلى نفسه مجازًا وهو لم يذهب بنفسه للطلب، وجمع الحافظ ابن حجر بقوله: ويحتمل أنه أتاه مرة وبعث إليه أخرى. ولا تعارض بين ما هنا من قوله: "فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر الصديق" وبين ما سبق في كتاب الإيمان من قوله: "فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ومن شاء من أصحابه" إذ الأولى لا قصر فيها، وإنما اقتصر الراوي على ذكر أبي بكر من بين المصاحبين للرسول صلى الله عليه وسلم لفضله، وبذلك يرتفع ما توهم من تعارض بين ما هنا وبين ما ورد في بعض الروايات "ومعه أبو بكر وعمر" وبعضها "في نفر من أصحابه" وقال الحافظ ابن حجر: يحتمل الجمع بأن أبا بكر صحبه أولاً في ابتداء التوجه، ثم عند الدخول أو قبله اجتمع عمر وغيره من الصحابة فدخلوا معه. اهـ وهذا الجمع لا داعي إليه بعد وضوح الجمع الأول. والله أعلم. وظاهر رواية مسلم في كتاب الإيمان أن تحدث الصحابة في مالك بن الدخشن كان أثناء صلاته صلى الله عليه وسلم، ولفظها "فدخل فهو يصلي في منزلي وأصحابه يتحدثون بينهم، ثم أسندوا عظم ذلك وكبره إلى مالك بن دخشم" وحمله بعضهم أنه صلى بهم، ثم صلى وحده، فحصل الحديث وهو يصلي، واستدل به على جواز الكلام والتحدث بحضرة المصلين ما لم يشغلهم ويدخل عليهم الفساد في صلاتهم، وقال: وهذا في غير المسجد، وما لم يكن أحد المتحدثين عن يمين المصلي والآخر عن شماله. وقد يرى الباحث أن تمادى الصحابة في تناول مالك لم يكن ينبغي بعد تنبيه الرسول صلى الله عليه وسلم لهم ورده عليهم، ولكن لعلهم فهموا من كلامه صلى الله عليه وسلم أنه لا يجزم بذلك، خصوصًا وقد ورد بأسلوب الاستفهام "ألا تراه قد قال: لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله"؟ . ومستندهم في ذلك تخلفه عن هذا المجلس، وهذا المشهد الكثير البركة وعدم ظهور فرحه بمجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ديارهم: وعدم المبادرة إلى لقائه، بالإضافة إلى ما لاحظوه عنه من تردده على المنافقين وإصغائه إلى حديثهم. ولم يوافقهم صلى الله عليه وسلم، فقد يكون له عذر فيما رأوا، خصوصًا وهو من أهل بدر. وقد علمت شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل بدر عامة بأن الله قد غفر لهم. قال النووي: وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على إيمانه باطنًا، وبراءته من النفاق في الرواية الأولى بقوله: "ألا تراه قال لا إله إلا الله، يريد بذلك وجه الله"؟ وقد ظهر من حسن إسلامه ما يمنع من اتهامه بالنفاق، ففي البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه ومعن بن عدي، فجرفا مسجد الضرار، وما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يختاره لهذه المهمة وهو من المنافقين.

-[ويؤخذ من الحديث]- 1 - من الرواية الثانية مدى حرص الصحابة على التثبت من الأحاديث. 2 - إخبار المرء عن نفسه بما فيه من عاهة، ولا يكون ذلك من الشكوى. 3 - التبرك بآثار الصالحين، ويمكن أن تكون خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم. 4 - جواز استدعاء المفضول للفاضل لمصلحة تعرض. 5 - إجابة الفاضل دعوة المفضول. 6 - زيارة العلماء والفضلاء والكبراء أتباعهم، وأنه من دعي منهم أجاب إذا أمن الفتنة. 7 - استصحاب الزائر بعض أصحابه إذا علم أن المستدعي لا يكره ذلك. 8 - اجتماع أهل الجهة لملاقاة الإمام أو العالم إذا ورد منزل بعضهم ليستفيدوا منه. 9 - افتقاد من غاب عن الجماعة. 10 - ذكر من يتهم بريبة أو نحوها للأئمة وغيرهم ليتحرز منه، ولا يعد ذلك غيبة. 11 - أن على الإمام أن يتثبت من ذلك ويحمل الأمر فيه على الوجه الجميل. 12 - أن من نسب من يظهر الإسلام إلى النفاق ونحوه بقرينة تقوم عنده لا يكفر بذلك ولا يفسق، بل يعذر بالتأويل. 13 - الذب عمن ذكر بسوء وهو بريء منه. 14 - جواز اتخاذ موضع معين للصلاة، وأما النهي عن إيطان موضع معين من المسجد فمحمول على إذا استلزم رياء ونحوه. 15 - فيه الصلاة في الدور، وأنه لا بأس أن يجعل الرجل محرابًا في بيته وهل له حرمة المسجد أو لا؟ خلاف. 16 - أن المسجد المتخذ في البيوت لا يخرج عن ملك صاحبه، بخلاف المسجد المتخذ في المحلة. 17 - حسن خلقه صلى الله عليه وسلم وتواضعه مع جلالة قدره وعظم منزلته. 18 - البدء بالأهم، فقد بدأ صلى الله عليه وسلم في هذه القصة بالصلاة لأنها أصل الدعوة، وبدأ بالطعام في قصة مليكة لأنه كان أصل الدعوة، كما سيأتي في الباب التالي. 19 - أنه لا يدخل النار من شهد أن لا إله إلا الله، وقد سبق تفصيله وبيان توجيهه في أول كتاب الإيمان في الجزء الأول من فتح المنعم. 20 - يؤخذ من قوله في الرواية الأولى "قد أنكرت بصري وأنا أصلي لقومي" جواز إمامة الأعمى.

21 - وأنه كان في المدينة مساجد للجماعة سوى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. 22 - وأن التخلف عن الجماعة جائز للعذر، وهو أصل الباب. 23 - ويؤخذ من صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم بهم صلاة النافلة في جماعة. 24 - وصلاة الجماعة في البيوت. 25 - وأن السنة في نوافل النهار ركعتان كالليل. 26 - وأن الإمام إذا زار قومًا أمهم، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "من زار قومًا فلا يؤمهم وليؤمهم رجل منهم" فإنه مقيد بما إذا لم يكن الزائر هو الإمام الأعظم، وكذا من أذن له صاحب المنزل، وقال إسحق: لا يصلي أحد لصاحب المنزل وإن أذن له صاحب المنزل، وكأنه يجعل صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم من خصوصياته، وقال مالك: يستحب لصاحب المنزل إذا حضر فيه من هو أفضل منه أن يقدمه للصلاة، ليجمع بين الحقين، حق الإمام في التقدم، وحق المالك في منع التصرف بغير إذنه. 27 - ويؤخذ من قوله: "وحبسناه على خزيرة صنعناها له" إكرام العلماء والفضلاء إذا دعوا. والله أعلم

(237) باب جواز الجماعة في النافلة والصلاة على حصير وخمرة وثوب وغيرها من الطاهرات [وأين يقف الصبي والمرأة من الإمام]

(237) باب جواز الجماعة في النافلة والصلاة على حصير وخمرة وثوب وغيرها من الطاهرات [وأين يقف الصبي والمرأة من الإمام] 1287 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن جدته مليكة دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعته فأكل منه ثم قال "قوموا فأصلي لكم" قال أنس بن مالك: فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس. فنضحته بماء. فقام عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وصففت أنا واليتيم وراءه. والعجوز من ورائنا. فصلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين. ثم انصرف. 1288 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا. فربما تحضر الصلاة وهو في بيتنا. فيأمر بالبساط الذي تحته فيكنس، ثم ينضح. ثم يؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونقوم خلفه فيصلي بنا. وكان بساطهم من جريد النخل. 1289 - عن أنس رضي الله عنه قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم علينا. وما هو إلا أنا وأمي وأم حرام خالتي. فقال "قوموا فلأصلي بكم" (في غير وقت صلاة) فصلى بنا. فقال رجل لثابت: أين جعل أنسًا منه؟ قال: جعله على يمينه. ثم دعا لنا أهل البيت بكل خير من خير الدنيا والآخرة فقالت أمي: يا رسول الله خويدمك. ادع الله له. قال فدعا لي بكل خير. وكان في آخر ما دعا لي به أن قال: "اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه". 1290 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى به وبأمه أو خالته. قال: فأقامني عن يمينه وأقام المرأة خلفنا. 1291 - عن ميمونة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا حذاءه وربما أصابني ثوبه إذا سجد وكان يصلي على خمرة.

1292 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده يصلي على حصير يسجد عليه. -[المعنى العام]- ما أعظم تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم، خادمته أو أمها تصنع طعامًا في بيتها؛ وتدعو إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجيب بالترحيب، ويذهب فيأكل ثم يقول لأنس خادمه ولأمه وليتيم في الدار: قوموا معي أصلي لكم في بيتكم، وأصلي بكم أعلمكم ما لم يتيسر لكم تعلمه من سنن الصلاة، وأعلمكم وأعلم الأمة عن طريقكم أين يقف المأموم الواحد من الإمام وأين تقف المرأة من الرجال ولو كان الصف صبيًا، بل ولو كان هذا الصبي ابنًا لها. فيصف مرة أنسًا واليتيم صفا وراءه والمرأة وحدها صفًا وراءهما، ومرة أخرى حيث لا يتيم يصف أنسًا عن يمينه والمرأة خلفهما، ويصلي بهم في البيت ركعتين نافلة، قيل كانتا سنة الضحى، وتظهر البساطة التي كان عليها القوم والتواضع الجم الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم حين يقوم أنس إلى حصير قد أسود من طول الاستعمال، لا يملكون فراشًا غيره، فيرش عليه بعض الماء ليلين وليسكن أو يزول ترابه فتقام عليه الصلاة، وبكل أمل وطمع في كرم الرسول الكريم تطلب أم أنس منه صلى الله عليه وسلم أن يدعو لابنها خادمه، فيدعو له بكثرة المال والولد، والبركة فيهما فيفيض الله على أنس من المال والولد ما يتحقق به دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم. نفعنا الله بحديثه ورضي عن أصحابه أجمعين. -[المباحث العربية]- (عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس) قال ابن سعد في الطبقات: أم سليم تزوجها مالك بن النضر، فولدت له أنس بن مالك، ثم خلف عليها أبو طلحة، فولدت له والد إسحق، فهو يروي هذا الحديث عن عمه أخى أبيه لأمه، فأم سليم التي هي أم أنس جدة إسحق، والدة أبيه. (أن جدته مليكة) بنت مالك بن عدي، وهي أم أم سليم، فهي الجدة القربى لأنس، والجدة البعدى لإسحاق، واختلف المحدثون في مرجع الضمير في "أن جدته" هل قائل ذلك أنس؟ أو إسحاق؟ جزم ابن سعد وابن الحصار بأن القائل أنس، وجزم ابن عبد البر وعبد الحق وعياض بأن قائل ذلك إسحق.

قال الحافظ ابن حجر: ومقتضى كلام من أعاد الضمير في "جدته" إلى إسحق أن يكون اسم أم سليم مليكة، ومستندهم في ذلك ما رواه ابن عيينة عن إسحق بن أبي طلحة عن أنس قال: صففت أنا ويتيم في بيتنا خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأمي أم سليم خلفنا. اهـ. ولست أرى في هذا مستندًا، فقد تكون الداعية الصانعة للطعام مليكة جدة أنس وإسحق، ولم تصل معهم لعذر، والتي صلت معهم أم سليم، وقد تكون مليكة خارج البيت ساعة دخول النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن صنعت الطعام ودعت إليه، فتصدق الرواية الثالثة "دخل النبي صلى الله عليه وسلم وما هو إلا أنا وأمي وأم حرام خالتي"، على أن تعدد الواقعة قريب ووجيه، يشير إليه قول أنس في الرواية الثانية "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا، فربما يحضر الصلاة وهو في بيتنا ... إلخ، وهو يرفع التعارض بين الرواية الأولى والرابعة. ففي الرواية الأولى "وصففت أنا واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا" وفي الرواية الرابعة "فأقامني عن يمينه وأقام المرأة خلفنا". (فقمت إلى حصير لنا) قال ابن بطال: إن كان ما يصلي عليه كبيرًا قدر طول الرجل فأكثر فإنه يقال له حصير، ولا يقال له: خمرة، وكل ذلك يصنع من سعف النخل وما أشبهه. (قد اسود من طول ما لبس فنضحته بماء) قال العلماء: اسوداده لطول زمنه وكثرة استعماله، وإنما نضحه ليلين - فإنه كان من جريد النخل، كما صرح به في الرواية الثانية - ويذهب عنه الغبار ونحوه. (وصففت أنا واليتيم وراءه) قال النووي: اسمه ضمير بن سعد الحميري. (ثم انصرف) أي إلى بيته، أو من الصلاة. (قوموا فلأصلي بكم) "فلأصلي" بكسر اللام وفتح الياء، وأجاز ابن مالك في مثلها حذف الياء، وثبوتها مفتوحة وساكنة، فعند ثبوت الياء مفتوحة اللام لام كي، والفعل بعدها منصوب بأن مضمرة، واللام ومصحوبها خبر مبتدأ محذوف، والتقدير هنا: قوموا فقيامكم لأصلي بكم ويجيز الأخفش في هذه الحالة أن تكون الفاء زائدة، واللام متعلقة بقوموا، وعند سكون الياء يحتمل أن تكون اللام أيضًا لام كي، والفعل بعدها منصوبًا، وسكنت الياء تخفيفًا، أو اللام لأم الأمر وثبتت الياء في الجزم إجراء للمعتل مجرى الصحيح، كقراءة قنبل {إنه من يتق ويصبر} [يوسف: 90]. وعند حذف الياء اللام لام الأمر، وأمر المتكلم نفسه بفعل مقرون باللام فصيح، قليل في الاستعمال، ومنه قوله تعالى: {ولنحمل خطاياكم} [العنكبوت: 12] وأما قوله في الرواية الأولى: "قوموا فأصلي لكم" فالفعل منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية المسبوقة بأمر. {في غير وقت صلاة} يعني في غير وقت فريضة. (صلى بأمه أو خالته) الشك من الراوي، والأصح "بأمه" ففي رواية البخاري في باب المرأة

وحدها تكون صفًا "صليت أنا ويتيم في بيتنا خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأمي أم سليم خلفنا" وربما تكررت الواقعة، مرة معه أمه، ومرة معه خالته. (وكان يصلي على خمرة) بضم الخاء وسكون الميم، قال الطبري: هو مصلى صغير، يعمل من سعف النخل، سميت بذلك لسترها الوجه والكفين من حر الأرض وبردها، وزاد في النهاية: ولا تكون خمرة إلا في هذا المقدار. وقال الخطابي: هي السجادة يسجد عليها المصلي. اهـ. ويقصد السجادة الصغيرة التي تكفي الوجه واليدين، وليس المعنى المعروف لنا اليوم مما يقف عليه المصلي. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث]- 1 - إجابة الدعوة وإن لم تكن وليمة عرس، قال النووي: ولا خلاف في أن إجابتها مشروعة، لكن هل إجابتها واجبة؟ أو فرض كفاية؟ أو سنة؟ خلاف مشهور، وظاهر الأحاديث الإيجاب، قال الحافظ ابن حجر: ولو كان الداعي امرأة، لكن حيث تؤمن الفتنة. 2 - ومن الرواية الأولى من أكله صلى الله عليه وسلم قبل الصلاة على عكس ما فعل مع عتبان في الباب السابق يؤخذ مشروعية البدء بالأهم، إذ بدأ صلى الله عليه وسلم في كل منهما بأصل ما دعي لأجله. 3 - وتبريك الرجل الصالح والعالم أهل المنزل بالصلاة في منزلهم. قال بعضهم: لعل النبي صلى الله عليه وسلم أراد تعليمهم أفعال الصلاة مشاهدة مع تبريكهم، فإن المرأة قلما تشاهد أفعاله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فأراد أن تشاهدها وتتعلمها وتعلمها غيرها. 4 - ومن الرواية الثانية جواز النافلة جماعة في البيوت. 5 - وأن الأفضل في نافلة النهار كونها مثنى كنافلة الليل، خلافًا لمن اشترط في نافلة النهار أن تكون أربعًا. 6 - قال الحافظ ابن حجر: وفيه أن الافتراش يسمى لبسًا، وقد استدل به على منع افتراش الحرير لعموم النهي عن لبس الحرير. قال: ولا يرد عليه أن من حلف لا يلبس حريرًا فإنه لا يحنث بالافتراش، لأن الأيمان مبناها على العرف. 7 - عن قول أنس "فنضحته بماء" قال القاضي عياض: الأظهر أن نضحه بالماء كان للشك في نجاسته، قال النووي: وهذا على مذهبه [المالكي] في أن النجاسة المشكوك فيها تطهر بنضحها من غير غسل، ومذهبنا ومذهب الجمهور أن الطهارة لا تحصل إلا بالغسل، فالمختار أن النضح كان ليلين ويذهب عنه التراب ونحوه. 8 - استحباب تنظيف مكان المصلى.

9 - وصحة صلاة الصبي المميز ووضوئه. 10 - ومن إقامة أنس عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم في الروايتين الثالثة والرابعة قيام الصبي مع الرجل صفًا: أما أنه يكون بحذائه أو متأخرًا عنه قليلاً فسيأتي قريبًا في باب من أحق بالإمامة. 11 - ومن الرواية الأولى أن السنة في موقف الاثنين أن يصفا خلف الإمام خلافًا لمن قال من الحنفية: إن أحدهما يقف عن يمينه والآخر عن يساره، فقد قال أبو يوسف: الإمام يقف بينهما. قال الحافظ ابن حجر: وحجتهم في ذلك حديث ابن مسعود الذي أخرجه أبو داود وغيره أنه صلى الله عليه وسلم أقام علقمة عن يمينه والأسود عن شماله، وأجاب عنه ابن سيرين بأن ذلك كان لضيق المكان. 12 - وتأخير النساء عن صفوف الرجال. 13 - وأن المرأة تقوم صفًا وحدها إذا لم يكن معها امرأة أخرى، قال الحافظ ابن حجر: وأصله ما يخشى من الافتتان بها، فلو خالفت أجزأت صلاتها عند الجمهور. وعند الحنفية: تفسد صلاة الرجل دون المرأة قال: وهو عجيب، وفي توجيهه تعسف. اهـ. ثم ساق توجيههم ورده ورد عليه البدر العيني في كتابه عمدة القارئ فمن أراده فليطلبه. 14 - استدل به بعضهم على صحة صلاة المنفرد خلف الصف خلافًا لأحمد قال: لأنه لما ثبت ذلك للمرأة كان للرجل أولى، قال الحافظ ابن حجر: ولا حجة فيه لذلك فلمخالفه أن يقول: إنما ساغ ذلك لامتناع أن تصف مع الرجال، بخلاف الرجل فإن له أن يصف معهم، وأن يزاحمهم، وأن يجذب رجلاً من حاشية الصف فيقوم معه، فافترقا. اهـ واستدل أحمد بما رواه ابن حبان في صحيحه أن رجلاً صلى خلف الصف فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أعد صلاتك فإنه لا صلاة لك" وأجاب الجمهور عن الحديث بأن الأمر بالإعادة على الاستحباب دون الإيجاب. 15 - جواز الصلاة على الحصير وسائر ما تنبته الأرض. قال النووي: وهذا مجمع عليه، وما روي عن عمر بن عبد العزيز من أنه كان يؤتى بتراب فيوضع على الخمرة فيسجد عليه فمحمول على المبالغة في التواضع والخشوع. اهـ وكذا ما رواه أبو داود بلفظ "ترب وجهك" فإنه محمول على استحباب التواضع بوضع الجبهة على التراب مباشرة. اهـ وأما الطنافس والفراء والمسوح فقد أخرج ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي عن الأسود وأصحابه أنهم كانوا يكرهون الصلاة عليها، وأخرج عن جمع من الصحابة والتابعين جواز ذلك، وقال مالك: لا أرى بأسًا بالقيام عليها إذا كان يضع جبهته ويديه على الأرض. والله أعلم. 16 - أن الأصل في الثياب والبسط والحصر ونحوها الطهارة، وأن حكم الطهارة مستمر حتى تتحقق النجاسة.

17 - ومن الرواية الخامسة جواز الصلاة على الخمرة. 18 - وصحة الصلاة إذا أصاب ثوب المصلي المرأة وهي حائض، ففي رواية البخاري أنها كانت حائضًا. 19 - ومن الرواية الثالثة جواز الدعاء بكثرة المال والولد مع البركة فيهما. 20 - وما أكرم الله تعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم من استجابة دعائه لأنس في تكثير ماله وولده. 21 - وفيه طلب الدعاء من أهل الخير. واللَّه أعلم

(238) باب فضل الصلاة المكتوبة في جماعة، وفضل انتظار الصلاة، وكثرة الخطا إلى المساجد، وفضل المشي إليها، وفضل الجلوس في مصلاه بعد الصبح، وفضل المساجد

(238) باب فضل الصلاة المكتوبة في جماعة، وفضل انتظار الصلاة، وكثرة الخطا إلى المساجد، وفضل المشي إليها، وفضل الجلوس في مصلاه بعد الصبح، وفضل المساجد 1293 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعًا وعشرين درجة، وذلك أن أحدهم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة لا يريد إلا الصلاة فلم يخط خطوة إلا رفع له بها درجة وحط عنه بها خطيئة حتى يدخل المسجد، فإذا دخل المسجد كان في الصلاة ما كانت الصلاة هي تحبسه، والملائكة يصلون على أحدكم مادام في مجلسه الذي صلى فيه، يقولون اللهم ارحمه اللهم اغفر له اللهم تب عليه ما لم يؤذ فيه ما لم يحدث فيه". 1294 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الملائكة تصلي على أحدكم مادام في مجلسه، تقول اللهم اغفر له اللهم ارحمه ما لم يحدث، وأحدكم في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه". 1295 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "قال لا يزال العبد في صلاة ما كان في مصلاه ينتظر الصلاة وتقول الملائكة اللهم اغفر له اللهم ارحمه حتى ينصرف أو يحدث" قلت: ما يحدث؟ قال: يفسو أو يضرط. 1296 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا يزال أحدكم في صلاة مادامت الصلاة تحبسه لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة".

1297 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أحدكم ما قعد ينتظر الصلاة في صلاة ما لم يحدث تدعو له الملائكة اللهم اغفر له اللهم ارحمه". 1298 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أعظم الناس أجرًا في الصلاة أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم، والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجرًا من الذي يصليها ثم ينام" وفي رواية أبي كريب "حتى يصليها مع الإمام في جماعة". 1299 - عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كان رجل لا أعلم رجلاً أبعد من المسجد منه وكان لا تخطئه صلاة، قال: فقيل له أو قلت له: لو اشتريت حمارًا تركبه في الظلماء وفي الرمضاء قال ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد. إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد. ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قد جمع الله لك ذلك كله". 1300 - عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كان رجل من الأنصار بيته أقصى بيت في المدينة فكان لا تخطئه الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فتوجعنا له. فقلت له: يا فلان لو أنك اشتريت حمارًا يقيك من الرمضاء ويقيك من هوام الأرض، قال: أم والله ما أحب أن بيتي مطنب ببيت محمد صلى الله عليه وسلم. قال فحملت به حملاً حتى أتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم. فأخبرته قال فدعاه فقال له مثل ذلك. وذكر له أنه يرجو في أثره الأجر. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "إن لك ما احتسبت". 1301 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كانت ديارنا نائية عن

المسجد. فأردنا أن نبيع بيوتنا فنقترب من المسجد. فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال "إن لكم بكل خطوة درجة". 1302 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: خلت البقاع حول المسجد فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال لهم "إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد" قالوا: نعم. يا رسول الله قد أردنا ذلك. فقال "يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم". 1303 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أراد بنو سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد. قال والبقاع خالية فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال "يا بني سلمة دياركم. تكتب آثاركم". فقالوا: ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا. 1304 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطوتاه إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة". 1305 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال. وفي حديث بكر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات. هل يبقى من درنه شيء؟ " قالوا: لا يبقى من درنه شيء. قال "فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا". 1306 - عن جابر رضي الله عنه (وهو ابن عبد الله) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار غمر على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات" قال: قال الحسن: وما يبقي ذلك من الدرن؟ .

1307 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح". 1308 - عن سماك بن حرب قال: قلت لجابر بن سمرة أكنت تجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. كثيرًا. كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع الشمس. فإذا طلعت الشمس قام. وكانوا يتحدثون. فيأخذون في أمر الجاهلية. فيضحكون ويتبسم. 1309 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الفجر جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس حسنًا. 1310 - - عن سماك بهذا الإسناد ولم يقولا: حسنًا. 1311 - عَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَحَبُّ الْبِلادِ إِلَى اللَّهِ مَسَاجِدُهَا. وَأَبْغَضُ الْبِلادِ إِلَى اللَّهِ أَسْوَاقُهَا". -[المعنى العام]- وإذا كانت صلاة الجماعة تفضل صلاة الرجل منفردًا بخمس وعشرين درجة كان على المسلمين أن يحرصوا عليها، وأن يتحملوا في سبيل تحصيلها ما يقابلهم من صعاب، الوضوء بالماء البارد في شدة البرد، والمشي طويلاً لبعيد الدار عن المسجد، وانتظار الصلاة حتى تقام، ولكل من ذلك أجر، فمن توضأ فأحسن الوضوء. ثم خرج إلى المسجد لا يشغله ولا يحركه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا كان له بها حسنة، ومحى عنه بها سيئة، فإذا ما دخل المسجد وجلس ينتظر الصلاة حسب انتظاره للصلاة صلاة في الأجر والثواب، لأن الله سخر ملائكته أن تحضر جماعات المسلمين تدعو لهم بالرحمة والتوبة والمغفرة.

ولقد خفي على بعض المسلمين ما في كثرة الخطا إلى المسجد من الأجر، وكانوا يسكنون في أقصى المدينة على بعد ميل من المسجد، فدفعهم حرصهم على الجماعة أن يبيعوا بيوتهم ويشتروا بدلها بجوار المسجد، وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: لا يا بني سلمة، الزموا بيوتكم لا تبيعوها، وتحملوا مشاق الوصول إلى المسجد، فإن الله يكتب لكم بعدد خطواتكم حسنات، أعظم الناس أجرًا في الصلاة أبعدهم ممشى إلى المسجد، ثم أبعدهم ممشى. قالوا: سمعنا وأطعنا يا رسول الله، ونحمد الله أن قد علمنا قبل أن نبيع. لو كنا فعلنا لأسفنا وندمنا. فالحمد للَّه الذي هدانا. وخفي هذا الحكم أيضًا على أبي بن كعب، إذ رأى رجلاً من الأنصار لا يتخلف عن صلاة الجماعة في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن بيته أبعد بيوت المسلمين عن المسجد، فأشفق على الرجل وتألم من أجله، فقال له يومًا: لو أنك اشتريت حمارًا تركبه في مجيئك إلى المسجد ورجوعك إلى بيتك كان خيرًا لك، يحميك من حر الرمال، ويحفظك من حشرات الأرض، ويحفظك من التعثر في الظلماء. قال الرجل: أنا قادر على شراء الحمار، لكني أريد زيادة الأجر بكثرة الخطا إلى المسجد، وإني لمسرور ببعد داري، وما كان يسرني لو كانت ملاصقة للمسجد، إني أحتسب خطواتي عند ربي وأرجو منه الثواب، فلما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بمقالة الرجل قال له: إن لك ما احتسبت. إن الله أعد لك ثواب كل ذلك. -[المباحث العربية]- (تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعًا وعشرين درجة) قال النووي: المراد صلاته في بيته وسوقه منفردًا. وهذا هو الصواب، وقيل فيه غير ذلك - وسيأتي في فقه الحديث - والبضع بكسر الباء وفتحها، وهو من الثلاثة إلى العشرة على الصحيح، والمراد به هنا خمس وعشرون، أو سبع وعشرون درجة، كما مر قريبًا في باب فضل صلاة الجماعة. (ثم أتى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة) "لا ينهزه" بفتح الياء، والهاء بعدها زاي، أي لا يقيمه ولا يحركه ولا يجعله ينهض إلا الصلاة، فقوله بعد: "لا يريد إلا الصلاة" تفسير له وبيان. ورواية البخاري "ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة" أي إلا قصد الصلاة في جماعة. (لم يخط خطوة) "لم يخط" بفتح الياء وضم الطاء، و"خطوة" يجوز فيها ضم الخاء وفتحها، قال الجوهري: الخطوة بالضم ما بين القدمين، وبالفتح المرة الواحدة. (فإذا دخل المسجد كان في الصلاة) أي في ثواب الصلاة، لا في حكمها إذ يحل له الكلام وغيره مما يمنع في الصلاة. (ما كانت الصلاة هي تحبسه) "هي تحبسه" مبتدأ وخبر، والجملة، خبر "كانت" وفائدة ذكر الضمير "هي" القصر عند بعض البلاغيين وتأكيد الإسناد وتقويته عند البعض الآخر. و"ما" مصدرية دوامية، أي مدة كون الصلاة هي الحابسة له.

(والملائكة يصلون على أحدكم) الصلاة من الملائكة الدعاء. (مادام في مجلسه الذي صلى فيه) قال الحافظ ابن حجر: كأنه خرج مخرج الغالب، وإلا فلو قام إلى بقعة أخرى من المسجد مستمرًا على نيته كان كذلك. (ما لم يؤذ فيه، ما لم يحدث) أمران مطلوبان، وليس الثاني بيانًا للأول، فالمطلوب عدم الإيذاء باليد واللسان وغيرهما من الجوارح في مصلاه، وكذا أن يظل على طهارته من غير حدث أو نقض وضوء في مصلاه حتى يتحقق دوام استغفار الملائكة. (أو يضرط) ضبطه النووي بكسر الراء مع فتح الياء، من باب ضرب. (أحدكم ما قعد ينتظر الصلاة في صلاة ما لم يحدث) توضيح هذا التركيب: أحدكم في صلاة ما قعد ينتظر الصلاة ما لم يحدث، أي يعتبر أحدكم في ثواب الصلاة مدة قعوده ينتظر الصلاة متطهرًا. (إن أعظم الناس أجرًا في الصلاة) "أجرًا" تمييز. (أبعدهم إليها ممشى، فأبعدهم) أي أكثرهم بعدًا عن المسجد، ثم من هو دونه، فالفاء للترتيب التنازلي في عظم الأجر، و"ممشى" اسم مكان، منصوب على التمييز. (والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام) أي جماعة، كما في الرواية الثانية. (أعظم أجرًا من الذي يصليها ثم ينام) قال الحافظ ابن حجر: أي سواء صلى وحده، أو في جماعة. اهـ قال الكرماني: وفائدة ذكر "ثم ينام" هنا الإشارة إلى الاستراحة المقابلة للمشقة التي في ضمن الانتظار. اهـ أي فليست قيدًا، بل انتظار الصلاة أفضل سواء نام من صلى أم لم ينم. (كان رجل لا أعلم رجلا أبعد من المسجد منه) جملة "لا أعلم" ومفعولاها صفة لرجل، و"رجل" فاعل "كان" التامة. والمعنى كان رجل موصوف ببعد الدار عن المسجد بعدًا لا أعلم مثله لأحد. (وكان لا تخطئه صلاة) أي لا تفوته صلاة في المسجد مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. (في الظلماء وفي الرمضاء) الرمضاء شدة الحر التي تحمي بها الرمال. (أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد) أي مشيى وخطواتي من منزلي إلى المسجد. (ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي) "إلى أهلي" تنازعه "رجوعي" و"رجعت" والتقدير: وخطوات رجوعي من المسجد إلى أهلي إذا رجعت إلى أهلي، وفائدة ذكر هذا الشرط التسليم للمشيئة، أي إذا شاء الله لي الرجوع.

(قد جمع اللَّه لك ذلك كله) الإشارة إلى خطوات ذهابه إلى المسجد وخطوات عودته منه. (فتوجعنا له) أي فأشفقنا عليه، وآلمنا ما يعاني من مشقة. (ما أحب أن بيتي مطنب ببيت محمد صلى الله عليه وسلم) بيوت أزواج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كانت ملاصقة للمسجد، يفتح بعضها فيه، والأطناب الحبال، المطنب بضم الميم وفتح الطاء وتشديد النون المفتوحة المشدود بالأطناب، أي ما أحب أن يكون بيتي ملاصقًا المسجد مشدودًا لبيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فهو ينفي حبه القرب من المسجد، لا حب قربه من بيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رجاء زيادة الأجر بتكثير الخطا إلى المسجد، كما هو واضح. (فحملت به حملاً) بكسر الحاء وسكون الميم، أي ثقلاً، وليس المراد الحمل على الظهر، بل الثقل النفسي، والمعنى عظم على هذا القول واستثقلته حتى أخبرت به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهل استعظام هذا القول لما يفيده من حكم يجهله أبي بن كعب من أن البعد عن المسجد خير من القرب منه؟ أو لبشاعة ألفاظ الرجل الموهمة لعدم حبه لجوار الرسول صلى الله عليه وسلم؟ يحتمل ويحتمل. (فقال له مثل ذلك) أي قال الرجل للرسول صلى الله عليه وسلم قولاً مشبهًا ما قال لي. (وذكر له أنه يرجو في إثره الأجر) لعله رفع بهذه العبارة الإبهام غير المقصود من العبارة السابقة، وبين الهدف من حبه للبعد عن المسجد، والإثر بكسر الهمزة وسكون الثاء، وبفتح الهمزة والثاء جمعه آثار، والمراد بها الخطا والأصل فيها أنها كانت تؤثر في الأرض، ثم أطلقت على المشي، أثر وعلم في الأرض أم لم يعلم. قال تعالى: {ونكتب ما قدموا وآثارهم} [يس: 12] قال المفسرون: آثارهم خطاهم. (إن لك ما احتسبت) أصل الحساب والاحتساب العد، ثم استعمل الاحتساب شرعًا في إيداع المحسوب عند اللَّه وابتغاء الأجر عليه، والمعنى إن لك عند اللَّه أجر خطواتك التي عددتها وأكثرت من عددها. (يا بني سلمة: دياركم تكتب آثاركم) "دياركم" منصوب على الإغراء بفعل محذوف، أي الزموا دياركم، و"تكتب" مضارع مجزوم في جواب فعل الأمر المحذوف. وكررت هذه الجملة لتأكيد هذا الأمر والاهتمام به، لأنه أمر غريب عند المخاطب، وبنو سلمة بكسر اللام قبيلة معروفة من الأنصار، من الخزرج. (ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا) أي بعد أن استقروا في ديارهم وعلموا أن خطاهم محسوبة لهم سروا بذلك، وندموا أن فكروا في التحول، وقالوا في أنفسهم أو للناس: لو أنا تحولنا ما كنا مسرورين بهذا التحول. (أرأيتم) أي أخبروني، ودلالة هذا اللفظ على المراد عن طريق مجازين:

الأول: في الرؤية بإرادة الإخبار، لما أنها سبب الإخبار غالبًا، فالعلاقة السببية. والثاني: في الاستفهام بإرادة مطلق الطلب بدلاً من طلب الفهم، فالعلاقة الإطلاق بعد التقييد، فآل الأمر إلى طلب الإخبار المدلول عليه بلفظ أخبروني. (لو أن نهرًا) "لو" حرف يختص بالدخول على الأفعال، وأن يكون له جواب، لهذا قدروا فعلاً محذوفًا بعده، أي لو ثبت نهر، واعتبرت جملة الاستفهام "هل يبقى من درنه شيء" قائمة مقام الجواب، أي لو ثبت وجود نهر صفته كذا وكذا ما بقي من الدرن شيء، والنهر بفتح الهاء وسكونها ما بين جنبتي الوادي، سمي بذلك لسعته، وكذلك سمي النهار لسعة ضوئه. (بباب أحدكم يغتسل منه) الجار والمجرور خبر "أن" وجملة "يغتسل" خبر ثان، والغرض من التعبير بباب أحدكم إفادة القرب والسهولة واليسر. (هل يبقى من درنه شيء)؟ "يبقى" بفتح الياء، و"شيء" فاعل و"من درنه" جار ومجرور حال من "شيء" وأصله صفة له، فلما قدم صار حالاً، و"الدرن" الوسخ، وقد يطلق الدرن على الحب الصغير الذي يحصل في بعض الأجسام، لكن الأول هو الظاهر، لأنه هو الذي يناسبه الاغتسال والتنظف. قال ابن العربي: وجه التمثيل أن المرء كما يتدنس بالأقذار المحسوسة في بدنه وثيابه، ويطهره الماء الكثير. فكذلك الصلوات تطهر العبد عن أقذار الذنوب. اهـ. فالكلام على تشبيه التمثيل. بأن شبهت هيئة الصلوات الخمس ويسرها وتأثيرها في محو الذنوب بهيئة المستقذر في بدنه يغتسل من نهر جار أمام بيته خمس مرات في اليوم. (كمثل نهر جار غمر) بفتح الغين وسكون الميم، أي كثير المياه. (من غدا إلى المسجد أو راح) الغدو الذهاب أول النهار، والرواح الرجوع آخره، ولكن المراد بالغدو والرواح هنا الدوام، كالبكرة والعشي في قوله تعالى: {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيًا} [مريم: 62]. (أعد اللَّه له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح) النزل بضم النون وضم الزاي وسكونها، وهو ما يهيأ للقادم من أنواع ومظاهر التكريم والمعنى هيأ اللَّه له في الجنة نعيمًا خاصًا يستقبل بقدر غدوه إلى المسجد ورواحه منه، وبقدر وعدد ما يبذل في ذلك من خطوات ومشاق. (قال: نعم كثيرًا) "كثيرًا" صفة لمصدر محذوف، تقديره: نعم أجالسه جلوسًا كثيرًا. (وكانوا يتحدثون) أي في مجلسه صلى اللَّه عليه وسلم بعد صلاة الصبح. (فيأخذون في أمر الجاهلية) ويذكرون ما كانت عليه من مضحكات وعادات أبطلها الإسلام، كالطيرة والتقرب إلى الأصنام.

(حتى تطلع الشمس حسنًا) بفتح الحاء والسين وبالتنوين، أي طلوعًا حسنًا، أي مرتفعة، ورواه ابن شاهين بلفظ "حسناء" بسكون السين والهمزة في آخره، وحسنها ارتفاعها. -[فقه الحديث]- يستفاد من الحديث الأول برواياته الخمس الأولى: 1 - فضل صلاة الجماعة وزيادتها على صلاة الفرد بخمس وعشرين أو سبع وعشرين درجة، وقد سبق تفصيل القول فيه قبل بابين. 2 - أخذ بعضهم من قوله في الرواية الأولى: "تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعًا وعشرين درجة" أن الصلاة في المسجد جماعة تزيد على الصلاة في البيت، في جماعة أو فرادى بضعًا وعشرين" ولا يلزم من هذه التسوية بين الجماعة والانفراد في البيت أو السوق، ولا التسوية بين الصلاة في البيت وفي السوق، فالصلاة في البيت مطلقًا أولى منها في السوق، لما سيأتي في الرواية الثامنة عشرة: نقول: لا يلزم التسوية المذكورة، لأنه يلزم من اندراج أمرين تحت المفضولية بالنسبة لأمر ثالث أن لا يكون أحدهما أفضل من الآخر. وقد حكينا هذا القول قبل بابين عند الكلام على فضل صلاة الجماعة، ويؤيده ما جاء في الرواية الأولى، إذا حملنا قوله: "وذلك أن أحدهم إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى المسجد لا تنهزه إلا الصلاة. لا يريد إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفع له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، حتى يدخل المسجد، فإذا دخل المسجد كان في الصلاة ما كانت الصلاة هي تحبسه، والملائكة يصلون ... " إلخ إذا حملنا هذا على أنه بيان لسبب زيادة الخمس والعشرين، وأن هذه الأمور المذكورة علة للزيادة المذكورة وإذا كان كذلك فما رتب على موضوعات متعددة لا يوجد بوجود بعضها إلا إذا دل الدليل على إلغاء ما ليس معتبرًا أو ليس مقصودًا لذاته، وهذه الأسباب معقولة المعنى، والروايات المطلقة لا تنافيها بل يحمل المطلق على المقيد "وهذا قول حسن، وإن اخترنا خلافه قبل بابين اعتمادًا وطمعًا في فضل الله أن يزيد على هذه الأمور أجرًا وثوابًا جديدًا. واللَّه أعلم. 3 - ويؤخذ منها كذلك فضل إحسان الوضوء، والحث عليه. 4 - والحث على الصلاة في المساجد. 5 - وإخلاص النية في الذهاب إليها، وتمحيضها للصلاة. 6 - وكثرة الأجر بكثرة الخطا في المشي إلى المسجد، واختلف فيمن كان بجوار المسجد، هل يجاوزه للصلاة في المسجد الأبعد؟ كرهه بعضهم مطلقًا، واستحسنه بعضهم مطلقًا، واستحسنه بعضهم إذا كان الأبعد المسجد الجامع للفضل في كثرة الناس، واشترط بعضهم أن لا يكون في المسجد

البعيد مانع من الكمال، كأن يكون إمامه مبتدعًا أو لحانًا في القراءة، أو مكروهًا من قومه، وأن لا يكون في ذهابه إلى البعيد هجرًا للقريب، وإلا فإحياؤه بالذكر أولى. كما اختلف فيمن كانت داره قريبة من المسجد، وقارب الخطا بحيث يساوي عدد خطاه عدد من داره بعيدة، هل يساويه في الفضل أو لا؟ مال الطبري إلى المساواة، ويستأنس له بما رواه ابن أبي شيبة من طريق أنس قال: "مشيت مع زيد بن ثابت إلى المسجد، فقارب بين الخطا، وقال: أردت أن تكثر خطانا إلى المسجد". والحق أن هذا وإن دل على فضل تكثير الخطا فإنه لا يدل على المساواة، لأن ثواب الخطا الشاقة ليست كثواب الخطا السهلة. 7 - ويؤخذ من الروايات الست الأولى فضل انتظار الصلاة بالمسجد. وظاهر قوله: "مادامت الصلاة تحبسه، لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة" يفيد أنه إذا صرف نيته عن ذلك انقطع عنه الثواب المذكور، وكذا إذا شارك نية الانتظار أمر آخر. وظاهر قوله: "فإذا دخل المسجد كان في الصلاة" يفيد أن من كانت نيته إيقاع الصلاة في المسجد وانتظر الصلاة خارج المسجد لا يحصل له هذا الثواب، لأنه رتب الثواب المذكور على المجموع من النية وشغل البقعة بالعبادة. ذكره الحافظ ابن حجر، وهل قوله: "في مصلاه" يفيد أن الثواب المذكور خاص بمن صلى ثم انتظر صلاة أخرى؟ أو هو عام يشمل من جاء من الخارج فانتظر. الظاهر والصحيح الثاني، لأنه المستفاد من عموم الروايات. والله أعلم. 8 - ويؤخذ من عموم قوله في الرواية السادسة: "أعظم أجرًا من الذي يصلي ثم ينام" أي سواء صلى وحده أو في جماعة أن صلوات الجماعة تتفاوت في الأجر. 9 - ويؤخذ من الروايات الثلاث الأولى أفضلية الصلاة على غيرها من الأعمال، لأن فيها صلاة الملائكة على فاعلها، ودعاءهم له. 10 - واستدل بها على أفضلية صالحي المؤمنين على الملائكة، لأنهم يكونون مشتغلين بتحصيل الدرجات بعبادتهم، والملائكة يشتغلون بالاستغفار والدعاء. وقال بعضهم: إن خواص بني آدم، وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أفضل من الملائكة، وعوامهم أفضل من عوام الملائكة، وخواص الملائكة أفضل من عوام بني آدم. قاله العيني. 11 - ومن رغبة بني سلمة في الانتقال قرب المسجد، ورد النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، أخذ بعضهم استحباب السكنى بقرب المسجد إلا لمن حصلت منه منفعة أخرى، أو أراد تكثير الأجر بكثرة المشي، ما لم يكلف نفسه، قال الحافظ ابن حجر: ووجهه أنهم طلبوا السكنى بقرب المسجد للفضل الذي علموه منه، فما أنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، بل رجح درء المفسدة بإخلائهم جوانب المدينة على المصلحة المذكورة، وأعلمهم بأن لهم في التردد إلى المسجد من الفضل ما يقوم مقام السكنى بقرب المسجد أو يزيد عليه.

12 - واستدل بأحاديثهم على أن أعمال البر إذا كانت خالصة تكتب آثارها حسنات. 13 - وعلى مدى استجابة الصحابة لإشارة الرسول صلى الله عليه وسلم، ورضاهم بها. 14 - ويؤخذ من الرواية الثالثة عشرة أن الصلاة تكفر الذنوب. قال القرطبي: ظاهر الحديث أن الصلوات الخمس تستقل بتكفير جميع الذنوب، ويشكل عليه ما رواه مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا "الصلوات الخمس كفارة لما بينها ما اجتنبت الكبائر" فعلى هذا المقيد يحمل المطلق. فإن قيل: إن الصغائر مكفرة باجتناب الكبائر بنص القرآن في قوله: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} [النساء: 31] فإذا كان الأمر كذلك فما الذي تكفره الصلوات الخمس؟ أجيب بأنه لا يتم اجتناب الكبائر إلا بفعل الصلوات الخمس، فمن لم يفعلها لم يعد مجتنبًا للكبائر، لأن تركها من الكبائر فوقف التكفير على فعلها. 15 - ويؤخذ من الرواية السادسة عشرة فضل الجلوس في المصلى بعد صلاة الصبح، وقد اختلف العلماء في هذا الباب، فأكثرهم - كما نقله ابن بطال عنهم - على كراهة مكث الإمام إذا كان إمامًا راتبًا إلا أن يكون مكثة لعلة. قال: وهو قول الشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة. كل صلاة يتنفل بعدها يقوم، وما لا يتنفل بعدها كالعصر والصبح فهو مخير، وقال بعض المالكية: يتنفل في الصلوات كلها ليتحقق المأموم أنه لم يبق عليه شيء من سجود السهو ولا غيره، وقد ذكر ابن أبي شيبة عن ابن مسعود وعائشة رضي الله عنهما قالا: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام، ولعل هذا كان في غير صلاة الصبح جمعًا بينه وبين حديث الباب. والله أعلم. 16 - ويؤخذ منها جواز الضحك والتبسم. 17 - ومن الرواية الثامنة عشرة ذم الأسواق، لأنها محل الغش والخداع والربا والأيمان الكاذبة وإخلاف الوعد والإعراض عن ذكر الله، وغير ذلك. واللَّه أعلم

(239) باب من أحق بالإمامة

(239) باب من أحق بالإمامة 1312 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم وأحقهم بالإمامة أقرؤهم". 1313 - عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سلماً، ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه" قال الأشج في روايته (مكان سلمًا) سنًا. 1314 - عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله وأقدمهم قراءة، فإن كانت قراءتهم سواء فليؤمهم أقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فليؤمهم أكبرهم سناً، ولا تؤمن الرجل في أهله ولا في سلطانه ولا تجلس على تكرمته في بيته إلا أن يأذن لك أو بإذنه". 1315 - عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون. فأقمنا عنده عشرين ليلة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيمًا رقيقًا. فظن أنا قد اشتقنا أهلنا؛ فسألنا عن من تركنا من أهلنا، فأخبرناه. فقال "ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم، وعلموهم، ومروهم، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم ثم ليؤمكم أكبركم".

1316 - عن مالك بن الحويرث أبي سليمان رضي الله عنه قال أتيت رسول الله في ناس ونحن شببة متقاربون واقتصا جميعاً الحديث بنحو حديث ابن علية. 1317 - عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وصاحب لي. فلما أردنا الإقفال من عنده قال لنا "إذا حضرت الصلاة فأذنا، ثم أقيما وليؤمكما أكبركما". 1318 - عن خالد الحذاء بهذا الإسناد وزاد: قال الحذاء: وكانا متقاربين في القراءة. -[المعنى العام]- شرع الله الصلاة خمسًا في كل يوم وليلة لتنقي المسلم، وتمحو عنه الدرن والذنوب، وتنهاه عن الفحشاء والمنكر، وشرع الجماعة فيها تدريبًا على النظام والطاعة ودقة المتابعة للقيادة، فجعل الإمام ليؤتم به، وليقود المأمومين في حركاتهم وسكناتهم وقراءاتهم وأذكارهم، وهكذا جعل الشرع الإمامة للصلاة ولاية مؤقتة، وجعل لها ثوابًا عظيمًا، فكان لا بد من وضع قواعد وأحكام ومواصفات لمن يتولى هذه الإمامة، حتى لا يتزاحم عليها المتزاحمون، وحتى لا يفتات على المستحقين لها من لا يستحقها من الطامعين، فقال صلى الله عليه وسلم: يؤم القوم أحسنهم قراءة لكتاب الله، فإذا كانوا اثنين فليكن أقرؤهما إمامًا، وإذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أقرؤهم، فإن كانوا في درجة القراءة سواء فالأحق بالإمامة أعلمهم بالسنة والأحكام الشرعية، فإن كانوا سواء في القراءة والفقه، فالأحق أقدمهم في الهجرة، السابق بها، فإن كانوا سواء في القراءة والفقه والهجرة فالأحق أقدمهم وأسبقهم إسلامًا، فإن كانوا سواء في القراءة والفقه والهجرة والإسلام فالأحق أكبرهم سنًا، ورتب العلماء من تساووا في كل ذلك فقالوا: ثم الأحسن لباسًا، ثم الأحسن خلقًا، ثم الأشرف نسبًا، ثم الأحسن صورة ووجهًا، ثم الأحسن صوتًا، هذا إذا كانت الجماعة في مسجد أو مكان عام فإن كانت في دار مملوكة أو مؤجرة فصاحب الدار أو المنتفع بها أحق بالإمامة مادام صالحًا لها ولو بالدرجة الأقل، إذ لا يقدم الزائر على الرجل في سلطانه إلا بإذنه، حيث لا حق للزائر أن يجلس على فراش المالك له إلا بإذنه، قال العلماء: اللهم إلا إذا كان الزائر السلطان أو نائبه، فإن لهما السلطة على المالك. فهما أحق من المالك فليأذن لهما بالتقدم للإمامة، حيث أوجب الله الطاعة لهما في أوامرهما، وهكذا وضع الإسلام قواعد الإمامة، ورتب مستحقيها ترتيبًا يقطع المنازعات، وفي ذلك إشارة إلى ما ينبغي أن تكون عليه الأمة في اختيارها الرجل المناسب، وأن يكون أساس الاختيار درجة الصلاحية وليست القرابة أو الصحبة أو الأغراض المنحرفة. والله الهادي سواء السبيل.

-[المباحث العربية]- (وأحقهم بالإمامة أقرؤهم) في الرواية الثانية، والثالثة "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله" وحاول بعض العلماء حمل الأقرأ على الأفقه، أي العالم بأحكام كتاب الله، لكن الحديث ظاهر في أحسن القوم قراءة وتلاوة وأتقنهم نطقًا، والرواية الثانية تدفع القول بأن المراد بالأقرأ الأفقه، إذ لفظها: "فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة" وأعلمهم بالسنة هو الأفقه. (فأقدمهم سلمًا) أي إسلامًا. (ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه) الفعل مجزوم بلا الناهية، والضمير الأول لرجل، والثاني لرجل آخر، أي ولا يقعد الرجل في بيت رجل آخر إلا بإذنه، والتكرمة بفتح التاء وكسر الراء الفراش ونحوه مما يبسطه صاحب المنزل للضيف ونحوه. (أتينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم) في الرواية الخامسة "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وصاحب لي" وفي رواية البخاري عن مالك بن الحويرث "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من قومي" والنفر من ثلاثة إلى عشرة، ويجمع بينها بأن الذين خرجوا من بني ليث بن بكر بن عبد مناف بن كنانة كانوا عددًا أكثر من ثلاثة، ولعل مالك بن الحويرث سبقهم هو وصاحبه في لقاء النبي صلى الله عليه وسلم كما سبقهم هو وصاحبه في الاستئذان بالعودة. قال الحافظ ابن حجر: ولم أر في شيء من طرق الحديث تسمية صاحبه وكان قدومهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز لتبوك. (ونحن شببة متقاربون) "شببة" بفتح الشين وفتح الباءين، جمع شاب والمراد تقاربهم في السن، وليس المراد هنا تقاربهم في القراءة كما سيأتي، لأن هذا القول كان عن حالة قدومهم. (فأقمنا عنده عشرين ليلة) وفي رواية البخاري "نحوًا من عشرين ليلة" والمراد بأيامها، كما وقع التصريح بذلك في رواية البخاري في باب الأذان للمسافر، ولفظها: "فأقمنا عنده عشرين يومًا وليلة". (رحيمًا رقيقًا) قال النووي: هو بالقافين هكذا ضبطناه في مسلم وضبطناه في البخاري بوجهين، أحدهما هذا، والثاني "رفيقًا" بالفاء والقاف وكلاهما ظاهر. -[فقه الحديث]- صفات الأحق بالإمامة في أحاديث الباب خمس: الأقرأ - الأعلم بالسنة - الأقدم هجرة - الأقدم في الإسلام - الأكبر سنًا. زاد عليها الفقهاء اعتمادًا على أحاديث أخرى، أو على روح التشريع: الأورع - الأحسن خلقًا - الأشرف نسبًا - الأحسن صورة ووجهًا - الأحسن لباسًا - الأحسن صوتًا.

وقبل الكلام على ترتيب هذه الصفات نقرر أن المقصود من ترتيبها هو بيان الأفضل، إذ يجوز إمامة المفضول مع وجود الفاضل، وأن المقصود من ترتيبها بيان الأحقية عند التنازع على الإمامة، فيحكم للأحق بأحقيته. والرواية الثانية تقدم الأقرأ على العلم بالسنة، وهي دليل لمن يقول بتقديم الأقرأ على الأفقه، وهو مذهب أبي يوسف وأحمد وبعض الشافعية، وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي والجمهور: الأفقه مقدم على الأقرأ. قالوا: لأن الذي يحتاج إليه من القراءة مضبوط، والذي يحتاج إليه من الفقه غير مضبوط، وقد يعرض في الصلاة أمر لا يقدر على مراعاة الصواب فيه إلا كامل الفقه. وقالوا: ولهذا قدم النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه في الصلاة على الباقين، مع أنه صلى الله عليه وسلم نص على أن غيره أقرأ منه، ففي الحديث "أقرؤكم أبي". وقد أجابوا عن الرواية الثانية من أحاديث الباب بعدة أجوبة. منها: 1 - أن الأقرأ في الصحابة كان هو الأعلم بالسنة والأحكام الشرعية لأنهم كانوا يتلقون القرآن بأحكامه، حتى روي عن ابن عمر أنه قال: ما كانت تنزل السورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ونعلم أمرها ونهيها وزجرها وحلالها وحرامها، وحتى روى عنه أنه حفظ سورة البقرة في اثنتي عشرة سنة. وحاصل هذا الجواب أن المراد بالأقرأ الجامع لحسن القراءة وفهم الأحكام. أي الأقرأ الأفقه. ويعكر عليه قوله "فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة" لأن ظاهره أن الأقرأ شيء، وأن العالم بالسنة وهو الأفقه شيء آخر. 2 - قال بعضهم: إن المراد بالأقرأ هنا من يجيد القراءة مع العلم بالأحكام الشرعية الواردة في القرآن لأنهم كما سبق كانوا يحفظون مع فهم الأحكام فإذا استويا في الفقه بهذا المعنى قدم الأفقه في السنة والأعلم بها. ويعكر عليه أنه بهذا المعنى لا يكون الأفقه مقدمًا على الأقرأ وهذا موطن النزاع. 3 - قال بعضهم: إن تقديم الأقرأ على الأفقه في الحديث كان أول الإسلام، حين كان حفاظ الإسلام قليلاً، وقد قدم عمرو بن سلمة وهو صغير على الشيوخ لذلك، وكان سالم يؤم المهاجرين والأنصار في مسجد قباء حين أقبلوا من مكة لعدم الحفاظ حينئذ. وحاصل هذا الجواب أن تقديم الأقرأ نسخ بتقديم أبي بكر للصلاة، وهو الأفقه غير الأقرأ، كما سبق بيانه. ولا يخفى أن من يفضل الأفقه يشترط أن يكون محسنًا من القراءة ما تجوز به الصلاة، ومن يفضل الأقرأ يشترط أن يكون عالمًا بالأحكام المهمة الخاصة بالصلاة. هذا وقد ذهب بعض الشافعية إلى تقديم الأورع على الأفقه والأقرأ، لأن مقصود الإمامة يحصل من الأورع أكثر من غيره، والله أعلم. الصفة الثالثة: من صفات الأحق بالإمامة الأقدم هجرة، قال النووي: قال أصحابنا يدخل فيه طائفتان:

إحداهما: الذين يهاجرون اليوم من دار الكفر إلى دار الإسلام، فإن الهجرة باقية إلى يوم القيامة عندنا وعند جمهور العلماء، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح" أي لا هجرة من مكة، لأنها صارت دار إسلام، أو لا هجرة فضلها كفضل الهجرة قبل الفتح. الثانية: أولاد المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم "فإذا استوى اثنان في الفقه والقراءة، وأحدهما من أولاد من تقدمت هجرته، والآخر من أولاد من تأخرت هجرته قدم الأول. اهـ. الصفة الرابعة: الأقدم سلمًا أي إسلامًا. الصفة الخامسة: الأكبر، أي إذا كان إسلامهما في وقت واحد أو جهل السابق واللاحق منهما قدم الأكبر سنًا. وأما قوله في الرواية الرابعة: "فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم" وقوله في الرواية الخامسة: "وليؤمكما أكبركما" فليس معناه تقديم الأكبر سنًا على الأفقه والأقرأ والأقدم هجرة والأقدم إسلامًا، لأن الكلام مع جماعة أسلموا جميعًا، وهاجروا جميعًا وصحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولازموه عشرين ليلة، فاستووا في الأخذ عنه، ولم يبق ما يقدم به إلا السن، قاله النووي. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - ظاهر قوله في الرواية الأولى "إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم"، أن الجماعة أقلها ثلاثة وهذا الظاهر غير مراد بل ليس فيه ما يمنع الجماعة من اثنين، فهو بيان حال، كما تقول: إذا كانوا عشرة فليؤمهم أحدهم، والرواية الخامسة صريحة في أن الجماعة تنعقد باثنين إمام ومأموم، قال النووي: وهو إجماع المسلمين. قال الحافظ ابن حجر: إمام ومأموم أعم من أن يكون المأموم رجلاً أو صبيًا أو امرأة. اهـ. وموقف المأموم الرجل من الإمام أن يكون عن يمين الإمام باتفاق العلماء إلا النخعي، فيرى وقوفه خلف الإمام، وحمل قوله على حالة ظنه ظنًا قويًا مجيء ثان. وهل يقف المأموم عن يمينه متساويًا معه؟ أو يتأخر عنه قليلاً، بالثاني قال الشافعية، والجمهور على الأول، فعن ابن جريج. قلت لعطاء: الرجل يصلي مع الرجل، أين يكون منه؟ قال: إلى شقه الأيمن. قلت: أيحاذي به حتى يصف معه لا يفوت أحدهما الآخر؟ قال: نعم. قلت: أتحب أن يساويه حتى لا يكون بينهما فرجة؟ قال: نعم. 2 - يؤخذ من قوله في الرواية الثانية: "ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه" أن صاحب البيت والمجلس وإمام المسجد أحق من غيره، وإن كان ذلك الغير أفقه وأقرأ وأورع وأفضل منه، وصاحب المكان أحق، فإن شاء تقدم، وإن شاء قدم من يريده، وإن كان ذلك الذي يقدمه مفضولاً بالنسبة إلى باقي الحاضرين لأنه سلطانه، فيتصرف فيه كيف شاء. قاله النووي. وقال العراقي: ويشترط أن يكون المزور أهلاً للإمامة، فإن لم يكن أهلاً كالمرأة مع الزائر الرجل، والأمي مع الزائر القارئ ونحوهما فلا حق له في

الإمامة. اهـ. وقال النووي: ويستحب لصاحب البيت أن يأذن لمن هو أفضل منه. اهـ. وقال إسحق: لا يصلي أحد بصاحب المنزل وإن أذن له. اهـ. ثم قال النووي وقال الشافعية فإن حضر السلطان أو نائبه قدم على صاحب البيت وعلى إمام المسجد وغيرهما لأن ولايته وسلطنته عامة اهـ. وظاهر كلام النووي أن السلطان أو نائبه لا يحتاج إلى إذن، ومعنى هذا مصادرة حق صاحب البيت في بيته، وهو يتنافى مع التعميم الوارد في الرواية الثانية والثالثة: "ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه" وأصرح منه ما رواه أبو داود والترمذي وحسنه مرفوعًا "من زار قومًا فلا يؤمهم وليؤمهم رجل منهم" وتقييد هذا بغير السلطان أو نائبه يحتاج إلى دليل، بل حديث عتبان المذكور قبل ثلاثة أبواب صريح في استئذان السلطان، إذ فيه "فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذنت له". وقد أحسن الزين بن المنير إذ قال: الإمام الأعظم ومن يجري مجراه إذا حضر بمكان مملوك لا يتقدم عليه مالك الدار أو المنفعة، ولكن ينبغي للمالك أن يأذن له، ليجمع بين الحقين، حق الإمام في التقدم، وحق المالك في منع التصرف بغير إذنه. اهـ. وهو كلام حسن. بقي ما لو لم يأذن له صاحب البيت. هل يتقدم قهرًا عنه؟ عندي أنه يخرج فيصلي في مكان عام ويتقدم، لكنه لا يغتصب منفعة المكان ولو في عبادة رغم أنف صاحبه. واللَّه أعلم. 3 - يؤخذ من قوله "ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه" حماية حقوق الملكية وحقوق الانتفاع، وينبغي أن تكون هذه الحماية عامة، لا من فرد دون فرد، وهل قوله "في بيته على تكرمته" قيد موحد مسلط عليه النهي؟ أو النهي موجه إلى كل منها على انفراد وعلى اجتماع، على معنى لا يقعد في بيته إلا بإذنه ولا يقعد على تكرمته ولو في غير بيته إلا بإذنه، الظاهر الثاني مادامت التكرمة قد وضعت في مكان مشروع، فلو وضع سجادة في مسجد مثلاً فلا يقعد عليها غيره بدون إذنه، لكن له أن يرفعها ويقعد مكانها مادام المكان عامًا. والله أعلم. 4 - ويؤخذ من الرواية الرابعة الحث على الأذان. 5 - ومن الرواية الخامسة أن الأذان والجماعة مشروعان للمسافر. 6 - ومن الرواية الرابعة من قوله "فليؤذن لكم أحدكم" أن يكون المؤذن واحدًا، ولا يؤذن جماعة في صوت واحد" كما يفعل في بعض البلاد. وقد قيل: إن أول من أحدث التأذين جميعًا بنو أمية. قال الشافعي: وأحب أن يؤذن مؤذن بعد مؤذن، ولا يؤذن جماعة معًا، وإن كان المسجد كبيرًا فلا بأس أن يؤذن في كل جهة منه مؤذن يسمع من يليه في وقت واحد. وعلى هذا، فالمراد بقوله في الرواية الخامسة: "فإذا حضرت الصلاة فأذنا ثم أقيما" أن من أراد

أو أحب منكما أن يؤذن فليؤذن، وذلك لاستوائهما في الفضل، قاله الحافظ ابن حجر، وقال في موضع آخر: الأولى حمل الأمر "فأذنا" على أن أحدهما يؤذن، والآخر يجيب، والحامل على صرفه عن ظاهره قوله "فليؤذن لكم أحدكم". 7 - ومن قوله: "فإذا حضرت الصلاة فأذنا" التعجيل بالصلاة في أول الوقت. 8 - قال النووي: واستدل جماعة بهذا الحديث على تفضيل الإمامة عن الأذان، لأنه صلى الله عليه وسلم قال "يؤذن أحدكم" وخص الإمامة بالأكبر. ومن قال بتفضيل الأذان - وهو الصحيح المختار - قال: إنما قال: "يؤذن أحدكم" وخص الإمامة بالأكبر لأن الأذان لا يحتاج إلى كبير علم، وإنما أعظم مقصوده الإعلام بالوقت والإسماع، بخلاف الإمام. اهـ واللَّه أعلم

(240) باب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة والعياذ بالله واستحبابه في الصبح دائما

(240) باب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة والعياذ بالله واستحبابه في الصبح دائمًا 1319 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين يفرغ من صلاة الفجر من القراءة ويكبر ويرفع رأسه "سمع الله لمن حمده. ربنا ولك الحمد" ثم يقول وهو قائم "اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين. اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم كسني يوسف. اللهم العن لحيان ورعلاً وذكوان وعصية، عصت الله ورسوله" ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما أنزل: {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون} [آل عمران: 128]. 1320 - - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي إلى قوله "واجعلها عليهم كسني يوسف" ولم يذكر ما بعده. 1321 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت بعد الركعة في صلاة شهرًا إذا قال "سمع الله لمن حمده" يقول في قنوته "اللهم أنج الوليد بن الوليد. اللهم نج سلمة بن هشام. اللهم نج عياش بن أبي ربيعة. اللهم نج المستضعفين من المؤمنين. اللهم اشدد وطأتك على مضر. اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف". قال أبو هريرة: ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الدعاء بعد. فقلت: أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ترك الدعاء لهم. قال فقيل: وما تراهم قد قدموا؟ . 1322 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو يصلي العشاء إذ قال "سمع الله لمن حمده" ثم قال قبل أن يسجد "اللهم نج عياش بن أبي ربيعة" ثم ذكر بمثل حديث الأوزاعي إلى قوله "كسني يوسف" ولم يذكر ما بعده. 1323 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: والله لأقربن بكم صلاة رسول الله

صلى الله عليه وسلم فكان أبو هريرة يقنت في الظهر، والعشاء الآخرة، وصلاة الصبح، ويدعو للمؤمنين، ويلعن الكفار. 1324 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الذين قتلوا أصحاب بئر معونة ثلاثين صباحًا، يدعو على رعل وذكوان ولحيان وعصية عصت الله ورسوله. قال أنس: أنزل الله عز وجل في الذين قتلوا ببئر معونة قرآنًا قرأناه حتى نسخ بعد: أن بلغوا قومنا، أن قد لقينا ربنا، فرضي عنا ورضينا عنه. 1325 - عن محمد قال: قلت لأنس هل قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح؟ قال: نعم، بعد الركوع يسيرًا. 1326 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرًا بعد الركوع في صلاة الصبح، يدعو على رعل وذكوان، ويقول "عصية عصت الله ورسوله". 1327 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت شهرًا بعد الركوع في صلاة الفجر، يدعو على بني عصية. 1328 - عن أنس رضي الله عنه قال: سألته عن القنوت قبل الركوع أو بعد الركوع؟ فقال: قبل الركوع. قال قلت: فإن ناسًا يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت بعد الركوع. فقال: إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرًا يدعو على أناس قتلوا أناسًا من أصحابه يقال لهم القراء. 1329 - عن أنس رضي الله عنه قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد على سرية ما وجد على السبعين الذين أصيبوا يوم بئر معونة، كانوا يدعون القراء. فمكث شهرًا يدعو على قتلتهم.

1330 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهرًا. يلعن رعلاً وذكوان، وعصية عصوا الله ورسوله. 1331 - عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت شهرًا. يدعو على أحياء من أحياء العرب، ثم تركه. 1332 - عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقنت في الصبح والمغرب. 1333 - عن البراء رضي الله عنه قال: قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفجر والمغرب. 1334 - عن خفاف بن إيماء الغفاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة "اللهم العن بني لحيان ورعلاً وذكوان، وعصية عصوا الله ورسوله، غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله. 1335 - 308 عن الحارث بن خفاف أنه قال: قال خفاف بن إيماء ركع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رفع رأسه فقال "غفار غفر الله لها. وأسلم سالمها الله. وعصية عصت الله ورسوله. اللهم العن بني لحيان. والعن رعلاً وذكوان" ثم وقع ساجدًا. قال خفاف: فجعلت لعنة الكفرة من أجل ذلك. 1336 - عن خفاف بن إيماء بمثله إلا أنه لم يقل: فجعلت لعنة الكفرة من أجل ذلك.

-[المعنى العام]- الصلاة مناجاة بين العبد وربه، وطاعة وتذلل ورجاء ودعاء من المسلم خليق بالقبول من رب كريم سميع الدعاء، والمسلم دائمًا في حاجة إلى عفو ربه إن كان في نعمة فهو في رغبة للمزيد، وإن كان في ضائقة فذو دعاء عريض وقد أعلم الرسول صلى الله عليه وسلم أمته أن يكون هدفهم في دعائهم في الصلاة المنفعة العامة ومصلحة الإسلام والمسلمين، وأن يكون غضبهم ودعاؤهم على أعدائهم أساسه الغضب لله، والدعاء على أعداء الله بغضًا في الله. في السنة الرابعة من الهجرة أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية من سبعين قارئًا للقرآن الكريم ليعلموا المسلمين في نجد، فعدا عليهم قبائل لحيان ورعل وذكوان وعصية فقتلوهم جميعًا، فحزن عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد الحزن. وعلم أن أناسًا من قريش أسلموا فحبسهم أهلهم عن الهجرة وعذبوهم ليرجعوا عن دينهم، وعرضوهم بالإيذاء إلى الموت فقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرًا يدعو في الصلوات بعد الرفع من الركوع في الركعة الأخيرة، يدعو ويجهر، ويقول: اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين، نجهم من أعدائهم أعداء الإسلام كفار مكة. اللهم العن بني لحيان وبني ذكوان وبني رعل وبني عصية الذين عصوا الله ورسوله وقتلوا قراء المسلمين. وفي نهاية الشهر نزل قوله تعالى: {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون} [آل عمران: 128] فترك الأمر لله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وترك الدعاء، صلى الله وسلم وبارك عليه، ورضي عن الصحابة أجمعين. -[المباحث العربية]- (القنوت) لفظ مشترك بين معان كثيرة منها الطاعة والقيام والخشوع قال تعالى: {إن إبراهيم كان أمة قانتًا لله حنيفًا} [النحل: 120] أي طائعًا، وقال: {أمن هو قانت آناء الليل} [الزمر: 9] أي قائم، وقال: {ومن يقنت منكن لله ورسوله} [الأحزاب: 31] وقال: {يا مريم اقنتي لربك} [آل عمران: 43] أي: اخشعي لربك، قال: {وقوموا لله قانتين} [البقرة: 238] أي: صلوا ساكتين من غير كلام البشر، والمراد منه هنا الدعاء في الصلاة في محل مخصوص من القيام. (والمستضعفين من المؤمنين) من ذكر العام بعد الخاص، والمقصود بهم من كان مأسورًا في مكة ممنوعًا من الهجرة، معذبًا من قريش. (اللهم اشدد وطأتك على مضر) الوطأة بفتح الواو، وإسكان الطاء وبعدها همزة، وهي البأس والشدة.

(واجعلها عليهم كسني يوسف) أي واجعل وطأتك وبأسك وشدتك عليهم غلاء وقحطًا سنين طويلة كسني يوسف، و"سني" بكسر السين وتخفيف الياء. أصلها سنين، ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون الأخيرة للإضافة. (اللهم العن لحيان ورعلاً وذكوان وعصية) المراد من اللعن هنا الدعاء بالقتل والطرد من رحمة الله، و"لحيان" بكسر اللام وسكون الحاء وياء مفتوحة و"رعل" بكسر الراء، وضبطه بعض أهل اللغة بفتحها، وسكون العين، آخره لام، و"ذكوان" بفتح الذال وسكون الكاف، وبعد الواو والألف نون، و"عصية" بضم العين وفتح الصاد وبالياء المشددة، و"لحيان" و"ذكوان" ممنوعان من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون، و"عصية" ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث اللفظي، وكلها أسماء لأشخاص سميت بها قبائل من سليم. (عصت اللَّه ورسوله) أي هذه القبائل عصت اللَّه ورسوله بقتلها القراء فاستحقت اللعن، فالجملة مستأنفة استئنافًا تعليليًا، كأن سائلاً سأل: لم تلعن هذه القبائل؟ فقيل: لأنها عصت اللَّه ورسوله. (ثم بلغنا أنه ترك ذلك) قيل: الإشارة للقنوت عامة، أي ترك القنوت في الصلاة، وقيل الإشارة للدعاء على الكفار وللمأسورين من المؤمنين، أي ترك ذلك الدعاء، واعتمد في القنوت دعاء غيره، وعلى هذين التفسيرين يأتي الخلاف في حكم القنوت في فقه الحديث. (ثم رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ترك الدعاء بعد) أي ترك الدعاء للوليد وسلمة وعياش والمستضعفين من المؤمنين بمكة، فلما سأل أبو هريرة بعض الصحابة عن الترك قيل له: إنهم فك إسارهم وقدموا من مكة إلى المدينة مهاجرين فلم يعد حاجة للدعاء لهم بمثل ما كان يدعو به. (لأقربن بكم صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم) أي لآتينكم بما يشبهها ويقرب منها. (دعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الذين قتلوا أصحاب بئر معونة) وهم قبائل حيان ورعل وذكوان وعصية، و"بئر معونة" - بفتح الميم وضم العين وبعد الواو نون - في نجد، وأصحاب بئر معونة هم أناس من أصحابه صلى الله عليه وسلم يقال لهم: القراء - كما جاء في الرواية التاسعة - وهم الذين وجد وحزن عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من حزنه على أي سرية أخرى أصيبت - كما جاء في الرواية العاشرة. وحاصل قصتهم أنهم كانوا جماعة من فقراء المسلمين، من المهاجرين والأنصار، وأقاموا في الصفة، وكانوا يحتطبون وينقلون الماء، ثم يشغلون ليلهم بقراءة القرآن والصلاة، حتى سموا القراء. قال ابن سعد: قدم عامر بن جعفر الكلابي من نجد، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام فلم يسلم ولم يرفض، وقال: يا محمد. لو بعثت معي رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد رجوت أن يستجيبوا لك. فقال صلى الله عليه وسلم: إني أخشى عليهم أهل نجد. قال: أنا لهم جار إن تعرض لهم أحد، فبعث

رسول الله صلى الله عليه وسلم معه القراء كلهم، كان ذلك على رأس أربعة أشهر من أحد، وكانوا سبعين رجلاً، ساروا حتى نزلوا بئر معونة، فأرسلوا أحدهم - حرام بن ملحان - بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدو الله عامر بن الطفيل، فما قرأ الكتاب حتى عدا على الرجل فقتله، ثم اجتمع معه قبائل من سليم [عصية وذكوان ورعل ولحيان] فهاجموا القراء وقاتلوهم فقتلوهم عن آخرهم إلا كعب بن زيد، تركوه وبه رمق، فعاش حتى استشهد يوم الخندق. وكان بين هذه القبائل وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فغدروا، وقتلوا القراء فدعا عليهم شهرًا حتى نزل عليه {ليس لك من الأمر شيء} فترك الدعاء عليهم. (بعد الركوع يسيرًا) بينت الرواية السابعة مقدار هذا اليسير، حيث قال فيها: "قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرًا بعد الركوع في صلاة الصبح" فمفهوم "بعد الركوع يسيرًا" يحتمل أن يكون: وقبل الركوع كثيرًا ويحتمل أن يكون لا قنوت قبله أصلاً، لكن ظاهر الرواية التاسعة أن الأصل في القنوت أن يكون قبل الركوع وأما ما حصل بعد الركوع فكان شهرًا. (ويقول: عصية عصت اللَّه ورسوله) أي قبيلة عصية عصت الله ورسوله إذ اشتركت في قتل القراء في بئر معونه. -[فقه الحديث]- يمكن حصر نقاط الموضوع في أربع: 1 - القنوت عند النازلة، ومحله. 2 - القنوت في غير النازلة، ومحله. 3 - أحكام عامة تتعلق بالقنوت. 4 - ما يؤخذ من الأحاديث غير ما تقدم. أولاً: أما عن القنوت إذا نزل بالمسلمين نازلة والعياذ بالله فأحاديث الباب بجميع رواياتها صريحة في مشروعيته، والخلاف في أي صلاة يقنت؟ وقبل الركوع أبو بعده يقنت؟ . قال النووي: الصحيح المشهور عند الشافعية أنه إذا نزلت نازلة كعدو وقحط، ووباء، وعطش، وضرر ظاهر في المسلمين ونحو ذلك قنتوا في جميع الصلوات المكتوبة. اهـ وروايات الباب تؤيد هذا الرأي، ففي صلاة الفجر صريح الرواية الأولى والسادسة والثامنة، وفي صلاة الظهر صريح الرواية الرابعة بعمل أبي هريرة معلقًا أنها أشبه صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي صلاة المغرب صريح الرواية الثالثة عشرة والرابعة عشرة، وفي صلاة العشاء صريح الرواية الرابعة. أما العصر فيمكن قياسه على الظهر. وعليه يكون القنوت في جميع الصلوات المكتوبة مشروع

عند النازلة، والمشهور عند الحنابلة إذا نزل بالمسلمين نازلة يقنت الإمام ويؤمن من خلفه ولا يقنت آحاد الناس، وذلك في صلاة الصبح فقط، وبهذا قال أبو حنيفة والثوري. وقال عبد الله بن الإمام أحمد عن أبيه: كل شيء يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت إنما هو في الفجر، ولا يقنت في الصلاة إلا في الوتر والغداة إذا كان مستنصرًا يدعو للمسلمين. وقال أبو الخطاب: يقنت في الفجر والمغرب، لأنهما صلاتا جهر في طرفي النهار، وقد روى البخاري عن أنس قال: كان القنوت في المغرب والفجر. وقيل: يقنت في صلاة الجهر كلها قياسًا على الفجر. اهـ. ذكره في المغني. أما محله من الصلاة فالجمهور وظاهر روايات الباب أنه بعد الرفع من الركوع وبعد قول سمع الله لمن حمده. قال الحافظ ابن حجر: وظهر لي أن الحكمة في جعل قنوت النازلة في الاعتدال دون السجود، مع أن السجود مظنة الإجابة، كما ثبت "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" وثبوت الأمر بالدعاء فيه أن المطلوب من قنوت النازلة أن يشارك المأموم الإمام في الدعاء ولو بالتأمين، ومن ثم اتفقوا على أنه يجهر به. بخلاف القنوت في الصبح فاختلف في محله وفي الجهر به. اهـ. وقيل: القنوت كله قبل الركوع، ويفسر هؤلاء قول أنس في الرواية السادسة "بعد الركوع يسيرًا" أي وقبل الركوع كثيرًا، ومعنى هذا أن ما صرحت به الروايات من أنه بعد الركوع فمن القليل، ويتمسكون بظاهر الرواية التاسعة، وأن القنوت قبل الركوع. ويقول في قنوته نحوا مما قال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقد روي أن عمر رضي الله عنه كان يقول في قنوته: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم العن كفرة أهل الكتاب الذين يكذبون رسلك، ويقاتلون أولياءك، اللهم خالف بين كلمتهم، وزلزل أقدامهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين. ثانيًا: وأما القنوت في غير النازلة فقد قال مالك والشافعي: يسن القنوت في صلاة الصبح في جميع الأزمان، لأن أنسًا قال: "مازال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا" رواه أحمد، وكان عمر يقنت في الصبح بمحضر من الصحابة وغيرهم. أما في الوتر في النصف الثاني من رمضان فالمشهور عند الشافعية استحباب القنوت فيه، وروي عن مالك أن القنوت في الوتر بدعة. وقال أبو حنيفة وأحمد لا يسن القنوت في الصبح ولا غيرها من الصلوات سوى الوتر في جميع السنة، وفي رواية عن أحمد أنه لا يقنت إلا في النصف الأخير من رمضان قال النخعي: أول من قنت في صلاة الغداة علي، وذلك أنه كان رجلاً محاربًا يدعو على أعدائه، وروى سعيد عن أبي هريرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يقنت في صلاة الفجر إلا إذا دعا لقوم أو دعا على قوم"، واستدلوا للوتر بما روي عن أبي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر فيقنت قبل الركوع"، وعن علي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك". قالوا: ولفظ "كان" للدوام قالوا: ولأنه وتر فيشرع فيه القنوت، لأن القنوت ذكر فيشرع في الوتر كسائر الأذكار.

قال قتادة: يقنت في الوتر في السنة كلها إلا في النصف الأول من رمضان وعن ابن عمر: لا يقنت السنة كلها إلا في النصف الأخير من رمضان، وعنه أيضًا: لا يقنت في صلاة بحال. وخير ما يقال في هذا الخلاف أن القنوت دعاء وخير. والله أعلم. أما محله فالشافعية على أنه بعد الركوع، وهو المشهور عن أحمد. وروى عنه أنه قال: أنا أذهب إلى أنه بعد الركوع، فإن قنت قبله فلا بأس. وقال مالك وأبو حنيفة: يقنت قبل الركوع. قال الحافظ ابن حجر: ومجموع ما جاء عن أنس أن القنوت للحاجة بعد الركوع، لا خلاف عنه في ذلك، وأما لغير الحاجة فالصحيح عنه أنه قبل الركوع، وقد اختلف عمل الصحابة في ذلك. فعن أنس "إن أول من جعل القنوت قبل الركوع - أي دائمًا - عثمان، لكي يدرك الناس الركعة" قال الحافظ: والظاهر أنه من الاختلاف المباح. ويدعو في القنوت بكل خير الدنيا والآخرة، والأولى ما ورد، وقد أخرج أبو داود والترمذي عن الحسن بن علي قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر "اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت" وعن عمر أنه قنت في صلاة الفجر فقال: "بسم الله الرحمن الرحيم. اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك، ونؤمن بك، ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كله، نشكرك ولا نكفرك، بسم الله الرحمن الرحيم. اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق". اهـ[نحفد: نبادر، والجد بكسر الجيم الحق الذي لا لعب فيه، و"ملحق" بكسر الحاء أي لاحق]. ثالثًا: ويتعلق بالقنوت أحكام. منها: إذا قنت الإمام في جهرية استحب له الجهر، ويؤمن من خلفه، قال بعضهم: وإن دعوا معه فلا بأس وإذا لم يسمع المأموم قنوت الإمام دعا لنفسه. ومنها ما قاله النووي في شرح مسلم: يستحب رفع اليدين فيه ولا يمسح الوجه، وقيل: يستحب مسحه، وقيل: ولا يرفع اليد واتفقوا على كراهة مسح الصدر، ولو ترك القنوت في الصبح سجد للسهو. اهـ -[رابعًا: ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - رأفة الرسول صلى الله عليه وسلم ورحمته وحرصه على أمته، بدعوته بنجاة المستضعفين وبوجده على قراء بئر معونة. 2 - جواز الدعاء في الصلاة لأشخاص بعينهم. 3 - جواز لعن الكافرين عمومًا وقبائل. 4 - من قتل القراء يؤخذ مدى التضحيات والأرواح التي بذلت في سبيل الإسلام. 5 - استعمال الرسول صلى الله عليه وسلم للجناس في قوله: "عصية عصت" و"غفار غفر اللَّه لها" و"أسلم سالمها اللَّه".

(241) باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها

(241) باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها 1337 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قفل من غزوة خيبر. سار ليله حتى إذا أدركه الكرى عرس، وقال لبلال "اكلأ لنا الليل" فصلى بلال ما قدر له. ونام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فلما تقارب الفجر استند بلال إلى راحلته مواجه الفجر، فغلبت بلالاً عيناه وهو مستند إلى راحلته. فلم يستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بلال ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولهم استيقاظًا. ففزع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "أي بلال" فقال بلال: أخذ بنفسي الذي أخذ (بأبي أنت وأمي يا رسول الله) بنفسك. قال: "اقتادوا" فاقتادوا رواحلهم شيئًا. ثم توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بلالاً فأقام الصلاة، فصلى بهم الصبح، فلما قضى الصلاة قال "من نسي الصلاة فليصلها إذا ذكرها. فإن الله قال: {أقم الصلاة لذكري} [طه: 14] قال يونس: وكان ابن شهاب يقرؤها: للذكرى. 1338 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: عرسنا مع نبي الله صلى الله عليه وسلم. فلم نستيقظ حتى طلعت الشمس. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "ليأخذ كل رجل برأس راحلته، فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان" قال ففعلنا. ثم دعا بالماء فتوضأ، ثم سجد سجدتين. (وقال يعقوب: ثم صلى سجدتين). ثم أقيمت الصلاة فصلى الغداة. 1339 - عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "إنكم تسيرون عشيتكم وليلتكم، وتأتون الماء إن شاء الله غدًا". فانطلق الناس لا يلوي أحد على أحد. قال أبو قتادة: فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير حتى ابهار الليل وأنا إلى جنبه. قال: فنعس رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمال عن راحلته، فأتيته فدعمته، من غير أن أوقظه، حتى اعتدل على راحلته. قال ثم سار حتى تهور الليل مال عن راحلته. قال فدعمته من غير أن أوقظه، حتى اعتدل على راحلته. قال ثم سار حتى إذا كان من آخر السحر مال ميلة، هي أشد من الميلتين الأوليين، حتى كاد ينجفل؛ فأتيته فدعمته. فرفع رأسه فقال "من هذا؟ " قلت: أبو قتادة. قال "متى

كان هذا مسيرك مني؟ " قلت: مازال هذا مسيري منذ الليلة. قال "حفظك الله بما حفظت به نبيه" ثم قال "هل ترانا نخفى على الناس؟ " ثم قال "هل ترى من أحد؟ " قلت: هذا راكب. ثم قلت: هذا راكب آخر، حتى اجتمعنا فكنا سبعة ركب. قال فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطريق، فوضع رأسه، ثم قال "احفظوا علينا صلاتنا". فكان أول من استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم والشمس في ظهره. قال فقمنا فزعين. ثم قال "اركبوا" فركبنا، فسرنا، حتى إذا ارتفعت الشمس نزل. ثم دعا بميضأة كانت معي فيها شيء من ماء. قال فتوضأ منها وضوءًا دون وضوء. قال وبقي فيها شيء من ماء. ثم قال لأبي قتادة "احفظ علينا ميضأتك. فسيكون لها نبأ" ثم أذن بلال بالصلاة. فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، ثم صلى الغداة فصنع كما كان يصنع كل يوم. قال وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وركبنا معه. قال فجعل بعضنا يهمس إلى بعض: ما كفارة ما صنعنا بتفريطنا في صلاتنا؟ ثم قال "أما لكم في أسوة؟ " ثم قال "أما إنه ليس في النوم تفريط. إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى. فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها، فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها" ثم قال "ما ترون الناس صنعوا؟ " قال: ثم قال "أصبح الناس فقدوا نبيهم. فقال أبو بكر وعمر: رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدكم. لم يكن ليخلفكم. وقال الناس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أيديكم. فإن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا". قال فانتهينا إلى الناس حين امتد النهار وحمي كل شيء. وهم يقولون: يا رسول الله هلكنا، عطشنا. فقال "لا هلك عليكم" ثم قال "أطلقوا لي غمري" قال ودعا بالميضأة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصب وأبو قتادة يسقيهم. فلم يعد أن رأى الناس ماء في الميضأة تكابوا عليها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أحسنوا الملأ. كلكم سيروى" قال ففعلوا. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصب وأسقيهم. حتى ما بقي غيري وغير رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثم صب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي "اشرب" فقلت: لا أشرب حتى تشرب يا رسول الله. قال "إن ساقي القوم آخرهم شربًا" قال فشربت وشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال فأتى الناس الماء جامين رواء. قال فقال عبد الله بن رباح: إني لأحدث هذا الحديث في مسجد الجامع. إذ قال عمران بن حصين: انظر أيها الفتى كيف تحدث، فإني أحد الركب تلك الليلة. قال قلت: فأنت أعلم بالحديث. فقال: ممن أنت؟ قلت من الأنصار قال حدث فأنتم أعلم بحديثكم. قال فحدثت القوم. فقال عمران: لقد شهدت تلك الليلة وما شعرت أن أحدًا حفظه كما حفظته.

1340 - عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: كنت مع نبي الله صلى الله عليه وسلم في مسير له. فأدلجنا ليلتنا، حتى إذا كان في وجه الصبح عرسنا، فغلبتنا أعيننا حتى بزغت الشمس. قال فكان أول من استيقظ منا أبو بكر. وكنا لا نوقظ نبي الله صلى الله عليه وسلم من منامه إذا نام حتى يستيقظ. ثم استيقظ عمر، فقام عند نبي الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يكبر ويرفع صوته بالتكبير؛ حتى استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما رفع رأسه ورأى الشمس قد بزغت قال "ارتحلوا" فسار بنا، حتى إذا ابيضت الشمس نزل فصلى بنا الغداة. فاعتزل رجل من القوم لم يصل معنا. فلما انصرف قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا فلان ما منعك أن تصلي معنا؟ " قال: يا نبي الله أصابتني جنابة. فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فتيمم بالصعيد، فصلى. ثم عجلني في ركب بين يديه نطلب الماء، وقد عطشنا عطشًا شديدًا. فبينما نحن نسير إذا نحن بامرأة سادلة رجليها بين مزادتين. فقلنا لها: أين الماء؟ قالت: أيهاه. أيهاه. لا ماء لكم. قلنا: فكم بين أهلك وبين الماء؟ قالت: مسيرة يوم وليلة. قلنا: انطلقي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: وما رسول الله؟ فلم نملكها من أمرها شيئًا حتى انطلقنا بها. فاستقبلنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسألها فأخبرته مثل الذي أخبرتنا، وأخبرته أنها موتمة، لها صبيان أيتام، فأمر براويتها. فأنيخت. فمج في العزلاوين العلياوين، ثم بعث براويتها، فشربنا، ونحن أربعون رجلاً عطاش، حتى روينا، وملأنا كل قربة معنا وإداوة، وغسلنا صاحبنا، غير أنا لم نسق بعيرًا. وهي تكاد تنضرج من الماء (يعني المزادتين) ثم قال "هاتوا ما كان عندكم" فجمعنا لها من كسر وتمر. وصر لها صرة. فقال لها "اذهبي فأطعمي هذا عيالك، واعلمي أنا لم نرزأ من مائك" فلما أتت أهلها قالت: لقد لقيت أسحر البشر، أو إنه لنبي كما زعم، كان من أمره ذيت وذيت. فهدى الله ذاك الصرم بتلك المرأة، فأسلمت وأسلموا. 1341 - عن عمران بن الحصين رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر. فسرينا ليلة، حتى إذا كان من آخر الليل قبيل الصبح وقعنا تلك الوقعة التي لا وقعة عند المسافر أحلى منها. فما أيقظنا إلا حر الشمس. وساق الحديث بنحو حديث سلم ابن زرير. وزاد ونقص. وقال في الحديث: فلما استيقظ عمر بن الخطاب ورأى ما أصاب الناس. وكان أجوف جليدًا. فكبر ورفع صوته بالتكبير، حتى استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم لشدة صوته

بالتكبير. فلما استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم شكوا إليه الذي أصابهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا ضير، ارتحلوا" واقتص الحديث. 1342 - عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر فعرس بليل اضطجع على يمينه. وإذا عرس قبيل الصبح نصب ذراعه ووضع رأسه على كفه. 1343 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك". قال قتادة: {وأقم الصلاة لذكري} 1344 - - عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر "لا كفارة لها إلا ذلك". 1345 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم "من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها". 1346 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها"، فإن اللَّه يقول {أقم الصلاة لذكري} -[المعنى العام]- يروي الإمام مسلم قصتين شاء اللَّه فيهما لنبيه صلى الله عليه وسلم ولأصحابه أن يناموا عن صلاة الصبح في سفر، ليبين لهم حكم من نام عن صلاة أو غفل عنها، كما شاء اللَّه فيهما لنبيه صلى الله عليه وسلم مكرمة ومعجزة زيادة الماء وتكثيره ليشرب الناس ويسقوا من هذه الزيادة. القصة الأولى: حينما قفل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه من غزوة خيبر، وفي الصحراء حيث لا ماء قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: إنكم ستسيرون من أول ليلتكم هذه إلى آخرها دون أن تصلوا إلى الماء، وتأتون الماء غدًا إن شاء الله، وعلم الناس أن بينهم وبين الماء مسيرة ليلة وبعض يوم، فضربوا أكباد الإبل يتسابقون نحو الماء لا ينتظر أحد أحدًا، حتى لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم وحوله سوى سبعة نفر، وبدأ النعاس يداعب عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته، فيميل حتى يكاد يسقط، فيسنده أبو قتادة حتى يعتدل، وظل أبو قتادة يسير بجنبه يحرسه، فلما مال ميلة شديدة وعدله أبو قتادة رفع

رأسه وقال: - والليل مظلم - من هذا الذي يساعدني؟ قال: أبو قتادة، قال صلى الله عليه وسلم حفظك الله كما حفظت نبيه. قال: ترى الناس قد سبقوا هل ترى منهم أحدًا؟ قال أبو قتادة: هذا راكب، وهذا راكب آخر، وهذا راكب ثالث، يعدهم على بعد نظره في الليل حتى بلغ بهم سبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ننزل فنستريح وقال: من يحرسنا مستيقظًا حتى يوقظنا لصلاة الفجر؟ قال بلال: أنا يا رسول الله. قال: فاحفظنا لا تفوتنا صلاة الفجر، فصلى بلال ما قدر له، ثم أسند ظهره إلى بعيره فنام، فلم يستيقظ أحد إلا بعد أن طلعت الشمس، وكان أول من استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام فزعًا، وقام الناس فزعين. قال: يا بلال. ألم أقل لك؟ قال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أخذني ما أخذ بنفسك من النوم الغالب لقوى البشر، قال صلى الله عليه وسلم: اقتادوا رواحكم، ليأخذ كل منكم برأس راحلته، لنغادر هذه الأرض التي غلب فيها الشيطان، فساروا قليلاً ثم نزل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سأل: هل من ماء؟ قال أبو قتادة: هذه ميضأتي - إناء معد لماء الوضوء - بها شيء من ماء، فتوضأ منها صلى الله عليه وسلم وضوء المقتصد، وبقي فيها قليل من الماء، فقال لأبي قتادة: احفظ هذه الميضأة وما فيها من ماء فسيكون لها شأن عظيم غدًا، وصلى ركعتين، ثم أمر بلالاً فأذن وأقام وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة الصبح كما كان يصليها كل يوم وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وركب من معه، وهم يقولون في همس: ما كفارة نومنا عن الصلاة؟ وسمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: أما لكم في رسول الله أسوة؟ ليس في النوم تفريط ولا إثم، إنما التفريط والإثم على من تكاسل وأهمل الصلاة حتى دخل وقت الثانية. فمن نام عن صلاة أو نسيها فليصل إذا ذكرها فورًا، لا كفارة لها إلا ذلك، قال تعالى: {وأقم الصلاة لذكري} [طه: 14] ثم قال صلى اللَّه عليه وسلم لمن معه: سار الناس وسبقونا، فماذا تظنون صنيعهم إذا أصبحوا ولم يجدوا نبيهم بينهم؟ سيقول أبو بكر وعمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مازال بعدكم لم يصل بعد، لأنه لا يسبقكم ويترككم، وسيقول الناس: إن رسول الله سبقنا فإن يسمعوا لأبي بكر وعمر يكونوا راشدين فاهمين الحق والصدق. وأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه في مشيهم حتى أدركوا الناس ضحوة وقد حميت الشمس، وهم يقولون: يا رسول الله عطشنا، يا رسول الله عطشنا. يا رسول الله، هلكنا من العطش، قال صلى الله عليه وسلم: لا هلك إن شاء الله، هاتوا لي ميضأة أبي قتادة، فلما جاءت تفل فيها ودعا، ثم جاء بإناء فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصب من الميضأة في الإناء، وأبو قتادة يسقي الناس من الإناء حتى شربوا جميعًا، فصب، وقال لأبي قتادة: اشرب. قال: ما كان لي أن أشرب حتى تشرب يا رسول الله، قال صلى الله عليه وسلم: إني ساقي القوم، إني آخرهم شربًا. فأتى الناس الماء بعد الظهيرة، وهم في ري وراحة غير مجهدين وغير عطاش. القصة الثانية: في سفر آخر، وساروا معظم الليل، ونزلوا فناموا، فكان أول من استيقظ عمر رضي الله عنه، وقد طلعت الشمس، فقام عند النبي صلى الله عليه وسلم وجعل يكبر ويرفع صوته بالتكبير ليوقظ النبي صلى الله عليه وسلم فلما استيقظ ورفع رأسه، ورأى الشمس قد بزغت قال: ارتحلوا، فساروا قليلاً حتى ابيضت الشمس. ثم نزل، فصلى بالناس الصبح، واعتزل رجل من القوم فلم يصل معهم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا فلان. ما

منعك أن تصلي معنا؟ قال: أصابتني جنابة يا رسول الله، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فتيمم بالتراب، ثم صلى، ثم قال صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين ولعلي بن أبي طالب: اذهبا فابحثا عن ماء، فقد عطش القوم عطشًا شديدًا، فسارا بعيدًا فوجدا امرأة تركب على ناقة فوقها قربتان كبيرتان وقد سدلت ودلت رجليها. فقالا لها: أين الماء الذي ملأت منه؟ قالت: هيهات هيهات. إنه بعيد جدًا لا تصلان إليه، قالا لها: كم سرت حتى وصلت إلى الماء؟ قالت: يوم وليلة، قالا لها: انطلقي معنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: ومن رسول الله؟ فلم يمهلاها ولم يتركا لها خيارًا أو رأيًا، بل اقتاداها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن أمرها: فأخبرته بمثل ما أخبرتهما به، وزادت في أن زوجها توفي، وأنها تربي أيتامًا صبية، وذلك لتستعطفه صلى الله عليه وسلم أن لا يؤذيها أو يغتصب ماءها، فأمر بناقتها فأنيخت، فأنزلاها، ثم فتح فم القربتين الأعلى. ثم دعا بإناء ففرغ فيه من أفواه القربتين، فتمضمض في الماء، ثم أعاده، إلى القربتين، ثم ربط فمهما، ثم بعث الناقة فوقفت، ثم فك رباط القربتين من أسفل ممسكًا على فتحة كل قربة ليؤخذ منها ثم تضغط، ونادى في الناس: اسقوا واستقوا. فشرب الناس وكانوا أربعين رجلاً عطاشًا، وملئوا كل قربة معهم وكل إناء وغسلوا صاحبهم الجنب، ثم قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: هاتوا فضل طعامكم. فجمعوا كسرًا وتمرًا، وملئوا لها صرة، وقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهبي فأطعمي هذا عيالك، واعلمي أننا لم نأخذ من مائك شيئًا، فانصرفت والقرب تكاد تنشق من امتلائها بالماء، فلما أتت أهلها قالت: لقد لقيت أكبر البشر سحرًا، أو هو النبي كما يزعمون، كان من أمره كيت وكيت، فأسلمت المرأة وأسلم أهلها وقبيلتها. -[المباحث العربية]- (حين قفل من غزوة خيبر) أي رجع من غزوة خيبر، والقفول الرجوع ويقال: غزوة وغزاة. قال النووي: وخيبر بالخاء هو الصواب، وكذا ضبطناه وكذا هو في أصول بلادنا من نسخ مسلم، قال الباجي وابن عبد البر وغيرهما هذا هو الصواب، قال القاضي عياض: هذا قول أهل السير، وهو الصحيح قال: وقال الأصيلي إنما هو حنين، بالحاء المهملة والنون. وهذا غريب ضعيف. (سار ليله) أي سار معظم ليله، وإطلاق الشيء على أكثره شائع. (حتى إذا أدركه الكرى) بفتح الكاف النعاس، وقيل: النوم. يقال منه: كرى الرجل - بفتح الكاف وكسر الراء - يكري، فهو كر، وامرأة كرية بتخفيف الياء. (عرس) بتشديد الراء من التعريس، وهو نزول المسافرين آخر الليل للنوم والاستراحة، لا للإقامة، قال بعض أهل اللغة: أصله النزول آخر الليل، وقيل: هو النزول أي وقت كان من ليل أو نهار، وفي الحديث "معرسون في نحر الظهيرة" ذكره النووي. (اكلأ لنا الفجر) ارقب لنا الفجر واحفظه واحرسه أن يفوتنا، ومصدره الكلاء بكسر الكاف واللام ممدودة آخره همزة، ذكره الجوهري.

وفي رواية البخاري قال صلى الله عليه وسلم: "أخاف أن تناموا عن الصلاة قال بلال: أوقظكم" وفي رواية "فمن يوقظنا؟ قال بلال: أنا". (استند بلال إلى راحلته مواجه الفجر) بوجهه. أي قريبًا من وقت الفجر. (حتى ضربتهم الشمس) أي حتى أصابتهم ومستهم. (ففزع رسول اللَّه) أي انتبه وقام مندهشًا للنوم حتى طلوع الشمس دون صلاة. (فقال: أي بلال) قال النووي: هكذا هو في رواياتنا ونسخ بلادنا وحكى القاضي عياض عن جماعة أنهم ضبطوه. أين بلال؟ على الاستفهام. اهـ وما قاله النووي أصح. ففي رواية البخاري "يا بلال أين قلت"؟ . (فقال بلال: أخذ بنفسي الذي أخذ - بأبي وأمي يا رسول اللَّه - بنفسك) فصل بين الجار والمجرور وبين متعلقه بجملة الدعاء "بأبي أنت وأمي يا رسول الله أفديك" والأصل: أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك، وفي رواية البخاري: قال بلال: ما ألقيت على نومة مثلها قط. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله قبض أرواحكم حين شاء، وردها عليكم حين شاء". (فاقتادوا رواحلهم شيئًا) أي مسافة قصيرة، ولعل التعبير بالاقتياد بدل الركوب للإشعار بقصر المسافة: وفي الرواية الثانية "ليأخذ كل رجل منكم برأس راحلته" وهو المراد بالاقتياد. (أقم الصلاة لذكري) جزء الآية الرابعة عشرة من سورة طه، وكاملها {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} أي لتذكيري لك إياها، وهذا معنى قراءة "للذكرى" أي التذكر، وقيل: أقم الصلاة لذكر أمري بها، أي لتذكرك أمري بها، وقيل: المعنى: إذا ذكرت الصلاة فقد ذكرتني فكأن المعنى: أقم الصلاة لذكر الصلاة، وقيل: في الكلام مضاف محذوف والتقدير: أقم الصلاة لذكر صلاتي، وهذه التقديرات كلها تتمشى مع الاستدلال بالآية هنا. (فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان) أي غلبنا فيه، وإلا فالشيطان يحضر كل المنازل. (ثم سجد سجدتين) أي صلى ركعتين. (فصلى الغداة) أي الصبح. (إنكم تسيرون عشيتكم وليلتكم) العشية أول الليل، فكأنه قال: تسيرون أول الليل والليل كله. (فانطلق الناس لا يلوي أحد على أحد) أي لا يعطف أحد على أحد ولا ينتظر أحد أحدًا. (يسير حتى ابهار الليل) بالباء الموحدة وتشديد الراء، أي انتصف.

(فنعس) بفتح العين، والنعاس مقدم النوم. قال النووي: وهو ريح لطيفة تأتي من قبل الدماغ تغطي العين، ولا تصل إلى القلب، فإذا وصلت إلى القلب كان نومًا. (فدعمته) أي أسندته وأقمت ميله برفق، وصرت تحته كالدعامة للبناء. (ثم سار حتى تهور الليل) أي ذهب أكثره، مأخوذ من تهور البناء وهو انهدامه، قال النووي: يقال تهور الليل وتوهر. (حتى كاد ينجفل) أي حتى كاد يسقط عن راحلته. (متى كان مسيرك مني)؟ أي منذ متى وأنت تسير مني هذا المسير؟ . (هذا مسيري منذ الليلة) أي منذ أول الليلة. (حفظك اللَّه بما حفظت به نبيه) قال النووي: أي بسبب حفظك نبيه. اهـ. فـ"ما" على هذا مصدرية، وهذا غير ظاهر، لأن "ما" المصدرية لا يعود عليها ضمير "به" والأولى جعل "ما" موصولة، مدلولها الحب والحرص، أي بسبب الحب والحرص الذي حفظت به نبيه. (هل ترانا نخفي على الناس)؟ أي على بقية الركب، ومعنى هذا أنهما كانا وحدهما. (هل ترى من أحد) من الركب غيرنا؟ . (حتى اجتمعنا فكنا سبعة ركب) يحتمل أنه نادى، ويحتمل أنهما أسرعا إن كانا متأخرين، أو أبطأ إن كان متقدمين، ولفظ "ركب" جمع راكب كصاحب وصحب، فلهذا جعل تمييزًا لعدد "سبعة" الذي تمييزه جمع مجرور. (احفظوا علينا صلاتنا) أي لا تضيعوا صلاة الفجر بالنوم عنها، ولعله قال ذلك أولاً للجماعة، فلما تعهد بلال بذلك قال له: أكلأ لنا الفجر، أو أنهما حادثتان، لما سيأتي في فقه الحديث. (ثم دعا بميضأة) بكسر الميم، وبهمزة بعد الضاد، وهي الإناء الذي يتوضأ به. (فتوضأ منها وضوءًا دون وضوء) أي وضوءًا أقل في الماء من وضوئه العادي، قال النووي: معناه وضوءًا خفيفًا مع أنه أسبغ الأعضاء، قال: ونقل القاضي عياض عن بعض شيوخه أن المراد توضأ ولم يستنج بماء، بل استجمر بالأحجار، قال: وهذا الذي زعمه هذا القائل غلط ظاهر، والصواب ما سبق. اهـ (فصنع كما كان يصنع كل يوم) أي صلى الفائتة بالحالة والهيئة التي كان يصلي بها الحاضرة. (فجعل بعضنا يهمس إلى بعض) بفتح الياء وكسر الميم، أي يتكلم بخفاء وإسرار لا يسمعه غير من يقصد.

(إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى) متهاونًا أو متكاسلاً. (فمن فعل ذلك) أي فمن نام حتى خرج وقتها. (فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها) قال النووي: معناه إذا فاتته صلاة فقضاها لا يتغير وقتها ويتحول في المستقبل، بل يبقى كما كان، فإذا كان الغد صلى صلاة الغد في وقتها المعتاد، وليس معناه أن يقضي الفائتة مرتين، مرة في الحال، ومرة في الغد، وإنما معناه ما قدمناه، فهذا هو الصواب في معنى هذا الحديث، وقد اضطربت أقوال العلماء فيه، واختار المحققون ما ذكرته. اهـ. (ثم قال: ما ترون الناس صنعوا)؟ أي ما تظنون الناس صانعين حين يصبحون فلا يجدون نبيهم بينهم؟ . (فقال أبو بكر وعمر: رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعدكم، لم يكن ليخلفكم وقال الناس: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين أيديكم، فإن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا) قال النووي: معنى هذا الكلام أنه صلى اللَّه عليه وسلم لما صلى بهم الصبح بعد ارتفاع الشمس، وقد سبقهم الناس، وانقطع النبي صلى الله عليه وسلم وهؤلاء الطائفة اليسيرة عنهم، قال: ما تظنون الناس يقولون فينا؟ فسكت القوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما أبو بكر وعمر فيقولان للناس: إن النبي صلى الله عليه وسلم وراءكم، ولا تطيب نفسه أن يسبقكم ويخلفكم وراءه ويتقدم بين أيديكم، فينبغي لكم أن تنتظروه حتى يلحقكم، وقال باقي الناس: إنه سبقكم فالحقوه، فإن أطاعوا أبا بكر وعمر رشدوا وأصابوا، فإنهما على صواب. اهـ. (لا هلك عليكم) هو بضم الهاء وسكون اللام، أي لا هلاك عليكم. (أطلقوا لي غمرى) بضم الغين وفتح الميم. وهو القدح الصغير، ويقصد الميضأة، أي هاتوا لي الميضأة بمائها القليل ودعوني وإياها. (فلم يعد أن رأى الناس ماء في الميضأة تكابوا عليها) قال النووي: ضبطنا قوله "ماء في الميضأة" هنا بالمد "ماء" والقصر "ما في الميضأة" وكلاهما صحيح. ومعنى "تكابوا" بتشديد الباء تجمعوا وتزاحموا. (أحسنوا الملأ. كلكم سيروى) الملأ بفتح الميم واللام آخره همزة: الخلق والعشرة، يقال: ما أحسن ملأ فلان، أي خلقه وعشرته، وما أحسن ملأ بني فلان، أي عشرتهم وأخلاقهم، و"الملأ" هنا مفعول "أحسنوا" أي أحسنوا الخلق والعشرة وعليكم بالوقار والسكينة. كلكم سيشرب ويرتوي. (فجعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصب) من الميضأة في إناء بيد أبي قتادة وأبو قتادة يسقي القوم واحدًا واحدًا.

(فأتى الناس الماء جامين رواء) بتشديد الميم، والاستجمام الاستراحة أي وصل الناس إلى الماء الطبيعي غير مجهدين وغير عطاش، بل وصلوا البئر مرتوين نشطين مستريحين. (إني لأحدث هذا الحديث في مسجد الجامع) أصله في المسجد الجامع، فحذف "أل" من المسجد" وأضاف الموصوف إلى صفته، وهذا جائز عند الكوفيين بغير تقدير، والبصريون يؤولونه ويقدرون مسجد المكان الجامع. (انظر أيها الفتى كيف تحدث)؟ ليس قصده الشك فيما يحدث، ولا طلب التثبت، وإنما قصده من أين لك هذا وقد ظننت أنني وحدي الأحفظ له؟ أو المعنى أن عمران حينما بدأ عبد الله بن رباح هذا الحديث قال له عمران. انتبه أيها الفتى وحافظ بدقة على ما سمعت، فإني أحد شهود الحادثة وسأقابل ما تقول على ما أحفظ، فحدث ابن رباح وعمران يسمع، فلما انتهى قال عمران: ما شعرت وما ظننت أن أحدًا حفظه كما حفظته. قال النووي: ضبطنا "حفظته" بضم التاء وفتحها، وكلاهما حسن. اهـ. (فأدلجنا ليلتنا) بإسكان الدال هو سير الليل كله، وأما "ادلجنا" بفتح الدال المشدة فمعناه سرنا آخر الليل، هذا هو الأشهر في اللغة، وقيل: هما لغتان بمعنى، ومصدر الأول إدلاج بإسكان الدال، والثاني ادلاج بكسر الدال المشددة. ذكره النووي. (بزغت الشمس) بزوغ الشمس أول طلوعها. (ثم عجلني في ركب بين يديه) أي أرسلني وطلب مني العجلة والسرعة، وفي رواية البخاري "فدعا فلانًا" أي: عمران بن حصين "ودعا عليًا فقال: اذهبا فابتغيا الماء" قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أنه كان معهما غيرهما على سبيل التبعية لهما، فيتجه إطلاق لفظ "ركب". (إذا نحن بامرأة سادلة رجليها بين مزادتين) السادلة المرسلة المدلية والمزادة بفتح الميم والزاي إناء ماء أكبر من القربة، والمزادتان حمل بعير، سميت مزادة لأنه يزاد فيها من جلد آخر من غيرها. (فقالت: أيهاه. أيهاه) قال النووي: هكذا هو في الأصول، وهو بمعنى هيهات. هيهات. ومعناه البعد من المطلوب واليأس منه. (لا ماء لكم) أي ليس لكم ماء حاضر ولا قريب. (قلنا: فكم بين أهلك وبين الماء؟ قالت: مسيرة يوم وليلة) وكانت المرأة قريبة من منازل أهلها آنذاك، ففي رواية البخاري "قالت: عهدي بالماء أمس هذه الساعة" أي مضى على حملها الماء يوم وليلة.

(قالت: وما رسول الله)؟ في رواية "قالت: الذي يقال له الصابئ؟ قالا: هو الذي تعنين. فانطلقي"، فتخلصا أحسن تخلص، إذ لو قالا: لا. فات المقصود، ولو قالا: نعم. لم يحسن منهما. (فلم نملكها من أمرها شيئًا) أي لم نملكها من المضي في طريقها. (وأخبرته أنها موتمة) بضم الميم وكسر التاء، أي ذات أيتام. (فأمر براويتها فأنيخت) الراوية عند العرب هي الجمل الذي يحمل الماء قال النووي: وأهل العرف قد يستعملونه في المزادة استعارة، والأصل البعير وهو المراد هنا. (فمج في العزلاوين العلياوين ثم بعث براويتها) المج زرق الماء بالفم، والعلاء بالمد هي المشعب الأسفل للمزادة الذي يفرغ منه الماء ويطلق أيضًا على فمها العلي، وهو المقصود هنا لقوله "العلياوين" وفي رواية البخاري "فاستنزلوها عن بعيرها، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم بإناء، ففرغ فيه من أفواه المزادتين، وأوكأ [أي ربط] أفواههما، وأطلق العزالي" وفي رواية الطبراني والبيهقي "فتمضمض في الماء، وأعاده في أفواه المزادتين" وحاصل الصورة أنه صلى الله عليه وسلم أفرغ من أفواه المزادتين العلوية بعض الماء، ومج فيه وأعاده من حيث أخذه، وربط الأفواه التي فتحها، ثم بعث الجمل فقام واقفًا، ثم فتح وفك رباط المزادتين من أسفل، مع الإمساك والضغط على فتحة كل مزادة ليؤخذ منها. ثم تقبض وتمسك، ونادى في الناس اسقوا واستقوا. (وغسلنا صاحبنا) يعني الجنب، و"غسلنا" بتشديد السين، أي أعطيناه ما يغتسل به، وفي رواية البخاري: "وكان آخر ذاك أن أعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء، قال: اذهب فأفرغه عليك". (وهي تكاد تنضرج من الماء - يعني المزادتين) "تنضرج" بفتح التاء وسكون النون وفتح الضاد. آخره جيم، أي تنشق، وضمير "هي تكاد" للمزادتين، والمعنى أخذ من المزادتين ما أخذ من الماء وهي مازالت منتفخة أكثر مما كانت عليه حتى إنها تكاد تنشق من امتلائها، وفي رواية البخاري "وايم الله لقد أقلع عنها وإنه ليخيل إلينا أنها أشد ملأة منها حين ابتدأ فيها". (هاتوا ما كان عندكم) أي من زاد، تكريمًا للمرأة ومساعدة لها على أيتامها، ومكافأة لها على مائها. (فجمعنا لها من كسر وتمر) "كسر" بكسر الكاف وفتح السين جمع كسرة، وفي رواية البخاري "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اجمعوا. فجمعوا لها من بين عجوة ودقيقة وسويقة حتى جمعوا لها طعامًا، فجعلوها في ثوب وحملوها على بعيرها ووضعوا الثوب بين يديها". (واعلمي أنا لم نرزأ من مائك) "نرزأ" هو بنون مفتوحة وزاي مفتوحة بينهما راء ساكنة ثم همزة، أي لم ننقص من مائك شيئًا، قال الحافظ ابن حجر: وظاهره أن جميع ما أخذوه من الماء

مما زاده الله تعالى وأوجده، وأنه لم يختلط فيه شيء من مائها في الحقيقة، وإن كان في الظاهر مختلطًا، قال: وهذا أبدع وأغرب في المعجزة، ثم قال: ويحتمل أن يكون المراد ما نقصنا من مقدار مائك شيئًا. اهـ. وفي رواية البخاري زيادة "ولكن الله هو الذي أسقانا". (كان من أمره ذيت وذيت) بالذال، وهي مثل كيت وكيت كناية عن محكي. (فهدى اللَّه ذاك الصرم) بالصاد المشددة المكسورة والراء الساكنة آخره ميم. وهو الأبيات المجتمعة، أي فهدى الله ذاك التجمع البدوي، تجمع قبيلتها بسبب هذه المرأة، فأسلمت وأسلموا وفي رواية البخاري "فكان المسلمون بعد ذلك يغيرون على من حولها من المشركين، ولا يصيبون الصرم الذي هي منه فقالت يومًا لقومها: ما أرى أن هؤلاء القوم يدعونكم عمدًا، فهل لكم في الإسلام، فأطاعوها، فدخلوا في الإسلام". (وقعنا تلك الوقعة التي لا وقعة عند المسافر أحلى منها) أي نمنا نومة عميقة بعد عناء السفر والسهر. (وكان أجوف جليدًا) "أجوف" أي رفيع الصوت، يخرج صوته من جوفه بقوة، كالطبل الأجوف يرفع الصوت ويعليه، والجليد القوي، من الجلادة، وهي الصلابة، وفي وصف عائشة لعمر تقول: كان إذا مشي أسرع، وإذا تكلم أسمع وإذا ضرب أوجع. (لا ضير) أي لا ضرر عليكم في هذا النوم وتأخير الصلاة بسببه، والضير والضرر والضر بمعنى. (لا كفارة لها إلا ذلك) قال النووي: معناه لا يجزئه إلا الصلاة مثلها، ولا يلزمه مع ذلك شيء آخر. -[فقه الحديث]- قال النووي: واعلم أن هذه الأحاديث جرت في سفرين أو أسفار، لا في سفرة واحدة، وظاهر ألفاظها يقتضي ذلك. اهـ وقد ساق الحافظ ابن حجر رواية لأبي داود من حديث ابن مسعود "أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية ليلاً، فنزل، فقال: من يكلؤنا؟ فقال بلال: أنا" الحديث ورواية للموطأ عن زيد بن أسلم "عرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة بطريق مكة، ووكل بلالاً ... ". ثم قال: وقد اختلف العلماء، هل كان ذلك مرة أو أكثر، أعني نومهم عن صلاة الصبح، فجزم الأصيلي بأن القصة واحدة. وتعقبه القاضي عياض بأن قصة أبي قتادة - روايتنا الثالثة - مغايرة لقصة عمران قال الحافظ: وهو كما قال، فإن قصة أبي قتادة فيها أن أبا بكر وعمر لم يكونا مع النبي صلى الله عليه وسلم لما نام وقصة عمران فيها أنهما كانا معه، وأيضًا فقصة عمران روايتنا الرابعة والخامسة - فيها

أن أول من استيقظ أبو بكر، ولم يستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم حتى أيقظه عمر بالتكبير، وقصة أبي قتادة فيها أن أول من استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم، وفي القصتين غير ذلك من وجوه المغايرات، ثم قال: ومما يدل على تعدد القصة اختلاف مواطنها كما قدمنا. ثم قال: وحاول ابن عبد البر الجمع بينهما بأن زمان رجوعهم من خيبر قريب من زمان رجوعهم من الحديبية، وأن اسم طريق مكة يصدق عليهما. ثم قال الحافظ: ولا يخفى ما فيه من التكلف. اهـ. -[ويؤخذ من الأحاديث]- 1 - قال النووي: يؤخذ من قوله "من نسي صلاة فليصلها" وجوب قضاء الفريضة الفائتة، سواء تركها بعذر، كنوم ونسيان، أم بغير عذر، وإنما قيد في الحديث بالنسيان لخروجه على سبب، لأنه إذا وجب القضاء على المعذور فغيره أولى بالوجوب، وهو من باب التنبية بالأدنى على الأعلى، وشذ بعض أهل الظاهر، فقال: لا يجب قضاء الفائتة بغير عذر، وزعم أنها أعظم من أن يخرج من وبال معصيتها بالقضاء. وهذا خطأ من قائله وجهالة. اهـ والخطأ والجهالة من قائله ناشئان من أنه ظن أن القضاء من غير المعذور يخرج من وبال المعصية، ولا قائل بذلك. 2 - وظاهر قوله: "إذا ذكرها" يفيد وجوب المبادرة وعدم تأخير قضاء الفائتة عن وقت الذكر، لكنه محمول على الاستحباب، ويجوز التأخير عند الجمهور سواء فاتت بعذر أو بدون عذر، وأمره صلى الله عليه وسلم بالارتحال قبل قضاء الفائتة دليل على الجواز، وحكي عن بعضهم أنه يجب قضاؤها على الفور إن فاتت بدون عذر، وما أفاده الارتحال هنا قبل القضاء إنما هو لما فات بعذر، وروي عن ابن وهب وغيره أن تأخير قضاء الفائتة منسوخ بقوله تعالى: {وأقم الصلاة لذكري} قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر، لأن الآية مكية، والحديث مدني، فكيف ينسخ المتقدم المتأخر؟ . 3 - أخذ بعضهم من الأمر بالارتحال قبل قضاء الفائتة أن قضاءها لا يجوز في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها، وهو غير مسلم، فإن الرواية الثانية تصرح بأن سبب الارتحال البعد عن موضع الغفلة، وعن موضع تغلب فيه الشيطان، بل في الرواية الأولى أنهم لم يستيقظوا حتى ضربتهم الشمس، وفي الرواية الخامسة "فما أيقظنا إلا حر الشمس" وذلك لا يكون إلا بعد أن يذهب وقت الكراهة. قال الحافظ ابن حجر: وقد قيل: إنما أخر النبي صلى الله عليه وسلم لاشتغاله بأحوالهم، وقيل: تحرزًا من العدو، وقيل: انتظارًا لما ينزل عليه من الوحي، وقيل: ليستيقظ من كان نائمًا وينشط من كان في كسل. 4 - استدل بقوله في الرواية السابعة: "لا كفارة لها إلا ذلك" أنه لا يجب غير إعادتها، خلافًا لمن قال بإعادة المقضية مرتين، مرة عند ذكرها، ومرة عند حضور مثلها من الوقت الآتي، أخذًا بظاهر قوله في الرواية الثالثة: "فليصلها حين ينتبه لها، فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها" وقد بينا المراد بهذه العبارة في المباحث العربية، وقلنا إن المراد فإذا كان الغد صلى صلاة الغد في وقتها المعتاد قال الحافظ ابن حجر: لكن رواية أبي داود من حديث عمران بن حصين في هذه القصة

"من أدرك منكم صلاة الغداة من غد صالحًا فليقض معها مثلها" قال الخطابي: لا أعلم أحدًا قال بظاهره وجوبًا، قال: ويشبه أن يكون الأمر فيه للاستحباب. ليحوز فضيلة الوقت في القضاء. ثم قال الحافظ: ولم يقل أحد من السلف باستحباب ذلك أيضًا، بل عدوا الحديث غلطًا من راويه، ويؤيد ذلك ما رواه النسائي من حديث عمران بن حصين أيضًا "أنهم قالوا: يا رسول الله ألا نقضيها لوقتها من الغد؟ فقال صلى الله عليه وسلم لا ينهاكم الله عن الربا ويأخذه منكم". 5 - وأخذ بعضهم أيضًا من الحصر في قوله "لا كفارة لها إلا ذلك" الرد على الإمام مالك في أن من ذكر بعد أن صلى صلاة أنه لم يصل التي قبلها فإنه يصلي التي ذكر، ثم يصلي التي كان صلاها، مراعاة للترتيب. ولو فاتته فوائت فالأكثرون على وجوب ترتيبها، وقال الشافعي: لا يجب الترتيب، واختلفوا فيما إذا تذكر فائتة في وقت حاضرة ضيق؟ هل يبدأ بالفائتة، وإن خرج وقت الحاضرة؟ أو يبدأ بالحاضرة؟ أو يتخير؟ فقال بالأول مالك، وقال بالثاني الشافعي والحنفية وأكثر أصحاب الحديث، وقال بالثالث أشهب، وقال عياض: محل الخلاف إذا لم تكثر الفوائت، وأما إذا كثرت فلا خلاف أنه يبدأ بالحاضرة. اهـ ولا يخفى أن هذا الخلاف - بعد أن علمنا أنه لا يجب الفورية في قضاء الفوائت - في الأفضل والأولى وليس في الصحة والوجوب. والله أعلم. 6 - ويؤخذ من صلاته الفائتة بهم صلى الله عليه وسلم استحباب الجماعة في الفائتة، قال الحافظ ابن حجر: وبه قال أكثر أهل العلم إلا الليث، مع أنه أجاز صلاة الجمعة جماعة إذا فاتت. اهـ 7 - استدل بقوله في الرواية الثالثة: "صلى الغداة، فصنع كما كان يصنع كل يوم، على أن صفة قضاء الفائتة كصفة أدائها، قال النووي: فيؤخذ منه أن فائتة الصبح يقنت فيها، وقد يحتج به من يقول: يجهر في الصبح التي يقضيها بعد طلوع الشمس، والأصح عند الشافعية أنه يسر بها، ويحمل قوله: "كما كان يصنع" أي في الأفعال. اهـ 8 - واستدل بالعبارة السابقة نفسها على إباحة تسمية الصبح غداة. 9 - استدل بقوله في الرواية الثالثة "فصلى ركعتين ثم صلى الغداة" على استحباب قضاء السنة الراتبة، لأن الظاهر أن هاتين الركعتين اللتين قبل الغداة هما سنة الصبح، قال النووي: وإن فاتته سنة راتبة ففيها قولان للشافعي. وأصحهما يستحب قضاؤها، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها" ولأحاديث أخرى كثيرة في الصحيح، كقضائه صلى الله عليه وسلم سنة الظهر بعد العصر حين شغله عنها الوفد، وقضائه سنة الصبح في حديث الباب، والقول الثاني لا يستحب، وأما السنن التي شرعت لعارض كصلاة الكسوف والاستسقاء ونحوهما فلا يشرع قضاؤها بلا خلاف. اهـ واستدل بعض المالكية بعدم ذكر سنة الصبح في الروايات على عدم قضاء السنة الراتبة، قال الحافظ ابن حجر: ولا دلالة فيه، لأنه لا يلزم من عدم الذكر عدم الوقوع. اهـ 10 - واستدل المهلب بهذه الأحاديث على أن الصلاة الوسطى هي صلاة الصبح. قال: لأنه صلى الله

عليه وسلم لم يأمر أحدًا بمراقبة وقت صلاة غيرها قال: ويدل على أنها هي المأمور بالمحافظة عليها أنه صلى الله عليه وسلم لم تفته صلاة غيرها لغير عذر شغله عنها. اهـ قال الحافظ ابن حجر: وهو كلام متدافع فأي عذر أبين من النوم. 11 - استدل بقوله في الرواية الثالثة: "ثم أذن بلال بالصلاة، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، ثم صلى الغداة" على مشروعية الأذان للفائتة وبعد ذهاب الوقت، وبه قال الشافعي في القديم وأحمد، وقال مالك، والشافعي في الجديد: لا يؤذن لها، وحمل الأذان هنا على الإقامة، أي على المعنى اللغوي، وهو محض الإعلام، قال النووي: والأصح عندنا إثبات الأذان بحديث أبي قتادة وغيره من الأحاديث الصحيحة، وأما ترك ذكر الأذان في حديث أبي هريرة وغيره فجوابه من وجهين: أحدهما لا يلزم من ترك ذكره أنه لم يؤذن، لعله أذن وأهمله الراوي أو لم يعلم به. والثاني لعله ترك الأذان هذه المرة لبيان جواز تركه، وأشار إلى أنه ليس بواجب متحتم، لا سيما في السفر. اهـ 12 - ويؤخذ من الروايتين الأولى والثانية إثبات الإقامة للصلاة الفائتة. 13 - استدل بوضوئه صلى الله عليه وسلم بعد النوم على أن النوم من المضطجع ينقض الوضوء؛ وقد تكلم العلماء في الجمع بين حديث النوم هذا وبين قوله صلى الله عليه وسلم: "إن عيني تنامان ولا ينام قلبي". قال النووي: جوابه من وجهين: أصحهما وأشهرهما: أنه لا منافاة بينهما، لأن القلب إنما يدرك الحسيات المتعلقة به كالحدث والألم ونحوهما، ولا يدرك طلوع الفجر وغيره، مما يتعلق بالعين، وإنما يدرك ذلك بالعين، والعين نائمة وإن كان القلب يقظان. والثاني: أنه كان له حالان، أحدهما ينام فيه القلب، وصادف هذا الموضع والثاني لا ينام، وهذا هو الغالب من أحواله. قال: وهذا التأويل ضعيف والصحيح المعتمد هو الأول. اهـ 14 - استدل بقوله في الرواية الثانية: "فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان" على استحباب اجتناب مواضع الشيطان. قال النووي: وهو أظهر المعنيين في النهي عن الصلاة في الحمام. 15 - ومن تعهد بلال يؤخذ جواز التزام الخادم بالقيام بمراقبة المصالح والاكتفاء في الأمور المهمة بالواحد. 16 - وفيه قبول العذر ممن اعتذر بأمر سائغ. 17 - وفيه خروج الإمام بنفسه في الغزوات والسرايا. 18 - استدل باستشهاد الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {وأقم الصلاة لذكري} على أن شرع من قبلنا شرع لنا، لأن المخاطب بالآية المذكورة موسى عليه السلام، وهو الصحيح في الأصول ما لم يرد ناسخ. 19 - واستدل بقوله في الرواية الثالثة: "أما إنه ليس في النوم تفريط" على ما أجمع عليه العلماء من

أن النائم ليس بمكلف، وإنما يجب عليه قضاء الصلاة ونحوها بأمر جديد. قال النووي: هذا هو المذهب الصحيح المختار عند أصحاب الفقه والأصول، ومنهم من قال: يجب القضاء بالخطاب السابق، وهذا القائل يوافق على أنه في حال النوم غير مكلف، وأما إذا أتلف النائم بيده أو بغيرها من أعضائه شيئًا في حال نومه فيجب ضمانه بالاتفاق، وليس ذلك تكليفًا للنائم، لأن غرامة المتلفات لا يشترط لها التكليف بالإجماع، بل لو أتلف الصبي أو المجنون أو الغافل أو غيرهم ممن لا تكليف عليه شيئًا وجب ضمانه بالاتفاق. اهـ. 20 - ويؤخذ من قوله في الرواية الثالثة: "خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" أنه يستحب للأمير إذا رأى مصلحة لقومه في إعلامهم بأمر أن يجمعهم كلهم ويشيع ذلك فيهم، ليبلغهم كلهم ويتأهبوا له، ولا يخص به بعضهم وكبارهم لأنه ربما خفي على بعضهم فيلحقه الضرر. قاله النووي. 21 - ويؤخذ من الرواية نفسها، من قوله "وتأتون الماء - إن شاء الله - غدًا" استحباب قول: إن شاء الله في الأمور المستقبلة، وهو موافق للأمر به في القرآن الكريم. 22 - ومن قوله: "من هذا؟ قلت: أبو قتادة" أنه إذا قيل للمستأذن ونحوه: من هذا؟ يقول: فلان، باسمه، وأنه لا بأس أن يقول: أبو فلان. 23 - ومن دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي قتادة بالحفظ يؤخذ استحباب الدعاء لمن صنع معروفًا. 24 - وفي الأحاديث مجموعة من المعجزات من علامات النبوة، فمنها قوله في الرواية الثالثة: "وتأتون الماء إن شاء الله غدًا"، وقوله فيها لأبي قتادة: "احفظ علينا ميضأتك فسيكون لها نبأ" وقوله فيها: "قال أبو بكر وعمر كذا .... وقال الناس كذا" وقوله فيها للناس "لا هلك عليكم"، وتكثير الماء في الميضأة حتى روى الناس، وفي الرواية الرابعة تكثير الماء في المزادتين. واللَّه أعلم

كتاب صلاة المسافرين

كتاب صلاة المسافرين

(242) باب قصر الصلاة

(242) باب قصر الصلاة 1347 - عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر. 1348 - عن ابن شهاب قال: حدثني عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين، ثم أتمها في الحضر، فأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى. 1349 - عن عائشة رضي الله عنها أن الصلاة أول ما فرضت ركعتين، فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر. قال الزهري: فقلت لعروة ما بال عائشة تتم في السفر قال إنها تأولت كما تأول عثمان. 1350 - عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب {ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} [النساء/ الآية 101] فقد أمن الناس فقال: عجبت مما عجبت منه. فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. فقال "صدقة تصدق الله بها عليكم. فاقبلوا صدقته". 1351 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعًا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة. 1352 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن الله فرض الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم على المسافر ركعتين وعلى المقيم أربعًا وفي الخوف ركعة.

1353 - عن موسى بن سلمة الهذلي قال: سألت ابن عباس كيف أصلي إذا كنت بمكة إذا لم أصل مع الإمام، فقال: ركعتين. سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم. 1354 - عن عيسى بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب عن أبيه، قال: صحبت ابن عمر في طريق مكة قال: فصلى لنا الظهر ركعتين، ثم أقبل وأقبلنا معه حتى جاء رحله وجلس وجلسنا معه فحانت منه التفاتة نحو حيث صلى. فرأى ناسًا قيامًا. فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قلت: يسبحون. قال: لو كنت مسبحًا لأتممت صلاتي. يا ابن أخي إني صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر. فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله. وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله. وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله. ثم صحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله. وقد قال الله: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [الأحزاب: 21]. 1355 - عن حفص بن عاصم قال: مرضت مرضًا. فجاء ابن عمر يعودني. قال: وسألته عن السبحة في السفر؟ فقال: صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر. فما رأيته يسبح. ولو كنت مسبحًا لأتممت. وقد قال الله تعالى {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [الأحزاب: 21]. 1356 - عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة أربعًا. وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين. 1357 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعًا. وصليت معه العصر بذي الحليفة ركعتين. 1358 - عن يحيى بن يزيد الهنائي قال: سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة؟ فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ (شعبة الشاك) صلى ركعتين.

1359 - عن جبير بن نفير قال: خرجت مع شرحبيل بن السمط إلى قرية على رأس سبعة عشر أو ثمانية عشر ميلاً. فصلى ركعتين. فقلت له. فقال: رأيت عمر صلى بذي الحليفة ركعتين. فقلت له. فقال: إنما أفعل كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل. 1360 - عن ابن السمط ولم يسم شرحبيل. وقال: إنه أتى أرضًا يقال لها دومين من حمص على رأس ثمانية عشر ميلاً. 1361 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة. فصلى ركعتين ركعتين. حتى رجع. قلت: كم أقام بمكة؟ قال: عشرًا. 1362 - - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خرجنا من المدينة إلى الحج ثم ذكر مثله. 1363 - - عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله ولم يذكر الحج. 1364 - عن سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلى صلاة المسافر بمنى وغيره ركعتين. وأبو بكر وعمر. وعثمان ركعتين صدرًا من خلافته ثم أتمها أربعًا. 1365 - - عن الزهري بهذا الإسناد قال بمنى ولم يقل: وغيره. 1366 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين. وأبو بكر بعده وعمر بعد أبي بكر وعثمان صدرًا من خلافته ثم إن عثمان صلى بعد أربعًا. فكان ابن عمر إذا صلى مع الإمام صلى أربعًا. وإذا صلاها وحده صلى ركعتين.

1367 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم بمنى صلاة المسافر، وأبو بكر وعمر، وعثمان ثماني سنين، أو قال ست سنين. قال حفص: وكان ابن عمر يصلي بمنى ركعتين، ثم يأتي فراشه. فقلت: أي عم لو صليت بعدها ركعتين، قال: لو فعلت لأتممت الصلاة. 1368 - - وعن شعبة بهذا الإسناد ولم يقل في الحديث: بمنى. ولكن قال: صلى في السفر. 1369 - عن عبد الرحمن بن يزيد قال: صلى بنا عثمان بمنى، أربع ركعات. فقيل ذلك لعبد الله بن مسعود؛ فاسترجع. ثم قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين، وصليت مع أبي بكر الصديق بمنى ركعتين، وصليت مع عمر بن الخطاب بمنى ركعتين، فليت حظي من أربع ركعات، ركعتان متقبلتان. 1370 - عن حارثة بن وهب رضي الله عنه قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى آمن ما كان الناس وأكثره ركعتين. 1371 - عن حارثة بن وهب الخزاعي رضي الله عنه قال: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى والناس أكثر ما كانوا فصلى ركعتين في حجة الوداع (قال مسلم) حارثة بن وهب الخزاعي هو أخو عبيد الله بن عمر بن الخطاب لأمه. -[المعنى العام]- السفر قطعة من العذاب، فيه مشاق كثيرة جثمانية، ومشاق كثيرة نفسية ويكفي فيه فراق الأهل والأوطان والأملاك والمعارف، ليصبح غريبًا عرضة للأخطار. لهذه المشاق الجسيمة والنفسية خفف الله عن الأمة الإسلامية، فأباح للصائم الفطر مع القضاء ورخص للمصلي أن يقصر الصلاة الرباعية ويصليها ركعتين في ثواب أربع ركعات، صدقة تصدق الله بها على عباده المسلمين فله الحمد وله الشكر.

وسواء كان ابتداء فرض الصلاة مثنى ثم زيد في الحضر ركعتان في الظهر والعصر والعشاء، كما تقول عائشة: أو كان ابتداء فرضها على ما هي عليه الآن وخففت وقصرت في السفر كما يقول الجمهور: فمما لا شك فيه أن هناك تخفيفًا على المسافر رحمة من الله تعالى به. لقد شرع الله على لسان نبيه صلاة الإتمام في الحضر وصلاة القصر في السفر. وبلغها الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته قولاً وعملاً، والأحاديث تروي أنه صلى الله عليه وسلم عند سفره وقبل خروجه من المدينة إلى مكة صلى الظهر أربعًا، ثم خرج فأدركته صلاة العصر عند ذي الحليفة على بعد ستة أميال من المدينة فصلى بالناس العصر ركعتين، وفي غزواته صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالناس قصرًا من حين يخرج إلى حين يعود وسار على طريقه خليفته الأول أبو بكر فكان يقصر في أسفاره، ثم سار على الطريقة نفسها خليفته الثاني عمر بن الخطاب فكان يقصر في جميع أسفاره، ثم سار على الطريقة نفسها الخليفة الثالث عثمان بن عفان ست أو ثماني سنين. ثم صلى بالناس بمنى الظهر أو العصر أربعاً ولما كان المستقر في نفوس المسلمين أن القصر أولى إن لم يكن واجبًا أخذًا من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل صاحبيه. وفعل عثمان في الصدر الأول من خلافته، لما كان المستقر في نفوسهم ذلك أخذ يسأل بعضهم بعضًا عن سر إتمام عثمان وحكم هذا الإتمام، وزاد الأمر إشكالاً أن عائشة هي الأخرى أتمت الصلاة الرباعية في السفر، فأخذ العامة يسألون الخاصة، وأصبح الخاصة يتلمسون الأعذار لخليفة المسلمين، وأمهم، فمن قائل: إنه تزوج بمكة فصار من أهلها واعتبر نفسه مقيمًا، ومن قائل: إن له أرضًا بمنى فيعتبر فيها مقيمًا ومن قائل إن كثرة الأعراب الذين رافقوه يجهلون فرض الصلاة فأراد أن يبين لهم أن فرضها أربع، ومن الناس من ظن أن القصر خاص بمواطن الخوف، فنفى عمر ذلك بأنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأجاب بأن القصر في السلم والحرب. وأخذ الناس يرقبون أفعال علمائهم، فرأوا ابن عمر يقصر ولا يصلي نفلاً راتبًا فلما سئل قال: إن الله خفف على المسافر نصف فرضه فلا يشق على نفسه بالنوافل، وكان الصحابة في عهد عثمان يخشون الفتنة، ويخافون الخلاف والفرقة، فكان كثير من علمائهم إذا صلى مع عثمان أتم الصلاة معه، وإذا صلى وحده قصر صلاته. وهكذا استقرت الشريعة بإجماع الأمة أن المسافر بشروط معينة له أن يقصر الصلاة الرباعية واثقًا من فضل الله وثوابه، وأن أجر الصلاة المقصورة في السفر لا يقل عن أجر الصلاة التامة فيه أو في الحضر، فالحمد لله الذي خفف عنا وعلم أن فينا ضعفًا، نسأله قبول صالح العمل، وغفران الذنوب، إنه ذو الفضل الواسع العظيم. -[المباحث العربية]- (فرضت الصلاة ركعتين ركعتين) الصلاة عام مخصوص، مراد به غير المغرب، أي الظهر والعصر والعشاء والفجر.

(إن الصلاة أول ما فرضت ركعتين) هكذا هي في أصول مسلم "ركعتين" و"أول" بالنصب على أنه بدل من الصلاة، أو على الظرفية، أي في أول، و"ركعتين" منصوب على الحال سد مسد الخبر، وفي رواية للبخاري: "الصلاة أول ما فرضت ركعتان" برفع "أول" على أنه بدل من الصلاة أو مبتدأ ثان، ونصبه على الظرفية، وبرفع "ركعتان" على الخبرية، وهي أوضح من رواية نصب "ركعتين". (ما بال عائشة تتم في السفر)؟ "ما" اسم استفهام في محل رفع خبر مقدم، و"بال عائشة" مبتدأ مؤخر، وجملة "تتم في السفر" في محل النصب على الحال، والتقدير ما شأن عائشة حالة كونها تتم الصلاة في السفر؟ . (إنها تأولت كما تأول عثمان) الكاف اسم بمعنى مثل صفة لمصدر محذوف، و"ما" مصدرية والتقدير: إنها تأولت تأولاً مشبهًا تأول عثمان، وتأولها فهمها من النص فهمًا آخر. (فقد أمن الناس) فهم "يعلى" أن القصر خاص بالخوف، وأن الشرط قيد معتبر للاحتراز، ورأى الفعل مستمرًا بالقصر مع الأمن فاستشكل فسأل. (عجبت مما عجبت منه) هذا اللفظ هو المشهور المعروف، وفي بعض الأصول "عجبت ما عجبت منه" أي عجبت الذي عجبت منه، أو عجبت شيئًا عجبت أنت منه. (فرض اللَّه الصلاة ... في الحضر أربعًا) أي أربع ركعات. (حتى جاء رحله) أي منزله الذي ينزل فيه ويرحل منه. (فحانت منه التفاتة) أي حضرت وحصلت. (نحو حيث صلى) أي جهة مكان صلاته، فحيث ظرف مكان مبني مضاف إلى "نحو". (فرأى ناسًا قيامًا) أي يصلون. (قلت: يسبحون) أي يتنفلون، أي يصلون سننًا ونافلة. (وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين) "ذو الحليفة" ماء على سبعة أميال من المدينة، وقيل ستة. (سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة) يقال: قصرت الصلاة بفتح القاف والصاد قصرًا وقصرتها بتشديد الصاد تقصيرًا، وأقصرتها إقصارًا والأول أشهر في الاستعمال وأفصح، وهو لغة القرآن. (فصلى ركعتين فقلت له) القول محذوف للعلم به، أي فقلت له: لماذا فعلت ما فعلت؟ أو لماذا قصرت الصلاة؟ .

(دومين من حمص على رأس ثمانية عشر ميلاً) "دومين" بضم الدال وفتحها والواو ساكنة، والميم مكسورة، و"حمص" ممنوع من الصرف وإن كان اسمًا ثلاثيًا ساكن الوسط، لأنها أعجمية، اجتمع فيها العجمة والعلمية والتأنيث. (قلت: كم أقام بمكة؟ قال: عشرًا) قال النووي: هذا معناه أنه أقام في مكة وما حولها عشرًا، لا في مكة فقط، والمراد في سفره صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فقدم مكة في اليوم الرابع، فأقام بها الخامس والسادس والسابع، وخرج منها في الثامن إلى منى، وذهب إلى عرفات في التاسع، وعاد إلى منى في العاشر، فأقام بها الحادي عشر والثاني عشر، ونفر في الثالث عشر إلى مكة، وخرج منها إلى المدينة في الرابع عشر، فمدة إقامته صلى الله عليه وسلم في مكة وحواليها عشرة أيام. (صلى صلاة المسافر بمنى وغيره ركعتين) قال النووي: هكذا هو في الأصول "وغيره" وهو صحيح، لأن "منى" تذكر وتؤنث بحسب القصد، إن قصد الموضع فمذكر، أو البقعة فمؤنثة، وإذا ذكر صرف وكتب بالألف، وإن أنث لم يصرف وكتب بالياء، والمختار تذكيره وتنوينه، وسمي منى لما يمنى به من الدماء، أي يراق. اهـ (وأبو بكر وعمر وعثمان ركعتين) هذه معطوفات على فاعل "صلى" أي صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة المسافر بمنى ركعتين، وصلى أبو بكر وعمر وعثمان صلاة المسافر بمنى ركعتين، حالة كون صلاة عثمان صدرًا من خلافته أي أول خلافته، وصدر الشيء أوله، قيل كان ذلك ست سنين وقيل ثماني سنين. (ثم أتمها أربعاً) أي أتم الصلاة في السفر أربع ركعات في الرباعية. (ثم يأتي فراشه) أي دون أن يصلي نافلة راتبة بعدها. (لو صليت بعدها ركعتين) "لو" حرف تمن، أو شرطية والجواب محذوف أي لكان حسنًا، والمراد بالركعتين المطلوبتين نافلة الراتبة. (لو فعلت لأتممت الصلاة) أي لو كانت الراتبة مطلوبة لكان إتمام الفريضة أولى بالطلب، وليس هذا ولا ذاك مطلوبًا، إذ المقصود التخفيف على المسافر. (صلى بنا عثمان بمنى أربع ركعات) كان ذلك بعد رجوعه من أعمال الحج، في حالة إقامته بمنى للرمي. (فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان) قال النووي: معناه: ليت عثمان صلى ركعتين بدل الأربع، كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر. اهـ والحظ هو النصيب، و"من" للبدل، والمعنى ليت نصيبي ركعتان متقبلتان بدل أربع ركعات. ومقصوده الرغبة في القصر، وسيأتي البحث في فقه الحديث.

(صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى - آمن ما كان الناس وأكثره - ركعتين) "آمن" أفعل تفضيل من الأمن، أي حالة كون الناس أكثر أمنًا "وأكثره" وأكثر الناس عددًا، و"ركعتين" مفعول "صلى" وفي الرواية الأخرى "والناس أكثر ما كان" أي عددًا - ومقصوده الرد على من زعم أن القصر مختص بحالة الخوف اعتبارًا لقيد {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} [النساء: 101]. (هو أخو عبيد الله بن عمر بن الخطاب لأمه) قال النووي: هكذا ضبطناه "أخو عبيد الله" بالتصغير، ووقع في بعض الأصول "أخو عبد الله" بدون تصغير، وهو خطأ، والصواب الأول، أمه مليكة بنت جرول الخزاعي، تزوجها عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأولدها ابنه عبيد الله، وابنها حارثة من وهب الخزاعي وأما عبد الله بن عمر وأخته حفصة فأمهما زينب بنت مظعون. اهـ. -[فقه الحديث]- يمكن حصر نقاط الحديث في ثمان: 1 - أصل المفروض، هل هو أربع أو ثنتان؟ وتحقيق القول في ذلك. 2 - حكم القصر والإتمام في السفر -عرض المذاهب ووجهة نظر كل مذهب. 3 - تأويل عائشة وعثمان. 4 - القصر في مواطن الحج. 5 - شروط السفر المسوغ للقصر. 6 - من أين يقصر المسافر. 7 - مسائل أخرى تتعلق بالقصر. 8 - ما يؤخذ من الحديث من الحكم والأحكام. وهذا هو التفصيل: أولاً: ظاهر الرواية الأولى والثانية والثالثة أن الصلاة -فيما عدا المغرب والصبح- فرضت أولاً ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، ثم زيدت الظهر والعصر والعشاء إلى أربع في الحضر وذكر الضحاك في تفسيره أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في حدة الإسلام الظهر ركعتين والعصر ركعتين والمغرب ثلاثاً والعشاء ركعتين والصبح ركعتين، فلما نزلت آية القبلة تحول للكعبة، وكان قد صلى هذه الصلوات نحو بيت المقدس، فوجهه جبريل عليه السلام بعد ما صلى ركعتين من الظهر نحو الكعبة، وأومأ إليه بأن صل ركعتين، وأمره أن يصلي العصر أربعاً، والعشاء أربعاً، والغداة ركعتين، وقال: يا محمد أما الفريضة الأولى فهي للمسافرين من أمتك والغزاة. اهـ

وبهذا القول ذهب جماعة من العلماء، والجمهور على خلافه، وتأولوا قول عائشة، ولم يلتفتوا إلى تفسير الضحاك، إذ لا يثبت به حكم، لأنه خال عن صفات الحديث الصحيح. وقال الأصيلي: أول ما فرضت الصلاة أربعًا على هيئتها اليوم، وأنكر قول من قال: فرضت ركعتين، وقال: لا يقبل في هذا خبر الآحاد، وأنكر حديث عائشة. ولسنا مع الأصيلي في رد حديث عائشة لأن الحديث صحيح مروي في الصحيحين وطرقه عن عائشة كثيرة ومشهورة، وإسناد أكثرها ليس فيه مقال. لكن لما كان ظاهره يتعارض مع قوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} [النساء: 101] لأنه دال على أن الأصل الإتمام، إذا القصر معناه التنقيص، فهي صريحة في أنها كانت في الأصل زائدة عليه. ولما كان ظاهره يتعارض مع ما لوحظ في أول فرض الصلاة ليلة المعراج من قصد التخفيف على الأمة، إذ الانتقال من الاثنين إلى الأربع فيه تشديد، ولما كان ظاهره يتعارض مع عملها، إذ كانت تتم في السفر، وراوي الحديث إذا خالف عمله روايته لا يجب العمل بروايته أو تؤول. لما كان الأمر كذلك كان من الأولى تأويل حديث عائشة، وخير تأويل له ما قيل فيه: إن المراد بقولها "فرضت" أي قدرت. والله أعلم. ثانياً: وكان من السهل عدم الاكتراث بهذا الخلاف لولا أنه استدل به على أن القصر في السفر فريضة وواجب، لأنه الفرض الذي لم تتغير فرضيته، فلا يجوز خلافه، ولا تجوز الزيادة عليه. ألا ترى أن المصلي في الحضر لا يجوز له أن يزيد في صلاة عن عدد ركعاتها، ولو زاد عامداً لفسدت صلاته: فكذا المسافر لا يجوز له أن يصلي في السفر أربعاً، لأن فرضه في السفر ركعتان، وممن ذهب إلى هذا عمر بن عبد العزيز -إن صح عنه- وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وقول بعض أصحاب مالك، وهو مروي عن مالك في المشهور عنه، واستدلوا بعد حديث عائشة بما رواه النسائي بسند صحيح عن عمر بن الخطاب "صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر، على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم"، وبروايتنا الخامسة عن ابن عباس قال: "فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين". وبأن عمل الرسول صلى الله عليه وسلم وعمل أبي بكر وعمر في أنهم لم يزيدوا في السفر على ركعتين كما هو صريح روايات الباب دليل على أن الإتمام غير وارد. وقال الشافعي ومالك في رواية وكثير من العلماء: يجوز القصر والإتمام والقصر أفضل خروجاً من خلاف من أوجبه، وعن أحمد أن المصلي المسافر بالخيار والقصر أفضل. واستدلوا بأدلة أهمها: 1 - أن رفع الجناح في الآية الكريمة دليل الجواز، لأن رفع الجناح يدل على الإباحة. قال الشافعي: ولا يستعمل "لا جناح" إلا في المباح، لقوله تعالى: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا

فضلاً من ربكم} [البقرة: 198] وقوله: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء} [البقرة: 236]، {ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء} [البقرة: 235] {ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعًا أو أشتاتًا} [النور: 61]. 2 - ما ثبت في روايات الباب من أن عثمان وعائشة وغيرهما من الصحابة كانوا يتمون ولو كان القصر واجباً ما تركه المسلمون. 3 - ما ثبت في روايات الباب من أن ابن عمر كان إذا صلى مع الإمام صلى أربعاً وإذا صلاها وحده صلى ركعتين، ولو كان القصر واجباً ما أتم مع الإمام. 4 - ما ثبت في رواية أبي داود من أن ابن مسعود صلى أربعاً، فقيل له: عبت على عثمان ثم صليت أربعاً؟ فقال: الخلاف شر، وفي رواية البيهقي: إني لأكره الخلاف. ولو كان يعتقد أن القصر واجب ما ترك الواجب خوفاً من الخلاف. 5 - أجمعوا على أن المسافر إذا اقتدى بمقيم لزمه الإتمام، ولو كان الواجب ركعتين حتماً لما جاز فعلها أربعاً خلف مسافر ولا حاضر كالصبح. 6 - وأن القصر تخفيف أبيح للمسافر فجاز تركه كالفطر وسائر الرخص. 7 - وأنه ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم القصر والإتمام، فالقصر في فعله، والإتمام في إقراره عائشة رضي الله عنها فيما رواه النسائي والدارقطني والبيهقي بسند حسن أو صحيح قالت: "خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة رمضان فأفطر وصمت، وقصر وأتممت، فقلت: يا رسول الله، أفطرت وصمت، وقصرت وأتممت. فقال: أحسنت يا عائشة. 8 - في القول بأن القصر والإتمام جائزان مع تفضيل القصر جمع بين الأدلة وعمل بها، حيث ثبتت دلائل الإتمام، وهو خير من العمل ببعضها وترك بعضها والله أعلم. ثالثاً: وقد ذهب العلماء مذاهب شتى في المراد بتأويل عثمان وعائشة وكيف تأولا القصر إلى الإتمام؟ 1 - فقيل: لأن عثمان إمام المؤمنين وأميرهم، وكل موضع له دار، وعائشة أمهم، وفي كل مكان هي أم المقيمين فيه، وهذا القول مردود، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أولى بذلك، وكذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. 2 - وقيل: لأن عثمان تزوج وتأهل بمكة، فقد روى أحمد والبيهقي من حديث عثمان، أنه لما صلى بمنى أربع ركعات أنكر الناس عليه فقال: إني تأهلت بمكة لما قدمت وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من تأهل ببلدة فإنه يصلي صلاة مقيم"، ورده المحققون بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسافر بأهله وأزواجه وقصر. كما ردوه بأن عروة قال عن عائشة أنها تأولت ما تأول عثمان، ولا جائز أن تتأهل عائشة أصلاً، فدل ذلك على ضعف الخبر المروي، والقول بأن التشبيه بين عائشة وعثمان إنما هو في مطلق التأويل لا في كيفيته بعيد.

3 - وقيل: إن عثمان فعل ذلك من أجل الأعراب الذين حضروا معه، لئلا يظنوا أن الصلاة فرضها ركعتان حضراً وسفراً، وقد روى البيهقي عن عبد الرحمن بن حميد بن عوف عن أبيه عن عثمان "أنه أتم بمنى، ثم خطب فقال: إن القصر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، لكنه حدث طغام [بفتح الطاء والغين أي بدو جهلاء] فخفت أن يستنوا" وأبطل المحققون هذا القول بأن هذا المعنى كان موجوداً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، بل اشتهر أمر الصلاة في زمن عثمان أكثر مما كان مما يستبعد معه أن يكون الهدف تعليم البدو. 4 - وقيل: لأن عثمان نوى الإقامة بمكة بعد الحج فأتم، وأبطلوه بأن الإقامة بمكة حرام على المهاجر فوق ثلاث، ويؤكد بطلانه أن عثمان كان يسرع بالخروج من مكة خشية أن يرجع في هجرته، بل ثبت أنهم لما حاصروه وقال له المغيرة: اركب رواحلك إلى مكة، قال: لن أفارق دار هجرتي. ويؤكد بطلانه أن هذه العلة لم تتوافر لعائشة حتى تتأول بها هي الأخرى. 5 - وقيل: كان لعثمان أرض بمنى، فاعتبر نفسه من أهلها فأتم، وأبطلوه بأن ذلك لا يقتضي الإتمام، ثم إن هذا السبب لا يصلح سبباً لإتمام عائشة. 6 - وخير الأجوبة جوابان. أحدهما: أن عثمان كان يرى أن القصر مختص بمن كان شاخصاً سائراً وأما من أقام في مكان في أثناء سفره فله حكم المقيم فيتم، وربما كانت عائشة على هذا الرأي باجتهاد منهما بقياس الإقامة أثناء السفر على الإقامة مطلقاً. ثانيهما: أن عثمان وعائشة كانا يريان جواز القصر والإتمام ويفضلان الإتمام عند القدرة، ويريان أن الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه قد أخذوا أنفسهم بالأيسر شفقة بالأمة، أما هما فأخذوا أنفسهما بالشدة. قاله ابن بطال. هذا هو الوجه الصحيح ورجحه كثير من العلماء منهم القرطبي وغيره، ويؤيده ما رواه البيهقي عن عروة "أنها كانت تصلي أربعاً، فقال لها عروة: لو صليت ركعتين؟ قالت: يا ابن أختي، إنه لا يشق علي" وإسناده صحيح. 7 - وقد قيل فوق ذلك عن تأويل عائشة بأنها كانت ترى أن القصر إنما يكون عند الخوف. فقد أخرج ابن جرير في تفسير سورة النساء أن عائشة كانت تصلي في السفر أربعاً، فإذا احتجوا عليها تقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان في حرب، وكان يخاف، فهل تخافون أنتم؟ . وهذا القول باطل للرواية التاسعة عشرة والمتممة للعشرين من رواياتنا، وفيهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقصر والناس آمن ما يكونون. 8 - وقيل في تأويل عائشة إنها إنما أتمت في سفرها إلى البصرة إلى قتال علي، والقصر عندها إنما يكون في سفر طاعة، وهذا القول ظاهر البطلان.

رابعاً: ويشكل على ما ثبت من إتمام عثمان كما في روايتنا السادسة عشرة ما جاء في روايتنا الثامنة من قول ابن عمر: "ثم صحبت عثمان، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله" وهذا ظاهره التعارض. قال النووي: وقد تأول العلماء هذه الرواية على أن المراد أن عثمان لم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، أي في غير منى، والروايات المشهورة بإتمام عثمان بعد صدر من خلافته محمولة على الإتمام بمنى خاصة، وقد فسر عمران بن الحصين في روايته أن إتمام عثمان إنما كان بمنى، وكذا ظاهر الأحاديث التي ذكرها مسلم، ثم قال النووي: واعلم أن القصر مشروع بعرفات ومنى ومزدلفة للحاج من غير أهل مكة وما قرب منها، ولا يجوز لأهل مكة ومن كان دون مسافة القصر، هذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة والأكثرين، وقال مالك: يقصر أهل مكة في منى ومزدلفة وعرفات، فعلة القصر عنده في تلك المواضع النسك، وعند الجمهور علته السفر. والله أعلم. خامساً: وللقصر في السفر شروط: 1 - قال النووي: مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد والجمهور أنه يجوز القصر في كل سفر مباح، وشرط بعض السلف كونه سفر خوف، وشرط بعضهم كونه سفر حج أو عمرة أو غزو، وشرط بعضهم كونه سفر طاعة، فلا يترخص بالقصر لمن سافر لمجرد رؤية البلاد من غير غرض صحيح. قال الشافعي ومالك وأحمد والأكثرون: ولا يجوز في سفر المعصية، وجوزه أبو حنيفة. اهـ فمن خرج لقطع طريق أو لقتال المسلمين ظلماً، أو خرجت ناشزاً من زوجها لم يجز له أن يترخص برخص السفر من القصر وغيره عند الجمهور. 2 - قال النووي: قال الشافعي ومالك وأصحابهما وفقهاء أهل الحديث وأحمد: لا يجوز القصر إلا في مسيرة ثمانية وأربعين ميلاً (قريباً من ثمانين كيلو متراً] وقال أبو حنيفة والكوفيون: لا يقصر في أقل من نحو مائة وعشرين كيلو متراً، وقال داود وأهل الظاهر: يجوز القصر في السفر الطويل والقصير حتى لو كان خمسة كيلو مترات، وقال في الفتح: وكأنهم احتجوا في ذلك بما رواه مسلم وأبو داود من حديث أنس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال -أو فراسخ- قصر الصلاة" وهو أصح حديث ورد في بيان ذلك وأصرحه وقد حمله من خالفه على أن المراد به المسافة التي يبدأ منها القصر، لا غاية السفر ولا يخفى بعد هذا الحمل مع أن البيهقي ذكر في روايته من هذا الوجه أن يحيى بن يزيد راويه عن أنس قال: سألت أنساً عن قصر الصلاة -وكنت أخرج إلى الكوفة يعني: من البصرة فأصلي ركعتين ركعتين حتى أرجع- فقال أنس ... فذكر الحديث. فظهر أنه سأله عن جواز القصر في السفر، لا عن الموضع الذي يبتدأ القصر منه. اهـ ثم إن روايتنا الثالثة عشرة تبين فعل القصر في سبعة عشر ميلاً، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قصر بذي الحليفة وهي على سبعة أميال، كما استدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تسافر امرأة ثلاثاً إلا ومعها ذو محرم" رواه البخاري ومسلم.

واحتج الشافعية برواية عطاء بن أبي رباح "أن ابن عمر وابن عباس كانا يصليان ركعتين ويفطران في أربعة برد فما فوق ذلك" [هي ستة عشر فرسخاً والفرسخ ثلاثة أميال] رواه البيهقي بإسناد صحيح، وذكره البخاري في صحيحه تعليقاً، وعن عطاء قال: "سئل ابن عباس: أأقصر الصلاة إلى عرفة؟ فقال: لا، ولكن إلى عسفان وإلى جدة وإلى الطائف" رواه الشافعي والبيهقي بإسناد صحيح. وأجابوا عن حديث قصر الرسول صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة بأنه ليس المراد أن ذا الحليفة كان غاية سفره، كما سبق بيانه، وأما أن شرحبيل قصر على رأس سبعة عشر ميلاً كما هو صريح الرواية الثالثة عشرة فقد قال النووي: إنه تابعي فعل شيئاً يخالف الجمهور فلا حجة فيه، أو يتأول على أنها كانت في أثناء سفره لا أنها غايته. وأما أبو حنيفة وأصحابه فقد اعتمدوا في ذلك آثاراً عن الصحابة رضي الله عنهم. والله أعلم. 3 - ويشترط في القصر في السفر أن لا ينوي الإقامة على خلاف بين العلماء في مدة الإقامة. قال الشافعي: إن المسافر إذا أقام ببلدة قصر أربعة أيام مستدلاً بالرواية الرابعة عشرة من رواياتنا، وقد بينا في المباحث العربية أن إقامة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة نفسها أربعة أيام. وقول أحمد في رواية عنه: إحدى وعشرين صلاة، وفي كيفية احتساب الأيام الأربعة عند الشافعية خلاف أصح الأقوال لا يحسب يوم الدخول والخروج حتى لو دخل. في أول اليوم وخرج في آخر اليوم. ولو نوى الإقامة وهو ماكث غير سائر أكثر من أربعة أيام انقطع سفره من حين ينوي ولا يترخص، إذا كان في موضع يصلح للإقامة كبلد أو قرية أو واد يمكن للبدوي أن يقيم به ونحو ذلك، فأما المفازة ونحوها فنيته الإقامة لغو، وإن لم ينو الإقامة أكثر من أربعة أيام، بل كان كل يوم على نية السفر، كمن يعلق سفره على انتهاء مهمة لا تستغرق عادة أربعة أيام وهو يتوقع انتهاءها يوماً بعد آخر قصر مهما طالت إقامته، وعلى هذه الحالة تحمل الأحاديث الواردة بأكثر من أربعة أيام أو تحمل على حالة الحرب، كالحديث الذي رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال "سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام سبعة عشر يوماً يقصر الصلاة" وفي رواية له تسعة عشر يوماً، قال النووي حديث ابن عباس هذا في إقامة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة لحرب هوازن في عام الفتح. هذا هو الصحيح من مذهب الشافعية والمالكية، والحنابلة، وقال أبو حنيفة: إن نوى إقامة خمسة عشر يوماً مع يوم الدخول أتم، وإن نوى أقل من ذلك قصر. 4 - ويشترط للقصر أن لا يأتم المسافر بمقيم، فإن ائتم بمقيم في جزء من صلاته لزمه الإتمام سواء أدرك معه ركعة أم دونها، بهذا قال الشافعية والحنفية والحنابلة، وعن مالك: إن أدرك ركعة فأكثر لزمه الإتمام، وإلا فله القصر. وهناك شروط أخرى في ذكرها طول، تطلب من كتب الفروع.

سادساً: أما ابتداء القصر فيجوز من حين يفارق بنيان بلده أو خيام قومه إن كان من أهل الخيام، قال ابن المنذر: أجمعوا على جواز القصر لمن يريد السفر إذا خرج من جميع بيوت القرية التي يخرج منها، واختلفوا فيما قبل الخروج عن البيوت فذهب الجمهور إلى أنه لا بد من مفارقة جميع البيوت، وذهب بعض الكوفيين إلى أنه إذا أراد السفر يصلي ركعتين قصراً ولو كان في منزلة، ومنهم من قال: إذا ركب. قال: ولا أعلم النبي صلى الله عليه وسلم قصر في شيء من أسفاره إلا بعد خروجه من المدينة، وروى البخاري أن علياً خرج من موضعه، فقصر وهو يرى البيوت، ولما رجع إلى الكوفة قصر وهو يرى البيوت، قالوا: يا أمير المؤمنين، هذه الكوفة فأتم الصلاة قال: لا، حتى ندخلها. وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعاً، والعصر بذي الحليفة ركعتين كما في روايتنا الحادية عشرة ليس لأنه لم يقصر حتى رأى ذا الحليفة، وإنما لكون ذي الحليفة أول منزل نزله. ولم يحضر قبله وقت صلاة. وفي فعله هذا صلى الله عليه وسلم حجة على مجاهد في قوله لا يقصر حتى يدخل الليل، وحجة على من قال من السلف: يقصر ولو في بيته، والله أعلم. سابعاً: ويتعلق بالقصر في السفر أمور منها: 1 - قال الشافعية: لا يجوز القصر إلا إذا نوى القصر في الإحرام، لأن الأصل الإتمام، فإذا لم ينو القصر انعقد الإحرام على الإتمام، فلم يجز القصر ومعلوم أن النية هي القصد واستحضار المنوي، ومحلها القلب، والتلفظ بها ليس شرطاً. وقال المزني: لو نواه في أثناء الصلاة ولو قبل السلام جاز القصر، وعن بعضهم: لو نوى الإتمام ثم نوى في أثنائها أن يقصر كان له أن يقصر، وقال أبو حنيفة: لا تجب نية القصر، لأن الأصل عنده القصر. قال النووي: ولو نوى الإتمام قبل السلام لزمه أن يأتي بركعتين أخريين ويسجد للسهو، ولو نوى المنفرد القصر فصلى ركعتين، ثم قام إلى ثالثة ناوياً الإتمام وجب الإتمام، فإن كان ساهياً ثم ذكر لزمه أن يعود ويسجد للسهو، فلو أراد الإتمام بعد التذكر لزمه أن يعود إلى القعود ثم ينهض متماً، وفيه وجه ضعيف أن له أن يمضي في قيامه، والمذهب الأول لأن النهوض إلى الركعة الثالثة واجب، ونهوضه كان لاغياً لسهوه، اهـ ونحن نميل إلى الوجه الضعيف وأن له أن يمضي في قيامه. والله أعلم. 2 - قال النووي: وإن فاتته صلاة في السفر فقضاها في الحضر ففي صلاتها قصراً قولان، أصحهما يلزمه الإتمام، وبه قال أحمد، وقال مالك وأبو حنيفة يقصر، وإن فاتته صلاة في الحضر فقضاها في السفر لم يجز القصر بلا خلاف، وبذلك قال مالك وأبو حنيفة وأحمد والجمهور. 3 - وإذا دخل وقت صلاة وتمكن من فعلها في الحضر، ثم سافر في أثناء الوقت فإن له أن يقصر على القول الراجح. والله أعلم.

-[ثامنًا: ويؤخذ من أحاديث الباب غير ما تقدم]- 1 - يؤخذ من قوله في الرواية الرابعة: "صدقة تصدق الله بها عليكم" جواز قول: تصدق الله علينا واللهم تصدق علينا، وقد كرهه بعض السلف وهو غلط ظاهر قاله النووي. 2 - ويؤخذ من سؤال عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الرواية الرابعة أن المفضول إذا رأى الفاضل يعمل شيئاً يشكل عليه يسأله عنه. 3 - استدل بعض السلف بالرواية الخامسة والسادسة من قوله: "وفي الخوف ركعة" أن صلاة الخوف ركعة عملاً بظاهر الحديث، وقال الشافعي ومالك والجمهور: إن صلاة الخوف كصلاة الأمن في عدد الركعات، فإن كانت في الحضر وجب أربع ركعات، وإن كانت في السفر وجب ركعتان ولا يجوز الاقتصار على واحدة في حال من الأحوال، وتأولوا حديث ابن عباس هذا على أن المراد ركعة مع الإمام وركعة أخرى يأتي بها منفرداً. كما جاءت الأحاديث الصحيحة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الخوف، وهذا التأويل لا بد منه للجمع بين الأدلة. ذكره النووي. 4 - يؤخذ من استرجاع ابن مسعود ومن قوله: "فليت حظي ركعتان متقبلتان" في الرواية الثامنة عشرة أن مذهبه جواز القصر والإتمام مع تفضيل القصر، وليس كمذهب الحنفية، إذ لو كان القصر عنده واجباً لما استجاز تركه وراء أحد، وقد ثبت أنه صلى وراء عثمان رضي الله عنه متماً وعلل ذلك بأنه يكره الخلاف. 5 - يؤخذ من إنكار ابن عمر على المتنفلين في السفر وقوله في الرواية الثامنة: لو كنت مسبحاً أتممت صلاتي إلخ، عدم استحباب الراتبة في السفر. قال النووي: معنى كلام ابن عمر لو اخترت التنفل لكان إتمام فريضتي أربعاً أحب إلي، ولكني لا أرى واحداً منهما، بل السنة القصر وترك التنفل، مراده النافلة الراتبة مع الفرائض، كسنة الظهر والعصر، وأما النوافل المطلقة فقد كان ابن عمر يفعلها في السفر، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يفعلها، وقد اتفق العلماء على استحباب النوافل المطلقة في السفر واختلفوا في استحباب النوافل الراتبة، فكرهها ابن عمر وآخرون، واستحبها الشافعي وأصحابه والجمهور، ودليله الأحاديث المطلقة في ندب الرواتب، وحديث "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الضحى يوم الفتح بمكة وركعتي الصبح حين ناموا حتى طلعت الشمس، وأحاديث أخرى، وقياساً على النوافل المطلقة. قالوا: ولعل النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الرواتب في رحله ولا يراه ابن عمر؛ أو لعله تركها في بعض الأوقات تنبيهاً على جواز تركها، وأما ما يحتج به القائلون بتركها من أنها لو شرعت لكان إتمام الفريضة أولى فجوابه أن الفريضة متحتمة، فلو شرعت تامة لتحتم إتمامها. وأما النافلة فالمكلف فيها مخير، فالرفق أن تكون مشروعة ويتخير إن شاء فعلها وحصل ثوابها، وإن شاء تركها ولا شيء عليه. اهـ والله أعلم

(243) باب الصلاة في الرحال في المطر

(243) باب الصلاة في الرحال في المطر 1372 - عن نافع أن ابن عمر أذن بالصلاة في ليلة ذات برد وريح فقال: ألا صلوا في الرحال. ثم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر المؤذن إذا كانت ليلة باردة ذات مطر يقول: ألا صلوا في الرحال. 1373 - عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه نادى بالصلاة في ليلة ذات برد وريح ومطر. فقال في آخر ندائه: ألا صلوا في رحالكم. ألا صلوا في الرحال. ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة باردة أو ذات مطر في السفر أن يقول: ألا صلوا في رحالكم. 1374 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه نادى بالصلاة بضجنان. ثم ذكر بمثله وقال: ألا صلوا في رحالكم. ولم يعد ثانية: ألا صلوا في الرحال من قول ابن عمر. 1375 - عن جابر قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فمطرنا فقال: "ليصل من شاء منكم في رحله". 1376 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال لمؤذنه في يوم مطير: إذا قلت أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدًا رسول الله فلا تقل: حي على الصلاة. قل: صلوا في بيوتكم. قال فكأن الناس استنكروا ذاك. فقال: أتعجبون من ذا؟ قد فعل ذا من هو خير مني. إن الجمعة عزمة. وإني كرهت أن أخرجكم فتمشوا في الطين والدحض. 1377 - عن عبد الله بن الحارث قال: خطبنا عبد الله بن عباس في يوم ذي ردغ.

وساق الحديث بمعنى حديث ابن علية. ولم يذكر الجمعة. وقال: قد فعله من هو خير مني؟ يعني النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أبو كامل: حدثنا حماد عن عاصم عن عبد الله بن الحارث بنحوه. 1378 - عن عبد الله بن الحارث قال: أذن مؤذن ابن عباس يوم جمعة في يوم مطير. فذكر نحو حديث ابن علية. وقال: وكرهت أن تمشوا في الدحض والزلل. 1379 - عن عبد الله بن الحارث أن ابن عباس أمر مؤذنه في حديث معمر في يوم جمعة في يوم مطير بنحو حديثهم. وذكر في حديث معمر: فعله من هو خير مني. يعني النبي صلى الله عليه وسلم. 1380 - عن عبد الله بن الحارث (قال وهيب. لم يسمعه منه) قال: أمر ابن عباس مؤذنه في يوم جمعة في يوم مطير بنحو حديثهم. -[المعنى العام]- {يريد اللَّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185] صدق اللَّه العظيم. شرع لنا من الدين ما نطيق ودعانا لما فيه خيرنا في الدنيا والآخرة، شرع الجمعة والجماعات رمزًا للتضامن واجتماع الأمة، وحرص أفرادها بعضهم على بعض. ورمزًا للنظام والالتزام وطاعة القيادة، لكن حينما تكون هذه الفائدة على حساب المشقة والإضرار يترخص بترك هذه الفائدة مؤقتًا، عملاً بقاعدة: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. لقد رخص الإسلام للمسلم في المطر وفي الليلة الشديدة البرد أن يصلي في بيته ولا شيء عليه إن هو ترك الجماعة في المسجد، كما رخص في ترك الجمعة وصلاتها ظهرًا في اليوم المطير الشديد المطر، ولإعلان هذا الحكم للمسلمين أمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مؤذنه أن ينادي في الناس في يوم شديد المطر ويقول من شاء منكم أن يصلي في رحله فليصل. ألا صلوا أيها الناس في رحالكم، ورسخ هذا الحكم عند فقهاء الصحابة، وعملوا به فكان ابن عمر يأمر مؤذنه أن يقول ذلك في الأذان في اليوم المطير، وكان ابن عباس يفعل ذلك، ولما رأى حديثو السن من المسلمين ما لم يعهدوه استنكروا هذه الكلمة في الأذان، فقال لهم ابن عباس: لم تستنكرون؟ لقد فعل هذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، واللَّه يقول: {لقد كان لكم في رسول اللَّه أسوة حسنة} [الأحزاب: 21] صلى اللَّه عليه وسلم ورضي اللَّه عن أصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

-[المباحث العربية]- (ألا صلوا في الرحال) "ألا" حرف استفتاح للتنبيه والتأكيد والاهتمام بالأمر، والرحال جمع رحل وهي المنازل، سواء كانت من حجر أو مدر أو خشب أو شعر أو صوف أو وبر أو غيرها، فالمراد المساكن ويوضحها الرواية الخامسة "صلوا في بيوتكم". (إذا كانت ليلة باردة ذات مطر) "كانت" تامة، و"ليلة" بالرفع فاعل أي إذا وجدت ليلة باردة. (بضجنان) "ضجنان" بفتح الضاد وسكون الجيم بعدها نون مفتوحة على وزن فعلان، اسم جبل بناحية مكة، بين مكة والمدينة، بينه وبين مكة خمسة وعشرون ميلاً. (في يوم مطير) فعيل بمعنى فاعل، وإسناد المطر إلى اليوم مجاز. (فكأن الناس استنكروا ذلك) في رواية البخاري "فنظر القوم بعضهم إلى بعض" أي نظر استنكار، واستنكر القوم تغيير وضع الأذان وتبديل حي على الصلاة بهذه الجملة. (أتعجبون من ذا)؟ الاستفهام إنكاري توبيخي، أي لا ينبغي أن تعجبوا من هذا. (قد فعل ذا من هو خير مني) في الرواية السادسة "يعني النبي صلى الله عليه وسلم" وفي رواية البخاري "فعل هذا من هو خير منه" أي من هو خير من هذا المؤذن وهو مؤذن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. (إن الجمعة عزمة) قال النووي: بإسكان الزاي، أي واجبة متحتمة فلو قال المؤذن: حي على الصلاة لكلفتم المجيء ولحقتكم المشقة. اهـ. واستشكله الإسماعيلي، فقال: لا إخاله صحيحًا، فإن أكثر الروايات بلفظ "إنها عزمة" أي كلمة المؤذن "وهي حي على الصلاة، لأنها دعاء إلى الصلاة تقتضي لسامعه الإجابة، ولو كان معنى "الجمعة عزمة" لكانت العزيمة لا تزول بترك بقية الأذان. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر أنه لم يترك بقية الأذان، وإنما أبدل قوله: "حي على الصلاة" بقوله: "صلوا في رحالكم". اهـ. (وإني كرهت أن أحرجكم) قال النووي: هو بالحاء من الحرج، وهو المشقة، هكذا ضبطناه وكذا نقله القاضي عياض عن رواياتهم. اهـ والمعنى إني كرهت أن أشق عليكم بإلزامكم السعي إلى الجمعة في الطين والمطر، ويروي "أن أخرجكم" بالخاء بدل الحاء. قال العيني: وفي رواية "كرهت أن أؤثمكم" أي أن أكون سببًا لاكتسابكم الإثم عند ضيق صدوركم. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: وهذه الرواية ترجح رواية من روى "أحرجكم" بالحاء المهملة. اهـ. (فتمشوا في الطين والدحض) بإسكان الحاء، ويجوز فتحها، بعدها ضاد وهو الزلق، وفي

الرواية السابعة "الدحض والزلل" وفي الرواية السادسة "في يوم ذي ردغ" بفتح الراء وسكون الدال بعدها غين، قال النووي: والدحض والزلل والزلق والردغ كله بمعنى واحد. ورواه بعض رواة مسلم "رزغ" بالراء والزاي والغين بفتح الزاي وإسكانها، وهو الصحيح، وهو بمعنى الردغ بالدال، وقيل: هو المطر الذي يبل وجه الأرض. اهـ. -[فقه الحديث]- الرواية الأولى والثانية وفيهما: "أذن بالصلاة في ليلة ذات برد وريح" تفيدان أن الكلام في صلاة الجماعة. والرواية الخامسة والسابعة، وفيهما يوم مطير وصلاة الجمعة تفيدان أن الكلام في صلاة الجمعة. ومذهب الشافعية أن طلب الجماعة يسقط بالعذر، سواء قلنا إنها سنة أم فرض كفاية أم فرض عين، قال النووي: لأنا لو قلنا إنها سنة فهي مؤكدة يكره تركها، فإذا تركها لعذر زالت الكراهة، وليس معناه أنه إذا ترك الجماعة لعذر تحصل له فضيلتها، بل لا تحصل له فضيلتها بلا شك، وإنما معناه سقط الإثم والكراهة. ثم قال: واتفق أصحابنا على أن المطر وحده عذر، سواء كان ليلاً أم نهارًا، وعلى كون الوحل وحده عذرًا في الليل والنهار، وشدة الحر عذر في الظهر والريح الباردة عذر في الليل دون النهار ويقول بعضهم الريح الباردة في الليلة المظلمة. قال النووي: وليس ذلك على سبيل اشتراط الظلمة. اهـ. وقد ذكر البخاري حديث ابن عباس تحت عنوان: باب الرخصة إن لم يحضر الجمعة في المطر. قال الحافظ ابن حجر: وبه قال الجمهور، ومنهم من فرق بين قليل المطر وكثيره، وعن مالك لا يرخص في تركها بالمطر، وحديث ابن عباس حجة في الجواز. وقال الزين بن المنير: الظاهر أن ابن عباس لا يرخص في ترك الجمعة فقد جمعهم لها، وأما قوله: "صلوا أيها الناس في رحالكم" فإشارة منه إلى العصر فرخص لهم في ترك الجماعة فيها. قال: ويحتمل أن يكون جمعهم للجمعة ليعلمهم بالرخصة في تركها في مثل ذلك ليعملوا به في المستقبل. اهـ قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر أنه لم يجمعهم، وإنما أراد بقوله: "صلوا في بيوتكم" مخاطبة من لم يحضر وتعليم من حضر. اهـ. وروى ابن قانع: قيل لمالك أتتخلف عن الجمعة في اليوم المطير؟ قال: ما سمعت، قيل له في الحديث "ألا صلوا في الرحال" قال: ذاك في السفر، وقد رخص مالك في ترك الجمعة بأعذار أخر غير المطر: فروى عنه أنه أجاز أن يتخلف عنها لجنازة أخ من إخوانه لينظر في أمره، وروى عنه أنه أجاز أن يتخلف عنها من له مريض يخشى عليه الموت. وفي مكان هذه الكلمة [ألا صلوا في رحالكم] من الأذان خلاف بين العلماء، نشأ من ظاهر الرواية الثانية وفيها: "فقال في آخر ندائه" مما يفيد أنها تقال بعد الانتهاء من الأذان، ومن ظاهر الرواية الخامسة وفيها: "إذ قلت: أشهد أن لا إله إلا اللَّه. وأشهد أن محمدًا رسول اللَّه، فلا تقل: حي على الصلاة، قل: صلوا في بيوتكم".

وقد اعتمد الرواية الخامسة كثير من العلماء، وكأنهم نظروا إلى المعنى لأن "حي الصلاة" يناقض "صلوا في بيوتكم" لأن معنى "حي على الصلاة" هلموا إليها ومعنى الصلاة في البيوت التأخر عن المجيء، ولا يناسب إيراد اللفظين معًا لأن أحدهما نقيض الآخر. قال الحافظ ابن حجر: ويمكن الجمع بين الجملتين ولا يلزم منه التناقض، بأن يكون معنى الصلاة في الرحال رخصة لمن يريد أن يترخص، ومعنى "هلموا إلى الصلاة" ندب لمن أراد أن يستكمل الفضيلة ولو تحمل المشقة، ويؤيد ذلك حديث جابر عند مسلم [روايتنا الرابعة] "ليصل من شاء منكم في رحله"، واختار بعضهم العمل بالرواية الثانية، وأن جملة "صلوا في بيوتكم" تقال بعد الانتهاء من الأذان، وقال القرطبي: يحتمل أن يكون المراد في آخره قبيل الفراغ منه جمعًا بين الحديثين. اهـ. ويؤيده ما أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن نعيم بن النحام قال: أذن مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم للصبح في ليلة باردة، فتمنيت لو قال: ومن قعد فلا حرج. فلما جاء: "الصلاة خير من النوم" قالها. فتحصل من الخلاف ثلاثة أقوال: أن تقال بدل الحيعلة، وأن تقال بعد الفراغ من الأذان، وأن تقال في أواخر الأذان وقبل الانتهاء منه. قال النووي: والأمران [أي بدل الحيعلة أو بعد الانتهاء] جائزان كما نص عليه الشافعي، لكن بعده أحسن، ليتم نظم الأذان. اهـ واللَّه أعلم. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - يسر التشريع، وأن اللَّه يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر. 2 - وتخفيف أمر الجماعة في المطر ونحوه من الأعذار، وأنها متأكدة إذا لم يكن عذر. 3 - وأنها مشروعة لمن تكلف الإتيان إليها وتحمل المشقة. 4 - وأنها مشروعة في السفر. 5 - وأن الأذان مشروع في السفر. 6 - وفيه دليل على سقوط الجمعة بعذر المطر ونحوه. 7 - استدل به بعضهم على الترخيص بالكلام في الأذان، ومنهم أحمد بن حنبل وابن المنذر وعن الثوري المنع، وعن الأوزاعي الكراهة، وعن أبي حنيفة وصاحبيه خلاف الأولى، وعليه يدل كلام الشافعي ومالك. والذي نميل إليه الكراهة إلا إذا كان في مصلحة الصلاة فلا يكره. واللَّه أعلم

(244) باب جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت به

(244) باب جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت به 1381 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي سبحته حيثما توجهت به ناقته. 1382 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على راحلته حيث توجهت به. 1383 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه. قال: وفيه نزلت: {فأينما تولوا فثم وجه الله} [البقرة: 115]. 1384 - عن عبد الملك بهذا الإسناد نحوه وفي حديث ابن مبارك وابن أبي زائدة ثم تلا ابن عمر: فأينما تولوا فثم وجه الله. وقال: في هذا نزلت. 1385 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على حمار وهو موجه إلى خيبر. 1386 - عن سعيد بن يسار أنه قال: كنت أسير مع ابن عمر بطريق مكة. قال سعيد: فلما خشيت الصبح نزلت فأوترت. ثم أدركته. فقال لي ابن عمر: أين كنت؟ فقلت له: خشيت الفجر فنزلت فأوترت. فقال عبد الله: أليس لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة؟ فقلت: بلى. والله قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر على البعير. 1387 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته حيثما توجهت به. قال عبد الله بن دينار: كان ابن عمر يفعل ذلك.

1388 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر على راحلته. 1389 - عن سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح على الراحلة قبل أي وجه توجه. ويوتر عليها. غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة. 1390 - عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أخبره أن أباه أخبره أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي السبحة بالليل في السفر على ظهر راحلته حيث توجهت. 1391 - عن أنس بن سيرين قال: تلقينا أنس بن مالك حين قدم الشام. فتلقيناه بعين التمر. فرأيته يصلي على حمار ووجهه ذلك الجانب. (وأومأ همام عن يسار القبلة) فقلت له: رأيتك تصلي لغير القبلة قال: لولا أني رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يفعله لم أفعله. -[المعنى العام]- من فضل اللَّه وكرمه على الأمة الإسلامية أن يسر لها سبل الطاعة، وفتح أبواب العبادة في شتى الظروف والأحوال، شرع ذكره تعالى باللسان والقلب قيامًا وقعودًا وعلى الجنوب، ويسر التقرب إليه بالصلاة النافلة في الحضر والسفر على الأرض أو على الدابة. أعلن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لصحابته هذا التشريع بالفعل بدل القول، فكان إذا سافر بهم صلى نافلته وهو على راحلته، لا يتحرى بوجهه القبلة بل وجهه جهة سيره، وجهة طريقه وجهة مقصده، ولا يقف في مواطن الوقوف للصلاة ولا يجلس في مواطن جلوسها ولا يسجد سجودها، بل على طبيعة الراكب في جلوسه على دابته، فإذا أراد صلاة الفريضة المكتوبة نزل عن دابته فصلاها على الأرض، وتبعه الصحابة رضوان اللَّه عليهم أجمعين، فنشروا الشريعة وأدوا الأمانة، وبلغوا ما علموا، ونصحوا الأمة، فجزاهم اللَّه عن الإسلام خير الجزاء. -[المباحث العربية]- (كان يصلي سبحته) أي نافلته، والتسبيح في الأصل التنزيه عن النقائص. وفي العرف قول

سبحان اللَّه، وإطلاقه على الصلاة من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل مجاز مرسل، قال الحافظ ابن حجر: أما اختصاص السبحة بالنافلة فهو عرف شرعي. اهـ. (كان يصلي على راحلته) الراحلة الناقة التي تصلح لأن ترحل، ويقال: الراحلة المركب من الإبل، ذكرًا كان أو أنثى. قاله الجوهري وقال ابن الأثير: الراحلة من الإبل البعير القوي على الأسفار والأحمال، والذكر والأنثى فيه سواء، والهاء فيه للمبالغة. (حيث توجهت به) يعني إلى جهة القبلة أو غيرها. (يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه) المقبل من مكة إلى المدينة لا يكون وجهه مستقبل القبلة. (فأينما تولوا فثم وجه اللَّه) أي الجهة التي تولون وجوهكم نحوها فهناك وفيها وجه اللَّه. وحملت هذه الآية على النافلة في السفر، كما حمل قوله تعالى: {وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [البقرة: 144] على الفرائض وعلى النوافل في غير السفر. (رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي على حمار وهو موجه إلى خيبر) "وهو موجه" بكسر الجيم المشددة، أي متوجه، أو موجه وجهه، قال النووي: قال الدارقطني وغيره: هذا غلط من عمرو بن يحيى المازني [أصل السند: عن عمرو بن يحيى المازني عن سعيد بن يسار عن ابن عمر إلخ] قالوا: وإنما المعروف في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته أو على البعير، والصواب أن الصلاة على الحمار من فعل أنس، كما ذكره مسلم بعد هذا روايتنا العاشرة، قال النووي: وفي الحكم بتغليط الرواية نظر، فلعله صلى على الحمار مرة وعلى البعير مرات لكن قد يقال إن الرواية شاذة، فيها مخالفة لرواية الجمهور في البعير والراحلة. (فلما خشيت الصبح نزلت فأوترت) أي فلما خشيت طلوع الصبح ومجيء وقت الفجر. (أسوة) بكسر الهمزة وضمها، أي قدوة، وفي رواية البخاري "أسوة حسنة". (قبل أي وجه توجه) "قبل" بكسر القاف وفتح الباء. أي جهة أي جهة توجه هو نحوها. (تلقينا أنس بن مالك حين قدم الشام) قال النووي: هكذا هو في جميع نسخ مسلم، وكذا نقله القاضي عياض عن جميع الروايات لصحيح مسلم قال: وقيل: إنه وهم، وصوابه، قدم من الشام" كما جاء في صحيح البخاري لأنهم خرجوا من البصرة للقائه حين قدم من الشام، قال النووي: قلت: ورواية مسلم صحيحة، ومعناها: تلقيناه في رجوعه حين قدم الشام، وإنما حذف ذكر رجوعه للعلم به. اهـ. وتصحيح النووي لرواية مسلم ظاهره التكلف. واللَّه أعلم. وكان أنس قد سافر إلى الشام يشكو من الحجاج الثقفي إلى عبد الملك بن مروان.

(فتلقيناه بعين التمر) في رواية البخاري "فلقيناه بعين التمر" وهو موضع بطريق العراق مما يلي الشام، وكانت به وقعة شهيرة في آخر خلافة أبي بكر بين خالد بن الوليد والأعاجم، وانتصر خالد ولما دخل حصن الأعاجم وجد به أربعين غلامًا يتعلمون الإنجيل وعليهم باب مغلق، فكسره خالد وفرق الغلمان في الأمراء، فكان فيهم حمران مولى عثمان بن عفان، ومنهم سيرين والد محمد بن سيرين، أخذه أنس بن مالك، وجماعة آخرون من الموالي أراد اللَّه بهم وبأولادهم خيرًا. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من هذه الأحاديث الأحكام الآتية]- 1 - قال النووي: في هذه الأحاديث جواز التنفل على الراحلة في السفر حيث توجهت، وهذا جائز بإجماع المسلمين، وشرطه أن لا يكون سفر معصية ولا يجوز الترخص بشيء من رخص السفر لعاص بسفره، كمن سافر لقطع طريق أو لقتال بغير حق، أو عاقًا لوالديه، أو ناشزة على زوجها، ويجوز التنفل على الراحلة في قصير السفر وطويله عند الشافعية وعند الجمهور. ولا يجوز في داخل البلد وحولها من غير سفر، وعن أبي سعيد الاصطخري من الشافعية أنه يجوز التنفل في البلدة وحولها من غير سفر على الدابة، وهو قول أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، وعن مالك أنه لا يجوز إلا في سفر تقصر فيه الصلاة، وهو قول غريب. اهـ. قال الطبري: لا أعلم أحدًا وافقه على ذلك. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: وحجته أن هذه الأحاديث إنما وردت في أسفاره صلى اللَّه عليه وسلم، ولم ينقل عنه أنه سافر سفرًا قصيرًا فصنع ذلك، وحجة الجمهور مطلق الأخبار في ذلك. ثم قال النووي: وأما تنفل راكب السفينة فمذهبنا أنه لا يجوز إلا إلى القبلة لتمكنه من الاستقبال، إلا ملاح السفينة فيجوز له إلى غيرها لحاجة كما في حال تسييرها، وعن مالك رواية أنه يجوز لراكب السفينة ما يجوز لراكب الدابة. 2 - والأحاديث تدل على جواز ترك استقبال القبلة في النافلة على الراحلة لقوله "حيث توجهت به، ونحوها مما ورد في الروايات. قال العلماء: واعتبرت جهة الطريق المقصود بدلاً عن القبلة، بحيث لا يجوز الانحراف عنها عامدًا قاصدًا لغير حاجة المسير، إلا إن كان سائرًا في غير جهة القبلة فانحرف إلى جهة القبلة فإن ذلك لا يضره، ولو كانت الدابة متوجهة إلى مقصده وركبها هو معترضًا أو مقلوبًا فإنه لا يصح إلا أن يكون ما استقبله هو جهة القبلة على الصحيح. وهل يشترط أن يفتتح الصلاة باستقبال القبلة؟ الظاهر أنه لا يشترط لظاهر عموم الأحاديث وإطلاقها، لكن المستحب أن يستقبل القبلة بالتكبير حال ابتداء الصلاة، لما رواه أنس عند أبي داود وأحمد والدارقطني "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يتطوع في السفر استقبل بنا القبلة، ثم صلى حيث وجهت ركابه".

ولم توضح أحاديث الباب كيفية الصلاة على الراحلة، لكن جاء في رواية البخاري عن عامر بن ربيعة قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على الراحلة يسبح، يومئ برأسه قبل أي وجه توجه" قال ابن دقيق العيد: الحديث يدل على الإيماء في الركوع والسجود معًا، والفقهاء قالوا: يكون الإيماء في السجود أخفض من الركوع، ليكون البدل على وفق الأصل، قال: وليس في لفظ الحديث ما يثبته ولا ينفيه. اهـ. وذهب الجمهور إلى السجود على الدابة لمن قدر عليه وتمكن منه دون مشقة، وعن مالك أن الذي يصلي على الدابة لا يسجد وإن تمكن من السجود، بل يومئ. واللَّه أعلم. 3 - ويؤخذ من الرواية العاشرة. ومن صلاة أنس نافلته على حمار حيث توجه به أنه لا فرق بين الحمار والبغل والناقة في جواز صلاة النافلة عليها في السفر، لأن الراوي لم ينكر على أنس الصلاة على الحمار، وإنما أنكر عدم استقبال القبلة فقط، وقول أنس: "لولا أني رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يفعله لم أفعله" يعني ترك استقبال القبلة للتنفل على الدابة، وقد فهم بعضهم من عبارة أنس أنه رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يتنفل على حمار، وهو محتمل، لكن نازع فيه بعضهم، وقال: إن خبر أنس هنا إنما هو في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم راكبًا تطوعًا لغير القبلة، وهذه المنازعة لا تؤثر في الحكم، فإن روايتنا الرابعة عن ابن عمر قال "رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي على حمار وهو موجه إلى خيبر" تفيد أنه لا فرق بين الحمار في هذه المسألة وبين الناقة. 4 - وقد أخذ بعضهم من هذ االحديث أن عرق الحمار طاهر، وكان الأصل أن يكون عرقه كلحمه، لأنه متولد منه، قال العيني: ولكن خص بطهارته لركوب النبي صلى الله عليه وسلم إياه معروريًا والحر حر الحجاز، فحكم بطهارته، اهـ. وقال ابن دقيق العيد في تعليل طهارة عرق الحمار، قال: لأن ملابسته مع التحرز منه متعذر، لا سيما إذا طال الزمان في ركوبه، واحتمل العرق. اهـ. 5 - وقد أخذ من هذه الأحاديث أن من صلى على موضع فيه نجاسة لا يباشرها بشيء منه أن صلاته صحيحة، لأن الدابة لا تخلو من نجاسة ولو على منفذها. 6 - ويؤخذ من ظاهر هذه الأحاديث أن جواز ترك استقبال القبلة في التنفل خاص بالراكب دون الماشي، وبهذا قال أبو حنيفة ومالك، لأن ذلك رخصة، والرخص لا يقاس عليها، وأجاز تنفل الماشي الشافعية والحنابلة قياسًا على الراكب، ولأن السر في هذه الرخصة تيسير تحصيل النوافل على العباد وتكثيرها، تعظيمًا لأجورهم، رحمة من اللَّه بهم، إلا أن بعض المجيزين اشترط استقبال القبلة في تحرمه وعند الركوع والسجود، واشترط السجود، على الأرض، وله التشهد ماشيًا كما أن له القيام ماشيًا، واشترط بعضهم التشهد قاعدًا ولا يمشي إلا حالة القيام، وأجاز بعضهم عدم اللبث على الأرض في شيء من صلاته، ويومئ بالركوع والسجود، كمن هو على الدابة. واللَّه أعلم. 7 - وأحاديث الباب صريحة في النافلة، وهي تخصص قوله تعالى {وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [البقرة: 144] وتبين أن قوله تعالى: {فأينما تولوا فثم وجه الله} [البقرة: 115] في النافلة.

أما المكتوبة فلا تجوز إلى غير القبلة. ولا تجوز على الدابة، والرواية الثامنة صريحة في ذلك، قال النووي: وهذا مجمع عليه إلا في شدة الخوف، فلو أمكنه استقبال القبلة والقيام والركوع والسجود والدابة واقفة، عليها هودج أو نحوه جازت الفريضة على الصحيح في مذهبنا، فإن كانت سائرة لم تصح على الصحيح المنصوص للشافعي، وقيل: تصح: كالسفينة، فإنها تصح فيها الفريضة بالإجماع ولو كان في ركب وخاف لو نزل للفريضة انقطع عنهم ولحقه الضرر صلى الفريضة على الدابة بحسب الإمكان، ويلزمه إعادتها، لأنه عذر نادر. اهـ. 8 - ويوخذ من الرواية الخامسة والسابعة والثامنة جواز صلاة الوتر على الراحلة حيث توجهت به، وبهذا قال مالك والشافعي وأحمد، وقال الحنفية: لا يجوز الوتر على الراحلة، ولا يجوز إلا على الأرض كما في الفرائض واحتجوا بما رواه الطحاوي عن نافع عن ابن عمر أنه كان يصلي على راحلته ويوتر بالأرض، ويزعم أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كذلك كان يفعل، ويقولون عن روايات الباب الثلاث المشار إليها، يجوز أن يكون ذلك قبل أن يحكم أمر الوتر ويغلظ شأنه لأنه كان أولاً كسائر التطوعات، ثم أكد بعد ذلك فنسخ، واعترض عليهم بأن مذهبهم أن الوتر واجب على النبي صلى الله عليه وسلم وقد ثبت أنه صلاه على الراحلة ومهما أحكم أمر الوتر وغلظ شأنه للأمة فلن يبلغ درجة وجوبه على النبي صلى الله عليه وسلم فحيثما جازت صلاته للنبي صلى الله عليه وسلم على الراحلة جازت صلاته للأمة كذلك. 9 - كما استدل بالروايات الثلاث السابقة على أن الوتر سنة ونافلة خلافًا للحنفية القائلين بوجوبه. 10 - ويؤخذ من الأحاديث أن الرجوع إلى أفعاله صلى اللَّه عليه وسلم كالرجوع إلى أقواله، من غير أن يعترض عليه. 11 - ومن الرواية العاشرة مشروعية استقبال المسافر وتلقيه عند القدوم. 12 - وسؤال التلميذ شيخه عن مستند فعله، والجواب بالدليل. واللَّه أعلم

(245) باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر

(245) باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر 1392 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عجل به السير جمع بين المغرب والعشاء. 1393 - عن نافع أن ابن عمر كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء بعد أن يغيب الشفق. ويقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء. 1394 - عن سالم عن أبيه رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين المغرب والعشاء إذا جد به السير. 1395 - عن سالم بن عبد الله أن أباه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أعجله السير في السفر يؤخر صلاة المغرب حتى يجمع بينها وبين صلاة العشاء. 1396 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما. فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب. 1397 - عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين في السفر أخر الظهر حتى يدخل أول وقت العصر. ثم يجمع بينهما. 1398 - عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا عجل عليه السفر يؤخر الظهر إلى أول وقت العصر، فيجمع بينهما. ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق.

1399 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعًا. والمغرب والعشاء جميعًا. في غير خوف ولا سفر. 1400 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعًا بالمدينة في غير خوف ولا سفر قال أبو الزبير: فسألت سعيدًا لم فعل ذلك؟ فقال: سألت ابن عباس كما سألتني فقال أراد أن لا يحرج أحدًا من أمته. 1401 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاة في سفرة سافرها. في غزوة تبوك. فجمع بين الظهر والعصر. والمغرب والعشاء. قال سعيد: فقلت لابن عباس: ما حمله على ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته. 1402 - عن معاذ رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك. فكان يصلي الظهر والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا. 1403 - عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء. قال فقلت: ما حمله على ذلك؟ قال فقال: أراد أن لا يحرج أمته. 1404 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة. في غير خوف ولا مطر (في حديث وكيع) قال قلت لابن عباس: لم فعل ذلك؟ قال: كي لا يحرج أمته. وفي حديث أبي معاوية قيل لابن عباس: ما أراد إلى ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته.

1405 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ثمانيًا جميعًا، وسبعًا جميعًا، قلت: يا أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر وعجل العصر. وأخر المغرب وعجل العشاء. قال: وأنا أظن ذاك. 1406 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بالمدينة سبعًا وثمانيًا. الظهر والعصر. والمغرب والعشاء. 1407 - عن عبد الله بن شقيق قال: خطبنا ابن عباس يومًا بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم. وجعل الناس يقولون: الصلاة. والصلاة. قال فجاءه رجل من بني تميم لا يفتر ولا ينثني الصلاة. الصلاة. فقال ابن عباس: أتعلمني بالسنة؟ لا أم لك، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء. قال عبد الله بن شقيق فحاك في صدري من ذلك شيء. فأتيت أبا هريرة فسألته فصدق مقالته. 1408 - عن عبد الله بن شقيق العقيلي قال: قال رجل لابن عباس الصلاة. فسكت. ثم قال: الصلاة. فسكت. ثم قال: الصلاة. فسكت. ثم قال: لا أم لك أتعلمنا بالصلاة؟ وكنا نجمع بين الصلاتين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. -[المعنى العام]- الأصل في السفر أن يجمع بين مشقة الرحلة بوسائلها المختلفة، ومشقة مفارقة الأهل والأوطان، ومشقة جهل المنزل الجديد واحتمالاته، ولهذا الأصل أناطت الشريعة الإسلامية الرخص بالسفر، رخصة الإفطار في نهار رمضان ورخصة قصر الصلاة الرباعية، ورخصة الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء التي تتعرض لها هذه الأحاديث. وصدق اللَّه العظيم إذ يقول: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج} [المائدة: 6] {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185]. {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفًا} [النساء: 28].

إن الصلاة بما لها من شروط قد يضيق بها المسافر، وتؤدي إلى مضاعفة مشقة السفر. فإيقاف الرحلة، واختيار مكان النزول والوضوء وطهارة المكان، كل ذلك قد يشق على المسافر، بالإضافة إلى انشغاله بالإجهاد في السير، وحرصه على قطع الطريق وسرعة الوصول مما يؤثر في خشوعه المطلوب. لهذا شرع اللَّه في هذه الأحاديث جمع الظهر مع العصر في وقت أيهما شاء وجمع المغرب والعشاء في وقت أيهما شاء، رفعًا للحرج عن الأمة. وكان هذا التشريع عن طريق فعله صلى اللَّه عليه وسلم في سفره، فكان إذا غادر المدينة بعد الزوال صلى الظهر، وإذا غادرها قبل الزوال جمع بين الظهر والعصر واقتدى به الصحابة، وأعلنوا لأصحابهم حكم اللَّه، فجزاهم اللَّه خير الجزاء. -[المباحث العربية]- (إذا عجل عليه السفر) هكذا هو في الأصول، في الرواية السابعة "عجل عليه" قال النووي: وهو بمعنى "عجل به" في الروايات الأخر، اهـ. والمقصود من "عجل به السير" بفتح العين وكسر الجيم أي دعاه السير أو السفر إلى العجلة، والمعنى نفسه في رواية "أعجله السير"، وفي الرواية الثانية والثالثة "إذا جد به السير" أي أسرع، ونسبة الإسراع إلى السير على التوسع في الإسناد. (إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس) أي قبل أن تميل الشمس عن كبد السماء، أي قبل الزوال. (أراد أن لا يحرج أحدًا من أمته) وفي الرواية الثالثة عشرة "كي لا يحرج أمته". "أراد أن لا يحرج أمته" أي أن لا يشق عليهم بإفراد كل صلاة في وقتها الأصلي. (لم فعل ذلك)؟ "ما أراد إلى ذلك"؟ أي ماذا أراد بوصوله إلى ذلك الجمع؟ (سبعًا وثمانيًا الظهر والعصر والمغرب والعشاء) في الكلام لف ونشر مشوش، ولو رتب لقال: "ثمانيًا وسبعًا". (لا يفتر ولا ينثني) "لا يفتر" بفتح الياء وسكون الفاء وضم التاء، أي لا يهدأ، "ولا ينثني" أي لا يرجع عن ترديد قوله. (الصلاة الصلاة) وهو منصوب على الإغراء، أي الزموا الصلاة. (لا أم لك) ولا أب لك - كلمة تذكرها العرب ولا تقصد نفي الأم أو الأب حقيقة، بل تستعملهما للحث على شيء، وحقيقتهما أن الإنسان في الشدة يحتاج أمه وأباه يساعدانه على الخروج من شدته، فإذا قيل له: لا أم لك أو لا أب لك فمعناه اعتمد على نفسك وشمر عن ساعدك واخرج من مأزقك فلا أحد يعاونك، وكثيرًا ما تستعملهما للتعجب من فعل أو قول من قيلت له أي بلغت من البراعة مبلغًا كبيرًا بحيث لا تلد امرأة مثلك، أو لا يستطيع أن ينجبك أب.

(فحاك في صدري من ذلك شيء) أي وقع في نفسي نوع من شك وتعجب واستبعاد، يقال: حاك يحيك وحك يحك واحتك. -[فقه الحديث]- يمكن حصر الكلام عن الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء في نقطتين أساسيتين: الجمع بينهما في السفر، والجمع في غير السفر. أ- الجمع بين الصلاتين في السفر: أما عن النقطة الأولى فإن مذهب الشافعية جواز الجمع بين الظهر والعصر في السفر في وقت أيهما شاء جمع تقديم في وقت الأولى، وجمع تأخير في وقت الثانية، وكذلك بين المغرب والعشاء في وقت أيهما شاء بشروط وهو مذهب مالك وأحمد وجمهور السلف والخلف من العلماء. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه لا يجوز الجمع بسبب السفر بحال من الأحوال، لا جمع تقديم ولا تأخير، وإنما يجوز بعرفة والمزدلفة، ولا يجوز الجمع في غير هذين المكانين، وعلة الجمع عندهم النسك لا السفر، واستدلوا بما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة لغير وقتها إلا بجمع [جمع بفتح الجيم وسكون الميم هي المزدلفة وسميت بذلك لاجتماع الناس بها وازدلافهم أي تقربهم إلى الله بالوقوف فيها] فإنه جمع بين المغرب والعشاء بجمع". هذا وجمع الظهر والعصر بعرفة في وقت الظهر، وجمع المغرب والعشاء بمزدلفة في وقت العشاء محل إجماع بين من يعتد بإجماعهم من المسلمين سواء كانت العلة السفر أو النسك. وقد أجاب الجمهور عن دليل الحنفية هذا بأن كل ما يدل عليه نفي رؤية ابن مسعود، ونفي الرؤية لا ينفي الوقوع، وفي الأحاديث الصحيحة إثبات ومن القواعد أن المثبت مقدم على النافي، لأن معه زيادة علم. واستدل الحنفية بأنه لو جاز الجمع لمشقة السفر لجاز الجمع للمريض من باب أولى؛ لأن مشقة المرض أشد مع أن الجمهور لا يجيز الجمع للمرض، ويجيب الجمهور عن هذا الاستدلال بأن المريض قد رخص له في الصلاة قاعدًا ومضطجعًا، وهذه الرخصة هي اللائقة بحاله، والإتيان بصلاتين متعاقبتين قد يشق على المريض موالاتهما ولعل تفريقهما بالنسبة للمريض أهون. ولما كانت أحاديث الباب سندًا قويًا للجمهور حاول الحنفية التخلص منها بدعوى أنه صلى الله عليه وسلم كان يؤخر الظهر إلى نهاية وقته بحيث يدخل وقت العصر في نهاية الصلاة ويقدم العصر إلى أول وقته، فتقع كل من الصلاتين في وقتها، ويصبح الجمع جمعًا في الصورة فقط. ويسترشدون في دعواهم هذه بروايتنا السادسة، وفيها "أخر الظهر حتى يدخل أول وقت العصر" وروايتنا السابعة وفيها "يؤخر الظهر إلى أول وقت العصر".

وروايتنا الرابعة عشرة، وفيها "أظنه أخر الظهر وعجل العصر" مما يوحي بأن الجمع صوري. ويجيب الجمهور عن هذه الشبهة ببقية الروايات، ففي الخامسة "أخر الظهر إلى وقت العصر" وفيها لفظ الجمع بين الصلاتين، ولا يطلق هذا اللفظ إلا على وقوعهما في وقت واحد. قال ابن قدامة: إن حمل الجمع بين الصلاتين على الجمع الصوري فاسد لوجهين: أحدهما أنه جاء الخبر صريحًا في أنه كان يجمعهما في وقت إحداهما والثاني أن الجمع رخصة، فلو كان ما ذكروه لكان أشد ضيقًا وأعظم حرجًا من الإتيان بكل صلاة في وقتها. قال: ولو كان الجمع هكذا لجاز الجمع بين العصر والمغرب والعشاء والصبح قال: ولا خلاف بين الأمة في تحريم ذلك. قال: والعمل بالخبر على الوجه السابق منه إلى الفهم أولى من هذا التكلف الذي يصان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم من حمله عليه. اهـ. وقال الخطابي: إن الجمع رخصة، فلو كان على ما ذكره الحنفية لكان أعظم ضيقًا من الإتيان بكل صلاة في وقتها، لأن أوائل الأوقات وأواخرها مما لا يدركه أكثر الخاصة فضلاً عن العامة. اهـ. ب- النقطة الثانية: الجمع في غير السفر: والرواية الثامنة والتاسعة فيها "في غير خوف ولا سفر" والرواية الثالثة عشرة فيها "في غير خوف ولا مطر". فالجمع في المطر قال به الشافعية بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء وقال أبو حنيفة وآخرون: لا يجوز الجمع بسبب المطر مطلقًا، وجوز الجمع بسبب المطر مالك وأحمد بين المغرب والعشاء دون الظهر والعصر، وقد سبق شرح هذه المسألة قبل باب واحد. والمشهور عند الشافعية أنه لا يجوز الجمع بسبب المرض أو الريح أو الظلمة أو الخوف أو الوحل، وقال مالك وأحمد: يجوز الجمع بعذر المرض والوحل، وبه قال بعض الشافعية، وعلى هذا العذر حمل الحديث في الروايات الثامنة والتاسعة والثالثة عشرة، قالوا: ولأن حاجة المريض والخائف أشد من عذر المطر. أما الجمع في الحضر بلا خوف ولا سفر ولا مطر ولا مرض فالمعتمد عند الشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة عدم جوازه، وحكى ابن المنذر عن طائفة جوازه بلا سبب. قال النووي في شرح مسلم: وذهب جماعة من الأئمة إلى جواز الجمع في الحضر للحاجة لمن لا يتخذه عادة، وهو قول ابن سيرين وأشهب من أصحاب مالك؛ وحكاه الخطابي عن القفال والشاش الكبير من أصحاب الشافعي وعن أبي إسحق المروزي عن جماعة من أصحاب الحديث، واختاره ابن المنذر، ويؤيده ظاهر قول ابن عباس: "أراد أن لا يحرج أمته" فلم يعلله بمرض ولا غيره. والله أعلم. اهـ.

-[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - أخذ مالك - في المشهور عنه - من الروايات الأربع الأوليات اختصاص الجمع بعذر السفر، واختصاصه بما إذا وجد به السير. 2 - اختار ابن حزم أنه يجوز في السفر جمع التأخير، ولا يجوز جمع التقديم وظاهر الرواية الثانية يؤيده، إذ فيها "جمع بين المغرب والعشاء بعد أن يغيب الشفق" وكذا الرواية الرابعة وفيها "يؤخر صلاة المغرب حتى يجمع بينها وبين صلاة العشاء" وكذا الرواية الخامسة، وفيها "إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر" وبالمعنى نفسه جاءت الرواية السادسة والسابعة. 3 - استدل بعدم ذكر الأذان والإقامة في أحاديث الجمع أنه لا يؤذن ولا يقام عند الجمع، وذهب جماعة إلى استحباب الإقامة دون الأذان، لحديث ابن عمر في قصة جمعه بين المغرب والعشاء الذي رواه الدارقطني "فنزل فأقام الصلاة، وكان لا ينادي بشيء من الصلاة في السفر" وذهب جماعة إلى استحباب الأذان والإقامة، قال ابن بطال والكرماني: لعل الراوي لما أطلق لفظ الصلاة استفيد منه أن المراد بها التامة بأركانها وشروطها وسننها ومن جملتها الأذان والإقامة. 4 - يستفاد من الرواية السادسة عشرة حرص المسلمين الأوائل على مواقيت الصلاة، وإنكارهم على الأئمة والعلماء تأخيرها. 5 - ويستفاد من موقف ابن عباس في الروايتين المشار إليهما صبر العالم وحلمه على من ينكر عليه فعله. 6 - وأن العالم إذا كان واثقًا من حكم شرعي أعلنه بالقول والفعل وإن كان غريبًا على العامة. (ملحوظة) ذكر النووي في المجموع شرح المهذب في المواقيت قال: وأما آخر وقت الظهر فهو إذا صار ظل الشيء مثله غير الظل الذي يكون له عند الزوال، وإذا خرج هذا دخل وقت العصر متصلاً به، ولا اشتراك بينهما، هذا مذهبنا، وبه قال الأوزاعي والثوري والليث وأبو يوسف ومحمد وأحمد، وقال عطاء وطاووس، إذا صار ظل الشيء مثله دخل وقت العصر، وما بعده وقت للظهر والعصر على سبيل الاشتراك حتى تغرب الشمس، وقيل: إن الاشتراك بين الظهر والعصر قدر أربع ركعات، وعن مالك رواية أن وقت الظهر يمتد إلى غروب الشمس، وقال أبو حنيفة: يبقى وقت الظهر حتى يصير الظل مثلين واحتج من قال بالاشتراك بحديث ابن عباس قال: "جمع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة من غير خوف ولا سفر" وفي رواية لمسلم "من غير خوف ولا مطر" فدل على اشتراكهما. اهـ. ولا يخفى أن الكلام في اشتراك الصلاتين في وقت غير الكلام في الجمع بينهما. واللَّه أعلم

(246) باب جواز الانصراف من الصلاة عن اليمين والشمال واستحباب وقوف المأموم يمين الإمام

(246) باب جواز الانصراف من الصلاة عن اليمين والشمال واستحباب وقوف المأموم يمين الإمام 1409 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: لا يجعلن أحدكم للشيطان من نفسه جزءًا لا يرى إلا أن حقًا عليه أن لا ينصرف إلا عن يمينه. أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن شماله. 1410 - عن السدي قال: سألت أنسًا: كيف أنصرف إذا صليت؟ عن يميني أو عن يساري؟ قال: أما أنا فأكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه. 1411 - عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينصرف عن يمينه. 1412 - عن البراء رضي الله عنه قال: كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحببنا أن نكون عن يمينه يقبل علينا بوجهه قال فسمعته يقول "رب قني عذابك يوم تبعث (أو تجمع) عبادك". 1413 - - عن مسعر بهذا الإسناد ولم يذكر: يقبل علينا بوجهه. -[المعنى العام]- كان صلى اللَّه عليه وسلم يحب التيامن في كل شيء: في تنعله وترجله واغتساله ودخوله وخروجه وفي شأنه كله، وعلى هذه القاعدة أحب صلى اللَّه عليه وسلم الانصراف من الصلاة بعد السلامين والتوجه إلى المصلين بالاستدارة إلى جهة اليمين، لكنه فعل - لبيان جواز - الانصراف إلى جهة الشمال قليلاً، حتى ظن بعض من لم ير الانصراف إلى الشمال أن الانصراف إلى جهة اليمين واجب وهكذا يدخل الشيطان إلى قلب المؤمن، يخيل إليه لزوم ما لا يلزم، لينتقل به إلى عدم الالتزام بما يلزم، وقد فطن لهذا عبد اللَّه بن مسعود، وكان ممن رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ينصرف إلى الشمال، فقال لأصحابه وتلاميذه: احترسوا من الشيطان ولا تجعلوا لوسوسته نصيبًا في نفوسكم، ولا تعتمدوا وسوسته بأن الانصراف إلى اليمين واجب، وهكذا يجب على من رأى تمسكًا بالسنة أن يتركها ولو مرة لئلا تلتبس بالفريضة، وأن ينصح المسلمين ويبين لهم ما هو واجب وما هو مندوب. واللَّه أعلم.

-[المباحث العربية]- (عن عبد اللَّه) أي ابن مسعود. (لا يجعلن أحدكم للشيطان من نفسه جزءًا) رواية البخاري "لا يجعلن أحدكم للشيطان شيئًا من صلاته" و"لا يجعلن" بنون التوكيد الثقيلة، وفي رواية للبخاري "لا يجعل" بدون النون، والمعنى: لا يمكن أحدكم الشيطان من أن يوسوس له في الأمر الآتي. (لا يرى إلا حقًا عليه أن لا ينصرف إلا عن يمينه) فاعل "يرى" يعود على "أحدكم" والمراد من الرواية الاعتقاد، و"حقًا" اسم "أن" و"أن لا ينصرف" خبر "أن" وأن الجملة بيان للجزء المنهي عن جعله للشيطان، وبحذف النفي والاستثناء يتضح المعنى، أي يعتقد أحدكم أن واجبًا عليه الانصراف من الصلاة إلى جهة يمينه. (أكثر ما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ينصرف عن شماله) "ما" مصدرية والمعنى أكثر رؤيتي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم منصرفًا عن شماله، فجملة "ينصرف عن شماله" حال أغنت عن الخبر، كما في قولهم: أكثر أكلي السويق مطبوخًا. (كيف أنصرف إذا صليت؟ ) "كيف" في محل النصب على الحال والمعنى على أي حالة وأي جهة أنصرف من صلاتي؟ . (أحببنا أن نكون عن يمينه، يقبل علينا بوجهه) قال القاضي عياض: يحتمل أن يكون التيامن عند التسليم وهو الأظهر [يقصد أن يكونوا عن يمينه وهو في الصلاة مستقبل القبلة، فإذا سلم الأولى أقبل عليهم بوجهه قبل من هم عن شماله] لأن عادته صلى اللَّه عليه وسلم إذا انصرف أن يستقبل جميعهم بوجهه، قال: وإقباله صلى اللَّه عليه وسلم يحتمل أن يكون بعد قيامه من الصلاة، أو يكون حين يتنفل. اهـ. فليس في الحديث دلالة على أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان ينصرف بعد صلاته من جهة اليمين. -[فقه الحديث]- في رواية عبد اللَّه بن مسعود: "أكثر ما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ينصرف عن شماله" وفي رواية السدي قول أنس: "أما أنا فأكثر ما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه" وفي ظاهر هاتين الروايتين تعارض. لهذا قال النووي: وجه الجمع بينهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل تارة هذا وتارة هذا فأخبر كل واحد بما اعتقد أنه الأكثر فيما يعلمه، فدل على جوازهما، ولا كراهة في واحد منهما.

وقال الحافظ ابن حجر: ويمكن أن يجمع بينهما بوجه آخر، وهو أن يحمل حديث ابن مسعود على حالة الصلاة في المسجد، لأن حجرة النبي صلى الله عليه وسلم كانت من جهة يساره، ويحمل حديث أنس على ما سوى ذلك كحال السفر [وأقول إن هذا الجمع بعيد إذ مؤداه أنه كان يباشر حالة الصلاة في المسجد، وأن أنسًا كان يباشر أكثر حالة الصلاة في السفر ونحوه وهذا بعيد، وأعتقد أن الجمع أسهل بغير ذلك، فكل من عبد اللَّه بن مسعود وأنس لم يخبر عن واقع حال الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يكون بينهما التعارض، وإنما أخبر كل منهما بأكثر ما رأى وقد يصادف أن يكون أكثر ما رأى ابن مسعود غير أكثر ما رأى أنس خصوصًا إذا لاحظنا أن المدة التي قضاها أنس يصلي خلف الرسول أقل بكثير من المدة التي قضاها ابن مسعود يصلي خلفه صلى اللَّه عليه وسلم] ثم قال الحافظ ابن حجر: ثم إذا تعارض اعتقاد ابن مسعود وأنس رجح ابن مسعود، لأنه أعلم وأسن وأجل وأكثر ملازمة للنبي صلى الله عليه وسلم وأقرب إلى موقعه في الصلاة من أنس، وبأن في إسناد حديث أنس من تكلم فيه وهو السدي، وبأنه متفق عليه [أي حديث ابن مسعود رواه البخاري ومسلم] بخلاف حديث أنس في الأمرين، وبأن رواية ابن مسعود توافق ظاهر الحال، لأن حجرة النبي صلى الله عليه وسلم كانت على جهة يساره، ثم ظهر لي أنه يمكن الجمع بين الحديثين بوجه آخر، وهو أن من قال: كان أكثر انصرافه عن يساره نظر إلى هيئته في حال الصلاة، ومن قال: كان أكثر انصرافه عن يمينه نظر إلى هيئته في حالة استقباله القوم بعد سلامه من الصلاة. اهـ. والذي أختاره في الجمع ما ذكرته من أن أكثر ما رآه كل منهما لا يعني. أكثر فعله صلى اللَّه عليه وسلم أو أن كلاً منهما إنما أخبر حسبما يعتقد ثم إن الأمر هين ما دمنا نقول بجواز الأمرين، وفي هذا يقول النووي: مذهبنا أنه لا كراهة في واحد من الأمرين، لكن يستحب أن ينصرف في جهة حاجته، سواء كانت عن يمينه أو شماله، فإن استوت الجهتان في الحاجة وعدمها فاليمين أفضل لعموم الأحاديث المصرحة بفضل اليمين في باب المكارم ونحوهما. اهـ. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - أن من اعتقد وجوب الانصراف عن يمينه أو عن الشمال فهو مخطئ أخذًا من ذم ابن مسعود له بأن جعل الشيطان في نفسه جزءًا. 2 - قال ابن المنير: في الحديث أن المندوبات قد تنقلب مكروهات إذا رفعت عن رتبتها، لأن التيامن مستحب في كل شيء من أمور العبادة. 3 - وأن انصراف الإمام من الصلاة بالتوجه نحو المأمومين سنة، وقد روى البخاري عن سمرة بن جندب قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه". 4 - أن انتظار الإمام في مصلاه بعد الصلاة بعض الوقت مستحب إذا كان بالمسجد نساء يصلين خلف الرجال، فيسن انتظار الإمام والمصلين حتى ينصرفن. قال الشافعي: يستحب للإمام إذا سلم أن يقوم من مصلاه عقب سلامه إذا لم يكن خلفه

نساء. اهـ. وعلل ذلك أصحابه بعلتين. الأولى لئلا يشك هو أو من خلفه هل سلم أم لا. والثانية لئلا يدخل القريب فيظنه مازال في الصلاة فيقتدي به. 5 - يؤخذ من الحديث الثالث استحباب الذكر والدعاء والاستعاذة عقب الصلاة. قال النووي في المجموع شرح المهذب: والذكر والدعاء للإمام والمأموم والمنفرد مستحب عقب كل الصلوات بلا خلاف، وأما ما اعتاده الناس أو كثير منهم من تخصيص دعاء الإمام بصلاتي الصبح والعصر فلا أصل له، وإن كان قد أشار إليه صاحب الحاوي فقال: إن كانت الصلاة لا يتنفل بعدها كالصبح والعصر استدبر القبلة واستقبل الناس ودعا، وإن كانت مما يتنفل بعدها كالظهر والمغرب والعشاء فالمختار أن يتنفل في منزله. قال النووي: وهذا الذي أشار إليه من التخصيص لا أصل له، بل الصواب استحبابه في كل الصلوات ويستحب أن يقبل على الناس فيدعو. ثم قال: وأما هذه المصافحة المعتادة بعد صلاتي الصبح والعصر فقد ذكر الشيخ الإمام أبو محمد بن عبد السلام رحمه اللَّه أنها من البدع المباحة، ولا توصف بكراهة ولا استحباب، وهذا الذي قاله حسن، والمختار أن يقال: إن صافح من كان معه قبل الصلاة فمباحة كما ذكرنا، وإن صافح من لم يكن معه قبل الصلاة عند اللقاء فسنة بالإجماع للأحاديث الصحيحة في ذلك. واللَّه أعلم

(247) باب كراهة الشروع في نافلة بعد شروع المؤذن في الإقامة

(247) باب كراهة الشروع في نافلة بعد شروع المؤذن في الإقامة 1414 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة". 1425 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة". 1416 - عن عبد الله بن مالك ابن بحينة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر برجل يصلي وقد أقيمت صلاة الصبح. فكلمه بشيء لا ندري ما هو. فلما انصرفنا أحطنا نقول: ماذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: قال لي "يوشك أن يصلي أحدكم الصبح أربعًا". قال القعنبي: عبد الله بن مالك ابن بحينة عن أبيه. (قال أبو الحسين مسلم) وقوله: عن أبيه في هذا الحديث، خطأ. 1417 - عن ابن بحينة رضي الله عنه قال: أقيمت صلاة الصبح. فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يصلي والمؤذن يقيم. فقال "أتصلي الصبح أربعًا"؟ . 1418 - عن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه قال: دخل رجل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الغداة فصلى ركعتين في جانب المسجد ثم دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا فلان؟ بأي الصلاتين اعتددت؟ أبصلاتك وحدك أم بصلاتك معنا؟ ".

-[المعنى العام]- من المسلمات أن من شغله الفرض عن النفل فهو معذور، ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور، ومن المسلمات أن الاشتغال بالأفضل والأولى مقدم على الاشتغال بغير الأفضل وغير الأولى، ولا شك أن صلاة الجماعة في تأكيد طلبها مقدمة على النافلة والراتبة، فقد قيل بوجوب صلاة الجماعة، وقيل بأنها فرض كفاية، ولا كذلك الرواتب، ثم إن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة كما جاء في الصحيح، ثم إن النافلة قد تتدارك بعد الفريضة، بل تقضى بعد خروج الوقت عند بعض العلماء في حين أن فضل الجماعة لا يتدارك، وكان الصحابة يتسابقون لإدراك تكبيرة الإحرام مع الإمام بل كانوا يسرعون ويجرون للحاق بها حتى أمر بإتيان الصلاة بالسكينة والوقار. لهذا نهى صلى اللَّه عليه وسلم عن الشروع في النافلة إذا أقيمت الصلاة المفروضة. حتى سنة الصبح التي حافظ عليها صلى اللَّه عليه وسلم أكثر من غيرها أنكر صلى الله عليه وسلم أن يشتغل بها بعد إقامة الصلاة حيث قال لمن رآه يفعل ذلك: تكاد توصل الراتبة بالفريضة بعد الإقامة فتكاد تصلي الصبح أربعًا، ولا ينبغي لك أن تعود لمثلها، وقال لمن صلى ركعتين في جانب المسجد بعد الإقامة، ثم سلم فدخل مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال له: إن صلاتك وحدك بعد الإقامة توهم أنك منفرد عنا فيقال لك: بأي الصلاتين تعتد وتعتمد، أبصلاتك وحدك؟ أم بصلاتك معنا؟ أي ما كان يليق بك أن تصلي وحدك ولو نافلة بعد أن أقيمت الصلاة. -[المباحث العربية]- (إذا أقيمت الصلاة) الروايات الثانية والثالثة والرابعة في صلاة الصبح فإذا أريد التقاء الروايات كانت "أل" في الصلاة للعهد، وإلا كانت للجنس تشمل كل صلاة، وهو أولى، ومعنى "إذا أقيمت" إذا ابتدئ في الإقامة وشرع فيها، صرحت بذلك رواية ابن حبان ولفظها "إذا أخذ المؤذن في الإقامة". (فلا صلاة) الأصل في النفي نفي الحقيقة، وعليه فالمعنى فلا صلاة صحيحة، لكن لما لم يقطع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة المصلي - كما هو ظاهر الرواية الرابعة - واقتصر على الإنكار دل على أن المراد نفي الكمال، قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون النفي بمعنى النهي، أي فلا تصلوا حينئذ، ويؤيده ما رواه أحمد ولفظه "ولا تجعلوا هذه الصلاة - صلاة الصبح - مثل الظهر واجعلوا بينهما فصلاً". (إلا المكتوبة) أي المفروضة، وظاهر اللفظ يشمل الحاضرة والفائتة وسيأتي الحكم في فقه الحديث.

(عن عبد اللَّه بن مالك ابن بحينة) قال النووي: عبد اللَّه بن مالك بن القشب [بكسر القاف وبالشين المعجمة الساكنة] و"بحينة" أم عبد اللَّه والصواب في كتابته وقراءته عبد اللَّه بن مالك ابن بحينة بتنوين مالك، وكتابة "ابن" بالألف، لأنه صفة لعبد اللَّه. اهـ. وشرط حذف ألف "ابن" أن تقع بين علمين ثانيهما أب لأولهما، ومثل ابن بحينة عبد اللَّه بن أبي ابن سلول ومحمد بن علي ابن الحنفية. قال ابن سعد في الطبقات: قدم مالك بن القشب مكة في الجاهلية، فحالف بني المطلب بن عبد مناف وتزوج بحينة بنت الحارث بن المطلب، وأدركت الإسلام فأسلمت وصحبت، وأسلم أبوها عبد اللَّه قديمًا. (فكلمه بشيء) ظاهره أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كلمه وهو في الصلاة، والرواية الرابعة تفيد أنه كلمه بعد الصلاة، ويمكن الجمع بينهما بأنه صلى اللَّه عليه وسلم كلمه أولاً سرًا فلهذا احتاجوا أن يسألوه ثم كلمه جهرًا بعد الصلاة وفائدة التكرير تأكيد الإنكار. (أحطنا نقول) قال النووي: هكذا هو في الأصول "أحطنا نقول" وهو صحيح، وفيه محذوف تقديره: أحطنا به قائلين. (يوشك أن يصلي أحدكم الصبح أربعًا) وفي الرواية الثالثة "أتصلي أربعًا"؟ والاستفهام فيها إنكاري توبيخي، أي لا ينبغي أن يكون. قال النووي: إذا صلى ركعتين نافلة بعد الإقامة، ثم صلى معهم الفريضة صار في معنى من صلى الصبح أربعًا، لأنه صلى بعد الإقامة أربعًا. (فرأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رجلاً يصلي) قال الحافظ ابن حجر: الرجل هو عبد اللَّه الراوي كما رواه أحمد ولفظه "أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به وهو يصلي، وفي رواية أخرى له "خرج وابن القشب يصلي". -[فقه الحديث]- قال النووي: قال الشافعي والأصحاب: إذا أقيمت الصلاة كره لكل من أراد الفريضة افتتاح نافلة، سواء أكانت سنة راتبة لتلك الصلاة أو تحية مسجد أو غيرها لعموم هذا الحديث، وسواء فرغ المؤذن من إقامة الصلاة أم كان في أثناء الإقامة، وسواء علم أنه يفرغ من النافلة ويدرك إحرام الإمام أم لا. هذا مذهبنا، وبه قال أحمد. اهـ. وهذا عام في ركعتي الفجر وغيرهما من الرواتب. وخص بعضهم صلاة ركعتي الفجر بخصوصية، لأنه ورد في فضلهما "لا تدعوهما وإن طردتكم الخيل" رواه أبو داود، وفي البخاري ومسلم من حديث عائشة "إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يكن على شيء من النوافل أشد تعاهدًا منه على ركعتين قبل الصبح". فخصهما الحنفية بجواز صلاتهما خارج المسجد إذا تيقن أنه يدرك الركعة الثانية من الصبح مع الإمام، قال صاحب الهداية: من انتهى إلى الإمام في صلاة الفجر وهو لم يصل ركعتي الفجر إن

خشي أن تفوته ركعة يعني من صلاة الفجر لاشتغاله بالسنة ويدرك الركعة الأخرى وهي الثانية يصلي ركعتي الفجر عند باب المسجد، ثم يدخل المسجد، لأنه أمكنه الجمع بين الفضيلتين، يعني فضيلة السنة وفضيلة الجماعة. وإنما قيد بقوله: عند باب المسجد - لأنه لو صلاهما في المسجد كان متنفلاً فيه مع اشتغال الإمام بالفرض، وإنه مكروه قال الحافظ ابن حجر: وكأن الحنفية لما تعارض عندهم الأمر بتحصيل النافلة والنهي عن إيقاعها في تلك الحالة جمعوا بين الأمرين بذلك. وقال الأوزاعي بمثل ذلك إلا أنه أجاز أن يركعهما في المسجد. وقال الثوري: إن خشي فوت ركعة دخل معه ولم يصلهما، وإلا صلاهما في المسجد. ويمكن دفع هذه الخصوصية بما أخرجه ابن عدي عن عمرو بن دينار في هذا الحديث "قيل: يا رسول اللَّه ولا ركعتي الفجر؟ قال: ولا ركعتي الفجر". هذا ما يخص افتتاح النافلة بعد الشروع في الإقامة، أما من افتتحها قبل الشروع في الإقامة فأقيمت الصلاة وهو فيها ففيه يقول جمهور الشافعية: يقطع النافلة إذا أقيمت الفريضة عملاً بعموم قوله "فلا صلاة إلا المكتوبة". وخص الحنفية وغيرهم النهي بمن ينشئ النافلة عملاً بعموم قوله تعالى {ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد: 33] وفرق البعض بين من يخشى فوت الفريضة في الجماعة فيقطع وإلا فلا. وإلى هذا الرأي نميل. والله أعلم. هذا ولا خلاف أن النهي هنا للتنزيه، وفي حكمة هذا الإنكار. قال القاضي عياض وغيره: لئلا يتطاول الزمان فيظن وجوبها، قال الحافظ: ويؤيده رواية "يوشك أحدكم أن يصلي الصبح أربعًا" وعلى هذا إذا حصل الأمن لا يكره. وهذا مردود بعموم الرواية الأولى. وقال النووي: الحكمة فيه أن يتفرغ للفريضة من أولها فيشرع فيها عقب شروع الإمام، والمحافظة على مكملات الفريضة أولى من التشاغل بالنافلة. وذهب بعضهم إلى أن سبب الإنكار عدم الفصل بين الفرض والنفل لئلا يلتبسا، وإلى هذا جنح الطحاوي قال الحافظ: ومقتضاه لو كان في زاوية من المسجد لم يكره، وهو متعقب، إذ لو كان المراد مجرد الفصل بين الفرض والنفل لم يحصل إنكار أصلاً، لأن ابن بحينة سلم من صلاته قطعًا ثم دخل في الفرض. وقال بعضهم: إن سبب الإنكار خوف أن يظن أنه يصلي الفرض منفردًا فيظن أنه مختلف مع الإمام، ومع أن الحكم لا تزاحم في التماسها فإن أوجه ما قيل في ذلك هو قول النووي، يؤيده ابن عبد البر إذ يقول: وترك التنفل عند إقامة الصلاة وتداركه بعد أداء الفرض أقرب إلى اتباع السنة، ويتأيد ذلك من حيث المعنى بأن قوله في الإقامة حي على الصلاة معناه هلموا إلى الصلاة أي التي يقام لها، فأسعد الناس بامتثال هذا الأمر من لم يتشاغل عنه بغيره. واللَّه أعلم

(248) باب ما يقول إذا دخل المسجد

(248) باب ما يقول إذا دخل المسجد 1419 - عن أبي أسيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك. وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك". (قال مسلم) سمعت يحيى بن يحيى يقول: كتبت هذا الحديث من كتاب سليمان بن بلال. قال: بلغني أن يحيى الحماني يقول: وأبي أسيد. -[المعنى العام]- المساجد في الأرض بيوت اللَّه، وحق على من قصد اللَّه في بيته أن يطلب منه الرحمة، ورحمة اللَّه واسعة، رحمة في الدنيا ورحمة في الآخرة، والمساجد مواطن الرحمة لأنها أماكن العبادة وأماكن المناجاة، وأماكن الطاعة، ولهذا طلب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ممن يدخل المسجد أن يسأل اللَّه فتح أبواب رحمته لعبده. ولما كان الخروج من المسجد خروجًا لطلب الرزق في الغالب كان المشروع لمن خرج من المسجد أن يسأل اللَّه تعالى فضلاً وجودًا ورزقًا حلالاً. وبهذا يصبح المسجد موئلاً لطلب خيري الدنيا والآخرة وموطنًا لإجابة الدعاء والحصول على رحمة اللَّه وفضله. -[المباحث العربية]- (إذا دخل أحدكم المسجد) فيه مجاز المشارفة، أي إذا أراد أحدكم دخول المسجد وأشرف على الدخول، و"أل" في المسجد للجنس يعم كل مسجد. (اللَّهم افتح لي أبواب رحمتك) الرحمة لا تحس والمحسوس آثارها والأبواب من ظواهر المحسوسات، وكذا الفتح، ففي الكلام استعارة بأن شبهنا الرحمة بمحسوس مخزون في مخزن له أبواب. (وإذا خرج) أي أشرف على الخروج.

-[فقه الحديث]- هذا الدعاء مستحب، وليس هذا الموطن قاصرًا على هذا الدعاء وإن كان أفضل الأدعية ما ورد، ويمكن أن يدعو داخل المسجد وخارجه بما ورد في القرآن {رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانًا نصيرًا} [الإسراء: 80]. والأدعية الواردة في المواطن المتعددة يقصد بها الإرشاد ومراعاة المناسبات والهدف ربط العبد بربه في حركاته وسكناته استحضارًا بأنه مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير إنه على كل شيء قدير. واستحضارًا بأنه تعالى يحب من عباده سؤاله {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} [غافر: 60] وفي الحديث "إذا سألت فاسأل اللَّه وإذا استعنت فاستعن باللَّه". والشاعر يقول: لا تسألن بني آدم حاجة ... وسل الذي أبوابه لا تحجب اللَّه يغضب إن تركت سؤاله ... وبني آدم حين يسأل يغضب واللَّه أعلم

(249) باب استحباب تحية المسجد بركعتين وكراهة الجلوس قبل صلاتهما، وأنها مشروعة في جميع الأوقات، واستحباب ركعتين في المسجد لمن قدم من سفر أول قدومه

(249) باب استحباب تحية المسجد بركعتين وكراهة الجلوس قبل صلاتهما، وأنها مشروعة في جميع الأوقات، واستحباب ركعتين في المسجد لمن قدم من سفر أول قدومه 1420 - عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس". 1421 - عن أبي قتادة رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دخلت المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس بين ظهراني الناس. قال فجلست. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما منعك أن تركع ركعتين قبل أن تجلس؟ " قال فقلت: يا رسول الله رأيتك جالسًا والناس جلوس. قال "فإذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين". 1422 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان لي على النبي صلى الله عليه وسلم دين. فقضاني وزادني. ودخلت عليه المسجد. فقال لي "صل ركعتين". 1423 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: اشترى مني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرًا. فلما قدم المدينة أمرني أن آتي المسجد فأصلي ركعتين. 1424 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة. فأبطأ بي جملي وأعيى. ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلي. وقدمت بالغداة. فجئت المسجد فوجدته على باب المسجد. قال "الآن حين قدمت؟ " قلت: نعم. قال "فدع جملك. وادخل فصل ركعتين" قال فدخلت فصليت. ثم رجعت.

1425 - عن كعب بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يقدم من سفر إلا نهارًا في الضحى. فإذا قدم بدأ بالمسجد، فصلى فيه ركعتين، ثم جلس فيه. -[المعنى العام]- جعل اللَّه المساجد في الأرض مكان تعبد وصلاة، فكان حقها أن يبدأ الداخل إليها بالشعار الذي بنيت من أجله وهو الصلاة، فشرع اللَّه تحية للمساجد ركعتين فأكثر، لا يليق بالمؤمن أن يدخل المسجد فيجلس دون أن يصلي فرضًا أو نفلاً، فإن لم يكن عليه فرض أو نافلة فليصل ركعتين بنية تحية المسجد هذه هي السنة، وقد وضحها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم للأمة قولاً وتبليغًا وراعى تطبيق الأمة لها وتابع قيامهم بها فكان إذا رأى من ترك هذه السنة نبهه إليها ودعاه أن يؤديها. فهذا أبو قتادة يدخل المسجد فيرى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين أصحابه يعظهم ويعلمهم، فيقع في نفسه أن الأدب يدعوه إلى سرعة لقاء النبي صلى الله عليه وسلم والجلوس عنده مع الجالسين فجلس، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ما منعك أن تصلي تحية المسجد قبل أن تجلس؟ قال: بادرت بالجلوس إليك يا رسول اللَّه. قال: إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين. وكان جابر بن عبد اللَّه في غزوة مع رسول اللهَّ صلى الله عليه وسلم وفي العودة تأخر به جمله عن مرافقة القوم لضعفه وكان صلى الله عليه وسلم يرعى الضعفاء، ويتأخر عن القوم ليصاحبهم فقال لجابر: ما لجملك يا جابر؟ قال: أبطأ بي وأعيا، قال له: بعنيه. قال هو لك يا رسول اللَّه دون بيع، قال: لا، بعنيه بأوقية. قال: بعتكه على أن أركبه حتى أصل، قال: كذلك الأوقية عندما تصل. ونخس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الجمل، فصار أسرع من غيره من الجمال، وأسرع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم السير. ووصل قبل جابر، فصلى ركعتين بالمسجد، وانتظر جابرًا حتى جاء، فقال له: ادخل المسجد فصل ركعتين، وكلما جئت من سفر ابدأ بالمسجد وصل ركعتين، فصلى جابر، ونقده صلى اللَّه عليه وسلم ثمن الجمل، فلما وصل جابر داره دعاه صلى اللَّه عليه وسلم، ثم قال له: خذ جملك هبة مني، ولك ثمنه، صلى اللَّه وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. -[المباحث العربية]- (عن أبي قتادة) بفتح القاف والتاء.

(بين ظهراني الناس) في القاموس: هو بين ظهريهم - وظهرانيهم ولا تكسر النون - وبين أظهرهم أي وسطهم وفي معظمهم. (فلا يجلس حتى يركع ركعتين) أي حتى يصلي، من إطلاق الجزء وإرادة الكل، وهذا العدد لا مفهوم لأكثره باتفاق، واختلف في أقله، والصحيح أن الركعتين حد أدنى، فلا تتأدى السنة بأقل منه. (كان لي على النبي صلى الله عليه وسلم دين) هذا الدين هو ثمن البعير المتحدث عنه في الرواية الثالثة. (فقضاني وزادني) الثابت من الروايات أن الثمن كان أوقية من ذهب فلما قدموا المدينة قال النبي صلى الله عليه وسلم لبلال: أعطه أوقية من ذهب وزده، فأعطاه أوقية وقيراطًا، فلما انصرف دعاه فقال له: خذ جملك ولك ثمنه. يقول جابر: فمررت برجل من اليهود فأخبرته فجعل يعجب ويقول: اشترى منك البعير ودفع إليك الثمن، ثم وهبه لك؟ قلت: نعم. (ودخلت عليه المسجد) في الرواية الرابعة "فوجدته على باب المسجد" ولا تخالف. فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم على باب المسجد من الداخل فدخل عليه جابر وقوله: دخلت عليه المسجد مراد به قصدت وأردت دخول المسجد لتتوافق مع الرواية الثالثة، وفيها "أمرني أن آتي المسجد" أي أدخل المسجد - فأصلي ركعتين، وبذلك تصرح الرواية الرابعة، وفيها "فدع جملك وادخل فصل ركعتين". (اشترى مني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعيرًا) الثابت في الصحيح أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال له: بعنيه بأوقية. قال: هو لك يا رسول اللَّه. قال: لا، بعنيه بأوقية - وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعلم حاجة جابر إلى المال - قال جابر: بل أهبه لك يا رسول اللَّه. قال: قد أخذته بأوقية. قال جابر: فاستثنيت حملانه لي إلى أهلي. أي استثنيت حمله إياي حتى أصل أهلي بالمدينة. (خرجت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في غزاة) قيل في غزوة تبوك، وجزم ابن إسحاق بأنها غزوة ذات الرقاع. (فأبطأ بي جملي وأعيا) أي أبطأ عن اللحاق بالقوم وتعب فلا يكاد يسير كما جاء في بعض الروايات، وفي الصحيح "فمر بي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فضربه فدعا له فمشي مشية ما مشي قبل ذلك مثلها". (ثم قدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قبلي) أي قدم المدينة قبله، والرواية الخامسة تصرح بأن عادته صلى الله عليه وسلم مقصورة على القدوم في الضحى، فهي متعارضة مع قدوم جابر في الغداة بعده. (وقدمت بالغداة) الغداة من الفجر حتى طلوع الشمس، وقيل أول النهار مطلقًا. (كان لا يقدم من سفر) "يقدم" في الأصل بفتح الدال، وفي القاموس: وقدم من سفره كعلم قدومًا وفيه: قدم كنصر وعلم وأقدم وتقدم.

-[فقه الحديث]- هذان بابان في شرح النووي لصحيح مسلم. باب استحباب تحية المسجد بركعتين وباب استحباب ركعتين في المسجد لمن قدم من سفر أول قدومه. وظاهر صنيع النووي أن الرواية الأولى لجابر وهي روايتنا الثانية من باب استحباب تحية المسجد مع أنها نفس واقعة الرواية الثالثة والرابعة، وقد ذهب النووي إلى أن الركعتين للقادم من السفر غير تحية المسجد، فقال: في هذه الأحاديث استحباب ركعتين للقادم من سفره في المسجد أول قدومه، وهذه الصلاة مقصورة للقدوم من السفر، لا أنها تحية المسجد، والأحاديث المذكورة صريحة فيما ذكرته. اهـ. ونقل الحافظ ابن حجر عنه قوله: ينوي بها صلاة القدوم .. لكن تحصل التحية بها. اهـ. وأعتقد أن المستحب على القادم من سفر أن يبدأ بالمسجد، وأن المستحب لمن دخل المسجد مطلقًا أن يصلي تحية المسجد، فليست الصلاة مستحبة للقدوم من السفر، وإلا لاستحبت ولو بدون المسجد، إذ لم يقل أحد أن المسجد شرط لصحة الصلاة، لهذا لم أقتنع بترجمة البخاري بقوله: باب الصلاة إذا قدم من سفر، ولهذا ضممت أحاديث البابين تحت باب واحد. واللَّه أعلم. قال النووي: أجمع العلماء على استحباب تحية المسجد، ويكره أن يجلس من غير تحية بلا عذر، لحديث أبي قتادة المصرح بالنهي، وسواء عندنا - أي عند الشافعية - دخل في وقت النهي عن الصلاة أم في غيره، قال أصحابنا: وتحية المسجد ركعتان للحديث، فإن صلى أكثر من ركعتين بتسليمة واحدة جاز وكانت كلها تحية، لاشتمالها على الركعتين، ولو صلى على جنازة أو سجد لتلاوة أو لشكر أو صلى ركعة واحدة لم تحصل التحية، لصريح الحديث الصحيح. هذا هو المذهب. وحكى الرافعي وجهًا أنها تحصل لحصول العبادة وإكرام المسجد، والصواب الأول، وإذا جلس والحالة هذه كان مرتكبًا للنهي. قال أصحابنا: ولا يشترط أن ينوي بالركعتين التحية، بل إذا صلى ركعتين بنية الصلاة مطلقًا، أو نوى ركعتين نافلة راتبة أو غير راتبة أو صلاة فريضة مؤداة أو مقضية أو منذورة أجزأه ذلك، وحصل له ما نوى، وحصلت تحية المسجد ضمنًا، ولا خلاف في هذا، قال أصحابنا: وكذا لو نوى الفريضة وتحية المسجد أو الراتبة وتحية المسجد حصلا جميعًا بلا خلاف. ثم قال: ولو تكرر دخوله المسجد في الساعة الواحدة مرارًا. قال صاحب التتمة: تستحب التحية كل مرة، وقال المحاملي في اللباب: أرجو أن تجزيه التحية مرة واحدة. والأول أقوى وأقرب إلى ظاهر الحديث. ولو جلس في المسجد قبل التحية وطال الفصل فاتت ولا يشرع قضاؤها فإن لم يطل الفصل فالذي قاله الأصحاب أنها تفوت بالجلوس، والذي يقتضيه حديث سليك أنه إذا ترك التحية جهلاً بها أو سهوًا يشرع له فعلها ما لم يطل الفصل. وقال: قال أصحابنا: تكره التحية في حالتين: إحداهما إذا دخل والإمام في المكتوبة، أو قد شرع المؤذن في الإقامة: الثانية إذا دخل المسجد الحرام فلا يشتغل بها عن الطواف.

وقال: استحباب تحية المسجد في أي وقت دخل هو مذهبنا، وكرهها أبو حنيفة والأوزاعي والليث في وقت النهي، وأجاب أصحابنا أن النهي إنما هو عما لا سبب له، لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بعد العصر ركعتين قضاء سنة الظهر فخص وقت النهي، وصلى به ذات السبب، ولم يترك التحية في حال من الأحوال، بل أمر الذي دخل المسجد يوم الجمعة وهو يخطب فجلس أن يقوم فيركع ركعتين مع أن الصلاة في حال الخطبة ممنوع منها إلا التحية. فلو كانت التحية تترك في حال من الأحوال لتركت الآن، لأنه قعد وهي مشروعة قبل القعود، ولأنه كان يجهل حكمها، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قطع خطبته وكلمه وأمره أن يصلي التحية، فلولا شدة الاهتمام بالتحية في جميع الأوقات لما اهتم بها عليه الصلاة والسلام هذا الاهتمام. اهـ. وسيأتي الكلام عن تحية المسجد والإمام يخطب يوم الجمعة في الباب الخاص بذلك إن شاء اللَّه. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - يؤخذ من قول جابر في الرواية الثانية "كان لي على النبي صلى الله عليه وسلم دين" جواز التحديث بالعمل الصالح، للإتيان بالقصة على وجهها، لا على وجه التزكية للنفس وإرادة الفخر. 2 - يؤخذ من قوله في الرواية الرابعة "فدع جملك وادخل فصل ركعتين" جواز إدخال الدواب والأمتعة إلى رحاب المسجد وحواليه. قاله الحافظ ابن حجر. 3 - ويؤخذ من قوله في الرواية الثانية "فقضاني وزادني" جواز الزيادة في الثمن عند الأداء، قال الحافظ: وهي هبة مستأنفة، حتى لو ردت السلعة بعيب مثلاً لم يجب ردها. وقيل: هي تابعة للثمن فترد. ونحب أن ننبه إلى أن هذا ليس زيادة في القرض حتى يقاس عليه زيادة المدين في القرض، ثم إن هذه الزيادة من ولي الأمر، ثم إنها في الحقيقة ليست زيادة، إذ الرد كان للبعير ولثمنه وزيد أكثر من الثمن. واللَّه أعلم. 4 - وفيه تفقد الإمام للرعية وأحوالهم وإعانته للمحتاج بما تيسر. 5 - وفيه كرمه صلى اللَّه عليه وسلم وحسن معاملته. 6 - ويؤخذ من الرواية الخامسة استحباب القدوم من السفر أوائل النهار. 7 - وأنه يستحب للرجل الكبير في المرتبة ومن يقصده الناس إذا قدم من سفر للسلام عليه أن يقعد أول قدومه قريبًا من داره في موضع بارز سهل على زائريه إما المسجد وإما غيره. ذكره النووي. واللَّه أعلم

(250) باب استحباب صلاة الضحى وأن أقلها ركعتان

(250) باب استحباب صلاة الضحى وأن أقلها ركعتان 1426 - عن عبد الله بن شقيق قال: قلت لعائشة: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ قالت: لا، إلا أن يجيء من مغيبه. 1427 - عن عبد الله بن شقيق قال: قلت لعائشة أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ قالت: لا، إلا أن يجيء من مغيبه. 1428 - عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي سبحة الضحى قط. وإني لأسبحها وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم. 1429 - عن معاذة أنها سألت عائشة رضي الله عنها: كم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الضحى؟ قالت: أربع ركعات. ويزيد ما شاء. 1430 - - عن يزيد بهذا الإسناد مثله وقال يزيد ما شاء اللَّه. 1431 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى أربعًا. ويزيد ما شاء اللَّه. 1432 - عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: ما أخبرني أحد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى إلا أم هانئ. فإنها حدثت أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيتها يوم فتح مكة، فصلى ثماني ركعات. ما رأيته صلى صلاة قط أخف منها. غير أنه كان يتم الركوع والسجود. ولم يذكر ابن بشار في حديثه قوله: قط.

1433 - عن ابن شهاب قال: حدثني ابن عبد الله بن الحارث أن أباه عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: سألت وحرصت على أن أجد أحدًا من الناس يخبرني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبح سبحة الضحى. فلم أجد أحدًا يحدثني ذلك. غير أن أم هانئ بنت أبي طالب أخبرتني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بعد ما ارتفع النهار يوم الفتح. فأتي بثوب فستر عليه. فاغتسل، ثم قام فركع ثماني ركعات. لا أدري أقيامه فيها أطول أم ركوعه أم سجوده، كل ذلك منه تقارب. قالت: فلم أره سبحها قبل ولا بعد. قال المرادي: عن يونس. ولم يقل: أخبرني. 1434 - عن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها قالت: ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فوجدته يغتسل، وفاطمة ابنته تستره بثوب. قالت فسلمت فقال "من هذه؟ " قلت أم هانئ بنت أبي طالب. قال "مرحبًا بأم هانئ" فلما فرغ من غسله قام فصلى ثماني ركعات. ملتحفًا في ثوب واحد. فلما انصرف قلت: يا رسول الله زعم ابن أمي علي بن أبي طالب أنه قاتل رجلاً أجرته فلان ابن هبيرة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ" قالت أم هانئ وذلك ضحى. 1435 - عن أم هانئ رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في بيتها عام الفتح ثماني ركعات. في ثوب واحد قد خالف بين طرفيه. 1436 - عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة. فكل تسبيحة صدقة. وكل تحميدة صدقة. وكل تهليلة صدقة. وكل تكبيرة صدقة. وأمر بالمعروف صدقة. ونهي عن المنكر صدقة. ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى".

1437 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أرقد. 1438 - عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: أوصاني حبيبي صلى الله عليه وسلم بثلاث. لن أدعهن ما عشت: بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضحى، وبأن لا أنام حتى أوتر. -[المعنى العام]- الصلاة مقام المناجاة ووقوف العبد بين يدي ربه، وإذا كان اللَّه قد فرض خمس صلوات في اليوم والليلة فذلك تخفيف منه تعالى ورحمة، ولكن على العبد أن يزيد في هذا الفضل على ما فرض عليه، وخصوصًا إذا طال الفاصل الزمني بين فرضين، فحيث طال الفصل بين صلاة العشاء وصلاة الفجر شرعت صلاة الليل والتهجد، وحيث طال الفصل الزمني بين صلاة الفجر وصلاة الظهر شرعت صلاة الضحى، إلا أنه لما كان وقت الضحى وقت انشغال البشر بأعمالهم الدنيوية غالبًا من الضرب في الأرض والسعي في طلب الرزق لم يبرز رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة الضحى كما أبرز صلاة الليل إشفاقًا على التزام أمته بما يبرزه ويحرص عليه، وعلم الصحابة هذا السلوك النبوي، فحرص المتفرغون منهم على صلاة الضحى، حتى قالت عائشة رضي اللَّه عنها "ما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي سبحة الضحى قط وإني لأسبحها" وقال أبو هريرة وهو من أصحاب الصفة المتفرغين للعبادة: "أوصاني خليلي بثلاث: بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أرقد". وحينما كان صلى اللَّه عليه وسلم يصليها كان يخفف الصلاة في تمام، وكان يصليها مرة ركعتين ومرة أربعًا ومرة ستًا ومرة ثمانيًا، وصدق اللَّه العظيم حيث يقول {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128] فصلى اللَّه وسلم عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبع هداه إلى يوم الدين.

-[المباحث العربية]- (إلا أن يجيء من مغيبه) بفتح الميم وكسر الغين مصدر ميمي أو اسم مكان، أي إلا أن يجيء من غيابه وسفره، أو من مكان غيبته. (يصلي سبحة الضحى قط) بضم السين وسكون الباء من التسبيح والمراد بها النافلة، وخصت بذلك لأن التسبيح الذي في الفريضة نافلة، فقيل لصلاة النافلة سبحة لأنها كالتسبيح في الفريضة. و"قط" ظرف زمان مبني على الضم، بمعنى "أبدًا" ولا يستعمل إلا مع النفي. (وإني لأسبحها) أي لأصليها، وفي رواية "وإني لأستحبها" من الاستحباب، والرواية تقتضي أن عائشة كانت تصلي الضحى، أما الثانية فلا يلزم من استحبابها لها أن تفعلها. (وإن كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليدع العمل) "إن" مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن والحال محذوف، واللام في خبرها "ليدع" هي الفارقة بينها وبين "إن" النافية. (وهو يحب أن يعمل به) "يعمل" بفتح الياء، أي يعمله، قال النووي: ضبطناه بفتح الياء. اهـ. ويؤيده رواية "وهو يحب أن يعمله خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم". (ما أخبرني أحد ... إلا أم هانئ) "أم هانئ" بدل من "أحد" قال النووي: وهو بهمزة بعد النون، كنيت باسمها هانئ. واسمها فاختة على المشهور، وقيل: هند. اهـ. وأم هانئ بنت أبي طالب شقيقة علي كرم الله وجهه. (سألت وحرصت) قال النووي "حرصت" بفتح الراء على المشهور، وبه جاء القرآن، وفي لغة بكسرها. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: وبين ابن ماجه في روايته وقت سؤال عبد الله بن الحارث عن ذلك، ولفظه "سألت في زمن عثمان". (فلم أجد أحدًا يحدثني ذلك غير أم هانئ أخبرتني) "غير" بالنصب لأنها بدل من قوله "أحد" وفي رواية البخاري من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى "ما حدثنا أحد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى غير أم هانئ" فغير على هذا مرفوعة. (عن أبي مرة مولى أم هانئ) في الرواية السابعة "عن أبي مرة مولى عقيل" بن أبي طالب. قال النووي: قال العلماء: هو مولى أم هانئ حقيقة ويضاف إلى عقيل مجازًا، للزومه إياه وانتمائه إليه، لكونه مولى أخته. (تقول: ذهبت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عام الفتح فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره

بثوب. قالت: فسلمت) في الرواية الخامسة قالت أم هانئ: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بعد ارتفاع النهار يوم الفتح، فأتى بثوب، فستر عليه فاغتسل" فالرواية السادسة ظاهرها أنها هي التي ذهبت إليه، والخامسة ظاهرها أنه صلى الله عليه وسلم أتى إليها، وفي هذا نوع من التعارض رفعه الحافظ ابن حجر بقوله: وجمع بينهما بأن ذلك تكرر منه، ويحتمل أن يكون نزل في بيتها في أعلى مكة، وكانت هي في بيت آخر بمكة، فجاءت إليه فوجدته يغتسل فيصح القولان. اهـ والجمع بالتكرار بعيد. والظاهر الجمع الثاني. (مرحبًا) لفظ تكريم، ومعناه صادفت رحبًا وسعة، فهو منصوب بفعل محذوف، وقيل: منصوب على المصدرية، من رحبت الأرض إذا اتسعت. قال سيبويه: وهو من المصادر النائبة عن أفعالها. اهـ. (ملتحفًا في ثوب واحد) وفي الرواية السابعة "في ثوب واحد خالف بين طرفيه" حينما يكون الثوب كبيرًا واسعًا يمكن ستر العورة به مع طرح طرفيه على العاتقين، فيلف الثوب حول الوسط ساترًا بين السرة والركبة ويخرج طرفه من تحت الإبط الأيمن ويلقى على الكتف الأيسر، ويخرج طرفه الأيسر من تحت الإبط الأيسر ويلقى على الكتف الأيمن فبذلك تكون اليدان عاريتين خارجتين عن الثوب، بخلاف اشتمال الصماء بأن يدير الثوبى على بدنه كله لا يخرج منه يده. (زعم ابن أمي علي بن أبي طالب) في رواية "زعم ابن أبي" وهي صحيحة في المعنى، فإنه شقيقها، وزعم هنا بمعنى ادعى، ويكثر لفظ الزعم فيما هو باطل، وقل مجيئه مع الحق، كما في الحديث "زعم جبريل أنه لن تموت نفس" فهذه بمعنى حدث وأخبر. (أنه قاتل رجلاً أجرته) أطلق اسم الفعل هنا "قاتل" على من عزم على الفعل، وإن كان مستقبلاً. وقد أجارته أم هانئ أي أعطته الأمان والتزمت أن تحميه من المسلمين. (فلان ابن هبيرة) بالرفع خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو فلان ابن هبيرة ومقول أم هانئ في الحقيقة اسم الشخص الذي كني عنه الراوي بفلان، وفي اسم من أجارته أم هانئ كلام كثير، حاصله: قال النووي: روينا في كتاب الزبير بن بكار أن فلان بن هبيرة هو الحارث بن هشام المخزومي قال آخرون: هو عبد الله بن ربيعة، وفي تاريخ مكة أنها أجارت الرجلين، قال النووي: ويجمع بهذا بين الأقوال. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: الذي وقع عند الزبير بن بكار أنه وضع الحارث بن هشام بدل فلان بن هبيرة لأنه جعل هذا عين ذاك. والمعروف أن هبيرة كان زوج أم هانئ، وهرب عند فتح مكة إلى نجران ولم يزل بها مشركًا حتى مات، ولم يذكر أهل النسب لهبيرة ولدًا من غير أم هانئ، ومن المستبعد أن يهتم علي رضي اللَّه عنه بقتل ابن أم هانئ فإنها كانت قد أسلمت وأولادها عندها. وخروجًا من هذا الإشكال قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر لي أن في روية الباب حذفًا، كأنه

كان فيه: فلان ابن عم هبيرة، فسقط لفظ "عم" أو كان فيه: فلان قريب هبيرة، فتغير لفظ قريب بلفظ "ابن" وكل من الحارث بن هشام وعبد الله بن ربيعة يصح وصفه بأنه ابن عم هبيرة وقريبه، لأنهما من بني مخزوم. اهـ. وقد جاء عند أحمد والطبراني عن أم هانئ "إني أجرت حموين لي" ويقال: إنهما كانا فيمن قاتل خالد بن الوليد ولم يقبلا الأمان، فلما دارت الدائرة عليهما لجأ إلى أم هانئ فأجارتهما. (يصبح على كل سلامي من أحدكم صدقة) قال النووي: "سلامي" بضم السين وتخفيف اللام وفتح الميم، وهو المفصل، وجمعه سلاميات بضم السين وفتح الميم وتخفيف الياء، وهي المفاصل، وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خلق الإنسان على ستين وثلاثمائة مفصل على كل مفصل صدقة". (ويجزئ من ذلك ركعتان) قال النووي: ضبطناه "ويجزي" بفتح أوله وضمه، فالضم من الإجزاء، والفتح من جزى يجزي، أي كفى. (أوصاني خليلي) الخليل هو الصديق الخالص الذي تخللت محبته القلب فصارت في خلاله أي في باطنه، ولا يتعارض هذا القول من أبي هريرة مع قوله صلى الله عليه وسلم "لو كنت متخذًا خليلاً لاتخذت أبا بكر" لأن الممتنع أن يتخذ هو صلى الله عليه وسلم غير الله خليلاً، لا أن يتخذ هو خليلاً، ولا يقال: إن المخاللة لا تتم إلا أن تكون من الجانبين، فإنها قد تحدث من جانب واحد. -[فقه الحديث]- قال الحافظ ابن حجر: جمع ابن القيم في الهدى الأقوال في صلاة الضحى فبلغت ستة: الأول: مستحبة، واختلف في عددها، فقيل: أقلها ركعتان وأكثرها اثنتا عشرة: وقيل: أكثرها ثمان، وقيل: ركعتان فقط، وقيل: أربعًا فقط، وقيل: لا حد لأكثرها. القول الثاني: لا تشرع إلا لسبب، واحتجوا بأنه صلى الله عليه وسلم لم يفعلها إلا بسبب، واتفق وقوعها وقت الضحى، وتعددت الأسباب، فحديث أم هانئ في صلاته يوم الفتح [روايتنا الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة] كان بسبب الفتح، وأن سنة الفتح أن يصلي ثماني ركعات، ونقله الطبري من فعل خالد بن الوليد لما فتح الحيرة، وفي حديث عبد الله بن أبي أوفى أنه صلى الله عليه وسلم صلى الضحى حين بشر برأس أبي جهل، وهذه صلاة شكر كصلاة يوم الفتح، وصلاته في بيت عتبان إجابة لسؤال أن يصلي في مكان في بيته يتخذه مصلى، فاتفق أن جاء وقت الضحى، وحديث عائشة" لم يكن يصلي الضحى إلا أن يجيء من مغيبه [روايتنا الأولى] لأنه كان ينهى عن الطروق ليلاً فيقدم في النهار، فيبدأ بالمسجد فيصلي وقت الضحى.

القول الثالث: لا تستحب أصلاً. الرابع: يستحب فعلها تارة وتركها تارة بحيث لا يواظب عليها، وهذه إحدى الروايتين عن أحمد، والحجة فيه حديث أبي سعيد "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى حتى نقول: لا يدعها، ويدعها حتى نقول لا يصليها" أخرجه الحاكم. الخامس: تستحب صلاتها والمواظبة عليها في البيوت، أي للأمن من خشية أن تفرض. السادس: أنها بدعة. قال: وقد جمع الحاكم الأحاديث الواردة في صلاة الضحى في جزء مفرد وذكر لغالب هذه الأقوال مستندًا، وبلغ عدد رواة الحديث في إثباتها نحو العشرين نفسًا من الصحابة. اهـ. هذا وجمهور علماء الأمة على أن صلاة الضحى سنة مؤكدة أو هي مستحبة، وتبعًا لذلك كان لا بد من توجيه أحاديث الباب النافية لاستحبابها وفي ذلك يقول النووي: هذه الأحاديث كلها متفقة، لا اختلاف بينها عند أهل التحقيق، وحاصلها أن الضحى سنة مؤكدة، وأن أقلها ركعتان وأكملها ثماني ركعات، وبينهما أربع أو ست، وكلاهما أكمل من ركعتين، ودون ثمان، أما الجمع بين حديثي عائشة في نفي صلاته صلى الله عليه وسلم الضحى وإثباتها فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصليها بعض الأوقات لفضلها ويتركها في بعضها خشية أن تفرض، كما ذكرته عائشة، ويتأول قولها [في الرواية الأولى] "ما كان يصليها إلا أن يجيء من مغيبه" على أن معناه ما رأيته، كما قالت في الرواية الثانية "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي سبحة الضحى" وسببه أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يكون عند عائشة في وقت الضحى إلا في نادر من الأوقات، فإنه قد يكون في ذلك مسافرًا، وقد يكون حاضرًا ولكنه في المسجد أو في موضع آخر، وإذا كان عند عائشة فإنما كان لها يوم من تسعة، فيصح قولها "ما رأيته يصليها" ولا تكون قد علمت بخبره أو خبر غيره أنه صلاها. أو يقال: قولها "ما كان يصليها" أي ما يداوم عليها، فيكون نفيًا للمداومة لا لأصلها، وأما ما صح عن ابن عمر أنه قال في الضحى: هي بدعة. فمحمول على أن صلاتها في المسجد والتظاهر بها كما كانوا يفعلونه بدعة، لا أن أصلها في البيوت ونحوها مذموم، أو يقال: قوله "بدعة" أي المواظبة عليها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يواظب عليها خشية أن تفرض، وهذا في حقه صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت استحباب المحافظة في حقنا بحديث أبي الدرداء وأبي ذر، أو يقال: إن ابن عمر لم يبلغه فعل النبي صلى الله عليه وسلم الضحى وأمره بها، وكيف كان فجمهور العلماء على استحباب الضحى، وإنما نقل التوقف فيها عن ابن مسعود وابن عمر، والله أعلم. اهـ. وقال القاضي عياض وغيره: إنما أنكر ابن عمر ملازمتها وإظهارها في المساجد، وصلاتها جماعة، لا أنها مخالفة للسنة، ويؤيده ما رواه ابن أبي شيبة عن ابن مسعود أنه رأى قومًا يصلونها فأنكر عليهم، وقال: إن كان ولا بد ففي بيوتكم، لم تحملون عباد الله ما لم يحملهم اللَّه؟ قال الحافظ ابن حجر [تنبيه] حديث عائشة يدل على ضعف ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن صلاة

الضحى كانت واجبة عليه، وعدها لذلك بعض العلماء من خصائصه، ولم يثبت ذلك في خبر صحيح، وقول الماوردي في الحاوي: أنه صلى الله عليه وسلم واظب عليها بعد يوم الفتح إلى أن مات يعكر عليه ما رواه مسلم من حديث أم هانئ [روايتنا الخامسة] "إنه لم يصلها قبل ولا بعد". اهـ وفي وقت صلاة الضحى يقول النووي: ووقتها من ارتفاع الشمس إلى الزوال، قال صاحب الحاوي: وقتها المختار إذا مضى ربع النهار. اهـ -[ويؤخذ من مجموع هذه الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - من الرواية الأولى استحباب الصلاة عند القدوم من السفر. 2 - ومن الرواية الثانية من قولها "وإني لأسبحها" مشروعية المداومة على صلاة لم يداوم عليها صلى الله عليه وسلم. 3 - ومن قولها "وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم "يؤخذ كمال شفقته صلى الله عليه وسلم ورأفته بأمته. 4 - وأنه إذا تعارضت مصالح قدم أهمها، إذ صلاته صلى الله عليه وسلم مصلحة وإبعاد المشقة عن أمته مصلحة، فقدم الأهم صلى الله عليه وسلم. 5 - ومن الرواية الرابعة، من قولها "ما رأيته صلى صلاة قط أخف منها" استحباب تخفيف صلاة الضحى. قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر، لاحتمال أن يكون السبب فيه التفرغ لمهمات الفتح، لكثرة شغله به. 6 - من الرواية الخامسة من قوله "سألت وحرصت .. إلخ" مدى حرص الصحابة والتابعين على تتبع الأحكام الشرعية منقولة نقلاً موثوقًا به عن النبي صلى الله عليه وسلم. 7 - ومن الرواية السادسة جواز الاغتسال بحضرة امرأة من محارمه إذا كان مستور العورة عنها. 8 - جواز تستير امرأة من المحارم رجلاً بثوب ونحوه. 9 - سلام المرأة التي ليست بمحرم على الرجل بحضرة محارمه. 10 - جواز إلقاء السلام على من هو في حال الاغتسال أو الوضوء. 11 - عدم الاكتفاء في الجواب بلفظ "أنا" بل يوضح الطارق غاية التوضيح كما في ذكر الكنية والنسب هنا. 12 - وأنه لا بأس أن يكني الإنسان نفسه على سبيل التعريف إذا اشتهر بالكنية. 13 - استحباب قول الإنسان لزائره والوارد عليه "مرحبًا" ونحوه من ألفاظ الإكرام والملاطفة. 14 - وأنه لا بأس بالكلام في حال الاغتسال والوضوء.

15 - من قولها "فلما انصرف قلت ... " أن من قصد إنسانًا لحاجة ومطلوب فوجده مشتغلاً بطهارة ونحوها لم يقطعها عليه حتى يفرغ، ثم يسأل حاجته، إلا أن يخاف فوتها. 16 - ومن قولها "ملتحفًا في ثوب واحد" ما كانوا عليه من ضيق الحال وقلة الثياب. 17 - وجواز الصلاة في الثوب الواحد مادام يستر العورة، وذلك يختص بحال الضيق أو بحال بيان الجواز. ذكره الحافظ ابن حجر. 18 - استحباب الالتحاف إذا كان الثوب واحدًا واسعًا قال ابن بطال: فائدة الالتحاف المذكور أن لا ينظر المصلي إلى عورة نفسه إذا ركع، ولئلا يسقط الثوب عند الركوع والسجود. اهـ. وقال الحافظ ابن حجر: والمراد أن لا يتزر به في وسطه ويشد طرفي الثوب في حقويه، بل يتوشح بطرفيه على عاتقيه ليحصل الستر لجزء من أعالي البدن وإن كان ليس بعورة، أو لكون ذلك أمكن في ستر العورة. 19 - أمان المرأة لرجل كافر. قال النووي: استدل بعض أصحابنا وجمهور العلماء بهذا الحديث على صحة أمان المرأة، قالوا: وتقدير الحديث: حكم الشرع بصحة جواز من أجرت يا أم هانئ. وقال بعضهم: لا حجة فيه، لأنه محتمل لهذا، ومحتمل لابتداء الأمان، وبالأول قال الشافعي وآخرون، وبالثاني أبو حنيفة ومالك، ويحتج للأكثرين بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليها الأمان ولا بين فساده ولو كان فاسدًا لبينه لئلا يغتر به. وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على جواز أمان المرأة إلا شيئًا ذكره ابن الماجشون صاحب مالك لا أحفظ ذلك عن غيره، قال: إن أمر الأمان إلى الإمام، إن أجازه جاز وإن رده رد. وتأويل ما ورد مما يخالف ذلك على قضايا خاصة. 20 - ومن الرواية الثامنة، من قوله "ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى" عظم فضل صلاة الضحى وكبر موقعها. 21 - وأن صلاة الضحى تجزئ عن الصدقة التي تصبح على مفاصل الإنسان في كل يوم. 22 - ومن الرواية التاسعة استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر. 23 - واستحباب تقدم الوتر على النوم، وذلك في حق من لم يثق بالاستيقاظ آخر الليل، أما من أمن فالتأخير أفضل، للحديث الصحيح "فانتهى وتره إلى السحر". واللَّه أعلم

(251) باب استحباب ركعتي سنة الفجر والحث عليهما وتخفيفهما وبيان ما يستحب أن يقرأ فيهما

(251) باب استحباب ركعتي سنة الفجر والحث عليهما وتخفيفهما وبيان ما يستحب أن يقرأ فيهما 1439 - عن حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سكت المؤذن من الأذان لصلاة الصبح وبدا الصبح ركع ركعتين خفيفتين قبل أن تقام الصلاة. 1440 - عن حفصة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طلع الفجر لا يصلي إلا ركعتين خفيفتين. 1441 - عن حفصة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أضاء له الفجر صلى ركعتين. 1442 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتي الفجر إذا سمع الأذان ويخففهما. 1443 - - عن هشام بهذا الإسناد وفي حديث أبي أسامة إذا طلع الفجر. 1444 - عن عائشة رضي الله عنها أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين بين النداء والإقامة من صلاة الصبح. 1445 - عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتي الفجر فيخفف حتى إني أقول: هل قرأ فيهما بأم القرآن.

1446 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طلع الفجر صلى ركعتين أقول: هل يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب. 1447 - عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على ركعتين قبل الصبح. 1448 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من النوافل أسرع منه إلى الركعتين قبل الفجر. 1449 - عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها". 1450 - عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في شأن الركعتين عند طلوع الفجر "لهما أحب إلي من الدنيا جميعًا". 1451 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الفجر: {قل يا أيها الكافرون}، و {قل هو الله أحد} 1452 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في ركعتي الفجر في الأولى منهما {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا} [البقرة: 136] وفي الآخرة منهما {آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون} [آل عمران: 52]. 1453 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في ركعتي الفجر {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا} والتي في آل عمران: {تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} [64].

-[المعنى العام]- لا شك أن صلاة الصبح من أفضل الصلوات، تجتمع فيها ملائكة النهار وملائكة الليل فيشهدون للمصلين عند ربهم، ولما كانت ركعتين فقط كانت أقصر فرض في الصلوات الخمس، فكانت راتبتها أحق الرواتب بالاهتمام والمحافظة، يزيدها أهمية أنها فاتحة النهار، ومن خير المسلم أن يفتتح يومه بالتطوع بركعتين. ولذلك واظب عليهما صلى اللَّه عليه وسلم، وكان يقول عنهما: إنهما خير من الدنيا وما فيها من متاع. وكان صلى اللَّه عليه وسلم يبالغ في تخفيفهما مع إتمام الركوع والسجود إنما كان يخفف القراءة حتى يظن المشاهد أنه يكتفي فيهما بقراءة فاتحة الكتاب، لكنه كان يقرأ بعد الفاتحة سورة قصيرة، {قل يا أيها الكافرون} و {قل هو الله أحد} أو آيتين قصيرتين. والمتدبر لما واظب عليه من سور أو آيات القرآن في ركعتي الفجر، يجده صلى اللَّه عليه وسلم قد اعتمد السور أو الآيات التي تعتني بالمعبود الواحد الحق، سواء في ذلك السورتان المذكورتان أو الآية 136 من سورة البقرة {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} والآيتان 52، 53 من سورة آل عمران {فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين} أو الآية 64 من سورة آل عمران {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} أعاننا اللَّه على ذكره وشكره وحسن عبادته. -[المباحث العربية]- (وبدا الصبح) أي ظهر وتأكد من دخول الوقت. (هل قرأ فيهما بأم القرآن)؟ في الرواية السابعة "هل يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب"؟ على الاستفهام، وفي رواية "أقول" لم يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب" وليس المراد الشك في قراءته صلى الله عليه وسلم الفاتحة، وإنما معناه أنه كان يطيل في النوافل، فلما خفف في قراءتي ركعتي الفجر صار وكأنه لم يقرأ بالنسبة إلى غيرها من الصلوات. (لم يكن على شيء من النوافل أشد معاهدة) في رواية "أشد تعاهدًا" والتعاهد التعهد، والتعهد بالشيء التحفظ به وتجديد العهد به. (خير من الدنيا وما فيها) أي وما فيها من متاعها، لئلا يشمل العبادات والطاعات الأخروية.

(أحب إلي من الدنيا جميعًا) "جميعًا" منصوب على الحالية، أي مجتمعة. (في الأولى منهما {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا}) {وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} الآية (136) من سورة البقرة. (وفي الآخرة منهما {آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون}) هكذا الرواية في مسلم وفي سنن أبي داود، وهذه جزء الآية رقم (52) من سورة آل عمران، وأولها {فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون} وفي رواية لأبي داود عن أبي هريرة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في ركعتي الفجر {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا} وفي الركعة الأخرى بهذه الآية {ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين} وهذه الآية هي رقم (53) من سورة آل عمران، فكأنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعة الثانية بالآيتين (52، 53) من سورة آل عمران. (والتي في آل عمران {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم}) {ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} الآية رقم (64) من سورة آل عمران، والجمع بين هذه الروايات بقراءة هذه تارة وتلك أخرى. واللَّه أعلم. -[فقه الحديث]- من مجموع الروايات تؤخذ أحكام فقهية نعرض لها: 1 - من قوله في الرواية الأولى (كان إذا سكت المؤذن من الأذان لصلاة الصبح" ومن قوله في الرواية الرابعة "كان يصلي ركعتي الفجر إذا سمع الأذان" أخذ بعض الحنفية أنه لا يؤذن للصبح قبل طلوع الفجر، ويرد عليهم بأن المراد هنا الأذان الثاني، للحديث الصحيح "إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم". 2 - ومن قوله في الرواية الثانية "إذا طلع الفجر لا يصلي إلا ركعتين خفيفتين": أخذ أن الراتبة في الفجر ركعتان، لا زيادة عليهما، قال النووي: قد يستدل به من يقول: تكره الصلاة من طلوع الفجر إلا سنة الصبح وما له سبب، ولأصحابنا في المسألة ثلاثة أوجه. أحدها هذا، ونقله القاضي عن مالك والجمهور، والثاني لا تدخل الكراهة حتى يصلي سنة الصبح، والثالث لا تدخل الكراهة حتى يصلي فريضة الصبح، وهذا هو الصحيح عند أصحابنا، وليس في هذا الحديث دليل ظاهر على الكراهة، إنما فيه الإخبار بأنه كان صلى الله عليه وسلم لا يصلي غير ركعتي السنة، ولم ينه عن غيرهما. اهـ. 3 - ومن قوله في الرواية الرابعة "كان يصلي ركعتي الفجر إذا سمع الأذان" أخذ استحباب تقديمهما في أول دخول الوقت.

4 - ومن قوله في الرواية الثامنة "لم يكن على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على ركعتين قبل الصبح" أخذ فضل ركعتي الصبح على غيرهما من النوافل، وهو قول الشافعي في القديم، وفي الجديد: أفضلها الوتر، وقال بعض الشافعية: أفضلها صلاة الليل: قال النووي في المجموع: وهذا الوجه قوي. ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل" وفي رواية لمسلم أيضًا "الصلاة في جوف الليل" وقال في شرح صحيح مسلم: لا دلالة في الحديث على ترجيح سنة الصبح على الوتر، لأن الوتر كان واجبًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يتناوله هذا الحديث. اهـ 5 - ومن النص السابق أخذ بعضهم وجوب ركعتي الفجر، وهو منقول عن الحسن البصري، ونقل مثله عن أبي حنيفة، إذ نقل عنه: لو صلاهما قاعدًا من غير عذر لم يجز. وجمهور العلماء على أنهما من أشرف التطوع لمواظبته صلى الله عليه وسلم عليهما، وليستا واجبتين، لأنه صلى الله عليه وسلم ساقهما مع النوافل، ونص "لم يكن على شيء من النوافل" دليل على أنهما من النوافل. نعم ورد في تعظيم شأنهما كثير من الأحاديث تحث على الاستمساك بهما والمواظبة عليهما. فبالإضافة إلى رواياتنا خصوصًا العاشرة والحادية عشرة جاء في أبي داود "لا تدعوا ركعتي الفجر ولو طردتكم الخيل" أي الفرسان، وجاء فيه أيضًا عن بلال رضي الله عنه "أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم ليؤذنه بصلاة الغداة، فقال له: أصبحت جدًا قال أصبحت جدًا؟ ثم قال: لو أصبحت أكثر مما أصبحت لركعتهما وأحسنتهما وأجملتهما" وفي قول للمالكية أنهما من الرغائب، وهو خلاف الصحيح عندهم. واللَّه أعلم. 6 - ومن ذكر التخفيف في الروايات الأولى والثانية والرابعة والسادسة والسابعة قال العلماء بتخفيف ركعتي الصبح. واختلفوا في ركعتي الفجر على أربعة مذاهب حكاها الطحاوي: أحدها: لا قراءة فيهما أصلاً، وتمسك هذا القائل بقول عائشة في الرواية السادسة "فيخفف حتى إني أقول: هل قرأ فيهما بأم القرآن"؟ وفي الرواية السابعة "أقول هل يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب"؟ قال النووي: وهذا القول غلط بين، فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ فيهما بعد الفاتحة بسورة أو آية [رواياتنا الثانية عشرة والثالثة عشرة والرابعة عشرة]. المذهب الثاني: يخفف القراءة فيهما بأم القرآن خاصة، روي ذلك عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو مشهور مذهب مالك. ويستدل له بقول عائشة في الروايتين السادسة والسابعة. المذهب الثالث: يخفف بقراءة أم القرآن وسورة قصيرة أو آية، وهو قول الشافعي ورواية عن مالك، ويؤيده رواياتنا الثانية عشرة والثالثة عشرة والرابعة عشرة. المذهب الرابع: لا بأس بتطويل القراءة فيهما. وهو قول أكثر الحنفية، وقد روي عن أبي حنيفة قوله: ربما قرأت فيهما حزبين من القرآن. وفي سر تخفيفهما قيل: المبادرة إلى صلاة الصبح في أول الوقت، وقيل استفتاح صلاة النهار بركعتين خفيفتين كما يستفتح قيام الليل بركعتين خفيفتين ليتأهب ويستعد للفرض أو لقيام الليل.

7 - ومن قول عائشة في الروايتين السادسة والسابعة أخذ بعضهم استحباب الإسرار بالقراءة فيهما، ومن قول أبي هريرة وابن عباس في الروايات الثانية عشرة والثالثة عشرة والرابعة عشرة أخذ بعضهم استحباب الجهر بالقراءة فيهما. وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يسر فيهما بالقراءة وروي أنه كان يسمعهم الآية أحيانًا. 8 - ومن التشديد في العناية بهما قال العلماء بقضائهما إن فاتتا، ثم اختلفوا في الوقت الذي يقضيهما فيه، فأظهر أقوال الشافعي يقضيهما ولو بعد الصبح، وقالت طائفة: يقضيهما بعد طلوع الشمس، وهو قول أحمد ومالك. وقال أبو حنيفة: لا يقضيهما. واللَّه أعلم

(252) باب فضل السنن الراتبة قبل الفرائض وبعدهن وبيان عددهن

(252) باب فضل السنن الراتبة قبل الفرائض وبعدهن وبيان عددهن 1454 - عن عمرو بن أوس قال حدثني عنبسة بن أبي سفيان في مرضه الذي مات فيه بحديث يتسار إليه، قال: سمعت أم حبيبة تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من صلى اثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة بني له بهن بيت في الجنة" قالت أم حبيبة: فما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال عنبسة: فما تركتهن منذ سمعتهن من أم حبيبة. وقال عمرو بن أوس: ما تركتهن منذ سمعتهن من عنبسة. وقال النعمان بن سالم: ما تركتهن منذ سمعتهن من عمرو بن أوس. 1455 - عن النعمان بن سالم بهذا الإسناد "من صلى في يوم ثنتي عشرة سجدة تطوعًا بني له بيت في الجنة". 1456 - عن أم حبيبة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "ما من عبد مسلم يصلي لله كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعًا غير فريضة إلا بنى الله له بيتًا في الجنة. أو إلا بني له بيت في الجنة". قالت أم حبيبة: فما برحت أصليهن بعد. وقال عمرو: ما برحت أصليهن بعد. وقال النعمان مثل ذلك. 1457 - عن أم حبيبة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من عبد مسلم توضأ فأسبغ الوضوء ثم صلى لله كل يوم" فذكر بمثله. 1458 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الظهر سجدتين. وبعدها سجدتين. وبعد المغرب سجدتين. وبعد العشاء سجدتين. وبعد الجمعة سجدتين. فأما المغرب والعشاء والجمعة. فصليت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بيته.

1459 - عن عبد الله بن شقيق قال: سألت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن تطوعه؟ فقالت: كان يصلي في بيتي قبل الظهر أربعًا ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يدخل فيصلي ركعتين. وكان يصلي بالناس المغرب، ثم يدخل فيصلي ركعتين. ويصلي بالناس العشاء، ويدخل بيتي فيصلي ركعتين. وكان يصلي من الليل تسع ركعات. فيهن الوتر. وكان يصلي ليلاً طويلاً قائمًا. وليلاً طويلاً قاعدًا. وكان إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم. وإذا قرأ قاعدًا ركع وسجد وهو قاعد. وكان إذا طلع الفجر صلى ركعتين. -[المعنى العام]- لا شك أن الفرائض أحب ما يتقرب به العبد إلى ربه، مصداقًا لقوله عز وجل في الحديث القدسي "وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه" ولا شك أن من أدى الفرائض كاملة سن له أن يزداد قربًا من ربه، وفيضًا من محبته بالرواتب والنوافل، عملاً بقوله جل شأنه في الحديث نفسه "وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه" وعلى هذا الأساس رغب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في النوافل بعامة، وأكد الترغيب في رواتب قبل الفريضة وبعدها، ففي الأحاديث "من صلى اثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة - تطوعًا - بني اللَّه له بيتًا في الجنة" وفصلت هذه الركعات في أحاديث أخرى على أنها ركعتا الفجر وأربع قبل الظهر وركعتان بعده، وركعتان بعد المغرب وركعتان بعد العشاء. كما وردت أحاديث كثيرة ترغب في أكثر من ذلك بأربع قبل العصر وبركعتين قبل المغرب وبأكثر من ركعتين بعد العشاء. وهكذا يصبح باب التطوع بالصلاة مفتوحًا للمتسابقين والمسارعين إلى مغفرة اللَّه وإلى جنة عرضها السموات والأرض، وكم كان حرص الصحابة رضي الله عنهم على الإكثار من صلاة التطوع مع حرصهم على الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فأكثروا من السؤال عن صلاته في بيته، وما تحرجوا من سؤال أمهات المؤمنين أزواجه صلى الله عليه وسلم عن صلاته في لياليهن وفي بيوتهن رضي الله عن الجميع، وأعاننا على عبادته. -[المباحث العربية]- (اثنتي عشرة ركعة) في ملحق الرواية الأولى "ثنتي عشرة سجدة" وفي إطلاق السجدة والركعة، وهي من السجود والركوع، وكل منهما جزء لكل مجاز مرسل، واستعمال الركعة أكثر، وفي الرواية الرابعة "سجدتين" أي ركعتين. (تطوعًا غير فريضة) هذا القيد مراد في الرواية الأولى المطلقة الخالية منه وقوله "غير فريضة" تأكيد ورفع احتمال إرادة الإعادة للفريضة.

(صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الظهر سجدتين) قال العيني: المراد من المعية هذه مجرد المتابعة في العدد، وهو أن ابن عمر صلى ركعتين وحده كما صلى صلى اللَّه عليه وسلم ركعتين، لا أنه اقتدى به فيهما. اهـ. (فأما المغرب والعشاء والجمعة فصليت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بيته) مقابل "أما" مطوي للعلم به من المقابل، أي وأما الظهر فصليت مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، وهذا التكرار في المعية والتفصيل يبعد ما ذهب إليه العيني، ومع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الرواتب في بيته فإنه لا يمنع من أن يكون صلى الله عليه وسلم صلى قبل الظهر وبعده في المسجد مرة وصلى معه ابن عمر، ولا مانع من أن يكون ابن عمر قد صلى ركعتي المغرب والعشاء والجمعة مع الرسول صلى الله عليه وسلم مرة في بيته، ومعلوم أن ابن عمر كان شديد الحرص على الاقتداء، حتى كان يبرك ناقته في المكان الذي بركت فيه ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومما يبعد ما ذهب إليه العيني ويقوي الاحتمال الذي ذكرته ما روى البخاري عن ابن عمر قال "حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر ... وركعتين قبل الصبح، وكانت ساعة لا يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فيها، حدثتني حفصة أنه كان إذا أذن المؤذن وطلع الفجر صلى ركعتين". -[فقه الحديث]- ذكرنا في الباب السابق استحباب ركعتي سنة الفجر، ولا خلاف فيهما أما راتبة الظهر فإن الرواية الرابعة تذكر ركعتين بعدها، والرواية الخامسة تذكر أربعًا قبل الظهر وركعتين بعدها، وروى البخاري عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدع أربعًا قبل الظهر" وروى أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرم على النار" فهذه الروايات تحكي ثلاثة أقوال في راتبة الظهر، أربعًا وستًا وثمانيًا، والتوفيق بينها أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بعد الظهر ركعتين مرة وأربعًا مرة، وصلى قبل الظهر ركعتين مرة وأربعًا مرة فاختلاف الأحاديث في الأعداد محمول على تعدد الأحوال للتوسعة. والأكثرون من أصحاب الشافعي على أن راتبة الظهر ركعتان قبلها وركعتان بعدها، ومنهم من جعل قبل الظهر أربعًا، ومن قال بأربع قبل الظهر اختلفوا في صلاتها بتسليمة واحدة أو بتسليمتين، فالحنفية على الأول والشافعي ومالك وأحمد على الثاني. وأما راتبة العصر فلم تصرح بها رواياتنا، وقد روى أبو داود والترمذي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "رحم الله امرءًا صلى قبل العصر أربعًا" وروى الترمذي من حديث علي رضي الله عنه قال: "كان يصلي قبل العصر أربع ركعات يفصل بينهن بالتسليم على الملائكة المقربين ومن تبعهم من المسلمين والمؤمنين" والذي ترتاح إليه النفس أن أربعًا قبل العصر مستحبة وليست من الرواتب المؤكدة. وأما راتبة المغرب فالرواية الرابعة والخامسة تذكران ركعتين بعدها، ولا خلاف فيهما، وإنما

الخلاف في ركعتين قبل المغرب. قال النووي: في استحباب ركعتين قبل المغرب وجهان مشهوران، الصحيح منهما الاستحباب، لما رواه البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "صلوا قبل صلاة المغرب [ثلاثًا]. قال في الثالثة: لمن شاء كراهية أن يتخذها الناس سنة" كما روي عن أنس قال: كنا نصلي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين بعد غروب الشمس قبل المغرب، قال الراوي: فقلت: أكان النبي صلى الله عليه وسلم صلاها؟ قال: "كان يرانا نصليها، فلم يأمرنا ولم ينهنا". فهذه الأحاديث صحيحة صريحة في استحبابها. اهـ وذهب آخرون إلى عدم استحبابها، مستدلين بما رواه أبو داود عن ابن عمر قال: "ما رأيت أحداً يصلي الركعتين قبل المغرب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" وإسناده حسن. ومما يرجح الاستحباب لراتبة العصر وراتبة المغرب القبلية حديث "بين كل أذانين صلاة" أي بين كل أذان وإقامة راتبة. والله أعلم. وأما راتبة العشاء فإن الرواية الرابعة والخامسة تذكران ركعتين بعد العشاء والخلاف في ركعتين قبل العشاء. قال النووي: يستحب أن يصلي قبل العشاء الآخرة ركعتين فصاعدًا، لحديث "بين كل أذانين صلاة بين كل أذانين صلاة. قال في الثالثة: لمن يشاء" رواه البخاري ومسلم. اهـ. وأما راتبة الجمعة فالرواية الرابعة تذكر ركعتين بعدها: قال النووي: يسن قبل الجمعة وبعدها صلاة، وأقلها ركعتان قبلها وركعتان بعدها، والأكمل أربع قبلها وأربع بعدها. اهـ. وقد تحصل من هذا أن الرواتب عند الصلوات الخمس مختلف في عددها قيل: عشر ركعات. وهي صريح الرواية الرابعة إذا أضفنا إليها ركعتي الفجر وقيل: ثنتا عشرة ركعة، وهي نص الرواية الأولى، وهي باستحباب أربع قبل الظهر بدل ركعتين، وقيل أدنى الكمال ثمان، فأسقط سنة العشاء. قال صاحب المهذب: وأدنى الكمال عشر ركعات وأتم الكمال ثماني عشرة ركعة. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: وفي الأحاديث حجة لمن ذهب إلى أن للفرائض رواتب تستحب المواظبة عليها، وهو قول الجمهور، وذهب مالك في المشهور عنه إلى أنه لا توقيت في ذلك حماية للفرائض، لكن لا يمنع من تطوع بما شاء إذا أمن ذلك. اهـ. وآكد السنن الراتبة مع الفرائض سنة الفجر، لأنه ورد فيها من الترغيب ما لم يرد في غيرها، ويقول صلى الله عليه وسلم "صلوها ولو طردتكم الخيل" ولأنها محصورة لا تحتمل الزيادة والنقصان، فأشبهت الفرائض، ثم إن فرض الصبح أقل الفروض عدداً فكانت كالمكملة. ووقت الراتبة القبلية يدخل بدخول وقت الفرائض، ويبقى وقتها ما لم يخرج وقت الفريضة، لكن المستحب تقديمها على الفريضة، ويدخل وقت الرواتب البعدية بفعل الفريضة، ويبقى مادام وقت الفريضة، والصحيح عند الشافعية استحباب قضاء الرواتب، وبه قال أحمد في رواية عنه، وقال أبو حنيفة ومالك في أشهر الروايات عنه: لا تقضى. والرواتب التي مع الفرائض لا تستحب فيها الجماعة، وروي عن مالك أنه لا بأس بأن يؤم النفر في النافلة.

ويستحب عند الجمهور فعل السنن الراتبة في السفر. لكنها في الحضر آكد، ومذهب ابن عمر أنها لا تصلى في السفر، وقد روي في الصحيحين عن حفص بن عاصم قال: صحبت ابن عمر في طريق مكة، فصلى لنا الظهر ركعتين، ثم أقبل وأقبلنا معه حتى جاء رحله، وجلس وجلسنا معه، فحانت منه التفاتة نحو حيث صلى، فرأى ناسًا قيامًا، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قلنا: يسبحون. فقال: لو كنت مسبحًا أتممت صلاتي، يا ابن أخي، صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت أبا بكر رضي الله عنه فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت عمر رضي الله عنه فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله وصحبت عثمان رضي الله عنه فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وقد قال الله تعالى {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [الأحزاب: 21] ودليل الجمهور الأحاديث الصحيحة الشائعة في باب استقبال القبلة، ومنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي النوافل على راحلته في السفر حيث توجهت به". والحكمة في الرواتب مع الفروض تكميل ما عساه قد يقع فيها من نقص ثبت ذلك في حديث لأبي داود، ولترتاض النفس بتقديم النافلة وتنشط بها وتستعد للفريضة بقلب وخشوع، ذكره النووي. وأزيد أن الله تعالى لما فرض الصلاة خمسين صلاة في اليوم والليلة وخففها إلى خمس فيها أجر الخمسين والحسنة بعشر أمثالها شرع للمسلم أن يتسابق إلى الخيرات وأن يزيد عما فرضه الله عليه شكرًا للَّه على رحمته به، واعترافًا بالفضل، ومقابلة التفضل بشيء من الإحسان. واللَّه أعلم

(253) باب جواز النافلة قائما وقاعدا وفعل بعض الركعة قائما وبعضها قاعدا

(253) باب جواز النافلة قائمًا وقاعدًا وفعل بعض الركعة قائمًا وبعضها قاعدًا 1460 - /1 عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ليلاً طويلاً. فإذا صلى قائمًا ركع قائمًا. وإذا صلى قاعدًا ركع قاعدًا. 1461 - عن عبد الله بن شقيق قال كنت شاكيًا بفارس فكنت أصلي قاعدًا. فسألت عن ذلك عائشة؟ فقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ليلاً طويلاً قائمًا. فذكر الحديث. 1462 - عن عبد الله بن شقيق العقيلي قال: سألت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل؟ فقالت: كان يصلي ليلاً طويلاً قائمًا، وليلاً طويلاً قاعدًا. وكان إذا قرأ قائمًا ركع قائمًا. وإذا قرأ قاعدًا ركع قاعدًا. 1463 - عن عبد الله بن شقيق العقيلي قال: سألنا عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر الصلاة قائمًا وقاعدًا. فإذا افتتح الصلاة قائمًا ركع قائمًا. وإذا افتتح الصلاة قاعدًا ركع قاعدًا. 1464 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في شيء من صلاة الليل جالسًا. حتى إذا كبر قرأ جالسًا، حتى إذا بقي عليه من السورة ثلاثون أو أربعون آية قام فقرأهن، ثم ركع. 1465 - عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي جالسًا. فيقرأ

وهو جالس، فإذا بقي من قراءته قدر ما يكون ثلاثين أو أربعين آية، قام فقرأ وهو قائم، ثم ركع، ثم سجد، ثم يفعل في الركعة الثانية مثل ذلك. 1466 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ وهو قاعد. فإذا أراد أن يركع قام قدر ما يقرأ إنسان أربعين آية. 1467 - عن علقمة بن وقاص قال: قلت لعائشة كيف كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعتين وهو جالس؟ قالت: كان يقرأ فيهما. فإذا أراد أن يركع قام فركع. 1468 - عن عبد الله بن شقيق قال: قلت لعائشة هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وهو قاعد؟ قالت: نعم. بعد ما حطمه الناس. 1469 - عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى كان كثير من صلاته وهو جالس. 1470 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم وثقل كان أكثر صلاته جالسًا. 1471 - عن حفصة رضي الله عنها أنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في سبحته قاعدًا. حتى كان قبل وفاته بعام. فكان يصلي في سبحته قاعدًا. وكان يقرأ بالسورة فيرتلها، حتى تكون أطول من أطول منها.

1472 - - عن الزهري بهذا الإسناد مثله غير أنهما قالا بعام واحد أو اثنين. 1473 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى صلى قاعدًا. 1474 - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: حدثت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الرجل قاعدًا نصف الصلاة" قال فأتيته فوجدته يصلي جالسًا. فوضعت يدي على رأسه. فقال: ما لك يا عبد الله بن عمرو؟ قلت: حدثت يا رسول الله أنك قلت "صلاة الرجل قاعدًا على نصف الصلاة" وأنت تصلي قاعدًا قال "أجل ولكني لست كأحد منكم". -[المعنى العام]- النافلة هي الزيادة والتطوع في الصلوات بعد أداء الفرائض والرواتب. ومن هذا المفهوم كان التيسير في أدائها أكثر من التيسير في أداء الصلوات بعامة، فتصلى على الراحلة، وحيثما توجهت براكبها دون شرط استقبال القبلة، وفي هذه الأحاديث تيسير آخر كبير، هو أن تصلى من قعود مع القدرة على القيام وللقاعد نصف ثواب القائم، بل تصلى الركعة الواحدة بعضها من قيام وبعضها من قعود، فيمكن للمتنفل أن يبدأ صلاته قائمًا فإذا أحس بفتور أو رغبة في الراحة جلس وأكمل القراءة، ويمكن أن يبدأ صلاته قاعدًا فإذا أحس خفة قام فأكمل القراءة ثم ركع وسجد، كما يمكن لمن قرأ جالسًا أن يقف ليركع، وله أن يركع من جلوس بانحناءة يقرب بها من السجود. ومدار النوافل التقرب إلى اللَّه واستحضار المناجاة، وكلما كثرت الركعات وكلما كثرت القراءة كثر الأجر والثواب، وقد شهدت بعض مشايخي يختم القرآن كله في كل ليلة من شهر رمضان في صلاة بدلاً من ختمه في غير صلاة، فينوي قائمًا أو قاعدًا فيقرأ الفاتحة ثم يقرأ جزءًا أو نصف جزء ثم يركع وهكذا: ولا شك أن قراءة القرآن في الصلاة أكثر ثوابًا من قراءته خارج الصلاة. ومن فضل اللَّه تعالى على الأمة الإسلامية أن يسر لها وسائل الطاعة، وسهل لها أبواب تحصيل الثواب فله الحمد والشكر، ومنه العون والتوفيق. -[المباحث العربية]- (كنت شاكيًا بفارس، فكنت أصلي قاعدًا، فسألت عن ذلك عائشة) قال النووي:

هكذا ضبطه جميع الرواة المشارقة والمغاربة "بفارس" بالباء الجارة وبعدها فاء، وغلط بعضهم، فقال: صوابه "نقارس" بالنون والقاف، وهو وجع معروف، لأن عائشة لم تدخل بلاد فارس قط، فكيف يسألها فيها؟ وغلطه القاضي عياض في هذا وقال: ليس بلازم أن يكون سألها في بلاد فارس، بل سألها بالمدينة بعد رجوعه من فارس، وهذا ظاهر الحديث، وأنه إنما سألها عن أمر انقضى. هل هو صحيح أم لا؟ لقوله "وكنت أصلي قاعدًا" اهـ. (ما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقرأ في شيء من صلاة الليل جالسًا) هذا النفي مقيد بما كان قبل الكبر، بدليل قولها "حتى إذا كبر قرأ جالسًا". (حتى إذا كبر) في القاموس: كبر ككرم كبرًا كعنب نقيض صغر أي بمعنى عظم فهو كبير، وكبر كفرح كبرًا كعنب طعن في السن وهذا هو المراد في روايتنا. (بعد ما حطمه الناس) في القاموس: الحطم - بفتح الحاء وسكون الطاء - الكسر، أو خاص باليابس، حطمه يحطمه - كضربه يضربه - والحطام ما تكسر من اليابس، وحطام البيض قشره، والحطيم من الكعبة حيث يتحطم الناس للدعاء. اهـ. والمراد من الحديث بعد ما كبر فيهم، قال النووي: كأنه لما حمله من أمورهم وأثقالهم والاعتناء بمصالحهم صيروه شيخًا محطومًا. اهـ. والعبارة تعطي معنى أنهم جعلوه شيخًا قبل أوانه. (لما بدن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم) قال أبو عبيد في تفسير هذا الحديث: بدن الرجل بفتح الدال المشددة تبدينًا إذا أسن. وقال: ومن رواه "بدن" بضم الدال المخففة فليس له معنى هنا، لأن معناه كثر لحمه، وهو خلاف صفته صلى اللَّه عليه وسلم. وقال القاضي عياض: روايتنا في مسلم عند جمهورهم "بدن" بالضم، وعن العذري بالتشديد، ولا ينكر اللفظان في حقه صلى اللَّه عليه وسلم، فقد قالت عائشة في صحيح مسلم بعد هذا بقريب "فلما أسن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم اللحم أوتر بسبع" وفي حديث آخر "ولحم" وفي آخر "أسن وكثر لحمه". اهـ. قال النووي: هذا كلام القاضي، والذي ضبطناه ووقع في أكثر أصول بلادنا بالتشديد. اهـ. قلت: ويرجح كلام القاضي قولها في الرواية نفسها "لما بدن وثقل" واللَّه أعلم. (حتى كان قبل وفاته بعام) في ملحق الرواية "بعام واحد أو اثنين" لعل الواقع كان عامًا وبعض عام فإذا حذفنا الكسر قلنا بعام واحد، وإذا جبرناه قلنا بعامين، وإذا رددنا أردنا عامًا وشيئًا. وهذه الرواية تحدد مدة صلاته صلى اللَّه عليه وسلم قاعدًا. (فوضعت يدي على رأسه) أي بعد أن انتهى من الصلاة، وذلك ليجذب انتباهه، ولعله كان هناك ما يمنع من وقوفه بين يديه، وفي رواية أبي داود "فوضعت يدي على رأسي" أي متعجبًا، وهي أقرب إلى الأدب.

-[فقه الحديث]- في فقه الحديث نقاط نحصرها في: صلاة النافلة قاعدًا - صلاة الفرض قاعدًا الوقوف بعد القعود أو القعود بعد الوقوف في الركعة الواحدة - ركوع الجالس وسجوده - كيفية القعود - ما يؤخذ من الحديث فوق ذلك من أحكام. أما عن صلاة النفل قاعدًا فيقول النووي: صلاة النفل قاعدًا مع القدرة على القيام، لها نصف ثواب صلاة القائم، أما إذا صلى النفل قاعدًا لعجزه عن القيام فلا ينقص ثوابه، بل يكون كثوابه قائمًا، فيتعين حمل الحديث - روايتنا الرابعة عشرة - في تنصيف الثواب على من صلى النفل قاعدًا مع قدرته على القيام هذا مذهبنا، وبه قال الجمهور في تفسير هذا الحديث، وحكي عن الباجي من أئمة المالكية أنه حمله على المصلي فريضة لعذر، أو نافلة لعذر أو لغير عذر وحمله بعضهم على من له عذر يرخص في القعود في الفرض والنفل ويمكنه القيام بمشقة، وأما قوله صلى اللَّه عليه وسلم "لست كأحد منكم" فهو عند أصحابنا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، فجعلت نافلته قاعدًا مع القدرة على القيام كنافلته قائمًا تشريفًا له. وقال القاضي عياض: معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم لحقه مشقة من القيام لحطم الناس وللسن فكان أجره تامًا بخلاف غيره ممن لا عذر له. اهـ. قال النووي: هذا كلام القاضي وهو ضعيف أو باطل لأن غيره صلى اللَّه عليه وسلم إن كان معذورًا فثوابه أيضًا كامل، وإن كان قادرًا على القيام فليس هو كالمعذور، فلا يبقى فيه تخصيص، فلا يحسن على هذا التقدير قوله "لست كأحد منكم" وإطلاق هذا القول. فالصواب ما قاله أصحابنا أن نافلته صلى اللَّه عليه وسلم قاعدًا مع القدرة على القيام ثوابها كثوابه قائمًا، وهو من الخصائص واللَّه أعلم. اهـ. والمحقق يرى أن قول النووي ببطلان قول القاضي فيه تحامل، لأن قوله صلى اللَّه عليه وسلم "لست كأحد منكم" يحتمل عدم المشابهة في قدرة التحمل في مثل هذه السن، أي فأنتم لم يحطمكم الناس بخلافي، أو إني ذو عذر، ويحتمل عدم المشابهة في الأجر والثواب، وكون الاحتمال الثاني راجحًا لمقام سؤال عبد اللَّه بن عمرو لا يجعل الاحتمال الأول باطلاً، وخصوصًا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل قاعدًا إلا بعد أن أسن وثقل وبدن وحطمه الناس ولو كانت خصوصية لاستخدمت قبل ذلك حيث لا عذر ولا مشقة والخصوصيات لا تثبت بالاحتمال. واللَّه أعلم. ثم قال النووي: والأصح عندنا جواز التنفل مضطجعًا للقادر على القيام والقعود، للحديث الصحيح في البخاري عن عمران بن حصين قال: كانت بي بواسير فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة، فقال: "صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا فإن لم تستطع فعلى جنب" اهـ. وعند الدارقطني "على جنبه الأيمن مستقبل القبلة بوجهه" قال الحافظ ابن حجر: وهو حجة للجمهور في الانتقال من القعود إلى الصلاة على الجنب وعن الحنفية وبعض الشافعية يستلقي على ظهره ويجعل رجليه إلى القبلة، ووقع في حديث على أن حالة الاستلقاء تكون عند العجز عن حالة

الاضطجاع. اهـ. ويسن عند الاستلقاء أن يضع شيئًا تحت رأسه ليرتفع ويصير وجهه إلى القبلة لا إلى السماء. هذا، والحديث الذي استدل به النووي على جواز التنفل مضطجعًا للقادر على القيام والقعود لا يصلح دليلاً له. لأنه في المعذور. واللَّه أعلم. وأما عن صلاة الفرض قاعدًا فيقول النووي: وأما الفرض فإن الصلاة قاعدًا مع قدرته على القيام لا تصح، فلا يكون فيه ثواب، بل يأثم به، قال أصحابنا: وإن استحله كفر كما لو استحل الزنا والربا من المحرمات الشائعة التحريم، وإن صلى الفرض قاعدًا لعجزه عن القيام، أو مضطجعًا لعجزه عن القيام والقعود فثوابه كثوابه قائمًا لم ينقص باتفاق أصحابنا، وقد ثبت في البخاري أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال "إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا" قال أصحابنا: ولا يشترط في العجز أن لا يتأتى القيام، ولا يكفي أدنى مشقة، بل المعتبر المشقة الظاهرة، فإذا خاف مشقة شديدة أو زيادة مرض، أو خاف راكب السفينة الغرق أو دوران الرأس صلى قاعدًا ولا إعادة. وأما عن الوقوف في بعض الصلاة والقعود في بعضها فإنه إذا صلى ركعة في الفريضة قاعدًا لعذر ثم صح وزال العذر أو صلى في النافلة ركعة قاعدًا ثم وجد خفة تمم ما بقي من الركعات قائمًا بانيًا على ما قدم، خلافًا لمن شذ وقال: يستأنف الصلاة قائمًا. وأما من بدأ صلاة الفرض بركعة قائمًا ثم عجز عن القيام في الركعة الثانية أو بدأ النافلة بركعة قائمًا، ثم بدا له أن يتمم قاعدًا فإنه يجوز له ذلك ولا إشكال. أما الإشكال ففي الوقوف بعد القعود أو القعود بعد الوقوف في الركعة الواحدة، فإن الرواية الأولى تقول فيها عائشة "فإذا صلى قائمًا ركع قائمًا، وإذا صلى قاعدًا ركع قاعدًا" والرواية الثالثة تقول "وكان إذا قرأ قائمًا ركع قائمًا وإذا قرأ قاعدًا ركع قاعدًا" والرواية الرابعة تقول "فإذا افتتح الصلاة قائمًا ركع قائمًا، وإذا افتتح الصلاة قاعدًا ركع قاعدًا" فهذه الروايات تمنع القعود بعد الوقوف والوقوف بعد القعود أثناء القراءة. لكن الرواية الخامسة، وفيها "قرأ جالسًا حتى إذا بقي عليه من السورة ثلاثون أو أربعون آية قام فقرأهن، ثم ركع" وقريب من هذا لفظ الروايتين السادسة والسابعة، وفي الرواية الثانية تقول عائشة "كان يقرأ فيهما، فإذا أراد أن يركع قام فركع". فهذه الروايات تجيز الوقوف بعد القراءة قاعدًا، سواء أتم القراءة قائمًا، أو قام للركوع من قعود وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وعامة العلماء وسواء في ذلك قام ثم قعد، أو قعد ثم قام. قال الحافظ ابن حجر: ومنعه بعض السلف عند عدم الضرورة لذلك، وهو غلط. ثم قال الحافظ: ويجمع بين الخبرين بأنه كان يفعل كلاً من ذلك بحسب النشاط وعدمه. وأما كيف يركع ويسجد من صلى جالسًا أو مضطجعًا فيقول النووي: إذا صلى على هيئة من المذكورات وقدر على الركوع والسجود أتى بهما، وإلا أومأ إليهما، منحنيًا برأسه، وقرب جبهته من

الأرض بحسب الإمكان، ويكون السجود أخفض من الركوع، فإن عجز عن الإشارة بالرأس أومأ بطرفه، وهذا كله واجب، فإن عجز عن الإيماء بالطرف أجرى أفعال الصلاة على قلبه. قال أصحابنا: ومادام عاقلاً لا يسقط عنه فرض الصلاة، ولنا وجه أنه إذا عجز عن الإيماء بالرأس سقطت عنه الصلاة، وهو مذهب أبي حنيفة، وهذا شاذ مردود ومخالف لما عليه الأصحاب، وأما حكاية صاحب الوسيط عن أبي حنيفة أنه قال: تسقط الصلاة إذا عجز عن القعود فمنكرة مردودة، والمعروف عنه أنه إنما يسقطها العجز عن الإيماء بالرأس، وحكى أصحابنا هذا عن مالك أيضًا والمعروف عن مالك وأحمد كمذهبنا. اهـ. وأما عن كيفية القعود البديل عن الوقوف في الفرض والنفل فيقول النووي: للشافعي قولان، أظهرهما يقعد مفترشًا، والثاني متربعًا، وقال بعض أصحابنا: ناصبًا ركبته اليمنى كالقارئ بين يدي المقرئ وكيف قعد جاز، لكن الخلاف في الأفضل. اهـ. -[ويؤخذ من الأحاديث المذكورة فوق ما تقدم: ]- 1 - استدل بالرواية الخامسة والسادسة والسابعة على استحباب تطويل القيام والقراءة في النافلة، وأنه أفضل من تكثير الركعات في ذلك الزمان وقول عائشة في الرواية السادسة "فإذا بقي من قراءته قدر ما يكون ثلاثين أو أربعين آية" دليل على أنه يقرأ فوق الثمانين، لأن البقية تطلق في الغالب على الأقل. وقال جماعة من العلماء: تكثير الركوع والسجود أفضل من تطويل القيام، لقوله صلى اللَّه عليه وسلم "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" وتوقف أحمد بن حنبل في المسألة، وقال بعضهم: أما في النهار فتكثير الركوع والسجود أفضل، وأما بالليل فتطويل القيام أفضل، وهذا الأخير حسن ويجمع بين الروايات. واللِّه أعلم. 2 - وفي الأحاديث إثبات مشروعية صلاة الليل، وسيأتي الكلام عليها في الباب التالي. 3 - يؤخذ من الروايتين العاشرة والحادية عشرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتكلف الشطط، بل كان يأتي من الأمور ما لا يشق عليه وهذا هو الإسلام السمح لا تزمت ولا تشدد ولا مغالاة. 4 - ومن الرواية الثانية عشرة يؤخذ استحباب الترتيل، وعدم الإسراع في القراءة. 5 - ومن الرواية الرابعة عشرة حرص الصحابة على الاقتداء والعمل بالسنة. 6 - وأن من اشتبه عليه أمر بادر بالسؤال عنه. 7 - وأنهم لم يكن يمنعهم الحياء في الدين أن يعترضوا على قوله صلى اللِّه عليه وسلم بفعله. واللَّه أعلم

(254) باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي صلى الله عليه وسلم في الليل وأن الوتر ركعة وأن الركعة صلاة صحيحة

(254) باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي صلى الله عليه وسلم في الليل وأن الوتر ركعة وأن الركعة صلاة صحيحة 1475 - عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة، فإذا فرغ منها اضطجع على شقه الأيمن، حتى يأتيه المؤذن فيصلي ركعتين خفيفتين. 1476 - عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء (وهي التي يدعو الناس العتمة) إلى الفجر إحدى عشرة ركعة. يسلم بين كل ركعتين، ويوتر بواحدة. فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر وتبين له الفجر وجاءه المؤذن قام فركع ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شقه الأيمن، حتى يأتيه المؤذن للإقامة. 1477 - - عن ابن شهاب بهذا الإسناد. وساق حرملة الحديث بمثله. غير أنه لم يذكر: وتبين له الفجر وجاءه المؤذن ولم يذكر: الإقامة. وسائر الحديث بمثل حديث عمرو سواء. 1478 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة. يوتر من ذلك بخمس. لا يجلس في شيء إلا في آخرها. 1479 - عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي ثلاث عشرة ركعة بركعتي الفجر. 1480 - عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سأل عائشة كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان؟ قالت: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى

عشرة ركعة. يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن. ثم يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن. ثم يصلي ثلاثًا. فقالت عائشة: فقلت: يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟ فقال "يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي". 1481 - عن أبي سلمة قال: سألت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: كان يصلي ثلاث عشرة ركعة. يصلي ثمان ركعات ثم يوتر. ثم يصلي ركعتين وهو جالس، فإذا أراد أن يركع قام فركع. ثم يصلي ركعتين بين النداء والإقامة من صلاة الصبح. 1482 - - عن أبي سلمة أنه سأل عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثله. غير أن في حديثهما: تسع ركعات قائمًا. يوتر منهن. 1483 - عن أبي سلمة قال: أتيت عائشة فقلت: أي أمه أخبريني عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: كانت صلاته في شهر رمضان وغيره ثلاث عشرة ركعة بالليل. منها ركعتا الفجر. 1484 - عن عائشة رضي الله عنها تقول: كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل عشر ركعات. ويوتر بسجدة. ويركع ركعتي الفجر فتلك ثلاث عشرة ركعة. 1485 - عن أبي إسحق قال: سألت الأسود بن يزيد عما حدثته عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كان ينام أول الليل ويحي آخره. ثم إن كانت له حاجة إلى أهله قضى حاجته، ثم ينام. فإذا كان عند النداء الأول (قالت) وثب (ولا والله ما قالت: قام) فأفاض عليه الماء. (ولا والله ما قالت: اغتسل. وأنا أعلم ما تريد) وإن لم يكن جنباً توضأ وضوء الرجل للصلاة، ثم صلى الركعتين. 1486 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل حتى يكون آخر صلاته الوتر.

1487 - عن مسروق قال: سألت عائشة عن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: كان يحب الدائم. قال قلت: أي حين كان يصلي؟ فقالت: كان إذا سمع الصارخ قام فصلى. 1488 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما ألفى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم السحر الأعلى في بيتي أو عندي إلا نائمًا. 1489 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى ركعتي الفجر فإن كنت مستيقظة حدثني. وإلا اضطجع. 1490 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل فإذا أوتر قال: "قومي فأوتري يا عائشة". 1491 - عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي صلاته بالليل وهي معترضة بين يديه فإذا بقي الوتر أيقظها فأوترت. 1492 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: من كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فانتهى وتره إلى السحر. 1493 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: من كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم. من أول الليل وأوسطه وآخره. فانتهى وتره إلى السحر. 1494 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فانتهى وتره إلى آخر الليل.

1495 - عن زرارة أن سعد بن هشام بن عامر أراد أن يغزو في سبيل الله، فقدم المدينة. فأراد أن يبيع عقارًا له بها، فيجعله في السلاح والكراع، ويجاهد الروم حتى يموت. فلما قدم المدينة لقي أناسًا من أهل المدينة، فنهوه عن ذلك. وأخبروه أن رهطًا ستة أرادوا ذلك في حياة نبي الله صلى الله عليه وسلم، فنهاهم نبي الله صلى الله عليه وسلم. وقال: "أليس لكم في أسوة؟ ". فلما حدثوه بذلك راجع امرأته. وقد كان طلقها، وأشهد على رجعتها. فأتى ابن عباس فسأله عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال ابن عباس: ألا أدلك على أعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: من؟ قال: عائشة. فأتها فاسألها. ثم ائتني فأخبرني بردها عليك. فانطلقت إليها. فأتيت على حكيم بن أفلح. فاستلحقته إليها. فقال: ما أنا بقاربها. لأني نهيتها أن تقول في هاتين الشيعتين شيئًا فأبت فيهما إلا مضيًا. قال فأقسمت عليه؛ فجاء. فانطلقنا إلى عائشة فاستأذنا عليها؛ فأذنت لنا فدخلنا عليها. فقالت: أحكيم؟ (فعرفته) فقال: نعم. فقالت: من معك؟ قال: سعد بن هشام. قالت: من هشام؟ قال: ابن عامر. فترحمت عليه. وقالت خيرًا. (قال قتادة وكان أصيب يوم أحد) فقلت: يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى. قالت: فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن. قال فهممت أن أقوم ولا أسأل أحدًا عن شيء حتى أموت. ثم بدا لي فقلت: أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: ألست تقرأ: يا أيها المزمل؟ قلت: بلى. قالت: فإن الله عز وجل افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولاً، وأمسك الله خاتمتها اثنى عشر شهرًا في السماء، حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوعًا بعد فريضة. قال: قلت: يا أم المؤمنين أنبئيني عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: كنا نعد له سواكه وطهوره. فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه من الليل. فيتسوك ويتوضأ ويصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم ينهض ولا يسلم، ثم يقوم فيصل التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم يسلم تسليمًا يسمعنا. ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد. وتلك إحدى عشرة ركعة يا بني. فلما سن نبي الله صلى الله عليه وسلم وأخذه اللحم أوتر بسبع. وصنع في الركعتين مثل صنيعه الأول. فتلك تسع يا نبي. وكان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها. وكان إذا غلبه نوم أو وجع عن قيام الليل صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة. ولا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة، ولا صلى ليلة إلى الصبح، ولا صام شهرًا كاملاً غير رمضان. قال فانطلقت إلى ابن

عباس فحدثته بحديثها. فقال: صدقت. لو كنت أقربها أو أدخل عليها لأتيتها حتى تشافهني به. قال قلت: لو علمت أنك لا تدخل عليها ما حدثتك حديثها. 1496 - عن سعد بن هشام أنه طلق امرأته ثم انطلق إلى المدينة ليبيع عقاره فذكر نحوه. 1497 - - عن سعد بن هشام أنه قال: انطلقت إلى عبد الله بن عباس. فسألته عن الوتر. وساق الحديث بقصته. وقال فيه: قالت: من هشام؟ قلت: ابن عامر. قالت: نعم المرء كان عامر. أصيب يوم أحد. 1498 - - عن زرارة بن أوفى أن سعد بن هشام كان جارًا له فأخبره أنه طلق امرأته. واقتص الحديث بمعنى حديث سعيد. وفيه: قالت: من هشام؟ قال ابن عامر. قالت: نعم المرء كان أصيب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد. وفيه: فقال حكيم بن أفلح: أما إني لو علمت أنك لا تدخل عليها ما أنبأتك بحديثها. 1499 - عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فاتته الصلاة من الليل من وجع أو غيره صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة. 1500 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملاً أثبته. وكان إذا نام من الليل أو مرض صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة. قالت: وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ليلة حتى الصباح. وما صام شهرًا متتابعًا إلا رمضان. 1501 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل".

1502 - عن القاسم الشيباني أن زيد بن أرقم رأى قومًا يصلون من الضحى. فقال: أما لقد علموا أن الصلاة في غير هذه الساعة أفضل. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "صلاة الأوابين حين ترمض الفصال". 1503 - عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل قباء وهم يصلون. فقال: "صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال". 1504 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صلاة الليل مثنى مثنى. فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة. توتر له ما قد صلى". 1505 - عن سالم عن أبيه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل؟ فقال "مثنى مثنى. فإذا خشيت الصبح فأوتر بركعة". 1506 - عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أنه قال: قام رجل فقال: يا رسول الله كيف صلاة الليل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صلاة الليل مثنى مثنى. فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة". 1507 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم. وأنا بينه وبين السائل. فقال: يا رسول الله كيف صلاة الليل؟ قال "مثنى مثنى. فإذا خشيت الصبح فصل ركعة. واجعل آخر صلاتك وترًا" ثم سأله رجل على رأس الحول وأنا بذلك المكان من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلا أدري هو ذلك الرجل أو رجل آخر. فقال له مثل ذلك.

1508 - - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم. فذكرا بمثله. وليس في حديثهما: ثم سأله رجل على رأس الحول وما بعده. 1509 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بادروا الصبح بالوتر". 1510 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: من صلى من الليل فليجعل آخر صلاته وترًا. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بذلك. 1511 - عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا". 1512 - عن ابن عمر رضي الله عنهما كان يقول: من صلى من الليل فليجعل آخر صلاته وترًا قبل الصبح. كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرهم. 1513 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الوتر ركعة من آخر الليل". 1514 - عن أبي مجلز قال: عن ابن عمر رضي الله عنهما يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الوتر ركعة من آخر الليل". 1515 - عن أبي مجلز قال: سألت ابن عباس عن الوتر؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ركعة من آخر الليل" وسألت ابن عمر فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "ركعة من آخر الليل".

1516 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد. فقال: يا رسول الله كيف أوتر صلاة الليل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى فليصل مثنى مثنى. فإن أحس أن يصبح سجد سجدة فأوترت له ما صلى". قال أبو كريب: عبيد الله بن عبد الله، ولم يقل ابن عمر. 1517 - عن أنس بن سيرين قال: سألت ابن عمر قلت: أرأيت الركعتين قبل صلاة الغداة أؤطيل فيهما القراءة؟ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل مثنى مثنى ويوتر بركعة. قال قلت: إني لست عن هذا أسألك. قال: إنك لضخم. ألا تدعني أستقرئ لك الحديث؟ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل مثنى مثنى، ويوتر بركعة، ويصلي ركعتين قبل الغداة. كأن الأذان بأذنيه. قال خلف: أرأيت الركعتين قبل الغداة. ولم يذكر: صلاة. 1518 - عن أنس بن سيرين قال: سألت ابن عمر بمثله. وزاد: ويوتر بركعة من آخر الليل. وفيه: فقال: به به. إنك لضخم. 1519 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الليل مثنى مثنى. فإذا رأيت أن الصبح يدركك فأوتر بواحدة". فقيل لابن عمر: ما مثنى مثنى؟ قال: أن تسلم [يسلم] في كل ركعتين. 1520 - عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أوتروا قبل أن تصبحوا". 1521 - عن أبي سعيد رضي الله عنه أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الوتر؟ فقال: "أوتروا قبل الصبح". 1522 - عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله. ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل. فإن صلاة آخر الليل مشهودة. وذلك أفضل". وقال أبو معاوية: محضورة.

1523 - عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أيكم خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر، ثم ليرقد. ومن وثق بقيام من الليل فليوتر من آخره. فإن قراءة آخر الليل محضورة، وذلك أفضل". 1524 - عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصلاة طول القنوت". 1525 - عن جابر رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الصلاة أفضل؟ قال: "طول القنوت" قال أبو بكر: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش. 1526 - عن جابر رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيرًا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه وذلك كل ليلة". 1527 - عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن من الليل ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله خيرًا إلا أعطاه إياه". 1528 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له ومن يسألني فأعطيه ومن يستغفرني فأغفر له". 1529 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل الله إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول فيقول: أنا الملك. أنا الملك. من ذا الذي يدعوني فأستجيب له من ذا الذي يسألني فأعطيه من ذا الذي يستغفرني فأغفر له فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر". 1530 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مضى شطر الليل أو

ثلثاه ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا فيقول: هل من سائل يعطي هل من داع يستجاب له هل من مستغفر يغفر له حتى ينفجر الصبح". 1531 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ينزل الله في السماء الدنيا لشطر الليل أو لثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له أو يسألني فأعطيه ثم يقول: من يقرض غير عديم ولا ظلوم". (قال مسلم) ابن مرجانة هو سعيد بن عبد الله ومرجانة أمه. 1532 - - عن سعد بن سعيد بهذا الإسناد وزاد: "ثم يبسط يديه تبارك وتعالى يقول: من يقرض غير عدوم ولا ظلوم". 1533 - عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يمهل حتى إذا ذهب ثلث الليل الأول نزل إلى السماء الدنيا فيقول: هل من مستغفر، هل من تائب، هل من سائل، هل من داع، حتى ينفجر الفجر". -[المعنى العام]- خاطب اللَّه رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: {يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً نصفه أو انقص منه قليلاً أو زد عليه .... } [المزمل: 1 - 4] كان ذلك في أوائل البعثة، فصدع صلى اللَّه عليه وسلم بأمر ربه فكان يقوم نصف الليل أو يزيد، وصلى بأصحابه التهجد سنة، ثم أنزل اللَّه التخفيف في آخر سورة المزمل، ولما فرضت الصلوات الخمس حافظ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على التهجد وصلاة الليل بقدر أخف مما قبل، فكان يصلي في كل ليلةٍ عددًا يتراوح بين سبع ركعاتٍ منها ركعة الوتر، وبين ثلاث عشرة ركعةً منها ركعة الوتر، وعرف الصحابة ذلك فاقتدوا به، وكان بعضهم يزيد عددًا، وبعضهم ينقص، فقد بنيت صلاة الليل على أساس التطوع لكن أغلب ما كان عليه صلى اللَّه عليه وسلم صلاة إحدى عشرة ركعة يصليها مثنى ويختم بواحدة، وكان أحيانًا يختم بثلاث بتسليمة واحدة، وأحيانًا يصلي أربعًا أربعًا ثم ثلاثًا، وأحيانًا يصلي ثمانيًا بجلسة واحدة لا يسلم، ثم يقوم التاسعة ويسلم، وكل هذه الأحوال لبيان الجواز. وكان أكثر أحواله صلى اللَّه عليه وسلم أن ينام أول الليل ويحيي آخره، لما في الثلث الأخير من الليل

من فضل، إذ تتنزل فيه الرحمات، ولبيان الجواز صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة الليل في أوقات الليل المختلفة، بما في ذلك الوتر، فأوتر في كل ساعة من ساعات الليل، في أوله تارةً وفي وسطه تارةً، وفي آخره تاراتٍ، كما اختلفت صلاته صلى اللَّه عليه وسلم للوتر، فتارةً كان يضم ركعة الوتر إلى ركعتين أو إلى ركعات قبلها، لكنه كان كثيرًا ما يفرد الوتر بركعة واحدة. وقد اضطجع صلى اللَّه عليه وسلم أحيانًا بعد صلاة الوتر على شقه الأيمن ليفصل بين صلاة الليل وصلاة الصبح، واضطجع أحيانًا بين سنة الفجر وصلاة فرضه، فَعدَّ ذلك الاضطجاع بعض العلماء من المستحبات، وَعدَّه بعضهم عادةً لا عبادةً. وكان من عاداته صلى اللَّه عليه وسلم أن يطيل القراءة في صلاة الليل ويكثر من الاستغفار. وهكذا شرعت صلاة الليل وشرع الوتر في نهايتها، وكانت من أفضل الصلوات لخلوها من الرياء والسمعة، ولخلوص القلب في الليل من مشاغل الحياة. -[المباحث العربية]- (يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء ... إلى الفجر) يتضح المعنى بتأويل المصدر المنسبك من "أن" والفعل، وموقعه الجر بالإضافة، أي فيما بين فراغه من صلاة العشاء إلى الفجر. (وهي التي يدعو الناس العتمة) عائد الصلة محذوف، أي التي يدعوها الناس العتمة، أي العشاء الآخرة، احترازًا من المغرب فهو يسمى أحيانًا بالعشاء. وفي القاموس: "والعشاء أول الظلام، أو من المغرب إلى العتمة. وفيه: عَتَّم الليل - بتشديد التاء - مَرَّ منه قطعة، والعَتَمَةُ محركة ثلث الليل الأول بعد غيبوبة الشفق أو وقت صلاة العشاء الآخرة". (فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر) في الكلام مضاف محذوف، أي سكت من أذان صلاة الفجر. (وتبين له الفجر) فائدة هذه الجملة بعد التي قبلها الاحتراز من الأذان الأول. (وجاء المؤذن) يُؤْذِنه بالصلاة، وهذا المجيء غير المجيء للإقامة، إذ بينهما الاضطجاع. (يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن) قال النووي: "معناه هن في نهاية من كمال الحسن والطول، مستغنيات بظهور حسنهن وطولهن عن السؤال عنه وعن الوصف". (كان يصلي ثلاث عشرة ركعة) قال النووي: "المختار الذي عليه الأكثر والمحققون من الأصوليين أن لفظة "كان" لا يلزم منها الدوام ولا التكرار، وإنما هي فعل ماض، يدل على وقوعه مرة، فإن دل دليل على التكرار عُمل به، وإلا فلا تقتضيه بوضعها، وقد قالت عائشة - رضي اللَّه عنها - "كنت أُطيِّب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لحِلِّه قبل الطواف"، ومعلوم أنه صلى اللَّه عليه وسلم لم يحج بعد

أن صحبته عائشة إلا حجة واحدة وهي حجة الوداع، فاستعملت "كان" في مرة واحدة كما قاله الأصوليون". (تسع ركعات قائمًا يوتر منهن) قال النووي: "كذا في بعض الأصول "منهن" وفي بعضها "فيهن" وكلاهما صحيح". (أي أمه) "أي" حرف نداء، "أم" منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة للتخفيف، وفتح الميم وجه من وجوه حركاتها الجائزة، كما يقول ابن مالك: واجعل منادي صح إن يضف ليا كعبد عبدي عبد عبدًا عبديًا والهاء في "أمه" هاء السكت. وكأنه قال: يا أمي. (منها ركعتا الفجر) قال النووي: "في أكثر الأصول "منها ركعتي الفجر" ويتأول على تقدير: يصلي منها ركعتي الفجر". اهـ. وهذا التأويل بعيد، ولا حرج أن نقول: إنه خطأ من الناسخ. (ويوتر بسجدة) أي بركعة كاملة بما فيها من قراءة وركوع وسجود، أطلق الجزء وأراد الكل. (وثب) أي قام بسرعة. (ثم صلى الركعتين) أي سنة الصبح. (كان يحب الدائم) أي يحب العمل الذي يداوم عليه، أي الذي يواظب على فعله عادة. (إذا سمع الصارخ قام فصلى) قال النووي: "الصارخ هنا هو الديك باتفاق العلماء، قالوا: وسمي بذلك لكثرة صياحه"، اهـ. قال الحافظ ابن حجر: "ووقع في مسند الطيالسي في هذا الحديث "الديك" والصرخة: الصيحة الشديدة، وجرت العادة بأن يصيح عند نصف الليل غالبًا. قال ابن التين: وهو موافق لقول ابن عباس: نصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل". (ما ألفى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم السحر الأعلى ... إلا نائمًا) "ما ألفاه" أي ما وجده، "السحر" بالرفع فاعل، وهو آخر الليل قبيل الفجر، وحكى الماوردي أنه السدس الأخير، وقيل: أوله الفجر الأول، والمراد من نومه: نومه بعد القيام الذي مبدؤه عند سماع الصارخ. (أيقظها فأوترت) الفاء هنا فصيحة، أي عاطفة على محذوف مطوي، أي أيقظها فتوضأت فأوترت. (من كل الليل قد أوتر) "كل الليل" ظرف لقوله: "أوتر" أي في كل الليل، وليس المراد أنه شغل كل أجزاء الليلة بالوتر، بل المراد أنه شغل جزئيات الليل في الليالي المتعددة بالوتر، كما هو صريح في الرواية السابعة عشرة، في قولها: "من أول الليل وأوسطه وآخره". (الكراع) بضم الكاف. والمراد هنا الخيل للحرب والجهاد.

(وكان قد طلقها) ليفسح لها أن تتزوج بغيره، لئلا يكون إمساكه لها إضرارًا، حيث عزم على مداومة الجهاد حتى الاستشهاد. (فأتى ابن عباس فسأله عن وتر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم) لعله لما أثنى عن عزيمته بالجهاد فكر في التعويض وتحصيل أكبر قدر من الثواب بقيام الليل. (فانطلقت إليها، فأتيت على حكيم بن أفلح) ربما قصد لقاء حكيم في طريقه وربما قابله صدفة. (فاستلحقته إليها) أي طلبت منه أن يلحق بها، وأن يأتيها معي. (ما أنا بقاربها) أي لا أقرب منها ولا أزورها. (لأنني نهيتها أن تقول في هاتين الشيعتين شيئًا) أي الفرقتين اللتين تحاربتا، أي لا تتكلم في الصراع الذي حدث بين علي كرم اللَّه وجهه وبين خصومه. أي لا تتكلم في السياسة. ومعنى هذا أن قصتنا كانت بعد معركة الجمل. (فأبت فيهما إلا مضيًا) أي فلم تعبأ بنهيي، واستمرت في تناول الفرق والأحزاب بالتأييد أو بالمعارضة والمؤاخذة واللوم. (فإن خلق نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم كان القرآن) معناه أن خلقه كان القرآن والوقوف عند حدوده والتأدب بآدابه، والاعتبار بأمثاله وقصصه، وتدبره وحسن تلاوته. ذكره النووي. (فإن اللَّه افترض قيام الليل في أول هذه السورة) بقوله: {يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً نصفه أو انقص منه قليلاً أو زد عليه .... } (فقام نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولاً) أي صلوا قيام الليل وحافظوا عليه حولاً. (فصار قيام الليل تطوعًا بعد فريضة) أي نسخ فرض قيام الليل بآخر السورة، وسيأتي إيضاح لذلك في فقه الحديث. (كنا نعد له سواكه وطهوره) أي نجهز له قبل أن ننام، والطَّهور بفتح الطاء ما يتطهر به، أي الماء. (فيبعثه اللَّه ما شاء أن يبعثه من الليل) أي فيوقظه اللَّه من الليل مدة يشاؤها. (فيذكر اللَّه ويحمده ويدعوه) أي يتشهد. (فلما أسن نبي اللَّه) قال النووي: "في معظم الأصول "سن" بدون همزة، وفي بعضها "أسن" وهذا هو المشهور في اللغة".

(وأخذه اللحم) أي أخذ جسمه اللحم، وكثر لحمه. (قلت: لو علمت أنك لا تدخل عليها ما حدثتك حديثها) أي عقابًا لك على هجرك لها ومقاطعتك إياها حتى تضطر إلى الذهاب إليها. وظاهر من هذا الحديث أن قائل ذلك لابن عباس هو سعد بن هشام، لكن ملحق هذه الرواية يسند هذا القول لحكيم، ونصه: "فقال حكيم بن أفلح: أما إني لو علمت أن لا تدخل عليها ما أنبأتك بحديثها". فلعلهما اشتركا في هذا القول لابن عباس أو قاله أحدهما فأيده الآخر فنسبت إلى كل منهما. (من نام عن حزبه) أي عن ورده، أي عما اعتاد أن يتطوع به من صلاة أو ذكر أو قرآن. (صلاة الأوابين) الأوَّاب: المطيع، وأصله الكثير الرجوع، أي إلى اللَّه بالطاعة والاستغفار. (حين ترمض الفصال) "الفصال": الصغار من أولاد الإبل، جمع فصيل. ويقال: رَمَضَ يَرْمَضُ، من باب علم يعلم. والرمضاء: الرمل الذي اشتدت حرارته بالشمس. فالمعنى: حين يحترق أخفاف صغار الإبل من الرمال الحارة. (أن رجلاً سأل) قال الحافظ ابن حجر: "لم أقف على اسمه، قيل: كان أعرابيًا من أهل البادية". (مثنى مثنى) أي اثنين اثنين، فمثنى ممنوع من الصرف للوصفية والعدل، والتكرار للتأكيد. (أرأيت الركعتين قبل صلاة الغداة) "أرأيت" معناها أخبرني، عن طريق مجازين. الأول في الاستفهام بإرادة مطلق الطلب بدلاً من طلب الفهم. الثاني في الرؤية بإرادة لازمها وهو الإخبار، فآل الأمر إلى طلب الإخبار المدلول عليه بلفظ أخبرني. والمراد من الركعتين قبل الغداة: سنة الصبح القبلية. (إني لست عن هذا أسألك) لأن السؤال كان عن تطويل القراءة في سنة الصبح، وكان الجواب عن صلاة الليل والوتر. وعذر ابن عمر أنه أراد سرد الحديث من أوله، وإن كان جواب السائل في آخره. (إنك لضخم) إشارة إلى الغباوة والبلادة وقلة الأدب. قالوا: لأن هذا الوصف يكون للضخم غالبًا، وإنما قال ذلك لأنه قطع عليه الكلام قبل تمام حديثه. قاله النووي. وأعتقد أن الرجل كان ضخم الجسم فعلاً، وأن ابن عمر وصفه بما هو فيه مداعبة وليس إشارة إلى الغباوة والبلادة كما ذكر النووي، فإن للرجل عذره الواضح الذي يبعد اتهامه بالغباء. (ألا تدعني أستقرئ لك الحديث) "ألا" بالتخفيف للتحضيض، أي الطلب برفق، أي دعني أستقرئ وأتمم لك الحديث، ومعناه أذكره وآتيك بنهايته وجميع أجزائه.

(ويصلي ركعتين قبل الغداة كأن الأذان بأذنيه) "كأن" بالهمز وتشديد النون، والمراد من الأذان هنا الإقامة، والمعنى أنه كان يسرع بركعتي الفجر إسراع من يسمع إقامة الصلاة خشية فوات أول الوقت، ومقتضى ذلك تخفيف القراءة فيهما، فيحصل بذلك الجواب عن سؤال أنس بن سيرين عن قدر القراءة فيهما. (به. به) باء مفتوحة بعدها هاء ساكنة. كلمة مكررة، اسم فعل أمر للزجر والكف، كقولك: مه. مه. وقيل: إنها لتفخيم الأمر بمعنى: بخ. بخ. والأول أنسب بقوله: إنك لضخم. (فإن صلاة آخر الليل مشهودة) وفسرها الراوي بقوله: "محضورة" أي تشهدها وتحضرها ملائكة الرحمة، وفي ذلك يقول تعالى: {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودًا} [الإسراء: 78]. (أفضل الصلاة طول القنوت) قال النووي: المراد بالقنوت هنا القيام باتفاق العلماء فيما علمت. اهـ. وفي القاموس: "القنوت: الطاعة والسكوت والدعاء والقيام في الصلاة والإمساك عن الكلام". (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا) وفي الرواية التاسعة والأربعين "ينزل اللَّه في السماء الدنيا" قال النووي: هكذا في جميع الأصول "في السماء" وهو صحيح. اهـ. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: "وقد اختلف في معنى النزول على أقوال: فمنهم من حمله على ظاهره وحقيقته، وهم المشبهة. تعالى اللَّه عن قولهم. ومنهم من أنكر صحة الأحاديث الواردة في ذلك جملة، وهم الخوارج والمعتزلة، وهو مكابرة، والعجب أنهم أَوَّلُوا ما في القرآن من نحو ذلك، وأنكروا ما في الحديث إما جهلاً وإما عنادًا. ومنهم من أجراه على ما ورد، مؤمنًا به على طريق الإجمال، منزهًا اللَّه تعالى عن الكيفية والتشبيه، وهم جمهور السلف، ونقله البيهقي وغيره عن الأئمة الأربعة. ومنهم من أَوَّله على وجه يليق، مستعمل في كلام العرب. ومنهم من أفرط في التأويل حتى كاد أن يخرج إلى نوع من التحريف. ومنهم من فصل بين ما يكون تأويله قريبًا مستعملاً في كلام العرب، وبين ما يكون بعيدًا مهجورًا، فأَوَّل في بعض، وفَوَّض في بعضٍ، وهو منقول عن مالك. قال البيهقي: وأسلمها الإيمان بلا كيف، والسكوت عن المراد إلا أن يَرِدَ ذلك عن الصادق صلى الله عليه وسلم، فيصار إليه، ومن الدليل على ذلك اتفاقهم على أن التأويل المعين غير واجب، فحينئذ التفويض أسلم". اهـ. (من يقرض غير عديم ولا ظلوم) أي من يقرض اللَّه تعالى؟ وفي ملحق الرواية "غير عدوم ولا ظلوم" أي غير فقير وغير ظالم، وفي هذا إشارة إلى وفاء القرض والإحسان. قال أهل اللغة: يقال: أعدَمَ الرجل: إذا افتقر، فهو مُعدَمٌ وعَدِيمٌ وعَدُومٌ. قال النووي: "والمراد بالقرض عمل الطاعة سواء فيه الصدقة والصلاة والصوم والذكر وغيرها من الطاعات، وسماه سبحانه وتعالى قرضًا ملاطفة للعباد وتحريضًا لهم على المبادرة إلى الطاعة". اهـ.

-[فقه الحديث]- يمكن تقسيم الحديث إلى نقطتين أساسيتين: صلاة الليل، وصلاة الوتر. وفي صلاة الليل تتعرض الأحاديث إلى حكمها، وفضلها، وعدد ركعاتها، وكيفية أدائها، وأفضل أوقاتها. وفي الوتر تتعرض الأحاديث لمثل ذلك. فالباحث يجد الرواية التاسعة عشرة تحيل حكم صلاة الليل إلى سورة المزمل، وتنص على أن اللَّه عز وجل افترض قيام الليل في أول هذه السورة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قاموا بصلاة الليل حولاً، اثنى عشر شهرًا - حتى أنزل اللَّه التخفيف، فصار قيام الليل تطوعًا بعد فريضة. وعن ذلك يقول النووي: "هذا ظاهره أنه صار تطوعًا في حق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والأمة. فأما الأمة فهو تطوع في حقهم بالإجماع. وأما النبي صلى الله عليه وسلم فاختلفوا في نسخه في حقه، والأصح عندنا نسخه، وأما ما حكاه القاضي عياض عن بعض السلف أنه يجب على الأمة من قيام الليل ما يقع عليه الاسم ولو قَدْرَ حَلْبِ شاةٍ، فغلط ومردود بإجماع من قبله، مع النصوص الصحيحة أنه لا واجب إلا الصلوات الخمس". اهـ. وقد ترجم البخاري بباب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب. قال الحافظ ابن حجر: "ولم أر النقل في القول بإيجاب قيام الليل إلا عن بعض التابعين. وقال ابن عبد البر: شذَّ بعض التابعين فأوجب قيام الليل ولو قَدْرَ حَلْبِ شاةٍ، والذي عليه جماعة العلماء أنه مندوب إليه". اهـ. وفي الناسخ لفرضية قيام الليل بحث، فظاهر حديث عائشة أن النسخ بآخر سورة المزمل، وأنه نزل بعد حول، وهو قوله تعالى: {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضًا حسنًا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرًا وأعظم أجرًا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم} [المزمل: 20]. ومقتضى ذلك أن النسخ وقع بمكة، لأن الإيجاب متقدم على فرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء وكانت قبل الهجرة. وحكى الشافعي عن بعض أهل العلم أن آخر السورة نسخ افتراض قيام الليل إلا ما تيسر منه، لقوله: {فاقرءوا ما تيسر منه} ثم نسخ فرض ذلك بالصلوات الخمس. وقيل: إن النسخ وقع بالمدينة، وإن الآية التي نسخت الوجوب مدنية. ويستند لهذا الرأي بقول أبي جعفر النحاس: إن السورة مكية إلا الآية الأخيرة. وهو مخالف لما عليه المحققون من أن السورة كلها مكية. واللَّه أعلم.

وفي فضل صلاة الليل تتحدث الروايات السبع الأخيرة من روايات الباب، وهي وإن كانت في فضل الطاعة بالليل بصفة عامة فإن خير الطاعات الصلاة، وقد ساقها الإمام مسلم تحت الباب دليلاً على الترغيب في صلاة الليل وفضلها. وفي البخاري: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال عن عبد اللَّه بن عمر: "نعم الرجل عبد اللَّه لو كان يصلي من الليل". فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلاً. وعن أبي هريرة: "أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل". وفي عدد ركعات صلاة الليل تصرح الرواية الأولى والثانية والخامسة بأنها إحدى عشرة ركعة منها الوتر واحدة، وفي الرواية الرابعة والسادسة والسابعة والثامنة أنها ثلاث عشرة ركعة منها ركعتا الفجر، فهذه الروايات في مجموعها تتفق على أنها عشر ركعات. أما الرواية التاسعة عشرة فتحكي صلاته صلى اللَّه عليه وسلم في آخر حياته بعدما بدن وزاد لحم جسمه وأنه صلاها ثماني ركعات، وكأنه اختصر العدد ركعتين. وجاء في البخاري عن عائشة: أن صلاته صلى اللَّه عليه وسلم بالليل سبع وتسع. وكأنه اختصر العدد ركعتين أخريين. قال النووي: "قال القاضي: قال العلماء: في هذه الأحاديث إخبار كل واحدٍ من ابن عباس وزيدٍ وعائشةٍ بما شاهد، وأما الاختلاف في حديث عائشة فقيل: هو منها، وقيل: من الرواة عنها. فيحتمل أن إخبارها بإحدى عشرة هو الأغلب، وباقي رواياتها إخبار منها بما كان يقع نادرًا في بعض الأوقات، فأكثره خمس عشرة بركعتي الفجر، وأقله سبع، وذلك بحسب ما كان يحصل من اتساع الوقت، أو ضيقه بطول قراءة، أو لنوم، أو عذر، أو مرض أو غيره، أو في بعض الأوقات عند كبر السن، أو تارةً تَعدُّ الركعتين الخفيفتين في أول قيام الليل، وتارةً تَعدُّ ركعتي الفجر، وتارةً تحذفهما، وقد تكون عدَّت راتبة العشاء مع ذلك تارةً وحذفتها تارة. قال القاضي: ولا خلاف أنه ليس في ذلك حد لا يزاد عليه، ولا ينقص منه، وأن صلاة الليل من الطاعات التي كلما زاد فيها زاد الأجر، وإنما الخلاف في فعل النبي صلى الله عليه وسلم وما اختاره لنفسه". واللَّه أعلم وفي كيفية أدائها تصرح الروايات السادسة والعشرون، والسابعة والعشرون، والثامنة والعشرون، والتاسعة والعشرون، والسادسة والثلاثون، والسابعة والثلاثون، والثامنة والثلاثون، بأنها مثنى مثنى، وفي الرواية الثامنة والثلاثين يفسر ابن عمر معنى مثنى بأنه يسلم في كل ركعتين، وبذلك تصرح الرواية الثانية من روايات الباب. أما الرواية الخامسة فلفظها: "يصلي أربعًا ... ثم يصلي أربعًا ... ثم يصلي ثلاثًا". وهذه الرواية يمكن فهمها على أن الأربع على دفعتين بتسليمتين، وأن الثلاث كذلك، والغرض من التعبير أنه صلى اللَّه عليه وسلم كان يستريح بين كل أربع. وكذلك الرواية السادسة في لفظها: "يصلي ثمان ركعات". يمكن أن تكون مثنى مثنى. وكذلك قولها في الرواية الثامنة: "عشر ركعات". أما الرواية التاسعة عشرة فلا يمكن حملها على هذه الحالة، إذ لفظها: "فيتسوك ويتوضأ ويصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر اللَّه ويحمده ويدعوه [أي يتشهد] ثم ينهض ولا يسلم، ثم يقوم فيصلي التاسعة، ثم يقعد، فيذكر اللَّه ويحمده ويدعوه، ثم يسلم".

وفي هذه المسألة يقول النووي: "إن جمع الركعات بتسليمة واحدة لبيان الجواز، وإلا فالأفضل التسليم في كل ركعتين، وهو المشهور من فعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأمره بصلاة الليل مثنى مثنى". اهـ. وفي أفضل الأوقات لصلاة الليل تقول الرواية التاسعة: "كان ينام أول الليل ويحيي آخره". وتقول الرواية الأربعون: "من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك أفضل". وفي ذلك دليل على أن قيام الليل في الثلث الأخير أفضل، ويقوي هذا الرواية السادسة والأربعون، وفيها: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ ومن يسألني فأعطيه؟ ومن يستغفرني فأغفر له؟ ". وقريب منها الرواية الثامنة والأربعون والتاسعة والأربعون. هذا من حيث أفضل الأوقات وأما من حيث الجواز فإن الرواية السابعة عشرة صريحة فيه، ولفظها: "من كل الليل قد أوتر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، من أول الليل وأوسطه وآخره، فانتهى وتره إلى السحر". أما في حكم صلاة الوتر فإن الرواية الثانية والثلاثين، ولفظها: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا". قد استدل بها بعض من قال بوجوب الوتر، قال الحافظ ابن حجر: "وتعقب بأن صلاة الليل ليست واجبة، فكذا آخره، وبأن الأصل عدم الوجوب حتى يقوم دليله". قال القاضي أبو الطيب: "إن العلماء كافة قالت: إنه سنة، حتى أبو يوسف ومحمد، قال أبو حنيفة وحده: هو واجب وليس بفرض. وقال أبو حامد في تعليقه: الوتر سنة مؤكدة، ليس بفرض ولا واجب، وبه قالت الأئمة كلها إلا أبا حنيفة". وقد دافع البدر العيني في كتابه عمدة القاري، ورد على ما سبق فقال: "هذا كله من آثار التعصب، وهذا الكلام ليس بصحيح ولا قريب من الصحة، وأبو حنيفة لم ينفرد بذلك، هذا القاضي أبو بكر بن العربي ذكر عن سحنون وأصبغ بن الفرج وجوبه، وحكى ابن حزم أن مالكًا قال: من تركه أُدِّب، وكانت جُرحةً في شهادته. وحكاه ابن قدامة في المغني عن أحمد. وفي المصنف عن مجاهد بسند صحيح: هو واجب ولم يكتب. وحكى ابن بطال وجوبه على أهل القرآن. ثم استدل العيني بأحاديث لم تخل من مقال، وأطال الدفاع عن وجوب الوتر مما لا يتسع له هذا البحث، فمن أراده فليرجع إليه. وفي عدد ركعات الوتر نقول: الرواية الأولى، والثانية، والثامنة، والسادسة والعشرون، والسابعة والعشرون، والثامنة والعشرون، والتاسعة والعشرون، والرابعة والثلاثون، والسابعة والثلاثون، والثامنة والثلاثون، صريحة في أن الوتر ركعة، وألفاظها على الترتيب: "يوتر منها بواحدة". "ويوتر بواحدة". "ويوتر بسجدة". "فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى". "فإذا خشيت الصبح فأوتر بركعة". "فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة". "فإذا خشيت الصبح فصل ركعة". "ركعة من آخر الليل". "فإن أحس أن يصبح سجد سجدة فأوترت له ما صلى". "ويوتر بركعة". "فإذا رأيت أن الصبح يدركك فأوتر بواحدة".

وهناك روايات تحكي غير واحدة، فالرواية الثالثة: "يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك بخمس، لا يجلس في شيء إلا في آخرها". والرواية الخامسة: "ثم يصلي ثلاثًا". والرواية التاسعة عشرة: "ويصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر اللَّه ويحمده ويدعوه، ثم ينهض ولا يسلم، ثم يقوم فيصلي التاسعة، ثم يقعد ... ثم يسلم". وفي مسلم أحاديث صريحة في إحدى عشرة وثلاث عشرة. قال النووي: "هذا كله دليل على أن الوتر ليس مختصًا بركعة ولا بإحدى عشرة، ولا بثلاث عشرة، بل يجوز ذلك وما بينه، وأنه يجوز جمع ركعات بتسليمة واحدة". اهـ. واحتج الشافعي بالمجموعة الأولى المذكورة على أن الإيتار بركعة واحدة جائز، وبه قال الجمهور. وقال أبو حنيفة: لا يصح الإيتار بواحدة، ولا تكون الركعة الواحدة صلاة قط، ويجيب عن الأحاديث المذكورة بأن معناها يوتر بواحدة وركعتين قبلها، فيصير وتره ثلاثًا. هكذا يقول البدر العيني، ويستدل على قوله بما رواه النسائي عن عائشة: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا يسلم في ركعتي الوتر". "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوتر بثلاث لا يسلم إلا في آخرهن". وهذا الاستدلال لا يسلم له، إذ يعارضه الأحاديث الكثيرة الصحيحة، ثم هذا إن صح دل على الجواز، لا على عدم صحة غيره الذي هو أصل الدعوى. ثم يقول البدر العيني: فإن قلت: ما تقول في قوله صلى اللَّه عليه وسلم: "فإذا خشيت الصبح فأوتر بركعة"؟ . قلت: معناه متصلة بما قبلها، ولذلك قال: "توتر لك ما قبلها". اهـ. وواضح أن هذا التأويل إن جاز في هذه الرواية فإنه لا يجوز في مثل الرواية الأولى "يوتر منها بواحدة". ثم يقول البدر العيني: فإن قلت: روي أنه قال: "من شاء أوتر بركعة، ومن شاء أوتر بثلاث أو بخمس"؟ . قلت: هو محمول على أنه كان قبل استقرارها. اهـ. وواضح أن هذا الاحتمال بعيد. ثم إن الحنفية يشترطون وصل الثلاث وعدم السلام بينها، ويجيبون بأن ما ثبت خلاف ذلك، كان لعذر دخول الوقت والخوف من عدم التمكن من صلاة الثلاث موصولة. والباحث المحقق يرى قوة حجة الشافعي والجمهور ويميل إلى ما قالوا به. واللَّه أعلم. وفي وقت صلاة الوتر يقول النووي: "يستحب جعل الوتر آخر الليل، سواء كان للإنسان تهجد أم لا إذا وثق بالاستيقاظ آخر الليل، إما بنفسه وإما بإيقاظ غيره، واستدل النووي بقوله صلى اللَّه عليه وسلم: "فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة توتر له ما صلى". على أن وقته يخرج بطلوع الفجر. قال: وهو المشهور من مذهبنا، وبه قال جمهور العلماء". اهـ. ويؤيد هذا ما رواه أبو داود والنسائي عن ابن عمر قال: "من صلى من الليل فليجعل آخر صلاته وترًا؛ فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بذلك، فإذا كان الفجر فقد ذهب كل صلاة الليل والوتر". وفي صحيح ابن خزيمة: "من أدركه الصبح ولم يوتر فلا وتر له". وقال الحافظ ابن حجر: "حكى ابن المنذر عن جماعة من السلف، أن الذي يخرج بالفجر وقته الاختياري ويبقى وقت الضرورة إلى قيام صلاة الصبح؛ وحكاه القرطبي عن مالك والشافعي وأحمد". اهـ. أما أول وقت الوتر فقيل: يدخل بالفراغ من فريضة العشاء، سواء صلى بينه وبين العشاء

نافلة أم لا، وسواء أوتر بركعة أم بأكثر، فإذا أوتر قبل فعل العشاء لم يصح وتره، وسواء تعمده أم سها وظن أنه صلى العشاء أم ظن جوازه. وقيل: يدخل وقت الوتر بدخول وقت العشاء وله أن يصليه قبلها. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - يؤخذ من الرواية الأولى والثانية استحباب الاضطجاع بعد صلاة الوتر، لكن الرواية الأولى تجعل صلاة الركعتين الخفيفتين، وهما سنة الصبح بعد الاضطجاع، ومذهب الشافعية استحباب الاضطجاع بعد ركعتي الفجر، وأنكر الاضطجاع مالك، وبعض السلف، واعتبروه بدعة. وممن قال بذلك من الصحابة عبد اللَّه بن مسعود، وعبد اللَّه بن عمر، فقد روي في مصنف ابن أبي شيبة قال ابن عمر: "ما بال الرجل إذا صلى الركعتين يتمعك كما تتمعك الدابة والحمار، إذا سلم فقد فصل". أي فصل ما بين النفل والفرض. وقال النووي: "قال القاضي عياض: وذهب مالك وجمهور العلماء، وجماعة من الصحابة إلى أنه بدعة. وأشار إلى أن رواية الاضطجاع بعد ركعتي الفجر مرجوحة، قال: فتقدم رواية الاضطجاع قبلهما. قال: ولم يقل أحد في الاضطجاع قبلهما: إنه سنة فكذا بعدهما. قال: وقد ذكر مسلم عن عائشة [روايتنا الثالثة عشرة] "فإذا كنت مستيقظة حدثني وإلا اضطجع". فهذا يدل على أنه ليس بسنة، وأنه تارة كان يضطجع. هذا كلام القاضي. قال النووي: والصحيح أو الصواب أن الاضطجاع بعد سنة الفجر، لحديث أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على يمينه". رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم. قال الترمذي: هو حديث حسن صحيح. فهذا حديث صحيح صريح في الأمر بالاضطجاع. وأما حديث عائشة بالاضطجاع بعدها وقبلها، وحديث ابن عباس قبلها فلا يخالف هذا، فإنه لا يلزم من الاضطجاع قبلها أن لا يضطجع بعدها، ولعله صلى اللَّه عليه وسلم ترك الاضطجاع بعدها في بعض الأوقات، بيانًا للجواز لو ثبت الترك، ولم يثبت، فلعله كان يضطجع قبل وبعد، وإذا صح الحديث - في الأمر بالاضطجاع بعدها مع روايات الفعل الموافقة للأمر به - تعين المصير إليه، وإذا أمكن الجمع بين الأحاديث، لم يجز رد بعضها، وقد أمكن بطريقتين أشرنا إليهما، أحدهما: أنه اضطجع قبل وبعد. والثاني: أنه تركه بعد في بعض الأوقات لبيان الجواز". هذا كلام النووي. وهناك قول شاذ: وهو أن الاضطجاع واجب مفترض لا بد من الإتيان به، وإلا لم تجزه صلاة الصبح استنادًا إلى الحديث السابق الذي رواه أبو داود والترمذي. وهو قول محمد بن حزم الظاهري. والذي تستريح إليه النفس، أن الاضطجاع الذي كان يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن عبادة تسن، وإنما كان للراحة والنشاط لصلاة الصبح، يشهد لذلك ما أخرجه عبد الرزاق أن عائشة كانت تقول: "إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضطجع لسنة، ولكنه كان يدأب ليلته فيستريح". فإذا ضممنا إلى ذلك قول الشافعي: تتأدى السنة بكل ما يحصل به الفصل من مشي وكلام وتحول. استراحت النفس إلى أن الاضطجاع ليس سنة تعبدية. 2 - كما يؤخذ من الروايتين استحباب كون الاضطجاع على الشق الأيمن - عند من يقول باستحباب

الاضطجاع أو وجوبه - وقد قيل في حكمة ذلك: أن القلب في جهة اليسار، فالنوم على اليمين أخف وأصح، وربما كان لاستحباب التيامن بصفة عامة. 3 - ويؤخذ منهما أيضًا استحباب اتخاذ مؤذن راتب للمسجد. 4 - وجواز إعلام المؤذن الإمام بحضور الصلاة وإقامتها واستدعائه لها. 5 - وتخفيف ركعتي الفجر، وقد وضحنا ذلك وما يقرأ فيهما قبل ثلاثة أبواب. 6 - ويؤخذ من الرواية الخامسة، والثانية والأربعين، والثالثة والأربعين استحباب طول القراءة في صلاة الليل وقد أسهبنا القول في تفضيل طول القراءة أو كثرة الركعات في الباب السابق. 7 - ومن الرواية الخامسة عدم نوم قلبه صلى اللَّه عليه وسلم خصوصية له. قال النووي: "وأما حديث نومه صلى اللَّه عليه وسلم في الوادي، فلم يعلم بفوات وقت الصبح حتى طلعت الشمس، فإن طلوع الفجر والشمس متعلق بالعين لا بالقلب، وأما أمر الحدث ونحوه فمتعلق بالقلب. وقيل: إنه في وقت ينام قلبه وفي وقت لا ينام، فصادف الوادي نومه، والصواب الأول". اهـ. 8 - ومن الرواية السادسة جواز النفل جالسًا. 9 - وقد أخذ بظاهرها الأوزاعي وأحمد فيما حكاه القاضي عياض عنهما، فأباحا ركعتين بعد الوتر جالسًا. وقال أحمد: لا أفعله ولا أمنع من فعله. قال: وأنكره مالك. قال النووي: "والصواب أن هاتين الركعتين فعلهما صلى اللَّه عليه وسلم لبيان جواز الصلاة بعد الوتر ولم يواظب على ذلك، بل فعله مرة، أو مرتين، أو مرات قليلة". اهـ. وهل إذا فعل المصلي ذلك يحتاج إلى وتر آخر؟ ذهب الأكثرون إلى أنه لا يحتاج إلى وتر آخر لحديث النسائي وابن خزيمة: "لا وتران في ليلة". 10 - ومن قوله: "وثب" في الرواية التاسعة، اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بالعبادة والإقبال عليها بنشاط. 11 - ومن نفي الراوي لبعض العبارات تحري الصحابة ومن بعدهم في رواية الحديث والتحرز حتى من اللفظ المرادف. 12 - ومن قوله: "وأنا أعلم ما تريد". الاكتفاء بالإشارة فيما هو شأنه الاستحياء. 13 - وجواز النوم مع الجنابة. 14 - ومن الرواية الحادية عشرة، الحث على القصد في العبادة، وأنه ينبغي للإنسان أن لا يحتمل من العبادة إلا ما يطيق الدوام والمحافظة عليه. 15 - استدل البخاري وغيره بالرواية الثالثة عشرة، على جواز الكلام بين صلاة الفجر وصلاة الصبح. خلافًا لمن كره ذلك من الكوفيين وبعض السلف باعتباره وقت استغفار، والصواب الإباحة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وكونه وقت استحباب الاستغفار لا يمنع من الكلام. 16 - ويؤخذ من الرواية الرابعة عشرة اهتمام الشارع بالوتر وإيقاظ الأهل لأدائه.

17 - ومن الرواية الخامسة عشرة، جواز اعتراض المرأة بين يدي المصلي. 18 - ومن الرواية التاسعة عشرة، أن الرهبانية أو ترك الدنيا والتفرغ للجهاد الكفائي ليس من الشريعة، ومنهي عنه. 19 - وأنه يستحب للعالم إذا سئل عن شيء ويعرف أن غيره أعلم منه به أن يرشد السائل إليه، فإن الدين النصيحة. 20 - والإنصاف والاعتراف بالفضل لأهله والتواضع. 21 - واستحباب التأهب والأخذ بأسباب العبادة قبل وقتها، والاعتناء بها. 22 - واستحباب السواك عند القيام من النوم. 23 - واستحباب المحافظة على الأوراد وما اعتاد المسلم من الطاعات. 24 - واستدل به من يقول بقضاء الوتر، وهو مذهب الشافعية. 25 - وفضيلة الصلاة قبل الزوال وبعد اشتداد حرارة الشمس، وهو أفضل أوقات صلاة الضحى. 26 - وتكريم المسلم بذكر فضائل أبيه والترحم عليه. 27 - استدل به بعضهم على كراهية قيام جميع الليل، وقيل: الكراهة في المداومة على قيامه كله. وظاهر الحديث مع القول الأول. 28 - ويؤخذ منه الأخذ بالرفق للنفس، والاقتصاد في العبادة وترك التعمق فيها. 29 - ومن الرواية الثامنة والعشرين، أن قضاء ما فات بسبب النوم لا ينقص ثوابه عن الأداء إذا أدى عقب القيام. 30 - ومن الرواية الثالثة والعشرين أن نفل النهار ليس مثنى، بل يصلى أربعًا. وهو مذهب الحنفية، وهو مفهوم مخالفة غير لازم. 31 - ومن الرواية السابعة والثلاثين، جواب السائل بأكثر مما سأل عنه إذا كان مما يحتاج إليه. 32 - ومن الرواية الرابعة والأربعين وما بعدها، إثبات ساعة الإجابة. 33 - والحث على الدعاء في جميع ساعات الليل رجاء مصادفتها. 34 - وأن الثلث الأخير أنسب الأوقات للاستغفار والدعاء. قال تعالى: {وبالأسحار هم يستغفرون} [الذاريات: 18] 35 - سعة رحمة اللَّه وكثرة عطائه وإجابته وإسباغ نعمته.

(255) باب الترغيب في قيام الليل وهو التراويح وباب الندب الأكيد إلى قيام ليلة القدر وبيان دليل من قال: إنها ليلة سبع وعشرين

(255) باب الترغيب في قيام الليل وهو التراويح وباب الندب الأكيد إلى قيام ليلة القدر وبيان دليل من قال: إنها ليلة سبع وعشرين 1534 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه". 1535 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة فيقول "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك. ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر. وصدرًا من خلافة عمر على ذلك. 1536 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه". 1537 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من يقم ليلة القدر فيوافقها أراه قال إيمانًا واحتسابًا غفر له". 1538 - عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد ذات ليلة فصلى بصلاته ناس ثم صلى من القابلة فكثر الناس ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما أصبح قال: "قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم". قال: وذلك في رمضان. 1539 - عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من جوف الليل

فصلى في المسجد. فصلى رجال بصلاته. فأصبح الناس يتحدثون بذلك. فاجتمع أكثر منهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليلة الثانية. فصلوا بصلاته. فأصبح الناس يذكرون ذلك. فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة. فخرج فصلوا بصلاته فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله. فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فطفق رجال منهم يقولون الصلاة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خرج لصلاة الفجر. فلما قضى الفجر أقبل على الناس. ثم تشهد فقال: "أما بعد فإنه لم يخف علي شأنكم الليلة ولكني خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها". 1540 - عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (وقيل له إن عبد الله بن مسعود يقول: من قام السنة أصاب ليلة القدر). فقال أبي: والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي رمضان (يحلف ما يستثني) ووالله إني لأعلم أي ليلة هي. هي الليلة التي أمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها. هي ليلة صبيحة سبع وعشرين. وأمارتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها. 1541 - عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال: في ليلة القدر: والله إني لأعلمها وأكثر علمي هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها. هي ليلة سبع وعشرين. وإنما شك شعبة في هذا الحرف: هي الليلة التي أمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وحدثني بها صاحب لي عنه. -[المعنى العام]- جعل اللَّه النهار معاشًا وجعل الليل سكنًا وراحةً ونومًا، وجعل صلوات النهار في أوله ووسطه وآخره، فالصبح والظهر والعصر والمغرب كلها في النهار أو متصلة بالنهار، وجعل صلاة العشاء وهي الصلاة الليلية الوحيدة في أول الليل وقبل النوم المعتاد لبني آدم، وكأن اللَّه تعالى شرع الصلوات المفروضة في أوقات الكفاح والعمل لئلا ينصرف الناس إلى المادية الصرفة، ولئلا تشغلهم الدنيا عن الآخرة، ولم يكلفهم ما يشق عليهم من القيام من النوم للعبادة، لكنه مع ذلك جعل ميدان العبادة الليلية مفتوحًا للمتسابقين في الخير المتنافسين في الطاعات، فحَبَّب ورغب في صلاة الليل بعامة، وحبب ورغب في صلاة الليل في شهر رمضان بخاصة وهي صلاة التراويح.

ولقد تفضل اللَّه على الأمة الإسلامية فجعل الحسنة بعشر أمثالها، وزاد تفضله عليها فأتاح لهم مواسم تتجلى فيها رحمته ومغفرته وإنعامه وتتضاعف فيها الحسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة إلى جزاء غير محدود ومغفرة وفيرة. ومن هذه المواسم أيام شهر رمضان ولياليه، فكان صلى اللَّه عليه وسلم يرغب في قيام الليل في رمضان ترغيبًا لا يماثله ترغيب، فكان يقول: "من قام رمضان - أي من صلى صلاة القيام وصلاة الليل في رمضان - إيمانًا واحتسابًا - مؤمنًا بوعد اللَّه مخلصًا في صلاته قاصدًا بها وجه اللَّه - غفر له ما تقدم من ذنبه". وزاد هذا الترغيب ترغيبًا عمليًا، إذ قام يصلي التراويح في المسجد وفي جماعة، مع أنه الداعي إلى أن تكون صلاة الليل في البيوت وفرادى، صلى أول ليلة فصلى وراءه الناس، وصلى الليلة الثانية فتضاعف خلفه عدد الناس، وصلى الليلة الثالثة فعجز المسجد عن استيعاب المصلين خلفه، وانتظروه في الليلة الرابعة فلم يخرج، فنادوا: الصلاة الصلاة. فلم يخرج إليهم حتى يئسوا وانصرفوا، فلما خرج في صلاة الفجر قال لهم: علمت اجتماعكم للصلاة ولم يخف على انتظاركم لخروجي، ولكني خفت من المواظبة أن تلتزموا ما لا يلزمكم به الشرع، وأن تعتقدوا فرضية ما ليس بفرض، فصلوا أيها الناس صلاة الليل كيفما تصلون. واستمر الأمر على ذلك بقية حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر. ودخل عمر المسجد ليلة فرأى أفرادًا يصلون، ووجد جماعات، كل جماعة بإمام، ورأى أن مظهر الفرقة هذا يتنافى ومبدأ الإسلام الداعي إلى التجمع الناهي عن التفرق، ورأى أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد شرع الجماعة في صلاة الليل في رمضان، وأنه لم يمنعه من المواظبة عليها إلا خشية الافتراض، وقد زال هذا المانع واستبعدت هذه الخشية فلا وحي ولا جديد يجد في التشريع، فطلب من الفقيه القارئ أبي بن كعب أن يؤم الناس، وطلب من الناس أن يصلوا قيام رمضان جماعة. فقيل له: كيف تأمر ببدعة؟ فقال: إن كانت الجماعة والتجمع بدعة فنعمت البدعة هي. واستقر الأمر على ذلك، ولم يعترض أحد من المسلمين عليه حتى يومنا هذا، فكان إجماعًا حسنًا. تقبل اللَّه صلاتنا وقيامنا وركوعنا وسجودنا وختم بالصالحات أعمالنا. -[المباحث العربية]- (من قام رمضان) أي من قام ليالي رمضان، أي صلى صلاة الليل في رمضان، والمراد صلاة التراويح، والتراويح جمع ترويحة، وهي اسم للمرة الواحدة من الراحة، كتسليمة من السلام، وسميت الصلاة في الجماعة في ليالي رمضان التراويح لأنهم أول ما اجتمعوا عليها كانوا يستريحون بين كل تسليمتين. ذكره الحافظ ابن حجر. (إيمانًا واحتسابًا) "إيمانًا" أي تصديقًا بوعد اللَّه بالثواب وتصديقًا بفضل القيام. و"احتسابًا" أي طلبًا للأجر من اللَّه وحده، لا بقصد آخر من رياء أو غيره.

(يرغب في قيام رمضان) بين أسلوب الترغيب في قوله "فيقول: من قام رمضان ... إلخ". (من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة) معناه لا يأمرهم أمر إيجاب وتحتيم، بل أمر ندب وترغيب. كذا قال النووي. والظاهر أن المراد نفي الأمر مطلقًا والاكتفاء بالترغيب. (فتوفي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك) أي على عدم الالتزام بصلاتها جماعة وفي المسجد واكتفاء البعض بصلاتها في البيت أو منفردًا في المسجد. (ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر على ذلك) "على ذلك" الأخيرة تكرار للأولى للتأكيد. أي استمر الأمر هذه المدة على تلك الحالة، ولم يبين في روايات الإمام مسلم ما كان بعد الصدر الأول لخلافة عمر، وقد جاء في البخاري عن عبد اللَّه القاري قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم قال عمر: نعم البدعة هذه. (ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه) قال النووي: "هذا مع الحديث المتقدم "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" قد يقال: إن أحدهما يغني عن الآخر، وجوابه أن يقال: قيام رمضان من غير موافقة ليلة القدر ومعرفتها سبب لغفران الذنوب، وقيام ليلة القدر لمن وافقها وعرفها سبب للغفران وإن لم يقم غيرها". اهـ. قال الحافظ ابن حجر: "واختلف في المراد بالقدر الذي أضيفت إليه الليلة فقيل: المراد به التعظيم، كقوله: {وما قدروا الله حق قدره} [الزمر: 67] والمعنى أنها ذات قدر لنزول القرآن فيها، أو لما يقع فيها من تنزل الملائكة، أو لما ينزل فيها من البركة والرحمة والمغفرة، أو أن الذي يحييها يصير ذا قدر. وقيل: القدر هنا التضييق كقوله تعالى: {ومن قدر عليه رزقه} [الطلاق: 7] ومعنى التضييق فيها إخفاؤه عن العلم بتعيينها، أو لأن الأرض تضيق فيها عن الملائكة. وقيل: القدر هنا بمعنى القدر بفتح الدال الذي هو مؤاخي القضاء، والمعنى أنه يقدر فيها أعمال تلك السنة لقوله تعالى: {فيها يفرق كل أمر حكيم} [الدخان: 4] وبه صدر النووي كلامه، فقال: قال العلماء: سميت ليلة القدر لما تكتب فيها الملائكة من الأقدار، وروي هذا بأسانيد صحيحة عن مجاهد وعكرمة وقتادة وغيرهم من المفسرين". (من يقم ليلة القدر فيوافقها) أي يعلم أنها ليلة القدر، أي فيوافقها علمه بها، وليس المعنى فيوافقها قيامه. (صلى في المسجد ذات ليلة) أي من ليالي رمضان. (ثم صلى من القابلة) أي من الليلة الثانية، أي من الليلة المقبلة.

(من الليلة الثالثة أو الرابعة) شك من الراوي، وفي الرواية السادسة بدون شك "الليلة الرابعة". (فأصبح الناس يتحدثون بذلك) في رواية "فلما أصبح تحدثوا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد من جوف الليل". (عجز المسجد عن أهله) كناية عن كثرة الناس، وفي رواية لأحمد: "امتلأ المسجد حتى اغتص بأهله". (فطفق رجال منهم يقولون: الصلاة) وفي رواية: "فقالوا: ما شأنه؟ ". وفي رواية: "ففقدوا صوته، وظنوا أنه قد نام، فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم". وفي رواية: "فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب". (فتعجزوا عنها) أي تشق عليكم فتتركوها مع القدرة عليها، قال الحافظ ابن حجر: "وليس المراد العجز الكلي، لأنه يسقط التكليف من أصله". (هي الليلة التي أمرنا بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بقيامها) "بقيامها" بدل اشتمال من "بها" بإعادة حرف الجر. (وأكثر علمي) قال النووي: "ضبطناه بالمثلثة والموحدة"، أي بالثاء وبالباء والمثلثة أكثر. -[فقه الحديث]- تتعرض الأحاديث لصلاة التراويح وقيام ليلة القدر، وتنحصر عناصر الموضوع في صلاة التراويح زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفي زمن عمر رضي الله عنه، وفي الأفضل في صلاتها: فرادى أو جماعة؟ في البيت أو في المسجد؟ وفي آراء العلماء في عدد ركعاتها، ثم نبذة عن ليلة القدر، ثم ما يؤخذ من الأحاديث فوق ذلك، وهذا هو التفصيل: واضح من الروايتين الخامسة والسادسة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل التراويح في جماعة في المسجد سوى ثلاث ليال في حياته كلها، لكنه أثبت بذلك للصحابة تأكيد استحباب صلاتها فكان بعضهم يصليها كما يصلي صلاة الليل في بيته فرادى، وبعضهم يصليها في المسجد فرادى وبعضهم يصليها في المسجد جماعة على خلاف بقية النوافل، وظل الحال هكذا حتى خرج عمر إلى المسجد في ليلة من ليالي رمضان فوجد هذا المنظر الذي عده من قبيل الفرقة، ورأى رضي الله عنه أن يجمع الناس على إمام واحد يصلي بالناس جماعة وفي المسجد، وأحس أن هذا الوضع محدث، فخشي أن يظن بعض الناس أن ما يطلبه بدعة مخالفة للشرع فقال لهم: نعمت البدعة التي تجمع بين المسلمين بعد أن زال الخوف من أن تفرض، وبعد أن أمن ما خشيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وكان سببًا في عدم استمراره على صلاتها جماعة في المسجد.

وقد اختلف العلماء في الأفضل في صلاتها فرادى أو جماعة؟ في البيت أو في المسجد؟ فقال الشافعي وجمهور أصحابه وأبو حنيفة وأحمد وبعض المالكية: الأفضل صلاتها في جماعة في المسجد، كما فعله عمر بن الخطاب والصحابة رضي اللَّه عنهم واستمر عمل المسلمين عليه، ولأنه من الشعائر الظاهرة فأشبه صلاة العيد. قال ابن التين وغيره: استنبط عمر ذلك من تقرير النبي صلى الله عليه وسلم من صلى معه في تلك الليالي، وإن كان كره ذلك لهم فإنما كرهه خشية أن يفرض عليهم، فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم حصل الأمن من ذلك، ورجح عند عمر ذلك لما في الاختلاف من افتراق الكلمة، ولأن الاجتماع على واحد أنشط لكثير من المصلين. وقال ابن بطال: قيام رمضان سنة، لأن عمر إنما أخذه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وإنما تركه النبي صلى الله عليه وسلم خشية الافتراض. وبالغ الطحاوي، فقال: إن صلاة التراويح في الجماعة واجبة على الكفاية. وعن مالك في إحدى الروايتين وأبي يوسف وبعض الشافعية أن الصلاة في البيوت أفضل، عملاً بعموم قوله صلى اللَّه عليه وسلم: "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة". وهو حديث صحيح رواه البخاري ومسلم. ويحاول بعض القائلين بهذا القول أن يوجهوا ما جاء في الرواية الخامسة والسادسة من أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد، ليجمعوا بين ما هنا وبين ما رواه البخاري قبيل صفة الصلاة عن عائشة قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل في حجرته وجدار الحجرة قصير، فرأى الناس شخص النبي صلى الله عليه وسلم، فقام ناس يصلون بصلاته، فأصبحوا فتحدثوا بذلك، فقام الليلة الثانية فقام معه ناس يصلون بصلاته، صنعوا ذلك ليلتين أو ثلاثًا، حتى إذا كان بعد ذلك جلس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فلم يخرج، فلما أصبح ذكر ذلك للناس فقال: "إني خشيت أن تكتب عليكم صلاة الليل" وما رواه البخاري عن عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له حصير يبسطه بالنهار ويحتجره بالليل، فثاب إليه ناس فصلوا وراءه". قالوا: إن الذي حدث أنه صلى اللَّه عليه وسلم أمر عائشة - كما جاء عند أحمد - أن تنصب له حصيرًا على باب حجرتها، ففعلت، فخرج ... إلخ. فالحصير وإن كان قد نصب في المسجد لكنه إذا احتجر صار كأنه بيت بخصوصه وذلك لئلا يلزم أن يكون صلى اللَّه عليه وسلم تاركًا للأفضل الذي أمر به الناس حيث قال: "فصلوا في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة". ويجيب الجمهور بأنه محمول على ما لا يشرع فيه الجماعة، أي أفضل صلاة المرء التي لا تشرع فيها الجماعة ما تكون في بيته، أو المراد من المكتوبة ما يشرع فيه الجماعة، فالمعنى أفضل صلاة المرء في بيته إلا ما شرع فيه الجماعة. وهناك قول آخر لبعض الشافعية، وهو: من كان يحفظ القرآن، ولا يخاف من الكسل، ولا تختل الجماعة في المسجد بتخلفه، فصلاته في الجماعة والبيت سواء، فمن فقد بعض ذلك فصلاته في الجماعة أفضل.

وفي عدد الركعات يقول الحافظ ابن حجر: "لم يقع في هذه الرواية عدد الركعات التي كان يصليها أبي بن كعب، وقد اختلف في ذلك، ففي الموطأ أنها إحدى عشرة، وكانوا يقرءون بالمائتين، ويقومون على العصي من طول القيام. وروى محمد بن نصر المروزي أنها ثلاث عشرة. وروى عبد الرزاق أنها إحدى وعشرون. وروى مالك أنها عشرون. وهذا محمول على غير الوتر. وعن يزيد بن رومان قال: كان الناس يقومون في زمان عمر بثلاث وعشرين. وروى محمد بن نصر من طريق آخر عن عطاء قال: أدركتهم في رمضان يصلون عشرين ركعة وثلاث ركعات الوتر. ثم قال: والجمع بين الروايات ممكن باختلاف الأحوال، ويحتمل أن ذلك الاختلاف بحسب تطويل القراءة وتخفيفها، فحيث يطيل القراءة تقل الركعات وبالعكس، والعدد الأول موافق لحديث عائشة: "ما كان صلى اللَّه عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة". والثاني قريب منه، والاختلاف فيما زاد على العشرين راجع إلى الاختلاف في الوتر، وكأنه كان تارة يوتر بواحدة وتارة بثلاث. ثم ذكر الحافظ روايات أخرى منها أن أهل المدينة كانوا يقومون بست وثلاثين ركعة ويوترون بثلاث. قال مالك. وهو الأمر القديم عندنا. ورواية أخرى عن الشافعي أن أهل المدينة كانوا يقومون بتسع وثلاثين [وهذه كالتي قبلها في العدد]، وأن أهل مكة كانوا يقومون بثلاث وعشرين. قال الشافعي: وليس في شيء من ذلك ضيق. وعنه قال: إن أطالوا القيام وأقلوا السجود فحسن، وإن أكثروا السجود وأخفوا القراءة فحسن، والأول أحب إلي. وقال الترمذي: أكثر ما قيل: إنها تصلى إحدى وأربعين ركعة. يعني بالوتر. ونقل ابن عبد البر: تصلى أربعين ويوتر بسبع. وعن مالك تصلى ثمان وثلاثين ويوتر بواحدة. قال مالك: وعلى هذا العمل منذ بضع ومائة سنة. وعن مالك ست وأربعون وثلاث الوتر. وهذا هو المشهور عنه. وقيل غير ذلك". انتهى بتصرف. وفي وقتها يقول العيني: "إنه بعد العشاء وقبل الوتر عند الحنفية، والأصح أن وقتها بعد العشاء إلى آخر الليل قبل الوتر وبعده. وفي المحيط: لا يجوز قبل العشاء ويجوز بعد الوتر". واللَّه أعلم. أما ليلة القدر الواردة في الرواية الثالثة والرابعة والسابعة والثامنة فإن محل تناولها عند شراح الحديث كتاب الصيام، وسنفرد لها بابًا في آخر كتاب الصيام حيث يسوق الإمام مسلم رحمه اللَّه تعالى كثيرًا من الروايات في فضلها وفي تحديد ليلتها، وذكرها هنا من حيث ارتباط قيامها بصلاة الليل، وحاصل ما سيقال هناك أن من يعتد به من العلماء أجمعوا على وجودها ودوامها إلى آخر الدهر للأحاديث الصحيحة المشهورة، قال القاضي عياض: واختلفوا في محلها، فقال جماعة: هي متنقلة، تكون في سنة في ليلة، وفي أخرى في ليلة أخرى، وهكذا. وبهذا يجمع بين الأحاديث، فكل حديث جاء بأحد أوقاتها ولا تعارض فيها قالوا: وإنما تنتقل في العشر الأواخر من رمضان، ونسب نحو هذا القول إلى مالك وأحمد. وقيل: بل في كله.

وقيل: إنها معينة في ليلة في جميع السنين لا تفارقها، وعلى هذا قيل: في السنة كلها، وهو قول ابن مسعود [كما تصرح بذلك روايتنا السابعة] وأبي حنيفة وصاحبيه. وقيل: بل في شهر رمضان كله. وقيل: بل في العشر الوسط والأواخر. وقيل: في العشر الأواخر، وقيل: تختص بأوتار العشر، وقيل: بأشفاعها، وقيل: بل في ثلاث وعشرين أو سبع وعشرين وقيل: ليلة سبع وعشرين - وهو قول أبي بن كعب وكثير من الصحابة - وقيل غير ذلك. قال القاضي: وشذ قوم فقالوا: رفعت لقوله صلى اللَّه عليه وسلم حين تلاحى الرجلان "فرفعت" وهذا غلط من هؤلاء الشاذين، لأن آخر الحديث يرد عليهم، فإنه صلى اللَّه عليه وسلم قال: "فرفعت وعسى أن يكون خيرًا لكم فالتمسوها في السبع والتسع". وفيه تصريح بأن المراد برفعها رفع بيان علم عينها، ولو كان المراد رفع وجودها لم يأمر بالتماسها. اهـ. من شرح النووي بتصرف. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - الترغيب في قيام رمضان، وهو سنة لصريح روايتنا الثانية، ولفظها "من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة". قال النووي: هذه الصيغة تقتضي الترغيب والندب دون الإيجاب واجتمعت الأمة على أن قيام رمضان ليس بواجب، بل هو مندوب. 2 - الحث على الإخلاص في العبادة واحتسابها عند اللَّه. 3 - أن قيام ليلة القدر يغفر الذنوب، وقيام رمضان يغفر الذنوب. قال الحافظ ابن حجر: وظاهره يتناول الصغائر والكبائر، وبه جزم ابن المنذر، وقال النووي: المعروف أنه يختص بالصغائر، وبه جزم إمام الحرمين، وعزاه القاضي عياض لأهل السنة. قال بعضهم: ويجوز أن يخفف من الكبائر إذا لم يصادف صغيرة. وزاد عند النسائي وأحمد: "وما تأخر". قال الحافظ: وقد ورد في غفران ما تقدم وما تأخر من الذنوب عدة أحاديث جمعتها في كتاب مقرر. وقد استشكلت هذه الزيادة من حيث إن المغفرة تستدعي سبق شيء يغفر، والمتأخر من الذنوب لم يأت، فكيف يغفر؟ والجواب عن ذلك يأتي في قوله صلى اللَّه عليه وسلم حكاية عن اللَّه عز وجل أنه قال في أهل بدر: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" ومحصل الجواب أنه قيل: إنه كناية عن حفظهم من الكبائر فلا تقع منهم كبيرة بعد ذلك، وقيل: إن معناه أن ذنوبهم تقع مغفورة، وبهذا أجاب جماعة منهم الماوردي في الكلام على حديث صيام عرفة وأنه يكفر سنتين، سنة ماضية وسنة آتية. اهـ. 4 - ومن قوله في الرواية الخامسة: "فصلى بصلاته ناس". يؤخذ جواز النافلة جماعة، قال النووي: ولكن الاختيار فيها الانفراد إلا في نوافل مخصوصة، وهي العيد والكسوف والاستسقاء، وكذا التراويح عند الجمهور.

5 - وفيه جواز النافلة في المسجد وإن كان البيت أفضل، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم إنما فعلها في المسجد لبيان الجواز. 6 - وفيه ترك الأذان والإقامة للنوافل إذا صليت جماعة. 7 - وفيه جواز الاقتداء بمن لم ينو إمامته. قال النووي: وهذا صحيح على المشهور من مذهبنا ومذهب العلماء، ولكنه إن نوى الإمام إمامتهم بعد إقتدائهم حصلت فضيلة الجماعة له ولهم، وإن لم ينوها حصلت لهم فضيلة الجماعة ولا يحصل للإمام على الأصح لأنه لم ينوها والأعمال بالنيات. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر، لأن نفي النية لم ينقل، ولا يطلع عليه بالظن. 8 - وفيه أنه إذا تعارضت مصلحة وخوف مفسدة. أو مصلحتان اعتبر أهمهما، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في الصلاة في المسجد مصلحة، فلما عارضها خوف الافتراض عليهم تركها لعظم المفسدة التي تخاف من عجزهم وتركهم للفرض. وقد ذكر الحافظ ابن حجر في هذه المسألة كلامًا نفيسًا يجب علينا ذكره. قال: ثم إن ظاهر هذا الحديث أنه صلى اللَّه عليه وسلم توقع ترتب افتراض الصلاة بالليل جماعة على وجوب المواظبة عليها، وفي ذلك إشكال، وقد بناه بعض المالكية على قاعدتهم في أن الشروع ملزم وفيه نظر، وأجاب المحب الطبري بأنه يحتمل أن يكون اللَّه عز وجل أوحى إليه أنك إن واظبت على هذه الصلاة معهم افترضتها عليهم، فأحب التخفيف عنهم، فترك المواظبة. قال: ويحتمل أن يكون ذلك وقع في نفسه كما اتفق في بعض القرب التي داوم عليها فافترضت. وقيل: خشي أن يظن أحد من الأمة من مداومته عليها الوجوب، وإلى هذا الأخير نحا القرطبي، فقال: قوله: "فتفرض عليكم": أي تظنونه فرضًا، فيجب على من ظن ذلك، كما إذا ظن المجتهد حل شيء أو تحريمه فإنه يجب عليه العمل به. قال: وقيل: كان حكم النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا واظب على شيء من أعمال البر واقتدى الناس به فيه أنه يفرض عليهم. اهـ. ولا يخفى بعد هذا الأخير، فقد واظب النبي صلى الله عليه وسلم على رواتب الفرائض وتابعه أصحابه ولم تفرض. وقال ابن بطال: يحتمل أن يكون هذا القول صدر منه صلى اللَّه عليه وسلم لما كان قيام الليل فرضًا عليه دون أمته، فخشي إن خرج إليهم والتزموا معه قيام الليل أن يسوي اللَّه بينه وبينهم في حكمه، لأن الأصل في الشرع المساواة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أمته في العبادة. قال: ويحتمل أن يكون خشي من مواظبتهم عليها أن يضعفوا عنها فيعصي من تركها بترك اتباعه صلى اللَّه عليه وسلم. وقد استشكل الخطابي أصل هذه الخشية مع ما ثبت في الإسراء من أن اللَّه تعالى قال: "هن خمس وهن خمسون لا يبدل القول لدي". فإذا أمن التبديل فكيف يقع الخوف من الزيادة. قال الحافظ: وهذا يدفع في صدور الأجوبة التي تقدمت. وقد أجاب عنه الخطابي بأن صلاة الليل كانت واجبة عليه صلى اللَّه عليه وسلم، وأفعاله الشرعية يجب على الأمة الاقتداء به فيها، يعني عند المواظبة، فترك الخروج إليهم لئلا يدخل ذلك في الواجب من طريق الأمر بالاقتداء به، لا من

طريق إنشاء فرض جديد زائد على الخمس، وهذا كما يوجب المرء على نفسه صلاة نذر، فتجب عليه ولا يلزم من ذلك زيادة فرض في أصل الشرع. قال: وفيه احتمال آخر، وهو أن اللَّه فرض الصلاة خمسين، ثم حط معظمها بشفاعة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإذا عادت الأمة فيما استوهب لها، والتزمت ما استعفى لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم منه لم يستنكر أن يثبت ذلك فرضًا عليهم، كما التزم ناس الرهبانية من قبل أنفسهم، ثم عاب اللَّه عليهم التقصير فيها، فقال: {فما رعوها حق رعايتها} [الحديد: 27] فخشي صلى اللَّه عليه وسلم أن يكون سبيل أولئك، فقطع العمل شفقة عليهم من ذلك. وأجاب الكرماني بأن حديث الإسراء يدل على أن المراد بقوله تعالى: {ما يبدل القول لدي} [ق: 29] الأمن من نقص شيء من الخمس، ولم يتعرض للزيادة. اهـ. ودفع بعضهم في أصل السؤال بأن الزمان كان قابلاً للنسخ فلا مانع من خشية الافتراض. قال الحافظ: وفيه نظر، لأن قوله: {ما يبدل القول لدي} خبر، والنسخ لا يدخله على الراجح. قال: وقد فتح الباري بثلاثة أجوبة أخرى، أحدها: يحتمل أن يكون المخوف افتراض قيام الليل، بمعنى جعل التهجد في المسجد جماعة شرطًا في صحة التنفل بالليل، ويومئ إليه قوله في حديث زيد بن ثابت: "حتى خشيت أن يكتب عليكم، ولو كتب عليكم ما قمتم به، فصلوا أيها الناس في بيوتكم". فمنعهم من التجمع في المسجد إشفاقًا عليهم من اشتراطه، وأمن - مع إذنه في المواظبة على ذلك في بيوتهم - من افتراضه عليهم. ثانيها: يحتمل أن يكون المخوف افتراض قيام الليل على الكفاية، لا على الأعيان فلا يكون ذلك زائدًا على الخمس، بل هو نظير ما ذهب إليه قوم في العيد ونحوها. ثالثها: يحتمل أن يكون المخوف افتراض قيام رمضان خاصة، فقد وقع أن ذلك كان في رمضان، وفي رواية سفيان بن حسين: "خشيت أن يفرض عليكم قيام هذا الشهر". فعلى هذا يرتفع الإشكال، لأن قيام رمضان لا يتكرر كل يوم في السنة، فلا يكون ذلك قدرًا زائدًا على الخمس. قال: وأقوى هذه الأجوبة الثلاثة في نظري الأول. واللَّه سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. انتهى. 9 - وفيه جواز الفرار من قدر اللَّه إلى قدر اللَّه. قاله المهلب. 10 - وفيه شفقته صلى اللَّه عليه وسلم بأمته ورأفته بهم. 11 - قال النووي: وفيه جواز النافلة جماعة، ولكن الاختيار فيها الانفراد إلا في نوافل مخصوصة، وهي العيد والكسوف والاستسقاء وكذا التراويح عند الجمهور كما سبق. 12 - وفيه أن الإمام وكبير القوم إذا فعل شيئًا خلاف ما يتوقعه أتباعه وكان له فيه عذر يذكره لهم تطييبًا لقلوبهم وإصلاحًا لذات البين لئلا يظنوا خلاف هذا، وربما ظنوا ظن السوء. 13 - وفيه استحباب التشهد في صدر الخطبة والموعظة، وفي سنن أبي داود: "الخطبة التي ليس فيها تشهد كاليد الجذماء".

14 - وفيه استحباب قول: "أما بعد" في الخطب، وقد جاءت به أحاديث كثيرة في الصحيح، وذكر البخاري في صحيحه بابًا في البداءة في الخطبة بأما بعد، وذكر فيه جملة من الأحاديث. 15 - وفيه أن السنة في الخطبة والموعظة استقبال الجماعة. 16 - قال النووي: وفيه أنه يقال: جرى الليلة كذا. وإن كان بعد الصبح. وهكذا يقال: الليلة إلى زوال الشمس، وبعد الزوال يقال: البارحة. 17 - ويؤخذ من الرواية الثانية واستحداث عمر لصلاة التراويح جماعة أن البدعة ليست دائمًا مذمومة. قال الحافظ ابن حجر: والبدعة أصلها ما أحدث على غير مثال سابق وتطلق في الشرع في مقابل السنة فتكون مذمومة، والتحقيق أنها إن كانت مما تندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة وإن كانت مما تندرج تحت مستقبح فهي مستقبحة، وإلا فهي من قسم المباح، وقد تنقسم إلى الأحكام الخمسة. اهـ. واللَّه أعلم

(256) باب صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه بالليل

(256) باب صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه بالليل 1542 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بت ليلةً عند خالتي ميمونة. فقام النبي صلى الله عليه وسلم من الليل. فأتى حاجته. ثم غسل وجهه ويديه. ثم نام. ثم قام. فأتى القربة فأطلق شناقها ثم توضأ وضوءًا بين الوضوءين. ولم يكثر. وقد أبلغ. ثم قام فصلى. فقمت فتمطيت كراهية أن يرى أني كنت أنتبه له. فتوضأت. فقام فصلى. فقمت عن يساره. فأخذ بيدي فأدارني عن يمينه. فتتامت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل ثلاث عشرة ركعة. ثم اضطجع. فنام حتى نفخ. وكان إذا نام نفخ. فأتاه بلال فآذنه بالصلاة. فقام فصلى ولم يتوضأ وكان في دعائه "اللهم اجعل في قلبي نورًا وفي بصري نورًا وفي سمعي نورًا وعن يميني نورًا وعن يساري نورًا وفوقي نورًا وتحتي نورًا وأمامي نورًا وخلفي نورًا وعظم لي نورًا" قال كريب: وسبعًا في التابوت. فلقيت بعض ولد العباس فحدثني بهن فذكر عصبي ولحمي ودمي وشعري وبشري وذكر خصلتين. 1543 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه بات ليلة عند ميمونة أم المؤمنين. وهي خالته قال فاضطجعت في عرض الوسادة. واضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله في طولها. فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتصف الليل. أو قبله بقليل. أو بعده بقليل. استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجعل يمسح النوم عن وجهه بيده. ثم قرأ العشر الآيات الخواتم من سورة آل عمران. ثم قام إلى شن معلقة فتوضأ منها. فأحسن وضوءه. ثم قام فصلى. قال ابن عباس: فقمت فصنعت مثل ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم ذهبت فقمت إلى جنبه. فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده اليمنى على رأسي. وأخذ بأذني اليمنى يفتلها. فصلى ركعتين. ثم ركعتين. ثم ركعتين. ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم أوتر. ثم اضطجع. حتى جاء المؤذن فقام. فصلى ركعتين خفيفتين. ثم خرج فصلى الصبح. 1544 - عن مخرمة بن سليمان بهذا الإسناد. وزاد: ثم عمد إلى شجب من ماء.

فتسوك وتوضأ. وأسبغ الوضوء ولم يهرق من الماء إلا قليلاً. ثم حركني فقمت وسائر الحديث نحو حديث مالك. 1545 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: نمت عند ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. ورسول الله صلى الله عليه وسلم عندها تلك الليلة. فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قام فصلى. فقمت عن يساره. فأخذني فجعلني عن يمينه. فصلى في تلك الليلة ثلاث عشرة ركعة. ثم نام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نفخ. وكان إذا نام نفخ. ثم أتاه المؤذن فخرج فصلى. ولم يتوضأ قال عمرو: فحدثت به بكير بن الأشج. فقال: حدثني كريب بذلك. 1546 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بت ليلة عند خالتي ميمونة بنت الحارث. فقلت لها: إذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأيقظيني. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقمت إلى جنبه الأيسر. فأخذ بيدي. فجعلني من شقه الأيمن. فجعلت إذا أغفيت يأخذ بشحمة أذني. قال: فصلى إحدى عشرة ركعة. ثم احتبى. حتى إني لأسمع نفسه راقدًا. فلما تبين له الفجر صلى ركعتين خفيفتين. 1547 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه بات عند خالته ميمونة. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل. فتوضأ من شن معلق وضوءًا خفيفًا (قال وصف وضوءه وجعل يخففه ويقلله) قال ابن عباس: فقمت فصنعت مثل ما صنع النبي صلى الله عليه وسلم. ثم جئت فقمت عن يساره. فأخلفني فجعلني عن يمينه. فصلى. ثم اضطجع فنام حتى نفخ. ثم أتاه بلال فآذنه بالصلاة. فخرج فصلى الصبح ولم يتوضأ. قال سفيان: وهذا النبي صلى الله عليه وسلم خاصة. لأنه بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم تنام عيناه ولا ينام قلبه. 1548 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بت في بيت خالتي ميمونة فبقيت كيف يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قام فقام فبال. ثم غسل وجهه وكفيه. ثم نام. ثم قام إلى القربة

فأطلق شناقها. ثم صب في الجفنة أو القصعة. فأكبه بيده عليها. ثم توضأ وضوءًا حسنًا بين الوضوءين. ثم قام يصلي. فجئت فقمت إلى جنبه. فقمت عن يساره. قال فأخذني فأقامني عن يمينه فتكاملت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة ركعة. ثم نام حتى نفخ وكنا نعرفه إذا نام بنفخه. ثم خرج إلى الصلاة. فصلى. فجعل يقول في صلاته أو في سجوده "اللهم اجعل في قلبي نورًا. وفي سمعي نورًا وفي بصري نورًا وعن يميني نورًا وعن شمالي نورًا وأمامي نورًا وخلفي نورًا وفوقي نورًا وتحتي نورًا واجعل لي نورًا أو قال واجعلني نورًا". 1549 - - قال سلمة: فلقيت كريبًا فقال: قال ابن عباس: كنت عند خالتي ميمونة. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم ذكر بمثل حديث غندر: وقال "واجعلني نورًا" ولم يشك. 1550 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بت عند خالتي ميمونة. واقتص الحديث. ولم يذكر غسل الوجه والكفين. غير أنه قال: ثم أتى القربة فحل شناقها. فتوضأ وضوءًا بين الوضوءين. ثم أتى فراشه فنام. ثم قام قومة أخرى. فأتى القربة فحل شناقها. ثم توضأ وضوءًا هو الوضوء. وقال "أعظم لي نورًا" ولم يذكر: "واجعلني نورًا". 1551 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه بات ليلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القربة فسكب منها. فتوضأ ولم يكثر من الماء ولم يقصر في الوضوء. وساق الحديث. وفيه: قال: ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلتئذ تسع عشرة كلمة. قال سلمة: حدثنيها كريب فحفظت منها ثنتي عشرة. ونسيت ما بقي. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اللهم اجعل لي في قلبي نورًا وفي لساني نورًا وفي سمعي نورًا وفي بصري نورًا ومن فوقي نورًا ومن تحتي نورًا وعن يميني نورًا وعن شمالي نورًا ومن بين يدي نورًا ومن خلفي نورًا واجعل في نفسي نورًا وأعظم لي نورًا". 1552 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: رقدت في بيت ميمونة ليلة كان

النبي صلى الله عليه وسلم عندها لأنظر كيف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل قال فتحدث النبي صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة ثم رقد وساق الحديث وفيه ثم قام فتوضأ واستن. 1553 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه رقد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستيقظ فتسوك وتوضأ وهو يقول: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} [آل عمران: 190] فقرأ هؤلاء الآيات حتى ختم السورة. ثم قام فصلى ركعتين. فأطال فيهما القيام والركوع والسجود. ثم انصرف فنام حتى نفخ. ثم فعل ذلك ثلاث مرات. ست ركعات. كل ذلك يستاك ويتوضأ ويقرأ هؤلاء الآيات ثم أوتر بثلاث فأذن المؤذن فخرج إلى الصلاة وهو يقول "اللهم اجعل في قلبي نورًا وفي لساني نورًا واجعل في سمعي نورًا واجعل في بصري نورًا واجعل من خلفي نورًا ومن أمامي نورًا واجعل من فوقي نورًا ومن تحتي نورًا اللهم أعطني نورًا". 1554 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بت ذات ليلة عند خالتي ميمونة فقام النبي صلى الله عليه وسلم يصلي متطوعًا من الليل فقام النبي صلى الله عليه وسلم إلى القربة فتوضأ فقام فصلى فقمت لما رأيته صنع ذلك فتوضأت من القربة ثم قمت إلى شقه الأيسر فأخذ بيدي من وراء ظهره يعدلني كذلك من وراء ظهره إلى الشق الأيمن قلت أفي التطوع كان ذلك؟ قال: نعم. 1555 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعثني العباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت خالتي ميمونة فبت معه تلك الليلة فقام يصلي من الليل فقمت عن يساره فتناولني من خلف ظهره فجعلني على يمينه. 1556 - - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بت عند خالتي ميمونة نحو حديث ابن جريج وقيس بن سعد.

1557 - عن ابن عباس رضي الله عنهما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة. 1558 - عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أنه قال: لأرمقن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين خفيفتين ثم صلى ركعتين طويلتين. طويلتين. طويلتين. ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما ثم أوتر فذلك ثلاث عشرة ركعة. 1559 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فانتهينا إلى مشرعة فقال "ألا تشرع؟ يا جابر" قلت: بلى. قال فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشرعت. قال ثم ذهب لحاجته ووضعت له وضوءًا قال فجاء فتوضأ ثم قام فصلى في ثوب واحد خالف بين طرفيه فقمت خلفه فأخذ بأذني فجعلني عن يمينه. 1560 - عن عائشة رضي الله عنهما قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل ليصلي افتتح صلاته بركعتين خفيفتين. 1561 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين". 1562 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل: "اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ولك الحمد أنت قيام السموات والأرض ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق والساعة حق اللهم لك

أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وأخرت وأسررت وأعلنت أنت إلهي لا إله إلا أنت". 1563 - - عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أما حديث ابن جريج فاتفق لفظه مع حديث مالك لم يختلفا إلا في حرفين قال ابن جريج مكان قيام قيم وقال وما أسررت وأما حديث ابن عيينة ففيه بعض زيادة ويخالف مالكًا وابن جريج في أحرف. 1564 - عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: سألت عائشة أم المؤمنين بأي شيء كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل؟ قالت كان إذا قام من الليل افتتح صلاته: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم". 1565 - عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال: "وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين. إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين. اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت. أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعًا إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت. واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت. لبيك وسعديك والخير كله في يديك والشر ليس إليك. أنا بك وإليك. تباركت وتعاليت أستغفرك وأتوب إليك" وإذا ركع قال "اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت. خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي" وإذا رفع قال "اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض

وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد" وإذا سجد قال "اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره. تبارك الله أحسن الخالقين" ثم يكون من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت". 1566 - عن الأعرج بهذا الإسناد وقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استفتح الصلاة كبر ثم قال: "وجهت وجهي" وقال: "وأنا أول المسلمين" وقال: وإذا رفع رأسه من الركوع قال: "سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد" وقال: "وصوره فأحسن صوره" وقال: وإذا سلم قال: "اللهم اغفر لي ما قدمت". إلى آخر الحديث ولم يقل: بين التشهد والتسليم. -[المعنى العام]- إيمان كامل برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وحرص دقيق وشديد على التأسي به والاقتداء بأفعاله صلى الله عليه وسلم، كان ذلك وراء الثلاثة الذين ذهبوا إلى بيوت أزواجه صلى الله عليه وسلم ليسألوا عن عبادته السرية التي يقوم بها في منازلهن وفي لياليهن، ويتجلى ذلك واضحًا في حديث ابن عباس، وهو الصبي الذي مازال صبيًا في سنه لكنه كالكهل في إيمانه وقوة عقيدته، كالرجل في عنفوان حياته وشدة تمسكه بدينه والتفاني في إقامة شرعه، كالهرم في حرصه على تقديم ما يمكن تقديمه من طاعات يلقى بها ربه. هذا ابن عباس تحين له فرصة الذهاب إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم بعد العشاء في الليل وهو في بيت خالته ميمونة بنت الحارث وفي ليلتها، ذهب مرسلاً من أبيه العباس ليكلم النبي صلى الله عليه وسلم في شأن وعد وعده العباس بعدد من إبل الصدقة، وقد جاءت الإبل ولا يستطيع العباس حياء أن يكلم ابن أخيه في إنجاز وعده. إنه أكبر من أن يحرج بتقديم غيره عليه وأحقية غيره عنه، إنه ككل الصحابة الكبار يأخذهم الحياء من مطالبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء وإن كان قد وعد به فليرسل ابنه الصبي عبد الله، لكن الولد من أبيه، دخل فاستحيا فجلس مترددًا كيف ومتى يبلغ ما أمره أبوه به؟ وتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زوجته حديث الأهل، وكأن ابن عباس في زيارة خالته وليس في حاجة، وتأخر الليل بالصبي وهم أن يتكلم وأن ينصرف، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: نم عندنا الليلة يا غلام، ولم يدرك الغلام كيف ينام مع زوج

وزوجته في حجرة واحدة وعلى فراش لا يسع غير اثنين، وعلى قدر فهمه وجد العرض فرصة لا تعوض ليراقب ويرى كيف يعبد الرسول صلى الله عليه وسلم ربه في الليل، وأبدى الموافقة والاستجابة، إنه لن ينام وسيتظاهر بالنوم لكنه يخشى أن يغلبه النوم، فهمس في أذن خالته يقول لها: إذا أنا نمت وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من نومه فأيقظيني. قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القربة فغسل يديه ووجهه وذكر الله تعالى، ثم جاء فنام هو وزوجه في طول الوسادة التي لا تتسع لثالث، ونام الصبي مشكلاً معهما شكل ضلعين يلتقيان في زاوية، في الوسادة من عرضها، قد يكون على فراش وقد لا يكون، فهذا أمر لا يحسب له حساب. وحول منتصف الليل قام صلى الله عليه وسلم والصبي لم ينم، قام إلى القربة المعلقة على وتد في الحائط فحل رباطها، ثم أفرغ منها ماء قليلاً في إناء ثم أفرغ من الإناء على يديه فتوضأ وضوءًا حسنًا دون إسراف، ثم أخذ يذكر الله تعالى ويثني عليه ويدعوه، كل ذلك والغلام يرقبه ويعي كل حركة وكل قول: وخشي أن يكتشف صلى الله عليه وسلم أن الغلام يقظ رقيب في خفاء، فتمطى وتظاهر بالقلق من النوم، فأيقظه صلى الله عليه وسلم، فأعلن عن اليقظة، وقام فصنع مثل ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الليل، فقام الغلام بجواره يصلي بصلاته جماعة، لكنه وقف يسار الإمام، فمد رسول الله صلى الله عليه وسلم شماله وأمسك بيمين الغلام وحوله من وراء ظهره إلى يمين الإمام، وصلى به ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين، ثم صلى ركعتين دون الأوليين، وهكذا أخذ يخفف كل ركعتين عن اللتين قبلهما حتى أتم عشر ركعات ثم أوتر بواحدة، وكان صلى الله عليه وسلم بما جبل عليه من رأفة ورحمة يشفق على الغلام من طول الصلاة في وقت النوم، فكان بين الحين والحين يضع يده على رأس الغلام أو يفتل أذنه ليبعث فيه اليقظة والانتباه والنشاط، فلما انتهيا من الصلاة نام صلى الله عليه وسلم حتى نفخ وظهر صوت نفسه، والغلام متيقظ حتى جاء الفجر وجاء بلال يعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة، فقام صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين خفيفتين سنة الصبح، ثم خرج إلى المسجد والغلام معه فصليا مع المسلمين الفجر. وهكذا نقلت إلينا السنة النبوية قولاً وفعلاً بدقة وعناية وتمام حرص حتى الأدعية والأذكار، فصلى الله وسلم على من بلغ الرسالة وأدى الأمانة ورضي الله عن الصحابة حملة الشريعة ومصابيح الظلام. -[المباحث العربية]- (بت ليلة عند خالتي ميمونة) بنت الحارث أخت لبابة بنت الحارث زوجة العباس بن عبد المطلب أم عبد الله بن عباس - رضي اللَّه عنهما. (فأتى حاجته) فسرها في الرواية بقوله: "فبال". (ثم غسل وجهه ويديه) قال النووي: هذا الغسل للتنظيف والتنشيط للذكر وغيره. اهـ. ويمكن جعله كناية عن الوضوء كاملاً، لتتفق مع الرواية السادسة وفيها: "ثم أتى القربة فحل

شناقها فتوضأ وضوءًا بين الوضوءين، ثم أتى فراشه فنام، ثم قام قومة أخرى فأتى القربة فحل شناقها ثم توضأ وضوءًا هو الوضوء". فهذا ظاهر في الوضوءين والقصة واحدة، ومن الصعب حمل الوضوء هنا على غسل الوجه واليدين فقط، ولا يمنع من كون العبارة كناية عن الوضوء ما جاء في الرواية السادسة من قوله: "ثم غسل وجهه وكفيه". إذ يمكن حمله على أنه من باب ذكر الجزء وإرادة الكل. (فأتى القربة فأطلق شناقها) بكسر الشين وتخفيف النون ثم قاف وهو رباط القربة الذي يربط به عنقها، وقيل: هو الحبل الذي يربط به القربة في الوتد. والأول أولى. قاله ابن حجر. وفي الرواية الثانية: "ثم قام إلى شن معلقة". وفي الرواية الخامسة: "فتوضأ من شن معلق". والشن بالشين والنون، قال أهل اللغة: هي القربة القديمة الخلق وجمعه شنان، وهو مذكر، وتأنيثه في الرواية الثانية على إرادة القربة، وتذكيره على إرادة الإناء أو السقاء، وفي ملحق الرواية الثانية: "ثم عمد إلى شجب من ماء". وهو بفتح الشين وجيم ساكنة بعدها باء وهو السقاء الخلق. وقيل: الأشجاب الأعواد التي تعلق عليها القربة، والأول أولى. (فتوضأ وضوءًا بين الوضوءين) قال النووي: يعني لم يسرف ولم يقتر وكان بين ذلك قوامًا. اهـ. وقد فسره في الرواية الأولى بقوله: "لم يكثر وقد أبلغ". وقد وصف هذا الوضوء بالحسن في الرواية الثانية، ووصف بالخفة في الرواية الخامسة "وضوءًا خفيفًا". ووصفه في ملحق الرواية السادسة بقوله: "فتوضأ ولم يكثر من الماء ولم يقصر في الوضوء". قال الحافظ ابن حجر: يحتمل أن يكون قلل من الماء مع التثليث أو اقتصر على دون الثلاث. اهـ. والأولى أن يكون قلل من الماء مع التثليث لوصفه بالحسن وعبارة ملحق الرواية السادسة: "لم يكثر من الماء ولم يقصر في الوضوء". ترجح ما نقول. (فقمت فتمطيت) في الرواية الثانية: "فقمت فصنعت مثل ما صنع". وفي الرواية التاسعة: "فقمت لما رأيته صنع ذلك فتوضأت". لكن في ملحق الثانية: "ثم حركني فقمت". ولا تناقض؛ لأنه تمطى فحركه صلى الله عليه وسلم فقام. (كراهية أن يرى أني كنت أنتبه له) قال النووي: هكذا ضبطناه، وهكذا هو في أصول بلادنا "أنتبه" بنون ثم تاء ثم باء، ووقع في البخاري "أنقبه" بموحدة ثم قاف، ومعناه أرقبه وهو بمعنى أنتبه له. كذا في شرح النووي على مسلم. والذي في فتح الباري شرح البخاري: "أتقيه" بتاء وقاف مكسورة. قال الخطابي: أي أرقبه. وفي رواية "أنقبه" بفتح النون وتشديد القاف المكسورة بعدها باء من التنقيب، وفي رواية القابسي "أبغيه" بباء ساكنة بعدها غين مكسورة بعدها ياء، أي أطلبه، وللأكثر "أرقبه". اهـ

وفي الرواية السادسة: "فبقيت كيف يصلي"؟ بفتح الباء والقاف، أي رقبت ونظرت. قال النووي: يقال: بقيت وبقوت بمعنى رقبت ورمقت. (اللهم اجعل في قلبي نورًا) قال النووي: قال العلماء "سأل النور في أعضائه وجهاته". والمراد به بيان الحق وضياؤه والهداية إليه، فسأل النور في جميع أعضائه وجسمه وتصرفاته وتقلباته وحالاته وجملته في جهاته الست حتى لا يزيغ شيء منها عنه. فالنور مستعار للعلم والهداية كما في قوله تعالى: {فهو على نور من ربه} [الزمر: 22] قال الكرماني: والتنوين فيها للتعظيم، أي نورًا عظيمًا، وقيل: المراد النور الحقيقي، فيكون صلى الله عليه وسلم قد سأل الله تعالى أن يجعل له في كل عضو من أعضائه نورًا يستضيء به يوم القيامة في تلك الظلم هو ومن تبعه أو من شاء الله منهم. قال القرطبي: والأول أولى. (قال كريب: وسبعًا في التابوت) معناه قال كريب: وذكر ابن عباس نقلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعاء بالنور في سبع أماكن غير هذه دخلت صدري ونسيتها ولا أذكرها، فالمراد من التابوت الصدر وهو وعاء القلب. قال ابن بطال: كما يقال لمن يحفظ العلم: علمه في التابوت مستودع. وقال النووي: المراد بالتابوت الأضلاع وما تحويه من القلب وغيره تشبيهًا بالتابوت الذي يحرز فيه المتاع. (فلقيت بعض ولد العباس فحدثني بهن) قال النووي: القائل: "فلقيت" هو سلمة بن كهيل الراوي عن كريب. اهـ وقال الحافظ ابن حجر: هو محتمل، وظاهر رواية أبي حذيفة أن القائل هو كريب، ومعنى "حدثني بهن" أي بالسبع التي في صدر كريب ونسيها. (وذكر خصلتين) عدد كريب أو سلمة خمسًا من السبع ونسي اثنتين، قال الداودي: هما العظم والمخ. وقال الكرماني: لعلهما الشحم والعظم. وقال الحافظ ابن حجر: بل المراد بهما اللسان والنفس وهما اللتان زادهما عقيل في روايته عند مسلم - روايتنا الثامنة - إذ فيها "وفي لساني نورًا ... اللهم أعطني نورًا" وفي السادسة "واجعل في نفسي نورًا". (فاضطجعت في عرض الوسادة واضطجع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأهله في طولها) قال النووي: هكذا ضبطناه "عرض" بفتح العين، ورواه الداودي بالضم وهو الجانب، والصحيح الفتح. والمراد بالوسادة الوسادة المعروفة التي تكون تحت الرءوس، ونقل القاضي عن الباجي والأصيلي وغيرهما أن الوسادة هنا الفراش، وهذا ضعيف أو باطل. اهـ وكانت الوسادة من جلد مدبوغ حشوها ليف. (فجعل يمسح النوم عن وجهه بيده) معناه يزيل أثر النوم وخموله وكسله بتدليك وجهه بيده. (العشر الآيات الخواتم من سورة آل عمران) بدايتها ما جاء في الرواية الثامنة {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات

لأولي الألباب} [آل عمران: 190] ونهايتها آخر السورة كما هو صريح الرواية الثامنة، وحقيقة عدها إحدى عشرة آية، ولعله اكتفى بالعقد عددًا. (فقمت فصنعت مثل ما صنع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم) قال الحافظ ابن حجر: هذا يقتضي أنه صنع جميع ما ذكر من القول والوضوء والسواك ومسح النوم عن الوجه، ويحتمل أن يحمل على الأغلب. اهـ وهذا الأخير أولى. (فوضع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يده اليمنى على رأسي) إيناسًا لابن عباس ورحمة به. (وأخذ بأذني اليمنى يفتلها) كان ذلك بعد أن أدار ابن عباس إلى جنبه الأيمن صلى الله عليه وسلم، ومعنى ذلك أنه كان يأخذ الأذن البعيدة مما يؤدي إلى مرور يده صلى الله عليه وسلم حول عنق ابن عباس، وفي ذلك تطييب وإيناس ورحمة وحنو أكثر، وقد بين في الرواية الرابعة الهدف من فتل الأذن بقوله: "فجعلت إذا أغفيت يأخذ بشحمة أذني". قال النووي: قيل: إنما فتلها تنبيهًا له من النعاس. وقيل: ليتنبه لهيئة الصلاة وموقف المأموم وغير ذلك، والأول أظهر. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: وزاد في الرواية: "فعرفت أنه إنما صنع ذلك ليؤنسني بيده في ظلمة الليل". (ثم احتبى حتى إني لأسمع نفسه راقدًا) في القاموس: احتبى جمع ساقيه إلى ظهره بعمامة ونحوها. وللجمع بين هذا وبين الاضطجاع الوارد في الروايات الأخرى قال النووي: معناه أنه احتبى أولاً ثم اضطجع حتى إني لأسمع نفسه راقدًا. (فلما تبين له الفجر صلى ركعتين خفيفتين) في الرواية الثانية: "ثم اضطجع حتى جاء المؤذن فقام فصلى ركعتين خفيفتين". ولا تعارض فقد تبين له الفجر ساعة مجيء المؤذن فكانت الصلاة بعد الأمرين. (فقمت عن يساره فجعلني عن يمينه) أي أدارني من خلفه، وفي الرواية الأولى: "فأخذ بيدي عن يمينه". وفي الرواية التاسعة: "فأخذ بيدي من وراء ظهره يعدلني كذلك من وراء ظهره إلى الشق الأيمن". وتصوير الحالة أن ابن عباس حين وقف عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم متأخرًا قليلاً كانت يده اليمنى مجاورة لليد اليسرى للرسول صلى الله عليه وسلم، فمد صلى الله عليه وسلم يده اليسرى فأخذت بيد ابن عباس اليمنى وسارت به من خلف ظهره صلى الله عليه وسلم إلى يمينه صلى الله عليه وسلم. (ثم صب في الجفنة أو القصعة فأكبه بيده عليها) الجفنة القصعة الكبيرة ففي القاموس: وأعظم القصاع الجفنة ثم الصحفة. فالشك من الراوي إنما هو في كبر القصعة أو عدمه، فروايات أنه قام إلى القربة فحل رباطها ثم توضأ، فيها طي وحذف حاصله أنه سكب من القربة في القصعة ثم ربط القربة وتوضأ من القصعة، يكب من هذا الإناء على يديه، ولا يضع يديه في الإناء.

(فتوضأ واستن) أي تسوك. وفي الرواية الثامنة: "فاستيقظ فتسوك وتوضأ". ومع أن الواو لا تقتضي ترتيبًا فإنه يمكن أن يقال: إنه صلى الله عليه وسلم تسوك قبل الوضوء وبعده، فكلا التعبيرين صحيح وكل منهما يعبر عن حالة. (طويلتين طويلتين طويلتين) قال النووي: وهكذا هو مكرر ثلاث مرات. اهـ. فالتكرير للتأكيد. (فانتهينا إلى مشرعة) بفتح الميم والراء، وهي الطريق إلى ماء النهر أو البحر من حافته، أي مورد الشرب من النهر أو البحر، أي المورد الذي لا يحتاج إلى رفع أو خوض، وفي المثل: "إن أهون السقي التشريع". (ألا تشرع يا جابر) بضم التاء مضارع أشرع المتعدي، أي ألا تشرع ناقتك أو نفسك؟ أي ألا تسقي ناقتك؟ وروي بفتح التاء مضارع شرع اللازم أي ألا تشرب؟ . (ووضعت له وضوءًا) بفتح الواو أي ماء يتوضأ به. (فصلى في ثوب واحد خالف بين طرفيه) أي أخذ طرف الثوب الذي ألقاه على كتفه الأيمن من تحت يده اليسرى وطرفه الذي ألقاه على كتفه الأيسر من تحت يده اليمنى ثم عقدهما على صدره. (أنت نور السموات والأرض) قال النووي: قال العلماء: معناه نورهما وخالق نورهما. وقال أبو عبيد: معناه بنورك يهتدي أهل السموات والأرض. قال الخطابي في تفسير اسمه سبحانه وتعالى [النور]: ومعناه الذي بنوره يبصر ذو العماية، وبهدايته يرشد ذو الغواية. قال: ومنه: {الله نور السماوات والأرض} [النور: 35] أي منه نورهما. قال: ويحتمل أن يكون معناه ذو النور، ولا يصح أن يكون النور صفة ذات لله تعالى، وإنما هو صفة فعل، أي هو خالقه. وقال غيره: معنى نور السموات والأرض مدبر شمسها وقمرها ونجومها. اهـ. والأقوال كلها متقاربة لأن النور إذا أريد منه حقيقته وهو الضوء فهو تعالى خالقه بخلق أجرامه فهو صاحبه ذو النور، أو هو صاحبه بتدبيره أجرامه، أو هو سببه وبه ومنه نورهما. وإذا أريد منه النور المعنوي والهداية فهو من الإخبار بالمصدر مبالغة كزيد عدل أي عادل، أي أنت الهادي في السموات والأرض. قال الحافظ ابن حجر: وقيل: المعنى أنت المنزه عن كل عيب. يقال: فلان منور، أي مبرأ من كل عيب. اهـ وهو بعيد لإضافته إلى السموات والأرض إلا إذا اعتبرنا الإضافة بمعنى في. (أنت قيام السموات والأرض) في ملحق الرواية: "قيم السموات والأرض". قال العلماء: من صفاته القيام والقيم كما صرح به هذا الحديث، والقيوم بنص القرآن، وقائم، ومنه قوله تعالى: (أفمن هو قائم على كل نفس) [الرعد: 33] قال الهروي: ويقال: قوام. قال ابن عباس: القيوم الذي لا يزول. وقال غيره: هو القائم على كل شيء، ومعناه مدبر أمر خلقه.

قال النووي: وهما -أي تفسير ابن عباس وغيره - سائغان في تفسير الآية والحديث. اهـ. والمعنى الثاني أقرب وأوضح. (أنت رب السموات والأرض) قال النووي: قال العلماء: للرب ثلاثة معان في اللغة: السيد المطاع. فشرط المربوب أن يكون ممن يعقل، وإليه أشار الخطابي بقوله: لا يصح أن يقال: سيد الجبال والشجر، قال القاضي عياض: هذا الشرط فاسد، بل الجميع مطيع له سبحانه وتعالى، قال الله تعالى {ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعًا أو كرهًا قالتا أتينا طائعين} [فصلت: 11]. اهـ. وكلام القاضي قاض على كل كلام. (أنت الحق) للإمام النووي في معنى هذا الثناء الآتي كلام نفيس أسوقه كما جاء في شرحه لصحيح مسلم: قال النووي: قال العلماء: الحق في أسمائه تعالى معناه المتحقق وجوده، وكل شيء صح وجوده فهو حق، ومنه "الحاقة" أي الكائنة حقًا بغير شك، ومثله قوله في هذا الحديث: "ووعدك الحق، وقولك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق". أي كله متحقق لا شك فيه، وقيل: معناه خبرك حق وصدق - ففي "أنت أحق" مضاف محذوف أي خبرك - وقيل: أنت صاحب الحق، وقيل: محق الحق، وقيل: الإله الحق. اهـ. (ولقاؤك حق) المراد من اللقاء البعث، وقيل: الموت. والصواب البعث، فهو الذي يقتضيه سياق الكلام، وهو الذي يرد به على الملاحدة لا بالموت. (اللهم لك أسلمت) أي استسلمت وانقدت لأمرك ونهيك. (وبك آمنت) أي صدقت بك وبكل ما أخبرت وأمرت ونهيت. (وإليك أنبت) أي أطعت ورجعت إلى عبادتك، أي أقبلت عليها. وقيل: معناه رجعت إليك في تدبيري، أي فوضت إليك. (وبك خاصمت) أي بما أعطيتني من البراهين والقوة خاصمت من عاند فيك وكفر بك وقمعته بالحجة وبالسيف. (وإليك حاكمت) أي كل من جحد الحق حاكمته إليك وجعلتك الحاكم بيني وبينه، لا غيرك مما كانت تحاكم إليه الجاهلية وغيرهم من صنم وكاهن ونار وشيطان وغيرها، فلا أرضى إلا بحكمك، ولا أعتمد غيره. (فاغفر لي ما قدمت وما أخرت. إلخ) معنى سؤاله صلى اللَّه عليه وسلم المغفرة مع أنه مغفور له؛ أنه يسأل ذلك تواضعًا وخضوعًا وإشفاقًا وإجلالاً، وليقتدي به في أصل الدعاء والخضوع وحسن التصريح في هذا الدعاء المعين. (اللَّهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل) قال العلماء: خصهم بالذكر وإن كان اللَّه تعالى

رب كل المخلوقات كما تقرر في القرآن والسنة من نظائره - أي جريًا على ما تقرر - من إضافته تعالى إلى كل عظيم المرتبة وكبير الشأن دون ما يستحقر ويستصغر، فيقال له سبحانه وتعالى: "رب السموات والأرض رب العرش الكريم، ورب الملائكة والروح، ورب المشرقين ورب المغربين، ورب الناس، ملك الناس، إله الناس، ورب العالمين، رب كل شيء، رب النبيين، خالق السموات والأرض، فاطر السموات، جاعل الملائكة رسلاً". فكل ذلك وشبهه وصف له سبحانه وتعالى بدلائل العظمة وعظيم القدرة والملك، ولم يستعمل ذلك فيما يحتقر ويستصغر فلا يقال: رب الحشرات، وخالق القردة والخنازير، وشبه ذلك على الإفراد، وإنما يقال: خالق المخلوقات وخالق كل شيء، فيدخل هذا في العموم. (اهدني لما اختلف فيه من الحق) معناه ثبتني عليه، كقوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} (وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض) أي قصدت بعبادتي وتوجهت بها للذي بدأ خلق السموات والأرض. (حنيفًا) قال النووي: قال الأكثرون: معناه مائلاً إلى الدين الحق وهو الإسلام، وأصل الحنف الميل، ويكون في الخير والشر، وينصرف إلى ما تقتضيه القرينة. وقيل: المراد بالحنيف هنا المستقيم. وقال أبو عبيد: الحنيف عند العرب من كان على دين إبراهيم عليه السلام، وانتصب حنيفًا على الحال، أي وجهت في حال حنيفتي. (وما أنا من المشركين) بيان للحنيف وإيضاح لمعناه، والمشرك يطلق على كل كافر، من عابد وثن وصنم ويهودي ونصراني ومجوسي ومرتد وزنديق وغيرهم. انتهى كلام النووي. وأقول: حمل المشرك على هذا إنما يكون إذا ذكر وحده، وأما إذا ذكر في مقابل الكافر فيطلق على من جعل للَّه ندًا. (إن صلاتي ونسكي) قال النووي: قال أهل اللغة: النسك العبادة، وأصله من النسيكة وهي الفضة المذابة المصفاة من كل خلط، والنسيكة أيضًا كل ما يتقرب به إلى الله تعالى. (ومحياي ومماتي) أي حياتي وموتي، ويجوز فتح الياء فيهما وإسكانها، والأكثرون على فتح ياء محياي وإسكان ياء مماتي. (للَّه) قال العلماء: هذه اللام لام الإضافة، ولها معنيان، الملك، والاختصاص، وكلاهما مراد. (رب العالمين) في معنى "رب" أربعة أقوال، حكاها الماوردي وغيره: المالك، والسيد، والمدبر، والمربي، فإن وصف الله تعالى برب لأنه ملك أو سيد فهو من صفات الذات، وإن وصف لأنه مدبر خلقه ومربيهم فهو من صفات فعله، ومتى: دخلته الألف واللام فقيل: الرب اختص بالله تعالى،

وإذا حذفتا جاز إطلاقه على غيره، فيقال. رب المال، ورب الدار، ونحو ذلك. والعالمون جمع عالم، وليس للعالم واحد من لفظه. واختلف العلماء في حقيقته، فقال المتكلمون من أصحابنا وغيرهم من المفسرين وغيرهم: العالم كل المخلوقات. قال جماعة: هم الملائكة والجن والإنس، وقيل: بنو آدم خاصة. وقال آخرون: هو الدنيا وما فيها، ثم قيل: هو مشتق من العلامة، لأن كل مخلوق علامة على وجود صانعه. وقيل: من العلم، فعلى هذا يختص بالعقلاء. (اللَّهم أنت الملك) أي القادر على كل شيء المالك الحقيقي لجميع المخلوقات. (وأنا عبدك) أي معترف بأنك مالكي ومدبري وحكمك نافذ في. (ظلمت نفسي) أي اعترفت بالتقصير. وقدمه على سؤال المغفرة أدبًا كما قال آدم وحواء: {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} [الأعراف: 23]. (اهدني لأحسن الأخلاق) أي أرشدني لصوابها، ووفقني للتخلق به. (واصرف عني سيئها) أي قبيحها. (لبيك) قال العلماء: معناه أنا مقيم على طاعتك إقامة بعد إقامة، يقال: لب بالمكان لبًا، وألب إلبابًا، أي أقام به، وأصل "لبيك" لبين لك، فحذفت النون للإضافة. (وسعديك) قال الأزهري وغيره: معناه مساعدة لأمرك بعد مساعدة ومتابعة لدينك بعد متابعة. (والخير كله في يديك والشر ليس إليك) قال الخطابي وغيره: هذا من إضافة محاسن الأمور إليه تعالى دون مساويها، وقوله: "والشر ليس إليك". مما يجب تأويله، لأن مذهب أهل الحق أن كل المحدثات فعل الله تعالى وخلقه سواء خيرها وشرها، وحينئذ يجب تأويله، وفيه خمسة أقوال أحدها: معناه لا يتقرب به إليك. والثاني: معناه لا يضاف إليك على انفراده، لا يقال: يا خالق القردة والخنازير ويا رب الشر ونحو هذا، وإن كان خالق كل شيء ورب كل شيء، وحينئذ يدخل الشر في العموم. والثالث: معناه الشر لا يصعد إليك، إنما يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح. والرابع: معناه والشر ليس شرًا بالنسبة إليك، فإنك خلقته بحكمة بالغة، وإنما هو شر بالنسبة إلى المخلوقين. والخامس: أنه كقولك: فلان إلى بني فلان، إذا كان عداده فيهم أو صفوه إليهم. (أنا بك وإليك) أي التجائي وانتمائي إليك وتوفيقي بك. (تباركت) أي استحققت الثناء. وقيل: ثبت الخير عندك. وقال ابن الأنباري: تبارك العباد بتوحيدك. (ملء السموات وملء الأرض) هو بكسر الميم وبنصب الهمزة بعد اللام ورفعها، واختلف في الراجح منهما، والأشهر النصب، ومعناه حمدًا لو كان أجسامًا لملأ السموات والأرض لعظمه.

(سجد وجهي) قيل: المراد بالوجه جملة الذات كقوله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} [القصص: 88] ويؤيده أن السجود يقع بأعضاء أخر مع الوجه. وقيل: إن الشيء يضاف إلى ما يجاوره كما يقال: بساتين البلد. (أحسن الخالقين) أي المقدرين والمصورين. (أنت المقدم وأنت المؤخر) معناه تقدم من شئت بطاعتك وغيرها، وتؤخر من شئت عن ذلك كما تقتضيه حكمتك، وتعز من تشاء، وتذل من تشاء. (وأنا أول المسلمين) أي من هذه الأمة. انتهى كلام النووي بدون تصرف وهو من النفاسة بمكان، واللَّه أعلم. -[فقه الحديث]- تتعرض أحاديث الباب إلى نقاط فقهية ننسجها فيما يأتي: (أ) في الرواية السابعة إشارة إلى دافع مبيت ابن عباس عند خالته ميمونة وأنه النظر ومراقبة كيفية صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل، وفي الرواية العاشرة تصريح بدافع وسبب آخر ونصها: "بعثني العباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت خالتي ميمونة". زاد النسائي: "في إبل أعطاه إياها من الصدقة". ولابن خزيمة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعد العباس ذودًا من الإبل فبعثني إليه بعد العشاء وكان في بيت ميمونة". ولمحمد بن نصر زيادة: "فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: يا بني بت الليلة عندنا". ففي ظاهر سبب المبيت ودافعه تعارض بين الروايات، ويمكن الجمع بينهما بأن الدافع إلى الإرسال طلب الإبل الموعود بها للعباس، فلما عرض على ابن عباس المبيت كان دافعه للقبول والمبيت مراقبة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم. (ب) جاء في رواية لأبي عوانة عن عبد الله بن عباس: "أن العباس بعثه إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة. قال: فوجدته جالسًا في المسجد فلم أستطع أن أكلمه، فلما صلى المغرب قام فركع حتى أذن بصلاة العشاء". وظاهر هذا يعارض أن العباس أرسله إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة. قال الحافظ ابن حجر: ويجمع بأنه لما لم يكلمه في المسجد أعاده إليه بعد العشاء إلى بيت ميمونة. (ج) في الرواية الرابعة: "بت عند خالتي ميمونة فقلت لها: إذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأيقظيني". مما يوحي بأن ابن عباس قد نام، وجاء في الرواية: "فقلت: لا أنام حتى أنظر ما يصنع في صلاة الليل". وقد جمع الحافظ ابن حجر بين الروايتين باحتمال أنه عزم في نفسه على السهر ليطلع على الكيفية التي أرادها، ثم خشي أن يغلبه النوم فوصى ميمونة أن توقظه. اهـ ولم تفد الروايات بأن ميمونة أيقظته، وإنما صرحت الرواية الأولى بأنه كان مستيقظًا من نفسه

إذ فيها. "فقمت فتمطيت كراهية أن يرى أني كنت أنتبه له". فكونه عزم على أن لا ينام، وكونه لم ينم بالفعل لا يتنافى مع توصيته خالته أن توقظه احتياطًا وخوفًا من أن ينام. (د) تصرح الرواية الرابعة بأن صلاته صلى الله عليه وسلم تلك الليلة كانت إحدى عشرة ركعة، وتصرح الرواية الأولى والثالثة والسادسة والثانية عشرة بأن صلاته في تلك الليلة كانت ثلاث عشرة ركعة، وجاءت روايتنا الثامنة بأن صلاته كانت في هذه الليلة تسع ركعات وأن الوضوء كان يتكرر كل ركعتين، ونصها: "ثم قام فصلى ركعتين فأطال فيهما القيام والركوع والسجود، ثم انصرف فنام حتى نفخ، ثم فعل ذلك ثلاث مرات - ست ركعات - كل ذلك يستاك ويتوضأ، ثم أوتر بثلاث". وفي الجمع أو الترجيح يقول الحافظ ابن حجر: والحاصل أن قصة مبيت ابن عباس يغلب علي الظن عدم تعددها، فلهذا ينبغي الاعتناء بالجمع بين مختلف الروايات فيها. ولا شك أن الأخذ بما اتفق عليه الأكثر والأحفظ أولى مما خالفهم فيه من هو دونهم، ولا سيما إن زاد أو نقص، والمحقق من عدد صلاته في تلك الليلة إحدى عشرة، وأما رواية "ثلاث عشرة" فيحتمل أن يكون منها سنة العشاء، ويوافق ذلك رواية ابن أبي حجرة عن ابن عباس بلفظ: "كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة". يعني بالليل، ولم يبين هل سنة الفجر منها أو لا وبينها يحيى بن الجزار عن ابن عباس عند النسائي بلفظ: "كان يصلي ثمان ركعات ويوتر بثلاث، ويصلي ركعتين قبل صلاة الصبح". ولا يعكر على هذا الجمع إلا ظاهر قوله: "صلى ركعتين ... ثم ركعتين ... " - روايتنا الثانية أي قبل أن ينام، ويكون منها سنة العشاء، وقوله: "ثم ركعتين". أي بعد أن قام. وجمع الكرماني بين ما اختلف من روايات قصة ابن عباس هذه، باحتمال أن يكون بعض رواته ذكر القدر الذي اقتدى ابن عباس به فيه، وفصله عما لم يقتد به فيه. انتهى كلام الحافظ ابن حجر. والمحقق عندي من عدد صلاته صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة ثلاث عشرة وأن ابن عباس اقتدى به وصلى معه إحدى عشرة ركعة بعد أن صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده ركعتين، يؤكد هذا الفهم، فتمطيت، فتوضأت، فقام فصلى، فقمت لما رأيته صنع ذلك، فتوضأ من القربة، ثم قمت إلى شقه الأيسر ... ". فهي صريحة في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى قبل أن يقوم ابن عباس، وقوله في الرواية نفسها: "فتتامت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل ثلاث عشرة ركعة". صريحة في جمع العدد. وفي الرواية الثانية: "فأحسن وضوءه، ثم قام فصلى، .... فقمت فصنعت مثل ما صنع .... ثم ذهبت فقمت إلى جنبه". وقول ابن عباس بعد ذلك: "فصلى ركعتين.". إلخ حتى بلغ بالمثنى اثنتي عشرة ركعة تفصيل لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ومع ابن عباس، وكذلك الرواية الثالثة ولفظها: "فصلى في تلك الليلة ثلاث عشرة ركعة". وكذلك الرواية السادسة وفيها: "فتكاملت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة ركعة". كل ذلك صريح في جمع العدد، ولا يعارض الرواية الرابعة التي تتحدث عن عدد ما صلاه ابن عباس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه إحدى عشرة ركعة، وهذه واقعة حال لا تعارضها واقعة حال أخرى. أما الرواية الثامنة وفيها تخلل النوم بين الركعات، وفيها مخالفة في عدد الركعات لبقية الروايات، فقد قال القاضي عياض: هذه الرواية مما استدركه الدارقطني على مسلم لاضطرابها واختلاف الرواة. قال النووي: ولا يقدح هذا في

مسلم، فإنه لم يذكر هذه الرواية متأصلة مستقلة، إنما ذكرها متابعة، والمتابعات يحتمل فيها ما لا يحتمل في الأصول. قال القاضي: ويحتمل أنه لم يعد في هذه الصلاة الركعتين الأوليين الخفيفتين اللتين كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح صلاة الليل بهما، كما صرحت الأحاديث بهما في مسلم وغيره، ولهذا قال: "صلى ركعتين فأطال فيهما". فدل على أنهما بعد الخفيفتين، فتكون الخفيفتان ثم الطويلتان ثم الست المذكورات ثم ثلاث بعدها، فصارت الجملة ثلاث عشرة كما في باقي الروايات. واللَّه أعلم. -[ويؤخذ من أحاديث الباب فوق ما تقدم: ]- 1 - أن موقف المأموم الواحد عن يمين الإمام وأنه إذا وقف عن يساره يتحول إلى يمينه، وأنه إذا لم يتحول حوله الإمام. 2 - وأن الفعل القليل لا يبطل الصلاة. 3 - وأن صلاة الصبي صحيحة. 4 - وأن الجماعة في غير المكتوبات وفي النوافل والتهجد صحيحة، وأن الائتمام بمن لم ينو الإمامة صحيح. 5 - قال النووي: وفيه دليل على جواز نوم الرجل مع امرأته من غير مواقعة بحضرة بعض محارمها وإن كان مميزًا. قال القاضي: وقد جاء في بعض روايات هذا الحديث: قال ابن عباس: "بت عند خالتي في ليلة كانت فيها حائضًا". قال: وهذه الكلمة وإن لم تصح طريقًا فهي حسنة المعنى جدًا، إذ لم يكن ابن عباس يطلب المبيت في ليلة للنبي صلى الله عليه وسلم فيها حاجة إلى أهله، ولا يرسله أبوه إلا إذا علم عدم حاجته إلى أهله، لأنه معلوم أنه لا يفعل حاجته مع حضرة ابن عباس معهما في الوسادة مع أنه كان مراقبًا لأفعال النبي صلى الله عليه وسلم، مع أنه لم ينم أو نام قليلاً جدًا. انتهى كلام القاضي. وهو احتمال، لكني أستبعد إشاعة حيضة المرأة بهذه الصورة، فما أرسله العباس ليبيت، وما بات إلا بعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيت. نعم قد يكون هذا العرض مبنيًا على حيض أم المؤمنين في نظر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يكون مبنيًا على عدم الحاجة، وهو الأولى عندي، فإن للرجل أن يتمتع من زوجه الحائض بغير الجماع ولا يليق أن يحصل شيء من ذلك مع وجود ابن عباس بجوارهما. وحيث إن الرواية لم تصح طريقًا فلا يعتمد عليها، وعلى فرض صحتها يحتمل أنه علم بذلك عند المبيت أو بعده، لكنها على كل حال ليست المسوغ للمبيت. واللَّه أعلم. 6 - ومن الرواية الثانية من قوله: "فجعل يمسح النوم عن وجهه". جواز استعمال المجاز، واستحباب مسح أثر النوم. 7 - واستحباب قراءة القرآن للمحدث، لقراءته صلى الله عليه وسلم العشر الآيات قبل أن يتوضأ. قال النووي: وهذا إجماع المسلمين، وإنما تحرم القراءة على الجنب والحائض. 8 - وفيه استحباب قراءة هذه الآيات عند القيام من النوم.

9 - وجواز قول سورة آل عمران وسورة البقرة وسورة النساء ونحوها، وكرهه بعض المتقدمين، وقال: إنما يقال: السورة التي يذكر فيها آل عمران. قال النووي: والصواب الأول، وبه قال عامة العلماء من السلف والخلف وتظاهرت عليه الأحاديث الصحيحة، ولا لبس في ذلك. 10 - قال النووي: وفيه أن الأفضل في الوتر وغيره من الصلوات أن يسلم من كل ركعتين، وأن الوتر يكون آخره ركعة مفصولة. قال: وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور. وقال أبو حنيفة: ركعة موصولة بركعتين كالمغرب. 11 - وفيه جواز إتيان المؤذن إلى الإمام ليخرج إلى الصلاة. 12 - وتخفيف سنة الصبح. 13 - وفيه من الرواية السابعة جواز الحديث بعد صلاة العشاء للحاجة والمصلحة. قال النووي: وحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها إنما هو في حديث لا حاجة إليه ولا مصلحة فيه. 14 - ويؤخذ من الرواية الثالثة عشرة صحة الصلاة في ثوب واحد. 15 - وأنه تسن المخالفة بين طرفيه على عاتقيه. 16 - قال الحافظ ابن حجر: وفيه الملاطفة بالصغير والقريب والضعيف. 17 - وحسن المعاشرة للأهل، والرد على من يؤثر دوام الانقباض. 18 - وفيه حمل أفعاله صلى الله عليه وسلم على الاقتداء به. 19 - والبداءة عند الصلاة بالسواك واستحبابه عند كل وضوء وعند كل صلاة. 20 - واستحباب غسل الوجه واليدين لمن أراد النوم وهو محدث. 21 - واستحباب التقليل من الماء في التطهير مع حصول الإسباغ. 22 - وبيان فضل ابن عباس وقوة فهمه وحرصه على تعلم أمر الدين. 23 - وفيه اتخاذ مؤذن راتب للمسجد. 24 - ومن الرواية الخامسة عشرة استحباب افتتاح صلاة الليل بركعتين خفيفتين للتنشيط. 25 - ومن الرواية السادسة عشرة دعاؤه صلى الله عليه وسلم وطلبه مغفرة ما قدم وما أخر وما أسر وما أعلن. قال النووي: ومعنى سؤاله صلى الله عليه وسلم المغفرة مع أنه مغفور له أنه يسأل تواضعًا وخضوعًا وإشفاقًا وإجلالاً، وليقتدي به في أصل الدعاء والخضوع وحسن التضرع. 26 - قال الخطابي وغيره عن الرواية الثامنة عشرة في الحديث: إرشاد إلى الأدب في الثناء على الله تعالى، ومدحه بأن يضاف إليه محاسن الأمور دون مساويها على جهة الأدب.

27 - وفيه تقديم الثناء على الله قبل الطلب والدعاء وبعده. 28 - ومواظبته صلى الله عليه وسلم في الليل على الذكر والدعاء والاعتراف لله تعالى بحقوقه والإقرار بصدق وعده ووعيده والبعث والجنة والنار وغيره ذلك. 29 - ويؤخذ من الرواية الثامنة عشرة وزيادتها استحباب دعاء الافتتاح. قال النووي: إلا أن يكون إمامًا لقوم لا يؤثرون التطويل. 30 - ويؤخذ منها استحباب الدعاء في الركوع وفي الرفع وفي السجود وبعد التشهد. 31 - وفيها دليل لمذهب الزهري أن الأذنين من الوجه لقوله صلى الله عليه وسلم: "سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره". فإضافة السمع إلى الوجه دليل على أنه منه. قال النووي: وقال جماعة من العلماء: هما من الرأس. وقال جماعة آخرون: أعلاهما من الرأس، وأسفلهما من الوجه. وقال آخرون: ما أقبل منهما على الوجه فمن الوجه، وما أدبر فمن الرأس. قال الشافعي والجمهور: هما عضوان مستقلان، لا من الرأس ولا من الوجه، بل يطهران بماء مستقل، ومسحهما سنة خلافًا للشيعة. وأجاب الجمهور عن احتجاج الزهري بجوابين أحدهما: أن المراد بالوجه جملة الذات، كقوله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} [القصص: 88] ويؤيد هذا أن السجود يقع بأعضاء أخرى مع الوجه. والثاني: أن الشيء يضاف إلى ما يجاوره، كما يقال: بساتين البلد. اهـ. 32 - ومن الرواية الثالثة والخامسة أنه صلى الله عليه وسلم بعد أن نام صلى ولم يتوضأ وقد أوضح سفيان الراوي في زيادته أن هذا خصوصية من خصوصياته صلى الله عليه وسلم، لأنه كما يقول النووي: لو خرج حدث لأحس به خلاف غيره من الناس. واللَّه أعلم

(257) باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل

(257) باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل 1567 - عن حذيفة رضي الله عنه قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى. فقلت يصلي بها في ركعة فمضى، فقلت يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها يقرأ مترسلاً إذا مر بآية فيها تسبيح سبح وإذا مر بسؤال سأل وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع فجعل يقول: "سبحان ربي العظيم". فكان ركوعه نحوًا من قيامه ثم قال: "سمع الله لمن حمده". ثم قام طويلاً قريبًا مما ركع ثم سجد فقال: "سبحان ربي الأعلى". فكان سجوده قريبًا من قيامه (قال): وفي حديث جرير من الزيادة فقال: "سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد". 1568 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطال حتى هممت بأمر سوء قال: قيل: وما هممت به؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه. -[المعنى العام]- لا شك أن خير الذكر هو القرآن، وخير القرآن ما قرئ بتدبر في صلاة. وقد رأيت بعض العابدين يقرأ القرآن كله كل ليلة من رمضان في صلاة، ينوي ثم يقرأ الفاتحة ثم يقرأ جزءًا أو جزأين ثم يركع ويسجد ثم يقوم فيقرأ الفاتحة ثم يقرأ جزءًا أو جزأين ثم يركع ويسجد ثم يقوم فيقرأ الفاتحة ثم يقرأ جزءًا أو جزأين ثم يركع. وهكذا تارة عن القيام وتارة عن الجلوس في النافلة. وكنت أتعجب وأعد ذلك مبالغة غير واردة حتى قرأت هذا الحديث الشريف، وأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قرأ وهو يصلي ومعه حذيفة بن اليمان أكثر من خمسة أجزاء في ركعة واحدة (البقرة والنساء وآل عمران) يا إلهي. أكثر من سدس القرآن يتلى في ركعة، فيمكن أن يختم القرآن في ست ركعات، ومن التالي؟ وما نوع التلاوة؟ القارئ من أُنزل عليه القرآن، والقراءة بتؤدة وتدبر وإتقان، لا يمر بآية فيها تسبيح إلا سبح اللَّه ونزهه عن النقائص، ولا يمر بآية فيها سؤال أو دعاء إلا سأل ربه ودعاه، ولا يمر بآية فيها استعاذة من شر إلا استعاذ باللَّه من هذا الشر ومن جميع الشرور، فإذا ركع سبح اللَّه طويلاً في زمن قريب من زمن

قراءته، فإذا سجد سبح اللَّه في زمن قريب من زمن قراءته، ثم كانت الركعة الثانية ولا نظنها تنقص عن الركعة الأولى، فأين نحن منه صلى اللَّه عليه وسلم؟ وأين عبادتنا وقراءتنا من عبادته وقراءته؟ أعاننا اللَّه وهدانا إلى ذكره وشكره وحسن عبادته إنه سميع مجيب. -[المباحث العربية]- (فقلت: يصلي بها في ركعة) قال النووي: معناه ظننت أنه يسلم بها فيقسمها على ركعتين، وأراد بالركعة الصلاة بكمالها، وهي ركعتان. قال: ولا بد من هذا التأويل فينتظم الكلام بعده، وعلى هذا فقوله: "ثم مضى". معناه قرأ معظمها بحيث غلب على ظني أنه لا يركع الأولى إلا في آخر البقرة، فحينئذ قلت: يركع الأولى بها، فجاوز وافتتح النساء. اهـ. وحاصل التوجيه أن حذيفة حين افتتح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم القراءة بالبقرة قال في نفسه: سيقرأ منها مائة آية ثم يركع، فقرأ فتجاوز المائة، فقال في نفسه: سيقسم السورة على ركعتين وسيقف عند نصفها، فقرأ فتجاوز النصف، فقال في نفسه: لعله سيأتي على السورة كلها في ركعة واحدة ثم يركع. (يقرأ مترسلاً) أي مُتئدًا في ترتيله. (حتى هممت بأمر سوء) بإضافة "أمر" إلى "سوء" من إضافة الصفة إلى الموصوف، ويجوز لغة تنوين "أمر" وإعراب "سوء" صفة له، ولفظ "سوء" بفتح السين وسكون الواو، وهذا السوء من جهة ترك الأدب وصورة المخالفة. (وأدعه) أي وأتركه، وهذه اللفظة أمات العرب ماضيها فلم يستعملوا لها ماضيًا وفيها المضارع والأمر فقط: يدع ودع. والمراد هنا هممت أن أترك القيام وأجلس، لا أن يترك الاقتداء فيخرج من الصلاة. -[فقه الحديث]- ورد الأمر بتخفيف الصلاة وتخفيف القراءة والتحذير من التطويل في صلاة الجماعة في الفرائض، وحث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث على أن يقرأ الإمام في أطول الصلوات وقتًا وهي العشاء بسورة {والشمس وضحاها} أو {سبح اسم ربك الأعلى} أو {والليل إذا يغشى} أو {اقرأ باسم ربك} أو {والسماء ذات البروج} أو {والسماء والطارق} وحمل العلماء هذا الأمر على ما إذا لم يعلم رضا المأموم بالتطويل، مراعاة لظروف المأمومين المجهولة، فمنهم المريض والضعيف وذو الحاجة. أما النافلة فالجماعة فيها غير مؤكدة ابتداء، والأصل فيمن يصلي صلاة الليل استعداده للقيام، ثم هي تصلى في البيوت، فمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو قوي جلد كحذيفة وعبد اللَّه بن مسعود كان أهلاً لأن يحتمل التطويل غالبًا.

وقد خاض العلماء في الأفضل من تطويل القراءة أو كثرة السجود - وقد مرت المسألة في بابها، وخلاصتها أن الأفضلية تختلف باختلاف المصلي ومدى خشوعه وإخلاصه في أي منهما. وظاهر حديث حذيفة يتعارض مع ظاهر حديث ابن عباس في الباب السابق، ومع ما علم من صلاته صلى اللَّه عليه وسلم، ولهذا يقول الحافظ ابن حجر: هذه القراءة إنما تتأتى في نحو من ساعتين، فلعله صلى اللَّه عليه وسلم أحيا تلك الليلة كلها، وأما ما يقتضيه حاله في غير هذه الليلة فإن في أخبار عائشة كان يقوم قدر ثلث الليل، وفيها أنه كان لا يزيد على إحدى عشرة ركعة. اهـ. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - قال القاضي عياض: فيه دليل لمن يقول: إن ترتيب السور اجتهاد من المسلمين حين كتبوا المصحف، وأنه لم يكن ذلك من ترتيب النبي صلى الله عليه وسلم، بل وكله إلى أمته بعده. قال: وهذا قول مالك وجمهور العلماء، واختاره أبو بكر الباقلاني، وهو أصح القولين مع احتمالهما. قال: والذي نقوله: إن ترتيب السور ليس بواجب في الكتابة ولا في الصلاة ولا في الدرس ولا في التلقين والتعليم، وأنه لم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك نص ولا حد تحرم مخالفته، ولذلك اختلف ترتيب المصاحف قبل مصحف عثمان. قال: واستجاز النبي صلى الله عليه وسلم والأمة بعده في جميع الأعصار ترك ترتيب السور في الصلاة والدرس والتلقين. قال: وأما على قول من يقول من أهل العلم: إن ذلك بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم حدده لهم كما استقر في مصحف عثمان، وإنما اختلفت المصاحف قبل أن يبلغهم التوقيف والعرض الأخير، فيتأول قراءته صلى اللَّه عليه وسلم النساء أولاً ثم آل عمران هنا على أنه كان قبل التوقيف والترتيب، وكانت هاتان السورتان هكذا في مصحف أبي. قال: ولا خلاف أنه يجوز للمصلي أن يقرأ في الركعة الثانية سورة قبل التي قرأها في الأولى، وإنما يكره ذلك في الركعة، ولمن يتلو في غير صلاة. قال: وقد أباحه بعضهم وتأول نهي السلف عن قراءة القرآن منكوسًا على من يقرأ من آخر السورة إلى أولها. قال: ولا خلاف أن ترتيب آيات كل سورة بتوقيف من اللَّه تعالى على ما هي عليه في المصحف، وهكذا نقلته الأمة عن نبيها صلى الله عليه وسلم. هذا آخر كلام القاضي عياض نقله الإمام النووي. وننبه إلى أن تجويز القاضي القراءة مع عدم ترتيب السور ونقله عن البعض الإباحة ليس معناه استواء الأمرين، الترتيب وعدم الترتيب، فلا خلاف في أن الأولى - إن لم يكن المستحب - القراءة بالترتيب، ولو خروجًا من خلاف من أوجبه، ولو اتباعًا لمصحف عثمان، ولو حماية من الاختلاف في صورة القرآن الكريم بعامة. 2 - وفيه استحباب القراءة بترسل لكل قارئ في الصلاة وغيرها، والتسبيح إذا مر بآية تسبيح، والاستعاذة إذا مر بتعوذ، والسؤال إذا مر بسؤال. قال النووي: ومذهبنا استحباب ذلك للإمام والمأموم والمنفرد.

3 - وفيه استحباب "سبحان ربي العظيم" في الركوع، "وسبحان ربي الأعلى" في السجود، وهو مذهبنا ومذهب أبي حنيفة والكوفيين وأحمد والجمهور. وقال مالك: لا يتعين ذكر التسبيح. 4 - وفيه دليل لجواز تطويل الاعتدال. 5 - وفيه استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل. 6 - ويؤخذ من حديث ابن مسعود استخدام الأدب مع الأئمة والكبار وأن لا يخالفوا بفعل ولا قول ما لم يكن حرامًا. قال النووي: واتفق العلماء على أنه إذا شق على المقتدي في فريضة أو نافلة القيام وعجز عنه جاز له القعود، وإنما لم يقعد ابن مسعود للتأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم. اهـ. ويلاحظ أن القعود في صلاة النافلة جائز ابتداءً. 7 - وفيه جواز الاقتداء في غير المكتوبات. واللَّه أعلم

(258) باب الحث على صلاة الوقت وإن قلت

(258) باب الحث على صلاة الوقت وإن قلت 1569 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل نام ليلة حتى أصبح قال: "ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه". أو قال: "في أذنه". 1570 - عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة فقال: ألا تصلون؟ ". فقلت: يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا. فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قلت له ذلك ثم سمعته وهو مدبر يضرب فخذه ويقول {وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً} 1571 - عن أبي هريرة رضي الله عنه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم: "يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم ثلاث عقد إذا نام بكل عقدة يضرب عليك ليلاً طويلاً، فإذا استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، وإذا توضأ انحلت عنه عقدتان، فإذا صلى انحلت العقد فأصبح نشيطًا طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان". -[المعنى العام]- يحرص الشيطان على الحيلولة دون أداء العبد لعبادته، فقد أقسم على إغواء بني آدم {قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين} [الأعراف: 16، 17]. إنه يتفنن في تزيين الكسل والخمول لمن يعتزم عبادة اللَّه، يثبط العزائم ويسوف ويستدرج وبخاصة عند النوم ليجتمع له من إغوائه شهوة النفس وميلها إلى النوم، إذا أراد المسلم أن يصلي الليل قبل أن ينام وسوس له وأتاه من زاوية الحق المراد به باطل، يقول له: قيام الثلث الأخير أفضل فنم ثم قم، ويؤكد له القدرة على القيام، ويقسم له أن ذلك سيكون، وأنه من السهل اليسير، فإذا نام أثقل أذنيه حتى لا يسمع صوتًا موقظًا أو منبهًا، وأوثق تغميض عينيه، وعقد على عقله ثلاث عقد، ليغلق عليه اليقظة والانتباه، فإذا ما أفلت المسلم من هذا الحصار المنيع وتقلب في فراشه،

واستحضر في نفسه الرغبة لأداء عبادته، خدعه شيطانه وقال له: نم مازال الليل طويلاً. ثم قليلاً ثم قم. فإذا ما استجاب لهذا الإغواء فنام ثم تيقظ، عاوده بالخدعة نفسها شيئًا فشيئًا ومرة بعد مرة، يعده ويمنيه وما يعده الشيطان إلا غرورًا، حتى إذا فات وقت الصلاة وضاعت الفرصة على المسلم وتحقق للشيطان ما أراد بال في أذن صاحبه سخرية منه واستهزاء {وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم} [إبراهيم: 22] ولكن هل يترك الشيطان المسلم للنفس اللوامة؟ لتندم وتتحسر وتتألم وليأخذ من تقصيره عظة ودرسًا وقوة لمستقبله؟ لا إنه يعود إليه يزين له ما فعل، ويخيل إليه أنه معذور مرفوع عنه القلم ويبرر له القصور ويستخدم الحق مريدًا به باطل، يقول له: إنما نفس النائم بيد الله فلو شاء تعالى أن يبعثه لبعثه، وينخدع المسلم بالباطل المغلف المزين، فيعتذر بما لا يقبل، ويجادل بغير حجة {وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً} [الكهف: 54]. -[المباحث العربية]- (ذكر عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رجل) قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمه، لكن قد يؤخذ من رواية عن عبد الله بن مسعود أنه هو، ولفظها بعد سياق الحديث بنحوه: "وايم الله لقد بال في أذن صاحبكم ليلة" .. يعني نفسه. (نام ليلة حتى أصبح) في رواية للبخاري: "مازال نائمًا حتى أصبح ما قام إلى الصلاة". والمراد من الصلاة الجنس أو العهد، وعلى أي منهما تحتمل صلاة الليل أو المكتوبة، وسياق مسلم لهذا الحديث في إطار صلاة الليل ترجيح منه على أن المراد صلاة الليل؛ وكذلك فعل البخاري، ومنه يؤخذ أن الوضع بالنسبة للنوم عن المكتوبة أولى وأشد، ومما يؤكد أن المراد صلاة الليل أن المخاطبين بهذا لم يكونوا ينامون عن صلاة العشاء، ومن المستبعد أن يراد منها الفجر، لأن معنى "حتى أصبح" أي حتى دخل في وقت الصبح، وليس حتى خرج عن وقت الصبح. وتبويب الباب [بالحث على صلاة الوقت وإن قلت] وإن كانت عبارة "صلاة الوقت" تشمل صلاة أي وقت لكن عبارة "وإن قلت" لا تتأتى مع الفريضة. (ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه) هو بضم الذال وسكونها في المفرد والتثنية، والمراد من الشيطان جنس الشيطان، وفاعل ذلك وفاعل العقد الوارد في الرواية الثالثة قيل: هو القرين، وقيل: غيره، ويحتمل أن يراد به رأس الشياطين وهو إبليس، وتجوز نسبة ذلك إليه لكونه الآمر به الداعي إليه. وفي المراد من بول الشيطان في الأذن أقوال للعلماء، قيل: على حقيقته. قال القرطبي وغيره: لا مانع من ذلك، إذ لا إحالة فيه، لأنه ثبت أن الشيطان يأكل ويشرب وينكح فلا مانع من أن يبول. اهـ. وهذا أبعد الأقوال عن القبول، إذ لو كان بولاً حقيقيًا ماديًا ما صحت به الصلاة لنجاسته، ثم لم

يعهد وجود جرم ما في أذن من نام مع وجود الآلات التي تقيس وترى أدق الأشياء، وقيل: هو كناية عن سد الشيطان أذن الذي ينام عن صلاة حتى لا يسمع الذكر. وقيل: معناه أن الشيطان ملأ سمعه بالأباطيل لحجب سمعه عن الذكر. وقيل: كناية عن كمال تحكم الشيطان فيه. وقيل: كناية عن وسوسته وتزيينه النوم له وأخذه بأذنه وأخذه بسمعه عن أن يسمع النداء. وهذه الأقوال متقاربة، ومؤداها أن البول كناية عن السد والحجب، وأنه يتم ذلك قبل خروج الوقت، فهو شبيه بعقد العقد على القافية الآتي في الرواية الثالثة، وكأنه يسد الأذن ويغطي المخ. وقيل: إن بول الشيطان كناية عن ازدراء الشيطان به. وقيل: معناه أن الشيطان استولى عليه واستخف به حتى اتخذه كالكنيف المعد للبول. وقيل: كناية عن سخرية الشيطان واستهزائه منه بعد أن ضحك عليه وأوقعه. وهي أقوال متقاربة، ومؤداها أن ذلك يتم بعد خروج الوقت وضياع الفرصة على النائم. قال الطيبي: وخص الأذن بالذكر وإن كانت العين أنسب بالنوم إشارة إلى ثقل النوم، فإن المسامع هي موارد الانتباه، وخص البول لأنه أسهل مدخلا في التجاويف وأسرع نفوذًا في العروق. اهـ. ومع أسلوب الكناية يكون التعبير بالبول في الأذن أدق في التصوير والتقبيح. (طرقه وفاطمة) الطرق الإتيان بالليل. أي أتاهما ليلاً. (فقال: ألا تصلون؟ ) عرض برفق، أو عتب برفق أن وجدهما نائمين لم يصليا صلاة الليل. قال النووي: هكذا هو في الأصول "تصلون" وجمع الاثنين صحيح، لكن هل هو حقيقة أو مجاز؟ فيه الخلاف المشهور، والأكثرون على أنه مجاز. اهـ. أي إعطاء الاثنين حكم الأكثر لأنهما في قوة أمة، فكأنما شبهًا بالجماعة وأسند إليهما ما يسند إلى الجماعة. (إنما أنفسنا بيد اللَّه) أي أرواحنا يقبضها الله عند النوم، يشير بذلك إلى قوله تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى} [الزمر: 42]. (سمعته وهو مدبر يضرب فخذه ويقول {وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً}) قال النووي: المختار في معناه أنه تعجب من سرعة جوابه وعدم موافقته له على الاعتذار بهذا، ولهذا ضرب فخذه. وقيل: قالها تسليمًا لعذرهما وأنه لا عتب عليهما. اهـ وأعتقد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعجب بالجواب ولم يقبل العذر، وإنما أسف للموقف الذي وقفه علي، ولم يرض بالعذر الذي اعتذر به، لأنه إهمال للأسباب، فكل حركة من حركاتنا بيد الله وبقدرته فلو اعتذرنا عن أي خطأ بهذا العذر لجاز جدلاً، لكنه لا يجوز عبادة وتكليفًا، وكان المطلوب من علي رضي الله عنه أن يعد بالاستجابة وأنه سيبذل جهده وأنه يطلب العون من الله، لا أن يحيل التقصير إلى إرادة الله. إن من عادته صلى الله عليه وسلم أن يعرض عما لا يرضى، ومن حيائه وأدبه أن لا يواجه المقصر

بالمؤاخذة والتعنيف عملاً بقوله تعالى: {فأعرض عن من تولى عن ذكرنا} [النجم: 29] وضربه على فخذه صلى الله عليه وسلم علامة من علامات الألم والغيظ المكظوم، وقراءته للآية الكريمة مسمعًا بها عليًا رد للموقف وإدانة له، لأن الآية تذم الإنسان ولا تمدحه، وتشير إلى أنه يدافع عن خطئه بالجدل لا بالحجة والحق والبرهان. (عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم) هذه العبارة عبارة رفع للحديث عند جمهور المحدثين، وكأنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم ثلاث عقد) قافية الرأس مؤخره، وهي إشارة إلى المخ ومركز الإدراك والتعقل، وقافية كل شيء مؤخره، ومنه قافية القصيدة. والخطاب في "أحدكم" للتعميم في المخاطبين ومن في معناهم، ويخص من هذا العموم الأنبياء ومن قيل فيهم: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} [الحجر: 42]. وقد اختلف في هذه العقد، قال الحافظ ابن حجر: فقيل: هو على الحقيقة وأنه كما يعقد الساحر من يسحره فيأخذ الخيط فيعقد عليه عقدًا وهو يتكلم عليه بالسحر فيتأثر المسحور بذلك، ومنه قوله تعالى: {ومن شر النفاثات في العقد} [الفلق: 4] وعلى هذا فالمعقود شيء عند قافية الرأس، لا قافية الرأس نفسها، وهل العقد في شعر الرأس أو في غيره؟ الأقرب الثاني إذ ليس لكل أحد شعر. اهـ وهذا القول أبعد ما يكون عن القبول، فكما استبعد الحافظ الشعر لوجود من لا شعر له كان الواجب أن يستبعد عقد شيء لا وجود له إلا في الخيال، فقول الحافظ بعد ذلك - ويؤيده ما ورد في بعض طرقه - أن على رأس كل آدمي حبلاً. هذا الحبل لا وجود له إلا في الخيال، فإذا تخيلنا حبلاً تخيلنا شعرًا لمن لا شعر له، فالحق أن الحمل على الحقيقة بعيد. والحق أن الكلام كناية وتصوير لوساوس الشيطان وتزيينه وتغريره بطول الوقت، وانحلال العقد كناية عن مكافحته ودفع وساوسه، والمقصود من كون العقد ثلاثًا تقوية الإغواء فكأنه إغواء بعد إغواء. (إذا نام) أي إذا نام بدون صلاة، هكذا قيده البخاري، ويرى جمهور شراح الحديث أن القيد يخل بالمراد، والمقصود أنه يعقد على رأس من صلى ومن لم يصل، لكن من صلى بعد ذلك تنحل عقده بخلاف من لم يصل. كذا ذكر الحافظ ابن حجر. وأرى أن القيد ضروري، لأن الشيطان يعقد بهدف المنع من القيام للصلاة، فإذا كان النائم قد صلى ما عليه من العشاء وما أحب من صلاة الليل وأوتر ونام فلم يعقد عليه الشيطان؟ ثم إنه لن يصلي مادام قد صلى فكيف تنحل العقد والنص أنها تنحل بالصلاة؟ . (بكل عقدة يضرب عليك ليلاً طويلاً) رواية البخاري: "يضرب على مكان كل عقدة عليك ليل طويل فارقد". قال الحافظ ابن حجر: يضرب أي بيده على العقد تأكيدًا وإحكامًا لها، قائلاً: عليك ليل طويل. وكما استبعدنا المعنى الحقيقي في العقد نستبعد الضرب المادي. ونرى أن الكلام كناية عن إحكام الوسوسة وإتيانها والإيحاء للنائم بطول الوقت.

ورواية البخاري: "عليك ليل طويل" بالرفع، ورواية مسلم بالنصب، فالرفع على أنه خبر مقدم ومبتدأ مؤخر وصفة لمبتدأ، والنصب على الإغراء أي الزم ليلاً طويلاً عليك، ومراد الشيطان من هذه العبارة تسويفه بالقيام والإلباس عليه، إذ ربما لو طلب منه عدم القيام كليًا لدافع المؤمن هذه المكيدة، أما أن يستدرجه شيئًا فشيئًا فربما أو كثيرًا ما ينخدع المؤمن. فكأنه يقول له: قم بعد قليل فمازال الليل طويلاً. قم بعد قليل. قم بعد قليل، وبهذا الاستدراج يصل إلى ما يريد. (وإذا توضأ انحلت عنه عقدتان) أي انحلت عقدة ثانية فصار مجموع ما انحل عقدتين. (فإذا صلى انحلت العقد) بضم العين وفتح القاف على صيغة الجمع ولم يقل "انحلت عقدة ثالثة" لإفادة أن المتطهر النائم الممكن مقعده من الأرض الذي لا يحتاج إلى وضوء تنحل عقده بمجرد الصلاة. (فأصبح نشيطًا طيب النفس) لسروره بما وفقه الله من الطاعة، وسروره بالثواب الموعود، وسروره بإحباط كيد عدوه مع ما يبارك له في نفسه وتصرفه بانشراح صدر واطمئنان نفس. (وإلا) أي وإن لم يقم ويتوضأ ويصلي وتنحل عقده، ولو أتى ببعضها وترك بعضها بقي خبيث النفس كسلان، لكنه يختلف عمن لم يأت بشيء منها بالقوة والضعف. قاله الحافظ ابن حجر. (أصبح خبيث النفس كسلان) لاستيلاء الشيطان عليه، و"كسلان" ممنوع من الصرف للوصفية وزيادة الألف والنون. -[فقه الحديث]- الهدف من الأحاديث الثلاثة الحث على صلاة الليل، وقد ادعى ابن العربي أن البخاري أومأ إلى وجوب صلاة الليل لقوله: [باب عقد الشيطان على قافية الرأس إذا لم يصل بالليل]. قال الحافظ ابن حجر: ولم أر النقل في القول بإيجابه إلا عن بعض التابعين. قال ابن عبد البر: شذ بعض التابعين فأوجب قيام الليل ولو قدر حلب شاة. والذي عليه جماعة العلماء أنه مندوب إليه. وظاهر الحديث يتعارض مع حديث البخاري في الوكالة وفيه: "أن قارئ آية الكرسي عند نومه لا يقربه الشيطان". ورفع هذا التعارض بحمل العقد على الأمر المعنوي والقرب على الأمر الحسي أو العكس، إذ لا يلزم من الوسوسة الملامسة، كما يمكن رفع التعارض بتخصيص العموم في حديث الباب بمن لم ينو القيام وبمن لم يقرأ آية الكرسي، ولهذا قيل: إن أبا بكر وأبا هريرة كانا رضي الله عنهما يوتران أول الليل وينامان آخره، فمثلهما لا يعقد الشيطان على قفاه، فكأن المعنى يعقد الشيطان على قافية من نام منكم دون أن يصلي. كذلك وصف المسلم الذي يغلبه الشيطان بخبث النفس في الحديث يتعارض مع قوله صلى الله

عليه وسلم: "لا يقولن أحدكم خبثت نفسي". ورفع الباجي هذا التعارض بقوله: ليس بين الحديثين اختلاف، لأنه نهى عن إضافة ذلك إلى النفس، لكون الخبث بمعنى فساد الدين، ووصف بعض الأفعال بذلك تحذيرًا منها وتنفيرًا. اهـ. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - من الحديث الثاني أمر الإنسان صاحبه بما يراه خيراً له في دينه ودنياه. 2 - وتعهد الإمام والكبير رعيته بالنظر في مصالح دينهم ودنياهم. 3 - وأنه ينبغي للناصح إذا لم تقبل نصيحته، أو إذا اعتذر بما لا يرتضيه أن ينكف ولا يعنف إلا لمصلحة. 4 - جواز ضرب الفخذ أسفاً على فوات ما يحب. 5 - في الحديث طبع من طبائع الإنسان جبل عليه، وهو الجدل ومحاولة التخلص من المسئولية والدفاع عن النفس والاعتذار بشتى المعاذير، لكنه مطالب بتهذيب طبعه ليوافق شرع الله. 6 - ومن الحديث الثالث الحث على ذكر الله تعالى عند الاستيقاظ وفي صيغه أحاديث كثيرة مشهورة في الصحيح، جمعها الإمام النووي وما يتعلق بها في باب من كتاب الأذكار. قال: ولا يتعين لهذه الفضيلة ذكر، لكن الأذكار المأثورة فيه أفضل. 7 - والتحريض على الوضوء عند القيام من النوم. 8 - والحث على صلاة الليل وإن قلت. 9 - قال بعضهم: فيه إشارة إلى حكمة تخفيف الركعتين الأوليين من صلاة الليل الواردتين في الرواية الثانية عشرة من روايات باب صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه بالليل. وقال الحافظ ابن حجر: ذكر شيخنا الحافظ أبو الفضل بن الحسين في شرح الترمذي أن السر في استفتاح صلاة الليل بركعتين خفيفتين المبادرة إلى حل عقد الشيطان، وبناه على أن الحل لا يتم إلا بتمام الصلاة، وهو واضح لأنه لو شرع في صلاة ثم أفسدها لم يساو من أتمها، وكذا الوضوء، وكأن الشروع في حل العقد يحصل بالشروع في العبادة وينتهي بانتهائها. 10 - أخذ بعضهم من قوله: "عليك ليلاً طويلاً". اختصاص العقد بنوم الليل، وهو كذلك لكن لا يبعد أن يجيء مثله في نوم النهار. ذكره الحافظ ابن حجر. 11 - أخذ بعضهم من طلب الوضوء لحل العقدة أن التيمم لمن ساغ له لا يقوم مقام الوضوء، لأن في الوضوء معاناة تعين على طرد النوم، والحق إجزاء التيمم كما يجزئ الغسل للجنب، فذكر الوضوء للغالب. واللَّه أعلم

(259) باب استحباب صلاة النافلة في البيت

(259) باب استحباب صلاة النافلة في البيت 1572 - عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورًا". 1573 - عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبورًا". 1574 - عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبًا من صلاته فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيرًا". 1575 - عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت". 1576 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة" 1577 - عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: احتجر رسول الله صلى الله عليه وسلم حجيرة بخصفة أو حصير فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيها. قال: فتتبع إليه رجال وجاءوا يصلون بصلاته. قال: ثم جاءوا ليلة فحضروا وأبطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم. قال: فلم يخرج إليهم، فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب. فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضبًا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مازال بكم صنيعكم حتى ظننت أنه سيكتب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة".

1578 - عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ حجرة في المسجد من حصير فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ليالي حتى اجتمع إليه ناس فذكر نحوه وزاد فيه: "ولو كتب عليكم ما قمتم به". -[المعنى العام]- يقول صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدًا". وصح أن أماكن الصلوات تشهد لصاحبها يوم القيامة وأن البركة تحل في مكان العبادة وأن رحمة الله وملائكته تنزل فيه، ومن هنا كان للبيوت حق في عبادة أصحابها، يضاف إلى ذلك أن سكان البيوت ممن لا يستطيع حضور الصلوات في المسجد كالنساء والأطفال والمرضى في حاجة إلى رؤية قدوة لهم يصلي بهم أو يصلي أمامهم، ومن هذا المنطلق رغب صلى الله عليه وسلم في صلاة النافلة في البيوت فقال: "اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم". "صلوا في بيوتكم". "إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبًا من صلاته فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيرًا". ونفر من حرمان البيوت من الصلاة ومن ذكر الله، فشبهها بالقبور إذا هي لم يصل فيها، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أغلب النوافل في بيته، ولما احتجر واتخذ حجرة من خوص في المسجد ينتفل فيها كأنها بيت له وصلى خلفه ناس أزال الحجرة وأمرهم أن يصلوا في بيوتهم، وقال لهم: إن خير صلاة المرء ما أدى في البيت إلا الصلاة المكتوبة فهي في المسجد خير منها في البيت. وهكذا أصبحت الأرض كلها مسجدًا، وأصبح البيت مسجدًا، وتعددت أماكن الصلوات لتشهد لصاحبها يوم القيامة، وتعدد الشهود شفاعة نسأل الله قبولها. إنه غفور رحيم. -[المباحث العربية]- (اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم) "من" تبعيضية، أي اجعلوا بعض صلاتكم في بيوتكم، وهذا البعض يصدق بفريضة أو راتبة أو نافلة مطلقة وتحقيق الحكم يأتي في فقه الحديث. (ولا تتخذوها قبورًا) في الكلام تشبيه بليغ، أي ولا تتخذوها كالقبور في هجرها من الصلاة، أو في كونها إنما تقصد للنوم الذي هو موت. وذكر بعضهم في بيان وجه الشبه أربعة معان: أحدها: أن القبور مساكن الأموات الذين سقط عنهم التكليف فلا يصلي فيها وليس كذلك البيوت فصلوا فيها. ثانيها: إنكم نهيتم عن الصلاة في

المقابر لا عن الصلاة في البيوت فصلوا فيها ولا تشبهوها بها. ثالثها: أن مثل الذاكر كالحي، وغير الذاكر كالميت، فمن لم يصل في البيت جعل نفسه كالميت وجعل بيته كالقبر. الرابع: قول الخطابي: لا تجعلوا بيوتكم أوطانًا للنوم فلا تصلوا فيها، فإن النوم أخو الموت. (فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيرًا) فسر الخير في أحاديث أخرى بحضور الملائكة ونفرة الشيطان. (إن الشيطان ينفر من البيت) قال النووي: هكذا ضبطه الجمهور "ينفر" ورواه بعض رواة مسلم "يفر" وكلاهما صحيح. (احتجر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حجيرة بخصفة أو حصير) أصل الحجر المنع، والمعنى اقتطع موضعًا من المسجد منعه من غيره وحوطه بحصير ليستره ليصلي فيه ولا يمر بين يديه مار، ولا يتهوش بغيره ويتوفر خشوعه وفراغ قلبه. والخصفة بفتح الخاء والصاد والفاء الحصير، والشك من الراوي أي اللفظين سمع. (فتتبع إليه رجال) أصل التتبع الطلب، والمعنى طلبوا موضعه واجتمعوا إليه. (وحصبوا الباب) أي رموه بالحصباء، وهي الحصى الصغار، تنبيهًا له ظنًا منهم أنه نسي. -[فقه الحديث]- قال بعض العلماء: إن المراد ببعض الصلوات المطلوب صلاته في البيوت إنما هو بعض من الفرائض ليقتدي به من لا يخرج من النساء والمرضى. والجمهور على أن المراد به النافلة، لأن السر في عمل التطوع أفضل، وهذا هو الأظهر والمصرح به في الرواية السادسة، ومن فوائد الصلاة في البيوت تبركها بالصلاة ونزول الرحمة فيها وحضور الملائكة ونفرة الشيطان منها، وعمم الإمام النووي خيرية الصلاة في البيوت في جميع النوافل راتبة الفرائض والمطلقة، ولم يستثن إلا النوافل التي هي من شعائر الإسلام وهي العيد والكسوف والاستسقاء وكذا التراويح على الأصح، وبعضهم استحب الرواتب في المسجد وقصر البيوت على النفل المطلق. -[ويؤخذ من الأحاديث: ]- 1 - الندب إلى ذكر الله تعالى في البيت، وأنه لا يخلى من الذكر فيه. 2 - وفيها جواز التمثيل. 3 - وأن طول العمر في الطاعة فضيلة وإن كان الميت ينتقل إلى خير، لأن الحي يستلحق به ويزيد عليه بما يفعله من الطاعات. ذكره النووي أخذًا من مقارنة الحي بالميت في مقام مدح الحي. 4 - وفيها جواز قول سورة كذا من غير كراهة.

5 - وجواز التحجير في المسجد إذا لم يكن فيه تضييق على المصلين ونحوهم ولم يتخذه دائمًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحتجرها بالليل يصلي فيها، ويبسطها في النهار يصلي عليها - كما سيأتي في الباب الثاني - ثم ترك صلى الله عليه وسلم التحجير بالليل والنهار وعاد إلى الصلاة في البيت. 6 - وفيها جواز النافلة في المسجد. 7 - وجواز صلاة الجماعة في غير المكتوبة. 8 - وجواز الاقتداء بمن لم ينو الجماعة. 9 - وترك بعض المصالح لخوف مفسدة أعظم من ذلك. 10 - ومدى شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته ورعايته لمصالحهم. 11 - وما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الزهادة في الدنيا. واللَّه أعلم

(260) باب فضيلة العمل الدائم والأمر بالاقتصاد في العبادة وأمر من لحقه نوم أو ملل أن يترك حتى يذهب عنه

(260) باب فضيلة العمل الدائم والأمر بالاقتصاد في العبادة وأمر من لحقه نوم أو ملل أن يترك حتى يذهب عنه 1579 - عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصير وكان يحجره من الليل فيصلي فيه فجعل الناس يصلون بصلاته ويبسطه بالنهار فثابوا ذات ليلة فقال: "يا أيها الناس عليكم من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا وإن أحب الأعمال إلى الله ما دووم عليه وإن قل". وكان آل محمد صلى الله عليه وسلم إذا عملوا عملاً أثبتوه. 1580 - عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: "أدومه وإن قل". 1581 - عن علقمة قال: سألت أم المؤمنين عائشة قال: قلت: يا أم المؤمنين كيف كان عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل كان يخص شيئًا من الأيام؟ قالت: لا كان عمله ديمة وأيكم يستطيع ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستطيع؟ . 1582 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها وإن قل". قال: وكانت عائشة إذا عملت العمل لزمته. 1583 - عن أنس رضي الله عنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وحبل ممدود بين ساريتين فقال: "ما هذا؟ ". قالوا: لزينب تصلي فإذا كسلت أو فترت أمسكت به. فقال: "حلوه ليصل أحدكم نشاطه فإذا كسل أو فتر قعد". وفي حديث زهير: "فليقعد".

1584 - عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن الحولاء بنت تويت بن حبيب بن أسد بن عبد العزى مرت بها وعندها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت هذه الحولاء بنت تويت وزعموا أنها لا تنام الليل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تنام الليل خذوا من العمل ما تطيقون فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا". 1585 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي امرأة فقال "من هذه؟ " فقلت امرأة لا تنام تصلي قال "عليكم من العمل ما تطيقون فوالله لا يمل الله حتى تملوا" وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه وفي حديث أبي أسامة أنها امرأة من بني أسد. 1586 - عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه". 1587 - عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه فلم يدر ما يقول فليضطجع". -[المعنى العام]- من رحمة الله تعالى بالأمة الإسلامية أن رفع عنها الحرج والمشقة في عبادتها وأراد لها اليسر ولم يرد بها العسر، وأنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم استجابة لدعاء صحابته {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} [البقرة: 286].

وتطبيقًا وتنفيذًا لهذه الرحمة الإلهية ترفق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمة، ودعا المشددين على أنفسهم أن يرفقوا بها وأن لا يبالغوا في العبادة، فقال للنفر الثلاثة الذين عزموا على قيام الليل وصيام الدهر والبعد عن النساء: "أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني." وهنا يرى صلى الله عليه وسلم زوجه السيدة زينب بنت جحش وقد وضعت حبلاً تتعلق به ويمنعها من النوم أثناء قيامها بالليل، فيقول: حلوه، ليصل أحدكم مادام نشيطًا، وليترك الصلاة إذا فتر، لا تكلفوا أنفسكم من العبادة إلا ما تطيقون، فإن الله لا يحب العبادة مع الملل ولا يثيب عليها الثواب الكريم. وهكذا يحث صلى الله عليه وسلم أمته أن لا يشقوا على أنفسهم فلا يتشدد في الدين أحد إلا غلبه، وأحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل. فليتعبد المؤمن بما لا يشق عليه وعلى الله القبول. -[المباحث العربية]- (وكان يحجره من الليل) بضم الياء وفتح الحاء وبالجيم المشددة المكسورة. وضبطه بعضهم بفتح الياء وسكون الحاء وضم الجيم أي يتخذه حجرة أو يقيمه حجرة. (فثابوا ذات ليلة) أي رجعوا إلى التجمع. (عليكم من الأعمال ما تطيقون) بضم التاء من أطاق بمعنى قدر، وليس المعنى ما تطيقونه، بل المعنى ما تطيقون الدوام عليه بلا ضرر ومشقة وحرج. و"عليكم" اسم فعل أمر بمعنى الزموا. (فإن اللَّه لا يمل حتى تملوا) الملل السآمة، أو فتور يعرض للنفس من كثرة مزاولة شيء، فيوجب الكلال في الفعل والإعراض عنه، يقال: مل يمل بفتح الميم فيهما، وفي الرواية السادسة: "لا يسأم حتى تسأموا". وهما بمعنى. والملل والسآمة بالمعنى المتعارف في حقنا محال على الله تعالى، فيجب تأويله في جانبه تعالى. قال النووي: قال المحققون: معناه لا يعاملكم معاملة المال فيقطع عنكم ثوابه وجزاءه وبسط فضله ورحمته حتى تقطعوا عملكم [هذه عبارته وكان الأولى أن يقول: لا يقطع أو لا ينقص عنكم ثوابه حتى تملوا وتسأموا ويذهب نشاطكم، وهذا المعنى في غاية الحسن، وفيه التنفير من العبادة مع السآمة حيث تصبح بعيدة عن الأجر المحبوب، ويقوي هذا المعنى ما رواه الطبري في تفسير سورة المزمل بلفظ: "إن الله لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل". فسمى قطعه تعالى للثواب أو إنقاصه مللاً على طريق المشاكلة لمجيئه لفظًا في صحبة ما هو ملل حقيقة] وقيل: معناه لا يمل إذا مللتم. وقاله ابن قتيبة وغيره، وحكاه الخطابي، قالوا: ومثاله قولهم في البليغ: فلان لا ينقطع حتى يقطع خصومه، معناه لا ينقطع إذا انقطع خصومه. ولو كان معناه ينقطع إذا انقطع خصومه لم يكن له فضل على غيره. انتهى من النووي.

وحاصله أن "حتى" هنا بمعنى "حين" وهذا المعنى بعيد في الحديث إذ مآله إلى أن الله لا يمل - أي لا يمنع عطاءه عنكم حتى لو مللتم وسئمتم وعبدتم بدون نشاط - وهذا معناه الحث على العمل مع السآمة والحرص على المشقة وهذا نقيض ما يرمي إليه الحديث. (وإن أحب الأعمال إلى اللَّه ما دووم عليه) قال النووي: هكذا ضبطناه "دووم" وكذا هو في معظم النسخ بواوين، ووقع في بعضها "دوم" بواو واحدة. والصواب الأول. اهـ. (وكان آل محمد صلى الله عليه وسلم إذا عملوا عملاً أثبتوه) أي لازموه وداوموا عليه، قال النووي: والظاهر أن المراد بالآل هنا أهل بيته وخواصه صلى الله عليه وسلم من أزواجه وقرابته ونحوهم. اهـ. وقال بعضهم: إن المراد بآل محمد محمد نفسه صلى الله عليه وسلم، لأنه قد يقع على ذات الشيء، ومنه: "مزمار من مزامير آل داود" وهو توجيه حسن. وسيأتي توضيحه بعد باب إن شاء اللَّه. (كان عمله ديمة) بكسر الدال وإسكان الياء أي دائمًا غير منقطع ومنه سمي المطر المتوالي ديمة. (وحبل ممدود بين ساريتين) في رواية البخاري "بين الساريتين" أي العمودين اللذين في جانب المسجد. (قالوا: لزينب) أي هذا الحبل لزينب، أي بنت جحش أم المؤمنين. بهذا جزم كثير من الشراح. (فإذا كسلت) بكسر السين أي فترت. فرواية عطف الفتور على الكسل من عطف التفسير بالمرادف. (ليصل أحدكم نشاطه) اللام مكسورة لام الأمر، و"نشاطه" بفتح النون أي مدة نشاطه منصوب على الظرفية. (فإذا كسل أو فتر قعد) أي ترك الصلاة، أو جلس وصلى من جلوس. والأول أقرب. (بنت تويت) بتاء مضمومة وواو مفتوحة آخره تاء. (قال صلى اللَّه عليه وسلم: لا تنام الليل؟ ) على الاستفهام التعجبي، أو الإنكاري التوبيخي بمعنى لا ينبغي أن لا تنام الليل، بل ينبغي أن تنام. وفسره في الموطأ قال: فكره ذلك حتى عرفت الكراهة في وجهه. (إذا نعس أحدكم) هو بفتح العين، والنعاس خفيف النوم. (لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه) قال القاضي: معنى يستغفر هنا يدعو. اهـ. يعني أراد من طلب المغفرة مطلق الطلب للتوسعة في مجال الخطأ ولا مانع من إرادة

المعنى الأصلي، وإرادة الدعاء على النفس من سب النفس حينئذ أولى، أي يذهب يدعو لنفسه فيدعو عليها، وهذا معنى قريب وجميل. (استعجم عليه القرآن) أي استغلق ولم ينطق به لسانه نطقًا سهلاً صحيحًا لغلبة النعاس. -[فقه الحديث]- أحاديث الباب تحث على الاقتصاد في العبادة واجتناب التعمق، قال النووي: وليس ذلك مختصًا بالصلاة، بل هو عام في جميع أعمال البر. -[ويؤخذ منها بعد هذا الهدف العام: ]- 1 - كمال شفقته صلى الله عليه وسلم ورأفته بأمته، لأنه أرشدهم إلى ما يصلحهم، وهو ما يمكنهم الدوام عليه بلا مشقة ولا ضرر، فتكون النفس أنشط والقلب منشرحًا فتتم العبادة بإحسان وروح، بخلاف من تعاطى من الأعمال ما يشق فإنه بصدد أن يتركه أو بعضه، أو يفعله بكلفة وبغير انشراح القلب فيفوته خير عظيم، وقد ذم الله تعالى من اعتاد عبادة ثم فرط فقال: {ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها} [الحديد: 27]. وقد ندم عبد الله بن عمرو بن العاص على تركه قبول رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تخفيف العبادة ومجانبة التشديد. قاله النووي. 2 - الحث على العمل، وأن قليله الدائم خير من كثير ينقطع، وإنما كان القليل الدائم خيرًا من الكثير المنقطع لأن القليل بدوامه تدوم الطاعة والذكر والمراقبة والنية والإخلاص والإقبال على الخالق سبحانه وتعالى، ويثمر القليل الدائم بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافًا كثيرة. 3 - ومن حديث زينب الحرص على النشاط في العبادة وأنه إذا فتر قعد حتى يذهب الفتور. 4 - وإزالة المنكر باليد لمن تمكن منه. 5 - وجواز تنفل المرأة في المسجد، فإنها كانت تصلي النافلة فيه فلم ينكر عليها. 6 - ومن حديث الحولاء كراهة التشديد على النفس في العبادة، وأخذ منه بعضهم كراهة قيام الليل كله. قال النووي. مذهبنا ومذهب جماعة أو الأكثرين أن صلاة جميع الليل مكروهة، وعن جماعة من السلف: أنه لا بأس به، وهو رواية عن مالك إذا لم ينم عن الصبح. اهـ. لكن نقل الحافظ ابن حجر: أن الشافعي سئل عن قيام جميع الليل فقال: لا أكرهه إلا لمن خشي أن يضر بصلاة الصبح. اهـ. فالشافعي بهذا الجواب يوافق ما نقل عن مالك. اهـ. ولا أظن خلافًا وقع بين العلماء في كراهة قيام الليل كله لمن يغلبه النوم عن الصبح. وإنما الخلاف في قيامه كله مع المحافظة على الصبح، فمن كرهه فللتشدد في الدين. 7 - وفي الحديث الأخير الحث على الإقبال على الصلاة بخشوع وفراغ قلب ونشاط.

8 - وفيه أمر الناعس بالنوم أو نحوه مما يذهب عنه النعاس، قال النووي: وهذا عام في صلاة الفرض والنفل في الليل والنهار، وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور، لكن لا يخرج فريضة عن وقتها، وحمله مالك وجماعة على نفل الليل خاصة. 9 - واستدل بعضهم بقوله: "فليقعد". على جواز افتتاح الصلاة قائمًا والقعود في أثنائها، وفيه خلاف سبق، ويحتمل أن يكون أمرًا بالقعود عن الصلاة وترك ما كان عزم عليه من النفل. 10 - واستدل بعضهم على جواز قطع النافلة بعد الدخول فيها، وهو احتمال لا يصلح به الاستدلال. 11 - واستدل به على كراهة التعلق بالحبل في الصلاة لتكلف طول القيام في النافلة، واختلف في الاستناد على عصا ونحوها. 12 - واستدل به بعضهم على أنه لا يقرب الصلاة من لا يعقل أداءها وخشوعها فرضًا كانت أو نفلاً، والتحقيق أن ذلك في النفل خاصة. 13 - واستدل به على أنه ليس للإنسان أن يسب نفسه ولا يدعو عليها، فالمراد من السب في الحديث الدعاء. واللَّه أعلم

(261) باب فضائل القرآن وما يتعلق به وباب الأمر بتعهد القرآن، وكراهة قول نسيت آية كذا وجواز قول أنسيتها

(261) باب فضائل القرآن وما يتعلق به وباب الأمر بتعهد القرآن، وكراهة قول نسيت آية كذا وجواز قول أنسيتها 1588 - عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقرأ من الليل فقال: "يرحمه الله لقد أذكرني كذا وكذا آية كنت أسقطتها من سورة كذا وكذا". 1589 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستمع قراءة رجل في المسجد فقال: "رحمه الله لقد أذكرني آية كنت أنسيتها". 1590 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما مثل صاحب القرآن كمثل الإبل المعقلة إن عاهد عليها أمسكها وإن أطلقها ذهبت". 1591 - عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى حديث مالك وزاد في حديث موسى بن عقبة: "وإذا قام صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره وإذا لم يقم به نسيه". 1592 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بئسما لأحدهم يقول: نسيت آية كيت وكيت. بل هو نسي استذكروا القرآن فلهو أشد تفصيًا من صدور الرجال من النعم بعقلها". 1593 - عن عبد الله رضي الله عنه تعاهدوا هذه المصاحف - وربما قال: القرآن - فلهو

أشد تفصيًا من صدور الرجال من النعم من عقله. قال وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقل أحدكم نسيت آية كيت وكيت بل هو نسي". 1594 - عن ابن مسعود رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بئسما للرجل أن يقول نسيت سورة كيت وكيت أو نسيت آية كيت وكيت بل هو نُسي". 1595 - عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تعاهدوا هذا القرآن فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتًا من الإبل في عقلها". ولفظ الحديث لابن براد. -[المعنى العام]- القرآن كلام الله، لفظه ومعناه من عند الله، هو المعجز لفصحاء البلاغة وأئمة اللسان، تحدى به العرب فوقفت دونه قدراتهم، تحدوا بعشر سور مثله فعجزوا، ثم تحدوا بسورة من مثله فعجزوا حتى قال قائلهم أعدى أعداء القرآن: إن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه، وما هو من قول بشر. من هنا لم يكن مما تعتاده الألسنة، وما تصنعه العقول، فكل قول يعاد يمل، لكن القرآن لا يمل، وكل قول يخلق بمرور الزمان، لكن القرآن لا يخلق على كثرة ترداده وتلاوته وتكراره. من هنا كان ثقيلاً لفظًا ومعنى، وصدق الله العظيم إذ يقول: {إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً} [المزمل: 5]. إن تناسق حروفه، واتساق كلماته، وتناسب آياته، وترابط معانيه وموضوعاته، تجعل حفظه ميسرًا، وتلاوته سهلة خفيفة على الألسنة، لكن لما كان من نوع لا نعتاده في ألسنتنا، ولا نتداوله في محادثاتنا، كان ترك تلاوته وعدم تعاهده واستذكاره مذهبًا لحفظه، مضيعًا له من صدور من ظفر به، فما أشبه حافظ القرآن بصاحب الإبل، نقصد صاحب الإبل الكثيرة، إبل البوادي التي لا تستأنس مكانًا معينًا، ولا تعتاد معاطن ثابتة، لأنها وصاحبها رحالة، كل يوم في مضرب وراء الكلأ والمرعى، فمن الذي يمسكها على صاحبها؟ وهي كما قيل عنها: سفينة الصحراء - معها خفها الذي يساعدها على الجري والمشي، ومعها سقاؤها الذي يمكنها من تحمل الجوع والعطش أيامًا، وتحصل على رزقها وطعامها بسهولة من أعشاب وأشجار كثيرة، فهي لهذا أكثر الحيوانات المستأنسة تفلتًا، فما الذي

يمسكها؟ وما الأسلوب الذي يحافظ به صاحبها عليها؟ إنه العقل والحبل، وإذا بركت وثنت ساقها على فخذها قام صاحبها فربط الساق مع الفخذ بحبل كالحلقة، فإذا أرادت النهوض والقيام عجزت فهو مادام متعاهدًا لها، رابطًا أرجلها وعاقلها فهو ممسك لها محافظ عليها، وإن أهملها وأهمل عقالها ذهبت وضاعت منه، وكذلك حامل القرآن، إن عاهد عليه وحافظ على تلاوته ظل محتفظًا به في صدره ذاكرًا له، وإن أهمل تلاوته واستذكاره نسيه وبئس ما فعل، ويا خيبة من غنم بجهد، وحصل فضلاً كبيرًا بعناء ثم أضاع الغنيمة والفضل الجليل بتهاون وإهمال. ولا يليق بمن أصابته هذه المصيبة أن يفخر بحصولها، ولا أن يتشدق بها، فإذا بليتم فاستتروا، وإن التصريح بقول: نسيت آية كذا أو سورة كذا مما كنت أحفظ مشعر باستهانة الإنسان بما نسي، فلو كان مهتمًا به حريصًا عليه ما نسيه، ومن اهتم بشيء حرص عليه، ومن حرص على شيء عض عليه بالنواجذ وقام عليه بالليل والنهار. -[المباحث العربية]- (سمع رجلاً يقرأ من الليل) في الكلام مضاف محذوف، أي سمع صوت وقراءة رجل، وجملة "يقرأ" في محل نصب صفة لرجل، و"من" ظرفية بمعنى "في" ولم يثبت لدينا مقروء الرجل ما هو؟ والظاهر أن الرجل هو عباد بن بشر الصحابي الجليل، فقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها: قالت: "تهجد النبي صلى الله عليه وسلم في بيتي فسمع صوت عباد يصلي في المسجد فقال: يا عائشة. أصوت عباد هذا؟ قلت: نعم. قال: اللهم ارحم عبادًا" وذكر البخاري هذه الرواية على أنها زيادة على مثل روايتنا مبينة لاسم القارئ. وقيل: إنه عبد الله بن يزيد أخذًا من رواية أخرى، ويجوز أن تكون القصة قد تكررت. (يرحمه اللَّه) في الرواية الثانية "رحمه الله". وسواء أكان بالفعل المضارع أو بالفعل الماضي فالجملة خبرية لفظًا إنشائية معنى، أي اللهم ارحمه. (أذكرني كذا وكذا آية) وفي الرواية الثانية "لقد أذكرني آية". و"كذا" كما في مغني اللبيب: كلمة واحدة مركبة من كلمتين مكنيًا بها عن غير عدد، وتستعمل غالبًا معطوفًا عليها. اهـ. وهي مبنية. (كنت أسقطتها من سورة كذا) أي كنت أسقطتها نسيانًا لا عمدًا، فهي بمعنى رواية "كنت أنسيتها". (إنما مثل صاحب القرآن كمثل الإبل المعقلة) "إنما" هي "إن" التي تدخل على المبتدأ والخبر فتنصب المبتدأ وترفع الخبر، دخلت عليها "ما" فكفتها ومنعتها من العمل، ولذا يطلق على "إنما" عبارة كافة ومكفوفة. وهي تفيد الحصر، أي قصر ما يليها على ما بعده، فهنا قصرنا شبه صاحب القرآن على شبه صاحب الإبل المعقلة، ولما كان لصاحب القرآن أشباه أخرى غير هذا الشبه كان القصر إضافيًا، أي بالنسبة إلى الحفظ بالتلاوة والنسيان بالترك. وفي روايتنا مضاف محذوف صرح

به في رواية البخاري وهو لفظ "صاحب": إذ فيها: "كمثل صاحب الإبل المعقلة". ويشير إلى هذا المحذوف في روايتنا قوله: "إن عاهد عليها أمسكها". والمعنى: إنما مثل صاحب القرآن مع القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة مع إبله المعقلة، ومعنى صاحب القرآن الذي ألفه، أي ألف تلاوته نظرًا من المصحف أو عن ظهر قلب، فإن الذي يداوم على ذلك يذل لسانه ويسهل عليه قراءته ويألفه، فالمصاحبة المؤالفة، ومنه: فلان صاحب فلان، وأصحاب الجنة، وأصحاب النار، وأصحاب الحديث، وأصحاب إبل وغنم، وصاحب كنز، وصاحب عبادة. ذكره النووي. و"المعقلة" بضم الميم وفتح العين وتشديد القاف، أي المشدودة بالعقال، وهو الحبل الذي يشد في ركبة البعير ليمنعه من القيام. قال الحافظ ابن حجر: شبه درس القرآن واستمرار تلاوته بربط البعير الذي يخشى منه الشراد، فما دام التعاهد موجودًا فالحفظ موجود، كما أن البعير مادام مشدودًا بالعقال فهو محفوظ، وخص الإبل بالذكر لأنها أشد الحيوان الإنسي رغبة في النفور، وفي تحصيلها بعد تمكن نفورها صعوبة. اهـ فالتشبيه تشبيه تمثيل، بمعنى أننا شبهنا هيئة صاحب القرآن من حيث مداومته على القراءة أو تركها بهيئة صاحب الإبل من حيث مداومته عقل إبله أو فكها بجامع الحفظ في حالة والضياع في حالة أخرى. وقيل: إنه تشبيه مركب فحامل القرآن شبه بصاحب الناقة والقرآن شبه بالناقة، والحفظ شبه بالربط. وهذا القول بعيد، لعدم المناسبة والمشابهة بين القرآن والناقة. (إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت) هذه تتمة أوصاف صاحب الإبل، ويشبهه فيها صاحب القرآن، والزيادة في الرواية الثالثة توضح ذلك وهي: "وإذا قام صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره، وإذا لم يقم به نسيه". وتعاهد الشيء تجديد العهد به، وتعاهد القرآن ملازمة تلاوته، ومعنى "أمسكها" استمر في إمساكها. (بئسما لأحدهم يقول) "بئس" فعل جامد غير متصرف يفيد الذم، يرفع فاعلاً ظاهرًا معرفًا بأل نحو بئس الرجل زيد، أو مضافًا لمعرف بأل نحو بئس أخو القوم زيد، و"زيد" في هاتين الحالتين مخصوص بالذم خبر مبتدأ محذوف. أي المذموم زيد. كما ترفع فاعلاً مضمرًا مفسرًا باسم نكرة منصوبة على التمييز نحو بئس رجلاً زيد. و"ما" في مثل هذا الحديث تحل محل الاسم النكرة والتقدير بئس هو شيئًا، والمخصوص بالذم "يقول" فعل مسبوك بمصدر من غير سابك، وقد صرح بحروف المصدر في الرواية السادسة، ولفظها: "بئسما الرجل أن يقول". أي المذموم قوله كذا. (نسيت آية كيت وكيت) "نسيت" بفتح النون وكسر السين مخففة باتفاق. و"كيت وكيت" كما قال القرطبي: يعبر بهما عن الجمل الكثيرة والحديث الطويل، ومثلهما "ذيت وذيت". وقال ثعلب: "كيت" للأفعال، و"ذيت" للأسماء. وحكي عن الداودي أنها مثل "كذا" إلا أنها خاصة بالمؤنث. (بل هو نُسي) بضم النون وتشديد السين المكسورة. قال القرطبي: رواه بعض رواة مسلم مخففًا. أي مخفف السين المكسورة مع ضم النون. قال الحافظ ابن حجر: والتثقيل هو الذي وقع في جميع

الروايات في البخاري، وكذا في أكثر الروايات في غيره، ويؤيده ما وقع في رواية أبي عبيد في الغريب بعد قوله: "كيت وكيت" "ليس هو نسي ولكنه نسي" الأول بفتح النون وتخفيف السين والثاني بضم النون وتشديد السين. قال القرطبي: التثقيل معناه أنه عوقب بوقوع النسيان عليه لتفريطه في معاهدته واستذكاره. قال: ومعناه في التخفيف - أي في تخفيف السين المكسورة مع ضم النون - أن الرجل ترك غير ملتفت إليه، وهو كقوله تعالى: {نسوا الله فنسيهم} [التوبة: 67] أي تركهم في العذاب أو تركهم من الرحمة. (استذكروا القرآن) أي واظبوا على تلاوته، واطلبوا من أنفسكم المذاكرة به. قال الطيبي: وهو عطف من حيث المعنى على قوله: "بئسما لأحدهم يقول" أي لا تقصروا في معاهدته واستذكروه. (فلهو أشد تفصيًا من صدور الرجال) اللام لام جواب القسم المحذوف. و"تفصيًا" بفتح التاء والفاء وكسر الصاد المشددة بعدها ياء مخففة، أي تفلتًا وتخلصًا، كما جاء في الرواية السابقة: "لهو أشد تفلتًا". (من النعم بعقلها) بضم العين والقاف، ويجوز سكون القاف، جمع عقال ككتاب وكتب، وهو الحبل، روي: "في عقلها" وروي: "من عقلها". قال القرطبي: من رواه: "من عقلها" فهو على الأصل الذي يقتضيه التعدي من لفظ التفلت. وأما من رواه بالباء أو الفاء فيحتمل أن يكون بمعنى "من" أو للمصاحبة أو الظرفية. والنعم أصلها الإبل والبقر والغنم، والمراد هنا الإبل خاصة لأنها التي تعقل، وفي الرواية الخامسة: "من النعم من عقله" بالتذكير، وهو صحيح فإن النعم تذكر وتؤنث. -[فقه الحديث]- تصرح الرواية الخامسة بالنهي عن قول: "نسيت آية كذا". وتذم الرواية الرابعة والسادسة هذا القول، ومع ذلك يتفق العلماء على أن الحكم هو كراهة التنزيه فقط، واختلفوا في متعلق الذم وحكمة النهي على أوجه ذكرها الحافظ ابن حجر نجملها فيما يأتي: الوجه الأول: قيل: أراد أن يجري على ألسن العباد نسبة الأفعال إلى خالقها وذلك أولى من نسبة الأفعال إلى مكتسبها، وخصوصًا أن النسيان لا صنع للإنسان فيه، لأنه عارض للإنسان لا عن قصد منه، لأنه لو قصد نسيان الشيء لكان ذاكرًا له في حال قصده، فكيف ينسبه إلى نفسه فيوهم أنه انفرد بفعله؟ ويبعد هذا الوجه أن موسى عليه السلام أضاف النسيان إلى نفسه في قوله: {لا تؤاخذني بما نسيت} [الكهف: 73] وأضافه يوشع إلى نفسه حين قال: {فإني نسيت الحوت} [الكهف: 63] وقال الصحابة - كما يحكي عنهم القرآن الكريم: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة: 286] وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم نسب النسيان إلى نفسه في باب سجود السهو حين سلم من ركعتين في رباعية، فلما ذكر قال: "إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني". ورواية تخفيف السين في "أنسى" قوية ومشهورة.

فيبعد أن يكون النهي للزجر عن هذا اللفظ. والوجه الثاني: قال بعضهم: يحتمل أن يكون كره له أن يقول "نسيت" بمعنى تركت لا بمعنى السهو العارض، من قبيل قوله تعالى: {نسوا الله فنسيهم} [التوبة: 67]. وهذا الوجه بعيد أيضًا، لأن حاصله اللجوء إلى المجاز، ولا توجد قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي، بل القرينة تبعد هذا المجاز، إذ قوله في الرواية الرابعة والخامسة والسادسة: "بل هو نسي". بضم النون وتشديد السين المكسورة يبعد أن يكون المراد منه بل هو ترك. الوجه الثالث: قال الإسماعيلي: يحتمل أن يكون فاعل "نسيت" النبي صلى الله عليه وسلم، أي لا يقل أحد إن محمدًا صلى الله عليه وسلم نسي آية كذا، فإن الله هو الذي نساني عن ذلك لحكمة نسخه ورفع تلاوته. وهذا الوجه أبعد من سابقيه، إذ كان ينبغي أن يقول - لو كان ذلك مرادًا - "بل أنا أنسى" بدل "هو نسي"، كما يزيده بعدًا تعقيب هذا النهي بالأمر باستذكار القرآن وتعهده مخافة نسيانه. الوجه الرابع: أن يكون ذلك خاصًا بزمان النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من ضروب النسخ نسيان الشيء الذي ينزل ثم ينسخ بعد نزوله، فيذهب رسمه، وترفع تلاوته، ويسقط حفظه عن حملته. قاله الخطابي. وحاصله النهي عن أن يقول أحدهم: نسيت الآية المنسوخة، فهو قريب من قوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} [البقرة: 106] وهذا الوجه أبعد من سوابقه، لأن الرواية السادسة تقول: "نسيت سورة كذا وكذا" ولم تنسخ سور ولا سورة، ثم إن هذا الضرب من النسخ لا يكاد يثبت، ثم إن تعقيب هذا النهي بالأمر باستذكار القرآن وتعهده دليل على الخوف من النسيان، ولا يخاف على نسيان المنسوخ. الوجه الخامس: أن سبب النهي والذم ما في القول من الإشعار بعدم الاعتناء بالقرآن، إذ لا يقع النسيان إلا بترك التعاهد وكثرة الغفلة، فلو تعاهد بتلاوته لدام حفظه وتذكره، وقد عبر القاضي عياض عن هذا الوجه بقوله: أولى ما يتأول عليه الحديث ذم الحال لا ذم القول، أي بئس الحال حال من حفظه ثم غفل عنه حتى نسيه. اهـ وحاصل هذا الوجه النهي عن ترك المحفوظ بدون مذاكرة وتعاهد، وذم الغفلة عن تلاوة ما حفظ، كما تقول: لا تعتذر، وتقصد لا تفعل فعلاً تعتذر عنه. وهذا التوجيه حسن ومقبول، لكنه لا يصلح معه أن النهي لكراهة التنزيه فالحالة المنهي عنها حينئذ حالة محرمة، بل من السلف من جعل نسيان ما حفظ من القرآن من الكبائر ومن أعظم المصائب، واحتجوا بما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث أنس مرفوعًا: "عرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنبًا أعظم من سورة من القرآن أوتيها رجل ثم نسيها": وفي رواية: "أعظم من حامل القرآن وتاركه". ولأبي داود عن سعد بن عبادة مرفوعًا: "من قرأ القرآن ثم نسيه لقي الله وهو أجذم". أي مقطوع اليد. وقيل: مقطوع الحجة. وقيل: خالي اليد من الخير. وقيل: يحشر مجذومًا حقيقة. وهذه الأحاديث وغيرها مما في معناها يقوي بعضها بعضًا مما يفيد الحرمة لا نهي التنزيه.

فالوجه عندي أن النهي موجه إلى قول هذا اللفظ لما يشعر به فقط، أما أسباب النسيان فلها حكم مستقل، فمن نشأ نسيانه بأمر ديني كالجهاد فهو معذور، وعليه يحمل ما ورد من نسيان النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الآيات، كما في الرواية الأولى والثانية، ومن كان نسيانه عن إهمال وتقصير مع التمكن فهو حرام. والله أعلم. -[ويؤخذ من هذه الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - من الرواية الأولى والثانية جواز رفع الصوت بالقراءة في الليل، وفي المسجد إذا لم يؤذ أحدًا ولم يتعرض للرياء والإعجاب ونحو ذلك. 2 - أن الاستماع إلى القراءة سنة. 3 - الدعاء لمن أصاب الإنسان من جهته خيرًا وإن لم يقصد ذلك المحصول منه. 4 - قال الحافظ ابن حجر: وفيه جواز قول المرء: أسقطت آية كذا من سورة كذا، إذا وقع منه ذلك، وقد أخرج ابن أبي داود من طريق أبي عبد الرحمن السلمي قال: لا تقل: أسقطت كذا. بل قل: أغفلت. قال الحافظ: وهو أدب حسن، وليس واجبًا. اهـ 5 - وفيه جواز قول: سورة كذا، خلافًا لمن كره ذلك. وقال: لا يقال إلا السورة التي يذكر فيها كذا. وقد نقل القرطبي في تفسيره عن الحكيم الترمذي أن من حرمة القرآن أن لا يقال: سورة كذا، كقولك: سورة البقرة، وسورة النحل، وسورة النساء، وإنما يقال: السورة التي يذكر فيها كذا. وقال النووي في الأذكار: يجوز أن يقول: سورة البقرة، سورة ... إلى أن قال: وسورة العنكبوت، وكذلك الباقي، ولا كراهة في ذلك. وقال بعض السلف: يكره ذلك. والصواب الأول، وهو قول الجماهير، والأحاديث فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصر، وكذلك عن الصحابة فمن بعدهم. اهـ. وقال ابن كثير في تفسيره مشيرًا إلى رأي الكارهين: ولا شك أن ذلك أحوط، ولكن استقر الإجماع على الجواز في المصاحف والتفاسير. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: وقد تمسك بالاحتياط المذكور جماعة من المفسرين منهم أبو محمد بن أبي حاتم ومن المتقدمين الكلبي وعبد الرزاق. اهـ. 6 - قال الحافظ ابن حجر: وفي الحديث حجة لمن أجاز النسيان على النبي صلى الله عليه وسلم فيما ليس طريقه البلاغ بشرطين: أحدهما أنه بعد ما يقع منه تبليغه، والآخر أنه لا يستمر على نسيانه، بل يحصل له تذكره، إما بنفسه وإما بغيره. وهل يشترط في هذا الفور؟ قولان. فأما قبل تبليغه فلا يجوز عليه فيه النسيان أصلاً. وزعم بعض الأصوليين وبعض الصوفية أنه لا يقع منه نسيان أصلاً، وإنما يقع منه صورته ليسن. وهذا قول ضعيف. اهـ وقال الإسماعيلي: النسيان من النبي صلى الله عليه وسلم لشيء من القرآن يكون على قسمين: أحدهما: نسيانه الذي يتذكره عن قرب، وذلك قائم بالطباع البشرية وعليه يدل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود في السهو: "إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون".

والثاني: أن يرفعه الله عن قلبه على إرادة نسخ تلاوته، وهو المشار إليه بالاستثناء في قوله تعالى: {سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله} [الأعلى: 6، 7]. 7 - ومن الرواية الثالثة والرابعة والخامسة والسابعة يؤخذ ضرب الأمثال لتقريب المعنى إلى الأذهان. 8 - والحث على تعاهد القرآن وتلاوته والتحذير من تعريضه للنسيان. 9 - والإشارة إلى صعوبة حفظ القرآن. قال ابن بطال: هذا الحديث يوافق الآيتين. قوله تعالى: {إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً} [المزمل: 5] وقوله تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر} [القمر: 17] فمن أقبل عليه بالمحافظة والتعاهد يسر له، ومن أعرض عنه تفلت منه. اهـ. واللَّه أعلم

(262) باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن

(262) باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن 1596 - عن أبي هريرة رضي الله عنه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن". 1597 - - عن ابن شهاب بهذا الإسناد قال: "كما يأذن لنبي يتغنى بالقرآن". 1598 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به". 1599 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أذن الله لشيء كأذنه لنبي يتغنى بالقرآن يجهر به". 1600 - - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث يحيى بن أبي كثير غير أن ابن أيوب قال في روايته: "كإذنه". 1601 - عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن عبد الله بن قيس أو الأشعري أعطي مزمارًا من مزامير آل داود". 1602 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي موسى: "لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود".

1603 - عن عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه قال: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح في مسير له سورة الفتح على راحلته فرجع في قراءته. قال معاوية: لولا أني أخاف أن يجتمع علي الناس لحكيت لكم قراءته. 1604 - عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقته يقرأ سورة الفتح. قال: فقرأ ابن مغفل ورجع فقال معاوية: لولا الناس لأخذت لكم بذلك الذي ذكره ابن مغفل عن النبي صلى الله عليه وسلم. 1605 - حدثنا شعبة بهذا الإسناد نحوه. وفي حديث خالد بن الحارث قال: على راحلة يسير وهو يقرأ سورة الفتح. -[المعنى العام]- روي أن النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة مرا بأبي موسى الأشعري وهو يقرأ في بيته، فقاما يستمعان لقراءته، ثم إنهما مضيًا، فلما أصبح لقي أبو موسى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا موسى، مررت بك وأنت تقرأ فاستمعت لقراءتك، لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود. فقال أبو موسى: لو علمت بمكانك لحبرته لك تحبيرًا، أي حسنت به صوتي أكثر وأكثر. وهكذا شجع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا موسى وحث أصحابه أن يحسنوا بالقرآن أصواتهم. وقد رغب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحسين الصوت بقراءة القرآن، وحث على ذلك بأن الله أشد إصغاء لقارئي القرآن بصوت حسن من إصغاء صاحب القينة لقينته. والأحاديث الثلاثة الأول معناها أن الله لم يصغ لشيء ولا لمسموع مثلما يصغي لنبي حسن الصوت يقرأ القرآن ويجهر به، والإصغاء هنا كناية عن الرضا والقبول والجزاء، فلم يرض الله عن مسموع ما، ولا يعطي جزاء خيرًا على مسموع ما، قدر ما يرضى وقدر ما يعطى قارئ القرآن بصوت حسن. وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ ويسمع أصحابه قراءته، وهو صلى الله عليه وسلم حسن الصوت، فقد روي في الصحيحين عن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فما سمعت أحدًا أحسن صوتًا أو قراءة منه".

وفي الحث على تحسين الصوت بالقرآن أحاديث كثيرة، ضعيفها يتقوى بصحيحها، فقد روى الطبري: "ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي في الترنم بالقرآن". وروى ابن أبي شيبة: "تعلموا القرآن وغنوا به وأفشوه". وعند أبي عوانة: "فإن لم تبكوا فتباكوا". وكان عمر يقدم الشاب الحسن الصوت لحسن صوته بين القوم. وقد روي: "زينوا القرآن بأصواتكم". رواه ابن حبان. وفي رواية: "حسنوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنًا". وهكذا حرص صلى الله عليه وسلم على تحسين الصوت بقراءة القرآن مع حسن الأداء والتزام قواعد الترتيل الصحيح. -[المباحث العربية]- (عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم) أي يرفعه ويسنده إليه، كأنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. (ما أذن الله لشيء) "ما" نافية، و"أذن" بفتح الهمزة وكسر الذال يطلق بالاشتراك اللفظي على معنيين: الأول: السماح والإطلاق والإباحة، والمصدر الإذن بكسر الهمزة وسكون الذال، وليس هذا المعنى مرادًا هنا كما يقول كثير من العلماء، ولم يستبعده الحافظ ابن حجر تبعًا للقاضي عياض الذي وجهه بأن المراد منه الحث على ذلك والأمر به. المعنى الثاني: من المشترك اللفظي الاستماع والإصغاء، ومنه قوله تعالى: {وأذنت لربها وحقت} [الانشقاق: 2] والمراد لازم الاستماع من الاستجابة والطواعية، ومصدره الأذن بفتح الهمزة والذال. قال القرطبي: أصل الأذن بفتحتين أن المستمع يميل إلى جهة من يسمعه. اهـ. ويرجح ويقوي إرادة هذا المعنى هنا ما أخرجه أحمد وابن ماجه والحاكم وصححه: "لله أشد أذنًا [أي استماعًا] إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته". والإصغاء بمعنى ميل الأذن لا يسند إلى الله تعالى على الحقيقة، وإنما المراد به لازمه من إكرام القارئ وإجزال ثوابه. وقوله في روايتنا: "لشيء" بالشين يتناول العقلاء وغير العقلاء، لكنه في البخاري في أكثر نسخه بلفظ: "لنبي" بالنون والباء وفي رواية: "للنبي" بزيادة لام مع النون والباء والكل صحيح. (ما أذن لنبي) "ما" مصدرية، أي إذنه لنبي، وفي الكلام تشبيه، أي كإذنه لنبي، وهو لفظ روايتنا الثالثة. (يتغنى بالقرآن) يطلق التغني والتغاني على الاستغناء، ومنه قول الشاعر: كلانا غنى عن أخيه حياته ... ونحن إذا متنا أشد تغانيًا ويقال: تغنى بكذا عن كذا. فالمعنى يتغنى بالقرآن عما سواه من العبارات.

ويطلق التغني على تحسين الصوت، وسياق الحديث يأبى الحمل على الاستغناء، لأن قوله في الرواية الثانية: "لنبي حسن الصوت". وفي الرواية الثانية والثالثة: "يجهر به". قرينة مانعة من إرادة المعنى الأول معينة للمعنى الثاني وسيأتي في فقه الحديث مزيد من الإيضاح للمراد. (إن عبد اللَّه بن قيس أو الأشعري) هو أبو موسى الأشعري الصحابي الجليل عضو التحكيم من جانب علي رضي الله عنه. (أعطي مزمارًا من مزامير آل داود) "المزمار" بكسر الميم الآلة المعروفة والمراد هنا الصوت الحسن، من إطلاق المؤثر وإرادة الأثر مجازًا مرسلاً. ولفظ: "آل" في "آل داود" قيل: مقحمة. وقيل: إن آل فلان قد يطلق على فلان نفسه. وعلى كل فالمراد من "آل داود" داود نفسه، لأنه لم ينقل أن أحدًا من أولاد داود ولا من أقاربه كان قد أعطي من حسن الصوت ما أعطي. كذا قال الحافظ ابن حجر وغيره من العلماء. ولست أرى بعدًا أن يكون المراد آل داود، فإن حسن الصوت كثيرًا ما يكون وراثيًا، ويكون في أسرة أبرز منه في أسرة أخرى، وليس شرطًا أن ينقل وقوع ذلك في أسرة داود، وإنما الشرط أن لا ينقل نقيضه، فيكون هذا النقل قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي، أما أنه لم ينقل أن أحد أقاربه قد أعطي من حسن الصوت ما أعطي داود فهو مسلم، لكن التشبيه في الحديث ليس بين صوت أبي موسى وبين صوت داود نفسه، إذ شتان بين الصوتين، فقد أثر أن الطير والوحش كانت ترقص عند سماع صوته عليه السلام، فيكفي تشبيه صوت أبي موسى بأقارب آل داود، ولا داعي للتأويل، وعدم النقل لا ينفي الوقوع. (لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة) أي الليلة البارحة، أي الماضية، و"لو" يصح أن تكون شرطية وجواب الشرط محذوف، تقديره لسررت بسروري، ويصح أن تكون للتمني، أي كنت أتمنى أن تراني مسرورًا بسماع قراءتك، والأظهر أن المراد من الاستماع الإصغاء، لا مجرد السماع. (على راحلته) المراد ناقته كما في الرواية السابعة. (فرجع) بتشديد الجيم، وأصل الترجيع الترديد، وترجيع الصوت ترديده في الحلق وإعادته، ومنه الترجيع في الأذان في الشهادتين. والمراد منه هنا ما فسره في البخاري في كتاب التوحيد بقوله: (آاأ) بهمزة مفتوحة بعدها ألف ساكنة ثم همزة أخرى، ثم قالوا: يحتمل أمرين: أحدهما: أن ذلك حدث من هز الناقة. والآخر أنه أشبع المد في موضعه فحدث ذلك. قال الحافظ ابن حجر: وهذا أشبه بالسياق، وسيأتي في فقه الحديث مزيد لإيضاح ذلك. (لولا الناس لأخذت لكم بذلك الذي ذكره ابن مغفل) أي لحكيت لكم ما حكاه لي ابن مغفل حكاية عن النبي صلى الله عليه وسلم، والخوف من الناس من اجتماعهم مستغربين.

-[فقه الحديث]- وضع البخاري حديث "ما أذن الله لنبي" تحت عنوان: باب من لم يتغن بالقرآن، وقوله تعالى: {أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم} [العنكبوت: 51]. كما أخرج في كتاب الأحكام حديث "من لم يتغن بالقرآن فليس منا". وكأنه يشير بهذا العنوان والآية إلى ترجيح تفسير ابن عيينة للفظ "يتغنى" وأن المراد يستغنى لكنه استغناء خاص ليس ضد الفقر، إنما المراد الاستغناء به عما سواه من أخبار الأمم السابقة ونحوها. وقد روى أبو داود عن عبيد الله بن أبي نهيك قال: لقيني سعد بن أبي وقاص وأنا في السوق فقال: تجار كسبه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس منا من لم يستغن بالقرآن". وقد روى الطبري وغيره في سبب نزول الآية عن يحيى بن جعدة قال: جاء ناس من المسلمين بكتب وقد كتبوا فيها بعض ما سمعوه من اليهود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كفى بقوم ضلالة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم. فنزل {أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم} ". قال ابن التين: يفهم من ترجمة البخاري - أي عنوان الباب - أن المراد بالتغني الاستغناء لكونه أتبعه الآية التي تتضمن الإنكار على من لم يستغن بالقرآن عن غيره، فحمله على الاكتفاء به وعدم الافتقار إلى غيره، وحمله على ضد الفقر من جملة ذلك. اهـ. قال ابن الجوزي: اختلفوا في معنى قوله: "يتغنى" على أربعة أقوال: أحدها: تحسين الصوت. والثاني: الاستغناء. والثالث: التحزن. والرابع: التشاغل به. وأضاف الحافظ ابن حجر قولاً خامسًا حكاه ابن الأنباري وهو: التلذذ والاستحلاء له كما يستلذ أهل الطرب بالغناء. وأضاف قولاً سادسًا وهو: أن يجعل المسافر هجيراه الغناء. فيكون معنى الحديث: الحث على ملازمة القرآن وأن لا يتعدى إلى غيره. والشافعي وجمهور العلماء على أن المراد حسن الصوت لقرائن كثيرة. منها: ما قاله الشافعي حين سئل عن تفسير ابن عيينة التغني بالاستغناء فقال: لو أراد الاستغناء لقال: لم يستغن، وإنما أراد تحسين الصوت. ومنها رواية الطبري بلفظ: "ما أذن لنبي في الترنم في القرآن". ولا دخل للترنم في الاستغناء، ومنها روايات الباب وبخاصة روايتنا الثانية: "ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به". فحسن الصوت والجهر لا علاقة لهما بالاستغناء، فلو كان المراد الاستغناء كما ذهب إليه البخاري لم يكن لذكر حسن الصوت ولا لذكر الجهر به معنى. قال الحافظ ابن حجر: ظواهر الأخبار ترجح أن المراد تحسين الصوت ويؤيده قوله: "يجهر به". فإنها إن كانت مرفوعة للنبي صلى الله عليه وسلم فقد قامت الحجة، وإن كانت غير مرفوعة فالراوي أعرف بمعنى الخير من غيره، ولا سيما إذا كان فقيهًا، فقد جزم الحليمي بأنها من قول أبي هريرة. قال الحافظ ابن حجر: والحاصل أنه يمكن الجمع بين أكثر التأويلات

المذكورة، وهو أنه يحسن به صوته، جاهرًا به مترنمًا على طريق التحزن، مستغنيًا به عن غيره من الأخبار، طالبًا به غنى النفس، راجيًا به غنى اليد. اهـ. وقد وضعت أحاديث الباب هنا تحت عنوان: استحباب تحسين الصوت بالقرآن، ولا شك أن الأحاديث المذكورة في الباب تفيد ذلك، ولا شك أن النفوس تميل إلى سماع القراءة بالترنم أكثر من ميلها لمن لا يترنم، لأن للتطريب تأثيرًا في رقة القلب وإجراء الدمع وحسن الفهم والتدبر. والظاهر أن المحققين فرقوا بين القراءة بالألحان وبين تحسين الصوت بالقراءة فأطلقوا القراءة بالألحان على التمطيط المفرط المعتمد على نغمات الصوت الذي يؤدي إلى زيادة حرف أو إخفاء حرف أو زيادة مد يشوش النظم أو خطف المد، والعرف في أيامنا يؤيد هذا الإطلاق، فتلحين الأغاني مثلاً يعتمد النغم والإيقاع والترقيق والتفخيم والمد في غير موضعه، فنراه مثلاً حين يلحن: فإذا سخوت بلغت بالجود المدى = يلحنه إلى: فإذا سخاوت بلغت بالجود المدى، وهذا النوع بلا خلاف لا يليق بقراءة القرآن، وهو محرم أو مكروه حسب درجة الخروج عن الأداء الصحيح، أما المحافظة على الأداء الصحيح مع الصوت الحسن فهي مستحبة اتفاقًا سواء سميناها ألحانًا أم لا، ونتيجة لخفاء هذه التفرقة بين القراءة بالألحان وبين تحسين الصوت بالقراءة عند البعض جاءت أقوالهم ظاهرة التضارب أو بعيدة عن الحق والصواب، فقد يطلق الألحان ويريد تحسين الصوت، وقد يطلق تحسين الصوت ويريد الألحان، وننقل أقوالهم ثم نعقب بالتحقيق. قال الحافظ ابن حجر: كان بين السلف اختلاف في جواز القراءة بالألحان [الحقيقة أن الاختلاف مبناه تحديد مفهوم الألحان] أما تحسين الصوت وتقديم حسن الصوت على غيره فلا نزاع في ذلك. حكى عبد الوهاب المالكي عن مالك تحريم القراءة بالألحان، وحكى أيضًا عن جماعة من أهل العلم. حكى ابن بطال وعياض والقرطبي من المالكية، والماوردي والغزالي وغيرهما من الشافعية وبعض الحنفية القول بكراهة القراءة بالألحان. وحكى ابن بطال عن جماعة من الصحابة والتابعين جواز القراءة بالألحان. وهو المنصوص للشافعي، ونقله الطحاوي عن الحنفية. ونقل عن بعض الشافعية القول بالجواز بل الاستحباب. اهـ. ونص الشافعي في موضع على كراهة القراءة بالألحان. ونص في موضع آخر على أنها لا بأس بها. وهذا الاختلاف في الحكم أساسه الاختلاف في حقيقة المحكوم عليه لهذا نرى أصحاب الشافعي يدافعون عنه ويقولون: ليس على اختلاف قولين، بل على اختلاف حالين، فإن لم يخرج بالألحان على المنهج القويم جاز وإلا حرم.

ونرى الإمام النووي يقول في "التبيان": أجمع العلماء على استحباب تحسين الصوت بالقرآن ما لم يخرج عن حد القراءة بالتمطيط، فإن خرج حتى زاد حرفًا أو أخفاه حرم. وقال الغزالي والبندنيجي وصاحب "الذخيرة" من الحنفية: إن لم يفرط في التمطيط الذي يشوش النظم استحب، وإلا فلا. قال الحافظ ابن حجر: الذي يتحصل من الأدلة أن حسن الصوت بالقرآن مطلوب، فإن لم يكن القارئ حسن الصوت فليحسنه ما استطاع، كما قال ابن مليكة أحد رواة الحديث، وقد أخرج ذلك عنه أبو داود بإسناد صحيح، ومن جملة تحسينه أن يراعي فيه قوانين النغم، فإن حسن الصوت يزداد حسنًا بذلك، وإن خرج عن قوانين النغم أثر ذلك في حسنه، وغير الحسن ربما انجبر بمراعاة قوانين النغم ما لم يخرج عن شرط الأداء المعتبر عند أهل القراءات، فإن خرج عنها لم يف تحسين الصوت بقبح الأداء، فإن وجد من يراعيهما معًا فلا شك في أنه أرجح من غيره، لأنه يأتي بالمطلوب من تحسين ويجتنب الممنوع من حرمة الأداء. انتهى. وهو كلام نفيس يجب على المحقق الحرص عليه. والله أعلم. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ذلك: ]- 1 - من الرواية الرابعة والخامسة منقبة وفضيلة لأبي موسى الأشعري. 2 - واستحباب الإصغاء إلى سماع الصوت الحسن في القرآن الكريم. 3 - ومن الرواية الثانية والثالثة استحباب الجهر بقراءة القرآن. 4 - وفيه دلالة بينة على أن القراءة غير المقروء. 5 - ومن الرواية السادسة والسابعة استحباب القراءة على الدابة. قال ابن بطال: القراءة على الدابة سنة موجودة، وأصل هذه السنة قوله تعالى: {لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون} [الزخرف: 13، 14] وكرهه بعضهم، وهو شاذ. 6 - واستحباب الترجيع. قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر أن في الترجيع قدرًا زائدًا على الترتيل، فعند أبي داود عن علقمة قال: "بت مع عبد الله بن مسعود في داره فنام ثم قام، فكان يقرأ قراءة الرجل في مسجد حيه، لا يرفع صوته، ويسمع من حوله، ويرتل، ولا يرجع وقال الشيخ ابن أبي جمرة: معنى الترجيع تحسين التلاوة لا ترجيع الغناء، لأن القراءة بترجيع الغناء تنافي الخشوع الذي هو مقصود التلاوة. 7 - وملازمته صلى الله عليه وسلم للعبادة، لأنه حالة ركوبه الناقة وهو يسير لم يترك العبادة بالتلاوة. 8 - وفيه إرشاد إلى أن الجهر بالعبادة قد يكون في بعض المواضع أفضل من الإسرار، وهذا عند التعليم وإيقاظ الغافل ونحو ذلك: ذكره الحافظ ابن حجر.

(263) باب نزول السكينة لقراءة القرآن

(263) باب نزول السكينة لقراءة القرآن 1606 - عن البراء رضي الله عنه قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط بشطنين فتغشته سحابة فجعلت تدور وتدنو وجعل فرسه ينفر منها فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: "تلك السكينة تنزلت للقرآن". 1607 - عن البراء رضي الله عنه قال: قرأ رجل الكهف وفي الدار دابة فجعلت تنفر فنظر فإذا ضبابة أو سحابة قد غشيته قال فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "اقرأ فلان فإنها السكينة تنزلت عند القرآن أو تنزلت للقرآن". 1608 - - عن أبي إسحق قال سمعت البراء يقول فذكرا نحوه غير أنهما قالا: تنقز. 1609 - عن أسيد بن حضير رضي الله عنه بينما هو ليلة يقرأ في مربده إذ جالت فرسه فقرأ ثم جالت أخرى فقرأ ثم جالت أيضًا. قال أسيد: فخشيت أن تطأ يحيى فقمت إليها، فإذا مثل الظلة فوق رأسي فيها أمثال السرج عرجت في الجو حتى ما أراها. قال فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله بينما أنا البارحة من جوف الليل أقرأ في مربدي إذ جالت فرسي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ ابن حضير" قال: فقرأت ثم جالت أيضًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ ابن حضير". قال: فقرأت ثم جالت أيضًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ ابن حضير". قال: فانصرفت وكان يحيى قريبًا منها خشيت أن تطأه فرأيت مثل الظلة فيها أمثال السرج عرجت في الجو حتى ما أراها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تلك الملائكة كانت تستمع لك ولو قرأت لأصبحت يراها الناس ما تستتر منهم". -[المعنى العام]- لكلام اللَّه تعالى فضيلة، ولتلاوته سكينة وطمأنينة ورهبة، ولتدبره خشوع وخضوع ولذة.

لقد قال كافرهم حين سمعه: واللَّه إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق. وكل كلام يعاد ويتكرر يمل ويضعف إلا القرآن الكريم لا يخلق على كثرة الرد، ولا يشبع منه العلماء، يزيده حلاوة وطراوة صوت حسن، وتلاوة دقيقة رقيقة، وإذا كان هذا أثره في البشر فما بالنا بأثره في ملائكة اللَّه؟ لقد كان أسيد بن حضير الصحابي الجليل ذو الصوت الحسن الرقيق يقرأ القرآن في منزله في جوف الليل وقد ربط فرسه في مربطه بحبل مزدوج، لأنه فرس جموح، ونام ابنه يحيى على الأرض قريبًا من الفرس، وجلس أسيد أو قام يصلي في مكان قريب من ابنه، في حائط صغير يتخذ مخزنًا للتمر يجفف فيه ويحفظ، وما كان لهم بيوت بحجرات ولا فرش وأسرة، وفي هدوء الليل وروعته تجلجل صوت أسيد بن حضير بالقرآن الكريم وسورة البقرة والكهف، وسمعت ملائكة اللَّه الصوت الرقيق بالقرآن الكريم فتنزلت له من قرب، حتى دنت من الفرس، ورآها الفرس كأن سحابة تهبط عليه فنفر وأخذ يضرب الأرض بقوائمه ويشيح ذات اليمين وذات الشمال بعنقه ورأسه ويحاول الجري والفرار خوفًا ورعبًا. سكت أسيد عن القراءة فهدأ الفرس، وسكن كأن السحابة تلاشت حين سكت، فقرأ فنفر الفرس، وسكت فسكن الفرس، فقرأ فهاجت. عجبًا يرى ظلة فيها مصابيح تدنو وتقرب والفرس يحس بها ويراها وينفر. والولد قريب من الفرس، يخشى عليه أن تطأه بحوافرها أثناء جموحها. لقد دفعته عاطفة الأبوة أن يرفع ولده ويبعده عن الفرس ثم يعود للقراءة. لكنه - وا أسفاه - ما إن قام نحو ابنه حتى رأى الظلة تعرج وتمضي نحو السماء حتى اختفت عن ناظريه. فأصبح يحدث رسول اللَّه بهذا الأمر العجيب، فقال له صلى الله عليه وسلم: ليتك مضيت في القراءة حتى الصباح، إنها السكينة والملائكة جاءت تستمع لقراءتك، ولو بقيت حتى الصباح تقرأ لبقيت مشغولة بالسماع لا تتستر حتى يراها الناس. -[المباحث العربية]- (كان رجل) الظاهر أنه: أسيد بن حضير المصرح به في الرواية الثالثة. قال الحافظ ابن حجر: وقد وقع قريب من ذلك لثابت بن قيس بن شماس. (عنده فرس مربوط) الفرس يقع على الذكر والأنثى، فهو في هذه الجملة مذكر، وفي جملة "إذ جالت فرسه" في الرواية الثالثة مؤنث. (بشطنين) تثنية "شطن" بفتح الشين والطاء، وهو الحبل. وقيل: الحبل الطويل. وقيل: الحبل الطويل المضطرب، وكأنه للحبل حين اضطرابه، وقيل مأخذه الشيطان لكثرة تحركه واضطرابه. ولعل الرجل قد ربط الفرس بحبلين لا بحبل واحد كما هو الأصل، لأن فرسه كان شديد الصعوبة والجموح، وهذا ما دعاه للخوف على ابنه يحيى.

(فتغشته سحابة فجعلت تدور وتدنو، وجعل فرسه ينفر) الظاهر أن ضمير المفعول في "فتغشته" للفرس، لأن الذي رآها وتأثر بها هو الفرس ويصح أن يكون للرجل، وظاهر الرواية الثالثة أن أسيدًا رأى الظلة وهي تعرج لكن قوله في الرواية الأولى: "فجعلت تدور وتدنو وجعل الفرس ينفر". صريح في أنه رآها وهي تدنو، فالرواية الأولى تصف حالة من حالتيه، والثانية تصف الأخرى. و"ينفر" قال النووي: بالفاء والراء في الرواية الأولى. و"تنفر" بالفاء والراء في الرواية الثانية، أما الثالثة فبالقاف المضمومة وبالزاي، أي تثب هذا هو المشهور، ووقع في بعض النسخ في الثالثة "ينفز" بالفاء والزاي، وحكاه القاضي عياض عن بعضهم وغلطه وقال: لا معنى له. اهـ. والسحابة هي الضبابة الواردة في الرواية الثانية، وهي "مثل الظلة" الواردة في الرواية الثالثة، أي مثل سحابة تظل. (تلك السكينة) جاء لفظ السكينة في القرآن متكررًا وفسر تفسيرات مختلفة، قال تعالى: {فأنزل الله سكينته عليه} [التوبة: 40]. {هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين} [الفتح: 4]، {آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم} [البقرة: 248]. فعن علي رضي الله عنه: "السكينة ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان". وقيل: لها رأسان. وقيل: لها رأس كرأس الهر. وقيل: لعينها شعاع. وقال السدي: السكينة طست من ذهب من الجنة يغسل فيها قلوب الأنبياء. وعن أبي مالك: هي التي ألقى فيها موسى الألواح والتوراة والعصا. وهذه كلها أقوال لا سند لها، ولا يعتمد عليها هنا، فلو كانت غير مثل السحابة لحكاها أسيد، فالسكينة الطمأنينة يبعثها اللَّه في قلب من يشاء، ولا يعنينا ما به السكينة، فقد يكون ظلة، وقد يكون نورًا، وقد يكون ريحًا، وقد تنبعث من داخل النفس دون مظهر خارجي، والظاهر من الرواية الثالثة أنها كانت مثل السحابة فيها الملائكة كأمثال السرج. (تنزلت للقرآن) في الرواية الثانية "تنزلت عند القرآن". وفي رواية للبخاري "دنت لصوتك". (بينما هو ليلة يقرأ) كلمة "بين" زيدت عليها "ما" ظرف خافض لشرطه بالإضافة منصوب بجوابه، وجوابه هنا قوله: "إذ جالت فرسه" أي فاجأه نفور الفرس وقت قراءته. (في مربده) بكسر الميم وفتح الباء بينهما راء ساكنة، الموضع الذي ييبس فيه التمر. (إذ جالت فرسه) من الجولان وهو الاضطراب الشديد. (اقرأ ابن حضير) منادى. أي اقرأ يا ابن حضير، أي كان ينبغي أن تستمر على قراءتك، وليس أمرًا له بالقراءة في حال التحديث، وكأنه استحضر صورة الحال، فصار كأنه حاضر عنده، لما رأى ما رأى، فكأنه يقول: استمر على قراءتك لتستمر لك البركة بنزول الملائكة واستماعها لقراءتك، وفهم أسيد ذلك فأجاب بعذره في قطع القراءة، وهو قوله: "خفت أن تطأ يحيى". أي خشيت إن استمررت على القراءة أن تطأ الفرس ولدي. قاله ابن حجر.

-[فقه الحديث]- في رواية البخاري تحت باب [نزول السكينة والملائكة عند قراءة القرآن] "عن أسيد بن حضير قال: "بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة وفرسه عنده إذ جالت الفرس .. ". إلى آخر الحديث. فالمقروء بها سورة البقرة، والمقروء في بابنا سورة الكهف، وجمع بعضهم بجواز أن يكون قد قرأ السورتين فختم إحداهما وافتتح في الأخرى. قال النووي: في هذا الحديث جواز رؤية آحاد الأمة للملائكة. قال الحافظ ابن حجر: كذا أطلق وهو صحيح، لكن الذي يظهر التقييد بالصالح مثلاً والحسن الصوت. قلت: لا داعي لتقييد الحافظ ابن حجر، فجواز رؤية الملائكة لحافظ القرآن الصالح الحسن الصوت ولغيره إذا شاء اللَّه مادامت بصورة غير الصور الحقيقة، فقد رآها قوم لوط، ورأى صحابة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جبريل يعلم الناس أمور الإيمان، والإسلام، والإحسان، والساعة، ورآها بعض الصحابة في قتال بدر. واللَّه أعلم. وقال النووي: وفي الحديث فضيلة القراءة، وأنها سبب نزول الرحمة وحضور الملائكة. واعترض عليه الحافظ ابن حجر أيضًا فقال: الحكم المذكور أعم من الدليل، فالذي في الرواية إنما نشأ عن قراءة خاصة من سورة خاصة بصفة خاصة، ويحتمل من الخصوصية ما لم يذكر، وإلا لو كان على الإطلاق لحصل ذلك لكل قارئ. اهـ. والحق أن قراءة القرآن سبب نزول الرحمة على القارئ، وحضور الملائكة على الإطلاق، وهو الذي قاله النووي. أما أن ترى بهذه الصورة فهي كما يقول ابن حجر في قراءة خاصة. -[ما يؤخذ من الحديث فوق ما تقدم: ]- وفي الحديث فضل قراءة البقرة وسورة الكهف في الليل. وأن التشاغل بشيء من أمور الدنيا - ولو كان من المباح - قد يفوت الخير الكثير فكيف لو كان بغير الأمر المباح. وفيه منقبة عظيمة لأسيد بن حضير رضي الله عنه. وفضيلة قراءة القرآن بالصوت الحسن، فقد جاء في بعض الصحيح: "دنت لصوتك". وفي رواية: "تستمع لك". وفي رواية: "وكان أسيد حسن الصوت". وفي رواية: "اقرأ أسيد فقد أوتيت من مزامير آل داود". واللَّه أعلم

(264) باب فضيلة حافظ القرآن

(264) باب فضيلة حافظ القرآن 1610 - عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب. ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو. ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر. ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر". 1611 - - عن قتادة بهذا الإسناد مثله غير أن في حديث همام (بدل المنافق) الفاجر. 1612 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران". 1613 - - عن قتادة بهذا الإسناد وقال في حديث وكيع: "والذي يقرأ وهو يشتد عليه له أجران". -[المعنى العام]- في الحديث الذي أخرجه الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الرب عز وجل: من شغله القرآن عن ذكري وعن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه". وفي الحديث: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه". والحق أن فضل أي عمل من الأعمال يتوقف على نوعية هذا العمل ونفعه، كما قالوا عند الكلام على أشرف العلوم: إن العلم يشرف بشرف موضوعه. فعلم موضوعه كلام الله تعالى أشرف من علم موضوعه النبات أو الحيوان أو الأرض أو السماوات وهكذا.

فالذي يشتغل بالقرآن عما سواه له من الفضل أعلاه، وبخاصة لو عمل به في باطنه وقرأه وتعاهده بتلاوته، فإن تيسرت له القراءة الصحيحة فقد وصل بذلك إلى منزلة الملائكة السفرة الكرام البررة، ومن شق عليه وتتعتع في قراءته له أجر على تكلفه ومعالجته، وأجر على قراءته. والمؤمن القارئ للقرآن منتفع ونافع، حسن الباطن والظاهر، كالأترجة طعمها طيب وريحها طيب. والمؤمن غير القارئ أو قليل القراءة منتفع غير نافع، حسن الباطن ضعيف الظاهر، كالتمرة طعمها حلو ولا ريح لها. والمنافق المرائي بقراءته نافع غير منتفع، حسن الظاهر قبيح الباطن، كالريحانة ريحها طيب وطعمها مر. والمنافق مدعي الإيمان الذي لا يقرأ غير نافع وغير منتفع، قبيح الظاهر قبيح الباطن كالحنظلة، طعمها مر وريحها خبيث. -[المباحث العربية]- (مثل الأترجه) بضم الهمزة وسكون التاء وضم الراء وتشديد الجيم وقد تخفف، ويروى "أترنجة" بالنون الساكنة بعد الراء، وهي فاكهة قريبة من البرتقال لكن حجمها أكبر ولونها أصفر وجلدها أنعم وأملس وفي طعمها حموضة أكثر من البرتقال. ويحاول العلماء توجيه التشبيه بها دون بعض الفواكه المعروفة في عالمنا كالتفاح فيقول: إنها أفضل ما يوجد من الثمار في سائر البلدان وأجدى لأسباب كثيرة، جامعة للصفات المطلوبة منها والخواص الموجودة فيها، فمن ذلك كبر جرمها، وحسن منظرها، وطيب مطعمها، ولين ملمسها، لونها فاقع تسر الناظرين، تتوق إليها النفس قبل التناول، تفيد آكلها بعد الالتذاذ بذوقها، طيبة النكهة، ودباغ المعدة، وسهلة الهضم، وتشترك الحواس الأربع البصر والذوق والشم واللمس في الاحتظاء بها، ثم إن أجزاءها تتقسم على طبائع، قشرها حار يابس، ولحمها حار رطب. وحماضها بارد يابس، وبزرها حار مجفف، وفيها من المنافع ما هو مذكور في الكتب الطبية: هكذا قالوا. والمعروف أن لكل بيئة فاكهة مفضلة قد تكون هي نفسها غير مرغوب فيها في بيئة أخرى، بل قد يكون الحمض أحلى من الحلو الخالي من الحمضيات، كما أن بعض البيئات تعشق اللون الأخضر، وبعضها اللون الأحمر، وبعضها اللون الأصفر، فالأولى القول بأن اختيار الأترجة للتمثيل بها أنها كانت أحسن الفواكه عند المخاطبين لونًا وطعمًا وريحًا. وهذا التشبيه يبرز المعنى المعقول الصرف في صورة المحسوس المشاهد، فكلام الله تعالى له تأثير في نفس العبد وأعماقه وفي ظاهره وسلوكه، والعباد في ذلك متفاوتون، فمنهم من لا نصيب له البتة، وهو المنافق الحقيقي الذي لا يقرأ، ومثله كالحنظلة، ومنهم من يتأثر ظاهره دون باطنه وهو المرائي بالقراءة فهو لا يستفيد وقد يستفاد منه، ومثله كالريحانة، ومنهم من يتأثر بكلام الله باطنه دون ظاهره، فلا يفيد من بجواره، وهو المؤمن الذي لا يقرأ، ومثله مثل التمرة، ومنهم من يتأثر بالقرآن باطنه وظاهره، يستفيد ويفيد، وهو المؤمن الذي يقرأ، ومثله مثل الأترجة.

(مثل التمرة لا ريح لها) أي لا ريح لها يطلب ويشتهي، وإلا فللتمرة ريح ما. وكذلك يقال في الحنظلة في روايتنا: "لا ريح لها". (الذي يقرأ القرآن) المراد من صيغة المضارع "يقرأ" التجدد والحدوث والاستمرار على التلاوة وتعهده بالقراءة. (الذي لا يقرأ القرآن) ليس المراد النفي بالكلية، بل المراد أن لا تكون القراءة دأبه وعادته، وقال بعضهم: إن المراد عدم الحفظ البته، لأن الحديث إنما خرج مخرج الحض على حفظه. اهـ. والتحقيق أن المراد أنه لا يتعهد القرآن بدوام تلاوته وحفظه إن كان حافظًا، أو بتكرار قراءته وتعهده في المصحف لو كان متتعتعًا. (الماهر بالقرآن) أي الحاذق الكامل الحفظ الذي لا يتوقف ولا تشق عليه القراءة لجودة حفظه. كذا قيل. والأولى عدم قصره على الحافظ، بل يكفي مهارة التلاوة ولو بالنظر في المصحف، وإذا كان الماهر بالتلاوة في المصحف مع السفرة، كان الماهر بالحفظ من باب أولى، لأن القسيم للماهر في الحديث الذي يتتعتع بالقراءة. (مع السفرة) جمع سافر، ككاتب وكتبة، والسافر الرسول، والسفرة الرسل، لأنهم يسفرون إلى الناس برسالات اللَّه. وقيل الملائكة. وقيل: السفرة كتبة الملائكة، ويسمى الكاتب سافرًا، لأنه يبين الشيء ويوضحه، والأسفار الكتب. (الكرام البررة) البررة المطيعون، من البر وهو الطاعة. (ويتتعتع فيه) قال النووي: هو الذي يتردد في تلاوته لضعف حفظه. اهـ. أو لضعف جودة القراءة والتلاوة. -[فقه الحديث]- وضع البخاري حديث الباب تحت عنوان [باب فضل القرآن على سائر الكلام] والحديث يدل على فضل قراءة القرآن أو فضل قارئ القرآن، وقد وجه الشراح مناسبة الحديث للعنوان فقال الحافظ ابن حجر: إن ثبوت فضل قارئ القرآن على غيره يستلزم ثبوت فضل القرآن على سائر الكلام. -[ويؤخذ من الحديثين: ]- 1 - فضيلة حافظ القرآن وحامله وقارئه بمهارة أو بمشقة. 2 - واستحباب ضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأفهام. 3 - وأن من المؤمنين من يكون في درجة الملائكة المقربين. قال القاضي عياض: يحتمل أن يكون

معنى أنه مع السفرة أنه في منازلهم في الآخرة، أي يكون رفيقًا لهم فيها، لاتصافه بصفتهم في حملهم كتاب اللَّه تعالى، ويحتمل أن يكون المعنى أنه عامل بعملهم، كما يقال: معي بنو فلان، أي في الرأي والمذهب. 4 - والحث على حفظ القرآن وتعاهده بالتلاوة. قال الحافظ ابن حجر: وأن المقصود من تلاوة القرآن العمل بما دل عليه. قلت: هذه نقرة وتلك نقرة، فالتقصير في العمل بكل ما دل عليه القرآن لا يمنع من الإثابة على قراءته. واللَّه أعلم 5 - أن معالجة قراءة القرآن مع المشقة والصعوبة لها أجران، أجر للمشقة والمعالجة، وأجر للقراءة. قال القاضي عياض وغيره من العلماء: ليس معناه أن الذي يتتعتع فيه له من الأجر أكثر من الماهر به، بل الماهر أفضل وأكثر أجرًا لأنه مع السفرة الكرام البررة، وله أجور كثيرة، وكيف يلحق من لم يعتن بكتاب اللَّه بمن اعتنى به وحفظه وأتقنه وأكثر من تلاوته وروايته حتى مهر فيه؟ . اهـ. أعاننا اللَّه على دوام حفظه وتدبره وتلاوته والعمل به. إنه سميع مجيب. واللَّه أعلم

(265) باب استحباب قراءة القرآن على أهل الفضل

(265) باب استحباب قراءة القرآن على أهل الفضل 1614 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي: "إن الله أمرني أن أقرأ عليك". قال: آلله سماني لك؟ قال: "الله سماك لي". قال: فجعل أبي يبكي. 1615 - عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب: "إن الله أمرني أن أقرأ عليك لم يكن الذين كفروا". قال: وسماني لك؟ قال: "نعم". قال: فبكى. -[المعنى العام]- للقرآن حلاوة لقارئه منفردًا، ولسامعه من قارئه، ولقارئه على أهل القرآن والفضل، فما أجمله قراءة وإسماعًا وسماعًا، لقد أراد اللَّه تعالى أن يشرف أحد حفظته وإمام قراءته، أبي بن كعب، فأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ شيئًا من القرآن على أبي، وأن يعلمه أن اللَّه الذي أمر بذلك، فزف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هذه البشرى لأبي بن كعب، فقال له: إن اللَّه أمرني أن أقرأ عليك سورة "لم يكن". وظن أبي أن الأمر لا يعدو أن يكون المطلوب قارئًا من الصحابة، فسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: آللَّه سماني باسمي لك؟ قال صلى اللَّه عليه وسلم: نعم سماك لي. فجعل أبي يبكي فرحًا وسرورًا بهذه المنزلة الرفيعة التي بشره اللَّه بها واختصه بها من بين القراء وأصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فرضي اللَّه عنه، وأنعم وأكرم بفضيلة حفظة القرآن ومحفظيه. -[المباحث العربية]- (آللَّه سماني؟ ) الاستفهام حقيقي، وليس في ذلك رد لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه أمرني أن أقرأ عليك". لأن أبيًا ربما ظن أن اللَّه أمر نبيه أن يقرأ على رجل من أمته، أو أنه عينه لا بالنص كقوله: اقرأ على أول داخل، فكان أبيًا. وقيل: إن الاستفهام للتلذذ بالجواب واستعذابه واستجلاء النص. وهو قول وجيه ويستبعد أن يكون الاستفهام تعجبيًّا، لأنه أجيب بنعم. -[فقه الحديث]- في حكمة قراءة النبي صلى الله عليه وسلم على أبي قال بعض العلماء: إنما هي ليأخذ أبي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن لم

يكن يحفظ فقراءته عليه للحفظ، وإن كان حافظًا فليتعلم الأداء. قال القاضي عياض: والثاني أظهر لأن قراءته للحفظ لا تختص بأبي لوجوب التبليغ. اهـ. قلت: وقراءته لتعليم الأداء لا تختص بأبي أيضًا. وقال بعض العلماء: ليسمع أبي القرآن دون واسطة فلا يخالجه شك فيما اختلف فيه ويحتمل أنه ليعلم طريق العرض. قال السنوسي: والثاني أظهر لما ذكر. فإن قيل: والأداء يحصل بقراءة أبي؟ قيل: قراءة الشيخ أعلى درجات الرواية فيما ذكر المحدثون. اهـ. قال النووي: والمختار في الحكمة من قراءته صلى اللَّه عليه وسلم على أبي أن تستن الأمة بذلك في القراءة على أهل الاتفاق والفضل، ويتعلموا آداب القراءة، ولا يأنف أحد من ذلك. اهـ. قلت: وهذه الحكمة لا يتعين لها أبي، بل تتحصل بغيره من كبار القراء. قال النووي: وقيل: للتنبيه على جلالة أبي وأهليته لأخذ القرآن عنه، وكان يعده صلى اللَّه عليه وسلم رأسًا وإمامًا في إقراء القرآن وهو أجل ناشريه أو من أجلهم. اهـ. وهذا توجيه حسن، فقد روى البخاري عن عمر رضي الله عنه قوله: "أقرؤنا أبي". وروى أيضًا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "خذوا القرآن من أربعة: من عبد اللَّه بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأبي بن كعب". والحكمة في تخصيص سورة "لم يكن" بالقراءة أنها وجيزة جامعة لقواعد كثيرة من أصول الدين وفروعه ومهماته والإخلاص وتطهير القلوب، ولعل الوقت كان يقتضي الاختصار. ذكره النووي. -[ما يؤخذ من الحديث: ]- 1 - وفي الحديث منقبة لأبي رضي الله عنه بذكر اللَّه تعالى له، ونصه عليه، قال النووي: ولا نعلم أحدًا من الناس شاركه في هذا. 2 - وفيه البكاء للسرور والفرح مما يبشر الإنسان به ويعطاه من معالي الأمور. 3 - ومن سؤال أبي السؤال للتثبت في المحتملات. 4 - وفي الحديث استحباب قراءة القرآن على أهل الفضل والحذاق فيه وأهل العلم به، وإن كان القارئ أفضل من المقروء عليه. واللَّه أعلم

(266) باب فضل استماع القرآن والبكاء والتدبر عنده

(266) باب فضل استماع القرآن والبكاء والتدبر عنده 1616 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ علي القرآن". قال: فقلت: يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: "إني أشتهي أن أسمعه من غيري". فقرأت النساء حتى إذا بلغت: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا} [النساء/ 41] رفعت رأسي - أو غمزني رجل إلى جنبي - فرفعت رأسي فرأيت دموعه تسيل. 1617 - - عن الأعمش بهذا الإسناد وزاد هناد في روايته قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: "اقرأ علي". 1618 - ، 3 عن إبراهيم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مسعود: "اقرأ علي". قال: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: "إني أحب أن أسمعه من غيري". قال: فقرأ عليه من أول سورة النساء إلى قوله: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا} [النساء/ 41] فبكى. قال مسعر: فحدثني معن عن جعفر بن عمرو بن حريث عن أبيه عن ابن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "شهيدًا عليهم ما دمت فيهم أو ما كنت فيهم". (شك مسعر). 1619 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: كنت بحمص فقال لي بعض القوم: اقرأ علينا. فقرأت عليهم سورة يوسف. قال: فقال رجل من القوم: والله ما هكذا أنزلت؟ قال: قلت: ويحك والله لقد قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: "أحسنت". فبينما أنا أكلمه إذ وجدت منه ريح الخمر. قال فقلت: أتشرب الخمر وتكذب بالكتاب؟ لا تبرح حتى أجلدك. قال: فجلدته الحد. 1620 - - عن الأعمش بهذا الإسناد وليس في حديث أبي معاوية فقال لي: "أحسنت".

-[المعنى العام]- جعل اللَّه لسامع قراءة القرآن أجرًا كأجر القارئ فضلاً منه ورحمة، حيث إن القراءة ليست ميسورة لكل المسلمين، بل قيل: إن التدبر والخشوع عند السامع كثيرًا ما يكون أكثر منه عند القارئ، لاشتغاله بالقراءة والأداء، بل قيل: إن القارئ كالحالب، والسامع كالشارب، فهو أكثر فائدة وثوابًا. وقد رأينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعلم المسلمين ويقرأ لهم، بل يدعو أحسن القراء ليستمع من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي في الباب السابق، كما نراه في هذا الحديث يدعو أجود القراء عبد اللَّه بن مسعود ليقرأ على النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: اقرأ علي. فيعجب ابن مسعود أن يطلب صاحب الشيء الشيء نفسه من غيره، وهو الذي يؤخذ عنه لا أن يأخذه هو عن غيره، فيقول: أأقرأ عليك وعليك أنزل؟ فيقول صلى اللَّه عليه وسلم: نعم لأنني أحب أن أسمعه من غيري فأتفهم المعاني وأتدبر، وأطمئن على قراء أمتي وعلى أدائهم، فيقرأ ابن مسعود من أول سورة النساء حتى يصل إلى الآية رقم (41) {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا} فيغمزه جار له ليرفع ابن مسعود بصره إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيراه يبكي وقد خضبت الدموع لحيته الشريفة، ويدرك صلى اللَّه عليه وسلم انتباه ابن مسعود لبكائه فيشير إلى ابن مسعود ويقول له: حسبك. كفى قراءة. ويؤكد ابن مسعود أن هذه المرة ليست الوحيدة التي قرأ فيها القرآن على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فيروى أنه نزل "حمص" بالشام مع جنود اللَّه غازيًا في زمن عمر بن الخطاب فطلب منه الناس أن يقرأ لهم فقد اشتهر عند المسلمين أنه خير القراء أو من خيرهم، فقرأ لهم سورة يوسف، فلما أتى على آية منها قال رجل من القوم: ما هكذا أنزلت. فغضب ابن مسعود وقال للرجل: ويحك انزجر. واللَّه لقد قرأت السورة كلها على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال لي: أحسنت. وكان الرجل المعترض سكران، تفوح منه رائحة الخمر، فقدمه ابن مسعود للوالي الذي حده حد شارب الخمر. حفظ اللَّه كتابه وجزى حفظته خير الجزاء. -[المباحث العربية]- (اقرأ علي القرآن) المراد بالقرآن بعض القرآن، والقرآن يطلق على الكثير والقليل مما بين دفتي المصحف، قال الحافظ ابن حجر: والذي في معظم الروايات: "اقرأ علي" ليس فيه لفظ "القرآن"، بل أطلق، فيصدق بالبعض. وتخصيصه صلى اللَّه عليه وسلم ابن مسعود يحمل تأهيله وإعداده لتولي مهمة القراءة والإقراء من بعده صلى اللَّه عليه وسلم كما سيأتي في فقه الحديث ويحتمل أنه لم يحضر غيره، أو لم يحضر أعلم منه. (أقرأ عليك وعليك أنزل؟ ) الكلام على الاستفهام، وهمزته محذوفة وهي مذكورة في رواية البخاري: "آقرأ عليك وعليك أنزل؟ " بمد الهمزة الأولى. قال الأبي: انظر ما الذي توهمه ابن مسعود حتى قال ذلك؟ فيحتمل أنه فهم أنه أراد بقراءته عليه الاتعاظ، فقال: أتتعظ بقراءتي وعليك أنزل؟ .

(إني أشتهي أن أسمعه من غيري) في الرواية الثانية: "إني أحب أن أسمعه من غيري". والمراد واحد. (فقرأت سورة النساء) أي من أولها كما جاء في الرواية الثانية. (وهو على المنبر) في جلسة عادية وليس لخطبة الجمعة أو غيرها، بل كان صلى اللَّه عليه وسلم يجلس على المنبر ليكون بارزًا للناس، وليعلمه الداخل الذي لا يعرفه. (كنت بحمص) بلدة مشهورة في بلاد الشام، دخلها ابن مسعود غازيًا في خلافة عمر بن الخطاب، ولم يكن واليًا عليها في يوم من الأيام، "وحمص" علم مؤنث ساكن الوسط يجوز فيه الصرف والمنع من الصرف. (فقال رجل من القوم) قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمه، وقد قيل: إنه نهيك بن سنان، لكن لم أر ذلك صريحًا. اهـ. (ويحك): أي انزجر. (فضربه الحد) قيل: إن الإسناد مجازي، أي رفع أمره للوالي وتسبب في ضربه الحد، وسيأتي مزيد له في فقه الحديث. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من مجموع الأحاديث: ]- 1 - استحباب استماع القرآن، فقالوا: ذلك أن المستمع أقوى على التدبر لأن نفسه أخلى وأنشط من القارئ، لأنه مشتغل بالقراءة وأحكامها، وقد قيل: إن القارئ كالحالب، والسامع كالشارب، وليس استحباب سماع القرآن خاصًا بمن لا يجيد القراءة، فرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أحب أن يسمعه من غيره مع أنه خير القراء على الإطلاق. وقد اختلف العلماء في القراءة والسماع أيهما أفضل؟ والتحقيق أن الأفضلية تدور مع الخشية والتدبر ومدى الانتفاع من كل منهما، فمن كان تدبره وخشيته بالقراءة أكثر كانت القراءة في حقه أفضل، ومن كان تدبره وخشيته في السماع أكثر كان السماع في حقه أفضل، على أنه يستحب أن يأخذ بكل منهما ولو بطرف يسير. 2 - واستحباب الإصغاء للقراءة والخشوع عندها، وتدبر معانيها. 3 - واستحباب البكاء. قال النووي: البكاء عند قراءة القرآن صفة العارفين وشعار الصالحين، قال تعالى: {ويخرون للأذقان يبكون} [الإسراء: 109]. ويقول: {خروا سجدًا وبكيًا} [مريم: 58]. والأحاديث فيه كثيرة. وقال الغزالي: يستحب البكاء مع القراءة وعندها، وطريق تحصيله أن يحضر قلبه الحزن والخوف بتأمل ما فيه من التهديد والوعيد الشديد، والوثائق والعهود، ثم ينظر تقصيره في ذلك، فإن لم يحضره حزن فليبك على فقد ذلك وإنه من أعظم المصائب.

قال ابن بطال: إنما بكى صلى اللَّه عليه وسلم عند تلاوته هذه الآية لأنه مثل لنفسه أهوال يوم القيامة وشدة الحال الداعي له إلى شهادته لأمته بالتصديق وسؤاله الشفاعة لأهل الموقف، وهو أمر يحق له طول البكاء. اهـ. وقال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر أنه بكى رحمة لأمته، لأنه علم أنه لا بد أن يشهد عليهم بعملهم، وعملهم قد لا يكون مستقيمًا فقد يفضي إلى تعذيبهم. 4 - واستحباب طلب القراءة من الحافظ، وكان طلب النبي صلى الله عليه وسلم القراءة من ابن مسعود من أجل التدبر والتفهم، أو من أجل أن يطمئن على حسن أداء الحفظ من أمته، أو ليكون عرض القرآن سنة تتبع من بعده، أقوال ولا مانع من إرادة كل ذلك. 5 - وتواضع أهل العلم والفضل ولو مع أتباعهم. ذكره النووي. 6 - وفيها منقبة لابن مسعود رضي الله عنه، وقد ورد في مدح قراءته أحاديث كثيرة، وقد روى البخاري قول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "خذوا القرآن من أربعة: من عبد اللَّه بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأبي" فذكر ابن مسعود أول من تؤخذ عنه القراءة. توفي في خلافة عثمان رضي اللَّه عنهما. 7 - أخذ بعضهم من الحديث الرابع أن السكران لا يؤاخذ بما يصدر منه من الكلام في حال سكره، إذ لو أوخذ الرجل بإنكاره ما قرأ ابن مسعود لقتل لارتداده، لأنهم أجمعوا على أن من جحد مجمعًا عليه من القرآن كفر، وأجيب بأنه يحتمل أن الرجل كذب ابن مسعود ولم يكذب بالقرآن، وهو الذي يظهر من قوله: "ما هكذا أنزلت". فإن ظاهره أنه أثبت إنزالها ونفى الكيفية التي أوردها ابن مسعود. قاله القرطبي. 8 - احتج بالحديث من يوجب الحد بالرائحة وحدها إذا لم يقر ولم يشهد عليه. وقد قال بذلك الحنفية، والجمهور لا يوجب الحد بمجرد الريح، لاحتمال النسيان والاشتباه والإكراه وغير ذلك، ويجيبون عن الحديث باحتمال أن يكون الرجل قد اعترف، وبهذا الاحتمال يسقط الاستدلال بالحديث، والمختار أنه لا يحد بالرائحة وحدها، بل لا بد من قرينة كأن يوجد سكران، أو يكون مشهورًا بإدمان شرب الخمر، أو أن يوجد مع جماعة اشتهروا بالفسق، ويوجد معهم خمر واللَّه أعلم. وقد أثار قول ابن مسعود: "فجلدته الحد": إشكالاً مؤداه: كيف جلده ولا ولاية له؟ وأجاب النووي بقوله: هذا محمول على أن ابن مسعود كانت له ولاية إقامة الحدود نيابة عن الإمام. اهـ. وهذا الاحتمال بعيد، لأن ابن مسعود كانت ولايته بالكوفة ولم يل حمص بالشام في يوم من الأيام. وأجاب القرطبي: إنما أقام عليه الحد لأنه جعل له ذلك من له الولاية. اهـ. يعني أنه فوض بذلك ممن له الولاية، وهذا مجرد احتمال بعيد لا يحل الإشكال. وقيل: لأن ابن مسعود رأى أنه يقوم عن الإمام بواجب إذا هو فعل ذلك، وهذا جواب مردود لأنه ليس لأحد أن يعتقد أنه بمباشرته إقامة الحد يقوم بواجب مقبول، والأولى اعتبار الإسناد مجازيًا كما في المباحث العربية. واللَّه أعلم

(267) باب فضل قراءة القرآن في الصلاة وفضل قراءة سورة البقرة وآل عمران والفاتحة والكهف وآية الكرسي وقل هو الله أحد والمعوذتين وفضل قراءة القرآن في الصلاة وغيرها

(267) باب فضل قراءة القرآن في الصلاة وفضل قراءة سورة البقرة وآل عمران والفاتحة والكهف وآية الكرسي وقل هو الله أحد والمعوذتين وفضل قراءة القرآن في الصلاة وغيرها 1621 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيحب أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد فيه ثلاث خلفات عظام سمان". قلنا: نعم. قال: "فثلاث آيات يقرأ بهن أحدكم في صلاته خير له من ثلاث خلفات عظام سمان". 1622 - عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في الصفة فقال: "أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين في غير إثم ولا قطع رحم". فقلنا: يا رسول الله نحب ذلك. قال: "أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع ومن أعدادهن من الإبل". فضل قراءة سورة البقرة وآل عمران 1623 - عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه اقرءوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران فإنهما، تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما. اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها [يستطيعها] البطلة". قال معاوية: بلغني أن البطلة السحرة. 1624 - - وعن حدثنا معاوية بهذا الإسناد مثله غير أنه قال: وكأنهما في كليهما. ولم يذكر قول معاوية: بلغني.

1625 - عن النواس بن سمعان الكلابي رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران". وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد. قال: "كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق أو كأنهما حزقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما". فضل قراءة الفاتحة وآخر البقرة 1626 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضًا من فوقه فرفع رأسه فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم: فنزل منه ملك فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم: فسلم وقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة: لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته. 1627 - عن عبد الرحمن بن يزيد قال: لقيت أبا مسعود عند البيت فقلت، حديث بلغني عنك في الآيتين في سورة البقرة. فقال: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه". 1628 - عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ هاتين الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه". قال عبد الرحمن: فلقيت أبا مسعود وهو يطوف بالبيت فسألته فحدثني به عن النبي صلى الله عليه وسلم.

فضل قراءة سورة الكهف وآية الكرسي 1629 - عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال". 1630 - - عن قتادة بهذا الإسناد قال شعبة: من آخر الكهف. وقال همام: من أول الكهف. كما قال هشام. 1631 - عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ " قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ ". قال: قلت: الله لا إله إلا هو الحي القيوم. قال: فضرب في صدري وقال: "والله ليهنك العلم أبا المنذر". فضل قراءة قل هو الله أحد 1632 - عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن؟ ". قالوا: وكيف يقرأ ثلث القرآن؟ قال: "قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن". 1633 - عن قتادة بهذا الإسناد وفي حديثهما من قول النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء فجعل قل هو الله أحد جزءًا من أجزاء القرآن". 1634 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احشدوا فإني سأقرأ

عليكم ثلث القرآن". فحشد من حشد ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم فقرأ (قل هو الله أحد) ثم دخل فقال بعضنا لبعض: إني أرى هذا خبر جاءه من السماء فذاك الذي أدخله. ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إني قلت لكم سأقرأ عليكم ثلث القرآن ألا إنها تعدل ثلث القرآن". 1635 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أقرأ عليكم ثلث القرآن". فقرأ (قل هو الله أحد الله الصمد) حتى ختمها. 1636 - عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على سرية وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بقل هو الله أحد، فلما رجعوا ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "سلوه لأي شيء يصنع ذلك". فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن فأنا أحب أن أقرأ بها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أخبروه أن الله يحبه". فضل قراءة المعوذتين 1637 - عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير مثلهن قط: {قل أعوذ برب الفلق}، و {قل أعوذ برب الناس} 1638 - عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنزل أو أنزلت علي آيات لم ير مثلهن قط المعوذتين". -[المعنى العام]- إذا أراد المسلم أن يكلم اللَّه لجأ إلى الصلاة فإنها مناجاة للَّه تعالى، وإذا أراد أن يكلمه الله لجأ إلى القرآن، فالقرآن كلام اللَّه، فمن قرأ القرآن في الصلاة ناجى اللَّه وناجاه اللَّه، فكانت تلك خير عبادة، وثواب الآخرة أعظم من الدنيا ومن متاعها، ولهذا قارن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين آية واحدة يقرؤها

المسلم في صلاة وبين ناقة عظيمة اللحم والشحم عشراء، ففضل آية القرآن، وفضل آيتين على ناقتين، وثلاث آيات على ثلاث من النوق، وما زاد من الآيات مفضل على عددهن من النوق الحبيبة إلى أهل الدنيا، فما أيسر طريق الحسنات لمن يعلم ويوفقه اللَّه. وفي القرآن سور تفضل اللَّه بزيادة الأجر لقارئها، وحث عليها، لما فيها من عظات وآلاء وتمجيد وتحميد. فالبقرة وآل عمران لهما من أنوار التنزيل ما استحقا به أن يسميا بالزهراوين أي الكوكبين النيرين، يأتيان يوم القيامة كالظلة لقارئهما من حر الموقف، وتدافعان عنه وتشفعان له يوم القيامة، نعم القرآن الكريم كله يشفع لقارئه، لكن البقرة وآل عمران تتقدمان القرآن كما يتقدم الوفد رؤساؤه، وفي آخر البقرة آيتان فيهما اعتراف وإيمان وثناء ودعاء، من قرأهما أجيب دعاؤه، ومن بات عليهما بات محصنًا لا يقربه شر الشيطان، وفضل قراءة الفاتحة وآية الكرسي وسورة الكهف والمعوذتين فضل كبير، أما {قل هو الله أحد} فهي تعدل ثلث القرآن أجرًا وثوابًا. وهكذا يفتح اللَّه أبواب تحصيل الحسنات الكثيرة بقراءات قليلة من القرآن {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} [المطففين: 26]. -[المباحث العربية]- (إذا رجع إلى أهله) أي إذا رجع من مكان الخطاب إلى منزله، أو من المسجد إلى أهله. (أن يجد فيه ثلاث خلفات عظام سمان) الخلفات بفتح الخاء وكسر اللام: الحوامل من الإبل إلى أن يمضي عليها نصف مدة حملها، ثم يطلق عليها بعد ذلك عشار، والواحدة: خلفة، وواحدة عشار: عشراء بضم العين وفتح الشين. والخلفات: أحب الإبل إلى أهلها، فإذا ما كانت عظيمة اللحم مليئة كثيرة الشحم سمينة كانت أشد حبًا. (ونحن في الصفة): المكان المعروف في المسجد النبوي بالمدينة، وكان محل إقامة فقراء المسلمين. والفقير ينظر إلى الخلفات نظرته إلى أمل كبير عظيم المنال. (أيكم يحب أن يغدو إلى بطحان أو إلى العقيق) الغدو الخروج أول النهار، و"بطحان" بضم الباء وسكون الطاء اسم لمكان رعي بقرب المدينة، وكذلك العقيق: كل مسيل شقه ماء السيل، وأصل الأبطح مسيل فيه دقاق الحصى، وتبطح السيل اتسع في البطحاء. و"أو" لأحد الأمرين. (فيأتي منه بناقتين كوماوين) تثنية "كوما" بفتح الكاف، وهي من الإبل عظيمة السنام. (ومن أعدادهن من الإبل) التقدير: وأي الأعداد من الآيات خير من أعدادهن من الإبل. (اقرءوا الزهراوين - البقرة وآل عمران) قالوا: سميتا الزهراوين لنورهما وهدايتهما وعظيم أجرهما، يقال: زهر السراج والقمر والوجه زهورًا تلألأ كالزهر، و"البقرة وآل عمران" بدل من الزهراوين، والبدل على نية تكرار العامل، والتعبير يفيد المبالغة في المدح حيث جمع لهما الوصف العام أولاً ثم حصره فيهما.

(كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان) قال أهل اللغة: الغمامة والغياية كل شيء أظل الإنسان من فوق رأسه من سحابة وغبرة وغيرهما. نقله النووي. وفي القاموس: الغمامة: السحابة أو البيضاء من السحب، وفيه: والغياية كل ما أظل الإنسان من فوق رأسه كالسحاب ونحوه. ويمكن لتوجيه العطف هنا أن تقول: كأنهما سحابتان، أو كأنهما ظلتان من غير السحاب. والمراد أن ثوابهما يأتي بهذا المنظر. (أو كأنهما فرقان من طير صواف) في الرواية الرابعة: "كأنهما حزقان من طير صواف". قال النووي: "الفرقان" بكسر الفاء وإسكان الراء، و"الحزقان" بكسر الحاء وإسكان الزاي، ومعناهما واحد، وهما قطيعان وجماعتان، يقال في الواحد: فرق وحزق وحزيقة، أي جماعة. اهـ ومعنى "صواف": باسطة أجنحتها ملتصق بعضها ببعض، كما كانت تظل سليمان عليه السلام. قال بعض العلماء: فأو ليست للشك، بل للتنويع، فالأول لمن يقرؤها ولا يتدبر معناها، والثاني: لمن جمع بين الأمرين، والثالث: لمن ضم إليهما تعليم غيره. فالأول: التظليل بالغمامة دون التظليل بالغياية. والثالث: أرفع التظليل وأعلاه فقد كان لنبي الله سليمان. (تحاجان عن أصحابهما) أي تدافعان بالحجة عن أصحابهما. قال تعالى: {وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هداني} [الأنعام: 80]. (فإن أخذها بركة) أي قراءتها بركة، وترك قراءتها حسرة وخسارة. (ولا تستطيعها البطلة) فسرها معاوية الراوي عن زيد الراوي عن أبي سلام الراوي عن أبي أمامة بالسحرة، تسمية لهم باسم فعلهم، لأن ما يأتون به الباطل، وإنما لم يقدروا على قراءتها ولم يستطيعوها لزيغهم عن الحق وانهماكهم في الباطل، ويصح أن يكون المعنى ولا يستطيع دفعها واختراق تحصينها لقارئها السحرة. وقيل: المراد من البطلة أهل البطالة، أي لا يستطيعون قراءتها وتدبر معانيها لكسلهم. وقال الطيبي: يحتمل أن يعني بالبطلة سحرة البيان، وإنما لا يستطيعونها من حيث التحدي. وهو بعيد لأن التحدي بأي سورة من سور القرآن. (أو ظلتان سوداوان بينهما شرق) وصفتا بالسواد لتكاتفهما وتراكم بعضهما على بعض، وهو أنفع ما يكون من الظلال، و"شرق" بفتح الراء وسكونها الضياء والنور، والتعبير به هنا لدفع ما يتوهم من أنهما لسوادهما مظلمتان، لكنهما مع كثافتهما وتراكمهما لا يستران الضوء. (بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم) قال الأبي: لا يبعد أن يكون ابن عباس تمثل له جبريل والملك كما تمثل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فشاهد وسمع، والظاهر أنه لم يتمثل وإنما علم ما حدث وما قيل من إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. (سمع نقيضًا من فوقه) بالقاف والضاد أي صوتًا كصوت الباب إذا فتح، وفاعل "سمع" و"رفع" و"قال" هو جبريل عليه السلام، لأنه الأحق بالإخبار عن أحوال السماء، لأنه أكثر إطلاعًا

عليها. وقيل: للنبي صلى الله عليه وسلم وقيل: هو في "سمع" و"رفع" إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي "قال" لجبريل عليه السلام، وليس بالعكس لأن كون النبي صلى الله عليه وسلم هو المستغرب وجبريل هو المفسر أولى من أن يستغرب جبريل ويفسر له النبي صلى الله عليه وسلم. (أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك) أي لم يؤت ثوابهما الخاص بقراءتهما، وإلا فغيرهما من القرآن لم يؤته نبي قبله. (أن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته) المراد بالحرف الطرف والجزء، وكني به عن الجملة، أي لن تقرأ بجملة منهما إلا أعطيت ما تضمنته؛ وإن كانت دعاء أجبت، وإن كانت ثناء أعطيت الثواب. (كفتاه) شر الإنس والجن، أو كفتاه عن قيام الليل، أو كفتاه من الآفات. وسيأتي بقية للمراد في فقه الحديث. (عصم من الدجال) التعريف في "الدجال" للعهد، وهو الذي يخرج آخر الزمان. وقيل: يجوز أن تكون للجنس، لأن الدجال من يكثر منه الكذب والتلبيس، وفي الحديث: "يكون في آخر الزمان دجالون كذابون مموهون". وقيل: كما عصم الله فتية الكهف من ذلك الجبار، كذلك يعصم قارئها من كل جبار. (ليهنك العلم أبا المنذر) في القاموس: وهنأه قال له: ليهنئك، وهنأه تهنئة وتهنيًا. اهـ. وفي الحديث حذفت الهمزة تخفيفًا، والمعنى ليكن العلم هنيئًا لك. والهنيء ما أتاك بلا مشقة وكان سائغًا، فهو هنا دعاء بتيسير العلم عليه وكونه من أهله. (أيعجز أحدكم) في القاموس: عجز كضرب وسمع. فهو هنا بكسر الجيم وفتحها. (احشدوا) أي اجتمعوا، من حشد القوم لفلان إذا تأهبوا واجتمعوا له. (إني أرى هذا خبر جاءه من السماء) "أرى" بضم الهمزة بمعنى أظن تنصب مفعولين، مفعولها الأول اسم الإشارة، وكأن الظاهر أن لفظ "خبر" مفعولها الثاني فيكون منصوبًا، ولكنه جاء مرفوعًا في جميع النسخ وفي رواية الترمذي، ويمكن توجيهه على أن جملة "خبر جاءه من السماء" مقصود لفظها وحكايتها في محل نصب مفعول ثان لأرى على احتمال أن البعض قال: سبب التعجل والدخول تذكر أمر في البيت. وقال البعض: قضاء حاجة. وقال البعض: خبر جاء من السماء. فقال قائلنا: إني أظن هذا السبب جملة: "خبر جاءه من السماء"، كما تقول: أظن الذي نزل أولاً: {ويل للمطففين} واللَّه أعلم. (فيختم بـ {قل هو الله أحد}) أي يختم بها قراءته، أي يقرأ بها بعد الفاتحة في آخر ركعة. (ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير مثلهن قط) الرؤية المراد منها العلم والاستفهام تقريري

حاصله إثبات ما بعد النفي. أي أعلم آيات أنزلت الليلة، لم "ير" أي لم يعلم مثلهن في عظم الأجر وثواب القراءة. وقال النووي: ضبطناه "نر" بالنون المفتوحة وبالياء المضمومة. اهـ. {(قل أعوذ برب الفلق)} أي سورة {قل أعوذ برب الفلق} وليس المقصود الآية لقوله: "آيات". (المعوذتين) قال النووي: هكذا هو في جميع النسخ، وهو صحيح، وهو منصوب بفعل محذوف أي أعني المعوذتين، وهو بكسر الواو. اهـ. -[فقه الحديث]- 1 - يؤخذ من الحديث الأول بروايتيه فضل قراءة القرآن في الصلاة وغيرها وفضل تعلم القرآن. 2 - والترغيب في ثواب الآخرة مقارنًا بمنافع الدنيا. 3 - الترغيب في الكسب الحلال الخالي من الإثم وقطيعة الرحم. 4 - من الحديث الثالث والرابع فضل قراءة سورة البقرة وآل عمران. 5 - وفضل مغالبة الشيطان والبعد عن البطلة. 6 - شفاعة القرآن لحامله وقارئه ومعلمه. 7 - تقدم البقرة وآل عمران على القرآن، وأنهما أعظم من غيرهما. قال الأبي: لأنهما أطول وأكثر أحكامًا. 8 - ومن الحديث الخامس والسادس والسابع فضل قراءة آخر سورة البقرة يعني من أول قوله تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون} [البقرة: 285] إلى آخر السورة. وفيها اعتراف وإيمان وثناء وطاعة ودعاء شامل ومقبول. 9 - ومن الحديث الخامس فضل قراءة الفاتحة أم الكتاب. 10 - وسماعه صلى الله عليه وسلم الوحي من غير جبريل عليه السلام. 11 - ومن السادس أن قراءة القرآن تحصن الإنسان. قال العلماء: معنى "كفتاه" كفتاه أذى الشيطان، أو كفتاه من الآفات، أو كفتاه شر الإنس والجن، أو كفتاه كل سوء، أو كفتاه ومنعتاه من أن يكون ممن ترك قراءة القرآن، أو كفتاه عن قيام الليل، أو كفتاه بما حصل له من ثوابها عن طلب شيء آخر، أو كفتاه من جميع ما ذكر. 12 - ومن الحديث الثامن فضل قراءة سورة الكهف. قال النووي: قيل: سبب ذلك ما في أولها من العجائب والآيات فمن تدبرها لم يفتتن بالدجال، وكذا في آخرها قوله تعالى:

{أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء} [الكهف: 102]. اهـ. وقال الأَبِيُّ: قيل: خاصية لها. 13 - ومن الحديث التاسع فضل قراءة آية الكرسي. قال النووي: قال العلماء: إنما تميزت آية الكرسي لكونها جمعت أصول الأسماء والصفات، الإلهية [الله] والوحدانية، والحياة، والعلم، والملك، والقدرة، والإرادة، وهذه السبعة أصول الأسماء والصفات. 14 - وفضيلة ومنقبة لأبي بن كعب أبي المنذر، ودليل على كثرة علمه ودعاء له بالتيسير والانتفاع والنفع به. 15 - وتبجيل العالم فضلاء أصحابه وتكنيتهم. 16 - وجواز مدح الإنسان في وجهه إذا كان فيه مصلحة ولم يخف عليه إعجاب ونحوه لكمال نفسه ورسوخه في التقوى. 17 - وإلقاء العالم السؤال على صاحبه ليستقر الجواب ويهتم به. 18 - ومن الحديث العاشر فضل قراءة {قل هو الله أحد} 19 - وأنها ثلث القرآن، وقد حمله بعض العلماء على ظاهره فقال: إنها ثلث باعتبار معاني القرآن، لأنه أحكام وأخبار وتوحيد، وقد اشتملت هي على القسم الثالث، فكانت ثلثًا بهذا الاعتبار. ويؤيد هذا المفهوم رواية: "إن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء، فجعل {قل هو الله أحد} جزءًا من أجزاء القرآن". وقال القرطبي: اشتملت هذه السورة على اسمين من أسماء الله تعالى يتضمنان جميع أوصاف الكمال لم يوجدا في غيرها من السور، وهما الأحد الصمد، لأنهما يدلان على أحدية الذات المقدسة الموصوفة بجميع أوصاف الكمال، وبيان ذلك أن الأحد يشعر بوجوده الخاص الذي لا يشاركه فيه غيره، والصمد يشعر بجميع أوصاف الكمال، لأنه الذي انتهى إليه سؤدده، فكان مرجع الطلب منه وإليه، ولا يتم ذلك على وجه التحقيق، إلا لمن حاز جميع خصال الكمال، وذلك لا يصلح إلا لله تعالى، فلما اشتملت هذه السورة على معرفة الذات المقدسة، كانت بالنسبة إلى تمام المعرفة بصفات الذات، وصفات الفعل ثلثا. اهـ وقال غيره: تضمنت هذه السورة توجيه الاعتقاد، وصدق المعرفة، وما يجب إثباته لله تعالى من الأحدية المنافية لمطلق الشرك، والصمدية المثبتة له جميع صفات الكمال، الذي لا يلحقه نقص، ونفي الولد والوالد المقرر لكمال المعنى، ونفي الكفء المتضمن لنفي الشبيه والنظير، وهذه مجامع التوحيد الاعتقادي، لذلك عادلت ثلث القرآن. ومنهم من حمل المعادلة على تحصيل الثواب فقال: معنى كونها ثلث القرآن أن ثواب قراءتها يحصل للقارئ مثل ثواب من قرأ ثلث القرآن. وقيل: ثلثه من غير تضعيف. قال الحافظ ابن حجر: وهي دعوى من غير دليل. ويؤيد الإطلاق روايتنا العاشرة، وفيها: "قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن". قال الحافظ ابن حجر. وإذا

حمل ذلك على ظاهره فهل ذلك لثلث من القرآن معين، أو لأي ثلث؟ فيه نظر، ويلزم على الثاني أن من قرأها ثلاثًا كان كمن قرأ ختمة كاملة، وادعى بعضهم أن قوله: "تعدل ثلث القرآن". يختص بصاحب الواقعة. اهـ وهو بعيد للأحاديث البعيدة عن الرجل. وأحسن ما قيل في ذلك: أن هذا وعد وتفضل من الله يؤخذ بجملته على ظاهره ولا يفصل فيه، فالفضل منه وهو صاحب التقدير، وفي ذلك يقول ابن عبد البر: من لم يتأول هذا الحديث أخلص ممن أجاب فيه بالرأي. والله أعلم. 20 - من الحديث الثالث عشر أن قراءة {قل هو الله أحد} تثمر محبة الله تعالى، والمحبة بمعنى ميل النفس إلى المحبوب لا تسند إلى الله تعالى، فالمراد لازمها وهو الإنعام والإحسان إلى العبد. وقيل: إرادة الإنعام، والأول أولى. 21 - قال ابن المنير: في الحديث أن المقاصد تغير أحكام الفعل، لأن الرجل لو قال: إن الحامل له على إعادتها أنه لا يحفظ غيرها، لأمكن أن يأمره بحفظ غيرها، فلما ظهر قصده المشروع صوبه. 22 - ومن الحديث الرابع عشر والخامس عشر فضل المعوذتين. 23 - قال النووي: وفيه دليل واضح على كونهما من القرآن، ورد على من نسب إلى ابن مسعود خلاف هذا. اهـ يشير بذلك إلى ما قيل من أنهما لم يكونا في مصحف ابن مسعود، وأن ابن مسعود أنكر قرآنيتهما. وقال النووي في شرح المذهب: أجمع المسلمون على أن المعوذتين من القرآن، وأن من جحد شيئًا منهما كفر، وما نقل عن ابن مسعود باطل ليس بصحيح. 24 - ويؤخذ من مجموع الأحاديث حسب ظاهرها المفاضلة بين آيات القرآن وسوره بعضها بعضًا. وهذه المسألة كانت موضع جدل ونقاش واختلاف آراء بين العلماء، فقد ذهب الأشعري والباقلاني وابن حبان إلى منع تفضيل بعض القرآن على بعض، لأن الجميع كلام الله، ولئلا يوهم التفضيل نقص المفضل عليه. وروى هذا القول عن الإمام مالك، وأنه كره أن تعاد سورة أو تتردد دون غيرها. وذهب جمهور العلماء إلى التفضيل لظواهر الأحاديث الواردة في ذلك، قال الغزالي في جواهر القرآن: لعلك أن تقول: قد أشرت إلى تفضيل بعض آيات القرآن على بعض، والكلام كلام الله، فكيف يتفاوت بعضها بعضًا؟ وكيف يكون بعضها أشرف من بعض؟ فاعلم أن نور البصيرة إن لم يرشدك إلى الفرق بين آية الكرسي وآية المداينات، وبين سورة الإخلاص وسورة تبت، فقلد صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم، فهو الذي أنزل عليه القرآن، وقال: "يس قلب القرآن"، و"فاتحة الكتاب أفضل سور القرآن"، و"آية الكرسي سيدة آيات القرآن"، و"قل هو الله أحد، تعدل ثلث القرآن". والأخبار الواردة في فضائل القرآن، وتخصيص بعض السور بالفضل وكثرة الثواب في تلاوتها لا تحصى. اهـ. والتحقيق أن الخلاف بين الرأيين يكاد يكون لفظيًا، وأن كلام الله من حيث كونه كلام الله لا

يفضل بعضه بعضًا، بل أي آية منه من حيث نسبتها إلى الله تعالى تعدل في شرفها أي آية أخرى، فليس في القرآن فاضل ومفضول من هذه الجهة باتفاق. أما إذا نظرنا إلى عظم أجر القارئ ومضاعفة ثوابه لزيادة خشية النفس في بعض الآيات فإن بعض الآيات وبعض السور يفضل بعضها بعضًا، كتفضيل بعض الأيام على بعض، وبعض المساجد على بعض، من حيث زيادة أجر العمل فيها، كذلك إذا نظرنا إلى معاني الآيات ومدلولاتها فإنها يفضل بعضها بعضًا فقوله تعالى: {وإلهكم إله واحد} [البقرة: 163]، وآية الكرسي، وآخر سورة الحشر، وسورة الإخلاص أفضل من حيث ما اشتملت عليه من {تبت يدا أبي لهب} كذلك إذا نظرنا إلى تعجل القارئ والسامع لفائدة أخرى غير ثواب القراءة كاعتصام القارئ بالله وتحصنه فإن آية الكرسي والإخلاص والمعوذتين أفضل. لكن ينبغي على وجه الاستحسان ألا يقال في هذه الأحوال: إن آية كذا أفضل من آية كذا، لئلا يوهم نقص المفضل عليه، بل يقال: قراءة أو سماع آية كذا أعظم أجرًا أو أكثر فائدة أو أولى بالعمل من آية كذا. واللَّه أعلم

(268) باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه

(268) باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه 1639 - عن سالم عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه اللَّه مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار". 1640 - عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلا على اثنتين: رجل آتاه الله هذا الكتاب فقام به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فتصدق به آناء الليل وآناء النهار". 1641 - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها". 1642 - عن عامر بن واثلة أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بعسفان وكان عمر يستعمله على مكة فقال: من استعملت على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزى. قال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا. قال: فاستخلفت عليهم مولى؟ قال: إنه قارئ لكتاب الله عز وجل وجل وإنه عالم بالفرائض. قال عمر: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: "إن اللَّه يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين". -[المعنى العام]- لا شك أن أفضل ما يعطاه المسلم؛ نعمة في دنياه تعينه ويستفيد منها لأخراه، ولا شك أن من

أجل هذه النعم نعمة العلم والقرآن، ثم نعمة المال، وكل نعمة سلاح ذو حدين، إن استخدمت فيما يرضي الله وفيما أمر الله، وفيما وهبها الله من أجله كان فيها الخير كل الخير لصاحبها، وإن استغلت في نقيض ما شرعت له كانت وبالاً على صاحبها، ولذلك نرى سليمان عليه السلام حينما منح نعمة القدرة على الإتيان بعرش بلقيس قال: {هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم} [النمل: 40]. نعم النعمة ابتلاء واختبار كالمحنة تمامًا، فصاحب القرآن الذي يقوم بقراءته وتدبره والعمل به ساعات الليل وساعات النهار هو في أجل نعمة يغبط عليها ويتمنى أهل الخير أن يعطوها، ومثاله كالأترجة طيب في نفسه ومنتفع في ذاته وطيب لغيره ونافع لمن حوله، وإن لم يحافظ عليه ولم يقرأه ولم يعمل بما فيه كان شرًا في نفسه، ووبالاً على غيره ومثله كالحنظلة طعمها مر وريحها خبيث، وكذلك الأموال سلاح ذو حدين، إن أدى حق اللَّه فيها وأنفقت في وجوه المعروف كانت خيرًا وفضلاً من اللَّه يؤتيه من يشاء، وغبط صاحبها وتمنى الصالحون أن يؤتوا مثلها، وإن أنفقت في الشر ولم يؤت حق اللَّه فيها حمي عليها في نار جهنم فتكوى بها جباه أصحابها. ومع أن الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، لكن القرآن والعلم يرفع من لم يرفعه نسبه إذا صانه صاحبه، وهكذا يرفع اللَّه بهذا الكتاب أقوامًا، أما إذا لم يصنه من تمكن منه، وأساء إليه من أعطيه فإنه لا ينفعه نسبه مهما كان حسيبًا، وهكذا يخفض اللَّه به آخرين، وكم من الموالي رفعهم الإسلام بالقرآن والعلم فوق أولى الحسب والنسب والجاه، وكم من ذوي الحسب والجاه القديم صاروا في الدرك الأسفل من النار لعنادهم كتاب اللَّه. نفعنا اللَّه به وأعاننا على حفظه وتلاوته وتدبره والعمل بما فيه. -[المباحث العربية]- (لا حسد إلا في اثنتين) الحسد: تمني زوال نعمة الغير، سواء مع تمنيها لنفسه أم لا. والغبطة: تمني مثل ما عند الغير من نعمة من غير تمني زوالها عنه، سواء تمني وطلب من الله بقاءها لصاحبها أو لم يطلب بقاءها. والنفي في الحديث نفي انبغاء، وليس نفي وقوع، فهو واقع في عالمنا كثيرًا في غير الاثنتين، فالمعنى: لا ينبغي ولا يشرع ولا يحمد الحسد إلا في اثنتين. كذا قيل. والأولى إرادة الغبطة من الحسد مجازًا بتشبيه الغبطة بالحسد بجامع تمني النعمة غالبًا في كل، واستعير لفظ الحسد للغبطة، فالمراد لا غبطة مشروعة إلا في اثنتين، والقصر على هذا إضافي أو ادعائي، لأن الغبطة مشروعة ومستحبة في كل أعمال الخير والبر، ولكن لعظم فضلهما ادعى أن الخير كله فيهما. وفي الرواية الثانية: "لا حسد إلا على اثنتين". وكلمة "على" تأتي بمعنى "في"، قال الحافظ ابن حجر: تقول: حسدته على كذا أي على وجود ذلك له، وأما حسده في كذا فمعناه حسدته في شأن كذا، وكأنها سببية. اهـ

(رجل آتاه اللَّه القرآن) "رجل" بالرفع خبر مبتدأ محذوف، تقديره: إحداهما رجل، وبالجر بدل من "اثنتين". (فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار) أي يقوم بقراءته وتدبره، وآناء الليل ساعاته، جمع إنو بكسر الهمزة وسكون النون، أو إني بكسر الهمزة وفتح النون كإلى. (فهو ينفقه) أي في أوجه الخير والطاعات، وفي الرواية الثانية: "فتصدق به". وفي الرواية الثالثة: "فسلطه على هلكته في الحق". وفيه تصريح بوجه الإنفاق، للاحتراز عن الإنفاق في الحرام وعن التبذير. (ورجل آتاه اللَّه حكمة فهو يقضي بها ويعلمها) الحكمة: وضع الشيء في موضعه. وقيل: ما منع من الجهل وزجر عن القبيح. ومعنى "يقضي بها" يعمل بها، ومعنى "ويعلمها" أي ينصح ويشير ويدرب احتسابًا. (أن نافع بن الحارث لقي عمر بعسفان) بضم العين وسكون السين على مرحلتين من مكة، وكان نافع واليًا على مكة والطائف من قبل عمر، فقدم عمر من المدينة نحو مكة، فاستقبله نافع تكريمًا وتشريفًا قبل أن يصل ولايته. (فقال: من استعملت على أهل الوادي؟ ) القائل عمر لنافع يسأله عمن استخلفه مكانه مدة غيابه للقاء أمير المؤمنين. فالمراد بالوادي وادي مكة والطائف. (قال: ابن أبزى) هو عبد الرحمن بن أبزى مولى نافع بن الحارث، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وسكن الكوفة، واستعمله علي رضي الله عنه على خراسان. (قال: فاستخلفت عليهم مولى؟ ) القائل عمر لنافع ينكر عليه أن يولي مكانه على سادة قريش وثقيف مولى. وفي رواية: "أستخلفت على آل الله مولاك"؟ وعزله عمر واستعمل بدله خالد بن العاص بن هشام. (أما إن نبيكم) "أما" حرف استفتاح مثل "ألا". -[فقه الحديث]- الحسد كما قلنا تمني زوال نعمة الغير، سواء تمناها لنفسه أم لا، والغبطة تمني مثل ما عند الغير من نعمة، من غير تمني زوالها عنه، سواء تمنى وطلب من الله بقاءها لصاحبها أو لم يطلب، كأن يقول: مثلاً: بارك الله لفلان في نعمائه وزاده خيرًا، وأعطانا مثله، وهذه أعلى درجات الغبطة، وأدناها أن يقول مثلاً: اللهم اعطنا كذا كما أعطيت فلانًا.

والحسد بشقيه حرام بإجماع الأمة مع النصوص الصحيحة، حتى ولو كان المحسود لا يستحق النعمة في نظر الحاسد، فإن المعطي عليم حكيم. والغبطة بشقيها مشروعة، وتستحب في أمور الطاعة، وقد أوضحت رواية البخاري أن المراد بالحسد الغبطة، إذ فيها: "فسمعه جار له فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل ... ". الحديث. -[ويؤخذ من الروايات الثلاث الأول: ]- 1 - فضل قراءة القرآن وتدبره. 2 - وفضل العمل به. 3 - وفضل تعليمه وتحفيظه وتفسيره وتدريسه. 4 - وأن ذلك أفضل من إنفاق الأموال كلها في سبيل الله، إذ ذكر أولاً وسابقًا على الإنفاق. 5 - جواز الغبطة ومشروعيتها في أعمال الخير، وقد ترجم البخاري لهذا الحديث بباب اغتباط صاحب القرآن. أي اغتباط الناس بصاحب القرآن، ووجه الحافظ ابن حجر بأنه إذا كان الحديث يرمي إلى أن غير صاحب القرآن يغتبط صاحب القرآن بما أعطيه من العمل بالقرآن فاغتباط صاحب القرآن بعمل نفسه أولى. اهـ. فالمعنى اغتباط صاحب القرآن بالقرآن. والحق أن الاغتباط كما في القاموس: تبجح صاحب النعمة بالحال الحسنة فهو سرور صاحب النعمة بها. أما الغبط فهو تمني مثل النعمة، فحق العنوان: غبط صاحب القرآن، ليتفق مع مدلول الحديث. 6 - ومن الرواية الرابعة يؤخذ مدى اهتمام عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالرعية ومتابعة حكامه وعماله. 7 - وفيها اعتبار النسب في الولاية. 8 - وأن العلم والقرآن يجبران نقص النسب. كذلك قال الأبي. ولو أنه قال: إن العلم والقرآن يرفعان من وضعه نسبه لكان أفضل، فقد لا يصل الرفع إلى تمام الجبر والمساواة، وخصوصًا إذا كان النسب على شيء من العلم والقرآن، ومن هنا كان اعتراض عمر على استخلاف المولى واستعماله على سادة قريش وأشراف ثقيف، وقد روي أن عمر عزل نافع بن الحارث بسبب استخلافه مولاه، ولم يقره على فعله، كما هو واضح من الحديث مع أن عمر نفسه هو الراوي لحديث رفع العلم والقرآن لأهله، فقول الأبي بعد ذلك: المعنى أن هذا الأمير رفعه الله عز وجل على هؤلاء المؤمر عليهم. قوله هذا يتنافى مع إنكار عمر، لكنه رضي الله عنه تواضع لقولة نافع ولم يصادمها ويردها في حينها لأن ظاهرها متفق مع ما رواه. واللَّه أعلم

فتح المنعم شرح صحيح مسلم تابع كتاب صلاة المسافرين - كتاب الجمعة - كتاب العيدين - كتاب صلاة الاستسقاء - كتاب الكسوف - كتاب الجنائز - كتاب الزكاة - كتاب الصوم الجزء الرابع الأستاذ الدكتور موسى شاهين لاشين دار الشروق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

فتح المنعم شرح صحيح مسلم 4 -

جميع حقوق النشر والطبع محفوظة الطبعة الأولى 1423 - هـ - 2002 م دار الشروق القاهرة: 8 شارع سيبويه المصري -رابعة العدوية- مدينة نصر ص. ب.: 33 البانوراما -تليفون: 4023399 - فاكس: 4037567 (202) e-mail: dar@ shorouk.com - www.shorouk.com بيروت: ص. ب.: 8064 - هاتف: 315859 - 817213 - فاكس: 315859 1 (961)

تابع كتاب صلاة المسافرين

(269) باب بيان أن القرآن أنزل على سبعة أحرف

(269) باب بيان أن القرآن أنزل على سبعة أحرف 1643 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها، فكدت أن أعجل عليه، ثم أمهلته حتى انصرف، ثم لببته بردائه فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أرسله اقرأ" فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هكذا أنزلت" ثم قال لي: "اقرأ". فقرأت فقال "هكذا أنزلت إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه" 1644 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وساق الحديث بمثله. وزاد: فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم. 1645 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أقرأني جبريل عليه السلام على حرف فراجعته، فلم أزل أستزيده فيزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف". قال ابن شهاب: بلغني أن تلك السبعة الأحرف إنما هي في الأمر الذي يكون واحداً لا يختلف في حلال ولا حرام. 1646 - عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كنت في المسجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه، فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه. فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ فحسن النبي صلى الله عليه وسلم شأنهما، فسقط في نفسي من

التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد غشيني ضرب في صدري ففضت عرقاً وكأنما أنظر إلى الله عز وجل فرقاً فقال لي: "يا أبي أرسل إلي أن اقرأ القرآن على حرف فرددت إليه أن هون على أمتي، فرد إلي الثانية اقرأه على حرفين، فرددت إليه أن هون على أمتي، فرد إلي الثالثة اقرأه على سبعة أحرف، فلك بكل ردة رددتكها مسألة تسألنيها، فقلت اللهم اغفر لأمتي اللهم اغفر لأمتي وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي الخلق كلهم حتى إبراهيم صلى الله عليه وسلم. 1647 - عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه كان جالساً في المسجد إذ دخل رجل فصلى فقرأ قراءة. واقتص الحديث بمثل حديث ابن نمير. 1648 - عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أضاة بني غفار قال: فأتاه جبريل عليه السلام فقال: "إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف". فقال "أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك" ثم أتاه الثانية فقال: "إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين". فقال: "أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك". ثم جاءه الثالثة فقال: "إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف". فقال: "أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك". ثم جاءه الرابعة فقال: "إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا". -[المعنى العام]- يقول جل شأنه: {إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلا} [المزمل: 5] وصدق الله. فما أصعب قراءة القرآن وحفظه على الأميين وعلى أصحاب اللهجات المختلفة والألسنة غير العربية. لم يحصل في أمة من الأمم أن التزمت حفظ نص كتابها كما التزم المسلمون حفظ نص القرآن الكريم، وما أكبره وما أعظمه إذا قيس به غيره من كتب الأنبياء. نعم فما أصعب الحفظ والنطق إذا لم يكن معه تيسير، وما أصعبه حين يأمر الله نبيه على لسان جبريل أن يأمر أمته أن يقرءوا القرآن على حرف واحد، فيشفق على أمته الرحيم بها فيرجو ربه أن

ييسر على أمته وأن يهون عليها القراءة وأن ييسر لها مجال الالتزام، فيأتي التيسير بالتزام حرفين وتغييرين فيكرر رجاء لربه أن يهون أكثر حتى يأتيه التيسير في المرة الرابعة أن يقرئ أمته القرآن على سبعة أحرف. ويقرئ الرسول صلى الله عليه وسلم صحابته بحروف مختلفة، فيحفظ كل على ما أقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقرأ كل على ما حفظ، ويسمع بعضهم قراءة لم يعهدها ولم يقرئه رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، ويمسك بعضهم ببعض مخطئاً إياه ويرفع الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حدث هذا مع كثير من الصحابة، وأبرز وقائعه ما كان بين عمر وقارئ آخر، وما كان بين أبي بن كعب وقارئين آخرين، ويسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة كل تخالف قراءة الآخر، ويستحسن كل ما سمع ويقول لكل منهم: هكذا أنزلت. ويندهش عمر وأبي، وبسرعة يرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الدهشة، ويزيل من صدورهم ما يهجس به الشيطان، ويقول لهم: إن جبريل أقرأه القرآن على حرف واحد، فطلب من ربه التيسير على أمته فيسر القراءة على حرفين، فلم يزل يستزيده التيسير حتى أقرأه القرآن على سبعة أحرف، فأي حرف أقرأهم به صلى الله عليه وسلم فهو صواب، وهو منزل من عند الله، ولا ينبغي عنده اختلاف. وقد حددت مواطن الخلاف بإقراء الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه، فأي حرف ثبت أخذه عمن أنزل عليه القرآن بالتواتر، ووافق ما أجمعت عليه الأمة من الرسم العثماني، فهو حق، وهو من عند الله الذي أنزل الكتاب وتولى حفظه حيث يقول: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9]. -[المباحث العربية]- (هشام بن حكيم بن حزام) له ولأبيه صحبة، وكان إسلامهما يوم الفتح. (يقرأ سورة الفرقان) قال الحافظ ابن حجر: لم أقف في شيء من طرق حديث عمر على تعيين الأحرف التي اختلف فيها عمر وهشام من سورة الفرقان. (على غير ما أقرؤها) في رواية البخاري: "يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم". (فكدت أن أعجل عليه) أي أتعجل مؤاخذته وأخرجه من الصلاة، وفي ملحق الرواية: "فكدت أساوره في الصلاة" بالسين، أي آخذ برأسه، أو أواثبه. (ثم أمهلته حتى انصرف) أي انتهى من الصلاة وسلم، وفي ملحق الرواية: "فتصبرت حتى سلم". (ثم لببته بردائه) قال النووي: "لببته" بتشديد الباء الأولى. معناه أخذته بمجامع ردائه في عنقه وجررته به، مأخوذ من اللبة بفتح اللام وهي المنحر. (أرسله) أي دع ما تقبض عليه من ثيابه، وذلك ليتمكن من القراءة بيسر وحرية.

(القراءة التي سمعته يقرأ) عائد الصلة مفعول "يقرأ" محذوف، أي يقرؤها. (فلم أزل أستزيده) أي أطلب المزيد من الرفق والمعافاة والتخفيف. (فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية) في رواية للطبري: "فوجدت في نفسي وسوسة الشيطان حتى احمر وجهي". قال النووي: معناه وسوس لي الشيطان تكذيباً للنبوة أشد مما كنت عليه في الجاهلية، لأنه في الجاهلية كان غافلاً. أو متشككاً، فوسوس له الشيطان الجزم بالتكذيب. قال القاضي عياض: معنى قوله "سقط في نفسي" أنه اعترته حيرة ودهشة. قال: وقوله: "ولا إذ كنت في الجاهلية". معناه أن الشيطان نزع في نفسه تكذيباً لم يعتقده. قال: وهذه الخواطر إذا لم يستمر عليها لا يؤاخذ بها. قال المازري: معنى هذا أنه وقع في نفس أبي بن كعب نزعة من الشيطان غير مستقرة ثم زالت في الحال حين ضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده في صدره ففاض عرقاً. اهـ وفاعل سقط "من التكذيب" على أن "من" تبعيضية، والواو عاطفة، أي وقع في نفسي بعض التكذيب ولا يشبهه تكذيبي حين كنت في الجاهلية. (ففضت عرقاً) يقال: فضت عرقاً وفصت عرقاً بالضاد والصاد، والرواية هنا بالضاد. (وكأنما أنظر إلى الله عز وجل فرقاً) بالراء المفتوحة، أي خوفاً وخجلاً مما غشيه من الشيطان. (كان عند أضاة بني غفار) قال النووي: هي بفتح الهمزة وبالضاد، وهي الماء المستنقع كالغدير، وجمعها أضا، كحصاة وحصى، وإضاء بكسر الهمزة والمد كأكمة وإكام. اهـ وهو موضع بالمدينة، ينسب إلى بني غفار -بكسر الغين وتخفيف الفاء- لأنهم نزلوا عنده. -[فقه الحديث]- أمام الأحاديث المصرحة بنزول القرآن على سبعة أحرف، وهو أحاديث صحيحة لا سبيل إلى ردها، بل قال بعضهم بتواتر الحديث المذكور. أمام هذه الأحاديث كثرت أقوال العلماء في معنى الأحرف والمراد بها، وبقاء الأحرف إلى اليوم أو عدم بقائها حتى بلغت الأقوال -في عد السيوطي- أربعين قولاً، نقتصر منه على أقواها وأدقها، وما له حظ من القبول منها. -[ويؤخذ من مجموع الأحاديث]- أولاً وقبل عرضها خمسة أصول، وهي: 1 - أن الإلزام بالقراءة على حرف واحد في أول الأمر كان فيه حرج ومشقة على الأمة، لاختلاف لهجاتها ولغاتها ولضعف مرونة ألسنتها لأنها أمة أمية. وفيها العجوز والشيخ الفاني الذي لا يقدر على النطق بما لا يعهد.

2 - وأن المقصود من الزيادة إلى سبعة أحرف هو تيسير القراءة وتسهيل النطق والفهم. 3 - وأن الأمة كانت مخيرة في القراءة بأي حرف من هذه الأحرف السبعة غير ملزمة بحرف خاص منها. 4 - وأن الصحابة كانوا يقرءون قراءات مختلفة حتى استنكر بعضهم قراءة البعض واحتكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. 5 - وأن النبي صلى الله عليه وسلم صوب قراءة كل منهم، وأقرهم على قراءاتهم، وأنه هو الذي أقرأهم إياها، وأن كل قراءة منزلة من عند الله. هذه الأصول الخمسة، ينبغي أخذها بعين الاعتبار عند تقدير كل قول من هذه الأقوال، فإن بعض الأقوال بعد عنها كل البعد، وبعضها انحرف عنها بعض الانحراف. وهذه هي الأقوال ومناقشاتها: أولاً: ذهب بعض العلماء إلى أن حديث إنزال القرآن على سبعة أحرف مشكل، لا يعرف المراد منه، لأن الحرف يطلق في اللغة -كما في القاموس- على: طرف الشيء، وشفيره، وحده، ومن الجبل أعلاه المحدد، وعلى أحد حروف الهجاء، وعلى الناقة الضامرة، وعلى سيل الماء، وعلى الوجه. وهذه الإطلاقات الكثيرة تدل على أن لفظ الحرف مشترك لفظي، والمشترك اللفظي إذا لم يظهر المراد منه بقرينة كان مشكلاً. والله أعلم بمراده منه. ويرد هذا القول بأن المشترك اللفظي إذا وجدت قرينة تبين المعنى المراد منه لا يكون مشكلاً، وقد قامت قرائن تمنع بعض معانيه وتعين بعضها الآخر، لأنه لا يصح أن يراد أحد حروف الهجاء، لأن القرآن مؤلف من جميع حروف الهجاء لا من سبعة منها فقط، ولا يصح أن يراد له طرف الشيء ولا الناقة الضامرة ولا مسيل الماء، فتعين أن يراد منه الوجه، وإذا تعين أحد وجوه المشترك اللفظي بمثل هذه القرائن لم يكن مشكلاً. ثانيا: ذهب بعضهم إلى أن حقيقة العدد غير مقصودة، بل المقصود التيسير والتسهيل والتوسعة على الأمة بوجوه متعددة كثيرة، والتعبير بالسبعة في عرف الشرع يراد به الكثرة في الآحاد، قال تعالى: {والبحر يمده من بعده سبعة أبحر} [لقمان: 27] كما أن التعبير بالسبعين يراد به الكثرة في العشرات قال تعالى: {إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} [التوبة: 80]. وهذا القول لا يلتزم تحديد وجوه التيسير، وإليه جنح القاضي عياض. لكنه مردود ببعض الأحاديث الدالة على أن حقيقة العدد مقصودة، وأن الأوجه منحصرة في سبعة، فحديث أبي بن كعب -روايتنا الثالثة والرابعة- فيه مراجعة وتحديد بالسبعة. ثالثاً: ذهب أبو عبيد القاسم بن سلام وأبو حاتم السجستاني إلى أن المراد من الأحرف السبعة لغات سبع متفرقة في القرآن كله، بمعنى أن بعض معاني القرآن عبر عنه بلفظ من لغة اليمن،

وبعضها عبر عنه بلفظ من لغة هذيل وهكذا، فألفاظ القرآن تمثل سبع لغات لأهم سبع قبائل عربية وهذا لا يمنع كون القرآن نزل بلغة قريش، إذ أغلبه وأكثره بلغة قريش، وهذه الألفاظ الممثلة للغات أهم القبائل قليلة جداً. واختار هذا القول الأزهري في التهذيب، واختاره أيضاً ابن عطية وقال: وقد قال تعالى: {إنا جعلناه قرآناً عربياً} [الزخرف: 3] ولم يقل "قرشياً". ورد هذا القول بأنه يتنافى مع ما علم من الأحاديث من أن الهدف من الأحرف السبعة التيسير ورفع الحرج، فإنه والحالة هذه لا تخيير في القراءة بل الكلام ملزم بلفظ واحد، ولا يمكن حينئذ تصور اختلاف الصحابة في القراءة وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم كلاً منهم على قراءته. رابعاً: ذهب بعضهم إلى أن الأحرف لغات عربية في كلمة واحدة، وكان من تيسير الله على الأمة أن يقرأ كل قوم بلغتهم، فالهذلي يقرأ: "عتى حين" يريد "حتى حين" والأسدي يقرأ: "لا تعلمون" بكسر أوله، والتميمي يهمز، والقرشي لا يهمز، ولو أراد كل منهم أن يتحول عن لغته وما جرى عليه لسانه لشق عليه غاية المشقة، فيسر الله عليهم، واستمر هذا التيسير حتى جمع عثمان الناس على قراءة واحدة. ويرد هذا القول الاختلاف الباقي في القراءات حتى اليوم، ثم هو لا يتحدد بسبع لا في كلمة ولا في الكل. خامساً: ذهب أهل الفقه والأصول والحديث منهم سفيان وابن وهب وابن جرير الطبري والطحاوي إلى أن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات في كل كلمة واحدة ومعنى واحد، مثل: هلم وأقبل وتعال وعجل وأسرع وقصدي ونحوي، فهذه ألفاظ سبعة في معنى طلب الإقبال. ويستدل هذا الرأي بقراءة أبي بن كعب: {كلما أضاء لهم مشوا فيه} [البقرة: 20] "كلما أضاء لهم مروا فيه". "كلما أضاء لهم سعوا فيه". وما جاء في قراءة ابن مسعود: "يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا أمهلونا". "يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا أخرونا نقتبس". ويلتزم أصحاب هذا الرأي أن يقولوا: إن هذه الأوجه كانت جائزة في أول الأمر، ثم نسخت إلا وجهاً في العرضة الأخيرة، وهي التي نسخ عليها عثمان مصاحفه. ويرد على هذا الرأي بندرة الكلمات التي يوجد لها سبعة مرادفات فلا يتأتى التيسير، ولا يتأتى رفع الحرج، بل أنكر ابن قتيبة أن يكون في القرآن كلمة تقرأ على سبعة أوجه، على أنه يؤدي إلى أن الاختلاف في أوجه القراءة قد انتهى، مع أن الأمة أجمعت على صحة القراءات الكثيرة المتواترة. سادسا: هناك آراء أخرى أضعف من الآراء السابقة منها: (أ) قول بعضهم: الأحرف السبعة أصناف سبعة: أمر، ونهي، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال. (ب) وقول بعضهم: وعد، ووعيد، وحلال، وحرام، ومواعظ، وأمثال، واحتجاج.

(ج) وقول بعضهم: محكم ومتشابه، وناسخ ومنسوخ، وخصوص وعموم وقصص. (د) وقول بعضهم: مطلق ومقيد، وعام وخاص، ونص ومؤول، وناسخ ومنسوخ، واستثناء وغير ذلك (والعدد لا مفهوم له). وترد هذه الأقوال بأنه لا يتأتى فيها الاختلاف في القراءة ولا التيسير على الأمة. سابعاً: وأصح الآراء وأقواها في تصورنا وأحراها بالقبول عندنا ما ذهب إليه الإمام الرازي وحاصله أن الكلام لا يخرج عن سبعة أحرف في الاختلاف: (أ) اختلاف الأسماء من إفراد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث، ويمكن التمثيل له بقوله تعالى: {والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون} [المؤمنون: 8]. إذ قرئ: "لأماناتهم" بالجمع، و"لأمانتهم" بالإفراد. (ب) اختلاف تصريف الأفعال من ماض ومضارع وأمر، ويمكن التمثيل له بقوله تعالى: {فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا} [سبأ: 19] قرئ بنصب "ربنا" على النداء وبلفظ "باعد" على فعل الأمر، وقرئ "ربنا بعد" برفع "ربنا" على الابتداء وبلفظ "بعد" ماضياً مضعف العين خبر المبتدأ. (ج) اختلاف وجوه الإعراب، ويمكن التمثيل له في الأفعال بقوله تعالى: {ولا يضار كاتب ولا شهيد} [البقرة: 282]. قرئ بفتح الراء على أن "لا" ناهية، والفعل مجزوم، وقرئ بضم الراء على أن "لا" نافية، والفعل بعدها مرفوع، ويمكن التمثيل له في الأسماء بقوله تعالى: {ذو العرش المجيد} [البروج: 15]. قرئ برفع لفظ "المجيد" على أنه نعت لكلمة "ذو" وقرئ بجره على أنه نعت لكلمة "العرش". وهذه الأحرف الثلاثة موافقة للرسم العثماني، لأنه كان خالياً من النقط ومن الشكل. (د) الاختلاف بالنقص والزيادة، ويمكن التمثيل له بقوله تعالى: {وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار} [التوبة: 100] في سورة التوبة، وقرئ "تجري من تحتها الأنهار" بزيادة لفظ "من" وهما قراءتان متواترتان، وقد وافقت كل منهما رسم المصحف، فالأولى بدون "من" وافقت رسم غير المصحف المكي، والتي بزيادة "من" وافقت رسم المصحف المكي. ومن هذا الوجه، الزيادة والنقص، مما لا يوافق رسم المصحف، كقراءة: "وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصباً". بزيادة لفظ. "صالحة" وقراءة: "والذكر والأنثى". بحذف لفظ: "وما خلق". فإن زيادة "صالحة" ونقص "وما خلق" مخالفة لخط جميع المصاحف العثمانية ولذا تركت هذه القراءة وعدت منسوخة في العرضة الأخيرة. (هـ) الاختلاف بالتقديم والتأخير، ويمكن التمثيل له بقوله تعالى {وجاءت سكرة الموت بالحق} [ق: 19] فقد قرئ: "وجاء سكرة الحق بالموت". ولكن القراءة

الثانية لا توافق رسم مصحف من المصاحف العثمانية، فتركت وعدت منسوخة التلاوة في العرضة الأخيرة. ومثال ما وافق المصحف من هذا الوجه قوله تعالى في سورة التوبة: {فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً} [التوبة: 111]. قرئ بالفعل الأول مبنياً للمعلوم والثاني مبنيا للمجهول، وقرئ بالعكس والقراءتان متواترتان. (و) الاختلاف بالإبدال، ويمكن التمثيل له بقوله تعالى: {وانظر إلى العظام كيف ننشزها} [البقرة: 259]. بالزاي وبالراء. قراءتان متواترتان. وكذا قوله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا} [الحجرات: 6]. قرئ "فتثبتوا". قراءتان متواترتان موافقتان لرسم المصحف. ومثال ما لم يوافق رسم المصحف قوله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} [الجمعة: 9]. قرئ "فامضوا إلى ذكر الله". وهي مخالفة لرسم جميع المصاحف العثمانية فتركت وعدت منسوخة التلاوة في العرضة الأخيرة. (ز) اختلاف اللغات -أي اللهجات، كالفتح والإمالة والترقيق والتفخيم والإظهار والإدغام ونحو ذلك، ويمكن التمثيل له بقوله تعالى: {وهل أتاك حديث موسى} [طه: 9]. بالفتح والإمالة في "أتى" وفي "موسى" وهذا الوجه موافق دائماً لرسم المصحف، لأنه تغيير في النطق الشكلي وليس في جوهر الكلمة. وهذا الرأي يتمشى مع الأصول الخمسة المستفادة من مجموع الأحاديث التي سبق بيانها، كما أنه يعتمد على الاستقراء التام لمرجع اختلاف القراءات كما أنه يتمشى مع بقاء الأحرف السبعة إلى اليوم، كما أنه لا يلزمه محذور، وكل اعتراض عليه يمكن رده. والله أعلم. (ملحوظة) قال أبو شامة: ظن قوم أن القراءات السبع الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديث، وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة وإنما يظن ذلك بعض أهل الجهل. اهـ. وقال مكي بن أبي طالب: هذه القراءات التي يقرأ بها اليوم وصحت رواياتها عن الأئمة جزء من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن. وأما من ظن أن قراءة هؤلاء كنافع وعاصم هي الأحرف السبعة التي في الحديث فقد غلط غلطاً عظيماً. اهـ. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - تيسير الله تعالى على الأمة ورحمته بهم. 2 - شفقته صلى الله عليه وسلم بأمته، حيث طلب من الله تعالى التيسير وراجعه عدة مرات. ويؤخذ من روايتنا الثالثة أن التيسير بسبعة أحرف جاء في الردة الثالثة، ومن الرواية الرابعة أن التيسير بسبعة أحرف جاء في الردة الرابعة. قال النووي: هذا مما يشكل معناه والجمع بين الروايتين، وأقرب ما يقال فيه أن قوله في الرواية الثالثة: "فرد إلي الثالثة". المراد بالثالثة الأخيرة وهي

الرابعة. فسماها ثالثة مجازاً. وحملنا على هذا التأويل تصريحه في الرواية الرابعة أن الأحرف السبعة إنما كانت في المرة الرابعة، وهي الأخيرة، ويكون قد حذف في الرواية الثالثة أيضاً بعض المرات. اهـ فالوهم من الراوي. 3 - ومدى عناية الصحابة بالقرآن والذب عنه والمحافظة عليه وعلى لفظه كما سمعوه من غير عدول عنه. 4 - ومن تصرف عمر مع الرجل يؤخذ ما كان عليه -رضي الله عنه- من الشدة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما فعل ذلك عن اجتهاد منه لظنه أن هشاماً خالف الصواب، واستساغ ذلك لرسوخ قدمه في الإسلام وسابقته، بخلاف هشام، فإنه كان قريب العهد بالإسلام فهو من مسلمة الفتح، فخشي عمر من ذلك أن لا يكون أتقن القراءة، بخلاف نفسه فإنه كان قد أتقن ما سمع. 5 - تقدير الرسول صلى الله عليه وسلم للغيرة الإسلامية وعدم تعنيفه من يشتد بسببها، فقد اكتفى بقوله لعمر: "أرسله" ولم ينكر عليه إمساكه الرجل من تلابيبه وسحبه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. 6 - ومن قوله في الرواية الثالثة: "فسقط في نفسي .... إلخ". العفو عن نزغات الشيطان وخطرة النفس التي لا تستقر، وعدم المؤاخذة عليها، لأنه لا يقدر على دفعها. 7 - ومن الرواية الثالثة أيضاً بركة النبي صلى الله عليه وسلم حيث أزالت ضربته في صدر أبي هاجس النفس وخواطر الشيطان. 8 - وأنه كان لنبينا صلى الله عليه وسلم ثلاث دعوات مستجابة، أي محققة الإجابة بوعد الله، وأما غير هذه الدعوات فهي على رجاء الإجابة، وكثيراً ما أجيب دعاؤه. قال المحققون: يتعين أن يكون متعلق الثانية غير متعلق الأولى، لأنه لو اتحد متعلقهما كانتا دعوة واحدة، فلم تكن الدعوات ثلاثاً، فمتعلق الأولى الدعاء لمن وجد من الأمة، ومتعلق الثانية من سيوجد. وقيل: الأولى للمفرطين في الطاعة، والثانية للمفرطين في المعصية. 9 - ثبوت شفاعته صلى الله عليه وسلم لجميع الأمم، حيث ادخر دعوته الثالثة ليوم الموقف العظيم. والله أعلم

(270) باب ترتيل القراءة واجتناب الهذ

(270) باب ترتيل القراءة واجتناب الهذ 1649 - عن أبي وائل قال: جاء رجل يقال له نهيك بن سنان إلى عبد الله فقال: يا أبا عبد الرحمن كيف تقرأ هذا الحرف ألفاً تجده أم ياءً {من ماء غير آسن} أو من "ماء غير ياسن"؟ قال: فقال عبد الله: وكل القرآن قد أحصيت غير هذا؟ قال: إني لأقرأ المفصل في ركعة. فقال عبد الله: هذا كهذ الشعر؟ إن أقواماً يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع، إن أفضل الصلاة الركوع والسجود، إني لأعلم النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن بينهن سورتين في كل ركعة. ثم قام عبد الله فدخل علقمة في إثره ثم خرج فقال: قد أخبرني بها. قال ابن نمير في روايته: جاء رجل من بني بجيلة إلى عبد الله ولم يقل نهيك بن سنان. 1650 - عن أبي وائل قال: جاء رجل إلى عبد الله يقال له: نهيك بن سنان بمثل حديث وكيع غير أنه قال: فجاء علقمة ليدخل عليه فقلنا له: سله عن النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في ركعة. فدخل عليه فسأله ثم خرج علينا فقال: عشرون سورة من المفصل في تأليف عبد الله. 1651 - عن الأعمش في هذا الإسناد بنحو حديثهما وقال: إني لأعرف النظائر التي كان يقرأ بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتين في ركعة عشرين سورة في عشر ركعات. 1652 - عن أبي وائل قال: غدونا على عبد الله بن مسعود يوماً بعد ما صلينا الغداة فسلمنا بالباب فأذن لنا. قال: فمكثنا بالباب هنية. قال: فخرجت الجارية فقالت: ألا تدخلون؟ فدخلنا فإذا هو جالس يسبح. فقال: ما منعكم أن تدخلوا وقد أذن لكم؟ فقلنا: لا إلا أنا ظننا أن بعض أهل البيت نائم. قال: ظننتم بآل ابن أم عبد غفلة. قال: ثم أقبل يسبح حتى ظن أن الشمس قد طلعت فقال: يا جارية انظري هل طلعت؟ قال: فنظرت فإذا هي لم تطلع. فأقبل يسبح حتى إذا ظن أن الشمس قد طلعت: قال يا جارية انظري هل طلعت. فنظرت فإذا هي قد طلعت. فقال: الحمد لله الذي أقالنا يومنا هذا (فقال مهدي وأحسبه

قال). ولم يهلكنا بذنوبنا. قال: فقال رجل من القوم قرأت المفصل البارحة كله. قال: فقال عبد الله. هذا كهذ الشعر، إنا لقد سمعنا القرائن وإني لأحفظ القرائن التي كان يقرؤهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر من المفصل وسورتين من آل حم. 1653 - عن شقيق قال: جاء رجل من بني بجيلة يقال له: نهيك بن سنان إلى عبد الله فقال: إني أقرأ المفصل في ركعة. فقال عبد الله: هذا كهذ الشعر؟ لقد علمت النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بهن سورتين في ركعة. 1654 - عن عمرو بن مرة أنه سمع أبا وائل يحدث أن رجلاً جاء إلى ابن مسعود فقال: إني قرأت المفصل الليلة كله في ركعة. فقال عبد الله: هذا كهذ الشعر؟ فقال عبد الله: لقد عرفت النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن بينهن. قال: فذكر عشرين سورة من المفصل سورتين سورتين في كل ركعة. -[المعنى العام]- لقراءة القرآن الكريم أصول وآداب، فأهم أصولها إخراج الحروف من مخارجها وإعطاؤها حقها من تجويد التلاوة. وأهم آدابها التأمل والتدبر، ولهذا أمر القرآن الكريم بالترتيل حيث يقول: {ورتل القرآن ترتيلا} [المزمل: 4]. ولا شك أنه كلما حصل التأني في القراءة كلما كانت فرص التدبر أكبر، وكلما أسرع القارئ كانت فرصة التدبر أقل حتى إذا أفرط في الإسراع تلاشت فرصة التدبر أو كادت حتى يصبح القرآن مجرد مرور على اللسان لا يصل القلب، ومن آداب حملة القرآن عدم المباهاة به، وعدم المراءاة بكثرة قراءته. لقد جاء نهيك بن سنان إلى عبد الله بن مسعود إمام قراء العراق فقال له: كيف تقرأ: "من ماء غير آسن"؟ بالهمزة "غير آسن"؟ أم بالياء "غير ياسن"؟ وعرف ابن مسعود أن الرجل يتحزلق ويتشدق ويتفيهق عليه، فأعرض عن جوابه وسأله: هل أتقنت القرآن كله ولم يعد أمامك إلا هذه المسألة؟ وزاد الرجل في افتخاره فقال: إني أقرأ المفصل كله -أكثر من أربعة أجزاء من القرآن- في ركعة واحدة من صلاة الليل، وقد فعلت ذلك الليلة. وأراد ابن مسعود أن يحد من خيلاء الرجل وزهوه وفخره فقال له: أظنك بهذه الطريقة تفرط في السرعة في القراءة حتى تخرج عن القراءة المشروعة التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد كان صلى الله عليه وسلم يجمع بين سورتين من المفصل في الركعة لصلاة الليل، وإني لأعلم السور التي كان يجمع بينها في كل ركعة، عشرون سورة في عشر ركعات، أما وهذه حالتك

فأنت تهذ القراءة هذاً، وتسرع بها إسراعاً، لا تكاد قراءتك تتجاوز لسانك إلى قلبك، وما أبعدك عن العمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القراءة وفي الصلاة وفي آداب حامل القرآن. -[المباحث العربية]- (نهيك بن سنان) بفتح النون وكسر الهاء، وهو الرجل في الرواية الثالثة والخامسة، والقصة واحدة. (يا أبا عبد الرحمن) كنية عبد الله بن مسعود، والنداء بالكنية رمز التقدير والاحترام. (كيف تقرأ هذا الحرف) حرف الهجاء يقصد الهمزة الممدودة في "آسن". والماء الآسن هو المتغير. (وكل القرآن قد أحصيت غير هذا؟ ) "كل" مفعول مقدم لأحصيت والكلام على الاستفهام للتبكيت لأنه فهم أن الرجل غير مسترشد وإنما هو متفيهق يدعي العلم والفقه ولو فهم ابن مسعود أنه مسترشد لأجابه. (إني لأقرأ المفصل في ركعة) صدقت نظرة ابن مسعود في الرجل المتباهي بعلمه المفتخر بحفظه، والمفصل من القرآن قيل: من أول القتال. وقيل: من الحجرات. وقيل: من ق. أقوال كثيرة مع الاتفاق على أن منتهاه آخر القرآن، ويقسمونه إلى طوال المفصل وقصار المفصل. وسمي مفصلاً لقصر سوره وقرب انفصال بعضهن من بعض. (هذاً كهذ الشعر) "هذاً" بفتح الهاء وتشديد الذال المنونة، أي سرداً وإفراطاً في السرعة، وهو منصوب على المصدر، والكلام على الاستفهام الإنكاري بحذف أداة الاستفهام، وأصل الهذ الدفع، والمراد من هذ الشعر ما كانوا عليه من الإسراع في حفظه وروايته، لا في ترنمه وإنشاده. (لا يجاوز تراقيهم) أي لا يتعدى التراقي إلى القلب، فهو مرور على اللسان فحسب، والتراقي عظام بين النحر والحلق. (إني لأعلم النظائر) أي السور المتماثلة في المعاني كالموعظة والحكم أو القصص، لا المتماثلة في عدد الآي وسيظهر ذلك في فقه الحديث. (يقرن بينهن) بضم الراء وكسرها، أي يجمع بينهن سورتين في كل ركعة. (ثم قام عبد الله) فدخل إحدى حجرات بيته لما سيظهر من الرواية الثالثة من أن الكلام كان في البيت. (عشرون سورة من المفصل في تأليف عبد الله) أي في ترتيب عبد الله بن مسعود للسور في مصحفه، وفي فقه الحديث زيادة تفصيل لذلك.

(بعد ما صلينا الغداة) صلاة أول النهار، وهي الفجر. (فمكثنا بالباب هنية) بضم الهاء وفتح النون وتشديد الياء المفتوحة. وفي القاموس: هنية مصغرة هنة بفتحتين، أصلها بفتح الهاء وسكون النون، أي شيء يسير، ويروي في الحديث هنيهة بإبدال الياء هاء. (ألا تدخلون؟ ) "ألا" أداة عرض أو تحضيض، وهما للطلب لكن العرض طلب بلين. (جالس يسبح) أي يذكر الله وينزهه وجملة "يسبح" في محل النصب حالية (فقلنا: لا. إلا أنا ظننا) "لا" في قوة جملة، أي لم يمنعنا شيء إلا أنا توهمنا أن بعض أهل البيت نائم، فالظن هنا مراد منه التوهم، وليس رجحان الاعتقاد كما هو عند الأصوليين. (ظننتم بآل ابن أم عبد غفلة) ابن أم عبد هو ابن مسعود، فكأنه قال: ظننتم بآلي غفلة عن صلاة الصبح حاضراً، فقد كان ذلك بين الفجر وطلوع الشمس، والكلام على الاستفهام الإنكاري. (الحمد لله الذي أقالنا يومنا هذا) أي أحيانا يومنا هذا. (قرأت المفصل البارحة كله) أي في ركعة كما هو في الروايات الأخرى، والبارحة أقرب ليلة مضت. (ثمانية عشر من المفصل وسورتين من آل حم) أي السورة التي أولها "حم" والظاهر أن لفظ "آل" زائدة كما في "مزماراً من مزامير آل داود" كذا قيل. وقال الكرماني: لولا أن هذا الحرف "آل" ورد في الكتابة منفصلاً وحده و "حم" وحده لجاز أن تكون الألف واللام لتعريف الجنس، أي وسورتين من الحواميم. -[فقه الحديث]- ترتيل القرآن تبيين حروفه والتأني في الأداء مع الإتيان ببعضه إثر بعض قال تعالى: {ورتل القرآن ترتيلاً} [المزمل: 4]. وقال: {وقرءاناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث} [الإسراء: 106]. والأمر بالترتيل للاستحباب، ولا يلزم من استحباب التأني كراهة الإسراع، وإنما الذي يكره الهذ، وهو الإسراع المفرط بحيث يخفي كثير من الحروف أو لا تخرج من مخارجها. وللعلماء في أفضلية التأني في الأداء مع قلة المقروء أو أفضلية الإسراع مع كثرة المقروء وجهات نظر، فقد سئل مجاهد عن رجل قرأ البقرة وآل عمران ورجل قرأ البقرة فقط، قيامهما واحد وركوعهما واحد وسجودهما واحد، فقال: الذي قرأ البقرة فقط أفضل. وقال رجل لابن عباس: إني رجل سريع القراءة، إني لأقرأ القرآن في ليلة. فقال ابن عباس: لأن أقرأ سورة أحب إلي.

قال الحافظ ابن حجر: والتحقيق أن لكل من الإسراع والترتيل جهة فضل بشرط أن يكون المسرع لا يخل بشيء من الحروف والحركات والسكون الواجبات، فلا يمتنع أن يفضل أحدهما الآخر وأن يستويا، فإن من رتل وتأمل كمن تصدق بجوهرة واحدة ثمينة، ومن أسرع كمن تصدق بعدة جواهر لكن قيمتها قيمة الواحدة الثمينة، وقد تكون قيمة الواحدة أكثر من قيمة الأخريات وقد يكون بالعكس. ا. هـ وهو كلام جيد. -[ويؤخذ من الأحاديث]- 1 - من قوله في الرواية الأولى: "إن أفضل الصلاة الركوع والسجود". أن إطالة الركوع: والسجود أفضل من إطالة القراءة، وهو مذهب لابن مسعود ولبعض العلماء، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم "أفضل الصلاة طول القنوت". وقوله: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد". 2 - ومن قوله "سورتين في كل ركعة". جواز الجمع بين السور في ركعة واحدة، لأنه إذا جمع بين السورتين ساغ الجمع بين ثلاث فصاعداً لعدم الفرق، وقد روى أبو داود وصححه ابن خزيمة عن عبد الله بن شقيق قال: سألت عائشة: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين السور؟ قالت: نعم من المفصل. قال عياض: حديث ابن مسعود هذا يدل على أن هذا القدر كان قدر قراءته صلى الله عليه وسلم غالباً، وأما تطويله وقراءته البقرة والنساء وآل عمران في ركعة كما سبق قريباً فكان نادراً. 3 - استدل بعضهم بقوله: "عشرون سورة في عشر ركعات". أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل إحدى عشرة ركعة. 4 - استدل بقوله: "إني لأعرف النظائر ... إلخ". استحباب اختيار النظائر حين الجمع بين السور، وقد بين أبو داود في رواية هذه النظائر، فقال: "الرحمن" و"النجم" في ركعة، و"اقتربت" و"الحاقة" في ركعة، و"الطور" و"الذاريات" في ركعة، و"الواقعة" و"نون" في ركعة و"سأل سائل" و"النازعات" في ركعة و"ويل للمطففين" و"عبس" في ركعة و"المدثر" و"المزمل" في ركعة، و"هل أتى" و"لا أقسم" في ركعة"، و"عم" و"المرسلات" في ركعة و"الدخان" و"إذا الشمس كورت" في ركعة قال المحب الطبري: كنت أظن من النظائر أنها متساوية في العد حتى فحصتها فلم أجد فيها شيئاً متساوياً. ا. هـ فالمراد من النظائر التشابه في المعاني. والله أعلم. 5 - يؤخذ من هذه النظائر أن قراءة السور مترتبة على المصحف ليس لازماً. 6 - وأنه يجوز تطويل الركعة الأخيرة على ما قبلها. 7 - وفيه ما يقوي القول بأن ترتيب السور في المصحف كان باجتهاد من الصحابة إذ كان تأليف مصحف عبد الله بن مسعود مغايراً لتأليف مصحف عثمان.

8 - استدل بقوله في الرواية الثالثة: "ثمانية عشر من المفصل وسورتين من آل حم". على أن المفصل ما بعد آل حم، ولا تعارض بين هذا وبين ما ذكر في الرواية الثانية من قوله: "عشرون سورة من المفصل". لأن مراده معظم العشرين من المفصل. 9 - ومن استبعاد ابن مسعود غفلة أهله عن الصلاة يؤخذ مراعاة الرجل لأهل بيته ورعيته في أمور دينهم. 10 - أخذ القاضي عياض من قول ابن مسعود للجارية: انظري هل طلعت الشمس؟ قبول خبر الواحد والعمل بالظن مع القدرة على اليقين، لأنه اكتفى بخبرها مع قدرته على رؤية طلوعها، ورد عليه بأن الخلاف في قبول خبر الواحد إنما هو تجرده عن القرائن، أما مع وجود القرائن فلا خلاف في قبوله، وهنا القرائن واضحة، من الولاء والقرب والتمكن من العلم، وغير ذلك مما لا يمكن للجارية معه أن تخبر بخلاف الواقع. 11 - قال الأبي: وفيه أن الأوقات المخصوصة بالذكر ثواب الذكر فيها أكثر من ثواب التلاوة. قلت: قد يكون رأياً لابن مسعود أو تغيير عبادة للتنشيط، أما الثواب وزيادته فليس مسلماً. 12 - وفيه أن الكلام لا يقطع ورد التسبيح والذكر. قال الأبي: وهو لا يحتاج إلى استدلال. والله أعلم

(271) باب ما يتعلق بالقراءات

(271) باب ما يتعلق بالقراءات 1655 - عن أبي إسحق قال: رأيت رجلاً سأل الأسود بن يزيد وهو يعلم القرآن في المسجد فقال: كيف تقرأ هذه الآية؟ {فهل من مدكر}؟ أدالاً أم ذالاً؟ قال: بل دالاً. سمعت عبد الله ابن مسعود يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مدكر". دالاً. 1656 - عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ هذا الحرف {فهل من مدكر} 1657 - عن علقمة قال: قدمنا الشام فأتانا أبو الدرداء فقال: أفيكم أحد يقرأ على قراءة عبد الله؟ فقلت: نعم أنا. قال: فكيف سمعت عبد الله يقرأ هذه الآية؟ {والليل إذا يغشى} قال سمعته يقرأ "والليل إذا يغشى والذكر والأنثى" قال: وأنا والله هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، ولكن هؤلاء يريدون أن أقرأ {وما خلق} فلا أتابعهم. 1658 - عن إبراهيم قال: أتى علقمة الشام فدخل مسجداً فصلى فيه ثم قام إلى حلقة فجلس فيها. قال: فجاء رجل فعرفت فيه تحوش القوم وهيئتهم. قال: فجلس إلى جنبي ثم قال: أتحفظ كما كان عبد الله يقرأ؟ فذكر بمثله. 1659 - عن علقمة قال: لقيت أبا الدرداء فقال لي. ممن أنت؟ قلت: من أهل العراق. قال: من أيهم؟ قلت: من أهل الكوفة. قال هل تقرأ على قراءة عبد الله بن مسعود؟ قال: قلت: نعم. قال: فاقرأ: {والليل إذا يغشى} قال: فقرأت: "والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى" قال: فضحك ثم قال: هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها.

-[المعنى العام]- كان من تيسير الله تعالى على الأمة الإسلامية أن أتاح لقراء كتابه الكريم حروفاً متغايرة معينة حتى تلين ألسنتهم وتتهيأ حافظتهم، وكان جبريل ينزل بهذا التخفيف فيلقنه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لأصحابه، ويلقنه الأصحاب لتلامذتهم وانقسم هذا التيسير إلى نوعين: نوع ظل للأمة على امتداد عصورها وأزمنتها كقراءة {فهل من مدكر} بالدال المشددة، و"فهل من مذكر". بالذال بدل الدال. ونوع نسخ وتوقفت القراءة به بإجماع الصحابة والأمة على مصاحف عثمان رضي الله عنه. ومن هذا النوع الأخير قراءة عبد الله بن مسعود: "والليل إذا يغشى. والنهار إذا تجلى. والذكر والأنثى". بحذف "وما خلق" وتلقى تلامذة عبد الله بن مسعود أمثال إبراهيم وعلقمة والأسود هذه القراءة، ولم يكن الإجماع على تركها قد استقر في نفوسهم وظلوا يقرءون بها، وسافر علقمة من الكوفة إلى الشام، والتقى هناك صدفة بأبي الدرداء الذي تلقى القراءة نفسها عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن كذلك قد استقر عنده الإجماع على تركها على الرغم من أن أهل الشام الذين اعتمدوا مصحف عثمان عارضوه في قراءته. سأل أبو الدرداء علقمة أن يقرأ له سورة الليل على قراءة ابن مسعود فقرأها له، فضحك وسر وظن أنه بذلك قد وجد ما يوثقه ويصحح قراءته، لكن هذا وذاك كانا مخالفين للإجماع، قارئين بما لا يجوز القراءة به، وهكذا كانت مصاحف عثمان رضي الله عنه حكماً وحجة على المسلمين في تلقي القرآن الكريم. -[المباحث العربية]- القراءات جمع قراءة، والقراءة في الاصطلاح مذهب يذهب إليه إمام من الأئمة مخالفاً به غيره في النطق بالقرآن الكريم مع اتفاق الروايات عنه. {فهل من مدكر} بالدال المشددة، أصله مذتكر، وقعت تاء الافتعال بعد ذال. (أدالاً أم ذالاً؟ ) منصوب على الحالية لفعل محذوف، تقديره: أتقرؤها دالاً أم ذالاً؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "مدكر" دالاً. لفظ "دالاً" من كلام ابن مسعود، ومقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "مدكر". لأنه لم يكن هناك تحقيق ولا سؤال عن كونها دالاً أو ذالاً حتى يقولها الرسول صلى الله عليه وسلم على فرض أنه صلى الله عليه وسلم كان يعرف أسماء الحروف. (قدمنا الشام) يقصد علقمة نفسه ورفقاءه. (ولكن هؤلاء) يشير إلى أهل الشام الذين يعاشرونه. (قد قام إلى حلقة) بسكون اللام في اللغة المشهورة. قال الجوهري: ويقال في لغة رديئة بفتحها، وكانت حلقة علم أو تعليم قرآن.

(فعرفت فيه تحوش القوم وهيئتهم) قال النووي: "تحوش" بالتاء المفتوحة في أوله بعدها حاء ثم واو مشددة مضمومة بعدها شين أي انقباضهم. قال القاضي: يحتمل أن يريد الفطنة والذكاء، يقال: رجل حوش الفؤاد، أي حديده. ا. هـ والمعنى الأول أليق بالمقام إذ القوم يريدونه على شيء فلا يتابعهم فهم يعتزلونه ويبتعدون وينقبضون عن مجالسته ومتابعته، أي عرفت فيه تحوش القوم عنه، و"هيئتهم" أي وحالهم معه من المجانبة له، وهو منصوب عطفاً على "تحوش القوم". (لقيت أبا الدرداء فقال لي: ممن أنت ... إلخ) في الرواية الثالثة: "فأتانا أبو الدرداء فقال: أفيكم أحد يقرأ"؟ وفي الرواية الرابعة: "فجاء رجل فجلس إلى جنبي ثم قال: أتحفظ .... ". وفي ظاهر هذه الروايات تعارض. أسأل القوم عمن يقرأ منهم؟ أم سأله عن القراءة ابتداء؟ أم سأله عن بلده؟ ويمكن تصوير الحالة بأن علقمة وصحبه قدموا الشام، وأنهم دخلوا المسجد وصلوا، ثم جلسوا في الحلقة، ودخل أبو الدرداء نحو الحلقة ورأى جماعة غريبة يلبسون ملابس أهل العراق، وهو يتلهف على قارئ من أهل العراق يستوثق منه عما يحفظ، فاتجه نحوهم وجلس بجنب علقمة وقال لهم: أفيكم أحد يقرأ ... ؟ قال علقمة: أنا. قال له أبو الدرداء: ممن أنت؟ إلى آخره. -[فقه الحديث]- الاعتماد في القرآن الكريم على التلقي والأخذ عن الحفاظ، ففي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الصحابة حريصين على الأخذ من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم بدون واسطة، ومن لم يستطع منهم ذلك أخذ عمن أخذ عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد اشتهر في كل طبقة من طبقات الأمة جماعة بحفظ القرآن وتحفيظه ولما كان الصحابة قد اختلف أخذهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم انتشروا في الأمصار اختلف تبعاً لذلك أخذ التابعين عنهم، ثم تفرغ قوم للقراءات يضبطونها ويعنون بها ويعلمونها، ثم ألف في القراءات كعلم بعد ذلك. وقد وضع العلماء ضوابط للقراءة الصحيحة فقالوا: كل قراءة وافقت أحد المصاحف العثمانية ولو تقديراً، ووافقت العربية ولو بوجه، وصح إسنادها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ولا يحل إنكارها سواء كانت عن السبعة أم عن غيرهم، وكل قراءة اختل منها ركن من هذه الأركان الثلاثة فهي الشاذة. ولما كانت قراءة عبد الله بن مسعود سورة الليل بحذف "وما خلق" وهو ثابت في جميع المصاحف العثمانية، كانت شاذة لا تصح القراءة بها، وفي هذا الحديث يقول المازري: يجب أن يعتقد في هذا الخبر وما في معناه أن ذلك كان قرآناً ثم نسخ، ولم يعلم من خالف النسخ فبقي على ما قبل النسخ. قال: ولعل هذا وقع من بعضهم قبل أن يبلغهم مصحف عثمان المجمع عليه، المحذوف منه كل منسوخ، وأما بعد ظهور مصحف عثمان فلا يظن بأحد منهم أنه خالف فيه، وأما ابن مسعود فرويت عنه روايات كثيرة، منها ما ليس بثابت عند أهل النقل، وما ثبت منها مخالفاً لما قلناه فهو

محمول على أنه كان يكتب في مصحفه بعض الأحكام والتفاسير مما يعتقد أنه ليس بقرآن، وكان لا يعتقد تحريم ذلك، وكان يراه كصحيفة يثبت فيها ما يشاء، وكان رأي عثمان والجماعة منع ذلك لئلا يتطاول الزمان ويظن ذلك قرآناً. قال المازري: فعاد الخلاف إلى مسألة فقهية وهي أنه هل يجوز إلحاق بعض التفاسير في أثناء المصحف؟ قال: ويحتمل ما روي من إسقاط المعوذتين من مصحف ابن مسعود أنه اعتقد أنه لا يلزمه كتب كل القرآن، وكتب ما سواهما وتركهما لشهرتهما عنده وعند الناس. ا. هـ وهذا الكلام يتوجه مع الزيادات الواردة في مصحف ابن مسعود، أما النقص كما ورد في الرواية الثالثة والرابعة والخامسة فلا يتجه إلا أن يقال: إن ابن مسعود كان يعتقد أن الإجماع لم يتم على خلاف ما عنده لأنه كان يرجو أن يؤخذ بروايته خصوصاً وأنه كان واثقاً من التلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمسألة اليوم ليست في إدانة ابن مسعود ومن أخذ بقراءته في زمن التابعين أو عدم إدانتهم، وإنما هي في جواز هذه القراءة اليوم أو عدم جوازها. والإجماع على أنه لا يجوز القراءة بها. والله أعلم

(272) باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها

(272) باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها 1660 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس. 1661 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -منهم عمر بن الخطاب، وكان أحبهم إلي- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس 1662 - عن قتادة بهذا الإسناد غير أن في حديث سعيد وهشام: "بعد الصبح حتى تشرق الشمس". 1663 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس ولا صلاة بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس". 1664 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يتحرى أحدكم فيصلي عند طلوع الشمس ولا عند غروبها". 1665 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها فإنها تطلع بقرني شيطان". 1666 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا بدا حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تبرز، وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب".

1667 - عن أبي بصرة الغفاري رضي الله عنه قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر بالمخمص فقال "إن هذه الصلاة عرضت على من كان قبلكم فضيعوها فمن حافظ عليها كان له أجره مرتين، ولا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد، والشاهد النجم". 1668 - عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال: ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب. 1669 - عن عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه قال: كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة وأنهم ليسوا على شيء وهم يعبدون الأوثان، فسمعت برجل بمكة يخبر أخباراً فقعدت على راحلتي فقدمت عليه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفياً جرءاء عليه قومه فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة، فقلت له ما أنت؟ قال "أنا نبي". فقلت وما نبي؟ قال: "أرسلني الله". فقلت وبأي شيء أرسلك؟ قال "أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان وأن يوحد الله لا يشرك به شيء". قلت له فمن معك على هذا؟ قال "حر وعبد" (قال ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ممن آمن به) فقلت إني متبعك قال "إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا ألا ترى حالي وحال الناس؟ ولكن ارجع إلى أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني". قال فذهبت إلى أهلي وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكنت في أهلي فجعلت أتخبر الأخبار وأسأل الناس حين قدم المدينة حتى قدم علي نفر من أهل يثرب من أهل المدينة، فقلت ما فعل هذا الرجل الذي قدم المدينة؟ فقالوا الناس إليه سراع وقد أراد قومه قتله فلم يستطيعوا ذلك، فقدمت المدينة فدخلت عليه فقلت يا رسول الله أتعرفني؟ قال "نعم أنت الذي لقيتني بمكة؟ " قال: فقلت بلى. فقلت يا نبي الله أخبرني عما علمك الله وأجهله أخبرني عن الصلاة؟ قال" صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع؛

فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار. ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح. ثم أقصر عن الصلاة فإن حينئذ تسجر جهنم، فإذا أقبل الفيء فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر. ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار". قال فقلت يا نبي الله فالوضوء؟ حدثني عنه. قال "ما منكم رجل يقرب وضوءه فيتمضمض ويستنشق فينتثر إلا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه. ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء. ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء. ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء. ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء فإن هو قام فصلى فحمد الله وأثنى عليه ومجده بالذي هو له أهل وفرغ قلبه لله إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه" فحدث عمرو بن عبسة بهذا الحديث أبا أمامة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال له أبو أمامة ياعمرو بن عبسة، انظر ما تقول في مقام واحد يعطى هذا الرجل؟ فقال عمرو يا أبا أمامة، لقد كبرت سني ورق عظمي واقترب أجلي وما بي حاجة أن أكذب على الله ولا على رسول الله، لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة أو مرتين أو ثلاثاً (حتى عد سبع مرات) ما حدثت به أبداً ولكني سمعته أكثر من ذلك. 1670 - عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت وهم عمر إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتحرى طلوع الشمس وغروبها. 1671 - عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لم يدع رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعتين بعد العصر. قال: فقالت عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تتحروا طلوع الشمس ولا غروبها فتصلوا عند ذلك". 1672 - عن كريب مولى ابن عباس أن عبد الله بن عباس وعبد الرحمن بن أزهر والمسور بن مخرمة أرسلوه إلى عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا اقرأ عليها السلام منا جميعاً وسلها عن الركعتين بعد العصر وقل إنا أخبرنا أنك تصلينهما وقد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنهما. قال ابن عباس وكنت أضرب مع عمر بن الخطاب الناس عليها. قال كريب

فدخلت عليها وبلغتها ما أرسلوني به؛ فقالت سل أم سلمة، فخرجت إليهم فأخبرتهم بقولها، فردوني إلى أم سلمة بمثل ما أرسلوني به إلى عائشة؛ فقالت أم سلمة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنهما، ثم رأيته يصليهما أما حين صلاهما فإنه صلى العصر. ثم دخل وعندي نسوة من بني حرام من الأنصار فصلاهما فأرسلت إليه الجارية، فقلت قومي بجنبه فقولي له تقول أم سلمة يا رسول الله إني أسمعك تنهى عن هاتين الركعتين وأراك تصليهما، فإن أشار بيده فاستأخري عنه. قال ففعلت الجارية فأشار بيده فاستأخرت عنه. فلما انصرف قال "يا بنت أبي أمية سألت عن الركعتين بعد العصر. إنه أتاني ناس من عبد القيس بالإسلام من قومهم فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان". 1673 - عن أبي سلمة أنه سأل عائشة عن السجدتين اللتين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليهما بعد العصر؟ فقالت كان يصليهما قبل العصر، ثم إنه شغل عنهما أو نسيهما فصلاهما بعد العصر ثم أثبتهما وكان إذا صلى صلاة أثبتها. (قال يحيى بن أيوب قال إسمعيل تعني داوم عليها). 1674 - عن عائشة رضي الله عنها قالت ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين بعد العصر عندي قط. 1675 - عن عائشة رضي الله عنها قالت صلاتان ما تركهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي قط سراً ولا علانيةً، ركعتين قبل الفجر، وركعتين بعد العصر. 1676 - عن الأسود ومسروق قالا نشهد على عائشة أنها قالت ما كان يومه الذي كان يكون عندي إلا صلاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي تعني الركعتين بعد العصر. (ملحوظة) سنرجئ شرح هذه الأحاديث لنضم إليها أحاديث الباب التالي.

(273) باب استحباب ركعتين قبل صلاة المغرب

(273) باب استحباب ركعتين قبل صلاة المغرب 1677 - عن مختار بن فلفل قال: سألت أنس بن مالك عن التطوع بعد العصر؟ فقال كان عمر يضرب الأيدي على صلاة بعد العصر، وكنا نصلي على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب. فقلت له أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاهما؟ قال كان يرانا نصليهما فلم يأمرنا ولم ينهنا. 1678 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال كنا بالمدينة فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب ابتدروا السواري فيركعون ركعتين ركعتين، حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد، فيحسب أن الصلاة قد صليت من كثرة من يصليهما. 1679 - عن عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بين كل أذانين صلاة" قالها ثلاثاً. قال في الثالثة: "لمن شاء". 1680 - عن عبد الله بن مغفل عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله إلا أنه قال في الرابعة: "لمن شاء". -[المعنى العام]- قد لا تستحب العبادة إذا خيف منها مفسدة، فقد تترك الصلاة النافلة عند المراءاة، وقد تمنع أمام صنم يتوهم عندها أن السجود للصنم، وهنا في هذه الأحاديث نهى عن الصلاة في أوقات كان الكفار فيها يسجدون للشمس من دون الله، نهى عن الصلاة وقت طلوعها ووقت غروبها حيث كانوا في هذين الوقتين يسجدون لها، فأراد الشارع أن يبتعد عن المشابهة بهم ولو في الصورة خصوصاً في أمر يتصل بالعقيدة وبالوحدانية، بل زاد الشارع الابتعاد عن المشابهة بالنهي عن الصلاة في الأوقات القريبة من وقت سجودهم لها معنوياً كما في وقت الاستواء، وقت اشتداد الشمس ووقت شبابها وعنفوانها، وحسياً فيما بعد صلاة الصبح إلى حين الطلوع، وبعد صلاة العصر إلى حين الغروب. وإذا كانت بعض الأحاديث تنهى عن تحري المصلي طلوع الشمس وغروبها لما في ذلك من الإثم الناشئ عن القصد، فإن بعض الأحاديث تنهى عن الصلاة في هذه الأوقات على العموم قصد التحري أم لم يقصد، لأن المشاهد للمصلي حينئذ قد يتوهم المشابهة بالكفار وإن لم يقصد المصلي.

ومما لا شك فيه أن الصلاة المنهي عنها في هذه الأوقات ليست الفرائض التي حدد نهاية وقتها الشرعي بما يتصل بالشمس طلوعاً أو غروباً. فالصبح وقته من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس لا ينهى عن أداء فرضه حتى عند الطلوع مع إثم التأخير. إنما المنهي عنه النفل أو بعض النفل على خلاف بين العلماء. وقد تعرضت بعض أحاديث الباب لتكفير الخطايا الصغائر بالوضوء وبعضها لفضل صلاة العصر والحث على العناية بها. أما الركعتان بين الأذان والإقامة لصلاة المغرب فأحاديث الباب تحث عليهما وتستحبهما وإن كان بعض العلماء لا يستحبونهما. والله أعلم. -[المباحث العربية]- (وكان أحبهم إلي) جملة اعتراضية، وفي رواية البخاري: "وأرضاهم عندي عمر". وفي لفظ: "أعجبهم إلي عمر". (حتى تشرق الشمس) قال النووي: ضبطنا "تشرق" بضم التاء وكسر الراء، وضبطناه أيضاً بفتح التاء وضم الراء. قال أهل اللغة: يقال: شرقت الشمس تشرق على وزن طلعت تطلع، وهي بمعنى طلعت. ويقال: أشرقت تشرق -بضم التاء، أي ارتفعت وأضاءت، ومنه قوله تعالى: {وأشرقت الأرض بنور ربها} [الزمر: 69] أي أضاءت، فمن فتح التاء احتج بأن باقي الروايات "حتى تطلع الشمس" فوجب حمل هذه الرواية على ما يوافق الروايات الأخرى، ومن قال بضم التاء احتج له القاضي عياض بالأحاديث الأخرى في النهي عن الصلاة حتى ترفع -كما في روايتنا الثامنة وفيها: "حين تطلع الشمس بازغة حتى ترفع". والتاسعة، وفيها: "حتى تطلع الشمس حتى ترتفع". وهذا يبين أن المراد بالطلوع ارتفاعها وإشراقها وإضاءتها لا مجرد ظهور قرصها. قال النووي: وهذا الذي قاله القاضي صحيح متعين لا عدول عنه للجمع بين الروايات. اهـ. (لا صلاة بعد صلاة العصر) أي لا صلاة لمن صلى العصر بعد صلاته العصر. والنفي لا يتوجه للواقع، فقد تقع، وإنما يوجه للصحة أو للقبول أو للاستحباب مع ملاحظة المراد من نوع الصلاة المنفية. هل هي ما عدا الفرائض أو غير ذات السبب؟ كما سيأتي في فقه الحديث. (لا يتحرى أحدكم فيصلي) "لا يتحرى" بإثبات الياء على أن "لا" نافية وكأن الأمر امتثل حتى أخبر عنه، فهو لفظاً ومعنى، ويصح أن يكون خبراً في اللفظ ونهياً في المعنى. قال ابن خروف: يجوز في "فيصلي" ثلاثة أوجه: الجزم على العطف، أي لا يتحر ولا يصل. والرفع على القطع، أي لا يتحرى فهو يصلي. والنصب على جواب النهي، أي لا يتحرى مصلياً. (لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس) "لا تحروا" أصله لا تتحروا بتاءين فحذفت إحداهما تخفيفاً، أي لا تقصدوا. قال الجوهري: فلان يتحرى الأمر أي يتوخاه ويقصده.

(فإنها تطلع بقرني شيطان) وفي الرواية التاسعة: "بين قرني شيطان". قال النووي: قيل: المراد بقرني الشيطان حزبه وأتباعه. وقيل: قوته وغلبته وانتشار فساده. وقيل: القرنان ناحيتا الرأس وأنه على ظاهره. وهذا هو الأقوى. قالوا: ومعناه أنه يدني رأسه إلى الشمس في هذه الأوقات ليكون الساجدون لها من الكفار كالساجدين له في الصورة، وحينئذ يكون له ولبنيه تسلط ظاهر وتمكن من أن يلبسوا على المصلين صلاتهم، فكرهت الصلاة حينئذ صيانة لهم، كما كرهت في الأماكن التي هي مأوى الشيطان ... ثم قال: وسمي شيطاناً لتمرده وعتوه، وكل مارد عات شيطان. والأظهر أنه مشتق من شطن إذا بعد، لبعده من الخير والرحمة. وقيل: مشتق من شاط إذا هلك واحترق، وسيأتي مزيد للحكمة من النهي في فقه الحديث. (إذا بدا حاجب الشمس) أي إذا ظهر جزء من الشمس، وحاجبها أول ما يظهر منها عند الطلوع وأول ما يغيب منها عند الغروب. (حتى تبرز) أي حتى تظهر كلها، قيل: حتى ترتفع وتضيء. (المخمص) بضم الميم وفتح الخاء وفتح الميم المشددة، مكان معروف. كذا في النووي على مسلم. (أو أن نقبر فيهن موتانا) "نقبر" بسكون القاف، وفتح الباء وكسرها لغتان، ويحتمل أن يراد به صلاة الجنازة، ويحتمل أن يراد به الدفن، وللبحث مزيد في فقه الحديث. (حين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل) الظهيرة حال استواء الشمس، ومعناه حين لا يبقى للقائم في الظهيرة ظل في المشرق ولا في المغرب. قاله النووي. (وحين تضيف الشمس للغروب) "تضيف" بفتح التاء والضاد وتشديد الياء أي تميل. قال أبو عبيد: يقال: ضافت تضيف: مالت، وضفت فلاناً: ملت إليه، وأضفته: أملته إليك وأنزلته بك، والشيء مضاف إلى الشيء ممال إليه، اهـ. وفي القاموس: وضاف مال، كتضيف بتشديد الياء. اهـ. فأصل " تضيف" تتضيف حذفت إحدى التاءين تخفيفاً. (مستخفياً) حال من المفاجأة، أي قدمت ففاجأته مستخفياً، أي يعبد الله ويدعو في خفاء وسر وعدم جهر. (جرءاء عليه قومه) جمع جريء بالهمز من الجرأة، وهي الإقدام والتسلط، وهذا سر استخفائه. قال النووي: وذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين: "حراء". بالحاء المكسورة، ومعناه غضاب قد عيل صبرهم به حتى أثر في أجسامهم، من قولهم: حرى، جسمه يحري كضرب يضرب إذا نقص من ألم وغيره، والصحيح أنه بالجيم. (ما أنت؟ ) قال النووي: هكذا هو في الأصول "ما أنت"؟ وإنما قال: ما أنت؟ ولم يقل: من أنت؟ لأنه سأله عن صفته لا عن ذاته، والصفات مما لا يعقل. اهـ.

(إني متبعك) أي على إظهار الإسلام هنا وإقامتي معك. قاله النووي. (أنت الذي لقيتني بمكة؟ قال: قلت: بلى) قال النووي: فيه صحة الجواب ببلى وإن لم يكن قبلها نفي. وقال بعضهم: والصحيح عند النحاة أنها لا يجاب بها إلا بعد النفي، والنفي هنا مقدر أي أو لست الذي لقيتني بمكة؟ قال ابن هشام في مغني اللبيب: "بلى" لا يجاب بها الإيجاب، وذلك متفق عليه، ولكن وقع في كتب الحديث ما يقتضي أنها يجاب بها الاستفهام المجرد، ففي البخاري: "أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قالوا: بلى". وفي مسلم: "أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: بلى". وفيه أيضاً: "أنت الذي لقيتني بمكة"؟ قال: بلى" قال ابن هشام: وهذا قليل لا يتخرج عليه التنزيل. اهـ. (أخبرني عما علمك الله) قال النووي: هكذا هو "عما علمك" وهو صحيح، ومعناه أخبرني عن حكمه وصفته، وبينه لي. (حتى يستقل الظل بالرمح) أي يقوم مقابله في جهة الشمال، ليس مائلاً إلى المغرب ولا إلى المشرق. قال النووي: وهذه حالة الاستواء. اهـ. (فإن حينئذ تسجر جهنم) اسم "إن" ضمير الشأن محذوف، و"حينئذ" ظرف لتسجر، و"جهنم" قيل: اسم عربي مشتق من الجهومة، وهي كراهة المنظر. وقيل: من قولهم: بئر جهام أي عميقة، فهي ممنوعة من الصرف للعلمية والتأنيث. وقال الأكثرون: هي أعجمية معربة، ومنعت من الصرف للعلمية والعجمة، ومعنى "تسجر جهنم" توقد إيقاداً بليغاً. (فإذا أقبل الفيء فصل) أي إذا ظهر الظل مائلاً إلى جهة المشرق. قال النووي: والفيء مختص بما بعد الزوال، وأما الظل فيقع على ما قبل الزوال وبعده. (يقرب وضوءه) بضم الياء وفتح القاف وكسر الراء المشددة والوضوء هنا بفتح الواو، وهو الماء الذي يتوضأ به. (فينتثر) أي يخرج الذي في أنفه، يقال: نثر واستنثر، مشتق من النثرة وهي الأنف. وقيل طرفه. (إلا خرت خطايا وجهه) قال النووي: ضبطناه "خرت" بالخاء، وكذا نقله القاضي عن جميع الرواة إلا ابن أبي جعفر، فرواه "جرت" بالجيم، ومعنى "خرت" بالخاء سقطت، ومعنى "جرت" بالجيم ظاهر. (وخياشيمه) جمع خيشوم، وهو أقصى الأنف. وقيل عظام رقاق في أصل الأنف بينه وبين الدماغ. (وهم عمر) بفتح الواو وكسر الهاء، أي حصل عنده لبس وخطأ في روايته النهي عن الركعتين بعد العصر مطلقاً، وبقية البحث سيأتي في فقه الحديث.

(وكنت أضرب مع عمر الناس عليها) قال النووي: هكذا وقع في بعض الأصول "أضرب الناس عليها" وفي بعض النسخ "أصرف الناس عنها" وكلاهما صحيح، ولا منافاة بينهما، وكان يضربهم عليها في وقت، ويصرفهم عنها في وقت من غير ضرب، أو يصرفهم مع الضرب، ولعله كان يضرب من بلغه النهي ويصرف من غير ضرب من لم يبلغه. (إني أسمعك تنهى) معنى "أسمعك" سمعتك في الماضي وعبرت عنه بالمضارع استحضاراً للصورة. (ما ترك ..... الركعتين بعد العصر عندي قط) تعني بعد يوم وفد عبد القيس. (عن السجدتين) أي الركعتين سنة العصر القبلية. (ابتدروا السواري) جمع سارية، وهي أعمدة المسجد، وكانوا يتسابقون إليها ليستتروا بها ممن يمر بين أيديهم لكونهم يصلون فرادى. (بين كل أذانين صلاة) أي بين كل أذان وإقامة. قال ابن حجر: ولا يصح حمله على ظاهره لأن الصلاة بين الأذانين مفروضة، والحديث ناطق بالتمييز لقوله: "لمن شاء". وإطلاق الأذان على الإقامة من باب التغليب كالقمرين للشمس والقمر، ويحتمل أن يكون أطلق على الإقامة أذان لأنها إعلام بحضور فعل الصلاة، كما أن الأذان إعلام بدخول الوقت. -[فقه الحديث]- يمكن حصر شوارد المسألة في النقاط الآتية: 1 - الأوقات المنهي عن الصلاة فيها، وعلة النهي، والحكم المستفاد من النهي. 2 - نوع الصلوات المنهي عنها، وآراء العلماء في ذلك وأدلتهم. 3 - ما يؤخذ من الأحاديث فوق ذلك من أحكام. 1 - أما عن الأوقات المنهي عن الصلاة فيها، فيقول الحافظ ابن حجر: محصل ما ورد من الأخبار في تعيين الأوقات التي تكره فيها الصلاة أنها خمسة: عند طلوع الشمس، وعند غروبها، وبعد صلاة الصبح، وبعد صلاة العصر، وعند الاستواء. قال: وترجع بالتحقيق إلى ثلاثة: من بعد صلاة الصبح إلى أن ترتفع الشمس، فيدخل فيه الصلاة عند طلوع الشمس، وكذا من صلاة العصر إلى أن تغرب. اهـ. قال النووي في المجموع: بعد صلاة الصبح وبعد صلاة العصر تتعلق كراهة الصلاة بعدهما بالفعل، بمعنى أنه لا يدخل وقت الكراهة لمجرد الزمان، وإنما يدخل إذا فعل فريضة الصبح وفريضة العصر، وأما الأوقات الثلاثة الأخرى فتتعلق الكراهة فيها بمجرد الزمان. ثم قال: واعلم أن الكراهة عند طلوع الشمس تمتد حتى ترتفع قدر رمح. هذا هو الصحيح. وقيل: تزول الكراهة إذا طلع قرص

الشمس بكماله [ودليل الصحيح روايتنا الثامنة والتاسعة، وفيهما: "حتى ترتفع". ودليل الآخرين رواياتنا الأولى والثانية والثالثة، وفيها: "حتى تطلع الشمس" وقد سبق في المباحث العربية حمل المطلق على المقيد] ثم قال: ولا خلاف أن وقت الكراهة بعد العصر لا يدخل بمجرد دخول العصر، بل لا يدخل حتى يصليها، وأما في الصبح فثلاثة أوجه، والصحيح لا يدخل حتى يصلي فريضة الصبح. والثاني يدخل بصلاة سنة الصبح. والثالث بطلوع الفجر. وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد وأكثر العلماء، ويستدل له بما رواه البخاري ومسلم عن حفصة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم" إذا طلع الفجر لم يصل إلا ركعتين خفيفتين". اهـ. وفي علة النهي تقول الرواية التاسعة: " فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار". وكذلك في الغروب، أما في الاستواء فتقول الرواية: "فإن حينئذ تسجر جهنم". قال الحافظ ابن حجر عن الطلوع والغروب: فالنهي حينئذ لترك مشابهة الكفار، وقد اعتبر ذلك الشرع في أشياء كثيرة. ثم قال: وفي هذا تعقب على أبي محمد البغوي حيث قال: إن النهي عن ذلك لا يدرك معناه، وجعله من قبيل التعبد الذي يجب الإيمان به. اهـ. وإني لأميل إلى رأي البغوي، وأما ما ذكر في الرواية التاسعة إنما هو للتنفير لا للعلة، وإلا فأين المشابهة في الاستواء؟ وقد روي عن مسروق أنه كان يصلي نصف النهار، فقيل له: إن الصلاة في هذه الساعة تكره. فقال: ولم؟ قالوا: إن أبواب جهنم تفتح نصف النهار، فقال: الصلاة أحق ما أستعيذ به من جهنم حين تفتح أبوابها. وهل المقصود من النهي حرمة الصلاة في هذه الأوقات؟ أو كراهتها كراهة تحريم؟ أو كراهة تنزيه؟ قال الحافظ ابن حجر: فرق بعضهم في الحكم بين الصلاة بعد صلاة الصبح وبعد صلاة العصر، فقال بأنها مكروهة، وبين الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، فقال بأنها تحرم. وقال النووي في المجموع: قطع جماعة بأنها كراهة تنزيه. والأصح أنها كراهة تحريم لثبوت الأحاديث في النهي، وأصل النهي للتحريم. ثم ساق خلافاً آخر في انعقاد الصلاة حينئذ وعدم انعقادها واختار عدم انعقادها، والله أعلم. 2 - وأما عن نوع الصلاة المنهي عنها في هذه الأوقات وآراء العلماء وأدلتهم فيمكن تقسيم الصلوات إلى: أ- فرائض حاضرة ومؤداة. ب- وفرائض فائتة تقضى. جـ- ورواتب فائتة. د- ونوافل لها سبب سابق. هـ- ونوافل لها سبب متأخر. و- ونوافل مطلقة.

(أ) أما الفرائض المؤداة فتتصور في الظهر عند الزوال، وفي الصبح يبدؤها قبل الشروق فتطلع عليه الشمس أثناءها. قال النووي: واتفقوا على جواز الفرائض المؤداة في أوقات النهي. اهـ. والنووي بذلك يهمل قول من قال بمنع الصلاة مطلقاً في هذه الأوقات. قال الحافظ ابن حجر: وصح عن أبي بكرة وكعب بن عجرة المنع من صلاة الفرض في هذه الأوقات. اهـ. والحق أن هذا الرأي لا يعتد به، ففي الحديث: "من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فليصل إليها أخرى". (ب) وأما قضاء الفرائض الفوائت في أوقات النهي فهو جائز عند الشافعية والمالكية والحنابلة على الإطلاق، وأما أبو حنيفة فقد منع الفوائت عند طلوع الشمس، وقال: إن طلعت الشمس وقد صلى ركعة فسدت، وأجاز عصر يومه مع الغروب بحجة صحة وجواز الصلاة بعد الغروب، ومنع باقي المقضيات في أوقات النهي. وقال: لا تصلى مقضية في وقت منع سوى عصر يومه. دليل الجمهور ما ثبت من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى سنة الظهر بعد العصر [روايتنا الثانية عشرة والثالثة عشرة] فهو صريح في قضاء السنة الفائتة، فالحاضرة أولى، والفريضة المقضية أولى. وأبو حنيفة يحمل هاتين الروايتين على الخصوصية، ويرد عليه بأنها خلاف الأصل. (جـ) وأما الرواتب الفائتة فيمنعها المالكية مع الحنفية، ويجيز الشافعية صلاتها في أوقات النهي على القول بأنه يسن قضاء الراتبة. (د) وأما النوافل ذات السبب السابق عليها فهي كتحية المسجد وسجود التلاوة والشكر وصلاة العيد والكسوف والجنازة والمنذورة. ويجيزها الشافعية بلا كراهة في أوقات النهي، إلحاقاً لها بقضاء الراتبة. قالوا: وتقضي نافلة اتخذها ورداً. قالوا: ولو توضأ في هذه الأوقات فله أن يصلي ركعتي الوضوء. كما قالوا عن تحية المسجد: إن دخل المسجد لغرض كاعتكاف أو لطلب علم أو انتظار صلاة أو نحو ذلك من الأغراض صلى تحية المسجد، أما إن دخله لا لحاجة بل ليصلي التحية فقط فالأرجح الكراهة في هذه الأوقات. ومنع الحنفية كل ذلك، لكن قال ابن المنذر: وأجمع المسلمون على إباحة صلاة الجنازة بعد الصبح والعصر، ونقل العبودي عن أبي حنيفة وأحمد أن صلاة الجنازة منهي عنها عند طلوع الشمس وعند غروبها وعند استوائها، ولا تكره في الوقتين الآخرين. (هـ) وأما النوافل ذات السبب المتأخر فمثلوا لها بصلاة الاستخارة وصلاة سنة الإحرام للحج، وفيها خلاف عند الشافعية، والأصح عندهم الكراهة. (و) أما النوافل المطلقة فهي منهي عنها عند الجميع، اللهم إلا ما روي عن داود الظاهري أنه أباح الصلاة لسبب وبلا سبب في جميع الأوقات، وما قيل من أن المنع مرتبط بالتحري والقصد لا بالأوقات.

(ملحوظة) استثنى الشافعي وأبو يوسف يوم الجمعة فأباح الصلاة يومها عند الاستواء، واستثنى مالك من الأوقات المذكورة في النهي وقت الاستواء فقال: لا بأس بالصلاة عند استواء الشمس في أي يوم. قال مالك: ما أدركت أهل الفضل والعبادة إلا وهم يتحرون الصلاة نصف النهار. ويروي عن مالك أنه توقف وقال: لا أنهي عنه للذي أدركت الناس عليه، ولا أحبه للنهي عنه. وحجة الشافعي في ذلك أنه صلى الله عليه وسلم ندب الناس إلى التبكير يوم الجمعة ورغب في الصلاة إلى خروج الإمام وجعل الغاية خروج الإمام، وهو لا يخرج إلا بعد الزوال، فدل على عدم الكراهة. كما استثنى الشافعية مكة، فقالوا: لا تكره الصلاة في هذه الأوقات بمكة سواء في ذلك ركعتا الطواف وغيرهما على الصحيح عندهم، واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الطواف بالبيت صلاة". ولا خلاف أن الطواف يجوز في جميع الأوقات، فكذلك الصلاة. وأجاز بعض الشافعية ركعتي الطواف فقط في هذه الأوقات، ومالك وأبو حنيفة وأحمد على منع الصلاة في مكة في أوقات النهي كغيرها لعموم الأحاديث. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - من الرواية السابعة يؤخذ فضيلة صلاة العصر والحث عليها. 2 - أخذ بعضهم من قوله في الرواية الثامنة: "أو أن نقبر فيها موتانا". النهي عن صلاة الجنازة في هذه الأوقات، وهذا ضعيف، لأن صلاة الجنازة لا تكره في هذا الوقت بالإجماع، فلا يجوز تفسير الحديث بما يخالف الإجماع، بل الصواب أن معناه يكره تأخير الدفن إلى هذه الأوقات، كما يكره تعمد تأخير العصر إلى اصفرار الشمس بلا عذر، فأما إذا وقع الدفن في هذه الأوقات بلا تعمد فلا يكره. ذكره النووي، لكن ادعاءه الإجماع على عدم كراهة صلاة الجنازة غير مسلم، لما قلناه قريباً نقلاً عن أبي حنيفة وأحمد. 3 - ومن قوله في الرواية التاسعة: "أرسلني بصلة الأرحام". يؤخذ الحث على صلة الأرحام حثاً كبيراً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرنها بالتوحيد، ولم يذكر متفرقات الأمور، بل ذكر المهم منها وبدأ بصلة الأرحام. 4 - يؤخذ من قوله: "ومعه يومئذ أبو بكر وبلال". فضيلتهما، وقد يحتج به من قال: إنهما أول من أسلم. 5 - ويؤخذ من قوله: "إذا سمعت بي قد ظهرت فائتني". معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم وعلم من أعلام النبوة، وهي إعلامه أنه سيظهر. 6 - يؤخذ من قوله: "أتعرفني؟ قال: بلى". صحة الجواب ببلى وإن لم يكن قبلها نفي، وصحة الإقرار بها. قال النووي: وهو الصحيح في مذهبنا وشرط بعض أصحابنا أن يتقدمها نفي. اهـ. 7 - وفي الحديث تكفير السيئات الصغائر بالوضوء.

8 - وفي قوله: "ثم يغسل قدميه". دليل لمذهب العلماء كافة أن الواجب غسل الرجلين، خلافاً للشيعة حيث قالوا: الواجب مسحها. وقال ابن جرير هو مخير. وقال بعض أهل الظاهر: يجب الغسل والمسح. 9 - استدل بعضهم بحديث عائشة: "وهم عمر" إلخ. أن الممنوع تحري طلوع الشمس وغروبها بالصلاة. والصحيح أن الأوقات المذكورة منهي عن الصلاة فيها وإن لم يتحر. قال النووي: ويجمع بين الروايتين بحمل رواية النهي عن التحري على تأخير فريضة العصر أو فريضة الصبح، بحيث إذا دخلت الفريضة في هذين الوقتين وجب عدم التحري وعدم قصد التحري، ويحمل أحاديث النهي المطلق على كراهة الصلوات التي لا سبب لها في هذه الأوقات. 10 - ويؤخذ من ضرب عمر على الصلاة، احتياط الإمام لرعيته ومنعهم من البدع والمنهيات الشرعية وتعزيرهم عليها. وموقف عمر بشأن الصلاة بعد العصر يتعارض مع موقف عائشة منها، لأن عائشة فهمت من مواظبته صلى الله عليه وسلم على الركعتين بعد العصر أن النهي مختص بمن قصد الصلاة عند غروب الشمس فقالت ما قالت، وكانت تتنفل بعد العصر، ولما ووجهت -رضي الله عنها- بفعل عمر ظنت أنه لم تبلغه مواظبة الرسول صلى الله عليه وسلم عليهما فقالت: وهم وأخطأ في الحكم وأصرت على موقفها، أما عمر فلعله علم أن الركعتين اللتين واظب عليهما صلى الله عليه وسلم كانتا قضاء عن يوم، وهو يثبت ويداوم على فعل خير يفعله بعد المرة الأولى، والنهي على هذا قائم، وينبغي تعزير من يرتكب هذا المنهي عنه، وهناك احتمال آخر ذكره الحافظ ابن حجر حيث قال: لعل عمر كان يرى أن النهي عن الصلاة بعد العصر إنما هو خشية إيقاع الصلاة عند غروب الشمس، يؤيد هذا الاحتمال ما روي من أن عمر قال: ولكني أخاف أن يأتي بعدكم قوم يصلون ما بين العصر إلى المغرب حتى يمروا بالساعة التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي فيها. 11 - ومن الرواية الثامنة عشرة أنه يستحب للعالم إذا طلب منه تحقيق أمر مهم ويعلم أن غيره أعلم به منه أو أعرف بأصله أن يرشد إليه إذا أمكنه. 12 - وفيها الاعتراف لأهل الفضل بمزيتهم. 13 - وفيها إشارة إلى أدب الرسول المرسل في حاجة، وأنه لا يستقل فيها بتصرف لم يؤذن له فيها، ولهذا لم يستقل كريب بالذهاب إلى أم سلمة، لأنهم إنما أرسلوه إلى عائشة، فلما أرشدته عائشة إلى أم سلمة، وكان رسولاً للجماعة لم يستقل بالذهاب حتى رجع إليهم فأرسلوه إليها. 14 - ومن إرسال أم سلمة الجارية واعتماد كلامها يؤخذ قبول خبر الواحد والمرأة مع القدرة على اليقين بالسماع من لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكره النووي. 15 - ومن قول أم سلمة للجارية: "فقولي له تقول أم سلمة". يؤخذ أنه لا بأس بذكر الإنسان نفسه بالكنية إذا لم يعرف إلا بها أو اشتهر بها بحيث لا يعرف غالباً إلا بها، وكنيت بابنها سلمة ابن أبي سلمة وكان صحابياً، واسمها هند.

16 - ويؤخذ من الحديث أيضاً أن التابع إذا رأى من المتبوع شيئاً يخالف المعروف من طريقته والمعتاد من حاله ينبغي أن يسأله بلطف عنه، فإن كان ناسياً رجع عنه، وإن كان عامداً وله معنى مخصص عرفه التابع واستفاده. 17 - وأنه بالسؤال يسلم من إرسال الظن السيئ بتعارض الأفعال أو الأقوال وعدم الارتباط بطريق واحد. 18 - وأن إشارة المصلي بيده ونحوها من الأفعال الخفيفة لا تبطل الصلاة. 19 - وفيه إثبات سنة الظهر البعدية. 20 - وأن السنن الراتبة إذا فاتت يستحب قضاؤها. وهو الصحيح عند الشافعية. 21 - وأن صلاة النهار مثنى كصلاة الليل، وهو مذهب الشافعية والجمهور. 22 - وأنه إذا تعارضت المصالح والمهمات بدئ بأهمها، ولهذا بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بحديث القوم في الإسلام وترك سنة الظهر حتى فات وقتها، لأن الاشتغال بإرشادهم وهدايتهم وقومهم إلى الإسلام أهم. (ملحوظة) قال بعض العلماء: المراد بحصر الكراهة في الأوقات الخمسة إنما هو بالنسبة إلى الأوقات الأصلية، وإلا فقد ذكروا أنه يكره التنفل وقت إقامة الصلاة، ووقت صعود الإمام لخطبة الجمعة وفي حال الصلاة المكتوبة جماعة لمن لم يصلها. وعند المالكية كراهة التنفل بعد الجمعة حتى ينصرف الناس. والله أعلم

استحباب ركعتين قبل المغرب هذا، وعن الأحاديث الخاصة بركعتي المغرب القبلية يقول الإمام النووي: في هذه الروايات استحباب ركعتين بين أذان المغرب وصلاة المغرب، وفي المسألة وجهان لأصحابنا أشهرهما لا يستحب، وأصحهما عند المحققين يستحب لهذه الأحاديث، وفي المسألة مذهبان للسلف، واستحبهما جماعة من الصحابة والتابعين، ومن المتأخرين أحمد وإسحق، ولم يستحبهما أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وآخرون من الصحابة، ومالك وأكثر الفقهاء. وقال النخعي: هي بدعة. وحجة هؤلاء أن استحبابها يؤدي إلى تأخير المغرب عن أول وقتها ولو قليلاً، وزعم بعضهم في جواب هذه الأحاديث أنها منسوخة، والمختار استحبابها لهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة، وفي صحيح البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلوا قبل المغرب. صلوا قبل المغرب. صلوا قبل المغرب". قال في الثالثة: "لمن شاء". وأما قولهم: يؤدي إلى تأخير المغرب، فهذا خيال منابذ للسنة فلا يلتفت إليه، ومع هذا فهو زمن يسير لا تتأخر به الصلاة عن أول وقتها، وأما من زعم النسخ فهو مجازف، لأن النسخ لا يصار إليه إلا إذا عجزنا عن التأويل والجمع بين الأحاديث وعلمنا التاريخ، وليس هنا شيء من ذلك. اهـ. وقال بعض العلماء: إن عموم حديث: "بين كل أذانين صلاة". مخصوص بغير المغرب، وحمل أحاديث الباب على أنهم كانوا يشرعون في الصلاة في أثناء الأذان ويفرغون مع فراغه، وأيدوا هذا القول برواية للبزار زاد في آخرها: "إلا المغرب" وهذه الرواية ضعيفة. والظاهر أن الركعتين قبل صلاة المغرب كانتا أمراً أقر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عليه وعملوا به حتى كانوا يستبقون إليه، وهذا يدل على الاستحباب، وأما كونه صلى الله عليه وسلم لم يصلهما فإنه لا ينفي الاستحباب بل يدل على أنهما ليستا من الرواتب. والله أعلم

(274) باب صلاة الخوف

(274) باب صلاة الخوف 1681 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة، والطائفة الأخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو، وجاء أولئك ثم صلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعة، ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة. 1682 - عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أنه كان يحدث عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخوف، ويقول صليتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى. 1683 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف في بعض أيامه، فقامت طائفة معه، وطائفة بإزاء العدو، فصلى بالذين معه ركعة ثم ذهبوا، وجاء الآخرون فصلى بهم ركعة، ثم قضت الطائفتان ركعة ركعة. قال: وقال ابن عمر فإذا كان خوف أكثر من ذلك فصل راكباً أو قائماً تومئ إيماءً. 1684 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف فصفنا صفين، صف خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم والعدو بيننا وبين القبلة، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وكبرنا جميعاً، ثم ركع وركعنا جميعاً، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعاً، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه، وقام الصف المؤخر في نحر العدو فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود وقام الصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا، ثم تقدم الصف المؤخر، وتأخر الصف المقدم ثم ركع النبي صلى الله عليه وسلم وركعنا جميعاً، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعاً، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخراً في الركعة الأولى، وقام الصف المؤخر في نحور العدو فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود والصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا، ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم وسلمنا جميعاً. قال جابر كما يصنع حرسكم هؤلاء بأمرائهم.

1685 - عن جابر رضي الله عنه قال غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما من جهينة، فقاتلونا قتالاً شديداً، فلما صلينا الظهر قال المشركون لو ملنا عليهم ميلة لاقتطعناهم، فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك فذكر ذلك لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وقالوا إنه ستأتيهم صلاة هي أحب إليهم من الأولاد. فلما حضرت العصر، قال: صفنا صفين والمشركون بيننا وبين القبلة. قال: فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبرنا، وركع فركعنا، ثم سجد وسجد معه الصف الأول، فلما قاموا سجد الصف الثاني، ثم تأخر الصف الأول وتقدم الصف الثاني فقاموا مقام الأول، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبرنا، وركع فركعنا، ثم سجد معه الصف الأول، وقام الثاني فلما سجد الصف الثاني، ثم جلسوا جميعاً سلم عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو الزبير ثم خص جابر أن قال كما يصلي أمراؤكم هؤلاء. 1686 - عن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه في الخوف فصفهم خلفه صفين، فصلى بالذين يلونه ركعة، ثم قام فلم يزل قائماً حتى صلى الذين خلفهم ركعة، ثم تقدموا، وتأخر الذين كانوا قدامهم فصلى بهم ركعة، ثم قعد حتى صلى الذين تخلفوا ركعة، ثم سلم. 1687 - عن صالح بن خوات عمن صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف: أن طائفة صفت معه، وطائفة وجاه العدو، فصلى بالذين معه ركعة ثم ثبت قائماً وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت ثم ثبت جالساً، وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم. 1688 - عن جابر رضي الله عنه قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بذات الرقاع. قال: كنا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فجاء رجل من المشركين وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم معلق بشجرة، فأخذ سيف نبي الله صلى الله عليه وسلم فاخترطه. فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتخافني؟ قال "لا" قال: فمن يمنعك مني؟ قال: "الله يمنعني منك". قال: فتهدده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأغمد السيف وعلقه. قال: فنودي بالصلاة فصلى بطائفة ركعتين

ثم تأخروا، وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين. قال فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتان. 1689 - عن جابر رضي الله عنه أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحدى الطائفتين ركعتين، ثم صلى بالطائفة الأخرى ركعتين، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات، وصلى بكل طائفة ركعتين. -[المعنى العام]- في إحدى الغزوات في السنة الرابعة أو الخامسة من الهجرة قاتل المسلمون قوماً من جهينة من المشركين قتالاً شديداً، وجاء الليل فانحسر الجيشان، ولما أصبح الصباح وقف كل من الجيشين يتربص بالآخر ويترقب غفلة أو ضعفاً، وجاء وقت الظهر فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى خلفه الجيش كله، ولم يتخلف أحد منهم لمراقبة العدو وحراستهم، والعدو واقف بينهم وبين القبلة، وكانت فرصة للمشركين لم ينتهزوها، ولم ينتبهوا لها إلا بعد انتهاء المسلمين من الصلاة فقال بعضهم لبعض: لو أننا كنا حملنا عليهم أثناء الصلاة لقطعنا دابرهم. قال الآخرون: ما زالت الفرصة قائمة، عما قليل تأتي صلاة العصر، وهي أحب صلاة إليهم، بل أحب إليهم من أولادهم، فلنستعد لهم عندها، ونزل جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بمكرهم ونزل بالآية الكريمة: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك} أي وطائفة أخرى لا يصلوا {وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ... } [النساء: 102]. وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حدث وصلى بهم صلاة الخوف، وفي كل غزوة كان يصلي بهم صلاة قد تختلف عن سابقتها مراعياً ظروف الحذر والحيطة مع تمكين جميع الجيش من الجماعة والصلاة معه صلى الله عليه وسلم، فكانت صلاة الخوف بصورها الواردة في أحاديثنا وفي أحاديث أخرى فضلاً من الله ورحمة، وتخفيفاَ وتيسيراً على الأمة، وتنبيهاً على مر الزمان لأمة الإسلام أن تأخذ حذرها من أعداء الإسلام في السلم والحرب، فإنهم في كل لحظة يودون أن يميلوا على المسلمين، يودون عنتهم، ويودون لو يردونهم عن إيمانهم كفاراً. نسأل الله أن يتيقظ المسلمون من غفلتهم في هذا الزمان. والله المستعان.

-[المباحث العربية]- (وقام الصف المؤخر في نحر العدو) أي في مقابلته ومواجهته، نحر كل شيء: أوله. (ثم سجد وسجد معه الصف الأول) قال النووي: هكذا وقع في بعض النسخ "الصف الأول" ولم يقع في أكثرها ذكر "الأول" والمراد الصف المقدم الآن. اهـ. (عن صالح بن خوات عمن صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) في الرواية السابقة وهي السادسة "عن صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة" وهي تبين مراده بقوله: "عمن صلى". (ذات الرقاع) هي غزوة معروفة، كانت سنة خمس من الهجرة بأرض غطفان من نجد، سميت ذات الرقاع لأن أقدام المسلمين نقبت من الحفاء، فلفوا عليها الخرق. هذا هو الصحيح في تسميتها. وقيل: سميت لجبل هناك يقال له الرقاع، لأن فيه بياضاً وحمرة وسواداً. وقيل: سميت بشجرة هناك يقال لها: ذات الرقاع. وقيل لأن المسلمين رقعوا راياتهم. قال النووي: ويحتمل أن هذه الأمور كلها وجدت فيها. (أن طائفة صفت معه) قال النووي: هكذا هو في أكثر النسخ، وفي بعضها: "صلت معه". وهما صحيحان. (وطائفة وجاه العدو) "وجاه" بكسر الواو وضمها، يقال: وجاهه وتجاهه أي قبالته، والطائفة: الفرقة والقطعة من الشيء، تقع على القليل والكثير. (شجرة ظليلة) أي ذات ظل، ففعيل بمعنى فاعل، أي مظلة. (فاخترطه) اخترط السيف أي سله وأخرجه من غمده. -[فقه الحديث]- الأصل في مشروعية صلاة الخوف قوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا * وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة .... } وقد اختلف العلماء في صلاة الخوف في الحضر: فمنعها مالك أخذاً بمفهوم {وإذا ضربتم في الأرض} وجمهور العلماء على مشروعيتها في الحضر كالسفر، لأن صلاة الخوف شرعت للاحتياط في الحرب، وهذا قد يكون في الحضر، قد يكون المسلمون في ديار الأعداء وحاضرتهم وقد يكون العكس.

كما اختلفوا في بقاء مشروعيتها على مر الزمان، قال النووي: قال علماء الأمة بأسرها إلا أبا يوسف والمزني: إن شريعتها مستمرة إلى الآن، وهي مستمرة إلى آخر الزمان. وقال أبو يوسف والمزني: لا تشرع بعد النبي صلى الله عليه وسلم واحتج بمفهوم قول الله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة} وزعم أن الناس إنما صلوها معه لفضل الصلاة معه صلى الله عليه وسلم. واحتج الجمهور بأن الصحابة لم يزالوا على فعلها بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد صلاها علي بن أبي طالب في حروبه في صفين وغيرها وصلاها معه آلاف من الصحابة مما يعد إجماعاً، وبقوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي". فعموم منطوقه مقدم على المفهوم. قال ابن العربي وغيره: شرط كونه فيهم إنما ورد لبيان الحكم لا لوجوده، والتقدير: بين لهم بفعلك لكنه أوضح من القول، ثم إن الأصل أن كل عذر طرأ على العبادة فهو على التساوي كالقصر، والكيفية وردت لبيان الحذر من العدو وذلك لا يقتضي التخصيص بقوم دون قوم. ولئن كانت الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الصلاة مع الناس جميعاً إلا أنه يقطعها ما يقطع الصلاة خلف غيره. وقد ذكرت روايات مسلم أوجها متعددة لصلاة الخوف، وروى فيها أبو داود أوجهاً أخرى، وذكر ابن القصار المالكي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها في عشرة مواطن. وقال الخطابي: صلاة الخوف أنواع صلاها النبي صلى الله عليه وسلم في أيام مختلفة وأشكال متباينة يتحرى في كلها ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة، فهي على اختلاف صورها متفقة المعنى. اهـ. والذي يعنينا أولاً وبالذات الأوجه التي رواها الإمام مسلم وموقف مذاهب الفقهاء منها، وهي: 1 - ما تصفه الرواية الثامنة والتاسعة حيث يكون العدو في غير جهة القبلة، أو في جهة القبلة وبينه وبين المسلمين حائل وساتر لا يمكن من الرؤية، يجعل الإمام الناس طائفتين، طائفة تقف مواجهة للعدو للحراسة، وطائفة يصلي بهم الإمام جميع الصلاة، ويسلم بهم، سواء أكانت الصلاة ركعتين أم ثلاثاً أم أربعاً، ثم تخرج التي صلت مع الإمام إلى وجه العدو، وتجيء الطائفة الأخرى، فيصلي بهم مرة ثانية، يكون الإمام فيها متنفلاً، وتكون لمن خلفه فريضة. وهذه الصلاة صحيحة عند الشافعية من غير خوف، ففي الخوف أولى، والكلام في كونها مندوبة في الخوف أو المندوب وجه آخر؟ خلاف، ويمنعها من يمنع صلاة المفترض خلف المتنفل. وقد حملت على هذه الصورة الرواية الثامنة والتاسعة، في حالة كون الصلاة ثنائية، ولفظ الثامنة: "فصلى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا، وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات، وللقوم ركعتان". 2 - ما تصفه الرواية السابعة، حيث يكون العدو أيضاً في غير جهة القبلة، أو في جهة القبلة وبينه وبين المسلمين حائل يمنع مراقبة المصلين له، يفرق الإمام الناس فرقتين، فرقة تقف في مقابلة العدو، وفرقة ينحدر بها الإمام إلى حيث لا يلحقهم سهام العدو، فيحرم بهم، ويصلي بهم ركعة، فإذا قام إلى الركعة الثانية نوى من خلفه الخروج عن المتابعة وصلوا لأنفسهم ركعة أكملوا بها صلاتهم، وتشهدوا وسلموا، وذهبوا إلى وجه العدو، وثبت الإمام واقفاً في صلاة، يقرأ أو لا يقرأ،

وجاء الآخرون فأحرموا خلف الإمام في ركعته الثانية يطيل الوقوف حتى يلحقوه ويقرءوا الفاتحة ويركع بهم ويسجد، فإذا جلس للتشهد قاموا فصلوا ثانيتهم، وانتظرهم الإمام حتى يلحقوه ويسلم بهم، فتكون فرقة قد حازت فضيلة الاشتراك في تكبيرة الإحرام، وتكون الأخرى قد حازت فضيلة الاشتراك في السلام، مع الإمام، وهذا الوجه هو الذي تصوره الرواية السابعة ولفظها: "أن طائفة صفت معه، وطائفة وجاه العدو، فصلى بالذين معه ركعة، ثم ثبت قائماً، وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى، فصلى بهم الركعة التي بقيت، ثم ثبت جالساً، وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم". 3 - ما تصفه الرواية الأولى والثالثة حيث يكون العدو كذلك في غير جهة القبلة، أو بينه وبين المسلمين ساتر يمنع مراقبة المصلين له، يجعل الإمام الناس فرقتين -وليس لازماً في كل ذلك أن تكون الفرقتان متساويتين- فرقة تقف في مواجهة العدو، وفرقة ينحدر بها إلى حيث لا تلحقهم السهام، فيحرم بهم ويصلي ركعة ويقوم إلى الثانية، ولا يتم المقتدون صلاتهم كما في الوجه السابق، وإنما يذهبون إلى مكان إخوانهم فيقفون قبالة العدو وهم في الصلاة يقفون سكوتاً، وتجيء الطائفة الأخرى فيصلي الإمام ركعته الثانية، فإذا سلم قاموا فذهبوا إلى وجه العدو، وجاء الأولون إلى مكان صلاة الإمام، فصلوا الركعة الباقية عليهم، ثم ذهبوا إلى وجه العدو، وجاء الآخرون إلى مكان الصلاة فصلوا ركعتهم الباقية وسلموا. وهذه هي رواية ابن عمر ولفظ الرواية الأولى: "صلى بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو، وجاء أولئك، ثم صلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعة، ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم ثم قضى هؤلاء ركعة، وهؤلاء ركعة". واختار الشافعي وأصحابه الوجه الثاني [روايتنا السابعة] وأخذ بها مالك لأنها أحوط لأمر الحرب، ولأنها أقل مخالفة لقاعدة الصلاة، بل اختلفوا في صحة الصلاة على الوجه الثالث [رواية ابن عمر الأولى والثالثة] فقال البعض: لا تصح لكثرة الأفعال فيها بلا ضرورة، واعتبروا حديث ابن عمر منسوخاً، واختار أبو حنيفة حديث ابن عمر. 4 - ما تصفه الرواية الرابعة والخامسة، حيث يكون العدو في جهة القبلة ولا ساتر يمنع من رؤيته تقول الرواية الرابعة: "فصفنا صفين، صف خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبرنا جميعاً [أي الصفان] ثم ركع وركعنا جميعاً ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعاً، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه وقام الصف المؤخر [وظل واقفاً] في نحر العدو، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم [وقام] وقام [معه] الصف الذي يليه، انحدر الصف المؤخر بالسجود [فسجدوا السجدتين] وقاموا، ثم تقدم الصف المؤخر [ليلي رسول الله] وتأخر الصف المقدم [فقرأ الركعة الثانية] ثم ركع النبي صلى الله عليه وسلم وركعنا جميعاً، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعاً، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه، الذي كان مؤخراً في الركعة الأولى، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود والصف

الذي يليه [وجلسوا] انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا [السجدتين وتشهدوا] ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم وسلمنا جميعاً". ففي هذه الصورة تحمل كل صف نصيباً متساوياً من الحراسة، ونصيباً متساوياً من السجود مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان تبادل الصفين تأخر المقدم وتقدم المؤخر ليكون المتابع والياً للإمام. وهذا الوجه أفضل الأوجه حين يكون العدو في جهة القبلة. 5 - الوجه الخامس ما تصفه الرواية السادسة، حيث يكون العدو كذلك في جهة القبلة، ولا ساتر يمنع من رؤيته، تقول الرواية السادسة: "صفهم خلفه صفين، فصلى بالذين يلونه ركعة [والصف المؤخر يحرس] ثم قام [ومن صلى معه] فلم يزل قائما [هو والصف الذي يليه الذي صلى معه الركعة الأولى] حتى صلى الذين خلفهم ركعة [منفردين] ثم تقدموا وتأخر الذين كانوا قدامهم فصلى بهم ركعة، [وهي الثانية له ولهم] ثم قعد [وقعدوا] حتى صلى الذين تخلفوا ركعة [وأدركوا القاعدين وتشهدوا] ثم سلم [بالجميع] ". هذه الأوجه التي تصورها روايات الإمام مسلم، وهناك أوجه أخرى: 6 - منها ما يشبه الوجه الرابع لكن بدون تبادل الصفين. 7 - ومنها ما يشبه الوجه الرابع أيضاً لكن الحراسة لكل من الفرقتين تكون في الركوع مع السجود. 8 - ومنها ما ذكره الشافعي من أنه يصلي بهم الإمام ويركع ويسجد بهم جميعاً إلا صفاً يليه وبعض صف ينتظرون العدو، فإذا قاموا بعد السجدتين سجد الصف الذي حرسهم فهذا القول جعل الحراسة للصف الذي يلي الإمام. والذي ينبغي ألا يغيب عنا هو أن هذه الأوجه لا يجب شيء منها، بل هي مندوبة وبعضها يفضل بعضاً في الظروف دون بعض، فلو صلى الإمام ببعضهم كل الصلاة، وصلى غيره بالباقين، أو صلى بعضهم أو كلهم منفردين جاز بلا خلاف، لكن الصحابة كانوا لا يسمحون لأنفسهم بترك الجماعة رضي الله عنهم لعظم فضلها فسنت لهم هذه الصفات ليحصل لكل طائفة حظ من الجماعة والوقوف قبالة العدو، والله أعلم. (ملحوظة) قال النووي في المجموع: وإن كانت الصلاة مغرباً صلى بإحدى الطائفتين ركعة وبالثانية ركعتين، وإن كانت الصلاة ظهراً أو عصراً أو عشاءً في الحضر صلى بكل طائفة ركعتين. وإن اشتد الخوف ولم يتمكن من تفريق الجيش صلوا رجالاً وركباناً مستقبلي القبلة وغير مستقبلي القبلة، لقوله تعالى: {فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً} [البقرة: 239]. وقال: قال الشافعي والأصحاب: لا تختص صلاة شدة الخوف بالقتال بل تجوز في كل خوف؛ فلو هرب من سيل أو حريق أو سبع أو جمل أو كلب ضار أو صائل أو حية ونحو ذلك، ولم يجد عنه معدلاً فله صلاة شدة الخوف بالاتفاق لوجود الخوف، وهذه الصلاة جائزة بالإجماع.

كتاب الجمعة

كتاب الجمعة

(275) باب الاستعداد لصلاة الجمعة

(275) باب الاستعداد لصلاة الجمعة 1690 - عن عبد الله رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة فليغتسل". 1691 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال وهو قائم على المنبر "من جاء منكم الجمعة فليغتسل". 1692 - عن سالم بن عبد الله عن أبيه أن عمر بن الخطاب بينا هو يخطب الناس يوم الجمعة دخل رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فناداه عمر أية ساعة هذه؟ فقال إني شغلت اليوم فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت النداء فلم أزد على أن توضأت. قال عمر والوضوء أيضاً وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل. 1693 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال بينما عمر بن الخطاب يخطب الناس يوم الجمعة إذ دخل عثمان بن عفان، فعرض به عمر فقال ما بال رجال يتأخرون بعد النداء. فقال عثمان يا أمير المؤمنين ما زدت حين سمعت النداء أن توضأت ثم أقبلت. فقال عمر والوضوء أيضاً ألم تسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل". 1694 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم".

1695 - عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كان الناس ينتابون الجمعة من منازلهم من العوالي، فيأتون في العباء ويصيبهم الغبار فتخرج منهم الريح، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنسان منهم وهو عندي؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا". 1696 - عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كان الناس أهل عمل ولم يكن لهم كفاة فكانوا يكون لهم تفل فقيل لهم لو اغتسلتم يوم الجمعة. 1697 - عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "غسل يوم الجمعة على كل محتلم وسواك ويمس من الطيب ما قدر عليه" إلا أن بكيراً لم يذكر عبد الرحمن وقال في الطيب ولو من طيب المرأة. 1698 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم في الغسل يوم الجمعة. قال طاوس فقلت لابن عباس ويمس طيباً أو دهناً إن كان عند أهله؟ قال لا أعلمه. 1699 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "حق لله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يغسل رأسه وجسده". 1700 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة. ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة. ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن. ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة. ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة. فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر".

-[المعنى العام]- إن هذا اليوم الذي فضله الله، وهدى أمة الإسلام إلى تعظيمه وتكريمه بالاجتماع لعبادته استحق من التشريع ما يتناسب وقدسيته. ماذا ينبغي عند الاجتماعات الكبيرة التي يلتقي فيها الزارع والصانع والعامل؟ والتي يلتقي فيها الغني الذي يجد ألوان الثياب فيغير كل يوم ثوباً، والفقير الذي لا يجد إلا ما يستر به عورته فلا يخلع ثوب الصوف عن بدنه يتكدس بين طياته العرق وريحه الكريهة تزداد يوماً بعد يوم؟ الإسلام دين النظافة، ودين الألفة والمحبة، ودين مراعاة المشاعر والأحاسيس، فليدع إلى ما يحصل هذا الهدف السامي، وما يجعل من هذا اللقاء الأسبوعي فرصة راحة وسعادة وهدوء نفسي يستمتع بالذكر والوعظ والصلاة في جو ملائكة الرحمة وفي مظلة عفو الله وكرمه وفضله. كم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه للاستعداد إلى هذا الموكب: "إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة فليغتسل". "غسل يوم الجمعة واجب على كل -بالغ- محتلم". "غسل يوم الجمعة واجب على كل مسلم". نعم الغسل يزيل العرق والرائحة الكريهة من البدن فليعمل المسلم على إزالة الرائحة المتخلفة من الطعام في الفم وبين الأسنان وليحافظ على السواك للجمعة، وفوق هذا وذاك عليه بالطيب وأن يمس من طيب نفسه أو من طيب زوجه عند خروجه إلى الجمعة. وإذا كان الشوق إلى شيء والحرص عليه يدفع المرء إلى التعجل بلقائه، وإذا كان خير ما يسعى إليه المسلم مائدة الرحمن في المسجد يوم الجمعة، كان لا بد من تسابق المسلمين إلى الذهاب، وكان من العدل والكرم أن ينال المبكر من الأجر أكثر من الذي يليه، وهذا أمر واضح غير خفي، لكن النفس البشرية قد تنشغل عنه بمباهج الحياة الدنيا والجري وراءها، فكان تنبيهه صلى الله عليه وسلم وترغيبه في السبق والتبكير بقوله: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر". وهكذا يبين صلى الله عليه وسلم أن لله ملائكة يقفون يوم الجمعة على أبواب المساجد يكتبون من جاء إليها في الساعة الأولى، فيكتبون أوائل الحاضرين في فترة زمنية يعلمها الله، ولهم من أجر السبق إلى المسجد مثل أجر من يتصدق بالناقة، وإن اختلفت الناقة من حيث أوصافها حسناً وضعفاً باختلاف المتسابقين. ثم يبدأ ترتيب الحاضرين في الفترة الزمنية التي تليها، ولهم من أجر السبق إلى المسجد مثل أجر من يتصدق ببقرة، ثم الحاضرون في الفترة الزمنية التالية لهم من الأجر مثل أجر المتصدق بكبش، ثم الحاضرون في الفترة الزمنية الرابعة لهم من الأجر مثل أجر المتصدق بدجاجة، وآخر من يثاب على السبق والتبكير هم الحاضرون في الفترة الزمنية التي تنتهي بخروج الإمام وصعوده المنبر، فمن جاء بعد ذلك فليس له أجر سبق ولا أجر تبكير، لأن صحف الفضائل

الخاصة به تكون قد طويت، ولأن الملائكة الموكلين بتسجيل درجات المبكرين انتهوا من مهمتهم وجاءوا داخل المسجد بين المصلين يستمعون خطبة الجمعة. ولم يبق للداخل بعد ذلك إلا الملكان الموكلان بكتابة أعماله اليومية خيرها وشرها يكتبون إنصاته للخطبة أو عبثه أثناءها، يكتبون خشوعه أو عدم خشوعه في صلاته وغير ذلك. هكذا عرف الصحابة درجات التبكير والسعي إلى الجمعة فحرصوا عليها، وحرص عليها بصفة أشد كبارهم، حتى عد المتأخر إلى وقت صعود الخطيب المنبر مذنباً يلام ويعنف أمام الناس وإن كان كبير القدر. فهذا عمر بن الخطاب أمير المؤمنين يصعد المنبر ليخطب، فيدخل عثمان بن عفان رضي الله عنه ساعياً شاعراً بالخطأ والتقصير، فيراه عمر، فيعرض به، ويقول: ما بال رجال يتأخرون عن المسجد، ويحس عثمان بالخجل -وكان شديد الحياء- لكن عمر الشديد القاسي في الحق لم يرحم حياءه، فقال له: يا ابن عفان. أتدري ما هذه الساعة؟ أتدري أنك تأخرت كثيراً عما كان يرغبنا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من التبكير؟ فلم يجد عثمان بداً من الدفاع عن نفسه، وإعلان عذره، فقال: يا أمير المؤمنين. سهوت عن الوقت وشغلتني أموري بالسوق فلم أنتبه إلا والمؤذن يؤذن، فأسرعت إلى وضوئي بالسوق، ولم أذهب إلى بيتي، ثم جئت إلى المسجد مسرعاً. والتقط عمر من كلام عثمان تقصيراً آخر. لقد اكتفى عثمان بالوضوء عن الغسل وكيف ومتى يمكن له أن يغتسل وهو لم يشعر بنفسه إلا عند الأذان؟ أيترك سماع الخطبة ويذهب ليغتسل؟ إنه يعتقد أن سماع الخطبة أهم وأوجب، ولعله كان قد اغتسل بعد الفجر أول النهار. لكن عمر لم يرحمه للمرة الثانية، فقال له: وفعلت الوضوء أيضاً بدلاً عن الغسل؟ ألم تسمع كما سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل"؟ ولم يجب عثمان رضي الله عنه حياء واحتراماً لمقام أمير المؤمنين، واكتفى بأنه قدم اعتذاره عن التأخر، وهو اعتذار وجيه عن عدم الغسل. -[المباحث العربية]- (وهو قائم على المنبر) سمي منبراً لارتفاعه، من النبر وهو الارتفاع. (من جاء منكم الجمعة فليغتسل) فيه مجاز المشارفة، أي من أشرف على المجيء للجمعة وأراده، فظاهره غير مراد، لأن ظاهره أن الغسل يعقب المجيء، ونظيره قوله تعالى: {إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة} [المجادلة: 12]. (بينا هو يخطب) "بينا" أصله "بين" وأشبعت الفتحة، وقد تبقى بلا إشباع ويزاد فيها "ما" فتصير "بينما" وهي ظرف زمان فيه معنى المفاجأة. (دخل رجل) هو عثمان بن عفان المصرح به في الرواية الرابعة.

(فناداه) أي قال له: يا فلان. (أية ساعة هذه؟ ) "أية" بتشديد الياء، تأنيث أي، يستفهم بها، والتأنيث وعدمه جائزان، قال تعالى: {وما تدري نفس بأي أرض تموت} [لقمان: 34]. والساعة اسم لجزء من اليوم مقدر، وتطلق على الوقت الحاضر، وهو المراد هنا، وهذا الاستفهام توبيخ وإنكار، وكأنه يقول: لم تأخرت إلى هذه الساعة؟ وقد ورد التصريح بالإنكار في رواية لأبي هريرة ولفظها: "فقال عمر: لم تحبسون عن الصلاة"؟ . وفي روايتنا الرابعة: "فعرض به عمر فقال: ما بال رجال يتأخرون عن النداء"؟ . قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر أن عمر قال ذلك كله، فحفظ بعض الرواة ما لم يحفظ الآخر، ومراد عمر رضي الله عنه التلميح إلى ساعات التبكير التي وقع الترغيب فيها. (إني شغلت اليوم) "شغلت" بالبناء للمجهول، وقد بين جهة شغله في بعض الروايات، إذ جاء فيها "انقلبت من السوق فسمعت النداء". (حتى سمعت النداء) قال النووي: بكسر النون وضمها والكسر أشهر. اهـ والمراد الأذان بين يدي الخطيب. (فلم أزد على أن توضأت) أي لم أشتغل بشيء بعد أن سمعت النداء إلا بالوضوء. (والوضوء أيضاً) الواو عاطفة على محذوف، و"الوضوء" بالنصب مفعول لفعل محذوف، والتقدير: أشغلت عن الوقت وتأخرت، وتوضأت الوضوء فقط ولم تغتسل؟ أي ما اكتفيت بتأخير الوقت وتفويت الفضيلة حتى تركت الغسل واقتصرت على الوضوء؟ وجوز القرطبي رفع "الوضوء" على أنه مبتدأ والخبر محذوف، أي والوضوء أيضاً يقتصر عليه؟ و"أيضاً" منصوب على المصدر من آض يئيض إذا رجع وعاد. قال الحافظ ابن حجر: ولم أقف في شيء من الروايات على جواب عثمان عن ذلك، والظاهر أنه سكت عنه اكتفاء بالاعتذار الأول، لأنه قد أشار إلى أنه كان ذاهلاً عن الوقت، وأنه بادر عند سماع النداء، وإنما ترك الغسل لأنه تعارض عنده إدراك سماع الخطبة والاشتغال بالغسل، وكل منهما مرغب فيه، فآثر سماع الخطبة. اهـ. (واجب على كل محتلم) المراد بالمحتلم البالغ، وفي المراد بواجب توجيهات تأتي في فقه الحديث. (كان الناس ينتابون الجمعة) أي يحضرونها نوباً، والانتياب افتعال من النوبة. وفي القاموس: وانتابهم انتياباً: أتاهم مرة بعد أخرى. أي يحضرون الجمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من منازلهم البعيدة مرة بعد أخرى. (من منازلهم من العوالي) العوالي القرى المجتمعة حول المدينة من جهة نجدها،

وأقرب هذه القرى من المدينة آنذاك على بعد خمسة كيلو مترات، وأبعدها كانت على مسافة أربعة عشر كيلو متراً. (فيأتون في العباء) بالمد جمع عباءة بالهمز، وعباية بالياء، لغتان مشهورتان. والعباءة من الصوف يسارع إليها الريح غير الطيب لأصل صوف الغنم. (إنسان منهم) قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمه. اهـ. وكانوا لا يعنون بذكر الاسم عندما يكون المسند إليه غير حسن، أدباً وكرماً. (لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا) "لو" هنا للتمني، ويصح أن تكون شرطية محذوفة الجواب، أي لكان حسناً، و"لو" تختص بالدخول على الأفعال، فالتقدير: لو ثبت أنكم تطهرتم. (ولم يكن لهم كفاة) بضم الكاف، جمع كاف، كقاض وقضاة، أي لم يكن من يكفيهم مؤونة العمل من عبيد أو خدم. (فكانوا يكون لهم تفل) بفتح التاء والفاء رائحة كريهة. (غسل يوم الجمعة على كل محتلم) قال النووي: هكذا وقع في جميع الأصول، وليس فيه ذكر "واجب". اهـ. والجار والمجرور يتعلق بمحذوف خبر المبتدأ، وتقديره المناسب هنا: لفظ "مشروع" أو مندوب. (وسواك) معطوف على المبتدأ، أي وسواك يوم الجمعة مشروع على كل محتلم. (ويمس من الطيب ما قدر عليه) "يمس" بفتح الميم وضمها، وقوله: "ما قدر عليه". يحتمل أن يراد منه التكثير، وأن يراد منه التأكيد، أي يفعله ما أمكنه ذلك ولو من طيب امرأته. والفعل "يمس" يصح أن يكون مسبوكاً بمصدر من غير سابك ويعطف على المبتدأ، أي ومس طيب مشروع. (ولو من طيب المرأة) كان للنساء طيب مخصوص لا يستعمله الرجال إلا لضرورة، لأن له لوناً ظاهراً. (ويمس طيباً أو دهناً) المراد من الدهن ما يشبه زيت الشعر ونحوه في زمننا مما يقصد به إزالة شعث الشعر مع الرائحة الطيبة. (من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة) قال النووي: معناه غسلاً كغسل الجنابة في الصفات [احترازاً من إطلاق الغسل على الوضوء مجازاً] هذا هو المشهور في تفسيره. وقال بعض أصحابنا في كتب الفقه: المراد غسل الجنابة حقيقة. قالوا: ويستحب له مواقعة زوجته ليكون أغض للبصر وأسكن لنفسه. وهذا ضعيف أو باطل، والصواب ما قدمناه. اهـ.

(ثم راح) الرواح الذهاب أول النهار، ولما كان وقت الجمعة على المشهور من الزوال قال بعضهم: إن المراد من الرواح هنا مطلق الذهاب، وللمسألة تتمة في فقه الحديث. (فكأنما قرب بدنة) أي فكأنما تصدق ببدنة متقرباً بها إلى الله، والبدنة تقع على الواحدة من الإبل والبقر والغنم كما يقول جمهور أهل اللغة، وخصها جماعة لغة بالإبل، والمراد هنا الإبل بالاتفاق لورود البقر بعدها. قالوا: والبدنة والبقرة يقعان على الذكر والأنثى باتفاقهم، والهاء فيها للواحدة، كقمحة وشعيرة ونحوهما من أفراد الجنس. (فكأنما قرب كبشاً أقرن) وصف بالأقرن لأنه أكمل وأحسن صورة. (فكأنما قرب دجاجة) قال أهل اللغة هي بكسر الدال وفتحها لغتان مشهورتان ويقع على الذكر والأنثى (فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة) "حضرت" بفتح الضاد وكسرها لغتان مشهورتان، والفتح أفصح وأشهر، وبه جاء القرآن {وإذا حضر القسمة أولوا القربى .... } [النساء: 8]. (يستمعون الذكر) أي ذكر الله والثناء عليه والدعوة إلى الطاعة والتقوى في الخطبة. -[فقه الحديث]- يتناول هذا الباب النقاط التالية: 1 - السفر يوم الجمعة. 2 - البيع ساعة الجمعة. 3 - الغسل للجمعة. 4 - التسوك والادهان ولبس أحسن الثياب. 5 - التبكير بالذهاب إلى المسجد ودرجات المبكرين. 6 - دخول المسجد وانتظار الخطبة. 7 - ما يؤخذ من الأحاديث. وهذا هو الشرح والإيضاح: 1 - السفر يوم الجمعة: مع أن أحاديث الباب لا تتعرض للسفر صراحة لكن أحاديث التبكير إلى المسجد تثير موضوع السفر، وقد أخرج الدارقطني عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سافر من دار إقامة يوم جمعة دعت عليه الملائكة أن لا يصحب في سفره، وأن لا يعان على حاجته". وقال يحيى بن كثير: قلما خرج رجل يوم الجمعة إلا رأى ما يكره. وكذا قال الإمام أحمد. وقد وضع الفقهاء أحكامًا لصور السفر المختلفة، نلخصها فيما يلي:

(أ) سفر من لا تجب عليه الجمعة جائز بلا خلاف. (ب) سفر من تجب عليه الجمعة بعد الزوال وبعد أن يؤديها جائز باتفاق. (جـ) سفر من تجب عليه الجمعة ليلتها قبل طلوع فجرها جائز عند العلماء كافة إلا ما حكى عن إبراهيم النخعي أنه قال: لا يسافر بعد دخول العشاء من يوم الخميس حتى يصلي الجمعة. وهذا مذهب باطل. (د) سفر من تجب عليه الجمعة قبل الزوال أو بعده إذا تحقق أنه سيؤديها بعد الوصول أو في طريق السفر، جائز ولا كراهة إذا أداها بعد الوصول أو في الطريق. (هـ) سفر من تجب عليه الجمعة بعد أذانها الثاني حرام باتفاق. قال ابن حزم: اتفقوا على أن السفر حرام على من تلزمه الجمعة إذا نودي لها، لوجوب حضورها عليه بالنداء. اهـ. وقيد هذا بعدم إدراكها في طريقه أو في محل وصوله، وبعدم خوف فوت رفقة يتضرر بالتخلف عنهم، فإن خاف فوت رفقة يتضرر بالتخلف عنهم في سفر طاعة أو سفر مباح جاز. (و) سفر من تجب عليه الجمعة بعد الزوال وقبل أذانها الثاني مع عدم خوف فوت رفقة يتضرر بالتخلف عنهم في سفر مباح حرام عند الجمهور. قال به الشافعية ومالك وأحمد، وذلك لاستقرارها في ذمته بدخول أول وقتها، وهو الزوال، فلم يجز له تفويتها بالسفر، بخلاف غيرها من الصلوات لإمكان فعلها حال السفر. وقال أبو حنيفة: يجوز. (ز) سفر من تجب عليه الجمعة بعد فجرها وقبل الزوال وفيه خلاف طويل. قيل: يحرم، لأنه وقت لوجوب التسبب، بدليل أن من كانت داره على بعد لزمه القصد قبل الزوال، ووجوب التسبب كوجوب الفعل، فإذا لم يجز السفر بعد وجوب الفعل لم يجز بعد وجوب التسبب. قاله الرافعي في المهذب. وقيل: يجوز، لأن الجمعة لم تجب عليه بعد، لأنها لا تجب إلا بالزوال، فلا يحرم التفويت، كبيع المال قبل الحول، فلا تجب الزكاة ولا حرمة، ويقويه ما أخرجه أبو داود من أن ابن شهاب خرج لسفر يوم الجمعة من أول النهار، فقيل له في ذلك، فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج لسفر يوم الجمعة من أول النهار. وقد حاول أصحاب هذا الرأي أن يستندوا إلى مسألة: "لا جمعة على مسافر". لكنه استناد خاطئ، لأن المراد بها من أبيح له السفر، أو من سافر قبل يوم الجمعة، وأحرى الآراء بالقبول أنه يكره، لحديث الدارقطني الذي ذكرناه أول المسألة. والله أعلم. 2 - البيع ساعة الجمعة: أما البيع [ومثله الشراء، لأنه إذا أمر بترك البيع فقد أمر بترك الشراء، ولأن المشتري والبائع يطلق عليهما البيعان] فهو بعد الأذان الثاني حرام لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} [الجمعة: 9]. وجمهور العلماء على أن البيع والشراء حرام من حين النداء، وعلى أن المراد من النداء في الآية الأذان الذي بين يدي الخطيب، لأنه الأذان الأصلي الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم قال الطحاوي: هو المعتبر في وجوب السعي وحرمة البيع. اهـ.

وأما الأذان الذي عند الزوال فيجوز عند الجمهور البيع فيه مع الكراهة. وعند الحنفية: يكره مطلقاً ولا يحرم. قال الشافعي في الأم: ولو تبايع رجلان ليسا من أهل فرض الجمعة لم يحرم بحال ولا يكره، وإذا تبايع رجلان من أهل فرضها، أو أحدهما من أهل فرضها، فإن كان قبل الزوال فلا كراهة، وإن كان بعده وقبل ظهور الإمام أو قبل جلوسه على المنبر، أو قبل شروع المؤذن في الأذان بين يدي الخطيب كره كراهة تنزيه، وإن كان بعد جلوسه وشروع المؤذن فيه حرم على المتبايعين جميعاً، سواء كانا من أهل الفرض أو أحدهما. اهـ. وإنما حرم على من ليس من أهل الفرض لأنه شغل من عليه الفرض وتسبب في ارتكابه محرماً، لكن قال البندنيجي وصاحب العدة: إذا كان أحدهما من أهل الفرض دون الآخر حرم على صاحب الفرض وكره للآخر ولا يحرم. قال النووي: وهذا شاذ باطل، والصواب الجزم بالتحريم عليهما. وحيث قلنا بحرمة البيع هل ينعقد ويصح أو لا؟ ذهب الشافعي وأبو حنيفة ومحمد وزفر والجمهور إلى أن البيع صحيح وينعقد. وقال مالك وأحمد والظاهرية: يبطل البيع. وهل يحرم غير البيع من إجارة ونكاح وهبة ورهن ونحوها. قال ابن التين: كل من لزمه التوجه إلى الجمعة يحرم عليه كل ما يمنعه منه، من بيع أو نكاح أو عمل، وهذا قول الجمهور. ولا يحرم عند مالك نكاح ولا إجارة ولا سلم، وأباح الهبة والقرض والصدقة. ونحن نميل إلى رأي الجمهور. فقد قال عطاء: إذا نودي بالأذان حرم اللهو والبيع والصناعات كلها والرقاد وأن يأتي الرجل أهله وأن يكتب كتاب. 3 - الغسل للجمعة: أما غسل الجمعة فإن الروايات الإحدى عشرة الأول تتعرض له، إما بالأمر "فليغتسل" وإما بالتحضيض أي الأمر برفق: "لو اغتسلتم يوم الجمعة" أو بما يشعر بالوجوب أو الطلب القوي: "حق على كل مسلم أن يغتسل في سبعة أيام". "غسل يوم الجمعة على كل محتلم". ولاختلاف التعبيرات اختلف العلماء في حكم غسل يوم الجمعة: فذهب أهل الظاهر وأحمد في إحدى الروايتين، وحكى عن مالك، أن غسل يوم الجمعة واجب حيث قالوا: لو لم يكن واجباً لما قطع عمر الخطبة، ولما أنكر على عثمان تركه على ملإ من الصحابة، كما استدلوا بالأمر بالغسل يوم الجمعة، كما جاء في الروايات الأولى والثانية والثالثة، وجعلوا الأمر للوجوب. والجمهور من السلف والخلف وفقهاء الأمصار على أنه سنة مستحبة ليس بواجب يعصي بتركه، بل له حكم سائر المندوبات، وهو مذهب الشافعي وأبو حنيفة وإحدى الروايتين عن أحمد، وهو المعروف في مذهب مالك، وحملوا لفظ "واجب" على الوجوب في الاختيار ومكارم الأخلاق، والنظافة، وأجابوا عن قصة عمر وعثمان بأنها دليل على أنه سنة لا واجب، وذلك لأن عثمان لم يترك الصلاة لأجل الغسل، ولم يأمره عمر بالخروج للغسل، وأن من حضر من الصحابة وافقوهما

على ذلك، فكان إجماعاً منهم على أن الغسل ليس شرطاً في صحة الصلاة. قال الحافظ ابن حجر: وهو استدلال قوي، وقد نقل الخطابي وغيره الإجماع على أن صلاة الجمعة بدون الغسل مجزئة، كما استدلوا بحديث: "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل". أخرجه أصحاب السنن الثلاثة وابن خزيمة وابن حبان. وكما اختلف العلماء في حكمه اختلفوا في وقته. فذهب الظاهرية إلى كفاية الغسل في أي ساعة من ساعات يوم الجمعة من الفجر حتى غروب الشمس مستدلين بظاهر روايتنا الخامسة والثامنة، وفيهما إضافة الغسل لليوم، والسادسة والسابعة وكلاهما يربط الغسل باليوم. قال ابن دقيق العيد: وقد أبعد الظاهرية إبعاداً يكاد يكون مجزوماً ببطلانه. وحكى ابن عبد البر الإجماع على أن من اغتسل بعد الصلاة لم يغتسل للجمعة، ولم يفعل ما أمر به. اهـ. والرواية الأولى والثانية والثالثة والرابعة صريحة في طلبه قبل صلاة الجمعة. لكن الإمام مالكاً راعى أن الحكمة في الأمر بالغسل يوم الجمعة التنظيف رعاية للحاضرين من التأذي بالرائحة الكريهة، فشرط اتصال الذهاب إلى الجمعة بالغسل، لاحتمال حدوث ما يزيل التنظيف أثناء النهار بين الغسل المبكر وبين الذهاب إلى المسجد. ولم يراع الجمهور هذا الاحتمال البعيد، فذهب إلى أن وقته من طلوع فجر يوم الجمعة إلى وقت الصلاة، وإن كان الأفضل اتصاله بالذهاب إلى المسجد. وشذ من قال: إن وقته يدخل بالنصف الثاني من الليل، وأكثر شذوذاً منه من قال: إن وقته يدخل بصلاة العشاء ليلة الجمعة. ولو أحدث حدثاً أصغر بعد الغسل لم يبطل الغسل وتوضأ، بل قيل: لو أجنب بجماع أو غيره لم يبطل غسل الجمعة ووجب غسل الجنابة، والثمرة في هذا أنه لو لم يجد ماء لغسل الجنابة حينئذ وتيمم صح واحتفظ بأداء السنة. واختلفوا فيمن يطالب بغسل الجمعة، فالرواية الأولى والثانية تصرحان بأن الغسل مشروع لكل من أراد الجمعة من الرجال والصبيان والنساء، وظاهر الرواية الخامسة أن مشروعية الغسل خاصة بالرجال، لأن النساء يبلغن بالحيض، والرواية العاشرة ظاهرها مشروعيته للمسلم. قال النووي: يقال في الجمع بين الأحاديث أن الغسل يستحب لكل مريد الجمعة، ومتأكد في حق الذكور أكثر من النساء، ومتأكد في حق البالغين أكثر من الصبيان. اهـ. والذي تستريح إليه النفس أنه مستحب لكل مسلم ومسلمة بالغ وغير بالغ، إذ هو للنظافة وإزالة ما يكره في أسبوع، يقوي هذا روايتنا العاشرة: "حق على كل مسلم -أي ومسلمة- أن يغتسل في سبعة أيام، يغسل رأسه وجسده". ويتأكد في حق مريد الجمعة من النساء والصبيان، ويزداد تأكداً في حق مريد الجمعة من الرجال.

وهذا أفضل طريق للجمع بين الأحاديث، فالرواية الخامسة والثامنة ربطته باليوم وبالبلوغ، والرواية العاشرة ربطته بكل مسلم، أعم من البالغ وغير البالغ فإذا قيل: إن الوجوب يختص بالبالغ، قلنا: جرينا على أنه مستحب لا واجب، والمستحب لا يختص بالبالغين، أما النساء فهن شقائق الرجال، عليهن من الأحكام ما عليهم إلا ما صرح بخصوصه. والله أعلم. 4 - التسوك والادهان ولبس أحسن الثياب: وأما السواك والطيب فإن الرواية الثامنة تصرح بطلبهما، قال القرطبي: وليساً بواجبين اتفاقاً. اهـ. قال ابن المنير: إن دعوى الإجماع على عدم وجوب الطيب مردودة، فقد روى سفيان بن عيينة في جامعه عن أبي هريرة: أنه كان يوجب الطيب يوم الجمعة. وإسناده صحيح. وكذا قال بوجوبه بعض أهل الظاهر. اهـ. وأما السواك فقد جاء في الصحيح: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة". قال الزين بن المنير: لما خصت الجمعة بطلب تحسين الظاهر من الغسل والتنظيف والتطيب ناسب ذلك تطييب الفم الذي هو محل الذكر والمناجاة، وإزالة ما يضر الملائكة وبني آدم. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: ويلحق بالسواك والطيب التزين باللباس. اهـ. وقد جاء في صحيح ابن خزيمة في مثل روايتنا الحادية عشرة: "ولبس أحسن ثيابه". وعند أبي داود: "ولبس من أحسن ثيابه". وفي الموطأ وأبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما على أحدكم لو اتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبى مهنته". 5 - التبكير بالذهاب إلى المسجد ودرجات المبكرين: أما التبكير إلى المسجد ودرجات المبكرين فقد مثلت له الرواية الحادية عشرة والثانية عشرة، وقد اختلف العلماء في المراد بالساعات في الحديث وفي تحديد بدئها ونهايتها، فقيل: المراد بالساعات بيان مراتب المبكرين من أول النهار إلى الزوال. وقسمها الغزالي إلى خمس، فقال: الأولى من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. والثانية إلى ارتفاعها. والثالثة إلى انبساطها. والرابعة إلى أن ترمض الأقدام -أي تحس بحرارة الرمال. والخامسة إلى الزوال. واعترض ابن دقيق العيد بأن الرد إلى الساعات المعروفة أولى، وإلا لم يكن لتخصيص هذا العدد بالذكر معنى، لأن المراتب متفاوتة جداً. وأفضل ما قيل في ذلك: أن المراد بالساعات الخمس لحظات لطيفة، أولها زوال الشمس، وآخرها قعود الخطيب على المنبر. وأبعد الأقوال عن القبول ما نقل عن مالك من كراهية التبكير إلى الجمعة، محتجاً بأنه يستلزم تخطي الرقاب في الرجوع لمن عرضت له حاجة فخرج لها ثم رجع. وتعقب بأنه لا حرج عليه في هذه الحالة، لأنه قاصد للوصول لحقه، وإنما الحرج على من تأخر عن المجيء ثم جاء فتخطى الرقاب، وقد اشتد إنكار الإمام أحمد لهذا القول، فقال: هذا خلاف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن الخطأ أن يدفع الحرص على التبكير إلى العجلة في المشي والإسراع والجري إلى المسجد، ففي الصحيح: "إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وأنتم تمشون فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا".

6 - دخول المسجد وانتظار الخطبة: فإذا دخل المسجد كره أن يتخطى الرقاب من غير ضرورة، ففي ذلك رفع رجليه على الرءوس أو الأكتاف، وربما تعلق بثياب الناس شيء مما في رجليه، فإن رأي فرجة لا يصل إليها إلا بالتخطي لم يكره، لأن الجالسين وراءها مفرطون بتركها. قيل: سواء في ذلك الفرجة القريبة والبعيدة. وقيل: يكره إذا تخطى من أجلها أكثر من رجلين. وقيل: يكره التخطي ولو من أجل فرجة، لأن الأذى يحرم قليله وكثيره، والتخطي أذى، ففي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن رآه يتخطى: "اجلس فقد آذيت". فإذا أراد الجلوس لم يفرق بين اثنين، فلا يزاحم، ولا يقيم أحداً من مكانه ليجلس، ويسن الدنو من الإمام من غير إيذاء. فإذا جلس اشتغل بذكر الله حتى يدخل الإمام للخطبة. -[ويؤخذ من الأحاديث]- 1 - مشروعية غسل الجمعة. 2 - من الرواية الثانية يؤخذ مشروعية المنبر للخطبة واستحبابه، قال النووي: فإن تعذر فليكن على موضع عال. 3 - والقيام أثناء الخطبة. 4 - ويؤخذ من الرواية الثالثة والرابعة تفقد الإمام لرعيته. 5 - وأمره لهم بمصالح دينهم. 6 - وإنكاره على من أخل بالفضل وإن كان عظيم القدر. 7 - ومواجهته بالإنكار ليرتدع من هو دونه بذلك. 8 - وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أثناء الخطبة لا يفسدها. 9 - وأن الصمت وعدم الكلام أثناء الخطبة لا يجب على المصلي في مثل هذه الحالة، بل له أن يدافع عن نفسه ويعتذر. 10 - وفي الحديث الاعتذار إلى ولاة الأمر، وقد اعتذر عثمان عن التأخر، ولم يرد أنه اعتذر عن عدم الغسل. قال الحافظ ابن حجر: والظاهر أنه سكت اكتفاء بالاعتذار الأول، لأنه أشار إلى أنه كان ذاهلاً عن الوقت، وأنه بادر عند سماع النداء، وأنه إنما ترك الغسل لأنه تعارض عنده إدراك سماع الخطبة والاشتغال بالغسل، وكل منهما مرغب فيه، فآثر سماع الخطبة، ولعله كان يرى فرضية سماع الخطبة واستحباب الغسل فآثر ما هو واجب. 11 - وفيه إباحة الشغل والتصرف يوم الجمعة قبل النداء. 12 - واستدل به مالك على أن السوق لا تمنع يوم الجمعة قبل النداء لكونها كانت في زمن عمر، ولكون الذاهب إليها عثمان.

13 - وفيه شهود الفضلاء السوق. 14 - ومعاناتهم الإتجار فيها. 15 - وأن فضيلة التبكير إلى الجمعة إنما تحصل قبل التأذين. قال عياض: فيه حجة لكون السعي إنما يجب بسماع الأذان. 16 - استدل به بعضهم على أن شهود الخطبة ليس بواجب أخذاً من تأخير عثمان، وهو مقتضى قول أكثر المالكية، وتعقب بأنه يلزم من التأخير إلى سماع النداء فوت الخطبة، بل في بعض الروايات أن عثمان لم يفته شيء من الخطبة، وعلى تقدير أن يكون فاته منها شيء فليس فيه دليل على أنه لا يجب شهود الخطبة على من تنعقد بهم الجمعة. قاله الحافظ ابن حجر. 17 - واستدل به بعضهم على أن غسل الجمعة واجب، بقطع عمر الخطبة وإنكاره على عثمان تركه، ورد هذا الاستدلال بأن عمر قطع الخطبة وأنكر عليه ترك السنة، وهي التبكير إلى الجمعة، فيكون الغسل كذلك. 18 - واستدل به على أن الغسل ليس شرطاً لصحة الجمعة، حيث لم يترك عثمان الصلاة للغسل، ولم يأمره عمر بالخروج للغسل، فمن قال بوجوبه كمن قال: يحرم أكل الثوم لمن قصد صلاة الجمعة. 19 - استدل بقوله: "كان يأمرنا" وبحمل الجمهور له على الندب، استدل به على أن الأمر لا يحمل على الوجوب إلا بقرينة. 20 - ومن الرواية السادسة والسابعة ما كان عليه الصحابة من الجد والعمل في الدنيا والسعي لكسب الرزق. 21 - وما كانوا عليه من الكد وضيق العيش وقلة الثياب. 22 - ومن قوله في الرواية الثامنة: "غسل يوم الجمعة". أخذ بعضهم أن ليوم الجمعة غسلاً مخصوصاً لا يجزئ عنه غسل الجنابة. وقد روي عن أبي قتادة أنه قال لابنه وقد رآه يغتسل يوم الجمعة: "إن كان غسلك عن جنابة فأعد غسلاً آخر للجمعة". 23 - وقد استدل بعضهم بقوله في الرواية الحادية عشرة: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة". على أنه يستحب الجماع يوم الجمعة ليغتسل فيه من الجنابة، وقالوا: إن الحكمة في ذلك أن تسكن نفسه في الرواح إلى الصلاة ولا تمتد عينه إلى شيء يراه. وهذا الاستدلال ضعيف وبعيد، لأن الكلام على التشبيه، أي من اغتسل يوم الجمعة غسلاً كغسل الجنابة، وذلك لإبعاد احتمال إرادة النظافة من الغسل، وقد سبق توضيح ذلك من المباحث العربية. 24 - استدل بعضهم بالرواية الأولى والثانية أن الغسل لا يشرع لمن لم يحضر الجمعة كالمسافر. قال الحافظ ابن حجر: وهذا هو الأصح عند الشافعية، وبه قال الجمهور خلافاً لأكثر الحنفية. اهـ. والرواية الثامنة والعاشرة تبعد هذا الاستدلال.

كما استدل بالروايتين المذكورتين أن من يحضر الجمعة من غير الرجال إن حضرها لابتغاء الفضل شرع له الغسل وسائر آداب الجمعة. نقل ذلك عن مالك. 26 - استدل بالرواية الحادية عشرة على فضل التبكير إلى المسجد للجمعة. 27 - وتفاوت المصلين في الثواب بتفاوت تبكيرهم. 28 - وأن مراتب الناس في الفضل على حسب أعمالهم. 29 - وأن القليل من الصدقة غير محتقر في الشرع. 30 - وأن التقرب بالإبل أفضل من التقرب بالبقر. قال النووي في شرح المهذب: إن التساوي الذي وقع في مسمى البدنة لا يتنافى والتفاوت في صفاتها: فمن جاء في أول ساعة البدنة أفضل ممن جاء في آخر ساعتها. 31 - استدل بالرواية الحادية عشرة: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح". على أن الفضل المذكور إنما يحصل لمن جمع بين الغسل والتبكير. قال الحافظ ابن حجر: وعليه يحمل ما أطلق في باقي الروايات من ترتب الفضل على التبكير من غير تقييد بالغسل. 32 - من قوله في الرواية الحادية عشرة: "فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر". استنبط الماوردي أن التبكير لا يستحب للإمام. قال ويدخل للمسجد من أقرب أبوابه إلى المنبر. ورد الحافظ ابن حجر هذا الاستنباط قال: لإمكان أن يجمع الإمام بين الأمرين، بأن يبكر ولا يخرج من المكان المعد له في الجامع إلا إذا حضر الوقت، أو يحمل على الإمام الذي ليس له مكان معد في المسجد. 33 - وأن الملائكة الكاتبين يحضرون الخطبة. وقد أخرج أبو نعيم في الحلية مرفوعاً: "إذا كان يوم الجمعة بعث الله ملائكته بصحف من نور وأقلام من نور". قال الحافظ ابن حجر: وهو دال على أن الملائكة المذكورين غير الحفظة، والمراد بطي الصحف طي صحف الفضائل المتعلقة بالمبادرة إلى الجمعة دون غيرها من سماع الخطبة وإدراك الصلاة والذكر والدعاء والخشوع ونحو ذلك فإنه يكتبه الحافظان قطعاً. 34 - ويؤخذ من الرواية الثامنة من قوله: "ما قدر عليه ولو من طيب امرأته". تأكيد مشروعية الطيب للجمعة. 35 - ومن التعبير بالمس الأخذ بالتخفيف تنبيهاً على الرفق وعلى تيسير الأمر في التطيب بأن يكون بأقل ما يمكن، حتى إنه يجزئ مسه من غير تناول قدر ينقصه تحريضاً على امتثال الأمر فيه. 36 - كما يؤخذ من الرواية نفسها استحباب السواك للجمعة، ويلحق بهما باقي سنن الفطرة من قص الظفر وحلق العانة وقص الشارب وحلق شعر الإبط. والله أعلم.

(276) باب آداب سماع الخطبة وفضيلة يوم الجمعة

(276) باب آداب سماع الخطبة وفضيلة يوم الجمعة 1701 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت". 1702 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغيت" قال أبو الزناد هي لغة أبي هريرة وإنما هو فقد لغوت. 1703 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال "فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه" زاد قتيبة في روايته وأشار بيده يقللها. 1704 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم "إن في الجمعة لساعة لا يوافقها مسلم قائم يصلي يسأل الله خيراً إلا أعطاه إياه" وقال بيده يقللها يزهدها. 1705 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إن في الجمعة لساعة لا يوافقها مسلم يسأل الله فيها خيراً إلا أعطاه إياه" قال وهي ساعة خفيفة. 1706 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقل وهي ساعة خفيفة.

1707 - عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري قال: قال لي عبد الله بن عمر أسمعت أباك يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن ساعة الجمعة؟ قال قلت نعم سمعته يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة". 1708 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها". 1709 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة". 1710 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نحن الآخرون ونحن السابقون يوم القيامة، بيد أن كل أمة أوتيت الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، ثم هذا اليوم الذي كتبه الله علينا هدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع اليهود غداً والنصارى بعد غد". 1711 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نحن الآخرون ونحن السابقون يوم القيامة" بمثله. 1712 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ونحن أول من يدخل الجنة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فاختلفوا فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه هدانا الله له (قال يوم الجمعة) فاليوم لنا وغداً لليهود وبعد غد للنصارى". 1713 - عن همام بن منبه أخي وهب بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد

أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، وهذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له، فهم لنا فيه تبع، فاليهود غداً والنصارى بعد غد". 1714 - عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا فكان لليهود يوم السبت وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة فجعل الجمعة والسبت والأحد وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة. نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق". وفي رواية واصل المقضي بينهم. 1715 - عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هدينا إلى الجمعة وأضل الله عنها من كان قبلنا" فذكر بمعنى حديث ابن فضيل. 1716 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأول فالأول، فإذا جلس الإمام طووا الصحف وجاءوا يستمعون الذكر. ومثل المهجر كمثل الذي يهدي البدنة، ثم كالذي يهدي بقرة، ثم كالذي يهدي الكبش، ثم كالذي يهدي الدجاجة، ثم كالذي يهدي البيضة". 1717 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "على كل باب من أبواب المسجد ملك يكتب الأول فالأول مثل الجزور ثم نزلهم حتى صغر إلى مثل البيضة، فإذا جلس الإمام طويت الصحف وحضروا الذكر". 1718 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من اغتسل ثم أتى الجمعة فصلى ما قدر له ثم أنصت حتى يفرغ من خطبته ثم يصلي معه غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام".

1719 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصى فقد لغا". -[المعنى العام]- شاء الله -عز وجل- أن يجعل للأمم أياماً يسبغ عليهم فيها فضله، ويرغبهم في التسابق في الخيرات في هذه المواسم، فهناك أيام مفضلة على مستوى العام كيوم عرفة والأيام العشر، وليال على مستوى السنة كليلة القدر، وشهر على مستوى الأشهر كشهر رمضان. وهناك يوم كل أسبوع هو يوم الجمعة، خير يوم طلعت عليه الشمس كل أسبوع، عرض على اليهود ليعظموه ويقيموا شعائر العبادة فيه، فجادلوا موسى عليه السلام، وطلبوا منه أن يجعل لهم السبت بدل الجمعة، لأن الله في اعتقادهم لم يخلق شيئاً يوم السبت، فأوحي إلى موسى أن دعهم واختيارهم. نسوا أن الله خلق آدم في يوم جمعة، وأدخله الجنة في يوم جمعة، وأخرجه من الجنة في يوم جمعة، ولا تقوم الساعة إلا في يوم جمعة. لقد هدى الله الأمة الإسلامية لاختيار يوم الجمعة، فتجمع في المدينة قبل الهجرة مسلموها واختاروا يوم الجمعة يوماً للتلاقي وتجمعوا وصلى بهم سعد بن زرارة، وأوحى الله تعالى إلى نبيه صحة اجتهاد أصحابه واختيارهم لهذا اليوم للتجمع، فجمع بهم (عقب وصوله المدينة). لقد أصبح المسلمون بهذه الفضيلة آخر الأمم زماناً وأولها فضيلة ومنزلة سبق اليهود والنصارى في الوجود، وسبقوا في إتيانهم التوراة والإنجيل، لكن المسلمين فضلوا بنسخ كتابهم لما سبقه من الكتب، وفضلوا بيوم الجمعة وما فيه من ساعة يجاب فيها الداعي ويعطى ما يطلب فضلاً من الله وكرماً. وشاء الله تكريم الأمة المتأخرة في الوجود بتقديمها في البعث، وتقديمها في القضاء بين الناس، وتقديمها في دخول الجنة. إن يوم الجمعة وصلاة الجمعة سوق حسنات وفضل رابحة، فما أسعد من أفاد من هذه السوق فسعى إلى المسجد مبكراً مغتسلاً متطيباً فأنصت للخطبة وصلى ما كتب له، وما أشقى من نكص على عقبه واستهواه الشيطان فأنساه ذكر الله وحال بينه وبين حضور صلاة الجمعة، فمن لم يحافظ عليها طبع الله على قلبه وجعله من الغافلين المطرودين من رحمته ورضوانه.

-[المباحث العربية]- (كتاب الجمعة) بضم الميم على المشهور، وقد تسكن، وحكى فتحها، وكسرها. واتفق العلماء على أن يوم الجمعة كان يسمى في الجاهلية القديمة يوم العروبة، بفتح العين، وسمي في الإسلام بيوم الجمعة، واختلفوا في سبب هذه التسمية ومتى أطلقت؟ لورود روايات ضعيفة، فقيل: سمى بذلك لأن كمال الخلائق جمع فيه. وقيل: لأن خلق آدم جمع فيه. وقيل: لأن كعب بن لؤي كان يجمع قومه فيه فيذكرهم ويأمرهم بتعظيم الحرم ويخبرهم بأنه سيبعث منه نبي. وقيل: إن قصياً هو الذي كان يجمعهم. ومعنى هذا أن التسمية بالجمعة حصلت في الجاهلية قبل الإسلام، ومال إلى ذلك الحافظ بن حجر، فقال: قال أهل اللغة في الجمعة: هو يوم العروبة، فالظاهر أنهم غيروا أسماء الأيام السبعة بعد أن كانت تسمى: أول، أهون، جبار، دبار، مؤنس، عروبة، شبار. وقال الجوهري: كانت تسمى الاثنين أهون في أسمائهم القديمة. قال الحافظ: وهذا يشعر بأنهم أحدثوا لها أسماء، وهي هذه المتعارف عليها الآن كالسبت والأحد إلى آخرها. وجزم ابن حزم بأنه اسم إسلامي لم يكن في الجاهلية، وأنه سمي بذلك لاجتماع الناس للصلاة فيه. (فقد لغوت) قال أهل اللغة: يقال: لغا يلغو كغزا يغزو، ويقال: لغي يلغى بكسر الغين في الماضي وفتحها في المضارع كعمي يعمى. لغتان. الأولى أفصح. قال النووي: وظاهر القرآن يقتضي هذه الثانية التي هي لغة أبي هريرة، قال الله تعالى: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه} [فصلت: 26] بفتح الغين. وهذا من لغى يلغى -معتل الآخر بالألف، وعند إسناده إلى واو الجماعة تحذف الألف وتبقى الفتحة كدليل عليها- ولو كان الأول لقال: والغوا بضم الغين. قال ابن السكيت: مصدر الأول اللغو، ومصدر الثاني اللغى كالعمى. اهـ. أقول: وصريح القرآن في آية أخرى مع اللغة الأولى في قوله تعالى: {وإذا مروا باللغو مروا كراماً} [الفرقان: 72] ومعنى "فقد لغوت" أي قلت اللغو، وهو الكلام السقط المُلغى الباطل المردود. (إذا قلت لصاحبك: أنصت) المراد من الصاحب المخاطب مطلقاً، فالمراد أصل الصحبة الحاصل بمجرد المجاورة، ولفظ "أنصت" غير مراد لذاته، بل هو مثل لأقل الكلام مهما كان في صالح الخطبة، فإذا منع منع غيره من باب أولى. (ذكر يوم الجمعة) لأصحابه يشعرهم بفضله، ويحثهم على العناية به وشغله بالطاعات. (فيه ساعة) أي قطعة من الزمن، وليس المراد ما هو مشهور من كونها ستين دقيقة. (لا يوافقها) أي لا يصادفها، أعم من أن يقصدها أولاً.

(وهو يصلي) في الرواية الرابعة "قائم يصلي" ولما كان وقت الساعة الوارد في الأحاديث ليس وقت صلاة -كما سيأتي في فقه الحديث- حذفها بعض المحدثين من بعض النسخ وأثبتها محققوهم، ووجهوها بأن انتظار الصلاة في حكم الصلاة، أو بأن المراد من الصلاة معناها اللغوي وهو الدعاء، وحملوا القيام في الرواية الرابعة على الملازمة والمواظبة، من قبيل قوله تعالى: {ما دمت عليه قائماً} [آل عمران: 75] أي مواظباً. (يسأل الله شيئاً) في الرواية الرابعة "يسأل الله خيراً" فالمراد من الشيء ما فيه خير دنيوي أو ديني، لا عموم الشيء مما يشمل الحرام، فعند ابن ماجه: "ما لم يسأل حراماً". وعند أحمد: "ما لم يسأل إثماً أو قطيعة رحم". (وأشار بيده يقللها) من كلام أبي هريرة، وفاعل "أشار" رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وضحت بعض الروايات هذه الإشارة، فقالت: "ووضع أنملته على بطن الوسطى أو الخنصر". وفي الرواية الرابعة: "وقال بيده". ومعناها أشار إشارة مفهومة كالقول ففيها استعارة تصريحية تبعية. (عن أبي بردة ... ) أصل الإسناد: عن مخرمة بن بكير عن أبيه عن أبي بردة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال النووي: هذا الحديث مما استدركه الدارقطني على مسلم، وقال: لم يسنده غير مخرمة عن أبيه عن أبي بردة، ورواه جماعة عن أبي بردة من قوله، ومنهم من بلغ به أبا موسى ولم يرفعه. قال: والصواب أنه من قول أبي بردة، هذا قول الدارقطني. ودافع النووي عن مسلم فقال: هذا الذي استدركه بناء على القاعدة المعروفة له ولأكثر المحدثين: أنه إذا تعارض في رواية الحديث وقف ورفع، أو إرسال واتصال، حكموا بالوقف والإرسال، وهي قاعدة ضعيفة ممنوعة، والصحيح طريقة الأصوليين والفقهاء والبخاري ومسلم ومحققي المحدثين أنه يحكم بالرفع والاتصال، لأنها زيادة ثقة اهـ. ونحن نميل إلى القاعدة المعروفة لأكثر المحدثين لما فيها من زيادة الاحتياط. (في شأن ساعة الجمعة) أي في شأن ساعة الإجابة التي في يوم الجمعة؟ (هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة) يحتمل أن يكون المراد تقدير المدة، أي هي مقدار ما بين كذا إلى كذا، ويحتمل أن يكون المراد تحديد الوقت وأنها في هذا الزمن، وفي تحديدها خلاف طويل يأتي في فقه الحديث. (خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة) أي خير يوم من أيام الأسبوع، فأفضلية يوم الجمعة إنما هي بالنسبة للسبت والأحد وغيرهما؛ أما خير أيام السنة فيوم عرفة. (نحن الآخرون) بكسر الخاء، أي المتأخرون في زمن الوجود عن الأمم الأخرى. (ونحن السابقون يوم القيامة) قيل: المراد بالسبق السبق الزمني ليوم الجمعة عن السبت

والأحد، فإن يوم الجمعة وإن كان مسبوقاً بسبت وأحد قبله إلا أنه لا يتصور اجتماع الأيام الثلاثة متوالية إلا ويكون يوم الجمعة سابقاً، وهذا القول بعيد عن المراد، لأنه يجعل قوله: "يوم القيامة". حشواً مخلاً، والأولى أن المراد أننا السابقون بالفضل ودخول الجنة، فإن هذه الأمة أول من يحشر وأول من يحاسب وأول من يقضى بينهم -كما جاء في الرواية الثانية عشرة- وأول من يدخل الجنة، كما جاء في الرواية العاشرة، فالمعنى نحن الآخرون زماناً الأولون منزلة. (بيد أن كل أمة أوتيت الكتاب من قبلنا) المراد كل أمة من أمتي اليهود والنصارى، وفي الرواية العاشرة والحادية عشرة: "بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا". والمقصود من ضمير "أنهم" اليهود والنصارى بدليل التفصيل الآتي في نص الحديث. و "بيد" بفتح الباء وسكون الياء مثل "غير" وزناً ومعنى، وتكون بمعنى "على" وبمعنى "من أجل" والكل يصح هنا، والكلام من قبيل تأكيد المدح بما يشبه الذم، ووجه التأكيد فيه ما أدمج فيه من معنى النسخ، لأن الناسخ هو السابق في الفضل وإن كان متأخراً في الوجود، وبهذا التقرير يظهر موقع قوله: "نحن الآخرون" مع كونه أمراً واضحاً. اهـ. ذكره الحافظ ابن حجر. والمراد من الكتاب: التوراة والإنجيل. (وأوتيناه من بعدهم) الضمير المنصوب لجنس الكتاب والمراد القرآن الكريم. (ثم هذا اليوم الذي كتبه الله علينا هدانا الله له) الإشارة إلى يوم الجمعة، و "اليوم" بدل أو عطف بيان، والموصول خبره، أو صفته، والخبر: "هدانا الله له". والمراد من كتابته علينا كتابة تعظيمه وفرض تعظيمه. (فالناس لنا فيه تبع) المراد من "الناس" اليهود والنصارى، والمراد من التبعية تبعية الأيام. (اليهود غداً) أي عيد اليهود واليوم المعظم عندهم غداً السبت، وإنما قدرنا مضافاً "عيد" لأن ظرف الزمان لا يقع خبراً عن جثة. (والنصارى بعد غد) أي وعيد النصارى بعد غد الأحد. (فاختلفوا) في اختيار اليوم الذي يعظمونه، وطلبوا من موسى أن يحلهم من تعظيم الجمعة وأن يجعل لهم السبت بدله. (إذا كان يوم الجمعة) "كان" تامة، و "يوم الجمعة" فاعل، أي إذا جاء يوم الجمعة. (كان على كل باب من أبواب المسجد) "أل" في المسجد للجنس والمراد على أبواب كل مسجد تصلي فيه الجمعة. (ومثل المهجر كمثل الذي يهدي البدنة) "مثل" بفتح الميم والثاء و "المهجر" بضم الميم

وفتح الهاء وكسر الجيم المشددة، والتهجير مطلق التبكير، كذا قال الخليل بن أحمد وغيره. قال النووي: ومنه الحديث: "لو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه". أي التبكير إلى كل صلاة. وعن الفراء وغيره: التهجير: السير في الهاجرة، أي الحر. قال القرطبي: الحق أن التهجير هنا من الهاجرة وهو السير وقت الحر، وهو صالح لما قبل الزوال وبعده. (مثل الجذور) "مثل" بفتح الميم وتشديد الثاء المفتوحة، أي مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم (الجزور لأجر المبكر). (ثم نزلهم حتى صغر إلى مثل البيضة) "نزل" بفتح النون وتشديد الزاي المفتوحة، و"صغر" بفتح الصاد وتشديد الغين المفتوحة، أي ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر منازلهم في السبق والفضيلة حتى صغر منازلهم إلى مثل البيضة. (ثم أنصت) قال النووي: هكذا هو في أكثر النسخ المحققة، ونقله بعضهم: "انتصت" بزيادة تاء، وهي لغة صحيحة، يقال: أنصت ونصت وانتصت، ثلاث لغات. (حتى يفرغ من خطبته) قال النووي: هكذا هو في الأصول، من غير ذكر "الإمام" وعاد الضمير إليه للعلم به، وإن لم يسبق له ذكر. (فاستمع وأنصت) هما شيئان متمايزان، وقد يجتمعان، فالاستماع الإصغاء، والإنصات السكوت، قال تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} [الأعراف: 204] -[فقه الحديث]- ترمي هذه الأحاديث إلى بيان فضل يوم الجمعة من جهتين: اشتماله على ساعة الإجابة، وهداية الله لنا لتقديسه: 1 - أما ساعة الإجابة: فقد أكثر العلماء القول فيها، هل هي باقية أو رفعت؟ وعلى القول ببقائها هل هي في كل جمعة؟ أو جمعة واحدة من كل سنة؟ وإذا كانت في كل جمعة هل لها وقت معين من اليوم؟ أو وقتها مبهم؟ وهل وقتها ثابت أو ينتقل؟ أفاض في هذا البحث الحافظ ابن حجر في كتابه فتح الباري قائلاً: وها أنا أذكر تلخيص ما اتصل إلى من الأقوال مع أدلتها، ثم أعود إلى الجمع بينها والترجيح. اهـ. ونحن نلخص تلخيص الحافظ ومن أراد المبسوط فليرجع إليه. الرأي الأول: أنها رفعت. وقد زيفه ابن عبد البر، ورده السلف على قائله. الثاني: أنها موجودة لكن في جمعة واحدة من كل سنة. قاله كعب الأحبار لأبي هريرة فرده عليه أبو هريرة.

الثالث: من طلوع الفجر في كل جمعة إلى طلوع الشمس. الرابع: من عصر يوم الجمعة إلى غروب الشمس. الخامس: إذا أذن المؤذن لصلاة الجمعة. السادس: من الزوال إلى أن يدخل الإمام في الصلاة. السابع: إذا أذن، وإذا رقى المنبر، وإذا أقيمت الصلاة. الثامن: حين افتتاح الخطبة. التاسع: حين الجلوس بين الخطبتين. العاشر: ما بين أن ينزل الإمام من المنبر إلى أن تنقضي الصلاة. الحادي عشر: من صلاة العصر إلى غروب الشمس. وقد عد الحافظ ابن حجر أكثر من أربعين قولاً، وأولاها بالقبول أنها من حين يجلس الإمام على المنبر إلى أن تنقضي الصلاة. قال المحب الطبري: أصح الأحاديث فيها حديث أبي موسى [روايتنا السادسة]. وروي عن الإمام مسلم أنه قال: حديث أبي موسى أجود شيء في هذا الباب وأصحه. وبذلك قال البيهقي وابن العربي وجماعة. وقال القرطبي: هو نص في موضع الخلاف فلا يلتفت إلى غيره. وقال النووي: هو الصحيح، بل الصواب. انتهى من فتح الباري بتصرف. 2 - وأما هداية الله لنا لتعظيم هذا اليوم بالطاعة فظاهر التعبير أن اختيار يوم الجمعة من المسلمين كان عن اجتهاد منهم، ويشهد له ما رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن محمد بن سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل أن تنزل سورة الجمعة، قالت الأنصار: إن لليهود يوماً يجتمعون فيه كل سبعة أيام، وللنصارى كذلك، فهلم فلنجعل يوماً نجتمع فيه فنذكر الله تعالى ونصلي ونشكر، فجعلوه يوم العروبة، واجتمعوا إلى أسعد بن زرارة، فصلى بهم يومئذ. قال الحافظ ابن حجر: وهذا وإن كان مرسلاً فله شاهد بإسناد حسن أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه وصححه ابن خزيمة من حديث كعب بن مالك قال: كان أول من صلى بنا الجمعة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسعد بن زرارة. الحديث فمرسل ابن سيرين يدل على أن أولئك الصحابة اختاروا يوم الجمعة باجتهاد. ولا يمنع ذلك أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علمه بالوحي وهو بمكة، فلم يتمكن من إقامتها، ولذلك جمع بهم أول ما قدم المدينة. وعلى هذا فقد حصلت الهداية للجمعة بجهتي البيان والتوفيق. اهـ. أما إضلال الله اليهود والنصارى عن هذا اليوم -كما هو نص روايتنا الثانية عشرة- بعد أن فرض الله عليهم هذا اليوم -كما تفيد روايتنا الحادية عشرة- فقد شرحه ابن بطال بقوله: ليس المراد أن يوم الجمعة فرض عليهم بعينه فتركوه، لأنه لا يجوز لأحد أن يترك ما فرض الله عليه وهو مؤمن، وإنما يدل -والله أعلم- أنه فرض عليهم يوم من أيام الأسبوع وكل إلى اختيارهم ليقيموا فيه شريعتهم،

فاختلفوا في أي الأيام هو ولم يهتدوا إلى يوم الجمعة. وقال القاضي عياض مؤيداً هذا الرأي: لو كان فرض عليهم بعينه لقيل: فخالفوا بدل اختلفوا. وصرح السدي بأنهم فرض عليهم يوم الجمعة بعينه فأبوا، روى ذلك ابن أبي حاتم عن طريق أسباط بن نصر عن السدي قال: إن الله فرض على اليهود الجمعة، فأبوا، وقالوا: يا موسى إن الله لم يخلق يوم السبت شيئاً فاجعله لنا، فجعل عليهم. ومال النووي إلى هذا الرأي فقال: وليس ذلك بعجيب من مخالفتهم، كما وقع لهم في قوله تعالى: {وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة} [البقرة: 58] وغير ذلك، وكيف لا وهم القائلون: سمعنا وعصينا؟ -[ويؤخذ من مجموع الأحاديث: ]- 1 - من الروايتين الأولى والثانية يؤخذ الإنصات لسماع الخطبة وقد سبق تفصيل القول فيه. 2 - وأن الكلام بعد الخطبة وقبل الإحرام بالصلاة لا بأس به. 3 - ومن الرواية الخامسة عشرة يؤخذ مشروعية غسل الجمعة وفضيلته وقد سبق تفصيله. 4 - ومن قوله: "فصلى ما قدر له". يؤخذ استحباب التنفل قبل خروج الإمام يوم الجمعة وهو مذهب الشافعية والجمهور. 5 - وأن النوافل المطلقة لا حد لها. 6 - ومن الرواية السادسة عشرة استحباب تحسين الوضوء، بالغسل ثلاثاً، ودلك الأعضاء، وإطالة الغرة والتحجيل، وتقديم الميامين، والإتيان بسننه المشهورة. 7 - وكراهية مس الحصا أثناء الخطبة، ومثله العبث والانشغال عنها بأي من المشاغل. 8 - والحث على إقبال القلب والجوارح على الخطبة. 9 - وفضل هذه الأعمال يوم الجمعة مع ملاحظة الأعمال الواردة في روايات أخرى، لذا قال الحافظ ابن حجر: إن تكفير الذنوب من الجمعة إلى الجمعة مشروط بوجود جميع ما تقدم من غسل وتنظف وتطيب ولبس أحسن الثياب والمشي بالسكينة وترك التخطي والتفرقة بين الاثنين، وترك الأذى والتنفل والإنصات وترك اللغو اهـ. والمراد بالموصول في: "غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى". الذنوب الصغائر ففي رواية: "حط عنه ذنوب ما بينه وبين الجمعة الأخرى". والجمعة الأخرى هي السابقة، أي من صلاة الجمعة وخطبتها إلى مثل الوقت من الجمعة التي مضت حتى تكون سبعة أيام بلا زيادة ولا نقصان، ثم يضم إليها ثلاثة أيام من التي بعدها، كما جاء في بعض الروايات، على معنى عدم المؤاخذة بها إذا وقعت، وعلى هذا تتوارد المغفرة مرتين على الأيام الثلاثة بعد صلاة الجمعة التي بعدها كما تتوارد المغفرة للصغائر بفعل طاعات أخرى كثيرة كرمضان إلى رمضان والعمرة إلى العمرة

وصيام يوم عرفة إلى يوم عرفة، بل إن الصغائر مغفورة باجتناب الكبائر، مصداقاً لقوله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} [النساء: 31] لهذا قال محققو العلماء: إذا لم يكن للمرء صغائر تكفر رجى له أن يكفر عنه بمقدار ذلك من الكبائر أو أعطى من الأجر والثواب بمقدار ذلك. والله ذو الفضل العظيم. 10 - حرص الشارع على بعث وإثارة دواعي الاجتهاد والإكثار من الصلاة والدعاء لتحقيق خير هذه الأمة، وذلك بإبهام ساعة إجابة الدعاء. 11 - فضل يوم الجمعة لاختصاصه بساعة الإجابة، وفضله بما جاء في الرواية السابعة والثامنة من أنه فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، وفيه تقوم الساعة. وقد اعترض القاضي عياض على اعتبار هذه الميزات من الفضائل، فقال: الظاهر أن هذه الفضائل المعدودة ليست لذكر فضيلته، لأن إخراج آدم وقيام الساعة لا يعد فضيلة، وإنما هو بيان لما وقع فيه من الأمور العظام وما سيقع، ليتأهب العبد فيه بالأعمال الصالحات لنيل رحمة الله ودفع نقمته. اهـ. ورد عليه بعضهم فقال: الجميع من الفضائل، وخروج آدم من الجنة هو سبب وجود الذرية وهذا النسل العظيم، ووجود الرسل والأنبياء والصالحين والأولياء، ولم يخرج منها طرداً بل لقضاء أوتار ثم يعود إليها، وأما قيام الساعة فسبب لتعجيل جزاء الأنبياء والصديقين والأولياء وغيرهم وإظهار كرامتهم وشرفهم. اهـ. 12 - فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم. 13 - قوله في الرواية الحادية عشرة: "فهدانا الله له". وقوله في الرواية الثانية عشرة: "أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا". فيه دلالة لمذهب أهل السنة أن الهداية والإضلال والخير والشر كله بإرادة الله تعالى، وهو فعله جل شأنه، خلافاً للمعتزلة. 14 - ويؤخذ منه أن سلامة الإجماع من الخطأ مخصوص بهذه الأمة. 15 - وأن الاجتهاد في زمن نزول الوحي جائز. 16 - ومن قوله: "فالناس لنا تبع، اليهود غداً والنصارى بعد غد". أن الجمعة أول الأسبوع شرعاً، ويدل على ذلك تسمية الأسبوع كله جمعة، وكانوا يسمون الأسبوع سبتاً. والله أعلم

(277) باب صلاة الجمعة وخطبتها

(277) باب صلاة الجمعة وخطبتها 1720 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نرجع فنريح نواضحنا قال حسن: فقلت لجعفر في أي ساعة تلك؟ قال: زوال الشمس. 1721 - عن جعفر عن أبيه أنه سأل جابر بن عبد الله متى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة؟ قال كان يصلي ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها زاد عبد الله في حديثه حين تزول الشمس يعني النواضح. 1722 - عن سهل رضي الله عنه قال: ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة (زاد ابن حجر) في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. 1723 - عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه رضي الله عنه قال كنا نجمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس ثم نرجع نتتبع الفيء. 1724 - عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه رضي الله عنه قال: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة فنرجع وما نجد للحيطان فيئاً نستظل به. 1725 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قائماً ثم يجلس ثم يقوم قال كما يفعلون اليوم. 1726 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن ويذكر الناس.

1727 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً ثم يجلس ثم يقوم فيخطب قائماً. فمن نبأك أنه كان يخطب جالساً فقد كذب. فقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة. 1728 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً يوم الجمعة فجاءت عير من الشام فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلاً؛ فأنزلت هذه الآية التي في الجمعة {وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائماً} 1729 - -عن حصين بهذا الإسناد قال ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ولم يقل: قائماً. 1730 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة فقدمت سويقة قال فخرج الناس إليها فلم يبق إلا اثنا عشر رجلاً أنا فيهم، قال فأنزل الله {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً} إلى آخر الآية 1731 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال بينا النبي صلى الله عليه وسلم قائم يوم الجمعة إذ قدمت عير إلى المدينة فابتدرها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لم يبق معه إلا اثنا عشر رجلاً فيهم أبو بكر وعمر، قال ونزلت هذه الآية {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها} 1732 - عن كعب بن عجرة قال دخل المسجد وعبد الرحمن بن أم الحكم يخطب قاعداً، فقال انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعداً وقال الله تعالى {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً} 1733 - عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما أنهما سمعا رسول الله

صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره "لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين". 1734 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال كنت أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت صلاته قصداً وخطبته قصداً. 1735 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات فكانت صلاته قصداً وخطبته قصداً. وفي رواية أبي بكر زكرياء عن سماك. 1736 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم، ويقول "بعثت أنا والساعة كهاتين" ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى ويقول "أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة". ثم يقول "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه من ترك مالا فلأهله ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإلي وعلي". 1737 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال كانت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة يحمد الله ويثني عليه ثم يقول على إثر ذلك وقد علا صوته ثم ساق الحديث بمثله. 1738 - عن جابر رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ثم يقول "من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وخير الحديث كتاب الله". ثم ساق الحديث بمثل حديث الثقفي. 1739 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ضماداً قدم مكة وكان من أزد شنوءة، وكان يرقي من هذه الريح، فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون إن

محمداً مجنون، فقال لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي. قال فلقيه. فقال يا محمد إني أرقي من هذه الريح وإن الله يشفي على يدي من شاء فهل لك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله. أما بعد". قال فقال أعد علي كلماتك هؤلاء. فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات. قال: فقال لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن ناعوس البحر. قال فقال هات يدك أبايعك على الإسلام. قال فبايعه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وعلى قومك" قال وعلى قومي. قال فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فمروا بقومه فقال صاحب السرية للجيش هل أصبتم من هؤلاء شيئاً؟ فقال رجل من القوم أصبت منهم مطهرة. فقال ردوها فإن هؤلاء قوم ضماد. 1740 - عن أبي وائل قال: خطبنا عمار فأوجز وأبلغ فلما نزل قلنا يا أبا اليقظان لقد أبلغت وأوجزت فلو كنت تنفست؛ فقال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه؛ فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة، وإن من البيان سحراً". 1741 - عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أن رجلاً خطب عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بئس الخطيب أنت قل ومن يعص الله ورسوله". قال ابن نمير فقد غوي. 1742 - عن صفوان بن يعلى عن أبيه رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر {ونادوا يا مالك.}

1743 - عن عمرة بنت عبد الرحمن عن أخت لعمرة رضي الله عنهما قالت أخذت {ق والقرآن المجيد} من في رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وهو يقرأ بها على المنبر في كل جمعة. 1744 - عن بنت لحارثة بن النعمان رضي الله عنها قالت: ما حفظت {ق} إلا من في رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بها كل جمعة، قالت وكان تنورنا وتنور رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً. 1745 - عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان رضي الله عنها قالت: لقد كان تنورنا وتنور رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً سنتين أو سنة وبعض سنة، وما أخذت {ق والقرآن المجيد} إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس. 1746 - عن عمارة بن رؤيبة قال رأى بشر بن مروان على المنبر رافعاً يديه؛ فقال قبح الله هاتين اليدين، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا وأشار بإصبعه المسبحة. 1747 - عن حصين بن عبد الرحمن قال رأيت بشر بن مروان يوم جمعة يرفع يديه فقال عمارة بن رؤيبة فذكر نحوه. 1748 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إذ جاء رجل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "أصليت؟ يا فلان" قال لا. قال "قم فاركع". 1749 - عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم كما قال حماد ولم يذكر الركعتين.

1750 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: دخل رجل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فقال "أصليت؟ " قال لا. قال "قم فصل الركعتين" وفي رواية قتيبة قال "صل ركعتين". 1751 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: جاء رجل والنبي صلى الله عليه وسلم على المنبر يوم الجمعة يخطب، فقال له "أركعت ركعتين؟ " قال: لا. فقال "اركع". 1752 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب فقال "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة وقد خرج الإمام فليصل ركعتين". 1753 - عن جابر رضي الله عنه أنه قال جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر، فقعد سليك قبل أن يصلي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "أركعت ركعتين؟ " قال: لا. قال: "قم فاركعهما". 1754 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فجلس، فقال له "يا سليك قم فاركع ركعتين وتجوز فيهما" ثم قال "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما". 1755 - عن أبي رفاعة رضي الله عنه قال: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، قال فقلت يا رسول الله رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه. قال فأقبل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك خطبته حتى انتهى إلي فأتي بكرسي حسبت قوائمه حديداً، قال فقعد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يعلمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته فأتم آخرها.

1756 - عن ابن أبي رافع قال استخلف مروان أبا هريرة على المدينة وخرج إلى مكة فصلى لنا أبو هريرة الجمعة فقرأ بعد سورة الجمعة في الركعة الآخرة إذا جاءك المنافقون. قال فأدركت أبا هريرة حين انصرف، فقلت له إنك قرأت بسورتين كان علي بن أبي طالب يقرأ بهما بالكوفة. فقال أبو هريرة إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما يوم الجمعة. 1757 - عن عبيد الله بن أبي رافع قال استخلف مروان أبا هريرة بمثله غير أن في رواية حاتم فقرأ بسورة الجمعة في السجدة الأولى وفي الآخرة إذا جاءك المنافقون، ورواية عبد العزيز مثل حديث سليمان بن بلال. 1758 - عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية. قال وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد يقرأ بهما أيضاً في الصلاتين. 1759 - عن عبيد الله بن عبد الله قال كتب الضحاك بن قيس إلى النعمان بن بشير يسأله أي شيء قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة سوى سورة الجمعة؟ فقال كان يقرأ هل أتاك. 1760 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة: الم تنزيل السجدة وهل أتى على الإنسان حين من الدهر وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الجمعة سورة الجمعة والمنافقين.

1761 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ في الفجر يوم الجمعة الم تنزيل وهل أتى. 1762 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصبح يوم الجمعة بـ {الم تنزيل} في الركعة الأولى وفي الثانية {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً} 1763 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعاً". 1764 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا صليتم بعد الجمعة فصلوا أربعاً" (زاد عمرو في روايته قال ابن إدريس قال سهيل) فإن عجل بك شيء فصل ركعتين في المسجد وركعتين إذا رجعت". 1765 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من كان منكم مصلياً بعد الجمعة فليصل أربعاً" وليس في حديث جرير "منكم". 1766 - عن عبد الله رضي الله عنه أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فسجد سجدتين في بيته. ثم قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك. 1767 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه وصف تطوع صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين في بيته. قال يحيى أظنني قرأت فيصلي أو ألبتة. 1768 - عن سالم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الجمعة ركعتين.

1769 - عن عمر بن عطاء بن أبي الخوار أن نافع بن جبير أرسله إلى السائب ابن أخت نمر يسأله عن شيء رآه منه معاوية في الصلاة، فقال نعم صليت معه الجمعة في المقصورة فلما سلم الإمام قمت في مقامي فصليت، فلما دخل أرسل إلي فقال لا تعد لما فعلت إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة حتى تكلم أو تخرج، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك أن لا توصل صلاة بصلاة حتى نتكلم أو نخرج. 1770 - أخبرني عمر بن عطاء أن نافع بن جبير أرسله إلى السائب بن يزيد ابن أخت نمر وساق الحديث بمثله غير أنه قال فلما سلم قمت في مقامي ولم يذكر: الإمام. -[المعنى العام]- الجمعة عيد أيام الأسبوع، وصلاتها كصلاة العيد، أحيطت بهالة وقدسية، وأحيطت بجماعة لم تحظ بها صلاة، فكل صلاة تصح فرادى غير صلاة الجمعة، وكل صلاة تصح بدون خطبتين سابقتين غير صلاة الجمعة، وكل صلاة لا تقوم مقام صلاة أخرى ولا تسد مسدها غير صلاة الجمعة التي تقوم مقام صلاة الظهر. من هذا الوضع الفريد لصلاة الجمعة كانت جديرة بدقة وقتها، وكانت اجتهادات العلماء في استنباط الوقت من الأحاديث الخاصة به اجتهادات حية، فهذا الإمام أحمد بن حنبل يرى أنها تصح قبل الزوال حيث إن الصحابة كانوا يستمعون الخطبتين ويصلون ثم يرجعون إلى رحالهم عند الزوال، حيث كانوا لا يقيلون ولا يتغدون إلا بعد الصلاة، حيث كانوا يصلون ويخرجون من المسجد يلتمسون ظل الحوائط فلا يكادون يجدون ما يظلهم، مما يوحي بأن الصلاة كانت قبل الزوال. وهؤلاء الأئمة الآخرون يفهمون هذه الأحاديث على أنها تشير إلى التبكير بها عند الزوال، وليس قبله، وحيث إن صلاة الجمعة قائمة مقام صلاة الظهر ولا قائل بصحة صلاة الظهر قبل الزوال، حيث إن المسلمين منذ فجر الإسلام لا يصلون الجمعة قبل الزوال. كذلك كانت صلاة الجمعة جديرة ببحث ما يقرأ فيها من سور القرآن، وما يصلى بعدها من النوافل، فنصت الأحاديث على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بعد الفاتحة في الركعة الأولى سورة (الجمعة) وفي الركعة الثانية سورة (إذا جاءك المنافقون) وأحياناً كان يقرأ (سبح اسم ربك الأعلى) في الركعة الأولى، وسورة (الغاشية) في الركعة الثانية. وهكذا كانت صلاة الجمعة من الأهمية الشرعية بمكان، حتى نزل بشأنها خاصة قرآن يتلى يحث

على السعي إليها، والعناية بها وحضورها والتبكير إليها وترك المشاغل الدنيوية من أجلها، فقال جل شأنه: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون} [الجمعة: 9 وما بعدها]. وكلما كان الأمر مهماً لزم الاستعداد له، وكلما عظم فضل العبادة قدم لها بمقدمات تتناسب وفضلها، تمهيداً وإعداداً وتهيئة للدخول فيها، كما أحيطت بهالة تبين عن قدسيتها وشرفها وعظمها وجلالها. وهذا ما لزم خطبة الجمعة ولابسها من أذان قبلها وآذان بين يديها، وكونها خطبتين يجلس بينهما ويقوم فيهما على منبر مستقبل الناس، ويأتي فيهما بأركان أساسية، مقتديا بخطبة صلى الله عليه وسلم. نعم لزم الجمعة إعداد خاص، غسل وطيب ولبس أحسن الثياب ومشي بالسكينة والوقار ودخول للمسجد في أدب وخشوع، لا يقيم أحداً من مجلسه ولا يفرق بين اثنين ولا يتخطى الرقاب، ثم يصلي نوافل ما قدر عليه ثم يجلس يستمع الخطبة، لا يكلم جاره أثناءها وإلا ضاع ثوابه حتى لو كان الكلام بالأمر بالمعروف، وحتى لو كان الكلام بإسكات المتكلم، ولا يعبث بيديه، ولا يمس الفراش أو الحصا ولا يكثر الحركة والالتفات، بل يكون في خشوع وإنصات للخطبة من أولها إلى آخرها. لم يدرك المسلمون أول الإسلام هذه الأهمية، ولم توضح لهم هذه الأمور، فأخطئوا حين كانوا يستمعون الرسول صلى الله عليه وسلم يخطب إذ علموا أن قافلة تجارية تحمل القمح والطعام قد جاءت المدينة في زمن شدة وحاجة فأسرعوا إليها، وانفضوا عن الخطبة، حتى لم يبق أمام الرسول صلى الله عليه وسلم من المئات سوى اثنى عشر رجلاً، فأنزل الله تعالى في عتابهم وتوبيخهم وتوجيههم قرآنا يتلى، فقال: {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين} [الجمعة: 11]. لقد اقتضت حكمة الله تعالى ورحمته للمسلمين أن يشرع تكرار وعظهم وجوباً كل سبعة أيام يرغب الخطيب في فضل الله والطاعة، ويحذر من غضب الله والمعصية، يتفاعل مع الكلمة يشتد حين يقتضي الحديث الشدة ويرفع صوته كلما احتاج الأمر رفع الصوت، لقد كان صلى الله عليه وسلم يخوف من اليوم الآخر وقربه، ويوصي بالتمسك بكتاب الله وسنة رسوله، ويحذر من البدع والضلالات، ويؤمن المسلمين على أموالهم وأولادهم وديونهم وأطفالهم من بعده، يخطب فيقتصد، لا يطيل ولا يخل، يرفق بالسائل ويعلم الجاهل. فصلى الله وسلم وبارك وعلى من اتبع هداه إلى يوم الدين.

-[المباحث العربية]- (كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي صلاة الجمعة. (ثم نرجع) من الصلاة إلى بيوتنا. (فنريح نواضحنا) جمع ناضح، وهو البعير الذي يستقى به، سمي بذلك لأنه ينضح الماء، أي يصبه، ومعنى "نريح نواضحنا": أي نريحها من العمل وتعب السقى، فنخليها منه، ويجوز أن يكون من الرواح للرعي. (في أي ساعة تلك) أي تلك الصلاة. (ما كنا نقيل) من القيلولة، وهي الراحة وسط النهار. (كنا نجمع) بضم النون وفتح الجيم وتشديد الميم المكسورة، أي نصلي الجمعة. (ثم نرجع نتتبع الفيء) أي نبحث عنه ونستظل به، فلا نكاد نجده لقلته بسبب التبكير وقصر الحيطان، كما جاء في الرواية الخامسة: "فنرجع وما نجد للحيطان فيئاً نستظل به". (يقرأ القرآن ويذكر الناس) أي في الخطبتين، لا في الجلسة بينهما. (فمن أنبأك) القائل جابر بن سمرة، والمخاطب سماك الراوي عن جابر. (فقد -والله- صليت معه أكثر من ألفي صلاة) أي من الصلوات الخمس لا الجمعة، والقصد التوثيق من المتابعة والمصاحبة التي تؤدي إلى التوثيق بحالة الجمعة من باب أولى، لأن المواظب على الجماعة معه صلى الله عليه وسلم في الصلوات الخمس لا يتخلف عنه في الجمعة. (فجاءت عير من الشام) العير -بكسر العين- الإبل التي تحمل الطعام أو التجارة، لا تسمى الإبل عيراً إلا بهذا الوصف، وهي مؤنثة، لا واحد لها من لفظها، وفي رواية للبزار: "جاءت عير لعبد الرحمن بن عوف". وفي رواية: أنها كانت لوبرة الكلبي. وفي رواية: أن الذي قدم بها من الشام دحية بن خليفة الكلبي. وجمع الحافظ ابن حجر بين هذه الروايات بأن التجارة كانت لعبد الرحمن بن عوف، وكان دحية السفير فيها أو مفاوضاً، وكان وبرة رفيق دحية. (فانفتل الناس إليها) أي انصرفوا عن الخطبة إلى العير. (حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلاً) في تسميتهم ذكرت رواياتنا أبا بكر وعمر وجابر بن عبد الله، وذكرت روايات أخرى بقية الخلفاء الأربعة علياً وعثمان وابن مسعود وسالماً مولى أبي حذيفة وبلالاً وعماراً.

(فقدمت سويقة) تصغير سوق، والمراد العير المذكورة في الرواية الأخرى وسميت سوقاً لأن البضائع تساق إليها ومنها، وأطلق على العير "سويقة" لأن الناس ستشتري منها الطعام. (فابتدرها أصحاب رسول الله) أي عاجلوها وأسرعوا واستبقوا إليها. (قال: دخل المسجد) القائل أبو عبيدة، وفاعل "دخل" ضمير يعود على كعب بن عجرة، أو فاعل "قال" كعب بن عجرة، وهو فاعل "دخل" وكأنه جرد من نفسه شخصاً يتحدث عنه، والأصل: دخلت المسجد .... فقلت: انظروا .... إلخ. (لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات) أي عن تركهم صلوات الجمعة، و "ودع" بفتح الواو وسكون الدال، مصدر الفعل الذي أميت ماضيه ولم يستعمل إلا المضارع والأمر "يدع دع". (أو ليختمن الله على قلوبهم) المراد من الختم الطبع والتغطية، وقد اختلف المتكلمون في المراد منه، فقيل: هو إعدام اللطف وإعدام أسباب الخير. وقيل: هو خلق الكفر في صدورهم. وقيل: هو علامة جعلها الله في قلوبهم لتعرف بها الملائكة من يمدح ومن يذم. (فكانت صلاته قصداً وخطبته قصداً) في القاموس: القصد ضد الإفراط، ورجل قصد ليس بالجسيم ولا الضئيل، فالمعنى هنا بين الطول الظاهر والقصر الماحق. (كأنه منذر جيش يقول: صبحكم مساكم) أي كأنه منذر قومه بجيش الأعداء، وكأن منذراً يفجأ قومه بجيش يغير عليهم في الصبح فيقول: أدركوا أنفسكم فقد صبحكم العدو. أو أدركوا أنفسكم فقد فاجأكم جيش العدو في المساء. ففاعل "يقول" منذر الجيش. (بعثت أنا والساعة) روى بنصب الساعة ورفعها، والمشهور نصبها على المفعول معه. (كهاتين) يحتمل أنه تمثيل لمقاربتها، وأنه ليس بينهما أصبع أخرى، كما أنه لا نبي بينه وبين الساعة، ويحتمل أنه لتقريب ما بينهما من المدة، وأن التفاوت بينهما كنسبة التفاوت بين الأصبعين تقريباً لا تحديداً، قاله القاضي عياض. (يقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى) "يقرن" بضم الراء على المشهور الفصيح، وحكى كسرها. (وخير الهدى هدى محمد) قال النووي: هو بضم الهاء وفتح الدال فيهما وبفتح الهاء وإسكان الدال أيضاً، ضبطناه بالوجهين. وفسره الهروي على رواية الفتح بالطريق، أي أحسن الطرق طريق محمد، وأما على رواية الضم فمعناه الدلالة والإرشاد. قال العلماء: لفظ الهدى له معنيان أحدهما: بمعنى الدلالة والإرشاد، وهو الذي يضاف إلى الرسل والقرآن والعباد، قال تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} [الشورى: 52]. {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} [الإسراء: 9]. و {هدى

للمتقين} [البقرة: 2]. ومنه قوله تعالى: {وأما ثمود فهديناهم} [فصلت: 17]. أي بينا لهم الطريق، ومنه قوله تعالى: {إنا هديناه السبيل} [الإنسان: 3]. {وهديناه النجدين} [البلد: 10]. والثاني: بمعنى اللطف والتوفيق والعصمة والتأييد، وهو الذي تفرد الله به، ومنه قوله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} [القصص: 56]. وقالت القدرية: حيث جاء الهدى فهو للبيان، بناء على أصلهم الفاسد في إنكار القدر، ورد عليهم أصحابنا وغيرهم من أهل الحق مثبتي القدر لله تعالى بقوله تعالى: {والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} [يونس: 25]. ففرق بين الدعاء والهداية. اهـ. (وكل بدعة ضلالة) قال النووي: هذا عام مخصوص، والمراد غالب البدع. قال أهل اللغة: البدعة هي كل شيء عمل على غير مثال سابق، وسيأتي بحث المسألة من الناحية الفقهية. (ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإلى وعلى) "دينا" بفتح الدال أما الضياع فقد قال أهل اللغة: الضياع بالفتح العيال. قال ابن قتيبة: أصله مصدر ضاع يضيع ضياعاً، أي من ترك أطفالاً وعيالاً ذوي ضياع، فأوقع المصدر موضع الاسم، أي من ترك ديناً فإلى يتحول، وعلى يرجع الدائن. (أن ضماداً قدم مكة وكان من أزد شنوءة) "ضماد" بكسر الضاد، و "شنوءة" بفتح الشين وضم النون أبو حي باليمن. (وكان يرقى من هذه الريح) "يرقى" بكسر القاف من الرقية، والمراد بالريح هنا الجنون ومس الجن، وفي غير مسلم: "وكان يرقى من الأرواح". أي الجن سموا بذلك لأنهم لا يبصرهم الناس، فهم كالروح والريح. قاله النووي. (ولقد بلغن ناعوس البحر) قال النووي: ضبطناه بوجهين، وأشهرهما "ناعوس" بالنون والعين، هذا هو الموجود في أكثر نسخ بلادنا، والثاني "قاموس" بالقاف والميم، وهذا الثاني هو المشهور في روايات الحديث في غير صحيح مسلم. قال أبو عبيد: قاموس البحر: وسطه. وقال ابن دريد: لجته. وقال بعضهم: قعره الأقصى. اهـ ومعنى أن هذه الكلمات قد بلغت لجة البحر أو قعره أنها بعيدة الوصول إليها، يطلبها الباحث في الكتب فلا يجدها، فهي كلمات من أعماق البحار وليست من ألفاظ البشر. (فقال صاحب السرية للجيش) أي قال رئيس السرية وقائدها لأفرادها. (أصبت منهم مطهرة) بكسر الميم وفتحها، والكسر أشهر، وهي إناء يتطهر منه كالإبريق. (فلو كنت تنفست؟ ) أي لو كنت أطلت قليلاً، و"لو" للتمني، أو للشرط مع حذف الجواب، أي لكان خيراً. وفي القاموس: والنفس -بفتحتين- الفسحة في الأمر، والطويل من الكلام. (مئنة من فقهه) بفتح الميم ثم همزة مكسورة ثم نون مشددة، أي علامة. قال الأزهري والأكثرون: الميم فيها زائدة، وهي مفعلة.

(واقصروا الخطبة) من قصر مخففاً، فالهمزة همزة وصل في "اقصروا". (وإن من البيان سحراً) قال أبو عبيد: هو من الفهم وذكاء القلب. قال القاضي: فيه تأويلان: أحدهما: أنه ذم، لأنه إمالة القلوب وصرفها بمقاطع الكلام إليه حتى يكسب من الإثم به كما يكسب بالسحر، وأدخله مالك في الموطأ في باب ما يكره من الكلام، وهو مذهبه في تأويل الحديث. والثاني: أنه مدح، لأن الله تعالى امتن على عباده بتعليمهم البيان، وشبهه بالسحر لميل القلوب إليه، وأصل السحر الصرف، فالبيان يصرف القلوب ويميلها إلى ما يدعو إليه. قال النووي: وهذا التأويل الثاني هو المختار الصحيح. (فقد رشد) بكسر الشين وفتحها. (ومن يعصهما فقد غوى) قال القاضي: وقع في روايتي مسلم بفتح الواو وكسرها، والصواب الفتح، وهو من الغي، وهو الانهماك في الشر اهـ وإنما كان الخطيب مذموماً لتشريكه الله ورسوله في ضمير واحد "ومن يعصهما" مما يوهم التسوية بينهما، وللمسألة إيضاح يأتي في فقه الحديث. (لقد كان تنورنا وتنور رسول الله واحداً) في القاموس: التنور الكانون يخبز فيه. تشير بذلك إلى حفظها ومعرفتها بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم وقربها من منزله، والكلام على سبيل التشبيه، أي كالواحد. (قال: رأى بشر) فاعل "قال" عمارة، وفاعل "رأى" عمارة، والأصل: رأيت بشر بن مروان. (رافعاً يديه) أثناء الخطبة يشير بهما يميناً وشمالاً. (فقال) أصله فقلت. فالقائل عمارة، وملحق هذه الرواية كاشف لمرجع الضمائر. (قم فاركع ركعتين وتجوز فيهما) في القاموس: تجوز في الصلاة: خفف. (انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم) أي قربت منه ومن المنبر. (فأتي بكرسي حسبت قوائمه حديداً) قال النووي: هكذا هو في جميع النسخ "حسبت". ورواه ابن أبي خيثمة في غير صحيح مسلم "خلت" بكسر الخاء وسكون اللام، وهو بمعنى حسبت. وفي بعض النسخ تصحيف إلى "خلب" خاء ولام وباء، وفي بعضها "خشب" خاء وشين وباء. والكرسي بضم الكاف وكسرها، والضم أشهر. أي نزل عن المنبر وجلس على الكرسي، وجعل يعلمني. -[فقه الحديث]- يمكن حصر شوارد الأحكام الفقهية في نقاط:

1 - الأذان يوم الجمعة. 2 - خطبة الجمعة، حكمها وشروطها وهيآتها. 3 - عبارات وتوجيهات من خطب النبي صلى الله عليه وسلم. 4 - المطلوب والمباح ساعتها. 5 - ما يؤخذ من الأحاديث. وهذا هو التفصيل: أولاً: الأذان يوم الجمعة. لم تتعرض أحاديث الباب للأذان يوم الجمعة، ولم يرد في صحيح مسلم شيء عن أذان الجمعة اللهم إلا الإشارة إليه في الباب السابق في الروايتين الخامسة والسادسة. وقد روى البخاري عن السائب بن يزيد قال: كان النداء يوم الجمعة أوله إذ جلس الإمام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- فلما كان عثمان رضي الله عنه وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء. فالأذان الذي أحدثه عثمان ثالث من حيث القدم، فيسبقه أذان وإقامة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، وهو أول باعتبار زمنه، فهو مقدم زمناً على الأذان الذي بين يدي الخطيب وبين الإقامة إذا نزل الخطيب. قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر أن الناس أخذوا بفعل عثمان في جميع البلاد إذ ذاك لكونه خليفة مطاع الأمر، وبلغني أن أهل المغرب الأدنى الآن لا تأذين عندهم سوى مرة. قال: وروى ابن أبي شيبة من طريق ابن عمر قال: "الأذان الأول يوم الجمعة بدعة". قال: فيحتمل أن يكون قال ذلك على سبيل الإنكار، ويحتمل أنه يريد أنه لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ما لم يكن في زمنه يسمى بدعة، لكن منها ما يكون حسناً، ومنها ما يكون بخلاف ذلك، وتبين أن عثمان أحدثه لإعلام الناس بدخول وقت الصلاة قياساً على بقية الصلوات فألحق الجمعة بها، وأبقى خصوصيتها بالأذان بين يدي الخطيب. اهـ. وأكثر البلاد الإسلامية اليوم يؤذنون عند دخول وقت الجمعة أذاناً عالياً على مرتفع أو في بوق يرفع الصوت "ميكرفون" ثم يؤذنون بين يدي الخطيب؛ وقد يقدمون للأذان الأول ببعض الذكر والتسابيح. وبعضها يؤذن الأذان العالي قبل دخول وقت الجمعة بنحو ساعة من الزمن، ثم يؤذنون بين يدي الخطيب، وقلة منهم لا يؤذن الأذان العالي أصلاً ويكتفي بالأذان بين يدي الخطيب، كما كان الوضع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأعتقد أن المخالفة هينة، ولكل من المختلفين اجتهاده ووجهة نظره، ولا ينبغي إلزام فريق بما عليه الآخر، ولا الطعن على الفريق المخالف بالخروج عن الدين، ولا إيقاع الفرقة والحقد والبغضاء بسببه، فنكون كالدبة التي دفعت الذبابة عن صاحبها بحجر فقتلته.

لكنا مع الحافظ ابن حجر في قوله: وأما ما أحدث الناس قبل وقت الجمعة من الدعاء إليها بالذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فهو في بعض البلاد دون بعض، واتباع السلف الصالح أولى. والله علم. ثانياً: خطبة الجمعة، حكمها وشروطها وهيآتها: ومن المقرر الواضح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل الجمعة بدون الخطبتين، وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي". وقد حكم جمهور العلماء بأن الجمعة لا تصح إلا بخطبتين. قال القاضي عياض: ذهب عامة العلماء إلى اشتراط الخطبتين لصحة الجمعة. وعند أهل الظاهر ورواية عن مالك أنها تصح بلا خطبة. ولخطبة الجمعة شروط أو أركان أو هيئات أو مواصفات منها: (أ) جلوس الخطيب على المنبر قبلها أثناء الأذان بين يديه. قال مالك والشافعي وجمهور العلماء: هو سنة. وقيل هو من أجل الأذان، وعليه لا يسن للعيد، لأنه لا أذان له. وقيل: الحكمة فيه الراحة وسكون اللغط والتهيؤ للإنصات والاستنصات لسماع الخطبة وإحضار الذهن وجمع الانتباه واستدل له بما رواه البخاري عن السائب بن يزيد قال: "كان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام". وفي رواية له: "إن الأذان يوم الجمعة كان أوله حين يجلس الإمام يوم الجمعة على المنبر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر" ويمكن أن يستأنس له أيضاً بروايتنا التاسعة والعشرين، وفيها: "جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر ... ". الحديث. ويصبح معنى الرواية الخامسة والعشرين والسادسة والعشرين: "والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب". أي يتهيأ للخطبة. وذهب بعض الكوفيين إلى أن الجلوس على المنبر عند التأذين قبل الخطبة غير مشروع. وقد رفض البدر العينى نسبة هذا القول لأبي حنيفة، فقال: إن مذهب أبي حنيفة ما ذكره صاحب الهداية: "وإذا صعد الإمام على المنبر جلس وأذن المؤذنون بين يدي المنبر، بذلك جرى التوارث". اهـ. (ب) واشتراط خطبتين، بهذا قال الشافعي ومالك وأحمد والجمهور، يصرح بهذا روايتنا السابعة، وقال أبو حنيفة: الخطبة شرط، ولكن تجزئ خطبة واحدة. (جـ) واشترط الشافعي ومالك وأحمد والجمهور أن يسمعها العدد الذي تنعقد به الجمعة. وقال أبو حنيفة لا يشترط العدد لسماع الخطبة. ومن اشترط العدد في السماع اختلفوا، فمنهم من اكتفى به عند الابتداء ولا يضر نقصه أثناءها كبعض الشافعية الذين استدلوا بروايتنا التاسعة والعاشرة والحادية عشرة، وفيها أن الصحابة انفضوا عن الخطبة حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلاً وهم يشترطون لصحة الجمعة والخطبة أربعين رجلاً. ومنهم من اشترط سماع العدد ابتداء وانتهاء، وأجاب عن الروايات بأن الرسول صلى الله عليه وسلم مد في الخطبة واستمر فيها وعاد العدد المطلوب قبل الفاصل الطويل. أما المالكية فجعلوا الحد الأدنى للعدد اثنى عشر رجلاً، فلا إشكال.

واشترط الشافعي وأصحابه القيام في الخطبتين للقادر عليه، فإن خطب قاعداً مع القدرة على القيام لم تصح صلاته، ولا صلاة من علم من المأمومين قدرته على القيام. وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد: تصح الخطبة قاعداً مع القدرة، والقيام سنة عند أبي حنيفة، وواجب عند مالك في رواية، ولو تركه أساء وصحت الجمعة. والأحاديث تدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخطب جالساً والآية الكريمة تقول: {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً} [الجمعة: 11]. وأول من خطب قاعداً معاوية، لما كثر شحم بطنه خطب الأولى قاعداً وخطب الثانية قائماً. وروي أن عثمان أول من قعد في الخطبة، لكنه كان يخطب قائماً، فإذا تعب جلس ولم يتكلم حتى يقوم. ولا يستدل بهذا ولا بذاك ولا بقبول الناس على أن القيام ليس شرطاً، فإن الجلوس في مثل حالهما كان لعذر، ولهذا أنكر كعب بن عجرة على عبد الرحمن ابن أم الحكم أن خطب قاعداً إنكاراً شديداً كما جاء في روايتنا الثانية عشرة. (هـ) كما اشترط الشافعية لصحة الخطبة والجمعة جلوساً بين الخطبتين، وهو صريح في أحاديثنا التزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي". قال بعضهم: وفي دخول الخطبة تحت كيفية الصلاة نظر، فالاستدلال بمجرد فعله صلى الله عليه وسلم. وجمهور العلماء على أن الجلوس بين الخطبتين سنة حتى قال الطحاوي: هذا القول محكى عن مالك في رواية عنه، وهو المشهور عن أحمد. وهذا الجلوس خفيف جداً، أقله قدر الطمأنينة، وأكمله قدر قراءة سورة الإخلاص. واختلف في حكمته، فقيل: للفصل بين الخطبتين. وقيل للاستراحة. وللخطيب أن يذكر الله تعالى ويدعوه في هذا الجلوس، وله أن يسكت. والله أعلم. (و) وهل تشترط طهارة الخطيب من الحدث الأصغر، ومن النجاسة في البدن والثوب والمكان وستر العورة؟ قولان للشافعية وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد: لا يشترط ذلك. واستحبابه أمر متفق عليه. (ز) ومن السنة أن يخطب على منبر أو على مرتفع، ليتمكن من المصلين وليروه وليصل صوته إلى أكبر قدر من الناس، فهو أبلغ في الإعلام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع نخل، حتى السنة السابعة أو الثامنة من الهجرة فعمل له منبر خشبي من ثلاث درجات. (حـ) ويستحب للإمام أن يسلم عند دخوله المسجد، ويصل المنبر دون أن يصلي تحية المسجد، فإذا وصل إلى أعلى المنبر وأقبل على الناس سلم عليهم ولزم السامعين الرد عليه. (ط) وأن يستقبل الخطيب الناس وأن يستقبلوه، لما روي عن سمرة بن جندب: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطبنا استقبلناه بوجوهنا، واستقبلنا بوجهه". والشافعية على كراهة الالتفات يميناً وشمالاً في كل الخطبة. وقال أبو حنيفة: يلتفت يميناً وشمالاً في بعض الخطبة كما في الأذان.

(ي) ويكره تحريك اليدين والإشارة بهما ذات اليمين وذات الشمال وروايتنا الرابعة والعشرون صريحة في إنكار ذلك. قال النووي في المجموع: ويسن أن يعتمد على قوس أو سيف أو عصا أو نحوها، ويستحب أن يأخذه في يده اليسرى، وأن يشغل يده الأخرى بأن يضعها على حرف المنبر، فإن لم يجد سيفاً أو عصا ونحوه سكن يده بأن يضع اليمنى على اليسرى، أو يرسلهما ولا يحركهما ولا يعبث بواحدة منهما، والمقصود الخشوع والمنع من العبث. اهـ. (ك) وذهب جمهور الشافعية وأحمد إلى أن أركان الخطبة أو فروضها أربعة: أن يحمد الله، وأن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يوصي بالتقوى، وأن يقرأ الآية من القرآن. وبعضهم يوجب الدعاء للمؤمنين والمؤمنات. وقال أبو يوسف ومحمد وداود: الواجب ما يقع عليه اسم الخطبة. وقال أبو حنيفة: يكفيه أن يقول: سبحان الله، أو بسم الله، أو الله أكبر ونحو ذلك من الأذكار. ومن مستحباتها أن تكون بالعربية، وأن يرفع فيها صوته، وأن يوالي بين مواعظها، وأن تكون قصيرة، فقد كانت صلاته صلى الله عليه وسلم قصداً وخطبته قصداً، وقصر الخطبة علامة من علامات فقه الخطيب كما جاء في أحاديث الباب. ثالثاً: عبارات وتوجيهات من خطب النبي صلى الله عليه وسلم: وقد تعرضت رواياتنا الخامسة عشرة والسادسة عشرة والثالثة والعشرون إلى عبارات وتوجيهات من خطب النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يفتتح خطبته بحمد الله والثناء عليه بما هو أهله، ثم يثنى بالتفويض والتسليم لجلاله وعظمته باعثاً في نفوس أصحابه أن الأمر كله لله فيقول: "إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله". وكان يحذر من الآخرة وقربها، فيقول: "بعثت أنا والساعة كهاتين". يرفع أصبعيه السبابة والوسطى ويضمهما ويقرنهما فكأنهما لا فاصل بينهما، فلا نبي بينه وبين الساعة، وما بين الأصبعين من تقارب يشبه تقارب الزمن بين بعثته وقيام الساعة، وكان يقول بعد الحمد والثناء والتبصير بقرب الساعة: "أما بعد". ثم يعظ الناس ويذكرهم، ويوجههم إلى الاعتماد على القرآن والسنة، ويحذرهم من الابتداع في الدين واتباع الأهواء والزيغ عن الصراط المستقيم، فيقول: "إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمداً صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة". وكان كثيراً ما يقرأ في خطبته آيات أو سوراً من القرآن الكريم، يقرأ كثيراً سورة "ق والقرآن المجيد" فهي سورة ترقق القلوب بما فيها من وعد ووعيد وصور الموت، وما بعد الموت، وكان يقرأ آيات في مناسبات، يرعى الأمة ويوجهها، وإذا رأى قصوراً عالجه في خطبته، رأى رجلاً يدخل المسجد فلا يصلي تحية المسجد فيقعد، فناداه: "يا سليك. أصليت ركعتين؟ قال: لا. قال: قم فاركع

ركعتين وتجوز فيهما". ثم توجه إلى الناس فقال: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما". رابعاً: المطلوب والمباح ساعة الخطبة: ولسماع الخطبة آداب وحقوق، وأهمها الاستماع لها والإنصات وعدم التلهي بمس الحصا ونحوه، وعدم الانشغال عنها بأمور الدنيا. وتتحدث رواياتنا التاسعة والعاشرة والحادية عشرة عن حادثة الانفضاض، وهي حادثة فريدة لم تتكرر، ونزل فيها قرآن يتلى، يوبخ فاعليها ويحذرهم، فيقول: {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين} [الجمعة: 11]. وتتحدث الروايات الأولى والثانية والسادسة عشرة من الباب السابق -باب فضيلة يوم الجمعة- عن الاستماع والإنصات للخطبة، قال النووي: واختلف العلماء في الكلام أثناء الخطبة، هل هو حرام أو مكروه؟ وهما قولان للشافعي. قال القاضي: قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وعامة العلماء: يجب الإنصات للخطبة. وحكى عن النخعي والشعبي وبعض السلف أنه لا يجب إلا إذا تلى فيها القرآن. قال: واختلفوا فيمن لم يسمع الإمام هل يلزمه الإنصات كمن يسمعه؟ فقال الجمهور: يلزمه. وقال النخعي وأحمد وأحد قولى الشافعي: لا يلزمه. اهـ. ونقل صاحب المغني الاتفاق على أن الكلام الذي يجوز في الصلاة يجوز في الخطبة، كتحذير الضرير من الوقوع في بئر. وقال الشافعي: وإذا خاف على أحدكم لم أر بأساً -إذا لم يفهم عنه بالإيماء- أن يتكلم. اهـ وذهب بعض الفقهاء إلى أن تحريم الكلام محله حال أركان الخطبة فإذا فرغ من الأركان أبيح الكلام. والجمهور على أن الكلام أثناء الجلوس بين الخطبتين لا يحرم، وكره عبث حال الخطبة لحديث: "ومن مس الحصا فقد لغا". ولأن العبث يمنع الخشوع. والله أعلم. وتتحدث رواياتنا الخامسة والعشرون والسادسة والعشرون والسابعة والعشرون والثامنة والعشرون والتاسعة والعشرون والمتممة للثلاثين عن صلاة ركعتين قبل الجمعة. قال الشافعي في الأم: إذا خرج الإمام وجلس على المنبر انقطع التنفل، وأما إذا دخل والإمام جالس على المنبر أو في أثناء الخطبة فيستحب له أن يصلي تحية المسجد ركعتين ويخففهما، ويكره تركهما للحديث الصحيح: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين". وقال: إذا دخل والإمام في آخر الكلام ولا يمكنه صلاة ركعتين خفيفتين قبل دخول الإمام في الصلاة فلا عليه أن يصليهما، وأرى أن يأمره الإمام بصلاتهما ويزيد في كلامه ما يمكنه إكمالهما فيه، فإن لم يفعل كرهت ذلك له، ولا شيء عليه. اهـ. وبهذا قال الإمام أحمد، وذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنه لا يصلي شيئاً. وظاهر أحاديثنا دليل للشافعي وأحمد. قال النووي في شرحه للرواية الثالثة والعشرين وفيها:

"إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما". هذا نص لا يتطرق إليه التأويل، ولا أظن عالماً يبلغه هذا اللفظ ويعتقده صحيحاً فيخالفه. اهـ. وأجاب المانعون لتحية المسجد وقت الخطبة بعدة أجوبة منها. 1 - أن قصة سليك واقعة عين، لا عموم لها، فيحتمل اختصاصها بسليك. ويرد عليهم بالتعميم في آخر القصة: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما". 2 - وقالوا: إن سليكاً كان رجلاً فقيراً، فأمره بالصلاة ليفطن له الناس فيتصدقوا عليه، واستندوا إلى روايات ضعيفة، منها: روى أصحاب السنن: "جاء رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، والرجل في هيئة بذة، فقال له: أصليت؟ قال: لا. قال: صل ركعتين، وحض الناس على الصدقة". وعند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن هذا الرجل دخل المسجد في هيئة بذة فأمرته أن يصلي ركعتين، وأنا أرجو أن يفطن له رجل فيتصدق عليه". ويرد هذا الاستدلال بالعموم السابق، ثم إن المانعين لا يجيزون التطوع لعلة التصدق. 3 - وقالوا: إن تحية المسجد تفوت بالجلوس، وسليك جلس، فدل على أن الأمر ليس ليصلي تحية المسجد. بل لهدف آخر. وأجيب بأن تحية المسجد لا تفوت بجلوس غير العالم وغير المتعمد. 4 - وقالوا: إن الصلاة حال الخطبة تتعارض مع الأمر بالإنصات في قوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} [الأعراف: 204]. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت". متفق عليه -روايتنا في أول الباب السابق- قالوا: فإذا امتنع الأمر بالمعروف -وهو أمر اللاغي بالإنصات مع قصر زمنه- فمنع التشاغل بالتحية مع طول زمنها أولى. ويرد هذا الاستدلال بأن الآية في القرآن، وليست الخطبة كلها قرآناً. وقياس التحية بالأمر للإنصات للاغي قياس مع الفارق فتحية المسجد مأمور بها، وقول: اسكت. ليس مأموراً به. 5 - وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذي دخل يتخطى الرقاب: "اجلس فقد آذيت". أخرجه أبو داود والنسائي. فأمره بالجلوس ولم يأمره بالتحية. وعند الطبراني: "إذا دخل أحدكم والإمام على المنبر فلا صلاة ولا كلام حتى يفرغ الإمام". ورد باحتمال أن يكون معنى "اجلس" أي لا تتخط، أو أن ترك أمره بالتحية لبيان الجواز، فإنها ليست بواجبة، أو يحتمل أن يكون الرجل قد صلى التحية في آخر المسجد، ثم تقدم ليقرب من سماع الخطبة، فوقع منه التخطي، فأنكر عليه. كما رد هذا الاستدلال بأن الحديثين ضعيفان لا يقاومان الأحاديث الصحيحة. والله أعلم. وتتعرض الأحاديث إلى وقت صلاة الجمعة، وما يقرأ فيها من سور القرآن وما يصلى بعدها من السنن.

فالأحاديث الخمسة الأولى ظاهرة في تعجيل صلاة الجمعة، وجمهور الفقهاء على أن وقت الجمعة هو وقت الظهر، ولا تجوز قبل الزوال خلافاً للإمام أحمد فقال: تجوز قبل الزوال. وروى عنه أنه قال: في الساعة الخامسة، أي قبل الزوال بساعة أو بساعتين، حيث قسمنا ساعات التبكير إلى الجمعة بخمس أو ست. وقال أصحاب أحمد: يجوز فعلها في الوقت الذي تفعل فيه صلاة العيد. قال العبدري: قال العلماء كافة: لا تجوز صلاة الجمعة قبل الزوال إلا أحمد. اهـ. واحتج له بروايتنا الأولى والثانية، إذ ظاهرهما أن الرجوع إلى النواضح والجمال كان عند الزوال، وكانت الصلاة قبله. كذا ويحتج له بالرواية الخامسة وظاهرها أن الصلاة وقعت قبل أن يكون للحيطان ظل، أي قبل الزوال. وأجيب عن الرواية الأولى والثانية بأنهما إنما تخبران بأن الصلاة والرواح إلى جمالهم كانا حين الزوال، لا أن الصلاة قبله، فالمعنى كنا نصلي حين تزول الشمس وكنا نذهب إلى جمالنا حين تزول الشمس. أما الرواية الخامسة: فمعناها ما نجد للحيطان فيئاً كثيراً يستظل به، وليس المقصود نفي الظل بالكلية، بدليل الرواية الرابعة: "ثم نرجع فنتتبع الفيء". ففيها تصريح بوجود الفيء لكنه قليل، ومعلوم أن حيطانهم كانت قصيرة، وأن بلادهم متوسطة من الشمس، ولا يظهر هناك الفيء بحيث لا يستظل به إلا بعد الزوال بزمان طويل. قاله النووي في شرح المهذب، ثم قال: وأما حديث سهل: "ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة". فمعناه أنهم كانوا يؤخرون القيلولة والغداء في هذا اليوم إلى ما بعد صلاة الجمعة، لأنهم ندبوا إلى التبكير إليها. اهـ. كما احتج له بما رواه أحمد في مسنده والدارقطني عن عبد الله بن سيدان قال: "شهدت الجمعة مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فكانت صلاته وخطبته قبل نصف النهار، ثم شهدتها مع عمر رضي الله عنه وكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول: انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان رضي الله عنه فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول: زال النهار، ولا رأيت أحداً عاب ذلك ولا أنكره". ورد هذا الاحتجاج بضعفه باتفاقهم، لأن ابن سيدان ضعيف عندهم، إذ قال عنه الحافظ ابن حجر: تابعي كبير إلا أنه غير معروف العدالة. وقال عنه ابن عدي: شبه مجهول. وقال عنه البخاري: لا يتابع على حديثه. قال النووي: والجواب عن احتجاجهم بحديث جابر وما بعده أنها كلها محمولة على شدة المبالغة في تعجيلها بعد الزوال من غير إبراد ولا غيره. هذا مختصر الجواب عن الجميع، وحملنا على هذا الجمع عمل المسلمين قاطبة إذ هم لا يصلونها إلا بعد الزوال. أما نهاية وقت الجمعة فهو نهاية وقت الظهر بلا خلاف، لكن الخلاف فيمن دخل في صلاتها في الوقت وخرج الوقت أثناء الصلاة، فعند الشافعية يتمها ظهراً، لأنه لا يجوز ابتداؤها بعد خروج الوقت، فلا يجوز إتمامها كالحج، بل يتمها ظهراً، لأنه فرض رد من أربع ركعات إلى ركعتين بشرط يختص به، فإذا زال الشرط أتم كالمسافر إذا دخل في الصلاة ثم قدم قبل أن يتم.

وقال أبو حنيفة: إذا خرج وقت الظهر وهم في صلاة الجمعة بطلت ويستأنفونها ظهراً. وقال أحمد: إن كان صلى منها ركعة أتمها جمعة، وإن كان أقل أتمها ظهراً. وقال بعض أصحابه: إن تحقق خروج الوقت قبل التحريمة صلى ظهراً، وإن لم يتحقق خروجه قبل التحريمة صلى جمعة، لأنها تدرك بالتحريمة كسائر الصلوات. هذا وقد أجمعت الأمة أن الجمعة لا تقضي على صورتها جمعة، ولكن من فاتته لزمه الظهر. أما ما يقرأ في صلاة الجمعة من السور بعد الفاتحة فإن السنة أن يقرأ في الركعة الأولى بسورة الجمعة وفي الركعة الثانية بسورة المنافقون -كما جاء في روايتنا الثانية والثلاثين- وهو رأي جمهور الشافعية، قال النووي: قال العلماء: والحكمة في قراءة سورة الجمعة اشتمالها على وجوب الجمعة وغير ذلك من أحكامها وغير ذلك مما فيها من القواعد، والحث على التوكل والذكر وغير ذلك، وقراءة سورة المنافقون لتوبيخ حاضريها منهم وتنبيههم على التوبة وغير ذلك مما فيها من القواعد، لأنهم ما كانوا يجتمعون في مجلس أكثر من اجتماعهم فيها. اهـ. أو بسورة الجمعة في الركعة الأولى وسورة هل أتاك حديث الغاشية في الركعة الثانية كما جاء في ملحق روايتنا الثالثة والثلاثين، وبه أخذ المالكية. وقال أبو حنيفة: لا مزية لهاتين السورتين، ولا لغيرهما، والسور كلها سواء في هذا. والله أعلم. هذا. والجمعة ركعتان، تمام غير قصر، والسنة أن يجهر فيهما بالقراءة خلافاً للظهر. أما الروايات السابعة والثلاثون وما بعدها فتتحدث عن راتبة الجمعة البعدية. قال النووي: في هذه الأحاديث استحباب سنة الجمعة بعدها، والحث عليها، وأن أقلها ركعتان وأكملها أربع، فنبه صلى الله عليه وسلم بقوله: "إذا صلى أحدكم بعد الجمعة فليصل بعدها أربعاً". على الحث عليها، فأتى بصيغة الأمر، ونبه بقوله صلى الله عليه وسلم: "من كان منكم مصلياً" على أنها سنة ليست واجبة، وذكر الأربع لفضيلتها، وفعل الركعتين في بعض الأوقات لبيان الجواز، لأن أقلها ركعتان، ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي في أكثر الأوقات أربعاً، لأنه أمرنا بهن وحثنا عليهن، وهو أرغب في الخير وأحرص عليه وأولى به. اهـ. -[ويؤخذ من هذه الأحاديث: ]- 1 - يؤخذ من الروايات القيام في الخطبة، وقد سبق تفصيل القول فيه. 2 - وأن للجمعة خطبتين. 3 - وأنه يجلس بينهما. 4 - وفي قوله في الرواية السابعة: "يقرأ القرآن ويذكر الناس". دليل للشافعية في ضرورة القراءة والأمر بالتقوى. 5 - ومن الرواية التاسعة والعاشرة والحادية عشرة أخذ بعض الشافعية أن استمرار الجماعة -الذين

تنعقد بهم الجمعة من أول الخطبة إلى تمام الصلاة- ليس بشرط في صحتها، فقد انصرفوا ولم يبق إلا اثنا عشر رجلاً وصحت الصلاة. قالوا: والشرط أن تبقى منهم بقية. 6 - استدل بها على فضيلة جابر وفضيلة أبي بكر وعمر، حيث لم ينفضوا، وفي بعض الروايات أن ممن لم ينفض الخلفاء الأربعة وابن مسعود وبلال. 7 - استدل بها على أن البيع وقت الجمعة ينعقد، حيث لم يأمرهم صلى الله عليه وسلم بفسخ ما تبايعوا فيه من العير المذكورة. 9 - واستدل بها بعضهم على جواز انعقاد الجمعة باثنى عشر رجلاً، على أساس أن العدد المعتبر في الابتداء معتبر في الدوام. وفيه نظر. 10 - ويؤخذ من الرواية الثانية عشرة الإنكار على ولاة الأمور إذا ما خالفوا السنة. 11 - ومن الرواية الثامنة عشرة استحباب تقصير الخطبة. 12 - ومن الرواية الخامسة عشرة استحباب قول: "أما بعد". في خطب الوعظ والجمعة والعيدين وغيرها، قال النووي: وكذا في خطب الكتب المصنفة. اهـ وقال الحافظ بن حجر: وقد كثر استعمال المصنفين لها بلفظ "وبعد". اهـ. 13 - واستحباب أن يفخم الخطيب أمر الخطبة. 14 - وأن يرفع صوته ليسمع الحاضرين. 15 - وأن يظهر غضبه عندما يستدعى من القول، كما في مقام الترهيب. 16 - واستدل بها من منع البدع كلها وأنكر ما هو حسن منها، والجمهور على خلافه. قال النووي: الحديث من قبيل العام المخصوص، والمراد غالب البدع، وقال: قال العلماء: البدعة خمسة أقسام: واجبة، ومندوبة، ومحرمة، ومكروهة، ومباحة، فمن الواجبة: نظم أدلة المتكلمين للرد على الملاحدة والمبتدعين وشبه ذلك. ومن المندوبة: تصنيف كتب العلم وبناء المدارس والربط وغير ذلك. ومن المباح: البسط في ألوان الأطعمة وغير ذلك. والحرام والمكروه ظاهران. قال: فإذا عرف ما ذكرته علم أن الحديث من العام المخصوص، وكذا ما أشبهه من الأحاديث الواردة، ويؤيد ما قلناه قول عمر بن الخطاب في التراويح: "نعمت البدعة". اهـ. 17 - استدل بقوله في الرواية الخامسة عشرة: "من ترك ديناً أو ضياعاً فإلي وعلي" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقضي دين من مات ولم يخلف سداداً، واستشكل بما ثبت من أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يصلي على من مات وعليه دين. وأجيب بأن ذلك قد قصد منه أولا أن لا يتساهل الناس في الاستدانة ويهملوا الوفاء، فزجرهم بترك الصلاة عليهم، فلما علموا خطر الدين ولم يعودوا يتهاونون فيه وفتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه الفتوح أدى الدين عن المدينين، واختلف هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يجب عليه قضاء هذا الدين أو كان يقضيه تكرماً؟ الأصح أنه كان واجباً كما قال

النووي. واختلف أيضاً: هل كان من خصائصه صلى الله عليه وسلم؟ أو إمام المسلمين يقوم مقامه في هذا؟ الظاهر أنه من خصائصه صلى الله عليه وسلم. 18 - واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم في الرواية التاسعة عشرة: "بئس الخطيب أنت". على إنكار تشريك الله ورسوله في الضمير، لئلا يوهم التسوية. قال النووي: والصواب أن سبب النهي أن الخطبة شأنها البسط والإيضاح واجتناب الإشارات والرموز، ولهذا ثبت في الصحيح "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً ليفهم" ومما يدل على عدم كراهية تشريك الله ورسوله في الضمير ما رواه أبو داود بإسناد صحيح عن ابن مسعود قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة الحاجة ... وفيه: "من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً". 19 - ويؤخذ من الرواية الواحدة والعشرين والثانية والعشرين والثالثة والعشرين استحباب قراءة سورة ق كلها أو بعضها في خطبة الجمعة لاشتمالها على البعث والموت والمواعظ الشديدة والزواجر المخيفة. 20 - واستدل بالرواية الرابعة والعشرين على كراهية رفع اليدين وتحريكهما أثناء الخطبة، وحكى عن بعض المالكية إباحته. 21 - واستدل بأحاديث سليك على أنه يستحب لمن دخل المسجد والإمام يخطب أن يصلي ركعتين تحية المسجد، ويكره له الجلوس قبل أن يصليهما. 22 - وأنه يستحب أن يتجوز فيهما ليسمع بعدهما الخطبة. 23 - واستدل بها على جواز الكلام في الخطبة لحاجة. 24 - وفيها الأمر بالمعروف والإرشاد إلى المصالح في كل حال وموطن. 25 - وأن تحية المسجد ركعتان. 26 - وأنها لا تفوت بالجلوس في حق الجاهل بحكمها. 27 - وأنها لا تترك في أوقات النهي عن الصلاة، لأنها لو سقطت في حال لكان هذا الحال أولى بها فإنه مأمور باستماع الخطبة، فلما ترك لها استماع الخطبة وقطع النبي صلى الله عليه وسلم لها الخطبة وأمره بها بعد أن قعد دل على تأكدها وأنها لا تترك بحال، ولا في وقت من الأوقات. 28 - ويؤخذ من الرواية الواحدة والثلاثين استحباب تلطف السائل في عبارته. 29 - وتواضع النبي صلى الله عليه وسلم ورفقه بالمسلمين وشفقته عليهم وخفض جناحه لهم. 30 - والمبادرة إلى جواب المستفتي وتقديم أهل الأمور فأهمها. قال النووي: وقد اتفق العلماء على أن من جاء يسأل عن الإيمان وكيفية الدخول في الإسلام وجب إجابته وتعليمه على الفور. قال: وقعوده صلى الله عليه وسلم على الكرسي ليسمع الباقون كلامه ويروا شخصه الكريم. ثم قال: ويحتمل أن هذه الخطبة -التي كان النبي صلى الله عليه وسلم فيها- خطبة أمر غير الجمعة، ولهذا قطعها بهذا

الفصل الطويل، ويحتمل أنها كانت الجمعة واستأنفها، ويحتمل أنه لم يحصل فصل طويل، ويحتمل أن كلامه لهذا الغريب كان متعلقاً بالخطبة فيكون منها، ولا يضر المشي في أثنائها. 31 - ومن الرواية الخامسة والثلاثين يؤخذ استحباب قراءة هاتين السورتين في صلاة فجر يوم الجمعة، لما تشعر الصيغة به من مواظبته صلى الله عليه وسلم على ذلك أو إكثاره منه. وقد ذهب المالكية إلى كراهة قراءة السجدة في الصلاة، قيل: لكونها تشتمل على زيادة سجود في الفرض. قال القرطبي: وهو تعليل فاسد بشهادة الحديث. وقيل: الكراهة لخشية اعتقاد العوام أنها فرض. قال ابن دقيق العيد. أما القول بالكراهة مطلقاً فيأباه الحديث، لكن إذا انتهى الحال إلى وقوع هذه المفسدة فينبغي أن تترك أحياناً لتندفع، فإن المستحب قد يترك لدفع المفسدة المتوقعة، وهو يحصل بالترك في بعض الأوقات. اهـ. وقال صاحب المحيط من الحنفية: يستحب قراءة هاتين السورتين في صبح يوم الجمعة بشرط أن يقرأ غير ذلك أحياناً لئلا يظن الجاهل أنه لا يجزئ غيره. 32 - ويؤخذ من الرواية الأولى اهتمام الصحابة بالتبكير للجمعة وتأخيرهم للقيلولة والغداء لما بعد صلاة الجمعة. 33 - من الرواية الواحدة والثلاثين أخذ جواز بناء المقصورة في المسجد، إذا رآها ولي الأمر مصلحة، وأول من عملها -كما قيل- معاوية بن أبي سفيان حين ضربه الخارجي. قال القاضي: واختلفوا في المقصورة فأجازها كثير من السلف، وصلوا فيها، وكرهها بعضهم. وقيل: إنما يصح فيها الجمعة إذا كانت مباحة لكل أحد، فإن كانت مخصوصة ببعض الناس ممنوعة من غيرهم لم تصح فيها الجمعة، لخروجها عن حكم الجامع. 34 - ويؤخذ من قوله في الرواية الثالثة والأربعين: "إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة حتى تكلم أو تخرج". ما ذهب إليه الشافعية من أن النافلة الراتبة وغيرها يستحب أن يتحول لها عن موضع الفريضة إلى موضع آخر، وأفضله التحول إلى بيته، وإلا فموضع آخر من المسجد أو غيره، ليكثر مواضع سجوده، ولتنفصل صورة النافلة عن صورة الفريضة. 35 - وأن الفصل بين الفريضة والنافلة يحصل أيضاً بالكلام، ولكن كونه بالانتقال أفضل. (ملحوظات) هناك أحكام فقهية خاصة بصلاة الجمعة، من المهم في هذا المقام ذكرها باختصار، وهي: 1 - ذهب الشافعية والمالكية والحنابلة إلى أن إذن السلطان بصلاة الجمعة سنة، وأنها تصح من غير إذنه ومن غير حضوره، سواء أكان السلطان في البلد أم لا. وقال أبو حنيفة: لا تصح الجمعة إلا خلف السلطان أو نائبه أو بإذنه متى قدر على استئذانه، واحتج له بأنها لم تقم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى الآن إلا بإذن السلطان أو نائبه، ولأن تجويزها بغير إذنه يؤدي إلى فتنة.

ورد هذا الاحتجاج بالقياس على الإمامة في سائر الصلوات، إذ لا يشترط فيها إذن السلطان، وبأن الفعل هنا خرج مخرج البيان، وكون الناس في الأعصار يقيمون الجمعة بإذن السلطان لا يلزم منه بطلانها إذا أقيمت من غير إذنه، وأما قولهم: إن إقامتها بغير إذنه يؤدي إلى فتنة فغير مسلم. 2 - ذهب الشافعية إلى أن الجمعة لا تصح إلا في أبنية يستوطنها صيفاً أو شتاءً من تنعقد بهم الجمعة، سواء أكان البناء من أحجار أو أخشاب أو سعف، وسواء أكانت البلاد كباراً ذات أسواق أو صغاراً. أما أهل الخيام الذين يتنقلون دون استقرار فلا تجب عليهم الجمعة، ولا تصح منهم مستقلين، وبهذا قال مالك وأحمد. ولا يشترط إقامتها في مسجد، ولكن تجوز في ساحة مكشوفة بشرط أن تكون داخلة في القرية أو البلدة، فلا تصح في صحراء. وقال أبو حنيفة: لا تصح الجمعة إلا من أهل مصر، وتصح منهم ولو في صحراء كالعيد. 3 - جمهور الشافعية على أن تعدد المساجد التي تصلى فيها الجمعة في المدينة الواحدة جائز إذا كثر الناس أو شق اجتماعهم في موضع منها، ولا يجوز جمعتان في بلد لا يعسر الاجتماع فيه في مكان، وحكي هذا عن مالك وأبي حنيفة. وقال محمد بن الحسن: يجوز جمعتان. وقال أحمد: إذا عظم البلد كبغداد والبصرة جاز جمعتان فأكثر إن احتاجوا، وإلا فلا يجوز أكثر من جمعة واحدة. 4 - ولا تجب الجمعة على صبي ولا مجنون ولا امرأة، وقد نقل ابن المنذر وغيره الإجماع على أنها لو حضرت وصلت الجمعة جاز. ولا تجب على المسافر وتصح منه، ولا تجب على خائف على نفسه أو ماله، ومن لا جمعة عليه مخير بين الظهر والجمعة. 5 - وقد أجمع العلماء على أن الجمعة لا تصح من منفرد، وأن الجماعة شرط في صحتها، وشرط الشافعية أن يكون العدد أربعين ممن تنعقد بهم الجمعة، وبه قال أحمد في رواية، وفي رواية أخرى: شرط خمسين. وقال أبو حنيفة: تنعقد بأربعة أحدهم الإمام. وقال أبو يوسف: تنعقد بثلاثة أحدهم الإمام. وقال داود: تنعقد باثنين أحدهما الإمام. 6 - ذهب الشافعية والمالكية والحنابلة إلى أن المسبوق في صلاة الجمعة إن أدرك الإمام في الركوع من الثانية فقد أدرك الجمعة، فإذا سلم الإمام أضاف ركعة أخرى، وإذا لم يدرك الركوع فقد فاتته الجمعة، فإذا سلم الإمام أتم ظهراً. قال أبو حنيفة: من أدرك التشهد مع الإمام أدرك الجمعة، فيصلي بعد سلام الإمام ركعتين وتمت جمعته، بل حكى عن أبي حنيفة: أنه إن أحرم قبل سلام الإمام كان مدركاً للجمعة، بل حكى عن أبي حنيفة: أنه لو سلم الإمام ثم سجد للسهو فأدركه مأموم في سجود السهو أدرك الجمعة. والله أعلم.

كتاب العيدين

كتاب العيدين

(278) باب صلاة العيد وخطبته

(278) باب صلاة العيد وخطبته 1771 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال شهدت صلاة الفطر مع نبي الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكلهم يصليها قبل الخطبة ثم يخطب. قال فنزل نبي الله صلى الله عليه وسلم كأني أنظر إليه حين يجلس الرجال بيده، ثم أقبل يشقهم حتى جاء النساء ومعه بلال، فقال: {يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً} فتلا هذه الآية حتى فرغ منها ثم قال حين فرغ منها "أنتن على ذلك؟ " فقالت امرأة واحدة لم يجبه غيرها منهن نعم يا نبي الله. لا يدرى حينئذ من هي. قال "فتصدقن" فبسط بلال ثوبه ثم قال هلم فدى لكن أبي وأمي، فجعلن يلقين الفتخ والخواتم في ثوب بلال. 1772 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلى قبل الخطبة. قال ثم خطب فرأى أنه لم يسمع النساء فأتاهن فذكرهن ووعظهن وأمرهن بالصدقة وبلال قائل بثوبه فجعلت المرأة تلقي الخاتم والخرص والشيء. 1773 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال إن النبي صلى الله عليه وسلم قام يوم الفطر فصلى فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، ثم خطب الناس، فلما فرغ نبي الله صلى الله عليه وسلم نزل وأتى النساء فذكرهن وهو يتوكأ على يد بلال، وبلال باسط ثوبه يلقين النساء صدقة. قلت لعطاء زكاة يوم الفطر؟ قال لا، ولكن صدقة يتصدقن بها حينئذ تلقي المرأة فتخها ويلقين ويلقين. قلت لعطاء أحقاً على الإمام الآن أن يأتي النساء حين يفرغ فيذكرهن؟ قال إي لعمري إن ذلك لحق عليهم وما لهم لا يفعلون ذلك؟ . 1774 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة

يوم العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة، ثم قام متوكئاً على بلال فأمر بتقوى الله وحث على طاعته ووعظ الناس وذكرهم. ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن، فقال "تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم" فقامت امرأة من سطة النساء سفعاء الخدين فقالت: لم يا رسول الله؟ قال "لأنكن تكثرن الشكاة وتكفرن العشير" قال فجعلن يتصدقن من حليهن يلقين في ثوب بلال من أقرطتهن وخواتمهن. 1775 - عن ابن عباس وعن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قالا: لم يكن يؤذن يوم الفطر ولا يوم الأضحى. ثم سألته بعد حين عن ذلك؟ فأخبرني. قال: أخبرني جابر بن عبد الله الأنصاري أن لا أذان للصلاة يوم الفطر حين يخرج الإمام ولا بعد ما يخرج، ولا إقامة، ولا نداء، ولا شيء، لا نداء يومئذ ولا إقامة. 1776 - عن عطاء أن ابن عباس رضي الله عنهما أرسل إلى ابن الزبير أول ما بويع له أنه لم يكن يؤذن للصلاة يوم الفطر فلا تؤذن لها. قال فلم يؤذن لها ابن الزبير يومه وأرسل إليه مع ذلك إنما الخطبة بعد الصلاة وإن ذلك قد كان يفعل. قال فصلى ابن الزبير قبل الخطبة. 1777 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيدين غير مرة ولا مرتين بغير أذان ولا إقامة. 1778 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يصلون العيدين قبل الخطبة. 1779 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج يوم الأضحى ويوم الفطر فيبدأ بالصلاة، فإذا صلى صلاته وسلم قام فأقبل على الناس وهم جلوس في مصلاهم فإن كان له حاجة ببعث ذكره للناس أو كانت له حاجة

بغير ذلك أمرهم بها. وكان يقول "تصدقوا تصدقوا تصدقوا" وكان أكثر من يتصدق النساء ثم ينصرف. فلم يزل كذلك حتى كان مروان بن الحكم فخرجت مخاصراً مروان حتى أتينا المصلى، فإذا كثير بن الصلت قد بنى منبراً من طين ولبن فإذا مروان ينازعني يده كأنه يجرني نحو المنبر وأنا أجره نحو الصلاة، فلما رأيت ذلك منه قلت أين الابتداء بالصلاة؟ فقال لا يا أبا سعيد قد ترك ما تعلم. قلت كلا والذي نفسي بيده لا تأتون بخير مما أعلم (ثلاث مرار ثم انصرف). 1780 - عن أم عطية رضي الله عنها قالت أمرنا (تعني النبي صلى الله عليه وسلم) أن نخرج في العيدين العواتق وذوات الخدور وأمر الحيض أن يعتزلن مصلى المسلمين. 1781 - عن أم عطية رضي الله عنها قالت كنا نؤمر بالخروج في العيدين والمخبأة والبكر، قالت الحيض يخرجن فيكن خلف الناس يكبرن مع الناس. 1782 - عن أم عطية رضي الله عنها قالت أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى العواتق والحيض وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، قلت يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب قال "لتلبسها أختها من جلبابها". 1783 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوم أضحى أو فطر فصلى ركعتين لم يصل قبلها ولا بعدها، ثم أتى النساء ومعه بلال فأمرهن بالصدقة، فجعلت المرأة تلقي خرصها وتلقي سخابها. 1784 - عن عبيد الله بن عبد الله أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي ما كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأضحى والفطر؟ فقال كان يقرأ فيهما بـ (ق والقرآن المجيد) و (اقتربت الساعة وانشق القمر).

1785 - عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال سألني عمر بن الخطاب عما قرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم العيد؟ فقلت بـ (اقتربت الساعة) و (ق والقرآن المجيد). -[المعنى العام]- شرع الله العيد للمسلمين مظهراً من مظاهر التمتع الحلال بالحياة الدنيا وزينتها، وفترة زمنية يتجه بها المسلم إلى بعض الشهوات، وبعض الملذات وبعض وسائل الترويح والابتهاج والسرور. لكن الشريعة الإسلامية تحرص دائماً أن تحيط هذه الشهوات بالروحانية وأن تخلط الابتهاج والسرور الدنيوي بمزيج من العمل الأخروي حتى لا تتمحض الإنسانية إلى الشهوانية، والآدمية إلى البهيمية، فتراها تشرع وقت الإقبال على الأكل تسمية الله، بل تشرع الاستعاذة بالله، والتسمية عند بدء الشهوة بالنساء. من هذا المنطلق شرعت في أيام العيد أن تبدأ بالتجمع، ليس بتجمع اللهو والمرح، ولكنه تجمع العبادة والطاعة والذكر والتكبير والصلاة والعظات. تجمع يدعى إليه كل مسلم ومسلمة، حتى التي يحرم عليها المسجد للحيض وحتى الشابة التي يكسوها الحياء والأدب، وحتى التي اعتادت الخدر، ولزمت البيت، وحتى ذوات الأعذار عن الجماعات. وحتى التي لا جلباب لها يمكنها من حضور هذا المشهد ولو أن تستعير جلباباً من صاحبتها. هكذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرج إلى ساحة الرحمة والرضوان في الصحراء العواتق الشابات، والمقصورات ذوات الخدور المخبآت، والبكر والعجوز. الكل يخرج إلى مصلى العيد، تصلي من تصح منها الصلاة، وتجلس المعذورة خلف المصليات تسمع الوعظ، وتحضر الخير، وتستظل بالرحمات الإلهية. يبدأ التجمع بصلاة ركعتين سنة عيد الفطر، أو سنة عيد الأضحى، دون أذان ولا إقامة، ودون نافلة قبلهما أو بعدهما، تتميزان عن الركعتين العاديتين بكثرة التكبير، وبقراءة سورة {ق والقرآن المجيد} بعد الفاتحة في الركعة الأولى، وسورة {اقتربت الساعة} بعد الفاتحة في الركعة الثانية. لما فيها من عظات بالموت والبعث ومشاهد القيامة، ولما فيها من الوعيد الشديد. ثم يخطب الإمام، يذكر الناس بالصدقة في عيد الفطر، وبالأضحية والإحسان في عيد الأضحى. هكذا كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كان لا يكتفي بسماع النساء لخطبته، ولكنه كان إذا انتهى من الخطبة طلب من الرجال الجلوس في

أماكنهم ثم يشق صفوفهم حتى يأتي صفوف النساء ومعه بلال، يعظهن، ويقرأ عليهن بيعة النساء، فيأخذ عليهن العهد أن لا يعصين رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهن بمعروف، ويخوفهن من النار إذا استجبن لطبيعتهن وأكثرن الشكوى وأنكرن جميل صاحب الجميل وفضل صاحب الفضل، ويوضح لهن أن الكثرة غير الشاكرة من النساء جعلتهن أكثر أهل النار، وليس كالصدقة عمل يطفئ غضب الرب ويغفر الذنب، وليس كالصدقة شيء يحمي من النار "اتقوا النار ولو بشق تمرة". ولذلك كانت دعوته للنساء في العيدين بالصدقة، وكانت النساء فضليات، رقيقات القلوب مسرعات للإجابة، فكن يخلعن حليهن من آذانهن وصدورهن وأيديهن، يلقين بها في ثوب بلال حين بسطه ليقبض فيه صدقاتهن. وظل الأمر على ذلك في عهد أبي بكر وعمر وعثمان. فلما كان عهد معاوية وولاته من الأمويين، ولما أدخلوا في خطبهم سب من لا يستحق السب ومدح من لا يستحق الثناء نفر الناس، وأصبحوا يتقاعسون عن الحضور فأحدث الولاة لصلاة العيد أذاناً، فكان المسلمون يحضرون الصلاة معهم، ثم ينصرفون فلا يستمعون لخطبهم، فقدم الولاة الخطبة على الصلاة ليلزموا الناس بالسماع، واستنكر فضلاء الصحابة تغيير هذه السنة، وأنكروا على الولاة صنيعهم لكن الولاة لم يستجيبوا لهم، ومضوا في بدعتهم، اللهم إلا ما كان من ابن الزبير فترة بيعته، حيث أعاد الخطبة إلى مكانها، ولم يؤذن للصلاة. وهكذا كان اهتمام المسلمين بالعيد، وبصلاة العيد، وبخطبة العيد، ويتجمع المسلمين لاستقبال يوم العيد بشكر الله، وتكبيره، والثناء عليه أن هداهم للإيمان فكانوا صادقين. -[المباحث العربية]- (كتاب العيدين) قال النووي: قالوا: وسمي عيداً لعوده وتكراره. وقيل: لعود السرور فيه. وقيل: تفاؤلاً بعوده على من أدركه. كما سميت القافلة -حين خروجها- قافلة أي راجعة، تفاؤلاً بقفولها سالمة. وهو من عاد يعود عوداً وعيداً، كقال يقول قولاً وقيلاً، وجمع على أعياد، وأصله واوى للزوم الياء في المفرد، وقيل: للفرق بينه وبين أعواد الخشب. (شهدت صلاة الفطر) أي حضرتها وصليتها. (فنزل نبي الله) معطوف على محذوف، أي فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خطب فنزل، فهذا النزول كان بعد الانتهاء من الخطبة، كما هو صريح الرواية الثالثة، خلافاً لما قاله القاضي من أن هذا النزول كان أثناء الخطبة. (كأني أنظر إليه حين يجلس الرجال بيده) "يجلس" بضم الياء وفتح الجيم وتشديد اللام المكسورة، أي يأمرهم بالجلوس مشيراً بيده، والغرض من ذكر الراوي لهذه الجملة التوثيق من الرواية، وأنه يستحضرها، ويستحضر الصورة والهيئة التي حصلت حينئذ كأنها ماثلة أمامه، ينظر إليها. (ثم أقبل يشقهم) من مكان الخطبة إلى صفوف الرجال يشق طريقه بينهم.

(حتى جاء النساء ومعه بلال) جملة "ومعه بلال" حال من فاعل "جاء" أي جاء مستصحباً بلالاً، وكان بلال خادماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم. (أنتن على ذلك؟ ) حرف الاستفهام محذوف، والمشار إليه ما وقعت عليه المبايعة، أي أنتن مبايعات على هذه الأمور؟ (لا يدري حينئذ من هي) "يدري" بفتح الياء، مبني للمعلوم، قال النووي: هكذا وقع في جميع نسخ مسلم "حينئذ" وهو تصحيف، وصوابه: "حسن" وهو حسن بن مسلم الراوي عن طاوس الراوي عن ابن عباس. (قال: فتصدقن) الفاء في جواب شرط مقدر، أي إذا بايعتن على ذلك فتصدقن. (ثم قال: هلم) القائل بلال بعد أن بسط ثوبه، أي قال: أقبلن بالصدقة في ثوبي المبسوط. و"هلم" اسم فعل أمر، ويلزم هذه الحالة من الإفراد مع المثنى والجمع والمذكر والمؤنث على اللغة الفصحى. (فدى لكن أبي وأمي) قال النووي: "فدى" مقصور، بكسر الفاء وفتحها، و"لكن" بفتح اللام وضم الكاف وتشديد النون. (يلقين الفتخ والخواتيم) "الفتخ" بضم الفاء والتاء، واحدها فتخة، كقصب واحدة قصبة. واختلف في المراد بها، فقيل: الخواتيم الكبار. وقيل: الخواتيم التي لا فصوص لها، فعطف الخواتيم على الفتخ من قبيل عطف الأعم على الأخص. وقيل: الفتخ حلقات كانت تلبس في أصابع الأرجل، فعطف الخواتيم عليها عطف مغاير، لأن الخواتيم عند الإطلاق تنصرف إلى ما يلبس في أصابع اليدين، والخواتيم جمع خاتم. قال النووي: وفيه أربع لغات. فتح التاء وكسرها، وخاتام وخيتام. (أشهد على رسول الله لصلى قبل الخطبة) المراد من الشهادة هنا الحلف، أو شهادة المشاهد، وجملة "لصلى ... " جواب القسم، أو المشهود عليه أي أحلف لقد صلى، أو أشهد أنه قد صلى قبل الخطبة. (وبلال قائل بثوبه) أي وبلال باسط ثوبه، كما هو لفظ الرواية الثالثة نزل الفعل وبسط الثوب منزلة القول في الدلالة على المطلوب ففتح الثوب للتلقي فيه، فهو في قوة هاتوا والقوا هنا. (فجعلت المرأة تلقي الخاتم والخرص والشيء) "الخرص" بضم الخاء وحكى كسرها الحلقة الصغيرة من الحلي، سواء مما يوضع في إصبع اليد كالمعروف في أيامنا بالدبلة، أو مما يوضع في الرجل أو الأذن أو الأنف. وقيل: هو القرط إذا كان بحبة واحدة، وعطف "الشيء" على الخاتم ليعم أصناف الحلي الأخرى، أو المراد به ما جاء في الرواية الرابعة "من أقرطتهن" التي تعلق في شحمة الأذن، وفي رواية البخاري: "تلقي خرصها

وسخابها"، وفي روايتنا الثالثة عشرة: "وتلقي سخابها". قال في فتح الباري: والسخاب: قلادة من عنبر أو قرنفل أو غيره، ولا يكون فيه خرز. وقيل: هو خيط فيه خرز، وسمي سخاباً لصوت خرزه عند الحركة، مأخوذ من السخب، وهو اختلاط الأصوات. (يلقين النساء صدقة) قال النووي: هكذا هو في النسخ "يلقين" وهو جائز على تلك اللغة القليلة الاستعمال، ومنها حديث: "يتعاقبون فيكم ملائكة". وقولهم: أكلوني البراغيث. اهـ والأصل أن نون النسوة هنا ضمير فاعل "يلقين" فالجمع بين الضمير وبين الاسم الظاهر جعل بعض النحاة يعربونه علامة جمع والفاعل الاسم الظاهر، وجعل بعضهم يعربونه الفاعل والاسم الظاهر بدل منه. (زكاة الفطر؟ ) أي هل كانت الصدقة التي يلقينها صدقة الفطر؟ (تلقي المرأة فتخها، ويلقين ويلقين) قال النووي: هكذا هو في النسخ مكرر "ويلقين ويلقين" وهو صحيح، ومعناه ويلقين كذا، ويلقين كذا، كما ذكر في باقي الروايات. اهـ فليس العطف للتكرار والتأكيد، وإنما لمغايرة المفعول. (أحقاً على الإمام الآن؟ ) أي زمن ابن جريج وعطاء، وما بعده من الأزمان، و"حقاً" مصدر منصوب بفعل محذوف، أي يحق حقاً. (إي. لعمري) "إي" همزة مكسورة بعدها ياء، معناها: نعم. والقسم بعدها يؤكدها. وفي القرآن: {ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي} [يونس: 53]. (فقامت امرأة من سطة النساء) قال النووي: هكذا هو في النسخ "سطة" بكسر السين وفتح الطاء المخففة، وفي بعض النسخ "واسطة النساء" قال القاضي: معناه من خيارهن، والوسط العدل والخيار، قال: وزعم حذاق شيوخنا أن هذا الحرف مغير في كتاب مسلم، وأن صوابه "من سفلة النساء"، وكذا رواه ابن أبي شيبة في مسنده، والنسائي في سننه، وفي رواية لابن أبي شيبة: "امرأة ليست من علية النساء". وهذا ضد التفسير الأول، ويعضده قوله بعده: "سفعاء الخدين". هذا كلام القاضي. قال النووي: وهذا الذي ادعوه من تغيير الكلمة غير مقبول، بل هي صحيحة، وليس المراد من خيار النساء كما فسره القاضي، بل المراد امرأة من وسط النساء، أي جالسة وسطهن. قال الجوهري وغيره من أهل اللغة. يقال: وسطت القوم أسطهم وسطاً وسطة، أي توسطتهم. اهـ. (سفعاء الخدين) بفتح السين، أي في خديها تغير وسواد. (لأنكن تكثرن الشكاة) بفتح الشين، أي الشكوى. (وتكفرن العشير) أي المعاشر والمخالط، وحمله بعضهم على الزوج، وحمله آخرون على الأعم. والمراد أنهن يجحدن الإحسان.

(يلقين في ثوب بلال من أقرطتهن) جمع قرط بضم القاف وسكون الراء، وهو كل ما علق بشحمة الأذن من ذهب أو خرز، ويقال في جمعه: قراط كرمح ورماح. قال القاضي: قيل: الصواب "قرطتهن" بحذف الألف -وضم القاف وسكون الراء- وهو المعروف في جمع قرط، كخرج وخرجة، وقال: ولا يبعد صحة "أقرطة" ويكون جمع الجمع، أي جمع قراط، ولا سيما وقد صح في الحديث. (ولا نداء ولا شيء) أي ولا شيء يقوم مقام النداء من ناقوس أو غيره من وسائل الإعلام، والمراد من النداء المنفي هنا، النداء بلفظ غير لفظ الأذان والإقامة، لعطفه عليهما. (فإن كان له حاجة ببعث ذكره للناس) أي إن كانت له رغبة في إرسال طائفة من الجيش إلى جهة من الجهات ذكرها. (حتى كان مروان بن الحكم) أي أميراً على المدينة من قبل معاوية. (فخرجت مخاصراً مروان) قال النووي: أي مماشياً له يده في يدي. هكذا فسروا. اهـ يستبعد النووي بذلك ما هو مشهور في المخاصرة من التفاف الذراع حول الوسط والخاصرة. (حتى أتينا المصلى) مصلى العيد في المدينة آنئذ، على مسافة ألف ذراع من باب المسجد. (فإذا كثير بن الصلت) بن معاوية الكندي، تابعي كبير، ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقدم المدينة فسكنها وحالف بني جمح، وقد صح سماعه من عمر فمن بعده. (قد بنى منبراً من طين ولبن) اللبن بكسر الباء قطع من طين جف وتحجر، والمراد من الطين هنا ما يوضع بين القطع الجافة لتتماسك الحائط. قال الزين بن المنير: وإنما اختاروا أن يكون باللبن لا من الخشب، لكونه يترك في الصحراء في غير حرز، فيؤمن عليه النقل، بخلاف خشب منبر الجامع. (أين الابتداء بالصلاة؟ ) قال النووي: هكذا ضبطناه على الأكثر، وفي بعض الأصول "ألا ابتداء بالصلاة" بألا التي للاستفتاح، وكلاهما صحيح، والأول أجود في هذا الموطن. (ثم انصرف) مروان نحو المنبر، تاركاً مكان الصلاة. وقيل: انصرف أبو سعيد عن جهة المنبر إلى جهة الصلاة. وفي رواية البخاري: "أنه صلى مع مروان". (عن أم عطية قالت: أمرنا -يعني النبي صلى الله عليه وسلم) هذه الرواية بالبناء للمعلوم، بفتح الهمزة وفتح الميم وفتح الراء، فالفاعل في قولها ضمير يعود على المعهود ذهناً، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، كما أفصح بعض الرواة بتسمية الآمر، والرواية عند البخاري: "أمرنا" بالبناء للمجهول. (أن نخرج في العيدين العواتق وذوات الخدور) "نخرج" بضم النون من أخرج، و"العواتق" مفعول، قال أهل اللغة: العواتق جمع عاتق، وهي الجارية البالغة. وقيل: التي قاربت

البلوغ. وقيل: هي التي ما بين أن تبلغ إلى أن تعنس ما لم تتزوج. قالوا: سميت عاتقاً لأنها عتقت من امتهانها في الخروج في الحوائج. و"ذوات الخدور" أي المتسترات بالبيوت اللائي لا يخرجن، فالمراد من الخدور البيوت. وقيل: الخدر ستر يكون في ناحية البيت. (وأمر الحيض) "أمر" بفتح الهمزة، و"الحيض" بضم الحاء وتشديد الياء المفتوحة جمع حائض. (كنا نؤمر بالخروج) أي معشر النساء. (والمخبأة والبكر) بالرفع عطفاً على ضمير نائب الفاعل، والمراد من "المخبأة" ذات الخدر، والمراد "بالبكر" العاتق كما جاء في الرواية السابقة. (إحدانا لا يكون لها جلباب) الخمار أشبه ما يسمى بالطرحة في محيطنا تغطي به المرأة رأسها، وينسدل خلف ظهرها وفوق صدرها، والجلباب قيل: هو الخمار. وقيل: هو الخمار لكنه أقصر وأعرض من الخمار. وقيل: هو ثوب واسع تغطي به صدرها وظهرها. وقيل: هو كالملاء والملحفة. (لتلبسها أختها من جلبابها) اللام لام الأمر، والمراد بالأخت الأخت في الإسلام، و"من" تبعيضية، أي لتلبسها مسلمة بعض جلبابها، أي جلباباً من جلابيبها، وليس المراد قطعة من جلباب، والمراد الإلباس على سبيل الهبة دون إعادة، ويصح أن يكون على سبيل العارية. وفي رواية للبخاري: "قالت: يا رسول الله، على إحدانا بأس -إذا لم يكن لها جلباب- أن لا تخرج؟ فقال: لتلبسها صاحبتها من جلبابها". -[فقه الحديث]- تتعرض أحاديث الباب إلى نقاط أساسية تتعلق بصلاة العيدين. الأولى: حكم صلاة العيد والمعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين حافظوا عليها، ومن هذه المواظبة ذهب الحنفية إلى أنها واجبة، واستدل بعضهم على وجوبها بقوله تعالى: {ولتكبروا الله على ما هداكم} [البقرة: 185] وقوله تعالى: {فصل لربك وانحر} [الكوثر: 2] فقال: المراد صلاة العيد، والأمر للوجوب، ولا يخفى ضعف هذا الاستدلال. وذهب الشافعية إلا أنها سنة مؤكدة، وبه قال مالك في الصحيح عنه. وذهب الحنابلة إلى أنها فرض كفاية، إذا امتنع أهل موضع من إقامتها قوتلوا عليها كسائر فروض الكفاية، وبه قال مالك في رواية عنه. الثانية: أنه لا أذان ولا إقامة، وقد صرحت الروايات الرابعة والخامسة والسادسة بذلك. قال النووي: وهو إجماع العلماء اليوم، وهو المعروف من فعل النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، قال: ويستحب أن يقال فيها: الصلاة جامعة. بنصب "الصلاة" على الإغراء، ونصب "جامعة" على الحال. اهـ فقول

الحديث في الرواية الخامسة: "ولا نداء ولا شيء". يتأول على أن المراد، لا أذان ولا إقامة ولا نداء في معناهما، ولا شيء من ذلك. قاله النووي. ونقل عن الشافعي أنه قال: واجب أن يأمر الإمام المؤذن أن يقول في الأعياد وما جمع الناس من الصلاة: الصلاة جامعة، أو الصلاة، فإن قال: هلموا إلى الصلاة، أو حي على الصلاة، أو قامت الصلاة، كرهنا له ذلك. اهـ. وجمهور الفقهاء على أنه لا يقال أمام صلاة العيد شيء من الكلام أصلاً، وظاهر رواياتنا الخامسة تؤيدهم: "لا أذان ... ولا إقامة، ولا نداء ولا شيء". قال مالك في الموطأ: سمعت غير واحد من علمائنا يقول: لم يكن في الفطر ولا في الأضحى نداء ولا إقامة منذ زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم، وتلك السنة التي لا اختلاف فيها عندنا. اهـ. واختلف في أول من أحدث الأذان لصلاة العيد، والصحيح أنه معاوية وتبعه عاملاه زياد بالبصرة، ومروان بالمدينة. الثالثة: كونها في مصلى في الصحراء لا في المسجد، وظاهر من الروايات أن ذلك كان صنيع رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المواظبة منذ شرعت صلاة العيد في السنة الثانية من الهجرة حتى لقى الرفيق الأعلى، وكذا الخلفاء الراشدون بعده مع فضيلة مسجده صلى الله عليه وسلم، ولا خلاف في صحتها في المسجد وإنما الخلاف في المستحب أو الأفضل. وجمهور الفقهاء على استحبابها في صحراء قريبة، إلا بمكة، فتصلى بالمسجد الحرام، قيل: لسعته. وقيل: لفضل البقعة، ومشاهدة الكعبة. قال النووي: وعلى هذا عمل الناس في معظم الأمصار. اهـ والحنابلة على كراهة صلاة العيد بالجامع في غير مكة إلا لعذر كمطر ونحوه، لما روى أبو داود عن أبي هريرة قال: "أصابنا مطر في يوم عيد فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد". قالوا: وإنما صلى أهل مكة في المسجد لسعته، وإنما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصحراء والمصلى لضيق المسجد، فدل على أن المسجد أفضل إذا اتسع. قاله النووي. ومقتضى كلام الشافعي، أن العلة تدور على الضيق والسعة، لا لذات الخروج إلى الصحراء، لأن المطلوب حصول عموم الاجتماع، فإذا حصل في المسجد مع أفضليته كان أولى. الرابعة: أنه يشرع للعيد خطبة، وأن موقعها بعد الصلاة، وصريح الروايات أن الأمر كان على ذلك زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان. والرواية التاسعة تشير إلى أن أول من خطب للعيد قبل الصلاة مروان بن الحكم، حين كان والياً على المدينة من قبل معاوية، لكن روى ابن المنذر بإسناد صحيح إلى الحسن البصري قال: أول من خطب قبل الصلاة عثمان، صلى بالناس ثم خطبهم -كالعادة- فرأى ناساً لم يدركوا الصلاة ففعل ذلك، فلعل عثمان فعل ذلك أحياناً لمصلحة. وروي أن عمر فعل ذلك، لكن هذه الرواية لم تصح، وروي أن أول من قدم الخطبة على الصلاة معاوية. وروي أنه زياد بالبصرة. وجمع بأن أول من فعل ذلك معاوية وتابعه عاملاه زياد بالبصرة ومروان بالمدينة. وقد أوضحت بعض الروايات دافع الأمويين لتقديم الخطبة، وهو أن الناس في زمنهم كانوا

يتعمدون ترك سماع خطبتهم، لما فيها من سب من لا يستحق السب والإفراط في مدح بعض الناس، وقد زاد البخاري في مثل روايتنا التاسعة قول ابن مروان: "إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة، فجعلتها قبل الصلاة". وأيا كان أول من فعل ذلك، وأياً كان الدافع، فالصلاة صحيحة بعد الخطبة، والرواية التاسعة تدل على ذلك، فقد صلى أبو سعيد الخدري خلف مروان بعد الخطبة، ولولا صحتها لما صلاها معه. قال النووي: واتفق أصحابنا على أنه لو قدمها على الصلاة صحت، ولكنه يكون تاركاً للسنة مفوتاً للفضيلة، بخلاف خطبة الجمعة، فإنه يشترط لصحة صلاة الجمعة تقدم خطبتها عليها، لأن خطبة الجمعة واجبة، وخطبة العيد مندوبة. اهـ وبناء على هذا لا يجب حضور الخطبة وإن كان مستحباً، يؤكد ذلك، ما رواه ابن ماجه بإسناد ثقات عن عبد الله بن السائب قال: شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم العيد، فلما قضى الصلاة قال: "إنا نخطب، فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب". الخامسة: خروج النساء إلى مصلى العيد، وفيه خلاف بين الفقهاء، وظاهر الرواية العاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة، استحباب إخراج النساء إلى المصلى، حتى الشابات والمخبآت والحيض، على أن يكون الحيض بعيدات عن مصلى المسلمين غير مختلطات بالطاهرات، وهذا المنع منع تنزيه لا تحريم، لأن المصلى ليس مسجداً حتى يحرم على الحائض. قال النووي عن خروج النساء إلى مصلى العيد: قال أصحابنا: يستحب إخراج النساء غير ذوات الهيئات والمستحسنات في العيدين، دون غيرهن، وأجابوا على إخراج ذوات الخدور والمخبأة بأن المفسدة في ذلك الزمن كانت مأمونة بخلاف اليوم، ولهذا صح عن عائشة -رضي الله عنها: "لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل". قال القاضي عياض: واختلف السلف في خروجهن للعيدين، فرأى جماعة ذلك حقاً عليهن، منهم أبو بكر وعلي وابن عمر وغيرهم -رضي الله عنهم- ومنهم من منعهن ذلك، منهم عروة والقاسم ويحيى الأنصاري ومالك في رواية عنه وأبو يوسف، وأجازه أبو حنيفة ومنعه مرة أخرى. اهـ. وعبارة الشافعي في الأم: وأحب شهود العجائز وغير ذوات الهيئة الصلاة. ورواها بعضهم بغير واو العطف، أي وأحب شهود العجائز غير ذوات الهيئة. وحجة المانعين مطلقاً حديث عائشة وتغير الزمان، وأجابوا عن هذا الحديث بأنه منسوخ، وأن ذلك كان أول الإسلام والمسلمون قليل، فأريد التكثير بحضورهن إرهاباً للعدو، وأما اليوم فلا يحتاج إلى ذلك. وقال الحافظ ابن حجر: والأولى أن يخص خروج النساء بمن يؤمن عليها وبها الفتن، ولا يترتب على حضورها محذور، ولا تزاحم الرجال في الطرق ولا في المجامع. اهـ. وقال البدر العيني المتوفى سنة 855 هـ: الغالب في هذا الزمان الفتنة والفساد، فينبغي أن يمنعن عن ذلك مطلقاً. اهـ.

والذي تستريح إليه النفس، أن خروج النساء للعيد مستحب في حد ذاته لهذه الأحاديث الصحيحة، فإن لم تؤمن الفتنة وخشيت المفسدة من الخروج على المرأة أو منها منع، ولو للعجائز وذوات الهيئات غير الحسنة، فلكل ساقطة في الحي لاقطة، والقاعدة المعتمدة أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فحكم خروج النساء للعيد ونحوه يختلف باختلاف الظروف والأحوال والآثار المترتبة عليه، والاحتياط منعه في هذه الأزمان، والله أعلم. السادسة: التكبير يوم العيد، والرواية الحادية عشرة صريحة في مشروعية التكبير، ولفظها: "الحيض يخرجن، فيكن خلف الناس يكبرن مع الناس". قال النووي: فيه دليل على استحباب التكبير لكل أحد في العيدين، وهو مجمع عليه. اهـ. والخلاف بين الفقهاء في أوقاته وكيفيته، وله مواطن: الموطن الأول: في عيد الفطر، من مغرب ليلة العيد إلى الخروج لصلاة العيد، والشافعية على استحبابه. الموطن الثاني: إذا خرج من بيته إلى الصلاة حتى يبلغ المصلى أو حتى يجلس الإمام، استحبه جماعة من الصحابة والسلف، فكانوا يكبرون إذا خرجوا حتى يبلغوا المصلى، فيرفعون أصواتهم. وقد روي أن ابن عمر كان يغدو إلى المصلى يوم الفطر إذا طلعت الشمس فيكبر حتى يأتي المصلى يوم العيد، ثم يكبر بالمصلى، حتى إذا جلس الإمام ترك التكبير، وكان يرفع صوته حتى يبلغ الإمام. رواه الدارقطني. وهو مستحب عند مالك والشافعي وأحمد. وقال أبو حنيفة: يكبر في الخروج للأضحى دون الفطر، وخالفه أصحابه فقالوا بقول الجمهور. قال بعضهم: والقياس أن يكبر في العيدين جميعاً لأن صلاتي العيدين لا تختلفان في التكبير فيهما، والخطبة بعدهما، وسائر سننهما، فكذلك التكبير في الخروج إليهما. الموطن الثالث: التكبير قبل قراءة الفاتحة في صلاته في العيدين، وهو مستحب عند الفقهاء، لكنه سبع في الأولى غير تكبيرة الإحرام، وخمس في الثانية غير تكبيرة القيام عند الشافعية، ووافقهم مالك وأحمد في الثانية، وقالوا: سبع في الأولى إحداهن تكبيرة الإحرام. وقال أبو حنيفة: خمس في الأولى بتكبيرة الإحرام، وأربع في الثانية بتكبيرة القيام. وجمهور العلماء يرى أن هذه التكبيرات متوالية متصلة. وقال عطاء والشافعي وأحمد: يستحب بين كل تكبيرتين ذكر الله تعالى. الموطن الرابع: التكبير في افتتاح الخطبة، ويستحب في افتتاح الأولى تسع تكبيرات متواليات، وفي افتتاح الثانية سبع تكبيرات متواليات، ويكثر في خطبتي العيد من التكبير. أما تكبير الناس بتكبير الإمام في الخطبة فمالك يراه، وغيره يأباه. الموطن الخامس: التكبير في عيد الأضحى، وللعلماء فيمن يستحب له اختلاف كبير، فمنهم من قصره على أعقاب الصلوات المكتوبات وغير المكتوبات، ومنهم من قصره على أعقاب المكتوبات،

ومنهم من خصه بالرجال دون النساء، ومنهم من خصه بالجماعة دون المنفرد، ومنهم من خصه بالمؤداة دون المقضية، ومنهم من خصه بالمقيم دون المسافر، ومنهم من خصه بساكن المصر دون ساكن القرية، ونختار شمول الجميع، والآثار تؤيده. كذلك اختلف العلماء في ابتدائه، فمنهم من جعل ابتداءه صبح يوم عرفة، ومنهم من جعل ابتداءه ظهر يوم عرفة، ومنهم من جعله عصر يوم عرفة، ومنهم من جعله صبح يوم النحر، ومنهم من جعله ظهر يوم النحر. واختلفوا في انتهائه، فقيل: إلى ظهر يوم النحر. وقيل: إلى عصره. وقيل: إلى ظهر ثانية. وقيل: إلى صبح آخر أيام التشريق. وقيل: إلى ظهره. وقيل إلى عصره. قال الحافظ ابن حجر: ولم يثبت في شيء من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث. والله أعلم. وأما صيغة التكبير فقيل: الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر كبيراً. وبعضهم يزيد: "ولله الحمد". وقيل: الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وقيل: الله أكبر، الله أكبر. لا إله إلا الله. الله أكبر. الله أكبر. ولله الحمد. ولم يثبت في شيء من ذلك حديث. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - استحباب وعظ النساء وتعليمهن أحكام الإسلام، وتذكيرهن بما يجب عليهن وما يستحب لهن، وحثهن على الصدقة. 2 - ظاهر الرواية الرابعة أنه يلزم خطيب العيد أن يفعل ذلك، لكن قال ابن بطال: أما إتيانه إلى النساء، ووعظهن، وتخصيصهن بذلك في مجلس منفرد خاص به صلى الله عليه وسلم عند العلماء، لأنه أب لهن، وهم مجمعون على أن الخطيب لا يلزمه خطبة أخرى للنساء، ولا يقطع خطبته ليتمها عند النساء. وقال القاضي عياض: هذا الذي قاله عطاء غير موافق عليه، ولم يرتض النووي قول القاضي عياض، وقال: بل يستحب إذا لم يسمعهن أن يأتيهن بعد فراغه، ويعظهن ويذكرهن. وجمهور العلماء على أن محل ذلك إذا أمنت الفتنة والمفسدة بالنسبة للواعظ والموعوظ وغيرهم. 3 - من الرواية الأولى مشروعية تجليس المصلين لمصلحة، كتأمين وصول النساء إلى بيوتهن وحمايتهن من اختلاط الرجال بهن. 4 - جواز استصحاب الإمام لرجل عند ذهابه للنساء، إذا دعت الحاجة إليه، والمعلوم أن بلالاً كان خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم والقائم على قبض الصدقات. 5 - أخذ العهد على الطاعة في المعروف قبل الأمر به، فقد قرأ صلى الله عليه وسلم آية

المبايعة بهدف تذكيرهن بقوله تعالى: {ولا يعصينك في معروف} [الممتحنة: 12] ثم قال بعد ذلك: "أنتن على ذلك"؟ . 6 - أن جواب الواحد كاف عن الجماعة إذا لم يعترض عليه، ولم يمنع من اعتراضهم مانع، فقد أجابت امرأة واحدة عن النساء. 7 - وفيه دليل على الاكتفاء في الجواب بنعم وتنزيلها منزلة الإقرار. 8 - جواز طلب الصدقة من الأغنياء للمحتاجين، ولو كان الطالب غير محتاج. قال الحافظ ابن حجر: وأخذ منه الصوفية جوازاً ما اصطلحوا عليه من الطلب من المريدين، ولا يخفى ما يشترط فيه من أن المطلوب له يجب أن يكون غير قادر على التكسب مطلقاً أو لما لا بد له منه. اهـ. 9 - وبسط الثوب لجمع الصدقة فيه. 10 - جواز التفدية بالأب والأم. 11 - ملاطفة العامل للصدقة لمن يدفعها إليه. 12 - فيه دليل على رفيع مقام النساء اللائي حضرن عظة الرسول صلى الله عليه وسلم حيث بادرن إلى الصدقة بما يعز عليهن من حليهن، مع ضيق الحال في ذلك الوقت. 13 - وأن صدقة التطوع لا تحتاج إلى إيجاب وقبول، بل يكفي فيها المعاطاة، لأنهن ألقين الصدقة في ثوب بلال من غير كلام منهن ولا من بلال ولا من غيره، وهو الصحيح من مذهب الشافعية. لكن أكثر الحنفية يقولون بافتقارها إلى الإيجاب والقبول باللفظ كالهبة. 14 - وفيه دلالة واضحة للشافعية والجمهور، القائلين بجواز صدقة المرأة من مالها بغير إذن زوجها، ولا يتوقف ذلك على ثلث مالها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسألهن هل استأذن أزواجهن في ذلك أم لا؟ وهل هذا خارج من الثلث أو لا؟ ولو اختلف الحكم بذلك لسأل. وقال مالك: لا يجوز لهذا الزيادة على ثلث مالها إلا برضاء زوجها. قال القرطبي: ولا يقال في هذا: إن أزواجهن كانوا حضوراً، لأن ذلك لم ينقل، ولو نقل، فليس فيه تسليم أزواجهن لهن ذلك، لأن من ثبت له الحق فالأصل بقاؤه حتى يصرح بإسقاطه، ولم ينقل أن القوم صرحوا بذلك. اهـ. 15 - ويؤخذ من الرواية الرابعة أن الصدقة من دوافع العذاب، لأنه أمرهن بالصدقة، ثم علل بأنهن أكثر أهل النار. 16 - وبذل النصيحة، والإغلاظ لمن احتيج في حقه إلى ذلك. 17 - وذم من يجحد إحسان ذي الإحسان. 18 - وفيه دليل على أن الصدقات العامة إنما يصرفها في مصارفها الإمام.

19 - ويؤخذ من الرواية التاسعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كان المنكر عليه والياً. 20 - وأن الإنكار باليد لمن أمكنه مطلوب، ولا يجزئ عن اليد اللسان مع إمكان اليد. 21 - وحلف العالم على صدق ما يخبر به. 22 - والمباحثة في الأحكام، قال ابن بطال: إن تقديم مروان للخطبة ليس تغييراً للسنة، لأن المجتهد قد يؤدي اجتهاده إلى ترك الأولى إذا كان فيه المصلحة. وقال البدر العيني: حمل أبو سعيد فعل النبي صلى الله عليه وسلم على التعيين، وحمله مروان على الأولوية، واعتذر عن ترك الأولى بما ذكره من تغير حال الناس، فرأى أن المحافظة على أصل السنة، وهو استماع الخطبة، أولى من المحافظة على هيئة فيها ليس من شرطها. 23 - وجواز عمل العالم بخلاف الأولى الذي يدعو إليه، لأن أبا سعيد حضر الخطبة ولم ينصرف. 24 - ويؤخذ من الرواية العاشرة والحادية عشرة استحباب خروج النساء إلى شهود العيدين، سواء كن شواب أم لا، وذوات هيئات أو لا، وقد سبق تفصيل القول في ذلك بما يغني عن المزيد. 25 - وانعزال النساء عن الرجال إذا خرجن وحضرن مجامع العبادة، خوفاً من فتنة أو نظرة أو فكر ونحوه. قاله النووي. 26 - وأن من شأن العواتق والمخدرات عدم البروز إلا فيما إذن لهن، وأن ذلك من مظاهر التكريم وعدم التبذل. 27 - ويؤخذ من الرواية الثانية عشرة استحباب حضور مجامع الخير، ودعاء المسلمين وحلق الذكر، والعلم ونحو ذلك. 28 - والحث على حضور العيد لكل أحد، حيث طلب ممن لا جلباب لها أن تستعير جلباباً لتحضر به العيد، فغيرها ممن لا عذر له أولى بالحضور. 29 - واستحباب إعداد المرأة جلباباً لها للخروج به في المناسبات. 30 - ومشروعية عارية الثياب، على أساس أن المراد بالإلباس المأمور به إلباس على طريق العارية التي ترد بعد انتهاء المهمة. وقال النووي: الصحيح أن معناه لتلبس جلباباً لا يحتاج إلى عارية. اهـ أي على سبيل الهبة، ويؤيد الأول رواية الترمذي: "فلتعرها أختها من جلابيبها". 31 - فيه الحث على المواساة والتعاون على البر والتقوى. 32 - ويؤخذ من الرواية الثالثة عشرة أنه لا سنة للعيد، لا قبلها ولا بعدها، وفي المسألة خلاف طويل، واستدل به مالك على كراهة الصلاة قبل العيد وبعده للإمام والمأمومين، وواضح أن الحديث لم يتعرض للمأمومين فلا دلالة فيه بالنسبة لهم، واستدل به الشافعي في الأم على أنه يجب على

الإمام أن لا يتنفل قبل صلاة العيد أو بعدها، وفسره الرافعي بأنه يكره له ذلك، وقيده بعضهم بالمصلى. أما المأمومون فلا كراهة في الصلاة قبلها ولا بعدها، والحنفية يصلون قبلها لا بعدها، والحسن البصري ومالك في رواية عنه وجماعة يصلون بعدها لا قبلها، وأحمد لا يصلي قبلها ولا بعدها. ويجيب من يجيز للإمام والمأمومين التنفل قبلها وبعدها بأن الحديث لا دلالة فيه على المواظبة، فيحتمل اختصاصه بالمصلى دون البيت، ثم إنه لا يلزم من ترك الصلاة كراهتها، والأصل أن لا منع حتى يثبت المنع. والله أعلم. 33 - في الرواية الرابعة عشرة والخامسة عشرة دليل الشافعي وموافقيه على أنه تسن القراءة في العيدين بسورتي {اقتربت الساعة} و {ق والقرآن المجيد} قال العلماء: والحكمة في قراءتهما ما اشتملتا عليه من الإخبار بالبعث والإخبار عن القرون الأولى، وإهلاك المكذبين، وتشبيه بروز الناس للعيد ببروزهم للبعث وخروجهم من الأجداث كأنهم جراد منتشر. قاله النووي. والله أعلم

(279) باب اللهو واللعب والغناء يوم العيد

(279) باب اللهو واللعب والغناء يوم العيد 1786 - عن عائشة رضي الله عنها قالت دخل علي أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث. قالت وليستا بمغنيتين. فقال أبو بكر أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وذلك في يوم عيد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا أبا بكر إن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا". 1787 - عن هشام بهذا الإسناد وفيه جاريتان تلعبان بدف. 1788 - عن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى تغنيان وتضربان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مسجى بثوبه، فانتهرهما أبو بكر؛ فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وقال "دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد". وقالت رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون وأنا جارية. فاقدروا قدر الجارية العربة الحديثة السن. 1789 - عن عائشة رضي الله عنها والله لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم على باب حجرتي والحبشة يلعبون بحرابهم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسترني بردائه لكي أنظر إلى لعبهم ثم يقوم من أجلي حتى أكون أنا التي أنصرف. فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن حريصة على اللهو. 1790 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث فاضطجع على الفراش وحول وجهه. فدخل أبو بكر فانتهرني وقال مزمار الشيطان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "دعهما". فلما غفل غمزتهما فخرجتا. وكان يوم عيد يلعب السودان بالدرق والحراب، فإما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما قال "تشتهين تنظرين؟ " فقلت نعم. فأقامني وراءه، خدي على خده وهو يقول "دونكم يا بني أرفدة" حتى إذا مللت قال "حسبك؟ " قلت نعم قال "فاذهبي".

1791 - عن عائشة رضي الله عنها قالت جاء حبش يزفنون في يوم عيد في المسجد. فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم، فوضعت رأسي على منكبه، فجعلت أنظر إلى لعبهم، حتى كنت أنا التي أنصرف عن النظر إليهم. 1792 - عن هشام بهذا الإسناد ولم يذكرا في المسجد. 1793 - عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للعابين وددت أني أراهم. قالت فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقمت على الباب أنظر بين أذنيه وعاتقه وهم يلعبون في المسجد. قال عطاء فرس أو حبش. قال وقال لي ابن عتيق بل حبش. 1794 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال بينما الحبشة يلعبون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بحرابهم إذ دخل عمر بن الخطاب فأهوى إلى الحصباء يحصبهم بها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "دعهم يا عمر". -[المعنى العام]- الإسلام: دين الوسيطة {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً} [البقرة: 143] والوسطية في شرع الله هي الفضيلة، فالشجاعة مثلاً وسط بين التهور والجبن، وفضيلة الكرم والسخاء وسط بين السفه والإسراف والتبذير وبين الشح والتقتير {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط} [الإسراء: 29]، والحياة المشروعة في الدنيا أن تعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، ولآخرتك كأنك تموت غداً، وأن تبتغي فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا، ولقد نعى الله على قوم حولوا دنياهم إلى متع وشهوات وماديات، ونعى على قوم حولوا دنياهم إلى رهبانية ابتدعوها ما كتبها الله عليهم. وإذا كان الإسلام قد استفتح أيام العيد بالتكبير والتهليل والذكر والصلاة والخطبة، فإنه شرع من البهجة والسرور والمرح في هذه الأيام، ما يلبي حاجة الجسم ورغبة النفس، وإذا كان الوقار قد وضع كبار المسلمين في إطار ديني يترفع بهم عن اللهو فإنه حال بينهم وبين التحكم ومنع ذوي الأهواء

والمتع من الصبية والجواري والشباب والشابات من أن يتمتعوا ويمرحوا وينعموا باللهو واللعب والأغاني إلى حد ما. نعم. ما أعظم سمو الإسلام، وما أجمل سماحته ويسره ورقته وعطفه. يتجلى هذا في معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم لأهله يوم العيد، وفي معاملته لعائشة بالذات -رضي الله عنها-، لقد تزوجها صغيرة، فقدر حاجتها إلى هذا اللون من الحياة كان يراها تلعب بالصلصال، وترسم به البيوت والحيوان، فيضاحكها ويبتسم ويدخل عليها في أيام العيد، في أيام التشريق، فيجد معها جاريتين تضربان الدف وتغنيان، وعائشة تسمع وتنتشي وتهتز طرباً وسروراً، فلا يلتفت إليهن لئلا يحرجهن، ويعرض عنهن حتى يتيح لهن المضي في لهوهن، وينتحي ناحية من البيت، ينام فيها على فراشه بعيداً عنهن، ويغطي رأسه ووجهه حتى لا يسمع الطبل والغناء. ويدخل أبو بكر أبوها، وهو يعلم قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ينبغي أن يكون عليه حال بيته من الإجلال والوقار، فيرى الجاريتين، ويسمع الدف والغناء فينهر عائشة ويزجر الجاريتين، مزمارة الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هذا لا يليق، ويكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وجهه، ويوجه اللوم إلى أبي بكر، دعهما يا أبا بكر، فلكل قوم عيد، واليوم من أعيادنا، ويغتفر في الأعياد ما لا يغتفر في غيرها، وينشغل أبو بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنتهز عائشة هذه الفرصة فتغمز الجاريتين فتنصرفان. ألا يعجب أعداء الإسلام إلى هذا الجمع بين السماحة وبين الوقار والالتزام؟ حقاً إنه الإسلام. ولم يكتف صلى الله عليه وسلم بالاستجابة إلى رغبة زوجته، وبالإغضاء عن لهوها في بيت النبوة، بل يتجاوز ذلك إلى أن يدعوها لرؤية اللهو وسماعه ويشجعها ويساعدها عليه. سمع في يوم عيد صوت صبيان فنظر من باب بيته نحو الصوت، فرأى رجالاً من الحبشة يلعبون بالعصى، كأن بعضهم يضرب بعضاً ويحاول المضروب أن يحمي نفسه من العصا بعرض عصاه وهي لعبة معروفة في البلاد، يرى ذلك فينادي عائشة: هل تحبين رؤية الحبشة يرقصون ويلعبون بالعصى؟ فتقول: نعم أحب ذلك. فيقول لها: تعالى، وقفي ورائي، وانظري وأنت تتسترين بي، فتضع رأسها على كتفه، وخدها على خده، تنظر إلى الحبشة من بين كتفه وأذنه صلى الله عليه وسلم، فإذا طال الوقت سألها: أيكفيك ذلك؟ فتقول: لا تعجل، فإني ما زلت أرغب، فينتظر ثم يقول: أيكفيك ذلك؟ فتقول: لا تعجل، فما زلت أرغب، فينتظر حتى تسأم هي، وتطلب الانصراف، فينصرف بها صلى الله عليه وسلم ورضي الله عن أم المؤمنين عائشة وعن الصحابة أجمعين. -[المباحث العربية]- (وعندي جاريتان من جواري الأنصار) الجارية في النساء كالغلام في الرجال، يقال على من دون البلوغ فيهما، وتطلق الجارية على الحرة أو الأمة. أما الجاريتان هنا فكانتا أمتين، فقد جاء في رواية الطبراني من حديث أم سلمة أن إحداهما كانت لحسان بن ثابت.

(تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث) وفي ملحق الرواية: "تلعبان بدف" وفي الرواية الثانية: "تغنيان وتضربان" وفي رواية: "تدففان" أي تضربان بالدف، وفي رواية النسائي: "بدفين" والدف بضم الدال وفتحها، والضم أشهر ويقال له: الكربال بكسر الكاف، وهو الذي لا جلاجل فيه، فإن كانت فيه جلاجل فهو المزهر، وكأن الجاريتين تضرب كل منهما على دف، وترققان صوتهما بالأقوال والأشعار التي قالها الأنصار بعضهم لبعض، من فخر، أو هجاء. والغناء بكسر الغين ما يسمع، وبفتح الغين النفع. و"بعاث" بضم الباء وتخفيف العين، ونقل بالغين المعجمة، وهو ممنوع من الصرف، وقد يصرف، وهو اسم حصن للأوس وحوله مزرعة لهم. ويوم بعاث يوم مشهور من أيام العرب في الجاهلية، كانت فيه مقتلة عظيمة، وانتصر فيه الأوس على الخزرج، ولحسان بن ثابت وغيره من الخزرج، وكذا لقيس بن الحطيم وغيره من الأوس في ذلك أشعار كثيرة. (وليستا بمغنيتين) أي لم تتخذا الغناء صناعة وعادة، ولم تعرفا به. (أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ) وفي رواية أحمد: "فقال: يا عباد الله. المزمور عند رسول الله صلى الله عليه وسلم"؟ . والمزمور بضم الميم الأولى وفتحها، ويقال له أيضاً: مزمار بكسر الميم، مشتق من الزمير، وهو الصوت بصفير. وقال ابن سيده: يقال: زمر يزمر زميراً وزمراناً، غنى في القصب. وفي كتاب ابن التين: الزمر الصوت الحسن، ويطلق على الغناء أيضاً. اهـ. وسميت به الآلة المعروفة التي يزمر بها. والجار المجرور" أبمزمور الشيطان" متعلق بمحذوف، والتقدير: أتلعبن بمزمور الشيطان؟ وأضافه إلى الشيطان من حيث أنه يلهي ويشغل القلب عن ذكر الله. (وذلك في يوم عيد) وفي الرواية الثانية: "في أيام منى" وهي أيام التشريق الأيام الثلاثة بعد يوم النحر، وهي داخلة في أيام العيد، ولها حكمه في كثير من الأحكام كالأضحية، والتكبير فيها، وتحريم صومها. (إن لكل قوم عيداً) أي إن لكل طائفة من الملل المختلفة عيداً يتمتعون فيه بالبهجة والسرور واللهو المباح. (تغنيان وتضربان) أي بالدف. (مسجى بثوبه) أي ملتف ومغطى به، وفي الرواية الرابعة: "فاضطجع على الفراش وحول وجهه". أي عن الجاريتين وعن الغناء، وكأن التغطية بالثوب لزيادة الحجب والبعد عن الغناء. (فانتهرهما أبو بكر) أي زجر الجاريتين، وفي رواية للبخاري: "فانتهرني". أي زجرني، وكأنه زجرها لتقريرها ذلك وزجرهما لفعلهما. (فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه) أي كشف الغطاء عن نفسه، والتفت إلى أبي بكر في جهة

الجاريتين، وهذا معنى قولها في الرواية الرابعة: "فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية في الصحيح: "فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن وجهه". وفي رواية: "فكشف رأسه". (يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة) في الرواية الرابعة: "فأقامني وراءه، خدي على خده". وفي الرواية الخامسة: "فوضعت رأسي على منكبه". وفي الرواية السادسة: "وقمت على الباب بين أذنيه وعاتقه". وفي رواية: "فوضعت ذقني على عاتقه وأسندت وجهي إلى خده". وفي رواية: "أنظر بين أذنيه وعاتقه". وكل هذه الروايات تعطى صورة واحدة متكاملة، وهي أنها وقفت خلفه على باب حجرتها المطل على المسجد، مستترة به وبردائه، فوضعت رأسها على منكبه، ذقنها على العاتق، ووجهها ملتصق بوجهه صلى الله عليه وسلم وخدها على خده. "والحبشة" الرجال المنتسبون إلى البلاد المعروفة، ويطلق عليهم "السودان" كما جاء في الرواية الرابعة. (وهم يلعبون) في الرواية الثالثة: "يلعبون بحرابهم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم". والحراب بكسر الحاء جمع حربة، وهي معروفة، "والدرق" بفتح الدال والراء جمع درقة، وهي الترس الذي يتخذ من الجلود. (وأنا جارية) أي صغيرة السن دون البلوغ، فقد دخل بها صلى الله عليه وسلم وهي بنت تسع سنين، وتوفي عنها وهي بنت ثمان عشرة سنة على الصحيح، وذكرت ذلك اعتذاراً عن حبها للهو. (فاقدروا قدر الجارية العربة الحديثة السن) "فاقدروا" بضم الدال وكسرها. لغتان من التقدير، والفاء جواب شرط مقدر، أي حيث قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم عذري ورغبتي فقدروا عذر أمثالي. "والعربة" بفتح العين وكسر الراء أي المشتهية للعب المحبة له. (حريصة على اللهو) منصوب على الحال. (وكان يوم عيد يلعب السودان ... ) هذا حديث آخر، ذكره بعض الرواة مستقلاً، وجمعه مع حديثنا بعض الرواة. وقد جاء في رواية: "وقالت عائشة: كان يوم عيد، إلخ". (فإما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم وإما قال: تشتهين تنظرين) قال الحافظ ابن حجر: هذا تردد منها فيما كان وقع له، هل كان أذن لها في ذلك ابتداء منه؟ أو عن سؤال منها؟ وهذا بناء على أن "سألت" بسكون اللام على أنه من كلامها، ويحتمل أن يكون بفتح اللام، فيكون من كلام الراوي. قال: وقد اختلفت الروايات عنها في ذلك، ففي رواية النسائي: "سمعت لغطاً وصوت صبيان، فقام النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا حبشة تزفن -أي ترقص- والصبيان حولها، فقال: يا عائشة. تعالي فانظري". ففي هذا أنه ابتدأها، وفي رواية مسلم -روايتنا السادسة-: "أنها قالت: وددت أني أراهم". ففي هذا أنها سألت، ويجمع بينهما بأنها التمست منه ذلك فأذن لها. اهـ. و"أن" المصدرية مقدرة قبل فعل "تنظرين" وكذا همزة الاستفهام قبل فعل "تشتهين" والتقدير: أتشتهين النظر؟

(دونكم يا بني أرفدة) بفتح الهمزة وسكون الراء، وفتح الفاء وكسرها والكسر أشهر، لقب للحبشة. وقيل: اسم لجدهم الأكبر. و"دونكم" من ألفاظ الإغراء، والمغرى به محذوف، وتقديره: دونكم هذا اللعب، أي الزموه. وشأن "دونك" أن تقدم على المغرى به، كما قدرنا، وقد جاء تأخيرها عليه شاذاً في قول الشاعر: أيها الماتح دلوى دونكا ... إني رأيت الناس يحمدونكا والماتح بالتاء هو الرجل الذي ينزل إلى قرار البئر إذا قل ماؤها فيملأ الدلو بيده؟ (حتى إذا مللت قال: حسبك؟ ) أي يكفيك؟ وهو استفهام، والخبر محذوف، أي هل يكفيك هذا القدر؟ بدليل قولها: "قلت: نعم". و"مللت" بكسر اللام الأولى من الملل، وهو السآمة، وفي رواية: "حتى أكون أنا الذي أسأم". وفي معناها روايتنا الخامسة: "حتى كنت أنا التي أنصرف عن النظر إليهم". (جاء حبش يزفنون) بفتح الياء وسكون الزاي وكسر الفاء، بعدها نون، أي يرقصون وهو محمول على وثبهم بسلاحهم، ولعبهم بحرابهم، متمايلين كما يفعل الراقص. يقال: زفن يزفن من باب ضرب، أي رقص. (أنها قالت للعابين) اللام الأولى لام الجر، والثانية مفتوحة مخففة والعين مشددة مفتوحة، صيغة مبالغة في اللعب، والمعنى أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأجل جماعة كثيري اللعب، أي من أجلهم وبخصوصهم. (قال عطاء: فرس أو حبش؟ ) أصل السند: "عن عطاء قال: أخبرني عبيد بن عمير". فكأن عطاء شك فيما سمع، هل سمع أنهم من الفرس أو من الحبشة. أما ابن عتيق فجزم بأنهم حبش. قال العلماء: هو الصواب. (فأهوى إلى الحصباء يحصبهم بها) "الحصباء" الحصى الصغير، "ويحصبهم" بكسر الصاد، أي يرميهم بها. -[فقه الحديث]- المسألة الأساسية المستحقة للبحث الهادئ العميق مسألة الغناء، ويحسن بنا أن نعرض أقوال السلف من العلماء، ثم نعرض ما يفتح الله به. قال النووي في شرحه للحديث: واختلف العلماء في الغناء، فأباحه جماعة من أهل الحجاز: وهي رواية عن مالك، وحرمه أبو حنيفة وأهل العراق، ومذهب الشافعي كراهته، وهو المشهور من مذهب مالك، واحتج المجوزون بهذا الحديث، وأجاب الآخرون بأن هذا

الغناء إنما كان في الشجاعة والقتل والحذق في القتال، ونحو ذلك مما لا مفسدة فيه، بخلاف الغناء المشتمل على ما يهيج النفوس على الشر، ويحملها على البطال والقبيح. قال القاضي: إنما كان غناؤهما بما هو من أشعار الحرب، والمفاخرة بالشجاعة، والظهور والغلبة، وهذا لا يهيج الجواري على شر، ولا إنشادهما لذلك من الغناء المختلف فيه، وإنما هو رفع الصوت بالإنشاد، ولهذا قالت: "وليستا بمغنيتين" أي ليستا ممن يتغنى بعادة المغنيات من التشويق والهوى، والتعريض بالفواحش، والتشبيب بأهل الجمال وما يحرك النفوس، ويبعث الهوى والغزل، كما قيل: الغناء فيه الزنا. وليستا أيضاً ممن اشتهر وعرف بإحسان الغناء الذي فيه تمطيط وتكسير وعمل يحرك الساكن، ويبعث الكامن، ولا من اتخذ ذلك صنعة وكسباً، والعرب تسمى الإنشاد غناء، وليس هو من الغناء المختلف فيه، بل هو مباح، وقد استجازت الصحابة غناء العرب الذي هو مجرد الإنشاد والترنم، وأجازوا الحداء وفعلوه بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا كله إباحة مثل هذا وما في معناه، وهذا مثله ليس بحرام، ولا يجرح الشاهد. اهـ. وقال الحافظ ابن حجر: واستدل جماعة من الصوفية بحديث الباب على إباحة سماع الغناء، وسماعه بآلة وبغير آلة، ويكفي في رد ذلك تصريح عائشة بقولها: "وليستا بمغنيتين". فنفت عنهما من طريق المعنى ما أثبتته لهما باللفظ. ثم قال: قال القرطبي: قولها: "ليستا بمغنيتين". أي ليستا ممن يعرف الغناء كما يعرفه المغنيات المعروفات بذلك، وهذا منها تحرز عن الغناء المعتاد عند المشتهرين به وهو الذي يحرك الساكن، ويبعث الكامن، وهذا النوع إذا كان شعراً فيه وصف محاسن النساء والخمر وغيرهما من المحرمات لا يختلف في تحريمه، لكن النفوس الشهوانية غلبت على كثير ممن ينسب إلى الخير، حتى لقد ظهرت من كثير منهم فعلات المجانين والصبيان، حتى رقصوا بحركات متطابقة وتقطيعات متلاحقة، وانتهى التواقح بقوم منهم إلى أن جعلوها من باب القرب وصالح الأعمال والله المستعان. اهـ. وقال الخطابي: وأما الترنم بالبيت والبيتين وتطريب الصوت بذلك مما ليس فيه فحش أو ذكر محظور فليس مما يسقط المروءة، وحكم اليسير منه خلاف حكم الكثير. اهـ. وقد اشتهر عن الإمام الغزالي أنه يبيح الغناء، وقد أطال القول في حكم السماع في كتابه الإحياء ننقل نبذاً منه، ثم ننظر الرأي فيها، ومن أراد المطول فليرجع إليه، والله المستعان. قال: اعلم أن السماع هو أول الأمر، ويثمر السماع حالة في القلب تسمى الوجد، ويثمر الوجد تحريك الأطراف، إما بحركة غير موزونة، فتسمى الاضطراب، وإما موزونة فتسمى التصفيق والرقص ... ثم عرض لمذاهب العلماء في السماع فقال: أما نقل المذاهب فقد حكى القاضي أبو الطيب الطبري عن الشافعي ومالك وأبي حنيفة وسفيان وجماعة من العلماء ألفاظاً يستدل بها على أنهم رأوا تحريمه، ثم أخذ يسرد ألفاظهم ليوجهها فيما بعد على أنها لا تدل على التحريم، فقال:

قال الشافعي -رحمه الله- في كتاب آداب القضاء: إن الغناء لهو يشبه الباطل، ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته. وقال القاضي أبو الطيب: استماعه من المرأة التي ليست بمحرم له لا يجوز عند أصحاب الشافعي -رحمه الله- بحال، سواء أكانت مكشوفة أو من وراء حجاب، وسواء أكانت حرة أو أمة. وقال: قال الشافعي -رحمه الله-: صاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه ترد شهادته. اهـ. قال: وأما مالك -رحمه الله- فقد نهى عن الغناء، وقال: إذا اشترى جارية، فوجدها مغنية كان له ردها، وهو مذهب سائر أهل المدينة إلا ابن سعد وحده. وأما أبو حنيفة رضي الله عنه فإنه كان يكره ذلك، ويجعل سماع الغناء من الذنوب، وكذلك سائر أهل الكوفة، وسفيان الثوري، وحماد، وإبراهيم، والشعبي وغيرهم. اهـ. ثم أخذ الغزالي جاهداً محاولاً إثبات جواز السماع محاولات تستحق أن ينظر إليها أو يرد عليها، وأبرز أدلته بالنص قوله: 1 - فعل السماع كثير من السلف الصالح، صحابي وتابعي بإحسان. 2 - لم يزل الحجازيون عندنا بمكة يسمعون السماع في أفضل أيام السنة وهي الأيام المعدودات التي أمر الله عباده فيها بذكره، ولم يزل أهل المدينة مواظبين كأهل مكة على السماع إلى زماننا هذا، فأدركنا أبا مروان القاضي وله جوار يسمعن الناس التلحين قد أعدهن للصوفية. 3 - نقل أبو طالب المكي أنه كان لعطاء جاريتان تلحنان، فكان إخوانه يستمعون إليهما. وقال: ورأيت في بعض الكتب محكياً عن الحارث المحاسبي ما يدل على تجويزه السماع مع زهده وتصاونه وجده في الدين وتشميره. وقال: وكان ابن مجاهد لا يجيب دعوة لا يكون فيها سماع. قال: وكان أبو الحسن العسقلاني الأسود من الأولياء يسمع ويوله عند السماع. وحكى عن بعض الشيوخ أنه قال: رأيت أبا العباس الخضر عليه السلام، فقلت له: ما تقول في هذا السماع الذي اختلف فيه أصحابنا؟ فقال: هو الصفو الزلال الذي لا يثبت عليه إلا أقدام العلماء. وحكى عن ممشاد الدينوري أنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقلت: يا رسول الله هل تنكر من هذا السماع شيئاً؟ فقال: ما أنكر منه شيئاً، ولكن قل لهم يفتتحون قبله بالقرآن، ويختمون بعده بالقرآن. اهـ. وهذه الأدلة ينقصها ثبوتها عن أربابها، وأكثرها مروي بصيغة التمريض -نقل وحكى- بالبناء للمجهول، ثم هي -مع ذلك- أفعال لمن أعماله ليست بحجة [أبو مروان القاضي - عطاء - الحارث المحاسبي - أبو الحسن العسقلاني - بعض الشيوخ - ممشاد الدينوري]. ثم يستدل الغزالي بعد ذلك بأن الشرع يمتدح الصوت الحسن ويستنكر الصوت القبيح، وبأن صوت المرأة في غير الغناء ليس بعورة، وبأن الشعر لا يحرم سماعه، وأن الحداء في

سير الإبل مشهور، وبأن الأنصار استقبلوا هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم بإنشاد [طلع البدر علينا .... ]. ويستدل من حديث عائشة على الرخصة في الغناء المشبه بمزمارة الشيطان، ويدعى أن الرسول صلى الله عليه وسلم بمنعه أبا بكر من الإنكار أباح الغناء. وهكذا يبدو الغزالي في بحثه وكأنه يبيح الغناء على الإطلاق، وهكذا حاول المتحللون -أو المحللون أو المنحلون- أن يلتقطوا بعض نصوصه كبرهان على حل ما يفعلون، وأخذ شياطينهم {يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون} [الأنعام: 112، 113]. والمحقق يرى أن الإمام الغزالي في ناحية وهؤلاء المحللين في ناحية أخرى، فمقصد الغزالي نوع خاص من المستمعين ونوع خاص من الغناء، فهو يقول: فإن قلت: هل للغناء حالة يحرم فيها؟ فأقول: إنه يحرم بخمسة عوارض: عارض في السمع، وعارض في الآلة، وعارض في نظم الصوت، وعارض في نفس المستمع أو في مواظبته، وعارض في كون الشخص من عوام الخلق، لأن أركان السماع هي المسمع والمستمع وآلة الإسماع. العارض الأول: أن يكون المسمع امرأة لا يحل النظر إليها وتخشى الفتنة من سماعها، وفي معناها الصبي الأمرد الذي تخشى فتنته، وهذا حرام لما فيه من خوف الفتنة، بل لو كانت المرأة بحيث يفتتن بصوتها في المحاورة من غير ألحان فلا يجوز محاورتها ومجادلتها ولا سماع صوتها في القرآن أيضاً. العارض الثاني: في الآلة بأن تكون المزامير والأوتار وطبل الكوبة فهذه ثلاثة أنواع ممنوعة. العارض الثالث: في نظم الصوت وهو الشعر، فإن كان فيه شيء من الخنا والفحش والهجو فسماع ذلك حرام، وكذلك ما كان فيه وصف امرأة بعينها فإنه لا يجوز وصف المرأة بين الرجال. العارض الرابع: في المستمع، وهو أن تكون الشهوة غالبة عليه، وكان في غرة الشباب فالسماع عليه حرام سواء غلب على قلبه حب شخص معين أو لم يغلب، فإنه كيفما كان فلا يسمع وصف الصدغ والخد والفراق والوصال إلا ويحرك ذلك شهوته، وينزله على صورة معينة ينفخ الشيطان بها في قلبه فتشتعل فيه نار الشهوة، وغالب القلوب الآن قد فتحها جند الشيطان وغلب عليها، فلا يجوز تحريك شوقها إلى ما لا يحل، وأكثر العشاق والسفهاء من الشباب في وقت هيجان الشهوة لا ينفكون عن إضمار شيء من ذلك، وذلك ممنوع في حقهم لما فيه من الداء الدفين. العارض الخامس: أن يكون الشخص من عوام الخلق، وهذا إذا اتخذ السماع عادة وقصر عليه أكثر أوقاته، فهذا هو السفيه الذي ترد شهادته، فإن المواظبة على اللهو جناية. اهـ. فمن هذه اللقطات يتضح أن الإمام الغزالي مع الجمهور تماماً في غناء اليوم فهو يرى: أولاً: أن غناء امرأة أمام الرجل غير المحرم حرام، وكذا غناء الصبي الأمرد الذي لا لحية له، وهذا عامة غناء اليوم.

ثانياً: وأن الغناء بالمزامير والأوتار حرام. وهذا لا يخلو منه غناء اليوم. ثالثاً: وأن عبارات الغناء إذا اشتملت على الخنا ووصف المرأة بين الرجال حرام. وهو الأصل والكثير في غناء اليوم. رابعاً: وأن سماع الشباب حرام. خامساً: وأن سماع العوام إذا كثر فهو حرام. إذن الغزالي يتكلم عن غناء يشبه الترنم والحداء، وهو لا يكاد يوجد في عالمنا، ويقصد نوعاً خاصاً من المستمعين وهم -كما يقول-: الذين غلب عليهم حب الله تعالى، فالذي يغلب عليه حب الله تعالى يتذكر بسواد الصدغ مثلاً ظلمة الكفر، وبنضارة الخد نور الإيمان، وبذكر الوصال لقاء الله تعالى، وبذكر الفراق الحجاب عن الله تعالى في زمرة المردودين، فالسماع يحدث أحوالاً من المكاشفات والملاطفات لا يحيط الوصف بها، يعرفها من ذاقها وينكرها من ضعف حسه عن ذوقها، وتسمى تلك الأحوال بلسان الصوفية وجداً، ثم تكون تلك الأحوال أسباباً للصفاء الذي يحصل به مشاهدات ومكاشفات، وهي غاية مطلب المحبين لله تعالى. انتهى كلام الغزالي بتصرف. أفبعد هذا يقال: إن الغزالي يبيح سماع غناء اليوم؟ ولجماهير مستمعي الغناء اليوم؟ اللهم. لا. ثم إن الغزالي في هذا البحث عنى السماع وقصده، أما القائم بالغناء فقد استحسن بشأنه عبارة الشافعي، فقال: وقد نص الشافعي في الرجل يتخذه صناعة: لا تجوز شهادته. قال الغزالي: وذلك لأنه من اللهو المكروه الذي يشبه الباطل، ومن اتخذه صنعة كان منسوباً إلى السفاهة وسقوط المروءة، فإن كان لا ينسب نفسه إلى الغناء، ولا يؤتي لذلك، ولا يؤتي لأجله، وإنما يعرف بالصوت الحسن فيترنم أحياناً لم يسقط هذا مروءته، ولم يبطل شهادته. وحديث الجاريتين في بيت عائشة شاهد على هذا. والله أعلم. -[ويؤخذ من أحاديث الباب فوق ما تقدم]- 1 - جواز دخول الرجل على ابنته وهي عند زوجها بدون سبق استئذان من الزوج إذا كان له بذلك عادة. 2 - وتأديب الأب ابنته بحضرة الزوج، وإن تركه الزوج، إذ التأديب وظيفة الآباء، والعطف مشروع من الأزواج للنساء. ذكره الحافظ ابن حجر وهو واضح في الرواية الرابعة في قولها: "فانتهرني". 3 - ومن قول أبي بكر: "أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم". أن مواضع أهل الخير وأهل الفضل والصالحين تنزه عن الهوى واللغو ونحوه، وإن لم يكن فيه إثم. ذكره النووي. 4 - وفيه أن التابع للكبير إذا رأى بحضرته ما يستنكر أو ما لا يليق بمجلسه ينكره، ولا يكون في ذلك افتيات على الكبير، بل هو أدب ورعاية حرمة وإجلال للكبير من أن يتولى ذلك بنفسه، فلا يقال: كيف ساغ للصديق إنكار شيء أقره النبي صلى الله عليه وسلم؟

5 - وفيه فتوى التلميذ بحضرة شيخه بما يعرف من طريقته. قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون أبو بكر ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم نام ولا يعلم بالغناء، لكونه دخل فوجده مغطى بثوبه، فظنه نائماً، فخشى أبو بكر أن يستيقظ فيغضب على ابنته، فبادر إلى سد هذه الذريعة. 6 - في اضطجاعه صلى الله عليه وسلم على الفراش، وتحويله وجهه وتسجيه بثوبه إعراض أهل الفضل عن اللهو المباح. قال الحافظ ابن حجر: فعدم إنكاره صلى الله عليه وسلم دال على تسويغ مثل ذلك على الوجه الذي أقره إذ لا يقر على باطل، والأصل التنزه عن اللعب واللهو فيقتصر على ما ورد فيه النص وقتاً وكيفية، تقليلاً لمخالفة الأصل. اهـ. على أن إنكاره صلى الله عليه وسلم لإنكار أبي بكر دليل واضح على إجازته لمثل ذلك. 7 - واستدل النووي بحالته صلى الله عليه وسلم على حسن خلقه ورأفته وحلمه، فقد حول وجهه لئلا يستحيين فيقطعن ما هو مباح لهن. 8 - وفي قوله: "فإنها أيام عيد". تعليل الأمر والحكم، لأن أبا بكر لما أنكر ما رأى مستصحباً ما تقرر عنده من منع الغناء واللهو أوضح له النبي صلى الله عليه وسلم الحكم مقروناً ببيان الحكمة والعلة. 9 - وفيه أن إظهار السرور في الأعياد من شعار الدين، ويتبع ذلك مشروعية التوسعة على العيال في أيام الأعياد بأنواع التوسعة المباحة التي تحقق لهم بسط النفس وترويح البدن، والتمتع بمتع الحياة الدنيا من المأكل والمشرب والملبس دون إسراف أو تبذير. 10 - واستنبط منه كراهة الفرح في أعياد المشركين والتشبه بهم. قال الحافظ ابن حجر: وبالغ الشيخ النسفي من الحنفية فقال: من أهدى فيه بيضة إلى مشرك تعظيماً ليوم عيدهم فقد كفر بالله تعالى. اهـ. 11 - وفي قول عائشة في الرواية الرابعة: "فلما غفل غمزتهما فخرجتا". مراعاة خاطر الكبير، والاستجابة لرغبته، والتنازل عن رغبة النفس، فإنها -رضي الله عنها- مع ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم لها في ذلك راعت خاطر أبيها وخشيت غضبه عليها فأخرجتهما. 12 - وفيه الاكتفاء بالإشارة المفيدة المغنية عن الكلام بحضرة الكبير. 13 - واستدل بقول عائشة في الرواية الثانية: "في أيام منى". أن هذه الأيام وهي -أيام التشريق الثلاثة التي بعد يوم النحر- داخلة في أيام العيد ويجري عليها حكمه في كثير من الأحكام، كجواز التضحية وتحريم الصوم واستحباب التكبير وغير ذلك. قاله النووي. 14 - وفي حديث لعب الحبشة جواز نظر النساء إلى فعل الرجال الأجانب. قال القاضي عياض: لأنه إنما يكره لهن النظر إلى المحاسن والاستلذاذ بذلك. اهـ. وقال النووي: في الحديث جواز نظر النساء إلى لعب الرجال من غير نظر إلى نفس البدن، قال: وأما نظر المرأة إلى وجه الرجل الأجنبي فإن كان بشهوة فحرام بالاتفاق، وإن كان بغير شهوة ولا

مخافة فتنة ففي جوازه وجهان لأصحابنا، أصحهما تحريمه، لقوله تعالى: {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن} [النور: 31] ولقوله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة وأم حبيبة: "احتجبا عنه". أي عن ابن أم مكتوم، فقالتا: إنه أعمى؟ لا يبصرنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟ ". وهو حديث حسن رواه الترمذي وغيره. وعلى هذا أجابوا عن حديث عائشة بجوابين، وأقواهما أنه ليس فيه أنها نظرت إلى وجوههم وأبدانهم، وإنما نظرت إلى لعبهم وحرابهم، ولا يلزم من ذلك تعمد النظر إلى البدن، وإن وقع النظر بلا قصد صرفته في الحال، والثاني لعل هذا ما كان قبل نزول الآية في تحريم النظر، وأنها كانت صغيرة قبل بلوغها، فلم تكن مكلفة، على قول من يقول: إن للصغير المراهق النظر. اهـ. وقد أشار الحافظ ابن حجر إلى رد هذا القول الثاني بأن قولها -في روايتنا الثانية: "يسترني بردائه". دال على أن ذلك كان بعد نزول آية الحجاب، وكذا قولها- في بعض الروايات: "أحببت أن يبلغ النساء مقامه لي". مشعر بأن ذلك وقع بعد أن صارت لها ضرائر، أرادت الفخر عليهن، فالظاهر أن ذلك وقع بعد بلوغها. وفي رواية ابن حبان: أن وفد الحبشة قدم سنة سبع. فيكون عمرها حينئذ خمس عشرة سنة. اهـ. 15 - واستدل به على الرفق بالمرأة واستجلاب مودتها. 16 - وبيان ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الرأفة والرحمة وحسن الخلق والمعاشرة بالمعروف. 17 - وفي قولها: "حتى كنت أنا التي أنصرف". ملال المحب، وأصرح من حديثنا في ذلك حديث النسائي: "أما شبعت؟ أما شبعت؟ قالت: فجعلت أقول: لا. لأنظر منزلتي عنده". وفي رواية له: "قلت: يا رسول الله، لا تعجل. فقام، ثم قال: حسبك؟ قلت: لا تعجل. قالت: وما بي حب النظر إليهم، ولكن أحببت أن يبلغ النساء مقامه لي ومكاني منه". 18 - واستدل به على جواز اللعب بالسلاح على طريق التواثب للتدريب على الحرب. 19 - واغتفار ذلك في المسجد في أيام العيد، ومنعه الجمهور في المسجد إذ لا يليق به، وجعل الترخيص خاصاً بتلك الحادثة سروراً بقدوم وفد الحبشة. 20 - واستدل من فعل عمر أنه كان مقرراً عندهم تنزيه المساجد عن اللعب. والله أعلم.

كتاب الاستسقاء

كتاب الاستسقاء

(280) باب صلاة الاستسقاء، ورفع اليدين بالدعاء

(280) باب صلاة الاستسقاء، ورفع اليدين بالدعاء 1795 - عن عبد الله بن زيد المازني رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فاستسقى وحول رداءه حين استقبل القبلة. 1796 - عن عباد بن تميم عن عمه قال خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فاستسقى واستقبل القبلة وقلب رداءه وصلى ركعتين. 1797 - عن عبد الله بن زيد الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المصلى يستسقي وأنه لما أراد أن يدعو استقبل القبلة وحول رداءه. 1798 - عن عباد بن تميم المازني أنه سمع عمه وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً يستسقي فجعل إلى الناس ظهره يدعو الله واستقبل القبلة وحول رداءه ثم صلى ركعتين. 1799 - عن أنس رضي الله عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الدعاء حتى يرى بياض إبطيه. 1800 - عن أنس رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء حتى يرى بياض إبطيه غير أن عبد الأعلى قال يرى بياض إبطه أو بياض إبطيه. 1801 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء. 1802 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً دخل المسجد يوم جمعة من باب كان نحو

دار القضاء ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً، ثم قال يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يغثنا. قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال "اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا". قال أنس ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار. قال فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت. قال فلا والله ما رأينا الشمس سبتاً. قال ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبله قائماً، فقال يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يمسكها عنا. قال فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال "اللهم حولنا ولا علينا اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر" فانقلعت وخرجنا نمشي في الشمس. قال شريك فسألت أنس بن مالك أهو الرجل الأول؟ قال: لا أدري. 1803 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال أصابت الناس سنة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس على المنبر يوم الجمعة إذ قام أعرابي فقال يا رسول الله هلك المال وجاع العيال. وساق الحديث بمعناه. وفيه قال "اللهم حوالينا ولا علينا" قال فما يشير بيده إلى ناحية إلا تفرجت، حتى رأيت المدينة في مثل الجوبة وسال وادي قناة شهراً، ولم يجئ أحد من ناحية إلا أخبر بجود. 1804 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فقام إليه الناس فصاحوا وقالوا يا نبي الله قحط المطر واحمر الشجر وهلكت البهائم. وساق الحديث. وفيه من رواية عبد الأعلى فتقشعت عن المدينة. فجعلت تمطر حواليها. وما تمطر بالمدينة قطرة. فنظرت إلى المدينة وإنها لفي مثل الإكليل. 1805 - عن أنس رضي الله عنه بنحوه وزاد فألف الله بين السحاب ومكثنا حتى رأيت الرجل الشديد تهمه نفسه أن يأتي أهله. 1806 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وهو على المنبر. واقتص الحديث. وزاد فرأيت السحاب يتمزق كأنه الملاء حين تطوى.

1807 - عن أنس رضي الله عنه قال: قال أنس أصابنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطر. قال فحسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه حتى أصابه من المطر فقلنا يا رسول الله لم صنعت هذا؟ قال "لأنه حديث عهد بربه تعالى". 1808 - عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم الريح والغيم عرف ذلك في وجهه وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سر به وذهب عنه ذلك. قالت عائشة فسألته فقال "إني خشيت أن يكون عذاباً سلط على أمتي" ويقول إذا رأى المطر "رحمة". 1809 - عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال "اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به". قالت وإذا تخيلت السماء تغير لونه وخرج ودخل وأقبل وأدبر فإذا مطرت سري عنه فعرفت ذلك في وجهه. قالت عائشة فسألته فقال "لعله يا عائشة كما قال قوم عاد {فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا} 1810 - عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً حتى أرى منه لهواته إنما كان يتبسم. قالت وكان إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف ذلك في وجهه. فقالت يا رسول الله أرى الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية؟ قالت فقال يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب قد عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا {هذا عارض ممطرنا}

1811 - عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور". -[المعنى العام]- نعم الله على عباده لا تعد ولا تحصى، وصدق الله العظيم حين يقول: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} [النحل: 18]. وحين يقول: {وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة} [لقمان: 20]. ولكن الإنسان ينسى المنعم في الوقت الذي يتمتع فيه بنعمه، ويحسبها أحياناً وجهلاً أنها من حقه أو من كده وجهده، ولا يعترف بالحقيقة ولا يحس بقيمة النعمة إلا عند فقدها، وقديماً قيل: الصحة تاج على رءوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى. عندئذ يلجأ إلى ربه ويدعوه ويستغيث به، وصدق الله العظيم حيث يقول: {وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون} [النحل: 53، 54]. وحيث يقول: {وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل} [الزمر: 8]. وحيث يقول: {ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور} [هود: 9]. نعم شاءت رحمة الله بعباده أن يذكرهم بنعمه بين الحين والحين بحجبها حجب نقصان {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} [الشورى: 30] شاءت رحمة الله بعباده أن يعيدهم إليه بعد ابتعاد، ويلجئهم إلى دعائه وندائه بعد نسيان، وأن يذكرهم بنعمه عن طريق الفقدان، إذ ليس من مصلحتهم دوام النعمة وبسطها {ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير} [الشورى: 27] ومن مظاهر هذه الحكمة الجدب بعد الرخاء، والقحط بعد الغيث، ثم تعود الرحمة بالمطر. إن الذين يعيشون على الغيث، وتقوم حياتهم على المطر يحسون الحاجة إليه أكثر من غيرهم، ويشعرون بتأخيره يوماً أو أياماً عن موعده ويتحرقون انتظاراً له، وهكذا كثير من أهل الأرض، ومن يستطيع إنزال المطر غير الله؟ {وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد} [الشورى: 28]. لقد قحط العرب، وأجدبت أرضهم، وهلكت مواشيهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطلب من ربه رفع البلاء، وإنزال الغيث، ولم يشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسارع بالدعاء قبل أن يستغيث الناس ويشعروا بالحاجة، ويعودوا إلى ربهم، ويحاسبوا أنفسهم، لقد صبر وصابر وهو يحس

حاجة الناس وشدتهم حتى دخل عليه المسجد أعرابي، وهو صلى الله عليه وسلم يخطب الجمعة فقال: يا رسول الله، هلكت المواشي من العطش وانقطاع المرعى هلك العيال، وهلكت الناس من ضعف الأقوات بحبس المطر، وانقطعت الطرق لعدم سفر التجار بالأقوات. انقطع المطر، وجف الشجر، فاستسق لنا ربك، ادع الله أن يسقينا. فرفع الرسول صلى الله عليه وسلم يديه ورفع المسلمون أيديهم، قال: اللهم اسقنا. وقال المسلمون: آمين. وقال: اللهم اسقنا. وقال المسلمون: آمين. وكانت السماء صافية، لا يحجبها عن الرؤية بيت أو جبل أو شجر، لا يرى الناس فيها سحابة صغيرة، فما أتم رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاءه حتى تجمعت السحب وثار السحاب كأمثال الجبال، وهطلت الأمطار كأفواه القرب، حتى صعب على المصلين أن يخرجوا من المسجد ليصلوا إلى بيوتهم، وظلت تمطر أسبوعاً حتى خشي على البيوت، فلما كانت الجمعة الأخرى دخل الرجل نفسه المسجد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، فقال: يا رسول الله، كثرة المطر أضربنا، فلم تستطع المواشي أن ترعى، ولم يستطع التجار التنقل بالأقوات. فادع لنا الله أن يمسك المطر، فرفع الرسول صلى الله عليه وسلم يديه وقال: اللهم اجعل المطر حوالينا بعيداً عن البيوت، اجعله على الجبال وقيعان الوديان التي تمسكه ليشرب الناس منه عند الحاجة، فأمسكت السماء عن المدينة، وظلت تمطر على الروابي. ومرة أخرى قحط الناس، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين إلى المصلى بالصحراء فرفع يديه بالدعاء، وصلى ركعتين للاستسقاء ثم خطب الناس، وأمرهم بالتوبة والتقوى وكثرة التضرع لله والدعاء، وهكذا شرعت صلاة الاستسقاء، وضرب صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في خشية الله والخوف من العقاب فكان ينزعج للسحاب حتى يمطر، فقد عذب به قوم من البشر، وينزعج للريح والعواصف فقد هلك بها قوم من البشر، فصلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. -[المباحث العربية]- (عبد الله بن زيد المازني) وفي الرواية الثالثة "الأنصاري" قال الحافظ ابن حجر: راوي حديث الاستسقاء عبد الله بن زيد بن عاصم المازني الأنصاري الخزرجي، وراوي حديث الأذان عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري الخزرجي، وقد اتفقا في الاسم واسم الأب والنسبة إلى الأنصار، ثم إلى الخزرج والصحبة والرواية، وافترقا في الجد. (فاستسقى) السين والتاء للطلب، أي طلب السقيا، والسقيا بضم السين الاسم من السقى. قال الحافظ: والاستسقاء لغة. طلب سقي الماء من الغير، للنفس أو للغير، وشرعاً: طلبه من الله عند حصول الجدب على وجه مخصوص. (وحول رداءه) كان بعض لباس العرب من قطعتين. إزار يلف حول الوسط فيستر من السرة أو ما فوقها بقليل إلى ما يقرب من القدم، ورداء وهو ما يستر النصف الأعلى. وذكر الواقدي: أن طول ردائه صلى الله عليه وسلم كان ستة أذرع في ثلاثة أذرع، وطول

إزاره أربعة أذرع وشبرين في ذراعين وشبر، كان يلبسهما صلى الله عليه وسلم في الجمعة والعيدين. اهـ. والمراد من تحويل الرداء جعل اليمين على الشمال، والشمال على اليمين كما جاء في بعض الروايات، وهذا هو المراد من قوله في الرواية الثانية: "وقلب رداءه". إذ جعل العطاف الأيمن على العاتق الأيسر، والعطاف الأيسر على العاتق الأيمن لا يكون إلا بقلب الباطن ظاهراً والظاهر باطناً، أو قلب الأمام خلفاً والخلف أماماً. (عن عباد بن تميم عن عمه) عمه هو عبد الله بن زيد المازني الأنصاري السابق الذكر في الرواية الأولى. (فجعل إلى الناس ظهره) هذا لازم للإمام إذا استقبل القبلة هو والناس. (كان لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء حتى يرى بياض إبطيه) الاستثناء مقدم من تأخير، إذ المراد لا يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه إلا في الاستسقاء، أما غير الاستسقاء فيرفع يديه لكن ليس حتى يرى بياض إبطيه. (حتى يرى بياض إبطه أو بياض إبطيه) شك من الراوي عن أنس فيما قاله أنس. والمعنى لا يختلف. (أن رجلاً دخل المسجد) قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمه. اهـ والمراد من المسجد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة. (من باب كان نحو دار القضاء) في رواية البخاري "من باب كان وجاه المنبر" أي في مواجهة المنبر. قال النووي: قال القاضي عياض: سميت دار القضاء لأنها بيعت في قضاء دين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي كتبه على نفسه وأوصى ابنه عبد الله أن يباع فيه ماله، فإن عجز ماله استعان ببني عدي، ثم بقريش، فباع ابنه داره هذه لمعاوية، وكان يقال لها: دار قضاء دين عمر، ثم اقتصروا فقالوا: دار القضاء، وهي دار مروان. اهـ وغرض الراوي من ذكر هذه العبارة التوثيق من الرواية بذكر ملابساتها. (هلكت الأموال) المراد بها الماشية، كما هو لفظ بعض الروايات، وفي رواية "هلكت الكراع" بضم الكاف، ويطلق على الخيل وغيرها. (وانقطعت السبل) وفي رواية "وتقطعت" والمراد بذلك أن الإبل ضعفت عن السفر لقلة القوت، أو لكونها لا تجد في طريقها من الكلأ ما يقيتها. وقيل: المراد نفاد ما عند الناس من الطعام، أو قلته، فلا يجدون ما يحملونه وما يجلبونه إلى الأسواق.

(فادع الله يغثنا) بسكون الثاء مجزوم في جواب الأمر. وفي رواية البخاري "يغيثنا" بالرفع، أي فهو يغيثنا، وفي رواية له أيضاً "أن يغيثنا" ويجوز ضم الياء الأولى على أنه من الإغاثة ويجوز فتحها من الغيث. يقال: غاث وأغاث بمعنى. وقال ابن دريد: الأصل غاثه الله يغوثه غوثاً فأغيث، واستعمل أغاثه. اهـ. (اللهم أغثنا) قالها ثلاثاً، وفي رواية للبخاري "اللهم اسقنا" كررها ثلاثاً. (ولا -والله- ما نرى في السماء من سحاب) في رواية "فلا والله" وفي رواية "وأيم الله". والمراد نفي رؤية سحاب متجمع ممطر، لا مطلق سحاب ليصح عطف المغاير في قوله: "ولا قزعة". (ولا قزعة) بفتح القاف والزاي، أي السحاب المتفرق. قال ابن سيده: القزع قطع من السحاب رقاق. زاد أبو عبيد: وأكثر ما يجيء في الخريف. (وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار) "سلع" بفتح السين وسكون اللام جبل معروف بالمدينة، وحكى أنه بفتح اللام. أي نحن مشاهدون للجبل وللسماء، ولا يحجبهما عن رؤيتنا لهما بيت ولا دار، ولا نرى هناك سبباً ظاهراً للمطر أصلاً. (فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس) أي مستديرة، ولم يرد أنها مثله في القدر، إذ جاء في رواية: "فنشأت سحابة مثل رجل الطائر وأنا أنظر إليها". قال الحافظ: فهذا يشعر بأنها كانت صغيرة. (ثم أمطرت) قال النووي: هكذا هو في النسخ، وكذا جاء في البخاري "أمطرت" بالألف، وهو صحيح، يقال: مطرت وأمطرت لغتان في المطر: وقال بعض أهل اللغة: لا يقال: أمطرت بالألف إلا في العذاب، كقوله تعالى: {وأمطرنا عليهم حجارة} [الحجر: 74]. قال: والمشهور الأول، ولفظ "أمطرت" تطلق في الخير والشر. (ما رأينا الشمس سبتاً) أي قطعة من الزمان، والسبت القطع، والتعبير كناية عن استمرار الغيم الماطر، وهذا في الغالب، وإلا فقد يستمر المطر والشمس بادية، وقد تحجب الشمس بغير مطر. قيل: المراد به الأسبوع، من تسمية الشيء باسم بعضه، كما يقال: جمعة. وفي رواية: "فمطرنا من جمعة إلى جمعة". وفي رواية: "فمطرنا يومنا ذلك، ومن الغد ومن بعد الغد، والذي يليه حتى الجمعة الأخرى". (ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة) أي التي كانت مقبلة، وظاهر التعبير أن هذا الرجل غير الرجل الأول، لأن النكرة إذا أعيدت نكرة كان الثاني غير الأول، فربما ظن أنس ذلك بعض الوقت، حيث سئل: أهو الرجل الأول؟ قال: لا أدري، وربما كان التعبير من غير الغالب لأن هذه القاعدة غالبية.

والراجح الأول، حيث جاء في رواية عن أنس: "فما زلنا نمطر حتى جاء ذلك الأعرابي في الجمعة الأخرى". وهذه الرواية تقتضي الجزم بكون الرجل واحداً. قال الحافظ ابن حجر: فلعل أنساً تذكره بعد أن نسيه، أو نسيه بعد أن كان تذكره. (فاستقبله قائماً) "قائماً" حال من الفاعل أو من المفعول، وكل من الضمير المستتر والظاهر يصلح للرجل وللرسول صلى الله عليه وسلم، إذ كل منهما كان قائماً مستقبل الآخر. (هلكت الأموال) بسبب استمرار المطر، أي إن كثرة الماء منع الرعي فهلكت المواشي. (وانقطعت السبل) بسبب كثرة الماء، فتعذر سلوكها، وفي رواية ابن خزيمة: "احتبس الركبان". وفي رواية للبخاري: "تهدمت البيوت، وتقطعت السبل، وهلكت المواشي". (فادع الله يمسكها) يجوز في "يمسكها" الجزم والرفع، كما سبق في "يغثنا". وفي رواية "أن يمسكها". والضمير يعود على الأمطار، أو على السحاب أو على السماء، والعرب تطلق على المطر سماء وفي رواية "أن يمسك عنا الماء" وفي أخرى "أن يرفعها عنا" وفي ثالثة "فادع ربك أن يحبسها عنا، فضحك" وفي رواية "فتبسم" صلى الله عليه وسلم. (اللهم حولنا ولا علينا) في بعض النسخ "حوالينا" قال النووي: وهما صحيحان. اهـ. وهو معمول لمحذوف، تقديره: اجعل أو أمطر، والمراد به صرف المطر عن الأبنية والدور. وفائدة ذكر "ولا علينا" بعد ما قبله بيان المراد منه، إذ ما حولهم يشمل الطرق التي حولهم، فأراد إخراجها بقوله "ولا علينا". ذكره الحافظ ابن حجر. (اللهم على الآكام) فيه تحديد المراد بقوله: "حوالينا ولا علينا" والإكام بكسر الهمزة، وتفتح وتمد "آكام" جمع أكمة، بفتح الهمزة والكاف والميم، وهي التراب المجتمع. وقيل: الهضبة الضخمة، وقيل: الجبل الصغير. وقيل: ما ارتفع من الأرض دون الجبل وأعلى من الرابية. (والظراب) بكسر الظاء، واحدها "ظرب" بفتح الظاء وكسر الراء وهي الروابي الصغار. (وبطون الأودية) أي منخفضات الأودية التي يتجمع فيها الماء لينتفع به. (فانقلعت) وفي بعض النسخ "فانقطعت" أي السماء، أو السحابة الماطرة أي أمسكت عن المطر على المدينة، وفي الرواية العاشرة "فتقشعت" أي زالت، وفي الرواية الحادية عشرة "فرأيت السحاب يتمزق". وفي رواية للبخاري "فلقد رأيت السحاب ينقطع يميناً وشمالاً يمطرون -أي أهل النواحي- ولا يمطر أهل المدينة". وفي رواية له "فجعل السحاب يتصدع عن المدينة". وفي الرواية التاسعة "فما يشير بيده إلى ناحية إلا تفرجت" أي انقطعت السحابة وزالت.

(أصابت الناس سنة) بفتح السين والنون، أي جدب وقحط. (حتى رأينا المدينة في مثل الجوبة) بفتح الجيم، وهي الحفرة المستديرة الواسعة، والمراد بها هنا الفرجة في السحاب. (وسال وادي قناة شهر) بفتح القاف، اسم لواد من أودية المدينة، وعليه زروع لهم، بناحية أحد، أي الوادي المسمى قناة، وفي البخاري "وسال الوادي قناة" وهو صحيح على البدل، وفي رواية للبخاري "وسال الوادي قناة شهراً". (إلا أخبر بجود) بفتح الجيم، وإسكان الواو، وهو المطر الغزير. (فقام إليه الناس فصاحوا) هذا لا يعارض سؤال الرجل، لاحتمال أن يكونوا سألوه بعد أن سأل، ويحتمل أنه نسب ذلك إليهم لموافقة سؤال السائل ما كانوا يريدونه، وعند أحمد: "إذ قال بعض أهل المسجد". وهي ترجح الاحتمال الأول. (قحط المطر، واحمر الشجر) "قحط" -بفتح القاف وفتح الحاء وكسرها- أمسك، واحمرار الشجر كناية عن يبس ورقه، لعدم شربه الماء، أو لتساقط الورق، فيصير الشجر أعواداً دون ورق أخضر. (فنظرت إلى المدينة، وإنها لفي مثل الإكليل) بكسر الهمزة وسكون الكاف العصابة، واشتهر لما يوضع على الرأس فيحيط به، وهو من ملابس الملوك كالتاج، والمراد خلو ما فوق المدينة من السحاب وإحاطته بها من جوانبها وحواليها، وفي رواية لأحمد: "فتقور ما فوق رءوسنا من السحاب حتى كأنا في إكليل". (فألف الله بين السحاب) أي جمعه ليمطر عليهم. (ومكثنا) يحبسنا المطر، وفي رواية البخاري: "فمطرنا فما كدنا نصل إلى منازلنا". أي من كثرة المطر. (حتى رأيت الرجل الشديد تهمه نفسه يأتي إلى أهله) قال النووي: ضبطناه بوجهين، فتح التاء مع الهاء، وضم التاء مع كسر الهاء، يقال: همه الشيء وأهمه، أي اهتم له، ومنهم من يقول: همه: أذابه، وأهمه: غمه. اهـ. والمعنى أن كثرة المطر حالت دون وصولهم إلى بيوتهم حتى اهتم القوي -ومن باب أولى الضعيف- كيف سيصل إلى أهله. ولابن خزيمة: "حتى أهم الشاب القريب الدار الرجوع إلى أهله". أي وفضلاً عن العجوز وبعيد الدار. وفي رواية للبخاري: "فخرجنا نخوض الماء حتى أتينا منازلنا". (فرأيت السحاب يتمزق كأنه الملاء حين تطوى) "الملاء" بضم الميم وبالمد الواحدة

ملاءة بضم الميم وهي ثوب معروف، والمعنى تشبيه انحسار السحاب بالملاءة تطوى بعد أن كانت منشورة مبسوطة. (فحسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه حتى أصابه من المطر) أي كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض بدنه يرفع ثوبه حتى أصاب بدنه بعض المطر. (قال: لأنه حديث عهد بربه تعالى) أي هذا الماء قريب عهد بخلق الله تعالى، لم تتصل به يد مخلوق. (عرف ذلك في وجهه) أي عرف أثر ذلك، أي أثر خوفه واهتمامه في وجهه الشريف. (وأقبل وأدبر) كما يفعل المهموم، يتقدم ويتأخر دون قصد المشي. (سر وذهب عنه ذلك) أي حصل له سرور بالمطر، وذهب عنه الهم والخوف. (رحمة) أي يقول عن المطر: هذا رحمة. (وإذا تخيلت السماء تغير لونه) المخيلة سحابة فيها رعد وبرق، يخيل للرائي أنها ماطرة ويقال: أخالت السماء إذا تغيمت. (مستجمعاً ضاحكاً حتى أرى منه لهواته) المستجمع: المجد في الشيء القاصد له. واللهوات: جمع لهاة، وهي اللحمة الحمراء في سقف الحنك. أي ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مبالغاً في الضحك يفتح فمه به حتى يظهر سقف حلقه. (نصرت بالصبا. وأهلكت عاد بالدبور) "الصبا" بفتح الصاد، الريح الشرقية اللينة. والدبور بفتح الدال، الريح الغربية الجافة الحارة. -[فقه الحديث]- قال النووي: أجمع العلماء على أن الاستسقاء [أي طلب المطر من الله عند الجدب] سنة، واختلفوا هل تسن له صلاة؟ أو لا؟ فقال أبو حنيفة: لا تسن له صلاة، بل يستسقى بالدعاء بلا صلاة، وتعلق بأحاديث الاستسقاء التي ليس فيها صلاة [كروايتنا الثامنة والتاسعة والعاشرة والحادية عشرة، وفيها أن الرسول صلى الله عليه وسلم استسقى وطلب من الله المطر في خطبة الجمعة، ولم يحدث صلاة خاصة بالاستسقاء] قال: وقال سائر العلماء من السلف والخلف: تسن الصلاة. واحتجوا بالأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما [كروايتنا الثانية والرابعة وفيها أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج إلى المصلى وصلى ركعتين للاستسقاء] قال: وأما الأحاديث التي ليس فيها ذكر الصلاة فبعضها محمول على نسيان الراوي [كروايتنا الأولى والثالثة، وفيهما الخروج والدعاء وتحويل الرداء، وليس فيهما ذكر

للصلاة، لكن يقوى كلام النووي أن الراوي الذي لم يذكر الصلاة في روايتين هو نفسه الذي ذكر الصلاة في روايتين. مما يؤكد أن ترك الصلاة في روايتيه من قبيل النسيان أو الاكتفاء بذكر بعض ما حدث] وبعضها كان في الخطبة للجمعة، ويعقبه الصلاة للجمعة، فاكتفى بها. ولو [فرضنا أنه صلى الله عليه وسلم اكتفى مرة بالدعاء] لم يصل أصلاً كان بياناً لجواز الاستسقاء بالدعاء بلا صلاة، ولا خلاف في جوازه، وتكون الأحاديث المثبتة مقدمة، لأنها زيادة علم، ولا معارضة بينهما. ثم قال: قال أصحابنا: الاستسقاء ثلاثة أنواع: أحدها: الاستسقاء بالدعاء من غير صلاة. الثاني: الاستسقاء في خطبة الجمعة، أو في أثر صلاة مفروضة وهو أفضل من النوع الذي قبله. الثالث: وهو أكملها: أن يكون بصلاة ركعتين وخطبتين، ويتأهب قبله بصدقة وصيام وتوبة وإقبال على الخير، ومجانبة الشر، ونحو ذلك من طاعة لله تعالى. ثم قال: وصلاة الاستسقاء ركعتان، وهو كذلك بإجماع المثبتين لها، واختلفوا هل هي قبل الخطبة؟ أو بعدها؟ فذهب الشافعي والجماهير إلى أنها قبل الخطبة. قال الليث: بعد الخطبة. وكان مالك يقول به، ثم رجع إلى قول الجماهير. قال أصحابنا: ولو قدم الخطبة على الصلاة صحتا، ولكن الأفضل تقديم الصلاة كصلاة العيد وخطبتها، وجاء في الأحاديث ما يقتضي جواز التقديم والتأخير. قال: واختلف العلماء هل يكبر تكبيرات زائدة في أول صلاة الاستسقاء كما يكبر في صلاة العيد؟ فقال به الشافعي. وقال الجمهور: لا يكبر. واختلفت الرواية عن أحمد في ذلك. ولم يذكر في رواية مسلم الجهر بالقراءة، وذكره البخاري، وأجمعوا على استحبابه، وأجمعوا على أنه لا يؤذن لها ولا يقام لكن يستحب أن يقال: الصلاة جامعة. انتهى بتصرف. -[ويؤخذ من الأحاديث: ]- 1 - استحباب الخروج للاستسقاء إلى الصحراء، لأنه أبلغ في إظهار الافتقار والتواضع، ولأنها أوسع للناس، إذ المفروض خروجهم كلهم، فلا يسعهم الجامع. 2 - تحويل الرداء والجمهور على استحباب التحويل، واستحب الجمهور أيضاً أن يحول الناس رداءهم بتحويل الإمام، ويشهد له ما رواه أحمد بلفظ: "وحول الناس معه". وقال الليث وأبو يوسف: يحول الإمام وحده. وعن أبي حنيفة وبعض المالكية: لا يستحب شيء من ذلك. واستثنى ابن الماجشون النساء، فقال: لا يستحب في حقهم. وظاهر الرواية الثانية: "فاستسقى واستقبل القبلة، وقلب رداءه". أن التحويل وقع بعد فراغ الاستسقاء، والرواية الثالثة صريحة في ذلك، ولفظها: "وأنه لما أراد أن يدعو استقبل القبلة وحول رداءه". واختلف في حكمة هذا التحويل، فجزم المهلب بأنه للتفاؤل بتحويل الحال عما هي عليه. وتعقبه

ابن العربي بأن من شرط الفأل أن لا يقصد إليه. قال: وإنما التحويل أمارة بينه وبين ربه، قيل له: حول رداءك ليتحول حالك. اهـ قال الحافظ ابن حجر: والحمل على المعنى الأول أولى، فإن الاتباع أولى من تركه لمجرد احتمال الخصوص. 3 - واستحباب استقبال القبلة عند الدعاء، ويلحق به الوضوء والغسل والقراءة والأذكار والأذان وسائر الطاعات إلا ما خرج بدليل كالخطبة ونحوها. 4 - ومن الرواية الثانية والرابعة تقديم الخطبة على صلاة الاستسقاء. 5 - ومن الرواية الخامسة والسادسة استحباب رفع اليدين عند الدعاء. وقال جماعة من الشافعية وغيرهم: السنة في كل دعاء لرفع بلاء كالقحط ونحوه أن يرفع يديه ويجعل ظهر كفيه إلى السماء، وإذا دعا لسؤال شيء وتحصيله جعل بطن كفيه إلى السماء عملاً بهذا الحديث. 6 - ومن الرواية الثامنة جواز مكالمة الإمام في الخطبة للحاجة. 7 - والقيام في الخطبة. 8 - وأنها لا تنقطع بالكلام. 9 - وقيام الواحد بأمر الجماعة، وإنما لم يباشر ذلك بعض أكابر الصحابة لأنهم كانوا يسلكون الأدب بالتسليم، وترك الابتداء بالسؤال، ومنه قول أنس: "كان يعجبنا أن يجيء الرجل من البادية فيسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم". 10 - ومشروعية سؤال الدعاء من أهل الخير ومن يرجى منه القبول. 11 - وأن من أدب سؤال الدعاء بث الحال قبل الطلب لتحصيل الرقة المقتضية لصحة التوجه فترجى الإجابة. 12 - وأن على الإمام إجابة السؤال. 13 - استحباب الاستسقاء في خطبة الجمعة، والدعاء به على المنبر، ولا تحويل فيه، ولا استقبال. 14 - جواز الاستسقاء منفرداً من غير صلاة. 15 - تكرير الدعاء ثلاثاً. 16 - واستدل به على الاكتفاء بدعاء الإمام في الاستسقاء، وتعقب بأن الناس كانوا يؤمنون فهم يدعون معه. 17 - وفيه علم من أعلام النبوة في إجابة الله دعاء نبيه عليه الصلاة والسلام متصلاً. 18 - وأن الدعاء برفع الضرر لا ينافي التوكل. 19 - وفيه الأخذ بالأسباب والمبادرة بالدعاء والاستغاثة عند الحاجة.

20 - جواز الدعاء بالاستصحاء وطلب انقطاع المطر، ولا تشرع له صلاة ولا اجتماع في الصحراء. 21 - وفيه الأدب في الدعاء، حيث لم يدع صلى الله عليه وسلم برفع المطر مطلقاً لاحتمال الاحتياج إلى استمراره فاحترز فيه بما يقتضي رفع الضرر وإبقاء النفع. 22 - وأن من أنعم الله عليه بنعمة لا يصح أن يتسخطها لعارض يعرض فيها، بل يسأل الله رفع ذلك العارض وإبقاء النعمة. 23 - ومن الرواية العاشرة جواز الصياح في المسجد بسبب الحاجة المفضية لذلك. 24 - ومن الرواية الثانية عشرة أنه يستحب عند أول المطر أن يعرض المسلم بعض جسمه له، ويكشف غير عورته ليناله المطر. 25 - وأن المفضول إذا رأى من الفاضل شيئاً لا يعرفه سأله عن سره ليعلمه فيعمل به ويعلمه غيره. 26 - ومن الرواية الثالثة عشرة تتبين شفقة الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته. 27 - وما يقال من الذكر عن نزول المطر. 28 - ومن الرواية الرابعة عشرة ما يقال من الدعاء إذا عصفت الريح. 29 - وما يقال عند الغيم. 30 - ومن الرواية الخامسة عشرة أدب الرسول صلى الله عليه وسلم وضحكه. والله أعلم

كتاب الكسوف

كتاب الكسوف

(281) باب صلاة الكسوف وأن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد

(281) باب صلاة الكسوف وأن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد 1812 - عن عائشة رضي الله عنها قالت خسفت الشمس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فأطال القيام جداً، ثم ركع فأطال الركوع جداً، ثم رفع رأسه فأطال القيام جداً وهو دون القيام الأول، ثم ركع فأطال الركوع جداً وهو دون الركوع الأول، ثم سجد، ثم قام فأطال القيام وهو دون القيام الأول، ثم ركع فأطال الركوع وهو دون الركوع الأول، ثم رفع رأسه فقام فأطال القيام وهو دون القيام الأول، ثم ركع فأطال الركوع وهو دون الركوع الأول، ثم سجد، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تجلت الشمس، فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال "إن الشمس والقمر من آيات الله وإنهما لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فكبروا وادعوا الله وصلوا وتصدقوا. يا أمة محمد إن من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته. يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً. ألا هل بلغت؟ " وفي رواية مالك "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله". 1813 - عن هشام بن عروة بهذا الإسناد وزاد ثم قال "أما بعد فإن الشمس والقمر من آيات الله" وزاد أيضاً ثم رفع يديه فقال "اللهم هل بلغت". 1814 - عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت خسفت الشمس في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد، فقام وكبر وصف الناس وراءه، فاقترأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة طويلة، ثم كبر فركع ركوعاً طويلاً، ثم رفع رأسه فقال "سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد" ثم قام فاقترأ قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى، ثم كبر فركع ركوعاً طويلاً هو أدنى من الركوع الأول، ثم قال "سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد" ثم سجد (ولم يذكر أبو الطاهر) ثم سجد ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ذلك، حتى استكمل

أربع ركعات وأربع سجدات وانجلت الشمس قبل أن ينصرف. ثم قام فخطب الناس فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموها فافزعوا للصلاة، وقال أيضاً فصلوا حتى يفرج الله عنكم" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "رأيت في مقامي هذا كل شيء وعدتم، حتى لقد رأيتني أريد أن آخذ قطفاً من الجنة حين رأيتموني جعلت أقدم (وقال المرادي أتقدم). ولقد رأيت جهنم يحطم بعضها بعضاً حين رأيتموني تأخرت، ورأيت فيها ابن لحي وهو الذي سيب السوائب" وانتهى حديث أبي الطاهر عند قوله "فافزعوا للصلاة" ولم يذكر ما بعده. 1815 - عن عائشة رضي الله عنها أن الشمس خسفت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث منادياً "الصلاة جامعة" فاجتمعوا وتقدم فكبر وصلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات. 1816 - عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر في صلاة الخسوف بقراءته فصلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات. 1817 - عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات. 1818 - عن الزهري قال كان كثير بن عباس يحدث أن ابن عباس كان يحدث عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم كسفت الشمس بمثل ما حدث عروة عن عائشة. 1819 - عن عبيد بن عمير قال حدثني من أصدق (حسبته يريد عائشة) أن الشمس انكسفت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقام قياماً شديداً يقوم قائماً ثم يركع ثم يقوم ثم يركع ثم يقوم ثم يركع ركعتين في ثلاث ركعات وأربع سجدات. فانصرف وقد تجلت الشمس. وكان إذا ركع قال "الله أكبر" ثم يركع وإذا رفع رأسه قال "سمع الله لمن حمده". فقام

فحمد الله وأثنى عليه ثم قال "إن الشمس والقمر لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما من آيات الله يخوف الله بهما عباده، فإذا رأيتم كسوفاً فاذكروا الله حتى ينجليا". 1820 - عن عائشة رضي الله عنها أن نبي الله صلى الله عليه وسلم صلى ست ركعات وأربع سجدات. 1821 - عن عمرة أن يهودية أتت عائشة تسألها، فقالت أعاذك الله من عذاب القبر. قالت عائشة فقلت يا رسول الله يعذب الناس في القبور؟ قالت عمرة فقالت عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "عائذاً بالله" ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة مركباً فخسفت الشمس. قالت عائشة فخرجت في نسوة بين ظهري. الحجر في المسجد. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مركبه حتى انتهى إلى مصلاه الذي كان يصلي فيه، فقام وقام الناس وراءه. قالت عائشة فقام قياماً طويلاً، ثم ركع فركع ركوعاً طويلاً، ثم رفع فقام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأول، ثم ركع فركع ركوعاً طويلاً وهو دون ذلك الركوع، ثم رفع وقد تجلت الشمس، فقال "إني قد رأيتكم تفتنون في القبور كفتنة الدجال" قالت عمرة فسمعت عائشة تقول فكنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يتعوذ من عذاب النار وعذاب القبر. 1822 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم شديد الحر؛ فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه فأطال القيام حتى جعلوا يخرون، ثم ركع فأطال، ثم رفع فأطال، ثم ركع فأطال، ثم رفع فأطال، ثم سجد سجدتين. ثم قام فصنع نحواً من ذاك فكانت أربع ركعات وأربع سجدات. ثم قال "إنه عرض علي كل شيء تولجونه، فعرضت علي الجنة حتى لو تناولت منها قطفاً أخذته (أو قال تناولت منها قطفاً فقصرت يدي عنه) وعرضت علي النار فرأيت فيها امرأة من بني إسرائيل تعذب في هرة لها ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، ورأيت أبا ثمامة عمرو بن مالك يجر قصبه في النار. وإنهم كانوا يقولون إن الشمس والقمر لا يخسفان إلا لموت عظيم، وإنهما آيتان من آيات الله يريكموهما فإذا خسفا فصلوا حتى تنجلي".

1823 - عن هشام بهذا الإسناد مثله إلا أنه قال "ورأيت في النار امرأة حميرية سوداء طويلة" ولم يقل "من بني إسرائيل". 1824 - عن جابر رضي الله عنه قال انكسفت الشمس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال الناس إنما انكسفت لموت إبراهيم. فقام النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس ست ركعات بأربع سجدات. بدأ فكبر ثم قرأ فأطال القراءة، ثم ركع نحواً مما قام، ثم رفع رأسه من الركوع فقرأ قراءة دون القراءة الأولى، ثم ركع نحواً مما قام، ثم رفع رأسه من الركوع فقرأ قراءة دون القراءة الثانية، ثم ركع نحواً مما قام، ثم رفع رأسه من الركوع، ثم انحدر بالسجود فسجد سجدتين، ثم قام فركع أيضاً ثلاث ركعات ليس فيها ركعة إلا التي قبلها أطول من التي بعدها، وركوعه نحواً من سجوده، ثم تأخر وتأخرت الصفوف خلفه حتى انتهينا (وقال أبو بكر حتى انتهى إلى النساء) ثم تقدم وتقدم الناس معه حتى قام في مقامه فانصرف حين انصرف وقد آضت الشمس. فقال "يا أيها الناس إنما الشمس والقمر آيتان من آيات الله وإنهما لا ينكسفان لموت أحد من الناس (وقال أبو بكر لموت بشر)، فإذا رأيتم شيئاً من ذلك فصلوا حتى تنجلي. ما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه. لقد جيء بالنار وذلكم حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها. وحتى رأيت فيها صاحب المحجن يجر قصبه في النار، كان يسرق الحاج بمحجنه، فإن فطن له قال إنما تعلق بمحجني، وإن غفل عنه ذهب به. وحتى رأيت فيها صاحبة الهرة التي ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت جوعاً. ثم جيء بالجنة وذلكم حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي، ولقد مددت يدي وأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه، ثم بدا لي أن لا أفعل. فما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه". 1825 - عن أسماء رضي الله عنها قالت خسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخلت على عائشة وهي تصلي، فقلت ما شأن الناس يصلون فأشارت برأسها إلى السماء، فقلت آية؟ قالت نعم. فأطال رسول الله صلى الله عليه وسلم القيام جداً حتى تجلاني الغشي، فأخذت قربة من ماء إلى جنبي فجعلت أصب على رأسي أو على وجهي من الماء. قالت فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تجلت الشمس، فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:

"أما بعد ما من شيء لم أكن رأيته إلا قد رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار، وإنه قد أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور قريباً أو مثل فتنة المسيح الدجال (لا أدري أي ذلك قالت أسماء) فيؤتى أحدكم فيقال ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن أو الموقن (لا أدري أي ذلك قالت أسماء) فيقول هو محمد هو رسول الله جاءنا بالبينات والهدى فأجبنا وأطعنا. ثلاث مرار. فيقال له نم قد كنا نعلم إنك لتؤمن به، فنم صالحاً. وأما المنافق أو المرتاب (لا أدري أي ذلك قالت أسماء) فيقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلت". 1826 - عن أسماء رضي الله عنها قالت أتيت عائشة فإذا الناس قيام وإذا هي تصلي فقلت ما شأن الناس؟ واقتص الحديث بنحو حديث ابن نمير عن هشام. 1827 - عن عروة قال لا تقل كسفت الشمس ولكن قل خسفت الشمس. 1828 - عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها قالت فزع النبي صلى الله عليه وسلم يوماً (قالت تعني يوم كسفت الشمس) فأخذ درعاً حتى أدرك بردائه، فقام للناس قياماً طويلاً لو أن إنساناً أتى لم يشعر أن النبي صلى الله عليه وسلم ركع ما حدث أنه ركع من طول القيام. 1829 - عن ابن جريج بهذا الإسناد مثله، وقال قياماً طويلاً يقوم ثم يركع وزاد، فجعلت أنظر إلى المرأة أسن مني وإلى الأخرى هي أسقم مني. 1830 - عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت كسفت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ففزع، فأخطأ بدرع حتى أدرك بردائه بعد ذلك. قالت فقضيت حاجتي ثم جئت ودخلت المسجد فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً فقمت معه، فأطال القيام حتى رأيتني أريد أن أجلس، ثم ألتفت إلى المرأة الضعيفة فأقول هذه أضعف مني فأقوم. فركع فأطال الركوع، ثم رفع رأسه فأطال القيام حتى لو أن رجلاً جاء خيل إليه أنه لم يركع. 1831 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال انكسفت الشمس على عهد رسول الله

صلى الله عليه وسلم فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه، فقام قياماً طويلاً قدر نحو سورة البقرة، ثم ركع ركوعاً طويلاً ثم رفع فقام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً وهو دون الركوع الأول، ثم سجد، ثم قام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً وهو دون الركوع الأول، ثم رفع فقام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً وهو دون الركوع الأول، ثم سجد، ثم انصرف وقد انجلت الشمس. فقال "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله" قالوا يا رسول الله رأيناك تناولت شيئاً في مقامك هذا ثم رأيناك كففت. فقال "إني رأيت الجنة فتناولت منها عنقوداً ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا. ورأيت النار فلم أر كاليوم منظراً قط، ورأيت أكثر أهلها النساء" قالوا بم؟ يا رسول الله قال "بكفرهن" قيل أيكفرن بالله؟ قال "بكفر العشير وبكفر الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً، قالت ما رأيت منك خيراً قط". 1832 - عن زيد بن أسلم في هذا الإسناد بمثله غير أنه قال ثم رأيناك تكعكعت. 1833 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كسفت الشمس ثمان ركعات في أربع سجدات وعن علي مثل ذلك. 1834 - عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى في كسوف قرأ ثم ركع ثم قرأ ثم ركع ثم قرأ ثم ركع ثم قرأ ثم ركع ثم سجد، قال والأخرى مثلها. 1835 - عن خبر عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال لما انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نودي بـ (الصلاة جامعة) فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين في سجدة، ثم قام فركع ركعتين في سجدة ثم جلي عن الشمس. فقالت عائشة ما ركعت ركوعاً قط ولا سجدت سجوداً قط كان أطول منه.

1836 - عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد من الناس، فإذا رأيتم منها شيئاً فصلوا وادعوا الله حتى يكشف ما بكم". 1837 - عن أبي مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشمس والقمر ليس ينكسفان لموت أحد من الناس ولكنهما آيتان من آيات الله فإذا رأيتموه فقوموا فصلوا". 1838 - عن إسمعيل بهذا الإسناد وفي حديث سفيان ووكيع انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم، فقال الناس انكسفت لموت إبراهيم. 1839 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال خسفت الشمس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فقام فزعاً يخشى أن تكون الساعة حتى أتى المسجد فقام يصلي بأطول قيام وركوع وسجود ما رأيته يفعله في صلاة قط، ثم قال "إن هذه الآيات التي يرسل الله لا تكون لموت أحد ولا لحياته ولكن الله يرسلها يخوف بها عباده، فإذا رأيتم منها شيئاً فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره" وفي رواية ابن العلاء كسفت الشمس وقال "يخوف عباده". 1840 - عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال بينما أنا أرمي بأسهمي في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ انكسفت الشمس، فنبذتهن، وقلت لأنظرن إلى ما يحدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم في انكساف الشمس اليوم، فانتهيت إليه وهو رافع يديه يدعو ويكبر ويحمد ويهلل حتى جلي عن الشمس فقرأ سورتين وركع ركعتين. 1841 - عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كنت أرتمي بأسهم لي بالمدينة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كسفت الشمس، فنبذتها، فقلت والله لأنظرن إلى ما حدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم في كسوف الشمس. قال فأتيته وهو قائم في

الصلاة رافع يديه فجعل يسبح ويحمد ويهلل ويكبر ويدعو حتى حسر عنها. قال فلما حسر عنها قرأ سورتين وصلى ركعتين. 1842 - عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال بينما أنا أترمى بأسهم لي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ خسفت الشمس ثم ذكر نحو حديثهما. 1843 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان يخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "إن الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آية من آيات الله، فإذا رأيتموهما فصلوا". 1844 - عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا حتى تنكشف". -[المعنى العام]- سبحان من خلق الكون وجعل فيه سراجاً وقمراً منيراً، {وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً} [الفرقان: 62]. {وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون} [الأنبياء: 33]. {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون} [يونس: 5]. شاءت حكمة الله تعالى أن يخلق الشمس كتلة ملتهبة من ظاهرها وباطنها تبعث الحرارة فيما حولها، وترسل أشعة ضوئها لتنعكس نوراً على جرم القمر فيضيء ليلاً لأهل الأرض، وعلى سطح الأرض، فتنشر الحركة والحياة. شاءت حكمة الله أن تدور الأرض حول نفسها أمام الشمس، وأن تدور في فلك حول الشمس، والقمر كذلك بنظام دقيق قال عنه جل شأنه: {والشمس والقمر بحسبان} [الرحمن: 5] وقال: {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون} [يس: 40].

وكانت نتيجة هذا الدوران، وهذا القانون الإلهي في الكون أن تقع الأرض بين الشمس والقمر فيصبح النصف غير المواجه للشمس مواجهاً للقمر، وتصبح الأرض حينئذ حاجبة لضوء الشمس عن القمر، فيرى أهل النصف المواجه للقمر، يرون القمر مظلماً جزئياً أو كلياً، ويقال حينئذ: خسف القمر. ونتيجة للتحرك والدوران لا يلبث أن يبتعد عن الجرم الحاجب فيعود إليه الضوء. كما كان نتيجة هذا الدوران، وهذا القانون الإلهي في الكون أن يقع القمر بين الشمس وبين الأرض فيحجب وصول أشعة الشمس وضوئها إلى أهل جزء من الأرض، فلا يرون الشمس في النهار، أو لا يرون جزءاً منها، ويقال حينئذ: كسفت الشمس. ونتيجة للتحرك والدوران المحسوب لا يلبث الجرم الحاجب أن يبتعد، فيعود ضوء الشمس. علم الله الإنسان حساب هذه الحركات ليعلم عدد السنين وعدد الأيام، علمه الحساب الدقيق الذي يعلم به متى يحصل كسوف الشمس أو القمر؟ من أي شهر؟ وفي أي يوم؟ وفي أية ساعة؟ بل وفي أية دقيقة سيحصل؟ ثم كم دقيقة يستمر هذا الكسوف؟ أصبح علم الفلك في زمننا علماً محسوساً محسوباً حساباً دقيقاً لا مرية فيه، وأصبحت ظاهرة الكسوف للشمس أو القمر ظاهرة يحددها الحساب تحديداً لا يتخلف، ولا خطر منها على البشر. فلم أمر الإسلام عندها بالمبادرة إلى الصلاة والذكر والدعاء؟ إن الله تعالى خلق هذه الظاهرة تذكيراً للبشر بقدرته وهيمنته وفضله ونعمه على عباده، والإنسان لا يعرف قدر النعمة إلا عند فقدها، {وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه} [الزمر: 8]. وذكر الله دعاؤه، والصلاة عند هذه الظاهرة ليس لسرعة الانجلاء، وإنما هو شكر لله على نعمة الضوء وطلب من الله دوامها، كما طلب من المسلم بعد طعامه أن يقول: اللهم أدمها نعمة واحفظها من الزوال". وإن هذه الظاهرة في نفسها تذكر بيوم القيامة وقيام الساعة فهي صورة مصغرة أو مؤقتة لما سيكون، وقد أشار جل شأنه إلى هذا بقوله: {يسأل أيان يوم القيامة فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر يقول الإنسان يومئذ أين المفر} [القيامة: 6 - 10]. لقد كان صلى الله عليه وسلم يهتم بهذه الظاهرة، ويخشى الله عندها، ويظهر للمسلمين فزعه خوفاً على أمته وإشفاقاً، فالظواهر الكونية قد تنقلب عقاباً وعذاباً، كما حدث لقوم عاد حين رأوا السحاب وهم جدب فقالوا: {هذا عارض ممطرنا} [الأحقاف: 24]، فكان عذاباً، كان ريحاً فيها عذاب أليم، وإن الذي خلق الظاهرة قادر على استمرارها وإذهاب النعمة منها. لقد كان صلى الله عليه وسلم ينزعج لدرجة العجلة والاهتمام الذي يجعله يأخذ ثوب امرأته بدلاً من ثوبه ويلتحف به ويخرج حتى يدركوه بثوبه. كان يخرج فينادي مؤذنه لينادي المسلمين: الصلاة جامعة. فيجتمعون في المسجد، حتى النساء والصبيان، يصلي بهم صلاة خاصة. صلاة طويلة يقرأ في القيام الأول ما يقرب أو ما يزيد عن قدر سورة البقرة بعد الفاتحة، ثم يركع ركوعاً طويلاً يقرب من زمن الوقوف، ثم يرفع من الركوع فيقول:

سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد، ثم يظل واقفاً يقرأ الفاتحة وقرآناً قريباً مما قرأ في القيام الأول، ثم يركع ركوعاً طويلاً يقرب من قيامه الثاني يسبح فيه ويحمد، ثم يرفع من الركوع قائلاً: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد. ثم يسجد سجدتين، ثم يقوم للركعة الثانية فيعمل فيها مثل ما عمل في الركعة الأولى، ثم يتشهد ويسلم، ركعتان في كل ركعة ركوعان طويلان وقيامان طويلان، وأحياناً كان يزيد ركوعاً وقياماً فتكون الركعتان في كل منهما ثلاثة من القيام وثلاثة من الركوع، وأحياناً كان يزيد ركوعاً رابعاً فيكون في الركعتين ثمانية من القيام، وثمانية من الركوع، وغاية ما وصلت إليه الزيادة خمسة من القيام وخمسة من الركوع في كل من الركعتين، أما السجود فلم يكن يتغير عن سجود الصلاة. ثم يخطب الناس، ويحمد الله ويثني عليه ويدعوه ويكثر من دعائه، ويذكر الناس: بقدرة الله ووحدانيته ونعمه التى لا تحصى، ويحذرهم من العقائد الفاسدة في هذه الظاهرة، فإن الشمس والقمر مخلوقان لله، مسيران بأمر الله، مذللان لقانون الله، لا تأثير للبشر وأحداثهم فيهما، فلا ينكسفان لموت عظيم ولا لحياته. هكذا حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم قولة بعض المسلمين يوم مات ابنه إبراهيم فكسفت الشمس، فقالوا: كسفت لموت إبراهيم. وهكذا بين صلى الله عليه وسلم أن موت ابنه كموت بقية البشر، ونقى عقائد المسلمين من الخرافات والأوهام. -[المباحث العربية]- الكسوف والخسوف (خسفت الشمس) وفي كثير من الروايات الآتية "كسفت الشمس" يقال: كسف الشمس وكسفت الشمس، بفتح الكاف والسين، وكسف وكسفت، بضم الكاف وكسر السين، وانكسف وانكسفت الشمس. كما يقال: خسف الشمس وخسفت، بفتح الخاء والسين، وخسف الشمس وخسفت، بضم الخاء وكسر السين، وانخسف وانخسفت الشمس. ولا شك أن مدلول الكسوف لغة غير مدلول الخسوف، لأن الكسوف التغير إلى سواد، والخسوف النقصان أو الذل، ومن الواضح أن ظاهرة الكسوف أو الخسوف للشمس والقمر يجتمع فيها الأمران، التغير إلى سواد ونقصان الضوء أو زواله. لكن العلماء -والفقهاء منهم خاصة- اختلفوا في استعمال كل من اللفظين، فاشتهر عن كثير منهم استعمال الكسوف للشمس، والخسوف للقمر ويستأنسون بقوله تعالى: {وخسف القمر} [القيامة: 8]. وحكى القاضي عياض عن بعضهم عكس ذلك، أي استعمال الخسوف للشمس والكسوف للقمر، وهو غلط معارض بلفظ القرآن، ولا يصححه ما جاء في ملحق روايتنا الحادية عشرة من قول عروة: "لا تقل: كسفت الشمس، ولكن قل: خسفت الشمس". فقد قال النووي: هذا قول انفرد به. اهـ والأحاديث الصحيحة الواردة ترده.

والتحقيق استعمال الكسوف والخسوف مع كل من الشمس والقمر، فقد استعمل كل من اللفظين مع الشمس في أحاديثنا، واستعمال القرآن للخسوف مع القمر لا يمنع من استعماله مع الشمس ولا يمنع من استعمال الكسوف مع القمر. وقيل: بالكاف مع ابتداء الظاهر، وبالخاء في انتهائها. وقيل: بالكاف لذهاب جميع الضوء، وبالخاء لذهاب بعضه. وقد ثبت علمياً أن القمر يستمد نوره من ضوء الشمس، كمرآة يقع عليها الضوء فتعكسه، ويخيل للناظر أنها مضيئة، والحقيقة أن القمر جسم مظلم، كما أن الأرض كذلك، ولو أن إنساناً على سطح القمر، على الجزء غير المواجه للشمس، فكان في ليل القمر، لو أنه نظر إلى سطح الأرض المواجه للشمس لرأى الأرض مضيئة، كما يرى أهل الأرض سطح القمر المواجه للشمس. ولما كان الكل في فلك يسبحون بخلق الله وحكمته وإرادته، ولما كان قانونه الذي أودعه في الكون -جل شأنه- يقضي بأن تقع الأرض أحياناً بين الشمس والقمر، فتحجب ضوء الشمس عن القمر كله أو بعضه، وبأن يقع القمر أحيانا بين الشمس والأرض، فيحجب ضوء الشمس عن رؤية أهل بقعة من الأرض، لما كان الأمر كذلك وقعت ظاهرة كسوف الشمس والقمر لأهل الأرض. فكسوف القمر حجب ضوء الشمس عنه كلاً أو بعضاً، فيصبح هذا الجزء من القمر مظلماً حقيقة. أما كسوف الشمس فهو الحيلولة بين وصول ضوئها إلى هذه البقعة من الأرض مع بقاء ضوء الشمس فيها وفي ما بينها وبين القمر فكسوفها ظاهري لا حقيقي. وقد أشكل على ابن العربي حجب الأصغر للأكبر، فاستشكل حجب القمر للشمس كلياً وهو صغير جداً بالنسبة لها. لكن الإشكال مدفوع بأن الأصغر إذا قرب من الأصغر حجب الكبير جداً، ألا ترى أنك لو وضعت طبقاً صغيراً قريباً من عينيك حجب عنك الأفق الواسع كله؟ إذن كسوف الشمس والقمر ظاهرتان في الكون، خاضعتان لقانونه الذي أودعه الله فيه، يحسب حسابه أهل الحساب. أما لماذا تقام الصلاة ويطلب الدعاء ما دام الأمر كذلك؟ فالتوضيح يأتي في فقه الحديث إن شاء الله. (في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي في زمن حياته. (فأطال القيام جداً) بكسر الجيم، منصوب على المصدر لفعل محذوف أي يجد جداً، والمراد من القيام قيام القراءة. وفي الرواية الثانية: "فاقترأ ... قراءة طويلة". وفي الرواية الخامسة: "فقام قياماً شديداً". وفي الرواية السابعة: "فقام قياماً طويلاً". وفي الرواية الثامنة: "أطال القيام حتى جعلوا يخرون". وفي الرواية التاسعة: "فأطال القراءة". وفي الرواية الرابعة عشرة: "فقام قياماً طويلاً قدر نحو سورة البقرة". وفي الرواية الواحدة بعد العشرين: "بأطول قيام". والمراد منها كلها واحد، وأن هذا القيام كان أطول من المعهود كثيراً.

(ثم ركع فأطال الركوع جداً) في الرواية الثانية: "فركع ركوعاً طويلاً". وفي الرواية الثامنة: "ثم ركع فأطال". وفي الرواية التاسعة: "ثم ركع نحواً مما قام". وفي الرواية الواحدة بعد العشرين: "بأطول قيام وركوع وسجود ما رأيته يفعله في صلاته قط". (ثم رفع رأسه فأطال القيام جداً) هذا القيام في الصلاة العادية يعرف بالاعتدال من الركوع والرفع منه، والمطلوب فيه الطمأنينة مع استحباب قول: سمع الله لمن حمده. ربنا ولك الحمد. أما في صلاة الكسوف فزيد فيه قراءة أخرى، ففي الرواية الثانية: "ثم رفع رأسه، فقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، ثم قام فاقترأ قراءة طويلة، وهي أدنى -أي أقل- من القراءة الأولى". وفي الرواية السابعة: "ثم رفع، فقام قياماً طويلاً، وهو دون القيام الأول". وفي الرواية الثامنة: "ثم رفع فأطال". وفي الرواية التاسعة: "ثم رفع رأسه من الركوع، فقرأ قراءة دون القراءة الأولى". فهو قيام قراءة يسبق الركوع الثاني. (ثم ركع فأطال الركوع جداً، وهو دون الركوع الأول، ثم سجد) في الكلام طي وحذف قبل قوله: "ثم سجد" والأصل "ثم رفع من الركوع رفع الصلاة العادية، ثم سجد" أي سجدتين بينهما جلسة وطمأنينة كالصلاة المعتادة، ففي الرواية التاسعة: "ثم انحدر بالسجود فسجد سجدتين". ولم تتعرض الروايات لطول السجود، اللهم إلا ما جاء في الرواية الواحدة بعد العشرين من قوله: "فقام يصلي بأطول قيام وركوع وسجود، ما رأيته يفعله في صلاة قط". مما يوحي بطول السجود أيضاً، وسيأتي اختلاف العلماء في ذلك في فقه الحديث. (ثم قام فأطال القيام، وهو دون القيام الأول، ثم ركع فأطال الركوع وهو دون الركوع الأول) يحتمل أن المراد أن القيام الأول من الركعة الثانية دون القيام الأول من الركعة الأولى، فهو يشبه القيام الثاني من الركعة الأولى، وكذلك الركوع، ويحتمل أن القيام الأول من الركعة الثانية دون القيام الثاني من الركعة الأولى، فيكون كل قيام دون ما سبقه من قيام، وكل ركوع دون ما سبقه من ركوع، وهذا هو الأولى، فقد رواه الإسماعيلي بلفظ: "الأولى فالأولى أطول". ومن الواضح الذي لا خلاف فيه على كل من القولين السابقين أن الركعة الأولى بقياميها وركوعيها أطول من الركعة الثانية بقياميها وركوعيها، وأن القيام الثاني في كل من الركعتين دون القيام الأول في كل منهما، وكذلك الركوع الثاني في كل من الركعتين دون الركوع الأول في كل منهما. (ثم سجد ثم انصرف) أي ثم سجد سجدتين، ثم تشهد، ثم سلم، ثم انصرف. (وقد تجلت الشمس) أي ظهرت وعاد ضوؤها وانحسرت الظلمة عنها، وزال تغيرها. وفي الرواية الثانية: "وانجلت الشمس قبل أن ينصرف". وفي الرواية التاسعة: "فانصرف حين انصرف وقد آضت الشمس" أي رجعت إلى حالها. (فخطب الناس فحمد الله ... إلخ) ليس الحمد وما بعده غير الخطبة وليست الفاء للتعقيب،

ففي الكلام مجاز المشارفة، أي أشرف على الخطبة فحمد الله، كقولنا: توضأ فغسل وجهه ويديه ورأسه ورجليه، فما بعد الفاء بيان وتفسير لما قبلها. (إن الشمس والقمر من آيات الله) وفي الرواية الثانية: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله". وفي الرواية الرابعة بعد العشرين: "ولكنهما آية من آيات الله". والآية: العظة والعبرة والعلامة على قدرة الله وحكمته ورحمته. (وإنهما لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته) وفي الرواية الخامسة: "لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته". وفي الرواية الواحدة والعشرين: "إن هذه الآيات التي يرسل الله لا تكون لموت أحد ولا حياته". أما الروايتان الثامنة عشرة والتاسعة عشرة فلم تذكر لفظ "ولا لحياته" وقد استشكل على الروايات التي ذكرت هذه اللفظة بأن السياق إنما ورد في حق من ظن أن ذلك لموت إبراهيم ولم يذكروا الحياة. قال الحافظ ابن حجر: والجواب أن فائدة ذكر الحياة دفع توهم من يقول: لا يلزم من نفي كونه سبباً للفقد أن لا يكون سبباً للإيجاد، فعمم الشارع النفي لدفع هذا التوهم. اهـ أي إن ذكرها للمبالغة في نفي علاقة الكسوف بموت عظيم عن طريق نفي علاقته بالبشر مطلقاً موتاً أو حياة. (فإذا رأيتموهما) أي رأيتم الشمس والقمر مكسوفين على التتابع، أي إذا رأيتم كسوف أي منهما، وليس المراد رأيتم كسوف الشمس والقمر معاً فإنه من المستحيل -حسب القوانين الإلهية في الكون- وقوع الكسوف فيهما في وقت واحد. والرواية الثانية: "فإذا رأيتموها". الإفراد، والضمير للآية، وفي الرواية الخامسة: "فإذا رأيتم كسوفاً". أي لأحدهما، وفي الرواية التاسعة: "فإذا رأيتم شيئاً من ذلك" وفي الرواية الرابعة عشرة: "فإذا رأيتم ذلك". أي الكسوف، وفي الرواية الثامنة عشرة: "فإذا رأيتم منها شيئاً". أي من الآيات. (إن من أحد أغير من الله) "إن" حرف نفي بمعنى "ما" ورواية البخاري: "والله ما من أحد أغير من الله". و"أغير" أفعل تفضيل من الغيرة بفتح الغين. قال الطيبي: وجه اتصال هذا المعنى بما قبله من قوله: "فاذكروا الله" من جهة أنهم لما أمروا باستدفاع البلاء بالذكر والدعاء والصلاة والصدقة ناسب ردعهم عن المعاصي التي هي من أسباب جلب البلاء، وخص منها الزنا لأنه أعظمها في ذلك. وقيل: لما كانت هذه المعصية من أقبح المعاصي وأشدها تأثيراً في إثارة النفوس وغلبة الغضب ناسب ذلك تخويفهم في هذا المقام من مؤاخذة رب الغيرة وخالقها سبحانه وتعالى. اهـ ومعنى البلاء في الكسوف حجب نعمة الضوء عن البشر ولو لفترة قصيرة. (أن يزني عبده) حذف حرف الجر قبل "أن" مطرد وكثير، و"أن" وما دخلت عليه في تأويل مصدر، أي لا أحد أغير من الله لزنا عبده، أو من زنا عبده. (لو تعلمون ما أعلم) من عظيم قدرة الله وانتقامه.

(ولضحكتم قليلاً) قيل: معنى القلة هنا العدم، أي لم تضحكوا لكثرة الخوف وغلبته واستيلاء الحزن عليكم. (ألا هل بلغت؟ ) ما أمرت به من التحذير والإنذار وغير ذلك مما أرسلت به، والاستفهام للتقرير، أي أقروا بأنني بلغت. (فاقترأ) يقال: قرأ قراءة واقترأ اقتراء بمعنى، ولذا جاء بمصدر "قرأ" فقال: "قراءة طويلة". (حتى استكمل أربع ركعات وأربع سجدات) أي استكمل من الركوع أربعة، اثنان في كل ركعة، ومن السجود أربعة، اثنان في كل ركعة، وفي الرواية الرابعة: "أربع ركعات في ركعتين، وأربع سجدات". أي أربع ركوعات وأربع سجدات في ركعتين وفي الرواية الثامنة "فكانت أربع ركعات وأربع سجدات" وخالفت في ذلك الرواية التاسعة، فجعلت في كل ركعة من الركعتين ثلاثة من القراءة وثلاثة من الركوع. وسيأتي تفصيل القول فيها. (وانجلت الشمس قبل أن ينصرف) أي قبل أن ينتهي من الصلاة ويخرج منها وينصرف عنها. (فإذا رأيتموها فافزعوا للصلاة) أي بادروا بالصلاة، وأسرعوا إليها ملتجئين بذلك إلى الله. (فصلوا حتى يفرج الله عنكم) "حتى" غائية، أي استمروا وأطيلوا في صلاتكم إلى أن يفرج الله عنكم، أو تعليلية، أي صلوا ليفرج الله عنكم. والظاهر الأول. (رأيت في مقامي هذا كل شيء وعدتم) أي في وقوفي للصلاة. ففي الرواية التاسعة: "ما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه". أي كل شيء وعدتموه من جنة ونار. وفي الرواية الثامنة: "إنه عرض على كل شيء تولجونه". أي تدخلونه من جنة ونار فعرضت على الجنة وعرضت على النار. وفي حقيقة هذه الرواية وكيفية هذا العرض، قال القاضي عياض: قال العلماء: يحتمل أنه رآهما رؤية عين، كشف الله تعالى عنهما، وأزال الحجب بينه وبينهما، كما فرج له عن المسجد الأقصى حين وصفه، ويكون قوله صلى الله عليه وسلم -في حديث البخاري- "في عرض هذا الحائط" أي في جهته وناحيته، ويحتمل أنه تمثيل لقرب المشاهدة. قالوا: ويحتمل أن يكون رؤية علم وعرض وحي، بإطلاعه وتعريفه من أمورها تفصيلاً ما لم يعرفه قبل ذلك، ومن عظيم شأنهما ما زاده علماً بأمرهما وخشية وتحذيراً ودوام ذكر، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً". قال القاضي: والتأويل الأول أولى، وأشبه بألفاظ الحديث، لما فيه من الأمور الدالة على رؤية العين، كتناوله صلى الله عليه وسلم العنقود، وتأخره مخافة أن يصيبه لفح النار. اهـ ذكره النووي في شرح مسلم.

وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: ظاهره أنها رؤية عين، فمنهم من حمله على أن الحجب كشفت له دونها، فرآها على حقيقتها، وطويت المسافة بينهما، حتى أمكنه أن تناول منها، وهذا أشبه بظاهر الخبر، ومنهم من حمله على أنها مثلت له في الحائط، كما تنطبع الصورة في المرآة، فرأى جميع ما فيها، ويؤيده حديث أنس الآتي في التوحيد: "لقد عرضت على الجنة والنار آنفاً في عرض الحائط وأنا أصلي". وفي رواية: "لقد مثلت". ولمسلم: "ولقد صورت". ثم قال: وأبعد من قال: إن المراد بالرؤية رؤية العلم. قال القرطبي: لا إحالة في إبقاء هذه الأمور على ظواهرها، لا سيما على مذهب أهل السنة في أن الجنة والنار قد خلقتا ووجدتا، فيرجع إلى أن الله تعالى خلق لنبيه صلى الله عليه وسلم إدراكاً خاصاً به، أدرك به الجنة والنار على حقيقتهما. (حتى لقد رأيتني أريد أن آخذ قطفاً من الجنة) في الرواية الثامنة: "فعرضت على الجنة، حتى لو تناولت منها قطفاً أخذته". أو قال: "تناولت منها قطفاً فقصرت يدي عنه". وفي الرواية التاسعة: "ولقد مددت يدي وأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه، ثم بدا لي أن لا أفعل". وفي الرواية الرابعة عشرة: "إني رأيت الجنة، فتناولت منها عنقوداً -أي حاولت أن أتناول- ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا". والقطف بكسر القاف العنقود، وهو فعل بمعنى مفعول، أي مقطوف، كالذبح بكسر الذال يعني المذبوح. (حين رأيتموني جعلت أقدم) قال النووي: ضبطناه بضم الهمزة وفتح القاف وكسر الدال المشددة، ومعناها أقدم نفسي، أو أقدم رجلي، وضبطه جماعة بفتح الهمزة وإسكان القاف وضم الدال، من الإقدام، وكلاهما صحيح. (يحطم بعضها بعضاً) أي يكسر بعض وقودها بعضاً، لشدة لهيبها واضطرابها، كأمواج البحر التي يعلو بعضها بعضاً لعنفها وتدافعها. (ورأيت فيها ابن لحي) بضم اللام وفتح الحاء وتشديد الياء، وفي بعض النسخ عمرو بن لحي. (وهو الذي سيب السوائب) أي أطلق النوق للأصنام، وجعلها للسدنة ترعى في أي مرعى، لا يعرض لها أحد، ولا يشرب لبنها إلا السدنة وابن السبيل فهي موقوفة على الأصنام، وقد أنكر الله على أهل الجاهلية ذلك فقال: {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون} [المائدة: 103]. (فبعث منادياً الصلاة جامعة) أي بعث من ينادي: الصلاة جامعة. وهما منصوبان، "الصلاة" على الإغراء، و"جامعة على الحال، أي احضروا الصلاة حال كونها جامعة، أي ذات جماعة، وقيل برفعهما، "الصلاة" على الابتداء، و"جامعة" على الخبر، وفي الرواية الثامنة عشرة "نودي بالصلاة جامعة" بنصب "الصلاة" و"جامعة" كما سبق، ولم يجر بالباء لأن الجملة قصد حكايتها.

(ركعتين في ثلاث ركعات وأربع سجدات) أي صلى ركعتين فيهما أربع سجدات، وفي كل ركعة ثلاثة من الركوع، كما وضحه تفصيلاً من قبل وهو المراد من قوله في الرواية السادسة: "صلى ست ركعات وأربع سجدات". (أن يهودية أتت عائشة تسألها) أي تطلب صدقة وإحساناً وبراً فأحسنت عائشة إليها. (فقالت: أعاذك الله من عذاب القبر) أي دعت اليهودية لعائشة بهذا الدعاء. (فقلت: يا رسول الله، يعذب الناس في القبور؟ ) الكلام على الاستفهام لأن عائشة لم تكن تعلم ذلك لعدم سبق الوحي به، وفي رواية البخاري: أيعذب الناس في قبورهم بإبراز همزة الاستفهام. (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عائذاً بالله) قال بعضهم: "عائذاً" منصوب على المصدر الذي يجيء على وزن فاعل، كعافية، أو على الحال المؤكد النائبة مناب المصدر. والعامل فيه محذوف، كأنه قال: أعوذ بالله عائذاً. قال الحافظ: وروي بالرفع، أي أنا عائذ. اهـ. كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعاذ من قول اليهودية، حيث لم يكن أوحى إليه به. (ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة مركباً) "مركبا" بفتح الكاف مصدر ميمى، أي ركب ركوباً ذات صباح، وهذا المركب هو الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم فيه بسبب موت ابنه إبراهيم. (فخرجت في نسوة بين ظهري الحجر في المسجد) بفتح الظاء، تثنية ظهر، وفي رواية البخاري "بين ظهراني" قيل: المراد بين ظهر الحجر، والنون والياء زائدتان. وقيل: بل كلمة "ظهراني" كلها زائدة، والأصل بين الحجر، والمراد بالحجر بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، جمع حجرة. (حتى انتهى إلى مصلاه الذي كان يصلي فيه) أي إلى مكان الإمام. (إني رأيتكم تفتنون في القبور كفتنة الدجال) وفي الرواية العاشرة: "وإنه قد أوحي إلي أنكم تفتنون" أي تمتحنون في القبور امتحاناً شديداً هائلاً كامتحانكم بفتنة الدجال وناره، والمراد من امتحان القبر ما صرح به في الرواية العاشرة من سؤال الملكين للميت: ما علمك بهذا الرجل؟ (فأطال القيام حتى جعلوا يخرون) أي حتى أخذ الصحابة يجلسون في صلاتهم حيث لم يقدروا على مواصلة الوقوف. (تعذب في هرة لها) أي بسبب هرة لها. (ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض) "خشاش" بفتح الخاء، وحكى القاضي عياض كسرها وضمها، والفتح هو المشهور وهي هوام الأرض وحشراتها، وقيل: صغار الطير، والأول أقرب.

(ورأيت أبا ثمامة عمرو بن مالك) هو عمرو بن لحي، سابق الذكر. (يجر قصبه في النار) بضم القاف وسكون الصاد وهي الأمعاء، أي يجر أمعاءه في النار، من جريمته التي أجرمها، وتبديله ملة إبراهيم عليه السلام. (وإنهم كانوا يقولون) أي وإن بعض أهل الجاهلية الضلال والمنجمين منهم كانوا يعظمون الشمس والقمر، ويقولون: إنهما لا ينكسفان إلا لموت عظيم. (فصلوا حتى تنجلي) أي حتى تنجلي الآية. (يوم مات إبراهيم) جمهور أهل السير على أنه مات في السنة العاشرة من الهجرة، قيل: في ربيع الأول. وقيل: في رمضان. وقيل: في ذي الحجة. وقيل: سنة تسع. وقيل: سنة الحديبية. (فانصرف حين انصرف وقد آضت الشمس) قال النووي: هو بهمزة ممدودة. هكذا ضبطه جميع الرواة ببلادنا. قالوا: ومعناه رجعت إلى حالها الأول قبل الكسوف، يقال: آض يئيض إذا رجع. ومنه قولهم: "أيضاً". اهـ. (مخافة أن يصيبني من لفحها) أي من ضرب لهيبها، ومنه قوله تعالى: {تلفح وجوههم النار} [المؤمنون: 104]. قالوا: والنفح دون اللفح، قال تعالى: {ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك} [الأنبياء: 46]. أي أدنى شيء منه. (وحتى رأيت فيها صاحب المحجن) بكسر الميم عصا منعقفة الطرف. قاله النووي. وفي كتب اللغة: المحجن كالصولجان، يقال: حجنت الشيء وأحجنته إذا جذبته بالمحجن إلى نفسك. وحجنة المغزل بضم الحاء هي المنعقفة في رأسه. والمنعقف المنعطف. فمحجن الرجل عصا طرفها من جهة الأرض منعطف يجذب الأشياء ويقبض عليها. (عند أسماء) بنت أبي بكر، أخت عائشة من أبيها. (قالت: نعم) أي إشارة برأسها أيضاً، لأنها في صلاة. (حتى تجلاني الغشي) أي أصابني الغشي، بفتح الغين وسكون الشين، وروي أيضاً بكسر الشين وتشديد الياء، وهما بمعنى الغشاوة، قريب من الإغماء، ويحصل بطول القيام في الحر وببذل جهد مع الضعف. (ما علمك بهذا الرجل؟ ) إنما يقول له الملكان السائلان هذا السؤال، ولا يقولان له: ما علمك بالرسول. امتحاناً له وإغراباً عليه، ليجيب المتمكن الجواب الصحيح، وليضيع غير المتمكن. (فزع النبي صلى الله عليه وسلم يوماً) قال القاضي: يحتمل أن يكون معناه الفزع الذي هو الخوف، كما في

الرواية الواحدة بعد العشرين: "يخشى أن تكون الساعة". ويحتمل أن يكون معناه الفزع الذي هو المبادرة والإسراع إلى الشيء. (فأخذ درعاً حتى أدرك بردائه) في الرواية الثالثة عشرة: "فأخطأ بدرع حتى أدرك بردائه بعد ذلك "المراد من الدرع هنا ثوب المرأة، وليس حديد الحرب، والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم لانزعاجه وشدة سرعته واهتمامه أراد أن يأخذ رداءه فأخطأ وأخذ درع بعض أهل البيت سهواً، ولم يعلم ما فعل لاشتغال قلبه بأمر الكسوف، فلما علم بعض أهل البيت بذلك لحقه بردائه. (لو أن إنساناً أتى ... إلخ) أي لو أن إنساناً لم يعرف أنه قائم يصلي ما ظن أنه في صلاة لطول وقوفه. (فقضيت حاجتي، ثم جئت، ودخلت المسجد) أي بعد أن رأت أسماء عائشة تصلي مع الناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد أن سألتها وفهمت من إشارتها ما جرى، ذهبت إلى بيتها فتوضأت، ثم جاءت ودخلت المسجد، وقامت في صفوف النساء. (حتى لو أن رجلاً جاء) لم يره قد ركع، ورفع بعد الركوع. (خيل إليه أنه لم يركع) وأنه في قيام القراءة بعد. (قدر نحو سورة البقرة) قال النووي: هكذا هو في النسخ "قدر نحو". وهو صحيح. ولو اقتصر على أحد اللفظين لكان صحيحاً. اهـ. (ورأيت النار فلم أر -كاليوم- منظراً قط) أصل الكلام فلم أر منظراً قط كمنظر اليوم من حيث الفظاعة، فحذف لفظ "منظر" وأدخل التشبيه على اليوم، لبشاعة ما رأى فيه، وبعده عن المنظر المألوف. (بكفر العشير وبكفر الإحسان) قال النووي: هكذا ضبطناه "بكفر" بالباء الجارة وضم الكاف وإسكان الفاء، قال: والعشير المعاشر كالزوج وغيره. اهـ وعطف كفر الإحسان على كفر العشير للبيان، لأن المقصود كفر إحسان العشير، لا كفر ذات العشير، والمراد بكفر الإحسان تغطيته أو جحده. (لو أحسنت إلى إحداهن الدهر) الخطاب لكل من يتأتى خطابه، و"الدهر" منصوب على الظرفية، والمراد منه مدة عمر الرجل، أو الزمان كله مبالغة في كفرانهن، وفي رواية البخاري "الدهر كله". (ثم رأت منك شيئاً) التنوين للتقليل، أي شيئاً قليلاً لا يوافق غرضها من أي نوع كان. (ثم رأيناك تكعكعت) أي توقفت وأحجمت. قال أهل اللغة: يقال: تكعكع الرجل إذا

أحجم وجبن وتأخر ونكص على عقبيه. وفي أصل الرواية الرابعة عشرة "كففت"، وفي رواية البخاري "كعكعت". (ثمان ركعات في أربع سجدات) أي صلى ركعتين، في كل ركعة أربعة من الركوع وسجدتان. (فركع ركعتين في سجدة) المراد من الركعة هنا الركوع، ومن السجدة الركعة، أي صلى ركوعين في ركعة. (بينما أنا أرمي بأسهمي) في الرواية الثالثة بعد العشرين "كنت أرتمي بأسهم لي"، وفي ملحقها "بينما أنا أرتمي بأسهم لي"، وكلها بمعنى أرمي، أي كان يتدرب على رمي السهام، أو كان يصطاد بالسهام. (فنبذتهن) أي فتركت السهام. (حتى حسر عنها) أي كشف عنها وعاد ضوؤها، وهو بمعنى "جلي عنها". -[فقه الحديث]- صلاة الكسوف مشروعة باتفاق، والخلاف بين الفقهاء في حكمها، والجمهور على أنها سنة مؤكدة، وحكى عن مالك أنه أجراها مجرى الجمعة. ونقل الزين بن المنير عن أبي حنيفة أنه أوجبها، وكذا نقل بعض مصنفي الحنفية أنها واجبة. ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في الفتح. قال النووي: ومذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء أنه يسن فعلها جماعة. وقال العراقيون: فرادي. وحجة الجمهور الأحاديث الصحيحة في مسلم وغيره. اهـ. أما وقتها فمن ابتداء الكسوف إلى أن ينجلي، سواء أكان ذلك في ليل أو في أي وقت من نهار، لأن الصلاة في الأحاديث علقت بالرؤية "فإذا رأيتموها فصلوا". والرؤية ممكنة في كل وقت من النهار، وبهذا قال الشافعي ومن تبعه. واستثنى الحنفية أوقات الكراهة، وهو مشهور مذهب أحمد، وعن المالكية وقتها من حل النافلة إلى الزوال، وفي رواية إلى صلاة العصر. قاله الحافظ ابن حجر. وقال: ورجح الأول بأن المقصود إيقاع هذه العبادة قبل الانجلاء، وقد اتفقوا على أنها لا تقضى بعد الانجلاء، فلو انحصرت في وقت لأمكن الانجلاء قبله، فيفوت المقصود. اهـ قال: ولو انجلت قبل أن يشرع في الصلاة سقطت الصلاة، ولو في أثناء الصلاة أتمها على الهيئة المذكورة. اهـ. وقال النووي عن حديث ابن سمرة: هذا مما يستشكل ويظن أن ظاهره أنه ابتدأ صلاة الكسوف بعد انجلاء الشمس، وليس كذلك، فإنه لا يجوز ابتداء صلاتها بعد الانجلاء، فهو [أي ما في روايتنا

الثانية والعشرين] محمول على أنه وجده في الصلاة، كما صرح به في الرواية [الثالثة والعشرين] ثم جمع الراوي جميع ما جرى في الصلاة من دعاء وتكبير وتهليل وتسبيح وتحميد وقراءة سورتين في القيامين الآخرين للركعة الثانية، وكانت السورتان بعد الانجلاء تتميما للصلاة، فتمت جملة الصلاة ركعتين، أولهما في حال الكسوف، والثانية بعد الانجلاء. اهـ. أما كيفيتها فقد قال النووي: واختلفوا في صفتها: والمشهور في مذهب الشافعي أنها ركعتان، في كل ركعة قيامان وقراءتان وركوعان، أما السجود فسجدتان غيرهما، سواء تمادى الكسوف أم لا. وبهذا قال مالك وأحمد وجمهور علماء الحجاز وغيرهم، وقال الكوفيون: هما ركعتان كسائر النوافل، عملا بظاهر حديث ابن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين [روايتنا الثانية بعد العشرين والثالثة بعد العشرين]. قال: وحجة الجمهور حديث عائشة من رواية عروة وعمرة [روايتنا الأولى والثانية والثالثة والرابعة والسابعة] وحديث جابر [روايتنا الثامنة] وابن عباس [روايتنا الرابعة عشرة] وابن عمرو بن العاص [روايتنا السابعة عشرة] أنها ركعتان، في كل ركعة ركوعان وسجدتان. قال ابن عبد البر: وهذا أصح ما في الباب. وحملوا حديث ابن سمرة بأنه مطلق [صلى ركعتين ولم يبين كيفيتهما ولا الركوع فيهما] وهذه الروايات تبين المراد به. ثم تكلم عن الروايات التي زادت ركوعاً ثالثاً، كروايتنا الخامسة والسادسة والتاسعة، والتي زادت ركوعاً رابعاً، كروايتنا الخامسة عشرة والسادسة عشرة، فقال: وذكر مسلم في رواية عن عائشة وعن ابن عباس وعن جابر: ركعتين في كل ركعة ثلاث ركعات، ومن رواية ابن عباس: وصلى ركعتين في كل ركعة أربع ركعات. قال الحافظ: الروايات الأولى أصح، ورواتها أحفظ وأضبط، ولأبي داود من رواية أبي بن كعب: "ركعتين في كل ركعة خمس ركعات". وقد قال بكل نوع بعض الصحابة. وقال جماعة من أصحابنا الفقهاء المحدثين وجماعة من غيرهم: هذا الاختلاف في الروايات بحسب اختلاف حال الكسوف، ففي بعض الأوقات تأخر انجلاء الكسوف، فزاد عدد الركعات، وفي بعضها أسرع الانجلاء فاقتصر، وفي بعضها توسط بين الإسراع والتأخر فتوسط في عدده. وهذا التوجيه بعيد، لأن تأخر الانجلاء لا يعلم في الركعة الأولى، والروايات متفقة على أن عدد الركوع في كل من الركعتين سواء، فهذا يدل على أن عدد الركوع مقصود من أول الحال. والأولى ما قاله جماعة من العلماء من أنه جرت صلاة الكسوف في أوقات متعددة، واختلاف صفتها محمول على بيان جواز جميع ذلك، فتجوز صلاتها على كل واحد من الأنواع الثابتة. وهذا أقوى [وبه أخذ الحنابلة]. قال: واتفق العلماء على أنه يقرأ الفاتحة في القيام الأول من كل ركعة واختلفوا في القيام الثاني، فمذهبنا ومذهب مالك وجمهور أصحابه أنه لا تصح الصلاة إلا بقراءتها فيه، وقال بعض المالكية: لا يقرأ الفاتحة في القيام الثاني.

قال: واتفقوا على استحباب إطالة القراءة والركوع فيها، كما جاءت الأحاديث، ولو اقتصر على الفاتحة في كل قيام وأدى طمأنينته في كل ركوع صحت صلاته، وفاته الفضيلة. قال: واختلفوا في إطالة السجود، فقال جمهور أصحابنا: لا يطوله، بل يقتصر على قدره في سائر الصلوات. وقال المحققون منهم: يستحب إطالته نحو الركوع الذي قبله، للأحاديث الصحيحة الصريحة في ذلك. اهـ. ولعله يشير إلى روايتنا التاسعة، وفيها: "وركوعه نحو من سجوده". أو الرواية السابعة عشرة، وفيها تقول عائشة: "ما ركعت ركوعاً قط، ولا سجدت سجوداً قط كان أطول منه". لكن بقية الروايات لم تصف السجود بالطول حين أبرزت وصف القيام والركوع بالطول الشديد، مما يرجح الرأي القائل بعدمه. -[ويؤخذ من أحاديث الكتاب]- 1 - من الرواية الأولى، من قوله: "فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي". أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحافظ على الوضوء، فلهذا لم يحتج إلى الوضوء في تلك الحال، وفيه نظر، لجواز أن يكون في الرواية حذف، فليس نصا في أنه كان على وضوء. ذكره الحافظ ابن حجر. 2 - ومن قوله: "فخطب الناس". مشروعية الخطبة في الكسوف، وهي دليل للشافعي وأصحاب الحديث، حيث قالوا: يستحب بعد الصلاة خطبتان. وقال ابن قدامة: لم يبلغنا عن أحمد ذلك. والحنفية يقولون: ليس في الكسوف خطبة ويقولون عن الأحاديث المثبتة بأنه صلى الله عليه وسلم لم يقصد لها خطبة بخصوصها، وإنما أراد أن يبين لهم الرد على من يعتقد أن الكسوف لموت بعض الناس. وتعقب هذا القول بأن الأحاديث الصحيحة صرحت بالخطبة، وذكرت كثيراً من شرائطها من الحمد والثناء والموعظة بمواعظ أخرى، كالتخويف من النار، وما رأى فيها، والترغيب في الجنة وما رأى فيها، وعذاب القبر، وكفران العشير. ونحو ذلك. والمشهور عند المالكية أن لا خطبة لها. قال الحافظ ابن حجر: والعجب أن مالكاً روى حديث هشام وفيه التصريح بالخطبة ولم يقل بها أصحابه. اهـ. 3 - وأن الخطبة لا تفوت بالانجلاء، بخلاف ما لو انجلت قبل أن يشرع في الصلاة، فإنه يسقط الصلاة والخطبة. 4 - وأن الخطبة تفتتح بحمد الله والثناء عليه، ومذهب الشافعي أن لفظة (الحمد لله) متعينة، فلو قال معناها لم تصح خطبته. ذكره النووي. 5 - وفيه إبطال ما كان أهل الجاهلية يعتقدونه من تأثير الكواكب في الأرض. قال الخطابي: كانوا في الجاهلية يعتقدون أن الكسوف يوجب حدوث تغير في الأرض من موت أو ضرر، فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتقاد باطل، وأن الشمس والقمر خلقان مسخران لله، ليس لهما سلطان في غيرهما، ولا قدرة على الدفع عن أنفسهما.

6 - ومن الحث على التكبير والدعاء والصلاة والصدقة الحث على الطاعات عند البلاء، واستدفاع البلاء بالذكر والدعاء وغيرهما من القربات. 7 - ومن قوله صلى الله عليه وسلم: "يا أمة محمد". إشفاقه صلى الله عليه وسلم، كما يخاطب الوالد ولده إذا أشفق عليه، بقوله: يا بني. كذا قيل. وكان قضية ذلك أن يقول: يا أمتي. لكن عدل عن ذلك لما في الإضافة إلى الضمير من الإشعار بالتكريم مما لا يتناسب ومقام التخويف والتحذير، ومثله: "يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئاً". 8 - ويؤخذ منه أيضاً أن الواعظ ينبغي له حال وعظه أن لا يأتي بكلام فيه تفخيم لنفسه [إذ لم يقل: يا أمة رسول الله] بل يبالغ في التواضع لأنه أقرب إلى انتفاع من يسمعه. وقبوله لوعظه. 9 - ومن التنبيه على غيرة الله على المعاصي يؤخذ أن التخويف بغضب الله حين البلاء أكثر تأثيراً لرقة القلب وإخلاص الذكر واستجابة الدعاء، وهذا الأسلوب خير أسلوب للوعظ. قال الحافظ ابن حجر: فيه ترجيح التخويف في الخطبة على التوسع في الترخيص. 10 - ومن تخصيص الزنا بالذكر من بين المعاصي يؤخذ قبح هذه المعصية ومدى تسببها في غضب الله. 11 - ومن تعبيره صلى الله عليه وسلم: "عبده وأمته". يؤخذ حسن أدبه صلى الله عليه وسلم مع الله تعالى لتنزهه عن الزوجة والأهل الذين تتعلق بهم الغيرة غالباً. 12 - ومن الكلام عن الضحك والبكاء يؤخذ الزجر عن كثرة الضحك والحث على البكاء، والتحقق مما يصير إليه المرء بعد الموت. 13 - ومن قوله "ألا هل بلغت؟ ". تحريض الأمة على حفظ الشريعة وتبليغها والقيام عليها. 14 - وفي الحديث استحباب رفع اليدين عند الدعاء. 15 - ومن الرواية الثانية من خروجه صلى الله عليه وسلم إلى المسجد استحباب صلاة الكسوف في المسجد الذي تصلي فيه الجمعة، وفي الرواية الثالثة عشرة: "ثم جئت ودخلت المسجد، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً فقمت معه .... إلخ". وفي الرواية الواحدة بعد العشرين: "حتى أتى المسجد فقام يصلي ... إلخ". فالمراد من "مصلاه" في الرواية السابعة مكان الإمام من مسجده صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ ابن حجر: وصح أن السنة في صلاة الكسوف أن تصلي في المسجد، ولولا ذلك لكانت صلاتها في الصحراء أجدر برؤية الانجلاء. 16 - وفي الأحاديث صلاتها جماعة، وهو أمر مستحب، وليس شرطاً لصحتها، فتصح فرادى. قال الحافظ ابن حجر: وإن لم يحضر الإمام الراتب أم لهم بعضهم، وبه قال الجمهور. وقال الثوري: إن لم يحضر الإمام صلوا فرادى.

17 - وتقديم الإمام في الموقف. 18 - وتعديل الصفوف. 19 - ومن الدعاء بعد الرفع من الركوع، قال النووي: ويستحب أن يقول في كل رفع من ركوع: سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد، ويجمع بين هذين اللفظين، وهو مذهب الشافعي ومن وافقه، وهو مستحب عندنا للإمام والمأموم والمنفرد. 20 - ومن قوله: "فإذا رأيتموها فافزعوا". يؤخذ استحباب المبادرة بصلاة الكسوف. 21 - وفي الحديث أن الجنة والنار مخلوقتان وموجودتان، وهو مذهب أهل السنة، خلافاً للمعتزلة، وهذا مبني على أن الرؤية حقيقية لما هو واقع الآن. 22 - ومن تأخره صلى الله عليه وسلم حين رأى جهنم يؤخذ مشروعية التأخر والبعد عن مواطن العذاب والهلاك. 23 - واستدل بذكر ابن لحي على أن بعض الناس معذب في نفس جهنم اليوم. 24 - وفي الرواية الثالثة دليل للشافعي ومن وافقه أنه يستحب أن ينادى لصلاة الكسوف بنداء: "الصلاة جامعة" وأجمعوا على أن لا يؤذن لها ولا يقام. 25 - وفي الرواية الرابعة دليل لأبي يوسف ومحمد وأحمد في قولهم باستحباب الجهر في صلاة كسوف الشمس والقمر. والجمهور على أنه لا جهر في كسوف الشمس، وحمل بعضهم قول عائشة: "جهر في صلاة الخسوف بقراءته". على كسوف القمر. قال الحافظ ابن حجر: وليس بجيد، لأن الإسماعيلي روى هذا الحديث من وجه آخر بلفظ: "كسفت الشمس". اهـ. وقال النووي: واحتج الآخرون بأن الصحابة قدروا القراءة بقدر سورة البقرة [في روايتنا الرابعة عشرة] ولو كانت القراءة جهراً لعلم قدرها دون تقدير. وذهب ابن جرير الطبري إلى أن الجهر والإسرار سواء. 26 - ومن قوله: "يخوف الله عباده". يؤخذ أن الظاهرة السيئة -وإن كانت على وفق قوانين الله في الكون- يقصد بها التخويف، لأن الابتلاء بحجب النعمة يذكر بفضلها حين وجودها، ويخوف من ذهابها، فمن أسرار حكمة الكسوف التخويف، وكان -جل شأنه- قادراً على جعل الأفلاك والدوران بحيث لا يحجب شيء الآخر، وهو قادر جل شأنه على إيقاف حركتها واستمرار حجب الضوء، كما هو صريح قوله: {قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون} [القصص: 71]. 27 - وفي الرواية السابعة ثبوت عذاب القبر وفتنته، وهو مذهب أهل الحق. 28 - مشروعية التعوذ من عذاب القبر.

29 - ومن الرواية الثامنة من عذاب صاحبة الهرة أخذ بعضهم المؤاخذة بالصغائر، قال القاضي عياض: ليس في الحديث أنها عذبت بالنار، ويحتمل أنها كانت كافرة، فزيد في عذابها بذلك. ورد عليه النووي فقال: الصواب المصرح به في الحديث أنها عذبت بسبب الهرة، وهو كبيرة، لأنها ربطتها وأصرت على ذلك حتى ماتت، والإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة، كما هو مقرر في كتب الفقه وغيرها: وليس في الحديث ما يقتضي كفر هذه المرأة. اهـ. 30 - ويؤخذ من تقدمه وتأخره صلى الله عليه وسلم في الصلاة في الرواية التاسعة أن العمل القليل لا يبطل الصلاة، والخلاف في ضبط العمل القليل فالشافعية ضبطوه بما دون الثلاث خطوات متتابعات، وقالوا: الثلاث متتابعات تبطل الصلاة، ويتأولون الحديث على أن الخطوات كانت متفرقة، لا متوالية ويستطيعون أن يدعوا أنها كانت أقل من ثلاث، ومن الصعب قبول هذا التأويل، لأن التوالي عندهم وقوعها في ركن واحد، ولا شك أن تقدمه وتأخره صلى الله عليه وسلم كان في ركن واحد، وهو ركن القيام للقراءة، فالحديث واضح مع غير الشافعية. 31 - ويؤخذ من الرواية العاشرة استحباب صلاة الكسوف للنساء ولا خلاف يذكر فيه، لكن الخلاف في صلاتهن الكسوف جماعة أو في المسجد، فعن الثوري وبعض الحنفية: يصلين فرادى. وفي المدونة: تصلي المرأة في بيتها وتخرج المتجالة. أي كثيرة الخروج والتجول، نقيض ذوات الخدور، وعن الشافعية: يخرج الجميع إلا من كانت بارعة الجمال. وعن بعض الفقهاء أن الكسوف إنما يخاطب به من يخاطب بالجمعة، وهو ضعيف. وقد ناقش بعضهم في الاستدلال على استحباب صلاة الكسوف للنساء في المسجد بصلاة عائشة وأسماء، فقال: إن أسماء إنما صلت في حجرة عائشة لكن الرواية الثالثة عشرة تشير إلى أن صلاتها كانت بالمسجد فهي تقول "فقضيت حاجتي ثم جئت ودخلت المسجد فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً، فقمت معه". ثم إن نساء أخريات كانت تصلي بالمسجد، ففي الرواية نفسها: "حتى رأيتني أريد أن أجلس، ثم ألتفت إلى المرأة الضعيفة، فأقول: هذه أضعف مني، فأقوم". 32 - ويؤخذ من استمرار أسماء في الصلاة مع حصول الغشي، أن الغشي لا ينقض الوضوء مادام العقل ثابتاً. ذكره النووي. 33 - وفي تأخيره صلى الله عليه وسلم حتى ينتهي إلى النساء دليل على أن النساء يصلين خلف الرجال. 34 - وفي إشارة عائشة من غير أن تنطق يؤخذ منع الكلام في الصلاة. 35 - وأن الإشارة لا تبطل الصلاة، قال النووي: ولا كراهية فيها إذا كانت لحاجة. 36 - وفي الرواية الرابعة عشرة من سؤال الصحابة عما رأوه اهتمامهم بحركاته صلى الله عليه وسلم وسكناته. 37 - وسؤال التابع ومراجعة المتعلم للعالم فيما لا يدركه فهمه، وجواز استفهامه عن علة الحكم.

38 - ومعجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم. 39 - وما كان عليه صلى الله عليه وسلم من نصح أمته، وتعليمهم ما ينفعهم، وتحذيرهم مما يضرهم. 40 - وبيان العالم ما يحتاج إليه التلميذ. 41 - وجواز إطلاق الكفر على كفران الحقوق مما لا يخرج من الملة، وإن لم يكن ذلك الشخص كافراً بالله تعالى. 42 - وذم كفران الحقوق. 43 - ووجوب شكر النعم. 44 - وأن أهل التوحيد يعذبون على المعاصي. قال الحافظ ابن حجر: ووقع في حديث جابر ما يدل على أن المرئي في النار من النساء من اتصف بصفات ذميمة، ولفظه: "وأكثر من رأيت فيها من النساء اللائي إن ائتمن أفشين، وإن سئلن بخلن، وإن سألن ألحفن، وإن أعطين لم يشكرن". 45 - ومن الرواية الواحدة بعد العشرين يؤخذ ما ينبغي للمسلم من تذكر الساعة وأهوال القيامة كلما رأى آية في الكون. قال النووي عن قول الراوي: "فقام فزعاً يخشى أن تكون الساعة". هذا قد يستشكل من حيث أن الساعة لها مقدمات كثيرة لا بد من وقوعها، لم تكن وقعت، كطلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، والنار، والدجال، وأشياء أخر لا بد من وقوعها قبل الساعة كفتوح الشام والعراق ومصر وغيرها، وإنفاق كنوز كسرى في سبيل الله، وغير ذلك من الأمور المشهورة في الأحاديث الصحيحة. قال: ويجاب عنه بأجوبة. أحدها: لعل هذا الكسوف كان قبل إعلام النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الأمور. الثاني: لعله خشي أن يكون بعض مقدماتها. الثالث: أن الراوي ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم يخشى أن تكون الساعة، وليس يلزم من ظنه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم خشي ذلك حقيقة، بل خرج النبي صلى الله عليه وسلم مستعجلاً مهتماً بالصلاة وغيرها من أمر الكسوف، مبادراً إلى ذلك. وربما خاف أن يكون نوع عقوبة، كما كان صلى الله عليه وسلم عند هبوب الريح تعرف الكراهة في وجهه، ويخاف أن يكون عذاباً، فظن الراوي خلاف ذلك، ولا اعتبار بظنه. اهـ. 46 - في الرواية الثانية والثالثة بعد العشرين دليل للشافعية في رفع اليدين في القنوت، ورد على من يقول: لا ترفع الأيدي في دعوات الصلاة. 47 - في اقتران القمر بالشمس في الأحاديث، وفي قوله: "فإذا رأيتموها فصلوا". دليل للشافعي وجميع الفقهاء أصحاب الحديث في استحباب الصلاة لكسوف القمر على هيئة صلاة كسوف الشمس. وقال مالك وأبو حنيفة: لا تسن لكسوف القمر هكذا، وإنما تسن ركعتان كسائر الصلوات فرادى. والله أعلم

كتاب الجنائز

كتاب الجنائز

(282) باب عيادة المريض، وما يقال عند الموت

(282) باب عيادة المريض، وما يقال عند الموت 1845 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله". 1846 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله". 1847 - عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله، {إنا لله وإنا إليه راجعون} اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها. إلا أخلف الله له خيراً منها" قالت فلما مات أبو سلمة، قلت أي المسلمين خير من أبي سلمة؟ أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم إني قلتها فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت أرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة يخطبني له. فقلت إن لي بنتاً وأنا غيور. فقال "أما ابنتها فندعو الله أن يغنيها عنها، وأدعو الله أن يذهب بالغيرة". 1848 - عن أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: {إنا لله وإنا إليه راجعون} اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها إلا أجره الله في مصيبته وأخلف له خيراً منها" قالت فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخلف الله لي خيراً منه رسول الله صلى الله عليه وسلم. 1849 - عن أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم

يقول بمثل حديث أبي أسامة وزاد قالت فلما توفي أبو سلمة قلت من خير من أبي سلمة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم عزم الله لي فقلتها قالت فتزوجت رسول الله صلى الله عليه وسلم. 1850 - عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيراً فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون" قالت: فلما مات أبو سلمة أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إن أبا سلمة قد مات. قال "قولي اللهم اغفر لي وله وأعقبني منه عقبى حسنة" قالت فقلت فأعقبني الله من هو خير لي منه محمداً صلى الله عليه وسلم. 1851 - عن أم سلمة رضي الله عنها قالت دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه، ثم قال "إن الروح إذا قبض تبعه البصر" فضج ناس من أهله؛ فقال "لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون" ثم قال "اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبه في الغابرين واغفر لنا وله يا رب العالمين وافسح له في قبره ونور له فيه". 1852 - عن خالد الحذاء بهذا الإسناد نحوه غير أنه قال "واخلفه في تركته" وقال "اللهم أوسع له في قبره" ولم يقل "افسح له" وزاد قال خالد الحذاء ودعوة أخرى سابعة نسيتها. 1853 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألم تروا الإنسان إذا مات شخص بصره؟ " قالوا بلى. قال "فذلك حين يتبع بصره نفسه". -[المعنى العام]- لذكر الموت رهبة، ولشبحه فزع، رغم الإيمان به، واليقين بأنه باب لا بد من دخوله، نشيع اليوم من كان معنا بالأمس، ونفتقد في غمضة عين من كان بيننا يأمل كآمالنا ويبني طول حياة كبنائنا.

ليست العبرة في أن نتذكر الموت، فإننا نراه بعيوننا بين الحين والحين، بل قد تفقد الرؤية الكثيرة الاتعاظ والاعتبار، فالرجل الذي يمتهن دفن الموتى لا يتأثر بالموت، وإنما العبرة أن يدفعنا هذا التذكر إلى العمل لما بعد الموت، وأن نستحي من الله حق الحياء، فنحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى. وإن عيادة المريض وسيلة إلى العبرة والمؤانسة، عبرة للزائر ومؤانسة للمريض، وإن حضور من أدركه الموت أكثر اتعاظاً، فالزائر يرى الميت وقد تحشرجت أنفاسه، وضاق صدره بروحه، ويراه وقد بلغت الحلقوم، ينظر إليه ولا يستطيع مساعدته بشيء، ينظر الحبيب الحي إلى حبيبه وقد شخص بصره وتجمدت جفونه، فلا يملك إلا أن يغمض له عينيه، وإلا أن يلقنه لا إله إلا الله محمد رسول الله. لا يملك المسلم الحبيب أو القريب إلا أن يقول ما أمره الله به: {إنا لله وإنا إليه راجعون} [البقرة: 156]، وأن يقول ما أرشده إليه رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم: "اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها". فإنه إن قال ذلك أخلفه الله خيراً من مصيبته وآجره على صبره، قد يظن الحبيب أن مصابه أعظم من أن يخلف ويعوض بخير مما فقد، فيعز عليه أن يقول: اخلف لي خيراً منها، كما فعلت السيدة أم سلمة حين مات زوجها وأبو أولادها، أبو سلمة، لقد قالت: ليس في المسلمين من هو خير من أبي سلمة حتى يخلفه، إنه كان أول المهاجرين من مكة إلى المدينة، ومن أوائل من أسلم وهاجر الهجرتين فليس هناك مثله فضلا عمن هو خير منه فصعب عليها أن ينطق لسانها بدعوة اللهم اخلفني خيرا من مصيبتي لكنها جاهدت نفسها فقالتها فكانت النتيجة أن ذهب إليها عمر يخطبها لنفسه فاعتذرت فذهب إليها أبو بكر يخطبها لنفسه فاعتذرت فأرسل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبها لنفسه، فأشفقت عليه من تبعاتها، وقالت: إني امرأة مسنة وغيور، وذات عيال؛ فقال لها صلى الله عليه وسلم: أما سنك فأنا أكبر منك وأما غيرتك فأسأل الله أن يذهب بها، وأما عيالك فلهم الله ورسوله، فتزوجها صلى الله عليه وسلم. إن المصابين وأهل الميت إذا صبروا واحتسبوا واستسلموا ودعوا الله تعالى جزاهم خيراً وأخلفهم خيراً، وإذا ما دعوا للميت بالخير وبأن يوسع الله له في قبره، وأن يغفر له، وأن يرفع درجته فإننا نرجو أن يجيب الله دعاءهم وأن يرحم ميتهم وأن يدخله الجنة. بهذا رسم الإسلام استقبال الموت، وحضور الموت، والاستعداد للموت. فاللهم أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وأمتنا ما كان الموت خيراً لنا. وأحسن خاتمتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، إنك سميع مجيب. -[المباحث العربية]- (كتاب الجنائز) بفتح الجيم لا غير جمع جنازة بالفتح والكسر، لغتان والكسر أفصح. وقيل: بالكسر اسم للنعش، وبالفتح اسم للميت. وقالوا: لا يقال: نعش إلا إذا كان عليه الميت.

(لقنوا موتاكم) في الكلام مجاز المشارفة، أي الأحياء المشرفين على الموت وليس الأموات بالفعل، أي من قرب موته، من باب تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه، ومنه قوله تعالى: {إني أراني أعصر خمراً} [يوسف: 36] والتلقين: التذكرة والدعوة إلى القول والنطق، وليس عن طريق الطلب المباشر للنطق، وإنما ينطق من حضر الموت بالشهادتين نطقاً يسمع به الميت كأنه يدعوه للنطق بها. (لا إله إلا الله) الجملة مقصود لفظها مفعول "لقنوا" وعبارة "لا إله إلا الله" أصبحت لقباً يقصد به الشهادتان شرعاً. (اللهم أجرني في مصيبتي) يقال: أجره الله أي: أعطاه أجره وجزاء صبره، وهو مقصور "أجره" لا يمد، فلا يقال: آجره الله، وحكى القاضي المد. (وأخلف لي خيراً منها) "أخلف" بهمزة قطع وكسر اللام. قال أهل اللغة: يقال لمن ذهب له مال أو ولد أو قريب أو شيء يتوقع حصول مثله: أخلف الله عليك، أي رد عليك مثله، فإن ذهب ما لا يتوقع مثله بأن ذهب والد أو عم أو أخ قيل له: خلف الله عليك، بغير ألف، أي كان الله خليفة منه عليك. نقله النووي عن أهل اللغة. (فلما مات أبو سلمة) اسمه عبد الله بن عبد الأسد بن هلال. أسلم هو وزوجه مع السابقين، وهاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى والثانية. شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة بدر، وغزوة أحد، ورمي فيها بسهم في عضده، ثم شفي من جرحه، لكنه عاوده الألم فمات منه على رأس ثلاث سنين من الهجرة. (أي المسلمين خير من أبي سلمة؟ ) الاستفهام إنكاري بمعنى النفي، أي لا أحد من المسلمين خير من أبي سلمة، وذلك في تقديرها. (أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) فهو أول من هاجر إلى المدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت هجرته قبل بيعة العقبة الثانية. (أرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة يخطبني له) في بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم أرسل عمر إليها يخطبها له صلى الله عليه وسلم، فلما اعتذرت نهرها عمر وقال: أنت التي تردين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيحتمل أنه صلى الله عليه وسلم أرسل حاطباً بعد عمر. (فقلت: إن لي بنتاً) فقد توفي أبو سلمة وهي حامل في بنته "زينب" فلما وضعتها وانقضت عدتها خطبت، وفي رواية: "إنني ذات عيال". ولدت بالحبشة ابنها "سلمة" وولدت بالمدينة ابنها عمر، وابنتها درة، ثم ابنتها المقصودة هنا "زينب". (وأنا غيور) يقال: امرأة غيرى وغيور، ورجل غيور وغيران، قال النووي: وقد جاء فعول في صفات المؤنث كثيراً كقولهم: امرأة عروس وعروب وضحوك.

وفي رواية: "وأنا امرأة مسنة" وقصدها الاعتذار برفق، وإنها تخشى على رسول الله صلى الله عليه وسلم من حالها. (فقال: أما ابنتها فندعو الله أن يغنيها عنها) أي أن يغني البنت عن أمها بكفالته صلى الله عليه وسلم لها، وظاهر الرواية أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك بعيداً عنها، لكن بعض الروايات قالت: "فاستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أدبغ إهاباً، فسلكت يدي منه، وأذنت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ووضعت له وسادة من أدم حشوها ليف فقعد إليها، فقال: أما ما ذكرت من سنك فأنا أكبر منك، وأما ما ذكرت من غيرتك فإني أرجو الله أن يذهبها عنك -فكانت في النساء كأنها ليست منهن لا تجد من الغيرة شيئاً- وأما ما ذكرت من صبيتك فإن الله سيكفيهم". فلعل روايتنا بأسلوب الغيبة تصرف من الرواة. (وأدعو الله أن يذهب بالغيرة) بفتح الغين، يقال: أذهب الله الشيء وذهب به، وفي القرآن الكريم: {ذهب الله بنورهم} [البقرة: 17]. (ثم عزم الله لي) أي خلق في عزماً، أو خلق لي عزماً. (إذا حضرتم المريض -أو الميت-) "أو" شك من الراوي، والمراد من الميت من أشرف على الموت. (فقولوا خيراً) أي ادعو له بخير. (فلما مات أبو سلمة أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إن أبا سلمة قد مات) في الرواية الخامسة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حضر وفاة أبي سلمة فقولها: يا رسول الله، إن أبا سلمة قد مات ليس للإخبار بموته، ولعله للتوجع وإظهار الحزن. (وقد شق بصره) فعل وفاعل. قال النووي: "شق" بفتح الشين، و"بصره" بالرفع فاعل "شق" هكذا ضبطناه، وهو المشهور، وضبطه بعضهم "بصره" بالنصب وهو صحيح أيضاً، والشين مفتوحة بلا خلاف. قال أهل اللغة: يقال: شق بصر الميت، وشق الميت بصره، ومعناه شخص وصار ينظر إلى الشيء لا يرتد إليه طرفه. (فأغمضه) أي فأغمض عيني أبي سلمة. (إن الروح إذا قبض تبعه البصر) الروح يذكر ويؤنث، قال النووي: معناه إذا خرج الروح من الجسد تبعه البصر ناظراً أين يذهب. اهـ. ومعناه أن الروح يرى، وهو بعيد، فالأولى أن يكون المعنى إن الروح إذا قبض تبعه قبض البصر وامتناع الرؤية فتتوقف العين عن الإبصار مع انفتاحها.

(فضج ناس من أهله) بالبكاء وبالدعاء بالويل والهلاك والخيبة. (واخلفه في عقبه في الغابرين) أي الباقين من عقبه. (واخلفه في تركته) أي أهله وأولاده. (وقال: "اللهم أوسع له في قبره" ولم يقل "افسح له") توثيق بالرواية، وإعلام بالمحافظة على ألفاظها. (شخص بصره) بفتح الشين والخاء، أي تصلب. (فذلك حين يتبع بصره نفسه) أي يذهب إبصاره تبعاً لذهاب نفسه وروحه عن جسده. -[فقه الحديث]- قال الحافظ ابن حجر: أورد البخاري وغيره كتاب الجنائز بين الصلاة والزكاة لتعلقها بهما -أي لتعلق الجنائز بالصلاة من حيث الصلاة على الميت وبالزكاة من حيث عهدة الميت المالية واستحقاق الزكاة كدين في تركته -ولأن الذي يفعل بالميت من غسل وتكفين وغير ذلك أهمه الصلاة عليه- فالصلاة على الميت أهم ما يفعل به وله- لما فيها من فائدة الدعاء له بالنجاة من العذاب، ولا سيما عذاب القبر. اهـ. -[ويؤخذ من الأحاديث: ]- 1 - من الرواية الخامسة عيادة المريض، قال النووي في شرح المهذب: عيادة المريض سنة متأكدة، والأحاديث الصحيحة مشهورة في ذلك. ويستحب أن يعم بعيادته الصديق والعدو، ومن يعرفه ومن لا يعرفه، وفي عيادة المريض الكافر خلاف، وينبغي أن تكون العيادة غباً، لا يواصلها كل يوم، اللهم إلا أقارب المريض وأصدقاؤه ونحوهم ممن يأتنس بهم أو يتبرك بهم أو يشق عليهم إذا لم يروه كل يوم، ويكره أن يطيل القعود عنده لما فيه من إضجاره والتضييق عليه. 2 - ويستحب للعائد أن يدعو للمريض، إن رجا شفاءه دعا له بالشفاء، فعن أنس أنه قال لثابت: "ألا أرقيك برقية رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بلى. قال: اللهم رب الناس، مذهب البأس، اشف أنت الشافي لا شافي إلا أنت شفاء لا يغادر سقماً". رواه البخاري. وعن سعد بن أبي وقاص قال: "عاودني النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم اشف سعداً. اللهم اشف سعداً، اللهم اشف سعداً". رواه مسلم. 3 - وإن لم يرج شفاءه ورآه منزولاً به، استحب أن يلقنه الشهادتين كما جاء في الرواية الأولى. ويستحب أن يكون الملقن غير متهم، وغير عدو أو حاسد، وأن يكون أشفق الحاضرين عليه، وأن لا يلح عليه في النطق بالشهادتين لئلا يضجر فيقول: لا أقول أو يتكلم بكلام قبيح، وإذا أتى بالشهادتين مرة لا يعاود ما لم يتكلم بعدهما بكلام آخر، للحديث الصحيح: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة".

4 - ومن الرواية الخامسة استحباب إغماض عين الميت، ويتولى ذلك أرفقهم به، ويستحسن أن يقال حال الإغماض: بسم الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورد ذلك عند البيهقي في السنن الكبرى بإسناد صحيح، زاد العلماء أنه يستحب شد لحييه بعصابة عريضة تجمع جميع لحييه، ثم تشد العصابة على رأسه، لأنه إذا لم يفعل به ذلك استرخى لحيه، وانفتح فمه، فقبح منظره، وربما دخل إلى فمه شيء من الهوام. 5 - ويستحب أن يدعو أهله بالدعاء الوارد في الروايات: " {إنا لله وإنا إليه راجعون}، اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها، اللهم اغفر لنا وله وأعقبنا منه عقبة حسنة". 6 - وأن يدعو للميت بما ورد في الرواية الخامسة. 7 - ومن الرواية الرابعة أنه يستحب لمن حضر الميت أن يقول خيراً، من دعاء له، واستغفار وطلب اللطف والتخفيف، وذكر محاسنه، والثناء عليه، وأن يقرأ عنده سورة يس، وأن يطلب منه الدعاء. 8 - وفيها أن الملائكة تحضر الميت وتؤمن على ما يقوله الحاضرون. 9 - وفي الرواية الخامسة ثبوت عذاب القبر. 10 - واستحباب الدعاء للميت بنوره وتوسعته. 11 - أخذ القاضي عياض من قوله في الرواية الخامسة: "إن الروح إذا قبض". أن الموت ليس بإفناء وإعدام، وإنما هو انتقال وتغير حال، وإعدام الجسد دون الروح. 12 - قال القاضي عياض: وفي قوله: "يتبع بصره نفسه". مع قوله: "إن الروح إذا قبض تبعه البصر". حجة لمن يقول: الروح والنفس بمعنى. 13 - وفي قوله في الرواية الخامسة: "إن الروح إذا قبض". دليل لمذهب بعض المتكلمين ومن وافقهم أن الروح جسم لطيف متخلل في البدن، وتذهب الحياة من الجسد بذهابه، وليس عرضاً كما يقول البعض، ولا دماً كما يقوله آخرون. قاله النووي. 14 - وهناك أمور مهمة تتعلق بالميت أو بمن أشرف على الموت، وبمن يكونون حوله، ذكرها النووي في المجموع ويحسن بنا ذكر أهمها: (أ) من ذلك أنه يستحب لكل أحد أن يكثر ذكر الموت، لما رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أكثروا ذكر هاذم اللذات -يعني الموت". وينبغي ذلك في حالة المرض بصفة أشد استحباباً ليرق قلبه، فيرجع إلى ربه ويقبل على الطاعات، ويرد المظالم والحقوق، وليكن في ذكره صباح مساء ما ثبت في صحيح البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل". وكان ابن عمر يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك".

(ب) ويستحب للمريض ومن به سقم أن يصبر، وفي الكتاب والسنة كثير في فضل الصبر، ويكفي في فضله قوله تعالى: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} [الزمر: 10] ويكره له كثرة الشكوى، وقال بعضهم: ويكره له التأوه والأنين. قال النووي: والصواب أنه لا كراهة فيه، ولكن الاشتغال بالتسبيح وغيره أولى. (ج) والتداوي مشروع، فقد روى أبو داود عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا، ولا تداووا بالحرام". وفي البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء". وفي مسلم عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برئ بإذن الله عز وجل". وفي أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أسامة بن شريك قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم -وأصحابه كأنما على رءوسهم الطير- فسلمت، ثم قعدت، فجاء الأعراب من ههنا وههنا، فقالوا: يا رسول الله: نتداوى؟ قال: "تداووا، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء غير الهرم". (د) ويستحب للمريض ومن حضرته أسباب الموت ومعاناته أن يحسن الظن بالله تعالى راجياً العفو والرحمة. (هـ) ويستحب للحاضر عند المحتضر أن يطمعه في رحمة الله تعالى ويحثه على تحسين ظنه بربه وأن يذكر له الآيات والأحاديث الواردة في الرجاء وينشطه لذلك. (و) ويستحب أن يستقبل به القبلة، قال النووي: وهذا مجمع عليه وفي كيفيته المستحبة وجهان: أحدهما: على قفاه وبطن قدميه إلى القبلة، ويرفع رأسه قليلاً ليصير وجهه إلى القبلة. ثانيهما: وهو الأصح عند الأكثرين، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والمنصوص عليه للشافعي أن يضطجع على جنبه الأيمن مستقبل القبلة وكالموضوع في اللحد، فإن لم يمكن لضيق المكان أو غيره، فعلى جنبه الأيسر إلى القبلة، فإن لم يمكن فعلى قفاه. (ز) ويجوز لأهل الميت وأصدقائه تقبيل وجهه. والله أعلم

(283) باب البكاء على الميت

(283) باب البكاء على الميت 1854 - عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: لما مات أبو سلمة قلت غريب وفي أرض غربة لأبكينه بكاء يتحدث عنه. فكنت قد تهيأت للبكاء عليه إذ أقبلت امرأة من الصعيد تريد أن تسعدني، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال "أتريدين أن تدخلي الشيطان بيتاً أخرجه الله منه؟ " مرتين فكففت عن البكاء فلم أبك. 1855 - عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأرسلت إليه إحدى بناته تدعوه وتخبره أن صبياً لها أو ابناً لها في الموت. فقال للرسول "ارجع إليها فأخبرها أن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب" فعاد الرسول فقال إنها قد أقسمت لتأتينها. قال فقام النبي صلى الله عليه وسلم وقام معه سعد ابن عبادة ومعاذ بن جبل وانطلقت معهم. فرفع إليه الصبي ونفسه تقعقع كأنها في شنة، ففاضت عيناه. فقال له سعد ما هذا يا رسول الله؟ قال "هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده وإنما يرحم الله من عباده الرحماء". 1856 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود، فلما دخل عليه وجده في غشية، فقال "أقد قضى؟ " قالوا لا يا رسول الله، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى القوم بكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بكوا. فقال "ألا تسمعون إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا (وأشار إلى لسانه) أو يرحم". 1857 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال كنا جلوساً مع

رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل من الأنصار فسلم عليه ثم أدبر الأنصاري. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا أخا الأنصار كيف أخي سعد بن عبادة؟ " فقال صالح. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من يعوده منكم؟ " فقام وقمنا معه ونحن بضعة عشر، ما علينا نعال ولا خفاف ولا قلانس ولا قمص نمشي في تلك السباخ حتى جئناه فاستأخر قومه من حوله حتى دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين معه. 1858 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الصبر عند الصدمة الأولى". 1859 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على امرأة تبكي على صبي لها. فقال لها "اتقي الله واصبري". فقالت: وما تبالي بمصيبتي. فلما ذهب. قيل لها إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذها مثل الموت، فأتت بابه فلم تجد على بابه بوابين. فقالت يا رسول الله لم أعرفك. فقال "إنما الصبر عند أول صدمة" أو قال "عند أول الصدمة". 1860 - حدثنا شعبة بهذا الإسناد نحو حديث عثمان بن عمر، بقصته وفي حديث عبد الصمد مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة عند قبر. 1861 - عن عبد الله رضي الله عنه أن حفصة بكت على عمر، فقال "مهلاً يا بنية ألم تعلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه؟ ". 1862 - عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الميت يعذب في قبره بما نيح عليه". 1863 - عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الميت يعذب في قبره بما نيح عليه"

1864 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال لما طعن عمر أغمي عليه، فصيح عليه. فلما أفاق قال: أما علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الميت ليعذب ببكاء الحي". 1865 - عن أبي بردة عن أبيه قال: لما أصيب عمر جعل صهيب يقول وا أخاه. فقال له عمر يا صهيب أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الميت ليعذب ببكاء الحي". 1866 - عن أبي موسى قال لما أصيب عمر أقبل صهيب من منزله حتى دخل على عمر فقام بحياله يبكي. فقال عمر علام تبكي؟ أعلي تبكي؟ قال إي والله لعليك أبكي يا أمير المؤمنين. قال والله لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من يبكى عليه يعذب". قال فذكرت ذلك لموسى ابن طلحة؛ فقال كانت عائشة تقول إنما كان أولئك اليهود. 1867 - عن أنس رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب لما طعن عولت عليه حفصة؛ فقال يا حفصة أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "المعول عليه يعذب؟ ". وعول عليه صهيب؛ فقال عمر يا صهيب أما علمت "أن المعول عليه يعذب؟ ". 1868 - عن عبد الله بن أبي مليكة قال كنت جالساً إلى جنب ابن عمر، ونحن ننتظر جنازة أم أبان بنت عثمان، وعنده عمرو بن عثمان. فجاء ابن عباس يقوده قائد. فأراه أخبره بمكان ابن عمر، فجاء حتى جلس إلى جنبي، فكنت بينهما. فإذا صوت من الدار. فقال ابن عمر -كأنه يعرض على عمرو أن يقوم فينهاهم- سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن الميت ليعذب ببكاء أهله" قال فأرسلها عبد الله مرسلة. فقال ابن عباس كنا مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، حتى إذا كنا بالبيداء إذا هو برجل نازل في ظل شجرة. فقال لي اذهب فاعلم لي من ذاك الرجل، فذهبت فإذا هو صهيب. فرجعت إليه فقلت إنك أمرتني أن أعلم لك من ذاك وإنه صهيب. قال مره فليلحق بنا، فقلت إن معه أهله، قال وإن كان

معه أهله (وربما قال أيوب مره فليلحق بنا) فلما قدمنا لم يلبث أمير المؤمنين أن أصيب فجاء صهيب يقول وا أخاه وا صاحباه، فقال عمر ألم تعلم أو لم تسمع (قال أيوب أو قال أو لم تعلم أو لم تسمع) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الميت ليعذب ببعض بكاء أهله". قال فأما عبد الله فأرسلها مرسلة، وأما عمر فقال ببعض. فقمت فدخلت على عائشة فحدثتها بما قال ابن عمر، فقالت لا والله ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم قط "إن الميت يعذب ببكاء أحد" ولكنه قال إن الكافر يزيده الله ببكاء أهله عذاباً، وإن الله لهو {أضحك وأبكى} {ولا تزر وازرة وزر أخرى} قال أيوب قال ابن أبي مليكة حدثني القاسم بن محمد قال لما بلغ عائشة قول عمر وابن عمر، قالت إنكم لتحدثوني عن غير كاذبين ولا مكذبين ولكن السمع يخطئ. 1869 - عن عبد الله بن أبي مليكة قال توفيت ابنة لعثمان بن عفان بمكة. قال فجئنا لنشهدها. قال فحضرها ابن عمر وابن عباس. قال وإني لجالس بينهما. قال جلست إلى أحدهما ثم جاء الآخر فجلس إلى جنبي. فقال عبد الله بن عمر لعمرو بن عثمان وهو مواجهه ألا تنهى عن البكاء، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه". فقال ابن عباس قد كان عمر يقول بعض ذلك ثم حدث فقال صدرت مع عمر من مكة حتى إذا كنا بالبيداء إذا هو بركب تحت ظل شجرة. فقال اذهب فانظر من هؤلاء الركب؟ فنظرت فإذا هو صهيب. قال فأخبرته. فقال ادعه لي. قال فرجعت إلى صهيب. فقلت ارتحل فالحق أمير المؤمنين. فلما أن أصيب عمر دخل صهيب يبكي يقول وا أخاه وا صاحباه. فقال عمر يا صهيب أتبكي علي؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه". فقال ابن عباس فلما مات عمر ذكرت ذلك لعائشة؛ فقالت يرحم الله عمر لا والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله يعذب المؤمن ببكاء أحد" ولكن قال "إن الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه". قال وقالت عائشة حسبكم القرآن ولا تزر وازرة وزر أخرى. قال وقال ابن عباس عند ذلك: والله أضحك وأبكى. قال ابن أبي مليكة فوالله ما قال ابن عمر من شيء.

1870 - عن ابن أبي مليكة كنا في جنازة أم أبان بنت عثمان وساق الحديث ولم ينص رفع الحديث عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم كما نصه أيوب وابن جريج وحديثهما أتم من حديث عمرو. 1871 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الميت يعذب ببكاء الحي". 1872 - ذكر عند عائشة رضي الله عنها قول ابن عمر الميت يعذب ببكاء أهله عليه، فقالت رحم الله أبا عبد الرحمن سمع شيئاً فلم يحفظه، إنما مرت على رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة يهودي وهم يبكون عليه فقال "أنتم تبكون وإنه ليعذب". 1873 - عن هشام عن أبيه قال ذكر عند عائشة أن ابن عمر يرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم "إن الميت يعذب في قبره ببكاء أهله عليه". فقالت وهل إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنه ليعذب بخطيئته أو بذنبه وإن أهله ليبكون عليه الآن". وذاك مثل قوله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على القليب يوم بدر وفيه قتلى بدر من المشركين، فقال لهم ما قال "إنهم ليسمعون ما أقول". وقد وهل إنما قال "إنهم ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق" ثم قرأت: {إنك لا تسمع الموتى} {وما أنت بمسمع من في القبور} يقول حين تبوءوا مقاعدهم من النار. 1874 - عن عائشة رضي الله عنها وذكر لها أن عبد الله بن عمر يقول إن الميت ليعذب ببكاء الحي، فقالت عائشة يغفر الله لأبي عبد الرحمن أما إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ، إنما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودية يبكى عليها؛ فقال "إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها".

1875 - عن علي بن ربيعة قال أول من نيح عليه بالكوفة قرظة بن كعب؛ فقال المغيرة ابن شعبة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من نيح عليه فإنه يعذب بما نيح عليه يوم القيامة". 1876 - عن مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة" وقال "النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب". 1877 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل ابن حارثة وجعفر ابن أبي طالب وعبد الله بن رواحة؛ جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف فيه الحزن. قالت وأنا أنظر من صائر الباب (شق الباب) فأتاه رجل فقال يا رسول الله إن نساء جعفر وذكر بكاءهن؛ فأمره أن يذهب فينهاهن، فذهب، فأتاه فذكر أنهن لم يطعنه. فأمره الثانية أن يذهب فينهاهن. فذهب ثم أتاه فقال والله لقد غلبننا يا رسول الله. قالت فزعمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "اذهب فاحث في أفواههن من التراب". قالت عائشة فقلت أرغم الله أنفك والله ما تفعل ما أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم وما تركت رسول الله صلى الله عليه وسلم من العناء. 1878 - عن يحيى بن سعيد بهذا الإسناد نحوه وفي حديث عبد العزيز وما تركت رسول الله صلى الله عليه وسلم من العي.

1879 - عن أم عطية رضي الله عنها قالت أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع البيعة ألا ننوح فما وفت منا امرأة إلا خمس: أم سليم، وأم العلاء، وابنة أبي سبرة امرأة معاذ، أو ابنة أبي سبرة، وامرأة معاذ. 1880 - عن أم عطية رضي الله عنها قالت أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيعة ألا تنحن فما وفت منا غير خمس منهن أم سليم. 1881 - عن أم عطية رضي الله عنها قالت لما نزلت هذه الآية {يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً} ... {ولا يعصينك في معروف} قالت كان منه النياحة. قالت فقلت يا رسول الله إلا آل فلان فإنهم كانوا أسعدوني في الجاهلية فلا بد لي من أن أسعدهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إلا آل فلان". -[المعنى العام]- لا شك أن البكاء طبيعة من طبائع الإنسان، فالإنسان يفرح ويحزن، وللفرح أعراضه، وللحزن أعراضه، وأبرز أعراض الحزن البكاء، وأبرز أعراض الفرح الضحك والانبساط، ودمعة العين ليست مظهراً أو عرضاً فقط، وإنما هي منفسة عن نفس الحزين، مبردة لحرارة المصيبة، مخففة للوعات الفؤاد، فالبكاء دواء، وكبته وكظمه في وقت يحتاجه داء خطير العواقب، كثيراً ما يورث عقدة نفسية أو أضرارا جسيمة، وأشد المصائب موت عزيز، وفقد حبيب، لهذا كثر البكاء عند الموت، وقل أو ندر عند فقد مال أو ضياعه، أو عند الأمراض والأسقام ربما لأن المال يذهب ويعود، والأمراض والأسقام تشفى وتزول، أما الميت فلا يعود. وأكثر ما يتأثر بالحزن النساء، لأن عواطفهن تغلب عقولهن، فهن أشد من الرجال حساسية، وهن أسرع وأقوى من الرجال انفعالاً. لهذا عرفن بالصراخ والصياح والعويل عند الموت، واشتهرن بالهلع والجزع والولولة، وزاد عندهن الأسى ففقدن التوازن والانضباط، فشققن الثياب، ولطخن الوجوه بالنيلة والألوان السوداء والزرقاء، وحلقن الشعور ولبسن السواد، وشنقن أنفسهن بالخمار، وتكونت منهن فرق يجدن إثارة الحزن بالكلمات والنغمات والنياحات تدعى هذه الفرق فتجيب، وتتصنع الأسى واللوعة والحرقة فتلهب حناجر الأخريات وصراخ الباكيات.

وتطورت هذه الظاهرة حتى أصبحت علامة على وفاء أهل الميت لميتهم ومظهراً من مظاهر معزتهم له، ورمزاً لقيمته عندهم، حتى قال طرفة بن العبد: إذا مت فانعيني بما أنا أهله وشقي علي الثوب يا ابنة معبد وجاء الإسلام وتلك عادة العرب، ووجدنا أم سلمة -رضي الله عنها وهي من السابقات إلى الإسلام المهاجرة مع زوجها إلى الحبشة مرتين ثم إلى المدينة- وجدناها حين مات زوجها من جراحة أصابته في غزوة أحد. وجدناها تقول: غريب وفي أرض غربة، ولأبكينه بكاء يتحدث به الركبان، وقامت وتهيأت للصراخ وللألوان، وأعدت العدة لاستقبال النادبات المساعدات، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها فوعظها أن لا تفعل، وقال لها: ما من عبد تصيبه مصيبة فيصبر ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون. اللهم أجرني في مصيبتي، واخلف لي خيراً منها. إلا أجره الله في مصيبته وأخلف له خيراً منها، قال لها: قولي: اللهم اغفر لي وله، واعقبني منه عقبى حسنة. فاستسلمت وكفت عن البكاء والصراخ، واستقبل النبي صلى الله عليه وسلم إحدى المساعدات النادبات فقال لها: إياك أن تدخلي الشيطان بيتاً أخرجه الله منه، فلا ندبة ولا عويل. وأخذ الإسلام ينشر نوره وتعاليمه المتمثلة في الرضا بالقضاء، والصبر عند البأساء، وفي الإيمان بأن كل شيء حتى نفوسنا ملك لله، لقد أرسلت إليه صلى الله عليه وسلم إحدى بناته تخبره أن ابناً لها يموت وفي النزع الأخير، وتطلب حضوره إليها يواسيها ويخفف عنها وتحصل به البركة والرحمة، فأرسل إليها يقول: اعلمي أن لله ما أعطى، هو الذي وهبك هذا الولد فتمتعت به أياماً، كان عارية وأمانة لديك، فإن أخذه فهو حقه وله ما أخذ، وكل أجل عنده في كتاب، فاصبري واطلبي من الله أن يحسب صبرك عليه في صحيفتك. فأرسلت إليه تقسم عليه أن يأتيها، فأتاها ومعه بعض أصحابه، فرفع إليه الصبي، فأخذه بين يديه، فرأى صدره يعلو ويهبط، ونفسه تتحشرج في حلقومه، وأمه بجواره تكاد تموت حزناً وكمداً، فسقطت العبرات على خد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظن الصحابة الحاضرون أن الإسلام ينهي عن البكاء والدمع، فقال أحدهم: ما هذا يا رسول الله؟ تبكي؟ وتنهانا عن البكاء؟ قال: إنما نهيتكم عن هذا، وأمسك بلسانه، أما الدمع فهو أثر الإحساس والرحمة التي جعلها الله في قلوب عباده، والمسلم يرحم، ومن لا يرحم لا يرحم. ووضع الإسلام قواعده على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، زيارة للمريض ومواساة زيارة من كبير المسلمين لصغيرهم، وزيارة عامتهم لعامتهم ولسادتهم. لقد أخذ جمعاً من أصحابه لزيارة سعد بن عبادة في مرضه، وكان أهله حوله فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تفسحوا له واستأخروا، ففاض دمعه نابعاً من تأثره وانفعاله ورحمته، ومرة أخرى شرح لأصحابه: إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، وإنما يعذب بما فوق هذا من فعل الجاهلية. ورأى امرأة تصرخ وتولول عند قبر صبي لها فقال لها: اتقي الله واصبري فإن الصبر الكامل المستحق للجزاء الوفير هو ما كان على مصاب جلل حين يفاجئ المحبين.

وكان لا بد من محاربة عادات الجاهلية، وأبرزها ما كانوا يعتقدونه من أن المبالغة في ندبته والبكاء عليه، والمغالاة في مظاهر الحزن ينفعه ويعلي من قدره، فأراد الإسلام أن يغرس فيهم نقيض عقيدتهم، فقال: "إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه" فإن كنتم تحبونه فلا تعذبوه بصراخكم، "المعول عليه يعذب" فلا تعذبوا أحبابكم"، ومن نيح عليه فإنه يعذب بما نيح يوم القيامة". وكان لا بد أن يحذر النائحات، فقال: النائحة إذا لم تتب قبل موتها تبعث يوم القيامة وهي تلبس ثياباً من قطران تصيبها بالجرب. احذروا معشر المسلمين أربعاً من خصال الجاهلية: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، وربط المطر بالنجوم، ونسيان الذي يرسل السحاب، والنياحة على الموت. وهكذا حارب الإسلام الهلع والجزع عند الموت، حارب مظاهر عدم التسليم ومظاهر عدم الرضا بالقضاء. غرس الإيمان في نفوس المؤمنين بأن لله ما أعطى، ولله ما أخذ، وكل شيء عنده بمقدار ولكل أجل كتاب، وإذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون. -[المباحث العربية]- (غريب وفي أرض غربة) أي فليس معه من الأهل من يبكيه غيري، لأنه من أهل مكة ومات في أوائل الهجرة بالمدينة، والمقصود بهذه الجملة تعليل بكائها الهائل الذي اعتزمته. (لأبكينه بكاء يتحدث عنه) "يتحدث" بالبناء للمجهول، أي يتحدث الركبان وأهل البلاد عن عظمه. (فكنت قد تهيأت للبكاء عليه) أي لبست لباس الباكيات وأعددت المناديل ومشقوق الثياب والخمار ونحو ذلك مما يستعمله الصائحات النادبات. (إذ أقبلت امرأة من الصعيد) أصل الصعيد ما كان على وجه الأرض واستعمل في الأرض البعيدة، والمراد هنا عوالي المدينة. (تريد أن تسعدني) بضم التاء وسكون السين، أي تساعدني في البكاء والنوح والندبة. (فاستقبلها رسول الله) صلى الله عليه وسلم لعله كان بالداخل حين دخلت، ففي الرواية الخامسة من الباب السابق أنه صلى الله عليه وسلم دخل على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه. (أتريدين أن تدخلي الشيطان بيتاً أخرجه الله منه)؟ الاستفهام إنكاري توبيخي، أي لا ينبغي أن تدخلي، ولعله صلى الله عليه وسلم علم ذلك من الوحي، لأن أم سلمة لم تكن كفت عن البكاء ولا التهيؤ للنوح.

(فكففت عن البكاء فلم أبك) ليس المراد من البكاء هنا دمع العين، إذ ليس ذلك من الشيطان، وإنما المراد به ما يصاحبه من صراخ وعويل فمعنى "كففت" هنا أحجمت وامتنعت، وليس المعنى أنها كانت تنوح فتوقفت. (فأرسلت إليه إحدى بناته تدعوه) أي تطلب حضوره إليها. (وتخبره أن صبياً لها في الموت) ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح خلافاً في المقصود بابنة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي المقصود بابنها، فقال: هي زينب كما وقع في مصنف ابن أبي شيبة، وابنها قيل: هو علي بن أبي العاص بن الربيع، فقد اتفق أهل العلم بالنسب على أن زينب لم تلد لأبي العاص إلا علياً وأمامة فقط، ثم استبعد أن يكون الابن علياً، لأن أهل العلم بالأنساب ذكروا أنه عاش حتى ناهز الحلم وأن النبي صلى الله عليه وسلم أردفه على راحلته يوم فتح مكة، ومثل هذا لا يقال له "صبي" عرفاً، وإن جاز لغة، كما استبعد أن يكون المراد بالولد أمامة ابنتها رغم النص عليها في رواية أحمد، فإن أهل العلم بالأخبار اتفقوا على أن أمامة بنت أبي العاص من زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم عاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم حتى تزوجها علي بن أبي طالب بعد وفاة فاطمة، ثم عاشت عند علي حتى قتل عنها. وارتضى الحافظ ابن حجر أن يراد بالولد أمامة، ففي رواية أبي داود: "أن ابني أو ابنتي" وأنها كانت قاربت أن تقبض، فأكرم الله نبيه عليه الصلاة والسلام بأن عافى ابنها أو ابنتها في ذلك المرض، وذكر الحافظ ابن حجر قولاً آخر أن المراد من بنت النبي صلى الله عليه وسلم رقية، وأن المراد من ابنها هو عبد الله بن عثمان بن عفان، وأسند هذا القول للبلاذري في الأنساب، ونقل الحافظ عن مسند البزار أن المقصود بابنة النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة. قال: فعلى هذا فالابن المذكور محسن بن علي بن أبي طالب. قال: وقد اتفق أهل العلم بالأخبار أنه مات صغيراً في حياة النبي صلى الله عليه وسلم قال: فهذا أولى أن يفسر به إن ثبت أن القصة كانت لصبي ولم يثبت أن المرسلة زينب لكن الصواب في حديث الباب أن المرسلة زينب. انتهى بتصرف. (فقال للرسول) الذي أرسلته ابنته. (أن لله ما أخذ) ظاهره أنه صلى الله عليه وسلم فهم أن الصبي قد مات، فالتقدير: إن هذا الذي أخذ منكم كان له، لا لكم، فلم يأخذ إلا ما هو له، فينبغي أن لا يجزع من استردت منه وديعة أو عارية، ولكن آخر الحديث أن الصبي كانت نفسه تعلو وتهبط في صدره، فالمراد أنه فهم حضور الموت لا انتهاءه، أي إن أخذه الله فإن لله ما أخذ، وإن أبقاه فإن لله ما أبقى. (وله ما أعطى) معناه أن ما وهبه لكم ليس خارجاً عن ملكه، بل هو ملكه يفعل فيه ما يشاء. (وكل شيء عنده بأجل) أي كل من انقضى أجله فمحال تقدمه أو تأخره عنه، أو كل شيء من الأخذ والإعطاء بأجل معلوم، فإذا علمتم ذلك كله فاصبروا واحتسبوا ما نزل بكم. قال الحافظ ابن

حجر: وقدم ذكر الأخذ على الإعطاء، وإن كان متأخراً في الواقع لما يقتضيه المقام، والمعنى أن الذي أخذه هو الذي كان قد أعطاه، و"ما" مصدرية في الموضعين، ويحتمل أن تكون موصولة، أي لله ما أخذه من الأولاد، وله ما أعطى منهم. (مسمى) أي معلوم مقدر. (فلتصبر ولتحتسب) أي تنوي بصبرها طلب الثواب من ربها، ليحسب لها ذلك من عملها الصالح. (وانطلقت معهم) المتحدث أسامة بن زيد. (فرفع إليه الصبي) في بعض روايات الصحيح "فدفع بالدال بدل الراء، وفي بعضها "فلما دخلنا ناولوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبي". (ونفسه تقعقع كأنها في شنة) القعقعة حكاية صوت الشيء اليابس إذا حرك، وأصل "تقعقع" تتقعقع، فحذفت إحدى التاءين، والشنة بفتح الشين وتشديد النون: القربة القديمة الجافة اليابسة كجلد الطبل، فكأنه شبه البدن اليابس وحركة الروح فيه، بما يطرح في الجلد الجامد من ماء ونحوه. أي روحه لها صوت وحشرجة كصوت الماء إذا ألقي في قربة جافة. (ففاضت عيناه) كناية عن تساقط الدمع. (ما هذا يا رسول الله؟ ) في رواية "أتبكي وتنهى البكاء"؟ . (هذه رحمة) الإشارة إلى الدمعة، وفي الكلام مضاف محذوف، أي أثر رحمة. (وإنما يرحم الله من عباده الرحماء) جمع رحيم، وهو من صيغ المبالغة، ومتقضاه أن رحمة الله تختص بمن اتصف بالرحمة وتحقق بها، بخلاف من فيه أدنى رحمة، ولكن عند أبي داود: "الراحمون يرحمهم الرحمن". والراحمون جمع راحم فيدخل فيه أدنى رحمة. ذكره الحافظ ابن حجر. (اشتكى سعد بن عبادة شكوى له) اشتكى أي مرض وضعف وتألم "وشكوى" بغير تنوين. ولم تكن مرض الموت فقد شفي وعاش بعدها. (فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده) "فأتى" مبني للمعلوم، و"رسول الله" فاعل، والقائل عبد الله بن عمر، وظاهره أن ابن عمر كان عند سعد، لكن الرواية الرابعة صريحة في أن ابن عمر كان عند النبي صلى الله عليه وسلم، فالمعنى: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سعداً. وجملة "يعوده" تعليلية أو حال. (فلما دخل عليه وجده في غشية) بفتح الغين وكسر الشين وتشديد الياء، وضبطه بعضهم بإسكان الشين وتخفيف الياء أي إغماء من الكرب والشدة والغاشية هي الداهية من شر أو مرض.

وقيل: في جماعة من أهله الذين يغشونه للخدمة والمؤانسة والمواساة. ويؤيده ظاهر الرواية الرابعة قوله: "فاستأخر قومه من حوله". (فقال: أقد قضى؟ ) أي أقد انتهى ومات؟ (ألا تسمعون؟ ) أي أحضكم على السماع. أي اسمعوا. وكأنه فهم من بعضهم إنكار بكائه. (فقال: صالح) السؤال عن حالته الصحية لما علم من مرضه، فلعل المراد صالح للحياة من الصلاحية لا من الصلاح ضد الفساد والسوء. (ما علينا نعال ولا خفاف ولا قلانس ولا قمص) أي ما على أكثرنا هذه الأشياء لفقرنا أو زهدنا. (الصبر عند الصدمة الأولى) أصل الصدم ضرب الشيء الصلب بمثله فاستعير للمصيبة الواردة على القلب. و"ال" في "الصبر" للكمال، أي الصبر الكامل الذي يترتب عليه الأجر الجزيل ما كان عند مفاجأة المصيبة لما فيه من صعوبة ومشقة. (أتى على امرأة تبكي على صبي لها) في ملحق الرواية "مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة عند قبر". قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمها ولا اسم صاحب القبر. (اتقي الله واصبري) قال الطيبي: "اتقي الله" توطئة لقوله: "واصبري" كأنه قيل لها: خافي غضب الله إن لم تصبري. (فقالت: وما تبالي بمصيبتي) أي أنت لا تبالي بمصيبتي. وفي رواية للبخاري: "إليك عني" أي تنح وابعد، وفي أخرى له: "فإنك خلو من مصيبتي". وعند أبي يعلى: "يا عبد الله إني أنا الحرى الثكلى، ولو كنت مصاباً عذرتني". (فأخذها مثل الموت) أي أخذها كرب وخوف ورهبة مثل الذي يأخذ المريض عند الموت. (أن حفصة بكت على عمر) أي صرخت وعولت كما جاء في الرواية الثانية عشرة. (إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه) ظاهره أن الباء للسببية، وأن بكاء الأهل سبب لتعذيبه، وجعلها بعضهم للحال. أي أن مبدأ عذاب الميت يقع عند بكاء أهله عليه، وذلك لأن شدة بكائهم غالباً إنما يقع عند دفنه، وفي تلك الحال يسأل ويبتدأ به عذاب القبر، فكأن المعنى: أن الميت يعذب حالة بكاء أهله عليه، ولا يلزم من ذلك أن يكون بكاؤهم سبباً لتعذيبه، ولا يخفى ما في هذا التأويل من بعد وتكلف، وإن كانت الرواية الخامسة عشرة والسادسة عشرة تؤيده. وقيل: إن اللام في "الميت" للعهد، والمراد به الكافر، كما هو ظاهر الرواية الرابعة عشرة، وقيل: للعهد والمراد به ميت معين، أي إن هذا الميت يعذب ببكاء أهله، لأنه أوصاهم بذلك مثلاً، والتفاصيل تأتي في فقه الحديث.

(لما أصيب عمر جعل صهيب يقول: واأخاه) "وا" حرف ندبة والألف في "أخاه" مزيدة لتطويل مد الصوت، والهاء هاء السكت. والمراد من الإصابة الطعنة التي مات فيها. و"صهيب" أصله من بلاد الموصل، سبي في غارة للروم على بلاده وهو غلام صغير اشتراه عبد الله بن جدعان فأعتقه، ثم أسلم بمكة، وهو من السابقين الأولين المعذبين في الله، هاجر إلى المدينة، ومات بها سنة ثمان وثلاثين. (فقام بحياله) أي بحذائه وجواره. (عولت عليه حفصة) يقال: عول عليه وأعول عليه، أي صوت وبكى بصوت. (فإذا صوت من الدار) أي صراخ وصياح. (قال: فأرسلها عبد الله مرسلة) أي أطلق عبد الله بن عمر جملة: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله" إطلاقاً، لم يقيدها بيهودي كما قيدتها عائشة، ولا بوصية كما قيد آخرون، ولا قال: "ببعض بكاء أهله" كما روى أبوه عمر بن الخطاب. (فقال ابن عباس ... ) قصد ابن عباس بما سيروي أن يرد على ابن عمر إطلاقه العبارة دون قيد بأن أباه عمر قيدها "ببعض بكاء أهله". وفي رواية للبخاري "فقال ابن عباس: قد كان عمر رضي الله عنه يقول بعض ذلك". (كنا مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب) في رواية للبخاري "صدرت مع عمر رضي الله عنه من مكة" أي عقب أداء الحج. (حتى إذا كنا بالبيداء) "البيداء" هي المفازة -أي الصحراء الواسعة المهلكة، والمراد منها هنا صحراء ما بين مكة والمدينة. (ألم تعلم أو لم تسمع؟ قال أيوب: أو قال: أولم تعلم؟ أولم تسمع) "أو" شك من الراوي في أي العبارات ذكر فقوله: "ألم تعلم" الأولى استفهام عن العلم بدون واو بين الهمزة ولم، وقوله: "لم تسمع" الأولى بدون الهمز وبدون الواو وبينهما "أو" على معنى الاستفهام عن السمع، وقوله: "أولم تسمع" الثانية استفهام عن العلم بهمزة فواو مفتوحة، وقوله: "أولم تسمع" الثانية استفهام عن السمع بهمزة فواو مفتوحة، والاستفهام للتقرير، والهدف التوثيق بالرواية بمحاولة الحفاظ على أداء اللفظ المسموع. (قال: فأما عبد الله فأرسلها مرسلة، وأما عمر فقال "ببعض") القائل هو ابن أبي مليكة مقارناً بين ما سمعه من ابن عمر، وبين ما سمعه من ابن عباس عن عمر، وهذا الكلام معترض بين كلامي ابن عباس، فقوله بعد ذلك: "فقمت" من كلام ابن عباس.

(فقمت فدخلت) في الرواية الرابعة عشرة "فقال ابن عباس: فلما مات عمر ذكرت ذلك لعائشة". (وإن الله لهو أضحك وأبكى، ولا تزر وازرة وزر أخرى) ظاهره أن الجملتين عن عائشة، والحق أن الأولى عن ابن عباس كما هو صريح ملحق الرواية الرابعة عشرة، ومعناها أن الدمع لا يملكه ابن آدم ولا تسبب له فيه فلا يؤاخذ فاعله فضلاً عن الميت. ومعنى الآية الثانية أنه لا تحمل نفس لم تذنب وزر نفس أذنبت. (إنكم لتحدثوني عن غير كاذبين ولا مكذبين) بالتثنية، أي هما لا يتعمدان الكذب، ولا يليق بمسلم أن يكذبهما. (ولكن السمع يخطئ) تعتبر خطأ حكمهما في سمعهما لا في حفظهما. (إذ هو بركب تحت ظل شجرة) "الركب" أصحاب الإبل في السفر وهو للعشرة فما فوقها. (حسبكم القرآن) أي كافيكم ما جاء في القرآن بهذا الخصوص. (فوالله ما قال ابن عمر من شيء) قال الطيبي وغيره: ظهرت لابن عمر الحجة فسكت مذعناً. وقال الزين بن المنير: سكوته لا يدل على الإذعان فلعله كره المجادلة في هذا المقام. (سمع شيئاً فلم يحفظه) أي فأخطأ سمعه، أو نسي ما سمعه جيداً. (وهل) بفتح الواو وكسر الهاء، وفتحها، أي غلط ونسي. (وذاك مثل قوله ... ) تؤكد عائشة خطأ ابن عمر في روايته تعذيب الميت ببكاء أهله بأنه أخطأ كذلك في روايته إسماع الموتى، حيث روى البخاري عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على أهل القليب فقال: "وجدتم ما وعد ربكم حقاً"؟ فقيل له: أتدعو أمواتاً؟ فقال: "ما أنتم بأسمع منهم ولكن لا يجيبون". (قام على القليب يوم بدر) "القليب" بفتح القاف وكسر اللام: البئر العادية القديمة، والمراد هنا قليب بدر. (وفيه قتلى بدر من المشركين) ورؤساؤهم أبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة. (وقد وهل) أخطأ ابن عمر في روايته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنهم ليسمعون ما أقول". (إنما قال: إنهم ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق) فهي تنفي أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الموتى يسمعون، وتثبت أنهم يعلمون ما سمعوه قبل الموت.

(يقول: حين تبوءوا مقاعدهم من النار) أي يقول عن الموتى: إنهم يسمعون حين تبوءوا مقاعدهم من النار في قبورهم. واتخذوا منازلهم فيها. (لما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل ابن حارثة) أي لما جاءه نعيهم وخبر قتلهم واستشهادهم، وخلاصة أمرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سنة ثمان من الهجرة سرية عددها ثلاثة آلاف مقاتل إلى أرض البلقاء من أطراف الشام فيما عرف بغزوة مؤتة، واستعمل عليهم زيد بن حارثة، وقال: إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس. فتلاقوا مع الكفار فاقتتلوا، فقتل زيد بن حارثة، فأخذ الراية جعفر بن أبي طالب فقاتل بها حتى قتل، فأخذها عبد الله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل، ثم أخذها خالد بن الوليد من غير إمرة ففتح الله على يديه. (جلس يعرف فيه الحزن) قال الطيبي: كأنه كظم الحزن فظهر ما لا بد للجبلة البشرية منه. (قالت: وأنا أنظر من صائر الباب) القائل عائشة، و"صائر الباب" و"صير الباب" شقه الذي يعد للنظر منه. (فأتاه رجل) قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمه، وكأنه أبهم عمداً لما وقع في حقه من غض عائشة منه. اهـ أي من قولها له: أرغم الله أنفك. (إن نساء جعفر ... ) أي امرأته أسماء بنت عميس، ومن حضر عندها من أقاربها وأقارب جعفر، ومن في معناهن، وخبر "إن" في هذه الرواية محذوف لدلالة المقام عليه، والمعنى: فعلن كذا وكذا من البكاء والنوح مثلاً، وعند ابن حبان: "قد أكثرن من بكائهن". (فذهب) أي فنهاهن، فرجع، فأتاه صلى الله عليه وسلم. (قالت: فزعمت أن رسول الله قال) الزعم يطلق على ما لا أصل له وعلى الأمر المحقق، ومنه "زعم جبريل أنه لن تموت نفس قبل أن تستوفى". وهو المراد هنا، والمعنى قالت عمرة: قالت عائشة: قال صلى الله عليه وسلم. (اذهب فاحث في أفواههن من التراب) "فاحث" بضم الثاء وكسرها يقال: حثا يحثو، وحثا يحثى، و"من" تبعيضية، وخص الأفواه دون الأعين مثلاً لأنها محل النوح، وهل الأمر على حقيقته وأنه مطلوب منه أن يحمل في يده تراباً يقذفه في أفواههن؟ الظاهر أن عائشة فهمت ذلك فقالت للرجل ما قالت، ولكن الأولى حمل الأمر على الكناية عن المبالغة والزجر، كأنه قال له: اذهب فاكتم أفواههن بوعيدهن بالخيبة وضياع الأجر. ومن التوجيهات الحسنة هنا ما قيل من أن الأمر للتعجيز، أي إن كنت تستطيع فعل كذا فافعل لكنك لا تستطيع فكف عن المتابعة واسكت. (أرغم الله أنفك) أي ألصقه بالرغام -بفتح الراء- وهو التراب ويقصد بهذه العبارة الدعاء بالإهانة والإذلال. ودعت عليه لما فهمت من إحراجه النبي صلى الله عليه وسلم بإلحاحه وإلحافه وتردده عليه.

(والله ما تفعل) أي لن تفعل. والظاهر أن الرجل المذكور كان يدخل ويعنف النسوة المذكورات. (وما تركت رسول الله صلى الله عليه وسلم من العناء) بفتح النون، أي المشقة والتعب، وفي ملحق الرواية "من العي" بكسر العين وتشديد الياء، وهو هنا بمعنى العناء. فكأنها تقول له: لا أنت نجحت في رسالتك من الإنكار والتأديب ولا أنت تركت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يعذرهن ويشفق عليهن لحرارة مصابهن. (فما وفت منا امرأة إلا خمس) قال القاضي عياض: معنى الحديث لم يف ممن بايع النبي صلى الله عليه وسلم مع أم عطية في الوقت الذي بايعت فيه النسوة إلا المذكورات، لا أنه لم يترك النياحة من المسلمات غير خمسة. اهـ. (وابنة أبي سبرة امرأة معاذ -أو ابنة أبي سبرة وامرأة معاذ) "ابنة أبي سبرة" بفتح السين وسكون الباء الموحدة، والشك من أحد الرواة، قال الحافظ ابن حجر: الذي يظهر لي أن الرواية بواو العطف أصح. اهـ. وبالعطف يصبحن أربعاً، أم سليم أم أنس، وأم العلاء امرأة من الأنصار، وابنة أبي سبرة ولعل اسمها أم كلثوم الوارد في بعض الروايات عند الطبراني، وامرأة معاذ بن جبل واسمها أم عمرو، أما الخامسة فقيل: لعلها أم عطية راوية الحديث، ورد بأنها كانت لا تعد نفسها لذلك، لأنها في يوم الحرة لم تزل النساء بها حتى قامت معهن. ويوم الحرة كان في أيام يزيد بن معاوية، قتل فيه من الأنصار من لا يحصى عدده ونهبت المدينة الشريفة، وبذل فيها السيف ثلاثة أيام. وقيل: لعلها كانت تعد نفسها حين روت الحديث قبل يوم الحرة، وأصبحت لا تعد نفسها بعد يوم الحرة، ويؤيده رواية الطبراني: "فما وفت غيري وغير أم سليم ... ". -[فقه الحديث]- البكاء دمع العين، وقد يصاحبه من القول أو الفعل ما هو مكروه أو حرام. ولتحرير الأحكام الفقهية نقول: أولاً: حزن القلب ودمع العين من غير أن يصاحبهما سخط على القضاء، أو جزع شديد في القلب، أو اعتراض نفسي على القدر، ومن غير أن يصاحبهما قول أو فعل يغضب الرب، هذا النوع لا شيء فيه شرعاً. على معنى أنه مباح باعتباره مسايراً للطبيعة البشرية، بل قد يكون ممدوحاً شرعاً إذا

نبع من العاطفة المشروعة، والرحمة التي أنزلها الرحمن في قلوب الرحماء، والتي بها يتراحم الخلق. ومن هذا القبيل بكاء النبي صلى الله عليه وسلم عند موت ابنه إبراهيم، وقوله: "إن القلب يجزع، والعين تدمع، ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون". وبكاؤه صلى الله عليه وسلم عندما رفع إليه ابن ابنته وهو في حضرة الموت، وقوله في روايتنا الثانية: "هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء". وبكاؤه صلى الله عليه وسلم وبكاء أصحابه عند عيادتهم لسعد بن عبادة في روايتنا الثالثة وقوله: "إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب". وبناء على هذا يحمل ما ورد من مؤاخذات على البكاء أو من نهي عنه على أنه لم يكن من هذا النوع، بل كان مصاحباً لممنوع شرعي، وإن اختلفت درجات المنع باختلاف الفعل. فبكاء المرأة على قبر صبيها -في روايتنا السادسة- محمول على أنه كان مصاحباً للصراخ والعويل والهلع، وحال المرأة وردها العنيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجواب الرسول صلى الله عليه وسلم بما يوحي أنها فقدت الصبر قرينة على ذلك. وبكاء حفصة على أبيها -عمر رضي الله عنهما- كما ما جاء في روايتنا السابعة، وبكاء صهيب على عمر، كما جاء في روايتنا الحادية عشرة محمول على أنه كان مصاحباً للصراخ والصياح والعويل، بدليل ما جاء في روايتنا التاسعة: "لما طعن عمر أغمي عليه، فصيح عليه" وما جاء في روايتنا العاشرة: "جعل صهيب يقول: وا أخاه" وروايتنا الثانية عشرة: "أن عمر لما طعن عولت عليه حفصة". وإذا كان دمع العين وحزن القلب مشروعاً عند موت عزيز، كان من غير المقبول عقلاً وشرعاً أن يعذب الله الميت بفعل مشروع للحي. فلا يدخل مثل هذا قطعاً في الحديث "إن الميت ليعذب ببكاء الحي". ثانياً: أفعال الجاهلية التي ورد النهي عنها وجاء فيها الوعيد الشديد حرام بإجماع العلماء، بل هي من الكبائر، ومنها ضرب الخدود، وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية، ففي الصحيح: "ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية". رواه البخاري. وعند ابن ماجه وصححه ابن حبان: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الخامشة وجهها، والشاقة جيبها، والداعية بالويل والثبور". ومنها حلق المرأة شعر رأسها ورفع التراب، والصياح، والصراخ، والنياحة والندبة، والولولة، وتلطيخ الوجه بالأزرق، وشنق الرقبة بشق من الثياب، وغير ذلك كإحداد المرأة أكثر من ثلاث على غير زوج أو أكثر من أربعة أشهر وعشرة على زوج.

في كل ذلك وردت أحاديث صحيحة ومحتج بها. ويلحق بهذا إحداد الرجل بإطلاق شعره وشعر لحيته والامتناع عن الغسل وعن أنواع معينة من الطعام والشراب، ولكن حرمة هذا الأخير لا تبلغ حرمة ما سبق من أفعال النساء. وكل هذا واضح من الأدلة، ولا تعارض ولا نزاع فيه. وإنما المشكل في هذا الباب عذاب الميت بصراخ أهله عليه، والأحاديث ظاهرها التعارض، فأحاديث عمر وابن عمر صريحة في عذاب الميت، وأحاديث عائشة رافضة لعذابه ببكاء أهله، قاطعة بأنه لا تزر وازرة وزر أخرى، والعلماء في هذا الإشكال يخوضون بعضهم يؤيد عمر وابنه، وبعضهم يؤيد عائشة، وبعضهم يحاول الجمع والتوفيق. فالفريق الأول لا يوافق عائشة من وجوه: الأول: أن عائشة -رضي الله عنها- نافيه، والنافي الدقيق ينفي العلم ولا ينفي الوقوع، فما كان لها أن تقول في روايتنا الثالثة عشرة: "لا. والله ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قط: إن الميت يعذب ببكاء أحد". وما كان لها أن تقول في روايتنا الرابعة عشرة: "لا. والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله يعذب المؤمن ببكاء أحد"؛ لأنها لم تحط بجميع أقواله صلى الله عليه وسلم في جميع أوقات حياته، وكانت الدقة أن تقول: لا أعلم أنه قال كذا، وإنما أعلم أنه قال كذا. حينئذ لا يلزم من عدم علمها بشيء عدم وقوعه. كما لا يلزم من سماعها قولا عدم سماع غيرها لقول آخر. الثاني: قال القرطبي: إنكار عائشة ذلك، وحكمها على الراوي بالتخطئة أو النسيان، أو على أنه سمع بعضاً ولم يسمع بعضاً، بعيد، لأن الرواة لهذا المعنى من الصحابة كثيرون، وهم جازمون، فلا وجه للنفي مع إمكان حمله على محمل صحيح. الثالث: قال الداودي: رواية ابن عباس عن عائشة [روايتنا الرابعة عشرة] أثبتت ما نفته عمرة وعروة عنها [فرواية عمرة السابعة عشرة من رواياتنا تنفي أن يعذب ميت ببكاء الحي، ورواية عروة الخامسة عشرة والسادسة عشرة من رواياتنا تنفي أن يعذب الميت ببكاء أهله عليه، فالروايتان تنفيان عذاب أي ميت ببكاء أهله، ورواية ابن عباس الثالثة عشرة والرابعة عشرة من رواياتنا تثبت زيادة عذاب لبعض الموتى ببكاء أهله إلا أنها خصته بالكافر، لأنها أثبتت أن الميت يزداد عذاباً ببكاء أهله. فأي فرق بين أن يزداد بفعل غيره أو يعذب ابتداء؟ ]. الرابع: أن عائشة حين روت حديث عمر، وحديث ابنه لم تعارضهما بحديث مخالف لهما في الحكم، بل بما استشعرته من معارضة القرآن، وهذا فهم منها يقابله فهم سائغ آخر في تفسير الآية كما سيأتي. والفريق الثاني لا يوافق ابن عمر في أن الميت يعذب بسبب بكاء أهله، فهم يرون أنه لا يعذب أي ميت بسبب بكاء أحد عليه، وإلى هذا جنح بعض الشافعية، وقد رواه أبو يعلى عن أبي هريرة من طريق بكر بن عبد الله المزني قال: قال أبو هريرة: "والله لئن انطلق رجل مجاهد في سبيل الله فاستشهد، فعمدت امرأته سفهاً وجهلاً فبكت عليه، ليعذبن هذا الشهيد بذنب هذه السفيهة"؟ .

وهذا الفريق بعضهم يرد الحديث رداً كما فعلت عائشة، وبعضهم يقبله ويؤوله، فيجعل الباء في "ببكاء أهله" للحال، لا للسببية، أي إن مبدأ عذاب الميت يقع عند بكاء أهله عليه. وذلك أن شدة بكائهم غالباً إنما تقع عند دفنه، وفي تلك الحالة يسأل ويبتدئ بالسؤال عذاب القبر، فكأن معنى الحديث: إن الميت يعذب في حالة بكاء أهله عليه، وعلى هذا يكون خاصاً ببعض الموتى. قال الحافظ ابن حجر: ولا يخفى ما فيه من التكلف. اهـ. وبعضهم يقبله ويؤوله: فيقول: إن معنى "يعذب ببكاء أهله" "أي يعذب بالفعل الذي يذكرونه به، وذلك أن الأفعال التي يعددون بها عليه غالباً تكون من المحرمات المنهي عنها، فهي قبائح في الشرع ومحاسن في زعمهم كقولهم: يا سبع الجبال، يا مخيف الرجال، يا كاتم الأنفاس، يا شديد البأس. ويرون ذلك شجاعة وفخراً. وهي وإن كانت شجاعة لكنها صرفت في غير طاعة، وقد يعددون عليه بالجود الذي أنفقه في المعاصي، فهو يعذب بصنيعه الذي يمدحونه به، أي يعذب بما يبكى عليه به. واختار هذا التأويل ابن حزم وطائفة. وعلى هذين التأويلين لا يعذب أي ميت بسبب بكاء أهله. كما ذهبت عائشة. الفريق الثالث: يجمع بين الحديثين، فيقيد كلا منهما بقيد يرفع التعارض بينهما. وقد اتجهت قيودهم ثلاثة اتجاهات: 1 - اتجاه تقييد العذاب على معنى أنه يعذب بنوع ولا يعذب بنوع، أي المثبت نوع، والمنفي نوع آخر، فالمثبت توبيخ الملائكة له بما يندبه أهله به، كما روي في مسند الإمام أحمد من حديث أبي موسى مرفوعاً: "الميت يعذب ببكاء الحي، إذا قالت النائحة: واعضداه؟ واناصراه؟ واكاسياه؟ جبذ الميت وقيل له: أنت عضدها؟ أنت ناصرها؟ أنت كاسيها؟ " والمنفي عذاب النار. أو المثبت تألم الميت بما يقع من أهله من النياحة، والمنفي عذاب الآخرة. 2 - واتجاه تقييد الزمان والمكان على معنى يعذب في البرزخ ولا يعذب يوم القيامة. حكاه الكرماني وحسنه. قال الحافظ ابن حجر: ويؤيد ذلك أن مثل ذلك يقع في الدنيا، والإشارة إليه بقوله تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} [الأنفال: 25] فإنها دالة على جواز وقوع التعذيب على الإنسان بما ليس له فيه تسبب. 3 - واتجاه تقييد الميت بصفة، على معنى: (أ) يعذب ببكاء أهله من أهمل نهي أهله عن ذلك قبل موته وهو يعلم أنهم لهم بذلك عادة، ويعلم ما جاء في النهي عن النوح، ولا يعذب من ليس كذلك. قال ابن المرابط: إذا علم المرء بما جاء في النهي عن النوح، وعرف أن أهله من شأنهم يفعلون ذلك، ولم يعلمهم بتحريمه، ولا زجرهم عن تعاطيه، فإذا عذب على ذلك عذب بفعل نفسه، لا بفعل غيره بمجرده.

(ب) أو على معنى يعذب ببكاء أهله من أوصى بالنياحة، ولا يعذب ببكاء أهله من لم يوص، واعترض عليه بأن من أوصى عذب، سواء أعمل أهله بالوصية أم لم يعملوا. وأجيب بأن عذابه إن عملوا فوق عذابه إن لم يعملوا. قال بهذا التأويل كثير من الشافعية وغيرهم. وقال السمرقندي: أنه قول عامة أهل العلم. ونقله النووي عن الجمهور، وهو مؤيد بحديث: "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها". وموافق لظاهر قوله تعالى: {وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم} [العنكبوت: 13] ولا يعترض عليه بقوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام: 164] فإن العذاب حينئذ على وزر نفسه. وقال الحافظ ابن حجر في ختام بحث هذه المسألة: ويحتمل أن يجمع بين هذه التوجيهات، فينزل على اختلاف الأشخاص، بأن يقال مثلاً: من كانت طريقته النوح فمشى أهله على طريقته، وبالغ فأوصاهم بذلك عذب بصنعه، ومن كان ظالماً فندب بأفعاله الجائرة عذب بما ندب به، ومن كان يعرف من أهله النياحة فأهمل نهيهم عنها، فإن كان راضياً بذلك التحق بالأول، وإن كان غير راض عذب بالتوبيخ كيف أهمل النهي، ومن سلم من ذلك كله، واحتاط فنهى أهله عن المعصية، ثم خالفوه وفعلوا ذلك كان تعذيبه تألمه بما يراه منهم، من مخالفة أمره، وإقدامهم على معصية ربهم. والله أعلم. -[ويؤخذ من الأحاديث]- 1 - من إرسال إحدى بناته صلى الله عليه وسلم في الرواية الثانية جواز استحضار ذوي الفضل للمحتضر رجاء بركتهم ودعائهم. 2 - وإخبار من يستدعى بالأمر الذي يستدعى من أجله. 3 - وأمر صاحب المصيبة بالصبر قبل وقوع الموت، ليقع وهو مستشعر بالرضا، مقاوم للحزن بالصبر. 4 - من عدم مبادرته صلى الله عليه وسلم بإجابة الدعوة جواز المبالغة في إظهار التسليم لله. 5 - وأن من دعي لمثل ذلك، لم تجب عليه الإجابة، بخلاف الوليمة. 6 - ومن إقسامها جواز الإلحاح، وقسم الرجاء في مثل هذه الأمور. 7 - واستحباب إبراز القسم. 8 - وعيادة المريض، ولو كان مفضولاً أو صبياً صغيراً. 9 - ومن قيام سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل مع النبي صلى الله عليه وسلم، جواز المشي إلى التعزية والعيادة بغير إذن صاحبها، بخلاف الوليمة. 10 - ومن سؤال سعد استفهام التابع من إمامه عما يشكل مما يتعارض ظاهره. 11 - ومن بكاء الرسول صلى الله عليه وسلم جواز البكاء من غير نوح ونحوه.

12 - ومن إجابته صلى الله عليه وسلم الترغيب في الشفقة على خلق الله والرحمة لهم، والترهيب من قساوة القلب وجحود العين. 13 - ومن الرواية الثالثة والرابعة استحباب عيادة المريض. 14 - وعيادة الفاضل للمفضول. 15 - وعيادة القاضي والعالم لأتباعه. 16 - وما كان عليه الصحابة -رضي الله عنهم- من الزهد في الدنيا والتقليل منها، وعدم الاهتمام بفاخر اللباس. 17 - وجواز المشي حافياً. 18 - ومن استئخار قوم سعد تكريم الزائر، وأهل الفضل، والتوسعة لهم. 19 - ومن الرواية السادسة ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من التواضع والرفق بالجاهل. 20 - ومسامحة المصاب، وقبول اعتذاره. 21 - وملازمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 22 - وأن القاضي لا ينبغي له أن يتخذ من يحجبه عن حوائج الناس. 23 - وأن من أمر بمعروف، ينبغي له أن يقبل ولو لم يعرف الآمر. 24 - وأن الجزع من المنهيات، لأمره لها بالتقوى، مقروناً بالصبر. 25 - والترغيب في احتمال الأذى عند بذل النصيحة، ونشر الموعظة. 26 - واستدل به على جواز زيارة القبور سواء كان الزائر رجلاً أو امرأة، وستأتي في باب مستقل. 27 - وأن الصبر الذي يحمد عليه صاحبه، ما كان عند مفاجأة المصيبة بخلاف ما بعد ذلك، فإنه على الأيام يسلو، وحكى عن بعضهم أن المرء لا يؤجر على المصيبة لأنها ليست من صنعه، وإنما يؤجر على حسن تثبته، وجميل صبره. 28 - ومن الرواية السابعة والثامنة المبادرة بنهي الأهل عن المنكر لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً} [التحريم: 6] وقوله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع ومسئول عن رعيته". 29 - ومن الرواية الثالثة عشرة استحباب الجلوس والاجتماع لانتظار الجنازة. 30 - ومن جلوس عبد الله بن أبي مليكة بين عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وهما أفضل منه بالصحبة والعلم والفضل والصلاح والنسب والسن وغير ذلك جواز جلوس المفضول بين الفاضلين لعذر. قال الحافظ ابن حجر: والظاهر أن المكان الذي جلس فيه ابن عباس كان أوفق.

31 - ومن حرص ابن عباس على الجلوس عند ابن عمر حرص أهل الفضل أن يجلسوا إلى أهل الفضل. 32 - ومن قول عائشة: "لا. والله ما قال .... " جواز الحلف بغلبة الظن بقرائن، وإن لم يقطع الإنسان. قال النووي: وهذا مذهبنا. 33 - ومن قول ابن عباس: "والله أضحك وأبكى " التعقيب على الآراء وتأييدها بما يحضر من القرآن. 34 - ومن سكوت ابن عمر حرصه على عدم الجدل والمماراة. 35 - ومن دعاء عائشة لعمر وابنه قبل تخطئتهما أدب أم المؤمنين وإحسانها لمن يتأذى بقولها. 36 - ومن الرواية السابعة عشرة حسن ظن الصحابة بعضهم ببعض، وعدم تكذيب بعضهم بعضاً والتماس العذر لمن أخطأ. 37 - ومن الرواية التاسعة التحذير والتنفير من الفخر في الأنساب. 38 - والطعن في الأنساب. 39 - والاستسقاء بالنجوم. 40 - والنياحة، وهي حرام بالإجماع وهي من الأجنبيات عن الميت أشد إثماً. 41 - وفيها صحة التوبة ما لم يمت المكلف، ولم يصل إلى الغرغرة. 42 - وفيها أن جزاء يوم القيامة من جنس العمل، فقد كانت النائحة تلبس السواد وتولول وتحرك يديها يمينا وشمالاً وأعلى وأسفل. 43 - ومن الرواية المتممة للعشرين وجلوسه صلى الله عليه وسلم يعرف فيه الحزن استحباب إظهار الحزن. قال العلماء: إظهار الحزن أبلغ في الصبر وأزجر للنفس، لكن الاعتدال في الأحوال هو المسلك الأقوم، فمن أصيب بمصيبة عظيمة لا يفرط في الحزن حتى يقع في المحذور من النوح والشهيق ونحوها، ولا يفرط في التجلد حتى يفضي إلى القسوة والاستخفاف بقدر المصاب. 44 - ومن نهي نساء جعفر عن البكاء، أخذ بعضهم جواز النهي عن الأمر المباح عند خشية إفضائه إلى محرم، لكن الظاهر أنه كان في بكائهن زيادة على القدر المباح، فالنهي للتحريم، بدليل أنه كرره وبالغ فيه، وأمر بعقوبتهن إن لم يسكتن. 45 - وفي الحديث جواز الجلوس للعزاء بسكينة ووقار. 46 - وجواز نظر النساء المتحجبات إلى الرجال الأجانب. 47 - وتأديب من نهي عما لا ينبغي له فعله إذا لم ينته. 48 - وجواز اليمين لتأكيد الخبر. 49 - ومن الرواية الواحدة بعد العشرين تحريم النوح وتعظيم قبحه والاهتمام بإنكاره، والزجر عنه لأنه

مهيج للحزن ورافع للصبر، ومظهر من مظاهر عدم التسليم للقضاء، ومنقبة للمذكورات اللائي كن من الوفيات بالبيعة. 50 - أما الرواية الثالثة والعشرون فقد قال النووي: فيها الترخيص لأم عطية في آل فلان خاصة كما هو ظاهر، ولا تحل النياحة لغيرها ولا لها في غير آل فلان. كما هو صريح في الحديث وللشارع أن يخص من العموم ما شاء. قال: فهذا هو صواب الحكم في هذا الحديث. واستشكل القاضي عياض وغيره هذا الحديث، وقالوا فيه أقوالاً عجيبة. قال: ومقصودي التحذير من الاغترار بها، حتى إن بعض المالكية قال: النياحة ليست بحرام، بهذا الحديث وقصة نساء جعفر، قال: وإنما المحرم ما كان معه شيء من أفعال الجاهلية، كشق الجيوب، وخمش الخدود، ودعوى الجاهلية. والصواب ما ذكرناه أولاً، وأن النياحة حرام مطلقاً وهو مذهب العلماء كافة، وليس فيما قاله هذا القائل دليل صحيح، لما ذكرنا، انتهى. والله أعلم

(284) باب نهي النساء عن اتباع الجنائز وغسل الميت وكفنه

(284) باب نهي النساء عن اتباع الجنائز وغسل الميت وكفنه 1882 - عن أم عطية رضي الله عنها قالت: كنا ننهى عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا. 1883 - عن أم عطية رضي الله عنها قالت نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا. 1884 - عن أم عطية رضي الله عنها قالت دخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نغسل ابنته. فقال "اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور، فإذا فرغتن فآذنني" فلما فرغنا آذناه، فألقى إلينا حقوه، فقال "أشعرنها إياه". 1885 - عن أم عطية رضي الله عنها قالت مشطناها ثلاثة قرون. 1886 - عن أم عطية رضي الله عنها قالت: توفيت إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم. وفي حديث ابن علية قالت أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نغسل ابنته. وفي حديث مالك قالت دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته بمثل حديث يزيد بن زريع عن أيوب عن محمد عن أم عطية. 1887 - عن أم عطية رضي الله عنها بنحوه غير أنه قال "ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك" فقالت حفصة عن أم عطية وجعلنا رأسها ثلاثة قرون. 1888 - عن أم عطية رضي الله عنها قالت اغسلنها وتراً ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً. قال وقالت أم عطية مشطناها ثلاثة قرون.

1889 - عن أم عطية رضي الله عنها قالت لما ماتت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم "اغسلنها وتراً ثلاثاً أو خمساً، واجعلن في الخامسة كافوراً أو شيئاً من كافور فإذا غسلتنها فأعلمنني" قالت فأعلمناه، فأعطانا حقوه، وقال "أشعرنها إياه". 1890 - عن أم عطية رضي الله عنها قالت أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نغسل إحدى بناته فقال "اغسلنها وتراً خمساً أو أكثر من ذلك" بنحو حديث أيوب وعاصم. وقال في الحديث قالت فضفرنا شعرها ثلاثة أثلاث قرنيها وناصيتها. 1891 - عن أم عطية رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أمرها أن تغسل ابنته، قال لها ابدأن "بميامنها ومواضع الوضوء منها". 1892 - عن أم عطية رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهن في غسل ابنته "ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها". 1893 - عن خباب بن الأرت قال هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله نبتغي وجه الله؛ فوجب أجرنا على الله. فمنا من مضى لم يأكل من أجره شيئاً، منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد، فلم يوجد له شيء يكفن فيه إلا نمرة، فكنا إذا وضعناها على رأسه خرجت رجلاه، وإذا وضعناها على رجليه خرج رأسه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ضعوها مما يلي رأسه، واجعلوا على رجليه الإذخر" ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها. 1894 - عن عائشة رضي الله عنها قالت كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف ليس فيها قميص ولا عمامة. أما الحلة فإنما شبه على الناس فيها أنها

اشتريت له ليكفن فيها، فتركت الحلة وكفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية، فأخذها عبد الله بن أبي بكر، فقال لأحبسنها حتى أكفن فيها نفسي، ثم قال لو رضيها الله عز وجل لنبيه لكفنه فيها فباعها وتصدق بثمنها. 1895 - عن عائشة رضي الله عنها قالت أدرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلة يمنية كانت لعبد الله بن أبي بكر ثم نزعت عنه وكفن في ثلاثة أثواب سحول يمانية ليس فيها عمامة ولا قميص. فرفع عبد الله الحلة فقال أكفن فيها، ثم قال لم يكفن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكفن فيها فتصدق بها. 1896 - عن أبي سلمة أنه قال سألت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت لها في كم كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت في ثلاثة أثواب سحولية. 1897 - عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت سجي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات بثوب حبرة. 1898 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوماً فذكر رجلاً من أصحابه قبض فكفن في كفن غير طائل وقبر ليلاً، فزجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبر الرجل بالليل حتى يصلى عليه إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك. وقال النبي صلى الله عليه وسلم "إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه". -[المعنى العام]- حمداً لله وشكراً أن كرم بني آدم، كرمهم أحياء وأمواتاً. خلقهم في أحسن تقويم، وستر عوراتهم في دنياهم، وشرع لهم النظافة وإزالة الخبث، والتجمل بالثياب والطيب، فكانوا في دنياهم أطهر وأنقى وأطيب ما على ظهر البسيطة.

وكرمهم أمواتاً، وللموت وحشة، وللميت رهبة، ولمنظره بعد الموت فزع ورعب وخوف، إنه شبح التحول والفناء، شبح ذوبان الجمال والبهاء، شبح البلى والعودة إلى التراب، فجاءت الشريعة بإغماض عينيه، وضم فكيه وتسجيته وتغطيته تغطية كاملة محكمة من قمة رأسه إلى أسفل قدميه، هكذا سجي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات، حتى إذا تهيأ أهله لدفنه وجب غسله، يقوم بتغسيله من يمتهن هذه المهنة أو أقرب أهله إليه، في مكان مستور عن أعين الناس، يرش بشيء من الطيب لما عساه يظهر من ريح كريه ينشأ عن الموت ومخارج الميت، يغسل بماء نقي طاهر يوضع به أو معه بعض المنظفات ذات الرائحة الطيبة، فتغسل مخارجه جيداً بعد ضغط رفيق على البطن لإخراج القريب من الفضلات، حتى إذا نقي الموضع غسل الجسم وتراً، لأن الله يحب الوتر ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً حتى يتأكد من النظافة، ثم يجفف برفق، ثم تحشى الفتحات بالقطن الممسك المضمخ بالطيب ثم تربط، ويسرح شعر الرأس كما كان يسرح في الدنيا، ويضفر شعر المرأة، بهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من قامت بغسل ابنته زينب رضي الله عنها. ثم يكفن بأنظف الثياب لا بأغلاها ثمناً، إنها للتراب وللبلى، فالمغالاة فيها إضاعة للمال في غير المشروع، إن الكفن يقصد به الستر أولاً، والتكريم ثانياً، والحجب المؤقت لما يتساقط وينزف من الميت بسبب التحلل ثالثاً، فجوده في نظافته وعدد لفات الجسم به، ولقد كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض من الأقمشة القطنية. وتكفن المرأة في خمسة أثواب، يلبس الرجل القميص إن كان هناك قميص، وتلف على رأسه عمامة بدون "طربوش" فالمقصود بها لفافة حول الرأس، وتغطى المرأة بإزار يغطي أسفلها، وتلبس درعاً شبيهاً بالقميص القصير، ويسدل الخمار على وجهها من أعلى رأسها، ثم يلف الرجل أو المرأة في لفافة تحيط بجسمه أكثر من دورة، ثم يلف بلفافة ثانية كالتي قبلها، ثم بثالثة مثلها، ثم تجمع اللفائف عند الرأس، ويرد زائدها على الوجه والصدر، وعند القدمين والساقين، ثم تشد الأكفان على الجسد بأربطة تحفظ من الانفكاك عند الحمل، وتفك من حول الجسد بعد وضعه في القبر. وهكذا يظل الإنسان بين بني آدم مكرماً حتى يوارى، يظل مستوراً حتى يستره قبره الستر الحصين، يظل مقبول الرائحة حتى يكتم قبره عن أنوف الناس تغيره المحتوم، يظل حسن الصورة في نفوس أهله ومحبيه بل وأعدائه حتى لحظة وداعه وفراقه، تظل ابتسامته في مخيلتهم، وجماله ونضارته في أفئدتهم، وحبه والميل إليه في قلوبهم، فيبقى الشوق إلى رؤيته ويزداد، ويطول الحنين إليه ويعز الفراق، وتمتد الصلة والوصل في النفوس ويطول ارتباط الإنسان بالإنسان والأحياء بالأموات. والله نسأل حسن الختام.

-[المباحث العربية]- (كنا ننهى عن اتباع الجنائز) أي ومازلنا، بدليل ملحق الرواية "نهينا"، والناهي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعند الإسماعيلي "نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم". (ولم يعزم علينا) بضم الياء، مبني للمجهول، أي ولم يؤكد علينا في المنع كما أكد علينا في غيره من المنهيات، فكأنها قالت: كره لنا اتباع الجنائز من غير تحريم. قال الطبري: المراد لم يعزم علينا كما عزم على الرجال بترغيبهم في اتباعها بحصول القيراط ونحو ذلك. اهـ فكأنه يميل إلى الإباحة. قال الحافظ ابن حجر: والأول أظهر. (عن أم عطية) واسمها نسيبة، صحابية فاضلة ممن بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت غاسلة للميتات. (دخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نغسل ابنته) في الرواية الخامسة "أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نغسل ابنته". وفي رواية "دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته". وفي الرواية الثامنة "لما ماتت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .... ". وفي الرواية العاشرة "أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغسل ابنته". وتصور الموقف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها وأخريات أن يغسلن ابنته فدخلن للغسل، فأتاهن صلى الله عليه وسلم ودخل عليهن في حجرة الغسل، وقال لهن ما قال. والرواية الثامنة صريحة في أن البنت المتوفاة زينب -رضي الله عنها- أكبر بنات النبي صلى الله عليه وسلم، زوج أبي العاص بن الربيع والدة أمامة وعلي، توفيت أول سنة ثمان من الهجرة. وقد حكى ابن التين عن الداودي أنه جزم بأن البنت المذكورة أم كلثوم زوج عثمان، والصواب أنها زينب، نعم ورد في بعض الروايات عن أم عطية قولها: كنت فيمن غسل أم كلثوم. لكن يحتمل أنها حضرت غسل زينب وأم كلثوم، فإنها كانت تقوم بالتغسيل. (ثلاثاً أو خمساً) "أو" للتنويع هنا، وفي الرواية السادسة والسابعة "أو سبعاً". وأساس التنويع الإنقاء، فالمعنى ثلاثاً إن حصل بهن الإنقاء وإلا فخمساً وإلا فسبعاً. (أو أكثر من ذلك) الكاف في ذلك مكسورة، لأن الخطاب لأم عطية. (إن رأيتن ذلك) الأكثر لازماً للإنقاء، والخطاب للغاسلات. (بماء وسدر) متعلق بقوله: "اغسلنها". وظاهر أن السدر يخلط في كل مرة من مرات الغسل. (واجعلن في الآخرة كافوراً) في بعض الروايات "في الأخيرة" أي في الغسلة الأخيرة.

(أو شيئاً من كافور) شك من الراوي في أي اللفظين قيل. (فإذا فرغتن فآذنني) أمر لجماعة الإناث، والفعل آذن بمعنى أعلم، وفي الرواية السادسة "فإذا غسلتنها فأعلمنني" قالت: فأعلمناه. (فألقى إلينا حقوه) في الرواية الثامنة "فأعطانا حقوه"، "الحقو" بكسر الحاء وفتحها مع سكون القاف الإزار. (أشعرنها إياه) أي ألبسنها هذا الإزار، واجعلنه شعاراً، والشعار هو الذي يلي شعر الجسد، وقد فسره أيوب الراوي عن ابن سيرين الراوي عن أم عطية، فقال: الففنها فيه، فالمراد من إشعارها الإزار لفها فيه، وليس مجرد وضعه عليها للقرينة الدالة على ذلك. (مشطناها ثلاثة قرون) يقال: مشطت الماشطة إذا سرحت الشعر، والقرون جمع قرن، وهي الخصلة من الشعر، و"ثلاثة" منصوب على نزع الخافض، أي بثلاث قرون، أو على الظرفية، أي في ثلاثة قرون، والمعنى جعلنا شعرها ثلاث ضفائر بعد أن حللناه وغسلناه وسرحناه، وفي الرواية التاسعة "فضفرنا شعرها ثلاثة أثلاث. قرنيها وناصيتها" أي جعلت ناصيتها ضفيرة وجعل شعر كل جانب من جانبي رأسها ضفيرة، وألقيت الضفائر الثلاث خلفها كما جاء في رواية البخاري. (اغسلنها وتراً. ثلاثاً أو خمساً) تفسير الوتر وبيانه بقوله "ثلاثاً أو خمساً" يوحي ظاهره أن أقل الوتر ثلاث، وليس كذلك، فالواحدة وتر، والله وتر يحب الوتر، فالبيان هنا للمراد من الغسل وأن مقصوده الإنقاء ولا يحصل بالواحدة غالباً. (ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها) قيل: المراد الوضوء الحقيقي بحيث توضأ أولاً، ثم يعاد غسل تلك الأعضاء عند الغسل، وقيل: يبدأ بأعضاء الوضوء عند الغسل تشريفاً لها. والثاني أظهر. قاله الحافظ ابن حجر. (نبتغي وجه الله) في رواية البخاري "نلتمس وجه الله" أي لا نبتغي ولا نقصد دنيا. (فوجب أجرنا على الله) في رواية البخاري "فوقع أجرنا على الله" أي حق لنا الأجر عند الله شرعاً بحكم وعده جل جلاله، والمراد بالأجر الحسنيان غنيمة الدنيا وأجر الآخرة أو إحدى الحسنيين. (فمنا من مضى) أي استشهد، أو قضى دنياه زاهداً. (لم يأكل من أجره شيئاً) أي لم يدرك الغنائم، أو لم يكسب من الدنيا ولم يقتن منها شيئاً، وقصر نفسه على الزهد في متاعها. ومقابل "فمنا" سيأتي في آخر الحديث "ومنا من أينعت له ثمرته". (منهم مصعب بن عمير) كان من أثرياء مكة، ومن أنعم الناس عيشاً فيها، وألينهم لباساً،

وأحسنهم جمالاً، وكان فتاها المدلل، أسلم وأوذي وهاجر إلى المدينة في مقدمة من هاجر إليها، وعاش في المدينة في ثوب مرقع لا يجد غيره. (قتل يوم أحد) عن نيف وأربعين سنة. (إلا نمرة) أي كساء. وقيل: كساء مخطط تلبسها العجوز، ربما اتزر به صاحبه، وربما ارتداه، وكان لأكثرهم نمرتان، يتزر بإحداهما ويرتدي بالأخرى. (واجعلوا على رجليه الإذخر) بكسر الهمزة وسكون الذال وكسر الخاء، نبت عشبي أعواد رقاق دقاق، إذا جف ابيض، ناعم الملمس، طيب الرائحة، ينبت في السهول، ويكثر بأرض الحجاز يشبه ما هو المعروف بالحلفاء في بعض البلاد. (ومنا من أينعت له ثمرته) "أينعت" بفتح الهمزة وسكون الياء وفتح النون، يقال: ينع الثمر فهو يانع، وكذا أينع إذا نضج. والكلام كناية عن طيب الدنيا والتمتع بها. (فهو يهدبها) بفتح الياء وسكون الهاء وكسر الدال وحكي تثليثها آخره باء أي يجتنيها. (سحولية من كرسف) "سحولية" بفتح السين وضمها والفتح أشهر، وهي ثياب بيض نقية لا تصنع إلا من القطن، قيل: منسوبة إلى قرية باليمن كانت تصنعها. والكرسف بضم الكاف هو القطن. وفي الرواية الرابعة عشرة "ثلاثة أثواب سحول يمانية". وفي رواية للبيهقي "سحولية جدد". (ليس فيها قميص ولا عمامة) معناه لم يكفن في قميص ولا عمامة، أي لم يكن مع الثلاثة أثواب شيء آخر. وقيل: معناه ليس القميص والعمامة من جملة الثلاثة ولا معدودين منها، وإنما هما زائدان عليها. وسيأتي الخلاف في فقه الحديث تبعاً لهذين التفسيرين. (أما الحلة) بضم الحاء وتشديد اللام، وهي إزار ورداء، ولا تكون الحلة إلا من اثنين. (فإنما شبه على الناس) بضم الشين وكسر الباء المشددة، ومعناه اشتبه عليهم. (في الحلة يمنية) قال النووي: ضبطت هذه اللفظة في مسلم على ثلاث أوجه: أحدها بفتح الياء الأولى، منسوبة إلى اليمن. والثاني "يمانية" بتخفيف الياء الثانية منسوبة إلى اليمن أيضاً. والثالث "يمنة" بضم الياء وإسكان الميم، وهي على هذا مضافة "حلة" مضاف، و"يمنة" مضاف إليه. قال الخليل: هي ضرب من برود اليمن. (سجي) بضم السين وتشديد الجيم المكسورة، ومعناه غطي جميع بدنه. (بثوب حبرة) بكسر الحاء وفتح الباء، وهو برد يماني، يقال: برد حبير وبرد حبرة، على الوصف، وعلى الإضافة، وقيل: هو ما كان من البرود مخططاً موشياً.

(قبض ليلاً فكفن في كفن غير طائل، وقبر ليلاً) أي كفن غير كامل الستر، والعبارة تفيد أنه قبض وكفن ودفن في ليلة واحدة، وتشير إلى أن الكفن غير الساتر سبب في الدفن ليلاً. (حتى يصلى عليه) بضم الياء مبني للمجهول، والعبارة تشير إلى سبب آخر للنهي عن الدفن بالليل. (إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك) لخوف زحام أو خوف حر على المشيعين، أو خوف تغير لبدن الميت أو نحو ذلك من الضرورات، وفي المسألة تفصيل يأتي في فقه الحديث. -[فقه الحديث]- أما تشييع النساء للجنازة فظاهر روايتنا الأولى أنه غير مستحب، قال النووي: ومذهب أصحابنا أنه مكروه وليس بحرام، لهذا الحديث. قال القاضي: قال جمهور العلماء بمنعهن من اتباعها، وأجازه علماء المدينة. وأجازه مالك وكرهه للشابة. اهـ قال الحافظ ابن حجر. ولا يخفى أن محل النزاع إنما هو حيث تؤمن المفسدة. وأما غسل الميت فقد قال النووي في المجموع: غسل الميت فرض كفاية بإجماع المسلمين، إذا فعله البعض سقط الحرج عن الباقين، وإن تركوه كلهم أثموا كلهم. أما فيمن يتولى غسل الميت فقال: قال أصحابنا: الأصل في غسل الميت أن يغسل الرجال الرجال، والنساء النساء، فإن كان الميت رجلاً فأولى الناس به أولاهم بالصلاة عليه وزوجته، فإن لم يكن له زوجة فأولاهم الأب ثم الجد ثم الابن ثم ابن الابن ثم الأخ ثم ابن الأخ ثم العم ثم ابن العم وعلى هذا الترتيب، وإن كان له زوجة جاز لها غسله بلا خلاف عندنا. وبه قالت الأئمة كلهم إلا رواية عن أحمد، وهل تقدم على رجال العصبات؟ . وجهان: أصحهما عند الأكثرين: يقدم رجال العصبات، ثم الرجال الأقارب، ثم الرجال الأجانب، ثم الزوجة، ثم النساء المحارم. والثاني: تقدم الزوجة عليهم. وإذا ماتت المرأة جاز للزوج غسلها بلا خلاف عند الشافعية، والخلاف في تقديمه، فقيل: يقدم على الرجال والنساء. وقيل: يقدم النساء والمحارم من الرجال عليه. وقيل: يقدم على الرجال ويؤخر عن النساء. وهو الأصح. ثم قال النووي: قال الشيخ أبو حامد: مذهبنا أن المرأة إذا ماتت كان حكم نظر الزوج إليها بغير شهوة باقياً، وزال حكم نظره بشهوة، بخلاف فرقة الطلاق فإنه ينقطع بها حكم النظر. اهـ بهذا يقول جمهور العلماء. وقال أبو حنيفة: ليس للزوج غسل زوجته، واحتج له بأن الزوجية زالت فأشبه المطلقة البائن.

أما غسل الرجل بنته أو أمه أو غيرهما من محارمه فهو جائز عند مالك والشافعي، فإنها كالرجل بالنسبة إليه في العورة والخلوة، ومنعه أبو حنيفة وأحمد. أما غسل المرأة الصبي وغسل الرجل الصبية، فقال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن للمرأة أن تغسل الصبي الصغير. وقال الحسن: تغسله إذا كان فطيماً أو فوقه بقليل. وقال مالك وأحمد: ابن سبع سنين. وقال الشافعية: تغسله ما لم يبلغ حداً يشتهى. اهـ. وقد تعارفت أغلب الأعراف على ممارسة امرأة هذه المهمة للنساء وممارسة رجل لها للرجال، على اعتبار أن من له الحق قد تنازل عنه وفوض الغاسل أو الغاسلة، وهذا أفضل من حيث إتقان الغسل وإحكامه غالبا، وها هي أم عطية في أحاديث الباب تقوم بغسل زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم مع وجود زوجها وأختها وأبيها صلى الله عليه وسلم. وأما في كيفية الغسل، واجباته ومستحباته وآدابه، فقال العلماء: 1 - يستحب المبادرة إلى الغسل والتجهيز له عند تحقق الموت. 2 - يستحب أن يحمل الميت إلى موضع خال مستور، لا يدخله أحد إلا الغاسل ومن لا بد من معونته. وقال بعضهم: إن للولي أن يدخل ذلك الموضع إن شاء، وإن لم يغسل ولا أعان، اعتماداً على ما جاء في بعض الروايات في أن العباس حضر غسل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يشترك ولم يعن، لأن الذين تولوا الغسل علي والفضل بن العباس، وأسامة بن زيد يناول الماء. 3 - يجهز الماء في إناء كبير ليغرف منه، وأن يكون قريباً من المغتسل والشافعية على أن الماء البارد أولى، لأنه يشد البدن، والساخن يرخيه، إلا أن يحتاج إلى المسخن لشدة البرد، أو لوسخ وغيره، وعند أبي حنيفة المسخن أولى بكل حال. 4 - يستحب أن يوضع بالمكان طيب فائح، لئلا تظهر رائحة ما يخرج. 5 - يستحب وضع السدر في الماء ففي الرواية الأولى "بماء وسدر واجعلن في الآخرة كافوراً"، وفي الرواية الخامسة "واجعلن في الخامسة كافوراً". قال ابن المنير: قوله في الحديث: "بالماء والسدر" جعلهما معاً آلة لغسل الميت، وظاهره أن السدر يخلط في كل مرة من مرات الغسل. اهـ وعليه فيعد الماء كله في إناء واحد يخلط بالسدر، ويغسل به جميع المرات، وبه قال أحمد. وقال القرطبي: يجعل السدر في ماء [أي قليل] ويخضخض إلى أن تخرج رغوته، ويدلك به جسده، ثم يصب عليه الماء القراح، فهذه غسلته. اهـ وعليه فينبغي إعداد إناء به ماء قليل يوضع فيه السدر، وآخر به ماء كثير يضاف. وعن ابن سيرين: يغسل بالماء والسدر مرتين، والثالثة بالماء والكافور، فيعد على هذا إناءان، أحدهما ماء بالسدر، والثاني ماء بالكافور، وهذا أقرب الأوضاع لحديث أم عطية.

وقيل: يغسل الأولى بالماء القراح، والثانية بالماء والسدر. أو العكس، والثالثة بالماء والكافور، فيعد على هذا ثلاثة مياه. وهذا أقرب إلى الطهارة والنظافة ولا يأباه حديث أم عطية. ومن المعلوم أن السدر للتنظيف فيحل محله المنظفات الحديثة كالصابون، وأن الكافور للرائحة فيحل محله كل طيب. وقيل: في الكافور خاصية تجعله أولى فلا يستبدل به غيره إذا تيسر. 6 - يستحب أن يوضع الميت على لوح أو سرير هيئ لذلك، وأن يكون رأسه أعلى لينحدر الماء. 7 - وأن يلبس قميصاً واسعاً يغسل فيه من تحته، فإن لم يجد قميصاً أو تعذر غسله تحت قميص ستر منه ما بين السرة والركبة. قال أبو حنيفة: الأولى أن يجرد، ويروى مثله عن مالك، وحينئذ يلقى خلقة على فرجه، وفخذه مكشوفة. 8 - لا يجوز للغاسل ومعاونيه النظر إلى عورته، ويستحب عدم النظر إلى سائر بدنه إلا فيما لا بد له منه. 9 - ولا يجوز أن يمس عورته، لأنه إذا لم يجز النظر فالمس أولى، والمستحب أن لا يمس سائر بدنه. 10 - ولهذا يستحب أن يعد الغاسل قبل الغسل خرقا نظيفة، يلف بها يديه كلما احتاج. 11 - وأول ما يبدأ به بعد وضعه على المغتسل أن يجلسه إجلاساً رفيقاً بحيث لا يعتدل، ويكون مائلاً إلى ورائه، ويمرر يده اليسرى على بطنه تمريراً بليغاً، ليخرج ما فيه من الفضلات، والمعين يصب عليه الماء لئلا تظهر رائحة ما يخرج. 12 - ثم يرده إلى هيئة الاستلقاء، ويغسل بيساره -وهي ملفوفة- دبره ومذاكيره كما يستنجي الحي، ثم يلقي تلك الخرقة، ويغسل يديه بماء وصابون. وبعضهم يرى أن يغسل كل سوأة بخرقة، وهو أبلغ في التنظيف. 13 - إذا فرغ من غسل سوأتيه أدخل أصبعه في فمه، وأمرها على أسنانه بشيء من الماء، وهذا بمنزلة السواك، وكذا يدخل إصبعه في منخريه بشيء من الماء ليزيل ما فيها من الأذى. ثم يوضئه كما يتوضأ الحي ثلاثاً ثلاثاً، ويراعى المضمضة والاستنشاق مع إمالة رأسه لئلا يصل الماء إلى بطنه خلافاً للحنفية حيث قالوا: لا يستحب وضوؤه أصلاً. وقيل: إن مذهب أبي حنيفة أن الميت يوضأ، لكن لا يمضمض ولا يستنشق لتعذر إخراج الماء من الأنف والفم. ومن قال: لا يستحب الوضوء. يوجه ما جاء في الروايتين الثامنة والتاسعة من قوله صلى الله عليه وسلم: "ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها". فيقول: إن الوضوء لم يرد الأمر به مجرداً، وإنما البداءة بأعضاء الوضوء، كما يشرع في غسل الجنابة. 14 - وإذا فرغ من توضيئه غسل رأسه ثم لحيته بالماء والصابون، وسرحهما بمشط واسع الأسنان

وبرفق حتى لا ينتف شيء، وإن نتف رده إليه، ويستحب ضفر شعر المرأة ثلاث ضفائر، كما هو صريح أحاديث أم عطية. 15 - ثم يضجعه على جنبه الأيسر ويصب الماء على شقه الأيمن، ثم يضجعه على شقه الأيمن فيصب الماء على شقه الأيسر، فهذه غسلة واحدة، وهي الواجبة، والمستحب أن يغسله ثلاثاً، فإن لم يتم النقاء بها زاد حتى صار سبعاً، كما جاء في الرواية الخامسة، ولم يرد في شيء من الروايات الزيادة على السبع. وروي عن مالك أنه لا اعتبار بالعدد، وإنما المعتبر الإنقاء. ويلاحظ ما قدمناه في أنواع الماء عند الغسلات. ويتعهد الغاسل مسح بطن الميت في كل مرة بأرفق مما قبلها، ولو خرجت نجاسة بعد الغسل أزيلت ولم يعد الغسل على الصحيح. 16 - فإذا ما انتهى من غسله نشفه وبالغ في التنشيف كيلا تبتل أكفانه فيسرع إليه الفساد. أما كفن الميت فأحاديث الباب يصور كفن مصعب بن عمير، وكفن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال العلماء: أقل الكفن ثوب واحد ساتر لجميع البدن. وقال بعضهم: إن الواجب قدر ما يستر العورة، لأن الميت ليس آكد حالاً من الحي، والواجب في الحي ستر العورة لا غير، والظاهر من حديث مصعب وجوب ستر جميع البدن وإلا لما غطيت رجلاه بالإذخر، وسواء أردنا ثوباً ساتراً لجميع البدن أو ساتراً للعورة فإنه حق لله تعالى، لا تنفذ وصية الميت إذا أوصى بعدمه. والمستحب للرجال ثلاثة أثواب بيض من القطن أو الكتان، ويحرم أن تكون من الحرير للرجال. والمستحب للمرأة خمسة أثواب، ولا يحرم عليها الحرير، وما زاد على الثوب الواحد فهو بمنزلة ثياب التجمل للحي، فلو أوصى بعدمها نفذت الوصية. والزيادة على ذلك سرف، والمغالاة في الكفن مكروهة على الإطلاق. ومن لا مال له يكفن من بيت المال، ويقتصر على ثوب واحد على الأصح. وعند بعض الفقهاء: أن أكمل الكفن للرجال قميص وعمامة وثلاث لفائف سوابغ. وأكمل الكفن للنساء إزار وخمار وثلاث لفائف. وقيل: إزار ودرع وخمار وثوبان. أما كيفية التكفين فقد قال العلماء: 1 - يبسط أحسن اللفائف وأوسعها، ويذر عليه الطيب، وتبسط الثانية فوقها ويرش عليها الطيب، وتبسط الثالثة فوقها ويرش عليها الطيب، ثم يوضع الميت فوقها مستلقياً على ظهره. 2 - يؤخذ قدر من القطن المحلوج ويجعل عليه طيب ويدس في إليتيه حتى يتصل بحلقة الدبر ليرد ما عساه ينزل منه عند التحريك.

4 - يأخذ شيئاً من القطن المحلوج ويضع عليه طيباً ويجعله على منافذ البدن من المنخرين والأذنين والجراحات النافذة إن كانت هناك جراحات. 5 - يرش الطيب على أعضاء السجود: الجبهة والأنف وباطن الكفين والركبتين والقدمين إكراماً لها. 6 - بالنسبة للرجل يلبس القميص إن كان هناك قميص، وتلف العمامة إن كانت هناك عمامة. وبالنسبة للمرأة يلف الإزار ويلبس الدرع ويسدل الخمار إن وجد شيء من ذلك، ثم يلف الميت في اللفافة الأولى الملاصقة له بأن يلف الكفن عليه، فيثنى الثوب على شقه الأيمن، ثم يثنى الطرف الأيمن على شقه الأيسر، ثم تلف اللفافة الثانية، ثم تلف اللفافة الثالثة. 7 - إذا لف الكفن عليه جمع عند رأسه، ورد على وجهه وصدره إلى حيث يبلغ، وما فضل عند رجليه يجعل على القدمين والساقين. 8 - تشد الأكفان على الميت بشداد، خشية انفكاكها عند الحمل. فإذا وضع في القبر نزع الرباط. 9 - يرش عليه شيء من الطيب. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما سبق]- 1 - من الرواية الثالثة أخذ بعضهم أن النساء أحق بغسل المرأة من الزوج. وبه قال أبو حنيفة، والجمهور على خلافه. وفي بعض الكتب أن فاطمة رضي الله عنها أوصت زوجها علياً رضي الله عنه بذلك، وكان بحضرة الصحابة ولم ينكر أحد، وقد سئل ابن مسعود عن فعل علي فقال: إنها زوجته في الدنيا والآخرة. 2 - وفيها استحباب استعمال السدر والكافور في حق الميت، ويلحق به المسك وما شابهه من طيب. 3 - ومن الإشعار بالحقو جواز تكفين المرأة في ثوب الرجل. 4 - قال النووي: وفيه التبرك بآثار الصالحين ولباسهم. اهـ وحقيقته أن فيه التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم ولباسه. قال الحافظ ابن حجر: قيل: الحكمة في تأخير الإزار معه إلى أن يفرغن من الغسل ولم يناولهن إياه أولا ليكون قريب عهد من جسده الشريف صلى الله عليه وسلم. 5 - ومن قوله: "إن رأيتن". أن عدد الغسلات مرتبط بالإنقاء. قال النووي: ليس معناه التخيير وتفويض ذلك إلى شهوتهن. 6 - ومن دخوله صلى الله عليه وسلم عليهن وهن يغسلن جواز دخول الأب ولو لم يغسل أو يساعد في الغسل.

7 - ومن الرواية الرابعة استحباب تمشيط شعر رأس الميت وضفره إن كان طويلاً. 8 - ومن الرواية العاشرة استحباب تقديم الميامن في غسل الميت وسائر الطهارات. 9 - واستحباب وضوء الميت خلافاً للحنفية. 10 - ومن حديث مصعب بن عمير دليل على أن الكفن من رأس المال وأنه مقدم على الديون، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتكفينه في نمرته، ولم يسأل هل عليه دين مستغرق أم لا؟ . قاله النووي. 11 - وفيه دليل على أنه إذا ضاق الكفن عن ستر جميع البدن ولم يوجد غيره جعل مما يلي الرأس، وجعل النقص مما يلي الرجلين، فإن ضاق عن ذلك سترت العورة، فإن فضل شيء جعل فوقها إلى الصدر، فإن ضاق عن العورة سترت السوأتان، لأنهما أهم وهما الأصل في العورة. ذكره النووي. 12 - قال النووي: وقد يستدل بهذا الحديث على أن الواجب في الكفن ستر العورة فقط، ولا يجب استيعاب البدن عند التمكن. قال: فإن قيل: لم يكونوا متمكنين من جميع البدن، لقوله: "لم يوجد له غيرها" فجوابه أن معناه لم يوجد مما يملك الميت إلا نمرة، ولو كان ستر جميع البدن واجباً لوجب على المسلمين الحاضرين تتميمه إن لم يكن له قريب تلزمه نفقته، فإن كان وجب عليه. قال: فإن قيل: كانوا عاجزين عن ذلك لأن القضية جرت يوم أحد، وقد كثرت القتلى من المسلمين وشغلوا بهم وبالخوف من العدو وغير ذلك؟ فجوابه أنه يستبعد من حال الحاضرين المتولين دفنه ألا يكون مع واحد منهم قطعة من ثوب ونحوها. اهـ. 13 - واستدل بالحديث على وجوب تكفين الميت، وهو إجماع المسلمين. 14 - ومن الرواية الثالثة عشرة من رفض عبد الله بن أبي بكر أن يحتفظ بالحلة لكفنه حرص الصحابة على الاقتداء به صلى الله عليه وسلم في أدق الأمور. 15 - ومن الرواية السادسة عشرة استحباب تسجية الميت. قال النووي في المجموع: يستحب خلع ثياب الميت التي مات فيها، بحيث لا يرى بدنه، ثم يستر جميع بدنه بثوب خفيف، ولا يجمع عليه أطباق الثياب، حتى لا يتسارع إليه الفساد، ويجعل أطراف الثوب الساتر تحت رأسه، وأطرافه الأخرى تحت رجليه لئلا ينكشف. 16 - ويؤخذ من الرواية السابعة عشرة استحباب إحسان كفن الميت. قال النووي: قال العلماء: وليس بإحسانه السرف فيه والمغالاة ونفاسته، وإنما المراد نظافته ونقاؤه وكثافته وستره وتوسطه وكونه من جنس لباسه في الحياة غالباً، لا أفخر منه ولا أحقر. اهـ. 17 - والنهي عن دفن الميت ليلا إلا لضرورة، وقد أخذ بهذا الظاهر الإمام أحمد في رواية عنه فقال بكراهة دفن الميت ليلاً. وبالغ في ذلك ابن حزم، فقال: لا يجوز أن يدفن أحد ليلاً إلا عن ضرورة، وكل من دفن ليلاً مما جاء في الأحاديث فإنما ذلك لضرورة أوجبت ذلك من خوف زحام أو خوف حر أو خوف تغير أو غير ذلك مما يبيح الدفن ليلاً. اهـ.

وذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في الأصح عنه إلى أن دفن الميت بالليل يجوز، واحتجوا بما ثبت من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفن ليلاً، وأن عمر دفن أبا بكر ليلاً، ثم دخل المسجد فأوتر، وأن علي بن أبي طالب دفن فاطمة ليلاً، وبما رواه أبو داود عن جابر بن عبد الله قال: "رأى ناس ناراً في المقبرة فأتوها فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر، وإذا هو يقول: ناولوني صاحبكم، فإذا هو الرجل الذي كان يرفع صوته بالذكر". وأجابوا عن حديثنا بأجوبة: منها أن القصد من هذا النهي أن لا يتساهل الناس في أكفان موتاهم، فإن قوماً كانوا يسيئون أكفان موتاهم فيدفنونهم ليلاً، فنهوا عن ذلك. وارتباط الدفن ليلاً بالكفن غير الطائل في الحديث يشير إلى ذلك. ومنها أن النهي عن الدفن بالليل كان لإتاحة الفرصة لأكبر عدد من المسلمين ليصلوا على الميت، إذ الدفن نهاراً يحضره كثيرون من الناس بخلاف الليل. قال القاضي: العلتان صحيحتان. قال: والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم قصدهما معاً. اهـ. ومنها: أن النهي كان لإتاحة الفرصة لأن يصلي على المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما يكون لهم في ذلك من الفضل والخير ببركة صلاته عليهم، فإن صلاته عليهم بركة ورحمة ونور في قبورهم، كما ورد في الحديث، ويرشح هذا الحديث الصحيح في المرأة السوداء التي دفنت ليلاً، فسأل عنها، قالوا: توفيت ليلاً فدفناها في الليل. قال: "ألا آذنتموني؟ ". قالوا. كانت ظلمة. قال: "دلوني على قبرها". فذهب فصلى عليها، فلم ينكر عليهم دفنها ليلاً، وإنما كان همه الصلاة عليها. والله أعلم. (ملحوظة) هناك بعض الأحكام المتعلقة بالموضوع لم تتعرض لها أحاديث الباب ومن تمام الفائدة ذكرها، منها: 1 - ينبغي أن يبادر الورثة إلى قضاء دينه، وتنفيذ وصيته. 2 - يستحب تليين مفاصله بعد الموت وبعد الغسل. 3 - ما ذكر بشأن غسل الميت، إنما هو في حق غير الشهيد في قتال الكافرين لأنه لا يغسل إلا إذا كان جنباً فيغسل عند أحمد وأبي حنيفة. 4 - وكذا لو احترق مسلم، أو قدم العهد بموته، ولو غسل لتهرى، فإنه لا يغسل حينئذ، بل ييمم إن أمكن. بخلاف ما لو كان على بدنه قروح وخيف من غسله تسارع البلى إليه بعد الدفن، فإنه يغسل، ولا مبالاة بما يكون بعده، فالكل صائرون إلى البلى. 5 - اشترط العلماء فيمن يغسل المسلم أن يكون مسلماً وأن لا يكون قاتلاً للميت. 6 - وقالوا: ينبغي أن يكون الغاسل أميناً، لأنه لو لم يكن أميناً لم نأمن من ألا يستوفي الغسل، وربما ستر ما يظهر من جميل، أو يظهر ما يرى من قبح.

7 - ويستحب للغاسل أن يكتم ما قد يرى من عيب في بدن الميت، وإن رأى ما يكره لم يجز له أن يتحدث به، وإن رأى من الميت ما يعجبه تحدث به. 8 - ويستحب لمن غسل ميتاً أن يغتسل، والأصح عند الشافعية أن الغسل من غسل الميت آكد من غسل الجمعة وغيره. 9 - إذا مات المحرم بالحج أو العمرة حرم تطييبه وأخذ شيء من شعره أو ظفره وحرم ستر رأس الرجل وإلباسه مخيطاً، وحرم ستر وجه المرأة. بهذا قال الشافعية وأحمد. وقال أبو حنيفة ومالك: يطيب ويلبس المخيط كسائر الموتى. 10 - يجوز أن يعد المسلم كفناً لنفسه، وبخاصة إذا قصد إعداده من خالص ماله وأكثره حلاً، أو لخاصية تبرك بعمل صالح ونحوه. والله أعلم

(285) باب تشييع الميت واتباع جنازته

(285) باب تشييع الميت واتباع جنازته 1899 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير (لعله قال) تقدمونها عليه وإن تكن غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم". 1900 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم غير أن في حديث معمر قال لا أعلمه إلا رفع الحديث. 1901 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "أسرعوا بالجنازة فإن كانت صالحة قربتموها إلى الخير وإن كانت غير ذلك كان شراً تضعونه عن رقابكم". 1902 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط: ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان" قيل وما القيراطان؟ قال "مثل الجبلين العظيمين" انتهى حديث أبي الطاهر وزاد الآخران. قال ابن شهاب: قال سالم بن عبد الله بن عمر وكان ابن عمر يصلي عليها ثم ينصرف؛ فلما بلغه حديث أبي هريرة قال لقد ضيعنا قراريط كثيرة. 1903 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوله الجبلين العظيمين ولم يذكرا ما بعده. وفي حديث عبد الأعلى حتى يفرغ منها. وفي حديث عبد الرزاق حتى توضع في اللحد. 1904 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث معمر وقال "ومن اتبعها حتى تدفن".

1905 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من صلى على جنازة ولم يتبعها فله قيراط فإن تبعها فله قيراطان" قيل وما القيراطان؟ قال "أصغرهما مثل أحد". 1906 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من صلى على جنازة فله قيراط ومن اتبعها حتى توضع في القبر فقيراطان" قال قلت يا أبا هريرة وما القيراط؟ قال "مثل أحد". 1907 - عن نافع قال: قيل لابن عمر رضي الله عنهما إن أبا هريرة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من تبع جنازة فله قيراط من الأجر" فقال ابن عمر أكثر علينا أبو هريرة، فبعث إلى عائشة فسألها، فصدقت أبا هريرة فقال ابن عمر لقد فرطنا في قراريط كثيرة. 1908 - عن داود بن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أنه كان قاعداً عند عبد الله بن عمر إذ طلع خباب صاحب المقصورة، فقال يا عبد الله بن عمر ألا تسمع ما يقول أبو هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من خرج مع جنازة من بيتها وصلى عليها ثم تبعها حتى تدفن كان له قيراطان من أجر كل قيراط مثل أحد ومن صلى عليها ثم رجع كان له من الأجر مثل أحد" فأرسل ابن عمر خباباً إلى عائشة يسألها عن قول أبي هريرة ثم يرجع إليه فيخبره ما قالت. وأخذ ابن عمر قبضة من حصباء المسجد يقلبها في يده حتى رجع إليه الرسول. فقال قالت عائشة صدق أبو هريرة فضرب ابن عمر بالحصى الذي كان في يده الأرض، ثم قال لقد فرطنا في قراريط كثيرة. 1909 - عن ثوبان رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من صلى على جنازة فله قيراط فإن شهد دفنها فله قيراطان القيراط مثل أحد". 1910 - عن قتادة بهذا الإسناد مثله وفي حديث سعيد وهشام سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن القيراط؟ فقال "مثل أحد".

1911 - عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ما من ميت تصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه" قال فحدثت به شعيب بن الحبحاب فقال حدثني به أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم. 1912 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه مات ابن له بقديد أو بعسفان، فقال يا كريب انظر ما اجتمع له من الناس. قال فخرجت فإذا ناس قد اجتمعوا له فأخبرته. فقال تقول هم أربعون. قال نعم. قال أخرجوه فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه" وفي رواية ابن معروف عن شريك بن أبي نمر عن كريب عن ابن عباس. 1913 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال مر بجنازة فأثني عليها خير، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم "وجبت. وجبت. وجبت" ومر بجنازة فأثني عليها شرا فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم "وجبت. وجبت. وجبت" قال عمر فدى لك أبي وأمي مر بجنازة فأثني عليها خير فقلت وجبت. وجبت وجبت، ومر بجنازة فأثني عليها شر فقلت وجبت وجبت وجبت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار. أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض". 1914 - عن أبي قتادة بن ربعي رضي الله عنه أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر عليه بجنازة فقال "مستريح ومستراح منه" قالوا يا رسول الله ما المستريح والمستراح منه؟ فقال "العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب".

1915 - عن أبي قتادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي حديث يحيى بن سعيد "يستريح من أذى الدنيا ونصبها إلى رحمة الله". -[المعنى العام]- لا شك أن الموت يثير الفزع عند محبي الميت وأهله، كلنا نؤمن به، ونؤمن بأنه حق، ونؤمن بأنه باب يدخله كل حي، لكننا ننساه أو نتلهى عنه بمتاع الحياة الدنيا، ولذلك نصدم به ونصاب بالفزع والهلع عندما يقضي على عزيز، إن لحظاته لحظات التسليم للقضاء والقدر، لحظات التسليم بالقدرة القاهرة، لحظات التسليم بالعجز وعدم الحول، من هنا كان الموت عبرة وذكرى، ومن هنا شرع القيام للجنازة وأجر على المشاركة في تجهيزها وتشييعها والصلاة عليها ودفنها، ففي ذلك من الاعتبار والاتعاظ ما يدفع للعمل الصالح والاستعداد لمثل ذلك المصير، فضلاً عما في ذلك من إعانة لأهل الميت ومساعدة لهم، ومشاركة في مصابهم، يضاف لكل ذلك ما يعود على الميت نفسه من هذه المشاركة، إذ الصلاة عليه دعاء له، وذكره والأسى بفراقه ثناء واستغفار وشفاعة، نرجو له بها الفضل من الله والرحمة والرضوان. وإذا كانت هذه المهام من خصوصيات الرجال فلأن استعدادهم يناسبها دون النساء اللائي يتصفن بالعاطفة الغالبة وبسرعة الانفعال والتأثر الشديد بالموقف الصعب. لهذا نهي عن اتباع النساء الجنائز، ولم يشرع في حقهن الصلاة على الميت ولا دفنه، أما الرجال فقد استنفروا لتشييع الجنائز، ورغبوا في ذلك، ووعدوا بالأجر الكبير، من تبع الجنازة حين تخرج من بيتها إلى أن يصلى عليها فله قيراط من الأجر يزن جبل أحد، ومن تبع الجنازة مما بعد الصلاة عليها حتى ينتهى من دفنها فله من الأجر ما يزن جبل أحد. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص على ذلك أمام أصحابه. كما كان يعلمهم ويحثهم، ويأمرهم أن يقفوا إذا مرت الجنازة عليهم، وأن يكثروا من الثناء على الميت بما يعلمون من صلاح حاله وأن يمسكوا عن مساوئه، فإنهم شهداء الله في الأرض، فمن كثرت حسناته ومعاملاته الطيبة كان ذكره جميلاً، ويستر الله له ما لا يعلمون، ويغفر له ما يسترون. فاللهم اجعلنا خيراً مما يظنون واغفر لنا ما لا يعلمون، واجعل لنا لسان صدق وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. -[المباحث العربية]- (أسرعوا بالجنازة) المراد من الجنازة هنا الميت، لأنه الذي يوصف بالصلاح، والمراد من الإسراع شدة المشي، أي فوق سجية المشي المعتاد وفي الكلام مضاف محذوف، أي بحملها إلى

قبرها. وقيل: المعنى أسرعوا بتجهيزها فهو أعم من التشييع. قال النووي: الثاني باطل مردود بقوله في الحديث: "كان شراً تضعونه عن رقابكم". ورد بأن الحمل على الرقاب قد يعبر به عن الأمور المعنوية، كما تقول: حمل فلان على رقبته ذنوباً، ويؤيده أن حمل الميت لا يقوم به كل المشيعين، بل بعضهم، ويؤيده حديث ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا مات أحدكم فلا تحبسوه وأسرعوا به إلى قبره". أخرجه الطبراني. والحق أن كلا الأمرين مطلوب، والخلاف في المراد منهما هنا. وهو أمر سهل. (من شهد الجنازة حتى يصلى عليها) "يصلى" باللام المشددة المفتوحة مبني للمجهول، وفي بعض الروايات بكسرها، مبني للمعلوم. أي من حضر خروجها والصلاة عليها، فابتداء الشهادة من أول خروجها من بيتها، ففي رواية لأحمد: "فمشى معها من أهلها". (فله قيراط) بكسر القاف، وأصله بكسر القاف وتشديد الراء لأن جمعه قراريط، فأبدل أحد الراءين ياء، والقيراط في الموزونات جزء من اثنى عشر جزءاً من الدرهم. وقيل: ربع سدس درهم، أي جزء من أربعة وعشرين جزءاً من الدرهم. وقيل: نصف عشر دينار. وقيل: جزء من أربعة وعشرين جزءاً من الدينار، فهو اسم لجزء من كل يختلف باختلاف أعراف البلاد، وهو هنا إشارة إلى جزء من الأجر المتعلق بالميت في تجهيزه وغسله وجميع ما يتعلق به. (ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان) قيراط الصلاة وقيراط التشييع، فالمعنى مجموع ما له قيراطان، وليس المراد أن القيراطين غير القيراط الأول. وقيل: قيراطان غير قيراط الصلاة. (مثل الجبلين العظيمين) في الرواية الثالثة "أصغرهما مثل أحد"، وفي الرواية السادسة "كل قيراط مثل أحد" والمقصود من التشبيه عظم قدر القيراط من الأجر، ورفع ما يتوهم من صغر وزنه في تقديرهم على حسب عرفهم. قال الحافظ ابن حجر: في حديث واثلة عند ابن عدي "كتب له قيراطان من أجر أخفهما في ميزانه يوم القيامة أثقل من جبل أحد". فأفادت هذه الرواية بيان وجه التمثيل بجبل أحد، وأن المراد به زنة الثواب المرتب على ذلك العمل. اهـ. (أكثر علينا أبو هريرة) أي أكثر علينا في ذكر الأجر، أو أكثر علينا الرواية، والمقصود أنه خاف عليه النسيان والاشتباه للكثرة، ولم يتهمه ابن عمر. (فبعث إلى عائشة فسألها فصدقت أبا هريرة) في الرواية السادسة تفصيل للإرسال، وفي بعض الروايات ما يفيد أن خباباً بعد أن جاء بتصديق عائشة أخذ أبو هريرة بيد ابن عمر فانطلقا حتى أتيا عائشة، فقال لها: يا أم المؤمنين أنشدك الله. أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ... فذكره، فقالت: اللهم نعم. فقال أبو هريرة: لم يشغلني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غرس الوادي ولا صفق بالأسواق، وإنما كنت أطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلة يطعمنيها، أو كلمة يعلمنيها. قال ابن عمر: كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمنا بحديثه.

(لقد فرطنا في قراريط كثيرة) أي قصرنا وضيعنا، وفي بعض الأصول "لقد ضيعنا قراريط كثيرة" أي من عدم المواظبة على حضور الدفن، ففي الرواية الثانية أن ابن عمر كان يصلي على الجنازة ثم ينصرف. (وأخذ ابن عمر قبضة من حصباء المسجد) (فضرب ابن عمر بالحصى) قال النووي: ضبطناه الأول "حصباء" والثاني "بالحصى" مقصور، جمع حصاة، وهكذا هو في معظم الأصول، وفي بعضها عكسه وكلاهما صحيح والحصباء هي الحصى. (ما من ميت تصلي عليه أمة من المسلمين) الأمة الجماعة، وقدرت في هذه الرواية بمائة. (يبلغون مائة كلهم يشفعون له) جملة "كلهم يشفعون له" صفة لمائة، أي مائة شافعين له. (إلا شفعوا فيه) أي إلا جعلهم الله شفعاء له. (أخرجوه) أي قال ابن عباس: أخرجوا ابني الميت للصلاة عليه، حيث وصل عدد المصلين الأربعين. (فيقوم على جنازته أربعون) أي فيقوم للصلاة على جنازته أربعون رجلاً. (مر بجنازة) بضم الميم مبني للمجهول، وفي رواية للبخاري "مرت جنازة" بالبناء للمعلوم. (فأثني عليها خير) "فأثني" بضم الهمزة مبني للمجهول، و"خير" بالرفع نائب فاعل، وفي نسخ البخاري "خيراً" مع بناء "أثنى" للمجهول، قال العلماء: وهي خطأ، وبعضهم وجهها على أن "خيراً" منصوب بنزع الحافض، أي بخير ونائب الفاعل هو الجار والمجرور. وعند الحاكم تفسير ما أبهم من الخير. ففيه: "مر بجنازة، فقال: ما هذه الجنازة؟ قالوا: جنازة فلان الفلاني، كان يحب الله ورسوله، ويعمل بطاعة الله ويسعى فيها". وفي رواية له أيضاً: "فقال بعضهم: لنعم المرء، لقد كان عفيفاً مسلماً". (وجبت. وجبت. وجبت) ثلاث مرات. والتكرار فيه لتأكيد الكلام المبهم ليحفظ ويكون أبلغ. والمراد من الوجوب: الثبوت والضمير للجنة، وقد صرح بها فيما بعد. (فأثنى عليها شراً) قال أهل اللغة: الثناء يستعمل في الخير، لا يستعمل في الشر، واستعماله في الشر هنا على سبيل المشاكلة، كقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} [الشورى: 40] وعند الحاكم تفسير ما أبهم من شر، وفيه: "فقال بعضهم: بئس المرء كان. إن كان لفظاً غليظاً". (أنتم شهداء الله في الأرض) كررت في الأصول ثلاث مرات، والمراد المخاطبون بذلك من الصحابة ومن كان على صفتهم من الإيمان، وحكى ابن التين أن ذلك مخصوص

بالصحابة، لأنهم كانوا ينطقون بالحكمة، بخلاف من بعدهم، ثم قال: والصواب أن ذلك يختص بالثقات والمتقين. -[فقه الحديث]- تشييع الجنازة فرض كفاية، ولا شك في عظم أجره، من حيث أنه مطلوب شرعي، وهل فيه قضاء حق لأولياء الميت، فلا ينصرف المشيع إلا بإذنهم؟ ذهب إلى هذا مالك رحمه الله، وله شاهد من أحاديث بأسانيد ضعيفة، منها ما أخرجه عبد الرزاق عن أبي هريرة قال: أميران وليسا بأميرين: الرجل يكون مع الجنازة يصلي عليها، فليس له أن يرجع حتى يستأذن وليها". ومنها ما أخرجه أحمد والبزار والعقيلي من حديث أبي هريرة مرفوعاً: "من تبع جنازة فحمل من علوها، وحثا في قبرها، وقعد حتى يؤذن له رجع بقيراطين". والذي عليه معظم أئمة الفتوى أنه ليس على الجنازة إذن، ولكن من صلى ثم رجع فله قيراط. والتشييع الكامل يبدأ بالانتظار حتى تخرج الجنازة من بيتها فيصاحبها إلى مكان الصلاة عليها، فيصلي عليها، ويصاحبها إلى حين تدفن ويغلق عليها قبرها ويدعو لها ثم ينصرف. ولما كان التشييع بهذه الصورة لا يستطيعه كثير من المسلمين أشارت الأحاديث إلى تجزئة الأجر بتجزئته، فروايات الباب تجعل لنهاية الصلاة عليه أجراً، ولبقية التشييع أجراً. وإذا كانت الرواية الثالثة والرابعة قد جعلتا القيراط أجراً لمن صلى عليها فإن الرواية الثانية ولفظها: "من شهد الجنازة حتى يصلي عليها"، والرواية السادسة ولفظها: "من خرج مع جنازة من بيتها، وصلى عليها". هاتان الروايتان تجعلان القيراط لمن خرج معها من بيتها إلى انتهاء الصلاة عليها. ومقتضاهما أن القيراط يختص بمن حضر من أول الأمر إلى انقضاء الصلاة وبهذا قال جماعة من العلماء، لكن الحافظ ابن حجر يقول: والذي يظهر لي أن القيراط يحصل أيضاً لمن صلى فقط، لأن كل ما قبل الصلاة وسيلة إليها لكن يكون قيراط من صلى فقط دون قيراط من شيع وصلى. اهـ وهذا تحقيق دقيق يعمل كل الأحاديث على ظاهرها. والله أعلم. ومن شهدها من بيتها وصلى وتبعها حتى نهاية الدفن فله قيراطان كما هو صريح الرواية الثانية. وبهذا جزم كثير من العلماء، وجزم بعض المتقدمين بأن من شهد بعد الصلاة وحتى نهاية الدفن فله قيراطان غير قيراط الصلاة أخذاً من ظاهر الروايات الرابعة والخامسة والسابعة، وجمهور العلماء يوجه هذه الروايات بأن المراد منها قيراطان أي بالأول. ومقتضى هذا أن القيراطين إنما يحصلان لمن كان معها في جميع الطريق حتى تدفن، فإن صلى مثلاً وذهب إلى القبر وحده فحضر الدفن لم يحصل له إلا قيراط واحد. قاله النووي. ومقتضاه أن من اقتصر على التشييع فلم يصل ولم يشهد الدفن فلا قيراط له، وإن حصل له أجر آخر غير القراريط المذكورة.

وهل القيراط الثاني متوقف على فراغ الدفن؟ أو يكفي لحصوله مجرد الوضع في اللحد؟ أو يكفي انتهاء الدفن دون انتظار إهالة التراب؟ قيل بكل ذلك، ووردت الأخبار بكل منها، والأول هو أصح الأوجه عند الشافعية. وقد يستدل بعبارة "من تبع جنازة" الواردة في الباب من ذهب إلى أن المشي خلف الجنازة أفضل من المشي أمامها، لأن ذلك هو حقيقة الاتباع حساً وهو قول أبي حنيفة. ورجح الجمهور المشي أمامها، وحملوا الاتباع هنا على الاتباع المعنوي أي المصاحبة، وهو أعم من أن يكون أمامها أو خلفها أو غير ذلك، وهو مذهب الشافعي ومالك وأحمد، قالوا: والأحاديث الواردة بالمشي خلفها غير ثابتة، قال البيهقي: الآثار في المشي أمامها أصح وأكثر. اهـ قالوا: ولأن الحي شفيع الميت، والشفيع يتقدم على المشفوع له. وهناك من يرى التوسعة وعدم الالتزام، فيسوى بين أمامها وخلفها، فقد سئل أنس بن مالك عن المشي في الجنازة فقال: أمامها وخلفها وعن يمينها وشمالها. إنما أنتم مشيعون". قالوا: وذلك لما علم من تفاوت أحوال الناس في المشي، وقضية الإسراع بالجنازة أن لا يلزموا بمكان واحد يمشون فيه، لئلا يشق على بعضهم ممن يضعف في المشي عمن يقوى عليه. لكن الأساس القرب من الجنازة، لأن من بعد عنها لا يصدق عليه أنه مشي أمامها أو خلفها فشرط القرب، فقد شهد عبد الرحمن بن قرط -وكان صحابياً من أهل الصفة وكان والياً على حمص في زمن عمر- ناساً تقدموا على الجنازة وآخرين استأخروا، فأمر بالجنازة فوضعت ثم رماهم بالحجارة حتى اجتمعوا إليه، ثم أمر بها فحملت، ثم قال: بين يديها وخلفها وعن يمينها وعن شمالها. أما الركوب في تشييع الجنازة فقد قال العلماء: إن السنة لا يركب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما ركب في عيد ولا في جنازة، هذا في الذهاب أما في العودة والانصراف فلا بأس به، وروايتنا المتممة للثلاثين صريحة في ذلك. والله أعلم. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - يؤخذ من الرواية الأولى الأمر بالإسراع بالجنازة، للحكمة التي ذكرها صلى الله عليه وسلم، قال ابن قدامة: إن الأمر فيه للاستحباب بلا خلاف بين العلماء. وشذ ابن حزم فقال بوجوبه. والمراد بالإسراع شدة المشي، وعلى ذلك حمله بعض السلف، وهو قول الحنفية. وعن الشافعي والجمهور المراد بالإسراع ما فوق سجية المشي المعتاد، ويكره الإسراع الشديد، ومال القاضي عياض إلى نفي الخلاف، فقال: من استحبه أراد الزيادة على المشي المعتاد، ومن كرهه أراد الإفراط فيه كالرمل. قال الحافظ ابن حجر: والحاصل أنه يستحب الإسراع لكن بحيث لا ينتهي إلى شدة يخاف معها حدوث مفسدة بالميت، أو مشقة على الحامل أو المشيع، لئلا ينافي المقصود من النظافة وإدخال المشقة على المسلم. وقال القرطبي: مقصود الحديث أن لا يتباطأ بالميت عن الدفن، لأن التباطؤ قد يؤذي، وربما أدى إلى التباهي والاختيال.

2 - واستحباب المبادرة إلى دفن الميت، لكن بعد التحقق من موته. 3 - وترك مصاحبة الأشرار وأهل البطالة وغير الصالحين. 4 - وحمل الجنازة على أعناق الرجال، وإن كانت الميتة امرأة، قال ابن رشد، جواز ذلك للنساء، وإن كان يؤخذ بالبراءة الأصلية، لكنه معارض بأن في الحمل على الأعناق والأمر بالإسراع مظنة الانكشاف غالباً، وهو مباين للمطلوب منهن من التستر، مع ضعف نفوسهن عن مشاهدة الموتى غالباً، فكيف الحمل؟ مع ما يتوقع من صراخهن عند حمله ووضعه وغير ذلك من وجوه المفاسد. قال الحافظ ابن حجر: وقد ورد ما هو أصرح في منعهن، فقد أخرج أبو يعلى من حديث أنس قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فرأى نسوة، فقال: "أتحملنه؟ " قلن لا. قال: "أتدفنه؟ ". قلن: لا. قال: "ارجعن مأزورات غير مأجورات". قال النووي: لا خلاف في هذه المسألة بين العلماء، والسبب فيه ما تقدم، ولأن الجنازة لا بد أن يشيعها الرجال، فلو حملها النساء لكان ذلك ذريعة إلى اختلاطهن بالرجال، فيفضي إلى الفتنة. اهـ على أن ضعف النساء بالنسبة إلى الرجال من الأمور المحسوسة التي لا تحتاج إلى دليل. 5 - ومن الرواية الثانية وما بعدها استحباب التشييع والصلاة، وعظم ثواب ذلك، إذا احتسب ذلك. ففي الصحيح: "من اتبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً، وكان معها حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين". قال الحافظ ابن حجر: والتقييد بالإيمان والاحتساب لا بد منه، لأن ترتب الثواب على العمل يستدعي سبق النية فيه، فيخرج من فعل ذلك على سبيل المكافأة المجردة أو على سبيل التزلف والمحاباة. 6 - ويؤخذ من مواقف ابن عمر وأبي هريرة ما كان الصحابة عليه من الرغبة في الطاعات. 7 - وأن إنكار العلماء بعضهم على بعض قديم. 8 - واستغراب العالم ما لم يصل إلى علمه. 9 - وعدم مبالاة الحافظ بإنكار من لم يحفظ. 10 - وما كان عليه الصحابة من التثبت في الحديث النبوي والتحرز فيه والتنقيب عليه. 11 - وفيه فضيلة لابن عمر من حرصه على العلم وتأسفه على ما فاته من العمل الصالح. 12 - وأنه لا بأس بضرب الحصا. 13 - وفيه تميز أبي هريرة في الحفظ. 14 - ويؤخذ من الرواية الثامنة والتاسعة فضيلة كثرة عدد المصلين على الجنازة، وستأتي في الباب التالي. 15 - ويؤخذ من الرواية العاشرة فضيلة هذه الأمة "شهداء الله في الأرض".

16 - وإعمال الحكم بالظاهر، قال بعضهم: ليس المعنى أن الذي يقولونه في حق شخص يكون كذلك حتى يصير من يستحق الجنة من أهل النار بقولهم ولا العكس، بل معناه أن الذي أثنوا عليه خيراً رأوه منه، فكان ذلك علامة على كونه من أهل الجنة، وبالعكس. وقال النووي: قال بعضهم: معنى الحديث أن الثناء بالخير لمن أثنى عليه أهل الفضل، وكان ذلك مطابقاً للواقع فهو من أهل الجنة، فإن كان غير مطابق فلا وكذا عكسه. قال: والصحيح أنه على عمومه، وأن من مات منهم فألهم الله تعالى الناس الثناء عليه بخير كان دليلاً على أنه من أهل الجنة سواء كانت أفعاله تقتضي ذلك أم لا، فإن الأعمال داخلة تحت المشيئة، وهذا إلهام يستدل به على تعينها، وبهذا تظهر فائدة الثناء. اهـ وعقب ابن حجر فقال: وهذا في جانب الخير واضح، ويؤيده ما رواه أحمد وابن حبان والحاكم عن أنس مرفوعاً: "ما من مسلم يموت، فيشهد له أربعة من جيرانه الأدنين أنهم لا يعلمون منه إلا خيراً، إلا قال الله تعالى: "قد قبلت قولكم وغفرت له ما لا تعلمون". ثم قال: وأما جانب الشر فظاهر الأحاديث أنه كذلك لكن إنما يقع في حق من غلب شره على خيره. وقال الداودي: المعتبر في ذلك شهادة أهل الفضل والصدق لا الفسقة لأنهم قد يثنون على من يكون مثلهم، ولا من بينه وبين الميت عداوة، لأن شهادة العدو لا تقبل. اهـ. 17 - واستدل بالحديث على جواز ذكر المرء بما فيه من خير أو شر للحاجة، ولا يكون ذلك من الغيبة، قال النووي: فإن قيل: كيف بالثناء بالشر مع الحديث الصحيح في البخاري: "ولا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا". فالجواب أن النهي عن سب الأموات هو في غير المنافق وسائر الكفار وفي غير المتظاهر بفسق أو بدعة فأما هؤلاء فلا يحرم ذكرهم بشر، للتحذير من طريقتهم، ومن الاقتداء بآثارهم والتخلق بأخلاقهم، وهذا الحديث محمول على أن الذي أثنوا عليه شراً كان مشهوراً بنفاق أو نحوه. اهـ. وقيل في الجمع بين الحديثين: يحمل النهي على ما بعد الدفن، والجواز على ما قبله ليتعظ به من سمعه. وقيل: إن هذا الذي وقع كان على معنى الشهادة، والمنهي عنه ما كان على معنى السب، وقد أجمع العلماء على جواز جرح المجروحين من الرواة أحياء وأمواتاً. 18 - والحديث أصل في قبول الشهادة بالاستفاضة وأن أقل أصلها اثنان 19 - قال ابن العربي: وفيه جواز الشهادة قبل الاستشهاد، وقبولها قبل الاستفصال. 20 - قال النووي: وفيه استحباب توكيد الكلام المهم بتكراره ليحفظ وليكون أبلغ. 21 - يؤخذ من الرواية الحادية عشرة أن الموت خير للمؤمن الطائع وللفاجر، أما المؤمن فيستريح من نصب الدنيا، أما الفاجر فمستراح منه يستريح منه العباد بانقطاع أذاه عنهم، ومن ظلمه لهم، وارتكابه المنكرات، لأنهم إن أنكروها قاسوا مشقة ذلك، وربما نالهم منه ضرر، وإن سكتوا عنه أثموا ويستريح منه الدواب، لأنه كان يؤذيها ويضربها ويحملها ما لا تطيقه، ويجيعها في بعض الأوقات وغير ذلك، ويستريح منه البلاد والشجر، لأنها تمنع المطر بمعصيته.

(286) باب الصلاة على الميت والقيام للجنازة

(286) باب الصلاة على الميت والقيام للجنازة 1916 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى للناس النجاشي في اليوم الذي مات فيه فخرج بهم إلى المصلى وكبر أربع تكبيرات. 1917 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال نعى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم النجاشي صاحب الحبشة في اليوم الذي مات فيه فقال استغفروا لأخيكم قال ابن شهاب وحدثني سعيد بن المسيب أن أبا هريرة حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صف بهم بالمصلى فصلى فكبر عليه أربع تكبيرات. 1918 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على أصحمة النجاشي فكبر عليه أربعاً. 1919 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مات اليوم عبد لله صالح أصحمة" فقام فأمنا وصلى عليه. 1920 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أخاً لكم قد مات فقوموا فصلوا عليه" قال فقمنا فصفنا صفين. 1921 - عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أخاً لكم قد مات فقوموا فصلوا عليه" (يعني النجاشي) وفي رواية زهير "إن أخاكم".

1922 - عن الشعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على قبر بعد ما دفن فكبر عليه أربعاً. قال الشيباني فقلت للشعبي من حدثك بهذا؟ قال الثقة عبد الله بن عباس هذا لفظ حديث حسن. وفي رواية ابن نمير قال انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قبر رطب فصلى عليه وصفوا خلفه وكبر أربعاً. قلت لعامر من حدثك؟ قال الثقة من شهده ابن عباس. 1923 - عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله وليس في حديث أحد منهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر عليه أربعاً. 1924 - عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته على القبر نحو حديث الشيباني ليس في حديثهم وكبر أربعاً. 1925 - عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر. 1926 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد (أو شاباً) ففقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عنها (أو عنه)، فقالوا مات قال "أفلا كنتم آذنتموني". قال فكأنهم صغروا أمرها أو أمره. فقال "دلوني على قبره". فدلوه، فصلى عليها، ثم قال "إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها وإن الله عز وجل ينورها لهم بصلاتي عليهم". 1927 - عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال كان زيد يكبر على جنائزنا أربعاً وإنه كبر على جنازة خمساً، فسألته؛ فقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبرها.

1928 - عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها حتى تخلفكم أو توضع". 1929 - عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا رأى أحدكم الجنازة فإن لم يكن ماشياً معها فليقم حتى تخلفه أو توضع من قبل أن تخلفه". 1930 - عن نافع بهذا الإسناد نحو حديث الليث بن سعد غير أن حديث ابن جريج قال النبي صلى الله عليه وسلم "إذا رأى أحدكم الجنازة فليقم حين يراها حتى تخلفه إذا كان غير متبعها". 1931 - عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا اتبعتم جنازة فلا تجلسوا حتى توضع". 1932 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا رأيتم الجنازة فقوموا فمن تبعها فلا يجلس حتى توضع". 1933 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال مرت جنازة فقام لها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقمنا معه فقلنا يا رسول الله إنها يهودية فقال "إن الموت فزع فإذا رأيتم الجنازة فقوموا".

1934 - عن جابر رضي الله عنه قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم لجنازة مرت به حتى توارت. 1935 - عن جابر رضي الله عنه قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لجنازة يهودي حتى توارت. 1936 - عن ابن أبي ليلى أن قيس بن سعد وسهل بن حنيف كانا بالقادسية فمرت بهما جنازة فقاما. فقيل لهما إنها من أهل الأرض، فقالا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت به جنازة فقام، فقيل إنه يهودي فقال "أليست نفساً". 1937 - عن عمرو بن مرة بهذا الإسناد وفيه فقالا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمرت علينا جنازة. 1938 - عن واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ أنه قال رآني نافع بن جبير ونحن في جنازة قائماً وقد جلس ينتظر أن توضع الجنازة. فقال لي ما يقيمك؟ فقلت أنتظر أن توضع الجنازة لما يحدث أبو سعيد الخدري. فقال نافع فإن مسعود بن الحكم حدثني عن علي بن أبي طالب أنه قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قعد. 1939 - عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال في شأن الجنائز إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ثم قعد وإنما حدث بذلك لأن نافع بن جبير رأى واقد بن عمرو قام حتى وضعت الجنازة. 1940 - عن علي رضي الله عنه قال رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فقمنا وقعد فقعدنا. يعني في الجنازة.

1941 - عن جبير بن نفير سمعه يقول سمعت عوف بن مالك يقول صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة، فحفظت من دعائه وهو يقول "اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر، أو من عذاب النار" قال حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت. 1942 - عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم (وصلى على جنازة) يقول "اللهم اغفر له وارحمه، واعف عنه وعافه، وأكرم نزله ووسع مدخله، واغسله بماء وثلج وبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وقه فتنة القبر وعذاب النار" قال عوف فتمنيت أن لو كنت أنا الميت لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك الميت. 1943 - عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وصلى على أم كعب ماتت وهي نفساء فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليها وسطها. 1944 - عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: لقد كنت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غلاماً فكنت أحفظ عنه، فما يمنعني من القول إلا أن ها هنا رجالاً هم أسن مني. وقد صليت وراء

رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة ماتت في نفاسها، فقام عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة وسطها. وفي رواية ابن المثنى، قال حدثني عبد الله بن بريدة، قال فقام عليها للصلاة وسطها. 1945 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال أتي النبي صلى الله عليه وسلم بفرس معرورى فركبه حين انصرف من جنازة ابن الدحداح ونحن نمشي حوله. 1946 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابن الدحداح ثم أتي بفرس عري فعقله رجل، فركبه، فجعل يتوقص به ونحن نتبعه نسعى خلفه. قال فقال رجل من القوم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال "كم من عذق معلق أو مدلى في الجنة لابن الدحداح أو قال شعبة لأبي الدحداح". -[المعنى العام]- إذا مات الميت كان حقاً على أهله ومحبيه ومعارفه بل وغير معارفه من المسلمين أن يجتمعوا لجنازته ويصلوا عليه، ففي ذلك أجر لهم، ونفع للميت بالصلاة والدعاء، وكلما كثر المصلون عليه كلما كان دعاؤهم أقرب، ونفعهم أعم، وشفاعتهم له مقبولة. يحدث بهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: "ما من مسلم ولا مسلمة يموت فيقوم بالصلاة على جنازته أربعون رجلاً مسلماً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه وقبل دعاءهم له". إن الصلاة على الميت هدفها الأساسي الدعاء للميت، وهو مقبل على ظلمة القبر وعلى ما قدم من عمل. وقد كرم رسول الله صلى الله عليه وسلم النجاشي لما مات بدعوة أصحابه للصلاة عليه، فخرج بهم إلى المصلى، وصفهم خلفه، وأمهم، وصلى بهم الجنازة أربع تكبيرات، يقرأ الفاتحة بعد الأولى، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الثانية، ويدعو للميت وللمؤمنين والمؤمنات بعد الثالثة، ويسلم بعد الرابعة. كما كرم صلى الله عليه وسلم امرأة سوداء كانت تنظف المسجد فماتت، فسأل عنها، فقالوا: ماتت. فغضب وعاتبهم أن صغروا شأنها، فلم يعلموه بموتها، وقال لهم: دلوني على قبرها، فدلوه، فصلى عليها صلاة الجنازة وهي في قبرها. وقد أثر عنه صلى الله عليه وسلم في صلاته أدعية كثيرة للميت بالرحمة والمغفرة وإنزاله منزلاً مباركاً وإدخاله الجنة.

وكان صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الجنازة في المصلى، لحماية المسجد من التلوث، ولسعة المصلى مما يسمح للكثرة من المسلمين بحضور الصلاة، كما صلى بعض صلوات الجنازة بالمسجد لبيان الجواز. وقد عنيت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها واهتمت بالصلاة على سعد بن أبي وقاص؛ فطلبت من المشيعين أن يدخلوا بجنازته المسجد لتصلي هي وأمهات المؤمنين اعترافاً بفضله وجهاده في الإسلام وتكريماً له، فقد كان رضي الله عنه أحد العشرة المبشرين بالجنة، وكان أحد الستة الذين رشحهم عمر للخلافة من بعده، وفتح فارس وبنى الكوفة، وابتعد عن الفتنة، واعتزل دخانها، حتى مات رضي الله عنه وعن أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. والقيام للجنازة كان من باب تقديس الموت، وزيادة الاعتبار به، والخشوع والخضوع له، والتسليم. يجريانه على رقاب العباد، ثم نسخ الأمر بالقيام للجنازة مخافة أن يتحول هدفه إلى تقديس الميت نفسه واحترامه وإن كان فاسقاً، وفي فقه الحديث شرح وإيضاح يغني عن التطويل. -[المباحث العربية]- (نعى للناس النجاشي) "نعى" بفتح النون وفتح العين، ينعى بفتح العين أيضاً، يقال: نعاه ينعاه نعياً، والنعى الإشعار بموت الميت، و"النجاشي" بفتح النون وكسرها، والياء مخففة على الصواب وحكى تشديدها. وهو لقب لكل من ملك الحبشة، فقوله في الرواية الثانية: "صاحب الحبشة" أي ملكها، وكان اسم هذا الملك "أصحمة" بفتح الهمزة وإسكان الصاد، وفتح الحاء، المذكور في الرواية الثالثة والرابعة ووقع في مسند ابن أبي شيبة في هذا الحديث تسميته "صحمة" بفتح الصاد وإسكان الحاء. وقيل "صمحة" بتقديم الميم على الحاء. قال النووي: الأول هو الصواب المعروف في كتب الحديث والمغازي وغيرها. وفي كتاب الطبقات لابن سعد، أنه لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية سنة ست من الهجرة، أرسل كتاباً إلى النجاشي سنة سبع في المحرم، فأخذ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم فوضعه على عينيه، ونزل عن سريره، فجلس على الأرض تواضعاً، ثم أسلم وكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. وأسلم على يدي جعفر بن أبي طالب. (في اليوم الذي مات فيه) النجاشي، وعلم موته بطريق الوحي، وكان يوم موته في رجب سنة تسع من الهجرة. (فخرج بهم إلى المصلى) المراد بالمصلى موضع معد للجنائز ببقيع الغرقد غير مصلى العيدين الذي كان ببطحان. (وكبر أربع تكبيرات) أي صلى بأصحابه صلاة الجنازة بعد أن صفهم خلفه صفين، كما هو واضح من الرواية الخامسة.

(صلى على قبر بعد ما دفن) أي بعد دفن الميت فيه بزمن قصير. (إلى قبر رطب فصلى عليه) أي على الميت المقبور فيه، قال النووي: المراد أنه جديد، وترابه بعد لم تطل مدته فييبس. (الثقة. من شهده. ابن عباس) أخبار لمبتدأ محذوف. والتقدير: المحدث بهذا الثقة. المحدث بهذا من شهده. المحدث بهذا ابن عباس. (أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد) أي تكنسه. (أو شاباً) كان يقم المسجد، والشك من الراوي. (أفلا كنتم آذنتموني) أي أعلمتموني، والاستفهام إنكاري توبيخي أي ما كان ينبغي أن لا تعلموني، أي كان ينبغي أن تعلموني. (كان زيد) أي ابن أرقم، جاء مبيناً في رواية أبي داود. (فقوموا لها حتى تخلفكم) بضم التاء وفتح الخاء وتشديد اللام المكسورة أي تترككم وراءها، ونسبة ذلك إليها على سبيل المجاز، لأن المراد حاملوها. (إن الموت فزع) قال القرطبي: معناه أن الموت يفزع منه، إشارة إلى استعظامه. ومقصود الحديث أن لا يستمر الإنسان على الغفلة بعد رؤية الموت لما يشعر ذلك من التساهل بأمر الموت، فمن هنا استوى فيه كون الميت مسلماً أو غير مسلم. اهـ. وقيل: الموت ذو فزع، فأخبر بالمصدر مبالغة نحو: زيد عدل. (إنها من أهل الأرض) لما فتح المسلمون هذه البلاد أقروا أهلها على عملها، فظلوا أهل الأرض وهم أهل ذمة. فالمعنى إنها من غير المسلمين؟ . (أليست نفساً؟ ) هذا التعليل لا يعارض "إن الموت فزع" ففي الحاكم: "إنما تقومون إعظاماً للذي يقبض النفوس". (فقام عليها وسطها) بإسكان السين، قيل: يتناول العجيزة أيضاً، لأنه أعم من الوسط بفتح السين. (بفرس معرورى) بفتح الميم وسكون العين وفتح الراء وسكون الواو وفتح الراء، آخره ألف، مقصور، أي عار، قال أهل اللغة: أعروريت الفرس إذا ركبته عرياً، فهو معرورى. (فعقله رجل) معناه أمسكه وحبسه عن الحركة للرسول صلى الله عليه وسلم. (فجعل يتوقص) أي يتوثب.

(كم من عذق معلق في الجنة) العذق هنا بكسر العين، وهو الغصن من النخلة، وأما العذق بفتحها فهو النخلة بكمالها، وليس مراداً هنا، والمعنى كثير من أغصان النخلة المحملة بالثمار المدلاة. (لابن الدحداح) قال صلى الله عليه وسلم هذا القول عند انصرافه من دفن ابن الدحداح. قالوا: وسبب هذا الأجر أن يتيماً خاصم أبا لبابة في نخلة، فبكى الغلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي لبابة: "أعطه إياها ولك بها عذق في الجنة". فقال: لا. فسمع بذلك أبو الدحداح، فاشتراها من أبي لبابة بحديقة له، ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألي بها عذق إن أعطيتها اليتيم؟ قال: "نعم". فأعطاه إياها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كم عذق معلق في الجنة لأبي الدحداح أو لابن الدحداح". -[فقه الحديث]- تتعرض أحاديث الباب للصلاة على الميت، وكيفيتها، وحكم الصلاة على القبر، وعلى الغائب، وفي المصلى أو المسجد، ثم تتعرض للقيام للجنازة. وصلاة الجنازة فرض كفاية إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين. قال النووي: وقد نقلوا الإجماع على وجوبها إلا ما حكى عن بعض المالكية أنه جعلها سنة، وهذا متروك لا يلتفت إليه. قال: وفي أقل ما يسقط به الفرض قيل: صلاة رجل واحد. وقيل: رجلان. وقيل: ثلاثة. وقيل: أربعة. ولا يشترط فيها الجماعة، وإذا لم يحضره إلا النساء وجب عليهن الصلاة عليه، ويسقط الفرض بفعلهن حينئذ، سواء كان الميت رجلاً أو امرأة. ويشترط لصحتها ما يشترط للصلاة، من طهارة الحدث، وطهارة النجس في البدن والثوب والمكان، وستر العورة، واستقبال القبلة. وقال أبو حنيفة: يجوز التيمم لها مع وجود الماء إذا خاف فوتها إن اشتغل بالوضوء، وهو رواية عن أحمد. وقال الشيعة: تجوز صلاة الجنازة بغير طهارة مع إمكان الوضوء والتيمم لأنها دعاء. والسنة أن يقف الإمام عند عجيزة المرأة بلا خلاف عند الشافعية، لأنه بذلك يسترها عن الناس، والرواية الثامنة والعشرون والتاسعة والعشرون صريحة في ذلك، وكون هذه المرأة في نفاسها وصف غير معتبر اتفاقاً، وإنما هو حكاية أمر وقع. وقال مالك: يقوم من المرأة عند منكبيها، أما الرجل فقيل: كالمرأة. ووصف كونها امرأة في الحديث غير معتبر، كوصف كونها نفساء. وقيل: يقف عند رأسه، وهو مذهب الشافعي وأحمد والمشهور عند الحنفية. وقال مالك: يقف عند وسط الرجل. وقال الحسن البصري: يقف حيث شاء من الرجل والمرأة. ولا خلاف في أن مكان الوقوف سنة، فلو خالف الأحوال المذكورة صحت الصلاة. وأما كيفيتها: فعند الشافعية أربع تكبيرات، ينوي وجوباً عند التكبيرة الأولى الصلاة على هذا

الميت، أو هؤلاء الموتى، إن كانوا جمعاً، والتكبيرات الأربع أركان، ولا تصح هذه الصلاة إلا بهن، يقرأ الفاتحة بعد الأولى، وقراءة الفاتحة ركن على الصحيح، وفي مكانها وكونها بعد الأولى مستحب على الصحيح. وفي استحباب قراءة سورة بعدها خلاف، وكذا الاستعاذة ودعاء الاستفتاح واتفقوا على أنه يجهر بالتكبير والسلام، وعلى أنه يسر بالقراءة نهاراً، وعلى أنه يسر بغير القراءة من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء ليلاً ونهاراً. واختلفوا في الجهر بالقراءة ليلاً، ورجح النووي الإسرار. ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الثانية، وهي واجبة في المشهور عن الشافعية. وفي قول أنها سنة، وأقلها: اللهم صل على محمد. واستحب بعضهم التحميد قبل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. ويدعو للميت بعد التكبيرة الثالثة، وهو فرض في صلاة الجنازة وركن من أركانها، بل هو القصد الأساسي منها، وهل يشترط تخصيص الميت بالدعاء، أو يكفي الدعاء للمؤمنين والمؤمنات ويدخل فيه الميت ضمناً؟ قولان، وأقله ما يصدق عليه الدعاء، أما أكمله فقد وردت فيه أحاديث منها روايتنا السادسة والعشرون والسابعة والعشرون، وقد التقط الشافعي من مجموع الأحاديث دعاء ورتبه واستحبه ولفظه: "اللهم هذا عبدك وابن عبدك، خرج من روح الدنيا وسعتها ومحبوبها وأحبابه فيها إلى كلمة القبر وما هو لاقيه، كان يشهد أن لا إله إلا أنت وأن محمداً عبدك ورسولك وأنت أعلم به، اللهم نزل بك وأنت خير منزول به، وأصبح فقيراً إلى رحمتك وأنت غني عن عذابه، وقد جئناك راغبين إليك شفعاء له، اللهم إن كان محسناً فزد في إحسانه، وإن كان مسيئاً فتجاوز عن سيئاته، والقه برحمتك ورضاك، وقه فتنة القبر وعذابه وافسح له في قبره، وجاف الأرض عن جنبيه، ولقه برحمتك الأمن من عذابك حتى تبعثه إلى جنتك يا أرحم الراحمين. ويدعو للمؤمنين والمؤمنات، ومن الأدعية الواردة في ذلك: "اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإسلام والإيمان". فإن كان الميت صبياً أو صبية اقتصر على الدعاء الأخير، وضم إليه: "اللهم اجعله فرطاً لأبويه، وسلفاً وذخراً، وعظة واعتباراً، وشفيعاً، وثقل به موازينهما، وأفرغ الصبر على قلوبهما، ولا تفتنهما بعده، ولا تحرمهما أجره". ويسلم بعد الرابعة، وقيل: يدعو بعد الرابعة وقبل السلام للمؤمنين والوارد: "اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله". والصحيح عند الشافعية تسليمتان، وبه قال أبو حنيفة، وقال أكثر العلماء هي تسليمة واحدة. قال النووي في المجموع: كان لبعض الصحابة وغيرهم خلاف في أن التكبير المشروع خمس أم أربع أم غير ذلك -يشير إلى روايتنا الثانية عشرة- ثم انقرض ذلك الخلاف، واجتمعت الأمة الآن على أنه أربع تكبيرات بلا زيادة ولا نقصان.

أما رفع الأيدي عند التكبير فقد أجمعوا على استحبابه في أول تكبيرة واختلفوا في غيرها، فعن الشافعي وأحمد الرفع في كل تكبيرة، وعن الحنفية في الأولى، واختلفت الروايات عن مالك. أما صلاة الجنازة على القبر فالشافعية وأحمد على أنه من فاتته الصلاة على الميت وأراد الصلاة عليه في القبر جاز بلا خلاف، وخلافهم في المدة المسموح بالصلاة فيها بعد الدفن، ثلاثة أيام؟ شهر؟ ما لم يبل جسده؟ يصلي عليه أبداً. وروايتنا السابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة والحادية عشرة دليل الجواز: وظاهرها عدم التباعد الزمني بين الدفن، وبين الصلاة على القبر، وإن سبقت الصلاة على الميت. وقال مالك وأبو حنيفة: لا يصلى على الميت إلا مرة واحدة، ولا يصلى على القبر إلا أن يدفن بلا صلاة، وإلا أن يكون الولي غائباً فصلى غيره عليه ودفن فللولي أن يصلي على القبر. وقال أبو حنيفة: لا يصلى على القبر بعد ثلاثة أيام من دفنه، وقال أحمد: إلى شهر. وأما الصلاة على الميت الغائب فقد قال النووي: مذهبنا جواز الصلاة على الميت الغائب عن البلد، سواء كان في جهة القبلة أم في غيرها، ولكن المصلي يستقبل القبلة. ولا فرق بين أن تكون المسافة بين البلدين قريبة أو بعيدة، أما إذا كان الميت في البلد. فالجمهور على أنه لا يجوز أن يصلى عليه حتى يحضر عنده لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على حاضر في البلد إلا بحضرته. قال الرافعي: وينبغي أن لا يكون بين الإمام والميت أكثر من مائتي ذراع. وقيل: تجوز صلاة الغائب في البلد كالغائب البعيد. ومنع أبو حنيفة ومالك الصلاة على الغائب، [وأحاديث الباب روايتنا الأولى والثانية وما بعدها] تؤيد الشافعية، وردهم عليها بأن الأرض طويت بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم خيالات، ولو فتح هذا الباب لم يبق وثوق بشيء من ظواهر الشرع لاحتمال انحراف العادة في تلك القضية، وأنه لو كان شيء من ذلك لتوافرت الدواعي لنقله. اهـ. وذهب أحمد وجمهور السلف إلى ما ذهب إليه الشافعية، حتى قال ابن حزم: لم يأت عن أحد من الصحابة منعه. قال الشافعي: الصلاة على الميت دعاء له وهو إذا كان ملففاً يصلى عليه، فكيف لا يدعى له وهو غائب أو في القبر بذلك الوجه الذي يدعى له به وهو ملفف؟ ودافع بعض من كره الصلاة على الغائب بأن النجاشي كان بأرض ليس بها من يصلي عليه. قال الحافظ ابن حجر: وهذا محتمل. إلا أنني لم أقف في شيء من الأخبار على أنه لم يصل عليه في بلده أحد. وقال بعضهم: إن ذلك خاص بالنجاشي، لأنه لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم على ميت غائب غيره، وقد مات كثير من الصحابة، وهم غائبون عنه، وسمع بهم فلم يصل عليهم، ولعله قصد بالصلاة على النجاشي إشاعة أنه مات مسلماً. ورد بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وقد استشهدا في غزوة مؤته.

أما صلاة الجنازة بالمسجد فقد استدل الحنفية بروايتنا الأولى والثانية على أنه لا يصلى على ميت في مسجد جماعة، وبه قال مالك، إذ في الحديث أنه أخبرهم بموت النجاشي في المسجد، وخرج بهم إلى المصلى للصلاة عليه هناك، وأجابوا عن حديث عائشة [الآتي برقم 10، 11 من الباب التالي] باحتمال أن يكون قد صلى بالمسجد لعذر المطر أو الاعتكاف. والشافعية والحنابلة على أن الصلاة على الميت في المسجد صحيحة جائزة لا كراهة فيها، إذا لم يخف تلويث المسجد، ورواياتنا العاشرة والحادية عشرة من الباب الآتي واضحة في الجواز وعدم الكراهة، وأجابوا عن أدلة المخالفين بأنه ليس فيها صيغة نهي، وباحتمال أن يكون خرج بهم إلى المصلى لأمر آخر بل الظاهر أنه خرج بهم إلى المصلى لقصد تكثير الجمع الذي يصلون عليه، وقالوا: إنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد على ابني بيضاء، فكيف يترك الصريح لأمر محتمل. والله أعلم. وأما القيام للجنازة فيتصور في مكانين: الأول: القيام لها إذا مرت على من ليس معها. والثاني: قيام من كان معها إلى أن توضع. أما الأول: فصريح الأحاديث الأمر بالقيام من حين يراها إلى أن تمر عليه وتغيب عنه، أو توضع عنده إن كان في المسجد مثلاً، وسواء في ذلك جنازة المسلم وجنازة غيره كما هو ظاهر من الرواية السادسة عشرة والسابعة عشرة والثامنة عشرة والتاسعة عشرة، قال الحافظ ابن حجر: قال أكثر الصحابة والتابعين باستحباب القيام، كما نقله ابن المنذر، وهو قول أحمد، وقال بعض السلف: يجب القيام. اهـ. وقال النووي: المشهور في مذهبنا أن القيام ليس مستحباً، وقالوا: هو منسوخ بحديث علي، [يشير إلى روايتنا الثالثة بعد العشرين وما بعدها وفيها "قام ثم قعد"، و"قام فقمنا، وقعد فقعدنا"] واختار المتولي من أصحابنا أنه مستحب، وهذا هو المختار، فيكون الأمر به للندب، والقعود بياناً للجواز، ولا يصح دعوى النسخ في مثل هذا، لأن النسخ إنما يكون إذا تعذر الجمع بين الأحاديث، ولم يتعذر. اهـ. وإلى عدم الاستحباب والقول بالنسخ ذهب مالك وأبو حنيفة. وقال أحمد في رواية عنه وبعض المالكية: هو مخير. وأما قيام من يشيعها عند القبر فقال جماعة من الصحابة والسلف: لا يقعد حتى توضع. وبه قال أحمد، وللشافعية ثلاثة أقوال: أحدها: أن القيام للجنازة مكروه. الثاني: أن المشيع بالخيار بين القيام والقعود. الثالث: يستحب أن يقوم ولا يقعد حتى توضع. قال النووي: هذا هو المختار. اهـ.

-[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - يؤخذ من الرواية الثامنة والتاسعة من الباب السابق أن كثرة المصلين على الجنازة تشفع للميت، وقال النووي: في الجمع بين اختلاف العدد في الروايات يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بقبول شفاعة مائة فأخبر به، ثم بقبول شفاعة أربعين فأخبر به. ويحتمل أيضاً أن يقال: هذا مفهوم عدد، ولا يحتج به جماهير الأصوليين فلا يلزم من الإخبار عن قبول شفاعة مائة منع قبول شفاعة ما دون ذلك. 2 - ويؤخذ من نعى النجاشي استحباب الإعلام بالميت، لا على صورة نعي الجاهلية، بل مجرد إعلام الصلاة عليه وتشييعه وقضاء حقه في ذلك. قال النووي: والذي جاء من النهي عن النعي ليس المراد به هذا، وإنما المراد نعي الجاهلية المشتمل على ذكر المفاخر وغيرها. قال ابن العربي: يؤخذ من مجموع الأحاديث ثلاث حالات: الأولى: إعلام الأهل والأصحاب وأهل الصلاح، فهذا سنة. الثانية: دعوة الحفل للمفاخرة. فهذه تكره. الثالثة: الإعلام بنوع آخر كالنياحة ونحوها. فهذا يحرم. اهـ. ووجه ابن المنير نعى النجاشي على هذا بأنه كان غريباً في ديار قومه، فكان للمسلمين من حيث الإسلام أخاً، فكانوا أخص به من قرابته. 4 - وفي نعي الرسول صلى الله عليه وسلم للنجاشي في اليوم الذي مات فيه علم من أعلام النبوة، لما هو معلوم من البعد بين أرض الحبشة والمدينة. 5 - ويؤخذ من الرواية الخامسة من صف المسلمين صفوفاً، أن للصفوف على الجنازة تأثيراً، لأن الظاهر أن الذين خرجوا معه صلى الله عليه وسلم لم يكن ليضيق بهم فضاء المصلى لو صفوا فيه صفاً واحداً، ومع ذلك فقد صفهم. 6 - ويؤخذ من الرواية الحادية عشرة فضل خدمة المسجد وكنسه. 7 - وما كان عليه صلى الله عليه وسلم من التواضع والرفق بأمته. 8 - وتفقد أحوالهم. 9 - والقيام بحقوقهم والاهتمام بمصالحهم في دنياهم وآخرتهم. 10 - وحرصه صلى الله عليه وسلم على عدم تصغير أحد منهم. 11 - ومن قوله: "أفلا كنتم آذنتموني". استحباب الإعلام بالميت. 12 - وفيه عذاب القبر. 13 - ومن الرواية السادسة والعشرين الاستعاذة من عذاب القبر وعذاب النار.

14 - ويؤخذ من الرواية الثامنة والعشرين إثبات الصلاة على النفساء. 15 - ويؤخذ من الرواية الواحدة والثلاثين إباحة الركوب في الرجوع عن الجنازة. قال النووي: وإنما يكره الركوب في الذهاب معها. 16 - وجواز مشي الجماعة مع كبيرهم الراكب، وأنه لا كراهة فيه في حقهم، ولا في حقه إذا لم يكن فيه مفسدة. قال النووي: وإنما كره ذلك إذا حصل فيه انتهاك للمتابعين أو خيف إعجاب ونحوه. 17 - أنه لا بأس بخدمة التابع متبوعه برضاه. 18 - وفيه منقبة عظيمة لابن الدحداح رضي الله عنه. والله أعلم

(287) باب القبور وزيارتها

(287) باب القبور وزيارتها 1947 - عن عامر بن سعد بن أبي وقاص أن سعد بن أبي وقاص قال: -في مرضه الذي هلك فيه- الحدوا لي لحداً وانصبوا علي اللبن نصباً كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم. 1948 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال جعل في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قطيفة حمراء (قال مسلم) أبو جمرة اسمه نصر ابن عمران وأبو التياح واسمه يزيد بن حميد ماتا بسرخس. 1949 - عن ثمامة بن شفي قال كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس، فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بن عبيد بقبره فسوي، ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها. 1950 - عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته. 1951 - عن حبيب بهذا الإسناد وقال ولا صورة إلا طمستها. 1952 - عن جابر رضي الله عنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه.

1953 - عن جابر رضي الله عنه قال نهي عن تقصيص القبور. 1954 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر". 1955 - عن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها". 1956 - عن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها". 1957 - عن عباد بن عبد الله بن الزبير أن عائشة أمرت أن يمر بجنازة سعد بن أبي وقاص في المسجد فتصلي عليه، فأنكر الناس ذلك عليها، فقالت ما أسرع ما نسي الناس ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن البيضاء إلا في المسجد. 1958 - عن عائشة رضي الله عنها أنها لما توفي سعد بن أبي وقاص أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يمروا بجنازته في المسجد فيصلين عليه، ففعلوا، فوقف به على حجرهن يصلين عليه أخرج به من باب الجنائز الذي كان إلى المقاعد. فبلغهن أن الناس عابوا ذلك. وقالوا ما كانت الجنائز يدخل بها المسجد. فبلغ ذلك عائشة، فقالت ما أسرع الناس إلى أن يعيبوا ما لا علم لهم به، عابوا علينا أن يمر بجنازة في المسجد، وما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء إلا في جوف المسجد.

1959 - عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن عائشة لما توفي سعد بن أبي وقاص قالت: ادخلوا به المسجد حتى أصلي عليه. فأنكر ذلك عليها. فقالت: والله لقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابني بيضاء في المسجد سهيل وأخيه (قال مسلم) سهيل بن دعد وهو ابن البيضاء أمه بيضاء. 1960 - عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم (كلما كان ليلتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم) يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول "السلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون غداً مؤجلون. وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد" (ولم يقم قتيبة قوله "وأتاكم"). 1961 - عن عبد الله بن كثير بن المطلب أنه سمع محمد بن قيس يقول سمعت عائشة تحدث فقالت ألا أحدثكم عن النبي صلى الله عليه وسلم وعني؟ قلنا بلى. وعن محمد بن قيس بن مخرمة بن المطلب أنه قال يوماً ألا أحدثكم عني وعن أمي. قال فظننا أنه يريد أمه التي ولدته. قال: قالت عائشة ألا أحدثكم عني وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلنا بلى. قال: قالت: لما كانت ليلتي التي كان النبي صلى الله عليه وسلم فيها عندي، انقلب فوضع رداءه، وخلع نعليه فوضعهما عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه، فاضطجع. فلم يلبث إلا ريثما ظن أن قد رقدت، فأخذ رداءه رويداً، وانتعل رويداً، وفتح الباب فخرج، ثم أجافه رويداً، فجعلت درعي في رأسي واختمرت، وتقنعت إزاري. ثم انطلقت على إثره. حتى جاء البقيع. فقام فأطال القيام، ثم رفع يديه ثلاث مرات. ثم انحرف فانحرفت. فأسرع فأسرعت. فهرول فهرولت. فأحضر فأحضرت. فسبقته فدخلت. فليس إلا أن اضطجعت. فدخل، فقال "ما لك يا عائش؟ حشيا رابية" قالت: قلت لا شيء. قال "لتخبريني أو ليخبرني اللطيف الخبير" قالت: قلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي فأخبرته. قال "فأنت

السواد الذي رأيت أمامي" قلت: نعم. فلهدني في صدري لهدة أوجعتني. ثم قال "أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله" قالت: مهما يكتم الناس يعلمه الله. نعم. قال "فإن جبريل أتاني حين رأيت. فناداني. فأخفاه منك، فأجبته فأخفيته منك. ولم يكن يدخل عليك وقد وضعت ثيابك. وظننت أن قد رقدت، فكرهت أن أوقظك، وخشيت أن تستوحشي. فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم" قالت: قلت كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال "قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون". 1962 - عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر، فكان قائلهم يقول (في رواية أبي بكر): السلام على أهل الديار (وفي رواية زهير) السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله للاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية. 1963 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي. واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي". 1964 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال: "استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي. واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي. فزوروا القبور فإنها تذكر الموت". 1965 - عن ابن بريدة رضي الله عنه عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهيتكم عن زيارة

القبور فزوروها. ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم. ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء فاشربوا في الأسقية كلها ولا تشربوا مسكراً" قال ابن نمير في روايته عن عبد الله بن بريدة عن أبيه. 1966 - عن جابر بن سمرة قال أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه. -[المعنى العام]- من الأرض نشأنا، وإلى باطن الأرض نعود، ومنها نبعث على خير إن شاء الله، وصدق جل شأنه حيث يقول: {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} [طه: 55]. والمتدبر في مصير الكائنات الحية التي تدب على الأرض يجدها تموت وتبقى على سطح الأرض لا تواري غالباً، حتى تفنى وتتحلل وتذروها الرياح أو يأكل بعضها بعضاً، إلا الإنسان فقد كرمه ربه في حياته {ثم أماته فأقبره} [عبس: 21] يحكي القرآن الكريم قصة الدفين الأول حين قتل قابيل هابيل ثم حمله على كتفه طويلاً، ماذا يفعل في جثته؟ أيتركها للطير والسباع وهو أخوه؟ أم يظل يحملها وقد أوشكت على التغير؟ {فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي} [المائدة: 31]؟ فحفر حفرة لأخيه فواراه التراب، وهكذا كرم الله بني آدم بعد موتهم بدفنهم في قبور. وقطعت الإنسانية أشواطاً بعيدة في بناء قبورها حتى رأينا أهرامات الفراعنة وفنها وخيالها، وجاء الإسلام بمواصفات للقبور لا مبالغة في تحصينها ولا إفراط ولا إسراف في تزيينها، فلا نفع للميت من مباهجها، ولا مبالغة في إهمالها، ولا تفريط في إعدادها وصيانتها، فتكريم الميت وحمايته أهم أهدافها، فلا تجصص القبور ولا يبنى عليها، ولا تقدس فيصلى إليها، وتحترم فلا يجلس عليها، ولا تداس بالنعال، بل ولا يستند إليها، وأن تعمق الحفرة حتى لا تنبش فيعرض الميت للسباع، وتغطى بكثير من التراب حتى لا تظهر ولا تنتشر الريح بين الأحياء. فكانت القبور في الإسلام ثلاثة أشكال: حجرة صغيرة تحت الأرض مبنية ومسقوفة، يدفن فيها الميت فوق ترابها ثم يغلق عليه بابها. الشكل الثاني: يشق في وسط تلك الحجرة شق على قدر الميت طولاً وعرضاً ثم يوضع الميت، ثم ينصب عليه طوب غير محروق، أو حجارة بحيث يكون بينها وبين الجسد فاصل، ثم يهال فوق الحجارة التراب بقدر ما خرج من الحفرة.

الشكل الثالث كالثاني لكن الشق يكون في جانب، لا في الوسط، في جانب مائل نحو الحائط بل تحت الحائط وهو ما يعرف باللحد. بهذه الصورة البسيطة، وفي هذه الديار المتواضعة يرقد الجسد الذي عاش دنياه على الحرير، والجسد الذي افترش في دنياه التراب والغبراء، والتحف السماء، يرقد الجسد الذي ملك في دنياه القصور، والجسد الذي سكن الخربات والطرقات والخيام ومهدمات الدور. كل ما سيأخذه الإنسان من سطح الأرض المتسع نصف متر في مترين، بل قد يشاركه في هذا الحيز آخرون على مر الزمان. فهل من مدكر؟ إن لم نتعظ بالقول فها هي قبور الآباء والأجداد، شرع الله زيارتها، والاتعاظ بمن فيها، لقد وجدوا ما وعدهم ربهم حقاً، ولم يبق معهم سوى عملهم، ونحن على الطريق سائرون، وإلى ما انتهوا إليه منتهون، فقط نحن مؤجلون، لكننا لا محالة لاحقون. نزورهم إذا تذكرناهم، ونزورهم إذا ودعنا إليهم من لحقهم، فماذا نقول في زيارتنا لهم؟ راجين أن يقول لنا مثله من بعدنا إذا صرنا معهم؟ السلام عليكم أهل الديار من المسلمين والمؤمنين نحن إلى غد مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. نسأل الله لنا ولكم العافية. اللهم إنهم فارقوا من كانوا يحبون، وخرجوا من الدنيا وسعتها إلى ضيق القبر وعذابه. اللهم إنهم نزلوا بك وأنت خير منزول به، إن عاقبتهم فبذنبهم، وإن عفوت عنهم فأنت أهل العفو، وأنت غني عن عذابهم، وهم فقراء إلى رحمتك، اللهم من كان محسناً منهم فاشكر حسنته وزد في إحسانه، ومن كان مسيئاً فاغفر له وتجاوز عن سيئاته. اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم. واسبغ علينا وعليهم رحمتك يا أرحم الراحمين. -[المباحث العربية]- (الحدوا لي لحداً، وانصبوا على اللبن نصباً) أصل الإلحاد: الميل والعدول عن الشيء، واللحد هنا بفتح اللام وضمها: هو الشق في الأرض على قدر الميت طولاً وعرضاً من غير تضييق، وبعمق يسمح بنصب لبنات عليه تغطيه على هيئة القبو، أو لبنات طوال تغطي عرضه بميل من أحد جانبيه إلى الآخر، كما يسمح العمق بعد ذلك بتغطية اللبنات بكمية من التراب تمنع خروج الريح أو الهوام وسمى هذا الشق لحداً لأنه يعمل في جانب القبر مائلاً عن وسطه. وفعل "الحدوا" هنا فعل أمر، مبدوء بهمزة وصل مع فتح الحاء، أو همزة قطع مع كسر الحاء. (فأمر .... بقبره فسوى) بضم السين وكسر الواو المشددة، أي جعل مستوياً مع الأرض.

(أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته) أي أزلته من سطح الأرض، أو أزلت معالمه وجعلته حجراً كأي حجر. (ولا قبراً مشرفاً) أي مرتفعاً عن الأرض. (نهى أن يجصص القبر) أي يدهن ويطلى بالجص، وفي الرواية السادسة "نهى عن تقصيص القبور" بالقاف وصادين، والتقصيص هو التجصيص، والقصة بفتح القاف وتشديد الصاد هي الجص. (سهيل بن بيضاء) في الرواية التاسعة عشرة "ابني بيضاء سهيل وأخيه" قال العلماء: بنو بيضاء ثلاثة إخوة، سهيل وسهل وصفوان، وأمهم البيضاء اسمها دعد، والبيضاء وصف، وأبوهم وهب بن ربيعة القرشي الفهري، كان سهيل قديم الإسلام، هاجر إلى الحبشة، ثم عاد إلى مكة، ثم هاجر إلى المدينة وشهد بدراً وغيرها، توفي سنة تسع من الهجرة رضي الله عنه. ذكره النووي. وأما أخوه الذي صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد استشهد ببدر. (قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما كان ليلتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج آخر الليل إلى البقيع) هكذا هو في الأصل، ولم أجد تعليقاً عليه من الشارحين، وهو يفيد تكرار خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البقيع في كل ليلة يكون فيها عند عائشة، وهو غير مراد قطعاً، إذ القصة عن واقعة وقعت، كما تحكي الرواية الثالثة عشرة. و"ليلتها" بالرفع فاعل "كان" التامة. (السلام عليكم دار قوم مؤمنين) "دار" منصوب على النداء بتقدير مضاف، أي يا أهل دار قوم مؤمنين، ويجوز أن يكون منصوباً على الاختصاص، ويجوز جره على البدل من الضمير في "عليكم". والدار في اللغة يطلق على الربع، سواء أكان مسكوناً أم خراباً غير مأهول. (وأتاكم ما توعدون) التعبير بالمضارع لاستحضار الصورة، والأصل وقد أتاكم ما وعدكم ربكم من جزاء أعمالكم ومن رحمته وفضله. (غداً مؤجلون) أي مصيرنا كمصيركم، ولكننا مؤجلون إلى الغد. (وإنا -إن شاء الله- بكم لاحقون) اللحوق واقع لا شك فيه، فلا يليق أن يعلق على المشيئة، إذ مشيئته حاصلة لن تتخلف، لهذا جعله بعضهم لخصوص هذا المكان، كأنه قال: وإنا لاحقون بكم في هذه القبور بهذه الأمكنة إن شاء الله، وإن شاء غيرها فالأمر له. وقيل: إن التعليق غير مراد، والمراد بذكر هذه الجملة التبرك. (اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد) كأنه قال: اللهم اغفر لأهل هذه القبور والبقيع والبقعة:

المكان، و"الغرقد" اسم شجر كثير الشوك ويسمى بالعوسج، والمراد ببقيع الغرقد هنا مدفن أهل المدينة، سمي باسم الشجر الذي كان فيه قبل إزالته واتخاذه مدفناً. (انقلب) أي رجع من الخارج. (فلم يلبث إلا ريثما) بفتح الراء والثاء، أي مقدار ما ظن ... إلخ. (ظن أن قد رقدت) "أن" مخففة من الثقيلة. واسمها ضمير الشأن محذوف، وجملة "قد رقدت" خبرها، أي ظن أن الحال والشأن قد نمت واستغرقت في النوم وأصبحت في غيبة عن حركاته. (فأخذ رداءه رويداً) أي قليلاً قليلاً، أي بلطف وهدوء لئلا يزعجها ويوقظها من نومها. فتحس وحشة حين يتركها منفردة في ظلمة الليل ووسطه. (وفتح الباب فخرج ثم أجافه رويداً) أي أغلقه. (وتقنعت إزاري) هو هكذا في الأصول، والتقدير: تقنعت بإزاري أي تغطيت به وجعلته قناعاً ساتراً. (ثم انحرف) عن البقيع نحو المسكن عائداً. (فأحضر فأحضرت) بفتح الهمزة والضاد بينهما حاء ساكنة. والإحضار: العدو، أي الجري فوق الهرولة. (مالك يا عائش؟ ) حذف التاء من "عائشة" للترخيم، فيجوز في الشين الفتح على الانتظار والضم على عدم الانتظار، "ومالك"؟ مبتدأ وخبر، بمعنى أي شيء حصل لك حالة كونك؟ . (حشيا رابية) بفتح الحاء وسكون الشين بعدها ياء فألف مقصورة، كان حقها أن تكتب ياء كسلمى لكنها وقعت بعد ياء، وهو النهيج، وتتابع الشهيق والزفير بسرعة وصوت نتيجة للجري، يقال: امرأة حشيا، وحشية، ورجل حشيان. "ورابية" أي مرتفعة البطن، والمقصود ارتفاع وانخفاض بسبب النهيج. (لا شيء) أي لا شيء يورثني ما تقول. وفي بعض النسخ "لا بي شيء" أي ليس بي شيء، وفي بعضها "لأي شيء"؟ باللام الداخلة على "أي" الاستفهامية، أي لأي شيء تقول هذا؟ قال القاضي عياض: والأول أصوب. (فأنت السواد الذي رأيت أمامي؟ ) يطلق السواد على الإنسان، فيقال: السواد الأعظم، أي الناس الكثيرون. والكلام هنا على الاستفهام. (فلهدنى) بفتح الهاء والدال، وروى "فلهزنى" بالزاي بدل الدال، وهما متقاربان، يقال: لهده

ولهذه بالدال والذال مع تخفيف الهاء وتشديدها، أي دفعه. ويقال: لهزه إذا ضربه بجمع كفه في صدره، ويقرب منهما لكزه ووكزه. (أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله؟ ) الاستفهام إنكاري توبيخي أي ما كان ينبغي أن تظني أن رسول الله يظلمك، والحيف: الميل عن العدل وعن الطريق المستقيم. (مهما يكتم الناس يعلمه الله. نعم) صدقت نفسها وأكدت قولها: مهما يكتم الناس يعلمه الله، كأنها بعد ما قالته قالت: هذا حق. (فإن جبريل أتاني حين رأيت) أي حين رأيت انقلابي ووضعي ردائي وخلعي نعلي ووضعي لهما عند رجلي وبسطي طرف إزاري على فراشي واضطجاعي. (فناداني) أي من خارج الدار. (فأخفاه منك) أي فأخفى نداءه منك. (فأجبته فأخفيته منك) أي فأخفيت جوابي وأسررت به. (قتل نفسه بمشاقص) وهي سهام عراض، واحدها مشقص بكسر الميم وفتح القاف. -[فقه الحديث]- يمكن حصر شوارد الباب في أربع نقاط: القبر وصفته المشروعة، ودفن الميت وكيفيته، وزيارة القبور، وما يؤخذ من الأحاديث. أما القبر: فهو حجرة صغيرة تحت الأرض، تحفر، ثم تبنى، ثم تسقف بسقف معقود هرمي أو بسقف عادي. قال النووي في المجموع: ويستحب أن يعمق القبر لحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم يوم أحد: "احفروا وأوسعوا وأعمقوا". قال الترمذي: حديث حسن صحيح. قال: ويستحب أن يكون عمقه قامة وبسطة، بحيث يقف فيه رجل معتدل القامة ويرفع يديه إلى فوق رأسه ما أمكنه. ثم قال: قال الأصحاب: لاستحباب تعميقه ثلاث فوائد: أن لا ينبشه سبع، ولا تظهر رائحته، وأن يتعذر -أو يتعسر- نبشه على من يريد سرقة كفنه. وأقل ما يجزئ حفرة تكتم رائحة الميت ويعسر على السباع غالباً نبشه والوصول إلى الميت. اهـ ودفن الميت ثلاثة أنواع: القبر وهذا وصفه، فيوضع الميت على أرضه، واللحد وقد سبق وصفه في المباحث العربية، وأنه شق بجانب القبر تحت جداره والشق وهو حفرة كالنهر، يبني جانباها على قدر الميت، ويسقف عليه باللبن أو بأي سقف، ويرفع السقف قليلاً بحيث لا يمس الميت، قال الشافعي في الأم: ورأيتهم عندنا -يعني في مكة شرفها الله- يضعون على السقف الإذخر ثم يضعون عليه التراب. اهـ.

وظاهر الرواية الأولى أن الدفن في اللحد أفضل، حيث أوصى به سعد بن أبي وقاص، وحيث إنه الذي صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم. قال النووي في المجموع: أجمع العلماء على أن الدفن في اللحد وفي الشق جائزان -أي وكذا القبر- لكن إن كانت الأرض صلبة لا ينهار ترابها فاللحد أفضل للحديث المشار إليه -وإن كانت رخوة تنهار فالشق أفضل. اهـ والقبر كالشق. وقد ذكر النووي في المجموع مسائل تتعلق بالقبر منها: 1 - أنه يستحب أن لا يزاد القبر على التراب الذي أخرج منه -على معنى أنه يوضع فوق القبر ترابه الذي أخرج منه بالحفر، فيرتفع عن سطح الأرض بمقداره. قال الشافعي والأصحاب، إنما قلنا: يستحب أن لا يزاد لئلا يرتفع القبر ارتفاعاً كثيراً. قال الشافعي: فإن زاد فلا بأس. قال الأصحاب: معناه أنه ليس بمكروه، ولكن المستحب تركه. قال النووي: فإن قيل: هذا مخالف لحديث علي رضي الله عنه قال: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أدع قبراً مشرفاً إلا سويته" -روايتنا الرابعة: فالجواب ما أجاب به أصحابنا، قالوا: لم يرد التسوية بالأرض، وإنما أراد تسطيحه، جمعا بين الأحاديث. اهـ. ولا شك أن هذا خلاف ظاهر الحديث فالتسوية جعل الشيء مساوياً لشيء، وتسوية المشرف جعله غير مشرف على ما حوله، فظاهر الحديث تسوية القبور بالأرض. أما أن الأمر للوجوب أو للندب أو للأولى فهذا أمر آخر. والله أعلم. 2 - ومنها أن نص الشافعي على أن تستطيح القبر أفضل، وهو مذهب مالك وداود. وقال أبو حنيفة وأحمد: التسنيم أفضل، ويستدل لهم بما ثبت في صحيح البخاري عن سفيان التمار قال: "رأيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنماً". ورد بأن القبر غير عما كان، فكان أول الأمر مسطحاً، ثم لما سقط الجدار في زمن الوليد بن عبد الملك أصلح فجعل مسنماً. 3 - ومنها أنه يستحب أن يوضع عند رأسه علامة من حجر أو خشبة أو غيرهما، قاله الشافعي وسائر أصحابه. وقيل: علامتان. أحدهما عند رأسه، والأخرى عند رجليه. 4 - ومنها أنه يكره أن يجصص القبر -وروايتنا الخامسة والسادسة صريحتان في ذلك، ويكره أن يكتب عليه اسم صاحبه أو غير ذلك، وأن يبنى عليه. قال النووي: وهذا لا خلاف فيه عندنا، وبه قال مالك وأحمد وجماهير العلماء. وقال أبو حنيفة: لا يكره. والله أعلم. النقطة الثانية كيفية دفن الميت، وقد ذكر النووي في ذلك مسائل: إحداها: أن مذهب الشافعي أنه يسن أن يوضع رأس الميت من الطرف الذي سيكون فيه رجله ثم يسل من جهة رأسه سلاً رفيقاً، وهو مذهب أحمد: وقال أبو حنيفة: يدخل بعرضه من ناحية القبلة. وقال مالك: كلاهما سواء. ثانيتها: يستحب لمن يتولى الدفن أن يقول عند إدخال الميت القبر: بسم الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثالثتها: قال النووي: يجب وضع الميت في القبر مستقبل القبلة. وقيل: استقبال القبلة به مستحب ليس بواجب. قال: والصحيح الأول. واتفقوا على أنه يستحب أن يضطجع على جنبه الأيمن. فلو اضطجع على الأيسر مستقبل القبلة جاز، وكان خلاف الأفضل. رابعتها: يستحب أن يوسد رأسه لبنة أو حجراً ونحوهما، ويفضي بخده الأيمن إلى اللبنة ونحوها أو إلى التراب، ومعناه أن ينحى الكفن عن خده ويوضع على التراب، ويستحب أن يجعل خلفه شيئاً من لبن أو غيره يسنده ويمنعه من أن يقع على قفاه، ويكره أن يجعل تحته مخدة أو ثوب، أو يجعل في تابوت إلا إذا كانت الأرض ندية فلا يكره. وقد شذ من قال: لا بأس أن يبسط تحت جبينه شيء مستدلاً بروايتنا الثانية وفيها يقول ابن عباس: "جعل في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قطيفة حمراء". قال النووي: وقد أجابوا عن ذلك بأنه لم يكن ذلك الفعل صادراً من جملة الصحابة ولا برضاهم ولا بعلمهم، وإنما فعله شقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "كرهت أن يلبسها أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم". خامستها: يستحب لكل من على القبر أن يمكث بعد الدفن زمناً يدعو للميت ويستغفر له. فقد روى مسلم وصية عمرو بن العاص حين حضرته الوفاة -وقد سبق في كتاب الإيمان- قال: "فإذا دفنتموني فسنوا علي التراب سناً، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم، وأعلم ماذا أراجع رسل ربي". وقال بعض الشافعية: يستحب أن يقرأ عنده شيء من القرآن، واستحبوا قراءة أول سورة البقرة وآخرها. وقد روى أبو داود والبيهقي بإسناد جيد عن عثمان قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الرجل يقف عليه، وقال: "استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل". النقطة الثالثة زيارة القبور: والروايات الثانية عشرة وما بعدها تدل على استحبابها، والدعاء لأهلها والترحم عليهم، قال النووي: اتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على أنه يستحب للرجال زيارة القبور، وهو قول العلماء ودليله مع الإجماع الأحاديث الصحيحة المشهورة، وكانت زيارتها منهياً عنها أولاً، ثم نسخ، ثبت في صحيح مسلم عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها" -روايتنا السابعة عشرة- زاد أحمد: "ولا تقولوا هجراً". وكان النهي أولاً لقرب عهدهم من الجاهلية، فربما كانوا يتكلمون بكلام الجاهلية الباطل فلما استقرت قواعد الإسلام وتمهدت أحكامه واشتهرت معالمه أبيح لهم الزيارة. ثم قال: قال أصحابنا: ويستحب للزائر أن يدنو من القبر المزور بقدر ما كان يدنو من صاحبه لو كان حياً وزاره. وأما النساء فالذي قطع به الجمهور أنها مكروهة لهن كراهة تنزيه. وقال بعض المحققين: إن كانت زيارتهن لتجديد الحزن والتعديد والبكاء والنوح على ما جرت من عادتهن حرم. قال: وعليه يحمل حديث: "لعن الله زوارات القبور" رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح. وإن كانت

زيارتهن للاعتبار من غير تعديد ولا نياحة كره، إلا أن تكون عجوزاً لا تشتهى فلا يكره كحضور الجماعة في المساجد. اهـ واستحسنه الإمام النووي، ثم قال: ومع هذا فالاحتياط للعجوز ترك الزيارة لظاهر الحديث. اهـ. والذي تميل إليه النفس أن زيارة النساء للقبور بدافع الاعتبار والدعاء والاستغفار لا تكره مطلقاً لذاتها، أما إذا لابسها شيء من الممنوعات شرعاً منعت بالدرجة التي بها الملابس كراهة أو تحريماً، فروايتنا الثالثة عشرة وفيها عائشة تسأل عما تقول عند زيارتها القبور؟ وفيها تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم ما تقول: "قولي: السلام عليكم أهل الديار ... إلخ". دليل واضح على المشروعية، وأقلها الجواز وعدم الكراهة. ثم إن المرأة التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم تبكي ولدها عند القبر لم ينهها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الزيارة، وإنما أمرها بالصبر. مما يؤكد ما ذهبنا إليه من عدم الكراهة، والله أعلم. قال النووي: قال أصحابنا: ويستحب للزائر أن يسلم على أهل المقابر ويدعو لمن يزوره ولجميع أهل المقبرة، والأفضل أن يكون السلام والدعاء بما ثبت في الحديث، ويستحب أن يقرأ من القرآن ما تيسر، ويدعو لهم عقبها. ونص عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب، ولا يستلم القبر بيده، ولا يقبله ولا يمسح القبر، ولا يمسه، فإن ذلك عادة النصارى. وقد صح النهي عن تعظيم القبور، وصح في ذلك الوعيد الشديد. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - يؤخذ من الرواية الأولى تفضيل اللحد على القبر، وقد مضى الكلام عليه. 2 - وأخذ منها البغوي من الشافعية جواز فرش مثل القطيفة في القبر. قال النووي: وهذا شاذ ونص الشافعي وجميع الأصحاب وغيرهم من العلماء على كراهته، وقد مضى الحديث في ذلك. 3 - ويؤخذ من الرواية الرابعة وجوب تحطيم التماثيل وطمسها على المقابر أو بعيدة عنها. 4 - ويؤخذ من الرواية الخامسة والسابعة منع الجلوس على القبر. قال النووي: وكذا الاستناد إليه والاتكاء عليه، كل ذلك مكروه عندنا وعند أبي حنيفة وأحمد. وقال مالك: لا يكره. 5 - ومن الرواية الخامسة النهي عن البناء على القبور. قال النووي: البناء على القبر إن كان في ملك الباني فمكروه، وإن كان في مقبرة مسبلة فحرام. قال الشافعي في الأم: ورأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما يبنى. 6 - ومن الرواية الثامنة والتاسعة النهي عن الصلاة إلى القبر، أي جعله في قبلة المصلى. 7 - ومن الرواية الثالثة عشرة طبيعة الغيرة في النساء، وأن ما يجري بدافعها في حدود مغتفر.

8 - ومن لهده صلى الله عليه وسلم لعائشة جواز مثل ذلك في مثل هذه الظروف. 9 - وأن جبريل عليه السلام لا يدخل على مكشوف العورة. 10 - وجواز إخفاء الزوج عن زوجته ما يثير قلقها. 11 - وحرص الزوج على راحة زوجته وعدم إزعاجها في نومها. 12 - ومن الرواية الخامسة عشرة والسادسة عشرة جواز زيارة المشركين في الحياة، وزيارة قبورهم بعد الوفاة. لأنه إذا جازت زيارتهم بعد الوفاة ففي الحياة أولى، وقد قال الله تعالى: {وصاحبهما في الدنيا معروفاً} [لقمان: 15]. 13 - والنهي عن الاستغفار للكفار، قال القاضي عياض: سبب زيارته صلى الله عليه وسلم قبرها أنه قصد قوة الموعظة والذكرى بمشاهدة قبرها، ويؤيده قوله: "فزوروا القبور فإنها تذكركم الموت". 14 - ومن الرواية السابعة عشرة نسخ النهي الوارد في حديث وفد عبد القيس الذي سبق في كتاب الإيمان من النهي عن النبذ في الدباء والحنتم والنقير والمقير ونحوها من الأسقية. 15 - وفي الرواية الثامنة عشرة دليل لمن يقول: لا يصلى على قاتل نفسه لعصيانه. قال النووي: ومذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وجماهير العلماء أنه يصلى عليه، وأجابوا عن الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل عليه بنفسه زجراً للناس عن مثل فعله، وصلت عليه الصحابة، وهذا كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في أول الأمر على من عليه دين زجراً لهم عن التساهل في الاستدانة، وأمر أصحابه بالصلاة عليه: "صلوا على صاحبكم". قال القاضي: مذهب العلماء كافة، الصلاة على كل مسلم، ومحدود، وقاتل نفسه، وولد الزنا. وعن مالك وغيره: أن الإمام يجتنب الصلاة على مقتول في حد، وأن أهل الفضل لا يصلون على الفساق زجراً لهم. وقال أبو حنيفة: لا يصلى على محارب، ولا على قتيل الفئة الباغية. ومنع بعض السلف الصلاة على الطفل الصغير. وأما الشهيد المقتول في حرب الكفار فقال مالك والشافعي والجمهور: لا يغسل ولا يصلى عليه. وقال أبو حنيفة: لا يغسل ويصلى عليه. والله أعلم

كتاب الزكاة

كتاب الزكاة

(288) باب النصاب ومقدار الزكاة

(288) باب النصاب ومقدار الزكاة 1967 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة. ولا فيما دون خمس ذود صدقة. ولا فيما دون خمس أواق صدقة". ومثله. 1968 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وأشار النبي صلى الله عليه وسلم بكفه بخمس أصابعه. ثم ذكر بمثل حديث ابن عيينة. 1969 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة. وليس فيما دون خمس ذود صدقة. وليس فيما دون خمس أواق صدقة". 1970 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيما دون خمسة أوساق من تمر ولا حب صدقة". 1971 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ليس في حب ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق. ولا فيما دون خمس ذود صدقة. ولا فيما دون خمس أواق صدقة".

1972 - عن إسماعيل بن أمية بهذا الإسناد مثل حديث ابن مهدي ويحيى بن آدم، غير أنه قال (بدل التمر) ثمر. 1973 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة. وليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة". 1974 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال "فيما سقت الأنهار والغيم العشور. وفيما سقي بالسانية نصف العشر". 1975 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة". 1976 - عن أبي هريرة رضي الله عنه (قال عمرو) عن النبي صلى الله عليه وسلم (وقال زهير يبلغ به) "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة". 1977 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ليس في العبد صدقة إلا صدقة الفطر". 1978 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة، فقيل منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما ينقم ابن

جميل إلا أنه كان فقيراً فأغناه الله. وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً، قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله. وأما العباس فهي علي ومثلها معها". ثم قال "يا عمر أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه؟ ". -[المعنى العام]- شاء الله الحكيم الخبير أن يرزق بعض الناس من أيدي الناس، وأن يهب الغنى لقوم ليعطوا قوماً آخرين، ولو شاء لجعلهم أمة واحدة أغنياء، لا يحتاج أحد لأحد، لكن لمصلحة البشر فضل بعضهم على بعض في الرزق، ليثاب الغنى المعطى عن عطائه، ويثاب الفقير على صبره ورضاه بقدره، جعل للفقراء حقاً في مال الأغنياء، وحق معلوم للسائل والمحروم، يؤخذ من الأغنياء فيرد إلى الفقراء، أوحى إلى نبيه مقدار حق الفقير في مال الغني، وهو قليل من كثير وكان من الحكمة أن يجعل نصاباً يعد الغني به غنياً: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" أي ليس على من لم يملك أربعمائة قدح من القمح أو الشعير أو الذرة أو التمر أو الزبيب زكاة. "وليس فيما دون خمس ذود صدقة". أي ليس على من لم يملك خمسة من الإبل زكاة. "وليس فيما دون خمس أواق صدقة". أي ليس على من لم يملك خمس أواق من الفضة زكاة. "وليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة". فلا زكاة على السيد في عبيده وخيله، وهكذا أوضح الشرع الحكيم نصاب الزكاة وما به يعتبر الغني غنياً، وما يجب عليه من حق للفقير. أما القدر المشروع، والحق المعلوم فهو العشر من الزروع والثمار التي تسقى بماء المطر دون كفاح أو تعب للزراع، ونصف العشر من الزروع والثمار التي تسقى بالآلات [الساقية أو الطنبور أو الدلو أو نحوها]. ومع وضوح الحق الشرعي للفقير في مال الغني أعان الشارع الحاكم على النفوس الأمارة بالسوء، طلب الله من رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ من أموال الأغنياء حقوق الفقراء: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} [التوبة: 103]. إن النفس البشرية شحيحة بما تملك، والشيطان يعدها الفقر، ويأمرها بالبخل والشح، وقليل منها الذي يجود من تلقاء نفسه. ومن هنا كان صلى الله عليه وسلم يطلب حقوق الفقراء، ويبعث السعاة والعمال إلى القبائل في بلادهم ومضاربهم يجبون الزكاة، وكان يختار لهذه المهمة كبار المسلمين، لبعد الشبهة عنهم من جهة، ولقوة إيمانهم وقوة شخصيتهم من جهة أخرى، فيستحي منهم من يستحي، ويخشاهم من يخشى. وكان من هؤلاء السعاة العاملين على الزكاة عمر بن الخطاب، خرج بأمر النبي صلى الله عليه وسلم إلى القوم، فمر

بابن جميل وقد أغناه الله بعد فقر، آتاه من الإبل والبقر والغنم ما شاء، طالبه عمر بحق الفقراء، فبخل وتولى وأعرض وامتنع عن الدفع، ونصحه عمر فلم يسمع لنصح. تحول عمر إلى خالد بن الوليد الفارس المشهور سيف الله المسلول، فوجد عنده خيلاً كثيرة، وأسلحة وفيرة، فطالبه بزكاتها؛ فقال خالد: لقد حبستها للجهاد. فأصر عمر على أخذ زكاتها، فلم يستجب خالد. فانصرف إلى العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم وعنده مال كثير، طلب منه الزكاة فاعتذر له. فذهب عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو ثلاثتهم، فغضب صلى الله عليه وسلم على ابن جميل وقال: كيف ينسى أنه كان فقيراً فأغناه الله؟ واعتذر عن خالد والعباس. أما خالد فلا زكاة على ماله الذي حبسه في سبيل الله. وأما العباس فهو عمي والعم كالوالد وأنا أتحمل وألتزم عنه ما لزمه ومثله معه، لكنه قد أسلفنا زكاة ماله عامين، هذا العام والعام القابل. وعلم الصحابة والمسلمون أن الزكاة لا عذر لأحد في عدم أدائها ولو كان عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. -[المباحث العربية]- (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) أي زكاة، أي ليس في ذلك قدر محدد مفروض شرعاً. والصدقة في الشرع وإن كانت تطلق على الزكاة الواجبة وعلى العطاء المتطوع به، بل شاعت عرفاً في التطوع، لكنها هنا مراد بها الزكاة المفروضة، والشرع يستعملها كثيراً كذلك، قال تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} [التوبة: 103]، وقال: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين ... } [التوبة: 60]. "والأوسق" جمع وسق بفتح الواو وكسرها، لغتان، والفتح أشهر، ويجمع كذلك على "أوساق" كما هو لفظ الرواية الثالثة، والوسق: مكيال للحبوب كان يستخدم في العصر الأول، ويقدر بستين صاعاً، والصاع: مكيال كان معروفاً ومستعملاً أيضاً، ويقدر بأربعة أمداد. والمد كذلك مكيال، ويقدر بملء كفين لإنسان معتدل الخلقة، وقد اختلف مسمى هذه المكاييل في العراق عنها في المدينة، فصاع المدينة خمسة أرطال وثلث الرطل بالبغدادي، وصاع العراق ثمانية أرطال بالبغدادي، وسواء كان المكيالان مختلفين حجماً على الحقيقة، أم متساويين حجماً، والخلاف لفظي سببه اختلاف وزن الأرطال، أو قدر قوم المكيل بموزون أثقل، والآخر بموزون أخف. سواء أكان هذا أم ذاك فالذي يعنينا تقدير النصاب بما هو معلوم لنا في العصر الحديث، وقد قدره عالم موثوق به بأربعمائة قدح، وهي أربعة أرادب وويبة بالكيل المصري، فالكيلة المصرية على هذا ستة آصع، وهي تساوي أربعة وعشرين مداً. والنصاب بالوزن أربعون وأربعمائة وألف رطل من القمح، ويوازي ثلاثة وخمسين وستمائة كيلو جراماً تقريباً، فالصاع بالوزن (2.6) كيلو جراماً. وهذه المقادير تقريبية إذ بعض الحبوب أثقل من بعض، وبعض حفنات الرجال تغاير حفنات البعض.

(ولا فيما دون خمس ذود صدقة) الذود بفتح الذال وسكون الواو من الثلاثة إلى العشرة عند الأكثر، وقيل: إلى التسعة وهي كالنفر والرهط، لا واحد لها من لفظها، ولفظ "خمس" هنا بدون تاء. قال سيبويه: تقول ثلاث ذود، لأن الذود مؤنث. وقال النووي: رواه بعضهم "خمسة ذود" وكلاهما لرواة كتاب مسلم، والأول أشهر، وكلاهما صحيح في اللغة لانطلاقه على المذكر والمؤنث. اهـ والمنقول أنه مؤنث. فإثبات التاء في خمسة على المعنى والتأويل، وحكى في "خمس ذود" تنوين "خمس" على جعل "ذود" بدلاً منه، والمعروف إضافة "ذود" إلى "خمس" والإضافة بيانية، أي خمس هي ذود، كما تقول ثلاثة نفر، أي ثلاثة هم نفر. وتمييز العدد هنا محذوف، والأصل خمس من الإبل، أو ذود من الإبل كما صرح به في الرواية الخامسة. (ولا فيما دون خمس أواق صدقة) تمييز العدد محذوف، صرح به في الرواية الخامسة "من الورق". قال النووي: هكذا هو في الرواية الأولى "أواقي" بالياء، وفي باقي الروايات "أواق" بحذف الياء، وكلاهما صحيح. قال أهل اللغة: الأوقية بالهمزة وتشديد الياء جمعها أواقي بتشديد الياء، وأواقي بتخفيف الياء، وأواق بحذفها: قال ابن السكيت في الإصلاح: كل ما كان من هذا النوع، واحده مشدداً جاز في جمعه التشديد والتخفيف، ومنه السرية والسراري. ثم قال النووي: وأجمع أهل الحديث والفقه وأئمة أهل اللغة على أن الأوقية الشرعية أربعون درهماً، وهي أوقية الحجاز. قال القاضي عياض: ولا يصح أن تكون الأوقية والدراهم مجهولة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوجب الزكاة في أعداد منها، ويقع بها البيوعات والأنكحة، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة. قال: وهذا يبين أن قول من زعم أن الدراهم لم تكن معلومة إلى زمان عبد الملك بن مروان، وأنه جمعها برأي العلماء، وجعل كل عشرة وزن سبعة مثاقيل، ووزن الدرهم ستة دوانق، قول باطل، وإنما معنى ما نقل من ذلك أنه لم يكن منها شيء من ضرب الإسلام وعلى صفة لا تختلف، بل كانت مجموعات من ضرب فارس والروم، وكانت صغاراً وكباراً، وقطع فضة غير مضروبة ولا منقوشة، ويمنية ومغربية، فرأوا صرفها إلى ضرب الإسلام ونقشه، وتصييرها وزناً واحداً لا يختلف، وأعياناً، ليستغنى فيها عن الموازين، فجمعوا أكبرها وأصغرها وضربوه على وزنهم. قال القاضي: ولا شك أن الدراهم كانت حينئذ معلومة، وإلا فكيف كانت تعلق بها حقوق الله تعالى في الزكاة وغيرها؟ وحقوق العباد؟ ولهذا كانت الأوقية معلومة. قال النووي: هذا كلام القاضي. وقال أصحابنا: أجمع أهل العصر الأول على التقدير بهذا الوزن المعروف، وهو أن الدرهم ستة دوانق، وكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل، ولم يتغير المثقال في الجاهلية والإسلام. اهـ. هذا، ولتحديد الأوقية ونصاب الفضة والذهب بحوث مستفيضة وآراء متشعبة عرض كثير منها الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه -فقه الزكاة- وانتهى إلى أن الدرهم 2.975 من الجرامات، فنصاب الفضة (595) خمسة وتسعون وخمسمائة من الجرامات المعروفة في زماننا.

وأن المثقال من الذهب وزنه (4.25) أربعة جرامات وربع الجرام فنصاب الذهب (85) خمسة وثمانون جراماً. وأولى الآراء بالقبول أن تقدر العملات الورقية المتداولة بالذهب، فعلى تقدير أن ثمن الجرام من الذهب الخالص (25) خمسة وعشرون جنيهاً مصرياً في هذه الأيام يكون النصاب (2125) خمسة وعشرين ومائة وألفين من الجنيهات المصرية، ويخرج منها ربع العشر. (خمسة أوساق من تمر) قال النووي: وهو صحيح، جمع وسق بكسر الواو، كحمل وأحمال، وقد سبق أن الوسق بفتح الواو وبكسره. اهـ. (خمس أواق من الورق) قال أهل اللغة: يقال: ورق، وورق بكسر الراء وإسكانها، والمراد به هنا الفضة كلها، مضروبها وغيره. واختلف أهل اللغة في أصله، فقيل: يطلق في الأصل على جميع الفضة. وقيل: هو حقيقة المضروب دراهم، ولا يطلق على غير الدراهم إلا مجازاً، وهذا قول كثير من أهل اللغة. ذكره النووي. (وفيما سقى بالسانية نصف العشر) "السانية" الإبل التي يستقى عليها، وفي رواية البخاري "وما سقى بالنضح نصف العشر"، أي ما سقى باستخراج الماء بآلة أو بحيوان، فذكر الإبل كالمثال. (ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة) في إحدى روايتي البخاري "في غلامه" بدل "في عبده" وهما بمعنى الرقيق. (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة) أي بعثه ساعياً قابضاً للصدقات، والتعبير مشعر بأنها صدقة الفرض، لأن صدقة التطوع لا يبعث عليها السعاة. وسيأتي تفصيل لذلك في فقه الحديث. (فقيل) قائل ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما صرح به في بعض روايات البخاري. (منع ابن جميل) المفعول محذوف، أي منع الزكاة، وامتنع عن دفعها. قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمه. (ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيراً فأغناه الله) "ما ينقم" بكسر القاف، أي ما ينكر، أو ما يكره، وكان فقيراً فأغناه الله بما أفاء على رسوله وبما أبيح للمسلمين من الغنائم، وبرفع النفي والاستثناء يصبح المعنى: ينكر ابن جميل أنه كان فقيراً فأغناه الله؟ وإذا كان لا ينكر ذلك فلم يمتنع عن أداء الزكاة؟ . (وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً) بادعائكم أنه منع أداء واجب عليه، والمقصود خالد بن الوليد.

(قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله) "احتبس" أي حبس، و"الأدراع" جمع درع، والأعتاد جمع عتد بفتح العين والتاء، كأزمان جمع زمن وهو ما يتأهب به للحرب من سلاح وخيل وآلات، أي وقف ملابسه الحربية ودوابه في سبيل الله، فلا زكاة عليه فيها، فليس مانعاً لما وجب عليه. (وأما العباس فهي علي) أي لازمة لي ألتزم بإخراجها عنه. (ومثلها معها) أي وألتزم بمثل ما وجب عليه بالإضافة إلى ما وجب. (أما شعرت) أي ما علمت علماً محسوساً يمس البدن ويحسه الإنسان. (أن عم الرجل صنو أبيه) أي مثل أبيه، فابن أخيه مثل ابنه. -[فقه الحديث]- أحاديث الباب تعرضت لزكاة أنواع الزروع والثمار، وزكاة الماشية، وزكاة الفضة، وليس معنى ذلك عدم الزكاة فيما لم تتعرض له، فليس فيها حصر ولا قصر، وقد أجمع العلماء على وجوب الزكاة في بعض ما لم يذكر كالذهب واختلفوا في بعض آخر، كما سيأتي. ومن هنا سنتناول موضوع الزكاة بصفة عامة، محاولين استيفاء دليل كل فريق، وعلى الله قصد السبيل. وقبل الخوض في الخلاف نؤكد ما هو معلوم من أنه لا خلاف في مشروعية صدقة التطوع في أي صنف من الأموال، وأن مراد من قال بعدم وجوب الزكاة في صنف ما أن مالكه لا يأثم بالامتناع من التصدق. فالخلاف في إثم الممتنع من زكاة الأصناف المختلف فيها وعدم إثمة، وليس في مشروعية الصدقة والإثابة عليها. ويمكن تقسيم الأموال المتداولة بين الناس إلى خمسة أقسام: مزروعات ومواشي ونقد وعروض تجارة وركاز: أما المزروعات: فيقسمها العلماء إلى: ثمار وزروع، وهذا التقسيم للضبط، وإلا فالثمار نتاج شجر مزروع، لكنها لما كان النتاج متكرراً مع بقاء أصل الشجرة فرق بينه وبين النتاج الذي يقطع مع شجره. والثمار كثيرة الأنواع منها ثمر النخل وثمر الكرم والتين والتفاح والسفرجل والرمان والخوخ والمشمش والجوز واللوز والموز والبرتقال واليوسفي والليمون والمانجو والكمثرى وغيرها كثير وكثير. والشافعية على أن الزكاة تجب في ثمر النخل والكرم فقط، ولا تجب فيما سوى ذلك من الثمار،

ويستدلون بما رواه أبو داود والترمذي والنسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "في الكرم أنها تخرص كما يخرص النخل، فتؤدى زكاته زبيباً كما تؤدى زكاة النخل تمراً". قالوا: ولأن ثمرة النخل والكرم تعظم منفعتهما، لأنهما من الأقوات والأموال المدخرة المقتاتة وتجب الزكاة في الزروع عند الشافعية في كل ما يقتات به عادة وفي غير الضرورة كالحنطة والشعير والدخن والذرة والأرز والعدس واللوبيا والحمص والباقلا، ولا تجب في الكمون والكراويا والكزبرة والسمسم وبذر القطن وبذر الكتان وبذر الفجل وغير ذلك مما يشبهه، كما لا تجب في الخضراوات والبقول والقثاء والبطيخ ونحوها. قال النووي: وبهذا كله قال مالك وأبو يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة وزفر: يجب العشر في كل ما أخرجته الأرض إلا الحطب والقصب الفارسي والحشيش الذي ينبت بنفسه. قال العبدري: وقال الثوري وابن أبي ليلى: ليس في شيء من الزروع زكاة إلا التمر والزبيب والحنطة والشعير. وقال أحمد: يجب العشر في كل ما يكال ويدخر من الزرع والثمار، فأما ما لا يكال كالقثاء والبصل والخيار والبطيخ والرياحين وجميع البقول فليس فيها زكاة. وقال داود: ما أنبتته الأرض ضربان: موسق، وغير موسق، فما كان موسقاً وجبت الزكاة فيما بلغ منه خمسة أوسق، ولا زكاة فيما دونها، وما كان غير موسق ففي قليله وكثيره الزكاة فتحصل من هذا: 1 - وجوب الزكاة في النخل والعنب والحنطة والشعير عند الجميع. 2 - يضيف الشافعية والمالكية وأبو يوسف ومحمد إلى ما سبق كل ما يقتات به عادة ويدخر من الحبوب كالأرز والذرة والحمص. 3 - يعمم الإمام أحمد الزكاة في كل ما يكال ويدخر من الزروع والثمار. 4 - يستقل أبو حنيفة بالقول بوجوب الزكاة في جميع الثمار، وفي الخضراوات، ويشاركه في ذلك داود الظاهري ولا يوافقه الشافعية والمالكية والحنابلة. وقد حاول بعض العلماء ترجيح مذهب أبي حنيفة باعتباره أنفع للفقير، وهذا الاعتبار مردود، لأن المشرع أعلم بالفقير وأرحم به من كل المخلوقات، فالاعتبار للشرع أولاً، ولا اعتبار لشيء ورد الشرع بخلافه. والغريب أنه قال عن حديث: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة". إنه ضعيف مع أنه في الصحيحين متفق عليه. إن مذهب أبي حنيفة يعوزه الدليل، بل هو مخالف للدليل الشرعي، فقد روى البيهقي حديث معاذ عن الخضر وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عفا عنها. قال النووي: ورواه الترمذي مختصراً: أن معاذاً كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن الخضراوات وهي البقول، فقال: "ليس فيها شيء". قال الترمذي: ليس إسناده بصحيح. قال: وليس يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا شيء. قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل

العلم، أنه ليس في الخضراوات صدقة. وقال البيهقي بعد أن روى هذا الحديث وأحاديث مراسيل: هذه الأحاديث كلها مراسيل إلا أنها طرق مختلفة، فيؤكد بعضها بعضاً، ومعها قول الصحابة رضي الله عنهم. اهـ. وأقوى ما يرد به على أبي حنيفة أن الخضراوات كانت تزرع في المدينة في عهده صلى الله عليه وسلم ولم يثبت أنه أخذ منها زكاة، وبالتالي لم يثبت أنه أعطى فقيراً كمية من البصل أو الثوم كزكاة مثلاً، ولو حصل مرة لنقل إلينا، على أن الأصل عدم الوجوب، والوجوب لا يثبت إلا بالدليل، ولا دليل، والإمام مالك، وهو الذي يعتمد عمل أهل المدينة، قال بعدم وجوب الزكاة في الخضراوات مما يؤكد أن عمل أهل المدينة على خلاف مذهب أبي حنيفة. والله أعلم. وقد اختلف الشافعية في وجوب الزكاة في الزيتون بناء على أن الشافعي قال في القديم: تجب فيه الزكاة، معتمداً قول ابن عباس: "في الزيتون الزكاة". وقال في الجديد: لا زكاة فيه، لأنه ليس بقوت فأشبه الخضراوات. قال النووي: والقولان مشهوران، والأصح أنه لا زكاة فيه. قال البيهقي: ولم يثبت في الزيتون إسناد تقوم به حجة، والأصل عدم الوجوب، ولا زكاة فيما لم يرد فيه حديث صحيح، أو كان في معنى ما ورد به حديث صحيح. اهـ أما الإمام مالك: فلم يتردد في القول بوجوب الزكاة في الزيتون. وألحق بالزروع والثمار العسل على اعتبار أن النحل يعيش غالباً في الأشجار ويقتات من الزروع والثمار، وقد اختلف في زكاته الشافعية على قولين: أصحهما: عدم الوجوب، لأنه لم يثبت بوجوبه خبر صحيح، ولأنه مائع خارج من حيوان، فأشبه اللبن، واللبن لا زكاة فيه بالإجماع، وعلى هذا القول الإمام مالك، أما أبو حنيفة فقال بوجوب الزكاة في العسل إذا لم يكن بأرض خراج، وأما الإمام أحمد فقال بوجوب الزكاة فيه سواء أكان في أرض خراجية أو غير خراجية، وأدلتهم مبسوطة في كتب الفروع. وقد بينت الرواية السادسة مقدار ما يخرج من زكاة الزروع والثمار، وهو العشر فيما سقى بغير مئونة، ونصف العشر فيما سقى بمئونة ثقيلة كالنواضح والدواليب. قال النووي: وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين. ونقل البيهقي الإجماع فيه. كما وضحت الروايات الخمس الأولى أنه لا زكاة إلا إذا بلغ الزرع أو الثمر نصاباً وهو خمسة أوسق، وقد وضحنا الوسق والنصاب في المباحث العربية. وقال النووي: وتضم ثمار العام الواحد بعضها إلى بعض في إكمال النصاب وإن اختلفت أوقاته، ولا خلاف أن ثمرة العام الثاني لا تضم إلى الأول في إكمال النصاب. بقى في زكاة الزروع والثمار مسألتان:

الأولى: أنه لو كانت الأرض مؤجرة فهل تجب الزكاة على المالك؟ أو على المستأجر؟ أو على كل منهما؟ . قال النووي: وإذا أجر أرضه فمذهبنا أن عشر زرعها على المستأجر الزارع، وبه قال مالك وأبو يوسف ومحمد وأحمد وداود. وقال أبو حنيفة يجب على صاحب الأرض. ولو استعار أرضاً فزرعها فعشر الزرع على المستعير عندنا وعند العلماء كافة، وعند أبي حنيفة روايتان، أشهرهما هذا، والثانية على المعير. وهذا عجب. اهـ. والشيخ القرضاوي في كتابه "فقه الزكاة" يرى المالك والمستأجر شريكين في إخراج الزكاة (يقصد المستأجر بالنقود المحددة) ويوزع نصيب كل منهما توزيعاً جديداً أيضاً، فيقول: إيجار الأرض عشرين جنيهاً مثلاً، وأخرجت من القمح عشر أرادب، وكان الأردب يساوي خمسة جنيهات. فيكون مقدار الخارج 10×5= 50 جنيهاً، فإنه يخرج عن ستة أرادب فقط، والأربعة الأخرى تطرح مقابل الإيجار. والجزء الذي طرح من نصيب المستأجر الزارع -وهو ما يقابل الأجرة من المحصول والذي أعفي من زكاته- دخل في نصيب المالك وأدى عنه الزكاة الواجبة، وهو أحق بها وأولى بأدائها من المستأجر في هذا القدر. وهذا الرأي يميل نحو مذهب أبي حنيفة إلى حد كبير، وكل ما يرد على أبي حنيفة يرد عليه، يرد عليه محاذير أخرى لا ترد على أبي حنيفة، فأبو حنيفة حينما جعل الزكاة على المالك ربطها بنتاج أرضه وملكه، ترتفع بارتفاع ما أعطى الله، وتنخفض بانخفاضه، فتكون شكراً ونماء، وإن كانت الزيادة لم تعد على المالك حينئذ، لكنها ستعود إليه في سمعة أرضه وزيادة الرغبة فيها بخلاف هذا الرأي الجديد، فالزكاة على أجرة محددة زادت الغلة والعطية من الله للزارع أو نقصت ما دامت تبلغ نصاباً، فتحولت الزكاة بالنسبة للمالك حينئذ إلى زكاة النقود بدلاً من زكاة الزروع، فلا يقبل عقلاً ولا شرعاً حينئذ أن يدفع المالك عشر الإيجار أو نصف عشره -كما قرر صاحب الرأي- وإنما زكاته الشرعية ربع العشر إن كانت عليه زكاة في هذا المال. أما قياس الأجرة العينية المحددة التي يتقاضاها المالك من المستأجر على المقدار غير المحدد الذي يحصل عليه المالك في المزارعة، فهو قياس فاسد، فشتان بين المقيس والمقيس عليه، شتان بين قابل للزيادة والنقص وبين ما لا يقبل. إن أبا حنيفة لم يوجب على المالك زكاة إذا لم تخرج الأرض ما يزكى، ومقتضى هذا الرأي أن المالك يدفع زكاة ما حصل عليه من الأجرة ولو لم تخرج الأرض شيئاً، إذ لا فرق بالنسبة له بين أن تنتج الأرض أو لا تنتج. تلك محاذير توجه إلى هذا الرأي بالإضافة إلى كل المحاذير الموجهة لأبي حنيفة، وهي كثيرة ووجيهة، ومذكورة في كتب الفروع، فمن أرادها فليرجع إليها.

المسألة الثانية: الزكاة والخراج: والخراج هو ما يدفعه واضع يده على أرض ملك للدولة في مقابل الانتفاع بها لا على طريق الإجارة. قال النووي: وتكون الأرض خراجية في صورتين. إحداهما: أن يفتح الإمام بلدة عنوة وقهراً [أي حارب أهلها المسلمين ولم يعقدوا معهم صلحاً، بل حكم بينهم وبين المسلمين السيف وحده، فتصبح أموال البلد ملكاً وغنيمة] المفروض أن يقسمها الإمام بين الغانمين، لكنه قد يعوضهم عنها بعوض آخر، ثم يقفها على المسلمين [جميعاً، المعاصرين والذين لم يلحقوا بهم، أي تصبح ملكاً للدولة] ويضرب عليها خراجاً [نقداً أو غلة يقدر حسب طاقة الأرض، يدفعه للدولة أهل الأرض الأولون -بعد أن يقرهم الإمام عليها- في مقابل انتفاعهم واستثمارهم لها]. الثانية: أن يفتح بلدة صلحاً على أن الأرض للمسلمين [ملكاً] ويسكنها الكفار بخراج معلوم، فالأرض تكون فيئاً للمسلمين، والخراج أجرة لها، لا تسقط بإسلامهم، وكذا إذا انجلى الكفار عن بلدة، وقلنا: إن الأرض تصير وقفاً على المسلمين، يضرب عليها خراج يؤديه من سكنها، مسلماً كان أو ذمياً. قال: وأما البلاد التي فتحت قهراً وقسمت أرضها بين الغانمين، وثبتت في أيديهم، وكذا التي أسلم أهلها عليها، والأرض التي أحياها المسلمون فكلها عشرية، وأخذ الخراج منها ظلم. اهـ. قال صاحب المغني: لم نعلم شيئاً مما فتح عنوة قسم بين المسلمين إلا خيبر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم نصفها، فصار ذلك لأهله "الذين قسم عليهم" لا خراج عليه. وسائر ما فتح عنوة مما فتحه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن بعده كأرض الشام والعراق ومصر وغيرها لم يقسم منه شيء اهـ. هذه الأرض الخراجية التي يدفع واضعو اليد عليها خراجاً للدولة يجب عليهم أن يخرجوا زكاة ما يخرج منها عند الجمهور. قال النووي: اتفق الأصحاب على أن الخراج لا يسقط الزكاة، وبه قال جمهور العلماء. قال ابن المنذر: هو قول أكثر العلماء، وممن قال به: مالك والليث وأحمد وداود. وقال أبو حنيفة: لا يجتمع عشر وخراج، فلا زكاة عليها. اهـ. وساق النووي أدلة أبي حنيفة ورد عليها بما لا يسمح به المقام. أما زكاة الماشية: فلا تجب إلا في ثلاثة أنواع منها، هي: الإبل والبقر والغنم، لأن الأخبار وردت بإيجاب الزكاة فيها، ولأن الإبل والبقر والغنم تكثر منافعها، ويطلب نماؤها بالكبر والنسل، فاحتملت المواساة في الزكاة، ولا تجب فيما سوى ذلك من المواشي كالبغال والحمير، وفي زكاة الخيل خلاف يأتي تفصيله قريباً. وللزكاة في هذه الأنواع شرطان متفق عليهما وشرطان مختلف فيهما نعرضها بإيجاز:

الشرط الأول: أن تبلغ نصاباً وقد حددت الروايات الأولى والثانية والرابعة والخامسة نصاب الإبل بخمس، وحددت رواية البخاري النصاب لكل، وما يؤخذ منها للزكاة في حديث طويل، قسمه البخاري على الأبواب كل قطعة منه في الباب المناسب، ولا خلاف بين العلماء في اشتراط هذا الشرط، فليس فيما دون النصاب زكاة بالإجماع المستند إلى الأحاديث الصحيحة. الشرط الثاني: أن يحول الحول على النصاب، لأن ما دون الحول يحتمل المواساة ولا يعتبر صاحبه من الأغنياء، فإن نقص أثناء الحول ولو واحدة من المواشي ولو لفترة قصيرة لم تجب الزكاة. قال صاحب المهذب: فإن كان عنده نصاب فهلك منه واحد أو باعه انقطع الحول، فإن نتج له واحد أو رجع إليه ما باعه استأنف الحول، وإن نتجت واحدة ثم هلكت واحدة لم ينقطع الحول، لأن الحول لم يخل من نصاب. وقال النووي: اتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على أن بقاء الماشية في ملكه حولاً كاملاً شرط الزكاة، فلو زال الملك في لحظة من الحول ثم عاد انقطع الحول، واستأنف الحول من حين يجدد الملك. اهـ. وإذا كان عنده نصاب من الماشية فتوالدت أثناء الحول ضمت إلى الأمهات في الحول وعدت معها إذا تم حول الأمهات، وأخرج عنها وعن الأمهات زكاة المال الواحد، لما رواه مالك في الموطأ والشافعي بإسنادهما الصحيح عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "أعتد عليهم بالسخلة التي يروح بها الراعي على يديه". وعن علي رضي الله عنه: "عد الصغار مع الكبار". ولأنه من نماء النصاب وفوائده، فلم ينفرد بالحول. فالصغار تضم إلى الكبار في الحول، وتزكى لحولها، وتجعل كأنها موجودة معها في جميع الحول بشرطين: أن تولد قبل تمام حول الكبار، وأن تكون الكبار بدونها نصاباً، ولا تضم للحول صغار مشتراة. هذا مذهب الشافعية. وقال أبو حنيفة: تضم الصغار إلى النصاب، سواء كانت متولدة منه أم اشتراها وتزكى بحول الكبار. وقال مالك: إذا كان عنده عشرون من الغنم -أي دون النصاب- فولدت أثناء الحول وبلغت نصاباً زكى الجميع من حين ملك الكبار، وإن اشترى صغاراً مولودة من غير كباره لم تضم. وعن أحمد رواية كمالك، ورواية كالشافعية. وقال داود: لا زكاة في السخال -أي الصغار- سواء كانت تابعة أم مستقلة، ولا ينعقد عليها حول، لأن اسم الشاة لا يقع عليها غالباً. الشرط الثالث: أن تكون سائمة، أي راعية في كلأ مباح أكثر العام، وقد ورد وصف السوم في صحيح البخاري، ولفظه: "في صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين منها شاة". وقيس الإبل والبقر في اشتراط السوم على الغنم، وما ورد من أحاديث مطلقة خالية من السوم فهو محمول على ما ورد فيه السوم حملاً للمطلق على المقيد.

هذا ما قاله الجمهور، وأوجب مالك الزكاة في المعلوفة واعتبرها كالسائمة سواء بسواء عملاً بالأحاديث المطلقة، وأجاب عن الأحاديث التي ورد فيها السوم بأنها خرجت مخرج الغالب، وليس قيداً وشرطاً. الشرط الرابع: أن لا تكون الإبل أو البقر عاملة في الحرث وسقي الزرع وحمل الأمتعة والماء، أما ما كان معداً للعمل فهو كالثياب والعبيد والدار والدابة مقصود به نفع مالكه وكفايته وحاجته، فلا زكاة فيه عند جمهور الفقهاء، وخالفهم مالك فقال بوجوب الزكاة فيها، ولم يفرق بين العاملة وغير العاملة كما لم يفرق بين السائمة وغير السائمة. أما الخيل فلا زكاة فيها مطلقاً عند الشافعية وأبي يوسف ومحمد وأحمد وحكى عن مالك والليث أيضاً. أما أبو حنيفة فيوافق الجمهور في الخيل المعدة للركوب أو للجهاد أو للحمل، فلا زكاة عليها سواء أكانت سائمة أو غير سائمة، ويخالفهم في الخيل التي تربى للنسل والنتاج، فيوجب فيها الزكاة بشرط أن تكون إناثاً كلها، أو ذكوراً وإناثاً، أما إذا كانت كلها ذكوراً فلا زكاة فيها عنده لعدم صلاحيتها للتناسل والنمو والتكثير. ويعتبر فيها الحول دون النصاب. قال: ومالكها بالخيار، إن شاء أعطى عن كل فرس ديناراً، وإن شاء قومها وأخرج ربع عشر قيمتها. وحجة الجمهور حديث أبي هريرة -روايتنا السابعة: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة". وهو متفق عليه، فالذكور والإناث والمعد للركوب والمعد للتناسل كل ذلك يستوي في الدخول في كونه "فرسه" وما يدعيه البعض من أن قوله: "فرسه". يشعر أنه فرسه الذي يركبه ويجاهد عليه ادعاء بعيد، بل العكس هو الصحيح، فإن الفرس الذي يركبه والذي يجاهد عليه يمكن إضافته إلى وظيفته، فيقال: فرس الركوب وفرس الجهاد، ولا كذلك المعد للنسل، فليس له إلا أن يقال عنه "فرسه". كما أن تأييد أبي حنيفة بأن ظاهر الحديث وعمومه لكل فرس غير مراد بدليل اتفاقهم على إيجاب الزكاة فيما اتخذ للتجارة من الخيل، هذا التأييد لا يفيد، لأن كل العروض التي لا زكاة فيها -ومنها الخيل- إذا استعملت في التجارة وجبت فيها الزكاة، وموطن النزاع الخيل في غير التجارة والحديث صريح في عدم وجوب الزكاة فيها. وأما قولهم: إن السكوت عن إيجاب الزكاة فيها بلفظ صريح لا يدل على عدم الوجوب جزماً، فقد أوجب النبي صلى الله عليه وسلم الزكاة في نقود الفضة بالنص الصريح، ولم يصح عنه في الذهب مثل ذلك، ففي هذا القول بعد شديد عن موطن النزاع، لأن الذي معنا ليس سكوتاً عن إيجاب الزكاة فيها بلفظ صريح بل الذي معنا نفي وجوب الزكاة فيها بلفظ صريح ومتفق عليه. وأما استدلالهم بحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: في الخيل السائمة في كل فرس دينار. فهو لا ينهض لمقاومة الحديث الصحيح، فقد قال الدارقطني: تفرد به عورك وهو ضعيف جداً. والله أعلم. وأما النصاب وما يؤخذ زكاة من هذه الأصناف فقد حددتها السنة النبوية قولاً وعملاً:

فنصاب الإبل أوله خمس، ولا شيء فيما دون الخمس بالإجماع، وروايتنا الخامسة صريحة في ذلك: "ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة". وزكاة الخمس شاة جذعة من الضأن -وهي ما استكملت سنة ودخلت في الثانية على الأصح، وقيل: هي ما استكملت ستة أشهر- أو ثنية من المعز، وهي ما استكملت سنتين ودخلت في الثالثة، وقيل: هي ما استكملت سنة واحدة. وإن أخرج أنثى أجزأ بلا خلاف، إذ هي أفضل من الذكر عند التربية، وإن أخرج ذكراً أجزأ على القول الراجح عند الجمهور. فإن بلغت الإبل عشراً ففيها شاتان، وما بين الخمس والعشر [ويعرف عند الفقهاء بالوقص -بفتح الواو وفي القاف لغتان الفتح والإسكان، وبالوقس بالسين، كما يعرف بالشنق] لا زكاة فيه عند الجمهور، شأنه شأن ما قبل الخمس، قال الشافعي: ليس في الشنق من الإبل والبقر والغنم شيء. والحاصل أن الوقص يطلق على ما لا زكاة فيه سواء كان بين نصابين أو دون النصاب الأول، لكن أكثر ما يستعمل فيما بين النصابين. وما ذكرناه من أن الأوقاص لا زكاة فيها هو الأصح عند الشافعية، وحكاه العبدري عن أبي حنيفة ومحمد وأحمد وداود، وهو الصحيح في مذهب مالك، وعن مالك في رواية أن فيها الزكاة. وهو قول غير عملي، ولم يؤثر أنهم أخذوا في ست من الإبل شاة وخمس شاة. والفرق بين الأوقاص أنها تلغى ولا زكاة فيها، وبين ما زاد على النصاب في المعشرات والذهب والفضة حيث إنها لا تلغى ويجب فيها الزكاة أن الشرع لم يحدد فيها تسلسلاً في النصاب كما حدد في النعم، فكان ما زاد على النصاب فيها تابعاً للنصاب. والله أعلم. فإن بلغت الإبل خمس عشرة ففيها ثلاث شياه. فإن بلغت عشرين ففيها أربع شياه. فإن بلغت خمساً وعشرين ففيها ناقة بنت مخاض -وهي التي أكملت سنة ودخلت في الثانية- أو ابن مخاض، والمخاض الحمل، وسمى بذلك لأن أمه بعد السنة تلحق بالحوامل غالباً، ولا يزال ابن مخاض حتى يدخل في الثالثة. قال النووي: أجمعوا على أن الواجب في أربع وعشرين فما دونها الغنم، وأجمعوا على أن في خمس وعشرين بنت مخاض. إلا ما روى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: فيها خمس شياه، فإذا صارت ستاً وعشرين ففيها بنت مخاض". قال ابن المنذر: ولا يصح عن علي. فإن بلغت الإبل ستاً وثلاثين ففيها بنت لبون أو ابن لبون، وهو ما أكمل سنتين ودخل في الثالثة، قالوا: سمي بذلك لأن أمه وضعت غيره وصارت ذات لبن غالباً، ولا يزال ابن لبون حتى يدخل في السنة الرابعة. فإن بلغت الإبل ستاً وأربعين ففيها حقة، وهي ما استكملت ثلاث سنين ودخلت في الرابعة،

قالوا: سميت بذلك لأنها استحقت أن يحمل عليها وتركب ويطرقها الفحل فتحمل منه ولا تزال حقة حتى تدخل في السنة الخامسة. فإن بلغت إحدى وستين ففيها جذعة، وهي ما استكملت أربع سنين ودخلت في الخامسة ولا تزال جذعة حتى تدخل في السادسة. وهي آخر الأسنان المنصوص عليها في زكاة الإبل. فإن بلغت ستاً وسبعين ففيها بنتاً لبون. فإن بلغت إحدى وتسعين ففيها حقتان فإن بلغت واحدة وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون. وعلى هذه الأعداد وهذه المقادير انعقد الإجماع. أما الأعداد والمقادير الآتية فقد خالف فيها أبو حنيفة. أما الجمهور فقال: بعد هذا يستقر تسلسل النصاب، فيجب في كل أربعين: بنت لبون، وفي كل خمسين: حقة، فيجب في مائة وثلاثين: بنتاً لبون وحقة، فيتغير الفرض هنا بتسعة، ثم يتغير بعشرة عشرة أبداً، ففي مائة وأربعين: حقتان وبنت لبون، وفي مائة وخمسين: ثلاث حقاق، وفي مائة وستين: أربع بنات لبون، وفي مائة وسبعين: ثلاث بنات لبون وحقة. وفي مائة وثمانين: حقتان وبنتاً لبون، وفي مائة وتسعين: ثلاث حقاق وبنت لبون، وفي مائتين: أربع حقاق أو خمس بنات لبون، وفي مائتين وعشر: أربع بنات لبون وحقة، وفي مائتين وعشرين: حقتان وثلاث بنات لبون، وفي مائتين وثلاثين: ثلاث حقاق وبنتاً لبون، وعلى هذا أبداً. وأما أبو حنيفة فقال: إذا زادت الإبل على مائة وعشرين تستأنف الفريضة، فتعود الزكاة إلى الغنم، في خمس: شاة، وفي عشر: شاتان، وفي خمس عشرة: ثلاث شياه، وهكذا تعاد المقادير السابقة الذكر، فمن ملك مائة وخمساً وعشرين فزكاته حقتان وشاة، ومن ملك مائة وثلاثين فزكاته حقتان وشاتان. وهكذا. واستدل الجمهور ومالك والشافعي وأحمد بما ثبت في البخاري من حديث أنس: أن أبا بكر رضي الله عنه كتب هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين: "بسم الله الرحمن الرحيم -هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين والتي أمر الله بها رسوله ... ". إلى آخر الحديث الطويل الذي قسمه البخاري على أنواع الماشية، وجمعه النووي في مكان واحد وفيه: "فإذا زاد على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة". كما استدلوا بحديث ابن عمر: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كتاب الصدقة ولم يخرجه إلى عماله حتى قبض، فقرنه بسيفه، فلما قبض عمل به أبو بكر حتى قبض، وعمر حتى قبض". وفيه نحو ما في حديث أنس. قال النووي: رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن.

أما أبو حنيفة فقد استند إلى حديث عمرو بن حزم، وقد رواه أبو داود في المراسيل وضعفه كثير من العلماء، وقال بنسخه بعض المحققين على أساس أن استعمال عمرو بن حزم على نجران كان قبل موته صلى الله عليه وسلم بمدة، وأما كتاب الصديق أبي بكر فإن النبي صلى الله عليه وسلم كتبه ولم يخرجه إلى العمال حتى أخرجه أبو بكر. والله أعلم. ومن دراسة جدول الإبل نجد الشريعة الإسلامية قد راعت في نظامها الاقتصادي تشجيع إنتاج الثروة الحيوانية، فلم تجعل الزكاة كالضريبة التصاعدية التي تتبناها النظم الاقتصادية المعاصرة، ولم تثبتها كلها على مقدار واحد كما هو الحال في زكاة النقدين -الذهب والفضة. وإنما شجعت المستثمرين في تربية الإبل فأفسحت كثيراً فترة السماح بين النصابين، فبينما نرى الأوقاص التي لا زكاة فيها أربعة من الإبل بين الخمسة والعشرة وبين العشرة والخمسة عشر، نرى الأوقاص التي لا زكاة فيها قد أصبحت عشرة بين الخمسة والعشرين والستة والثلاثين، ثم أصبحت أربعة عشر بين الستة والأربعين وبين الواحد والستين، ثم أصبحت تسعة وعشرين بين الواحد والتسعين والمائة والواحد والعشرين، فامتدت فترة السماح من أربعة إلى عشرة ثم إلى أربعة عشر، ثم إلى تسعة وعشرين، وسنرى قريباً من ذلك في زكاة البقر، وأكثر من ذلك بكثير في زكاة الغنم، مما يشجع على زيادة الإنتاج ويئول إلى كون الضريبة تنازلية في واقع الأمر، وقد لاحظ رجال الاقتصاد المعاصر هذه الظاهرة الكريمة، فكتبوا عنها جزاهم الله خيراً. ونصاب البقر أوله ثلاثون، بإجماع المذاهب الأربعة، وفيها تبيع، وهو الذي له سنة، قيل: سمي تبيعا لأنه يتبع أمه، وقيل: لأن قرنيه يتبعان أذنيه، والأنثى تبيعة، ويقال لها: جذءة. ثم لا شيء فيما زاد على الثلاثين حتى تبلغ أربعين وفيها مسنة، وهي التي لها سنتان، وسميت مسنة لزيادة سنها، ويقال لها: ثنية، ثم لا شيء فيما زاد على الأربعين حتى تبلغ الستين، وفيها تبيعان، ثم يستقر الحساب بعشرة عشرة، ففي سبعين: تبيع عن ثلاثين ومسنة عن أربعين، وفي ثمانين: مسنتان، وفي تسعين: ثلاثة أتبعة، وفي مائة: تبيعان عن ستين ومسنة عن أربعين، وفي مائة وعشرة: مسنتان عن ثمانين وتبيع عن ثلاثين، وفي مائة وعشرين: ثلاثة مسنات أو أربعة أتبعة، وفي مائة وثلاثين: ثلاثة أتبعة عن تسعين ومسنة عن أربعين، وفي مائة وأربعين: مسنتان عن ثمانين وتبيعان عن ستين، وفي مائة وخمسين: خمسة أتبعة. وهكذا أبداً. وخالف أبو حنيفة في الرواية المشهورة عنه، فقال: ما زاد على الأربعين فبحسابه؛ في كل بقرة ربع عشر مسنة، فليست عنده أوقاص، ويعمل القيمة في الزكاة بدلاً من أصل المزكى. وزكاة البقر واجبة بالإجماع المستند إلى السنة، فقد روى البخاري عن أبي ذر رضي الله عنه قال: "أنهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: والذي نفسي بيده -أو- والذي لا إله غيره -كما حلف- ما من رجل تكون له إبل أو بقر أو غنم لا يؤدي حقها إلا أتي بها يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمنه تطؤه بأخفافها، وتنطحه بقرونها، كلما جازت أخراها ردت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس".

وحجة الجمهور ما رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة عن معاذ بن جبل قال: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، وأمرني أن أخذ من كل ثلاثين تبيعاً أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة". وهناك أقوال أخرى في نصاب البقر ومقدار زكاته رأينا عدم التعرض لها مخافة التطويل، فمن أرادها فليرجع إليها في كتب الفقه. وواضح من قول الجمهور أن الشريعة الإسلامية قد شجعت تربية هذا النوع من الماشية بإعطاء فترة سماح خالية من الزكاة بصفة عامة. تسع من البقر بين كل فرضين، وفترة سماح أطول بين الأربعين والستين فوصل الوقص إلى تسع عشرة، والاحتفاظ بفترة السماح بين كل فرضين مهما بلغ العدد يجعل للشريعة الإسلامية ميزة منفردة عن نظم العالم المعاصر التي تفرض الضرائب تصاعدياً مما يتنافى وتشجيع الاستثمار. وإذا كانت فترة السماح في البقر لم تبلغ فترة السماح في الإبل فقد عوض البقر بفترة سماح أكبر في أول النصاب، إذ عفي عن تسع وعشرين من البقر بينما لم يعف عن الإبل إلا عما دون الخمس. والله أعلم. أما نصاب الغنم فأوله أربعون، وليس فيما دون ذلك صدقة واجبة. وفي الأربعين شاة واحدة وهذه النسبة هي عينها نسبة الزكاة في النقدين وعروض التجارة ربع العشر [2.5/] ولو لاحظنا في الإبل أن خمساً منها تقرب في تقديرها من أربعين شاة حيث قالوا في الهدي: إن الناقة تكفي عن سبعة. وفي قول لسعيد بن المسيب، وإسحق وابن خزيمة: أنها تكفي عن عشرة لحديث رواه ابن خزيمة في صحيحه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم فعدل عشراً من الغنم ببعير". لو لاحظنا ذلك وجدنا أول نصاب الغنم وأول نصاب الإبل ومقدار الزكاة فيهما متقارباً. ويبقى الواجب شاة واحدة حتى تبلغ الغنم مائة وإحدى وعشرين فيجب شاتان، ويبقى الواجب شاتين حتى تبلغ الغنم مائتين وواحدة فيجب ثلاث شياه، ويبقى الواجب ثلاث شياه حتى تبلغ الغنم أربعمائة فيجب أربع شياه، فإذا بلغت خمسمائة فخمس شياه، وستمائة ست شياه، وهكذا في كل مائة شاة، ولا يتغير الفرض إلا عند رأس المائة. (فائدة) الضرائب التي تفرضها الدول في العصر الحديث أنواع: منها الضريبة ذات النسبة الثابتة من أول الفرض إلى ما لا نهاية كأن يقال: إذا بلغ الدخل ألف جنيه فما زاد فالضريبة [5/] مثلاً. ومنها الضريبة التصاعدية ذات الشرائح المستقلة كأن يقال مثلاً: ضريبة ما زاد على الألف الأولى حتى الألفين [5/] وضريبة ما زاد على الألفين حتى الثلاثة [7/] وضريبة ما زاد على الثلاثة حتى الأربعة [10/] وهكذا، وقد وصلت هذه الضريبة التصاعدية في بعض البلاد إلى [60/]. ومنها الضريبة التصاعدية ذات الشرائح المتداخلة كأن يقال مثلاً: ضريبة ما زاد على الألف الأول حتى الألفين [5/] فإذا ما زاد على الألفين حتى الثلاثة فالضريبة من أول وعائها تنتقل إلى [7/]

وهكذا، وفي مثل هذه الحالة قد يتمنى من ترقى وحصل على علاوة يتمنى لو أنها لم تكن، لأن مجموع دخله سينقص لا يزيد. ولم نسمع في الاقتصاد الحديث أن دولة من دول العالم جعلت الضريبة تنازلية، تقل كلما زاد الدخل. لكن نظام زكاة الإسلام في أغلب ما يزكى ينحو ناحية التنازلية، وفي القليل يثبت النسبة لهدف جليل، فهو في الاستثمار والنتاج الحيواني الذي ينتفع به كافة البشر يشجع ويغري فينزل بنسبة الزكاة إذا زاد الإنتاج، ولما كان لا يشجع الاكتناز وكثرة النقد كيلا يكون دولة بين الأغنياء ثبت النسبة على [2.5/]. وقد مر بنا قريباً في زكاة الإبل أن المقدار الواقع بين نصابين والمعفى من الزكاة يرتفع كلما كثر الإنتاج والاستثمار، فرأينا الأوقاص التي كانت أربعة صارت عشرة، ثم صارت أربعة عشر، ثم صارت تسعة وعشرين، مما ينزل بنسبة الزكاة، وهكذا الأمر في نسبة زكاة البقر، لكن هذه الظاهرة في زكاة الغنم واضحة وكبيرة، فزكاة الغنم بدأت بـ[2.5/] في أربعين شاة: شاة واحدة، ثم انخفضت حتى وصلت أقل إلى من [1/] حين تبلغ الغنم مائة وعشرين ففيها شاة واحدة. وحين ارتفعت إلى شاتين في مائة وإحدى وعشرين أي إلى أقل من [2/] أخذت تنخفض حتى وصلت إلى [1/] حين بلغت الشياه مائتين وفيها شاتان، وحين ارتفعت إلى ثلاث شياه في مائتين وواحدة بنسبة [1.5/] أخذت تنخفض حتى وصلت إلى أقل بكثير من [1/] حين بلغت الشياه تسعاً وتسعين وثلاثمائة وفيها ثلاث شياه، ثم ثبتت في كل مائة شاة، وهي في هذا لم تقف عند 1/ بل هي تنخفض أيضاً بسبب الأوقاص، ففي تسع وتسعين وخمسمائة: خمس شياه. وهكذا يتبين بجلاء ميزة الاقتصاد في تشريع الإسلام على غيره من التشريعات الوضعية، وأنه يشجع الإنتاج والاستثمار ويدفع العاملين إلى زيادة العمل للحصول على زيادة الثمر فتعمر الأرض ويزيد الخير ويعم الرخاء. وأما زكاة النقد فقد نصت على نصابه في الفضة الرواية الأولى والثانية والرابعة، وفيها: "وليس فيما دون خمس أواق صدقة"، وفي الرواية الخامسة: "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة". والورق الفضة. والمقصود بالنقد هنا الذهب والفضة، سواء أكانا مضروبين دنانير ودراهم أو كانا مصنعين حلياً وأواني، أو كانا سبائك، على خلاف يأتي في حلي النساء. والأوقية أربعون درهماً، فالخمس الأواقي مائتا درهم، فنصاب الفضة مائتا درهم، تبلغ مائة وأربعين مثقالاً، حيث إن الدرهم سبعة أعشار المثقال، وقد قدر النصاب بـ (595) بخمسة وتسعين وخمسمائة من الجرامات. فمن ملك من الفضة نقوداً أو سبائك ما يبلغ هذا الوزن وجبت عليه الزكاة. وأما نصاب الذهب فلم يرد في أحاديث الباب ولا في الأحاديث الصحيحة، لكن مجموع ما ورد

فيه يجعله سنداً قوياً يعمل به، من ذلك ما رواه ابن ماجه من حديث ابن عمر وعائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من كل عشرين ديناراً فصاعداً نصف دينار". وكان عمل الصحابة وإجماع الأمة على هذا وأن نصاب الذهب عشرون مثقالاً، أي ما يساوي خمسة وثمانين جراماً. قال القاضي عياض: المعول عليه في نصاب الذهب الإجماع. وقال مالك في الموطأ: السنة التي لا اختلاف فيها عندنا أن الزكاة تجب في عشرين ديناراً عيناً -يعني ذهباً- كما تجب في مائتي درهم. وقال الشافعي في الأم: لا أعلم اختلافاً في أن ليس في الذهب صدقة حتى تبلغ عشرين، فإذا بلغت عشرين مثقالاً ففيها الزكاة. اهـ. كما أجمع المسلمون على أن المقدار الواجب في زكاة الذهب والفضة ربع العشر، بعد أن يحول الحول. وقد حاول بعض العلماء أن يربط بين قيمة النصاب في الذهب والفضة وبين النصاب في الزروع أو المواشي إذا ارتفعت أو انخفضت قيمة الذهب والفضة، بحيث يرتفع بوزن النصاب فيهما إذا انخفضت قوة الشراء بهما، وينخفض بوزن النصاب فيهما إذا ارتفعت قوة الشراء بهما، لكن هذه المحاولة مردودة، فإن الشرع هو الذي حدد المقادير، ولا مجال للاجتهاد فيها، فالزرع زرع، والإبل إبل، والبقر بقر، والذهب ذهب، والفضة فضة. ولا يستطيع العلماء -فيما أعتقد- أن يعللوا: لماذا كان أول نصاب الإبل خمساً؟ بينما كان أول نصاب البقر ثلاثين؟ فالبحث في القوة الشرائية خبط ودخول في متاهات يكثر فيها المخطئ ويقل المصيب. أما الأوراق النقدية المتداولة في هذا العصر بديلة عن الذهب والفضة اللذين كانا متداولين كأساس للتعامل وكأثمان للأشياء، فعنها جاء في كتاب "الفقه على المذاهب الأربعة" ما يلي: 1 - الشافعية قالوا: الورق النقدي، التعامل به من قبيل الحوالة على البنك بقيمته، فيملك قيمته ديناً على البنك، والبنك مليء، مستعد للدفع، حاضر، ومتى كان المدين بهذه الأوصاف وجبت زكاة الدين في الحال. 2 - الحنفية قالوا: الأوراق المالية -البنكنوت- من قبل الدين القوي، إلا أنها يمكن صرفها فضة فوراً، فيجب فيها الزكاة فوراً. 3 - المالكية قالوا: أوراق البنكنوت -وإن كانت سندات دين إلا أنها يمكن صرفها فضة فوراً وتقوم مقام الذهب في التعامل، فيجب فيها الزكاة بشروطها. 4 - الحنابلة قالوا: لا تجب زكاة الورق النقدي إلا إذا صرف ذهباً أو فضة ووجدت فيه شروط الزكاة. ويقول الشيخ محمد حسنين مخلوف في رسالته "التبيان في زكاة الأثمان": زكاة الأوراق المالية باعتبار قيمتها الوضعية عند جريان الرسم بها في المعاملات واتفاق الملة

على اتخاذها أثماناً للمقومات، وعلى ذلك فوجوب الزكاة فيها ثابت بالقياس كزكاة الفلوس والنحاس. اهـ. ويقول الشيخ القرضاوي في كتابه "فقه الزكاة": إن هذه الأوراق أصبحت -باعتماد السلطات الشرعية إياها، وجريان التعامل بها- أثمان الأشياء ورءوس الأموال؛ وبها يتم البيع والشراء والتعامل داخل كل دولة، ومنها تصرف الأجور والرواتب والمكافآت وغيرها، وعلى قدر ما يملك المرء منها يعتبر غناه، ولها قوة الذهب والفضة في قضاء الحاجات، وتيسير المبادلات وتحقيق المكاسب والأرباح، فهي بهذا الاعتبار أموال نامية أو قابلة للنماء، شأنها شأن الذهب والفضة. اهـ. وهذا كلام جيد، فأوراق البنكنوت اليوم لا تستمد قيمتها من أن المدين بها البنك المليء المقر الحاضر المستعد للدفع، وإنما تستمد قيمتها من قوة التعامل بها، إذ يمكن لحاملها في الحال أن يشتري بها ذهباً وفضة، فتتحول في غمضة عين إلى ذهب، وفضة فوجوب الزكاة فيها لا يقبل النقاش على هذا الأساس. أما أواني الذهب والفضة وتحفهما فحرام استعمالها للرجال والنساء جميعاً، ولا خلاف بين العلماء في أن ما حرم استعماله من الذهب والفضة وجبت الزكاة فيه. لكن هل المعتبر في النصاب هنا الوزن أو القيمة التي ترتفع بحسن الصنعة؟ قولان نختار الأول. وأما الحلي من الذهب والفضة فشأنها مع الرجال شأن استعمال أوانيهما، حرام وفيها الزكاة، لكن الحلي للنساء ذهباً كانت أو فضة في زكاتها خلاف أوجب بعضهم فيما بلغ نصاباً الزكاة مطلقاً، ولم يوجبها بعضهم مطلقاً، وبعضهم أوجبها فيما جاوز المعتاد لأمثالها، وفيما اتخذ كنزاً. وهو الذي نميل إليه. والله أعلم. وأما عروض التجارة فلم ترد زكاتها في أحاديث الباب، لكن نقل ابن المنذر الإجماع على زكاتها إذا بلغت نصاباً وحال عليها الحول، قال: أجمع أهل العلم على أن في العروض التي يراد بها التجارة الزكاة إذا حال عليها الحول، روى ذلك عن عمر وابنه وابن عباس. وبه قال الفقهاء السبعة والحسن وجابر بن زيد وميمون بن مهران وطاووس والنخعي والثوري والأوزاعي والشافعي وأبو عبيدة وإسحاق وأصحاب الرأي (أبو حنيفة وأصحابه) وهو مذهب مالك وأحمد. وقال القاضي ابن العربي: الزكاة واجبة في العروض من أربعة أدلة: الأول: قول الله عز وجل: {خذ من أموالهم صدقة} [التوبة: 103] وهذا عام في كل مال. الثاني: أن عمر بن عبد العزيز كتب بأخذ الزكاة من العروض، وحكم بذلك على الأمة، وقضى به، فارتفع الخلاف بحكمه. الثالث: أن عمر بن الخطاب قد أخذها قبله.

الرابع: أن أبا داود ذكر عن سمرة بن جندب: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن نخرج الزكاة مما نعد للبيع". قال: ولم يصح فيه خلاف عن السلف. اهـ. وقال الخطابي: وزعم بعض المتأخرين من أهل الظاهر أن لا زكاة فيها. وهو مسبوق بالإجماع. وأما الركاز ونعني به الكنز الذي يوضع في الأرض بفعل المخلوق والمعدن الذي يوجد في الأرض بخلق الخالق، فلم تتعرض له أحاديث الباب، لكن الحنفية على أن فيه الخمس استناداً إلى حديث: "في الركاز الخمس". رواه الجماعة. وذهب أحمد إلى أن فيه ربع العشر، وهو قول لمالك والشافعي، وفي قول لمالك: أن ما يتكلف مؤونة عمل فيه ربع العشر وما لا يتكلف مؤونة عمل فيه الخمس. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - بيان أقل النصاب لزكاة الإبل والفضة والزروع والثمار. 2 - بيان المقدار الواجب إخراجه زكاة في الزروع والثمار. 3 - استدل بالرواية السابعة بعض أهل الظاهر على عدم وجوب الزكاة في العبد والفرس مطلقاً ولو كانا للتجارة، ورد عليهم بأن زكاة التجارة تشمل العروض التي لا زكاة فيها، فنفى زكاتها في التربية لا ينفي زكاتها للتجارة، وزكاة التجارة لكل العروض ثابتة بالإجماع، فيخص به العموم في هذا الحديث. وقد مر قريباً مذاهب العلماء في زكاة الخيل. 4 - ويؤخذ من الرواية التاسعة بعث الإمام السعاة والعمال لجباية الزكاة، والحديث مشعر بأن بعث عمر إنما كان لصدقة الفرض، لأن صدقة التطوع لا يبعث عليها السعاة. وقال ابن القصار المالكي: الأليق أنها صدقة التطوع، لأنه لا يظن بهؤلاء الصحابة أنهم منعوا الفرض، وتعقب بأن ما منعوه كلهم جحداً ولا عناداً. أما ابن جميل فقد قيل: إنه كان منافقاً ثم تاب بعد ذلك، وأما خالد فكان متأولاً بإجزاء ما حبسه عن الزكاة، وكذلك العباس. 5 - ويؤخذ منه عذر المؤول، فقد قبل صلى الله عليه وسلم عذر خالد والعباس ودافع عنهما. 6 - واستدل بقصة خالد على جواز إخراج مال الزكاة في شراء السلاح وغيره من آلات الحرب، والإعانة بها في سبيل الله، وذلك بناء على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقبل إخبار من أخبره بمنع خالد، حملاً على أن خالداً لم يصرح بالمنع وإنما نقلوه عنه بناء على ما فهموه، ويكون معنى "تظلمون خالداً" أي بنسبتكم إياه إلى المنع وهو لا يمتنع، وكيف يمنع الفرض وقد تطوع بتحبيس سلاحه وخيله؟ . كما يجيب الجمهور بجواب آخر؛ وهو أنهم ظنوا أن الخيل والعتاد للتجارة فطالبوه بزكاة قيمتها، فأعلمهم صلى الله عليه وسلم بأنه لا زكاة عليه فيما حبس. 7 - واستدل بالقصة على مشروعية تحبيس الحيوان والسلاح. 8 - وأن الوقف يجوز بقاؤه تحت يد محتبسه.

9 - وعلى جواز إخراج العروض في الزكاة. 10 - وعلى صرف الزكاة إلى صنف واحد من الثمانية، ويجوز إخراجها للمجاهدين، وهذا ظاهر صنيع البخاري. ونقل عن بعض السلف أنه كان لا يرى بأساً من أن يعطى الرجل من زكاة ماله في الحج. والأكثرون على أن المراد من سبيل الله الغازي غنياً كان أو فقيراً، إلا أن أبا حنيفة قال: يختص بالغازي المحتاج. وعن أحمد وإسحاق: الحج من سبيل الله. قاله الحافظ ابن حجر، ثم قال: وتعقب ابن دقيق العيد جميع ذلك بأن القصة واقعة عين؛ محتملة لما ذكر ولغيره، فلا ينهض الاستدلال بها عن شيء مما ذكر. قال: ويحتمل أن يكون تحبيس خالد إرصاداً وعدم تصرف، ولا يبعد أن يطلق على ذلك التحبيس، فلا يتعين الاستدلال بذلك لما ذكر. 11 - وفي قصة ابن جميل تنبيه الغافل على ما أنعم الله به عليه من نعمة الغنى بعد الفقر، ليقوم بحق الله عليه. 12 - والعتب على منع الواجب، والتقريع بسوء الصنيع. 13 - وجواز ذكره في غيبته بذلك. 14 - واعتذار الإمام عن بعض الرعية بما يسوغ الاعتذار به. 15 - ومن قوله: "وأما العباس فهي علي ومثلها معها". التزام الإمام وتحمله عن بعض الرعية ما يجب عليه. وقيل معناه: هي عندي قرض، لأنني استلفت منه صدقة عامين. وقد أخرج الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنا كنا احتجنا فتعجلنا من العباس صدقة ماله سنتين". واستبعد هذا بادعاء أن قصة التعجيل إنما وردت في غير هذا الوقت، لأنها لو كانت في ذات الوقت لأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عمر بذلك لئلا يطالبه، ولكان الاعتذار عن عمه بذلك وليس بقوله: "أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه". لكن رواية الدارقطني تصرح بأن قصة التعجيل هي في الوقت ذاته، فلفظها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عمر ساعياً، فأتى العباس فأغلظ له؛ فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إن العباس قد أسلفنا زكاة ماله العام والعام المقبل". قال الحافظ ابن حجر: وفي إسناده ضعف، ولو ثبت لكان رفعاً للإشكال. والله أعلم

(289) باب زكاة الفطر

(289) باب زكاة الفطر 1979 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين. 1980 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على كل عبد أو حر صغير أو كبير. 1981 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: فرض النبي صلى الله عليه وسلم صدقة رمضان على الحر والعبد والذكر والأنثى صاعاً من تمر أو صاعا من شعير. قال: فعدل الناس به نصف صاع من بر. 1982 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر صاع من تمر أو صاع من شعير. قال ابن عمر: فجعل الناس عدله مدين من حنطة. 1983 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان على كل نفس من المسلمين حر أو عبد أو رجل أو امرأة صغير أو كبير صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير. 1984 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا نخرج زكاة الفطر صاعاً من طعام أو صاعاً من شعير أو صاعاً من تمر أو صاعاً من أقط أو صاعاً من زبيب. 1985 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا نخرج إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر عن كل صغير وكبير حر أو مملوك صاعاً من طعام أو صاعاً من أقط أو صاعاً

من شعير أو صاعاً من تمر أو صاعاً من زبيب. فلم نزل نخرجه حتى قدم علينا معاوية بن أبي سفيان حاجاً أو معتمراً، فكلم الناس على المنبر، فكان فيما كلم به الناس أن قال: إني أرى أن مدين من سمراء الشام تعدل صاعاً من تمر. فأخذ الناس بذلك. قال أبو سعيد: فأما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه أبداً ما عشت. 1986 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا نخرج زكاة الفطر ورسول الله صلى الله عليه وسلم فينا عن كل صغير وكبير حر ومملوك من ثلاثة أصناف صاعاً من تمر صاعاً من أقط صاعاً من شعير. فلم نزل نخرجه كذلك حتى كان معاوية، فرأى أن مدين من بر تعدل صاعاً من تمر. قال أبو سعيد فأما أنا فلا أزال أخرجه كذلك. 1987 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال كنا نخرج زكاة الفطر من ثلاثة أصناف الأقط والتمر والشعير. 1988 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن معاوية لما جعل نصف الصاع من الحنطة عدل صاع من تمر، أنكر ذلك أبو سعيد وقال: لا أخرج فيها إلا الذي كنت أخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً من تمر أو صاعاً من زبيب أو صاعاً من شعير أو صاعاً من أقط. 1989 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة. 1990 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بإخراج زكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة. -[المعنى العام]- إن الله الذي أعطى جعل عطاءه سبباً في تراحم البشرية وترابطها وتآلفها وانعطاف بعضها على بعض، كما جعله سبباً في الأجر والثواب ونعيم الآخرة.

وقد عنى الإسلام بالفقراء أكثر من عنايته بالأغنياء، ونشر عليهم مظلة الرعاية بزكاة الأموال، نشر عليهم مظلة الرعاية في الأعياد، وفي الولائم والمناسبات، وفي سائر الأيام بالصدقات. وشاءت الحكمة الإلهية أن تكون المظلة واجبة على القادرين في بعض الأحيان، ومندوبة ومستحبة على سبيل التطوع في البعض الآخر، ليصل الحق إلى الفقير عن طريق النفوس الشحيحة مرغمة ملزمة، مستجيبة لأمر ربها فتثاب رغم أنفها، وعن طريق نفوس سخية كريمة، فرحة بالإعطاء سعيدة بيدها العليا شاكرة فضل ربها، فيضاعف أجرها أضعافاً كثيرة، ويزاد في نعمائها لتزيد من عطائها. إن فقر الفقير ليس لهوانه على الله، وإن غنى الغني ليس علامة على رضى الله عنه، وإنما الكل امتحان واختبار، الفقر اختبار، والغنى اختبار، صبر الفقير هو المطلوب، وشكر الغني هو المقصود، ليقول الفقير: اللهم لك الحمد في السراء والضراء. وليقول الغني: {هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم} [النمل: 40]. وصدقة الفطر تختلف عن الزكاة المالية في تكليفها وغايتها، فهي قليلة المقدار، صاع من تمر أو حب عن كل فرد في العام، أربع حفنات من طعام، ما أخفها وما أعظم ثوابها، وهي واجبة على جميع المسلمين، وليست على الأغنياء منهم أو المكلفين، فهي واجبة على كل حر وعبد، عن كل ذكر وأنثى، عن كل صغير وكبير، من كان مكلفاً أخرج بنفسه وعن نفسه، ومن كان غير مكلف أخرج عنه وليه، وهي واجبة على كل من يملك قوته يوم العيد وليلته. وهل هناك من لا يملك قوت يومه؟ إن الفقراء يملكون قوت أيام بل شهور، إذن هي واجبة على الفقراء؟ وماذا في ذلك؟ ماذا في أن يأخذ الفقير الزكاة ويعطي الزكاة؟ . ألم يقل الشاعر وهو يزهو ويفخر بمكارم خلاله: يجود علينا الخيرون بمالهم ونحن بمال الخيرين نجود أليس في ذلك انعطاف كل مسلم على أخيه المسلم؟ أليس في ذلك وضع اليد في اليد وتماسك أيدي المسلمين؟ أليس هذا هو التعاون الكامل الذي تحكم به الإنسانية؟ إنها صدقة الفطر، إنها طهرة الصائم، إنها زكاة الفلاح، وصدق الله العظيم حيث يقول: {قد أفلح من تزكى* وذكر اسم ربه فصلى} [الأعلى: 14، 15]. لقد حرص الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- على هذه الزكاة كل الحرص، بل حرصوا على مقاديرها بكل دقة، وقد رأى معاوية أن حفنتين من قمح جيد لم يكن موفوراً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، رأى أنهما تعدلان أربع حفنات من شعير أو تمر فأفتى بذلك وهو خليفة، فعارضه أبو سعيد الخدري، وأصر على المساواة في الكيل وإن غلا الصنف، وقال قولته: هذا تقدير معاوية، أما أنا فسأظل أخرج صاعاً كاملاً أبداً ما حييت. رضي الله عنهم أجمعين، ورضى عنا معهم وهو أكرم الأكرمين.

-[المباحث العربية]- (فرض زكاة الفطر من رمضان) الفرض القطع والتقدير، أي قطع وقدر زكاة الفطر صاعاً إلخ .... على سبيل الإلزام والإيجاب فهي فرض، أو على سبيل الندب فهي سنة، وسيأتي الخلاف فيها في فقه الحديث، وواضح من التعبير أن تشريعها بالسنة لا بالقرآن. والجار والمجرور "من رمضان" متعلق بالفطر، وحين يقال: أفطر من رمضان يصدق على الإفطار المعتاد في أيام الشهر عند غروب شمس آخر يوم، ويصدق على الفطر الذي تختلف به أيام رمضان عن يوم العيد فيكون بطلوع فجر يوم العيد، لهذين الاحتمالين اختلف العلماء في وقت وجوب الزكاة. وقال ابن دقيق العيد: الاستدلال بذلك لهذا الحكم ضعيف، لأن الإضافة إلى الفطر لا تدل على وقت الوجوب، بل تقتضي إضافة هذه الزكاة إلى الفطر من رمضان، وأما وقت الوجوب فيطلب من دليل آخر. (على الناس) عام مخصوص بالمسلمين، إذ هم المكلفون بفروع الشريعة على الأصح. (صاعاً من تمر) انتصب "صاعاً" على التمييز أو على أنه مفعول ثان لفرض، والصاع أربعة أمداد، والمد ملء كفى الرجل المعتدل، أي حفنة رجل متوسط الجسم والصاع المقدر هو الصاع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وقدره بعض العلماء بقدح وثلث بالكيل المصري، وجمهور العلماء على أن الاعتماد على الكيل هنا لا على الوزن، لأن الحبوب، بل النوع الواحد من الحبوب كالقمح مثلاً منه الثقيل ومنه الخفيف. والذين قدروه بالوزن اختلفوا، فمنهم من قدره بخمسة أرطال، ومنهم من قدره بستة، ومنهم من قدره بخمسة أرطال وثلث رطل، وقدره الحنفية بثمانية أرطال. (على كل حر أو عبد) ظاهر التعبير بـ"على" يفيد أن على العبد زكاة نفسه، وبه قيل. وقيل: "على" بمعنى "عن". (من المسلمين) إذا كانت "على" على ظاهرها فواضح، لأن المخاطبين بالفروع المسلمون كما سبق، وإن كانت بمعنى "عن" أفادت أن السيد لا يخرج عن عبده الكافر. (صدقة رمضان) الصدقة مأخوذة من الصدق، فكل معروف علامة على صدق الإيمان. وقال الماوردي: الصدقة زكاة، والزكاة صدقة، يفترق الاسم ويتفق المسمى. اهـ. والتحقيق أنهما مختلفان من حيث اللغة وليسا بمعنى واحد على التساوي في عرف الشرع واستعمالاته، فالزكاة هي القدر الواجب، والصدقة تعم الواجب والتطوع، فمن قبيل إطلاق الصدقة على الزكاة الواجبة قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} [التوبة: 103] وقوله: {إنما الصدقات للفقراء ... } [التوبة: 60] وقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمس أوسق صدقة". ومن قبيل

إطلاق الصدقة على المعروف المتطوع به حديث: "كل معروف صدقة، حتى اللقمة تضعها في في امرأتك فهي صدقة". (فعدل الناس به نصف صاع من بر) أي جعلوا نصف الصاع من البر عدلاً [بفتح العين] أي معادلاً ومماثلاً للصاع من غيره. والمراد من الناس هنا معاوية ومن تبعه، كما هو واضح من الرواية السابعة. (أمر بزكاة الفطر صاع من تمر أو صاع من شعير) "صاع" بالجر بدلاً من "بزكاة الفطر". (صاعاً من طعام أو صاعاً من شعير .... ) ظاهره يقتضي المغايرة بين الطعام وبين ما ذكر بعده، قال العلماء: إن أبا سعيد أجمل الطعام ثم فصله، فهو من قبيل عطف الخاص على العام، ففي البخاري عن أبي سعيد: "كنا نخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفطر صاعاً من طعام. قال أبو سعيد وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر". (أو صاعاً من أقط) بفتح الهمزة وكسر القاف -اللبن المتجمد الذي لم ينزع زبده. (حتى قدم علينا معاوية) زاد ابن خزيمة: "وهو يومئذ خليفة". (سمراء الشام) المراد بها الحنطة، وأضيفت إلى الشام لكثرتها هناك، ولم يكن بالمدينة منها في ذلك الوقت إلا الشيء اليسير. (أما أنا فلا أزال أخرجه) أي أخرج الصاع، لا نصف الصاع. (ما عشت) "ما" ظرفية دوامية، أي مدة حياتي. (قبل خروج الناس إلى الصلاة) "ال" في "الصلاة" للعهد، والمراد صلاة العيد. -[فقه الحديث]- نجمل نقاط الأحاديث في خمس: 1 - حكم زكاة الفطر وحكمة مشروعيتها. 2 - على من تجب. 3 - الأنواع التي تخرج منها والقدر الواجب. 4 - وقت وجوبها. 5 - ما يؤخذ من الأحاديث. 1 - أما حكمها فجمهور العلماء من السلف والخلف على أنها فرض واجب، حتى حكى ابن المنذر الإجماع على ذلك، لكن في نقله الإجماع هنا نظر للخلاف الذي سيأتي.

والدليل على وجوبها التعبير في الأحاديث الصحيحة بلفظ "فرض" فهو وإن كان في أصل اللغة بمعنى قدر لكن الشرع نقله إلى الوجوب فالحمل عليه أولى. والتعبير في بعض الروايات بلفظ: "أمر" كما في روايتنا العاشرة والحادية عشرة، وهو لفظ يستعمل في الواجب غالباً. والتعبير بلفظ "على" في قوله "على كل حر أو عبد"، فهو ظاهر في الوجوب. وتسميتها زكاة، كما هو الحال في رواياتنا كلها فيما عدا الثالثة، فتسميتها زكاة يدخلها في عموم قوله تعالى: {وآتوا الزكاة} [النور: 56] ويكون شأنها شأن أنواع الزكاة الواجبة التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفصل أحكامها، كزكاة الإبل والبقر والغنم وعروض التجارة والنقدين إلخ. واستدل بعضهم على وجوبها بقوله تعالى: {قد أفلح من تزكى} [الأعلى: 14] قال: ثبت أنها نزلت في زكاة الفطر، وثبت في الصحيحين إثبات حقيقة الفلاح لمن اقتصر على الواجبات. واعترض عليه بأن تتمة الآية {وذكر اسم ربه فصلى} [الأعلى: 15] فيلزم وجوب صلاة العيد، وأجيب بأن خروج صلاة العيد عن الوجوب إنما كان بدليل عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "هن خمس، لا يبدل القول لدي". ونقل المالكية عن أشهب أنها سنة مؤكدة، وهو قول بعض أهل الظاهر وابن اللبان من الشافعية. لتسميتها صدقة في بعض الروايات، وهو دليل أوهى من خيط العنكبوت. وذهب إبراهيم بن علية وأبو بكر بن كيسان بن الأصم إلى أنها كانت واجبة ثم نسخ وجوبها، واستدل لهما بما روى النسائي وغيره عن قيس بن سعد بن عبادة قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة، فلما نزلت الزكاة لم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله". قال الحافظ ابن حجر: وتعقب بأن في إسناده راوياً مجهولاً. وعلى تقدير الصحة فلا دليل فيه على النسخ، لاحتمال الاكتفاء بالأمر الأول، لأن نزول فرض لا يوجب سقوط فرض آخر. وقال أبو حنيفة: هي واجبة ليست فرضاً بناء على مذهبه في الفرق بين الواجب والفرض. قال النووي: والصواب أنها فرض واجب. وحكمة مشروعيتها -كما قال النووي- أن العبادات التي تطول ويشق التحرز منها من أمور تفوت كمالها، جعل الشارع فيها كفارة مالية بدل النقص، كالهدي في الحج والعمرة وكذا الفطرة لما يكون في الصوم من لغو وغيره. 2 - أما على من تجب فقد قال الحافظ ابن حجر: قوله: "من المسلمين" [كما في روايتنا الأولى] مقتضاه أنها لا تجب على الكافر عن نفسه. وهو أمر متفق عليه. وهل يخرجها عن غيره كمستولدته المسلمة مثلاً؟ نقل ابن المنذر فيه الإجماع على عدم الوجوب، لكن فيه وجه للشافعية ورواية عن أحمد. اهـ.

وقد اختلف الفقهاء في الصبي والعبد والزوجة والنصاب، وفرق بعضهم بين أهل البادية وغيرهم. أما الصبي: فظاهر أحاديث الباب أنها تجب عليه، ففي الرواية الثانية والخامسة "صغير أو كبير" فتجب على كل من استهل صارخاً قبل غروب شمس آخر يوم من رمضان وأدرك حياً جزءاً من شوال. قال الحافظ ابن حجر: لكن المخاطب عنه وليه، فوجوبها على هذا في مال الصغير، وإلا فعلى من تلزمه نفقته. وهذا قول الجمهور. وقال محمد بن الحسن: هي على الأب مطلقاً، فإن لم يكن له أب فلا شيء عليه. وعن سعيد بن المسيب والحسن البصري: لا تجب إلا على من صام، واستدل لهما بحديث ابن عباس مرفوعاً: "صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث". أخرجه أبو داود. قال النووي: وتعلق من يوجبها بأنها تطهير، والصبي ليس محتاجاً إلى التطهير لعدم الإثم. وأجاب الجمهور عن هذا بأن التعليل بالتطهير لغالب الناس، فإنها تجب على من لا ذنب له، كصالح محقق الصلاح؛ وككافر أسلم قبل غروب الشمس بلحظة، فإنها تجب عليه مع عدم الإثم. ونقل ابن المنذر الإجماع على أنها لا تجب عن الجنين. قال: وكان أحمد يستحبه ولا يوجبه، ونقل بعض الحنابلة رواية عنه بالإيجاب، وبه قال ابن حزم لكن قيده بمائة وعشرين يوماً من يوم حمل أمه به، وتعقب بأن الحمل غير محقق وبأنه لا يسمى صغيراً عرفاً ولا لغة. أما العبد فصريح أحاديث الباب أنها تجب عليه أو عنه، فلفظ الرواية الأولى "على كل حر أو عبد" ولفظ الرواية الثانية "على كل عبد أو حر" ولفظ الرواية الثالثة "حر ومملوك" وظاهرها إخراج العبد عن نفسه. ولم يقل به إلا داود فقال: يجب على السيد أن يمكن العبد من الاكتساب لزكاة الفطر، كما يجب عليه أن يمكنه من الصلاة. وخالفه أصحابه والعلماء، واحتجوا بحديث مسلم الذي مر في باب النصاب ومقدار الزكاة في الرواية السابعة ولفظها: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة". وفي الرواية الثامنة ولفظها: "ليس في العبد صدقة إلا صدقة الفطر". فهما صريحتان في أن الصدقة على السيد. وذهب بعض الشافعية أنها تجب ابتداء على العبد ثم يتحملها السيد. وهو قول حسن يجمع بين الروايات. أما العبد الكافر فظاهر إطلاق "حر أو عبد" أن المسلم والكافر سواء وعلى السيد المسلم زكاتهما. فقوله في الرواية الأولى: "من المسلمين" صفة للمخرجين، لا للمخرج عنهم، وقد روي أن ابن عمر كان يخرج عن أهل بيته حرهم وعبدهم، صغيرهم وكبيرهم، مسلمهم وكافرهم من الرقيق، وابن عمر هو راوي حديث: "من المسلمين" وهو أعرف الناس بمراد الحديث. بهذا قال عطاء والثوري والحنفية وإسحق، كما استدلوا بالعموم في حديث مسلم: "ليس في العبد صدقة إلا صدقة الفطر". والجمهور على أنه لا يجب على السيد المسلم زكاة عبده الكافر، وعموم العبد الذي استدلوا به يقضى عليه الخصوص بقوله: "من المسلمين" فهي صفة للمخرجين والمخرج عنهم، وأما إخراج ابن عمر عن عبيده الكافرين -إن صح- فيحمل على أنه كان يخرج عنهم تطوعاً ولا مانع منه.

وهل تجب زكاة الفطر في عبيد التجارة؟ قال البخاري: قال الزهري في المملوكين للتجارة: يزكى في التجارة ويزكى في الفطر. وهذا هو قول الجمهور. وقال النخعي والثوري وأبو حنيفة: لا يلزم السيد زكاة الفطر عن عبيد التجارة، لأن عليه فيهم زكاة، ولا تجب في مال واحد زكاتان. والأول أصح وأولى، فزكاة التجارة من حيث هو مال، وزكاة الفطر من حيث هو نفس. والله أعلم. وأما الزوجة فظاهر قوله في أحاديث الباب: "ذكر أو أنثى" وجوبها على المرأة سواء أكان لها زوج أم لا، وهو حجة لأبي حنيفة والثوري وابن المنذر حيث قالوا بوجوب زكاة الفطر على الزوجة في نفسها، ويلزمها إخراجها من مالها. وعند مالك والشافعي والليث وأحمد وإسحق تجب على زوجها تبعاً لنفقتها، واحتج الشافعي بحديث مرسل: "أدوا صدقة الفطر عمن تمونون". أخرجه البيهقي، قال الحافظ ابن حجر: وهو منقطع، ولم يرتض مذهب الجمهور وألزمهم بأنهم اتفقوا على أن المسلم لا يخرج عن زوجته الكافرة مع أن نفقتها تلزمه، فلا يسلم قياس الفطرة على النفقة واتباعها لها. أما النصاب فظاهر إطلاق أحاديث الباب: "على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى" أنها تجب على الغني ولا تجب على الفقير بهذا قال أبو حنيفة. والغني على قاعدتهم هو من ملك نصاباً، فاشترطوا لوجوبها ملكية النصاب، قياساً على زكاة الأموال وأخذاً بحديث: "لا صدقة إلا عن ظهر غنى". رواه البخاري. وأجاب الجمهور بأن زكاة الفطر زكاة أبدان، فلا تقاس على زكاة الأموال والعجب أن أبا حنيفة لا يشترط النصاب فيما تخرج الأرض، ثم يشترط النصاب هنا والمخرج ما تنبت الأرض، أما الحديث الذي استند عليه فهو خاص بزكاة الأموال، على أنه روي بلفظ: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى". كذا رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي. وظاهر قوله: "على الناس ... على كل حر أو عبد .... " إلخ. يدل على أنها تجب على أهل القرى والأمصار والبوادي والشعاب، وكل مسلم حيث كان وبه قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وجماهير العلماء. وعن عطاء والزهري وربيعة والليث: أنها لا تجب إلا على أهل الأمصار والقرى، دون البوادي. ذكره النووي. 3 - وأما القدر الواجب عن كل فرد والأنواع التي تخرج منها، فنصوص أحاديث الباب "صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير" نص الرواية الأولى والثانية والثالثة والرابعة والخامسة. أما الرواية السادسة فزادت "صاعاً من أقط أو صاعاً من زبيب" ثم أضافت الروايات قضاء معاوية بنصف صاع من بر. أما التمر والشعير فلا خلاف في جواز إخراجهما، ولا خلاف في المقدار الواجب منهما وهو صاع عن كل فرد، وقد اقتصر عليهما ابن حزم فلا يجزئ عنده شيء غيرهما وهو رأي لا يؤخذ به. وأما الزبيب فقد منعه بعض المتأخرين، لكن الإجماع السابق عليهم -كما يقول النووي- يردهم. وأما البر فلا خلاف يعتد به على جوازه، والخلاف في القدر الواجب منه، وظاهر الرواية السابعة والثامنة والتاسعة أن نصف الصاع منه تقدير من معاوية عن طريق اجتهاده، ولعله لاحظ ارتفاع سعر

الحنطة حينئذ بالنسبة إلى الأصناف الأخرى، وقد روي أن ابن عباس لما كان أمير البصرة أمرهم إخراج زكاة الفطر وبين لهم أنها صاع من تمر .. إلى أن قال: أو نصف صاع من بر، فلما جاء علي، ورأى رخص الأسعار قال: اجعلوها صاعاً من كل. قال الحافظ ابن حجر: ويلزم على اعتبار القيمة آنذاك أن تعتبر القيمة في كل زمان فيختلف الحال ولا ينضبط، وربما لزم في بعض الأحيان إخراج آصع من حنطة، أما أبو سعيد فقد نظر إلى الكيل. اهـ. ففي روايتنا السابعة: "قال أبو سعيد: فأما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه أبداً ما عشت". ولأبي داود: "لا أخرج أبداً إلا صاعاً". وعند الدارقطني وابن خزيمة والحاكم: "فقال له رجل: مدين من قمح. فقال: لا تلك قيمة معاوية، لا أقبلها ولا أعمل بها". قال النووي عن روايتنا السابعة: هذا الحديث هو الذي يعتمده أبو حنيفة وموافقوه في جواز نصف صاع حنطة، والجمهور يجيبون عنه بأنه قول صحابي؛ وقد خالفه أبو سعيد وغيره ممن هو أطول صحبة وأعلم بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا اختلفت الصحابة لم يكن قول بعضهم بأولى من بعض فنرجع إلى دليل آخر، فنجد ظاهر الأحاديث والقياس متفقاً على اشتراط الصاع من الحنطة كغيرها، فوجب اعتماده، وقد صرح معاوية بأنه رأى رآه، لا أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان عند أحد من حاضري مجلسه مع كثرتهم في تلك اللحظة علم في موافقة معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم لذكره كما جرى لهم في غير هذه القصة. وأما الأقط فهو ثابت في أحاديث الباب في الروايتين السابعة والثامنة، وهو لا يجزئ عند أحمد، وحمل الحديث على أن من كان يخرجه كان قوته إذ ذاك، أولم يقدر على غيره. قال الحافظ ابن حجر: وظاهر الحديث يخالفه. وفي جواز إخراج الأقط خلاف عند الشافعية، فالماوردي يزعم أنه يختص بأهل البادية وأما الحاضرة فلا يجزئ عنهم، وتعقبه النووي في شرح المهذب وقال: ينبغي أن يقطع بجوازه لصحة الحديث فيه من غير معارض. وظاهر مذهب أحمد: أنه لا يجوز العدول عن هذه الأصناف الخمسة المنصوص عليها مع قدرته عليها. ويجوز عند أبي حنيفة وأحمد إخراج الدقيق والسويق. أما الشافعية والمالكية فلا يلتزمون هذه الأصناف، بل يرون جواز إخراج الفطرة من كل ما هو قوت للناس، ويرى الشافعية أن كل ما يجب فيه العشر من الحبوب والثمار هو ما يقتات به في حال الاختيار، وهو صالح لإخراج الفطرة، وعلى المسلم أن يخرج الفطرة من غالب قوت البلد. أما القيمة فهي غير جائزة عند مالك والشافعي وأحمد، لأنها خلاف ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقيمة في معاملات الناس لا تجوز إلا بتراض بين الطرفين. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يجوز إخراج القيمة.

وفي هذا العصر يعتبر مذهب أبي حنيفة أجدى وأنفع للفقير وأيسر وأضبط لمخرج الزكاة. والله أعلم. 4 - وأما وقت وجوبها فإن الرواية العاشرة والحادية عشرة تصرحان بالأمر بإخراجها قبل خروج الناس إلى صلاة العيد، ولفظ "قبل" يمنع التأخير، ولا يحدد بداية الوجوب أو بداية الجواز، وإن كان يوصي بالقرب لا بالبعد عن الوقت المذكور، ولكن متى تجب؟ ومتى يجوز إخراجها؟ وما حكم تأخيرها عن صلاة العيد؟ . أما وقت الوجوب فقال الشافعي وأحمد وإسحق ومالك في رواية عنه: تجب بغروب شمس آخر يوم من رمضان. وقال أبو حنيفة ومالك في رواية عنه: تجب بطلوع الفجر من يوم العيد. ومعنى ذلك أنهم اتفقوا على أن من مات قبل غروب شمس آخر يوم من رمضان لا زكاة عليه، ومن ولد قبل غروب شمس آخر يوم ولو بلحظة فعليه زكاة الفطر، أما من ولد بعد المغرب وقبل فجر يوم العيد فلا زكاة عليه عند الجمهور، وعليه الزكاة عند أبي حنيفة، ومن مات بعد المغرب وقبل فجر يوم العيد فعليه الزكاة عند الجمهور، ولا زكاة عليه عند أبي حنيفة. وأما وقت جواز إخراجها فقال أبو حنيفة: يجوز تعجيلها من أول الحول لأنها زكاة، فأشبهت زكاة الأموال. وقال الشافعي: يجوز إخراجها من أول شهر رمضان لأنها مبنية على الصوم وعلى الفطر منه، فإذا وجد أحد السببين جاز إخراجها، كزكاة المال بعد ملك النصاب، ولكن الأفضل أو المستحب إخراجها بعد غروب شمس آخر يوم من رمضان وقبل صلاة العيد. وأخرج مالك في الموطأ والشافعي عن نافع: "أن عمر كان يبعث بزكاة الفطر قبل الفطر بيومين أو ثلاثة". قال الشافعي: هذا حسن. وأنا أستحبه. اهـ. وقال بعض الحنابلة: يجوز إخراجها من بعد نصف شهر رمضان. ومذهب أحمد وهو المعتمد عند المالكية أنه لا يجوز إخراجها قبل العيد بأكثر من يومين، لما رواه البخاري عن ابن عمر قال: "كانوا يعطونها قبل الفطر بيوم أو يومين". ومنع ابن حزم تعجيلها قبل فجر يوم الفطر. ومعنى عدم جواز إخراجها قبل عام أو قبل رمضان أو قبل منتصفه أو قبل فجر يوم العيد أنها لو وقعت ودفعت لا تقع موقع القبول ولا موقع الواجب. وأما تأخير أدائها عن صلاة العيد فجمهور الفقهاء على كراهته ما لم تؤخر عن يوم العيد، أما تأخيرها عن يوم العيد فهو حرام يأثم فاعله، كما في إخراج الصلاة عن وقتها، لكن هل تقع الزكاة موقع الفرض مع الإثم كتأخير الصلاة؟ أو لا تقع موقع الفرض؟ وما دفع يعتبر صدقة؟ وتبقى ديناً في ذمة صاحبها للمستحقين؟ خلاف بين العلماء. الراجح الأول.

-[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم: ]- 1 - من الرواية السابعة أن قول الصحابي: كنا نفعل كذا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، أو إذا كان فينا -حديث له حكم المرفوع، إذ فيه إشعار بإطلاعه صلى الله عليه وسلم على ذلك، وتقرير له، ولا سيما في هذه الصورة التي كانت توضع عنده، وتجمع بأمره، وهو الآمر بقبضها وتفرقتها. ذكره الحافظ ابن حجر. 2 - ما كان عليه أبو سعيد رضي الله عنه من شدة الاتباع والتمسك بالآثار، وترك العدول إلى الاجتهاد مع وجود النص. 3 - ومن صنيع معاوية وموافقة الناس له دلالة على جواز الاجتهاد، قال الحافظ ابن حجر: وهو محمود، لكنه مع وجود النص فاسد الاعتبار. والله أعلم

(290) باب جزاء مانع الزكاة وعقوبته

(290) باب جزاء مانع الزكاة وعقوبته 1991 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلما بردت أعيدت له. في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة. حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار" قيل يا رسول الله فالإبل؟ قال "ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها، ومن حقها حلبها يوم وردها، إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر، أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلاً واحداً. تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها. كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها. في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار" قيل يا رسول الله فالبقر والغنم؟ قال "ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة، بطح لها بقاع قرقر، لا يفقد منها شيئاً، ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء، تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها. في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار" قيل يا رسول الله فالخيل؟ قال "الخيل ثلاثة: هي لرجل وزر، وهي لرجل ستر، وهي لرجل أجر. فأما التي هي له وزر فرجل ربطها رياء وفخراً ونواء على أهل الإسلام فهي له وزر. وأما التي هي له ستر فرجل ربطها في سبيل الله ثم لم ينس حق الله في ظهورها ولا رقابها فهي له ستر. وأما التي هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام في مرج وروضة، فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة من شيء إلا كتب له عدد ما أكلت حسنات، وكتب له عدد أرواثها وأبوالها حسنات، ولا تقطع طولها فاستنت شرفاً أو شرفين إلا كتب الله له عدد آثارها وأرواثها حسنات، ولا مر بها صاحبها على نهر فشربت منه ولا يريد أن يسقيها إلا كتب الله له عدد ما شربت حسنات" قيل يا رسول الله فالحمر؟ قال "ما أنزل علي في الحمر شيء إلا هذه الآية الفاذة الجامعة {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره}

1992 - عن زيد بن أسلم في هذا الإسناد بمعنى حديث حفص بن ميسرة إلى آخره، غير أنه قال "ما من صاحب إبل لا يؤدي حقها" ولم يقل "منها حقها" وذكر فيها "لا يفقد منها فصيلا واحداً" وقال "يكوى بها جنباه وجبهته وظهره". 1993 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته إلا أحمي عليه في نار جهنم، فيجعل صفائح فيكوى بها جنباه وجبينه، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار. وما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر كأوفر ما كانت، تستن عليه، كلما مضى عليه أخراها ردت عليه أولاها، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، وما من صاحب غنم لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر كأوفر ما كانت، فتطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها، ليس فيها عقصاء ولا جلحاء، كلما مضى عليه أخراها ردت عليه أولاها، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار" قال سهيل فلا أدري أذكر البقر أم لا. قالوا فالخيل يا رسول الله. قال "الخيل في نواصيها (أو قال) الخيل معقود في نواصيها (قال سهيل أنا أشك) الخير إلى يوم القيامة. الخيل ثلاثة: فهي لرجل أجر، ولرجل ستر، ولرجل وزر. فأما التي هي له أجر فالرجل يتخذها في سبيل الله ويعدها له فلا تغيب شيئاً في بطونها إلا كتب الله له أجراً، ولو رعاها في مرج ما أكلت من شيء إلا كتب الله له بها أجراً، ولو سقاها من نهر كان له بكل قطرة تغيبها في بطونها أجر (حتى ذكر الأجر في أبوالها وأرواثها) ولو استنت شرفاً أو شرفين كتب له بكل خطوة تخطوها أجر. وأما الذي هي له ستر فالرجل يتخذها تكرماً وتجملاً ولا ينسى حق ظهورها وبطونها في عسرها ويسرها. وأما الذي عليه وزر فالذي يتخذها أشراً وبطراً وبذخاً ورياء الناس فذاك الذي هي عليه وزر" قالوا فالحمر؟ يا رسول الله قال "ما أنزل الله علي فيها شيئاً إلا هذه الآية الجامعة الفاذة" {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره}

1994 - حدثنا سهيل بن أبي صالح بهذا الإسناد وقال بدل (عقصاء) "عضباء" وقال "فيكوى بها جنبه وظهره" ولم يذكر (جبينه). 1995 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "إذا لم يؤد المرء حق الله أو الصدقة في إبله" وساق الحديث بنحو حديث سهيل عن أبيه. 1996 - عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "ما من صاحب إبل لا يفعل فيها حقها إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت قط، وقعد لها بقاع قرقر تستن عليه بقوائمها وأخفافها. ولا صاحب بقر لا يفعل فيها حقها إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت، وقعد لها بقاع قرقر تنطحه بقرونها وتطؤه بقوائمها. ولا صاحب غنم لا يفعل فيها حقها إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت، وقعد لها بقاع قرقر تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، ليس فيها جماء ولا منكسر قرنها. ولا صاحب كنز لا يفعل فيه حقه إلا جاء كنزه يوم القيامة شجاعاً أقرع يتبعه فاتحاً فاه، فإذا أتاه فر منه فيناديه خذ كنزك الذي خبأته فأنا عنه غني، فإذا رأى أن لا بد منه سلك يده في فيه فيقضمها قضم الفحل" قال أبو الزبير سمعت عبيد بن عمير يقول هذا القول. ثم سألنا جابر بن عبد الله عن ذلك. فقال مثل قول عبيد بن عمير. وقال أبو الزبير سمعت عبيد بن عمير يقول قال رجل يا رسول الله ما حق الإبل؟ قال "حلبها على الماء وإعارة دلوها وإعارة فحلها ومنيحتها وحمل عليها في سبيل الله". 1997 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي حقها إلا أقعد لها يوم القيامة بقاع قرقر، تطؤه ذات الظلف بظلفها وتنطحه ذات القرن بقرنها، ليس فيها يومئذ جماء ولا مكسورة القرن" قلنا يا رسول الله وما حقها؟ قال "إطراق فحلها وإعارة دلوها ومنيحتها وحلبها على الماء وحمل عليها في سبيل الله. ولا من صاحب مال لا يؤدي زكاته إلا تحول يوم القيامة شجاعاً أقرع يتبع

صاحبه حيثما ذهب وهو يفر منه، ويقال هذا مالك الذي كنت تبخل به فإذا رأى أنه لا بد منه أدخل يده في فيه فجعل يقضمها كما يقضم الفحل". 1998 - عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا إن ناساً من المصدقين يأتوننا فيظلموننا. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أرضوا مصدقيكم" قال جرير ما صدر عني مصدق منذ سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو عني راض. 1999 - عن أبي ذر رضي الله عنه قال انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة فلما رآني قال "هم الأخسرون ورب الكعبة" قال فجئت حتى جلست فلم أتقار أن قمت فقلت يا رسول الله فداك أبي وأمي من هم؟ قال "هم الأكثرون أموالاً إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا (من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله) وقليل ما هم ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه، تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، كلما نفدت أخراها عادت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس". 2000 - عن أبي ذر رضي الله عنه قال انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة فذكر نحو حديث وكيع غير أنه قال "والذي نفسي بيده ما على الأرض رجل يموت فيدع إبلاً أو بقراً أو غنماً لم يؤد زكاتها". 2001 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ما يسرني أن لي أحداً ذهباً تأتي علي ثالثة وعندي منه دينار إلا دينار أرصده لدين علي". 2002 - عن أبي ذر رضي الله عنه قال كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة عشاء ونحن

ننظر إلى أحد، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا أبا ذر" قال قلت لبيك يا رسول الله قال "ما أحب أن أحداً ذاك عندي ذهب أمسى ثالثة عندي منه دينار إلا ديناراً أرصده لدين إلا أن أقول به في عباد الله، هكذا حثا بين يديه، وهكذا عن يمينه وهكذا عن شماله" قال ثم مشينا فقال "يا أبا ذر" قال قلت لبيك يا رسول الله قال "إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا" مثل ما صنع في المرة الأولى قال ثم مشينا قال "يا أبا ذر كما أنت حتى آتيك" قال فانطلق حتى توارى عني. قال: سمعت لغطاً وسمعت صوتاً. قال: فقلت لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض له. قال: فهممت أن أتبعه. قال: ثم ذكرت قوله "لا تبرح حتى آتيك". قال: فانتظرته فلما جاء ذكرت له الذي سمعت. قال: فقال "ذاك جبريل أتاني فقال من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة. قال: قلت وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق". 2003 - عن أبي ذر رضي الله عنه قال خرجت ليلة من الليالي، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وحده ليس معه إنسان. قال: فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد. قال: فجعلت أمشي في ظل القمر فالتفت فرآني، فقال "من هذا؟ " فقلت: أبو ذر جعلني الله فداءك. قال "يا أبا ذر تعاله" قال: فمشيت معه ساعة، فقال "إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة إلا من أعطاه الله خيراً فنفح فيه يمينه وشماله وبين يديه ووراءه وعمل فيه خيراً" قال: فمشيت معه ساعة. فقال "اجلس ها هنا" قال: فأجلسني في قاع حوله حجارة. فقال لي "اجلس ها هنا حتى أرجع إليك" قال: فانطلق في الحرة حتى لا أراه فلبث عني فأطال اللبث، ثم إني سمعته وهو مقبل وهو يقول "وإن سرق وإن زنى" قال: فلما جاء لم أصبر فقلت يا نبي الله جعلني الله فداءك من تكلم في جانب الحرة؟ ما سمعت أحداً يرجع إليك شيئاً؟ قال "ذاك جبريل عرض لي في جانب الحرة، فقال بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة. فقلت يا جبريل وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم. قال: قلت وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم. قلت وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم. وإن شرب الخمر". 2004 - عن الأحنف بن قيس قال: قدمت المدينة فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش إذ جاء رجل أخشن الثياب أخشن الجسد أخشن الوجه، فقام عليهم فقال: بشر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم فيوضع على حلمة

ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفيه، ويوضع على نغض كتفيه حتى يخرج من حلمة ثدييه يتزلزل. قال: فوضع القوم رءوسهم فما رأيت أحداً منهم رجع إليه شيئاً. قال: فأدبر واتبعته حتى جلس إلى سارية، فقلت: ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم. قال: إن هؤلاء لا يعقلون شيئاً إن خليلي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم دعاني فأجبته فقال "أترى أحداً؟ " فنظرت ما علي من الشمس وأنا أظن أنه يبعثني في حاجة له. فقلت أراه. فقال "ما يسرني أن لي مثله ذهباً أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير" ثم هؤلاء يجمعون الدنيا لا يعقلون شيئاً. قال: قلت ما لك ولإخوتك من قريش لا تعتريهم وتصيب منهم. قال: لا وربك لا أسألهم عن دنيا ولا أستفتيهم عن دين حتى ألحق بالله ورسوله. 2005 - عن الأحنف بن قيس قال كنت في نفر من قريش، فمر أبو ذر وهو يقول بشر الكانزين بكي في ظهورهم يخرج من جنوبهم وبكي من قبل أقفائهم يخرج من جباههم. قال: ثم تنحى فقعد. قال: قلت من هذا؟ قالوا هذا أبو ذر. قال: فقمت إليه فقلت ما شيء سمعتك تقول قبيل؟ قال ما قلت إلا شيئاً قد سمعته من نبيهم صلى الله عليه وسلم. قال: قلت ما تقول في هذا العطاء؟ قال خذه فإن فيه اليوم معونة فإذا كان ثمناً لدينك فدعه. -[المعنى العام]- وعيد ترتعد منه الفرائص، وتقشعر منه الأبدان، ويشيب لهوله الولدان ذلك لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد} [الحديد: 20] لكنها: {كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} [الحديد: 20]. لماذا نجمع الأموال والثروات؟ وفيم ننفقها؟ وما نتيجتها؟ وما نهايتها؟ وما جزاؤنا عليها؟ . أسئلة يعلم جوابها كل الناس، لكنهم لا يعملون بما يعلمون: {يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون} [الروم: 7]. يعلمون أنه: "ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت".

"إنما لابن آدم من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو تصدق فأقنى، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس". وما الناس إلا جامع أو مضيع وذو نصب يسعى لآخر نائم نصيبك مما تجمع الدهر كله رداءان تلوى فيهما وحنوط والكيس من أخذ من دنياه لآخرته، وعمل في ماله لما بعد موته، والغافل من خدعه ماله وأشرب حبه في قلبه، وجمعه وعدده، واكتنزه ولم يخرج زكاته، ولم يشكر نعمة ربه فلم يعط الفقراء والمساكين ما فرضه الله لهم فيه. وعيد مخيف تصوره الأحاديث، ما من صاحب ذهب ولا فضة يجمع نصاباً يحول عليه الحول لا يخرج زكاته حتى يموت إلا جاء يوم القيامة وقد صفح هذا المال في هيئته صفائح، في هيئة ألواح حديدية سميكة، يحمى عليها في نار جهنم حتى تصير ناراً حمراء، يكوى بها جبين صاحبها، فتخرج النار من خلف رأسه ويكوى بها جنبه، فتخرج النار من جنبه الآخر، ويكوى به صدره وبطنه فتخرج النار من ظهره، توضع على ثدييه حتى تخرج من عظم كتفيه، وتوضع على عظم كتفيه فتخرج من حملة ثدييه، لا تبرد أبداً، بل كلما بردت قطعة كانت الأخرى جاهزة موقدة، تحل محلها، ثم تعود الأولى ناراً كما كانت، وإلى متى هذا العذاب وهذا الكي؟ لقد تمتع هذا المسكين بماله عدد سنين، لا تتجاوز الستين، فكم يوماً وكم سنة يحرق بماله؟ لنفرض أنه سيعذب يوماً واحداً، لكن مقدار هذا اليوم خمسون ألف سنة، فيالهول العذاب؟ ؟ ؟ ؟ ويالهول الزمن! ! ! ! . ويا ليت عذاب الكانز يقتصر على هذا. فإن عذاباً آخر في انتظاره، عذاب الرعب والإهانة والسخرية والتوبيخ بعد عذاب الكي بالنار، يحول الله ماله إلى ثعبان كبير أسود، له على جانبي رأسه قرنان مملوءان سماً وناراً حامية، ويحمل في شدقيه أنياباً كأسنان الرمح، فيفتح فاه، ويجري وراء صاحبه، وصاحبه يفر منه هنا وهناك يناديه الثعبان بصوت مزعج رهيب، لا خلاص لك ولا مهرب، هذا مالك في بطني فتعال خذه فأنا لا أحتاجه، هذا كنزك في أحشائي، ولا بد أن تدخل يدك في فمي لعلك تخرجه، فإذا أيقن الكانز أن لا مهرب ولا مفر، أدخل يده في فم الثعبان، فقضمها الثعبان بأنيابه الحادة الموقدة، لا هو يقطعها، ولا هو يدعها، حتى يقضي الله أمره. هذا عذاب كانز المال، أما جامع الإبل والبقر والغنم الذي لم يؤد حق الله فيها ولم يخرج زكاتها فإن الله يجمعها له يوم القيامة، كاملة العدد، لا ينقص منها رضيعاً، كاملة الخلقة، ليس فيها مكسورة القرن، كأقوى حالة كانت عليها في الدنيا، يجمعها في ساحة كبيرة، ويؤتي بصاحبها، فيقعد القرفصاء، لا يستطيع حراكاً أو فكاكاً، فتنطحه بقرونها وتعضه بأفواهها، ثم تبطحه وتلقيه على وجهه، فتطؤه بأظلافها، تمر عليه واحدة واحدة، كلما انتهت أخراها عادت عليه أولاها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي الله بين العباد فينصرف إلى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار.

وكان من الطبيعي أن يسأل أهل الخيل عن زكاة الخيل، حيث لم يتعرض لها صلى الله عليه وسلم، فأجابهم: الخيل تستخدم في الدنيا لثلاث مهام: بعض الناس يربطها رياء وفخراً ومناوأة ومعاداة لأهل الإسلام فهي له وزر، في كل حركة من حركاتها إثم وجرم. وبعض الناس يربطها ويعدها للجهاد في سبيل الله، يعني بمطعمها ومشربها وصحتها وتدريبها على الكر والفر، يعدها لنفسه خاصة، يبادر إليها عند الداعي، يعير فحلها، ويعين الناس بها، فهي له ستر من النار يوم القيامة. وبعض الناس يربط خيله الكثيرة، ويعدها للمجاهدين الذين لا يجدون ولا يملكون، يوقفها على سبيل الله، ولأهل الإسلام، فهي له أجر وحسنات، ما تحركت في مرعاها وما سكنت في مربطها، إلا كتب له بذلك حسنات، بل يكتب له عدد أرواثها وأبوالها حسنات، بل إذا مرت على ماء فشربت حتى دون أن يقصد سقيها فله بعدد جرعاتها حسنات. وهنا سأل أصحاب الحمر عن زكاة الحمر، فأجابهم صلى الله عليه وسلم أنها لم ترد فيها زكاة، وإنما تدخل في القاعدة العامة، الدعوة إلى الخير {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره} [الزلزلة: 7]. ووضحت معالم الزكاة في الإسلام، ووضحت واجبات المال ومندوباته ووضح محرماته ومكروهاته ومباحاته، واستقرت أحكامه عند الصحابة. لكن أبا ذر كان يرى في ذلك غير ما يراه جمهور المسلمين. لقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيش فقيراً، ويلزم أهل بيته الكفاف من العيش يمر الشهر والشهران ثلاثة أهله في شهرين ولا يوقد في بيته نار، لعدم وجود ما يطهى بالنار، وكان يوزع كل الفيء والغنائم والزكاة على المصارف التي شرعها الله. ثم هو ذا أبو ذر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عهد عثمان يعيش في الشام، في دمشق مع معاوية بن أبي سفيان، أمير الشام، الذي يعيش في قصره كالملوك، بل كالأكاسرة والقياصرة من حيث النعيم والأبهة وزينة الحياة. بدأ أبو ذر يقارن في نفسه بين رسول الله وقائده وحاكمه وبين معاوية. من أين لمعاوية ما هو فيه؟ أليس من مال المسلمين؟ ومن حول معاوية من الحاشية والمقربين؟ من أين لهم هذا الغنى؟ أليس من مال المسلمين؟ . إنه يتذكر ليلة مشى مع النبي صلى الله عليه وسلم في حصباء المدينة، ساعة قال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر. قال لبيك يا رسول الله قال: انظر إلى جبل أحد فنظر. قال صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر. ما أحب أن مثل جبل أحد هذا عندي ذهباً، أبيت ثلاث ليال وعندي منه شيء. إلا دينار أرصده لدين علي، بل أوزعه على عباد الله هكذا وهكذا. يحثو بيده صلى الله عليه وسلم قابضة ويفرغها جهة اليمين تارة وجهة الشمال أخرى. ثم تابعا السير فترة فقال: يا أبا ذر. فقال: لبيك يا رسول الله. قال: إن المكثرين من

المال هم المقلون من الأعمال الصالحة إلا من فعل بماله هكذا وهكذا. يشير إلى التوزيع والإنفاق كما فعل في المرة الأولى، وفي رواية: "إلا من أعطاه الله خيراً فنفخ فيه يمينه وشماله، وبين يديه ووراءه، وعمل فيه خيراً". لقد استقر في نفس أبي ذر أن صورة الولاة والأمراء ينبغي أن تحاكي صورة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن الرجل الذي يرى الخطأ ويسكت عنه، لقد فاتح معاوية ونصحه، وجاء له معاوية بالعلماء يناقشونه، يستدل أبو ذر بقوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون} [التوبة: 34، 35]. ويقول معاوية: إن الآية في اليهود، ويقول أبو ذر: فيهم وفينا، ويقول العلماء: إن ما أدى زكاته ليس بكنز، ولا يدخل في الآية، ويقول أبو ذر: بل يدخل في الآية مادام في المسلمين فقراء، وتجاوزت دعوة أبي ذر معاوية وحاشيته إلى الأغنياء عامة، فأصبح يدخل على مجتمعاتهم فيقول: بشر الكانزين بكي في جنوبهم، ونفر منه الناس، فكتب معاوية إلى عثمان أن أبا ذر يفسد عليه حكمه في الشام، فأرسل إليه عثمان يدعوه إلى المدينة، فجاء فأبقاه عثمان فيها، فسار في المدينة بمثل ما سار عليه في دمشق، يمشي أخشن الجسد، أخشن الوجه، يلبس أخشن الثياب، لا يجد جماعة مجتمعين إلا ألقى عليهم وعيده فسخر منه الأغنياء، وأغروا به الصبيان يجتمعون حوله، ويمشون وراءه، ولم يكن يعبأ بكل ذلك، لكن عثمان رأى حرصاً عليه وعلى هدوء الناس بالمدينة أن يعرض عليه الحياة الهادئة بالربذة، وهي القرية الصغيرة التي كان يذهب إليها منذ أزمان، فذهب إليها وعاش فيها حتى مات رضي الله عنه وأرضاه. -[المباحث العربية]- (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها) قيل: سمي الذهب ذهباً لأنه يذهب ولا يبقى، وسميت الفضة فضة لأنها تنفض، أي تنصرف وعاد الضمير منفرداً مؤنثاً "منها حقها" والمذكور اثنان: ذهب وفضة ذهاباً إلى المعنى، لا إلى اللفظ، فكل واحد منهما ذو عدد، دنانير ودراهم، على معنى لا يؤدي حق أفرادهما. وقيل: الضمير عائد على الفضة. وحذف الكلام عن الذهب اكتفاء، والمعنى لا يؤدي منها حقها، ولا يؤدي منه حقه، وتنكير "ذهب" و"فضة" قد يستدل به على وجوب الزكاة في عمومهما، مصوغاً أو مضروباً أو غيرها. (إلا إذا كان يوم القيامة) "كان" تامة، و"يوم القيامة" فاعلها، أي حتى إذا جاء يوم القيامة، والاستثناء مفرغ من عموم الأخبار، والتقدير: ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي الزكاة مخبر عنه بخبر ما إلا بخبر كذا. (صفحت له صفائح) أي صهرت وبسطت صفائح وحمي عليها في النار حتى تصير كالنار.

(فأحمي عليها في نار جهنم) أي أوقد عليها، وقيل في "جهنم": أنه اسم أعجمي يمنع من الصرف للعلمية والعجمة، وقيل: هو اسم عربي، ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث، مستمد من الجهومة، وهي الغلظ، لغلظ أمرها في العذاب، وقيل: سميت بذلك لعمق مقرها، يقال: "بئر جهنام، أي بعيدة القعر". (فيكوى بها) أي بصفائح النار. (جنبه وجبينه وظهره) في الرواية الثانية "فيكوى بها جنباه وجبينه"، وفي الرواية الثانية عشرة "بشر الكانزين بكي في ظهورهم يخرج من جنوبهم وبكي من قبل أقفائهم يخرج من جباههم" ولكل إنسان جنبان، فإفراد جنبه يراد به الجنس، والمقصود جنباه، وهو المقصود في قوله تعالى: {يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم} [التوبة: 35] لأن مقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحاداً، فتكون الآية من جنس روايتنا الأولى، والمراد من الجبين الجبهة، وخصت هذه المواضع من بين أماكن الجسم المتعددة لأن الكي في الوجه أبشع وأشهر، وفي الظهر والجنب آلم وأوجع، أو لأنها مواضع تصل إليها الحرارة بسرعة؛ أو لأن الغنى إذا أقبل عليه الفقير قبض جبهته، وزوى ما بين عينيه، وطوى جنبه، أو لأن الغني إذا جاءه الفقير من قبل وجهه ولى عنه وجهه والتفت إلى جنبه، ثم يدور الفقير فيوليه ظهره، كذا قيل. وحاصله أنه لا يكوى من الجسد إلا هذه المواضع، والأولى أن يقال: إن هذه الأعضاء إشارة إلى الجسد كله، فالجبهة إشارة إلى مقدم البدن، والظهر إشارة إلى خلفه، والجنبان يمينه وشماله، وإنما خصت بالذكر للتخويف والإرهاب. (كلما بردت أعيدت له) قال النووي: هكذا هو في بعض النسخ "بردت" بالباء، وفي بعضها "ردت" بضم الراء، وذكر القاضي الروايتين قال: والثانية رواية الجمهور، والأولى هي الصواب. (فيرى سبيله) قال النووي: ضبطناه بضم الياء وفتحها، وبرفع لام "سبيله" ونصبها. (قيل ..... فالإبل) الفاء فصيحة وفي الكلام مضاف محذوف. أي هذا إثم صاحب الذهب والفضة، فما إثم صاحب الإبل؟ (لا يؤدي منها حقها) أي لا يخرج منها زكاتها، وفي الرواية الثانية والخامسة "لا يؤدي زكاتها". (ومن حقها حلبها يوم وردها) "حلبها" قال النووي: هو بفتح اللام على اللغة المشهورة، وحكى إسكانها، وهو غريب ضعيف وإن كان هو القياس. اهـ والمراد حلبها على الماء كما جاء في الرواية الرابعة والخامسة، ليسقي من لبنها أبناء السبيل والمساكين الذين ينزلون على الماء ليكون أسهل على المحتاج من قصد المنازل، وأرفق بالماشية. قال ابن بطال: كانت عادة العرب التصدق

باللبن على الماء، فكان الضعفاء يرصدون ذلك منهم. وذكره الداودي بالجيم " جلبها" وفسره بالإحضار إلى المصدق، وجزم بأنه تصحيف، وفي المراد بالحق هنا خلاف يأتي في فقه الحديث. (بطح لها بقاع قرقر) "بطح" مبني للمجهول، ونائب الفاعل ضمير الذي لم يؤد زكاتها، أي بطح صاحبها لها أي ألقي على وجهه، وقيل: بسط وطرح ومد، وقد يكون على وجهه، وقد يكون على ظهره، وفي الرواية الرابعة "وقعد بها بقاع قرقر" وفاعل "قعد" صاحب الإبل. ولعله يبطح تارة ويقعد أخرى وهي تطؤه مبطوحاً أو قاعداً، أو لعله يقعد فتنطحه بقرونها فيبطح فتطؤه. والقاع المستوي الواسع من الأرض يعلوه ماء السماء فيمسكه، وجمعه قيعة وقيعان. والقرقر المستوي أيضاً من الأرض الواسع وهو بفتح القافين، ذكره النووي. والظاهر أن المراد بالقاع هنا الأرض المستوية المنخفضة عما حولها، وبالقرقر الواسعة، فوصف المكان بالانخفاض والسعة يبعد الهروب ويسمح بالتجمع الكثير والانحصار فيكون أنكى. و"قاع قرقر" يحتمل تنوين "قاع" وعدم تنوينه على الوصف والإضافة. (أوفر ما كانت) في الرواية الثانية "كأوفر ما كانت" وفي الرواية الرابعة "أكثر ما كانت" وفي الرواية السابعة "أعظم ما كانت وأسمنه" وفي رواية البخاري "على خير ما كانت" والمعنى على أحسن الحالات التي كانت عليها عند صاحبها مانع الزكاة، لأنها عنده على حالات، مرة هزيلة ومرة سمينة ومرة صغيرة ومرة كبيرة، ومرة قليلة، ومرة كثيرة. فتأتي على أكملها ليكون ذلك أنكى له لثقلها. (لا يفقد منها فصيلاً واحداً) هذا تأكيد لأوفر ما كانت من حيث الكثرة أي حتى مولودها الذي ذبح صغيراً يجيء على خير حالة عاش عليها وهذا هو المراد بالشيء في قوله عن البقر والغنم "لا يفقد منها شيئاً" وفاعل "يفقد" ضمير يعود على صاحبها. (تطؤه بأخفافها، وتعضه بأفواهها) في الرواية الرابعة "تستن عليه بقوائمها وأخفافها" أي تجري عليه بأرجلها، وماضي "تطأ" وطئ، فحذفت الواو في المضارع، والأخفاف جمع خف، وهو للبعير بمنزلة الظلف للبقر والغنم والظباء، وكل ذي حافر منشق منقسم وبمنزلة القدم للآدمي والحافر للحمار والبغل والفرس. (كلما مر عليه أولاها) قال النووي: هكذا هو في جميع الأصول في هذا الموضع. قال القاضي عياض: قالوا: هو تغيير وتصحيف، وصوابه ما في الرواية التي بعده -روايتنا الثانية- كلما مضى عليه أخراها ردت عليه أولاها "روايتنا السابعة كلما نفدت أخراها عادت عليه أولاها" ووجه الخطأ في الرواية الأولى أنه إنما يرد الأول الذي قد مر من قبل، وأما الآخر فلم يمر بعد، فلا يقال: رد أخراها. وقد حاول بعض العلماء توجيه هذه الرواية بأنه يحتمل أن المعنى أن أول الماشية تتلاحق حتى تصل إلى أخراها، ثم إذا أرادت الرجوع بدأت أخراها بالرجوع فتصير أول الرد، وهذا التوجيه حسن

ومقبول إذا كانت الإبل ستتلاحق في صف مستقيم، فتكون الأخيرة عند الرد أولى مرة، وتكون الأولى عند الرد أولى مرة، ويصبح تقدير العبارة: كلما مر عليه أخراها حتى أولاها رد عليه أولاها. لكن هذا التوجيه إن أصلح الرواية الأولى بهذا التصوير نقل الإشكال إلى الروايات الأخرى. أما إذا كان تلاحق الإبل على هيئة دائرة فلا يقال: كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها، وإنما يقال: كلما مر عليه أخراها رد عليه أولاها. (ليس فيها عقصاء، ولا جلحاء، ولا عضباء) في الرواية الرابعة "ليس فيها جماء، ولا منكسر قرنها" وكذا في الرواية الخامسة، والعقصاء ملتوية القرنين، والقرن الملتوي مثل الطوق لا ينكل مثل المدبب الذي يصيب بسنه مرة وبعرضه أخرى، والجلحاء التي لا قرن لها، والعضباء مكسورة القرن الداخلي، والجماء كالجلحاء لا قرن لها. وليس معنى نفي وجود هذه الموصوفات استبعاد ما كانت من النعم كذلك في الدنيا، بل المراد حضورها كاملة الأعضاء، فمعنى قوله في الرواية الخامسة: "وتنطحه ذات القرن بقرنها" أي ما هي بطبيعتها ذات قرن سواء أكانت في دنياها بقرن أم لا. (تنطحه بقرونها) "تنطحه" بكسر الطاء، ويجوز الفتح. (الخيل ثلاثة) أي ثلاثة أصناف من حيث ما تعود به على أصحابها من خير وشر. (فأما التي هي له وزر) قال النووي: هكذا هو في أكثر النسخ "التي" وقع في بعضها "الذي" وهو أوضح وأظهر. (ونواء على أهل الإسلام) "نواء" بكسر النون، وبالمد، أي مناوأة ومعاداة. (فرجل ربطها في سبيل الله) أي أعدها للجهاد، وأصله من الربط، ومنه الرباط، وهو حبس الرجل نفسه في الثغر، وإعداده الأهبة لذلك. (في مرج وروضة) المرج بسكون الراء الأرض الواسعة ذات الزروع والمراعي الخضراء، والروضة البستان. (ولا تقطع طولها) بكسر الطاء وفتح الواو، ويقال: طيلها بالياء، والطول والطيل الحبل الذي تربط فيه. (فاستنت شرفاً أو شرفين) "استنت" أي جرت، والشرف بفتح الشين والراء: العالي من الأرض، أي جرت وارتفعت عالياً أو عاليين، وقيل: المراد شوطاً أو شوطين. (ولا يريد أن يسقيها) جملة حالية من "صاحبها" سيقت لإثبات الأجر عند إرادة السقي من باب أولى، لأنه إذا حصل له هذه الحسنات من غير أن يقصد سقيها فإذا قصده فأولى بأضعاف الحسنات.

(هذه الآية الفاذة الجامعة) "الفاذة قليلة النظير"، و"الجامعة" العامة المتناولة لكل خير ومعروف، أي لم ينزل فيها بعينها نص، لكن هذه الآية العامة {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} [الزلزلة: 7]. (ما من صاحب كنز) في كتب اللغة: الكنز اسم للمال المدفون. وقيل: هو الذي لا يدري من كنزه، وقال الطبري: هو كل شيء مجموع بعضه إلى بعض، في باطن الأرض كان أو على ظهرها. وقال القرطبي: أصله الضم والجمع، ولا يختص ذلك بالذهب والفضة. أما الكنز المستحق عليه الوعيد في الآية ففيه خلاف يأتي في فقه الحديث. (الخيل في نواصيها الخير) أي في وجهها وفي مقدمها، فهو كناية عن اقتران الخير بها، وقد فسر هذا الخير في الحديث الصحيح بالأجر والمغنم. (إلى يوم القيامة) الغاية خارجة، بل قيل: إن المراد إلى قبيل يوم القيامة بيسير. (فلا تغيب شيئاً في بطونها) أي فلا تأكل شيئاً ولا تشرب شيئاً، فقوله "ولو رعاها" وقوله "ولو سقاها" تفسير لما قبلها. (أشراً وبطراً وبذخاً ورياء الناس) "الأشر" بفتح الهمزة والشين هو المرح واللجاج، "والبطر" الطغيان عند الحق، و"البذخ" بفتح الباء والذال بمعنى الأشر والبطر. قاله النووي. (جاء كنزه يوم القيامة شجاعاً أقرع) في الرواية الخامسة "تحول يوم القيامة شجاعاً أقرع" وفي رواية البخاري: "مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع" أي صور له ماله أو ضمن "مثل" معنى التصيير. والشجاع هنا الحية الذكر. وقيل: نوع من الحيات يقوم على ذنبه ويواثب الفارس على فرسه. والأقرع هنا قيل: الذي تمعط شعر رأسه وتلون لكثرة سمه. وقيل: إنه الحية لا شعر برأسها. فالأقرع الذي تمعط وتلون جلد رأسه لكثرة ما جمع فيها من السم. وفي رواية البخاري "له زبيبتان" قيل: لحمتان على رأسه مثل القرنين. وقيل نابان يخرجان من فيه. وقيل نكتتان سودوان فوق عينيه. وقيل: هما في حلقه مثل زنمتي العنز. (يتبعه فاتحاً فاه) يوهمه بأن كنزه بداخل فمه ومعدته. (فيناديه) الشجاع الأقرع يقول له: (خذ كنزك) من جوفي. (الذي خبأته) عن الناس والفقراء في الدنيا، وكنت تبخل به. (فإذا رأى أنه لا بد منه) أي لا بد من الانقياد لأمر الشجاع.

(فقضمها قضم الفحل) "الفحل" الذكر من الأنعام. (حلبها على الماء) لفظه لفظ الخبر، أي حقها على صاحبها حلبها على الماء ومعناه الأمر والطلب. قاله النووي. (وإعارة دلوها) أي الدلو الذي تسقى به، ويرفع لها فيه الماء. (وإعارة فحلها) أي ذكرها، والمقصود من إعارته إعارته لمن عنده إناث لتذكيرها. وهذا هو المراد من قوله في الرواية الخامسة: "وإطراق فحلها" أي جعله يطرق الأنثى عند غيره تكرماً. (ومنيحتها) أي إعارة ذات اللبن ليحلب لبنها هدية وهبة. قال أهل اللغة: المنيحة ضربان: أحدهما أن يعطي الإنسان آخر شيئاً هبة، وهذا النوع يكون في الحيوان والأرض والأثاث وغير ذلك. الثاني أن المنيحة ناقة أو بقرة أو شاة ينتفع بلبنها ووبرها وصوفها وشعرها زماناً ثم يردها. (فلم أتقار أن قمت) أي لم يمكني القرار والثبات فقمت. (إلا من قال .... ) المراد من القول هنا الفعل، أي إلا من فعل بماله الكثير. (هكذا. وهكذا. وهكذا) الظاهر أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال هذه الكلمات كان يشير بيده إلى الأمام وإلى الخلف وإلى اليمين وإلى الشمال، وتكون هناك لفظة "هكذا" رابعة لم يذكرها الراوي، وعبارة "من بين يديه ومن خلفه .... إلخ" من كلام الراوي توضيحاً لإشارات الرسول صلى الله عليه وسلم، فالضمير فيها للرسول صلى الله عليه وسلم. ويجوز أن تكون من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم توضيحاً لإشارته، فالضمير للمنفق. والمقصود أن الأكثرين أموالهم الأخسرون إلا من أنفق في وجوه الخير المتعددة. (كلما نفدت أخراها) قال النووي: هكذا ضبطناه "نفدت" بدال مهملة [وكسر الفاء]، "ونفذت" بالذال المعجمة وفتح الفاء، وكلاهما صحيح. اهـ. (وعندي منه دينار إلا دينار) الرفع بدل من "دينار" الأولى، وفي بعض النسخ "إلا ديناراً" بالنصب على الاستثناء. (ما أحب أن أحداً ذاك عندي ذهب) "ذهب" بالرفع خبر "أن" وفي بعض النسخ "ذهباً" بالنصب على التمييز، "وعندي" الخبر. (أمسى ثالثة عندي منه دينار) "أمسى" بفتح السين فعل ماض، و"دينار" فاعل، أي أمسى ودخل في مساء الليلة الثالثة دينار من هذا الذهب عندي. (هكذا. حثا بين يديه .... ) عبارة الرسول صلى الله عليه وسلم "هكذا وهكذا وهكذا" بلسانه مع الإشارة بيديه،

وعبارة الراوي توضيحاً للإشارات "حثا بين يديه وعن يمينه وعن شماله" أي رمى ما يشبه القبضة إلى الجهات حوله. (كما أنت) معمول لمحذوف تقديره ألزم وضعاً مشبهاً ما أنت عليه. (سمعت لغطاً) بفتح الغين وسكونها، لغتان، أي جلبة وصوتاً غير مفهوم. (عرض له) أي عرض له ما يؤذيه. (وإن زنى وإن سرق) جواب الشرط محذوف، والتقدير: وإن زنى وإن سرق دخل الجنة؟ ، وخص الزنى والسرقة بالذكر لكونهما من أفحش الكبائر. (تعاله) أصله تعال دخلت عليها هاء السكت. (إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة) أي إن المكثرين مالاً في الدنيا هم المقلون حسنات يوم القيامة. (إلا من أعطاه الله خيراً) أي مالاً. (فنفخ فيه) كناية عن إنفاقه. (وعمل فيه خيراً) أي طاعة لله. (فأجلسني في قاع حوله حجارة) القاع المستوي من الأرض. (فانطلق في الحرة) "الحرة" الأرض الملبسة حجارة سوداء. (ما سمعت أحداً يرجع إليك شيئاً) أي يرجع إليك كلاماً ويرد عليك أي ما علمت أحداً معك تكلمه؟ . (بينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش) "بين" ظرف، زيدت عليه الألف أي بين أوقات قعودي في حلقة، والحلقة بإسكان الحاء، وحكى فتحها في لغة رديئة، والملأ الجماعة، ويطلق على الأشراف. ورواية البخاري "جلست إلى ملإ من قريش" وهذا الجلوس والحلقة كان في مسجد المدينة، ففي بعض الروايات "قدمت المدينة، فدخلت مسجدها". (أخشن الثياب. أخشن الجسد. أخشن الوجه) قال النووي: هو بالخاء والشين في الألفاظ الثلاثة، ونقله القاضي عياض هكذا عن الجمهور، وهو من الخشونة، وعند بعضهم في اللفظ الأخير "حسن الوجه" من الحسن، وعند البعض "حسن الشعر والثياب والهيئة" من الحسن، والأصوب خشن من الخشونة. (فقام عليهم) أي وقف.

(بشر الكانزين) في رواية الإسماعيلي "بشر الكنازين" جمع كناز مبالغة كانز، و"بشر" في الأصل معناه أخبر بخبر يظهر أثره على البشرة من خير أو شر، لكنه غلب على الخير، وأصبح استعماله في الشر من قبيل التهكم، كما في قوله تعالى: {وبشر الذين كفروا بعذاب أليم} [التوبة: 3]. (برضف يحمي عليه في نار جهنم) الرضف الحجارة المحماة، واحدها رضفة. (فيوضع على حلمة ثدي أحدهم) الثدي يذكر ويؤنث. والحلمة بفتح الحاء واللام هي طرف الثدي ورأسه، وفي بعض كتب اللغة: لا يقال: ثدي إلا في المرأة، ويقال في الرجل ثندوة. (حتى يخرج من نغض كتفيه) نغض الكتف بضم النون وإسكان الغين بعدها ضاد هو العظم الرقيق الذي على طرف الكتف، وقيل: هو أعلى الكتف. ويقال له أيضاً: الناغض، وقيل: النغضان اللتان ينغضان من أسفل الكتف فيتحركان إذا مشي. (يتزلزل) أي يتحرك ويضطرب الرضف والحجارة المحماة في مرورها من حلمة الثدي إلى عظم الكتف. فضمير الفاعل للرضف، وجعله بعضهم لنغض الكتف، والمعنى أنه يتهرى ويتحرك لنضجه بمرور الرضف. قال القاضي عياض: والصواب أن الحركة والتزلزل إنما هو للرضف. (فوضع القوم رءوسهم) أي خفضوها وأطرقوا، ولم يواجهوه. (فأدبر واتبعته حتى جلس إلى سارية) وهي الاسطوانة أو العمود، والمعنى أنه أدبر وولى عن القوم ولم يخرج من المسجد، وفي رواية البخاري "وأنا لا أدري من هو"؟ وفي روايتنا الثانية عشرة "ثم تنحى فقعد. قال: قلت: من هذا؟ قالوا: هذا أبو ذر. قال: فقمت إليه" فهاتان الروايتان متعارضتان من حيث معرفة الأحنف له أو عدم معرفته له حين جلس إليه، والقول بتعدد الوقعة مستبعد، ولعل جملة "وأنا لا أدري من هو" في رواية البخاري مؤخرة من تقديم وترتيب الحديث قال كذا ثم ولى فجلس إلى سارية، وأنا لا أدري من هو؟ فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا أبو ذر. فتبعته. (ما رأيت هؤلاء القوم إلا كرهوا ما قلت لهم) في الرواية الثانية عشرة "ما شيء سمعتك تقوله قبيل"؟ أي قبيل مجيئك وجلوسك؟ وفي رواية البخاري "لا أرى القوم إلا قد كرهوا الذي قلت"؟ (قال: إن هؤلاء لا يعقلون شيئاً) حين يلهثون وراء المال والكنز، فالذين يفعلون ذلك لا يعقلون مصلحتهم ولا يعقلون هدف من ينهاهم، وقد فسر هذه الجملة في الحديث نفسه بقوله: "ثم هؤلاء يجمعون الدنيا لا يعقلون شيئاً". فهي من كلام أبي ذر، وليست من تتمة كلام الرسول صلى الله عليه وسلم. (فقال: أترى أحداً؟ ) أي أترى جبل أحد؟ وكانا قريبين منه.

(فنظرت ما علي من الشمس، وأنا أظن أنه يبعثني في حاجة له) في رواية البخاري "فنظرت إلى الشمس ما بقي من النهار" وكأن أبا ذر فهم من قوله: "أترى أحداً؟ " أنه إشارة إلى قرب نهاية النهار ودخول الظلمة والليل. (مالك ولإخوتك من قريش؟ ) أي: أي شيء حصل لك وحصل لإخوتك من قريش حتى تهاجمهم هذا الهجوم. (لا تعتريهم وتصيب منهم) في رواية الإسماعيلي "لا تعتريهم ولا تصيب منهم". يقال: عروته واعتريته واعتررته: إذا أتيته تطلب منه حاجة، و"لا" نافية والمراد النهي، أي لا تأتهم في مجالسهم ولا تصبهم، ولا تطلب منهم ما تطلب من عدم جمع المال. (لا أسألهم عن دنيا) في رواية البخاري "لا أسألهم دنيا" قال النووي: الأجود حذف "عن" كما في رواية للبخاري، اهـ وفي رواية "ثم قال: لا أسألهم شيئاً من متاعها". (فمر أبو ذر وهو يقول) في الكلام طي، أي فمر أبو ذر، فوقف عليهم وهو يقول. (بكي في ظهورهم .... إلخ) يحتمل أن تكون الرواية في إحدى الروايتين بالمعنى، ويحتمل أن يكون أبو ذر قد قال كل ألفاظ الروايتين، فاقتصر الأحنف على جزء في كل منهما. (ثم تنحى، فقعد) أي ثم تنحى وانصرف عن القوم. فسألت القوم: من يكون؟ فقيل: أبو ذر، فجلس إلى سارية فاتبعته، فقلت له .... إلخ. (ما شيء سمعتك تقول قبيل؟ ) "قبيل" بضم القاف وفتح الباء تصغير "قبل" ظرف مبني على الضم منقطع عن الإضافة، والأصل قبيل هذه اللحظة. (قلت: ما تقول في هذا العطاء؟ ) كأن الأحنف خاف من التهديد والوعيد الذي رواه أبو ذر أن يشمل أعطيات الأمراء التي يقطعونها ويهبونها لأفراد المسلمين، وكان أبو ذر يرفض قبولها لنفسه، على أساس أنها مال المسلمين لا يملكها الأمير. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الأحاديث: ]- 1 - من قوله في الرواية الأولى "ما من صاحب ذهب ولا فضة. إلخ" وجوب الزكاة في الذهب والفضة. قال النووي: هذا صريح في وجوب الزكاة في الذهب والفضة، ولا خلاف فيه؛ وكذا باقي المذكورات من الإبل والبقر والغنم. 2 - وعن قوله "ولا صاحب بقر" قال النووي: هذا أصح الأحاديث الواردة في زكاة البقر، وفيه دليل على وجوب الزكاة في البقر.

3 - ومن قوله "أوفر ما كانت. لا يفقد منها فصيلاً واحداً ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء" شدة الوعيد بأنكى وأشد الأمور والأحوال، لأنها تكون عنده على حالات مختلفة من العظم والسمن والكثرة، والعقاب بأكمل حالاتها. 4 - من قوله عن الخيل "ثم لم ينس حق الله في ظهورها ولا رقابها" أخذ أبو حنيفة وجوب الزكاة في الخيل، ومذهبه التفريق بين ما إذا كانت الخيل كلها ذكوراً فلا زكاة فيها، وبين ما إذا كانت إناثاً فقط، أو إناثاً وذكوراً فتجب فيها الزكاة، وهذا التفريق يضعف من استدلاله بالحديث لأن الحديث لم يفرق بين الذكور والإناث، ثم هو معارض بالحديث الصحيح الصريح الذي سبق في باب النصاب ومقدار الزكاة برقم [7] ولفظه "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة". ومذهب مالك والشافعي وأحمد وجماهير العلماء أنه لا زكاة في الخيل بحال ويتأولون حديث الباب بعدة تأويلات: (أ) يحتمل أن المراد بحق الله في ظهورها ورقابها الجهاد في سبيل الله والجهاد قد يكون واجباً بها إذا تعين. (ب) ويحتمل أن يراد بحق الله في ظهورها إطراق فحلها إذا طلبت عاريته وهذا على الندب، ويراد بحق الله في رقابها الإحسان إليها، والقيام بعلفها وسائر مؤنها. (جـ) ويحتمل أن المراد بحق الله في ظهورها ورقابها حق الله مما يكسب عن طريقها. قالها النووي. ومن المعلوم أن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال. 5 - ومن قوله "فشربت منه ولا يريد أن يسقيها .... إلخ"، التنبيه بالأقل على الأكثر. لأنه إذا كانت هذه الحسنات حاصلة له، من غير أن يقصد سقيها كان السقي مع القصد أولى بأضعاف الحسنات. 6 - ومن قوله "ما أنزل علي في الحمر شيء إلا هذه الآية الفاذة الجامعة {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} الإشارة إلى التمسك بالعموم. 7 - وقد يحتج به من قال: لا يجوز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان يحكم بالوحي، قال النووي: ويجاب للجمهور القائلين بجواز الاجتهاد بأنه لم يظهر له فيها شيء. اهـ أي لم يتبين له وجه يجتهد به ويحكم، فجواز اجتهاده لا يوجب اجتهاده هنا. 8 - ومن قوله في الرواية الثانية "ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته ... إلخ" أخذ أن الكنز المتوعد عليه هو الذي لم تخرج منه الزكاة، وأن ما بقي بعد إخراج الزكاة لا وعيد على تملكه، وأن المال الذي لم يبلغ نصاباً لا يكون كنزاً. قال الحافظ ابن حجر ملخصاً كلام ابن رشيد: مال لم تجب فيه الصدقة لا يسمى كنزاً، لأنه معفو عنه، فليكن ما أخرجت منه الزكاة كذلك، لأنه عفي عنه بإخراج ما وجب منه، فلا يسمى كنزاً. ثم عرض الحافظ ابن حجر أحاديث تؤيد هذا فقال: أخرج مالك والشافعي عن ابن عمر موقوفاً:

"ما أدي زكاته فليس بكنز". وأخرجه البيهقي بلفظ: "كل ما أديت زكاته وإن كان تحت سبع أرضين فليس بكنز، وكل ما لا تؤدى زكاته فهو كنز وإن كان ظاهراً على وجه الأرض". وأخرجه الحاكم عن جابر بلفظ: "إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك". وأخرجه أبو داود مرفوعاً بلفظ: "إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم". ثم نقل قول ابن عبد البر: والجمهور على أن الكنز المذموم ما لم تؤد زكاته، ولم يخالف في ذلك إلا طائفة من أهل الزهد كأبي ذر. وسيأتي شرح ما ذهب إليه من ذلك قريباً. ونقل النووي عن القاضي عياض قوله: اختلف السلف في المراد بالكنز المذكور في القرآن والحديث، فقال أكثرهم: هو كل مال وجبت فيه الزكاة فلم تؤد. فأما مال أخرجت زكاته فليس بكنز وقيل: الكنز هو المذكور عن أهل اللغة ولكن الآية منسوخة بوجوب الزكاة. وقيل: المراد بالآية: أهل الكتاب المذكورون قبل ذلك. وقيل: كل ما زاد على أربعة آلاف فهو كنز وإن أديت زكاته. وقيل: هو ما فضل عن الحاجة، ولعل هذا كان في أول الإسلام وضيق الحال. واتفق أئمة الفتوى على القول الأول، وهو الصحيح، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته ... " وذكر عقابه، وفي الحديث الآخر عند البخاري: "من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له شجاعاً أقرع .... " وفي آخره، "فيقول: أنا كنزك". اهـ. 9 - ومن قوله في الرواية الثانية "الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة" دليل على بقاء الإسلام والجهاد إلى يوم القيامة. 10 - ومن ظاهر قوله في الرواية الرابعة والخامسة في حق الإبل "حلبها على الماء وإعارة دلوها وإعارة فحلها ومنيحتها وحمل عليها في سبيل الله". ظاهر هذا أن في المال حقاً سوى الزكاة. قال المازري: يحتمل أن يكون هذا الحق في موضع ووقت تتعين فيه المواساة. وقال القاضي عياض: لعل الحق كان قبل وجوب الزكاة. وقال النووي: اختلف السلف في معنى قول الله تعالى: {وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم} [الذاريات: 19] فقال الجمهور: المراد به الزكاة، وأنه ليس في المال حق سوى الزكاة، وأما ما جاء غير ذلك فعلى وجه الندب ومكارم الأخلاق، لأن الآية إخبار عن وصف قوم أثنى عليهم بخصال كريمة، فلا يقتضي الوجوب كما لا يقتضيه قوله تعالى: {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون} [الذاريات: 17] فالمراد من الحق القدر الزائد على الواجب، ولا عقاب بتركه، وإنما ذكره في الحديث استطراداً، كأنه لما ذكر حقها الواجب أولاً أتبعه بكمال الحق، ولما ذكر ما يذم على فعله ذكر ما يمتدح بفعله. وقال بعضهم: هي منسوخة بالزكاة. وذهب جماعة إلى أن الآية محكمة، وأن في المال حقاً سوى الزكاة من فك الأسير وإطعام المضطر والمواساة في العسرة وصلة القرابة. اهـ. 11 - ومن قوله "حلبها على الماء" الرفق بالفقراء والمساكين، والحث على تيسير حصولهم على حقهم، فوصولهم إلى موضع السقي أسهل وأمكن من وصولهم إلى المنازل.

12 - ومن قوله "خذ كنزك الذي خبأته فأنا عنه غني"، "هذا مالك الذي كنت تبخل به". أن من أنواع التعذيب يوم القيامة التقريع والتوبيخ والإيلام بالقول والفعل. 13 - ومن الرواية الخامسة وما قبلها يؤخذ أن الله يحيي البهائم ليعاقب بها مانع الزكاة. 14 - وأن العقاب من جنس العمل، وبنقيض القصد، لأنه منع حق الله منها لينتفع هو بما يمنعه فكان ما قصد الانتفاع به أضر الأشياء عليه. قال الحافظ ابن حجر: والحكمة في كونها تعاد كلها مع أن حق الله فيها إنما هو في بعضها؛ أن الحق في جميع المال غير متميز، ولأن المال لما لم تخرج زكاته كان كله غير مطهر. 15 - ومن قوله في الرواية السادسة "هم الأخسرون ورب الكعبة" جواز الحلف من غير تحليف. قال النووي: بل هو مستحب إذا كان فيه مصلحة كتوكيد أمر وتحقيقه، ونفي المجاز عنه، وقد كثرت الأحاديث الصحيحة في حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا النوع لهذا المعنى. 16 - ومن قوله في الرواية السادسة "من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله" الحث على الصدقة في وجوه الخير المتعددة، بحيث لا يقتصر على نوع واحد من وجوه الخير، بل يعدد الوجوه ما وجد إلى ذلك سبيلاً. 17 - ومن قوله في الرواية الثامنة "يا أبا ذر" مناداة العالم والكبير صاحبه بكنيته إذا كان جليلاً. 18 - ومن قوله في الرواية الثامنة أيضاً "فهممت أن أتبعه، ثم ذكرت قوله: لا تبرح حتى آتيك، فانتظرته" مدى التزام الصحابة بأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم ومدى حرصهم وخوفهم عليه صلى الله عليه وسلم. 19 - وفي قوله "قال: وإن زنى وإن سرق" دليل لمذهب أهل الحق أنه لا يخلد في النار أصحاب الكبائر من المؤمنين، خلافاً للخوارج والمعتزلة. 20 - ومن الرواية التاسعة من قوله: "فقلت: أبو ذر" جواز تسمية الإنسان نفسه بكنيته إذا كان مشهوراً بها وقد كثر مثله في الحديث. 21 - ومن الرواية العاشرة زهد أبي ذر وتقشفه، وجرأته في دعوته إلى ما يعتقد أنه حق، من غير أن يخشى في الله لومة لائم. قال النووي: والمعروف من مذهب أبي ذر أن الكنز كل ما فضل عن حاجة الإنسان. اهـ. أي إن كل مال مجموع يفضل عن القوت وسداد العيش فهو كنز يذم فاعله. وحمل على ذلك الآية والأحاديث. وقد روى البخاري قصته مع معاوية ومع عثمان ومع الملأ من قريش وحاصلها من واقع شرح الحافظ ابن حجر وغيره: أن أبا ذر كان قد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: "إذا بلغ البناء بالمدينة

سلعاً -جبل قريب من المدينة- فارتحل إلى الشام". فلما بلغ البناء سلعاً في عهد عثمان ارتحل إلى الشام، فأقام بها فرأى ما عليه معاوية وأغنياء المسلمين من البذخ والإسراف في مظاهر الدنيا وبهجتها، وصورة فقراء المسلمين والمحتاجين في مخيلته، فاستقر عنده أن الإسلام لا يقبل هذا الوضع ولا يستسيغه، فدعا الأغنياء إلى بذل أموالهم مستدلاً بقوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون} [التوبة: 34، 35]. وكان يقول للناس: لا يبيتن عند أحدكم دينار ولا درهم إلا ما ينفقه في سبيل الله أو يعده لغريم. وانتشر خبره في دمشق وانزعج المسلمون لدعوته، فدعاه معاوية وناقشه، وقال له إن الآيات نزلت في أهل الكتاب، فصدرها يقول: {يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة .... } إلخ الآية: قال له أبو ذر: نزلت فينا وفيهم. وذكر له الأحاديث التي رواها الإمام مسلم -روايتنا السابعة وما بعدها- واشتد النقاش والجدل، وأبو ذر متمسك بقوله، فكتب معاوية إلى عثمان يقول: إن أبا ذر يفسد علينا، إن كان لك بالشام حاجة فابعث إليه. فكتب إليه عثمان: أن أقدم علي. فقدم، فدخل على عثمان، وهو يخشى أن يتهمه بأنه من الخوارج، فكشف أبو ذر رأسه، وقال: والله ما أنا منهم، سيماهم التحليق" يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، والله لو أمرتني أن أقوم ما قعدت. قال له عثمان: إنما أرسلنا إليك لتجاورنا بالمدينة. لكن أبا ذر وقف مع أهل المدينة الموقف نفسه الذي وقفه مع أهل الشام وكان منه ما كان، وما جاء في رواياتنا، حتى أصبح الناس يفرون من لقائه وحتى اشتكوا إلى عثمان من إيذائه لهم، فدعاه عثمان وقال له: اختر مكاناً تقيم فيه وتنح عن المدينة، فاختار الربذة، وهي قرية بين مكة والمدينة، وكان يذهب إليها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولعل أهلها كانوا فقراء فعاش بينهم أبو ذر دون شكوى بقية حياته، ومات بها، رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. 22 - ومن قوله "إلا دينار أرصده لدين" جواز الاستقراض. 23 - وتقديم وفاء الدين على صدقة التطوع. 24 - والحث على وفاء الديون وأداء الأمانات. 25 - وفيه الحض على إنفاق المال في الحياة وفي الصحة، وترجيحه على إنفاقه عند الموت، وذلك أن كثيراً من الأغنياء يشح بإخراج ما عنده مادام في عافية، فيأمل البقاء، ويخشى الفقر، فمن خالف شيطانه وقهر نفسه إيثاراً لثواب الآخرة فاز، ومن بخل بذلك لم يأمن الجور في الوصية، وإن سلم لم يأمن تأخير تنجيز ما أوصى به أو تركه أو غير ذلك من الآفات، ولا سيما إن خلف وارثاً غير موفق، فيبذره في أسرع وقت، ويبقى وباله على الذي جمعه. ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح.

(291) باب الترغيب في الإنفاق والتحذير من الإمساك

(291) باب الترغيب في الإنفاق والتحذير من الإمساك 2006 - عن أبي هريرة رضي الله عنه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم أنفق أنفق عليك" وقال "يمين الله ملأى (وقال ابن نمير ملآن) سحاء. لا يغيضها شيء الليل والنهار". 2007 - هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله قال لي أنفق أنفق عليك" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يمين الله ملأى لا يغيضها سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق مذ خلق السماء والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه" قال "وعرشه على الماء وبيده الأخرى القبض يرفع ويخفض". 2008 - عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أفضل دينار ينفقه الرجل، دينار ينفقه على عياله، ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله، ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله". قال أبو قلابة وبدأ بالعيال ثم قال أبو قلابة وأي رجل أعظم أجراً من رجل ينفق على عيال صغار يعفهم أو ينفعهم الله به ويغنيهم. 2009 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك". 2010 - عن خيثمة قال: كنا جلوساً مع عبد الله بن عمرو إذ جاءه قهرمان له فدخل فقال: أعطيت الرقيق قوتهم؟ قال: لا. قال: فانطلق فأعطهم. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته".

2011 - عن جابر رضي الله عنه قال: أعتق رجل من بني عذرة عبداً له عن دبر، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "ألك مال غيره؟ " فقال: لا. فقال "من يشتريه مني؟ " فاشتراه نعيم بن عبد الله العدوي بثمان مائة درهم. فجاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفعها إليه. ثم قال "ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا" يقول فبين يديك وعن يمينك وعن شمالك. 2012 - عن جابر رضي الله عنه أن رجلاً من الأنصار (يقال له أبو مذكور) أعتق غلاماً له عن دبر يقال له يعقوب وساق الحديث بمعنى حديث الليث. 2013 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالاً، وكان أحب أمواله إليه بيرحى، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب. قال أنس فلما نزلت هذه الآية {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله يقول في كتابه {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} وإن أحب أموالي إلي بيرحى، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث شئت. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بخ ذلك مال رابح ذلك مال رابح، قد سمعت ما قلت فيها، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين" فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه. 2014 - عن أنس رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} قال أبو طلحة أرى ربنا يسألنا من أموالنا، فأشهدك يا رسول الله أني قد جعلت أرضي بريحا لله. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اجعلها في قرابتك" قال: فجعلها في حسان بن ثابت وأبي بن كعب. 2015 - عن ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها أنها أعتقت وليدة في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك".

2016 - عن زينب امرأة عبد الله رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن" قالت: فرجعت إلى عبد الله، فقلت: إنك رجل خفيف ذات اليد. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بالصدقة، فأته فاسأله، فإن كان ذلك يجزي عني وإلا صرفتها إلى غيركم. قالت: فقال لي عبد الله بل ائتيه أنت. قالت: فانطلقت فإذا امرأة من الأنصار بباب رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجتي حاجتها. قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ألقيت عليه المهابة. قالت: فخرج علينا بلال. فقلنا: له ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن امرأتين بالباب تسألانك أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما؟ ولا تخبره من نحن. قالت: فدخل بلال على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "من هما؟ " فقال: امرأة من الأنصار وزينب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أي الزيانب؟ " قال: امرأة عبد الله. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "لهما أجران أجر القرابة وأجر الصدقة". 2017 - عن زينب امرأة عبد الله رضي الله عنها بمثله سواء. قال: قالت كنت في المسجد فرآني النبي صلى الله عليه وسلم فقال "تصدقن ولو من حليكن" وساق الحديث بنحو حديث أبي الأحوص. 2018 - عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله هل لي أجر في بني أبي سلمة؟ أنفق عليهم ولست بتاركتهم هكذا وهكذا إنما هم بني. فقال "نعم لك فيهم أجر ما أنفقت عليهم". 2019 - عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة وهو يحتسبها كانت له صدقة".

2020 - عن أسماء رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله إن أمي قدمت علي وهي راغبة (أو راهبة) أفأصلها؟ قال "نعم". 2021 - عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدهم فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله قدمت علي أمي وهي راغبة أفأصل أمي؟ قال "نعم. صلي أمك". 2022 - عن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أمي افتلتت نفسها ولم توص وأظنها لو تكلمت تصدقت أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال "نعم". 2023 - عن حذيفة رضي الله عنه (في حديث قتيبة قال: قال نبيكم صلى الله عليه وسلم وقال ابن أبي شيبة عن النبي صلى الله عليه وسلم) قال "كل معروف صدقة". 2024 - عن أبي ذر رضي الله عنه أن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم. قال "أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة. وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة" قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر".

2025 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إنه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاث مائة مفصل، فمن كبر الله وحمد الله وهلل الله وسبح الله واستغفر الله، وعزل حجراً عن طريق الناس أو شوكة أو عظماً عن طريق الناس، وأمر بمعروف أو نهى عن منكر عدد تلك الستين والثلاث مائة السلامى، فإنه يمشي يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار" قال أبو توبة وربما قال "يمسي". 2026 - وبهذا الإسناد مثله غير أنه قال "أو أمر بمعروف" وقال "فإنه يمسي يومئذ". 2027 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خلق كل إنسان" بنحو حديث معاوية عن زيد وقال "فإنه يمشي يومئذ". 2028 - عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "على كل مسلم صدقة" قيل أرأيت إن لم يجد؟ قال "يعتمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق" قال: قيل أرأيت إن لم يستطع؟ قال "يعين ذا الحاجة الملهوف" قال: قيل له أرأيت إن لم يستطع؟ قال "يأمر بالمعروف أو الخير" قال: أرأيت إن لم يفعل؟ قال "يمسك عن الشر فإنها صدقة". 2029 - عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس". قال "تعدل بين الاثنين صدقة وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة" قال "والكلمة الطيبة صدقة وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة وتميط الأذى عن الطريق صدقة". 2030 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من يوم يصبح

العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقاً خلفاً ويقول الآخر اللهم أعط ممسكاً تلفاً". 2031 - عن حارثة بن وهب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "تصدقوا فيوشك الرجل يمشي بصدقته فيقول الذي أعطيها لو جئتنا بها بالأمس قبلتها فأما الآن فلا حاجة لي بها فلا يجد من يقبلها". 2032 - عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ليأتين على الناس زمان يطوف الرجل فيه بالصدقة من الذهب ثم لا يجد أحداً يأخذها منه. ويرى الرجل الواحد يتبعه أربعون امرأة يلذن به من قلة الرجال وكثرة النساء" وفي رواية ابن براد "وترى الرجل". 2033 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تقوم الساعة حتى يكثر المال ويفيض حتى يخرج الرجل بزكاة ماله فلا يجد أحداً يقبلها منه، وحتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً". 2034 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا تقوم الساعة حتى يكثر فيكم المال فيفيض، حتى يهم رب المال من يقبله منه صدقة، ويدعى إليه الرجل فيقول لا أرب لي فيه". 2035 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة. فيجيء القاتل فيقول في هذا قتلت: ويجيء القاطع فيقول في هذا قطعت رحمي. ويجيء السارق فيقول في هذا قطعت يدي. ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئاً". 2036 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما تصدق أحد بصدقة من

طيب ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله". 2037 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها الله بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو قلوصه حتى تكون مثل الجبل أو أعظم". 2038 - عن سهيل بهذا الإسناد وفي حديث روح "من الكسب الطيب فيضعها في حقها وفي حديث سليمان فيضعها في موضعها". 2039 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم} وقال {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟ ". 2040 - عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "من استطاع منكم أن يستتر من النار ولو بشق تمرة فليفعل". 2041 - عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة". زاد ابن حجر قال الأعمش وحدثني عمرو بن مرة عن خيثمة مثله وزاد فيه "ولو بكلمة طيبة" وقال إسحق قال الأعمش عن عمرو بن مرة عن خيثمة.

2042 - عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم النار فأعرض وأشاح ثم قال "اتقوا النار" ثم أعرض وأشاح حتى ظننا أنه كأنما ينظر إليها، ثم قال "اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة" ولم يذكر أبو كريب كأنما وقال حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش. 2043 - عن عدي بن حاتم رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر النار فتعوذ منها وأشاح بوجهه ثلاث مرار ثم قال "اتقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة". 2044 - عن المنذر بن جرير عن أبيه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار. قال: فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء متقلدي السيوف عامتهم من مضر بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة. فدخل ثم خرج فأمر بلالاً فأذن وأقام فصلى ثم خطب فقال {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة} إلى آخر الآية {إن الله كان عليكم رقيباً} والآية التي في الحشر {اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله} تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره من صاع تمره (حتى قال) ولو بشق تمرة" قال فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت. قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء". 2045 - حدثني عون بن أبي جحيفة قال سمعت المنذر بن جرير عن أبيه قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم صدر النهار. بمثل حديث ابن جعفر وفي حديث ابن معاذ من الزيادة قال: ثم صلى الظهر ثم خطب.

2046 - عن المنذر بن جرير عن أبيه قال كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه قوم مجتابي النمار. وساقوا الحديث بقصته وفيه فصلى الظهر ثم صعد منبراً صغيراً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال "أما بعد فإن الله أنزل في كتابه {يا أيها الناس اتقوا ربكم .... } الآية". 2047 - عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم الصوف فرأى سوء حالهم قد أصابتهم حاجة فذكر بمعنى حديثهم. 2048 - عن أبي مسعود رضي الله عنه قال أمرنا بالصدقة قال: كنا نحامل قال فتصدق أبو عقيل بنصف صاع. قال: وجاء إنسان بشيء أكثر منه فقال المنافقون إن الله لغني عن صدقة هذا وما فعل هذا الآخر إلا رياء فنزلت {الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم} ولم يلفظ بشر بالمطوعين. 2049 - عن شعبة بهذا الإسناد وفي حديث سعيد بن الربيع قال كنا نحامل على ظهورنا. 2050 - عن أبي هريرة رضي الله عنه يبلغ به "ألا رجل يمنح أهل بيت ناقة تغدو بعس وتروح بعس إن أجرها لعظيم". 2051 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى فذكر خصالاً وقال "من منح منيحة غدت بصدقة وراحت بصدقة صبوحها وغبوقها". 2052 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "مثل المنفق والمتصدق كمثل رجل عليه جبتان أو جنتان من لدن ثديهما إلى تراقيهما، فإذا أراد المنفق (وقال الآخر فإذا أراد

المتصدق) أن يتصدق سبغت عليه أو مرت، وإذا أراد البخيل أن ينفق قلصت عليه وأخذت كل حلقة موضعها حتى تجن بنانه وتعفو أثره" قال فقال أبو هريرة فقال يوسعها فلا تتسع. 2053 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم "مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جنتان من حديد قد اضطرت أيديهما إلى ثديهما وتراقيهما، فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة انبسطت عنه حتى تغشي أنامله وتعفو أثره، وجعل البخيل كلما هم بصدقة قلصت وأخذت كل حلقة مكانها". قال فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بإصبعه في جيبه فلو رأيته يوسعها ولا توسع. 2054 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مثل البخيل والمتصدق مثل رجلين عليهما جنتان من حديد، إذا هم المتصدق بصدقة اتسعت عليه حتى تعفي أثره، وإذا هم البخيل بصدقة تقلصت عليه وانضمت يداه إلى تراقيه وانقبضت كل حلقة إلى صاحبتها" قال فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "فيجهد أن يوسعها فلا يستطيع". 2055 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "قال رجل لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية. فأصبحوا يتحدثون تصدق الليلة على زانية. قال: اللهم لك الحمد على زانية. لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني. فأصبحوا يتحدثون تصدق على غني. قال: اللهم لك الحمد على غني. لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق. فأصبحوا يتحدثون تصدق على سارق. فقال: اللهم لك الحمد على زانية وعلى غني وعلى سارق. فأتي فقيل له: أما صدقتك فقد قبلت، أما الزانية فلعلها تستعف بها عن زناها، ولعل الغني يعتبر فينفق مما أعطاه الله، ولعل السارق يستعف بها عن سرقته". 2056 - عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن الخازن المسلم الأمين الذي

ينفذ (وربما قال يعطي) ما أمر به فيعطيه كاملا موفراً طيبة به نفسه فيدفعه إلى الذي أمر له به أحد المتصدقين". 2057 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها أجره بما كسب وللخازن مثل ذلك، لا ينقص بعضهم أجر بعض شيئاً". 2058 - عن منصور بهذا الإسناد وقال "من طعام زوجها". 2059 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة كان لها أجرها وله مثله بما اكتسب ولها بما أنفقت وللخازن مثل ذلك، من غير أن ينتقص من أجورهم شيئاً". 2060 - عن عمير مولى آبي اللحم قال كنت مملوكاً فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أأتصدق من مال موالي بشيء؟ قال: "نعم. والأجر بينكما نصفان". 2061 - عن عمير مولى آبي اللحم قال أمرني مولاي أن أقدد لحماً، فجاءني مسكين فأطعمته منه، فعلم بذلك مولاي فضربني. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له. فدعاه. فقال "لم ضربته؟ " فقال يعطي طعامي بغير أن آمره فقال "الأجر بينكما". 2062 - عن همام بن منبه قال هذا ما حدثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تصم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته وهو شاهد إلا بإذنه، وما أنفقت من كسبه من غير أمره فإن نصف أجره له".

2063 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة يا عبد الله هذا خير. فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة. ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد. ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة. ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان". قال أبو بكر الصديق يا رسول الله ما على أحد يدعى من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نعم وأرجو أن تكون منهم". 2064 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أنفق زوجين في سبيل الله دعاه خزنة الجنة، كل خزنة باب: أي فل، هلم" فقال أبو بكر يا رسول الله ذلك الذي لا توى عليه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني لأرجو أن تكون منهم". 2065 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أصبح منكم اليوم صائماً؟ " قال أبو بكر رضي الله عنه أنا قال "فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ " قال أبو بكر رضي الله عنه أنا قال "فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟ قال أبو بكر رضي الله عنه أنا قال "فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ " قال أبو بكر رضي الله عنه أنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة". 2066 - عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنفقي (أو انضحي أو انفحي) ولا تحصي فيحصي الله عليك". 2067 - عن أسماء رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "انفحي أو انضحي أو انفقي ولا تحصي فيحصي الله عليك ولا توعي فيوعي الله عليك".

2068 - عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أنها جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا نبي الله ليس لي شيء إلا ما أدخل علي الزبير، فهل علي جناح أن أرضخ مما يدخل علي؟ فقال "ارضخي ما استطعت ولا توعي فيوعي الله عليك". 2069 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول "يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة". 2070 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ بعبادة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه". 2071 - عن أبي سعيد الخدري (أو عن أبي هريرة رضي الله عنهما) أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث عبيد الله وقال "ورجل معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه". 2072 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله أي الصدقة أعظم؟ فقال "أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى. ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا ألا وقد كان لفلان". 2073 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجراً؟ فقال "أما وأبيك لتنبأنه أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل البقاء ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان".

عن عمارة بن القعقاع بهذا الإسناد نحو حديث جرير غير أنه قال أي الصدقة أفضل. -[المعنى العام]- اكتفينا بما سيذكر في فقه الحديث عن المعنى العام خوفاً من التكرار، وقد لاحظنا ذلك في فقه الحديث فأضفنا ما كان حقه أن يذكر هنا والله ولي التوفيق. -[المباحث العربية]- الرواية (1) و (2) (يبلغ به النبي) عبارة تفيد رفع الحديث، كأنه قال عن النبي صلى الله عليه وسلم، والأصل عن أبي هريرة قول أو حديث يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم أو ينقله عنه، وضمير الفاعل في قوله بعد ذلك "قال" للنبي صلى الله عليه وسلم. (أنفق أنفق عليك) الخطاب في الرواية الأولى لابن آدم منذ ولد لآدم إلى يوم أن ينتهي أولاده من الدنيا، وفي الرواية الثانية ظاهره أنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أنه لابن آدم أيضاً، وفي الرواية حذف عبارة "يا ابن آدم". والمعنى: أنفق في وجوه الخير ما أعطيك أعوضك عما أنفقت وأخلف عليك وأزيد، فإن إنفاقك إنفاق من ملكه محدود ويخشى النفاد وفي طبعه شح وقبض، أما إنفاق الله فهو إنفاق المالك المطلق الذي لا تنفد خزائنه الكريم المعطى. (وقال يمين الله ملأى) في ملحق الرواية الأولى "ملآن" قال النووي: هكذا وقعت رواية ابن نمير، قالوا: وهو غلط منه، وصوابه "ملأى" كما في سائر الروايات، ثم ضبطوا رواية ابن نمير من وجهين: أحدهما: إسكان اللام وبعدها همزة. والثاني: "ملان" بفتح اللام بلا همزة. وفاعل "قال" للنبي صلى الله عليه وسلم، وذكرت للإشارة إلى أن مقولها حديث نبوي بخلاف ما قبلها، فهو حديث قدسي، وهذا واضح في الرواية الثانية. (سحاء) السح الصب الدائم، وقد ضبط "سحاء" بالتنوين على المصدر وبدون تنوين على الوصف بوزن فعلاء، صفة لليد، قال النووي: والأول هو الأصح الأشهر. (لا يغيضها شيء) أي لا ينقصها شيء، أي لا ينقص ما فيها إنفاق مهما بلغ، يقال: غاض الماء: نقص، وغاض الله الماء: نقصه، فهو لازم ومتعد. (الليل والنهار) قال النووي عن الرواية الثانية: ضبطناه بوجهين. نصب "الليل والنهار" ورفعهما، النصب على الظرف، والرفع على أنه فاعل. اهـ.

ويمكن الرفع على الرواية الأولى على أنه بدل من "شيء" أي لا يغيضها الليل والنهار، والنصب على الظرفية، وفاعل "يغيضها" على الرواية الثانية ضمير يعود على المفهوم من المقام، أي لا يغيضها الإنفاق في الليل والنهار، والمراد من ذكر الليل والنهار الدوام وشمول جميع الأزمنة، وتقديم الليل على النهار للإشارة إلى أنهما عنده سواء فهو جل شأنه لا تأخذه سنة ولا نوم. (أرأيتم ما أنفق مذ خلق السماء والأرض؟ ) "أرأيتم" معناها أخبروني، عن طريق المجاز المرسل في الهمزة، إذ المراد منها مطلق الطلب من أصل معناها وهو طلب الفهم، والمجاز المرسل في الرؤية بإرادة ما يتسبب عنها غالباً من الإخبار عما رأى، فالعلاقة في الأول الإطلاق بعد التقييد وفي الثاني ذكر السبب، فآل الأمر إلى طلب الإخبار المدلول عليه بلفظ "أخبروني" و"ما" استفهامية، والمعنى أخبروني عن جواب هذا الاستفهام ماذا أنفق على عباده؟ وكم أعطاهم منذ خلق السموات والأرض حتى اليوم؟ والجواب: كثير لا يحصى، فرتب عليه هذا الكثير لم ينقص ما كان وما هو في يمينه. (فإنه لم يغض ما في يمينه) ضمير اسم "إن" للإنفاق الكثير المفهوم من إنفاقه مذ خلق السماء والأرض، وفاعل "يغض" ضميره أيضاً على أنه متعد، أو لفظ "ما" الموصول في "ما في يمينه" على أنه لازم، والفاء فصيحة في جواب شرط مقدر، أي إذا كان قد أنفق الكثير والكثير مذ خلق السموات والأرض ويمينه دائماً ملأى فإن هذا الإنفاق لم ينقص ما في يمينه. (قال: وعرشه على الماء) الظاهر أن موقع هذه الجملة بعد قوله "مذ خلق السماء والأرض" أي مذ لم يكن سماء ولا أرض ومذ خلقتا. (وبيده الأخرى القبض) لا يطلق على الأخرى شمال كما في المخلوقات، فكلتا يديه -جل شأنه- يمين، قال النووي: "القبض" ضبطوه بوجهين، أحدهما: بالفاء بعدها ياء. والثاني بالقاف والباء. قال القاضي: وهو الموجود لأكثر الرواة، وهو الأشهر والمعروف، قال: ومعنى "القبض" الموت، وأما "الفيض" بالفاء فالإحسان والعطاء والرزق الواسع، قال: وقد يكون بمعنى "القبض" بالقاف، أي الموت، يقولون: فاضت نفسه إذا مات. اهـ والمناسب في الحديث تفسير القبض بإهلاك ما أعطى وسلبه، لتتم المقابلة. كما في قوله تعالى: {والله يقبض ويبسط} [البقرة: 245]. (يرفع ويخفض) قال النووي: جاء في رواية أخرى "وبيده الميزان يخفض ويرفع" فقد يكون عبارة عن الرزق ومقاديره، وقد يكون عبارة عن جملة المقادير، فتقدير الرزق يقتره على من يشاء، ويوسعه على من يشاء، وجملة المقادير عبارة عن التصرف بالخلق، يعز ويذل. اهـ والأولى جملة المقادير، وعموم الرفع والخفض، ويدخل الرفع والخفض بالرزق دخولاً أولياً. وهذا الحديث مما يقال فيه: متشابه الصفات، ونحن نذكر بعض ما قيل فيه، ثم نعقب: قال الإمام المازري: هذا مما يتأول، لأن اليمين إذا كانت بمعنى المناسبة للشمال لا يوصف بها الباري سبحانه وتعالى، لأنها تتضمن إثبات الشمال، وهذا يتضمن التحديد، ويتقدس الله سبحانه

عن التجسيم والحد. وإنما خاطبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يفهمونه، وأراد الإخبار بأن الله تعالى لا ينقصه الإنفاق، ولا يمسك خشية الإملاق، جل الله عن ذلك، وعبر صلى الله عليه وسلم عن توالي النعم بسح اليمين، لأن الباذل منا يفعل ذلك بيمينه. قال: ويحتمل أن يريد بذلك أن قدرة الله سبحانه وتعالى على الأشياء على وجه واحد، لا يختلف ضعفاً وقوة، وأن المقدرات تقع بها على جهة واحدة، ولا تختلف قوة وضعفاً كما يختلف فعلنا باليمين والشمال، تعالى الله عن صفات المخلوقين، ومشابهة المحدثين. وأما قوله: "وبيده الأخرى القبض" فمعناه أنه وإن كانت قدرته سبحانه وتعالى واحدة فإنه يفعل بها المختلفات، ولما كان ذلك فينا لا يمكن إلا بيدين عبر عن قدرته على التصرف في ذلك باليدين ليفهم المعنى المراد بما اعتادوه من الخطاب على سبيل المجاز. هذا آخر كلام المازري، نقله النووي واقتصر عليه. وقال القاضي عياض ما حاصله: لما كان الشيء الطيب المحبوب يوضع في اليمين، ولما كان العطاء يتم باليمين عبر بها، وليس المراد الجارحة. وقال الزين بن المنير: ما مؤداه أنه كناية لتثبيت المعاني المعقولة من الأذهان وتحقيقها في النفوس تحقيق المحسوسات، أي لا يتشكك في الكثرة كما لا يتشكك فيمن يمينه ممتلئة لا تنقص، لا أن الامتلاء كالامتلاء المعهود، ولا أن الممتلئ جارحة. وقال الترمذي في جامعه: قال أهل العلم من أهل السنة والجماعة: نؤمن بهذه الأحاديث، ولا نتوهم فيها تشبيهاً، ولا نقول: كيف؟ هكذا روى عن مالك وابن عيينة وابن المبارك وغيرهم. اهـ. وما قاله الترمذي أسلم وأدخل في الإيمان بالله وصفاته، والمشاركة بين الخالق والمخلوق في الاسم لا تستلزم المشاركة في كنه المسمى ومستلزماته، فنحن لنا علم وإرادة وقدرة ووجود وحياة، ولكنها تختلف اختلافاً كلياً عنها في الباري سبحانه وتعالى، فهي لا تكاد تشترك معها في غير الاسم، ولا تقاس صفات الباري على صفاتنا، فيقال مثلاً: اليمين تقتضي جهة وحدوداً وحيزاً إلخ، فهذا كله في المخلوق ولا يقاس عليه الغائب. تعالى الله عن ذلك، والدخول في ذلك دخول في تصور الخالق ومحاولة لتصور ما لا يدخل في تصورنا، فالإمساك واجب، والسؤال عنه بدعة مردودة، وعلينا الإيمان به كما ورد. والله أعلم. الرواية (3، 4، 5، 6، 7) (أفضل دينار ينفقه الرجل دينار .... ودينار .... ودينار) مشاركة الثلاثة في الأفضلية لا تمنع أن يكون بعضها أفضل من بعض، والمفاضلة بينها واضحة في الرواية الرابعة، وقد فهم أبو قلابة أفضلية الأول على أخويه في الرواية الثالثة -ربما من التقديم- فقال ما قال. (وأي رجل أعظم أجراً من رجل ينفق على عيال صغار يعفهم) عن الحاجة وعن السؤال وعن الانحراف، والاستفهام إنكاري بمعنى النفي، أي لا رجل أعظم، والوصف بالصغار لتأكيد معنى العالة.

(ودينار أنفقته في رقبة) أي في عتق رقبة. (إذ جاءه قهرمان له) القهرمان بفتح القاف وإسكان الهاء وفتح الراء، وهو الخازن القائم بحوائج الإنسان، وهو بمعنى الوكيل، وهو بلسان الفرس. قاله النووي. (أعتق عبداً له عن دبر) المدبر هو الذي علق عتقه على موت سيده. (يقول: فبين يديك وعن يمينك وعن شمالك) القول هنا مراد به الفعل والإشارة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم عبر عن هذه الجهات بالإشارة بيده. (وكان أحب أمواله إليه بيرحى) بفتح الباء وسكون الياء وفتح الراء وفتح الحاء، مقصور، في محل رفع أو نصب، وضبط كذلك ممدوداً "بيرحاء" وضبط الممدود أيضاً بكسر الباء مع فتح الراء وضمها، وفي بعض روايات مسلم "بريحاء" بفتح الباء وكسر الراء، وفي كتاب أبي داود " باريحاء" وهو اسم لبستان به بئر. وليس اسماً للبئر كما قيل، بدليل قوله: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب". الرواية (8، 9) (وكانت مستقبلة المسجد) أي مقابلته. قال النووي. وهذا الموضع يعرف بقصر بني جديلة، بفتح الجيم وكسر الدال. (قام أبو طلحة إلى رسول الله) أي ذهب إليه. (أرجو برها وذخرها) أي أرجو فضلها وثوابها وادخارها عند الله، والبر اسم جامع لأنواع الخيرات. (بخ) قال النووي: قال أهل اللغة: يقال: بخ بإسكان الخاء، وتنوينها مكسورة، وحكى القاضي الكسر بلا تنوين، وحكى الأحمر التشديد فيه. قال القاضي: وروي بالرفع، فإذا كررت فالاختيار تحريك الأول منوناً وإسكان الثاني. قال ابن دريد: معناه تعظيم الأمر وتفخيمه، وسكنت الخاء فيه كسكون اللام في "هل وبل". ومن قال: بخ بكسره منوناً شبهه بالأصوات كصه ومه. قال ابن السكيت: "بخ بخ" و"به به" بمعنى واحد. وقال الداودي: بخ كلمة تقال إذا حمد الفعل. وقال غيره: تقال عند الإعجاب والرضا والمدح، وتكرر للمبالغة. (ذلك مال رابح) قال النووي: ضبطناه هنا بوجهين، بالياء المثناة، وبالباء الموحدة، فمن رواه بالموحدة فمعناه طاهر، [أي ذو ربح] ومن رواه "رايح" بالمثناة فمعناه رايح عليك أجره ونفعه في الآخرة. اهـ[أي يروح عليك أجره ويغدو] والتنوين في "رابح" للتعظيم، وتكرير الجملة تأكيد لأهمية الخبر.

(قد سمعت ما قلت فيها) أي قد علمت تفويضك لي بصرفها في سبيل الله حيث أشاء. (أن تجعلها في الأقربين) لك، وفي الرواية التاسعة "اجعلها في قرابتك" أي أقاربك الأقرب منهم فالأقرب. (فجعلها في حسان وأبي بن كعب) قال النووي: وهما يجتمعان معه في الجد السابع. اهـ والظاهر أنه لم يكن له قرابة أقرب مسلمة فقيرة. الرواية (10، 11، 12، 13، 14، 15، 16، 17) (أعتقت وليدة) أي جارية بغض النظر عن صغرها أو عدم صغرها، فكل مولود ولد. (لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك) قال النووي: هكذا وقعت اللفظة في صحيح مسلم "أخوالك" باللام. ووقعت في رواية البخاري "أخواتك" بالتاء. قال القاضي: لعله أصح بدليل رواية مالك في الموطأ "أختك". قال النووي: الجميع صحيح ولا تعارض، وقد قال صلى الله عليه وسلم ذلك كله. اهـ. (عن زينب امرأة عبد الله) بن مسعود، واسمها رائطة على الصحيح، وكانت امرأة صناع اليد، فكانت تنفق على زوجها وعلى ولده من صنعتها. (قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تصدقن ولو من حليكن") بضم الحاء وكسر اللام على الجمع، وبفتح اللام وسكون اللام مفرداً، وفي الرواية الثانية عشرة "كنت في المسجد فرآني النبي صلى الله عليه وسلم فقال تصدقن .... " وصورة القصة كما توضحها رواية البخاري عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في يوم العيد إلى المصلى، فوعظ الناس وأمرهم بالصدقة، ثم مر على النساء، فقال ما قال. فليست رؤيته صلى الله عليه وسلم لها سبباً في قوله، كما توهمه روايتنا. (يا معشر النساء) المعشر الجماعة الذين صفتهم واحدة. (قالت: فرجعت إلى عبد الله) أي رجعت من المسجد إلى البيت. إلى زوجي عبد الله بن مسعود. (فقلت: إنك رجل خفيف ذات اليد) أي فقير، فخفة اليد خفة ما فيها من أموال، وفي بعض الروايات "وليس لعبد الله بن مسعود مال". (فإن كان ذلك يجزي عني) جواب الشرط محذوف للعلم به، والإشارة لإنفاقها عليه وعلى ابنه، والمعنى فإن كان إنفاقي عليكم يجزي عني في الوقاية من النار، ويعتبر صدقة أنفقت عليكم ما يمكن أن أتصدق به. قال النووي "يجزي عني" هو بفتح الياء، أي يكفي، وكذا قولها بعد "أتجزئ الصدقة عنها" بفتح التاء.

(وإلا صرفتها إلى غيركم) الجمع له ولابنه، كما هو في صريح بعض الروايات. (فإذا امرأة من الأنصار) في بعض الروايات "فإذا امرأة من الأنصار يقال لها: زينب"، وهي امرأة أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري. (حاجتي حاجتها) في رواية البخاري "حاجتها مثل حاجتي" أي تسأل عما أريد أن أسأل عنه. (قد ألقيت عليه المهابة) اعتذار عن عدم دخولهما واكتفائهما برسالة بلال. (على أزواجهما، وعلى أيتام في حجورهما) ما أضيف إلى ضمير المثنى إذا كان واحداً لكل منهما زوج وحجر جاز إفراده [زوجهما وحجرهما] وتثنيته [زوجيهما وحجريهما] وجمعه [أزواجهما وحجورهما] قال النووي عن الحالة الأخيرة: وهي أفصحهن، وبها جاء القرآن في قوله تعالى: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} [التحريم: 4] قيل: إن الأيتام كانوا في حجر امرأة أبي مسعود كما هو ظاهر رواية النسائي. ولفظها: "لإحداهما فضل مال وفي حجرها بنو أخ لها أيتام، وللأخرى فضل مال وزوج خفيف اليد". وظاهر رواية البخاري: أن زينب امرأة عبد الله بن مسعود كان في حجرها أيضاً أيتام. ولفظها: عن زينب امرأة عبد الله قالت لزوجها عبد الله: سل رسول الله صلى الله عليه وسلم أتجزئ عني أن أنفق عليك وعلى أيتام في حجري من الصدقة؟ . (ولا تخبره من نحن؟ ) ظاهره أن بلالاً عرفهما، وأن هذا الطلب ستر على أزواجهما وإخفاء لصدقتهما. (فقال: امرأة من الأنصار وزينب) ظاهره أنه لم يكن يعرف اسم المرأة الثانية وإن عرف أنها من الأنصار، لكن البدر العيني يقول: اكتفى بذكر اسم من هي أكبر وأعظم. (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لهما أجران) ظاهره أن الجواب قيل لبلال، لكن رواية البخاري تصرح بأن الكلام وجه إلى زينب، ولفظها: "فقال: أي الزيانب؟ قيل: امرأة ابن مسعود؛ قال: نعم. ائذنوا لها، فأذن لها، قالت: يا نبي الله، إنك أمرت اليوم بالصدقة، وكان عندي حلي لي، فأردت أن أتصدق به، فزعم ابن مسعود أنه وولده أحق من تصدقت به عليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق ابن مسعود، زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم". ويجمع بين الروايتين باحتمال أن الجواب تحمله بلال أولاً، ثم ذهب إليهما به، فطلبت الإذن، فأذن لها وسألت وأجيبت. (إذا أنفق على أهله نفقة وهو يحتسبها) قال النووي: فيه بيان أن المراد بالصدقة والنفقة المطلقة في باقي الأحاديث إذا احتسبها، ومعناه أراد بها وجه الله تعالى، فلا يدخل فيه من أنفقها ذاهلاً، ولكن يدخل المحتسب، وطريقه في الاحتساب أن يتذكر أنه يجب عليه الإنفاق على الزوجة والأطفال وغيرهم ممن تجب نفقتهم على حسب أحوالهم، فينفق بنية أداء ما أمر به، وقد أمر بالإحسان إليهم.

(إن أمي قدمت علي وهي راغبة أو راهبة) في الرواية السادسة عشرة "وهي راغبة" بدون شك. قال القاضي: الصحيح "راغبة" بلا شك. قال: قيل: معناه راغبة عن الإسلام وكارهة له. وقيل معناه طامعة فيما أعطيها حريصة عليه. اهـ. واسم أمها قيلة، وقيل: قتيلة بنت عبد العزى القرشية العامرية. قال النووي: واختلف العلماء في أنها أسلمت أم ماتت على كفرها، والأكثرون على موتها مشركة. (في عهد قريش إذ عاهدهم) رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومقصودها الهدنة التي نص عليها في صلح الحديبية. (إن أمي افتلتت نفسها) قال النووي: ضبطناه "نفسها" بالنصب والرفع، فالرفع على أنه نائب فاعل، والنصب على أنه مفعول ثان، وقوله "افتلتت" بالفاء، هذا هو الصواب الذي رواه أهل الحديث وغيرهم، ورواه ابن قتيبة "اقتتلت نفسها" بالقاف قال: وهي كلمة تقال لمن مات فجأة. والصواب الفاء قالوا: ومعناه ماتت فجأة. وكل شيء فعل بلا تمكث فقد افتلت. (الرواية (18، 19، 20، 21، 22) (كل معروف صدقة) أي كالصدقة من حيث الثواب والحكم. ففي الكلام تشبيه بليغ. (ذهب أهل الدثور بالأجور) "الدثور" بضم الدال جمع دثر بفتحها وهو المال الكثير، أي ذهب الأغنياء بالأجور وسبقوا بها الفقراء. (ويتصدقون بفضول أموالهم) من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي بأموالهم الفاضلة الزائدة عن حاجاتهم، وفي الكلام حذف للعلم به، أي ولا نتصدق نحن الفقراء، لأننا لا نجد ما ننفق. (أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون) قال النووي: الرواية فيه بتشديد الصاد والدال جميعاً، ويجوز في اللغة تخفيف الصاد. اهـ أي ما تتصدقون به، والواو عاطفة على محذوف، هو مدخول همزة الاستفهام، والمعطوف على الاستفهام استفهام، والتقدير أيسبقونكم؟ وأليس جعل الله لكم ما تتصدقون به بدلاً من فضول أموالهم؟ والاستفهام إنكاري بمعنى النفي، أي لم يسبقوكم والاستفهام في الجملة الثانية دخل على نفي، ونفي النفي إثبات، أي قد جعل الله لكم بديلاً، ثم ذكر البديل. (إن بكل تسبيحة صدقة) قال القاضي: يحتمل تسميتها صدقة على أن لها أجراً كما أن للصدقة أجراً -أي فليست صدقة على الحقيقة- وأن هذه الطاعات تماثل الصدقات في الأجور وسماها صدقة على طريق المقابلة وتجنيس الكلام. وقيل: معناه أنها صدقة تصدق بها على نفسه. اهـ فهي صدقة حقيقية. (وكل تكبيرة صدقة) قال النووي: رويناه بوجهين، رفع "صدقة" ونصبه، فالرفع على الاستئناف، والنصب عطف على "إن بكل تسبيحة صدقة". اهـ.

توضيحه أن رفع "صدقة" على أنها خبر و"كل" مبتدأ مرفوع، والواو عطفت جملة على جملة، أو للاستئناف ولا عطف، ونصب "صدقة" يقتضي جر "كل" عطفاً على "كل" الأولى، و"صدقة" معطوفة على "صدقة" الأولى، فيكون من قبيل عطف المفردات، من قبيل العطف على معمولي عاملين مختلفين. وما قيل في "وكل تكبيرة صدقة"، يقال فيما بعدها من جملتي التحميد والتهليل. (وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة) بالرفع فيهما قولاً واحداً. قال النووي: نكرهما -أي "أمر" و"نهي" للإشارة إلى ثبوت حكم الصدقة في كل فرد من أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. اهـ. وقد يقال: وعرف الأول "بالمعروف" دون الثاني "منكر" للإشارة إلى المراد بالمعروف ما عرف حسنه شرعاً، وليس ما يتعارف عليه الناس، فأل فيه للعهد. (وفي بضع أحدكم صدقة) قال النووي: هو بضم الباء، ويطلق على الفرج نفسه، وكلاهما تصح إرادته هنا. (فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر) قال النووي: ضبطناه "أجراً" بالنصب والرفع، وهما ظاهران. اهـ فالنصب على اعتبار "كان" ناقصة واسمها ضمير يعود على وضعها في الحلال، والرفع على أنه اسم كان، والجار والمجرور "له" خبر مقدم. (إنه خلق كل إنسان .... على ستين وثلاثمائة مفصل) اسم "إنه" ضمير الحال والشأن، والجملة بعده خبر، و"مفصل" بفتح الميم وكسر الصاد. (عدد تلك الستين والثلثمائة السلامى) "السلامى" بضم السين وتخفيف اللام هو المفصل، وجمعه سلاميات بضم السين وتخفيف اللام وفتح الميم وتخفيف الياء. قاله النووي، وقال: قد يقال: وقع هنا إضافة "ثلاث" إلى "مائة" مع تعريف الأول [الثلاث] وتنكير الثاني [مائة] والمعروف لأهل العربية عكسه، وهو تنكير الأول وتعريف الثاني. اهـ. وتوضيح المسألة أن الثلاث والأربع وما بعدها إلى التسع إذا أضيفت إلى مائة لزم حذف الألف واللام من المضاف، فكان حقه أن يقول [عدد الستين وثلاثمائة] وقد أجيب عن هذا الإشكال بأن لفظ [مائة] ليس مضافاً وإنما هو منصوب على التمييز على رأي بعض النحاة، وقيل: إن [مائة] مجرورة بالإضافة والألف واللام في [الثلاث] زائدتان، ولا اعتداد بدخولهما. (فإنه يمشي يومئذ) أي يوم القيامة. (وقد زحزح نفسه عن النار) أي باعد نفسه عن النار، وليس المعنى أنه دخلها فزحزح نفسه عنها.

(على كل مسلم صدقة) أي صدقات ليحمي مفاصله من النار. [يشير إلى روايتنا الثانية والعشرين]. قال القرطبي: أطلق الصدقة هنا وبينها في حديث آخر بكل يوم، فعند مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس". (أرأيت إن لم يجد) أي أخبرني يا رسول الله إن لم يجد ما يتصدق به؟ وكأنهم فهموا أن الصدقة مقصورة على العطية، فبين لهم أن المراد بالصدقة ما هو أعم من ذلك ولو إغاثة الملهوف. (يعتمل بيديه) في رواية البخاري [يعمل بيديه] والاعتمال افتعال فيه معنى التكليف والمشقة. (أرأيت إن لم يستطع) أن يعمل بيديه؟ (يعين ذا الحاجة الملهوف) [الملهوف] بالنصب، لأنه صفة [ذا الحاجة] والملهوف يطلق على المتحسر والمضطر وعلى المظلوم. وقولهم: يا لهف نفسي على كذا. كلمة تحسر على ما فات، يقال: لهف بكسر الهاء يلهف بفتحها لهفاً بإسكانها أي حزن وتحسر. (يمسك عن الشر فإنها صدقة) [فإنها] أي الفعلة التي هي الإمساك. وقيل: تأنيث الضمير باعتبار الخبر، وإنما كان الإمساك عن الشر صدقة مع أنه كف ومنع لأنه إذا أمسك شره عن غيره فكأنما تصدق عليه بتأمينه منه، وإذا أمسك شره عن نفسه فقد تصدق على نفسه بأن منعها من الإثم. (تعدل بين الاثنين صدقة) أي تصلح بينهما بالعدل. (وتعين الرجل في دابته) أي في نفع دابته وانتفاعه بها. الرواية (23، 24، 25، 26، 27، 28) (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان) "من" زائدة لتأكيد النفي، و"يوم" اسم "ما" وجملة "يصبح العباد فيه" صفة ليوم، وخبر "ما" والمستثنى منه محذوف للعلم به، والمعنى ليس يوم موصوف بهذا الوصف ينزل فيه أحد إلا ملكان يقولان كذا. (اللهم أعط منفقاً خلفاً) بفتح اللام، أي عوضاً، يقال: أخلف الله عليك خلفاً، أي أبدلك عما ذهب منك عوضاً. والمراد الإنفاق في الطاعات ومكارم الأخلاق وعلى العيال والأهل ونحو ذلك في الحدود المشروعة بحيث لا يذم فاعله شرعاً. (اللهم أعط ممسكاً تلفاً) المراد بالإمساك عدم الإنفاق المشروع، والتعبير بالإعطاء هنا من قبيل المشاكلة، لأن التلف ليس إعطاء.

(تصدقوا) أي عجلوا بالصدقة وبادروا بها، واغتنموا إمكان قبولها قبل أن يتعذر قبولها. (فيوشك الرجل يمشي بصدقته ... فلا يجد من يقبلها) قال النووي: سبب عدم قبول الصدقات في آخر الزمان كثرة الأموال، وظهور كنوز الأرض، ووضع البركات فيها، وقرب الساعة، وعدم الرغبة في ادخار المال وكثرة الصدقات والمتصدقين. (فيقول الذي أعطيها: لو جئتنا بالأمس قبلتها) المراد من "الذي أعطيها" الذي قصد إعطاؤه أي الذي عرضت عليه، والمراد بالأمس اليوم الذي مضى قبل وقوع الأحداث السابقة، وليس المراد اليوم الذي قبل يومك مباشرة. (زمان يطوف الرجل فيه بالصدقة من الذهب لا يجد أحداً يأخذها منه) التعبير بالذهب للتنبيه على ما سواه، لأنه إذا كان الذهب لا يقبله أحد فكيف غيره؟ والتعبير بالطواف للإشارة للتردد على الناس. قال النووي: فتحصل من التعبير المبالغة في عدم قبول الصدقة بثلاثة أشياء: كونه يعرضها ويطوف بها وهي من ذهب. (ويرى الرجل الواحد يتبعه أربعون امرأة يلذن به) أي ينتمين إليه ليقوم بحوائجهن، ويدفع الشرور عنهن، كقبيلة بقي من رجالها واحد فقط وبقيت نساؤها، فيلذن بذلك الرجل ليذب عنهن؛ ويقوم بحوائجهن، ولا يطمع فيهن أحد بسببه. قاله النووي. "ويرى" بضم الياء "والرجل" نائب فاعل، أي يراه الناس، والرؤية علمية أو بصرية. كما في ملحق الرواية "وترى الرجل" بفتح التاء، والفاعل ضمير المخاطب وهو لمن يتأتى خطابه في ذلك الزمان. (من قلة الرجال وكثرة النساء) سبب ذلك الحروب التي تقع في آخر الزمان، كما جاء في الحديث بقوله: "ويكثر الهرج" أي القتل. (وحتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً) المراد من أرض العرب الجزيرة العربية، وليس المراد أرض الجامعة العربية الحالية؟ وظاهر العبارة أن الجزيرة العربية كانت في يوم من الأيام مروجاً وأنهاراً، ثم أقفرت وستعود. أما أنها كانت مروجاً وأنهاراً فيقول عن ذلك الدكتور أحمد فخري في كتابه "دراسات في تاريخ الشرق القديم": كانت الجزيرة العربية منطقة خضراء خصبة فيها المراعي والغابات، فأخذت تجف شيئاً فشيئاً، وأخذت الرياح الجنوبية الشديدة تغطي مراعيها. على أن بلاد اليمن من الجزيرة العربية وكانت مروجاً وأنهاراً كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم {لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال} [سبأ: 15]. وأما أنها أقفرت فقد شاهدناها مقفرة كما كانت وقت ذكر هذا الحديث وأما أنها ستعود، فقد

شاهدنا مقدمة ذلك في أوائل القرن الخامس عشر الهجري حيث أن المملكة العربية السعودية أصبحت مكتفية بإنتاجها من القمح وتصدر الكثير منه إلى البلاد الأخرى. (حتى يهم رب المال من يقبله منه صدقة) قال النووي: ضبطوه بوجهين، أجودهما وأشهرهما "يهم" بضم الياء وكسر الهاء، ويكون "رب المال" منصوباً مفعولاً. والفاعل "من" وتقديره يحزنه ويهتم له -والمعنى حتى يكون هم صاحب المال وشغله الشاغل أن يجد من يقبل الزكاة. والثاني "يهم" بفتح التاء وضم الهاء ويكون "رب المال" مرفوعاً فاعلاً، من "هم به" إذا قصده. اهـ والمعنى حتى يقصد رب المال من يقبل الصدقة ويطوف بالناس ويبحث عنه فلا يجده. (لا أرب لي فيه) بفتح الهمزة والراء، أي لا حاجة إليه ولا رغبة لي فيه. (تقيء الأرض أفلاذ كبدها) قال ابن السكيت: الفلذ القطعة من كبد البعير. وفي "تقيء الأرض" استعارة تصريحية تبعية، بتشبيه إخراج الأرض ما في جوفها بالقيء، واستعارة القيء للإخراج واشتقاق "تقيء" بمعنى تخرج، وفي هذا من تحقير ما يخرج والاستهانة به ما فيه. وفي "أفلاذ كبدها" استعارة أيضاً بتشبيه ما في باطنها بالكبد للحيوان. (أمثال الأسطوان من الذهب والفضة) الأسطوان بضم الهمزة والطاء جمع أسطوانة وهي السارية والعمود، ووجه الشبه العظم والكثرة. (فيجيء القائل فيقول: في هذا قتلت) أي من أجل مثل هذا قتلت. (ويجيء القاطع) أي القاطع رحمه. (فيقول: في هذا قطعت) أي من أجل مثل هذا قطعت رحمي. (ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئاً) لكثرته وصيرورته كالتراب، ولعدم حاجتهم إليه. الرواية (29، 30، 31) (ولا يقبل الله إلا الطيب) قال النووي: المراد بالطيب هنا الحلال. اهـ ويحترز بذلك عن الخبيث الحرام. قال القرطبي: أصل الطيب المستلذ بالطبع، ثم أطلق على الطيب بالشرع، وهو الحلال. (إلا أخذها الرحمن بيمينه .... فتربو في كف الرحمن) قال المازري: هذا الحديث وشبهه إنما عبر به على ما اعتادوا في خطابهم، ليفهموا عنه، فكنى عن قبول الصدقة بالأخذ باليمين. وقال عياض: لما كان الشيء الذي يرتضى يتلقى باليمين ويؤخذ بها استعمل في مثل هذا، وليس المراد بها الجارحة، أي العضو المعروف في الجسم. وقيل: عبر باليمين عن جهة القبول، إذ الشمال بضده. وقال الزين بن المنير: كناية عن الرضا والقبول بالتلقي باليمين لتثبيت المعاني المعقولة من الأذهان

وتحقيقها في النفوس تحقيق المحسوسات، أي لا يتشكك في القبول كما لا يتشكك من عاين التلقي للشيء بيمينه، لا أن التناول كالتناول المعهود، ولا أن المتناول به جارحة. اهـ وقيل: المراد سرعة القبول. وقيل: حسنه. وقيل: المراد بكف الرحمن هنا ويمينه كف الذي تدفع له الصدقة، وإضافتها إلى الله تعالى إضافة ملك واختصاص، لوضع هذه الصدقة في كف الآخذ لله تعالى. اهـ. وهذه الأقوال كلها تؤول اليمين والكف وتحترز عن إرادة العضو المعروف، لاستحالة ذلك على الله تعالى، لأنها تستلزم الجسمية والمكانية والتحيز المستلزم بسبق المكان والحيز على المتمكن والمتحيز فيتنافى ذلك مع القدم المطلق لله تعالى. وهذا ما يعرف بمذهب الخلف عند علماء الكلام. أما مذهب السلف -وهو أسلم- فهو الإيمان بما جاء في الكتاب والسنة الصحيحة من أمثال ذلك من غير تأويل، ومن غير تشبيه، وإجراء القرآن والحديث على ظاهره، وإثبات ذلك لله تعالى على وجه الكمال، مع تنزيهه تعالى عن مشابهة المخلوقات. يمثل هذا المذهب قول الترمذي في "جامعه": قال أهل العلم من أهل السنة والجماعة: نؤمن بهذه الأحاديث، ولا نتوهم فيها تشبيهاً، ولا نقول: كيف؟ هكذا روي عن مالك وابن عيينة وابن المبارك وغيرهم. اهـ والله أعلم. (وإن كانت تمرة) جواب الشرط محذوف للعلم به مما قبله، والتقدير: وإن كانت تمرة في قلتها وضعف قيمتها أخذها الرحمن بيمينه. (فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل) الضمير للتمرة، وفي رواية البخاري "حتى تكون مثل الجبل" وفي رواية: "حتى يوافى بها يوم القيامة وهي أعظم من أحد". قال الحافظ ابن حجر: والظاهر أن المراد بعظمها أن عينها تعظم لتثقل في الميزان، ويحتمل أن يكون ذلك تعبيراً عن ثوابها. اهـ. وقال الداودي: أي حتى تصير في الأجر كمن تصدق بمثل الجبل. وقال بعضهم: أي لا يزال نظر الله إلى الصدقة ينميها، حتى تنتهي بالتضعيف إلى قدر تقع المناسبة بينه وبين ما قدم نسبة ما بين التمرة والجبل. (كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله) في الرواية الثلاثين "كما يربي أحدكم فلوه أو قلوصه" والفلو بفتح الفاء وضم اللام وتشديد الواو، وبكسر الفاء وسكون اللام وتخفيف الواو؛ والأولى أفصح، وهو المهر، يقال: فلا مهره إذا فصله من أمه، ويقال: فلوت المهر نحيته، والفصيل ولد الناقة إذا فصل من إرضاغ أمه، فعيل بمعنى مفعول، مثل جريح بمعنى مجروح. والقلوص بفتح القاف وضم اللام الناقة الفتية. ووجه الشبه النماء البين وسرعة الزيادة، وليس الحجم. (لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب) معنى الكسب المكسوب والمراد به ما هو أعم من تعاطي التكسب وبذل الجهد في تحصيله أو حصول المكسوب بغير تعاط كالميراث. (إن الله طيب) قال القاضي: الطيب في صفة الله تعالى بمعنى المنزه عن النقائص، وهو بمعنى القدوس، وأصل الطيب الزكاة والطهارة والسلامة من الخبث.

(ثم ذكر الرجل يطيل السفر) قال النووي: معناه -والله أعلم- أنه يطيل السفر في وجوه الطاعات كحج وزيارة مستحبة وصلة رحم وغير ذلك. (أشعث أغبر) أي منفوش الشعر غير منسق المظهر يعلوه الغبرة والتراب. (يمد يديه إلى السماء ... يا رب ... يا رب) أي يدعو متضرعاً، رافعاً يديه في دعائه، يقول يا رب. يا رب. وهذه الصفات مرشحة لقبول الدعاء، فالمسافر في طاعة من أهل الدعاء المجاب، والشعث والغبرة من مظاهر الحاجة والتضرع المؤهلة لقبول الدعاء، ومد اليدين عند الدعاء، والنداء المكرر، كل ذلك من محققات الإجابة لكنها إذا لوثت بما بعدها بطل مفعولها. (وغذي بالحرام) "غذي" بضم الغين وكسر الذال المخففة، مبني للمجهول، من غذاه يغذوه، بمعنى أطعمه، أي غذي باللبن طفلاً بالحرام، كأنه قال: نماؤه كبيراً في مطعمه ومشربه من حرام، ومنبته صغيراً من حرام. وفي لسان العرب: الغذاء ما يكون به نماء الجسم وقوامه من الطعام والشراب واللبن. وقيل: اللبن غذاء الصغير وتحفة الكبير. اهـ. (فأنى يستجاب لذلك) الدعاء؟ أي من أين يستجاب لمن هذه حالته وكيف يستجاب له؟ الرواية (32، 33، 34، 35، 36، 37، 38، 39) (من استطاع منكم أن يستتر من النار ولو بشق تمرة فليفعل) شق التمرة بكسر الشين نصفها وجانبها. وفي الرواية الثالثة والثلاثين "فاتقوا النار ولو بشق تمرة" وزاد في رواية "ولو بكلمة طيبة" وفي الرواية الرابعة والثلاثين "اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة" أي فمن لم يجد شيئاً يتصدق به ولو قليلاً فليتق النار بكلمة طيبة. وفي رواية الطبراني "اجعلوا بينكم وبين النار حجاباً ولو بشق تمرة". وعند أحمد "ليتق أحدكم وجهه النار ولو بشق تمرة". وعنده أيضاً: "يا عائشة. استتري من النار ولو بشق تمرة، فإنها تسد من الجائع مسدها من الشبعان". وفي رواية "تقع من الجائع موقعها من الشبعان". (ما منكم من أحد) الخطاب للمسلمين في كل زمان ومكان، أي ما منكم من أحد يا معشر المسلمين. (ليس بينه وبينه ترجمان) بفتح التاء وضمها، وهو المعبر عن لسان بلسان. ذكره النووي. والمراد هنا الوسيط في نقل المراد. (ذكر النار) أي ذكر الصحابة وخوفهم من عذاب النار. (وأشاح بوجهه ثلاث مرار) بالشين والحاء، أي عدل بوجهه وابتعد عن المواجهة. وقال الأكثرون من أهل اللغة: المشيح: الحذر والجاد في الأمر، وقيل: المقبل. وقيل: الهارب. وقيل: المقبل

إليك المانع لما وراء ظهره. قال النووي: فأشاح هنا يحتمل هذه المعاني، أي حذر النار كأنه ينظر إليها، أوجد في الإيضاح بإبقائها، أو أقبل إليك خطاباً، أو أعرض كالهارب. اهـ. (مجتابي النمار أو العباء) قال النووي: "النمار" بكسر النون جمع نمرة بفتحها، وهي ثياب من صوف فيها تنمير، والعباء بالمد وبفتح العين جمع عباءة وعباية لغتان. وقوله: "مجتابي النمار" أي خرقوها وقورواً وسطها. اهـ وفي لسان العرب: اجتبت القميص إذا لبسته، واجتاب فلان ثوباً لبسه، وفي الحديث "أتاه قوم مجتابي النمار" أي لابسيها. والنمرة بردة من صوف يلبسها الأعراب. اهـ فالمعنى -والله أعلم- أن هؤلاء القوم لم تكن عليهم ثياب، وكانوا يلتحفون ويلتفون وتغطى أجسادهم النمار الصوف. و"مجتابي" منصوب على الحال من "قوم" بعد وصفه بحفاة عراة. (فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي تغير، غضباً وشفقة وحسرة. (لما رأى بهم من الفاقة) أي للذي رآه بهم من مظاهر الفقر التي عبر عنها الراوي "بحفاة عراة مجتابي النمار"، وكما جاء في ملحق الرواية "عليهم الصوف، فرأى سوء حالهم، قد أصابتهم حاجة". (فدخل ثم خرج) أي دخل بيته من المسجد ثم خرج إليه، ولعله دخل يسأل عما يمكن أن يجده من عطاء. {(اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة) وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً} [النساء: 1] وهذه الآية واضحة في الحث على الصدقة عليهم، وفيها تأكيد لحقهم لكونهم إخوة. (تصدق رجل من ديناره) خبر في معنى الأمر. أي ليتصدق رجل من ديناره ... إلخ. (فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها) الظاهر أن الصرة كان بها طعام أو ثياب، لظاهر قوله بعد: "كومين من طعام وثياب"، ولو كانت من دراهم ودنانير لأغنت عن الكومين، ولذكرت. وقوله: "كومين" بفتح الكاف وضمها، وقيل: بالضم اسم للشيء المجموع، وبالفتح المرة الواحدة. قال ابن سراج: والكومة بالضم الصبرة والكوم العظيم من كل شيء، والكوم المكان المرتفع كالرابية. قال القاضي: فالفتح هنا أولى، لأن مقصوده الكثرة والتشبيه بالرابية. (حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة) قال النووي: ضبطوه بوجهين، أحدهما وهو المشهور، وبه جزم القاضي والجمهور: "مذهبة" بذال معجمة وفتح الهاء وبعدها باء موحدة، -أي مع ضم الميم. والثاني: "مدهنة" بفتح الميم وبدال مهملة، وضم الهاء وبعدها نون، وفسرت -إن صحت- بالإناء الذي يدهن فيه، أو بالنقرة في الجبل يستجمع فيها ماء المطر، فشبه صفاء وجهه الكريم بصفاء هذا الماء، أو بصفاء الدهن والمدهن. قال القاضي عياض وغيره من الأئمة: هذا تصحيف، وهو بالذال المعجمة والباء الموحدة، وهو المعروف في الروايات، وتفسيره على وجهين:

الأول: معناه فضة مذهبة، فهو أبلغ في حسن الوجه وإشراقه. والثاني: شبهه في حسنه ونوره بالمذهبة من الجلود، وجمعها مذاهب، وهي جلود كانت العرب تجعل فيها خطوطاً مذهبة يرى بعضها إثر بعض. اهـ. وعلى أي حال مراد الراوي المبالغة في تهلل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم سروراً، وسبب هذا السرور ما رآه من مبادرة المسلمين إلى طاعة الله تعالى وبذل أموالهم، وامتثال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولدفع حاجة هؤلاء المحتاجين وشفقة المسلمين بعضهم على بعض، وتعاونهم على البر والتقوى. (أمرنا بالصدقة) في رواية البخاري "لما نزلت آية الصدقة". قال الحافظ ابن حجر: كأنه يشير إلى قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} [التوبة: 103] الآية. (كنا نحامل) وفي ملحق الرواية "كنا نحامل على ظهورنا" أي نحمل على ظهورنا أمتعة الغير بالأجرة، فالمفاعلة ليست من الجانبين، بل بمعنى نفعل كنسافر. وقال الخطابي: يريد نتكلف الحمل بالأجرة لنتكسب ونتصدق به. اهـ ويؤيده رواية البخاري، وفيها "انطلق أحدنا إلى السوق فيحامل" أي يطلب الحمل بالأجرة، ليتصدق من تلك الأجرة أو يتصدق بها كلها. والمتحدث أبو مسعود يحكي عن نفسه وعن بعض الفقراء من أصحابه، وفي رواية له عند البخاري "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرنا بالصدقة انطلق أحدنا إلى السوق فتحامل فيصيب المد، وإن لبعضهم اليوم -أي بعد ما وسع الله عليهم لكثرة الفتوح- لمائة ألف، كأنه يعرض بنفسه". (فتصدق أبو عقيل بنصف صاع) في رواية البخاري "فجاء رجل فتصدق بشيء كثير. فقالوا: مراء. وجاء رجل فتصدق بصاع، فقالوا: إن الله لغني عن صاع هذا". قال الحافظ ابن حجر: وأبو عقيل بفتح العين، وحصل الصاع أجرة على نزح من البئر بالحبل. (وجاء إنسان بشيء أكثر منه، فقال المنافقون: إن الله غني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رياء) فسر الذي تصدق بالشيء الكثير بعبد الرحمن بن عوف، وقد تصدق بثمانية آلاف، وقيل: بأربعة آلاف. (فنزلت {الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم}) [التوبة: 79]. أي يلمزون المطوعين بالكثير، ويلمزون الفقراء الذين لا يجدون إلا القليل. واللمز الغمز وإشارة السخرية. (عن أبي هريرة يبلغ به) أي يبلغ بالحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أي يرفعه إليه. (ألا رجل) حض وحث على الفعل، أي أحث رجلاً عنده إبل ونوق. (يمنح أهل بيت ناقة) المنيحة العطية، سواء كانت للرقبة بمنافعها مؤبدة مثل الهبة، أم كانت للمنافع فقط ولمدة، كناقة أو عنزة تعطى للفقير مدة يشرب منها لبنها ثم يردها لصاحبها، وهي المقصودة هنا.

(تغدو بعس وتروح بعس) "العس" بضم العين وتشديد السين القدح الكبير، وضبط بكسر العين وفتحها. قال النووي: وهذا هو الصواب المعروف وروى "بعشاء". قال القاضي: وهذه رواية أكثر رواة مسلم. وروى "بعساء" بالسين المهملة، وفسر بالعس الكبير. والغدو أول النهار، و"الرواح" آخره، والمقصود حث الأغنياء بمنح الفقراء ناقة لمدة تعطيهم في الصباح قدحاً كبيراً من اللبن، وفي المساء مثله. (إن أجرها لعظيم) أي إن أجر هذه المنيحة لعظيم لمن منح. (عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى) أي نهى عن كذا وكذا. فذكر خصالاً منهياً عنها، وقد عرف عن أبي هريرة أنه كان يجمع أحاديث في حديث واحد. (من منح منيحة غدت بصدقة وراحت بصدقة صبوحها وغبوقها) المنيحة والمنحة العطية، وتكون في الحيوان وفي الثمار وغيرهما. قال النووي: وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم منح أم أيمن عذاقاً، أي نخلاً، قد تكون المنيحة عطية للرقبة بمنافعها، وهي الهبة، وقد تكون عطية اللبن أو الثمرة مدة، وتكون الرقبة باقية على ملك صاحبها، ويردها إليه إذا انقضى اللبن أو الثمر المأذون فيه. "والصبوح" بفتح الصاد الشرب أول النهار، "والغبوق" بفتح الغين الشرب أول الليل. والصبوح والغبوق منصوبان على الظرفية. وقال القاضي عياض: هما مجروران على البدل من قوله: "صدقة". قال: ويصح نصبهما على الظرف. الرواية (40، 41، 42) (مثل المنفق والمتصدق) قال النووي: هكذا وقع هذا الحديث في جميع النسخ "مثل المنفق والمتصدق" قال القاضي وغيره: هذا وهم، وصوابه مثل ما وقع في باقي الروايات "مثل البخيل والمتصدق" وتفسيرهما آخر الحديث يبين هذا. قال: وقد يحتمل أن تكون على وجهها وفيها محذوف، تقديره مثل المنفق والمتصدق وقسيمهما وهو البخيل، وحذف البخيل لدلالة المنفق والمتصدق عليه، كقول الله تعالى: {سرابيل تقيكم الحر} [النحل: 81] أي والبرد، فحذف ذكر البرد لدلالة الكلام عليه. و"المتصدق" وقع في بعض الأصول "والمصدق" بقلب التاء صاداً وتشديد الصاد. وهما صحيحان. (كمثل رجل عليه جبتان أو جنتان) قال النووي: "كمثل رجل" بالإفراد، والظاهر أنه تغيير من بعض الرواة، وصوابه "كمثل رجلين"، وأما قوله: "جبتان أو جنتان" فالأول بالباء والثاني بالنون، ووقع في بعض الأصول عكسه. اهـ و"أو" للشك، "والجبة" بضم الجيم وتشديد الباء ثوب معروف، "والجنة" بضم الجيم وتشديد النون هي الدرع، وقد جاءت بعض الروايات بدون شك "جبتان" بالباء كما عند البخاري، و"جنتان" بالنون بدون شك، كما في الروايتين "41، 42" وهي الأصوب إذ المراد منها الدروع، وسميت بذلك لأنها تجن صاحبها أي تحصنه، والجبة بالباء لا

تحصن مثل الجنة، ويؤكد تصويب رواية "جنتان" بالنون قوله في الروايتين المشار إليهما: "من حديد". وقوله: "وأخذت كل حلقة موضعها" والكلام في "مثل رجلين عليهما جنتان من حديد" على التوزيع أي على كل رجل جنة. (من لدن ثديهما إلى تراقيهما) "ثديهما" بضم الثاء وكسر الدال، جمع "ثدي" نحو فلوس وفلس، وأصله ثدوي، اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فأبدلت الواو ياء وأدغمت في الياء، وأبدلت الضمة كسرة لمناسبة الياء، وصح فتح الثاء "ثديهما" على إفراد الثدي، وفي رواية "ثدييهما" بالتثنية. والثدي يذكر ويؤنث، وهو للرجل والمرأة على المشهور. والتراقي جمع ترقوة ولكل إنسان ترقوتان. وهما العظمان المشرفان في أعلى الصدر من رأس المنكبين إلى طرف ثغرة النحر. (فإذا أراد المنفق أن يتصدق سبغت عليه أو مرت) "سبغت" أي امتدت وغطت، وقيل: كملت وتمت، ومعنى "مرت" بتشديد الراء أي مرت على الجلد بيسر وسهولة لتمتد. وقال النووي: كذا هو في النسخ "مرت" بالراء. قيل: إن صوابه "مدت" بالدال، بمعنى "سبغت" وكما قال في الحديث الآخر: "انبسطت" لكنه قد يصح "مرت" على نحو هذا المعنى، وقد رواه البخاري "مادت" من ماد إذا مال، ورواه بعضهم "مارت" ومعناه سالت عليه وامتدت. وقيل: معناه ترددت، ذهبت وجاءت، يعني لكمالها. اهـ. وفي الرواية التالية "فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة انبسطت عنه حتى تغشى أنامله وتعفو أثره". وفي التي بعدها "اتسعت عليه حتى تعفي أثره". وفي رواية البخاري "فلا ينفق إلا سبغت -أو وفرت- على جلده، حتى تخفي بنانه وتعفو أثره" والبنان والأنامل أطراف أصابع اليدين، و"تعفو أثره"، أي وتمحو أثر مشيه لطولها، فمرور ذيل الثوب وجره على الأرض يمحو أثر الأقدام عليها. وقيل: معنى "يمحو أثره" يذهب بخطاياه ويمحوها، والصواب الأول. (وإذا أراد البخيل أن ينفق قلصت عليه وأخذت كل حلقة موضعها، حتى تجن بنانه، وتعفو أثره) "تجن بنانه" بضم التاء وكسر الجيم ثم النون المشددة، أي حتى تستر بنانه. قال النووي: في هذا الكلام اختلال كثير، لأن قوله "تجن بنانه وتعفو أثره" إنما جاء في المتصدق، لا في البخيل، وهو ضد وصف البخيل بقوله: "قلصت كل حلقة موضعها" فإدخاله في وصف البخيل أخل بالكلام وتناقض. اهـ وفي الرواية التالية "كلما هم بصدقة قلصت وأخذت كل حلقة مكانها"، وفي التي بعدها "وإذا هم البخيل بصدقة تقلصت عليه وانضمت يداه إلى تراقيه، وانقبضت كل حلقة إلى صاحبتها". (يوسعها فلا تتسع) في الرواية التالية "قال أبو هريرة: فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بأصبعه في جيبه -أي يضع أصبعه في فتحة صدر قميصه ويشد القميص، ويقول -"فلو رأيته" -وهو يحاول أن "يوسعها ولا توسع" أي لا تتوسع، وفي الرواية التي بعدها "فيجهد أن يوسعها فلا يستطع".

ولتوضيح المشبه به وتصويره نقول: رجلان كل منهما يلبس درعاً من حديد متشابك الحلقات، يغطي أعلى الصدر، ابتداء من حول العنق إلى أسفل الثديين دون أن يغطي اليدين، فهو يحمي جزءاً من الجسد، لكن أحدهما بسبب فعله تتسع الحلقات، وتمتد إلى اليدين حتى الأنامل، وإلى أسفل الجسم حتى أصابع القدمين، بل تزيد وتجر على الأرض، كل ذلك بسهولة ويسر، أما الآخر بسبب فعله تضيق الحلقات وتتداخل وتلتصق بالصدر في أماكنها، بل تجمع اليدين وتربطهما بالرقبة، ومهما حاول البسط والتوسعة لا تنبسط ولا تتسع. أما المشبه فهو السخي المتصدق والبخيل الممسك، وأما وجه الشبه فقد ذكروا عنه أقوالاً: الأول: السهولة واليسر في جانب، والصعوبة والمشقة في جانب آخر، وتوضيح التمثيل كما قال الخطابي: هذا مثل ضربه صلى الله عليه وسلم للجواد والبخيل، وشبههما برجلين، أراد كل واحد منهما أن يلبس درعاً يستجن بها، والدرع أول ما يلبس إنما يقع على موضع الصدر والثديين إلى أن يسلك لابسها يديه في كميه ويرسل ذيلها على أسفل بدنه، فيستمر سفلاً، فجعل صلى الله عليه وسلم مثل المنفق مثل من يلبس درعاً سابغة، فاسترسلت عليه، حتى سترت جميع بدنه وحصنته، وجعل البخيل كرجل يداه مغلولتان بين صدره، فإذا أراد لبس الدرع حالت يداه بينها وبين أن تمر سفلاً على بدنه واجتمعت الدرع في عنقه، فلزقت ترقوته، فكانت ثقلاً ووبالاً عليه، من غير وقاية له، وتحصين لبدنه. وحاصله أن الجواد إذا هم بالنفقة اتسع لذلك صدره وطاوعت يداه، فامتدتا بالعطاء، وأن البخيل يضيق صدره وتنقبض يده عن الإنفاق. اهـ. وقريب منه ما قيل من أنه تمثيل لكثرة الجود والبخل، وأن المعطي إذا أعطى انبسطت يداه بالعطاء وتعود ذلك، فإذا أمسك صار ذلك عادة له. وقريب من هذا قول الطيبي: شبه السخي إذا قصد التصدق يسهل عليه بمن عليه الجبة، ويده تحتها، فإذا أراد أن يخرجها منها يسهل عليه، والبخيل على عكسه والأسلوب من التشبيه المفرق. الثاني: الستر في الدنيا والآخرة في جانب، وكشف العورة في الدارين في الجانب الآخر، وتوضيحه أن المنفق يستره الله بنفقته ويستر عوراته في الدنيا والآخرة كستر الجنة لابسها، والبخيل كمن لبس جبة إلى ثدييه، فيبقى مكشوفاً ظاهر العورة مفتضحاً في الدارين. وقريب من هذا قول ابن بطال: يريد أن المنفق إذا أنفق كفرت الصدقة ذنوبه ومحتها كما أن الجنة إذا أسبغت عليه سترته ووقته، والبخيل لا تطاوعه نفسه على البذل، فيبقى غير مكفر عنه الآثام، كما أن الجنة تبقي من بدنه ما لا تستره، فيكون معرضاً للآفات. الثالث: النماء في جانب والانكماش في الجانب الآخر، فهو تمثيل لنماء المال بالصدقة، والبخل بضده. (ملحوظة) قال القاضي عياض: وقع في هذا الحديث أوهام كثيرة من الرواة، وتصحيف وتحريف، وتقديم وتأخير، ويعرف صوابه من الأحاديث والروايات الأخرى، فمن الأوهام "مثل المنفق

والمتصدق" وصوابه "المتصدق والبخيل"، ومنها "كمثل رجل"، وصوابه "رجلين عليهما جنتان". ومنها قوله: جبتان أو جنتان" بالشك، وصوابه "جنتان" بالنون بلا شك. اهـ. وقال النووي: في هذا الكلام اختلال كثير، لأن قوله: "تجن بنانه وتعفو أثره "إنما جاء في المتصدق، وفيه رواية بعضهم "تحز ثيابه" بالحاء والزاي، وهو وهم، والصواب رواية الجمهور "تجن" بالجيم والنون، أي تستر، وفيه رواية بعضهم "ثيابه" بالثاء، وهو وهم، والصواب "بنانه" بالنون، وهو رواية الجمهور، كما قال في الحديث الآخر "أنامله". اهـ. (أما بعد) فإن هذه الأوهام -بحمد الله- ظاهرة لا تؤثر في بيان المراد من الحديث، وربما كان سببها جزالة التمثيل وعمق ألفاظه ومعانيه. والله أعلم. الرواية (43) (قال رجل) قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمه، وعند أحمد أنه كان من بني إسرائيل. (لأتصدقن الليلة بصدقة) في الكلام قسم مقدر، كأنه قال: والله لأتصدقن، فاللام في جواب القسم، والظاهر أنه من قبيل إنشاء الالتزام كالنذر. (فوضعها في يد زانية) وهو لا يعلم أنها زانية. (فأصبحوا يتحدثون) جملة "يتحدثون" خبر "أصح" والمراد بهم القوم الذين يعيش هذا المتصدق بينهم، ولعلهم كانوا يعلمون بقسمه، وعلموا عن طريق المرأة أنه تصدق عليها، ولعلهم تابعوا خطواته حتى أعطي، فأصبحوا يتحدثون، وبلغه الحديث. (تصدق الليلة على زانية) "تصدق" بالبناء للمجهول، والجملة تجري مجرى التعجب من هذا الفعل. (قال: اللهم لك الحمد على زانية) أي قال بعد أن علم حديثهم، و"اللهم" منادى على وجه الدعاء، و"لك الحمد" يفيد القصر، طريقه تقديم ما حقه التأخير، أي لك الحمد، لا لغيرك، أي وليس لي، حيث كان ذلك بإرادتك لا بإرادتي، وقد ظن بعض العلماء أن الحمد لا يكون إلا على أمر جميل، فجعل الجملة تعجباً بإجراء الحمد مجرى التعجب من قبيل تعظيم الله عند رؤية شيء عجيب، كما يقال: سبحان الله عند مشاهدة ما تعجب منه. قال الطيبي: لما قالوا: تصدق الليلة على زانية متعجبين، تعجب هو أيضاً من وقوع ذلك منه. قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر أنه سلم ورضي بقضاء الله تعالى، فحمد الله على تلك الحال غير الجميل، والله محمود على كل حال، لا يحمد على مكروه سواه، وقد ثبت: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ما لا يعجبه قال: "اللهم لك الحمد على كل حال". (لأتصدقن بصدقة) التزام بإعادة التصدق، حيث رأى أن الأولى لم تقع موقعها.

(فوضعها في يد غني) وهو لا يعلم أنه غني. (اللهم لك الحمد على زانية، وعلى غني، وعلى سارق) جمعهم بعد أن أفرد كلا منهم ليكرر الحمد ويؤكده، أو زيادة في التعجب من هذه المصادفات العجيبة. (فأتي فقيل له: أما صدقتك فقد قبلت) قال الكرماني: "أتي" أي رأي في المنام، أو سمع هاتفاً، ملكاً أو غيره، أو أخبره نبي، أو أفتاه عالم. وقال غيره: أو أتاه ملك فكلمه، فقد كانت الملائكة تكلم الناس في بعض الأمور. وقال ابن التين: يحتمل أن يكون أخبره بذلك نبي زمانه، أو أخبر في نومه. وقال صاحب "التلويح": لو رأى ما في مستخرج أبي نعيم والطبراني لما احتاج إلى هذا التخرص. ففي روايتهما: "فساءه ذلك فأتي في منامه، فقيل له: إن الله عز وجل قد قبل صدقتك". (أما الزانية فلعلها تستعف بها عن زناها) السين والتاء للصيرورة، أي فلعلها تصير عفيفة بهذه الصدقة، فتستغني بها عن أجر زناها. الرواية (44، 45، 46، 47، 48، 49) (إن الخازن المسلم الأمين الذي ينفذ .... ما أمر به) "ينفذ" بضم الياء وسكون النون وكسر الفاء مخففة من أنفذ، أو بضم الياء وفتح النون وكسر الفاء المشددة من نفذ بتشديد الفاء. (فيعطيه كاملاً موفراً) بضم الميم وفتح الواو وتشديد الفاء المفتوحة تأكيد للكمال. (طيبة به نفسه) "طيبة" بالنصب على الحالية، و"نفسه" فاعل "طيبة". (أحد المتصدقين) خبر "إن الخازن" و"المتصدقين" ضبطه النووي بفتح القاف على التثنية، وقال: معناه له أجر متصدق. اهـ. وقال الحافظ ابن حجر: ضبط في جميع روايات الصحيحين بفتح القاف على التثنية. قال القرطبي: ويجوز الكسر على الجمع، أي هو متصدق من المتصدقين. (إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها) في الرواية التالية "من بيت زوجها". وفي رواية للبخاري "إذا أطعمت المرأة من بيت زوجها". وفي رواية أخرى "إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها". (غير مفسدة) أي غير متجاوزة القدر المأذون فيه عادة. (وللخازن مثل ذلك) أي إذا أنفق من مال سيده غير مفسد فله أجر بما أنفق ولسيده أجر بما كسب. (وله مثله بما اكتسب) المماثلة في مسمى الأجر، لا في مقداره، فقد يزيد أجر المعطي، وقد يزيد أجر المكتسب كما سيأتي في فقه الحديث.

(عن عمير مولى آبي اللحم) "آبي" اسم فاعل من أبى يأبى أي امتنع يقال: إنه كان لا يأكل اللحم، لكن يبعده ما جاء في الرواية التالية "أمرني مولاي أن أقدد لحما". وقد يقال: كان يقدد لغيره، والأولى ما قيل من أنه كان في الجاهلية لا يأكل مما ذبح للأصنام. قال النووي: واسمه عبد الله. وقيل: خلف. وقيل: الحويرث الغفاري، وهو صحابي استشهد يوم حنين. (كنت مملوكاً) هذا قول عمير، أي كنت عبداً لآبي اللحم. (أأتصدق من مال موالي بشيء)؟ أي من مال أسيادي؟ والمقصود بالإذن العام كما سيأتي. (قال: نعم. والأجر بينكما نصفان) في المناصفة وعدمها تفصيل يأتي في فقه الحديث. (أمرني مولاي أن أقدد لحما) أي أجففه، أشبه بما يسمى بالمشوي. (فقال: الأجر بينكما) قال النووي: معناه: لكل منكما أجر، وليس المراد أن أجر نفس المال يتقاسمانه. هذا هو التأويل المعتمد. (لا تصم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه) أي زوجها مقيم في البلد، لأن في صومها اعتداء على حقه في الاستمتاع بها، ومنعاً منه. الرواية (50، 51، 52) (من أنفق زوجين في سبيل الله) كل شيء قرن بصاحبه فهو زوج يقال زوجت بين الإبل إذا قرنت بعيراً ببعير، والزوج يطلق على الاثنين، وعلى أحد المتزاوجين، ويطلق الزوج أيضاً على الصنف، وفسر به في قوله تعالى: {وكنتم أزواجاً ثلاثة} [الواقعة: 7]. فمعنى الحديث: من أنفق شيئين، وقرن بين صدقتين من جنسين في وقت واحد كدرهم وثوب، أو من جنس في وقتين متقاربين. والمقصود الحث على الإكثار من الصدقة. وقوله: "في سبيل الله" قيل: هو على العموم في جميع وجوه الخير. وقيل: هو مخصوص بالجهاد. قال القاضي: والأول أصح وأظهر. (نودي في الجنة: يا عبد الله. هذا خير) في الرواية الواحدة بعد الخمسين صرح بالمنادي وأنهم خزنة باب الطاعة التي فعلها، وصرح بالنداء وأنه الدعوة إلى الدخول من الباب الخاص بهذه الطاعة، فينادي هؤلاء الخزنة: يا عبد الله. يا فلان. هلم وتعال فادخل من هذا الباب فهو خير. (فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة) قال العلماء: معناه من كان الغالب على طاعاته الصلاة دعي من باب الصلاة. (ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان) قال العلماء: سمي باب الريان تنبيهاً على أن العطشان بالصوم في الهواجر سيروى، وعاقبته الري أبداً وعدم الظمأ.

وقد ذكر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أربعة أبواب. قال القاضي: وقد جاء ذكر بقية أبوب الجنة الثمانية في حديث آخر، باب التوبة، وباب الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، وباب الراضين. فهذه سبعة أبواب، يضاف إليها الباب الأيمن الوارد في حديث السبعين ألفاً، فلعله الباب الثامن. اهـ. (ما على أحد يدعى من تلك الأبواب من ضرورة؟ ) أي هل هناك ضرر أو اضطرار حين يدعى أحد من تلك الأبواب؟ والاستفهام إنكاري بمعنى النفي، أي أظن أنه ليس على أحد ضرورة. (أي فل، هلم) "أي" حرف نداء، و"فل" منادى حذف منه آخره على الترخيم، وأصله فلان، و"هلم" اسم فعل أمر بمعنى أقبل. والمعنى: يا فلان أقبل من هذا الباب فهو خير لك. (ذلك الذي لا توى عليه) بفتح التاء والواو، أي لا هلاك عليه. الرواية (53، 54، 55، 56) (أنفقي أو انضحي أو انفحي) النفح والنضح: العطاء، ويطلق النضح أيضاً على الصب، فيكون أبلغ من النفح، ولعله المراد هنا، و"انضحي" بكسر الضاد وفتحها، "وانفحي" بفتح الفاء. (ولا تحصي فيحصي الله عليك) "فيحصي" الفعل منصوب، لأنه جواب النهي بالفاء، والإحصاء معرفة قدر الشيء أو عدده أو وزنه. والنهي عن إحصاء المال هنا إما نهي عن إحصائه وعد ما يعطى من النفقة، فيستكثرها، فهو كقوله تعالى: {ولا تمنن تستكثر} [المدثر: 6] فتكون العاقبة أن يستكثر الله عليه ما يعطيه إياه فيكون سبباً في التضييق عليه، وإما نهي عن إحصاء ما تملك فتستقله، فتخاف النفقة منه، فتكون العاقبة زوال البركة مما عندك، ولما كان الله يثيب على العطاء بغير حساب، فحساب الله وإحصاؤه يقطع البركة منه، أو يحبس الرزق عن صاحبه، أو يحاسب عليه في الآخرة. (ولا توعي فيوعي الله عليك) يقال: أوعيت المتاع في الوعاء إذا جعلته فيه، ووعيت الشيء حفظته، والمعنى: لا تحرصي على الادخار والجمع في الوعاء دون إنفاق فيمسك الله عنك ولا يمدك بالعطاء. (ليس لي شيء إلا ما أدخل علي الزبير) زوجي، أي لا أملك لنفسي مالاً، وكل ما أتصرف فيه هو مال الزبير وما اكتسبه. (فهل علي جناح أن أرضخ مما يدخل علي)؟ الرضخ العطاء اليسير. والمعنى: فهل علي إثم إذا أعطيت من مال الزبير في سبيل الله؟ . (ارضخي ما استطعت) أي انفقي بغير إجحاف ما دمت قادرة مستطيعة فـ"ما" ظرفية دوامية. وقال الكرماني: معناه ارضخي الذي استطعته، أو شيئاً استطعته، فـ"ما" موصولة، أو نكرة موصوفة.

قال النووي: معناه مما يرضى به الزبير، وتقديره: أن لك في الرضخ مراتب مباحة، بعضها فوق بعض؛ وكلها يرضاها الزبير. فافعلي أعلاها، أو يكون معناه: ما استطعت مما هو لك. (يا نساء المسلمات) قال النووي: ذكر القاضي عياض في إعرابه ثلاثة أوجه أصحها وأشهرها نصب "نساء" وجر "المسلمات" على الإضافة. قال الباجي: وبهذا رويناه عن جميع شيوخنا بالمشرق، وهو من باب إضافة الشيء إلى نفسه والموصوف إلى صفته والأعم إلى الأخص، كمسجد الجامع وجانب الغربي، وهو عند الكوفيين جائز على ظاهره، وعند البصريين يقدرون فيه محذوفاً، أي مسجد المكان الجامع، وجانب المكان الغربي، ويقدر هنا: يا نساء الأنفس المسلمات، أو الجماعات المسلمات. وقيل: تقديره يا فاضلات المسلمات، كما يقال: هؤلاء رجال القوم، أي ساداتهم وأفضلهم. الوجه الثاني: رفع "نساء" ورفع "المسلمات" أيضاً على معنى النداء والصفة، أي يا أيها النساء المسلمات. قال الباجي: وهكذا يرويه أهل بلدنا. الوجه الثالث: رفع "نساء" وكسر التاء من "المسلمات" على أنه منصوب على أنه الصفة على الموضع، -أي موضع المنادى النصب- كما يقال: يا زيد العاقل، برفع زيد، ونصب العاقل. (لا تحقرن جارة لجارتها) وفي رواية "جارة لجارة" بحذف الضمير، وفي الكلام مضاف محذوف، تقديره لا تحقرن جارة صدقة أو هدية لجارتها، والحقر والاحتقار بمعنى. (ولو فرسن شاة) قال النووي: قال أهل اللغة: هو بكسر الفاء والسين وهو الظلف. وقال غيره: بكسر الفاء والسين بينهما راء ساكنة. وحكى فتح السين -وأصله في الإبل، وهو فيها مثل القدم في الإنسان. قالوا: ولا يقال إلا في الإبل، ومرادهم أصله مختص بالإبل، ويطلق على الغنم استعارة. اهـ. و"فرسن" خبر لكان المحذوفة مع اسمها، والتقدير: ولو كان المتصدق به أو المهدى فرسن شاة الذي هو عظم قليل اللحم جداً حقير في ذاته غالباً. وظاهر الحديث نهي عن أن تحتقر الصدقة المقدمة إليها مهما قلت. لكن العلماء يوردونه على أنه نهي للمتصدقة عن أن تحتقر صدقتها، على معنى لا تمنع جارة من الصدقة على جارتها خوفاً من حقارة الموجود عندها، بل تجود بما تيسر، وإن كان قليلاً، كفرسن شاة، فهو خير من العدم، فهو قريب من حديث: "اتقوا النار ولو بشق تمرة". الرواية (57) (سبعة) تمييز العدد محذوف، أي سبعة أشخاص من الناس، وهو مبتدأ سوغ الابتداء به وهو نكرة ملاحظة الإضافة والوصف. (يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) قال النووي: قال القاضي: إضافة الظل إلى الله تعالى إضافة ملك، وكل ظل فهو لله، وملكه، وخلقه وسلطانه. قال: والمراد هنا ظل العرش، كما جاء مبيناً في حديث آخر، والمراد باليوم يوم القيامة، إذا قام الناس لرب العالمين، ودنت منهم الشمس

واشتد عليهم حرها، وأخذهم العرق، ولا ظل هناك لشيء إلا للعرش، وقد يراد به هنا ظل الجنة، وهو نعيمها والكون فيها، كما قال تعالى: {وندخلهم ظلاً ظليلاً} [النساء: 57] قال القاضي: وقال ابن دينار: المراد بالظل هنا الكرامة والكنف، والكف من المكاره في ذلك الموقف، قال: وليس المراد ظل الشمس. قال القاضي: وما قاله معلوم في اللسان، يقال: فلان في ظل فلان، أي في كنفه وحمايته. قال: وهذا أولى الأقوال، وتكون الإضافة إلى العرش لأنه مكان التقريب والكرامة، وإلا فالشمس وسائر العالم تحت العرش وفي ظله. (الإمام العادل) خبر لمبتدأ محذوف، تقديره أحدهم الإمام العادل. قال القاضي: هو كل من وكل إليه نظر في شيء من مصالح المسلمين من الولاة والحكام وبدأ به لكثرة مصالحه وعموم نفعه، وفي بعض النسخ "الإمام العدل" وهما صحيحان. (وشاب نشأ بعبادة الله عز وجل) والمشهور في روايات هذا الحديث "نشأ في عبادة الله" قال النووي: وكلاهما صحيح، ومعنى رواية الباء نشأ متلبساً للعبادة فالباء للملابسة، أو مصاحباً لها، فالباء للمصاحبة. اهـ والظاهر أن المراد بالشاب هنا من لم يجاوز الأربعين، وبالعبادة مطلق الطاعة، وبنشأته فيها أن تغلب طاعته على معصيته في أول أمره. (ورجل قلبه معلق في المساجد) قال النووي: هكذا هو في النسخ كلها "في المساجد" وفي بعض الروايات "بالمساجد" وفي بعضها "متعلق" والكل صحيح، ومعناه شديد الحب للمساجد والملازمة للجماعة فيها، وليس معناه دوام القعود في المسجد، فتعلق قلبه بالمسجد حبه له، حتى إذا خرج منه، يؤكد هذا المعنى حديث "ورجل معلق بالمسجد، إذا خرج منه يعود إليه". (ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه) وفي رواية "اجتمعا على ذلك، وتفرقا عليه" فالإشارة والضمير في "عليه" يعود على الحب في الله. والمعنى: اجتمعا على حب الله. وافترقا على حب الله، أي كان سبب اجتماعهما حب الله، واستمرا على ذلك حتى تفرقا -من مجلسهما، أو من شركتهما، أو علاقاتهما، أو من حياتهما- أي انتهى اجتماعهما، وحب الله مصاحب افتراقهما. فكلمة "في" للسببية، مثلها في حديث "دخلت امرأة النار في هرة حبستها". أي بسبب هرة إلخ. و"تحابا" أصله تحاببا، أدغم أول المثلين في ثانيهما، والتفاعل حب من الجانبين. (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله) ذات المنصب هي صاحبة الحسب والنسب الشريف والمال الوفير، وخصت هنا ذات المنصب والجمال لكثرة الرغبة فيها من الرجال، وعسر وصولهم إليها، فكيف إذا كانت هي الداعية إلى نفسها، موفرة مشاق ومحاولة السعي إليها، فالصبر عنها لخوف الله تعالى مع هذه المغريات والدوافع من أكمل المراتب وأعظم الطاعات. أما قوله: "إني أخاف الله" فيحتمل أنه يقولها بلسانه، ويحتمل أن يقولها بقلبه ليزجر نفسه.

والمدعو إليه من المرأة مبهم في الحديث، ذكر العلماء فيه احتمالين. الأول: أنه يحتمل أنها دعته إلى نكاحها والزواج بها، فخاف العجز عن القيام بحقها، أو خاف مسئولية حمايتها من انحرافها، أو خاف الانشغال بالتمتع بها وشهوتها عن حقوق الله تعالى وطاعته. الاحتمال الثاني -وهو المشهور والأصح- أنها دعته إلى الزنا بها. (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله) قال النووي: هكذا وقع في جميع نسخ مسلم في بلادنا وغيرها، وكذا نقله القاضي عياض عن جميع روايات نسخ مسلم "حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله"، والصحيح المعروف "حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه". هكذا رواه مالك في الموطأ والبخاري في صحيحه -وترجم له بباب الصدقة باليمين- وغيرهما من الأئمة، وهو وجه الكلام، لأن المعروف في النفقة فعلها باليمين. قال القاضي: ويشبه أن يكون الوهم فيها من الناقلين عن مسلم، لا من مسلم، بدليل إدخاله بعده حديث مالك رحمه الله -وقال: بمثل حديث عبيد الله، وبين الخلاف بين الروايتين بقوله: وقال: "ورجل معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه". فلو كان ما رواه مخالفاً لرواية مالك لنبه عليه على هذا الاختلاف. (راجع لفظ وسند الرواية رقم (57) وملحقها فيما سبق عند ذكرنا للنصوص). وقال بعض العلماء: ذكر اليمين والشمال مبالغة في الإخفاء والاستتار بالصدقة، وضرب المثل بهما لقرب اليمين من الشمال، وملازمتها لها، من غير قصد أيهما تعطي وأيهما تعلم، بل ربما كان في رواية "حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله". لو صحت أبلغ في هذا المراد، على معنى أن اليمين المتخصصة في العطاء العليمة بمداخله ومخارجه لا تعلم عطاء الشمال لمبالغتها في الإخفاء. ونقل القاضي عن بعضهم أن المراد من عن يمينه وشماله من الناس. قال: والصواب الأول. (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) "ذكر" من الذكر بكسر الذال فهو باللسان، أو من الذكر بضم الذال فهو بالقلب، والمراد "خالياً" أي بعيداً منفرداً، أو خالياً من الالتفات إلى غير الذكر، ولو كان في ملإ وهو منصوب على الحال. ومعنى "فاضت عيناه" امتلأتا بالدمع حتى فاض عنها، فالفائض هو الدمع لا العين. ففيه مجاز الحذف، ففاض دمع عينيه، وأسند الفيض إلى العين مبالغة، حيث جعلت العين من فرط البكاء كأنها نفسها تفيض. الرواية (58، 59) (أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل) قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على تسميته ويحتمل أن يكون أبا ذر، ففي مسند أحمد أنه سأل: أي الصدقة أفضل؟ . (أي الصدقة أعظم) في الرواية التالية: "أي الصدقة أعظم أجراً"، وفي رواية للبخاري وملحق روايتنا الثانية "أي الصدقة أفضل" أي عند الله. (أن تصدق وأنت صحيح شحيح) "أن تصدق" بتشديد الصاد، وأصله تتصدق فأبدلت

إحدى التاءين صاداً، وأدغمت الصاد في الصاد، ويجوز تخفيف الصاد بحذف إحدى التاءين، والمصدر المنسبك من "أن تصدق" خبر مبتدأ محذوف، تقديره: أعظم الصدقة أجراً تصدقك في حالة الصحة والشح، فجملة "وأنت صحيح شحيح" في محل النصب على الحال، و"شحيح" خبر بعد خبر وهو صفة مشبهة من الشح مثلث الشين، وضمه أشهر. وقيل: الفتح مصدر والضم اسم. قيل: هو البخل. وقيل: الشح بخل مع حرص. وقيل: الشح ما هو من قبل الطبع. كأنه وصف لازم في طبيعة الإنسان، أمر بعلاجه ومجاهدته إلى السخاء، والبخل بروز الشح في أفراد الأمور وخواص الأشياء. (تخشى الفقر وتأمل الغنى) في الرواية التالية "تخشى الفقر وتأمل البقاء" أي تطمع في زيادة المال وطول العمر، والصدقة في هذه الحالات فيها شدة مراغمة للنفس. (ولا تمهل) روي بسكون اللام على صورة النهي، وروي بفتح اللام وتقديره وأن لا تمهل، معطوف على قوله "أن تصدق". (حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا) "حتى" للغاية، وضمير "بلغت" يرجع إلى الروح بدلالة سياق الكلام عليها، و"الحلقوم" هو الحلق، والمراد من بلوغ الروح الحلقوم مقاربته، إذ لو بلغته حقيقة لم تصح وصيته ولا شيء من تصرفاته، وقوله: "لفلان كذا" كناية عن الموصى له والموصى به. (ألا وقد كان لفلان) كناية عن الوارث، أي وقد صار المال ملكاً للوارث، أو صار التصرف وإجازة الوصية أو عدم إجازتها حقاً للوارث، وخرج عن تصرفك وكمال ملكك، فالجملة على هذا حالية ليست من مقول المحتضر. وقيل: هي من مقول المحتضر، أي وقد كان لفلان عندي دين هو كذا. (أما وأبيك لتنبأنه) قال النووي: قد يقال: حلف بأبيه، وقد نهي عن الحلف بغير الله، وعن الحلف بالآباء؟ والجواب أن النهي عن اليمين بغير الله لمن تعمده، وهذه اللفظة الواقعة في الحديث تجري على اللسان من غير تعمد، فلا تكون يميناً، ولا منهياً عنها. اهـ. -[فقه الحديث]- كان من الصعب تقسيم هذه المجموعة من الأحاديث إلى أبواب صغيرة مع المحافظة على ترتيبها كما هو في صحيح الإمام مسلم، ذلك أن أحاديث الباب الواحد قد تذكر متناثرة في أماكن متباعدة، كما أن هذه الأحاديث متداخلة في موضوعها، ومن الصعب التبويب لكل منها دون تكرير أو تشابه العناوين كما حدث للإمام النووي رحمه الله تعالى، فقد وضع التراجم أخذاً من الأحاديث فتشابهت كما هو واضح من تبويبه. ولما كان عملنا في هذا الكتاب أقرب إلى شرح الحديث موضوعياً قسمنا هذه المجموعة الكبرى إلى مجموعات صغيرة مراعين ترتيب الإمام مسلم عند الكلام على المباحث العربية. ولم نلتزم هذا

الترتيب في فقه الحديث فقسمناها إلى تسعة موضوعات، بعد دخولها كلها تحت عنوان [الترغيب في الإنفاق]. الموضوع الأول: الترغيب في الإنفاق بصفة عامة. الموضوع الثاني: فضل النفقة من الكسب الطيب. الموضوع الثالث: فضل النفقة من أحب الأموال. الموضوع الرابع: فضل النفقة بالقليل وعدم احتقاره. الموضوع الخامس: فضل نفقة السر. الموضوع السادس: فضل نفقة الخازن من مال السيد. والزوجة من مال زوجها. الموضوع السابع فضل الإنفاق على العيال والأهل والأقربين ومن تعول. الموضوع الثامن: قبول الصدقة إذا وضعت في غير موضعها من غير علم. الموضوع التاسع: الحث على التعجيل بالإنفاق. وهذا هو التفصيل. فضل الإنفاق بصفة عامة وفضيلة الشيء تظهر من مكسبه في الدنيا ومن جزائه في الآخرة، كما تظهر في خسارة نقيضه دنيا، وعاقبة نقيضه في الآخرة، وقد اتخذت الشريعة لذلك أسلوب الحث على الإنفاق والترغيب فيه والوعد الجميل عليه كما اتخذت لذلك أسلوب التحذير من الشح والتنفير منه والوعيد الشديد عليه. نقرأ ذلك في الحديث القدسي رقم (1) و (2) من أحاديثنا حيث يقول الله تعالى: "يا ابن آدم أنفق أنفق عليك" -أي لا تخش نفاد ما لديك، فالله هو الرزاق ابتداء، والله رزاق حالاً واستقبالاً. خزائنه لا تنفد -"يمين الله ملأى"- على الدوام، معطاءة "سحاء" على الدوام، لا ينقصها العطاء مهما أعطت "لا يغيضها شيء" دوام "الليل والنهار". لو تدبرنا كم أنفقت البشرية؟ وكم استهلكت من أرزاق منذ خلق السموات والأرض؟ لو تصورنا ذلك تخيلنا كماً هائلاً، ومع ذلك لم تنفد خزائنه، بل لم تنقص، فهو القائل جل شأنه "لو أن أهل السموات والأرض قاموا في صعيد واحد فطلب كل منهم ما طلب فأعطيت كلاً منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئاً إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر". أرأيتم ماذا أنفق مذ خلق السموات والأرض؟ فإنه لم "يغض" ولم ينقص "ما في يمينه" يعطي ويمنع، كل يوم هو في شأن، يرفع أقواماً ويخفض آخرين {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب} [آل عمران: 26، 27].

هل من يقرأ ذلك يخشى الفقر من الإنفاق. إن الإمساك خشية الفقر وسوسة من إبليس {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً} [البقرة: 268]. إن الوعد من الذي لا يخلف وعده، القادر الذي يملك كل شيء يجعل المنفق واثقاً من أن الله سيخلف عليه ما أنفق أضعافاً مضاعفة في الدنيا، مصداقاً لقوله تعالى: {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون} [البقرة: 245] ومصداقاً لقوله: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين} [سبأ: 39]. وإن الأحاديث التي تدعو إلى الإنفاق وتعد بأن الله يخلف على المنفق كثيرة، فالحديث الثالث والعشرون يقول: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم اعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم اعط ممسكاً تلفاً". قال النووي: قال العلماء هذا في الإنفاق في الطاعات ومكارم الأخلاق وعلى العيال والضيفان والصدقات ونحو ذلك، بحيث لا يذم ولا يسمى سرفاً، والإمساك المذموم هو الإمساك عن هذا. اهـ. وقال القرطبي: هو يعم الواجبات والمندوبات، لكن الممسك عن المندوبات لا يستحق هذا الدعاء، إلا أن يغلب عليه البخل المذموم، بحيث لا تطيب نفسه بإخراج الحق الذي عليه لو أخرجه. اهـ. ومن المعلوم أن دعاء الملائكة مجاب، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: "فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه"، لكن الإجابة للدعاء بالخلف للمنفق تحتمل ثلاثة أمور: إما العوض المالي مع المضاعفة في الدنيا، وإما أن يدفع عنه من السوء في الدنيا بما يقابل نفقته، وإما أن يحتفظ له بالعوض كثواب أخروي، وسنتحدث عن الأخير فيما بعد. والإجابة للدعاء بالتلف للممسك تحتمل خمسة أمور: إما تلف في المال الموجود بالضياع أو عدم الانتفاع بصرفه فيما لا ينفع أو فيما يضر، وإما تضييق في الرزق، فيكون الممنوع في حكم ما أعطي وتلف، وإما تلف في غير المال من النعم الأخرى كتلف الأنفس والصحة، وإما انشغال بأموال عن الطاعات، فتكون الطاعات غير الحاصلة في حكم التي وصلت وأحبطت، وإما ضياع الأجر والثواب وضياع الحسنات التي كان من الممكن تحصيلها بالإنفاق، فتكون الحسنات الضائعة في حكم الحاصلة التالفة. وظاهر الحديث في إخلاف المال للمنفق وإتلافه عليه في الدنيا. وكثير من الناس بحكم الطبيعة البشرية يحرص على الإخلاف المالي في الدنيا ويدفعه ذلك إلى الإنفاق، وقد كانت الأحاديث (53)، (54)، (55) صريحة في ذلك، ففي ألفاظها "أنفقي أو انضحي أو انفحي، ولا تحصي فيحصي الله عليك". "ولا توعي فيوعي الله عليك". "ارضخي ما استطعت، ولا توعي فيوعي الله عليك". ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات} [البقرة: 276] فأموال الربا نهايتها المحق لا محالة، وأموال الصدقات نامية في الدنيا بإذن الله، كما يزيده تأكيداً قوله جل شأنه: {وما آتيتم من رباً ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون} [الروم: 39].

هذه شعبة من شعب فوائد الإنفاق التي تعود على صاحبها في الدنيا. الشعبة الثانية أن المنفق تسخو نفسه، وتصفو روحه، وتنمو قناعته، وتتسع عليه الحياة، ويحس بالراحة والسعادة، ويصبح من حوله من الناس أحباباً له، يحرصون على مصالحه، ويدفعون عنه ما عساه أن يضره، ويتمنون له الخير، ويقل أعداؤه ويزداد أمنه، يقول المنفلوطي في هذا المعنى: أحسن إلى الفقراء والمساكين، وأعدك وعداً صادقاً أنك ستمر في بعض لياليك على بعض الأحياء الخاملة فتسمع من يحدث جاره من حيث لا يعلم بمكانك أنك أكرم مخلوق وأشرف إنسان، ثم يعقب الثناء عليك بالدعاء لك أن يجزيك الله خيراً بما صنعت فيدعو صاحبه بدعائه. وهنالك تجد من سرور النفس وحبورها بهذا الذكر الجميل في هذا الحي الخامل ما يجده الصالحون إذا ذكروا في الملإ الأعلى. اهـ. يصور هذه الشعبة أقوى تصوير الحديث (40)، (41)، (42) إذ ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً للبخيل والمنفق، وشبههما برجلين يلبس كل منهما درعاً من حديد نسج في حلقات، يغطى من أعلى الكتفين إلى أسفل الثديين، مقيداً اليدين، فإذا ما تصدق المتصدق، وأنفق المنفق اتسع الدرع، وتمددت الحلقات حتى يصبح ثوباً واسعاً، يغطي اليدين حتى أطراف الأنامل دون أن يقيد حركتها، ويغطي جميع البدن، وينسدل حتى يغطي القدمين، بل يزيد شبراً يجر بالأرض، فيصبح هذا الرجل مستوراً، آمناً، موسعاً عليه، مرتاح النفس، حر الحركة، راضياً مرضياً، وإذا ما فكر البخيل في الإنفاق تراجع وأمسك، فيضيق الدرع وتنكمش الحلقات وتضيق، وتلتصق كل حلقة على مكانها من الجسد فتضايقه، حتى تغل يديه إلى عنقه، فيضيق تنفسه، يبيت في هم ماله، وعده وكيفية زيادته، وفي طريقة حفظه أو إخفائه عمن حوله، يبيت يعمل فيه كما يعمل السارق. هم وخوف بالليل، وانشغال بالنهار، إحساس بالفقر وهو غني، وشعور بالحاجة وعنده الكثير، الحياة ضيقة عليه مع سعة العيش، ونفسه يختنق وحوله الهواء، يبحث عن السعادة فلا يجدها، يتعب نفسه في توسيع الدرع فلا يتسع. الشعبة الثالثة: أن المنفق يكتسب الرفعة والمكانة، ويعلو بنفسه بين أفراد المجتمع، فاليد المعطية فوق اليد الآخذة، "واليد العليا خير من اليد السفلى"، كما هو صريح الحديث (60) وقد قيل: أطعم الفم تستح العين، والإنسان عبد الإحسان، والآخذ كثيراً ما يذل ويخضع للمعطي، قال الشاعر: خلقت عيوفاً لا أرى لابن حرة على يدا أغضي لها حين يغضب ويقول آخر: أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان الشعبة الرابعة: أن المنفق يسهم بشكل كبير في إصلاح بيئته؛ مما يعود عليه بالنفع لا محالة، فالتكافل الاجتماعي ليس في مصلحة الآخذ وحده في الدنيا بل في مصلحة المنفق أيضاً؛ بل قد يكون المستفيد بصفة أكثر، فقضاء مصالحه موقوف على عطائه، يصور هذه الشعبة أصدق تمثيل الحديث رقم (36) والحديث رقم (43) ففقراء مضر، ومظهر الشدة والحاجة التي جاءوا عليها

أزعجت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجسدت أمامه صورة أمته لو لم يتكافل أعضاؤها فتغير وجهه صلى الله عليه وسلم غضباً وحزناً وأسفاً، كيف يوجد أمثال هؤلاء بين قوم قيل لهم: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى} [الحجرات: 13]؟ كيف يقبل من آتاه الله مالاً أن يرى أخاه بهذه الصورة ثم لا يفيض عليه. إن الأب واحد، وإن الأم واحدة؛ وما رفع الله بعض الإخوة على بعض إلا ليحتاج كل إلى الآخر فتترابط المصالح، ويفيد كل طرف من الآخر. إن الصورة التي بدا عليها وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت بقلوب صحابته رضوان الله عليهم أجمعين، ولم يشق عليهم رسول الله حين دعاهم للتصدق ولو بشق تمرة لأجابوا، ولكنه دعاهم للتصدق ببعض ما عندهم، صاحب الدنانير ببعض دنانيره، وصاحب الدراهم ببعض دراهمه، وصاحب الثياب ببعض ثيابه، وصاحب صاع البر من صاع بره ولو قبضة، وصاحب صاع التمر من صاع تمره ولو تمرة. بل ولو شق تمرة. نعم كان الصحابة عند حسن الظن، تتابعوا بالعطاء، حتى تجمع كومان كبيران من طعام ونقود وثياب فتهلل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال النووي عن قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها" .. إلخ: فيه الحث على الابتداء بالخيرات، وسن السنن الحسنات، والتحذير من اختراع الأباطيل والمستقبحات، وتخصيص حديث: "كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة". وأن المراد به المحدثات الباطلة والبدع المذمومة. قال: وقد سبق بيان هذا في كتاب صلاة الجمعة، وذكرنا هناك أن البدع خمسة أقسام: واجبة، ومندوبة، ومحرمة، ومكروهة، ومباحة. اهـ. إن الإصلاح للمجتمع واجب كل قادر عليه، ولقد قبل الله صدقة المتصدق على الغني، والمتصدق على زانية، والمتصدق على سارق، لأن في ذلك إصلاحاً لهم، فربما انكسف الغني واستحيا من نفسه، واعتبر بالمنفق عليه فأصلح من نفسه واقتدى، وربما كانت الزانية محتاجة إلى أجر زناها فتعف بالنفقة التي منحتها، وربما كان السارق يسرق ما يحتاجه، فبسد حاجته قد يقلع عن سرقته فيأمن الأغنياء على أموالهم. قال النووي: في الحديث ثبوت الثواب في الصدقة وإن كان الآخذ فاسقاً وغنياً، ففي كل كبد رطبة أجر. قال: وهذا في صدقة التطوع، وأما الزكاة فلا يجزي دفعها إلى غني. اهـ. فإن دفعها إلى غني وهو لا يعلم، ثم علم وجبت عليه الإعادة. لأنه لم يضع الزكاة موضعها، وأخطأ في اجتهاده، كما لو نسي الماء في رحله وتيمم لصلاة لم يجزه. وقال أبو حنيفة: تسقط عنه تلك الزكاة، ولا تجب عليه الإعادة. وفي الحديث أن الصدقة كانت عندهم مختصة بأهل الحاجة من أهل الخير، وفيه دليل على أن الله يجزي العبد على حسب نيته في الخير، وفيه اعتبار لمن تصدق عليه، ورجاء بأن يتحول عن الحال المذمومة إلى الحال الممدوحة، وفيه فضل صدقة السر، وفضل الإخلاص، وفيه استحباب إعادة

الصدقة إذا لم تقع الموقع، وفيه أن الحكم للظاهر حتى يتبين خلافه، وفيه التسليم والرضا، وحمد الله على كل حال. تلك الشعب الأربع تعود بالنفع الدنيوي على المنفق، أما عن النفع الأخروي فيتمثل في ثلاث شعب: الوقاية من النار، ونمو النفقة المدخرة عند الله حتى تعظم، وأن للنفقة الصغيرة الأجر العظيم. فالأحاديث (32)، (33)، (34)، (36) تتحدث عن الشعبة الأولى "من استطاع منكم أن يستتر من النار ولو بشق تمرة فليفعل". "ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه. فاتقوا النار ولو بشق تمرة". "ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم النار، فأعرض وأشاح، ثم قال: اتقوا النار. ثم أعرض وأشاح حتى ظننا أنه كأنما ينظر إليها، ثم قال: اتقوا النار ولو بشق تمرة". "ذكر النار، فتعوذ منها، وأشاح بوجهه ثلاث مرار، ثم قال: اتقوا النار ولو بشق تمرة". والحديثان (29)، (30) يتناولان نمو الصدقة الصغيرة عند الله، ولفظهما: "ما تصدق أحد بصدقة من طيب -ولا يقبل الله إلا الطيب- إلا أخذها الرحمن بيمينه- وإن كانت تمرة- فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله". "لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها الله بيمينه، فيربيها، كما يربي أحدكم فلوه أو قلوصه حتى تكون مثل الجبل أو أعظم". والأحاديث (38)، (39)، (50)، (51)، (52) تكشف عن الأجر العظيم للمنفق عند الله، فألفاظها: "ألا رجل يمنح أهل بيت ناقة تغدو بعس وتروح بعس؟ إن أجرها لعظيم". "من منح منيحة غدت بصدقة، وراحت بصدقة، صبوحها وغبوقها". "من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة: يا عبد الله. هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان". قال أبو بكر الصديق: يا رسول الله، ما على أحد يدعى من تلك الأبواب من ضرورة؟ فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. وأرجو أن تكون منهم". "من أنفق زوجين في سبيل الله دعاه خزنة الجنة. كل خزنة باب. أي فلان، هلم". "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟ قال أبو بكر: أنا قال: فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة". هذا. ويلحق بإنفاق المال كل معروف، فإنفاق الجهد كإنفاق المال، له مكافأته الدنيوية، وأجره العظيم في الآخرة، يعبر عن ذلك أصدق تعبير الأحاديث (18)، (19)، (20)، (21)، (22)، (35) وألفاظها: "كل معروف صدقة". "إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة،

وكل تهليلة صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة. قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام؟ كان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر". قال النووي: في هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقات. فالجماع يكون عبادة إذا نوى به قضاء حق الزوجة ومعاشرتها بالمعروف الذي أمر الله به، أو طلب ولد صالح، أو إعفاف نفسه أو إعفاف الزوجة، أو غير ذلك من المقاصد الصالحة. قال: وفي الحديث جواز القياس وهو مذهب العلماء كافة، ولم يخالف فيه إلا أهل الظاهر، ولا يعتد بهم، وأما المنقول عن التابعين ونحوهم من ذم القياس فليس المراد به القياس الذي يعتمده الفقهاء المجتهدون، وهذا القياس المذكور في الحديث هو من قياس العكس، واختلف الأصوليون في العمل به، وهذا الحديث دليل لمن عمل به، وهو الأصح. قال: وفي هذا الحديث فضيلة التسبيح، وسائر الأذكار، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإحضار النية في المباحات، وذكر العالم دليلاً لبعض المسائل التي تخفى، وتنبيه المفتي على مختصر الأدلة، وجواز سؤال المستفتي عن بعض ما يخفي من الدليل إذا علم من حال المسئول أنه لا يكره ذلك، ولم يكن فيه سوء أدب. اهـ. أما الحديث (19) فلفظه: "من كبر وحمد الله وهلل وسبح الله واستغفر الله، وعزل حجراً عن طريق الناس، أو شوكة أو عظماً عن طريق الناس، وأمر بمعروف ونهى عن منكر، فإنه يمشي يومئذ وقد زحزح عن النار". "على كل مسلم صدقة، قيل: أرأيت إن لم يجد؟ قال: يعتمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق، قيل: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: يعين ذا الحاجة الملهوف. قيل: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: يأمر بالمعروف أو الخير. قيل أرأيت إن لم يفعل؟ قال: يمسك عن الشر، فإنها صدقة". "كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس، قال: تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع عليها متاعه صدقة، قال: والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة". "اتقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة". وحتى الخازن يدفع ما يأمره به سيده أحد المتصدقين، والمرأة تنفق من مال زوجها من طعام بيتها غير مفسدة يكون لها أجرها بما ناولت، كما سيأتي ذلك في الأحاديث من (44) إلى (49) تحت عنوان: فضل نفقة الخازن. هذه هي الأحاديث التي أخرجها الإمام مسلم، والتي تخص فضل الإنفاق بصفة عامة، نضيف إليها بعض النصوص الأخرى لنزيد الموضوع ثراء وعلماً، وبالله التوفيق. يقول الله تعالى: {ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً* إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً* إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً* فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسروراً* وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً} [الإنسان: 8 وما بعدها].

وروى الطبراني: "ما أنعم الله على عبد نعمة إلا كثرت مؤنة الناس عليه، فإن لم يحتمل مؤنتهم عرض تلك النعمة لزوالها". وروى عبد الرزاق في "المصنف" بإسناد حسن وأخرجه الهيثمي في "مجمع الزوائد"، والمنذري في "الترغيب والترهيب" عن أبي المنهال قال: "مر النبي صلى الله عليه وسلم برجل له عكر [بكسر العين وسكون الكاف، وهو الكثير المزدحم من الإبل، من 50 - 100] من إبل وغنم، فلم يضفه، ومر بامرأة لها شويهات. فذبحت له وأضافته. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: انظروا. مررنا بهذا الرجل وله عكر من إبل وغنم وبقر فلم يذبح لنا، ولم يضفنا، وهذه إنما لها شويهات، فذبحت لنا وضيفتنا، ثم قال: إنما هذه الأخلاق بيد الله، فمن شاء أن يمنحه الله خلقاً حسناً فعل". وأخرج الترمذي في صفة الجنة، وأبو داود في الزكاة: "أيما مؤمن أطعم مؤمناً على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، وأيما مؤمن سقى مؤمناً على ظمأ سقاه الله يوم القيامة من الرحيق المختوم، وأيما مؤمن كسا مؤمناً على عري كساه الله من خضر الجنة". وروى الطبراني: "لما قدم المهاجرون المدينة استنكروا الماء -أي استقلوه- وكان لرجل من غفار عين، يقال لها: رومة، وكان يبيع منها القربة بمد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بعنيها بعين في الجنة. فقال: يا رسول الله. ليس لي ولا لعيالي غيرها، ولا أستطيع أن أتكسب. فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه، من يشتري لنا بئر رومة، فيجعلها صدقة للمسلمين سقاه الله يوم القيامة من العطش. فبلغ ذلك عثمان بن عفان، فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم فجعلها صدقة للمسلمين". وروى مسلم: "أن النبي صلى الله عليه وسلم شيع جنازة أبي الدحداح، فقال بعد دفنه: كم من عذق معلق أو مدلى في الجنة لأبي الدحداح". قالوا: وسببه أن يتيماً خاصم أبا لبابة في نخلة، فبكى الغلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: أعطه النخلة ولك بها عذق في الجنة -أي نخلة في الجنة- فقال: لا. فسمع بذلك أبو الدحداح، فاشتراها من أبي لبابة بحديقة له ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألي عذق في الجنة إن أعطيتها اليتيم؟ قال: نعم. فأعطاه إياها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كم من عذق معلق أو مدلى في الجنة لأبي الدحداح". وروى الترمذي عن عائشة: "أنهم ذبحوا شاة، فتصدقوا منها، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة: ماذا بقي منها؟ قالت: ما بقي منها إلا كتفها. قال: بقي كلها غير كتفها". كيف يعالج المؤمن شح نفسه؟ وكيف يعلم نفسه السخاء؟ ويتعود البذل والعطاء والإنفاق؟ . إن المال أهم ما في الوجود، شهوته أهم من شهوة النساء، لأن شهوة النساء محدودة، وفي أوقات وشهوة المال غير محدودة، وفي جميع الأوقات "لو كان لابن آدم واد من ذهب لتمنى ثانياً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب". رواه البخاري ومسلم: "يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنان. حب المال وطول العمر". رواه البخاري ومسلم. المال أخطر ما في الوجود، لأن صاحبه لا يدرك خطره إلا بعد فوات الأوان، بهجته تعمي الأبصار عن إدراك حقيقته، وجمعه يزيد الرغبة في جمعه، فهو كالمخدر الذي يشل حركة التفكير والتعقل والتدبر، إلا من عصمه الله. يضحي الإنسان في سبيله بكل غال، يضحي بالهدوء والراحة والسعادة

والأهل والأوطان، ويشقى طول عمره من أجل المال، الجار يعادي الجار من أجل المال، الأخ يخاصم أخاه ويقاضيه من أجل المال، بل وصل الأمر إلى أن يقتل الولد أباه وأمه من أجل المال، وما الحروب بين الدول وقتل الآلاف ومئات الآلاف من البشر إلا من أجل الحاجة إليه، فحسب ابن آدم لقيمات تقمن صلبه، وما أكثر الذين يلهثون وراء المال وهم لا يحتاجونه، إنما حب المال وحب جمعه غرس في طبيعة الإنسان منذ خلق، يقول جل شأنه: {وتأكلون التراث أكلاً لماً وتحبون المال حباً جماً} [الفجر: 19، 20]. {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث} [آل عمران: 14]. وحديثنا رقم (28) يرسم صورة ندم الإنسان، وأسفه على ما أضاعه في سبيل المال يوم يفيض المال ويفقد قيمته وتنتهي الحياة أو تقرب، وتقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة، فيجيء القائل فيقول: في هذا قتلت. ويجيء القاطع فيقول: في هذا قطعت رحمي. ويجيء السارق فيقول: في هذا قطعت يدي، ثم يدعونه، فلا يأخذون منه شيئاً. هذه حقيقة لا تحتاج إلى برهان، فحب المال في طبع الإنسان، لكن المؤمن مأمور بمحاربة معوجات الطبع لتوافق الشرع، وقد نبه الله إلى ذلك، وأرشد إلى العلاج من هذا الداء بأساليب كثيرة منها: 1 - آيات وأحاديث الترغيب في الإنفاق، التي سبق الكثير منها، وآيات وأحاديث الترهيب من البخل التي سبق الكثير منها، وجماعها قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيراً لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [التغابن: 16]. وجماعها قوله صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش". رواه البخاري. وقد مر بنا قريباً حديث أبي ذر، حيث قال له صلى الله عليه وسلم: "إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة. إلا من أعطاه الله خيراً، فنفخ فيه يمينه وشماله، وبين يديه ووراءه، وعمل فيه خيراً"، رواه مسلم. فعلى المؤمن أن يستخلص كل ذلك كجرعة أولى لعلاج هذا الداء. الجرعة الثانية: أن يستحضر في كل حالاته أن الله تعالى هو المعطي، وهو قادر على المنع؛ وأن المال في يد الإنسان أمانة ووديعة، أذن مالكها جل شأنه في الانتفاع بها في حدود وبشروط وبواجبات، وعلى العاقل أن يعمل في الوديعة بما رسم له، ولا يتعدى حدوده، لقد أكثر جل شأنه التنبيه على هذه الحقيقة كلما طلب الإنفاق، يقول: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} [النور: 33]. {ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض} [آل عمران: 180]. {آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} [الحديد: 7]. {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله} [الطلاق: 7]. {قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية} [إبراهيم: 31].

الجرعة الثالثة: أن يستحضر أن ما عنده من مال ليس نتيجة جهده وكفاحه وليس بقاؤه عنده نتيجة لذكائه ومهارته، فكم من الفقراء أصبح بين يوم وليلة من أغنى الأغنياء وكم من الأغنياء بات فأصبح يقلب كفيه على لا شيء، فقارون حينما قال: إنما أوتيته على علم عندي خسف به وبداره الأرض، {فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين} [القصص: 81]. وصاحب الجنتين، آتاه الله جنتين من أعناب، محفوفتين بنخل كثير، بينهما زرع وفير، وفجر جل شأنه خلالهما نهراً. وحين دخل جنته وهو ظالم لنفسه وقال: ما أظن أن تبيد هذه أبداً أرسل الله عليها حسباناً من السماء فأصبحت صعيداً زلقا، وأصبح ماؤها غوراً لا يستطيع له طلباً، وأحيط بثمره، فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها. وأصحاب الجنة {إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم} [القلم: 17 - 20]. الجرعة الرابعة: أن يستحضر الذي يجمع المال تأميناً لأولاده من بعده، أن يستحضر أن الله ربهم، وأنه إن شاء أغناهم من غير أن يترك أبوهم لهم، وإن شاء أفقرهم على الرغم من الكثير الذي تركه أبوهم لهم، وقد روى الطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نشر الله عبدين من عباده -أي بعثهما وأوقفهما للسؤال- وكان قد أكثر لهما في دنياهما المال والولد، فقال لأحدهما: أي فلان ابن فلان. قال: لبيك رب وسعديك. قال: ألم أكثر لك من المال والولد؟ قال: بلى. قال: وكيف صنعت فيما آتيتك؟ قال: تركته لولدي مخافة العيلة -أي الفقر- قال: أما إنك لو تعلم العلم -أي لو تعلم ما حصل لهم بعدك- لضحكت قليلاً، ولبكيت كثيراً، أما إن الذي تخوفت منه على أولادك قد أنزلته بهم. ويقول للآخر: أي فلان ابن فلان. فيقول: لبيك رب وسعديك. قال: ألم أكثر لك من المال والولد؟ قال: بلى، أي رب. قال: فكيف صنعت فيما آتيتك؟ قال: أنفقت في طاعتك، ووثقت لولدي من بعدي بحسن عطائك. قال: أما إنك لو تعلم العلم -أي لو تعلم ما حصل لهم بعدك- لبكيت قليلاً، ولضحكت كثيراً، أما إن الذي قد وثقت به قد أنزلته بهم". الجرعة الخامسة: أن يضع بين عينيه أنه ليس له من ماله إلا ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو تصدق فأبقى، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه، ولن يأخذ معه مما يجمع سوى ثوب من قماش وقطعة من قطن، يقول الشاعر: نصيبك مما تجمع الدهر كله ... رداءان تطوى فيهما وحنوط ولمن يترك ما جمع؟ لورثته الأحباب منهم والأعداء، نعم والأعداء، فليس له رأي في ماله بعد أن يرحل عنه، وصدق الشاعر حين يقول: وما الناس إلا جامع أو مضيع ... وذو نصب يسعى لآخر نائم نعم: هو ذاهب وتارك كل ما يجمع، حقيقة مشاهدة، يصورها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: "يتبع الميت ثلاثة. فيرجع اثنان، ويبقى معه واحد، يتبعه أهله وماله وعمله. فيرجع أهله وماله، ويبقى معه

عمله". رواه البخاري. وروى الحاكم: "الأخلاء ثلاثة. فأما خليل فيقول: أنا معك حتى تأتي قبرك، وهو الأهل والأصدقاء، وأما خليل فيقول: كنت لك، واليوم لست لك، فذلك المال، وأما خليل فيقول: أنا معك حيث دخلت، وحيث خرجت، فذلك العمل". فضل النفقة من الكسب الطيب في الحديث (29)، (30)، (31) تقييد قبول الصدقة بكونها من الكسب الطيب، وألفاظها: "ما تصدق أحد بصدقة من طيب ولا يقبل الله إلا الطيب- إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن كان تمرة، فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم} [المؤمنون: 51]. وقال: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} [البقرة: 172]. ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يده إلى السماء .. يا رب ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام. فأنى يستجاب لذلك"؟ والمحقق المدقق في الآيات والأحاديث يجد الكلام في نقطتين: الأولى زيادة الثواب وتكثيره للنفقة من الكسب الطيب الحلال، ولا خلاف في هذا، فالصدقة من الكسب الطيب سبب لتكثير الأجر. النقطة الثانية: قبول الصدقة من الكسب غير الطيب وعدم قبولها، وعبارة: "ولا يقبل الله إلا الطيب" صريحة في عدم القبول. وفي توجيهها يقول القرطبي: إنما لم يقبل الصدقة بالحرام لأنه غير مملوك للمتصدق، والمتصدق ممنوع من التصرف فيه، والتصدق به تصرف فيه، فلو قبل لزم كون الشيء الواحد مأذوناً فيه منهياً عنه من وجه واحد. انتهى بتصرف. وهكذا يطلق العلماء الأوائل القول بعدم قبول الصدقة من كسب حرام، وهم بذلك يهدفون إلى إغلاق باب الكسب الحرام وسد الذرائع، وهو هدف حسن محمود، ولا نقاش فيه، فمن أراد أن يرابي ليتصدق بالزيادة قلنا له: لا. وحين قالوا: زنت وتصدقت؟ قلنا: ليتها لم تزن ولم تتصدق. لكن البحث الذي ألجأتنا إليه ظروف الحياة المعاصرة، والتي نعيش فيها صحوة إسلامية بعد سبات عميق، ونعيش وعياً دينيا وحرصاً على الالتزام، بعد جهل مظلم واستهتار مقيت هو أننا وجدنا أموال المسلمين تكدست في البنوك ثمرة لمعاملات ربوية مع اليهود والنصارى وأعداء الإسلام، ووجدنا ثروة جمعتها راقصات يتجهن إلى التوبة، ويرغبن في تصفية ما يمكن من حقوق، ويحرصن على أن ينخلعن من ثياب الفسق والفجور، وينسلخن من جلود الفساد. ما هو التصرف المشروع في هذه الأموال؟ . هل نقول للأولين: دعوا الزيادات المالية لأعداء الإسلام، يتسلحون بها ليحاربوكم، ولكم رءوس أموالكم؟ ولا تأخذوها فتعطوها لفقراء المسلمين، لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً؟ وهل نقول للأخريات ابحثن عمن راقصتن، وعمن استأجركن، وارددن إليه ماله؟ لو قلنا لهن ذلك؛ لرفضن

واستمررن وازددن في الفساد والإفساد؟ كالقاتل الذي قتل الراهب، ليكمل به المائة، وحتى ولو أردن ذلك هل من الممكن تحقيقه؟ اللهم. لا. لم لا تفسر الحديث "إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً" أي لا يقبله قبولاً يضاعف عليه الثواب؟ ويبقى أصل القبول قائماً؟ وبذلك نجمع بين قبول يأخذه الرحمن بيمينه، ويربيه ويضاعفه، وبين قبول لا يتصف بذلك، فنجمع بين صدر الحديث وعجزه. ولنقرب المسألة مسترشدين بأقوال الفقهاء، لقد قال الجمهور: إن الحج من مال حرام صحيح، مسقط للفرض، مسقط للمطالبة به يوم القيامة. وأداء الزكاة الواجبة من عين مال محرم محقق للأداء، مسقط للمطالبة بها يوم القيامة. ثم كل الفقهاء يجمعون على أن الدين للآدمي إن أدي من مال حرام سقط، ولم يطالب به مرة أخرى ديناً وقانوناً، دنيوياً وأخروياً. وينحصر الإثم وتنحصر العقوبة في تحصيل هذا المال دون إنفاقه. لماذا لا نفرق في مسألتنا بين إثم الاكتساب وبين حكم الإنفاق؟ لما لا نسمح بإنفاق هذا المال الحرام في وجوه الخير، ولو من قبيل احتمال أخف الضررين؟ أو تقديم أكبر المنفعتين؟ وحتى لو فرضنا أن ثواب هذه الصدقات سيذهب إلى المالك الأصلي الأول فإن المناول للصدقة أحد المتصدقين. ولماذا لا نجعل لنية الخير والمعروف نصيباً في الثواب؟ ولماذا نحجر على فضل الله؟ ونقول: لا قبول ولا ثواب. إن الحديث حين ذكر الرجل الذي يدعو ربه ومطعمه من حرام ومشربه من حرام، وملبسه من حرام، ومنبته من حرام، لم يجزم بعدم إجابة دعائه، بل استبعدها "فأنى يستجاب لذلك" والمستبعد منا قد يكون قريباً واقعاً من الله، بل أخبرنا الله بوقوعه للكافر الذي يأكل خيره، ويعبد غيره، ويأكل ويعيش في الحرام، حيث يقول: {وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفوراً} [الإسراء: 67]. {قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعاً وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين* قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون} [الأنعام: 63، 64]. فالحديث إنما يحث على الكسب الحلال، ولا يمنع قبول الدعاء ممن كسبه من حرام. والله أعلم. فضل النفقة من أحب الأموال لا شك أن الحب يقتضي أن يقدم الحبيب أحب الأشياء إلى المحبوب. والواجب على المؤمن أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، والصدقة إنما تقدم لله وتقرض لله وتقع في يد الله قبل أن تقع في يد المستحق، ومن هنا كان على المؤمن أن تكون صدقته من أحب أمواله إليه. وإلى هذا المعنى مال كثير من المفسرين في قوله تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92] فروي عن ابن عباس أن المعنى: "لن تنالوا

ما عند الله من ثوابه في الجنة حتى تنفقوا مما تحبون من الصدقة، أي بعض ما تحبون من الأموال". كما روي عن ابن عمر: "أنه كان يشتري أعدالاً من السكر، ويتصدق بها، فقيل له: هلا تصدقت بثمنها؟ فقال: ألم تسمع هذه الآية: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} والسكر أحب إلي، فأردت أن أنفق مما أحب". نعم روي عن الضحاك أن معناها: لن تدخلوا الجنة حتى تخرجوا زكاة أموالكم طيبة بها أنفسكم، فجعل الحب للإنفاق نفسه، لا لنوع النفقة، والتفسير الأول أقرب للصواب، وهو الذي فهمه الصحابة في الآية -رضي الله عنهم- وهو الذي أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فهم أبو طلحة هذا الفهم في الآية، وتصدق بأحب أمواله إليه، كان بستاناً عظيماً، به بئر، ماؤها من أحلى المياه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من مائها. لكننا لا نوافق على أن دخول الجنة، أو ثواب الصدقة بوجه عام موقوف على إخراج الأحب، بل يكفي أن تكون الصدقة من عامة المال ليثاب عليها، وإن كان التصدق من الأحب أكثر ثواباً بلا نزاع، ولا يتعارض هذا مع نهيه صلى الله عليه وسلم لمعاذ أن يأخذ كرائم الأموال في الصدقة، بقوله: "وإياك وكرائم الأموال". لأن هناك فرقاً كبيراً بين أن يخرج المؤمن طواعية ورغبة أحب أمواله وكرائمها، وبين أن تؤخذ منه أخذاً كواجب عليه، فالأول مندوب إليه، والثاني منهي عنه. وفي ظني أن الآية الكريمة لم تحث على إنفاق الأحب، وإن حملها الصحابة على ذلك، وإنما تحث على إنفاق المحبوب، بل بعض المحبوب؛ فهي بمفهومها تحذر من إنفاق المكروه المبغض، وتلتقي مع قوله تعالى: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد} [البقرة: 267]. وقد استنبط العلماء من حديث تبرع أبي الدحداح ببستانه في روايته التاسعة من أحاديثنا عدة أحكام منها: 1 - أن الرجل الصالح قد يضاف إليه حب المال، وقد يضيفه هو إلى نفسه، وليس في ذلك نقيصة عليه. 2 - وفيه رد لما روي عن ابن مسعود أنه قال: "لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا". وقد اتخذ الصحابة الضيعات والبساتين. 3 - ومن قوله: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها". أخذ إباحة دخول العلماء البساتين. 4 - ودخول بساتين الأصحاب في غيبتهم. 5 - والشرب من ماء الصديق، وكذا الأكل من ثماره وطعامه من غير إذنه، إذا علم أن نفس صاحبه تطيب بذلك. 6 - ومن قوله: "فضعها يا رسول الله حيث شئت ..... ". ومن قوله صلى الله عليه وسلم:

"قد سمعت ما قلت فيها، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين" فقسمها أبو طلحة في أقاربه". أخذ منه بعضهم أن الوكالة لا تتم إلا بالقبول، إذ الذي قام بتقسيمها أبو طلحة: وقال المهلب: دل الحديث على قبوله صلى الله عليه وسلم ما جعل إليه أبو طلحة، ثم رد الوضع فيها إلى أبي طلحة بعد مشورته عليه فيمن يضعها. 7 - وفيه مشاورة أهل العلم والفضل في كيفية وجوه الطاعات وغيرها، والإنفاق من المحبوب. 8 - وفيه أن الوقف صحيح، وإن لم يذكر سبيله. 9 - ومن قوله: "فضعها يا رسول الله حيث شئت". جواز أمر الرجل لغيره أن يتصدق عنه، وكذلك إذا قال الآخر: خذ هذا المال فاجعله حيث أراك الله من وجوه الخير. قال مالك: وفي هذه الحالة لا يأخذ منه شيئاً وإن كان فقيراً. وقال غيره: جاز له أن يأخذه كله إذا كان فقيراً. 10 - وفيه صحة الصدقة المطلقة، وهو الذي لم يعين مصرفه، ثم بعد ذلك يعين. 11 - وفيه جواز أن يعطي الواحد من الصدقة فوق مائتي درهم. لأن هذا الحائط مشهور أن ربحه يحصل للواحد منه أكثر من ذلك. قاله القرطبي. ولا فرق بين فرض الصدقة ونفلها في مقدار ما يجوز إعطاؤه للمتصدق عليه فيما ذكره الخطابي. 12 - وفيه أن الصدقة العظيمة يمدح صاحبها لقوله صلى الله عليه وسلم: "بخ. ذلك مال رابح". 13 - وفي الحديث دلالة للمذهب الصحيح أنه يجوز أن يقال: إن الله تعالى يقول كذا، كما يقال: قال الله تعالى كذا، خلافاً لما قاله مطرف بن عبد الله، إذ قال: لا يقال: الله تعالى يقول كذا، إنما يقال: قال الله تعالى كذا. خشية أن ينجر إلى استئناف القول، وقول الله قديم، ورد هذا القول بما جاء في القرآن الكريم من قوله تعالى: {والله يقول الحق وهو يهدي السبيل} [الأحزاب: 4]. 14 - وفيه استعمال ظاهر الخطاب وعمومه، لأن أبا طلحة حين سمع {لن تنالوا البر ... } [آل عمران: 92] لم يحتج أن يقف حتى يرد عليه البيان عن الشيء الذي يريد الله عز وجل أن ينفق عباده منه. ولم ينتظر آية أو حديثاً يبين ذلك. 15 - قال النووي: وفيه أن القرابة يرعى حقها في صلة الأرحام وإن لم يجتمعوا إلا في أب بعيد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا طلحة أن يجعل صدقته في الأقربين، فجعلها في أبي بن كعب وحسان بن ثابت، وإنما يجتمعان معه في الجد السابع. والله أعلم. فضل النفقة بالقليل وعدم احتقاره والأحاديث (32)، (33)، (34)، (35) تحث على الصدقة مهما قلت، وتمثل للقلة بشق التمرة، وتعد بأن هذا الشق يستر صاحبه من النار، ويقيه من حرها حينما لا يبعده عمله الصالح عنها، وحينما لا ينقذه من لهيبها عمله الذي يكون عن يمينه، وعمله الذي يكون عن شماله، يتلفت يميناً فلا يجد ما يحميه، ويتلفت شمالاً فلا يجد ما يحميه، لقد صور رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المنظر عملياً كأنه أمامه، ذكر

أصحابه بالنار في الآخرة، وخوفهم من عذابها، وتمثل أنها أمامه فبدت عليه علامات الفزع والرعب، فأعرض وأشاح بوجهه جهة اليمين، كأنه يتقيها، واستعاذ بالله منها ومن حرها، ثم رجع بوجهه إلى الوضع الأول، وكأنها مازالت أمامه، فعبس وفزع، وأعرض وأشاح بوجهه جهة الشمال كأنه يتقيها، واستعاذ بالله منها ومن حرها، ثم عاد بوجهه صلى الله عليه وسلم إلى الوضع الأول، وكأنه لم يجد بإعراضه عن مواجهتها منقذاً منها، وقد أوحى الله إليه أن الصدقة تطفئ غضب الرب، وأنها مهما قلت وصغرت -إذا قبلت- سترت صاحبها من النار، وحالت بينه وبين لهبها، بل بينه وبين حرارته، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: اتقوا النار بالصدقة ولو كانت الصدقة نصف تمرة. نعم تمرة أو نصف تمرة ممن لا يجد إلا ذلك تخرج عن طيب نفس، يحتسبها صاحبها عند ربه، يتلقاها الرحمن بيمينه، ويربيها وينميها لصاحبها، فيجدها يوم القيامة في ميزان حسناته كالجبل، وأعظم من الجبل. لم يتردد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وجد تمرة بالطريق أن يرفعها من الأرض وينفخها من التراب، ثم يناولها صحابياً كان معه، ويخبره أنها رزق ساقه الله إليه، وأنها لو لم يأت هو إليها وإلى مكانها لأتت هي إليه في مكانه مادامت من الرزق الذي كتبه الله له. ولم تتردد عائشة حين جاءتها امرأة فقيرة ومعها بنتان صبيتان جائعتان، لم تتردد عائشة حين لم تجد في بيتها ما تعطيه للمرأة سوى تمرة واحدة أن تقدم هذه التمرة الوحيدة للمرأة، التي شقت التمرة نصفين، وأعطت كل بنت من بنتيها نصفاً. وكان الصحابة كذلك لا يتحرجون أن يقدموا تمرة واحدة، فقد أخرج أبو نعيم في "الحلية" عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه قال: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبعثنا في السرية، ما لنا زاد إلا السلف -أي الجراب من التمر- فيقسمه صحابه بيننا قبضة قبضة، حتى يصير إلى تمرة تمرة". لا يقال: وماذا يفعل النصف بالجائع؟ بل ماذا تفيد التمرة الكاملة عند جائع؟ إن الحديث الذي أخرجه الطبراني يجيب عن ذلك فيقول: "اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإنها تقيم العوج، وتدفع ميتة السوء، وتقع من الجائع موقعها من الشبعان". وأوضح منه في ذلك ما أخرجه البيهقي عن جابر رضي الله عنه قال: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر علينا أبا عبيدة، نتلقى عيراً لقريش، وزودنا جراباً من تمر لم يجد لنا غيره، فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة. قال: فقلت: كيف كنتم تصنعون بها؟ قال: كنا نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليها الماء، فتكفينا يومنا إلى الليل". وفي بعض الروايات: "فقلت: وما تغني تمرة؟ قال: لقد وجدنا فقدها حين فنيت". إن العطاء مهما قل يقع من نفس الآخذ موقعاً أكبر بكثير جداً من قيمته وإن أسمى ما جاء به الإسلام للبشرية عوامل الترابط والتآلف والتحاب، والعطاء أهم وسيلة تحقق هذا

الهدف، ومن هنا نجد الروايات المذكورة تشير إلى ذلك فتقول: "اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة". إن الشريعة الإسلامية السمحة عالجت هذه القضية من أطرافها الثلاثة، طرف المعطي، وطرف الآخذ، وطرف المجتمع المشاهد، فطرف المعطي قد عالجته الأحاديث التي ذكرناها، وكانت حافزاً للمؤمن أن يقدم ما عنده من غير حرج ومن غير احتقار لعطيته، والحديث رقم (56) يعالج طرف الآخذ، فيقول: "يا نساء المسلمات. لا تحقرن جارة لجارتها، ولو فرسن شاة". أي لا تحتقر آخذة عطية معطية، ولو كانت هذه العطية ظلف شاة لا لحم فيه. وقد استجاب الطرفان للنصيحة، فرأينا جابر بن عبد الله ينزل به ضيف -جماعة من الرجال- فيقدم إليهم ما عنده، خبز وخل، ويقول: كلوا. فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نعم الإدام الخل، هلاك بالقوم أن يحقروا ما قدم إليهم، وهلاك بالرجل أن يحتقر ما في بيته يقدمه إلى أصحابه". أخرجه البيهقي في "الشعب". وأخرج ابن سعد عن أبي هريرة قال: "كان خير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه كان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته حتى إنه كان ليخرج إلينا العكة -إناء من جلد يحفظ فيه العسل ونحوه- ليس فيها شيء، فيشقها فنلعق ما فيها". إن القرآن الكريم يثبت هذه النظرية حيث يقول: {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسراً} [الطلاق: 7]. إن إنفاق الكثير من أهل السعة والغنى لا يعدل في ثوابه أجر القليل ممن قدر عليه رزقه، وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم: "سبق درهم مائة ألف درهم. فقال رجل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: رجل له مال كثير أخذ من عرضه مائة ألف درهم تصدق بها، ورجل ليس له إلا درهمان فأخذ أحدهما، فتصدق به". رواه الحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم. ومن هذا المبدأ انطلق الفقراء ينافسون الأغنياء في التصدق والعطاء، من يملك ديناراً يتصدق من ديناره، ومن يملك درهمين ينفق منهما، ومن يملك ثوبين يتصدق بأحدهما، ومن يملك صاعاً من بر يتصدق بنصفه، كما يحدثنا بذلك الحديث رقم (36). بل الذي لا يملك شيئاً من ذلك يذهب فيؤجر نفسه بصاع ليتصدق به أو بنصفه، كما يحدثنا بذلك الحديث رقم (37). بل من كانت عنده شاة أو عنز أو ناقة كان يعيرها للفقير ليلة ليمنحه لبنها في مسائها وصباحها، كما يحدث بذلك الحديث رقم (38)، (39). وهكذا لم تعد هناك غضاضة على المعطي أن يعطي ما عنده مهما قل، ولم تعد غضاضة على الآخذ أن يأخذ القليل راضياً شاكراً، لكن بعض ضعاف الإيمان أو المنافقين لم يعجبهم هذه الروح الإسلامية السمحة، لأنهم لم يتعودوها في جاهليتهم، فلم يكن الفقير معطاء، وكان عطاء الغني للرياء والسمعة، ولم يألفوا هذا النوع الجديد من البذل والعطاء، لم يذوقوا طعم الإيمان وطعم احتساب الأجر، فكانوا يسخرون ممن يعطي الكثير، ويقولون: ما

فعل ذلك إلا رياء وفخراً، ويسخرون من الفقير الذي يتصدق بنصف ما يملك، بنصف صاع ويقولون: ما فائدة هذا القليل؟ إن الله غني عن صدقته، فكان علاج هذه الفئة أن نزل فيهم قرآن يتلى، نزل فيهم قوله تعالى: {الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم} [التوبة: 79]. فضل نفقة السر يقول الله تعالى: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير} [البقرة: 271]. فهذه الآية تمدح صدقة العلن، وإن فضلت عليها صدقة السر، ووجه التفضيل أمران: الأول: أن صدقة السر لا تحرج الآخذ، ولا تخدش من حيائه وكرامته وبخاصة إذا كان من أهل المروءات المتعففين الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف. الثاني: أنها أقرب إلى الإخلاص والتوجه إلى الله، وأبعد من الرياء والسمعة. والحديث رقم (57) ينوه بشأن صدقة السر، ويجعل المتصدق الذي يبالغ في السرية والإخفاء أحد سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. قال الإمام النووي: قال العلماء: وهذا في صدقة التطوع، السر فيها أفضل لأنه أقرب إلى الإخلاص، وأبعد من الرياء، وأما الزكاة الواجبة فإعلانها أفضل، وهكذا حكم الصلاة، فإعلان فرائضها أفضل، لقوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة". اهـ. ولست مع الإمام النووي في قياس الزكاة في السرية والجهرية على الصلاة، فالصلاة بين العبد وربه، أما الزكاة فبين العباد، أخذ وعطاء. ثم إن الصلاة قبدت بنصوص، فلزم العمل بها، أما الزكاة، فالنصوص على أن الإخفاء عامة مطلوب، حتى النصوص التي لم تصرح بأفضلية السر أشارت إلى أفضليته، فقوله تعالى: {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [البقرة: 274] قدم فيه الليل على النهار، والسر على العلن لأهمية المقدم، ولولا أن فريضة الصلاة طلب لها الجماعة فربما كانت في السر أفضل، ولا كذلك الزكاة، ثم إن الصدقات في عمومها حيث لا مخصص تشمل الواجبة والنافلة، والتعبير الشرعي عن الزكاة بالصدقة هو الشائع والمشهور. نعم نقل الطبري وغيره الإجماع على أن الإعلان في صدقة الفرض أفضل من الإخفاء، وصدقة التطوع على العكس من ذلك. ونقل الزجاج أن إخفاء الزكاة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل، فأما بعده فإن الظن يساء بمن أخفاها، فلهذا كان إظهار الزكاة المفروضة أفضل. وقال أبو عطية: ويشبه في زماننا أن يكون الإخفاء بصدقة الفرض أفضل، فقد كثر المانع لها، وصار إخراجها عرضة للرياء. اهـ.

ولعل الأولى أن يقال: إن الحكم يختلف باختلاف الظروف والملابسات فإن بعد الإعلان عن الرياء وتحققت من ورائه مصالح دينية كالتأسي والالتزام كان أفضل، وإن شابه رياء، ولم يحقق من ورائه فائدة كان الإسرار أفضل، والله أعلم. فضل نفقة الخازن من مال سيده والزوجة من مال زوجها المشاركة في الخير مشاركة في الأجر، كل حسب جهده وإسهامه فيه، لكن لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئاً، فالمكافأة من الغني الكريم، الذي لا تنقص خزائنه بالعطاء. فالرجل الذي اكتسب، والمرأة التي أعدت الطعام، والآمر بالإنفاق والمناول للصدقة، كل له أجر وثواب، فقد روى الحاكم والطبراني في الأوسط قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل ليدخل بلقمة الخبز وقبضة التمر ثلاثة الجنة، رب البيت الآمر بها، والزوجة تصلحها، والخادم يناولها المسكين". وأخرج الطبراني أن حارثة بن النعمان رضي الله عنه كان قد ذهب بصره، فربط خيطاً بين مصلاه وبين باب البيت، فكان إذا جاء المسكين أخذ من مكتله شيئاً لا يحس به أحد من البيت، ثم أخذ بطرف الخيط، يسرع فيناول المسكين، فكان أهله يقولون له: نحن نكفيك. فيقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مناولة المسكين تقي مصارع السوء". وحديثنا رقم (44) يؤكد هذا المعنى، فهو يقول: "إن الخازن المسلم الأمين الذي يعطي ما أمر به، فيعطيه كاملاً موفراً طيبة به نفسه، فيدفعه إلى الذي أمر له به أحد المتصدقين" أي هو شريك لصاحب المال في الصدقة. وقد وضع الحديث لهذا الأجر خمسة قيود: الأول: أن يكون خازناً، لأنه إذا لم يكن خازناً أو عاملاً لا يجوز له أن يتصدق من مال الغير. الثاني: أن يكون مسلماً فإن كان كافراً فليس له أجر أخروي لأن أساس الأجر الأخروي الإيمان. الثالث أن يكون أميناً فلا يخصم شيئاً من العطاء، فإن خان كان مأزوراً غير مأجور. الرابع أن يكون منفذاً لأمر المالك. الخامس أن تكون نفسه طيبة غير حاقدة وغير طامعة وغير متطلعة لما يناوله. لكن الأحاديث (45)، (46)، (47)، (48)، (49) تضم إلى المناولة عنصراً آخر، هو عنصر الدافع وإنشاء الصدقة، وليس تنفيذ أمر المالك، فهي تقول: "إذا أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها أجره بما كسب، وللخازن مثل ذلك، لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئاً" وفي رقم (49) "وما أنفقت من كسبه من غير أمره فإن نصف أجره له". ويحكي الحديث (47)، (48) قصة عمير مولى آبى اللحم مع سيده، وفيها أقر الرسول صلى الله عليه وسلم عطاء المولى من غير أن يأمره سيده، وقال للسيد: "الأجر بينكما". قال الإمام النووي: معنى هذه الأحاديث أن المشارك في الطاعة مشارك في الأجر، ومعنى المشاركة أن له أجراً، كما لصاحبه أجر، وليس معناه أن يزاحمه في أجره. والمراد المشاركة في أصل

الثواب، فيكون لهذا ثواب ولهذا ثواب وإن كان أحدهما أكثر، ولا يلزم أن يكون مقدار ثوابهما سواء، بل قد يكون ثواب هذا أكثر، وقد يكون العكس، فإذا أعطى المالك لخازنه أو امرأته أو غيرهما مائة درهم أو نحوها ليوصلها إلى مستحق الصدقة على باب داره أو نحوه فأجر المالك أكثر وإن أعطاه رمانة أو رغيفاً ونحوهما مما ليس له كثير قيمة ليذهب به إلى محتاج في مسافة بعيدة، بحيث يقابل مشي الذاهب إليه بأجرة تزيد على الرمانة والرغيف فأجر الوكيل أكثر، وقد يكون عمله قدر الرغيف مثلاً فيكون مقدار الأجر سواء. فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "الأجر بينكما نصفان" معناه قسمان وإن كان أحدهما أكثر، كما قال الشاعر: إذا مت كان الناس نصفين بيننا قال النووي: وأشار القاضي إلى أنه يحتمل أيضاً أن يكون الطرفان سواء لأن الأجر فضل من الله تعالى، يؤتيه من يشاء، ولا يدرك بقياس ولا هو بحسب الأعمال. اهـ قال النووي: والمختار الأول. اهـ. والحق أن مقدار الثواب يخضع -بالإضافة إلى أنها فضل- لعوامل أخرى كثيرة كالإخلاص والاحتساب وطيب النفس وغيرها، وذلك على كل حال يبعد المناصفة والمساواة. قال النووي: وقوله: "الأجر بينكما" ليس معناه أن الأجر الذي لأحدهما يزدحمان فيه، بل معناه أن هذه النفقة والصدقة التي أخرجها الخازن أو المرأة أو المملوك أو نحوهم بإذن المالك يترتب على جملتها ثواب على قدر المال والعمل فيكون ذلك مقسوماً بينهما، لهذا نصيب بماله، ولهذا نصيب بعمله، فلا يزاحم صاحب المال العامل في نصيب عمله، ولا يزاحم العامل صاحب المال في نصيب ماله. اهـ. وفي هذا الكلام نظر، لأن أجر الصدقة غير أجر الكسب، وإذا كان للصدقة أجر مرتبط بكسب المال والعمل كان العامل في أخذه نصيبه من هذا الأجر مزاحماً للمالك ثم إنه بهذا التقسيم لا يكون هناك فضل. ويستبعد معه قوله: "من غير أن ينقص بعضهم من أجر بعض شيئاً" ويصبح لاغياً لا فائدة منه إذ لا يتصور أن يشارك المناول في أجر الكسب. والذي أستريح إليه أن أجر الصدقة كاملاً يمنح للمالك، وذلك للفرق بين مال تصدق به، ومال لم يتصدق به، ويتفضل الله بأجر جديد من عنده للزوجة أو الخازن، تماماً كما قيل في حديث: "من فطر صائماً كان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء" وكأن الله ضاعف الأجر من عنده فضلاً وكرماً، ثم جعل هذا الأجر المضاعف بينهما، فلا مزاحمة في أجر كل منهما. وبهذا الفهم تسخو نفس المالك بإنفاق الزوجة والخازن ويرضى ويسعد، وإن كان بغير علمه، كما إذا زرع الزارع زرعاً فأكل منه دون علمه إنسان أو طير أو بهيمة، فإن له في ذلك أجراً، وبهذا الفهم تحرص الزوجة والخازن على الإنفاق ما داما ينتفعان وينفعان ولا يضران. والله أعلم. ثم قال النووي: واعلم أنه لا بد للعامل، وهو الخازن، وللزوجة والمملوك من إذن المالك في ذلك، فإن لم يكن إذن أصلاً فلا أجر لأحد من هؤلاء الثلاثة، بل عليهم وزر، بتصرفهم في مال غيرهم بغير

إذنه، والإذن ضربان: أحدهما: الإذن الصريح في النفقة والصدقة، والثاني: الإذن المفهوم من إطراد العرف والعادة كإعطاء السائل كسرة ونحوها مما جرت به العادة، وإطرد العرف فيه، وعلم بالعرف رضا الزوج والمالك به، فإذنه في ذلك حاصل وإن لم يتكلم، وهذا إذا علم رضاه لإطراد العرف، وعلم أن نفسه كنفوس غالب الناس في السماحة بذلك والرضا به، فإن اضطرب العرف، وشك في رضاه، أو كان شخصا يشح بذلك، وعلم من حاله ذلك، أو شك فيه لم يجز للمرأة وغيرها التصدق من ماله إلا بصريح إذنه. قال: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "وما أنفقت من كسبه من غير أمره فإن نصف أجره له"، فمعناه من غير أمره الصريح في ذلك القدر المعين، ويكون معها إذن عام سابق متناول لهذا القدر وغيره، وذلك الإذن الذي قد أولناه سابقاً إما بالتصريح وإما بالعرف -ولا بد من هذا التأويل- لأنه صلى الله عليه وسلم جعل الأجر مناصفة، ومعلوم أنها إذا أنفقت من غير إذن صريح ولا معروف من العرف فلا أجر لها، بل عليها وزر، فتعين تأويله. ثم قال: واعلم أن هذا كله مفروض في قدر يسير، يعلم رضا المالك به في العادة، فإن زاد على المتعارف لم يجز، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة" فأشار صلى الله عليه وسلم إلى أنه قد يعلم رضا الزوج به في العادة، ونبه بالطعام أيضاً على ذلك لأنه يسمح به في العادة، بخلاف الدراهم والدنانير في حق أكثر الناس، وفي كثير من الأحوال. ثم قال: واعلم أن المراد بنفقة المرأة والعبد والخازن النفقة على عيال صاحب المال وغلمانه ومصالحه وقاصديه من ضيف وابن سبيل ونحوهما، وكذلك صدقتهم المأذون فيها بالصريح أو العرف. انتهى. وقال الحافظ ابن حجر: قال ابن العربي: اختلف السلف فيما إذا تصدقت المرأة من بيت زوجها، فمنهم من أجازه، لكن في الشيء اليسير الذي لا يؤبه له، ولا يظهر به النقصان، ومنهم من حمله على ما إذا أذن الزوج، ولو بطريق الإجمال، ويحتمل أن يكون ذلك محمولاً على العادة، وأما التقييد بغير الإفساد فمتفق عليه، ومنهم من قال: المراد بنفقة المرأة والعبد والخازن النفقة على عيال صاحب المال في مصالحه، وليس ذلك بأن يفتئتوا على رب المال بالإنفاق على الفقراء بغير إذن، ومنهم من فرق بين المرأة والخادم، فقال: المرأة لها حق في مال الزوج، ولها حق في النظر في مصالح بيتها، فجاز لها أن تتصدق، بخلاف الخادم فليس له تصرف في متاع مولاه، فيشترط الإذن فيه. وهو متعقب بأن المرأة إذا استوفت حقها فتصدقت منه فقد تخصصت به، وإن تصدقت من غير حقها رجعت المسألة كما كانت. اهـ. والذي تستريح إليه النفس أن مدار الجواز وعدم الجواز الإفساد وعدم الإفساد، ولست أرى أن السعي لتحقيق نفع دائم أخروي بديلاً عن نفع زائل دنيوي، لست أرى في هذا إفساداً، مادام في الحدود المسموح بها عرفا، ولا يشترط الإذن ولا الرضا، فقد رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لزوج أبي سفيان أن تأخذ لها ولبنيها من مال أبي سفيان بالمعروف بدون إذنه

وبدون علمه وبدون رضاه. وهل إذا أجرينا عملية جراحية لإنسان بدون علمه أو بدون رضاه، وفيها صحته وصالحه يكون هذا من الإفساد؟ أعتقد أن لا. كل ما في الأمر ألا يترتب على هذا الإحسان ضرر، وظواهر الأحاديث تؤيد ذلك، فالتقييد بغير مفسدة لا معنى له سوى هذا، ولو أننا اشترطنا الإذن المسبق لم يكن فرق بين أجنبي يقوم بذلك وبين زوجة وخادم، والحديث رقم (49) صريح في ثبوت الأجر مع عدم الأمر. وأصرح منه الحديث رقم (47)، (48) إذ من الواضح من الحديث الأول أن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن للعبد أن يتصدق من مال سيده بشيء تجري العادة به من غير إذن سيده، ومن الواضح من الحديث الثاني أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقر السيد على ضرب عبده على تصدقه، بل عاتب السيد وآخذه بقوله: "لم ضربته"؟ أي ما كان ينبغي أن تضربه، ومن الواضح أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يوقف الأجر على الأمر والإذن، بل أثبت الأجر للحالة التي لم تسبق الأمر، بل للحالة التي ثبت فيها اعتراض للسيد. وقول الإمام النووي: هذا محمول على أنه استأذن في الصدقة بقدر يعلم رضا سيده به، أو محمول على أن عميراً تصدق بشيء يظن أن مولاه يرضى به، ولم يرض به مولاه. هذا الحمل الذي ذهب إليه النووي بعيد عن الظواهر، وفيه شيء من التعسف كما أوضحنا. والله أعلم. -[ويؤخذ من هذه الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - من الحديث (44) يؤخذ فضل الأمانة. 2 - وسخاوة النفس. 3 - وطيب من فعل الخير. 4 - والإعانة على فعل الخير. 5 - ومن مجموع الروايات فضل كسب العيش. 6 - ومن الحديث (49) من النهي عن صيام المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه، حق الزوج على الزوجة. قال النووي: هذا محمول على صوم التطوع والمندوب الذي ليس له زمن معين، وهذا النهي للتحريم، وسببه أن الزوج له حق الاستمتاع بها في كل الأيام، وحقه فيه واجب على الفور، فلا يفوته بتطوع ولا بواجب على التراخي، فإن قيل: ينبغي أن يجوز لها صيام بغير إذنه، فإن أراد الاستمتاع بها كان له ذلك، ويفسد صومها؟ فالجواب أن صومها يمنعه من الاستمتاع في العادة، لأنه يهاب انتهاك الصوم بالإفساد، وقوله صلى الله عليه وسلم: "وزوجها شاهد" أي مقيم في البلد، أما إذا كان مسافراً فلها الصوم، لأنه لا يتأتى منه الاستمتاع إذا لم تكن معه. 7 - وفي قوله: "ولا تأذن في بيته وهو شاهد إلا بإذنه" إشارة إلى أنه لا يفتات على الزوج وغيره من مالكي البيوت وغيرها بالدخول في أملاكهم إلا بإذنهم، وهذا محمول على ما لا يعلم رضا الزوج ونحوه به فإن علمت المرأة ونحوها رضاه به جاز. والله أعلم.

فضل النفقة على العيال والأهل والأقربين ومن يعول في الحديث الشريف: "الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي القربى ثنتان صدقة وصلة" وكل من استحق النفقة والعطاء بوجه من الوجوه كانت الصدقة عليه لفقره وحاجته لها أجران، أجر الاستحقاق الأول، وأجر الاستحقاق الثاني. والأحاديث من رقم (3) إلى رقم (17) تتحدث عن هذه المسألة: "أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله". "كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته". وحين أراد أبو طلحة أن يتصدق ببستانه أحب أمواله إليه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجعله في قرابتك". وحين أعتقت ميمونة وليدة لها قال لها صلى الله عليه وسلم: "لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك". وحين سألت زينب امرأة عبد الله بن مسعود هي وصاحبة لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تجزئ صدقتهما إذا دفعت إلى الزوج والأيتام في الحجر؟ قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لهما أجران". وحين سألت أم سلمة: هل لها أجر في إنفاقها على بني أبي سلمة قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم لك فيهم أجر ما أنفقت عليهم". ويروي أبو مسعود قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة وهو يحتسبها كانت له صدقة". وحين سألت أسماء بنت أبي بكر: هل تصل أمها المشركة؟ قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم. صلي أمك". وحين سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التصدق عن الأم بعد موتها، هل له أجر؟ قال: نعم". ولا خلاف في أن الصدقة النافلة جائزة ومثاب عليها إذا أعطيت لأقرب الناس إلى المتصدق، سواء كان أباً أو أماً أو ابناً أو بنتاً أو أخاً أو أختاً أو زوجة إلى عامة الأقارب، حتى النفقة على النفس لها أجر، والشرط الوحيد أن يحتسب المنفق نفقته، أي أن يريد بها وجه الله. قال النووي: فلا يدخل فيه من أنفقها ذاهلاً، ولكن الذي يحتسب، وطريقه في الاحتساب أن يتذكر أنه يجب عليه الإنفاق على الزوجة وعلى أطفاله ومملوكه وغيرهم ممن تجب نفقته على حسب أحوالهم، فينفق بنية أداء ما أمر به. اهـ. ولكن الخلاف بين العلماء فيمن يجوز إعطاؤه من الزكاة المفروضة. هل يصح أن تعطي الزوجة زوجها الفقير من زكاتها؟ وهل يصح أن يعطي الزوج زوجته الفقيرة من زكاته؟ وهل يجوز للأم أن تعطي ولدها الفقير من زكاتها؟ . ولتحرير موطن النزاع نقول: إن من يلزمه نفقته لا يجوز له أن يعطيه زكاته واختلف في علة المنع، فقيل: لأن أخذهم لها يصيرهم أغنياء، فتسقط بذلك نفقتهم عن المعطي. وقيل: لأنهم أغنياء بإنفاقه عليهم، والزكاة لا تصرف لغني. ونتيجة لهذا لا يجوز للزوج أن يعطي من زكاته لزوجته مهما كانت فقيرة. قال ابن المنذر: اجمعوا على أن الرجل لا يعطي زوجته من الزكاة، لأن نفقتها واجبة عليه، فتستغني بها عن الزكاة. اهـ

ولا يجوز للأب والجد وإن علا أن يعطي زكاته للابن الفقير مهما نزل، ولا يجوز للفروع أن تعطي من زكاتها للأصول الفقراء، لأنه يجب عليهم نفقاتهم. فالخلاف إذن في الزوجة تعطي زوجها الفقير من زكاتها، وفي الأم تعطي ابنها الفقير من زكاتها مع وجود أبيه. وظاهر الحديث الحادي عشر الجواز إن حملنا لفظ الصدقة على العموم بما يشمل الزكاة، قال الحافظ ابن حجر: واستدل بهذا الحديث [أي حديث الزيانب المشار إليه] على جواز دفع المرأة زكاتها إلى زوجها، وهو قول الشافعي والثوري وصاحبي أبي حنيفة، وإحدى الروايتين عن مالك وأحمد. وأدخلوا الزكاة الواجبة في لفظ الصدقة، بل حملوا الصدقة في الحديث على الواجبة لقولها: "أتجزئ عني"؟ وبه جزم الماوردي، ويؤيده أن ترك الاستفصال ينزل منزلة العموم، فلما ذكرت الصدقة، ولم يستفصلها عن تطوع ولا واجب فكأنه قال: تجزئ عنك فرضاً كان أو تطوعاً. ومنع الآخرون أن تدفع المرأة زكاتها إلى زوجها، لأنها لو أعطتها لزوجها عادت إليها في نفقتها الواجبة لها، فكأنها ما خرجت عنها، ووجهوا الحديث بأن المراد من الصدقة صدقة التطوع، بدليل أنها كانت استجابة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "يا معشر النساء. تصدقن ولو من حليكن". وهذا التعبير يتجه إلى صدقة التطوع، لا إلى الزكاة الواجبة، وبدليل ما روي من أن امرأة عبد الله بن مسعود هذه كانت امرأة صناع، فكانت تنفق عليه وعلى ولده من صناعتها، فهذا يدل على أن مرادها صدقة التطوع. وبدليل ما جاء في بعض الروايات: "زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم". فذكر الولد دال على أنها صدقة التطوع لأن الولد لا يعطى من الزكاة الواجبة بالإجماع، كما نقله ابن المنذر وغيره، نعم قال العلماء: إن الولد لا يعطى من الزكاة الواجبة من يلزم المعطي نفقته، والأم لا يلزمها نفقة ولدها مع وجود أبيه، وحمل ابن التيمي قوله: "وولدك" على أن الإضافة للتربية، لا للولادة، فكأنه ولده من غيرها. ومع هذه التأويلات ظواهر الأحاديث تشير إلى أن هذه الحادثة في صدقة التطوع، وليست في الزكاة، وقد جزم بذلك الإمام النووي، أما استدلالهم بقولها: "أتجزئ عني" فقد أولوه على معنى: أتجزئ عني في الوقاية من النار، كأنها خافت أن صدقتها على زوجها لا تحصل لها المقصود، وليس المراد أتجزئ عني في فرض الزكاة. والله أعلم. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم: ]- 1 - من الحديث الرابع فضل الإنفاق على الأهل، لقوله صلى الله عليه وسلم: "أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك" وذلك في مقابلة الإنفاق في سبيل الله، أو في رقبة، أو على مسكين. 2 - ومن حديث أبي قلابة فضل الإنفاق على عياله، يعفهم، أو ينفعهم الله به ويغنيهم. 3 - ومن الحديث الخامس الحث على رعاية الرقيق والخدم، والحفاظ على حقوقهم، وإثم الذي يقصر في ذلك، ويحبس عمن يملك قوته.

4 - ومن الحديث السادس الابتداء في النفقة بالنفس، ثم الأهل، والمراد بهم الزوجة والأولاد، ثم القرابة الأقرب فالأقرب، ثم الأجنبي. 5 - وأن الحقوق إذا تزاحمت قدم الأوكد فالأوكد. 6 - وأن الأفضل في صدقة التطوع تنوعها في جهات الخير، ووجوه البر بحسب المصلحة، ولا تنحصر في جهة بعينها. قاله النووي. 7 - وفيه دلالة ظاهرة لمذهب الشافعي وموافقيه في جواز بيع المدبر. وقال مالك وأصحابه: لا يجوز بيعه إلا إذا كان على السيد دين فيباع فيه. قال النووي: وهذا الحديث صريح أو ظاهر في الرد عليهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما باعه لينفقه سيده على نفسه، والحديث صريح أو ظاهر في هذا، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "ابدأ بنفسك فتصدق عليها .... " إلخ. 8 - ومن الحديث الثامن بالإضافة إلى ما ذكرناه في فضل النفقة من أحب الأموال، أن الصدقة على الأقارب أفضل من الأجانب إذا كانوا محتاجين. 9 - ومن الحديث العاشر، من قوله صلى الله عليه وسلم لميمونة: "لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك"، فضيلة صلة الأرحام، وأنها فوق العتق. 10 - وفيه الاعتناء بأقارب الأم إكراماً لحقها، وزيادة في برها. 11 - ومن عتق ميمونة لوليدتها جواز تبرع المرأة بمالها من غير إذن زوجها. قاله النووي. وهو يحتاج إلى إثبات أنها لم تستأذن، ولم يأذن. 12 - وفي الحديث الحادي عشر أمر ولي الأمر رعيته بالصدقة وفعل الخير، ووعظه النساء إذا أمن الفتنة. 13 - وأنه إذا تعارضت المصالح بدئ بأهمها، فإن بلالاً أخبر بما وعد أنه لا يخبر به، وأفشى السر، حيث عارض ذلك ضرورة إجابته رسول الله صلى الله عليه وسلم على سؤاله: "من هما؟ " وجوابه صلى الله عليه وسلم واجب محتم، لا يجوز تأخيره، ولا يقدم عليه غيره. 14 - وفيه الحث على الصدقة على الأقارب، وأن فيها أجرين. 15 - وفيه استفتاء غير الأعلم مع وجود الأعلم، فقد ذهبت زينب للاستفتاء مع وجود زوجها عبد الله بن مسعود. وهذا على أساس أنها خرجت للاستفتاء ممن يقابلها. 16 - وفيه جواز طلب كتمان بعض الأمور إذا دعت الحاجة إلى كتمان. 17 - وفيه حرص الزوجة على كرامة زوجها ومروءته، والبعد عما يمسه أو يجرحه، فإن زينب طلبت كتمان أمرها وقاية لزوجها.

18 - وفي الحديث الثالث عشر أجر الإنفاق على الأولاد. 19 - وفي الحديث الرابع عشر بيان بأن المراد بالصدقة والنفقة -الواردة في الأحاديث المطلقة- النفقة والصدقة المحتسبة المبتغى بها وجه الله. 20 - وفي الحديث الخامس عشر والسادس عشر جواز صلة القريب المشرك. 21 - وفي الحديث السابع عشر وصول ثواب الصدقة عن الميت إليه. قال النووي: في الحديث أن الصدقة عن الميت تنفع الميت، ويصله ثوابها، وهو كذلك بإجماع العلماء، وكذا أجمعوا على وصول الدعاء، وقضاء الدين، بالنصوص الواردة في الجميع، ويصح الحج عن الميت إذا كان حج الإسلام، وكذا إذا وصى بحج لتطوع على الأصح عندنا، واختلف العلماء في الصوم إذا مات وعليه صوم، فالراجح جوازه عنه، للأحاديث الصحيحة فيه، والمشهور في مذهبنا أن قراءة القرآن لا يصله ثوابها. وقال جماعة من أصحابنا: يصله ثوابها. وبه قال الإمام أحمد بن حنبل، وأما الصلاة وسائر الطاعات فلا تصله عندنا ولا عند الجمهور. وقال أحمد: يصله ثواب الجميع كالحج. والله أعلم. قبول الصدقة إذا وضعت في غير موضعها خطأ أوضح القرآن الكريم مصارف الزكاة في قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم} [التوبة: 60]، فحيث وجدت صفة من الصفات الثمان استحق صاحبها الصدقة، وصح إعطاؤه زكاة الفريضة، وقد يجمع الشخص الواحد أكثر من صفة، فيعطى بهذه أو بتلك أو بها جميعاً، فيمكن أن يستحق الغني الزكاة من سهم المؤلفة قلوبهم، أو من سهم العاملين على الزكاة، أو من سهم الغارمين. لكن الغني الذي لم يتصف بوصف آخر من الأوصاف المذكورة لا يستحق الزكاة المفروضة، ولا تقبل ولا تسقط الفريضة عن صاحبها إن أعطاه وهو يعلم أنه غني، لا خلاف في هذا بين العلماء، ولا خلاف في رجاء القبول والثواب إن أعطي الغني من الصدقة المندوبة حيث لا يعلم المعطي أنه غني، أما إعطاؤه مع العلم بغناه فيرجى قبوله بصفة الهبة والهدية لا بصفة الصدقة، كما يرجى قبوله بصفة الصلة إن كان من ذوي الأرحام. والخلاف بين العلماء في قبول الزكاة، وسقوطها عن صاحبها إذا دفعها لغني وهو لا يعلم أنه غني، ثم تبين له أنه غني، والحديث رقم (34) يتعرض لهذه المسألة، حيث جاء فيه قول الرجل: لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون: تصدق على غني، قال: "اللهم لك الحمد على غنى" فأتى فأخبر أن الله قبل صدقته على غني، فقد يعتبر هذا الغني فينفق مما أعطاه الله.

فأبو حنيفة ومحمد وأتباعهما يقولون: إذا أعطى زكاته لشخص وظنه فقيراً فبان أنه غني سقطت عنه تلك الزكاة، ولا تجب عليه الإعادة. وقال الشافعي وأبو يوسف: لا يجزيه، وعليه الإعادة، لأنه لم يضع الصدقة موضعها، وأخطأ في اجتهاده. قاله العيني. ربما يحمل أبو حنيفة لفظ الصدقة في الحديث على ما يعم النفل والفريضة وربما يخصصها الشافعي بالنافلة المندوبة، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال، لهذا يقول الحافظ ابن حجر: ولا دلالة في الحديث على الإجزاء ولا على منعه، من ثم أورد البخاري الترجمة بلفظ الاستفهام، ولم يجزم بالحكم فقال: باب إذا تصدق على غني وهو لا يعلم. فالذي يحمل الصدقة على المندوبة يقدر جواب "إذا" بقوله: فصدقته مقبولة. والذي تستريح إليه النفس أن من بذل الجهد، واستفرغ الوسع، ولم يقصر في دراسة الآخذ، فاعتقد بعد الاجتهاد والأخذ بالوسائل والأدلة أنه فقير فأعطاه الزكاة سقطت عنه، ويرجى قبولها، وإن تبين فيما بعد أنه كان غنياً، لا تجب الإعادة وإن استحبت خروجاً من الخلاف. لكن لا يستدل على هذا بالحديث، لأن الرجل -كما يبدو- لم يجتهد أصلاً، ولم يتحر عند العطاء من يعطي، والأغنياء والفقراء معروفون في البلاد عادة، والأول لا يحتاج إلى عناء في تمييزهم وبخاصة ممن يقيم معهم، لكن الرجل كان حريصاً على نفقة السر ولم يكن حريصاً على اختيار المستحق. والله أعلم. والواضح من آيات مصارف الزكاة عدم التعرض لصلاح المذكورين أو فسقهم، لكن المعلوم من قواعد الشريعة ونصوصها أن الآخذ يدعو للمتصدق فالله تعالى يقول: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم} [التوبة: 103] ودعاء الصالح غير دعاء الطالح، وحتى لو لم يدع الآخذ، فإن العطاء يخلق رضا الآخذ على المعطي، ورضا الطائع غير رضا الفاسق، لذا جاء في الحديث: "يا معشر المسلمين. أطعموا طعامكم الأتقياء وأولوا معروفكم المؤمنين". فكان الأولى بالمتصدق أن يقصد الصالحين المتقين، لكن إعطاء المسلم الفاسق من الزكاة جائز من حيث المبدأ، ولا خلاف في ذلك، والحديث علل القبول برجاء الاستعفاف. قال الحافظ ابن حجر: فإن قيل: إن الخبر إنما تضمن قصة خاصة، وقع الاطلاع فيها على قبول الصدقة برؤيا صادقة اتفاقية، فمن أين يقع تعميم الحكم؟ فالجواب أن التنصيص في هذا الخبر على رجاء الاستعفاف هو الدال على تعدية الحكم، فيقتضي ارتباط القبول بهذه الأسباب. اهـ. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - أن الصدقة كانت عندهم في أيامهم مختصة بأهل الحاجة من أهل الخير ولهذا تعجبوا من الصدقة على الأصناف الثلاثة. 2 - وفيه دليل على أن الله يجزي العبد على حسب نيته في الخير، لأن هذا المتصدق لما قصد بصدقته وجه الله قبلت منه، ولم يضر وضعها عند من لا يستحقها.

3 - وفيه اعتبار لمن تصدق عليه بأن يتحول عن الحال المذمومة إلى الحال الممدوحة، ويستعف السارق من السرقة، والزانية من الزنا، والغني من إمساكه وشحه. 4 - وفيه فضل صدقة السر. 5 - وفضل الإخلاص في الصدقة. 6 - وفيه استحباب إعادة الصدقة إذا لم تقع الموقع. 7 - وفيه أن الحكم للظاهر حتى يتبين خلافه. 8 - وفيه بركة التسليم والرضا، وعدم الضجر والأسف. 9 - وفيه متابعة الخير، حتى لو ظهر خطأ، وفي ذلك يقول بعض السلف: لا تقطع الخدمة ولو ظهر لك عدم القبول. والله أعلم. الحث على التعجيل بالإنفاق يحرص الإنسان على جمع المال وادخاره طالما يحس بحاجته إليه عاجلاً أو آجلاً، ويحرص على جمع المال وادخاره للتفاخر والتكاثر، وهو ما خشيه صلى الله عليه وسلم على أمته، حيث يقول: "ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا فتنافسوا فيها". فإذا ما فقد الإنسان هذين الدافعين فقد المال قيمته، ولم يحرص عليه جامعه ولم يسع إليه ساعية. لنتصور غنياً ملئت خزائنه بالذهب والفضة والدر والياقوت، لنتصوره في غمرات الموت، وقد وصل إلى النهاية وعاين الحقيقة. بعد أن أخرس لسانه وسكنت حركته وبطل تصرفه، ما نظرته إلى ماله الذي أضاع عمره يجري وراءه؟ إنه سيخلفه وراء ظهره، إنه سينفض يديه ويفتحها ويبسطها، فلم يعد من الدنيا شيء يقبض عليه بيديه. وصدق الله العظيم حيث يقول: {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم} [الأنعام: 94]. ليتصور المؤمن العاقل الكيس هذا الموقف، ويتصور معه قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت". ويتصور معه قوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ ". قالوا: ما منا أحد مال وارثه أحب إليه من ماله، قال، فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر". ماذا يفعل العاقل الكيس إذا استحضر اليوم في نفسه هذا الموقف وهو صحيح شحيح، يخشى الفقر، ويأمل الغنى؟ أيأخذ من دنياه لآخرته، أم يبني دنيا هو زائل عنها ومخلفها لغيره؟ أينفق

ويتصدق ويقدم لنفسه من الخير ليجده عند الله عملاً بقوله تعالى: {وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير} [البقرة: 110] أم يهمل ويمهل ويرجئ الخير ويسوف، حتى إذا بلغت الحلقوم تنبه وندم حيث لا ينفع الندم؟ حتى إذا بلغت الحلقوم قال: أخرجوا من مالي لفلان كذا، ولفلان كذا، يسمعه ورثته ولا يستجيبون، فقد بطل تصرفه ولم يعد المال ماله، فقد صار للوارث فلان وفلان؟ . هكذا يقول الحديث (58، 59): جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجرا؟ فقال: "أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل البقاء ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان" ومن قبل تحذير الحديث الشريف حذر القرآن الكريم، فقال: {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون} [المنافقون: 9 - 11]. نعم. في هذه الحالة يفقد المال قيمته عند صاحبه، ويتحسر على ضياع وقته في جمعه، وعلى أنه لم يؤد فيه حق ربه. الحالة الثانية التي يفقد المال فيها قيمته يوم يكثر المال ويفيض، يوم تخرج الأرض أثقالها وكنوزها، يوم تتحول الصحاري الجرداء إلى حدائق خضراء تجري من خلالها الأنهار، يوم تعود الجزيرة العربية القاحلة، وأمثالها من القفار والجبال إلى مروج وبساتين وأنهار، يوم تخرج الأرض كنوزها من الذهب والفضة أمثال الأعمدة التي تحمل القصور، يوم تخرج الأرض كنوزها من البترول و"اليورانيوم" واللآلئ والجواهر والمعادن النفيسة، فيفيض المال ويكثر، حتى يصبح في أيدي الناس وتحت أقدامهم مثل التراب. نعم. وإن ذلك لكائن وأكثر منه سيكون، وقد ظهرت بوادره في بعض البقاع. يومها يحتقر القاتل نفسه ويقول: في مثل هذا التافه قتلت نفساً بغير حق، ويحتقر السارق نفسه ويقول: في مثل هذا الحقير الوفير قطعت يدي، ويجيء المغتصب لمال إخوته والمقاطع لأبيه وأمه وأقاربه من أجل المال فيحتقر نفسه ويقول: في مثل هذا الهين قطعت رحمي، يمرون على الذهب والفضة فيضمون شفاههم احتقاراً له، ويشيحون عنه بوجوههم، وينصرفون لا يأخذون منه شيئاً. تخيل معي رجلاً يخرج بزكاته في هذه الحالة. من ينظر إليها؟ من يتقبلها منه؟ سيقول له الناس: لو جئتنا بها قبل هذه الحالة قبلناها، أما اليوم فلا حاجة لنا بها. وحينئذ يندم الممسك الشحيح على ما قصر، ولات ساعة مندم.

تحدثنا عن هذه الحالة الأحاديث (24)، (25)، (26)، (27)، (28) وفيها يقول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "تصدقوا. فيوشك الرجل يمشي بصدقته فيقول الذي أعطيها: لو جئتنا بها بالأمس قبلتها، فأما الآن فلا حاجة لي بها، فلا يجد من يقبلها". "ليأتين على الناس زمان يطوف الرجل فيه بالصدقة من الذهب لا يجد أحداً يأخذها منه، ويرى الرجل الواحد يتبعه أربعون امرأة؛ يلذن به، من قلة الرجال؛ وكثرة النساء". "لا تقوم الساعة حتى يكثر المال ويفيض، حتى يخرج الرجل بزكاة ماله، فلا يجد أحداً يقبلها منه، وحتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً". "لا تقوم الساعة حتى يكثر فيكم المال، يفيض حتى يهم رب المال من يقبله منه صدقة، ويدعى إليه الرجل، فيقول: لا أرب لي فيه". "تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة، فيجيء القاتل؛ فيقول: في هذا قتلت، ويجيء القاطع، فيقول: في هذا قطعت رحمي، ويجيء السارق، فيقول: في هذا قطعت يدي، ثم يدعونه، فلا يأخذون منه شيئاً. والله أعلم

(292) باب الاستعفاف عن المسألة

(292) باب الاستعفاف عن المسألة 2074 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو على المنبر وهو يذكر الصدقة والتعفف عن المسألة "اليد العليا خير من اليد السفلى واليد العليا المنفقة والسفلى السائلة". 2075 - عن حكيم بن حزام رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أفضل الصدقة أو خير الصدقة عن ظهر غنى واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول". 2076 - عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم قال "إن هذا المال خضرة حلوة. فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه. ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع. واليد العليا خير من اليد السفلى". 2077 - عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا ابن آدم إنك أن تبذل الفضل خير لك، وأن تمسكه شر لك. ولا تلام على كفاف. وابدأ بمن تعول. واليد العليا خير من اليد السفلى". 2078 - عن عبد الله بن عامر اليحصبي قال سمعت معاوية يقول إياكم وأحاديث إلا حديثاً كان في عهد عمر؛ فإن عمر كان يخيف الناس في الله عز وجل. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين" وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إنما أنا خازن فمن أعطيته عن طيب نفس فيبارك له فيه، ومن أعطيته عن مسألة وشره كان كالذي يأكل ولا يشبع".

2079 - عن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تلحفوا في المسألة، فوالله لا يسألني أحد منكم شيئاً فتخرج له مسألته مني شيئاً وأنا له كاره فيبارك له فيما أعطيته". 2080 - عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما وهو يخطب قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين. وإنما أنا قاسم ويعطي الله". 2081 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان" قالوا فما المسكين يا رسول الله؟ قال "الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يسأل الناس شيئاً". 2082 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليس المسكين بالذي ترده التمرة والتمرتان ولا اللقمة واللقمتان إنما المسكين المتعفف اقرءوا إن شئتم {لا يسألون الناس إلحافاً} 2083 - عن حمزة بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم". 2084 - عن أخي الزهري بهذا الإسناد مثله ولم يذكر "مزعة". 2085 - عن حمزة بن عبد الله بن عمر أنه سمع أباه يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم".

2086 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من سأل الناس أموالهم تكثراً فإنما يسأل جمراً فليستقل أو ليستكثر". 2087 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لأن يغدو أحدكم فيحطب على ظهره فيتصدق به ويستغني به من الناس، خير له من أن يسأل رجلاً أعطاه أو منعه ذلك، فإن اليد العليا أفضل من اليد السفلى. وابدأ بمن تعول". 2088 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "والله لأن يغدو أحدكم فيحطب على ظهره فيبيعه" ثم ذكر بمثل حديث بيان. 2089 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لأن يحتزم أحدكم حزمة من حطب فيحملها على ظهره فيبيعها، خير له من أن يسأل رجلاً يعطيه أو يمنعه". 2090 - عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال "ألا تبايعون رسول الله؟ " وكنا حديث عهد ببيعة. فقلنا قد بايعناك يا رسول الله. ثم قال "ألا تبايعون رسول الله؟ " فقلنا قد بايعناك يا رسول الله. ثم قال "ألا تبايعون رسول الله؟ " قال فبسطنا أيدينا وقلنا قد بايعناك يا رسول الله فعلام نبايعك؟ قال "على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً والصلوات الخمس وتطيعوا (وأسر كلمة خفية) ولا تسألوا الناس شيئاً". فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحداً يناوله إياه. 2091 - عن قبيصة بن مخارق الهلالي رضي الله عنه قال تحملت حمالة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها. فقال "أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها". قال ثم قال "يا قبيصة إن

المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش (أو قال سداداً من عيش)، ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه لقد أصابت فلاناً فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش (أو قال سداداً من عيش). فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتاً يأكلها صاحبها سحتاً". 2092 - عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله عنه قال سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء فأقول أعطه أفقر إليه مني، حتى أعطاني مرة مالاً فقلت: أعطه أفقر إليه مني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خذه وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه. وما لا فلا تتبعه نفسك". 2093 - عن سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي عمر بن الخطاب رضي الله عنه العطاء. فيقول له عمر أعطه يا رسول الله أفقر إليه مني. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "خذه فتموله أو تصدق به. وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه. وما لا فلا تتبعه نفسك" قال سالم فمن أجل ذلك كان ابن عمر لا يسأل أحداً شيئاً ولا يرد شيئاً أعطيه. 2094 - عن ابن الساعدي المالكي أنه قال استعملني عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الصدقة، فلما فرغت منها وأديتها إليه أمر لي بعمالة. فقلت: إنما عملت لله وأجري على الله. فقال: خذ ما أعطيت فإني عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعملني فقلت مثل قولك فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أعطيت شيئاً من غير أن تسأل فكل وتصدق". 2095 - عن ابن السعدي أنه قال استعملني عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الصدقة بمثل حديث الليث.

-[المعنى العام]- قال حكيم: من مد يده لا يمد رجله. ومقابلها من لم يمد يده يمد رجله، والمعنى من لم يأخذ من غيره لا يذل له، ومن أخذ ذل، وسؤال الإحسان مذلة. {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون} [المنافقون: 8]. ولا يختلف اثنان من أهل العزة والكرامة في أن المعطي خير من الآخذ، ولا يختلف اثنان ممن يرفعون رءوسهم في أن سؤال الإحسان من الغير مذلة، وإراقة لماء الوجه، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يقول: "ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم". فالسؤال يذيب لحم الوجه وشيئا فشيئا وسؤالا بعد سؤال يكلح وجه السائل في الدنيا ويبعث يوم القيامة معلماً واضحاً مفضوحاً بين الخلائق، فوجهه عظام وهيكل لا لحم فيه. بل كل سؤال يسأله السائل مع القدرة على الاستغناء عنه يؤثر في الوجه علامة خدش، فإذا تعدد كان خدوشاً فإذا زاد أذاب لحم الوجه، منظر بشع، وعقاب من جنس العمل. من لم يحفظ ماء وجهه في الدنيا، لم يجد لحم وجهه في الآخرة. لقد كان السائل يسأل في الدنيا ليزداد مالاً، وليزداد من وراء ذلك وجاهة ومكانة، فكان عقابه في الآخرة نقيض دوافعه وأهدافه. إن الإسلام حين حث على الإعطاء، وحذر من الإمساك، ونهى عن نهر السائل ورده بجفاء، قصد السائل المحروم، الذي لا يجد ما يكفيه، والذي يضطر إلى السؤال ليجد لقمة أو لقمتين، أو تمرة أو تمرتين، ومع ذلك نبه الشارع المسلم إلى الاهتمام بالمستحق غير السائل أكثر من الاهتمام بالمستحق السائل: "ليس المسكين الذي يطوف على الناس فترده اللقمة أو اللقمتان والتمرة والتمرتان، إنما المسكين المتعفف، الذي لا يجد ما يكفيه، ولا يسأل الناس، فلا يفطن له المتصدقون". إن الإسلام دين كفاح وعمل وإنتاج، يبني الدنيا ويعمل للآخرة، يدعو المسلم للعمل في دنياه كما لو كان يعيش أبداً، ويعمل لآخرته كأنه يموت غداً، حين أمره بترك البيع والشراء من أجل صلاة الجمعة عقب صلاتها بالدعوة للعمل: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون} [الجمعة: 10]، وفي سبيل بناء الحياة الدنيا وجه إلى العمل والإنتاج، وحذر من الكسل والخذلان: "لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب حزمة من الحطب، فيحملها على ظهره فيبيعها، فيتصدق وينفق على نفسه ويستغني عن الناس خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه". وفي سبيل الرضا والقناعة والكسب الحلال، وذم الشره، والحرص الذي يدفع للسؤال والتكاثر يحذر برفق، فيقول: إن هذا المال كفاكهة خضرة حلوة تجري وراءها النفوس، فمن أخذها بنفس طيبة من نفس طيبة بورك له فيه، ومن أخذه من طريق غير مشروع، أو أخذه

من الغير بشراهة، أو بإحراج الآخرين لم يبارك له فيه، ويحس بالفقر بين عينيه مهما كثر ماله، ويكون كالذي لا يأكل ولا يشبع. إن السؤال نفسه ذل، وإن ما يأتي عن طريقه سحت، فلا يحل السؤال وما يحصله إلا في حالات ثلاث: الأولى: أن يتحمل الرجل غرماً لإصلاح ذات البين، ولا تغطي أمواله هذا الغرم، فله أن يسأل لسداد هذا الغرم، فهو مسئولية المسلمين. الثانية: أن يصاب بكارثة علنية مفاجئة تأتي على ماله، فله أن يسأل حتى يحصل ما به كفافه. الثالثة: أن يخسر في عمله، فيفصل من وظيفته، أو تخسر تجارته، أو تكسد صنعته، ولا يجد الكفاف ويحتاج العون، فيشهد بحالته العالمون بأمره، فيحل له أن يسأل حتى يحصل ما به كفافه، وفيما عدا هذه الحالات لا يحل السؤال ويكون ما يحصل به سحتاً وحراماً. ولقد خشي الصحابة من كثرة التحذير من السؤال حتى ابتعدوا عن سؤال العون في الشيء الحقير. رضي الله عنهم وأرضاهم. -[المباحث العربية]- (اليد العليا خير من اليد السفلى، واليد العليا المنفقة. والسفلى السائلة) قال القرطبي: وقع تفسير اليد العليا والسفلى في حديث ابن عمر هذا، وهو نص يرفع الخلاف، ويدفع تعسف من تعسف في تأويله ذلك. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: لكن ادعى أبو العباس الداني في "أطراف الموطأ" أن التفسير المذكور مدرج في الحديث، ولم يذكر مستنداً لذلك. ثم وجدت في "كتاب العسكري في الصحابة" بإسناد له فيه انقطاع عن ابن عمر. أنه كتب إلى بشر بن مروان إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اليد العليا خير من اليد السفلى" ولا أحسب اليد السفلى إلا السائلة، ولا العليا إلا المعطية. فهذا يشعر بأن التفسير من كلام ابن عمر، ويؤيده ما رواه ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمر: "كنا نتحدث أن العليا هي المنفقة". ثم قال الحافظ ابن حجر: قال أبو داود: قال الأكثر: عن حماد بن زيد: اليد العليا المنفقة. وقال غير واحد عنه: المتعففة. وللطبراني بإسناد صحيح عن حكيم بن حزام مرفوعاً: "يد الله فوق يد المعطي، ويد المعطي فوق يد المعطى، ويد المعطى أسفل الأيدي". ولأبي داود من حديث عوف بن مالك عن أبيه مرفوعاً: "الأيدي ثلاثة، فيد الله العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السفلى". ولأحمد والبزار: "اليد المعطية هي العليا، والسائلة هي السفلى". فهذه الأحاديث متضافرة على أن اليد العليا هي المنفقة المعطية، وأن السفلى هي السائلة، وهذا هو المعتمد، وهو قول الجمهور. وقيل:

اليد السفلى الآخذة، سواء كان بسؤال أم بغير سؤال، وهذا أباه قوم، واستندوا إلى أن الصدقة تقع في يد الله قبل يد المتصدق عليه. قال ابن العربي: التحقيق أن السفلى يد السائل، أما يد الآخذ فلا. ثم قال الحافظ: يد الآدمي أربعة، يد المعطي وقد تضافرت الأخبار بأنها عليا. ثانيها يد السائل. وقد تضافرت بأنها سفلى، سواء أخذت أم لا، وهذا موافق لكيفية الإعطاء والأخذ غالباً، وللمقابلة بين العلو والسفل المشتق منهما. ثالثها يد المتعفف عن الأخذ ولو بعد أن تمد إليه يد المعطي مثلاً، وهذه توصف بكونها عليا علواً معنوياً. رابعها يد الآخذ بغير سؤال، وهذه قد اختلف فيها، فذهب جمع إلى أنها سفلى، وهذا بالنظر إلى الأمر المحسوس، أما المعنوي فلا يطرد، فقد تكون عليا في بعض الصور. قال ابن حبان: اليد المتصدقة أفضل من السائلة، لا الآخذة بغير سؤال، فربما كان الآخذ لما أبيح له أفضل وأروع من الذي يعطى. اهـ. وعن الحسن البصري: اليد العليا المعطية، والسفلى المانعة. اهـ ولم يوافق عليه. وأطلق آخرون من المتصوفة أن اليد الآخذة أفضل من المعطية مطلقاً. قال ابن قتيبة: وما أرى هؤلاء إلا قوماً قد استطابوا السؤال، فهم يحتجون للدناءة. اهـ. ثم قال الحافظ: ومحصل ما في الآثار المتقدمة أن أعلى الأيدي المنفقة، ثم المتعففة عن الأخذ، ثم الآخذة بغير سؤال؛ وأسفل الأيدي السائلة والمانعة. والله أعلم. انتهى بتصرف. (أفضل الصدقة -أو خير الصدقة- عن ظهر غنى) الشك من الراوي، ورواية البخاري "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى". قال الخطابي: الظهر قد يزاد في مثل هذا إشباعاً للكلام. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: والتنكير للتعميم، والمعنى: خير الصدقة ما فضل بعدها غنى لصاحبها، أي التي لا تستغرق مال صاحبها، بل تبقي قوته وقوت عياله وحاجاته. قال النووي: معناه أفضل الصدقة ما بقي صاحبها بعدها مستغنياً بما بقي معه، وتقديره: أفضل الصدقة ما أبقت بعدها غنى يعتمده صاحبها، ويستظهر به على مصالحه وحوائجه. اهـ والتقدير أفضل الصدقة المتجاوزة غنى، وليس التقدير: الناشئة عن غنى وتستغرقه، ولذلك قال بعده: "وابدأ بمن تعول" وسيأتي زيادة إيضاح للمراد في فقه الحديث. (وابدأ بمن تعول) يقال: عال الرجل أهله إذا قام بمؤنتهم وما يحتاجون إليه من القوت والكسوة والمسكن وغيرها، والمعنى: ابدأ بمن يجب عليك مؤنتهم ونفقتهم، فالجملة مؤكدة لصدر الحديث. (سألت النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاني) بين إسحق بن راهويه في "مسنده" سبب السؤال وهو: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى حكيم بن حزام من العطاء أقل مما أعطى أصحابه، فقال حكيم: يا رسول الله ما كنت أظن أن تقصر بي دون أحد من الناس فزاده، ثم استزاده حتى رضي". اهـ و"حكيم" بفتح

الحاء ابن حزام بكسر الحاء وتخفيف الزاي، ولد في بطن الكعبة، عاش في الجاهلية ستين سنة وفي الإسلام ستين سنة، وأعتق مائة رقبة، وحمل على مائة بعير في الجاهلية، وحج في الإسلام ومعه مائة بدنة، ووقف بعرفة بمائة رقبة، في أعناقهم أطواق الفضة منقوش فيها: عتقاء الله عن حكيم بن حزام، وأهدى ألف شاة، ومات بالمدينة سنة ستين من الهجرة، وقيل سنة أربع وخمسين. (إن هذا المال خضرة حلوة) "خضرة" بفتح الخاء وكسر الضاد، وهو خبر، وأنثه على تقدير المبتدأ مؤنثاً من حيث المعنى، إذ المراد من المال الدنيا، فكأنه قال: إن هذه الدنيا كفاكهة خضرة حلوة. قال النووي: شبهه في الرغبة فيه والميل إليه وحرص النفوس عليه بالفاكهة الخضراء الحلوة المستلذة، فإن الأخضر مرغوب فيه على انفراده، والحلو كذلك على انفراده، فاجتماعهما أشد. (فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه) في رواية البخاري "فمن أخذه بسخاوة نفس" قال القاضي: فيه احتمالان. أظهرهما أنه عائد على الآخذ، ومعناه: من أخذه بغير سؤال ولا إشراف نفس ولا شره ولا تطلع ولا إلحاح بورك له فيه. والاحتمال الثاني أنه عائد إلى الدافع، ومعناه: من أخذه ممن يدفع منشرحاً بدفعه إليه طيب النفس بما يعطي من غير سؤال اضطره إليه أو أخرجه له أو نحو ذلك مما لا تطيب معه نفس الدافع بورك له فيه. (ومن أخذه بإشراف نفس) الإشراف على الشيء الاطلاع عليه والتعرض له، والمراد شدة حرص السائل عليه وطمعه فيه وهو في هذه الجملة عائد على السائل فقط. (وكان كالذي يأكل ولا يشبع) كنوع من المرض، كلما أكل احترق الأكل وخرج، بسبب ما به من علة، ويسمى بالجوع الكاذب، وقيل: أراد تشبيهه بالبهيمة الراعية. والمقصود التنفير. (يا ابن آدم، إنك أن تبذل الفضل خير لك، وأن تمسكه شر لك) قال النووي: هو بفتح همزة "أن" ومعناه إن بذلت الفاضل عن حاجتك وحاجة عيالك فهو خير لك لبقاء ثوابه، وإن أمسكته فهو شر لك، لأنه إن أمسك عن الواجب استحق العقاب عليه، وإن أمسك عن المندوب فقد حرم ثوابه، وفوت مصلحة نفسه في آخرته، وهذا كله شر. اهـ وفتح همزة "أن" جعل الكلام في حاجة إلى تقدير وتمحل، فتكن "أن" وما دخلت عليه في تأويل مصدر بدل من الكاف اسم "إن" أي إن بذلت الفضل، وكسرها أقرب إلى انسياب الكلام واتساقه. ولعل ضبط النسخة في الأصول هو الذي حكمه، وخصوصاً أن تفسيره وشرحه على كسر الهمزة. (ولا تلام على كفاف) أي لا تلام على إمساك إن لم يكن عندك زيادة على الحاجة، فالكفاف قدر الحاجة. (إياكم وأحاديث) بعض النسخ "إياكم والأحاديث" أي احذروا الإكثار من الأحاديث بدون تثبت من صحتها. (إلا حديثاً كان في عهد عمر) قال النووي: مراد معاوية النهي عن الإكثار من الأحاديث بغير

تثبت، لما شاع في زمنه من التحدث عن أهل الكتاب وما وجد في كتبهم حين فتحت بلدانهم، وأمرهم بالرجوع في الأحاديث إلى ما كان في زمن عمر رضي الله عنه لضبطه الأمر وشدته فيه، وخوف الناس من سطوته ومنعه الناس من المسارعة إلى الأحاديث وطلبه الشهادة على ذلك، حتى استقرت الأحاديث، واشتهرت السنن. (إنما أنا خازن) في الرواية السابعة "وإنما أنا قاسم ويعطي الله" قال النووي: معناه أن المعطي حقيقة هو الله تعالى. ولست أنا معطياً، وإنما أنا خازن على ما عندي، ثم أقسم ما أمرت بقسمته على حسب ما أمرت به، فالأمور كلها بمشيئة الله تعالى وتقديره، والإنسان مصرف مربوب. اهـ وفائدة هذه الجملة دفع توهم التسلط والتحكم في العطاء والمنع. (فمن أعطيته عن طيب نفس فيبارك له فيه) "من" اسم شرط، وقوله: "فيبارك" برفع الفعل على الاستئناف، على تقدير فهو يبارك له فيه، والجملة في محل جزم جواب الشرط. (لا تلحفوا في المسألة) قال النووي: هكذا هو في بعض الأصول "في المسألة" بالفاء، وفي بعضها بالباء، وكلاهما صحيح، والإلحاف الإلحاح. اهـ والمراد من المسألة طلب العطاء أو الصدقة. (ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس) في الرواية التاسعة "ليس المسكين بالذي ترده التمرة والتمرتان" فالباء في "بهذا الطواف" وفي "بالذي ترده" زائدة في خبر "ليس"، و"ال" في "المسكين" للكمال، قال النووي: معناه المسكين الكامل المسكنة، الذي هو أحق بالصدقة، وأحوج إليها ليس هو هذا الطواف، إنه بمسألته يأتيه الكفاف، إنما المسكين الكامل هو الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له، ولا يسأل الناس، وليس معناه نفي أصل المسكنة عن الطواف، بل معناه نفي كمال المسكنة، كقوله تعالى: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر} [البقرة: 177]. اهـ وكقولنا: ليس الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث. والمراد من الطواف على الناس المتردد عليهم يمد يده ويسألهم. (قالوا: فما المسكين؟ ) الأصل عند جمهور النحاة أن "من" تستعمل في العاقل، و"ما" في غير العاقل، فكان الظاهر أن يقال: فمن المسكين؟ لكنه إذا قصد الوصف جاز استعمال "ما" في العاقل. قال النووي: هكذا هو في الأصول كلها "فما المسكين"؟ وهو صحيح، لأن "ما" تأتي كثيراً لصفات من يعقل، كقوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} [النساء: 3]. والمسكين مشتق من السكون، وهو عدم الحركة، فكأنه بمنزلة الميت، وهو بكسر الميم، وفتحها نادر، ويطلق على الذليل الضعيف، فيقال: تمسكن الرجل والفقر -كما قال القزاز- أصله في اللغة من

فقار الظهر، كأن الفقير كسر فقار ظهره، فبقي له من جسمه بقية. والفقر بفتح القاف ضد الغنى، وقد تكسر الفاء. وسيأتي في فقه الحديث الفرق الشرعي بين الفقير والمسكين. (حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم) المزعة بضم الميم وسكون الزاي، وحكى كسر الميم القطعة. قال الخطابي: يحتمل أن يكون المراد أنه سيأتي ساقطاً، لا قدر له، ولا جاه [فهو كناية عن الوجاهة ووجهاء القوم] أو يعذب في وجهه حتى يسقط لحمه لمشاكلة العقوبة في مواضع الجناية من الأعضاء، لكونه أذل وجهه بالسؤال، أو أنه يبعث ووجهه عظم كله فيكون ذلك شعاره الذي يعرف به. وقال ابن أبي جمرة: معناه أنه ليس في وجهه من الحسن شيء، لأن حسن الوجه هو مما فيه من اللحم. (ما يزال الرجل يسأل) وفي الرواية العاشرة "لا تزال المسألة بأحدكم" وفي ذلك إشارة إلى أن الحكم موقوف على تكرار السؤال وكثرته، قال النووي: وهذا فيمن سأل لغير ضرورة سؤالاً منهياً عنه وأكثر منه. (من سأل الناس أموالهم تكثراً) أي من سأل ليجمع الكثير من غير احتياجه إليه، وعند الترمذي "من سأل الناس ليثري ماله كان خموشاً في وجهه يوم القيامة، فمن شاء فليقل، ومن شاء فليكثر". (فإنما يسأل جمراً) قال النووي: قال القاضي: معناه يعاقب بالنار، ويحتمل أن يكون على ظاهره، وأن الله بأخذه يصير جمراً، يكوى به، كما ثبت في مانع الزكاة. (فليستقل أو ليستكثر) الأمر للتهديد والوعيد والتهكم، وليس لطلب السؤال القليل أو الكثير، وليس لطلب تحصيل الجمر القليل أو الكثير. (لأن يغدو أحدكم فيحطب على ظهره) الغدو الذهاب أول النهار، قال النووي: هكذا وقع في الأصول "فيحطب" بغير تاء بين الحاء والطاء في الموضعين، وهو صحيح. اهـ وفي رواية البخاري "يغدو إلى الجبل فيحتطب" أي يجمع الحطب، فيحمله على ظهره. (فيتصدق به) أي على نفسه، وعلى من تلزمه نفقته، فالنفقة على النفس صدقة، وليس المراد التصدق على الفقراء الأجانب، بدليل الجملة التالية. (ويستغني به من الناس) "من الناس" بالميم هكذا هو في النسخ، وفي نادر منها "عن الناس" بالعين وكلاهما صحيح، والأول محمول على الثاني. (خير له من أن يسأل رجلاً) "خير" خبر المصدر المنسبك من "أن يغدو" أي لغدو أحدكم ... خير له، و"خير" أفعل التفضيل على غير بابه، فسؤال الناس لا خير فيه، قال الحافظ ابن حجر:

ويحتمل أن يكون المراد بالخير فيه بحسب اعتقاد السائل، وتسميته الذي يعطاه خيراً وهو في الحقيقة شر. (أعطاه أو منعه) ففي الإعطاء منة وذل سؤال، وفي المنع ذلة وخيبة وحرمان. (لأن يحتزم أحدكم حزمة من حطب) أي لأن يعالج ويجمع ويحزم حزمة. (وكنا حديث عهد ببيعة) يعتذر بهذه الجملة عن عدم المسارعة ببسط اليد وقبول البيعة المطلوبة، فكأنهم ظنوا أن البيعة المطلوبة على ما بايعوا عليه في البيعة السابقة، وظنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نسي مبايعتهم، ولم يفهموا المطلوب إلا بعد تكرار العرض. (وتطيعوا -وأسر كلمة خفية-) لم أقف على هذه الكلمة، ولعلها: وتطيعوا الرسول وأولي الأمر وإن ولي عليكم عبد حبشي. (ولا تسألوا الناس شيئاً) حمله هؤلاء النفر على عموم سؤال الناس شيئاً دنيوياً، ولم يقصروه على الصدقة والعطاء المالي. (تحملت حمالة) الحمالة بفتح الحاء هي المال الذي يتحمله الإنسان، ويدفعه في إصلاح ذات البين. وخصها النووي بالاستدانة لأجل الإصلاح. وسهمها في الزكاة سهم الغارمين. (أسأله فيها) أي أسأله الإسهام والمساعدة فيها. (أقم حتى تأتينا الصدقة) أي أقم معنا في المدينة. أي انتظر حتى تأتينا الزكاة من العاملين عليها. (فنأمر لك بها) أي بالحمالة، أو بالمساعدة فيها. (فحلت له المسألة حتى يصيبها، ثم يمسك) أي حتى يصيب ويحصل على الحمالة، ثم يمسك عن المسألة. (ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله) أي أصابته مصيبة من غرق أو حرق أو هدم أو نحو ذلك من البلايا العامة المفاجئة. (فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش -أو سداداً من عيش) قال النووي: القوام والسداد بكسر القاف والسين، وهما بمعنى واحد، وهو ما يغني من الشيء وما تسد به الحاجة، وكل شيء سددت به شيئاً فهو سداد، بالكسر، ومنه سداد الثغر والقارورة، وقولهم: سداد من عوز. أي كفاية بعد حاجة.

(ورجل أصابته فاقة) أي فقر وحاجة بعد غنى وكفاية. (حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه) غاية لمحذوف وتقديره لا تحل له المسألة حتى يقوم ثلاثة. قال النووي: "يقوم ثلاثة" هكذا هو في جميع النسخ، وهو صحيح، أي يقومون بهذا الأمر، فيقولون: و"الحجا" هو العقل، وشرط لإفادة التعقل في الشهادة، إذ لا تقبل من مغفل، وشرط "من قومه" لأنهم هم الذين من أهل الخبرة بباطنه، والمال مما يخفى في العادة -والفاقة مما تخفى كثيراً- فلا يعلمه إلا من كان خبيراً بصاحبه. وأما اشتراط الثلاثة ففيه خلاف عند العلماء يأتي في فقه الحديث. (فما سواهن من المسألة سحتاً) قال النووي: هكذا هو في جميع النسخ "سحتاً"، ورواية غير مسلم "سحت". وهذا واضح -أي الرفع واضح، لأنه خبر "ما" -ورواية مسلم صحيحة، وفيه إضمار -عامل النصب- أي أعتقده سحتاً، أو يأكل سحتاً. اهـ والجملة خبر "ما". (يأكلها صاحبها سحتاً) ضمير "يأكلها" عائد إلى المسألة باعتبار ما يحصل منها، والمراد بالأكل مطلق الانتفاع، والسحت ما خبث وقبح من المكاسب، فلزم عنه العار، كالرشوة ونحوها، وأصل سحت الشيء سحتاً استأصله، وسحت البركة أذهبها. (يعطيني العطاء) أي يعرض علي العطاء. (أعطه أفقر إليه مني) أي أحوج إليه مني، فعمر لم يكن فقيراً. (خذه) هذا المطلق في الأمر بالأخذ محمول على المقيد الآتي. أي خذه وأنت غير مشرف ولا سائل. (وما لا فلا تتبعه نفسك) أي ما لم يوجد فيه هذا الشرط فلا تأخذه، ولا تعلق نفسك به، أي ما لا يجيء إليك بدون سؤال فلا تعلق نفسك به، ولا تستمر في رغبة النفس فيه وميلها إليه، واتركه. (خذه فتموله أو تصدق به) يقال: تمول المال إذا اتخذه قنية، أي اقتناه وادخره. (عن ابن الساعدي المالكي) قال النووي: قوله: "المالكي"، صحيح منسوب إلى مالك بن حنبل بن عامر، وأما قوله: "الساعدي" فأنكروه، قالوا: وصوابه "السعدي" كما رواه الجمهور، منسوب إلى بني سعد بن بكر بن هوازن، لأن أباه عمرو بن وقدان استرضع في بني سعد. واسم ابن السعدي هذا أبو محمد عبد الله، صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قديماً، وقال: وفدت في نفر من بني سعد بن بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. سكن الشام. اهـ. (استعملني عمر على الصدقة) أي جعلني عاملاً على جمعها. (أمر لي بعمالة) بضم العين، وهي المال الذي يعطاه العامل نظير عمله.

(عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعملني) بتشديد الميم أي أعطاني عمالة، أجرة عملي. -[فقه الحديث]- تتعرض الأحاديث إلى سؤال الناس من الصدقة أو من العطاء، كما تتعرض تبعاً إلى إعطاء المعطي، وإلى أي مدى يعطي من ماله، وسنتكلم عن النقطة الثانية، لطول الكلام عن النقطة الأولى. والله ولي التوفيق. 1 - يؤخذ من الحديث الأول "أفضل الصدقة عن ظهر غنى". "وابدأ بمن تعول" ومن الحديث الثالث "إنك أن تبذل الفضل خير لك، وأن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف، وابدأ بمن تعول" يؤخذ من هذا أن أفضل الصدقة ما كان زائداً على الحاجة. قال النووي: وقد اختلف العلماء في الصدقة بجميع ماله، فمذهبنا أنه مستحب لمن لا دين عليه، ولا له عيال يصبرون، بشرط أن يكون ممن يصبر على الفقر، فإن لم تجتمع هذه الشروط فهو مكروه. قال القاضي: جوز جمهور العلماء وأئمة الأمصار الصدقة بجميع ماله، وقيل: يرد جميعها -أي ترد الصدقة بالمال جميعه إلى صاحبه- وهو مروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقيل: ينفذ في الثلث وهو مذهب أهل الشام، وقيل: إن زاد على النصف ردت الزيادة، ومع جوازه فالمستحب أن لا يفعله وأن يقتصر على الثلث. اهـ. وقد ترجم البخاري للموضوع بقوله: باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى، ومن تصدق وهو محتاج أو أهله محتاجون، أو عليه دين فالدين أحق أن يقضى من الصدقة والعتق والهبة وهو رد عليهن ليس له أن يتلف أموال الناس. اهـ. ويمكن أن يحتج لهذا الرأي بقصة المدبر فإنه صلى الله عليه وسلم باعه، وأرسل ثمنه إلى الذي دبره لكونه كان محتاجاً، كما جاء في الحديث رقم (6) في الباب السابق، وفيه "ابدأ بنفسك، فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا". فتحصل ثمانية أقوال في هذه المسألة: الأول: أن الصدقة بجميع المال جائزة مطلقاً، نقله القاضي عن جمهور العلماء، وأئمة الأمصار، ويمكن أن يستدل له بتبرع أبي بكر بجميع ماله، وقد جاء هذا في حديث مرفوع أخرجه أبو داود وصححه الترمذي والحاكم عن عمر بن الخطاب قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً، فجئت بنصف مالي، وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر. ما أبقيت لأهلك؟ " قال: أبقيت لهم الله ورسوله. القول الثاني: أن الصدقة بجميع المال جائزة بشروط، فإن فقدت هذه الشروط كانت مكروهة، غير محرمة، وهي نافذة لا ترد، نسب الطبري هذا القول للجمهور، وقال: من تصدق بماله كله في صحة بدنه، وعقله، حيث لا دين عليه، وكان صبوراً على الضيق، ولا عيال له، أو له عيال يصبرون

أيضاً فهو جائز، فإن فقد شيء من هذه الشروط كره. اهـ. ويمكن حمل فعل أبي بكر على استيفائه هذه الشروط. القول الثالث: وهو ما نسبه النووي إلى مذهب الشافعية، وهو أنه يستحب بالشروط المذكورة، فإن فقد شرطاً كره، فهذا القول قرب من القول الثاني، والفرق هو الاستحباب بدل الجواز. القول الرابع: أن الصدقة بكل المال جائزة بالشروط المذكورة في القول الثاني مضافاً إليها أن لا يصير المتصدق محتاجاً بعد صدقته إلى أحد، بأن يكون قادراً -بعد الصدقة- على الحاجة الضرورية من مأكل ومشرب وملبس ومسكن، له ولمن تلزمه نفقته، وبدون هذا لا يصح الإيثار، بل يحرم، وذلك أنه إذا آثر غيره في هذه الحالة عرض نفسه إلى الهلاك أو الإضرار أو كشف عورته أو عورة من تجب عليه نفقته، فإذا سقطت هذه الواجبات صح الإيثار والصدقة، وكان له أجر ما يتحمل من مضض الفقر، وشدة مشقته، وهذا القول هو المختار. القول الخامس: أن الصدقة بجميع المال مكروهة، حتى مع الشروط المذكورة، أو هي على الأقل خلاف الأولى، لأن من تصدق بالجميع يندم غالباً، أو قد يندم إذا احتاج، ويود أنه لم يتصدق، بخلاف من أبقى ما يغنيه، وحديث الباب يؤيد هذا القول "أفضل الصدقة عن ظهر غنى". "أن تبذل الفضل خير لك، وابدأ بمن تعول". فهي ليست جائزة مطلقاً كالقول الأول، ولا جائزة بشروط كالقول الثاني، ولا مستحبة بشروط كالقول الثالث والرابع. القول السادس: أن الصدقة بجميع المال مردودة في جميع المال، فللورثة أن يردوها بالحجر على صاحبها. القول السابع: أنها تنفذ في الثلث وترد في الثلثين، كما هو الشأن في الوصية وعملاً بحديث عبد الرحمن بن عوف. القول الثامن: أنها تنفذ في النصف وترد في النصف اعتباراً بعمل الأنصار مع المهاجرين، وفيه حديث صحيح في البخاري "قدم المهاجرون المدينة وليس بأيديهم شيء، فقاسمهم الأنصار ... ". 2 - ويؤخذ من قوله: "وابدأ بمن تعول" تقديم نفقة النفس، ثم العيال إلخ، وفي ترتيب من يعول المسلم روى النسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تصدقوا". فقال رجل: يا رسول الله، عندي دينار؟ فقال: "تصدق به على نفسك". قال: عندي آخر؟ قال: "تصدق به على زوجتك". قال: عندي آخر؟ قال: "تصدق به على ولدك". قال عندي آخر؟ قال: "تصدق به على خادمك". قال: عندي آخر؟ قال: "أنت أبصر". رواه ابن حبان في صحيحه هكذا، ورواه أبو داود والحاكم وصححه بتقديم الولد على الزوجة واختاره الخطابي، وقال: إذا تأملت هذا الترتيب علمت أنه صلى الله عليه وسلم قدم الأولى فالأولى، والأقرب فالأقرب، وهو يأمره أن يبدأ بنفسه، ثم بولده لأن الولد كبعضه، فإذا ضيعه هلك، ولم يجد من ينوب عنه في الإنفاق عليه -والذي اتفق عليه العلماء أن

المراد بالولد هنا الطفل- ثم ثلث بالزوجة، وأخرها عن درجة الولد لأنه إذا لم يجد ما ينفق عليها فرق بينهما وكان لها من ينفق عليها من زوج آخر "أو ذي محرم تجب نفقتها عليه. اهـ. واختار النووي في "الروضة" تقديم الزوجة؛ لأن نفقتها آكد، لأنها لا تسقط بمضي الزمان، ولا بالإعسار، ولأنها وجبت عوضاً. وفي المسألة جدل طويل. هذا والهدف الأساسي من بقية أحاديث الباب التنفير من سؤال الغير مالاً، سواء أكان على سبيل العطاء من ولي الأمر؟ أم كان على سبيل الصدقة؟ واستخدمت الأحاديث لهذا التنفير العديد من الأساليب والعبارات، من ألفاظها: "إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى". "لا تلحفوا في المسألة". "المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئاً". "إنما المسكين المتعفف، اقرءوا -إن شئتم- {لا يسألون الناس إلحافاً"} [البقرة: 273]. "لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم". "من سأل الناس تكثراً فإنما يسأل جمراً، فليستقل أو ليستكثر". "لأن يغدو أحدكم فيحطب على ظهره، فيتصدق به، ويستغني به عن الناس خير له من أن يسأل رجلاً، أعطاه أو منعه". "بايعوني على أن لا تسألوا الناس شيئاً". "إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش، ورجل أصابته فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش. فما سواهن سحتاً يأكلها صاحبها سحتاً". قال النووي: مقصود الباب وأحاديثه النهي عن السؤال، واتفق العلماء عليه إذا لم تكن ضرورة، واختلف أصحابنا في سؤال القادر على الكسب -أي الفقير الذي لا يعمل وأمامه فرص العمل وهو قادر- على وجهين: أصحهما أنها حرام، لظاهر الأحاديث. والثاني حلال مع الكراهة بثلاثة شروط: ألا يذل نفسه، ولا يلح في السؤال، ولا يؤذي المسئول، فإن فقد أحد هذه الشروط فهي حرام بالاتفاق. اهـ. والذي تستريح إليه النفس أن سؤال القادر على الكسب مع وجود فرص العمل حرام، لأن الإسلام يحارب البطالة والضعف والكسل، ويأمر بالعمل والقوة والضرب في الأرض، ولو بجمع الحطب على الظهر، وقد روى الطبراني في الأوسط: أن رجلين أتيا النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وهو يقسم الصدقة، فسألا منها، فرفع فيهما البصر وخفضه، فرآهما جلدين فقال لهما: "إن شئتما أعطيتكما، ولاحظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب". وعند الطبراني في الكبير: "لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوي". أي ذي قوة كامل الأعضاء. فقد قرن هذان الحديثان بين الغني وبين القوي المكتسب، فكما حرم سؤال الغني كذلك يحرم سؤال القوي المكتسب. كما جاء تحريم سؤال الغني في صريح الأحاديث الصحيحة، منها ما سبق، ومنها ما جاء عند الترمذي: "من سأل وله ما يغنيه جاء يوم القيامة وفي وجهه كدوح أو خموش. قيل: يا رسول الله.

وما يغنيه؟ قال: خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب". وفيه "من سأل الناس ليكثر به ماله كان خموشاً في وجهه يوم القيامة، ورضفا -أي حجارة محماة- يأكله من جهنم، فمن شاء فليقل، ومن شاء فليكثر". وعند أحمد والبزار: "مسألة الغني شين في وجهه يوم القيامة". وأخرج أبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف". فقلت: ناقتي خير من أوقية، فرجعت فلم أسأله. وأخرج أبو داود وابن حبان في صحيحه: "من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار". فقالوا: يا رسول الله، وما يغنيه؟ قال: "ما يغديه ويعشيه". هذا وفي المباحث العربية للحديث رقم (60) في الباب السابق ما يفيد في هذا المقام. فليراجع. ويؤخذ من سؤال حكيم وإعطائه في الحديث رقم (2): 1 - الحث على التعفف والقناعة والرضا بما تيسر في عفاف، وإن كان قليلاً. 2 - والإجمال في الطلب والكسب. 3 - وأن لا يغتر الإنسان بكثرة ما يحصل له بإشراف نفس، فإنه لا يبارك له فيه، وهو قريب من قوله تعالى: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات} [البقرة: 276]. 4 - وفي تشبيه المال بالفاكهة الخضراء إشارة إلى عدم بقائه، لأن الخضراوات لا تبقى، ولا تقصد للبقاء. 5 - وفيه كراهة السؤال والتنفير عنه، وأن الإنسان لا يسأل إلا عند الحاجة، لأنه إذا كانت يده السفلى حتى عند الحاجة، فالأحرى أن يمتنع من ذلك عند عدم الحاجة. قال الحافظ ابن حجر: ومحله إذا لم تدع إليه الضرورة من خوف هلاك ونحوه، وقد روى الطبراني بإسناد فيه مقال: "ما المعطي من سعة بأفضل من الآخذ إذا كان محتاجاً". 6 - قال ابن أبي جمرة: قد يقع الزهد مع الأخذ، فإن سخاوة النفس هو زهدها. 7 - وأن الأخذ مع سخاوة النفس يحصل أجر الزهد والبركة في الرزق. 8 - وفي الحديث ضرب المثل لما لا يعقله السامع من الأمثلة؛ لأن الغالب من الناس لا يعرف البركة إلا في الشيء الكثير، فبين بالمثال المذكور أن البركة هي خلق من خلق الله تعالى، وضرب لهم المثل بما يعهدون، فالآكل إنما يأكل ليشبع، فإذا أكل ولم يشبع كان عناء في حقه بغير فائدة، وكذلك المال ليست الفائدة في عينه، وإنما هي فيما يتحصل به من المنافع، فإذا كثر عند المرء بغير تحصيل منفعة كان وجوده كالعدم. 9 - وفيه أنه ينبغي للإمام أن لا يبين للطالب ما في مسألته من المفسدة إلا بعد قضاء حاجته، لتقع موعظته له الموقع السليم، ولئلا يتخيل أن عدم الرغبة في الإعطاء هو سبب الموعظة.

10 - وفيه جواز تكرار السؤال ثلاثاً. 11 - وجواز المنع في الرابعة. 12 - وأن رد السائل بعد ثلاث ليس بمكروه. 13 - وفيه أن السائل إذا ألحف لا بأس برده وموعظته وأمره بالتعفف وترك الحرص. 14 - أن سؤال السلطان الأعلى ليس بعار. 15 - وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الكرم والسخاء والسماحة. 16 - وفيه ما كان عليه الصحابة من الاستجابة والطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في رواية البخاري: أن حكيم بن حزام قال: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً -أي لا أنقص مال أحد بعدك- حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر رضي الله عنه يدعو حكيماً إلى العطاء، فيأبى أن يقبله منه، ثم إن عمر رضي الله عنه دعاه ليعطيه، فأبى أن يقبل منه شيئاً، فقال عمر: إني أشهدكم يا معشر المسلمين على حكيم، إني أعرض عليه حقه من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه، فلم يرزأ حكيم أحداً من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي. 17 - ويؤخذ من الحديث الثالث الحث على بذل ما زاد على الحاجة. 18 - وأن ادخار الحاجة لا لوم على صاحبه، قال النووي: وهذا إذا لم يتجه في الكفاف حق شرعي، كمن له نصاب زكوي، ووجبت فيه الزكاة بشروطها، وهو محتاج إلى ذلك النصاب لكفافه وجب عليه إخراج الزكاة، ويحصل كفايته من جهة أخرى مباحة. 19 - ومن الحديث الرابع منقبة لعمر وقوته في أخذ الناس نحو الرشد. 20 - ومن عظة معاوية احتياط الصحابة في أخذهم الحديث. 21 - وفضل العالم والمتفقه في الدين. 22 - وتواضع الرسول صلى الله عليه وسلم وإعلانه أنه خازن وأن الله هو المعطي. 23 - ومن الحديث الثامن إشارة إلى أن الفقير والمسكين سواء، إذ الآية تتكلم عن الفقير {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً} [البقرة: 273] وقد استدل بهذا الحديث على المسكين، وهذا قول ابن القاسم وأصحاب مالك، وقيل: الفقير الذي يسأل، والمسكين الذي لا يسأل، حكاه ابن بطال. وقيل: إن المسكين الذي يملك ما لا يكفيه، والفقير الذي لا يملك، وهذا قول الشافعي وجمهور أهل الحديث والفقه، ويؤيده قوله تعالى: {أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر} [الكهف: 79] فسماهم مساكين مع أن لهم سفينة يعملون فيها. قال بعكسه قوم، فقالوا: المسكين أسوأ حالا من الفقير. والله أعلم.

24 - وأن المسكنة إنما تحمد مع العفة عن السؤال والصبر على الحاجة. 25 - واستحباب الحياء في كل الأحوال. 26 - وحسن الإرشاد لوضع الصدقة موضعها، وأن يتحرى وضعها فيمن صفته التعفف دون الإلحاح. 27 - ومن الحديث الثالث عشر الحث على الصدقة. 28 - والحث على الأكل من عمل اليد. 29 - وفضل الاكتساب بالمباحات كالاحتطاب. 30 - والحض على التعفف عن المسألة، والتنزه عنها، ولو امتهن المرء نفسه في طلب الرزق، وارتكب المشقة في ذلك. 31 - ومن الحديث الخامس عشر حرص الصحابة على التنزه عن جميع ما يسمى سؤالاً وإن كان حقيراً. 32 - واستمساكهم بالعموم، لأنهم نهوا عن السؤال، فحملوه على عمومه. 33 - إعطاء المدين من الزكاة وجواز سؤاله؛ قال النووي: بشرط أن يستدين لغير معصية. 34 - اشتراط التيقظ في الشاهد، فلا تقبل الشهادة من مغفل. 35 - استدل به بعضهم على أنه إنما يشترط في بينة الإعسار ثلاثة، ولا يقبل أقل من ثلاثة. وقال الجمهور: يقبل من عدلين؛ كسائر الشهادات غير الزنا، وحملوا الحديث على الاستحباب. 36 - ومن الحديث السابع عشر منقبة لعمر بن الخطاب، وبيان فضله وزهده وإيثاره. 37 - ومشروعية قبول المال إذا جاء من غير إشراف نفس ولا سؤال، وقد ذهب الجمهور إلى استحباب الأخذ في غير عطية السلطان، أما عطية السلطان فحرمها قوم وأباحها آخرون وكرهها فريق ثالث، قال النووي: والصحيح أنه إن غلب الحرام فيما في يد السلطان حرمت، وكذا إن أعطى من لا يستحق. وإن لم يغلب الحرام فمباح إن لم يكن في القابض مانع يمنعه من استحقاق الأخذ، وقالت طائفة: الأخذ واجب من السلطان وغيره. وقال بعضهم: هو ندوب في عطية السلطان دون غيره. والله أعلم. 38 - من الحديث السابع عشر والثامن عشر استدل بعضهم بقوله: "خذه فتموله" أن ذلك ليس من الصدقات، وإنما هو في الأموال التي يقسمها الإمام، وليست هي من جهة الفقر، ولكن من الحقوق، فلما قال عمر: أعطه من هو أفقر إليه مني. لم يرض بذلك، لأنه إنما أعطاه لمعنى غير الفقر.

39 - كما استدل به على ندب قبول العطاء، قيل: هو ندب لكل من أعطى عطية كائناً من كان. قال الحافظ ابن حجر: وهذا هو الراجح، يعني بالشرطين المتقدمين [غير مشرف وغير سائل] وقيل: هو مخصوص بالسلطان، ويؤيده حديث سمرة في السنن: "إلا أن يسأل ذا سلطان". وكان بعضهم يقول: يحرم قبول العطية من السلطان، وبعضهم يقول: يكره وهو محمول على ما إذا كانت العطية من السلطان الجائر، أو الكراهة محمولة على الورع، وهو المشهور من تصرف السلف. والتحقيق في المسألة أن من علم كون ماله حلالاً فلا ترد عطيته، ومن علم كون ماله حراماً فتحرم عطيته، ومن شك فيه فالاحتياط رده، وهو الورع، ومن أباحه أخذ بالأصل. قال ابن المنذر: واحتج من رخص فيه [أي في أخذ العطية ممن ماله حرام] بأن الله تعالى قال في اليهود: {سماعون للكذب أكالون للسحت} [المائدة: 42] ومع ذلك رهن الرسول درعه عند اليهودي مع علمه بذلك، وكذلك أخذ الجزية منهم مع العلم بأن أكثر أموالهم من ثمن الخمر والخنزير والمعاملات الفاسدة. 40 - وفيه أن للإمام أن يعطي بعض رعيته إذا رأى لذلك وجهاً، وإن كان غيره أحوج إليه منه. 41 - وأن رد عطية الإمام ليس من الأدب، ولا سيما من الرسول صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه} [الحشر: 7] ذكره الحافظ ابن حجر. 42 - وأن ما جاء من المال الحلال من غير سؤال فإن أخذه خير من تركه. 43 - ومن الحديث التاسع عشر جواز أخذ العوض على أعمال المسلمين، سواء كانت لدين أو لدنيا، كالقضاء والحسبة وغيرهما. والله أعلم

(293) باب التحذير من الاغترار بزينة الدنيا والحث على القناعة والإجمال في الطلب

(293) باب التحذير من الاغترار بزينة الدنيا والحث على القناعة والإجمال في الطلب 2096 - عن أبي هريرة رضي الله عنه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال "قلب الشيخ شاب على حب اثنتين حب العيش والمال". 2097 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "قلب الشيخ شاب على حب اثنتين طول الحياة وحب المال". 2098 - عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يهرم ابن آدم وتشب منه اثنتان الحرص على المال والحرص على العمر". 2099 - عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب". 2100 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (فلا أدري أشيء أنزل أم شيء كان يقوله) بمثل حديث أبي عوانة. 2101 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "لو كان لابن آدم واد من ذهب أحب أن له وادياً آخر، ولن يملأ فاه إلا التراب، والله يتوب على من تاب". 2102 - عن ابن عباس رضي الله عنهما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لو أن

لابن آدم ملء واد مالاً لأحب أن يكون إليه مثله، ولا يملأ نفس ابن آدم إلا التراب، والله يتوب على من تاب" قال ابن عباس فلا أدري أمن القرآن هو أم لا؟ . وفي رواية زهير قال: فلا أدري أمن القرآن لم يذكر ابن عباس. 2103 - عن أبي حرب بن أبي الأسود عن أبيه قال: بعث أبو موسى الأشعري إلى قراء أهل البصرة؛ فدخل عليه ثلاث مائة رجل قد قرءوا القرآن. فقال أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم فاتلوه، ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم. وإنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها، غير أني قد حفظت منها لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. وكنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها، غير أني حفظت منها {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون} فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة. 2104 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس". 2105 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب الناس فقال "لا والله ما أخشى عليكم أيها الناس إلا ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا" فقال رجل: يا رسول الله أيأتي الخير بالشر؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة، ثم قال "كيف قلت؟ " قال: قلت يا رسول الله أيأتي الخير بالشر؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الخير لا يأتي إلا بخير، أو خير هو. إن كل ما ينبت الربيع يقتل حبطاً أو يلم إلا آكلة الخضر، أكلت حتى إذا امتلأت خاصرتاها استقبلت الشمس ثلطت أو بالت ثم اجترت فعادت فأكلت. فمن يأخذ مالاً بحقه يبارك له فيه ومن يأخذ مالاً بغير حقه فمثله كمثل الذي يأكل ولا يشبع". 2106 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أخوف ما أخاف

عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا" قالوا: وما زهرة الدنيا؟ يا رسول الله قال "بركات الأرض" قالوا: يا رسول الله وهل يأتي الخير بالشر؟ قال "لا يأتي الخير إلا بالخير، لا يأتي الخير إلا بالخير، لا يأتي الخير إلا بالخير. إن كل ما أنبت الربيع يقتل أو يلم إلا آكلة الخضر، فإنها تأكل حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت الشمس ثم اجترت وبالت وثلطت ثم عادت فأكلت. إن هذا المال خضرة. حلوة فمن أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو. ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع". 2107 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وجلسنا حوله فقال "إن مما أخاف عليكم بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها" فقال رجل: أو يأتي الخير بالشر يا رسول الله؟ قال: فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقيل له ما شأنك؟ تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يكلمك؟ قال: ورأينا أنه ينزل عليه. فأفاق يمسح عنه الرحضاء، وقال "إن هذا السائل" (وكأنه حمده) فقال "إنه لا يأتي الخير بالشر. وإن مما ينبت الربيع يقتل أو يلم إلا آكلة الخضر، فإنها أكلت حتى إذا امتلأت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ثم رتعت. وإن هذا المال خضر حلو. ونعم صاحب المسلم هو لمن أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل (أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) وإنه من يأخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع ويكون عليه شهيداً يوم القيامة". 2108 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن ناساً من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم. ثم سألوه فأعطاهم حتى إذا نفد ما عنده قال "ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم. ومن يستعفف يعفه الله. ومن يستغن يغنه الله. ومن يصبر يصبره الله. وما أعطي أحد من عطاء خير وأوسع من الصبر". 2109 - عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه".

2110 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً". -[المعنى العام]- يولد المرء، فينشأ، فيتغذى، فيكسب المال والولد، ويندفع نحو زينة الحياة الدنيا بطبيعته، فيحرص عليها، وينميها، وكلما وصل إلى درجة تطلع إلى ما فوقها، يجري وراءها، ويلهث، ولا يتوقف، ولا يضعف حبه بتقدم عمره، بل قد يزداد، وكلما ازداد حرص على الحياة وطول العمر، يشيب ابن آدم ويهرم وتصيبه الشيخوخة والكهولة، لكن خصلتان من خصاله تبقيان قويتين شابتين، حب المال، والحرص على الحياة، حقيقة جاءت بها الشريعة، وصدقها الواقع، وهي الطبيعة والفطرة التي فطر الناس عليها، لكن الشريعة أمرت بمعالجة هذه الخلقة، وتغيير هذا الطبع ليوافق الشرع، فنفرت من الاستجابة للشهوات، ووضحت بشتى الأساليب أن غرس الشهوات في الإنسان ابتلاء من الخالق واختبار، وأن عاقبة الجري وراءها خسران في الآخرة ونار {ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين ثم لتسألن يومئذ عن النعيم} [التكاثر: 1 - 8]. {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} [الحديد: 20]. {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} [التغابن: 15]. "إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا، من بركات الأرض". نعم بركات الأرض خير، لكن إن لم تحصلها بطريق مشروع كانت شراً، وإن لم تصرفها في الطريق المشروع كانت شراً، الحشائش الخضراء في الأرض خير للبهائم، لكن إن أكثرت البهيمة منه، ولم تحسن هضمه وتصريفه كان شراً. المال وزينة الدنيا أخطر فتنة في الوجود، لأن صاحبه لا يدرك خطره -غالباً- إلا بعد فوات الأوان، بهجته تعمي الأبصار عن رؤية حقيقته، وجمعه يدفع إلى المزيد من جمعه، مع الغفلة عن حله وغير حله، وحبه يدفع إلى الاحتفاظ به وادخاره وكنزه والبخل به، فهو كالمخدر الذي يشل حركة التفكير والتعقل والتدبر، إلا من عصمه الله. كلنا نؤمن أن ما نجمع من مال سنذهب عنه، ونتركه لغيرنا، وقد يكونون أعداءنا، فالشاعر يقول:

وما الناس إلا جامع أو مضيع ... وذو نصب يسعى لآخر نائم كلنا نؤمن أننا لن نأخذ من أموالنا شيئاً بعد موتنا، فالله يقول: {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم} [الأنعام: 94] ويقول الشاعر: نصيبك مما تجمع الدهر كله رداءان تلوى فيهما وحنوط كلنا نعلم أن الدنيا فترة زمنية قصيرة تنتهي إلى آخرة ودار إقامة، وجاءنا النذير: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" مثل الإنسان فيها كمثل رجل فر من أسد، فوجد فرعاً من شجرة يتدلى في بئر، فتعلق به ونزل إلى نصفه، فرأى أسفله ثعباناً ينتظر سقوطه ليلتهمه، ونظر إلى الفرع فرأى فأرين يقرضانه، فأر أبيض، وفأر أسود، وسيقطعان الفرع، وسيرى نهايته لا محالة، لكنه نظر في رف البئر فوجد طبقاً من عسل، فشغله هذا العسل عن مصيره، فأخذ يلعق منه حتى قطع الفرع وهلك. الفرع بمثل الأجل في هذه الحياة، والفأران يمثلان الليل والنهار، والعسل يمثل زينة الحياة الدنيا. فهل يتلهى العاقل به؟ أو يغتنم خمساً قبل خمس. الشباب قبل الهرم، والصحة قبل السقم، والغنى قبل الفقر، والفراغ قبل الشغل، والحياة قبل الموت؟ {فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل} [التوبة: 38]. -[المباحث العربية]- (قلب الشيخ شاب على حب اثنتين) في الرواية الثالثة "يهرم ابن آدم وتشب معه اثنتان" و"تشب" بفتح التاء وكسر الشين، قال النووي: وهو بمعنى "قلب الشيخ شاب". اهـ. وفي رواية البخاري: "لا يزال قلب الكبير شاباً في اثنتين" وفي رواية له: "يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنتان". والشيخ من جاوز الأربعين، والمراد أن ابن آدم يضعف جسمه، وينحل لحمه من الكبر، وقلبه كقلب الشاب من حيث قوة حب المال وحب الحياة. قال النووي: هذا مجاز واستعارة، ومعناه: أن قلب الشيخ كامل الحب للمال، متحكم في ذلك كاحتكام قوة الشاب في شبابه. وقال القاضي عياض: إن الشيخ من شأنه أن تكون آماله وحرصه على الدنيا قد بليت على بلاء جسمه إذا انقضى عمره، ولم يبق له إلا انتظار الموت، فلما كان الأمر بضده ذم. قال: والتعبير بالشاب إشارة إلى كثرة الحرص وبعد الأمل الذي هو في الشباب أكثر، وبهم أليق، لكثرة الرجاء عندهم عادة في طول أعمارهم ودوام استمتاعهم ولذاتهم في الدنيا. اهـ. (حب العيش والمال) في الرواية الثانية "طول الحياة وحب المال". وفي الرواية الثالثة "الحرص على المال والحرص على العمر". وفي رواية البخاري "حب المال وطول العمر". وفي رواية له "حب الدنيا وطول الأمل". والمراد من "طول الأمل" محبة طول العمر، ومحبة طول الحياة، ومحبة العيش.

قالوا: والحكمة في التخصيص بهذين الأمرين أن أحب الأشياء إلى ابن آدم نفسه، فهو راغب في بقائها، فأحب بذلك طول العمر، وأحب المال لأنه من أعظم الأسباب في دوام الصحة التي ينشأ عنها غالباً طول العمر، فكلما أحس بقرب نفاد ذلك اشتد حبه له، ورغبته في دوامه. (لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً) في الرواية السادسة "لو كان لابن آدم واد من ذهب أحب أن له وادياً آخر". وفي الرواية السابعة "لو أن لابن آدم ملء واد مالاً لأحب أن يكون إليه مثله". فرواية "من مال"، فسرت برواية "من ذهب"، وزاد عند أحمد "وفضة" وقوله: "لابتغى" معناها لأحب كما في الروايات الأخرى، وفي رواية "لتمنى مثله، حتى يتمنى أودية". (ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب) في الرواية السادسة "ولن يملأ فاه إلا التراب"، وفي الرواية السابعة "ولا يملأ نفس ابن آدم إلا التراب"، وفي بعض الروايات "ولا يشبع ابن آدم"، وفي بعضها "ولا يسد جوف ابن آدم"، وفي رواية للبخاري "ولا يملأ عين ابن آدم"، وفي بعض الروايات "ولا يملأ بطن ابن آدم". قال الكرماني: ليس المراد الحقيقة في عضو بعينه [جوف. عين. فم] بقرينة عدم الانحصار في التراب، إذ غيره يملؤه أيضاً، بل هو كناية عن الموت، لأنه مستلزم للامتلاء، فكأنه قال: لا يشبع من الدنيا حتى يموت، فالغرض من العبارات كلها واحد، وهي من التفنن في العبارة. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: وهذا يحسن فيما إذا اختلفت مخارج الحديث، وأما إذا اتحدت فهو من تصرف الرواة، ثم نسبة الامتلاء للجوف واضحة، والبطن بمعناه، وأما النفس فعبر بها عن الذات، وأطلق الذات وأراد البطن، من إطلاق الكل وإرادة البعض، وأما النسبة إلى الفم فلكونه الطريق الموصل للجوف، ويحتمل أن يكون المراد بالنفس العين، وأما العين لأنها الأصل في الطلب لأنه يرى ما يعجبه، فيطلبه ليحوزه إليه، وخص البطن في أكثر الروايات لأن أكثر ما يطلب المال لتحصيل الملذات، وأكثرها يكون للأكل والشرب. اهـ. قال الطيبي: وقع قوله: "ولا يملأ" ... إلخ موقع التذييل والتقرير للكلام السابق، كأنه قيل: ولا يشبع من خلق من التراب إلا بالتراب، ويحتمل أن يكون ذكر التراب دون غيره لما أن المرء لا ينقضي طمعه حتى يموت، فإذا مات كان من شأنه أن يدفن، فإذا دفن صب عليه التراب، فملأ جوفه وفاه وعينيه، ولم يبق منه موضع يحتاج إلى تراب غيره. اهـ. (ويتوب الله على من تاب) قال النووي: هو متعلق بما قبله، ومعناه أن الله يقبل التوبة من الحرص المذموم وغيره من المذمومات. اهـ فكأن من فعل ذلك حقه أن يتوب، ويحتمل أن يكون "تاب" بالمعنى اللغوي، وهو مطلق الرجوع، أي ويقبل الله رجوع من رجع عن الحرص وعن التمني. وقال الطيبي: يمكن أن يكون معناه أن الآدمي مجبول على حب المال، وأنه لا يشبع من جمعه، إلا من حفظه الله تعالى، ووفقه لإزالة هذه الجبلة عن نفسه، وقليل ما هم، فوضع "ويتوب" موضعه إشعاراً بأن هذه الجبلة مذمومة جارية مجرى الذنب، وأن إزالتها ممكنة بتوفيق الله وتسديده، فوقع

قوله: "ويتوب الله" إلخ موقع الاستدراك، أي أن ذلك العسر الصعب يمكن أن يكون يسيراً على من يسره الله تعالى عليه. اهـ. (فلا أدري أشيء أنزل؟ أم شيء كان يقوله) هذا كلام أنس يتردد في كون هذا القول من القرآن؟ أم من الحديث النبوي؟ ، وفي الرواية السابعة يتردد ابن عباس كذلك، ويقول: فلا أدري أمن القرآن هو؟ أم لا؟ وفي الرواية الثامنة يصرح أبو موسى الأشعري بأن هذا القول كان جزء سورة شبيهة ببراءة في الطول والشدة وسيأتي إيضاح لذلك في فقه الحديث. (ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم) النهي موجه لقسوة القلوب، لا لطول الأمد، والتقدير لا تقسو قلوبكم بطول الزمان، والبعد بينكم وبين المصدر. (بإحدى المسبحات) أي بإحدى السور التي تبدأ بسبح ويسبح. (ليس الغنى عن كثرة العرض) بفتح العين والراء، و"عن" سببية، والعرض ما ينتفع به من متاع الدنيا. وقال أبو عبيد: العروض الأمتعة، وهي ما سوى الحيوان والعقار، وما لا يدخله كيل ولا وزن. وقال ابن فارس: العرض بالفتح ما يصيبه الإنسان من حظه في الدنيا، قال تعالى: {تريدون عرض الدنيا} [الأنفال: 67] وقال: {وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه} [الأعراف: 169]. (ولكن الغنى غنى النفس) وعند أحمد "إنما الغنى غنى النفس". وعند ابن حبان عن أبي ذر قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر. أترى كثرة المال هو الغنى؟ " قلت: نعم. قال: "وترى قلة المال هو الفقر؟ " قلت: نعم يا رسول الله. قال: "إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب". قال ابن بطال: معنى الحديث: ليس حقيقة الغنى كثرة المال، لأن كثيراً ممن وسع الله عليه في المال لا يقنع بما أوتي، فهو يجتهد في الازدياد، ولا يبالي من أين يأتيه فكأنه فقير لشدة حرصه، وإنما حقيقة الغنى غنى النفس، وهو من استغنى بما أوتي، وقنع به، ورضي، ولم يحرص على الازدياد، ولا ألح في الطلب، فكأنه غني. اهـ وقال القرطبي: معنى الحديث أن الغنى النافع أو العظيم أو الممدوح هو غنى النفس، وبيانه أنه إذا استغنت نفسه كفت عن المطامع، فعزت وعظمت، وحصل لها من الحظوة والنزاهة والشرف والمدح أكثر من الغنى الذي يناله من يكون فقير النفس، لحرصه، فإنه يورطه في رذائل الأموال، وخسائس الأفعال، لدناءة همته وبخله، ولكثرة من يذمه من الناس، ويصغر قدره عندهم، فيكون أحقر من كل حقير، وأذل من كل ذليل. والحاصل أن المتصف بغنى النفس يكون قانعاً بما رزقه الله، لا يحرص على الازدياد لغير حاجة، ولا يلح في الطلب، ولا يلحف في السؤال، بل يرضى بما قسم الله له، فكأنه واجد أبداً، والمتصف بفقر النفس على الضد منه، لكونه لا يقنع بما أعطي، بل هو أبداً في طلب الازدياد من أي وجه أمكنه، ثم إذا فاته المطلوب حزن وأسف، فكأنه فقير في المال، لأنه لم يستغن بما أعطي فكأنه ليس بغني، ثم غنى النفس إنما ينشأ عن الرضا بقضاء الله تعالى والتسليم لأمره، علماً بأن الذي عند الله خير وأبقى، فهو معرض عن الحرص والطلب، وما أحسن قول الشاعر:

غنى النفس ما يكفيك من سد حاجة ... فإن زاد شيئاً عاد ذاك الغنى فقراً انتهى من فتح الباري للحافظ ابن حجر. والذي تستريح إليه النفس أن الإسلام لا ينفر من الحرص على المال، وعلى الاستزادة منه وطلبه مهما كثر، كل ما يدعو إليه أن لا يؤدي ذلك إلى طلبه من غير حله، أو إنفاقه في غير حله، أو عدم أداء حقه، والقناعة الإسلامية ليست بالوقوف عن طلب المزيد، ولو لغير حاجة، وإنما هي في الرضا بما عندك مهما كان زائداً، وبالرضا بطلب الجديد في الحدود المشروعة، القناعة الإسلامية في عدم التطلع لما في يد الغير، وعدم السعي في اقتناصه منه، وفي عدم التحسر عليه عند فواته، فمعنى الحديث: ليس كثرة المال مصدر الإحساس بالغنى، فكثير ممن يملكون الذهب والفضة والقصور ينظرون إلى من هم أعلى منهم فيحسون بالفقر، وإنما الغنى الحقيقي الذي يشعر به صاحبه ويسعد به هو الإحساس بأن رزقه كافيه، قل أو كثر، فهو حامد شاكر راض بما حصل. وإن جاهد للمزيد، لا على حساب الدين، بل لحساب الدين، فكلما زاد ماله أنفق في وجوه الخير فزادت حسناته، وكلما سعى في كسب الرزق الحلال كفرت سيئاته، كما جاء في الأحاديث الصحيحة. (لا. والله ما أخشى عليكم -أيها الناس- إلا .... ) "لا" رد لكلام سابق، مذكور أو مفهوم، كأنه قال مثلاً: لا تجزعوا من الفقر، أو لا تتمنوا الغنى. وفي الرواية الحادية عشر "أخوف ما أخاف عليكم .... " وفي الرواية الثانية عشرة "إن مما أخاف عليكم ... " والواقع أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخشى على أمته من أخطار كثيرة، يخشى عليهم الاختلاف، والفتن، والتكالب على الإمارة، وضياع العلم، وكثرة الجهل، فالتنافس على زهرة الحياة الدنيا أحد ما يخشاه، ولا مانع من أن يعد أكثرها خطراً، وأخوف ما يخافه، باعتباره أساس كل المصائب، وإثبات الأعلى والأكبر لا ينافي إثبات أصل الوصف، فلا تعارض بين "أخوف ما أخاف" وبين "إن مما أخاف" والقصر في الرواية العاشرة قصر ادعائي، كأنه صلى الله عليه وسلم لا يخشى إلا هذا، وكأن ما عداه مما يخشى في حكم العدم. قال الحافظ ابن حجر: وهذه الخشية يحتمل أن يكون سببها علمه أن الدنيا ستفتح عليهم، ويحصل لهم الغنى بالمال، وقد ذكر ذلك في أعلام النبوة، مما أخبر صلى الله عليه وسلم بوقوعه قبل أن يقع فوقع. (ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا) فسرت زهرة الدنيا في الرواية الحادية عشرة ببركات الأرض، ورواية البخاري تعكس هذا التفسير وهذا المفسر، ولفظها: "إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض". قيل: وما بركات الأرض؟ قال: "زهرة الدنيا". وزاد في رواية: "وزينتها". وزهرة الدنيا زينتها وبهجتها، مأخوذة من زهر الشجر، والمراد ما فيها من أنواع المتاع والذهب والفضة والمساكن والزروع وغيرها مما يفتخر الناس بحسنه مع قلة البقاء. (فقال رجل) قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمه، وفي الرواية الحادية عشرة "قالوا" فإسناد القول إلى المجموع مع أن القائل واحد تنزيل لهم منزلة القائلين، لموافقتهم على هذا القول.

(أيأتي الخير بالشر)؟ في الرواية الحادية عشرة "وهل يأتي الخير بالشر" فالواو استئنافية فيه. وفي الرواية الثانية عشرة "أو يأتي الخير بالشر"؟ بفتح الواو بعد همزة الاستفهام، والواو عاطفة على مقدر، أي أتصير النعمة نقمة ويأتي الخير بالشر؟ لأن زهرة الدنيا نعمة من الله، فهل تعود هذه النعمة نقمة؟ والاستفهام للاسترشاد وطلب الجواب والرشد، وليس للإنكار والاستبعاد كما قال النووي. (فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة) المراد من الساعة القطعة من الزمن وليس المراد بها المتعارف عليها بمقدار ستين دقيقة، قيل: إن سبب سكوته صلى الله عليه وسلم ليأتي بالعبارة الوجيزة الجامعة المفهمة، فنزل عليه الوحي، وقيل سكت انتظاراً للوحي، لأن الجواب في حاجة إليه. وفي الرواية الثانية عشرة "فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل له: ما شأنك؟ تكلم النبي صلى الله عليه وسلم ولا يكلمك؟ قال: ورئينا أنه ينزل عليه، فأفاق يمسح عنه الرحضاء". و"رئينا" بضم الراء وكسر الهمزة، وفي رواية للبخاري "فأرينا" بضم الهمزة، وفي رواية له "حتى ظننت أنه ينزل عليه" وفي رواية له أيضاً "ظننا". و"الرحضاء" بضم الراء وفتح الحاء، وهو العرق، وقيل: العرق الكثير، وقيل: عرق الحمى، كأنهم فهموا أنه ينزل عليه الوحي بالقرينة من الكيفية التي جرت عادته بها عندما يوحى إليه. (ثم قال كيف قلت)؟ في الرواية الثانية عشرة "وقال: إن هذا السائل" فالسائل خبر "إن" وال فيه للكمال. أي إن هذا هو السائل الممدوح الحاذق الفطن وفي بعض النسخ "أين هذا السائل"؟ وفي بعضها "أنى هذا السائل"؟ وهي بمعنى "أين"؟ وفي بعضها "أي هذا السائل"؟ ومعناه أيكم هذا السائل؟ فحذف الكاف والميم. قاله النووي. (وكأنه حمده) أخذوه من قرينة الحال. قال الحافظ ابن حجر: والحاصل أنهم لاموه أولاً، حيث رأوا سكوت النبي صلى الله عليه وسلم، فظنوا أنه أغضبه، ثم حمدوه آخراً، لما رأوا مسألته سبباً لاستفادة ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم. (إن الخير لا يأتي إلا بخير) في الرواية الحادية عشرة "لا يأتي الخير إلا بالخير" ثلاثاً، وفي الرواية الثانية عشرة "إنه لا يأتي الخير بالشر" أي إن الخير بذاته لا يأتي إلا بخير، لكن قد يأتي للخير عارض فينتج هذا العارض شراً، فالمال في ذاته خير، فإن عرض له البخل أو التبذير نتج عن البخل به إو إسرافه شر، وكذا كل نعمة، في ذاتها خير لا تأتي إلا بخير، فالعين خير أعد لخير الإنسان، فإن نظرت إلى محرم أنتج هذا النظر شراً، فالخير بذاته لا ينتج إلا خيراً. (أو خير هو)؟ بفتح الواو في "أو" همزة استفهام بعدها واو العطف، أي أتظن الشره والحرص على المال نافعاً؟ وخيراً هو؟ والاستفهام إنكاري بمعنى النفي، أي ليس الشره والحرص على المال خيراً. أي ليس المال خيراً إن كان طريق اكتسابه أو إنفاقه شراً.

(إن كل ما ينبت الربيع يقتل حبطاً أو يلم .... ) "الحبط" بفتح الحاء والباء التخمة، أي انتفاخ البطن من كثرة الأكل، يقال: حبطت الدابة إذا أصابت مرعى طيباً، فأسرفت في الأكل، حتى تنتفخ فتموت، وقوله "أو يلم" معناه: أو يقرب من القتل حبطاً، و"الربيع" الجدول. وفي الرواية الثانية عشرة "وإن مما ينبت الربيع يقتل أو يلم .... " قال الحافظ ابن حجر: "مما" في قوله "مما ينبت" للتكثير، وليست "من" للتبعيض، لتوافق رواية "كل ما ينبت". (إلا آكلة الخضر، أكلت، حتى إذا امتلأت خاصرتاها استقبلت الشمس، ثلطت أو بالت، ثم اجترت، فعادت، فأكلت) في الرواية الثانية عشرة "ثم رتعت" قال النووي: "إلا آكلة الخضر" هو بكسر الهمزة من "إلا" وتشديد اللام على الاستثناء، هذا هو المشهور الذي قاله الجمهور من أهل الحديث واللغة وغيرهم. قال القاضي: ورواه بعضهم "ألا" بفتح الهمزة وتخفيف اللام على الاستفتاح، و"آكلة الخضر" بهمزة ممدودة، و"الخضر" بفتح الخاء وكسر الضاد. هكذا رواه الجمهور، قال القاضي: وضبطه بعضهم "الخضر" بضم الخاء وفتح الضاد. اهـ قال الحافظ ابن حجر: وهو ضرب من الكلأ يعجب الماشية، وواحده خضرة، وفي رواية "الخضرة" بضم الخاء وسكون الضاد وزيادة هاء في آخره، وفي رواية "الخضراء" بفتح الخاء وسكون الضاد وبالمد. والخاصرتان تثنية خاصرة، وهما جانبا البطن من الحيوان، وفي رواية "خاصرتها" بالإفراد. والغرض من استقبالها الشمس أو عين الشمس أن تسخن بها فيسهل الهضم، وفي الرواية الحادية عشرة ورواية البخاري تقديم الاجترار على الثلط وهو الأنسب، إذ الاجترار استرجاع ما في كرشها من العلف إلى الفم لتعيد مضغه تيسيراً لهضمه، والثلط إلقاء الفضلات خارجاً، والمعنى أنها إذا شبعت، فثقل عليها ما أكلت تحايلت في دفعه، بخلاف التي لم تتمكن من ذلك فإن الانتفاخ يقتلها سريعاً. قال النووي: معناه أن نبات الربيع وخضره يقتل حبطاً بالتخمة لكثرة الأكل أو يقارب القتل إلا إذا اقتصر منه على اليسير الذي تدعو إليه الحاجة، وتحصل به الكفاية، فإنه لا يضر، وهكذا المال، هو كنبات الربيع، مستحسن، تطلبه النفوس، وتميل إليه، فمنهم من يستكثر منه، ويستغرق فيه، غير صارف له في وجوهه، كما تثلطه الدابة، فهذا لا يضر. وقال الأزهري: فيه مثلان، أحدهما للمكثر من الجمع، المانع من الحق، وإليه الإشارة بقوله: "إن مما ينبت الربيع ما يقتل" لأن الربيع ينبت أحرار البقول، فتستكثر منه الدابة حتى تهلك، والثاني للمقتصد، وإليه الإشارة بقوله: "إلا آكلة الخضر" لأن الخضر ليس من أحرار البقول. اهـ. وهذا الذي قاله الأزهري غير واضح، لأن وصف الدابة بالشبع وامتداد الخاصرتين لا يتناسب مع المقتصد، وإنما مع المكثر، المحسن في تصريف ما أكثر منه، كما قال النووي. وقال القاضي عياض: ضرب صلى الله عليه وسلم لهم مثلاً بحالتي المقتصد والمكثر، فقال: أنتم تقولون: إن نبات الربيع خير، وبه قوام الحيوان؟ وليس هو كذلك مطلقاً، فأشار إلى أن الاعتدال

والتوسط في الجمع أحسن، ثم ضرب مثلاً لمن ينفعه إكثاره، وهو التشبيه بآكلة الخضر، وهذا التشبيه لمن صرفه في وجوهه الشرعية. اهـ. والتحقيق أن التمثيل يعطينا ثلاث حالات، لأن الربيع ينبت البقول الحارة التي تضر وتقتل أو تقارب كثرت أو قلت، وهذه الحالة تشبهها حالة جمع المال من غير حله، والكسب غير الطيب، كما ينبت الخضر الذي لا يضر تناوله باعتدال، أو تناوله بكثرة مع التحايل على صرفه، وهذه الحالة تشبهها حالة جمع المال من حله باعتدال، أو الإكثار منه بطريق مشروع مع أداء حقه وإنفاقه في وجوه الخير، الحالة الثالثة بطريق المفهوم وهي حالة الإكثار مع عدم التمكن من التصريف، وهذه تقتل أو تلم كالأولى، وهذه الحالة تشبهها حالة جمع المال ولو من حله، والإكثار منه وجمعه مع عدم أداء حقه. فالمال وزهرة الدنيا في حالتين من ثلاث، وحتى الثالثة، وهي الثانية في ترتيبنا، محفوفة بالأخطار، فأي خير هو؟ إنه في ذاته خير لا ينتج إلا خيراً، لكنه لا بد له من أعراض في جمعه وفي إنفاقه، وهذه الأعراض شرها ينتج شراً، وخيرها ينتج خيراً، وشرها أكثر من خيرها، فكيف لا يخاف الحريص على أمته، العزيز عليه عنتها، الرءوف الرحيم بها، كيف لا يخاف عليها هذه الشرور في وقت تبتعد فيه عن تعاليم دينه الحنيف؟ . (فمن يأخذ مالاً بحقه يبارك له فيه، ومن يأخذ مالاً بغير حقه فمثله كمثل الذي يأكل ولا يشبع) لم تتعرض هذه الرواية للإنفاق، وقد تعرضت له الرواية الحادية عشرة، ولفظها: "فمن أخذه بحقه، ووضعه في حقه فنعم المعونة هو". وكذا الرواية الثانية عشرة، ولفظها: "ونعم صاحب المسلم هو، لمن أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل" أي أدى حق الله فيه. (ويكون عليه شهيداً يوم القيامة) قال الحافظ ابن حجر: يحتمل أن يشهد عليه حقيقة، بأن ينطقه الله تعالى، ويجوز أن يكون مجازاً عن شهادة الملك الموكل به. اهـ والهدف من هذه الشهادة زيادة الإيلام النفسي بعد العذاب الجسمي، حين يتحول صديق الدنيا عدواً يوم القيامة. (أن ناساً من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم) الظاهر أنه من قبيل العطاء من الغنائم، لا من الصدقة، كالذي سيأتي في الباب بعده، ولم تعرف أسماؤهم. (ومن يستعفف يعفه الله .... ) أي من يطلب العفة ويحاولها يعفه الله ويوفقه، ومن يحاول الغنى عما في أيدي الناس يوفقه الله ويغنيه، ومن يحبس آلامه ويدافع عن نفسه الجزع يمنحه الله الصبر والرضا. (وما أعطي أحد من عطاء خير وأوسع من الصبر) قال النووي: هكذا هو في جميع نسخ مسلم "خير" مرفوع، وهو صحيح، وتقديره: هو خير، كما وقع في رواية البخاري. اهـ.

(ورزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه) الكفاف الكفاية بلا زيادة ولا نقصان. وقال القرطبي: هو ما يكف عن الحاجات، ويدفع الضرورات ولا يلحق بأهل الترفيهات. (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً) قال النووي: قال أهل اللغة: القوت ما يسد الرمق. -[فقه الحديث]- ذكر الإمام مسلم أحاديث التحذير من الاغترار بالدنيا في كتاب الزكاة، باعتبار هذا التحذير دافعاً إلى إخراج الزكاة، وإعطاء حقوق المال، والعطف به على الفقراء والمساكين، وذكر الإمام البخاري هذه الأحاديث ونحوها في كتاب الرقاق، باعتبارها باعثاً على رقة القلب والعطف. -[ويؤخذ من الأحاديث: ]- 1 - من الأحاديث الثمانية الأولى ذم الحرص على الدنيا، والرغبة فيها، وأن هذا الحرص مذموم يحتاج إلى توبة، ومن ثم آثر أكثر السلف التقلل من الدنيا، والقناعة باليسير، والرضا بالكفاف، لأن لازم الحرص والشره الغفلة عن القيام بأمور الآخرة. 2 - كراهة الحرص على طول العمر. 3 - أن الشرع يعطي الحكم للغالب، لأن بعض بني آدم لا يشيب ومعه الخصلتان المذمومتان. 4 - عن الرواية الثامنة أن بعض القرآن نسخت تلاوته، وبقي حكمه، وقد نقل البخاري عن أنس قال: كنا نرى هذا من القرآن حتى نزلت: {ألهاكم التكاثر} قال الحافظ ابن حجر: وشرحه بعضهم على أنه كان قرآناً ونسخت تلاوته لما نزلت {ألهاكم التكاثر، حتى زرتم المقابر} فاستمرت تلاوتها، فكانت ناسخة لتلاوة "لو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى وادياً ثالثاً"، قال: وأما الحكم فيه والمعنى فلم ينسخ. اهـ. والأولى أن يقال: إنهم كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيحدثهم. فقال لهم يوماً: إن الله قال: "إنما أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ولو كان لابن آدم واد لتمنى أن يكون له ثان، ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب". فظنوا أن هذا القول من القرآن، وأخذوا يقرءونه فلما نزلت {ألهاكم التكاثر} و {لم يكن الذين كفروا} وسمعوا قرآن الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يجدوه، علموا أن ذلك حديث وليس قرآناً. وسواء أكان ذلك قرآناً ثم نسخت تلاوته، أو كان حديثاً، فالإجماع اليوم على أنه ليس بقرآن. 5 - ومن الحديث التاسع فضيلة القناعة والرضا، وإن قل المال. 6 - ومن الحديث العاشر فوق ما تقدم استحباب الحلف من غير استحلاف. ذكره النووي. 7 - وحرص الرسول صلى الله عليه وسلم وشفقته على أمته وتنبيهه لهم حتى لا ينخدعوا.

8 - ومناقشة المتعلم للعالم وحسن السؤال. 9 - واستحباب ترك العجلة في الجواب. 10 - وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينتظر الوحي. 11 - واستحباب طلب إعادة السؤال كعلامة على استحسانه. 12 - وأن الرزق ولو كثر فهو من جملة الخير، وإنما يعرض له الشر بعارض. 13 - وأن كل شيء قضى الله أن يكون خيرا فلا يكون شراً، وبالعكس. ذكره الحافظ ابن حجر. 14 - وضرب المثل لتقرب المعاني إلى الأذهان. 15 - والحث على أخذ المال بحقه، وإنفاقه في حقه. 16 - ومن الرواية الثانية عشرة جلوس الإمام على المنبر عند الموعظة في غير خطبة، والناس حوله. 17 - ولوم من ظن به تعنت في السؤال. 18 - وحمد من أجاد السؤال. 19 - والحض على إعطاء المسكين واليتيم وابن السبيل. 20 - وأن المكتسب للمال من غير حله لا يبارك له فيه، لتشبيهه بالذي يأكل ولا يشبع. 21 - وفيه ذم الإسراف وكثرة الأكل والنهم. 22 - وقد استدل به على تفضيل الغني على الفقير، واستدل به من يفضل الفقر على الغنى، قال الحافظ ابن حجر: والتحقيق أن لا حجة فيه لأحد القولين. 23 - ومن الحديث الثالث عشر الحث على التعفف والقناعة والصبر على ضيق العيش وغيره من مكاره الدنيا. 24 - ومن الحديث الرابع عشر والخامس عشر فضيلة الفقر. وقد تصارع العلماء في أيهما أفضل؟ الفقر؟ أم الغنى؟ والفقر والغنى هنا عدم المال أو كثرته، وليس معنا غنى النفس، وفقر النفس، وتحرير موطن النزاع يقتضي تجرد كل من الفقر والغنى من العوارض الأخرى، فلا يقارن مثلاً بين غنى منفق وفقير حريص، ولا بين فقير قانع وغني بخيل، وقد جنح القرطبي في المفهم إلى تفضيل الكفاف على الغنى، فقال: جمع الله سبحانه وتعالى لنبيه الحالات الثلاث، الفقر والغنى والكفاف، فكان الأول أول حالاته، فقام بواجب ذلك، من بذله لمستحقه والمواساة به والإيثار، مع اقتصاره منه على ما يسد الضرورة له ولعياله، وهي صورة الكفاف، التي مات عليها، وهي حالة بعيدة عن الغنى المطغي والفقر المؤلم، وأيضاً فصاحبها معدود في الفقراء، لأنه لا يترفه في طيبات الدنيا، بل يجاهد نفسه في الصبر عن القدر الزائد على الكفاف، فلم يفته من حال الفقر إلا السلامة من قهر الحاجة وذل المسألة. اهـ.

ويؤيده ظاهر الحديث الرابع عشر، كما يؤيده الحديث الخامس عشر، لأنه صلى الله عليه وسلم يدعو لنفسه وآله بأفضل الأحوال. وجمهور الصوفية يرجحون الفقر، على أساس أن مدار طريقهم تهذيب النفس ورياضتها، وذلك مع الفقر أكثر منه مع الغنى. كما قيل: إن الفقير أبعد عن الخطر من الغني، لأن فتنة المال والغنى أشد من فتنة الفقر. وفي الحكمة: من العصمة أن لا تجد. وجمهور الشافعية على أن الغني الشاكر أفضل، لما تضمنه من زيادة الثواب بالقرب المالية، احتجاجاً بحديث: "ذهب أهل الدثور بالأجور ... " وفي آخره: {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء} [الحديد: 21] وحديث: "نعم المال الصالح للرجل الصالح". رواه مسلم، وحديث: "إن الله يحب الغني التقي الخفي". رواه مسلم، وحديث سعد: "إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة". وقد وصفت يد الغني المعطي بأنها العليا، والفقير نفعه مقصور على نفسه، أما الغني فنفعه يتعدى إلى غيره، والشكر أسهل من الصبر، فالفتنة بالغنى أخف، لذا قال مطرف بن عبد الله: "لأن أعافى فأشكر أحب إلي من أن أبتلى فأصبر". وقال سعيد بن المسيب عند موته، وقد ترك مالاً: "اللهم إنك تعلم أني لم أجمعه إلا لأصون به ديني". واحتج بعضهم لذلك بقوله تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل} [الأنفال: 60] وذلك لا يتم إلا بالمال. وأكد بعضهم هذا القول بأن الغنى صفة الخالق، والفقر صفة المخلوق، وصفة الحق أفضل من صفة الخلق. قال الحافظ ابن حجر: ودعوى أن جمهور الصحابة كانوا على التقلل والزهد ممنوعة، بالمشهور من أحوالهم، فإنهم كانوا على قسمين بعد أن فتحت عليهم الفتوح؛ فمنهم من أبقى ما بيده، مع التقرب إلى ربه بالبر والصلة والمواساة، مع الاتصاف بغنى النفس، وهم قليل بالنسبة للطائفة الأخرى، ومن تبحر في سير السلف علم صحة ذلك. اهـ. والله أعلم

(294) باب إعطاء المؤلفة قلوبهم والتحريض على قتل الخوارج

(294) باب إعطاء المؤلفة قلوبهم والتحريض على قتل الخوارج 2111 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً. فقلت: والله يا رسول الله لغير هؤلاء كان أحق به منهم. قال "إنهم خيروني أن يسألوني بالفحش أو يبخلوني. فلست بباخل". 2112 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه رداء نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة -نظرت إلى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته- ثم قال يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك ثم أمر له بعطاء. 2113 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث. وفي حديث عكرمة بن عمار من الزيادة قال ثم جبذه إليه جبذة رجع نبي الله صلى الله عليه وسلم في نحر الأعرابي. وفي حديث همام فجاذبه حتى انشق البرد وحتى بقيت حاشيته في عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2114 - عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه أنه قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبية ولم يعط مخرمة شيئاً. فقال مخرمة يا بني انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلقت معه. قال: ادخل فادعه لي. قال فدعوته له، فخرج إليه وعليه قباء منها، فقال "خبأت هذا لك". قال: فنظر إليه فقال "رضي مخرمة". 2115 - عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه قال: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم أقبية. فقال لي أبي مخرمة انطلق بنا إليه عسى أن يعطينا منها شيئاً. قال: فقام أبي على

الباب فتكلم فعرف النبي صلى الله عليه وسلم صوته، فخرج ومعه قباء وهو يريه محاسنه وهو يقول "خبأت هذا لك، خبأت هذا لك". 2116 - عن عامر بن سعد عن أبيه سعد رضي الله عنه أنه أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطاً وأنا جالس فيهم. قال: فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم رجلاً لم يعطه وهو أعجبهم إلي. فقمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فساررته، فقلت يا رسول الله ما لك عن فلان؟ والله إني لأراه مؤمناً. قال "أو مسلماً". فسكت قليلاً. ثم غلبني ما أعلم منه، فقلت يا رسول الله ما لك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمناً. قال "أو مسلماً". فسكت قليلاً. ثم غلبني ما أعلم منه، فقلت يا رسول الله ما لك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمناً. قال "أو مسلماً". قال "إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكب في النار على وجهه" وفي حديث الحلواني تكرير القول مرتين. 2117 - عن محمد بن سعد يحدث بهذا الحديث يعني حديث الزهري الذي ذكرنا. فقال في حديثه فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده بين عنقي وكتفي ثم قال "أقتالاً؟ أي سعد إني لأعطي الرجل". 2118 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن أناساً من الأنصار قالوا يوم حنين حين أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي رجالاً من قريش المائة من الإبل. فقالوا يغفر الله لرسول الله يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم. قال أنس بن مالك: فحدث ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من قولهم، فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم، فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "ما حديث بلغني عنكم؟ " فقال له فقهاء الأنصار أما ذوو رأينا يا رسول الله فلم يقولوا شيئاً، وأما أناس منا حديثة أسنانهم قالوا يغفر الله لرسوله يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فإني

أعطي رجالاً حديثي عهد بكفر أتألفهم، أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون إلى رحالكم برسول الله؟ فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به" فقالوا بلى يا رسول الله قد رضينا قال "فإنكم ستجدون أثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله فإني على الحوض" قالوا: سنصبر. 2119 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: لما أفاء الله على رسوله ما أفاء من أموال هوازن واقتص الحديث بمثله غير أنه قال: قال أنس فلم نصبر وقال فأما أناس حديثة أسنانهم. 2120 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه وساق الحديث بمثله إلا أنه قال: قال أنس: قالوا: نصبر كرواية يونس عن الزهري. 2121 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار. فقال "أفيكم أحد من غيركم؟ " فقالوا: لا إلا ابن أخت لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن ابن أخت القوم منهم" فقال "إن قريشاً حديث عهد بجاهلية ومصيبة، وإني أردت أن أجبرهم وأتألفهم، أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله إلى بيوتكم؟ لو سلك الناس وادياً وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار".

2122 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال لما فتحت مكة قسم الغنائم في قريش؛ فقالت الأنصار إن هذا لهو العجب، إن سيوفنا تقطر من دمائهم وإن غنائمنا ترد عليهم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمعهم، فقال "ما الذي بلغني عنكم؟ " قالوا هو الذي بلغك. وكانوا لا يكذبون. قال "أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا إلى بيوتهم، وترجعون برسول الله إلى بيوتكم لو سلك الناس وادياً أو شعباً وسلكت الأنصار وادياً أو شعباً لسلكت وادي الأنصار أو شعب الأنصار". 2123 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما كان يوم حنين أقبلت هوازن وغطفان وغيرهم بذراريهم ونعمهم. ومع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ عشرة آلاف ومعه الطلقاء فأدبروا عنه، حتى بقي وحده. قال: فنادى يومئذ نداءين لم يخلط بينهما شيئاً. قال: فالتفت عن يمينه فقال "يا معشر الأنصار" فقالوا لبيك يا رسول الله أبشر نحن معك. قال: ثم التفت عن يساره فقال "يا معشر الأنصار" قالوا لبيك يا رسول الله أبشر نحن معك. قال: وهو على بغلة بيضاء فنزل فقال أنا عبد الله ورسوله، فانهزم المشركون، وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم كثيرة، فقسم في المهاجرين والطلقاء، ولم يعط الأنصار شيئاً. فقالت الأنصار إذا كانت الشدة فنحن ندعى وتعطى الغنائم غيرنا. فبلغه ذلك فجمعهم في قبة فقال "يا معشر الأنصار ما حديث بلغني عنكم؟ " فسكتوا. فقال "يا معشر الأنصار أما ترضون أن يذهب الناس بالدنيا وتذهبون بمحمد تحوزونه إلى بيوتكم؟ " قالوا بلى يا رسول الله رضينا. قال: فقال "لو سلك الناس وادياً وسلكت الأنصار شعباً لأخذت شعب الأنصار". قال هشام: فقلت يا أبا حمزة أنت شاهد ذاك؟ قال وأين أغيب عنه؟ . 2124 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: افتتحنا مكة ثم إنا غزونا حنيناً، فجاء المشركون بأحسن صفوف رأيت. قال: فصفت الخيل ثم صفت المقاتلة ثم صفت النساء من وراء ذلك ثم صفت الغنم ثم صفت النعم. قال: ونحن بشر كثير قد بلغنا ستة آلاف، وعلى مجنبة خيلنا خالد بن الوليد. قال: فجعلت خيلنا تلوي خلف ظهورنا، فلم نلبث أن انكشفت خيلنا، وفرت الأعراب ومن نعلم من الناس. قال: فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم "يال المهاجرين يال المهاجرين" ثم قال "يال الأنصار يال الأنصار". قال: قال أنس هذا حديث عمية. قال: قلنا لبيك يا رسول الله. قال: فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فايم الله ما أتيناهم حتى هزمهم الله. قال: فقبضنا ذلك المال ثم انطلقنا إلى الطائف فحاصرناهم أربعين ليلة ثم رجعنا إلى مكة فنزلنا. قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي الرجل المائة من الإبل. ثم ذكر باقي الحديث كنحو حديث قتادة وأبي التياح وهشام بن زيد.

2125 - عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، وعيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، كل إنسان منهم مائة من الإبل. وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك فقال عباس بن مرداس: 4 - أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع فما كان بدر ولا حابس يفوقان مرداس في المجمع وما كنت دون امرئ منهما ومن تخفض اليوم لا يرفع قال فأتم له رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة. 2126 - عن عمر بن سعيد بن مسروق بهذا الإسناد أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم غنائم حنين فأعطى أبا سفيان بن حرب مائة من الإبل. وساق الحديث بنحوه وزاد وأعطى علقمة ابن علاثة مائة. 2127 - عن عمر بن سعيد بهذا الإسناد ولم يذكر في الحديث علقمة بن علاثة ولا صفوان بن أمية ولم يذكر الشعر في حديثه. 2128 - عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح حنيناً قسم الغنائم فأعطى المؤلفة قلوبهم، فبلغه أن الأنصار يحبون أن يصيبوا ما أصاب الناس. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطبهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال "يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي؟ ومتفرقين فجمعكم الله بي؟ " ويقولون الله ورسوله أمن. فقال "ألا تجيبوني؟ " فقالوا الله ورسوله أمن. فقال "أما إنكم لو شئتم أن تقولوا كذا وكذا وكان من الأمر كذا وكذا" لأشياء عددها زعم عمرو أن لا يحفظها. فقال "ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاء والإبل وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟ الأنصار شعار والناس دثار، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس وادياً وشعباً لسلكت وادي الأنصار وشعبهم. إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض".

2129 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: لما كان يوم حنين آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً في القسمة فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أناساً من أشراف العرب وآثرهم يومئذ في القسمة. فقال رجل والله إن هذه لقسمة ما عدل فيها وما أريد فيها وجه الله. قال: فقلت والله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فأتيته فأخبرته بما قال. قال: فتغير وجهه حتى كان كالصرف. ثم قال "فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله" قال: ثم قال "يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر" قال: قلت لا جرم لا أرفع إليه بعدها حديثاً. 2130 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً. فقال رجل إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله. قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فساررته فغضب من ذلك غضباً شديداً واحمر وجهه حتى تمنيت أني لم أذكره له. قال: ثم قال "قد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر". 2131 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة منصرفه من حنين وفي ثوب بلال فضة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقبض منها يعطي الناس. فقال يا محمد اعدل. قال "ويلك ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل" فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق. فقال "معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي. إن هذا وأصحابه يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية". 2132 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم مغانم. وساق الحديث. 2133 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بعث علي رضي الله عنه وهو باليمن بذهبة في تربتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أربعة نفر: الأقرع بن حابس الحنظلي،

وعيينة بن بدر الفزاري، وعلقمة بن علاثة العامري ثم أحد بني كلاب، وزيد الخير الطائي ثم أحد بني نبهان. قال: فغضبت قريش فقالوا أتعطي صناديد نجد وتدعنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني إنما فعلت ذلك لأتألفهم" فجاء رجل كث اللحية مشرف الوجنتين غائر العينين ناتئ الجبين محلوق الرأس، فقال اتق الله يا محمد. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فمن يطع الله إن عصيته أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني؟ " قال ثم أدبر الرجل فاستأذن رجل من القوم في قتله. (يرون أنه خالد بن الوليد) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن من ضئضئ هذا قوماً يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد". 2134 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بعث علي بن أبي طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن بذهبة في أديم مقروظ لم تحصل من ترابها. قال: فقسمها بين أربعة نفر. بين عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، وزيد الخيل، والرابع إما علقمة بن علاثة، وإما عامر بن الطفيل. فقال رجل من أصحابه كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء. قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال "ألا تأمنوني؟ وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحاً ومساء". قال: فقام رجل غائر العينين مشرف الوجنتين ناشز الجبهة كث اللحية محلوق الرأس مشمر الإزار، فقال يا رسول الله اتق الله فقال "ويلك أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله". قال: ثم ولى الرجل. فقال خالد بن الوليد يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ فقال "لا لعله أن يكون يصلي" قال خالد وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم". قال: ثم نظر إليه وهو مقف فقال "إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطباً لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية". قال: أظنه قال "لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود". 2135 - عن عمارة بن القعقاع بهذا الإسناد قال: وعلقمة ابن علاثة ولم يذكر عامر بن الطفيل. وقال ناتئ الجبهة ولم يقل ناشز وزاد. فقام إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ قال "لا". قال: ثم أدبر فقام إليه خالد سيف الله فقال يا رسول الله ألا أضرب عنقه"؟ قال "لا" فقال "إنه

سيخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله ليناً رطباً". وقال: قال عمارة حسبته قال "لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود". 2136 - عن عمارة بن القعقاع بهذا الإسناد. وقال بين أربعة نفر: زيد الخير، والأقرع ابن حابس، وعيينة بن حصن، وعلقمة بن علاثة أو عامر بن الطفيل. وقال ناشز الجبهة كرواية عبد الواحد. وقال إنه سيخرج من ضئضئ هذا قوم ولم يذكر "لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود". 2137 - عن أبي سلمة وعطاء بن يسار أنهما أتيا أبا سعيد الخدري فسألاه عن الحرورية؟ هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرها؟ قال: لا أدري من الحرورية ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "يخرج في هذه الأمة (ولم يقل منها) قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم فيقرءون القرآن لا يجاوز حلوقهم (أو حناجرهم). يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، فينظر الرامي إلى سهمه إلى نصله إلى رصافه فيتمارى في الفوقة هل علق بها من الدم شيء". 2138 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسماً، أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بني تميم، فقال يا رسول الله اعدل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ويلك ومن يعدل إن لم أعدل؟ قد خبت وخسرت إن لم أعدل" فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يا رسول الله ائذن لي فيه أضرب عنقه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم. يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم. يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه فلا يوجد فيه شيء (وهو القدح)، ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء سبق الفرث والدم. آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تتدردر. يخرجون على حين فرقة من الناس" قال أبو سعيد فأشهد أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشهد أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قاتلهم

وأنا معه. فأمر بذلك الرجل، فالتمس فوجد، فأتي به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نعت. 2139 - عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قوماً يكونون في أمته يخرجون في فرقة من الناس سيماهم التحالق قال "هم شر الخلق (أو من أشر الخلق) يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق" قال فضرب النبي صلى الله عليه وسلم لهم مثلاً أو قال قولا "الرجل يرمي الرمية (أو قال الغرض) فينظر في النصل فلا يرى بصيرة، وينظر في النضي فلا يرى بصيرة، وينظر في الفوق فلا يرى بصيرة" قال قال أبو سعيد وأنتم قتلتموهم يا أهل العراق. 2140 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق". 2141 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تكون في أمتي فرقتان فتخرج من بينهما مارقة يلي قتلهم أولاهم بالحق". 2142 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "تمرق مارقة في فرقة من الناس فيلي قتلهم أولى الطائفتين بالحق". 2143 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذكر فيه قوماً يخرجون على فرقة مختلفة يقتلهم أقرب الطائفتين من الحق. 2144 - عن سويد بن غفلة قال: قال علي إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأن أخر من السماء أحب إلي من أن أقول عليه ما لم يقل. وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن

الحرب خدعة. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "سيخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية. يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم. يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. فإذا لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة". 2145 - عن الأعمش بهذا الإسناد وليس في حديثهما "يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية". 2146 - عن علي رضي الله عنه قال: ذكر الخوارج فقال فيهم رجل مخدج اليد أو مودن اليد أو مثدون اليد لولا أن تبطروا لحدثتكم بما وعد الله الذين يقتلونهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم. قال: قلت آنت سمعته من محمد صلى الله عليه وسلم. قال: إي ورب الكعبة إي ورب الكعبة إي ورب الكعبة. 2147 - عن زيد بن وهب الجهني أنه كان في الجيش الذين كانوا مع علي رضي الله عنه الذين ساروا إلى الخوارج. فقال علي رضي الله عنه أيها الناس إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "يخرج قوم من أمتي يقرءون القرآن، ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء، يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم. لا تجاوز صلاتهم تراقيهم. يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية" لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضي لهم على لسان نبيهم صلى الله عليه وسلم لاتكلوا عن العمل. وآية ذلك أن فيهم رجلاً له عضد وليس له ذراع على رأس عضده مثل حلمة الثدي عليه شعرات بيض. فتذهبون إلى معاوية وأهل الشام وتتركون هؤلاء يخلفونكم في ذراريكم وأموالكم. والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم، فإنهم قد سفكوا الدم الحرام، وأغاروا في سرح الناس. فسيروا على اسم الله. قال سلمة بن كهيل فنزلني زيد بن وهب منزلاً حتى قال مررنا على قنطرة. فلما التقينا وعلى الخوارج يومئذ عبد الله بن وهب الراسبي. فقال لهم ألقوا

الرماح وسلوا سيوفكم من جفونها فإني أخاف أن يناشدوكم كما ناشدوكم يوم حروراء. فرجعوا فوحشوا برماحهم وسلوا السيوف وشجرهم الناس برماحهم. قال: وقتل بعضهم على بعض وما أصيب من الناس يومئذ إلا رجلان. فقال علي رضي الله عنه التمسوا فيهم المخدج، فالتمسوه فلم يجدوه. فقام علي رضي الله عنه بنفسه حتى أتى ناساً قد قتل بعضهم على بعض. قال أخروهم فوجدوه مما يلي الأرض، فكبر ثم قال: صدق الله وبلغ رسوله. قال: فقام إليه عبيدة السلماني فقال يا أمير المؤمنين ألله الذي لا إله إلا هو لسمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال إي والله الذي لا إله إلا هو حتى استحلفه ثلاثاً وهو يحلف له. 2148 - عن عبيد الله بن أبي رافع رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الحرورية لما خرجت وهو مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قالوا لا حكم إلا لله. قال علي كلمة حق أريد بها باطل. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف ناساً إني لأعرف صفتهم في هؤلاء. "يقولون الحق بألسنتهم لا يجوز هذا منهم (وأشار إلى حلقه) من أبغض خلق الله إليه. منهم أسود إحدى يديه طبي شاة أو حلمة ثدي". فلما قتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال انظروا فنظروا فلم يجدوا شيئاً، فقال ارجعوا فوالله ما كذبت ولا كذبت مرتين أو ثلاثاً، ثم وجدوه في خربة فأتوا به حتى وضعوه بين يديه. قال عبيد الله وأنا حاضر ذلك من أمرهم وقول علي فيهم. زاد يونس في روايته قال بكير وحدثني رجل عن ابن حنين أنه قال رأيت ذلك الأسود. 2149 - عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن بعدي من أمتي (أو سيكون بعدي من أمتي) قوم يقرءون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم. يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه. هم شر الخلق والخليقة" فقال ابن الصامت فلقيت رافع بن عمرو الغفاري أخا الحكم الغفاري. قلت: ما حديث سمعته من أبي ذر كذا وكذا؟ فذكرت له هذا الحديث. فقال وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2150 - عن يسير بن عمرو قال: سألت سهل بن حنيف هل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم

يذكر الخوارج؟ فقال سمعته (وأشار بيده نحو المشرق) "قوم يقرءون القرآن بألسنتهم لا يعدو تراقيهم. يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية". 2151 - عن سليمان الشيباني بهذا الإسناد وقال يخرج منه أقوام. 2152 - عن سهل بن حنيف رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "يتيه قوم قبل المشرق محلقة رءوسهم". -[المعنى العام]- نكتفي بما سيذكر في المباحث العربية وفقه الحديث عن المعنى العام، إن شاء الله. -[المباحث العربية]- (المؤلفة قلوبهم) أحد الأصناف الثمانية المستحقين للزكاة، قيل: هم ناس أسلموا إسلاماً ضعيفاً، وقيل: كفار يعطون ترغيباً في الإسلام، وقيل: مسلمون لهم أتباع كفار ليأتلفوهم، وقيل: مسلمون أول ما دخلوا الإسلام ليتمكن الإسلام من قلوبهم. قال الحافظ ابن حجر: والمراد بالمؤلفة هنا هذا الأخير. لقوله -في روايتنا السادسة: "فإني أعطي رجالاً حديثي عهد بكفر أتألفهم"، وقد سرد أبو الفضل بن طاهر في كتابه "المبهمات" أسماء المؤلفة في عهده صلى الله عليه وسلم، منهم: أبو سفيان بن حرب، وسهيل بن عمرو، وحكيم بن حزام، وصفوان بن أمية -وهؤلاء من قريش- وعيينة ابن حصن الفزاري، والأقرع بن حابس التميمي، والعباس بن مرداس السلمي، ومالك بن عوف النضري، والعلاء بن حارثة الثقفي. وذكر الواقدي في المؤلفة معاوية ويزيد ابني أبي سفيان، ومخرمة بن نوفل، وقيس بن عدي. وزاد ابن إسحق: النضر بن الحارث والحارث بن هشام، وجبير بن مطعم. وذكر ابن الجوزي فيهم زيد الخيل، وعلقمة بن علاثة. وغير هؤلاء، يزيدون -عند بعضهم على أربعين نفساً. (قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً) قسماً بفتح القاف، اسم للمقسوم وليس مصدراً، أي قسم مالاً على جماعة. (لغير هؤلاء كان أحق به منهم) هذه الأحقية من وجهة نظر عمر، أو هي في الواقع ونفس الأمر إذا قطعنا النظر عن علة إعطائهم، أما مع ملاحظة العلة فهم أحق.

(إنهم خيروني أن يسألوني بالفحش أو يبخلوني) أي خيروني بين أن يطلبوا العطاء بالإلحاح والغلظة والصوت العالي والتبجح، وبين التشهير بي ونسبتي إلى البخل، ولا ينبغي احتمال واحد من الأمرين. (ولست بباخل) أي فاخترت مداراتهم بالعطاء. (وعليه رداء نجراني غليظ الحاشية) أي غليظ البطانة، أو الشريط الذي يوضع على الأطراف، أي قويها، وفي رواية: "وعليه برد" والرداء ما يوضع على العاتق أو بين الكتفين من الثياب على أي صفة كان، والبرد البردة بسكون الراء كساء أسود فيه خطوط أو صور، والنجراني بفتح النون الأولى نسبة إلى نجران، بلد معروف بين الحجاز واليمن. (فأدركه أعرابي) وفي رواية: "فجاء أعرابي من خلفه" وفي بعض الروايات أن ذلك وقع من الأعرابي وأن الرسول صلى الله عليه وسلم خارج من المسجد داخل حجرته، فكأنه لقيه خارج المسجد فأدركه، وهو يكاد يدخل، فكلمه وأمسك بثوبه يمنعه من الدخول. فقد ذكر البخاري هذا الحديث عقب حديث عن جبير بن مطعم: "أنه بينا هو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه الناس مقبلاً من حنين علقت الأعراب برسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه، حتى اضطروه إلى شجرة بها شوك -وفي رواية: "حتى عدلوا بناقته عن الطريق، فمر بشجر فيه شوك، انتهش ظهره وانتزع رداءه، فقال: اعطوني ردائي فلو كان عدد هذه الفروع والأوراق نعماً لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلاً، ولا كذوباً، ولا جباناً". وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجل قسمة غنائم حنين أربعين ليلة حتى عاد من الطائف، فلم يصبر الأعراب. (فجاذبه حتى انشق البرد، وحتى بقيت حاشيته في عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال القاضي: يحتمل أنه على ظاهره، وأن الحاشية انقطعت وبقيت في العنق [أي انفصلت البطانة عن وجه الرداء، فكان الوجه في يد الأعرابي والبطانة في العنق، وربما كان اتصالهما ضعيفاً] ويحتمل أن يكون معناه، بقي أثرها، لقوله في الرواية الأخرى: "أثرت بها حاشية الرداء". وفي الرواية السابقة: "ثم جبذه إليه جبذة رجع نبي الله صلى الله عليه وسلم في نحر الأعرابي". وجبذ وجذب بمعنى واحد. (قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبية) بفتح الهمزة، جمع قباء بفتح القاف، فارسي معرب، وقيل: عربي. واشتقاقه من القبو، وهو الضم، ويقال: هو الذي له شق من خلفه. قال القرطبي: هو ثوب ضيق الكمين والوسط مشقوق من خلف، يلبس في السفر والحرب، لأنه أعون على الحركة. اهـ وفي رواية: "قدمت على نبي الله صلى الله عليه وسلم أقبية". وفي رواية: "أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم أقبية من ديباج، مزرورة بالذهب، فقسمها في ناس من أصحابه". (ولم يعط مخرمة شيئاً) أي في حال القسمة، ففي رواية: "فقسمها في ناس من أصحابه، وعزل منها واحدة لمخرمة". ومخرمة هو ابن نوفل الزهري كان من رؤساء قريش، ومن العارفين بالنسب، تأخر إسلامه إلى الفتح، وشهد حنيناً، وأعطى من غنيمتها مع المؤلفة، ومات سنة أربع وخمسين وهو ابن مائة وخمس عشرة سنة.

(ادخل فادعه لي) في الرواية الرابعة "فقام أبي على الباب فتكلم، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم صوته، فخرج ومعه قباء". قال ابن التين: لعل خروج النبي صلى الله عليه وسلم عند سماع صوت مخرمة صادف دخول المسور إليه، فخرج معه. (فخرج وعليه قباء منها) يحتمل أنه كان يحمله على كفه، ولم يكن يلبسه. (وهو يريه محاسنه) في رواية "فتلقاه به، واستقبله بأزراره". (خبأت هذا لك) زاد في رواية "يا أبا المسور". (فنظر إليه، فقال: رضي مخرمة) زاد في رواية: "فأعطاه إياه". وجزم الداودي أن قوله: "رضي مخرمة" من كلام النبي صلى الله عليه وسلم. ورجح الحافظ ابن حجر أنه من كلام مخرمة. اهـ والمعنى فنظر مخرمة إلى القباء فبدا عليه الرضا، فقال صلى الله عليه وسلم: رضي مخرمة. (عن عامر بن سعد عن أبيه سعد) بن أبي وقاص. (أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطاً) أصل الرهط الجماعة دون العشرة. (وهو أعجبهم إلي) أي أفضلهم وأصلحهم في اعتقادي. (مالك عن فلان)؟ أي "مالك"؟ مبتدأ وخبر، و"عن فلان" متعلق بمحذوف حال، والتقدير: أي شيء حصل لك حالة كونك معرضاً عن إعطاء فلان. (والله إني لأراه مؤمناً) "لأراه" بفتح الهمزة أي لأعلمه، قال النووي: ولا يجوز ضمها [فتكون بمعنى لأظنه] فإنه قال: "غلبني ما أعلم منه" ولأنه راجع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، ولو لم يكن جازماً باعتقاده لما كرر المراجعة. (أو مسلماً) "أو" بسكون الواو، فالإيمان التصديق القلبي، والإسلام العمل بالجوارح. (خشية أن يكب في النار على وجهه) يقال: أكب الرجل أي سقط، وكبه الله، أي أسقطه، فالرباعي بالهمز لازم، والثلاثي متعد. قال النووي: وهذا بناء غريب، فإن العادة أن يكون الفعل اللازم بغير همزة فيتعدى بالهمزة، وهنا عكسه، والضمير في "يكبه" للمعطي، لا الذي منع العطاء. (أقتالاً أي سعد) "أي" حرف نداء. أي لا ينبغي أن تفعل ذلك يا سعد كأنك تقاتل. قال النووي: معنى الحديث أن سعداً رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي ناساً ويترك من هو أفضل منهم في الدين، وظن أن العطاء يكون بحسب الفضائل في الدين، وظن أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم حال هذا الإنسان المتروك، فأعلمه به، وحلف أنه يعلمه مؤمناً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أو مسلماً". فلم يفهم سعد من الجواب النهي عن الشفاعة فيه مرة أخرى فسكت ثم رآه يعطي من هو دونه بكثير، فغلبه ما يعلم

من حسن حال ذلك الإنسان، فقال: يا رسول الله-، مالك عن فلان؟ تذكيراً، ويجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم هم بعطائه من المرة الأولى، ثم نسيه. فأراد تذكيره، وهكذا المرة الثالثة، إلى أن أعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أن العطاء ليس هو على حسب الفضائل في الدين، وأنه يعطي ناساً مؤلفة، في إيمانهم ضعف، لو لم يعطهم كفروا، فيكبهم الله في النار، ويترك أقواماً هم أحب إليه من الذين أعطاهم، لا يتركهم، احتقاراً لهم، ولا لنقص دينهم، ولا إهمالاً لجانبهم، بل يكلهم إلى ما جعل الله في قلوبهم من النور والإيمان التام، واثقاً من أنه لا يتزلزل إيمانهم لكماله. قال: وقد ثبت هذا المعنى في صحيح البخاري عن عمرو بن تغلب: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بمال أو سبي، فقسمه فأعطى رجالاً، وترك رجالاً، فبلغه أن الذين ترك عتبوا، فحمد الله تعالى، ثم أثنى عليه، ثم قال: أما بعد. فوالله إني لأعطي الرجل، وأدع الرجل، والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي، ولكني أعطي أقواماً لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكل أقواماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير". (أن أناساً من الأنصار قالوا يوم حنين) سيأتي وصف هؤلاء الناس، و"حنين" واد قريب من الطائف، بينه وبين مكة بضعة عشر ميلاً من جهة عرفات، و"يوم حنين" أي غزوة حنين، وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم إليها لست خلت من شوال سنة ثمان من الهجرة، مكث بمكة بعد فتحها نصف شهر لم يزد، ثم بلغه تجمع قبائل هوازن يؤيدهم ثقيف لحرب المسلمين، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بجيش لم يسبق للمسلمين، اثنى عشر ألفاً من الرجال بخيل وإبل وسلاح، يبعث على الغرور، حتى قال رجل منهم: لن نغلب اليوم عن قلة، فكانت هزيمة المسلمين وفرارهم، ثم كانت العودة والكرة على المشركين فهزموا، وغنم المسلمون غنائم كثيرة، السبى ستة آلاف نفس من النساء والأطفال، والإبل أربعة وعشرون ألفاً، والغنم أربعون ألفاً. لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخر تقسيم الغنائم، وحبسها بالجعرانة -وهي على بعد ثمانية عشر ميلاً من مكة إلى جهة الطائف- حبسها أربعين يوماً حتى عاد من حصار الطائف، رجاء أن تسلم هوازن فيرد إليها السبى. والحديث في توزيع غنائم حنين. (حين أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء) أصل الفيء الرد والرجوع، ومنه سمي الظل بعد الزوال فيئاً، لأنه رجع من جانب إلى جانب، فكأن أموال الكفار سميت فيئاً لأنها كانت في الأصل للمؤمنين إذ الإيمان هو الأصل، والكفر طارئ عليه، فإذا غلب الكفار على شيء من المال فهو بطريق التعدي، فإذا غنمه المسلمون منهم فكأنه رجع إليهم ما كان لهم. قاله الحافظ ابن حجر. (فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي رجالاً من قريش المائة من الإبل) أي ولم يعط الأنصار شيئاً، كما جاء في الرواية التاسعة، ووضحت الرواية الحادية عشرة بعض هؤلاء الرجال، ولفظها: "أعطي أبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، وعيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، كل إنسان منهم مائة من الإبل".

(فقالوا) أي الأنصار، وأسند القول إليهم مع أن القائل بعضهم لرضاهم بالقول. (يعطي قريشاً ويتركنا؟ وسيوفنا تقطر من دمائهم؟ ) وفي الرواية الثامنة "إن هذا لهو العجب"، "وإن غنائمنا ترد عليهم"؟ وفي الرواية التاسعة "فقالت الأنصار: إذا كانت الشدة فنحن ندعي؟ وتعطي الغنائم غيرنا"؟ وفي الرواية الثانية عشرة "فبلغه أن الأنصار يحبون أن يصيبوا ما أصاب الناس"، وفي الرواية الثالثة عشرة "فقال رجل: والله إن هذه لقسمة ما عدل فيها. وما أريد فيها وجه الله". وكل هذا القول حصل من المجموع على التوزيع، والقصد من قولهم: "وسيوفنا تقطر من دمائهم" أنهم قريبو عهد بالإسلام، لم يخدموا ولم يجاهدوا في سبيله، ونحن الذين رددناهم إلى الإسلام، فنحن أحق بغنائمه. والاعتراض بقريش لما أنهم أهله صلى الله عليه وسلم، ففي إيثارهم الشبهة، وإلا فقد ذكرنا أن البعض لم يكن قرشياً. (فحدث ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من قولهم) "رسول الله" نائب فاعل، والإشارة مفعول "حدث" بضم الحاء وكسر الدال المشددة، مبني للمجهول و"من" بيانية، بمعنى "أي" والتقدير حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم قولهم. وفي الرواية الثامنة "فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم". (فأرسل إلى الأنصار، فجمعهم في قبة من أدم، فلما اجتمعوا جاءهم) أي في قبة من جلد مدبوغ، والمعنى أرسل إليهم وأمر باجتماعهم في هذا المكان، وذكر ابن إسحق عن أبي سعيد قال: "لما أعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطي من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب ولم يكن في الأنصار منها شيء وجد هذا الحي من الأنصار في نفوسهم، حتى كثرت منهم المقالة، فدخل عليه سعد بن عبادة فذكر له ذلك، فقال له: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال: ما أنا إلا من قومي. قال: فاجمع لي قومك". (فقال: ما حديث بلغني عنكم)؟ في الرواية السابعة فقال: "أفيكم من أحد غيركم؟ فقالوا: لا. إلا ابن أخت لنا. قال: إن ابن أخت القوم منهم". وفي الرواية الثانية عشرة "فقام فخطبهم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا معشر الأنصار. ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ -"ضلالاً" بضم الضاد والتشديد، جمع ضال، والمراد هنا ضلالة الشرك، والمراد بالهداية الإيمان- "وعالة فأغناكم الله بي"؟ أي فقراء فأغناكم الله بالإسلام والغنائم؟ "ومتفرقين فجمعكم الله بي" وكانت الأنصار قبل الهجرة في غاية التنافر والتقاطع، لما وقع بينهم من حرب بعاث وغيرها فزال ذلك كله بالإسلام، كما قال الله تعالى: {وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم} [الأنفال: 63]. قال الحافظ ابن حجر: وقد رتب صلى الله عليه وسلم ما من الله عليهم على يديه من النعم ترتيباً بالغاً فبدأ بنعمة الإيمان، التي لا يوازي بها شيء من أمر الدنيا، وثنى بنعمة الألفة، وهي أعظم من نعمة المال، لأن الأموال تبذل في تحصيلها، وقد لا تحصل. اهـ. "فقال: ألا تجيبوني؟ فقالوا: الله ورسوله أمن" بفتح الهمزة والميم، وتشديد النون. أفعل تفضيل من المن، وفي رواية "فقالوا: ماذا نجيبك يا رسول الله؟ ولله ولرسوله المن والفضل". "فقال: أما

إنكم لو شئتم أن تقولوا كذا وكذا، وكان من الأمر كذا وكذا -لأشياء عددها، ذكر الراوي أنه لا يحفظها" قيل: إن الراوي كنى بكذا وكذا عمداً على طريق الأدب، وهي كناية عما روى "فقال: أما والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدقتم، أتيتنا مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فأويناك، وعائلاً فواسيناك" فقالوا في جواب ذلك: رضينا عن الله ورسوله بل المن علينا لله ولرسوله. قال الحافظ ابن حجر: إنما قال ذلك تواضعاً منه وإنصافاً، وإلا ففي الحقيقة الحجة البالغة والمنة الظاهرة في جميع ذلك له عليهم، فإنه لولا هجرته إليهم، وسكناه عندهم لما كان بينهم وبين غيرهم فرق، وقد نبه على ذلك بقوله "ألا ترضون .... إلخ، فنبههم على ما غفلوا عنه من عظيم ما اختصوا به منه، بالنسبة لما حصل عليه غيرهم من عرض الدنيا الفانية. اهـ. والجمع بين هذه الروايات ظاهر، وترتيب ما قاله صلى الله عليه وسلم فيها سهل. (فقال له فقهاء الأنصار: أما ذوو رأينا -يا رسول الله- فلم يقولوا شيئاً، وأما أناس منا حديثة أسنانهم قالوا: يغفر الله لرسوله، يعطي قريشاً ويتركنا؟ وسيوفنا تقطر من دمائهم)؟ في الرواية الثامنة "قالوا هو الذي بلغك، وكانوا لا يكذبون" وفي الرواية التاسعة "فسكتوا" ويحتمل أن يكونوا سكتوا أولاً، ثم أجابوا بالجوابين المذكورين ويحتمل أن بعضهم سكت، وبعضهم أجاب، وأن بعضهم أجاب بالجواب الثاني، وبعضهم أجاب بالجواب الأول. (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني أعطي رجالاً حديثي عهد بكفر أتألفهم) في الرواية السابعة: "إن قريشاً حديث عهد بجاهلية ومصيبة" [يقصد ما أصيبوا به في حروبهم وخذلانهم وقهرهم والغلبة عليهم] "وإني أردت أن أجبرهم" [وأعوضهم وأطيب خاطرهم عن مصيبتهم] "وأتألفهم" [ليثبتوا على الإيمان الطارئ الحديث، الذي دخله كثير منهم من غير اطمئنان ويقين]. (أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال، وترجعون إلى رحالكم برسول الله)؟ الاستفهام للتقرير، أي حملهم على الإقرار بما بعد النفي، أي أقروا بأنكم ترضون، والمراد من الناس قريش وغيرهم من غير الأنصار، والمراد من الأموال الغنائم التي قسمت، والرحال البيوت التي يرحل إليها، وفي رواية "أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله إلى بيوتكم"؟ وفي الرواية التاسعة "أن يذهب الناس بالدنيا، وتذهبون بمحمد تحوزونه إلى بيوتكم"؟ وفي الرواية الثانية عشرة "ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاء والإبل، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم"؟ ولا شك أن بعض هذه الروايات بالمعنى من تصرف الرواة. (فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به) يقال: انقلب على عقبه إذا رجع، و"ما" في "لما" موصولة، أي للذي ترجعون به خير من الذي يرجعون به. (فقالوا: بلى يا رسول الله، قد رضينا) هذه الجملة جاءت في الرواية السادسة والتاسعة والروايات يكمل بعضها بعضاً؛ فبعض الرواة يذكر ما لا يذكره الآخر.

(الأنصار شعار، والناس دثار، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار) هذه العبارة وردت في الرواية الثانية عشرة، والشعار الثوب الذي يلي الجسد، والدثار ما يلبس فوقه؛ وهي استعارة لطيفة لفرط قربهم منه صلى الله عليه وسلم، أراد الأنصار هم البطانة والأصفياء، وألصق الناس بي، وأقرب إلى من غيرهم. وفي المراد من قوله: "ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار". أقوال كثيرة، قال الخطابي: أراد بهذا الكلام تألف الأنصار واستطابة نفوسهم والثناء عليهم في دينهم، حتى رضي أن يكون واحداً منهم لولا ما يمنعه من الهجرة التي لا يجوز تبديلها، ونسبة الإنسان تقع على وجوه. منها الولادة، والبلادية، والاعتقادية، والصناعية، ولا شك أنه لم يرد الانتقال عن نسب آبائه، لأنه ممتنع قطعاً، وأما الاعتقادي فلا معنى للانتقال فيه، فلم يبق إلا القسمان الأخيران، وكانت المدينة دار الأنصار والهجرة إليها أمراً واجباً، أي لولا أن النسبة الهجرية لا يسعني تركها لانتسبت إلى داركم. قال: ويحتمل أنه لما كانوا أخواله، لكون أم عبد المطلب منهم أراد أن ينتسب إليهم بهذه الولادة لولا مانع الهجرة. وقال ابن الجوزي: لم يرد صلى الله عليه وسلم تغير نسبه، ولا محو هجرته، وإنما أراد أنه لولا ما سبق من كونه هاجر لانتسب إلى المدينة وإلى نصرة الدين. فالتقدير لولا أن النسبة إلى الهجرة نسبة دينية لا يسع تركها لانتسبت إلى داركم. وقال القرطبي: معناه لتسميت باسمكم، وانتسبت إليكم كما كانوا ينسبون بالحلف، لكن خصوصية الهجرة سبقت، فمنعت من ذلك، وهي أعلى وأشرف، فلا تتبدل بغيرها. وقيل: لولا التزامي بشروط الهجرة، ومنها ترك الإقامة بمكة فوق ثلاث لاخترت أن أكون من الأنصار. ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في الفتح. والذي تستريح إليه النفس أن يقال: إن "لولا" حرف امتناع لوجود، أي امتناع الجواب لوجود الشرط، فيقال هنا: امتنع كوني من الأنصار لثبوت كوني مكياً مهاجراً، ولولا هذا الواقع الذي لا يرتفع لتمنيت أن أكون من الأنصار، وإنما قدرنا التمني والحب والرغبة لأن كونه فعلاً من الأنصار ليس في مقدرته ولا يملكه، إنما يملك التمني والرغبة، ومن هذا القبيل المقولة المشهورة: "لو لم أكن مصرياً لتمنيت أن أكون مصرياً".، فكأنه صلى الله عليه وسلم يطيب خاطرهم بأنهم خير العباد في خير البلاد، ولو فرض أن هناك اختياراً له في الزمن البعيد بين أن يكون مكياً أو أنصارياً لاختار أن يكون أنصارياً لولا ما يحصل عليه من فضل الهجرة وشرفها. (لو سلك الناس وادياً، وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار) هذا تتميم للكلام السابق، أي إذا كنت في الماضي لم أنتسب إليكم فإني منذ الآن منكم وأعيش بينكم وأفضل البقاء معكم على البقاء مع سواكم. وفي الرواية الثامنة "لو سلك الناس وادياً أو شعباً، وسلكت الأنصار وادياً أو شعباً لسلكت وادي الأنصار". وفي الرواية الثانية عشرة "لو سلك الناس وادياً وشعباً لسلكت وادي الأنصار وشعبهم". فاختلاف الألفاظ من تصرف الرواة، والشعب بكسر الشين اسم لما انفرج بين جبلين، والوادي المكان المنخفض، وقيل: الذي فيه ماء.

(فإنكم ستجدون أثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله، فإني على الحوض. قالوا: سنصبر) في الرواية الثانية عشرة "فاصبروا حتى تلقوني على الحوض" الأثرة الاستئثار بالأمر المشترك، أي يستأثر عليكم ويفضل عليكم غيركم بغير حق، فالمعنى لا تحسبوا إعطائي قريشاً دونكم أثرة، وتفضيلاً لغيركم عليكم فوجودي معكم يعدلها ويزيد، إنما الأثرة الحقيقية، والاستئثار بالأمور دونكم ستلقونها بعد وفاتي، وأوصيكم بالصبر وعدم المقاتلة، حتى تلقوني، وستجدون عوض ما فقدتم. والأثرة فيها لغتان. ضم الهمزة وإسكان الثاء، وفتح الهمزة والثاء، وهي أصح وأشهر. (قال أنس: فلم نصبر) فقد نافسوا على السلطة وحاولوا، وحاربوا. (لما كان يوم حنين) "كان" تامة، و"يوم" فاعل. أي يوم غزوة حنين. وقد مر قريباً مكانها وزمانها، وما وقع فيها. (أقبلت هوازن وغطفان وغيرهم بذراريهم ونعمهم) في الرواية العاشرة "جاء المشركون بأحسن صفوف، رأيت، قال: فصفت الخيل، ثم صفت المقاتلة [المشاة] ثم صفت النساء من وراء ذلك، ثم صفت الغنم، ثم صفت النعم". وإنما فعلوا ذلك ليستميتوا في القتال. (ومع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ عشرة آلاف) وهم الذين فتح بهم مكة. (ومعه الطلقاء) جمع طليق، وهم من حصل لهم المن عليهم يوم فتح مكة من قريش وأتباعهم، فكانوا ألفين، فكان جيش المسلمين يوم حنين اثنى عشر ألفاً. فقول الراوي في الرواية العاشرة: "ونحن بشر كثير، قد بلغنا ستة آلاف". وهم من الراوي عن أنس، كما قال القاضي عياض. (فأدبروا عنه حتى بقي وحده) ضمير "فأدبروا" للعشرة آلاف والطلقاء. وقوله: "حتى بقي وحده". قصد به المبالغة، فإن المائة بجوار الاثنى عشر ألفاً في حكم العدم، وقيل: المراد بقي وحده متقدماً مقبلاً على العدو، والذين ثبتوا معه كانوا وراءه، أو الوحدة بالنسبة لمباشرة القتال، فقد روى الترمذي بإسناد حسن عن ابن عمر قال: لقد رأيتنا يوم حنين وإن الناس لمولين، وما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة رجل". قال الحافظ ابن حجر: وهذا أكثر ما وقفت عليه من عدد من ثبت يوم حنين، وروى أحمد عن ابن مسعود قال: "كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فولى عنه الناس، وثبت معه ثمانون رجلاً من المهاجرين والأنصار، فكنا على أقدامنا ولم نولهم الدبر" وذكر النووي في "شرح مسلم" أنه ثبت معه اثنا عشر رجلاً. (فنادى يومئذ نداءين، لم يخلط بينهما شيئاً) أي لم يفصل بينهما بشيء فسرهما فيما بعد بقوله: "التفت عن يمينه، فقال: يا معشر الأنصار .. ثم التفت عن يساره، فقال: يا معشر الأنصار". وفي الرواية العاشرة "فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا للمهاجرين. يا للمهاجرين. ثم قال: يا للأنصار. يا للأنصار". فمراد أنس بالنداءين في الرواية التاسعة النداءان الخاصان بالأنصار. وهذا لا يمنع أن يكون قد نادى غيرهما، أو أمر غيره أن ينادي، ففي الصحيح من حديث العباس "أن النبي

صلى الله عليه وسلم حينئذ صار يركض بغلته إلى جهة الكفار، وقال: أي عباس. ناد أصحاب الشجرة، وكان العباس صيتاً. قال: فناديت بأعلى صوتي: أين أصحاب الشجرة؟ قال: فوالله لكأني عظمتهم حين سمعوا صوتي عظمة البقر على أولادها، فقالوا: يا لبيك". وفي رواية "فجعل الرجل يعطف بعيره فلا يقدر، فيقذف درعه، ثم يأخذ بسيفه ودرقته، ثم يؤم الصوت". (وهو على بغلة بيضاء فنزل) عن البغلة، واستنصر، فقال: اللهم أنزل نصرك. (فانهزم المشركون) معطوف على محذوف، أي فعاد المسلمون، فقاتلوا قتالاً شديداً. (فقسم في المهاجرين والطلقاء) المفعول محذوف، أي فقسم الغنائم. (فبلغه ذلك) قيل: الذي بلغه سعد بن عبادة، كما في بعض الروايات. (وعلى مجنبة خيلنا خالد بن الوليد) "مجنبة" بضم الميم وفتح الجيم وكسر النون، هي الكتيبة من الخيل تأخذ جانب الطريق، وهما مجنبتان ميمنة وميسرة بجانبي الطريق، والقلب بينهما. (فجعلت خيلنا تلوي خلف ظهورنا) قال النووي: هكذا هو في أكثر النسخ، وفي بعضها "تلوذ". اهـ أي تتجه إلى الخلف فراراً من النبل. (يال المهاجرين ... يال الأنصار) قال النووي: هكذا في جميع النسخ في المواضع الأربعة "يال" بلام مفصولة مفتوحة، والمعروف وصلها بلام التعريف بعدها. (هذا حديث عمية) قال النووي: هذه اللفظة ضبطوها في صحيح مسلم على أوجه. أحدها: "عمية" بكسر العين وتشديد الميم المكسورة والياء المشددة. قال القاضي: كذا روينا هذا الحرف عن عامة شيوخنا، قال: وفسر بالشديد [أي هذا حديث شديد]. والثاني: "عمية" كالسابق إلا أنه بضم العين. والثالث: "عمية" بفتح العين وكسر الميم المشددة وتخفيف الياء، وبعدها هاء السكت، أي حدثني به عمي، وقال القاضي: على هذا الوجه معناه عند جماعتي، أي هذا حديثهم. قال صاحب "العين": العم الجماعة. والوجه الرابع كذلك إلا أنه بتشديد الياء، وفسره الحميدي بعمومتي أي هذا حديث فضل أعمامي، أو هذا الحديث الذي حدثني به أعمامي، كأنه حدث بأول الحديث عن مشاهدة، ثم لعله لم يضبط هذا الموضع، لتفرق الناس، فحدثه به من شهده من أعمامه، أو جماعته الذين شهدوه، ولهذا قال بعده. قال: قلنا: لبيك يا رسول الله. والله أعلم. (فقبضنا ذلك المال) أي جمعنا هذه الغنائم، فحبست في الجعرانة، حتى حاصروا الطائف. (ثم رجعنا إلى مكة) الرجوع كان إلى الجعرانة القريبة من مكة، إذ بينها وبين مكة ثمانية عشر ميلاً. وهي بكسر الجيم وكسر العين وتشديد الراء، وقد تسكن العين. وفيها قسمت غنائم هوازن.

(أتجعل نهبي ونهب العبيد) "العبيد اسم فرسه، أي أتجعل غنيمتي وغنيمة فرسي .... ". (فما كان بدر ولا حابس يفوقان مرداس في المجمع) يقصد من "بدر" عيينة بن حصن، نسبة إلى "بدر" جد أبيه، كما جاء في الرواية السادسة عشرة، ويقصد من "حابس" الأقرع بن حابس الحنظلي. قال النووي: هكذا هو في جميع الروايات "مرداس" غير مصروف، وهو حجة لمن جوز ترك الصرف بعلة واحدة، وأجاب الجمهور بأنه في ضرورة الشعر. (عن عبد الله) أي ابن مسعود. (فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان كالصرف) بكسر الصاد، وهو صبغ أحمر يصبغ به الجلود. قال ابن دريد: وقد سمي الدم أيضاً صرفاً. وفي الرواية الرابعة عشرة "فغضب من ذلك غضباً شديداً، واحمر وجهه حتى تمنيت أني لم أذكره له". (فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله) ذكر لفظ الجلالة هنا للإشارة إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله، والأصل إذا لم يعدل رسول الله والاستفهام إنكاري بمعنى النفي، والمعنى لا أحد يعدل إذا لم يعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم. (يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر) قال ذلك عملاً بقوله تعالى: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} [الأنعام: 90] فالمراد سأصبر على الأذى، كما صبر أولوا العزم من الرسل. (قال: قلت: لا جرم. لا أرفع إليه بعدها حديثاً) أي حقاً والتزاماً أن لا أرفع إليه حديثاً أسمعه بعد هذه الحادثة، لئلا أغضبه، كما أغضبته، وفي الرواية التالية "حتى تمنيت أني لم أذكره له". (فقال: يا محمد. اعدل) وفي رواية "اتق الله يا محمد". وفي رواية "يا محمد. والله لئن كان الله أمرك أن تعدل ما أراك تعدل". وفي رواية "ما أراك عدلت في القسمة". (ويلك) أي هلاكاً لك بسبب قولتك، وفي رواية "ويحك". (لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل) قال النووي: روي بفتح التاء في "خبت وخسرت" وبضمها فيهما، ومعنى الضم ظاهر، وتقدير الفتح: خبت أنت أيها التابع إذا كنت لا أعدل، لكونك تابعاً ومقتدياً بمن لا يعدل. (إن هذا وأصحابه يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم) الحناجر جمع حنجرة، وهي الحلقوم والبلعوم، وكله يطلق على مجرى النفس، وهو طرف المرئ مما يلي الفم، وفي الرواية السابعة عشرة "قوم يتلون كتاب الله رطباً؛ لا يجاوز حناجرهم". وفي الرواية الثامنة عشرة "فيقرءون القرآن لا يجاوز حلوقهم أو حناجرهم". وفي الرواية التاسعة عشرة

"يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم". والتراقي جمع ترقوة بفتح التاء وسكون الراء وضم القاف وفتح الواو، وهي العظم الذي بين فقرة النحر والعاتق. والمعنى: أن قراءتهم لا يرفعها الله ولا يقبلها. وقيل: لا يعلمون بالقرآن فلا يثابون على قراءته، فلا يحصل لهم إلا سرده، ويؤيد هذا المعنى لفظ الرواية السابعة والعشرين: "يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم". وقال النووي: المراد أنهم ليس لهم حظ إلا مروره على لسانهم، لا يصل إلى حلوقهم، فضلاً عن أن يصل إلى قلوبهم، لأن المطلوب تعقله وتدبره بوقوعه في القلب. قال الحافظ ابن حجر: وهو مثل قوله فيهم أيضاً: "لا يجاوز إيمانهم حناجرهم" أي ينطقون بالشهادتين ولا يعرفونها بقلوبهم. وفي معنى قراءتهم للقرآن رطباً -أو ليناً رطباً الواردة في الرواية السابعة عشرة- أنهم من الحذق في التلاوة إلى درجة الإتيان به على أحسن أحواله. وقيل: المراد أنهم يواظبون على تلاوته، فلا تزال ألسنتهم رطبة به. وقيل: هو كناية عن حسن الصوت به. حكاها القرطبي. قال الحافظ ابن حجر: ويرجح الأول رواية "يقرءون القرآن كأحسن ما يقرؤه الناس" ويؤيد الثاني رواية "قوم أشداء أحداء ذلقة ألسنتهم بالقرآن". قال النووي: هكذا هو في أكثر النسخ "لينا" بالنون، أي سهلاً، وفي كثير من النسخ "ليا" بحذف النون، ومعناه سهلاً، لكثرة حفظهم، وقيل: "ليا" أي يلوون ألسنتهم به، أي يحرفون معانيه وتأويله، وقد يكون من اللي في الشهادة وهو الميل. اهـ. (يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية) وفي الرواية السادسة عشرة "يمرقون من الإسلام، كما يمرق السهم من الرمية". وفي الرواية السابعة عشرة "يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية". وفي الرواية الثامنة عشرة "يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية". و"الرمية" هي الصيد المرمي، فعيلة بمعنى مفعوله، وهي "الغرض" الوارد في الرواية المتممة للعشرين، والدين هنا هو الإسلام، وقيل: المراد به طاعة الإمام، والمعنى كما قال القاضي يخرجون منه خروج السهم إذا نفذ في الصيد إلى الجهة الأخرى. اهـ. وفي الرواية التاسعة والعشرين "يخرجون من الدين، كما يخرج السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه". ووجه الشبه سرعة الدخول والخروج، دون الاستقرار، ودون أن يعلق بالسهم شيء من الصيد، يصور هذا المعنى قوله في الرواية الثامنة عشرة: (فينظر الرامي إلى سهمه. إلى فصله، إلى رصافه، فيتمارى في الفوقة. هل علق بها من الدم شيء؟ ) وفي الرواية التاسعة عشرة "ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه

شيء، ثم ينظر إلى رصافه، فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه، فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلا قذذه فلا يوجد فيه شيء، سبق الفرث والدم"، وفي الرواية العشرين "فينظر إلى النصل فلا يرى بصيرة [البصيرة القليل من الدم، يستدل به على إصابة الرمية] وينظر في النضي فلا يرى بصيرة، وينظر في الفوق، فلا يرى بصيرة". ونصل السهم حديدته المدببة في طرفه. ورصاف السهم بكسر الراء مدخل النصل أو عقبة تشد على مدخل النصل. ونضي السهم بفتح النون وكسر الضاد وتشديد الياء، وهو القدح. وقدح السهم عود من خشب يسوى فيدخل فيه الريش من جهة، والنصل من جهة أخرى. وقذذ السهم بضم القاف وتشديد الذال، وهي ريش السهم. وفوق السهم بضم الفاء موضع الوتر منه، يقال: فاق السهم إذا وضع فوقه في الوتر. والمعنى أنه ينظر إلى سهمه جملة، ثم تفصيلاً، لينظر: هل أصاب سهمه الرمية أو لم يصبها؟ فلا يرى أثراً للإصابة، فكأنه لم يصب، وإن أصاب، كذلك هؤلاء لم يتعلقوا بشيء من الإسلام. وفي رواية الطبري "لا يتعلقون من الدين في شيء كما لا يتعلق بذلك السهم" وإلى ذلك أشار بقوله في الرواية التاسعة عشرة. (سبق الفرث والدم) أي سبق السهم الدم وما في الكرش لسرعته، فجاوزهما ولم يتعلق فيه شيء منهما، بل خرجا بعده. (بعث علي رضي الله عنه وهو باليمن بذهبة في تربتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي مختلطة بترابها، لم تميز بعد، وفي الرواية السابعة عشرة "بذهبة في أديم مقروظ" [أي جلد مدبوغ بالقرظ] "لم تحصل من ترابها" أي لم تخلص من ترابها. قال النووي: هكذا هو في جميع نسخ بلادنا "بذهبة". وفي رواية ابن ماهان "بذهيبة" على التصغير. (وزيد الخير الطائي) قال النووي: كذا هو في جميع النسخ "الخير" بالراء، وفي الرواية التي بعدها "زيد الخيل" باللام، وكلاهما صحيح، كان يقال له في الجاهلية "زيد الخيل" فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم "زيد الخير". اهـ. (أتعطي صناديد نجد وتدعنا؟ ) أي سادات نجد، واحدها صنديد، بكسر الصاد. (فجاء رجل كث اللحية، مشرف الوجنتين، غائر العينين، ناتئ الجبين، محلوق الرأس) في الرواية السابعة عشرة "فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث

اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار". وفي ملحق الرواية "ناتئ الجبهة"، وفي الرواية التاسعة عشرة "أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بني تميم". أما "كث اللحية" بفتح الكاف وتشديد الثاء فهو كثيرها وكثيفها، "ومشرف الوجنتين" أي مرتفع الخدين بارزهما، و"غائر العينين" غير مستوي العينين ولا بارزهما، بل هما داخلتان بشكل ظاهر، و"ناتئ الجبهة" و"ناتئ الجبين" و"ناشز الجبهة" فهي قريبة، لأن الجبين جانب الجبهة. ولكل إنسان جبينان، يكتنفان الجبهة، والنتوء والنشوز هو البروز. أما "ذو الخويصرة" ففي رواية البخاري "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم جاءه عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي". قال الحافظ ابن حجر: قيل: هو حرقوص بن زهير، أصل الخوارج. وقد اعتمد على ذلك ابن الأثير في الصحابة، وقد جاء أن حرقوصاً اسم "ذي الثدية" الآتي ذكره، وليس كذلك. وقد ذكر الطبري حرقوص بن زهير في الصحابة؛ وذكر أنه كان له في فتوح العراق أثر، وأنه الذي فتح سوق الأهواز، ثم كان مع علي في حروبه، ثم صار مع الخوارج، فقتل معهم. وقال الحافظ ابن حجر في موضع آخر: القصة التي في حديث جابر [روايتنا الخامسة عشرة] صرح في حديثه بأنها كانت منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من الجعرانة، وكان ذلك في ذي القعدة سنة ثمان، وكان الذي قسمه النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ فضة، كانت في ثوب بلال، وكان يعطي منها كل من جاء، والقصة التي في حديث أبي سعيد صرح فيها بأنها كانت بعد بعث علي إلى اليمن، وكان ذلك في سنة تسع، وكان المقسوم فيها ذهباً، وخص به أربعة أنفس. فهما قصتان في وقتين، اتفق في كل منهما إنكار القائل. وصرح في حديث أبي سعيد [روايتنا التاسعة عشرة] أنه ذو الخويصرة التميمي، ولم يسم القائل في حديث جابر، ووهم من سماه ذو الخويصرة ظاناً اتحاد القصتين، لكن أخرج أحمد والطبري: "أتى ذو الخويصرة التميمي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم الغنائم بحنين، فقال: يا محمد .... " فذكر الحديث، فيمكن أن يكون تكرر ذلك منه في الموضعين، عند قسمة غنائم حنين، وعند قسمة الذهب الذي بعثه علي. اهـ. (فمن يطع الله إن عصيته؟ ) الاستفهام إنكاري بمعنى النفي، وقد سبق في الرواية الخامسة عشرة "ومن يعدل إذا لم أكن أعدل"؟ وفي رواية "العدل إذا لم يكن عندي فعند من يكون"؟ وفي رواية "عند من يلتمس العدل بعدي"؟ وفي رواية "والله لا ترون بعدي رجلاً هو أعدل عليكم مني". (أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني؟ ) في الرواية الرابعة عشرة "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟ يأتيني خبر السماء صباحاً ومساء"؟ . (ثم أدبر الرجل) في الرواية السابعة عشرة "ثم ولى الرجل". (فاستأذن رجل من القوم في قتله، يرون أنه خالد بن الوليد) "يرون" بضم الياء،

والمفعول محذوف، والتقدير: يرونه، أي يظنونه خالد بن الوليد، وفي الرواية السابعة عشرة جزم بأنه خالد بن الوليد، وفي الرواية التاسعة عشرة أن قائل ذلك عمر بن الخطاب. قال الحافظ ابن حجر في وجه الجمع بينهما: أن كلاً منها سأل، واستدل برواية مسلم من طريق جرير عن عمارة بن القعقاع، فقام عمر بن الخطاب، فقال: يا رسول الله. ألا أضرب عنقه؟ قال: لا. ثم أدبر، فقام خالد بن الوليد سيف الله، فقال: يا رسول الله. أضرب عنقه؟ قال: لا". قال الحافظ: فهذا نص في أن كلاً منهما سأل، وهذا في حديث أبي سعيد وقسمة الذهب، أما حديث جابر [روايتنا الخامسة عشرة] فإنه في قصة قسم وقع بالجعرانة من غنائم حنين، والسائل في قتله عمر بن الخطاب، جزماً ثم قال: وقد استشكل سؤال خالد بن الوليد في ذلك، لأن بعث علي إلى اليمن كان عقب بعث خالد بن الوليد إليها، والذهب المقسوم أرسله علي من اليمن، ويجاب بأن علياً لما وصل إلى اليمن رجع خالد منها إلى المدينة، فأرسل على الذهب، فحضر خالد قسمته. اهـ. (ثم نظر إليه وهو مقف) أي مدبر. قد أعطانا قفاه. (فقال: إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم) في الرواية السادسة عشرة "إن من ضئضئ هذا قوماً" وضئضئ الشيء -بكسر الضادين- أصله، قال النووي: وهكذا هو في جميع نسخ بلادنا، وحكى القاضي عن بعضهم أنه ضبطه بالضادين والصادين جميعاً، وهذا صحيح في اللغة، قالوا: ولأصل الشيء أسماء كثيرة منها: الضئضئ بالضادين والصادين، والنجار بكسر النون، النحاس والسنخ بكسر السين وسكون النون، والعنصر، والغنض، والأرومة. اهـ. فالمعنى أن من ذرية هذا قوم، لكن في الرواية الخامسة عشرة" إن هذا وأصحابه ... " ولا تعارض، فهو وأصحابه بصفة سيئة، يخرج من أصلابهم ذرية بالصفة السيئة نفسها أيضاً. وفي الرواية السادسة عشرة "يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان" أي يقاتلون المسلمين الحقيقيين ويقتلون منهم، ولا يقاتلون المشركين. (لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد: ) في الرواية السابعة عشرة "قتل ثمود". والمراد قتل استئصال، لا أبقي منهم أحداً. لا يقال: إذا كان هذا الرجل منهم فقد أدركهم صلى الله عليه وسلم، فما معنى "لئن أدركتهم لأقتلنهم"؟ فإن المراد لئن أدركتهم مقاتلين أهل الإسلام لقاتلتهم وقتلتهم، أو المعنى لئن أدركت ذريته لأقتلنهم. (سألاه عن الحرورية هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرها؟ قال: لا أدري من الحرورية؟ ولكن سمعت ..... ) إلخ. الحرورية جماعة من الخوارج، تأتي قصتهم في فقه الحديث، نزلوا مكاناً يقال له: حروراء، بفتح الحاء وضم الراء الأولى، فنسبوا إليه، وهو قرية بالعراق، قريبة من الكوفة. قال الحافظ ابن حجر: قوله "لا أدري من الحرورية" يغاير قوله في حديث الباب [روايتنا

التاسعة عشرة] "وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه" فإن مقتضى الأول أنه لا يدري هل ورد الحديث الذي ساقه في الحرورية؟ أو لا ويقتضي الثاني أنه ورد فيهم، ويمكن الجمع بأن مراده بالنفي هنا أنه لم يحفظ فيهم نصاً بلفظ الحرورية، وإنما سمع قصتهم التي دل وجود علامتهم في الحرورية بأنهم هم. اهـ. (يخرج في هذه الأمة -ولم يقل منها- قوم) لفظة "من" تقتضي كونهم من الأمة، وليسوا كفاراً، بخلاف لفظة "في" فيؤكد أبو سعيد أنه سمع لفظ "في" ولم يسمع لفظ "من" ليحكم عليهم بالكفر. لكن جاء من رواية علي [روايتنا السابعة والعشرين] "يخرج قوم من أمتي ... " قال النووي: والخلاف في تكفيرهم واقع، والصحيح عدم تكفيرهم. اهـ. وجمع الحافظ ابن حجر بأن المراد بالأمة في حديث أبي سعيد أمة الإجابة، وفي رواية غيره أمة الدعوة. اهـ. والتحقيق أنه لا يستدل بلفظة "في" على تكفيرهم، ولا بلفظة "من" على عدم تكفيرهم فهم من الأمة قبل خروجهم بلا نزاع عملاً بالحكم الظاهر. وأما الخلاف فبعد خروجهم، وبعد أن اعتقدوا ما اعتقدوا. (قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم) "تحقرون" بفتح التاء، أي تستقلون صلاتكم إذا قارنتموها بصلاتهم، وفي الرواية التاسعة عشرة "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم" وفي الرواية السابعة والعشرين "ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء" وفي بعض الروايات "تحقرون أعمالكم مع أعمالهم" وفي بعضها "يصومون النهار ويقومون الليل ويأخذون الصدقات على السنة" وفي بعضها "يتعبدون يدأبون ويعملون حتى يعجبوا الناس، وتعجبهم أنفسهم" وفي بعضها "يتعمقون في الدين" وفي حديث ابن عباس "فأتيتهم، فدخلت على قوم لم أر أشد منهم اجتهاداً، أيديهم كأنها ثفن الإبل - يابسة من العمل وثفن الإبل ركبها وما يلاقي منها الأرض عند ركوبها، فتغلظ وتخشن- وجوههم معلمة من أثر السجود" وفي الرواية الخامسة والعشرين "يقولون من خير قول البرية" وفي معناه قيل: إنه مقلوب، والمراد من قول خير البرية، وهو القرآن، وقيل: هو على ظاهره، والمراد القول الحسن في الظاهر دون الباطن، ففي رواية الطبراني "يحسنون القول ويسيئون الفعل". فهذه الصفات في مجموعها تفيد أنهم كانوا يجتهدون في العبادة، ويكثرون من القراءة والتلاوة، ويظهرون بمظاهر الزهد والخشوع ويبالغون في ذلك لدرجة التنطع والتزمت والاستبداد في الرأي، وتأويل النصوص على غير المراد منها. (آيتهم رجل أسود، إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، أو مثل البضعة تتدردر) في الرواية السادسة والعشرين "فيهم رجل مخدج اليد، أو مودن اليد، أو مثدون اليد" وفي الرواية السابعة

والعشرين "وآية ذلك أن منهم رجلاً له عضد، وليس له ذراع، على رأس عضده مثل حلمة الثدي، عليه شعرات بيض" وفي الرواية الثامنة والعشرين "منهم أسود، إحدى يديه طبي شاة، أو حلمة ثدي". عضد الإنسان: ما بين المرفق إلى الكتف، وذراع الإنسان من طرف المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى. وحلمة الثدي: ما برز من رأس الثدي، ومنها يخرج اللبن. وطبي الشاة بضم الطاء وسكون الباء حلمة ثديها. ومجدع اليد: كما جاء في بعض الروايات -مقطوعها، ومخدج اليد ناقصها نقصاً خلقياً، يقال: خدج خداجاً نقص. ومودن اليد: قصيرها وناقصها، يقال: ولد مودن أي ناقص الخلقة. ومثدون اليد: ناقصها خلقياً. الهلبات: الشعرات الغلاظ الصلبة كشعر الذنب. البضعة تدردر: البضعة بضم الباء قطعة اللحم، و"تدردر" أصلها تتدردر، أي تتحرك، وتضطرب، وتهتز، وتذهب وتجيء. فالحديث يصف إحدى يدي الرجل الأسود بأن لها عضد، وليس لها ذراع، فهي تنتهي بالمرفقين، فهي يد ناقصة، قصيرة، وعضد هذه اليد منتفخة مثل ثدي المرأة، أو مثل قطعة اللحم التي تتحرك وتهتز وتذهب وتجيء بحركة صاحبها، كما يهتز ويتحرك ثدي المرأة بحركتها، ويعلو هذه العضد قطعة بارزة مثل حلمة الثدي، حول هذا البروز أو فيه شعرات بيض، أو سبع شعرات بيض غلاظ صلبة خشنة كشعر ذنب الخيل. هذه الأوصاف علامة للرجل، ووجود هذا الرجل في فئة محاربة علامة على أنها الفئة الضالة المارقة عن الدين. (يخرجون على حين فرقة من الناس) قال النووي: ضبطوه في الصحيح بوجهين، أحدهما "على حين" بحاء مكسورة ونون، "وفرقة" بضم الفاء أي في وقت افتراق الناس، أي افتراق يقع بين المسلمين، وهو الافتراق الذي كان بين علي ومعاوية، رضي الله عنهما، والثاني "يخرجون على خير فرقة" بالخاء والراء، و"فرقة بكسر الفاء" أي أفضل الفرقتين والأول أشهر وأكثر، ويؤيده الرواية التي بعد هذه "يخرجون في فرقة من الناس" فإنه بضم الفاء بلا خلاف، ومعناه ظاهر. وقال القاضي: على رواية الخاء المراد خير القرون، وهم الصدر الأول، قال: أو يكون المراد علياً وأصحابه، فعليه يكون خروجهم حقيقة، لأنه كان الإمام حينئذ. اهـ. وفي الرواية الحادية والعشرين "تمرق مارقة عند فرقة المسلمين" وفي الرواية الثانية والعشرين

"تكون في أمتي فرقتان، فتخرج من بينهما مارقة" وفي الرواية الرابعة والعشرين "يخرجون على فرقة مختلفة" فهذه الروايات تفيد أن هذه الطائفة ستقاتل المسلمين في وقت يكونون فيه مختلفين متفرقين، لكن استشكل على الرواية الخامسة والعشرين قولها: (سيخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام) حيث أن خروج الحرورية وقتلهم على يد علي رضي الله عنه كان بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بثمان وعشرين سنة، فالتعبير عن هذا التاريخ بأنه آخر الزمان مشكل. وأجاب ابن التين بأن المراد آخر زمان الصحابة. ورد الحافظ ابن حجر بأن آخر زمان الصحابة على رأس المائة، وهم قد خرجوا قبل ذلك بأكثر من ستين سنة. ثم قال: ويمكن الجمع بأن المراد بآخر الزمان زمان خلافة النبوة، فإن في السنن وصحيح ابن حبان وغيره مرفوعاً: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تصير ملكاً". وقصة الخوارج وقتلهم بالنهروان في أواخر خلافة علي، قبل الثلاثين بنحو السنتين. اهـ. وعندي أن بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم تعتبر في آخر الزمان، باعتباره خاتم الأنبياء، فالتعبير بآخر الزمان معناه في هذا الآخر من الزمان. والله أعلم. و"أحداث الأسنان" جمع حدث بفتح الحاء والدال، وهو صغير السن وفي بعض الروايات "حداث الأسنان" بغير همزة وضم الحاء، وتشديد الدال، ومعناه شباب جمع حديث السن، وفي بعض الروايات "حدثاء" بوزن سفهاء، وهو جمع حديث، والأسنان جمع سن، والمراد به العمر، والمراد أنهم شباب، ومعنى "سفهاء الأحلام" ضعاف العقول، جمع حلم بكسر الحاء، والمراد به العقل. (إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأن أخر من السماء أحب إلي من أن أقول عليه ما لم يقل) "أخر" بكسر الخاء" أي أسقط، زاد في رواية "أخر من السماء إلى الأرض" والمراد أنه إذا حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يكنى ولا يوارى، وإذا لم يحدث عنه كنى أو عرض أو ورى، ليخدع بذلك من يحاربه، واستدل بقوله: "الحرب خدعة" وهو حديث مرفوع، و"خدعة" بضم الخاء، وسكون الدال وفتحها، وفتح الخاء وسكون الدال. (فإذا لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة) كذا في الرواية الخامسة والعشرين، وفي الرواية السادسة والعشرين "لولا أن تبطروا لحدثتكم بما وعد الله الذين يقتلونهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم" ومعنى "لولا أن تبطروا" بفتح التاء وسكون الباء وفتح الطاء، أي لولا خشية أن تنكروا الخبر ولا تقبلوه لعظمه لأخبرتكم، أو المعنى لولا أن تغالوا في المرح والزهو لأخبرتكم. وفي الرواية السابعة والعشرين "لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضي لهم على لسان نبيهم صلى الله عليه وسلم [أي من الأجر] لاتكلوا عن العمل" أي لاتكلوا على هذا الأجر ولم يعملوا، وفي هذا حث على قتالهم ووعد بالثواب العظيم.

(فتذهبون إلى معاوية وأهل الشام وتتركون هؤلاء يخلفونكم في ذراريكم وأموالكم؟ ) كلام علي رضي الله عنه لجيشه على طريق الاستفهام الإنكاري التوبيخي، أي لا ينبغي ولا يصح أن يحصل ذلك، يقصد المبادرة بقتالهم قبل قتال معاوية وأهل الشام. (والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم) أي أن يكون الموصوفون في الحديث هؤلاء الحروريين. (فإنهم سفكوا الدم الحرام، وأغاروا في سرح الناس) أي وخاضوا في أعراض الناس، أما سفكهم الدم الحرام فقد ذكر الحافظ ابن حجر حديثاً صحيحاً عن حميد بن هلال أنهم قتلوا عبد الله بن خباب ذبحوه، وبقروا بطن جاريته وهي حبلى، بدون ذنب، وكان والياً لعلي على بعض تلك البلاد، فأرسل إليهم علي: أفيدونا بقاتل عبد الله بن خباب، فقالوا: كلنا قتله. فأرسل إليهم رسله يناشدهم أن يفيئوا، فقتلوا رسوله، فلما رأى ذلك نهض إليهم. (إي ورب الكعبة) "إي" بكسر الهمزة، حرف جواب بمعنى. نعم. وكرر القسم ثلاثاً لتأكيد الخبر. (فنزلني زيد بن وهب منزلاً، حتى قال: مررنا على قنطرة) قال النووي: هكذا هو في معظم النسخ "منزلاً" مرة واحدة، وفي نادر منها "منزلاً. منزلاً" مرتين أي حكى لي مراحل حركة جيش علي مكاناً مكاناً ومرحلة مرحلة، حتى قال: وصلنا قنطرة، وهي قنطرة الديرجان، كما جاء في سنن النسائي وهناك خطبهم علي رضي الله عنه. (وعلى الخوارج يومئذ عبد الله بن وهب الراسبي) أي وقائدهم. و"الخوارج" جمع خارجة، أي طائفة خارجة، قيل: سموا بالخوارج لخروجهم عن الدين، أو خروجهم عن خيار المسلمين. (فقال لهم: ألقوا الرماح، وسلوا السيوف من جفونها) أي قال لهم قائدهم ذلك، لتبدأ المعركة بالوطيس الحامي، بالسيوف، لا بالرماح، فألقوا رماحهم بعيداً، وأخرجوا السيوف من أغمادها. (فإني أخاف أن يناشدوكم كما ناشدوكم يوم حروراء) أي فإني أخاف أن يذكروكم الله والرحم ويستعطفوكم فيخدعوكم، فتتركوا قتالهم، وتتراجعوا كما حدث يوم حروراء، ويوم حروراء الذي يشير إليه -وكان يقودهم عبد الله بن الكواء اليشكري- أرسل إليهم علي عبد الله بن عباس، فناظرهم، فرجع كثير معه، ثم خرج إليهم علي، فناوشهم، وناقشهم، فأطاعوه، ودخلوا معه الكوفة. وسيأتي تفصيل القصة في فقه الحديث. (فوحشوا برماحهم) أي ألقوا بها بعيداً عنهم، يقال: وحش فلان بثوبه أو سلاحه. بفتح الواو وتشديد الحاء وتخفيفها، إذا رمى به.

(وشجرهم الناس برماحهم) المراد من "الناس" المسلمون جيش علي رضي الله عنه، أي طاعنهم المسلمون برماحهم، ومدوها إليهم، وكان هذا السلاح سبباً في الغلبة، حيث يقتل الرمح قبل وصول السيف، يقال: شجره إذا نازعه، ومنه التشاجر في الخصومة. (وقتل بعضهم على بعض) أي قتلوا وتكدست القتلى طبقات، بعضهم فوق بعض لكثرتهم. (وما أصيب من الناس يومئذ إلا رجلان) أي قتل الخوارج وكانوا بضعة آلاف، ولم يقتل من أصحاب علي سوى رجلين، قيل: لم ينج منهم عشرة، ولم يصب من جيش علي رضي الله عنه عشرة. (فقال علي رضي الله عنه التمسوا فيهم المخدج) أي ناقص اليد، وفي بعض الروايات "المخرج" بالراء بدل الدال أي منزوع اليد، مفصول الذراع. (فالتمسوه فلم يجدوه فقام علي .... فوجده مما يلي الأرض) في الرواية التاسعة عشرة "فالتمس فوجد، فأتي به، حتى نظرت إليه على نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نعت" وفي الرواية الثامنة والعشرين "فلما قتلهم علي قال: انظروا [أي التمسوا المخدج] فنظروا فلم يجدوا شيئاً، فقال: ارجعوا .. ثم وجدوه في خربة، فأتوا به فوضعوه بين يديه" وفي رواية "فالتمسه علي فلم يجده، ثم وجده بعد ذلك تحت جدار علي هذا النعت" وفي رواية الطبري "فقال علي اطلبوا ذا الثدية، فطلبوه فلم يجدوه .... فطلبوه، فوجدوه في وهدة من الأرض، عليه ناس من القتلى"، ولا تنافي بين الروايات فمجموعها يفيد أن علياً رضي الله عنه طلب منهم أن يبحثوا عن المخدج في القتلى، فلم يجدوه في البحث السطحي الأول، فهو واحد بين أربعة أو ستة آلاف قتيل، تكدس بعضهم على بعض، ولثقة علي في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أصر على وجوده، وقام معهم بنفسه يبحث، وأخذوا يجولون طبقات القتلى وينظرون في الطبقات السفلى، فكان فوقه قتيلان في أرض منخفضة في خربة، في أحضان جدار، فجاءوا به يسحبونه إلى مقر القيادة ليراه الناس، فيثقوا أنهم على الحق، وأن من قتلوا كانوا على الباطل، ويزدادوا يقيناً بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمام هذه المعاينة كان أبو سعيد الخدري، الذي سمع أوصاف المخدج من لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يحلف ويقول: أشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه، وأتي به، ونظرت إليه على نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نعت. (كلمة حق أريد بها باطل) لا حكم إلا لله، وفي القرآن {إن الحكم إلا لله} [الأنعام: 57] كلمة حق، وكل حاكم بالحق فحكمه من الله ولله، فإذا أريد اتهام الحاكم بالانحراف قيل له: لا حكم إلا لله، يعرض ببطلان حكمه، وكانوا يكفرون علياً بقبوله التحكيم، كما سيأتي في فقه الحديث. (يتيه قوم قبل المشرق) يقال: تاه يتوه ويتيه إذا ضل، أي يذهبون عن الصواب، وعن طريق الحق.

-[فقه الحديث]- تتناول هذه الأحاديث موضوعين أساسيين: إعطاء المؤلفة قلوبهم، والتحريض على قتل الخوارج. ولأدنى مناسبة نظم الإمام مسلم أحاديث المؤلفة قلوبهم مع أحاديث الزكاة، ربما لأنها تشتمل على سؤال العطاء، أو الحرص عليه، وربما لأن للمؤلفة قلوبهم نصيباً من الزكاة يشبه نصيبهم من الفيء، فساق أحاديثهم في الفيء، ولم يصح عنده حديث لهم في الزكاة. ولضعف المناسبة وجدنا الإمام البخاري لا يذكر هذه الأحاديث في كتاب الزكاة، وإنما يذكرها في كتاب فرض الخمس، باب قسمة الإمام. أما الموضوع الثاني فيكاد يكون استطراداً عن الموضوع الأول، لأدنى ملابسة، وهي أن رأساً من رءوس الخوارج اعترض على قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم عطاء بين أربعة من المؤلفة قلوبهم. ولضعف هذه الملابسة وجدنا الإمام البخاري يذكر هذه الأحاديث في كتاب اشتباه المرتدين، باب قتال الخوارج والملحدين. وسنعتبر الأحاديث من رقم (1) إلى نهاية رقم (14) خاصة بالموضوع الأول، والأحاديث من رقم (15) إلى النهاية خاصة بالموضوع الثاني والله الموفق. إعطاء المؤلفة قلوبهم المسألة الأساسية في المجموعة الأولى من الأحاديث إعطاء المؤلفة قلوبهم، وهل كان يعطيهم صلى الله عليه وسلم من أصل الغنيمة؟ أو من الخمس؟ . والأحاديث الخمسة الأولى لا توهم العطاء من أصل الغنيمة، فلا إشكال بالنسبة لها، وإنما الإشكال في إعطائه صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم من غنائم هوازن. فقال القرطبي في "المفهم": الإجراء على أصول الشريعة أن العطاء المذكور كان من الخمس، ومنه كان أكثر عطاياه، وقد قال للأعرابي في هذه الغزوة: "ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس مردود فيكم"، أخرجه أبو داود والنسائي. والذي رجحه القرطبي جزم به الواقدي. ويذهب الطبري هذا المذهب فيقول: استدل بهذه الأحاديث من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطي من أصل الغنيمة لغير المقاتلين، قال: وهو مردود، بدليل القرآن والآثار الثابتة. ويميل القاضي عياض إلى هذا فيقول: ليس في هذه الأحاديث تصريح بأنه صلى الله عليه وسلم أعطاهم قبل إخراج الخمس، وأنه لم يحسب ما أعطاهم من الخمس، قال: والمعروف في باقي الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم إنما أعطاهم من الخمس، ففيه أن للإمام صرف الخمس، وتفضيل الناس فيه، على ما يراه، وأن يعطي الواحد منه الكثير، وأنه يصرفه في مصالح المسلمين، وله أن يعطي الغني منه لمصلحة. اهـ كذلك اختار أبو عبيد أنه كان من الخمس.

فهذا الفريق يرى أن إعطاء المؤلفة قلوبهم من غنائم هوازن كان من الخمس، ودليله تطبيق أصول الشريعة، وإجراء ما حصل على قواعدها، وتأويل أو توجيه ما يوهم غير ذلك مما ورد في أحاديثها. والجمهور على أن إعطاء المؤلفة قلوبهم من غنائم هوازن خاصة كان من أصل الغنيمة، لأن النصوص الثابتة في الأحاديث ظاهرة في هذا ومن الصعب تأويلها، وفي حملها على غير ظاهرها تمحل وتعسف. أولاً: لأن الأنصار يعلمون أن الخمس لله ورسوله، فلو أن الإعطاء كان من الخمس لما اعترضوا، ولما غضبوا هذه الغضبة التي وافقهم عليها رؤساؤهم. ثانياً: جمع الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، وخطابته فيهم، والاعتذار إليهم بما اعتذر، ولو أن الإعطاء كان من الخمس لذكرهم بحقه، ولم يكن هناك حاجة إلى الترضية والاعتذار. ثالثاً: قول الأنصار في الرواية الثامنة: "إن هذا لهو العجب. إن سيوفنا تقطر من دمائهم، وإن غنائمنا ترد عليهم". وقولهم في الرواية التاسعة: "إذا كانت الشدة فنحن ندعى لها، وتعطي الغنائم غيرنا". واضح وصريح في أنهم يعتبرون ما أعطى للمؤلفة غنائم لهم، وليس الخمس الذي هو من حق الرسول صلى الله عليه وسلم. رابعاً: أصرح من هذا ما جاء في الرواية التاسعة من قول أنس: "فانهزم المشركون، وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم كثيرة، فقسم في المهاجرين والطلقاء، ولم يعط الأنصار شيئاً". خامساً: لو أن الأنصار أخذوا من الغنيمة شيئاً لرجعوا بالشاة والبعير وما قيل لهم: "ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والإبل وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟ فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون". أمام هذه النصوص ذهب الجمهور إلى أن الإعطاء من الغنيمة خاص بهذه الواقعة لأحد أمرين: إما مراعاة لمصلحة أهم، وإما لسبب خاص في هذه الغنيمة، عن الأمر الثاني يقول الحافظ ابن حجر: وقيل: إنما كان تصرف في الغنيمة لأن الأنصار كانوا انهزموا، فلم يرجعوا حتى وقعت الهزيمة على الكفار، فرد الله أمر الغنيمة لنبيه صلى الله عليه وسلم. اهـ. والمحقق في سير المعركة يرى أن أساس النصر فيها كان ثبات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الكثرة لم تغن شيئاً، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، ثم ولوا مدبرين، فأساس النصر ما أشار إليه القرآن الكريم بقوله: {ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين} [التوبة: 26] فكانت الغنائم حقاً لله ورسوله، وإذا كان لم يستخدم هذا الحق في الانتصارات السابقة التي تدخلت فيها الملائكة فلا يلزم ألا يستخدمه هنا لمصلحة أهم. وعن الأمر الثاني يطنب ابن القيم، فيقول: اقتضت حكمة الله أن فتح مكة كان سبباً لدخول كثير من قبائل العرب في الإسلام، وكانوا يقولون: دعوه وقومه، فإن غلبهم دخلنا في

دينه، وإن غلبوه كفونا أمره. فلما فتح الله عليه استمر بعضهم في ضلاله، فجمعوا له، وتأهبوا لحربه، وكان من الحكمة في ذلك أن يظهر أن النصر لله ورسوله، لا بكثرة من دخل في دينه من القبائل ولا بانكفاف قومه عن قتاله. ثم لما قدر الله عليه من غلبته إياهم قدر وقوع هزيمة المسلمين مع كثرة عددهم وقوة عدتهم، ليتبين لهم أن النصر الحق إنما هو من عنده، لا بقوتهم، ولو قدر أن يغلبوا الكفار ابتداء لرجع من رجع منهم شامخ الرأس متعاظماً فقدر هزيمتهم، ثم أعقبهم النصر، ليدخلوا مكة كما دخلها النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح متواضعاً متخشعاً، واقتضت حكمته أيضاً أن غنائم الكفار لما حصلت ثم قسمت على من لم يتمكن الإيمان من قلبه لما بقي فيه من الطبع البشري في محبة المال، فقسمه فيهم لتطمئن قلوبهم، وتجتمع على محبته، لأنها جبلت على حب من أحن إليها، ومنع أهل الجهاد من أكابر المهاجرين ورؤساء الأنصار مع ظهور استحقاقهم لجميعها، لأنه لو قسم ذلك فيهم لكان مقصوراً عليهم، بخلاف قسمته على المؤلفة، لأن فيه استجلاب قلوب أتباعهم الذين كانوا يرضون إذا رضي رئيسهم، فلما كان ذلك العطاء سبباً لدخولهم في الإسلام وسبباً لتقوية قلب من دخل فيه، كان في ذلك عظيم المصلحة. ولذلك لم يقسم فيهم من أموال أهل مكة عند فتحها قليلاً ولا كثيراً مع احتياج الجيوش إلى المال الذي يعينهم على ما هم فيه، فحرك الله قلوب المشركين لغزوهم، فرأى رئيسهم أن يخرجوا معهم أموالهم ونساءهم، فكان ذلك سبباً لتصير غنيمة للمسلمين. ثم اقتضت تلك الحكمة أن تقسم الغنائم في المؤلفة، ويوكل من قلبه ممتلئ بالإيمان إلى إيمانه، ثم كان من تمام التأليف رد من سبي من نسائهم وذراريهم إليهم، فانشرحت صدورهم للإسلام، فدخلوا طائعين راغبين وجبر ذلك قلوب أهل مكة بما نالهم من النصر والغنيمة عما حصل لهم من الكسر والرعب، فصرف عنهم شر من كان يجاورهم من أشد العرب، من هوازن وثقيف بما دفع بهم من الكسرة، وبما قيض لهم من الدخول في الإسلام، ولولا ذلك ما كان أهل مكة يطيقون مقاومة تلك القبائل مع شدتها وكثرتها، وأما الأنصار فبالاعتذار لهم، وتوضيح الحكمة لكبرائهم شرح الله صدورهم، ورجعوا مذعنين، ورأوا أن الغنيمة العظمى ما حصل لهم من عود رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بلادهم ومجاورته لهم حياً وميتاً، وهذا دأب الحكيم، يعطي كل أحد ما يناسبه. انتهى ملخصاً. -[ما يؤخذ من الأحاديث: ]- 1 - ويؤخذ من الحديث الأول مداراة أهل الجهالة والقسوة، وتألفهم إذا كان فيه مصلحة. 2 - وجواز دفع المال إليهم لهذه المصلحة. 3 - واستحباب اتقاء الاتهام بالبخل، وإن كان ظاهر الكرم. 4 - تنبيه الكبير إلى ما يعتقد أنه خير. 5 - توضيح المعلم للمتعلم حكمة التصرف، وإن كان في ذلك كشف لبعض الأستار. 6 - ومن الحديث الثاني احتمال الجاهلين والإعراض عن مقابلتهم، والتجاوز عن جفاء الجفاة.

7 - ودفع السيئة بالحسنة. 8 - وإعطاء المؤلفة قلوبهم. 9 - والعفو عمن ارتكب كبيرة لا حد فيها بجهله. 10 - وإباحة الضحك عند الأمور التي يتعجب منها في العادة. 11 - وبيان حلمه صلى الله عليه وسلم، وصبره على الأذى في النفس والمال، وخلقه الجميل من الصفح والإغضاء. 12 - ومن الحديث الثالث استئلاف أهل اللسان ومن في معناهم بالعطية والكلام الطيب، ففي بعض روايات الصحيح "وكان في خلقه شدة". 13 - وفيه الاكتفاء في الهبة بالقبض. 14 - واستدل به على جواز شهادة الأعمى، لأن النبي صلى الله عليه وسلم عرف صوت مخرمة، فاعتمد به على معرفته وخرج إليه معه القباء الذي خبأ له. 15 - واستنبط منه بعض المالكية جواز الشهادة على الخط، وتعقب بأن الخطوط تشتبه أكثر ما تشتبه الأصوات. 16 - وفيه رد على من زعم أن المسور لا صحبة له. 17 - ومن الحديث الخامس الفرق بين الإيمان والإسلام، وليس فيه إنكار كونه مؤمناً، بل معناه النهي عن القطع بالإيمان، وأن لفظ الإسلام أولى به، فإن الإسلام معلوم بحكم الظاهر وأما الإيمان فباطن، لا يعلمه إلا الله تعالى. قال النووي: وقد زعم صاحب التحرير أن في هذا الحديث إشارة إلى أن الرجل لم يكن مؤمناً، وليس كما زعم، بل فيه إشارة إلى الإيمان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في جواب سعد: "إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه" ومعناه أعطي من أخاف عليه لضعف إيمانه أن يكفر، وأدع غيره ممن هو أحب إلي منه، لما أعلمه من طمأنينة قلبه، وصلابة إيمانه. 18 - وفيه دلالة لمذهب أهل الحق في قولهم: إن الإقرار باللسان لا ينفع إلا إذا اقترن به الاعتقاد بالقلب، خلافاً للكرامية وغلاة المرجئة في قولهم: يكفي الإقرار، وهذا خطأ ظاهر يرده إجماع المسلمين والنصوص في إكفار المنافقين، وهذه صفتهم. 19 - وفيه الشفاعة إلى ولاة الأمور فيما ليس بمحرم. 20 - وفيه مراجعة المسئول في الأمر الواحد. 21 - وفيه تنبيه المفضول الفاضل على ما يراه مصلحة. 22 - وفيه أن الفاضل لا يقبل ما يشار عليه به مطلقاً، بل يتأمله. ذكره النووي، وقال: فإن لم تظهر مصلحته لم يعمل به.

23 - وفيه الأمر بالتثبت، وترك القطع بما لا يعلم القطع فيه. 24 - وفيه أن الإمام يصرف المال في مصالح المسلمين الأهم فالأهم. 25 - وفيه أنه لا يقطع لأحد بالجنة على التعيين إلا من ثبت فيه نص كالعشرة وأشباههم. وهذا مجمع عليه عند أهل السنة. 26 - وفيه جواز الأمر إلى أحد الحاضرين لمصلحة، وليس من المناجاة الممنوعة، لوجود أكثر من واحد. قال النووي: وفيه التأدب مع الكبار، وأنهم يسارون بما كان من باب التذكير لهم والتنبيه ونحوه، ولا يجاهرون به، فقد يكون في المجاهرة به مفسدة. 27 - ومن الحديث السادس إلى الرابع عشر حسن أدب الأنصار، فحين غضبوا قالوا: يغفر الله لرسول الله. 28 - وحين سئلوا تركوا المماراة والجدل والتمسك بحقهم. 29 - وحسن اعتذارهم عما بدر، إذ بينوا أن الذي نقل عنهم إنما كان عن شبابهم، لا عن شيوخهم أو ساداتهم ورجالاتهم. 30 - وإقامة الحجة على الخصم، وإفحامه بالحق عند الحاجة إليه. 31 - وأن الكبير ينبه الصغير على ما يغفل عنه، ويوضح له وجه الشبهة ليرجع إلى الحق. 32 - وفيها المعاتبة، واستعطاف المعاتب، وإزالة عتبه برفق. 33 - والاعتذار والاعتراف. 34 - وأن للإمام تفضيل بعض الناس على بعض في مصارف الفيء. 35 - وأن له أن يعطي الغني للمصلحة. 36 - وأن من طلب حقه من الدنيا لا عتب عليه في ذلك. 37 - ومشروعية الخطبة عند حدوث أمر سواء أكان خاصاً أم عاماً. 38 - وجواز تخصيص بعض المخاطبين في الخطبة. 39 - وتسلية من فاته شيء من الدنيا بما سيحصل له من ثواب في الآخرة. 40 - والحض على طلب الهداية والألفة. 41 - وأن المنة على الإنسانية لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم. 42 - وتقديم جانب الآخرة على الدنيا. 43 - والصبر عما فات منها رجاء ادخاره في الآخرة.

44 - وفيها مناقب عظيمة للأنصار، لما جاء من ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم. 45 - وفيها علم من أعلام النبوة قوله: "ستلقون بعدي أثرة". 46 - وبقوله في الرواية السابعة: "إن ابن أخت القوم منهم". استدل من يورث ذوي الأرحام، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد وآخرين، ومذهب مالك والشافعي وآخرين أنهم لا يرثون، وأجابوا بأنه ليس في هذا اللفظ ما يقتضي التوريث، وإنما معناه أن بينه وبينهم ارتباطاً وقرابة، ولم يتعرض للإرث، وسياق الحديث يقتضي أن المراد أنه كالواحد منهم في إفشاء سرهم بحضرته، ونحو ذلك. ذكره النووي. 47 - ومن الرواية التاسعة أن النصر من الله، وأن الكثرة في العدد والعدة قد لا تغني شيئاً. 48 - والحث على عدم الاغترار بالقوة والعدد. 49 - وفيه شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم ورباطة جأشه وثقته بربه. 50 - وجواز التعرض إلى الهلاك في سبيل الله، قال الحافظ ابن حجر: ولا يقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم متيقناً النصر، لوعد الله تعالى له بذلك، وهو حق، لأن أبا سفيان بن الحارث قد ثبت معه، آخذ بلجام بغلته، وليس هو في اليقين مثل النبي صلى الله عليه وسلم، واستشهد في تلك الحالة أيمن بن أم أيمن. اهـ. 51 - وفيها فرار الصحابة في المعركة لعذر، قال الطبري: الانهزام المنهي عنه هو ما وقع على غير نية العود، وأما الاستطراد للكثرة فهو كالتحيز إلى فئة. 52 - ومن إكمال المائة لعباس بن مرداس اتقاء اللسان وحماية العرض وتأليف ضعيف الإيمان. 53 - ومن الرواية الثانية عشرة وقبلها السادسة إثبات الحوض في الآخرة. 54 - ومن الرواية الثالثة عشرة جواز النقل على وجه النصيحة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على ابن مسعود نقله ما نقل، بل غضب من قول المنقول عنه. قال الحافظ ابن حجر: إن المذموم من نقلة الأخبار من يقصد الإفساد، أما من يقصد النصيحة ويتحرى الصدق، ويجتنب الأذى فلا. 55 - وحلمه صلى الله عليه وسلم وصبره وتأسيه بموسى عليه السلام، امتثالاً لقول الله تعالى: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} [الأنعام: 90]. الخوارج والحض على قتالهم هذا هو الموضوع الثاني: وتتناوله الأحاديث من رقم (15) من هذه المجموعة. والمسألة الأساسية فيها: نشأة الخوارج، وفرقهم، ومعتقداتهم، وما آل إليه أمرهم، وحكم علماء المسلمين فيهم، ثم نذكر ما يؤخذ من الأحاديث من أحكام أخرى.

يقول الحافظ ابن حجر: أصل الخوارج أن بعض أهل العراق أنكروا سيرة بعض أقارب عثمان؛ بل كانوا ينكرون عليه أشياء، ويتبرءون منه، وكان يقال لهم: القراء. لشدة اجتهادهم في التلاوة والعبادة، إلا أنهم كانوا يتأولون القرآن على غير المراد منه، ويستبدون برأيهم، ويتنطعون في الزهد والخشوع وغير ذلك، فلما قتل عثمان قاتلوا مع علي، واعتقدوا كفر عثمان ومن تابعه، واعتقدوا إمامة علي، وكفر من قاتله من أهل الجمل، ولما خرج علي من الكوفة لقتال أهل الشام خرجوا مع علي، وحاربوا بصفين معه، فلما كاد أهل الشام أن ينهزموا رفعوا المصاحف على الرماح، ونادوا: ندعوكم إلى كتاب الله تعالى، فترك جمع كثير ممن كان مع علي -وخصوصاً هؤلاء القراء- القتال بسبب ذلك تديناً، واحتجوا بقوله تعالى: {ألم ترى إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون} [آل عمران: 23] فلما اتفق أهل الشام وأهل العراق على التحكيم، وكتبوا في ذلك كتاباً كتب فيه: هذا ما قضى عليه أمير المؤمنين على معاوية امتنع أهل الشام من ذلك، وقالوا: اكتبوا اسمه واسم أبيه، فأجاب علي إلى ذلك [تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية] أنكر الخوارج على علي أمرين: الأول: أنه خلع ثوب الإمارة. الثاني: أنه قبل التحكيم، فعند أحمد أنهم قالوا له: "انسلخت من قميص ألبسكه الله، ومن اسم سماك الله به ثم حكمت الرجال في دين الله"، ولا حكم إلا لله. ولما رجع علي بجيشه إلى الكوفة انتظاراً لحكم المحكمين فارقه هؤلاء القراء، وخرجوا إلى مكان يقال له: حروراء، ومن ثم قيل لهم: الحرورية. وكانوا ثمانية آلاف، وقيل: كانوا أكثر من عشرة آلاف، وكان كبيرهم عبد الله بن الكواء اليشكري، وشبث [بفتح الشين والباء بعدها ثاء] التميمي، فأرسل علي إليهم عبد الله بن عباس، فناظرهم، فرجع كثير منهم معه، ثم خرج إليهم علي، فناشدهم فأطاعوه ودخلوا معه الكوفة معهم رئيساهم المذكوران. لكنهم أشاعوا في الكوفة أن علياً تاب من قبوله التحكيم، ولذلك رجعوا معه، وجاء رجل إلى علي فقال: إنهم يتحدثون أنك أقررت لهم بالكفر لرضاك بالتحكيم، فخطب وأنكر ذلك فتنادوا من جوانب المسجد: لا حكم إلا لله. فقال لهم علي: كلمة حق يراد بها باطل [إذ كانوا يقصدون رفض التحكيم، والانخلاع من حكم علي] فقال لهم علي: لكم علينا ثلاثة: أن لا نمنعكم من المساجد، ولا من رزقكم في الفيء، ولا نبدؤكم بقتال ما لم تحدثوا فساداً. لكنهم خرجوا من الكوفة متسربين شيئاً بعد شيء حتى اجتمعوا بالمدائن، فراسلهم علي يطلب منهم الرجوع فأصروا على الامتناع حتى يشهد على نفسه بالكفر، لرضاه بالتحكيم، ويتوب. ثم قرروا إرغام الناس على عقيدتهم، وقرروا أن من لا يعتقد معتقدهم يكفر ويباح دمه وماله وأهله، وانتقلوا إلى تنفيذ القرار، فاستعرضوا الناس، فقتلوا من اجتاز بهم من المسلمين، ومر بهم عبد الله بن خباب بن الأرت، وكان والياً لعلي على بعض البلاد ومعه سرية وهي حامل، فقتلوه وبقروا بطن سريته عن ولد، فأرسل إليهم علي رسولاً يطلب منهم تحديد قاتل ابن خباب، فقتلوا رسوله، وقالوا:

كلنا قتلناه، فخرج إليهم علي بالجيش الذي كان قد هيأه للخروج إلى الشام فأوقع بهم بالنهروان ولم ينج منهم إلا دون العشرة. هذا هو الميدان الذي تتحدث عنه أحاديث الباب. أما بقية أمرهم فإن من بقي منهم أخذ يدعو للعقيدة، وأخذ ينضم إليه سراً من ينضم، ولم يظهر أحد منهم في خلافة علي، إلى أن قتل علي بعد أن دخل في صلاة الصبح على يد رجل منهم هو عبد الرحمن بن ملجم. ثم لما وقع الصلح بين الحسن ومعاوية ظهرت فرقة منهم، فأوقع بهم عسكر الشام بمكان يقال له: النجيلة، ثم عملوا لدعوتهم في الخفاء في إمارة زياد وابنه عبيد الله على العراق طول مدة حكم معاوية وابنه يزيد، وظفر زياد وابنه منهم بجماعة فأبادهم بين قتل وحبس طويل، فلما مات يزيد ووقع الافتراق، وولي الخلافة عبد الله بن الزبير. ظهر الخوارج بالعراق مع نافع بن الأزرق، وباليمامة مع نجدة بن عامر، وزاد نجدة على عقيدتهم أن من لم يخرج ويحارب المسلمين فهو كافر، ولو اعتقد معتقدهم، وعظم البلاء بهم وتوسعوا في معتقدهم الفاسد فأبطلوا رجم المحصن، وقطعوا يد السارق من الإبط، وأوجبوا الصلاة على الحائض في حال حيضها، وكفروا من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن كان قادراً، وإن لم يكن قادراً فقد ارتكب كبيرة وحكم مرتكب الكبيرة عندهم حكم الكافر، وكفوا عن أموال أهل الذمة وعن التعرض لهم مطلقاً، وفتكوا بمن ينسب إلى الإسلام قتلاً وسبياً ونهباً. فمنهم من يفعل ذلك مطلقاً بغير دعوة منهم ومنهم من يدعو أولاً، ثم يفتك. ولم يزل البلاء بهم يزيد إلى أن أمر المهلب بن أبي صفرة بقتالهم فطاولهم حتى ظفر بهم، وتقلل جمعهم، ثم لم يزل منهم بقايا في طول الدولة الأموية وصدر الدولة العباسية ودخلت طائفة منهم المغرب [ومازال حتى اليوم من يعتقد عقيدتهم]. ثم قال: وقد صنف في أخبارهم أبو مخنف -بكسر الميم وسكون الخاء وفتح النون بعدها فاء- كتاباً لخصه الطبري في تاريخه، وصنف في أخبارهم أيضاً الهيثم بن عدي كتاباً، ومحمد بن قدامة الجوهري أحد شيوخ البخاري كتاباً كبيراً، وجمع أخبارهم أبو العباس المبرد في كتابه "الكامل". ثم قال: قال القاضي أبو بكر بن العربي: الخوارج صنفان: أحدهما يزعم أن عثمان وعلياً وأصحاب الجمل وصفين وكل من رضي بالتحكيم كفار. والآخر يزعم أن كل من أتى كبيرة فهو كافر مخلد في النار. وقال غيره: بل الصنف الأول مفرع عن الصنف الثاني، لأن الحامل لهم على تكفير أولئك كونهم أذنبوا فيما فعلوه بزعمهم. وقال ابن حزم: ذهب نجدة بن عامر من الخوارج إلى من أتى صغيرة عذب بغير النار، ومن أدمن على صغيرة فهو كمرتكب الكبيرة في التخليد في النار، وذكر أن منهم من غلا في معتقدهم الفاسد، فأنكر الصلوات الخمس، وقال: الواجب صلاة بالغداة وصلاة بالعشي، ومنهم من جوز نكاح بنت الابن وبنت الأخ والأخت، ومنهم من أنكر أن تكون سورة يوسف من القرآن، وأن من قال: لا إله إلا الله فهو مؤمن عند الله، ولو اعتقد الكفر بقلبه. وقال أبو منصور

البغدادي في المقالات: عدة فرق الخوارج عشرون فرقة. وقال ابن حزم: أسوؤهم حالاً الغلاة المذكورون، وأقربهم إلى أهل الحق الأباضية. أما عن حكم العلماء على الخوارج فقد قال الغزالي في "الوسيط" تبعاً لغيره في حكم الخوارج وجهان: أحدهما: أنه كحكم أهل الردة. الثاني: أنه كحكم أهل البغي. ورجح الرافعي الأول. قال الحافظ ابن حجر: وليس الذي قاله مطرداً في كل خارجي، فإنهم على قسمين، أحدهما من تقدم ذكره، والثاني من خرج في طلب الملك، لا للدعاء إلى معتقده، وهم على قسمين أيضاً: قسم خرجوا غضباً للدين من أجل جور الولاة، وترك عملهم بالسنة النبوية، فهؤلاء أهل حق، ومنهم الحسن بن علي وأهل المدينة في الحرة، والقراء الذين خرجوا على الحجاج، وقسم خرجوا لطلب الملك فقط، سواء كانت فيهم شبهة أم لا، وهم البغاة. اهـ. والحق أن لفظ: "طائفة خارجة" و"خوارج" في أصل اللغة يعم من ذكرهم الحافظ ابن حجر وغيرهم، إلى أكثر من عشرين فرقة، فينبغي أن يرتبط الحكم على كل فرقة بما هي عليه، من حيث العقيدة، ومن حيث العمل، فمن أنكر شيئاً علم من الدين بالضرورة، ولو لم يخرج على الحاكم حكم عليه بالردة، ومن خرج على الإمام بشبهة أو بدون شبهة لمنازعة الحكم فهم بغاة، ولو لم ينكروا ما علم من الدين بالضرورة، وقد حفظ القرآن لهم وصف المؤمنين حين قال: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} [الحجرات: 9]. والذي أميل إليه أن الخوارج الموصوفين في أحاديث الباب مرتدون، وإن شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وبالغوا في العبادة والزهد وقراءة القرآن، فالرواية السابعة عشر تقول: "قوم يتلون كتاب الله رطباً، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود". وفي الرواية الثامنة والتاسعة عشرة: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم -أو حلوقهم- أو تراقيهم، يمرقون من الدين -أو من الإسلام- كما يمرق السهم من الرمية". وفي الرواية السابعة والعشرين: "يقرءون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء، يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم، وهو عليهم". وفي الرواية الخامسة والعشرين: "فإذا لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة. وفي الرواية التاسعة والعشرين: "يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه، هم شر الخلق والخليقة". فهذه الأحاديث تصرح بكفرهم وارتدادهم، وتحث على قتالهم وقتلهم، أما كون الذين قاتلهم

وقتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه هم المقصودين بالحديث فموضوع آخر، وحتى مع آية المخدج فإن الحكم يعم كل من على شاكلتهم، ووجود المخدج ضمن طائفة ليس علامة على أنهم كذلك، فقد كان في جيش علي رضي الله عنه وحارب معه في الجمل وصفين. إنما العلامة قتله فيهم -كما هو واضح من الرواية السابعة والعشرين والثامنة والعشرين، وأساس الحكم عقيدتهم وأعمالهم. وقد ضرب العلماء بسهم وافر في هذه المسألة، حتى قال القاضي عياض: كادت هذه المسألة تكون أشد إشكالاً عند المتكلمين من غيرها، حتى توقف بعض الفضلاء فيها، واعتذر بعضهم بأن إدخال كافر في الملة وإخراج مسلم عنها أمر عظيم في الدين واعتذر آخرون بأن هؤلاء القوم لم يصرحوا بالكفر، وإنما قالوا أقوالاً لا تؤدي إلى الكفر. وقال الغزالي في كتاب "التفرقة بين الإيمان والزندقة": والذي ينبغي الاحتراز عن التكفير ما وجد إلى ذلك سبيلاً، فإن استباحة دماء المسلمين المقرين بالتوحيد خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم لمسلم واحد. وقد استعرض الحافظ ابن حجر كثيراً من آراء العلماء المكفرين لهم وغير المكفرين، نوردها بتصرف: أقوال غير المكفرين: (أ) قال الحافظ ابن حجر: ذهب أكثر أهل الأصول من أهل السنة إلى أن الخوارج فساق، وأن حكم الإسلام يجرى لهم، لتلفظهم بالشهادتين، ومواظبتهم على أركان الإسلام، وإنما فسقوا لتكفيرهم المسلمين مستندين إلى تأويل فاسد، وجرهم ذلك إلى استباحة دماء مخالفيهم وأموالهم، والشهادة عليهم بالكفر والشرك. (ب) وقال الخطابي: أجمع علماء المسلمين على أن الخوارج مع ضلالتهم فرقة من فرق المسلمين، وأجازوا مناكحتهم وأكل ذبائحهم، وأنهم لا يكفرون ما داموا متمسكين بأصل الإسلام. (ج) وقال ابن بطال: ذهب جمهور العلماء إلى أن الخوارج غير خارجين عن جملة المسلمين، لقوله [في روايتنا الثامنة عشرة]: "فيتمارى في الفوقة، هل علق بها من الدم شيء". لأن التماري من الشك، وإذ وقع الشك في ذلك لم يقطع عليهم بالخروج من الإسلام، لأن من ثبت له عقد الإسلام بيقين لم يخرج منه إلا بيقين. قال: وقد سئل علي عن أهل النهر: هل كفروا؟ فقال: من الكفر فروا -قال الحافظ ابن حجر: وهذا إن ثبت عن علي حمل على أنه لم يكن اطلع على معتقدهم الذي أوجب تكفيرهم عند من كفرهم، ثم قال: وفي احتجاجه بقوله "يتمارى في الفوق" نظر، فإن في بعض الروايات [روايتنا العشرين] "وينظر في الفوق فلا يرى بصيرة" وفي بعضها [روايتنا التاسعة عشرة]: سبق الفرث والدم". قال: وطريق الجمع بينهما أنه تردد هل في الفوق شيء أو لا؟ ثم تحقق أنه لم يعلق به بالسهم ولا بشيء منه من المرمي شيء، ويمكن أن يحمل الاختلاف فيه على اختلاف أشخاص منهم، ويقول في قوله: "يتمارى" إشارة إلى بعضهم قد يبقى معه من الإسلام شيء.

(د) وقال القرطبي في "المفهم": والقول بتكفيرهم أظهر في الحديث. ثم قال: وباب التكفير باب خطر، ولا نعدل بالسلامة شيئاً. أقوال المكفرين: (أ) قال الحافظ ابن حجر: استدل بالأحاديث من قال بتكفير الخوارج، وهو مقتضى صنيع البخاري، حيث قرنهم بالملحدين [إذ قال في الترجمة: باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم] وأفرد عنهم المتأولين بترجمة. (ب) صرح القاضي ابن العربي في "شرح الترمذي"، فقال: الصحيح أنهم كفار، لقوله صلى الله عليه وسلم: "يمرقون من الإسلام" ولقوله: "لأقتلنهم قتل عاد" وفي لفظ: "ثمود" وكل منهما إنما هلك بالكفر، ولقوله: "هم شر الخلق" ولا يوصف بذلك إلا الكفار، ولحكمهم على كل من خالف معتقدهم بالكفر والتخليد في النار، فكانوا هم أحق بالاسم منهم. (جـ) قال الشيخ تقي الدين السبكي في "فتاويه": احتج من كفر الخوارج وغلاة الروافض بتكفيرهم أعلام الصحابة، لتضمنه تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم في شهادته لهم بالجنة. قال: وهو عندي احتجاج صحيح، لأنا نعلم تزكية من كفروه علماً قطعياً إلى حين موته، وذلك كاف في اعتقادنا تكفير من كفرهم وفي الحديث الصحيح: "من قال لأخيه كافر فقد باء به أحدهما". وهؤلاء قد تحقق منهم أنهم يرمون جماعة بالكفر ممن حصل عندنا القطع بإيمانهم، فيجب أن يحكم بكفرهم بمقتضى خبر الشارع، وهو نحو ما قالوه فيمن سجد للصنم ممن لا تصريح بالجحود فيه، بعد أن فسروا الكفر بالجحود، ولا ينجيهم اعتقاد الإسلام إجمالاً، والعمل بالواجبات عن الحكم بكفرهم، كما لا ينجي الساجد لصنم ذلك. (د) وقال الطبري في "تهذيبه": في الأحاديث رد على قول من قال: لا يخرج أحد من الإسلام من أهل القبلة بعد استحقاقه حكمه إلا بقصد الخروج منه عالماً. فإنه باطل لقوله: "يقرءون القرآن ويمرقون من الإسلام، ولا يتعلقون منه بشيء" ومن المعلوم أنهم لم يرتكبوا استحلال دماء المسلمين وأموالهم إلا بخطأ منهم فيما تأولوه من آيات القرآن على غير المراد منه، ويؤيد القول المذكور الأمر بقتلهم مع حديث ابن مسعود: "لا يحل قتل امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث" وفيه: "التارك لدينه المفارق للجماعة". فهذه ثلاثة مذاهب في الحكم على الخوارج المذكورين في أحاديث الباب ومن على شاكلتهم، مذهب يكفرهم، ومذهب يفسقهم ولا يكفرهم، ومذهب يتوقف ولا يحكم بهذا ولا بذاك. قال القرطبي في "المفهم": فعلى القول بتكفيرهم يقاتلون، ويقتلون، وتسبى أموالهم، وعلى القول بعدم تكفيرهم يسلك بهم مسلك أهل البغي، إذا شقوا العصا، ونصبوا الحرب، فأما من استسر منهم ببدعة، فإذا ظهر عليه وغلب هل يقتل مع الاستتابة؟ أو لا يقتل؟ بل يجتهد في رد بدعته؟ اختلف فيه بحسب الاختلاف في تكفيرهم. اهـ.

وقال القاضي: أهل البدع والبغي متى خرجوا على الإمام وخالفوا رأي الجماعة، وشقوا العصا وجب قتالهم بعد إنذارهم، لكن لا يجهز على جريحهم، ولا يتبع منهزمهم، ولا يقتل أسيرهم، ولا تباح أموالهم، وما لم يخرجوا عن الطاعة وينتصبوا للحرب لا يقاتلون، بل يوعظون ويستتابون من بدعتهم وباطلهم، وهذا كله ما لم يكفروا ببدعتهم، فإن كانت بدعة مما يكفرون بها جرت عليهم أحكام المرتدين، وأما البغاة الذين لا يكفرون فيرثون ويورثون، ودمهم في حال القتال هدر، وكذا أموالهم التي تتلف في القتال، والأصح أنهم لا يضمنون أيضاً ما أتلفوه على أهل العدل في حال القتال من نفس ومال، وما أتلفوه من نفس ومال في غير حال القتال يضمنوه، ولا يحل الانتفاع بشيء من دوابهم وسلاحهم في حال الحرب عندنا وعند الجمهور، وجوزه أبو حنيفة. والله أعلم. -[ويؤخذ من مجموعة هذه الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - في قوله في الحديث الخامس عشر: "إن هذا وأصحابه يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم" جواز ترك قتال الخوارج على أنهم من المؤلفة قلوبهم. قال العلماء: وهذا إذا لم يظهروا رأيهم، وينصبوا للناس القتال، فإن فعلوا وجب قتالهم، وعدم قتل الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا وأصحابه لأنهم لم يظهروا ما وراءهم، فلو قتل ظاهر الصلاح عند الناس قبل استحكام الإسلام ورسوخه في القلوب لنفرهم عن الدخول في الإسلام. نعم لو اعتقدت فرقة مذهب الخوارج مثلاً، ولم ينصبوا حرباً جاز للإمام الإعراض عنهم إذا رأى المصلحة في ذلك. وقال ابن بطال نقلاً عن المهلب: التألف إنما كان في أول الإسلام، إذ كانت الحاجة ماسة لذلك، لدفع مضرتهم، فأما إذا أعلى الله الإسلام فلا يجب التألف، إلا أن تنزل بالناس حاجة لذلك، فلإمام الوقت ذلك. وحكى الطبري الإجماع على الكف عن قتل من يعتقد الخروج على الإمام ما لم ينصب لذلك حرباً، أو يستعد لذلك، وقال: بشرط أن لا يكفر باعتقاده، وأسند إلى عمر بن عبد العزيز "أنه كتب في الخوارج بالكف عنهم ما لم يسفكوا دماً حراماً، أو يأخذوا مالاً، فإن فعلوا فقاتلوهم، ولو كانوا ولدي". ومن طريق ابن جريج قال: قلت لعطاء: ما يحل في قتال الخوارج؟ قال: إذا قطعوا السبيل، وأخافوا الآمن". 2 - وفي الأحاديث أنه لا يجوز قتال الخوارج وقتلهم إلا بعد إقامة الحجة عليهم، بدعائهم إلى الرجوع إلى الحق. ذكره الحافظ ابن حجر. 3 - قال الحافظ ابن حجر: وفي الأحاديث علم من أعلام النبوة حيث أخبر بما وقع قبل أن يقع. وذلك أن الخوارج لما حكموا بكفر من خالفهم استباحوا دماءهم وتركوا أهل الذمة، فقالوا: نفى لهم بعهدهم، وتركوا قتال المشركين، واشتغلوا بقتال المسلمين.

4 - خطورة الجهل بالدين والاستبداد بالرأي. 5 - قال ابن هبيرة: وفي الأحاديث أن قتال الخوارج أولى من قتال المشركين، والحكمة فيه أن في قتالهم حفظ رأس مال الإسلام، وفي قتال أهل الشرك طلب الربح، وحفظ رأس المال أولى. 6 - قال الحافظ ابن حجر: وفيها التحذير من الغلو في الديانة والتنطع في العبادة، وقد وصف الشارع الشريعة بأنها سمحة، وإنما ندب الشدة على الكفار، والرأفة بالمؤمنين. 7 - وجواز قتال من خرج عن طاعة الإمام العادل. 8 - ومن نصب الحرب فقاتل عن اعتقاد فاسد. 9 - ومن خرج يقطع الطرق ويخيف السبيل، ويسعى في الأرض بالفساد. قال الحافظ: وأما من خرج عن طاعة إمام جائر، أراد الغلبة على ماله أو نفسه أو أهله فهو معذور، ولا يحل قتاله، وله أن يدفع عن نفسه وماله وأهله بقدر طاقته. 10 - وأخذ بعضهم من قوله: "سيماهم التحالق" في الرواية المتممة للعشرين، ذم استئصال شعر الرأس، وفيه نظر، لاحتمال أن يكون المراد بيان صفتهم الواقعة، دون إرادة ذمها، قال النووي: واستدل بعض الناس على كراهة حلق الرأس بهذا الحديث، ولا دلالة فيه، وإنما هو علامة لهم والعلامة قد تكون بمباح، وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى صبياً قد حلق بعض رأسه، فقال: "احلقوه كله أو اتركوه كله". وهذا صريح في إباحة حلق الرأس، لا يحتمل تأويلاً. قال أصحابنا: حلق الرأس جائز بكل حال، لكن إن شق عليه تعهده بالدهن والتسريح استحب له حلقه، وإن لم يشق استحب تركه. اهـ. 11 - وفيها أنه لا يكتفى في التعديل بظاهر الحال، ولو بلغ المشهود بتعديله الغاية في العبادة والتقشف والورع حتى يختبر باطن حاله. قاله الحافظ. 12 - وفيها منقبة عظيمة لعلي رضي الله عنه وأنه كان الإمام الحق وأنه كان على الصواب في قتال من قاتله في حروبه في الجمل وصفين وغيرهما. قاله الحافظ. 13 - وفي استحلاف عبيدة السلماني لعلي في الرواية السابعة والعشرين التثبت من الأمر الغريب، لتأكيده عند السامعين، وليطمئن قلب المستحلف. 14 - وحلف المستحلف لتحقيق تلك الغاية المشروعة. 15 - ووثوق علي رضي الله عنه من ذاكرته وحفظه لأوصاف المخدج، وعند الطبري أن علي بن أبي طالب قال لأصحابه بعد المعركة: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس عنده إلا عائشة، فقال: "كيف أنت وقوم يخرجون من قبل المشرق، وفيهم رجل كأن يده ثدي حبشية؟ " قال علي: ناشدتكم الله هل

أخبرتكم بأنه فيهم؟ قالوا: نعم، قال: فجئتموني؛ فقلتم، ليس فيهم، فحلفت لكم أنه فيهم، ثم أتيتموني به تسحبونه كما نعت لي؟ فقالوا: اللهم نعم. فهلل علي وكبر. 16 - قال النووي عند شرحه للرواية الخامسة والعشرين من قوله: "أحداث الأسنان: سفهاء الأحلام". يستفاد أن التثبت وقوة البصيرة تكون عند كمال السن وكثرة التجارب، وقوة العقل. قال الحافظ ابن حجر: ولم يظهر لي وجه الأخذ منه، فإن هذا معلوم بالعادة، لا من خصوص كون هؤلاء كانوا بهذه الصفة. اهـ. والله أعلم

(295) باب لا تحل الصدقة لمحمد ولا لآل محمد صلى الله عليه وسلم وتحل لهم الهدية

(295) باب لا تحل الصدقة لمحمد ولا لآل محمد صلى الله عليه وسلم وتحل لهم الهدية 2153 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كخ كخ. ارم بها. أما علمت أنا لا نأكل الصدقة؟ ". 2154 - وعن شعبة بهذا الإسناد وقال "أنا لا تحل لنا الصدقة؟ ". 2155 - وعن شعبة في هذا الإسناد كما قال ابن معاذ "أنا لا نأكل الصدقة؟ ". 2156 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي، ثم أرفعها لآكلها، ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها". 2157 - عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "والله إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي (أو في بيتي)، فأرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون صدقة (أو من الصدقة) فألقيها". 2158 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد تمرة فقال "لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها". 2159 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بتمرة بالطريق فقال "لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها". 2160 - عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد تمرة فقال "لولا أن تكون صدقة لأكلتها".

2161 - اجتمع ربيعة بن الحارث والعباس بن عبد المطلب فقالا والله لو بعثنا هذين الغلامين (قالا لي وللفضل بن عباس) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلماه فأمرهما على هذه الصدقات فأديا ما يؤدي الناس وأصابا ما يصيب الناس. قال: فبينما هما في ذلك جاء علي بن أبي طالب فوقف عليهما. فذكرا له ذلك. فقال علي بن أبي طالب: لا تفعلا فوالله ما هو بفاعل. فانتحاه ربيعة بن الحارث فقال: والله ما تصنع هذا إلا نفاسة منك علينا فوالله لقد نلت صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فما نفسناه عليك. قال علي أرسلوهما فانطلقا واضطجع علي. قال: فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر، سبقناه إلى الحجرة فقمنا عندها، حتى جاء فأخذ بآذاننا ثم قال "أخرجا ما تصرران" ثم دخل ودخلنا عليه وهو يومئذ عند زينب بنت جحش. قال: فتواكلنا الكلام ثم تكلم أحدنا فقال: يا رسول الله أنت أبر الناس وأوصل الناس، وقد بلغنا النكاح فجئنا لتؤمرنا على بعض هذه الصدقات فنؤدي إليك كما يؤدي الناس ونصيب كما يصيبون. قال: فسكت طويلاً حتى أردنا أن نكلمه. قال: وجعلت زينب تلمع علينا من وراء الحجاب أن لا تكلماه. قال: ثم قال "إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس. ادعوا لي محمية (وكان على الخمس) ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب" قال فجاءاه فقال لمحمية "أنكح هذا الغلام ابنتك" (للفضل بن عباس) فأنكحه وقال لنوفل بن الحارث "أنكح هذا الغلام ابنتك" (لي) فأنكحني وقال لمحمية "أصدق عنهما من الخمس كذا وكذا". قال الزهري ولم يسمه لي. 2162 - عن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب والعباس بن عبد المطلب رضي الله عنهما أنهما قالا لعبد المطلب بن ربيعة وللفضل بن عباس ائتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وساق الحديث بنحو حديث مالك. وقال فيه فألقى علي رداءه ثم اضطجع عليه، وقال أنا أبو حسن القرم والله لا أريم مكاني حتى يرجع إليكما ابناكما بحور ما بعثتما به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال في الحديث ثم قال لنا "إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد" وقال أيضاً ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ادعوا لي محمية ابن جزء" وهو رجل من بني أسد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمله على الأخماس.

2163 - عن جويرية زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها فقال "هل من طعام؟ " قالت: لا والله يا رسول الله ما عندنا طعام إلا عظم من شاة أعطيته مولاتي من الصدقة. فقال "قربيه فقد بلغت محلها". 2164 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أهدت بريرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم لحماً تصدق به عليها فقال "هو لها صدقة. ولنا هدية". 2165 - عن عائشة رضي الله عنها وأتي النبي صلى الله عليه وسلم بلحم بقر فقيل هذا ما تصدق به على بريرة فقال "هو لها صدقة ولنا هدية". 2166 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت في بريرة ثلاث قضيات كان الناس يتصدقون عليها وتهدي لنا، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال "هو عليها صدقة ولكم هدية فكلوه". وبمثل ذلك. 2167 - عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك غير أنه قال "وهو لنا منها هدية". 2168 - عن أم عطية رضي الله عنها قالت: بعث إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة من الصدقة

فبعثت إلى عائشة منها بشيء فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عائشة قال "هل عندكم شيء؟ " قالت: لا إلا أن نسيبة بعثت إلينا من الشاة التي بعثتم بها إليها. قال "إنها قد بلغت محلها". 2169 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتي بطعام سأل عنه فإن قيل هدية أكل منها وإن قيل صدقة لم يأكل منها. -[المعنى العام]- إن الصدقة من ألوان المذلة على الآخذ. مهما غلف هذا اللون بغلاف المواساة الشرعي، وليس أدل على ذلك من طلب الشريعة لإخفائها حين إعطائها "حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه". {وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} [البقرة: 271]. وفي محاولة من الإسلام لرفع مذلة الآخذ للمعطي طلب تسليمها للإمام، وطلب من الإمام أخذها من الأغنياء ولو بالقوة، وأشار إلى أنها حق معلوم للسائل والمحروم، وحذر المعطي من المن على الفقير بها من جرح مشاعره بأي مظهر من مظاهر الجرح، فقال: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} [البقرة: 264] .... الآية. لكن هذه المحاولات على كثرتها -وإن خففت لون مذلة الآخذ لم تغير الحقيقة، وأنها أوساخ الناس، أو غسلات أوساخهم، فهي مكفرة لذنوبهم، مطهرة لهم ولأموالهم. من هنا يترفع عنها ذوو الشرف والجاه، ويأبى أخذها أو طلبها ذوو النفوس الأبية، وإن عضهم الفقر بأنيابه {يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف} [البقرة: 273]. وأي البشر أشرف من محمد صلى الله عليه وسلم وآله؟ أليسوا صفوة خلقه كما جاء في الحديث الصحيح القائل: "إن الله اصطفى من ولد إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم". فليس عجباً -والحالة هذه- أن يجيء التشريع الإسلامي بقوله صلى الله عليه وسلم: "إنا لا نأكل الصدقة". "إنا لا تحل لنا الصدقة". "إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد، ولا لآل محمد". بل بالغ صلى الله عليه وسلم في نفوره من تناوله أو تناول أهله لها في هذه الأحاديث بثلاثة مظاهر. المظهر الأول: زجره للحسن بن علي مرة، وللحسين مرة أخرى حين أخذ كل منهما تمرة من تمر الصدقة، وهما طفلان صغيران لم يميزا بعد؛ كانا يلعبان في المسجد، وتمر الصدقة كومة فيه، ولقد بدا عنف هذا الزجر حين جاء بلفظ: كخ. كخ. وبلهفة الخوف والرهبة، وبسرعة منع هذا الحدث باليد، إذ أدخل صلى الله عليه وسلم إصبعه في فم الطفل وهو يلوك

التمرة فأخرجها من فمه؛ ثم أتبع ذلك بزجر وتأنيب آخر، يخاطب الطفل كأنه رجل كبير: "أما علمت أنا لا نأكل الصدقة"؟ . المظهر الثاني: تحرزه الشديد من الوقوع فيها، وبعده عن مجرد الاشتباه فيها، وترك ما يريب بخصوصها إلى ما لا يريب، بل التأكد من بعدها لمجرد خطورها على البال، فهو صلى الله عليه وسلم يجد التمرة الواحدة في الطريق، فيرفعها ليأكلها، فيخطر بباله احتمال كونها من الصدقة، فيعطيها لصاحبه ولا يأكلها، وهو يدخل بيته فيجد فيه تمرة، أو يجد على فراشه تمرة، وهو يعلم أن الناس لا يدخلون الصدقة بيته، لكن الاحتمال الضعيف وأنها من الصدقة يمنعه من أكلها؛ بل وصل الورع به والمبالغة في التحرز أنه كان إذا قدم إليه طعام سألهم: من أين؟ أمن الصدقة هو؟ فإن قيل: من الصدقة. لم يأكل منه، وإن قيل: هدية. أكل منه. المظهر الثالث: إبعاد بني هاشم عنها لدرجة إبعادهم عن العمالة فيها، إن العامل له أجره على ما يعمل، وإن جباة الزكاة وسعاتها لهم أجرتهم مقابل جهدهم، لكن لما كانت أجرتهم من الصدقة، وكان لهم سهم كمصرف من مصارف الزكاة بنص القرآن: {والعاملين عليها} [التوبة: 60] وجدنا. صلى الله عليه وسلم يترفع بالفضل ابن عمه العباس، وبعبد المطلب بن ربيعة ابن عمه الحارث بن عبد المطلب أن يؤمرهما على الصدقات، وليؤديا ما يؤدي الناس، ويصيبا من الأجر مثلما يصيب الناس، يترفع بهما عن هذه المهمة، ويرفض طلبهما لها، ويقول: "إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد". صلى الله عليه وسلم. أليس في ذلك القدوة الحسنة للمسلمين أن يترفعوا عن الذلة والمهانة، وعن مد الأيدي إلى المسلمين أو غير المسلمين؟ أليس في ذلك الدعوة إلى العزة والكرامة لتكون العزة لله ولرسوله وللمؤمنين؟ هل للمتسولين الذين يملئون ساحات الأولياء ويشغلون الطرقات ويحرجون ويحرجون أن يتعظوا ويكفوا أيديهم؟ ويعودوا إلى دينهم؟ وإلى تعاليم رسولهم؟ . اللهم اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. (آمين). -[المباحث العربية]- (أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة) في رواية لأحمد عن أبي هريرة قال: "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم تمراً من تمر الصدقة والحسن في حجره"، فهذه الرواية تبين أن الحسن كان طفلاً، كما تبين ظروف أخذ التمرة. (فجعلها في فيه) في بعض الروايات "فلم يفطن له النبي صلى الله عليه وسلم حتى قام ولعابه يسيل، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم شدقه"، وفي رواية "فلما فرغ حمله على عاتقه، فسال لعابه، فرفع رأسه، فإذا تمرة في فيه". وفي الفم لغات، تثليث الفاء مع تخفيف الميم، وفتح الفاء وضمها مع تشديد الميم، والقصر.

(كخ. كخ) مكرر مرتين للتأكيد، وفيها ست لغات، فتح الكاف مع سكون الخاء، ومع كسر الخاء منوناً وغير منون، وكسر الكاف مع حالات الخاء الثلاث، وهي كلمة يزجر بها الصبيان عن المستقذرات، أو عند ما لا ينبغي الإتيان به، ومعناها اتركه، وارم به، قيل: عربية، وقيل: أعجمية. وقال الداودي: هي عجمية معربة، بمعنى بئس. وقد أشار إلى هذا البخاري في باب من تكلم بالفارسية والرطانة. وزاد في رواية البخاري "ليطرحها" بدل "ارم بها". وفي رواية لأحمد "فنظر إليه فإذا هو يلوك تمرة فحرك خده، وقال: القها يا بني. القها يا بني". ولا مانع من أن يكون صلى الله عليه وسلم قد جمع للصبي هذه الكلمات وهذه الحركات، عند محاولته إخراج التمرة من فم الصبي. (أما علمت أنا لا نأكل الصدقة؟ ) في رواية البخاري "أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة"؟ وفي ملحق روايتنا "أنا لا تحل لنا الصدقة" وفي رواية للبخاري "أما علمت أن آل محمد لا يأكلون الصدقة"؟ وفي رواية له أيضاً "أما تعرف"؟ والاستفهام للتعجب، والمعنى عجب! ! كيف خفي عليك هذا الأمر مع ظهوره، وهذه اللفظة تقال في الشيء الواضح، وإن لم يكن المخاطب بذلك عالماً به، أو لم يكن أهلاً لأن يسبق له العلم به، كما هنا. (اجتمع ربيعة بن الحارث والعباس بن عبد المطلب) أي اجتمع ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب مع عمه العباس بن عبد المطلب، وكان اجتماعهما لقاء لا بتدبير مسبق لهذا الأمر، وصادف وجود الغلامين ابنيهما الفضل وعبد المطلب. (فكلماه) المراد به محذوف، أي فكلماه أن يعينهما على الصدقة. (فأمرهما على الصدقة) التعبير بالماضي للطمع في تحقق الوقوع، والأصل ليؤمرهما على الصدقة. (فأديا ما يؤدي الناس) "ال" في "الناس" للعهد، والمراد بهم العاملون على الصدقات، والمراد من الموصول ما يؤديه العاملون من المطالبة بالزكاة وتحصيلها وتوريدها. (وأصابا مما يصيب الناس) أي وأصابا من سهم العاملين عليها الذي يصيب منه العاملون. (لو بعثنا) "لو" للتمني فلا تحتاج إلى جواب، أي ليتنا نفعل كذا وكذا، أو شرطية وجوابها محذوف، أي لو بعثنا وحصل كذا وكذا كان خيراً. (فوقف عليهما) أي فوقف بجوارهما ومعهما متمكناً من كلامهما. (فذكرا له ذلك) الذاكر واحد، ونسب إليهما لموافقة الآخر. (لا تفعلا) المفعول محذوف، أي لا تفعلا الإرسال. أي لا ترسلا. (فوالله ما هو بفاعل) الضمير للرسول صلى الله عليه وسلم، والمراد من الفعل المنفي استجابته صلى الله عليه

وسلم. أي ما رسول الله صلى الله عليه وسلم بمستجيب لطلبكما، ولعله كان يعلم الحكم الشرعي، ولذلك أقسم، ولم يشأ أن يخبرهما به ليتأكدا بنفسهما، لأنه كان يخشى أن يتهم بما اتهم به فعلاً من المنافسة. (فانتحاه ربيعة) أي فأخذه ناحية بعيدة عن عمه، لعله بذلك يستدر مساعدته، أو الكف عن معارضته، فهو زوج ابنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وحبه وكانت استجابة علي رضي الله عنه لذلك أنه لم ينصرف لشأنه وحال سبيله، حتى لا يظن به أنه تسبب في المنع. (والله ما تصنع هذا) أي ما تقول "والله ما هو بفاعل" ولا تفعلا. (إلا نفاسة منك علينا) قال النووي: معناه إلا حسداً منك لنا. اهـ والأولى أن يقال: إلا منافسة منك. (لقد نلت صهر النبي صلى الله عليه وسلم فما نفسناه عليك) قال النووي: هو بكسر الفاء: أي ما حسدناك ذلك. اهـ والأولى أن يقال: فما تنافسنا معك على هذا الأمر، وما تسابقنا عليه، بل قدرنا ما هو خير لك خيراً لنا. (فانطلقا) كان الظاهر أن يقول "فانطلقنا" فالمتكلم هو المنطلق، ولكنه جرد من نفسه غائباً، وعاد إلى ضمير المتكلم عند قوله. (سبقناه إلى الحجرة) التي سيدخلها بعد الصلاة، وكانت حجرة زينب بنت جحش -كما سيأتي- وكأنهما كانا يعلمان خط سيره. (أخرجا ما تصرران) قال النووي: هذا هو في معظم الأصول ببلادنا "تصرران" بضم التاء وفتح الصاد وكسر الراء المشددة، وبعدها راء أخرى، ومعناه تجعلانه في صدوركما من الكلام؟ وكل شيء جمعته فقد صررته، ووقع في بعض النسخ "تسرران"؟ بالسين، من السر، أي ما تقولانه لي سراً؟ . وذكر القاضي عياض مع هاتين الروايتين روايتين. إحداهما "تصدران"؟ بإسكان الصاد وبعدها دال، ومعناه ماذا ترفعان إلي؟ والثانية "تصوران" بفتح الصاد وتشديد الواو مكسورة. قال النووي: والصحيح ما قدمناه عن معظم نسخ بلادنا. (فتواكلنا الكلام) أي وكل كل منا الكلام للآخر، أي قال هذا لهذا: تكلم. وقال ذلك لهذا: تكلم، رهبة وحرجاً من كل منهما. (ثم تكلم أحدنا) لم يشأ أن يعينه، وهو عنده معين بيقين، لأن شأنهم الستر فيما يجرح، وفي عدم الاستجابة لمطلبهم جرح، فيفهم من هذا أن المتكلم كان الفضل. (وقد بلغنا النكاح) أي صلاحية النكاح والإنجاب، أي بلغنا الحلم، كقوله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح .... } [النساء: 6].

(فسكت طويلاً حتى أردنا أن نكلمه) أي أن نعيد الكلام والطلب إليه. (وجعلت زينب تلمع علينا من وراء الحجاب: أن لا تكلماه) "تلمع" بضم التاء وإسكان اللام وكسر الميم، من ألمع الرباعي، ويجوز فتح التاء والميم من لمع الثلاثي، يقال: ألمع ولمع إذا أشار بثوبه أو بيده، وفي بعض النسخ "تلمع إلينا" وكان ذلك بعد الأمر بالحجاب، فلم يرياها، وإنما رأوا تحرك الحجاب بتحريك يدها يميناً وشمالاً. وإنما فعلت ذلك لترشدهما إلى ما ينبغي، بناء على سبق معرفتها بحاله صلى الله عليه وسلم، وأن سكوته عن مطلب معناه عدم إجابته. (إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد) وهما إذا عملا عليها أخذا منها، ولو في مقابل العمل. (إنما هي أوساخ الناس) قال النووي: معناه أن الصدقة تطهير لأموال الناس نفوسهم، كما قال تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} [التوبة: 103] فهي كغسالة الأوساخ، وهذا القول منه صلى الله عليه وسلم كالتنبيه على العلة في منعها عن آل محمد صلى الله عليه وسلم، وسيأتي مزيد لذلك في فقه الحديث. (ادعوا لي محمية -وكان على الخمس- ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب) يريد صلى الله عليه وسلم أن لا يردهما خائبين، وأن يبدلهما خيراً مما طلبا. فمحمية -بميم مفتوحة ثم حاء ساكنة، ثم ميم مكسورة ثم ياء مفتوحة مخففة، ابن جزء بفتح الجيم وسكون الزاي بعدها همزة، ويقال -جزي- بكسر الزاي، ويقال -جز- بتشديد الزاي، كل ذلك بفتح الجيم- رجل قديم الإسلام من مهاجرة الحبشة من بني زبيد، وقيل: من بني أسد. (فأنكحه) أي قبل إنكاحه وأعلن ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم تمهيداً للعرض على الزوجة وحضور الشاهدين. (وقال لنوفل بن الحارث ... ) معنى هذا أن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث تزوج ابنة عمه نوفل بن الحارث. (وقال لمحمية: أصدق عنهما من الخمس كذا وكذا) "كذا وكذا" كناية عن مبالغ حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يشأ الراوي أن يذكر المبلغ المأمور به. وكأنهما طلبا العمل ليستعينا به على تحصيل صداق للزواج، فلما كان العمل المطلوب غير جائز منحا الصداق، قيل: من سهم ذوي القربى من الخمس، لأنهما من ذوي القربى، وقيل: من سهم النبي صلى الله عليه وسلم من الخمس. (وقال: أنا أبو حسن القرم) قال النووي هو بتنوين "حسن" وأما "القرم" فبالراء [الساكنة بعد القاف المفتوحة] مرفوع [خبر بعد خبر، أو صفة "أبو حسن"] والقرم من الرجال السيد المعظم. قال الخطابي: معناه المقدم في المعرفة بالأمور والرأي، والمقصود من هذا أن علياً رضي الله عنه يشعرهم

ويؤكد لهم أنه من أهل العلم ببواطن الأمور، ومن أهل الخبرة والرأي، وأن ما قال لهم عن عدم موافقة النبي صلى الله عليه وسلم سيقع. قال النووي: هذا أصح الأوجه في ضبطه "القرم" وهو المعروف في نسخ بلادنا، والثاني "القوم" بالواو، بإضافة "حسن" إلى "القوم" ومعناه عالم القوم، وذو رأيهم، والثالث "أبو حسن" بالتنوين، و"القوم" بالواو، مرفوع، أي أنا من علمتم رأيه أيها القوم. وهذا ضعيف، لأن حروف النداء لا تحذف في نداء "القوم" ونحوه. اهـ. (والله لا أريم مكاني) أي لا أفارق مكاني، و"أريم" بفتح الهمزة وكسر الراء. (حتى يرجع إليكما ابناكما بحور ما بعثتما) أي بجواب ما بعثتما، قال الهروي: يقال: كلمته فما رد على حورا ولا حويرا، أي جواباً، قال: ويجوز أن يكون معناه الخيبة، وأصل الحور الرجوع إلى النقص. قال القاضي: وهذا أشبه بسياق الحديث. وأما "ابناكما". فهكذا ضبطناه بالتثنيه، ووقع في بعض الأصول "أبناؤكما" بالجمع، قال: وهو وهم، والصواب الأول. قال: ويصح على مذهب من يجعل أقل الجمع اثنين. اهـ. (ما عندنا من طعام إلا عظم من شاة) أي عظم بلحمه، وليس المقصود عظماً بدون لحم. (أعطيته مولاتي من الصدقة) أي أعطيته من الصدقة جاريتي ومعتوقتي. (قربيه، فقد بلغت محلها) أي قربيه لآكله: فقد زال عنه حكم الصدقة وصار حلالاً لنا، "ومحلها" بكسر الحاء، أي بلغت الصدقة مكانها الذي يجب أن تصله، وهي تنتقل الآن منه بصفة أخرى، وقيل: معنى محلها مكان حلها، أي حيث يحل أكلها، من حل الشيء حلالاً. (عن عائشة: وأتي النبي صلى الله عليه وسلم بلحم بقر) قال النووي: هكذا هو في كثير من الأصول المعتمدة، أو أكثرها "أتي" بغير واو، وكلاهما صحيح والواو عاطفة على بعض من الحديث لم يذكره هنا. اهـ. و"بريرة" بفتح الباء وكسر الراء، إحدى جواري عائشة أو معتوقاتها، والمعطوف عليه مذكور في حديث البخاري، ولفظه "عن عائشة -رضي الله عنها- أنها أرادت أن تشتري بريرة للعتق، وأراد مواليها -[أي ساداتها، وكانت لعتبة بن أبي لهب] أن يشترطوا ولاءها، فذكرت عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: اشتريها [أي والشرط باطل، لأنه مخالف للشرع] فإنما الولاء لمن أعتق. قالت: وأتي النبي صلى الله عليه وسلم بلحم .. " إلى آخر الحديث، أي قالت: حصل في شأن بريرة كذا وأتي النبي. (كان في بريرة ثلاث قضيات) جمع قضية، أي كان للشرع ثلاثة أحكام بسبب ثلاث قضايا تخص بريرة. ذكرت هنا الحكم الأول "هو عليها صدقة ولكم هدية" والحكم الثاني في حديث البخاري المذكور قريباً "الولاء لمن أعتق" والحكم الثالث التخيير في فسخ النكاح حين أعتقت تحت عبد. (إلا أن نسيبة بعثت إلينا) قال النووي: هي "نسيبة" بضم النون وفتح السين، وإسكان الياء، ويقال أيضاً: "نسيبة" بفتح النون وكسر السين، وهي أم عطية.

-[فقه الحديث]- تتعرض هذه الأحاديث بصفة أساسية إلى حكم أكل النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقة، وإلى حكم إعطاء آله صلى الله عليه وسلم من الصدقة. أما الأول: فإن جمهور العلماء على أن الصدقة محرمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، نقل بعضهم الإجماع على ذلك. وفي "المغني": الظاهر أن الصدقة فرضها ونفلها محرمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروايتنا تؤكد ذلك، ففي ملحق الرواية الأولى "أما علمت أنا لا تحل لنا الصدقة"؟ وفي الرواية الثامنة "وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد". وقد قيل في علة المنع: إنها لتشريفه صلى الله عليه وسلم، فإن الصدقة أوساخ الناس، كما جاء في الرواية الثامنة، وبيان ذلك أنها مطهرة للملاك ولأموالهم، قال تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم} فهي كغسالة الأوساخ. ثم إن أخذ الصدقة مذلة، كما جاء في حديث: "اليد العليا خير من اليد السفلى" ولرسول الله صلى الله عليه وسلم اليد العليا. وقيل: لأن اجتنابها كان من دلائل نبوته وعلاماتها، فلم يجز الإخلال به. إذ روي في حديث سلمان يخبر عن أوصافه صلى الله عليه وسلم في كتبهم قال: "إنه يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة". وقيل: لأنه لو أخذها لطال لسان الأعداء بأن محمداً يدعونا إلى ما يدعونا إليه ليأخذ أموالنا، فكان رد الشبهة قوله تعالى: {قل لا أسألكم عليه أجراً} [الأنعام: 90]. ذكره العيني. والأولى اعتبار هذه الأمور كلها كحكمة التشريع، وعند الحكيم علم ما شرع. أما أن ابن تيمية ذكر في الصدقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهين، وأن للشافعي فيها قولين، وأن لأحمد قولاً في حل صدقة التطوع له صلى الله عليه وسلم، وأنه إنما تركها صلى الله عليه وسلم تنزهاً، فهذه الأقوال تردها الأحاديث الصحيحة الكثيرة المشهورة، بل البالغة حد التواتر المعنوي. والله أعلم. وأما الثاني: وهو إعطاء آله صلى الله عليه وسلم من الصدقة فهناك خلاف بين الأئمة والعلماء في المراد من الآل، أهم بنو هاشم خاصة؟ أم هم بنو عبد المطلب؟ أم المراد بهم بنو قصي؟ أم بنو غالب؟ أم قريش كلها؟ وهل المراد بهم من كانوا في زمنه صلى الله عليه وسلم؟ أم هم ومن أتى ويأتي من نسلهم إلى يوم القيامة؟ وهل المراد الفقراء منهم؟ أم هم ومن اتصف بصفة أخرى كالعاملين عليها؟ وهل لا يأخذون من الصدقة وإن منعوا من الخمس؟ أم يعطون من الصدقة إذا منعوا من الخمس؟ وهل الحكم يعم الزكاة المفروضة والصدقة المندوبة؟ أو لا يشمل المندوبة؟ وهل لا يأخذون من صدقات المسلمين عامة؟ أم يجوز أن يأخذ الهاشمي من صدقة الهاشمي؟ وهل يلحق بهم مواليهم؟ أم لا يلحقون؟ وفي كل ذلك خلاف بين الفقهاء نعرضه بإيجاز.

نسب النبي صلى الله عليه وسلم، هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن كنانة إلخ .... فهاشم جده الثاني صلى الله عليه وسلم، والقائلون بأن المراد بآله بنو هاشم خاصة هم الحنفية وجمهور المالكية وجمهور الحنابلة، فيدخل في ذلك دخولاً أولياً آل علي، وآل العباس، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل الحارث، لأنهم بنو عبد المطلب الذي هو من بني هاشم. ولهاشم أخ يسمى بالمطلب، أدخل الشافعية وبعض المالكية بنيه مع بني هاشم، باعتبارهم في درجة واحدة، ولحديث: "إن بني هاشم وبني المطلب شيء واحد. وشبك بين أصابعه"، رواه البخاري، وقد سوى بينهم صلى الله عليه وسلم في استحقاق الخمس، وهو حكم واحد يتعلق بذوي القربى، فاستوى فيه الهاشمي والمطلبي. ويرد الحنفية بأن إعطاء بني المطلب من الخمس إنما كان لموالاتهم ونصرتهم، لا لمجرد قرابتهم، أو لذلك مع القرابة، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام"، فقد اشتركوا مع بني هاشم في دخولهم الشعب معه صلى الله عليه وسلم فلا يقاس على الخمس الزكاة، ولا يقاس بنو المطلب على بني هاشم لأن بني هاشم أشرف وأقرب للنبي صلى الله عليه وسلم. وقال أصبغ المالكي: هم بنو قصي، وقال أيضاً: هم عترته الأقربون الذين ناداهم حين أنزل الله: {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214] وهم آل عبد المطلب، وهاشم وعبد مناف، وغالب. وقيل: قريش كلها. وجمهور العلماء على أن المراد بهم من كانوا في زمنه صلى الله عليه وسلم، ومن أتى ويأتي بعدهم إلى يوم القيامة، ونسب إلى الإمام محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة القول بأن الحرمة مخصوصة بزمانه صلى الله عليه وسلم. وذهب كثير من العلماء إلى أنهم لا يعطون من الصدقة بأي صفة من صفات مصارف الزكاة، ولو كانوا عاملين عليها، وروايتنا السابعة والثامنة واضحة في ذلك، وللشافعية وجهان مشهوران مبنيان على أن ما يأخذه العامل على الزكاة من قبيل الأجرة؟ أم من الصدقة؟ فمن قال أنه من قبيل الأجرة من حيث تقديره بأجرة المثل وأنه على وجه العوض أجاز للهاشمي أن يكون عاملاً على الصدقة، ويجيب عن روايتنا بأنهما منعا لأنهما سألا، أو تورعاً وتنزهاً، ومن قال أنه من قبيل الصدقة، لأنه يشبهها من حيث عدم اشتراط عقد الإجارة، ولا مدة معلومة، ولا عمل معلوم منع أن يكون العامل على الزكاة هاشمياً. وعلى هذا قيل: إذا تبرع الهاشمي بعمله بلا عوض، أو دفع الإمام أجرته من بيت المال جاز بلا خلاف. قال الماوردي في "الأحكام السلطانية": يجوز كونه هاشمياً ومطلبياً إذا أعطاه من سهم المصالح.

ولو منعت بنو هاشم حقهم من خمس الخمس بأن انقطع سهمهم من الخمس لخلو بيت المال من الفيء والغنيمة، أو لاستيلاء الظلمة واستبدادهم بها، جاز أخذهم من الزكاة عند بعض العلماء، أما عند الجمهور، وهو الأصح عند الشافعية فإنها لا تحل، لأن الزكاة حرمت عليهم لشرفهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا المعنى لا يزول بمنع الخمس، وقيل: إن منعوا حقهم من الخمس جاز الدفع إليهم من الزكاة، لأنهم إنما حرموا الزكاة لحقهم في خمس الخمس، فإذا منعوا الخمس وجب أن يدفع إليهم من الزكاة، وقيد بعضهم إعطاءهم من الزكاة بحال الضرورة كسائر المحرمات. هذا. ويفرق بعضهم بين الزكاة المفروضة والصدقة المندوبة، فبعض الحنفية وبعض المالكية وفي رواية عن أحمد، وفي وجه عند الشافعية: أن الصدقة على وجه الصلة والتطوع يجوز إعطاؤها لبني هاشم بخلاف الزكاة المفروضة، قالوا: لأنهم منعوا الزكاة لأنها من أوساخ الناس، وصدقة التطوع ليست كذلك، وبعض المالكية يجوزون إعطاء الزكاة المفروضة لبني هاشم دون صدقة التطوع، بدعوى أن الواجب حق لازم، لا يلحق بأخذه ذلة، بخلاف التطوع. والراجح من هذه الأقوال المنع من غير تفريق بين الواجبة والمندوبة، فأحاديث الباب عامة في الصدقة "أما علمت أنا لا نأكل الصدقة"؟ "أنا لا تحل لنا الصدقة"، "لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها". فهذا كله يرجح عدم التفرقة بين الصدقة الواجبة والمندوبة، والله أعلم. وحكي عن أبي يوسف والحنابلة أنها لا تحل من بعضهم لبعض، ولا تحل لهم من غيرهم. ورجح ابن تيمية أنه يجوز لبني هاشم. الأخذ من زكاة الهاشمين، قالوا: إن موجب المنع رفع يد الأدنى عن الأعلى، فأما الأعلى على مثله فلا. والتحقيق أنه لا فرق بين صدقة الهاشمي وصدقة غيره، وعموم الأحاديث تؤكد ذلك، ولم يثبت أن هاشمياً أخذ الزكاة من هاشمي. قال الطبري عن مقالة أبي يوسف: لا القياس أصاب، ولا الخبر اتبع، وذلك أن كل صدقة وكل زكاة أوساخ الناس، وغسالة ذنوب من أخذت منه، هاشمياً أو غيره. ولم يفرق الله ولا رسوله بين شيء منها بافتراق حال المأخوذ منه. أما موالي بني هاشم، أي عتقاؤهم فقد ذهب أبو حنيفة وأحمد وابن الماجشون المالكي وبعض الشافعية إلى أن الزكاة تحرم عليهم، لحديث أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً من بني مخزوم على الصدقة فقال لأبي رافع: [وهو من موالي بني هاشم] اصحبني كيما تصيب منها. فقال: حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسأله. فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: "إنا لا تحل لنا الصدقة، وإن موالي القوم منهم". أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي، وقال: حسن صحيح. وقال الجمهور: يجوز لهم أخذ الصدقة، لأنهم ليسوا منهم حقيقة، ولذلك لم يعوضوا بخمس الخمس. قال الحافظ ابن حجر: ومنشأ الخلاف قوله: "منهم" هل يتناول المساواة في حكم تحريم الصدقة؟ أو لا؟ ويرى الجمهور أنه لا يتناول جميع الأحكام، فلا دليل فيه على تحريم الصدقة.

ومال الحافظ ابن حجر إلى التحريم، فرد على الجمهور بقوله: لكن الحديث ورد على سبب الصدقة، وقول العلماء: هل العبرة بعموم اللفظ أو بخصوص السبب؟ اتفقوا فيه على أنه لا يخرج السبب، واختلافهم في هل يختص بالسبب أو لا؟ فالحديث دليل على المنع. هذا، وروايتنا التاسعة والعاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة واضحات في أن موالي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تحل لهن الصدقة، ولا خلاف في ذلك، لكن هل ذلك لأن الأزواج أنفسهن لا يدخلن في آل محمد صلى الله عليه وسلم الذين لا تحل لهم الصدقة؟ فمواليهن من باب أولى؟ أو الأزواج يدخلن، ولا يدخل مواليهن بالنص؟ . نقل ابن بطال: أن الأزواج لا يدخلن في ذلك باتفاق الفقهاء. لكن اعترض عليه بحديث عن عائشة قالت: "إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة". وإسناده إلى عائشة حسن كما قال الحافظ ابن حجر. وظاهر الأحاديث وواقع حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وحكمة التشريع تؤيد دخولهن في تحريم أخذ الصدقة، فلم يثبت أنهن أعطين من الصدقة في حين ثبت إعطاء مواليهن منها، ولو وقع مرة واحدة لذكر، على أن قوله في الرواية الثانية عشرة: "هو عليها صدقة ولكم هدية فكلوه". واضح في دخولهن في المنع، ثم لو أبيح لهن لعادت الصدقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن نفقتهن لازمة عليه. ورغم أنني أميل إلى دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الحظر لا أرى دخول زوجة هاشمي آخر فيه إذا كانت غير هاشمية، ولا دخول ولد هاشمية من غير هاشمي. والله أعلم. -[ويؤخذ من هذه الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - من الرواية الأولى، من زجر الحسن أن الصبيان يوقون ما يوقاه الكبار، ويمنعون من تعاطي المحرم، وهذا واجب الولي، وإن كانوا غير مكلفين، ليتدربوا على ذلك. 2 - واستنبط بعضهم منه منع الصغيرة من الزينة إذا اعتدت. 3 - ومن قوله: "أما علمت ... إلخ" الإعلام بسبب النهي. 4 - وبمخاطبة من لا يميز، لقصد إسماع من يميز، لأن الحسن إذ ذاك كان طفلاً. قاله الحافظ ابن حجر. 5 - والمبالغة في الزجر لتفخيم الأمر، والاهتمام بالحكم. 6 - ومن ملابسات الحديث دفع الصدقات إلى الإمام. 7 - والانتفاع بالمسجد في الأمور العامة، فقد كانت الصدقات تجمع فيه. 8 - وجواز إدخال الأطفال المساجد. 9 - ومن الروايات الثانية والثالثة والرابعة والخامسة استعمال الورع، لأن هذه التمرة لا تحرم بمجرد الاحتمال. لكن الورع تركها.

10 - ومن الرابعة والخامسة أن التمرة ونحوها من محقرات الأمور لا يجب تعريفها عند اللقطة، بل يباح أكلها والتصرف فيها في الحال، لأنه صلى الله عليه وسلم إنما تركها خشية أن تكون من الصدقة، لا لكونها لقطة. قال النووي: وهذا الحكم متفق عليه، وعلله أصحابنا وغيرهم بأن صاحبها في العادة لا يطلبها ولا يبقى له فيها مطمع. 11 - ومن الرواية السابعة من أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بآذان الغلامين تواضعه صلى الله عليه وسلم ومداعبته وبشاشته وعطفه. 12 - ومن قوله: "أخرجا ما تصرران". يتضح ذكاؤه صلى الله عليه وسلم وألمعيته، ثم أدبه في رفع الحرج عن الآخرين، وفتح باب القول لهم لتصريحهم بما في نفوسهم. 13 - من قولهما: أنت أبر الناس .... إلخ أدب تقديم الثناء على طلب الحاجة. 14 - ومن قوله: "ادعوا لي محمية ونوفل". إرضاء السائل وطالب الحاجة، وجبر خاطره بمساعدة أخرى إذا لم تمكن المساعدة المطلوبة. 15 - ومن طلبه صلى الله عليه وسلم من محمية ونوفل أن ينكحا الغلامين، تأثيره صلى الله عليه وسلم في حياة الصحابة، وتدخله في المصالح الخاصة. 16 - ومدى استجابة الصحابة لإرشاداته صلى الله عليه وسلم دون تردد. 17 - ومن الرواية الرابعة عشرة تحريم الصدقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم دون الهدية. قالوا: وإنما يأكل الهدية دون الصدقة لأن الهدية تبعث على التآلف، وتدعو غالباً إلى المحبة، وقد جاء في الحديث: "تهادوا تحابوا". ومن الجائز أن يثيب عليها بأفضل منها، فتتباعد المنة، وترفع الذلة. 18 - ومن الروايات التاسعة والعاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة تحويل الصدقة عن كونها صدقة وعن كونها أوساخ الناس بمجرد قبض المتصدق عليه لها، لأنه حينئذ يجوز له بيعها وهبتها لصحة ملكه لها. فجاز للرسول صلى الله عليه وسلم وللهاشمي أكله منها. 19 - وأن الأشياء المحرمة لعلل معلومة إذا ارتفعت عنها تلك العلل حلت. 20 - وأن التحريم في الأشياء ليس لعينها، بل لصفة فيها. والله أعلم

(296) باب الدعاء للمتصدق وإرضاء السعاة

(296) باب الدعاء للمتصدق وإرضاء السعاة 2170 - عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال "اللهم صل عليهم" فأتاه أبي أبو أوفى بصدقته فقال "اللهم صل على آل أبي أوفى". 2171 - عن شعبة بهذا الإسناد غير أنه قال "صل عليهم". 2172 - عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أتاكم المصدق فليصدر عنكم وهو عنكم راض". -[المعنى العام]- من أسمى أهداف الإسلام الحرص على حسن العلاقة من المتعاملين، ويزيد اهتمامه بذلك حين يكون أحد المتعاملين قريباً من السلطة أو له نوع من الولاية، ويزداد اهتماماً إذا كانت الأمور تقديرية تختلف فيها الأنظار، ويصبح الوضع أشد حساسية إذا كان المشرع أحد أطراف المعاملة وهنا يتوفر كل دواعي الاهتمام. فالسعاة وهم العاملون على الزكاة رسل الحاكم وعملاؤه وممثلوه في مهمتهم، والحاكم في ذاك الوقت رسول التشريع، والقضية أخذ أموال، والنفس البشرية بطبيعتها تضن به وتحرص عليه. حقاً هناك قواعد واضحة للمعاملة، تقول في كل كذا كذا، ولا تؤخذ كرائم الأموال ونفائسها وأعزها عند المالك، وتحذير للعامل من الظلم فيقول: "واتق دعوة المظلوم، فإنها ليس بينها وبين الله حجاب". كل ذلك قائم، ولكن هناك أيضاً اختلاف أنظار في سن الماشية، وفي جودة أو رداءة نموها، في قوتها أو ضعفها، وفي سمنها أو هزالها، وقد يوجد خلاف أيضاً إذا كانت كثيرة في عدها، والأمر نحو ذلك في الزروع والثمار، وبخاصة ما طريقه الخرص والتقدير. فكان من الضروري أن يحصل خلاف بين العامل على الصدقة وبين رب المال، وكان كثيراً ما

يقع في نفس كل منهما أنه مظلوم، ويخطر في نفس المالك أن العامل يأخذ أكثر من الحق. ويخطر في نفس العامل أن المالك يتهرب من الحق، فيشكو كل منهما الآخر. فماذا يفعل المشرع والحاكم أمام هذه الشكاوي؟ إنه لم يأل جهداً في وصيته لهم حين يبعثهم، لدرجة أن يطلب منهم الدعاء لرب المال بالبركة والإخلاف، ولا يدخر وسعاً في مراقبة تصرفاتهم ومحاسبتهم، لكن الطرف الثاني في حاجة إلى التنبيه والوعظ والتذكير والإيقاظ، إنه في حاجة إلى أن يواجه شح نفسه، ويهذب من حرصه، ويروض طباعه وسلوكه على السخاء والبذل وحسن الأداء والعطاء" {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [الحشر: 9]. إن النفس البشرية جبلت على حب الأخذ دون الإعطاء، وهي حين تدفع الزكاة يغيب عنها أنها تأخذ أكثر مما تعطي، يغيب عنها أنها تأخذ عشرة أمثال ما تعطي، يغيب عنها أن الصدقة تقع في يمين الرحمن قبل أن تقع في يد آخذها، فيربيها -جل شأنه- لصاحبها حتى تكون مثل الجبل، يغيب عنها أن إرضاء الآخذ إرضاء للرب سبحانه وتعالى. من هنا كانت أحاديثنا توصي رب المال بإرضاء السعاة، وإذا أمعنا النظر وجدنا إرضاء السعاة في مصلحة المالك نفسه وليس في مصلحة السعاة. لنفترض حين الاختلاف والشكوى. لنفترض السعاة على صواب مرة وعلى خطأ مرة أخرى، ثم ننظر من المستفيد؟ حين يكون السعاة على حق فيما أخذوا ستخلو عهدة المالك، وينجو من النار، ويثاب ولو رغم أنفه. وحين يكون السعاة على خطأ وقد أخذوا أكثر من الحق، سيضيع على المالك نفع دنيوي، وسيعطى بدله نفعاً أخروياً، سيكون قد اشترى كثيراً بقليل {قل متاع الدنيا قليل} [النساء: 77] ودائماً بزائل، بل لن يضيع عليه نفع دنيوي في حقيقة الأمر وإن ظن ذلك صورة وشكلاً، فالزكاة نماء لا نقص، لأن الله تعالى يمحق الربا ويربي الصدقات، {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين} [سبأ: 39]. فهل يوصي المشرع السعاة بالتساهل مع أرباب الأموال، أو يوصي أرباب الأموال بإرضاء السعاة والمسارعة إلى الاستجابة لهم؟ أي الأمرين خير لأرباب الأموال؟ . لقد اختار المشرع ما هو خير لهم، فقال: "ارضوا مصدقيكم". السعاة الذين يحملون صدقتكم، واستجاب الصحابة لهذه الوصية إذ عرفوا أنها في صالحهم، وها هو الصحابي الجليل جرير بن عبد الله راوي الحديث يقول: "ما صدر عني مصدق، وما انصرف عني ساع، وما رحل من عندي عامل زكاة بعد أن سمعت هذا الحديث -إلا وهو عني راض". رضي الله عنهم أجمعين، وصلى وسلم على مبلِّغ الرسالة الأمين.

-[المباحث العربية]- (اللهم صل عليهم) الصلاة في اللغة الدعاء، وهو من قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم} [التوبة: 103] أي ادعوا لهم بالخير والبركة والإحسان ونحو ذلك. والصلاة من الله الرحمة والمغفرة والإحسان فمعنى "اللهم صل على آل أبي أوفى" اللهم بارك لهم وأحسن إليهم. (فأتاه أبي أبو أوفى) عبد الله بن أبي أوفى من أصحاب بيعة الرضوان، مات سنة سبع وثمانين، وهو آخر من توفى بالكوفة من الصحابة. (بصدقته) أي بزكاته. (اللهم صل على آل أبي أوفى) آل الرجل أهله، وفرقوا بين الآل والأهل بأن الآل تقال عن الأشراف فلا يقال: آل الحجام مثلاً، لكن يقال: أهل الحجام وآل الأمير. ولما كان المطلوب الدعاء للمتصدق، وليس الدعاء للآل قيل: إن لفظ "آل" هنا زائد مقحم، وقيل إن الآل قد يذكر ويراد ذات الشخص، كما قيل ذلك في حديث أبي موسى الأشعري: "لقد أوتي مزماراً من مزامير آل داود". فقد قيل: إن المراد من آل داود، داود نفسه. (إن ناساً من المتصدقين) بفتح الصاد المخففة وتشديد الدال المكسورة، والمصدق هنا هو الذي يأخذ الصدقات، وهو الساعي الذي يعينه الإمام لقبضها، والسعاة هم العاملون على الزكاة. (ملحوظة): ذكر الإمام مسلم رحمه الله تعالى في باب جزاء مانع الزكاة حديث رقم بلفظ: "جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن ناساً من المصدقين، يأتوننا فيظلموننا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ارضوا مصدقيكم" قال جرير: ما صدر عني مصدق منذ سمعت هذا إلا وهو علي راض". ونحن نشرحه هنا. (يأتوننا فيظلموننا) أي يأتوننا لقبض الزكاة، فيأخذون أكثر مما هو مطلوب منا. (ما صدر عني مصدق) أي ما ذهب عني مصدق، وما رجع عني عامل الزكاة. -[فقه الحديث]- هدف الحديثين تنبيه العاملين على الزكاة بأن يحسنوا معاملة أرباب الأموال وأن يكرموهم بالدعاء لهم، وتنبيه أرباب الأموال بأن يحسنوا لقاء العاملين على الزكاة، ويستجيبوا لمطالبهم، بانشراح صدر، وبساطة وجه ليعودوا راضين. جمعتهما في باب واحد لأنهما تنبيه لمتعاملين في معاملة واحدة، والترابط واضح بينهما. أما عن الحديث الأول فيقول النووي: مذهبنا المشهور ومذهب العلماء كافة أن الدعاء لدافع

الزكاة سنة مستحبة، وليس بواجب، وقال أهل الظاهر: هو واجب. قال: وبه قال بعض أصحابنا، واعتمدوا الأمر في الآية: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم} [التوبة: 103] جعلوا الأمر في "صل" للوجوب، وعمموه للأمة. قال: قال الجمهور: الأمر في حقنا للندب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً وغيره لأخذ الزكاة ولم يأمرهم بالدعاء. قال: وقد يجيب الآخرون بأن وجوب الدعاء كان معلوماً لهم من الآية الكريمة. قال: وأجاب الجمهور أيضاً بأن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لدافع الزكاة وصلاته عليه سكن له بخلاف دعاء غيره صلى الله عليه وسلم. اهـ والراجح رأى الجمهور، وأن الدعاء للمزكي مستحب، لأن الزكاة تقع الموقع وإن لم يدع، وقياساً على استيفاء جميع الحقوق إذ لا يجب على مستوفي الحق الدعاء لمؤدي الحق. والله أعلم. ولا يتعين لفظ الصلاة في دعاء آخذ الزكاة للمزكي، بل ذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي والجمهور إلى أنه لا يصلى على غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام استقلالاً، فلا يقال: اللهم صل على آل أبي بكر، ولا على آل عمر، ولكن يصلي عليهم تبعاً، كما جاء في التشهد: "اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم"، وقد أجاز الإمام أحمد الصلاة على غير الأنبياء استقلالاً، استدلالاً بهذا الحديث، ويجيب عنه الجمهور بأن هذا خاص به عليه الصلاة والسلام، فالصلاة عليه حقه، يعطيه لمن يشاء، وليس لغيره ذلك. قال النووي: وأما قول الساعي: اللهم صل على فلان. فكرهه جمهور أصحابنا، وهو مذهب ابن عباس ومالك وجماعة من السلف، وقال جماعة من العلماء يجوز ذلك بلا كراهة، لهذا الحديث، قال أصحابنا: لا يصلى على غير الأنبياء إلا تبعاً، لأن الصلاة في لسان السلف مخصوصة بالأنبياء، صلاة الله وسلامه عليهم، كما أن قولنا [عز وجل] مخصوص بالله سبحانه وتعالى فكما لا يقال: محمد عز وجل وإن كان عزيزاً جليلاً لا يقال: أبو بكر صلى الله عليه وسلم وإن صح المعنى، قال: واختلف أصحابنا في النهي عن ذلك، هل هو نهي تنزيه أو محرم؟ أو مجرد أدب؟ على ثلاثة أوجه، الأصح الأشهر أنه مكروه كراهة تنزيه، لأنه شعار لأهل البدع، وقد نهينا عن شعارهم، والمكروه هو ما ورد فيه نهي مقصود. قال: وقال الشيخ أبو محمد الجويني من أئمة الشافعية: السلام في معنى الصلاة، ولا يفرد به غير الأنبياء، لأن الله تعالى قرن بينهما، ولا يفرد به غائب، ولا يقال: قال فلان عليه السلام. وأما المخاطبة به لحي أو ميت فسنة، فيقال: السلام عليكم أو سلام عليك أو عليكم. والله أعلم. اهـ. وقال النووي في "المجموع": ويستحب الترضي والترحم على الصحابة والتابعين فمن بعدهم من العلماء والعباد وسائر الأخيار، فيقال: رضي الله عنه، أو رحمة الله عليه، أو رحمه الله، ونحو ذلك، وأما ما قاله بعض العلماء أن قول: [رضي الله عنه] مخصوص بالصحابة، ويقال في غيرهم [رحمه الله] فقط فليس كما قال، ولا يوافق عليه، بل الصحيح الذي عليه الجمهور استحبابه ودلائله أكثر من أن تحصى، فإن كان المذكور صحابياً ابن صحابي قال [رضي الله عنهما] ليشمله وأباه جميعاً. اهـ.

أما صيغة الدعاء التي استحبها الشافعي لتقال لدافع الزكاة فهي أن يقول: آجرك الله فيما أعطيت، وجعله لك طهوراً، وبارك لك فيما أبقيت. وهدف الحديث الثاني الوصايا بالسعاة وطاعة ولاة الأمور، وجمع كلمة المسلمين، وصلاح ذات البين، قال النووي: وهذا كله ما لم يطلب الساعي جوراً فلا موافقة له ولا طاعة، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أنس في "صحيح البخاري": "فمن سئلها على وجهها فليعطها، ومن سئل فوقها فلا يعط". واختلف أصحابنا في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "فلا يعط". فقال أكثرهم: لا يعطى الزيادة، بل يعطى الواجب. وقال بعضهم: لا يعطى شيئاً أصلاً، لأنه يفسق بطلب الزيادة، وينعزل، فلا يعطى شيئاً، بل يخرج الواجب بنفسه أو يدفعه إلى ساع آخر، وهذا إذا طلب الزائد بغير تأويل، كمن طلب شاتين عن شاة، فأما من طلب زيادة بتأويل، بأن كان مالكياً، يرى أخذ الكبيرة عن الصغار فإنه يعطى الواجب بلا خلاف، ولا يعطى الزائد، لأنه لا يفسق ولا يعصي والحالة هذه. والله أعلم. ويتعلق بهذا الحديث أمور ذكرها النووي في "المجموع": الأول: قال: قال أصحابنا: يجب على الإمام بعث السعاة لأخذ الصدقات، لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده كانوا يبعثون السعاة، ولأن في الناس من يملك المال ولا يعرف ما يجب عليه، ومنهم من يبخل، فوجب أن يبعث من يأخذ. الثاني: قال: واتفقوا على أنه يشترط في الساعي أن يكون مسلماً حراً عدلاً، فقيهاً في أبواب الزكاة. ولا يشترط فقهه في غير ذلك. الثالث: قال: قال الشافعي والأصحاب: للمالك أن يفرق زكاة ماله الباطن بنفسه، وهذا لا خلاف فيه. ونقل أصحابنا فيه إجماع المسلمين. قال: والأموال الباطنة هي الذهب والفضة والركاز وعروض التجارة وزكاة الفطر [وإنما سميت باطنة لأنها لا يعرف حدودها وقيمتها إلا صاحبها غالباً]. ثم قال: وله أن يوكل في صرف الزكاة التي له تفريقها بنفسه [أي زكاة الأموال الباطنة] فإن شاء وكل في الدفع إلى الإمام أو الساعي، وإن شاء وكل في الدفع إلى الأصناف الثمانية، وإنما جاز التوكيل في ذلك مع أنها عبادة لأنها تشبه قضاء الديون، ولأنه قد تدعو الحاجة إلى الوكالة، لغيبة المال عن المالك، وسواء وكله في دفعها من مال الموكل أو من مال الوكيل، فهما جائزان بلا خلاف. ثم قال: وله صرفها [أي زكاة الذهب والفضة والركاز وعروض التجارة وزكاة الفطر] إلى الإمام والساعي، فإن كان الإمام عادلاً أجزأه الدفع إليه بالإجماع، وإن كان جائراً أجزأه على المذهب الصحيح المشهور. اهـ. ولست مع هذا القول المشهور، فإنه والحالة هذه قد دفع زكاته باختياره لمن يعلم أنه لن يضعها في مكانها وحقها، فلا يخلو من التبعة، ولا تقع زكاته موقعها. لكن إن طلبها الإمام الجائر دفعها إليه، وتخلو عهدته، لأن طاعته واجبة.

ثم قال: وهل الأفضل التفريق بنفسه أو الدفع إلى الإمام العادل؟ [ومازال الكلام في زكاة الذهب والفضة والركاز وعروض التجارة وزكاة الفطر] فيه وجهان، أصحهما عند الجمهور الدفع إلى الإمام، لأنه يتيقن سقوط الفرض بهذا الدفع، بخلاف تفريقه بنفسه، فقد يصادف التفريق غير مستحق، ولأن الإمام أعرف بالمستحقين، وبالمصالح، ويقدر الحاجات، وأعرف بمن أخذ من قبل ومن لم يأخذ. ولأن الإمام يقصد من المحتاجين والمستحقين لها. وظاهر نص الشافعي أن تفريقها بنفسه أفضل، فقد قال في "المختصر": وأحب أن يتولى الرجل قسمها بنفسه، ليكون على يقين من أدائها عنه. والله أعلم. أما الأموال الظاهرة، وهي الماشية والزروع والثمار ففي تفريقها بنفسه أو دفعها إلى الإمام قولان: القول الأول: يجب دفعها إلى الإمام، وإن كان الإمام جائراً، فإن فرقها بنفسه لزمه الضمان إن طلبها الإمام، لقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} ولأنه مال للإمام فيه حق المطالبة، فوجب الدفع إليه، كالخراج والجزية، ولأنه مع الجور نافذ الحكم، وتسقط تبعة المزكي ولو كان الإمام جائراً. فقد روى الإمام أحمد في "مسنده" عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أديت الزكاة إلى رسولك فقد برئت منها إلى الله ورسوله؟ فقال: "نعم إذا أديتها إلى رسولي فقد برئت منها إلى الله ورسوله ولك أجرها، وإثمها على من بدلها". وعن سهيل بن أبي صالح عن أبيه قال: "اجتمع عندي نفقة فيها صدقة -يعني بلغت نصاب الزكاة- فسألت سعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبا هريرة وأبا سعيد الخدري أن أقسمها أو أدفعها إلى السلطان؟ فأمروني جميعاً أن أدفعها إلى السلطان، ما اختلف علي منهم أحد". وفي رواية: "فقلت لهم: هذا السلطان يفعل ما ترون، فأدفع إليه زكاتي؟ فقالوا كلهم: نعم. فادفعها". رواه سعيد بن منصور في "مسنده". وروى أبو داود عن جابر بن عتيك الصحابي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سيأتيكم ركب مبغضون، فإذا أتوكم فرحبوا بهم، وخلوا بينهم وبين ما يبتغون، فإن عدلوا فلأنفسهم، وإن ظلموا فعليها، وارضوهم، فإن تمام زكاتكم رضاهم، وليدعوا لكم". وروى البيهقي بإسناد صحيح أو حسن عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "ادفعوا صدقاتكم إلى من ولاه الله أمركم، فمن بر فلنفسه، ومن أثم فعليها". وروى البيهقي أيضاً بإسناد صحيح أو حسن عن قزعة مولى زياد بن أبيه أن ابن عمر قال: "ادفعوها إليهم وإن شربوا الخمر". ولا خلاف في سقوط التبعة عن المالك في هذه الحالة وإن جار الإمام". القول الثاني: في زكاة الأموال الظاهرة أن المالك له تفريقها بنفسه وإن كان الأفضل دفعها إلى الإمام خروجاً من خلاف من أوجبه، لكنه إن فرقها لا يضمن. انتهى بتصرف. والله أعلم

كتاب الصوم

كتاب الصوم

(297) باب فضل شهر رمضان

(297) باب فضل شهر رمضان 2173 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين". 2174 - عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا كان رمضان فتحت أبواب الرحمة، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين". 2175 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا دخل رمضان" بمثله. -[المعنى العام]- فضل الله بعض البشر على بعض، بل فضل بعض الرسل على بعض {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات} [البقرة: 253]. وفضل بعض الأمكنة على بعض {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً} [آل عمران: 96] {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله} [الإسراء: 1]. وفضل بعض الأزمنة على بعض {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس} [البقرة: 185] {إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم} [الدخان: 3، 4]. {إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر} [القدر]. والمكان يشرف ويفضل عادة بما يحل فيه من فضائل وخيرات، ويهبط ويحقر بما يقع فيه من شر وسوءات، كذلك الزمان يعظم بما يقع فيه من عظائم الأمور، ويقل شأناً بما يقع فيه من محقراتها، فالمكان والزمان ظرفان لما يقع فيهما. ففضل شهر رمضان شرف بإنزال القرآن فيه، وبتشريع عبادة فيه، هي أشبه بعبادة الملائكة، وهي الصوم والإمساك عن الطعام والشراب وكف الشهوات، فإذا أضفنا إلى ذلك فتح أبواب رحمة الرحمن، وزيادة فضله وإكرامه للصائمين، إذ يقول جل شأنه في الحديث

القدسي: "كل عمل يعمله ابن آدم له، والحسنة بعشرة أمثالها، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به". رأينا الفضل الواسع الذي يتفضل الله به على عباده في شهر رمضان، فضل تمكين من العبادة، وتيسير لأدائها، وإبعاد لمعوقاتها، وفضل حصار للمحرمات، وتضييق لمسالكها، وتغليق لمنافذها، وحبس لوسوستها وتزيينها وإغوائها، يتمثل ذلك في فتح أبواب الجنة، وغلق أبواب النار، وسلسلة الشياطين، ثم التفضل بالإثابة على القليل كثيراً، والتفضل بالعفو والتسامح والغفران للهفوات "من تطوع بخصلة فيه كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة فيه كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه". فيا فوز من جاهد فيه نفسه، وغنم خيره، ويا حسرة من تكاسل فيه، وحرم فيه فضل الله. -[المباحث العربية]- (كتاب الصوم) الصوم والصيام مصدران لصام يصوم، وهو لغة: الإمساك، ومنه قوله تعالى: {إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً} [مريم: 26] فهذا صوم وإمساك عن الكلام، والصوم في شرع الإسلام: الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس. قاله ابن قدامة. وقيل: هو إمساك المكلف بالنية عن المفطرات. والتعريف الذي يشمل جميع الخلافات الفقهية أن يقال: إمساك مخصوص عن شيء مخصوص في زمن مخصوص بشرائط مخصوصة. ذكره في "الفتح". (إذا جاء رمضان) وفي الرواية الثانية "إذا كان رمضان" فكان تامة، و"رمضان" فاعل، وفي رواية للبخاري "إذا دخل شهر رمضان" ودخول رمضان يبدأ بمغرب أول ليلة منه. و"رمضان" اسم للشهر المعروف. قال الزمخشري: رمضان من رمض إذا احترق من الرمضاء، فأضيف إليه الشهر وجعل علماً، ومنع الصرف للعلمية والألف والنون، وسموه بذلك لارتماضهم فيه من حر الجوع ومقاساة شدته. وقيل: لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر. وفي "الغريبين": هو مأخوذ من رمض الصائم يرمض إذا حر جوفه من شدة العطش. وفي "المغيث": اشتقاقه من رمضت النصل أرمضه رمضاً إذا جعلته بين حجرين ودققته ليرق، سمي الشهر به لأنه شهر مشقة، ليذكر صائموه ما يقاسي أهل النار فيها. وقيل: من رمضت في المكان يعني احتبست، لأن الصائم يحتبس عما نهي عنه. وقال ابن خالويه: تقول العرب: جاء فلان يغدو رمضاً [بسكون الميم] ورمضاً [بفتحها] وترميضاً ورمضاناً إذا كان قلقاً فزعاً.

وفي المحكم: جمعه رمضانات ورماضين وأرمضة وأرمض. والشهر عدد من الأيام، وجمعه أشهر وشهور. وفي "المحكم": الشهر القمر، سمي بذلك لشهرته وظهوره، وسمي الشهر بذلك لأنه يشهر بالقمر وفيه علامة ابتدائه وانتهائه، ويقال: شهر وشهر [بتسكين الهاء وفتحها] والتسكين أكثر. انتهى بتصرف من "عمدة القارئ". وفيه: كانوا يقولون للمحرم المؤتمر، ولصفر ناجر، ولربيع الأول خوان، ولربيع الآخر وبضان، ولجمادى الأول ربى، ولجمادى الآخرة حنين، ولرجب الأصم، ولشعبان عاذل، ولرمضان نائق، ولشوال وعل، ولذي القعدة ورئة، ولذي الحجة برك. اهـ. (فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار) "فتحت" و"غلقت" بضم أولهما، وكسر ثانيهما مشدداً وروي بتخفيف التاء واللام، وفي الرواية الثانية "فتحت أبواب الرحمة، وغلقت جهنم" وفي رواية للبخاري "فتحت أبواب السماء، وغلقت أبواب جهنم". قال ابن بطال: المراد من "السماء" الجنة، بقرينة ذكر "جهنم" في مقابله. اهـ وأبواب الرحمة تطلق على أبواب الجنة، ففي الحديث: "قال الله للجنة: أنت رحمتي، أرحم بك من أشاء من عبادي". وقال الحافظ ابن حجر: رواية "أبواب الرحمة" ورواية "أبواب السماء" من تصرف الرواة، والأصل "أبواب الجنة"، وفتح أبواب الجنة وتغليق أبواب النار قيل: على الحقيقة ورجحه الزين بن المنير والقرطبي على أساس أنه لا ضرورة تدعو إلى صرف اللفظ عن ظاهره. وقيل: على الكناية وجزم به النوربشتي، شارح "المصابيح" فعلى الأول تكون الجنة موجودة الآن على الحالة التي ستكون عليها في الآخرة، ولها سبعة أبواب تفتح وتغلق. وظاهر قوله: "فتحت" و"غلقت" إذا جاء رمضان أن أبواب الجنة كانت مغلقة وأن أبواب جهنم كانت مفتحة في غير رمضان، وهو احتمال، ويحتمل أن أبوابهما تكون مفتحة في غير رمضان، فغلق أبواب جهنم المفتوحة ظاهر، وفتح أبواب الجنة المفتوحة يراد به زيادة فتحها، أو استمرار فتحها، ويحتمل أن أبوابهما تكون مغلقة في غير رمضان، ففتح أبواب الجنة المغلقة ظاهر، وإغلاق أبواب جهنم المغلقة يراد به زيادة الإغلاق وإحكامه، واستمراره. وفائدة الفتح والإغلاق -على هذا- مع أنه لا دخول ولا خروج، ولا فائدة للبشر منهما -فائدة ذلك إعلام الملائكة بدخول شهر رمضان، وتعظيم حرمته. قاله القاضي عياض. وقال الطيبي: فائدة فتح أبواب السماء توقيف الملائكة على استحماد فعل الصائمين، وأنه من الله بمنزلة عظيمة، وفيه إذا علم المكلف ذلك بإخبار الصادق ما يزيد في نشاطه، ويتلقاه بأريحتيه. اهـ ولا شك أن علم المؤمن أن الجنة المزينة الجميلة المعدة له تفتح أبوابها في هذا الشهر لمضاعفة حسنات الطاعات يزيده نشاطاً للطاعة وحرصاً عليها والتنافس فيها. وعلى القول الثاني: وأن هذا التعبير كناية -ومن المعلوم أن الكناية لفظ أطلق وأريد منه لازم معناه مع صحة إرادة المعنى الأصلي -قال النوربشتي: فتح أبواب السماء كناية

عن تنزل الرحمة، وإزالة العلق عن مصاعد أعمال العباد، تارة ببذل التوفيق، وأخرى بحسن القبول، وغلق أبواب جهنم كناية عن تنزه أنفس الصوام من رجس الفواحش، والتخلص من البواعث عن المعاصي بقمع الشهوات. وقال القاضي عياض: يحتمل أن يكون إشارة إلى كثرة الثواب والعفو، ويحتمل أن يكون فتح أبواب الجنة عبارة عما يفتحه الله لعباده من الطاعات، وذلك سبب لدخول الجنة، وغلق أبواب النار عبارة عن صرف الهمم عن المعاصي الآيلة بأصحابها إلى النار. اهـ. وقيل: إن ذلك إشارة إلى أن الطريق إلى الجنة في شهر رمضان سهل لأن الأعمال فيه مضاعفة الأجر، والعفو والرحمة فيه تظل العباد. وكل هذه المعاني متقاربة. والله أعلم. (وصفدت الشياطين) بضم الصاد وتشديد الفاء المكسورة، أي شدت بالأصفاد، وهي الأغلال، وهي بمعنى "سلسلت" في الرواية الثانية، أي شدت بالسلاسل. قال الحليمي: يحتمل أن يكون المراد من الشياطين مسترقي السمع منهم، وأن تسلسلهم يقع في رمضان، لأنهم كانوا منعوا في زمن نزول القرآن من استراق السمع. فزيدوا التسلسل مبالغة في الحفظ. وقال بعضهم: المراد بالشياطين بعضهم، وهم المردة منهم، فقد أخرج الترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم: "صفدت الشياطين ومردة الجن". وفي رواية: "وتغل فيه مردة الشياطين". وهذا على القول بحقيقة التعبير، وأن هناك تصفيداً فعلياً لشياطين حقيقيين. وفائدة هذا التصفيد قيل: منعهم من أذى المسلمين، وإضعاف إغوائهم على المعاصي. وقيل: رفع عذر المكلف، كأنه يقال له: قد كففت الشياطين عنك، فلا تعتل بهم في ترك الطاعة ولا في فعل المعصية. ويمكن جعل القول الأول فائدة التصفيد، والقول الثاني فائدة إخبار الصادق صلى الله عليه وسلم بالتصفيد. قال القرطبي: فإن قيل: كيف ونحن نرى الشرور والمعاصي واقعة في رمضان كثيراً؟ فلو صفدت الشياطين لم يقع ذلك؟ فالجواب أنها إنما تقل عن الصائمين للصوم الذي حوفظ على شروطه، وروعيت آدابه، أو المصفد بعض الشياطين، وهم المردة، لا كلهم كما جاء في بعض الروايات، أو المقصود تقليل الشرور فيه، وهذا أمر محسوس، فإن وقوع ذلك فيه أقل من غيره، إذ لا يلزم من تصفيدهم جميعهم أن لا يقع شر ولا معصية، لأن لذلك أسباباً غير الشياطين، كالنفوس الخبيثة والعادات القبيحة والشياطين الإنسية. أما القول بأن التعبير مراد به الكناية فقيل: إن اشتغال المسلمين بالصوم فيه كف وقمع للشهوات، واشتغالهم بالمحافظة على آداب الصوم من ترك قول الزور والعمل به، واشتغالهم بالذكر وقراءة القرآن بالإضافة إلى تغمد المسلمين بفضل الله ورحمته وعفوه، كل ذلك يجعل الشياطين كأنهم عاجزون مكتوفو اليدين. فتصفيد الشياطين كناية عن عجزهم عن تحقيق أهدافهم من غواية الصائمين وإيقاعهم في الشرور والمعاصي.

-[فقه الحديث]- في فضل شهر رمضان وردت أحاديث كثيرة، ولئن كان بعضها ضعيف الإسناد فإنها في مجموعها تتعاضد وترتقي إلى الحسن، وهي في مجموعها ترسم صورة مشرقة نورانية لشهر رمضان، تتفق هذه الصورة وصورة التكريم له في القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة. من هذه الأحاديث ما رواه الطبراني بلفظ: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوماً -وحضر رمضان- "أتاكم رمضان، شهر بركة، يغيثكم الله فيه، فينزل الرحمة، ويحط الخطايا، ويستجيب فيه الدعاء، ينظر الله إلى تنافسكم ويباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيراً، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله عز وجل". وما رواه الطبراني أيضاً بلفظ: "ذاكر الله في رمضان مغفور له، وسائل الله فيه لا يخيب". وما رواه أبو يعلى عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -وقد أهل رمضان: "لو يعلم العباد ما في رمضان لتمنت أمتي أن تكون السنة كلها رمضان". وما رواه ابن عساكر عن أبي هريرة يرفعه قال: "ويغفر فيه إلا لمن نأى. قالوا: ومن نأى يا أبا هريرة؟ قال: الذي يأبى أن يستغفر الله عز وجل". وما رواه النسائي بلفظ: "تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب النار، وتغل فيه الشياطين، وينادي مناد كل ليلة، يا باغي الخير هلم، ويا باغي الشر أقصر". وما رواه الحارث بن أبي أسامة في "مسنده" عن سلمان الفارسي قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر يوم من شعبان فقال: "أيها الناس. قد أظلكم شهر عظيم، شهر مبارك، فيه ليلة خير من ألف شهر، فرض الله صيامه، وجعل قيام ليله تطوعاً، فمن تطوع فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة فيه كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر والصبر ثوابه الجنة، وهو شهر المواساة، وهو شهر يزاد فيه رزق المؤمن، من فطر صائماً كان له عتق رقبة". قيل: يا رسول الله، ليس كلنا يجد ما يفطر به الصائم؟ قال: "يعطي الله هذا الثواب لمن فطر صائماً على مذقة لبن أو تمرة أو شربة ماء، ومن فطر صائماً كان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء، وهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار". وقد أفاض العلماء في جواز أو كراهة قول: "رمضان" بانفراد من غير لفظ: "شهر" لدرجة جعلت البخاري يخصص لذلك باباً فيقول: هل يقال: رمضان؟ أو شهر رمضان؟ ومن رأى كله واسعاً. ثم أتبع ذلك بقوله: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان". وقال: "لا تقدموا رمضان". ثم أتبع ذلك بحديث الباب: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة". وعنون النسائي لذلك أيضاً، فقال: باب الرخصة في أن يقال لشهر رمضان رمضان. ثم أورد

حديث أبي بكرة مرفوعاً: "لا يقولن أحدكم: صمت رمضان ولا قمته كله". وحديث ابن عباس: "عمرة في رمضان تعدل حجة". وحاصل أقوالهم أنه نقل عن عطاء ومجاهد أنهما كانا يكرهان أن يقولا: رمضان. وإنما يقولان: شهر رمضان. ونقل القول بالكراهة عن أصحاب مالك. واعتمدوا في وجهة نظرهم على ثلاث ركائز: الأولى: أن القرآن الكريم ذكره بعنوان "شهر رمضان". الثانية: ما أخرجه ابن عدي في الكامل من حديث أبي هريرة مرفوعاً: "لا تقولوا رمضان، فإن رمضان اسم من أسماء الله، ولكن قولوا: شهر رمضان". الثالثة: احتمال أن يكون حذف كلمة "شهر" من الأحاديث التي وردت بذكر "رمضان" من غيرها، احتمال أن يكون من تصرف الرواة. وجمهور العلماء على جواز ذكر "رمضان" من غير ذكر "شهر" مطلقاً. وأجابوا عن ركائز الذاهبين إلى الكراهة بأن ذكر القرآن للفظ "شهر" وذكر الأحاديث الكثيرة الصحيحة للفظ "رمضان" من غير شهر دليل جواز. أما حديث ابن عدي فهو ضعيف بتصريح المحدثين. وقال كثير من الشافعية وابن الباقلاني: إن كان هناك قرينة تصرفه إلى الشهر فلا كراهة، وإلا فيكره. قالوا: فيقال: صمنا رمضان، وقمنا رمضان، ورمضان أفضل الأشهر، وتطلب ليلة القدر في أواخر رمضان، وأشباه ذلك، ولا كراهة في هذا كله. قالوا: وإنما يكره أن يقال: جاء رمضان، ودخل رمضان، وأحب رمضان. قال النووي: والصواب أنه لا كراهة في قول: رمضان مطلقاً، والمذهبان الآخران فاسدان، لأن الكراهة إنما تثبت بنهي الشرع، ولم يثبت فيه نهي، وقولهم: إنه من أسماء الله تعالى ليس بصحيح، ولم يصح فيه شيء، وأسماء الله تعالى توقيفية، لا تطلق إلا بدليل صحيح، ولو ثبت أنه اسم لم يلزم منه كراهة، وقد ثبتت أحاديث كثيرة في الصحيحين في تسمية رمضان من غير شهر في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم. اهـ. والله أعلم

(298) باب وجوب الصوم لرؤية هلال رمضان

(298) باب وجوب الصوم لرؤية هلال رمضان 2176 - عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر رمضان فقال "لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن أغمي عليكم فاقدروا له". 2177 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فضرب بيديه فقال "الشهر هكذا وهكذا وهكذا (ثم عقد إبهامه في الثالثة) فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته. فإن أغمي عليكم فاقدروا له ثلاثين". 2178 - عن عبيد الله رضي الله عنه بهذا الإسناد وقال "فإن غم عليكم فاقدروا ثلاثين" نحو حديث أبي أسامة. 2179 - عن عبيد الله رضي الله عنه بهذا الإسناد وقال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم رمضان فقال "الشهر تسع وعشرون، الشهر هكذا وهكذا وهكذا" وقال "فاقدروا له ولم يقل ثلاثين". 2180 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه. فإن غم عليكم فاقدروا له". 2181 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الشهر تسع وعشرون. فإذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا. فإن غم عليكم فاقدروا له". 2182 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا. فإن غم عليكم فاقدروا له". 2183 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الشهر تسع وعشرون ليلة لا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه إلا أن يغم عليكم فإن غم عليكم فاقدروا له". 2184 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "الشهر هكذا وهكذا وهكذا وقبض" إبهامه في الثالثة. 2185 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "الشهر تسع وعشرون". 2186 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الشهر هكذا وهكذا وهكذا عشراً وعشراً وتسعاً". 2187 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الشهر كذا وكذا وكذا" وصفق بيديه مرتين بكل أصابعهما ونقص في الصفقة الثالثة إبهام اليمنى أو اليسرى. 2188 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الشهر تسع

وعشرون" وطبق شعبة يديه ثلاث مرار وكسر الإبهام في الثالثة. قال: عقبة وأحسبه قال "الشهر ثلاثون" وطبق كفيه ثلاث مرار. 2189 - عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا وهكذا" وعقد الإبهام في الثالثة "والشهر هكذ وهكذا وهكذا" يعني تمام ثلاثين.

2190 - عن الأسود بن قيس بهذا الإسناد ولم يذكر للشهر الثاني ثلاثين. 2191 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رجلاً يقول الليلة ليلة النصف. فقال له ما يدريك أن الليلة النصف؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "الشهر هكذا وهكذا (وأشار بأصابعه العشر مرتين) وهكذا (في الثالثة وأشار بأصابعه كلها وحبس أو خنس إبهامه) ". 2192 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يوماً". 2193 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته. فإن غمي عليكم فأكملوا العدد". 2194 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غمي عليكم الشهر فعدوا ثلاثين". 2195 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الهلال فقال "إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا. فإن أغمي عليكم فعدوا ثلاثين". 2196 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه". 2197 - عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم أقسم أن لا يدخل على أزواجه شهراً.

قال الزهري: فأخبرني عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما مضت تسع وعشرون ليلة أعدهن دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم (قالت بدأ بي). فقلت: يا رسول الله إنك أقسمت أن لا تدخل علينا شهراً وإنك دخلت من تسع وعشرين أعدهن. فقال "إن الشهر تسع وعشرون". 2198 - عن جابر رضي الله عنه أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتزل نساءه شهراً فخرج إلينا في تسع وعشرين. فقلنا: إنما اليوم تسع وعشرون. فقال "إنما الشهر" وصفق بيديه ثلاث مرات وحبس إصبعاً واحدة في الآخرة. 2199 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: اعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه شهراً فخرج إلينا صباح تسع وعشرين. فقال بعض القوم: يا رسول الله إنما أصبحنا لتسع وعشرين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إن الشهر يكون تسعاً وعشرين" ثم طبق النبي صلى الله عليه وسلم بيديه ثلاثاً مرتين بأصابع يديه كلها والثالثة بتسع منها. 2200 - عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم حلف أن لا يدخل على بعض أهله شهراً. فلما مضى تسعة وعشرون يوماً غدا عليهم (أو راح). فقيل له: حلفت يا نبي الله أن لا تدخل علينا شهراً. قال "إن الشهر يكون تسعة وعشرين يوماً". 2201 - عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على الأخرى. فقال "الشهر هكذا وهكذا" ثم نقص في الثالثة إصبعاً. 2202 - عن محمد بن سعد عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الشهر هكذا وهكذا وهكذا" عشراً وعشراً وتسعاً مرة.

2203 - عن كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام. قال: فقدمت الشام فقضيت حاجتها. واستهل علي رمضان وأنا بالشام. فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر. فسألني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، ثم ذكر الهلال، فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة. فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية. فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه. فقلت: أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وشك يحيى بن يحيى في نكتفي أو تكتفي. 2204 - عن أبي البختري قال: خرجنا للعمرة فلما نزلنا ببطن نخلة. قال: تراءينا الهلال. فقال بعض القوم هو ابن ثلاث. وقال بعض القوم هو ابن ليلتين. قال: فلقينا ابن عباس فقلنا: إنا رأينا الهلال، فقال بعض القوم هو ابن ثلاث، وقال بعض القوم هو ابن ليلتين. فقال أي ليلة رأيتموه؟ قال: فقلنا ليلة كذا وكذا. فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الله مده للرؤية فهو لليلة رأيتموه". 2205 - عن أبي البختري قال: أهللنا رمضان ونحن بذات عرق فأرسلنا رجلاً إلى ابن عباس رضي الله عنهما يسأله. فقال ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله قد أمده لرؤيته فإن أغمي عليكم فأكملوا العدة". 2206 - عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "شهرا عيد لا ينقصان رمضان وذو الحجة". 2207 - عن أبي بكرة رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال "شهرا عيد لا ينقصان" في حديث خالد "شهرا عيد رمضان وذو الحجة".

-[المعنى العام]- ربط الإسلام بين العبد وربه بالعبادات الواجبة في أوقات مختلفة من أزمنة عمره، فأوجب عبادة واحدة في العمر كله، وهي الحج، وجعل لها أشهراً معلومات، وأوجب عبادة شهر من كل عام، وهي صوم رمضان، وأوجب صلاة خاصة مرة في كل أسبوع، وهي صلاة الجمعة، وأوجب خمس صلوات كل يوم وليلة. وحين ترتبط العبادة بالزمن يحدد المشرع بدايتها ونهايتها. ومما هو معلوم أن الزمن في دنيانا يرتبط بحركة الشمس والقمر والنجوم في أفلاكها فقد خلقها الله خلقاً محكماً في نظام دقيق، لا يختل، ولا يتذبذب تحركه صعوداً أو هبوطاً، لا بمرور الدهور، ولا بزيادة الدافع أو نقصه. إن قوة الدفع التي يصنعها المخلوق تتأثر بعوامل كثيرة ليست من صنعه، أما صنعة الله جل جلاله فلا تتأثر إلا بما شاء. {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون} [يونس: 5]. {وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلاً} [الإسراء: 12]. وحين يعلم العبد البداية والنهاية يستخدم ما يشعره بهذه البداية من الوسائل، فاستخدمت الساعات، ومن قبلها المزاول لتحديد أوقات الصلوات، واستخدمت وسائل العلم المختلفة المتطورة التحديد الزمني الدقيق، واستخدمت الآلات الحديثة للحساب بحيث تحسب في لحظة ما كان حسبه الإنسان في أيام أو سنوات. وشهر رمضان شرع الله صومه، وتحديد بدايته ونهايته يتطلب وسيلة من الوسائل التي يتمكن منها المسلم. و {لا تكلف نفس إلا وسعها} [البقرة: 233] فحين كانت أمة الإسلام لا تقرأ ولا تكتب ولا تحسب. ولا تدرس منازل القمر وعلم الفلك ربطت هذه العبادة برؤية هلال الشهر، فصدر التشريع الإلهي على لسان محمد صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين يوماً". "الشهر -العربي- هكذا - مشيراً بأصابع كفيه- وهكذا- مشيراً بها مرة أخرى. تلك عشرون -وهكذا، وفي الثالثة أخفى إبهامه لتصير تسعاً". هذه إشارة لشهر، وإشارة أخرى لشهر آخر، يصفق بأصابع يديه العشر ثلاث مرات، فالشهر تسع وعشرون ليلة أحياناً، وثلاثون ليلة أحياناً. وعلى هذا التوجيه الكريم صام المسلمون بحكم قاضيهم بدخول الشهر إذا شهد عنده من يكتفي بشهادته أنه رأى الهلال، وبحكم بانتهاء الشهر إذا شهد عنده بأن قدر رؤي هلال الشهر الآخر. وبعد أن صارت أمة الإسلام أمة قارئة كاتبة حاسبة، من أبنائها متخصصون في علم الفلك وحركات الكواكب وعلوم الفضاء تحركت الأسئلة الجادة عن مقصود الشرع بالرؤية، وهل هي وسيلة لعبادة؟ أو مقصودة بالعبادة؟ .

هل نبقى معتمدين عليها كوسيلة العلم الوحيدة؟ أو نعتمد عليها وعلى غيرها من وسائل العلم القطعية، باعتبارها كثيراً ما يعتورها النقص والخلل؟ . وفي كل عصر نجد المتمسكين بالقديم، المعتزين به، المتهمين لكل جديد بالقصور، المتوجسين منه خيفة، المتشككين في كفاءته وقدرته، كما نجد المسارعين إلى الجديد، الداعين إلى التطور والتخلص من الجمود، والفريق الأول بالنسبة للأمور الشرعية لا يذم، فدافعه ديني وحرص على سلامة العبادة، وتمسك بالنصوص، والفريق الثاني ينفذ إلى حكمة التشريع، وإلى روح العبادة ومقاصدها، وكل مجتهد إن أخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران، ونحيل بعد ذلك ما تحتاج من معاني أحاديث الباب إلى المباحث العربية وفقه الحديث ففيهما غناء عن التطويل إن شاء الله. -[المباحث العربية]- (لا تصوموا حتى تروا الهلال) أي لا تصوموا رمضان حتى تروا هلاله، والخطاب لأمته، لكن يكفي رؤية واحد منها أو اثنين على ما سيأتي. (ولا تفطروا حتى تروه) أي لا تفطروا في نهاية رمضان حتى تروا هلال شوال. وفي الرواية الثالثة "فلا تصوموا حتى تروه" وفي الرواية الرابعة "فإذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا". (فإن أغمي عليكم) في الرواية الثالثة "فإن غم عليكم" وفي الرواية الرابعة عشرة "فإن غمي عليكم" "غم" بضم الغين وتشديد الميم، يقال: غممت الشيء إذا غطيته، وغم الهلال أي ستر على الناس، ومنه الغم، لأنه يستر القلب بالحزن، وسمي السحاب غيماً لأنه يستر السماء، و"أغمي" بضم الهمزة وسكون الغين وكسر الميم، و"غمي" بضم الغين وكسر الميم مخففة ومشددة. قال الحافظ ابن حجر: الكل بمعنى. وقال النووي: يقال: غامت السماء وغيمت وأغامت وتغيمت وأغمت. وفي رواية "غبي" بفتح الغين وكسر الباء مخففة من الغباوة، وهي عدم الفطنة، وهي استعارة لخفاء الهلال، وروى "عمي" بالعين، وهو بمعناه. (فاقدروا له) بضم الدال وكسرها، يقال: قدرت الشيء أقدره بضم الدال، وأقدره بكسرها، وقدرته بتشديد الدال، وأقدرته بمعنى واحد، وهو من التقدير، ومنه قوله تعالى: {فقدرنا فنعم القادرون} [المرسلات: 23]. قاله الخطابي. وفي المعنى المراد قالت طائفة: معناه ضيقوا له وقدروه تحت السحاب، أي ظنوا أنه تحت السحاب، وأوجب هؤلاء صيام ليلة الغيم. وقال آخرون: معناه قدروه بحساب المنازل، يعني منازل القمر. ومعناه عند الجمهور قدروا له تمام العدد ثلاثين يوماً، عملاً بالرواية الثانية وفيها "فاقدروا له ثلاثين" والثالثة عشرة، وفيها "فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يوماً" والرابعة عشرة وفيها "فأكملوا العدد" والخامسة عشرة والسادسة عشرة "فعدوا ثلاثين" وللبحث تتمة في فقه الحديث.

(فضرب بيديه) في الرواية التاسعة "وصفق بيديه" وفي الرواية المتممة للعشرين "ثم طبق بيديه" والمعنى أنه نشر أصابع يديه العشرة واضعاً كفاً على كف، والسبابة على السبابة والوسطى على الوسطى ثم باعد بين الكفين ناشراً الأصابع في مواجهة المخاطبين. (وقال: الشهر هكذا وهكذا وهكذا) أي صفق بيديه ونشرهما مرة ومرة ومرة، وعقد إبهامه في المرة الثالثة، وفي الرواية السابعة "الشهر هكذا وهكذا وهكذا، قبض إبهامه في الثالثة" وفي الرواية الثامنة "الشهر هكذا وهكذا وهكذا، عشرا وعشراً وتسعاً" وفي الرواية التاسعة "الشهر كذا وكذا وكذا، وصفق بيديه مرتين بكل أصابعهما، ونقص في الصفقة الثالثة إبهام اليمنى أو اليسرى" وفي الرواية العاشرة "الشهر تسع وعشرون" "وطبق الراوي يديه ثلاث مرار، وكسر الإبهام في الثالثة" وفي الرواية الثانية عشرة "الشهر هكذا وهكذا -وأشار بأصابعه العشر مرتين- وهكذا في الثالثة -وأشار بأصابعه كلها، وحبس أو خنس إبهامه" وفي الرواية التاسعة عشرة "إنما الشهر -وصفق بيديه ثلاث مرات وحبس إصبعاً واحدة في الأخرة" وفي الرواية المتممة للعشرين "الشهر يكون تسعاً وعشرين -ثم طبق النبي صلى الله عليه وسلم بيديه ثلاثاً مرتين بأصابع يديه كلها، والثالثة بتسع منها" وفي الرواية الثانية والعشرين "ضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيديه على الأخرى، فقال: الشهر هكذا وهكذا، ثم نقص في الثالثة إصبعاً" وفي ملحقها "الشهر هكذا وهكذا وهكذا، عشراً وعشراً وتسعاً مرة". وهذه التعبيرات المختلفة لإشاراته صلى الله عليه وسلم لا تناقض بينها، وكلها تحكي حالة واحدة، وقصة واحدة، حاصلها أنه صلى الله عليه وسلم أشار أولاً بأصابع يديه العشر جميعاً مرتين. وقبض الإبهام في المرة الثالثة، وهذا المعبر عنه في بعض الروايات بقوله: "تسع وعشرون" وأشار مرة أخرى بأصابع يديه العشر ثلاث مرات، وهو المعبر عنه في ملحق الرواية العاشرة "الشهر ثلاثون -وطبق كفيه ثلاث مرار" لكن أكثر الرواة اقتصر على ذكر حالة قبض الإبهام في الثالثة. (الشهر تسع وعشرون) في الرواية الثالثة "إنما الشهر تسع وعشرون" وفي الرواية السادسة "الشهر تسع وعشرون ليلة" وفي الرواية الثانية عشرة "إن الشهر تسع وعشرون" وفي الرواية المتممة للعشرين "إن الشهر يكون تسعاً وعشرين" وفي الرواية الحادية والعشرين "إن الشهر يكون تسعة وعشرين يوماً" ومن المعلوم أن العدد من الثلاث إلى التسع يذكر مع المؤنث ويؤنث مع المذكر فإن حذف المعدود جاز تذكير العدد على تقدير معدود مؤنث، وتأنيث العدد على تقدير معدود مذكر وأكثر الروايات على تذكير العدد "تسع" بدون التاء، فتمييزه "ليلة". وقد جاءت الرواية الثالثة بطريق الحصر "إنما" والروايات الأخرى بتعريف "الشهر" مما ظاهره الحصر أيضاً، مع أن الحصر غير مراد قطعاً، ولهذا قال الحافظ ابن حجر: والجواب أن المعنى أن الشهر يكون تسعة وعشرين -وهذا الجواب لا يصلح مع رواية "إنما" لو صح لفظها أو اللام للعهد، والمراد شهر بعينه- كأنه قال: هذا الشهر، أو إنما هذا الشهر- أو هو محمول على الأكثر الأغلب، لقول ابن مسعود: "ما صمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم تسعاً وعشرين أكثر مما صمنا ثلاثين". أخرجه أبو داود والترمذي، ومثله عن عائشة عند أحمد بإسناد جيد [واستدلال الحافظ ابن حجر بهذا الحديث على

أكثرية التسع والعشرين غير مسلم، فكما حمل "ما" في "ما صمنا" على أنها موصول يمكن لآخرين أن يحملوها على النفي] لكن إرادة الكثرة -لا الأكثرية- من الحديث صحيحة، فالمعنى "الشهر كثيراً- تسع وعشرون" أو "إنما الشهر -كثيراً- تسع وعشرون" وأشار ابن العربي إلى أن في الأسلوب اكتفاء، فقد جاء بالحصر من جهة أحد طرفيه، وحذف الطرف الآخر، وهو مراد، والمعنى: إنما الشهر تسع وعشرون وثلاثون، أي يكون تسعاً وعشرين، وهو أقل عدد أيامه، ويكون ثلاثين وهو أكثر عدد أيامه، فلا تأخذوا أنفسكم بصوم الأكثر احتياطاً، ولا تقتصروا على الأقل تخفيفاً، ولكن اجعلوا عبادتكم مرتبطة ابتداء وانتهاء باستهلال الهلال. وليس معنى ذلك التناسق بين الشهور، شهر تسع وعشرون وشهر ثلاثون، وإنما المعنى أنه أحياناً يكون كذا وأحياناً يكون كذا، وقد يتوالى شهران وأكثر بحالة واحدة، قال النووي: قالوا: وقد يقع النقص في شهرين وثلاثة وأربعة، ولا يقع في أكثر من أربعة. اهـ. (فلا تصوموا حتى تروه) أي الهلال، لدلالة السياق عليه. (إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب) "إنا" أي العرب، والأولى ما قاله الطيبي: إنه كناية عن جيل العرب الذين قيل فيهم هذا القول. وقيل: أراد نفسه صلى الله عليه وسلم. فإن قصد من هذا القول أنه أراد نفسه ومن يشبهه من الأمة في عدم الكتابة والحساب فحسن، وإن قصد منه أنه أراد نفسه فقط معظماً فهو بعيد، لأن الحكم المبني على هذا موجه إلى المكلفين. والأمة بضم الهمزة، وكسرها لغة، وهي في الأصل الجماعة، ومنه قوله تعالى: {وجد عليه أمة من الناس يسقون} [القصص: 23] وكل جنس من الحيوان أمة، قال تعالى: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم} [الأنعام: 38] وتطلق على الطريقة والدين والنحلة، فيقال: فلان لا أمة له، أي لا دين له. وتطلق على الرجل المنفرد بدين، ومنه قوله تعالى: {إن إبراهيم كان أمة} [النحل: 120]. قاله ابن الأثير. و"أمية" منسوبة إلى الأم وتفسيرها "لا نكتب ولا نحسب" لأن الأم والمرأة شأنها ذلك غالباً، أو معناه باقون على ما ولدتنا عليه أمهاتنا. وقال الداودي: "أمة أمية" لم تأخذ عن كتب الأمم قبلها، إنما أخذت عما جاء به الوحي. اهـ وهذا القول بعيد جداً، إذ لو أريد ذلك لقيل: غير أمية، أي غير آخذة عن الأمم، ثم إن إتباعها بقوله: "لا نكتب ولا نحسب" يزيد هذا القول بعداً. وقيل: منسوبون إلى أم القرى، وهو أشد بعداً. والمراد من الحساب هنا حساب النجوم، وحساب سيرها في أفلاكها، قال تعالى: {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب} [يونس: 5] فإن قيل: إن أمة العرب حينذاك كان فيهم من يكتب ويحسب؟ أجيب بأن الكتابة كانت فيهم عزيزة نادرة، قال تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم} [الجمعة: 2] ولم يكونوا يعرفون من ذلك الحساب إلا النزر اليسير المبني على الظن والتخمين، لا على العلم واليقين.

(الليلة ليلة النصف) أي من رمضان. (ما يدريك أن الليلة النصف) بالرفع خبر "أن" ومعناه أنك لا تدري أن الليلة نصف ليالي الشهر أم لا؟ لأن الشهر قد يكون تسعاً وعشرين، فلا تكون الليلة ليلة اليوم الذي بتمامه يتم النصف. (وإذا رأيتموه فأفطروا) أي إذا رأيتموه في نهاية رمضان فأفطروا. (فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يوماً) فإن غم عليكم في نهاية رمضان فصوموا اليوم المتمم للثلاثين. وهو معنى {ولتكملوا العدة} [البقرة: 185] الآتي في الرواية الآتية، أي عدة شهر رمضان. (صوموا لرؤيته) اللام فيها للتأقيت، لا للتعليل، وفيه مجاز المشارفة، لأن وقت الرؤية وهو الليل لا يكون محلاً للصوم، وحتى من قال: إن المراد من الصوم نيته، والليل كله ظرف للنية، أي انووا الصيام، يلزمه كذلك مجاز المشارفة، لأن الناوي ليس صائماً حقيقة، بل مشرف ومقارب للصوم بدليل أنه يجوز له الأكل والشرب بعد النية إلى طلوع الفجر. (لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين) "لا تقدموا" بفتح التاء والقاف، أي لا تتقدموا، أي لا تستقبلوه بصوم يوم ولا يومين، قيل: ولا بأكثر حتى نصف الشهر، وسيأتي مزيد للبحث في فقه الحديث. (فخرج إلينا صباح تسع وعشرين) قال النووي: أي صباح الليلة بعد تسعة وعشرين يوماً، وهي صبيحة ثلاثين. اهـ أي صبيحة اليوم المتمم للثلاثين. وتوضيح الحادثة أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتزل نساءه صبيحة يوم، صلى الفجر، ثم دخل المشربة، وأخذ يصلي بالناس كل يوم وكل وقت ثم يصعد، لا يكاد يكلم أحداً، وأنهى الاعتزال، فلم يصعد بعد صلاة فجر اليوم المتمم للثلاثين، فتكون مدة اعتزاله تسعاً وعشرين ليلة وتسعة وعشرين يوماً، ويكون بذلك قد بر بيمينه، فلفظ الشهر يطلق على تسع وعشرين؛ وليس شرطاً أن يكون الاعتزال قد بدأ بليلة أول الشهر، فلم يثبت ذلك في أي من الروايات، ولا مانع من أن يكون الشهر الذي شغل الاعتزال أكثره لا مانع أنه كان تسعة وعشرين يوماً، يشهد لذلك قول عائشة: "أعدهن" ولم تقل: أشاهد الهلال مثلاً، أو لم ينته شهر كذا مثلاً. والروايات كلها تستقيم على هذا، فقول جابر في الرواية التاسعة عشرة: "فخرج إلينا في تسع وعشرين"، معناه في نهاية تسع وعشرين ليلة، وقولهم في الرواية نفسها: "إنما اليوم تسع وعشرون" معناه نهاية تسع وعشرين ليلة، وقولهم في الرواية المتممة للعشرين "فخرج إلينا صباح تسع وعشرين، أي صباح الليلة التاسعة والعشرين، وقولهم: "إنما أصبحنا لتسع وعشرين" أي لتسع وعشرين ليلة، وقول أم سلمة في الرواية الحادية والعشرين: "فلما مضى تسعة وعشرون يوماً" أي تسع وعشرون ليلة "غدا عليهم أو راح".

(عن كريب أن أم الفضل) "كريب" بضم الكاف وفتح الراء مولى ابن عباس. "وأم الفضل" زوجة العباس رضي الله عنهم. (واستهل على رمضان وأنا بالشام) "استهل" بضم التاء وكسر الهاء، ومعناه هل، يقال: هل الهلال هلا. ظهر، وهل الشهر: ظهر هلاله. (فرأيت الهلال ليلة الجمعة) أي ورآه الناس كما رأيته، واستقر رمضان بالشام وأصبح الناس هناك صائمين يوم الجمعة. (في آخر الشهر) أل العهد. أي آخر شهر رمضان. (ثم ذكر الهلال، فقال: متى رأيتم الهلال) بالشام؟ وهذا كله توضيح للسؤال نفسه، والخطاب في "رأيتم" مقصود به كريب وأهل الشام. فقوله: "رأيناه" أي أنا وغيري. (أنت رأيته)؟ استفهام حقيقي للتثبت من الرائي. (فلا نزال نصوم) أي سنظل نصوم حسب رؤيتنا. (تراءينا الهلال) أي تكلفنا النظر إلى جهته لنراه، أي قصدنا رؤيته لتقدير عمره. (إن الله مده للرؤية) في الرواية الخامسة والعشرين "إن الله قد أمده لرؤيته". قال النووي: هكذا في بعض النسخ، وفي بعضها: "فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله مده للرؤية". وجميع النسخ متفقة على "مده" من غير ألف في الرواية الأولى، وفي الثانية "قد أمده" بالألف في أوله في جميع النسخ. قال القاضي: قال بعضهم: الوجه أن يكون "أمده" بالتشديد من الإمداد، ومده من الامتداد. قال القاضي: والصواب عندي بقاء الرواية على وجهها، ومعناه أطال مدته إلى الرؤية، وقد يكون "أمده" من المدة التي جعلت له، قال صاحب "الأفعال": أمددتكها أي أعطيتكها. انتهى. فالمعنى أعطاه الله مدة. (فهو لليلة رأيتموه) هذا من تتمة كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، أي إن الله أعطاه مدة بقاء في السماء أول ليلة لتتمكنوا من رؤيته، فهو ابن الليلة التي نراه فيها، أي فهو يثبت لليلة التي يرى فيها، وفي الرواية الخامسة والعشرين "فإن أغمي عليكم فأكملوا العدة" أي فإن لم تروه في أول ليلة مع مد الله له لحصول غيم أو خلافه فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً. (شهرا عيد) فسرهما فيما بعد بقوله "رمضان وذي الحجة" أما ذو الحجة فظاهر أن العيد يقع فيه" فينسب إليه، وأما رمضان فالعيد يليه ويقع في شوال، فإضافته إليه لقربه منه. (لا ينقصان) قال الحافظ ابن حجر: اختلف العلماء في معناه، فمنهم من حمله على ظاهره، فقال: لا يكون رمضان ولا ذو الحجة أبداً إلا ثلاثين. وهذا قول مردود. معاند

للموجود المشاهد، ويكفي في رده قوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة"، فإنه لو كان رمضان أبداً ثلاثين لم يحتج إلى هذا. قال: ومنهم من تأول له معنى لائقاً. وذكر أقوالاً تزيد على سبعة: قيل: لا ينقصان معاً، فلا يكونان في عام ثمانية وخمسين يوماً، إن جاء أحدهما تسعاً وعشرين جاء الآخر ثلاثين ولا بد. نسب هذا إلى أحمد. نقل ذلك الترمذي. قال: قال أحمد: معناه لا ينقصان معاً في سنة واحدة. كما نسب إلى البزار قوله: معناه لا ينقصان جميعاً في سنة واحدة، واستند إلى حديث مرفوع "شهرا عيد لا يكونان ثمانية وخمسين يوماً". قال الطحاوي: حمل الحديث على هذا يدفعه العيان، لأنا قد وجدناهما ينقصان معاً في أعوام. وقيل: لا ينقصان معاً في سنة واحدة على طريق الأكثر الأغلب وإن ندر وقوع ذلك. قال الحافظ ابن حجر: وهذا أعدل مما تقدم. وقيل: معناه لا ينقصان في عام بعينه، وهو العام الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم تلك المقالة. نقله القرطبي. والمعنى عليه: لا ينقصان معاً هذا العام. وقيل: معناه لا ينقصان في نفس الأمر في أي عام، لكن ربما حال دون رؤية الهلال مانع. أشار إليه ابن حبان. ولا يخفى بعده. وقيل: معناه لا يليق وصفهما بالنقصان وإن حصل فعلاً النقص الحسي باعتبار العدد، فإن نقص العدد فيها ينجبر بأن كلاً منهما شهر عيد عظيم. وقيل: لا ينقصان في الأحكام، على معنى أن الأحكام فيهما وإن كانا تسعة وعشرين؛ متكاملة غير ناقصة عن حكمهما إذا كانا ثلاثين. جزم به البيهقي وقبله الطحاوي. وقيل: لا ينقصان، أي لا ينقص أحدهما في فضل أيامه عن الآخر. وقيل: لا ينقصان في الفضيلة، سواء أكانا تسعاً وعشرين أم ثلاثين، وهذا يقتضي أن التسوية في الثواب بين الشهر الذي يكون تسعة وعشرين وبين الشهر الذي يكون ثلاثين، فالثواب متعلق بالشهر لا بالأيام فيه. وهذا القول أقرب الأقوال وأحراها بالقبول. وإنما خصهما بالذكر لتعلق حكم الصوم والحج بهما، وفائدة الحديث رفع ما يقع في القلوب من شك لمن صام تسعة وعشرين أو وقف في غير يوم عرفة إذا لم يحصل تقصير في ابتغاء الهلال. انتهى من فتح الباري بتصرف. -[فقه الحديث]- يجمع هذه الأحاديث تعلقها بالهلال، وإن تشعبت مسائلها إلى شعب نجملها في أربع:

الأولى: بم يثبت هلال الشهر؟ . الثانية: اختلاف المطالع. الثالثة: صوم يوم الشك. الرابعة: ما يؤخذ من الأحاديث من الأحكام المتفرقة. 1 - أما عن الشعبة الأولى فظاهر الأحاديث توقف ثبوت الهلال على رؤية العين المجردة. وتوقف وجوب الصوم عليها، بل تفيد النهي عن الصوم بدونها، ففي الرواية الأولى والثالثة والسادسة "لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه" وفي الروايات الرابعة والخامسة والثالثة عشرة والسادسة عشرة "إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا" وفي الرواية الثانية والرابعة عشرة "صوموا لرؤيته". ولا خلاف في أن الخطاب في "صوموا" و"لا تصوموا" للأمة، ولكن الخطاب في "تروا" لا يقصد به جميع أفرادها قطعاً، وإنما المراد حتى يثبت برؤية عدل منكم، أو برؤية عدلين منكم، أو برؤية جمع منكم، خلاف بين الفقهاء على أقوال كثيرة. القول الأول: يقبل ويثبت هلال رمضان بعدل ذكر حر واحد، لما رواه أبو داود والدارقطني والبيهقي بإسناد صحيح على شرط مسلم عن ابن عمر قال: "تراءى الناس الهلال، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته، فصام النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر الناس بالصيام". ولأنه إيجاب عبادة، فقبل من واحد احتياطاً للفرض، ولم يقبل من العبد والمرأة لأنه شهادة كسائر الشهادات، ويشترط لفظ الشهادة، ويختص بمجلس القاضي. أما هلال شوال فلا يقبل فيه إلا شاهدان عدلان، لأنه إسقاط فرض فاعتبر فيه العدد. وهذا القول هو الأصح عند الشافعية، قال النووي: ولا يجوز الفطر بشهادة عدل رأى هلال شوال عند جميع العلماء إلا أبا ثور، فجوزه بعدل. القول الثاني: هو كالقول الأول، إلا أنه يقبل قول العبد والمرأة، على أساس أنه رواية، كرواية الأحاديث. وهذا رأي عند الشافعية. القول الثالث: لا يثبت هلال رمضان إلا بشهادة عدلين، ولا مدخل للنساء والعبيد في هذه الشهادة، ويشترط لفظ الشهادة، ويختص بمجلس القاضي كذا قال بعض الشافعية. القول الرابع: يشترط لثبوت هلال رمضان رجلان أو رجل وامرأتان. حكاه ابن المنذر عن الثوري. ولا خلاف في كل هذا عند الشافعية بين أن تكون السماء مصحية أو مغيمة. القول الخامس: قال أبو حنيفة: إن كانت السماء مغيمة، ثبت بشهادة واحد، ولا يثبت غير رمضان إلا باثنين. قال: وإن كانت مصحية، لم يثبت رمضان بواحد ولا باثنين، ولا يثبت إلا بعدد

الاستفاضة، واحتج له بأنه يبعد أن ينظر الجماعة الكبيرة إلى مطلع الهلال، وأبصارهم صحيحة، ولا مانع من الرؤية، ويراه واحد أو اثنان منهم. وأجاب النووي عن هذا الاحتجاج بأنه مخالف للأحاديث الصحيحة، فلا يعرج عليه، ثم إنه يجوز أن يراه بعضهم دون جمهورهم لحسن نظره أو غير ذلك، وليس هذا ممتنعاً، ولهذا لو شهد برؤيته اثنان أو واحد وحكم به حاكم لم ينقض بالإجماع، ووجب الصوم بالإجماع. اهـ. القول السادس: قال أحمد: عند عدم الغيم يصوم بواحد، ويفطر بخبر حر أو حرتين، أما إذا كان بالسماء علة فجمع عظيم يقع العلم بخبرهم. قيل: خمسون، وقيل: مائة، وقيل: أكثر. والصحيح أن خبر الصغير المميز لا يكفي. اللهم إلا عند من يرى أنها رواية ويكتفي بخبر الواحد، أما الكافر والفاسق والمغفل فلا يقبل قولهم بالإجماع بلا خلاف، ولا خلاف في اشتراط العدالة الظاهرة، والخلاف في اشتراط العدالة الباطنة، والأصح قبول رواية المستور. (مسألة) قال النووي: إذا قبلنا في هلال رمضان عدلاً، وصمنا ثلاثين يوماً فلم نر الهلال بعد الثلاثين فهل نفطر؟ قولان. أصحهما نفطر. اهـ. ومع أن ظاهر الأحاديث كما ذكرنا -يرتب ثبوت الهلال على الرؤية، ويرتب الصوم على ثبوت الهلال، وينهى عن الصوم عند عدم الرؤية، ومع أن جمهور العلماء أخذوا بهذا الظاهر، وقالوا: لا نتعبد إلا بالرؤية، بحجة أن الحساب والتنجيم تخمين وظن، يحسن بنا أن نستعرض أقوالهم في ذلك ثم نناقشها لعلنا نصل -بعون الله- إلى ما هو أصلح وأصح بالنظر لحكمة مشروعية الصوم، والله المستعان على ما نقول. قال النووي: إذا غم الهلال وعرف رجل بالحساب أنه من رمضان فوجهان، قال ابن سريج: يلزمه الصوم، لأنه عرف الشهر بدليل، فأشبه من عرفه بالبينة. وقال غيره: لا يصوم، لأنا لم نتعبد إلا بالرؤية. وقال الدارمي: لا يصوم بقول منجم. وقال قوم: يلزم الصوم. وقال صاحب "البيان": إذا عرف بحساب المنازل أن غداً من رمضان، أو أخبره عارف بذلك فصدقه، فنوى وصام بقوله فوجهان: أحدهما يجزئه، قاله ابن سريج، واختاره القاضي أبو الطيب؛ لأنه سبب حصل له به غلبة ظن، فأشبه ما لو أخبره ثقة عن مشاهدة، والثاني لا يجزئه، لأن النجوم والحساب لا مدخل لها في العبادات. قال: وهل يلزمه الصوم بذلك؟ قال ابن الصباغ: أما الحساب فلا يلزمه بلا خلاف بين أصحابنا، وذكر صاحب "المهذب" أن الوجهين في الوجوب. هذا كلام صاحب "البيان". وقطع صاحب "العدة" بأن الحاسب والمنجم لا يعمل غيرهما بقولهما. وقال المتولي: لا يعمل غير الحاسب بقوله، وهل يلزمه هو الصوم بمعرفة نفسه الحساب؟ فيه وجهان. قال الروياني: من عرف منازل القمر لا يلزمه الصوم به على الأصح. وقال البغوي لا يجوز تقليد المنجم في حسابه، لا في الصوم ولا في الفطر. قال النووي: فحصل في المسألة خمسة أوجه: أصحها: لا يلزم الحاسب ولا المنجم ولا غيرهما بذلك، لكن يجوز لهما دون غيرهما، ولا يجزئهما عن فرضهما.

الثاني: يجوز لهما ويجزئهما. الثالث: يجوز للحاسب ولا يجوز للمنجم. الرابع: يجوز لهما، ويجوز لغيرهما تقليدهما. الخامس: يجوز لهما، ولغيرهما تقليد الحاسب دون المنجم. اهـ. وقال العيني عند شرح حديث: "فاقدروا له": المراد إكمال العدة ثلاثين كما فسره في حديث آخر، ولا يجوز أن يكون المراد حساب النجوم، لأن الناس لو كلفوا به ضاق عليهم، لأنه لا يعرفه إلا الأفراد، والشارع إنما يأمر الناس بما يعرفه جماهيرهم. وقال عند شرح حديث: "فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين". ظاهره ينفي تعليق الحكم بالحساب أصلاً، إذ لو كان الحكم بعلم من ذلك لقال: فاسألوا أهل الحساب. ثم قال: قال ابن بزيزة: نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم، لأنه حدس وتخمين ليس فيها قطع ولا ظن غالب، مع أنه لو ارتبط الأمر بها لضاق الأمر، إذ لا يعرفها إلا القليل. وقال ابن بطال وغيره: إننا لم نكلف في تعريف مواقيت صومنا ولا عبادتنا ما نحتاج فيه إلى معرفة حساب ولا كتابة، إنما ربطت عبادتنا بأعلام واضحة وأمور ظاهرة، يستوي في معرفة ذلك الحساب وغيرهم. اهـ. هذه خلاصة ما قيل في عدم الاعتماد على الفلك والحساب عند تقدير الشهور، وهي تعتمد على نقاط، نوردها ثم نناقشها. النقطة الأولى: قوله صلى الله عليه وسلم: "إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب". وهذه قضية حالة، انتهت، فلم تعد أمة الإسلام أمة أمية، بل أصبحت أمة تكتب وتحسب، فلا يستصحب الحكم المبني عليها لما بعدها. وظاهر الحديث تعليل الاعتماد على رؤية الهلال عليها، والمعلول يدور وراء علته وجوداً وعدماً، فقول العيني: علق الشارع الصوم وغيره بالرؤية لرفع الحرج عن أمته في معاناة حساب التيسير، واستمر ذلك بينهم ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك هذا القول غير مقبول، إذ يشبه قول من يقول: إن حكم المعلل بعلة يستمر وإن زالت علته. النقطة الثانية: قولهم: [لا نتعبد إلا بالرؤية] وهذه قضية لم يلتزم بها أصحاب هذا القول ولا غيرهم، فقد تعبد جميع المسلمين ويتعبدون بالتقويم الحسابي في أوقات الصلاة، ولم يعودوا يعتمدون على رؤية الفجر الصادق والكاذب حتى يتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ولا على رؤية غياب الشفق، ولا أن يصير ظل كل شيء مثله ... إلخ. النقطة الثالثة: حملهم قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن غم عليكم فاقدروا له" روايتنا الأولى والثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة على أن المراد بها إكمال العدة ثلاثين يوماً كما جاء في بعض الروايات، فاعتمدوها، وقال العيني: إنها تنفي تعلق الحكم بالحساب أصلاً، إذ لو كان الحكم يعلم من ذلك لقال فاسألوا أهل الحساب. اهـ.

وهذا تحكم، فللروايات الأولى معنى مستقل "فاقدروا له" يختلف تماماً عن معنى "فأكملوا العدة" إذ إكمال العدة لا يحتاج إلى تقدير، فلم لا نجعل الروايتين لحالتين، حالة يمكن معها التقدير الحسابي لوجود علمائه وحالة يصعب معها التقدير الحسابي فتكمل العدة، ويصبح المعنى فاقدروا له بالحساب إن أمكن، وأكملوا العدة ثلاثين يوماً إن لم تتمكنوا من التقدير، فتعمل الروايتين على مقامين مختلفين، على أن الإمام أحمد وغيره فسروا "فاقدروا له" على أن المراد: فاقدروا له بالحساب. النقطة الرابعة: قول ابن بزيزة: نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم، لأنه حدس وتخمين ليس فيها قطع ولا ظن غالب. وهذه قضية حالة انتهت أيضاً، وأصبح الفلك والحساب علماً دقيقاً، له قواعده وأصوله التي تنتج نتائج قطعية، فهي تخبر عن موعد الخسوف والكسوف قبل أن يحصل بعام، أو أكثر، ولا يخطئ هذا التحديد جزءاً من الثانية، وهو معتمد على سير الكواكب في أفلاكها، والله تعالى يقول: {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب} [يونس: 5]. النقطة الخامسة: قول ابن بطال وغيره: إننا لم نكلف في تعريف مواقيت صومنا ولا عبادتنا ما نحتاج فيه إلى معرفة حساب ولا كتابة، وقولهم: إن الناس لو كلفوا بالحساب ضاق عليهم، لأنه لا يعرفه إلا أفراد والشارع إنما يأمر الناس بما يعرفه جماهيرهم. وهذه قضية مردودة عليهم، لأن الناس أيضاً لم يكلفوا جميعاً بالرؤية، بل لم يكلف جماهيرهم بالرؤية، ولو كلفوا بها لضاق عليهم، لأنه لا يتمكن منها إلا أفراد، واكتفى الشارع بواحد أو اثنين من الأمة، مع أن علماء الحساب مئات. وإذا سلمنا أننا لم نكلف في عبادتنا مشقة لقوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78] لكن إذا وجدنا بين أيدينا حساباً دقيقاً دون مشقة نتركه ونتكلف المشقة في ترائي الهلال؟ وهل إذا وجدنا بين أيدينا [بوصلة] تحدد جهة القبلة نتركها وننظر إلى الشرق والغرب والشمال والجنوب، ونجتهد في موقعنا من الكعبة لنتجه إليها؟ أيهما أيسر؟ بل أيهما أدق؟ . بل أيهما أكثر احتمالاً للخطأ؟ مائة من العدول يقولون: لم نر الهلال؟ أم قول أهل الحساب أنه لم يولد؟ . هناك مسألة أساسية ينبغي أولاً أن نضعها في الاعتبار، هي أنه لو وافق الحساب الرؤية إثباتاً فلا إشكال، أعني إذا قال الحساب: القمر في السماء، وقال الراءون: رأينا القمر في السماء فلا إشكال ولزم الصوم سواء قلنا: اعتمدنا الحساب، أو قلنا اعتمدنا الرؤية، أو قلنا اعتمدنا الحساب والرؤية معاً، ولو وافق الحساب المترائين نفياً، بأن قالوا: لم نر الهلال، وقال الحساب: إنه لا يوجد الليلة في سمائنا فلا إشكال أيضاً، ولا يثبت الشهر. لكن إذا اختلف الحساب والراءون إثباتاً أو نفياً، فمن نعتمد؟ . هذا الفرض هو الجدير بالبحث.

وأولاً وأخيراً الناس ملزمون بحكم الحاكم، والحاكم مسئول أمام الله عن اجتهاده وحكمه، فإن استقر عنده صحة شهادة الشاهد المثبت حكم بثبوت الهلال، وإن نفاه أهل الحساب، وإن استقر عنده صحة إثبات الحساب لوجود الهلال حكم بثبوته وإن نفاه المتراءون، والأمر في استقرار النفي عنده كذلك. وحكم الحاكم واجب الطاعة في حق غير الرائي وفي حق غير الحاسب باتفاق العلماء، أما الرائي والحاسب فيلزمان بالعمل بعلمهما. والله أعلم. الشعبة الثانية -اختلاف المطالع: والرواية الثالثة والعشرون صريحة في أن الصحابة اعتمدوا وعملوا باختلاف المطالع، وأن لكل إقليم مطلعه ورؤيته، فهي إذ تحكي أن معاوية وأهل الشام صاموا يوم الجمعة على أنه أول رمضان، بناء على رؤيتهم الهلال، وأن أهل المدينة صاموا يوم السبت على أنه أول رمضان، بناء على رؤيتهم، وأن ابن عباس قرر أن لأهل المدينة رؤيتهم، وحين قيل له: ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ رد الكلام على رؤية أهل المدينة، وقال: لا. هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وللعلماء في هذه المسألة وجوه: الأول: إذا رأوا هلال رمضان في بلد لزم الصوم أهل كل بلد يوافق الرؤيا في المطلع أو يسبقه، دون البلاد التي تتأخر عنه في المطلع، وإنما لزم من سبقه لأن خفاءه عنهم كان بعارض حتما، وإلى هذا ذهب جمهور الشافعية. قال النووي: وهذا أصح الآراء، ووجهه الماوردي بقوله: إن الطوالع والغروب قد تختلف لاختلاف البلدان، وإنما خوطب كل قوم بمطلعهم ومغربهم، ألا ترى الفجر قد يتقدم طلوعه في بلد ويتأخر في بلد آخر؟ وكذلك الشمس قد يتعجل غروبها في بلد ويتأخر في بلد آخر، ثم كل بلد يعتبر طلوع فجره وغروب شمسه في حق أهله، فكذلك الهلال. اهـ. الوجه الثاني: إذا رؤي هلال رمضان في بلد لزم الصوم أهل إقليم بلد الرؤية، دون غيرهم، لأن اللزوم يكون بحكم القاضي بناء على شهادة عدل أو عدلين. الوجه الثالث: إذا رؤي هلال رمضان في بلد لزم الصوم أهل البلاد التي تقع منها دون مسافة القصر. قاله جماعة من الشافعية منهم الفوراني وإمام الحرمين والغزالي والبغوي وآخرون من الخارسانيين، ووجهوه بأن اعتبار المطالع يحوج إلى حساب وإلى تحكيم المنجمين، وقواعد الشرع تأبى ذلك، فوجب اعتبار مسافة القصر التي علق بها الشرع كثيراً من الأحكام. قال النووي: وهذا ضعيف، لأن أمر الهلال لا تعلق له بمسافة القصر فالصحيح اعتبار المطالع. الوجه الرابع: إذا رؤي هلال رمضان في بلد لا يلزم الصوم غير أهل بلد الرؤية، نقله ابن المنذر عن عكرمة والقاسم وسالم وإسحق بن راهويه. الوجه الخامس: إذا رؤي هلال رمضان في بلد من بلاد المسلمين لزم الصوم جميع المسلمين في الأرض، لأن فرض الصوم في رمضان لا يختلف باختلاف البلاد، وقد ثبت رمضان.

حكاه ابن المنذر عن الليث والشافعي وأحمد، وقال: ولا أعلمه إلا قول المدني والكوفي يقصد بهما مالكاً وأبا حنيفة (انظر المجموع للنووي). ومن هذا العرض يتضح أن في الأمر اتساعاً؛ بل في العمل بالحساب متسع أيضاً، وبالأخذ بأي قول من أقوال العلماء قبول إن شاء الله. لكن الذي نحب أن ننبه عليه أن لا ترتبط الفتوى بالسياسة، نرضى عن سياسة دولة فنأخذ برؤيتها ونحكم بالصوم، ونختلف معها فلا نأخذ برؤيتها، ونرجئ الصوم فنتبع آخرتنا لهوانا، ونحول ديننا إلى نوازعنا، ونربط شريعتنا بزوابع هي غنية عنها وبريئة منها. والله المستعان. الشعبة الثالثة: صوم يوم الشك، وهو اليوم الذي يعقب التاسع والعشرين من شعبان ويسمى يوم الشك حين لا نجزم أنه من شعبان، أو من رمضان، أما حين الجزم أنه من رمضان فالأمر ظاهر. وصيامه واجب، وحين الجزم بأنه من شعبان فظاهر الرواية السابعة عشرة يمنع صيامه، إذ لفظها: "لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه". قال النووي: في هذا الحديث التصريح بالنهي عن استقبال رمضان بصوم يوم ويومين، لمن لم يصادف عادة له، أو يصله بما قبله، فإن لم يصله ولا صادف عادة له فهو حرام. هذا هو الصحيح في مذهبنا، لهذا الحديث وللحديث الآخر في سنن أبي داود وغيره: "إذا انتصف شعبان فلا صيام حتى يكون رمضان" فإن وصله بما قبله أو صادف عادة له، كمن كانت عادته صوم يوم الاثنين مثلاً، فصادفه فصامه تطوعاً بنية ذلك جاز، لهذا الحديث، وسواء في النهي عندنا لمن لم يصادف عادته ولا وصله يوم الشك وغيره، فيوم الشك داخل في النهي. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: ويلتحق بالوصل والعادة القضاء والنذر، لوجوب الوفاء بهما بالأدلة القطعية، ولا يبطل القطعي بالظن، ثم عرض للحكمة في منع الصوم قبل رمضان، فقال: والحكمة فيه التقوى بالفطر لرمضان، ليدخل فيه بقوة ونشاط، وقيل: الحكمة فيه خشية اختلاط النفل بالفرض، وفيه نظر، لأنه يجوز لمن له عادة. وقيل: لأن الحكم علق بالرؤية، فمن تقدمه بيوم أو يومين فقد حاول الطعن في ذلك الحكم، وهذا هو المعتمد. اهـ. وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن معنى الحديث لا تستقبلوا رمضان بصيام على نية الاحتياط لرمضان، قال الترمذي: العمل على هذا عند أهل العلم، كرهوا أن يتعجل الرجل بصيام قبل دخول رمضان لمعنى رمضان. اهـ وهذا الذي قاله إنما يصح لو أن النهي عن التقدم بيوم فقط، أما التقدم بيومين فلا يتأتى فيه قصد الاحتياط. والذي تستريح إليه النفس أن النهي عن استقبال رمضان بصوم إنما أريد به استقباله بما يليق به من قدسية وفضل وميزة عن بقية الشهور، يضعف وصله بغيره من بهجتها ورونقها وانشراح النفس واستعدادها لاستقبال ما تفتح له الجنان، وتغلق له النيران، وتصفد له مردة الشياطين وتضاعف فيه الحسنات إلخ. وأما الاحتياط فيتصور في يوم الشك نفسه، ولمعنى الشك في كونه من رمضان، وفيه

خلاف بين الفقهاء، وظاهر قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأولى والثالثة والسادسة: "لا تصوموا حتى تروا الهلال" منع صوم يوم الشك، واستدل البخاري على ذلك أيضاً بقول: عمار: "من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم". قال الحافظ ابن حجر: استدل به على تحريم صوم يوم الشك، لأن الصحابي لا يقول ذلك من قبل رأيه، فيكون من قبل المرفوع حكماً ثم قال: ويدخل في يوم الشك صورة الغيم وغيرها. اهـ وعلى هذا جمهور الشافعية. قال العيني: وقد صح عن أكثر الصحابة والتابعين ومن بعدهم كراهة صوم يوم الشك على أنه من رمضان، وجاء ما يدل على الجواز عن جماعة من الصحابة. قال أبو هريرة: لأن أتعجل صوم يوم أحب إلي من أن أتأخر لأني إذا تعجلت لم يفتني وإذا تأخرت فاتني، ومثله عن عمرو بن العاص. وعن معاوية قال: "لأن أصوم يوماً من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوماً من رمضان". وروى مثله عن عائشة وأسماء بنتي أبي بكر. اهـ. وباعث الشك قد يكون غيماً في السماء أو قترة تحول دون رؤية الهلال ليلة الثلاثين من شعبان، وهذه الحالة لا يسميها الإمام أحمد شكا، ويوجب صوم اليوم على أنه من رمضان، وقال الشافعي: لا يجوز صوم هذا اليوم فرضاً ولا نفلاً مطلقاً، ويصح قضاء وكفارة ونذراً، ونفلاً يوافق عادة. وقال مالك وأبو حنيفة: لا يجوز صوم هذا اليوم عن فرض رمضان. ويجوز عما سوى ذلك. وللإمام أحمد قول كقول الشافعي، وثالث يقول: المرجع إلى رأي الإمام في الصوم والفطر. وقد يكون باعث الشك تقاعد الناس عن رؤية الهلال، أو شهادة بالرؤية لم يقبلها الحاكم، وهذه الحالة هي التي يخص أحمد يوم الشك بها، ويذهب فيها ما يذهب فيها وفي سابقتها الجمهور، ويستدل أحمد بما أخرجه بسنده عن نافع قال: "كان ابن عمر إذا مضى من شعبان تسع وعشرون يبعث من ينظر، فإن رأى فذاك، وإن لم ير، ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر أصبح مفطراً، وإن حال أصبح صائماً". ونقل ابن المنذر الإجماع على أن صوم الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال مع الصحو لا يجب بإجماع الأمة. قال: وقد صح عن أكثر الصحابة والتابعين كراهته. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: وخالف الشيعة الإجماع، فأوجبوه مطلقاً. اهـ. -[ويؤخذ من أحاديث الباب فوق ما تقدم]- 1 - من الرواية الثانية وغيرها من تصفيقه صلى الله عليه وسلم بأصابع يديه جواز اعتماد الإشارة المفهمة، وجواز استخدامها ولو لغير الخرس والعجم ومن لا يفهم المنطق. 2 - ومن ربط مواقيت العبادات بالرؤية تيسير التكاليف الشرعية، وأن الدين يسر، {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78]. 3 - واستدل بالأحاديث على أن الثواب ليس مرتبطاً بكمية المشقة دائماً بل لله أن يتفضل بإلحاق

الناقص بالتام في الثواب، وأن كل ما ورد من وعد الثواب على صيام رمضان وقيامه حاصل سواء كان ثلاثين يوماً أو تسعة وعشرين. 4 - واستدل به الإمام مالك في اكتفائه لرمضان بنية واحدة، لأنه جعل الشهر بجملته عبادة واحدة فاكتفى له بالنية. 5 - ومن الرواية الثامنة عشرة وما بعدها جواز حلف الرجل أن لا يدخل على زوجته، وأن يعتزلها إذا حصل منها ما يستدعي ذلك، إذ يقول تعالى: {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن} [النساء: 34]. 6 - وأن اعتزال الرجل لزوجته يمكن أن يكون بترك البيت ولا يكتفي بترك الفراش. 7 - وأن الإنسان إذا أقسم على شيء وبر يمينه أخذ بأخف الأمور، لا بأشدها. (محلوظة): فرع الإمام النووي في "المجموع" على موضوع هذه الأحاديث بعدة فروع، نذكر منها: (أ) لو رأى هلال رمضان وحده، ولم يؤخذ بقوله وشهادته لزمه الصوم وإن أفطر الناس. (ب) لو رأى هلال شوال وحده، ولم يؤخذ بشهادته أفطر سراً، لئلا يعرض نفسه للتهمة. (جـ) لو شرع في الصوم في بلد ثبتت فيه الرؤية، فسافر إلى بلد لم تثبت فيه الرؤية لا يجوز له الفطر، فإن أقام به حتى استكمل ثلاثين يوماً من حين صام أفطر سراً إن صاموا هم يوم الثلاثين. (د) ولو بدأ السفر مفطراً من بلد لم يثبت فيه رمضان إلى بلد ثبت فيه لزمه الإمساك، فإن أقام رمضان كاملاً حتى العيد أفطر معهم ولزمه بعد العيد قضاء يوم، سواء صاموا ثلاثين أو تسعة وعشرين، وإن رجع إلى بلده الأول في رمضان كان حكمه حكم أهل بلده. (هـ) إذا أخبره من يثق به أنه رأى الهلال، فإن اعتقد صدقه لزمه الصوم، كما إذا رأى الهلال بنفسه. والله أعلم

(299) باب صفة الفجر الذي تتعلق به أحكام الصوم

(299) باب صفة الفجر الذي تتعلق به أحكام الصوم 2208 - عن عدي بن حاتم رضي الله عنه لما نزلت {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} قال له عدي بن حاتم: يا رسول الله إني أجعل تحت وسادتي عقالين عقالاً أبيض وعقالاً أسود أعرف الليل من النهار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن وسادتك لعريض إنما هو سواد الليل وبياض النهار". 2209 - عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} قال: كان الرجل يأخذ خيطاً أبيض وخيطاً أسود فيأكل حتى يستبينهما حتى أنزل الله عز وجل {من الفجر} فبين ذلك. 2210 - عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال لما نزلت هذه الآية {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} قال: فكان الرجل إذا أراد الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأسود والخيط الأبيض فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رئيهما. فأنزل الله بعد ذلك {من الفجر} فعلموا أنما يعني بذلك الليل والنهار. 2211 - عن عبد الله رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا تأذين ابن أم مكتوم". 2212 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم". 2213 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنان بلال وابن

أم مكتوم الأعمى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم" قال ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا. 2214 - عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يمنعن أحداً منكم أذان بلال (أو قال نداء بلال) من سحوره فإنه يؤذن (أو قال ينادي) بليل ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم" وقال "ليس أن يقول هكذا وهكذا (وصوب يده ورفعها) حتى يقول هكذا" (وفرج بين إصبعيه). 2215 - عن سليمان التيمي بهذا الإسناد غير أنه قال "إن الفجر ليس الذي يقول هكذا (وجمع أصابعه ثم نكسها إلى الأرض) ولكن الذي يقول هكذا (ووضع المسبحة على المسبحة ومد يديه) ". 2216 - عن سليمان التيمي بهذا الإسناد وانتهى حديث المعتمر عند قوله "ينبه نائمكم ويرجع قائمكم" وقال إسحق: قال جرير في حديثه "وليس أن يقول هكذا ولكن يقول هكذا" (يعني الفجر) هو المعترض وليس بالمستطيل. 2217 - عن سمرة بن جندب رضي الله عنه يقول: سمعت محمداً صلى الله عليه وسلم يقول "لا يغرن أحدكم نداء بلال من السحور ولا هذا البياض حتى يستطير". 2218 - عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يغرنكم أذان بلال ولا هذا البياض لعمود الصبح حتى يستطير هكذا". 2219 - عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا" وحكاه حماد بيديه قال يعني معترضاً.

2220 - عن سوادة قال سمعت سمرة بن جندب رضي الله عنه وهو يخطب يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا يغرنكم نداء بلال ولا هذا البياض حتى يبدو الفجر (أو قال) حتى ينفجر الفجر". -[المعنى العام]- جعل الله للعبادات مواقيت وزعها على الزمان، ليملأ المسلم هذه الأوقات بالعبادة فينسحب أثرها على غيرها من الأوقات، وليدخل في العبادة مرة أخرى بهمة ونشاط. فالصلوات لها مواقيتها، والصيام له مواقيته، له مواقيته بالنسبة للعام، شهر يبدأ برؤية هلاله؛ وينتهي برؤية هلال شوال، وبالنسبة لليوم إمساك يبدأ بطلوع الفجر الصادق وينتهي بغروب شمسه، وغروب الشمس يرى بالعين، ولا يحتاج إلى بيان، ولكن طلوع الفجر، وتمييز لحظة الإمساك الواجب أمر كان يخفى في الإسلام على كثيرين. لقد كتب الصيام من قبل على النصارى، وكتب عليهم أن لا يأكلوا ولا يشربوا ولا ينكحوا بعد النوم، وكتب على المسلمين في أول فرض الصيام مثل ذلك، فكان المسلمون يفعلون كما يفعل أهل الكتاب، إذا نام أحدهم لم يطعم حتى مغرب الليلة القابلة، وشق ذلك على المسلمين، فخفف الله عنهم، وأنزل جل شأنه: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم .. } إلى أن قال {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل} [البقرة: 187]. ففرح بها المسلمون فرحاً شديداً، وظن بعضهم أن المراد بالخيط الحبل، فوضع بعضهم تحت وسادته عقالاً أبيض وعقالاً أسود، وربط بعضهم في رجليه حبلاً أبيض وحبلاً أسود ينظر إليهما إذا أراد الصوم وهو يتسحر، فإذا بان له الأبيض من الأسود في ضوء النهار أمسك، وكان مراد الله بالخيط الأبيض ضوء النهار، وبالخيط الأسود ظلمة الليل، فأنزل قوله تعالى: {من الفجر} فأخذوا يرقبون السماء وضوء الفجر، وهم يعلمون أن ضوءاً يظهر عمودياً في الأفق يسمونه ذنب السرحان يظهر ثم يعقبه ظلام، ثم يظهر بعد قليل ضوء مستعرض في الأفق ينتشر شيئاً فشيئاً، يميناً وشمالاً، فأي الضوءين مراد القرآن؟ وعند ظهور أيهما يمسك من يريد الصيام؟ . وحدد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم المراد بالقول وبالإشارة وبالفعل، جعل بلالاً يؤذن مع الضوء الأول العمودي، وجعل ابن أم مكتوم يؤذن عند بزوغ الضوء الثاني المستعرض، ثم قال لهم: "لا يغرنكم أذان بلال فإنه يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم" وقال: لا يغرنكم بياض الأفق الرأسي المستطيل حتى يظهر البياض المستعرض الأفقي المستطير المنتشر، ليس الفجر الذي يظهر ضوؤه

هكذا، وأشار بيده من أعلى إلى أسفل يرسم عموداً رأسياً، ولكن الفجر هو الذي يظهر ضوؤه هكذا، وأشار بأصابع يديه نحو اليمين والشمال يرسم خطاً أفقياً ممتداً منتشراً. وهكذا وضحت الشريعة وقت الإمساك، وهكذا رحم الله الأمة وخفف عنها وعفا عنها هو مولاها ونعم النصير. -[المباحث العربية]- (عن عدي بن حاتم "لما نزلت") في الكلام حذف، تقديره: عن عدي بن حاتم قال: "لما نزلت .... " وظاهر العبارة أن عدي بن حاتم حضر نزول الآية مسلماً وفعل ما فعل حين نزولها، والواقع غير ذلك، فقد أسلم في السنة التاسعة أو العاشرة من الهجرة، والآية نزلت تشريعاً للصوم الذي فرض في أوائل الهجرة؟ . وقد أجاب الحافظ ابن حجر عن هذا الإشكال بعدة أجوبة. فقال: إما أن يقال: إن الآية تأخر نزولها عن نزول فرض الصوم، وهو بعيد جداً، وإما أن يؤول قول عدي هذا على أن المراد بقوله "لما نزلت" أي لما تليت علي عند إسلامي، أو لما بلغني نزول الآية، أو في السياق حذف، تقديره لما نزلت الآية، ثم قدمت وأسلمت وتعلمت الشرائع حصل كذا وكذا، وقد روى أحمد عن عدي قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة والصيام فقال: صل كذا، وصم كذا، فإذا غابت الشمس فكل حتى يتبين لك الخيط الأبيض من الخيط الأسود. قال فأخذت خيطين ... الحديث. اهـ. (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود) "حتى" غاية لإباحة الأكل والشرب، و"يتبين" بتشديد الياء كذا للأكثر، ولبعض الرواة "حتى يستبين" فالسين والتاء للصيرورة، أي حتى يصير بيناً وظاهراً عن طريق العين والرؤية، وحقيقة الخيط معروفة، واستعمال الخيطين في الليل والنهار كان شائعاً في الجاهلية قبل الإسلام. وهو من قبيل الاستعارة، بتشبيه لون البياض أو الضوء الذي يعترض في الأفق في وسط ظلمة الليل بالخيط الأبيض، والسواد الممتد حوله من غبش الليل بالخيط الأسود، وهذا هو المراد من الآية. لكن اشتبه هذا المراد على بعض الصحابة، فحملوه على الحقيقة. قال النووي: فعل ذلك من لم يكن ملازماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو من الأعراب ومن لا فقه عنده، ومن لم يكن من لغته استعمال الخيط في الليل والنهار. (من الفجر) قيل تأخر نزولها عما قبلها سنة، وهل هي التي بينت المراد من الخيط الأبيض والخيط الأسود، فيكون من تأخير البيان مع الحاجة إليه ومع بقاء التكليف؟ وتدخل في دائرة اختلاف الأصوليين الذي سنعرضه في فقه الحديث؟ وتكون "من الفجر" حولت الكلام من الاستعارة إلى التشبيه بإظهار المشبه، كما تقول: رأيت أسداً في الحمام، ثم تتبع ذلك بقولك: رجلاً

من بني سعد، فتكون بذلك قد عدلت عن الاستعارة إلى التشبيه، وكأنك قلت: رأيت رجلاً من بني سعد كالأسد. أو البيان واضح بدونها؟ وليس فيه تأخير البيان عن وقت الحاجة؟ ويكون "من الفجر" تعليلاً؟ أي حتى يتبين لكم الخيط الأبيض لأنه من الفجر؟ . وهذا القول أقرب، بدليل أنه لم يقع في حمله على الحقيقة قبل نزول "من الفجر" إلا ندرة من الصحابة. (قال له عدي بن حاتم: يا رسول الله) في بعض النسخ "قال عدي بن حاتم: يا رسول الله" بحذف لفظ "له" وهو واضح لا إشكال فيه. ولكن في أكثر النسخ "قال له عدي بن حاتم" بذكر "له" قال النووي: وكلاهما صحيح، فمن أثبتها أعاد الضمير إلى معلوم، أو إلى متقدم الذكر عند المخاطب. (إني أجعل تحت وسادتي عقالين) الوسادة المخدة، وهي ما يجعل تحت الرأس عند النوم، والوساد ما يتوسد به، ولو كان التراب، فهو أعم، والعقال بكسر العين الحبل الذي يعقل به البعير، ويطلق على الحبل الذي يضعه بعض العرب على غطاء الرأس، والظاهر أنه المراد هنا، واستخدم عدي العقال ولم يستخدم خيطاً رفيعاً ليتمكن من التمييز بدرجة أسرع. (أعرف الليل من النهار) أي أعرف بالتمييز بينهما الليل من النهار، فإذا ميزتهما بالضوء قلت في نفسي نحن في النهار، وإذا لم أميزهما قلت: نحن مازلنا في الليل. (إن وسادتك لعريض) هكذا هو في بعض النسخ، وفي هذا التعبير لم يتطابق الخبر والمبتدأ تذكيراً وتأنيثاً، فيحمل الخبر على معنى المبتدأ لا على لفظه، ويراد من الوسادة الوساد، كما هو في أكثر النسخ. وفي رواية البخاري في التفسير "إن وسادتك إذاً لعريض"، وفي رواية "إنك لعريض القفا"، وفي رواية أبي داود "فضحك وقال: إن وسادك إذاً لعريض طويل"، وفي رواية أبي عوانة "فضحك وقال: لا. يا عريض القفا". وقد جزم الزمخشري بأن هذه التعبيرات كناية عن الغفلة وعدم الفطنة، فإنه يكنى عن الأبله بعريض القفا، لأن عرض القفا -إذا زاد- دليل الغباوة والحماقة، فقال: إنما وصف عدي بعريض القفا لأنه غفل عن البيان وعرض القفا مما يستدل به على قلة الفطنة. فكأن الزمخشري جعل عرض الوسادة كناية عن عرض وعظم الرأس والقفا، وجعل عرض القفا كناية عن عدم الفطنة. وقد أنكر القاضي عياض والقرطبي وغيرهما ما ذهب إليه الزمخشري، فقال القرطبي: حمل بعض الناس قوله "إن وسادك لعريض" على الذم لعدي بن حاتم على ذلك الفهم، وكأنهم فهموا أنه نسبه

إلى الجهل والجفاء وعدم الفطنة، وعضدوا ذلك بقوله: "إنك عريض القفا" وليس الأمر على ما قالوه، لأن عدياً حمل اللفظ على حقيقته التي هي الأصل، حيث لم يتبين له دليل التجوز، ومن فعل ذلك لم يستحق ذماً، ولم ينسب إلى الجهل. اهـ. وقال القاضي عياض: إنما أخذ عدي العقالين وجعلهما تحت رأسه، لكونه سبق إلى فهمه أن المراد بها هذا، وكذا وقع لغيره ممن فعل فعله حتى نزل قوله تعالى: "من الفجر، فعلموا أن المراد به بياض النهار وسواد الليل. اهـ. أي أن عدياً لم يحط علماً بقوله "من الفجر" ومن لا يحيط علماً بها لا يؤاخذ على حمل الخيط على حقيقته، كما هو واضح من الرواية الثانية والثالثة. وفي المراد بقوله "إن وسادتك لعريض"، قال بعض العلماء: كني بالوساد عن النوم؛ لأنه يلزم من استعمال الوساد النوم غالباً، فكأنه قال: إن نومك عريض طويل كثير. وقال بعضهم: إنه كناية عن الليل، لأنه يلزم من استعمال الوساد وجود الليل غالباً، فكأنه قال: إن ليلك طويل، لأن الذي يمد الليل إلى أن يميز ببصره في ضوء النهار بين الخيط الأبيض والخيط الأسود يكون قد أضاف إلى الليل جزءاً من النهار، فيطول بذلك ليله. (إنما هو سواد الليل وبياض النهار) "هو" يعود على "الخيط" أي إنما الخيط الأبيض والخيط الأسود بياض النهار وسواد الليل. (كان الرجل يأخذ خيطاً أبيض وخيطاً أسود) في الرواية الثالثة "فكان الرجل إذا أراد الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأسود والخيط الأبيض"، فلفظ "الرجل" فيها للجنس الصادق على كثيرين، كما هو لفظ البخاري، ففيه "فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم .... " قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على تسمية أحد منهم، ولا يحسن أن يفسر بعضهم بعدي بن حاتم، لأن قصة عدي متأخرة عن ذلك. وجمع بين رواية جعل الخيطين تحت الوسادة وبين ربطهما في الرجلين، فقال لا منافاة بينهما لاحتمال أن يكون بعضهم فعل هذا، أو يكونوا يجعلونهما تحت الوسادة إلى السحر، ثم يربطونهما في أرجلهم ليشاهدوهما. اهـ. (حتى يتبين له رئيهما) قال النووي: هذه اللفظة ضبطت على ثلاثة أوجه: أحدها: "رئيهما" بكسر الراء، ثم همزة ساكنة، ثم ياء مضمومة، ومعناه منظرهما، ومنه قوله تعالى {أحسن أثاثاً ورئيا} [مريم: 74]. والثاني: "زيهما" بزاي مكسورة، وياء مشددة بلا همزة، ومعناه لونهما. والثالث: "ريهما" بفتح الراء وكسرها وتشديد الياء. قال القاضي: هذا غلط هنا لأن الري هو التابع من الجن، قال فإن صح رواية فمعناه مرئيهما. والله أعلم. اهـ. وفي رواية البخاري "حتى يتبين له رؤيتهما" بضم الراء وتسكين الهمزة ثم ياء وتاء.

(عن عبد الله) أي ابن عمر، فالراوي عنه ابنه سالم. (إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا تأذين ابن أم مكتوم) أخرج أحمد عن شعبة "إن بلالاً -أو إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل- على الشك، وروي عن شعبة أيضاً "إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل" بالجزم من غير شك، وكذا أخرجه ابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان من طرق عن شعبة، وكذلك أخرجه الطحاوي والطبراني عن خبيب بن عبد الرحمن، وادعى ابن عبد البر وجماعة من الأئمة بأنه مقلوب وأن الصواب "إن بلالاً يؤذن بليل". ورجح الحافظ ابن حجر في كتاب الأذان أن الروايتين صحيحتان، ونقل جمع بعض العلماء بينهما. باحتمال أن يكون الأذان كان نوباً بين بلال وابن أم مكتوم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الناس أن آذان الأول منهما لا يحرم على الصائم شيئاً، ولا يدل على دخول وقت الصلاة بخلاف الثاني، وجزم ابن حبان بذلك، ولم يبده احتمالاً، وقيل لم يكن نوباً، وإنما كانت لهما حالتان مختلفتان، فإن بلال كان في أول ما شرع الأذان يؤذن وحده، ولا يؤذن للصبح حتى يطلع الفجر، وعلى ذلك تحمل رواية عروة عن امرأة من بني النجار قالت: كان بلال يجلس على بيتي، وهو أعلى بيت في المدينة، فإذا رأى الفجر تمطأ ثم أذن" أخرجه أبو داود، ثم أضيف إلى بلال، ابن أم مكتوم، فكان يؤذن بليل، واستمر بلال على حالته الأولى، وعلى ذلك تحمل روايات "إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل" ثم في آخر الأمر قدم أذان بلال وأخر أذان ابن أم مكتوم، واستقر الحال على ذلك. وابن أم مكتوم اسمه عمرو، وقيل كان اسمه الحصين فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله، قال الحافظ: ولا يمتنع أنه كان له اسمان، وهو قرشي عامري، أسلم قديماً، والأشهر في اسم أبيه قيس بن زائدة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكرمه ويستخلفه على المدينة، وشهد القادسية في خلافة عمر فاستشهد بها، وقيل: رجع إلى المدينة فمات، وهو الأعمى المذكور في سورة عبس، واسم أمه عاتكة بنت عبد الله المخزومية، وقيل ولد أعمى، فكنيت أمه أم مكتوم لانكتام نور بصره، وقيل: إنه عمي بعد بدر بسنتين، وهذا مردود بظاهر القرآن الكريم في سورة عبس المكية. (ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا) الإشارة الأولى لبلال والثانية لابن أم مكتوم، وظاهره قرب المساحة بين الأذانين بدرجة يستبعد معها الهدف من الأذان الأول الوارد في الرواية السابعة، ولهذا قال النووي: قال العلماء: معناه أن بلال كان يؤذن قبل الفجر، ويتربص بعد أذانه للدعاء ونحوه، ثم يرقب الفجر، فإذا قارب طلوعه نزل فأخبر ابن أم مكتوم، فيتأهب ابن أم مكتوم بالطهارة وغيرها، ثم يرقى ويشرع في الأذان مع أول طلوع الفجر. اهـ. فالقرب قرب بين النزول والصعود، لا بين الأذانين. والله أعلم. (لا يمنعن أحداً منكم أذان بلال من سحوره) السحور بفتح السين اسم لما يؤكل في السحر، وبضم السين الحدث والفعل والأكل نفسه، وهما جائزان هنا. (ليرجع قائمكم) "يرجع" بفتح الياء وكسر الجيم المخففة يستعمل لازماً ومتعديا، قال النووي

لفظة "قائمكم" منصوبة، مفعول "يرجع" بفتح الياء، قال الله تعالى {فإن رجعك الله} [التوبة: 83]. ومعناه أنه إنما يؤذن بليل ليعلمكم بأن الفجر ليس ببعيد، فيرد القائم المجتهد إلى راحته، لينام غفوة ليصبح نشيطاً، أو يوتر إن لم يكن أوتر، أو يتأهب للصبح إن احتاج إلى طهارة أخرى، أو نحو ذلك من مصالحه المترتبة على علمه بقرب الصبح. (ويوقظ نائمكم) قال النووي: أي ليتأهب للصبح أيضاً، يفعل ما أراد من تهجد قليل، أو إيثار إن لم يكن أوتر، أو سحور إن أراد الصوم، أو اغتسال أو وضوء، أو غير ذلك مما يحتاج إليه قبل الفجر. (ليس أن يقول هكذا وهكذا -وصوب يده ورفعها- حتى يقول: هكذا -وفرج بين إصبعيه) وفي ملحق هذه الرواية "إن الفجر ليس الذي يقول هكذا -وجمع أصابعه، ثم نكسها إلى الأرض، ولكن الذي يقول: هكذا ووضع المسبحة على المسبحة، ومد يديه"، وفي الملحق الثاني" وليس أن يقول: هكذا، ولكن يقول: هكذا -يعني الفجر- هو المعترض، وليس بالمستطيل"، وفي الرواية الثامنة "ولا هذا البياض حتى يستطير"، وفي الرواية التاسعة "ولا هذا البياض" -لعمود الصبح-. وفي رواية البخاري "وليس أن يقول الفجر أو الصبح -وقال بأصابعه ورفعها إلى فوق، وطأطأ إلى أسفل- حتى يقول: هكذا. قال الراوي: بسبابتيه، إحداهما فوق الأخرى، ثم مدها عن يمينه وشماله". وحقيقة الضوء الذي يظهر في الأفق في نهاية الليل تبدو في صورتين في وقتين مختلفين: الصورة الأولى ضوء يظهر في أعلى السماء، ثم ينخفض ويستطيل، فهو ضوء يبدو في الأفق كعمود رأسي من أعلى إلى أسفل وهو الذي تسميه العرب "ذنب السرحان" أي ذنب الذئب، لأنه يتدلى من عجزه ممتداً نحو الأرض، بخلاف ذنب الكلب فإنه بعد أن ينحني يرتفع، وهذا الضوء لا يلبث أن يختفي ويعود مكانه الظلام، ويسمى هذا الضوء بالفجر الكاذب. الصورة الثانية تأتي بعد الأولى بقليل من الزمن، وهي: ضوء يطلع بعرض الأفق ثم يعم الأفق وينتشر ويستطير، ولتطبيق ألفاظ الروايات على هذه الحقيقة يكون معنى الرواية السابعة ليس الفجر أن يقول [القول هنا أطلق على الفعل، أي ليس الفجر أن يظهر] هكذا وهكذا، وصوب يده يعني نكسها وخفضها، ثم رفعها، فرسم بذلك عموداً رأسياً، فهكذا الأولى إشارة إلى خفض اليد، وهكذا الثانية إشارة إلى رفعها إلى أعلى -حتى يقول هكذا. أي حتى يظهر هكذا "وفرج بين أصبعيه يشير إلى انتشار الضوء يميناً وشمالاً. وفي ملحق الرواية "إن الفجر ليس الذي يقول، أي ليس الذي يظهر هكذا -وجمع أصابعه ثم نكسها إلى الأرض، فرسم بذلك عموداً رأسياً، ولكن الذي يقول، أي ولكن هو الذي يظهر هكذا، ووضع المسبحة من اليد اليمنى على المسبحة من اليد اليسرى، ثم مد اليمنى إلى اليمين، ومد اليسرى إلى اليسار، ورسم بذلك الخط العرضي الأفقي.

ومعنى الملحق الآخر: الفجر هو الضوء المعترض، وليس الرأسي المستطيل، ومعنى الرواية التاسعة: لا يغرنكم هذا البياض العمودي، حتى يستطير أفقياً وينتشر. وهل حصلت هذه الإشارات المختلفة في أوقات ووقائع مختلفة؟ أو الوقعة واحدة عبر عنها بتعبيرات مختلفة؟ يحتمل ويحتمل. والله أعلم. -[فقه الحديث]- ترجم الإمام النووي لهذه الأحاديث بقوله: باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، وأن له الأكل وغيره حتى يطلع الفجر، وبيان صفة الفجر الذي تتعلق به الأحكام من الدخول في الصوم، ودخول وقت صلاة الصبح وغير ذلك، وهو الفجر الثاني، ويسمى الصادق والمستطير، وأنه لا أثر للفجر الأول في الأحكام، وهو الفجر الكاذب المستطيل كذنب السرحان، وهو الذئب. علق الإمام النووي بقوله [وأن له الأكل وغيره حتى يطلع الفجر] يشير إلى ما كان عليه التشريع في أول فرض الصوم، ويصوره لنا البراء بن عازب في حديث أخرجه البخاري، فيقول: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائماً فحضر الإفطار [أي وقت الإفطار بغروب الشمس] فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ويومه حتى يمسي [وفي رواية "كان إذا نام قبل أن يتعشى لم يحل له أن يأكل شيئاً، ولا يشرب، ليله ويومه حتى تغرب الشمس"، وفي أخرى "كان المسلمون إذا أفطروا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا، فإذا ناموا لم يفعلوا شيئاً من ذلك، إلى مثلها"] وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائماً، فلما حضر الإفطار [أي وقته] أتى امرأته، فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا. ولكن أنطلق فأطلب لك. وكان يومه يعمل، فغلبته عيناه، فجاءته امرأته، فلما رأته قالت: خيبة لك، فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم .... } ففرحوا بها فرحاً شديداً، ونزلت: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} [البقرة: 187]. اهـ. وتأخر نزول قوله تعالى: {من الفجر} عاماً كاملاً، كما قيل: وهذا اللفظ هو الذي يبين ويحدد مراد الله من الخيط الأبيض والخيط الأسود، وبدونه تتجه الأفهام إلى الحقيقة، وهي غير مرادة. فدخلت المسألة في قاعدة تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهي مشهورة في كتب الأصول، وفيها خلاف بين العلماء، بعضهم يمنعه مطلقاً، لما فيه من شبه العبث، ولما فيه من التكلف بما لا يطاق، ويوجه مسألتنا -كما ادعى الطحاوي- بأنها من باب النسخ، وأن الحكم كان أولاً على ظاهره المفهوم من الخيطين، واستدل على ذلك بما نقل عن حذيفة وغيره من جواز الأكل إلى الإسفار. قال الطحاوي: ثم نسخ بعد ذلك بقوله "من الفجر" قال الحافظ: ويؤكد ما قاله ما رواه عبد الرزاق بإسناد رجاله ثقات "إن بلالاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتسحر، فقال: الصلاة يا رسول الله، قد والله أصبحت. فقال: يرحم الله بلالاً، لولا بلال لرجونا أن يرخص لنا حتى تطلع الشمس".

وبعضهم يجيزه مطلقاً على أساس أن المخاطب يستفيد منه وجوب الخطاب ويجتهد في فهمه، ويعزم على فعله إذا اتضح المراد منه. وبعضهم يفصل، فيجيز تأخير بيان المجمل دون العام، وبعضهم يعكس. وقال بعض العلماء: الخطاب المحتاج إلى بيان ضربان: أحدهما ما له ظاهر، وقد استعمل في خلافه [فلا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، لأنه سيؤدي إلى العمل بغير مراد الشرع] والثاني ما لا ظاهر له، فقال طائفة من الحنفية والمالكية وأكثر الشافعية: يجوز تأخيره عن وقت الخطاب [ليجتهد المخاطب في فهمه، ويعزم على فعله إذا اتضح مراده] ومن هنا قال عياض: يجب التوقف عن الألفاظ المشتركة، وطلب بيان المراد منها، وأنها لا تحمل على أظهر وجوهها وأكثر استعمالاتها إلا عند عدم البيان. اهـ. وظاهر الرواية الخامسة والسادسة أن أول أذان ابن أم مكتوم كان علامة للكف، وأن الصائم له أن يأكل ويشرب إلى طلوع الفجر الصادق، فإذا طلع الفجر الصادق وجب الكف، وهذا واضح من الآية والأحاديث الصحيحة، لكن خلافاً وقع في: هل يحرم الأكل والشرب بطلوع الفجر الصادق؟ أو بالعلم بطلوعه وتبينه تمسكاً بظاهر الآية {حتى يتبين لكم ... } الجمهور على الثاني، وأنه لو أكل ظاناً أن الفجر لم يطلع لم يفسد صومه، لأن الآية دلت على الإباحة إلى أن يحصل التبيين، وقد روى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: "أحل الله لك الأكل والشرب ما شككت"، وروى ابن أبي شيبة عن ابن عباس قوله "كل ما شككت حتى لا تشك". وقد نقل بعضهم الإجماع على أن غاية إباحة الأكل والشرب طلوع الفجر الصادق أو تبين طلوعه، لكن هذا النقل غير مسلم، وهو متعقب، فهناك من يوجب الإمساك جزءاً من الليل قبل طلوع الفجر بناء على وجوب مقدمة الواجب، وهناك من أباح الأكل والشرب إلى أن ينتشر البياض في الطرق والسكك والبيوت، قال الحافظ ابن حجر: وذهب جماعة من الصحابة -وقال به الأعمش من التابعين وصاحبه أبو بكر بن عياش- إلى جواز السحور إلى أن يتضح الفجر، فروى سعيد بن منصور عن حذيفة قال: "تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو والله النهار غير أن الشمس لم تطلع" وأخرجه الطحاوي وابن أبي شيبة وعبد الرزاق عن طريق حذيفة بطرق صحيحة، وروي عن الأعمش أنه قال: "لولا الشهوة لصليت الغداة ثم تسحرت" قال إسحق: هؤلاء رأوا جواز الأكل بعد طلوع الفجر المعترض، حتى يتبين بياض النهار من سواد الليل. قال إسحاق: وبالقول الأول أقول، لكن لا أطعن على من تأول الرخصة كالقول الثاني، ولا أرى عليه قضاء ولا كفارة. انتهى بتصرف من فتح الباري. هذا. وإن مواقيت الصلاة المعلنة في أيامنا تحدد -بناء على علم دقيق- لحظات طلوع الفجر الصادق، فتعلنه موعداً للأذان الثاني للفجر، وعند بدايته يجب الكف عن الأكل والشرب، ويدخل وقت الصبح ومن سمع أول الأذان وفي فمه طعام أو شراب قذفه وتمضمض وصيامه صحيح؛ هذا ما أستريح إليه، وأدين الله عليه. والله أعلم.

-[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - مشروعية السحور وتأخيره؛ ففصل ما بين صومنا وصوم أهل الكتاب أكلة السحر، والسحور وتأخيره يقوي على الصوم، وفيه رفق بالأمة، وظاهر الأحاديث أن وقته هو الوقت الذي يقع فيه الأذان الأول السابق لطلوع الفجر الصادق، وصحح النووي في أكثر كتبه أن مبدأه من نصف الليل الثاني. 2 - قال النووي: وفيه دليل جواز الأكل بعد النية، ولا تفسد نية الصوم به، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أباح الأكل إلى طلوع الفجر، ومعلوم أن النية لا تجوز بعد طلوع الفجر، فدل على أنها سابقة. وأن الأكل بعدها لا يضر، وهذا هو الصواب المشهور من مذهبنا ومذهب غيرنا، وقال بعض أصحابنا: متى أكل بعد النية أو جامع فسدت ووجب تجديدها، وإلا فلا يصح صومه، وهذا غلط صريح. اهـ. 3 - مشروعية الأذان للصبح قبل دخول وقته، وقبل طلوع الفجر الصادق: قال الحافظ ابن حجر: إلى مشروعيته مطلقاً ذهب الجمهور، وخالف الثوري وأبو حنيفة ومحمد، وإلى الاكتفاء به عن الأذان الثاني ذهب مالك والشافعي وأحمد وأصحابهم ثم قال فإن قيل تقدم في تعريف الأذان الشرعي أنه إعلام بدخول وقت الصلاة بألفاظ مخصوصة والأذان قبل الوقت ليس إعلاماً بالوقت؟ فالجواب أن الإعلام بالوقت أعم من أن يكون إعلاماً بأنه دخل أو قارب أن يدخل. اهـ وفي هذا الجواب نظر، لأن التعريف إعلام بالدخول، والأولى أن يقال: إن التعريف للأذان الشرعي المختص بالإعلام عن الوقت، فلا يدخل فيه الإعلام عن قرب الجمعة، ولا إذا خيفت الغيلان في الصحراء، ولا الأذان في أذن المولود ولا الأذان قبل الفجر، فلكل من ذلك هدف آخر غير الإعلام عن دخول الوقت. قال الحافظ: وإنما اختص الصبح بذلك من بين الصلوات لأن الصلاة في أول وقتها مرغب فيه، والصبح يأتي غالباً عقب نوم، فناسب أن ينصب من يوقظ الناس قبل دخول وقتها، ليتأهبوا ويدركوا فضيلة أول الوقت. ثم قال: وادعى بعض الحنفية -كما حكاه السروجي منهم- أن النداء قبل الفجر لم يكن بألفاظ الأذان، وإنما كان تذكيراً أو تسحيراً، كما يقع للناس اليوم. وهذا مردود، لكن الذي يصنعه الناس اليوم محدث قطعاً، وقد تضافرت الطرق على التعبير بلفظ الأذان، فحمله على معناه الشرعي مقدم، ولأن الأذان الأول لو كان بألفاظ أخرى لما التبس على السامعين، وسياق الخبر يقتضي أنه خشي عليهم الالتباس، وادعى ابن القطان أن ذلك كان في رمضان خاصة. وفيه نظر. اهـ وقد ذهب بعضهم إلى التفريق بين الأذان الأول والثاني بذكر "الصلاة خير من النوم" في الأول دون الثاني وقيل في الثاني دون الأول، ولم يرد شيء من ذلك في أحاديث يعتد بها. والله أعلم. 4 - واستدل بالأحاديث على جواز اتخاذ مؤذنين للمسجد الواحد. قال النووي: قال أصحابنا: إذا احتاج المسجد إلى أكثر من مؤذن اتخذ ثلاثة وأربعة فأكثر بحسب الحاجة، وقد اتخذ عثمان رضي الله عنه أربعة للحاجة عند كثرة الناس. قال: قال أصحابنا: وإذا

ترتب للأذان اثنان فصاعداً فالمستحب ألا يؤذنوا دفعة واحدة، فإن ضاق الوقت وكان المسجد كبيراً أذنوا متفرقين في أقطاره. قال الحافظ ابن حجر: أذان اثنين معاً منع منه قوم، ويقال: إن أول من أحدثه بنو أمية، وقال الشافعية: لا يكره إلا إن حصل من ذلك تهويش. 5 - وفي الأحاديث جواز أذان الأعمى. قال النووي: أذان الأعمى صحيح، وهو جائز بلا كراهة إذا كان معه بصير، وإن لم يكن معه بصير كره للخوف من غلطه. 6 - وفيها جواز تقليد الأعمى للبصير في دخول الوقت، وصحح النووي في كتبه أن للأعمى والبصير اعتماد المؤذن الثقة. 7 - واستدل به مالك وبعض العلماء على جواز شهادة الأعمى، وأجاب الجمهور بأن الشهادة يشترط فيها العلم، ولا يحصل علم بالصوت، لأن الأصوات تشتبه، أما الأذان ووقت الصلاة فيكفي فيها الظن. 8 - وجواز العمل بخبر الواحد. 9 - وجواز الاعتماد على الصوت في الرواية إذا كان عارفاً به وإن لم يشاهد الراوي، وخالف في ذلك شعبة لاحتمال الاشتباه. 10 - وجواز ذكر الرجل بما فيه من العاهة إذا كان يقصد التعريف ونحوه، لا على قصد التنقيص، وهذا أحد وجوه الغيبة المباحة. 11 - جواز نسبة الرجل إلى أمه إذا اشتهر بذلك واحتيج إليه. 12 - ومن إشاراته صلى الله عليه وسلم في الرواية السابعة وما بعدها الإيضاح في البيان والإشارة كزيادة البيان في التعليم. 13 - قال ابن المنير: في حديث عدي وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن وسادك لعريض، جواز التوبيخ بالكلام النادر الذي يسير، فيصير مثلاً، بشرط صحة القصد. والله أعلم

(300) باب فضل السحور وتأكيد استحبابه واستحباب تأخيره وتعجيل الفطر

(300) باب فضل السحور وتأكيد استحبابه واستحباب تأخيره وتعجيل الفطر 2221 - عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تسحروا، فإن في السحور بركة". 2222 - عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر". 2223 - عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة. قلت: كم كان قدر ما بينهما؟ قال خمسين آية. 2224 - عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر". 2225 - عن أبي عطية قال دخلت أنا ومسروق على عائشة. فقلنا: يا أم المؤمنين رجلان من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أحدهما يعجل الإفطار ويعجل الصلاة والآخر يؤخر الإفطار ويؤخر الصلاة. قالت: أيهما الذي يعجل الإفطار ويعجل الصلاة؟ قال: قلنا عبد الله (يعني ابن مسعود) قالت: كذلك كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم زاد أبو كريب والآخر أبو موسى. 2226 - عن أبي عطية قال: دخلت أنا ومسروق على عائشة رضي الله عنها. فقال لها مسروق: رجلان من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلاهما لا يألو عن الخير أحدهما يعجل المغرب

والإفطار والآخر يؤخر المغرب والإفطار. فقالت: من يعجل المغرب والإفطار؟ قال: عبد الله. فقالت: هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع. -[المعنى العام]- قد يظن بعض المغالين في العبادة أن إطالة زمن الصوم بتعجيل وتقديم السحور أو تركه بالكلية، وتأخير الإفطار عن أول وقته، قد يظن ذلك فضيلة تزيد أجره وثوابه، وهو ظن فاسد، لأن الله تعالى شرع العبادات بموازين تحقق الحكمة منها، فالزيادة فيها قد تفسد حكمتها، لقد رأينا حين صام قوم في السفر وأفطر قوم، وقام المفطرون بخدمة الصائمين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ذهب المفطرون اليوم بالأجر". وإن هذا الظن الفاسد قد يسول لصاحبه أن الزيادة في الأمر المشروع خير دائماً، والحق غير ذلك، فصلاة الظهر خمساً عمداً يبطلها. ثم إن هذا الظن الفاسد لا يتفق مع شكر الله على رحمته وعفوه وتخفيفه وتيسيره على الأمة، وهو يشبه الإباء والرفض لهذا التيسير. لهذا كان تعجيل الفطر مستحباً، بل كان السحور وأكلة السحر مندوبة، وتأخيرها إلى ما يقرب من طلوع الفجر خير من تعجيلها عند نصف الليل. وما زال المسلمون بخير ما تمسكوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرخص وأمور التيسير، ويا ويلهم إن أهملوها. سواء أهملوا في أداء ما يؤدى، أو تشددوا فيها، وغلوا في الدين بما ليس فيه. هداهم الله سواء السبيل. -[المباحث العربية]- (فإن في السحور بركة) بفتح السين ما يؤكل في السحر، وبضمها الأكل والفعل. قال الحافظ ابن حجر: هو بفتح السين وضمها لأن المراد بالبركة الأجر والثواب، فيناسب الضم، أو البركة لكونه يقوي على الصوم، وينشط له ويخفف المشقة فيه فيناسب الفتح. (فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب) قال النووي: معناه الفارق والمميز بين صيامنا وصيامهم السحور، فإنهم لا يتسحرون، ونحن يستحب لنا السحور. (أكلة السحر) قال النووي: هي السحور، وهي بفتح الهمزة هكذا ضبطناه، وهكذا ضبطه الجمهور، وهو المشهور في روايات بلادنا، وهي عبارة عن المرة الواحدة من الأكل، كالغدوة والعشوة، وإن كثر المأكول فيها، وأما الأكلة بضم الهمزة فهي اللقمة. وادعى القاضي عياض أن الرواية فيه بالضم، ولعله أراد رواية أهل بلادهم فيها بالضم. قال: والصواب الفتح لأنه المقصود هنا.

(تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) ظاهره أن زيداً كان معه آخرون، لكن في رواية عن أنس "أن نبي الله وزيد بن ثابت تسحرا" قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر لي في الجمع بين الروايتين أن أنساً حضر ذلك لكنه لم يتسحر معهما ولأجل هذا سأل زيدا عن مقدار وقت السحور قال ثم وجدت ذلك صريحا في رواية النسائي وابن حبان، ولفظها "عن أنس قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أنس، إني أريد الصيام. أطعمني شيئاً. فجئته بتمر وإناء فيه ماء، وذلك بعد ما أذن بلال قال: يا أنس، انظر رجلاً يأكل معي، فدعوت زيد بن ثابت، فجاء فتسحر معه، ثم قام فصلى ركعتين، ثم خرج إلى الصلاة". قال الحافظ: فعلى هذا فالمراد بقوله "كم كان بين الأذان والسحور" أي أذان ابن أم مكتوم، لأن بلالاً كان يؤذن بليل قبل الفجر، والآخر يؤذن إذا طلع. اهـ. (قلت: كم كان قدر ما بينهما؟ ) القائل أنس والمقول له زيد بن ثابت، فعند أحمد عن أنس "قلت لزيد" لكن في رواية للبخاري عن قتادة عن أنس بن مالك أن نبي الله وزيد بن ثابت تسحرا، فلما فرغا من سحورهما قام نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة فصليا، قلنا لأنس: كم كان بين فراغهما من سحورهما ودخولهما في الصلاة؟ قال: "قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية، قال الإسماعيلي: والروايتان صحيحتان بأن يكون أنس سأل زيداً، وقتادة سأل أنساً. والمسئول عنه المدة التي بين الفراغ من السحور والدخول في الصلاة. (قال خمسين آية) في رواية البخاري "قال: قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية" وقدرها الحافظ ابن حجر بثلث خمس ساعة -أي أربع دقائق- قال: ولعلها مقدار ما يتوضأ. (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر) قال النووي: معناه لا يزال أمر الأمة منتظماً، وهم بخير ما داموا محافظين على هذه السنة، وإذا أخروه كان ذلك علامة على فساد يقعون فيه، وفي حديث عن أبي هريرة "لا يزال الدين ظاهراً" وظهور الدين مستلزم لدوام الخير. (دخلت أنا ومسروق على عائشة، فقلنا) القائل مسروق، كما هو صريح الرواية السادسة، لكن اعتبرت موافقة أبي عطية عليه قولا منه، فأسند القول لنفسه وصاحبه. (رجلان من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .... ) في الكلام استفهام مفهوم من المقام، أي يفعل كل منهما كذا وكذا فأيهما على حق؟ . (يعجل الإفطار ويعجل الصلاة) "أل" في الصلاة للعهد الذهني، أي صلاة المغرب. (كلاهما لا يألو عن الخير) أي لا يقصر. ولا يدخر وسعاً في السعي للأجر والثواب. -[فقه الحديث]- قال النووي أجمع العلماء على أن السحور مستحب، وأنه ليس بواجب وترجم البخاري بقوله:

[باب بركة السحور من غير إيجاب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واصلوا] فاستدل على عدم وجوبه بوقوع الوصال عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ليرفع بذلك شبهة أن الأمر في "تسحروا" للوجوب. واعترض عليه بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن الوصال، والنهي عن الوصال أمر بالأكل. وأجاب ابن المنير بأن النهي عن الوصال لم يكن على سبيل التحريم، وإنما هو نهي إرشاد، لتعليله إياه بالإشفاق عليهم، وإذا ثبت أن النهي عن الوصال للكراهة، وضد نهي الكراهة الاستحباب، ثبت استحباب السحور. اهـ وفي حكم الوصال خلاف يأتي. قال بعضهم: وكان الأولى بالبخاري أن لا يستدل على عدم وجوب السحور، لأن الاستدلال على الحكم إنما يفتقر إليه إذا ثبت الاختلاف أو كان متوقعاً، وليس حكم السحور كذلك، واعتذر عنه ابن المنير بأنه لما جاء الأمر به احتاج البخاري أن يبين أنه ليس على ظاهره من الإيجاب، وكذا النهي عن الوصال يستلزم الأمر بالأكل قبل طلوع الفجر، ورد هذا الاعتذار بأن النهي عن الوصال إنما هو أمر بالفصل بين الصوم والفطر، فيتحقق عدم الوصال بالإفطار، دون تعرض للسحور. وقد أفاض العلماء في تلمس وجوه بركة السحور، فقال النووي: وأما البركة في السحور فظاهرة؛ لأنه يقوي على الصيام، وينشط له، وتحصل بسببه الرغبة في الازدياد من الصيام لخفة المشقة فيه على المتسحر، فهذا هو الصواب المعتمد في معناه، وقيل: لأنه يتضمن الاستيقاظ والذكر والدعاء في ذلك الوقت الشريف، وقت تنزل الرحمة وقبول الدعاء والاستغفار، وربما توضأ صاحبه وصلى، أو أدام الاستيقاظ للذكر والدعاء والصلاة، أو للتأهب لها حتى يطلع الفجر. اهـ. وقال الحافظ ابن حجر: والأولى أن البركة في السحور تحصل بجهات متعددة، فذكر بعض ما ذكره النووي، وزاد مخالفة أهل الكتاب واتباع السنة، ومدافعة سوء الخلق الذي يثيره الجوع، والتسبب بالصدقة على من يسأل إذا ذاك أو يجتمع معه على الأكل، وتدارك نية الصوم لمن أغفلها قبل أن ينام. وقال ابن دقيق العيد: وقع للمتصوفة في مسألة السحور كلام من جهة اعتبار حكمة الصوم، وهي كسر شهوة البطن والفرج، والسحور قد يعارض ذلك، قال: والصواب أن يقال: ما زاد في المقدار حتى تنعدم هذه الحكمة بالكلية فليس بمستحب. اهـ. والأولى أن يقال لهم: إن فترة الإمساك التي شرعها الشارع كفيلة بتحقيق حكمة التشريع، وكفيلة بكسر شهوة البطن والفرج بالقدر الذي أراده العليم الحكيم. ويبدأ السحور -كما قال النووي- من نصف الليل، ويحصل بكثير المأكول وقليله، ويحصل بالماء أيضاً، وقد روى البيهقي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "نعم سحور المؤمن التمر". وأما تعجيل الفطر فمستحب وشرطه التحقق من غروب الشمس. وأما ما رواه مالك والشافعي والبيهقي بأسانيدهم الصحيحة من "أن عمر وعثمان -رضي الله عنهما- كانا يصليان المغرب حين ينظران إلى الليل الأسود، ثم يفطران بعد الصلاة، وذلك في

رمضان، فقال البيهقي في المبسوط: قال الشافعي: كأنهما يريان تأخير الفطر واسعاً، لا أنهما يتعمدان فضيلة في ذلك. ونقل الماوردي أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا يؤخران الإفطار، وأجاب بأنهما أرادا بيان جواز ذلك، لئلا يظن وجوب التعجيل. وقد ترجم البخاري في بعض النسخ بباب تعجيل السحور، وساق تحت هذه الترجمة حديث عبد العزيز بن أبي حازم بن سهل بن سعد. قال: كنت أتسحر في أهلي، ثم تكون سرعتي أن أدرك السجود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. واعتذر عنه ابن المنير، فقال: التعجيل من الأمور النسبية، فإن نسب إلى أول الوقت كان معناه التقديم [وليس مراداً هنا] وإن نسب إلى آخره كان معناه التأخير [أي كان معناه الإسراع به قبل الفوات، وهو مراد البخاري، وهو واضح من الحديث الذي ساقه، فليس من التعجيل الذي نحن بصدده، والذي هو الإتيان بالشيء في أول وقته] وإنما سماه البخاري تعجيلاً؛ إشارة منه إلى أن الصحابي كان يسابق سحوره الفجر عند خوف طلوعه وخوف فوات الصلاة بمقدار ذهابه إلى المسجد. اهـ. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - يؤخذ من قوله "قدر خمسين آية" أنهم كانوا يقدرون الأوقات بأعمال البدن، كقولهم قدر حلب شاة، وقدر نحر جزور، وعدل زيد بن ثابت عن ذاك التقدير إلى التقدير بالقراءة لمناسبة ما يحصل في ذلك الوقت فإنه كان وقت العبادة بالتلاوة، ولم يكن وقت حلب أو ذبح. 2 - وفيه إشارة إلى أن أوقاتهم كانت مستغرقة بالعبادة. 3 - وفي سحور زيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تأنيس الفاضل أصحابه بالمؤاكلة. 4 - وجواز المشي بالليل للحاجة، لأن زيد بن ثابت ما كان يبيت مع النبي صلى الله عليه وسلم قاله الحافظ ابن حجر، واعترض عليه العيني، فقال: لا نسلم نفي بيتوتته مع النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة التي تسحر فيها مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يلزم من ذلك أن يبيت معه كل ليلة. اهـ ولو أن البدر العيني اطلع على حديث النسائي وابن حبان السابق في المباحث العربية ما اعترض هذا الاعتراض، ففيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنس: انظر رجلاً يأكل معي فدعا زيد بن ثابت، فجاء فتسحر معه، فبيتوتته مع النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة منفية قطعاً. 5 - وفيه الاجتماع على السحور. 6 - وفيه حسن الأدب في العبارة. لقوله "تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل نحن ورسول الله صلى الله عليه وسلم لما يشعر لفظ المعية بالتبعية. قاله الحافظ ابن حجر. 7 - وفيه أن الفراغ من السحور كان قبل طلوع الفجر، فهو معارض لقول حذيفة السابق في الباب الماضي.

8 - وفي حديث أبي عطية ومسروق حرص الصحابة على دقة الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم. 9 - وحرصهم على الأفضل والاجتهاد في العبادة. 10 - وثناء بعضهم على بعض. 11 - والستر على من يظن أنه مخطئ، فقد عبرا بـ"رجلان" ولم يقولا: فلان وفلان. 12 - وفقه عائشة -رضي الله عنها- واعتبار الصحابة والتابعين لها على أنها المرجع فيما ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم. 13 - قال ابن دقيق العيد: في حديث سهل رد على الشيعة في تأخيرهم الفطر إلى ظهور النجوم. والله أعلم

(301) باب بيان وقت انقضاء الصوم وخروج النهار

(301) باب بيان وقت انقضاء الصوم وخروج النهار 2227 - عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أقبل الليل وأدبر النهار وغابت الشمس فقد أفطر الصائم" لم يذكر ابن نمير فقد. 2228 - عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر في شهر رمضان فلما غابت الشمس، قال "يا فلان انزل فاجدح لنا" قال: يا رسول الله إن عليك نهاراً. قال "انزل فاجدح لنا" قال: فنزل فجدح فأتاه به فشرب النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال "بيده إذا غابت الشمس من ها هنا وجاء الليل من ها هنا فقد أفطر الصائم". 2229 - عن ابن أبي أوفى رضي الله عنه قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فلما غابت الشمس قال لرجل "انزل فاجدح لنا" فقال: يا رسول الله لو أمسيت. قال "انزل فاجدح لنا" قال: إن علينا نهاراً فنزل فجدح له فشرب ثم قال "إذا رأيتم الليل قد أقبل من ها هنا (وأشار بيده نحو المشرق) فقد أفطر الصائم". 2230 - عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم فلما غربت الشمس قال "يا فلان انزل فاجدح لنا" مثل حديث ابن مسهر وعباد بن العوام. 2231 - عن ابن أبي أوفى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى حديث ابن مسهر وعباد وعبد الواحد. وليس في حديث أحد منهم في شهر رمضان ولا قوله "وجاء الليل منها هنا" إلا في رواية هشيم وحده. -[المعنى العام]- حدد الله تعالى نهار الصائم بقوله: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل} [البقرة: 187].

وقد التبس على البعض مراد الله بالخيط الأبيض والخيط الأسود فبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم وغيره، كما أسلفنا. وفي هذه الأحاديث يبين صلى الله عليه وسلم مراد الله من "الليل" الذي جعل غاية ونهاية لنهار الصائم، {ثم أتموا الصيام إلى الليل} فقد يخفى على البعض أن بدايته غروب الشمس، ويتوهم كما توهم بلال في هذه الأحاديث أن المراد به الظلمة، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يحدد لهم مراد الشرع بالقول والفعل والإشارة حين كان صائماً في سفر ومعه عدد كبير من صحابته لم يجتمع معه في سفر مثلهم من قبل، كانوا نحو عشرة آلاف، يتوجهون لفتح مكة: فلما غربت الشمس قال لبلال: هات لنا الشراب. قال بلال: ما زال النهار قائماً، والضوء منتشراً. قال له: هات شرابنا. قال بلال: لو انتظرت بعض الوقت يا رسول الله حتى يدخل المساء؟ قال له: هات شرابنا. قال بلال: أرجو الانتظار حتى تدخل قليلاً في المساء؟ قال له: هات شرابنا. فقام بلال فأحضر الشراب وناوله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشرب أمام أصحابه، ثم قال لهم: إذا أقبل الليل من ههنا -وأشار إلى جهة المشرق، وأدبر النهار من ههنا -وأشار إلى جهة المغرب، وغربت الشمس، واختفى قرصها كله حل الفطر للصائم، وتعجيل الفطر شريعتنا، ولا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر. -[المباحث العربية]- (إذا أقبل الليل، وأدبر النهار، وغابت الشمس) قال النووي: قال العلماء: كل واحد من هذه الثلاثة يتضمن الآخرين: ويلازمهما، وإنما جمع بينها لأنه قد يكون في واد ونحوه، بحيث لا يشاهد غروب الشمس، فيعتمد إقبال الظلام وإدبار الضياء. وقال الحافظ ابن حجر: هذه الأمور الثلاثة وإن كانت متلازمة في الأصل لكنها قد تكون في الظاهر غير متلازمة، فقد يظن إقبال الليل من جهة المشرق ولا يكون إقباله حقيقة، بل لوجود أمر يغطي ضوء الشمس، وكذلك إدبار النهار، فمن ثم قيد بقوله "وغربت الشمس" إشارة إلى اشتراط تحقق الإقبال والإدبار، وأنهما بواسطة غروب الشمس لا بسبب آخر. وفي شرح الترمذي: الظاهر الاكتفاء بأحد الثلاثة، لأنه يعرف انقضاء النهار بأحدها. والخلاصة أن ذكر الثلاثة للتأكد من دخول الليل، فإن حصل التأكد بأحدها كفى. (فقد أفطر الصائم) قال النووي: معناه انقضى صومه وتم، ولا يوصف الآن بأنه صائم، فإنه بغروب الشمس خرج النهار، ودخل الليل، والليل ليس محلاً للصوم. اهـ واعترض العلماء على هذا التفسير، وقالوا: إن معنى "فقد أفطر الصائم، أي دخل في وقت الفطر، كما يقال: أنجد إذا أقام بنجد، وأتهم إذا أقام بتهامة، وقال ابن خزيمة: "فقد أفطر الصائم" لفظ خبر ومعناه الأمر، فليفطر الصائم، ورد كلام النووي، فقال: لو كان المراد فقد صار مفطراً كان فطر جميع الصوام واحداً، ولم يكن للترغيب في تعجيل الإفطار معنى.

وضعف الحافظ ابن حجر تفسير النووي فقال: لو كان هذا التفسير معتمداً لكان من حلف أن لا يفطر، فصام، فدخل الليل حنث بمجرد دخوله ولو لم يتناول شيئاً، ورجح التفسير الآخر برواية شعبة، ولفظها "فقد حل الإفطار". (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر في شهر رمضان) قال الحافظ ابن حجر: هذا السفر يشبه أن يكون سفر غزوة الفتح، فإن سفر النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان منحصر في غزوة بدر وغزوة الفتح، ولم يشهد ابن أبي أوفى بدراً، فتعينت غزوة الفتح. (فلما غابت الشمس) في الرواية الرابعة وفي رواية البخاري "فلما غربت الشمس" قال الحافظ ابن حجر: وهي تفيد معنى أزيد من معنى غابت. اهـ لأن الغروب الغياب بانتهاء النهار. (قال: يا فلان) عند أحمد "فدعا صاحب شرابه بشراب" وصاحب شرابه بلال، وأخرجه أبو داود فسماه، ولفظه "فقال: يا بلال. انزل فاجدح لنا ... ". (انزل فاجدح لنا) بالجيم ثم الحاء، والجدح تحريك السويق ونحوه بالماء بعود يقال له: المجدح، مجنح الرأس، وقد يكون له ثلاث شعب، يحرك ويقلب به الشراب ليختلط ويسوى للشرب، ولعل الشراب كان في مكان منخفض، فأمر بالنزول. (قال: يا رسول الله إن عليك نهاراً) أي إن النهار مازال يغطينا ويغطيك فكيف آتيك بالشراب؟ وكيف تشرب؟ قال ذلك ظاناً أن الشمس لم تغرب لكثرة الضوء من شدة الصحو، وهو لم يتوقف عناداً وإنما راجع احتياطاً واستكشافاً لحكم المسألة. (فأتاه به) أي بالشراب المجدوح. (ثم قال بيده) أي ثم قال مشيراً بيده. (إذا غابت الشمس من ههنا) أي من هذه الجهة، مشيراً إلى جهة المغرب. (وجاء الليل من ههنا) أي من هذه الجهة، مشيراً إلى جهة المشرق، لأنها البعيدة عن الشمس عند غروبها، فينحسر عنها الضوء أولاً عند الغروب، ويأتيها الضوء أولاً عند الشروق. (فقال: يا رسول الله) لو أمسيت "لو" للعرض، أي أعرض عليك أن تنتظر لتدخل في المساء، ويصح أن تكون شرطية، جوابها محذوف، تقديره لو أمسيت كان أحوط. وظاهر رواية ابن أبي أوفى الأولى أن المراجعة مرة واحدة، فلما أمر الأمر الثاني امتثل. والرواية الثانية ظاهرها كذلك لأنه أضاف عرض الإمساك عند استجابته، أما رواية البخاري فقد أبرزت المراجعة مرتين، وأن الامتثال كان للأمر الثالث ولفظها "انزل فاجدح لنا. قال: يا رسول الله، لو أمسيت؟ قال: انزل فاجدح لنا. قال: يا رسول الله إن عليك

نهاراً؟ قال: انزل فاجدح لنا. فنزل فجدح" بل إن رواية أخرى للبخاري تبرز أن المراجعة كانت ثلاث مرات، وأن الامتثال كان للأمر الرابع، ولفظها "يا فلان قم فاجدح لنا. فقال: يا رسول الله، لو أمسيت؟ قال: انزل فاجدح لنا. قال: يا رسول الله، فلو أمسيت؟ قال: انزل فاجدح لنا. قال: إن عليك نهاراً؟ قال: انزل فاجدح لنا. فنزل فجدح". ومن هنا قال الحافظ ابن حجر: اختلفت الروايات عن الشيباني في المراجعة، وأكثر ما وقع فيها ثلاثاً، وفي بعضها مرتين، وفي بعضها مرة واحدة، وهو محمول على أن بعض الرواة اختصر القصة، وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يراجع بعد ثلاث. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث: ]- 1 - استحباب تعجيل الفطر. 2 - وأنه لا يجب إمساك جزء من الليل مطلقاً، بل متى تحقق الغروب حل الفطر. 3 - وجواز الصوم في السفر، وبخاصة من لا تلحقه بالصوم مشقة ظاهرة. 4 - وتذكير العالم ما يخاف أن يكون قد نسيه. 5 - وترك المراجعة له بعد ثلاث. 6 - وجواز الاستفسار والمراجعة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعنف الصحابي على عدم المبادرة بالامتثال. 7 - وحسن خلقه صلى الله عليه وسلم. 8 - وأن الفطر على التمر ليس بواجب، وأن الأمر في حديث الحاكم والترمذي وابن حبان في قوله "من وجد تمراً فليفطر عليه، ومن لا يجد فليفطر على الماء" ليس على الوجوب، وشذ ابن حزم، فأوجب الفطر على التمر، وإلا فعلى الماء، والإجماع على أن ذلك مستحب لا واجب، فيجوز أن يفطر بما تيسر. والله أعلم

(302) باب النهي عن الوصال

(302) باب النهي عن الوصال 2232 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال. قالوا: إنك تواصل قال "إني لست كهيئتكم إني أطعم وأسقى". 2233 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم واصل في رمضان؛ فواصل الناس؛ فنهاهم. قيل له أنت تواصل؟ قال "إني لست مثلكم إني أطعم وأسقى". 2234 - عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله ولم يقل في رمضان. 2235 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال. فقال رجل من المسلمين فإنك يا رسول الله تواصل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيكم مثلي؟ إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني" فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوماً، ثم يوماً، ثم رأوا الهلال، فقال "لو تأخر الهلال لزدتكم" كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا. 2236 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إياكم والوصال" قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله. قال "إنكم لستم في ذلك مثلي إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني، فاكلفوا من الأعمال ما تطيقون". 2237 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله غير أنه قال "فاكلفوا ما لكم به طاقة". 2238 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الوصال بمثل حديث عمارة عن أبي زرعة. 2239 - عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في رمضان فجئت فقمت إلى جنبه وجاء رجل آخر فقام أيضاً حتى كنا رهطاً. فلما حس النبي صلى الله عليه وسلم أنا خلفه جعل

يتجوز في الصلاة، ثم دخل رحله فصلى صلاة لا يصليها عندنا. قال: قلنا له حين أصبحنا أفطنت لنا الليلة؟ قال: فقال "نعم ذاك الذي حملني على الذي صنعت". قال: فأخذ يواصل رسول الله صلى الله عليه وسلم وذاك في آخر الشهر فأخذ رجال من أصحابه يواصلون. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "ما بال رجال يواصلون. إنكم لستم مثلي. أما والله لو تماد لي الشهر لواصلت وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم". 2240 - عن أنس رضي الله عنه قال: واصل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول شهر رمضان، فواصل ناس من المسلمين، فبلغه ذلك، فقال "لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم. إنكم لستم مثلي (أو قال) إني لست مثلكم إني أظل يطعمني ربي ويسقيني". 2241 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم. فقالوا: إنك تواصل. قال "إني لست كهيئتكم إني يطعمني ربي ويسقيني". -[المعنى العام]- يقول تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185]. ويقول: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78]. ومن رحمة الله بأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن خفف عليهم مدة الإمساك في الصيام، فجعلها من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، بعد أن كان معظم الليل داخلاً في الإمساك، وزيادة في التيسير رغب صلى الله عليه وسلم في تعجيل الفطر وتأخير السحور. إن العبادة بهمة ويقظة ونشاط خير من العبادة المشوبة بالملل والسقم، وليس من البر أن يتكلف الإنسان ما لا يطيق، ولا أن يتشدد ويبالغ في العبادة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: "أوغل في الدين برفق، فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى"، وكثيراً ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يترك الشيء وهو يحب أن يفعله مخافة أن يقتدي به أصحابه فيشق عليهم. وكثيراً ما كان يقدر على ما لا يقدر عليه أتباعه، وكان يكلفه ربه بما لا يكلف به أمته، ومن هذا الوصال في الصيام، والإمساك عن المفطرات يومين متتاليين أو أكثر دون أن يأكل أو يشرب شيئاً، وكيف لا والقرب والمناجاة يغني عن متاع هذه الحياة، والاستغراق في العبادة ينسي الرغبة في الطعام والشراب.

لقد واصل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول شهر رمضان، وعلم بذلك أصحابه فتأسوا به وواصلوا. فلما علم بوصالهم نهاهم عن هذا التكلف، وقال: لا تواصلوا إياكم والوصال، فكف البعض عن الوصال، وواصل بعض آخر لم يسمعوا النهي، أو ظنوه رحمة وإشفاقاً مع جوازه وفضله، وكرر صلى الله عليه وسلم النهي، وكرر الصحابة مراجعته يقولون: إنك تواصل وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فدعنا نسارع إلى الخيرات ونواصل كما تواصل. قال لهم: وأيكم مثلي؟ إني أبيت يطعمني ربي ويسقين فقالوا: إنا بنا قوة على الوصال فأذن لنا بالوصال معك. فلما أبوا أن يكفوا عن الوصال، وتمسكوا به رغبة في المزيد من الأجر، واصل بهم يوم الثامن والعشرين والتاسع والعشرين من رمضان، فرأوا هلال شوال، فكان الحكم الإفطار الواجب يوم العيد. فقال لهم صلى الله عليه وسلم ولو مد الشهر ولم نر هلال شوال لزدتكم وصالاً، حتى تقتنعوا بالممارسة أنكم لا تقدرون عليه، وأنه سيشق عليكم، فلا تغلوا في الدين، وتكلفوا من العمل أيسره وما تطيقونه، وأحب العمل إلى الله أدومه وإن قل. وصدق قول الله في رسوله صلى الله عليه وسلم {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128]. -[المباحث العربية]- (نهى عن الوصال) عبارة النهي وردت في الرواية الرابعة بلفظ "إياكم والوصال" وفي الرواية الخامسة بلفظ "ما بال رجال يواصلون"؟ وفي رواية للبخاري "إياكم والوصال" مرتين، وعند أحمد "إياكم والوصال" ثلاث مرات، وفي رواية للبخاري بلفظ "لا تواصلوا" والظاهر من مراجعتهم له صلى الله عليه وسلم أن النهي تعدد بألفاظ مختلفة. والوصال المراد هنا ترك الأكل والشرب وبقية المفطرات في الليل بين الصومين عمداً بلا عذر، وشذ من خصه بعدم الأكل، وعرفه الحافظ ابن حجر بأنه الترك في ليالي الصيام لما يفطر بالنهار بالقصد. (قالوا: إنك تواصل) أي ونحن نرغب في الاقتداء والتأسي بك؟ وفي الرواية الثالثة "فقال رجل من المسلمين" والظاهر أن القائل واحد، ونسب القول للمجموع لرضاهم به، قال الحافظ ابن حجر: ولم أقف على اسمه. (إني لست كهيئتكم) في الرواية الثانية "إني لست مثلكم" وفي الثالثة "وأيكم مثلي"؟ وفي الرابعة "إنكم لستم في ذلك مثلي" وكلها متقاربة، تنفي المماثلة بينه وبينهم في هذا الأمر، وبين عدم المماثلة بقوله "إني أطعم وأسقى". (إني أطعم وأسقى) ببناء الفعلين للمجهول، وفي الرواية الثالثة والرابعة "إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني" وفي السادسة "إني أظل يطعمني ربي ويسقيني" وفي السابعة "إني

يطعمني ربي ويسقيني" وأصل التعبير بأظل يفيد مواصلة العمل نهاراً، وأصل التعبير بأبيت يفيد مواصلة الشيء ليلاً. قال عنترة: ولقد أبيت على الطوى وأظله حتى أنال به كريم المأكل يقصد أنه قد يعيش ليلاً على الجوع، ويعيش على الجوع كذلك نهاراً ولا يرضى بالأكل الذليل، وكذلك أضحى أصل التعبير بها يفيد المواصلة في الضحى، لكن هذه الألفاظ قد تحمل على مطلق الكون من غير نظر إلى الوقت، ومنه قوله تعالى: {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً} [النحل: 58]. فإن المراد به مطلق الوقت، ولا اختصاص لذلك بنهار دون دليل، وعلى هذا يسقط الاعتراض على القول بأن الطعام والشراب حقيقة، إذ قال المعترض إن "ظل" لا يكون إلا في النهار، ولا يجوز أن يكون أكلاً حقيقياً في النهار. هذا وقد اختلف العلماء في معنى "يطعمني ربي ويسقين" هل هو على الحقيقة، وأنه يؤتى بطعام وشراب من الجنة؛ فيأكل ويشرب؟ أو هو كناية عن لازم الطعام والشراب، وهو القوة، على معنى أن الله يعطيه قوة الآكل والشارب، فلا يحصل له جوع ولا عطش؟ أو هو كناية عن قوة التحمل، مع وجود الجوع والعطش والإحساس بهما لكن مع القدرة على تحملهما؟ أو كناية عن الاشتغال عن الجوع والعطش بالاستغراق في المناجاة فلا يحس بهما مع وجودهما؟ أقوالاً يأتي الكلام عنها تفصيلاً في فقه الحديث. (واصل في رمضان فواصل الناس) في الرواية السادسة "واصل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول شهر رمضان، فواصل ناس من المسلمين، وفي الرواية الخامسة "فأخذ يواصل رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك في آخر الشهر، فأخذ رجال من الصحابة يواصلون، قال النووي: "في أول شهر رمضان"، كذا هو في كل النسخ ببلادنا، وكذا نقله القاضي عن أكثر النسخ، قال: وهو وهم من الراوي، وصوابه "آخر شهر رمضان"، وهو الموافق للحديث الذي قبله؛ ولباقي الأحاديث. اهـ لكن يمكن الجمع بين الحديثين، وطريق الجمع أن يقال: إنه صلى الله عليه وسلم واصل في أول رمضان فواصل بوصاله ناس فنهاهم. وواصل في آخر رمضان فواصل بوصاله ناس آخرون لم يبلغهم النهي الأول، فنهاهم، فلم ينتهوا وأبوا إلا الوصال، فواصل بهم. ففي الرواية السادسة طي وحذف، والعمل بالروايتين على وجه خير من اتهام الراوي بالوهم. (واصل بهم يوماً ثم يوماً) قال الحافظ ابن حجر: ظاهره أن قدر المواصلة بهم كانت يومين. اهـ أقول: إن ظاهره أن قدر المواصلة ثلاثة أيام، لأنه لا يقال: واصل بهم يوماً إلا إذا وصل يوماً بيوم دون إفطار، فقوله "ثم يوماً" أي ثالثاً. (ثم رأوا الهلال) "ال" في "الهلال" للعهد، أي هلال شوال.

(لو تأخر الهلال لزدتكم) أي لزدتكم وصالاً إلى أن تعجزوا عنه فتسألوا التخفيف عنه بتركه. (كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا) في رواية للبخاري "كالتنكيل لهم" والتنكيل المعاقبة، وفي رواية "كالمنكر" وفي رواية كالمنكى من الكناية. قال الحافظ ابن حجر: والأول هو الذي تضافرت عليه الروايات. (فاكلفوا من الأعمال ما تطيقون) قال الحافظ ابن حجر: "اكلفوا" بسكون الكاف وضم اللام، وقال النووي: هو بفتح اللام، وفي مختار الصحاح كلف بكذا أي أولع به، وبابه طرب، فهو بفتح اللام. (حتى كنا رهطاً) أي جمعاً يقرب من تسعة، فالرهط من ثلاثة إلى تسعة. (فلما حس) قال النووي: هكذا هو في جميع النسخ "حس" بغير ألف، ويقع في طرق بعض النسخ "أحس" بالألف، وهو الفصيح الذي جاء به القرآن {فلما أحس عيسى منهم الكفر} [آل عمران: 52]. وأما حس بغير ألف فلغة قليلة، وهذه الرواية تصح على هذه اللغة. (جعل يتجوز في الصلاة) أي يخفف ويقتصر على الجائز المجزي مع بعض المندوبات، قاله النووي. (ثم دخل رحله) أي منزله، قال الأزهري: رحل الرجل عند العرب هو منزله، سواء أكان من حجر أو مدر أو وبر أو شعر أو غيرها. (لا يصليها عندنا) لطولها. (أما والله لو تماد لي الشهر لواصلت) بتشديد الدال قال النووي: هكذا هو في الأصول، وفي بعضها "تمادى" وكلاهما صحيح، وهو بمعنى (مد) في الرواية السادسة. (لواصلت وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم) جملة "يدع المتعمقون تعمقهم" صفة "وصالاً" وضميرها الرابط محذوف، أي يدع به المتعمقون تعمقهم "والمتعمقون" المتشددون في الأمور، المجاوزون الحدود في قول أو فعل. قال الحافظ ابن حجر: والتعمق المبالغة في تكلف ما لم يكلف به، وعمق الوادي قعره. -[فقه الحديث]- اختلف العلماء في حكم الوصال على خمسة أقوال: القول الأول: أنه مباح لمن لم يشق عليه. نقل ذلك عن عبد الله بن الزبير وروي أنه واصل

خمسة عشر يوماً، واجتهد لهذا القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم واصل بأصحابه بعد النهي، فلو كان محرماً لما أقرهم على فعله. وأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد بالنهي الرحمة لهم والشفقة عليهم والتخفيف عنهم، كما جاء ذلك في حديث عائشة روايتنا السابعة، وهذا مثل ما نهاهم عن قيام الليل خشية أن يفرض عليهم، ولم ينكر على من بلغه أنه فعله، ممن لم يشق عليه. وبأن بعض الصحابة أقدموا على الوصال بعد النهي، فدل على أنهم فهموا أن النهي للتنزيه لا للتحريم. وإلا لما أقدموا عليه. وبأن الرسول صلى الله عليه وسلم سوى في علة النهي بين الوصال وبين تأخير الفطر في حديث رواه أحمد والطبراني وغيرهما بإسناد صحيح عن ليلى امرأة بشير الخصاصية قالت: أردت أن أصوم يومين مواصلة فمنعني بشير، وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا، وقال: يفعل ذلك النصارى، ولكن صوموا كما أمركم الله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} فإذا كان الليل فأفطروا" فقد سوى بينهما في أن العلة فعل النصارى، ولم يقل أحد بتحريم تأخير الفطر، سوى بعض من لا يعتد به من أهل الظاهر. ومن حيث المعنى وحكمة التشريع أن في الوصال فطماً للنفس وشهواتها وقمعها عن ملذاتها مما يجعله جائزاً لمن لم يشق عليه، ولم يقصد موافقة أهل الكتاب، ولم يكن فعله رغبة عن السنة في تعجيل الفطر. القول الثاني أجازه ابن وهب وأحمد وإسحق وابن المنذر وابن خزيمة وجماعة من المالكية إلى السحر. واستدلوا بحديث البخاري عن أبي سعيد أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تواصلوا، فأيكم إذا أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر". ورد أكثر الشافعية على هذا بأن الإمساك إلى السحر ليس وصالاً، بل الوصال أن يمسك في الليل جميعه كما يمسك في النهار، وإنما أطلق على الإمساك إلى السحر وصالاً لمشابهته الوصال في الصورة ثم إن هذا الوصال لا يترتب عليه شيء مما يترتب على غيره، فهو في الحقيقة بمنزلة تأخير عشائه. القول الثالث: أنه حرام، وقد ذهب إليه الأكثرون وصرح بتحريمه ابن حزم، وصححه ابن العربي من المالكية، وقطع به جمهور الشافعية، واحتجوا بأحاديث النهي عن الوصال وهي كثيرة وصحيحة، كما استدلوا بأحاديث تعجيل الفطر المتقدمة، وبأن الوصال من خصوصياته صلى الله عليه وسلم لقوله "وأيكم مثلي" فغيره ممنوع منه. وأجابوا عن مواصلته صلى الله عليه وسلم بأصحابه بعد النهي أنه لم يكن تقريراً، بل تقريعاً وتنكيلاً -كما جاء في روايتنا الثالثة- فاحتمل منهم ذلك لأجل مصلحة النهي في تأكيد زجرهم، لأنهم إذا باشروه ظهرت لهم حكمة النهي، وكان ذلك أذعن إلى قلوبهم، لما يترتب عليهم من الملل في

العبادة والتقصير فيما هو أهم منه وأرجح، من وظائف الصلاة والقراءة وغير ذلك، والجوع الشديد ينافي ذلك. وأجابوا عن أن النهي أريد به الرحمة بأن الرحمة لا تمنع التحريم، وبأن من رحمته لهم أن حرمه عليهم. وعن أن الصحابة أقدموا على الوصال بعد النهي بأنه يحتاج إلى دليل يعتد به، ومن نسب إليهم الوصال ندرة، بل لم يثبت لأحد من الصحابة سوى عبد الله بن الزبير، ولعله تأول أحاديثه بما لا يوافق عليه. وعن التسوية في علة النهي بينه وبين تأخير الفطور بأن الشيء قد يشارك آخر في جزء علة، وينفرد بعلل أخرى، فعلة النهي عن الوصال ليست مخالفة النصارى فحسب، بل ما سبق من الملل في العبادة والتقصير فيما هو أهم من وظائف العبادة الأخرى، ومع أنه حرام لا يبطل الصوم كما قال النووي. القول الرابع: أن الوصال مكروه كراهة تحريم، وعليه كثير من الشافعية، وقد نص الشافعي في الأم على أنه محظور. ودليله دليل القائلين بتحريمه. والقول الخامس: أن الوصال مكروه كراهة تنزيه وهو قريب من القائلين بالجواز. هذا وقد أفاض الحافظ ابن حجر في توجيه قوله صلى الله عليه وسلم "أبيت يطعمني ربي ويسقيني" فقال: قيل: على الحقيقة، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بطعام وشراب من عند الله كرامة له في ليالي صيامه، وتعقبه ابن بطال ومن تبعه بأن لو كان كذلك لم يكن مواصلاً، ولو جاءه الطعام والشراب نهاراً لم يكن صائماً. ورد العلماء على اعتراض ابن بطال، فقال بعضهم: إن ما يؤتى به الرسول على سبيل الكرامة من طعام الجنة وشرابها لا تجري عليه أحكام المكلفين فيه، كما غسل صدره صلى الله عليه وسلم في طست من الذهب، مع أن استعمال أواني الذهب الدنيوية حرام. وقال ابن المنير: الذي يفطر شرعاً إنما هو الطعام المعتاد، وأما الخارق للعادة كالمحضر من الجنة فعلى غير هذا المعنى، وليس تعاطيه من جنس الأعمال، وإنما هو من جنس الثواب، كأكل أهل الجنة في الجنة، والكرامة لا تبطل العادة -ثم قال في موضع آخر: هو محمول على أن أكله وشربه في تلك الحالة كحال النائم الذي يحصل له الشبع والري بالأكل والشرب، ويستمر له ذلك حتى يستيقظ، ولا يبطل بذلك صومه، ولا ينقطع وصاله، ولا ينقص أجره. اهـ. وظاهر هذا التوجيه أن الأكل والشرب ليس حقيقياً، وإنما هو حالة نفسية تنشأ من استغراقه صلى الله عليه وسلم في أحواله الشريفة، حتى لا يؤثر فيه حينئذ شيء من الأحوال البشرية. وقريب

من هذا قول من فسر "يطعمني ربي ويسقيني" أي يشغلني بالتفكير في عظمته والتملي بمشاهدته، والتغذي بمعارفه، وقرة العين بمحبته، والاستغراق في مناجاته والإقبال عليه عن الطعام والشراب، قال ابن القيم: قد يكون هذا الغذاء أعظم من غذاء الأجساد، ومن له أدنى ذوق وتجربة يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير من الغذاء الجسماني، ولا سيما الفرح المسرور بمطلوبه، الذي قرت عينه بمحبوبه. اهـ. وهذه الحالة مشاهدة فيمن يشغله شاغل مهم عن الأكل. وقال الجمهور: قوله "يطعمني ويسقيني"، مجاز عن لازم الطعام والشراب، وهو القوة، فكأنه قال: يعطيني قوة الآكل والشارب، ويفيض علي ما يسد مسد الطعام والشراب، ويقوي على أنواع الطاعات من غير ضعف في القوة ولا كلال في الإحساس فالجوع والعطش يحصلان، لكن الإحساس بهما، أو أثرهما منعدم. وبعضهم يقول: المعنى أن الله يخلق فيه من الشبع والري ما يغنيه عن الطعام والشراب، فلا يحس بجوع ولا عطش، بل لا يجد جوعاً ولا عطشاً، ويضعف هذا القول أنه ينافي حال الصائم، ويفوت المقصود من الصيام والوصال، لأن الجوع هو روح هذه العبادة بخصوصها، قال القرطبي، ويبعده أيضاً النظر إلى حاله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يجوع أكثر مما يشبع، ويربط على بطنه الحجارة من الجوع. والله أعلم. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - استواء المكلفين في الأحكام، وأن كل حكم ثبت في حق النبي صلى الله عليه وسلم ثبت في حق أمته إلا ما استثنى بدليل. قاله الحافظ ابن حجر. 2 - وفيها جواز معارضة المفتي فيما أفتى به إذا كان بخلاف حاله ولم يعلم المستثنى بسر المخالفة. 3 - وفيها الاستكشاف عن حكمة النهي. 4 - وفيها ثبوت خصائصه صلى الله عليه وسلم، وأن عموم قوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [الأحزاب: 21]. مخصوص. 5 - وفيها أن الصحابة كانوا يرجعون إلى فعله المعلوم صفته، ويبادرون إلى الائتساء به، إلا فيما نهاهم عنه. 6 - وفيها أن خصائصه لا يتأسى به في جميعها. 7 - وفيها بيان قدرة الله تعالى على إيجاد المسببات العاديات من غير سبب ظاهر. 8 - وفيها النهي عن التشدد في الدين والتكلف والحث على اليسر وما يطيق المسلم. 9 - وفيها شفقة الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته، ورحمته بهم. 10 - وفيها تعليل الحكم الغريب لتستريح نفس المشتبه. والله أعلم

(303) باب حكم القبلة والمباشرة في الصوم

(303) باب حكم القبلة والمباشرة في الصوم 2242 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل إحدى نسائه وهو صائم ثم تضحك. 2243 - عن سفيان قال: قلت لعبد الرحمن بن القاسم: أسمعت أباك يحدث عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم؟ فسكت ساعة ثم قال نعم. 2244 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلني وهو صائم وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك إربه؟ . 2245 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم ويباشر وهو صائم ولكنه أملككم لإربه. 2246 - عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم وكان أملككم لإربه. 2247 - عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يباشر وهو صائم. 2248 - عن الأسود قال: انطلقت أنا ومسروق إلى عائشة رضي الله عنها. فقلنا لها: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر وهو صائم؟ قالت: نعم. ولكنه كان أملككم لإربه أو من أملككم لإربه. شك أو عاصم. 2249 - عن الأسود ومسروق أنهما دخلا على أم المؤمنين ليسألانها فذكر نحوه.

2250 - عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم. 2251 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل في شهر الصوم. 2252 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل في رمضان وهو صائم. 2253 - عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم. 2254 - عن حفصة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم. 2255 - عن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيقبل الصائم؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "سل هذه" (لأم سلمة) فأخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك. فقال: يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "أما والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له". -[المعنى العام]- الإسلام ليس دين تبتل ولا رهبانية، بل هو دين الوسطية، {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا} [القصص: 77]. {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} [الأعراف: 32]. نعم. من أهداف الصوم تهذيب شهوتي البطن والفرج، والتدريب على السيطرة عليهما، والتحكم فيهما، حتى لا يجرفا المسلم بعنفوانهما إلى المحرمات فأحل الله الأكل والشرب والجماع للصائم

ليلاً، وحرمها نهاراً، قال جل شأنه {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} [البقرة: 187]. ولما كان الجماع ممنوعاً في نهار الصائم كان السؤال يخطر كثيراً. ماذا عن المقدمات؟ والعربي بطبعه عاطفي، حسن العشرة لنسائه، ميال إلى المداعبة، والشريعة الإسلامية بسماحتها تحث على ذلك، لكن من أين يستقى حكم ذلك إذا لم نلجأ إلى أمهات المؤمنين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لنستكشف منهن حال النبي صلى الله عليه وسلم معهن؟ وهكذا كانت الأسئلة عن قبلة الصائم، وعن مباشرته لزوجته دون جماع، وكانت إجابتهن الشافية الكافية التي سنوضحها في فقه الحديث. إن شاء الله. -[المباحث العربية]- (يقبل إحدى نسائه) تقصد نفسها، وعدلت هنا عن المتكلم إلى الغائب حياء، ولا يمنع هذا أن تتكلم عن نفسها بضمير المتكلم في ظرف آخر، كما في الرواية الثالثة. (وهو صائم) جملة حالية، وتشمل صيام الفرض وصيام النفل، لأن الذي يفطر في الفرض يفطر في النفل، أما الروايتان التاسعة والعاشرة فتصريحهما بشهر الصوم رمضان لرفع ما عساه يظن أن ذلك يحصل في النفل والتطوع لما فيه من التسامح وضعف الحيطة فإن الإفطار لمن صام نفلاً مرخص به لمجرد دعوته إلى طعام. (ثم تضحك) معطوف على "قالت" ولعل التعبير بالمضارع من بعض الرواة لاستحضار الصورة، والأصل "ثم ضحكت" كما في لفظ البخاري. قال النووي: قال القاضي: قيل: يحتمل أن ضحكها للتعجب ممن خالف في هذا، وقيل: للتعجب من نفسها، حيث جاءت بمثل هذا الحديث الذي يستحي من ذكره، لا سيما تحديث المرأة به عن نفسها للرجال، لكنها اضطرت إلى ذكره لتبليغ الحديث والعلم، فتتعجب من ضرورة الحال المضطرة لها إلى ذلك. وقيل: ضحكت سروراً بتذكر مكانها من النبي صلى الله عليه وسلم، وحالها معه، وملاطفته لها قال القاضي: ويحتمل أنها ضحكت تنبيهاً على أنها صاحبة القصة، ليكون أبلغ في الثقة بحديثها. اهـ وقد روى ابن أبي شيبة عن شريك عن هشام في هذا الحديث "فضحكت فظننا أنها هي". (فسكت ساعة) أي جزءاً من الزمن، وليس المقصود الساعة المعهودة المحددة بستين دقيقة قال النووي: أي ليتذكر قولها. (وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك إربه) في الرواية الرابعة والخامسة، "وكان أملككم لإربه"، وفي السابعة "أو من أملككم لإربه".

قال النووي: هذه اللفظة رووها على وجهين، أشهرهما رواية الأكثرين "إربه" بكسر الهمزة وإسكان الراء، والثاني بفتح الهمزة والراء، ومعناه بالكسر الوطر والحاجة، وكذا بالفتح، ولكن المفتوح يطلق أيضاً على العضو، وقال الخطابي: الفتح والكسر معناهما واحد، وهو حاجة النفس ووطرها. قال والإرب أيضاً العضو. اهـ والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم كان أقدر الناس أو من أقدر الناس على أن يغلب الشهوة، لا أن تغلبه الشهوة، فيوقفها حتى لا تتجاوز إلى إفساد الصوم. (ويباشر وهو صائم) قال النووي: معنى المباشرة هنا اللمس باليد، وهو من التقاء البشرتين. اهـ فهي أعمق من التقبيل. أما المراد بالمباشرة في قوله تعالى: {فالآن باشروهن} الجماع، لا ما دونه من قبلة ونحوها، والرسول صلى الله عليه وسلم هو المبين عن الله تعالى. (يسألانها) هكذا هو في كثير من الأصول "يسألانها" وهذا واضح جار على المشهور في العربية، لكن في بعض الأصول "ليسألانها" بلام التعليل مع ثبوت نون الأفعال الخمسة. قال النووي: وهي لغة قليلة. (في شهر الصوم) أي وهو صائم صيام الفرض. (فقال: يا رسول الله قد غفر الله لك ... ) سبب قوله هذا القول أنه ظن أن جواز التقبيل للصائم من خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه لا حرج عليه فيما يفعل، لأنه مغفور له، وفي الموطأ "يحل الله لرسوله ما شاء". (أنا أتقاكم لله وأخشاكم له) فكيف تظنون بي أو تجوزون علي ارتكاب منهي عنه؟ وفي بعض الروايات أن الرسول صلى الله عليه وسلم غضب حين قال القائل هذا القول. -[فقه الحديث]- اختلف العلماء في حكم القبلة والمباشرة تقع من الصائم لزوجته، والمقصود من المباشرة هنا -كما قدمنا- التقاء البشرتين بأي وفي أي موضع من الجسد من غير الجماع، فالحكم على القبلة حكم المباشرة. فقال الشافعي وأصحابه: القبلة في الصوم ليست محرمة على من لم تحرك شهوته، لكن الأولى له تركها. ولا يقال إنها مكروهة له. وإنما قالوا: إنها خلاف الأولى في حقه، مع ثبوت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعلها، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يؤمن في حقه مجاوزة حد القبلة، ويخاف على غيره مجاوزتها، كما قالت عائشة "وأيكم يملك إربه" "وكان أملككم لإربه" أما من حركت شهوته فهي حرام في حقه على الأصح عند الشافعية وفي غير الأصح عندهم مكروهة كراهة تنزيه، ذكره النووي. وحاصل هذا القول أن القبلة والمباشرة بين الزوجين في الصيام خلاف الأولى لمن علم من تجاربه وسوابقه أنها لا تحرك شهوته، ولا يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يفعل خلاف الأولى على هذا؟

لأن الأمن في حقه أقوى من الأمن في حق غيره. أما من علم من تجاربه وسوابقه أنها تحرك شهوته فهي حرام في حقه، لأنها -والحالة هذه- تؤدي إلى الإنزال المفسد للصوم، وإفساد الصوم حرام، فما أدى إليه حرام. وعند بعض الشافعية أنها مكروهة في هذه الحالة، لأن تأديتها للإنزال محتملة ظنية، فلا تأخذ حكم الإنزال. وهذا القول أضبط الأقوال في المسألة، ويجتمع عنده ظواهر الأحاديث الواردة. فقد ورد في بعض الروايات أن عروة قال بعد أن سمع الحديث: إني لم أر القبلة تدعو إلى خير، وكذلك رويت هذه الزيادة عن ابن هشام، فأقل ما يؤخذ منها أنها خلاف الأولى. وروايات عائشة -رضي الله عنها- تفيد أن صنع الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا ليس مؤشراً للإباحة، فإن استدراكها بقولها: "كان أملككم لإربه" "وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك إربه"؟ دليل على عدم الإباحة. وأوضح من ذلك رواية النسائي "قال الأسود: قلت لعائشة: أيباشر الصائم؟ قالت: لا. قلت: أليس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر وهو صائم قالت: إنه كان أملككم لإربه" وليس مرادها بهذا تحريم المباشرة، فعن حكيم بن عقال قال: "سألت عائشة: ما يحرم علي من امرأتي وأنا صائم قالت: فرجها" قال الحافظ: إسناده إلى حكيم صحيح، ويؤدي معناه ما رواه عبد الرزاق عن مسروق "سألت عائشة: ما يحل للرجل من امرأته صائماً؟ قالت كل شيء إلا الجماع". قال الحافظ ابن حجر: فيحمل النهي هنا [قولها للأسود: لا] على كراهة التنزيه، فإنها لا تنافي الإباحة، وقد روي عن حماد: سألت عائشة عن المباشرة للصائم؟ فكرهتها". القول الثاني: نقل ابن المنذر وغيره عن قوم تحريمها مطلقاً: واحتجوا بقوله تعالى: {فالآن باشروهن} الآية، فمنع المباشرة في هذه الآية نهاراً. قال الحافظ: والجواب عن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم هو المبين عن الله تعالى، وقد أباح المباشرة نهاراً، فدل على أن المراد بالمباشرة في الآية الجماع، لا ما دونه من قبلة ونحوها، وممن أفتى بإفطار من قبل وهو صائم عبد الله بن شبرمة، أحد فقهاء الكوفة، ونقله الطحاوي عن قوم لم يسمهم. اهـ وقال النووي: حكى الخطابي وغيره عن ابن مسعود وسعيد بن المسيب أن من قبل قضى يوماً مكان يوم القبلة. اهـ ولعل القائلين بهذا يرون في أحاديث الباب أنها خصوصية للرسول صلى الله عليه وسلم. القول الثالث: أن القبلة للصائم مباحة مطلقاً. قال الحافظ: وهو المنقول صحيحاً عن أبي هريرة وبه قال سعيد وسعد بن أبي وقاص وطائفة. اهـ وقال النووي: قال القاضي: وقد قال بإباحتها مطلقاً للصائم جماعة من الصحابة والتابعين وأحمد وإسحق وداود. اهـ. قال الحافظ: بل بالغ بعض أهل الظاهر فاستحبها. اهـ. القول الرابع: أنها مكروهة مطلقاً، وهو مشهور عند المالكية. القول الخامس: أنها مكروهة للشاب دون الشيخ الكبير، وهي رواية عن مالك. قال الحافظ ابن حجر: وهو مشهور عن ابن عباس، أخرجه مالك وسعيد بن منصور وغيرهما، وجاء فيه حديثان

مرفوعان فيهما ضعف، أخرج أحدهما أبو داود من حديث أبي هريرة، والآخر أحمد من حديث عبد الله بن عمر، اهـ ويرد هذا القول أن عائشة كانت في شبابها حين قبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان الرسول صلى الله عليه وسلم ليوقعها في أمر مكروه -وكان عمر بن أبي سلمة- الذي أجيب في روايتنا الثالثة عشرة شاباً، بل لعله كان أول ما بلغ، مما يدل على أنه لا عبرة بالشيخوخة ولا بالشباب، فقد تتحرك شهوة الشيخ أسرع من شهوة الشاب. القول السادس: التفرقة بين من يملك نفسه وبين من لا يملك نفسه، وهو قريب من القول الأول. قال الترمذي: رأى بعض أهل العلم أن للصائم إذا ملك نفسه أن يقبل وإلا فلا، ليسلم له صومه، وهو قول سفيان والشافعي. القول السابع: التفرقة بين صيام الفرض وصيام النفل، فتباح في صوم النفل دون الفرض. روى ذلك ابن وهب عن مالك رحمه الله. والله أعلم. كل ذلك في قبلة الصائم أو مباشرته إذا لم ينزل أو يمذي، أما إذا أنزل أو أمذى فقد قال الحنفية والشافعية: يقضي إذا أنزل في غير النظر ولا قضاء في الإمذاء، وقال مالك وإسحق: يقضي في كل ذلك ويكفر، إلا في الإمذاء فيقضي فقط، وروى ابن القاسم عن مالك وجوب القضاء فيمن باشر أو قبل فانعظم [أي انتصب] ولو لم يمذ، ولو لم ينزل. وأنكره غيره عن مالك. وقال ابن قدامة: إن قبل فأنزل أفطر بلا خلاف. قال الحافظ: وفيه نظر فقد حكى ابن حزم أنه لا يفطر ولو أنزل. اهـ. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من إرهاف العاطفة نحو أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين. 2 - وأن رسالته وجديته شيء ومداعبته لأزواجه شيء آخر، فهو في بيته بشر يشتهي ما يشتهيه البشر، بل في درجات البشرية العليا. 3 - أن القبلة من حق الزوجة على زوجها، وعليه أن يعفها ويملأ عاطفتها بالمداعبة ومقدمات النكاح. 4 - جواز الإخبار عن مثل هذا مما يجري بين الزوجين على الجملة للضرورة، قال النووي: وأما في غير حال الضرورة فمنهي عنه. 5 - أنه لا حياء في الدين، فإن عمر بن أبي سلمة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قبلة الصائم أمام أمه، وأحال الرسول صلى الله عليه وسلم الإجابة على أمه، فأجابته بما يفعله معها رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله أعلم

(304) باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب

(304) باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب 2256 - عن أبي بكر قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقص يقول في قصصه: من أدركه الفجر جنباً فلا يصم. فذكرت ذلك لعبد الرحمن بن الحارث لأبيه. فأنكر ذلك. فانطلق عبد الرحمن وانطلقت معه حتى دخلنا على عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما. فسألهما عبد الرحمن عن ذلك. قال: فكلتاهما قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبح جنباً من غير حلم ثم يصوم. قال: فانطلقنا حتى دخلنا على مروان فذكر ذلك له عبد الرحمن. فقال مروان عزمت عليك إلا ما ذهبت إلى أبي هريرة فرددت عليه ما يقول. قال: فجئنا أبا هريرة وأبو بكر حاضر ذلك كله. قال: فذكر له عبد الرحمن. فقال أبو هريرة أهما قالتاه لك؟ قال: نعم. قال: هما أعلم ثم رد أبو هريرة ما كان يقول في ذلك إلى الفضل بن العباس. فقال أبو هريرة سمعت ذلك من الفضل ولم أسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فرجع أبو هريرة عما كان يقول في ذلك. قلت: لعبد الملك أقالتا في رمضان؟ قال: كذلك كان يصبح جنباً من غير حلم ثم يصوم. 2257 - عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها قالت: قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدركه الفجر في رمضان وهو جنب من غير حلم فيغتسل ويصوم. 2258 - عن أبي بكر رضي الله عنه أن مروان أرسله إلى أم سلمة رضي الله عنها يسأل عن الرجل يصبح جنباً أيصوم؟ فقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنباً من جماع لا من حلم ثم لا يفطر ولا يقضي. 2259 - عن عائشة وأم سلمة زوجي النبي صلى الله عليه وسلم أنهما قالتا: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصبح جنباً من جماع غير احتلام في رمضان ثم يصوم.

2260 - عن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه وهي تسمع من وراء الباب. فقال: يا رسول الله تدركني الصلاة وأنا جنب أفأصوم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم" فقال: لست مثلنا يا رسول الله. قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال "والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي". 2261 - عن سليمان بن يسار أنه سأل أم سلمة رضي الله عنها عن الرجل يصبح جنباً أيصوم؟ قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنباً من غير احتلام ثم يصوم. -[المعنى العام]- أحل الله ليلة الصيام الرفث إلى النساء وجماع الزوجة إلى الفجر، ومعنى هذا أن الجماع بعد الفجر يبطل الصوم، فعرضت مسألة من جامع قبيل الفجر ولم يغتسل من الجنابة حتى طلع الفجر، هل يصح صومه أو لا يصح، وكان أبو هريرة ممن يعظم شأن الجنابة، لدرجة أنه كان يظن أن الجنب نجس، لا يقابل الطاهرين ولا يصافحهم أو لا يسلم عليهم، فهو الذي انخنس وزاغ عن مقابلة النبي صلى الله عليه وسلم في الطريق، فلما سأله صلى الله عليه وسلم عن سبب انخناسه؟ قال كنت جنباً. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم. سبحان الله إن المؤمن لا ينجس. وسمع أبو هريرة من الفضل بن العباس ومن أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أصبح جنباً فليفطر ولا يصم" وكان هذا الحكم على هواه فأخذ يفتي به وينشره، ويجاهر به رغم أن المسلمين علموا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن صيام من أصبح جنباً صحيح، سواء كانت الجنابة من حلم أو جماع، وعلم مروان بن الحكم أمير المدينة من جهة معاوية ما يقوله أبو هريرة، فأحب مواجهته وتقريعه وتخويفه، فأرسل إلى أمي المؤمنين عائشة وأم سلمة -رضي الله عنهما- يسألهما عن الصائم يصبح جنباً، ليصدم أبا هريرة بما لا مرد له؛ فأجابتا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنباً من جماع، ويغتسل بعد الفجر ويصوم، وأن رجلاً استفتاه في ذلك فأجابه بأن صيامه صحيح. وراجعه الرجل فأكد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن صيام من أصبح جنباً صحيح. وأرسل مروان إلى أبي هريرة من يحرجه ويرد عليه قوله، ولما تأكد أبو هريرة من قول أمي المؤمنين رجع عن مقالته إلى ما قالته عائشة وأم سلمة رضي الله عن الصحابة أجمعين.

-[المباحث العربية]- (عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي بكر) أصل الإسناد: عن عبد الملك عن أبيه أبي بكر بن عبد الرحمن قال: سمعت أبا هريرة ... " فالقائل: "سمعت أبا هريرة" أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث. (يقص يقول في قصصه) المراد من القصص القول والرواية، وليس ما يتبادر من لفظ القصة ذات الحوادث، فالمعنى: يروى، يقول فيما يرويه. (من أدركه الفجر جنباً فلا يصم) وفي رواية مالك "من أصبح جنباً أفطر ذلك اليوم"، وللنسائي "من أصبح جنباً فلا يصوم ذلك اليوم"، وللنسائي أيضاً "من احتلم من الليل أو واقع أهله، ثم أدركه الفجر ولم يغتسل فلا يصم"، وفي رواية "من أصبح جنباً فليفطر". (فذكرت ذلك لعبد الرحمن بن الحارث) أي "لأبيه" فأنكر ذلك القائل "فذكرت" هو أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وكان الأصل أن يقول: فذكرت ذلك لأبي عبد الرحمن بن الحارث، أو يقول: فذكرت ذلك لعبد الرحمن بن الحارث "لأبي" لكنه عبر بضمير الغيبة "لأبيه" بدل ضمير التكلم، فأثار قلقاً في العبارة. قال النووي عنها: وهو صحيح مليح، ومعناه ذكره أبو بكر لأبيه عبد الرحمن، فقوله "لأبيه" بدل من عبد الرحمن، بإعادة حرف الجر. قال القاضي ووقع في رواية ابن ماهان "فذكر ذلك عبد الرحمن لأبيه، وهذا غلط فاحش، لأنه تصريح بأن الحارث والد عبد الرحمن هو المخاطب بذلك، وهو باطل، لأن هذه القصة كانت في ولاية مروان على المدينة في خلافة معاوية، والحارث توفي في طاعون عمواس في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة ثمان عشرة. اهـ. (فانطلق عبد الرحمن وانطلقت معه) المتكلم أبو بكر بن عبد الرحمن، وكان الأصل أن يقول: فانطلق أبي عبد الرحمن وانطلقت معه حتى دخلنا على عائشة، وفي الرواية طي توضحه الرواية الرابعة، والروايات في غير مسلم حاصلها أنه لما أنكر عبد الرحمن ما سمعه من ابنه أبي بكر اجتمعا معاً عند مروان بن الحكم أمير المدينة، فحدثه عبد الرحمن بما يقول أبو هريرة، فقال مروان: أقسمت عليك يا عبد الرحمن لتذهبن إلى أمي المؤمنين عائشة وأم سلمة، فتسألنهما عن ذلك. قال أبو بكر: فذهب عبد الرحمن وذهبت معه .. (حتى دخلنا على عائشة وأم سلمة) ظاهره أنهما كانتا في مكان واحد، والواقع غير ذلك وأنهما ذهبا إلى عائشة في بيتها فسألاها، ثم ذهبا إلى أم سلمة في بيتها فسألاها. (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبح جنباً من غير حلم) "حلم" بضم الحاء، وبضم اللام وإسكانها، وهل يحتلم الأنبياء أو لا يحتلمون؟ . وما فائدة ذكرها؟ سيأتي ذلك في فقه الحديث. (عزمت عليك إلا ما ذهبت إلى أبي هريرة، فرددت عليه ما يقول) أي أمرتك أمراً

جازماً عزيمة محتمة. وفي رواية البخاري "أقسم بالله لتقرعن بها أبا هريرة" أي اذهب فقرع أبا هريرة على فتواه، وفي رواية "لتفزعن" بالفاء والزاي، من الفزع، وهو الخوف. (فجئنا أبا هريرة وأبو بكر حاضر ذلك كله) المتكلم أبو بكر وكان الأصل أن يقول: وأنا حاضر ذلك كله. وفي هذه الرواية طي، توضيحه أن عبد الرحمن كره أن يذهب إلى أبي هريرة، لكن مروان أمير واجب الطاعة، ففي رواية النسائي " قال عبد الرحمن لمروان: إن أبا هريرة لجارئ وإني لأكره أن أستقبله بما يكره، فقال: أعزم عليك لتلقينه"، وفي رواية "فقال عبد الرحمن لمروان: "غفر الله لك، إنه لي صديق، ولا أحب أن أرد عليه قوله". ورواية البخاري تفيد أنهما التقيا بأبي هريرة عفواً، ولم يذهبا إليه قاصدين، فلفظه "ثم قدر لنا أن نجتمع بذي الحليفة"، وكان لأبي هريرة هناك أرض، لكن في رواية مالك "فقال مروان لعبد الرحمن: أقسمت عليك لتركبن دابتي، فإنها بالباب، فلتذهبن إلى أبي هريرة فإنه بأرضه بالعقيق، فلتخبرنه. قال: فركب عبد الرحمن وركبت معه"، قال الحافظ ابن حجر: فهذا ظاهر في أنه قصد أبا هريرة لذلك، فيحمل قوله "ثم قدر لنا أن نجتمع معه" على المعنى الأعم من التقدير، لا على معنى الاتفاق. اهـ أي ذهبنا قاصدين فكان القدر أن نلقاه ونجتمع به. (فذكر له عبد الرحمن) أي ذكر له ما كان من جواب عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما. وفي رواية للبخاري "فقال عبد الرحمن لأبي هريرة: إني ذاكر لك أمراً، ولولا مروان أقسم علي فيه لم أذكره لك، فذكر قول عائشة وأم سلمة". (فقال أبو هريرة: هما قالتاه لك؟ قال: نعم. قال هما أعلم) في بعض الروايات "هما أعلم برسول الله منا" وفي رواية "فتلون وجه أبي هريرة ثم قال: هكذا حدثني الفضل بن عباس". وفي رواية "سمعت ذلك -أي القول الذي أقوله- من الفضل بن عباس" أي ولم أسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، أي وكنت أفتي به، ولا أنسبه قولاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وفي رواية النسائي "قال أبو هريرة "أخبرنيه أسامة بن زيد". وفي رواية "أخبرنيه فلان وفلان". وفي رواية "أخبرنيه مخبر" قال الحافظ: والظاهر أن هذا من تصرف الرواة، منهم من أبهم الرجلين، ومنهم من اقتصر على أحدهما تارة مبهماً وتارة مفسراً. (فرجع أبو هريرة عما كان يقول في ذلك) سيأتي توضيحه في فقه الحديث. (إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصبح جنباً .... ثم يصوم) "إن" مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الحال والشأن محذوف، والجملة بعدها خبر، والتقدير: إن الحال والشأن كان كذا. (تدركني الصلاة وأنا جنب) "ال" في الصلاة للعهد، والمقصود صلاة الفجر.

-[فقه الحديث]- روي عن أحمد وابن حبان عن أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم "إذا نودي للصلاة" صلاة الصبح وأحدكم جنب فلا يصم حينئذ" وروى النسائي والطبراني عن عبد الله بن عبد الله بن عمر: قال لي أبو هريرة "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالفطر إذا أصبح الرجل جنباً". قال الحافظ: والذي يظهر لي أن مراد البخاري أن الرواية الأولى أقوى إسناداً، وهي من حيث الرجحان كذلك، لأن حديث عائشة وأم سلمة في ذلك جاء عنهما من طرق كثيرة جداً بمعنى واحد، حتى قال ابن عبد البر: إنه صح وتواتر، وأما أبو هريرة فأكثر الروايات عنه أنه كان يفتي به، وجاء عنه من هذين الطريقين أنه كان يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك وقع فيما أخرجه عبد الرزاق عن أبي بكر بن عبد الرحمن "سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" فذكر الحديث، والنسائي عن أبي بكر بن عبد الرحمن "بلغ مروان أن أبا هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأحمد عن عبد الله بن عمرو القاري "سمعت أبا هريرة يقول: ورب هذا البيت ما أنا قلت: من أدرك الصبح وهو جنب فلا يصم، محمد ورب الكعبة قاله". قال الحافظ: لكن بين أبو هريرة -كما مضى- أنه لم يسمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما سمعه بواسطة الفضل وأسامة. وكان لشدة وثوقه بخبرهما يحلف على ذلك. وأما ما أخرجه بن عبد البر من رواية عطاء بن ميناء عن أبي هريرة أنه قال: "كنت حدثتكم: من أصبح جنباً فقد أفطر وأن ذلك من كيس أبي هريرة". فلا يصح ذلك عن أبي هريرة، لأنه من رواية عمر بن قيس وهو متروك. ثم استعرض الحافظ أقوال العلماء في حكم من أصبح جنباً، فقال: نقل الترمذي أنه بقي على مقالة أبي هريرة بعض التابعين، ثم ارتفع ذلك الخلاف واستقر الإجماع على خلافه، وجزم بذلك النووي. وأما ابن دقيق العيد فقال: صار ذلك إجماعاً، أو كالإجماع، لكن من الآخذين بحديث أبي هريرة من فرق بين من تعمد الجنابة وبين من احتلم، ومنهم من قال: يتم صومه ويقضي، ومنهم من قال: يقضي استحباباً، ومنهم من قال: يقضي وجوباً في الفرض، ويجزئ في التطوع. ونقل الماوردي أن هذا الاختلاف كله إنما هو في حق الجنب، وأما المحتلم فأجمعوا على أنه يجزئه. قال الحافظ: وحمل القائلون بفساد صوم الجنب حديث عائشة وأما سلمة على أنه من الخصائص النبوية، وأجاب الجمهور بأن الخصائص لا تثبت إلا بدليل، وبأنه قد ورد صريحاً ما يدل على عدمها، وهو ما أخرجه مسلم "أن رجلاً جاء النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه .... " والحديث روايتنا الخامسة. اـ. ومن الواضح أن الحكم الشرعي على خلاف ما كان يقول أبو هريرة، ومن الثابت أن أبا هريرة رجع عن هذه الفتوى بعد تلك المواجهة، إما لرجحان رواية أمي المؤمنين على رواية غيرهما، وإما لاعتقاده أن خبر أمي المؤمنين ناسخ لخبر غيرهما.

وقد دافع كثير من العلماء عن موقف أبي هريرة في فتواه أو حديثه. فقد قال ابن خزيمة: إن أبا هريرة لم يغلط، بل أحال على رواية صادق إلا أن الخبر منسوخ، لأن الله تعالى عند ابتداء فرض الصوم كان منع في ليل الصوم من الأكل والشرب والجماع بعد النوم، فيحتمل أن يكون خبر الفضل كان حينئذ، ثم أباح الله ذلك كله إلى طلوع الفجر، فكان للمجامع أن يستمر إلى طلوعه، فيلزم أن يقع اغتساله بعد طلوع الفجر، فدل على أن حديث عائشة ناسخ لحديث الفضل، ولم يبلغ الفضل ولا أبا هريرة الناسخ، فاستمر أبو هريرة على الفتيا به، ثم رجع عنه بعد ذلك لما بلغه. أهـ. وإلى دعوى النسخ ذهب ابن المنذر والخطابي وغير واحد، وقررها ابن دقيق العيد، ورجحها الحافظ ان حجر: وهذا خير دفاع. ومال البخاري إلى الترجيح بين الخبرين، حيث قال: والأول أسند، وتابعه قوم، فقالوا: إن حديث عائشة راجح لموافقة أم سلمة لها على ذلك ورواية الاثنين تقدم على رواية الواحد، ولا سيما وهما زوجتان، وهما أعلم بذلك من الرجال، ولأن روايتهما توافق المنقول، وهو مدلول الآية، والمعقول وهو أن الغسل شيء وجب بالإنزال، وليس في فعله شيء يحرم على صائم، فقد يحتلم بالنهار، فيجب عليه الغسل، ولا يحرم عليه، بل يتم صومه إجماعاً، فكذلك إذا احتلم ليلاً، بل هو من باب أولى، وإنما يمنع الصائم من تعمد الجماع نهاراً. وجمع بعضهم بين الحديثين بأن الأمر في حديث أبي هريرة أمر إرشاد إلى الأفضل، فإن الأفضل أن يغتسل قبل الفجر، فلو خالف جاز، ويحمل حديث عائشة على بيان الجواز، ونقل النووي هذا عن أصحاب الشافعي. قال الحافظ: ويعكر على حمله على الإرشاد التصريح في كثير من طرق حديث أبي هريرة بالأمر بالفطر، وبالنهي عن الصيام، فكيف يصح الحمل المذكور إذا وقع ذلك في رمضان. اهـ اعتراض مفحم. وجمع بعضهم بحمل حديث أبي هريرة على من أدركه الفجر مجامعاً فاستدام بعد طلوعه عالماً بذلك. قال الحافظ: ويعكر عليه ما رواه النسائي عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبيه أن أبا هريرة كان يقول: "من احتلم وعلم باحتلامه، ولم يغتسل حتى أصبح فلا يصوم". وحكى ابن التين عن بعضهم أن لفظ "لا" سقط من حديث الفضل، وكان في الأصل "من أصبح جنباً في رمضان فلا يفطر" فلما سقط "لا" صار "فليفطر". قال الحافظ: وهذا بعيد. بل باطل، لأنه يستلزم عدم الوثوق بكثير من الأحاديث، وأنها يتطرق إليها هذا الاحتمال، وكأن قائله ما وقف على شيء من طرق هذا الحديث إلا على اللفظ المذكور. اهـ. هذا، والحائض والنفساء إذا انقطع دمها ليلاً في معنى الجنب. قال النووي: مذهب العلماء كافة صحة صومها إلا ما حكى عن بعض السلف، مما لا يعلم أصح عنه أم لا. اهـ. وحكى ابن دقيق العيد أن في المسألة في مذهب مالك قولين. وحكى ابن عبد البر عن عبد الملك

بن الماجشون أنها إذا أخرت غسلها حتى طلع الفجر فيومها يوم فطر، لأنها في بعضه غير طاهرة، قال: وليس كالذي يصبح جنباً، لأن الاحتلام لا ينقض الصوم والحيض ينقضه. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - دخول العلماء على الأمراء، ومذاكرتهم إياهم بالعلم. 2 - قال الحافظ: وفيه فضيلة لمروان بن الحكم، لما يدل عليه الحديث من اهتمامه بالعلم ومسائل الدين. اهـ والظاهر عندي أن مروان اهتم بتخطئة أبي هريرة ومهاجمته. 3 - وفيها الاستثبات في النقل والرجوع إلى الأعلم، فإن الشيء إذا نوزع فيه رد إلى من عنده علمه. 4 - وترجيح مروي النساء فيما لهن عليه الاطلاع دون الرجال على مروي الرجال، كعكسه قاله الحافظ. 5 - وأن المباشر للأمر أعلم به من المخبر عنه. 6 - والائتساء بالنبي صلى الله عليه وسلم في أفعاله ما لم يقم دليل الخصوصية. 7 - وأن للمفضول إذا سمع من الأفضل خلاف ما عنده من العلم أن يبحث عنه حتى يقف على وجهه. 8 - وأن الحجة عند الاختلاف في المصير إلى الكتاب والسنة. 9 - وفيها الحجة بخبر الواحد، وأن المرأة فيه كالرجل. قاله الحافظ، وقد يقال: إن الحجة هنا خبر امرأتين. 10 - وفيه فضيلة لأبي هريرة، لاعترافه بالحق، ورجوعه إليه. 11 - وفيها استعمال السلف من الصحابة والتابعين الإرسال عن العدول، من غير نكير بينهم، لأن أبا هريرة اعترف بأنه لم يسمع هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه كان يمكنه أن يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم دون وساطة. 12 - وفيها الأدب مع العلماء. 13 - والمبادرة إلى امتثال أمر ذي الأمر إذا كان طاعة، ولو كان فيه مشقة على المأمور. ذكر ذلك كله الحافظ ابن حجر في فتح الباري. والله أعلم. 14 - استدل بعضهم بقولها "من غير حلم" على جواز الاحتلام على الأنبياء، وإلا لما كان للاستثناء معنى، والأشهر امتناعه، لأنه من تلاعب الشيطان، وهم منزهون عنه، قال النووي: ويتأولون هذا الحديث على أن المراد يصبح جنباً من جماع ولا يجنب من الاحتلام، لامتناعه منه، ويكون قريباً من قوله تعالى: {ويقتلون النبيين بغير الحق} [البقرة: 61]. ومعلوم أن قتلهم لا يكون بحق. اهـ وقيل: إن الاحتلام يطلق على الإنزال، وقد وقع الإنزال بغير رؤية شيء في المنام. والله أعلم

(305) باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم ووجوب الكفارة الكبرى فيه، وبيانها، وأنها تجب على الموسر والمعسر، وتثبت في ذمة المعسر حتى يستطيع

(305) باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم ووجوب الكفارة الكبرى فيه، وبيانها، وأنها تجب على الموسر والمعسر، وتثبت في ذمة المعسر حتى يستطيع 2262 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت يا رسول الله. قال: "وما أهلكك؟ " قال: وقعت على امرأتي في رمضان. قال "هل تجد ما تعتق رقبة؟ " قال: لا. قال "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ " قال: لا. قال "فهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ " قال: لا. قال: ثم جلس. فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر. فقال "تصدق بهذا" قال: أفقر منا؟ فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال "اذهب فأطعمه أهلك". 2263 - عن محمد بن مسلم الزهري بهذا الإسناد مثل رواية ابن عيينة. وقال بعرق فيه تمر وهو الزنبيل ولم يذكر فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه. 2264 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً وقع بامرأته في رمضان فاستفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال "هل تجد رقبة؟ " قال: لا. قال "وهل تستطيع صيام شهرين؟ " قال: لا. قال "فأطعم ستين مسكيناً". 2265 - عن الزهري بهذا الإسناد أن رجلاً أفطر في رمضان فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفر بعتق رقبة ثم ذكر بمثل حديث ابن عيينة. 2266 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً أفطر في رمضان أن يعتق رقبة أو يصوم شهرين أو يطعم ستين مسكيناً.

2267 - عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال احترقت. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لم؟ " قال: وطئت امرأتي في رمضان نهاراً. قال "تصدق تصدق" قال: ما عندي شيء. فأمره أن يجلس. فجاءه عرقان فيهما طعام. فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتصدق به. 2268 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث وليس في أول الحديث "تصدق تصدق" ولا قوله نهاراً. 2269 - عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها قالت: أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد في رمضان. فقال: يا رسول الله احترقت احترقت. فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما شأنه" فقال: أصبت أهلي. قال "تصدق" فقال: والله يا نبي الله ما لي شيء وما أقدر عليه. قال "اجلس" فجلس. فبينا هو على ذلك أقبل رجل يسوق حماراً عليه طعام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أين المحترق آنفاً؟ " فقام الرجل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تصدق بهذا" فقال: يا رسول الله أغيرنا؟ فوالله إنا لجياع ما لنا شيء. قال "فكلوه". -[المعنى العام]- للعبادة حرمة، ولها قدسية، قد يسبقها استعداد لها وتهيؤ كالصلاة، وقد يصاحبها حماية ووقاية، وتحاط بسياج الفضائل كالصوم "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه". وإفساد العبادة -أية عبادة- متعمداً دون عذر خطأ في حق مشرعها جل شأنه ربما جر إلى الكفر إن وصل إلى الاستهانة بها والاستهتار بمشروعيتها. وللصوم في هذا خصوصية من بين العبادات، فالله يقول في الحديث القدسي "كل عمل يعمله ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشهوته من أجلي"، إن المفطر متعمداً من غير عذر في نهار رمضان كالمحارب لربه، المفسد لما يخصه جل شأنه، المستهتر بالأجر العظيم الذي

يتفضل به على الصائم، ولهذا ورد "من أفطر يوماً من رمضان من غير علة ولا مرض لم يقضه صيام الدهر وإن صامه" أي لا يقوم مقام يوم من رمضان صيام العام كل العام وإن صامه ذاك المفطر، وفي رواية "من أفطر يوماً من رمضان في غير رخصة رخصها الله تعالى له لم يقض عنه وإن صام الدهر كله". وقال عبد الله بن مسعود: لم يجزه صيام الدهر حتى يلقى الله. فإن شاء غفر له، وإن شاء عذبه. علم الصحابة قدسية شهر رمضان، وعلموا عظم الجريمة في إفطار يوم منه متعمداً بدون عذر، وعلموا أن الإفطار على الجماع في نهار رمضان متوعد عليه، معاقب عليه بكفارة مغلظة: عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهريين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً. فتحرزوا من الوقوع في هذه الجريمة الكبرى، لكن أعرابياً وقع فيها، لم يملك نفسه إذ حام حول الحمى، إن الصحابة ابتعدوا عن مقدمات الجماع مخافة أن تجرهم إليه، وكانوا يسألون عن القبلة في نهار رمضان، وكانوا يجابون بما يحضهم على البعد عنها، لقد قالت لهم عائشة "إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقبل أزواجه في رمضان" لكنها أتبعت ذلك بقولها "وأيكم يملك إربه [أي شهوته] كما يملك الرسول صلى الله عليه وسلم إربه"؟ ويبدو أن هذا الأعرابي لم يملك نفسه حتى وقع، وجاءته الفكرة بعد السكرة، وأفاق من شهوته على إدراك قبح جريرته، فأسرع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، يقول: هلكت يا رسول الله، احترقت يا رسول الله، ما أراني إلا قد هلكت؟ وأخذ يشد في شعره وينتفه، وأخذ يدق صدره بيده، ويلطم وجهه ويحثي التراب على رأسه، ويدعو بالويل والثبور على نفسه، ويصيح: احترقت، احترقت. فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: مالك؟ ما شأنك؟ ماذا أصابك؟ ويحك؟ ماذا صنعت؟ وما الذي أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم في رمضان. قال صلى الله عليه وسلم: بئسما صنعت، هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا، ليس عندي والذي بعثك بالحق ما ملكت رقبة قط. قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا أستطيع، لا أقدر. وهل لقيت ما لقيت، ووقعت فيما وقعت فيه إلا من الصيام؟ قال: فهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ قال: لا أجد، لا أستطيع أن أطعم ستين مسكيناً والذي بعثك بالحق ما أشبع أهلي. قال له صلى الله عليه وسلم: اجلس. فجلس الرجل يأمل صلى الله عليه وسلم أن يجعل الله لهذا الأمر فرجاً، يأمل أن يأتيه الوحي بشيء فيه، أو يأتيه من مال الصدقات ما يسد به عنه. وكان أن جاء رجل يحمل على حماره زنبيلين: زنبيلاً على يمين حماره وزنبيلاً على يساره، أنزلهما على باب المسجد، فأفرغ أحدهما في الآخر، وقدمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، زنبيل مليء بالتمر، يبلغ خمسة عشر صاعاً، يبلغ ستين مداً، قدمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه صدقة ماله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الرجل الذي أمرته بالجلوس؟ أين المحترق؟ أين الذي قال آنفاً: احترقت، احترقت؟ فقام الرجل ووقف وأقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ هذا التمر فتصدق به على ستين مسكيناً، كفارة لما صنعت، وفكر الرجل: أتصدق به على مساكين؟ ألست أكبر

مسكين في المدينة؟ فقال: يا رسول الله: أتصدق به على أفقر مني؟ إنني أفقر مسكين في المدينة، والله ما بين جبلي المدينة من هو أفقر منا، فوالله إنا لجياع ما لنا من شيء، والله ما لعيالي من طعام، ما لنا عشاء ليلة. وتعجب صلى الله عليه وسلم من ذكاء الرجل، ومن مقاطع كلامه، ومن حسن توصله إلى هدفه، ومن أدبه في طلبه وتوسله، تعجب من ابن آدم وطبعه الذي يتمثل في حال هذا الرجل، لقد جاء خائفاً على نفسه، راغباً في فدائها بكل ما يمكنه، فلما وجد الرخصة واطمأن إلى فدائها طمع في أن يأكل ويستفيد مما أعطيه فداء، لما اطمأن إلى عدم الخسارة طمع في المكسب. تعجب صلى الله عليه وسلم، فضحك وتبسم تبسماً كبيراً حتى ظهرت أنيابه، ثم قال للرجل: خذه فأطعمه أهلك، عد به عليك وعلى عيالك. -[المباحث العربية]- (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم) قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمه، ولا يصح قول من قال: إنه سليمان أو سلمة بن صخر البياضي، لأن سلمة جاء مظاهراً لزوجته ووطئها، بخلاف هذه القصة. وفي الرواية السادسة، "أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد في رمضان". (فقال: هلكت) وفي رواية "ما أراني إلا قد هلكت"، وفي رواية "هلكت وأهلكت"، وفي الرواية الخامسة "احترقت"، وفي السادسة "احترقت. احترقت" مرتين، ورواية الاحتراق تفسر رواية الهلاك، وكأنه لما اعتقد أن مرتكب هذا الإثم يعذب بالنار، أطلق على نفسه أنه احترق لذلك، أو مراده أنه سيحترق بالنار يوم القيامة، فجعل المتوقع كالواقع، واستعمل الماضي بدل المستقبل. وفي رواية البيهقي "جاء رجل وهو ينتف شعره، ويدق صدره، ويقول: هلك الأبعد وأهلكت "وهو يدعو بالويل" وفي رواية "يلطم وجهه" وفي رواية "ويحثي على رأسه التراب". (قال: وما أهلكك)؟ في رواية للبخاري "مالك" وفي رواية "ويحك ما شأنك"؟ وفي روايتنا الخامسة "لم"؟ وفي السادسة "فسأله: ما شأنك"؟ وفي رواية "وما الذي أهلكك" وفي رواية "ما ذاك"؟ وفي رواية "ويحك. ما صنعت"؟ وويح كلمة رحمة. اسم فعل. (وقعت على امرأتي في رمضان) في رواية للبخاري "وقعت على امرأتي وأنا صائم"، وفي روايتنا السادسة "أصبت أهلي"، وفي رواية "وقعت على أهلي اليوم"، وفي روايتنا الثانية "وقع بامرأته" وكل ذلك كناية عن الوطء كما جاء صريحاً في روايتنا الخامسة، ولفظها "وطئت امرأتي في رمضان نهاراً". (هل تجد ما تعتق رقبة)؟ "رقبة" منصوب، بدل من "ما"، وفي روايتنا الثانية "هل تجد رقبة؟ "، وفي رواية للبخاري "هل تجد رقبة تعتقها؟ "، وفي رواية "أتجد ما تحرر رقبة؟ "، وفي رواية "أتستطيع أن تعتق رقبة؟ "، وفي رواية "أعتق رقبة"، وفي رواية "بئسما صنعت. أعتق رقبة"، وفي

رواية "قال النبي صلى الله عليه وسلم "من غير عذر ولا سقم؟ قال: نعم، قال: بئس ما صنعت. قال: أجل. ما تأمرني؟ قال: أعتق رقبة". (قال: لا) أي لا أجد رقبة، وفي رواية "ليس عندي"، وفي رواية "والذي بعثك بالحق ما ملكت رقبة قط". (فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين) وفي روايتنا الثانية "وهل تستطيع صيام شهرين؟ "، وفي رواية "فصم شهرين متتابعين". (قال: لا) أي لا أستطيع أن أصوم. وفي رواية "قال: لا أقدر"، وفي رواية "وهل لقيت ما لقيت إلا من الصيام"؟ . (فهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً) في الرواية الثانية "فأطعم ستين مسكيناً"، وفي رواية "أفتستطيع أن تطعم ستين مسكيناً"؟ . (قال: لا) أي لا أستطيع أن أطعم ستين مسكيناً، وفي رواية "قال: والذي بعثك بالحق ما أشبع أهلي". (قال: ثم جلس) في روايتنا الخامسة "فأمره أن يجلس"، وفي رواية "فقال له: اجلس. فجلس" قيل يحتمل أن يكون أمره بالجلوس انتظاراً للوحي في شأنه، ويحتمل أن يكون انتظاراً لورود صدقات يصرف له منها. (فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر) "أتي" بضم الهمزة، مبني للمجهول، والعرق -قال النووي- هو بفتح العين والراء .. هذا هو الصواب المشهور في الرواية واللغة، قال القاضي: ورواه كثير من شيوخنا بإسكان الراء، قال القاضي: والصواب الفتح، ويقال للعرق الزبيل بفتح الزاي من غير نون، والزنبيل بكسر الزاي وزيادة نون، ويقال له القفة، والمكتل بكسر الميم وفتح التاء، والسفيفة، بفتح السين وبالفاءين، والعرق عند الفقهاء ما يسع خمسة عشر صاعاً، وهي ستون مداً، لستين مسكيناً، لكل مسكين مد اهـ وفي بعض كتب اللغة: ويقال العرق أيضاً على السفيفة من الخوص قبل أن يجعل منها زنبيلاً. وفي روايتنا الخامسة "فجاءه عرقان فيهما طعام" قال الحافظ ابن حجر: المشهور في غير مسلم "عرق" ورجحه البيهقي، وجمع غيره بينهما بتعدد الواقعة وهو جمع لا نرضاه؛ لاتحاد مخرج الحديث، والأصل عدم التعدد. والذي يظهر أن التمر كان قدر عرق لكنه كان في عرقين في حال التحميل على الدابة، ليكون أسهل في الحمل، فيحتمل أن الآتي به لما وصل أفرغ أحدهما في الآخر، فمن قال: عرقان أراد ابتداء الحال، ومن قال: عرق أراد ما آل إليه. اهـ. فقال: "تصدق بهذا" في روايتنا السادسة "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين المحترق آنفاً؟ فقام الرجل،

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تصدق بهذا" أي أين الذي وصف نفسه بالمحترق منذ قليل؟ وقال العيني: يدل على أنه كان عامداً، لأنه صلى الله عليه وسلم أثبت له حكم العمد، وأثبت له هذا الوصف، إشارة إلى أنه لو أصر على ذلك لاستحق ذلك. اهـ وفيه نظر، لأن ثبوت هذا الوصف لا يعلمه إلا الله. (قال: أفقر منا؟ فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا)؟ أي أتصدق به على أفقر منا؟ وفي روايتنا السادسة "أغيرنا" فوالله إنا لجياع، ما لنا شيء"، قال النووي: "أفقر" كذا ضبطناه بالنصب، وكذلك نقل القاضي أن الرواية فيه بالنصب، على إضمار فعل تقديره، أتجد أفقر منا؟ أو أنعطي أفقر منا. قال: ويصح رفعه على تقدر: هل أحد أفقر منا؟ ثم "أغيرنا" كذا ضبطناه بالرفع، ويصح الكلام على ما سبق. هذا كلام القاضي، وقد ضبطنا الثاني بالنصب أيضاً، فهما جائزان، كما سبق توجيههما. اهـ. وفي رواية الطبراني "إلى من أدفعه؟ قال: إلى أفقر من تعلم" وفي رواية "أعلى أفقر من أهلي؟ " وفي رواية "أعلى أهل بيت أفقر مني؟ " وفي رواية "أعلى أحوج منا"، وفي رواية "ما أحد أحق به من أهلي". "ما أحد أحوج إليه مني"، وفي رواية "والله ما لعيالي من طعام"، وفي رواية "ما لنا عشاء ليلة" "واللابتان" تثنية "لابة" واللابة "الحرة" بفتح الحاء وتشديد الراء المفتوحة، وهي الأرض ذات الحجارة السود، والمدينة تقع بين حرتين. وفي رواية "ما بين حرتيها"، وفي رواية "والذي نفسي بيده ما بين طنبي المدينة" تثنية "طنب" بضم الطاء والنون، جمعه أطناب، والخيمة لها أطناب، واستعاره للطرف. (حتى بدت أنيابه) قال الحافظ ابن حجر: في رواية إسحق "حتى بدت نواجذه" والنواجذ الأضراس، وفي رواية "حتى بدت ثناياه" والثنايا الأسنان. قال الحافظ: ولعلها تصحيف من "أنيابه" فإن الثنايا تظهر بالتبسم غالباً؛ وظاهر السياق إرادة الزيادة على التبسم. وقال: قيل: إن سبب ضحكه صلى الله عليه وسلم كان من تباين حال الرجل، حيث جاء خائفاً على نفسه راغباً في فدائها مهما أمكنه، فلما وجد الرخصة طمع في أن يأكل ما أعطيه من الكفارة، وقيل: ضحك من حال الرجل في مقاطع كلامه، وحسن تأتيه، وتلطفه في الخطاب، وحسن توسله في توصله إلى مقصوده. اهـ ولا مانع من أن يكون كل هذا سبباً. (اذهب فأطعمه أهلك) في الرواية السادسة "فكلوه"، وفي رواية "خذها وكلها وأنفقها على عيالك" وفي رواية "عد به عليك وعلى أهلك". (أن يعتق رقبة أو يصوم) قال النووي: لفظة "أو" هنا للتقسيم" لا للتخيير، تقديره: يعتق، أو يصوم إن عجز عن العتق، أو يطعم إن عجز عنهما. وسيأتي الكلام على ترتيب الكفارة في فقه الحديث. (تصدق. تصدق) قال النووي: هذا التصدق مطلق، وجاء مقيداً في الروايات الأخرى بإطعام ستين مسكيناً، ستين مداً خمسة عشر صاعاً. اهـ.

-[فقه الحديث]- قال النووي: مذهبنا ومذهب العلماء كافة وجوب الكفارة على من جامع امرأته في نهار رمضان عامداً جماعاً أفسد به صوم يوم. وقال في المجموع: إذا أفطر الرجل أو المرأة في نهار رمضان بالجماع بغير عذر لزمه إمساك بقية النهار بلا خلاف، ويجب عليه القضاء، وقال: إذا كفر بالصوم اندرج قضاء اليوم فيه، ولا خلاف أن المرأة يلزمها القضاء إذا لم توجب عليها كفارة. ثم قال: واتفق أصحابنا على أنه إذا جامع في يومين أو أيام وجب لكل يوم كفارة، سواء كفر عن الأول أم لا، بخلاف من تطيب ثم تطيب في الإحرام قبل أن يكفر عن الأول، فإنه يكفيه فدية واحدة، لأن الإحرام عبادة واحدة بخلاف اليومين في رمضان وإن جامع زوجته في يوم من رمضان مرتين فأكثر لزمه كفارة واحدة عن الأول، ولا شيء عن الثاني. هذا مذهب الشافعية وفي المذاهب الأخرى خلاف، ولم تتعرض أحاديثنا لهذه التفصيلات. وظاهر أحاديث الباب الأول والثاني والثالث وجوب الكفارة، وبهذا قال جمهور العلماء. قال النووي: وبهذا قال مالك وأبو حنيفة وأحمد وداود والعلماء كافة إلا ما حكي عن الشعبي وسعيد بن جبير والنخعي وقتادة أنهم قالوا: لا كفارة عليه، كما لا كفارة عليه بإفساد الصلاة. اهـ قيل: واستندوا إلى أنه لو كانت واجبة عليه لما سقطت بالإعسار، ورد بمنع سقوطها بالإعسار، كما سيأتي. وظاهرها أيضاً أن الكفارة عليه مرتبة: عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً. قال ابن العربي: لأن النبي صلى الله عليه وسلم نقله من أمر بعد عدمه لأمر آخر، وليس هذا شأن التخيير. وقال البيضاوي: ترتيب الثاني بالفاء على فقد الأول [قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين] ثم الثالث بالفاء على فقد الثاني [قال: فهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً] يدل على عدم التخيير، مع كونها في معرض البيان وجواب السؤال، فينزل منزلة الشرط للحكم. وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وابن حبيب من المالكية والمشهور من مذهب أحمد، ووقع في "المدونة" [ولا يعرف مالك غير الإطعام، ولا يأخذ بعتق ولا صيام] واحتجوا له بأن حديث عائشة -روايتنا الخامسة والسادسة- لم يقع فيه سوى الإطعام، وأجاب الجمهور بأنه قد ورد فيه من وجه آخر ذكر العتق أيضاً، وروى عنه أيضاً القول بالتخيير بين الثلاثة، بين عتق الرقبة وصوم شهرين والإطعام، بل قال: الإطعام أحب إلي من العتق. مستنداً إلى روايتنا الرابعة، ولفظها "أمر رجلاً أفطر في رمضان أن يعتق رقبة، أو يصوم شهرين، أو يطعم ستين مسكيناً" فذكر "أو" للتخير، ووجهوا ترجيح الطعام على غيره بأن الله ذكره في القرآن رخصة القادر، ثم نسخ هذا الحكم {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} [البقرة: 184] ولا يلزم من نسخ الحكم نسخ الفضيلة، ويترجح الإطعام أيضاً لاختيار الله

له في حق المفطر بالعذر، وكذا أخبر بأنه في حق من أخر قضاء رمضان حتى دخل رمضان آخر، ولمناسبة إيجاب الإطعام لجبر فوات الصيام الذي هو إمساك عن الطعام، ولشمول نفعه للمساكين. ونازع القاضي عياض في ظهور دلالة الترتيب في روايتنا الأولى، وقال: إن مثل هذا قد يستعمل فيما هو على التخيير، وقرره ابن المنير في الحاشية بأن شخصاً لو حنث فاستفتى، فقال له المفتي: أعتق رقبة، فقال: لا أجد فقال: صم ثلاثة أيام .... إلخ لم يكن مخالفاً لحقيقة التخيير، بل يحمل على أن إرشاده إلى العتق لكونه أقرب لتنجيز الكفارة. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: وكل هذه الوجوه لا تقاوم ما ورد في الحديث من تقديم العتق على الصيام، ثم الإطعام، فإن هذه البداءة إن لم تقتض وجوب الترتيب فلا أقل من أن تقتضي استحبابه. وقال ابن دقيق العيد: وهي [أي أقوال المالكية] معضلة، لا يهتدي إلى توجيهها مع مصادمة الحديث الثابت. اهـ. قال الحافظ: ومن المالكية من وافق على استحباب الترتيب الوارد، ومنهم من قال: إن الكفارة، تختلف باختلاف الأوقات، ففي وقت الشدة يكون بالإطعام، وفي غيرها يكون بالعتق أو الصوم، ونقلوه عن بعض محققي المتأخرين، ومنهم من قال: الإفطار بالجماع يكفر بالخصال الثلاث، وبغيره لا يكفر إلا بالإطعام، وهو قول أبي مصعب، وقال ابن جرير الطبري: هو مخير بين العتق والصوم، ولا يطعم إلا عند العجز عنهما. وجاء عن بعض المتقدمين إهداء البدنة عند تعذر الرقبة. اهـ. ثم قال وسلك الجمهور في ذلك [في استدلال المالكية بروايتنا الرابعة] مسلك الترجيح، بأن الذين رووا الترتيب عن الزهري أكثر ممن روى التخيير، فقد روي الترتيب عن الزهري أكثر من ثلاثين نفساً، ورجح الترتيب أيضاً بأن راويه حكى لفظ القصة على وجهها، فمعه زيادة علم من صورة الواقعة، وراوي التخيير حكى لفظ راوي الحديث، فدل على أنه من تصرف بعض الرواة، إما لقصد الاختصار، أو لغير ذلك، ويترجح الترتيب أيضاً بأنه أحوط، لأن الأخذ به مجزئ، سواء قلنا بالتخير أولا بخلاف العكس. اهـ. هذا. وفي رواية عن أحمد أن هذه الكفارة على التخيير بين العتق والصيام والإطعام، وبأيها كفر أجزأ. وأخذ بعضهم من الحديث سقوط الكفارة بالإعسار المقارن لوجوبها، لأن الكفارة لا تصرف إلى النفس، ولا إلى العيال، ولم يبين النبي صلى الله عليه وسلم استقرارها في ذمته إلى حين يساره، ولا يتأخر البيان عن وقت الحاجة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى عجز الأعرابي عنها قال: أطعمه أهلك، ولم يأمره بكفارة أخرى، ولأنه حق مال، يجب لله تعالى لا على وجه البدل، فلم يجب على العجز، كزكاة الفطر. وهو أحد قولين للشافعي، ورواية عن أحمد، والجمهور على أنها لا تسقط بالإعسار المقارن لوجوبها، بل تثبت في الذمة، فإذا قدر لزمه قضاؤها، قال النووي: وهو صحيح، لأنه حق لله تعالى،

يجب بسبب من جهة المكلف، فلم يسقط بالعجز، كجزاء الصيد، ثم إن صدقة الفطر لها أمد تنتهي إليه، وكفارة الجماع لا أمد لها، فتستقر في الذمة قالوا: وليس في الحديث ما يدل على الإسقاط، وليس فيه نفي استقرار الكفارة في الذمة، قال النووي: بل فيه دليل لاستقرارها، لأن الرجل أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الكفارة بأنه عاجز عن الخصال الثلاث [ولم يعفه من الكفارة لإعساره، بل استبقاه] وأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق التمر، فأمره بإخراجه، فلو كانت تسقط بالإعسار والعجز لم يكن عليه شيء، ولم يأمره بإخراجه، فدل على ثبوتها في ذمة المعسر. اهـ. ويواجه الجمهور [القائل بعدم سقوط الكفارة بالإعسار] إشكالين في الحديث. الأول: لو كانت لا تسقط بالإعسار، وأن عرق التمر الذي أذن له بأكله قد أعطاه إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل التمليك المطلق، لا على أنه الكفارة، بل على جهة التصدق عليه وعلى أهله من مال الصدقة، لما ظهر من حاجتهم، لو أن الأمر كذلك لأخبره بأن الكفارة باقية في ذمته، عليه أداؤها عند الاستطاعة، وإلا كان قد أخر البيان عن وقت الحاجة. اختار هذا الاحتمال بعض الجمهور، وأجاب عن هذا الإشكال بجوابين: الأول: أن منع تأخير البيان لوقت الحاجة ليس محل اتفاق، بل جمهور الأصوليين أجازه، فلعله صلى الله عليه وسلم أخر البيان، وأخر إعلامه بثبوت الكفارة في ذمته إلى وقت القدرة على إخراجها. الجواب الثاني: أن هذا ليس من قبيل تأخير البيان عن وقت الحاجة، لأن علم الرجل بوجوب الكفارة عليه ثابت مقدماً، ولم يطرأ ما يرفع هذا الثبوت، بل تأكد هذا الثبوت بعدم الإعفاء عند إعلان العجز، فالأمر عند الرجل ليس في حاجة إلى بيان. الإشكال الثاني: لو كانت لا تسقط بالإعسار، وأن عرق التمر الذي أذن له بأكله، كان صلى الله عليه وسلم أعطاه إياه، وملكه إياه على أنه الكفارة، ومعنى هذا أن الكفارة أديت، فليس في الحديث دلالة على سقوطها بالإعسار، ولا على عدم سقوطها بالإعسار، لو أن الأمر كذلك لما أذن له بإطعامها أهله، لأن الكفارة لا تصرف إلى النفس ولا إلى العيال، فحيث أذن له في ذلك لم يكن هذا العرق كفارة، ولم يطالب بالكفارة، فدل الحديث على سقوطها عنه لعجزه. واختار هذا الاحتمال بعض الجمهور، وأجاب بعضهم عن الإشكال بأن أكل الرجل من كفارته هنا خاص بهذا الرجل، قاله الزهري، ونحا إمام الحرمين نحوه، قال الحافظ ابن حجر: ورد بأن الأصل عدم الخصوصية. وأجاب بعضهم بأن ذلك كان شرعاً ونسخ، قال الحافظ: ولم يبين قائله ناسخه. وأجاب بعض الشافعية بأن المراد بالأهل الذين أمر بصرفها إليهم من لا تلزمه نفقته من أقاربه. قال الحافظ: وضعف بالرواية الأخرى التي فيها "عيالك" وبالرواية المصرحة بالإذن له في الأكل من ذلك. وأجاب بعضهم بأنه لما كان عاجزاً عن نفقة أهله جاز له أن يصرف الكفارة لهم.

واختار الحافظ ابن حجر الاحتمال الأول، وأن الإعطاء لم يكن على سبيل الكفارة، بل على جهة التصدق عليه وعلى أهله بتلك الصدقة لما ظهر من حاجتهم. قال: والحق أنه لما قال له صلى الله عليه وسلم: "خذ هذا فتصدق به" لم يقبضه، بل اعتذر بأنه أحوج إليه من غيره، فأذن له حينئذ في أكله، فلو كان قبضه لملكه ملكاً مشروطاً بصفة، وهو إخراجه عنه بكفارته، لكنه لما لم يقبضه لم يملكه، فلما أذن له صلى الله عليه وسلم في إطعامه لأهله وأكله منه كان تمليكاً مطلقاً بالنسبة إليه وإلى أهله، وأخذهم إياه بصفة الفقر المشروحة، وقد تقدم أنه كان من مال الصدقة، وتصرف النبي فيه تصرف الإمام في إخراج مال الصدقة، فلا يكون فيه إسقاط، ولا أكل المرء من كفارة نفسه، ولا إنفاقه على من تلزمه نفقته من كفارة نفسه. اهـ. واستدل بعضهم بالأحاديث على أن الكفارة عليه وحده دون الموطوءة لإفراده بالحكم "هل تجد كذا؟ هل تجد كذا؟ هل تستطيع صيام شهرين؟ تصدق، أطعم ستين مسكيناً، وهذا هو الأصح من قول الشافعية، وقال الجمهور: تجب الكفارة على المرأة أيضاً على اختلاف وتفاصيل لهم في الحرة والأمة، والمطاوعة والمكرهة، وهل هي عليها، أو على الرجل عنها؟ واستدل الشافعي بسكوته صلى الله عليه وسلم عن إعلام المرأة بوجوب الكفارة مع الحاجة، قال الحافظ: وأجيب بمنع وجود الحاجة إذ ذاك، لأنها لم تعترف ولم تسأل، واعتراف الزوج عليها لا يوجب عليها حكماً ما لم تعترف وبأنها قضية حال، فالسكوت عنها لا يدل على الحكم، لاحتمال أن تكون المرأة لم تكن صائمة لعذر من الأعذار، ثم إن بيان الحكم للرجل بيان في حقها، لاشتراكهما في تحريم الفطر وانتهاك حرمة الصوم، كما لم يأمره بالغسل، والتنصيص على الحكم في حق المكلفين كاف عن ذكره في حق الباقين. قال القرطبي: ليس في الحديث ما يدل على شيء من ذلك، لأنه ساكت عن المرأة، فيؤخذ حكمها من دليل آخر. اهـ. واستدل بعضهم بالأحاديث على عدم وجوب قضاء اليوم الذي جامع فيه، لأنه لم يرد للقضاء ذكر فيها. والجمهور أن عليه القضاء، وعدم الذكر لا يدل على عدم الوجوب، فهو أمر معلوم أن من أفسد الصوم الواجب وجب عليه القضاء. وقال الأوزاعي: إن كفر بالعتق أو الإطعام صام يوماً مكانه، وإن كفر بصيام شهرين متتابعين دخل فيهما قضاء ذلك اليوم. واستدل بعضهم من إطلاق الرقبة في أحاديث الباب على جواز المسلمة والكافرة والذكر والأنثى والصغير والكبير، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه، والجمهور يشترطون الإيمان حملاً للمطلق هنا على المقيد في كفارة الظهار. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - قال عياض: في الأحاديث أن من جاء مستفتياً فيما فيه الاجتهاد، دون الحدود المحدودة أنه لا يلزمه تعزير ولا عقوبة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعاقب الأعرابي على هتك حرمة الشهر، لأن في مجيئه واستفتائه ظهور توبته وإقلاعه، قال: ولأنه لو عوقب كل من جاء بجيئة لم يستفت أحد غالباً عن

نازلة، مخافة العقوبة بخلاف ما فيه حد محدود، وقد بوب عليه البخاري في كتاب المحاربين: باب من أصاب ذنباً دون الحد، فأخبر الإمام فلا عقوبة عليه بعد أن جاء مستفتياً. 2 - وفيها إعانة المعسر في الكفارة. 3 - وأخذ منه بعضهم إعطاء القريب من الكفارة. 4 - وأن الهبة والصدقة لا يحتاج فيهما إلى القبول باللفظ، بل القبض كاف. 5 - وأن الكفارة لا تجب إلا بعد نفقة من تجب نفقته. 6 - وجواز المبالغة في الضحك عند التعجب، لقوله "حتى بدت أنيابه". 7 - وجواز الحلف وإن لم يستحلف لقول الرجل في الرواية السادسة "فوالله إنا لجياع ما لنا من شيء". والحكم على غلبة الظن، وإن لم يعلم ذلك بالأدلة القطعية، لقول الرجل في الرواية الأولى "فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا" مع جواز أن يكون بالمدينة أحوج منهم، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم. 9 - واستعمال الكناية فيما يستقبح ظهوره بصريح لفظه، لقوله "وقعت، أصبت" قال العيني وما ورد في بعض الطرق [روايتنا الخامسة] بلفظ "وطئت" هو من تصرف الرواة. 10 - وأن القول قول الفقير، فيعطى مما يستحقه الفقراء بقوله، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكلفه البينة على فقره. 11 - والرفق بالمتعلم، والتلطف في التعليم. 12 - التأليف على الدين. 13 - واستدل بها على جواز إعطاء الصدقة جميعها في صنف واحد. 14 - والجلوس في المسجد لغير الصلاة من المصالح الدينية، كنشر العلم. 15 - وإعطاء الواحد فوق حاجته الراهنة. 16 - أوجب بعضهم الكفارة على من أفطر يوماً من رمضان من غير علة قياساً على الجماع، وذهب بعضهم إلى عدم القضاء في الفطر بالأكل بل يبقى ذلك من ذمته زيادة في عقوبته؛ لأن مشروعية القضاء تقتضي رفع الإثم، واستدل بحديث "من أفطر يوماً من رمضان من غير علة ولا مرض لم يقضه صيام الدهر وإن صامه"، والجمهور على وجوب القضاء وعدم الكفارة؛ لأن الفرق بين انتهاك حرمة الشهر بالجماع والأكل ظاهر، فلا يتم القياس. والله أعلم

(306) باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية

(306) باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية 2270 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ الكديد، ثم أفطر. قال: وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره. 2271 - عن الزهري بهذا الإسناد قال الزهري. وكان الفطر آخر الأمرين وإنما يؤخذ من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالآخر فالآخر. قال الزهري: فصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان. 2272 - عن ابن شهاب بهذا الإسناد مثل حديث الليث. قال ابن شهاب: فكانوا يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره ويرونه الناسخ المحكم. 2273 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فصام حتى بلغ عسفان، ثم دعا بإناء فيه شراب فشربه نهاراً ليراه الناس، ثم أفطر حتى دخل مكة. قال ابن عباس رضي الله عنهما: فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفطر فمن شاء صام ومن شاء أفطر. 2274 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا تعب على من صام ولا على من أفطر قد صام رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر وأفطر. 2275 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه

حتى نظر الناس إليه ثم شرب. فقيل له بعد ذلك إن بعض الناس قد صام. فقال "أولئك العصاة أولئك العصاة". 2276 - عن جعفر بهذا الإسناد وزاد فقيل له إن الناس قد شق عليهم الصيام وإنما ينظرون فيما فعلت فدعا بقدح من ماء بعد العصر. 2277 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فرأى رجلاً قد اجتمع الناس عليه وقد ظلل عليه. فقال: "ما له". قالوا: رجل صائم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليس من البر أن تصوموا في السفر". 2278 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً بمثله. 2279 - عن يحيى بن أبي كثير أنه كان يزيد في هذا الحديث وفي هذا الإسناد أنه قال: عليكم برخصة الله الذي رخص لكم. قال: فلما سألته لم يحفظه. 2280 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لست عشرة مضت من رمضان، فمنا من صام ومنا من أفطر. فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم. 2281 - عن قتادة بهذا الإسناد نحو حديث همام غير أن في حديث التيمي وعمر بن عامر وهشام لثمان عشرة خلت. وفي حديث سعيد في ثنتي عشرة. وشعبة لسبع عشرة أو تسع عشرة.

2282 - عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان، فما يعاب على الصائم صومه ولا على المفطر إفطاره. 2283 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان، فمنا الصائم ومنا المفطر، فلا يجد الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم. يرون أن من وجد قوة فصام فإن ذلك حسن. ويرون أن من وجد ضعفاً فأفطر فإن ذلك حسن. 2284 - عن أبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله رضي الله عنه قالا: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصوم الصائم ويفطر المفطر فلا يعيب بعضهم على بعض. 2285 - عن حميد قال: سئل أنس رضي الله عنه عن صوم رمضان في السفر. فقال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم. 2286 - عن حميد قال: خرجت فصمت. فقالوا لي: أعد. قال: فقلت: إن أنساً أخبرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يسافرون فلا يعيب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم. فلقيت ابن أبي مليكة فأخبرني عن عائشة رضي الله عنها بمثله. 2287 - عن أنس رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر فمنا الصائم ومنا المفطر. قال: فنزلنا منزلاً في يوم حار أكثرنا ظلاً صاحب الكساء ومنا من يتقي الشمس بيده. قال: فسقط الصوام، وقام المفطرون فضربوا الأبنية وسقوا الركاب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ذهب المفطرون اليوم بالأجر". 2288 - عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فصام بعض وأفطر بعض فتحزم المفطرون وعملوا، وضعف الصوام عن بعض العمل. قال: فقال في ذلك "ذهب المفطرون اليوم بالأجر".

2289 - عن قزعة قال: أتيت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه وهو مكثور عليه، فلما تفرق الناس عنه. قلت: إني لا أسألك عما يسألك هؤلاء عنه، سألته عن الصوم في السفر؟ فقال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام. قال: فنزلنا منزلاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم" فكانت رخصة فمنا من صام ومنا من أفطر. ثم نزلنا منزلاً آخر. فقال "إنكم مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا" وكانت عزمة فأفطرنا. ثم قال: لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في السفر. 2290 - عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سأل حمزة بن عمرو الأسلمي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصيام في السفر؟ فقال "إن شئت فصم وإن شئت فأفطر". 2291 - 104 عن عائشة رضي الله عنها أن حمزة بن عمرو الأسلمي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني رجل أسرد الصوم أفأصوم في السفر؟ قال "صم إن شئت وأفطر إن شئت". 2292 - عن هشام بهذا الإسناد مثل حديث حماد بن زيد إني رجل أسرد الصوم. 2293 - عن هشام بهذا الإسناد أن حمزة قال: إني رجل أصوم أفأصوم في السفر؟ . 2294 - عن حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه" قال هارون في حديثه "هي رخصة" ولم يذكر من الله.

2295 - عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان في حر شديد، حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة. 2296 - عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في يوم شديد الحر، حتى إن الرجل ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما منا أحد صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة. -[المعنى العام]- {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} [المائدة: 6]. {وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم} [الحج: 78]. {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون} [البقرة: 185]. صدق الله العظيم. نعم إن في الصوم مشقة؛ مشقة الجوع والعطش، والسفر يضاعف هذه المشقة أو يزيدها، مهما كانت وسائله مادامت مسافته تزيد على ثمانين كيلو متراً، كما حددتها الشريعة الإسلامية، وإذا سمحت ظروف البعض في بعض الأوقات استخدام وسيلة لا مشقة فيها فإن ذلك لا يمنع من قبول الرخصة التي رخص الله لعباده، والشريعة إنما تراعي حال الأكثرين والعموم، وليس الأقلين والخصوص، وحين يرفع الله الحرج عن الأمة بتخفيف مشقة لا يلزمها بهذا التخفيف، بل يفتح هذا الباب لها، فمن شاء دخله، ومن شاء لم يدخله. لقد صام النبي صلى الله عليه وسلم في السفر، وأفطر في السفر، فرخص بذلك لمن أطاق الصوم بدون مشقة ولا ضرر أن يصوم، ورخص لمن يرغب في الفطر في السفر أن يفطر. ونحن نعلم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمون أن الله قد منحه من قوة التحمل ما لم يمنحه لغيره من أفراد الأمة، فقد قال لأصحابه: "وأيكم مثلي؟ إني أبيت يطعمني ربي ويسقين". ومع ذلك يجهد أصحابه أنفسهم، فيقتدون به، ويصومون في السفر كما يصوم.

لقد خرج من المدينة لفتح مكة في العاشر من رمضان، ومعه من الصحابة عشرة آلاف، خرج صائماً والناس صيام، صاموا يوماً ثم يوماً ثم يوماً، فقيل له: يا رسول الله إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإنما ينظرون ما تفعل فيقتدون بك، وهزه هذا الخبر، وهو الذي يقول فيه ربه {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128]. فلما قيل له عن حال الناس ما قيل -وكان الوقت عصراً- ركب ناقته وظهر للقوم، ودعا بإناء فيه شراب، فرفع يده به إلى أعلى، ليراه الناس، فشرب، وناوله من بجواره فشرب، ورأى الصحابة في رسولهم قدوة فأفطر كثير منهم. لكن البعض ظل صائماً، فلما نزلوا منزلاً في يوم شديد الحر، يتقي صاحب الرداء الشمس بردائه، ويتقي الأعزل الشمس بيده سقط الصائمون على الأرض أول ما نزلوا، يلهثون من العطش لا يستطيعون حراكاً، وتحزم المفطرون، وشمروا عن سواعدهم، وقاموا بضرب الخيام، وسقي الدواب، وجمع الماء، وإعداد المنزل للراحة، ورآهم صلى الله عليه وسلم، فشجعهم وشكرهم وحسن فعلهم، ووعدهم بالأجر الذي لم يبلغه الصائمون، فقال: ذهب المفطرون اليوم بالأجر. ومع ذلك تمسك البعض بالصيام، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزل آخر رجلاً كالمغشى عليه، يتجمع الناس حوله مشفقين عليه، فقال: ما له؟ ماذا به من وجع؟ قالوا: ليس به وجع ولكنه صائم اشتد عليه الحر، وشق عليه الصوم. فقال صلى الله عليه وسلم: ليس من البر الصيام في السفر. ورغم كل هذا تمسك البعض بالصيام، وقد بقي على مكة وملاقاة أهلها ثلاثة أيام، فقال صلى الله عليه وسلم للصائمين: إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم. واستجاب البعض فأفطر، وظل البعض صائماً، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: إنكم غداً صباحاً تلقون عدوكم والفطر أقوى لكم؛ أفطروا. وكان هذا الأمر لا يصح مخالفته، لكن قلة من الصائمين ظنوه إشفاقاً لا عزيمة، فصاموا، فأخبر بهم صلى الله عليه وسلم، فقال عنهم: أولئك العصاة، أولئك العصاة؛ عصوا أمري، واستحقوا العقوبة. وهكذا رغب صلى الله عليه وسلم في الفطر للمسافر، ورهب من صيامه إذا لحقته المشقة من الصيام، أو كان في فطره مصلحة ولو دنيوية لا يقدر عليها صائماً. وهكذا رأينا الإسلام سمحاً كريماً رحيماً بأهله، لا يحب العنت والمشقة وإن كانت في العبادة، والكيس من أوغل في الدين برفق، فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى. -[المباحث العربية]- (خرج عام الفتح في رمضان) المراد من الفتح فتح مكة، ووقع في رواية عن الزهري أنه خرج لعشر مضين من رمضان، قال الحافظ ابن حجر: ووقع في مسلم من حديث أبي سعيد اختلاف

من الرواة في ضبط ذلك [يشير إلى روايتنا السادسة وملحقها] والذي اتفق عليه أهل السير أنه خرج في عاشر رمضان، ودخل مكة لتسع عشرة ليلة خلت منه. اهـ. واختلاف الرواة في حديثنا لا يضر، لأن الأيام المذكورة كلها في داخل أيام السفر، ولعل الرواة لم يقصدوا يوم البداية، ومن سافر أسبوعاً صح أن يقول: سافرت يوم السبت ويوم الثلاثاء. وملحق روايتنا الأولى "فصبح مكة لثلاث عشر ليلة خلت" يراد من "صبح مكة" صبح الإشراف عليها ودخول ضواحيها أو أعمالها. (فصام حتى بلغ الكديد) بفتح الكاف وكسر الدال، وهي عين جارية بينها وبين المدينة نحو (165) مائة وخمسة وستين ميلاً، وبينها وبين مكة نحو خمسين ميلاً. وفي روايتنا الثانية "فصام حتى بلغ عسفان" بضم العين وسكون السين، وهي قرية على نحو ثمانية وأربعين ميلاً من مكة، هذا والمقاييس هنا تقريبية، لأن الطرق كانت متشعبة، تدور أحياناً حول هضبة، وأحياناً ترتقيها. وفي روايتنا الرابعة "حتى بلغ كراع الغميم" والكراع بضم الكاف كل طرف مستطيل من الجبل، وكراع الغميم اسم واد أمام عسفان، واختلفت الروايات في اسم الموضع الذي أفطر فيه صلى الله عليه وسلم والكل في قصة واحدة لأنها متقاربة، والكل من عمل عسفان. (ثم أفطر) في روايتنا الثانية "ثم دعا بإناء فيه شراب، فشربه نهاراً ليراه الناس، ثم أفطر" أي أكل، أو ظل مفطراً حتى دخل مكة، لم يصم يوماً آخر. وقول ابن عباس: صام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفطر معناه -كما في الرواية الثالثة- "صام في السفر وأفطر" أي صام في السفر أياماً وأفطر في السفر أياماً. (وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره) وفي ملحق الرواية "وكان يؤخذ بالآخر من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وفي الملحق الثاني وكان الفطر آخر الأمرين وإنما يؤخذ من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالآخر فالآخر"، وفي الملحق الثالث "ويرونه الناسخ المحكم"، قال الحافظ ابن حجر: هذه الزيادة من قول الزهري، وقعت مدرجة عند مسلم، جزم بذلك البخاري في الجهاد، وظاهره أن الزهري ذهب إلى أن الصوم في السفر منسوخ، ولم يوافق على ذلك. اهـ. (ليراه الناس) قال الحافظ ابن حجر: كذا للأكثر، و"الناس" بالرفع على الفاعلية، وفي رواية "ليريه الناس" بضم الياء الأولى وكسر الراء و"الناس" بالنصب على المفعولية، قال: ويحتمل أن يكون الناسخ كتب ألف "ليراه" ياء فلا يكون بين الروايتين اختلاف. اهـ. (فمن شاء صام ومن شاء أفطر) كثيراً ما يحذف مفعول المشيئة للعلم به، والأصل فمن شاء الصيام صام، ومن شاء الإفطار أفطر.

(لا تعب على من صام) "تعب" بفتح التاء وكسر العين، نهى عن العيب واللوم، والخطاب لطاووس الراوي عن ابن عباس، أو لكل من يتأتى خطابه. أي لا تعب أيها المسلم. (فصام الناس. ثم دعا بقدح من ماء) في ملحق الرواية "فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإنما ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر"، وفي الرواية الثانية "ثم دعا بإناء فيه شراب" وعند الطحاوي "فدعا بقدح من لبن "فيحتمل أنه دعا بقدح من ماء أو من شراب أو من لبن. (فرفعه حتى نظر الناس إليه، ثم شرب) في الرواية الثانية "فشربه نهاراً حتى يراه الناس"، وعند الطحاوي "فدعا بقدح من لبن، فأمسكه بيده حتى رآه الناس، وهو على راحلته، ثم شرب فأفطر، فناوله رجلاً إلى جنبه فشرب". (فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام؟ فقال أولئك العصاة. أولئك العصاة) قال النووي: هذا هو في الأصول مكرر مرتين. اهـ. وظاهره أن يكون الصائم في السفر عاصياً بصيامه، لكن الرواية الرابعة عشرة ترفع هذا الإيهام، وفيها أنه عرض الفطر أولاً على طريق الرخصة، وأمر به ثانياً عند قرب لقاء العدو على طريق العزيمة، فمن صام بعد الأمر به على طريق العزيمة يكون عاصياً. (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى رجلاً) هذا السفر هو سفر فتح مكة. قال الحافظ ابن حجر: ولم أقف على اسم هذا الرجل، وخطأ من قال: إنه أبو إسرائيل. (قد اجتمع الناس عليه وقد ظلل عليه) في رواية الطبري "سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في حر شديد، فإذا رجل من القوم قد دخل تحت ظل شجرة، وهو مضطجع كضجعة الوجع". (فقال: ما له؟ ) في رواية البخاري "ما هذا؟ "، وفي رواية الطبري "ما لصاحبكم؟ أي وجع به؟ ". (قالوا: رجل صائم) في رواية الطبري "فقالوا: ليس به وجع ولكنه صائم، وقد اشتد عليه الحر". (ليس البر أن تصوموا في السفر) رواية البخاري "ليس من البر الصوم في السفر" والبر بكسر الباء الطاعة، والبر أيضاً الإحسان والخير، ومنه بر الوالدين. (عليكم برخصة الله الذي رخص لكم) في بعض النسخ "برخصة الله التي رخص لكم" وهي أوضح. (فلا يجد الصائم على المفطر) يقال: وجد عليه بفتح الجيم يجد عليه بكسر الجيم موجدة أي غضب.

(فضربوا الأبنية وسقوا الركاب) أي نصبوا الخيام وأقاموها، وسقوا الدواب. (فتحزم المفطرون وعملوا) قال النووي: بالحاء المهملة والزاي، وكذا نقله القاضي عياض عن أكثر رواة صحيح مسلم. قال: ووقع لبعضهم "فتخدم" بالخاء المعجمة والدال المهملة، قال: وادعوا أنه صواب الكلام لأنهم كانوا يخدمون. قال القاضي: والأول صحيح أيضاً، ولصحته ثلاثة أوجه، أحدها، معناه شدوا أوساطهم للخدمة، والثاني: أنه استعارة للاجتهاد في الخدمة، ومنه "إذا دخل العشر اجتهد وشد المئزر"، والثالث: أنه من الحزم، وهو الاحتياط والأخذ بالقوة، والاهتمام بالمصلحة. (وهو مكثور عليه) أي عنده كثيرون من الناس. (إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم. فكانت رخصة) أي فكانت الدعوة إلى الفطر عرضاً خفيفاً على هيئة الإذن والترخيص، وليس أمراً قوياً جازماً. فهم ذلك أبو سعيد الخدري. كما فهمه الصحابة، فمنهم من عمل بالرخصة فأفطر، ومنهم من واصل الصيام، فعبارة الدنو من الأعداء تصدق مع بقاء أميال وأيام، لأنه ينسب إلى البعد بين المدينة وبين مكة، بخلاف قوله في المنزل الآخر "إنكم مصبحو عدوكم" التي أعقبها الأمر الصريح بالفطر بقوله "فأفطروا" فمن صام بعد هذا الأمر كان عاصياً. (لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في السفر) أي رأيت أنفسنا، وهذا يرد فهم الزهري أن آخر الأمور الفطر في السفر. (إني رجل أسرد الصوم) أي أتابعه، أي آتي به متوالياً، من سرد بالفتح يسرد بالضم. (حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه) "إن" مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، واللام في خبرها هي الفارقة بينها وبين النافية والتقدير: إن الحال والشأن كان أحدنا ... إلخ. (وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة) "رواحة" بفتح الراء. قال الحافظ ابن حجر: عبد الله بن رواحة استشهد بغزوة مؤتة قبل غزوة الفتح بلا خلاف، وإن كانتا جميعاً في سنة واحدة، فصح أن هذه السفرة غير سفرة الفتح، وأيضاً فإن سياق أحاديث غزوة الفتح أن الذين استمروا من الصحابة صياماً كانوا جماعة. قال: ولا يصح حمل السفرة هذه على بدر، لأن أبا الدرداء القائل "لقد رأيتنا ... إلخ" لم يكن أسلم حينئذ. -[فقه الحديث]- اختلف العلماء في صوم رمضان في السفر، فقال الشيعة وبعض أهل الظاهر: لا يصح صوم رمضان في السفر، فإن صامه لم ينعقد، ويجب قضاؤه، واستدلوا بأدلة:

(أ) ظاهر قوله تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر} قالوا: ظاهره فعليه عدة من أيام أخر، أو قالوا يجب عدة من أيام أخر. (ب) قوله صلى الله عليه وسلم عن الذين صاموا في [روايتنا الرابعة] "أولئك العصاة، أولئك العصاة". (جـ) قوله صلى الله عليه وسلم "ليس من البر الصيام في السفر" [روايتنا الخامسة] قالوا: ومقابل البر الإثم، وإذا كان آثماً بصومه لم يجزئه. (د) قوله صلى الله عليه وسلم "ذهب المفطرون اليوم بالأجر" روايتنا الثانية عشرة والثالثة عشرة. (هـ) قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الطبري من طريق مجاهد "إذا سافرت فلا تصم. فإنك إن تصم قال أصحابك: أكفوا الصائم. ارفعوا للصائم، وقاموا بأمرك، وقالوا: فلان صائم، فلا تزال كذلك حتى يذهب أجرك". (و) ما أخرجه أحمد أن رجلاً قال لابن عمر: إني أقوى على الصوم في السفر؟ فقال له ابن عمر: من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة. (ز) الحديث المشهور الذي أخرجه ابن ماجه عن ابن عمر مرفوعاً "الصائم في السفر كالمفطر في الحضر" وأخرجه الطبري عن عائشة مرفوعاً ورواه الأثرم عن أبي سلمة مرفوعاً، وكذلك أخرجه النسائي وابن المنذر. (حـ) وأن الفطر كان آخر الأمرين، وأن الصحابة كانوا يأخذون بالآخر فالآخر من فعله، فصومه صلى الله عليه وسلم في السفر منسوخ [روايتنا الأولى]. وروي عن ابن عمر أنه قال: "من صام قضاه، وعن ابن عباس "لا يجزئه الصيام" وحكي بطلان صوم المسافر عن أبي هريرة. ذكر ذلك النووي في المجموع. وفي مقابل أهل الظاهر ذهب جماعة من العلماء -كما حكى الطبري- إلى أن الفطر في السفر لا يجوز إلا لمن خاف على نفسه الهلاك أو المشقة الشديدة. قال النووي: قال جماهير العلماء وجميع أهل الفتوى: يجوز صومه في السفر، وينعقد ويجزيه. واختلفوا في أن الصوم أفضل؟ أم الفطر أفضل؟ أم هما سواء، فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي والأكثرون: الصوم أفضل لمن أطاقه بلا مشقة ظاهرة ولا ضرر، فإن تضرر به فالفطر أفضل. اهـ. وقال كثير من العلماء الفطر أفضل مطلقاً عملاً بالرخصة، قال الحافظ ابن حجر: وهو قول الأوزاعي وأحمد وإسحق وقال آخرون: هو مخير مطلقاً وهما سواء. وقال آخرون: أفضلهما أيسرهما، لقوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} فإن كان الفطر أيسر عليه فهو أفضل في حقه، وإن كان الصيام أيسر، كمن يسهل عليه حينئذ، ويشق عليه قضاؤه بعد ذلك فالصوم في حقه أفضل.

قال الحافظ ابن حجر: والذي يترجح قول الجمهور، ولكن قد يكون الفطر أفضل لمن اشتد عليه الصوم وتضرر به، وكذلك من ظن به الإعراض عن قبول الرخصة. وأجاب عن أهل الظاهر بما حاصله: (أ) عن الآية بأن التقدير: فمن كان مريضاً أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر، فعدة الأيام الأخر مرتبة على الإفطار، وليست مطلقاً. (ب) وعن حديث "أولئك العصاة" بأن نسبة الصائمين إلى العصيان لأنه عزم عليهم وأمرهم بالفطر، فخالفوه [روايتنا الرابعة عشر توضح ذلك]. (جـ) وعن قوله صلى الله عليه وسلم "ليس من البر الصيام في السفر" قال: سلك المجيزون فيه طرقاً، قال بعضهم: قد خرج على سبب، فيقصر عليه وعلى من كان في مثل حاله. قال ابن دقيق العيد: أخذ من هذه القصة أن كراهة الصوم في السفر مختصة بمن هو في مثل هذه الحالة ممن يجهده الصوم، ويشق عليه، أو يؤدي به إلى ترك ما هو أولى من الصوم من وجوه القرب، فينزل قوله "ليس من البر الصوم في السفر" على مثل هذه الحالة. وقال ابن المنير في الحاشية: هذه القصة تشعر بأن من اتفق له مثل ما اتفق لهذا الرجل أنه يساويه في الحكم، وأما من سلم من ذلك ونحوه فهو في جواز الصوم على أصله. اهـ وحمل الشافعي نفي البر المذكور في الحديث على من أبى قبول الرخصة، فقال معنى قوله "ليس من البر" أن يبلغ رجل هذا بنفسه في فريضة صوم ولا نافلة، وقد أرخص الله تعالى له أن يفطر وهو صحيح، قال: ويحتمل أن يكون معناه: ليس من البر المفروض الذي من خالفه أثم. وقال الطحاوي: المراد بالبر هنا البر الكامل الذي هو أعلى مراتب البر، وليس المراد به إخراج الصوم في السفر عن أن يكون براً، لأن الإفطار قد يكون أبر من الصوم إذا كان للتقوى على لقاء العدو مثلاً. قال: وهو نظير قوله صلى الله عليه وسلم" ليس المسكين بالطواف" الحديث؛ فإنه لم يرد إخراجه من أسباب المسكنة كلها، وإنما أراد أن المسكين الكامل المسكنة الذي لا يجد غنى يغنيه، ويستحي أن يسأل، ولا يفطن له. (د-هـ) بأن ذهاب المفطرين بالأجر، أي بالأجر الأعلى، لأنهم قاموا بخدمة الصائمين وأعانوهم على صيامهم، وليس معنى ذلك عدم الأجر للصائم. وأما حديث "إذا سافرت فلا تصم .... " فإنه يدل على أن الفطر أفضل لمن يحتاج إلى عمل لا يقوى عليه وهو صائم، ويحتاج بذلك مساعدة الآخرين. (و) وأما قول ابن عمر "من لم يقبل رخصة الله .... إلخ، فهو ظاهر فيمن أعرض عن قبول الرخصة. (ز) وأما حديث "الصائم في السفر كالمفطر في الحضر" فهو ضعيف وعلى فرض صحته فهو محمول على من أعرض عن قبول الرخصة، أو على من يشق عليه الصيام ويتضرر به، جمعاً بين الأحاديث. (حـ) وأما أن الفطر آخر الأمرين فهو مدرج وليس من الحديث كما سبق، وأحاديثنا ظاهرة في

خلافه، وروايتنا الرابعة عشرة وقول ابن مسعود فيها "لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في السفر" هذه الرواية نص في المسألة كما يقول ابن حجر. أما شروط إفطار المسافر في رمضان فقد قال عنها النووي في المجموع: لا يجوز الفطر في رمضان في سفر معصية بلا خلاف، ولا في سفر آخر دون مسافة القصر، وهي ثمانية وأربعون ميلاً، وهي مرحلتان، وبهذا قال مالك وأحمد، وقال أبو حنيفة: لا يجوز إلا في سفر يبلغ ثلاثة أيام، وقال قوم: يجوز في كل سفر وإن قصر. اهـ. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - قال النووي: في قوله "فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر" في الرواية الأولى دليل لمذهب الجمهور أن الصوم والفطر جائزان. 2 - وأن المسافر له أن يصوم بعض رمضان دون بعض، ولا يلزم بصوم بعضه إتمامه، وقد غلط بعض العلماء في فهم الحديث، فتوهم أن "الكديد" و"كراع الغميم" من المدينة، وأن قوله "فصام حتى بلغ الكديد وكراع الغميم" كان في اليوم الذي خرج فيه من المدينة، فزعم أنه خرج من المدينة صائماً، فلما بلغ كراع الغميم في يومه أفطر في نهار، واستدل به هذا القائل على أنه إذا سافر بعد طلوع الفجر صائماً له أن يفطر في يومه. قال: ومذهب الشافعي والجمهور أنه لا يجوز الفطر في ذلك اليوم، وإنما يجوز لمن طلع عليه الفجر في السفر، واستدلال هذا القائل بهذا الحديث من العجائب الغريبة، لأن الكديد وكراع الغميم على سبع مراحل أو أكثر من المدينة. اهـ. والنووي بذلك يشير إلى أبي مخلد التابعي حيث قال: إن من استهل عليه رمضان في الحضر، ثم سافر بعد ذلك فليس له أن يفطر لقوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} قال ابن المنذر: وقال أكثر أهل العلم: لا فرق بينه وبين من استهل رمضان في السفر، ثم ساق بإسناد صحيح عن ابن عمر قال: قوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} نسخها قوله تعالى: {ومن كان مريضاً أو على سفر} الآية، ففهم ابن عمر من الآية ما فهمه ابن مخلد أن المراد من شهود الشهر شهوده أو شهود بعضه في الحضر، والمراد من "فليصمه" فليصم الشهر كله لا يفطر حضراً ولا سفراً، لكن الجمهور لا يقول بالنسخ ويفسر الآية بأن المعنى من شهد في الحضر الشهر كله فليصمه، فإن شهد بعضه في الحضر فليصم ما شهده. ولا بد من هذا التفسير للجمع بين الأدلة. أما إذا سافر المقيم، وكان قد نوى الصيام في الليل، ولم يفارق العمران إلا بعد الفجر فليس في الحديث ما يشير إلى حكمه، ومذهب الشافعي المعروف من نصوصه أنه ليس له الفطر في ذلك اليوم، وبه قال مالك وأبو حنيفة، وقال بعض الشافعية: له الفطر، وهو مذهب أحمد وإسحق. 3 - وأن المسافر في أثناء سفره إذا أصبح صائماً ثم أراد أن يفطر فله أن يفطر، لأن العذر قائم، فجاز

له أن يفطر كما لو صام المريض ثم أراد أن يفطر، ففي الحديث رد لما ذهب إليه بعض الشافعية من أنه لا يجوز له أن يفطر ذلك اليوم، لأنه دخل في فرض المقيم، فلا يجوز له أن يترخص برخصة المسافر، كما لو دخل في الصلاة بنية الإتمام، ثم أراد أن يقصر. وأجيب بأن من دخل في الصلاة تامة التزم الإتمام فلم يجز له القصر لئلا يذهب ما التزمه لا إلى بدل، وأما المسافر إذا صام ثم أفطر فلا يترك الصوم إلا إلى بدل، وهو القضاء. 4 - أخذ بعضهم من قول الزهري في ملحق الرواية الأولى "وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره" نسخ المتأخر للمتقدم من أمره صلى الله عليه وسلم أو رجحان الثاني مع جوازهما. والتحقيق أن ذلك ليس بلازم، فقد يفعل صلى الله عليه وسلم متأخراً خلاف الأولى لبيان الجواز، لكنه كان يحافظ على الأفضل. 5 - أخذ بعضهم من الرواية الخامسة وملحقها استحباب التمسك بالرخصة عند الحاجة إليها. 6 - وكراهة تركها على وجه التشديد والتنطع. 7 - أخذ الجمهور من إطلاق الفطر جوازه بكل مفطر، وفرق أحمد في المشهور عنه بين الفطر بالجماع وغيره، فمنعه بالجماع. قال: فلو جامع فعليه الكفارة إلا إن أفطر بغير الجماع قبل الجماع. 8 - ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين من الأدب، وعدم عيب بعضهم على فعل بعض، والتحلي بحسن الخلق والتماس العذر، وعدم التزمت، وعدم المعارضة، وعدم الهوى، وحب الرأي. 9 - ومن الرواية الثانية عشرة فضل الكفاح في أمور الدنيا، وأنه قد يفضل العبادة. 10 - ومن قوله في الرواية السادسة عشرة "إني رجل أسرد الصوم" أخذ بعضهم جواز صوم الدهر، وأنه لا كراهة فيه، قال النووي: فيه دلالة لمذهب الشافعي وموافقيه أن صوم الدهر وسرده غير مكروه لمن لا يخاف منه ضرراً، ولا يفوت به حقاً، ويشترط فطر يومي العيد والتشريق لأنه أخبر بسرده، ولم ينكر عليه، بل أقره، وأذن له في السفر، ففي الحضر أولى. اهـ وأجيب بأن التتابع يصدق بدون صوم الدهر، قال الحافظ ابن حجر: فإن ثبت النهي عن صوم الدهر لم يعارضه هذا الإذن بالسرد، بل الجمع بينهما واضح. والله أعلم

(307) باب استحباب الفطر للحاج يوم عرفة

(307) باب استحباب الفطر للحاج يوم عرفة 2297 - عن أم الفضل بنت الحارث رضي الله عنها أن ناساً تماروا عندها يوم عرفة في صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: بعضهم هو صائم. وقال: بعضهم ليس بصائم. فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره بعرفة فشربه. 2298 - عن أبي النضر بهذا الإسناد ولم يذكر وهو واقف على بعيره. وقال عن عمير مولى أم الفضل. 2299 - عن أم الفضل رضي الله عنها قالت: شك ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صيام يوم عرفة، ونحن بها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأرسلت إليه بقعب فيه لبن وهو بعرفة فشربه. 2300 - عن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: إن الناس شكوا في صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة. فأرسلت إليه ميمونة بحلاب اللبن وهو واقف في الموقف فشرب منه والناس ينظرون إليه. -[المعنى العام]- لا شك أن الصوم يقرب العبد من ربه، ويباعد بين المسلم وبين خضوعه للشهوات، ولا شك أن دعاء الصائم أرجى للقبول، ومن المعلوم أن يوم عرفة من أعظم الأيام التي تنزل فيها الرحمة، لهذا رغب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صوم يوم عرفة، وقال "إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده". لكن الحج سفر، والسفر مشقة، وقد رخص الله للمسافر أن يفطر في رمضان، وقال الرسول الكريم "ليس من البر الصيام في السفر".

وفي أداء مناسك الحج مشقة ومشقة، تحتاج قوة وجلداً وصبراً، وبخاصة الوقوف بعرفة الذي لا بد فيه من البروز للشمس، والتعرض لحرارة الجو في مكان خال من مطالب الراحة ووسائلها. فماذا في صوم الحاج يوم عرفة وهو واقف بعرفة؟ هل شأنه شأن المقيم في بلاده ودياره يستحب له الصوم؟ أو يستحب له الفطر؟ أو الحكم يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال؟ فيستحب في الشتاء وحيث لا يشق على الواقف؟ ولا يستحب في الحر، ولا لمن يشق عليه الصوم؟ . أو الصوم والفطر بالنسبة له سواء؟ إن صام فله أجره، وإن أفطر فله أجر الصائم؟ لقد أراد بعض الصحابة الواقفين بعرفة أن يتبينوا حال الرسول صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة. لقد قال بعضهم: هو صائم، وقال البعض: ليس بصائم. فما هو القول الفصل؟ لا سبيل إلى سؤاله صلى الله عليه وسلم في زحام الموقف، وأقرب الناس إلى معرفة ذلك زوجته، ومضرب أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث قريب منهم، لقد وقفوا على بابها ومعها أختها أم الفضل. وأخذوا يتجادلون، ورأت أم الفضل وميمونة أن السبيل الواضح لمعرفة حاله صلى الله عليه وسلم أن ترسلا إليه بقدح فيه لبن، فإن كان صائماً لن يشرب، فلما وصله اللبن وهو على ناقته صلى الله عليه وسلم يخطب الناس رفع القدح إلى فيه وشرب، والناس ينظرون إليه صلى الله عليه وسلم، فعلموا أنه ليس بصائم؛ فأفطر منهم من أفطر، وصام من صام حيث لا نهي. -[المباحث العربية]- (أم الفضل بنت الحارث) الهلالية زوجة العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنهما، والظاهر أنهما كانتا في خيمة واحدة في الموقف. (أن ناساً تماروا) أي اختلفوا وتجادلوا، وفي موطأ مالك "اختلف ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وفي روايتنا الثانية "شك ناس"، وفي الثالثة "إن الناس شكوا في صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة" فكأنهم شكوا ثم تماروا وتجادلوا "فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم" كما جاء في الرواية الأولى. (فأرسلت إليه) التاء ساكنة، والفاعل ضمير الغائبة، وكذا في الرواية الثالثة، أما الثانية فالتاء ضمير المتكلمة. (بقدح لبن) القدح بفتح الدال إناء يشرب به الماء أو اللبن أو نحوهما يشبه ما يسمى اليوم بالكأس، وفي الرواية الثانية "فأرسلت إليه بقعب فيه لبن" والقعب بفتح القاف وسكون العين القدح الضخم الغليظ، وفي الرواية الثالثة "فأرسلت إليه ميمونة بحلاب اللبن" بكسر الحاء، وهو الإناء الذي يجعل فيه اللبن، وقد يطلق على اللبن المحلوب. (وهو واقف على بعيره بعرفة) في بعض الروايات "وهو يخطب الناس بعرفة" والمراد وهو

واقف بعرفة راكباً بعيره جالساً عليه، فالوقوف بعرفة حضورها، واقفاً منتصباً أو مضطجعاً، وأطلق عليه الوقوف تغليباً. (عن عمير مولى ابن عباس) في روايتين لمسلم والبخاري "عن عمير مولى أم الفضل" قال الحافظ: أم الفضل هي والدة ابن عباس، وقد انتقل إلى ابن عباس ولاء موالي أمه، فمن قال: مولى أم الفضل فباعتبار أصله، ومن قال: مولى ابن عباس فباعتبار ما آل إليه حاله. (فأرسلت إليه ميمونة بحلاب اللبن) صريح في أن ميمونة هي التي أرسلت، والرواية الأولى صريحة في أن أم الفضل هي التي أرسلت؟ قال الحافظ ابن حجر: يحتمل التعدد [أي كل منهما حصل في خيمتها نقاش فأرسلت مع فارق في الزمن] ويحتمل أنهما معاً أرسلتا، فنسب ذلك إلى كل منهما، لأنهما كانتا أختين، فتكون ميمونة أرسلت بإشارة أم الفضل لكشف الحال في ذلك، ويحتمل العكس. أما الشخص الذي أرسل فلم يسم في طريق حديث أم الفضل، لكن روى النسائي من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس ما يدل على أنه كان الرسول بذلك. -[فقه الحديث]- هذا الحديث مرتبط بأحاديث صيام عرفة، وسيأتي بعد أبواب أنه يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده، وهذا الحديث صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصمه وهو واقف بعرفة فجمع بين الحديثين بحمل الاستحباب على غير الحاج دون الحاج. وفي حكم صيام يوم عرفة الحاج قال النووي في المجموع: قال الشافعي والأصحاب: يستحب صوم يوم عرفة لغير من هو بعرفة، وأما الحاج الحاضر في عرفة فيستحب له فطره، وقال جماعة من أصحابنا: يكره له صومه، ولم يذكر الجمهور الكراهة، بل قالوا: يستحب فطره، واحتج لمن قال بالكراهة بحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة" رواه أبو داود والنسائي بسند فيه مجهول، وروى الترمذي "سئل ابن عمر عن صوم يوم عرفة، قال: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يصمه، ومع أبي بكر فلم يصمه، ومع عمر فلم يصمه، ومع عثمان فلم يصمه فأنا لا أصومه، ولا آمر به، ولا أنهي عنه" رواه الترمذي، وقال: حديث حسن. قال النووي: وهذان الحديثان لا دلالة فيهما لمن قال بالكراهة، لأن الأول ضعيف، والثاني ليس فيه نهي، وإنما هو خلاف الأفضل. قال وعلل الشافعي والأصحاب استحباب فطره ليقوى الحاج على الدعاء، لأن الحاج يبرز للشمس، فيناله بذلك مشقة يستحب أن لا يصوم معها. وقال المتولي الأولى أن يصوم حيازة للفضيلة. واختار مالك وأبو حنيفة والثوري الفطر، وقال عطاء: من أفطر يوم عرفة ليتقوى به على الذكر كان له مثل أجر الصائم.

وقال ابن عباس: يوم عرفة لا يصحبنا أحد يريد الصيام، فإنه يوم تكبير وأكل وشرب. ونقل عن الشافعي في القديم أنه لو علم الرجل أن الصوم بعرفة لا يضعفه فصامه كان حسناً. وقال عطاء: أصومه في الشتاء ولا أصومه في الصيف. وكان الزبير وعائشة يصومان يوم عرفة. والذي تسترح إليه النفس أن فضل صيام يوم عرفة عظيم، لا يفرط فيه من لا يشق عليه الصيام بعرفة، ولا إخال الصوم يعوق الذكر والدعاء. بل العكس صحيح، فالصوم ينبه للذكر ويصفيه ويقرب الدعاء من القبول، نعم قد يعوق الجهر بالتكبير والدعاء، لكن آثار الصوم في الذكر والدعاء أعظم من آثاره في الجهر بالتكبير. أما أحاديث الباب فهي لا تدل على الفضل، فكثيراً ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص على الرفق بالأمة، ويفعل خلاف الأفضل بالنسبة له لرفع الحرج عن غير القادرين، كما رأينا في فطره في رمضان في السفر. وقيل: إنه أفطر لموافقته يومئذ يوم الجمعة، وقد نهي عن إفراده بالصوم. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم: ]- 1 - قال النووي: فيه استحباب الوقوف راكباً، وهو الصحيح في مذهبنا، ولنا قول أن غير الركوب أفضل. قال الحافظ ابن حجر: اختلف أهل العلم في أيهما أفضل؟ الركوب أو تركه بعرفة؟ فذهب الجمهور إلى أن الأفضل الركوب، لكونه صلى الله عليه وسلم وقف راكباً، ومن حيث النظر فإن في الركوب عوناً على الاجتهاد في الدعاء والتضرع المطلوب حينئذ، كما ذكروا مثله في الفطر، وذهب آخرون إلى أن استحباب الركوب يختص بمن يحتاج الناس إليه لتعليمهم، وعن الشافعي قول أنهما سواء. 2 - قال الحافظ ابن حجر: واستدل به على أن الوقوف على ظهر الدواب مباح، وأن النهي الوارد في ذلك محمول على ما إذا أجحف بالدابة. اهـ. 3 - وفيه جواز الشرب قائماً وراكباً. 4 - وأباحة الهدية للنبي صلى الله عليه وسلم. 5 - وإباحة قبول هدية المرأة المتزوجة من غير استفصال منها. هل هو من مال زوجها؟ أو لا؟ أو أنه أذن فيه؟ أم لا؟ إذا كانت موثوقاً بدينها، قال الحافظ: ولعل ذلك من القدر الذي لا يقع فيه المشاححة. قال المهلب: وفيه نظر، لما تقدم من احتمال أنه من بيت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. 6 - قال النووي: وفيه أن تصرف المرأة في مالها جائز، ولا يشترط إذن الزوج، سواء تصرفت في الثلث أو أكثر، وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور. وقال مالك: لا تتصرف فيما فوق الثلث إلا بإذنه. قال: وموضع الدلالة من الحديث أنه صلى الله عليه وسلم لم يسأل: هل هو من مالها؟ ويخرج من الثلث؟ أو بإذن الزوج أولاً؟ ولو اختلف الحكم لسأل. اهـ.

وفيه نظر لاحتمال أن يكون من بيت زوجته ميمونة، كما سبق، كما أن كوب اللبن لا يحتمل أن يكون فوق ثلث ما يملك مرسله، فلا يحتاج إلى سؤال، ولا يستدل به على المطلوب. 7 - وفيه أن صوم يوم عرفة كان معروفاً عندهم، معتاداً لهم في الحضر، وكأن من قال: إنه صائم استند إلى ما ألفه من العبادة، ومن قال: إنه ليس بصائم قامت عنده قرينة كونه مسافراً، وقد عرف نهيه عن صوم الفرض في السفر فضلاً عن النفل. 8 - وفيه حرص الصحابة على التأسي به صلى الله عليه وسلم. 9 - وفيه البحث والاجتهاد في حياته صلى الله عليه وسلم. 10 - والمناظرة في العلم بين الرجال والنساء. 11 - والتحيل على الاطلاع على الحكم من غير سؤال؛ حيث تماروا أمام من يطلبون سؤاله. 12 - وفيه فطنة أم الفضل لاستكشافها عن الحكم الشرعي بهذه الوسيلة اللطيفة اللائقة بالحال، لأن ذلك كان في يوم حر بعد الظهيرة. 13 - وفيه أن العيان أقطع للحجة وأنه فوق الخبر. 14 - وأن الأكل والشرب في المحافل مباح، ولا كراهة فيه للضرورة. والله أعلم

(308) باب صوم يوم عاشوراء

(308) باب صوم يوم عاشوراء 2301 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت قريش تصوم عاشوراء في الجاهلية وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه. فلما هاجر إلى المدينة صامه وأمر بصيامه. فلما فرض شهر رمضان قال "من شاء صامه ومن شاء تركه". 2302 - عن هشام بهذا الإسناد ولم يذكر في أول الحديث وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه. وقال في آخر الحديث وترك عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه. ولم يجعله من قول النبي صلى الله عليه وسلم كرواية جرير. 2303 - عن عائشة رضي الله عنها أن يوم عاشوراء كان يصام في الجاهلية فلما جاء الإسلام من شاء صامه ومن شاء تركه. 2304 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بصيامه قبل أن يفرض رمضان. فلما فرض رمضان كان من شاء صام يوم عاشوراء ومن شاء أفطر. 2305 - عن عائشة رضي الله عنها أن قريشاً كانت تصوم عاشوراء في الجاهلية، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيامه حتى فرض رمضان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من شاء فليصمه ومن شاء فليفطره". 2306 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صامه والمسلمون قبل أن يفترض رمضان، فلما افترض رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن عاشوراء يوم من أيام الله فمن شاء صامه ومن شاء تركه".

2307 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان يوماً يصومه أهل الجاهلية. فمن أحب منكم أن يصومه فليصمه، ومن كره فليدعه". 2308 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في يوم عاشوراء "إن هذا يوم كان يصومه أهل الجاهلية. فمن أحب أن يصومه فليصمه، ومن أحب أن يتركه فليتركه" وكان عبد الله رضي الله عنه لا يصومه إلا أن يوافق صيامه". 2309 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم صوم يوم عاشوراء فذكر مثل حديث الليث بن سعد سواء. 2310 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء فقال "ذاك يوم كان يصومه أهل الجاهلية. فمن شاء صامه، ومن شاء تركه". 2311 - عن عبد الرحمن بن يزيد قال: دخل الأشعث بن قيس على عبد الله وهو يتغذى. فقال: يا أبا محمد ادن إلى الغداء. فقال: أوليس اليوم يوم عاشوراء؟ قال: وهل تدري ما يوم عاشوراء؟ قال: وما هو؟ قال: إنما هو يوم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه قبل أن ينزل شهر رمضان فلما نزل شهر رمضان ترك. وقال أبو كريب تركه. 2312 - عن الأعمش بهذا الإسناد. وقالا: فلما نزل رمضان تركه. 2313 - عن قيس بن سكن أن الأشعث بن قيس دخل على عبد الله يوم عاشوراء وهو يأكل، فقال: يا أبا محمد ادن فكل. قال: إني صائم. قال: كنا نصومه ثم ترك.

2314 - عن علقمة قال: دخل الأشعث بن قيس على ابن مسعود وهو يأكل يوم عاشوراء، فقال: يا أبا عبد الرحمن إن اليوم يوم عاشوراء. فقال: قد كان يصام قبل أن ينزل رمضان فلما نزل رمضان ترك، فإن كنت مفطراً فاطعم. 2315 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بصيام يوم عاشوراء ويحثنا عليه ويتعاهدنا عنده. فلما فرض رمضان لم يأمرنا ولم ينهنا ولم يتعاهدنا عنده. 2316 - عن حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية بن أبي سفيان خطيباً بالمدينة (يعني في قدمة قدمها) خطبهم يوم عاشوراء. فقال: أين علماؤكم يا أهل المدينة؟ ! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لهذا اليوم) "هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب الله عليكم صيامه، وأنا صائم. فمن أحب منكم أن يصوم فليصم، ومن أحب أن يفطر فليفطر". 2317 - عن الزهري بهذا الإسناد سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مثل هذا اليوم "إني صائم فمن شاء أن يصوم فليصم" ولم يذكر باقي حديث مالك ويونس. 2318 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء. فسئلوا عن ذلك؟ فقالوا: هذا اليوم الذي أظهر الله فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون فنحن نصومه تعظيماً له. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "نحن أولى بموسى منكم". فأمر بصومه. 2319 - عن أبي بشر بهذا الإسناد وقال فسألهم عن ذلك. 2320 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد

اليهود صياماً يوم عاشوراء. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ " فقالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً، فنحن نصومه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فنحن أحق وأولى بموسى منكم" فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه. 2321 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال كان يوم عاشوراء يوما تعظمه اليهود وتتخذه عيدا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صوموه أنتم" 2322 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال: كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء يتخذونه عيداً ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فصوموه أنتم". 2323 - عن ابن عباس رضي الله عنهما وسئل عن صيام يوم عاشوراء. فقال: ما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام يوماً يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم، ولا شهراً إلا هذا الشهر يعني رمضان. 2324 - عن الحكم بن الأعرج قال: انتهيت إلى ابن عباس رضي الله عنهما وهو متوسد رداءه في زمزم، فقلت: له أخبرني عن صوم عاشوراء. فقال: إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائماً. قلت: هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه؟ قال: نعم. 2325 - عن الحكم بن الأعرج قال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما وهو متوسد رداءه عند زمزم عن صوم عاشوراء. بمثل حديث حاجب بن عمر. 2326 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم

يوم عاشوراء وأمر بصيامه. قالوا: يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع" قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2327 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع" وفي رواية أبي بكر قال يعني يوم عاشوراء. 2328 - عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من أسلم يوم عاشوراء، فأمره أن يؤذن في الناس "من كان لم يصم فليصم. ومن كان أكل فليتم صيامه إلى الليل". 2329 - عن الربيع بنت معوذ بن عفراء رضي الله عنها قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة "من كان أصبح صائماً فليتم صومه. ومن كان أصبح مفطراً فليتم بقية يومه" فكنا بعد ذلك نصومه ونصوم صبياننا الصغار منهم إن شاء الله، ونذهب إلى المسجد فنجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناها إياه عند الإفطار. 2330 - عن خالد بن ذكوان قال: سألت الربيع بنت معوذ عن صوم عاشوراء. قالت: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رسله في قرى الأنصار. فذكر بمثل حديث بشر غير أنه قال: ونصنع لهم اللعبة من العهن فنذهب به معنا، فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة تلهيهم حتى يتموا صومهم. -[المعنى العام]- الأماكن والأزمنة ظروف يفضل بعضها بعضاً بما يقع فيها من أحداث، وبما يفيضه فيها خالقها من فضل ورحمات، فليلة القدر خير من ألف شهر، نزل فيها القرآن: {تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر} [القدر: 4، 5]. و {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة

مباركاً وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً} [آل عمران: 96، 97]. وقد كان اليوم العاشر من شهر المحرم من أيام الله التي أفاض الله فيها على أوليائه من فيوضاته، فنجى فيه موسى وقومه من فرعون وجنوده، ومن واجب المؤمن أن يشكر الله على نعمائه، وخير ما يشكر به الصوم، لذا صامه موسى عليه السلام شكراً لله، وصامه اليهود من بعده، وصامته قريش، وصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، ثم بالمدينة، لقد رأى اليهود يصومونه فسألهم عن سر صومهم له، فوجده حسناً، فأمر أصحابه بصيامه وقال لهم: نحن أحق وأولى بموسى من اليهود، فصوموه، ولم يكن فرض على المسلمين صيام قبل، ولم يمض أشهر على صيامهم يوم عاشوراء حتى فرض الله عليهم صوم شهر رمضان، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: "يوم عاشوراء من أيام الله المفضلة، لم يكتب ولم يفرض الله عليكم صيامه، فمن شاء أن يصومه تطوعاً فليصمه، وأنا صائم".وكان صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب في الطاعات التي لم يؤمر فيها بشيء، استئلافاً لقلوبهم من جهة، واعتماداً على أن عبادتهم تستند إلى الوحي غالباً من جهة، حتى فتح الله مكة، وأتم الله النعمة، وأكمل دينه فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب مخالفة أهل الكتاب، فقال في عامه الأخير: "لئن عشت إلى العام القابل لأصومن التاسع والعاشر" ولكنه صلى الله عليه وسلم لحق بالرفيق الأعلى. وكان اهتمامه صلى الله عليه وسلم بصيام المسلمين ليوم عاشوراء كبيراً، فكان يأمرهم به، ويحثهم عليه، ويتعاهدهم ويسألهم عن صيامه، فكانوا لشعورهم بهذا الاهتمام يحافظون عليه، ويدربون صبيانهم على صيامه، ويشغلونهم عن الرغبة في الطعام والفطر باللعبة يصنعونها لهم من الصوف، حتى خشي بعض الصحابة من اعتقاد وجوب صيام هذا اليوم فكان يفطر فيه عن عمد، وهو يعلم أن صيامه مستحب، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم احتسب على الله أن يكفر صوم يوم عاشوراء صغائر السنة التي قبله. -[المباحث العربية]- (كانت قريش تصوم عاشوراء في الجاهلية) "عاشوراء" بالمد على فاعولاء من العشر الذي هو اسم للعدد المعين، وحكي فيه القصر، قال القرطبي: "عاشوراء" معدول عن عاشرة للمبالغة والتعظيم، وهو في الأصل صفة لليلة العاشرة، فإذا قيل: يوم عاشوراء فكأنه قيل: يوم الليلة العاشرة، إلا أنهم لما عدلوا به عن الصفة غلبت عليه الإسمية، فاستغنوا عن الموصوف فحذفوا الليلة. وأما صيام قريش لعاشوراء فلعلهم تلقوه من الشرع والأديان السابقة، ولهذا كانوا يعظمونه بكسوة الكعبة فيه، وقيل: أذنبت قريش ذنباً في الجاهلية، فعظم في صدورهم، فقيل لهم: صوموا عاشوراء يكفر ذلك الذنب. والمراد بالجاهلية ما قبل البعثة.

(وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه) أي قبل الهجرة. (فلما هاجر إلى المدينة صامه وأمر بصيامه) في الكلام طي، تقديره: فلما هاجر إلى المدينة ووجد اليهود يصومونه. وسألهم عن سر صيامهم هذا، وأجابوه، وقال ما قال، صام وأمر بصيامه، يوضح هذا الحذف ما جاء في الرواية السادسة عشرة والسابعة عشرة. ومعنى "صامه" استمر يصومه، لأنه كان يصومه قبل أن يهاجر، وقيل: صامه صلى الله عليه وسلم مع قريش، ثم قطع صيامه قبل الهجرة، ثم صامه بعد سؤال اليهود، والأول أصح. وقد قال القرطبي: لعل قريشاً كانوا يستندون في صومه إلى شرع من مضى كإبراهيم، وصوم رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون بحكم الموافقة لهم، كالحج، أو أذن الله له في صيامه على أنه فعل خير، فلما هاجر إلى المدينة، ووجد اليهود يصومونه، وسألهم، وصامه وأمر بصيامه احتمل أن يكون ذلك استئلافاً لليهود، كما استألفهم باستقبال قبلتهم، ويحتمل غير ذلك، وعلى كل حال فلم يصمه اقتداء بهم، فإنه كان يصومه قبل ذلك وكان ذلك في الوقت الذي يحب فيه موافقة أهل الكتاب فيما لم ينه عنه. اهـ. وقال النووي: ضبطوا "وأمر بصيامه" هنا بوجهين. أظهرها بفتح الهمزة والميم، والثاني بضم الهمزة وكسر الميم. (فلما فرض شهر رمضان قال ... ) كان قدومه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في ربيع الأول، فكان الأمر بصيام عاشوراء في أول السنة الثانية، وفرض رمضان في السنة الثانية، فعلى هذا لم يقع الأمر بصيام عاشوراء إلا في سنة واحدة، ثم فوض الأمر في صومه إلى رأي المتطوع. (وكان عبد الله لا يصومه إلا أن يوافق صيامه) أي إلا أن يوافق عادة له، والمراد من عبد الله، عبد الله بن عمر. (دخل الأشعث بن قيس على عبد الله) المراد به عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، كما صرح به في الرواية الثالثة عشرة، وكنيته أبو عبد الرحمن، وكنية الأشعث بن قيس أبو محمد. (وهو يتغذى ... ادن إلى الغداء) "الغداء" بفتح الغين وبالدال المهملة طعام الغدوة، أي البكور، وأكلة الظهيرة، قال تعالى: {آتنا غداءنا} [الكهف: 62]. ويقال: تغدى بالدال المهملة أكل الغداء. أما "الغذاء" بكسر الغين وبالذال المعجمة: ما يكون به نماء الجسم وقوامه من الطعام والشراب، ويقال تغذى بالذال المعجمة: تناول الغذاء. وهو في روايتنا "يتغذى" بالذال المعجمة "ادن إلى الغداء" بفتح الغين والدال المهملة، فالمعنى وهو يأكل فقال: ادن إلى طعام الظهيرة.

(أوليس اليوم يوم عاشوراء) استفهام إنكاري توبيخي بمعنى لا ينبغي، أو تعجبي، أي كيف تأكل وتدعوني للأكل واليوم يوم عاشوراء المأمور بصومه؟ (قبل أن ينزل شهر رمضان) أي قبل أن ينزل فرض صيام شهر رمضان، ويمكن أن يكون "شهر رمضان" مقصود به حكاية الآية الكريمة، أي قبل أن ينزل قوله تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ... } [البقرة: 185]. لكن قوله في الروايات الأخرى: "قبل أن ينزل رمضان" يقوي المعنى الأول. (إن اليوم يوم عاشوراء) الكلام على الاستفهام الإنكاري، والمراد من الخبر لازمه، أي إن اليوم يوم يصومه المسلمون؟ لا ينبغي فيه الفطر. (فإن كنت مفطراً فاطعم) أي فإن كنت ستفطر بناء على ما قلت لك فهيا إلى الطعام، وليس المراد إن كنت غير صائم، لأنه أخبره بأنه صائم. (ويتعاهدنا عنده) يقال: تعاهده أي تفقده وتردد إليه يجدد العهد به، والمراد يتفقد صيامنا لعاشوراء، ويسألنا عنه عند مجيئه. (يعني في قدمة قدمها) "قدمة" بفتح القاف وسكون الدال المرة من القدوم، وفي رواية البخاري عن حميد "أنه سمع معاوية يوم عاشوراء عام حج على المنبر" قال الحافظ ابن حجر: وكأنه تأخر بمكة أو المدينة في حجته إلى يوم عاشوراء، وذكر أبو جعفر الطبري أن أول حجة حجها معاوية بعد أن استخلف كانت في سنة أربع وأربعين، وآخر حجة حجها سنة سبع وخمسين، والذي يظهر أن المراد بها في هذا الحديث الحجة الأخيرة. (أين علماؤكم يا أهل المدينة؟ ) قال الحافظ: في سياق هذه القصة إشعار بأن معاوية لم ير لهم اهتماماً بصيام عاشوراء، فلذلك سأل عن علمائهم، أو بلغه عن بعضهم أنه يكره صيامه، أو يقول بوجوبه. اهـ. فأراد إعلامهم بأنه ليس بواجب ولا مكروه. (فسئلوا عن ذلك) في ملحق الرواية "فسألهم عن ذلك" وفي الرواية السابعة عشرة "فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا اليوم الذي تصومونه"؟ (هذا اليوم الذي أظهر الله في موسى وبني إسرائيل على فرعون) يقال: ظهر على عدوه أي غلبه، وأظهره الله على عدوه أي أعانه، وفي الرواية السابعة عشرة "هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرق فرعون وقومه" وفي رواية البخاري "هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم" زاد أحمد "وهو اليوم الذي استوت فيه السفينة على الجودي، فصامه نوح شكراً".

(فأمر بصومه) في الرواية السابعة عشرة "فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بصيامه" وفي البخاري "فقال لأصحابه: أنتم أحق بموسى منهم، فصوموا". (ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم) قال النووي: الشارة الهيئة الحسنة والجمال، أي يلبسوهن اللباس الحسن الجميل، والحلي بضم الحاء وكسرها، والضم أشهر وأكثر. (وهو متوسد رداءه في زمزم) "توسد" اتكأ، وتوسد الرداء جعله وسادة يتكئ عليها، أو يضع عليها رأسه، "وفي زمزم" أي بجوار عين زمزم وفي مكانها، كما هو في ملحق الرواية "عند زمزم". (إذا رأيت هلال المحرم فاعدد، وأصبح يوم التاسع صائماً) قال النووي: هذا تصريح من ابن عباس بأن مذهبه أن عاشوراء هو اليوم التاسع من المحرم، ويتأوله على أنه مأخوذ من إظماء الإبل، فإن العرب تسمي اليوم الخامس من أيام الورود ربعاً، وكذا باقي الأيام على هذه النسبة، فيكون التاسع عشراً. اهـ. وهذا التأويل الذي ذكره النووي لم يغير حقيقة اليوم إلا في التسمية، وكأنه قال: وأصبح يوم العاشر صائماً، وكأن ابن عباس يرى أن يوم عاشوراء حقيقة اليوم العاشر كما يراه الجمهور، ويقوي هذا حديثنا الثالث والعشرون، وفيه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع"، فمات قبل ذلك، فإنه ظاهر في أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم العاشر. وهناك تأويلات أخرى لقول ابن عباس، وخيرها ما قيل: معنى قوله: "وأصبح يوم التاسع صائماً" أي صام التاسع مع العاشر، وأراد بقوله: "نعم" ما روي من عزمه صلى الله عليه وسلم على صوم التاسع، من قوله: "لأصومن التاسع" أي نعم يصوم التاسع لو عاش إلى العام المقبل. وهذا فهم حسن، لأن السائل كان يريد صوم عاشوراء، ولم يقصد بسؤاله تحديد يوم عاشوراء. (فإذا كان العام المقبل -إن شاء الله- صمنا اليوم التاسع) وفي الرواية الثالثة والعشرين "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع" وهذا يحتمل أمرين. أحدهما أنه أراد نقل العاشر إلى التاسع، والثاني أنه أراد أن يضيفه إلى اليوم العاشر، وهو الأرجح. وسيأتي تتمة هذه المسألة في فقه الحديث. (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من أسلم يوم عاشوراء، فأمره أن يؤذن في الناس) وفي الرواية الخامسة والعشرين "أرسل ... غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة" فبينت المكان المرسل إليه. وفي الرواية السادسة والعشرين "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رسله في قرى الأنصار" وروى أحمد عن هند بن أسماء ابن حارثة الأسلمي قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى قومي من أسلم، فقال: مر قومك أن يصوموا هذا اليوم -يوم عاشوراء- فمن وجدته منهم قد أكل في أول يومه فليصم آخره" فالظاهر أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل الأسلمي إلى قومه وبعث رسلاً إلى القرى. (عن الربيع بنت معوذ) "الربيع" بتشديد الياء مصغراً، وأبوها "معوذ" بكسر الواو المشددة.

(فنجعل لهم اللعبة من العهن) وهو الصوف مطلقاً، وقيل الصوف المصبوغ. (أعطيناها إياه عند الإفطار) قال النووي: قال القاضي: فيه محذوف، وصوابه حتى يكون عند الإفطار، فبهذا يتم الكلام، وهو معنى الرواية الأخرى "فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة تلهيهم حتى يتموا صومهم". اهـ ورواية البخاري "فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار". -[فقه الحديث]- حكم صوم عاشوراء يختلف باختلاف مراحل ثلاث: المرحلة الأولى: صوم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا اليوم بمكة، وهذا الصوم لم يثبت به تشريع للأمة، فهو كالعبادات التي كان يتعبد بها على ما اعتقد أنه من دين إبراهيم عليه السلام، أو على أنه خير مطلق، ولما لم يعترض جبريل على صيامه كان في ذلك إذن من الله له في صيامه. المرحلة الثانية: صيامه صلى الله عليه وسلم لهذا اليوم وأمر أمته بصيامه بعد الهجرة، وبعد أن وجد اليهود يصومونه، وتنتهي هذه المرحلة بنزول فرض صوم رمضان، وقد ذكرنا أن مدة هذه المرحلة عام واحد. وقد اختلف العلماء في حكم صوم عاشوراء في هذه الفترة على مذهبين: (أ) فالحنفية وكثير من الشافعية يقولون: كان صومه واجباً، ثم نسخ وجوبه، وبقي تأكد استحبابه بفرض صوم شهر رمضان ويستدلون بأدلة: 1 - ثبوت الأمر بصومه "صامه وأمر بصيامه" في الرواية الأولى والثانية والسابعة عشرة، وفي الرابعة "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بصيامه قبل أن يفرض رمضان" وفي الخامسة "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيامه حتى فرض رمضان" وفي الرابعة عشرة "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بصيام يوم عاشوراء، ويحثنا عليه .... فلما فرض رمضان". وفي السادسة عشرة "فأمر بصومه" وفي الثامنة عشرة "صوموه أنتم" وفي التاسعة عشرة "فصوموا أنتم" والأمر للوجوب. 2 - تأكد هذا الأمر وزيادة تأكيده بتعاهد صيام المسلمين ففي الرواية الرابعة عشرة "يحثنا عليه ويتعاهدنا عنده" وبالنداء العام والتأذين في الناس وفي القرى حول المدينة. ويأمر من أكل بالإمساك كما جاء في الروايتين الرابعة والعشرين والخامسة والعشرين. 3 - قول ابن مسعود [في روايتنا الحادية عشرة] "فلما نزل شهر رمضان ترك" مع العلم بأنه لم يترك استحبابه، فدل على أن المتروك وجوبه. (ب) وبعض الشافعية وكثير من العلماء يقولون: كان صومه مستحباً استحباباً آكد، فلما فرض

رمضان صار مستحباً دون ذلك الاستحباب، فهو لم يزل سنة من حين شرع، ولم يكن واجباً قط في هذه الأمة، ويستدلون بقول معاوية، في روايتنا الخامسة عشرة: "ولم يكتب الله عليكم صيامه". قال الحافظ ابن حجر: ولا دلالة فيه، لاحتمال أن يريد: ولم يكتب الله عليكم صيامه على الدوام كصيام رمضان، وغايته أنه عام، خص بالأدلة الدالة على تقدم وجوبه، أو المراد أنه لم يدخل في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم} ثم فسره بأنه شهر رمضان، وهذا لا يناقض الأمر السابق بصيامه الذي صار منسوخاً، ويؤيد ذلك أن معاوية إنما صحب النبي صلى الله عليه وسلم من سنة الفتح، والذين شهدوا أمره بصيام عاشوراء والنداء بذلك شهدوه في السنة الأولى أوائل العام الثاني. اهـ. ثم قال: وأما قولهم: المتروك تأكد استحبابه، والباقي مطلق الاستحباب فلا يخفى ضعفه، بل تأكد استحبابه باق، ولا سيما مع استمرار الاهتمام به، حتى في عام وفاته صلى الله عليه وسلم حيث يقول: "لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر" ولترغيبه في صومه، وأنه يكفر سنة، وأي تأكيد أبلغ من هذا؟ المرحلة الثالثة: حكم صوم يوم عاشوراء بعد فرض صوم شهر رمضان، وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على أنه الآن ليس بفرض، والإجماع على أنه مستحب. نعم نقل القاضي عياض أن بعض السلف كان يرى بقاء فرضية عاشوراء، لكن انقرض القائلون بذلك. كذلك قيل: إن ابن عمر كان يكره قصده بالصوم، لكن انقرض أيضاً القول بذلك. نعم كان آخر أمره صلى الله عليه وسلم ما هم به من صوم التاسع، والظاهر أنه قصد أن يضيف التاسع إلى العاشر. قال الحافظ ابن حجر: إما احتياطاً له، وإما مخالفة لليهود، وهو الأرجح، وبه تشير بعض روايات مسلم [يشير إلى روايتنا الثانية والعشرين] ولأحمد من وجه آخر عن ابن عباس مرفوعاً "صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا اليهود صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده" قال: وكان هذا في آخر الأمر، وقد كان صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ولا سيما إذا كان فيما يخالف فيه أهل الأوثان، فلما فتحت مكة، واشتهر أمر الإسلام أحب مخالفة أهل الكتاب أيضاً، كما ثبت في الصحيح، فهذا من ذاك، فوافقهم أولاً، وقال: "نحن أحق بموسى منكم" ثم أحب مخالفتهم، فأمر بأن يضاف إليه يوم قبله أو يوم بعده خلافاً لهم. ثم قال: وعلى هذا فصيام عاشوراء على ثلاث مراتب. أدناها أن يصام وحده، وفوقه أن يصام التاسع معه وفوقه أن يصام التاسع والحادي عشر. والله أعلم. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - أن الأيام التي يتفضل الله فيها على عباده الصالحين يستحب صومها شكراً لله، فإن موسى عليه

السلام صام يوم عاشوراء شكراً لله على إنجاء الله له، وصامه صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه شكراً لله على إنعامه على موسى عليه السلام، وليس في ذلك تصديق اليهود في خبرهم، ولا رجوعه إليهم، ولا اقتداؤه بهم، إذ يحتمل أن يكون قد أوحي إليه بصدقهم، أو تواتر عنده الخبر بذلك، ثم إنه ليس في الخبر أنه ابتدأ الصوم بكلامهم، فقد ثبت أنه كان يصومه قبل ذلك. 2 - ومن الرواية المتممة للعشرين أخذ فضل يوم عاشوراء، لكن كلام ابن عباس يقتضي أن يوم عاشوراء أفضل الأيام للصائم بعد رمضان وليس كذلك، فالجمهور على أن يوم عرفة أفضل، فقد روى مسلم عن أبي قتادة مرفوعاً "إن صوم عاشوراء يكفر سنة، وإن صيام يوم عرفة يكفر سنتين". 3 - ويؤخذ من الرواية الرابعة والعشرين وما بعدها، من قوله "من كان أكل فليتم صيامه إلى الليل" إجزاء الصوم بغير نية لمن طرأ عليه العلم بوجوب صوم ذلك اليوم، كمن ثبت عنده في أثناء النهار أنه من رمضان، فإنه يتم صومه، ويجزئه. 4 - واحتج أبو حنيفة بهذا الحديث لمذهبه أن صوم رمضان وغيره من الفرض يجوز نيته في النهار، ولا يشترط تبييتها، قال: لأنهم نووا في النهار وأجزأهم. ورد الجمهور بأن المراد هنا إمساك بقية النهار، لا حقيقة الصوم، بدليل أنه أمر من أكل أن يتم، والحنفية يشترطون لإجزاء النية في النهار في الفرض والنفل ألا يتقدمها مفسد للصوم من أكل أو غيره. قال النووي: وجواب آخر أن صوم عاشوراء لم يكن واجباً عند الجمهور، وإنما كان سنة مؤكدة، وجواب ثالث أنه ليس فيه أنه يجزيهم، ولا يقضونه، بل لعلهم قضوه، وقد جاء في سنن أبي داود في هذا الحديث "فأتموا بقية يوم واقضوه". 5 - ويؤخذ من حديث الربيع مشروعية تمرين الصبيان على الصيام. والجمهور على أنه لا يجب على من دون البلوغ، لكن يستحب، ويؤمرون به للتمرين عليه إذا أطاقوه، وحد الإطاقة عند الشافعية سبع وعشر كالصلاة، وحدها بعضهم باثنتي عشرة، وحدها أحمد بعشر سنين، وقال الأوزاعي: إذا أطاق صوم ثلاثة أيام تباعاً لا يضعف فيهم حمل على الصوم. والمشهور عن المالكية أن الصوم لا يشرع في حق الصبيان، لكن حديث الربيع يرد عليهم، لأن من كان في مثل السن الذي ذكر في هذا الحديث فهو غير مكلف، وإنما صنع لهم ذلك للتمرين. قال الحافظ ابن حجر: وقد أغرب القرطبي -وهو مالكي- فقال: لعل النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم بذلك ويبعد أن يكون أمر بذلك، لأنه تعذيب صغير بعبادة غير متكررة في السنة. قال الحافظ: والصحيح عند أهل الحديث وأهل الأصول أن الصحابي إذا قال: فعلنا كذا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حكمه الرفع، لأن الظاهر اطلاعه صلى الله عليه وسلم على ذلك، وتقريرهم عليه، مع توافر دواعيهم على سؤالهم إياه عن الأحكام، مع أن هذا مما لا مجال للاجتهاد فيه، فما فعلوه إلا بتوقيف.

(ملحوظة) قال البدر العيني: ما ورد في صلاة ليلة عاشوراء، وفي فضل الكحل يوم عاشوراء لا يصح، ومن ذلك حديث عن ابن عباس رفعه "من اكتحل بإثمد ليوم عاشوراء لم يرمد أبداً" وهو حديث موضوع، وضعه قتلة الحسين رضي الله عنه قال الإمام أحمد: والاكتحال يوم عاشوراء، لم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه أثر، وهو بدعة. والله أعلم

(309) باب تحريم صوم يومي العيدين وأيام التشريق وكراهة إفراد يوم الجمعة بصوم

(309) باب تحريم صوم يومي العيدين وأيام التشريق وكراهة إفراد يوم الجمعة بصوم 2331 - عن أبي عبيد مولى ابن أزهر أنه قال: شهدت العيد مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فجاء فصلى ثم انصرف فخطب الناس، فقال: إن هذين يومان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامهما يوم فطركم من صيامكم والآخر يوم تأكلون فيه من نسككم. 2332 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين يوم الأضحى ويوم الفطر. 2333 - عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: سمعت منه حديثاً فأعجبني. فقلت: له آنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فأقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم أسمع؟ قال: سمعته يقول "لا يصلح الصيام في يومين يوم الأضحى ويوم الفطر من رمضان". 2334 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين يوم الفطر ويوم النحر. 2335 - عن زياد بن جبير قال: جاء رجل إلى ابن عمر رضي الله عنهما، فقال: إني نذرت أن أصوم يوماً فوافق يوم أضحى أو فطر. فقال ابن عمر رضي الله عنهما: أمر الله تعالى بوفاء النذر ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم هذا اليوم. 2336 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صومين يوم الفطر ويوم الأضحى. 2337 - عن نبيشة الهذلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أيام التشريق أيام أكل وشرب".

2338 - عن نبيشة قال خالد فلقيت أبا المليح فسألته فحدثني به فذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث هشيم وزاد فيه "وذكر لله". 2339 - عن ابن كعب بن مالك عن أبيه أنه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه وأوس بن الحدثان أيام التشريق فنادى "أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن. وأيام منى أيام أكل وشرب". 2340 - عن إبراهيم بن طهمان بهذا الإسناد غير أنه قال فناديا. 2341 - عن محمد بن عباد بن جعفر سألت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وهو يطوف بالبيت أنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الجمعة؟ فقال: نعم ورب هذا البيت. 2342 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله أو يصوم بعده". 2343 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم". -[المعنى العام]- وكما يرغب الشرع في صيام أيام بعينها، كيوم عرفة ويوم عاشوراء ويومي الإثنين والخميس والأيام البيض ينهى عن صوم أيام بعينها كيومي العيدين وأيام التشريق، وإفراد يوم الجمعة بصوم، ولله في تشريع الصوم حكمة، وله في منعه حكمة، ومن البدهيات أنه تعالى لا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية. فإن شرع الصوم فلصالح الصائم، وإن شرع الفطر فلصالح الفطر، وحال المسلم خير كله إن أصابه ضر أو نصب أو وصب فصبر كان له أجر، وإن أصابه خير ونعمة ومتعة فشكر كان له أجر، ومن

هنا كان الإسلام حريصاً على أن يتمتع المسلم بدنياه بقدر ما يقدر لأخراه {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا} [القصص: 77]. فوصل الراحة والطعام والشراب والشهوة بمشاق الطاعات، وحين أمر بالصوم والحرمان أعقبه بالنهي عن الصيام. حين أمر بصوم رمضان أعقبه بتحريم صوم يوم العيد وحين أمر بالحج ومشاق هذه العبادة والصيام من أول ذي الحجة أعقب ذلك بتحريم صوم يوم النحر، وشرع ذبيحة الأضحية لتعوض ما فات بالصوم والجهد، بل نهى عن صوم أيام التشريق الثلاثة التي تعقب يوم النحر، وحين استحب صيام يوم الخميس كره صيام يوم الجمعة مفرداً، لأنه يوم الترويح من عناء الأسبوع. ويوم الاجتماع والعبادة والذكر. ولله تعالى حكمة بل حكم في اختيار وتخصيص بعض الأيام بالصوم، وتخصيص بعضها بالفطر، ونحاول أن ندركها، وقد ندركها، وقد لا ندركها، وسواء أدركناها أم لم ندركها يجب علينا أن نقول: {سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} [البقرة: 285]. اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك إنك سميع مجيب -[المباحث العربية]- (عن أبي عبيد مولى ابن أزهر) قال الحافظ ابن حجر: في رواية "مولى بني أزهر" وكذا في رواية مسلم. اهـ وقد رواه مسلم هنا، وفي كتاب الأضاحي بلفظ "مولى ابن أزهر" ولم أجد في النسخة التي بين يدي "مولى بني أزهر" ولعله من اختلاف النسخ. واسم ابن أزهر عبد الرحمن، وهو ابن عم عبد الرحمن بن عوف. (شهدت العيد) في بعض الروايات "شهدت يوم الأضحى". (ثم انصرف) عن مكان الصلاة إلى مكان الخطبة. (إن هذين يومان) المشار إليه يوم الأضحى ويوم عيد الفطر، وكان الوقت وقت عيد الأضحى، وعيد الفطر بعيد، فكان حقه أن يقول: إن هذا اليوم وذاك اليوم، فلما جمعهما قال: هذان، تغليباً للحاضر على الغائب. (يوم فطركم من صيامكم) "يوم" بالرفع، خبر مبتدأ محذوف، تقديره: أحدهما يوم فطركم. وفي رواية "أما أحدهما فيوم فطركم". (والآخر يوم تأكلون فيه من نسككم) "يوم" بالرفع والتنوين، وجملة "تأكلون" صفته، والنسك هنا الذبيحة المتقرب بها والأضحية. (عن قزعة عن أبي سعيد قال: سمعت منه حديثاً فأعجبني .... إلخ) الضمائر في تركيب الحديث في حاجة إلى توضيح وترتيب، وحاصله:

قال قزعة: [بفتح القاف والزاي والعين] عن أبي سعيد، قال أبو سعيد: سمعت منه [أي من رسول الله صلى الله عليه وسلم] حديثاً فأعجبني. سمعته يقول "لا يصلح الصيام في يومين، يوم الأضحى ويوم الفطر من رمضان، فقلت له: أي قال قزعة لأبي سعيد: أأنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال أبو سعيد: أفأقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم أسمع؟ . (آنت سمعت؟ ) بمد الهمزة، على الاستفهام. (فأقول ... ؟ ) الكلام على الاستفهام مع حذف أداته، والاستفهام إنكاري بمعنى النفي، أي لا أقول ... إلخ. (جاء رجل إلى ابن عمر) قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمه، وأخرج ابن حبان "سأل رجل ابن عمر وهو يمشي بمنى". (إني نذرت أن أصوم يوماً) لم يعين هنا اليوم، وفي بعض الروايات "نذر أن يصوم كل اثنين وخميس". وفي رواية "أن أصوم كل ثلاثاء وأربعاء". وفي رواية "نذر أن يصوم كل جمعة". (فوافق يوم أضحى أو فطر) في رواية البخاري "فوافق يوم عيد". وفي رواية "فوافق يوم النحر" والمسئول عنه مفهوم من المقام، وهو الوفاء بالنذر؟ أو عدم صوم يوم العيد؟ (أمر الله بوفاء النذر) بقوله: {وليوفوا نذورهم} [الحج: 29]. (ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم هذا اليوم) لم يقطع ابن عمر بالفتيا، ولم يبت في الحكم، وسيأتي الكلام عنه في فقه الحديث. (عن نبيشة الهذلي) قال النووي: هو بضم النون وفتح الباء وبالشين، وهو نبيشة بن عمرو بن عوف بن سلمة. (أيام التشريق أيام أكل وشرب) وفي الرواية الثامنة "أيام منى" قال النووي: وأيام التشريق ثلاثة بعد يوم النحر، سميت بذلك لتشريق الناس لحوم الأضاحي فيها، وهو تقديدها، ونشرها في الشمس. اهـ. وأضيفت إلى "منى" لأن الحاج فيها يكون في "منى" وقال أبو حنيفة: التشريق التكبير دبر كل صلاة. وعند أبي حنيفة ومالك وأحمد: لا يدخل فيها اليوم الثالث بعد يوم النحر. (نعم ورب هذا البيت) وفي رواية النسائي "أي ورب الكعبة". (لا يصم أحدكم يوم الجمعة) بلفظ النهي، و"يصم" بالجزم، وفي بعض الروايات "لا يصومن" بالنهي والتأكيد، وفي رواية "لا يصوم أحدكم" بلفظ النفي والمراد به النهي.

(لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام ولا تخصوا يوم الجمعة) قال النووي: هكذا وقع في الأصول "تختصوا ليلة الجمعة، ولا تخصوا يوم الجمعة" بإثبات تاء في الأول بين الخاء والصاد، وبحذفها في الثاني، وهما صحيحان. -[فقه الحديث]- أفرد النووي في شرح مسلم باباً لصوم يومي العيدين، وباباً لأيام التشريق، وباباً ليوم الجمعة، وقد جمعتها تحت باب واحد لما بينها من عامل الاشتراك في منع الصوم وحكمته، وتفادياً للتكرار في المعنى العام. أما صوم العيدين: فقد قال النووي: أجمع العلماء على تحريم صوم هذين اليومين بكل حال، سواء صامهما عن نذر، أو عن تطوع، أو عن كفارة أو غير ذلك. اهـ. وقال الحافظ ابن حجر: وفي الحديث تحريم صوم يومي العيد، سواء النذر والكفارة والتطوع والقضاء والتمتع [أي المتمتع في الحج الذي لم يجد هدياً، ووجب عليه صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله] قال: وهو (أي التحريم) بالإجماع. اهـ. وتحريم الصوم شيء، وصحة صوم من يصوم مع الحرمة أو عدم صحته شيء آخر، كما أن تحريم الصوم شيء وانعقاد نذر صومه شيء آخر. ومبنى اختلاف وجهات النظر في ذلك أن النهي عن شيء هل يقتضي عدم صحة المنهي عنه لو وقع؟ أو لا يقتضي عدم الصحة؟ قال الحنفية: إن النهي عن الشيء لا ينفي مشروعية الأصل، ولا يفيد الفساد لو وقع، بل فيه إشارة إلى أن المنهي عنه ممكن الوقوع، وإلا كان النهي عبثاً، فإنك لا تنهى الأعمى عن أن يبصر، وإلا كان أمراً بتحصيل الحاصل، فدل على أن صوم يوم العيد ممكن، وإذا أمكن ثبتت الصحة. ومثل لهذا الرأي بالنهي عن الصلاة في الدار المغصوبة، فإن الصلاة تصح في ذاتها مع الحرمة. وجمهور العلماء على أن النهي عن الشيء لذات الشيء يقتضي شرعاً عدم صحة المنهي عنه لو وقع، فصوم الحائض وصلاتها في وقت حيضها فاسد وباطل، لأن المحل في ذاته غير صالح، والظرف غير أهل لأن تقع فيه هذه العبادة، والعبادة في ذاتها لا تصح في هذا الظرف، والعيد ظرف غير أهل لأن يقع فيه الصوم، فالصوم لا يصح إذا وقع فيه، والفرق بينه وبين الدار المغصوبة أن النهي عن الصلاة في الدار المغصوبة ليس لذات الصلاة، بل للإقامة في الدار المغصوبة مطلقاً، بخلاف صوم يوم العيد، فإن النهي فيه لذات الصوم، فهو يشبه صوم الحائض وصلاتها. والإمكان الذي ذكروه إمكان عقلي، والنزاع في الشرعي، والمنهي عنه شرعاً غير ممكن فعله شرعاً. ذكره الحافظ ابن حجر. ثم قال: ومن الحجج أن النفل المطلق إذا نهي عن فعله لم ينعقد، لأن النهي مطلوب الترك. سواء كان للتحريم أو التنزيه، والنفل مطلوب الفعل، فلا يجتمع الضدان. اهـ.

وبناء على هذا الخلاف لو قدم المسافر وعليه يوم من رمضان فصام يوم العيد صح مع الحرمة عند أبي حنيفة خلافاً للجمهور، ومثل ذلك لو نذر صيام يوم مطلق، فصام يوم العيد. ولو نذر صوم يوم العيد بعينه، كأنه قال: لله علي صوم يوم النحر لا ينعقد نذره، ولا يلزمه صيام أصلاً عند الشافعي والجمهور، وقال أبو حنيفة: ينعقد النذر، ويلزمه صيام يوم غير يوم النحر، فإن صام يوم النحر أجزأه. قال النووي: وخالف أبو حنيفة الناس كلهم في ذلك. ولو نذر صيام يوم الثلاثاء القادم مثلاً، فوافق يوم النحر، أو نذر أن يصوم الإثنين والخميس مثلاً فوافق أحدهما يوم النحر فالأكثرون على أن النذر لا يلزم، وليس عليه قضاء، لأن لفظه لم يتناول القضاء، وإنما يجب قضاء الفرائض بأمر جديد على المختار عند الأصوليين، وهذا أصح قولين للشافعي كما يقول النووي، وعند الحنفية ينعقد النذر ويلزمه القضاء في غير يوم العيد، فإن صام يوم العيد أجزأه. وفي رواية عن مالك يقضي إن نوى القضاء، وإلا فلا، وعن الأوزاعي يقضي إلا إن نوى استثناء العيد. ولما كان حديث ابن عمر [روايتنا الخامسة] في صلب هذه المسألة تنازع مراده من الفتيا العلماء. فقال ابن عبد الملك عن الحنفية: لو كان صومه ممنوعاً منه -لعينه- ما توقف ابن عمر رضي الله عنهما. وقال ابن المنير: يحتمل أن يكون ابن عمر أراد أن كلاً من الدليلين يعمل به، فيصوم يوماً مكان يوم النذر ويترك الصوم يوم العيد. اهـ وهو بذلك يميل إلى القائلين بانعقاد النذر ووجوب القضاء. وذهب جماعة إلى أن مراد ابن عمر عدم انعقاد النذر، وأنه لا يجب عليه صوم، لأن الراجح عند الأصوليين أنه إذا اجتمع الأمر والنهي في محل واحد قدم النهي فكأنه قال: لا تصم. ليس عليك صيام، ولو كان عليه قضاء لذكره، لأنه أمر من نذر أن يمشي في الحج أمره بالركوب عوضاً عن المشي. وعلة وجوب فطر هذين اليومين تفهم من التعبير في الحديث "بيوم فطركم من صيامكم ويوم تأكلون فيه من نسككم" قال الحافظ ابن حجر: قيل: وفائدة وصف اليومين الإشارة إلى العلة في وجوب فطرهما، وهو الفصل من الصوم، وإظهار تمامه، وتحديده، بفطر ما بعده. والآخر لأجل النسك المتقرب بذبحه، ليؤكل منه، ولو شرع صومه لم يكن لمشروعية الذبح فيه معنى، فعبر عن علة التحريم بالأكل من النسك. وأما صوم أيام التشريق فإن روايتنا السابعة والثامنة تصرحان بأنها أيام أكل وشرب، وروى أبو داود والترمذي والنسائي "يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب" قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وأخرج أبو داود وابن المنذر وصححه ابن خزيمة والحاكم عن عمرو بن العاص أنه قال لابنه عبد الله في أيام التشريق: "إنها الأيام التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صومهن، وأمر بفطرهن".

وبهذه الأحاديث استدل من قال: لا يصح صومها، لا لمتمتع ولا لغيره، وهو قول علي وعبد الله بن عمرو بن العاص من السلف، والشافعي في الجديد، قال النووي: وهذا هو الأصح عند الأصحاب، وبه قال أبو حنيفة وداود وابن المنذر، وهو أصح الروايتين عن أحمد. القول الثاني يجوز صيامها للمتمتع الذي لم يجد الهدي، ولا يجوز لغيره، وهو قول مالك والشافعي في القديم، وإليه مال البخاري، واستدلوا بما رواه البخاري عن ابن عمر وعائشة أنهما قالا "لم يرخص في أيام التشريق إلا لمتمتع لم يجد الهدي" وفي رواية للبخاري عنهما "قالا الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحج إلى يوم عرفة، فإن لم يجد هدياً ولم يصم صام أيام منى". القول الثالث: يجوز صيامها للمتمتع ولصوم له سبب، من قضاء أو نذر أو كفارة، أو تطوع له سبب، أما تطوع لا سبب له فلا يجوز، وهو قول لبعض الشافعية. القول الرابع: يجوز صيامها مطلقاً، للمتمتع وغيره بسبب وبغير سبب. رواه ابن المنذر وغيره عن الزبير بن العوام وأبي طلحة من الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين. وأما صوم يوم الجمعة: فإن روايتنا التاسعة والعاشرة والحادية عشرة تنهي عن إفراد يوم الجمعة بصوم والاستثناء في العاشرة والحادية عشرة يفيد الإطلاق في الرواية التاسعة، ويزيد هذا القيد اعتباراً ما رواه البخاري عن جويرية بنت الحارث -رضي الله عنها- "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة، فقال: أصمت أمس؟ قالت: لا. قال: تريدين أن تصومي غداً؟ قالت: لا. قال: فافطري". وللفقهاء في حكم صوم يوم الجمعة أقوال: القول الأول: منع إفراد يوم الجمعة بصوم، مما يشعر بالتحريم -نقله أبو الطيب الطبري عن أحمد وابن المنذر وبعض الشافعية، حيث قال ابن المنذر: ثبت النهي عن صوم يوم الجمعة، كما ثبت النهي عن صوم يوم العيد، وزاد يوم الجمعة الأمر بفطر من أراد إفراده بالصوم. وقال أبو جعفر الطبري: يفرق بين العيد والجمعة بأن الإجماع منعقد على تحريم صوم يوم العيد ولو صام قبله أو بعده، بخلاف يوم الجمعة فالإجماع منعقد على جواز صومه لمن صام قبله أو بعده. ونقل ابن المنذر وابن حزم منع صومه عن علي وأبي هريرة وسلمان وأبي ذر قال ابن حزم: لا نعلم مخالفاً لهم من الصحابة. القول الثاني: قول الجمهور، وأنه يكره إفراد يوم الجمعة بالصوم، إلا أن يوافق عادة له، فإن وصله بيوم قبله أو بعده، أو وافق عادة له بأن نذر أن يصوم يوم شفاء مريضه أبداً، فوافق يوم الجمعة لم يكره، فالنهي للتنزيه. القول الثالث: قال مالك وأبو حنيفة: لا يكره إفراد يوم الجمعة بصوم مطلقاً، ولم يوافقهما كثير من أصحابهما. أما مالك فقال في الموطأ: لم أسمع أحداً من أهل العلم والفقه، ومن به يقتدى نهى عن صيام يوم الجمعة، وصيامه حسن، وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه، وأراه كان يتحراه.

قال النووي: فهذا الذي قاله هو الذي رآه، وقد رأى غيره خلاف ما رأى هو، والسنة مقدمة على ما رآه هو وغيره. وقد ثبت النهي عن صوم يوم الجمعة، فيتعين القول به، ومالك معذور، فإنه لم يبلغه، قال الداودي من أصحاب مالك: لم يبلغ مالكاً هذا الحديث، ولو بلغه لم يخالفه. اهـ. وحاول عياض أن يبرئ مالكاً من هذا الرأي، فزعم أن كلام مالك يؤخذ منه النهي عن إفراده، لأنه كره أن يخص يوم من الأيام بالعبادة، فيكون له في المسألة روايتان. وقال عبد الوهاب من المالكية يدافع عن رأي مالك: يوم لا يكره صومه مع غيره فلا يكره وحده، وقد عاب ابن العربي المالكي هذا القول لأنه قياس مع وجود النص. وأما الحنفية فقد استدلوا بحديث ابن مسعود "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، وقلما كان يفطر يوم الجمعة" حسنه الترمذي. قال الحافظ ابن حجر: وليس فيه حجة، لأنه يحتمل أن يريد: كان لا يتعمد فطره إذا وقع في الأيام التي كان يصومها، ولا يضاد ذلك كراهة إفراده بالصوم، جمعاً بين الحديثين. قال: ومنهم من عد هذا من الخصائص، وليس بجيد، لأنها لا تثبت بالاحتمال. اهـ. القول الرابع: لا يكره إفراد يوم الجمعة بصوم إلا لمن أضعفه صومه عن العبادة التي تقع فيه من الصلاة والدعاء والذكر. نقله المزني عن الشافعي. والراجح بالأدلة قول الجمهور. والله أعلم. وقد تكلم العلماء في الحكمة من النهي عن إفراد يوم الجمعة بصوم، وكل التمس حكمة لا تخلو عن نظر، قال الحافظ ابن حجر: اختلف في سبب النهي عن إفراده على أقوال: أحدها: لكونه يوم عيد، والعيد لا يصام، واستشكل ذلك بالإذن بصيامه مع غيره، وأجاب ابن القيم وغيره بأن شبهه بالعيد لا يستلزم استواءه معه من كل جهة، ومن صام معه غيره انتفت عنه صورة التحري بالصوم. ثانيها: لئلا يضعف عن العبادة، وهذا الذي اختاره النووي، وتعقب ببقاء المعنى المذكور مع صوم غيره معه، وأجاب بأنه يحصل له بفضيلة اليوم الذي قبله أو بعده جبر ما يحصل يوم صومه من فتور أو تقصير. قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر، فإن الجبران لا ينحصر في الصوم، بل يحصل بجميع أفعال الخير، فيلزم منه جواز إفراده لمن عمل فيه خيراً كثيراً يقوم مقام صيام يوم قبله أو بعده، كمن أعتق فيه رقبة مثلاً، ولا قائل بذلك، وأيضاً فكأن النهي يختص بمن يخشى عليه الضعف، لا من يتحقق القوة، قال: ويمكن الجواب عن هذا بأن المظنة أقيمت مقام المئنة، كما في جواز الفطر في السفر لمن يشق عليه. ثالثها: خوف المبالغة في تعظيمه، فيفتتن به كما افتتن اليهود بالسبت قال الحافظ: وهو منتقض بثبوت تعظيمه بغير الصيام، وأيضاً فاليهود لا يعظمون السبت بالصيام، فلو كان الملحوظ ترك موافقتهم لتحتم صومه لأنهم لا يصومونه.

رابعها: خوف اعتقاد وجوبه، وهو منتقض بصوم الإثنين والخميس. خامسها: خشية أن يفرض عليهم، كما خشى صلى الله عليه وسلم من قيامهم الليل لذلك، قال المهلب: وهو منتقض بإجازة صومه مع غيره، وبأنه لو كان كذلك لجاز بعده صلى الله عليه وسلم، لارتفاع السبب. سادسها: مخالفة النصارى، لأنه يجب عليهم صومه، ونحن مأمورون بمخالفتهم. قال: وهو ضعيف. قال: وأقوى الأقوال وأولاها بالصواب أولها، ورد فيه صريحاً حديثان. أحدهما رواه الحاكم وغيره عن أبي هريرة مرفوعاً "يوم الجمعة يوم عيد، فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم، إلا أن تصوموا قبله أو بعده"، والثاني رواه ابن أبي شيبة بإسناد حسن عن علي، وقال "من كان منكم متطوعاً عن الشهر فليصم يوم الخميس، ولا يصم يوم الجمعة، فإنه يوم طعام وشراب وذكر". -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - من قوله في الرواية الأولى "فجاء فصلى ثم انصرف فخطب" يؤخذ تقديم صلاة العيد على خطبته. 2 - وفيه تعليم الإمام في خطبته ما يتعلق بذلك العيد من أحكام الشرع من مأمور به ومنهي عنه. 3 - ومن قول قزعة لأبي سعيد: "آنت سمعت هذا" مدى استيثاق التابعين من الأحاديث. 4 - ومن جواب أبي سعيد وثوق الرواة وعنايتهم بنقل مروياتهم. 5 - ومن جواب ابن عمر للرجل تورع ابن عمر عن قطع الفتيا وبت الحكم عند تعارض الأدلة. 6 - ومن ملحق الرواية السابعة استحباب الإكثار من ذكر الله في أيام التشريق. 7 - ومن الرواية التاسعة جواز الحلف من غير استحلاف، لتأكيد الأمر. 8 - وإضافة الربوبية إلى المخلوقات العظيمة، تنويها بتعظيمها. 9 - والاكتفاء في الجواب بنعم، من غير ذكر الأمر المفسر بها. 10 - وعن الرواية العاشرة قال النووي: فيها النهي الصريح عن تخصيص ليلة الجمعة بصلاة من بين الليالي، واحتج به العلماء على كراهة هذه الصلاة المبتدعة التي تسمى الرغائب -قاتل الله واضعها ومخترعها- فإنها بدعة منكرة من البدع التي هي ضلالة وجهالة، وقد صنف جماعة من الأئمة مصنفات نفيسة في تقبيحها وتضليل مصليها ومبتدعها. والله أعلم

(310) باب فدية الصوم وقضائه

(310) باب فدية الصوم وقضائه 2344 - عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} كان من أراد أن يفطر ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها. 2345 - عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أنه قال: كنا في رمضان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من شاء صام ومن شاء أفطر فافتدى بطعام مسكين، حتى أنزلت هذه الآية {فمن شهد منكم الشهر فليصمه.} 2346 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان يكون علي الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان الشغل من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو برسول الله صلى الله عليه وسلم. 2347 - عن يحيى بن سعيد بهذا الإسناد غير أنه قال وذلك لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2348 - عن يحيى بن سعيد بهذا الإسناد وقال فظننت أن ذلك لمكانها من النبي صلى الله عليه وسلم يحيى يقوله. 2349 - عن يحيى بهذا الإسناد ولم يذكرا في الحديث الشغل برسول الله صلى الله عليه وسلم. 2350 - عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إن كانت إحدانا لتفطر في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فما تقدر على أن تقضيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأتي شعبان. 2351 - عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من مات وعليه صيام صام عنه وليه".

2352 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أمي ماتت وعليها صوم شهر. فقال "أرأيت لو كان عليها دين أكنت تقضينه؟ " قالت: نعم. قال "فدين الله أحق بالقضاء". 2353 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ فقال "لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟ " قال: نعم. قال "فدين الله أحق أن يقضى" قال: سليمان فقال: الحكم وسلمة بن كهيل جميعاً ونحن جلوس حين حدث مسلم بهذا الحديث، فقالا: سمعنا مجاهداً يذكر هذا عن ابن عباس. 2354 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها؟ قال "أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه أكان يؤدي ذلك عنها؟ " قالت: نعم. قال "فصومي عن أمك". 2355 - عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: بينا أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتته امرأة، فقالت: إني تصدقت على أمي بجارية وإنها ماتت. قال: فقال "وجب أجرك وردها عليك الميراث" قالت: يا رسول الله إنه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها؟ قال "صومي عنها" قالت: إنها لم تحج قط أفأحج عنها؟ قال "حجي عنها". 2356 - عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث ابن مسهر غير أنه قال صوم شهرين. 2357 - عن ابن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر بمثله وقال صوم شهر.

2358 - عن سفيان بهذا الإسناد، وقال صوم شهرين. 2359 - عن سليمان بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه، قال: أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديثهم، وقال صوم شهر. -[المعنى العام]- من حكمة الله تعالى ورحمته بأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن تدرج بها في تشريع الأمور التي تشق عليها، تدرج بها من الأخف إلى الأشد، ثم كان من حكمته جل شأنه أن يتدرج بها أحياناً من الأشد إلى الأخف تيسيراً عليها وإشعاراً بفضله ومنته، وكان صيام رمضان من التشريعات التي لحقها الرخصة والتيسير أولاً، ثم التشديد ثانياً ثم التخفيف ثالثاً. لقد أنزل تبارك اسمه وجلت حكمته قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياماً معدودات فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيراً فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون} [البقرة: 183، 184]. ففرض صيام شهر رمضان على التخيير بين الصوم والإطعام لمن قدر على الصيام، وإن كان الصوم خيراً من الإطعام، فكان من أراد الصوم صام، ومن أراد الفطر أفطر وأطعم عن كل يوم مسكيناً. ومن المعلوم أن من أهم حكم الصوم ترقيق قلوب الأغنياء على الفقراء، فكان البديل محققاً هذه الغاية وجمعت بين البدل والمبدل عنه حكمة التشريع. وكانت بداية الإمساك ليلاً للصيام من حين ينام المسلم أو من حين يصلي العشاء الآخرة؛ أيهما يقع، فلا يحل له بعده أن يأكل أو يشرب أو يجامع حتى مغرب اليوم التالي. فكان هنا تخفيف بالتخيير، وتشديد بزمن الإمساك، ثم طرأ على التخفيف تشديد، وصار الصوم حتماً واجباً لمن قدر عليه ممن لا عذر له وانتهت رخصة الإطعام بقوله تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة: 185]. وطرأ على التشديد تخفيف زمن الإمساك وجعله من الفجر؛ بقوله تعالى: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم

وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ... } [البقرة: 187]. وكان هناك تخفيف آخر منذ البداية على أصحاب الأعذار بقوله: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر} واشتمل هذا التخفيف على تخفيف آخر، وهو أن البدل والقضاء على التراخي، لا على الفور، لكنه تراخ إلى أجل، وتوسعة لكن بحدود، وحدها شعبان، فلا يؤجل قضاء صوم رمضان إلى رمضان الآخر، ولذا كانت عائشة وأمهات المؤمنين يقضين ما أفطرنه من أيام رمضان [بسبب الحيض] في شهر شعبان، وأسبغ الله فضله ورحمته بإحسان آخر، فأذن لأقارب من مات وعليه صيام واجب أن يقضوا عنه بعد موته ما كان عليه من صيام في حال حياته، بصيامهم عنه، أو بإطعامهم مسكيناً عن كل يوم وجب عليه ولم يصمه، فيقضي الأقارب بذلك عن ميتهم دين الله تعالى، كما يقضون عن ميتهم دين المخلوقات، فيفكون بذلك أسر ميتهم، ويدفعون عنه ترك الواجب، ويخلصونه -إن شاء الله- من العذاب الأليم. فلله الحمد على ما أوجب؛ وله الحمد على ما رخص، وله الحمد على عفوه ورحمته. -[المباحث العربية]- (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) صدر الآيات {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياماً معدودات فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} فالضمير في "يطيقونه" للصوم، وقراءة العامة بضم الياء وكسر الطاء مع المد، من أطاق، فيصير التقدير وعلى الذين يطيقون الصيام فدية، والفدية لا تجب على المطيق إذا صام، فكان المراد وعلى الذين يطيقون الصيام إذا أفطروا فدية، وكان هذا أول الأمر ثم نسخ، كما هو ظاهر من روايتنا الأولى والثانية. وهناك من زعم على هذه القراءة أن "لا" محذوفة، وأن الأصل: "وعلى الذين لا يطيقونه" فدية، فالآية في العاجز والشيخ والكبير ومن يشق عليه الصوم، ولا نسخ، ومنهم من زعم أن المعنى يصومون بجهدهم وطاقتهم، على أساس أن الطاقة القدرة مع الشدة والمشقة، ومنهم من زعم أن الهمزة للسلب، أي الذين سلبت طاقتهم. قال الزمخشري: وقرأ ابن عباس "يطوقونه" [بضم الياء وفتح الطاء وتشديد الواو المفتوحة مبني للمجهول] من الطوق أي بمعنى الطاقة أو القلادة، أي يكلفونه، أو يتقلدونه، وعن ابن عباس "يتطوقونه" بمعنى يتكلفونه أو يتقلدونه، و"يطوقونه" بإدغام التاء في الطاء. اهـ والمعنى على قراءة ابن عباس: وعلى الذين يتجشمونه ويتكلفونه بمشقة فدية إذا أفطروا، فالآية في العاجز والشيخ الكبير ومن يشق عليه الصوم، ولا نسخ. قال الألوسي: والحق أن كلاً من القراءات يمكن حملها على ما يحتمل النسخ وعلى ما لا يحتمله.

والفدية الجزاء والبدل، من قولك: فديت الشيء بالشيء، أي أبدلت هذا بهذا، وقراءة العامة "فدية" بالتنوين، وقوله: "طعام مسكين" بيان الفدية، أو بدل منها، قال الألوسي: وقرأ نافع وابن عامر بإضافة "فدية" إلى "طعام مساكين" وجمع المسكين، لأنه جمع في "وعلى الذين يطيقونه" فقابل الجمع بالجمع، فاقتضى القسمة آحاداً، والإضافة حينئذ من إضافة الشيء إلى جنسه، كخاتم فضة. اهـ. (كان من أراد أن يفطر ويفتدي) الخبر محذوف، تقديره أفطر وافتدى وفي رواية البخاري "فكان من أطعم كل يوم مسكيناً ترك الصوم ممن يطيقه". (حتى نزلت الآية التي بعدها) في الرواية الثانية حتى أنزلت هذه الآية "فمن شهد منكم الشهر فليصمه". (كان يكون على الصوم) اسم "كان" ضمير الشأن والحال، أي كان الحال والشأن كذا وكذا، وفائدة اجتماع "كان" بالماضي مع "يكون" بصيغة المستقبل الدلالة على تحقق الفعل وتكراره. (فما استطيع أن أقضيه) أي أن أؤديه، قال تعالى: {فإذا قضيت الصلاة} [الجمعة: 10]. أي أديت. (الشغل من رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال النووي: هكذا هو في النسخ "الشغل" بالألف واللام، مرفوع، أي يمنعني الشغل. اهـ أي هو خبر لمبتدأ محذوف، تقدره: المانع الشغل. وظاهر هذه الرواية أن هذه الجملة من كلام عائشة رضي الله عنها، لكن رواية البخاري "فما أستطيع أن أقضي إلا في شعبان. قال يحيى: الشغل من النبي صلى الله عليه وسلم أو بالنبي صلى الله عليه وسلم" فدلت على أن هذه الجملة مدرجة في روايتنا وهي من كلام يحيى، وملحق روايتنا يؤكد ذلك، كما يؤكده أن أبا داود والنسائي وسعيد بن منصور والإسماعيلي أخرجوه بدون هذه الزيادة. وجرى النووي على أنها من كلام عائشة، فقال: أي يمنعني الشغل برسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعني بالشغل وبقولها في الحديث الثاني "فما تقدر على أن تقضيه" أن كل واحدة منهن كانت مهيئة نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مترصدة لاستمتاعه في جميع أوقاتها إن أراد ذلك، ولا تدري متى يريده، وإنما كانت تصومه في شعبان لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم معظم شعبان، فلا حاجة له فيهن حينئذ في النهار، ولأنه إذا جاء شعبان يضيق قضاء رمضان، فلا يجوز تأخيره عنه. اهـ. (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) قال الحافظ ابن حجر: "من مات" عام في المكلفين، لقرينة "وعليه صيام" وقوله "صام عنه وليه" خبر بمعنى الأمر، تقديره فليصم عنه وليه، وليس هذا الأمر للوجوب عند الجمهور. اهـ وسيأتي الخلاف في ذلك في فقه الحديث. (أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم) في الرواية السابعة "جاء رجل" وفي السادسة والسابعة والتاسعة

"صوم شهر" وفي ملحق التاسعة "صوم شهرين" قال النووي لا تعارض بينها، فسأل تارة رجل، وتارة امرأة، وتارة عن شهر، وتارة عن شهرين. اهـ. وقال الحافظ ابن حجر: ادعى بعضهم أن هذا الحديث اضطرب فيه الرواة، والذي يظهر أنهما قصتان، والاختلاف في كون السائل رجلاً أو امرأة، والمسئول عنه أختاً أو أماً لا يقدح في موضع الاستدلال من الحديث لأن الغرض منه مشروعية الصوم أو الحج عن الميت، ولا اضطراب في ذلك. اهـ. (تصدقت على أمي بجارية وإنها ماتت) أي وجاريتي في ملكها، وليس لها وارث غيري، فهل تعود الجارية إلى ملكي بالإرث؟ وهل لي حينئذ أجر الصدقة؟ . (وجب أجرك وردها عليك الميراث) أي ثبت لك أجر الصدقة وإن عادت إليك بالميراث. -[فقه الحديث]- تتناول هذه الأحاديث ثلاث مسائل: فدية الصوم ومقدارها وعلى من هي؟ وقضاء صوم رمضان لمن أفطر بعذر، وقضاء الصوم عن الميت. أما عن الفدية: فالجمهور على أنها مد من طعام لكل يوم، جنسه جنس زكاة الفطر، ومصرفها الفقراء والمساكين، وعند الحنفية نصف صاع من بر، أو صاع من غيره. الجمهور على أنها في أول تشريع الصوم كانت رخصة للقادر على الصوم من شاء صام، ومن شاء أفطر وأخرج الفدية، ثم نسخت هذه الرخصة عن القادر على الصوم ومن لا عذر له، وبقيت للشيخ الهرم والمريض مرضاً لا يرجى برؤه، وقال جماعة من السلف ومالك وأبو ثور وداود: جميع الإطعام منسوخ، وليس على الكبير إطعام، واستحبه مالك للكبير. وأما من أفطر رمضان أو بعضه وكان معذوراً في تأخير القضاء، بأن استمر مرضه أو سفره جاز له التأخير مادام عذره، ولو في سنين، ولا تلزمه الفدية بهذا التأخير، وإن تكررت رمضانات، وإنما عليه القضاء فقط، لأنه يجوز تأخير الأداء بهذا العذر، فتأخير القضاء أولى بالجواز. ولو أخر القضاء إلى رمضان آخر بلا عذر أثم، ولزمه صوم رمضان الحاضر، ويلزمه بعد ذلك قضاء رمضان الفائت، ويلزمه بمجرد دخول رمضان الثاني عن كل يوم من الفائت مد من طعام مع القضاء، ولو مضى عليه رمضانات دون أن يقضى فهل تتكرر الفدية؟ خلاف، هذا مذهب الشافعية وبه قال مالك والثوري وأحمد وإسحاق، وقال أبو حنيفة وداود: يقضي ولا فدية عليه. وأما عن قضاء الصوم عن الميت: فظاهر روايات الباب جوازه، وبه قال الشافعي في القديم والليث بن سعد وداود وابن حزم، سواء كان عن صيام رمضان أو عن كفارة أو عن نذر، قال النووي: وهو الصحيح المختار الذي نعتقده، وهو الذي صححه محققو الصحابة

الجامعين بين الفقه والحديث، لقوة الأحاديث الصحيحة والصريحة، وظاهر القديم تخيير الولي بين الصيام والإطعام. وذهب مالك والشافعي في الجديد وأبو حنيفة إلى أنه لا يصوم أحد عن أحد، وإنما يجوز الإطعام عنه مطلقاً عند الشافعي، وعند مالك، وأبي حنيفة يطعم عنه إذا أوصى به، فإن لم يوص لم يطعم عنه. وذهب أحمد إلى التفريق بين صوم رمضان وصوم النذر، فيصوم عنه وليه ما عليه من نذر، ويطعم عنه عن كل يوم من رمضان مداً. واختلف الذين أجازوا الصوم عن الميت فيمن يجوز له أن يصوم عنه، فقيل: كل قريب، وقيل: الوارث خاصة، وقيل عصبته، وقال النووي: ولو صام عنه أجنبي بإذن الولي صح، وإلا فلا. ولا يجب على الولي الصوم عنه، بل يستحب، وعند بعض الظاهرية يجب على أوليائه، كلهم أو بعضهم. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - أخذ من الحديث الثالث والرابع أن عائشة رضي الله عنها -كانت لا تتطوع بشيء من الصيام، لا في عشر ذي الحجة ولا في عاشوراء ولا غير ذلك. قال الحافظ ابن حجر: وهو مبني على أنها كانت لا ترى جواز صيام للتطوع لمن عليه دين من رمضان، ومن أين لقائله ذلك؟ . 2 - وفيهما دليل على جواز تأخير قضاء رمضان مطلقاً، وأن قضاء رمضان موسع، لأن للحديث حكم الرفع، لأن الظاهر اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك مع توفر دواعي أزواجه على السؤال منه عن أمر الشرع، فلولا أن ذلك كان جائزاً لم تواظب عائشة عليه. 3 - وفيهما أنه لا يجوز تأخير القضاء بدون عذر حتى يدخل رمضان آخر، وذلك من حرصها على الأداء في شعبان. 4 - وفيهما أن حق الزوج من العشرة والخدمة يقدم على سائر الحقوق ما لم يكن فرضاً محصوراً في الوقت. 5 - قال الحافظ ابن حجر: وظاهر صنيع عائشة يقتضي إيثار المبادرة إلى القضاء لولا ما يمنعها من الشغل، فيشعر بأن من كان بغير عذر لا ينبغي له التأخير. 6 - وعن أحاديث سؤال المرأة قال النووي: فيها جواز سماع كلام المرأة الأجنبية في الاستفتاء ونحوه من مواضع الحاجة. 7 - وصحة القياس، لقوله صلى الله عليه وسلم: "فدين الله أحق بالقضاء". 8 - وفيها قضاء الدين عن الميت. وقد أجمعت الأمة عليه، ولا فرق بين أن يقضيه عنه وارث أو غيره، فيبرأ به بلا خلاف.

9 - وفيها دليل لمن يقول: إذا مات وعليه دين لله تعالى، ودين للآدمي وضاق ماله، قدم دين الله، لقوله صلى الله عليه وسلم "فدين الله أحق بالقضاء" وفي المسألة ثلاثة أقوال للشافعي. ثالثها: هما سواء. فيقسم بينهما. 10 - وأنه يستحب للمفتي أن ينبه على وجه الدليل إذا كان بالسائل حاجة، أو يترتب عليه مصلحة. 11 - وأن من تصدق بشيء ثم ورثه لم يكره له أخذه والتصرف فيه، بخلاف ما إذا أراد شراءه، فإنه يكره، لحديث فرس عمر رضي الله عنه. 12 - وفي الحديث التاسع دلالة ظاهرة لمذهب الشافعي والجمهور أن النيابة في الحج جائزة عن الميت والعاجز الميئوس من برئه. قال النووي: واعتذر القاضي عياض عن مخالفة مذهبهم لهذه الأحاديث في الصوم عن الميت والحج بأنه مضطرب، وهذا عذر باطل، وليس في الحديث اضطراب. اهـ. والله أعلم

فتح المنعم شرح صحيح مسلم تابع كتاب الصوم - كتاب الاعتكاف - كتاب الحج - كتاب النكاح - كتاب الرضاع الجزء الخامس الأستاذ الدكتور موسى شاهين لاشين دار الشروق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

فتح المنعم شرح صحيح مسلم 5 -

جميع حقوق النشر والطبع محفوظة الطبعة الأولى 1423 - هـ - 2002 م دار الشروق القاهرة: 8 شارع سيبويه المصري -رابعة العدوية- مدينة نصر ص. ب.: 33 البانوراما -تليفون: 4023399 - فاكس: 4037567 (202) e-mail: dar@ shorouk.com - www.shorouk.com بيروت: ص. ب.: 8064 - هاتف: 315859 - 817213 - فاكس: 315859 1 (961)

تابع كتاب الصوم

(311) باب فضل الصيام والتطوع به

(311) باب فضل الصيام والتطوع به 2360 - عن أبي هريرة رضي الله عنه (قال أبو بكر بن أبي شيبة رواية وقال عمرو يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم وقال زهير عن النبي صلى الله عليه وسلم) قال "إذا دعي أحدكم إلى طعام وهو صائم، فليقل إني صائم". 2361 - عن أبي هريرة رضي الله عنه رواية قال "إذا أصبح أحدكم يوماً صائماً فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل إني صائم إني صائم". 2362 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "قال الله عز وجل كل عمل ابن آدم له إلا الصيام هو لي وأنا أجزي به. فوالذي نفس محمد بيده لخلفة فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك". 2363 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الصيام جنة". 2364 - عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قال الله عز وجل كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به والصيام جنة. فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يسخب. فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم. والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك. وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه". 2365 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كل عمل ابن آدم يضاعف. الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف. قال الله عز وجل إلا الصوم فإنه لي وأنا

أجزي به يدع شهوته وطعامه من أجلي. للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه. ولخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك". 2366 - عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله عز وجل يقول إن الصوم لي وأنا أجزي به. إن للصائم فرحتين: إذا أفطر فرح، وإذا لقي الله فرح. والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك". 2367 - عن ضرار بن مرة (وهو أبو سنان) بهذا الإسناد قال: وقال "إذا لقي الله فجزاه فرح". 2368 - عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن في الجنة باباً يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل معهم أحد غيرهم. يقال أين الصائمون؟ فيدخلون منه، فإذا دخل آخرهم أغلق فلم يدخل منه أحد". 2369 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً". 2370 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً". 2371 - عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم "يا عائشة هل عندكم شيء؟ " قالت: فقلت يا رسول الله ما عندنا شيء. قال "فإني صائم" قالت: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهديت لنا هدية (أو جاءنا زور) قالت: فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: يا رسول الله أهديت لنا هدية (أو جاءنا زور) وقد خبأت لك شيئاً. قال "ما هو؟ " قلت: حيس. قال "هاتيه" فجئت به فأكل، ثم قال "قد كنت أصبحت

صائماً" قال: طلحة فحدثت مجاهداً بهذا الحديث. فقال ذاك بمنزلة الرجل يخرج الصدقة من ماله فإن شاء أمضاها وإن شاء أمسكها. 2372 - عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال "هل عندكم شيء؟ " فقلنا: لا. قال "فإني إذن صائم" ثم أتانا يوماً آخر، فقلنا: يا رسول الله أهدي لنا حيس. فقال "أرينيه فلقد أصبحت صائماً" فأكل. 2373 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه". 2374 - عن عبد الله بن شقيق قال: قلت لعائشة رضي الله عنها هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهراً معلوماً سوى رمضان؟ قالت: والله إن صام شهراً معلوماً سوى رمضان حتى مضى لوجهه ولا أفطره حتى يصيب منه. 2375 - عن عبد الله بن شقيق قال: قلت لعائشة رضي الله عنها أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم شهراً كله؟ قالت: ما علمته صام شهراً كله إلا رمضان، ولا أفطره كله حتى يصوم منه حتى مضى لسبيله صلى الله عليه وسلم. 2376 - عن عبد الله بن شقيق (قال حماد وأظن أيوب قد سمعه من عبد الله بن شقيق) قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن صوم النبي صلى الله عليه وسلم. فقالت: كان يصوم حتى نقول قد صام قد صام ويفطر حتى نقول قد أفطر قد أفطر. قالت: وما رأيته صام شهراً كاملاً منذ قدم المدينة إلا أن يكون رمضان. 2377 - عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم

يصوم حتى نقول لا يفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم. وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان وما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان. 2378 - عن أبي سلمة قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان يصوم حتى نقول قد صام، ويفطر حتى نقول قد أفطر. ولم أره صائماً من شهر قط أكثر من صيامه من شعبان. كان يصوم شعبان كله. كان يصوم شعبان إلا قليلاً. 2379 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشهر من السنة أكثر صياماً منه في شعبان وكان يقول "خذوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لن يمل حتى تملوا" وكان يقول "أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل". 2380 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما صام رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً كاملاً قط غير رمضان. وكان يصوم إذا صام حتى يقول القائل لا والله لا يفطر. ويفطر إذا أفطر حتى يقول القائل لا والله لا يصوم. 2381 - عن أبي بشر بهذا الإسناد، وقال شهراً متتابعاً منذ قدم المدينة. 2382 - عن عثمان بن حكيم الأنصاري قال: سألت سعيد بن جبير عن صوم رجب؟ ونحن يومئذ في رجب. فقال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم. 2383 - عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم حتى يقال قد صام قد صام، ويفطر حتى يقال قد أفطر قد أفطر.

2384 - عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يقول لأقومن الليل ولأصومن النهار ما عشت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "آنت الذي تقول ذلك؟ " فقلت له: قد قلته يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فإنك لا تستطيع ذلك. فصم وأفطر. ونم وقم. وصم من الشهر ثلاثة أيام، فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر" قال: قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك. قال "صم يوماً وأفطر يومين" قال: قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك يا رسول الله. قال "صم يوماً وأفطر يوماً وذلك صيام داود (عليه السلام) وهو أعدل الصيام" قال: قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا أفضل من ذلك" قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: لأن أكون قبلت الثلاثة الأيام التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي من أهلي ومالي. 2385 - عن يحيى قال انطلقت أنا وعبد الله بن يزيد حتى نأتي أبا سلمة، فأرسلنا إليه رسولاً فخرج علينا وإذا عند باب داره مسجد. قال: فكنا في المسجد حتى خرج إلينا. فقال: إن تشاءوا أن تدخلوا وإن تشاءوا أن تقعدوا ها هنا: قال: فقلنا لا بل نقعد ها هنا فحدثنا. قال: حدثني عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: كنت أصوم الدهر وأقرأ القرآن كل ليلة. قال: فإما ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم وإما أرسل إلي فأتيته. فقال لي "ألم أخبر أنك تصوم الدهر وتقرأ القرآن كل ليلة؟ " فقلت: بلى يا نبي الله ولم أرد بذلك إلا الخير. قال "فإن بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام" قلت: يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك. قال "فإن لزوجك عليك حقاً ولزورك عليك حقاً ولجسدك عليك حقاً" قال "فصم صوم داود نبي الله (صلى الله عليه وسلم) فإنه كان أعبد الناس" قال: قلت: يا نبي الله وما صوم داود؟ قال "كان يصوم يوماً ويفطر يوماً" قال "واقرأ القرآن في كل شهر" قال: قلت: يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك قال "فاقرأه في كل عشرين" قال: قلت: يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك قال "فاقرأه في كل عشر" قال: قلت: يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك. قال "فاقرأه في كل سبع ولا تزد على ذلك فإن لزوجك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً، ولجسدك عليك حقاً" قال: فشددت فشدد علي. قال: وقال لي النبي صلى الله عليه وسلم "إنك لا تدري

لعلك يطول بك عمر" قال: فصرت إلى الذي قال لي النبي صلى الله عليه وسلم. فلما كبرت وددت أني كنت قبلت رخصة نبي الله صلى الله عليه وسلم. 2386 - عن يحيى بن أبي كثير بهذا الإسناد وزاد فيه بعد قوله "من كل شهر ثلاثة أيام": "فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها فذلك الدهر كله". وقال في الحديث قلت وما صوم نبي الله داود؟ قال "نصف الدهر" ولم يذكر في الحديث من قراءة القرآن شيئاً، ولم يقل "وإن لزورك عليك حقاً" ولكن قال "وإن لولدك عليك حقاً". 2387 - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "اقرأ القرآن في كل شهر" قال: قلت إني أجد قوة. قال "فاقرأه في عشرين ليلة" قال: قلت إني أجد قوة. قال "فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك". 2388 - عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا عبد الله لا تكن بمثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل". 2389 - عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أني أصوم أسرد وأصلي الليل. فإما أرسل إلي وإما لقيته. فقال "ألم أخبر أنك تصوم ولا تفطر وتصلي الليل؟ فلا تفعل؛ فإن لعينك حظاً، ولنفسك حظاً، ولأهلك حظاً، فصم وأفطر، وصل ونم، وصم من كل عشرة أيام يوماً ولك أجر تسعة" قال إني أجدني أقوى من ذلك يا نبي الله. قال "فصم صيام داود (عليه السلام) " قال: وكيف كان داود يصوم يا نبي الله؟ قال "كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ولا يفر إذا لاقى" قال: من لي بهذه؟ يا نبي الله (قال عطاء فلا أدري كيف ذكر صيام الأبد) فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لا صام من صام الأبد. لا صام من صام الأبد. لا صام من صام الأبد".

2390 - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا عبد الله بن عمرو، إنك لتصوم الدهر وتقوم الليل. وإنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين ونهكت. لا صام من صام الأبد. صوم ثلاثة أيام من الشهر صوم الشهر كله" قلت: فإني أطيق أكثر من ذلك. قال "فصم صوم داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ولا يفر إذا لاقى". 2391 - عن حبيب بن أبي ثابت بهذا الإسناد وقال "ونفهت النفس". 2392 - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألم أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار؟ " قلت إني أفعل ذلك. قال "فإنك إذا فعلت ذلك هجمت عيناك ونفهت نفسك. لعينك حق، ولنفسك حق، ولأهلك حق. قم ونم. وصم وأفطر". 2393 - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أحب الصيام إلى الله صيام داود. وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود (عليه السلام)، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه. وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً". 2394 - عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أحب الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم نصف الدهر. وأحب الصلاة إلى الله عز وجل صلاة داود (عليه السلام) كان يرقد شطر الليل ثم يقوم ثم يرقد آخره يقوم ثلث الليل بعد شطره". قال: قلت لعمرو بن دينار أعمرو بن أوس كان يقول: يقوم ثلث الليل بعد شطره؟ قال: نعم. 2395 - عن أبي قلابة قال: أخبرني أبو المليح. قال: دخلت مع أبيك على عبد الله بن عمرو فحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر له صومي، فدخل علي، فألقيت له وسادة من

أدم حشوها ليف، فجلس على الأرض وصارت الوسادة بيني وبينه، فقال لي "أما يكفيك من كل شهر ثلاثة أيام؟ " قلت: يا رسول الله. قال "خمساً" قلت: يا رسول الله. قال "سبعاً" قلت: يا رسول الله. قال "تسعاً" قلت: يا رسول الله. قال "أحد عشر" قلت: يا رسول الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لا صوم فوق صوم داود شطر الدهر، صيام يوم وإفطار يوم". 2396 - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له "صم يوماً ولك أجر ما بقي" قال: إني أطيق أكثر من ذلك. قال "صم يومين ولك أجر ما بقي" قال: إني أطيق أكثر من ذلك. قال "صم ثلاثة أيام ولك أجر ما بقي" قال: إني أطيق أكثر من ذلك. قال "صم أربعة أيام ولك أجر ما بقي" قال: إني أطيق أكثر من ذلك. قال "صم أفضل الصيام عند الله صوم داود (عليه السلام) كان يصوم يوماً ويفطر يوماً". 2397 - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا عبد الله بن عمرو بلغني أنك تصوم النهار وتقوم الليل. فلا تفعل؛ فإن لجسدك عليك حظاً، ولعينك عليك حظاً، وإن لزوجك عليك حظاً. صم وأفطر. صم من كل شهر ثلاثة أيام فذلك صوم الدهر" قلت: يا رسول الله إن بي قوة. قال "فصم صوم داود (عليه السلام) صم يوماً وأفطر يوماً". فكان يقول يا ليتني أخذت بالرخصة. 2398 - عن معاذة العدوية أنها سألت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام؟ قالت: نعم. فقلت لها: من أي أيام الشهر كان يصوم؟ قالت: لم يكن يبالي من أي أيام الشهر يصوم. 2399 - عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له (أو قال لرجل وهو يسمع) "يا فلان أصمت من سرة هذا الشهر؟ " قال: لا. قال "فإذا أفطرت فصم يومين".

2400 - عن أبي قتادة رضي الله عنه رجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف تصوم؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى عمر رضي الله عنه غضبه، قال: رضينا بالله ربا وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله. فجعل عمر رضي الله عنه يردد هذا الكلام حتى سكن غضبه. فقال عمر: يا رسول الله كيف بمن يصوم الدهر كله؟ قال "لا صام ولا أفطر" (أو قال) "لم يصم ولم يفطر" قال: كيف من يصوم يومين ويفطر يوماً؟ قال "ويطيق ذلك أحد؟ " قال: كيف من يصوم يوماً ويفطر يوماً؟ قال "ذاك صوم داود (عليه السلام) قال: كيف من يصوم يوماً ويفطر يومين؟ قال "وددت أني طوقت ذلك" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان فهذا صيام الدهر كله. صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده. وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله". 2401 - عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صومه؟ قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر رضي الله عنه: رضينا بالله ربا وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً وببيعتنا بيعة. قال: فسئل عن صيام الدهر؟ فقال "لا صام ولا أفطر (أو ما صام وما أفطر) قال: فسئل عن صوم يومين وإفطار يوم؟ قال "ومن يطيق ذلك؟ " قال: وسئل عن صوم يوم وإفطار يومين؟ قال "ليت أن الله قوانا لذلك" قال: وسئل عن صوم يوم وإفطار يوم؟ قال "ذاك صوم أخي داود (عليه السلام) قال: وسئل عن صوم يوم الإثنين؟ قال "ذاك يوم ولدت فيه ويوم بعثت (أو أنزل علي فيه) " قال: فقال "صوم ثلاثة من كل شهر ورمضان إلى رمضان صوم الدهر" قال: وسئل عن صوم يوم عرفة؟ فقال "يكفر السنة الماضية والباقية" قال: وسئل عن صوم يوم عاشوراء؟ فقال "يكفر السنة الماضية" وفي هذا الحديث من رواية شعبة قال: وسئل عن صوم يوم الإثنين والخميس؟ فسكتنا عن ذكر الخميس لما نراه وهماً.

2402 - عن غيلان بن جرير في هذا الإسناد بمثل حديث شعبة غير أنه ذكر فيه الإثنين ولم يذكر الخميس. 2403 - عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم الإثنين؟ فقال "فيه ولدت وفيه أنزل علي". 2404 - عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له (أو لآخر) "أصمت من سرر شعبان؟ " قال: لا. قال "فإذا أفطرت فصم يومين". 2405 - عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل "هل صمت من سرر هذا الشهر شيئاً؟ " قال: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فإذا أفطرت من رمضان فصم يومين مكانه". 2406 - عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل "هل صمت من سرر هذا الشهر شيئاً؟ " يعني شعبان. قال: لا. قال فقال له "إذا أفطرت رمضان فصم يوماً أو يومين" (شعبة الذي شك فيه) قال: وأظنه قال "يومين". 2407 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل". 2408 - عن أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه قال: سئل أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟

وأي الصيام أفضل بعد شهر رمضان؟ فقال "أفضل الصلاة بعد الصلاة المكتوبة الصلاة في جوف الليل. وأفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شهر الله المحرم". 2409 - عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر". -[المعنى العام]- للزمن فضيلة ترفع من قيمة العمل الذي يقع فيه، وللمكان فضيلة كذلك، وللعمل فضيلة تختلف درجاتها، من حيث طبيعته ومن حيث الإخلاص فيه، ومن حيث حمايته من الخلل أو الدخيل، وقد بدأ الإمام مسلم كتاب الصوم بفضيلة شهر رمضان، فضيلة الزمن، وأخرج هناك حديث أبي هريرة: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين" وفي فضيلة الزمن أيضاً يوم عرفة، ويوم الإثنين والأيام البيض، وشهر الله المحرم، وستة أيام من شوال، ومن حيث المكان سيأتي الكلام عن الاعتكاف في المسجد، ثم فضل الطاعة في المسجد الحرام. وفي هذا الباب فضل العمل ذاته؛ فضل الصوم، وله خصوصية من بين العبادات، فكل ساعة تجزى بحسنة، والحسنة بعشر أمثالها، ثم تضاعف إلى سبعمائة ضعف، أما الصوم فيوفى صاحبه الأجر من غير حساب، مصداقاً لقوله تعالى: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} [الزمر: 10]. والصوم نصف الصبر، ومصداقاً لقول الله تعالى في الحديث القدسي: "كل عمل يعمله ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" ولقول رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" وقوله: "للصائم فرحتان" تفوقان كل أفراحه، "إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه" جزاء صومه. وقد كرم الله الصائمين بتخصيص باب من أبواب الجنة لهم، لا يزاحمهم فيه غيرهم، باب يسمى باب الريان، ومن دخله لا يظمأ أبداً جزاء ظمئه بالصيام، لا يدخل من هذا الباب إلا الصائمون، ويشرفون بالنداء على رءوس الخلائق، يناديهم الملائكة: أين الصائمون؟ هلموا إلى مكانتكم وشرفكم وعزكم وجنتكم، فيدخلون، حتى إذا انتهى آخرهم أغلق الباب بعدهم.

لماذا هذه الكرامة؟ وما فضل الصوم على غيره من العبادات؟ هل لأنه لا يقع إلا لله وحده فلم يتعبد به أحد لصنم؟ هل لأنه لا يظهر كعبادة، فهو بين العبد وربه، هل لأنه صفة من صفات ملائكة الله، فهم لا يأكلون ولا يشربون ولا يتناكحون؟ هل لأنه محاربة شاقة لشهوات البطن والفرج أقوى عوامل ونوازع الشر في الإنسان؟ هل لكل ذلك ولغير ذلك؟ وإذا كان الصوم بهذه الفضيلة فكيف نصونه من المؤثرات الضارة بجزائه. هنا يصف لنا الحديث الشريف وسائل الوقاية "إذا أصبح أحدكم يوماً صائماً فلا يرفث" ولا يفحش في قول أو فعل -"ولا يجهل"- ولا يفعل فعل الجاهلين "ولا يسخب" ولا يرفع صوته بفظاظة، "فإن سابه أحد أو شاتمه أو قاتله" فلا يرد عليه بالمثل، وليضبط أعصابه، وليكظم غيظه "فليقل" في نفسه كيداً لشيطانه وبلسانه ردعاً لخصمه "إني صائم" فلن أرد عليك لئلا أعكر صومي "إني صائم" سأكظم غيظي وأعفو عنك لأنال الأجر ومثوبة الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس "إني صائم" وسأقابل الإساءة بالإحسان لأن الله يحب المحسنين، وهكذا يمسك الصائم عن المحرمات يمسك جوارحه به، يمسك عن إرادة الشر نفسه، فينقي صيامه مما يكدر أجره وثوابه. ولقد عرف الصحابة فضل الصوم من معلمهم الأكبر ورسولهم الأعظم صلى الله عليه وسلم، الذي كان يصوم حتى يقول من حوله لكثرة ما يصوم: إنه لا يفطر، عرفوا أنه كان يصبح صائماً، فإذا وجد عند أهله طعاماً أفطر، وإن لم يجد ظل صائماً، نعم لم يصم صلى الله عليه وسلم شهراً كاملاً سوى رمضان، ولم يفطر شهراً كاملاً من أشهر السنة دون صيام، وكان يكثر الصوم في شعبان، حتى يظن أنه صامه كله. نعم عرف الصحابة فضل الصوم فأكثروا منه، لكن أفراداً بالغوا في عبادتهم، وعلى رأسهم عبد الله بن عمرو بن العاص الذي حلف أن يصوم العام كله لا يفطر إلا العيدين، وأن يقوم الليل كله لا ينام، وأن يقرأ القرآن كله كل ليلة. وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم، شاع خبره فأخبر به، وجاء أبوه عمرو بن العاص إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو ابنه عبد الله. يقول: زوجته امرأة ذات حسب ونسب فعضلها، يصوم النهار، ويقوم الليل، ولا يؤدي حقها، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال له: أنت الذي تقول وتحلف وتفعل كذا وكذا وكذا. قال: نعم يا رسول الله، وما أردت إلا الخير. قال صلى الله عليه وسلم: لا تفعل إن لبدنك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، ولضيفك عليك حقاً. صم وأفطر، وقم ونم، واقرأ القرآن في شهر. إن أفضل العمل عند الله أدومه، وإنه قد يطول بك العمر فتكبر فتعجز عن أداء ما التزمت. ألم تر إلى فلان كان يقوم الليل فترك قيامه، فياليته لم يقم. لا تشددوا على أنفسكم. إن الله لا يمل حتى تملوا. وظن عبد الله أن النصيحة قصد بها الإشفاق والتيسير، وأن العبادة خير مهما بلغت، فاستمر، فعلم صلى الله عليه وسلم، فزاره في بيته، وكان عبد الله زاهداً حتى في فراش بيته، فلم يجد ما يفرشه للرسول صلى الله عليه وسلم سوى وسادة من جلد حشوها ليف، فقدمها للرسول صلى الله عليه وسلم ليجلس عليها، فوضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم متكأ بينه وبينه، ثم عاتبه أو حاسبه. قال: لقد أخبرت أنك تصوم النهار، وتقوم الليل. قال: نعم يا رسول الله إني أفعل ذلك. قال: إنك إذا فعلت ذلك ضعفت عينك، وملت نفسك وقل نشاطك. صم من كل شهر ثلاثة أيام ولك أجر الشهر، قال: إني أطيق أكثر من ذلك. قال: صم من الشهر خمساً. قال: إني أطيق أكثر من ذلك؟ قال: صم عشراً. قال: إني أطيق أكثر من ذلك. قال: صم يوماً وأفطر يوماً. قال: إني

أطيق خيراً من ذلك. قال: لا أفضل من ذلك. وذلك صيام داود عليه السلام، وخير القيام قيامه، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه. وسئل صلى الله عليه وسلم عن مؤمن يصوم الدهر كله. قال: لم يصم من صام الدهر، أي لم يصم الصوم المطلوب المحبوب شرعاً من صام الدهر، وسئل عن صوم يومين وإفطار يوم. قال: ومن يطيق ذلك. إن في ذلك مشقة، ولا يحب الله لعبده هذه المشقة، وسئل عن صوم يوم وإفطار يومين. قال: ليت الله قوانا لذلك، وسئل عن صوم يوم الإثنين. فقال: حسن. ذاك يوم ولدت فيه، وبعثت فيه، وسئل عن صوم يوم عرفة. فقال: يكفر السنة الماضية والباقية، وسئل عن صوم يوم عاشوراء فقال: يكفر السنة الماضية، وكان يقول: من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر. -[المباحث العربية]- (إذا دعي أحدكم إلى طعام وهو صائم فليقل: إني صائم) الدعوة إلى الطعام قد تكون عند حضور الطعام فعلاً، وقد تكون سابقة عليه كالدعوة إلى الوليمة، وظاهر الحديث أن يقول الصائم للداعي عند دعوته: إني صائم، اعتذاراً له، وإعلاماً بحاله. أما حضوره وأكله فلهما أحكام تأتي في فقه الحديث. (فلا يرفث ولا يجهل) قال النووي: يقال: رفث بفتح الفاء يرفث بضمها وكسرها، ورفث بكسر الفاء يرفث بفتحها، رفثاً بسكون الفاء في المصدر، وفتحها في الاسم، والرفث السخف وفاحش الكلام والجهل خلاف الحكمة وخلاف الصواب من القول والفعل. اهـ وفي الرواية الخامسة "ولا يسخب" قال النووي: هكذا هو هنا بالسين، ويقال بالسين والصاد، وهو الصياح، قال القاضي: ورواه الطبري "ولا يسخر" بالراء، قال: ومعناه صحيح، لأن السخرية تكون بالقول والفعل، وكله من الجهل. قال النووي: قلت. وهذه الرواية تصحيف، وإن كان لها معنى. (فإن امرؤ شاتمه أو قاتله) "إن" هذه تدخل على الفعل، والتقدير: إن شاتمه امرؤ شاتمه، و"امرؤ" فاعل لفعل محذوف، و"شاتمه" المذكورة تفسير للمحذوفة، ولما كانت المفاعلة أصلها الفعل من جانبين فسر "شاتمه" بمعنى تعرض للمشاتمة، فهي من جانب غير الصائم شتم بالفعل، ومن جانب الصائم تأهل وصلاحية لأن يشتم الشاتم عقاباً له، وفي الرواية الخامسة "فإن سابه أحد" مفاعلة أيضاً من السب وهو الشتم. أما "قاتله" فمعناه نازعه ودافعه. وفي رواية "وإن شتمه إنسان فلا يكلمه" وعند أحمد "فإن سابه أحد أو ماراه" أي جادله، وعند ابن خزيمة "فإن شاتمك أحد فقل: إني صائم، وإن كنت قائماً فاجلس"، وعند الترمذي "وإن جهل على أحدكم جاهل وهو صائم فليقل: إني صائم" وعند النسائي "وإن امرؤ جهل عليه فلا يشتمه ولا يسبه".

(فليقل: إني صائم. إني صائم) قال النووي: هكذا هو مرتين. اهـ قال الكرماني: أي كلاماً لسانياً، ليسمعه الشاتم والمقاتل فينزجر غالباً، أو كلاماً نفسياً، أي يحدث به نفسه، ليمنعها من مشاتمته، وعند الشافعي: يجب الحمل على كلا المعنيين، وقال النووي: كل منهما حسن، والقول باللسان أقوى، ولو جمعهما لكان حسناً، وقال الروياني: إن كان في رمضان فليقل بلسانه، وإن كان في غيره فليقله في نفسه، احترازاً من الرياء، ونقل الزركشي أن ذكرها مرتين مراد بها أن يقول مرة بقلبه، ومرة بلسانه، فيستفيد بقلبه كف لسانه عن خصمه، وبقوله بلسانه كف خصمه عنه. والمراد على أي حال أن لا يعامله بمثل عمله. (قال الله عز وجل) قال الكرماني: فإن قلت: هذا قول الله وكلامه، فما الفرق بينه وبين القرآن؟ قلت: القرآن لفظه معجز، ومنزل بواسطة جبريل عليه السلام، وهذا غير معجز، وبدون الواسطة، ومثله يسمى بالحديث القدسي والإلهي والرباني. فإن قلت: الأحاديث كلها كذلك؟ قلت: الفرق بأن القدسي مضاف إلى الله، ومروي عنه، بخلاف غيره. اهـ (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام هو لي) الإضافة إلى الشريف تشريف وتعظيم، كما يقال: بيت الله مع أن البيوت كلها لله، ولا يفهم من هذا التخصيص في مثل هذا السياق إلا التعظيم وسيأتي مزيد لذلك في فقه الحديث. (وأنا أجزي به) بيان لكثرة ثوابه، لأن الكريم إذا أخبر بأنه يتولى بنفسه الجزاء اقتضى عظمته وسعته. (لخلفة فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) في الرواية الخامسة والسابعة "لخلوف فم الصائم" وفي الرواية الخامسة "أطيب عند الله يوم القيامة" يقال: خلف فوه، بفتح الخاء واللام يخلف بضم اللام، وأخلف فوه، يخلف بضم فسكون فكسر، إذا تغير، والخلوف بضم الخاء واللام تغير رائحة الفم، قال النووي: هذا هو الصواب فيه بضم الخاء، وهو الرواية الصحيحة، وكثير من الشيوخ يرويه بفتحها. قال الخطابي: وهو خطأ. اهـ و"خلفة" بضم الخاء وسكون اللام بمعنى خلوف. قال النووي: وأما معنى الحديث، فقال القاضي، قال المازري: هذا مجاز واستعارة، لأن استطابة بعض الروائح من صفات الحيوان الذي له طبائع تميل إلى شيء فتستطيبه، وتنفر من شيء فتستقذره، والله تعالى متقدس عن ذلك، لكن جرت عاداتنا بتقريب الروائح الطيبة منا، فاستعير ذلك في الصوم، لتقريبه من الله تعالى. اهـ فالمعنى أنه أطيب عند الله من ريح المسك عندكم، أي يقرب إلى الله أكثر من تقريب المسك إليكم، وهذا قريب من قول الجمهور: إنه كناية عن رضا الله عنه وقبوله لصومه. قال القاضي: وقيل: يجازيه الله تعالى به في الآخرة، فتكون نكهته أطيب من ريح المسك، كما أن دم الشهيد يكون ريحه ريح المسك. اهـ، كما جاء في جرح الشهيد ودمه، يكون اللون لون الدم

والريح ريح المسك، فالمعنى تكون رائحة صاحب الخلوف بين الخلائق يوم القيامة أطيب من ريح المسك. وقيل: يحصل لصاحبه من الثواب أكثر مما يحصل لصاحب المسك، وهذا قريب من رأي الداودي الآتي. وقيل: رائحته عند ملائكة الله -في الدنيا- أطيب من رائحة المسك عندنا، وإن كانت رائحة الخلوف عندنا خلافه. والأصح ما قاله الداودي من المغاربة -وقاله من قال من أصحابنا-: إن الخلوف أكثر ثواباً من المسك، حيث ندب إليه في الجمع والأعياد ومجالس الحديث والذكر وسائر مجامع الخير. اهـ ولهذه المعاني المحتملة كان الخلاف بين العلماء. هل هذا إخبار عن حاله في الدنيا؟ أو عن حاله في الآخرة؟ أو عن حاله فيهما؟ . (الصيام جنة) بضم الجيم وتشديد النون المفتوحة، أي وقاية وسترة، وفي بعض الروايات عند النسائي "جنة من النار" وعند أحمد "جنة وحصن حصين من النار" وعند النسائي "الصيام جنة كجنة أحدكم من القتال" وجنة القتال المجن، وهو الترس، وقيل معناه جنة وستر ومانع من الرفث والآثام وما يؤذي من الشهوات. قال القرطبي: جنة أي سترة، يعني بحسب مشروعيته، فينبغي للصائم أن يصونه مما يفسده، وينقص ثوابه، وإليه الإشارة بقوله: "فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث". ويصح أن يراد أنه سترة بحسب فائدته، وهي إضعاف شهوات النفس، وإليه الإشارة بقوله: "يدع شهوته ... ". ويصح أن يراد أنه سترة حسب ما يحصل من الثواب وتضعيف الحسنات. (إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه) في الرواية السادسة "فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه" قال النووي: قال العلماء، أما فرحته عند لقاء ربه فبما يراه من جزائه، وتذكر نعمة الله عليه بتوفيقه لذلك، وأما عند فطره فسببها تمام عبادته، وسلامتها من المفسدات، وما يرجوه من ثوابها. اهـ ولا مانع شرعاً من أن يكون سبب فرحته عند فطره دنيوية بإباحة المطعم والمشرب الذي حرم عليه من قبل، فتكون فرحة الجائع والعطشان عند الأكل والشرب. (إن في الجنة باباً يقال له: الريان) قال: "في الجنة" ولم يقل للجنة ليشعر أن الباب نفسه في داخل الجنة، ففيه من الراحة والنعيم ما في الجنة. قاله الزين بن المنير. وقال العيني: وإنما لم يقل "للجنة" ليشعر بأن باب الريان غير الأبواب الثمانية التي للجنة. اهـ وفيه نظر، فقد جاء الحديث من وجه آخر "إن للجنة ثمانية أبواب. منها باب يسمى الريان، لا يدخله إلا الصائمون". و"الريان" بفتح الراء وتشديد الياء من الري، وهو مناسب لحال الصائمين، قال القرطبي: واكتفى

بذكر الري عن الشبع لأنه يدل عليه، من حيث إنه يستلزمه، قال الحافظ ابن حجر: أو لكونه أشق على الصائم من الجوع. (يدخل منه الصائمون يوم القيامة) فائدة هذه الجملة شمول الصائمين، ولو قال ابتداء "لا يدخل منه إلا الصائمون" لأفاد قصره على الصائمين، لكن قد لا يشملهم. (فإذا دخل آخرهم أغلق، فلم يدخل منه أحد) قال النووي: هكذا وقع في بعض الأصول "فإذا دخل آخرهم" وفي بعضها "فإذا دخل أولهم" قال القاضي وغيره: وهو وهم، والصواب "آخرهم". زاد النسائي "من دخل شرب، ومن شرب لا يظمأ أبداً". (يصوم يوماً في سبيل الله) أي في ميدان القتال، قال ابن الجوزي: إذا أطلق ذكر "سبيل الله" فالمراد به الجهاد، وقال القرطبي: سبيل الله طاعة الله، فالمراد من صام قاصداً وجه الله، قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون ما هو أعم من ذلك، وقال ابن دقيق العيد: العرف الأكثر استعماله في الجهاد، فإن حمل عليه كانت الفضيلة اجتماع العبادتين. قال النووي: وهو محمول على من لا يتضرر به، ولا يفوت به حقاً، ولا يخش به قتاله ولا غيره من مهمات غزوه. اهـ وليس عند لقاء العدو، فقد سبق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لصائمي رمضان: إنكم مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا". (باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً) المراد من المباعدة عن النار المعافاة منها، والخريف جزء من السنة، والمراد السنة كلها، أي سبعين سنة، والمراد مسيرة سبعين سنة، قال القرطبي: ذكر السبعين لإرادة التكثير، ويؤيده أن النسائي والطبراني وأبو يعلى أخرجوا الحديث بلفظ "مائة عام". (قال: فإني صائم) في الرواية الثانية عشرة "فإني إذن صائم". (قالت: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهديت لنا هدية، قالت: فلما رجع. قلت: أهديت لنا هدية) في هذه الرواية طي وحذف، تقديره: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان اليوم التالي أهديت لنا هدية، يوضح هذا الحذف روايتنا الثانية عشرة. قال النووي: وهاتان الروايتان هما حديث واحد، والثانية مفسرة للأولى، ومبينة أن القصة في الرواية الأولى كانت في يومين، لا في يوم واحد، كذا قال القاضي وغيره، وهو ظاهر. اهـ (أو جاءنا زور) بفتح الزاي وسكون الواو، وهو الضيف. أو الزائر مطلقاً، يطلق على الواحد والاثنين والأكثر، وعلى المذكر والمؤنث، لأنه في الأصل مصدر، ويحتمل أن يكون جمع زائر، مثل ركب وراكب. والمعنى جاءنا زور، ومعه هدية، أو جاءنا زور فأهدى لنا بعض الناس بسببهم هدية. (وقد خبأت لك شيئاً) منها، أي احتفظت لك بشيء منها، ولم آكله أو أريه لغيرك.

(قلت: حيس: قال: هاتيه) في الرواية الثانية عشرة "قال أرينيه" والحيس بفتح الحاء هو التمر مع السمن والأقط، وقيل: ثريدة من أخلاط. قال النووي: والأول هو المشهور. (من نسي وهو صائم فأكل .... فليتم صومه) في رواية الترمذي "فلا يفطر". (فإنما أطعمه الله وسقاه) في رواية الدارقطني "فإنما هو رزق ساقه الله تعالى إليه"، وقوله "فإنما أطعمه الله" عائد على من أكل، قوله "وسقاه" عائد على من شرب. (والله إن صام شهراً معلوماً سوى رمضان حتى مضى لوجهه) "إن" حرف نفي بمعنى "ما" ومعنى "حتى مضى لوجهه" حتى لحق بالرفيق الأعلى. (ولا أفطره حتى يصيب منه) أي ولا أفطر شهراً معلوماً حتى يصيب منه صوماً، وفي الرواية الخامسة عشرة "ما علمته صام شهراً كله إلا رمضان، ولا أفطره كله حتى يصوم منه" وهذا الجواب أدق من سابقه، لأن النفي فيه نفي للعلم، وهذا حق النافي المحقق. (كان يصوم حتى نقول: قد صام قد صام، ويفطر حتى نقول: قد أفطر. قد أفطر) يعني ينتهي صومه إلى غاية نقول عندها: إن صيامه مستمر، لا يفطر، و"يفطر"، ويستمر إفطاره إلى غاية نقول عندها: إن فطره مستمر، أي فهو يكثر من الصيام، ويكثر من الفطر من غير ارتباط بأوقات معلومة. (كان يصوم شعبان كله -كان يصوم شعبان إلا قليلاً) قال النووي: الثاني تفسير للأول، وبيان أن قولها: "كله"، أي غالبه، وقيل: كان يصومه كله في وقت، ويصوم بعضه في سنة أخرى، وقيل: كان يصوم تارة من أوله، وتارة من آخره، وتارة بينهما، وما يخلي منه شيئاً بلا صيام، لكن في سنين. اهـ واستبعد الطيبي الاحتمال الأول، قال: لأن الكل تأكيد لإرادة الشمول ودفع التجوز، فتفسيره بالبعض مناف له، وحمل الحديث على الاحتمال الثاني، وقال: فيحمل على أنه كان يصوم شعبان كله تارة، ويصوم معظمه أخرى، لئلا يتوهم أنه واجب كله كرمضان، وقال الزين بن المنير: إما أن يحمل قول عائشة على المبالغة، والمراد الأكثر، وإما أن يجمع بأن قولها الثاني متأخر عن قولها الأول، فأخبرت عن أول أمره أنه كان يصوم أكثر شعبان، وأخبرت ثانياً عن آخر أمره، أنه كان يصومه كله. قال الحافظ ابن حجر: ولا يخفى تكلفه، ورجح، الاحتمال الأول مستنداً إلى روايتنا السادسة عشرة. (خذوا من الأعمال ما تطيقون) أي اشتغلوا من الأعمال بما تستطيعون المداومة عليه. فمنطوقه يقتضي الأمر بالاقتصار على ما يطاق من العبادة، ومفهومه يقتضي النهي عن تكلف ما لا يطاق قاله الحافظ ابن حجر. (فإن الله لن يمل حتى تملوا) هو بفتح الميم في الموضعين، والملال استثقال الشيء، ونفور

النفس عنه بعد محبته، وهو محال على الله تعالى باتفاق. قال الحافظ ابن حجر: قال الإسماعيلي وجماعة من المحققين، إنما أطلق هذا على جهة المقابلة اللفظية مجازاً، كما قال تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} [الشورى: 40]. وأنظاره. وقال القرطبي: وجه مجازه أن الله تعالى لما كان يقطع ثوابه عمن يقطع العمل ملالاً عبر عن ذلك بالملال من باب تسمية الشيء باسم سببه، قال: وجنح بعضهم إلى تأويل "حتى" وأنها ليست لانتهاء الغاية، بل لاستحالة ما بعدها، كقولهم: لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب، فالمعنى لا يمل أصلاً. وقال المازري: إن "حتى" هنا بمعنى الواو، فيكون التقدير: لا يمل وتملون، فنفى عنه الملل، وأثبته لهم، وقيل: "حتى" بمعنى حين. قال الحافظ: والأول أليق، وأجرى على القواعد، وأنه من باب المقابلة اللفظية، ويؤيده ما وقع في بعض الطرق "اكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل". (أحب العمل إلى الله مادام عليه صاحبه وإن قل) قال النووي: بدوام القليل تستمر الطاعة بالذكر والمراقبة والإخلاص والإقبال على الله بخلاف الكثير الشاق. اهـ أي فلا تستمر الطاعة به، ثم إن القليل الدائم كثيراً ما يزيد على الكثير المنقطع أضعافاً كثيرة، وفي المثل: إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى. وقال ابن الجوزي: إنما أحب الدائم لمعنيين: أحدهما، أن التارك للعمل بعد الدخول فيه كالمعرض بعد الوصل، فهو متعرض للذم، ولهذا ورد الوعيد في حق من حفظ آية، ثم نسيها، وإن كان قبل حفظها لا يتعين عليه. ثانيهما، أن مداوم الخير ملازم للخدمة، وليس من لازم الباب في كل يوم وقتاً ما كمن لازم يوماً كاملاً، ثم انقطع. اهـ وهو كلام جيد نفيس. (عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يقول: لأقومن الليل) المتكلم عبد الله، ونسق التعبير: أني أقول، وكأنه جرد من نفسه رجلاً يتحدث عنه. (ما عشت) "ما" ظرفية دوامية، أي مدة حياتي. (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: آنت الذي تقول ذلك)؟ الكلام على الاستفهام، وفي الكلام حذف تقديره: فأرسل إلي فجئت إليه فقال: أو فجاءني فقال. ففي الرواية الرابعة والعشرين "فإما ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم، وإما أرسل إلي فأتيته، فقال لي ... إلخ" وتقدير هذه الرواية: فإما ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم فجاءني وإما أرسل إلي فأتيته، فقال .... إلخ" وفي الرواية السابعة والعشرين "فإما أرسل إلي وإما لقيته، فقال ... " قال الحافظ ابن حجر: الشك من بعض الرواة، وغلط من قال: إن الشك من عبد الله بن عمرو، فقد ثبت ما يفيد أنه صلى الله عليه وسلم قصده إلى بيته، فدل على أن لقاءه إياه كان عن قصد منه

إليه. اهـ تشير إلى ذلك رواية البخاري "ذكر له صومي، فدخل علي، فألقيت له وسادة ... " إلى آخر روايتنا الثانية والثلاثين. (فقلت له: قد قلته يا رسول الله) في الرواية الرابعة والعشرين "فقلت بلى يا رسول الله، ولم أرد بذلك إلا الخير" وفي الرواية التاسعة والعشرين "قلت: إني أفعل ذلك" فيحتمل أنه قال: بلى يا رسول الله، قد قلته، ولم أرد بذلك إلا الخير، وإني أفعل ذلك. (فإنك لا تستطيع ذلك) يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم قصد نفي استطاعة عبد الله في حالته الراهنة، والمعنى إنك لا تستطيع ذلك الآن إلا بجهد ومشقة، أو لا تستطيع ذلك الآن مع أداء ما هو أهم من العبادات، ويحتمل أنه قصد نفي استطاعته المداومة على ذلك إذا كبر وعجز، وفي الرواية السابعة والعشرين والرابعة والثلاثين "فلا تفعل. فإن لعينك حظاً ... " إلخ. (فصم وأفطر، ونم وقم) فسرت الروايات بعد المطلوب من الصيام، والمطلوب من القيام، وفي الرواية السابعة والعشرين "فصم وأفطر وصل ونم". (صم من الشهر ثلاثة أيام) قيل المراد بها الثلاثة البيض الليلة الثالثة عشرة والرابعة عشرة والخامسة عشرة. وقيل: يوم من كل عشرة أيام، كما جاء في روايتنا السابعة والعشرين، وفي الرابعة والعشرين "فإن بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام" والباء في "بحسبك، زائدة، والسين ساكنة، والتقدير فإن حسبك، أي كافيك، وفي الرواية الثانية والثلاثين "أما يكفيك"؟ . (فإن الحسنة بعشر أمثالها) فحسنة صيام اليوم بعشرة أيام، فالثلاثة في الشهر بشهر، وفي الرواية الثامنة والعشرين "صوم ثلاثة أيام من الشهر صوم الشهر كله". (وذلك مثل صيام الدهر) المثلية لا تستلزم التساوي من كل جهة، فالمراد بها هنا أصل التضعيف، دون التضعيف الحاصل من صيام الأكثر، ولكن يصدق على فاعل ذلك أنه صام الدهر مجازاً، وفي ملحق الرواية الرابعة والعشرين "فذلك الدهر كله". (فإني أطيق أفضل من ذلك) في الرواية الثامنة والعشرين والثالثة والثلاثين "فإني أطيق أكثر من ذلك" وفي الرواية الرابعة والثلاثين "قلت: يا رسول الله، إن بي قوة" أي أستطيع بها أكثر من ذلك. وفي الرواية السابعة والعشرين "إني أجدني أقوى من ذلك". (وهو أعدل الصيام) وفي الرواية المتممة للثلاثين والحادية والثلاثين "أحب الصيام إلى الله صيام داود". (لا أفضل من ذلك) نفي الأفضلية لا يمنع المساواة، فظاهره أن الزيادة على صيام داود قد تتساوى مع صيام داود، لكن قوله في الرواية الثالثة والعشرين "وهو أعدل الصيام" وفي المتممة

للثلاثين "أحب الصيام إلى الله صيام داود" يقتضي ثبوت الأفضلية مطلقاً، وأن الزيادة على ذلك مفضولة، وليست فاضلة ولا مساوية. (لأن أكون قبلت الثلاثة الأيام ... أحب إلي من أهلي ومالي) في الرواية الرابعة والعشرين "فلما كبرت وددت أني كنت قبلت رخصة نبي الله صلى الله عليه وسلم" وفي الرواية الرابعة والثلاثين "فكان يقول: يا ليتني أخذت بالرخصة" وفي بعض الروايات "لأن أكون قبلت الرخصة أحب إلي مما عدل به، لكنني فارقته على أمر أكره أن أخالفه إلى غيره". (حتى نأتي أبا سلمة) نسق التعبير "حتى أتينا أبا سلمة" أي أتينا داره، أو قرب داره. (فقال: إن تشاءوا أن تدخلوا) أي أن تدخلوا داري. (وإن تشاءوا أن تقعدوا ههنا) أي في المسجد، والظاهر أنهما كان معهما ثالث، فعبر في الخطاب بالجمع، أو هو على رأي من يقول، الجمع ما فوق الواحد. (فإن لزوجك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً، ولجسدك عليك حقاً) في ملحق الرواية الرابعة والعشرين "وإن لولدك عليك حقاً" وفي السابعة والعشرين "فإن لعينك حظاً" -وفي رواية "لعينيك حظاً"- "ولنفسك حظاً، ولأهلك حظاً" والحظ النصيب. (فصرت إلى الذي قال لي النبي صلى الله عليه وسلم) أي صرت إلى عمر طويل وكبر وعجز. (فلما كبرت وددت) "كبر" بكسر الباء من باب علم. تقال في السن، وأما كبر بضم الباء بمعنى عظم فهو من باب حسن. قال النووي: معناه أنه كبر وعجز من المحافظة على ما التزمه، فشق عليه فعله، ولم يعجبه أن يتركه لالتزامه له، فتمنى ما تمنى. (لا تكن بمثل فلان) قال الحافظ: لم أقف على اسمه، وكأنه أبهم لقصد السترة عليه، ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد شخصاً معيناً، وإنما أراد تنفير عبد الله من الصنيع المذكور. (أصوم أسرد) أي أتابع الأيام. (صم من كل عشرة أيام يوماً ولك أجر تسعة) أي مع أجر اليوم، فتكون عشرة. (ولا يفر إذا لاقى) أي لا يهرب إذا لاقى العدو، يشير بذلك إلى حكمة صوم يوم وإفطار يوم، أي كان يتقوى بالفطر لأجل الجهاد. (من لي بهذه يا نبي الله)؟ أي، قال عبد الله: من يتكفل لي بهذه الخصلة التي كانت لداود عليه السلام؟ أي هذه الخصلة صعبة علي، فكيف لي بتحصيلها؟ . (قال عطاء: فلا أدري كيف ذكر صيام الأبد) قال الحافظ ابن حجر: أي إن عطاء لم يحفظ

كيف جاء ذكر صيام الأبد في هذه القصة، إلا أنه حفظ أن فيها أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا صام من صام الأبد". (لا صام من صام الأبد) في الرواية السابعة والعشرين تكرير هذه الجملة ثلاث مرات، وفي رواية البخاري "مرتين" والأبد الدهر، وفي معنى الجملة قيل: إنها خبر، أي ما صام كقوله تعالى: {فلا صدق ولا صلى} [القيامة: 31]. ونفى الصوم عنه على معنى أنه لم يكتب له ثوابه، وقيل: إن الجملة دعاء. قال ابن العربي: يا بؤس من أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يصم، ويا بؤس من دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم. (إذا فعلت ذلك هجمت له العين ونهكت) وفي الرواية التاسعة والعشرين "هجمت عيناك، ونفهت نفسك" ومعنى "هجمت" غارت ودخلت، ومعنى "نهكت" بفتح النون وفتح الهاء وكسرها. أي ضعفت وهزلت، وضبطه بعضهم بضم النون وكسر الهاء، مبني للمجهول، من قولهم: نهكته الحمى، أي أضنته. ومعنى "نفهت نفسك" بفتح النون وكسر الفاء تعبت وكلت. (وسادة من أدم) بفتح الهمزة والدال، أي جلد مدبوغ. (صم يوماً ولك أجر ما بقي) أي صم يوماً كل عشرة أيام، ولك أجر التسعة مع اليوم، كما جاء في الرواية السابعة والعشرين. (صم يومين ولك أجر ما بقي) أي صم يومين من كل عشرة أيام، ولك أجر الثمانية مع اليومين. (صم ثلاثة أيام ولك أجر ما بقي) أي صم ثلاثة أيام من كل عشرة أيام. ولك أجر السبعة مع الثلاثة. (صم أربعة أيام ولك أجر ما بقي) أي صم أربعة أيام من كل عشرة، ولك أجر الستة مع الأربعة. واستشكل هذا التفسير بأنه يؤدي إلى أن الزيادة في العمل تنقص الأجر، لأنه كان يمنح أجر تسعة إذا صام يوماً، فمنح أجر ثمانية إذا صام يومين، وأجر سبعة إذا صام ثلاثة، وأجر ستة إذا صام أربعة. وأجاب بعضهم بأن المراد لك أجر ما بقي بالنسبة إلى التضعيف، فأجر اليوم الذي يصام يضاعف أضعافاً كثيرة لا يعلمها إلا الله، بخلاف أجر الأيام التابعة له، وبذلك يزيد مجموع الأجر كلما زاد عدد أيام الصوم، فلو فرضنا أن الصوم يضاعف مائة ضعف، والتابع حسنة تضاعف بعشرة أمثالها كان مجموع أجر صوم اليوم مائة وتسعين، وصوم اليومين مائتين وثمانين، وصوم الثلاثة ثلاثمائة وسبعين، وصوم الأربعة أربعمائة وستين. وأجاب القاضي عياض عن الإشكال بأن الزيادة في العمل لا تنقص الأجر، بل الأجر اتحد في كل

ذلك، لأنه كان نيته أن يصوم جميع الشهر، فلما منعه صلى الله عليه وسلم من ذلك إبقاء عليه بقي أجر نيته على حاله، سواء صام منه قليلاً أو كثيراً، كما تأوله في حديث "نية المرء خير من عمله" أي إن أجره في نيته أكثر من أجر عمله، لامتداد نيته إلى ما لا يقدر على عمله. اهـ قال الحافظ ابن حجر: والحديث المذكور ضعيف، وهو في مسند الشهاب، والتأويل المذكور لا بأس به. اهـ وأجاز الحافظ ابن حجر أن يحمل الحديث على ظاهره، وأجاز أن ينقص الأجر بزيادة العمل قال: والسبب فيه أنه كلما ازداد من الصوم ازداد من المشقة الحاصلة بسببه، المقتضية تفويت بعض الأجر الحاصل من العبادات التي قد يفوتها مشقة الصوم، فينقص الأجر باعتبار ذلك. اهـ وحاول بعضهم أن يخرج من الإشكال بتأويل بعيد، فقال: معنى الحديث: صم يوماً من عشرة ولك أجر تسعة، وصم يومين من عشرين ولك أجر الثمانية عشرة، وصم ثلاثة أيام من الثلاثين ولك أجر بقية الشهر. وهذا التأويل بعيد جداً، لأن قوله: "صم أربعة أيام ولك أجر ما بقي" يلزم منه على هذا أن يكون التقدير: ولك أجر أربعين، مع أنه مقيد في نفس الحديث بالشهر، والشهر لا يكون أربعين. قاله الحافظ ابن حجر. وأضيف إليه أن الحديث بهذا التأويل لا تكون به مساومات أو زيادات، فأربعة أيام من أربعين يوماً تساوي يوماً من عشرة أيام، والواقع غير ذلك، فقد كان التدرج نتيجة لقول عبد الله "إني أطيق أكثر من ذلك" ثم الروايات الأخرى صريحة في التدرج به بالزيادة في الصيام، وللجمع بينهما قال الحافظ ابن حجر: الظاهر أنه أمره بالاقتصار على ثلاثة أيام من كل شهر، فلما قال: إنه يطيق أكثر من ذلك زاده بالتدريج إلى أن وصله إلى خمسة عشر يوماً، فذكر بعض الرواة عنه ما لم يذكره الآخر، ويدل على ذلك رواية عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو "فلم يزل يتناقصني وأناقصه". (قال له ... أو قال الرجل وهو يسمع) قال الحافظ ابن حجر: هذا شك من مطرف الراوي عن عمران بن حصين. (أصمت من سرة هذا الشهر) المشار إليه شهر شعبان كما صرح به في روايتنا المتممة للأربعين؟ قال النووي: "سرة" بالهاء بعد الراء، وذكر مسلم بعده حديث قتادة ثم حديث عمران أيضاً في "سرر شعبان" قال: وهذا تصريح من مسلم بأن رواية عمران الأولى بالهاء، والثانية بالراء، ولهذا فرق بينهما، وأدخل الأولى مع حديث عائشة كالتفسير له، فكأنه يقول: يستحب أن تكون الأيام الثلاثة من سرة الشهر، وهي وسطه. اهـ وقال الحافظ ابن حجر: لم أره في جميع طرق الحديث باللفظ الذي ذكره النووي "سرة" بل هو عند أحمد من وجهين، بلفظ "سرار" وهذا يدل على أن المراد آخر الشهر، ونقل عن الخطابي أن السؤال سؤال زجر وإنكار، لأنه قد نهي أن يستقبل رمضان بيوم أو يومين. والسرر بفتح السين، ويجوز كسرها وضمها، جمع سرة، ويقال أيضاً سرار بفتح أوله وكسره، وهو من الاستسرار. قال أبو عبيد والجمهور: المراد بالسرر هنا آخر الشهر، سيمت بذلك لاستسرار القمر

فيها، وهي ليلة ثمان وعشرين وتسع وعشرين وثلاثين، ونقل عن بعضهم أن سرره أوله، وقيل: السرر وسط الشهر، قال الحافظ ابن حجر: ورجحه بعضهم، ووجهه بأن السرر جمع سرة، وسرة الشيء وسطه، ويؤيده الندب إلى صيام البيض، وهي وسط الشهر، وأنه لم يرد في صيام آخر الشهر ندب، بل ورد فيه نهي خاص، وهو آخر شعبان لمن صامه لأجل رمضان. (فإذا أفطرت فصم يومين) أي إذا أفطرت من رمضان فصم يومين، وفي الرواية الثانية والأربعين "إذا أفطرت رمضان -أي من رمضان كما في الرواية الحادية والأربعين -فصم يوماً أو يومين" شك من الراوي شعبة، والراجح "يومين" وفي الرواية الحادية والأربعين "فصم يومين مكانه" مكان اليوم الذي أفطرته من آخر شعبان، والظاهر أن الرجل كان يعتاد صيام آخر الشهر، فلما سمع النهي عن استقبال رمضان بصوم تركه، فطلب منه أن يقضيه التزاماً بعادته، وسيأتي تتمة لهذا في فقه الحديث. (عن أبي قتادة: رجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم) قال النووي: هكذا هو في معظم النسخ، وعلى هذا يقرأ "رجل" بالرفع، على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي الشأن والأمر رجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ... إلخ. وقد أصلح في بعض النسخ إلى "أن رجلاً أتى .... " وكان موجب هذا الإصلاح جهالة انتظام الأول، وهو منتظم كما ذكرته، فلا يجوز تغييره. اهـ (فقال: كيف تصوم؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال النووي: قال العلماء، سبب غضبه صلى الله عليه وسلم أنه كره مسألته، لأنه يحتاج إلى أن يجيبه، ويخشى من جوابه مفسدة، وهي أنه ربما اعتقد السائل وجوبه، أو اقتصر عليه، أو استقله. وكان حق السائل أن يقول: كم أصوم؟ أو كيف أصوم؟ فيخص السؤال بنفسه، ليجيبه بما تقتضيه حاله، كما أجاب غيره بمقتضى أحوالهم. (لا صام ولا أفطر) يعني لم يكتب له أجر الصيام، فكأنه لم يصم، وامتنع عن الطعام والشراب في النهار، فهو لم يفطر وقيل: إن الجملة دعاء عليه بعدم استطاعة الصوم وعدم القدرة على الأكل والشرب، والأول أصح. (ويطيق ذلك أحد)؟ الكلام على الاستفهام الإنكاري بمعنى النفي، أي لا يطيق ذلك أحد مع المداومة والمحافظة على الحقوق والواجبات الأخرى. (وددت أني طوقت ذلك) "طوقت" بضم الطاء وكسر الواو المشددة، أي جعلني الله أطيق، قيل: معناه. وددت أن أمتي تطوقه، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يطيقه ويطيق أكثر منه، وكان يواصل ويقول "إني لست كأحدكم، إني أبيت عند ربي، يطعمني ويسقيني" وقيل: معناه وددت أن الله أعانني على ذلك مع المحافظة على سائر الحقوق الأخرى لنسائه والمتعلقين به، وأضيافه والوافدين إليه.

وقيل: معناه وددت أنني وأزواجي والمتعلقين بالاقتداء بي طوقنا ذلك، ويؤيد هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم في روايتنا الثامنة والثلاثين "ليت أن الله قوانا لذلك". (فسكتنا عن ذكر الخميس لما نراه وهماً) "نراه" ضبط بفتح النون بمعنى نعلمه وبضم النون بمعنى نظنه، القائل: فسكتنا" هو الإمام مسلم، وقد رأى أن ذكر الخميس في رواية شعبة وهماً، لأن قوله "ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت فيه" خاص بيوم الإثنين، ولما كانت بقية الروايات بدون ذكر الخميس تركه الإمام مسلم من الرواية. قال النووي: قال القاضي: ويحتمل صحة رواية شعبة، ويرجع الوصف بالولادة والإنزال إلى الإثنين دون الخميس قال النووي: وهذا الذي قاله القاضي متعين. (ثم أتبعه ستاً من شوال) من القواعد أن العدد يؤنث إذا كان العدد مذكراً من الثلاثة إلى العشرة، فكان الظاهر أن يقول: ثم أتبعه ستة من شوال، لأن المعدود مذكر، والتقدير ستة أيام، لكن من القواعد أيضاً أن ذلك إذا ذكر المعدود مع العدد بأن قيل: ثم أتبعه ستة أيام، حينئذ تلزم التاء في العدد، أما إذا حذف المعدود كما في الحديث جاز الوجهان. -[فقه الحديث]- وضع الإمام النووي أحاديث هذا الباب تحت عشرة أبواب: فوضع الحديث الأول والثاني تحت باب ندب الصائم إذا دعي إلى طعام ولم يرد الإفطار، أو شوتم أو قوتل أن يقول: إني صائم، وأن ينزه صومه عن الرفث والجهل ونحوه. وقال عن الحديث الأول "إذا دعي أحدكم إلى طعام وهو صائم" قال: وهو محمول على أنه يقول له اعتذاراً له وإعلاماً بحاله، فإن سمح له ولم يطالبه بالحضور لزمه الحضور وليس الصوم عذراً في عدم إجابة الدعوة، ولكن إذا حضر لا يلزمه الأكل، ويكون الصوم عذراً في ترك الأكل، بخلاف المفطر، فإنه يلزمه الأكل على أصح الوجهين عند الشافعية، وأما الأفضل للصائم فقال أصحابنا: إن كان يشق على صاحب الطعام صومه استحق له الفطر، وإلا فلا، هذا إذا كان صوم تطوع، فإن كان صوماً واجباً حرم الفطر. اهـ وقد روى البخاري تحت باب من زار قوماً فلم يفطر عندهم عن أنس رضي الله عنه: دخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم سليم، فأتته بتمر وسمن، قال: أعيدوا سمنكم في سقائه، وتمركم في وعائه، فإني صائم" كما روي تحت باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع ما كان بين سلمان وأبي الدرداء حين صنع أبو الدرداء طعاماً لسلمان "فقال له: كل فإني صائم. قال سلمان: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل" وفي رواية "فقال: أقسمت عليك لتفطرن" قال الحافظ ابن حجر: فيه جواز الفطر من صوم التطوع، وهو قول الجمهور، ولا يظن أن فطر المرء من صيام التطوع لتطييب خاطر أخيه حتم عليه، بل المرجع في ذلك حال كل منهما. اهـ أي المرجع الظروف والملابسات لكل حالة.

ثم وضع الإمام النووي الحديث الثالث والرابع والخامس والسادس والسابع والثامن تحت باب فضل الصيام، ووضع الحديث التاسع والعاشر تحت باب فضل الصيام في سبيل الله، ووضع الحادي عشر والثاني عشر تحت باب جواز صوم النافلة بنية من النهار قبل الزوال، وجواز فطر الصائم نفلاً من غير عذر. وهذا الباب الأخير مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالباب الأول، بل الحديث الأول "إذا دعي أحدكم إلى طعام وهو صائم فليقل: إني صائم" إذ يرتبط بهذا مباشرة حكم الإفطار من صوم النفل، وعذر الإمام النووي أن الإمام مسلماً ذكر هذه الأحاديث بترتيب يصعب معه وضع عناوين صغيرة مما حملني على وضع عنوان شامل للباب أوزع ما جاء في أحاديثه على نقاط فقه الحديث متغاضياً عما ينبغي لها من ترتيب، التزاماً بترتيب سياق الإمام مسلم لها ما أمكن. ولتكن النقطة الأولى: صوم التطوع: نيته وقطعه وقضاؤه. والحديث الأول ظاهره عدم الفطر، وعدم قطع صوم التطوع، وما سقناه من حديث أم سليم في رواية البخاري وما ساقه الإمام مسلم في حديثنا الثاني عشر يجيز الفطر وقطع الصوم. قال الإمام النووي في المجموع: مذهب الشافعية أنه يستحب البقاء في صوم التطوع؛ والخروج منه بلا عذر ليس بحرام، ولا يجب قضاؤه، بل يستحب؛ وبهذا قال عمر وعلي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وجابر بن عبد الله وسفيان الثوري وأحمد وإسحق: وقال أبو حنيفة: يلزمه الإتمام، فإن خرج منه لعذر لزمه القضاء ولا إثم، وإن خرج بغير عذر لزمه القضاء وعليه الإثم. وقال مالك وأبو ثور: يلزمه الإتمام، فإن خرج بلا عذر لزمه القضاء، وإن خرج بعذر فلا قضاء. واحتج من قال بوجوب الإتمام بقوله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد: 33]. وبقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي سأله عن الإسلام: "وصوم رمضان. قال: هل علي غيره؟ قال: لا. إلا أن تطوع" قالوا: وهذا الاستثناء متصل، فمقتضاه وجوب التطوع بمجرد الشروع فيه، قالوا: ولا يصح حملكم على أنه استثناء منقطع، بمعنى أنه يقدر "لكن لك أن تطوع" لأن الأصل في الاستثناء الاتصال، فلا تقبل دعوى الانقطاع فيه بغير دليل، واحتجوا أيضاً بالقياس على حج التطوع وعمرة التطوع، فإنهما يلزمان بالشروع بالإجماع. واحتج الشافعية بحديثي عائشة [روايتنا الحادية عشرة] وفيهما فقال: هاتيه، فجئت به، فأكل، ثم قال: قد كنت أصبحت صائماً" "فقال: أرنيه فلقد أصبحت صائماً، فأكل". كما استدلوا بحديث سلمان وأبي الدرداء الذي سبقت الإشارة إليه، وبما رواه أبو داود والترمذي والنسائي والدارقطني والبيهقي وغيرهم "المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام وإن شاء أفطر" قال النووي: ولأنه نفل، فهو إلى خيرة الإنسان في الابتداء، فكذا في الدوام، وأما الجواب عن احتجاجهم بحديث "لا. إلا أن تطوع" فإن الاستثناء المنقطع وإن كان خلاف الأصل لكن يتعين تأويله ليجمع بينه وبين الأحاديث التي ذكرناها، وأما القياس على الحج والعمرة فالفرق أن الحج لا يخرج منه

بالإفساد، لتأكد الدخول فيه [أي يؤمر مفسده بالمضي في فاسده] بخلاف الصوم. اهـ ثم إنه قياس في مقابلة النص، فلا يعتبر به، وأما استدلاهم بقوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} فعن ابن عباس لا تبطلوها بالرياء والسمعة، أو بالشك والنفاق، وقيل لا تبطلوا أعمالكم بارتكاب الكبائر، وقيل: بالعجب، فإن العجب يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب. وأما وجوب القضاء على من أفطر من صوم التطوع فقد احتجوا له ما رواه الترمذي والنسائي عن عائشة قالت: "كنت أنا وحفصة صائمتين، فعرض لنا طعام اشتهيناه" فأكلنا منه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبدرتني إليه حفصة. وكانت ببيت أبيها -فقالت: يا رسول الله .. فذكرت ذلك، فقال: اقضيا يوماً آخر مكانه". وأجاب الآخرون بأن في هذا الحديث مقالاً، وعلى فرض صحته يجمع بين الأحاديث بحمل الأمر بالقضاء على الندب. والله أعلم. وقد أخذ النووي من الحديث الأول من قوله "فليقل: إني صائم" أنه لا بأس بإظهار نوافل العبادة من الصوم والصلاة وغيرهما إذا دعت الحاجة، قال: والمستحب إخفاؤها إذا لم تكن حاجة، قال: وفيه الإشارة إلى حسن المعاشرة، وتأليف القلوب، وحسن الاعتذار. وأخذ من الحديث الحادي عشر، من قوله "فإني صائم" جواز صوم النافلة بنية من النهار، قال: وفيه دليل لمذهب الجمهور أن صوم النافلة يجوز بنية في النهار قبل زوال الشمس، قال: ويتأوله الآخرون على أن سؤاله صلى الله عليه وسلم "هل عندكم شيء" لكونه ضعف عن الصوم. وكان نواه من الليل، فأراد الفطر للضعف: قال: وهذا تأويل فاسد، وتكلف بعيد. اهـ النقطة الثانية: حماية الصوم من اللغو والرفث، والرواية الثانية تأمر بذلك، فتقول "فإذا أصبح أحدكم يوماً صائماً فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل: إني صائم" والرواية الرابعة تقول "الصيام جنة" والرواية الخامسة تقول "فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يسخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم". قال النووي في المجموع: ينبغي للصائم أن ينزه صومه عن الغيبة والشتم، أي يتأكد التنزه عن ذلك في حق الصائم أكثر من غيره، وإلا فغير الصائم ينبغي له ذلك أيضاً، ويؤمر به في كل حال، فلو اغتاب في صومه عصى ولم يبطل صومه عندنا، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد والعلماء كافة إلا الأوزاعي، فقال يبطل الصوم بالغيبة، ويجب قضاؤه، واحتج بحديث أبي هريرة [روايتنا الثانية والخامسة] وبما رواه البخاري عن أبي هريرة أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" وبما رواه أبو هريرة أيضاً قال: قال صلى الله عليه وسلم "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر" رواه النسائي وابن ماجه في سننهما، ورواه الحاكم في المستدرك، وبحديث "ليس الصيام من الأكل والشرب فقط الصيام من اللغو والرفث" رواه البيهقي ورواه الحاكم في المستدرك. قال: وأجاب

أصحابنا عن هذه الأحاديث بأن المراد أن كمال الصوم وفضيلته المطلوبة إنما يكون بصيانته من اللغو والكلام الرديء لا أن الصوم يبطل به. اهـ ويمكن أن يراد منها بطلان الثواب، بمعنى أن السيئات المتحصلة من هذه الأمور قد تساوي الحسنات التي يحصلها الصوم، وكأن صاحبها لم يصم. النقطة الثالثة: فضل الصيام، وفيه تقول الرواية الثالثة قال صلى الله عليه وسلم: "قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام، هو لي، وأنا أجزي به، فوالذي نفس محمد بيده لخلفة فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" وتقول الرواية الخامسة "وللصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه" وتقول الرواية السادسة "كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة عشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف" قال الله عز وجل "إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي" وتقول الرواية الثامنة "إن في الجنة باباً يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل معهم أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيدخلون منه، فإذا دخل آخرهم أغلق، فلم يدخل منه أحد". قال النووي عن سبب فضل الصوم عند قوله "إلا الصيام فإنه لي" اختلف العلماء في معناه مع كون جميع الطاعات لله تعالى، فقيل: سبب إضافته إلى الله تعالى أنه لم يعبد أحد غير الله تعالى به، فلم يعظم الكفار في عصر من الأعصار معبوداً لهم بالصيام، وإن كانوا يعظمونه بصورة الصلاة والسجود والصدقة والذكر وغير ذلك [واعترض على هذا بما يقع من عباد النجوم وأصحاب الهياكل والاستخدامات، فإنهم يتعبدون لها بالصيام] وقيل: لأن الصوم بعيد من الرياء لخفائه، بخلاف الصلاة والحج والغزو والصدقة وغيرها من العبادات الظاهرة، وقيل: لأنه ليس للصائم ولنفسه فيه حظ. قال الخطابي: [ويؤيده ما جاء في روايتنا السادسة "يدع شهوته وطعامه من أجلي"]. قال: وقيل: إن الاستغناء عن الطعام من صفات الله تعالى، فالإضافة إلى نفسه لتقرب الصائم بما يتعلق بهذه الصفة، وإن كانت صفات الله تعالى لا يشبهها شيء، اهـ زاد الحافظ ابن حجر نقلاً عن القرطبي: كأن الله يقول: إن الصائم يتقرب إلي بأمر هو متعلق بصفة من صفاتي. وزاد الحافظ على ما ذكر: أن الصائم يتقرب بصفة من صفات الملائكة، وقال: قال القرطبي: معناه أن الأعمال قد كشفت مقادير ثوابها للناس، وأنها تضاعف من عشرة إلى سبعمائة إلى ما شاء الله، إلا الصيام فإن الله يثيب عليه بغير تقدير، ويشهد لهذا روايتنا السادسة "كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف. قال الله عز وجل: إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به" أي أجازي عليه جزاء كثيراً من غير تعيين لمقداره، وهذا كقوله تعالى: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} [الزمر: 10]. والصابرون الصائمون في أكثر الأقوال. اهـ وكل ما ذكر من هذه الأقوال تلمس للحكمة، وشأنها شأن الوردة تشم ولا تدعك، فإن هي دعكت ضاعت وراحت رائحتها، ولله تعالى أن يفضل ما شاء من العبادات على بعض، وله في ذلك حكمة قد لا نعلمها وهو أعلم، جل شأنه.

قال الحافظ ابن حجر: واتفقوا على أن المراد بالصيام هنا صيام من سلم صيامه من المعاصي قولاً وفعلاً. اهـ [وفي هذا نظر، والأولى أن يقال: صيام من قبل الله صيامه، فقد يعفو الله عن بعض المعاصي التي تلابس الصوم] ونقل ابن العربي عن بعض الزهاد أنه مخصوص بصيام خواص الخواص، فقال: إن الصوم على أربعة أنواع، صيام العوام، وهو الصوم عن الأكل والشرب والجماع، وصيام خواص العوام، وهو هذا مع اجتناب المحرمات من قول أو فعل، وصيام الخواص وهو الصوم عن غير ذكر الله وعبادته وصيام خواص الخواص، وهو الصوم عن غير الله، فلا فطر لهم إلى يوم القيامة. اهـ قال الحافظ ابن حجر وهذا مقام عال، لكن في حصر المراد من الحديث في هذا النوع نظر لا يخفى. اهـ وأقول: إن هذا تضييق وتحجير لفضل الله ورحمته، لا يتفق وسياق الأحاديث، فقد ذكرت لعوام المسلمين، وأطلق فيها الصوم والصائم، نعم حماية الصوم من اللغو والجهل والرفث مطلوبة بنص الأحاديث الصحيحة، فيمكن حمل هذا الجزاء على صوم خواص العوام. والله أعلم. ومن الثناء على خلوف فم الصائم [في روايتنا الثالثة والخامسة والسادسة والسابعة] أخذ الشافعية كراهة السواك للصائم بعد الزوال. قال النووي: لأنه يزيل الخلوف الذي هذه صفته وفضيلته، وإن كان السواك فيه فضل أيضاً، لكن فضيلة الخلوف أعظم، كما أن دم الشهداء مشهود له بالطيب، ويترك له غسل الشهيد مع أن غسل الميت واجب، فإذا ترك الواجب للمحافظة على بقاء الدم المشهود له بالطيب فترك السواك الذي هو ليس واجباً للمحافظة على بقاء الخلوف المشهود له بذلك أولى. اهـ ولا يخفى أن دم الشهيد لن يتأذى به أحد، بخلاف خلوف فم الصائم، فالقياس قياس مع الفارق. وكره المالكية السواك الرطب للصائم، باعتبار ما يخشى منه أن يتحلل من رطوبته شيء في الفم، ورد عليهم بالمضمضة، إذا قذف ماءها فإنه لا يضره بعد ذلك أن يبتلع ريقه. والجمهور على عدم كراهة السواك للصائم، لعموم الأحاديث التي تحث على السواك، والتي لم تفرق بين صائم ومفطر، ومنها ما جاء في البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء" وعن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم "السواك مطهرة للفم مرضاة للرب". النقطة الرابعة: التطوع بالصوم، ونوزعه على عناصر: (أ) صوم النبي صلى الله عليه وسلم. (ب) صوم عبد الله بن عمرو بن العاص وإرشاد النبي صلى الله عليه وسلم. (جـ) صوم المجاهد والمرابط في سبيل الله. (د) صوم أيام معينة من أيام السنة. (أ) أما صوم النبي صلى الله عليه وسلم تطوعاً فحاصل الروايات التي ساقها الإمام مسلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يكثر من

الصيام كما كان يكثر من الإفطار "كان يصوم حتى نقول: قد صام، قد صام. ويفطر حتى نقول: قد أفطر، قد أفطر". [روايتنا السادسة عشرة والثانية والعشرين "يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم" [روايتنا السابعة عشرة والحادية والعشرين] "كان يصوم إذا صام حتى يقول القائل: لا والله لا يفطر، ويفطر إذا أفطر حتى يقول القائل: لا والله لا يصوم" [روايتنا المتممة للعشرين] كما أن حاصل الروايات أنه صلى الله عليه وسلم لم يصم شهراً كاملاً متتابعاً غير رمضان، ولا أفطر شهراً كاملاً دون صيام، تصرح بذلك عائشة رضي الله عنها، فتقول في روايتنا الرابعة عشرة "والله إن صام -أي ما صام- شهراً معلوماً سوى رمضان حتى مضى لوجهه، ولا أفطره حتى يصيب منه" وتقول في روايتنا الخامسة عشرة: "ما علمته صام شهراً كله إلا رمضان، ولا أفطره كله حتى يصوم منه، حتى مضى لسبيله صلى الله عليه وسلم" وتقول في روايتنا السادسة عشرة "وما رأيته صام شهراً كاملاً منذ قدم المدينة إلا أن يكون رمضان" وتقول في روايتنا السابعة عشرة "وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان". كما أنه صلى الله عليه وسلم لم يكثر الصيام في شهر مثل ما أكثر في شهر شعبان، تصرح بذلك عائشة في روايتنا السابعة عشرة، فتقول: "وما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان" وفي روايتنا التاسعة عشرة تقول: "لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشهر من السنة أكثر صياماً منه في شعبان" وفي روايتنا الثامنة عشرة تقول: "ولم أره صائماً من شهر قط أكثر من صيامه من شعبان، كان يصوم شعبان كله" بل "كان يصوم شعبان إلا قليلاً". (ب) وأما صيام عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم له فقد ذكر الإمام مسلم بشأنه اثنتى عشرة رواية، تبدأ بالرواية الثالثة والعشرين، وتنتهي بالرواية الرابعة والثلاثين، واختلف الرواة بشأنها، فقد حفظ بعضهم ما لم يحفظ الآخر، وذكر بعضهم بعض ما يحفظ، وذكر بعضهم ما لم يذكر الآخر، ومنهم من اقتصر على قصة الصلاة ومنهم من اقتصر على قصة الصيام ومنهم من ساق القصة كلها، وقد تحدث عبد الله بن عمرو نفسه عن قصته بجزء منها تارة، وبأكثر منه تارة أخرى، فجاءت الروايات مختلفة عن قصة واحدة وسنحاول تجميع الصورة من مختلف الروايات، وبالله التوفيق. كان عبد الله بن عمرو بن العاص واحداً من نفر من الصحابة رغبوا أن يبالغوا في العبادة، فقرر أن يصوم الدهر، ويقوم الليل، ويقرأ القرآن كله في كل ليلة، تحكي الرواية الثالثة والعشرون أنه كان يقول: "لأقومن الليل ولأصومن النهار ما عشت" ونفذ قراره، كما يقول في الرواية الرابعة والعشرين "كنت أصوم الدهر، وأقرأ القرآن كل ليلة" وكما يقول في الرواية السابعة والعشرين "بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أني أسرد الصوم" -أي أتابعه- وفي رواية للبخاري يقول: "أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أقول: والله لأصومن النهار، ولأقومن الليل ما عشت". ولم تبرز روايات الإمام مسلم من الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم؟ ولا الأمر الذي دفع إلى الإخبار، وقد أبرزت ذلك رواية البخاري في كتاب فضائل القرآن، ولفظها "عن عبد الله بن عمرو قال: أنكحني أبي

[أي زوجني أبي] امرأة ذات حسب، فكان يتعاهد كنته [بفتح الكاف وتشديد النون، أي زوجة ابنه] فيسألها عن بعلها؛ فتقول: نعم الرجل من رجل، لم يطأ لنا فراشاً [أي لم يضاجعنا حتى يطأ فراشنا] ولم يفتش لنا كنفاً [أي لم يكشف لنا ستراً، ولم يرفع لنا ثوباً] وتأنى عمرو بن العاص لعل ابنه يرعى حق زوجه، وهو يعلم ما عليه ابنه من الصيام والقيام، فلما لم يقم ابنه بواجبه نحو زوجه أقبل عليه يلومه -كما جاء في بعض الروايات -[يقول له: أنكحتك امرأة من قريش ذات حسب فعضلتها، وفعلت .... وفعلت.] فلما طال ذلك [أي فلما تمادى عبد الله على حاله خشي عمرو بن العاص أن يلحقه إثم بتضييع حق زوجة ابنه فشكاه] ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم [لأنه صلى الله عليه وسلم الوحيد الذي إليه المرجع في الصيام والقيام]. وتحكي الرواية الرابعة والعشرون أن الرسول صلى الله عليه وسلم استدعاه فأتاه، وتردد الرواية السابعة والعشرون بين الإرسال وبين اللقاء عفواً فتقول "فإما أرسل إلي، وإما لقيته"، وتحكي الرواية الثانية والثلاثون أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي ذهب إلى عبد الله في داره، ويجمع بين الروايات باحتمال أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل إليه رجلاً، فلم يقابله، ولم يبلغه الطلب أو شك في ذلك، فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالشك من عبد الله هل كان اللقاء قبل علمه بالإرسال أو بعده، ولما لقيه صلى الله عليه وسلم كلمه من غير أن يستوعب ما يريد من ذلك، ثم أتاه إلى بيته لمزيد الوعظ والنصح. والقصة تتعلق بثلاث من العبادات. الصوم والتهجد وقراءة القرآن. أما الصوم فالظاهر من مجموع الروايات أنه صلى الله عليه وسلم أمره بالاقتصار على ثلاثة أيام من كل شهر، فلما قال: إنه يطيق أكثر من ذلك زاده بالتدريج، فأمره بالاقتصار على خمسة أيام من كل شهر، ففي الرواية الثانية والثلاثين "يكفيك من كل شهر ثلاثة أيام. قلت يا رسول الله! قال: خمساً"، فلما راجعه أمره بستة أيام، ففي الرواية الثانية والثلاثين "صم يوماً، أي من عشرة "قال: إني أطيق أكثر من ذلك قال: صم يومين"، أي من عشرة، ففي الشهر ستة أيام، فلما راجعه أمره بسبعة أيام من كل شهر ثم بتسعة أيام، ففي الرواية الثانية والثلاثين "قال سبعاً: قلت: يا رسول الله! قال: تسعاً" ثم أمره بعشرة أيام من كل شهر، وفي الرواية الثالثة والعشرين، "صم يوماً وأفطر يومين" ثم أمره باثنى عشر يوماً من كل شهر، كما في الرواية الثالثة والثلاثين "صم أربعة أيام ولك أجر ما بقي" أي من العشرة، ففي الشهر اثنا عشر يوماً؛ ثم أمره بخمسة عشر يوماً، صوم داود عليه السلام. فالتدرج بدأ تصاعدياً بثلاثة، ثم بخمسة، ثم بستة، ثم بسبعة، ثم بتسعة، ثم بعشرة، ثم بأحد عشر، ثم بخمسة عشر، فذكر بعض الرواة ما لم يذكر الآخر، وجمع الإشارة إلى ذلك بما جاء عند أبي داود "فلم يزل يناقصني وأناقصه" أي فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يناقصني أيام فطري ويزيد في أيام صومي، وأناقصه، أي أطلب منه نقص أيام فطري وزيادة أيام صومي "حتى بلغ صوم داود عليه السلام". وفي حكم صوم الدهر قال النووي: اختلف العلماء فيه، فذهب أهل الظاهر إلى منع صيام الدهر، نظراً لظواهر هذه الأحاديث، وذهب جماهير العلماء إلى جوازه إذا لم يصم الأيام المنهي عنها،

وهي العيدين والتشريق، ومذهب الشافعي وأصحابه أن سرد -أي متابعة الصيام إذا أفطر العيدين والتشريق لا كراهة فيه، بل هو مستحب بشرط ألا يلحقه به ضرر، ولا يفوت به حقاً، فإن تضرر أو فوت حقاً فمكروه، واستدلوا بحديث حمزة بن عمرو، وقد رواه البخاري ومسلم أنه قال: "يا رسول الله إني أسرد الصوم، أفأصوم في السفر؟ فقال: إن شئت فصم"، ولفظ رواية مسلم "فأقره صلى الله عليه وسلم على سرد الصيام". [والإمام النووي يحيل على روايتنا الخامسة عشرة والسادسة عشرة والسابعة عشرة من روايات باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية الذي مضى قبل أربعة أبواب، وليس من ألفاظه ما ذكره النووي صراحة، ولكن فيها معنى إقراره له سرد الصوم في السفر لأيام شهر رمضان] قال النووي: ولو كان مكروهاً لم يقره، لا سيما في السفر. قال: وأجابوا عن حديث "لا صام من صام الأبد". [روايتنا السابعة والعشرين] بأجوبة: أحدها: أنه محمول على حقيقته بأن يصوم معه العيدين والتشريق، وبهذا أجابت عائشة رضي الله عنها. والثاني: أنه محمول على من تضرر به أو فوت به حقاً، ويؤيده أن النهي كان خطاباً لعبد الله بن عمرو بن العاص، وقد ذكر مسلم عنه أنه عجز في آخر عمره. وندم على كونه لم يقبل الرخصة [يشير إلى روايتنا الرابعة والعشرين، وفيها "فلما كبرت وددت أني كنت قبلت رخصة نبي الله صلى الله عليه وسلم] قالوا: فنهى ابن عمرو لعلمه بأنه سيعجز، وأقر حمزة بن عمرو لعلمه بقدرته بلا ضرر. والثالث: أن معنى "لا صام" أنه لا يجد من مشقته ما يجدها غيره، فيكون خبراً، لا دعاء، وقوله صلى الله عليه وسلم [في روايتنا الثالثة والعشرين] "فإنك لا تستطيع ذلك" فيه إشارة إلى ما قدمناه أنه صلى الله عليه وسلم علم من حال عبد الله بن عمرو أنه لا يستطيع الدوام عليه، بخلاف حمزة بن عمرو انتهى. ووضح الحافظ ابن حجر الجواب الأول واعترض عليه، فقال: وذهب جماعة إلى جواز صوم الدهر، وحملوا أخبار النهي [قول صلى الله عليه وسلم في روايتنا السابعة والعشرين والرابعة والثلاثين لعبد الله بن عمرو: "ألم أخبر أنك تصوم ولا تفطر، وتصلي الليل؟ فلا تفعل" وقوله في نهاية هذه الرواية "لا صام من صام الأبد. ثلاثاً". وقوله في الرواية السابعة والثلاثين في جواب سؤال عمر: كيف بمن يصوم الدهر كله؟ "قال: لا صام ولا أفطر -[أو قال: لم يصم ولم يفطر] حملوا أخبار النهي على من صامه [كاملاً] حقيقة، فإنه يدخل فيه ما حرم صومه كالعيدين. قال: وهذا اختيار ابن المنذر وطائفة. وروي عن عائشة نحوه. قال: وفيه نظر، لأنه صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك جواباً لمن سأله عن صوم الدهر "لا صام ولا أفطر" وهو يؤذن بأنه ما أجر ولا أثم، ومن صام العيدين لا يقال فيه ذلك [بل يقال فيه: أثم] وأيضاً الأيام المحرم صيامها مستثناة بالشرع، غير قابلة للصوم شرعاً، فهي بمنزلة الليل وأيام الحيض، فلا تدخل في سؤال السائل الذي علم

تحريمها، ولا يصح أن تقصد في جوابه وأما الذي لا يعلم تحريمها فلا يصلح في جوابه "لا صام ولا أفطر". ووضح الجواب الثاني واعترض عليه، فقال: ومن حجتهم حديث حمزة بن عمرو، فإن في بعض طرقه عند مسلم "أنه قال: يا رسول الله، إني أسرد الصوم" [فحملوا سرد الصوم على صيام الدهر] وحملوا قوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو "لا أفضل من ذلك" أي في حقك، فيلتحق به من في معناه، ممن يدخل به على نفسه مشقة، أو يفوت حقاً، ولذلك لم ينه حمزة بن عمرو عن السرد، فلو كان السرد ممتنعاً لبينه له، لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. قال الحافظ: وتعقب بأن سؤال حمزة إنما كان عن الصوم في السفر لا عن صوم الدهر، ولا يلزم من التعبير بسرد الصيام صوم الدهر، فقد عبر به عن صوم النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة بن زيد عند أحمد "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسرد الصوم فيقال: لا يفطر" ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصوم الدهر. وتوضيح الجواب الثالث أن معنى "لا صام من صام الأبد" أن من اعتاد الصوم لا يكاد يشق عليه، ولا يكاد يحس بأنه صائم، بل تضعف شهوته عن الأكل، وتقل حاجته إلى الطعام والشراب نهاراً، ويألف تناوله بالليل فالكلام خبر، وليس فيه نهي عن صوم الأبد. قال الحافظ ابن حجر: واختلف المجيزون لصوم الدهر بشرط أن لا يلحقه به ضرر، ولا يفوت به حقاً. هل هو أفضل؟ أو صيام يوم وإفطار يوم أفضل؟ فصرح جماعة من العلماء بأن صوم الدهر أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم في روايتنا الثالثة والعشرين "فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر" وقوله في روايتنا الخامسة والأربعين "من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر" قالوا: والمشبه به أقوى من المشبه فدل ذلك على أن صيام الدهر أفضل، وأنه مطلوب، ورد بأن التشبيه لا يقتضي أفضلية المشبه به من كل وجه، على أن المشبه في الحديث الأول من صوم ثلاثة أيام من كل شهر، والمشبه في الحديث الثاني صوم رمضان وصوم ست من شوال فإن دل الحديثان على أفضلية صوم الدهر عما جاء فيهما فإنه لا يدل على فضيلته على صوم داود عليه السلام. كما استدلوا بأن صوم الدهر أكثر عملاً، فيكون أكثر أجراً، وبذلك جزم الغزالي أولاً، وقيده بشرط أن لا يصوم الأيام المنهي عنها، وأن لا يرغب عن السنة، بأن يجعل الصوم حجراً على نفسه، فإذا أمن من ذلك فالصوم من أفضل الأعمال، فالاستكثار منه زيادة في الفضل. وتعقبه ابن دقيق العيد بأن الأعمال متعارضة المصالح والمفاسد، ومقدار كل منها في الحث والمنع غير متحقق، فزيادة الأجر بزيادة العمل في شيء يعارضه اقتضاء العادة التقصير في حقوق أخرى يعارضها العمل المذكور، ومقدار الحاصل غير متحقق، فالأولى التفويض إلى حكم الشرع. وذهب جماعة، منهم المتولي من الشافعية إلى أن صيام داود أفضل، يدل على ذلك قوله "لا أفضل من ذلك" وقوله: "إنه أحب الصيام إلى الله تعالى" قال الحافظ ابن حجر: وهو ظاهر الحديث،

بل صريحه، ويترجح من حيث المعنى أيضاً بأن صيام الدهر قد يفوت بعض الحقوق، وبأن من اعتاده لا يكاد يشق عليه، بخلاف من يصوم يوماً ويفطر يوماً، فإنه ينتقل من فطر إلى صوم، ومن صوم إلى فطر، وقد نقل الترمذي عن بعض أهل العلم أنه أشق الصيام، ويأمن مع ذلك غالباً من تفويت الحقوق، كما أشار إلى ذلك في حق داود عليه السلام [في روايتنا الثانية والعشرين "ولا يفر إذا لاقى" لأن من أسباب الفرار ضعف الجسد، ولا شك أن سرد الصوم ينهكه، وعلى ذلك يحمل قول ابن مسعود -فيما رواه سعيد بن منصور بإسناد صحيح عنه- أنه قيل له: "إنك لتقل الصيام؟ فقال: إني أخاف أن يضعفني عن القراءة، والقراءة أحب إلي من الصيام". قال الحافظ: نعم إن فرض أن شخصاً لا يفوته شيء من الأعمال الصالحة بالصيام أصلاً، ولا يفوت حقاً من الحقوق التي خوطب بها [وهذا فرض محض، إذ يبعد وجود من يؤدي حق نفسه وزوجه وولده وزائره مع صومه طول العام] لم يبعد أن يكون في حقه أرجح. اهـ وحاصل الأقوال في حكم صوم الدهر عدا العيدين. الأول جوازه لمن قوي عليه ولم يفوت به حقاً، وصوم يوم وإفطار يوم أفضل. الثاني: جوازه لمن قوي عليه ولم يفوت به حقاً، وصومه أفضل. الثالث: استحبابه لمن قوي عليه ولم يحصل له به ضرر ولم يفوت به حقاً. فإن فوت حقاً واجباً حرم، وإن فوت حقاً مستحباً أولى من الصيام كره، وإن فوت مستحباً الصيام أولى منه فلا يكره. الرابع: إن صوم الدهر -ما عدا العيدين- مكروه مطلقاً. ذهب إلى ذلك إسحق وأهل الظاهر وهو رواية عن أحمد، وإليه ذهب ابن العربي من المالكية، وقال: قوله صلى الله عليه وسلم "لا صام من صام الأبد" إن كان معناه الدعاء فياويح من أصابه دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان معناه الخبر فياويح من أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يصم، وإذا لم يصم شرعاً لم يكتب له الثواب، لوجوب صدق النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه نفى عنه الصوم، وقد نفى عنه الفضل، فكيف يطلب الفضل فيما نفاه النبي صلى الله عليه وسلم؟ . الخامس: أن صوم الدهر حرام، شذ به ابن حزم، ويحتج له بحديث أبي موسى رفعه "من صام الدهر ضيقت عليه جهنم، وعقد بيده" أخرجه أحمد والنسائي وابن خزيمة وابن حبان، قالوا: ظاهره أنها تضيق عليه، حصراً له فيها لتشديده على نفسه، وحمله عليها، ورغبته عن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم واعتقاده أن غير سنته أفضل منها، وهذا يقتضي الوعيد الشديد، فيكون حراماً. ويجيب الجمهور: عن هذا الحديث بأن معناه ضيقت عنه جهنم، فلا يدخلها، ويجعلون لفظ "عليه" بمعنى "عنه" قالوا: ويبعد أن يكون الحديث على ظاهره، لأن من ازداد لله عملاً وطاعة ازداد عند الله رفعة، وتعقب بأنه ليس كل عمل صالح إذا ازداد العبد منه ازداد من الله قرباً، رب عمل صالح إذا ازداد منه إزداد بعداً، كالصلاة في الأوقات المكروهة.

قال الحافظ ابن حجر: والأولى إجراء الحديث على ظاهره، وحمله على من فوت حقاً واجباً بذلك، فإنه يتوجه إليه الوعيد. (جـ) وأما صوم المجاهد والمرابط في سبيل الله فقد تعرضت له روايتنا التاسعة والعاشرة، وقد وضحنا المراد من سبيل الله وبعض ما يتعلق به في المباحث العربية. قال الحافظ ابن حجر: ولا يعارض ذلك أن الفطر في الجهاد أولى، لأن الصائم يضعف عن اللقاء، لأن الفضل المذكور محمول على من لم يخش ضعفاً، ولا سيما من اعتاد به، فصار ذلك من الأمور النسبية، فمن لم يضعفه الصوم عن الجهاد فالصوم في حقه أفضل، ليجمع بين الفضيلتين. (د) وأما تخصيص أيام بالصوم فأولها شهر شعبان، وقد تعرضت له الروايات السابعة عشرة والثامنة عشرة والتاسعة عشرة "ما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان". "لم أره صائماً من شهر قط أكثر من صيامه من شعبان، كان يصوم شعبان كله. كان يصوم شعبان إلا قليلاً" "لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشهر من السنة أكثر صياماً منه في شعبان" وقد بسطنا القول عن المراد في المباحث العربية وهو لا يختلف في أن المراد إكثاره صلى الله عليه وسلم الصوم في شعبان. وقد حاول العلماء تلمس الحكمة في إكثاره الصوم صلى الله عليه وسلم في هذا الشهر، فقيل: لأنه شهر مفضل، فالصيام فيه أفضل من الصيام في غيره، ورد بأن شهر المحرم أفضل منه بصريح روايتنا الثالثة والأربعين والرابعة والأربعين، وفيهما "أفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شهر الله المحرم"، ولا يعارضه ما أخرجه الترمذي من طريق صدقة بن موسى عن ثابت عن أنس قال: "سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الصوم أفضل بعد رمضان؟ قال: شعبان لتعظيم رمضان" لأن الترمذي قال: هذا حديث غريب، و"صدقة" عندهم ليس بذاك القوي. وقد أجاب النووي عن كونه لم يكثر الصيام في المحرم مع تصريحه بأنه أفضل الصيام بعد رمضان، فقال: يحتمل أن يكون ما علم ذلك إلا في آخر عمره، فلم يتمكن من كثرة الصوم في المحرم، أو اتفق له فيه من الأعذار بالسفر أو المرض مثلاً ما منعه من كثرة الصوم فيه. اهـ وقيل: الحكمة في إكثاره من الصيام في شعبان دون غيره أن نساءه صلى الله عليه وسلم كن يقضين ما عليهن من رمضان في شعبان -كما سبق- فكان يشاركهن الصيام. وقيل: كان يشتغل عن صوم ثلاثة أيام من كل شهر لسفر أو غيره فيقضيها في شعبان، قال الحافظ ابن حجر: وفيه حديث ضعيف أخرجه الطبراني في الأوسط عن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، فربما أخر ذلك حتى يجتمع عليه صوم السنة فيصوم في شعبان". وقيل: الحكمة في ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، ولما كان صوم رمضان فريضة ضم أيامه الثلاثة إلى أيام شعبان فكان يصوم في شعبان قدر ما يصوم في شهرين غيره.

وقيل: كان صلى الله عليه وسلم يصوم صوم داود، نصف العام، فيبقى عليه بقية يؤديها في شعبان. قال الحافظ: والأولى في ذلك ما جاء في حديث أصح مما مضى، أخرجه النسائي وأبو داود وصححه ابن خزيمة، عن أسامة بن زيد قال: "قلت: يا رسول الله، لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم". اهـ ورفع الأعمال إلى الله في شعبان دون غيره مشكل" فقد ورد كما سيأتي أنها ترفع كل اثنين وكل خميس، نعم روي في أحاديث ضعيفة أن الملائكة الموكلين بأعمال العباد وآجالهم وأرزاقهم ينسخون في كتبهم أعمالهم للسنة في ليلة النصف من شعبان، فقد روى المحب الطبري، عن عائشة رضي الله عنها أنها "قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: مالي أراك تكثر صيامك فيه: قال: يا عائشة. إنه شهر ينسخ فيه ملك الموت من يقبض، وأنا أحب أن لا ينسخ اسمي إلا وأنا صائم" وروى الترمذي عن عائشة: قالت: "فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة، فخرجت، فإذا هو بالبقيع. فقال: أكنت تخافين أن يحيف الله عليك ورسوله؟ قلت: يا رسول الله، ظننت أنك أتيت بعض نسائك. فقال: إن الله عز وجل ينزل ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا، فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم بني كلب" والحديث ضعيف في سنده انقطاع وزاد البيهقي في بعض رواياته "قال: هل تدري ما في هذه الليلة؟ قالت: ما فيها يا رسول الله؟ قال: فيها أن يكتب كل مولود من بني آدم في هذه السنة وفيها أن يكتب كل هالك من بني آدم في هذه السنة وفيها ترفع أعمالهم، وفيها تنزل أرزاقهم". وأخرج ابن ماجه والبيهقي في شعب الإيمان عن علي -كرم الله وجهه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها، وصوموا نهارها، فإن الله تعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى السماء الدنيا، فيقول: ألا مستغفر فأغفر له؟ ألا مسترزق فأرزقه؟ ألا مبتلى فأعافيه؟ ألا كذا؟ ألا كذا؟ حتى يطلع الفجر". وأخرج أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يطلع الله تعالى إلى خلقه ليلة النصف من شعبان، إلا اثنين، مشاحن وقاتل نفس". ويفسر عكرمة الليلة المباركة في قوله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم} [الدخان: 3، 4]. يفسرها بليلة النصف من شعبان، فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة أنه قال في الآية: في ليلة النصف من شعبان يبرم أمر السنة، وينسخ الأحياء من الأموات. ويكتب الحاج، فلا يزاد فيهم، ولا ينقص منهم أحد" وأخرج ابن جرير والبيهقي في شعب الإيمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان، حتى إن الرجل لينكح ويولد له وقد خرج اسمه في الموتى" والجمهور على أن المراد بالليلة المباركة ليلة القدر.

والحق أن الأحاديث الكثيرة الواردة في فضل ليلة النصف من شعبان لا تخلو عن ضعف، قال الحافظ أبو بكر بن العربي: لا يصح فيه شيء، ونسخ الآجال فيها، لا يخلو من مجازفة. اهـ وهناك مرويات صرح العلماء بأنها موضوعة منها ما نسب إلى الإمام علي رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة النصف من شعبان قام فصلى أربع عشرة ركعة، ثم جلس، فقرأ بأم القرآن أربع عشرة مرة .... " الحديث طويل، وفي آخره "من صنع هكذا لكان له كعشرين حجة مبرورة، وكصيام عشرين سنة مقبولة فإن أصبح في ذلك اليوم صائماً كان له كصيام ستين سنة ماضية وستين سنة مستقبلة" ذكره ابن الجوزي في الموضوعات، وقال: هذا موضوع وإسناده مظلم. وروي أيضاً لعلي "من صلى مائة ركعة في ليلة النصف من شعبان. "إلخ وقال: لا شك أنه موضوع. وقد أطال الوعاظ الكلام في هذه الليلة وذكر فضائلها وخواصها بما لا أصل له، لكن كل هذا لا يمنع من فضل شهر شعبان، وفضل الصيام فيه ولا تعارض بين إكثار النبي صلى الله عليه وسلم الصيام في شعبان وبين النهي عن صوم يوم الشك، وعن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين. وعن صوم نصف شعبان الثاني قال الحافظ ابن حجر: فإن الجمع بينها ظاهره بأن يحمل النهي على من لم يدخل تلك الأيام في صيام اعتاده. اهـ وقد تعرضت الرواية المتممة للأربعين والواحدة والأربعون والثانية والأربعون إلى صيام سرر شعبان. وذكرنا طرفاً من شرحها في المباحث العربية، وقلنا: قد يراد بسرر شعبان الأيام الثلاثة التي في وسطه، وقد يراد بها آخره، وسيأتي ما يستنبط من هذه الروايات فيما يؤخذ من الحديث من الأحكام. والله أعلم. وثاني وثالث الأيام التي خصت بالصوم في روايتنا صيام يوم عاشوراء، وصيام يوم عرفة. وقد تعرضت لهما الرواية السابعة والثلاثون والثامنة والثلاثون، وسبق الكلام عليهما في بابين خاصين بهما قبل بابين. ورابعها وخامسها: صوم يوم الإثنين ويوم الخميس، وقد جاء في الرواية الثامنة والثلاثين "سئل عن صوم يوم الإثنين؟ قال: ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت فيه" وفي ملحق هذه الرواية "وسئل عن صوم يوم الإثنين والخميس" وفي الرواية التاسعة والثلاثين "سئل عن يوم الإثنين؟ فقال: فيه ولدت، وفيه أنزل علي". قال النووي في المجموع: اتفق أصحابنا وغيرهم على استحباب صوم الإثنين والخميس، وساق دليلاً على ذلك أحاديث الباب، وزاد ما رواه أحمد بن حنبل والدارمي وأبو داود والنسائي عن أسامة، ولفظ أبي داود" قلت: يا رسول الله إنك تصوم حتى لا تكاد تفطر، وتفطر حتى لا تكاد أن تصوم، إلا في يومين، إن دخلا في صيامك، وإلا صمتهما، قال: أي يومين؟ قلت: يوم الإثنين والخميس. قال: ذلك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين، وأحب أن يعرض عملي وأنا صائم" وما رواه مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تعرض أعمال الناس في كل جمعة مرتين، يوم الإثنين

ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد مؤمن إلا عبداً بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: اتركوا هذين حتى يفيئاً"، وفي رواية و"تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين والخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً، إلا رجل كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا" وما رواه الترمذي وحسنه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تعرض الأعمال يوم الإثنين والخميس، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم" وما رواه النسائي والترمذي وحسنه عن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحرى يوم الإثنين والخميس" أي يقصدهما بالصوم. وسادسها: صيام أيام البيض، الثلاثة الوسطى من الشهر -قال النووي في المجموع: بإضافة "أيام" إلى "البيض" وهذا هو الصواب، ووقع في كثير من كتب الفقه وغيرها وفي كثير من الكتب "الأيام البيض" بالألف واللام، وهو خطأ، لأن الأيام كلها بيض، وإنما صوابه "أيام البيض" أي أيام الليالي البيض. قال ابن قتيبة في سبب تسمية هذه الليالي بيضاً: والجمهور لأنها تبيض بطلوع القمر من أولها إلى آخرها. قال النووي: والصحيح والمشهور الذي قطع به الجمهور من أصحابنا وغيرهم أنها اليوم الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، وفي وجه لأصحابنا أنها الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر، وهذا شاذ وضعيف ترده الأحاديث. وقال: اتفق أصحابنا على استحباب صوم أيام البيض، وجاء في غير مسلم تخصيصها، فقد روي النسائي والترمذي وحسنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا صمت من الشهر ثلاثاً فصم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة" وروى أبو داود والنسائي وابن ماجه "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بصيام أيام البيض، ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة. وفيه إسناد مجهول. وروى النسائي بإسناد حسن "صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر، أيام البيض ثالث عشرة ورابع عشرة وخامس عشرة". نعم روايتنا الخاصة بصوم عبد الله بن عمرو لم تحدد الأيام الثلاثة المطلوب صيامها من كل شهر، بل إن روايتنا الخامسة والثلاثين تصرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتحرى ثلاثة أيام معينة، ففيها: سئلت عائشة: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام؟ قالت: نعم. قيل لها: من أي أيام الشهر كان يصوم؟ قالت: لم يكن يبالي من أيام الشهر يصوم". وقد وفق بعض العلماء بأن عائشة -رضي الله عنها- رأت منه صيام الأيام المذكورة، ورأت منه صيام غيرها، فأطلقت، وما أمر به صلى الله عليه وسلم أصحابه أولى من غيره، فربما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض له ما يشغله عن صيام البيض فيصوم بدلها، أو كان يفعل ذلك لبيان الجواز. واعتمد بعضهم عدم تعيين الأيام الثلاثة، فقال الباجي: إن الأحاديث التي رويت في إباحة تعمدها بالصوم لا تثبت. وروي عن مالك كراهة تعمد صومها" وقال: الأيام كلها لله تعالى، وحكى القرطبي أن هذا هو المعروف من مذهب مالك. أما الجمهور وأكثر أهل العلم والشافعي وأصحابه

وأبو حنيفة وصاحباه وأحمد وإسحاق وابن حبيب من المالكية فقالوا باستحباب صومها معينة في الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر. والله أعلم. وسابعها: صيام شهر الله المحرم، أو الصيام في شهر الله المحرم، وقد نصت على فضله روايتنا الثالثة والأربعون والرابعة والأربعون، وفيهما "أفضل الصيام بعد رمضان صيام شهر الله المحرم". قال النووي في المجموع: ومن الصوم المستحب صوم الأشهر الحرم، وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، وأفضلها المحرم. ثم ساق حديث الباهلي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "صم من الأشهر الحرم واترك. صم من الأشهر الحرم واترك، صم من الأشهر الحرم واترك" رواه أبو داود وغيره. وثامنها: صيام ست من شوال، وروايتنا الخامسة والأربعون صريحة في استحبابها وفضلها، ولفظها "من صام رمضان، ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر". قال النووي في المجموع: قال أصحابنا: يستحب صوم ستة أيام من شوال، لهذا الحديث، قالوا: ويستحب صومها متتابعة في أول شوال، فإن فرقها أو أخرها عن أول شوال جاز، وكان فاعلاً لأصل هذه السنة، لعموم الحديث وإطلاقه. وهذا لا خلاف فيه عندنا، وبه قال أحمد وداود. وقال مالك وأبو حنيفة: يكره صومها. قال مالك في الموطأ: وصوم ستة أيام من شوال لم أر أحداً من أهل العلم والفقه يصومها، ولم يبلغه ذلك عن أحد من السلف. وأن أهل العلم كانوا يكرهون ذلك، ويخافون بدعته، وأن يلحق برمضان أهل الجفاء والجهالة ما ليس منه لو رأوا ذلك رخصة عند أهل العلم، ورأوهم يعملون ذلك. قال النووي: هذا كلام في الموطأ. ودليلنا الحديث الصحيح السابق، ولا معارض له، وأما قول مالك: لم أر أحداً يصومها فليس بحجة في الكراهة، لأن السنة ثبتت في ذلك بلا معارض، فكونه لم ير لا يضر، وقولهم: لأنه قد يخفى ذلك فيعتقد وجوبه ضعيف، لأنه لا يخفى ذلك على أحد، ويلزم قوله أنه يكره صوم يوم عرفة وعاشوراء وسائر الصوم المندوب إليه، وهذا لا يقوله أحد. اهـ النقطة الخامسة: ما يؤخذ من الأحاديث من الأحكام والحكم والفوائد غير ما سبق: 1 - يؤخذ من الرواية الحادية عشرة والثانية عشرة ما كانت عليه بيوت النبي صلى الله عليه وسلم من ضيق العيش حتى كان صلى الله عليه وسلم لا يجد فيها ما يأكله الجائع. 2 - وما كان عليه الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- من وصل بيوت النبي صلى الله عليه وسلم بإهدائهم الطعام. 3 - قبول الرسول صلى الله عليه وسلم للهدية وأكله منها دون السؤال عن مرسلها. 4 - ومن قول عائشة "وقد خبأت لك شيئاً" إتحاف الزوجة زوجها بأطيب ما تصل إليه يدها. 5 - ومن الرواية الثالثة عشرة عن الصائم إذا أكل أو شرب أو جامع ناسياً لا يفطر، قال النووي: وهو مذهب الأكثرين، وممن قال به الشافعي وأبو حنيفة وداود وآخرون، وقال مالك: يفسد صومه، وعليه القضاء دون الكفارة، وقال عطاء والأوزاعي والليث: يجب القضاء في الجماع دون الأكل، وقال أحمد: يجب في الجماع القضاء والكفارة، ولا شيء في الأكل. اهـ

فتحصل من هذا أن فريقاً من العلماء يرى أن من أكل أو شرب ناسياً وهو صائم لا يفسد صومه، وبالتالي لا قضاء عليه، سواء في ذلك صيام رمضان وصيام التطوع، قال بذلك فقهاء الأمصار من الشافعية والحنفية والحنابلة، وحجتهم حديث أبي هريرة -روايتنا الثالثة عشرة- "من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه، ففي الحديث أمر بالإتمام، والإتمام ينافي الفساد، وسمي ما بعد الأكل والشرب مضافاً إلى الله تعالى. مسلوب الإضافة إلى الصائم، شأن أداة القصر "إنما" التي تثبت شيئاً لشيء وتنفيه عما عداه، فلو كان الأكل ناسياً مفطراً لأضيف إلى الصائم. كما استدلوا بما أخرجه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني بلفظ "فلا قضاء عليه" وهذا نص في مواطن النزاع. قالوا: ثم هو موافق لقوله تعالى: {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} [البقرة: 225]. فالنسيان ليس من كسب القلب، فلا يؤاخذ عليه. ثم هو موافق للقياس في إبطال الصلاة بعمد الكلام، لا بنسيانه، فكذلك الصيام. وذهب الإمام مالك إلى أن من أكل أو شرب ناسياً وهو صائم فسد صومه، قال ابن العربي: لأن الفطر ضد الصوم، والإمساك ركن الصوم، فأشبه ما لو نسي ركعة من الصلاة، فاعتمد القياس. قال: والأصل عند مالك أن خبر الواحد إذا جاء مخالفاً القواعد لم يعمل به، والحديث الأول موافق للقاعدة في رفع الإثم عن الناس فيعمل به، وأما الثاني الذي ينفي القضاء فلا يوافق القاعدة فلا يعمل به وقال الداودي: لعل مالكاً لم يبلغه الحديث، أو أوله على رفع الإثم. ويحاول المالكية أن يردوا حجة الجمهور، ويقول ابن القصار: إن معنى قوله "فليتم صومه" أي الذي كان دخل فيه، ومعناه فليمسك بقية يومه على سبيل الصوم اللغوي، وليس الشرعي، قال: وليس في الحديث نفي بل هو لم يتعرض للقضاء، وقوله "فإنما أطعمه الله وسقاه" تحمل على سقوط المؤاخذة والإثم والكفارة وإثبات عذره، وبقاء نيته التي بيتها. ويعتل بعضهم بأنه لم يقع في الحديث تعيين رمضان، فيحمل على صوم التطوع: فلا قضاء فيه، أما صوم رمضان فيجب فيه القضاء. ولما رد عليهم بحديث الدارقطني، وفيه "من أفطر في شهر رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة" قالوا: حديث فرد، ورد عليهم الحافظ ابن حجر بأن أقل درجاته أن يكون حسناً، فيصلح للاحتجاج به، وقد وقع الاحتجاج في كثير من المسائل بما هو دونه في القوة. قال: وأما القياس الذي ذكره ابن العربي فهو في مقابلة النص، فلا يقبل، ورده للحديث مع صحته بكونه خبر واحد خالف القاعدة ليس بمسلم، لأنه قاعدة مستقلة بالصيام، فمن عارضه بالقياس على الصلاة أدخل قاعدة في قاعدة، ولو فتح باب رد الأحاديث الصحيحة بمثل هذا لما بقي من الحديث إلا القليل. اهـ

وأول بعضهم هذا الحديث، وقال معناه لا قضاء عليه الآن. وهذا تعسف. واختلف القائلون بصحة صوم من أكل أو شرب ناسياً في حكم من جامع ناسياً وهو صائم، هل يلحق بمن أكل أو شرب؟ أو لا يلحق؟ فذهب جماعة من الشافعية إلى إلحاقه، وقياس ما لم ينص عليه بما نص عليه قالوا: وتعليق الحكم بالأكل والشرب لأنه الغالب، لأن نسيان الجماع نادر بالنسبة إليهما، وذكر الغالب لا يقتضي مفهوماً. ورد بأن هذا قياس مع الفارق، لقصور حالة المجامع ناسياً عن حالة الأكل، اللهم إلا أن يقولوا: إن الوصف الفارق ملغي، وأجاب بعضهم بأن عدم وجوب القضاء على من جامع ناسياً مأخوذ من العموم الوارد في بعض طريق الحديث بلفظ "من أفطر شهر رمضان ... " لأن الفطر أعم من أن يكون بأكل أو شرب أو جماع. وجمهور القائلين بصحة صوم من أكل أو شرب ناسياً وكذا القائلون بفساده يقولون بوجوب القضاء على من جامع ناسياً، وألحق به بعض الشافعية من أكل كثيراً، لندور النسيان حينذاك، فقد روى عبد الرزاق أن إنساناً جاء إلى أبي هريرة فقال: أصبحت صائماً، فنسيت فطعمت؟ قال؟ لا بأس. قال: ثم دخلت على إنسان، فنسيت وطعمت وشربت؟ قال: لا بأس. الله أطعمك وسقاك، ثم قال: ودخلت على آخر فنسيت وطعمت؟ فقال أبو هريرة: أنت إنسان لم تتعود الصيام. لكن الجمهور على أنه لا فرق بين قليل الأكل وكثيره، فقد روى أحمد لهذا الحديث سبباً، فأخرج عن طريق أم حكيم بنت دينار عن مولاتها أم إسحق "إنها كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأتي بقصعة من ثريد، فأكلت معه، ثم تذكرت أنها كانت صائمة. فقال لها ذو اليدين: آلآن بعد ما شبعت؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أتمي صومك، فإنما هو رزق ساقه الله إليك". وانفرد أحمد في المشهور عنه فقال: من نسي فجامع وهو صائم فعليه القضاء والكفارة. والله أعلم. 6 - وفي هذا الحديث لطف الله بعباده، والتيسير عليهم، ورفع المشقة والحرج عنهم. 7 - ومن الرواية الرابعة عشرة وما بعدها مما يتعلق بصيام الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يستحب أن لا يخلي** شهراً من صيام. 8 - وأن صوم التطوع غير مختص بزمن معين، بل كل السنة صالحة له، إلا رمضان والعيدين والتشريق قاله النووي. 9 - وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصم الدهر. وإنما ترك ذلك لئلا يقتدي به، فيشق على الأمة، وإن كان قد أعطي من القوة ما لو التزم ذلك لاقتدر عليه، لكنه سلك من العبادة الطريقة الوسطى. 10 - ومن الرواية التاسعة عشرة أنه لا ينبغي أن يتأسى بصيام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من أطاق ما كان يطيقه. 11 - وأن من أجهد نفسه في شيء من العبادة خشي عليه أن يمل، فيفضي إلى تركه، مع أن المداومة

على العبادة وإن قلت أولى من جهد النفس في كثرتها إذا انقطعت، والقليل الدائم خير من الكثير المنقطع غالباً، وأن من تكلف الزيادة يقع له الخلل في الغالب. 12 - وفيه شفقته بأمته صلى الله عليه وسلم. 13 - ومن الرواية الواحدة والعشرين، وعن جواب سعيد بن جبير لمن سأله عن صوم رجب، حيث قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم" قال النووي: الظاهر أن مراد سعيد بن جبير بهذا الاستدلال على أنه لا نهي عنه، ولا ندب فيه لعينه، بل له حكم باقي الشهور، ولم يثبت في صوم رجب نهي ولا ندب لعينه، ولكن أصل الصوم مندوب إليه، وفي سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب إلى الصوم من الأشهر الحرم، ورجب أحدها، والله أعلم. 14 - ومن روايات عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه رفق رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمته، وشفقته عليهم وإرشاده إياهم إلى ما يصلحهم، وحثه إياهم على ما يطيقون الدوام عليه. 15 - وتفقد الإمام لأمور رعيته، كلياتها وجزئياتها. 16 - وأن الحكم لا ينبغي إلا بعد التثبت، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكتف بما نقل له عن عبد الله حتى لقيه واستثبته، لاحتمال أن يكون قال ذلك بغير عزم، أو علقه بشرط لم يطلع عليه الناقل ونحو ذلك. 17 - وتعليل الحكم لمن فيه أهلية لذلك. 18 - وأن الأولى في العبادة تقديم الواجبات على المندوبات. 19 - والنهي عن التعمق في العبادة، لأنه يفضي إلى الملل المفضي إلى الترك، وقد ذم الله تعالى قوماً التزموا العبادة، ثم فرطوا فيها، حيث قال: {ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها} [الحديد: 27]. 20 - ومن قول عبد الله بن عمرو: "لأقومن الليل .... إلخ" في الرواية الثالثة والعشرين جواز الإخبار عن الأعمال الصالحة والأوراد ومحاسن الأعمال، ولكن محل ذلك أن يخلو عن الرياء. 21 - وفيه جواز القسم على التزام العبادة، وفائدته الاستعانة به على النشاط لها. 22 - وأن ذلك لا يخل بصحة النية والإخلاص فيها. 23 - وأن اليمين على ذلك لا تلحق بالنذر الذي يجب الوفاء به. 24 - وفيه جواز الحلف من غير استحلاف. 25 - وأن النفل المطلق لا ينبغي تحديده، بل يختلف الحال باختلاف الأشخاص والأوقات والأحوال. 26 - ومن أمره صلى الله عليه وسلم بالجمع بين النوم والقيام في الرواية الثالثة والعشرين والسابعة والعشرين، ونهيه عن قيام الليل كله في الرواية الرابعة والثلاثين كره جمهور العلماء صلاة كل الليل دائماً لكل أحد، قال النووي: وفرقوا بينه وبين صوم الدهر في حق من لا يتضرر به ولا يفوت

حقاً بأن في صلاة الليل كله لا بد فيها من الإضرار بنفسه، وتفويت بعض الحقوق، لأنه إن لم ينم بالنهار فهو ضرر ظاهر، وإن نام نوماً ينجبر به سهره فوت بعض الحقوق، بخلاف من يصلي بعض الليل فإنه يستغني بنوم باقيه، وإن نام معه شيئاً في النهار كان يسيراً لا يفوت به حق، وكذا من قام ليلة كاملة واحدة، كليلة العيد لا كراهة فيه لعدم الضرر. 27 - وجواز النهي عن المستحبات إذا خشي أن ذلك يفضي إلى السآمة والملل وتفويت الحقوق المطلوبة، الواجبة أو المندوبة الراجح فعلها على المستحب المذكور. 28 - ومن قوله في الرواية الرابعة والعشرين "فإن لزوجك عليك حقاً" حق المرأة على الزوج في حسن العشرة. قال الحافظ: وقد يؤخذ منه ثبوت حقها في الوطء. 29 - ومن قوله: "ولزورك عليك حقاً" حق الضيف. 30 - ومن مساومته صلى الله عليه وسلم في الصوم وتدرجه مع عبد الله بن عمرو الحض على ملازمة العبادة، لأنه صلى الله عليه وسلم مع كراهته له التشديد على نفسه حضه على الاقتصاد، كأنه قال له: ولا يمنعك اشتغالك بحقوق من ذكر أن تضيع حق العبادة وتترك المندوب جملة، ولكن اجمع بينهما. 31 - ومن ذكر صوم وصلاة داود -عليه السلام- مشروعية التأسي بالأنبياء عليهم السلام. 32 - ومن بيان صلاة داود -عليه السلام- وأنها أحب الصلاة إلى الله فضيلة قيام الليل في الأوقات المذكورة، لأن المصلي يريح جسمه في أول الليل من متاعب النهار، ثم يقوم في الوقت الذي ينادي الله فيه عباده: هل من سائل فأعطيه سؤاله، ثم يستدرك بالنوم ما يستريح به من نصب القيام. 33 - ومن الرواية السادسة والعشرين كراهة ترك قيام الليل لمن كان يقومه، إذا أشعر ذلك بالإعراض عن العبادة. 34 - قال ابن العربي: وفيه دليل على أن قيام الليل ليس بواجب، إذ لو كان واجباً لم يكتف لتاركه بهذا القدر، بل يذمه أبلغ ذم. 35 - قال ابن حبان: وفيه جواز ذكر الشخص بما فيه من عيب إذا قصد بذلك التحذير من صنيعه. 36 - وفيه استحباب الدوام على ما اعتاده المرء من الخير من غير تفريط. 37 - ويستنبط منه كراهة قطع العبادة وإن لم تكن واجبة. 38 - ومن قوله في الرواية الرابعة والعشرين "واقرأ القرآن في كل شهر .. فاقرأه في كل عشرين ... فاقرأه في كل عشر ... فاقرأه في كل سبع. ولا تزد على ذلك" استحباب قراءة القرآن. قال النووي: كانت للسلف عادات مختلفة فيما يقرءون كل يوم، بحسب أحوالهم وأفهامهم ووظائفهم "فكان بعضهم يختم القرآن في كل شهر، وبعضهم في عشرين يوماً، وبعضهم في عشرة أيام، وبعضهم -أو أكثرهم- في سبعة، وكثير منهم في ثلاثة، وكثير في كل يوم وليلة، وبعضهم في كل ليلة، وبعضهم

في اليوم والليلة ثلاث ختمات، وهو أكثر ما بلغنا، والمختار أنه يستكثر منه ما يمكنه الدوام عليه، ولا يعتاد إلا ما يغلب على ظنه الدوام عليه في حال نشاط وغيره، هذا إذا لم تكن له وظائف عامة أو خاصة يتعطل عنها بإكثار القرآن، فإن كانت له وظيفة عامة كولاية وتعليم ونحو ذلك فليوظف لنفسه قراءة يمكنه المحافظة عليها من غير إخلال بشيء من كمال تلك الوظيفة وعلى هذا يحمل ما جاء عن السلف. اهـ وقد جاء في بعض الروايات "فمازال حتى قال: في ثلاث" وعند الدارمي "قال: اختمه في خمس". قلت: إني أطيق. قال: لا" وعند أبي داود والترمذي مصححاً عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً "لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث" وجمع الحافظ ابن حجر بين الروايات" فقال: احتمل في الجمع تعدد القصة. ولا مانع أن يتعدد قول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو ذلك تأكيداً ويؤيده الاختلاف الواقع في السياق، وكأن النهي عن الزيادة في قوله "ولا تزد" ليس للتحريم، كما أن الأمر في جميع ذلك ليس للوجوب. قال: وأغرب بعض الظاهرية، فقال: يحرم أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث". اهـ وما ذكره النووي هو ما عليه جمهور العلماء. 39 - ويستفاد من الرواية الثانية والثلاثين زيارة الفاضل للمفضول في بيته. 40 - وإكرام الضيف والكبار بإلقاء الفرش ونحوها تحته. 41 - وفيه ما كان عليه الصحابة من الضيق في غالب أحوالهم، إذ لو كان عنده أشرف من وسادة من أدم حشوها ليف لأكرم بها نبيه صلى الله عليه وسلم. 42 - وتواضع الزائر بجلوسه دون ما يفرش له، وأن لا حرج عليه في ذلك إذا كان على سبيل التواضع والإكرام للمزور، وما كان عليه صلى الله عليه وسلم من التواضع، ومجانبة الاستئثار على صاحبه وجليسه. 43 - ومن قوله: "وإن لولدك عليك حقاً" في ملحق الرواية الرابعة والعشرين حق الأبناء على الآباء. قال النووي: فيه أن على الأب تأديب ولده وتعليمه ما يحتاج إليه من وظائف الدين، وهذا التعليم واجب على الأب وسائر الأولياء قبل بلوغ الصبي والصبية، نص عليه الشافعي وأصحابه. وعلى الأمهات أيضاً هذا التعليم إذا لم يكن أب، لأنه من باب التربية، ولهن مدخل في ذلك، وأجرة هذا التعليم في مال الصبي، فإن لم يكن مال فعلى من تلزمه نفقته، لأنه مما يحتاج إليه. اهـ 44 - ومن الرواية السابعة والثلاثين ذكاء عمر رضي الله عنه وحكمته وحرصه على تهدئة غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم. 45 - ومن الرواية الثالثة والأربعين والرابعة والأربعين فضل صلاة الليل، وأنها أفضل صلاة بعد المكتوبة، وأنها أفضل من الراتبة. والله أعلم

(312) باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها وبيان محلها

(312) باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها وبيان محلها 2410 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر". 2411 - عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "تحروا ليلة القدر في السبع الأواخر". 2412 - عن سالم عن أبيه رضي الله عنه قال: رأى رجل أن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أرى رؤياكم في العشر الأواخر فاطلبوها في الوتر منها". 2413 - عن سالم بن عبد الله بن عمر أن أباه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لليلة القدر "إن ناساً منكم قد أروا أنها في السبع الأول وأري ناس منكم أنها في السبع الغوابر فالتمسوها في العشر الغوابر". 2414 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "التمسوها في العشر الأواخر (يعني ليلة القدر) فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي". 2415 - عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "من كان ملتمسها فليلتمسها في العشر الأواخر". 2416 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تحينوا ليلة القدر في العشر الأواخر" أو قال "في التسع الأواخر".

2417 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أريت ليلة القدر ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها، فالتمسوها في العشر الغوابر". وقال حرملة "فنسيتها". 2418 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في العشر التي في وسط الشهر. فإذا كان من حين تمضي عشرون ليلة ويستقبل إحدى وعشرين يرجع إلى مسكنه ورجع من كان يجاور معه. ثم إنه أقام في شهر جاور فيه تلك الليلة التي كان يرجع فيها فخطب الناس فأمرهم بما شاء الله، ثم قال "إني كنت أجاور هذه العشر، ثم بدا لي أن أجاور هذه العشر الأواخر. فمن كان اعتكف معي فليبت في معتكفه. وقد رأيت هذه الليلة فأنسيتها، فالتمسوها في العشر الأواخر في كل وتر، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين". قال أبو سعيد الخدري مطرنا ليلة إحدى وعشرين فوكف المسجد في مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنظرت إليه وقد انصرف من صلاة الصبح ووجهه مبتل طيناً وماء. 2419 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في رمضان العشر التي في وسط الشهر. وساق الحديث بمثله غير أنه قال "فليثبت في معتكفه" وقال وجبينه ممتلئاً طيناً وماءً. 2420 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط في قبة تركية على سدتها حصير. قال: فأخذ الحصير بيده فنحاها في ناحية القبلة، ثم أطلع رأسه فكلم الناس فدنوا منه، فقال "إني اعتكفت العشر الأول ألتمس هذه الليلة، ثم اعتكفت العشر الأوسط. ثم أتيت فقيل لي إنها في العشر الأواخر فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف" فاعتكف الناس معه قال "وإني أربئتها ليلة وتر وإني أسجد صبيحتها في طين وماء" فأصبح من ليلة إحدى وعشرين وقد قام إلى الصبح فمطرت السماء فوكف المسجد، فأبصرت الطين

والماء فخرج حين فرغ من صلاة الصبح وجبينه وروثه أنفه فيهما الطين والماء، وإذا هي إحدى وعشرين من العشر الأواخر. 2421 - عن أبي سلمة قال: تذاكرنا ليلة القدر فأتيت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه وكان لي صديقاً. فقلت: ألا تخرج بنا إلى النخل؟ فخرج وعليه خميصة. فقلت له: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر ليلة القدر؟ فقال: نعم اعتكفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الوسطى من رمضان. فخرجنا صبيحة عشرين، فخطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "إني أريت ليلة القدر وإني نسيتها (أو أنسيتها) فالتمسوها في العشر الأواخر من كل وتر، وإني أريت أني أسجد في ماء وطين. فمن كان اعتكف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فليرجع" قال فرجعنا وما نرى في السماء قزعة. قال: وجاءت سحابة فمطرنا حتى سال سقف المسجد، وكان من جريد النخل. وأقيمت الصلاة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في الماء والطين. قال حتى رأيت أثر الطين في جبهته. 2422 - عن يحيى بن أبي كثير بهذا الإسناد نحوه وفي حديثهما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف وعلى جبهته وأرنبته أثر الطين. 2423 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الأوسط من رمضان يلتمس ليلة القدر قبل أن تبان له. فلما انقضين أمر بالبناء فقوض. ثم أبينت له أنها في العشر الأواخر، فأمر بالبناء فأعيد. ثم خرج على الناس فقال "يا أيها الناس إنها كانت أبينت لي ليلة القدر وإني خرجت لأخبركم بها. فجاء رجلان يحتقان معهما الشيطان، فنسيتها. فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان، التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة" قال: قلت: يا أبا سعيد إنكم أعلم بالعدد منا. قال: أجل نحن أحق بذلك منكم. قال: قلت: ما التاسعة والسابعة والخامسة؟ قال: إذا مضت واحدة وعشرون فالتي تليها ثنتين وعشرين وهي التاسعة. فإذا مضت ثلاث وعشرون فالتي تليها السابعة. فإذا مضى خمس وعشرون فالتي تليها الخامسة. وقال ابن خلاد (مكان يحتقان) يختصمان.

2424 - عن عبد الله بن أنيس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أريت ليلة القدر ثم أنسيتها وأراني صبحها أسجد في ماء وطين" قال: فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرف وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه. قال: وكان عبد الله بن أنيس يقول: ثلاث وعشرين. 2425 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قال ابن نمير) "التمسوا (وقال وكيع) تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان". 2426 - عن زر بن حبيش قال سألت أبي بن كعب رضي الله عنه، فقلت: إن أخاك ابن مسعود يقول من يقم الحول يصب ليلة القدر. فقال: رحمه الله أراد أن لا يتكل الناس. أما إنه قد علم أنها في رمضان وأنها في العشر الأواخر وأنها ليلة سبع وعشرين. ثم حلف لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين. فقلت: بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر؟ قال: بالعلامة أو بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها. 2427 - عن أبي بن كعب رضي الله عنه. قال: قال أبي، في ليلة القدر: والله إني لأعلمها. قال شعبة: وأكبر علمي هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها هي ليلة سبع وعشرين. وإنما شك شعبة في هذا الحرف هي الليلة التي أمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وحدثني بها صاحب لي عنه. 2428 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: تذاكرنا ليلة القدر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "أيكم يذكر حين طلع القمر وهو مثل شق جفنة؟ ". -[المعنى العام]- من فضل الله على عباده، ومن إكرامه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن ضاعف ثواب طاعتهم أضعافاً مضاعفة،

تارة بوقوعها في المكان المفضل، كالمسجد الحرام، حيث جعل الصلاة فيه بمائة ألف صلاة تقع في غيره من المساجد، خلا مسجد المدينة والمسجد الأقصى، وتارة بوقوعها في الزمان المفضل، كشهر رمضان، فمن تطوع بخصلة فيه كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة فيه كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وتارة بهيئة العبادة، فصلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بخمس وعشرين درجة. فيا سعادة من اغتنم مواسم الفضل فأحسن الطاعة، وأكثر من العبادة، ويا تعاسة من ضيع الفرص، وتكاسل عن ربح التجارة. وخير الفرص وأعلاها ليلة القدر {وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر} [القدر: 2، 5]. "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" قيام ليلة واحدة يعدل قيام ألف شهر. وطاعة وذكر ودعاء وقراءة وصلاة في ليلة واحدة يعدل بل يزيد على طاعة وذكر ودعاء وقراءة ثلاث وثمانين سنة، فأين هي هذه الليلة؟ . إن الله تعالى يقول: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} [البقرة: 185] ويقول: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} فكأن المفهوم من الآيتين أن ليلة القدر في رمضان، وهكذا فهم النبي صلى الله عليه وسلم، وفهم صحابته رضوان الله عليهم أجمعين، فاعتكف في خيمة صغيرة بمسجده بالمدينة عشر ليال من رمضان، هي العشر الأولى. واعتكف معه كثير من صحابته، كل في معتكف صغير يضع فيه متاعه وزاده، ولا يخرج من المسجد إلا لضرورة، وكل وقتهم في ليلهم ونهارهم ذكر وقراءة وصلاة ودعاء، يلتمسون ليلة القدر، ثم بدا له صلى الله عليه وسلم في العام الآخر أن يعتكف العشر الأوسط، يلتمس ليلة القدر، ويقصد بذلك استيعاب الشهر تدريجياً، ليقع له ولهم ليلة القدر التي لا تخرج عن ليالي الشهر، واعتكف معه أصحابه العشر الوسطى، حتى إذا كان صبيحة الليلة المتممة للعشرين خرج من معتكفه، وأمر بخيمته أن تزال، فطويت، وطوى الصحابة معتكفهم. واستعد الجميع لمغادرة المسجد إلى ديارهم، وما كانوا ليخرجوا إلا إذا خرج رسولهم، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخرج، بل أمر بإعادة بناء خيمته ثانية. ثم دخلها وعلى بابها يتدلى حصير، ماذا حدث؟ بعد لحظات نحى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحصير، وفتح الباب، ونادى أصحابه، فاجتمعوا إليه. واقتربوا منه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال لهم: اعتكفت العشر الأول ألتمس ليلة القدر، ثم اعتكفت العشر التي في وسط الشهر، ألتمس ليلة القدر، وقد أريتها في منامي بالأمس، وحددت لي ليلتها، وأيقظني بعض أهلي. [وكانت بيوت أزواجه تفتح في المسجد، وكانت خيمته بجوار أحد أبوابها، لدرجة أنه كان يخرج رأسه من الخيمة، فتصبح في البيت، فتغسلها زوجه] وخرجت لأخبركم بعين ليلتها، فوجدت فلاناً وفلاناً يتخاصمان، فشغلت بالإصلاح بينهما، فنسيتها، لكني رأيتني ليلتها أسجد في ماء وطين،

فهذه علامتها، وجاء بعض أصحابه، فقال أحدهم: لقد رأيت أنها ليلة إحدى وعشرين، وقال آخر: لقد رأيت أنها ليلة ثلاث وعشرين، وقال ثالث: لقد رأيت أنها ليلة خمس وعشرين، وقال رابع: لقد رأيت أنها ليلة سبع وعشرين، فقال صلى الله عليه وسلم: أرى رؤياكم قد اتفقت على أنها في العشر الأواخر، فالتمسوها في العشر الأواخر، فإن ضعف أحدكم أو عجز عن قيام العشر فليحرص على قيام السبع الأواخر، فإن عجز عن قيام السبع الأواخر فليحرص على قيام الوتر من العشر أو من السبع الأواخر. وعاد الصحابة إلى معتكفهم، وقاموا يتعبدون ليلة إحدى وعشرين، وكانت سماؤها صافية، لكن سحابة جاءت فأمطرت عند الفجر، فقام الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي الفجر بأصحابه، فكانت أرض المسجد ماء وطيناً من سقوط المطر من سقف المسجد، ولم يكن به فراش، فسجد صلى الله عليه وسلم وسجد أصحابه على الطين، ورأوا بعد الصلاة أثر الطين في وجهه صلى الله عليه وسلم، في جبهته ورأس أنفه، فعلموا أن ليلتهم الماضية كانت ليلة القدر، أو هكذا ظنوا، كما توقعوا أن تمطر السماء ثانية في بقية العشر، فتكون الليلة مازالت أمامهم، فأكملوا اعتكاف العشر، وصارت الوصية بعد ذلك: التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، فاللهم وفقنا لها وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. إنك عفو تحب العفو فاعف عنا. -[المباحث العربية]- (أن رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على تسمية أحد من هؤلاء. (أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر) و"أروا" بضم الهمزة فعل ماض مبني للمجهول، أي أراهم الله في منامهم ليلة القدر بعلاماتها الآتية في فقه الحديث، وأوقع في نفوسهم أنها في السبع الأواخر من رمضان أو أعلمهم الله من غير رؤية، أو قال لهم قائل: إنها في السبع الأواخر، من رمضان، فـ"ال" في "السبع الأواخر" للعهد، وقوله: "في السبع الأواخر" متعلق بمحذوف حال من "ليلة القدر" أي أروا ليلة القدر كائنة وواقعة في السبع الأواخر، ويؤيد هذا الاحتمال روايتنا الثالثة، وفيها "رأى رجل أن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين والرابعة، وفيها "وأرى ناس منكم أنها في السبع الغوابر" وقيل: إن الجار والمجرور "في السبع الأواخر" متعلق بـ"أروا" أي أراهم الله في السبع الأواخر ليلة القدر، فرجل رآها ليلة الثالث والعشرين، وآخر رآها ليلة الخامس والعشرين، وآخر رآها ليلة السابع والعشرين، وليس بذلك، لأنه لا يستلزم أن يتكرر وقوعها في عام واحد، أو أن يروها في عدة أعوام بهذا العدد، وهو بعيد، وقيل: متعلق بمحذوف حال من "المنام" أي في المنام واقعاً وكائناً في السبع الأواخر، وهو بعيد كسابقه، حتى لو فسر بوقوع رؤياهم لها في ليلة واحدة من السبع الأواخر، حيث لا داعي لإبهام ليلة الرؤيا في سبع.

قال الحافظ ابن حجر: واختلف في المراد بالقدر الذي أضيفت إليه الليلة، فقيل: المراد به التعظيم. كقوله {وما قدروا الله حق قدره} [الأنعام: 91] قال الزهري: ليلة العظمة والشرف، والمعنى أنها ذات قدر، لنزول القرآن فيها، وهو كتاب ذو قدر، نزل بواسطة ملك ذي قدر، على رسول ذي قدر، لأمة ذات قدر، أو لما يقع فيها من تنزل الملائكة، أو لما ينزل فيها من البركة والرحمة والمغفرة، أو أن الذي يحييها يصير ذا قدر، أو لأن الطاعات في هذه الليلة ذات عظمة وأجر وقيل: القدر هنا بمعنى القدر بفتح الدال الذي هو مؤاخي القضاء، والمعنى أنه يقدر فيها أحكام تلك السنة. لقوله تعالى: {فيها يفرق كل أمر حكيم} [الدخان: 4] وبه صدر النووي كلامه فقال: قال العلماء: سميت ليلة القدر لما يكتب فيها الملائكة من الأقدار والأرزاق والآجال التي تكون في تلك السنة، ومعناه يظهر للملائكة ما سيكون فيها، ويأمرهم بفعل ما هو من وظيفتهم، وكل ذلك مما سبق علم الله تعالى به، وتقديره له. (أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر) "أرى" بفتح الهمزة والراء، أي أعلم، والمراد من "رؤياكم" مرائيكم، لأنها لم تكن رؤيا واحدة، وكان الأصل "رؤاكم" جمع رؤيا، ليكون جمعاً في مقابلة جمع "فيقتضي القسمة آحاداً، ليصير المعنى رؤيا كل منكم، وهذا الإفراد جائز لكن الجمع أكثر وأشهر. ومعنى "تواطأت" توافقت، قال النووي: هو في جميع النسخ بطاء ثم تاء "تواطت" وكان ينبغي أن يكتب بألف بين الطاء والتاء، صورة للهمزة، ولا بد من قراءته مهموزاً، قال الله تعالى: {ليواطئوا عدة ما حرم الله} [التوبة: 37] وفي الرواية الثالثة "أرى رؤياكم في العشر الأواخر". (فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر) أي فمن كان طالبها وقاصدها فليطلبها في السبع الأواخر، والتحري القصد والاجتهاد في الطلب، وفي الرواية الثانية "تحروا" بفعل الأمر من غير تعليق، وفي الثالثة "فاطلبوها" وفي الرابعة والخامسة "التمسوها" وفي السادسة "من كان ملتمسها فليلتمسها" وكل من التحري والالتماس طلب وقصد، ولكن التحري طلب بجد واجتهاد، وفي الرواية السابعة، "تحينوا ليلة القدر في العشر الأواخر" أي اطلبوا حينها، وهو زمانها. وفي الرواية الرابعة "فالتمسوها في العشر الغوابر" يعني البواقي، وهي الأواخر، وفي الخامسة "من كان ملتمسها فليلتمسها في العشر الأواخر" وفي السابعة "تحينوا ليلة القدر في العشر الأواخر" أو قال "في التسع الأواخر" وفي البخاري في التعبير عن سالم عن أبيه قال: "إن ناساً أروا ليلة القدر في السبع الأواخر، وإن ناساً أروا أنها في العشر الأواخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: التمسوها في السبع الأواخر" قال الحافظ ابن حجر: وكأنه صلى الله عليه وسلم نظر إلى المتفق عليه من الروايتين [وهي السبع] فأمر به. اهـ والتحقيق أنه أمر بالأمرين لكنه أكد أحدهما أكثر من الآخر كما تدل على ذلك روايتنا الخامسة، إذ فيها "التمسوها في العشر الأواخر، فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي" وفي بعض النسخ "عن السبع" بلفظ "عن" بدل "على" قال النووي: وكلاهما صحيح.

وفي المراد من السبع الأواخر قال الحافظ ابن حجر: الظاهر أن المراد بها أواخر الشهر [أي ابتداء من ليلة الرابع والعشرين إن كان الشهر ثلاثين، ومن ليلة الثالث والعشرين إن كان الشهر ثلاثين، والاحتياط بدء الالتماس على هذا من ليلة الثالث والعشرين وقيل المراد به السبع التي أولها ليلة الثاني والعشرين وآخرها ليلة الثامن والعشرين، ولا تدخل ليلة التاسع والعشرين. وفي الرواية الثالثة "في العشر الأواخر، فاطلبوها في الوتر منها" وفي الرواية التاسعة "فالتمسوها في العشر الأواخر في كل وتر" وفي الرواية الثالثة عشرة "فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان، التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة" وفسرها أبو سعيد الخدري على أن الشهر ثلاثون، فإذا مضت واحدة وعشرون ليلة كان الباقي منه تسعاً، وليلة ثنتين وعشرين التاسعة، وإذا مضى ثلاث وعشرون ليلة كان الباقي من الشهر سبعاً، وليلة أربع وعشرين السابعة، وإذا مضى خمس وعشرين ليلة كان الباقي خمس ليال وكانت ليلة ست وعشرين هي الخامسة، فكأن المأمور به التماسها في الليلة الثانية والعشرين والرابعة والعشرين والسادسة والعشرين، فتكون في الشفع لا في الوتر. وفي البخاري "التمسوها في العشر الأواخر .... في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى". وظاهرها يتفق مع تفسير أبي سعيد، فيتعارض مع أحاديث طلبها في الوتر. وقد جمع بعض المحققين بين الأحاديث على خلاف تفسير أبي سعيد، فقال: إن المطلوب التماسها ليلة واحدة وعشرين وثلاث وعشرين وخمس وعشرين وسبع وعشرين أعني الوتر، فإذا كان الشهر تسعاً وعشرين فواضح، إذ ليلة واحد وعشرين هي التاسعة مما يبقى، وليلة ثلاث وعشرين هي السابعة مما يبقى. وهكذا، وإن كان الشهر ثلاثين فالمراد من "تاسعة تبقى" أي تبقى خارجاً عن الليلة المطلوبة التي هي ليلة واحد وعشرين. ذكره الحافظ ابن حجر، وهو جمع حسن، يرفع الإشكال عن الروايات الصحيحة التي ظاهرها الشفع. (أريت ليلة القدر) أي أريت مناماً تحديد وقتها، بأن قيل لي مثلاً: هي ليلة كذا، وليس معناه أنه رأى علامتها، أو رأى الأنوار، أو الملائكة، ثم أنسي، لأن مثل ذلك قلما ينسى. (ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها) سبب نسيانها انشغاله صلى الله عليه وسلم بالمتخاصمين -كما سيأتي في الرواية الثالثة عشرة، ففي هذه الرواية طي وحذف، والأصل: ثم أيقظني بعض أهلي، فخرجت لأخبركم بها، فجاء رجلان يحتقان، معهما الشيطان، فنسيتها، وقد روي لفظ "فنسيتها" بفتح النون وكسر السين مخففه، والمقصود الإخبار بنسيانه من غير إشارة إلى سبب النسيان، وبضم النون وتشديد السين المكسورة. وبلفظ "أنسيتها" بضم الهمزة، أي نساني أو أنساني حادث. والمراد نسيان علم تعيينها في تلك السنة. (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في العشر التي في وسط الشهر) أي يعتكف في المسجد، وفي الرواية الحادية عشرة، اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط، والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول في عام، ثم اعتكف الأوسط فقط بعض الأعوام، ثم اعتكف

العشر الأوسط والعشر الأواخر، كما توضح الرواية الثالثة عشرة، ثم اقتصر بعد ذلك على العشر الأواخر، حتى آخر أعوامه صلى الله عليه وسلم فاعتكف عشرين يوماً، ففي البخاري "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً" وسيأتي الكلام عن ذلك في كتاب الاعتكاف (ثم إنه أقام في شهر جاور فيه تلك الليلة التي كان يرجع فيها، فخطب الناس) أي إنه أقام في شهر من أشهر رمضان معتكفاً ليلة واحدة وعشرين، وتوضيح ذلك في الرواية الحادية عشرة "اعتكف العشر الأوسط في قبة تركية" وهي قبة صغيرة من لبود، أي صوف ملبد، وكان يعتكف دائماً في خباء كالخيمة الصغيرة تضرب له في المسجد" على سدتها حصير" أي بابها من حصير والسدة الباب "فأخذ الحصير بيده فنحاها في ناحية القبة" أي فتح باب القبة بإزاحة الحصير في ناحية "ثم أطلع رأسه" من القبة "فكلم الناس" أي ناداهم: أيها الناس "فدنوا منه، فقال": إلخ. وتكملة الصورة في الرواية الثالثة عشرة أنه صلى الله عليه وسلم لما أصبح بعد الليلة المتممة للعشرين أمر -كعادته- بالبناء فقوض، أي هدم وأزيل، أي طويت القبة، ليعود إلى بيوت أزواجه، وجاءه جبريل، فقال له: إن ما تطلبه أمامك. فأمر بالقبة فضربت ثانية، فكشف بابها، وأخرج رأسه منها وكلم الناس، وذلك في صبيحة الليلة المتممة للعشرين، أي في صبح اليوم العشرين. (ثم بدا لي أن أجاور هذه العشر الأواخر) أي بناء على إشارة جبريل وقوله له: إن ما تطلبه أمامك، وفي الرواية الحادية عشرة "ثم أتيت، فقيل لي: إنها في العشر الأواخر". (فمن اعتكف معي فليبت في معتكفه) قال النووي: هكذا هو في أكثر النسخ "فليبت" من المبيت، وفي بعضها "فليثبت، من الثبوت، وفي بعضها "فليلبث" من اللبث، وكلها صحيح. والمعتكف بفتح الكاف هو موضع الاعتكاف. اهـ وفي الرواية الحادية عشرة "فمن أحب منكم أن يعكتف فليعتكف" وفي الثانية عشرة "فمن كان اعتكف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فليرجع". (وقد رأيت هذه الليلة) أي أبصرتها، أي أبصرت علامتها، وهي السجود في الماء والطين، كما هو في الرواية التاسعة، وقد أعلم بوقتها في تلك السنة، فنسيه. (وقد رأيتني أسجد في ماء وطين) وفي الرواية الحادية عشرة "وإني أريتها ليلة وتر، وأني أسجد صبيحتها -أي في صلاة فجرها- في طين وماء" وفي الرابعة عشرة "وأراني صبحها أسجد في ماء وطين". (مطرنا ليلة إحدى وعشرين، فوكف المسجد) أي قطر الماء من سقفه، وفي الرواية الحادية عشرة "فمطرت السماء، فوكف المسجد" وفي الرواية الثانية عشرة "فرجعنا -أي إلى معتكفنا- وما نرى في السماء قزعة -بفتح القاف والزاي وهي القطعة من السحاب -وجاءت

سحابة فمطرنا، حتى سال سقف المسجد، وكان من جريد النخل" أي كان المسجد مظللاً بالجريد والخوص، ولم يكن محكم البناء بحيث يمنع من المطر الكثير. (فأبصرت الطين والماء، فخرج حين فرغ من صلاة الصبح وجبينه وروثة أنفه فيهما الطين والماء) وفي الرواية التاسعة "فنظرت إليه وقد انصرف من صلاة الصبح ووجهه مبتل طيناً وماء" وفي الثانية عشرة "وأقيمت الصلاة، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في الماء والطين. قال: حتى رأيت أثر الطين في جبهته" وفي الرابعة عشرة "فانصرف وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه" والحاصل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤي وهو يسجد في طين وماء، ورؤي بعد الانصراف من الصلاة وعلى وجهه، وعلى جبينه وعلى جبهته وأنفه أثر الطين والماء، و"روثة الأنف" بالتاء هي طرفه، ويقال لها أيضاً: أرنبة الأنف، وقد جاء في ملحق الرواية الثانية عشرة "وعلى جبهته وأرنبته -أي أرنبة أنفه- أثر الطين" والجبين غير الجبهة، فالجبين في جانب الجبهة، وللإنسان جبينان، يكتنفان الجبهة، ولا يلزم من امتلاء الجبين امتلاء الجبهة، قاله النووي. وقال: قوله "وجبينه ممتلئاً" [في روايتنا العاشرة] كذا هو في معظم النسخ "ممتلئاً" بالنصب، وفي بعضها "ممتلئ" ويقدر للمنصوب فعل محذوف، أي وجبينه رأيته ممتلئاً. اهـ والأولى اعتبارها خطأ من الناسخ، والله أعلم. والمراد من أثر الطين والماء بقيته، وليس المراد محض الأثر، وهو ما يبقى بعد زوال العين. (العشر الوسطى من رمضان) كذا في الرواية الثانية عشرة، والمراد بالعشر الليالي، وهي مؤنثة فوصفت بالمؤنث "الوسطى" ولا إشكال فيها، ولكن الإشكال في الرواية الحادية عشرة، والثالثة عشرة "العشر الأوسط" إذ وصفت بالمذكر. قال الحافظ: على إرادة الوقت أو الزمان، أو التقدير الثلث، كأنه قال: الليالي العشر التي هي الثلث الأوسط من الشهر، قال: ووقع في الموطأ "العشر الوسط" بضم الواو والسين، جمع وسطى. (فخرجنا صبيحة عشرين، فخطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي فخرجنا من معتكفنا، وفي الكلام حذف، تقديره: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من معتكفه، وأزيلت قبته، ثم أعادها، فخطبنا ... إلخ. (يلتمس ليلة القدر قبل أن تبان له ... ثم أبينت له أنها في العشر الأواخر، فقال: إنها كانت أبينت لي ليلة القدر ... فنسيتها) المعنى قبل أن تبان له أنها في العشر الأواخر، ثم أبينت له أنها في يوم كذا من العشر الأواخر، فنسيها. أي نسي اليوم المحدد، وظل ذكر أنها في العشر الأواخر. (فجاء رجلان يحتقان معهما الشيطان، فنسيتها) "يحتقان" أي يطلب كل واحد منهما حقه، ويدعي أنه المحق، وفي ملحق الرواية نفسها "يختصمان" وفي رواية البخاري "فتلاحى فلان وفلان" أي وقعت بينهما ملاحاة، وهي المخاصمة والمنازعة، وزاد ابن إسحاق: أنه لقيهما عند باب المسجد، فحجز بينهما، أي وانشغل بقضيتهما، وكان هذا سبب النسيان، لكن في الرواية الثامنة

"أريت ليلة القدر، ثم أيقظني بعض أهلي، فنسيتها"، مما رتب النسيان على إيقاظ بعض الأهل له، فهذا سبب آخر. وجمع الحافظ ابن حجر باحتمال أن تكون الرؤيا في الرواية الثامنة مناماً، فيكون سبب النسيان الإيقاظ، وأن الرؤية والإبانة في الرواية الثالثة عشرة في اليقظة وسبب نسيانها ما ذكر من المخاصمة، واحتمال اتحاد القصة ويكون سبب النسيان الأمرين، وقال: ويحتمل أن يكون المعنى أيقظني بعض أهلي فسمعت المخاصمة، فقمت لأحجز بينهما فنسيتها. اهـ وهذا الاحتمال الأخير هو الذي اخترناه قريباً. (فالتي تليها ثنتين وعشرين) كذا في الرواية الثالثة عشرة، قال النووي: "ثنتين وعشرين" بالياء، هكذا هو في أكثر النسخ، وفي بعضها "ثنتان وعشرون" بالرفع، قال: والأول أصوب، وهو منصوب بفعل محذوف، تقديره: أعني ثنتين وعشرين. اهـ وما صوبه النووي ليس بصواب، لأنه خبر مرفوع، ولو نصبنا خبر المبتدأ على تقدير أعني لم نحترم القواعد النحوية. والناسخ غير معصوم حتى نتمحل له: (ثم حلف -لا يستثنى- أنها ليلة سبع وعشرين) أي حلف جازماً، ولم يقل: إلا أن يشاء الله. (قلت: بأي شيء تقول ذلك)؟ أي بأي دليل تحكم هذا الحكم، وعلى أي شيء بنيت قولك؟ . (التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم) عائد الصلة محذوف، أي أخبرنا بها. (أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها) الضمير في "أنها" للشمس. قال النووي: هكذا هو في جميع النسخ من غير ذكر الشمس، وحذفت للعلم بها، فعاد الضمير إلى معلوم، كقوله: {حتى توارت بالحجاب} [ص: 32] ونظائره، والشعاع بضم الشين هو ما يرى من ضوئها عند بزوغها مثل الحبال والقضبان، مقبلة إليك إذا نظرت إليها. قال القاضي عياض: قيل معنى "لا شعاع لها" أنها علامة جعلها الله تعالى لها، قال: وقيل بل لكثرة اختلاف الملائكة في ليلتها، ونزولها إلى الأرض وصعودها، فسترت بأجنحتها وأجسامها اللطيفة ضوء الشمس وشعاعها. اهـ وعند أحمد "ليلة القدر صافية بلجة كأن فيها قمراً ساطعاً، ساكنة صاحية، لا حر فيها ولا برد، ومن أمارتها أن الشمس في صبيحتها تخرج مستوية، ليس لها شعاع، مثل القمر ليلة البدر" وعند ابن خزيمة "ليلة القدر طلعة، لا حارة ولا باردة، تصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة" ولا شك أن ليلة القدر وشمسها لا ترى كذلك لكل الناس، ولا في كل البقاع، وقد يكون هذا وصفاً لعام من الأعوام في بعض الأماكن. والله أعلم. (وهو مثل شق جفنة) الشق بكسر الشين هو النصف، والجفنة قصعة كبيرة. قال القاضي: فيه إشارة إلى أنها إنما تكون في أواخر الشهر، لأن القمر لا يكون كذلك عند طلوعه إلا في أواخر الشهر.

-[فقه الحديث]- أخذ النووي عنوان [فضل ليلة القدر] استنباطاً من الأحاديث المذكورة، فهي تحث على طلبها والتماسها وتحريها بالعبادة والدعاء، وما ذلك إلا لفضلها، وقد ساق البخاري تحت هذا العنوان قوله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر} كما ساق حديث "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه". وقد اختلف العلماء في وجودها ودوامها إلى آخر الدهر، وفي محلها اختلافات كثيرة، حصل منها الحافظ ابن حجر أكثر من أربعين قولاً. قال النووي: وأجمع من يعتد به على وجودها ودوامها إلى آخر الدهر، للأحاديث الصحيحة المشهورة، قال القاضي: وشذ قوم، فقالوا: رفعت، لقوله صلى الله عليه وسلم "فرفعت وعسى أن يكون خيراً لكم، فالتمسوها في السبع والتسع" رواه البخاري. قال: وهذا غلط من هؤلاء الشاذين، لأن آخر الحديث يرد عليهم، ففيه تصريح بأن المراد برفعها رفع بيان علم عينها، ولو كان المراد رفع وجودها لم يأمر بالتماسها. اهـ ونسب هذا القول للروافض، وحكى السروجي أنه قول الشيعة، وأخطأ الفكهاني في شرح العمدة حين نسبه للحنفية. ويشبه هذا القول قول من يقول: أنها خاصة بسنة واحدة، وقعت في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهل هي خاصة بهذه الأمة؟ أو كانت في الأمم قبلها؟ خلاف. والجمهور على الأول. أما عن محلها من ليالي السنة فنعرض بعض الأقوال التي سردها الحافظ ابن حجر في فتح الباري. قال: 1 - هي ممكنة في جميع السنة، وهو قول مشهور عن الحنفية، وروي مثله عن ابن مسعود وابن عباس وعكرمة وغيرهم، ومأخذ ابن مسعود أنه أراد أن لا يتكل الناس. كما هو واضح من روايتنا السادسة عشرة، وزيف المهلب هذا القول، وقال: لعل صاحبه بناه على دوران الزمان، لنقصان الأهلة. قال وهو فاسد، لأن ذلك لم يعتبر في صيام رمضان [فرمضان لدوران الزمان يأتي زماناً صيفاً وزماناً شتاء] فلا يعتبر في غيره حتى تنتقل ليلة القدر عن رمضان. 2 - أنها مختصة برمضان، ممكنة في جميع لياليه، وقد جزم صاحب شرح الهداية بأنه قول أبي حنيفة، وقال به ابن المنذر والمحاملي وبعض الشافعية، وقال السروجي في شرح الهداية: قول أبي حنيفة إنها تنتقل في جميع رمضان، وقال صاحباه: إنها في ليلة معينة منه مبهمة. 3 - أنها مبهمة في العشر الأوسط من رمضان. قال به بعض الشافعية. 4 - أنها أول ليلة من العشر الأخير، وإليه مال الشافعي، وجزم به جماعة من الشافعية.

5 - أنها ليلة اثنتين وعشرين إن كان الشهر ناقصاً وليلة ثلاث وعشرين إن كان تاماً. 6 - أنها ليلة سبع وعشرين، وهذا القول هو الجادة من مذهب أحمد، ورواية عن أبي حنيفة وبه جزم أبي بن كعب وحلف عليه، كما في روايتنا السادسة عشرة والسابعة عشرة، وحكاه صاحب الحلية من الشافعية عن أكثر العلماء. وقد استنبطه ابن عباس عند عمر -رضي الله عنهما- ووافقه عمر عليه، فقد روى الحاكم عن ابن عباس أن عمر كان إذا دعا الأشياخ من الصحابة قال لابن عباس: لا تتكلم حتى يتكلموا، فقال ذات يوم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: التمسوا ليلة القدر في العشر الأواخر وتراً" أي الوتر هي؟ فقال رجل برأيه: تاسعة سابعة خامسة. ثالثة. فقال عمر: مالك لا تتكلم يابن عباس؟ قال: أتكلم برأيي؟ قال: عن رأيك أسألك. قال إني لأعلم -أو أظن- أنها سابعة تمضي، أو سابعة تبقى من العشر الأواخر فقال: من أين علمت ذلك؟ قال: خلق الله سبع سموات، وسبع أرضين، وسبعة أيام، والإنسان خلق من سبع ويأكل من سبع، ويسجد على سبع، ورمي الجمار سبع. فقال عمر لقد فطنت له، ثم قال: أعجزتم أن تكونوا مثل هذا الغلام الذي ما استوت شئون رأسه؟ . واستنبط بعضهم هذا العدد من عدد كلمات السورة، وقد وافق قوله فيها "هي" سابع كلمة بعد العشرين، واستنبط بعضهم ذلك من جهة الحروف فقال ليلة القدر تسعة أحرف، وقد أعيدت في السورة ثلاث مرات، فذلك سبع وعشرون. 7 - أنها في أوتار العشر الأخير. قال الحافظ: وهو أرجح الأقوال وصار إليه أبو ثور والمزني وابن خزيمة وجماعة من علماء المذاهب. 8 - أنها تنتقل في العشر الأخير كله، نص عليه مالك والثوري وأحمد وإسحق، وزعم الماوردي أنه متفق عليه. ويقويه معظم الأحاديث، واعتكافه صلى الله عليه وسلم العشر الأخير في طلب ليلة القدر، واعتكاف أزواجه بعده، والاجتهاد فيه. واختلف القائلون بهذا، فمنهم من قال: هي فيه محتملة على حد سواء، ومنهم من قال: بعض لياليه أرجى من بعض. واختلفوا. فمنهم من قال. أرجاه ليلة إحدى وعشرين، ومنهم من قال: أرجاه ليلة ثلاث وعشرين، ومنهم من قال: أرجاه ليلة سبع وعشرين. والله أعلم. أما كيف تعلم؟ فقد قال ابن العربي: الصحيح أنها لا تعلم. وأنكر الثوري هذا القول، وقال: قد تظاهرت الأحاديث بإمكان العلم بها، وأخبر به جماعة من الصالحين، فلا معنى لإنكار ذلك. واختار الطبري أنه لا يشترط لحصولها رؤية شيء ولا سماعه: قال الحافظ ابن حجر: واختلفوا. هل يحصل الثواب المترتب عليها لمن قامها وإن لم يظهر له شيء؟ أو يتوقف ذلك على كشفها له؟ وإلى الأول ذهب الطبري والمهلب وابن العربي وجماعة، وإلى الثاني ذهب الأكثر ويدل له ما وقع عند مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ "من يقم ليلة القدر فيوافقها" وفي حديث عبادة عن أحمد "من قامها إيماناً واحتساباً، ثم وفقت له" قال النووي: معنى "يوافقها" أي يعلم أنها ليلة القدر فيوافقها،

ويحتمل أن يكون المراد يوافقها في نفس الأمر وإن لم يعلم هو ذلك. قال الحافظ ابن حجر: وهذا الأخير هو الذي يترجح في نظري، ولا أنكر حصول الثواب الجزيل لمن قام لابتغاء ليلة القدر وإن لم يعلم بها ولو لم توفق له، وإنما الكلام على حصول الثواب المعين الموعود به، وفرعوا على القول باشتراط العلم بها أنه يختص بها شخص دون شخص، فيكشف لواحد، ولا يكشف لآخر، ولو كانا معاً في بيت واحد. قال العلماء: والحكمة في إخفائها أن يحصل الاجتهاد في التماسها، بخلاف ما لو عينت لها ليلة، فإنه يقتصر عليها. والله أعلم. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - من رؤيا الصحابة واعتماد الرسول صلى الله عليه وسلم لها الدلالة على عظم قدر الرؤيا. 2 - وجواز الاستناد إليها في الاستدلال على الأمور الوجودية، قال الحافظ ابن حجر: بشرط أن لا يخالف القواعد الشرعية. 3 - وأن من الرؤيا ما يقع تعبيره مطلقاً. 4 - ومن رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم لها وأمره لهم بناء عليها يؤخذ الأحكام على رؤيا الأنبياء. 5 - ومن نسيانه صلى الله عليه وسلم لما علمه جواز النسيان على النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نقص عليه في ذلك، لا سيما فيما لا يؤذن له في تبليغه، وقد يكون في ذلك مصلحة تتعلق بالتشريع، كما في السهو في الصلاة أو للاجتهاد في العبادة كما هنا. 6 - وفي الأحاديث الحث على التماس ليلة القدر وطلبها عن طريق العبادة والاستغفار، والدعاء، فقد أخرج أحمد عن عائشة "قالت: يا رسول الله، إن وافقت ليلة القدر. فما أقول؟ قال: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني" قال سفيان الثوري: والدعاء في تلك الليلة أحب من الصلاة، وذكر ابن رجب أن الأكمل الجمع بين الصلاة والقراءة والدعاء والتفكر، ويحصل قيامها -على ما قال البعض- بصلاة التراويح، وقد أخرج البيهقي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من صلى المغرب والعشاء في جماعة حتى ينقضي شهر رمضان فقد أصاب من ليلة القدر بحظ وافر". 7 - واستحباب الاعتكاف في شهر رمضان. 8 - وترجيح وتأكيد اعتكاف العشر الأواخر منه. 9 - وفضل ليلة القدر، وفي القرآن الكريم سورة كاملة خاصة بها، شرف الله تعالى هذه الليلة بإنزال القرآن فيها من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا -كما يرجح الحافظ ابن حجر، وجعلها خيراً من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، وذلك باعتبار العبادة فيها عند جمهور العلماء، على معنى أن العبادة فيها خير من العبادة في ألف شهر. ولا يعلم مقدار الخيرية إلا الله تعالى،

وهذا تفضل منه، وله عز وجل أن يخص ما شاء بما شاء، ورب عمل قليل خير من عمل كثير، ولا شك أن العمل القليل قد يفضل العمل الكثير باعتبار الزمان، وباعتبار المكان، وباعتبار كيفية الأداء، كصلاة واحدة أديت في جماعة، فإنها تعدل خمساً وعشرين صلاة أديت على الانفراد. قال المفسرون: وتخصيص الألف بالذكر للتكثير، كقوله تعالى {يود أحدهم لو يعمر ألف سنة} [البقرة: 96] وشرفها الله تعالى بإنزال الملائكة. يتنزل ملائكة السماء إلى الأرض للتسليم على المؤمنين ولتصير طاعتهم أكثر ثواباً فيسبحون معهم، ويقدسون ويهللون، ويستغفرون لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى رأس الملائكة جبريل عليه السلام، وشرف الله هذه الليلة بأنها سلام ورحمة من الله، من غروب الشمس حتى مطلع الفجر، فمن قامها إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه. 10 - وأخذ بعضهم من رؤيا الصحابة، والأمر بالتماسها إمكان رؤيتها، إذ ما لا يرجى في زمان أو مكان لا يحسن أن يؤمر بالتماسه عادة، ويكفي في رؤيتها رؤية ما يحصل به العلم بها، مما خصت به من الأنوار وتنزل الملائكة عليهم السلام أو نحو ذلك من الكشف المفيد للعلم، مما لا يعرف حقيقته إلا أهله. وقيل إنها لا ترى مكاشفة أبداً، ولا يراها أحد بعده صلى الله عليه وسلم أصلاً، والأمر بالتماسها مقصود به التماس فضلها في الليالي المذكورة. والله أعلم. 11 - وعلى القول برؤيتها قال الحافظ ابن حجر: ويسن لرؤيتها كتمها، هكذا استنبطه السبكي الكبير من هذه القصة. قال: ووجه الدلالة أن الله قدر لنبيه أنه لم يخبر بها، والخير كله فيما قدر له، فيستحب اتباعه في ذلك. قال: وذكر في شرح المنهاج ذلك عن الحاوي. قال: والحكمة فيه أنها كرامة، والكرامة ينبغي كتمانها بلا خلاف بين أهل الطريق. من جهة رؤية النفس، فلا يأمن السلب، ومن جهة أن لا يأمن الرياء، ومن جهة الأدب، فلا يتشاغل عن الشكر لله بالنظر إليها وذكرها للناس، ومن جهة أنه لا يأمن الحسد، فيوقع غيره في المحظور، ويستأنس له بقول يعقوب عليه السلام: {يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً} [يوسف: 5] الآية. 12 - ومن الأحاديث أن الله تعالى أخفى وقتها على التحديد، ليجتهد في طلبها، وما ذكر من علاماتها من السجود في الماء والطين إنما يعرف بعد فواتها، فإنها تنقضي بمطلع الفجر، ومن فاتته تدارك في صبيحتها بعض ما فاته، ثم إنها علامة قد تتكرر في مستقبل لياليهم، فلا يقال: لم ينقطعوا عن طلبها بعد رؤية هذه العلامة. 13 - ومن اختلاف الروايات في تحديد وقتها استدل بعضهم على تنقلها في رمضان أو في العشر الأواخر منه، أو في السبع، أو في أوتاره. قال الحافظ ابن حجر: وأرجاها أوتار العشر، وأرجى أوتار العشر عند الشافعية ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين، وأرجاها عند الجمهور ليلة سبع وعشرين. 14 - ومن كون علاماتها السجود في الماء والطين، استدل بعضهم على أنه ليس بلازم أن يكون لها

علامة، وعلى أنها كرامة لمن شاء الله من عباده فيختص بها قوم دون قوم، فكثيراً ما ينقضي شهر رمضان دون مطر، مع اعتقادنا أنه لا يخلو رمضان من ليلة القدر. 15 - واستنبط بعض العلماء من الأحاديث إما أنها تتعدد في العام الواحد باعتبار تعدد الأماكن وإما لا اعتبار بكونها في الوتر، ولا اعتبار بكونها ليلة كذا، بل ولا يصح إطلاق القول بأن وقت التقدير وتنزل الملائكة ليلاً. لأنه من المعلوم اختلاف المطالع، فالليل عند قوم نهار في جهة أخرى، والفجر عند قوم مغرب عند آخرين، بل بعض المناطق ليلها أشهر، ونهارها أشهر، فإن قلنا بوحدتها وتحديد وقتها لأهل الأرض كانت وتراً عند قوم شفعاً عند آخرين، وليلاً عند قوم ونهاراً عند آخرين. ولو صح الاحتمال الثاني وأنها ليلة واحدة محددة كان التعبير بليلة كذا رعاية لمكان المنزل عليه القرآن عليه الصلاة والسلام، فيكون القول بوتريتها بالنسبة إلى قومه وإن كانت شفعاً عند الآخرين، وكونها بالليل بالنسبة إلى قومه وإن كانت نهاراً عند آخرين، ولا يبعد أن يعطي الله تعالى أجرها لمن اجتهد ليلة الشفع التي هي الوتر عند أهل المدينة، وبهذا الاحتمال يمكن الجمع بين الروايات المتعارضة. ولو صح الاحتمال الأول، وأنها ليال متعددة باعتبار تعدد الأماكن وأن لكل قوم ليلتهم كانت ليلة القدر كراكب يسير إلى جهة، فيصل إلى كل منزل في وقت، وتتنزل الملائكة وتصعد حسب سيرها. فينزل منهم ما شاء الله عند قوم، وينزل منهم ما شاء الله عند آخرين {وما يعلم جنود ربك إلا هو} [المدثر: 31] ومناط الفضل على هذا تحققها بالنسبة لكل قوم على حدة. ومثل هذا الإيراد يأتي في سائر أوقات العبادة، ووقت نزوله سبحانه وتعالى إلى السماء الدنيا من الليل كما صحت به الأخبار، وكذا ساعة الإجابة من يوم الجمعة، ورمضان، وأيام العيد، وغيرها كثير. مما يرجح القول بالاحتمال الأخير، وأن لكل قوم مطلعهم ووقتهم. وعندي كما -قال الألوسي- إن البحث قوي، والأمر مما لا مجال فيه لعقلي. والله أعلم. 16 - ومن قوله في الرواية الخامسة "فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي" أي من عجز عن الأهم حرص على المهم. 17 - ومن قوله في الرواية التاسعة "فخطب الناس، فأمرهم بما شاء الله ثم قال ... إلخ" تقديم الخطبة على التعليم. 18 - ومن وجود أثر الطين والماء في جبهته وأنفه صلى الله عليه وسلم استدل بعضهم على أن السنة للمصلي أن لا يمسح جبهته في الصلاة، قال النووي: وهذا محمول على أنه كان شيئاً يسيراً، فيستحب أن لا يمسحه في الصلاة اهـ ورده بعضهم بأن بقاء أثر الطين لا يستلزم نفي مسح الجبهة، فقد يمسح جبهته ويبقى أثر الطين، ويجوز أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم ترك المسح ناسياً، أو تركه متعمداً لتصديق رؤياه، أو غير شاعر به، أو لبيان الجواز، وليس في ذلك ما يدل على الاستحباب.

19 - واستدل بعضهم ببقاء أثر الماء والطين على الجبهة بين السجدتين على جواز السجود مع الحائل المتصل به بين الجبهة والأرض، وأجاب النووي بأنه محمول على أنه كان شيئاً يسيراً لا يمنع مباشرة بشرة الجبهة للأرض. قال الحافظ: لكن يعكر عليه قوله في بعض الروايات "ووجهه ممتلئ طيناً وماء". 20 - وفيه جواز السجود في الطين، وأن الأنف من أعضاء السجود لأنه صلى الله عليه وسلم لم يترك السجود على الأنف مع وجود العذر، ولولا وجوبه لصانه عن لوث الطين. 21 - ومن الرواية الثانية عشرة من قوله "تذاكرنا ليلة القدر" حرص الصحابة والتابعين على مدارسة العلم. 22 - ومن إتيانهم أبا سعيد طلبهم العلم ممن يعتقدون أن عنده زيادة علم، والمشي في طلب العلم. 23 - ومن قوله "وكان لي صديقاً" الاعتزاز بصداقة الكبراء والعلماء وأولو الفضل. 24 - ومن قوله "ألا تخرج بنا إلى النخل" إيثار المواضع الخالية للسؤال، وتأنيس الطلب للشيخ. 25 - ومن خروج أبي سعيد إجابة السائل لذلك، وتيسير حصوله على مطلوبه. 26 - ومن سؤال أبي سلمة ابتداء الطالب بالسؤال. 27 - ومن قوله رجلان "يحتقان معهما الشيطان" أن المخاصمة والمنازعة مذمومة. 28 - وأنها قد تكون سبباً للعقوبة الدنيوية أو الأخروية أو منع الخير وضياعه. 29 - ومن الرواية السادسة عشرة حرص الصحابة على دفع الناس نحو الاجتهاد في العبادة وعدم الاتكال. 30 - ومن الرواية السابعة عشرة الحلف على غالب الظن وأكبر العلم حسب الفهم. والله أعلم

كتاب الاعتكاف

كتاب الاعتكاف

(313) باب الاعتكاف في رمضان

(313) باب الاعتكاف في رمضان 2429 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان. 2430 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان. قال نافع: وقد أراني عبد الله رضي الله عنه المكان الذي كان يعتكف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد. 2431 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان. 2432 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان. 2433 - عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل ثم اعتكف أزواجه من بعده. 2434 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر، ثم دخل معتكفه. وإنه أمر بخبائه فضرب. أراد الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان. فأمرت زينب بخبائها فضرب. وأمر غيرها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بخبائه فضرب. فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر نظر فإذا الأخبية، فقال "آلبر تردن؟ " فأمر بخبائه فقوض، وترك الاعتكاف في شهر رمضان، حتى اعتكف في العشر الأول من شوال.

2435 - عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى حديث أبي معاوية. وفي حديث ابن عيينة وعمرو بن الحارث وابن إسحق ذكر عائشة وحفصة وزينب رضي الله عنهن أنهن ضربن الأخبية للاعتكاف. 2436 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وجد وشد المئزر. 2437 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره. -[المعنى العام]- لا رهبانية في الإسلام، ولم يشرع الله للمسلمين أن ينقطعوا للعبادة ويتركوا مصالحهم الدنيوية، والسعي على الرزق، ودستوره الخالد {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا} [القصص: 77]. ودستوره الخالد {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون} [الجمعة: 9، 10]. ولقد حاول ثلاثة من الصحابة أن يتبتلوا وينقطعوا للعبادة، فعزم أحدهم أن يصوم الدهر كله، وعزم الآخر أن يقوم الليل كله، وعزم الثالث أن يعتزل الزواج والنساء ليتفرغ للعبادة، فلما علم صلى الله عليه وسلم بذلك غضب أشد الغضب، وعنفهم أشد التعنيف، وقال: "أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني". فالرهبانية الممنوعة، والتبتلات غير المشروعة هي الانقطاع للعبادة فترة من الزمان تؤثر على سير الحياة الدنيوية، شهراً مثلاً أو شهوراً، أما الانقطاع للعبادة ليلة أو ليالي لا تخل بمطالب الحياة والتمتع بالدنيا فليس ممنوعاً، بل هو مستحب في مواسم خاصة، يفيض الله تعالى فيها على الطائعين من سابغ فضله وواسع رحمته ما لا يفيضه في غيرها.

ومن هنا كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر من رمضان شمر عن ساعد الاجتهاد في العبادة، وقام الليل، ودعا نساءه لذلك، واستحب الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، ينقطع المريد فيها في المسجد ولا يخرج منه إلا لقضاء الحاجة، أو تحصيل الأمر الضروري من مأكل ومشرب ونحوهما، ثم يعود فور انتهاء مطلبه، ليشتغل بذكر الله والصلاة وقراءة القرآن، ولا بأس أن يتخذ لنفسه مكاناً في آخر المسجد إذا لم يضيق على الناس أو يؤذيهم. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، يضرب خباء، يصلي، ثم يدخله، ليختلي بنفسه، ويتفرغ لمناجاة ربه. ورغبة في تقرب عائشة -رضي الله عنها- لرسول الله صلى الله عليه وسلم استأذنته أن تعتكف مثله وبجواره، فأذن لها، فأقامت خباء لها بجوار خبائه، ووسطتها صديقتها حفصة لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأذن لها في إقامة خباء لها، فاستجاب، ورأت زينب بنت جحش خباءين بجوار خباء الرسول صلى الله عليه وسلم لعائشة وحفصة، فأقامت لها خباء ولم تستأذن، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر، وأراد العودة إلى خبائه رأى أربعة أخبية، فغضب، وقال: لم يعد البر والطاعة هدفاً. انزعوا هذه الأخبية، وأمر بخبائه فنزع، ولم يعتكف العشر الأواخر من رمضان ذاك العام، واعتكف بدلاً منها في عامها العشر الأول من شوال، ثم عاد بعد ذاك العام إلى الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، واعتكف أصحابه من بعده، واعتكف أزواجه من بعده صلى الله عليه وسلم ورضي عن أصحابه وأزواجه أمهات المؤمنين. -[المباحث العربية]- (كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان) الاعتكاف في اللغة الحبس والمكث واللزوم، يقال "عكف على كذا يعكف ويعكف بضم الكاف وكسرها. أي أقام عليه والتزمه وحبس نفسه عليه، سواء أكان طاعة أو معصية ومنه قوله تعالى: {فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم} [الأعراف: 138]. وفي الشرع المكث في المسجد من شخص مخصوص بصفة مخصوصة، ويسمى جواراً "كما سبق في أحاديث ليلة القدر، والتعبير بلفظ "كان يعتكف" يدل على التكرار والشأن والعادة، أخذاً من الجمع بين الفعل الماضي والمضارع "كان يعتكف" والمقصود ما كان عليه صلى الله عليه وسلم في آخر أحواله، فقد مر أنه اعتكف في العشر الأول" ثم اعتكف العشر الأوسط، ثم استقر على اعتكاف العشر الأواخر من رمضان. (وقد أراني عبد الله المكان الذي كان يعتكف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد) القائل "وقد أراني" نافع، والمعروف أن ابن عمر -رضي الله عنهما- كان شديد الحرص على الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم لدرجة أنه كان يتحرى المكان الذي أناخ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقته في سفره لينيخ ناقته فيه، وهذا سر إعلام نافع بمكان اعتكافه صلى الله عليه

وسلم، وحدد نافع هذا المكان في رواية ابن ماجه قال نافع: "إن ابن عمر كان إذا اعتكف طرح له فراشه وراء أسطوانة التوبة. (ثم اعتكف أزواجه من بعده) ظاهره أن الأزواج اعتكفن في مسجده من بعد وفاته، وليس كذلك بل المراد أنهن اعتكفن في بيوتهن بعد وفاته، فالمقصود به أن الاعتكاف لم ينسخ، ومشروعيته مستمرة. (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر، ثم دخل معتكفه، وإنه أمر بخبائه فضرب) الترتيب الواقعي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يعتكف أمر بخبائه فضرب وأقيم بالمسجد قبل الفجر، وكان يبدأ اعتكافه عقب صلاة الفجر، يصلي، ثم يدخل خباءه، وقد سبق في باب ليلة القدر أن باب خبائه كان من حصير. (أراد الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان) أي فأمر بقبته فأقيمت، ثم صلى الفجر فدخلها، فلما صلى الفجر الثاني وأراد أن يدخل قبته رأى قباباً بجواز قبته وحولها. (فأمرت زينب بخبائها فضرب) من مجموع الروايات يفهم أن عائشة -رضي الله عنها- استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تضرب لها قبة في المسجد بجوار قبته، فأذن لها فضربت، فطلبت حفصة من عائشة أن تستأذن لها بضرب قبه فأذن لها فضربت، فلما رأت زينب بنت جحش ذلك -وكانت غيوراً- أمرت بقبة لها فضربت. ففي البخاري "فاستأذنت حفصة عائشة أن تضرب خباء فأذنت لها فضربت خباء، فلما رأته زينب بنت جحش ضربت خباء آخر" وفي رواية أخرى له "فاستأذنته عائشة أن تعتكف، فأذن لها، فضربت فيه قبة، فسمعت بها حفصة فضربت قبة، وسمعت زينب بها، فضربت قبة أخرى، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغداة أبصر أربع قباب، فقال ... إلخ" أي ثلاث قباب لأزواجه وقبته صلى الله عليه وسلم، وفي رواية "فاستأذنته عائشة، فأذن لها، وسألت حفصة عائشة أن تستأذن لها، ففعلت" وعند النسائي "ثم استأذنته حفصة" أي عن طريق عائشة "فأذن لها" وفي رواية "فلما رأته زينب ضربت معهن، وكانت امرأة غيوراً" قال الحافظ ابن حجر: ولم أقف في شيء من الطرق أن زينب استأذنت، وكأن هذا هو أحد ما بعث على إنكاره صلى الله عليه وسلم اهـ فالمذكور في روايتنا "ضرب زينب" وهو مرحلة من المراحل. (وأمر غيرها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بخبائه فضرب) مع أن الواو لا تقتضي ترتيباً ولا تعقيباً لكن الترتيب الذكري يوهم أن غير زينب من الأزواج أمرن بضرب خبائهن بعدها، وليس مراداً بل العكس هو الصحيح كما يوهم تعميم الأزواج "وليس كذلك، كما سبق. (آلبر تردن)؟ بهمزة الاستفهام، ممدودة وبغير مد، و"البر" منصوب مفعول به مقدم، والخطاب للأزواج وإن كن غير حاضرات، وفي رواية للبخاري "آلبر ترون بهن" بضم تاء "ترون" وفتح الراء، أي تظنون، والخطاب للحاضرين من الرجال، أي أتظنون بفعلهن هذا براً وطاعة؟ والاستفهام إنكاري

بمعنى النفي، وفي رواية "آلبر تقولون يردن بهذا"؟ وفي رواية "ما حملهن على هذا؟ آلبر؟ انزعوها فلا أراها، فنزعت". (فأمر بخبائه فقوض) بالقاف المضمومة والضاد، أي أزيل. (وترك الاعتكاف في شهر رمضان حتى اعتكف في العشر الأول من شوال) فترك الأفضل من أجل المصلحة. (إذا دخل العشر) أل في "العشر" للعهد، والمراد العشر الأواخر من رمضان. (أحيا الليل) أي استغرقه بالسهر في الصلاة وغيرها، والأصل أحيا نفسه باليقظة في الليل. (وأيقظ أهله) أي طلب من أزواجه اليقظة وقلة النوم للاجتهاد في العبادة اجتهاداً فوق العادة. (وجد) بتشديد الدال، أي اجتهد في العبادة. (وشد المئزر) بكسر الميم هو الإزار، وشد المئزر كناية عن اعتزال النساء، وقيل كناية عن الجد والاجتهاد كالتشمير، ويحتمل إرادة المعنيين معاً. -[فقه الحديث]- قال النووي في المجموع: الاعتكاف سنة بالإجماع ولا يجب إلا بالنذر بالإجماع، ويستحب الإكثار منه، ويتأكد استحبابه في العشر الأواخر من شهر رمضان، للأحاديث الواردة فيه وفي ليلة القدر لرجائها. قال الحافظ ابن حجر: وأما قول ابن نافع عن مالك: فكرت في الاعتكاف وترك الصحابة له مع شدة اتباعهم للأثر، فوقع في نفسي أنه كالوصال، وأراهم تركوه لشدته، ولم يبلغني عن أحد من السلف أنه اعتكف إلا عن أبي بكر بن عبد الرحمن. اهـ قال الحافظ: وكأنه أراد صفة مخصوصة، وإلا فقد حكيناه عن غير واحد من الصحابة، ومن كلام مالك أخذ بعض أصحابه أن الاعتكاف جائز، وأنكر ذلك عليهم ابن العربي، وقال إنه سنة مؤكدة، وقال ابن بطال: في مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على تأكيده، وقال أبو داود عن أحمد: لا أعلم عن أحد من العلماء خلافاً في أنه مسنون. وقال النووي في شرح مسلم: ومذهب الشافعي وأصحابه وموافقيه أن الصوم ليس بشرط لصحة الاعتكاف، بل يصح اعتكاف المفطر، ويصح اعتكاف ساعة واحدة، ولحظة واحدة، وضابطه عند أصحابنا مكث يزيد على طمأنينة الركوع أدنى زيادة. فينبغي لكل جالس في المسجد لانتظار صلاة أو لشغل آخر -من أمور الدنيا- أن ينوي الاعتكاف، فيحسب له، ويثاب عليه، ما لم يخرج من

المسجد، فإذا خرج ثم دخل جدد نية أخرى، وليس للاعتكاف ذكر مخصوص، ولا فعل آخر سوى اللبث في المسجد بنية الاعتكاف، ولو تكلم بكلام دنيا، أو عمل صنعة من خياطة أو غيرها لم يبطل اعتكافه، وقال مالك وأبو حنيفة والأكثرون: يشترط في الاعتكاف الصوم، فلا يصح اعتكاف مفطر، واحتجوا بهذه الأحاديث، واحتج الشافعي باعتكافه صلى الله عليه وسلم في العشر الأول من شوال، رواه البخاري ومسلم -وفيها يوم العيد، ولا صوم فيه، وبحديث عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله، إني نذرت أن أعتكف ليلة في الجاهلية؟ فقال: "أوف بنذرك" رواه البخاري ومسلم، والليل ليس محلاً للصوم، فدل على أنه ليس بشرط لصحة الاعتكاف. اهـ قال الحافظ ابن حجر: ومن شرط الصيام قال: أقله يوم، ومنهم من قال: يصح مع شرط الصيام في دون اليوم، وعن مالك يشترط عشرة أيام، وعنه يوم أو يومان. قال الحافظ: واتفقوا على فساده بالجماع، حتى قال بعضهم، من جامع فيه لزمته الكفارة. اهـ قال النووي: وأجمعوا على أنه لا حد لأكثره. اهـ قال الحافظ: ولا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان، وفسروها بالبول والغائط، وقد اتفقوا على استثنائهما، واختلفوا في غيرهما من الحاجات كالأكل والشرب، وقد روى أبو داود عن عائشة قالت: السنة على المعتكف أن لا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة، ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة، إلا لما لا بد منه" قال الشافعي: إن شرط شيئاً من ذلك في ابتداء اعتكافه لم يبطل اعتكافه بفعله، وهو رواية عن أحمد. اهـ قال النووي في المجموع: ولا يصح اعتكاف الحائض والنفساء والجنب، فإذا حاضت وهي معتكفة لزمها الخروج من المسجد، وإذا خرجت سكنت في بيتها، كما كانت قبل الاعتكاف حتى ينقطع حيضها، ثم تعود إلى اعتكافها. ويجوز خروج المعتكف تطوعاً لعيادة مريض، ويجوز للمعتكف أن يلبس ما يلبسه في غير الاعتكاف، ويجوز أن يتطيب، قال أحمد: يستحب أن لا يلبس رفيع الثياب، ولا يتطيب، وله أن يبيع ويشتري، ويكره أن يكثر من ذلك، وقيل يكره البيع والشراء وعمل الصنائع مطلقاً في المسجد. ويجوز للمعتكف وغيره أن يأكل في المسجد ويشرب على أن يحافظ على نظافة المسجد، وللمعتكف النوم والاضطجاع والاستلقاء ومد رجليه ونحو ذلك في المسجد ما لم يؤذ غيره، لأنه يجوز ذلك لغير المعتكف فله أولى: كما يجوز له التحدث بالحديث المباح. وإذا خرج من المسجد لعذر جاز ولا يقطع التتابع، وعليه المبادرة بالرجوع إلى المسجد عند فراغه فإذا زال العذر وتمكن من العود فلم يعد بطل اعتكافه، لأنه ترك الاعتكاف من غير عذر، فأشبه من خرج من غير عذر. أما ما يستحب للمعتكف من الطاعات فقد قال الشافعي وأصحابه: يستحب أن يقرأ القرآن، ويقرئه غيره، وأن يتعلم العلم، ويعلمه غيره، وذلك أفضل من صلاة النفل، لأن الاشتغال بالعلم فرض

كفاية، فهو أفضل من النفل، ولأنه مصحح للصلاة وغيرها من العبادات، ولأن نفعه متعد إلى الناس، وقد تظاهرت الأحاديث بتفضيل الاشتغال بالعلم على الاشتغال بصلاة النافلة. وعن مالك وأحمد: يستحب له الاشتغال بالصلاة والذكر والقراءة مع نفسه، قالا: ويستحب أن لا يقرئ القرآن ولا يشتغل بكتابة الحديث ولا بمجالسة العلماء، كما لا يشرع ذلك في الصلاة والطواف. قال النووي: واحتج أصحابنا بأن أمر القرآن وتعليم العلم والاشتغال به طاعة، فاستحب للمعتكف كالصلاة والتسبيح، ويخالف الصلاة، فإنه شرع فيها أذكار مخصوصة، وأما الطواف فقال أصحابنا: لا يكره إقراء القرآن وتعلم العلم فيه. -[ويؤخذ من الأحاديث: ]- 1 - استدل بالأحاديث المذكورة ومن قول عائشة في الرواية الرابعة "حتى توفاه الله" على أن الاعتكاف لم ينسخ، وقد سبق توضيح حكمه في أول فقه الحديث. 2 - ومن قولها في الرواية الرابعة "ثم اعتكف أزواجه من بعده" أنه ليس من الخصائص. 3 - قال النووي: وفي هذه الأحاديث أن الاعتكاف لا يصح إلا في المسجد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه وأصحابه إنما اعتكفوا في المسجد مع المشقة في ملازمته، فلو جاز في البيت لفعلوه ولو مرة لا سيما النساء، لأن حاجتهن إليه في البيوت أكثر. وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وداود والجمهور سواء الرجل والمرأة، وقال أبو حنيفة: يصح اعتكاف المرأة في مسجد بيتها، وهو الموضع المهيأ من بيتها لصلاتها. قال: ولا يجوز للرجل في مسجد بيته، وفي القديم قول للشافعي كذلك، وهو ضعيف عند أصحابه، وجوزه بعض أصحاب مالك وبعض أصحاب الشافعي للمرأة والرجل في مسجد بيتهما. ثم اختلف المشترطون للمسجد، فقال مالك والشافعي وجمهورهم: يصح الاعتكاف في كل مسجد، وقال أحمد: يختص بمسجد تقام الجماعة الراتبة فيه، وقال أبو حنيفة: يختص بمسجد تصلي فيه الصلوات كلها، وقال الزهري وآخرون: يختص بالجامع الذي تقام فيه الجمعة، ونقلوا عن حذيفة بن اليمان الصحابي اختصاصه بالمساجد الثلاثة. المسجد الحرام، ومسجد المدينة والمسجد الأقصى. اهـ وقال الحافظ: وخصه عطاء بمسجد مكة والمدينة، وخصه ابن المسيب بمسجد المدينة. واستدل على شرط المسجد في الاعتكاف بقوله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} [البقرة: 187]. قال الحافظ ابن حجر: ووجه الدلالة أنه لو صح في غير المسجد لم يختص تحريم المباشرة به لأن الجماع مناف للاعتكاف بالإجماع، فعلم من ذكر المساجد أن المراد أن الاعتكاف لا يكون إلا فيها.

واستدل على شرط المسجد للنساء بأن النساء شرع لهن الاحتجاب في البيوت، فلو لم يكن المسجد شرطاً ما وقع ما ذكر من الإذن والمنع، ولاكتفى لهن بالاعتكاف في مساجد بيوتهن. 4 - واستدل بعضهم بقوله في الرواية الخامسة "آلبر تردن" على أنه ليس لهن الاعتكاف في المسجد، إذ مفهومه أنه ليس ببر لهن، أي ففعله غير بر، أي غير طاعة، وارتكاب غير الطاعة يلزمه عدم الجواز، ورد بأنه صلى الله عليه وسلم كان قد أذن لهن، وإنما نفى البر عنهن لعارض. 5 - واستدل بقولها في الرواية الخامسة "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه" على أن أول الوقت الذي يدخل فيه المعتكف بعد صلاة الصبح، وهو قول الأوزاعي والليث والثوري، وقال الأئمة الأربعة: يدخل قبيل غروب الشمس، وأولوا الحديث على أنه دخل في الاعتكاف من أول الليل، وتخلى بنفسه في المكان الذي أعده لنفسه بعد صلاة الصبح. 6 - ومن قولها "فأمر بخبائه فقوض، وترك الاعتكاف في شهر رمضان حتى اعتكف في العشر الأول من شوال" أخذ بعضهم جواز قطع اعتكاف التطوع، وجواز الخروج من العبادة بعد الدخول فيها، وأجيب باحتمال أنه صلى الله عليه وسلم لم يدخل المعتكف، ولا شرع في الاعتكاف، وإنما هم به ثم عرض له المانع المذكور، فتركه. قال الحافظ ابن حجر: وهذا الجواب يلزمه أن يكون أول وقت الاعتكاف بعد صلاة الصبح. 7 - ويؤخذ من هذا أيضاً ترك الأفضل إذا كان للمصلحة. 8 - ويؤخذ منه قضاء النفل، لكن قال الحافظ ابن حجر: وأما قضاؤه صلى الله عليه وسلم للاعتكاف فعلى طريق الاستحباب. لأنه كان إذا عمل عملاً أثبته، ولهذا لم ينقل أن نساءه اعتكفن معه في شوال. اهـ فقضاء التطوع بعد قطعه مستحب غير واجب عند الجمهور، وقال قوم بوجوب قضاء التطوع إذا قطع. فقال مالك في الموطأ: المتطوع في الاعتكاف والذي عليه الاعتكاف أمرهما سواء فيما يحل لهما ويحرم عليهما، وعلله ابن عبد البر بقوله: لأن الاعتكاف وإن لم يكن واجباً إلا على من نذره فإنه يجب بالدخول فيه، كالصلاة النافلة والحج والعمرة. 9 - ويؤخذ منه أيضاً جواز اتخاذ المعتكف لنفسه موضعاً من المسجد، ينفرد فيه مدة اعتكافه، ما لم يضيق على الناس، قال النووي: وإذا اتخذه يكون في آخر المسجد ورحابه، لئلا يضيق على غيره، وليكون أخلى له، وأكمل في انفراده. اهـ 10 - ويؤخذ منه أن للرجل منع زوجته من الاعتكاف، قال ابن المنذر وغيره: وإنها إذا اعتكفت بغير إذنه كان له أن يخرجها؛ وإن كان بإذنه فله أن يرجع فيمنعها، وعن أهل الرأي: إذا أذن لها الزوج، ثم منعها أثم بذلك وامتنعت، وعن مالك، ليس له ذلك. وهذا الحديث حجة عليهم. 11 - وفيه أن من خشي على عمله الرياء منع، وهذا مبني على أحد الاحتمالات التي قالها القاضي عياض في توجيهه لسبب إنكاره صلى الله عليه وسلم حيث قال: وسبب إنكاره أنه خاف أن يكن غير مخلصات في الاعتكاف، بل أردن القرب منه لغيرتهن عليه، أو لغيرته عليهن، فكره ملازمتهن

المسجد مع أنه يجمع الناس، ويحضره الأعراب والمنافقون، وهن محتاجات إلى الخروج والدخول، لما يعرض لهن، فيبتذلن بذلك أو لأنه صلى الله عليه وسلم رآهن عنده في المسجد وهو في المسجد، فصار كأنه في منزله بحضوره مع أزواجه وذهب المهم من مقصود الاعتكاف، وهو التخلي عن الأزواج ومتعلقات الدنيا وشبه ذلك، أو لأنهن ضيقن المسجد بأبنيتهن. اهـ وفيما عدا التوجيه الأول بعيد، لإذنه صلى الله عليه وسلم لبعضهن. 12 - وفيه أن المرأة إذا اعتكفت في المسجد استحب لها أن تجعل لها ما يسترها. 13 - وفي الأحاديث استحباب زيادة العبادة في العشر الأواخر من رمضان. 14 - واستحباب إحياء لياليه بالعبادات. لقوله في الرواية السادسة "أحيا الليل" قال النووي: وأما قول أصحابنا: يكره قيام الليل كله فمعناه الدوام عليه، ولم يقولوا بكراهة ليلة وليلتين والعشر، ولهذا اتفقوا على استحباب إحياء ليلتي العيدين وغير ذلك. والله أعلم

(314) باب صوم عشر ذي الحجة

(314) باب صوم عشر ذي الحجة 2438 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً في العشر قط. 2439 - عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصم العشر. -[المعنى العام]- الأيام العشر من أول ذي الحجة شرع فيها أعلى العبادات، وهو ذكر الله تعالى: وفضل عمل الطاعات فيها يزيد على أجر عمل الطاعات في غيرها مصداقاً لحديث البخاري "ما من أيام العمل الصالح فيها أفضل منه في هذه" يعني الأيام العشر، وقد أقسم الله تعالى بها لشرفها، فقال: {والفجر وليال عشر} [الفجر: 1، 2]. وإذا كنا لا نختلف في فضل الطاعات فيها فهل يستحب صيامها باعتبار أن الصيام طاعة لم ينه عنه في هذه الأيام؟ أو لا يستحب؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصمها؟ كما يفهم من حديثي الباب؟ ولو كان صيامها مستحباً لصامها؟ أو أمر بصيامها. الجواب عن ذلك تفصيلاً سيأتي في فقه الحديث ولا يدخل في هذا الخلاف يوم عرفة، فقد ورد في فضل صيامه لغير الحاج حديث صحيح سبق شرحه وأنه يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده، والله أعلم. -[المباحث العربية]- (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً في العشر قط) "ال" في "العشر" للعهد الذهني، والمراد منها العشر الأول من ذي الحجة، ولا يصح هنا أن يراد منها العشر الأواخر من رمضان، لأن صيامها فرض واجب، بخلاف قوله تعالى: {والفجر وليال عشر} فقد قيل: إنها العشر الأواخر من رمضان، وهل نفي رؤيتها يستلزم نفي وقوع صومه صلى الله عليه وسلم؟ والجواب: لا يستلزم، والعشر يدخل فيه يوم الأضحى، ويحرم صيامه قطعاً. (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصم العشر) هذا التعبير يصدق بصوم تسع وإفطار العاشر، وهو يوم النحر، ويصدق على عدم الصوم في العشر مطلقاً، وهذا مقصود عائشة ليتوافق مع الرواية الأولى.

-[فقه الحديث]- قال النووي: قال العلاء: هذا الحديث مما يوهم كراهة صوم العشر، والمراد بالعشر هنا الأيام التسعة من أول ذي الحجة. قالوا: وهذا مما يتأول، فليس في صوم هذه التسعة كراهة، بل هي مستحبة استحباباً شديداً لا سيما التاسع منها، وهو يوم عرفة، وقد سبقت الأحاديث في فضله، وثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أيام العمل الصالح فيها أفضل منه في هذه" يعني العشر الأوائل من ذي الحجة، فيتأول قولها "لم يصم العشر" أنه لم يصمه لعارض مرض أو سفر أو غيرهما، أو أنها لم تره صائماً فيه، ولا يلزم من ذلك عدم صيامه في نفس الأمر، ويدل على هذا التأويل حديث هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر، والإثنين والخميس"، رواه أبو داود وأحمد والنسائي، واللفظ لأبي داود، ولفظ أحمد والنسائي: "وخميسين". اهـ والذي أستريح إليه أن صوم الأيام التسعة من أول ذي الحجة لا كراهة فيه، إذ لم يرد نهي عن صومها، والصوم من الطاعات ما لم ينه عنه، فيمكن أن يدخل في أعمال الطاعات التي تفضل في الأيام العشرة على غيرها كما في حديث البخاري. أما كون صومها مستحباً، واستحباباً شديداً فيحتاج إلى دليل، وحديث البخاري الخاص بفضل العمل في الأيام العشر لا يصلح دليلاً، فالعمل في يوم العيد وأيام التشريق له فضل عظيم حتى فضله بعضهم على العمل في الأيام العشر، ومع ذلك يحرم صيامها، وهي أيام أكل وشرب كما جاء في مسلم. وحديث أبي داود وأحمد والنسائي: "كان يصوم تسع ذي الحجة" يحتمل أن يراد به اليوم التاسع، لا الأيام التسعة، وحديثا عائشة المذكوران في الباب لا يمنعان صيامهما أو صيام بعضها، فغاية الحديث الأول أنها رضي الله عنها لم تره صائماً، وكان لها يوم كل تسعة أيام، فربما كان مفطراً هذا اليوم، صائماً غيره، وربما كان صائماً يومها وهي لا تعلم. والحديث الثاني "لم يصم العشر" يصدق بصيام بعضه، أي لم يصم العشر كاملاً. وحيث فقدنا دليل الاستحباب، وفقدنا دليل منع الصيام بقي صيام الأيام التسع على أصل الصيام، من جواز صيام الأيام التي لم يرد النهي عن صيامها. والله أعلم

كتاب الحج

كتاب الحج

(315) باب ما يباح وما لا يباح لبسه للمحرم بحج أو عمرة

(315) باب ما يباح وما لا يباح لبسه للمحرم بحج أو عمرة 2440 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تلبسوا القمص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف. إلا أحد لا يجد النعلين، فليلبس الخفين. وليقطعهما أسفل من الكعبين. ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه الزعفران ولا الورس". 2441 - عن سالم، عن أبيه رضي الله عنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: ما يلبس المحرم؟ قال: "لا يلبس المحرم القميص، ولا العمامة، ولا البرنس، ولا السراويل، ولا ثوباً مسه ورس ولا زعفران ولا الخفين. إلا أن لا يجد نعلين فليقطعهما، حتى يكونا أسفل من الكعبين". 2442 - عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ أنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلبس المحرم ثوباً مصبوغاً بزعفران أو ورس. وقال "من لم يجد نعلين فليلبس الخفين. وليقطعهما أسفل من الكعبين". 2443 - عن ابن عباس رضي الله عنهما. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب يقول "السراويل، لمن لم يجد الإزار. والخفان، لمن لم يجد النعلين" يعني المحرم. 2444 - عن عمرو بن دينار بهذا الإسناد أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم "يخطب بعرفات" فذكر هذا الحديث. 2445 - عن عمرو بن دينار، بهذا الإسناد. ولم يذكر أحد منهم: يخطب بعرفات، غير شعبة وحده.

2446 - عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من لم يجد نعلين فليلبس خفين. ومن لم يجد إزاراً فليلبس سراويل". 2447 - عن صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة. عليه جبة وعليها خلوق (أو قال أثر صفرة) فقال: كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟ قال: وأنزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي. فستر بثوب. وكان يعلى يقول: وددت أني أرى النبي صلى الله عليه وسلم وقد نزل عليه الوحي. قال: فقال: أيسرك أن تنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد أنزل عليه الوحي؟ قال: فرفع عمر طرف الثوب. فنظرت إليه له غطيط. (قال وأحسبه قال) كغطيط البكر. قال: فلما سري عنه قال "أين السائل عن العمرة؟ اغسل عنك أثر الصفرة (أو قال أثر الخلوق) واخلع عنك جبتك. واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك". 2448 - عن صفوان بن يعلى، عن أبيه رضي الله عنه. قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل وهو بالجعرانة. وأنا عند النبي صلى الله عليه وسلم. وعليه مقطعات (يعني جبة) وهو متضمخ بالخلوق. فقال: إني أحرمت بالعمرة وعلي هذا. وأنا متضمخ بالخلوق. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "ما كنت صانعاً في حجك؟ " قال: أنزع عني هذه الثياب. وأغسل عني هذا الخلوق. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "ما كنت صانعاً في حجك، فاصنعه في عمرتك". 2449 - عن صفوان بن يعلى بن أمية أن يعلى رضي الله عنه كان يقول لعمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ ليتني أرى نبي الله صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه. فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة. وعلى النبي صلى الله عليه وسلم ثوب قد أظل به عليه. معه ناس من أصحابه. فيهم عمر. إذ جاءه رجل عليه جبة صوف. متضمخ بطيب. فقال: يا رسول الله! كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة بعد ما تضمخ بطيب؟ فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم ساعة. ثم سكت. فجاءه الوحي. فأشار عمر بيده إلى يعلى بن أمية: تعال. فجاء يعلى. فأدخل رأسه. فإذا النبي صلى الله عليه وسلم محمر الوجه. يغط ساعة. ثم سري عنه. فقال "أين الذي سألني عن العمرة آنفاً؟ " فالتمس الرجل، فجيء به. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أما الطيب

الذي بك، فاغسله ثلاث مرات. وأما الجبة، فانزعها. ثم اصنع في عمرتك، ما تصنع في حجك". 2450 - عن صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة. قد أهل بالعمرة. وهو مصفر لحيته ورأسه. وعليه جبة. فقال: يا رسول الله! إني أحرمت بعمرة. وأنا كما ترى. فقال "انزع عنك الجبة. واغسل عنك الصفرة. وما كنت صانعاً في حجك، فاصنعه في عمرتك". 2451 - عن صفوان بن يعلى عن أبيه رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأتاه رجل عليه جبة. بها أثر من خلوق. فقال: يا رسول الله! إني أحرمت بعمرة. فكيف أفعل؟ فسكت عنه. فلم يرجع إليه. وكان عمر يستره إذا أنزل عليه الوحي، يظله. فقلت لعمر رضي الله عنه: إني أحب، إذا أنزل عليه الوحي، أن أدخل رأسي معه في الثوب. فلما أنزل عليه، خمره عمر رضي الله عنه بالثوب. فجئته فأدخلت رأسي معه في الثوب. فنظرت إليه. فلما سري عنه قال "أين السائل آنفاً عن العمرة؟ " فقام إليه الرجل. فقال "انزع عنك جبتك. واغسل أثر الخلوق الذي بك. وافعل في عمرتك، ما كنت فاعلاً في حجك". -[المعنى العام]- لكل عبادة حكمة، وما شرع الله لخلقه شرعاً إلا وكان وراءه هدف وحكمة، قد نعلمها بتعليمه إيانا، وقد نعلمها استنباطاً واجتهاداً وتقديراً، وقد لا نعلمها ألبتة، لتكون عبادتنا طاعة محضة، وخضوعاً خالصاً، وتسليماً وتفويضاً، إيماناً وتصديقاً. وقد جعل الله لكل أمة منسكاً، وشعار عبادة وخضوع، وجعل نسك أمة محمد صلى الله عليه وسلم الحج والعمرة. ولقد كان الحج نسك إبراهيم عليه السلام وذريته، حيث قال الله تعالى له بعد أن بنى الكعبة {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق} [الحج: 27]. وكان العرب في الجاهلية قبل الإسلام يحجون إلى البيت الحرام، وكانوا يطوفون بالكعبة، ويسعون بين الصفا والمروة لكنهم انحرفوا به عن ملة إبراهيم، فقد أقاموا أصناماً حول الكعبة، وأصناماً على الصفا، وأصناماً على المروة، فصار المنسك إلى الأصنام وليس خالصاً لله تعالى.

وتجردوا من الثياب عند الطواف كمظهر من مظاهر الذلة والخضوع، فلما جاء الإسلام، دين العفة والحياء، جعل للحج شعاراً ولباساً خاصاً، يجمع بين التستر وبين مظاهر العبودية والذلة والخضوع، لباس يستوي فيه الأغنياء المترفون والفقراء البائسون، إزار ورداء ونعلان، مع رأس مكشوفة عارية، وبعد عن الطيب وملاذ الحياة. إنها رحلة من دار الزينة واللهو واللعب إلى ما يشبه دار الحق وحال الموت، إنها خروج من زينة اللباس والرياش إلى ما يشبه الأكفان، إنها هجرة مؤقتة إلى الله تعالى في أول بيت وضع للناس. وفي هذه الأحاديث يسأل السائل عما يلبس المحرم؟ فيجاب بما يحرم لبسه، لأنه المحصور، أما ما يلبس فهو غير محصور، يجاب: لا يلبس المحرم القميص المعروف، ولا العمامة ولا السراويل: ولا البرانس، ولا الخفاف، فإن لم يجد نعلين فليلبس الخفين بعد أن يحولهما إلى ما يشبه النعلين، بقطع الجزء الخلفي المحيط بالكعبين، ولا يلبس شيئاً مسه الطيب. وكان البعض يظن أن الإحرام بالعمرة يختلف في محرماته عن الإحرام بالحج، فسأل المعتمر عن ملابسه، فكان الجواب: افعل في عمرتك من الثياب ما كنت تفعله في حجك، فأمرهما سواء. -[المباحث العربية]- (أن رجلاً سأل .... ) قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمه في شيء من الطرق وقد روي أن ذلك كان في المسجد، فعند البيهقي عن نافع عن ابن عمر، قال: "نادى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب بذلك المكان -وأشار نافع إلى مقدم المسجد، فذكر الحديث وظهر أن ذلك كان بالمدينة. ووقع في حديث ابن عباس في البخاري في أواخر الحج أنه صلى الله عليه وسلم خطب بذلك في عرفات، فيحمل على التعدد، ويؤيده: أن حديث ابن عمر أجاب به السائل، وحديث ابن عباس ابتدأ به في الخطبة، كما سيأتي في الرواية الرابعة وملحقها. (ما يلبس المحرم من الثياب؟ ) هذا مشعر بأن السؤال كان قبل الإحرام، وفي طريق عند البخاري "ماذا تأمرنا أن نلبس من الثياب في الإحرام"؟ وعند النسائي "ما نلبس من الثياب إذا أحرمنا" وأجمعوا على أن المراد بالمحرم هنا الرجل، ولا يلتحق به المرأة في ذلك، وسيأتي: بم يكون الإحرام؟ . (لا تلبسوا القمص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس.) قال البيضاوي: سئل عما يلبس، فأجاب بما لا يلبس، ليدل بالالتزام من طريق المفهوم على ما يجوز، قال النووي: قال العلماء: هذا الجواب من بديع الكلام وجزله، أي لا يلبس كذا وكذا، أي ويلبس ما سواه، وإنما عدل عن الجواب الأصلي لأن ما لا يلبس منحصر، وأما الملبوس الجائز فغير منحصر. وقد عدل بعض الرواة السؤال، فرووه بالمعنى، ليتطابق مع الجواب، فرواه أحمد وابن خزيمة بلفظ

"ما يترك المحرم" وبلفظ "ما يجتنب المحرم من الثياب" قال الحافظ ابن حجر: وهذه الرواية شاذة والاختلاف فيها على ابن جريج، لا على نافع، ومن طريق على الزهري لا على نافع. و"القمص" بالضم جمع قميص، قال العيني: ويجمع أيضاً على أقمصة وقمصان ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحاداً، فكأنه قال: لا يلبس الواحد قميصاً، "والعمائم" جمع عمامة، يقال: اعتم بالعمامة، وتعمم بها. و"السراويلات" جمع سراويل، يقال: تسرول أي لبس السراويل، وهو مفرد، يذكر ويؤنث، وهو لباس يغطي ما بين السرة والركبتين غالباً، ويحيط بكل من الرجلين على حدة. و"البرانس" جمع برنس بضم الباء والنون بينهما راء ساكنة، وهو كل ثوب رأسه منه ملتزق به، وقال الجوهري: هي قلنسوة طويلة، كان النساك يلبسونها في صدر الإسلام. (ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد النعلين فليلبس الخفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين) الخفاف: جمع خف، وهو ما يلبس في القدم من جلد رقيق يغطي ظهر القدم وخلف العقب. والنعل: حذاء لا يغطي ظهر القدم، ولا خلف العقب، يمسك بظهر القدم بسيور فوق الأصابع وبينها، والكعبان: العظمان الناتئان عند ملتقى الساق والقدم، والمراد من قطع الخفين أسفل من الكعبين: كشف الكعبين في الإحرام. وقال محمد بن الحسن ومن تبعه من الحنفية: الكعب هنا هو العظم الذي في وسط القدم عند معقد الشراك، فالمراد: عليه قطع ظهر الخف وترك جزء منه قدر ما يمسكه برجليه، ورد هذا القول بأن الكعب لا يعرف بهذا المعنى عند أهل اللغة. وفي قوله "إلا أحد لا يجد ... " إلخ دليل على أن لفظ "أحد" يجوز استعماله في الإثبات، خلافاً لمن قال: لا يجوز ذلك إلا لضرورة الشعر، قال ابن المنير: والذي يظهر لي بالاستقراء أنه لا يستعمل في الإثبات إلا إن كان يعقبه نفي. اهـ والمراد بعدم الوجدان: أن لا يقدر على تحصيله، إما لفقده أو عجزه عن الثمن. (ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه الزعفران ولا الورس) قال الحافظ ابن حجر: الظاهر أن نكتة العدول عن طريق ما تقدم ذكره، أن الذي يخالطه الزعفران والورس لا يجوز لبسه، سواء كان مما يلبسه المحرم أو لا يلبسه، اهـ والزعفران نبات بصلي، أعجمي صرفته العرب، فقالوا: ثوب مزعفر، وتزعفر، أي تطيب بالزعفران أو صبغ به، و"الورس" بفتح الواو وسكون الراء نبت أصفر، طيب الريح، يصبغ به، يحتوي على مادة حمراء. (لا يلبس المحرم) الفعل مجزوم على أن "لا" ناهية، ومرفوع على أنها نافية، خبر في معنى النهي، والأول أنسب لرواية "لا تلبسوا". (وهو بالجعرانة) قال النووي: فيها لغتان مشهورتان، إحداهما إسكان العين وتخفيف الراء، والثانية كسر العين وتشديد الراء، والأولى أفصح، وهكذا اللغتان في تخفيف الحديبية وتشديدها، والأفصح التخفيف.

(جاء رجل .... عليه جبة، وعليها خلوق -أو قال: أثر صفرة) في رواية للبخاري "جاء أعرابي" قال الحافظ ابن حجر: ولم أقف على اسمه. وقد أطال الحافظ في التحقيق عن رجل جاء اسمه في بعض الروايات المشابهة. "والجبة" بضم الجيم وتشديد الباء المفتوحة: ثوب سابغ واسع الكمين، مشقوق المقدم، يلبس فوق الثياب، و"الخلوق" بفتح الخاء: نوع من الطيب يركب فيه زعفران، وقيل: أعظم أجزائه الزعفران، والمراد بأثر الصفرة: رائحة الزعفران وفي كتب اللغة: الأصفران الذهب والزعفران. وفي الرواية السابعة "وعليه مقطعات -يعني جبة- وهو متضمخ بالخلوق" وفي الرواية الثامنة "عليه جبة صوف، متضمخ بطيب" وفي الرواية التاسعة "وهو مصفر لحيته ورأسه، وعليه جبة" وفي الرواية العاشرة "عليه جبة بها أثر من خلوق" ومعنى "مقطعات" بضم الميم وفتح القاف وتشديد الطاء المفتوحة أي ثياب مقطعة قطعاً مفصلة مخيطة قطعها على هيئة جبة، والتضمخ بالطيب: التلوث به، والإكثار منه، والتلطخ به، والظاهر أن الرجل كان قد أكثر منه في لحيته ورأسه وجبته. (كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟ ) في الرواية السابعة "إني أحرمت بالعمرة وعلي هذا، وأنا متضمخ بالخلوق"؟ وفي الرواية الثامنة "كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة بعدما تضمخ بطيب"؟ وفي الرواية التاسعة "إني أحرمت بعمرة وأنا كما ترى"؟ وفي الرواية العاشرة "إني أحرمت بعمرة فكيف أفعل"؟ وهذا السؤال بصيغه المختلفة يشير إلى أن الرجل كان يعرف أعمال الحج، ويجهل أن العمرة كالحج، قال ابن العربي: كأنهم كانوا في الجاهلية يخلعون الثياب، ويجتنبون الطيب في الإحرام إذا حجوا، وكانوا يتساهلون في ذلك في العمرة، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن مجراهما واحد. (قال: وأنزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي) القائل: يعلى بن أمية رضي الله عنه، وفي الرواية الثامنة "فجاءه الوحي". وكان يعلى يقول "وددت أني أرى النبي صلى الله عليه وسلم وقد نزل عليه الوحي" وفي الرواية الثامنة "أن يعلى كان يقول لعمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- ليتني أرى النبي صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه"؟ وفي رواية للبخاري "أن يعلى قال لعمر رضي الله عنه أرني النبي صلى الله عليه وسلم حين يوحى إليه". (فقال: أيسرك أن تنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد أنزل عليه الوحي؟ ) أي قال عمر ليعلى هذا القول بعد أن ستر عمر رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوب، فأجاب يعلى: نعم، فأشار عمر بيده إلى يعلى أن تعال، فجاء يعلى، فرفع عمر طرف الثوب، فأدخل يعلى رأسه، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم في حالة الوحي. (فإذا النبي صلى الله عليه وسلم له غطيط -كغطيط البكر) في الرواية الثامنة "محمر الوجه يغط" والغطيط: صوت النائم الذي يردده مع نفسه، "والبكر" بفتح الباء هو الفتى من الإبل، ويقال: الغطيط صوت به بحوحة وهو كشخير النائم الذي يردده في حلقه، ومع نفسه، وسبب ذلك: شدة الوحي وثقله.

(فلما سري عنه) بضم السين وكسر الراء المشددة: أي أزيل ما به، وكشف عنه ما كان فيه شيئاً فشيئاً بالتدريج. (قال: أين السائل عن العمرة؟ ) في الرواية الثامنة "أين الذي سألني عن العمرة آنفاً"؟ وفي الرواية العاشرة "أين السائل آنفاً عن العمرة"؟ و"آنفاً" أي الساعة الحاضرة وفي الرواية الثامنة "فالتمس الرجل فجيء به" وفي الرواية العاشرة "فقام إليه الرجل" والظاهر: أن الرجل جلس مع الصحابة على بعد، فطلب فجيء به عند النبي صلى الله عليه وسلم. (فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اغسل عنك أثر الصفرة، واخلع عنك جبتك، واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) في الرواية السابعة "ماذا كنت صانعاً في حجك"؟ قال: أنزع عني هذه الثياب، وأغسل عني هذا الخلوق. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما كنت صانعاً في حجك فاصنعه في عمرتك" وفي الرواية الثامنة "أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات [أي قال هذه الجملة ثلاث مرات تأكيداً، كما هي عادته صلى الله عليه وسلم، أو طلب أن يكون الغسل ثلاث مرات للتأكيد من إزالة الريح] وأما الجبة فانزعها، ثم اصنع في عمرتك ما تصنع في حجك" وفي الرواية التاسعة "انزع عنك الجبة واغسل عنك الصفرة، وما كنت صانعاً في حجك فاصنعه في عمرتك" قال النووي: معناه من اجتناب المحرمات، ويحتمل أنه أراد مع ذلك الطواف، والسعي والحلق، بصفاتها وهيئاتها، وإظهار التلبية، وغير ذلك مما يشترك فيه الحج والعمرة، ويخص من عمومه ما لا يدخل في العمرة من أفعال الحج كالوقوف والرمي والمبيت وغير ذلك. -[فقه الحديث]- تتعرض هذه المجموعة من الأحاديث إلى خمس نقاط: الأولى: ما لا يباح للمحرم لبسه على بدنه. الثانية: تغطية المحرم رأسه. الثالثة: ما لا يباح للمحرم لبسه في قدميه. الرابعة: الطيب للمحرم في الثوب أو البدن. الخامسة: ما يؤخذ من الأحاديث. وهذا هو التفصيل: أولاً: ما لا يباح للمحرم لبسه على بدنه: قال النووي في شرح مسلم: أجمع العلماء على أنه لا يجوز للمحرم لبس شيء من هذه المذكورات، وأنه نبه بالقميص والسراويل على جميع ما في معناهما، وهو ما كان محيطاً أو مخيطا، معمولاً على قدر البدن، أو قدر عضو منه، كالجوشن [أي الدرع] والتبان

[بتشديد الباء، وهو نوع من السراويل، قصيرة فوق الركبة، تستر السوأتين، أشبه بما يلبس في البحر، والجمع تبابين] والقفاز [وهو ما يلبس في الكفين من نسيج أو جلد]. وقال في المجموع: فإن لبس شيئاً من ذلك مختاراً عامداً أثم، ولزمه المبادرة إلى إزالته ولزمته الفدية، سواء قصر الزمان أم طال، وسواء في ذلك الرجل والصبي، لكن الصبي لا يأثم، وتجب الفدية. وقال: قال أصحابنا: واللبس الحرام الموجب للفدية محمول على ما يعتاد في كل ملبوس، فلو التحف بقميص أو قباء [ويطلق على كل ثوب مفرج سواء أكان له أكمام كالجبة، أو لا أكمام له كالعباءة] أو ارتدى بهما [أي جعلهما رداء ولفهما حول نصفه الأعلى] أو اتزر بسراويل [أي لف السراويل على فخذيه] فلا فدية، لأنه ليس لبساً له في العادة. ولو ألقى على بدنه قباء أو فرجية [بفتح الفاء والراء وكسر الجيم وتشديد الياء ثوب واسع طويل الأكمام، يتزيا به علماء الدين غالباً] وهو مضطجع فلا فدية إن كان بحيث لو قام أو قعد لم يستمسك عليه. ثم قال: وهذا الذي ذكرناه إذا لم يكن للرجل عذر في اللبس، فإن كان عذر جاز ووجبت الفدية. ولا فرق بين أن يكون مخيطاً بالإبرة أو ملصقاً بعضه إلى بعض، ولا فرق بين أن يكون من الخرق والأقمشة القطنية والصوفية والوبرية والتيلية وبين أن يكون من الجلود أو اللبود أو الورق. ويحرم في إزار ورداء، ويستحب أن يكون الإزار والرداء أبيضين جديدين، فإن لم يكونا جديدين فليكونا مغسولين نظيفين، ويكره المصبوغ، وغير النظيف. ثم قال: اتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على أنه يجوز أن يعقد الإزار [أي يربط طرفيه ببعضهما ليستمسك] ويشد عليه خيطين [أي خيطا ذا طرفين يربطهما ويعقدهما] وأن يجعل له مثل الحجزة ويدخل فيهما التكة ونحو ذلك [الحجزة والحزة بدون جيم مجري ينشأ من ثني طرف الإزار أو السراويل ليدخل فيه التكة التي تشده ليستمسك] لأن ذلك من مصلحة الإزار، فإنه لا يستمسك إلا بنحو ذلك. ثم قال: قال أصحابنا: وله غرز ردائه في طرف إزاره، وأما عقد الرداء فحرام وكذلك خله بخلال أو بمسلة ونحوها، وفرق الأصحاب بين الرداء والإزار حيث جاز عقد الإزار دون الرداء بأن الإزار يحتاج فيه إلى العقد دون الرداء. هذا قول الجمهور، وقالت طائفة من أصحابنا: لا يحرم عقد الرداء، كما لا يحرم عقد الإزار. ثم قال: وإذا لم يجد إزاراً جاز له لبس السراويل، ولا فدية. هذا مذهبنا، وبه قال أحمد وداود وجمهور العلماء، وقال مالك وأبو حنيفة: لا يجوز له لبسه وإن عدم الإزار، فإن لبسه لزمه الفدية. اهـ وقال البخاري: قال عطاء: يتختم ويلبس الهميان [بكسر الهاء وسكون الميم، وهو حزام من جلد أو قماش به جيوب يضع فيه المحرم النفقة وما يحتاجه ويشده في وسطه] قال العلماء: لا بأس للمحرم بالهميان والخاتم، وأجازوا عقد الهميان إذا لم يمكن إدخال بعضه في بعض، ولم ينقل عن أحد كراهته إلا عن ابن عمر، ونقل عنه جوازه.

وقال النووي: قال أصحابنا: وله أن يتقلد المصحف وحمائل السيف. اهـ ومثله أن يتقلد كيس نقود ويعلق حمائل كيس أمتعة، فإن ذلك لا يسمى لبساً. ثانياً: تغطية المحرم رأسه: أما النقطة الثانية فقد قال النووي في شرح مسلم: نبه صلى الله عليه وسلم بالعمائم والبرانس على كل ساتر للرأس، مخيطاً كان أو غيره، حتى العصابة، فإنها حرام، فإن احتاج إليها لشجة أو صداع أو غيرهما شدها ولزمته الفدية. وقال في المجموع: لا يجوز للرجل ستر رأسه، لا بمخيط كالقلنسوة، ولا بغيره كالعمامة والإزار والخرقة وكل ما يعد ساتراً، فإن ستر لزمه الفدية، ولو توسد وسادة، أو وضع يده على رأسه، أو انغمس في ماء، أو استظل بمحمل وهودج ومظلة جاز، ولا فدية، سواء مس المحمل رأسه أم لا، لأنه لا يعد ساتراً، ولو وضع على رأسه زنبيلاً أو قفة جاز على الأصح ولا فدية، لأنه لا يقصد به الستر. ولا يشترط لوجوب الفدية ستر جميع الرأس، بل تجب الفدية بستر قدر يقصد ستره لغرض، كشد عصابة، وإلصاق لصوق لشجة ونحوها، واتفق الأصحاب على أنه لو شد خيطاً على رأسه لم يضره، ولا فدية. وقال: مذهبنا أنه يجوز للرجل المحرم ستر وجهه، ولا فدية عليه، وبه قال جمهور العلماء، وقال أبو حنيفة ومالك: لا يجوز كرأسه. ثالثاً: ما لا يباح للمحرم لبسه في قدميه: وأما النقطة الثالثة فقد قال النووي في شرح مسلم: نبه صلى الله عليه وسلم بالخفاف على كل ساتر للرجل، من مداس [وهو ضرب من الأحذية] وحمحم [وهو ضرب آخر منها] وجورب وغيرها. وقال الحافظ ابن حجر: ظاهر الحديث أنه لا فدية على من لبس الخفين إذا لم يجد النعلين، واستدل به على اشتراط القطع، خلافاً للمشهور عن أحمد، فإنه أجاز لبس الخفين من غير قطع، لإطلاق حديث ابن عباس في البخاري في أواخر كتاب الحج بلفظ "ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين" وتعقب بأنه موافق على قاعدة حمل المطلق على المقيد، فينبغي أن يقول بها هنا. أما المرأة فالوجه منها كرأس الرجل، يحرم ستره بكل ساتر، ويجوز لها ستر رأسها وسائر بدنها بالمخيط وغيره، كالقميص والخف والسراويل وتستر من الوجه القدر اليسير الذي يلي الرأس، لأن ستر الرأس واجب، لكونه عورة، ولا يمكن استيعاب ستره إلا بذلك. ولها أن تسدل على وجهها ثوباً متجافياً عنه بخشبة ونحوها، سواء فعلته لحاجة، كحر وبرد وخوف فتنة ونحوها، أم لغير حاجة، فإن وقعت الخشبة فأصاب الثوب الوجه بغير اختيارها ورفعته في الحال فلا فدية، وإن كان عمداً أو استدامته لزمها الفدية، وفي لبسها القفازين قولان. وقالت عائشة: لا تلثم المرأة، أي لا تغطي شفتيها بثوب. ولم تر عائشة بأساً بالحلي، وبالثوب الأسود والمورد، وقالت: تلبس من خزها، وبزها، وأصباغها، وحليها. قال الحسن وعطاء: تلبس ما شاءت من الثياب، إلا ثوباً ينفض عليها ورساً أو زعفراناً. رابعاً: الطيب للمحرم في الثوب أو البدن: وأما النقطة الرابعة فقد قال النووي في شرح مسلم: والزعفران والورس نبه بهما على ما في معناهما، وهو الطيب. اهـ

وقال ابن العربي: ليس الورس بطيب، ولكنه نبه به على اجتناب الطيب وما يشبهه في ملاءمة الشم، فيؤخذ منه تحريم أنواع الطيب على المحرم، وهو مجمع عليه فيما يقصد به التطيب. واستدل بقوله: "مسه" على تحريم ما صبغ كله أو بعضه ولو خفيت رائحته. وقال الشافعية: إذا صار الثوب بحيث لو أصابه الماء لم تفح له رائحة لم يمنع. وقال مالك في الموطأ: إنما يكره لبس المصبغات لأنها تنفض [أي تخرج الريح من حين إلى حين] والجمهور على أنه إذا ذهبت رائحة المصبوغ جاز. خلافاً لمالك. وقال النووي في المجموع: ويحرم على المحرم استعمال الطيب في ثيابه وبدنه لحديث ابن عمر "ولا يلبس من الثياب ما مسه ورس أو زعفران" وتجب الفدية. وقال: قال الشافعي والأصحاب: يحرم على الرجل والمرأة استعمال الطيب واستعمال الطيب أن يلصق الطيب ببدنه أو ملبوسه على الوجه المعتاد في ذلك الطيب، ولو لبس ثوباً مبخراً بالطيب، أو ثوباً مصبوغاً بالطيب، أو علق بنعله طيب لزمته الفدية، ولو علقت رائحة الطيب بثوبه أو ببدنه دون عين الطيب بأن جلس في دكان طيب، أو عند الكعبة وهي تبخر، أو في بيت يبخر ساكنوه فلا فدية بلا خلاف، لكنه إن قصد الموضع المذكور لاشتمام الرائحة كره على الأصح. ولو كان المحرم أخشم لا يشم رائحة الطيب، فاستعمل الطيب لزمته الفدية وإن لبس إزاراً مطيباً لزمته الفدية، وله أن يحمل الطيب في خرقة أو قارورة ولا فدية عليه، لأن دونه حائلاً. ومتى لصق الطيب ببدنه أو ثوبه على وجه لا يوجب الفدية، بأن كان ناسياً أو ألقته الريح عليه لزمه المبادرة بإزالته، بأن ينحيه أو يغسله أو يعالجه بما يقطع ريحه، فإن أخر إزالته مع الإمكان لزمته الفدية. وإذا حصل الطيب في مطبوخ أو مشروب فبقيت الرائحة بعد الأكل أو الشرب وجبت الفدية، وقال أبو حنيفة: لا فدية. وأما الفواكه كالأترج والتفاح وأزهار البراري كالشيح والقيصوم ونحوهما فليس بحرام، لأنه لا يقصد للطيب. وأما استحباب الطيب قبل الإحرام فسيأتي في باب خاص إن شاء الله تعالى بعد أربعة أبواب. ثم قال النووي في شرح مسلم: قال العلماء: والحكمة في تحريم اللباس المذكور على المحرم، ولباسه الإزار والرداء أن يبعد عن الترفه، ويتصف بصفة الخاشع الذليل وليتذكر به الموت ولباس الأكفان، ويتذكر البعث يوم القيامة والناس حفاة عراة مهطعين إلى الداعي، والحكمة في تحريم الطيب أن يبعد عن الترفه وزينة الدنيا وملاذها ويجتمع همه لمقاصد الآخرة. وهناك محرمات أخرى للإحرام ستأتي في أبواب مستقلة، كتحريم الصيد وحلق الرأس، ومحرمات لم ترد في صحيح مسلم، كالنكاح، والمباشرة فيما بين السرة والركبة وسنتناولها في نهاية محرمات الإحرام إن شاء الله تعالى.

-[خامساً: ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - يؤخذ من الأمر بقطع أسفل الخفين: أن ما يأمر به الشرع لا يكون فساداً. 2 - ومن تمكين عمر رضي الله عنه يعلى رضي الله عنه من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم: جواز كشف أمور الغير للغير إذا علم أن ذلك لا يشق عليه. وهذا مبني على أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد علم ما حصل ورضي به. 3 - ومن قوله: "ما كنت صانعاً في حجك فاصنعه في عمرتك": أنهم كانوا يعلمون أعمال الحج قبل علمهم بأعمال العمرة. 4 - وأخذ منه بعضهم: أن الترك فعل، لأن معناه اترك واجتنب في عمرتك ما كنت تاركاً مجتنباً في حجك. 5 - واستدل بقوله: "اغسل عنك أثر الصفرة -أو أثر الخلوق": على منع استدامة الطيب بعد الإحرام، وهو قول مالك ومحمد بن الحسن، وأجاب الجمهور: بأن قصة يعلى رضي الله عنه، كانت بالجعرانة، وهي في سنة ثمان بلا خلاف وقد ثبت عن عائشة: أنها طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديها عند إحرامه، كما سيأتي، وكان ذلك في حجة الوداع سنة عشر بلا خلاف، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من الأمر. ذكره الحافظ ابن حجر. 6 - واستدل به كذلك على أن من أصابه طيب في إحرامه ناسياً، أو جاهلاً، ثم علم، فبادر إلى إزالته فلا كفارة عليه، وقال مالك: إن طال ذلك عليه لزمه، وعن أبي حنيفة وأحمد -في رواية- يجب مطلقاً. 7 - ومن قوله: "واخلع عنك جبتك": أن المحرم إذا صار عليه المخيط نزعه ولو من قبل رأسه، ولا يصير بذلك مغطياً لرأسه، ففي لفظ أبي داود "اخلع عنك الجبة، فخلعها من قبل رأسه". 8 - ومن نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرجل، وسكوته، وعدم إجابته، كما في الرواية الثامنة والعاشرة: أن المفتي والحاكم إذا لم يعرف الحكم يمسك حتى يتبين له. 9 - واستدل به على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يحكم بالاجتهاد إلا إذا لم يحضره الوحي. نقله الحافظ ابن حجر. ويتعقب بأنها حادثة عين لا تنفي ما عداها، وقال النووي: لا دلالة فيه على ذلك لأنه يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم لم يظهر له الاجتهاد وحكم ذلك، أو أن الوحي بدره قبل تمام الاجتهاد. 10 - وأن بعض الأحكام ثبت بالوحي الذي لا يتلى. 11 - ومن حاله صلى الله عليه وسلم حين نزول الوحي: شدة الوحي وثقله ومعاناة الرسول صلى الله عليه وسلم من نزوله. 12 - ومن ستر عمر للنبي صلى الله عليه وسلم: استحباب ستر أمور النوم ونحوها مما لا يستحسن ظهوره غالباً. والله أعلم

(316) باب مواقيت الحج

(316) باب مواقيت الحج 2452 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم. قال: "فهن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة، فمن كان دونهن فمن أهله، وكذا فكذلك، حتى أهل مكة يهلون منها". 2453 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم. وقال: "هن لهم، ولكل آت أتى عليهن من غيرهن، ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة". 2454 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، وأهل الشام من الجحفة، وأهل نجد من قرن". قال عبد الله: وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ويهل أهل اليمن من يلملم". 2455 - عن سالم عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، ويهل أهل الشام من الجحفة، ويهل أهل نجد من قرن". قال ابن عمر رضي الله عنهما وذكر لي (ولم أسمع): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ويهل أهل اليمن من يلملم". 2456 - عن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب عن أبيه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مهل أهل المدينة ذو الحليفة، ومهل أهل الشام مهيعة -وهي الجحفة- ومهل أهل نجد قرن". قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (ولم أسمع ذلك منه) قال: "ومهل أهل اليمن يلملم".

2457 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل المدينة أن يهلوا من ذي الحليفة، وأهل الشام من الجحفة، وأهل نجد من قرن. وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وأخبرت أنه قال: "ويهل أهل اليمن من يلملم". 2458 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يسأل عن المهل؟ فقال: سمعت ... (ثم انتهى. فقال: أراه يعني) النبي صلى الله عليه وسلم. 2459 - عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يسأل عن المهل؟ فقال: سمعت (أحسبه رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم) فقال: "مهل أهل المدينة من ذي الحليفة، والطريق الآخر الجحفة، ومهل أهل العراق من ذات عرق، ومهل أهل نجد من قرن، ومهل أهل اليمن من يلملم". -[المعنى العام]- قد يدرك المسلم حكمة مشروعية الكثير من العبادات، لكنه في حكمة مشروعية الحج ومناسكه، يصل في النهاية إلى أنه عبادة تعبدية، وعليه أن يفعل ما أمر بفعله من مناسكه، وأن لا يفعل ما نهي عن فعله من محرماته، وقد شاء الله تفضيل البيت الحرام عن بقاع الأرض، وجعل له من القدسية ما لم يجعله لغيره، وجعل لفريضة الحج من الفضل ما لم يجعله لعبادة من العبادات، فهو رغم أنه مرة واحدة في العمر، لكن هذه المرة تكفر ذنوبه وتمحو خطاياه، "فمن حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه". وإذا كانت الصلاة قد طلب لها قبل التلبس بها طهارة الثوب، والبدن، والمكان والوضوء قبلها، واستقبال القبلة عندها، مما يهيئ المسلم للدخول فيها، فإن الحج كذلك شرع الله له مقدمات تتناسب وقدسية مكانه وقدسية أعماله، فجعل التهيؤ لمكانه من مكان بعيد، والتهيؤ لأفعاله بالإهلال به، وقصده ونيته قبل الدخول في أعماله بوقت غير قصير. من هنا شرع الله نية الحج والإحرام به من الميقات المكاني الذي حدده رسول الله صلى الله عليه وسلم بوحي من الله تعالى، ولا شك أن هذه المواقيت محيطة بالحرم، فذو الحليفة شامية ويلملم يمانية، فهي مقابلها، وإن كانت إحداهما أقرب من الأخرى بالنسبة لمكة، وقرن شرقية والجحفة غربية، فهي مقابلها، وإن

كانت إحداهما كذلك، وذات عرق تحاذي قرناً، ولو أوصلنا خطاً بين كل من هذه المواقيت، تمت إحاطة الحرم إحاطة تامة بهذا الخط، وأصبحت كل بقعة من بقاع الأرض لا محالة تمر به، وكل من سلك طريقاً ما براً، أو بحراً، أو جواً لا محالة له ميقات يحرم منه، إما محدد بتحديد رسول الله صلى الله عليه وسلم حسب الطرق التي كانت معهودة آنذاك، وإما بمحاذة ما حدده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن سلك طريقاً يمر بالمكان الذي حدده رسول الله صلى الله عليه وسلم فميقاته الذي عليه أن يحرم منه سواء أكانت فيه مدينة بهذا الاسم أم أقيمت مكانه مدينة باسم آخر أو به، فالعبرة بالمكان، والأسماء الواردة في الأحاديث إنما هي للإعلام عن المكان الذي كان معروفاً به في عهده صلى الله عليه وسلم. ونعود إلى وجوب التسليم بأوامر الشرع في مناسك الحج، وإن لم تدرك عللها وحكم مشروعيتها، فلا نقول: لماذا قرب من مكة ميقات أهل نجد، وبعد عنها ميقات أهل المدينة؟ ولكن نقول: آمنا بالله وبشرعه الذي أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم. ونسأل الله أن يتقبل منا خالص أعمالنا ودعائنا إنه سميع مجيب. -[المباحث العربية]- (وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم) بتشديد القاف، أي حدد، وأصل التوقيت: أن يجعل للشيء وقت يختص به، ثم اتسع فيه، فأطلق على المكان أيضاً، وقيل للموضع ميقات والجمع مواقيت، كمواعيد جمع ميعاد، والمراد هنا: حدد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المواضع للإحرام بالحج والعمرة. (لأهل المدينة ذا الحليفة) بضم الحاء وفتح اللام، و"أل" في "المدينة" للعهد، أي مدينته صلى الله عليه وسلم، وصار علماً عليها بالغلبة وكثرة الاستعمال، وأهل المدينة سكانها، وذو الحليفة في طريق المسافر من المدينة إلى مكة، بينها وبين المدينة ستة أميال [نحو تسعة كيلو مترات ونصف] وبينها وبين مكة مائتا ميل وميلان [نحو خمسة وعشرين وثلاثمائة كيلو متر] ويلاحظ أن طرق اليوم ومسافاتها غير هذه الطرق ومسافاتها، والعبرة بالمكان وكان بها مسجد يعرف بمسجد الشجرة، مكانه خرب الآن، وبها بئر يقال له: بئر علي وهي تعرف الآن بآبار علي، وقد أقيم بها مسجد كبير يحرم منه الحجاج والمعتمرون. والعبرة في هذه المواقيت بالمكان، لا بالاسم، فلو أقيمت مدينة باسم ذي الحليفة في مكان آخر، وأقيم في الموضع مدينة باسم آخر فالعبرة بالمكان. وفي الرواية الثالثة، والرابعة "يهل أهل المدينة من ذي الحليفة" وفي الرواية الخامسة والثامنة "مهل أهل المدينة ذو الحليفة"، أو "من ذي الحليفة". و"المهل" بضم الميم وفتح الهاء وتشديد اللام موضع الإهلال. قال الحافظ ابن حجر: وأصله رفع الصوت، لأنهم كانوا يرفعون أصواتهم بالتلبية عند الإحرام، ثم أطلق على نفس الإحرام اتساعاً. قال

أبو البقاء: هو مصدر بمعنى الإهلال، كالمدخل والمخرج بمعنى الإدخال والإخراج. اهـ ففتح الميم، لكن ابن الجوزي يقول: وإنما يقوله بفتح الميم من لا يعرف. اهـ (ولأهل الشام الجحفة) بضم الجيم وسكون الحاء، قيل: سميت بذلك لأن السيل أجحفها في وقت، أي جرفها وذهب بها، وهي قرية خربة، بينها وبين مكة نحو مائة وعشرة أميال [نحو مائة وسبعين كيلو متراً] عن طريق المدينة، ولعله خفف على القادمين من بعيد ما لم يخفف على أهل المدينة. والله أعلم. وكان لأهل الشام إلى مكة طريقان: طريق يمر بالمدينة وطريق الساحل لا يمر بها، وهو الذي سلكه أبو سفيان لما علم بخروج المسلمين إلى بدر، فالطريق الذي يمر بالمدينة ميقاته ذو الحليفة "هن لهن ولمن أتى عليهن" والطريق الآخر -كما جاء في الرواية الثامنة- ميقاته الجحفة. ويقال لها "مهيعة" بفتح الميم وإسكان الهاء، وفتح الياء على وزن علقمة وحكى القاضي عياض عن بعضهم كسر الهاء على وزن لطيفة، والصحيح المشهور إسكانها، وفي الرواية الخامسة "ومهل أهل الشام مهيعة وهي الجحفة" وفي كلام ابن الكلبي ما يفيد أنها كانت تسمى مهيعة، فلما اجتاحها السيل سميت الجحفة. وعند النسائي من حديث عائشة "ولأهل الشام ومصر الجحفة" والمكان الذي يحرم منه المصريون اليوم يسمى "رابغ" قال الحافظ ابن حجر: وهو قريب من الجحفة. اهـ أو محاذ بها حيث إن المصريين لا يسلكون غالباً طريق الشام نفسه، سواء قدموا جواً أو بحراً. (ولأهل نجد قرن المنازل) النجد: كل مكان مرتفع، وهو اسم لعشرة مواضع أعلاها تهامة واليمن، وأسفلها الشام والعراق، والمراد هنا أعلاها. و"قرن" قال النووي: بفتح القاف وسكون الراء بلا خلاف بين أهل العلم من أهل الحديث واللغة والتاريخ والأسماء وغيرهم، وغلط الجوهري في صحاحه فيه غلطتين فاحشتين، فقال بفتح الراء وزعم أن أويساً القرني رضي الله عنه منسوب إليه، والصواب إسكان الراء وأن أويساً منسوب إلى قبيلة معروفة، يقال لهم بنو قرن وهي بطن من مراد، القبيلة المعروفة، ينسب إليها المرادي، وبالغ النووي في تغليط الجوهري، لكن حكى القاضي عياض تعليق القابس أن من قاله بالإسكان أراد الجبل، ومن قاله بالفتح أراد الطريق. و"المنازل" جمع المنزل، والمركب الإضافي هو اسم المكان، ويقال له: "قرن" أيضاً بدون إضافة، قال النووي: ووقع في أكثر النسخ "قرن" من غير إضافة، ومن غير ألف بعد النون، وفي بعضها "قرناً" بالألف وهو الأجود، لأنه موضع واسم جبل، فوجب صرفه ويحتمل -على بعد- أن يكون علماً على البقعة، فيترك صرفه. "وقرن المنازل" جبل بينه وبين مكة نحو ستين كيلو متراً، وهو أقرب المواقيت إلى مكة وأبعدها من مكة ذو الحليفة. قال الحافظ ابن حجر: لأهل اليمن إذا قصدوا مكة طريقان: إحداهما طريق أهل الجبال، وهم يصلون إلى "قرن" أو يحاذونه، فهو ميقاتهم، كما هو ميقات أهل المشرق والأخرى طريق أهل تهامة، فيمرون بيلملم أو يحاذونه، وهو ميقاتهم، لا يشاركهم فيه إلا من أتى عليه من غيرهم.

(ولأهل اليمن يلملم) بفتح الياء واللامين، ويقال أيضاً: "ألملم" بهمزة بدل الياء وهو الأصل، والياء تسهيل لها، لغتان مشهورتان، وهو جبل من جبال تهامة بينه وبين مكة ما يقرب من ستين كيلو متراً. هذا. وروايات ابن عباس [الأولى والثانية] ورواية جابر [الثامنة] ترفع صراحة وجزماً واتصالاً هذا الميقات إلى النبي صلى الله عليه وسلم. أما روايات ابن عمر [الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة] فهي مرسلة بالنسبة لهذا الميقات خاصة. (فهن لهن) كان الأصل: هن لهم، أي المواقيت المذكورة لأهل البلاد المذكورة ووقع على الأصل عند بعض رواة البخاري ومسلم، كما في روايتنا الثانية، وكذلك رواه أبو داود وغيره، لكنها عند أكثر الرواة في الصحيحين "هن لهن" ووجهه القاضي: بأن الضمير في "لهن" عائد على المواضع والأقطار المذكورة، وهي [المدينة، والشام، واليمن، ونجد]، أي هذه المواقيت لهذه الأقطار، والمراد: لأهلها، فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه. وسيأتي مزيد للبحث في فقه الحديث. (ولمن أتى عليهن من غير أهلهن) قيل معناه: وهن لمن أتى عليهن مطلقاً سواء أكان له ميقات أولاً، وقيل معناه: وهن لمن أتى عليهن من غير أهلهن إذا لم يكن له ميقات معين، فالعمومان في هذه الجملة والتي قبلها متعارضان، ولا بد من تقييد إحداهما. وسيأتي مزيد للبحث في فقه الحديث. (فمن كان دونهن فمن أهله) أي فمن كان من أهل بلد أقرب منهن لمكة فإحرامه من مسكنه، ومسكن أهله، وفي الرواية الثانية "ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ" أي ومن كان سكنه دون هذه المواقيت، فميقاته من حيث أنشأ الإحرام، ولا يحتاج إلى الرجوع إلى الميقات ليحرم منه، وهذا خاص بالحاج، أما المعتمر: إذا كان مسكنه في الحل وجب عليه أن يخرج إلى أدنى الحل، وللبحث بقية في فقه الحديث. (وكذا فكذلك) قال النووي: هكذا هو في جميع النسخ، وهو صحيح ومعناه: وهكذا فهكذا. (حتى أهل مكة يهلون منها) يجوز في لفظ "أهل" الجر، على أن "حتى" حرف جر بمنزلة إلى، ويجوز فيه الرفع على أنه مبتدأ، خبره محذوف، تقديره: حتى أهل مكة يهلون من مكة. (ومهل أهل العراق من ذات عرق) بكسر العين، سمى المكان بذلك لأن فيه عرقاً، وهو الجبل الصغير، وهي أرض سبخة تنبت الطرفاء. قال الكرماني: بالقرب منه بستان، منه إلى مكة ثمانية عشر ميلاً [نحو تسعة وعشرين كيلو متراً] وهل هذا الميقات بتوقيت النبي صلى الله عليه وسلم أو هو بتوقيت عمر رضي الله عنه؟ خلاف يأتي توضيحه في فقه الحديث.

(وزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ... ) الزعم قد يكون بمعنى القول المحقق، وهو المراد هنا. (عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل عن المهل. فقال: سمعت ... ثم انتهى. فقال ... ) قال النووي: معنى هذا الكلام أن أبا الزبير قال سمعت جابراً، ثم انتهى. أي وقف عن رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: أراه -بضم الهمزة-، أي أظنه رفع الحديث، أي أظنه يعني النبي صلى الله عليه وسلم بنسبة القول إليه. كما قال في الرواية الثامنة "أحسبه رفع ... " قال النووي: ولا يحتج بهذا الحديث مرفوعاً، لكونه لم يجزم برفعه. اهـ -[فقه الحديث]- للحج ميقات زماني، ومواقيت مكانية. أما الميقات الزماني فيقول الله تعالى عنه: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} [البقرة: 189]. ويقول: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} [البقرة: 197]. ولا خلاف بين العلماء في أن أول أشهر الحج شهر شوال، والخلاف بينهم في نهايتها. فذهب أبو حنيفة والشافعي وأحمد إلى أن أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة. واحتجوا بما أخرجه البخاري عن ابن عمر معلقاً قال: "أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة" لكن هذا الفريق اختلفوا في يوم النحر. هل يدخل في عشر ذي الحجة أم لا؟ قال أبو حنيفة وأحمد: يدخل يوم النحر في أشهر الحج، على أن اليوم يتبع الليلة، أو المراد من حديث ابن عمر: الأيام والليالي، وغلب تأثيث لفظ العدد، كما يقال: صمنا عشراً، ويريدون الليالي والأيام. وقال الشافعي: لا يدخل يوم النحر، فأشهر الحج شوال وذو القعدة وتسعة أيام من ذي الحجة، وتنتهي بفجر يوم النحر. فهي عشر ليال وتسعة أيام من ذي الحجة. وذهب مالك والشافعي في القديم إلى أن أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة بكماله، واحتج بما رواه الدارقطني عن ابن عباس قال: "أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة" وروي نحوه عن ابن مسعود وعن ابن الزبير -رضي الله عنهما-. وثمرة الخلاف: أنه لا يجوز الإحرام بالحج في غير أشهر الحج عند الشافعية فإن أحرم بالحج في غير أشهره، فجمهورهم على أنه ينعقد بهذا الإحرام عمرة. وقال داود: إن أحرم بالحج في غير أشهره فلا ينعقد حجاً ولا عمرة، وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد: يجوز الإحرام بالحج في غير أشهر الحج لكن يكره. قالوا: فأما أعمال الحج فلا تجوز قبل أشهر الحج بلا خلاف. ويكره الاعتمار في أشهر الحج عند مالك، فالعمرة عنده مكروهة في جميع ذي الحجة. وعند مالك: إذا أخر طواف الإفاضة عن ذي الحجة لزمه دم.

والتحقيق: أن الخلاف في هذه الأحكام لا تتوقف على الخلاف في أشهر الحج، وإنما ترتبط بها من حيث التطبيق فقط، فليست ثمرة للخلاف في أشهر الحج. فالشافعية لا يجيزون الإحرام بالحج في غير أشهر الحج ولا يتوقف ذلك على كونها تنتهي عند العاشر من ذي الحجة، أو عند آخر ذي الحجة، وكراهة الاعتمار في أشهر الحج عند مالك ليست ثمرة للخلاف في أشهر الحج بل هي حكم ارتضاه سواء كانت أشهر الحج ثلاثة كاملة أو ناقصة، وكذلك لزوم الدم لمن أخر طواف الإفاضة عنده، فإن غيره لا يقول بلزوم الدم مطلقاً على تأخير الطواف أشهراً، ولذلك يقول النووي في المجموع: فلا فرق بين أن يوافقونا في أشهر الحج أو يخالفونا. وعلى أي حال فالكل يجمع على أنه لا يصح في سنة واحدة أكثر من حجة لأن الحجة الواحدة تستغرق الوقت، فلا يمكن أداء الحجة الأخرى. على معنى أن وقت الوقوف بعرفة محدد، فلا يصح أن يقع لحجتين، لأن الحجة الواحدة تصح بكل لحظة منه. هذا، ولم يتعرض الإمام مسلم للميقات الزماني في أحاديثه، وما ذكره البخاري إلا كحكم فقهي، وما ساق له إلا تعليقات موقوفات. أما المواقيت المكانية فقد اتفقت الروايات على أن ميقات أهل المدينة "ذو الحليفة" أما في أفضل مكان يحرم منه من ذي الحليفة فسيأتي في الباب التالي إن شاء الله. وأن ميقات أهل الشام "الجحفة" -وهي مهيعة- قال العلماء: وهي ميقات أهل مصر والمغرب، وأن ميقات أهل نجد "قرن المنازل"، قال الشافعي: "قرن" ميقات المتوجهين من نجد اليمن ونجد الحجاز، اهـ وأن ميقات أهل اليمن "يلملم"، والمراد بأهل اليمن: أهل تهامة اليمن، لا كل اليمن، فإن اليمن تشمل نجداً، وتهامة. كذا قال النووي في المجموع. ثم قال: وهذه الأربعة نص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا خلاف، وهذا مجمع عليه. أما "ذات عرق" لأهل العراق فاختلف العلماء في توقيته، هل هو منصوص عليه من النبي صلى الله عليه وسلم؟ أو كان باجتهاد من عمر رضي الله عنه؟ . حجة من قال إنه كان باجتهاد من عمر رضي الله عنه: ما رواه البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: لما فتح هذان المصران [يعني بالبصرة والكوفة، ومعنى فتحهما إنشاؤهما فإنهما أنشئا في زمن عمر رضي الله عنه، فهما مدينتان إسلاميتان] أتوا عمر، فقالوا: يا أمير المؤمنين. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حد لأهل نجد "قرنا"، وهو جور عن طريقنا [أي وهو مائل بعيد عن طريقنا] وإنا إن أردنا "قرنا" شق علينا؟ قال: فانظروا حذوها من طريقكم، فحد لهم "ذات عرق". وقد روى الشافعي من طريق أبي الشعثاء قال: "لم يوقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق شيئاً، فاتخذ الناس بحيال "قرن" "ذات عرق" وروى أحمد عن ابن عمر حديث المواقيت، وزاد فيه: "قال ابن عمر: فآثر الناس "ذات عرق" على "قرن"، وفي رواية له: "فقال له قائل: فأين العراق؟ فقال ابن عمر: لم يكن يومئذ عراق، فهذا كله يدل على أن ميقات "ذات عرق" ليس منصوصاً، وبه قطع الغزالي

والرافعي في "شرح المسند" والنووي في "شرح مسلم"، وكذا وقع في "المدونة" لمالك، وقال الشافعي في "الأم": لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حد "ذات عرق"، وإنما أجمع عليه الناس. وصحح الحنفية والحنابلة وجمهور الشافعية والرافعي في "الشرح الصغير" والنووي في "المجموع شرح المهذب" أنه منصوص. وحجتهم ما جاء عند مسلم [روايتنا الثامنة] قال الحافظ ابن حجر: إلا أنه مشكوك في رفعه. وقد أخرجه أحمد وابن ماجه مرفوعاً من غير شك لكن في إسنادهما ضعف، وجاء في حديث عائشة، وحديث الحارث بن عمرو السهمي، كلاهما عند أحمد وأبي داود والنسائي، لكن كل طريق لا يخلو عن ضعف، ويحتج بها على اعتبار مجموع طرقها، ويقولون: إن هذا كاف في إثبات أن للحديث أصلاً، ولعل من قال: إنه غير منصوص، لم يبلغه، أو اعتمد أن الحديث ضعيف لا يحتج به باعتبار أن كل طريق لا يخلو عن ضعف. أما من أعل الحديث بأن العراق لم تكن فتحت يومئذ فهي غفلة منه -كما قال ابن عبد البر- لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقت المواقيت لأهل النواحي قبل الفتوح لكونه علم أنها ستفتح، فلا فرق في ذلك بين الشام وبين العراق. وقد جاء في بعض الروايات عند أبي داود والترمذي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المشرق "العقيق". ومع أنه ضعيف فقد جمع العلماء بينه وبين ذات عرق أن ذات عرق ميقات الوجوب، والعقيق ميقات الاستحباب لأنه أبعد عن مكة من ذات عرق وقيل: العقيق ميقات لبعض العراقيين، وهم أهل المدائن وذات عرق ميقات لأهل البصرة. وسواء أكان ذات عرق ميقاتاً لأهل العراق بالنص، أو باجتهاد عمر رضي الله عنه فقد اتبعه الصحابة، واستمر العمل عليه، فهو جدير وحقيق بلزوم الاتباع. والله أعلم. -[ويستنبط من مجموعة هذه الأحاديث الأحكام الآتية: ]- 1 - استدل بقول ابن عمر -رضي الله عنهما- في روايتنا السادسة "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .... " إلخ على أن الإحرام من الميقات واجب. قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد هذه المواقيت واجبة، لو تركها وأحرم بعد مجاوزتها أثم ولزمه دم، وصح حجه. قال الشافعية: فإن عاد قبل التلبس بنسك ركن أو سنة سقط عنه الدم على الصحيح، سواء رجع من مسافة قريبة أو بعيدة، لأنه حينئذ يكون قد قطع المسافة بالإحرام وقال بعضهم: إن عاد قبل أن يبعد عن الميقات مسافة قصر سقط الدم، وإلا فلا. وقال مالك وأحمد: لا يسقط الدم بالعود، وفي رأي للمالكية: يسقط الدم إن عاد قبل أن يبعد. وقال أبو حنيفة: إن عاد ملبياً سقط الدم، وإلا فلا. ويقول الجمهور: الأفضل في كل ميقات أن يحرم من طرفه الأبعد من مكة فلو أحرم من طرفه الأقرب جاز.

وعن سعيد بن جبير: لو ترك الميقات دون إحرام لم يصح حجه. وقال عطاء والنخعي: لو ترك الميقات دون إحرام صح حجه، ولا شيء عليه. هذا بالنسبة لتجاوز الميقات دون إحرام، أما الإحرام قبل بلوغ الميقات، فقد نقل ابن المنذر وغيره بالإجماع على الجواز. قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر، فقد نقل عن إسحق وداود وغيرهما عدم الجواز، وهو ظاهر صنيع البخاري حيث قال: [باب ميقات أهل المدينة، ولا يهلون قبل ذي الحليفة] فهو ظاهر في أنه لا يجيز الإحرام بالحج والعمرة من قبل الميقات، وهو ظاهر جواب ابن عمر [حين سئل: من أين يجوز أن أعتمر؟ قال: "فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأهل نجد قرناً ولأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة" أخرجه البخاري] ويؤيده القياس على الميقات الزماني، فقد أجمعوا على أنه لا يجوز التقدم عليه وفرق الجمهور بين الزماني والمكاني، فلم يجيزوا التقدم على الزماني، وأجازوا في المكاني. قال: وذهبت طائفة كالحنفية وبعض الشافعية إلى ترجيح التقدم، وقال مالك: يكره. ويميل الحافظ ابن حجر إلى عدم الإحرام قبل الميقات فيقول: لم ينقل عن أحد ممن حج مع النبي صلى الله عليه وسلم أنه أحرم قبل ذي الحليفة، ولولا تعين الميقات لبادروا إليه، لأنه يكون أشق فيكون أكثر أجراً. اهـ 2 - استدل بقوله في الرواية الأولى "فهن لهن" أن الشامي مثلاً ميقاته الجحفة، وإن مر على المدينة، فله أن يمر بذي الحليفة دون إحرام حتى يحاذي أو يصل الجحفة، وإن كان الأفضل أن يحرم في هذه الحالة من ذي الحليفة، وبه قال الحنفية وأبو ثور وابن المنذر من الشافعية، وهو المعروف عند المالكية، وأطلق النووي اتفاق الشافعية على أنه يلزمه أن يحرم من ميقات المدينة، ولا يجوز له تأخيره إلى ميقات الشام الذي هو الجحفة، فإن أخر أساء ولزمه دم. اهـ والمعنى عند الشافعية: هن لهن إذا لم يمروا بميقات آخر مريدين الحج أو العمرة. بدليل الجملة الآتية. 3 - يستدل الشافعية بقوله "ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ... " على أن الشامي إذا مر بميقات أهل المدينة لزمه الإحرام منه، إذ المعنى "هن لهن"، أو "وهن لمن أتى عليهن من غير أهلهن" سواء أكان له ميقات معين، أو لم يكن له ميقات معين، ويفسره الآخرون بأن المعنى: هن لأهل هذه البلاد مطلقاً، وهن لمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن لا ميقات له. أما من سلك طريقاً لا ميقات فيه من بر أو بحر فميقاته إذا حاذى ميقاته الأصلي كالمصري مثلاً يمر ببدر، وهي تحاذي ذا الحليفة، فليس عليه أن يحرم منها، بل له التأخير حتى يحاذي الجحفة، فإن كان الطريق لا يحاذي ميقاته الأصلي ويحاذي ميقاتاً آخر أو ميقاتين أحرم عند محاذاة أقربها إليه، فإن جهل المحاذاة أحرم قبل مكة بنحو مائة وعشرين كيلو متراً. ذكره النووي في المجموع.

4 - استدل بقوله في الرواية الأولى والثانية "ممن أراد الحج والعمرة" على أنه يجوز دخول مكة بغير إحرام. قال النووي: ومن لا يريد حجاً ولا عمرة لا يلزمه الإحرام لدخول مكة على الصحيح من مذهبنا، سواء دخل لحاجة تتكرر، كحطاب، وحشاش وصياد، ونحوهم، أو لا تتكرر، كتجارة وزيارة ونحوهما، وللشافعي قول ضعيف أنه يجب الإحرام بحج أو عمرة إن دخل مكة أو غيرها من الحرم مطلقاً. اهـ وتتمثل هذه المسألة في صور: الأولى: أن يمر بالميقات من لا يريد حجاً ولا عمرة، ولا يريد الحرم ولا يدخله، فهذا لا يجب عليه الإحرام بحج ولا بعمرة عند الجمهور، وقال أبو حنيفة: من أتى على ميقات من المواقيت لا يتجاوزه غير محرم، سواء قصد دخول مكة أو لم يقصد. الثانية: أن يمر بالميقات من لا يريد حجاً ولا عمرة، ولا يريد الحرم، بل يريد حاجة دونه، لكنه بعد مجاوزته أراد الحج أو العمرة، فالجمهور على أنه يلزمه الإحرام من موضعه الذي بدا فيه له هذا الرأي ولا دم عليه، فإن جاوزه بلا إحرام، ثم أحرم أثم ولزمه دم، ولا يكلف الرجوع إلى الميقات، وقال أحمد وإسحاق يلزمه الرجوع إلى الميقات. الثالثة: أن يمر بالميقات من لا يريد حجاً ولا عمرة، وهو يريد دخول مكة لحاجة لا تتكرر، كزيارة صديق أو شراء، أو بيع لا يتكرر، وهذا يجب عليه الإحرام بحج أو بعمرة عند النووي وأبي حنيفة ومالك والشافعي في المشهور عنه وأحمد، لأن مكة حرام، فلا يجوز لأحد أن يدخلها بغير إحرام، وقال الزهري، والحسن البصري، والشافعي في قول، ومالك في رواية، وداود وأصحابه من الظاهرية: لا بأس بدخول مكة بغير إحرام، وإليه ذهب البخاري أيضاً، وصرح به النووي كما سبق، وظاهر قوله "ممن أراد الحج والعمرة" يؤيدهم. واستدلوا بما رواه مسلم من حديث جابر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء"، وبما رواه البخاري من حديث أنس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعلى رأسه المغفر". ويجيب الأولون بأن دخوله صلى الله عليه وسلم مكة كان وهي حلال، ثم عادت حراماً إلى يوم القيامة، فلا يجوز دخولها لأحد بغير إحرام. الرابعة: أن يمر بالميقات من لا يريد حجاً ولا عمرة، وهو يريد مكة لحاجة تتكرر كالحطاب والصياد وناقل الماء وموصل الزاد وموزع الطعام والأمتعة على التجار، ومن كانت له ضيعة أو عمل يومي، فهذا لا يجب عليه الإحرام عند الجماهير، لأنه لو وجب عليه الإحرام لكان في جميع زمنه محرماً. والله أعلم. 5 - واستدل به على أن الحج فرض على التراخي، وهو مذهب الشافعي وطائفة، وقال أبو حنيفة ومالك وآخرون: هو على الفور، وسيأتي المبحث بالتفصيل عند باب: فرض الحج مرة في العمر.

6 - استدل ابن حزم بقوله في الرواية الأولى: "فمن كان دونهن فمن أهله" وقوله في الرواية الثانية: "ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ" استدل به على أن من ليس له ميقات فميقاته من حيث شاء، وكأنه أراد من قوله "دونهن" أي غيرهن، وليس المراد منه الأقرب إلى مكة منهن، لذا قال الحافظ ابن حجر: ولا دلالة فيه لأنه يختص بمن كان دون الميقات، أي إلى جهة مكة. 7 - قال الحافظ: ويؤخذ منه أن من سافر غير قاصد للنسك، فجاوز الميقات، ثم بدا له بعد ذلك النسك أنه يحرم من حيث جد له القصد، ولا يجب عليه الرجوع إلى الميقات لقوله "فمن حيث أنشأ". 8 - استدل به على أن من كان مسكنه بين مكة والميقات فميقاته مسكنه ولا يلزمه الذهاب إلى الميقات، ولا يجوز له مجاوزة مسكنه بغير إحرام. قال النووي هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة إلا مجاهداً فقال ميقاته مكة نفسها. 9 - وظاهر قوله: "حتى أهل مكة يهلون منها" أن أهل مكة يهلون من مكة للحج والعمرة، ولكن هذا الظاهر غير مراد، بل هو خاص بالحاج، وأما المعتمر فيجب عليه أن يخرج إلى أدنى الحل، قال المحب الطبري لا أعلم أحداً جعل مكة ميقاتاً للعمرة. واختلف في القارن من أهل مكة، فذهب الجمهور: إلى أن حكمه حكم الحاج في الإهلال من مكة، وقال ابن الماجشون: يجب عليه الخروج إلى أدنى الحل، لأن العمرة إنما تندرج في الحج فيما محله واحد، كالطواف والسعي، أما الإحرام فمحله فيها مختلف. واختلف في الأماكن التي يحرم منها أهل مكة [والمراد من أهل مكة هنا -كما قال النووي- من كان بمكة عند إرادة الإحرام بالحج، سواء أكان مستوطناً أم عابر سبيل]. قال النووي: ميقاته نفس مكة، ولا يجوز له ترك مكة والإحرام بالحج من خارجها سواء من الحرم أو من الحل. ثم قال: هذا هو الصحيح عند أصحابنا وقال بعض أصحابنا: يجوز له أن يحرم بالحج من الحرم، كما يجوز من مكة، لأن حكم الحرم حكم مكة، قال: والصحيح الأول، لهذا الحديث، ثم قال: قال أصحابنا: ويجوز أن يحرم من جميع نواحي مكة بحيث لا يخرج عن نفس المدينة وسورها، وفي الأفضل قولان: أصحهما من باب داره والثاني من المسجد الحرام تحت الميزاب. 10 - استدل بقوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأولى والثانية "وقت" وقوله في الرواية السادسة "أمر" وقول ابن عمر في رواية البخاري "فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل نجد قرناً .... إلخ" على: أنه لا يجوز الإحرام بالحج والعمرة من قبل الميقات، وهذا ظاهر صنيع البخاري حيث قال: "باب فرض مواقيت الحج والعمرة"، ثم قال: "باب ميقات أهل المدينة ولا يهلوا قبل ذي الحليفة". قال الحافظ ابن حجر: وقد نقل ابن المنذر وغيره الإجماع على الجواز، وفيه نظر، فقد نقل عن إسحاق وداود وغيرهما عدم الجواز، وهو ظاهر جواب ابن عمر ويؤيده القياس على الميقات الزماني، فقد أجمعوا على أنه لا يجوز التقدم عليه وفرق الجمهور بين الزماني والمكاني، فلم

يجيزوا التقدم على الزماني وأجازوا في المكاني، وذهب طائفة كالحنفية وبعض الشافعية إلى ترجيح التقدم -أي أفضليته- وقال مالك: يكره. ويروى أن عبد الله بن عامر لما فتح خراسان قال: لأجعلن شكري لله أن أخرج من موضعي هذا محرماً، فأحرم من نيسابور، فلما قدم على عثمان بن عفان رضي الله عنه لامه على ما صنع. فاستدل به من كره الإحرام قبل الميقات المكاني، أما من أجاز فيحمل هذا الأثر على أنه ربما فهم منه أنه قدم إحرامه على الميقات الزماني، لأن بين خراسان ومكة مسافة يزيد قطعها على أشهر الحج حسب سفرهم حينئذ. 11 - استدل بقوله في الرواية الثانية وما بعدها "يهل، مهل" على استحباب رفع الصوت بالتلبية، لأن الإهلال هنا -كما يقول الطبري-: رفع الصوت بالتلبية. وسيأتي مزيد لهذا في الباب الذي يلي. والله أعلم

(317) باب التلبية وصفتها ووقتها

(317) باب التلبية وصفتها ووقتها 2460 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد والنعمة لك والملك. لا شريك لك" قال: وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يزيد فيها: لبيك لبيك وسعديك، والخير بيديك، لبيك والرغباء إليك والعمل. 2461 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوت به راحلته قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل، فقال: "لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد والنعمة لك والملك. لا شريك لك" قالوا: وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: هذه تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال نافع: كان عبد الله رضي الله عنه يزيد مع هذا: لبيك لبيك وسعديك، والخير بيديك، لبيك والرغباء إليك والعمل. 2462 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: تلقفت التلبية من في رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فذكر الحديث بمثل حديثهم. 2463 - عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل ملبداً، يقول: "لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد والنعمة لك والملك. لا شريك لك". لا يزيد على هؤلاء الكلمات. وإن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يركع بذي الحليفة ركعتين، ثم إذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل بهؤلاء الكلمات. وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يهل بإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الكلمات، ويقول: لبيك اللهم لبيك. لبيك وسعديك، والخير في يديك، لبيك والرغباء إليك والعمل.

2464 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك. قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويلكم. قد. قد" فيقولون: إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك. يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت. -[المعنى العام]- عن ابن عباس قال: لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت قال: رب قد فرغت. فقال: {وأذن في الناس بالحج} [الحج: 27]. قال: يا رب. وما يبلغ صوتي؟ قال: أذن، وعلي البلاغ. قال: رب. كيف أقول؟ قال: قل يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق، فأجيبوا ربكم. فقام إبراهيم على الصفا، فوضع إصبعيه في أذنيه، ثم نادى: يا أيها الناس، إن الله كتب عليكم الحج فحجوا فأجابوه بالتلبية في أصلاب الرجال، وأرحام النساء. قال ابن عباس: ألا ترى أنهم يجيئون من أقصى البلاد يلبون؟ اهـ واستمرت تلبية الحاج منذ دعوة إبراهيم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، فلما نصب العرب أصنامهم، وعبدوها لتقربهم إلى الله زلفى غيروا التلبية، وزادوا فيها، فأصبحوا يقولون لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك، إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك. فلما جاء الإسلام أبقى على مشروعية الحج ونسكه على ما هي عليه، وعلى ما كانت عليه في دين إبراهيم عليه السلام، لكنه حذف أو عدل ما دخله من شرك أو تحريف. وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية يلبون تلبيتهم، لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك لبيك. وقبل أن يقولوا كلمة التحريف [إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك] قال لهم: قط، قط، أي كفى إلى هنا ولا تزيدوا. وعلم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أصحابه كيف يلبون؟ لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك. لا شريك لك. وسمعه بعض الصحابة في بعض الأحيان يقول: "لبيك غفار الذنوب" فزادوا على مسمعه صلى الله عليه وسلم بعض التمجيدات. يقولون إضافة إلى التلبية الواردة: [لبيك ذا المعارج. لبيك مرغوباً ومرهوباً إليك ذا النعماء والفضل الحسن. لبيك وسعديك، والخير في يديك، والرغباء إليك والعمل] والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع فلا يقول لهم شيئاً، ولم يرد عليهم شيئاً لكنه لزم تلبيته صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عن الصحابة أجمعين.

-[المباحث العربية]- (التلبية) مصدر "لبى" كما يقال: سمى تسمية، وصفى تصفية، وتلبية الحاج أو المعتمر قوله: لبيك اللهم لبيك. (لبيك اللهم لبيك) منصوب بفعل مضمر لا يظهر، وأصله: لببت لبين لك [لببت بفتح الباء الأولى مخففة وسكون الثانية، ولبين بتشديد الباء، تثنية لب] يقال: لب بالمكان لباً أقام به ولزمه، والمعنى: أنا مقيم على طاعتك، ملازم إجابتك، إقامتين وإجابتين، ويقال: امرأة لبة، أي محبة لولدها عاطفة عليه، فالمعنى محبتي لك، ويقال: داري تلب دارك أي تواجهها، فالمعنى: اتجاهي لك وقصدي إليك، ويقال: حب لباب، ولب الشيء صفوته وخالصه، فالمعنى: إخلاصي لك، ويقال: "الإلباب" القرب والطاعة، قال إبراهيم الحربي: المعنى قرباً منك وطاعة، وقال أبو نصر: معناه أنا ملب بين يديك، أي خاضع. وكلها معان صالحة ومتقاربة، ويمكن جمعها في المراد منها. والقول بأن "لبيك" مثنى، قول سيبويه وأكثر الناس، وقال يونس بن حبيب البصري: "لبيك" اسم مفرد لا مثنى. قال: وألفه إنما انقلبت ياء لاتصالها بالضمير، مثل "لديَّ" و"عليَّ". (إن الحمد والنعمة لك والملك) يروى بكسر الهمزة من "إن" على الاستئناف وبفتحها على التعليل، وجهان مشهوران لأهل الحديث وأهل اللغة قال الجمهور: الكسر أجود، وقال الخطابي: الفتح رواية العامة، وقال ثعلب: الاختيار الكسر، وهو الأجود في المعنى من الفتح، لأن من كسر جعل معناه: إن الحمد والنعمة لك على كل حال، ومن فتح قال: معناه لبيك لهذا السبب. "والنعمة لك" المشهور فيها: نصب "النعمة" عطفاً على "الحمد"، ويجوز رفعها على الابتداء، ويكون الخبر محذوفاً، قال ابن الأنباري: وإن شئت جعلت خبر "إن" محذوفاً تقديره: إن الحمد لك، والنعمة مستقرة لك. اهـ وفي سر عدم وصل "الملك" بالحمد والنعمة قبل ذكر الخبر قال ابن المنير: قرن "الحمد والنعمة" وأفرد "الملك" لأن الحمد متعلق النعمة، ولهذا يقال: الحمد لله على نعمه فجمع بينهما، كأنه قال: لا حمد إلا لك، لأنه لا نعمة إلا لك، وأما الملك فهو معنى مستقل بنفسه، ذكر لتحقيق أن النعمة كلها لله، لأنه صاحب الملك، اهـ والأولى: نصب "الملك" عطفاً على "الحمد" ولا يضر ذكر الخبر بينهما، كما نقول: إن زيداً في الدار وبكراً. ويجوز رفعه على الابتداء، وخبره محذوف والتقدير والملك لك وحدك لا شريك لك. (كان ابن عمر يزيد .... ) عرف أن ابن عمر اقتدى في ذلك بأبيه، كما صرح بذلك في الرواية الثالثة.

(لبيك وسعديك) قال القاضي: إعرابها وتثنيتها كما سبق في "لبيك" ومعناه: مساعدة لطاعتك بعد مساعدة. اهـ أي إجابة لك بعد إجابة ومساعدة منك لي بعد مساعدة. وفي المعجم الوسيط: لبيك وسعديك أي إسعاداً لك بعد إسعاد، والإسعاد: العون والتوفيق. (والخير بيديك) أي الخير كله بيد الله تعالى ومن فضله. (والرغباء إليك والعمل) قال المازري: يروى بفتح الراء والمد "الرغباء" وبضم الراء مع القصر "الرغبى" ونظيره "العلياء" و"العليا" و"النعماء" و"النعمى". قال القاضي وحكي أبو علي فيه أيضاً الفتح مع القصر، ومعناه هنا: الطلب والمسألة إلى من بيده الخير أي أسألك وأطلب منك وأعمل مطيعاً لك، أنت المستحق للعمل والعبادة. وزاد في بعض الروايات "لبيك مرغوباً ومرهوباً إليك، ذا النعماء والفضل الحسن". (كانت إذا استوت به راحلته قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل) في الرواية الثالثة "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يركع بذي الحليفة ركعتين، ثم إذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل" قال العلماء: الإهلال رفع الصوت، بالتلبية عند الدخول في الإحرام وأصل الإهلال في اللغة: رفع الصوت، ومنه: استهل المولود، أي صاح، ومنه قوله تعالى: {وما أهل لغير الله به} [المائدة: 3]. أي رفع الصوت عند ذبحه بذكر غير الله تعالى، وسمي الهلال هلالاً لرفعهم الصوت عند رؤيته. وأصل المسألة في أفضل مكان يهل منه الحاج القادم من المدينة؟ أمن داخل مسجد ذي الحليفة؟ أم حين يركب راحلته؟ أم حين يعلو مرتفع البيداء؟ ويريد ابن عمر الرد على رواية ابن عباس في البخاري، ولفظها "ركب راحلته حتى استوى على البيداء أهل". قال الحافظ ابن حجر: وقد أزال الإشكال ما رواه أبو داود والحاكم من طريق سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس، عجبت لاختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في إهلاله. فذكر الحديث ..... وفيه "فلما صلى في مسجد ذي الحليفة ركعتين أوجب من مجلسه [أي ثبت لا يكاد يقوم وأتى بالذكر الموجب للحسنات والجنة] فأهل بالحج حين فرغ منها، فسمع منه قوم فحفظوه، ثم ركب، فلما استقلت به راحلته أهل، وأدرك ذلك منه قوم لم يشهدوه في المرة الأولى، فسمعوه حينذاك فقالوا: إنما أهل حين استقلت به راحلته، ثم مضى فلما علا شرف البيداء أهل وأدرك ذلك قوم لم يشهدوه، فنقل كل أحد ما سمع وإنما كان إهلاله في مصلاه، وأيم الله ثم أهل ثانياً وثالثاً". قال الحافظ ابن حجر: فكان إنكار ابن عمر -على هذا- على من يخص الإهلال بالقيام على شرف البيداء، وقد اتفق فقهاء الأمصار على جواز جميع ذلك، وإنما الخلاف في الأفضل. (تلقفت التلبية) بقاف ثم فاء، أي أخذتها بسرعة، قال القاضي: وروى "تلقنت" بالنون، قال: والأول رواية الجمهور، قال: وروى "تلقيت" بالياء ومعانيها متقاربة.

(يهل ملبداً) أي يهل في حال كونه ملبداً، والتلبيد: ضفر شعر الرأس، أو لصقه بالصمغ أو الخطمي وشبهها مما يضم الشعر، ويلزق بعضه ببعض، ويمنعه التمعط والتفرق. (قد. قد) قال القاضي: روى بإسكان الدال، وبكسرها مع التنوين ومعناه: كفاكم هذا الكلام فاقتصروا عليه، ولا تزيدوا، وهنا انتهى كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عاد الراوي إلى حكاية كلام المشركين، فقال: "إلا شريكاً هو لك ... إلخ" ومعناه أنهم كانوا يقولون: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لهم: اقتصروا على قولكم: لبيك لا شريك لك، ولا تزيدوا ما بعدها. -[فقه الحديث]- قال النووي: أجمع المسلمون على أن التلبية مشروعة، ثم اختلفوا في إيجابها، فقال الشافعي وآخرون: هي سنة، ليست بشرط لصحة الحج، ولا واجبة، فلو تركها صح حجه ولا دم عليه، لكن فاتته الفضيلة. قال: وقال بعض أصحابنا: هي واجبة تجبر بالدم، ويصح الحج بدونها، وقال بعض أصحابنا هي شرط لصحة الإحرام. ولا يصح الحج ولا الإحرام إلا بها. وقال مالك: ليست بواجبة لكن لو تركها لزمه دم وصح حجه، قال الشافعي ومالك: ينعقد الحج بالنية بالقلب من غير تلفظ، كما ينعقد الصوم بالنية فقط، وقال أبو حنيفة: لا ينعقد إلا بانضمام التلبية، أو سوق الهدي مع النية قال أبو حنيفة: ويجزئ عن التلبية ما في معناها من التسبيح والتهليل وسائر الأذكار، كما قال هو: إن التسبيح وغيره يجزئ في الإحرام بالصلاة عن التكبير. واعترض الحافظ ابن حجر على النووي، فقال: أغرب النووي فحكى عن مالك أنها سنة ويجب بتركها دم. ولا يعرف ذلك عندهم إلا أن ابن الجلاب قال: التلبية في الحج مسنونة غير مفروضة، وقال ابن التين: يريد أنها ليست من أركان الحج، وإلا فهي واجبة ولذلك يجب بتركها الدم، ولو لم تكن واجبة لم يجب. ثم قال النووي: قال أصحابنا: ويستحب رفع الصوت بالتلبية، بحيث لا يشق عليه وقد روى مالك في الموطأ وأصحاب السنن وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم "جاءني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي يرفعون أصواتهم بالإهلال" والمرأة ليس لها الرفع، لأنه يخاف الفتنة بصوتها. ويستحب الإكثار منها، لا سيما عند تغاير الأحوال، كإقبال الليل والنهار، والصعود والهبوط، واجتماع الرفاق والقيام والقعود، والركوب والنزول، وأدبار الصلوات، وفي المساجد كلها والأصح أنه لا يلبي في الطواف والسعي، لأن لهما أذكاراً مخصوصة. ويستحب أن يكرر التلبية كل مرة ثلاث مرات فأكثر، ويواليها، ولا يقطعها بكلام فإن سلم عليه رد السلام باللفظ، ويكره السلام عليه في هذه الحال وإذا لبى صلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأل الله تعالى ما شاء لنفسه، ولمن أحبه وللمسلمين، وأفضله سؤال الرضوان والجنة، والاستعاذة من النار، وإذا رأى شيئاً يعجبه قال: لبيك إن العيش عيش الآخرة.

ولا تزال التلبية مستحبة للحاج حتى يشرع في رمي جمرة العقبة يوم النحر أو يطوف طواف الإفاضة إن قدمه عليها، أو الحلق عند من يقول: الحلق نسك، وهو الصحيح ويستحب للعمرة حتى يشرع في الطواف، ويستحب التلبية للمحرم مطلقاً، سواء الرجل أو المرأة والمحدث والجنب والحائض، لقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: "اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي" وسيأتي مزيد لهذه المسألة بعد الكلام عن السعي كركن من أركان الحج والعمرة. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم: ]- 1 - استدل بزيادة عمر وابن عمر على استحباب الزيادة على ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك، قال قوم: لا بأس أن يزيد من الذكر لله ما أحب، وهو قول محمد والنووي والأوزاعي، واحتجوا بحديث أبي هريرة عند النسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم، قال: "كان من تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم لبيك إله الحق لبيك" ففيه دلالة على أنه قد كان يلبي بغير ذلك، وخالفهم آخرون فقالوا: لا ينبغي أن يتعدى في ذلك شيئاً على ما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، ثم فعله هو، ولم يقل: لبوا بما شئتم مما هو من جنس هذا، بل علمهم كما علمهم التكبير في الصلاة، والجمهور على أن الاقتصار على التلبية المرفوعة أفضل وأنه لا بأس بالزيادة، وحكى عن مالك كراهة الزيادة، وهو أحد قولي الشافعي وحكى الترمذي عن الشافعي قال: فإن زاد في التلبية شيئاً من تعظيم الله فلا بأس، وأحب أن يقتصر على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال أبو حنيفة: إن زاد فحسن، وحكى عن بعضهم أن الاختيار أن يفرد ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ ابن حجر: وهذا أعدل الوجوه فيفرد ما جاء مرفوعاً، وإذا اختار ما جاء موقوفاً أو أنشأه هو من قبل نفسه مما يليق، قاله على انفراده، حتى لا يختلط بالمرفوع، وهو شبيه بحال الدعاء في التشهد، فإنه قال فيه "ثم ليتخير من المسألة والثناء ما شاء" أي بعد أن يفرغ من المرفوع. 2 - ومن الرواية الثالثة استحباب تلبيد الرأس قبل الإحرام، قال النووي: وقد نص عليه الشافعي وأصحابنا، وهو موافق للحديث الآخر في الذي خر عن بعيره، فإنه يبعث يوم القيامة ملبداً، فيستحب لكونه أرفق بالشعر. 3 - وفي مشروعية التلبية اعتراف بإكرام الله تعالى لعباده، وأن وفودهم على بيته إنما كان باستدعاء منه سبحانه وتعالى. 4 - ومن الرواية الثالثة استحباب صلاة الركعتين عند إرادة الإحرام، قال النووي: ويصليهما قبل الإحرام، ويكونان نافلة، هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة، إلا ما حكي عن الحسن البصري أنه استحب كونهما بعد صلاة فرض وهذه الصلاة سنة، لو تركها فاتته الفضيلة، ولا إثم عليه ولا دم. والله أعلم

(318) باب من أي مكان من الميقات يحرم الحاج القادم من المدينة؟

(318) باب من أي مكان من الميقات يحرم الحاج القادم من المدينة؟ 2465 - عن سالم بن عبد الله، أنه سمع أباه رضي الله عنه يقول: بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها؟ . ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد. يعني ذا الحليفة. 2466 - عن سالم قال: كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا قيل له: الإحرام من البيداء، قال: البيداء التي تكذبون فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ . ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند الشجرة حين قام به بعيره. 2467 - عن عبيد بن جريج أنه قال لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: يا أبا عبد الرحمن! رأيتك تصنع أربعاً لم أر أحداً من أصحابك يصنعها. قال: ما هن يا ابن جريج؟ قال: رأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمانيين. ورأيتك تلبس النعال السبتية. ورأيتك تصبغ بالصفرة. ورأيتك، إذا كنت بمكة، أهل الناس إذا رأوا الهلال، ولم تهلل أنت حتى يكون يوم التروية. فقال عبد الله بن عمر: أما الأركان، فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمس إلا اليمانيين. وأما النعال السبتية، فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعال التي ليس فيها شعر. ويتوضأ فيها. فأنا أحب أن ألبسها. وأما الصفرة، فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها. فأنا أحب أن أصبغ بها. وأما الإهلال فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث به راحلته. 2468 - عن عبيد بن جريج قال: حججت مع عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما. بين حج وعمرة. ثنتي عشرة مرة. فقلت: يا أبا عبد الرحمن! لقد رأيت منك أربع خصال. وساق الحديث، بهذا المعنى. إلا في قصة الإهلال فإنه خالف رواية المقبري. فذكره بمعنى سوى ذكره إياه. 2469 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وضع رجله في الغرز، وانبعثت به راحلته قائمة، أهل من ذي الحليفة.

2470 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يخبر؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل حين استوت به ناقته قائمة. 2471 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب راحلته بذي الحليفة. ثم يهل حين تستوي به قائمة. 2472 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: بات رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة مبدأه. وصلى في مسجدها. -[المعنى العام]- سبق أن أشرنا إلى أن العبادات العظيمة يسبقها إعداد لها وتهيئة للدخول فيها كمقدمات لها، وعبادة الحج من أهم العبادات، ولم تفرض في العمر كله إلا مرة واحدة، فلا عجب أن ينوي بها من قبل مباشرة أعمالها، بل من قبل الوصول إلى أماكن مباشرتها، فكان لها مواقيت مكانية لا يتخطاها مريد الحج والعمرة إلا محرماً. وهذه الأحاديث تلقي ضوءاً على اهتمام الصحابة بهذه المواقيت، لدرجة حرصهم على تحديد نقطة البدء والإحرام إذا كان المكان متسعاً، ولقد سمع ابن عمر -رضي الله عنهما- أن بعض الصحابة يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم بالحج بعد أن صلى ركعتين بمسجد ذي الحليفة وركب ناقته، وصعد الجبل، وأشرف على البيداء. فبادر بتكذيب هذا القول وإبطاله، وتوضيح أن إحرامه صلى الله عليه وسلم إنما كان عند ركوبه، وعند نهوض ناقته قائمة به من مسجد ذي الحليفة، ولم يتأخر إحرامه حتى سارت به ناقته نحو البيداء. فما أعظم تحريهم الدقة في أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وحرصهم على بيان الشريعة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين. -[المباحث العربية]- (بيداؤكم هذه) كل مفازة تسمى بيداء، والإشارة هنا إلى مرتفع في طرف ذي الحليفة إلى جهة مكة.

(التي تكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها) أي فتقولون إنه أهل منها وهو لم يهل منها. (إلا من عند المسجد) أل في "المسجد" للعهد، والمعهود مسجد ذي الحليفة، وفي الرواية الثانية "ما أهل إلا من عند الشجرة حين قام به بعيره" والمراد الشجرة التي كانت عند المسجد، وفي الرواية الثالثة "حتى تنبعث به راحلته" وفي الرواية الخامسة "إذا وضع رجله في الغرز، وانبعثت به راحلته قائمة" وفي الرواية السادسة "حين استوت به ناقته قائمة" وانبعاث الراحلة نهوضها، والراحلة من الإبل الصالح منها للأسفار والأحمال واستواء الناقة استقامتها واعتدالها، واستقرارها وثبوتها قائمة، والغرز ركاب الرجل، يعتمد عليه في الركوب، ويستعين به في اعتلاء الراحلة. (لا تمس من الأركان إلا اليمانيين) ثلاثة ياءات قبل النون أو ياءان، تثنية "يماني" بتشديد الياء، كذا جوز سيبويه، وقال: إن الألف زائدة؛ وقال غيره: "يماني" بتخفيف الياء لأن الألف عوض عن ياء النسب، فلو شددت لكان جمعاً بين العوض والمعوض، والركنان اليمانيان من الكعبة هما المقابلان للركنين اللذين على جانبي الحجر، ويسميان بالشاميين والمراد من المس الاستلام فالركنان اليمانيان هما ركن الحجر الأسود والركن المتجه نحو اليمين، وإنما قيل لهما اليمانيان على التغليب، كما قيل في الأب والأم الأبوان. (النعال السبتية) في كتب اللغة: السبت -بسكون الباء- كل جلد مدبوغ، ومنه النعال السبتية. قال النووي: السبتية بكسر السين، وقد أشار ابن عمر إلى تفسيرها بقوله: التي ليس فيها شعر، وهكذا قال جماهير أهل اللغة وأهل الغريب وأهل الحديث، قالوا: وهي مشتقة من السبت بفتح السين، وهو الحلق والإزالة. قال الهروي سميت بذلك لأنها انسبتت بالدباغ، أي لانت، قال الشيباني: السبت كل جلد مدبوغ، وقال أبو زيد: السبت جلود البقر، مدبوغة كانت أو غير مدبوغة، وقال ابن وهب: النعال السبتية كانت سوداً لا شعر فيها، قال القاضي: وكانت عادة العرب لباس النعال بشعرها غير مدبوغة وكانت المدبوغة تعمل في الطائف وغيره، وإنما كان يلبسها أهل الرفاهية. وقال: والسين في جميع هذا مكسورة، والأصح عندي: أن يكون اشتقاقها وإضافتها إلى السبت، الذي هو الجلد المدبوغ أو إلى الدباغة، لأن السين مكسورة في نسبتها، ولو كانت من السبت الذي هو الحلق كما قال الأزهري وغيره لكانت النسبة سبتية بفتح السين، ولم يروها أحد في هذا الحديث ولا في غيره ولا في الشعر -فيما علمت- إلا بالكسر. (ويتوضأ فيها) أي يتوضأ ويلبسها، ورجلاه رطبتان. (يصبغ بها -أصبغ بها) بضم الباء وفتحها لغتان مشهورتان. (حتى يكون يوم التروية) "كان" تامة، أي حتى يجيء يوم التروية، وهو اليوم الثامن من ذي الحجة، سمي بذلك لأن الناس كانوا يتروون فيه من الماء، أي يحملونه معهم من مكة إلى عرفات، ليستعملوه في الشرب وغيره. (لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث به راحلته) السؤال عن الإهلال يوم التروية بدلاً من

أول ذي الحجة، ويبدو الجواب غير مطابق للسؤال، لذا قال النووي: قال المازري: أجابه ابن عمر بضرب من القياس حيث لم يتمكن من الاستدلال بنفس فعل الرسول صلى الله عليه وسلم عن المسألة بعينها فاستدل بما في معناه، ووجه قياسه: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أحرم عند الشروع في أفأفعال الحج والذهاب إليه، فأخر ابن عمر الإحرام بالحج إلى حال شروعه فيه وتوجهه إليه، وهو يوم التروية، وسيأتي حكم ذلك في فقه الحديث. (مبدأه) منصوب على الظرفية، أي وقت ابتدائه الحج. -[فقه الحديث]- تتعرض هذه الأحاديث إلى خمس نقاط: الأولى: من أي مكان من الميقات يحرم الحاج؟ وقد سبق الكلام عن الحاج من مكة عند الكلام على مواقيت الحج. وهذه الأحاديث تدور حول إحرام الحاج من المدينة، وفيها دلالة على أن ميقات أهل المدينة من عند مسجد ذي الحليفة، ولا يجوز لهم تأخير الإحرام حتى يخرجوا إلى البيداء. قال النووي: وبهذا قال جميع العلماء. قال: وفي الأحاديث دليل لمالك والشافعي والجمهور على أن الأفضل أن يحرم إذا انبعثت به راحلته [ويقاس على ذلك إذا بدأت سيارته التحرك مغادرة مكان مسجد ذي الحليفة] وقال أبو حنيفة: يحرم عقب الصلاة وهو جالس قبل ركوب دابته وقبل قيامه، قال: وهو قول ضعيف للشافعي. اهـ وعند أبي داود والنسائي: "فلما أتى على جبل البيداء أهل" وعند أبي داود عن سعد بن أبي وقاص قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أخذ طريق الفرع أهل إذا استقلت به راحلته، وإذا أخذ طريق أحد أهل إذا أشرف على جبل البيداء" وعند الدارقطني من حديث ابن عباس "ثم قعد على بعيره، فلما استوى على البيداء أهل بالحج". قال العيني: وعن هذا اختلف العلماء في الموضع الذي أحرم منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قوم: إنه أهل من مسجد ذي الحليفة، وقال آخرون: لم يهل إلا بعد أن استوت به راحلته بعد خروجه من المسجد، وقال آخرون: بل أحرم حين أطل على البيداء، وهو قول عطاء والأوزاعي وقتادة، ومنشأ هذا الخلاف أوضحته رواية أبي داود، ولفظها: عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: كيف اختلف الناس في إهلال النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقالت طائفة: أهل في مصلاه، وقالت طائفة: حين استوت به راحلته، وقالت طائفة: حين علا البيداء؟ فقال: إني لأعلم الناس بذلك، إنما كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة واحدة، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجاً، فلما صلى في مسجد ذي الحليفة ركعتيه أوجب في مجلسه فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه، فسمع ذلك منه أقوام فحفظوه عنه، ثم ركب، فلما استقلت به ناقته أهل، وأدرك ذلك منه أقوام، وذلك أن الناس كانوا يأتون أرسالاً، فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل، فقالوا: إنما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استقلت به ناقته، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما علا على شرف البيداء [أي على جبل البيداء، قال البكري: البيداء هذه فوق جبلي ذي الحليفة لمن صعد من الوادي، وفي أول البيداء بئر ماء] أهل، وأدرك ذلك منه أقوام فقالوا: إنما أهل حين علا شرف البيداء. وايم

الله لقد أوجب في مصلاه، وأهل حين استقلت به ناقته، وأهل حين علا شرف البيداء. قال سعيد بن جبير: فمن أخذ بقول ابن عباس أهل في مصلاه إذا فرغ من ركعتيه. اهـ الثانية استلام الركنين اليمانيين، وسيأتي عند ذكر أحاديث الطواف. الثالثة: لبس النعال السبتية وقد مضى ما يتعلق بقدم المحرم في ما يباح للمحرم لبسه. الرابعة: الصبغ بالصفرة، قال المازري: قيل: المراد في هذا الحديث صبغ الشعر وقيل صبغ الثوب، قال: والظاهر أن يكون المراد صبغ الثياب، لأنه أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم صبغ، ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه صبغ شعره، قال القاضي عياض: هذا أظهر الوجهين، وإلا فقد جاءت آثار عن ابن عمر بين فيها تصفير ابن عمر لحيته، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصفر لحيته بالورس والزعفران، رواه أبو داود، وذكر أيضاً في حديث آخر احتجاجه بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبغ بها ثيابه حتى عمامته. وقد سبق الكلام قريباً على الصبغ في الإحرام فيما يباح للمحرم لبسه. الخامسة: الإهلال بالحج من مكة، وقد ذهب الشافعي وأصحابه وبعض أصحاب مالك إلى أن الأفضل الإحرام بالحج يوم التروية، وقال آخرون: الأفضل أن يحرم من أول ذي الحجة. ونقله القاضي عن أكثر الصحابة والعلماء. قال النووي: والخلاف في الاستحباب، وكل منهما جائز بالإجماع. -[ويؤخذ من الحديث غير ما تقدم: ]- 1 - من قول ابن عمر في الرواية الأولى "تكذبون" أن الكذب هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه، سواء تعمده أم غلط فيه أم سها، وهذا مذهب أهل السنة، وقالت المعتزلة: يشترط فيه التعمد، قال النووي: وعندنا أن التعمد شرط لكونه إثماً، لا لكونه يسمى كذباً. 2 - وأنه لا بأس من إطلاق هذه الكلمة على من أخبر عن الشيء بخلاف ما هو عليه. 3 - قال النووي: ويؤخذ من الحديث أن الإحرام من الميقات أفضل من دويرة أهله لأنه صلى الله عليه وسلم ترك الإحرام من مسجده مع كمال شرفه، فإن قيل: إنما أحرم من الميقات لبيان الجواز. قلنا: هذا غلط لوجهين: أحدهما أن البيان قد حصل بالأحاديث الصحيحة في بيان المواقيت، والثاني أن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يحمل على بيان الجواز في شيء يتكرر فعله كثيراً فيفعله مرة أو مرات على الوجه الجائز لبيان الجواز، ويواظب على فعله على أكمل وجوهه، وذلك كالوضوء مرة ومرتين وثلاثاً، كله ثابت، والكثير أنه صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثاً ثلاثاً، وأما الإحرام بالحج فلم يتكرر، وإنما جرى منه صلى الله عليه وسلم مرة واحدة، فلا يفعله إلا على أكمل وجوهه. 4 - ومن الرواية الثامنة مشروعية المبيت بذي الحليفة، قال النووي: وهذا المبيت ليس من أعمال الحج ولا من سننه، قال القاضي لكن من فعله تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم فحسن. 5 - ومن قوله: "وصلى في مسجدها" استحباب صلاة ركعتين قبل الإحرام وقد سبق القول عنها في الباب السابق.

(319) باب استحباب الطيب قبل الإحرام

(319) باب استحباب الطيب قبل الإحرام 2473 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم. ولحله قبل أن يطوف بالبيت. 2474 - عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي لحرمه حين أحرم. ولحله حين أحل. قبل أن يطوف بالبيت. 2475 - عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم. ولحله قبل أن يطوف بالبيت. 2476 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله ولحرمه. 2477 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي بذريرة. في حجة الوداع. للحل والإحرام. 2478 - عن عثمان بن عروة عن أبيه، قال: سألت عائشة رضي الله عنها: بأي شيء طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند حرمه؟ قالت: بأطيب الطيب. 2479 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأطيب ما أقدر عليه. قبل أن يحرم. ثم يحرم. 2480 - عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم، ولحله قبل أن يفيض، بأطيب ما وجدت.

2481 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم. ولم يقل خلف في روايته: وهو محرم. ولكنه قال: وذاك طيب إحرامه. 2482 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: لكأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يهل. 2483 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يلبي. -عن عائشة رضي الله عنها قالت: "لكأني أنظر" بمثل حديث وكيع. 2484 - عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كأنما أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو محرم. 2485 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن كنت لأنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو محرم. 2486 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يحرم، يتطيب بأطيب ما يجد. ثم أرى وبيص الدهن في رأسه ولحيته، بعد ذلك. 2487 - عن عائشة رضي الله عنها: قالت: كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو محرم.

2488 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أطيب النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يحرم، ويوم النحر، قبل أن يطوف بالبيت، بطيب فيه مسك. 2489 - عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه، قال: سألت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن الرجل يتطيب ثم يصبح محرماً؟ فقال: ما أحب أن أصبح محرماً أنضخ طيباً. لأن أطلي بقطران أحب إلي من أن أفعل ذلك. فدخلت على عائشة رضي الله عنها فأخبرتها؛ أن ابن عمر قال: ما أحب أن أصبح محرماً أنضخ طيباً. لأن أطلي بقطران أحب إلي من أن أفعل ذلك. فقالت عائشة: أنا طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند إحرامه. ثم طاف في نسائه. ثم أصبح محرماً. 2490 - عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر قال: سمعت أبي يحدث عن عائشة رضي الله عنها؛ أنها قالت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم يطوف على نسائه. ثم يصبح محرماً ينضخ طيباً. 2491 - عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه. قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: لأن أصبح مطلياً بقطران، أحب إلي من أن أصبح محرماً أنضخ طيباً. قال فدخلت على عائشة رضي الله عنها. فأخبرتها بقوله. فقالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف في نسائه. ثم أصبح محرماً. -[المعنى العام]- الكثير من الأحكام الشرعية تشهد للإسلام بأنه دين النظافة، دين الشعور المرهف والأحاسيس الراقية، دين المجتمع والتآلف وما يقرب الناس بعضهم من بعض. لكن هذه الشهادة تفوق كل شهادة، فقد شاءت حكمة الله أن يكون الحاج أشعث أغبر، شاءت حكمة الله أن يحرم عليه ما يزيل تفثه مدة إحرامه وأن يحرم عليه مظاهر التجمل والزينة مدة إحرامه فترة قصيرة قد تصل إلى بضعة أيام يشعر فيها بالذلة والتواضع والمسكنة لخالق النعم التي يتسربل بها أيام عزه وبحبوحته.

أشبه ما تكون هذه الفترة بفترة سجن لنفس المؤمن، والسجين يستعد لسجنه بما يخفف عنه متاعب الحبس والقهر قدر ما يستطيع. إن هذا المؤمن الذي سيتعرض للتفث والشعث عليه أن يستعد له بما يخفف من آثاره الضارة له ولجليسه وصاحبه، عليه أن يتأهب لذلك بالغسل قبل الإحرام، وقد سبق القول فيه. أما هذه الأحاديث فهي ترمي إلى أن يتأهب للروائح الكريهة التي ستلحقه وأن يتأهب للحرمان من الطيب الذي سيفرض عليه بالتزود بالطيب قبل أن يمتنع منه. وهكذا تطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل إحرامه بأطيب طيب يقدر عليه، وبأكبر قدر من الطيب يبقى ويستمر وتطول آثاره، حتى إن الناظر إلى رأسه يرى لمعانه في شعره صلى الله عليه وسلم بعد ثلاثة أيام من إحرامه، وللهدف نفسه يسارع صلى الله عليه وسلم إلى الطيب عقب رفع الحظر دون تراخ، فيبادر إليه عقب رمي جمرة العقبة والحلق قبل أن ينزل إلى مكة ويطوف بالبيت طواف الإفاضة. يتطيب في أواخر لحظات الإباحة قبل المنع، ويتطيب في أول لحظات الإباحة بعد المنع. فهل رأيت ديناً أحرص على النظافة من الإسلام؟ وهل رأيت شاهداً على ذلك أقوى من هذا الشاهد؟ . وإن رقياً آخر بالمشاعر يبدو لنا من هذا الشاهد، رقي بمشاعر الصحب من جانبي الصحبة، الزوجة تحرص على أن تطيب زوجها بيديها، والزوج ينعم بهذه الأيدي الرقيقة ويسعد بها، ألم يكن يستطيع أن يطيب نفسه؟ ألم تكن تستطيع أن تتركه يفعل هذا الأمر الهين بنفسه؟ لكن القدوة الحسنة، والمثل الأعلى للحياة الزوجية يشهد لبيت النبوة، وصدق الله العظيم إذ يقول: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً} [الأحزاب: 33]. وإن رقياً ثالثاً بالمشاعر يبدو لنا من هذه الأحاديث. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيسافر للحج سفراً طويلاً ولن يصحب معه نساءه التسع، بل سيقرع بينهن ويخرج بمن خرج سهمها وصاحبة ليلة السفر ستكون أكثر حظاً من غيرها فكيف يجبر خاطر جميعهن؟ لقد كان يطوف عليهن جميعاً ليلة السفر، فتحصل كل واحدة منهن على نفس درجة الأخرى من القرب منه صلى الله عليه وسلم وصدق فيه قول ربه: {وإنك لعلى خلق عظيم} [القلم: 4]. وقول ربه: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128]. -[المباحث العربية]- (لحرمه) قال النووي: ضبطوها بضم الحاء وكسرها، والضم أكثر، ولم يذكر الهروي وآخرون غيره -أي غير الضم-، وأنكر ثابت الضم على المحدثين، وقال الصواب الكسر والمراد بحرمه إحرامه بالحج. اهـ واللام للتعليل، قال الحافظ ابن حجر: أي لأجل إحرامه، وللنسائي "حين أراد أن يحرم". اهـ وفي

روايتنا الرابعة عشرة "إذا أراد أن يحرم يتطيب" فالتطيب عند إرادة الإحرام وقبله، وهذا هو المراد من قولها في الرواية الأولى والثانية "حين أحرم" أي حين أراد أن يحرم، وقولها في الرواية السابعة عشرة "عند إحرامه" أي عند إرادته الإحرام وقبل أن يحرم بدليل قولها في الرواية الثالثة، والسابعة، والسادسة عشرة "قبل أن يحرم" وقولها في الرواية السابعة عشرة والتاسعة عشرة "أنا طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند إحرامه، ثم طاف في نسائه ثم أصبح محرماً" وقولها في الرواية الثامنة عشرة "ثم يطوف على نسائه، ثم يصبح محرماً ينضخ طيباً". وقد اعترض على قولها في الرواية السابعة، والسادسة عشرة، والثامنة عشرة "كنت أطيب النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يحرم" بأن هذا التعبير يفيد التكرار، مع أن ذلك لم يقع منها إلا مرة واحدة، وقد صرحت بعض الروايات بأن ذلك كان في حجة الوداع. قال النووي: المختار أن "كان" لا تقتضي تكراراً ولا استمراراً وجزم ابن الحاجب بأنها تقتضيه، قال: ولهذا استفدنا من قولهم: "كان حاتم يقري الضيف" أن ذلك كان يتكرر منه، وقال جماعة من المحققين: إنها تقتضي التكرار ظهوراً، لكن قد تقع قرينة تدل على عدمه، فيستفاد من السياق المبالغة في إثبات ذلك، على معنى أنها كانت ستكرر فعل الطيب لو تكرر منه فعل الإحرام وذلك لما اطلعت عليه من استحبابه لذلك. قال الحافظ ابن حجر: على أن هذه اللفظة لم تتفق عليها الرواة عنها. ففي كثير من الروايات لفظ "طيبت" والله أعلم. (ولحله قبل أن يطوف بالبيت) المراد به طواف الإفاضة، وفي الرواية الثانية "ولحله حين أحل قبل أن يطوف بالبيت" وفي الرواية الثامنة "ولحله قبل أن يفيض" وفي الرواية السادسة عشرة "ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت" وللحج تحللان يأتي الكلام عليهما في فقه الحديث. (بيدي بذريرة) في بعض الروايات "بيدي هاتين" وأشارت بيديها والذريرة بفتح الذال: نوع من الطيب يستخرج من زهر نبت قصبي -أي ساقه أنابيب وكعوب- كان يؤتى به من الهند، ولعله كان خير الطيب عندهم في ذلك الوقت، لقولها في الرواية السادسة "بأطيب الطيب" وفي الثامنة "بأطيب ما وجدت" وفي السابعة "بأطيب ما أقدر عليه" وفي الرابعة عشرة "بأطيب ما يجد". ولا يعارض قولها "بذريرة" قولها في الرواية السادسة عشرة "بطيب فيه مسك" وقولها في الرواية الخامسة عشرة "كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم" فإنهم كانوا يخلطون أنواع الطيب الجيد فيزداد جودة. (قبل أن يفيض) يقال أفاض الحجاج أي انصرفوا واندفعوا، والمراد قبل أن يطوف طواف الإفاضة، وطواف الإفاضة يوم النحر، حيث ينصرف الحاج من منى إلى مكة فيطوف ويعود، فعند الدارمي "وطيبته بمنى قبل أن يفيض" وفي روايتنا السادسة عشرة "ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت". (وبيص الطيب) أي بريقه، وقيل: إن الوبيص زيادة على البريق وأن المراد به التلألؤ.

(في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم) المفارق جمع مفرق، وهو المكان الذي يفترق في الشعر في وسط الرأس، ولشعر الرأس مفرق واحد غالباً، ولهذا قيل: إنها ذكرته بصيغة الجمع تعميماً لجوانب الرأس التي يفرق فيها الشعر. والظاهر أن مكشوف الشعر في الهواء تتعدد مفارقه بفعل الريح، لهذا ذكرته بصيغة الجمع. (إن كنت لأنظر) "إن" مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف واللام في خبرها فارقة بينها وبين "إن" النافية، والتقدير: إن الحال والشأن كنت أنظر. فنظرها إلى الوبيص حاصل وواقع، لقولها في الرواية الرابعة عشرة "ثم أرى وبيص الدهن" لكنه لما لم يكن النظر مقصوداً ومتعمداً وهدفاً عبرت عن ذلك بالتشبيه، بقولها في الرواية التاسعة والحادية عشرة، والخامسة عشرة "كأني أنظر ... " وفي الرواية الثانية عشرة "كأنما أنظر" على معنى كأني كنت أنظر في ذلك الوقت، والأولى أن يكون المعنى كأني الآن أو كأنما الآن أنظر ... فكأنها تستحضر الصورة لتؤكد حصولها. (وهو محرم) ترفع بذلك إيهام أن الطيب كان قبل الإحرام وزال أثره بعد الإحرام وفي الرواية العاشرة "وهو يهل" أي يرفع الصوت بالتلبية، وفي الرواية الحادية عشرة "وهو يلبي". (ينضخ طيباً) النضخ بالخاء الأثر يبقى في الثوب وغيره من طيب ونحوه قال النووي: وضبطه بعضهم بالحاء المهملة، وهما متقاربان في المعنى. -[فقه الحديث]- لا خلاف في استحباب الطيب قبل الإحرام بشرط غسله وإزالة ريحه لحظة الإحرام ولا خلاف في تحريم الطيب على المحرم في الثوب والبدن، على الرجل والمرأة. وإنما الخلاف في استدامة رائحة الطيب بعد الإحرام في الثوب أو البدن لمن تطيب به قبل الإحرام، وهذه المسألة هي فقه الحديث وجوهره. فالجمهور على أن المحرم إذا تطيب قبل إحرامه بما شاء من أنواع الطيب مسكاً كان أو غيره فإنه لا بأس به ولا شيء عليه، سواء كان مما يبقى عليه بعد إحرامه أو لا، ولا يضره بقاؤه عليه بعد إحرامه. قال بذلك أبو حنيفة، وأبو يوسف، والشافعي، وأصحابه، وأحمد، والثوري والأوزاعي وهو قول عائشة -راوية الأحاديث- وقول سعد بن أبي وقاص وابن عباس، وابن الزبير وابن جعفر، وأبي سعيد الخدري، وآخرين، وهذه الأحاديث ظاهرة الدلالة على استحباب الطيب عند إرادة الإحرام، وأنه لا بأس باستدامته بعد الإحرام، وإنما يحرم ابتداؤه في الإحرام. وقال آخرون يحرم التطيب قبل الإحرام بما يبقى بعد الإحرام، وهو قول مالك والزهري، وعطاء، وهو قول عمر وابنه عبد الله -كما هو صريح قوله في روايتنا السابعة عشرة، والتاسعة عشرة، وخالفهما

سالم بن عبد الله بن عمر الذي ذكر له قول عمر بعد سماعه حديث عائشة فقال: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع. وعن مالك في وجوب الفدية قولان. ويحاول المالكية أن يجيبوا عن أحاديث الباب، فيقول بعضهم: إنه صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بعد هذا التطيب، لأنه كان يطوف على نسائه بعده، والمراد من الطواف الجماع، وكان من عادته أن يغتسل عند كل واحدة، فالضرورة أن يذهب عنه بغسله ما كان على بدنه من طيب. ورد هذا بقولها في روايتنا الثامنة عشرة "ثم يصبح محرماً ينضخ طيباً" ولا شك أن نضخ الطيب وهو رائحته كان في حال إحرامه، كما هو صريح روايتنا التاسعة والعاشرة والحادية عشرة وغيرها. قالوا: لعل في الكلام تقديماً وتأخيراً، والأصل طاف على نسائه ينضخ طيباً ثم أصبح محرماً، ورد بأن هذا خلاف الظاهر، والروايات صريحة في أن هذا الأثر في وقت إحرامه بل في بعض الروايات "بعد ثلاث" من إحرامه. قالوا: إن الأثر الذي بقي كان وبيص الطيب ولمعانه، وهو الأمر الذي يرى بالنظر وليس الرائحة. ورد بأن هذا خلاف الظاهر أيضاً، فسياق عائشة وإنكارها على ابن عمر يؤكد أن الخلاف في بقاء الرائحة وليس في بقاء الزيت دون الرائحة شبهة حتى تنكر. قالوا: لعل هذا الطيب لم تكن له رائحة، فقد ورد في بعض الروايات "بطيب ليس كطيبكم" ورد بأن مرادها بذلك قوة الجودة والرائحة لقولها "بأطيب ما أجد". وادعى بعضهم أن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم، قالوا: لأن الطيب من دواعي النكاح، فنهى الناس عنه، وكان هو أملك الناس لإربه ففعله ورد بأن الخصائص لا تثبت بالقياس، كما رد بحديث عائشة بنت طلحة عند أبي داود عن عائشة قالت: "كنا نضمخ وجوهنا بالمسك المطيب قبل أن نحرم، ثم نحرم فنعرق فيسيل على وجوهنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينهانا" فهذا صريح في بقاء عين الطيب، ولا يقال: إن ذلك خاص بالنساء لأنهم أجمعوا على أن الرجال والنساء سواء في تحريم استعمال الطيب إذا كانوا محرمين. قال المهلب: إنه تطيب خصوصية لمباشرته الملائكة لأجل الوحي، ورد بأن ذلك فرع ثبوت الخصوصية ولا سبيل لثبوتها. وتمسكوا بحديث الرجل الذي سأل عما يفعل المحرم بالعمرة وهو متضمخ بطيب حديثنا قبل بابين، وفيه "اغسل الطيب الذي بك، وانزع عنك الجبة واصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك". ورد عليهم بأن قصة هذا الرجل كانت بالجعرانة، وهي في سنة ثمان بلا خلاف وأحاديث عائشة تفيد أنه صلى الله عليه وسلم تطيب في حجة الوداع سنة عشر بلا خلاف، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر

من الأمر وبأن المأمور بغسله في قصة الرجل إنما هو الخلوق، لا مطلق الطيب، فلعل علة الأمر فيه ما خالطه من الزعفران، وقد ثبت النهي عن تزعفر الرجل مطلقاً، محرماً وغير محرم. القول الثالث في هذه المسألة: القول بكراهية الطيب قبل الإحرام بما يبقى عينه بعده وهو قول محمد بن الحسن. القول الرابع: قول الطرطوشي: يكره الطيب المؤنث -أي طيب النساء- كالمسك والزعفران والكافور والغالية والعود ونحوها، فإن تطيب وأحرم به فعليه الفدية، وأما غير المؤنث كالرياحين والياسمين والورد فليس من ذلك ولا فدية فيه أصلاً. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - يؤخذ من قولها في الرواية الثانية "ولحله حين أحل قبل أن يطوف بالبيت": أن تحللاً يحصل للحاج بدون طواف الإفاضة، قال النووي: وفي الحج تحللان يحصلان بثلاثة أشياء: رمي جمرة العقبة، وطواف الإفاضة مع سعيه إن لم يكن سعى عقب طواف القدوم والحلق، فإذا فعل الثلاثة حصل التحللان، وإذا فعل اثنين منها حصل التحلل الأول، "أي اثنين كانا"، ويحل بالتحلل الأول جميع المحرمات إلا الاستمتاع بالنساء، فإنه لا يحل إلا بالثاني، وقيل: يباح منهن غير الجماع بالتحلل الأول، وهو قول بعض الشافعية، وللشافعي قول: أنه لا يحل بالأول إلا اللبس والحلق وقلم الأظفار. اهـ 2 - ويؤخذ من قولها في الرواية السادسة عشرة "ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت": أن التحلل الأول يحصل بعد رمي جمرة العقبة والحلق، وقبل الطواف قال النووي: وهذا متفق عليه. 3 - وفيه دلالة على استباحة الطيب بالتحلل الأول. 4 - ومن قولها في الرواية الثامنة عشرة "ثم يطوف على نسائه": أن القسم لم يكن واجباً عليه صلى الله عليه وسلم، لأن الفقهاء يقولون: أقل القسم ليلة لكل امرأة. قال النووي: هذا الطواف كان برضاهن، ولا خلاف في جوازه برضاهن كيف كان، قال أبو سعيد الإصطخري: لم يكن القسم واجباً عليه وإنما كان يقسم بالسوية، ويقرع بينهن تكرماً وتبرعاً لا وجوباً، وقال الأكثرون: كان واجباً، والله أعلم. 5 - يؤخذ من استحباب الطيب قبل الإحرام: استحباب وسائل النظافة والتجمل بعامة قبل الإحرام، قال النووي في المجموع: يستحب أن يتأهب للإحرام بحلق العانة، ونتف الإبط، وقص الشارب، وقلم الأظفار، وغسل الرأس بسدر أو نحوه. وقال أيضاً: قال الشافعي في الأم والمختصر: أحب للمرأة أن تخضب للإحرام، واتفق الأصحاب على استحباب الخضاب لها، قالوا: وسواء كان لها زوج أم لا، لأن هذا مستحب بسبب الإحرام، فلا فرق بينهما، فأما إذا كانت لا تريد الإحرام ولها زوج استحب لها الخضاب في كل وقت، لأنه زينة وجمال وهي مندوبة إلى الزينة والتجمل لزوجها كل وقت، وإن كانت غير ذات زوج ولم ترد

الإحرام، كره لها الخضاب من غير عذر، لأنه يخاف به الفتنة عليها وعلى غيرها بها، وهذا كله متفق عليه، وسواء في استحباب الخضاب عند الإحرام العجوز والشابة، كالتطيب. قال الشافعية: ويكره للمرأة الخضاب بعد الإحرام، لأنه من الزينة، وهي مكروهة للمحرم، لأنه أشعث أغبر، فإن اختضبت في الإحرام فلا فدية، لأن الحناء ليس بطيب عندنا. والله أعلم

(320) باب تحريم الصيد المأكول البري أو ما أصله ذلك على المحرم

(320) باب تحريم الصيد المأكول البري أو ما أصله ذلك على المحرم 2492 - عن الصعب بن جثامة الليثي رضي الله عنه أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً. وهو بالأبواء (أو بودان) فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فلما أن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وجهي، قال "إنا لم نرده عليك، إلا أنا حرم". 2493 - عن الزهري بهذا الإسناد "أهديت له حمار وحش". 2494 - عن الزهري بهذا الإسناد وقال أهديت له من لحم حمار وحش. 2495 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أهدى الصعب بن جثامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم حمار وحش، وهو محرم. فرده عليه. وقال "لولا أنا محرمون، لقبلناه منك". 2496 - عن ابن عباس رضي الله عنهما في رواية منصور عن الحكم: أهدى الصعب بن جثامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجل حمار وحش. وفي رواية شعبة عن الحكم: عجز حمار وحش يقطر دماً. وفي رواية شعبة عن حبيب: أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم شق حمار وحش فرده. 2497 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم زيد بن أرقم. فقال: له عبد الله بن عباس يستذكره: كيف أخبرتني عن لحم صيد أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حرام؟ قال: أهدي له عضو من لحم صيد فرده. فقال: "إنا لا نأكله. إنا حرم". 2498 - عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. حتى إذا كنا بالقاحة.

فمنا المحرم ومنا غير المحرم. إذ بصرت بأصحابي يتراءون شيئاً. فنظرت فإذا حمار وحش. فأسرجت فرسي وأخذت رمحي. ثم ركبت. فسقط مني سوطي. فقلت لأصحابي، وكانوا محرمين: ناولوني السوط. فقالوا والله! لا نعينك عليه بشيء. فنزلت فتناولته. ثم ركبت. فأدركت الحمار من خلفه وهو وراء أكمة. فطعنته برمحي، فعقرته، فأتيت به أصحابي. فقال بعضهم: كلوه. وقال بعضهم: لا تأكلوه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم أمامنا. فحركت فرسي فأدركته. فقال "هو حلال. فكلوه". 2499 - عن أبي قتادة رضي الله عنه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. حتى إذا كان ببعض طريق مكة تخلف مع أصحاب له محرمين. وهو غير محرم. فرأى حماراً وحشياً. فاستوى على فرسه. فسأل أصحابه أن يناولوه سوطه. فأبوا عليه. فسألهم رمحه. فأبوا عليه. فأخذه. ثم شد على الحمار فقتله. فأكل منه بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وأبى بعضهم. فأدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسألوه عن ذلك؟ فقال "إنما هي طعمة أطعمكموها الله". 2500 - عن أبي قتادة رضي الله عنه في حمار الوحش مثل حديث أبي النضر غير أن في حديث زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "هل معكم من لحمه شيء؟ ". 2501 - عن عبد الله بن أبي قتادة قال: انطلق أبي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية. فأحرم أصحابه ولم يحرم. وحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عدوا بغيقة. فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فبينما أنا مع أصحابه. يضحك بعضهم إلى بعض. إذ نظرت فإذا أنا بحمار وحش. فحملت عليه. فطعنته فأثبته. فاستعنتهم، فأبوا أن يعينوني. فأكلنا من لحمه. وخشينا أن نقتطع. فانطلقت أطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم أرفع فرسي شأواً وأسير شأواً. فلقيت رجلاً من بني غفار في جوف الليل. فقلت: أين لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: تركته بتعهن. وهو قائل السقيا. فلحقته. فقلت: يا رسول الله! إن أصحابك يقرءون عليك السلام ورحمة الله. وإنهم قد خشوا أن يقتطعوا دونك. انتظرهم. فانتظرهم. فقلت: يا رسول الله! إني أصدت ومعي منه فاضلة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم للقوم "كلوا" وهم محرمون.

2502 - عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجاً. وخرجنا معه. قال: فصرف من أصحابه فيهم أبو قتادة. فقال "خذوا ساحل البحر حتى تلقوني" قال: فأخذوا ساحل البحر. فلما انصرفوا قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحرموا كلهم. إلا أبا قتادة. فإنه لم يحرم. فبينما هم يسيرون إذ رأوا حمر وحش. فحمل عليها أبو قتادة. فعقر منها أتاناً. فنزلوا فأكلوا من لحمها. قال فقالوا: أكلنا لحماً ونحن محرمون. قال: فحملوا ما بقي من لحم الأتان. فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله! إنا كنا أحرمنا. وكان أبو قتادة لم يحرم. فرأينا حمر وحش. فحمل عليها أبو قتادة. فعقر منها أتاناً. فنزلنا فأكلنا من لحمها. فقلنا نأكل لحم صيد ونحن محرمون! فحملنا ما بقي من لحمها. فقال "هل منكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء؟ " قال قالوا: لا. قال "فكلوا ما بقي من لحمها". 2503 - عن عثمان بن عبد الله بن موهب بهذا الإسناد في رواية شيبان: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟ ". وفي رواية شعبة قال: "أشرتم أو أعنتم أو أصدتم"؟ . قال شعبة: لا أدري قال أعنتم أو أصدتم. 2504 - عن أبي قتادة رضي الله عنه أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة الحديبية. قال: فأهلوا بعمرة، غيري. قال: فاصطدت حمار وحش. فأطعمت أصحابي وهم محرمون. ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنبأته أن عندنا من لحمه فاضلة. فقال: "كلوه" وهم محرمون. 2505 - عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه رضي الله عنه أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم محرمون. وأبو قتادة محل. وساق الحديث. وفيه: فقال "هل معكم منه شيء؟ " قالوا: معنا رجله. قال: فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلها. 2506 - عن عبد الله بن أبي قتادة قال: كان أبو قتادة في نفر محرمين. وأبو قتادة

محل. واقتص الحديث. وفيه: قال "هل أشار إليه إنسان منكم أو أمره بشيء؟ " قالوا: لا. يا رسول الله! قال "فكلوا". 2507 - عن معاذ بن عبد الرحمن بن عثمان التيمي عن أبيه. قال: كنا مع طلحة بن عبيد الله ونحن حرم. فأهدي له طير. وطلحة راقد. فمنا من أكل. ومنا من تورع. فلما استيقظ طلحة وفق من أكله. وقال: أكلناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. -[المعنى العام]- شاءت حكمة الله أن يجعل بيته الحرام أمناً، أمناً حتى على الحيوان، فحرم صيده، بل حرم تنفير صيده، بل شاءت حكمة الله أن يجعل قاصد بيته مصدر أمن، وصورة للسلم والمسالمة حتى مع الصيد، فحرم جل شأنه على المحرم صيد البر، فقال: {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً} [المائدة: 96]. وقال: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} [المائدة: 95]. وقرر عقاباً وجزاء لمن يرتكب هذه الجريرة مع الوعيد الشديد، فقال: {ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هدياً بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام} [المائدة: 95]. والجريمة إذا عظمت أحيطت بسياج من الممنوعات، فحرمت السنة مساعدة المحرم للصائد، حرمت على المحرم أن يعين الصائد محرماً أو حلالاً بأي نوع من أنواع العون حتى الإشارة، وحرمت على المحرم أن يأكل من لحم صيد صاده محرم، أو صاده محل من أجله، وهذه الأحاديث تصور لنا هذا الإطار الحكيم. الصعب بن جثامة -وهو حل- يصطاد حماراً وحشياً، فيهديه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم، فلا يقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الهدية، ويردها لمهديها، فيظهر الأسف والخجل والكسوف في وجه الصعب، فيقول له صلى الله عليه وسلم: لم نردها عليك استهانة بها أو بك أو غضباً عليك ولكن لأننا جميعاً محرمون لا نأكل لحم صيد لنا، لولا أننا محرمون لقبلناه منك وأكلناه. وهذا أبو قتادة يخرج في جيش المسلمين لغزوة الحديبية، وفي الطريق يرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع بعض أصحابه لمهمة استطلاعية، أحرم أصحابه الذين معه بعمرة، ولم يحرم، وبقي حلالاً. ونزلوا يستريحون، وجلس أبو قتادة يخصف نعله. لاحت منه التفاتة إلى أصحابه فوجدهم ينظرون بعيداً، ثم ينظر بعضهم إلى بعض يبتسمون، إنهم يرون حمار وحش سهل الصيد، لكنهم ممنوعون من الصيد، إن أبا قتادة بينهم حلال، يمكنه أن يصطاده، لكنهم ممنوعون من الإشارة عليه بالصيد، وأدرك أبو قتادة الأمر، فوضع السرج على فرسه وأخذ سوطه ورمحه وركب، فسقط السوط والرمح، فطلب من

أصحابه أن يناولوه، فرفضوا لأنهم ممنوعون من إعانته على الصيد بأي وجه من وجوه العون، فنزل فأخذ سوطه ورمحه، وركض بفرسه حتى أدرك الحمار الوحشي فطعنه برمحه فعقره، ثم جاء به إلى أصحابه فمنهم من اعتقد حل الأكل فشوى وأكل، ومنهم من امتنع ثم قالوا: وما لنا نتشكك ورسول الله صلى الله عليه وسلم أمامنا؟ قريب منا فأسرعوا إليه وسبقهم إليه أبو قتادة، فسأله. فقال صلى الله عليه وسلم لهم: هل منكم أحد أشار أو أعان أبا قتادة؟ قالوا: لا. قال: هل معكم من لحمه شيء؟ قالوا: نعم. رجله. فأخذها فأكلها. وقال: هو حلال. هو طعمة أطعمكم الله إياها. إذا حصلتم على مثلها فكلوه. صلى الله وسلم وبارك عليه، ورضي عن صحابته أجمعين. -[المباحث العربية]- (عن الصعب بن جثامة) "الصعب" بفتح الصاد وسكون العين، وأبوه "جثامة" بفتح الجيم وتشديد الثاء، وهو من بني ليث، وكان ابن أخت أبي سفيان بن حرب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم آخى بينه وبين عوف بن مالك. (حماراً وحشياً) بنصب "وحشياً" على الوصف، وفي الرواية الثانية "حمار وحش" على الإضافة، وفي الرواية الثالثة "رجل حمار وحش" وفي ملحقها "عجز حمار وحش يقطر دماً" وفي ملحقها الثاني "شق حمار وحش" وفي الرواية الرابعة "عضو من لحم صيد". وقد مال النووي إلى أن المهدى جزء حمار، وأن رواية "حماراً" من إطلاق الكل وإرادة الجزء، وحمل على البخاري إذ ترجم للحديث بباب: إذا أهدي للمحرم حماراً وحشياً حياً لم يقبل. وقال: ليس في سياق الحديث تصريح بذلك، وكذا نقلوا هذا التأويل عن مالك، وهو باطل، لأن الروايات التي ذكرها مسلم صريحة في أنه مذبوح. اهـ ويحاول القرطبي الدفاع عن البخاري فيقول: يحتمل أن يكون الصعب أحضر الحمار مذبوحاً، ثم قطع منه عضواً بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، فقدمه له، فمن قال: أهدى حماراً أراد بتمامه، مذبوحاً، أو حيا، ومن قال: لحم حمار أراد ما قدمه للنبي صلى الله عليه وسلم. قال: ويحتمل أنه أهداه له حياً، فلما رده عليه ذكاه وأتاه بعضو منه، ظاناً أنه إنما رده عليه لمعنى يختص بجملته، فأعلمه بامتناعه أن حكم الجزء من الصيد حكم الكل. قال: والجمع مهما أمكن أولى من توهيم بعض الروايات. اهـ ويؤيد الحافظ ابن حجر هذا الاتجاه، فيقول: إذا تأملت ما تقدم لم يحسن إطلاقه [أي إطلاق النووي] لبطلان التأويل المذكور، ولا سيما في رواية الزهري [وفيها حماراً وحشياً] التي هي عمدة هذا الباب، وقد قال الشافعي في الأم: حديث مالك أن الصعب أهدى حماراً أثبت من حديث من روى أنه أهدى لحم حمار، وقال الترمذي: روى بعض أصحاب الزهري في حديث الصعب "لحم حمار وحش" وهو غير محفوظ. اهـ والتحقيق: أن الدفاع عن استنباط البخاري ضعيف، واحتمال أن الصعب أهدى حماراً كاملاً حياً

أو مذبوحاً فرد فأهدى جزءاً منه بعيد جداً، والتأويل بإطلاق الكل وإرادة الجزء جيد، وفيه الجمع بين الروايات وليس فيه توهيم لرواية الزهري التي هي عمدة الباب. والله أعلم. (وهو بالأبواء أو بودان) الأبواء بهمزة مفتوحة وباء ساكنة جبل من عمل الفرع بضم الفاء والراء بين مكة والمدينة، قيل سمي بذلك لأن السيول تتبوؤه أي تحمله (أو بودان) الشك من الراوي. وودان بفتح الواو وتشديد الدال موضع بقرب الجحفة، وودان أقرب إلى الجحفة من الأبواء، فإن القادم من المدينة إلى مكة يصل الأبواء فيكون بينه وبين الجحفة ثلاثة وعشرون ميلاً، ثم يصل ودان فيكون بينه وبين الجحفة ثمانية أميال. (فلما أن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وجهي قال) في رواية "فلما عرف في وجهي" وفي رواية "فلما رأى ما في وجهي من الكراهية" وفي رواية "فلما عرف في وجهي رده هديتي" أي أثر رده هديتي قال ... إلخ. (إنا لم نرده عليك) وفي رواية "ليس بنا رد عليك". وفي رواية "إنا لم نرده عليك كراهية له، ولكنا حرم" قال الحافظ ابن حجر: قال عياض: ضبطناه في الروايات "لم نرده" بفتح الدال، وأبى ذلك المحققون من أهل العربية، وقالوا: الصواب أنه بضم الدال، لأن المضاعف من المجزوم يراعى فيه الواو التي توجبها له ضمة الهاء بعدها، وليس الفتح بغلط وأجازوا أيضاً الكسر وهو أضعف الأوجه، وقد وقع في رواية "لم نردده" بفك الإدغام، ولا إشكال فيه. وقال العيني بعد أن نقل مضمون ما سبق: هذا في المضاعف إذا دخله الهاء أن يضم ما قبلها، وهذا في المذكر، وأما في المؤنث مثل: لم نردها، فمفتوح الدال مراعاة للألف، وفي مثل هذه الصيغة قبل دخول الهاء عليها أربعة أوجه: الفتح لأنه أخف الحركات، والضم إتباعاً لضمة عين الفعل، والكسر لأنه الأصل في تحريك الساكن، والفك. (إلا أنا حرم) "أنا" بتشديد النون وفتح الهمزة، على التعليل. قال الكرماني: لام التعليل محذوفة، والمستثنى منه مقدر [عموم العلل] أي لا نرده لعلة من العلل إلا لأننا حرم و"حرم" بضمتين جمع حرام، أي محرمون، وفي رواية النسائي "إلا أنا حرم لا نأكل الصيد" وفي روايتنا الثانية "لولا أنا محرمون لقبلناه منك" وفي روايتنا الرابعة "إنا لا نأكله. إنا حرم". (عن أبي قتادة قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) في الرواية السابعة "عن عبد الله بن أبي قتادة قال: انطلق أبي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية" على الإرسال، وفي الرواية الثامنة عن أبي قتادة "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجاً وخرجنا معه" وفي الرواية التاسعة عن أبي قتادة "أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة الحديبية" والقصة في غزوة الحديبية والإشكال في روايتنا الثامنة "خرج حاجاً" قال الإسماعيلي: هذا غلط ولعل الراوي أراد خرج محرماً، فعبر عن الإحرام بالحج غلطاً، وقيل: لعله أراد من الحج قصد البيت، فكأنه قال: خرج قاصداً للبيت، ولهذا يقال للعمرة: الحج الأصغر.

(حتى إذا كنا بالقاحة) بالقاف والحاء كذا قيدها الناس كلهم، ورواه بعضهم عن البخاري بالفاء وهو وهم، والصواب القاف، وهو واد على نحو ميل من السقيا وعلى ثلاث مراحل من المدينة. (فمنا المحرم ومنا غير المحرم) لعله يقصد بغير المحرم نفسه ففي الرواية السادسة "مع أصحاب له محرمين وهو غير محرم" وفي الرواية السابعة "فأحرم أصحابه ولم يحرم" وفي الرواية الثامنة "أحرموا كلهم إلا أبا قتادة فإنه لم يحرم" وفي الرواية التاسعة "فأهلوا بعمرة غيري". (إذ بصرت بأصحابي يتراءون شيئاً، فنظرت فإذا حمار وحش) في الرواية السادسة "فرأى حمارًا وحشيًّا" وفي الرواية السابعة "فبينما أنا مع أصحابه [أي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم] يضحك بعضهم إلى بعض إذ نظرت فإذا أنا بحمار وحش" وفي الرواية الثامنة " فبينما هم يسيرون إذ رأوا حمر وحش". قال النووي: في بعض الروايات "يضحك بعضهم إلي" بياء المتكلم مجرورة بحرف الجر. قال القاضي: هذا خطأ وتصحيف، والصواب "يضحك بعضهم إلى بعض" فأسقط لفظ "بعض" والصواب إثباتها، لأنهم لو ضحكوا إليه لكانت إشارة منهم، وقد قالوا إنهم لم يشيروا إليه. قال النووي: قلت لا يمكن رد هذه الرواية فقد صحت هي والرواية الأخرى وليس في واحدة منها دلالة ولا إشارة إلى الصيد، فإن مجرد الضحك ليس فيه إشارة. قال العلماء: وإنما ضحكوا تعجباً من عروض الصيد، ولا قدرة لهم عليه، لمنعهم منه. اهـ وانتصر الحافظ ابن حجر للقاضي عياض، فقال إن رواية "يضحك بعضهم إلي" لو صحت كان فيها مزيد أمر على مجرد الضحك، لأنهم اشتركوا في رؤيته فاستووا في ضحك بعضهم إلى بعض وأبو قتادة لم يكن رآه فيكون ضحك بعضهم إليه بغير سبب باعثاً له على التفطن إلى رؤيته، ويؤيد ما قاله القاضي ما وقع في رواية بلفظ "رأيت الناس متشوقين لشيء، فذهبت أنظر، فإذا هو حمار وحش فقلت: ما هذا؟ فقالوا: ما ندري فقلت هو حمار وحش فقالوا هو ما رأيت"، وفي رواية "وجاء أبو قتادة وهو حل، فنكسوا رءوسهم كراهية أن يحدوا أبصارهم له فيفطن فيراه" قال الحافظ: فكيف يظن بهم مع ذلك أنهم ضحكوا إليه؟ فتبين أن الصواب ما قاله القاضي. ثم ناقش الحافظ ابن حجر الإمام النووي في صحة الرواية. (فسقط مني سوطي) في الرواية السادسة "فسأل أصحابه أن يناولوه سوطه فأبوا عليه، فسألهم رمحه فأبوا عليه" فالظاهر أن رمحه سقط منه فاستعان بهم بعد أن سقط السوط فامتنعوا عن إعانته. ففي الرواية الخامسة طي والأصل: فأسرجت فرسي، وأخذت رمحي وسوطي، ثم ركبت فسقط مني سوطي فقلت لأصحابي ناولوني السوط، فأبوا، فنزل فأخذه وركب، فسقط منه الرمح، فسألهم أن يناولوه، فأبوا عليه وقالوا: والله لا نعينك عليه بشيء فنزل فتناوله. وفي الرواية السابعة تقديم وتأخير، وأصلها: فاستعنتهم فأبوا أن يعينوني فحملت عليه فطعنته. (فأدركت الحمار من خلفه، وهو وراء أكمة، فطعنته برمحي فعقرته) في الرواية السادسة "ثم شد على الحمار فقتله" وفي الرواية السابعة "فحملت عليه فطعنته فأثبته" وفي الرواية

الثامنة "فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتانا" "الأكمة" بفتحات ثلاث، هي التل من حجر واحد، ومعنى "فأثبته" أي جعلته ثابتاً في مكانه، لا حراك به، و"الأتان" أنثى الحمار فإطلاق لفظ الحمار في الروايات مجاز. وكأنه رأى مجموعة من حمر الوحش ينفرد عنها حمار، فتبعه حتى أدركه مستتراً بتل من حجر. (فقال بعضهم: كلوه، وقال بعضهم: لا تأكلوه) في الرواية السادسة "فأكل منه بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأبى بعضهم" وفي الرواية الثامنة "فأكلوا من لحمها" أي بعضهم، وفي الرواية التاسعة "فأطعمت أصحابي" أي بعضهم وفي رواية "ثم جئت به فوقعوا فيه يأكلون" وفي رواية "فجعلوا يشوون منه، ثم قالوا: رسول الله بين أظهرنا نلحق به ونسأله -وكان تقدمهم- فلحقوه فسألوه"، فالظاهر أن بعضهم أكل أول ما أتاهم، ثم طرأ عليهم الشك. (وكان النبي صلى الله عليه وسلم أمامنا) بفتح الهمزة، أي في الطريق يسبقنا ويتقدمنا. (فحركت فرسي فأدركته) في الرواية السادسة "فأدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عن ذلك" وفي الرواية السابعة "فانطلقت أطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم .... ثم سأله" وفي الرواية الثامنة فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا ..... " وفي الرواية التاسعة "ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنبأته ... " ولا تعارض، فقد سبقهم أبو قتادة فسأل، ثم جاءوا من بعده فسألوا. (فقال: هو حلال فكلوه) في الرواية السادسة "إنما هي طعمة أطعمكموها الله" أي إنما هي طعام، وفي الرواية السابعة "فقال للقوم: كلوا" وفي الرواية الثامنة "قال: فكلوا ما بقي من لحمها" فالأمر بالأكل أمر بأكل ما بقي، فإن كان الأمر قد صدر لمن ليس معه شيء منه فمعناه كلوا أمثاله حين تجدون أمثاله. (تخلف مع أصحاب له) أي تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بينت الرواية الثامنة سر هذا التخلف، وأنه كان بأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم كطليعة استكشاف للمنطقة، وتحسس عن الأعداء. (محرمين) هذا الوصف باعتبار ما آل إليه أمرهم، فقد بينت الرواية الثامنة أنهم أحرموا بعد أن صرفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ساحل البحر، وبعد أن أخذوا الساحل ولم يجدوا عدواً، واتجهوا نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم. (وحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عدواً بغيقة فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينما أنا مع أصحابه) "الغيقة" بفتح الغين وسكون الياء موضع من بلاد بني غفار، بين مكة والمدينة، وقيل هي بئر ماء لبني ثعلبة. وفي الكلام طي، وضحه الحافظ ابن حجر بقوله: وحاصل القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج في عمرة الحديبية فبلغ الروحاء أخبروه بأن عدوا من المشركين بوادي غيقة يخشى منهم أن يقصدوه على غرة، فجهز طائفة من أصحابه فيهم أبو قتادة إلى جهتهم ليأمن شرهم، فلما أمنوا ذلك لحق أبو قتادة وأصحابه بالنبي صلى الله عليه وسلم فأحرموا إلا هو فاستمر حلالاً. اهـ

فمعنى "فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي استمر في طريقه منطلقاً، وأرسل بعض أصحابه. (وخشينا أن نقتطع) أي نصير مقطوعين عن النبي صلى الله عليه وسلم، منفصلين عنه، إما بالاسترخاء عن اللحاق به، فيسبقهم، وإما بأن يقطعهم العدو عنه ويحوذهم. (أرفع فرسي شأوا وأسير شأوا) "أرفع" بضم الهمزة وفتح الراء وتشديد الفاء المكسورة، وبفتح الهمزة وسكون الراء، والمعنى: أرفع درجة جريه شأوا أي تارة حرصاً على الإسراع، وأسير به بيسر وهدوء دون ركض تارة أخرى حرصاً على راحة الفرس. (تركته بتعهن) في ضبطها خلاف كثير شمل كل حركات حروفها، وهي عين ماء قبل السقيا بثلاثة أميال للقادم من المدينة. (وهو قائل السقيا) "السقيا" قرية جامعة بين مكة والمدينة، وقائل إما من القول والسقيا مفعول لفعل محذوف، أي وهو يقول لأصحابه اقصدوا السقيا وإما من القيلولة والسقيا ظرف، أي تركته ليلاً بتعهن وهو يقصد ويعزم القيلولة غداً في السقيا. (انتظرهم فانتظرهم) الأولى بصيغة الأمر، والثانية بصيغة الماضي. (إني أصدت ومعي منه فاضلة) قال النووي: هكذا هو في بعض النسخ بفتح الصاد المخففة، والضمير في "منه" يعود على الصيد المحذوف الذي دل عليه "أصدت" ويقال بتشديد الصاد، وفي بعض النسخ "صدت" بكسر الصاد وفي بعضها "اصطدت" وكله صحيح. اهـ وفي البخاري "أصبت حمار وحش وعندي منه فاضلة" أي فضلة أي قطعة باقية. (فصرف من أصحابه) من تبعيضية، أي صرف بعض أصحابه. (خذوا ساحل البحر حتى تلقوني) أي اتجهوا إلى طريق ساحل البحر إلى غيقة ثم اتجهوا نحوي للقائي. (فلما انصرفوا قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم) "قبل" بكسر القاف وفتح الباء أي جهة. (أحرموا كلهم إلا أبا قتادة) في بعض رواة البخاري: "إلا أبو قتادة" قال الحافظ: ولا يعرف أكثر المتأخرين من البصريين في هذا النوع إلا النصب وقد أغفلوا وروده مرفوعاً بالابتداء مع ثبوت الخبر ومع حذفه، فمن أمثلة الثابت الخبر "إلا أبو قتادة لم يحرم" فإلا بمعنى لكن، وأبو قتادة مبتدأ ولم يحرم خبره، ومن أمثلة المحذوف الخبر {فشربوا منه إلا قليلاً منهم} [البقرة: 249]. في قراءة رفع (قليلاً) وقوله صلى الله عليه وسلم: "كل أمتي معافى إلا المجاهرون". (فنزلوا فأكلوا من لحمها) يقال: نزل المسافر، أي توقف عن السير وحط الرحال للراحة ونحوها، وضمير "أكلوا" غير ضمير "نزلوا" لأنهم نزلوا جميعاً وأكل بعضهم وأبى الأكل بعضهم كما

أوضحنا، والقائل أكلنا لحماً هم الآكلون بعض النازلين، ومرادهم "لحم صيد" لا مطلق لحم، يوضح ذلك قولهم بعد "نأكل لحم صيد ونحن محرمون؟ ". (هل منكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء) أي هل منكم أحد أمر أبا قتادة بأن يصيده، أو أشار إليه بصيده؟ وفي ملحق الرواية الثامنة "أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها، أو أشار إليها" وفي الملحق الثاني "أشرتم أو أعنتم أو أصدتم؟ ". (وفق من أكله) أي صوب من أكله. -[فقه الحديث]- قال النووي: أجمعت الأمة على تحريم الصيد على المحرم، وإن اختلفوا في فروع منه ودليله نص الكتاب والسنة وإجماع الأمة. قال أصحابنا: يحرم عليه كل صيد بري مأكول أو في أصله مأكول، وحشياً كان أو في أصله وحشي. هذا ضابطه، فأما ما ليس بصيد كالبقر والغنم والإبل والخيل وغيرها من الحيوان الإنسي، فليس بحرام بالإجماع. لأنه ليس بصيد وإنما حرم الشرع الصيد، وأما ما ليس بمأكول، ولا هو متولد من مأكول وغير مأكول فليس بحرام بلا خلاف عندنا. وأما صيد البحر فحلال بالنص والإجماع. قال الله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة} [أي لكم معشر المقيمين وزاداً للمسافرين] {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً} [المائدة: 96]. وقال الشافعي والأصحاب: يحرم على المحرم أكل صيد صاده هو أو أعان على اصطياده، أو أعان على قتله بدلالة، أو إعارة آلة، سواء دل عليه دلالة ظاهرة أو خفية ويحرم عليه أكل ما صاده الحلال له، سواء علم به المحرم وأمره بذلك أم لا، أما إذا صاد الحلال شيئاً، ولم يقصد اصطياده للمحرم ولا كان من المحرم فيه إعانة ولا دلالة فيحل للمحرم أكله بلا خلاف. ثم قال: هذا مذهبنا وبه قال مالك وأحمد وداود، وقال أبو حنيفة: لا يحرم عليه ما صيد له بغير إعانة منه، وفيه مذهب ثالث أنه يحرم على المحرم أكل الصيد مطلقاً، فكان علي بن أبي طالب وابن عمر لا يريان للمحرم أكل الصيد، واحتج لهما بعموم قوله تعالى: {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً} قالوا: والمراد بالصيد المصيد كما استدلوا بحديث الصعب بن جثامة [روايتنا الأولى والثانية والثالثة والرابعة] واحتج أصحابنا عليهم بأحاديث أبي قتادة، وهي ظاهرة في الدلالة للشافعي وموافقيه، وفي رد ما قاله أهل المذهبين الآخرين، ويحمل حديث أبي قتادة على أنه لم يقصدهم باصطياده وحديث الصعب على أنه قصدهم باصطياده، ويحمل قوله تعالى: {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً} على الاصطياد، وعلى لحم ما صيد للمحرم، للأحاديث المبينة للمراد من الآية فإن قيل: فقد علل النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الصعب حين رده بأنه محرم، ولم يقل لأنك صدته لنا؟ فالجواب: أنه ليس في هذه العبارة ما يمنع أنه صاده له صلى الله عليه وسلم لأنه إنما يحرم الصيد على الإنسان إذا صيد له بشرط أنه محرم، فبين الشرط الذي يحرم به ودليلنا على أبي حنيفة وموافقيه حديث أبي قتادة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم "هل منكم أحد

أمره .... " قال: وأما حديث عبد الرحمن بن عثمان التيمي "روايتنا العاشرة" فهو محمول على ما لم يصد للمحرم، ولا بد من هذا التأويل للجمع بين الأدلة. والله أعلم. انتهى بتصرف. وقد صرحت آية المائدة بعقوبة المحرم إذا اصطاد، فقالت: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} [المراد من أحرم بحج أو عمرة وإن كان في الحل وفي حكمه من كان في الحرم وإن كان حلالاً] {ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هدياً بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام} قال ابن بطال: اتفق أئمة الفتوى من أهل الحجاز والعراق وغيرهم على أن المحرم إذا قتل الصيد عمداً أو خطأ فعليه الجزاء، وخالف أهل الظاهر وأبو ثور وابن المنذر من الشافعية في الخطأ، وتمسكوا بقوله تعالى: {متعمداً} فإن مفهومه أن المخطئ بخلافه، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، والجمهور على أن القرآن صرح بالعمد وأن السنة جاءت بالخطأ، وعن الحسن ومجاهد يجب الجزاء في الخطأ دون العمد فللعمد النقمة، وعنهما يجب الجزاء على العامد أول مرة، فإن عاد كان أعظم لائمة، وعليه النقمة، لا الجزاء. واختلفوا في جزاء الصيد أهو على الترتيب؟ أم على التخيير؟ الجمهور على الثاني على معنى أنه يجب في الظبي شاة، وفي الضبع شاة، وفي الوحش بقرة وللجاني أن يختار الإطعام، فيقوم الصيد من حيث إنه صيد، لا من حيث ما زاد عليه بالصنع، في المكان الذي أصابه المحرم فيه، أو في أقرب الأماكن إليه مما يباع فيه ويشترى، وكذا يعتبر الزمان الذي أصابه فيه لاختلاف القيم باختلاف الأمكنة والأزمنة، فإن بلغت قيمته قيمة هدي يخير الجاني بين أن يشتري بهذه القيمة هدياً، وبين أن يشتري بها طعاماً، وبين أن يصوم عن طعام كل مسكين يوماً، ويحكم بالقيمة والمماثلة عدلان مسلمان. هذا جزاء المحرم إذا صاد، فهل الجزاء نفسه على المحرم الذي أكل من صيد غيره المحرم أو المحل؟ خلاف بين العلماء والظاهر أن عليه الحرمة لا الجزاء، لئلا يكون هناك بدلان لشيء واحد. والله أعلم. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - من الرواية الأولى جواز رد الهدية لعلة. 2 - والاعتذار للمهدي عن هديته ليطيب خاطره. 3 - أن الهدية لا تدخل في الملك إلا بالقبول. 4 - من قوله "فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وجهي قال ... " جواز الحكم بناء على العلامة والقرينة. 5 - جواز صيد الحمار الوحشي، وجواز أكله. 6 - وأن عقر الصيد ذكاته.

7 - من الرواية الخامسة، وقول بعضهم: كلوه، وقول بعضهم: لا تأكلوه جواز الاجتهاد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن العربي: وهو اجتهاد بالقرب من النبي صلى الله عليه وسلم، لا في حضرته. 8 - وفيه العمل بما أدى إليه الاجتهاد، ولو تضاد المجتهدان، ولا يعاب واحد منهما على ذلك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعب أحدهما. 9 - الرجوع إلى النص عند تعارض الأدلة، فقد رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون. 10 - من عدم إحرام أبي قتادة جواز دخول الحرم بغير إحرام إذا كان الدخول لمهمة، فقد ورد أن أبا قتادة كان مبعوثاً من النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فلم يخرج محرماً كما خرج القوم. قال القشيري: يحتمل أنه لم يكن مريداً النسك، أو أن ذلك قبل توقيت المواقيت. اهـ وهذا الجواب الثاني بعيد لإحرام الجميع سواه، وزعم المنذري: أن أهل المدينة كانوا قد أرسلوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعلمونه أن بعض العرب ينوي غزو المدينة، وقال ابن التين: يحتمل أنه لم ينو دخول مكة وإنما صحب النبي صلى الله عليه وسلم ليكثر جمعه. 11 - تحريم الإشارة والإعانة من المحرم في قتل الصيد، وقيده أبو حنيفة بما إذا لم يمكن الاصطياد بدونها. 12 - من قوله في ملحق الرواية السادسة "هل معكم من لحمه شيء" جواز الاستيهاب من الأصدقاء. 13 - ومن أخذه وأكله صلى الله عليه وسلم في الرواية التاسعة قبول الهدية من الصديق. 14 - وتطييب النبي صلى الله عليه وسلم لقلوب أصحابه. قال عياض: عندي أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من أبي قتادة ذلك تطييباً لقلب من أكل، وبياناً للجواز بالقول والفعل لإزالة الشبهة التي حصلت لهم. 15 - ومن الرواية السابعة من ضحك بعضهم إلى بعض أن تمني المحرم أن يقع من الحلال الصيد ليأكل المحرم منه لا يقدح في إحرامه. 16 - واستعمال الكناية في الفعل، كما تستعمل في القول، لأنهم استعملوا الضحك في موضع الإشارة لما اعتقدوه من أن الإشارة لا تحل. 17 - ومن إرسال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي قتادة وأصحابه إلى الغيقة جواز بعث الطليعة في الغزو. 18 - وجواز تفريق الإمام أصحابه للمصلحة. 19 - ومن ركض الفرس جواز سوق الفرس ورفع درجة سرعته للحاجة مع الرفق به. 20 - ومن تبليغ أبي قتادة السلام استحباب إرسال السلام إلى الغائب عن قرب وعن بعد، سواء كان أفضل من المرسل أولاً، لأنه إذا أرسله إلى من هو أفضل منه فمن دونه أولى. قال النووي: قال أصحابنا: ويجب على الرسول تبليغه، ويجب على المرسل إليه رد الجواب حين يبلغه على الفور. 21 - ومن حملهم ما بقي من الأتان في الرواية الثامنة جواز حمل الزاد في السفر. 22 - ومن إعطاء أبي قتادة اللحم لأصحابه استحباب الرفق ومساعدة الأصحاب والرفقاء في السفر.

(321) باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم

(321) باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم 2508 - عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أربع كلهن فاسق. يقتلن في الحل والحرم: الحدأة، والغراب، والفأرة، والكلب العقور". قال عبيد الله: فقلت للقاسم: أفرأيت الحية؟ قال: تقتل بصغر لها. 2509 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية، والغراب الأبقع، والفأرة، والكلب العقور، والحديا". 2510 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خمس فواسق يقتلن في الحرم: العقرب، والفأرة، والحديا، والغراب، والكلب العقور". 2511 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خمس فواسق يقتلن في الحرم: الفأرة، والعقرب، والغراب، والحديا، والكلب العقور". 2512 - وعن الزهري بهذا الإسناد، قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل خمس فواسق في الحل والحرم. ثم ذكر بمثل حديث يزيد بن زريع. 2513 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خمس من الدواب كلها فواسق. تقتل في الحرم: الغراب، والحدأة، والكلب العقور، والعقرب، والفأرة". 2514 - عن سالم، عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: "خمس لا جناح على من

قتلهن في الحرم والإحرام: الفأرة، والعقرب، والغراب والحدأة، والكلب العقور". وقال ابن أبي عمر في روايته "في الحرم والإحرام". 2515 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قالت حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خمس من الدواب كلها فاسق لا حرج على من قتلهن: العقرب، والغراب، والحدأة، والفأرة، والكلب العقور". 2516 - عن زيد بن جبير أن رجلاً سأل ابن عمر: ما يقتل المحرم من الدواب؟ فقال: أخبرتني إحدى نسوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر -أو أمر- أن يقتل الفأرة، والعقرب، والحدأة، والكلب العقور، والغراب. 2517 - عن زيد بن جبير قال سأل رجل ابن عمر: ما يقتل الرجل من الدواب وهو محرم؟ قال: حدثتني إحدى نسوة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر بقتل الكلب العقور، والفأرة، والعقرب، والحديا، والغراب، والحية. قال: وفي الصلاة أيضاً. 2518 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "خمس من الدواب، ليس على المحرم في قتلهن جناح: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور". 2519 - عن ابن جريج قال: قلت لنافع: ماذا سمعت ابن عمر يحل للحرام قتله من الدواب؟ فقال لي نافع: قال عبد الله: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "خمس من الدواب لا جناح على من قتلهن، في قتلهن: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور".

2520 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "خمس لا جناح في قتل ما قتل منهن في الحرم" فذكر بمثله. 2521 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خمس، من قتلهن وهو حرام فلا جناح عليه فيهن: العقرب، والفأرة، والكلب العقور، والغراب، والحديا". -[المعنى العام]- إن الأمن والأمان الذي أراده الله لمخلوقاته في الحرم والإحرام أمن وأمان على الإنسان، وأمن وأمان من الإنسان، وفي الباب السابق بسطنا التشريع الحكيم في تأمين الإنسان غيره، أمنت الشريعة السمحة الحيوان والطير، حتى الحيوان البري المتوحش، أمنته من الإنسان المحرم، كما أمنته في الحرم على اختلاف الأزمنة وفي هذه الأحاديث يأتي دور تأمين الإنسان حلالاً أو محرماً من بعض مخلوقات الله التي أراد لها أن تؤذي الإنسان، أو أن تفسد له أمتعته، أو أن تنغص عليه حياته، كما حجبت الشريعة السمحة أذاه عن غيره مكنته من الدفاع عن نفسه وصد الأذى مما يهدده بالأذى. تناسق وموازنة، وحكمة وعدالة، فكما يحرم على المحرم صيد البر وأكل لحمه إذا صيد له، يحل له بل يستحب أن يقتل ما يهدده بأذى اللسع، كالعقرب والحية والثعبان والأفعى والزنبور، حتى البعوض والذباب، وأن يقتل ما يهدده بخطف طعامه وأمتعته كالحدأة والغراب والصقر وأن يقتل ما يهدده بإفساد البيت والفراش وتخريب الثياب وقرض الأمتعة، كالفيران وأم عرس، وأن يقتل ما يهدد حياته بالعض أو الافتراس كالكلب العقور والذئب والسبع والنمر والفهد وإذا جاز للمحرم أن يؤمن نفسه، وأن يقتل ما يؤذيه، وهو صورة المسالمة وصورة السلامة جاز لغير المحرم أن يؤمن نفسه من هذه الأشياء من باب أولى. من هنا قال صلى الله عليه وسلم: خمس من الدواب كلهن فاسق [خارج عن طبيعة المسالمة] يقتلن في الحل والحرم [في الأماكن الحلال وفي الحرم المكي الذي نزل فيه: {ومن دخله كان آمناً} [آل عمران: 97]. وفي الوقت الحلال وفي الأشهر الحرم ومن المسلم الحلال ومن المحرم بحج أو عمرة] لا حرج على من قتلهن في أي وقت وفي أي مكان، الحدأة والغراب والعقرب والفأرة والكلب العقور.

-[المباحث العربية]- (أربع) وكذا "خمس" مبتدأ، سوغ الابتداء به ملاحظة الوصف "من الدواب" الوارد في الرواية السادسة. (كلهن فاسق) مبتدأ وخبر، والجملة خبر "أربع" وفي الرواية السادسة "كلها فاسق" قال النووي: تسمية هذه الخمس فواسق تسمية صحيحة جارية على وفق اللغة، فإن أصل الفسق لغة الخروج، ومنه فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها، وقوله تعالى: {ففسق عن أمر ربه} [الكهف: 50]. أي خرج، وسمي الرجل فاسقاً لخروجه عن طاعة ربه، فهو خروج مخصوص. وأما المعنى في وصف الدواب المذكورة بالفسق فقيل لخروجها عن حكم غيرها من الحيوان في تحريم قتله وقيل في حل أكله، لقوله تعالى: {أو فسقاً أهل لغير الله به} [الأنعام: 145]. وقوله: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق} [الأنعام: 121]. وقيل: لخروجها عن حكم غيرها بالإيذاء والإفساد وعدم الانتفاع، ومن ثم اختلف أهل الفتوى فيما يلحق بها من الدواب، وسيأتي توضيحه في فقه الحديث. (خمس فواسق) هذا لفظ الرواية الثانية والثالثة والرابعة. قال النووي: هو بإضافة "خمس" لا يتنوينه، وجوز ابن دقيق العيد الوجهين. قال الحافظ ابن حجر: التقييد بالخمس، وإن كان مفهومه اختصاص المذكورات بذلك لكنه مفهوم عدد، وليس بحجة عند الأكثر، وعلى تقدير اعتباره فيحتمل أن يكون قاله صلى الله عليه وسلم أولاً، ثم بين بعد ذلك أن غير الخمس يشترك معها في الحكم فقد ورد في بعض الطرق [روايتنا الأولى] بلفظ "أربع" فأسقط العقرب، وفي بعض الطرق "ست" فأثبت العقرب، وزاد الحية، وإن كانت خالية عن لفظ العدد [وهي روايتنا العاشرة] وأغرب عياض فقال: في بعض الطرق ذكر الأفعى، فصارت سبعاً، وتعقب بأن الأفعى داخلة في مسمى الحية، والحديث الذي ذكرت فيه أخرجه أبو عوانة من طريق ابن عوانة عن نافع، قال: قلت لنافع، فالأفعى؟ قال: ومن يشك في الأفعى. وجاء في رواية عند أبي داود زيادة السبع العادي، فصارت سبعاً، وعند ابن خزيمة زيادة الذئب والنمر على الخمس المشهورة، فتصير بهذا الاعتبار تسعاً، لكن أفاد ابن خزيمة عن الذهلي أن ذكر الذئب والنمر من تفسير الراوي للكلب العقور، ثم قال الحافظ: فهذا جميع ما وقفت عليه في الأحاديث المرفوعة زيادة على الخمس المشهورة ولا يخلو شيء من ذلك من مقال. اهـ (من الدواب) بتشديد الباء، جمع دابة، وهي: ما دب من الحيوان، وهي تشمل الطير بدليل هذا الحديث فقد ذكر منها الحدأة والغراب، ويدل على دخول الطير أيضاً عموم قوله تعالى: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} [هود: 6]. وقوله: {وكأين من دابة لا تحمل رزقها} [العنكبوت: 60]. وبعضهم لا يدخل الطير في الدواب، ويستدل بقوله تعالى: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم} [الأنعام: 38]. والعطف

يقتضي المغايرة، ويمكن الرد عليه بأنه من قبيل عطف الخاص على العام، كقوله: {من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال ... } [البقرة: 98]. والدابة: تطلق على الذكر والأنثى، وقد تصرف أهل العرف فيها فخصها بعضهم بذوات القوائم الأربع من الخيل والبغال والحمير، وخصها بعضهم بما يركب، ومنهم من خصها بالحمار، ومنهم من خصها بالفرس. (يقتلن في الحل والحرم) في الرواية الثالثة والرابعة "يقتلن في الحرم" وإذا رخص في قتلهن في الحرم مع قدسيته وتحريم قتل غيرها فيه، رخص في قتلها في الحل من باب أولى. وهل "يقتلن" رخصة أو ندباً؟ في الرواية الخامسة "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل خمس" وفي التاسعة "أمر -أو أمر-" وفي العاشرة "كان يأمر" فهل الأمر للإباحة أو للندب؟ وفي السابعة والحادية عشرة والثانية عشرة والثالثة عشرة والرابعة عشرة رفع الجناح، أي رفع الإثم على من قتلهن، وفي الثامنة رفع الحرج أي رفع المؤاخذة على من قتلهن. فهل رفع الجناح ورفع الحرج يفيد الحل فقط؟ أو يشمل الندب أيضاً؟ خلاف يأتي تفصيله في فقه الحديث. وفي الرواية السابعة "لا جناح على من قتلهن في الحرم والإحرام" قال النووي: اختلفوا في ضبط "الحرم" هنا، فضبطه جماعة من المحققين بفتح الحاء والراء، أي الحرم المشهور، وهو حرم مكة، والثاني بضم الحاء والراء، وهو جمع حرام، كما قال تعالى {وأنتم حرم} [المائدة: 1]. قال: والمراد به المواضع المحرمة، قال: والفتح أظهر. اهـ فصار قتلها مباحاً للمحرم سواء أكان في الحل أم في الحرم، ومباحاً في الحرم سواء للمحرم أم للحلال. (الحدأة) لم تلتزم الروايات ترتيباً معيناً، فقد ذكرت الحدأة أولاً في الرواية الأولى وآخراً في الرواية الثانية، والرابعة عشرة، وفي الوسط في بقية الروايات ولا يتعلق بترتيبها غرض. "والحدأة" بكسر الحاء، وبعد الدال همزة، وجمعها حدأ بكسر الحاء وفتح الدال بعدها همزة كعنبة وعنب، والتاء فيها للفرق بين الواحد والجمع، وليست للتأنيث، وفي بعض الروايات "الحدأ" بلفظ الجمع، وفي رواياتنا الثانية والرابعة عشرة "الحديا" بضم الحاء وفتح الدال وتشديد الياء بعدها ألف مقصورة، وهي لغة حجازية، وغيرهم يقول "حدية" بالتاء بدل الألف، وهي طائر معروف، قال الحافظ: ومن خواصها، أنها تقف في الطيران ويقال: إنها لا تخطف إلا من جهة اليمين. (والغراب) كذا جاء مطلقاً في جميع روايات مسلم إلا الثانية فجاءت بلفظ "الغراب الأبقع" وهو الذي في بطنه أو ظهره بياض. قال الحافظ ابن حجر: وأخذ بهذا القيد بعض أصحاب الحديث، وهو قضية حمل المطلق على المقيد ورد الآخرون بأن هذه الزيادة لم تثبت، وسيأتي توضيح لذلك في فقه الحديث. (والفأرة) بهمزة ساكنة، ويجوز تسهيلها "فارة" واحدة الفيران، وهي أنواع: منها الجرذ بوزن

عمر، والخلد بضم الخاء وسكون اللام، وفأرة الإبل وفأرة المسك، وفأرة الغيط، وحكمها في تحريم الأكل وجواز القتل سواء. (والكلب العقور) العقور والعاقر: الجارح، وفي المراد به هنا خلاف بين الفقهاء يأتي في فقه الحديث. (تقتل بصغر لها) بضم الصاد، أي بمذلة وإهانة. (والعقرب ... والحية) العقرب: يقال للذكر والأنثى، وقد يقال: عقربة وعقرباء، قال صاحب المحكم: ويقال إن عينها في ظهرها، وأنها لا تضر ميتاً ولا نائماً حتى يتحرك، ويقال لدغته العقرب بالغين ولسعته، وقد ذكرت الحية بدلها في بعض الروايات، كروايتنا الثانية وجمع بينهما في بعض الروايات كروايتنا العاشرة. قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر لي أنه صلى الله عليه وسلم نبه بإحداهما على الأخرى عند الاقتصار، وبين حكمهما معاً حيث جمع بينهما. وسيأتي مزيد بحث في الحكم في فقه الحديث. والعقرب: دويبة من العنكبيات ذات سم معروفة، أما الحية فهي طويلة من الزواحف، ومن أنواعها الثعبان والأفعى. (حدثتني إحدى نسوة رسول الله صلى الله عليه وسلم) هذه المبهمة صرح بها في الرواية الثامنة، وهي أخته حفصة رضي الله عنهم أجمعين. -[فقه الحديث]- قال النووي: اتفق جماهير العلماء على جواز قتل المذكورات في الحل والحرم والإحرام، واتفقوا على أنه يجوز للمحرم أن يقتل ما في معناهن، ثم اختلفوا في المعنى فيهن، وما يكون في معناهن، فقال الشافعي: والمعنى في جواز قتلهن كونهن مما لا يؤكل وكل ما لا يؤكل، ولا هو متولد من مأكول وغيره قتله جائز للمحرم، ولا فدية عليه. وقال مالك: المعنى فيهن كونهن مؤذيات، فكل مؤذ يجوز للمحرم قتله، وما لا فلا. اهـ وقال الحافظ ابن حجر: ليس في نفي الجناح، وكذا نفي الحرج دلالة على أرجحية الفعل على الترك، لكن لفظ "أمر" [في روايتنا التاسعة والعاشرة] ظاهره الوجوب، ويحتمل الندب والإباحة، لكن هذا الأمر ورد بعد الحظر، لعموم نهي المحرم عن القتل، فلا يكون للوجوب ولا للندب. اهـ وخلاف الفقهاء في الحدأة ينحصر في تقييد جواز قتلها بأن تبتدئ بالأذى، وتقييد جواز قتلها بالكبار منها؟ أو الجواز على الإطلاق، ابتدأت بالأذى أو لم تبتدئ، صغيرة كانت أم كبيرة؟ الجمهور على الإطلاق، وهو المشهور عن المالكية، لكن بعض المالكية على التقييد.

أما خلافهم في الغراب فهو نتيجة لتعدد أنواع الغراب، قال الحافظ ابن حجر، بعد أن صحح رواية "الغراب الأبقع". قال ابن قدامة: ويلتحق بالأبقع ما شاركه في الإيذاء وتحريم الأكل. قال الحافظ: وقد اتفق العلماء على إخراج الغراب الصغير الذي يأكل الحب، ويقال له: غراب الزرع، ويقال له: الزاغ، وأفتوا بجواز أكله، فبقي ماعداه من الغربان ملتحقاً بالأبقع. قال: ومنها "الغداف" على الصحيح، وسماه ابن قدامة "غراب البين" والمعروف عند أهل اللغة أن غراب البين هو الأبقع، قيل: سمي غراب البين لأنه بان عن نوح لما أرسله من السفينة ليكشف خبر الأرض، فلقي جيفة فوقع عليها، ولم يرجع إلى نوح، وكان أهل الجاهلية يتشاءمون به، فأبطل الإسلام ذلك، وقال صاحب الهداية: المراد بالغراب في الحديث الغداف، والأبقع لأنهما يأكلان الجيف، وأما غراب الزرع فلا، وكذا استثناه ابن قدامة، وما أظن فيه خلافاً. ويحمل على غراب الزرع ما جاء عند أبي داود -إن صح- حيث قال فيه "ويرمي الغراب ولا يقتله". ومن أنواع الغربان: الأعصم، وهو الذي في رجليه أو في جناحيه أو بطنه بياض أو حمرة، وحكمه حكم الأبقع، ومنها العقعق، وهو قدر الحمامة على شكل الغراب، قيل: سمي بذلك لأنه يعق فراخه فيتركها بلا طعم، والعرب تتشائم به أيضاً، وحكمه حكم الأبقع على الصحيح، وقيل: حكم غراب الزرع، وقال أحمد إن أكل الجيف فكان أبقع، وإلا فلا. وأما خلافهم في الفأرة فقد نقل ابن شاش عن المالكية خلافاً في جواز قتل الصغير منها، الذي لا يتمكن من الأذى. وأما خلافهم في الكلب العقور فقد نقل عن سفيان بن عيينة أنه قال: الكلب العقور كل سبع يعقر، ولم يخص به الكلب، وعن أبي هريرة: الكلب العقور الأسد، وعن مالك: هو كل ما عقر الناس وعدا عليهم، مثل الأسد والنمر والفهد، وأما ما كان من السباع لا يعدو مثل الضبع والثعلب وشبههما فلا يقتله المحرم، وإن قتله فداه وحكي عن أبي حنيفة أن المراد به الكلب المعروف خاصة، وألحق به الذئب، وحمل "زفر" الكلب هنا على الذئب وحده وذهب الشافعي وأحمد وجمهور العلماء إلى أن المراد كل مفترس غالباً. واختلف العلماء في الكلب غير العقور، مما لم يؤمر باقتنائه، فذهب بعض الشافعية إلى أنه محترم لا يجوز قتله، وذهب آخرون إلى أنه غير محترم، وذهب جماعة إلى كراهة قتله كراهة تنزيه. وأما خلافهم في العقرب فقد قال ابن المنذر: لا نعلمهم اختلفوا في جواز قتل العقرب، وقال نافع: لما قيل له فالحية؟ قال لا يختلف فيها، وفي رواية ومن يشك فيها. وتعقبه ابن عبد البر بما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق شعبة أنه سأل الحكم وحماداً، فقالا -لا يقتل المحرم الحية ولا العقرب. قال: ومن حجتهما أنهما من هوام الأرض، فيلزم من أباح قتلهما مثل ذلك في سائر الهوام.

قال الحافظ وهو اعتلال لا معنى له. نعم عند المالكية خلاف في قتل صغير الحية والعقرب التي لا تتمكن من الأذى. وخلاصة أقوال الفقهاء في هذا الموضوع: أن المالكية يرون العلة كونها مؤذية فيلحقون بها كل مؤذ، والأذى أنواع، وكأنه نبه بالعقرب على ما يشاركها في الأذى باللسع ونحوه من ذوات السموم، كالحية، والزنبور وبالفأرة على ما يشاركها في الأذى بالنقب والقرض، كابن عرس، وبالغراب والحدأة على ما يشاركهما بالاختطاف كالصقر وبالكلب العقور على ما يشاركه في الأذى بالعدوان والعقر، كالأسد والفهد. والشافعية يرون العلة كونها مما لا يؤكل، وقد قسم هو وأصحابه الحيوان بالنسبة للمحرم إلى ثلاثة أقسام: قسم يستحب قتله كالخمس وما في معناها مما يؤذي. وقسم يجوز قتله، كسائر ما لا يؤكل لحمه، وهو قسمان: الأول ما يحصل منه نفع وضرر، فيباح لما فيه من منفعة الاصطياد، ولا يكره لما فيه من العدوان. والثاني ما ليس فيه نفع ولا ضرر، فيكره قتله ولا يحرم. والقسم الثالث ما أبيح أكله، أو نهي عن قتله، فلا يجوز قتله، وفيه الجزاء إذا قتله المحرم. أما الحنفية فاقتصروا على الخمس، إلا أنهم ألحقوا بها الحية، لثبوت الخبر بها والذئب لمشاركته الكلب في الكلبية، وألحقوا بذلك من ابتدأ بالعدوان والأذى من غيرها. بقيت أنواع اختلف الفقهاء في جواز قتلها، منها الوزغ، وهو دابة صغيرة لها قوائم تعدو في أصول الحشيش، وتعيش في الجدران والخربات، وهي ما يطلق عليها [البرص]. وفي البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للوزغ فويسق، ولم أسمعه يأمر بقتله"، وعدم سماع عائشة لا يدل على منع قتله. قال العيني: فقد سمعه غيرها، وفي مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه مرفوعاً "أمر بقتل الأوزاغ" ثم ساق العيني مجموعة من الأحاديث في قتل الوزغ، ثم قال: ونقل ابن عبد البر الاتفاق على جواز قتله في الحل والحرم لكن نقل ابن عبد الحكم وغيره عن مالك: لا يقتل المحرم الوزغ، زاد ابن القاسم: وإن قتله يتصدق، لأنه ليس من الخمس المأمور بقتلها. ومنها البعوض والبراغيث والذباب والقمل والبق والنمل. قال ابن المنذر قال الشافعي وأصحاب الرأي: لا شيء على المحرم في قتل البعوض والبراغيث والبق، وكذا قال عطاء في البعوض والذباب. وقال مالك: في الذباب والقمل إذا قتلها أرى أن يتصدق بشيء من الطعام، وكان الشافعي يكره قتل النملة، ولا يرى على المحرم في قتلها شيئاً قال: فأما "الزنبور" [وهو المعروف عند العامة بالدبور] فقد ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يأمر بقتله، وقال عطاء وأحمد: لا جزاء فيه، وقال

مالك: يطعم شيئاً، وقال ابن المنذر: وأما القملة إذا قتلها المحرم فقال ابن عمر -رضي الله عنهما-: يتصدق بحفنة من طعام، وقال عطاء: قبضة من طعام. -[ويؤخذ من هذه الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - جواز القصاص في الحرم. قال النووي: وفي هذه الأحاديث دلالة للشافعي وموافقيه في أنه يجوز أن يقتل في الحرم كل ما يجب عليه قتل بقصاص أو رجم بالزنا، أو قتل في المحاربة، وغير ذلك، وأنه يجوز إقامة كل الحدود فيه سواء كان موجب القتل والحد جري في الحرم أو خارجه، ثم لجأ صاحبه إلى الحرم، وهذا مذهب مالك والشافعي وآخرين. وقال أبو حنيفة وطائفة: ما ارتكبه من ذلك في الحرم يقام عليه فيه، وما فعله خارجه ثم لجأ إليه: إن كان إتلاف نفس لم يقم عليه في الحرم، بل يضيق عليه ولا يكلم ولا يجالس ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج منه، فيقام عليه خارجه، وما كان دون النفس يقام فيه. وحجتهم قوله تعالى: {ومن دخله كان آمناً} [آل عمران: 97]. وحجتنا عليهم: هذه الأحاديث، لمشاركة فاعل الجناية لهذه الدواب في اسم الفسق، بل فسقه أفحش، لكونه مكلفاً، ولأن التضييق الذي ذكروه لا يبقى لصاحبه أمان، فقد خالفوا ظاهر ما فسروا به الآية. قال القاضي: ومعنى الآية عندنا وعند أكثر المفسرين أنه إخبار عما كان قبل الإسلام، وعطفه على ما قبله من الآيات، وقيل: آمن من النار، وقالت طائفة: يخرج ويقام عليه الحد. والله أعلم

(322) باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى ووجوب الفدية لحلقه وبيان قدرها

(322) باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى ووجوب الفدية لحلقه وبيان قدرها 2522 - عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: أتى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية وأنا أوقد تحت (قال القواريري: قدر لي. وقال أبو الربيع: برمة لي) والقمل يتناثر على وجهي. فقال: "أيؤذيك هوام رأسك؟ " قال: قلت: نعم. قال: "فاحلق وصم ثلاثة أيام. أو أطعم ستة مساكين. أو انسك نسيكة". قال أيوب: فلا أدري بأي ذلك بدأ. 2523 - عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: في أنزلت هذه الآية: {فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} قال: فأتيته، فقال: "ادنه". فدنوت. فقال: "ادنه". فدنوت. فقال صلى الله عليه وسلم: "أيؤذيك هوامك؟ ". قال ابن عون: وأظنه قال: نعم. قال: فأمرني بفدية من صيام أو صدقة أو نسك. ما تيسر. 2524 - عن كعب بن عجرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عليه ورأسه يتهافت قملاً، فقال: "أيؤذيك هوامك؟ " قلت: نعم. قال: "فاحلق رأسك". قال: ففي نزلت هذه الآية: {فمن كان منكم مريضاً أبو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "صم ثلاثة أيام. أو تصدق بفرق بين ستة مساكين. أو انسك ما تيسر". 2525 - عن كعب بن عجرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به، وهو بالحديبية، قبل أن يدخل مكة، وهو محرم، وهو يوقد تحت قدر والقمل يتهافت على وجهه، فقال: "أيؤذيك هوامك هذه؟ " قال: نعم. قال: "فاحلق رأسك، وأطعم فرقاً بين ستة مساكين. (والفرق ثلاثة آصع) أو صم ثلاثة أيام أو انسك نسيكة". قال ابن أبي نجيح "أو اذبح شاة".

2526 - عن كعب بن عجرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به زمن الحديبية، فقال له: "آذاك هوام رأسك؟ " قال: نعم. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "احلق رأسك. ثم اذبح شاة نسكاً. أو صم ثلاثة أيام. أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين". 2527 - عن عبد الله بن معقل قال: قعدت إلى كعب رضي الله عنه وهو في المسجد، فسألته عن هذه الآية {ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} فقال كعب رضي الله عنه نزلت في. كان بي أذى من رأسي، فحملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقمل يتناثر على وجهي، فقال: "ما كنت أرى أن الجهد بلغ منك ما أرى. أتجد شاة؟ " فقلت: لا. فنزلت هذه الآية {ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} قال: صوم ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين نصف صاع طعاماً لكل مسكين. قال: فنزلت في خاصة، وهي لكم عامة. 2528 - عن كعب بن عجرة رضي الله عنه أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم محرماً فقمل رأسه ولحيته. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم. فأرسل إليه. فدعا الحلاق فحلق رأسه. ثم قال له "هل عندك نسك؟ " قال: ما أقدر عليه. فأمره أن يصوم ثلاثة أيام، أو يطعم ستة مساكين، لكل مسكينين صاع. فأنزل الله عز وجل فيه خاصة: {فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه}. ثم كانت للمسلمين عامة. -[المعنى العام]- إذا كان الإسلام قد شرع للحاج أن يعيش مدة إحرامه دون أن يقص أو يحلق شعره، ليكون أشعث أغبر، قليل العناية بزينة الدنيا فليس معنى ذلك أن يكلفه شططاً، أو ما لا يحتمل من أذى، وكما حرم عليه في الحج محرمات فإنه جعل له منها مندوحات، من عبادة بديلة كصيام، أو نفع للفقراء والمساكين بالفدية والكفارات. وقد يبتلي الله الحاج ببعض الأمراض أو الحملات في رأسه وشعره، ويكون علاجه في حلقه، كما حدث للصحابي الجليل كعب بن عجرة، إذ خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة محرمين، يقصدون بيت الله الحرام لأداء النسك في شهر ذي القعدة سنة ست من الهجرة، فمنعهم مشركوا مكة عند

الحديبية، وبدأت بين المسلمين وبينهم المفاوضات والرسل، وبينما المسلمون على أمل وطمع في أن يمكنوا من أداء النسك ابتلى الله كعب بن عجرة بالقمل في رأسه، توالد وتكاثر حتى ملأ رأسه، وجرى على شعره، حتى حاجبه وشاربه، وحتى سبح على وجهه وتساقط منه، ومر به النبي صلى الله عليه وسلم فواساه وطيب خاطره وسأله: هل يملك شاة فيذبحها كفارة وفداء ليحلق؟ فقال: لا. فذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى رحله ينتظر حكم ربه، فنزل عليه قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} [البقرة: 196]. وشرح الله لنبيه مقدار الصوم الواجب والصدقة، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن عجرة، وقرأ عليه الآية، وقال له: صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، كل مسكين نصف صاع، ودعا الحلاق فحلق شعره، فصام كعب ثلاثة أيام، حيث لم يكن معه ما يطعمه المساكين، وصدق الله العظيم في نبيه صلى الله عليه وسلم حيث قال: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128]. -[المباحث العربية]- (أتى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم) في الرواية الثالثة "وقف عليه" وفي الرواية الرابعة والخامسة "مر به" وفي الرواية السابعة "فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه" وفي الرواية الثانية "فأتيته" وفي الرواية السادسة "فحملت إليه" وعند الطبراني "أنه لقيه وهو عند الشجرة" قال الحافظ ابن حجر: ولا تعارض، والجمع أن يقال: مر به أولاً، فرآه على تلك الصورة فاستدعاه إليه، فخاطبه، وحلق رأسه بحضرته، فنقل كل واحد منهما ما لم ينقله الآخر. (زمن الحديبية) في الرواية الرابعة "وهو بالحديبية، قبل أن يدخل مكة وهو محرم" وفي رواية البخاري "وهو بالحديبية، ولم يتبين لهم أنهم يحلون بها وهم على طمع أن يدخلوا مكة" وهذه الزيادة تبين أن الحلق كان لاستباحة محظور بسبب الأذى، لا لقصد التحلل بالإحصار. (وأنا أوقد تحت قدر لي) في ملحق الرواية "تحت برمة لي" وفي رواية "وأنا أطبخ قدراً لأصحابي". (والقمل يتناثر على وجهي) في الرواية الرابعة "والقمل يتهافت على وجهه" أي يتساقط شيئاً فشيئاً، وهو مأخوذ من الهفت بسكون الفاء، وفي المحكم: الهفت تساقط الشيء قطعة قطعة، كالثلج والرذاذ ونحوهما، وتهافت الفراش في النار: تساقطه، وتهافت القوم تساقطوا موتاً، وتهافتوا عليه تتابعوا وفي الرواية الثالثة "ورأسه يتهافت قملاً" "قملاً" منصوب على التمييز، وفي الرواية السابعة "فقمل رأسه ولحيته" وعند أحمد "وقع القمل في رأسي ولحيتي حتى حاجبي وشاربي" وفي رواية لأحمد "قملت حتى ظننت أن كل شعرة من رأسي فيها القمل من أصلها إلى فرعها" زاد في رواية "وكنت حسن الشعر" وفي رواية أبي داود "أصابتني هوام، حتى تخوفت على بصري" وفي رواية "وكانت لي وفرة" أي شعر وفير على الرأس يبلغ شحمة الأذنين.

(أيؤذيك هوام رأسك؟ ) في الرواية الثانية والثالثة والرابعة "أيؤذيك هوامك؟ " وفي رواية البخاري "لعلك آذاك هوامك؟ قال: نعم" زاد في الرواية السادسة "ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك ما أرى" قال الحافظ ابن حجر: "أرى" الأولى بضم الهمزة، أي أظن، و"أرى" الثانية بفتح الهمزة من الرؤية و"الجهد" بفتح الجيم: المشقة، وقال النووي: والضم لغة في المشقة أيضاً. وقيل: بالضم الطاقة، وبالفتح المشقةأيبيب. و"الهوام" بتشديد الميم جمع هامة، وهي ما يدب من الأخشاش، والمراد بها، ما يلازم جسد الإنسان غالباً، إذا طال عهده بالتنظيف، وقد عين في كثير من الروايات أنها القمل. (قال: فاحلق وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك نسيكة) أي شاة، كما جاء في الرواية الخامسة، وهي المرادة بقوله "ما تيسر" في الرواية الثانية والثالثة، وشرطها: أن تجزئ في الأضحية. قال الراوي: فلا أدري بأي ذلك بدأ. في الرواية الرابعة قدم الإطعام على الصيام، وفي الرواية الخامسة قدم النسك على الصيام والإطعام، وفي رواية لأبي داود "أتجد شاة؟ قال: لا. قال فصم أو أطعم" فظاهرها أن التخيير إنما هو بين الصيام والإطعام لمن لم يجد النسك. قال الحافظ ابن حجر: لكن لا أعرف من قال بذلك من العلماء إلا ما روي عن سعيد بن جبير، وقد جمع بينهما بأوجه، منها: أن فيه الإشارة إلى ترجيح الترتيب، لا لإيجابه، ومنها: أنه لا يلزم من سؤاله عن وجدان الذبح تعينه، لاحتمال أنه لو أعلمه أنه يجده لأخبره بالتخيير بينه وبين الإطعام والصوم، ومنها: أنه يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أذن له في حلق رأسه بسبب الأذى أفتاه بأن يكفر بالذبح، على سبيل الاجتهاد منه صلى الله عليه وسلم، أو بوحي غير متلو، فلما أعلمه أنه لا يجد، نزلت الآية بالتخيير بين الذبح والإطعام والصيام، فخيره حينئذ بين الصيام والإطعام، لعلمه بأنه لا ذبح معه، فصام لكونه لم يكن معه ما يطعمه، ويوضح ذلك رواية مسلم [روايتنا السادسة] حيث قال: "أتجد شاة؟ فقلت: لا. فنزلت هذه الآية" إلخ. {فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية} هذه قطعة من آية، أولها قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} والمعنى: فمن كان منكم به مرض يحوجه إلى حلق شعره، "أو به أذى من رأسه" بجراحة أو قمل أو حك فعليه إذا حلق فدية. (فأتيته، فقال: ادنه، فدنوت) الفعل "ادن" دخلت عليه هاء السكت قال الحافظ ابن حجر: والظاهر أن هذا الاستدناء كان عقب رؤيته إياه إذ مر به وهو يوقد تحت القدر. اهـ وأقول: الظاهر أنه بعد أن أرسل إليه وأتاه، فظل بعيداً خوفاً عليه صلى الله عليه وسلم من أن يصله منه شيء، يدل على ذلك قوله "فأتيته". (أو تصدق بفرق بين ستة مساكين) "الفرق" بفتح الفاء والراء وقد تسكن قال الأزهري: كلام العرب بالفتح، والمحدثون قد يسكنونه، وهو مكيال معروف بالمدينة ويقدر بثلاثة أصع، كما

قدره الراوي في الرواية الرابعة وصرحت به الرواية الخامسة ولفظها "أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين" والسادسة، ولفظها "أو إطعام ستة مساكين، نصف صاع طعاماً لكل مسكين" والسابعة، ولفظها "أو يطعم ستة مساكين، لكل مسكينين صاع. وهذا التحديد من السنة للإطعام المطلق الوارد في الآية. والآصع جمع صاع، وهو من باب المقلوب، لأن فاء الكلمة في آصع صاد وعينها واو، فقلبت الواو همزة، ونقلت إلى موضع الفاء، ثم قلبت الهمزة ألفاً حين اجتمعت هي وهمزة الجمع، فصار آصعاً، ووزنه عندهم أعفل. قال النووي: وأما ما ذكره ابن مكي في كتابه [تثقيف اللسان] أن قولهم في جمع الصاع: آصع، لحن من خطأ العوام، وصوابه: أصوع فغلط منه وذهول وعجب قوله هذا مع اشتهار اللفظة في كتب الحديث واللغة العربية، وأجمعوا على صحتها. اهـ (قعدت إلى كعب بن عجرة وهو في المسجد) في رواية أحمد "قال عبد الله بن معقل: قعدت إلى كعب بن عجرة في هذا المسجد" زاد في رواية "يعني مسجد الكوفة". -[فقه الحديث]- قال النووي: هذه روايات الباب، وكلها متفقة في المعنى، ومقصودها: أن من احتاج إلى حلق الرأس لضرر من قمل أو مرض أو نحوهما فله حلقه في الإحرام، وعليه الفدية، قال تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الصيام ثلاثة أيام والصدقة بثلاثة آصع لستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع، والنسك شاة تجزئ في الأضحية، ثم إن الآية الكريمة والأحاديث متفقة على أنه مخير بين هذه الأنواع الثلاثة، وهكذا الحكم عند العلماء. واتفقوا على القول بظاهر هذا الحديث إلا ما حكي عن أبي حنيفة والثوري: أن نصف الصاع لكل مسكين إنما هو في الحنطة، فأما التمر والشعير وغيرهما فيجب صاع لكل مسكين. وهذا خلاف نصه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث "ثلاثة آصع من تمر" وعن أحمد بن حنبل رواية أنه لكل مسكين مد من حنطة أو نصف صاع من غيره، وعن بعض السلف أنه يجب إطعام عشرة مساكين، أو صوم عشرة أيام، وهذا ضعيف منابذ للسنة مردود. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم: ]- 1 - أن السنة مبينة لمجمل القرآن، لإطلاق الفدية في القرآن، وتقييدها بالسنة. 2 - وتحريم حلق الرأس على المحرم. 3 - والرخصة له في حلقها إذا أذاه القمل أو غيره من الأوجاع. 4 - وفيه تلطف الكبير بأصحابه، وعنايته بأحوالهم، وتفقده لهم.

5 - وإذا رأى في بعض أتباعه ضرراً سأل عنه، وأرشده إلى المخرج منه. 6 - واستنبط منه بعض المالكية إيجاب الفدية على من تعمد حلق رأسه بغير عذر فإن إيجابها على المعذور من التنبيه بالأدنى على الأعلى، لكن لا يلزم من ذلك التسوية بين المعذور وغيره، ومن هنا قال الشافعي والجمهور: لا يتخير العامد، بل يلزمه الدم، وخالف في ذلك أكثر المالكية. 7 - واستدل به على أن الفدية لا يتعين لها مكان، وبه قال أكثر التابعين وقال الحسن: تتعين مكة، وقال مجاهد: النسك بمكة ومنى، والإطعام بمكة والصيام حيث شاء وقريب منه قول الشافعي وأبي حنيفة: الدم والإطعام لأهل الحرم، والصيام حيث شاء، إذ لا منفعة فيه لأهل الحرم. 8 - واستدل به على أن الحج على التراخي، لأن جدل كعب دل على أن نزول قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} كان بالحديبية، وهي في سنة ست، وفيه بحث. كذا في فتح الباري. 9 - استدل به على أن القياس لا يدخل الحدود، لأنه هنا جعل صوم يوم معادلاً بصاع، وفي الفطر من رمضان جعل صوم اليوم معادلاً بمد. 10 - ومن الرواية السادسة: الجلوس في المسجد. 11 - ومذاكرة العلم. 12 - والاعتناء بسبب النزول، لما يترتب عليه من معرفة الحكم وتفسير القرآن. 13 - استدل به ابن التين على أن إزالة القمل عن الرأس ممنوعة على المحرم ويجب بإزالته عن الرأس الفدية، وكذلك إزالته عن الجسد عند مالك، وقال الشافعي: إزالة القملة عن الجسد مباح، وفي إزالتها عن الرأس الفدية، لأجل ترفهه، لا لأجل القملة، وروي عن الشافعي أنه قال: من قتل قملة تصدق بلقمة، وهو على وجه الاستحباب. والله أعلم

(323) باب جواز الحجامة للمحرم

(323) باب جواز الحجامة للمحرم 2529 - عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم. 2530 - عن ابن بحينة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم بطريق مكة وهو محرم وسط رأسه. -[المعنى العام]- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتجم، وكانت شرطة المحجم من أهم وسائل التداوي عند العرب، وقد روي "أنه صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم على ظهر القدم من وجع كان به" وروي "أنه صلى الله عليه وسلم احتجم من أكلة أكلها من شاة سمتها امرأة من أهل خيبر". وهذا الحديث عن احتجامه صلى الله عليه وسلم وهو محرم بحجة الوداع في وسط رأسه، ولا شك أنه صلى الله عليه وسلم قد فدى عملاً بقوله تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو به أذىً من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} [البقرة: 196]. -[المباحث العربية]- (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم) الحجامة: امتصاص الدم بالمحجم. (بطريق مكة وهو محرم) زاد البخاري "بلحى جمل" بفتح اللام وسكون الحاء بعدها ياء، وبفتح الجيم والميم، وهو موضع بطريق مكة، وجزم الحازمي وغيره بأن ذلك كان في حجة الوداع. (وسط رأسه) "وسط" قال أهل اللغة: كل شيء ينفصل بعضه عن بعض كالصف والقلادة، وحلقة الناس في العلم وغيره، فوسطه بإسكان السين، وكل شيء لا ينفصل بعضه من بعض كالأرض، والدار، والحجرة، فوسطه بفتح السين، وقد أجازوا في المفتوح الإسكان، ولم يجيزوا في الساكن الفتح، وعليه "وسط رأسه" بفتح السين، ويجوز إسكانها. -[فقه الحديث]- قال النووي: أجمع العلماء على جواز الحجامة للمحرم في الرأس وغيره إذا كان له عذر في ذلك،

وإن قطع الشعر حينئذ، لكن عليه الفدية لقطع الشعر فإن لم يقطع شعراً فلا فدية عليه، ودليل المسألة قوله تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية} وهذا الحديث محمول على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له عذر في الحجامة في وسط الرأس لأنه لا ينفك عن قطع شعر. أما إذا أراد المحرم الحجامة لغير حاجة فإن تضمنت قطع شعر فهي حرام لتحريم قطع الشعر، وإن لم تتضمن ذلك بأن كانت في موضع لا شعر فيه فهي جائزة عندنا وعند الجمهور، ولا فدية فيها، وعن مالك كراهتها، دليلنا: أن إخراج الدم ليس حراماً في الإحرام. وفي هذا الحديث بيان لقاعدة من مسائل الإحرام، وهي أن الحلق واللباس وقتل الصيد ونحو ذلك من المحرمات يباح للحاجة، وعليه الفدية، كمن احتاج إلى حلق أو لباس لمرض أو حر أو برد أو غير ذلك. اهـ قال الحافظ ابن حجر: واستدل بهذا الحديث على جواز الفصد، وبط الجرح والدمل [أي شقه]، وقطع العرق، وقلع السن والضرس، وغير ذلك من وجوه التداوي، إذا لم يكن في ذلك ما نهي عنه المحرم من تناول الطيب وقطع الشعر، ولا فدية عليه في شيء من ذلك. والله أعلم

(324) باب جواز مداوة المحرم عينيه

(324) باب جواز مداوة المحرم عينيه 2531 - عن نبيه بن وهب قال: خرجنا مع أبان بن عثمان حتى إذا كنا بملل اشتكى عمر بن عبيد الله عينيه، فلما كنا بالروحاء اشتد وجعه، فأرسل إلى أبان بن عثمان، يسأله فأرسل إليه أن اضمدهما بالصبر، فإن عثمان رضي الله عنه حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجل إذا اشتكى عينيه وهو محرم ضمدهما بالصبر. 2532 - عن نبيه بن وهب أن عمر بن عبيد الله بن معمر رمدت عينه فأراد أن يكحلها، فنهاه أبان بن عثمان وأمره أن يضمدها بالصبر وحدث عن عثمان بن عفان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل ذلك. -[المعنى العام]- هكذا كان السلف الأول يتحرون الصواب في عبادتهم، ولا يتهاونون وكانوا إذا اشتبه عليهم الأمر، أو أرادوا الاستيثاق سألوا أهل الذكر ومن عندهم علم، فعلموا منهم وعملوا بما علموا، فهذا عمر بن عبيد الله بن معمر يشكو رمداً في عينيه، وهو محرم، فيصبر ويحتمل، فيشتد به الألم فيرسل إلى أبان بن عثمان بن عفان وهو معه في رحلة الحج، يسأله عما يحل له وعما يحرم عليه في هذه الحالة، هل يضع في عينيه كحلاً؟ وهو يستعمل للزينة والمحرم منهي عن الزينة، وربما كان في الكحل طيب والمحرم يحرم عليه الطيب؟ فنهاه أبان أن يستعمل الكحل، وأرشده إلى أن يضع في عينيه سائل الصبر بدلاً من الكحل وروي له عن أبيه عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك. -[المباحث العربية]- (عن نبيه) بضم النون وفتح الباء. (مع أبان) فيه وجهان. الصرف وعدمه، والصحيح الأشهر الصرف، فمن صرفه قال: وزنه فعال، ومن منعه قال: وزنه أفعل، فعلة المنع العلمية ووزن الفعل. (إذا كنا بملل) بفتح الميم وفتح اللام الأولى، وهو موضع على ثمانية وعشرين ميلاً من المدينة.

(اضمدهما بالصبر) في كتب اللغة: ضمد الجرح بالدواء ونحوه -بفتح الضاد والميم مخففة- دهنه به، أو وضعه عليه، مضارعه يضمد بكسر الميم وأضمد القوم وغيرهم جمعهم وضمهم، وضمده بتشديد الميم مبالغة في ضمده بتخفيفها، والضماد بكسر الضاد كل ما يضمد به العضو الجريح أو الكسير أو المريض من عصابة ولفافة تشد عليه وتربط ويطلق على الدواء يجعل على العضو، وحده أو مع عصابة. اهـ فكلمة "اضمدهما" في الرواية الأولى بهمزة وصل وبهمزة قطع مع كسر الميم فيهما، وكلمة "يضمدها" في الرواية الثانية بفتح الياء وكسر الميم مخففة أو ضم الياء وفتح الضاد وكسر الميم مشددة، وأما "الصبر" فبكسر الباء، ويجوز إسكانها. -[فقه الحديث]- قال النووي: واتفق العلماء على جواز تضميد العين وغيرها بالصبر ونحوه مما ليس بطيب، ولا فدية في ذلك، فإن احتاج إلى ما فيه طيب جاز له فعله، وعليه الفدية. واتفق العلماء على أن للمحرم أن يكتحل بكحل لا طيب فيه إذا احتاج إليه، ولا فدية عليه فيه، وأما الاكتحال للزينة فمكروه عند الشافعي وآخرين ومنعه جماعة منهم أحمد وإسحق، وفي مذهب مالك قولان كالمذهبين، وفي إيجاب الفدية عندهم بذلك خلاف. اهـ وقال في المجموع: الأصح أن الاكتحال بما لا طيب فيه إن لم يكن فيه زينة كالتوتيا الأبيض لم يكره، وإن كان فيه زينة كالإثمد كره، إلا لحاجة كرمد. أي فلا يكره. والله أعلم

(325) باب جواز غسل المحرم بدنه ورأسه

(325) باب جواز غسل المحرم بدنه ورأسه 2533 - عن عبد الله بن حنين: أن عبد الله بن عباس والمسور بن مخرمة أنهما اختلفا بالأبواء، فقال عبد الله بن عباس: يغسل المحرم رأسه. وقال المسور: لا يغسل المحرم رأسه. فأرسلني ابن عباس إلى أبي أيوب الأنصاري، أسأله عن ذلك، فوجدته يغتسل بين القرنين، وهو يستتر بثوب، قال: فسلمت عليه، فقال: من هذا؟ فقلت: أنا عبد الله بن حنين، أرسلني إليك عبد الله بن عباس أسألك: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه وهو محرم؟ فوضع أبو أيوب رضي الله عنه يده على الثوب، فطأطأه حتى بدا لي رأسه، ثم قال لإنسان يصب: اصبب فصب على رأسه، ثم حرك رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر، ثم قال: هكذا رأيته صلى الله عليه وسلم يفعل. 2534 - عن زيد بن أسلم بهذا الإسناد وقال "فأمر أبو أيوب بيديه على رأسه، جميعاً على جميع رأسه، فأقبل بهما وأدبر، فقال المسور لابن عباس: لا أماريك أبداً". -[المعنى العام]- مناظرة علمية مهذبة بين اثنين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تجري حول غسل المحرم وغسل رأسه ودلك أصول شعره، عبد الله بن عباس يقول: هذا جائز ولعله كان على علم بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريق أبي أيوب الأنصاري ويقول في مجالسه: أميطوا عنكم الأذى، فإن الله يصنع بأذاكم شيئاً. والمسور ابن مخرمة يقول: هذا غير جائز، فقد حرم على المحرم قلع شعره، والغسل ودلك الرأس يعرض شعره للسقوط، فيقع في المحرم، وكأنه يقول ذلك اجتهاداً ورأياً إنهما في فوج من أفواج حج بيت الله، والموضوع موضوع الساعة لا يقبل التأخير، وهم محرمون، ويتوقف على الفتوى اغتسال كثير من الحجاج فأرسل ابن عباس مولاه عبد الله بن حنين إلى أبي أيوب يسأله: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يغتسل وهو محرم؟ فلما وصل ابن حنين إلى أبي أيوب وجده على رأس بئر يغتسل وقد وقف بين قائمي البئر، وستر نفسه عن الناس بثوب، فسلم عليه وقال له: ابن أخيك عبد الله بن عباس أرسلني إليك أسألك: كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يغتسل وهو محرم؟ فأزال أبو أيوب الساتر عن رأسه ووجهه، وقال لمن يصب عليه: اصبب على رأسي، وأخذ يدلك شعره بيديه ومساعده يصب عليه ثم قال: هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل وهو محرم، ورجع ابن حنين إلى من أرسله بالخبر، فتقبل المسور الخبر راضياً

مسلماً، وقال لابن عباس: لك الفضل ولك السبق في العلم ومخالفك لا يغلبك وأعاهدك أن لا أجادلك بعد اليوم أبداً. رضي الله عن الصحابة أجمعين. -[المباحث العربية]- (عبد الله بن حنين) قال الحافظ ابن حجر: المشهور أن حنيناً كان مولى للعباس وهبه له النبي صلى الله عليه وسلم فأولاده موال له. (اختلفا بالأبواء) أي اختلفا في غسل المحرم، وهما في المكان المعروف بالأبواء، أي نازلان فيه للاستراحة. (يغتسل بين القرنين) أي بين قرني البئر، بفتح القاف، تثنية قرن، وهما الخشبتان، أي العمودان اللذان ينصبان على رأس البئر، وتمد بينهما خشبة يعلق عليها البكرة التي يجر عليها الحبل المستقي به. (وهو يستتر بثوب) في رواية البخاري "وهو يستر بثوب" بالبناء للمجهول. (أسألك كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه؟ ) كان المفروض أن يسأل عن أصل الخلاف: هل يغسل المحرم رأسه أو لا يغسل؟ لكنه لما جاء فوجده يغتسل أحب أن لا يرجع إلا بفائدة، فتصرف في السؤال بفطنته، فسأله عن كيفية الغسل، وخص الرأس بالسؤال لأنها موضع الإشكال في هذه المسألة، لأنها محل الشعر الذي يخشى انتتافه أثناء الغسل، بخلاف بقية البدن غالباً. (فوضع أبو أيوب يده على الثوب فطأطأه) أي أمسك بالثوب المستتر به، وأزاله من أعلاه حتى يكشف عن رأسه، وفي رواية "جمع ثيابه إلى صدره حتى نظرت إليه" وفي رواية "حتى رأيت رأسه ووجهه". (فأمر أبو أيوب بيديه على رأسه) "أمر" بفتح الهمزة وفتح الميم وتشديد الراء، أي جعلهما تمران على رأسه. (لا أماريك أبداً) أي لا أجادلك، وأصل المراء استخراج ما عند الإنسان يقال: أمرى فلان فلاناً إذا استخرج ما عنده، وأطلق ذلك في المجادلة لأن كلاً من المتجادلين يستخرج ما عند الآخر من الحجة. -[فقه الحديث]- الحديث واضح الدلالة على جواز اغتسال المحرم، وغسله رأسه، وإمرار يده على شعره بحيث

لا ينتف شعراً، وتشريب الشعر بالماء، ودلكه باليد إذا أمن تناثره، واستدل به القرطبي على وجوب الدلك في الغسل. قال: لأن الغسل لو كان يتم بدونه لكان المحرم أحق بأن يجوز له تركه. قال الحافظ ابن حجر: ولا يخفى ما فيه. اهـ أي لأن غاية ما فيه أن أبا أيوب دلك. وأنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلك، وقد يكون من باب الاستحباب، فمن أين يؤخذ الوجوب؟ . -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - مناظرة الصحابة في الأحكام. 2 - ورجوعهم إلى النصوص عند الاختلاف، وترك الاجتهاد والقياس عند وجود النص. 3 - وقبولهم خبر الواحد، ولو كان تابعياً، وأن قبوله كان معلوماً مشهوراً عند الصحابة. 4 - وأن قول بعضهم ليس بحجة على بعض. قال ابن عبد البر: لو كان معنى الاقتداء في قوله صلى الله عليه وسلم "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" يراد به الفتوى لما احتاج ابن عباس إلى إقامة البينة على دعواه، بل كان يقول للمسور: أنا نجم وأنت نجم، فبأينا اقتدى من بعدنا كفاه. ولكن معناه -كما قال المزني وغيره من أهل النظر- أنه في النقل، لأن جميعهم عدول. 5 - وفيه اعتراف للفاضل بفضله. 6 - وإنصاف الصحابة بعضهم بعضاً. 7 - واستتار المغتسل عند الغسل. 8 - والاستعانة بالغير في الطهارة. 9 - وجواز الكلام والسلام حالة الطهارة. 10 - واستدل به على أن تخليل اللحية في الوضوء باق على استحبابه خلافاً لمن قال: يكره، كالمتولي من الشافعية، خشية انتتاف الشعر، لأن في الحديث "ثم حرك رأسه بيديه" ولا فرق بين شعر الرأس وشعر اللحية، إلا أن يقال: إن شعر الرأس أصلب، قال الحافظ: والتحقيق أنه خلاف الأولى في حق بعض دون بعض. 11 - قال النووي: واتفق العلماء على جواز غسل المحرم رأسه وجسده من الجنابة، بل هو واجب عليه، وأما غسله تبرداً فمذهبنا ومذهب الجمهور: جوازه بلا كراهة ويجوز عندنا غسل رأسه بالسدر والخطمي بحيث لا ينتف شعراً، ولا فدية عليه ما لم ينتف شعراً، وقال أبو حنيفة ومالك: هو حرام موجب للفدية. والله أعلم

(326) باب ما يفعل بالمحرم إذا مات

(326) باب ما يفعل بالمحرم إذا مات 2535 - عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: خر رجل من بعيره، فوقص، فمات، فقال: "اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمروا رأسه، فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبياً". 2536 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينما رجل واقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة إذ وقع من راحلته، قال أيوب فأوقصته (أو قال: فأقعصته) وقال عمرو: فوقصته. فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين ولا تحنطوه، ولا تخمروا رأسه. (قال أيوب) فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبياً). وقال عمرو "فإن الله يبعثه يوم القيامة يلبي". 2537 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً كان واقفاً مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم. فذكر نحو ما ذكر حماد عن أيوب. 2538 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أقبل رجل حراماً مع النبي صلى الله عليه وسلم، فخر من بعيره، فوقص وقصاً، فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اغسلوه بماء وسدر، وألبسوه ثوبيه، ولا تخمروا رأسه، فإنه يأتي يوم القيامة يلبي". 2539 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أقبل رجل حرام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. بمثله. غير أنه قال "فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً". وزاد: لم يسم سعيد بن جبير حيث خر. 2540 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً أوقصته راحلته وهو محرم، فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمروا رأسه ولا وجهه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً".

2541 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرماً، فوقصته ناقته، فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه، ولا تمسوه بطيب، ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبداً". 2542 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً وقصه بعيره، وهو محرم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغسل بماء وسدر، ولا يمس طيباً، ولا يخمر رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبداً. 2543 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم، فوقع من ناقته، فأقعصته، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يغسل بماء وسدر، وأن يكفن في ثوبين، ولا يمس طيباً، خارج رأسه. "خارج رأسه ووجهه"، فإنه يبعث يوم القيامة ملبداً. 2544 - قال ابن عباس رضي الله عنهما وقصت رجلاً راحلته، وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغسلوه بماء وسدر، وأن يكشفوا وجهه -حسبته قال: ورأسه، فإنه يبعث يوم القيامة وهو يهل. 2545 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل، فوقصته ناقته، فمات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اغسلوه، ولا تقربوه طيباً، ولا تغطوا وجهه، فإنه يبعث يلبي". -[المعنى العام]- لمن مات محرماً فضل وأجر كبير، يصوره هذا الحديث وتلك القصة، رجل من الصحابة حج مع النبي صلى الله عليه وسلم، ووقف معه في عرفة، يركب ناقته كما كان الكثيرون يركبون فسقط من فوق ناقته حين نفرت به، فانكسرت رقبته، ومات وكان أول من يموت محرماً ليبين رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه ما يفعل بالمحرم إذا مات.

كان الحكم الشرعي أن يغسل كما يغسل من يموت دون إحرام، بماء وسدر، وأن يكفن في إزاره وردائه اللذين كان محرماً فيهما، وأن يظل بهيئة الإحرام، فلا يحنط ولا يمس بالطيب، ولا يغطى رأسه، فإن الله تعالى سيبعثه على الهيئة التي مات عليها، وستشهد له ثيابه أمام الخلائق بأنه مات محرماً أثناء عبادته ربه، شهادة تشريف وتكريم. -[المباحث العربية]- (خر رجل من بعيره) في الرواية الثانية "وقع من راحلته" وفي الرواية الثامنة "فوقع من ناقته" والمعنى واحد، وأن الرجل كان راكباً ناقة أو بعيراً، لم يتبين ابن عباس الذكورة أو الأنوثة، ولم يعبأ بها، لأنها لا تأثير لها في الحادثة. (فوقص) بالبناء للمجهول، وفي الرواية الثانية "فأوقصته" أو "فأقعصته" أو "فوقصته" وفي الرواية الثالثة "فوقص وقصاً" وفي الرواية السابعة "وقصه بعيره". قال الحافظ ابن حجر: المعروف عند أهل اللغة "وقصته" والذي بالهمز شاذ والوقص كسر العنق، وقال: ويحتمل أن يكون فاعل "وقصته" الوقعة أو الراحلة، بأن تكون أصابته بعد أن وقع. والأول أظهر. اهـ والأظهر عندي خلاف الأظهر عنده، ففي الرواية الخامسة "أوقصته راحلته" وفي السادسة والعاشرة "فوقصته ناقته" وفي السابعة "وقصه بعيره" وفي التاسعة "وقصت رجلاً راحلته" وكلها تصرح بفاعل الوقص وأنه الناقة، فإن كان الكسر حصل بسبب الوقوع فعلاً فإسناد الوقص إلى الراحلة مجاز في هذه النصوص. وأما معنى "فأقعصته" أي قتلته في الحال، ومنه قعاص الغنم، وهو موتها بداء يأخذها، تموت فجأة، وفي رواية للبخاري "فأقصعته" بتقديم الصاد على العين أي هشمته يقال: أقصع القملة إذا هشمها. (اغسلوه بماء وسدر) السدر: شجر النبق، وأوراقه تقوم مقام الصابون برائحة طيبة، ويوضع في ماء الغسل. (وكفنوه في ثوبيه) وكذا في الرواية الخامسة والسادسة، وفي الرواية الثالثة "وألبسوه ثوبيه" وأما في الرواية الثانية "وكفنوه في ثوبين" وفي الثامنة "وأن يكفن في ثوبين" بدون إضافة، وفي ذلك بحث فقهي يأتي. (ولا تخمروا رأسه) أي لا تغطوا رأسه بالخمار، وفي الرواية الخامسة "ولا تخمروا رأسه ولا وجهه" وفي ملحق الرواية الثامنة "خارج رأسه ووجهه" وفي الرواية التاسعة "وأن يكشفوا وجهه ورأسه" وفي الرواية العاشرة "ولا تغطوا وجهه" وسيأتي الكلام على كشف الوجه في فقه الحديث.

(فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبياً) أي على الحالة التي مات عليها، وفي ملحق الرواية الثانية، وفي الرواية الثالثة، والعاشرة "يبعث يلبي" وفي التاسعة "يبعث يوم القيامة وهو يهل" لكن في الرواية السادسة والسابعة والثامنة "ملبداً" بالدال بدل الياء، والتلبيد: جمع الشعر بصمغ أو غيره ليخف شعثه، وكانت عاداتهم في الإحرام أن يفعلوا ذلك، قاله الحافظ ابن حجر، وقال: ليس قوله "ملبداً" فاسد المعنى، بل توجيهه ظاهر، وأنكر القاضي عياض هذه الرواية وقال ليس للتلبيد معنى. (بينا رجل واقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ وقع) في رواية البخاري "بينما رجل واقف" وهي "بين" الظرفية، أطلقت بعدها الألف، أو زيدت عليها "ما" والعامل فيها معنى المفاجأة، والتقدير: فاجأ الوقوع رجلاً وقت وقوفه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ: واستدل بلفظ "واقف" على إطلاق لفظ الواقف على الراكب. (فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم) يحتمل أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يره عند سقوطه فأخبر به، إذ لا يشترط في المعية القرب، فكل أهل الموقف حينئذ كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ويحتمل أنه رآه يقع، وذكر له أنه وقص ومات. (ولا تحنطوه) الحناط بكسر الحاء، والحنوط بفتحها: كل ما يخلط من الطيب لأكفان الموتى وأجسامهم خاصة من مسك وذريرة وصندل وعنبر وكافور وغير ذلك. وفي الرواية السادسة "ولا تمسوه بطيب" بضم التاء وكسر الميم وضم السين المشددة من أمس وفي الرواية السابعة والثامنة "ولا يمس طيباً" بضم الياء وفتح الميم، وفي الرواية العاشرة "ولا تقربوه طيباً" بضم التاء وفتح القاف وكسر الراء المشددة. (أقبل رجل حراماً) قال النووي: هكذا هو في معظم النسخ، وفي بعضها "حرام" [كما في روايتنا الرابعة] وهذا هو الوجه، وللأول وجه، وهو أن يكون حالاً، وقد جاءت الحال من النكرة على قلة. (فوقص وقصاً) أي فكسر عنقه كسراً شديداً. (خارج رأسه) من الكفن. -[فقه الحديث]- في أحكام هذا الحديث خلاف بين الفقهاء. قال النووي: في هذه الروايات دلالة بينة لمذهب الشافعي وأحمد وإسحق وموافقيهم في أن المحرم إذا مات لا يجوز أن يلبس المخيط، ولا تخمر رأسه، ولا يمس طيباً وقال مالك والأوزاعي وأبو حنيفة وغيرهم: يفعل به ما يفعل بالحي وهذا الحديث راد عليهم. اهـ أما وجهة نظر كل من الفريقين فيقول المالكية ومن معهم: إن الإحرام ينقطع بالموت،

فيصنع بالميت ما يصنع بالحي، قال ابن دقيق العيد الشافعي: وهو مقتضى القياس لكن الحديث بعد أن ثبت يقدم على القياس، ويرد بعض المالكية على الحديث: بأنه واقعة حال، يتطرق الاحتمال إلى منطوقها. ويقول بعض الحنفية: إن الحديث ليس عاماً بلفظه، لأنه في شخص معين وليس عاماً بمعناه، لأنه لم يقل: يبعث ملبياً لأنه محرم، فلا يتعدى حكمه إلى غيره إلا بدليل منفصل، ويقول بعض هذا الفريق عن الحديث بأنه مخصوص بذلك الرجل، لأن إخباره صلى الله عليه وسلم بأنه يبعث ملبياً شهادة بأن حجه قد قبل، وذلك غير محقق لغيره. ويرد ابن دقيق العيد على هذا: بأن هذه الصفة إنما ثبتت لأجل الإحرام فتعم كل محرم، وأما القبول وعدمه فأمر مغيب، وأيده ابن المنير، فقال: قال صلى الله عليه وسلم في الشهداء "زملوهم بدمائهم" مع قوله: "والله أعلم بمن يكلم في سبيله" فعمم الحكم في الظاهر بناء على ظاهر السبب، فينبغي أن يعمم الحكم في كل محرم، وبين المجاهد والمحرم جامع، لأن كلاً منهما في سبيل الله. ويتعلل بعض المالكية بقوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [النجم: 39]. وبقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث" وليس هذا منها، فينبغي أن ينقطع عمله بالموت. وأجيب: بأن تكفينه في ثوبي إحرامه وتبقيته على هيئة إحرامه من عمل الحي بعده، كغسله والصلاة عليه، فلا معنى لما ذكروه. وأورد بعضهم: أنه لو كان إحرامه باقياً لوجب أن يكمل به المناسك [بأن يحمل ويطاف به ويسعى به إلخ] ولا قائل به، وأجيب: بأن ذلك ورد على خلاف الأصل، فيقتصر به على مورد النص، ولا سيما وقد وضح أن الحكمة في ذلك استبقاء شعار الإحرام كاستبقاء دم الشهيد. -[ويؤخذ من الحديث بعد ما تقدم: ]- 1 - جواز الكفن في ثوبين، وأما الثلاثة أثواب الواردة في حديث عائشة فهي للاستحباب، وهو قول الجمهور، وأما الواحد الساتر لجميع البدن فلا بد منه بالاتفاق. 2 - استدل بقوله في الرواية الثانية والثامنة "ثوبين" على استبدال ثياب المحرم، وليس بشيء، فإن الرواية الأولى والثالثة والخامسة والسادسة لفظها "في ثوبيه" أي إزاره وردائه. 3 - استدل بقوله "بماء وسدر" على استحباب السدر في غسل الميت، وأن المحرم في ذلك كغيره، قال النووي: وهذا مذهبنا، ومنعه مالك وأبو حنيفة وآخرون. 4 - وأن التكفين في الثياب الملبوسة جائز، قال النووي: وهو مجمع عليه. 5 - وأن الكفن مقدم على الدين وغيره، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل: هل عليه دين مستغرق أم لا؟ . 6 - وأن التكفين واجب، وهو إجماع في حق المسلم، وكذلك غسله والصلاة عليه ودفنه. 7 - استدل بالنهي عن تخمير الوجه الوارد في روايتنا الخامسة وملحق الثامنة والتاسعة

والعاشرة على كشف وجه المحرم مع رأسه، لأللوالشافعية والمالكية والحنفية على خلافه، لأن المالكية والحنفية لا يقولون بكشف الرأس كما سبق والشافعية الذين يقولون بكشف رأس المحرم لا يقولون بحرمة تغطية وجهه ويتأول هذه الروايات بأن النهي فيها عن تغطية الوجه ليس لكونه وجهاً، وإنما هو صيانة للرأس، لأنهم لو غطوا وجهه لم يؤمن أن يغطوا رأسه. قال النووي: وفيه نظر. 8 - واستدل به على استحباب الحنوط للميت غير المحرم، لأنه نهي عن الحنوط للمحرم، ثم علل ذلك بأنه يبعث ملبياً، فدل على أن سبب النهي أنه كان محرماً، فإذا انتفت العلة انتفى النهي. قال البيهقي: فيه دليل على أن غير المحرم يحنط كما يخمر رأسه. 9 - قال ابن المنذر: وفيه إباحة أن يغتسل المحرم الحي بالسدر، خلافاً لمن كرهه له. 10 - استدل به على ترك النيابة في الحج، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحداً أن يكمل عن هذا المحرم أفعال الحج. قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر لا يخفى. اهـ 11 - قال ابن بطال: فيه أن من شرع في عمل طاعة، ثم حال بينه وبين إتمامه الموت رجى له أن يكتبه الله له في الآخرة من أهل ذلك العمل. 12 - قال النووي: وفيه دليل على استحباب دوام التلبية في الإحرام. 13 - وعلى استحباب التلبيد فيه. والله أعلم

(327) باب جواز اشتراط المحرم التحلل بعذر

(327) باب جواز اشتراط المحرم التحلل بعذر 2546 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير، فقال لها: أردت الحج؟ قالت: والله ما أجدني إلا وجعة. فقال لها: "حجي واشترطي، وقولي اللهم محلي حيث حبستني" وكانت تحت المقداد. 2547 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل النبي صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، فقالت: يا رسول الله، إني أريد الحج، وأنا شاكية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني". 2548 - عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب. رضي الله عنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني امرأة ثقيلة، وإني أريد الحج، فما تأمرني؟ قال: "أهلي بالحج، واشترطي أن محلي حيث تحبسني". قال: فأدركت. 2549 - عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن ضباعة أرادت الحج، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تشترط. ففعلت ذلك عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2550 - عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لضباعة رضي الله عنها "حجي واشترطي أن محلي حيث تحبسني". وفي رواية إسحاق: "أمر ضباعة". -[المعنى العام]- جعل الله على الناس إتمام الحج والعمرة، فقال: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة: 196]. وبين

ما يفعل الحاج إذا منع رغماً عنه عن الوصول إلى البيت الحرام، فقال: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} وقد أحصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الحديبية، ومنعوا من الوصول إلى البيت في عامهم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بأن يذبحوا الهدي ويحلقوا ويحلوا ليرجعوا إلى المدينة. أما المريض الذي يخشى على نفسه أن يحبسه المرض في الطريق عن إتمام حجه فهذا الحديث يرشده إلى أن ينوي عند إحرامه أن يتحلل في المكان والزمان الذي يحبس فيه، بأن يقول في نفسه، وإن شاء بلسانه: اللهم محلي حيث حبسني مرضي. وهذه النية -وتسمى اشتراطاً- مشروعة، سواء قيل بوجوبها أو باستحبابها، أو بجوازها، بل هي لا تضر عند من ينكرها حتى وإن أنكر أثرها وتأثيرها، والذي أميل إليه: أنها مستحبة للمريض الذي يخشى أن يحبسه المرض. والله أعلم. -[المباحث العربية]- (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير) "ضباعة" بضم الضاد بنت الزبير بن عبد المطلب، كما جاء في الرواية الثانية وهي بنت عم النبي صلى الله عليه وسلم وفي الرواية الثالثة "أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم" فيحتمل أنها أتته تسأله، فنزلت على عائشة فأخبرتها بمسألتها فأخبرت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عليها، فسألها فعرضت أمرها. (ما أجدني إلا وجعة) أي مريضة، وفي الرواية الثانية "وأنا شاكية" أي أشكو آلامي لنفسي ولمن حولي بالتأوه والتوجع، وأخشى أن لا أتم حجي، وفي الرواية الثالثة "إني امرأة ثقيلة" أي أثقلني المرض، وأضعف قوتي على حمل جسمي، وأضعف حركتي، وقولها "ما أجدني" أي ما أجد نفسي، واتحاد الفاعل والمفعول مع كونهما ضميرين لشيء واحد من خصائص أفعال القلوب. (حجي واشترطي) أي انوي الحج، وأحرمي به، كما جاء في الرواية الثالثة "أهلي بالحج" ومعنى "اشترطي" ضعي شرطاً في الإحرام "إن حبست عن إتمام الحج أحللت". (اللهم محلي حيث حبستني) "محلي" بفتح الميم وكسر الحاء، أي مكان إحلالي أو زمان إحلالي مكان وزمان إحصاري ومنعي واحتباسي عن تكملة حجي. (فأدركت) أي فأدركت الحج وأتمته، ولم تحبس، ولم تتحلل حتى فرغت منه. -[فقه الحديث]- يتعلق بهذا الحديث مسائل أثارها الفقهاء لاختلاف الأدلة، منها: الأولى: التفرقة بين الإحصار بالعدو، والإحصار بغير العدو: روي عن ابن عباس وابن مسعود وزيد بن ثابت، وهو قول عطاء والنخعي وسفيان الثوري وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر أن

الإحصار يكون بكل حابس سواء أكان بالعدو، أو بسلطان جائر، أو بمرض، أو كسر، أو ذهاب نفقة، أو نحو ذلك مما يمنع عن المضي للبيت، وله التحلل، بأن ينوي ذلك وينحر هديه ويقصر أو يحلق رأسه. وقال ابن عمر ومالك والشافعي: من أحصر بالعدو فإنه ينحر هديه حيث حصر ويتحلل، وينصرف ولا قضاء عليه، إلا أن تكون حجة الفريضة، أما من أحصره المرض فلا يحله إلا الطواف بالبيت، قال مالك: سواء اشترط عند إحرامه التحلل للمرض أم لم يشترط وقال الشافعي: له شرطه. وأحاديث الباب دليل الشافعي، وأن المرض لا يبيح التحلل إذا لم يشترط في حال الإحرام، إذ طلب من ضباعة أن تشترط لتتحلل، فيمنع التحلل للمرض بدون الاشتراط ويتحلل بدون هدي إذا كان قد اشترط. أما المالكية فيجيب بعضهم عن الحديث بأنها قضية عين، وأنه مخصوص بضباعة. قال النووي: وهو تأويل باطل. ويجيب بعضهم بأن معناه: محلي حيث حبسني الموت إذا أدركتني الوفاة انقطع إحرامي. وأنكره النووي، وقال: إنه ظاهر الفساد. ويجيب بعضهم بأن الشرط خاص بالتحلل من العمرة، لا من الحج. وهو ظاهر الفساد أيضاً، لأن حديث ضباعة صريح في الحج، وأشار بعضهم إلى تضعيف الحديث، وقال: لا يثبت في الاشتراط إسناد صحيح. قال النووي: والقول بتضعيف الحديث غلط فاحش جداً، لأن هذا الحديث مشهور في صحيح البخاري ومسلم وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وسائر كتب الحديث المعتمدة من طرق متعددة بأسانيد كثيرة عن جماعة من الصحابة، وفيما ذكره مسلم من تنويع طرقه أبلغ كفاية. اهـ الثانية: التفرقة في الإحصار بين الحج والعمرة، وقد روي عن مالك وبعض الظاهرية أن التحلل بالإحصار يختص بالحاج، بخلاف المعتمر، فإنه لا يتحلل بالإحصار، بل يستمر على إحرامه حتى يصل إلى البيت ويتم العمرة بالطواف والسعي لأن العمرة لا وقت لها يفوت، بل السنة كلها وقت للعمرة، والجمهور على خلافه، لقوله تعالى: {فإن أحصرتم} نزلت عام الحديبية حين كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد أحرموا بالعمرة، فتحللوا وذبحوا الهدايا، وأحاديث هذه القصة في الكتب مشهورة. الثالثة: التفرقة بين الإحصار قبل الوقوف بعرفة وبعده، ومذهب الشافعية، أن التحلل بالإحصار قبل الوقوف وبعده سواء، سواء أحصر عن الكعبة فقط أو عن عرفات فقط، أو عنهما، فيتحلل بما يتحلل به المحصر بعيداً عن الحرم. وقال أبو حنيفة: لا يتحلل بالإحصار بعد الوقوف، بل إن أحصر عن الكعبة وعرفات تحلل، وإن أحصر عن أحدهما لم يجز له التحلل، ويوضح العيني هذا المذهب فيقول: عند أبي حنيفة لا يكون محصراً من بلغ مكة، لأن المحصر عنده من منع الوصول إلى مكة، وحيل بينه وبين الطواف والسعي، فيفعل ما فعل الشارع من الإحلال من موضعه، وأما من بلغها فحكمه عنده كمن فاته الحج يحل بعمرة، وعليه الحج من قابل، ولا هدي عليه، لأن الهدي لجبر ما أدخله على نفسه، ومن حبس عن الحج لم يدخل على نفسه نقصاً. اهـ ودليل الشافعية عموم قوله تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} ولم يفرق.

الرابعة: إذا تحلل المحرم بالحج بالإحصار، فإن كان حجه فرضاً بقي كما كان قبل هذه السنة، قال النووي: وهذا مجمع عليه، وإن كان تطوعاً لم يجب قضاؤه عندنا، وبه قال مالك وأحمد وداود، وقال أبو حنيفة: يلزمه قضاء التطوع أيضاً. اهـ قال مالك: لم نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أحداً من أصحابه، ولا ممن كان معه أن يقضوا شيئاً، ولا أن يعودوا إلى شيء. وقال الشافعي: لا قضاء، لأن الله تعالى لم يذكر قضاء، والذي أعقله في أخبار أهل المغازي شبيه بما ذكرت، لأنا علمنا من متواطئ أحاديثهم أنه كان معه عام الحديبية رجال معروفون، ثم اعتمر عمرة القضية فتخلف بعضهم بالمدينة من غير ضرورة في نفس ولا مال، ولو لزمهم القضاء لأمرهم بأن لا يتخلفوا عنه وإنما سميت عمرة القضاء والقضية للمقاضاة التي وقعت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش، لا على أنهم وجب عليهم قضاء تلك العمرة. الخامسة: حكم الاشتراط في الحج والعمرة: قال الحافظ ابن حجر: والذي تحصل من الاشتراط في الحج والعمرة أقوال: أحدها مشروعيته. ثم اختلف من قال به، فقيل: واجب، لظاهر الأمر به، وهو قول الظاهرية، وقيل: مستحب وهو قول أحمد، وغلط من حكى عنه إنكاره، وقيل: جائز، وهو المشهور عند الشافعية. اهـ السادسة: استدل من زواج ضباعة بالمقداد، حيث جاء في الرواية الأولى "وكانت تحت المقداد" استدل بهذا على أن الكفاءة في الزواج لا تعتبر بالنسب، لأن ضباعة كما ذكرنا بنت عم الرسول صلى الله عليه وسلم، والمقداد، وهو ابن عمرو الكندي نسب إلى الأسود بن عبد يغوث الزهري لكونه تبناه، فكان من حلفاء قريش، وتزوج ضباعة وهي هاشمية، فلولا أن الكفاءة لا تعتبر بالنسب لما جاز له أن يتزوجها، لأنها فوقه في النسب. قال الحافظ: وللذي يعتبر الكفاءة في النسب أن يجيب بأنها رضيت هي وأولياؤها، فسقط حقهم من الكفاءة وهو جواب صحيح إن ثبت أصل اعتبار الكفاءة في النسب. اهـ ويؤخذ من قولها في الرواية الأولى "والله ما أجدني إلا وجعة" ومن إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الحلف: جواز اليمين في درج الكلام بغير قصد. واستدل به بعضهم على أن المرأة لا يجب عليها أن تستأمر زوجها في حج الفرض، ولا وجه لهذا الاستدلال، فعدم ذكرها لاستئذان زوجها لا يدل على أنها لم تستأذنه وأنه أذن لها. والله أعلم

(328) باب إحرام النفساء

(328) باب إحرام النفساء 2551 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: نفست أسماء بنت عميس بمحمد بن أبي بكر بالشجرة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر يأمرها أن تغتسل وتهل. 2552 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ في حديث أسماء بنت عميس حين نفست بذي الحليفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر رضي الله عنه فأمرها أن تغتسل وتهل. -[المعنى العام]- {الحج أشهر معلومات} [البقرة: الآية 197]. وزمن محدد، بل الوقوف بعرفة في يوم من العام محدد فكيف تحج الحائض، وربع أيام شهرها حيض؟ وكيف تحج النفساء وهي لا تستطيع أن تتفادى أيام النفاس للحج؟ أحداث كثيرة الوقوع، ولا بد لأحكامها من بيان، وقد بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أوضح بيان. إن حاضت المرأة أو نفست قبل أن تحرم: اغتسلت كما يغتسل غيرها من الطاهرين للإحرام، ثم أحرمت، وفعلت ما يفعل الحاج إلا الطواف بالبيت وركعتيه، وإن حاضت أو نفست أثناء الحج وبعد الإحرام: أكملت مناسكها غير الطواف بالبيت وما يتبعه من سعي إن لم تكن سعت. وبهذا يسر الله للمرأة حجها، فصحح وقوفها بعرفة، ذاك العمل الضيق في الوقت الضيق، ومنعها من الطواف ووقته متسع لأنه في حكم الصلاة. -[المباحث العربية]- (نفست أسماء بنت عميس بمحمد بن أبي بكر بالشجرة) "نفست" قال النووي: بكسر الفاء لا غير، وفي النون لغتان، المشهورة ضمها، والثانية فتحها، أي ولدت وسميت الولادة نفاساً لخروج النفس للحياة خارج الأم، وهو المولود والدم. قال القاضي: وتجري اللغتان في الحيض أيضاً، يقال: نفست أي حاضت بفتح النون وضمها، وأنكر جماعة الضم في الحيض. اهـ وفي رواية "أن أسماء ولدت محمد بن أبي بكر". وأسماء هذه امرأة أبي بكر وأبوها عميس بضم

العين وفتح الميم. و"بالشجرة" متعلق بنفست، وفي رواية "بذي الحليفة" وفي رواية "بالبيداء" قال النووي: هذه المواضع الثلاثة متقاربة فالشجرة بذي الحليفة، وأما البيداء فهي بطرف ذي الحليفة، قال القاضي: يحمل على أنها نزلت بطرف البيداء لتبعد عن الناس، أما النبي صلى الله عليه وسلم فنزل بذي الحليفة وهناك بات وأحرم. (فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر يأمرها) في رواية "فذكر ذلك أبو بكر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مروها" وفي رواية "مرها". (أن تغتسل وتهل) "أن تغتسل" للتنظف لإرادة النسك، و"تهل" أي تحرم وأصل الإهلال: رفع الصوت، والمحرم يرفع صوته بالتلبية، لكن المرأة لا ترفع صوتها، فالمقصود من إهلالها هنا: إحرامها. -[فقه الحديث]- قال النووي: في الحديث صحة إحرام الحائض والنفساء، واستحباب اغتسالهما للإحرام، وهو مجمع على الأمر به، لكن مذهبنا ومذهب مالك وأبي حنيفة والجمهور: أنه مستحب، وقال الحسن وأهل الظاهر: هو واجب. والحائض والنفساء يصح منهما جميع أفعال الحج إلا الطواف وركعتيه، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم لعائشة -رضي الله عنها- حين حاضت "افعلي كما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري". وتغتسل الحائض والنفساء بنية غسل الإحرام، كما ينوي غيرهما. ولما كانت أعمال الحج مشتملة على ذكر وتلبية ودعاء لم تمنع الحائض والنفساء منه، وكذا الجنب، والخلاف بين الفقهاء في منع هؤلاء من قراءة القرآن، فأجاز قراءتهم للقرآن: الطبري وابن المنذر وداود، لحديث "كان يذكر الله على كل أحيانه" لأن الذكر أعم من أن يكون بالقرآن أو بغيره، وروي هذا القول عن مالك وعن الشافعي في القديم. والجمهور على المنع لحديث "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحجبه عن القرآن شيء ليس الجنابة" رواه أصحاب السنن وصححه الترمذي وابن حبان، والحائض والنفساء حدثهما أغلظ من حدث الجنب. والله أعلم

(329) باب وجوه الإحرام وحجة النبي صلى الله عليه وسلم

(329) باب وجوه الإحرام وحجة النبي صلى الله عليه وسلم 2553 - عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعاً، قالت: فقدمت مكة وأنا حائض، لم أطف بالبيت، ولا بين الصفا والمروة، فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: انقضي رأسك، وامتشطي؛ وأهلي بالحج، ودعي العمرة. قالت: ففعلت، فلما قضينا الحج أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم، فاعتمرت، فقال: هذه مكان عمرتك، فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبالصفا والمروة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافاً آخر، بعد أن رجعوا من منى لحجهم وأما الذين كانوا جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافاً واحداً. 2554 - عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، عام حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج، حتى قدمنا مكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحرم بعمرة ولم يهد فليحلل، ومن أحرم بعمرة وأهدى فلا يحل حتى ينحر هديه، ومن أهل بحج فليتم حجه. قالت عائشة رضي الله عنها فحضت، فلم أزل حائضاً حتى كان يوم عرفة، ولم أهلل إلا بعمرة، فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنقض رأسي، وأمتشط وأهل بحج، وأترك العمرة. قالت: ففعلت ذلك، حتى إذا قضيت حجتي بعث معي رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن أبي بكر، وأمرني أن أعتمر من التنعيم، مكان عمرتي التي أدركني الحج ولم أحلل منها. 2555 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، فأهللت بعمرة، ولم أكن سقت الهدي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من كان معه هدي فليهلل بالحج مع عمرته، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعاً قالت: فحضت، فلما دخلت ليلة عرفة قلت: يا رسول الله، إني كنت أهللت بعمرة، فكيف أصنع بحجتي؟ قال: انقضي

رأسك، وامتشطي، وأمسكي عن العمرة، وأهلي بالحج. قالت: فلما قضيت حجتي؛ أمر عبد الرحمن بن أبي بكر فأردفني، فأعمرني من التنعيم، مكان عمرتي التي أمسكت عنها. 2556 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل، ومن أراد أن يهل بحج فليهل، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل. قالت عائشة رضي الله عنها: فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج، وأهل به ناس معه، وأهل ناس بالعمرة والحج، وأهل ناس بعمرة، وكنت فيمن أهل بالعمرة. 2557 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، موافين لهلال ذي الحجة، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أراد منكم أن يهل بعمرة فليهل، فلولا أني أهديت لأهللت بعمرة قالت: فكان من القوم من أهل بعمرة، ومنهم من أهل بالحج، قالت: فكنت أنا ممن أهل بعمرة، فخرجنا حتى قدمنا مكة، فأدركني يوم عرفة وأنا حائض لم أحل من عمرتي، فشكوت ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: دعي عمرتك، وانقضي رأسك، وامتشطي، وأهلي بالحج. قالت: ففعلت، فلما كانت ليلة الحصبة، وقد قضى الله حجنا أرسل معي عبد الرحمن بن أبي بكر، فأردفني، وخرج بي إلى التنعيم، فأهللت بعمرة، فقضى الله حجنا وعمرتنا، ولم يكن في ذلك هدي ولا صدقة ولا صوم. 2558 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا موافين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لهلال ذي الحجة، لا نرى إلا الحج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحب منكم أن يهل بعمرة فليهل بعمرة" وساق الحديث بمثل حديث عبدة. 2559 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، موافين لهلال ذي الحجة، منا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحجة وعمرة، ومنا من أهل بحجة، فكنت فيمن أهل بعمرة. وساق الحديث بنحو حديثهما. وقال فيه: قال عروة في ذلك: إنه قضى الله حجها وعمرتها. قال هشام: ولم يكن في ذلك هدي ولا صيام ولا صدقة. 2560 - عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام

حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بالحج، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج، فأما من أهل بعمرة فحل، وأما من أهل بحج، أو جمع الحج والعمرة فلم يحلوا حتى كان يوم النحر. 2561 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نرى إلا الحج، حتى إذا كنا بسرف، أو قريباً منها حضت، فدخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال: أنفست؟ [يعني الحيضة] قالت: قلت: نعم. قال: إن هذا شيء كتبه الله على بنات آدم، فاقضي ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي. قالت: وضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه بالبقر. 2562 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نذكر إلا الحج، حتى جئنا سرف، فطمثت، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي. فقال: ما يبكيك؟ فقلت: والله لوددت أني لم أكن خرجت العام. قال: ما لك؟ لعلك نفست؟ قلت: نعم. قال: هذا شيء كتبه الله على بنات آدم. افعلي ما يفعل الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري، قالت: فلما قدمت مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: اجعلوها عمرة. فأحل الناس إلا من كان معه الهدي، قالت: فكان الهدي مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وذوي اليسارة، ثم أهلوا حين راحوا، قالت: فلما كان يوم النحر طهرت، فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأفضت، قالت: فأتينا بلحم بقر، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه البقر، فلما كانت ليلة الحصبة قلت: يا رسول الله. يرجع الناس بحجة وعمرة وأرجع بحجة؟ قالت: فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر، فأردفني على جمله، قالت: فإني لأذكر وأنا جارية، حديثة السن، أنعس، فيصيب وجهي مؤخرة الرحل، حتى جئنا إلى التنعيم، فأهللت منها بعمرة، جزاء بعمرة الناس التي اعتمروا. 2563 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: لبينا بالحج، حتى إذا كنا بسرف حضت فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي. وساق الحديث بنحو

حديث الماجشون غير أن حماداً ليس في حديثه: فكان الهدي مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وذوي اليسارة، ثم أهلوا حين راحوا. ولا قولها: وأنا جارية حديثة السن أنعس فيصيب [فتصيب] وجهي مؤخرة الرحل. 2564 - عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج. 2565 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، مهلين بالحج في أشهر الحج، وفي حرم الحج، وليالي الحج حتى نزلنا بسرف، فخرج إلى أصحابه، فقال: من لم يكن معه منكم هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل، ومن كان معه هدي فلا، فمنهم الآخذ بها والتارك لها ممن لم يكن معه هدي، فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان معه الهدي، ومع رجال من أصحابه لهم قوة، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أبكي. فقال: ما يبكيك؟ قلت: سمعت كلامك مع أصحابك، فسمعت بالعمرة؟ قال: وما لك؟ قلت: لا أصلي. قال: فلا يضرك، فكوني في حجك، فعسى الله أن يرزقكيها، وإنما أنت من بنات آدم، كتب الله عليك ما كتب عليهن. قالت: فخرجت في حجتي حتى نزلنا منى، فتطهرت، ثم طفنا بالبيت، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم المحصب، فدعا عبد الرحمن بن أبي بكر، فقال: اخرج بأختك من الحرم، فلتهل بعمرة، ثم لتطف بالبيت، فإني أنتظركما ها هنا. قالت: فخرجنا، فأهللت، ثم طفت بالبيت، وبالصفا والمروة، فجئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في منزله من جوف الليل، فقال: هل فرغت؟ قلت: نعم. فآذن في أصحابه بالرحيل، فخرج فمر بالبيت، فطاف به قبل صلاة الصبح، ثم خرج إلى المدينة. 2566 - عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: منا من أهل بالحج مفرداً، ومنا من قرن، ومنا من تمتع. 2567 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم

لخمس بقين من ذي القعدة، ولا نرى إلا أنه الحج، حتى إذا دنونا من مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحل. قالت عائشة رضي الله عنها: فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر، فقلت: ما هذا؟ فقيل: ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه. 2568 - عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، يصدر الناس بنسكين وأصدر بنسك واحد؟ قال: "انتظري، فإذا طهرت فاخرجي إلى التنعيم، فأهلي منه، ثم القينا عند كذا وكذا". قال: أظنه قال "غداً" "ولكنها على قدر نصبك" أو قال "نفقتك". 2569 - عن أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: يا رسول الله يصدر الناس بنسكين. فذكر الحديث. 2570 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نرى إلا أنه الحج، فلما قدمنا مكة تطوفنا بالبيت، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن ساق الهدي أن يحل، قالت: فحل من لم يكن ساق الهدي، ونساؤه لم يسقن الهدي، فأحللن. قالت عائشة: فحضت، فلم أطف بالبيت، فلما كانت ليلة الحصبة قالت: قلت: يا رسول الله، يرجع الناس بعمرة وحجة وأرجع أنا بحجة؟ قال: أو ما كنت طفت ليالي قدمنا مكة؟ قالت: قلت: لا. قال: فاذهبي مع أخيك إلى التنعيم، فأهلي بعمرة، ثم موعدك مكان كذا وكذا. قالت صفية: ما أراني إلا حابستكم؟ قال: عقري حلقي. أو ما كنت طفت يوم النحر؟ قالت: بلى. قال لا بأس. انفري. قالت عائشة: فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مصعد من مكة، وأنا منهبطة عليها، أو أنا مصعدة وهو منهبط منها. وقال إسحق "متهبطة ومتهبط". 2571 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نلبي، لا نذكر حجاً ولا عمرة.

2572 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربع مضين من ذي الحجة، أو خمس، فدخل علي، وهو غضبان. فقلت: من أغضبك يا رسول الله؟ أدخله الله النار. قال: أوما شعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون -قال الحكم "كأنهم يترددون أحسب" ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي معي حتى أشتريه، ثم أحل كما حلوا. 2573 - وفي رواية عن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم النبي صلى الله عليه وسلم لأربع أو خمس مضين من ذي الحجة. بمثل حديث غندر. ولم يذكر الشك من الحكم في قوله: يترددون. 2574 - عن عائشة رضي الله عنها: أنها أهلت بعمرة، فقدمت، ولم تطف بالبيت، حتى حاضت، فنسكت المناسك كلها وقد أهلت بالحج. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم يوم النفر: يسعك طوافك لحجك وعمرتك. فأبت. فبعث بها مع عبد الرحمن إلى التنعيم فاعتمرت بعد الحج. 2575 - عن عائشة رضي الله عنها أنها حاضت بسرف، فتطهرت بعرفة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك. 2576 - حدثتنا عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، أيرجع الناس بأجرين، وأرجع بأجر؟ فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن ينطلق بها إلى التنعيم. قالت: فأردفني خلفه على جمل له، قالت: فجعلت أرفع خماري، أحسره عن عنقي، فيضرب رجلي بعلة الراحلة. قلت له: وهل ترى من أحد؟ قالت: فأهللت بعمرة، ثم أقبلنا، حتى انتهينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالحصبة.

2577 - أخبرني عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يردف عائشة، فيعمرها من التنعيم. 2578 - عن جابر رضي الله عنه أنه قال: أقبلنا مهلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج مفرد، وأقبلت عائشة رضي الله عنها بعمرة، حتى إذا كنا بسرف عركت، حتى إذا قدمنا طفنا بالكعبة والصفا والمروة، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحل منا من لم يكن معه هدي. قال: فقلنا: حل ماذا؟ قال: الحل كله، فواقعنا النساء، وتطيبنا بالطيب، ولبسنا ثيابنا، وليس بيننا وبين عرفة إلا أربع ليال، ثم أهللنا يوم التروية، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله عنها فوجدها تبكي، فقال: ما شأنك؟ قالت: شأني أني قد حضت وقد حل الناس ولم أحلل، ولم أطف بالبيت، والناس يذهبون إلى الحج الآن، فقال: إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فاغتسلي، ثم أهلي بالحج، ففعلت، ووقفت المواقف، حتى إذا طهرت طافت بالكعبة والصفا والمروة، ثم قال: قد حللت من حجك وعمرتك جميعاً، فقالت: يا رسول الله، إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت؟ قال: فاذهب بها يا عبد الرحمن، فأعمرها من التنعيم، وذلك ليلة الحصبة. 2579 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله عنها. وهي تبكي. فذكر بمثل حديث الليث إلى آخره ولم يذكر ما قبل هذا من حديث الليث. 2580 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن عائشة رضي الله عنها في حجة النبي صلى الله عليه وسلم أهلت بعمرة، وساق الحديث بمعنى حديث الليث. وزاد فيه قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً سهلاً، إذا هويت الشيء تابعها عليه، فأرسلها مع عبد الرحمن بن أبي بكر، فأهلت بعمرة من التنعيم. قال مطر: قال أبو الزبير: فكانت عائشة رضي الله عنها إذا حجت صنعت كما صنعت مع نبي الله صلى الله عليه وسلم.

2581 - عن جابر رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج معنا النساء والولدان. فلما قدمنا مكة طفنا بالبيت وبالصفا والمروة. فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن معه هدي فليحلل. قال: قلنا أي الحل؟ قال: الحل كله. قال: فأتينا النساء ولبسنا الثياب ومسسنا الطيب. فلما كان يوم التروية أهللنا بالحج وكفانا الطواف الأول بين الصفا والمروة فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة. 2582 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم لما أحللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى. قال فأهللنا من الأبطح. 2583 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً. زاد في حديث محمد بن بكر: طوافه الأول. 2584 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أهللنا، أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، بالحج خالصاً وحده. قال عطاء: قال جابر: فقدم النبي صلى الله عليه وسلم صبح رابعة مضت من ذي الحجة. فأمرنا أن نحل. قال عطاء: قال "حلوا وأصيبوا النساء". قال عطاء: ولم يعزم عليهم. ولكن أحلهن لهم. فقلنا: لما لم يكن بيننا وبين عرفة إلا خمس، أمرنا أن نفضي إلى نسائنا. فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المني. قال: يقول جابر بيده (كأني أنظر إلى قوله بيده يحركها) قال فقام النبي صلى الله عليه وسلم فينا. فقال "قد علمتم أني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم. ولولا هديي لحللت كما تحلون. ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي. فحلوا" فحللنا وسمعنا وأطعنا. قال عطاء: قال جابر: فقدم علي من سعايته. فقال "بم أهللت؟ " قال: بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "فأهد وامكث حراماً" قال: وأهدى له علي هدياً. فقال سراقة بن مالك بن جعشم: يا رسول الله، ألعامنا هذا أم لأبد؟ فقال "لأبد".

2585 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. قال: أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج. فلما قدمنا مكة أمرنا أن نحل ونجعلها عمرة. فكبر ذلك علينا. وضاقت به صدورنا. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم. فما ندري أشيء بلغه من السماء، أم شيء من قبل الناس! فقال "أيها الناس! أحلوا. فلولا الهدي الذي معي، فعلت كما فعلتم" قال: فأحللنا حتى وطئنا النساء. وفعلنا ما يفعل الحلال. حتى إذا كان يوم التروية، وجعلنا مكة بظهر، أهللنا بالحج. 2586 - عن موسى بن نافع. قال: قدمت مكة متمتعاً بعمرة. قبل التروية بأربعة أيام. فقال الناس: تصير حجتك الآن مكية. فدخلت على عطاء بن أبي رباح فاستفتيته. فقال عطاء: حدثني جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما أنه حج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام ساق الهدي معه. وقد أهلوا بالحج مفرداً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أحلوا من إحرامكم. فطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة وقصروا. وأقيموا حلالاً حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج. واجعلوا التي قدمتم بها متعة". قالوا: كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج؟ قال "افعلوا ما آمركم به. فإني لولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم به. ولكن لا يحل مني حرام. حتى يبلغ الهدي محله" ففعلوا. 2587 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج. فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعلها عمرة. ونحل. قال: وكان معه الهدي فلم يستطع أن يجعلها عمرة. 2588 - عن أبي نضرة قال: كان ابن عباس يأمر بالمتعة. وكان ابن الزبير ينهى عنها. قال: فذكرت ذلك لجابر بن عبد الله. فقال: على يدي دار الحديث. تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما قام عمر قال: إن الله كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء. وإن القرآن قد نزل منازله. فأتموا الحج والعمرة لله. كما أمركم الله. وأبتوا نكاح هذه النساء. فلن أوتى برجل نكح امرأة إلى أجل، إلا رجمته بالحجارة.

2589 - حدثنا قتادة بهذا الإسناد وقال في الحديث: فافصلوا حجكم من عمرتكم فإنه أتم لحجكم وأتم لعمرتكم. 2590 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقول: لبيك! بالحج. فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعلها عمرة. 2591 - عن جعفر بن محمد عن أبيه. قال: دخلنا على جابر بن عبد الله. فسأل عن القوم حتى انتهى إلي. فقلت: أنا محمد بن علي بن حسين. فأهوى بيده إلى رأسي فنزع زري الأعلى. ثم نزع زري الأسفل. ثم وضع كفه بين ثديي وأنا يومئذ غلام شاب. فقال: مرحباً بك. يا ابن أخي، سل عما شئت. فسألته. وهو أعمى. وحضر وقت الصلاة. فقام في نساجة ملتحفاً بها. كلما وضعها على منكبه رجع طرفاها إليه من صغرها. ورداؤه إلى جنبه، على المشجب. فصلى بنا. فقلت: أخبرني عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال بيده. فعقد تسعاً. فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج. ثم أذن في الناس في العاشرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج. فقدم المدينة بشر كثير. كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل مثل عمله فخرجنا معه. حتى أتينا ذا الحليفة. فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر. فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أصنع؟ قال "اغتسلي. واستثفري بثوب وأحرمي" فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد. ثم ركب القصواء. حتى إذا استوت به ناقته على البيداء. نظرت إلى مد بصري بين يديه. من راكب وماش. وعن يمينه مثل ذلك. وعن يساره مثل ذلك. ومن خلفه مثل ذلك. ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا. وعليه ينزل القرآن. وهو يعرف تأويله. وما عمل به من شيء عملنا به. فأهل بالتوحيد "لبيك اللهم! لبيك. لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد والنعمة لك. والملك لا شريك لك". وأهل الناس بهذا الذي يهلون به. فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئاً منه. ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته. قال جابر رضي الله عنه: لسنا ننوي إلا الحج. لسنا نعرف العمرة. حتى إذا أتينا البيت معه، استلم الركن فرمل ثلاثاً ومشي أربعاً. ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام. فقرأ: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى فجعل

المقام بينه وبين البيت. فكان أبي يقول (ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم): كان يقرأ في الركعتين قل هو الله أحد، وقل يا أيها الكافرون. ثم رجع إلى الركن فاستلمه. ثم خرج من الباب إلى الصفا. فلما دنا من الصفا قرأ: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} "أبدأ بما بدأ الله به" فبدأ بالصفا. فرقي عليه. حتى رأي البيت فاستقبل القبلة. فوحد الله، وكبره. وقال "لا إله إلا الله وحده لا شريك له. له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. لا إله إلا الله وحده. أنجز وعده. ونصر عبده. وهزم الأحزاب وحده" ثم دعا بين ذلك. قال مثل هذا ثلاث مرات. ثم نزل إلى المروة. حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعي. حتى إذا صعدتا مشي. حتى أتى المروة. ففعل على المروة كما فعل على الصفا. حتى إذا كان آخر طوافه على المروة فقال "لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي. وجعلتها عمرة. فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل. وليجعلها عمرة". فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله! ألعامنا هذا أم لأبد؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى. وقال "دخلت العمرة في الحج" مرتين "لا بل لأبد أبد" وقدم علي من اليمن ببدن النبي صلى الله عليه وسلم. فوجد فاطمة رضي الله عنها ممن حل. ولبست ثياباً صبيغاً. واكتحلت. فأنكر ذلك عليها. فقالت: إن أبي أمرني بهذا. قال: فكان علي يقول، بالعراق: فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محرشاً على فاطمة. للذي صنعت. مستفتياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكرت عنه. فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها. فقال "صدقت. صدقت. ماذا قلت حين فرضت الحج؟ " قال: قلت: اللهم! إني أهل بما أهل به رسولك. قال "فإن معي الهدي فلا تحل" قال: فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم مائة. قال: فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي. فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى. فأهلوا بالحج. وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر. ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة. فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام. كما كانت قريش تصنع في الجاهلية. فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة. فوجد القبة قد ضربت له بنمرة. فنزل بها. حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء. فرحلت له. فأتى بطن الوادي. فخطب الناس وقال "إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم. كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا. في بلدكم هذا. ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع. ودماء الجاهلية موضوعة. وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث. كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل.

وربا الجاهلية موضوع. وأول رباً أضع ربانا. ربا عباس بن عبد المطلب. فإنه موضوع كله. فاتقوا الله في النساء. فإنكم أخذتموهن بأمان الله. واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه. فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح. ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به. كتاب الله. وأنتم تسألون عني. فما أنتم قائلون؟ " قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بإصبعه السبابة، يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس "اللهم اشهد، اللهم! اشهد" ثلاث مرات. ثم أذن. ثم أقام فصلى الظهر. ثم أقام فصلى العصر. ولم يصل بينهما شيئاً. ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم. حتى أتى الموقف. فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه. واستقبل القبلة. فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس. وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص. وأردف أسامة خلفه. ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق للقصواء الزمام. حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله. ويقول بيده اليمنى "أيها الناس! السكينة السكينة" كلما أتى حبلاً من الحبال أرخى لها قليلاً. حتى تصعد. حتى أتى المزدلفة. فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين. ولم يسبح بينهما شيئاً. ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر. وصلى الفجر، حين تبين له الصبح، بأذان وإقامة. ثم ركب القصواء. حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة. فدعاه وكبره وهلله ووحده. فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً. فدفع قبل أن تطلع الشمس. وأردف الفضل بن عباس. وكان رجلاً حسن الشعر أبيض وسيماً. فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت به ظعن يجرين. فطفق الفضل ينظر إليهن. فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل. فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر. فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الشق الآخر على وجه الفضل. يصرف وجهه من الشق الآخر ينظر. حتى أتى بطن محسر. فحرك قليلاً. ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى. حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة. فرماها بسبع حصيات. يكبر مع كل حصاة منها. حصى الخذف. رمى من بطن الوادي. ثم انصرف إلى المنحر. فنحر ثلاثاً وستين بيده. ثم أعطى علياً، فنحر ما غبر. وأشركه في هديه. ثم أمر من كل بدنة ببضعة. فجعلت في قدر. فطبخت. فأكلا من لحمها وشربا من مرقها. ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت. فصلى بمكة الظهر. فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم. فقال "انزعوا. بني عبد المطلب! فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم" فناولوه دلواً فشرب منه.

2592 - عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: أتيت جابر بن عبد الله فسألته عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وساق الحديث بنحو حديث حاتم بن إسمعيل وزاد في الحديث: وكانت العرب يدفع بهم أبو سيارة على حمار عري. فلما أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم من المزدلفة بالمشعر الحرام، لم تشك قريش أنه سيقتصر عليه. ويكون منزله ثم. فأجاز ولم يعرض له. حتى أتى عرفات فنزل. 2593 - عن جابر رضي الله عنه في حديثه ذلك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "نحرت ها هنا. ومنى كلها منحر. فانحروا في رحالكم ووقفت ها هنا. وعرفة كلها موقف. ووقفت ها هنا. وجمع كلها موقف". 2594 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أتى الحجر فاستلمه. ثم مشي على يمينه. فرمل ثلاثاً ومشي أربعاً. 2595 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة. وكانوا يسمون الحمس وكان سائر العرب يقفون بعرفة. فلما جاء الإسلام أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات فيقف بها. ثم يفيض منها. فذلك قوله عز وجل: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} 2596 - عن هشام عن أبيه قال: كانت العرب تطوف بالبيت عراة. إلا الحمس. والحمس قريش وما ولدت. كانوا يطوفون عراة. إلا أن تعطيهم الحمس ثياباً. فيعطي الرجال الرجال والنساء النساء. وكانت الحمس لا يخرجون من المزدلفة. وكان الناس كلهم يبلغون عرفات. قال هشام: فحدثني أبي عن عائشة رضي الله عنها قالت: الحمس هم الذين أنزل الله عز وجل فيهم: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} قالت: كان الناس يفيضون من عرفات. وكان الحمس يفيضون من المزدلفة. يقولون: لا نفيض إلا من الحرم. فلما نزلت: {أفيضوا من حيث أفاض الناس} رجعوا إلى عرفات.

2597 - عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: أضللت بعيراً لي. فذهبت أطلبه يوم عرفة. فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً مع الناس بعرفة. فقلت: والله! إن هذا لمن الحمس. فما شأنه ها هنا؟ وكانت قريش تعد من الحمس. 2598 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منيخ بالبطحاء. فقال لي "أحججت؟ " فقلت: نعم. فقال "بم أهللت؟ " قال: قلت: لبيك! بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم. قال: "فقد أحسنت. طف بالبيت وبالصفا والمروة. وأحل" قال: فطفت بالبيت وبالصفا والمروة. ثم أتيت امرأة من بني قيس. ففلت رأسي. ثم أهللت بالحج. قال: فكنت أفتي به الناس. حتى كان في خلافة عمر رضي الله عنه. فقال له رجل: يا أبا موسى! أو: يا عبد الله بن قيس! رويدك بعض فتياك. فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعدك. فقال: يا أيها الناس! من كنا أفتيناه فتيا فليتئد. فإن أمير المؤمنين قادم عليكم. فبه فأتموا. قال: فقدم عمر رضي الله عنه. فذكرت ذلك له. فقال: إن نأخذ بكتاب الله فإن كتاب الله يأمر بالتمام. وإن نأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل حتى بلغ الهدي محله. 2599 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منيخ بالبطحاء. فقال "بم أهللت؟ " قال قلت: أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم. قال "هل سقت من هدي؟ " قلت: لا. قال "فطف بالبيت وبالصفا والمروة. ثم حل" فطفت بالبيت وبالصفا والمروة. ثم أتيت امرأة من قومي فمشطتني وغسلت رأسي. فكنت أفتي الناس بذلك في إمارة أبي بكر وإمارة عمر. فإني لقائم بالموسم إذ جاءني رجل، فقال: إنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في شأن النسك. فقلت: أيها الناس! من كنا أفتيناه بشيء فليتئد. فهذا أمير المؤمنين قادم عليكم. فبه فأتموا. فلما قدم قلت: يا أمير المؤمنين، ما هذا الذي أحدثت في شأن النسك؟ قال: إن نأخذ بكتاب الله فإن الله عز وجل قال: {وأتموا الحج والعمرة لله} وإن نأخذ بسنة نبينا عليه الصلاة والسلام. فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحل حتى نحر الهدي.

2600 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني إلى اليمن. قال: فوافقته في العام الذي حج فيه. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا أبا موسى، كيف قلت حين أحرمت؟ " قال قلت: لبيك إهلالاً كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم. فقال "هل سقت هدياً؟ " فقلت: لا. قال "فانطلق فطف بالبيت وبين الصفا والمروة ثم أحل" ثم ساق الحديث بمثل حديث شعبة وسفيان. 2601 - عن أبي موسى رضي الله عنه أنه كان يفتي بالمتعة. فقال له رجل: رويدك ببعض فتياك. فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعد. حتى لقيه بعد. فسأله. فقال عمر: قد علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعله، وأصحابه. ولكن كرهت أن يظلوا معرسين بهن في الأراك. ثم يروحون في الحج تقطر رءوسهم. 2602 - عن عبد الله بن شقيق قال: كان عثمان ينهى عن المتعة. وكان علي يأمر بها. فقال عثمان لعلي كلمة. ثم قال علي: لقد علمت أنا قد تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: أجل. ولكنا كنا خائفين. 2603 - عن سعيد بن المسيب قال: اجتمع علي وعثمان رضي الله عنهما بعسفان. فكان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة. فقال علي: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، تنهى عنه؟ فقال عثمان: دعنا منك. فقال: إني لا أستطيع أن أدعك. فلما أن رأى علي ذلك، أهل بهما جميعاً. 2604 - عن أبي ذر رضي الله عنه قال: كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة.

2605 - عن أبي ذر رضي الله عنه قال: كانت لنا رخصة. يعني المتعة في الحج. 2606 - عن أبي ذر رضي الله عنه قال: لا تصلح المتعتان إلا لنا خاصة. يعني متعة النساء ومتعة الحج. 2607 - عن عبد الرحمن بن أبي الشعثاء قال: أتيت إبراهيم النخعي وإبراهيم التيمي. فقلت: إني أهم أن أجمع العمرة والحج، العام. فقال إبراهيم النخعي: لكن أبوك لم يكن ليهم بذلك. قال قتيبة: حدثنا جرير عن بيان، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه؛ أنه مر بأبي ذر رضي الله عنه بالربذة. فذكر له ذلك. فقال: إنما كانت لنا خاصة دونكم. 2608 - عن غنيم بن قيس. قال: سألت سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن المتعة؟ فقال: فعلناها. وهذا يومئذ كافر بالعرش. يعني بيوت مكة. 2609 - عن سليمان التيمي بهذا الإسناد مثل حديثهما وفي حديث سفيان: المتعة في الحج. 2610 - عن مطرف قال: قال لي عمران بن حصين: إني لأحدثك بالحديث، اليوم، ينفعك الله به بعد اليوم. واعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعمر طائفة من أهله في العشر. فلم تنزل آية تنسخ ذلك. ولم ينه عنه حتى مضى لوجهه. ارتأى كل امرئ، بعد، ما شاء أن يرتئي. 2611 - عن الجريري في هذا الإسناد وقال ابن حاتم في روايته: ارتأى رجل برأيه ما شاء. يعني عمر.

2612 - عن مطرف قال: قال لي عمران بن حصين: أحدثك حديثاً عسى الله أن ينفعك به: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين حجة وعمرة. ثم لم ينه عنه حتى مات. ولم ينزل فيه قرآن يحرمه. وقد كان يسلم علي حتى اكتويت. فتركت. ثم تركت الكي فعاد. 2613 - عن مطرف قال: بعث إلي عمران بن حصين في مرضه الذي توفي فيه. فقال: إني كنت محدثك بأحاديث. لعل الله أن ينفعك بها بعدي. فإن عشت فاكتم عني. وإن مت فحدث بها إن شئت: إنه قد سلم علي. واعلم أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قد جمع بين حج وعمرة. ثم لم ينزل فيها كتاب الله، ولم ينه عنها نبي الله صلى الله عليه وسلم. قال رجل فيها برأيه ما شاء. 2614 - عن عمران بن الحصين رضي الله عنه. قال: اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين حج وعمرة. ثم لم ينزل فيها كتاب. ولم ينهنا عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال فيها رجل برأيه ما شاء. 2615 - عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم ينزل فيه القرآن. قال رجل برأيه ما شاء. 2616 - عن عمران بن حصين رضي الله عنه بهذا الحديث قال: تمتع نبي الله صلى الله عليه وسلم وتمتعنا معه. 2617 - عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله (يعني متعة الحج). وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج. ولم ينه عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات. قال رجل برأيه، بعد، ما شاء.

2618 - عن عمران بن حصين رضي الله عنه بمثله، غير أنه قال: (وفعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل: (وأمرنا بها). 2619 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج. وأهدى. فساق معه الهدي من ذي الحليفة. وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة. ثم أهل بالحج. وتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج. فكان من الناس من أهدى فساق الهدي. ومنهم من لم يهد. فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس "من كان منكم أهدى، فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه. ومن لم يكن منكم أهدى، فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل. ثم ليهل بالحج وليهد. فمن لم يجد هدياً، فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله". وطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة. فاستلم الركن أول شيء. ثم خب ثلاثة أطواف من السبع. ومشي أربعة أطواف. ثم ركع، حين قضى طوافه بالبيت عند المقام، ركعتين. ثم سلم فانصرف. فأتى الصفا فطاف بالصفا والمروة سبعة أطواف. ثم لم يحلل من شيء حرم منه حتى قضى حجه، ونحر هديه يوم النحر، وأفاض. فطاف بالبيت ثم حل من كل شيء حرم منه. وفعل، مثل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أهدى وساق الهدي من الناس. 2620 - عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تمتعه بالحج إلى العمرة. وتمتع الناس معه. بمثل الذي أخبرني سالم بن عبد الله عن عبد الله رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2621 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن حفصة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا رسول الله، ما شأن الناس حلوا ولم تحلل أنت من عمرتك؟ قال "إني لبدت رأسي. وقلدت هديي. فلا أحل حتى أنحر".

2622 - وعن حفصة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، ما لك لم تحل؟ بنحوه. 2623 - عن حفصة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شأن الناس حلوا ولم تحل من عمرتك؟ قال "إني قلدت هديي، ولبدت رأسي، فلا أحل حتى أحل من الحج". 2624 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن حفصة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله! بمثل حديث مالك "فلا أحل حتى أنحر". 2625 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال حدثتني حفصة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أزواجه أن يحللن عام حجة الوداع. قالت حفصة: فقلت: ما يمنعك أن تحل؟ قال: "إني لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر هديي". 2626 - عن نافع أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: خرج في الفتنة معتمراً. وقال: إن صددت عن البيت صنعنا كما صنعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فخرج فأهل بعمرة. وسار حتى إذا ظهر على البيداء التفت إلى أصحابه فقال: ما أمرهما إلا واحد. أشهدكم أني قد أوجبت الحج مع العمرة. فخرج حتى إذا جاء البيت طاف به سبعاً. وبين الصفا والمروة، سبعاً. لم يزد عليه. ورأى أنه مجزئ عنه. وأهدى. 2627 - عن نافع أن عبد الله بن عبد الله، وسالم بن عبد الله كلما عبد الله حين نزل الحجاج لقتال ابن الزبير. قالا: لا يضرك أن لا تحج العام. فإنا نخشى أن يكون بين الناس قتال يحال بينك وبين البيت. قال: فإن حيل بيني وبينه فعلت كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه. حين حالت كفار قريش بينه وبين البيت. أشهدكم أني قد أوجبت عمرة. فانطلق حتى أتى ذا الحليفة فلبى بالعمرة. ثم قال: إن خلي سبيلي قضيت عمرتي. وإن حيل

بيني وبينه فعلت كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه. ثم تلا: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} ثم سار حتى إذا كان بظهر البيداء قال: ما أمرهما إلا واحد. إن حيل بيني وبين العمرة حيل بيني وبين الحج. أشهدكم أني قد أوجبت حجة مع عمرة. فانطلق حتى ابتاع بقديد هدياً. ثم طاف لهما طوافاً واحداً بالبيت وبين الصفا والمروة. ثم لم يحل منهما حتى حل منهما بحجة، يوم النحر. 2628 - عن نافع. قال: أراد ابن عمر الحج حين نزل الحجاج بابن الزبير. واقتص الحديث بمثل هذه القصة. وقال في آخر الحديث: وكان يقول: من جمع بين الحج والعمرة كفاه طواف واحد. ولم يحل حتى يحل منهما جميعاً. 2629 - عن نافع أن ابن عمر أراد الحج عام نزل الحجاج بابن الزبير. فقيل له: إن الناس كائن بينهم قتال. وإنا نخاف أن يصدوك. فقال: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} أصنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم. إني أشهدكم أني قد أوجبت عمرة. ثم خرج حتى إذا كان بظاهر البيداء، قال: ما شأن الحج والعمرة إلا واحد. اشهدوا (قال ابن رمح: أشهدكم) أني قد أوجبت حجاً مع عمرتي. وأهدى هدياً اشتراه بقديد. ثم انطلق يهل بهما جميعاً. حتى قدم مكة. فطاف بالبيت وبالصفا والمروة. ولم يزد على ذلك. ولم ينحر. ولم يحلق. ولم يقصر. ولم يحلل من شيء حرم منه. حتى كان يوم النحر فنحر وحلق ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول. وقال ابن عمر: كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2630 - عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما، بهذه القصة. ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم إلا في أول الحديث. حين قيل له: يصدوك عن البيت. قال: إذن أفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يذكر في آخر الحديث: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكره الليث. 2631 - عن ابن عمر رضي الله عنهما (في رواية يحيى) قال: أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفرداً. (وفي رواية ابن عون) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بالحج مفرداً.

2632 - عن بكر عن أنس رضي الله عنه. قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة جميعاً. قال بكر: فحدثت بذلك ابن عمر. فقال: لبى بالحج وحده. فلقيت أنساً فحدثته بقول ابن عمر فقال أنس: ما تعدوننا إلا صبياناً! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لبيك عمرة وحجاً". 2633 - عن بكر بن عبد الله حدثنا أنس رضي الله عنه؛ أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم جمع بينهما. بين الحج والعمرة. قال: فسألت ابن عمر. فقال: أهللنا بالحج. فرجعت إلى أنس فأخبرته ما قال ابن عمر. فقال: كأنما كنا صبياناً! . 2634 - عن وبرة قال: كنت جالساً عند ابن عمر. فجاءه رجل فقال: أيصلح لي أن أطوف بالبيت قبل أن آتي الموقف. فقال: نعم. فقال: فإن ابن عباس يقول: لا تطف بالبيت حتى تأتي الموقف. فقال ابن عمر: فقد حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت قبل أن يأتي الموقف فبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تأخذ، أو بقول ابن عباس، إن كنت صادقاً؟ . 2635 - عن وبرة قال: سأل رجل ابن عمر رضي الله عنهما: أطوف بالبيت وقد أحرمت بالحج؟ فقال: وما يمنعك؟ قال: إني رأيت ابن فلان يكرهه وأنت أحب إلينا منه. رأيناه قد فتنته الدنيا. فقال: وأينا (أو أيكم) لم تفتنه الدنيا؟ ثم قال رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم بالحج. وطاف بالبيت. وسعى بين الصفا والمروة. فسنة الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع، من سنة فلان، إن كنت صادقاً. 2636 - عن عمرو بن دينار قال: سألنا ابن عمر عن رجل قدم بعمرة. فطاف بالبيت ولم يطف بين الصفا والمروة. أيأتي امرأته؟ فقال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعاً. وصلى خلف المقام ركعتين. وبين الصفا والمروة، سبعاً. وقد كان لكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة.

2637 - عن محمد بن عبد الرحمن أن رجلاً من أهل العراق قال له سل لي عروة بن الزبير عن رجل يهل بالحج. فإذا طاف بالبيت أيحل أم لا؟ فإن قال لك: لا يحل. فقل له: إن رجلاً يقول ذلك. قال فسألته فقال: لا يحل من أهل بالحج إلا بالحج. قلت: فإن رجلاً كان يقول ذلك. قال: بئس ما قال. فتصداني الرجل فسألني فحدثته. فقال: فقل له: فإن رجلاً كان يخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك. وما شأن أسماء والزبير قد فعلا ذلك. قال: فجئته فذكرت له ذلك. فقال: من هذا؟ فقلت: لا أدري. قال: فما باله لا يأتيني بنفسه يسألني؟ أظنه عراقياً. قلت: لا أدري. قال: فإنه قد كذب. قد حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرتني عائشة رضي الله عنها؛ أن أول شيء بدأ به حين قدم مكة أنه توضأ. ثم طاف بالبيت. ثم حج أبو بكر فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت. ثم لم يكن غيره. ثم عمر، مثل ذلك. ثم حج عثمان فرأيته أول شيء بدأ به الطواف بالبيت. ثم لم يكن غيره. ثم معاوية وعبد الله ابن عمر. ثم حججت مع أبي، الزبير بن العوام. فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت. ثم لم يكن غيره. ثم رأيت المهاجرين والأنصار يفعلون ذلك. ثم لم يكن غيره. ثم آخر من رأيت فعل ذلك ابن عمر. ثم لم ينقضها بعمرة. وهذا ابن عمر عندهم أفلا يسألونه؟ ولا أحد ممن مضى ما كانوا يبدءون بشيء حين يضعون أقدامهم أول من الطواف بالبيت. ثم لا يحلون. وقد رأيت أمي وخالتي حين تقدمان لا تبدأان بشيء أول من البيت تطوفان به. ثم لا تحلان. وقد أخبرتني أمي أنها أقبلت هي وأختها والزبير وفلان وفلان بعمرة قط. فلما مسحوا الركن حلوا. وقد كذب فيما ذكر من ذلك. 2638 - عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: خرجنا محرمين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من كان معه هدي، فليقم على إحرامه. ومن لم يكن معه هدي، فليحلل" فلم يكن معي هدي فحللت: وكان مع الزبير هدي فلم يحلل. قالت: فلبست ثيابي ثم خرجت فجلست إلى الزبير. فقال: قومي عني. فقلت: أتخشى أن أثب عليك؟ . 2639 - عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين

بالحج. ثم ذكر بمثل حديث ابن جريج. غير أنه قال: فقال: استرخي عني. استرخي عني. فقلت: أتخشى أن أثب عليك؟ . 2640 - عن عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم؛ أنه كان يسمع أسماء، كلما مرت بالحجون تقول: صلى الله على رسوله وسلم. لقد نزلنا معه ها هنا. ونحن، يومئذ، خفاف الحقائب. قليل ظهرنا. قليلة أزوادنا. فاعتمرت أنا وأختي عائشة والزبير وفلان وفلان. فلما مسحنا البيت أحللنا. ثم أهللنا من العشي بالحج. قال هارون في روايته: أن مولى أسماء. ولم يسم: عبد الله. 2641 - عن مسلم القري قال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن متعة الحج؟ فرخص فيها. وكان ابن الزبير ينهى عنها. فقال: هذه أم ابن الزبير تحدث؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص فيها. فادخلوا عليها فاسألوها. قال: فدخلنا عليها. فإذا امرأة ضخمة عمياء. فقالت: قد رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها. 2642 - عن شعبة بهذا الإسناد فأما عبد الرحمن ففي حديثه المتعة ولم يقل متعة الحج وأما ابن جعفر فقال: قال شعبة: قال مسلم لا أدري متعة الحج أو متعة النساء؟ . 2643 - عن مسلم القري أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول: أهل النبي صلى الله عليه وسلم بعمرة. وأهل أصحابه بحج. فلم يحل النبي صلى الله عليه وسلم ولا من ساق الهدي من أصحابه. وحل بقيتهم. فكان طلحة بن عبيد الله فيمن ساق الهدي فلم يحل. 2644 - عن شعبة بهذا الإسناد غير أنه قال: وكان ممن لم يكن معه الهدي طلحة بن عبيد الله. ورجل آخر. فأحلا. 2645 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض. ويجعلون المحرم صفراً. ويقولون: إذا برأ الدبر. وعفا

الأثر. وانسلخ صفر. حلت العمرة لمن اعتمر. فقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة. مهلين بالحج فأمرهم أن يجعلوها عمرة. فتعاظم ذلك عندهم. فقالوا: يا رسول الله! أي الحل؟ قال: "الحل كله". 2646 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج. فقدم لأربع مضين من ذي الحجة. فصلى الصبح. وقال، لما صلى الصبح "من شاء أن يجعلها عمرة فليجعلها عمرة". 2647 - عن شعبة في هذا الإسناد أما روح ويحيى بن كثير فقالا كما قال نصر: أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج وأما أبو شهاب ففي روايته خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نهل بالحج وفي حديثهم جميعاً فصلى الصبح بالبطحاء خلا الجهضمي فإنه لم يقله. 2648 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لأربع خلون من العشر. وهم يلبون بالحج. فأمرهم أن يجعلوها عمرة. 2649 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح بذي طوى. وقدم لأربع مضين من ذي الحجة. وأمر أصحابه أن يحولوا إحرامهم بعمرة. إلا من كان معه الهدي. 2650 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هذه عمرة استمتعنا بها. فمن لم يكن عنده الهدي فليحل الحل كله. فإن العمرة قد دخلت في الحج إلى يوم القيامة". 2651 - عن أبي جمرة الضبعي قال: تمتعت فنهاني ناس عن ذلك. فأتيت ابن عباس فسألته عن ذلك؟ فأمرني بها. قال: ثم انطلقت إلى البيت فنمت. فأتاني آت في منامي

فقال: عمرة متقبلة وحج مبرور. قال: فأتيت ابن عباس فأخبرته بالذي رأيت. فقال: الله أكبر! الله أكبر! سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم. 2652 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بذي الحليفة. ثم دعا بناقته فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن. وسلت الدم. وقلدها نعلين. ثم ركب راحلته. فلما استوت به على البيداء أهل بالحج. 2653 - في هذا الإسناد بمعنى حديث شعبة غير أنه قال: "إن نبي الله صلى الله عليه وسلم لما أتى ذا الحليفة". ولم يقل: "صلى بها الظهر". 2654 - عن أبي حسان الأعرج قال: قال رجل من بني الهجيم لابن عباس: ما هذا الفتيا التي قد تشغفت أو تشغبت بالناس، أن من طاف بالبيت فقد حل؟ فقال: سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم. وإن رغمتم. 2655 - عن أبي حسان قال: قيل لابن عباس: إن هذا الأمر قد تفشغ بالناس من طاف بالبيت فقد حل. الطواف عمرة. فقال: سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم. وإن رغمتم. 2656 - عن عطاء. قال: كان ابن عباس يقول: لا يطوف بالبيت حاج ولا غير حاج إلا حل. قلت لعطاء: من أين يقول ذلك؟ قال: من قول الله تعالى: {ثم محلها إلى البيت العتيق} قال: قلت: فإن ذلك بعد المعرف. فقال: كان ابن عباس يقول: هو بعد المعرف وقبله. وكان يأخذ ذلك من أمر النبي صلى الله عليه وسلم. حين أمرهم أن يحلوا في حجة الوداع. 2657 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال لي معاوية: أعلمت أني قصرت من رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المروة بمشقص؟ فقلت له: لا أعلم هذا إلا حجة عليك.

2658 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن معاوية بن أبي سفيان أخبره قال: قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص، وهو على المروة. أو رأيته يقصر عنه بمشقص. وهو على المروة. 2659 - عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نصرخ بالحج صراخاً. فلما قدمنا مكة أمرنا أن نجعلها عمرة. إلا من ساق الهدي. فلما كان يوم التروية، ورحنا إلى منى. أهللنا بالحج. 2660 - عن جابر وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما. قالا: قدمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نصرخ بالحج صراخاً. 2661 - عن أبي نضرة قال: كنت عند جابر بن عبد الله. فأتاه آت فقال: إن ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين. فقال جابر: فعلناهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم نهانا عنهما عمر. فلم نعد لهما. 2662 - عن أنس رضي الله عنه أن علياً قدم من اليمن. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "بم أهللت؟ " فقال: أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم. قال "لولا أن معي الهدي، لأحللت". 2663 - عن سليم بن حيان بهذا الإسناد مثله غير أن في رواية بهز "لحللت". 2664 - عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بهما جميعاً. "لبيك عمرة وحجاً. لبيك عمرة وحجاً". 2665 - عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "لبيك عمرة وحجاً". وقال حميد. قال أنس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لبيك بعمرة وحج".

2666 - عن أبي هريرة رضي الله عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده! ليهلن ابن مريم بفج الروحاء، حاجاً أو معتمراً، أو ليثنينهما". 2667 - عن ابن شهاب بهذا الإسناد مثله قال "والذي نفس محمد بيده". -[المعنى العام]- كان العرب قبل الإسلام يحجون إلى بيت الله الحرام في أشهر الحج، وكانوا يعتمرون في غير أشهر الحج، ويرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، وكانوا يقولون: إذا برأ جرح الإبل الذي حدث في ظهرها من سفر الحج، وذلك لا يكون قبل شهر من عودتها، وإذا عفا واندثر أثر مشي الدواب على الرمال بعد رحلة الحج، وذلك يحتاج شهراً أيضاً، وإذا انسلخ ومضى شهر صفر، ويقصدون المحرم، لأنهم كانوا يقلبون المحرم صفر ويقلبون صفراً إلى المحرم، إذا حصلت هذه الأمور الثلاثة إذا برأ الدبر، وعفا الأثر وانسلخ صفر حلت العمرة لمن اعتمر. وجاء الإسلام، فأبقى بعض أحكام الحج والعمرة، وغير بعضها، وكان مما غير فتح باب العمرة في جميع أيام السنة، بما في ذلك أيام الحج، فأصبح لها مع الحج حالات، لأنهما إما أن ينفرد كل منهما في عام واحد وإما أن يقعا معاً في أشهر الحج من عام واحد، إما بنية واحدة وإحرام واحد، وإما بإدخال الحج على العمرة أو العمرة على الحج قبل البدء بالطواف، وتسمى هذه الصور بالقران، وإما بالإحرام بالعمرة في أشهر الحج والإتيان بأفعالها ثم التحلل. ثم الإحرام بالحج، ويسمى بالتمتع، ولا يقع الإحرام بالحج والإتيان بأفعاله ثم الإحرام بالعمرة في أشهر الحج من العام نفسه، لأن أشهر الحج تنتهي بعد يوم عرفة، أو بعد ليلة الأضحى أو بعد يوم الأضحى، وعرفت هذه الصور باسم وجوه الإحرام. ولم يكن الإفراد في حاجة إلى تشريع جديد، سواء كان الحج في عام والعمرة في عام، أو كانا في عام واحد لكن العمرة ليست في أشهر الحج، وهي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، سواء وقعت قبل أشهر الحج أو بعدها، وكان التشريع المطلوب حكم وقوع العمرة في أشهر الحج بصورها المختلفة. وقد اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرة قبل السنة العاشرة، وحج أصحابه في عهده حجات منذ شرع الحج في السنة السادسة على الصحيح، وإلى السنة العاشرة، وظلت عقيدة الجاهلية بأن العمرة في أشهر

الحج أعظم الذنوب إلى أن كانت حجة الوداع في السنة العاشرة، ونودي في الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خارج إلى الحج فاستعد المسلمون بالمدينة للخروج معه، وقدم إلى المدينة ممن حولها خلق كثير، كل يلتمس بركة الصحبة، ويرغب في أن يأتم ويتعلم بالقدوة من رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يحج حجاً تاماً منضبطاً، حتى كان عدد من حج معه، من أهل المدينة، وممن حولها وممن انضم إليهم في الطريق يزيد على أربعين ألفاً. وصلوا الميقات ذا الحليفة، وأحرموا عندها بالحج، وهم في مطلع شهر ذي الحجة وساروا يلبون بالحج طول الطريق، حتى وصلوا إلى "سرف" على بعد ستة أميال من مكة وشاء الله أن يعلمهم بمشروعية العمرة في أشهر الحج، تدريجياً، فقال صلى الله عليه وسلم لهم: من لم يكن منكم معه هدي فأحب أن يجعل الحجة التي أحرمتم بها عمرة فليفعل، ومن كان معه هدي فلا، وكان الأمر عرضاً، وفي صورة التخيير، فكان منهم الآخذ به، وهم القلة، ومنهم التارك، وقال لهم مرة أخرى: من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل، ومن أراد أن يهل بحج فليهل ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج، وأهل ناس مثله، وأهل ناس بالعمرة، وأهل ناس بالحج والعمرة، فلما قربوا من مكة قال لهم صلى الله عليه وسلم: من لم يكن معه هدي فليحرم بعمرة ويفسخ الإحرام بالحج، ومن كان معه هدي فليبق على إحرامه بالحج، وإن شاء أدخل عليه العمرة، وعظم في نفسهم هذا الأمر الإلزامي، وهم مازال عالقاً بقلوبهم أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور وترددوا في تنفيذ الأمر، وعلم صلى الله عليه وسلم بترددهم وتراخيهم عن التنفيذ، إما بوحي أو إخبار منهم، فغضب، ودخل وخرج مغضباً وقال لهم: من لم يكن معه هدي وطاف وسعى فليحل على أنه قد اعتمر، ولولا أني سقت الهدي لفسخت الحج وجعلته عمرة كما آمركم، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت، ولو كنت أعلم أن هذا سيحصل لما سقت الهدي، ولفعلت ما آمركم به فحلوا. وأصبح المسلمون بين متمتع وقارن ومفرد للحج، أما المتمتعون فأحرموا بالحج يوم التروية يوم الثامن من ذي الحجة. وأما من ساقوا الهدي فلم يحلوا حتى قضوا حجهم، وكان لعائشة رضي الله عنها وضع خاص فقد حاضت في الطريق قبل وصولهم مكة، وكانت كبقية المسلمين محرمة بالحج، فقلبته عمرة كغيرها ممن لم يسق الهدي، ولم تستطع أن تطوف وتسعى وتتحلل كما فعلوا، حتى جاء يوم عرفة وهي حائض فأدخلت الحج على العمرة، وقامت بالوقوف بعرفة ثم طهرت فطافت وسعت وتمت حجتها وعمرتها كقارنة، لكنها لم تشبع روحها من هذا النسك وقد سعد المسلمون، وتميزت بقية أمهات المؤمنين بعمرة مستقلة وحج مستقل، وهي المتميزة في حياتها عن أخواتها، فاستجاب الرسول صلى الله عليه وسلم لرغبتها، وأرسلها مع أخيها إلى التنعيم أدنى الحل، فأحرمت بعمرة، ثم طافت وسعت وتحللت فكانت قارنة على الحالة الأولى، مفردة عمرة على الحالة الأخيرة. وأما القارنون فقد كفاهم طواف واحد وسعى واحد عن حجهم وعمرتهم، ولم تختلف مناسكهم عن المفردين بالحج إلا في النية والإحرام ومن هنا اختلف الناس في الوجه الذي أحرم به النبي صلى الله عليه وسلم. هل

كان مفرداً؟ ولبى بالحج وحده كما سمعه ابن عمر؟ أو كان قارناً ولبى بحج وعمرة كما سمعه أنس، ثم إن القارن قد يقول لبيك اللهم بحج، وقد يقول لبيك اللهم بحج وعمرة. ولا يترتب على هذا الخلاف حكم شرعي مهم، فالوجوه كلها جائزة شرعاً بإجماع المسلمين. لكن عمر رضي الله عنه نهى عن المتعة وهو خليفة المسلمين، بل وعن القران، ودعا إلى إفراد الحج، وإفراد العمرة، وتبعه في هذه الدعوة عثمان وبعض الصحابة رضي الله عنه، وعارضهم جمهور الصحابة، وخالفهم الفقهاء والمحدثون وسنعرض هذا الموقف فيما سيأتي من مباحث لغوية وفقهية إن شاء الله. تعرضت الروايات إلى وجوه الإحرام وما يتصل بها في حجة الوداع بصفة خاصة وتعرضت الرواية الخامسة والثلاثون إلى بقية مناسك الحج، وما قام به صلى الله عليه وسلم في هذه الحجة، من الطواف، واستلام الحجر الأسود، والرمل فيه، وركعتي الطواف خلف المقام، ثم استلام الحجر، والخروج من باب الصفا، والوقوف على الصفا والدعاء، والسعي بين الصفا والمروة سبعاً والنزول بنمرة، والوقوف بعرفة، وخطبته صلى الله عليه وسلم ودفعه من عرفة إلى المزدلفة ثم منى، ورميه جمرة العقبة، ونحره الهدي، ثم أفاض إلى البيت الحرام، فطاف، ثم أتى زمزم فشرب منها. وتعرضت الروايات في أحداثها إلى الوقوف بعرفة وإلى وقوف قريش قبل الإسلام بالمزدلفة، وإلى الإحرام المعلق، وإلى فسخ الحج إلى عمرة، والتحلل عند الإحصار، ومذهب ابن عباس في جواز التحلل بعد الطواف، والهدي وإشعاره وتقليده وغير ذلك من المسائل الفقهية الفرعية التي سنأتي عليها إن شاء الله. والله الهادي سواء السبيل. -[المباحث العربية]- (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع) أي خرجنا من المدينة قاصدين مكة لأداء النسك وحجة الوداع بفتح الحاء وكسرها، وسميت بذلك لأنه صلى الله عليه وسلم خطب الناس وودعهم فيها، وقال: (أيها الناس لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) ولم يحج بعد الهجرة غيرها وكانت سنة عشر من الهجرة ولما كان بمكة حج حججاً، قيل حجتين، وقيل حججاً لا يعلم عددها إلا الله وفي الرواية الخامسة والثلاثين قال جابر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل مثل عمله فخرجنا معه. وفي الرواية الرابعة "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي عام حجة الوداع، تقصد نفسها وأمهات المؤمنين. وقد بينت الروايات وقت خروجهم من المدينة، ففي الرواية الخامسة "موافين لهلال ذي الحجة" وكذا في الرواية السادسة والسابعة، أما في الرواية الخامسة عشرة ففيها "لخمس بقين من ذي

القعدة" قال النووي "موافين لهلال ذي الحجة" أي مقارنين لاستهلاله وكان خروجهم قبله، لخمس في ذي القعدة، كما صرحت به رواية عمرة. اهـ والأولى تفسير "موافين لهلال ذي الحجة" على معنى مشرفين عليه، آتين نحوه. (فأهللنا بعمرة) هذا إخبار عن الحالة الثانية التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، أما إحرامهم الأول فقد عبرت عنه الرواية السادسة بقولها "لا نرى إلا الحج" أي لا نعتقد أنا نحرم إلا بالحج، أي نظن أنه لا يصح منا في هذا الوقت إلا الحج، لأنا كنا نظن امتناع العمرة في أشهر الحج، قال ابن التين: "لا نرى" ضبطه بعضهم بفتح النون، وبعضهم بضمها. وعبرت عنه الرواية التاسعة بلفظ "ولا نرى إلا الحج" والرواية العاشرة بلفظ "لا نذكر إلا الحج" والحادية عشرة بلفظ "لبينا بالحج" والثالثة عشرة بلفظ "مهلين بالحج في أشهر الحج، وفي حرم الحج وليالي الحج" وحرم الحج بضم الحاء والراء. قال النووي: كذا ضبطناه، وكذا نقله القاضي عياض في المشارق عن جمهور الرواة، قال: وضبطه الأصيلي بفتح الراء، قال: فعلى الضم كأنها تريد الأوقات والمواضع والأشياء والحالات، أما بالفتح فجمع حرمة، أي ممنوعات الشرع ومحرماته، وكذلك قيل للمرأة المحرمة حرمة، وجمعها حرم. اهـ فالمعنى على الضم في أزمنة الحج وأمكنته وحالاته، أما أشهر الحج ولياليه فالجمهور على أنها شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة، وقد سبق الخلاف في دخول بقية ذي الحجة في أشهر الحج. وعبرت عنه الرواية الخامسة عشرة والسابعة عشرة بلفظ "ولا نرى إلا الحج" وعبرت عنه الرواية الثالثة والعشرون بلفظ قال جابر: أقبلنا مهلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج مفرد" ولفظ السادسة والعشرين "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج" ولفظ التاسعة والعشرين "أهللنا -أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم- بالحج خالصاً وحده" ولفظ الثانية والثلاثين "قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج" ولفظ الرابعة والثلاثين "ونحن نقول: لبيك بالحج" ولفظ الخامسة والثلاثين "لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة" أي لسنا نعرف جوازها في أشهر الحج، ولفظ السادسة والستين عن ابن عمر "أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفرداً" ولفظ الرابعة والسبعين عن أسماء بنت أبي بكر "قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفرداً" ولفظ الرابعة والسبعين عن أسماء بنت أبي بكر "قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج" ولفظ الثامنة والسبعين "كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور" ولفظ المتممة للثمانين عن ابن عباس "قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم يلبون بالحج "ولفظ المتممة للتسعين عن أبي سعيد "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نصرخ بالحج صراخاً" ولفظ الواحدة والتسعين عن جابر وأبي سعيد "قدمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نصرخ بالحج صراخاً". وهكذا تواردت الروايات على أن الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- في حجة الوداع أحرموا بالحج مفرداً أول الأمر، لأن الحكم بجواز العمرة في أشهر الحج لم يكونوا قد علموا به، ولعل الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلمهم به أثناء إحرامهم الأول ليجمع إلى هذا الحكم حكم نسخ الحج، وحكم من ساق الهدي، وحكم التمتع، والأحكام الأخرى، وربما كان في انتظار الوحي بحكم الله. أما ما أحرم به رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه فسنعرض الآراء والروايات الخاصة به في فقه الحديث.

أما أين تم هذا الإحرام؟ الأول فقد كان عند ميقات أهل المدينة بذي الحليفة، وتحدثنا الرواية الخامسة والثلاثون عن كيفيته، فتقول على لسان جابر رضي الله عنه: "فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أصنع؟ قال: اغتسلي، واستثفري بثوب -أي ضعي خرقة عريضة بين الفخذين وشديها في حزامك، تتلقى ما ينزل من دم -وأحرمي [وقد سبق الكلام على كيفية إحرام الحائض والنفساء في الباب الذي قبل هذا] فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد -أي مسجد ذي الحليفة- ثم ركب القصواء، حتى إذا استوت به ناقته على البيداء أهل بالتوحيد لبيك اللهم لبيك .... وأهل الناس بهذا الذي يهلون به [وقد سبق الكلام على إحرام أهل المدينة وميقاتهم، ومن أين يهلون قبل أبواب]. واستمر هذا الحال حتى وصلوا سرف، وفيها تقول الرواية التاسعة والحادية عشرة على لسان عائشة رضي الله عنها: (حتى إذا كنا بسرف، أو قريباً منها حضت) وتقول في الرواية العاشرة "حتى جئنا سرف، فطمثت" وفي الرواية الثالثة والعشرين "حتى إذا كنا بسرف عركت" و"سرف" بفتح السين وكسر الراء بين مكة والمدينة، تقرب من مكة، على بعد ستة أميال منها، وقيل: تسعة، وقيل: عشرة، وقيل: اثنى عشر ميلاً، ولعل هذا الاختلاف مبني على تعدد الطرق وتعرج بعضها. قال النووي: يقال: حاضت المرأة، وتحيضت، وطمثت، بفتح الطاء وكسر الميم وعركت -بفتح العين والراء، ونفست -بفتح النون وضمها، لغتان مشهورتان، الفتح أفصح، والفاء مكسورة فيهما، أما النفاس الذي هو الولادة فيقال فيه: نفست بالضم لا غير وضحكت، وأعصرت، وأكبرت، وكله بمعنى واحد، والاسم منه الحيض والطمث والعراك والضحك والإكبار والإعصار، وهي حائض، وحائضة في لغة غريبة، حكاها الفراء، وطامث وعارك ومكبر ومعصر. اهـ (فدخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال: أنفست؟ يعني الحيضة؟ قالت: قلت: نعم) وفي الرواية العاشرة "فقال: ما يبكيك، فقلت: والله لوددت أني لم أكن خرجت العام. قال: مالك؟ لعلك نفست؟ قلت: نعم". (قال: هذا شيء كتبه الله على بنات آدم، فاقضي ما يقضي الحاج -أي افعلي ما يفعل الحاج- غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي) وفي الرواية العاشرة "افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري". وبعد سرف بقليل قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه -كما في الرواية الرابعة: (من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل، ومن أراد أن يهل بحج فليهل، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل. قالت عائشة -رضي الله عنها- فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج، وأهل به ناس معه، وأهل ناس بالحج والعمرة، وأهل ناس بعمرة، وكنت فيمن أهل بالعمرة)

وكما تقول الرواية السابعة والثامنة والثالثة عشرة: "حتى نزلنا بسرف، فخرج إلى أصحابه، فقال: من لم يكن معه منكم هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل ومن كان معه هدي فلا، فمنهم الآخذ بها والتارك لها ممن لم يكن معه هدي" كان هذا تخييراً للصحابة بين وجوه الإحرام المختلفة، دون عزيمة، ودون إلزام، وكأنه تدرج بالصحابة لما علم من أنه سيشق على كثير منهم أن يعتمر في أشهر الحج، فلما قربوا من مكة -كما في الرواية الخامسة عشرة- "حتى إذا دنونا من مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحل "وأمر صلى الله عليه وسلم من لم يكن معه هدي أن يحرم بعمرة أمراً جازماً. وشق على كثير منهم أن يستجيب ويحرم بالعمرة في أشهر الحج، وترددوا، وتقاعسوا في التنفيذ، وغضب صلى الله عليه وسلم، ودخل على عائشة -رضي الله عنها- مغضباً، تصور ذلك الرواية الثامنة عشرة تقول عائشة رضي الله عنها. (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربع مضين من ذي الحجة، أو خمس، فدخل علي، وهو غضبان، فقلت: من أغضبك يا رسول الله؟ أدخله الله النار. قال: أو ما شعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون؟ وفي رواية "كأنهم يترددون" ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي معي حتى أشتريه، ثم أحل كما حلوا) أي ثم أحل كما سيحلون، وتحكي هذه الجزئية الرواية المتممة للثلاثين، فيقول جابر رضي الله عنه. (فلما قدمنا مكة أمرنا أن نحل ونجعلها عمرة، فكبر ذلك علينا وضاقت به صدورنا، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فما ندري؟ أشيء بلغه من السماء؟ أم شيء من قبل الناس؟ ) أي هل علم بما حصل لنا عن طريق الوحي؟ أم علم عن طريق أحد منا بلغه؟ -وتقول الرواية الواحدة والثلاثون: (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحلوا من إحرامكم فطوفوا بالبيت، وبين الصفا والمروة، وقصروا، وأقيموا حلالاً، حتى إذا كان يوم التروية -أي حتى إذا جاء يوم التروية، وهو اليوم الثامن من ذي الحجة- فأهلوا بالحج، واجعلوا التي قدمتم بها متعة. قالوا: كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج؟ قال: افعلوا ما آمركم به فإني لولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم به، ولكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله، ففعلوا) وتقول الرواية الثامنة والسبعون. (فقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة -أي من ذي الحجة- مهلين بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم، فقالوا: يا رسول الله، أي الحل؟ قال: الحل كله) وتقول الرواية المتممة للثمانين: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لأربع خلون من العشر، وهم يلبون بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة) وتقول الرواية الواحدة والثمانون:

(صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح بذي طوى، وقدم لأربع مضين من ذي الحجة، وأمر أصحابه أن يحولوا إحرامهم بعمرة إلا من كان معه الهدي) و"ذو طوى" بضم الطاء وفتحها وكسرها وتخفيف الواو، واد معروف بقرب مكة، وقال النووي: هو موضع عند باب مكة بأسفلها في صوب طريق العمرة المعتاد ومسجد عائشة، ويعرف اليوم بآبار الزاهد، وينون، ويمنع من التنوين. وهو قريب من البطحاء الوارد في ملحق الرواية التاسعة والسبعين، بطحاء مكة وهو المحصب، وهو في الأصل مسيل واديها، وبطحاء الوادي حصاه اللين في بطن المسيل وبطحاء مكة غير البطحاء التي بذي الحليفة. فلما طافوا بالبيت وسعوا بين الصفا والمروة أمر من لم يكن معه هدي أن يحل تشير إلى ذلك الرواية الثالثة والعشرون، وفيها يقول جابر رضي الله عنه "حتى إذا قدمنا طفنا بالكعبة والصفا والمروة، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحل منا من لم يكن معه هدي، قال: فقلنا: حل ماذا؟ [أي أي الحلين؟ التحلل الأصغر؟ أم التحلل الأكبر الذي يحل به كل شيء؟ إذ كانوا يعلمون أن للإحرام تحللين] قال: الحل كله، فواقعنا النساء، وتطيبنا بالطيب، ولبسنا ثيابنا وليس بيننا وبين عرفة إلا أربع ليال، ثم أهللنا يوم التروية [أي أحرمنا بالحج يوم الثامن] كما تشير إلى مثل ذلك الرواية السادسة والعشرون، والرواية المتممة للثلاثين، وتقول الرواية الخامسة والثلاثون "حتى إذا كان آخر طوافه على المروة، فقال: لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل [بضم الياء، من الإحلال، وهو الخروج من الإحرام، أي فليخرج نفسه من الإحرام، ويروى بفتح الياء، أي فليصر حلالاً] وليجعلها عمرة، فقام سراقة بن مالك بن جعشم ["سراقة" بضم السين وتخفيف الراء، و"جعشم" بضم الجيم وسكون العين، وضم الشين وقيل بفتحها الكناني المدلجي، مات في أول خلافة عثمان] فقال: يا رسول الله، ألعامنا هذا؟ أم لأبد؟ [قيل: معناه هل العمرة يجوز فعلها في أشهر الحج هذا العام فقط إبطالاً لما كانت الجاهلية تعتقد؟ أو حكم مستمر إلى يوم القيامة؟ وقيل: معناه هل جمع الحج مع العمرة في عام ودخول أفعال العمرة في أفعال الحج خاص بهذا العام؟ أو مستمر إلى يوم القيامة؟ وقيل: معناه هل جواز فسخ الحج إلى العمرة خاص بهذا العام؟ أو مستمر إلى يوم القيامة؟ وفي هذا المعنى الأخير خلاف بين الفقهاء، سنفصله في فقه الحديث] فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى [أي إصبع من يد في مثيلتها من اليد الأخرى، فأدخل كلاً بين ثنتين إشارة إلى تمام التداخل] وقال: دخلت العمرة في الحج، مرتين [أي قال هذه الجملة، مرتين تأكيداً]، لا. بل لأبد أبد". وجاء في هذه الرواية "فحل الناس كلهم وقصروا، إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي، فلما كان يوم التروية توجهوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأهلوا بالحج". إحرام عائشة رضي الله عنها في حجة الوداع: كانت عائشة -رضي الله عنها- كغيرها من المسلمين والمسلمات محرمة بالحج أول

الأمر، لا ترى أنه يصح في هذا الزمن إلا الحج، كما أوضحت هي ذلك في الروايات التي سقناها، فلما حاضت عند سرف خافت على ضياع حجتها فطمأنها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا في الرواية التاسعة والحادية عشرة. فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه الذين ليس معهم هدي أن يجعلوا حجتهم عمرة وكانت لا هدي معها أحرمت بعمرة، كما جاء في الرواية الرابعة والسابعة من قولها "وكنت فيمن أهل بالعمرة". لكن يعكر على هذا ما جاء في الرواية الثالثة عشرة من قولها "فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال: ما يبكيك؟ قالت: قلت: سمعت كلامك مع أصحابك، فسمعت بالعمرة؟ قال: ومالك؟ قلت: لا أصلي [أي حائض] قال: فلا يضرك، فكوني في حجك فعسى الله أن يرزقكيها" فظاهر هذا أنها لم تجعل حجها الأول عمرة. ويصفو هذا التعكير بحمل ما جاء في الرواية الثالثة عشرة على حال عائشة رضي الله عنها، وهي في مكة، فقد حولت إحرامها الأول بالحج إلى عمرة، ووصلت مكة مع من حولوا حجهم إلى عمرة، لكنهم طافوا وسعوا وتحللوا، أما هي فلم تطف ولم تسع ولم تتحلل حتى جاء يوم التروية فأحرموا بالحج فهي حتى ذلك الحين لم تعتمر، ولا تدري ماذا تفعل في إحرامها، ودخل الرسول صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقال ما يبكيك؟ قالت سمعت كلامك مع أصحابك، وأمرك لهم بأن يحرموا بالحج، وسمعت بالعمرة التي اعتمروها، ولم أعتمرها؟ قال: لم لم تعتمري؟ قالت: لم أزل حائضاً لا أصلي ولا أطوف. قال: أو ما كنت طفت ليالي قدمنا مكة؟ [هكذا لفظ الرواية السابعة عشرة] قالت: قلت: لا. وتوضح الرواية الأولى هذه المحادثة، وتصور هذه الحالة، فتقول على لسان عائشة رضي الله عنها "فقدمت مكة وأنا حائض، لم أطف بالبيت؛ ولا بين الصفا والمروة [لأن شرط السعي بين الصفا والمروة أن يسبق بطواف] فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: انقضي رأسك -[بالنون والقاف، أي فكي ضفائر شعرك، قال الكرماني ويجوز بالفاء بدل القاف إن صحت الرواية، فهما بمعنى واحد -وامتشطي- أي واغتسلي للإحرام بالحج قال النووي: ولا يلزم منه إبطال العمرة، لأن نقض الرأس والامتشاط جائزان عندنا في الإحرام، بحيث لا ينتف شعراً، ولكن يكره الامتشاط إلا لعذر، وقيل ليس المراد بالامتشاط هنا حقيقة الامتشاط بالمشط، بل تسريح الشعر بالأصابع للغسل، لإحرامها بالحج، إذا لا يصح الغسل إلا بإيصال الماء إلى جميع شعرها، ويلزم من هذا نقضه، لا سيما إن كانت لبدت رأسها. اهـ] وأهلي بالحج، ودعي العمرة". وتقول في الرواية الثانية "فلم أزل حائضاً حتى كان يوم عرفة، ولم أهلل إلا بعمرة، فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنقض رأسي، وأمتشط، وأهل بحج، وأترك العمرة" أي أترك أفعالها من طواف وسعي وتقصير مع استصحاب إحرامها، لتكون قارنة، فتدخل أفعالها في أفعال الحج. وفي الرواية الثالثة تقول "فلما دخلت ليلة عرفة [أي يوم التروية] قلت: يا رسول الله، إني كنت أهللت بعمرة، فكيف أصنع بحجتي؟ قال: انقضي رأسك، وامتشطي وأمسكي عن العمرة [أي أوقفي أعمالها] وأهلي بالحج".

وفي الرواية الخامسة تقول "فأدركني يوم عرفة وأنا حائض، لم أحل من عمرتي فشكوت ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: دعي عمرتك، وانقضي رأسك، وامتشطي، وأهلي بالحج". وفي الرواية العاشرة تقول: "فلما كان يوم النحر طهرت، فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفضت" قال العيني: وكان ابتداء حيضها يوم السبت لثلاث خلون من ذي الحجة بسرف وطهرت يوم السبت، وهو يوم النحر. اهـ وفي الرواية الثالثة والعشرين يقول جابر رضي الله عنه: "ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة -رضي الله عنها- فوجدها تبكي، فقال: ما شأنك؟ قالت: شأني أني قد حضت، وقد حل الناس، ولم أحلل، ولم أطف بالبيت، والناس يذهبون إلى الحج الآن؟ فقال: إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فاغتسلي، ثم أهلي بالحج، ففعلت، ووقفت المواقف، حتى إذا طهرت طافت بالكعبة والصفا والمروة، ثم قال: قد حللت من حجك وعمرتك جميعاً، فقالت: يا رسول الله، إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت؟ قال: فاذهب بها يا عبد الرحمن، فأعمرها من التنعيم، وذلك ليلة الحصبة" بفتح الحاء وإسكان الصاد، قال النووي: وهي التي بعد أيام التشريق، وسميت بذلك لأنهم نفروا من منى، نزلوا في المحصب، وباتوا به. اهـ وقال العيني: والمشهور في الحصبة سكون الصاد، وجاء فتحها وكسرها، وهي أرض ذات حصى. فالرواية الثالثة والعشرون صريحة في أن عائشة -رضي الله عنها- كانت قارنة، وأن طوافها وسعيها مرة واحدة كفى عن الحج والعمرة معاً، والرواية التاسعة عشرة تقول "يسعك طوافك لحجك وعمرتك" والرواية المتممة للعشرين تقول "يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك" وكل ذلك صريح في أن عمرتها من التنعيم لم تكن لأنها لم تعتمر مع حجها، وإنما كانت إضاء لمشاعرها، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يرضي هواها، ويستجيب لمطالبها لدلالها وصغارها وحبه لها ولأبيها، ولذا جاء في الرواية الخامسة والعشرين قول جابر رضي الله عنه "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً سهلاً [أي كريم الخلق حسن العشرة] إذا هويت الشيء تابعها عليه، فأرسلها مع عبد الرحمن بن أبي بكر فأهلت بعمرة من التنعيم". أما قولها في الرواية الأولى عن عمرة التنعيم "فاعتمرت، فقال: هذه مكان عمرتك" فمعناه -كما قال النووي-: أنها أرادت أن يكون لها عمرة منفردة عن الحج كما حصل لسائر أمهات المؤمنين وغيرهن من الصحابة الذين فسخوا الحج إلى العمرة، وأتموا العمرة، وتحللوا منها قبل يوم التروية، ثم أحرموا بالحج من مكة يوم التروية، فحصل لهم عمرة منفردة وحجة منفردة، وأما عائشة فإنما حصل لها عمرة مندرجة في حجة بالقران، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم يوم النفر: "يسعك طوافك لحجك وعمرتك" أي وقد تما وحسبا لك جميعاً، فأبت، وأرادت عمرة منفردة، كما حصل لباقي الناس، فلما اعتمرت عمرة منفردة قال لها النبي صلى الله عليه وسلم "هذه مكان عمرتك" أي التي كنت تريدين حصولها منفردة، غير مندرجة، فمنعك الحيض من ذلك. وكذا يقال في قولها: يرجع الناس بحج وعمرة؟ وأرجع بحج؟ [الوارد في الرواية العاشرة] أي يرجعون بحج منفرد وعمرة منفردة وأرجع أنا وليس لي عمرة منفردة؟ وإنما حرصت على ذلك لتكثر أفعالها. اهـ

وكذا قولها في الرواية الثانية "مكان عمرتي التي أدركني الحج ولم أحلل منها" أي مكان عمرتي المنفردة التي أدركني الحج ولم أحلل منها، وكذا قولها في الرواية الثالثة "مكان عمرتي التي أمسكت عنها" أي مكان عمرتي المنفردة، وكذا قولها في الرواية الخامسة "فقضى الله حجنا وعمرتنا" أي أتمهما عن طريق القران وعن طريق عمرة مستقلة. وكذا قولها في الرواية العاشرة (فأهللت منها بعمرة جزاء بعمرة الناس التي اعتمروا) أي التي اعتمروها منفردة. وكذا قولها في الرواية السادسة عشرة "يصدر الناس بنسكين" أي منفردين "وأصدر بنسك واحد"؟ أي طواف واحد وسعي واحد؟ وهكذا يبدو ويترجح أنها -رضي الله عنها- أحرمت بحج، ثم فسخته إلى عمرة، ثم أدخلت عليها الحج، فكانت قارنة، ثم اعتمرت عمرة مستقلة. والله أعلم. هذا. وقد سلكت في المباحث العربية في هذا الباب حتى الآن هذا المنهج لأجمع بين الروايات التي ظاهرها التعارض في ألفاظها، لتأويل ما يحتاج إلى تأويل، وتقدير ما يحتاج إلى تقدير. والواقع أن بعض الرواة كان يطوي بعض الأحداث، ويذكر البعض، فيوهم الطي أن المذكور بديل عن المطوي فيوهم التعارض، كما أوضحنا ذلك في إحرام عائشة رضي الله عنها. والآن نعود إلى ما لم نذكره من المباحث العربية في كل رواية على حدة. وبالله التوفيق. الرواية الأولى (فأهللنا بعمرة) هذا إخبار عن الحالة بعد سرف، لا عن حالة الإحرام الأول والتقدير: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، فأهللنا بحج، فلما وصلنا سرف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة، فأهللنا بعمرة. (من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة) المعية لا تلزم بأصل وإضافة وإلا فكان حقه أن يقول: فليهل بالعمرة مع الحج، لأنهم أصلاً محرمون بالحج. والهدي هنا اسم لما يهدي إلى الحرم من الأنعام، قال النووي: يقال: "هدي" بإسكان الدال وتخفيف الياء و"هدي" بكسر الدال وتشديد الياء، لغتان مشهورتان، الأولى أفصح وأشهر. (ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعاً) أي حتى ينتهي من أفعالهما بانتهاء المعهود للتحلل الأصغر بالنحر. (أرسلني مع عبد الرحمن بن أبي بكر) هو أخوها شقيقها، وأمهما أم رومان بنت عامر. (إلى التنعيم) وهو طرف حرم مكة من ناحية الشام، وهو أدنى الحل، وهو مشهور بمسجد عائشة.

الرواية الثانية (فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج) معطوف على محذوف، تقديره: فأحرمنا بالحج، حتى وصلنا سرف فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من بقي مهلاً بالحج حيث كان معه "الهدي". (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحرم بعمرة) معطوف على محذوف أيضاً تقديره: حتى قدمنا مكة وطاف المسلمون وسعوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم. إلخ. (من أحرم بعمرة ولم يهد فليحلل، ومن أحرم بعمرة وأهدى فلا يحل) "ولم يهد" أي لم يصحب هدياً، و"أهدى" أي صحب هدياً، و"فليحلل" بفك التضعيف من "يحل" وهي لغة معروفة. الرواية الثالثة (فأردفني) في الرواية الواحدة والعشرين "فأردفني خلفه على جمل له" وسيأتي في تلك الرواية وفي العاشرة ما حصل منه ومنها أثناء هذا الإرداف. الرواية الخامسة (فلولا أني أهديت لأهللت بعمرة) في الرواية الثامنة عشرة "لو أني استقبلت من أمري. ما استدبرت [أي لو أني كنت أعلم ما سيحصل لي مستقبلاً] ما سقت الهدي معي، حتى أشتريه [في نهاية الحج] ثم أحل كما حلوا" وفي الرواية التاسعة والعشرين، لما ترددوا في تنفيذ الأمر بالتمتع خطبهم، فقال: "قد علمتم أني أتقاكم لله وأصدقكم [إيماناً] وأبركم [أي في أعلى درجات الأبرار، فلا أفعل ولا آمر إلا بما هو أقرب للتقوى] ولولا هديي لحللت كما تحلون، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي". وفي الرواية المتممة للثلاثين "أحلوا. فلولا الهدي الذي معي فعلت كما فعلتم". وفي الرواية الواحدة والثلاثين "افعلوا ما آمركم به، فإني لولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم به" وفي الرواية الخامسة والثلاثين "لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي" وفي الرواية الثالثة والتسعين "لولا أن معي الهدي لأحللت". (وقد قضى الله حجنا) أي أتم حجنا. (أرسل معي عبد الرحمن بن أبي بكر) في الرواية الأولى "أرسلني مع عبد الرحمن بن أبي بكر" وفي الثانية "بعث معي عبد الرحمن بن أبي بكر" وقد سبق قريباً الكلام عن المعية، وفي الرواية العاشرة "أمر عبد الرحمن بن أبي بكر فأردفني على جمله " وفي الثالثة عشرة "فدعا عبد الرحمن بن أبي بكر، فقال: اخرج بأختك من الحرم، فلتهل بعمرة، ثم لتطف بالبيت، فإني أنتظركما ههنا" وكان

صلى الله عليه وسلم بالمحصب، وفي الرواية السادسة عشرة "فاخرجي إلى التنعيم، فأهلي منه، ثم القينا عند كذا وكذا". وفي السابعة عشرة "فاذهبي مع أخيك إلى التنعيم، فأهلي بعمرة، ثم موعدك مكان كذا وكذا" وفي الواحدة والعشرين "فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن ينطلق بها إلى التنعيم"، وفي الرواية الثالثة والعشرين "قال: فاذهب بها يا عبد الرحمن، فأعمرها من التنعيم". (ولم يكن في ذلك هدي ولا صدقة ولا صوم) قال النووي: هذا محمول على إخبارها عن نفسها، أي لم يكن علي في ذلك هدي ولا صدقة ولا صوم، ثم إنه مشكل من حيث إنها كانت قارنة، والقارن يلزمه الدم، وكذلك المتمتع، ويمكن أن يتأول هذا على أن المراد: لم يجب علي دم ارتكاب شيء من محظورات الإحرام، كالطيب وستر الوجه وقتل الصيد وإزالة الشعر والظفر وغير ذلك، أي لم أرتكب محظوراً، فيجب بسببه هدي أو صدقة أو صوم. هذا هو المختار في تأويله، وقال القاضي عياض: فيه دليل على أنها كانت في حج مفرد، لا تمتع ولا قران، لأن العلماء مجمعون على وجوب الدم فيهما إلا داود الظاهري فقال: لا دم على القارن. هذا كلام القاضي. وهذا اللفظ، وهو قوله "ولم يكن في ذلك هدي ولا صدقة ولا صوم" ظاهره في هذه الرواية أنه من كلام عائشة، ولكن في ملحق الرواية التصريح بأنه من كلام هشام بن عروة، فيحمل الأول عليه، ويكون الأول في معنى المدرج. انتهى كلام النووي. أقول: ومن المعلومات السابقة يتبين أن عائشة -رضي الله عنها- كانت قارنة ودخلت عمرة قرانها في حجها، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أهدى عن نسائه -كما جاء في الرواية العاشرة فدم القران أدي، ولا شيء عليها في إنشائها عمرة بعد التحلل من الحج، وعمرتها هذه في غير أشهر الحج عند الجمهور، فكأنها تقول: ولم يكن في عمرتي هذه هدي ولا صدقة ولا صوم، وهذا صحيح. والله أعلم. الرواية العاشرة (والله لوددت أني لم أكن خرجت العام) تمنت عدم خروجها للحج هذا العام لخشيتها أن تكون سبباً في إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين وحصرهم والتضييق عليهم في حجهم. (فإني لأذكر وأنا جارية حديثة السن) المعنى إني لأذكر حالتي وما حصل يومها، وأنا حينذاك جارية، أي شابة فتية، حديثة السن، أي شابة، ففي كتب اللغة الحداثة سن الشباب، وكانت عائشة رضي الله عنها حينئذ لم تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها في أصح الأقوال. (أنعس) بضم العين، وفي كتب اللغة: بفتح العين، يقال: نعس ينعس نعساً بسكون العين وبفتحها ونعاساً أي فترت حواسه فقارب النوم، فهو ناعس. (فيصيب وجهي مؤخرة الرحل) فيه تقديم المفعول على الفاعل، وأصله فتصيب مؤخرة الرحل وجهي، والرحل ما يوضع على ظهر البعير للركوب، والمعنى أنها بنعاسها تطئطئ رأسها، فتنخفض منها حتى تصطدم بخشبة الرحل.

ولا يتعارض هذا مع قولها في الرواية الواحدة والعشرين "فجعلت أرفع خماري [خمار المرأة الثوب الذي تغطي به رأسها ووجهها، ويحيط برقبتها غالباً] أحسره عن عنقي [أحسره بضم السين أي أكشفه عن رقبتي] فيضرب [عبد الرحمن] رجلي بعلة الراحلة [قال النووي: أي يضرب رجلي عامداً في صورة من يضرب الراحلة، أي يتعمد ضرب رجلي برجله أو بسيفه أو بعصاه متظاهراً أنه يضرب الراحلة حين تكشف خمارها عن عنقها، غيرة عليها] فتقول له: وهل ترى من أحد؟ أي نحن في خلاء، ليس ههنا أجنبي أستتر منه". أقول: لا تعارض، فهما حالان، حالة كشف الخمار وهي متيقظة، وحالة النعاس. الرواية الثالثة عشرة (فمنهم الآخذ بها والتارك لها ممن لم يكن معه هدي) أي فمنهم الآخذ بهذه الإباحة وجعلها عمرة، ومنهم التارك لها المستمر على إحرامه بالحج مع أنه ليس معه هدي، ظناً منهم أن العبارة تخييرية، فهي متروكة لمن أحب. (قلت: لا أصلي) كنت بذلك عن الحيض. (فخرجت في حجتي حتى نزلنا مني فتطهرت) في الكلام طي، والأصل: فخرجت من مكة إلى منى إلى عرفات، فوقفت بعرفة، ثم أفضت من عرفة حتى نزلنا منى يوم النحر، فتطهرت. (ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم المحصب) أي أقام فيه هو وأصحابه، فقد باتوا فيه بعد أن نفروا من منى. (فجئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في منزله من جوف الليل) في الرواية السابعة عشرة "ثم موعدك مكان كذا وكذا .... فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مصعد من مكة، وأنا منهبطة عليها، أو أنا مصعدة وهو منهبط منها" وفي ملحقها "وأنا متهبطة" بالتاء بدل النون، "وهو متهبط" بالتاء بدل النون. يقال: هبط وانهبط أي نزل، ويقال تهبط، أي انحدر في بطء، ومن المعلوم أن دروب مكة ترتفع وتنخفض، فهذه الرواية لا تتفق مع الرواية الثالثة عشرة في مكان اللقاء، اللهم إلا أن يقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدها أن تعود إليه في المحصب أو في الطريق منه إلى المسجد الحرام، فعادت إليه في المحصب وهو يتأهب للخروج من مكة، وكانت هي داخلة إليها من الحل والتنعيم. وقد جمع النووي بأنه صلى الله عليه وسلم خرج بعد ذهابها، فقصد البيت ليطوف طواف الوداع، ثم رجع بعد فراغه من طواف الوداع، وكل هذا في الليل، فلقيها صلى الله عليه وسلم وهو صادر بعد طواف الوداع، وهي داخلة لطواف عمرتها، ثم فرغت من عمرتها، ولحقته صلى الله عليه وسلم، وهو بعد في منزله في المحصب. وأما قولها "فأذن في أصحابه، فخرج، فمر بالبيت، وطاف" فيتأول على أن في الكلام تقديماً وتأخيراً.

وفي هذا الجمع تكلف لا يساعده المقام، ويلزمه أن عائشة -رضي الله عنها- لم تطف طواف الوداع. (فأذن في أصحابه بالرحيل) إلى المدينة بعد طواف الوداع، وصلاة الصبح في الحرم. الرواية الخامسة عشرة (فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر) "فدخل" بضم الدال، مبني للمجهول. (ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه) في الرواية التاسعة قالت: "وضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه بالبقر". الرواية السادسة عشرة (يصدر الناس بنسكين) أي يرجع الناس كل منهم بنسكين منفردين؟ يقال: صدر عن المكان أي رجع وانصرف. وهو المراد هنا، أما صدر إلى المكان فمعناه. انتهى إليه. (ولكنها على قدر نصبك) أي ولكن أجر عمرتك على قدر تعبك وحدك واجتهادك وإخلاصك في أدائها، والنصب بفتح الصاد التعب والجد والاجتهاد. وشك الراوي في قول الرسول صلى الله عليه وسلم، هل قال: "على قدر نصبك" أو قال: "على قدر نفقتك" ولعل المراد من النفقة هنا إنفاق الجهد والمشقة والإخلاص. الرواية السابعة عشرة (فلما قدمنا مكة تطوفنا بالبيت) هذا الكلام من عائشة، وهي لم تطف بالبيت، فمعناه تطوف المسلمون بالبيت. (قالت صفية: ما أراني إلا حابستكم؟ ) أي ما أظنني إلا حابستكم ومانعتكم من الرحيل؟ قالت ذلك حين أذن صلى الله عليه وسلم بالرحيل وطواف الوداع إذ حاضت في هذا الوقت، ولا يمكنها الطواف حتى تطهر، ظنت أن طواف الوداع لا يسقط عن الحائض، وظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها لم تطف طواف الركن، طواف الإفاضة، فقال: (عقرى حلقى) قال النووي: هكذا يرويه المحدثون، بالألف التي هي ألف التأنيث، ويكتبونه بالياء ولا ينونونه، وهكذا نقله جماعة لا يحصون من أئمة اللغة وغيرهم عن رواية المحدثين، وهو صحيح فصيح. قال الأزهري في تهذيب اللغة: قال أبو عبيد: معنى "عقرى" عقرها الله تعالى، و"حلقى" حلقها الله. قال: يعني عقر الله جسدها، وأصابها بوجع في حلقها. قال أبو عبيد: أصحاب الحديث يروونه "عقرى حلقى" وإنما هو "عقرا حلقا" قال: وهذا على مذهب العرب في الدعاء على الشيء من غير إرادة وقوعه. قال شمر: قلت: لأبي عبيد: لم لا تجيز "عقرى" فقال: لأن فعلى تجيء نعتاً، ولم تجيء في الدعاء. وقال صاحب المحكم: يقال للمرأة عقرى وحلقى، معناه عقرها الله وحلقها أي حلق شعرها، أو أصابها بوجع في حلقها. قال: فعقرى ههنا

مصدر، كدعوى، وقيل: معناه تعقر قومها، وتحلقهم بشؤمها وقيل: العقرى الحائض، انتهى كلام صاحب المحكم، وقيل: معناه جعلها الله عاقراً، لا تلد وحلقى مشئومة على أهلها. وعلى كل قول فهي كلمة كان أصلها ما ذكرناه، ثم اتسعت العرب فيها فصارت تطلقها ولا تريد حقيقة ما وضعت له أولاً، ونظيره تربت يداه، وقاتله الله أو ما أشجعه وما أشعره! والله أعلم. اهـ (لا بأس. انفري) في كتب اللغة: يقال: لا بأس عليه أي لا خوف عليه، ولا بأس به أي لا مانع به، ولا بأس فيه أي لا حرج فيه، وكلها صالحة هنا، ونفر من المكان تركه إلى غيره، فالمعنى هنا اتركي المحصب وارحلي معنا إلى المدينة. الرواية الثامنة عشرة (فدخل علي وهو غضبان) قال النووي: أما غضبه صلى الله عليه وسلم فلانتهاك حرمة الشرع، وترددهم في قبول حكمه، وقد قال الله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} [النساء: 65]. فغضب صلى الله عليه وسلم لما ذكرناه من انتهاك حرمة الشرع والحزن عليهم في نقص إيمانهم بتوقفهم. (فإذا هم يترددون -أو كأنهم يترددون، أحسب) قال النووي: قال القاضي: كذا وقع هذا اللفظ، وهو صحيح، ومعناه أن الحكم شك في لفظ النبي صلى الله عليه وسلم هذا مع ضبطه لمعناه، فشك هل قال: يترددون؟ أو نحوه من الكلام؟ ولهذا قال بعده: أحسب أي أظن أن هذا لفظه. الرواية الثالثة والعشرون (وأقبلت عائشة -رضي الله عنها- بعمرة. حتى إذا كنا بسرف عركت) ظاهره أنها رضي الله عنها أهلت بعمرة قبل أن تحيض، وهو غير صحيح، ولا يتفق مع أحاديثها الصحيحة عن نفسها، ولعل في كلام جابر رضي الله عنه تقديماً وتأخيراً، وحقه: أقبلنا مهلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج مفرد، حتى إذا كنا بسرف عركت عائشة ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن معه هدي أن يحرم بالعمرة، فأقبلت عائشة -رضي الله عنها- إلى مكة بعمرة، حتى إذا قدمنا مكة .... إلخ. (حل ماذا؟ قال: الحل كله) في الرواية السادسة والعشرين والثامنة والسبعين "أي الحل"؟ ومعناه أي شيء من الأشياء يحل علينا؟ لأنه أمر أن يحلوا من العمرة، فقال: "حل كله". يعني جميع ما يحرم على المحرم، حتى الجماع، وذلك تمام الحل، كأنهم كانوا يعرفون أن للحج تحللين، فأرادوا بيان ذلك، بقولهم: أي الحل؟ فبين لهم الحل كله، لأن العمرة ليس لها إلا تحلل واحد. (فواقعنا النساء، وتطيبنا بالطيب، ولبسنا ثيابنا) أي وتحللنا من محرمات الإحرام، والمراد أن بعضهم فعل كل ذلك، لا كلهم.

الرواية السادسة والعشرون (ومسسنا الطيب) قال النووي: هو بكسر السين الأولى، هذه هي اللغة المشهورة، وفي لغة قليلة بفتحها، قال الجوهري: يقال: مسست الشيء بكسر السين أمسه بفتح الميم مساً. فهذه اللغة الفصيحة. قال: وحكى أبو عبيدة: مسست الشيء بالفتح أمسه. بضم الميم. قال: وربما قالوا: مست يحذفون منه السين الأولى، ويحولون كسرتها إلى الميم، قال: ومنهم من لا يحول، ويترك الميم على حالها مفتوحة. اهـ الرواية السابعة والعشرون (فأهللنا من الأبطح) وهو البطحاء، وهو المحصب -بضم الميم وفتح الحاء وتشديد الصاد المفتوحة، وهو مكان متسع بين مكة ومنى، وسمي بالمحصب لاجتماع الحصباء فيه بحمل السيل، وهو موضع منهبط، وحدوده ما بين الجبلين إلى المقابر، وليست المقبرة منه وفيه لغة أخرى "الحصاب" بكسر الحاء، وحده أبو عبيد من الحجون ذاهباً إلى منى. الرواية التاسعة والعشرون (إلا خمس) أي إلا خمس ليال بما فيها ليلة عرفة، لأنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بذلك صبح رابعة، أي صبح الليلة الرابعة. (فقدم على من سعايته) في الرواية الخامسة والثلاثين "وقدم علي من اليمن ببدن النبي صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أرسله إلى اليمن قبل حجة الوداع ليحصل على بعض الصدقات من أربابها، قال القاضي عياض: قوله "من سعايته" أي من عمله في السعي في الصدقات. قال: وقال بعض علمائنا: الذي في غير هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث علياً رضي الله عنه إلى اليمن أميراً، لا عاملاً على الصدقات، إذ لا يجوز استعمال بني هاشم على الصدقات. قال القاضي: يحتمل أن علياً رضي الله عنه ولي الصدقات وغيرها احتساباً، أو أعطى عمالته عليها من غير الصدقة. قال: وهذا أشبه، لقوله: "من سعايته" والسعاية تختص بالصدقة قال النووي: وهذا الذي قاله حسن، إلا قوله: إن السعاية تختص بالعمل على الصدقة فليس كذلك، لأنها تستعمل في مطلق الولاية. (وأهدى له علي هدياً) أي أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم هدياً اشتراه له، لا أنه من السعاية على الصدقة. الرواية المتممة للثلاثين (حتى إذا كان يوم التروية، وجعلنا مكة بظهر أهللنا بالحج) قال النووي: معناه أهللنا بالحج عند إرادتنا الذهاب إلى منى. اهـ ولعله بذلك يشير إلى ما جاء في الرواية الخامسة والثلاثين من قوله "فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى، فأهلوا بالحج" وما جاء في الرواية السابعة والعشرين من قوله "أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم لما أحللنا -أن نحرم إذا توجهنا إلى منى. قال: فأهللنا من الأبطح".

وقال: قد يستدل بالإهلال من الأبطح من يجوز للمكي والمقيم بها الإحرام بالحج من الحرم، وفي المسألة وجهان لأصحابنا، أصحهما: لا يجوز أن يحرم بالحج إلا من داخل مكة، وأفضله من باب داره، وقيل: من المسجد الحرام، والثاني يجوز من مكة ومن سائر الحرم، وقد سبقت المسألة في باب المواقيت، فمن قال بالثاني احتج بحديث جابر هذا لأنهم أحرموا من الأبطح، وحين جعلوا مكة بظهرهم، أي لم يحرموا من داخل مكة، لكنه من الحرم، ومن قال بالأول -وهو الأصح قال: إنما أحرموا من الأبطح لأنهم كانوا نازلين به وكل من كان دون الميقات المحدد له فميقاته منزله، كما سبق في باب المواقيت. والله أعلم. الرواية الواحدة والثلاثون (تصير حجتك الآن مكية) قيل معناه: قليلة الثواب، لقلة مشقتها، وقال ابن بطال: معناه أنك تنشئ حجك من مكة، كما ينشئ أهل مكة منها، فيفوتك فضل الإحرام من الميقات. (عام ساق الهدي معه) في رواية البخاري "يوم ساق البدن معه" وذلك في حجة الوداع. (أحلوا من إحرامكم) أي اجعلوا حجتكم عمرة، وتحللوا منها بالطواف والسعي. (وقصروا) إنما أمرهم بالتقصير ليتوفر الشعر للحلق أو التقصير للحج، لأنهم سيهلون به بعد زمن قصير. (واجعلوا التي قدمتم بها متعة) أي اجعلوا الحجة المفردة التي أهللتم بها عمرة، تتحللوا منها، فتصيروا متمتعين، فأطلق على العمرة متعة مجازاً، والعلاقة بينهما السببية والمسببية. (لا يحل مني حرام) أي لا يحل مني ما حرم علي، ووقع في بعض روايات مسلم "لا يحل مني حراماً" بالنصب على المفعولية، وعلى هذا فيقرأ "يحل" بضم الياء وكسر الحاء والفاعل محذوف، تقديره: لا يحل طول المكث مني شيئاً حراماً حتى يبلغ الهدي محله، أي إذا نحر يوم منى. الرواية الثالثة والثلاثون (على يدي دار الحديث) أي بين يدي، أي أمامي، وعلى مسامعي. (تمتعنا) من التمتع بالعمرة إلى الحج، أو من متعة النساء، أي الزواج لأجل. (إن الله كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء) أي بسبب يشاؤه جل شأنه، يشير بذلك إلى الخصوصية له صلى الله عليه وسلم، أو الخصوصية لعام المناسبات خاصة، فالتمتع بالعمرة إلى الحج رخص به لإبطال عقيدة أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور وثبتت العقيدة الصحيحة، ومتعة النساء كانت للحاجة وانتهت، وسيأتي الكلام عن فتوى عمر بهذا الخصوص في فقه الحديث.

(إن القرآن نزل منازله) أي ثبتت أحكامه وهو يقول: {وأتموا الحج والعمرة لله} حمل إتمامها على إتمام كل منهما مستقلاً، دون تداخل، مع أن التمتع لا يتعارض مع الآية، ولا مع قوله في ملحق الرواية "فافصلوا حجكم من عمرتكم فإنه أتم لحجكم" ولا يخالف الإتمام على الاستقلال سوى القران، وسيأتي التفصيل في فقه الحديث. (وأبتوا نكاح هذه النساء) المتزوجات إلى أجل، واقطعوا النكاح، واجعلوه غير مؤقت. الرواية الخامسة والثلاثون (فسأل عن القوم) أي سأل زائريه واحداً واحداً عن قومهم ونسبهم. (فأهوى بيده إلى رأسي، فنزع زري الأعلى، ثم نزع زري الأسفل، ثم وضع كفه بين ثديي) كان جابر رضي الله عنه أعمى، وكان محمد بن حسين غلاماً شاباً صغيراً فأراد جابر مداعبته وتأنيسه، فوضع يده على رأس الغلام يمسحه، ثم نزل بيده من الرأس إلى فتحة قميص محمد، ففك زر القيمص العلوي [زراره] ثم حل زر القميص السفلي، ولم يكن لفتحة طوق القميص سوى زرين، ثم أدخل يده بين القميص وبين صدر الغلام ووضعها بين ثدييه، يمسح صدره بأصابعه محبة وتأليفاً. ولفظ "ثديي" بالتثنية، قال النووي: واختلف أهل اللغة في إطلاق الثدي للرجل، منهم من جوزه للرجل كالمرأة، ومنهم من منعه، وقال: يختص الثدي بالمرأة، ويقال في الرجل: ثندوة. اهـ (فقام في نساجة ملتحفاً بها) قال النووي: "نساجة" بكسر النون وتخفيف السين المهملة وبالجيم، هذا هو المشهور في نسخ بلادنا ورواياتنا لصحيح مسلم وسنن أبي داود، ووقع في بعض النسخ في "ساجة" بحذف النون، ونقله القاضي عياض عن رواية الجمهور، قال: وهو الصواب. قال: والساجة والساج جميعاً ثوب كالطيلسان وشبهه، قال: ورواية النون وقعت في رواية الفارسي، وقال: ومعناه ثوب ملفق. وقال: قال بعضهم: النون خطأ وتصحيف. قال النووي: قلت: ليس كذلك، بل كلاهما صحيح، ويكون ثوباً ملفقاً على هيئة الطيلسان، قال القاضي في المشارق: الساج والساجة الطيلسان، وجمعه سيجان، قال: وقيل هي الخضر منها خاصة، وقال الأزهري: هو طيلسان مقور ينسج كذلك، قال: وقيل: هو الطيلسان الحسن، قال: ويقال الطيلسان بفتح اللام وكسرها وضمها، وهي أقل. اهـ وفي المعجم الوسيط: الطالسان ضرب من الأوشحة، يلبس على الكتف، أو يحيط بالبدن، خال من التفصيل والخياطة، أو هو ما يعرف في العامية المصرية بالشال (فارسي معرب) وهو الطيلسان، والجمع طيالس. (ورداؤه إلى جنبه على المشجب) كأنه كان بالإزار دون الرداء، وأراد أن يلتحف بالطيلسان بدل الرداء، والمشجب أعواد تغرس في الحائط يعلق عليها الثياب (شماعة).

(فقال بيده فعقد تسعاً) فيه استعمال القول بدل الفعل، والمراد عد بأصابع يده تسعاً. (كيف أصنع؟ ) "كيف" يسأل بها عن الهيئة. أي على أي حالة أصنع في إحرامي؟ . (واستثفري بثوب) سبق قريباً معناه، وأنه خرقة توضع بين فخذي الحائض، تتلقى الدم. (فصلى في المسجد) أي مسجد ذي الحليفة. (ثم ركب القصواء) بفتح القاف والمد، اسم ناقتة. أي التي تبلغ أقصى الأماكن كذا قيل، وقال القاضي: ووقع في نسخة "القصوى" بضم القاف والقصر، قال: وهو خطأ، قال ابن قتيبة: كانت للنبي صلى الله عليه وسلم نوق، القصواء، والجدعاء، والعضباء، قال أبو عبيد: العضباء اسم لناقة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تسم بذلك لشيء أصابها. قال القاضي: وفي غير مسلم "خطب على ناقته الجدعاء" وفي حديث آخر "على ناقة خرماء" وفي آخر "العضباء" وفي حديث آخر "كانت له ناقة لا تسبق" وفي آخر تسمى "مخضرمة"، وهذا كله يدل على أنها ناقة واحدة، خلاف ما قاله ابن قتيبة، وأن هذا كان اسمها أو وصفها، لهذا الذي بها، خلاف ما قال أبو عبيد. قال الحربي: العضب والجدع والخرم والقصو والخضرمة في الآذان، وقال ابن الأعرابي: القصواء التي قطع طرف أذنها، والجدع أكثر منه، وقال الأصمعي: والقصو مثله، قال: وكل قطع في الأذن جدع، فإن جاوز الربع فهي عضباء، والمخضرم مقطوع الأذنين، فإن اصتلمتا فهي صلماء. وقال التيمي وغيره: إن العضباء والقصواء والجدعاء اسم لناقة واحدة كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم. (فأهل بالتوحيد) يعني بقوله "لبيك لا شريك لك". (وأهل الناس بهذا الذي يهلون به) أي بالحج مفرداً، يصرح بذلك بعد قليل. (فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً منه) من إهلالهم بالحج، ولم يرشدهم إلى العمرة. (استلم الركن) أي استلم الحجر الأسود في الركن من الكعبة. (ثم نفذ إلى مقام إبراهيم) أي اخترق الناس ونفذ من بينهم. (فجعل المقام بينه وبين البيت) أي وصلى ركعتين. (حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى) أي حتى إذا هبط في بطن الوادي [بين الميلين الأخضرين المعلمين في هذه الأيام] هرول. (فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل) أمر بالتحلل، وكان قد طلب منهم أن يحرموا بالعمرة عقب خروجهم من سرف وقبل وصولهم مكة.

(فكان علي يقول بالعراق) أي وهو بالعراق، بعد أن تولى الخلافة. (فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محرشاً على فاطمة) أي مهيجاً للرسول صلى الله عليه وسلم على فاطمة، ومغرياً إياه عليها والمراد هنا إغراؤه على عتابها. (ماذا قلت حين فرضت الحج؟ ) أي حين أحرمت؟ . (فإن معي الهدي فلا تحل) أي فإن معي الهدي فلا أحل، ومعك الهدي فلا تحل. (توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج) ظاهره أنهم لم يحرموا من مكة، وقد سبق الكلام عن ميقات إحرام المكي والمقيم بها عند الكلام على لغويات الرواية المتممة للثلاثين. (تضرب له بنمرة) قال النووي: بفتح النون وكسر الميم، هذا أصلها، ويجوز فيها ما يجوز في نظيرها، وهو إسكان الميم مع فتح النون وكسرها، وهي موضع بجانب عرفات، وليست من عرفات. (فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة) أي أجاز المشعر الحرام وجاوزه وقطعه وسار به وخلفه حتى أتى عرفة، أي حتى أتى "نمرة" قريباً من عرفة، ففيه مجاز المقاربة والمشعر الحرام جبل في المزدلفة، يقال له: قزح، وقيل إن المشعر الحرام كل المزدلفة، وكان سائر العرب يتجاوزون المزدلفة ويقفون بعرفات (انظر الرواية الثامنة والثلاثين). (إن دماءكم وأموالكم) في رواية البخاري "وأعراضكم" والعرض ما يحميه الإنسان. (كحرمة يومكم هذا ... إلخ) قال الحافظ: إنما شبهها بهذه الأشياء في الحرمة لأنهم كانوا لا يرون استباحة تلك الأشياء بحال، وذكر الشهر والبلد للتأكيد. (كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع) أي ساقط، من قولهم: وضع عنه الدين والجزية والجناية، وقوله: "تحت قدمي" بالتثنية تأكيد لإبطاله وسقوطه. (ودماء الجاهلية موضوعة) ما كان في الجاهلية قبل الإسلام من قتل فلا مطالبة بثأره أو قصاصه أو ديته. (وأول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة) في بعض رواة مسلم "دم ربيعة بن الحارث" قيل: هو وهم، والصواب "ابن ربيعة" لأن ربيعة عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى زمن عمر بن الخطاب، وتأوله أبو عبيد، فقال: "دم ربيعة" لأنه ولى الدم فنسبه إليه. قالوا: وكان هذا الابن المقتول طفلاً صغيراً يحبو بين البيوت، فأصابه حجر في حرب كانت بين بني سعد وبني ليث بن بكر. (فإنه موضوع كله) معناه الزائد على رأس المال، كما قال الله تعالى: {وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم} [البقرة: 279]. لأن الربا الزيادة، فإذا وضع الربا فمعناه وضع الزيادة، والمراد بالوضع الرد والإبطال. قاله النووي.

(فإنكم أخذتموهن بأمان الله) قال النووي: هكذا هو في كثير من الأصول وفي بعضها "بأمانة الله". اهـ أي بسبب الأمان والعهد الذي عهد به إليكم، وجعلن أمانة لديكم. (واستحللتم فروجهن بكلمة الله) قيل: معناه قوله تعالى: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة: 229] وقيل المراد كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لا تحل مسلمة لغير مسلم وقيل المراد بإباحة الله والكلمة {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} [النساء: 3]. قال النووي: وهذا الثالث هو الصحيح، وقيل: المراد بالكلمة الإيجاب والقبول، ومعناه على هذا بالكلمة التي أمر الله تعالى بها. (أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه) قال المازري: قيل: المراد بذلك لا يستخلين بالرجال، ولم يرد زناها، لأن ذلك يوجب جلدها، ولأن ذلك حرام مع من يكرهه الزوج ومن لا يكرهه، وقال القاضي عياض: كانت عادة العرب حديث الرجال مع النساء، ولم يكن ذلك عيباً، ولا ريبة عندهم، فلما نزلت آية الحجاب نهوا عن ذلك. قال النووي: والمختار أن معناه أن لا يأذن لأحد تكرهونه في دخول بيوتكم والجلوس في منازلكم، سواء كان المأذون له رجلاً أجنبياً أو امرأة أو أحداً من محارم الزوجة. اهـ والأولى قصر النهي على المرأة والمحرم، أما الرجل الأجنبي فهو ظاهر الحرمة. (فإن فعلن فاضربوهن ضرباً غير مبرح) الضرب المبرح -بضم الميم وفتح الباء وكسر الراء المشددة- الضرب الشديد الشاق، والبرح المشقة. (قال بإصبعه السبابة، يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس) قال النووي: هكذا ضبطناه "ينكتها" بالتاء بعد الكاف، قال القاضي: وهو بعيد المعنى، قيل صوابه "ينكبها" بالباء بعد الكاف، ومعناه يقلبها ويرددها إلى الناس مشيراً إليهم، اهـ وفي كتب اللغة: نكت الشيء نثر ما فيه أو أخرجه، يقال: نكت العظم أخرج مخه. (فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات) قال النووي: هي صخرات مفترشات في أسفل جبل الرحمة، وهو الجبل الذي بوسط أرض عرفات. (وجعل حبل المشاة بين يديه) قال النووي: روي "حبل" بالحاء المهملة، وروي "جبل" بالجيم وفتح الباء، قال القاضي: الأول أشبه بالحديث، و"حبل المشاة" مجتمعهم، وأما الجيم فمعناه طريقهم، وحيث تسلك الرجالة. اهـ[وفي كتب اللغة: الجبل بفتح الجيم وضمها وكسرها مع سكون الباء الجماعة من الناس والساحة]. (وأردف أسامة خلفه) أي ركب القصواء، وأردف عليها أسامة بن زيد خلفه. (ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي دفع عن المكان، ورحل عنه.

(وقد شنق للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله) معنى "شنق" ضم وضيق، ومورك الرحل الموضع الذي يثني الراكب رجله عليه، والمعنى شد الزمام الذي يمسك برأس الراحلة حتى تكاد رأسها تلتصق بصدرها، منعاً لها من الإسراع لأنها تنطلق إذا أطلق لها الزمام. (كلما أتى حبلاً من الحبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد) قال النووي: الحبال هنا بالحاء المهملة المكسورة، جمع حبل، وهو التل اللطيف من الرمل. و"تصعد" بفتح التاء وضمها، يقال: صعد في الجبل وأصعد. (حتى أتى المزدلفة) موضع معروف، قيل: سميت بذلك من التزلف، والازدلاف التقرب، لأن الحجاج إذا أفاضوا من عرفات ازدلفوا إليها، أي مضوا إليها، وتقربوا منها، وقيل: سميت بذلك لمجيء الناس إليها في زلف من الليل، أي ساعات، وتسمى "جمعاً" بفتح الجيم وسكون الميم، سميت بذلك لاجتماع الناس فيها، أو لجمع الصلاة فيها، وقيل لاجتماع آدم وحواء فيها. قال النووي: واعلم أن المزدلفة كلها من الحرم، وحدها ما بين مأزمي عرفة [المأزم -بكسر الزاي- الطريق الضيق بين جبلين] ووادي محسر، وليس الحدان منها، ويدخل في المزدلفة جميع تلك الشعاب والحبال الداخلة في الحد المذكور. (ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام) المراد به هنا قزح -بضم القاف وفتح الزاي بعدها حاء، وهو جبل معروف في المزدلفة. وقال جماهير المفسرين وأهل السير والحديث: المشعر الحرام جميع المزدلفة، وظاهر الحديث مع القول الأول. (فدعاه وكبره وهلله ووحده) أي دعا ربه وكبره إلخ، والضمير وإن لم يسبق له ذكر مفهوم من المقام. (حتى أسفر جداً) الضمير في "أسفر" يعود إلى الفجر المذكور قريباً والسفر -بفتح السين وسكون الفاء- والسفور الإضاءة والكشف، يقال: سفر الصبح وأسفر أي أضاء وأشرق، وسفرت الشمس طلعت، وعن ابن خزيمة والطبري "فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسفر كل شيء قبل أن تطلع الشمس" أي ظهر كل شيء وانكشف، وقوله "جداً" أي إسفاراً بليغاً. (وكان رجلاً حسن الشعر وسيماً) وصفه بصفة يفتتن بها النساء، وكأن تحويله عن النساء كان خوفاً عليهن من جماله، لا خوفاً عليه منهن، ولكن يلزم من افتتان المرأة به أن يقع في شراكها. (مرت به ظعن يجرين) الظعن بضم الظاء والعين، ويجوز إسكانها جمع ظعينة، وأصل الظعينة البعير الذي عليه امرأة، ويراد بها هنا المرأة مجازاً لملابستها البعير، قاله النووي. وكأن المعنى مرت به فتيات يجرين. (فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر) كأنهن كن كثيرات، يمكن رؤيتهن من جهة ومن جهة أخرى.

وفي رواية الترمذي "أن النبي صلى الله عليه وسلم لوى عنق الفضل، فقال له العباس: لويت عنق ابن عمك؟ قال: رأيت شاباً وشابة فلم آمن الشيطان عليهما". (حتى أتى بطن محسر فحرك قليلاً) قال النووي: "محسر" بضم الميم وفتح الحاء وكسر السين المشددة، سمي بذلك لأن فيل أصحاب الفيل حسر فيه، أي أعيى وكل. ومعنى "حرك قليلاً" حرك دابته أكثر من حركتها، أي أسرع. (مثل حصى الخذف) متصل بقوله "فرماها بسبع حصيات" وجملة "يكبر مع كل حصاة" معترضة بين الصفة والموصوف، وحصى الخذف هو الحصا الذي في قدر حبة الباقلاء، والتي توضع بين السبابة والإبهام فترمى. والخذف الرمي. (فنحر ثلاثاً وستين بيده) قال النووي: هكذا هو في النسخ "ثلاثاً وستين بيده" وكذا نقله القاضي عياض عن جميع الرواة سوى ابن هامان، فإنه رواه "بدنة" قال: وكلامه صواب، والأول أصوب. (ثم أعطى علياً فنحر ما غبر) أي ما بقي، ومفعول "أعطى" الثاني محذوف، أي أعطى علياً السكين، أو أعطاه ما بقي. (وأشركه في هديه) أي في ذبح هديه، وليس المراد كما هو الظاهر أنه أشركه في نفس الهدي، قال القاضي عياض: وعندي أنه لم يكن تشريكاً حقيقة، بل أعطاه قدراً يذبحه، والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر البدن التي جاءت معه من المدينة، وكانت ثلاثاً وستين وأعطى علياً البدن التي جاءت معه من اليمن، وهي تتمم المائة. (ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر، فطبخت، فأكلا من لحمها) قال النووي: البضعة بفتح الباء لا غير، وهي القطعة من اللحم، ولما كان في الأكل من كل واحدة من المائة منفردة كلفة جعلت في قدر ليكون شارباً من مرق الجميع الذي فيه جزء من كل واحدة، ويأكل من اللحم المجتمع في المرق ما تيسر. (فأفاض إلى البيت) الإفاضة النزول من عرفات، والتقدير: فأفاض إلى البيت، فطاف طواف الإفاضة. (انزعوا بني عبد المطلب) بكسر الزاي، أي اسقوا بالدلاء، وانزعوها بالحبال، وكانوا يغرفون ماء زمزم من البئر بالدلاء، ويصبونه في الحياض ونحوها، ويسيلونه للناس. (فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم) معناه: لولا خوفي أن يعتقد الناس ذلك من مناسك الحج، ويزدحمون عليه بحيث يغلبونكم ويدفعونكم عن الاستقاء لاستقيت معكم، لكثرة فضيلة هذا الاستقاء.

قال النووي: وأما زمزم فهي البئر المشهورة في المسجد الحرام، بينها وبين الكعبة ثمان وثلاثون ذراعاً، قيل: سميت زمزم لكثرة مائها، يقال: ماء زمزم، وزمزوم، وزمازم إذا كان كثيراً، وقيل: لضم هاجر -رضي الله عنها- لمائها حين انفجرت، وزمها إياه، وقيل: لزمزمة جبريل عليه السلام لها، وكلامه عند فجره إياها، وقيل: إنها غير مشتقة، ولها أسماء أخرى. (وكانت العرب يدفع بهم أبو سيارة على حمار عري) أي كان يدفع بهم في الجاهلية. (فلما أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم من المزدلفة بالمشعر الحرام لم تشك قريش أنه سيقتصر عليه، ويكون منزله ثم، فأجاز، ولم يعرض له، حتى أتى عرفات، فنزل) قال النووي: "أجاز" أي جاوز، وقوله: "لم يعرض" هو بفتح الياء وكسر الراء [ومعنى "لم يعرض له" لم يظهر عليه ولم يشرف عليه، ولم يتمكن فيه]. قال: ومعنى الحديث أن قريشاً كانت قبل الإسلام تقف بالمزدلفة، وهي من الحرم، ولا يقفون بعرفات، وكان سائر العرب يقفون بعرفات، وكانت قريش تقول: نحن أهل الحرم، فلا نخرج منه، فلما حج النبي صلى الله عليه وسلم ووصل المزدلفة اعتقدوا أنه يقف بالمزدلفة على عادة قريش، فجاوز إلى عرفات، لقول الله عز وجل: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} [البقرة: 199]. فإن من سوى قريش كانوا يقفون بعرفات ويفيضون منها. وقوله: "حتى أتى عرفات فنزل" فيه مجاز المشارفة، والمعنى حتى أتى قريباً من عرفات "نمرة" فنزل بها. الرواية السادسة والثلاثون (نحرت ههنا، ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم) "ههنا" إشارة إلى المكان الذي نحر فيه صلى الله عليه وسلم من منى، والرحال المنازل، قال أهل اللغة: رحل الرجل منزله، سواء كان من حجر أو مدر أو شعر أو وبر. قال النووي: ومعنى الحديث: منى كلها منحر، يجوز النحر فيها، فلا تكلفوا النحر في موضع نحري، بل يجوز لكم النحر في منازلكم من منى. الرواية الثامنة والثلاثون (وكانوا يسمون الحمس) بضم الحاء وسكون الميم. قال أبو الهيثم: "الحمس" هم قريش ومن ولدته قريش وكنانة، وجديلة قيس، سموا حمساً لأنهم تحمسوا في دينهم، أي تشددوا، وقيل: سموا حمساً بالكعبة، لأنها حمساء، حجرها أبيض يضرب إلى السواد. وبقية الحديث سبق شرحها.

الرواية المتممة للأربعين (عن جبير بن مطعم .... الحديث) قال القاضي عياض: كان هذا في حجة قبل الهجرة، وكان جبير حينئذ كافراً، وأسلم يوم الفتح، وقيل: يوم خيبر، فتعجب من وقوف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات. اهـ الرواية الواحدة والأربعون (قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منيخ بالبطحاء) "أناخ" أي أبرك بعيره، والمراد أنه نزل بها، والمراد من البطحاء هنا بطحاء مكة، وهو المحصب. وقد أشارت الرواية الثالثة والأربعون إلى مصدر قدومه، وهو اليمن، ولفظ البخاري "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوم باليمن، فجئت وهو بالبطحاء" وكان بعثه إلى اليمن في السنة العاشرة من الهجرة، قبل حجة الوداع، بعثه وبعث معاذ بن جبل، كلاً منهما والياً على قسم من قسميها، فلما علم بحج النبي صلى الله عليه وسلم قدم من اليمن للحج. (فقال لي: أحججت؟ ) أي أأحرمت بالحج؟ . (فقال: بم أهللت؟ ) في الرواية الثالثة والأربعين "كيف قلت حين أحرمت"؟ . (قلت: لبيك بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم) في الرواية الثالثة والأربعين "قلت: لبيك إهلالاً كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم". (قال: فقد أحسنت. طف بالبيت، وبالصفا والمروة، وأحل) في هذه الرواية طي، صرح به في الرواية الثانية والأربعين والثالثة والأربعين "قال: هل سقت من هدي؟ قلت: لا" والمعنى: حيث لم تسق الهدي فأحرم بعمرة وائت بمناسكها، ثم تحلل، ففعل. (ثم أتيت امرأة من قيس، ففلت رأسي) قال الكرماني: يحمل على أن المرأة كانت محرماً له، كبنت بعض إخوته، و"فلت رأسي" بفتح الفاء واللام مخففة، يقال: فلي رأسه يفليه فلياً بحث فيه عن القمل. وفلى الشعر بتشديد اللام، مثل فلى بالتخفيف. وفي الرواية الثانية والأربعين "فمشطتني وغسلت رأسي" والمراد أنه تحلل من محرمات الإحرام. (فكنت أفتي به الناس) في الرواية الثانية والأربعين "فكنت أفتي الناس بذلك" أي بالتمتع، كما جاء في الرواية الرابعة والأربعين "أنه كان يفتي بالمتعة". (حتى كان في خلافة عمر رضي الله عنه) أي حتى كان الأمر، وفي الرواية الثانية والأربعين "في إمارة أبي بكر وإمارة عمر" أي وصدر من إمامة عمر.

(فقال له رجل: يا أبا موسى، رويدك بعض فتياك) في الرواية الرابعة والأربعين "رويدك ببعض فتياك" أي تمهل في بعض فتياك، أي في هذه الفتوى، أي أمسك عن هذه الفتيا قليلاً، حتى يتبين لك أمرها، يقال: فتيا وفتوى لغتان مشهورتان، وفي الرواية الثانية والأربعين "فإني لقائم بالموسم إذا جاءني رجل". (فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعدك) أي في شأن نسك العمرة مع الحج تمتعاً، و"بعدك" أي بعد حجتك مع النبي صلى الله عليه وسلم، أو بعد فتياك بالمتعة في عهد أبي بكر. (من كنا أفتيناه فتيا فليتئد، فإن أمير المؤمنين قادم عليكم فبه فائتموا) في الرواية الثانية والأربعين "من كنا أفتيناه بشيء" أي من هذه الفتيا الخاصة بالمتعة، فليتئد وليتمهل في العمل بها. (فذكرت ذلك له) في الرواية الثانية والأربعين "فلما قدم قلت: يا أمير المؤمنين، ما هذا الذي أحدثت في شأن النسك؟ ". (إن نأخذ بكتاب الله فإن كتاب الله يأمر بالتمام) في الرواية الثانية والأربعين "فإن الله عز وجل يقول: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة: 196]. وظاهره أن عمر رضي الله عنه حمل الإتمام على انفراد كل منهما في عام، وإلا فالمتعة فيها إتمام واستقلال بأفعال كل من الحج والعمرة، اللهم إلا أن يقال: ليس فيها استقلال بالخروج، ولا استقلال في ميقات محلته والإهلال منه، وقال الحافظ ابن حجر: محصل جواب عمر أن كتاب الله دال على منع التحلل، لأنه أمر بالإتمام، فيقتضي استمرار الإحرام إلى فراغ الحج، وقال المازري: قيل: إن المتعة التي نهي عنها عمر فسخ الحج إلى العمرة، فالحج على هذا لم يتم، وقال القاضي عياض: الظاهر أنه نهى عن الفسخ، ولهذا كان يضرب الناس عليها، كما رواه مسلم، على معتقده أن الفسخ كان خاصاً بهذه السنة، ويؤيد هذا ما جاء في الرواية الثالثة والثلاثين من قوله: "إن الله كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء" أي إن الله أحل لرسوله الفسخ في ذاك العام. (وإن نأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل حتى بلغ الهدي محله) أي لم يتمتع، وكأنه يعتمد فعله صلى الله عليه وسلم دون قوله، وفي الرواية الرابعة والأربعين "قد علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعله" أي فعل التمتع، أي أمر به وأقره "وأصحابه فعلوه بأمره "ولكن كرهت أن يظلوا معرسين بهن في الأراك، ثم يروحون في الحج تقطر رءوسهم" قال النووي: "معرسين" بإسكان العين وتخفيف الراء، والضمير في "بهن" يعود إلى النساء للعلم بهن وإن لم يذكرن، ومعناه كرهت التمتع، لأن يقتضي التحلل، ووطء النساء إلى حين الخروج إلى عرفات، وللموضوع تتمة في فقه الحديث.

الرواية الخامسة والأربعون (كان عثمان ينهى عن المتعة، وكان علي يأمر بها) قال النووي: المختار أن المتعة التي نهى عنها عثمان هي التمتع المعروف في الحج، وكان عمر وعثمان ينهيان عنها نهي تنزيه لا تحريم. اهـ وفي الرواية السادسة والأربعين "اجتمع علي وعثمان -رضي الله عنهما- بعسفان، فكان عثمان ينهى عن المتعة، أو العمرة" و"عسفان" بضم العين وسكون السين، قرية جامعة على مسافة ستة وثلاثين ميلاً من مكة. (فقال عثمان لعلي كلمة) فسرت الكلمة رواية النسائي "فقال عثمان: تراني أنهى الناس وأنت تفعله"؟ . (قال علي: لقد علمت أنا قد تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) في الرواية السادسة والأربعين "فقال علي: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه"؟ أي ما تريد إرادة منتهية إلى النهي، أو ضمن الإرادة معنى الميل، وفي رواية "ما تريد إلا أن تنهى عن أمر". (فقال: أجل) بفتح الهمزة والجيم، أي نعم تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي الرواية السادسة والأربعين "فقال عثمان: دعنا منك" أي دعنا من رأيك ونقاشك. (ولكنا كنا خائفين) قال النووي: لعله أراد بقوله: "خائفين" يوم عمرة القضاء سنة سبع، قبل فتح مكة، لكن لم يكن تلك السنة حقيقة التمتع، إنما كان عمرة وحدها. اهـ قال الحافظ ابن حجر: هي رواية شاذة، فقد روى الحديث مروان بن الحكم وسعيد بن المسيب، وهما أعلم من عبد الله بن شقيق، فلم يقولا ذلك، والتمتع إنما كان في حجة الوداع، وقد قال ابن مسعود -كما ثبت في الصحيحين عنه "كنا آمن ما يكون الناس" وقال القرطبي: قوله "خائفين" أي من أن يكون أجر من أفرد أعظم من أجر من تمتع. كذا قال، وهو جمع حسن، ولكن لا يخفى بعده. الرواية السادسة والأربعين (فلما أن رأى على ذلك أهل بهما جميعاً) قال العيني: أهل بهما أي بالعمرة والحج، وهذا هو القران، فإن قلت: كيف تقول: هذا قران؟ والاختلاف بينهما كان في التمتع؟ قلت: القران من باب التمتع، لأن القارن يتمتع بترك النصب في السفر إلى العمرة مرة، وإلى الحج أخرى، ويتمتع بجمعهما، ولم يحرم لكل منهما من ميقاته، وضم الحج إلى العمرة، فدخل في قوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196]. اهـ وفي رواية للبخاري عن مروان بن الحكم قال: شهدت عثمان وعلياً -رضي الله عنهما- وعثمان

ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما، فلما رأى على ذلك أهل بهما. لبيك بعمرة وحجة" فالاختلاف بينهما -على هذا- كان في التمتع والقران. وفي رواية للنسائي "فلبى علي وأصحابه بالعمرة، فلم ينههم عثمان" أي بالعمرة مع الحج. الرواية الواحدة والخمسون (وهذا يومئذ كافر بالعرش) بضم العين والراء، وهي بيوت مكة، كما فسره في الرواية، قال أبو عبيد: سميت بيوت مكة عرشا لأنها عيدان تنصب وتظلل. قال: ويقال لها أيضاً عروش، واحدها عرش كفلس وفلوس، ومن قال عرش فواحدها عريش، كقليب وقلب. قال النووي. وأما قوله "وهذا يومئذ كافر بالعرش" فالإشارة بهذا إلى معاوية بن أبي سفيان، والمراد بالكفر هنا وجهان. أحدهما ما قاله المازري وغيره: المراد وهو مقيم في بيوت مكة، قال ثعلب: يقال: اكتفر الرجل إذا لزم الكفور، وهي القرى. والوجه الثاني المراد الكفر بالله تعالى، والمراد أنا تمتعنا ومعاوية يومئذ كافر على دين الجاهلية، مقيم بمكة، وهذا اختيار القاضي عياض وغيره، وهو الصحيح المختار، والمراد بالمتعة العمرة التي كانت سنة سبع من الهجرة، وهي عمرة القضاء، وكان معاوية يومئذ كافراً، وإنما أسلم بعد ذلك، عام الفتح، سنة ثمان، وقيل: إنه أسلم بعد عمرة القضاء، سنة سبع، والصحيح الأول وأما غير هذه العمرة من عمر النبي صلى الله عليه وسلم فلم يكن معاوية فيها كافراً مقيماً بمكة، بل كان معه صلى الله عليه وسلم. الرواية الثانية والخمسون (عن مطرف) بن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه. (إني لأحدثك بالحديث اليوم) أل في "الحديث" للعهد الحضوري، أي بهذا الحديث الحاضر، وفي الرواية الرابعة والخمسين "إني كنت محدثك بأحاديث" ولعله كان قد حدثه بأحاديث يخشى على نفسه من نشرها. قال النووي: "أحاديث" ظاهره أنها ثلاثة فصاعداً، ولم يذكر منها إلا حديثاً واحداً، وهو الجمع بين الحج والعمرة، وأما إخباره بالسلام فليس حديثاً، فيكون باقي الأحاديث محذوفة من الرواية. (في العشر) أي العشر من ذي الحجة، والمراد أنهم تمتعوا. (ارتأى كل امرئ بعد ما شاء أن يرتئي) في ملحق الرواية "ارتأى رجل برأيه ما شاء" يعني عمر. وفي الرواية الرابعة والخمسين والخامسة والخمسين "قال رجل فيها برأيه ما شاء" قال الحافظ ابن حجر: قال ابن التين: يحتمل أنه يريد عمر أو عثمان، وأغرب الكرماني فقال: المراد به عثمان، قال الحافظ: والأولى أن يفسر بعمر، فإنه أول من نهى عنها، وكأن من بعده كان تابعاً له في ذلك.

الرواية الثالثة والخمسون (وقد كان يسلم علي، حتى اكتويت، فتركت، ثم تركت الكي فعاد) قال النووي: "يسلم علي" هو بفتح اللام المشددة، وقوله: "فتركت" هو بضم التاء، أي انقطع السلام علي، "ثم تركت الكي" بفتح التاء الأولى، فعاد السلام علي، والمعنى أن عمران بن الحصين رضي الله عنه كانت به بواسير فكان يصبر، وكانت الملائكة تسلم عليه، فاكتوى، فانقطع سلامهم عليه، ثم ترك الكي، فعاد سلامهم عليه. الرواية الرابعة والخمسون (فإن عشت فاكتم عني، وإن مت فحدث بها إن شئت) قال النووي: أراد به الإخبار بالسلام عليه، لأنه كره أن يشاع عنه ذلك في حياته، لما فيه من التعرض للفتنة، بخلاف ما بعد الموت. اهـ ولا مانع من أن يريد كتمان مخالفته لعمر رضي الله عنه في شأن المتعة خوفاً من عمر -رضي الله عنهما. (ثم لم ينزل فيها كتاب الله) أي يمنعها بعد أن أباحها بقوله: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196]. تصرح بذلك الرواية السابعة والخمسون ولفظها "نزلت آية المتعة في كتاب الله، وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج". وفي الرواية الخامسة والخمسين "ولم ينزل فيها كتاب" أي قرآن، كما جاء في الرواية السادسة والخمسين. (تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي أمر بالتمتع، كقولهم: بنى الأمير قصراً، أي أمر ببنائه، ويمكن حمل التمتع هنا على القران، وقد ذكرنا قريباً أنه يطلق على القران تمتع. الرواية الثامنة والخمسون (تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج) قال المهلب: معناه أمر بذلك، لأن ابن عمر كان ينكر على أنس رضي الله عنه قوله: إنه كان قارناً، ويقول: بل كان مفرداً. اهـ وسيأتي هذا الإنكار في الروايات السادسة والستين والسابعة والستين والثامنة والستين. وقال ابن المنير في الحاشية: إن حمل "تمتع" على أمر بالتمتع هنا من أبعد التأويلات، ثم أجاز تأويلاً آخر، وهو أن الراوي عهد أن الناس لا يفعلون إلا كفعله صلى الله عليه وسلم، لا سيما مع قوله "خذوا عني مناسككم" فلما تحقق أن الناس تمتعوا ظن أنه صلى الله عليه وسلم تمتع، فأطلق ذلك. اهـ أقول: وهذا ليس تأويلاً بل هو اتهام لابن عمر رضي الله عنه بالإخبار بغير الحقيقة، والجهل بالحقيقة،

وإسناد الفعل للرسول صلى الله عليه وسلم عن طريق الظن البعيد الذي يشبه الوهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحاديث التي عرضناها كان يعلن التفريق بينه وبين غيره بسوق الهدي. قال الحافظ ابن حجر: يحتمل أن يكون معنى "تمتع" محمولاً على مدلوله اللغوي، وهو الانتفاع بإسقاط عمل العمرة، والخروج إلى ميقاتها وغيرها، بل قال النووي: إن هذا هو المتعين، وقوله "بالعمرة إلى الحج" أي بإدخال العمرة على الحج. اهـ وهذا الاحتمال لا يتوافق مع رأي ابن عمر في أنه صلى الله عليه وسلم كان مفرداً. (وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج) هذا مشكل مع ما ثبت من حاله صلى الله عليه وسلم المستفاد من الأحاديث الكثيرة، وأنه بدأ بالحج أولاً، ثم أدخل عليه العمرة، وهذا بالعكس. قال الحافظ ابن حجر: وأجيب عنه بأن المراد به صورة الإهلال [ولفظ الإحرام] أي لما أدخل العمرة على الحج لبى بهما، فقال [في لفظ التلبية] لبيك بعمرة وحجة معاً. اهـ أي فبدأ بلفظ العمرة، ثم عطف عليه لفظ الحج] وهذا الجواب بعيد، لأنه لا يتوافق أيضاً مع رأي ابن عمر في أنه صلى الله عليه وسلم كان مفرداً، والخروج من هذا المأزق أن يقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم بالحج مفرداً كالصحابة في ذي الحليفة، ثم لما فسخ الصحابة الحج إلى العمرة لم يفسخ، لأنه ساق الهدي، فلا يحل الفسخ، فأحرم بالعمرة، فطاف وسعى، فأنهى مناسك العمرة، ثم خرج إلى منى لأداء مناسك الحج، فحين يتحدث الراوي عن الحالة الثانية والثالثة يمكن أن يقول: بدأ فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج. وحين يتحدث عن الحالة الثالثة وحدها، دون أن يسمع منه، لبيك عمرة وحجة يقول: إنه كان مفرداً، والله أعلم. الرواية التاسعة والخمسون (ما شأن الناس حلواً؟ ولم تحلل أنت من عمرتك؟ ) في الرواية المتممة للستين "ولم تحل من عمرتك" وفي الواحدة والستين "ما يمنعك أن تحل" وقد سبق القول بأن نساءه لم يسقن الهدي فحللن بعمرة، والمراد من قولها "من عمرتك" أي من إحرامك، فإنه صلى الله عليه وسلم كان قارناً أو حاجاً وقيل: إن القارن لا يحل من العمرة ولا من الحج حتى ينحر مادام قد صحب الهدي. (إني لبدت رأسي وقلدت هديي) لبد شعره جعل فيه شيئاً نحو الصمغ ليجتمع شعره، لئلا يتشعث في الإحرام، وتقليد الهدي تعليق نعل أو نعلين في رقبة الناقة، أو شيء من الجلد، أو لحى شجرة، كعلامة عن كونها هدياً بالإضافة إلى إشعارها، وهو أن يضرب صفحة سنامها الأيمن أو الأيسر بحديدة أو سكين، فيشق الجلد ويسيل الدم، ثم يرفأ الجرح ويبقى أثره علامة على كونها هدياً. والحكمة فيه أن البدنة التي أشعرت أو قلدت إذا اختلطت بغيرها تميزت وإذا ضلت عرفت، وربما ارتدع سارقها فتركها، وقد تعطب فتنحر فتكون للمساكين، وفي ذلك تعظيم شعار الشرع، فالقرآن الكريم يقول: {والبدن جعلناها لكم من شعائر الله} [الحج: 36].

ومراد الحديث من تقليد الهدي استصحابه مقلداً أو مشعراً أو بدون تقليد ولا إشعار، كما سبق في الأحاديث "من كان معه هدي". "من لم يكن ساق الهدي" فإن ذلك يمنع التحلل حتى يبلغ الهدي محله. ولا دخل في تلبيد الرأس في منع التحلل، ولعله ذكر مصاحباً لتقليد الهدي، وقال الكرماني: الغرض من ذكر التلبيد بيان أنه مستعد من أول الأمر بأن يدوم إحرامه إلى أن يبلغ الهدي محله. الرواية الثانية والستون (خرج في الفتنة معتمراً) بينت الرواية الثالثة والستون المراد من الفتنة، وأنها نزول الحجاج لقتال ابن الزبير. وأن المراد من خروجه إرادته الخروج، وليس الخروج فعلاً وأن قوله: "إن صددت عن البيت" مبني على نصح أولاده له بعدم الخروج في هذا العام وكان سنة اثنتين وسبعين من الهجرة. (فخرج فأهل بعمرة) في الرواية الثالثة والستين "أشهدكم أني قد أوجبت عمرة، فانطلق حتى أتى ذا الحليفة فلبى بالعمرة" قال العيني: إنما قال: أشهدكم إلخ ولم يكتف بالنية ليعلمه من أراد الاقتداء به. (حتى ظهر على البيداء) هو موضع بين مكة والمدينة قدام ذي الحليفة. (ما أمرهما إلا واحداً) يعني حكمهما واحد في جواز التحلل منهما بالإحصار، فعدل إحرامه في الميقات إلى القران. (لم يزد عليه): ورأى أنه مجزئ عنه أي لم يزد على هذا الطواف والسعي طوافاً آخر وسعياً آخر للحج، ورأى أن الطواف الواحد والسعي الواحد مجزئ عن الحج والعمرة معاً للقارن، وفي الرواية الثالثة والستين "ثم طاف لهما -أي للحج والعمرة- طوافاً واحداً بالبيت، وبين الصفا والمروة" وفي ملحقها "وكان يقول": من جمع بين الحج والعمرة كفاه طواف واحد" أي طواف بالبيت وبين الصفا والمروة. وفي الرواية الرابعة والستين "ورأى أنه قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول". الرواية الثالثة والستون (فانطلق حتى ابتاع من قديد هدياً) "قديد" بضم القاف وفتح الدال، وهو اسم موضع بين مكة والمدينة. (ثم لم يحل منهما حتى حل منهما بحجة يوم النحر) في ملحق الرواية "ولم يحل حتى يحل منهما جميعاً" أي من أعمال الحج والعمرة. وفي الرواية الرابعة والستين "ولم ينحر، ولم يحلق، ولم يقصر، ولم يحلل من شيء حرم منه حتى كان يوم النحر، فنحر وحلق".

الرواية الثانية والسبعون (إن رجلاً يقول ذلك) عنى به ابن عباس رضي الله عنهما. (فتصداني الرجل) أي تعرض لي. قال النووي: هكذا هو في جميع النسخ "تصداني" بالنون، والأشهر في اللغة "تصدى لي". (ثم لم يكن غيره) قال الثوري: وكذا قال فيما بعده "ولم يكن غيره" هكذا هو في جميع النسخ "غيره" بالغين والياء، قال القاضي عياض: كذا هو في جميع النسخ. قال: وهو تصحيف، وصوابه "ثم لم تكن عمرة" بالعين والميم، وكأن السائل لعروة إنما سأل عن نسخ الحج إلى العمرة على مذهب من رأى ذلك، واحتج بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بذلك في حجة الوداع، فأعلمه عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك بنفسه، ولا من جاء بعده. هذا كلام القاضي: قال النووي: هذا الذي قاله من أن "غيره" تصحيف ليس كما قال، بل هو صحيح في الرواية وصحيح في المعنى، لأن قوله "غيره" يتناول العمرة وغيرها، ويكون تقدير الكلام، ثم حج أبو بكر فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت، ثم لم يكن غيره، أي لم يغير الحج، ولم ينقله وينسخه إلى غيره، لا عمرة، ولا قران. والله أعلم. (ثم حججت مع أبي الزبير بن العوام) المتكلم عروة بن الزبير، فيقول: ثم حججت مع والدي الزبير، فقوله "الزبير" بدل من "أبي". (ولا أحد ممن مضى) معطوف على فاعل "ثم لم ينقضها" أي لم ينقضها ابن عمر بعمرة، ولا أحد غيره ممن مضى، وتمت الجملة، وما بعدها جملة جديدة. لئلا يدخل النفي على النفي فيفيد إثباتاً، عكس المقصود. (ما كانوا يبدءون بشيء حين يضعون أقدامهم -يعني حين يصلون مكة- أول من الطواف بالبيت) أي لا يصلون تحية المسجد، ولا يشتغلون بغير الطواف، وفي رواية البخاري "ما كانوا يبدءون بشيء حين يضعون أقدامهم من الطواف" قال ابن بطال: لا بد من زيادة لفظ "أول" بعد لفظ "أقدامهم" أي كروايتنا. (وقد رأيت أمي) أي أسماء بنت أبي بكر زوجة الزبير رضي الله عنهم. (وخالتي) أي عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها. (أقبلت بعمرة قط) في كتب اللغة: "قط" لها ثلاثة أحوال: الأول أن تكون ظرف زمان، لاستغراق الماضي، وهذه بفتح القاف وتشديد الطاء مضمومة، وتختص بالنفي يقال: ما فعلت هذا قط. الثانية: أن تكون بمعنى حسب، أي كاف، وقلما تذكر غير مقرونة بالفاء، وهذه بفتح القاف

وسكون الطاء يقال: أخذت درهماً قط، أي فقط. والثالثة: أن تكون اسم فعل، بمعنى يكفي، فتزاد نون الوقاية مع ياء المتكلم، فيقال: قطني، أي كفاني. اهـ والتي في الحديث من قبيل الحالة الثانية. (فلما مسحوا الركن حلوا) قال النووي: هذا متأول عن ظاهره، لأن الركن هو الحجر الأسود، ومسحه يكون في أول الطواف، ولا يحصل التحلل بمجرد مسحه بإجماع المسلمين، وتقديره: فلما مسحوا الركن، وأتموا طوافهم وسعيهم وحلقوا أو قصروا حلوا. قال: ولا بد من تقدير هذا المحذوف، وإنما حذف للعلم به، وقد أجمعوا على أنه لا يتحلل قبل إتمام الطواف، ومذهبنا ومذهب الجمهور أنه لا بد أيضاً من السعي بعده، ثم الحلق أو التقصير، وشذ بعض السلف فقال: السعي ليس بواجب، ولا حجة لهذا القائل في هذا الحديث، لأن ظاهره غير مراد بالإجماع، فيتعين تأويله -كما ذكرنا- ليكون موافقاً لباقي الأحاديث. اهـ وقال الحافظ ابن حجر: وتعقب كلام النووي بأن المراد بمسح الركن الكناية عن تمام الطواف، لا سيما واستلام الركن يكون في كل طوفة، فالمعنى فلما فرغوا من الطواف حلوا، وأما السعي والحلق فمختلف فيهما كما قال، ويحتمل أن يكون المعنى فلما فرغوا من الطواف وما يتبعه حلواً. قال: وأراد بمسح الركن هنا استلامه بعد فراغ الطواف والركعتين، كما وقع في حديث جابر [روايتنا الخامسة والثلاثين] فحينئذ لا يبقى إلا تقدير: وسعوا لأن السعي شرط عند عروة، بخلاف ما نقل عن ابن عباس. والله أعلم. الرواية الثالثة والسبعون (قومي عني) إنما أمرهم بالقيام مخافة من عارض قد يبدر منه، كلمس بشهوة أو نحوه، فإن اللمس بشهوة حرام في الإحرام، فاحتاط لنفسه بمباعدتها من حيث إنها زوجة متحللة تطمع بها النفس. وفي الرواية الرابعة والسبعين "استرخي عني. استرخي عني" قال النووي: هكذا هو في النسخ مرتين، أي تباعدي. الرواية الخامسة والسبعون (كلما مرت بالحجون) بفتح الحاء وضم الجيم، وهو من حرم مكة، وهو الجبل المشرف على مسجد الحرس، بأعلى مكة، على يمينك وأنت مصعد عند المحصب. (خفاف الحقائب) قال النووي: جمع حقيبة، وهو كل ما حمل في مؤخر الرحل والقتب، ومنه احتقب فلان كذا. اهـ ومرادها مقارنة الماضي وما كانوا فيه من فقر وضيق حال بالحاضر وما هم فيه من سعة.

الرواية الثامنة والسبعون (كانوا يرون) أي كان أهل الجاهلية، و"يرون" أي يعتقدون، ولابن حبان عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "والله ما أعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة في ذي الحجة إلا ليقطع بذلك أمر أهل الشرك، فإن هذا الحي من قريش ومن دان دينهم كانوا يقولون .... " فذكر نحو الحديث، فعرف بهذا تعيين القائلين. (أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور) أي من أعظم الذنوب، وهذا من تحكماتهم الباطلة المأخوذة من غير أصل، والفجور الانبعاث في المعاصي. (ويجعلون المحرم صفراً) أي يجعلون "صفراً" من الأشهر الحرم، والمراد الإخبار عن النسيء الذي كانوا يفعلونه وكانوا يسمون المحرم صفراً، ويحلونه، وينسئون ويؤخرون المحرم، أي يؤخرون تحريمه إلى ما بعد صفر، لئلا يتوالى عليهم ثلاثة أشهر محرمة، تضيق عليهم أمورهم من الغارة وغيرها، فضللهم الله تعالى في ذلك بقوله: {إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا} [التوبة: 37]. قال الزمخشري: النسيء هو تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر، وربما زادوا في عدد الشهور، فيجعلون السنة ثلاثة عشر شهراً، أو أربعة عشر، ليتسع لهم الوقت. ولفظ "صفر" في نسخ مسلم بدون ألف، قال النووي: "صفر" من غير ألف بعد الراء، وهو منصوب مصروف بلا خلاف، وكان ينبغي أن يكتب بالألف، وسواء كتب بالألف أم بحذفها لا بد من قراءته هنا منصوباً، لأنه مصروف. (ويقولون إذا برأ الدبر) "الدبر" بفتح الدال والباء هو الأثر يحدث في ظهر الإبل بسبب احتكاك القتب والحمل عليها في السفر، أرادوا إذا شفي وجف جرح ظهور الإبل التي سافرت للحج، وقيل: الدبر هو أن يقرح خف البعير. (وعفا الأثر) أي ذهب أثر الدبر، يقال: عفا الشيء بمعنى درس، وقيل: عفا وزال أثر خفاف الإبل على الرمال بعد عودتها من الحج، لطول مرور الأيام، وهذا الأخير هو المشهور، لأن الأول يتكرر مع "إذا برأ الدبر" ووقع في سنن أبي داود "وعفا الوبر" بالواو، يعني كثر وبر الإبل بعد أن حلقته رحال الحاج. (حلت العمرة لمن اعتمر) أي صار الإحرام بالعمرة جائزاً لمن أراد أن يحرم بها. قال النووي: وهذه الألفاظ تقرأ كلها ساكنة الآخر ويوقف عليها لأن مرادهم السجع (صبيحة رابعة) أي صبيحة ليلة رابعة من ذي الحجة، وفي الرواية التاسعة والسبعين والواحدة والثمانين "فقدم لأربع مضين من ذي الحجة" وفي الرواية المتممة للثمانين "قدم .... لأربع خلون من العشر".

الرواية الثانية والثمانون (هذه عمرة استمتعنا بها) أي استمتعتم بها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن متمتعاً، ويمكن حمل استمتاعه صلى الله عليه وسلم على القران كما سبق. (فإن العمرة قد دخلت في الحج إلى يوم القيامة) أي اندرجت أفعالها في أفعال الحج للقارن، أو دخل زمنها في زمن الحج، فليست في هذه الأشهر من أفجر الفجور. الرواية الرابعة والثمانون (وسلت الدم) يقال: سلت الدم بفتح السين واللام مخففة يسلت بكسر اللام وضمها سلتاً، أي سله وسحبه، والمقصود هنا سحب الدم الذي يسيل من الإشعار وتجفيفه. الرواية الخامسة والثمانون (ما هذه الفتيا التي قد تشغفت بالناس؟ ) في بعض النسخ "ما هذا الفتيا" والأولى أجود، والثانية توجه على أنه أراد بالفتيا الإفتاء. ومعنى "تشغفت بالناس" بالشين والغين بعدها فاء، ثلاثتها مفتوح مع تشديد الفاء، أي علقت بالقلوب وشغفوا بها. (أو تشغبت بالناس؟ ) بفتح الشين والغين المشددة، بعدها باء، أي خلطت على الناس أمورهم وأحدثت فيهم شغباً، وروى "تشعبت بالناس" بالعين المهملة بدل الغين المعجمة، ومعناها فرقت مذاهب الناس وأوقعت الخلاف بينهم، وسلكت بهم شعاباً مختلفة وفي الرواية السادسة والثمانين "إن هذا الأمر قد تفشغ بالناس" بفتح الفاء والشين المشددة بعدها غين معجمة ومعناه انتشر وفشا بين الناس. (أن من طاف بالبيت فقد حل) في الرواية السادسة والثمانين "من طاف بالبيت فقد حل، الطواف عمرة" وفي الرواية السابعة والثمانين "لا يطوف بالبيت حاج ولا غير حاج إلا حل" قال النووي: هذا الذي ذكره ابن عباس مذهبه، وهو خلاف مذهب الجمهور. اهـ وسيأتي شرح ذلك في فقه الحديث. (وإن رغمتم) الرغم بضم الراء وكسرها الكره والذل والهوان. أي وإن كرهتم. الرواية السابعة والثمانون (فإن ذلك بعد المعرف) أي لا يطوف بالبيت حاج إلا حل، ذاك الطواف الذي بعد الوقوف بعرفة.

الرواية الثامنة والثمانون (أعلمت أني قصرت من رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المروة بمشقص؟ ) بأسلوب الاستفهام، والمراد أنت تعلم، وفي الرواية التاسعة والثمانين "قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص" والمشقص بكسر الميم وإسكان الشين وفتح القاف قال النووي: قال أبو عبيد وغيره: هو نصل السهم إذا كان طويلاً ليس بعريض. وقال أبو حنيفة الدينوري: هو كل نصل فيه عترة، دقة الحرف ورقته -وهو الثاني وسط الحربة، وقال الخليل: هو سهم فيه نصل عريض يرمى به الوحش. اهـ فكان الحلق بالموسى، والقص والتقصير بما يشبه السكين، من نصل ونحوه. قال النووي: هذا الحديث محمول على أن معاوية قصر عن النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة الجعرانة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كان قارناً، كما سبق إيضاحه وثبت أنه صلى الله عليه وسلم حلق بمنى، فلا يجوز حمل تقصير معاوية على حجة الوداع، ولا يصح حمله على عمرة القضاء الواقعة سنة سبع من الهجرة، لأن معاوية لم يكن يومئذ مسلماً، إنما أسلم يوم الفتح سنة ثمان. هذا هو الصحيح المشهور، ولا يصح قول من حمله على حجة الوداع وزعم أنه صلى الله عليه وسلم كان متمتعاً، لأن هذا غلط فاحش، فقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة السابقة في مسلم وغيره "أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: ما شأن الناس حلوا ولم تحل أنت؟ فقال: إني لبدت رأسي وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر الهدي" وفي رواية "حتى أحل من الحج" والله أعلم. الرواية المتممة للتسعين (ورحنا إلى منى) معناه أردنا الرواح إلى منى، وقد سبق مثله. الرواية الخامسة والتسعون (ليهلن ابن مريم بفج الروحاء) بفتح الفاء وتشديد الجيم، هو بين مكة والمدينة، وكان طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر، وإلى مكة عام الفتح، وعام حجة الوداع. (حاجاً أو معتمراً أو ليثنينهما) بفتح الياء في أوله، ومعناه يقرن بينهما، يقال: ثنى الشيء بتخفيف النون يثنيه ثنياً عطف ورد بعضه على بعض. والله أعلم. -[فقه الحديث]- وضع الإمام النووي هذه الأحاديث تحت أبواب مختلفة لتعرض بعضها إلى تلك الأبواب، ووضعناها كلها تحت باب وجوه الإحرام لاتصالها به وحديثها عنه، أما الموضوعات الفرعية فسنضع لها عناوين فرعية، أو نكتفي بالكلام عنها فيما يؤخذ من الحديث. وبالله التوفيق.

وقد أجمع العلماء على جواز العمرة قبل الحج، سواء حج في سنته أم لا، وكذا الحج قبل العمرة، واحتجوا له بحديث ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر قبل أن يحج" رواه البخاري، وبالأحاديث الصحيحة المشهورة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاث عمر قبل حجته، وكان أصحابه رضي الله عنه في حجة الوداع أقساماً، منهم من اعتمر قبل الحج، ومنهم من حج قبل العمرة. قال النووي: اعلم أن أحاديث الباب متظاهرة على جواز إفراد الحج عن العمرة وجواز التمتع، وجواز القران، وقد أجمع العلماء على جواز الأنواع الثلاثة [يعني الإفراد والتمتع والقران] لما روت عائشة في الصحيحين قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنا من أهل بالحج، ومنا من أهل بالعمرة، ومنا من أهل بالحج والعمرة". قال: وأما النهي الوارد عن عمر وعثمان -رضي الله عنهما- فسنوضح معناه في موضعه إن شاء الله تعالى. اهـ أما الإفراد: فصورته الأصلية أن يحرم بالحج وحده في أشهره، ثم يأتي بأفعاله كلها، ثم يعتمر إذا شاء. ولا خلاف بين العلماء في جواز هذه الصورة، وإنما خلافهم -وسيأتي- في كونها أفضل صور الحج، أو هناك من الصور ما يفضلها. وأما التمتع: فصورته الأصلية أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، ويفرغ من أعمالها، ويتحلل منها، ثم يحرم بالحج في نفس العام. وهذه الصورة جائزة بنص القرآن الكريم، قال تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} وسميت هذه الصورة تمتعاً لأنه يحل لصاحبها بعد التحلل من العمرة، وقبل أن يحرم بالحج التمتع بجميع محظورات الإحرام. قال ابن عبد البر: لا خلاف بين العلماء أن التمتع المراد بالآية هو الاعتمار في أشهر الحج قبل الحج، قال: ومن التمتع أيضاً القران، لأنه تمتع بسقوط سفر للنسك الآخر من بلده. اهـ وإطلاق التمتع على القران إطلاق لغوي، وسنتكلم عنه كوجه مستقل من وجوه الإحرام. وبعضهم يطلق التمتع على فسخ الحج ثم التحلل منه بعمل عمرة، فيصير بعد العمرة متمتعاً، وسنتكلم عنه كوجه من وجوه الإحرام. ولهذه الإطلاقات المتغايرة جاءت تعريفات التمتع مختلفة، فقيل: التمتع الجمع بين الحج والعمرة يتحلل بينهما إن لم يكن سائقاً الهدي، وقيل: هو ضم العمرة إلى الحج، وقيل: أن يدخل الرجل مكة في أشهر الحج بعمرة ثم يقيم فيها حتى يحج، وقد خرج من إحرامه وتمتع بالنساء والطيب، وقيل: التمتع الترفق بأداء النسكين على وجه الصحة في سفرة واحدة من غير أن يلم بأهله إلماماً صحيحاً، ولهذا لم يتحقق من المكي. والذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في حجة الوداع هو فسخ للحج الذي أحرموا به أولاً وحده وتحويله إلى عمرة، وبعبارة أخرى فسخ للحج والتحلل منه بعمل عمرة، ثم تمتع بين التحلل من العمرة والإحرام بالحج، ثم إحرام بالحج يوم التروية، كان هذا الأمر لمن لم يكن معه هدي، فهو من حيث

الإحرام بالعمرة في أشهر الحج والإتيان بأعمالها والتحلل منها، ثم الإحرام بالحج في نفس العام تمتع شرعي، تصدق عليه الآية الكريمة، لا خلاف في ذلك. أما من لم يكن معه هدي فقد أمره صلى الله عليه وسلم أن يستمر على إحرامه بالحج، لا يتحلل حتى يأتي بأعمال الحج، وينحر هديه. لكن هل يدخل العمرة على الحج؟ فيكون قارناً؟ أو لا يدخل العمرة على الحج؟ فيظل مفرداً؟ ظاهر حديث عائشة السابق أن بعضهم كان قارناً، وبعضهم ظل مفرداً، فهي تقول: "فمنا من أهل بالحج" أي وظل عليه ولم يغير -"ومنا من أهل بعمرة"- وفسخ الحج وتحلل، ثم أحرم بالحج فكان متمتعاً وذاك الذي لم يسق الهدي -"ومنا من أهل بالحج والعمرة"- أي أدخل العمرة على الحج، فكان قارناً. ويمكن فهم الأحاديث التي ظاهرها التعارض على هذا النحو، وأن بعض الرواة تحدث عن منظر من مناظر هذا الحدث، فظن أنه يتحدث عن منظر آخر، فتوهم التعارض بين الروايات، وقد استعرضناها مع محاولة لرفع التعارض في أول المباحث العربية. كما استعرضنا إحرام عائشة -رضي الله عنها- على وجه الاستقلال، لأنها في حجة الوداع كان لها وضع خاص. وإذا كان الأمر كذلك، وأن التمتع جائز كوجه من وجوه الإحرام، فكيف منعه عمر وعثمان ومعهما بعض الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين؟ وما موقف فقهاء المسلمين من هذا المنع؟ . ابتداء نجمع ما ورد في مسلم بخصوص هذه المسألة من روايات. ففي الرواية الثالثة والثلاثين عن أبي نضرة، قال: "كان ابن عباس يأمر بالمتعة وكان ابن الزبير ينهى عنها. قال: فذكرت ذلك لجابر بن عبد الله فقال: تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قام عمر قال: إن الله كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء، وإن القرآن قد نزل منازله فأتموا الحج والعمرة لله، كما أمركم الله، وأبتوا نكاح هذه النساء، فلن أوتى برجل نكح إلى أجل إلا رجمته بالحجارة" وفي رواية قال: "فافصلوا حجكم من عمرتكم، فإنه أتم لحجكم وأتم لعمرتكم". وفي الرواية الواحدة والأربعين يقول أبو موسى الأشعري، بعد أن حكى تمتعه في حجة الوداع، يقول: "فكنت أفتي به الناس -أي بجواز التمتع- حتى كان في خلافة عمر رضي الله عنه فقال له رجل: يا أبا موسى. رويدك بعض فتياك، فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعدك، فقال: أيها الناس. من كنا أفتيناه فتيا فليتئد، فإن أمير المؤمنين قادم عليكم، فبه فائتموا. قال: فقدم عمر رضي الله عنه فذكرت ذلك له، فقال: إن نأخذ بكتاب الله فإن كتاب الله يأمر بالتمام، وإن نأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل حتى بلغ الهدي محله" وقريب من هذا في الرواية الثانية والأربعين وفيها "فلما قدم قلت: يا أمير المؤمنين، ما هذا الذي أحدثت في شأن النسك؟ ". وفي الرواية الرابعة والأربعين. قال عمر لأبي موسى رضي الله عنهما "قد علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعله وأصحابه، ولكن كرهت أن يظلوا معرسين بهن في الآراك، ثم يروحون في الحج تقطر رءوسهم".

وفي الرواية الخامسة والأربعين "كان عثمان ينهى عن المتعة، وكان علي يأمر بها فقال عثمان لعلي كلمة، ثم قال علي: لقد علمت أنا قد تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عثمان: أجل. ولكنا كنا خائفين". وفي الرواية السادسة والأربعين "اجتمع علي وعثمان -رضي الله عنهما- بعسفان، فكان عثمان ينهى عن المتعة، أو العمرة، فقال علي: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه؟ فقال عثمان: دعنا منك، فقال علي: إني لا أستطيع أن أدعك". وفي الرواية السابعة والأربعين يقول أبو ذر رضي الله عنه: "كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة". وفي الرواية الثامنة والأربعين يقول أبو ذر أيضاً "كانت لنا رخصة" يعني متعة الحج. وفي الرواية التاسعة والأربعين يقول أبو ذر أيضاً: "لا تصلح المتعتان إلا لنا خاصة" يعني متعة النساء ومتعة الحج. وفي الرواية المتممة للخمسين عن أبي ذر مثل ذلك. وفي الرواية الثانية والخمسين عن عمران بن حصين قال: "أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعمر طائفة من أهله في العشر، فلم تنزل آية تنسخ ذلك، ولم ينه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مضى لوجهه، ارتأى كل امرئ بعد ما شاء أن يرتئي" وفي رواية "ارتأى رجل برأيه ما شاء" يعني عمر. وفي الرواية الثالثة والخمسين والرابعة والخمسين والخامسة والخمسين والسادسة والخمسين والسابعة والخمسين عن عمران بن حصين مثل ذلك. وفي الرواية الثانية والتسعين عن أبي نضرة قال: كنت عند جابر بن عبد الله فأتاه آت، فقال: إن ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين؟ فقال جابر: فعلناهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نهانا عنهما عمر، فلم نعد لهما". تلك هي روايات الإمام مسلم لموقف عمر ومن تبعه من الصحابة رضي الله عنهم، وأقول: ومن تبعه، لأنه أول من قال هذا القول، ودافع عنه، وأمر بعدم المتعة، أو نهى عن المتعة، وشدد في هذا النهي حتى خاف منه من يعارضه، كما نلحظ ذلك في روايات أبي موسى، وروايات عمران بن حصين. قال الحافظ ابن حجر: إن عمر أول من نهى عن المتعة وكأن من بعده كان تابعاً له في ذلك. وقد اختلف العلماء في فهم مراد عمر ومن تبعه من هذا النهي، هل كان ينهى عن فسخ الحج إلى العمرة على أنه تمتع؟ أو كان ينهى عن التمتع الشرعي؟ وهو الإحرام بالعمرة في أشهر الحج؟ والإتيان بأفعالها؟ ثم التحلل منها؟ والإحرام بالحج في العام نفسه؟ وعلى الثاني هل كان يمنع ذلك وينهى عنه على أنه جائز مفضول؟ أو على أنه غير جائز؟ أقوال. يقول المازري: اختلف في المتعة التي نهى عنها عمر في الحج، فقيل: هي فسخ الحج إلى

العمرة، وقيل: هي العمرة في أشهر الحج ثم الحج من عامه، وعلى هذا إنما نهى عنها ترغيباً في الإفراد الذي هو الأفضل، لا أنه يعتقد بطلانها أو تحريمها. اهـ فالفريق الأول: يمثله القاضي عياض إذ يقول: ظاهر حديث جابر [روايتنا الثالثة والثلاثين، وفيها "تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قام عمر قال: إن الله كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء، وإن القرآن قد نزل منازله، فأتموا الحج والعمرة لله، كما أمركم الله" وروايتنا الثانية والتسعين: وفيها" فعلناهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نهانا عنهما عمر، فلم نعد لهما"] وعمران [روايتنا الثانية والخمسين والثالثة والخمسين والرابعة والخمسين والخامسة والخمسين والسادسة والخمسين والسابعة والخمسين] وأبي موسى [روايتنا الواحدة والأربعين، وفيها "قال عمر: إن نأخذ بكتاب الله فإن كتاب الله يأمر بالتمام، وإن نأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل حتى بلغ الهدي محله"]. أقول: يقول القاضي عياض: ظاهر حديث جابر وعمران وأبي موسى أن المتعة التي اختلفوا فيها إنما هي فسخ الحج إلى العمرة. قال: ولهذا كان عمر رضي الله عنه يضرب الناس عليها، ولا يضربهم [أي ولا يصح أن يضربهم] على مجرد التمتع في أشهر الحج، وإنما ضربهم على ما اعتقده هو وسائر الصحابة أن فسخ الحج إلى العمرة كان مخصوصاً في تلك السنة، لإبطال اعتقاد الجاهلية أن العمرة لا تصح في أشهر الحج. انتهى. ووجه الاستدلال بهذه الأحاديث أن قول عمر: "إن الله يحل لرسوله ما شاء بما شاء .. " إلخ يريد أن الله أحل لرسوله صلى الله عليه وسلم فسخ الحج إلى العمرة في ذلك العام بسبب ما شاء من إبطال عقيدة الجاهلية، وإن القرآن الكريم قد أخذ وضعه وعمومه في الأمر بإتمام الحج، والذي يفسخ الحج يخالف الأمر بإتمامه دون إحصار، فإن نأخذ بكتاب الله لا نفسخ فإن كتاب الله يأمر بالتمام، وإن نأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم العملية، أي بفعله صلى الله عليه وسلم لا نفسخ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفسخ، واستمر على إحرامه الأول بالحج حتى نحر هديه، سواء أدخل عليه العمرة فصار قارناً، أو ظل مفرداً، فكتاب الله دال على منع التحلل لأمره بالإتمام، فيقتضي استمرار الإحرام إلى فراغ الحج، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم دالة على ذلك وأحاديث جابر وأبي موسى. رضي الله عنهما تعطي هذا المعنى، وإن كان في بعض رواياتهما ما يعارضه -كما سيأتي- أما أحاديث عمران رضي الله عنه فإنها لا يتضح فيها هذا المعنى، وربما كان القاضي عياض يقصد روايات أخرى له في غير مسلم. على أن أحاديث أبي ذر رضي الله عنه، [رواياتنا السابعة والأربعون والثامنة والأربعون والتاسعة والأربعون] صريحة في الخصوصية والرخصة لأصحاب محمد، أي الذين لم يسوقوا الهدي، فهي تؤيد هذا القول. قال القاضي عياض: وجمهور الأئمة على أن فسخ الحج إلى العمرة كان خاصاً بالصحابة. اهـ فسخ الحج إلى العمرة: صريح الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من لم يكن معه هدي أن يفسخ الحج الذي أحرم به، وأن يجعله عمرة، ففي الرواية العاشرة "قال لأصحابه: اجعلوها عمرة" وفي الرواية الثانية والثلاثين والرابعة والثلاثين "فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعلها عمرة، ونحل. قال جابر: وكان معه الهدي فلم يستطع أن يجعلها عمرة" وفي الرواية الخامسة والثلاثين "فمن كان منكم ليس معه

هدي فليحل، وليجعلها عمرة" وفي الرواية المتممة للتسعين يقول أبو سعيد: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نصرخ بالحج صراخاً، فلما قدمنا مكة أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعلها عمرة، إلا من ساق الهدي" وعند البخاري يقول ابن عباس " فلما قدمنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي". ولا خلاف بين العلماء في أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر من لم يكن معه هدي في حجة الوداع أن يفسخ الحج إلى العمرة، ولكن الخلاف في كون هذا الفسخ رخصة لهذا العام فقط؟ أو هو حكم شرعي عام إلى يوم القيامة؟ . يقول النووي في المجموع: مذهب الشافعية أنه إذا أحرم بالحج لا يجوز له فسخه وقلبه عمرة، وإذا أحرم بالعمرة لا يجوز له فسخها حجاً، لا لعذر، ولا لغيره، وسواء ساق الهدي أم لا. فهذا مذهبنا، قال ابن الصباغ والعبدري وآخرون: وبه قال عامة الفقهاء وقال أحمد: يجوز فسخ الحج إلى العمرة لمن لم يسق الهدي، وقال القاضي عياض في شرح صحيح مسلم: جمهور الفقهاء على أن فسخ الحج إلى العمرة كان خاصاً للصحابة، قال: وقال بعض أهل الظاهر: هو جائز الآن. اهـ وصريح روايات أبي ذر أن هذا كان رخصة وخصوصية لذلك العام، لكن الإمام أحمد لم يأخذ بها، فهي موقوفة على أبي ذر، ولم يأخذ بحديث الحارث بن بلال بن الحارث عن أبيه قال: "قلت: يا رسول الله، أرأيت فسخ الحج إلى العمرة لنا خاصة؟ أم للناس عامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل لكم خاصة" رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه. قال النووي: وإسناده صحيح إلا الحارث بن بلال، ولم أر فيه جرحاً ولا تعديلاً. قال الإمام أحمد: هذا الحديث لا يثبت عندي، ولا أقول به. ويمكن أن يحتج للإمام أحمد بروايتنا الخامسة والثلاثين، وفيها "فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل، وليجعلها عمرة" فقام سراقة بن مالك بن جعشم، فقال: يا رسول الله، ألعامنا هذا؟ أم لأبد؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى، وقال: دخلت العمرة في -الحج مرتين- لا. بل لأبد أبد". ويجيب الجمهور عن هذا الاستدلال بأن المراد به جواز العمرة في أشهر الحج، لا فسخ الحج إلى العمرة، أو أن المراد دخول أفعالها في أفعال الحج، وهو القران، وحمله من يقول: إن العمرة ليست واجبة على أن العمرة اندرجت في الحج، فلا تجب، وإنما تجب على المكلف حجة الإسلام دون العمرة. ونعود إلى تحرير مراد عمر ومن تبعه من الصحابة من النهي عن المتعة، فنقول: الفريق الثاني: يقول: إن نهي عمر وعثمان وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم، عن متعة الحج، أي الإحرام بالعمرة في أشهر الحج، ثم الحج في العام نفسه، وليس عن فسخ الحج إلى العمرة، وظاهر الروايات معهم، فمن الصعب جداً أن نحمل على الفسخ أمر ابن عباس بالمتعة، ونهى ابن الزبير عنها، في الرواية الثالثة والثلاثين، وكذلك نهى عثمان عن

المتعة وأمر علي بها في الرواية الخامسة والأربعين والسادسة والأربعين، إذ لم يكن هناك من أحرم بالحج ويريد أن يفسخه إلى عمرة، وإنما كان ذلك فيمن يريد الإحرام بالعمرة في أشهر الحج، وروايات عمران بن حصين، الثانية والخمسون وما بعدها تقول: "أعمر طائفة من أهله في العشر" فالخلاف إذن في الإحرام بالعمرة في أشهر الحج. ويرى هذا الفريق أن عمر وعثمان كانا ينهيان نهي منع، وحمل للناس على عدم التمتع، قال النووي في المجموع: ومن العلماء من أصحابنا وغيرهم من يقتضي كلامه أن مذهب عمر بطلان التمتع، وهو ضعيف، وقال العيني: وقد أنكر عليهم علماء الصحابة، وخالفوهم في فعلها، والحق مع المنكرين عليهم دونهم. اهـ الفريق الثالث: كالفريق الثاني في أن المنهي عنه على لسان عمر وعثمان ومن تبعهما رضي الله عنهما هو متعة الحج، والفرق بين الفريقين أن هذا الفريق يرى أن النهي نهي تفضيل للإفراد على التمتع، لا نهي منع، يؤيد ذلك ما جاء في روايتنا الرابعة والأربعين من قول عمر: "ولكن كرهت أن يظلوا معرسين بهن في الأراك، ثم يروحون في الحج تقطر رءوسهم" يقول النووي: والمختار أن عمر وعثمان وغيرهما إنما نهوا عن المتعة التي هي الاعتمار في أشهر الحج، ثم الحج من عامه، ومرادهم نهي أولوية للترغيب في الإفراد، لكونه أفضل، وقد انعقد الإجماع بعد هذا على جواز الإفراد والتمتع والقران، من غير كراهة، وإنما اختلفوا في الأفضل منها. اهـ وروى البيهقي بإسناد صحيح عن سالم قال: سئل ابن عمر عن متعة الحج، فأمر بها، فقيل له: إنك تخالف أباك؟ فقال: إن أبي لم يقل: إن العمرة في أشهر الحج حرام ولكنه قال: أفردوا الحج عن العمرة، فإن العمرة لا تتم في أشهر الحج، إن عمر نهى عن ذلك يبغي فيه الخير، فإذا أكثروا عليه قال: فكتاب الله أحق أن يتبع؟ أم عمر؟ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبعوا؟ أم عمر؟ فمراد عمر تفضيل إخلاص أشهر الحج للحج، والاعتمار في غير أشهره، لأن العمرة في أشهر الحج يتمتع بها إلى الحج، والتمتع لا يتم إلا بالهدي والصيام إذا لم يجد هدياً، والعمرة في غير أشهر الحج تتم بلا هدي ولا صيام، فترك التمتع إتمام للعمرة، فكره التمتع. بقي أن نقول: إن الروايات التي ساقها الإمام مسلم تفيد أن من ساق الهدي لا يتمتع، ولا يحل حتى يحل من الحج والعمرة وينحر هديه، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد وموافقيهما، قال النووي: ومذهب مالك والشافعي وموافقيهما أنه إذا طاف وسعى وحلق حل من عمرته، وحل له كل شيء في الحال، سواء كان ساق هدياً أم لا، واحتجوا بالقياس على من لم يسق الهدي، وبأنه تحلل من نسكه، فوجب أن يحل له كل شيء، كما لو تحلل المحرم بالحج، وأجابوا عن هذه الروايات بأنها مختصرة من الروايات التي ذكرها مسلم بعدها، والتي ذكرها قبلها عن عائشة، قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان معه هدي فليهلل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعاً" فهذه الرواية مفسرة للمحذوف من الروايات التي احتج بها

أبو حنيفة، وتقديرها: ومن أحرم بعمرة وأهدى فليهل بالحج ولا يحل حتى ينحر هديه. قال: ولا بد من هذا التأويل، لأن القضية واحدة، والراوي واحد، فيتعين الجمع بين الروايات على ما ذكرناه. اهـ والتحقيق أن ظاهر الروايات مع أبي حنيفة وأحمد، ولا قياس مع النص، والجمع ممكن بغير ما جمع به النووي كما وضحنا في أول المباحث العربية. وأما القران فصورته -كما قال النووي- أن يحرم بهما جميعاً، وكذا لو أحرم بالعمرة ثم أحرم بالحج قبل طوافها صح وصار قارناً، فلو أحرم بالحج، ثم أحرم بالعمرة فقولان للشافعي، أصحهما لا يصح إحرامه بالعمرة، والثاني يصح ويصير قارناً، بشرط أن يكون قبل الشروع في أسباب التحلل من الحج، وقيل: قبل الوقوف بعرفات، وقيل: قبل فعل فرض، وقيل: قبل طواف القدوم أو غيره. وقال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن لمن أهل بالعمرة في أشهر الحج أن يدخل عليها الحج، ما لم يفتتح الطواف بالبيت، قال: واختلفوا في إدخاله عليها بعد افتتاح الطواف، فجوزه مالك ومنعه الشافعي، واختلفوا في إدخال العمرة على الحج، فقال أصحابنا: يجوز ويصير قارناً، وهو قول قديم للشافعي، ومنعه الشافعي في مصر، ونقل منعه عن أكثر من لقيه. قال ابن المنذر: وبقول مالك أقول. أي وجوه الإحرام الثلاثة أفضل؟ قال النووي: أما الأفضل من هذه الأنواع الثلاثة ففيه طرق وأقوال منتشرة الصحيح منها أن أفضلها الإفراد ثم التمتع ثم القران، وقال في شرح مسلم: واحتج الشافعي وأصحابه في ترجيح الإفراد بأنه صح ذلك من رواية جابر وابن عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم، وهؤلاء لهم مزية على غيرهم في حجة الوداع، ثم ذكر مزاياهم، وقال: ومن دلائل ترجيح الإفراد أن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم أفردوا الحج، وواظبوا على إفراده، ولو لم يكن الإفراد أفضل لم يواظبوا عليه مع أنهم الأئمة الأعلام، وقادة الإسلام، ويقتدى بهم في عصرهم وبعدهم، فكيف يليق بهم المواظبة على خلاف الأفضل؟ ومنها أن الإفراد لا يجب فيه دم بالإجماع، وذلك لكماله، ويجب الدم في التمتع والقران، وهو دم جبران، لفوات الميقات وغيره، فكان ما لا يحتاج إلى جبر أفضل ومنها أن الأمة أجمعت على جواز الإفراد من غير كراهة، وكره عمر وعثمان وغيرهما التمتع، وبعضهم كره التمتع والقران، فكان الإفراد أفضل. والله أعلم. القول الثاني أن أفضلها التمتع ثم الإفراد، الثالث: أفضلها الإفراد ثم القران ثم التمتع، وقال: قال أصحابنا: وشرط تقديم الإفراد أن يحج ثم يعتمر في سنة واحدة، فإن أخر العمرة عن سنة فكل واحد من التمتع والقران أفضل منه بلا خلاف، لأن تأخير العمرة عن سنة الحج مكروه. هذا مذهب الشافعية، وبه قال العلماء وكافة الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وبه قال مالك والأوزاعي وأبو ثور وداود، وقال أبو حنيفة: القران أفضل، وقال أحمد: التمتع أفضل،

وحكى أبو يوسف أن التمتع والقران أفضل من الإفراد، وحكى القاضي عياض عن بعض العلماء أن الأنواع الثلاثة سواء في الفضيلة، لا أفضلية لبعضها على بعض. ثم قال النووي: قال المزني في المختصر: قال الشافعي في اختلاف الحديث: ليس شيء من الاختلاف أيسر من هذا. قال القاضي حسين: إنما استيسر الخلاف فيه لأن الأنواع الثلاثة منصوص عليها في القرآن، وكلها منقولة عنه صلى الله عليه وسلم، صحيحة عنه وكلها جائزة بالإجماع، أما الإفراد فبين في قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} [آل عمران: 97]. وأما التمتع ففي قوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196]. وأما القران ففي قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة: 196]. قال النووي: هذا كلام القاضي حسين، وفي الاستدلال بهذه الأخيرة للقران نظر، وقد استدل بها أصحاب أبي حنيفة لمذهبهم في ترجيح القران، وأنكر ذلك أصحابنا، وقالوا: لا دلالة في الآية للقران، لأنه ليس في الآية أكثر من جمع الحج والعمرة في الذكر، ولا يلزم من ذلك جمعهما في الفعل، نظيره قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة} [المزمل: 20]. على أي وجه أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ من الصحابة من روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في حجة الوداع مفرداً، نذكر منهم: عائشة رضي الله عنها. ففي روايتنا الرابعة تقول: "فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج، وأهل به ناس معه" وفي الرواية التاسعة والخامسة عشرة والسابعة عشرة تقول: "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا نرى إلا الحج" وفي العاشرة "لا نذكر إلا الحج" وفي الرواية الثانية عشرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج" وفي الرواية الثالثة عشرة: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج". ونذكر منهم جابر بن عبد الله رضي الله عنه. ففي روايتنا الثالثة والعشرين يقول: "أقبلنا مهلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج مفرد" وفي الرواية السادسة والعشرين والثانية والثلاثين: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج" وفي الرواية الواحدة والثلاثين "أنه حج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام ساق الهدي معه وقد أهلوا بالحج مفردا" وفي الرواية الرابعة والثلاثين "قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقول: لبيك بالحج" وفي الخامسة والثلاثين "لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة" وفي الواحدة والتسعين "قدمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نصرخ بالحج صراخاً". ونذكر منهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. ففي روايتنا السادسة والستين يقول: "أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفرداً" وفي ملحقها "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بالحج مفرداً" وفي السابعة والستين يقول: "لبى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج وحده" وفي الرواية المتممة للسبعين "رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم بالحج".

وروى البيهقي بإسناد صحيح عن زيد بن أسلم "أن رجلاً أتى ابن عمر، فقال: بم أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بالحج. ثم أتاه من العام المقبل، فسأله، فقال: ألم تأتني عام أول؟ قال: بلى. ولكن أنساً يزعم أنه قرن؟ قال ابن عمر: إن أنساً كان يدخل على النساء وهن منكشفات الرءوس، وإني كنت تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنت أسمعه يلبي بالحج". ونذكر منهم ابن عباس رضي الله عنهما. ففي روايتنا الثامنة والسبعين يقول: "فقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج" وفي الرواية التاسعة والسبعين "أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج" وفي ملحقها "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نهل بالحج" وفي الرواية المتممة للثمانين "قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لأربع خلون من العشر وهم يلبون بالحج" وفي الرابعة والثمانين "ثم ركب راحلته، فلما استوت به على البيداء أهل بالحج". ونذكر منهم أبا سعيد الخدري رضي الله عنه. ففي روايتنا المتممة للتسعين والواحدة والتسعين "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نصرخ بالحج صراخاً". ومن الصحابة من روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في حجة الوداع متمتعاً. نذكر منهم: عائشة رضي الله عنها. ففي ملحق الرواية الثامنة والخمسين تقول في تمتعه صلى الله عليه وسلم بالحج إلى العمرة: وتمتع الناس معه" ونذكر منهم جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. ففي روايتنا الثالثة والثلاثين يقول "تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونذكر منهم عمر نفسه رضي الله عنه ففي روايتنا الرابعة والأربعين يقول "قد علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعله وأصحابه". ونذكر منهم علياً رضي الله عنه. ففي روايتنا الخامسة والأربعين يقول "لقد علمت أنا قد تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي السادسة والأربعين يقول لعثمان -رضي الله عنهما- ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه؟ ". ونذكر منهم عمران بن حصين رضي الله عنه. ففي روايتنا السادسة والخمسين يقول "تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي ملحقها يقول "تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمتعنا معه" ونذكر منهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. ففي روايتنا الثامنة والخمسين يقول "تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج .... وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج، وتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج". ومن الصحابة من روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في حجة الوداع قارناً، نذكر منهم حفصة رضي الله عنها.

ففي روايتنا التاسعة والخمسين والمتممة للستين تقول للنبي صلى الله عليه وسلم "ما شأن الناس حلوا ولم تحلل أنت من عمرتك؟ قال: إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أحل من الحج". ونذكر منهم عمران بن حصين رضي الله عنه. ففي روايتنا الثالثة والخمسين والرابعة والخمسين والخامسة والخمسين يقول "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين حج وعمرة" ونذكر منهم أنس بن مالك رضي الله عنه. ففي روايتنا السابعة والستين والثامنة والستين يقول: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة جميعاً، سمعته يقول: لبيك عمرة وحجاً". قال النووي في المجموع: من الصحابة من روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في حجة الوداع مفرداً، ومنهم من روى أنه كان قارناً، ومنهم من روى أنه كان متمتعاً، وكله في الصحيح، وهي قصة واحدة، فيجب تأويل جميعها ببعضها، والجمع بينها، والصواب الذي نعتقده أنه صلى الله عليه وسلم أحرم أولاً بالحج مفرداً، ثم أدخل عليه العمرة، فصار قارناً، وإدخال العمرة على الحج جائز على أحد القولين عندنا، وعلى الأصح لا يجوز لنا وجاز للنبي صلى الله عليه وسلم تلك السنة للحاجة. وعلى هذا سهل الجمع بين الأحاديث، فمن روى أنه صلى الله عليه وسلم كان مفرداً -وهم الأكثرون- أراد أول الإحرام ومن روى أنه كان قارناً أراد آخر الإحرام ومن روى أنه كان متمتعاً أراد التمتع اللغوي، ويؤيد هذا الذي ذكرته أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر تلك السنة عمرة منفردة، لا قبل الحج ولا بعده، وقد قدمنا أن القران أفضل من إفراد الحج من غير عمرة بلا خلاف، ولو جعلت حجته صلى الله عليه وسلم مفردة لزم منه أن لا يكون اعتمر تلك السنة، ولم يقل أحد: إن الحج وحده أفضل من القران. وعلى هذا الجمع تنتظم الأحاديث كلها في حجته صلى الله عليه وسلم في نفسه. وتأول جماعة من أصحابنا الأحاديث التي جاءت أنه صلى الله عليه وسلم كان متمتعاً أو قارناً بأنه أمر بذلك، كما قالوا: رجم ماعزاً -أي أمر برجمه. وهذا ضعيف، يرده صريح الروايات الصحيحة السابقة، بل الصواب ما قدمته، والله أعلم. اهـ وجوب الدم على المتمتع والقارن: قال النووي في المجموع: يجب على المتمتع الدم، لقوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} قال أصحابنا: ولوجوب هذا الدم شروط: أحدها: ألا يكون من حاضري المسجد الحرام، وهم من مسكنه دون مسافة القصر من الحرم [وقيل غير ذلك] ثانيها: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، فلو أحرم بها، وفرغ منها قبل أشهر الحج، ثم حج في سنته لم يلزمه دم بلا خلاف عندنا، وبه قال جمهور العلماء، ثالثها: أن تقع العمرة والحج في سنة واحدة، فلو اعتمر في سنة، ثم حج في السنة القابلة فلا دم، سواء أقام بمكة إلى أن حج، أم رجع وعاد. رابعها: أن لا يعود إلى الميقات، فلو عاد إلى الميقات الذي أحرم بالعمرة منه، وأحرم بالحج فلا دم بالاتفاق. خامسها:

وهو مختلف فيه. وهو هل يشترط وقوع النسكين عن شخص واحد؟ سادسها: مختلف فيه أيضاً، وهو نية التمتع. سابعها: أن يحرم بالعمرة من الميقات، فلو جاوزه مريداً للنسك، ثم أحرم بها فليس عليه دم التمتع، بل يلزمه دم الإساءة، وفي المسألة خلاف مبسوط في كتب الفقه. ثم قال: ويلزم القارن دم بلا خلاف، لأنه إذا وجب على المتمتع، لأنه جمع بين النسكين في وقت أحدهما فلأن يجب على القارن وقد جمع بينهما في الإحرام أولى، ولأن القارن أقل فعلاً من المتمتع، فإذا لزم المتمتع الدم فالقارن أولى. والله أعلم. بقية وجوه الإحرام: والمحرمون أنواع: مفرد بالحج، ومفرد بالعمرة، وتمتع بالعمرة إلى الحج، وقارن بينهما، وفاسخ الحج بعمل عمرة، ومدخل الحج على العمرة ومدخل العمرة على الحج، ومحرم بنسك مطلق دون تعيين، ومحرم إحراماً معلقاً كإحرام فلان. وقد أوضحنا صور وأحكام الإفراد والتمتع والقران وفسخ الحج، كما تعرضنا عند صور القران إلى إدخال الحج على العمرة، وإدخال العمرة على الحج، ونضيف هنا ما قاله النووي في شرح مسلم حيث قال: وقد اتفق جمهور العلماء على جواز إدخال الحج على العمرة، وشذ بعض الناس فمنعه وقال لا يدخل إحرام على إحرام كما لا تدخل صلاة على صلاة واختلفوا في إدخال العمرة على الحج، فجوزه أصحاب الرأي، وهو قول الشافعي، ومنعه آخرون وقالوا: كان هذا خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم لضرورة الاعتمار حينئذ في أشهر الحج. اهـ الإحرام المطلق: أما الإحرام بنسك دون تعيين فيمكن أن يستدل له بروايتنا الخامسة والثلاثين بقول جابر "فأهل بالتوحيد، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، وأهل الناس بهذا الذي يهلون به، فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته". وذكر القاضي حسين أن الشافعي نقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم بالحج مطلقاً، وكان ينتظر القضاء، وهو نزول جبريل ببيان ما يصرف إحرامه المطلق إليه، فنزل جبريل عليه السلام، وأمره بصرفه إلى الحج المفرد، وذكر البيهقي في السنن الكبرى تحت باب ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم إحراماً مطلقاً، عن طاوس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة، لا يسمى حجاً ولا عمرة، ينتظر القضاء ... " قال النووي: ظاهر الأحاديث الصحيحة كلها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرم إحراماً مطلقاً، بل معيناً. اهـ هذا. وقد يحتاج إلى هذه المسألة بعض العوام الذين يصلون الميقات وهم لا يعرفون الفرق بين الإفراد والتمتع والقران، ولكن مادام الشرع في فسحة من إدخال الحج على العمرة والعمرة على الحج فلا إشكال وعليهم أن يحرموا بالتعيين، والله أعلم. أما الإحرام المعلق فظاهر روايتنا الخامسة والثلاثين، وفيها أن علياً رضي الله عنه قال في إحرامه: "اللهم إني أهل بما أهل به رسولك" ورواياتنا الواحدة والأربعون والثانية والأربعون والثالثة والأربعون، فيها أن أبا موسى رضي الله عنه قال في إحرامه "لبيك بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم" وأقرهما النبي صلى الله عليه وسلم على هذا

الإحرام المعلق، ظاهر هذا جواز الإحرام المعلق، قال الحافظ ابن حجر: في هذه الأحاديث دلالة على جواز تعليق الإحرام بإحرام الغير، مع اختلاف آخر الحديثين في التحلل [يقصد حديث علي وحديث أبي موسى] وذلك أن أبا موسى لم يكن معه هدي، فصار له حكم النبي صلى الله عليه وسلم لو لم يكن معه هدي، وقد قال: "لولا الهدي لأحللت" أي وفسخت الحج إلى العمرة، كما فعله أصحابه بأمره، وأما علي فكان معه هدي، فلذلك أمره بالبقاء على إحرامه، وصار مثله قارناً. وقال في موضع آخر: وأما مطلق الإحرام على الإبهام، فهو جائز، ثم يصرفه المحرم لما شاء، لكونه صلى الله عليه وسلم لم ينه عن ذلك، وهذا قول الجمهور، وعن المالكية: لا يصح الإحرام على الإبهام، وهو قول الكوفيين. قال ابن المنير: أشار البخاري إلى أن ذلك خاص بذلك الزمن، لأن علياً وأبا موسى لم يكن عندهما أصل يرجعان إليه في كيفية الإحرام، فأحالاه على النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الآن فقد استقرت الأحكام، وعرفت مراتب الإحرام، فلا يصح ذلك. والله أعلم. -[ويؤخذ من هذه المجموعة من الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - من الرواية الأولى من قول عائشة رضي الله عنها "وأما الذين كانوا جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافاً واحداً" قال النووي: هذا دليل على أن القارن يكفيه طواف واحد عن طواف الركن، وأنه يقتصر على أفعال الحج، وتندرج أفعال العمرة كلها في أفعال الحج، وبهذا قال الشافعي ومالك وأحمد وداود، وقال أبو حنيفة: يلزمه طوافان وسعيان. اهـ ويؤيد هذا ما جاء في روايتنا التاسعة عشرة والمتممة للعشرين من قوله صلى الله عليه وسلم لها "يسعك طوافك لحجك وعمرتك" "يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجتك وعمرتك" وفي الرواية الثالثة والعشرين يقول جابر رضي الله عنه "حتى إذا طهرت طافت بالكعبة والصفا والمروة، ثم قال: قد حللت من حجك وعمرتك جميعاً" وفي الثامنة والعشرين يقول "لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً، طوافه الأول". ودافع العيني عن مذهب أبي حنيفة، فقال: روى مجاهد عن ابن عمر أنه جمع بين الحج والعمرة، وقال: سبيلهما واحد، وطاف لهما طوافين وسعى لهما سعيين، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع كما صنعت كما روي عن علي مثل ذلك. اهـ والذي في الصحيح عن ابن عمر خلاف ذلك، ففي روايتنا الثانية والستين "أنه طاف وسعى لم يزد، ورأى أنه مجزئ عنه". وفي الثالثة والستين "ثم طاف لهما طوافاً واحداً بالبيت وبين الصفا والمروة" وقال في آخر الرواية "من جمع بين الحج والعمرة كفاه طواف واحد" وفي الرواية الرابعة والستين "ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول، وقال: كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم" أما ما أضيف إلى علي رضي الله عنه فضعيف باتفاق الحفاظ قاله النووي.

2 - ومن قولها "فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت والصفا والمروة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافاً آخر ... " إلخ أن المتمتع يطوف ويسعى للعمرة، ثم يطوف ويسعى للحج. 3 - ومن قولها "فقدمت مكة وأنا حائض لم أطف بالبيت، ولا بين الصفا والمروة فشكوت ذلك إلخ" أن الحائض لا تطوف بالبيت، وإذا لم تطف لا تسعى، لأن شرط السعي أن يسبق بطواف. قال العيني: وقد اختلفوا في طواف المحدث، فعن أحمد طواف المحدث والجنب لا يصح، وعنه يصح، وعن الحنفية: الطهارة ليست بشرط، فلو طاف وعليه نجاسة أو طاف محدثاً أو جنباً صح طوافه، لقوله تعالى {وليطوفوا بالبيت العتيق} [الحج: 29]. وأمر بالطواف مطلقاً، وتقييده بالطهارة بخبر الواحد زيادة على النص، فلا يجوز، ولكن إن طاف محدثاً فعليه شاة، وإن طاف جنباً فعليه بدنة، ويعيده مادام في مكة [وتأمل فيما ذكره فهو زيادة على النص، وبدون خبر الواحد] وعن داود: الطهارة له واجبة، فإن طاف محدثاً أجزأه، إلا الحائض، وعند الشافعي: الطهارة شرط، فلا يصح بدونها، ومذهب الجمهور أن السعي يصح من المحدث والجنب والحائض. اهـ ويؤيد قول الجمهور أن الحائض لا تطوف ما جاء في روايتنا التاسعة "فاقضي ما يقضي الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي" وفي العاشرة "افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري". 4 - وبقوله صلى الله عليه وسلم "من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعاً" استدل من يقول بأفضلية القران، لأن هذه الصورة صورة القران، وقد أمر به، وكان صلى الله عليه وسلم قارناً. وقد يجاب عن ذلك بأنه صلى الله عليه وسلم كما أمر بالقران في هذه الرواية خير بين الوجوه الثلاثة في الرواية الرابعة "من أراد أن يهل بحج وعمرة فليفعل، ومن أراد أن يهل بحج فليهل، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل" ويمكن لمن يفضل الإفراد بقولها في الرواية نفسها "فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج، وأهل به ناس معه" أن يقول: إن القران والتمتع في حجة الوداع كان لمصلحة خارجة عن أفضليتهما، ذلك ليعتمروا في أشهر الحج. 5 - ويستدل به على جواز إدخال الحج على العمرة، وقد سبقت المسألة. 6 - قال العيني: وفيه أن المتمتع إذا فرغ من أعمال العمرة لم يحل حتى يحرم بالحج إذا كان معه هدي، وهو مذهب أصحابنا، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم "ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعاً". اهـ وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد، ويمكن أن يستدل له بحديث حفصة رضي الله عنها، روايتنا التاسعة والخمسين والمتممة للستين. إذ قالت: "ما شأن الناس حلوا؟ ولم تحلل أنت من عمرتك؟ قال: إني قلدت هديي ولبدت رأسي فلا أحل حتى أحل من الحج" ومذهب الشافعية

والمالكية أن المتمتع إذا فرغ من أفعال العمرة صار حلالاً، وحل له الطيب واللباس والنساء وكل محرمات الإحرام، سواء ساق الهدي أم لا، واحتجوا بأنه متمتع أكمل أفعال عمرته، فتحلل، كمن لم يكن معه هدي، وأما حديث حفصة فلا حجة لهم فيه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفرداً أو قارناً، ولهذا قال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة". 7 - ومن قوله "انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج" استحباب الغسل عند الإحرام، وأنه يستحب لكل من أراد الإحرام بحج أو عمرة سواء الحائض وغيرها. 8 - وفي إرساله صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها إلى التنعيم للإحرام بالعمرة دليل لما قاله العلماء أن من كان بمكة وأراد العمرة فميقاته لها أدنى الحل، ولا يجوز أن يحرم بالعمرة من الحرم، فإن خالف وأحرم بها من الحرم، وخرج إلى الحل قبل الطواف أجزأه، ولا دم عليه، وإن لم يخرج وطاف وسعى وحلق ففيه قولان. قيل: لا تصح عمرته حتى يخرج إلى الحل، ثم يطوف ويسعى ويحلق، وقيل: يصح وعليه دم، لتركه الميقات وهو الأصح. قال العلماء: وإنما وجب الخروج إلى الحل ليجمع في نسكه بين الحل والحرم، كما أن الحاج يجمع بينهما، فإنه يقف بعرفات، وهي في الحل، ثم يدخل مكة للطواف وغيره. قاله النووي، ثم قال: هذا تفصيل مذهب الشافعي، وهكذا قال جمهور العلماء أنه يجب الخروج للإحرام بالعمرة إلى أدنى الحل، وأنه لو أحرم بها في الحرم ولم يخرج لزمه دم، وقال عطاء: لا شيء عليه، وقال مالك: لا يجزئه حتى يخرج إلى الحل، قال القاضي عياض: وقال مالك: لا بد من إحرامه من التنعيم خاصة، قالوا: وهو ميقات المعتمرين من مكة، وهذا شاذ مردود، والذي عليه الجماهير أن جميع جهات الحل سواء ولا تختص بالتنعيم. والله أعلم. 9 - ومن خروج عائشة وأمهات المؤمنين -كما هو واضح من الرواية السابعة عشرة- مع رسول الله صلى الله عليه وسلم للحج استفيد جواز حج الرجل بامرأته، قال النووي: وهو مشروع بالإجماع، وأجمعوا على أن الحج يجب على المرأة إذا استطاعته. واختلف السلف. هل المحرم لها من شروط الاستطاعة؟ وأجمعوا على أن لزوجها أن يمنعها من حج التطوع، وأما حج الفرض فقال جمهور العلماء: ليس له منعها منه، وللشافعي قولان، أحدهما لا يمنعها منه كما قال الجمهور، وأصحهما له منعها، لأن حقه على الفور، والحج على التراخي، قال أصحابنا: ويستحب له أن يحج بزوجته، للأحاديث الصحيحة فيه. 10 - ويؤخذ منه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسوق الهدي إلى الحرم، وكذلك كثير من الصحابة، قال النووي في المجموع: اتفقوا على أنه يستحب لمن قصد مكة بحج أو عمرة أن يهدي هدياً من الأنعام [الإبل والبقرة والغنم] وينحره هناك، ويفرقه على المساكين الموجودين في الحرم، ولا يجب الهدي إلا بالنذر، ويستحب أن يكون الهدي معه من بلده، فإن لم يفعل فشراؤه من الطريق أفضل [واشترى ابن عمر هديه من الطريق. انظر روايتنا الثالثة والستين] من شرائه من مكة، ثم من مكة، ثم من عرفات، فإن لم يسقه أصلاً، بل اشتراه من منى جاز، وحصل أصل الهدي. اهـ وللهدي أحكام فرعية كثيرة تطلب من كتب الفقه، وله في مسلم أبواب كثيرة ستأتي.

11 - استدل بقوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الخامسة وروايات أخرى "لولا أني سقت الهدي لأهللت بعمرة" وفي الرواية الثامنة عشرة "ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي معي حتى أشتريه، ثم أحل كما حلوا" استدل به من يفضل التمتع، ووجه الدلالة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يتمنى إلا الأفضل. 12 - ومن إرداف عبد الرحمن لأخته عائشة -رضي الله عنهما- في الرواية الخامسة وغيرها جواز الإرداف إذا كانت الدابة مطيقة. 13 - وجواز إرداف الرجل المرأة من محارمة، والخلوة بها، قال النووي: وهذا مجمع عليه. 14 - ومن بكاء عائشة -رضي الله عنها- في الرواية التاسعة وغيرها أن طبيعة المرأة سرعة الانفعال والبكاء، وهو هنا لخشية ضياع أجر أخروي محمود. وكانت رضي الله عنها حديثة السن لم تتجاوز الثامنة عشرة. 15 - ومن قوله "هذا شيء كتبه الله على بنات آدم" أخذ البخاري أن الحيض كان في جميع بنات آدم، وأنكر به على من قال: إن الحيض أول ما أرسل وقع في بني إسرائيل. 16 - وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من حسن الخلق وتسلية المصاب، وتخفيف همه. 17 - ومن قولها في الرواية العاشرة "أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه البقر" قال النووي: هذا محمول على أنه استأذنهن في ذلك، فإن تضحية الإنسان عن غيره لا تجوز إلا بإذنه. 18 - واستدل به مالك على أن التضحية بالبقر أفضل من الإبل، قال النووي: ولا دلالة فيه، لأنه ليس فيه ذكر تفضيل البقر، إنما هي قضية عين محتملة لأمور، فلا حجة فيها لما قاله، وذهب الشافعي والأكثرون إلى أن التضحية بالبدنة أفضل من البقرة، لقوله صلى الله عليه وسلم "من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة". 19 - وفي قولها في الرواية الثالثة عشرة "قلت: لا أصلي" استحباب الكناية عن الحيض ونحوه مما يستحي منه بالحكم الخاص به أدباً وحياء، قال ابن المنير: وقد ظهر أثر ذلك في بناتها المؤمنات، فكلهن يكنين عن الحيض. 20 - ومن قوله "فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل" التدرج في النصح للتخلص من العادات المتأصلة، قال النووي: قال العلماء: خيرهم أولاً بين الفسخ وعدمه ملاطفة لهم وإيناساً بالعمرة في أشهر الحج، لأنهم كانوا يرونها من أفجر الفجور، ثم حثهم عليها، ثم أمرهم بها أمر عزيمة، وألزمهم إياها، وكره ترددهم. 21 - ومن قولها "فخرج، فمر بالبيت، فطاف به قبل صلاة الصبح، ثم خرج إلى المدينة" وجوب طواف الوداع، وسيأتي في باب خاص. 22 - ومن قوله في الرواية السادسة عشرة "ولكنها على قدر نصبك" أو "على قدر نفقتك" أن الثواب

والفضل في العبادة يكثر بكثرة النصب والنفقة، قال النووي: والمراد النصب الذي لا يذمه الشرع، وكذا النفقة. 23 - وفي قوله في الرواية السابعة عشرة "لا بأس انفري" دليل على أن طواف الوداع لا يجب على الحائض، ولا يلزمها الصبر إلى طهرها لتأتي به، ولا دم عليها في تركه، قال النووي: هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة، إلا ما حكاه القاضي عن بعض السلف وهو شاذ مردود. 24 - وفي غضبه صلى الله عليه وسلم في الرواية الثامنة عشرة استحباب الغضب عند انتهاك حرمة الدين. 25 - وفي دعاء عائشة على من أغضبه صلى الله عليه وسلم وعدم نقده جواز الدعاء على المخالف لحكم الشرع. 26 - وفيه حديث الرجل مع زوجته فيما يتعلق بشئونه، وشكواه لها، ومشاركتها له، وتخفيفها عنه. 27 - وفي قوله "ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ... " دليل على جواز قول "لو" في التأسف على فوات أمور الدين ومصالح الشرع. قال النووي: وأما الحديث الصحيح في أن "لو تفتح عمل الشيطان" فمحمول على التأسف على حظوظ الدنيا ونحوها، وقد كثرت الأحاديث الصحيحة في استعمال "لو" في غير حظوظ الدنيا ونحوها فيجمع بين الأحاديث بما ذكرنا. والله أعلم. اهـ 28 - وفي قول جابر رضي الله عنه في الرواية الثالثة والعشرين "حتى إذا طهرت طافت بالكعبة والصفا والمروة" دليل على أن السعي بين الصفا والمروة يشترط وقوعه بعد طواف صحيح، ووجه الدلالة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تصنع ما يصنع الحاج غير الطواف بالبيت، ولم تسع كما لم تطف، فلو لم يكن السعي متوقفاً على تقدم الطواف عليه لما أخرته. 29 - وفي قوله في الرواية الخامسة والعشرين "إذا هويت شيئاً تابعها عليه" حسن خلقه صلى الله عليه وسلم وحسن معاشرة الأزواج، لا سيما فيما كان من باب الطاعة. 30 - وفي قوله في الرواية السادسة والعشرين "معنا النساء والولدان" صحة حج الصبي والحج به، قال النووي: ومذهب مالك والشافعي وأحمد والعلماء كافة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم أنه يصح حج الصبي، ويثاب عليه، ويترتب عليه أحكام حج البالغ إلا أنه لا يجزيه عن فرض الإسلام، فإذا بلغ بعد ذلك واستطاع لزمه فرض الإسلام، وخالف أبو حنيفة الجمهور، فقال: لا يصح له إحرام ولا حج، ولا ثواب فيه، ولا يترتب عليه شيء من أحكام الحج، قال: وإنما يحج به ليتمرن ويتعلم، ويتجنب محظورات الإحرام للتعلم. قال: وكذلك لا تصح صلاته، وإنما يؤمر بها لما ذكرناه، وكذلك عنده سائر العبادات، والصواب مذهب الجمهور، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما "أن امرأة رفعت صبياً، فقالت: يا رسول الله، ألهذا حج؟ قال: نعم". والله أعلم. وسيأتي حج الصبي في باب خاص.

31 - وفي قوله في الرواية نفسها "فلما كان يوم التروية أهللنا بالحج" دليل للشافعي وموافقيه أن الأفضل للمتمتع وكل من أراد الإحرام بالحج من مكة لا يحرم به إلا يوم التروية، وقال مالك وآخرون: يحرم من أول ذي الحجة. 32 - وفي الرواية نفسها جواز الاشتراك في الهدي والأضحية في البدنة والبقرة كل واحدة تجزئ عن سبعة أنفس، وتقوم مقام سبع شياه، وبه قال الشافعي وموافقوه، سواء كان المشتركون مفترضين أو متطوعين، وسواء كانوا متقربين أو كان بعضهم تقرباً وبعضهم يريد اللحم، وبه قال أحمد، وقال مالك: يجوز إن كانوا متطوعين، ولا يجوز إن كانوا مفترضيين، وقال أبو حنيفة: إن كانوا متقربين جاز، سواء اتفقت قربتهم أو اختلفت وإن كان بعضهم تقرباً وبعضهم يريد اللحم لم يصح الاشتراك. 33 - وفي ترددهم في الرواية المتممة للثلاثين، وقوله "فلولا الهدي الذي معي فعلت كما فعلتم" ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من تطييب قلوب أصحابه، وتلطفه بهم، وحلمه عليهم. 34 - وفي قوله في الرواية المتممة للثلاثين نفسها "وجعلنا مكة بظهر أهللنا بالحج" ودليل لمن يقول: يجوز لمن كان بمكة وأراد أن يحرم بالحج يجوز له الإحرام من خارج مكة، وقد مضت المسألة في المباحث العربية. 35 - وفي قول عمر رضي الله عنه في الرواية الثالثة والثلاثين "وأبتوا نكاح هذه النساء ... إلخ" قال النووي: متعة النكاح وهي نكاح المرأة إلى أجل، وكان مباحاً، ثم نسخ يوم خيبر ثم أبيح يوم الفتح، ثم نسخ في أيام الفتح، واستمر تحريمه إلى الآن وإلى يوم القيامة، وقد كان فيه خلاف في العصر الأول، ثم ارتفع وأجمعوا على تحريمه، وسيأتي بسط أحكامه في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى. اهـ ويؤخذ من حديث جابر رضي الله عنه روايتنا الخامسة والثلاثين "حجة الوداع" فوائد ذكرها النووي: منها: 36 - أنه يستحب لمن ورد عليه زائرون أو ضيفان ونحوهم أن يسأل عنهم لينزلهم منازلهم، كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم". 37 - وفيه إكرام أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما فعل جابر بمحمد بن علي. 38 - استحباب قوله للزائر والضيف ونحوهما: مرحباً. 39 - وملاطفة الزائر بما يليق به، وتأنيسه، وهذا سبب حل جابر زري محمد بن علي، ووضع يده بين ثدييه، ونبه محمد بن علي على سبب ذلك التأنيس بأنه كان صغيراً وأما الرجل الكبير فلا يحسن إدخال اليد في جيبه والمسح بين ثدييه. 40 - وجواز إمامة الأعمى البصراء، من قوله "فصلى بنا" ولا خلاف في جواز ذلك، لكن اختلفوا في الأفضل على ثلاثة مذاهب، وهي ثلاثة أوجه للشافعية. أحدها: إمامة الأعمى أفضل من إمامة البصير، لأن الأعمى أكمل خشوعاً، لعدم نظره إلى الملهيات والثاني: البصير أفضل، لأنه أكثر

احترازاً من النجاسات، والثالث: هما سواء، لتعادل فضيلتهما، قال النووي: وهذا الثالث هو الأصح عند أصحابنا، وهو نص الشافعي. 41 - وأن صاحب البيت أحق بالإمامة من غيره. 42 - وجواز الصلاة في ثوب واحد مع التمكن من الزيادة عليه. 43 - وإيضاح العدد وتأكيده بعقد الأصابع مع ذكر العدد. 44 - ومن التأذين في الناس أنه يستحب للإمام إيذان الناس بالأمور المهمة ليتأهبوا لها. 45 - ومن قوله "كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعمل مثل عمله" حرص الصحابة على التأسي والاقتداء قال القاضي عياض: هذا مما يدل على أنهم كلهم أحرموا بالحج، لأنه صلى الله عليه وسلم أحرم بالحج، وهم لا يخالفونه، ولهذا قال جابر: "وما عمل من شيء عملنا به" ومثله توقفهم عن التحلل بالعمرة حيث لم يتحلل، حتى أغضبوه واعتذر إليهم، ومثله تعليق علي، وأبي موسى إحرامهما على إحرام النبي صلى الله عليه وسلم. 46 - ومن قوله لأسماء: "اغتسلي" استحباب غسل الإحرام للنفساء. 47 - وفيه أمر الحائض والنفساء والمستحاضة بالاستثفار، وهو اتخاذ خرقة بين الفخذين، وشدها في الحزام. 48 - وفيه صحة إحرام النفساء، وهو مجمع عليه. 49 - ومن قوله "فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم استحباب ركعتي الإحرام. 50 - ومن قوله "بين يديه من راكب وماش" جواز الحج راكباً وماشياً، وهو مجمع عليه، وقد تظاهرت عليه أدلة الكتاب والسنة وإجماع الأمة، قال تعالى: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر} [الحج: 27]. قال النووي: واختلف العلماء في الأفضل منهما فقال مالك والشافعي وجمهور العلماء: الركوب أفضل، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ولأنه أعون له على وظائف مناسكه، ولأنه أكثر نفقة، وقال داود: ماشياً أفضل لمشقته، وهذا فاسد، لأن المشقة ليست مطلوبة. 51 - في قوله "أهل الناس بهذا الذي يهلون به، فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً منه" قال القاضي عياض: فيه إشارة إلى ما روي من زيادة الناس في التلبية، من الثناء والذكر كما روي في ذلك عن عمر رضي الله عنه أنه كان يزيد [لبيك ذا النعماء والفضل الحسن، لبيك مرهوباً منك، ومرغوباً إليك] وعن ابن عمر رضي الله عنهما زيادة [لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل] وعن أنس رضي الله عنه [لبيك حقاً، تعبداً ورقاً] قال القاضي قال أكثر العلماء: المستحب الاقتصار على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه قال مالك والشافعي. والله أعلم. 52 - في قوله "حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن" بيان أن السنة للحاج أن يدخلوا مكة قبل الوقوف بعرفات، ليطوفوا للقدوم وغير ذلك.

53 - وأن المحرم إذا دخل مكة قبل الوقوف بعرفات يسن له طواف القدوم، وهو مجمع عليه. 54 - وأن الطواف سبع طوفات. 55 - وأن السنة الرمل في الثلاث الأول، والمشي على عادته في الأربع الأخيرة. قال النووي: قال أصحابنا: ولا يستحب الرمل إلا في طواف واحد في حج أو عمرة، أما إذا طاف في غير حج أو عمرة فلا رمل بلا خلاف، ولا يسرع أيضاً في كل طواف حج وإنما يسرع في واحد منها، ولا يتصور في طواف وداع. ثم قال: قال أصحابنا: والاضطباع سنة في الطواف، وقد صح فيه الحديث في سنن أبي داود والترمذي وغيرهما وهو أن يجعل وسط ردائه تحت عاتقه الأيمن، ويجعل طرفيه على عاتقه الأيسر، ويكون منكبه الأيمن مكشوفاً، قالوا: وإنما يسن الاضطباع في طواف يسن فيه الرمل على ما سبق تفصيله. 56 - وفي قوله "استلم الركن" ومعناه مسحه بيده استحبابه في كل طواف. وسيأتي في باب خاص. 57 - وفي قوله "ثم نفذ إلى مقام إبراهيم إلخ" دليل لما أجمع عليه العلماء أنه ينبغي لكل طائف إذا فرغ من طوافه أن يصلي خلف المقام ركعتي الطواف، قال النووي: واختلفوا هل هما واجبتان أو سنتان؟ وسواء قلنا: واجبتان أو سنتان لو تركهما لم يبطل طوافه، والسنة أن يصليهما خلف المقام، فإن لم يفعل ففي الحجر، وإلا ففي المسجد، وإلا ففي مكة وسائر الحرم، ولو صلاهما في وطنه جاز، وفاتته الفضيلة، ولا تفوت هذه الصلاة مادام حياً، ولو أراد أن يطوف أطوفة استحب أن يصلي عقب كل طواف ركعتيه. 58 - ويسن أن يقرأ فيهما، في الأولى بعد الفاتحة (قل يا أيها الكافرون) وفي الثانية بعد الفاتحة {قل هو الله أحد} 59 - وفي قوله "ثم رجع إلى الركن فاستلمه" دليل الشافعي وغيره من العلماء أنه يستحب للطائف طواف القدوم إذا فرغ من الطواف وصلاته خلف المقام أن يعود إلى الحجر الأسود فيستلمه. 60 - ويستحب أن يخرج من باب الصفا ليسعى. 61 - وأن السعي يشترط فيه أن يبدأ من الصفا. وبه قال الشافعي ومالك والجمهور. 62 - وأنه ينبغي أن يرقى على الصفا والمروة، وفي هذا الرقي خلاف. الجمهور على أنه سنة ليس بشرط، وقيل لا يصح السعي حتى يصعد على شيء من الصفا والصواب الأول. 63 - وأنه يسن أن يقف على الصفا مستقبل الكعبة، ويذكر الله تعالى بهذا الذكر المذكور، ويدعو، ويكرر الذكر والدعاء ثلاث مرات، ومثل ذلك على المروة. 64 - واستحباب السعي الشديد في بطن الوادي، ثم يمشي باقي المسافة إلى المروة على عادة مشيه. قال النووي: وهذا السعي مستحب في كل مرة من المرات السبع في هذا الموضع، والمشي مستحب فيما قبل الوادي وبعده، ولو مشى في الجميع، أو سعى في الجميع أجزأه وفاتته الفضيلة، وعن مالك رواية أن لو ترك السعي الشديد في موضعه تجب عليه إعادته.

65 - وفي قوله "حتى إذا كان آخر طواف على المروة" دليل لمذهب الشافعي والجمهور أن الذهاب من الصفا إلى المروة يحسب مرة، والرجوع إلى الصفا ثانية، والرجوع إلى المروة ثالثة، وهكذا. قال النووي: وقال ابن بنت الشافعي وأبو بكر الصيرفي من أصحابنا: يحسب الذهاب إلى المروة والرجوع إلى الصفا مرة واحدة، فيقع آخر السبع في الصفا، قال: وهذا الحديث الصحيح يرد عليهما، وكذلك عمل المسلمين على تعاقب الأزمان. 66 - وفي إنكار علي رضي الله عنه على فاطمة رضي الله عنها إنكار الرجل على زوجته ما يراه منها من نقص في دينها، لأن علياً ظن أن ذلك لا يجوز فأنكره. 67 - ومن إهلاله بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم جواز تعليق الإحرام بإحرام الغير، وقد سبقت هذه المسألة قريباً. 68 - ومن قوله "فحل الناس كلهم .... إلخ" إطلاق اللفظ العام وإرادة الخاص فالمراد من "كلهم" معظمهم، فإن عائشة رضي الله عنها لم تحل ولم تكن ساقت الهدي. 69 - ومن قوله "فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى" أن الأفضل لمن كان بمكة، وأراد الإحرام بالحج أحرم يوم التروية، وقد سبقت المسألة في المأخذ الواحد والثلاثين. 70 - وأن السنة ألا يتقدم أحد إلى منى قبل يوم التروية، وقد كره مالك ذلك وكره الإقامة بمكة يوم التروية حتى يمسي، وقال بعض السلف: لا بأس أن يتقدم الحاج إلى منى قبل يوم التروية بيوم أو يومين، ومذهب الشافعية أنه خلاف الأولى. 71 - ومن قوله "فأهلوا بالحج" الإحرام بالحج من خارج مكة لمن كان بمكة، وقد سبقت المسألة في المأخذ الرابع والثلاثين. 72 - ومن قوله "وركب النبي صلى الله عليه وسلم .... إلخ" أن الركوب في تلك المواطن أفضل من المشي، كما أنه في جملة الطريق أفضل من المشي، هذا هو الصحيح في الصورتين أن الركوب أفضل، وللشافعي قول آخر ضعيف أن المشي أفضل، قال النووي: وقال بعض أصحابنا: الأفضل في جملة الحج الركوب، إلا في مواطن المناسك، وهي مكة ومنى ومزدلفة وعرفات والتردد بينها. 73 - ويسن أن يصلى بمنى الصلوات الخمس. 74 - ويسن أن يبيت بمنى هذه الليلة، ليلة التاسع من ذي الحجة، وهذا المبيت سنة، ليس بركن، ولا واجب، فلو تركه فلا دم عليه بالإجماع. 75 - وأن السنة ألا يخرجوا من منى حتى تطلع الشمس، وهذا متفق عليه. 76 - واستحباب النزول بنمرة إذا ذهبوا من منى، لأن السنة ألا يدخلوا عرفات إلا بعد زوال الشمس، وبعد صلاتي الظهر والعصر جمعاً. 77 - وفيه جواز استظلال المحرم بقبة ونحوها. ولا خلاف في جوازه للنازل. قال النووي: واختلفوا في جوازه للراكب، فمذهبنا جوازه، وبه قال كثيرون، وكرهه مالك وأحمد.

78 - وجواز اتخاذ القباب، وجوازها من شعر. 79 - ومن قوله "فأتى بطن الوادي فخطب الناس" استحباب خطبة الإمام للحجيج يوم عرفة في هذا الموضع، وهو سنة باتفاق جماهير العلماء، وخالف فيها المالكية ومذهب الشافعي أن في الحج أربع خطب مسنونة، إحداها يوم السابع من ذي الحجة يخطب عند الكعبة بعد صلاة الظهر، والثانية هذه التي في بطن عرفة يوم عرفات، والثالثة يوم النحر، والرابعة يوم النفر الأول، وهو اليوم الثاني من أيام التشريق، قال الشافعية: وكل هذه الخطب أفراد، وبعد صلاة الظهر، إلا التي يوم عرفات، فإنها خطبتان، وقبل الصلاة، قالوا: ويعلمهم في كل خطبة من هذه ما يحتاجون إليه إلى الخطبة الأخرى. 80 - ومن قوله "كحرمة يومكم هذا" ضرب الأمثال، وإلحاق النظير بالنظير قياساً. 81 - ومن قوله "ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع" إبطال أفعال الجاهلية. 82 - ومن قوله "ودماء الجاهلية موضوعة" أنه لا قصاص في قتلها. 83 - ومن وضع دمائه صلى الله عليه وسلم وربا عمه أن الإمام وغيره ممن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ينبغي أن يبدأ بنفسه وأهله، فهو أقرب إلى قبول قوله، وأقرب إلى طيب نفس من قرب عهده بالإسلام. 84 - ومن وصيته صلى الله عليه وسلم بالنساء الحث على مراعاة حق النساء والوصية بهن، ومعاشرتهن بالمعروف. 85 - وفيها إباحة ضرب الرجل امرأته للتأديب. 86 - ووجوب نفقة الزوجة وكسوتها على الزوج. 87 - ومن قوله "ثم أذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئاً" أنه يشرع الجمع بين الظهر والعصر هناك في ذلك اليوم، قال النووي: وقد أجمعت الأمة عليه، واختلفوا في سببه، فقيل: بسبب النسك، وهو مذهب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي، وقال أكثر أصحاب الشافعي: هو بسبب السفر. فمن كان حاضراً أو مسافراً دون مرحلتين -كأهل مكة- لم يجز له الجمع كما لا يجوز له القصر. 88 - وأن الجامع بين الصلاتين يصلي الأولى أولاً. 89 - وأنه يؤذن للأولى، ويقيم لكل واحدة منهما، وأنه لا يفرق بينهما. قال النووي: وهذا كله متفق عليه عندنا. 90 - ومن قوله "ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف ... إلخ" أنه إذا فرغ من الصلاتين عجل الذهاب إلى الموقف.

91 - وأن الوقوف راكباً أفضل، قال النووي: وفيه خلاف بين العلماء، وفي مذهبنا ثلاثة أقوال، أصحها أن الوقوف راكباً أفضل، والثاني: غير الراكب أفضل، والثالث: هما سواء. 92 - وأنه يستحب أن يقف عند الصخرات المذكورات، فهذا هو الموقف المستحب، وأما ما اشتهر بين العوام من الاعتناء بصعود الجبل، وتوهمهم أنه لا يصح الوقوف إلا فيه فغلط، بل الصواب جواز الوقوف في كل جزء من أرض عرفات، وأن الفضيلة في موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصخرات، فإن عجز فليقرب منه بحسب الإمكان. 93 - واستحباب استقبال الكعبة في الوقوف. 94 - وأنه ينبغي أن يبقى في الوقوف حتى تغرب الشمس، ويتحقق كمال غروبها، ثم يفيض إلى المزدلفة، فلو أفاض قبل غروب الشمس صح وقوفه وحجه، ويجبر ذلك بدم، وهل الدم واجب أم مستحب؟ فيه قولان للشافعي، أصحهما أنه سنة، والثاني واجب، وهما مبنيان على أن الجمع بين الليل والنهار واجب على من وقف بالنهار أم لا؟ وفيه قولان. أصحهما سنة، والثاني واجب. كذا قال النووي. وقال: وأما وقت الوقوف فهو ما بين زوال الشمس يوم عرفة وطلوع الفجر الثاني يوم النحر، فمن حصل بعرفات في جزء من هذا الزمان صح وقوفه، ومن فاته ذلك فاته الحج. هذا مذهب الشافعي وجماهير العلماء، وقال مالك: لا يصح الوقوف في النهار منفرداً، بل لا بد من الليل، فإن اقتصر على الليل كفاه، وإن اقتصر على النهار لم يصح وقوفه، وقال أحمد: يدخل وقت الوقوف من الفجر يوم عرفة، وأجمعوا على أن أصل الوقوف ركن لا يصح الحج إلا به. اهـ 95 - ومن إردافه صلى الله عليه وسلم أسامة خلفه جواز الإرداف إذا كانت الدابة مطيقة، وقد سبقت المسألة في المأخذ الثاني عشر. 96 - ومن شنقه صلى الله عليه وسلم القصواء استحباب الرفق وعدم المزاحمة في السير من الراكب بالمشاة وبأصحاب الدواب الضعيفة. 97 - وأن السكينة في الدفع من عرفات سنة. 98 - ومن صلاته صلى الله عليه وسلم المغرب والعشاء بمزدلفة أن السنة للدافع من عرفات أو يؤخر المغرب إلى وقت العشاء، ويكون هذا التأخير بنية الجمع، ثم يجمع بينهما في المزدلفة في وقت العشاء، قال النووي: وهذا مجمع عليه، لكن مذهب أبي حنيفة وطائفة أنه يجمع بسبب النسك، ويجوز لأهل مكة والمزدلفة ومنى وغيرهم، والصحيح عند أصحابنا أنه جمع بسبب السفر، فلا يجوز إلا لمسافر سفراً يبلغ به مسافة القصر، وللشافعي قول ضعيف أنه يجوز الجمع في كل سفر وإن كان قصيراً. ثم قال: وقال أصحابنا: ولو جمع بينهما في وقت المغرب في أرض عرفات، أو في الطريق، أو في موضع آخر، أو صلى كل واحدة في وقتها جاز جميع ذلك، لكنه خلاف الأفضل. هذا مذهبنا، وبه قال جماعات من الصحابة والتابعين، وقاله الأوزاعي وأبو يوسف وأشهب وفقهاء أهل الحديث،

وقال أبو حنيفة وغيره من الكوفيين: يشترط أن يصليهما بالمزدلفة، ولا يجوز قبلها، وقال مالك: لا يجوز أن يصليهما قبل المزدلفة إلا من به أو بدابته عذر، فله أن يصليهما قبل المزدلفة بشرط كونه بعد مغيب الشفق. 99 - وأن يصلي الصلاتين في وقت الثانية بأذان للأولى وإقامتين، لكل واحدة إقامة، قال النووي: هذا هو الصحيح عند أصحابنا، وبه قال أحمد، وقال مالك: يؤذن ويقيم للأولى، ويؤذن ويقيم للثانية، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: أذان واحد وإقامة واحدة. 100 - وفي قوله "ولم يسبح بينهما" أي لم يصل نافلة بينهما، والنافلة تسمى سبحة، لاشتمالها على التسبيح، وفيه الموالاة بين الصلاتين المجموعتين، ولا خلاف في هذا لكن اختلفوا هل هو شرط للجمع أم لا؟ والصحيح عندنا أنه ليس بشرط، بل هو سنة مستحبة، وقال بعض أصحابنا: هو شرط، أما إذا جمع بينهما في وقت الأولى فالموالاة شرط بلا خلاف. 101 - وفي قوله "ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر .... إلخ" أن المبيت بمزدلفة ليلة النحر بعد الدفع من عرفات نسك، قال النووي: وهذا مجمع عليه، لكن اختلف العلماء هل هو واجب؟ أم ركن؟ أم سنة؟ والصحيح من قولي الشافعي أنه واجب، لو تركه أثم وصح حجه، ولزمه دم، وقال جماعة من أصحابنا: هو ركن لا يصح الحج إلا به كالوقوف بعرفات. 102 - والسنة أن يبقى بمزدلفة حتى يصلي بها الصبح إلا الضعفة، فالسنة لهم الدفع قبل الفجر، وسيأتي في باب خاص. قال النووي: وفي أقل المجزئ من هذا المبيت ثلاثة أقوال عندنا: الصحيح ساعة في النصف الثاني من الليل، والثاني ساعة في النصف الثاني أو بعد الفجر قبل طلوع الشمس، والثالث معظم الليل. 103 - قال النووي: والسنة أن يبالغ بتقديم صلاة الصبح في هذا الموضع ويتأكد التبكير بها في هذا اليوم أكثر من تأكده في سائر السنة للاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم لأن وظائف هذا اليوم كثيرة، فسن المبالغة بالتبكير بالصبح، ليتسع الوقت للوظائف. 104 - ويسن الأذان والإقامة لهذه الصلاة، وكذلك غيرها من صلوات المسافر. 105 - وفي قوله "فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً" أن الوقوف على قزح من مناسك الحج، وهذا لا خلاف فيه، قال النووي: لكن اختلفوا في الدفع منه، فقال أبو حنيفة والشافعية وجماهير العلماء: لا يزال واقفاً فيه يدعو ويذكر حتى يسفر الصبح جداً كما في الحديث، وقال مالك: يدفع منه قبل الإسفار. 106 - وفي وضع الرسول صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل أن من رأى منكراً وأمكنه إزالته بيده لزمه إزالته، فإن قال بلسانه ولم ينكف المقول له وأمكنه بيده أثم مادام مقتصراً على اللسان. قاله النووي. 107 - وفي تحريكه في بطن محسر استحباب الإسراع قليلاً في السير في ذلك الموضع.

108 - وفي قوله "حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها" أن السنة للحاج إذا دفع من المزدلفة فوصل منى أن يبدأ بجمرة العقبة، ولا يفعل شيئاً قبل رميها، ويكون ذلك قبل نزوله. 109 - وفيه أن الرمي بسبع حصيات. 110 - وأن قدرهن بقدر حصى الخذف. قال النووي: فإن كان أكبر أو أصغر أجزأه، بشرط كونه حجراً. 111 - وفيه أنه يسن التكبير مع كل حصاة. 112 - وأنه يجب التفريق بين الحصيات، فيرميهن واحدة واحدة، قال النووي: فإن رمى السبعة رمية واحدة حسب ذلك كله حصاة واحدة عندنا وعند الأكثرين، بدليل "يكبر مع كل حصاة" فهذا تصريح بأنه رمى كل حصاة وحدها. 113 - وفيه أن السنة أن يقف للرمي في بطن الوادي، بحيث تكون منى وعرفات والمزدلفة عن يمينه، ومكة عن يساره، وكيفما رمى أجزأه. قال النووي: وأما حكم الرمي فالمشروع منه يوم النحر رمي جمرة العقبة لا غير. بإجماع المسلمين، وهو نسك بإجماعهم ومذهبنا أنه واجب ليس بركن، فإن تركه حتى فاتته أيام الرمي عصى ولزمه دم، وصح حجه، وقال مالك: يفسد حجه. 114 - وفي نحره صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وستين بدنة استحباب تكثير الهدي وكان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تلك السنة مائة بدنة. 115 - واستحباب ذبح المهدي هديه بنفسه. 116 - وجواز الاستنابة فيه، وذلك جائز بالإجماع إذا كان النائب مسلماً، قال النووي: ويجوز عندنا أن يكون النائب كافراً كتابياً، بشرط أن ينوي المهدي عند رفعه إليه أو عند ذبحه. 117 - واستحباب تعجيل ذبح الهدايا وإن كانت كثيرة، ولا يؤخر بعضها إلى أيام التشريق. 118 - وفي أكله صلى الله عليه وسلم من لحم الهدايا استحباب الأكل من هدي التطوع وأضحيته، قال النووي: وأجمع العلماء على أن الأكل من هدي التطوع وأضحيته سنة، وليس بواجب. 119 - ومن قوله "فأفاض إلى البيت" طواف الإفاضة. قال النووي: وهو ركن من أركان الحج بإجماع المسلمين، وأول وقته عندنا من نصف ليلة النحر، وأفضله بعد رمي جمرة العقبة وذبح الهدي والحلق، ويكون ذلك ضحوة يوم النحر، ويجوز في جميع يوم النحر بلا كراهة، ويكره تأخيره عنه بلا عذر، وتأخيره عن أيام التشريق أشد كراهة، ولا يحرم تأخيره سنين متطاولة، ولا آخر لوقته، بل يصح مادام الإنسان حياً، وشرطه أن يكون بعد الوقوف بعرفات. ثم قال: واعلم أن طواف الإفاضة له أسماء، فيقال أيضاً: طواف الزيارة، وطواف الفرض والركن، وسماه بعض أصحابنا: طواف الصدر، وأنكره الجمهور، وقالوا: طواف الصدر إنما هو طواف الوداع.

120 - وفي شربه من ماء زمزم وثنائه على بني عبد المطلب فضيلة العمل في هذا الاستقاء. 121 - واستحباب شرب ماء زمزم، واستدل به على أن الذي أرصد للمصالح العامة لا يحرم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله تناوله، فتكون للغني في معنى الهدية، وللفقير صدقة. 122 - وفي الرواية السادسة والثلاثين رفق النبي صلى الله عليه وسلم بأمته، وشفقته عليهم في تنبيههم** على مصالح دينهم ودنياهم، فإنه صلى الله عليه وسلم ذكر لهم الأكمل والجائز فالأكمل موضع نحره ووقوفه، والجائز كل جزء من أجزاء المنحر، وكل جزء من أجزاء عرفات. قال النووي: قال الشافعي وأصحابنا: يجوز نحر الهدي ودماء الحيوانات في جميع الحرم، لكن الأفضل في حق الحاج النحر بمنى، وأفضل موضع منها للنحر موضع نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم وما قاربه، والأفضل في حق المعتمر أن ينحر في المروة، لأنها موضع تحلله، كما أن منى موضع تحلل الحاج. 123 - وفي الرواية التاسعة والثلاثين ما كان عليه العرب قبل الإسلام عند الطواف، قال الحافظ ابن حجر: وذكر ابن إسحق أن قريشاً ابتدعت قبل الفيل أو بعده لا يطوف بالبيت أحد ممن يقدم عليهم من غيرهم أن لا يطوف إلا في ثياب أحدهم، فإن لم يجد طاف عرياناً، فإن خالف وطاف بثيابه ألقاها إذا فرغ، ثم لم ينتفع بها، فجاء الإسلام فهدم ذلك كله. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم في الحجة التي حجها أبو بكر رضي الله عنه سنة تسع أن ينادي مناديه ألا يطوف بالبيت عريان. 124 - وفي الرواية الواحدة والأربعين جواز تعليق الإحرام. قال النووي: فإذا قال: أحرمت بإحرام كإحرام زيد صح إحرامه، وكان إحرامه كإحرام زيد، فإن كان زيد محرماً بحج أو بعمرة أو قارناً كان المعلق مثله، وإن كان زيد أحرم مطلقاً كان المعلق مطلقاً ولا يلزمه أن يصرف إحرامه إلى ما يصرف زيد إحرامه إليه، فلو صرف زيد إحرامه إلى حج كان للمعلق صرف إحرامه إلى عمرة، وكذا عكسه، وقد سبق الكلام على الإحرام المعلق. 125 - وفي قوله صلى الله عليه وسلم لأبي موسى: "أحسنت" استحباب الثناء على من فعل فعلاً جميلاً. 126 - وفي الرواية الخامسة والأربعين والسادسة والأربعين، وفي مناقشة علي لعثمان رضي الله عنهما إشاعة العلم وإظهاره. 127 - ومناظرة ولاة الأمور وغيرهم في تحقيق العلم، لمن قوي على ذلك. 128 - ووجوب مناصحة المسلم في ذلك. 129 - وجواز الاستنباط من النص، لأن عثمان لم يخف عليه أن التمتع والقران جائزان، وإنما نهى عنهما ليعمل بالأفضل، قال الحافظ ابن حجر: لكن خشي علي أن يحمل غيره النهي على التحريم فأشاع جواز ذلك، وكل منهما مجتهد مأجور.

130 - وفي إحرام علي رضي الله عنه البيان بالفعل مع القول. 131 - وفيه أن طاعة الإمام إنما تجب في المعروف. 132 - وفي أحاديث عمران بن حصين رضي الله عنه، روايتنا الثانية والخمسين وما بعدها جواز نسخ القرآن بالقرآن، من قوله "فلم تنزل آية تنسخ ذلك" ولا خلاف فيه وكذا نسخ السنة بالقرآن. 133 - وجواز نسخه بالسنة، وفيه اختلاف شهير، ووجه الدلالة قوله "ولم ينهنا عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن مفهومه أنه لو نهي عنها لامتنعت، ويستلزم رفع الحكم، ومقتضاه جواز النسخ. 134 - قال الحافظ ابن حجر: وقد يؤخذ منه أن الإجماع لا ينسخ به، لكونه حصر وجوه المنع في نزول آية، أو نهي من النبي صلى الله عليه وسلم. 135 - وفيه وقوع الاجتهاد في الأحكام بين الصحابة. 136 - وإنكار بعض المجتهدين على بعض بالنص. 137 - وأن المجتهد لا يقلد مجتهداً آخر، لا سيما مع وجود الدليل لديه. 138 - وتبليغ العلم مع المحافظة على عدم إثارة الفتنة مع الحكام. 139 - والتعريض بالحاكم دون ذكر اسمه تبليغاً وتقية. 140 - وفي الرواية الثامنة والخمسين، في قوله "وليقصر وليحلل" دليل على أن التقصير أو الحلق نسك من مناسك الحج. قال النووي: وهذا هو الصحيح في مذهبنا. وبه قال جماهير العلماء، وقيل: إنه استباحة محظور، وليس بنسك. وهذا ضعيف، وسيأتي إيضاحه في موضعه إن شاء الله تعالى. 141 - وفي قوله "فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع" قال النووي: ويجب صوم هذه الثلاثة قبل يوم النحر، ويجوز صوم يوم عرفة منها، لكن الأولى أن يصوم الثلاثة قبله، وذكر تشعيبات وآراء فقهية يمكن الرجوع إليها. 142 - وفي الرواية التاسعة والخمسين دليل للمذهب الصحيح المختار من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً في حجة الوداع. 143 - وأن القارن لا يتحلل بالطواف والسعي، ولا بد له في تحلله من الوقوف بعرفات والرمي والحلق والطواف، كما في الحاج المفرد. 144 - واستحباب التلبيد وتقليد الهدي، وهما سنتان بالاتفاق. 145 - ومن أحاديث ابن عمر رضي الله عنهما روايتنا الثانية والستين وما بعدها جواز القران. 146 - وجواز إدخال الحج على العمرة قبل الطواف.

147 - وجواز التحلل بالإحصار. 148 - وصحة القياس والعمل به، وأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يستعملونه، فلهذا قاس الحج على العمرة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما تحلل من الإحصار عام الحديبية من إحرامه بالعمرة وحدها. 149 - وأن القارن يقتصر على طواف واحد وسعي واحد، قال النووي: وهو مذهبنا ومذهب الجمهور، وخالف فيه أبو حنيفة وطائفة، وسبقت المسألة. 150 - وفي روايتنا التاسعة والستين استحباب طواف القدوم للحاج، قال النووي: وهو مشروع قبل الوقوف بعرفات، وبهذا الذي قاله ابن عمر قال العلماء كافة سوى ابن عباس، وكلهم يقولون: إنه سنة ليس بواجب، إلا بعض أصحابنا ومن وافقهم، فيقولون: واجب يجبر تركه بدم، والمشهور أنه ليس بواجب ولا دم في تركه، فإن وقف بعرفات قبل طواف القدوم فات، ولطواف القدوم أسماء: طواف القدوم، والقادم، والورود، والوارد، والتحية، وليس في العمرة طواف قدوم، بل الطواف الذي يفعله فيها ركن لها، حتى لو نوى به طواف القدوم وقع ركناً ولغت النية. 151 - وفي قول ابن عمر "وأينا لم تفتنه الدنيا" تواضع ابن عمر وزهده وإنصافه. 152 - وفي روايتنا الواحدة والسبعين والثانية والسبعين أن المعتمر لا يتحلل من عمرته حتى يطوف ويسعى ويحلق وهذا الحكم الذي قاله ابن عمر هو مذهب العلماء كافة إلا ما حكي عن ابن عباس وإسحق بن راهويه أنه يتحلل بعد الطواف، وإن لم يسع. وهذا ضعيف مخالف للسنة. 153 - وفي قوله "أول شيء بدأ به حين قدم مكة أنه توضأ ثم طاف بالبيت" دليل لإثبات الوضوء للطواف، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، ثم قال "لتأخذوا عني مناسككم" قال النووي: وقد أجمعت الأمة على أنه يشرع الوضوء للطواف، ولكن اختلفوا في أنه واجب وشرط لصحته؟ أم لا؟ فقال مالك والشافعي وأحمد والجمهور: هو شرط لصحة الطواف وقال أبو حنيفة: مستحب ليس بشرط، واحتج الجمهور بهذا الحديث، ووجه الدلالة أن هذا الحديث مع حديث "خذوا عني مناسككم" يقتضيان أن الطواف واجب، وفي حديث ابن عباس في الترمذي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام" والصحيح أنه موقوف على ابن عباس، وتحصل به الدلالة مع أنه موقوف لأنه قول لصحابي انتشر، وإذا انتشر قول الصحابي بلا مخالفة كان حجة على الصحيح. اهـ وعن أحمد رواية وقول عند المالكية أن الطهارة للطواف واجبة تجبر بدم. 154 - وفيه استحباب الابتداء بالطواف للقادم، لأنه تحية المسجد الحرام. 155 - وفي قوله "فقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة" في روايتنا الثامنة والسبعين استحباب دخول مكة نهاراً، لا ليلاً، وهو أصح وجهين عند الشافعية، والثاني: دخولها ليلاً ونهاراً سواء، لا فضل لأحدهما على الآخر، وروي عن عائشة رضي الله عنها أنه يستحب دخولها ليلاً، وهو أفضل من النهار.

156 - وفيه فسخ الحج إلى العمرة. 157 - وفي روايتنا الثالثة والثمانين قال الحافظ ابن حجر: فيه فرح العالم بموافقته الحق. 158 - والاستئناس بالرؤيا لموافقة الدليل الشرعي. 159 - وعرض الرؤيا على العالم. 160 - والتكبير عند المسرة. 161 - والعمل بالأدلة الظاهرة. 162 - والتنبيه على اختلاف أهل العلم، ليعمل بالراجح منه الموافق للدليل. 163 - ومن زيادة البخاري في هذا الحديث "فقال ابن عباس للرجل: أقم عندي: فأجعل لك سهماً من مالي. فقال الرجل: لم؟ فقال: للرؤيا التي رأيت" أخذ منه إكرام من أخبر المرء بما يسره. 164 - قال العيني: وفيه أن الرؤيا الصادقة شاهدة على أمور اليقظة، كيف لا؟ وهي جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة؟ . 165 - وعن فتوى ابن عباس في روايتنا الخامسة والثمانين وما بعدها قال النووي: هذا الذي ذكره ابن عباس هو مذهبه، وهو خلاف مذهب الجمهور من السلف والخلف، فإن الذي عليه العلماء كافة سوى ابن عباس أن الحاج لا يتحلل بمجرد طواف القدوم، بل لا يتحلل حتى يقف بعرفات ويرمي ويحلق ويطوف طواف الزيارة، فحينئذ يحصل له التحللان، ويحصل الأول باثنين من هذه الثلاثة، التي هي رمي جمرة العقبة والحلق والطواف. قال: وأما احتجاج ابن عباس بالآية فلا دلالة فيها، لأن قوله تعالى: {محلها إلى البيت العتيق} [الحج: 33]. معناه لا تنحر إلا في الحرم، وليس فيه تعرض للتحلل من الإحرام، لأنه لو كان المراد به التحلل من الإحرام لكان ينبغي أن يتحلل بمجرد وصول الهدي إلى الحرم قبل أن يطوف. وأما احتجاجه بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم في حجة الوداع بأن يحلوا فلا دلالة فيه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة في تلك السنة، فلا يكون دليلاً على تحلل من هو ملتبس بإحرام الحج: قال القاضي: قال المازري: وتأول بعض شيوخنا قول ابن عباس في هذه المسألة على من فاته الحج أن يتحلل بالطواف والسعي. قال: وهذا تأويل بعيد، لأنه قال بعده: وكان ابن عباس يقول: لا يطوف حاج ولا غيره إلا حل. والله أعلم. وكلام ابن عباس هذا مبني على مذهبه في أن السعي بين الصفا والمروة مستحب ليس بواجب. وسيأتي إن شاء الله. 166 - وفي روايتنا الثامنة والثمانين والتاسعة والثمانين قال النووي: في هذا الحديث جواز الاقتصار على التقصير، وإن كان الحلق أفضل، وسواء في ذلك الحاج والمعتمر، إلا أنه يستحب للمتمتع أن يقصر في العمرة، ويحلق في الحج، ليقع الحلق في أكمل العبادتين. 167 - وفيه أنه يستحب أن يكون تقصير المعتمر أو حلقه عند المروة، لأنها موضع تحلله، كما

يستحب للحاج أن يكون حلقه أو تقصيره في منى، لأنها موضع تحلله وحيث حلقا أو قصرا من الحرم كله جاز. 168 - وفي روايتنا المتممة للتسعين استحباب رفع الصوت بالتلبية. قال النووي: وهو متفق عليه بشرط أن يكون رفعاً مقتصداً، بحيث لا يؤذي نفسه، والمرأة لا ترفع، بل تسمع نفسها، لأن صوتها محل فتنة، ورفع الرجل صوته مندوب عند العلماء كافة، وقال أهل الظاهر: هو واجب، ويرفع الرجل صوته في غير المساجد، وفي مسجد مكة ومنى وعرفات، وأما سائر المساجد ففي رفعه فيها خلاف للعلماء. 169 - وفيه جواز العمرة في أشهر الحج، وهو مجمع عليه. 170 - وفيه أن المستحب للمتمتع أن يكون إحرامه بالحج يوم التروية، عند إرادة التوجه إلى منى. 171 - وأنه يستحب الرواح إلى منى يوم التروية من أول النهار أو بعد الزوال. والله أعلم. 172 - وفي قوله "حاجاً أو معتمراً أو ليثنيهما" وجوه الإحرام السابقة. إفراد الحج، أو إفراد العمرة، أو القرن بينهما في سفره عن طريق التمتع أو القران. 173 - وفي الرواية الثالثة والثلاثين النهي عن متعة النكاح، وهي الزواج إلى أجل، وستأتي في كتاب النكاح إن شاء الله. والله أعلم

(330) باب بيان عدد عمر النبي صلى الله عليه وسلم وزمانها

(330) باب بيان عدد عمر النبي صلى الله عليه وسلم وزمانها 2668 - عن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر. كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته: عمرة من الحديبية، أو زمن الحديبية، في ذي القعدة. وعمرة من العام المقبل، في ذي القعدة. وعمرة من جعرانة حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة. وعمرة مع حجته. 2669 - عن قتادة. قال: سألت أنساً: كم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: حجة واحدة. واعتمر أربع عمر. ثم ذكر بمثل حديث هداب. 2670 - عن أبي إسحاق. قال: سألت زيد بن أرقم: كم غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: سبع عشرة. قال: وحدثني زيد بن أرقم؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا تسع عشرة. وأنه حج بعد ما هاجر حجة واحدة. حجة الوداع. قال أبو إسحاق: وبمكة أخرى. 2671 - عن عروة بن الزبير قال: كنت أنا وابن عمر مستندين إلى حجرة عائشة. وإنا لنسمع ضربها بالسواك تستن. قال فقلت: يا أبا عبد الرحمن! اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في رجب؟ قال: نعم. فقلت لعائشة: أي أمتاه! ألا تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمن؟ قالت: وما يقول؟ قلت: يقول: اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في رجب. فقالت يغفر الله لأبي عبد الرحمن. لعمري! ما اعتمر في رجب. وما اعتمر من عمرة إلا وإنه لمعه. قال: وابن عمر يسمع. فما قال: لا، ولا نعم. سكت. 2672 - عن مجاهد. قال: دخلت، أنا وعروة بن الزبير، المسجد. فإذا عبد الله بن عمر جالس إلى حجرة عائشة. والناس يصلون الضحى في المسجد. فسألناه عن صلاتهم؟ فقال: بدعة. فقال له عروة: يا أبا عبد الرحمن، كم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال:

أربع عمر. إحداهن في رجب. فكرهنا أن نكذبه ونرد عليه. وسمعنا استنان عائشة في الحجرة. فقال عروة: ألا تسمعين، يا أم المؤمنين، إلى ما يقول أبو عبد الرحمن؟ فقالت: وما يقول؟ قال يقول: اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم أربع عمر إحداهن في رجب. فقالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن. ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو معه. وما اعتمر في رجب قط. -[المعنى العام]- قبل تشريع الحج والعمرة في الإسلام كان العرب يحجون ويعتمرون حسب مناسك مأثورة منذ عهد إبراهيم عليه السلام، ومنذ أن أذن في الناس بالحج، بعد بنائه البيت الحرام، ورفعه لقواعده. ولقد أثر أن الرسول صلى الله عليه وسلم حج مرة بمكة قبل أن يهاجر، وقيل: مرتين: ولعله كان يعتمر قبل الهجرة دون أن يعلم أو يحصي اعتماره. وفي السنوات الست الأولى من الهجرة لم يكن بوسعه صلى الله عليه وسلم، ولا بوسع كبار الصحابة المشهورين أمثال أبي بكر وعمر أن يدخلوا مكة، لكن العامة والمغمورين غير المعروفين بإسلامهم وقتالهم الشرك ربما حجوا أو اعتمروا على المناسك المعروفة عند العرب. وشرع الحج والعمرة في السنة السادسة للهجرة على الصحيح، ورسمت مناسكهما الأساسية، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في نحو ألف وخمسمائة من أصحابه معتمرين مقلدين الهدي محرمين، حتى وصلوا الحديبية، فصدهم مشركو مكة، وعقد بين الفريقين صلح الحديبية، على أن يعودوا إلى المدينة دون دخول مكة، ثم يرجعوا بعد عام للعمرة دون سلاح، كان ذلك في ذي القعدة سنة ست من الهجرة، وحسبت عمرة باعتبار الإحرام ويتحقق الأجر إن شاء الله. وفي ذي القعدة من العام القابل دخلوا المسجد الحرام آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين لا يخافون، وكانت العمرة الثانية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة سنة سبع. وفي سنة ثمان من الهجرة فتح الله عليه مكة، فلما أمن أطرافها وأمن من حولها من المشركين، أحرم بالعمرة هو وأصحابه من الجعرانة في ذي القعدة سنة ثمان من الهجرة، فكانت العمرة الثالثة وفي السنة التاسعة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر ليحج بالمسلمين، وفي السنة العاشرة قام صلى الله عليه وسلم بحجة الوداع، وعدت عمرتها العمرة الرابعة له صلى الله عليه وسلم، واشتبه الأمر على الفقيه المحدث الزاهد عبد الله بن عمر فظن أن إحدى هذه العمرات كانت في رجب، فحدث بذلك بعض الصحابة والتابعين، وكان فيمن حدثهم بذلك عروة بن الزبير ومجاهد، وما كان لهما أن يكذباه، أو يرداه لعظم قدره، فانتهزا فرصة وجوده بجوار حجرة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وسألاه فأجاب، فسألاها، فصححت له ما اشتبه عليه بكل أدب وتقدير.

-[المباحث العربية]- (اعتمر أربع عمر) العمرة في اللغة الزيارة، وقيل: إنها مشتقة من عمارة المسجد الحرام، وفي الشرع زيارة البيت الحرام بشروط مخصوصة. واعتمر أدى العمرة، وجمعها عمر بفتح الميم وعمرات بسكون الميم وضمها إتباعاً للعين، كحجرة وحجرات. (كلهن في ذي القعدة) بفتح القاف وكسرها، وهو الشهر الحادي عشر من الشهور القمرية، قيل: سمي بذلك لأنهم كانوا يقعدون فيه عن الأسفار والغزو، وجمعه ذوات القعدة. (إلا التي مع حجته) استثناء من "كلهن في ذي القعدة" فهي لم تكن في ذي القعدة، بل كان إدخالها على الحج بعد أربع من ذي الحجة، كما هو ظاهر مما سبق، وكان أداؤها مع حجته في ذي الحجة، وبعضهم لا يعدها أصلاً على أنه صلى الله عليه وسلم كان في حجة الوداع مفرداً، ويرى أنه اعتمر ثلاث عمر، أو يرى أن معنى اعتمر في حجة الوداع أي أمر بالعمرة. (عمرة من الحديبية -أو زمن الحديبية في ذي القعدة) "الحديبية" بضم الحاء، وفتح الدال، بعدها ياء، فباء مكسورة، فياء مفتوحة مخففة، وبعض المحدثين يشددون هذه الياء، وهي قرية كبيرة مشهورة على بعد ستة عشر ميلاً من مكة من جهة المدينة، سميت ببئر هناك، وقيل بشجرة حدباء هناك. والمراد بهذه العمرة قصدها والإحرام بها وأجرها، فقد أحصر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون في الحديبية ومنعوا من دخول مكة، وتحللوا، ورجعوا، وكانت في ذي القعدة سنة ست من الهجرة بلا خلاف. وبعضهم لا يعدها، باعتبار أنها لم تتم. فمن قال: اعتمر عمرتين أسقطها وأسقط التي مع حجته، ومن قال: ثلاث عمر أسقطها، أو أسقط التي مع حجته. (وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة) وتسمى عمرة القضاء، وعمرة القضية، وعمرة القصاص، قيل: سميت عمرة القضاء لأنه صلى الله عليه وسلم قاضى وصالح أهل مكة عام الحديبية على أن يرجعوا من الحديبية ويعودوا للعمرة في العام المقبل وكانت هذه العمرة في ذي القعدة سنة سبع من الهجرة. (وعمرة من جعرانة) فيها لغتان. إحداهما كسر الجيم وسكون العين وفتح الراء المخففة، والثانية كسر العين وتشديد الراء، وهي بين الطائف ومكة، وإلى مكة أقرب. (حيث قسم غنائم حنين) كانت غزوة الفتح في رمضان سنة ثمان من الهجرة، ولم يكن صلى الله عليه وسلم يقصد العمرة في توجهه إلى مكه، بل كان قاصداً الفتح، فدخلها غير محرم في رمضان، وأقام بها تسع عشرة ليلة، لم يعتمر فيها، لأنه كان يستعد لقتال هوازن وثقيف، حيث بلغه

أنهم تجمعوا لقتاله في حنين، وهو واد قريب من الطائف، بينه وبين مكة بضعة عشر ميلاً من جهة عرفات، فلما نصره الله عليهم جمع الغنائم والسبي وحبسها في الجعرانة دون قسمة، ثم توجه لحصار الطائف، ثم عاد إلى الجعرانة، وجاءه وفد هوازن مسلمين، فرد إليهم السبي، وقسم بين أصحابه المقاتلين الغنائم. ثم أحرم من الجعرانة بالعمرة في ذي القعدة، سنة ثمان من الهجرة. (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا تسع عشرة) قال الحافظ ابن حجر: مراده الغزوات التي خرج النبي صلى الله عليه وسلم فيها بنفسه، سواء قاتل أو لم يقاتل، وفي عدد الغزوات خلاف كبير يأتي في كتاب الغزوات. (كنت أنا وابن عمر مستندين إلى حجرة عائشة) في الرواية الخامسة يقول مجاهد "دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد -أي المسجد النبوي بالمدينة- فإذا عبد الله بن عمر جالس إلى حجرة عائشة" فكأن عروة جلس بجوار عبد الله بن عمر، وجلس مجاهد أمامهم غير مستند. (وإنا لنسمع ضربها للسواك تستن) الاستنان هنا الاستياك، والمعنى: سمعنا مرور السواك على أسنانها. كذا قيل، وهو بعيد، لأن الاستياك لا يحدث صوتاً يسمع من حجرة إلى حجرة، ولعلها كانت تضرب سواكها بحجر أو آلة تفتت فروعه وتلينه لتستن به. (اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في رجب؟ ) سأل عروة عبد الله بن عمر هذا السؤال ليستنطقه الجواب، ليسمعه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، لتجيب بما يرد ابن عمر، ولعل عروة كان قد سمع من ابن عمر هذا الكلام قبل أن يسأله، وفي الرواية الخامسة "كم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أربع إحداهن في رجب". (أي أمتاه) "أي" حرف نداء، "أمتاه" بضم الهمزة وتشديد الميم المفتوحة وتاء قبل الألف. كذا في الأصل. الذي بيدي، فالمنادي "أمة" بتشديد الميم، وتطلق على الوالدة، ولفظ البخاري "يا أماه" فالمنادي "أم" والألف بدل ياء المتكلم، والهاء للسكت. (فقال: بدعة) أي صلاتهم بدعة. (وما اعتمر من عمرة إلا وهو معه) أي وما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وابن عمر معه، قالت ذلك مبالغة في نسيانه. -[فقه الحديث]- قال النووي: قول ابن عمر: إحداهن في رجب أنكرته عائشة، وسكت ابن عمر حين أنكرته. قال العلماء: هذا يدل على أنه اشتبه عليه، أو نسي، أو شك، ولهذا سكت عن الإنكار على عائشة ومراجعتها بالكلام، ثم قال النووي: قال العلماء: وإنما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم هذه

العمر في ذي القعدة لفضيلة هذا الشهر، ولمخالفة الجاهلية في ذلك، فإنهم كانوا يرونه من أفجر الفجور، ففعله صلى الله عليه وسلم مرات في هذه الأشهر ليكون أبلغ في بيان جوازه فيها، وأبلغ في إبطال ما كانت الجاهلية عليه. انتهى. والظاهر أن الرسول صلى الله عليه وسلم كانت عمراته تلك في هذا الشهر بحكم الظروف، دون قصد لفضيلة الشهر، فسيأتي أن عمرة في رمضان تعدل حجة، ودون قصد لإبطال عادة الجاهلية وعقيدتهم، إذ لو كان كذلك لما عظم عليهم في حجة الوداع أن يعتمروا في أشهر الحج، ولما ترددوا حينذاك، حين أمروا بالعمرة، حتى أغضبوه. والله أعلم. وفي قول عائشة في الرواية الرابعة "لعمري" دليل على جواز قول الإنسان: لعمري، وكرهه مالك، لأنه من تعظيم غير الله، ومضاهاته بالحلف بغيره. وفي قول ابن عمر عن صلاة الناس الضحى إنها بدعة حمله القاضي وغيره على أن مراده أن إظهارها في المسجد بدعة، أو أن الاجتماع لها هو البدعة، لا أن أصل صلاة الضحى بدعة، وقد سبق شرح هذا في كتاب الصلاة. وفي هذا الحديث أن الصحابي الجليل المكثر الشديد الملازمة للنبي صلى الله عليه وسلم قد يخفى عليه بعض أحواله، وقد يدخله الوهم والنسيان، لكونه غير معصوم. وفيه رد بعض العلماء على بعض. وحسن الأدب في الرد. وحسن التلطف في استكشاف الصواب، إذا ظن السامع خطأ المحدث. والله أعلم

(331) باب فضل العمرة في رمضان

(331) باب فضل العمرة في رمضان 2673 - عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة من الأنصار (سماها ابن عباس فنسيت اسمها) "ما منعك أن تحجي معنا؟ " قالت: لم يكن لنا إلا ناضحان. فحج أبو ولدها وابنها على ناضح. وترك لنا ناضحاً ننضح عليه. قال "فإذا جاء رمضان فاعتمري؛ فإن عمرة فيه تعدل حجة". 2674 - عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لامرأة من الأنصار، يقال لها أم سنان "ما منعك أن تكوني حججت معنا؟ " قالت: ناضحان كانا لأبي فلان (زوجها) حج هو وابنه على أحدهما. وكان الآخر يسقي عليه غلامنا. قال: "فعمرة في رمضان تقضي حجة. أو حجة معي". -[المعنى العام]- تفضل الله جل جلاله بزيادة ثواب العمل الواحد في مكان عنه في مكان آخر وفي زمان عنه في زمان آخر، فالصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة في غيره من المساجد غير مسجد المدينة وبيت المقدس، والعمل في الأيام العشر خير من العمل نفسه في غيرها وليلة القدر خير من ألف شهر، ومن تطوع بخصلة في رمضان كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة فيه كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، ومن هذا القبيل كانت عمرة في رمضان يعدل ثوابها حجة، والحج المبرور ليس له ثواب إلا الجنة، ومن حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه. -[المباحث العربية]- (قال لامرأة من الأنصار -سماها ابن عباس فنسيت اسمها) في الرواية الثانية "يقال لها أم سنان" ذهب بعضهم إلى أن الذي نسي اسمها هو ابن جريج الراوي عن عطاء، واستبعد أن يكون الذي نسي عطاء، لأنه ذكرها في الرواية الثانية، والذي استبعده ليس ببعيد، فقد ينسى المرء الشيء، ثم يذكره، وقد يذكره، ثم ينساه، فحين حدث عطاء بن جريح كان ناسياً اسم المرأة، وحين حدث حبيباً المعلم كان ذاكراً له.

(لم يكن لنا إلا ناضحان) في الرواية الثانية "ناضحان كانا لأبي فلان [زوجها] " الناضح البعير الذي يستقى به، أو عليه. (ننضح عليه) بكسر الضاد، أي نسقي عليه. كذا قال النووي وابن حجر والعيني وفي كتب اللغة بفتح الضاد وكسرها، والفتح أكثر، وفي لسان العرب: والنضح سقي الزرع وغيره بالسانية ونضح زرعه سقاه. (وكان الآخر يسقي عليه غلامنا) قال النووي: هكذا هو في نسخ بلادنا، وكذا نقله القاضي عياض: قال: وفي رواية "يسقي غلامنا" قال: وأرى هذا تغييراً، وصوابه "نسقي عليه نخلاً لنا" فتصحف منه "غلامنا" قال النووي: المختار أن الرواية صحيحة، وتكون الزيادة التي ذكرها القاضي محذوفة مقدرة، وهذا كثير في الكلام. اهـ -[فقه الحديث]- قال النووي: عمرة في رمضان تقوم مقام حجة في الثواب، لا أنها تعدلها في كل شيء، فإنه لو كان عليه حجة فاعتمر في رمضان لا تجزئه عن الحجة [بالإجماع]. وقال ابن خزيمة: إن الشيء يشبه بالشيء، ويجعل عدله إذا أشبهه في بعض المعاني، لا جميعها، لأن العمرة لا يقضى بها فرض الحج ولا النذر، وقال بعضهم: إن معنى الحديث نظير ما جاء من أن {قل هو الله أحد} تعدل ثلث القرآن. وقال ابن العربي: حديث العمرة هذا صحيح، وهو فضل من الله ونعمة، فقد أدركت العمرة منزلة الحج بانضمام رمضان إليها. وقال ابن الجوزي: فيه أن ثواب العمل يزيد بزيادة شرف الوقت، كما يزيد بحضور القلب وبخلوص القصد. وقيل: يحتمل أن يكون المراد أن عمرة فريضة في رمضان كحجة فريضة، وعمرة نافلة في رمضان كحجة نافلة. وقال ابن التين: يحتمل أن يكون مخصوصاً بهذه المرأة، فقد روي عنها قولها: "فما أدري إلى خاصة أم للناس عامة". اهـ والظاهر حمله على العموم. والله أعلم

(332) باب استحباب دخول مكة من الثنية العليا

(332) باب استحباب دخول مكة من الثنية العليا 2675 - عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج من طريق الشجرة، ويدخل من طريق المعرس. وإذا دخل مكة، دخل من الثنية العليا، ويخرج من الثنية السفلى. 2676 - وقال في رواية زهير "العليا التي بالبطحاء". 2677 - عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء إلى مكة، دخلها من أعلاها، وخرج من أسفلها. 2678 - عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح من كداء من أعلى مكة. قال هشام: فكان أبي يدخل منهما كليهما. وكان أبي أكثر ما يدخل من كداء. -[المعنى العام]- إذا تعددت الطرق الموصلة إلى مكان، وتماثلت في سهولتها أو صعوبتها، كان لاختيار القائد والقدوة هدف وحكمة في اختيار أحدها للدخول والآخر للخروج إذا تكرر منه ذلك والتزمه، ومن هنا جاءت أهمية العلم بطريق دخوله صلى الله عليه وسلم المدينة ومكة، وطريق خروجه منهما، وسواء وصلنا إلى معرفة السر والحكمة أو لم نصل يبقى علينا الأسوة والاقتداء، وفيها أجر من الله إن شاء الله، لا فرق في ذلك بين من يقول: بأنه سنة أو من يقول بأن ذلك مستحب، أو من يقول: إن ذلك هو الأولى، ولوضوح الأحاديث علينا قراءة مباحثه العربية والفقهية. -[المباحث العربية]- (كان يخرج من طريق الشجرة، ويدخل من طريق المعرس) أي كان يخرج من المدينة من طريق الشجرة التي عند مسجد ذي الحليفة، ويدخل المدينة عند رجوعه من مكة من طريق

المعرس بضم الميم وفتح العين وتشديد الراء المفتوحة، بلفظ اسم المفعول والتعريس النزول عند آخر الليل، وقيل: النزول مطلقاً، وسمي المكان المعرس أي الذي يقع عليه نزول المسافرين للراحة، وهو أسفل من مسجد ذي الحليفة، ويقال له بطحاء، وهو على ستة أميال من المدينة. وقال التيمي: يخرج من مكة من طريق الشجرة، ويدخل مكة من طريق المعرس، لكن على فرض وجود مكانين عند مكة بهذين الاسمين فإن بقية الحديث لا تساعده. (وإذا دخل مكة دخل من الثنية العليا، ويخرج من الثنية السفلى) وفي ملحق الرواية "التي بالبطحاء" وفي الرواية الثانية "دخلها من أعلاها، وخرج من أسفلها" وفي الرواية الثالثة "دخل عام الفتح من كداء من أعلى مكة" و"التي بالبطحاء" وصف للثنية العليا، وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان ينزل في رجوعه إلى المدينة بالبطحاء بذي الحليفة ففي مكة بطحاء، ويقال لها الأبطح، وهي بجنب المحصب، وقد سبق توضيحه في لغويات الرواية السابعة والعشرين من باب وجوه الإحرام، وفي المدينة بطحاء بذي الحليفة وبذي قار أيضاً بطحاء، وبطحاء أزهر، نزل به صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته، والثنية العليا ويقال لها كداء بفتح الكاف والمد هي التي ينزل منها إلى المعلى، مقبرة أهل مكة، وهي التي يقال لها الحجون، وكانت صعبة المرتقى، فسهلها معاوية ثم عبد الملك ثم المهدي والثنية بفتح الثاء وكسر النون وتشديد الياء في الأصل كل عقبة في جبل، أو في طريق عال، والثنية السفلى هي التي أسفل مكة، عند باب شبيكة، ويقال لها "كدى" بضم الكاف والقصر، بقرب شعب الشاميين وشعب ابن الزبير. قال القرطبي: اختلف في ضبط هاتين الكلمتين "كداء وكدى" والأكثر منهم على أن العليا بالفتح والمد، والسفلى بالضم والقصر، وقيل: بالعكس. اهـ قال النووي: وأما "كدى" بضم الكاف وتشديد الياء فهو في طريق الخارج إلى اليمن، وليس من هذين الطريقين في شيء. (فكان أبي يدخل منهما كليهما، وكان أبي أكثر ما يدخل من كداء) زاد البخاري "وكانت أقربهما إلى منزله". وكأن هذه الزيادة اعتذار لأبيه عروة، لأنه روى الحديث وخالفه، ولعله رأى أن ذلك ليس بلازم حتم وكان ربما فعله وكثيراً ما يفعل غيره، لقصد التيسير. -[فقه الحديث]- قال النووي: قيل: إنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذه المخالفة في طريقه داخلاً وخارجاً تفاؤلاً بتغير الحال إلى أكمل منه، كما فعل في العيد، وليشهد له الطريقان، وليتبرك به أهلها. قال: ومذهبنا أنه يستحب دخول مكة من الثنية العليا، والخروج منها من السفلى لهذا الحديث، ولا فرق بين أن تكون هذه الثنية على طريقه كالمدني والشامي، أو لا تكون كاليمنى، فيستحب لليمنى وغيره أن يستدير ويدخل مكة من الثنية العليا، وقال بعض أصحابنا: إنما فعلها النبي صلى الله عليه وسلم لأنها كانت

على طريقه، ولا يستحب لمن ليست على طريقه كاليمنى قال وهذا ضعيف والصواب الأول وهكذا يستحب له أن يخرج من بلده من طريق، ويرجع من أخرى لهذا الحديث. اهـ أي للرواية الأولى، وفيها أنه صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة من طريق الشجرة، ورجع إليها من طريق المعرس. وقال الحافظ ابن حجر: وقيل: الحكمة في ذلك المناسبة بين الثنية العليا وبين المكان الذي قصده في علوه وعظمته، وعكسه في الخروج إشارة إلى فراقه، وقيل: لأن إبراهيم عليه السلام لما دخل مكة دخلها منها، وقيل: لأنه صلى الله عليه وسلم خرج منها مختفياً في الهجرة، فأراد أن يدخلها ظاهراً عالياً، وقيل: لأن من جاء من تلك الجهة كان مستقبلاً للبيت، قال: ويحتمل أن يكون ذلك لكونه دخل منها يوم الفتح، فاستمر على ذلك. اهـ وزاد العيني: وقيل: ليغيظ المنافقين بظهور الدين وعز الإسلام. والله أعلم

(333) باب استحباب المبيت بذي طوى عند إرادة دخول مكة

(333) باب استحباب المبيت بذي طوى عند إرادة دخول مكة 2679 - عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بات بذي طوى حتى أصبح. ثم دخل مكة. قال: وكان عبد الله يفعل ذلك. وفي رواية ابن سعيد "حتى صلى الصبح". قال يحيى أو قال "حتى أصبح". 2680 - عن نافع أن ابن عمر كان لا يقدم مكة إلا بات بذي طوى. حتى يصبح ويغتسل. ثم يدخل مكة نهاراً. ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله. 2681 - عن عبد الله رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل بذي طوى. ويبيت به حتى يصلي الصبح. حين يقدم مكة. ومصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك على أكمة غليظة. ليس في المسجد الذي بني ثم. ولكن أسفل من ذلك على أكمة غليظة. 2682 - عن عبد الله رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل فرضتي الجبل الذي بينه وبين الجبل الطويل، نحو الكعبة. يجعل المسجد، الذي بني ثم، يسار المسجد الذي بطرف الأكمة. ومصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسفل منه على الأكمة السوداء. يدع من الأكمة عشرة أذرع أو نحوها. ثم يصلي مستقبل الفرضتين من الجبل الطويل. الذي بينك وبين الكعبة صلى الله عليه وسلم. -[المعنى العام]- إن النزول في مكان والمبيت فيه، والتزام ذلك في كل سفر مع إمكان عدم ذلك دليل على أن للنازل هدفاً وحكماً وإن لم نعلمها، خصوصاً إذا كان هذا النازل حكيماً رسولاً، لا ينطق ولا يأتي بأفعاله على الهوى، وإنما يصدر في ذلك عن وحي يوحى، وإلهامه وحي صلى الله عليه وسلم، والاقتداء به صلى الله عليه وسلم في ذلك وفي غيره مطلوب شرعي تختلف درجاته بين الندبة والاستحباب والأولوية، وقد كان صلى الله عليه وسلم كلما قدم مكة بات في الوادي المعروف بذي طوى إلى أن

يصبح، فيصلي الصبح، ثم يغتسل لدخول مكة، ثم يدخلها نهاراً، حافظ على هذا الوضع حتى عرف مكان مصلاه الصبح، وحتى وصف مكانه الصحابي الجليل عبد الله بن عمر وصفاً دقيقاً صلى الله عليه وسلم. -[المباحث العربية]- (بات بذي طوى) في الرواية الثانية "لا يقدم مكة إلا بات بذي طوى" وفي الرواية الثالثة "كان ينزل بذي طوى ويبيت به" و"ذو طوى" بضم الطاء وفتحها وكسرها، وتخفيف الواو، واد معروف بقرب مكة، وقال النووي: هو موضع عند باب مكة، بأسفلها، في صوب طريق العمرة المعتادة ومسجد عائشة، ويعرف اليوم بآبار الزاهد، و"طوى" يصرف ولا يصرف. (حتى أصبح) أي إلى أن دخل في الصباح، وفي ملحق الرواية "حتى صلى الصبح" والمراد أنه يبيت الليل كله، ليدخل مكة نهاراً. (لا يقدم مكة) بفتح الياء وسكون القاف وفتح الدال. (حتى يصبح، ويغتسل، ثم يدخل مكة نهاراً) في رواية البخاري "فإذا صلى الغداة اغتسل" وهذا الغسل لدخول مكة. (وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك على أكمة غليظة، ليس في المسجد الذي بني ثم، ولكن أسفل من ذلك على أكمة غليظة) "ثم" بفتح الثاء، أي هناك والأكمة بفتح الهمزة والكاف والميم التل، وجمعها آكام، يصف المكان الذي صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح بأنه ليس المكان الذي بني فيه المسجد هناك، بل أسفل منه على الأكمة السوداء، بل على طرف الأكمة الغليظة السوداء، ليس بينه وبين نهايتها إلا نحو عشرة أذرع. (استقبل فرضتي الجبل) بضم الفاء وسكون الراء وفتح الضاد، تثنية فرضة، وهي العقبة المرتفعة من الجبل. (عشرة أذرع) قال النووي: كذا في بعض النسخ، وفي بعضها "عشر أذرع" بحذف تاء التأنيث، وهما لغتان في الذراع، التذكير والتأنيث. -[فقه الحديث]- قال النووي: في هذه الروايات فوائد. منها: 1 - الاغتسال لدخول مكة وأنه يكون بذي طوى لمن كانت في طريقه، ويكون بقدر بعدها لمن لم تكن في طريقه. قال أصحابنا: وهذا الغسل سنة، فإن عجز عنه تيمم.

2 - ومنها المبيت بذي طوى، وهو مستحب لمن هي في طريقه. 3 - ومنها استحباب دخول مكة نهاراً، وهذا هو الصحيح الذي عليه الأكثرون من أصحابنا وغيرهم، وأن دخولها نهاراً أفضل من الليل، وقال بعض أصحابنا وجماعة من السلف الليل والنهار في ذلك سواء، ولا فضيلة لأحدهما على الآخر، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم دخلها محرماً بعمرة الجعرانة ليلاً، ومن قال بالأول حمله على بيان الجواز. والله أعلم

(334) باب استحباب الرمل في الطواف

(334) باب استحباب الرمل في الطواف 2683 - عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول، خب ثلاثاً ومشي أربعاً. وكان يسعى ببطن المسيل إذا طاف بين الصفا والمروة. وكان ابن عمر يفعل ذلك. 2684 - عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا طاف في الحج والعمرة، أول ما يقدم، فإنه يسعى ثلاثة أطواف بالبيت. ثم يمشي أربعة. ثم يصلي سجدتين. ثم يطوف بين الصفا والمروة. 2685 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يقدم مكة، إذا استلم الركن الأسود، أول ما يطوف حين يقدم، يخب ثلاثة أطواف من السبع. 2686 - عن ابن عمر رضي الله عنهما. قال: رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحجر إلى الحجر ثلاثاً. ومشى أربعاً. 2687 - عن نافع؛ أن ابن عمر رمل من الحجر إلى الحجر. وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله. 2688 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر الأسود حتى انتهى إليه. ثلاثة أطواف.

2689 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل الثلاثة أطواف من الحجر إلى الحجر. 2690 - عن أبي الطفيل. قال: قلت لابن عباس: أرأيت هذا الرمل بالبيت ثلاثة أطواف، ومشي أربعة أطواف. أسنة هو؟ فإن قومك يزعمون أنه سنة. قال: فقال: صدقوا. وكذبوا. قال: قلت: ما قولك: صدقوا وكذبوا؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم مكة. فقال المشركون: إن محمداً وأصحابه لا يستطيعون أن يطوفوا بالبيت من الهزل. وكانوا يحسدونه. قال: فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثاً. ويمشوا أربعاً. قال: قلت له: أخبرني عن الطواف بين الصفا والمروة راكباً. أسنة هو؟ فإن قومك يزعمون أنه سنة. قال: صدقوا وكذبوا. قال قلت: وما قولك: صدقوا وكذبوا؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر عليه الناس. يقولون: هذا محمد. هذا محمد. حتى خرج العواتق من البيوت. قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضرب الناس بين يديه. فلما كثر عليه ركب. والمشي والسعي أفضل. 2691 - وبهذا الإسناد، ( ... ) نحوه. غير أنه قال: وكان أهل مكة قوم حسد. ولم يقل: "يحسدونه". 2692 - عن أبي الطفيل. قال: قلت لابن عباس: إن قومك يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل بالبيت. وبين الصفا والمروة. وهي سنة. قال: صدقوا وكذبوا. 2693 - عن أبي الطفيل. قال: قلت لابن عباس: أراني قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فصفه لي. قال: قلت: رأيته عند المروة على ناقة. وقد كثر الناس عليه. قال: فقال ابن عباس: ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم. إنهم كانوا لا يدعون عنه ولا يكهرون. 2694 - عن ابن عباس. قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة. وقد وهنتهم

حمى يثرب. قال المشركون: إنه يقدم عليكم غداً قوم قد وهنتهم الحمى. ولقوا منها شدة. فجلسوا مما يلي الحجر. وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثة أشواط. ويمشوا ما بين الركنين. ليرى المشركون جلدهم. فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم. هؤلاء أجلد من كذا وكذا. قال ابن عباس: ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها، إلا الإبقاء عليهم. 2695 - عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال: إنما سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورمل بالبيت، ليري المشركين قوته. -[المعنى العام]- ابتليت المدينة في أوائل الهجرة بكثرة مرض الحمى، وخرج المهاجرون من مكة تاركين أموالهم بها، وقاسموا الأنصار أموالهم، فكانت الحياة صعبة والمعيشة ضيقة، حتى بدت الأجسام هزيلة أو ضعيفة، ولكن قوة الإيمان وقوة العقيدة كانت تجعل حركتهم ونشاطهم أقوى من الأقوياء، وصدق القائل: إن قوة العزيمة أعظم وأشد من قوة العضلات وصدق الرسول الكريم إذ يقول "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" قوة العزيمة تجعل من ضعيف البدن شجاعاً مقداماً، وضعف العزيمة تجعل من قوي البدن جباناً فراراً. لقد علم مشركوا مكة ضعف أجسام المسلمين بالمدينة، وها هم قد أذن الله لهم بالعمرة والطواف حول الكعبة، وانتظر المشركون أن يروا أناساً هزيلة حركاتهم، خائرة قواهم، يتساقطون إعياء عند طوافهم، وقعدوا لهم في حجر إسماعيل، ليهزءوا بهم ويسخروا منهم، لكن القائد الحكيم رد سهام المشركين إلى نحورهم، وأصدر تعاليمه للمسلمين بأن يرملوا ويسرعوا المشي في الطوفات الثلاث الأولى، ليرى المشركون أن المسلمين أقوياء قوة لا تخطر ببال المشركين، وأعان الله المسلمين على الرمل والطواف والسعي، وقال المشركون بعضهم لبعض: أهؤلاء الذين ظننتم أنهم ضعفاء، إن ضعيفهم أقوى من كثير منا. وصار الرمل في الطواف في أشواطه الثلاثة الأولى والسعي والمشي السريع فيما بين الميلين في السعي بين الصفا والمروة سنة متبعة، يرى بها أعداء الإسلام قوة الإيمان.

-[المباحث العربية]- (خب ثلاثاً) قال النووي: الخبب هو الرمل بفتح الميم والراء، فالرمل والخبب بمعنى واحد، وهو إسراع المشي، مع تقارب الخطا ولا يثب وثباً. اهـ وقال ابن دريد: هو شبيه بالهرولة. اهـ يقال: خب بفتح الخاء يخب بضمها مع تشديد الباء، و"ثلاثاً" و"أربعاً" بدون تاء على تقدير معدود مؤنث، قال النحاة: إذا كان المميز غير مذكور جاز في العدد التذكير والتأنيث، وفي الرواية الثانية "ثلاثة" و"أربعة" والمعدود هنا طواف وشوط وجمعها أطواف وأشواط، أو طوفة وجمعها طوفات. (وكان يسعى ببطن المسيل) قال النووي: وهو قدر معروف، وهو من قبل وصوله إلى الميل الأخضر المعلق بفناء المسجد، إلى أن يحاذي الميلين الأخضرين المتقابلين اللذين بفناء المسجد ودار العباس. اهـ وقد حدد كل طرف من طرفيها بعمودين باللون الأخضر على جانبي المسعي، والمراد من السعي بين الميلين الإسراع في المشي كالهرولة. اهـ "وبطن المسيل" المكان المنخفض من الوادي الذي بين الصفا والمروة سمي بذلك لأن السيل كان يجتمع فيه. (ثم يمشي أربعة) من أشواط الطواف بالبيت، أي مشيه العادي دون رمل ولا خبب ولا هرولة. (ثم يصلي سجدتين) أي ركعتين كاملتين كالصبح، من باب تسمية الكل باسم الجزء، أي إطلاق الجزء وإرادة الكل، كقوله "عتق رقبة". (إذا استلم الركن الأسود) الاستلام هو المسح باليد عليه، مأخوذ من السلام بفتح السين، أي التحية، أو من السلام بكسر السين، أي الحجارة. (أول ما يطوف) "أول" منصوب على الظرفية، والعامل "استلم". (خبب ثلاثة أطواف من السبع) هكذا "ثلاثة" بالتاء، و"السبع" بدون تاء، وقد سبق قريباً أن حذف المعدود يجيز تذكير العدد وتأنيثه. (من الحجر إلى الحجر) في الرواية السادسة "رمل من الحجر الأسود حتى انتهى إليه" والمقصود أن الرمل يغطي الطوفة كاملة، فلا يتوافق مع الرواية الثانية عشرة في قول ابن عباس "ويمشوا ما بين الركنين". (رمل الثلاثة أطواف) قال النووي: هكذا هو في معظم النسخ المعتمدة، وفي نادر منها "الثلاثة الأطواف" وفي أندر منه "ثلاثة أطواف" فأما "ثلاثة أطواف" فلا شك في جوازه وفصاحته، وأما "الثلاثة الأطواف" بالألف واللام ففيه خلاف مشهور بين النحويين، منعه البصريون، وجوزه الكوفيون، وأما "الثلاثة أطواف" بتعريف الأول وتنكير الثاني -كما وقع في معظم النسخ- فمنعه جمهور النحويين، وهذا الحديث يدل لمن جوزه.

(صدقوا وكذبوا) يعني صدقوا في أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، وكذبوا في قولهم: إنه سنة مقصودة متأكدة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعله سنة مطلوبة دائماً على تكرر السنين، وإنما أمر به تلك السنة لإظهار القوة عند الكفار، وقد زال ذلك المعنى. هذا معنى كلام ابن عباس رضي الله عنهما. (لا يستطيعون أن يطوفوا بالبيت من الهزال) قال النووي: هو في معظم النسخ "الهزل" بضم الهاء وإسكان الزاي، قال القاضي عياض: وهو وهم، والصواب "الهزال" بضم الهاء وزيادة الألف. قال النووي: وللأول وجه وهو أن يكون بفتح الهاء، لأن الهزل بفتح الهاء مصدر هزلته هزلاً، كضربته ضرباً، وتقديره: لا يستطيعون يطوفون، لأن الله هزلهم. والله أعلم. (حتى خرج العواتق من البيوت) جمع عاتق، وهي البكر البالغة، أو المقاربة للبلوغ، وقيل: التي تتزوج سميت بذلك لأنها عتقت من استخدام أبويها وابتذالها في الخروج والتصرف التي تفعله الطفلة الصغيرة. والمقصود من العبارة المبالغة في خروج الكل، حتى من لا تخرج من النساء عادة خرجت. (أراني قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم) بضم الهمزة أي أظنني، ولم يجزم بذلك خشية أن يكون قد رأى غيره فظنه هو من الزحام. (إنهم كانوا لا يدعون عنه، ولا يكرهون) "لا يدعون" بضم الياء وفتح الدال وتشديد العين، أي لا يدفعون، ومنه قوله تعالى {يوم يدعون إلى نار جهنم دعا} [الطور: 13]. "ولا يكرهون" بضم الياء وسكون الكاف وفتح الراء، أي لا يكرههم أحد على البعد عنه، قال النووي: وفي بعض الأصول من صحيح مسلم "ولا يكهرون" بتقديم الهاء على الراء من الكهر، وهو الانتهار. (وهنتهم) بفتح الهاء مخففة، أي أضعفتهم، يقال: وهنته الحمى، وأوهنته لغتان. (حمى يثرب) هذا هو الاسم الذي كان للمدينة في الجاهلية، وسميت في الإسلام "المدينة" و"طيبة" و"طابة" وسيأتي بسط ذلك في آخر كتاب الحج، حيث ذكر مسلم أحاديث المدينة وتسميتها إن شاء الله تعالى. (فجلسوا مما يلي الحجر، وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا) ضمير "جلسوا" للمشركين، وضمير "أمرهم" للمسلمين. أي فجلس المشركون بجوار حجر إسماعيل ينظرون إلى المسلمين في طوافهم، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يرملوا ثلاثة أشواط. (ويمشوا ما بين الركنين) ما بين الركنين اليمانيين المقابلين لحجر إسماعيل، فلا يرملوا، بل يستريحوا من الرمل ويمشوا على عادتهم على مهل، حيث لا يراهم المشركون. وسيأتي تحقيق ذلك في فقه الحديث. (إلا الإبقاء عليهم) بكسر الهمزة، فباء ساكنة بعدها قاف، ثم مد، أي الرفق بهم.

-[فقه الحديث]- قال النووي: والرمل مستحب في الطوفات الثلاث الأولى من السبع، ولا يسن ذلك إلا في طواف العمرة، وفي طواف واحد في الحج، واختلفوا في ذلك الطواف، وهما قولان للشافعي، أصحهما أنه إنما يشرع في طواف يعقبه سعي، ويتصور ذلك في طواف القدوم، ويتصور في طواف الإفاضة، ولا يتصور في طواف الوداع، لأن شرط طواف الوداع أن يكون قد طاف للإفاضة، فعلى هذا القول إذا طاف للقدوم، وفي نيته أن يسعى بعده استحب الرمل فيه، وإن لم يكن هذا في نيته لم يرمل فيه، بل يرمل في طواف الإفاضة. والقول الثاني أن يرمل في طواف القدوم، سواء أراد السعي بعده أم لا. ثم قال: قال أصحابنا: فلو أخل بالرمل في الثلاث الأولى من السبع لم يأت به في الأربع الأواخر، لأن السنة في الأربع الأخيرة المشي على العادة، فلا يغيره، ولو لم يمكنه الرمل للزحمة أشار في هيئة مشيه إلى صفة الرمل، ولو لم يمكنه الرمل بقرب الكعبة للزحمة وأمكنه إذا تباعد عنها فالأولى أن يتباعد ويرمل، لأن فضيلة الرمل هيئة للعبادة في نفسها والقرب من الكعبة هيئة في موضع العبادة، لا في نفسها، فكان تقديم ما تعلق بنفسها أولى. ثم قال: واتفق العلماء على أن الرمل لا يشرع للنساء، كما لا يشرع لهن شدة السعي بين الصفا والمروة، ولو ترك الرجل الرمل حيث شرع له فهو تارك سنة، ولا شيء عليه. هذا مذهبنا، واختلف أصحاب مالك فقال بعضهم: عليه دم، وقال بعضهم: لا دم عليه، كمذهبنا. -[ويؤخذ من الأحاديث: ]- 1 - من الرواية الأولى من قوله "وكان يسعى ببطن المسيل" استحباب أن يكون سعيه شديداً في هذا المكان، وهو مجمع عليه. 2 - ومن قوله في الرواية الثانية "ثم يصلي سجدتين" استحباب ركعتي الطواف، قال النووي: وهما سنة على المشهور من مذهبنا، وفي قول: واجبتان. 3 - ومن قوله "ثم يطوف بين الصفا والمروة" وجوب الترتيب بين الطواف والسعي وأنه يشترط تقدم الطواف على السعي، فلو قدم السعي لم يصح السعي، وهذا مذهب الشافعية ومذهب الجمهور، وفيه خلاف ضعيف لبعض السلف. 4 - ومن الرواية الثالثة استحباب استلام الحجر الأسود في ابتداء الطواف، وهو سنة من سنن الطواف بلا خلاف. 5 - وقد استدل بقوله "الركن" القاضي أبو الطيب من الشافعية على أنه يستحب أن يستلم الحجر الأسود، وأن يستلم معه الركن الذي هو فيه، فيجمع في استلامه بين الحجر والركن جميعاً، واقتصر جمهور الشافعية على أنه يستلم الحجر.

6 - ومن قوله في الرواية الرابعة "رمل من الحجر إلى الحجر" أن الرمل يشرع في جميع المطاف من الحجر إلى الحجر، وأما حديث ابن عباس، روايتنا الثانية عشرة، وفيها "أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثة أشواط ويمشوا ما بين الركنين" فمنسوخ بالحديث الأول لأن حديث ابن عباس كان في عمرة القضاء سنة سبع قبل فتح مكة، وكان في المسلمين ضعف في أبدانهم، وإنما رملوا إظهاراً للقوة، واحتاجوا إلى ذلك في غير ما بين الركنين لأن المشركين كانوا جلوساً في الحجر، وكانوا لا يرونهم بين هذين الركنين، ويرونهم فيما سوى ذلك، فلما حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع سنة عشر رمل من الحجر إلى الحجر، فوجب الأخذ بهذا المتأخر. قاله النووي. 7 - ومن قول ابن عباس من كون الرمل ليس سنة مقصودة بيان مذهبه في ذلك وخالفه جميع العلماء من الصحابة والتابعين وأتباعهم ومن بعدهم، فقالوا: هو سنة في الطوفات الثلاث من السبع، وعن بعضهم: إذا ترك الرمل لزمه دم، ودليل الجمهور أن النبي صلى الله عليه وسلم رمل في حجة الوداع في الطوفات الثلاث الأولى، ومشى في الأربع، ثم قال صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: "لتأخذوا عني مناسككم". وقد روى البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "ما لنا وللرمل؟ إنما كنا راءينا به المشركين، وقد أهلكهم الله، ثم قال: شيء صنعه النبي صلى الله عليه وسلم فلا نحب أن نتركه" زاد في رواية "ثم رمل". 8 - ومن قول ابن عباس في السعي راكباً جواز الركوب في السعي بين الصفا والمروة، لكن المشي أفضل منه إلا لعذر. 9 - ومن الرواية الحادية عشرة حسن خلقه صلى الله عليه وسلم وتواضعه وحسن معاملته لأمته. 10 - ومن قوله في الرواية الثانية عشرة "ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم" عطفه وشفقته ورأفته صلى الله عليه وسلم بأمته، وصدق الله العظيم إذ يقول {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128]. 11 - ويؤخذ من دوافع بدء الرمل جواز إظهار القوة بالعدة والسلاح ونحو ذلك للكفار، إرهاباً لهم، ولا يعد ذلك من الرياء. 12 - وفيه جواز المعاريض بالفعل، كما يجوز بالقول، وربما يكون بالفعل أولى. والله أعلم

(335) باب استحباب استلام الركنين اليمانيين وتقبيل الحجر الأسود في الطواف وجواز الطواف راكبا

(335) باب استحباب استلام الركنين اليمانيين وتقبيل الحجر الأسود في الطواف وجواز الطواف راكباً 2696 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح من البيت، إلا الركنين اليمانيين. 2697 - عن سالم، عن أبيه رضي الله عنه. قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم من أركان البيت إلا الركن الأسود والذي يليه، من نحو دور الجمحيين. 2698 - عن عبد الله رضي الله عنه ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني. 2699 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ما تركت استلام هذين الركنين، اليماني والحجر، مذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمهما، في شدة ولا رخاء. 2700 - عن نافع قال: رأيت ابن عمر يستلم الحجر بيده. ثم قبل يده. وقال: ما تركته منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله. 2701 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم غير الركنين اليمانيين. 2702 - عن سالم أن أباه حدثه. قال: قبل عمر بن الخطاب الحجر. ثم قال: أم والله! لقد علمت أنك حجر. ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك.

2703 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر قبل الحجر. وقال: إني لأقبلك وإني لأعلم أنك حجر. ولكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك. 2704 - عن عبد الله بن سرجس قال: رأيت الأصلع (يعني عمر بن الخطاب) يقبل الحجر ويقول: والله! إني لأقبلك، وإني أعلم أنك حجر. وأنك لا تضر ولا تنفع. ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك. وفي رواية المقدمي وأبي كامل: "رأيت الأصيلع". 2705 - عن عابس بن ربيعة قال: رأيت عمر يقبل الحجر ويقول: إني لأقبلك. وأعلم أنك حجر. ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك لم أقبلك. 2706 - عن سويد بن غفلة قال: رأيت عمر قبل الحجر والتزمه. وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بك حفياً. 2707 - عن سفيان وبهذا الإسناد. قال: ولكني رأيت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم بك حفياً. ولم يقل: والتزمه. 2708 - عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف في حجة الوداع على بعير. يستلم الركن بمحجن. 2709 - عن جابر رضي الله عنه قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت، في حجة الوداع، على راحلته. يستلم الحجر بمحجنه. لأن يراه الناس، وليشرف، وليسألوه. فإن الناس غشوه.

2710 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ قال: طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته، بالبيت، وبالصفا والمروة. ليراه الناس، وليشرف وليسألوه. فإن الناس غشوه. ولم يذكر ابن خشرم: وليسألوه. فقط. 2711 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، حول الكعبة، على بعيره. يستلم الركن. كراهية أن يضرب عنه الناس. 2712 - عن أبي الطفيل رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت، ويستلم الركن بمحجن معه، ويقبل المحجن. 2713 - عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي. فقال "طوفي من وراء الناس وأنت راكبة" قالت. فطفت. ورسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ يصلي إلى جنب البيت. وهو يقرأ بالطور وكتاب مسطور. -[المعنى العام]- إن كثيراً من مناسك الحج تعبدي، لا يخضع للتحكيم العقلي، ولا تدرك علته، وقد شاء الله تعالى أن يكون الشرع الإسلامي في أغلب أحكامه معللاً، يحكم العقل بفائدته والدوافع إليه، كما شاءت حكمته أن يختبر المسلم بطلب الطاعة فيما لا يدرك حكمته وهي ما تسمى بلغة العصر بالطاعة العمياء، ليظهر مدى الاستجابة للأوامر والنواهي باعتبارها صادرة من الله فحسب، بل أكثر من هذا قد يرفض العقل الفعل المطلوب، ولا يقبله ولا يستسيغه، لكنه إذا تحقق أنه مطلوب المشرع لزم التسليم والاستجابة، وهذا هو قمة العبادة، وقمة الخضوع، وقمة طاعة المشرع، وكانت خطيئة إبليس أنه سقط في هذا الامتحان إذ أمر بالسجود لآدم. ونجح عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال للحجر يسمع جماهير المسلمين: والله إني لأقبلك، وإني أعلم أنك حجر، لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك. ونجح المسلمون الذين يقتدون برسول الله صلى الله عليه وسلم في مسحهم بأيديهم الركن اليماني من الكعبة في الطواف، وتقبيلهم الحجر الأسود ومسحه، أو استلامه ولو بعصا، وهم يؤمنون بأن هذه الجمادات مخلوقة كبقية

المخلوقات، فهم حين يعظمونها إنما يعظمونها لأن الله أمرهم بتعظيمها، فالتعظيم إذن لله وأمره، وصدق الله العظيم إذ يقول {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} [الحج: 32]. لا يعظمونها لتقربهم إلى الله زلفى كما كان المشركون يعبدون الأصنام، فالأحجار لا تقرب إلى الله زلفى في عقيدة المسلمين، وإنما اتباع الأوامر أيا كانت هي التي تقرب إلى الله زلفى، وقد ضرب لنا المثل في ذلك أبونا إبراهيم عليه الصلاة والسلام وابنه إسماعيل عليه السلام حيث قال {يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين} [الصافات: 102]. فأسلما لله، وربط ابنه للسكين. -[المباحث العربية]- (لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح من البيت إلا الركنين اليمانيين) وفي الرواية الثانية "لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم من أركان البيت إلا الركن الأسود والذي يليه من نحو دار الجمحيين" وفي الرواية الثالثة "كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني" وفي الرواية السادسة "لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم غير الركنين اليمانيين" قال النووي: اعلم أن للبيت أربعة أركان، الركن الأسود، والركن اليماني، ويقال لهما اليمانيان، على سبيل التغليب، كما قيل في الأب والأم الأبوان، وفي الشمس والقمر القمران، و"اليمانيان" بتخفيف الياء، هذه هي اللغة الفصيحة المشهورة، وحكي فيها لغة أخرى بالتشديد، فمن خفف قال: هذه نسبة إلى اليمن [لأن هذا الركن يتجه ناحية اليمن] فالألف عوض من إحدى ياءي النسب، فتبقى الياء الأخرى مخففة، ولو شددناها [مع الألف] لكان جمعاً بين العوض والمعوض، وذلك ممتنع، ومن شدد قال: الألف في "اليماني" زائدة، وأصله اليمني فتبقى الياء مشددة، وتكون الألف زائدة، كما زيدت النون في صنعاني. وأما الركنان الآخران فيقال لهما: الشاميان. والاستلام هو المسح باليد، يقال: استلمت الحجر إذا لمسته، والركن الأسود أي الزاوية التي وضع فيها الحجر الأسود، وهي الزاوية القريبة من باب الكعبة، والحجر ليس أسود اللون، بل أحمر إلى السواد، لكنه بالنسبة لبقية حجارة الكعبة يعتبر أسود، وعرف بهذا الاسم من بناء الكعبة، وهو موضوع على ارتفاع ذراعين وثلثي ذراع من الأرض. والركن الذي يليه المراد به من جهة الشرق، ولذلك فسره بقوله "من نحو دار الجمحيين" ومن المعلوم أن الطائف يجعل الحجر على يساره ويطوف، فالركن الذي يلي ركن الحجر بالنسبة للطائف هو في الحجر، وليس مراداً، بل المراد الركن الذي يليه الحجر أي الذي يقع الحجر بعده بالنسبة للطائف. (في شدة ولا رخاء) أي في زحام أو فسحة. (منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله) أي يفعل الاستلام، وليس تقبيل اليد.

(لقد علمت أنك حجر) في الرواية الثامنة والتاسعة "إني لأعلم أنك حجر" وفي الرواية التاسعة "وأنك لا تضر ولا تنفع" خاطب الحجر بصوت مرتفع، ليسمعه الناس، فهم المقصودون بالكلام، ومراد عمر رضي الله عنه إزالة ما قد يخطر على بال الجهال بأن استلام الحجر هو مثل ما كانت العرب تفعله مع أصنامهم، وهو قريبو عهد بذلك، فأراد رضي الله عنه- أن يعلمهم أن استلامه لا يقصد به إلا تعظيم الله عز وجل، والوقوف عند أمر نبيه صلى الله عليه وسلم وأن ذلك من شعائر الحج التي أمر الله بتعظيمها، وأن استلامه مخالف لفعل الجاهلية في عبادتهم الأصنام، لأنهم كانوا يعتقدون أنها تقربهم إلى الله زلفى، فنبه عمر على مخالفة هذا الاعتقاد، وأنه لا ينبغي أن يعبد إلا من يملك الضرر والنفع، وهو الله جل جلاله. (قبل الحجر والتزمه) أي وثبت عليه، وتعلق به، قال النووي: وفيه إشارة إلى استحباب السجود عليه. (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بك حفياً) أي معنياً مهتماً محتفلاً مكرماً. (يستلم الركن بمحجن) بكسر الميم وسكون الحاء وفتح الجيم، عصا معوجة الرأس، يتناول بها الراكب ما سقط له، ويلتقط بها ما يريد التقاطه. أي فكان يمسح الحجر بالطرف المعوج من عصا في يده، وإذا أطلق الركن أريد به الأسود. (لأن يراه الناس) أي ركب على راحلته ليسهل على الناس رؤيته صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا حريصين على ذلك. (وليشرف) بضم الياء وسكون الشين وكسر الراء، يقال: أشرف أي علا وارتفع وأشرف على الشيء اطلع من فوق، وتعهده وتولاه. (وليسألوه) وليسهل عليهم سؤاله عما يهمهم من أمور مناسكهم. (فإن الناس غشوه) بضم الشين مخففة، أي ازدحموا عليه. (كراهية أن يضرب عنه الناس) قال النووي: هكذا هو في معظم النسخ "يضرب" بالباء، وفي بعضها "يصرف" بالصاد والفاء، وكلاهما صحيح. -[فقه الحديث]- قال النووي: الركن الأسود فيه فضيلتان. إحداهما كونه على قواعد إبراهيم عليه السلام، والثانية كونه فيه الحجر الأسود، وأما اليماني ففيه فضيلة واحدة، وهي كونه على قواعد إبراهيم، وأما الركنان الآخران فليس فيهما شيء من هاتين الفضيلتين، فلهذا خص الحجر الأسود بشيئين: الاستلام والتقبيل، للفضيلتين، وأما اليماني فيستلمه، ولا يقبله، لأن فيه فضيلة واحدة، وأما الركنان الآخران،

فلا يقبلان ولا يستلمان. قال: وقد أجمعت الأمة على استحباب استلام الركنين اليمانيين، واتفق الجماهير على أنه لا يسمح الركنين الآخرين، واستحبه بعض السلف، وممن كان يقول باستلامهما الحسن والحسين ابنا علي وابن الزبير، وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك. قال القاضي أبو الطيب: أجمعت أئمة الأمصار والفقهاء على أنهما لا يستلمان. ثم قال: ويستحب تقبيل الحجر الأسود في الطواف بعد استلامه، وكذا يستحب السجود على الحجر أيضاً، بأن يضع جبهته عليه، فيستحب أن يستلمه، ثم يقبله، ثم يضع جبهته عليه. قال: هذا مذهبنا ومذهب الجمهور، وانفرد مالك عن العلماء، فقال: السجود عليه بدعة، واعترف القاضي عياض المالكي بشذوذ مالك في هذه المسألة عن العلماء. ثم قال: وأما الركن اليماني فيستلمه ولا يقبله، بل يقبل اليد بعد استلامه، هذا مذهبنا، وقال أبو حنيفة لا يستلمه. وقال مالك وأحمد: يستلمه ولا يقبل اليد بعده، وعن مالك رواية أنه يقبله، وعن أحمد رواية أنه يقبله. اهـ -[ويؤخذ من الأحاديث: ]- 1 - يؤخذ من الرواية الأولى والثانية والثالثة والرابعة والسادسة أنه لا يمسح ولا يستلم من أركان البيت إلا الركنين اليمانيين، وقد روى البخاري عن أبي الشعثاء أنه قال: "ومن يتقي شيئاً من البيت؟ وكان معاوية يستلم الأركان، فقال له ابن عباس رضي الله عنهما إنه لا يستلم هذان الركنان، فقال: ليس شيء من البيت مهجوراً". قال التيمي: الركنان اللذان يليان الحجر ليسا بركنين أصليين، لأن وراء ذلك حجر إسماعيل، وهو من البيت، فلو رفع جدار الحجر، وضم إلى الكعبة في البناء، كما كان على بناء إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يكونا ركنين. 2 - ومن الرواية الخامسة من تقبيله يده بعد الاستلام أنه يستحب تقبيل اليد بعد استلام الحجر الأسود إذا عجز عن تقبيل الحجر. قال النووي: وهذا الحديث محمول على من عجز عن تقبيل الحجر، وإلا فالقادر يقبل الحجر، ولا يقتصر على اليد والاستلام بها وهذا الذي ذكرناه من استحباب تقبيل اليد بعد الاستلام للعاجز عن تقبيل الحجر هو مذهبنا ومذهب الجمهور، وقال القاسم بن محمد التابعي المشهور: لا يستحب التقبيل، وبه قال مالك في أحد قوليه. 3 - ومن أحاديث عمر رضي الله عنه وتقبيله الحجر وقوله ما قال: التسليم للشارع في أمور الدين، وحسن الاتباع فيما لم يكشف عن معانيه، قال الخطابي: فيه تسليم الحكمة، وترك طلب العلل وحسن الاتباع فيما لم يكشف لنا عنه من المعنى، وأمور الشريعة على ضربين: ما كشف عن علته، وما لم يكشف، وهذا ليس فيه إلا التسليم. 4 - وفيه قاعدة عظيمة في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيما يفعله، ولو لم تعلم الحكمة فيه. 5 - وفيه دفع ما وقع لبعض الجهال من أن في الحجر الأسود خاصية ترجع إلى ذاته وأما ما رواه

الحاكم من أن عليا رضي الله عنه قال لعمر رضي الله عنه -إنه يضر وينفع، ثم نسب إليه أنه يشهد لمن يستلمه بالتوحيد فهذا الحديث ضعيف، وعلى فرض صحته فإنه ليس نافعاً لذاته بل هو كالأرض والزمان يشهدان للإنسان أو عليه، والنفع والضر سببه عمل الإنسان نفسه. 6 - وفيه بيان السنن بالقول والفعل. 7 - وأن الإمام إذا خشى على أحد من فعله فساد اعتقاده بادر إلى بيان الأمر والتوضيح. 8 - وفي قول الراوي "الأصلع أو الأصيلع" أنه لا بأس بذكر الإنسان بلقبه أو وصفه الذي لا يكرهه، وإن كان قد يكره غيره مثله. 9 - وفي الروايات الثانية عشرة والثالثة عشرة وما بعدها جواز الطواف راكباً، قال النووي في المجموع: قال أصحابنا: الأفضل أن يطوف ماشياً، ولا يركب إلا لعذر مرض أو نحوه، أو كان ممن يحتاج الناس إلى ظهوره ليستفتي ويقتدي بفعله، فإن طاف راكباً بلا عذر جاز بلا كراهة، لكنه خالف الأولى، كذا قال جمهور أصحابنا، وقال إمام الحرمين: في القلب -من إدخال البهيمة التي لا يؤمن تلويثها المسجد- شيء، فإن أمكن الاستيثاق فذلك، وإلا فإدخالها المسجد مكروه. ثم قال النووي: وجزم جماعة من أصحابنا بكراهة الطواف راكباً من غير عذر، والمشهور الأول، والمرأة والرجل في الركوب سواء. ثم قال: ونقل الماوردي إجماع العلماء على أن طواف الماشي أولى من طواف الراكب، فلو طاف راكباً لعذر، أو غيره صح طوافه، ولا دم عليه عندنا في الحالين، وهذا هو الصحيح من مذهب أحمد، وقال مالك وأبو حنيفة: إن طاف راكباً لعذر أجزأه ولا شيء عليه، وإن طاف راكباً لغير عذر فعليه دم، قال أبو حنيفة: وإن كان بمكة أعاد الطواف واحتجا بأنها عبادة تتعلق بالبيت، فلا يجزئ فعلها على الراحلة كالصلاة، وقالوا: إنما طاف صلى الله عليه وسلم راكباً لشكوى عرضت له، ورد عليهم بأن الأحاديث الصحيحة الثابتة من رواية جابر وعائشة مصرحة بأن طوافه صلى الله عليه وسلم راكباً لم يكن لمرض بل كان ليراه الناس ويسألوه ولا يزاحموا عليه، وقياسهم على الصلاة فاسد لأن الصلاة لا تصح راكباً إذا كانت فريضة، وقد سلموا صحة الطواف، ولكن ادعوا وجوب الدم، ولا دليل لهم في ذلك. اهـ والحق أن قول الشافعية: إن طاف راكباً بلا عذر جاز بلا كراهة قول يعوزه الدليل وما في رواياتنا عذر، معلل، بل الرواية السابعة عشرة يفيد مفهومها تقييد الجواز بالعذر وإلا لما اشتكت أم سلمة رضي الله عنها. 10 - واستدل به أصحاب مالك وأحمد على طهارة بول ما يؤكل لحمه وروثه، لأنه لا يؤمن ذلك من البعير، فلو كان نجساً لما عرض المسجد له، قال النووي: ومذهبنا ومذهب أبي حنيفة وآخرين نجاسة ذلك، وهذا الحديث لا دلالة فيه، لأنه ليس من ضرورته أن يبول أو يروث في حال الطواف، وإنما هو محتمل، وعلى تقدير حصوله ينظف المسجد منه، وقد أقر صلى الله عليه وسلم

إدخال الصبيان والأطفال المسجد مع أنه لا يؤمن بولهم، بل قد وجد ذلك، ولأنه لو كان ذلك محققاً لنزه المسجد منه، سواء كان نجساً أو طاهراً، لأنه مستقذر. 11 - وفي قوله "يطوف بالبيت ويستلم الركن بمحجن معه، ويقبل المحجن" في الرواية السادسة عشرة دليل على استحباب استلام الحجر الأسود، وأنه إذا عجز عن استلامه بيده، بأن كان راكباً أو غيره استلمه بعصا ونحوها، ثم قبل ما استلم به. وهذا مذهب الشافعية. 12 - وفي قوله "طوفي وراء الناس وأنت راكبة" في الرواية السابعة عشرة أن سنة النساء في الطواف التباعد عن الرجال. 13 - وأن الراكب في الطواف لا يقرب من البيت لئلا يؤذى الناس بدابته. 14 - وفي قوله "في حجة الوداع" في الرواية الثالثة عشرة والرابعة عشرة جواز قول: حجة الوداع، وقد كره بعض العلماء أن يقال لها: حجة الوداع. قال النووي: وهو غلط، والصواب جواز ذلك. 15 - وفي مفهوم الرواية السابعة عشرة أنه لا يستحب للنساء تقبيل الحجر، ولا استلامه إلا عند خلو المطاف في الليل أو غيره، لما فيه من ضررهن وضرر الرجال بهن، قاله النووي. 16 - وفيه أن استحباب قرب الطائف من البيت إنما هو في حق الرجل، أما المرأة فيستحب لها أن لا تدنو في حال الطواف عند زحمة الرجال، بل تكون في حاشية المطاف بحيث لا تخالط الرجال، فإن كان المطاف خالياً من الرجال استحب لها القرب من البيت كالرجال. والله أعلم. 17 - استدل بعضهم بهذه الأحاديث على مشروعية تقبيل الأماكن الشريفة، وتقبيل المصحف وكتب الحديث على قصد التعظيم والتبرك، وكذلك تقبيل أيدي الصالحين ويرون أن ذلك حسن محمود باعتبار القصد والنية. والتحقيق منع تقبيل ما لم يرد الشرع بتقبيله من الأحجار وغيرها، والاقتصار في ذلك على ما ورد الشرع به، ليكون الدافع هو الاستجابة لأمر الشرع فحسب. أما تقبيل النافع من الأحياء لنفعه وفضله فهو مشروع، ومنه تقبيل يد الأبوين، ومن في حكمهما، ويد العلماء والصالحين. والله أعلم

(336) باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن وأنه لا يكرر

(336) باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن وأنه لا يكرر 2714 - عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، قال: قلت لها: إني لأظن رجلاً، لو لم يطف بين الصفا والمروة، ما ضره. قالت: لم؟ قلت: لأن الله تعالى يقول {إن الصفا والمروة من شعائر الله} إلى آخر الآية. فقالت: ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة. ولو كان كما تقول لكان: {فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما} وهل تدري فيما كان ذاك؟ إنما كان ذاك أن الأنصار كانوا يهلون في الجاهلية لصنمين على شط البحر. يقال لهما إساف ونائلة. ثم يجيئون فيطوفون بين الصفا والمروة. ثم يحلقون. فلما جاء الإسلام كرهوا أن يطوفوا بينهما. للذي كانوا يصنعون في الجاهلية. قالت: فأنزل الله عز وجل: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} إلى آخرها. قالت: فطافوا. 2715 - عن هشام بن عروة، عن أبيه. قال: قلت لعائشة: ما أرى علي جناحاً أن لا أتطوف بين الصفا والمروة. قالت: لم؟ قلت: لأن الله عز وجل يقول: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} الآية. فقالت: لو كان كما تقول، لكان: {فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما} إنما أنزل هذا في أناس من الأنصار. كانوا إذا أهلوا، أهلوا لمناة في الجاهلية. فلا يحل لهم أن يطوفوا بين الصفا والمروة. فلما قدموا مع النبي صلى الله عليه وسلم للحج، ذكروا ذلك له. فأنزل الله تعالى هذه الآية. فلعمري! ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة. 2716 - عن عروة بن الزبير، قال: قلت لعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: ما أرى على أحد، لم يطف بين الصفا والمروة، شيئاً. وما أبالي أن لا أطوف بينهما. قالت: بئس ما قلت، يا ابن أختي! طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم. وطاف المسلمون. فكانت سنة. وإنما كان من أهل لمناة الطاغية، التي بالمشلل، لا يطوفون بين الصفا والمروة. فلما كان الإسلام سألنا النبي

صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فأنزل الله عز وجل: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} ولو كانت كما تقول، لكانت: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما. قال الزهري: فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. فأعجبه ذلك. وقال: إن هذا العلم. ولقد سمعت رجالاً من أهل العلم يقولون: إنما كان من لا يطوف بين الصفا والمروة من العرب، يقولون: إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية. وقال آخرون من الأنصار: إنما أمرنا بالطواف بالبيت ولم نؤمر به بين الصفا والمروة. فأنزل الله عز وجل: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} قال أبو بكر بن عبد الرحمن: فأراها قد نزلت في هؤلاء وهؤلاء. 2717 - عن عروة بن الزبير. قال: سألت عائشة. وساق الحديث بنحوه. وقال في الحديث: فلما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقالوا: يا رسول الله! إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة. فأنزل الله عز وجل: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} قالت عائشة: قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما. فليس لأحد أن يترك الطواف بهما. 2718 - عن عروة بن الزبير أن عائشة أخبرته أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا، هم وغسان، يهلون لمناة. فتحرجوا أن يطوفوا بين الصفا والمروة. وكان ذلك سنة في آبائهم. من أحرم لمناة لم يطف بين الصفا والمروة. وإنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك حين أسلموا. فأنزل الله عز وجل في ذلك: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم} 2719 - عن أنس رضي الله عنه قال: كانت الأنصار يكرهون أن يطوفوا بين الصفا والمروة. حتى نزلت: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} 2720 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، بين الصفا والمروة، إلا طوافاً واحداً.

2721 - أخبرنا ابن جريج بهذا الإسناد مثله. وقال: إلا طوافاً واحداً. طوافه الأول. -[المعنى العام]- إن أكثر شعائر الحج تمثل وتذكر بمنسك من مناسك الله السابقة وبخاصة في شريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام، فتقديس البيت الحرام بالطواف وزمزم والحجر الأسود وعرفة ورمي الجمرات، أكثره موروث للعرب من ملة أبيهم إبراهيم عليه السلام أقره الإسلام أو أضفى عليه مسوح العبادة الصحيحة. ومن هذه الموروثات السعي بين الصفا والمروة، فهو يذكرنا بأمنا هاجر يوم نفد ما معها من ماء وعطش ابنها وطفلها إسماعيل في صحراء لا ماء فيها، صعدت الصفا، لعلها ترى طيراً يحوم على ماء، أو إنساناً بعيداً تجري وراءه ليغيثها وابنها، وهبطت إلى الوادي لتصعد إلى جبل المروة ترجو الإنقاذ من الهلاك، فعلت ذلك سبع مرات، فإذا برحمة الله وفضله تفجر عين زمزم تحت أقدام الطفل إسماعيل، وكانت أساس العيش في واد غير ذي زرع عند بيت الله المحرم، وكانت أساس الإقامة ثم التحضر في مكة المكرمة، وبقي السعي بين الصفا والمروة منسكاً عربياً، لكنه أصابته نوبة الشرك، وعبادة الأصنام، فوضع على الصفا صنم يمثل رجلا اسمه إساف، ونصب على المروة صنم يمثل امرأة اسمها نائلة، والعجيب أن في كتب أهل الكتاب أن "إسافاً ونائلة" كان رجلاً وامرأة زنيا في داخل الكعبة، فمسخهما الله تعالى إلى صنمين، حجرين، تمثالين، فوضعا على الصفا والمروة ليعتبر الناس بهما، وبعاقبة هذه الفاحشة الكبرى، العجيب أن تتحول هذه الحقيقة في غياهب الزمان إلى تقديس لهذين الصنمين وعبادة لهما، والذبح والتقرب إليهما ودعائهما ليقربا إلى الله زلفى. وجاء الإسلام، وفي فتح مكة حطمت الأصنام، وحطم إساف ونائلة، وتطهرت عقيدة المسلمين من الأوثان وبقيت شعيرة السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة في الإسلام، وتحرج المسلمون من سعي كانوا يفعلونه في الجاهلية بين صنمين، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا نكره السعي بين الصفا والمروة، ونتحرج منه لما كنا عليه في الجاهلية، فأنزل الله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم} [البقرة: 158]. واجتهد المسلمون في فهم الآية، هل هي ترفع الحرج ليكون السعي مندوباً؟ أو ليكون واجباً؟ أو ليكون ركناً فرضاً، وكانت هذه الأحاديث فكراً إسلامياً عميقاً دقيقاً يشهد لعائشة رضي الله عنها وللمسلمين بالتفقه في الدين. -[المباحث العربية]- (إني لأظن رجلاً لو لم يطف بين الصفا والمروة ما ضره) أي ما حصل لحجه أو عمرته

ضرر، وفي الرواية الثانية "ما أرى علي جناحاً ألا أتطوف بين الصفا والمروة" وفي الرواية الثالثة "ما أرى على أحد لم يطف بين الصفا والمروة شيئاً، وما أبالي ألا أطوف بينهما" ففي الأولى يتكلم عن غيره، وفي الثانية يتكلم عن نفسه، وفي الثالثة يتكلم عن غيره وعن نفسه، فربما كانت الثالثة هي الأصل والأولى والثانية تصرفاً من الرواة، وربما تعددت الأحاديث منه، والصفا رأس جبل معروف بجوار البيت بمكة، وهو في الأصل جمع صفاة، وهي صخرة ملساء، ويجمع على أصفاء وصفا، والمروة التي تذكر مع الصفا رأسه الثاني، التي ينتهي السعي إليها، وهي في الأصل حجر أبيض براق، وبين الرأسين واد، منخفضة يسمى بطن المسيل، أي المكان الذي يجتمع فيه السيل. (قالت: لم؟ ) أي لماذا تظن هذا الظن؟ وفي الرواية الثالثة "بئس ما قلت يا ابن أختي" فهو ابن أختها أسماء بنت أبي بكر، قال النووي: هكذا هو في أكثر النسخ، وفي بعضها "يا ابن أخي" وكلاهما صحيح "فالزبير زوج أختها في مقام أخيها]، والأول أصح وأشهر، وهو المعروف في غير هذه الرواية. {إن الصفا والمروة من شعائر الله} إلى آخر الآية) موطن الاستدلال في بقية الآية {فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم} والظاهر أنه قرأ الآية لخالته كاملة، أو أنه قرأ هذا الجزء فقط مشيراً به إلى الجزء الآخر معتمداً على حفظها وفهمها رضي الله عنها. والشعائر جمع شعيرة، والشعائر أعمال الحج، وكل ما جعل علماً لطاعة الله تعالى، وقال الزجاج: هي جميع متعبدات الله التي أشعرها الله، أي جعلها إعلاماً لنا، وقال الحسن: شعائر الله دين الله. ووجهة نظر عروة أن قوله تعالى: {فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} يفيد إباحة الطواف بين الصفا والمروة، فيفيد إباحة عدم الطواف بهما، ذلك لأن رفع الجناح معناه رفع الإثم، ورفع الإثم علامة المباح، ويزيد المستحب إثبات الأجر ويزيد الوجوب عقاب التارك، فلو كان مستحباً أو واجباً لما اكتفى برفع الحرج، الذي يستعمل أكثر ما يستعمل في المباح دون الواجب. ووجهة نظر عائشة -رضي الله عنها- أن نفي الجناح عن الفعل ليس نصاً في المباح فإن المستحب والواجب منفي عنه الجناح، فنفي الجناح عن الفعل لا يلزمه نفي الجناح عن الترك، ولو أريد رفع الجناح على الترك لقيل: فلا جناح عليه ألا يطوف بهما. بزيادة "لا". وإنما جاءت الآية بذلك لتطابق الموقف، فإنهم كانوا يتحرجون من الطواف بين الصفا والمروة، فقيل لهم: لا تتحرجوا، ولا جناح عليكم في هذا الفعل، بل هو واجب لا حرج فيه، كما تقول: لا تتحرج من قول الحق وشهادة الحق على أبيك، ولم تتعرض الآية للوجوب، فهو يستفاد من دليل آخر، ورفعت الجناح والحرج ليزول وقت أداء الفعل. (أن الأنصار كانوا يهلون) أي يحجون.

(في الجاهلية لصنمين على شط البحر، يقال لهما إساف ونائلة، ثم يجيئون، فيطوفون بين الصفا والمروة) قال النووي: قال القاضي عياض: هكذا وقع في هذه الرواية. قال: وهو غلط، والصواب ما جاء في الروايات الأخرى في الباب "يهلون لمناة" [جاء ذلك في رواياتنا الثانية والثالثة والخامسة] قال: وهذا هو المعروف، قال: و"مناة" صنم كان نصبه عمرو بن لحي في جهة البحر بالمشلل، مما يلي قديداً، وكانت الأزد وغسان تهل له بالحج، وأما إساف ونائلة فلم يكونا قط في ناحية البحر، وإنما كانا فيما يقال رجلاً وامرأة، فالرجل اسمه إساف بن بقاء، ويقال: ابن عمرو، والمرأة اسمها نائلة بنت ذئب ويقال: بنت سهل، قيل: كانا من جرهم، فزنيا داخل الكعبة، فمسخهما الله حجرين، فنصبا عند الكعبة، وقيل: على الصفا والمروة، ليعتبر الناس بهما ويتعظوا، ثم حولهما قصي بن كلاب فجعل أحدهما ملاصق الكعبة، والآخر بزمزم، وقيل: جعلهما بزمزم، ونحر عندهما، وأمر بعبادتهما، فلما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة كسرهما. هذا آخر كلام القاضي. وجزم محمد بن إسحق بأن عمرو بن لحي نصب مناة على ساحل البحر، مما يلي قديداً، فكانت الأزد وغسان يحجونها ويعظمونها، إذا طافوا بالبيت، وأفاضوا من عرفات وفرغوا من منى أتوا مناة، فأهلوا لها، فمن أهل لها لم يطف بين الصفا والمروة. قال: وكانت مناة للأوس والخزرج والأزد من غسان ومن دان دينهم من أهل يثرب. فالتحرج على هذا عن الطواف بين الصفا والمروة لكونهم كانوا لا يفعلونه في الجاهلية، والروايتان الثانية والثالثة صريحة في هذا، ففي الثانية "كانوا إذا أهلوا أهلوا لمناة في الجاهلية، فلا يحل لهم أن يطوفوا بين الصفا والمروة" وفي الثالثة "وإنما كان من أهل لمناة الطاغية التي بالمشلل لا يطوفون بين الصفا والمروة" أما على الرواية الأولى -إذا صححنا خطأها، وحذفنا كلمة "على شط البحر" -فقد كانوا يهلون لإساف ونائلة، ثم يجيئون فيطوفون بين الصفا والمروة، فالتحرج على هذا مخافة أن يفعلوا فعلاً يضاهي فعل الجاهلية، تصرح بذلك الرواية الأولى، وفيها "فلما جاء الإسلام كرهوا أن يطوفوا بينهما، للذي كانوا يصنعون في الجاهلية". قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون الأنصار في الجاهلية فريقين، منهم من كان يطوف بينهما [على ما تقتضيه روايتنا الأولى] ومنهم من كان لا يطوف بينهما [على ما تقتضيه روايتنا الثانية والثالثة] واشترك الفريقان في الإسلام على التوقف [أي والتحرج] عن الطواف بينهما. (وإنما كان من أهل لمناة الطاغية التي بالمشلل) "الطاغية" صفة إسلامية لمناة "والمشلل" بضم الميم وفتح الشين وتشديد اللام الأولى مفتوحة اسم موضع قريب من قديد وقيل: ثنية مشرفة على قديد. وقديد -كما سبق- قرية جامعة بين مكة والمدينة. (فأعجبه ذلك، وقال: إن هذا العلم) قال النووي: هكذا هو في جميع نسخ بلادنا. قال القاضي: وروي "إن هذا لعلم" بالتنوين، وكلاهما صحيح، ومعنى الأول: إن هذا هو العلم المتقن، ومعناه استحسان قول عائشة رضي الله عنها، وبلاغتها في تفسير الآية.

-[فقه الحديث]- قال النووي في المجموع: مذهبنا أن السعي ركن من أركان الحج والعمرة، لا يتم واحد منهما إلا به، ولا يجبر بدم، ولو بقي منه خطوة لم يتم حجه، ولم يتحلل من إحرامه حتى يأتي بما بقي، وإن طال ذلك سنين، وبه قالت عائشة ومالك في المشهور عنه وأحمد في رواية وداود، وقال أبو حنيفة: هو واجب ليس بركن، فيجبر بدم، وقال ابن مسعود وأبي بن كعب وابن عباس وابن الزبير وأنس: هو تطوع، ليس بركن، ولا واجب، ولا دم في تركه. اهـ وهو رواية عن أحمد. أما القول الأول فدليلهم قول عائشة في روايتنا الأولى "ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة" وفي الرواية الثانية "فلعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة" و"إن الرسول صلى الله عليه وسلم سعى بين الصفا والمروة هو وأصحابه، وقال: لتأخذوا عني مناسككم" كما استدلوا بما رواه الشافعي وأحمد في مسنده والدارقطني والبيهقي من رواية حبيبة بنت تجراه، ولفظه "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أيها الناس. اسعوا، فإن السعي قد كتب عليكم". ويجيب المخالفون بأن نفي عائشة لتمام الحج والعمرة لا يدل على أن السعي ركن فمن ترك الواجب، بل من ترك المستحب فحجه غير تام، بل فيه نقص عن التمام والكمال، وعلى فرض أنها تريد الركنية فهو رأي لها، واجتهاد منها، لا يلتزم به غيرها، وأما سعي الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقوله: "لتأخذوا عني مناسككم" فلا يدل على الركنية، فقد فعل من المناسك ما هو ركن وما هو واجب وما هو مستحب. وأما حديث "أيها الناس. اسعوا، فإن السعي قد كتب عليكم" ففي إسناده ضعف، لا يحتج به، قال ابن عبد البر في الاستيعاب: فيه اضطراب، وقال ابن المنذر: إن ثبت حديث بنت أبي تجراه أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي" فهو ركن قال الشافعي: وإلا فهو تطوع، قال: وحديثها رواه عبد الله بن المؤمل، وقد تكلموا فيه. ودافع البدر العيني عن مذهب الحنفية، فقال: إن قول عائشة -رضي الله عنها -[في روايتنا الرابعة] "قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما" يدل على الوجوب، ورفع الجناح في الآية ينفي الفرضية، فهو واجب ليس بركن قال ابن قدامة عن مذهب الحنفية: وهو أقرب إلى الحق. أما القول الثالث، وأنه تطوع فيمثله ابن عباس رضي الله عنهما، وقد وضح تمسكه بهذا القول في رواياتنا الخامسة والثمانين من باب وجوه الإحرام، والسادسة والثمانين، والسابعة والثمانين. واحتج القائلون بهذا القول بقوله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} وفي قراءة شاذة لابن مسعود -وهي في قوة حديث {فلا جناح عليه ألا يطوف بهما} ورفع الجناح في الطواف بهما يدل على أنه مباح، لا واجب ثم قوله تعالى: {ومن تطوع خيراً} بعد قوله: {فلا جناح عليه أن يطوف بهما} يدل على أن السعي

تطوع ومندوب، ومن البعيد قولهم: إنه راجع إلى أصل الحج والعمرة، لا إلى خصوص السعي، وقولهم: إن السعي وحده لا يتطوع به لإجماع المسلمين على أن التطوع بالسعي لغير الحاج والمعتمر غير مشروع، لأن الكلام في الحاج والمعتمر، والسعي بالنسبة لهما، وليس في السعي بدون حج أو عمرة، فالآية تفيد أن السعي للحاج والمعتمر تطوع خير. ثم قول عائشة "وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم" لا يدل على أنه جعله ركناً، وتفسير "سن" بفرض وشرع خلاف الأصل، في حاجة إلى قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي، ولا قرينة. والله أعلم. وفي كيفية السعي وواجباته يقول النووي: إذا فرغ من ركعتي الطواف فالسنة أن يرجع إلى الحجر الأسود فيستلمه، ثم يخرج من باب الصفا إلى المسعى، فيأتي سفح جبل الصفا، فيرقى عليه قدر قامة، حتى يرى البيت، وهو يتراءى له من باب الصفا، بخلاف المروة، إذا صعد استقبل الكعبة، وهلل وكبر ودعا، فإذا فرغ من الذكر والدعاء نزل من الصفا متوجهاً إلى المروة، فيمشي على سجية مشيه المعتاد، حتى يبقى بينه وبين الميل الأخضر المعلق بركن المسجد على يساره قدر ست أذرع، ثم يسعى سعياً شديداً حتى يتوسط الميلين الأخضرين اللذين أحدهما في ركن المسجد، والآخر متصل بدار العباس رضي الله عنه، ثم يترك شدة السعي، ويمشي على عادته، حتى يأتي المروة فيصعد عليها، حتى يظهر له البيت إن ظهر، فيأتي بالذكر والدعاء. فهذه مرة من سعيه. ثم يعود من المروة إلى الصفا، فيمشي في موضع مشيه، ويسعى في موضع سعيه، فإذا وصل إلى الصفا صعده، وفعل من الذكر والدعاء ما فعله أولاً، وهذه مرة ثانية من سعيه، وهكذا حتى يكمل سبع مرات، يبدأ بالصفا، ويختم بالمروة، ويستحب أن يدعو بين الصفا والمروة في مشيه وسعيه، ويستحب قراءة القرآن فيه. ثم قال: أما الواجبات فأربعة: أحدها أن يقطع المسافة كاملة بين الصفا والمروة، فلو بقي منها بعض خطوة لم يصح سعيه. ثانيها: الترتيب: وهو أن يبدأ بالصفا، فإن بدأ بالمروة لم يحسب مروره منها إلى الصفا. ثالثها: إكمال سبع مرات. رابعها: كون السعي بعد طواف صحيح. ثم قال: والموالاة بين أشواط السعي سنة، فلو تخلل فصل يسير أو طويل بينهن لم يضر، وإن كان شهراً أو سنة. أما المرأة فالجمهور على أنها لا تسعى في موضع السعي، بل تمشي جميع المسافة نهاراً أو ليلاً. ثم قال: ويسن للرجال الاضطباع في المسعى جميعه. والله أعلم. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - فقه عائشة -رضي الله عنها- وعلمها، ودقة فهمها، وبلاغتها. 2 - الاجتهاد والمناقشة بين الصغير والكبير، وإبداء الصغير رأيه أمام الكبير. 3 - توجيه الكبير للصغير برفق، وشرح المطلوب وإيضاحه وبيانه.

4 - ومن قول أبي بكر بن عبد الرحمن "ولقد سمعت رجالاً من أهل العلم .... إلخ إظهار العلم وعدم كتمانه. 5 - ومن قوله "إن هذا العلم" استحباب الثناء على المحسن في العلم، واستحسان القول الحسن. 6 - ومن الرواية السابعة أن الطواف بين الصفا والمروة لا يكرر للقارن بين الحج والعمرة. 7 - قال النووي: وفيه دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في حجة الوداع قارناً. والله أعلم

(337) باب استحباب إدامة الحاج التلبية حتى يوم النحر والتلبية والتكبير في الذهاب من منى إلى عرفات والإفاضة من عرفات إلى المزدلفة، والتغليس بصلاة الصبح، وتقديم دفع الضعفة

(337) باب استحباب إدامة الحاج التلبية حتى يوم النحر والتلبية والتكبير في الذهاب من منى إلى عرفات والإفاضة من عرفات إلى المزدلفة، والتغليس بصلاة الصبح، وتقديم دفع الضعفة 2722 - عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفات. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الشعب الأيسر، الذي دون المزدلفة، أناخ فبال. ثم جاء فصببت عليه الوضوء. فتوضأ وضوءاً خفيفاً. ثم قلت: الصلاة. يا رسول الله! فقال "الصلاة أمامك" فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى المزدلفة. فصلى. ثم ردف الفضل رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة جمع. 2723 - عن الفضل رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى بلغ الجمرة. 2724 - عن الفضل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة. 2725 - عن الفضل بن عباس. وكان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال، في عشية عرفة وغداة جمع، للناس حين دفعوا "عليكم بالسكينة" وهو كاف ناقته. حتى دخل محسراً (وهو من منى) قال "عليكم بحصى الخذف الذي يرمى به الجمرة". وقال: لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى الجمرة. 2726 - عن أبي الزبير بهذا الإسناد. غير أنه لم يذكر في الحديث: ولم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى الجمرة. وزاد في حديثه: والنبي صلى الله عليه وسلم يشير بيده كما يخذف الإنسان. 2727 - عن عبد الرحمن بن يزيد قال: قال عبد الله رضي الله عنه ونحن بجمع: سمعت الذي أنزلت عليه سورة البقرة، يقول في هذا المقام "لبيك اللهم لبيك".

2728 - عن عبد الرحمن بن يزيد أن عبد الله لبى حين أفاض من جمع. فقيل: أعرابي هذا؟ فقال عبد الله: أنسي الناس أم ضلوا؟ سمعت الذي أنزلت عليه سورة البقرة يقول، في هذا المكان: "لبيك. اللهم! لبيك". 2729 - عن عبد الرحمن بن يزيد والأسود بن يزيد قالا: سمعنا عبد الله بن مسعود، بجمع: سمعت الذي أنزلت عليه سورة البقرة، ها هنا يقول: "لبيك. اللهم! لبيك" ثم لبى ولبينا معه. 2730 - عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه رضي الله عنهم. قال: غدونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من منى إلى عرفات. منا الملبي، ومنا المكبر. 2731 - عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه رضي الله عنهم. قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غداة عرفة. فمنا المكبر ومنا المهلل. فأما نحن فنكبر. قال: قلت: والله! لعجباً منكم. كيف لم تقولوا له: ماذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع؟ . 2732 - عن محمد بن أبي بكر الثقفي، أنه سأل أنس بن مالك رضي الله عنه، وهما غاديان من منى إلى عرفة: كيف كنتم تصنعون في هذا اليوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كان يهل المهل منا، فلا ينكر عليه. ويكبر المكبر منا، فلا ينكر عليه. 2733 - عن محمد بن أبي بكر. قال: قلت لأنس بن مالك، غداة عرفة: ما تقول في التلبية هذا اليوم؟ قال: سرت هذا المسير مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فمنا المكبر ومنا المهلل. ولا يعيب أحدنا على صاحبه.

2734 - عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما؛ قال: دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة. حتى إذا كان بالشعب نزل فبال. ثم توضأ ولم يسبغ الوضوء. فقلت له: الصلاة. قال "الصلاة أمامك" فركب. فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ. فأسبغ الوضوء. ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب. ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله. ثم أقيمت العشاء فصلاها. ولم يصل بينهما شيئاً. 2735 - عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الدفعة من عرفات إلى بعض تلك الشعاب، لحاجته. فصببت عليه من الماء. فقلت: أتصلي؟ فقال "المصلي أمامك". 2736 - عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفات. فلما انتهى إلى الشعب نزل فبال. (ولم يقل أسامة: أراق الماء) قال: فدعا بماء فتوضأ وضوءاً ليس بالبالغ. قال فقلت: يا رسول الله! الصلاة. قال: "الصلاة أمامك" قال: ثم سار حتى بلغ جمعاً. فصلى المغرب والعشاء. 2737 - عن كريب: أنه سأل أسامة بن زيد: كيف صنعتم حين ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة؟ فقال: جئنا الشعب الذي ينيخ الناس فيه للمغرب. فأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقته وبال (وما قال: أهراق الماء) ثم دعا بالوضوء فتوضأ وضوءاً ليس بالبالغ. فقلت: يا رسول الله! الصلاة. فقال "الصلاة أمامك" فركب حتى جئنا المزدلفة. فأقام المغرب. ثم أناخ الناس في منازلهم. ولم يحلوا حتى أقام العشاء الآخرة. فصلى. ثم حلوا. قلت: فكيف فعلتم حتى أصبحتم قال: ردفه الفضل بن عباس وانطلقت أنا في سباق قريش على رجلي. 2738 - عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أتى النقب الذي ينزله الأمراء نزل فبال. (ولم يقل: أهراق) ثم دعا بوضوء فتوضأ وضوءاً خفيفاً. فقلت: يا رسول الله! الصلاة. فقال "الصلاة أمامك".

2739 - عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما: أنه كان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أفاض من عرفة. فلما جاء الشعب أناخ راحلته. ثم ذهب إلى الغائط. فلما رجع صببت عليه من الإداوة فتوضأ. ثم ركب. ثم أتى المزدلفة. فجمع بها بين المغرب والعشاء. 2740 - عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض من عرفة. وأسامة ردفه. قال أسامة: فمازال يسير على هيئته حتى أتى جمعاً. 2741 - عن هشام عن أبيه، قال: سئل أسامة، وأنا شاهد، أو قال: سألت أسامة بن زيد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أردفه من عرفات. قلت: كيف كان يسير رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أفاض من عرفة؟ قال: كان يسير العنق. فإذا وجد فجوة نص. 2742 - عن هشام بن عروة بهذا الإسناد وزاد في حديث حميد: وزاد قال هشام: والنص فوق العنق. 2743 - عن أبي أيوب رضي الله عنه: أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، المغرب والعشاء، بالمزدلفة. 2744 - عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة، جميعاً. 2745 - عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر؛ أن أباه قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء بجمع. ليس بينهما سجدة. وصلى المغرب ثلاث ركعات. وصلى العشاء ركعتين. فكان عبد الله يصلي بجمع كذلك. حتى لحق بالله تعالى.

2746 - عن سعيد بن جبير رضي الله عنه أنه صلى المغرب بجمع، والعشاء بإقامة. ثم حدث عن ابن عمر: أنه صلى مثل. ذلك وحدث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم صنع مثل ذلك. 2747 - عن شعبة بهذا الإسناد. قال: صلاهما بإقامة واحدة. 2748 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء بجمع. صلى المغرب ثلاثاً. والعشاء ركعتين. بإقامة واحدة. 2749 - عن سعيد بن جبير رضي الله عنه قال: أفضنا مع ابن عمر حتى أتينا جمعاً. فصلى بنا المغرب والعشاء بإقامة واحدة. ثم انصرف. فقال: هكذا صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المكان. 2750 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة إلا لميقاتها. إلا صلاتين: صلاة المغرب والعشاء بجمع. وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها. 2751 - عن الأعمش بهذا الإسناد. وقال: قبل وقتها بغلس. 2752 - عن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت: استأذنت سودة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة. تدفع قبله. وقبل حطمة الناس. وكانت امرأة ثبطة. (يقول القاسم: والثبطة الثقيلة) قال: فأذن لها. فخرجت قبل دفعه. وحبسنا حتى أصبحنا فدفعنا بدفعه. ولأن أكون استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما استأذنته سودة، فأكون أدفع بإذنه، أحب إلي من مفروح به. 2753 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت سودة امرأة ضخمة ثبطة. فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تفيض من جمع بليل. فأذن لها. فقالت عائشة: فليتني كنت استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما استأذنته سودة. وكانت عائشة لا تفيض إلا مع الإمام.

2754 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: وددت أني كنت استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما استأذنته سودة. فأصلي الصبح بمنى. فأرمي الجمرة. قبل أن يأتي الناس. فقيل لعائشة: فكانت سودة استأذنته؟ قالت: نعم. إنها كانت امرأة ثقيلة ثبطة. فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن لها. 2755 - ونحوه. 2756 - عن عبد الله مولى أسماء رضي الله عنها؛ قال: قالت لي أسماء، وهي عند دار المزدلفة: هل غاب القمر؟ قلت: لا. فصلت ساعة. ثم قالت: يا بني! هل غاب القمر؟ قلت: نعم. قالت: ارحل بي. فارتحلنا حتى رمت الجمرة. ثم صلت في منزلها. فقلت لها: أي هنتاه! لقد غلسنا. قالت: كلا. أي بني! إن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للظعن. 2757 - عن ابن جريج بهذا الإسناد وفي روايته: قالت: لا. أي بني! إن نبي الله صلى الله عليه وسلم أذن لظعنه. 2758 - عن ابن شوال: أنه دخل على أم حبيبة فأخبرته أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بها من جمع بليل. 2759 - عن أم حبيبة رضي الله عنها قالت: كنا نفعله على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. نغلس من جمع إلى منى. وفي رواية "نغلس من مزدلفة". 2760 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثقل (أو قال في الضعفة) من جمع بليل.

2761 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أنا ممن قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضعفة أهله. 2762 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت فيمن قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضعفة أهله. 2763 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعث بي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسحر من جمع في ثقل نبي الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن جريج لعطاء الراوي عن ابن عباس: أبلغك أن ابن عباس قال: بعث بي بليل طويل؟ قال: لا. إلا كذلك، بسحر. قلت له: فقال ابن عباس: رمينا الجمرة قبل الفجر. وأين صلى الفجر؟ قال: لا. إلا كذلك. 2764 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يقدم ضعفة أهله. فيقفون عند المشعر الحرام بالمزدلفة بالليل. فيذكرون الله ما بدا لهم. ثم يدفعون قبل أن يقف الإمام. وقبل أن يدفع. فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر. ومنهم من يقدم بعد ذلك. فإذا قدموا رموا الجمرة. وكان ابن عمر يقول: أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم. -[المعنى العام]- كان الدستور الأساسي في الحج وشعائره قول الرسول صلى الله عليه وسلم "خذوا عني مناسككم" فكانت أقواله وأعماله في حجة الوداع هي مواد وقواعد هذا الدستور، وحرص الصحابة على استيعابه سمعاً وبصراً، وحرص التابعون على تحصيله والوقوف عليه من الصحابة وكانت أحاديث الباب عن أحداث ما بعد الوقوف بعرفة إلى رمي جمرة العقبة، أو إلى صبح يوم النحر. أسامة بن زيد، الحبيب بن الحبيب كان يركب خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقة واحدة من حين تحرك صلى الله عليه وسلم نازلاً من عرفات حتى وصل المزدلفة، ومن المزدلفة أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم الفضل بن العباس بدلاً من أسامة، وأخذ أسامة يجري على رجليه يسابق المشاة والراكبين حتى وصل إلى منى، فأمسك بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يرمي جمرة العقبة. فيحدثنا أسامة والفضل -رضي الله عنهما- عن هذه الرحلة الكريمة، فيقول أسامة: تحرك ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة، فكان يسير سيراً عادياً هادئاً، لا بطيئاً ولا سريعاً، لعدم مزاحمة الناس، وكان يدعو الناس بالترفق في السير

والهوينى، بصوته مرة فيقول: عليكم بالسكينة، وبيده وبالإشارة أخرى. الرفق. الرفق، وبكفه ناقته عن الجري عملياً مرة ثالثة، فإذا وجد خلو طريق أسرع، فأسرع الناس خلفه، وهكذا حتى وصل إلى طريق بين جبلين بين عرفات ومزدلفة، فانتحى من القوم ناحية، ونزل، وقضى حاجته فبال، واستجمر، ثم جاء إلى أسامة فطلب ماء الوضوء، فصب عليه أسامة، فتوضأ وضوءاً خفيفاً سريعاً، ثم أنشأ يركب، قال له أسامة: لم نصل المغرب، وقد تحركنا من عرفة بعد الغروب؟ وقد علمتنا الصلاة في أول وقتها؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أذكرها لا أنساها، لكني سأصليها فيما بعد، كما شرع الله، وركب، وسار على هيئته السابقة حتى وصل المزدلفة مسافة تقرب من ثلاثة أميال، فأشار على الناس بالتوقف، لا بالنزول، فأناخ كل إنسان بعيره في مكانه، ولم يحل أمتعته، ولم ينزلها، لأنه لا يعلم ما سيكون بعد، نزول ومبيت؟ أم رحيل؟ وأذن وأقيم، وصلوا المغرب ثلاث ركعات، ثم أقيم للعشاء، فصلوا العشاء ركعتين قصراً، ولم يتنفلوا بين الصلاتين، ولا بعد العشاء، ثم أعلن فيهم أنهم يبيتون بالمزدلفة فأعدوا منازلهم، وحلوا فرشهم وزادهم وأمتعتهم، وناموا ليلتهم، واستيقظوا عند الفجر على الأذان، وقد كان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يصلي الفجر بأصحابه بعد فترة من الأذان، يكاد الضوء فيها يسفر، لكنهم فوجئوا بالإقامة تقام سريعاً، وبغلس وظلمة، حتى تخيل بعضهم أن الصبح المعتاد لم يدخل بعد، وصلوا، وطلب منهم أن يلتقطوا حصى الرمي من المزدلفة، حتى لا يشتغلوا عند وصولهم إلى منى بشيء قبل الرمي، ووصف لهم حجم الحصى أن يكون في حجم حبة الفول، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يلتقط له حصاه، ثم تحركوا من المزدلفة نحو منى، حتى وصلوا إلى وادي محسر وهو بين المزدلفة ومنى، فأسرعوا فيه السير. هذا ما كان من القوم بصفة عامة، أما بعض النساء والصبيان فقد أذن لهم بالرحيل من المزدلفة إلى منى في الليل، ليصلوا فيرموا قبل الزحام، استأذنت في ذلك أم المؤمنين سودة وبعض أمهات المؤمنين، لكن عائشة رضي الله عنها لم تستأذن، فلما شاهدت الزحام قالت: يا ليتني كنت فيمن استأذن، لكنها مع ندمها لم تكن تستأذن الإمام في حجاتها اللاحقة بل كانت تفضل النزول مع الإمام، أما اللائي رخص لهن فقد وصلن منى، منهن من وصلت قبل الفجر، فرمت جمرة العقبة قبل الفجر، ومنهن من وصلت فرمت بعد ذلك. وسئل أسامة والفضل عن أذكار رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء هذه الرحلة؟ فقالا: لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة كما سئل عبد الله بن عمر وأنس بن مالك عن تلبية الصحابة في غدوهم ورواحهم من منى إلى عرفات صبيحة يوم عرفة؟ فقالا: كان منا المهلل الملبي، ومنا المكبر، لا يعيب ولا ينكر أحدنا على صاحبه. رضي الله عن الصحابة أجمعين. -[المباحث العربية]- (ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفات) في رواية البخاري "أن أسامة كان ردف النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة إلى المزدلفة صلى الله عليه وسلم ثم أردف الفضل" مما يوضح روايتنا في أن أسامة ركب ردف النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أناخ وتوضأ، أما من المزدلفة إلى منى فكان الفضل ردف النبي صلى الله عليه وسلم، وسار أسامة على قدميه هذه

المسافة، ففي رواية عن أسامة "حتى جئنا المزدلفة، فأقام المغرب، ثم أناخ الناس في منازلهم، ولم يحلوا حتى أقام العشاء الآخرة، فصلى ثم حلوا، قال كريب: وكيف فعلتم حين أصبحتم؟ قال: ردفه الفضل بن العباس، وانطلقت أنا في سباق قريش على رجلي "ولا يلزم من هذا أن يكون أسامة لم يحضر رمي رسول الله صلى الله عليه وسلم جمرة العقبة، فقد يكون سبق إلى الجمرة، وانتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك، يؤيد هذا ما جاء عن أم الحصين قالت: "فرأيت أسامة بن زيد وبلالاً في حجة الوداع، وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم والآخر رافع ثوبه يستره من الحر، حتى رمى جمرة العقبة فرواية البخاري عن ابن عباس "أن أسامة بن زيد والفضل كلاهما قالا: لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى جمرة العقبة" هذه الرواية لا يحكم عليها بأنها مرسلة، بل هي متصلة. (فلما بلغ الشعب الأيسر) الشعب بكسر الشين وسكون العين هي الطريق في الجبل، واللام فيه هنا للعهد وهو بين عرفة والمزدلفة. (فصببت عليه الوضوء) بفتح الواو الماء الذي يتوضأ به، وقد يطلق في لغة ضم الواو على الماء الذي يتوضأ به أيضاً، وهي لغة ليست بشيء. (فتوضأ وضوءاً خفيفاً) أي خففه بأن توضأ مرة مرة بدل ثلاث، أو خفف استعمال الماء بالنسبة إلى غالب عادته صلى الله عليه وسلم، وهذا معنى قوله في الرواية التاسعة "ولم يسبغ الوضوء" وقوله في الرواية الحادية عشرة والثانية عشرة "فتوضأ وضوءاً ليس بالبالغ" وقال ابن عبد البر: معناه استنجى، وأطلق عليه اسم الوضوء لأنه من الوضاءة وهي النظافة، ومعنى الإسباغ الإكمال، أي لم يكمل وضوءه فيتوضأ للصلاة، قال: وقيل: إن معنى قوله "لم يسبغ الوضوء" أي لم يتوضأ في جميع أعضاء الوضوء، بل اقتصر على بعضها، فيكون وضوءاً لغوياً أيضاً، ويبعد هذين التأويلين أنه لا يقال للناقص خفيف، ثم إن قول أسامة "الصلاة" يدل على أنه رآه يتوضأ وضوء الصلاة، واحتمال أن مراد أسامة أتريد الصلاة؟ فلم تتوضأ وضوء الصلاة؟ احتمال بعيد، ثم إن قول أسامة "صببت عليه الوضوء فتوضأ "يبعد أن المراد بالوضوء الاستنجاء. (الصلاة يا رسول الله) منصوب على الإغراء. أي توضأت فالزم الصلاة، ويجوز الرفع، والتقدير: حانت الصلاة، وفي الرواية العاشرة "أتصلي"؟ . (الصلاة أمامك) مبتدأ وخبر، و"أمامك" مكاناً أو زماناً، أي في المكان أو الزمان الآتي بعد وفي الرواية العاشرة "المصلى أمامك". (فركب حتى أتى المزدلفة، فصلى) في الكلام طي محذوف، والأصل كما جاء في الرواية التاسعة "فلما جاء المزدلفة نزل، فتوضأ فأسبغ الوضوء، ثم أقيمت الصلاة". (ثم ردف الفضل رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي ركب الفضل خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، صبيحة المبيت بالمزدلفة.

(غداة جمع) الغداة الصباح، و"جمع" بفتح الجيم وسكون الميم اسم المزدلفة، أي غداة الليلة التي كانت بالمزدلفة. (حتى بلغ الجمرة) أل في "الجمرة" للعهد، أي جمرة العقبة. (عن الفضل بن عباس -وكان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال) أي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس حين دفعوا من عرفة عشية، وحين دفعوا من المزدلفة صباحاً. قال لهم في كل من الدفعين: عليكم بالسكينة أي الدفع بهدوء وراحة للدواب، وعدم الجري بها، وعدم التزاحم في السير. (وهو كاف ناقته) أي مانعها من الإسراع. (حتى دخل محسراً) بضم الميم وفتح الحاء وكسر السين المشددة، وهو واد في نطاق منى. (عليكم بحصى الخذف) وهو الحصى الذي في قدر حبة الباقلاء، والتي توضع بين السبابة والإبهام فترمى، والخذف بفتح الخاء وسكون الذال الرمي. (يشير بيده -كما يخذف الإنسان) أي قال: عليكم بحصى الخذف، موضحاً قوله بالفعل والإشارة، أي فارموا به الجمرة هكذا، ولم يرتض النووي هذا المعنى، وقال: المراد الإيضاح وزيادة البيان لحصى الخذف، وليس بياناً لهيئة الرمي. (سمعت الذي أنزلت عليه سورة البقرة) خصها بالذكر لأن معظم أحكام المناسك فيها، فكأنه قال: هذا مقام أنزلت عليه المناسك، وأخذ عنه الشرع، وبين الأحكام فاعتمدوه. (فقيل: أعرابي هذا؟ ) أنكروا عليه أن يلبي بعد الوقوف بعرفة، ونسبوه للأعراب الجهلة بأحكام مناسك الحج، وأخرج البيهقي أن عبد الله بن مسعود كان رجلاً أسمر اللون، له ضفيرتان، عليه سحنة أهل البادية، فلما لبى صبح يوم النحر اجتمع عليه الغوغاء، فقالوا: يا أعرابي. إن هذا ليس بيوم التلبية، إنما هو التكبير. (فمنا المكبر، ومنا المهلل) معناه ما جاء في الرواية قبله "منا الملبي، ومنا المكبر" فالمهل والمهلل الملبي، لأن الإهلال رفع الصوت بالتلبية. (ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت العشاء) توضيحه ما جاء في الرواية الثانية عشرة وفيها "حتى جئنا المزدلفة، فأقام المغرب، ثم أناخ الناس في منازلهم" أي كل أناخ في المكان الذي وقف فيه "ولم يحلوا" بضم الحاء، أي لم يفكوا أمتعتهم، ولم يحلوا رباط أزودتهم وفرشهم على احتمال السير بعد الصلاة "حتى أقام العشاء الآخرة فصلى" فأعلن لهم أنهم يبيتون "ثم حلوا" للمبيت. (انصرف إلى بعض تلك الشعاب لحاجته، فصببت عليه من الماء) في الكلام طي بينته الرواية الأولى "فبال، ثم جاء، فصببت .. " والرواية الرابعة عشرة.

(لما أتى النقب) بفتح النون وإسكان القاف، وهو الطريق في الجبل، وقيل: الفرجة بين الجبلين. (فمازال يسير على هيئته) التي كان يكف فيها ناقته عن الإسراع، قال النووي: هكذا هو في معظم النسخ، وفي بعضها "على هينة" بكسر الهاء وبالنون، وكلاهما صحيح المعنى. (سئل أسامة وأنا شاهد) أي وأنا حاضر السؤال. (كان يسير العنق، فإذا وجد فجوة نص) "العنق" بفتح العين والنون هو سير فوق البطيء، وقيل: هو أدنى المشي، وقيل: هو أوله، ومعنى "فإذا وجد فجوة" أي إذا وجد متسعاً من الأرض لا ناس به، قال النووي: ورواه بعض الرواة في الموطأ "فرجة" بضم الفاء وفتحها، وهي بمعنى الفجوة، والنص بفتح النون وتشديد الصاد الإسراع فوق العنق. (ليس بينهما سجدة) أي ليس بينهما صلاة نافلة، وفي رواية للبخاري "لم يسبح بينهما، ولا على إثر كل واحدة منهما". (إلا لميقاتها إلا صلاتين، صلاة المغرب، والعشاء بجمع، وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها) قال النووي: المراد قبل وقتها المعتاد، لا قبل طلوع الفجر لأن ذلك ليس بجائز بإجماع المسلمين، فيتعين تأويله على ما ذكرته. اهـ وقال العيني: أي أنه قدم الصبح على الوقت الظاهر طلوعه لكل أحد -كما هو العادة في أداء الصلاة- إلى غير المعتاد، وهو حال عدم ظهوره للكل، فمن قائل: طلع الصبح ومن قائل لم يطلع، وقد تحقق الطلوع لرسول الله صلى الله عليه وسلم إما بالوحي أو بغيره، والمراد أنه كان في سائر الأيام يصلي بعد الطلوع، وفي ذلك اليوم صلى حال الطلوع، قال الكرماني: والغرض أنه بالغ في ذلك اليوم في التبكير، للاشتغال بالمناسك. أما قوله: "صلاة المغرب والعشاء" فالمراد المغرب، لأنها التي صليت في غير ميقاتها، ولذا لم ترد لفظة العشاء عند البخاري في رواية، وقال في أخرى "جمع بين المغرب والعشاء"، فالمعنى الصلاة الأولى صلاة المغرب مع العشاء، والثانية صلاة الفجر. (ليلة المزدلفة) أي ليلة المبيت بالمزدلفة. (تدفع قبله) أي استأذنته في أن تدفع -أي تنزل إلى منى قبله، وفي الرواية الرابعة والعشرين "أن تفيض من جمع بليل". (وقبل حطمة الناس) بفتح الحاء وسكون الطاء، أي زحمة الناس. (وكانت امرأة ثبطة) بفتح الثاء، وكسر الباء وإسكانها، قال النووي: وفسرها -أي الراوي- في الكتاب -أي في الرواية الثالثة والعشرين- أنها الثقيلة، أي ثقيلة الحركة بطيئة، من التثبيط،

وهو التعويق. وفي الرواية الرابعة والعشرين "كانت امرأة ضخمة ثبطة" وفي الخامسة والعشرين "ثقيلة ثبطة". (فأذن لها) تفيد الرواية السابعة والعشرون أنه أذن كذلك لأم حبيبة أم المؤمنين رضي الله عنها. (وحبسنا حتى أصبحنا فدفعنا بدفعه) أي بدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم. (لأن أكون استأذنت- .... - أحب إلي من مفروح به) أي أحب إلي مما يفرح به من كل شيء. (وكانت عائشة لا تفيض إلا مع الإمام) فائدة هذه الجملة أن التمني الذي تمنته لم يجعلها تدفع قبل الإمام في حجاتها اللاحقة، بل آثرت الالتزام بما فعلته مع النبي صلى الله عليه وسلم على أنه الأفضل، وإن شق. (عند دار المزدلفة) أي عند دارها ومنزلها بالمزدلفة، ولفظ البخاري "عند المزدلفة". (هل غاب القمر؟ ) كان مغيب القمر تلك الليلة يقع عند أوائل الثلث الأخير ومن هذا الحديث اشترط بعض الفقهاء أن بداية الرمي النصف الثاني من الليل وسيأتي في الباب الذي يلي الباب الآتي. (فصلت ساعة) في رواية البخاري "فقامت تصلي، فصلت ساعة" أي مدة من الزمان. (يا بني) بضم الباء وفتح النون، تصغير ابن. (ثم صلت في منزلها) أي صلت الفجر في المنزل الذي ضرب لها بمنى، بعد أن رمت الجمرة. (أي هنتاه) "أي" حرف نداء أي يا هذه، يقال للمذكر إذا كني عنه "هن" وللمؤنث "هنة" وزيدت الألف لمد الصوت، والهاء لإظهار الألف، وهو بفتح الهاء وسكون النون، وقد تفتح، وإسكانها أشهر. (لقد غلسنا) بفتح الغين وتشديد اللام المفتوحة وسكون السين، أي لقد رمينا الجمرة بغلس، والغلس ظلمة الليل، وفي رواية أبي داود "فقلت: إنا رمينا الجمرة بغلس" أي وما كان يصح ذلك. (قالت: كلا) وفي ملحق الرواية "قالت: لا" والنفي ليس نفي التغليس، فهو واقع، وإنما المراد نفي لازمه، أي نفي عدم الصحة، أي إثبات الصحة، وعللته، بإذن النبي صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن أسماء كانت في آخر حياتها ضخمة ثقيلة عمياء. رضي الله عنها. (أذن للظعن) وفي ملحق الرواية "أذن لظعنه" بضم الظاء والعين، وبسكون العين أيضاً، جمع

ظعينة وهي النساء، وسميت النساء بذلك لأنهن يظعن ويقمن في بيوتهن في غياب أزواجهن، كما قيل: قعيدة البيت، و {والقواعد من النساء} [النور: 60]. أي كبيرات السن. (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثقل) بفتح الثاء والقاف، وهو المتاع ونحوه. (أو قال في الضعفة) بفتح العين، جمع ضعيف، وقال ابن حزم: الضعفة النساء والصبيان فقط، قال العيني، ويدخل فيه المشايخ العاجزون وأصحاب الأمراض، لأن العلة خوف الزحام عليهم. (أنا ممن قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضعفة أهله) أي ممن أذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الدفع من المزدلفة ليلاً باعتباره صبياً. (فيقفون عند المشعر الحرام) قيل اسم لقزح جبل بالمزدلفة، وقيل: جميع المزدلفة. (أرخص، في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم) في بعض الروايات "رخص" من الرخصة، والتي هي ضد العزيمة، وهو أظهر وأصح هنا من "أرخص" التي من الرخص ضد الغلاء. والمشار إليهم في أولئك الضعفة المذكورون. -[فقه الحديث]- هذه المجموعة من الأحاديث تتناول ست مسائل رئيسة: الأولى: الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة. الثانية: جمع المغرب والعشاء بالمزدلفة. الثالثة: المبيت بالمزدلفة، والتغليس بصلاة الصبح فيها. الرابعة: الترخيص للضعفة بالدفع بليل من المزدلفة إلى منى. الخامسة: التلبية والتكبير في الذهاب من منى إلى عرفات، وإدامة التلبية حتى يوم النحر، وحتى رمي جمرة العقبة. السادسة: ما يؤخذ من الأحاديث من أحكام غير ما تقدم. وهذا هو التفصيل: 1 - الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة: تبين الرواية السادسة عشرة كيف كان يسير صلى الله عليه وسلم حين أفاض من عرفة، وأنه كان يسير سيراً هادئاً على هيئة المشي العادي، دون إسراع، لعدم المزاحمة، ولعدم مضايقة المشاة والراكبين، فإذا وجد أمامه فسحة وفراغاً أسرع بالسير لينجز الشعائر، وليفسح الطريق لمن خلفه، وبخاصة إذا كان إماماً يتبعه الناس. وتوضح الرواية الثانية الأمر حين تقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول للناس في دفعهم من عرفة:

"عليكم بالسكينة"، وفي رواية أبي داود "أيها الناس، عليكم بالسكينة فإن البر ليس بالإيجاف" [أي ليس بالإسراع] ويستمد عمر بن عبد العزيز حين خطب بعرفة يستمد هذا المعنى فيقول: أيها الناس، ليس السابق من سبق بعيره وفرسه، ولكن السابق من غفر له. قال الراوي "فما رأيت ناقة رسول الله رافعة يدها، حتى أتى جمعاً" قال الحافظ ابن حجر: في هذا كيفية السير في الدفع من عرفة إلى المزدلفة، لأجل الاستعجال للصلاة لأن المغرب لا تصلى إلا مع العشاء بالمزدلفة، فيجمع بين المصلحتين، بين الوقار والسكينة عند الزحمة، وبين الإسراع عند عدم الزحام. أما ماذا فعل صلى الله عليه وسلم في الطريق؟ فتحدثنا الرواية الأولى والتاسعة والعاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة والثالثة عشرة والرابعة عشرة أنه صلى الله عليه وسلم لما بلغ الشعب الأيسر قبل المزدلفة أناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقته، ثم مال إلى مكان منخفض، فانتحى هناك، فبال، واستجمر، وعاد حيث ناقته، فطلب من أسامة ماء الوضوء، فصب عليه فتوضأ وضوءاً خفيفاً، فسأله أسامة: هل تصلي المغرب؟ قال: لا. الصلاة أمامك بالمزدلفة، وركب حتى أتى المزدلفة. قال الحافظ ابن حجر: هذا النزول كان لقضاء الحاجة، وليس من المناسك، لكن ابن عمر -رضي الله عنهما- وقد عرف بشدة التحري والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا وصل إلى هذا المكان نزل، وقضى حاجته، وتوضأ وضوءاً خفيفاً، ثم لا يصلي حتى يصل المزدلفة. 2 - جمع المغرب والعشاء بالمزدلفة: تحدثنا الرواية التاسعة والثانية عشرة أنه صلى الله عليه وسلم لما جاء المزدلفة نزل، فتوضأ، فأسبغ الوضوء، ثم أقيمت الصلاة، ونزل الناس عن رواحلهم وأناخوها، لكن لم يحلوا أمتعتهم، وصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب، ثم علموا أنهم سيبيتون بالمزدلفة، فعادوا إلى رواحلهم، فحلوا أمتعتهم وفرشهم، ثم أقيمت الصلاة للعشاء، فصلوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وظاهر الروايتين السابقتين أن الصلاتين كانتا بإقامتين "أقيمت الصلاة فصلى المغرب. ثم أقيمت العشاء فصلاها". "فأقام المغرب. ولم يحلوا حتى أقام العشاء الآخرة". لكن الرواية المتممة للعشرين والرواية الواحدة والعشرين تصرحان بأن الصلاتين كانتا بإقامة واحدة. ولم تتعرض روايات مسلم للأذان، لكن في البخاري، في حج عبد الله بن مسعود، "أنه رضي الله عنه أمر رجلاً فأذن وأقام" وفي رواية أخرى له أيضاً عن عبد الرحمن بن يزيد قال: خرجنا مع عبد الله رضي الله عنه إلى مكة، ثم قدمنا جمعاً فصلى الصلاتين، كل صلاة وحدها بأذان وإقامة، والعشاء بينهما" وأخذ بظاهر هذا الحديث مالك قال الحافظ ابن حجر: وهو اختيار البخاري، وروى ابن عبد البر عن أحمد بن خالد أنه كان يتعجب من مالك حيث أخذ بحديث ابن مسعود، وهو من رواية الكوفيين مع كونه موقوفاً، ومع كونه لم يروه، ويترك ما روي عن أهل المدينة، وهو مرفوع؟ . قال ابن عبد البر: وأعجب أنا من الكوفيين، حيث أخذوا بما رواه أهل المدينة، وهو أن يجمع بينهما بأذان وإقامة واحدة، وتركوا ما روي عن ابن مسعود، مع أنهم لا يعدلون به أحداً.

قال الحافظ ابن حجر: اعتمد مالك على صنيع عمر رضي الله عنه فقد روي عنه أنه فعله أخرجه الطحاوي، ثم تأوله بأنه محمول على أن الصحابة تفرقوا عنه، فأذن لهم، ليجتمعوا ليجمع بهم. قال الحافظ: ولا يخفى تكلفه، ولو تأتى له ذلك التأويل في حق عمر، لكونه كان الإمام الذي يقيم للناس حجهم لم يتأت له هذا التأويل في حق ابن مسعود لأنه إن كان معه ناس من أصحابه لا يحتاج في جمعهم إلى من يؤذن لهم. وحاصل المذاهب الفقهية في ذلك: مالك: يؤذن ويقيم لكل من الصلاتين، وحجته حديث ابن مسعود، وفعل عمر رضي الله عنه، قال ابن حزم: لم نجده مروياً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولو ثبت لقلت به. الحنفية والشافعي في القديم ورواية عن أحمد: أذان واحد وإقامتان، وسنده حديث جابر الماضي في باب وجوه الإحرام الرواية الخامسة والثلاثون، وفيه "جمع بينهما بأذان واحد وإقامتين" وبالقياس على جمع الظهر والعصر بعرفة. قال النووي: وهو الأصح في مذهبنا. الشافعي في الجديد ورواية عن أحمد: يجمع بينهما بإقامتين فقط، وسنده حديث أسامة، الروايتان التاسعة والثانية عشرة. ابن عمر رضي الله عنهما: يقيم فقط إقامة واحدة للصلاتين، كما جاء في الرواية المتممة للعشرين والواحدة والعشرين. قال الحافظ ابن حجر: وقد جاء عن ابن عمر كل واحد من هذه الصفات، أخرجه الطحاوي وغيره، وكأنه كان يراه من الأمر الذي يتخير فيه الإنسان، وهو المشهور عن أحمد. اهـ وفي الرواية الثامنة عشرة والمتممة للعشرين أن الصلاة كانت قصراً مع الجمع "صلى المغرب ثلاث ركعات، وصلى العشاء ركعتين". وتصرح الرواية التاسعة بعدم التنفل بين الصلاتين "فصلاها ولم يصل بينهما شيئاً" وكذا الرواية الثامنة عشرة، وفيها "ليس بينهما سجدة" وفي رواية للبخاري "ولم يسبح بينهما، ولا على إثر كل واحدة منهما" قال الحافظ ابن حجر: ويستفاد منه أنه ترك التنفل عقب المغرب، وعقب العشاء، ولما لم يكن بين المغرب والعشاء مهلة صرح بأنه لم يتنفل بينهما، بخلاف العشاء، فإنه يحتمل أن يكون المراد أنه لم يتنفل عقبها، لكنه تنفل بعد ذلك في أثناء الليل، ومن ثم قال الفقهاء: تؤخر سنة العشاءين عنهما، ونقل ابن المنذر الإجماع على ترك التطوع بين الصلاتين بالمزدلفة، لأنهم اتفقوا على أن السنة الجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة، ومن تنفل بينهما لم يصح أنه جمع بينهما اهـ قال الحافظ ويعكر على نقل الاتفاق فعل ابن مسعود رضي الله عنه وفي حكم الجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة يقول النووي في المجموع أجمع العلماء على جواز الجمع بينهما بمزدلفة في وقت العشاء للمسافر، فلو جمع بينهما في وقت المغرب، أو في غير المزدلفة جاز هذا

مذهبنا، وبه قال مالك وأحمد وأبو يوسف، وقال أبو حنيفة ومحمد وداود وبعض أصحاب مالك: لا يجوز أن يصليها قبل المزدلفة، ولا قبل وقت العشاء. قال: والخلاف مبني على أن هذا الجمع بالنسك؟ أم بالسفر؟ فعندنا بالسفر، وعند أبي حنيفة بالنسك، وقال في شرح مسلم: وقد يحتج أصحاب أبي حنيفة بحديث ابن مسعود [روايتنا الثانية والعشرين] على منع الجمع بين الصلاتين في السفر، لأن ابن مسعود من ملازمي النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أخبر أنه ما رآه يجمع إلا في هذه المسألة قال: ومذهبنا ومذهب الجمهور جواز الجمع في جميع الأسفار المباحة، التي يجوز فيها القصر والجواب عن هذا الحديث أنه قول بالمفهوم، وهم لا يقولون به، ونحن نقول بالمفهوم، ولكن إذا عارضه منطوق قدمناه على المفهوم، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بجواز الجمع، ثم هو متروك الظاهر بالإجماع في صلاتي الظهر والعصر بعرفات. اهـ وقال البدر العيني: لا خلاف في الجمع بين المغرب والعشاء في المزدلفة، ولكن الخلاف في هل هو للنسك؟ أو لمطلق السفر؟ أو للسفر الطويل؟ فمن قال للنسك قال: يجمع أهل مكة وأهل منى وعرفة والمزدلفة، ومن قال: لمطلق السفر قال: يجمعون سوى أهل المزدلفة، ومن قال: للسفر الطويل قال: لا يجمع أهل مكة ومنى والمزدلفة وجميع من كان بينه وبينها دون مسافة القصر، ويجمع من طال سفره. وفي هذا الجمع يقول سفيان الثوري: لا يصليهما حتى يأتي المزدلفة، وله السعة في ذلك إلى نصف الليل، فإن صلاهما دون المزدلفة أعاد، وكذا قال أبو حنيفة: إن صلاهما قبل أن يأتي المزدلفة فعليه الإعادة، وسواء صلاهما قبل مغيب الشفق أو بعده فعليه أن يعيدهما إذا أتى المزدلفة، وقال مالك: لا يصليهما أحد قبل المزدلفة إلا من عذر، فإن صلاهما من عذر لم يجمع بينهما حتى يغيب الشفق، وذهب الشافعية إلى أن هذا هو الأفضل لكنه إن جمع بينهما في وقت المغرب أو في وقت العشاء، بأرض عرفات أو غيرها، أو صلى كل صلاة في وقتها جاز ذلك. 3 - المسألة الثالثة المبيت بالمزدلفة والتغليس بصلاة الصبح: وفي ذلك تقول الرواية الثانية عشرة "حتى أقام العشاء الآخرة فصلى، ثم حلوا. قلت: فكيف فعلتم حين أصبحتم؟ قال ... إلخ" وتقول الرواية الثانية والعشرون "صلاة المغرب والعشاء يجمع، وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها" وفي رواية "قبل وقتها بغلس" وتقول الرواية الثالثة والعشرون "وحبسنا حتى أصبحنا، فدفعنا بدفعه" وحديث جابر رضي الله عنه [روايتنا الخامسة والثلاثون من باب وجوه الإحرام] فهذه الروايات تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم بات هو وأصحابه في حجة الوداع بالمزدلفة فيما عدا الضعفة الذين رخص لهم في الدفع من المزدلفة بليل، وفي هذا المبيت يقول النووي: واختلف العلماء في مبيت الحاج بالمزدلفة، ليلة النحر، والصحيح من مذهب الشافعي أنه واجب من تركه لزمه دم، وصح حجه، وبه قال فقهاء الكوفة وأصحاب الحديث وقالت طائفة: هو سنة، إن تركه فاتته الفضيلة، ولا إثم عليه، ولا دم، ولا غيره وهو قول الشافعي، وبه قال جماعة، وقالت طائفة: لا يصح حجه، وهو محكى عن النخعي وغيره، وحكي

عن عطاء والأوزاعي أن المبيت بالمزدلفة في هذه الليلة ليس بركن ولا واجب ولا سنة، ولا فضيلة فيه، بل هو منزل كسائر المنازل، إن شاء تركه، وإن شاء لم يتركه. وهذا قول باطل. قال: واختلفوا في قدر المبيت الواجب، فالصحيح عند الشافعي أنه ساعة في النصف الثاني من الليل، وفي قول له: ساعة من النصف الثاني أو ما بعده إلى طلوع الشمس، وفي قول ثالث له أنه معظم الليل، وعن مالك ثلاث روايات، إحداها كل الليل والثاني معظمه، والثالث أقل زمان. اهـ قال الحافظ ابن حجر: قال مالك: إن مر بها فلم ينزل فعليه دم، وإن نزل فلا دم عليه متى دفع. كما تفيد الرواية الثانية والعشرون أن النبي صلى الله عليه وسلم غلس بصلاة الصبح، أي صلاها والظلمة في الأفق، وقد وضحنا في المباحث العربية المراد من صلاة الصبح قبل ميقاتها والمهم أن استحباب الصلاة في أول الوقت في هذا اليوم أشد وآكد، لكثرة المناسك فيه فيحتاج إلى المبالغة في التبكير في أول طلوع الفجر، ليتسع الوقت لفعل المناسك. 4 - المسألة الرابعة الترخيص للضعفة بالدفع ليلاً من المزدلفة إلى منى، وتتحدث عنها الروايات الثالثة والعشرون وما بعدها. ولم تبين رواياتنا متى أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من المزدلفة إلى منى، لكن في البخاري عن عمرو بن ميمون قال: "شهدت عمر رضي الله عنه صلى بجمع الصبح، ثم وقف فقال: إن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس، وإن النبي صلى الله عليه وسلم خالفهم، ثم أفاض قبل أن تطلع الشمس" وتوضح لنا رواية جابر رضي الله عنه روايتنا الخامسة والثلاثون من باب وجوه الإحرام، توضح لنا كيف ومتى أفاض صلى الله عليه وسلم، فتقول "ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر، وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعاه وكبره، وهلله ووحده، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً فدفع قبل أن تطلع الشمس". قال النووي: السنة عندنا أن يبقى بمزدلفة حتى يطلع الفجر، إلا الضعفة، فيستحب لهم الدفع قبل الفجر، فإن دفع غير الضعفة قبل الفجر بعد نصف الليل جاز، ولا دم. هذا مذهبنا، وبه قال مالك وأحمد، وقال أبو حنيفة: لا يجوز الدفع قبل طلوع الفجر، فإن دفع قبل الفجر لزمه دم. ثم قال: ومذهبنا أنه يستحب أن يقف بعد صلاة الصبح على قزح "المشعر الحرام" ولا يزال واقفاً به، يدعو ويذكر حتى يسفر الصبح جداً، وهو قول عامة العلماء غير مالك، فإنه كان يرى أن يدفع منه قبل الإسفار، دليلنا حديث جابر السابق وهو صحيح. اهـ ثم قال: قال الشافعي والأصحاب: السنة تقديم الضعفاء من النساء وغيرهن من المزدلفة قبل طلوع الفجر، بعد نصف الليل إلى منى، ليرموا جمرة العقبة قبل زحمة الناس لحديث عائشة وحديث ابن عباس وابن عمر وأسماء وأم حبيبة [رواياتنا الثالثة والعشرين وما بعدها]. 5 - المسألة الخامسة التلبية والتكبير من منى إلى عرفات، ومن عرفات إلى منى أما من منى إلى عرفات فتتحدث عنه روايتنا الخامسة والسادسة عن عبد الله بن عمر والسابعة والثامنة عن أنس بن مالك، وفيها "منا الملبي، ومنا المكبر" "فمنا المكبر، ومنا

المهلل". "كان يهل المهل منا فلا ينكر عليه، ويكبر المكبر منا، فلا ينكر عليه". "فمنا المكبر ومنا المهلل، ولا يعيب، أحدنا على صاحبه". قال النووي: في ذلك دليل على استحباب التلبية والتكبير في الذهاب من منى إلى عرفات يوم عرفة، والتلبية أفضل، وفيه رد على من قال بقطع التلبية بعد صبح يوم عرفة. وأما عن دوام التلبية إلى رمي جمرة العقبة فتتحدث عنه الرواية الأولى، فتقول "لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى الجمرة" والرواية الثالثة تقول "ونحن بجمع سمعت الذي أنزلت عليه سورة البقرة يقول في هذا المقام: لبيك اللهم لبيك" ومثل ذلك في الرواية الرابعة وملحقها. قال الحافظ ابن حجر: وفي هذا أن التلبية تستمر إلى رمي الجمرة يوم النحر وبعدها يشرع الحاج في التحلل، وروى ابن المنذر بإسناد صحيح عن ابن عباس أنه كان يقول: "التلبية شعار الحج، فإن كنت حاجاً فلب حتى بدء حلك، وبدء حلك أن ترمي جمرة العقبة" وروى سعيد بن منصور من طريق ابن عباس قال: حججت مع عمر إحدى عشرة حجة، وكان يلبي حتى يرمي جمرة العقبة". وباستمرارها إلى رمي جمرة العقبة قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأحمد وإسحق وأتباعهم. وقالت طائفة: يقطع المحرم التلبية إذا دخل الحرم، وهو مذهب ابن عمر، لكن كان يعاود التلبية إذا خرج من مكة إلى عرفة. وقالت طائفة: يقطعها إذا راح الموقف، روي عن عائشة وسعد بن أبي وقاص وعلي وبه قال مالك، وقيده بزوال الشمس يوم عرفة، وقال الحسن البصري: يلبي حتى يصلي الصبح يوم عرفة، ثم يقطع. وأشار الطحاوي إلى أن كل من روى عنه ترك التلبية من يوم عرفة أنه تركها للاشتغال بغيرها من الذكر، لا على أنها لا تشرع، وجمع بذلك بين ما اختلف من الآثار. واختلفوا أيضاً: هل يقطع التلبية مع رمي أول حصاة؟ أو عند تمام الرمي، فذهب إلى الأول الجمهور، وإلى الثاني أحمد وبعض أصحاب الشافعي. قال الحافظ ابن حجر: ويدل لهم ما روى ابن خزيمة عن ابن عباس عن الفضل قال: "أفضت مع النبي صلى الله عليه وسلم من عرفات، فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة، يكبر مع كل حصاة، ثم قطع التلبية مع آخر حصاة" قال ابن خزيمة: هذا حديث، مفسر لما أبهم في الروايات الأخرى، وأن المراد بقوله "حتى رمى جمرة العقبة" [في ملحق روايتنا الثانية] أي أتم رميها. والله أعلم. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - من الرواية الأولى، من قوله "ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفات" استحباب الركوب في الدفع من عرفات. 2 - وجواز الإرداف على الدابة، إذا كانت مطيقة. 3 - وجواز الارتداف مع أهل الفضل، ولا يكون ذلك خلاف الأدب.

4 - وفي قوله "فصببت عليه الوضوء فتوضأ وضوءاً خفيفاً جواز الاستعانة في الوضوء، قال الشافعية: الاستعانة ثلاثة أقسام: أحدها أن يستعين في إحضار الماء من البئر والبيت ونحوهما، وتقديمه إليه، وهذا جائز، ولا يقال: إنه خلاف الأولى. والثاني أن يستعين بمن يغسل الأعضاء، فهذا مكروه كراهة تنزيه، إلا أن يكون معذوراً بمرض أو غيره، الثالث: أن يستعين بمن يصب عليه، فإن كان لعذر فلا بأس، وإلا فهو خلاف الأولى، وهل يسمى مكروهاً؟ وجهان، أصحهما ليس بمكروه، لأنه لم يثبت فيه نهي، وأما استعانة النبي صلى الله عليه وسلم بأسامة والمغيرة بن شعبة في غزوة تبوك فلبيان الجواز، ويكون أفضل في حقه حينئذ، لأنه مأمور بالبيان. 5 - وفي قوله: "الصلاة. يا رسول الله "استحباب تذكير التابع المتبوع بما تركه خلاف العادة، ليفعله، أو يعتذر عنه، أو يبين له وجه صوابه. 6 - ومن قوله: "الصلاة أمامك" أن السنة في هذا الموضع في هذه الليلة تأخير المغرب. 7 - ومن قوله "عليكم بالسكينة، وكفه ناقته صلى الله عليه وسلم" السنة وأدب السير في مواضع الزحام. 8 - ومن قوله "سورة البقرة" جواز قول سورة كذا، وكره ذلك بعض الأوائل، وقال: إنما يقال: السورة التي تذكر فيها البقرة مثلاً. والصواب جواز قول ذلك. بهذا قال "جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وتظاهرت الأحاديث الصحيحة. وفي الباب الآتي تعرض لهذه المسألة. 9 - ومن قوله "نزل، فبال" جواز استعمال الألفاظ التي تستبشع، ولا يكنى عنها إذا دعت الحاجة إلى التصريح، بأن خيف لبس المعنى أو اشتباه الألفاظ أو غير ذلك. 10 - ومن قوله في الرواية الحادية عشرة "ولم يقل أراق الماء" دقة الرواة، وتحريهم الألفاظ المروية ما أمكن. 11 - وفي الرواية الثانية عشرة، في قوله "جئنا الشعب الذي ينيخ الناس فيه للمغرب" الإشارة إلى أن هؤلاء الناس لا يعلمون بالسنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينزل فيه للمغرب، وفي رواية "لما أتى الشعب الذي ينزل له الأمراء" وفي أخرى "فلما جاء الشعب الذي يصلي فيه الخلفاء الآن المغرب نزل" قال الحافظ ابن حجر: المراد بالخلفاء والأمراء والناس بنو أمية، ولم يوافقهم ابن عمر على ذلك، وقد جاء عن عكرمة إنكار ذلك، وروي عنه أنه قال: اتخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم مبالاً، واتخذتموه مصلى؟ . 12 - وفي قوله "حتى أقام العشاء الآخرة" دليل لصحة إطلاق العشاء الآخرة، قال النووي: وأما إنكار الأصمعي وغيره ذلك، وقولهم: إنه من لحن العوام، وأن صوابه العشاء فقط، ولا يجوز وصفها بالآخرة، قولهم هذا غلط منهم، بل الصواب جوازه، وهذا الحديث صريح فيه، وقد تظاهرت به أحاديث كثيرة. 13 - وفي الرواية السادسة والعشرين جواز رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس، وستأتي المذاهب الفقهية في ذلك.

(338) باب رمي جمرة العقبة والذبح والحلق وطواف الإفاضة

(338) باب رمي جمرة العقبة والذبح والحلق وطواف الإفاضة 2765 - عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: رمى عبد الله بن مسعود جمرة العقبة، من بطن الوادي، بسبع حصيات. يكبر مع كل حصاة. قال فقيل له: إن أناساً يرمونها من فوقها. فقال عبد الله بن مسعود: هذا، والذي لا إله غيره! مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة. 2766 - عن الأعمش. قال: سمعت الحجاج بن يوسف يقول، وهو يخطب على المنبر: ألفوا القرآن كما ألفه جبريل. السورة التي يذكر فيها البقرة. والسورة التي يذكر فيها النساء. والسورة التي يذكر فيها آل عمران. قال: فلقيت إبراهيم فأخبرته بقوله. فسبه وقال: حدثني عبد الرحمن بن يزيد؛ أنه كان مع عبد الله بن مسعود. فأتى جمرة العقبة. فاستبطن الوادي. فاستعرضها. فرماها من بطن الوادي بسبع حصيات. يكبر مع كل حصاة. قال فقلت: يا أبا عبد الرحمن! إن الناس يرمونها من فوقها. فقال: هذا، والذي لا إله غيره! مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة. 2767 - وعن الأعمش. قال: سمعت الحجاج يقول: لا تقولوا سورة البقرة. واقتصا حديث ابن مسهر. 2768 - عن عبد الرحمن بن يزيد؛ أنه حج مع عبد الله. قال: فرمى الجمرة بسبع حصيات. وجعل البيت عن يساره. ومنى عن يمينه. وقال: هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة. 2769 - عن شعبة بهذا الإسناد. غير أنه قال: فلما أتى جمرة العقبة. 2770 - عن عبد الرحمن بن يزيد. قال: قيل لعبد الله: إن ناساً يرمون الجمرة

من فوق العقبة. قال: فرماها عبد الله من بطن الوادي. ثم قال: من ها هنا، والذي لا إله غيره! رماها الذي أنزلت عليه سورة البقرة. 2771 - عن جابر رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر ويقول "لتأخذوا مناسككم. فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه". 2772 - عن أم الحصين رضي الله عنها قالت: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع. فرأيته حين رمى جمرة العقبة وانصرف وهو على راحلته. ومعه بلال وأسامة. أحدهما يقود به راحلته. والآخر رافع ثوبه على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشمس. قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً كثيراً. ثم سمعته يقول: "إن أمر عليكم عبد مجدع (حسبتها قالت) أسود، يقودكم بكتاب الله تعالى، فاسمعوا له وأطيعوا". 2773 - عن أم الحصين رضي الله عنها، قالت: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع. فرأيت أسامة وبلالاً. وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم. والآخر رافع ثوبه يستره من الحر. حتى رمى جمرة العقبة. 2774 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة. بمثل حصى الخذف. 2775 - عن جابر رضي الله عنه قال: رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة يوم النحر ضحى. وأما بعد، فإذا زالت الشمس.

2776 - عن جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الاستجمار تو. ورمي الجمار تو. والسعي بين الصفا والمروة تو. والطواف تو. وإذا استجمر أحدكم فليستجمر بتو". 2777 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلق طائفة من أصحابه. وقصر بعضهم. قال عبد الله: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "رحم الله المحلقين" مرة أو مرتين ثم قال "والمقصرين". 2778 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "اللهم! ارحم المحلقين" قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال "اللهم ارحم المحلقين" قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال "والمقصرين". 2779 - عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "رحم الله المحلقين" قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال "رحم الله المحلقين" قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال "رحم الله المحلقين" قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال "والمقصرين". 2780 - حدثنا عبيد الله بهذا الإسناد. وقال في الحديث: فلما كانت الرابعة، قال "والمقصرين". 2781 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اللهم اغفر للمحلقين" قالوا: يا رسول الله! وللمقصرين؟ قال "اللهم اغفر للمحلقين"

قالوا: يا رسول الله! وللمقصرين؟ قال "اللهم اغفر للمحلقين" قالوا: يا رسول الله! وللمقصرين؟ قال "وللمقصرين". 2782 - عن يحيى بن الحصين، عن جدته؛ أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، في حجة الوداع، دعا للمحلقين ثلاثاً. وللمقصرين مرة. ولم يقل وكيع: في حجة الوداع. 2783 - عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلق رأسه في حجة الوداع. 2784 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى منى. فأتى الجمرة فرماها. ثم أتى منزله بمنى ونحر. ثم قال للحلاق "خذ" وأشار إلى جانبه الأيمن. ثم الأيسر. ثم جعل يعطيه الناس. 2785 - عن هشام بهذا الإسناد أما أبو بكر فقال: للحلاق "ها" وأشار بيده إلى الجانب الأيمن هكذا. فقسم شعره بين من يليه. قال: ثم أشار إلى الحلاق وإلى الجانب الأيسر. فحلقه فأعطاه أم سليم. وأما في رواية كريب قال: فبدأ بالشق الأيمن. فوزعه الشعرة والشعرتين بين الناس. ثم قال بالأيسر فصنع به مثل ذلك. ثم قال "ها هنا أبو طلحة؟ " فدفعه إلى أبي طلحة. 2786 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة. ثم انصرف إلى البدن فنحرها. والحجام جالس. وقال بيده عن رأسه. فحلق شقه الأيمن فقسمه فيمن يليه. ثم قال "احلق الشق الآخر" فقال "أين أبو طلحة؟ " فأعطاه إياه. 2787 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة. ونحر نسكه وحلق. ناول الحالق شقه الأيمن فحلقه. ثم دعا أبا طلحة الأنصاري فأعطاه إياه. ثم ناوله الشق الأيسر. فقال "احلق" فحلقه. فأعطاه أبا طلحة. فقال "اقسمه بين الناس".

2788 - عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حجة الوداع، بمنى، للناس يسألونه. فجاء رجل فقال: يا رسول الله! لم أشعر، فحلقت قبل أن أنحر. فقال "اذبح ولا حرج" ثم جاءه رجل آخر فقال: يا رسول الله! لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي. فقال "ارم ولا حرج". قال: فما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم ولا أخر، إلا قال "افعل ولا حرج". 2789 - عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته. فطفق ناس يسألونه. فيقول القائل منهم: يا رسول الله! إني لم أكن أشعر أن الرمي قبل النحر، فنحرت قبل الرمي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فارم ولا حرج" قال: وطفق آخر يقول: إني لم أشعر أن النحر قبل الحلق، فحلقت قبل أن أنحر. فيقول: "انحر ولا حرج" قال: فما سمعته يسأل يومئذ عن، أمر مما ينسى المرء ويجهل، من تقديم بعض الأمور قبل بعض، وأشباهها، إلا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "افعلوا ذلك ولا حرج". 2790 - عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم، بينا هو يخطب يوم النحر، فقام إليه رجل فقال: ما كنت أحسب، يا رسول الله! أن كذا وكذا، قبل كذا وكذا. ثم جاء آخر فقال: يا رسول الله! كنت أحسب أن كذا، قبل كذا وكذا. لهؤلاء الثلاث. قال "افعل ولا حرج". 2791 - عن ابن جريج بهذا الإسناد أما رواية ابن بكر فكرواية عيسى. إلا قوله: لهؤلاء الثلاث، فإنه لم يذكر ذلك. وأما يحيى الأموي ففي روايته: "حلقت قبل أن أنحر. نحرت قبل أن أرمي. وأشباه ذلك؟ ".

2792 - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح. قال "فاذبح ولا حرج" قال: ذبحت قبل أن أرمي. قال "ارم ولا حرج". 2793 - عن الزهري بهذا الإسناد: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقة بمنى. فجاءه رجل". بمعنى حديث عيينة. 2794 - عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتاه رجل يوم النحر، وهو واقف عند الجمرة. فقال: يا رسول الله! إني حلقت قبل أن أرمي. فقال "ارم ولا حرج". وأتاه آخر فقال: إني ذبحت قبل أن أرمي. قال "ارم ولا حرج" وأتاه آخر فقال: إني أفضت إلى البيت قبل أن أرمي. قال "ارم ولا حرج". قال: فما رأيته سئل يومئذ عن شيء، إلا قال "افعلوا ولا حرج". 2795 - عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: في الذبح، والحلق، والرمي، والتقديم، والتأخير، فقال: "لا حرج". 2796 - عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر. ثم رجع فصلى الظهر بمنى. قال نافع: فكان ابن عمر يفيض يوم النحر. ثم يرجع فيصلي الظهر بمنى. ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله. -[المعنى العام]- أعمال الحج يوم النحر، بعد الدفع من المزدلفة أربعة أعمال، رمي جمرة العقبة، ثم نحر الهدي، ثم الحلق أو التقصير، ثم الدخول إلى مكة لطواف الإفاضة، والسعي بعده إن لم يكن سعى بعد طواف القدوم، والسنة في هذه الأعمال الأربعة أن تكون مرتبة، كما رتبها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقد دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته من المزدلفة حتى أتى منى، فكان أول شيء فعله أن دخل بطن الوادي الذي به جمرة العقبة، وهو راكب ناقته، وبلال وأسامة -رضي الله عنهما- معه، أحدهما يمسك بزمام الناقة يقودها، والآخر رافع ثوباً على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، يظلله من الشمس، حتى رمى جمرة العقبة بسبع حصيات، يكبر عند كل حصاة، ثم وقف قريباً من الجمرة يسأله الناس، ويجيبهم، ويعظهم، وكان فيما قال لهم: خذوا عني مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا، واسمعوا لأمرائكم وأطيعوا، وإن أمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة، مادام يقودكم بكتاب الله. ثم أتى منزله صلى الله عليه وسلم بمنى، ثم نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم نسكه، ثم دعا الحلاق، فجلس وحلق، حلق شق رأسه الأيمن، ووزع شعره على من يليه من أصحابه، الشعرة والشعرتين، وحلق الشق الأيسر، فدعا أبا طلحة، وطلب منه أن يوزع شعره بين الناس. وحلق بعض أصحابه صلى الله عليه وسلم، وقصر بعضهم ورغب صلى الله عليه وسلم في الحلق، فقال رحم الله المحلقين. قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: رحم الله المحلقين. قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: رحم الله المحلقين. قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: والمقصرين. ولم يراع بعض الصحابة ترتيبه صلى الله عليه وسلم للأمور الأربعة، معتقدين أن الترتيب غير لازم، لكنهم لما علموا ترتيبه صلى الله عليه وسلم خافوا على صحة مناسكهم فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول أحدهم: يا رسول الله، لم أشعر فحلقت قبل أن أنحر؟ فقال له: اذبح ولا حرج عليك، ويقول آخر: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي؟ فقال له: ارم، ولا حرج عليك، ويقول ثالث: حلقت قبل أن أرمي؟ فقال له: ارم ولا حرج، ويقول رابع: أفضت إلى البيت، وطفت، وسعيت قبل أن أرمي؟ فقال له: ارم ولا حرج. فما سئل صلى الله عليه وسلم عن شيء من هذه الأربع قدم أو أخر إلا قال: افعل ولا حرج. ثم دخل صلى الله عليه وسلم مكة ضحى فطاف بالبيت، ثم رجع إلى منزله بمنى فصلى الظهر بمنى. وهكذا رسم رسول الله صلى الله عليه وسلم مناسك يوم النحر، وأوضحها لأمته قولاً وعملاً أوضح بيان صلى الله عليه وسلم. -[المباحث العربية]- (جمرة العقبة) وتسمى الجمرة الكبرى، وهي ليست من منى، بل هي حد منى من جهة مكة، وهي أخر الجمرات الثلاث بالنسبة إلى المتوجه إلى مكة من منى وهي التي بايع النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار عندها على الهجرة، والجمرة اسم لمجتمع الحصى، سميت بذلك لاجتماع الناس بها، يقال: تجمر بنو فلان إذا اجتمعوا، وقيل: إن العرب تسمي الحصى الصغار جماراً فسميت، من تسمية الشيء بلازمه. (من بطن الوادي) أي وقف في بطن الوادي، واستقبل الجمرة، ورماها من أسفل إلى أعلى،

وفي الرواية الثانية "فاستبطن الوادي، أي دخل في بطنه"، وفي الرواية الثالثة "وجعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه" وفي رواية للترمذي "واستقبل القبلة" قال الحافظ ابن حجر: وهذا شاذ، في إسناده المسعودي، وقد اختلط. (إن أناساً يرمونها من فوقها) في الرواية الثانية "إن الناس" وفي الرواية الرابعة "إن ناساً" والمراد من قوله: "من فوقها" أي من أعلى، أي من فوق العقبة، فيكون الرامي أعلى من الجمرة. (والذي لا إله غيره) حلف ابن مسعود هنا لتأكيد الخبر لمن في حكم المنكرين لفعلهم خلاف ما فعله الشارع. (مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة) أي هذا المكان الذي وقفت فيه هو المكان الذي قام ووقف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر ابن مسعود سورة البقرة دون غيرها من السور، وإن كان أنزل عليه كل السور لأنها المشتملة على معظم مناسك الحج، فكأنه قال: من هنا رمى من أنزل عليه أمور المناسك وأخذ عنه الشرع، فهو أولى وأحق بالاتباع. (سمعت الحجاج بن يوسف) الثقفي، الأمير المشهور. قال الحافظ ابن حجر: ولم يقصد الأعمش أن يروي عن الحجاج، فلم يكن بأهل لذلك، وإنما أراد أن يحكي القصة ويوضح خطأ الحجاج فيها بما ثبت عمن يرجع إليه في ذلك، بخلاف الحجاج. (ألفوا القرآن كما ألفه جبريل) أي كونوا كلماته، وركبوا جمله وآياته، بنفس التكوين والتركيب الذي ركبه جبريل عليه السلام وليس فيه "سورة البقرة" و"سورة النساء" فينبغي أن يقال: السورة التي يذكر فيها كذا، ولا تقولوا: سورة البقرة. (السورة التي يذكر فيها البقرة) ذكره النساء قبل آل عمران يفيد أنه لا يقصد ترتيب السور، وإنما يقصد ترتيب الآيات، فإن المصحف الذي يتبعه مصحف عثمان رضي الله عنه ولو قصد ترتيب السور لذكر آل عمران قبل النساء. (يرمي على راحلته يوم النحر) وفي الرواية السادسة "فرأيته حين رمى جمرة العقبة، وانصرف، وهو على راحلته" وفي الرواية السابعة "وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم" وفي الرواية الواحدة والعشرين "وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى الناس يسألونه" وفي الرواية الثانية والعشرين "وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته، فطفق ناس يسألونه" وفي الرواية الثالثة والعشرين "بينا هو يخطب يوم النحر" وفي ملحق الرابعة والعشرين "على ناقة بمنى" وفي الخامسة والعشرين "وهو واقف عند الجمرة". ومن الواضح أنه صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة راكباً راحلته التي هي ناقته جالساً عليها، ولكن المشكلة في اختلاف الروايات في موقفه صلى الله عليه وسلم، وسؤال الناس له، وهل كان على

الراحلة أولاً؟ وهل كان يخطب؟ أو كان يتلقى الأسئلة فقط ويجيب؟ وهل هو موقف واحد اختلف التعبير عنه؟ أو موقفان؟ وهل كانت هذه الأسئلة عند رمي جمرة العقبة صبحاً؟ أو بعد الزوال؟ . ظاهر صنيع البخاري وترجمته بقوله: "باب الفتيا على الدابة عند الجمرة" أنها كانت فتيا له لا خطبة، وأنها كانت على الدابة، وأنها كانت عند الجمرة، فمعنى "واقف عند الجمرة" أي واقف براحلته، متوقف عن المسير، وليس الوقوف ضد الجلوس، ومعنى "وقف على راحلته" جلس عليها، متوقفاً عن المسير، ومعنى "يخطب" يعلم الناس، وليس المراد الخطب المشروعة في الحج، والموقف واحد على هذا التأويل. ويميل الحافظ ابن حجر إلى أنهما موقفان، فيقول: ويحتمل أن يكون ذلك في موطنين، أحدهما على راحلته عند الجمرة، ولم يقل في هذا: خطب، والثاني يوم النحر بعد صلاة الظهر، وذلك وقت الخطبة المشروعة من خطب الحج، يعلم الإمام فيها الناس ما بقي عليهم من مناسكهم، وصوب النووي هذا الاحتمال الثاني، ويؤيده ما جاء في رواية ابن عباس "أن بعض السائلين قال، رميت بعد ما أمسيت" وهذا يدل على أن هذه القصة كانت بعد الزوال، لأن المساء يطلق على ما بعد الزوال، وكأن السائل علم أن السنة للحاج أن يرمي الجمرة أول ما يقدم ضحى، فلما أخرها إلى ما بعد الزوال سأل عن ذلك. (لتأخذوا مناسككم) قال النووي: هذه اللام لام الأمر، ومعناه خذوا مناسككم وهكذا وقع في رواية غير مسلم، وتقديره: هذه الأمور التي أتيت بها في حجتي من الأقوال والأفعال والهيئات هي أمور الحج وصفته وهي مناسككم، فخذوها عني، واقبلوها واحفظوها، واعملوا بها، وعلموها الناس. (والآخر رافع ثوبه على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشمس) يتصور أن يظلل الواقف على الأرض من هو راكب على الناقة الواقفة بأن يرفع الثوب ونحوه على عصا طويلة. (عبد مجدع أسود) "مجدع" بضم الميم وفتح الجيم وتشديد الدال المفتوحة والجدع القطع من أصل العضو، ولمسلم في كتاب الإجارة "عبد مجدع الأطراف" وفيه "عبد حبشي" وفي البخاري "كأن رأسه زبيبة" ومقصوده التنبيه على الخسة والحقارة وبشاعة الصورة وعدم الاعتداد بها، قال النووي: ومن هذه الصفات مجموعة فيه فهو في نهاية الخسة، والعادة أن يكون ممتهناً في أرذل الأعمال، فأمر صلى الله عليه وسلم بطاعة ولي الأمر، ولو كان بهذه الخساسة، مادام يقودنا بكتاب الله تعالى، قال العلماء: ماداموا متمسكين بالإسلام والدعاء إلى كتاب الله تعالى، على أي حال كانوا في أنفسهم وأديانهم وأخلاقهم ولا يشق عليهم عصا الطاعة بل إذا ظهرت منهم المنكرات وعظوا وذكروا، قال: والمراد بعض الولاة الذين يوليهم الخليفة ونوابه، لا أن الخليفة يكون عبداً، قال الخطابي: قد يضرب المثل بما لا يقع في الوجود. (رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة يوم النحر ضحى، وأما بعد فإذا زالت الشمس) جمرة يوم النحر هي جمرة العقبة، وقوله "وأما بعد" أي وأما رمي الجمرات التي بعد يوم النحر فبعد الزوال.

(الاستجمار تو، ورمي الجمار تو) "التو" بفتح التاء وتشديد الواو الوتر، والمراد بالاستجمار تجفيف البول والغائط بالحجارة، قال القاضي: وقوله في آخر الحديث: "وإذا استجمر أحدكم فليستجمر بتو" ليس للتكرار، بل يقصد بالأول الفعل، وبالثاني عدد الأحجار. اهـ وفي توجيه القاضي نظر، لأنه يتأتى هذا أيضاً في الرمي، فلم لم يكرره والأولى أن يقال: إن التكرير للحث والاهتمام بهذا الأمر خاصة، لأنه قد يتهاون فيه مع تكرره اليومي بخلاف غيره، فالجملة الأولى أريد بها الإخبار، والجملة الثانية طلبية أريد بها الحث والاهتمام. (رحم الله المحلقين ... والمقصرين) قال النووي: كل هذا كان في حجة الوداع. هذا هو الصحيح المشهور، وحكى القاضي عياض عن بعضهم أن هذا كان يوم الحديبية حين أمرهم بالحلق، فما فعله أحد، لطمعهم بدخول مكة في ذلك الوقت، وذكر ابن عباس -رضي الله عنهما- قال "حلق رجال يوم الحديبية، وقصر آخرون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم ارحم المحلقين (ثلاثاً) قيل: يا رسول الله، ما بال المحلقين ظاهرت لهم بالترحم؟ قال: لأنهم لم يشكوا" قال ابن عبد البر: وكونه في الحديبية هو المحفوظ. قال القاضي قد ذكر مسلم في الباب خلاف ما قالوه، وإن كانت أحاديثه جاءت مجملة غير مفسرة، حيث جاء في حديث أم الحصين [روايتنا الخامسة عشرة] أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم دعا في حجة الوداع للمحلقين (ثلاثاً) وللمقصرين (مرة واحدة). ثم قال: ولا يبعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله في الموضعين وقال الحافظ ابن حجر: وجزم بأن ذلك كان في الحديبية إمام الحرمين في النهاية وقال عياض: كان في الموضعين، وقال ابن دقيق العيد: إنه الأقرب، قال الحافظ ابن حجر: بل هو المتعين، لتظاهر الروايات بذلك في الموضعين، إلا أن السبب في الموضعين مختلف. اهـ ولعل السر في تفضيل المحلقين أن العرب كانت تحب توفير الشعر والتزين به، فكان من مناسك الحج التخلي عن هذه الزينة بالحلق الذي يبقى أثره شعاراً لعبادة العمر مدة طويلة. والله أعلم. و"المقصرين" في سؤالهم معطوف على محذوف، تقديره: قل: رحم الله المحلقين والمقصرين، ويسمى مثل هذا بالعطف التلقيني، كقوله تعالى {إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي} [البقرة: 124]. و"المقصرين" في جوابه صلى الله عليه وسلم معطوف على محذوف أيضاً، تقديره: رحم الله المحلقين والمقصرين" وقد اختلفت الروايات في دعائه للمقصرين هل دعا للمحلقين ثلاثاً أو أربعاً؟ وللجمع بين هذه الروايات قال الحافظ ابن حجر: وبيان أن كونها في الرابعة أن قوله "والمقصرين" معطوف على مقدر، تقديره: يرحم الله المحلقين، وإنما قال ذلك بعد أن دعا للمحلقين ثلاث مرات صريحاً، فيكون دعاؤه للمقصرين في الرابعة قال: وقد روي بلفظ "قال في الثالثة: والمقصرين" قال: الجمع بينهما أن من قال: في الرابعة فعلى ما شرحناه، ومن قال: في الثالثة أراد أن قوله "والمقصرين" معطوف على الدعوة الثالثة، أو على أنه أراد بالثالثة

مسألة السائلين في ذلك، وكان صلى الله عليه وسلم لا يراجع بعد ثلاث، كما ثبت، ولو لم يدع لهم بعد ثالث مسألة ما سألوه ذلك. اهـ والحاصل أن ظاهر روايات ابن عمر -رضي الله عنهما- الحادية عشرة والثانية عشرة والثالثة عشرة أنه صلى الله عليه وسلم دعا للمحلقين ثلاث مرات فقط بما فيها المرة المعطوف عليها، وهذا الظاهر غير معتمد، فالرواية الحادية عشرة شك فيها الراوي "مرة أو مرتين" والرواية الثانية عشرة لم ينص فيها على عدد المرات، فيحتمل أن الراوي سقط منه واحدة، والرواية الثالثة عشرة ملحقها يحدد سقط واحدة، ويقول "فلما كانت الرابعة" فالمعتمد الأول وإن جرينا على تعدد الواقعة في الحديبية مرة، وفي حجة الوداع أخرى -كما سبق- فلا إشكال. والله أعلم. "وقد جاء في بعض الروايات اللهم ارحم" وفي بعضها "اللهم اغفر" فيحتمل أن يكون بعض الناقلين روى بالمعنى، أو قالهما صلى الله عليه وسلم جميعاً، والظاهر الأول. (ثم قال للحلاق) قال النووي: واختلفوا في اسم هذا الرجل الذي حلق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، والصحيح المشهور أنه معمر بن عبد الله العدوي. (قال للحلاق: ها) "ها" هنا اسم فعل أمر، بمعنى خذ، ويجوز مد ألفها، فيقال "هاء" ويستعملان بكاف الخطاب، فيقال: هاك وهاءك، وبدونها، وقد تحل الميم في الممدود محل الكاف في جمع المذكر السالم، ومنه قوله تعالى: {هاؤم اقرءوا كتابيه} [الحاقة: 19]. وفي الرواية السابعة عشرة "فقال للحلاق: خذ". (لم أشعر، فحلقت قبل أن أنحر) أي لم أفطن، يقال: شعرت بالشيء شعوراً إذا فطنت له، وقيل: المراد لم أعلم، وقد بينت الرواية الثانية والعشرون المشعور به، وفيها "لم أشعر أن النحر قبل الحلق، فحلقت قبل أن أنحر" وفي الرواية الثالثة والعشرين "ما كنت أحسب" -بكسر السين- و"كنت أحسب" أي أظن. (اذبح ولا حرج) أي افعل ما بقي عليك، وقد أجزأك ما فعلته، ولا حرج عليك في التقديم والتأخير، أي لا ضيق عليك، وهل المعنى: لا إثم عليك؟ أو لا إثم عليك ولا فدية. خلاف يأتي في فقه الحديث. (فما سئل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج) أي عن شيء من هذه الأمور الأربعة التي تفعل يوم النحر، وهي: رمى جمرة العقبة، والذبح، والحلق، وطواف الإفاضة، وهي بهذا الترتيب، وفي عدم ترتيبها خلاف فقهي، يأتي في فقه الحديث. -[فقه الحديث]- قال النووي: السنة في أعمال الحج يوم النحر -بعد الدفع من المزدلفة- أن تكون مرتبة هكذا.

رمي جمرة العقبة، ثم نحر الهدي أو ذبحه، ثم الحلق أو التقصير، ثم دخول مكة فيطوف طواف الإفاضة، ويسعى بعده، إن لم يكن سعى بعد طواف القدوم، فإن كان سعى بعد طواف القدوم كره إعادة السعي. اهـ وهذه المجموعة من الأحاديث تتعلق بهذه المناسك الأربعة، ويمكن حصر نقاطها في ست نقاط: الرمي، والنحر، والحلق أو التقصير، وطواف الإفاضة، والتقديم والتأخير لهذه الأربعة، وما يؤخذ من الأحاديث من الأحكام الفرعية. النقطة الأولى: الرمي، وهو عبارة عن رمي جمرة العقبة وحدها يوم النحر بسبع حصيات، وقد أجمعوا على أنه لا يرمى يوم النحر إلا جمرة العقبة ثم رمي كل جمرة من الجمرات الثلاث بسبع حصيات في كل يوم من أيام التشريق الثلاثة، فمجموع حصى الرمي سبعون حصاة. واختلف الفقهاء في حكم رمي جمرة العقبة، فالشافعية والجمهور على أنه واجب يجبر تركه بدم، والحج بدونه صحيح قياساً على رمي أيام التشريق، وقال بعض أصحاب مالك: رمي جمرة العقبة ركن لا يصح الحج إلا به، قال عبد الملك المالكي: من خرجت عنه أيام منى ولم يرم جمرة العقبة بطل حجه، فإن ذكر بعد غروب شمس يوم النحر فعليه دم، وإن تذكر بعد فعليه بدنة، وقال ابن وهب: لا شيء عليه مادامت أيام منى. وحكى ابن جرير عن بعض الناس أن رمي الجمار إنما شرع حفظاً للتكبير، ولو تركه وكبر أجزأه، قال النووي: ونحوه عن عائشة رضي الله عنها، والصحيح المشهور الأول. وقت الرمي: ومذهب الشافعية وأحمد جواز رمي جمرة العقبة ابتداء من نصف ليلة النحر، والسنة أن يرميها ضحى، أي بعد ارتفاع الشمس قدر رمح، ولو أخر جاز، ويكون أداء إلى آخر نهار يوم النحر. وقال مالك وأبو حنيفة وإسحق: لا يجوز رمي جمرة العقبة إلا بعد طلوع الشمس واحتجوا بحديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن لا يرموا إلا بعد طلوع الشمس" قال النووي: وهو حديث صحيح، واحتج الشافعية بحديث أم سلمة وغيره من الأحاديث الصحيحة السابقة في مسألة تعجيل دفع الضعفة من مزدلفة إلى منى، وأما حديث ابن عباس فمحمول على الأفضل، جمعاً بين الأحاديث. وفي المحيط: أوقات رمي جمرة العقبة ثلاثة: مسنون بعد طلوع الشمس، ومباح بعد زوالها إلى غروبها، ومكروه وهو الرمي بالليل، ولو لم يرم في يوم النحر حتى أصبح من الغد رماها وعليه دم عند أبي حنيفة، خلافاً لصاحبيه. أما رمي الجمرات أيام التشريق فوقته يبدأ من الزوال، تنص على ذلك روايتنا التاسعة، وفيها "وأما بعد فإذا زالت الشمس" قال النووي: وأما وقت الرمي أيام التشريق فمذهبنا ومذهب مالك وأحمد وجماهير العلماء أنه لا يجوز الرمي في الأيام الثلاثة إلا بعد الزوال، لهذا الحديث الصحيح، وقال طاووس وعطاء: يجزئه في الأيام الثلاثة قبل الزوال وقال أبو حنيفة: يجوز في اليوم الثالث قبل

الزوال، وإن رمى في اليوم الأول والثاني قبل الزوال أعاد، أما آخر الوقت فقيل: غروب الشمس، وقيل: حتى طلوع الفجر، قال النووي: وأما اليوم الآخر فيفوت رميه بغروب شمسه بلا خلاف، وكذا جميع الرمي يفوت بغروب شمس اليوم الثالث من التشريق، لفوات زمن الرمي. واتفق مالك وأبو حنيفة والثوري والشافعي أنه إذا مضت أيام التشريق، وغابت الشمس من آخرها فقد فات الرمي، ويجبر ذلك بالدم. كيفية الرمي: قال النووي في رمي جمرة العقبة: يسن أن يقف تحتها في بطن الوادي فيجعل مكة عن يساره، ومنى عن يمينه ويستقبل القبلة ثم يرمي، وقيل: يستقبل الجمرة ويستدبر الكعبة، وأن يكبر مع كل حصاة، وأن يرفع يده في الرمي حتى يرى بياض إبطه وأن يكون الرمي باليد اليمنى، ويشترط أن يكون المرمي حجراً، ولا يصح بالمعادن، ويسن أن يكون الحصى في حجم حبة الباقلاء، وأن يكون صفة رمي الحاذف، فيضع الحصاة على بطن إبهامه، ويرميها برأس السبابة، ولا يجزئ الرمي بالقوس ولا الدفع بالرجل، ويشترط أن يرمي الحصيات في سبع دفعات، فلو رمى حصاتين دفعة حسبت واحدة، وبه قال مالك وأحمد، وقال أبو حنيفة: إن وقعن في المرمى متعاقبات أجزأ، وإلا فلا. والسنة أن يرمي جمرة العقبة راكباً إن كان قد قدم منى راكباً، ويرمي في أيام التشريق ماشياً، إلا يوم النفر فيجوز راكباً. وفي كل يوم من أيام التشريق يأتي الجمرة الأولى، وهي التي تلي مسجد الخيف وهي أولهن من جهة عرفات، فيأتيها من أسفل منها، فيصعد إليها، فيعلوها، ويستقبل الكعبة ويرمي الجمرة بسبع حصيات، ثم ينحرف عنها، ويجعلها في قفاه، ويقف قدر سورة البقرة في موضع لا يصيبه المتطاير من الحصى، يستقبل القبلة، ويحمد الله تعالى ويكبر ويهلل ويسبح ويدعوا، ثم يأتي الجمرة الثانية، وهي الوسطى، ويصنع فيها كما صنع في الأولى ويقف للدعاء، كما وقف في الأولى، ثم يأتي الجمرة الثالثة، وهي جمرة العقبة، فيرمها، ولا يقف عندها للذكر والدعاء. ويشترط الترتيب بين الجمرات، ولا خلاف في اشتراطه. ومن عجز عن الرمي بنفسه لمرض ميئوس أو غير ميئوس أو حبس ونحوهما جاز أن يستنيب من يرمي عنه، لأن وقته مضيق، واستدل الشافعية على جواز الاستنابة في الرمي بالقياس على الاستنابة في أصل الحج، قالوا: والرمي أولى بالجواز. قاله النووي في المجموع. اهـ وبعض العلماء في عصرنا يفتي بجواز الاستنابة في الرمي، عن المرأة للرجل بسبب الزحام، ولا أراه يصح، فإن الاستنابة في أصل الحج لا تصح أن تقع بسبب الزحام، فالقياس على أصل الحج يقصر الاستنابة على ما يباح بسببه الإنابة في الحج من مرض ميئوس أو حبس مؤبد ونحوهما. والله أعلم. النقطة الثانية النحر، ولم تتعرض أحاديث الباب له إلا من حيث ترتيبه مع الرمي والحلق، وتقديمه أو تأخيره عنهما، وسبق في باب وجوه الإحرام وحجة النبي صلى الله عليه وسلم قبل ثلاثة أبواب أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر بيده في منى ثلاثاً وستين بدنة، ثم أعطى علياً، فنحر تكملة المائة. وسيأتي قريباً أبواب الهدي ونحره.

النقطة الثالثة الحلق أو التقصير: وعنه تقول الرواية الحادية عشرة "حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحلق طائفة من أصحابه، وقصر بعضهم" وفي الروايات الثانية عشرة والثالثة عشرة والرابعة عشرة والخامسة عشرة أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا للمحلقين مرات وللمقصرين مرة، وفي الرواية السادسة عشرة أن النبي صلى الله عليه وسلم حلق رأسه في حجة الوداع، وفي الرواية السابعة عشرة والثامنة عشرة والتاسعة عشرة والمتممة للعشرين كيف حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم الجانب الأيسر، وكيف وزع شعره صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، أما جواز كل من الحلق والتقصير فلا خلاف فيه، ولا خلاف كذلك في تفضيل الحلق على التقصير في الحج للتحلل منه، قالوا: لأن الحلق أبلغ في العبادة، وأدل على صدق النية في التذلل لله، لأن المقصر مبق على نفسه من زينته التي قد أراد الله تعالى أن يكون الحاج مجانباً لها، وليبقى أثر وعلامة الحج زمناً أطول، وأفضلية الحلق على التقصير إنما هو في جانب الرجال دون النساء، لورود النهي عن حلق النساء، فقد روى أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ليس على النساء الحلق، وإنما على النساء التقصير" وروى الترمذي عن علي رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحلق المرأة رأسها". وقد سبق في المباحث العربية تحقيق القول في عدد المرات التي دعا فيها صلى الله عليه وسلم للمحلقين، قال النووي: وأقل ما يجزئ من الحلق والتقصير عند الشافعي ثلاث شعرات، وعند أبي حنيفة ربع الرأس، وعند أبي يوسف نصف الرأس، وعند مالك وأحمد أكثر الرأس، وعن مالك رواية أنه كل الرأس، قال: وأجمعوا أن الأفضل حلق جميعه، أو تقصيره جميعه، قال: ويستحب ألا ينقص في التقصير عن قدر الأنملة من أطراف الشعر فإن قصر دونها جاز، لحصول اسم التقصير، قال: ويقوم مقام الحلق والتقصير النتف والإحراق وغير ذلك من أنواع إزالة الشعر. اهـ وقال في المجموع: إذا لم يكن على رأسه شعر، بأن كان أصلع أو محلوقاً فلا شيء عليه، ولا يلزمه فدية، ولا إمرار الموسى، ولا غير ذلك. ثم قال: وهل الحلق أو التقصير نسك؟ أو استباحة محظور، وليس بنسك؟ وإنما هو شيء أبيح له بعد أن كان حراماً، كالطيب واللباس؟ وعلى هذا لا ثواب فيه، ولا تعلق له بالتحلل؟ قال: والمذهب أنه نسك، يثاب عليه، ويتحلل به التحلل الأول، فعلى هذا هو ركن من أركان الحج والعمرة، لا يصح الحج ولا العمرة إلا به، ولا يجبر بدم ولا غيره ولا يفوت وقته مادام حياً، لكن أفضل أوقاته صحوة النهار يوم الأضحى، ولا يختص بمكان لكن الأفضل أن يفعله الحاج بمنى، والمعتمر بالمروة، فلو فعله في بلد آخر، موطنه أو غيره جاز بلا خلاف، ولا يزال حكم الإحرام جارياً عليه حتى يحلق. ثم قال: وهذا الذي ذكرناه من أن الحلق أو التقصير نسك هو مذهبنا، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد وجمهور العلماء، ولم يقل بأنه ليس بنسك غير الشافعي في أحد قوليه، وحكاه القاضي عياض عن عطاء وأبي ثور وأبي يوسف. اهـ وتفيد الرواية الثامنة عشرة وملحقها والرواية التاسعة عشرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الجانب الأيمن بين من يليه، بينما تفيد الرواية المتممة للعشرين أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى شعر الجانب الأيمن لأبي طلحة الأنصاري.

أما شعر الشق الأيسر فتفيد الرواية الثامنة عشرة أنه صلى الله عليه وسلم أعطاه لأم سليم، ويفيد ملحقها أنه أعطاه أبا طلحة، وتفيد الرواية المتممة للعشرين أنه أعطاه أبا طلحة ليوزعه على الناس. وللجمع بين هذه الروايات يقول صاحب المفهم: إن قوله "لما حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم شق رأسه الأيمن أعطاه أبا طلحة" ليس مناقضاً لما في الرواية الأخرى أنه قسم شعر الجانب الأيمن بين الناس، وشعر الجانب الأيسر أعطاه أم سليم، وهي امرأة أبي طلحة، وأم أنس رضي الله عنها. قال: وحصل من مجموع الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حلق الشق الأيمن ناوله أبا طلحة، ليقسمه بين الناس، ففعل أبو طلحة [فقوله: فقسمه -أي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن يليه أي أمر بقسمته فيمن يليه] وناول شعر الشق الأيسر لأبي طلحة ليكون عند أبي طلحة، فصحت نسبة كل ذلك إلى من نسب إليه. وقد جمع المحب الطبري، فقال: والصحيح أن الذي وزعه على الناس الشق الأيمن وأعطى الأيسر أبا طلحة وأم سليم، ولا تضاد بين الروايتين، لأن أم سليم امرأة أبي طلحة فأعطاه صلى الله عليه وسلم لهما، فنسبت العطية تارة إليه، وتارة إليها. اهـ النقطة الرابعة طواف الإفاضة: وقد سبق الكثير من أحكامه في باب وجوه الإحرام وحجة النبي صلى الله عليه وسلم في المأخذ التاسع عشر بعد المائة. قال النووي: ويستحب طواف الإفاضة يوم النحر، وأول النهار، وقد أجمع العلماء على أن هذا الطواف ركن من أركان الحج، لا يصح الحج إلا به، واتفقوا على أنه يستحب فعله يوم النحر، بعد الرمي والنحر والحلق فإن أخره عن يوم النحر وفعله في أيام التشريق أجزأه، ولا دم عليه بالإجماع، فإن أخره إلى ما بعد أيام التشريق، وأتى به بعدها أجزأه، ولا شيء عليه عندنا، وبه قال جمهور العلماء، وقال مالك وأبو حنيفة: إذا تطاول لزمه معه دم. والله أعلم. النقطة الخامسة التقديم والتأخير بين هذه الأفعال الأربعة: قال النووي في المجموع: مذهبنا أنه لو قدم الحلق على الذبح جاز، ولا دم عليه، ولو قدم الحلق على الرمي فالأصح أيضاً أنه يجوز ولا دم عليه، وقال أبو حنيفة: إذا قدم الحلق على الذبح لزمه دم إن كان قارناً أو متمتعاً، ولا شيء عليه إذا كان مفرداً، وقال مالك: إذا قدم الحلق على الذبح فلا دم عليه، وإن قدمه على الرمي لزمه الدم، وقال أحمد: إن قدم الحلق على الذبح أو الرمي جاهلاً أو ناسياً فلا دم، [فمعنى نفي الحرج عنهم وسببه أنهم فعلوه في حجة النبي صلى الله عليه وسلم جهلاً بالحكم، فعذرهم لجهلهم، لكنه أمرهم أن يتعلموا مناسكهم وأن يأخذوها عنه صلى الله عليه وسلم] وإن تعمد ففي وجوب الدم روايتان عنه، وعن مالك روايتان فيمن قدم طواف الإفاضة على الرمي، إحداهما يجزئ الطواف وعليه دم، والثانية لا يجزئه، وعن سعيد بن جبير والحسن البصري والنخعي وقتادة: عليه الدم متى قدم شيئاً على شيء من هذه. قال النووي: دليلنا الأحاديث الصحيحة السابقة، وفيها "لا حرج" ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين عالم وجاهل، فإن قالوا: المراد لا إثم لكونه ناسياً؟ [أي معنى "لا حرج" لا إثم، ولا يستلزم ذلك نفي الفدية] قلنا: ظاهره لا شيء عليه مطلقاً. قال: وأجمعوا على أنه لو نحر قبل الرمي لا شيء عليه. والله أعلم. وقال في شرح مسلم: أفعال الحج يوم النحر أربعة: رمي جمرة العقبة، ثم الذبح، ثم الحلق، ثم طواف الإفاضة.

وأن السنة ترتيبها هكذا، فلو خالف وقدم بعضها على بعض جاز، ولا فدية عليه لهذه الأحاديث. -[النقطة السادسة ما يؤخذ من الأحاديث: ]- ويؤخذ من الروايات الأربع الأولى: 1 - إثبات رمي جمرة العقبة يوم النحر. قال النووي: وهو مجمع عليه، وهو واجب وهو أحد أسباب التحلل، وهي ثلاثة، رمي جمرة العقبة يوم النحر، وطواف الإفاضة مع سعيه إن لم يكن سعى، والثالث الحلق عند من يقول: إنه نسك، وهو الصحيح. 2 - وكون الرمي سبع حصيات، وهو مجمع عليه. 3 - واستحباب التكبير مع كل حصاة، وهو مذهبنا ومذهب مالك والعلماء كافة. قال القاضي: وأجمعوا على أنه لو ترك التكبير لا شيء عليه. 4 - واستحباب كون الرمي من بطن الوادي. وأجمعوا على أنه من حيث رماها جاز سواء استقبلها أو جعلها عن يمينه، أو عن يساره، أو رماها من فوقها، أو أسفلها، أو وقف في وسطها ورماها، وأما رمي باقي الجمرات في أيام التشريق فيستحب من فوقها. 5 - وجواز الحلف بدون استحلاف. 6 - وجواز قول "سورة البقرة". 7 - ومن الرواية الخامسة جواز الرمي راكباً، قال النووي: وفيها دلالة لما قاله الشافعي وموافقوه أنه يستحب لمن وصل منى راكباً أن يرمي جمرة العقبة يوم النحر راكباً ولو رماها ماشياً جاز، وأما من وصلها ماشياً فيرميها ماشياً. وقال أحمد: يستحب يوم النحر أن يرمي ماشياً. اهـ وذهب مالك إلى استحباب المشي في رمي أيام التشريق، وأما رمي جمرة العقبة فيرميها على حسب حاله كيف كان. قال القاضي عياض: ليس من سنة الرمي الركوب له، ولا الترجل، ولكن يرمي الرجل على هيئته التي يكون حينئذ عليها من ركوب أو مشي، ولا ينزل إن كان راكباً لرمي، ولا يركب إن كان ماشياً، وأما الأيام بعدها فيرمي ماشياً، لأن الناس نازلون منازلهم بمنى، فيمشون للرمي، ولا يركبون، لأنه خروج عن التواضع حينئذ. 8 - واعتبر العلماء قوله صلى الله عليه وسلم "لتأخذوا مناسككم" أصلاً عظيماً في مناسك الحج، نحو قوله في الصلاة "صلوا كما رأيتموني أصلي". 9 - قال النووي: وقوله "لعلي لا أحج بعد حجتي هذه" فيه إشارة إلى توديعهم وإعلامهم بقرب وفاته صلى الله عليه وسلم. 10 - وحثهم على الاعتناء بالأخذ عنه، وانتهاز الفرصة من ملازمته، وتعلم أمور الدين، وبهذا سميت حجة الوداع.

11 - ومن الرواية السادسة جواز تسميتها حجة الوداع، قال النووي: ومن الناس من كره ذلك وأنكره، وهو غلط. 12 - وفيها جواز تظليل المحرم على رأسه بثوب وغيره. قال النووي: وهو مذهبنا ومذهب جماهير العلماء، سواء كان راكباً أو نازلاً، وقال مالك وأحمد: لا يجوز، وإن فعله لزمته الفدية، وأجمعوا على أنه لو قعد تحت خيمة أو سقف جاز، ووافقونا على أنه إذا كان الزمان يسيراً في المحمل لا فدية، وكذا لو استظل بيده، قال: وقد يحتجون بحديث عبد الله بن عباس بن أبي ربيعة قال: صحبت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فما رأيته مضرباً فسطاطاً حتى رجع. رواه الشافعي والبيهقي بإسناد حسن. وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- "أنه أبصر رجلاً على بعيره، وهو محرم، قد استظل بينه وبين الشمس، فقال: اضح لمن أحرمت له"؟ . رواه البيهقي بإسناد صحيح، وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من محرم يضحي للشمس حتى تغرب إلا غربت بذنوبه، حتى يعود كما ولدته أمه" رواه البيهقي وضعفه. قال: واحتج الجمهور بحديث أم الحصين المذكور في مسلم [روايتنا السادسة والسابعة] ولأنه لا يسمى لبساً. وأما حديث جابر فضعيف كما ذكرنا، مع أنه ليس فيه نهي، وكذا فعل عمر، وقول ابن عمر، ليس فيه نهي، ولو كان فحديث أم الحصين مقدم عليه. والله أعلم. والحق أن هذه الأدلة إن دلت على شيء فإنما تدل على أفضلية عدم الاستظلال، لا على وجوب، ولا على لزوم فدية كما ذهبوا، وحتى الأفضلية قد تختلف باختلاف الأزمنة وشدة الشمس وعدم شدتها، ولا شك أن التعرض للشمس الحامية التي قد تضرب المسلم ضربة قاتلة. مفضول بل ممنوع، وحتى التعرض لمجرد المشقة قد يكون مفضولاً، فقاعدة الإسلام قوله تعالى: {ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم} [النساء: 147]. وقوله صلى الله عليه وسلم لمن نذرت أن تحج ماشية حافية: "إن الله غني عن نذرها. إن الله لا يصنع بشقائها شيئاً. مروها فلتركب". 13 - ومن أمره صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة للولاة في روايتنا السادسة وجوب الطاعة، وعدم جواز شق العصا. 14 - ومن الرواية الثامنة استحباب كون الحصى في قدر حصى الخذف، قال النووي: ولو رمى بأكبر أو أصغر جاز مع الكراهة. 15 - ومن الرواية التاسعة وقت الرمي، وقد سبق توضيحه قريباً. 16 - ومن الرواية الحادية عشرة جواز الاقتصار على الحلق أو التقصير. 17 - ومن الرواية الثانية عشرة والثالثة عشرة والرابعة عشرة والخامسة عشرة التصريح بتفضيل الحلق على التقصير، وقد مرت المسألة قريباً مبسوطة. قال الحافظ ابن حجر: ومن ثم استحب الصلحاء إلقاء الشعور عند التوبة. 18 - ومشروعية الدعاء لمن فعل الخير. 19 - وتكرار الدعاء لمن فعل الراجح من الأمرين المخير فيهما.

20 - والتنبيه بالتكرار على رجحان أحدهما. 21 - وطلب الدعاء لمن فعل الجائز، وإن كان مرجوحاً. 22 - ومن قوله: "أتى منى فأتى الجمرة فرماها" في الرواية السابعة عشرة أنه يستحب إذا قدم منى ألا يعرج على شيء قبل الرمي، بل يأتي الجمرة راكباً، كما هو فيرمها، ثم يذهب، فينزل حيث شاء من منى. 23 - وفيها استحباب نحر الهدي، وأن يكون بمنى، قال النووي: ويجوز حيث شاء من بقاع الحرم. 24 - وفيها أن الحلق نسك، وأنه أفضل من التقصير. 25 - وأنه يستحب البداءة فيه بالجانب الأيمن من رأس المحلوق. قال النووي: وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور، وقال أبو حنيفة: يبدأ بالجانب الأيسر. 26 - وطهارة شعر الآدمي. قال النووي: وهو الصحيح من مذهبنا، وبه قال جماهير العلماء. 27 - والتبرك بشعره صلى الله عليه وسلم، وجواز اقتنائه للتبرك. 28 - ومن توزيعه صلى الله عليه وسلم الشعرة والشعرتين مساواة الإمام والكبير بين أصحابه وأتباعه فيما يفرقه عليهم من عطاء وهدية ونحوها. 29 - وفيه منقبة وفضيلة لأبي طلحة الأنصاري، وزوجه أم سليم. 30 - ومن وقوفه صلى الله عليه وسلم على راحلة في الرواية الواحدة والعشرين والثانية والعشرين جواز القعود على الراحلة للحاجة. 31 - وجواز الفتيا على الدابة. 32 - وجواز السؤال والفتيا عند الجمرة. 33 - وجوب اتباع أفعاله صلى الله عليه وسلم، لكون الذين خالفوها لما علموا سألوه عن حكم ذلك. 34 - ومن قوله: "بينما هو يخطب يوم النحر" في الرواية الثالثة والعشرين مشروعية الوقوف للخطبة بعد صلاة الظهر يوم النحر، قال النووي: وهي إحدى خطب الحج المشروعة، يعلمهم فيها ما بين أيديهم من المناسك، وخطب الحج المشروعة عندنا أربع. أولها بمكة عند الكعبة في اليوم السابع من ذي الحجة، والثانية بنمرة يوم عرفة، والثالثة، بمنى يوم النحر، والرابعة بمنى في الثاني من أيام التشريق. وكلها خطب فردة، وبعد صلاة الظهر، إلا التي بنمرة، فإنها خطبتان، وقبل صلاة الظهر، وبعد الزوال. اهـ قال الحافظ ابن حجر: ليس في شيء من أحاديث الباب التصريح بالخطبة في غير يوم النحر، وقد اتفقوا على مشروعية الخطبة يوم عرفة، فيلحق المختلف فيه بالمتفق عليه. 35 - وفي الرواية السابعة والعشرين إثبات طواف الإفاضة. 36 - وأنه يستحب فعله يوم النحر وأول النهار وقد سبق بسط هذه المسألة. والله أعلم

(339) باب نزول المحصب يوم النفر

(339) باب نزول المحصب يوم النفر 2797 - عن عبد العزيز بن رفيع، قال: سألت أنس بن مالك. قلت: أخبرني عن شيء عقلته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. أين صلى الظهر يوم التروية؟ قال: بمنى. قلت: فأين صلى العصر يوم النفر؟ قال: بالأبطح. ثم قال: افعل ما يفعل أمراؤك. 2798 - عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا ينزلون الأبطح. 2799 - عن نافع: أن ابن عمر كان يرى التحصيب سنة وكان يصلي الظهر يوم النفر بالحصبة. قال نافع: قد حصب رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده. 2800 - عن عائشة رضي الله عنها، قالت: نزول الأبطح ليس بسنة. إنما نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان أسمح لخروجه إذا خرج. 2801 - عن الزهري، عن سالم، أن أبا بكر وعمر وابن عمر كانوا ينزلون الأبطح. قال الزهري: وأخبرني عروة عن عائشة؛ أنها لم تكن تفعل ذلك. وقالت: إنما نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم. لأنه كان منزلاً أسمح لخروجه. 2802 - عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ليس التحصيب بشيء. إنما هو منزل نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2803 - عن سليمان بن يسار قال: قال أبو رافع رضي الله عنه لم يأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم

أن أنزل الأبطح حين خرج من منى. ولكني جئت فضربت فيه قبته. فجاء فنزل. قال أبو بكر، في رواية صالح، قال: سمعت سليمان بن يسار. وفي رواية قتيبة، قال: عن أبي رافع. وكان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم. 2804 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "ننزل غداً، إن شاء الله، بخيف بني كنانة. حيث تقاسموا على الكفر". 2805 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن بمنى "نحن نازلون غداً بخيف بني كنانة. حيث تقاسموا على الكفر". وذلك أن قريشاً وبني كنانة تحالفت على بني هاشم وبني المطلب، ألا يناكحوهم، ولا يبايعوهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. يعني، بذلك المحصب. 2806 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "منزلنا، إن شاء الله، إذا فتح الله، الخيف. حيث تقاسموا على الكفر". -[المعنى العام]- إن مناسك الحج اعتمد فيها على أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، أخذاً من قوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم" وهذا حسن وجميل وسليم لا غبار عليه فيما عرف من أركان الحج وواجباته وسننه، أما ما لابس هذه الشعائر من هيئات الركوب والمشي والوقوف والجلوس والنزول وسلوك طريق من الطرق ونحو ذلك فقد تمسك باستحبابه جماعة الملتزمين بالقدوة الحرفية المطلقة وعلى رأسهم ابن عمر رضي الله عنهما ولم يتمسك به جماعة من الصحابة رأوا فيه أنه أمر اتفاقي لم يكن مقصوداً بالاستحباب، ولم يتطلبه هدف ديني. وعلى رأسهم عائشة رضي الله عنها. والكل متفق على أن من اقتدى به صلى الله عليه وسلم في هذه الأمور، مستشعراً الاقتداء به، قاصداً المتابعة والأسوة فله أجر، لكن هل هو أجر العمل؟ أو أجر النية؟ بهذا يتحرر موطن الخلاف في مثل هذه الأمور. وموضوع أحاديث الباب من هذا القبيل. في اليوم الثالث عشر من ذي الحجة، وبعد أن فرغ صلى الله عليه وسلم من المبيت بمنى ورمي الجمار، واتخذ طريقه إلى مكة لطواف الوداع والرحيل نزل

بواد بين جبلين بين منى ومكة يسمى الأبطح أو المحصب فصلى به الظهر والعصر والمغرب والعشاء واستراح به معظم الليل، ثم واصل المسير إلى مكة، والتزم الخلفاء الراشدون قادة الحج من بعده النزول هذا الوقت بهذا المكان، فلما كان أمراء بني أمية لم يلتزموا هذا النزول، وكانت هذه الأحاديث الدالة على هذين الاتجاهين. ولكل وجهة هو موليها. وما يريد الله ليجعل عليكم من حرج، ويريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر، فمن تيسر له القدرة فله أجره إن شاء الله بنيته ومن لم يتيسر له ذلك فلا حرج عليه، والله أعلم. -[المباحث العربية]- (عن شيء عقلته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي عن شيء حفظته ورأيته وفهمته من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. (يوم التروية) وهو اليوم الثامن من ذي الحجة، أي وهو محرم بالحج، متجه إلى عرفات. (يوم النفر) أي يوم النزول من منى يوم الأضحى إلى الكعبة لطواف الإفاضة. (بالأبطح) ويقال له: البطحاء، وهو المحصب، بضم الميم وفتح الحاء وتشديد الصاد المفتوحة، وهو الحصبة وهو مكان متسع بين مكة ومنى، وسمي بالمحصب لاجتماع الحصباء فيه بحمل السيل، وهو موضع منهبط، وحدوده ما بين الجبلين إلى المقابر، وليست المقبرة منه وفي لغة يقال له: الحصاب، وحده أبو عبيد من الحجون ذاهباً إلى منى، والتحصيب النزول بالمحصب، وحصب أي نزل بالمحصب. (افعل ما يفعل أمراؤك) أي لا تعترض على ولاة الأمر في عدم نزولهم بالأبطح وإن كان أبو بكر وعمر والخلفاء -رضي الله عنهم- كانوا ينزلون بالأبطح. (نزول الأبطح ليس بسنة) أي ليس مطلوباً يثاب على فعله. (كان أسمح لخروجه إذا خرج) أي أسهل لخروجه وأوسع وأبسط وأكثر راحة حين يخرج ويرجع من منى إلى مكة. (ليس التحصيب بشيء) أي بشيء مطلوب فعله شرعاً. (وكان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم) الثقل بفتح الثاء والقاف متاع المسافر، وما يحمله على دوابه، ومنه قوله تعالى {وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس} [النحل: 7]. أي وكان أبو رافع مسئولاً عن أمتعة النبي صلى الله عليه وسلم في سفره ومنزل راحته. (نازلون غداً بخيف بني كنانة) الخيف بفتح الخاء في الأصل ما انحدر عن الجبل وارتفع عن الميل أو عن القاع، وخيف بني كنانة هو المحصب.

(حيث تقاسموا على الكفر) أي حيث تحالفوا وتعاهدوا على أمور وخصال من خصال الكفر والباطل، كقطيعة الرحم، ومحاربة النبي ومقاطعة أهله، وهو تحالفهم على إخراج النبي صلى الله عليه وسلم وبني هاشم وبني المطلب من مكة إلى هذا الشعب، وهو خيف بني كنانة وكتبوا بينهم الصحيفة المشهورة، ألا يناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه. -[فقه الحديث]- واضح من الروايات أن النزول بالمحصب مختلف على استحبابه بين الصحابة، ثم بين الأئمة الفقهاء. وأجمعوا على أن من تركه لا شيء عليه، ولا يؤثر في نسكه، لأن القائلين باستحبابه يقولون: إنه سنة مستقلة، ليست من مناسك الحج. وواضح من الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل بالمحصب بعد أن خرج من منى وفرغ من الرمي، وهو متجه إلى مكة لطواف الوداع والسفر، وأن أبا بكر وعمر والخلفاء وابن عمر التزموا النزول بالمحصب، كل ذلك لا خلاف فيه، ولكن الخلاف في أن هذا النزول كان مقصوداً من النبي صلى الله عليه وسلم كمكان مفضل، يستحب للحاج النزول فيه عند النفر من منى؟ أو كان نزولاً اتفاقياً؟ شأنه شأن أي مكان نزل فيه لا بقصد الاستحباب؟ حتى ولو كان بخاصية دنيوية كاتساع وصلاحية أرض، ووفرة عشب ونحو ذلك، كما رأى بعض الصحابة وأمراء بني أمية؟ . فأنس في الرواية الأولى يميل إلى أنه سنة، لكن لا يصرح بذلك، بل يطلب من سائله أن يتبع أمراء بني أمية، خوف الفتنة في أمر هين. وابن عمر في الرواية الثانية والثالثة على رأس القائلين بأنه سنة. وأبو هريرة في الرواية التاسعة والعاشرة يشير إلى أنه سنة بروايته أنه كان مقصوداً للنبي صلى الله عليه وسلم قبل النزول فيه لخاصية دينية فيه، وهو أنه كان في الكفر مكاناً للمؤامرة والتآمر على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الإسلام فليعوض وليصبغ بذكر الله وإعلاء كلمته من حجاج بيته بالنزول فيه، وفي ذلك تذكير بفضل الله على المسلمين، ليشكروه على ظهور الإسلام بعد اختفائه، وعلى قوة أهله بعد ضعف، وعلى رد كيد الكافرين ومع هذا الفريق من الصحابة الشافعية والمالكية والجمهور، قالوا: يستحب النزول بالأبطح في اليوم الثالث عشر من ذي الحجة عند النفر من منى، ويصلى به الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ويبيت به ليلة الرابع عشر، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين وغيرهم. الفريق الثاني من الصحابة تمثله عائشة -رضي الله عنها- في الرواية الرابعة والخامسة، وابن عباس في الرواية السادسة، وأبو رافع في الرواية السابعة، فإنه يقرر أنه هو الذي اختار المكان دون إشارة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت عائشة وأسماء أختها وعروة بن الزبير وسعيد بن جبير لا يحصبون ومع هذا الفريق جمهور الحنفية. والله أعلم

(340) باب المبيت بمنى أيام التشريق وفضل القيام بالسقاية

(340) باب المبيت بمنى أيام التشريق وفضل القيام بالسقاية 2807 - عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن العباس بن عبد المطلب استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يبيت بمكة ليالي منى. من أجل سقايته. فأذن له. 2808 - عن بكر بن عبد الله المزني، قال: كنت جالساً مع ابن عباس عند الكعبة. فأتاه أعرابي فقال: ما لي أرى بني عمكم يسقون العسل واللبن وأنتم تسقون النبيذ؟ أمن حاجة بكم أم من بخل؟ فقال ابن عباس: الحمد لله! ما بنا من حاجة ولا بخل. قدم النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته وخلفه أسامة. فاستسقى فأتيناه بإناء من نبيذ فشرب. وسقى فضله أسامة. وقال "أحسنتم وأجملتم. كذا فاصنعوا" فلا نريد تغيير ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم. -[المعنى العام]- من شعائر الحج المبيت بمنى ليالي أيام التشريق، وسواء قيل إنه واجب يجبر بدم، أو سنة يسن لمن تركه أن يذبح دماً فإن أصحاب الأعذار يرخص لهم في غير حاجة إلى جبر. وأهل الحرم منذ زمن بعيد في الجاهلية أهل نخوة ونجدة وكرم، كانوا يحتفلون بالحجيج، ويقرونهم ويكرمونهم، ويسهرون على راحتهم، ويقدمون لهم كثيراً من الخدمات، بل كان الأشراف منهم لا يترفعون عن القيام بخدمات هي في العادة مما يقوم به من هو دونهم، فهؤلاء أشرافهم يتوارثون السقاية، يستخرجون ماء زمزم من البئر بالدلاء ويضعونه في أحواض، عليها الأكواب، ويمزجونه بالرطب والزبيب ليكون شراباً طيباً حلواً للحجاج، وجاء الإسلام والعباس بن عبد المطلب يقوم على سقاية الحجيج، وأكثر ما يجتمع الحجيج بمكة يوم النحر وما بعده من أيام التشريق ولياليها، فكيف يبيت العباس بمنى ويترك السقاية؟ . لقد أحس العباس أن المبيت بمنى شعيرة مستحبة، وأن السقاية بالنسبة له ضرورية واجبة، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له بترك المبيت ليقوم بالسقاية، فأذن له صلى الله عليه وسلم وهكذا ترى الإسلام دين الترابط والاجتماع، دين التعاون والتكامل يقدم خدمة المجتمع على خدمة النفس، ويقدم مصالح المجموع على مصلحة الفرد، ففي صالح الجميع صالح الفرد في الدنيا والآخرة.

-[المباحث العربية]- (أن العباس بن عبد المطلب استأذن أن يبيت بمكة ليالي منى) أي ليالي أيام التشريق. (من أجل سقايته) السقاية إعداد الماء للشرب، وكانوا يستخرجون الماء من زمزم بالدلاء، ويجمعونه في الحياض في مكان في المسجد الحرام، ليشرب منه الحجاج، وكانوا يضعون فيه الزبيب ليصير الماء حلواً. كانت السقاية هذه حقاً للعباس في الجاهلية، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم عليها في الإسلام، وهي من بعده حق لآله. وكانت السقاية في يد قصي بن كلاب. ثم ورثها منه ابنه عبد مناف ثم منه ابنه هاشم، ثم منه ابنه عبد المطلب ثم منه العباس، ثم منه عبد الله، ثم منه ابنه علي، ثم واحد بعد واحد، رضي الله عنهم أجمعين. (أحسنتم وأجملتم) أي فعلتم الحسن والجميل. -[فقه الحديث]- قال النووي عن الرواية الأولى: هذا الحديث يدل لمسألتين: إحداهما أن المبيت بمنى ليالي أيام التشريق مأمور به، وهذا متفق عليه، لكن اختلفوا. هل هو واجب أم سنة؟ وللشافعي فيه قولان، أصحهما أنه واجب، وبه قال مالك وأحمد، والقول الثاني أنه سنة وبه قال ابن عباس والحسن وأبو حنيفة، فمن أوجبه أوجب الدم في تركه، وإن قلنا: سنة لم يجب الدم بتركه، لكن يستحب، وفي القدر المطلوب لهذا المبيت قولان للشافعي، أصحهما معظم الليل، والثاني ساعة، وحكى في المجموع قولاً بأن المعتبر أن يكون حاضراً بها عند طلوع الفجر الثاني، قال: والأكمل أن يبيت بها كل الليل. قال: ويؤمر بالمبيت في الليالي الثلاث، إلا أنه إذا نفر النفر الأول سقط مبيت الليلة الثالثة. قال: فإن ترك المبيت بمنى ليالي أيام التشريق الثلاث -وقلنا بوجوبه- لزمه دم واحد عنها. هذا هو المذهب، وحكى قول غريب أنه يجب في كل ليلة دم. وليس بشيء. وإن ترك إحدى الليالي الثلاث -مع القول بالوجوب- فثلاثة أقوال. في الليلة مد، في الليلة درهم، في الليلة ثلث دم. المسألة الثانية: أنه يجوز لأهل السقاية أن يتركوا هذا المبيت، ويذهبوا إلى مكة ليستقوا. وهل هذه الرخصة خاصة بالعباس؟ أو به وبآله؟ أو عامة لكل من تولى السقاية؟ أو يقاس على أصحاب السقاية من كان له عذره من مرض، أو شغل كالحطابين والرعاء؟ أو اشتغال بمريض؟ أقوال للفقهاء. ذكرها في المجموع بتفصيل. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - فضل السقاية والقيام بها، والثناء على أهلها.

2 - المدح والثناء في المواجهة لمن فعل خيراً، بشرط أن يؤمن عليه الغرور. 3 - استحباب الشرب من زمزم ومن هذه السقاية للحاج والمعتمر وغيرها. 4 - استحباب النبيذ في الماء المشروب من هذه السقاية، قال النووي: وهذا النبيذ ماء محلى بزبيب أو غيره بحيث يطيب طعمه، ولا يكون مسكراً، فأما إذا طال زمنه وصار مسكراً فهو حرام. 5 - فيه منقبة وفضيلة للعباس رضي الله عنه. 6 - ويؤخذ من الرواية الثانية فضيلة التمسك بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم أو كان عليه الصحابة مما رضي به وأثنى عليه، وإن كان غيره خيراً منه. 7 - ما كان عليه أهل الفضل من التسابق في الخيرات، وفي إكرام الحجاج وسقايتهم اللبن والعسل. والله أعلم

(341) باب الهدي والتصدق بلحمه وجلده، والاشتراك فيه، وكيفية نحره وبعثه إلى الحرم، وتقليده، وجواز ركوبه، وما يفعل به إذا عطب

(341) باب الهدي والتصدق بلحمه وجلده، والاشتراك فيه، وكيفية نحره وبعثه إلى الحرم، وتقليده، وجواز ركوبه، وما يفعل به إذا عطب 2809 - عن علي رضي الله عنه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه. وأن أتصدق بلحمها وجلودها وأجلتها. وأن لا أعطي الجزار منها. قال "نحن نعطيه من عندنا". 2810 - عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس في حديثهما "أجر الجازر". 2811 - عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يقوم على بدنه. وأمره أن يقسم بدنه كلها. لحومها وجلودها وجلالها. في المساكين. ولا يعطي في جزارتها منها شيئاً. 2812 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبعة. والبقرة عن سبعة. 2813 - عن جابر رضي الله عنه قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج. فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة. 2814 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنحرنا البعير عن سبعة، والبقرة عن سبعة.

2815 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: اشتركنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحج والعمرة. كل سبعة في بدنة. فقال رجل لجابر: أيشترك في البدنة ما يشترك في الجزور؟ قال: ما هي إلا من البدن. وحضر جابر الحديبية. قال: نحرنا يومئذ سبعين بدنة. اشتركنا كل سبعة في بدنة. 2816 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، يحدث عن حجة النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي. ويجتمع النفر منا في الهدية. وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم. في هذا الحديث. 2817 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: كنا نتمتع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة. فنذبح البقرة عن سبعة. نشترك فيها. 2818 - عن جابر رضي الله عنه. قال: ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عائشة بقرة يوم النحر. 2819 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه. وفي رواية: "عن عائشة، بقرة في حجته". 2820 - عن زياد بن جبير: أن ابن عمر أتى على رجل وهو ينحر بدنته باركة. فقال: ابعثها قياماً مقيدة، سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم. 2821 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهدي من المدينة. فأفتل قلائد هديه. ثم لا يجتنب شيئاً مما يجتنب المحرم.

2822 - وفي رواية عن عائشة رضي الله عنها قالت: كأني أنظر إلي، أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحوه. 2823 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي هاتين. ثم لا يعتزل شيئاً ولا يتركه. 2824 - عن عائشة رضي الله عنها، قالت: فتلت قلائد بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي. ثم أشعرها وقلدها. ثم بعث بها إلى البيت. وأقام بالمدينة. فما حرم عليه شيء كان له حلاً. 2825 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث بالهدي أفتل قلائدها بيدي. ثم لا يمسك عن شيء، لا يمسك عنه الحلال. 2826 - عن أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: أنا فتلت تلك القلائد من عهن كان عندنا. فأصبح فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حلالاً. يأتي ما يأتي الحلال من أهله. أو يأتي ما يأتي الرجل من أهله. 2827 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: لقد رأيتني أفتل القلائد لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغنم فيبعث به. ثم يقيم فينا حلالاً. 2828 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: ربما فتلت القلائد لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيقلد هديه ثم يبعث به. ثم يقيم. لا يجتنب شيئاً مما يجتنب المحرم. 2829 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مرة إلى البيت غنماً، فقلدها.

2830 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنا نقلد الشاء فنرسل بها. ورسول الله صلى الله عليه وسلم حلال، لم يحرم عليه منه شيء. 2831 - عن عمرة بنت عبد الرحمن أن ابن زياد كتب إلى عائشة: أن عبد الله بن عباس قال: من أهدى هدياً حرم عليه ما يحرم على الحاج. حتى ينحر الهدي. وقد بعثت بهديي. فاكتبي إلي بأمرك. قالت عمرة: قالت عائشة: ليس كما قال ابن عباس. أنا فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي. ثم قلدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده. ثم بعث بها مع أبي. فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء أحله الله له. حتى نحر الهدي. 2832 - عن مسروق قال: سمعت عائشة، وهي من وراء الحجاب تصفق وتقول: كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي. ثم يبعث بها. وما يمسك عن شيء مما يمسك عنه المحرم. حتى ينحر هديه. 2833 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة. فقال "اركبها" قال: يا رسول الله! إنها بدنة. فقال "اركبها. ويلك! " في الثانية أو في الثالثة. 2834 - عن الأعرج بهذا الإسناد وقال: "بينما رجل يسوق بدنة مقلدة". 2835 - عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكر أحاديث منها: وقال: بينما رجل يسوق بدنة مقلدة، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "ويلك! اركبها" فقال: بدنة. يا رسول الله! قال: "ويلك! اركبها. ويلك! اركبها". 2836 - عن أنس رضي الله عنه قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل يسوق بدنة. فقال "اركبها" فقال: إنها بدنة. قال "اركبها" مرتين أو ثلاثاً.

2837 - عن أنس رضي الله عنه قال: سمعته يقول: مر على النبي صلى الله عليه وسلم ببدنة أو هدية. فقال "اركبها" قال: إنها بدنة أو هدية. فقال "وإن". 2838 - وفي رواية عن أنس: "مر على النبي صلى الله عليه وسلم ببدنة" فذكر مثله. 2839 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وقد سئل عن ركوب الهدي؟ فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها. حتى تجد ظهراً". 2840 - عن أبي الزبير قال: سألت جابراً عن ركوب الهدي؟ فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "اركبها بالمعروف، حتى تجد ظهراً". 2841 - عن موسى بن سلمة الهذلي قال: انطلقت أنا وسنان بن سلمة معتمرين. قال: وانطلق سنان معه ببدنة يسوقها. فأزحفت عليه بالطريق. فعيي بشأنها. إن هي أبدعت كيف يأتي بها. فقال: لئن قدمت البلد لأستحفين عن ذلك. قال: فأضحيت. فلما نزلنا البطحاء قال: انطلق إلى ابن عباس نتحدث إليه. قال: فذكر له شأن بدنته. فقال: على الخبير سقطت. بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بست عشرة بدنة مع رجل وأمره فيها. قال: فمضى ثم رجع. فقال: يا رسول الله! كيف أصنع بما أبدع علي منها؟ قال: "انحرها. ثم اصبغ نعليها في دمها. ثم اجعله على صفحتها. ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك". 2842 - عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بثمان عشرة بدنة مع رجل. ثم ذكر بمثل حديث عبد الوارث. ولم يذكر أول الحديث. 2843 - عن ذؤيب أبي قبيصة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث معه بالبدن ثم يقول "إن عطب منها شيء، فخشيت عليه موتاً، فانحرها. ثم اغمس نعلها في دمها. ثم اضرب به صفحتها. ولا تطعمها أنت ولا أحد من أهل رفقتك".

-[المعنى العام]- امتن الله على أهل مكة بأنه أطعمهم من جوع، بقوله: {فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف} وكان ذلك استجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام، حيث قال: {ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون} [إبراهيم: 37]. وكانت الإجابة بتشريع الحج، ووفود ضيوف الرحمن على هذا البلد الأمين، وكان الأمر بذكر الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، وكان هذا الذكر وشكر الله عليها بذبحها في المنحر ليأكلوا منها ويطعموا البائس الفقير {ذلك ومن يعظم شعائر الله} وهدي الحرم ويختاره من أحسن الأنعام وأسمنها {فإنها من تقوى القلوب} {لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق ولكل أمة جعلنا منسكاً ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} [الحج: 33، 34]. {والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها} وذبحتموها {فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون} [الحج: 36]. ولم يقتصر الهدي إلى الحرم على من يذهب إليه بنفسه، بل شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته وللقادرين من أبنائها أن يبعثوا بالهدي إلى الحرم وإن لم يحرموا بحج أو عمرة، وإن لم يذهبوا بأنفسهم إلى الحرم، ففي السنة التاسعة من الهجرة كان أبو بكر رضي الله عنه أمير الحجاج المسلمين من المدينة حيث لم يحج صلى الله عليه وسلم فبعث معه صلى الله عليه وسلم بإبل وبقر وغنم، وكان من تعظيم الشريعة للهدي أن يربط في عنقه قلادة، حبل من عهن أو ليف أو تيل أو نحوه كعلامة مميزة له عن السائمة، فيحافظ عليه ويرعاه ويصونه من رآه، وأحياناً يربط في هذه القلادة نعلان مما يلبسها المحرم بالحج أو العمرة، زيادة في الإعلان والإشهار بل وشرع الإسلام تجميل الهدي بأن يكسى بجل، ثوب من قماش على حسب مقدرة المهدي، حرير أو ديباج أو صوف أو قطن. ولما كانت هذه العلامات قد تسقط أو تزال عن الهدي بوسيلة أو بأخرى شرعت علامة لاصقة لازمة لا تزول، فيما هو الكثير والأصل في الهدي الإبل والبقر، هذه العلامة تعرف بإشعار الهدي، وهي كشط يسير لجزء يسير من جلد الإبل والبقر في الجانب الأيمن من السنام. ومن بعث بالهدي وبقي في موطنه لا يعتبر محرماً، ولا تسري عليه محرمات الإحرام خلافاً لما فهمه بعض الصحابة، ولم يقره فقهاء الأمة. وقد وضعت الشريعة الإسلامية أحكاماً وقواعد لهذا الهدي، منها: 1 - أن الإبل يستحب أن تنحر قائمة مقيدة معقولة اليد اليسرى، قائمة على ما بقي من قوائمها، أما البقرة والغنم فيستحب أن تذبح مضطجعة على جنبها الأيسر، وتترك رجلها اليمنى، وتشد قوائمها الثلاث.

2 - وأن يعطى الجزار أجر جزارته من غير الهدي وخارجه، فلا يعطى من أجل جزارته شيئا من لحومها أو جلودها أو جلالها. 3 - وأن الواحد من الإبل والبقر يقوم مقام سبع شياه، فيصح للسبعة أن يشتركوا في بدنة أو بقرة. 4 - وأنه يجوز لصاحب الهدي ركوبه إذا احتاج إلى ركوبه، ولم يجد غيره. وأن الهدي إذا عطب في الطريق ذبح، وغمس نعله في دمه، وضرب به صفحة سنامه وترك في موضعه للمساكين، ليعلم من مر به أنه هدي فيأكله، ولا يأكل صاحبه منه ولا يطعم منه أحد من رفقته وأهل قافلته. والله أعلم. -[المباحث العربية]- (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه) بضم الباء وسكون الدال جميع بدنة، قال النووي: قال أهل اللغة: سميت البدنة لعظمها، وقال مجاهد، سميت البدن [بضم الباء وسكون الدال، وقد تضم الدال، وهي جمع بدنة، بفتح الباء والدال، وتطلق على الذكر والأنثى] لبدنها، أي لبدانتها وسمنها، وتعظيم شعائر الله استعظام البدن واستحسانها واستسمانها كذا فسرها مجاهد في الآية. قال النووي: ويطلق البدن على الإبل والبقر والغنم، هذا قول أكثر أهل اللغة، ولكن معظم استعماله في الأحاديث وكتب الفقه في الإبل خاصة. ومعنى قيام علي رضي الله عنه على بدن النبي صلى الله عليه وسلم أي عند نحرها، للاحتفاظ بها، ويحتمل أن المراد ما هو أعم من ذلك، أي على مصالحها في علفها ورعيها وسقيها وغير ذلك. وكان ذلك في حجة الوداع، حيث جاء علي رضي الله عنه ببعض هدي النبي صلى الله عليه وسلم ونحر صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وستين بدنة بيده الشريفة، ثم أعطى علياً فنحر باقي المائة، وأشركه في هديه. (وأن أتصدق بلحمها وجلودها وأجلتها) الأجلة، والجلال بكسر الجيم وتخفيف اللام جمع جل بضم الجيم، وهو ما يطرح على ظهر البعير من كساء. وفي الرواية الثانية "أمره أن يقوم على بدنه، وأمره أن يقسم بدنه كلها (أي ما نحره صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة وما نحره علي رضي الله عنه بيده) لحومها وجلودها وجلالها في المساكين". (أيشترك في البدنة ما يشترك في الجزور؟ ) الجزور لفظه أنثى: يقال: هذه جزور، ويقال على البعير، ولعل السائل فهم أن البدنة الأنثى وأن الجزور الذكر، ولا تقوم الأنثى مقام الذكر. لكن البدنة -كما ذكرنا- تطلق على الذكر والأنثى. قال النووي: قال العلماء: الجزور البعير. قال القاضي: وفرق هنا بين البدنة والجزور لأن البدنة والهدي ما ابتدئ إهداؤه عند الإحرام، والجزور ما اشترى بعد ذلك لينحر مكانها، فتوهم السائل أن هذا أحق في الاشتراك، فقال في جوابه: الجزور إذا اشتريت للنسك صار حكمها كالبدن.

ثم قال "ما يشترك في الجزور" هكذا في النسخ "ما يشترك" وهو صحيح، ويكون "ما" بمعنى "من" ويجوز أن تكون مصدرية، أي اشتراكاً كالاشتراك في الجزور. اهـ (يهدي من المدينة) أي يبعث الهدي إلى الحرم، وهو مقيم بالمدينة. (فأفتل قلائد هديه) قال في تاج العروس: القلادة ما جعل في العنق، يكون للإنسان والفرس والكلب، والبدنة التي تهدى ونحوها. اهـ وتقليد الهدي كعلامة من علامات بعثه إلى الحرم، وفي الرواية السادسة عشرة "أنا فتلت تلك القلائد من عهن كان عندنا" والعهن هو الصوف، وقيل: هو الصوف المصبوغ ألواناً، وقولها "بيدي" لرفع مجاز أن تكون أرادت أن القلائد فتلت بأمر منها. وقولها في الرواية الرابعة عشرة "وقلدها" أي ربط القلائد في رقاب الهدي، وكان من الشعيرة أن يربطوا في القلادة نعلاً أو نعلين، كإشارة إلى السفر وإلى الجد فيه. (ثم لا يجتنب شيئاً مما يجتنب المحرم) أي لا يجتنب محرمات الإحرام، وفي الرواية الثالثة عشرة "ثم لا يعزل شيئاً ولا يتركه" أي لا يعتزل النساء كما يعتزل المحرم، ولا يترك شيئاً من محرمات الإحرام وفي الرواية الرابعة عشرة "فما حرم عليه شيء كان حلاله" أي فلم يحرم الله عليه شيئاً بسبب بعثه الهدي بل استمر ما كان حلالاً له من قبل حلالاً له بعد بعث الهدي. وفي الرواية السادسة عشرة "فأصبح فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حلالاً، يأتي ما يأتي الحلال من أهله، أو يأتي ما يأتي الرجل من أهله". (ثم أشعرها) إشعار الهدي هو أن يكشط جلد البدنة حتى يسيل دم ثم يسلته ويسحبه ويمسحه فيكون ذلك علامة على كونها هدياً، فهو كالكي وشق أذن الحيوان ليكون علامة، وغير ذلك من الوسم، ويستحب أن يكون الإشعار في صفحة سنامها الأيمن. (ويلك) قال القرطبي: قالها له تأديباً، لأجل مراجعته له مع عدم خفاء الحال عليه ويحتمل أن يكون فهم عنه أن يترك ركوبها على عادة الجاهلية في السائبة وغيرها، فزجره عن ذلك، قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر أنه ما ترك الامتثال عناداً، ويحتمل أن يكون ظن أنه يلزمه غرم بركوبها أو إثم، وأن الإذن الصادر له بركوبها إنما هو للشفقة عليه فتوقف، فلما أغلظ له بادر إلى الامتثال، وقيل: لأنه كان يشرف على هلكة من الجهد و"ويل" تقال لمن وقع في هلكة، فالمعنى: أشرفت على الهلكة فاركب. وقيل: هي كلمة تدعم بها العرب كلامها، ولا تقصد معناها، كقولهم: لا أم لك. (بدنة. يا رسول الله) خبر مبتدأ محذوف، أي هي بدنة يا رسول الله؟ أي مهداة إلى البيت الحرام؟ وكأنه ظن أنه خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك مع أنها مقلدة والنعل في عنقها. (قال: وإن) ذكرت أداة الشرط، وحذف فعل الشرط وجوابه، للعلم به، والتقدير: وإن كانت هدياً إلى الكعبة فاركبها.

(حتى تجد ظهراً) تركبه، أي حتى تجد دابة غيرها تركبها. (فأزحفت عليه في الطريق) قال النووي: هو بفتح الهمزة، وإسكان الزاي وفتح الحاء، هذا رواية المحدثين، لا خلاف بينهم فيه. قال الخطابي: كذا يقوله المحدثون، قال: وصوابه والأجود "فأزحفت" بضم الهمزة، يقال: زحف البعير إذا قام، وأزحفه لغتان فحصل أن إنكار الخطابي ليس بمقبول، بل الجميع جائز، ومعنى "أزحف" وقف من الكلال والإعياء. (فعيي بشأنها) روي على ثلاثة أوجه، أحدها وهي رواية الجمهور "فعيي" بياءين من الإعياء، وهو العجز، ومعناه عجز عن معرفة حكمها لو عطبت عليه في الطريق، كيف يعمل بها؟ الوجه الثاني "فعي" بياء واحدة مشددة، وهي لغة بمعنى الأول، والوجه الثالث "فعني" بضم العين وكسر النون من العناية بالشيء، والاهتمام به. (إن هي أبدعت كيف يأتي بها؟ ) "أبدعت" بضم الهمزة وكسر الدال وفتح العين وإسكان التاء، ومعناه كلت وأعيت ووقفت. وأما قوله: "كيف يأتي بها؟ كذا في بعض الأصول وفي بعضها "كيف يأتي لها" وكلاهما صحيح. (لئن قدمت البلد لأستحفين عن ذلك) قال النووي: في معظم النسخ "قدمت البلد" وفي بعضها "قدمت الليلة" وكلاهما صحيح، وفي بعض النسخ "عن ذلك" وفي بعضها "عن ذاك" بغير لام، وقوله "لأستحفين" بالحاء وبالفاء، ومعناه لأسألن سؤالاً بليغاً عن ذلك، يقال: أحفى في المسألة إذا ألح فيها وأكثر منها. (فأضحيت) أي صرت في وقت الضحى. (ولا أحد من أهل رفقتك) الرفقة بضم الراء وكسرها لغتان مشهورتان. (بست عشرة بدنة) وفي الرواية الأخرى "بثمان عشرة بدنة" قال النووي: يجوز أنهما قضيتان [أي بعث بست عشرة بدنة، ثم بعث بثمان عشرة بدنة] ويجوز أن تكون قضية واحدة، والمراد ثمان عشرة، وليس في قوله "ست عشرة" نفي الزيادة، لأنه مفهوم عدد، ولا عمل عليه. -[فقه الحديث]- تتناول هذه المجموعة ست مسائل: الأولى: ماذا يفعل في لحوم هدايا الحرم وجلودها وجلالها؟ . الثانية: الاشتراك في الهدي. الثالثة: كيفية نحر الإبل وغيرها.

الرابعة: بعث الهدي إلى الحرم، وتقليده وإشعاره. الخامسة: ركوب الهدي إذا احتيج إلى ركوبه. السادسة: ما يفعل بالهدي إذا عطب في الطريق. 1 - أما عن المسألة الأولى فقد قال النووي عن الرواية الأولى والثانية: يؤخذ منها استحباب سوق الهدي، وجواز النيابة في نحره، والقيام عليه، وتفرقته، وأنه يتصدق بلحومها، وجلودها، وجلالها، وأنها تجلل، واستحبوا أن يكون جلاً حسناً، وألا يعطى الجزار منها، لأن عطيته عوض عن عمله، فيكون في معنى بيع جزء منها، وذلك لا يجوز، وفيه جواز الاستئجار على النحر ونحوه، قال: ومذهبنا أنه لا يجوز بيع جلد الهدي، ولا الأضحية ولا شيء من أجزائهما، سواء كانا تطوعا، أو واجبتين، لكن إن كانا تطوعا فله الانتفاع بالجلد وغيره باللبس وغيره، ولا يجوز إعطاء الجزار منها شيئاً بسبب جزارته. هذا مذهبنا وبه قال مالك وأحمد، وحكى ابن المنذر عن ابن عمر وأحمد وإسحاق أنه لا بأس ببيع جلد هديه، ويتصدق بثمنه. قال: ورخص في بيعه أبو ثور، وقال النخعي والأوزاعي: لا بأس أن يشتري به الغربال والمنخل والفأس والميزان ونحوها. وقال الحسن البصري: يجوز أن يعطي الجزار جلدها. قال النووي: وهذا منابذ للسنة. اهـ قال ابن خزيمة: النهي عن إعطاء الجزار المراد به أنه لا يعطى منها عن أجرته، وأما إذا أعطي أجرته كاملة، ثم تصدق عليه إن كان فقيراً فلا بأس بذلك. وقيل: إطلاق الشارع ذلك قد يفهم منه منع الصدقة، لئلا تقع مسامحة في الأجرة لأجل ما يأخذه، فيرجع إلى المعاوضة. وقيل: يجوز أن يعطى فوق أجرته صدقة أو هدية. قال القاضي: التجليل سنة، وهو عند العلماء مختص بالإبل، وهو مما اشتهر من عمل السلف، قال: وممن رآه مالك والشافعي وأبو ثور وإسحاق، قالوا: ويكون بعد الإشعار لئلا يلطخ بالدم، قالوا: ويستحب أن تكون قيمتها ونفاستها بحسب حال المهدي، وكان بعض السلف يجلل بالوشى، وبعضهم بالحبرة، وبعضهم بالقباطي والملاحف والأزر. قال مالك: وتشد الجلال على الأسنمة إن كانت قليلة الثمن، لئلا تسقط. قال مالك: وما علمت من ترك ذلك إلا ابن عمر استبقاء للثياب، لأنه كان يجلل الجلال المرتفعة من الأنماط والبرود والحير. قال: وكان لا يجلل حتى يغدو من منى إلى عرفات. قال: وروي عنه أنه كان يجلل من ذي الحليفة، وكان يعقد أطراف الجلال على أذنابها، فإذا مشي نزعها، فإذا كان يوم عرفة جللها، فإذا كان عند النحر نزعها لئلا يصيبها الدم. قال مالك: أما الجل فينزع في الليل، لئلا يخرقها الشوك. قال: ويستحب إن كانت الجلال مرتفعة أن يترك شقها، وألا يجللها حتى يغدو إلى عرفات، فإذا كانت بثمن يسير فمن حين يحرم يشق ويجلل. قال القاضي: وفي شق الجلال على الأسنمة فائدة أخرى وهي إظهار الإشعار لئلا يستتر تحتها قال النووي وفي هذا الحديث الصدقة بالجلال. وهكذا قال العلماء، وكان ابن عمر أولاً يكسوها الكعبة، فلما كسيت الكعبة تصدق بها. والله أعلم. 2 - وأما عن المسألة الثانية: وهي الاشتراك في الهدي فتتحدث عنه الروايات الثالثة والرابعة

والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة. وعنها يقول النووي: في هذه الأحاديث دلالة لجواز الاشتراك في الهدي، وفي المسألة خلاف بين العلماء، فمذهب الشافعي جواز الاشتراك في الهدي، سواء كان تطوعاً أو واجباً، وسواء كانوا كلهم متقربين أو بعضهم يريد القربة، وبعضهم يريد اللحم، ودليله هذه الأحاديث، وبهذا قال أحمد وجمهور العلماء، وقال داود وبعض المالكية: يجوز الاشتراك في هدي التطوع دون الواجب، وقال مالك: لا يجوز مطلقاً، وقال أبو حنيفة: يجوز إن كانوا كلهم متقربين، وإلا فلا، وأجمعوا على أن الشاة لا يجوز الاشتراك فيها. قال، وفي هذه الأحاديث أن البدنة تجزئ عن سبعة، والبقرة عن سبعة وتقوم كل واحدة مقام سبع شياه، حتى لو كان على المحرم سبعة دماء بغير جزاء الصيد وذبح عنها بدنة أو بقرة أجزأه عن الجميع. وقال عن الرواية السابعة: في هذا الحديث فوائد. منها: وجوب الهدي على المتمتع، وجواز الاشتراك في البدنة الواجبة، لأن دم التمتع واجب، وهذا الحديث صريح في الاشتراك في الواجب، خلاف ما قاله مالك، كما قدمنا قريباً، وفيه دليل لجواز ذبح هدي التمتع بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج، وفي المسألة خلاف وتفصيل فمذهبنا أن دم التمتع إنما يجب إذا فرغ من العمرة ثم أحرم بالحج، فبإحرام الحج يجب الدم، وفي وقت جوازه ثلاثة أوجه. الصحيح الذي عليه الجمهور أنه يجوز بعد فراغ العمرة وقبل الإحرام بالحج والثاني لا يجوز حتى يحرم بالحج والثالث يجوز بعد الإحرام بالعمرة. وقال عن الرواية الثامنة: ويؤخذ من قوله "كنا نتمتع" دليل للمذهب الصحيح عند الأصوليين أن لفظ "كان" لا يقتضي التكرار، لأن إحرامهم بالتمتع بالعمرة إلى الحج مع النبي صلى الله عليه وسلم إنما وجد مرة واحدة، وهي حجة الوداع. 3 - المسألة الثالثة: كيفية نحر الإبل وغيرها، وقال النووي عن الرواية الحادية عشرة "ابعثها قياماً مقيدة" أي معقولة، فيستحب نحر الإبل وهي قائمة، معقولة اليد اليسرى، صح في سنن أبي داود عن جابر رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى، قائمة على ما بقي من قوائمها". أما البقر والغنم فيستحب أن تذبح مضطجعة على جنبها الأيسر، وتترك رجلها اليمنى، وتشد قوائمها الثلاث، قال: وهذا الذي ذكرنا من استحباب نحرها قيامها معقولة هو مذهب الشافعي ومالك وأحمد والجمهور وقال أبو حنيفة والثوري: يستوي نحرها قائمة وباركة في الفضيلة، وحكى القاضي عن طاووس أن نحرها باركة أفضل وهذا مخالف للسنة. 4 - المسألة الرابعة: بعث الهدي إلى الحرم وتقليده وإشعاره، وتتحدث عنها الروايات الثانية عشرة والثالثة عشرة والرابعة عشرة والخامسة عشرة والسادسة عشرة والسابعة عشرة والثامنة عشرة والتاسعة عشرة والمتممة للعشرين والواحدة والعشرون والثانية والعشرون. قال النووي: فيها دليل على استحباب بعث الهدي إلى الحرم، وأن من لم يذهب إليه يستحب له

بعثه مع غيره، واستحباب تقليده وإشعاره. والهدي ما يهدى إلى الحرم من حيوان وغيره، والمراد هنا ما يجزئ في الأضحية، من الإبل والبقر والغنم خاصة. وقال: وقد اتفقوا على أنه يستحب لمن قصد مكة بحج أو عمرة أن يهدي هدياً من الأنعام، وينحره هناك، ويفرقه على المساكين الموجودين في الحرم. واتفق الشافعي والأصحاب على أنه يسن لمن أهدى شيئاً من الإبل والبقر أن يشعره ويقلده، فيجمع بين الإشعار والتقليد، وإنه إذا أهدى غنماً قلدها، ولا يشعرها، ولو ترك التقليد والإشعار فلا شيء عليه لكن فاتته الفضيلة هذا مذهبنا، وبه قال الجماهير من علماء السلف والخلف، وهو مذهب مالك وأحمد، قال الخطابي: قال جميع العلماء: الإشعار سنة، ولم ينكره أحد غير أبي حنيفة، قال الإشعار بدعة ونقل عنه أنه قال: الإشعار حرام، لأنه تعذيب للحيوان، ومثله وقد نهى الشرع عنهما. قال: والأحاديث الصحيحة [المذكورة] ترد عليه. وأما الاحتجاج بالنهي عن المثلة وعن تعذيب الحيوان فهو أن ذلك عام؛ وأحاديث الإشعار خاصة فقدمت؛ ثم قال: ومذهبنا إشعار البقر مطلقاً؛ فإن كان لها سنام أشعرت فيه؛ وإلا ففي مكانه؛ وقال مالك: إن كان لها سنام أشعرت فيه؛ وإلا فلا إشعار. ثم قال: ومذهبنا تقليد الغنم للأحاديث [روايتنا السابعة عشرة والتاسعة عشرة والمتممة للعشرين] وقال أبو حنيفة ومالك: لا يستحب، بل خصا التقليد بالإبل والبقر. وقال: وفي الأحاديث أن من بعث هديه لا يصير محرماً، ولا يحرم عليه شيء مما يحرم على المحرم، وهذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة إلا حكاية رويت عن ابن عباس وابن عمر وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير، وحكاها الخطابي عن أهل الرأي أيضاً أنه إذا فعله لزمه اجتناب ما يجتنبه المحرم، ولا يصير محرماً من غير نية الإحرام، والصحيح ما قاله الجمهور لهذه الأحاديث. 5 - المسألة الخامسة: ركوب الهدي إذا احتيج إلى ركوبه، وتتحدث عنها الروايات الثالثة والعشرون والرابعة والعشرون والخامسة والعشرون والسادسة والعشرون والسابعة والعشرون والثامنة والعشرون. وفي ركوب البدنة المهداة مذاهب. مذهب الشافعي أنه يركبها إذا احتاج، ولا يركبها من غير حاجة. وإنما يركبها بالمعروف من غير إضرار، وبهذا قال ابن المنذر وجماعة، وهو رواية عن مالك، وقال مالك في رواية أخرى وأحمد وإسحاق: له ركوبها من غير حاجة بحيث لا يضيرها، وبه قال أهل الظاهر. وقال أبو حنيفة: لا يركبها إلا أن لا يجد من الركوب بداً، وحكى القاضي عياض عن بعض العلماء أنه أوجب ركوبها لمطلق الأمر، ولمخالفة ما كانت الجاهلية عليه من إكرام البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي وإهمالها بلا ركوب. دليل الجمهور أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى ولم يركب هديه، ولم يأمر الناس بركوب الهدايا والله أعلم. 6 - المسألة السادسة: ما يفعل بالهدي إذا عطب، والروايتان التاسعة والعشرون والمتممة للثلاثين تتحدثان عن ذلك.

قال النووي: إذا عطب الهدي وجب ذبحه وتخليته للمساكين، ويحرم الأكل منها عليه وعلى رفقته الذين معه في الركب، سواء كان الرفيق مخالطاً له، أو في جملة الناس من غير مخالطة، والسبب في نهيهم عن الأكل قطع الذريعة، لئلا يتوصل بعض الناس إلى نحره أو تعييبه قبل أوانه. قال: واختلف العلماء في الهدي إذا عطب فنحره. فقال الشافعي: إن كان هدي تطوع كان له أن يفعل فيه ما شاء، من بيع وذبح وأكل وإطعام وغير ذلك، ولو تركه، ولا شيء عليه في كل ذلك، لأنه ملكه، وإن كان هدياً منذوراً لزمه ذبحه، فإن تركه حتى هلك لزمه ضمانه كما لو فرط في حفظ الوديعة حتى تلفت، فإذا ذبحه غمس نعله في دمه وضرب بها صفحة سنامه، وتركه موضعه، ليعلم من مر به أنه هدي فيأكله، ولا يجوز للمهدي ولا لسائق هذا الهدي وقائده الأكل منه، ولا يجوز للأغنياء الأكل منه مطلقاً، لأن الهدي مستحق للمساكين، فلا يجوز لغيرهم، ويجوز للفقراء من غير أهل هذه الرفقة، ولا يجوز لفقراء الرفقة، وكلام جمهور الشافعية أن المراد بالرفقة جميع القافلة، وقيل: الذين يخالطون المهدي في الأكل وغيره. والله أعلم

(342) باب طواف الوداع

(342) باب طواف الوداع 2844 - عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت". وفي رواية قال: "ينصرفون كل وجه". ولم يقل "في كل وجه". 2845 - عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت. إلا أنه خفف عن المرأة الحائض. 2846 - عن طاووس. قال: كنت مع ابن عباس. إذ قال زيد بن ثابت: تفتي أن تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت؟ فقال له ابن عباس: إما لا. فسل فلانة الأنصارية. هل أمرها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فرجع زيد بن ثابت إلى ابن عباس يضحك. وهو يقول: ما أراك إلا قد صدقت. 2847 - عن عائشة رضي الله عنها، قالت: حاضت صفية بنت حيي بعد ما أفاضت. قالت عائشة: فذكرت حيضتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أحابستنا هي؟ " قالت فقلت: يا رسول الله! إنها قد كانت أفاضت وطافت بالبيت. ثم حاضت بعد الإفاضة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فلتنفر". 2848 - عن ابن شهاب بهذا الإسناد قالت: طمثت صفية بنت حيي. زوج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع. بعد ما أفاضت طاهراً. بمثل حديث الليث. 2849 - وفي رواية، عن عائشة رضي الله عنها: أنها ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن صفية قد حاضت. بمعنى الحديث السابق.

2850 - عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كنا نتخوف أن تحيض صفية قبل أن تفيض. قالت: فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "أحابستنا صفية؟ " قلنا: قد أفاضت. قال "فلا. إذن". 2851 - عن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إن صفية بنت حيي قد حاضت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لعلها تحبسنا. ألم تكن قد طافت معكن بالبيت؟ " قالوا: بلى. قال "فاخرجن". 2852 - عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد من صفية بعض ما يريد الرجل من أهله. فقالوا: إنها حائض. يا رسول الله! قال: "وإنها لحابستنا؟ " فقالوا: يا رسول الله! إنها قد زارت يوم النحر. قال: "فلتنفر معكم". 2853 - عن عائشة رضي الله عنها، قالت: لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينفر، إذا صفية على باب خبائها كئيبة حزينة. فقال "عقرى! حلقى! إنك لحابستنا" ثم قال لها "أكنت أفضت يوم النحر؟ " قالت: نعم. قال: "فانفري". 2854 - وفي رواية عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. نحو الحديث السابق. غير أنها لا تذكر: "كئيبة حزينة". -[المعنى العام]- كان المسلمون قبل حجة الوداع يؤدون مناسك الحج، ثم ينصرفون كل إلى وجهه ومقصده، دون أن يطوفوا بالبيت طواف الوداع. ولما كان واجب القادم إذا دخل مكاناً أن يبدأ بالتحية، وإذا غادره ودع بالتحية، ولما

كانت تحية المسجد الحرام الطواف كان المناسب للحاج أن يختم أعماله في مكة بطواف الوداع، فأمر صلى الله عليه وسلم أصحابه في حجة الوداع بأن يكون آخر عهدهم بالحرم طواف الوداع، فقال: لا ينفرن أحد ولا يغادر الحرم إلا أن يكون طواف الوداع آخر عهده بالبيت، ورخص صلى الله عليه وسلم للحائض أن تنفر وتسافر دون طواف الوداع مادامت قد طافت طواف الركن، طواف الإفاضة. والله أعلم. -[المباحث العربية]- (كان الناس ينصرفون في كل وجه) أي يتوجهون إلى بلادهم دون أن يطوفوا طواف الوداع. (لا ينفرن أحد) أي لا يذهبن أحد من منى إلى بلده. (حتى يكون آخر عهده بالبيت) آخر "عهده" اسم كان، و"بالبيت" خبرها والمقصود طواف الوداع، وليس مجرد رؤية البيت أو دخوله، والتقدير: حتى يكون آخر عهده بالطواف بالبيت. (أمر الناس) بضم الهمزة، مبني للمجهول، والآمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما جاء صريحاً في الأحاديث الأخرى. (تفتي أن تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت؟ ) الكلام على الاستفهام الإنكاري، أي لا ينبغي أن تفتي بذلك، لأن زيد بن ثابت كان يقول: لا تنفر حتى تطهر وتطوف بالبيت، ومعنى "تصدر الحائض" بفتح التاء وضم الدال بينهما صاد ساكنة أي ترجع وتنصرف من منى إلى بلدها. (إما لا فسل فلانة الأنصارية) "ما" زائدة، دخلت على "إن" كما في قوله تعالى {فإما ترين من البشر أحداً فقولي} [مريم: 26]. و"لا" أمالتها العرب إمالة خفيفة، قال ابن الأثير: والعوام يشبعون إمالتها، فتصير ألفها ياء، وهو خطأ، و"لا" في قوة جملة، أي تتضمن جملة وتغني عنها، كما في قولهم: إن زارك فزره وإلا فلا، أي وإن لم يزرك. والمعنى هنا إن لم تقبل فتواي فسل فلانة. والمراد من فلانة الأنصارية أم سليم (بضم السين) الأنصارية، أم أنس فقد روى أبو داود الطيالسي عن عكرمة قال: اختلف ابن عباس وزيد بن ثابت في المرأة إذا حاضت وقد طافت بالبيت يوم النحر، فقال زيد: يكون آخر عهدها بالبيت. وقال ابن عباس: تنفر إن شاءت. فقال الأنصار: لا نتابعك يا ابن عباس وأنت تخالف زيداً. فقال: سلوا صاحبتكم أم سليم. فسألوها فقالت: "حضت بعد ما طفت بالبيت، فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن انفري. فقالت: وحاضت صفية، فقالت لها عائشة. حبستنا، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تنفر".

(ما أراك إلا قد صدقت) وفي بعض الروايات "إني وجدت الذي قلت مثل ما قلت" و"أراك" بمعنى أعتقدك، قال ذلك بعد أن سأل أم سليم. (فلتنفر) بكسر الفاء وضمها، والكسر أفصح، أي فلتدفع ولتخرج من مكة إلى وطنها المدينة دون طواف الوداع. (قالوا: بلى) كان الظاهر (قلن: بلى) فالخطاب للنساء "ألم تكن قد طافت معكن"؟ لكن يحتمل أنه كان معهن أتباع من الرجال فغلبوا. ففي الرواية السابعة "فقالوا: إنها حائض .... فقالوا: إنها قد زارت -أي طافت طواف الزيارة، وهو طواف الركن والإفاضة- قال: فلتنفر معكم". (كئيبة حزينة) يقال: كئب بكسر الهمزة يكأب بفتح الهمزة كآبة تغيرت نفسه وانكسرت من شدة الهم والحزن. (عقرى حلقى) سبق شرحها بالتفصيل في لغويات الرواية السابعة والعشرين من باب وجوه الإحرام وحجة النبي صلى الله عليه وسلم. -[فقه الحديث]- قال النووي في المجموع: قال أصحابنا: من فرغ من مناسكه، وأراد المقام بمكة ليس عليه طواف الوداع، وهذا لا خلاف فيه، سواء كان من أهلها أو غريباً، وإن أراد الخروج من مكة إلى وطنه أو غير وطنه طاف طواف الوداع وفي حكمه قولان مشهوران: أصحهما أنه واجب، لحديث "لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت" والثاني لا يجب، بل هو سنة، لأنه لو وجب لم يجز للحائض تركه، ولأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بجبره بدم. اهـ وقال البدر العيني: قال مالك وداود وابن المنذر: هو سنة لا شيء في تركه، وقال الحنفية: هو واجب على الآفاقي، دون المكي والميقاتي ومن دونهم، وقال أبو يوسف: أحب إلي أن يطوف المكي، لأنه يختم المناسك ولا يجب على الحائض والنفساء، ولا على المعتمر لأن وجوبه عرف نصاً في الحج، فيقتصر عليه. واختلفوا فيمن ودع ثم بدا له شراء حوائجه، فقال عطاء: يعيد حتى يكون آخر عهده الطواف بالبيت، وبنحوه قال الثوري والشافعي وأحمد. وقال مالك: لا بأس أن يشتري بعض حوائجه وطعامه من السوق، ولا شيء عليه، وإن أقام يوماً أو نحوه أعاد، وقال أبو حنيفة: لو ودع وأقام شهراً أو أكثر أجزأه، ولا إعادة عليه. اهـ أما الحائض والنفساء فطواف الوداع ساقط عنها عند عامة أهل العلم، وخالف في ذلك

بعضهم، فقالوا: لا يحل لأحد أن ينفر حتى يطوف طواف الوداع، ولم يعذروا في ذلك حائضاً لحيضها، ذكره الطحاوي. وقال ابن المنذر روى ذلك عن عمر وابن عمر وزيد بن ثابت، فإنهم أمروا الحائض بالمقام لطواف الوداع. فكأنهم أوجبوه عليها كما يجب عليها طواف الإفاضة، وقد ثبت رجوع ابن عمر وزيد بن ثابت عن ذلك. قال النووي: لكن يستحب للحائض أن تقف على باب المسجد الحرام وتدعوا. والله أعلم. هذا ولبحث طواف الوداع تتمة تأتي بعد اثنى عشر باباً تحت باب: ما يقيم المهاجر بمكة. فلتراجع. والله أعلم

(343) باب دخول الكعبة والصلاة فيها

(343) باب دخول الكعبة والصلاة فيها 2855 - عن ابن عمر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة، هو وأسامة وبلال وعثمان بن طلحة الحجبي. فأغلقها عليه. ثم مكث فيها. قال ابن عمر: فسألت بلالاً حين خرج: ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: جعل عمودين عن يساره. وعموداً عن يمينه. وثلاثة أعمدة وراءه. وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة. ثم صلى. 2856 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح. فنزل بفناء الكعبة. وأرسل إلى عثمان بن طلحة. فجاء بالمفتاح. ففتح الباب. قال: ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم وبلال وأسامة بن زيد وعثمان بن طلحة. وأمر بالباب فأغلق. فلبثوا فيه ملياً. ثم فتح الباب. فقال عبد الله: فبادرت الناس. فتلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجاً. وبلال على إثره. فقلت لبلال: هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قلت: أين؟ قال: بين العمودين. تلقاء وجهه. قال: ونسيت أن أسأله: كم صلى. 2857 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، على ناقة لأسامة بن زيد. حتى أناخ بفناء الكعبة. ثم دعا عثمان بن طلحة فقال: "ائتني بالمفتاح" فذهب إلى أمه. فأبت أن تعطيه. فقال: والله! لتعطينه أو ليخرجن هذا السيف من صلبي. قال: فأعطته إياه. فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدفعه إليه. ففتح الباب. ثم ذكر بمثل الحديث السابق. 2858 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت، ومعه أسامة وبلال وعثمان بن طلحة. فأجافوا عليهم الباب طويلاً. ثم فتح. فكنت أول من دخل. فلقيت بلالاً. فقلت: أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: بين العمودين المقدمين. فنسيت أن أسأله: كم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ .

2859 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه انتهى إلى الكعبة. وقد دخلها النبي صلى الله عليه وسلم وبلال وأسامة. وأجاف عليهم عثمان بن طلحة الباب. قال: فمكثوا فيه ملياً. ثم فتح الباب. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم. ورقيت الدرجة. فدخلت البيت. فقلت: أين صلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: ها هنا. قال: ونسيت أن أسألهم: كم صلى؟ . 2860 - عن سالم، عن أبيه رضي الله عنه. أنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت. هو وأسامة ابن زيد وبلال وعثمان بن طلحة. فأغلقوا عليهم. فلما فتحوا كنت في أول من ولج. فلقيت بلالاً فسألته: هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. صلى بين العمودين اليمانيين. 2861 - عن سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنه. قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة. هو وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة. ولم يدخلها معهم أحد. ثم أغلقت عليهم. قال عبد الله بن عمر: فأخبرني بلال أو عثمان بن طلحة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في جوف الكعبة بين العمودين اليمانيين. 2862 - عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أسمعت ابن عباس يقول: إنما أمرتم بالطواف ولم تؤمروا بدخوله. قال: لم يكن ينهى عن دخوله. ولكني سمعته يقول: أخبرني أسامة بن زيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها. ولم يصل فيه. حتى خرج. فلما خرج ركع في قبل البيت ركعتين. وقال: "هذه القبلة" قلت له: ما نواحيها؟ أفي زواياها؟ قال: بل في كل قبلة من البيت. 2863 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة وفيها ست سوار. فقام عند سارية فدعا، ولم يصل. 2864 - عن إسماعيل بن أبي خالد قال: قلت لعبد الله بن أبي أوفى، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت في عمرته؟ قال لا.

-[المعنى العام]- في السنة السابعة من الهجرة تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمرة القضاء حسب شروط صلح الحديبية، ولم يدخل الكعبة، لأن ذلك لم يكن من الشروط، ولأنها كان بداخلها أصنام وصور، لا يملك إزالتها، وعلى رأس ثمان سنين ونصف من مقدمه إلى المدينة فتح مكة فأرسل عمر بن الخطاب إلى الكعبة، فأخرج الأصنام منها، ومحا ما أمكنه محوه من صور على حوائطها، ثم طلب من سادن الكعبة عثمان بن أبي طلحة مفتاح الكعبة، فأتاه به، ففتحها ودخلها هو وعثمان بن أبي طلحة وأسامة بن زيد وبلال، وأغلقوا عليهم الباب، فرأى على بعض حوائطها صورة لإبراهيم عليه السلام يضرب القداح ويستقسم بالأزلام، وصورة مريم وفي حجرها ابنها عيسى عليه السلام مرسومة على أحد الأعمدة، فأمر أسامة أن يأتيه بدلو من ماء، وأخذ يمحو هذه الصور، يبل الثوب ويضرب به الصور، ويقول: قاتل الله قوماً يصورون ما لا يخلقون، قاتلهم الله ما كان إبراهيم يستقسم بالأزلام. ثم دعا بزعفران فلطخ به ما صعب محوه من صور، ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين في جوف الكعبة، وأخذ يتحرك في أركانها وهو يكبر الله ويسبحه ويحمده، ثم خرجوا. وكان عبد الله بن عمر شديد العناية والحرص على الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسرع إلى بلال قبل أن يخرج من باب الكعبة يسأله: هل صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ في الكعبة قال: نعم. قال له: أين صلى؟ وفي أي مكان منها صلى؟ فأشار إلى الموضع الذي صلى فيه صلى الله عليه وسلم، فكان ابن عمر يحج كثيراً، وكان يدخل الكعبة كثيراً وكلما دخل صلى في المكان الذي صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. -[المباحث العربية]- (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة) كان ذلك عام الفتح، كما في الرواية الثانية. (هو وأسامة) "هو" ضمير الفصل، يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. (وعثمان بن طلحة الحجبي) قال النووي: هو بفتح الحاء والجيم، منسوب إلى حجابة الكعبة، وهي ولايتها وفتحها وإغلاقها وخدمتها، ويقال له ولأقاربه الحجبون والحجبة، وهو عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، واسم أبي طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي القرشي العبدري، أسلم مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص في هدنة الحديبية، وشهد فتح مكة، ودفع النبي صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة إليه وإلى أبي شيبة بن عثمان بن أبي طلحة وهو ابن عم عثمان هذا، لا ولده، وقال: خذوها يا بني طلحة خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم، ثم نزل المدينة، فأقام بها إلى وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تحول إلى مكة، فأقام بها حتى توفي، سنة اثنتين وأربعين، وقيل إنه استشهد يوم أجنادين -بفتح الدال وكسرها- وهي موضع بقرب بيت المقدس، كانت غزوته في أوائل خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وثبت في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم "كل مأثرة كانت في الجاهلية فهي

تحت قدمي إلا سقاية الحاج وسدانة البيت. قال القاضي عياض: قال العلماء: لا يجوز لأحد أن ينزعها منهم. قال: وهي ولاية لهم عليها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتبقى دائمة لهم ولذرياتهم أبداً، ولا ينازعون فيها، ولا يشاركون ماداموا موجودين صالحين لذلك. (فأغلقها عليه) ضمير الفاعل يحتمل أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في بعض الروايات عن ابن عمر قال: كان بنو أبي طلحة يزعمون أنه لا يستطيع أحد فتح الكعبة غيرهم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المفتاح، ففتحها بيده لكنها رواية ضعيفة، كما جاء في رواية أخرى "فأغلقاها عليه" والضمير لعثمان وبلال، وهي رواية ضعيفة أيضاً، رواها مالك في الموطأ، والظاهر أن ضمير الفاعل لعثمان بن طلحة، ففي الرواية الثانية "فأمر بالباب فأغلق" وفي الرواية الخامسة "وأجاف عليهم عثمان بن طلحة الباب" فالمباشر للغلق هو عثمان، لأنه من وظيفته، وأسند الفعل "أجافوا عليهم الباب" في الرواية الرابعة باعتبارهم راضيين به، وإنما أمر صلى الله عليه وسلم بإغلاق الباب ليكون أسكن لقلبه، وأجمع لخشوعه ولئلا يجتمع الناس ويدخلوا ويزدحموا، فينالهم ضرر، ويتهوش عليه الحال بسبب لغطهم، وقد يقال: إنما أغلقه خشية أن يكثر الناس عليه، فيصلوا بصلاته، فليتزموها فيشق عليهم كما فعل في صلاة الليل حيث لم يخرج إليهم. (ثم مكث فيها) في الرواية الثانية "فلبثوا فيه ملياً" والضمير في "فيه" للبيت و"ملياً" أي زمناً طويلاً وفي الرواية الرابعة "فأجافوا عليهم الباب طويلاً" أي أغلقوه عليهم زمناً طويلاً. (فسألت بلالاً حين خرج) في الرواية الثانية "فبادرت الناس، فتلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجاً، وبلال على إثره، فقلت لبلال" وفي الرواية الرابعة "فكنت أول من دخل فلقيت بلالاً، فقلت" وفي الرواية الخامسة "فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ورقيت الدرجة وكانت قدر ثلثي ذراع، فدخلت البيت، فقلت "ومن مجموع الروايات يتبين أن عبد الله بن عمر حين فتح الباب رقى الدرجة التي تحت الباب، فدخل عقب خروج النبي صلى الله عليه وسلم، والتقى ببلال في الداخل قبل أن يخرج، فسأله فمعنى "حين خرج" حين قارب وباشر الخروج. (ماذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ) أي في داخل الكعبة. في الرواية الثانية "فقلت لبلال: هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قلت: أين؟ قال .... إلخ" وهذه الرواية أوضح الروايات في سؤال ابن عمر لبلال، وقد ذكرت بعض الروايات بعضاً، وتركت بعضاً، وكأنه استثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة، ثم سأل عن مكان صلاته فيها. (بين العمودين تلقاء وجهه) أي في مقابل اتجاهه. وكان سقف الكعبة آنذاك قائماً على ستة أعمدة في صفين، كل صف يعترض الباب ثلاثة أعمدة، فترك صلى الله عليه وسلم صف الأعمدة القريب من الباب، وفي الصف المقدم ترك عموداً عن يمينه وعمودين عن شماله، وفي مواجهة حائط الكعبة، وخلف ظهره باب الكعبة، وهذا معنى قوله في الرواية الأولى "جعل عمودين عن يساره، وعموداً عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه" وقوله في الرواية الثانية "بين العمودين تلقاء وجهه" وقوله

في الرواية الرابعة "بين العمودين المقدمين" وقوله في الرواية السادسة والسابعة: "بين العمودين اليمانيين" بتخفيف الياء لأنهم جعلوا الألف بدل إحدى ياءى النسب، وجوز سيبويه التشديد. قال النووي: هكذا هو في مسلم "عمودين عن يساره وعموداً عن يمينه" وفي رواية للبخاري "عمودين عن يمينه وعموداً عن يساره" وهكذا هو في الموطأ وفي سنن أبي داود وفي رواية للبخاري "عموداً عن يمينه وعموداً عن يساره". اهـ وقد روى البخاري "أن عبد الله بن عمر كان إذا دخل الكعبة مشى قبل الوجه حين يدخل، ويجعل الباب قبل الظهر، يمشي حتى يكون بينه وبين الجدار الذي قبل وجهه قريباً من ثلاثة أذرع، فيصلي، يتوخى المكان الذي أخبره بلال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فيه". (على ناقة لأسامة بن زيد) كذا هو في الأصل، لكن روى البخاري في كتاب الجهاد "أقبل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته" وفي المغازي "وهو مردف أسامة بن زيد على القصواء" والقصواء اسم ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم. (فنزل بفناء الكعبة) بكسر الفاء وبالمد جانبها وحريمها والساحة التي أمامها وكان المسجد بدون حوائط، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد بناقته، فأناخها في المسجد. (أو ليخرجن هذا السيف من صلبي) هددها بأن يقتل نفسه، وكان مسلماً، ولم يكن حرم قتل النفس أو لم يكن علم به، أو هو مجرد تهديد للتخويف. (ولم يدخلها معهم أحد) في رواية النسائي أنه كان معهم الفضل بن عباس، وفي رواية لأحمد كذلك. (فأخبرني بلال أو عثمان بن طلحة) هكذا على الشك، والمحفوظ أنه سأل بلالاً ويحتمل أنه سأل جماعتهم فأخبروه أو أخبره أحدهم (بلال) ووافقه عثمان فعد مخبراً. (ركع في قبل البيت) بضم القاف والباء، ويجوز إسكانها. قيل: معناه ما استقبلك منه، وقيل: مقابله، وفي رواية "فصلى ركعتين في وجه الكعبة" وهذا هو المراد بقبلها ومعناه عند بابها. (هذه القبلة) قال الخطابي: معناه أن أمر القبلة قد استقر على استقبال هذا البيت فلا ينسخ بعد اليوم، فصلوا إليه أبداً، قال: ويحتمل أنه علمهم سنة موقف الإمام، وأنه يقف في وجهها دون أركانها وجوانبها، وإن كانت الصلاة في جميع جهاتها مجزئة. قال النووي: ويحتمل معنى ثالثاً، وهو أن معناه هذه الكعبة هي المسجد الحرام الذي أمرتم باستقباله، لا كل الحرم، ولا مكة، ولا كل المسجد الذي حول الكعبة، بل هي الكعبة نفسها فقط. (أدخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت في عمرته؟ ) المراد بها عمرة القضاء التي كانت سنة سبع من الهجرة، قبل فتح مكة.

-[فقه الحديث]- أحاديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- في رواياته السبع الأولى تثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في جوف الكعبة، لكن الرواية الثامنة والتاسعة تنفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في داخل الكعبة، والعلماء على الأخذ بحديث عبد الله بن عمر، لأن الرواية التاسعة عن ابن عباس، ولم يكن معهم، ولم يسأل من كان معهم. أما نفي أسامة فقد أجاب عنه العلماء بأنه يحتمل أن يكون أسامة قد غاب عن النبي صلى الله عليه وسلم لحاجة بعد دخوله، فلم يشهد صلاته، ويدل عليه ما رواه ابن المنذر من حديث أسامة "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى صوراً في الكعبة، قال: فكنت آتيه بماء في الدلو يضرب به الصور" فقد أخبر أسامة أنه كان يخرج لنقل الماء، وكان ذلك كله يوم الفتح. وقال ابن حبان: الأشبه عندي أن يحمل الخبران على دخولين متغايرين، أحدهما يوم الفتح، وصلى فيه والآخر في حجة الوداع ولم يصل فيه، وليس بين الخبرين تضاد. قال الحافظ ابن حجر: وهذا جمع حسن، لكن تعقبه النووي بأنه لا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم دخل في يوم الفتح، لا في حجة الوداع، ويشهد له ما رواه الأزرقي في (كتاب مكة) عن سفيان عن غير واحد من أهل العلم "أنه صلى الله عليه وسلم إنما دخل الكعبة مرة واحدة، عام الفتح، ثم حج فلم يدخلها" قال الحافظ: وإذا كان الأمر كذلك فلا يمتنع أن يكون دخلها عام الفتح مرتين، وقد وقع عند الدارقطني من طريق ضعيفة ما يشهد لهذا الجمع. وحمل بعضهم الصلاة المثبتة على اللغوية، والمنفية على الشرعية، وهذه طريقة من يكره الصلاة داخل الكعبة، فرضاً ونفلاً، ويؤيد هذا الجمع ما أخرجه عمر بن شبة في كتاب مكة عن ابن عباس حين قيل له: كيف أصلي في الكعبة؟ قال: كما تصلي في الجنازة، تسبح وتكبر ولا تركع ولا تسجد، ثم عند أركان البيت سبح وكبر وتضرع واستغفر، ولا تركع ولا تسجد. قال الحافظ: وسنده صحيح. وقال القرطبي: يمكن حمل الإثبات على التطوع والنفي على الفرض. قال الحافظ: وهذه طريقة المشهور من مذهب مالك. وقال النووي وغيره: يجمع بين إثبات بلال ونفي أسامة بأنهم لما دخلوا الكعبة اشتغلوا بالدعاء، فرأى أسامة النبي صلى الله عليه وسلم يدعو فاشتغل أسامة بالدعاء في ناحية، والنبي صلى الله عليه وسلم في ناحية، ثم صلى النبي صلى الله عليه وسلم فرآه بلال لقربه منه، ولم يره أسامة لبعده عنه واشتغاله، ثم إنه بإغلاق الباب تكون الظلمة، مع احتمال أن يحجبه عنه بعض الأعمدة، فنفاها عملاً بظنه. بقي الجمع بين نفي أسامة في روايتنا الثامنة وبين ما جاء من إثباته صلاة النبي صلى الله عليه وسلم داخل الكعبة، فقد وقع عند أبي عوانة عن ابن عمر أنه سأل بلالاً وأسامة بن زيد حين خرجا: أين صلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقالا على وجهته، وكذا أخرج البزار نحوه، وفي رواية لأحمد والطبراني عن ابن عمر قال: أخبرني أسامة أنه صلى فيه ههنا".

قال العيني: وجه الجمع بينهما أن أسامة حين أثبتها اعتمد في ذلك على غيره وحيث نفاها أراد ما في علمه، لكونه لم ير النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال: ومما يرجح به إثبات صلاته صلى الله عليه وسلم في البيت على من نفاها كثرة الرواة لها، فالذين أثبتوها بلال وعمر بن الخطاب وعثمان بن طلحة وشيبة بن عثمان والذين نفوها أسامة والفضل بن عباس وعبد الله بن العباس. أما الفضل فليس في الصحيح أنه دخل معهم، وأما ابن عباس فإنه أخبر عن أخيه الفضل، ولم يدخل مع النبي صلى الله عليه وسلم البيت ومن الأجوبة أن القاعدة تقديم المثبت على النافي. اهـ قال الحافظ ونرجح رواية بلال من جهة أنه لم يختلف عليه في الإثبات، واختلف على من نفى. -[ويؤخذ من الأحاديث: ]- 1 - من الروايات السبع الأولى استحباب الصلاة في الكعبة. قال الحافظ ابن حجر: وهو ظاهر في النفل، ويلتحق به الفرض، إذ لا فرق بينهما في مسألة الاستقبال للمقيم. وهو قول الجمهور، وعن ابن عباس: لا تصح الصلاة داخلها مطلقاً، وعلله بأنه يلزم من ذلك استدبار بعضها، وقد ورد الأمر باستقبالها، فيحمل على استقبال جميعها. وبه قال بعض المالكية والظاهرية والطبري. وقال المازري: المشهور في المذاهب منع صلاة الفرض داخلها ووجوب الإعادة وأطلق الترمذي عن مالك جواز النوافل، وقيده بعض أصحابه بغير الرواتب وما تشرع فيه الجماعة، ويلحق بهذه المسألة الصلاة في الحجر. وقال النووي: اختلف العلماء في الصلاة في الكعبة إذا صلى متوجهاً إلى جدار منها، أو إلى الباب وهو مردود، فقال الشافعي والثوري وأبو حنيفة وأحمد والجمهور: تصح فيها صلاة النفل وصلاة الفرض ثم أشار إلى المذاهب الأخرى بنحو السابق. 2 - ورواية الصاحب عن الصاحب. 3 - وسؤال المفضول مع وجود الأفضل، والاكتفاء به. 4 - والحجة بخبر الواحد. 5 - واختصاص السابق بالبقعة الفاضلة. 6 - والسؤال عن العلم والحرص عليه. 7 - وفضيلة ابن عمر لشدة حرصه على تتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم ليعمل بها. 8 - وفيها أن الفاضل من الصحابة كان يغيب عن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض المشاهد الفاضلة، ويحضره من هو دونه، فيطلع على ما لم يطلع عليه، لأن أبا بكر وعمر وغيرهما ممن هو أفضل من بلال ومن ذكر معه لم يشاركوهم في ذلك.

9 - واستدل بها البخاري على أن الصلاة إلى المقام غير واجبة. 10 - وعلى جواز الصلاة بين السواري في غير الجماعة. 11 - وعلى مشروعية الأبواب والغلق للمساجد. 12 - وأن السترة إنما تشرع حيث يخشى المرور، فإنه صلى الله عليه وسلم صلى بين العمودين، ولم يصل إلى أحدهما، قال الحافظ: والذي يظهر أنه ترك ذلك للاكتفاء بالقرب من الجدار. 13 - ويستفاد منها أن قول العلماء: تحية المسجد الحرام الطواف مخصوص بغير داخل الكعبة، لكونه صلى الله عليه وسلم جاء فأناخ عند البيت، فدخله، فصلى فيه ركعتين، فكانت تلك الصلاة إما لكون الكعبة كالمسجد المستقل، أو هو تحية المسجد العام. 14 - واستحباب دخول الكعبة، وقد روى ابن خزيمة والبيهقي من حديث ابن عباس مرفوعاً "من دخل البيت دخل في حسنة وخرج مغفوراً له" قال الحافظ: ومحل استحبابه ما لم يؤذ أحداً بدخوله. وحكى القرطبي عن بعض العلماء أن دخول البيت من مناسك الحج، ورده بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما دخله عام الفتح، ولم يكن حينئذ محرماً. 15 - ومن الرواية الثامنة استحباب الدعاء في جميع نواحي الكعبة لمن دخلها. 16 - ومن الرواية العاشرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل الكعبة في عمرة القضاء. قال الحافظ: قال العلماء سبب ترك دخوله ما كان في البيت من الأصنام والصور، ولم يكن المشركون يتركونه ليغيرها، فلما كان في الفتح أمر بإزالة الصور، ثم دخلها. والله أعلم

(344) باب نقض الكعبة وبنائها

(344) باب نقض الكعبة وبنائها 2865 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "لولا حداثة عهد قومك بالكفر، لنقضت الكعبة، ولجعلتها على أساس إبراهيم. فإن قريشاً، حين بنت البيت، استقصرت. ولجعلت لها خلفاً". 2866 - عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ألم تري أن قومك، حين بنوا الكعبة، اقتصروا عن قواعد إبراهيم؟ " قالت: فقلت: يا رسول الله! أفلا تردها على قواعد إبراهيم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت". فقال عبد الله بن عمر: لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر، إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم. 2867 - عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية (أو قال بكفر) لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله، ولجعلت بابها بالأرض، ولأدخلت فيها من الحجر". 2868 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا عائشة! لولا أن قومك حديثو عهد بشرك، لهدمت الكعبة. فألزقتها بالأرض. وجعلت لها بابين باباً شرقياً وباباً غربياً. وزدت فيها ستة أذرع من الحجر. فإن قريشاً اقتصرتها حيث بنت الكعبة". 2869 - عن عطاء قال: لما احترق البيت زمن يزيد بن معاوية، حين غزاها أهل الشام، فكان من أمره ما كان، تركه ابن الزبير. حتى قدم الناس الموسم. يريد أن يجرئهم

(أو يحربهم) على أهل الشام. فلما صدر الناس قال: يا أيها الناس! أشيروا علي في الكعبة. أنقضها ثم أبني بناءها. أو أصلح ما وهي منها؟ قال ابن عباس: فإني قد فرق لي رأي فيها. أرى أن تصلح ما وهي منها. وتدع بيتاً أسلم الناس عليه. وأحجاراً أسلم الناس عليها وبعث عليها النبي صلى الله عليه وسلم. فقال ابن الزبير: لو كان أحدكم احترق بيته، ما رضي حتى يجده. فكيف بيت ربكم؟ إني مستخير ربي ثلاثاً. ثم عازم على أمري. فلما مضى الثلاث أجمع رأيه على أن ينقضها. فتحاماه الناس أن ينزل، بأول الناس يصعد فيه، أمر من السماء. حتى صعده رجل فألقى منه حجارة. فلما لم يره الناس أصابه شيء تتابعوا. فنقضوه حتى بلغوا به الأرض. فجعل ابن الزبير أعمدة. فستر عليها الستور. حتى ارتفع بناؤه. وقال ابن الزبير: إني سمعت عائشة تقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لولا أن الناس حديث عهدهم بكفر، وليس عندي من النفقة ما يقوي على بنائه، لكنت أدخلت فيه من الحجر خمس أذرع، ولجعلت لها باباً يدخل الناس منه، وباباً يخرجون منه". قال: فأنا اليوم أجد ما أنفق. ولست أخاف الناس. قال: فزاد فيه خمس أذرع من الحجر. حتى أبدى أساً نظر الناس إليه. فبنى عليه البناء. وكان طول الكعبة ثماني عشرة ذراعاً. فلما زاد فيه استقصره. فزاد في طوله عشر أذرع. وجعل له بابين: أحدهما يدخل منه، والآخر يخرج منه. فلما قتل ابن الزبير كتب الحجاج إلى عبد الملك بن مروان يخبره بذلك. ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أس نظر إليه العدول من أهل مكة، فكتب إليه عبد الملك: إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء. أما ما زاد في طوله فأقره. وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه. وسد الباب الذي فتحه. فنقضه وأعاده إلى بنائه. 2870 - عن عبد الله بن عبيد بن عمير والوليد بن عطاء يحدثان عن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة. قال عبد الله بن عبيد: وفد الحارث بن عبد الله على عبد الملك بن مروان في خلافته. فقال عبد الملك: ما أظن أبا خبيب (يعني ابن الزبير) سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمعه منها. قال الحارث: بلى! أنا سمعته منها. قال: سمعتها تقول ماذا؟ قال: قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن قومك استقصروا من بنيان البيت. ولولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منه. فإن بدا لقومك، من بعدي أن يبنوه فهلمي لأريك ما تركوا منه". فأراها قريباً من سبعة أذرع. وزاد في رواية قال النبي صلى الله عليه وسلم "ولجعلت لها بابين

موضوعين في الأرض شرقياً وغربياً. وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها؟ " قالت: قلت: لا. قال "تعززاً أن لا يدخلها إلا من أرادوا. فكان الرجل إذا هو أراد أن يدخلها يدعونه يرتقي. حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط". قال عبد الملك للحارث: أنت سمعتها تقول هذا؟ قال: نعم. قال: فنكت ساعة بعصاه ثم قال: وددت أني تركته وما تحمل. 2871 - عن أبي قزعة؛ أن عبد الملك بن مروان، بينما هو يطوف بالبيت إذ قال: قاتل الله ابن الزبير! حيث يكذب على أم المؤمنين. يقول: سمعتها تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا عائشة! لولا حدثان قومك بالكفر لنقضت البيت حتى أزيد فيه من الحجر. فإن قومك قصروا في البناء" فقال الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة: لا تقل هذا. يا أمير المؤمنين! فأنا سمعت أم المؤمنين تحدث هذا. قال: لو كنت سمعته قبل أن أهدمه، لتركته على ما بنى ابن الزبير. 2872 - عن عائشة رضي الله عنها. قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجدر؟ أمن البيت هو؟ قال "نعم" قلت: فلم لم يدخلوه في البيت؟ قال "إن قومك قصرت بهم النفقة" قلت: فما شأن بابه مرتفعاً؟ قال: "فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا. ولولا أن قومك حديث عهدهم في الجاهلية، فأخاف أن تنكر قلوبهم، لنظرت أن أدخل الجدر في البيت. وأن ألزق بابه بالأرض". 2873 - عن عائشة رضي الله عنها، قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحجر. وساق الحديث بمعنى السابق. وقال فيه: فقلت: فما شأن بابه مرتفعاً لا يصعد إليه إلا بسلم؟ وقال "مخافة أن تنفر قلوبهم". -[المعنى العام]- جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس، وكان البيت قد أزيل قبل إبراهيم عليه السلام،

واندرست آثاره، فبوأ الله لإبراهيم مكان البيت، فبناه على الأسس التي بوأها الله له، ولم يكن لها سقف، ولما احترقت بسبب أن قرشية كانت تبخرها، فاتصلت النار بأستارها فأحرقتها، وأصبحت حجارتها هشة ضعيفة وتساقطت قامت قريش ببنائها، واشترك محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم في بنائها هذا وهو ابن خمس وثلاثين وقيل خمس وعشرين، وكان صاحب الفضل في حسم النزاع فيمن يضع الحجر الأسود في مكانه من بنائها. بنت قريش الكعبة على قواعد إبراهيم من ثلاث جهات، أما الجهة الرابعة فقد نقصتها نحو ستة أذرع، اختصاراً للنفقة، وأحاطت الجزء المتروك منها بحائط قصير نصف دائري، عرف بحجر إسماعيل عليه السلام. ورفعت حوائطها في السماء ثماني عشرة ذراعاً وأقامت في داخلها ستة أعمدة في صفين، حملت سقفها مع حوائطها وقامت بكسوة هذا البناء تقديساً له، ونصبت بداخله أصناماً، وصورت عليه من الداخل صوراً، ولم يجعل لهذا البناء سوى باب واحد، رفعت قاعدته عن الأرض، لا يصعد إليه إلا بسلم، وكان لها في بناء إبراهيم عليه السلام بابان، باب شرقي وباب غربي، ملتصقين بالأرض، ولما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة دخل الكعبة بعد أن أمر بتحطيم الأصنام من داخلها ومن حولها، وطمس ومحا الصور التي على حوائطها وأعمدتها، ثم أغلقها وأعاد مفتاحها إلى سدنتها. وكان صلى الله عليه وسلم، يتمنى أن لو هدم الكعبة وأعاد بناءها على قواعد إبراهيم عليه السلام، وأدخل فيها الأذرع الخمس أو الست التي اختصرتها قريش، وأعاد إليها الباب الآخر الذي لم تفتحه قريش وألزق البابين بالأرض، لكنه خشي على ضعاف الإيمان أن يفتنوا وهم قريبو عهد بكفر يقدسون الكعبة، ولا يرضون أحداً أن يمسها بسوء، فقال لعائشة: إن قومك قصرت بهم النفقة، فنقصوا من بناء الكعبة خمسة أو ستة أذرع في حجر إسماعيل فهلمي لأريك مكان الأساس الأصلي الذي تركوه، وأراها، ثم قال لها: لولا أني لا أملك ما يكفي لبنائها من جديد، ولولا خوفي من فتنة من هم قريبو عهد بكفر لهدمتها وبنيتها على قواعد إبراهيم، فإن عشت وأراد قومك أن يبنوها من جديد فها هي قواعد إبراهيم وبلغت عائشة هذه الوصية، وسمعها ابن أختها عبد الله بن الزبير، فلما بويع خليفة من أهل الحجاز، وفاض المال في يده قام بتنفيذ هذه الوصية بعد سنة خمس وستين من الهجرة، وكانت عائشة رضي الله عنها قد ماتت منذ زمن. هدم الكعبة وبناها على قواعد إبراهيم، وأدخل فيها من الحجر ستة أذرع، وجعل لها بابين ملتصقين بالأرض، فأحس بالرغبة في رفع بنائها عما كانت عليه، فزاد ارتفاعها عشرة أذرع، فلما قتل ابن الزبير على يد الحجاج وعصابته كتب إلى عبد الملك بن مروان بأن الكعبة أصيبت بالمنجنيق وتحتاج إعادة البناء، فأمره عبد الملك أن يهدمها وأن يعيد بناءها على ما كانت عليه قبل بناء ابن الزبير، على أن يجعل ارتفاعها في السماء مثل ما كان في بناء ابن الزبير، فبناها كذلك، ومازالت على هذا البناء حتى اليوم وصانها الله وجعلنا من مستقبليها ومقدسيها وزائريها، وزادها تكريماً وتشريفاً وتعظيماً ومهابة وبراً، وزاد من زارها بحج أو عمرة تكريماً وتشريفاً وتعظيماً ومهابة وبراً. إنه سميع مجيب.

-[المباحث العربية]- (نقض الكعبة) قال أهل اللغة نقض الشيء نقضاً أفسده بعد إحكامه، ونقض البناء هدمه. (لولا حداثة عهد قومك بالكفر) حداثة بفتح الحاء، أي قرب عهدهم بالكفر وفي الرواية الثانية والسابعة "لولا حدثان قومك بالكفر" "حدثان" بكسر الحاء وإسكان الدال، أي قرب عهدهم بالكفر، وفي الرواية الثالثة "لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية" وفي الرواية الرابعة "لولا أن قومك حديثو عهد بشرك" وفي الرواية الخامسة "لولا أن الناس حديث عهدهم بكفر" وفي الرواية السادسة "لولا حداثة عهدهم بالشرك" وفي الرواية الثامنة "لولا أن قومك حديث عهدهم في الجاهلية" قال النووي هكذا هو في جميع النسخ "في الجاهلية" وهو بمعنى بالجاهلية كما في سائر الروايات. اهـ والمعنى لولا خوف فتنة بعض من أسلم قريباً لهدمت الكعبة، وذلك لما كانوا يعتقدونه من فضل الكعبة وقدسيتها، فيرون هدمها وتغييرها حدثاً عظيماً، والإقدام على ذلك خطيراً، ففي الرواية الثامنة "فأخاف أن تنكر قلوبهم". (لنقضت الكعبة) أي لهدمتها، وفي الرواية الرابعة "لهدمت الكعبة، فألزقتها بالأرض" أي سويت جدرانها بالأرض، أي هدماً كاملاً، وفي الرواية السابعة "لنقضت البيت" أي الكعبة. (ولجعلتها على أساس إبراهيم) عليه السلام، أي على قواعد إبراهيم كما جاء في الرواية الثانية، أي ولبنيت جدرانها على أساس جدران إبراهيم. (فإن قريشاً حين بنت البيت استقصرت) أي قصرت وكفت عن إتمامه وعجزت عن بنائه بحجمه، أو استقصرت الكعبة، فأخذت من طولها، ولم تمد ضلعها كما كان يجب، وفي الرواية الثانية "اقتصروا عن قواعد إبراهيم" أي نقصوا عنها ولم يبلغوها وفي الرواية الرابعة "فإن قريشاً اقتصرتها" أي اقتصرت الأذرع الست، أي تركتها ونقصتها وفي الرواية السادسة "إن قومك استقصروا من بنيان البيت" أي نقصوه وفي الرواية السابعة "فإن قومك قصروا في البناء" أي حذفوا منه ولم يكملوه، وفي الرواية الثامنة "إن قومك قصرت بهم النفقة" بتشديد الصاء المفتوحة، أي ضعفت بهم النفقة فجعلتهم يقتصرون في بنائها، وكان بناء قريش للبيت في الجاهلية، قبل البعثة، واشترك في بنائها محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، وسنه خمسة وعشرون عاماً، وقيل خمسة وثلاثون عاماً. (ولجعلت لها خلفاً) قال النووي هو بفتح الخاء وإسكان اللام وبالفاء، هذا هو الصحيح المشهور، والمراد به باب من خلفها، ولقد جاء مفسراً في الرواية الرابعة "وجعلت لها بابين، باباً شرقياً وباباً غربياً" وفي الرواية السادسة "ولجعلت لها بابين موضوعين في الأرض" أي في مستوى الأرض غير مرتفعين عنها شرقياً وغربياً" وفي صحيح البخاري قال هشام "خلفاً" يعني باباً، وفي

الرواية الخامسة "ولجعلت لها باباً يدخل الناس منه، وباباً يخرجون منه" وفي رواية البخاري "ولجعلت لها خلفين". (ألم ترى أن قومك؟ ) الرؤية هنا علمية، أي ألم تعلمي أن قومك؟ أي اعلمي أن قومك. (أفلا تردها على قواعد إبراهيم؟ ) الفاء عاطفة على محذوف، تقديره أتخاف الناس فلا تردها؟ . (لئن كانت عائشة سمعت هذا) قال النووي: قال القاضي: ليس هذا اللفظ من ابن عمر على سبيل التضعيف لروايتها، والتشكيك في صدقها وحفظها، فقد كانت من الحفظ والضبط بحيث لا يستراب في حديثها ولا فيما تنقله، ولكن كثيراً ما يقع في كلام العرب صورة التشكيك والتقرير، والمراد به اليقين، كقوله تعالى {وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين} [الأنبياء: 111]. (لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله) أي في بناء الكعبة. قال النووي: جاء في رواية "لأنفقت كنز الكعبة في بنائها". اهـ وكنز الكعبة ما كان يهدى إليها من حلي أو أموال تزيد عن الحاجة، فيحبس عليها ويحفظ في خزانتها، وكانوا في الجاهلية يهدون إلى الكعبة المال والحلي وغير ذلك تعظيماً لها، وحكى الفاكهي في "كتاب مكة" أنه صلى الله عليه وسلم وجد فيها يوم الفتح ستين أوقية، فقيل له لو استعنت بها على حربك؟ فلم يحركه والظاهر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تركه رعاية لقلوب قريش، كما ترك بناء الكعبة على قواعد إبراهيم، تشير إلى ذلك روايتنا الثالثة وفيها "لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله" وقيل: تركه لأن ما جعل في الكعبة، وسبل لها يجري مجرى الأوقاف، فلا يجوز تغييره عن وجهه. قال الحافظ وهذا التعليل ليس بظاهر. اهـ وقد روى البخاري أن عمر رضي الله عنه هم أن يقسم كنز الكعبة ومالها بين فقراء المسلمين فقيل له: ما أنت بفاعل. قال: لم؟ فقيل له: لم يفعله صاحباك. رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وهما أحوج منك إلى المال، فقال: هما المرءان يقتدي بهما، وقام كما هو وخرج. ولما صرف الرسول صلى الله عليه وسلم النظر عن كنز الكعبة أخذ يضم عدم القدرة إلى حداثة العهد بكفر كسبب لعدم رد الكعبة إلى بناء إبراهيم، فقال -كما في الرواية الخامسة "وليس عندي من النفقة ما يقوى على بنائه". (ولجعلت بابها بالأرض) أي ملتصقاً بالأرض، بدون درج، غير مرتفع عنها، وفي ملحق الرواية السادسة "ولجعلت لها بابين موضوعين في الأرض" وقد بينت الرواية الثامنة في ملحقها وضع الباب، فقالت "فما شأن بابه مرتفعاً -أي عن الأرض- لا يصعد إليه إلا بسلم"؟ وفي أصلها "فما شأن بابه مرتفعاً"؟ كما بينت الرواية السادسة في ملحقها السر في أن قريشاً رفعت باب الكعبة، ففيها "وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها؟ قالت: قلت: لا. قال: تعززاً -أي تصلباً وتشديداً- أن لا

يدخلها إلا من أرادوا، فكان الرجل إذا هو أراد أن يدخلها يدعونه يرتقي، حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط". (ولأدخلت فيها من الحجر) حجر إسماعيل هو المحاط بحائط قصير على هيئة نصف دائرة بجوار الكعبة، وقد حددت الرواية الرابعة المقدار المتروك من الكعبة في الحجر بستة أذرع، وحددته الرواية الخامسة بخمس أذرع وحددته الرواية الثامنة قريباً من سبعة أذرع، ومن المعلوم أن في الذراع لغتين مشهورتين. التأنيث والتذكير، فصح خمس وخمسة وست وستة وسبع وسبعة. وأما الجمع بين هذا الاختلاف في المقدار فيحتمل أن الأقل لم يحسب عرض حائط الأساس، وأن الأكثر حسبه، قال النووي: قال أصحابنا: ست أذرع من الحجر مما يلي البيت محسوبة من البيت بلا خلاف، وفي الزائد عنها خلاف. هل هو من البيت أولاً؟ وسواء كان الحجر كله من البيت أو بعضه فالطواف يكون من ورائه كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم. (لما احترق البيت زمن يزيد بن معاوية، حين غزاها أهل الشام) أرسل يزيد بن معاوية جيشاً غزا المدينة سنة ثلاث وستين، ثم سار جيش يزيد إلى ابن الزبير في مكة فحاصروه، فقاتلهم أياماً، ثم جاء الخبر بموت يزيد سنة أربع وستين، فبايع أهل الحرمين ابن الزبير، وبايع أهل دمشق معاوية بن يزيد فمات معاوية بعد أربعين يوماً، وبويع مروان بن الحكم بعده، ومات سنة خمس وستين، وتمكن ابن الزبير وبايعه أهل الحرمين واليمن والعراق وخراسان، وبايع أهل الشام عبد الملك بن مروان، وفي هذا الوقت هدم ابن الزبير الكعبة وبناها، وجهز عبد الملك بن مروان جيش الحجاج بن يوسف لحرب ابن الزبير، فحاصروه ونصبوا المنجنيق، وقتلوه رضي الله عنه. فقوله "حين غزاها أهل الشام" أي حين غزا بلاد الحجاز أهل الشام في زمن يزيد بن معاوية، فالضمير "غزاها" يعود على البيت باعتباره الكعبة، والمراد غزا ديارها وبلدها أهل الشام. (فكان من أمره ما كان) أي فكان من أمر يزيد وجيشه مع ابن الزبير ما كان من حصار وحرب. (يريد أن يجرئهم -أو يجربهم- على أهل الشام) قال النووي يجرئهم بالجيم والراء بعدها همزة، من الجراءة، أي يشجعهم على قتالهم، بإظهار قبح فعالهم بتركهم الكعبة مهدمة، هذا هو المشهور في ضبطه قال القاضي ورواه العذري يجربهم بالجيم والباء ومعناه يختبرهم وينظر ما عندهم في ذلك من حمية وغضب لله تعالى ولبيته، وفي رواية أو يحربهم بالحاء والراء والباء، وبفتح أوله، ومعناه يغيظهم بما يرونه قد فعل بالبيت، من قولهم حربت الأسد إذا غضبته قال القاضي وقد يكون معناه يحملهم على الحرب، ويحرضهم عليها ويؤكد عزائمهم لذلك. قال ورواه آخرون يحزبهم بالحاء والزاي، أي يشد قوتهم، ويميلهم إليه، ويجعلهم حزباً له، وناصرين له، وحزب الرجل من مال إليه، وتحازب القوم تمالوا.

(فلما صدر الناس قال يا أيها الناس) أي فلما رجع الحجاج إلى بلادهم قال للكبراء أهل مكة أيها الناس. (فإني قد فرق لي فيها رأي) قال النووي: "فرق" بضم الفاء وكسر الراء، أي كشف وبين. قال الله تعالى {وقرآناً فرقناه} [الإسراء: 106]. أي فصلناه وبيناه، هذا هو الصواب في ضبط هذه اللفظة ومعناها. (ما رضي حتى يجده) قال النووي هكذا هو في أكثر النسخ يجده بضم الياء وكسر الجيم وبدال واحدة مشددة، وفي كثير منها يجدده بدالين، وهما بمعنى. (إني مستخير ربي ثلاثاً) أي ثلاث ليال. (فتحاماه الناس أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمر من السماء) الفاء في "فتحاماه الناس" عاطفة على محذوف، أي فطلب من بعض الناس أن يصعد الكعبة يهدم، فتجنبه الناس، أي تجنبوا ابن الزبير وانصرفوا عنه، ولم يؤيدوه، أو فتجنبوا هذا الأمر، وهو الصعود للهدم، و"أن ينزل" مفعول لأجله، أي مخافة أن ينزل أمر وسخط وعذاب من السماء بأول من يصعد ليهدم. (تتابعوا فنقضوه) أي تبع بعضهم بعضاً. قال النووي هكذا ضبطناه تتابعوا بباء موحدة قبل العين، وهكذا هو في جميع نسخ بلادنا، وكذا ذكره القاضي عن رواية الأكثرين، وعن أبي بحر تتايعوا بالياء المثناة بدل الباء الموحدة، وهو بمعناه، إلا أن أكثر ما يستعمل بالمثناة في الشر خاصة، وليس هذا موضعه. اهـ في كتب اللغة تتايع فلان في الشر وعلى الشر تهافت عليه وأسرع. (فجعل ابن الزبير أعمدة فستر عليها الستور حتى ارتفع بناؤه) الظاهر أن الهدف من هذه الأعمدة والستور أن يستقبلها المصلون في تلك الأيام، فقد روي أن ابن عباس قد قال له إن كنت هادمها فلا تدع الناس بلا قبلة. (حتى أبدى أسا نظر الناس إليه) أي حفر الأرض وعمقها على بعد خمسة أذرع من بناء الكعبة الحالي، حتى أظهر أساساً لبناء قديم أشهد الناس عليه، ورآه العدول من أهل مكة. (إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء) يقال لطخته أي رميته بأمر قبيح. والمراد لا علاقة لنا بقبح فعل ابن الزبير، يريد بذلك سبه وتقبيح فعله. (أما ما زاد في طوله فأقره) أي ما زاد في ارتفاعه فأقره ولا تغيره. (وسد الباب الذي فتحه) أي وارفع عتبة الباب التي سواها بالأرض. (وفد الحارث بن عبد الله) قال النووي هكذا هو في جميع النسخ "الحارث بن عبد الله" ونقل القاضي عياض أن عبد الغفار بن الفارسي رواه الحارث بن عبد الأعلى. قال القاضي عياض: وهو

خطأ. قال النووي وهذا الذي نقله القاضي عن الفارسي غير مقبول، ولعله وقع للقاضي نسخة عن الفارسي فيها هذه اللفظة مصحفة على الفارسي، لا من الفارسي. والحارث هذا هو ابن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة، وهو تابعي. (ما أظن أبا خبيب) بضم الخاء المعجمة. (فإن بدا لقومك) يقال: بدا -بغير همزة- بدا له في الأمر بداء بالمد، أي حدث له فيه رأي لم يكن. (فهلمي لأريك) "هلم" اسم فعل أمر بمعنى تعال وأقبل، وفيه لغتان. لغة تبقيه بحالة واحدة في الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث، وعليها الآية الكريمة {والقائلين لإخوانهم هلم إلينا} [الأحزاب: الآية 18]. وهي لغة أهل الحجاز. ولغة تلحق الضمائر به، وهي لغة أهل نجد يقولون للمرأة هلمي كما هنا، وللاثنين هلما، وللجمع هلموا، وللنساء هلممن. قال الخليلي وأصل هلم لم بتشديد الميم، من قولهم لم الله شعثه، أي جمعه، كأنه أراد لم نفسك إلينا، أي أقرب. دخلت عليها "ها" للتنبيه، وحذفت ألفها لكثرة الاستعمال. (حتى إذا كاد أن يدخل) قال النووي هكذا هو في النسخ كلها "كاد أن يدخل" ففيه حجة لجواز دخول "أن" بعد "كاد" وقد كثر ذلك، وهي لغة فصيحة، ولكن الأشهر عدمه. (فنكت ساعة بعصاه) أي بحث بطرف عصاه في الأرض بعض الوقت. وهذه عادة من يفكر في أمر مهم. (عن الجدر) بفتح الجيم وإسكان الدال، وهو الحجر. وأصل الجدر الجدار، وهو الحائط، وأطلق الجدر على حجر إسماعيل لأنه محاط بحائط قصير. -[فقه الحديث]- ليس المراد من نقض الكعبة وبنائها وقوع ذلك أو عدم وقوعه، وكم مرة وقع؟ وفي عهد من وقع؟ فذلك هدف التاريخ، وإنما المراد حكم هدمها وتجديد بنائها. وظاهر من كلام ابن عباس في الرواية الخامسة أنه لا يحبذ الهدم والبناء، ويفضل الترميم لما يتهدم والحفاظ على الآثار، وللشافعي الرأي نفسه، لكن دافعه كان قدسية الكعبة وعدم تعريضها للتلاعب، فهو يقول أحب أن تترك الكعبة على حالها، فلا تهدم، لأن هدمها يذهب حرمتها، ويصير كالتلاعب بها، فلذلك استحببنا تركها على ما هي عليه. وللإمام مالك بن أنس الرأي نفسه مع هارون الرشيد حين أراد أن يهدمها ويردها إلى بناء ابن الزبير، فقال له ناشدتك الله يا أمير المؤمنين ألا تجعل هذا البيت لعبة للملوك، لا يشاء أحد إلا نقضه

وبناه، فتذهب هيبته من صدور الناس. وعن عدد بنائها يقول النووي في المجموع: ذكر العلماء أن الكعبة الكريمة بنيت خمس مرات. إحداها: بنتها الملائكة قبل آدم، وحجها آدم فمن بعده من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. الثانية: بناها إبراهيم عليه السلام. الثالثة: بنتها قريش في الجاهلية وحضر النبي صلى الله عليه وسلم هذا البناء قبل النبوة. الرابعة: بناها ابن الزبير كما هو صريح في الرواية الخامسة. الخامسة: بناها الحجاج بن يوسف في خلافة عبد الملك بن مروان واستقر بناها الذي بناه الحجاج إلى الآن. وقيل إنها بنيت مرتين أخرتين قبل بناء قريش. والله أعلم. -[ويؤخذ من الأحاديث: ]- 1 - من حديث عائشة أنه إذا تعارضت المصالح، أو تعارضت مصلحة ومفسدة وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بدئ بالأهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن نقض الكعبة وردها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم عليه السلام مصلحة ولكن تعارضه مفسدة أعظم منه، وهي خوف فتنة من أسلم قريباً. 2 - على ولي الأمر أن يفكر في مصلحة المسلمين، وأن يجتنب ما يخاف منه ضرر عليهم في دين أو دنيا، إلا الأمور الشرعية كأخذ الزكاة وإقامة الحدود، ونحو ذلك. 3 - وعليه تألف قلوب الرعية، وحسن حياطتهم لئلا ينفروا، وأن لا يتعرض لما يخاف تنفيرهم بسببه، ما لم يكن فيه ترك أمر شرعي. 4 - وإذا لم يستطع فعل المصلحة أوصى أن تفعل من بعده، وبلغ من حضر ليبلغ من يستطيع. 5 - ومن الرواية الثالثة جواز إنفاق كنز الكعبة ونذورها الفاضلة عن مصالحها في سبيل الله. قال النووي لكن جاء في رواية "لأنفقت كنز الكعبة في بنائها"، وبناؤها من سبيل الله، فلعله المراد بقوله في الرواية "في سبيل الله". اهـ 6 - وتفرع عن كنز الكعبة والاحتفاظ به تحلية الكعبة بالذهب والفضة، وقد حكى الرافعي في ذلك وجهين. أحدهما الجواز تعظيماً لها كما في المصحف، والآخر المنع، إذ لم ينقل من فعل السلف، ورجح الجواز، لأن الكعبة لها من التعظيم ما ليس لبقية المساجد، بدليل تجويز سترها بالحرير والديباج، وفي جواز ستر المساجد بذلك خلاف، وقد وقع في أيام الوليد بن عبد الملك أن ذهب سقوف المسجد النبوي، ولم ينكر ذلك عمر بن عبد العزيز، ولم يزله في خلافته. ثم إن تحريم استعمال الذهب والفضة إنما هو فيما يتعلق بالأواني المعدة للأكل والشرب ونحوهما. وليس في تحلية المساجد شيء من ذلك، وقد قال الغزالي من كتب القرآن بالذهب فقد أحسن. وللحافظ ابن حجر في فتح الباري بحث قيم في كسوة الكعبة، لا يتسع له هذا المقام. 7 - ومن روايات نقض بنيان الكعبة ودخول جزء منها في حجر إسماعيل عدم صحة الطواف في هذا الجزء. قال النووي قال أصحابنا فإن طاف في الحجر وبينه وبين البيت أكثر من ستة أذرع ففيه

وجهان. أحدهما يجوز لظاهر هذه الأحاديث، والثاني لا يصح طوافه في شيء من الحجر ولا على جداره، ولا يصح حتى يطوف خارجاً من جميع الحجر. قال وهذا هو الصحيح، وهو الذي نص عليه الشافعي، وقطع به جماهير العراقيين، وبه قال جميع علماء المسلمين سوى أبي حنيفة فإنه قال إن طاف في الحجر وبقي في مكة أعاده، وإن رجع من مكة بلا إعادة أراق دماً، وأجزأه طوافه. واحتج الجمهور بأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف من وراء الحجر، وقال "لتأخذوا عني مناسككم"، ثم أطبق المسلمون عليه من زمنه صلى الله عليه وسلم إلى الآن، وسواء كان كله من البيت أم بعضه فالطواف يكون من ورائه، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم. 8 - ومن قول ابن الزبير في الرواية الخامسة "أشيروا علي" استحباب مشاورة الإمام أهل الفضل والمعرفة في الأمور المهمة. 9 - استدل القاضي عياض بوضع الأعمدة والأستار بدل الكعبة لمذهب مالك في أن المقصود بالاستقبال البناء، لا البقعة. ولقول ابن عباس لابن الزبير إن كنت هادمها فلا تدع الناس بلا قبلة. ومذهب الشافعي جواز الصلاة إلى أرض الكعبة، سواء بقي من بنائها شيء أم لا. إذ رد جابر على ابن عباس فقال صلوا إلى موضعها. فهي القبلة. 10 - ومن رد الحارث على عبد الملك بن مروان في الرواية السادسة والسابعة الانتصار للمظلوم. 11 - ورد الغيبة. 12 - وتصديق الصادق إذا كذبه إنسان. والله أعلم

(345) باب الحج عن العاجز والميت

(345) باب الحج عن العاجز والميت 2874 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: كان الفضل بن عباس رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه. فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر. قالت: يا رسول الله! إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً. لا يستطيع أن يثبت على الراحلة. أفأحج عنه؟ قال: "نعم" وذلك في حجة الوداع. 2875 - عن ابن عباس، عن الفضل رضي الله عنهم؛ أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله! إن أبي شيخ كبير. عليه فريضة الله في الحج. وهو لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "فحجي عنه". -[المعنى العام]- الحج ركن من أركان الإسلام الخمسة {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً} [آل عمران: 97]. وإذا كانت الشريعة قد فسحت له مجال الأداء فليس معنى ذلك إهماله أو الاستهانة به، أو الاسترخاء في أدائه، فإن الإنسان لا يدري متى يفجؤه الموت، وإذا وقع به الموت دون أن يؤدي هذه الفريضة كانت ديناً عليه ترتهن به نفسه يوم القيامة. نعم أجازت الشريعة لمن عجز عن الحج بمرض ميئوس أن ينيب عنه من يؤديه عنه بالأجرة مادام قادراً عليها، أو أن ينيب عنه من حج من أولاده ليقوم بهذا الفرض عن أبيه، فإن الولد امتداد لعمل أبيه، ومن الواجب عليه براً بأبيه أن ينوب عنه فيه، وهذه امرأة من خثعم تبر أباها وتحرص على فك وثاقه، وتخليصه من مسئولية هذه الفريضة التي عجز عن أدائها، فتسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يصح أن تنوب عنه، وأن تحج بدله، فيقول لها صلى الله عليه وسلم نعم. حجي عن أبيك، وسيقبل الله إن شاء حجك عن أبيك، وسيجازيك على هذا العمل خير الجزاء. -[المباحث العربية]- (عن عبد الله بن عباس أنه قال: كان الفضل .... ) في الرواية الثانية: عن ابن عباس عن الفضل .... إلخ.

روي عن الترمذي أنه قال: سألت البخاري عن هذا، فقال أصح شيء فيه ما روى ابن عباس عن الفضل، قال فيحتمل أن يكون ابن عباس سمعه من الفضل ومن غيره، ثم رواه بغير واسطة. اهـ وإنما ترجح الرواية عن الفضل لأنه كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ، وكان ابن عباس قد تقدم من مزدلفة إلى منى مع الضعفة، كما تقدم في باب وجوه الإحرام، فكأن الفضل أخبر أخاه بما شاهده في تلك الحالة، وقد يحتمل أن يكون سؤال الخثعمية وقع بعد رمي جمرة العقبة، فحضره ابن عباس، فنقله تارة عن أخيه، لكونه صاحب القصة، وتارة عما شاهده ويؤيد ذلك ما جاء عند أحمد عن علي ... "ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة فرماها، ثم أتى المنحر، فقال هذا المنحر، وكل منى منحر، واستفتته ..... إلخ" وفي رواية عبد الله "ثم جاءته جارية شابة من خثعم، فقالت .... إلخ قال ولوى عنق الفضل فقال العباس يا رسول الله لويت عنق ابن عمك؟ قال رأيت شاباً وشابة، فلم آمن عليهما الشيطان" وظاهر هذا أن العباس كان حاضراً لذلك، فلا مانع أن يكون ابنه عبد الله أيضاً كان معه. (فجاءته امرأة من خثعم) بينت الروايات الأخرى أنها كانت شابة، وفي بعض الروايات "وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة" أي جميلة، وفي بعض الروايات أن استفتاءها كان غداة الوقوف بالمزدلفة. (فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه) في بعض الروايات "وكان الفضل رجلاً وضيئاً" أي جميلاً، وهذا النظر غير النظر الوارد في باب وجوه الإحرام، فذاك كان إلى فتيات يجرين، وهذا إلى فتاة جاءت تسأل، ولا مانع من التعدد. (يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر) عن طريق لي عنقه كما سبق، وفي بعض الروايات "فأخلف بيده، فأخذ بذقن الفضل، فعدل وجهه". (لا يستطيع أن يثبت على الراحلة) في الرواية الثانية "لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره" وفي رواية "لا يستمسك على الرحل" وزاد في رواية "إن شددته خشيت أن يموت" وعند ابن خزيمة "وإن شددته بالحبل على الراحلة خشيت أن أقتله". (أفأحج عنه) الفاء عاطفة على محذوف، تقديره أيجوز أن أنوب عنه فأحج عنه؟ . (فحجي عنه) الفاء فصيحة، في جواب شرط محذوف، تقديره إذا كان الحال كذلك فحجي عنه. -[فقه الحديث]- قال النووي: مذهبنا ومذهب الجمهور جواز الحج عن العاجز بموت أو عضب، وهو الزمانة والهرم ونحوهما، وقال مالك والليث والحسن بن صالح لا يحج أحد عن أحد، إلا عن ميت لم يحج حجة الإسلام. قال القاضي وحكي عن النخعي وبعض السلف أنه لا يصح الحج عن ميت ولا غيره، وهي

رواية عن مالك، وإن أوصى به، وقال الشافعي والجمهور يجوز الحج عن الميت عن فرضه ونذره، سواء أوصى به أم لا، ويجزئ عنه، ومذهب الشافعي وغيره أن ذلك واجب في تركته، وعندنا يجوز للعاجز الاستنابة في حج التطوع على أصح القولين، واتفق العلماء على جواز حج المرأة عن الرجل، إلا الحسن بن صالح فمنعه، وكذا يمنعه من منع أصل الاستنابة مطلقاً. اهـ والحاصل أن الحج عن ميت لم يحج حجة الإسلام واجب في تركته، فإن كان قد أوصى به خرج من الثلث عند مالك وأبي حنيفة، فإن كان الثلث يكفي للحج وجب، وإن لم يكن يكفي لم يجب وبطلت الوصية، كالحي غير المستطيع، ولا يلزم الورثة أن يحجوا عنه حينئذ، وإن لم يوص قال مالك، يتطوع عنه بغير الحج، ويهدى عنه، أو يتصدق أو يعتق عنه. وقال أبو حنيفة: إن لم يوص وله مال وجب الحج عنه من الثلث، كما إذا أوصى وفي قول له كمالك. وعند الشافعي يجب على وليه أن يجهز من يحج عنه من رأس ماله، لا من الثلث فحسب، لأن عليه قضاء ديونه، والرسول صلى الله عليه وسلم شبه الحج بالدين في حديث البخاري "ودين الله أحق بالقضاء"، ولم يشترط في ذلك أن يوصي أو لا يوصي، ولا أن تجيزه الورثة، أو لا تجيزه، وحكي عن النخعي وبعض السلف أنه لا يصح الحج عنه أوصى أو لم يوص والحديث مع الشافعية. أما الميت الذي حج حجة الإسلام وعليه حج واجب بنذر مثلاً فهو كحجة الإسلام عند الشافعي، وأما الميت الذي حج حجة الإسلام، وليس عليه حج واجب بنذر مثلاً وأوصى بأن يحج عنه تطوعاً وله مال ففي جواز الحج عنه خلاف بين الشافعية، فإذا لم يوص فلا خلاف عندهم في عدم جواز الحج عنه. وأحاديث الباب في المعضوب والعجز عن الحج، ولا نص فيها على الميت، لكنهم قالوا إذا ثبت جوازه عن الحي المعضوب بهذه الأحاديث كان جوازه عن الميت أولى، فيكون الاستدلال بها للميت من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى. والمقصود بالمعضوب هنا من كان عاجزاً عن الحج بنفسه عجزاً لا يرجى زواله لكبر أو زمانة أو مرض لا يرجى زواله أو كان كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة إلا بمشقة شديدة، وحديث الباب في الحج عنه قال النووي في المجموع المعضوب إن لم يكن له مال، ولا من يطيعه لم يجب عليه الحج. وإن كان له مال فاضل عن حاجاته المشترطة فيمن يحج بنفسه ووجد من يستأجره بأجرة المثل لزمه الحج. فإن لم يجد المال ووجد واحداً من بنيه أو بناته أو أولادهم وإن سفلوا يبذل له الحج بنفسه لزمه الحج بذلك، وعليه الإذن لهذا الباذل، بشرط أن يكون الباذل ممن يصح منه فرض حجة الإسلام وأن يكون قد حج عن نفسه، فإن وجد أخاً أو جداً أو أباً أو غيرهم فهم كالأجنبي، لم يلزمه القبول، لما في هؤلاء من المنة ولأن في استخدامهم استثقالاً على الإنسان، فإن بذل الولد المال، ولم يبذل الحج بنفسه ففي وجوب قبوله وجهان. وإن طلب الوالد المعضوب العاجز عن الاستئجار من الولد أن يحج عنه استحب للولد إجابته، ولا تلزمه الإجابة. ولا يجزئ الحج عن المعضوب بغير إذنه، بخلاف قضاء الدين عن غيره، لأن الحج يفتقر إلى

النية، وهو أهل للإذن، بخلاف الميت، هذا مذهب الشافعية، وقال مالك لا يجب عليه ذلك، ولا يجب إلا أن يقدر على الحج بنفسه، واحتج بقوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [النجم: 39]. وقوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً} [آل عمران: 97]. وهذا لا يستطيع، وبأنها عبادة لا تصح فيها النيابة مع القدرة، فكذا مع العجز كالصلاة. وحديث الباب والأحاديث الصحيحة لا تؤيده. وقال أبو حنيفة وأحمد لا يجب على المعضوب الحج إذا لم يجد ما لا يحج به غيره، وإن وجد ابنا يطيعه. هذا في الحج الواجب أما حج التطوع ففي جواز استئجاره من يحج عنه قولان عند الشافعية، وقيل لا يجوز، لأنه غير مضطر إلى الاستنابة فيه، فلم تجز الاستنابة فيه كالصحيح والقول الثاني وهو الصحيح أنه يجوز، لأن كل عبادة جازت النيابة في فرضها جازت النيابة في نفلها. أما الصحيح الذي يقدر على الثبوت على الراحلة فلا تجوز النيابة عنه في الحج، لأن الفرض عليه في بدنه، فلا ينتقل الفرض إلى غيره إلا في الموضع الذي وردت فيه الرخصة. والله أعلم. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم: ]- 1 - جواز حج المرأة عن الرجل. قال النووي واتفق العلماء على جواز حج المرأة عن الرجل، إلا الحسن بن صالح فمنعه، وكذا يمنعه من منع أصل الاستنابة مطلقاً. اهـ فيجوز حج الرجل عن المرأة والرجل عن الرجل والمرأة عن المرأة من باب أولى. 2 - وجواز الإرداف على الدابة إذا كانت مطيقة، وتواضع النبي صلى الله عليه وسلم. 3 - وجواز سماع صوت الأجنبية عند الحاجة، كالاستفتاء وطلب العلم وتدريسه والمعاملة. 4 - وتحريم النظر إلى الأجنبية، ووجوب غض البصر. 5 - وفيه ما ركب في الآدمي من الشهوة، وما جبلت عليه طباعه من النظر إلى الصورة الحسنة. 6 - وإزالة المنكر باليد. 7 - وبر الوالدين والقيام بمصالحهما من قضاء ودين وخدمة ونفقة وحج ونحو ذلك. 8 - جواز قول: حجة الوداع، وأنه لا يكره ذلك. 9 - جواز حج المرأة بلا محرم إذا أمنت على نفسها. قال النووي: وهو مذهبنا. اهـ وسيأتي بحثه بعد باب. 10 - قال العيني: وفيه الترغيب في الرحلة إلى طلب العلم. والله أعلم. (فائدة) ذكر النووي في المجموع بحثاً قيماً عن تأخير حج القادر، خلاصته أن مذهب الشافعية أن الحج على التراخي، وبه قال الأوزاعي والثوري ومحمد بن الحسن، وقال مالك وأبو يوسف هو على الفور، وهو قول جمهور أصحاب أبي حنيفة، والكل متفق على أن تأخيره إلى الموت حرام. والله أعلم

(346) باب حج الصبي

(346) باب حج الصبي 2876 - عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم. لقي ركباً بالروحاء. فقال "من القوم؟ " قالوا: المسلمون. فقالوا: من أنت؟ قال "رسول الله" فرفعت إليه امرأة صبياً فقالت: ألهذا حج؟ قال "نعم. ولك أجر". 2877 - عن ابن عباس رضي الله عنهما- قال: رفعت امرأة صبياً لها. فقالت: يا رسول الله! ألهذا حج؟ قال: "نعم. ولك أجر". 2878 - عن كريب رضي الله عنه: أن امرأة رفعت صبياً فقالت: يا رسول الله! ألهذا حج؟ قال: "نعم. ولك أجر". -[المعنى العام]- يؤمر الصبي بالصلاة لسبع ويضرب عليها لعشر، ويدرب على الصيام قبل البلوغ، وفي كل عبادة من العبادات يدرب على شروط صحتها وأركانها وواجباتها حتى تقع صحيحة مقبولة إن شاء الله، وهو وإن كان غير مكلف بها فشأنه شأن البالغ حين يقوم بالنوافل غير المكلف بها، تنعقد له وتصح منه، ويثاب عليها. وهذا الحديث في حج الصبي المميز الذي يؤدي بنفسه الشعائر برفقة وليه، وغير المميز الذي يؤدي وليه عنه الشعائر وهو يستصحبه أو يحمله، ولا خلاف بين العلماء في جواز قيام الصبي أو وليه بهذا، ونرجو إن شاء الله أن يؤجر الصبي ولو طفلاً، وهو ما يقرره جمهور العلماء، وللولي أجر الدال على الخير والمشارك فيه وليس هناك من عمل خير لا يثاب عليه، فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره. -[المباحث العربية]- (أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي ركباً) قال النووي: الركب أصحاب الإبل خاصة، وأصله أن يستعمل في عشرة فما دونها.

(بالروحاء) مكان على بعد ستة وثلاثين ميلاً من المدينة. (فقالوا: من أنت؟ ) قال القاضي عياض: يحتمل أن هذا اللقاء كان ليلاً، فلم يعرفوه صلى الله عليه وسلم، ويحتمل كونه نهاراً، لكنهم لم يروه صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، لعدم هجرتهم، فأسلموا في بلدانهم، ولم يهاجروا قبل ذلك. (فرفعت إليه امرأة صبياً) هذا أعم من أن يكون في سن التمييز، أو أقل، أو أكثر إلى حد البلوغ. وليس في هذه العبارة أنها أمه، فيجوز أن يكون في حجرها بنوع ولاية. (ولك أجر) أي بسبب حملك إياه، وتجنيبك إياه ما يجتنبه المحرم، وفعلك به ما يفعله المحرم. -[فقه الحديث]- احتج بظاهر هذا الحديث داود وأصحابه من الظاهرية وطائفة من أهل الحديث على أن الصبي إذا حج قبل بلوغه كفى ذلك عن حجة الإسلام وليس عليه أن يحج حجة أخرى وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد وعامة العلماء وحجة الصبي لا تجزئ عن حجة الإسلام، وعليه بعد بلوغه حجة أخرى، ويستدل لهم بحديث رفع القلم عن ثلاثة ... وفيه وعن الصبي حتى يبلغ فإذا ثبت أن القلم مرفوع عنه كان الحج غير مكتوب عليه، ويكتب عليه بعد بلوغه، كما أنه إذا صلى فرضاً ثم بلغ بعد ذلك لا يسقط هذا الذي أداه عن الفروض التي تجب عليه بالبلوغ، ثم إن هذا الحديث ليس فيه إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أن له حجاً، وليس فيه ما يدل على أن حجه يسقط حج الفريضة. ثم اختلف العلماء: هل ينعقد حج الصبي أولاً؟ فقال مالك والشافعي وأحمد وجماهير العلماء حجه منعقد صحيح يثاب عليه، ويقع تطوعاً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل له حجاً، وقال أبو حنيفة لا يصح حجه، قال أصحابه إنما فعلوه تمريناً له ليعتاده فيفعله إذا بلغ. قال النووي: وهذا الحديث يرد عليهم. قال القاضي: لا خلاف بين العلماء في جواز الحج بالصبيان، وإنما منعه طائفة من أهل البدع، ولا يلتفت إلى قولهم، بل هو مردود بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وإجماع الأمة، وإنما خلاف أبي حنيفة في أنه هل ينعقد حجه، وتجري عليه أحكام الحج؟ وتجب فيه الفدية ودم الجبران وسائر أحكام البالغ؟ فأبو حنيفة يمنع ذلك كله، ويقول إنما يجب ذلك تمريناً على سبيل التعليم، والجمهور يقولون تجري عليه أحكام الحج في ذلك، ويقولون حجه منعقد. قال النووي: وأما الولي الذي يحرم عن الصبي فالصحيح عند أصحابنا أنه الذي يلي ماله، وهو أبوه أو جده، أو الوصي، أو القيم من جهة القاضي، أو القاضي، أو الإمام، وأما الأم فلا يصح إحرامها عنه إلا أن تكون وصية أو قيمة من جهة القاضي، وقيل إنه يصح إحرامها وإحرام العصبة، وإن لم يكن لهم ولاية المال. هذا كله إذا كان صغيراً لا يميز، فإن كان مميزاً أذن له الولي فأحرم، فلو أحرم بغير إذن الولي، أو أحرم الولي عنه لم ينعقد على الأصح، وصفة إحرام الولي عن غير المميز أن يقول بقلبه جعلته محرماً.

(347) باب فرض الحج مرة في العمر

(347) باب فرض الحج مرة في العمر 2879 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أيها الناس! قد فرض الله عليكم الحج فحجوا" فقال رجل: أكل عام؟ يا رسول الله! فسكت. حتى قالها ثلاثاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لو قلت: نعم. لوجبت. ولما استطعتم". ثم قال "ذروني ما تركتكم. فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم. فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم. وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه". -[المعنى العام]- الحج عبادة شاقة على عامة المسلمين، تقتضي سفراً طويلاً، والسفر قطعة من العذاب، وتمنع من مباحات ومتع، بما عرف فيها من محرمات الإحرام، وفي ذلك حجر وتضييق ومشقة ليست بالهينة، وتلزم بأداء الشعائر في ظروف صعبة، في جبال وزحام، ومن ذاق عرف. من هنا كانت رحمة الله بالأمة أن فرضه في العمر مرة واحدة {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185]. ومن هنا كان أجر هذه الحجة مبشراً بالكفارة "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه". "الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة". لكن الإنسان بطبيعته خلق عجولاً، كثير التطفل والتساؤل، فمن عصمه الله اتسم بالحلم والحكمة والتفكير في القول قبل النطق به، والحمقى يضربون بألسنتهم يميناً وشمالاً، وقد يكون في ذلك ضرر لهم ولغيرهم، ومن هذا القبيل سؤال من سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم. هل الحج واجب في كل عام أو مرة واحدة في العمر؟ إن بني إسرائيل شددوا فشدد الله عليهم في أمر البقرة، وهذا الرجل ينحو نحوهم في التشديد، فنهى عن ذلك، وأعلن له ولغيره رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدة التيسير على الأمة. -[المباحث العربية]- (قد فرض الله عليكم الحج فحجوا) فرض الله الحج على الأمة بقوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً} قال العيني: اللام في {ولله} لام الإيجاب، أي ولله فرض واجب على الناس حج البيت. اهـ وليس معنى الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يذكر لهم آية الإيجاب، فقد روى أحمد عن علي رضي الله عنه قال لما نزلت: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً} قالوا: يا رسول الله، في كل عام؟ .

فكأنه صلى الله عليه وسلم ذكر لهم الآية، وبينها بالحديث، فذكروا إشكالهم. (فقال رجل) قال النووي هذا الرجل السائل هو الأقرع بن حابس، كذا جاء مبيناً في غير هذه الرواية. اهـ وكان صلى الله عليه وسلم يسميه الأحمق المطاع وكان فيه شيء من جفاة الأعراب. ولعل هذا السؤال كان يدور بخلد كثير من الصحابة، لذا أسند القول إلى المجموع في كثير من الروايات، فعند أحمد وابن ماجه "قالوا يا رسول الله" والباعث على هذه الشبهة أن الأمر في ذاته قد يقتضي التكرار، حتى إن بعض الأصوليين قالوا إنه يقتضي التكرار، والصحيح عند الشافعية أنه لا يقتضيه، وإن احتمله، وهناك قول ثالث بالتوقف، فالسائل سأل استظهاراً واحتياطاً. وقال الماوردي ويحتمل أنه إنما احتمل التكرار عند السائل من وجه آخر، لأن الحج في اللغة قصد فيه تكرر، فاحتمل عنده التكرار من جهة الاشتقاق، لا من مطلق الأمر، وقد تعلق بوجهة النظر هذه من قال بإيجاب العمرة، وقال لما كان قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت} يقتضي تكرار قصد البيت بحكم اللغة والاشتقاق وقد أجمعوا على أن الحج لا يجب إلا مرة كانت العودة الأخرى إلى البيت تقتضي كونها عمرة، لأنه لا يجب قصده لغير حج وعمرة بأصل الشرع. اهـ فللسائل عذره، واللوم يتجه إليه من حيث الإلحاح والتكرير، وكان يكفيه سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن الرد عليه مرة ومرتين، وقد عودهم أن سكوته عن السؤال انصراف عنه. (لوجبت) أي للزمت وفرضت كلمة نعم أي مضمونها، وهو الوجوب كل عام. (ذروني ما تركتكم) أي مدة تركي إياكم بغير أمر بشيء، ولا نهي عن شيء، أي ذروا سؤالي فيما تركته، فإنني لا أترك عن تقصير أو نسيان. زاد الدارقطني في هذا الحديث فنزلت: {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} [المائدة: 101]. (وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه) عدم التقييد في النهي بالاستطاعة لأن كل مكلف قادر على الترك، بخلاف الفعل، فإن العجز عن تعاطيه محسوس. -[فقه الحديث]- قال النووي: أجمعت الأمة على أن الحج لا يجب في العمر إلا مرة واحدة بأصل الشرع، وقد تجب زيادة، بالنذر، أو بدخول الحرم لحاجة لا تكرر، كزيارة وتجارة على مذهب من أوجب الإحرام لذلك بحج أو عمرة. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم: ]- 1 - شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، مصداقاً لقوله تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128].

2 - قال النووي قد يستدل بهذا الحديث من يتوقف في اقتضاء الأمر التكرار أو عدم اقتضائه، لأنه سأل فقال أكل عام؟ ولو كان مطلقه يقتضي التكرار أو عدمه لم يسأل، ولقال له النبي صلى الله عليه وسلم لا حاجة إلى السؤال، بل مطلقه محمول على كذا. 3 - كما استدل بعضهم بقوله "ذروني ما تركتكم" على أن الأمر لا يقتضي التكرار. 4 - واستدل بعضهم بقوله "ذروني ما تركتكم" على أن الأصل عدم الوجوب، وأنه لا حكم قبل ورود الشرع، وهذا هو الصحيح عند محققي الأصوليين، لقوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} [الإسراء: 15]. 5 - في قوله صلى الله عليه وسلم "لو قلت نعم لوجبت" دليل للمذهب الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان له أن يجتهد في الأحكام، ولا يشترط في حكمه أن يكون بوحي وقيل يشترط. قال النووي وهذا القائل يجيب عن هذا الحديث بأنه لعله أوحي إليه ذلك. 6 - قال النووي عن قوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم" هذا من قواعد الإسلام المهمة، ومن جوامع الكلم التي أعطيها صلى الله عليه وسلم، ويدخل فيه ما لا يحصى من الأحكام، كالصلاة بأنواعها، فإذا عجز عن بعض أركانها أو بعض شروطها أتى بالباقي، وإذا عجز عن بعض أعضاء الوضوء أو الغسل غسل الممكن وإذا وجد بعض ما يكفيه من الماء لطهارته أو لغسل النجاسة فعل الممكن، وإذا وجبت إزالة منكرات، أو فطرة جماعة ممن تلزمه نفقتهم، أو نحو ذلك، وأمكنه البعض فعل الممكن، وإذا وجد ما يستر بعض عورته، أو حفظ بعض الفاتحة أتى بالممكن، وأشباه هذا غير منحصرة وهي مشهورة في كتب الفقه، والمقصود التنبيه على أصل ذلك، وهذا الحديث موافق لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]. وأما قوله تعالى: {اتقوا الله حق تقاته} [آل عمران: 102]. ففيها مذهبان أحدهما أنها منسوخة بقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} والثاني وهو الصحيح أو الصواب وبه جزم المحققون أنها ليست منسوخة، بل قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} مفسرة لها، ومبينة للمراد بها. قالوا وحق تقاته هو امتثال أمره، واجتناب نهيه، ولم يأمر سبحانه وتعالى إلا بالمستطاع، قال الله تعالى لا يكلف الله نفساً إلا وسعها وقال تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78]. 7 - قوله: "وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه" ليس على إطلاقه، فقد يوجد عذر يبيحه كأكل الميتة عند الضرورة، أو شرب الخمر عند الإكراه، أو التلفظ بكلمة الكفر إذا أكره ونحو ذلك. وذهب البعض إلى أنه على إطلاقه، وأن المكلف ليس منهياً عن ذلك في تلك الحال. 8 - استدل بقوله: "وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه" على أن المكروه يجب اجتنابه، لعموم

الأمر باجتناب المنهي عنه. والتحقيق أن الأمر بالاجتناب في المحرم بدرجة، وفي المكروه بدرجة. والله أعلم. 9 - قال الحافظ ابن حجر: يؤخذ منه النهي عن كثرة السؤال، لما فيه غالباً من التعنت، وخشية أن تقع الإجابة بأمر يستثقل كما حصل لبني إسرائيل في أمر ذبح البقرة. اهـ وفي البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب ما يكره من كثرة السؤال، وفيه بحوث قيمة، لا يتسع لها المقام. والله أعلم

(348) باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره

(348) باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره 2880 - عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسافر المرأة ثلاثاً، إلا ومعها ذو محرم". 2881 - وفي رواية: "فوق ثلاث". وفي رواية: "ثلاثة إلا ومعها ذو محرم". 2882 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لامرأة، تؤمن بالله واليوم الآخر، تسافر مسيرة ثلاث ليال، إلا ومعها ذو محرم". 2883 - عن قزعة عن أبي سعيد رضي الله عنه. قال: سمعت منه حديثاً فأعجبني. فقلت له: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فأقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم أسمع؟ قال: سمعته يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد. مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى". وسمعته يقول "لا تسافر المرأة يومين من الدهر إلا ومعها ذو محرم منها، أو زوجها". 2884 - عن قزعة قال: سمعت أبا سعيد الخدري قال: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعاً. فأعجبنني وآنقنني. نهي أن تسافر المرأة مسيرة يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم. واقتص باقي الحديث. 2885 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تسافر المرأة ثلاثاً، إلا مع ذي محرم".

2886 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسافر امرأة فوق ثلاث ليال، إلا مع ذي محرم". 2887 - وفي رواية: "أكثر من ثلاث، إلا مع ذي محرم". 2888 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة، إلا ومعها رجل ذو حرمة منها". 2889 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، تسافر مسيرة يوم، إلا مع ذي محرم". 2890 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، تسافر مسيرة يوم وليلة، إلا مع ذي محرم عليها". 2891 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يحل لامرأة أن تسافر ثلاثاً، إلا ومعها ذو محرم منها". 2892 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، أن تسافر سفراً يكون ثلاثة أيام فصاعداً، إلا ومعها أبوها أو ابنها أو زوجها أو أخوها أو ذو محرم منها". 2893 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يقول

"لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم. ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم" فقام رجل فقال: يا رسول الله! إن امرأتي خرجت حاجة. وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا. قال "انطلق فحج مع امرأتك". 2894 - عن ابن جريج بهذا الإسناد نحوه. ولم يذكر "لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم". -[المعنى العام]- المرأة كالجوهرة، تصان في حرز مثلها، عرضة للطمع، تحاط بسياج ووقاية من الأخطار التي تتهددها، وهي ضعيفة لا تقوى أمام الرجل على الدفاع عن نفسها، فكان أمنها في عدم خلوة الرجل الأجنبي بها، وكان سفرها بدون زوج أو محرم مجالاً للاعتداء عليها فإذا أضفنا إلى ذلك نوازعها ونفسها الأمارة بالسوء وشهوتها الجامحة، ورغبتها في الرجل وهي لا تقل عن رغبته فيها كان في سفرها وغربتها وبعدها عمن يحميها وعمن تخشاه وتخافه، وعمن يعرفها وتعرفه، وعمن تأنس إليه وتستنجد به، كان في كل ذلك مع مشاعر الخوف في الغربة الكثير والكثير من الأخطار عليها، خصوصاً في عصور تكثر فيها الذئاب البشرية وتقل فيها الرقابة الدينية الداخلية، وتقعد فيها شياطين الإنس والجن على رأس الطرق وفوهات المسالك من هنا كانت حكمة التشريع، وكان النهي الإلهي على لسان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لا تسافر المرأة إلا ومعها زوجها أو محرم لها، ولا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما، فلا تجتمع المرأة برجل أجنبي إلا أن يكون معهما أبوها أو أخوها أو أمها أو أختها أو ابنها المميز أو عمها أو خالها أو ابن أخيها أو ابن أختها. وليس في ذلك امتهان لها أو تحقير، وإنما هو في حقيقته تقديس وإعزاز وتكريم، وإنما يصان في الحقيقة الغالي النفيس، وقد جعلها الشارع صنو روح الرجل ودمه، يذود عنها كما يذود عن نفسه، ويبذل في سبيل الحفاظ عليها دمه، فقال صلى الله عليه وسلم "من قتل دون عرضه فهو شهيد". -[المباحث العربية]- (لا تسافر المرأة) لا نافية، والفعل مرفوع، فهو خبر بمعنى النهي، أو ناهية، والفعل مجزوم، ويحرك بالكسر للتخلص من التقاء الساكنين، والنفي أبلغ من النهي، لأن سياقه في صورة الخبر أبلغ في المنع، لإشعاره بأنه أمر ممتثل فعلاً يخبر عنه. (ثلاثاً) أي ثلاث ليال، وفي ملحق الرواية الأولى "فوق ثلاث" أي فوق ثلاث ليال وفيها

"ثلاثة" أي ثلاثة أيام، وليس المقصود الزمن والأيام والليالي، وإنما المقصود مسافة السير فيها، كما هو في الرواية الثانية "مسيرة ثلاث ليال". (إلا ومعها ذو محرم) لها، أو ذو محرم منها، كما في الرواية الثالثة والعاشرة والحادية عشرة، وفي الرواية السابعة "إلا ومعها رجل ذو حرمة منها" قال النووي: واعلم أن حقيقة المحرم من النساء التي يجوز النظر إليها، والخلوة بها، والمسافرة بها كل من حرم نكاحها على التأبيد بسبب مباح لحرمتها، فقولنا على التأبيد احتراز من أخت الزوجة وعمتها وخالتها ونحوهن، وقولنا بسبب مباح احتراز من أم الموطوءة بشبهة وبنتها، فإنهما تحرمان على التأبيد، وليستا محرمتين، لأن وطء الشبهة لا يوصف بالإباحة، وقولنا لحرمتها احتراز من الملاعنة، فإنها محرمة على التأبيد بسبب مباح، وليست محرماً، لأن تحريمها ليس لحرمتها، بل عقوبة وتغليظاً. اهـ والاستثناء مفرغ من جميع الأحوال، أي لا يحل لها السفر في حال من الأحوال إلا مصاحبة محرماً لها. (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر) أي يحرم، لأن نفي الحل يفيد الحرمة، وقوله "تؤمن بالله واليوم الآخر" للإثارة والتهييج للالتزام بالحكم، أي من كانت هذه صفتها لا يليق بها أن تفعل ما يلوث هذه الصفة، واختار الإيمان بالله واليوم الآخر من بين ما يجب الإيمان به، لأنهما المبدأ والجزاء، وما بينهما لازم لهما. (تسافر مسيرة ثلاث ليال) الفعل مسبوك بمصدر من غير سابك، فاعل "لا يحل" أي لا يحل لها السفر، وقد صرح بحرف المصدر في الرواية الحادية عشرة، ففيها "أن تسافر ... ". (عن قزعة عن أبي سعيد قال: سمعت منه حديثاً) أي قال قزعة: سمعت من أبي سعيد الخدري حديثاً. (فأقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم أسمع؟ ) الكلام على تقدير همزة الاستفهام الإنكاري، بمعنى النفي، والفاء عاطفة على محذوف، والتقدير أأكذب فأقول ... ؟ لا يقع مني ذلك. (قال: سمعته يقول ... ) أي قال قزعة: سمعت أبا سعيد الخدري يقول. (لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) "الرحال" جمع رحل، وهو للبعير كالسرج للفرس، وكنى بشد الرحال عن السفر، لأنه لازمه في ذاك الوقت غالباً، فالمعنى لا تسافروا بالرواحل أو الخيل أو البغال أو الحمير أو بالسيارة أو بالطائرة أو بالقطار أو مشاة إلا إلى ثلاثة مساجد. قال الحافظ ابن حجر: والاستثناء مفرغ من عموم الأماكن، والتقدير لا تشد الرحال إلى موضع، ولازمه منع السفر إلى كل موضع غيرها، لأن المستثنى منه في المفرغ مقدر بأعم العام، لكن يمكن أن يكون المراد بالعموم هنا الموضع المخصوص، وهو المسجد. اهـ كما سيأتي في فقه الحديث.

(مسجدي هذا) أي مسجده بالمدينة صلى الله عليه وسلم. (والمسجد الحرام) أي المحرم. قال الحافظ ابن حجر: والمراد به جميع الحرم، وقيل: يختص بالموضع الذي يصلي فيه، دون البيوت وغيرها من أجزاء الحرم. (والمسجد الأقصى) أي بيت المقدس، وسمي الأقصى لبعده عن المسجد الحرام في المسافة، وقيل في الزمان، وفيه نظر. وقال الزمخشري: سمي الأقصى لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد، وقيل لبعده عن الأقذار والخبث، وقيل هو أقصى بالنسبة إلى مسجد المدينة، لأن مسجد المدينة بعد عن مكة، وبيت المقدس أبعد منه. (لا تسافر المرأة يومين من الدهر) أي مسيرة يومين، كما صرح به في الرواية الرابعة. (أو زوجها) عدم ذكره في الروايات الأخرى للعلم به، فهو معلوم بالطريق الأولى. (فأعجبنني وآنقنني) بفتح النونين وبقاف ساكنة بينهما، جمع مؤنث ماض، أي الكلمات الأربع أعجبنني قال النووي: وإنما كرر المعنى لاختلاف اللفظ، والعرب تفعل ذلك كثيراً للبيان والتوكيد، قال تعالى: {أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة} [البقرة: 157]. والصلاة من الله الرحمة، وقال تعالى: {فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً} [الأنفال: 69]. والطيب هو الحلال. (واقتص باقي الحديث) بقيته "ولا صوم يومين. الفطر والأضحى، ولا صلاة بعد صلاتين. بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد. مسجد الحرام ومسجدي ومسجد الأقصى". (لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم) قال النووي هذا استثناء منقطع لأنه متى كان معها محرم لم تبق خلوة، فتقدير الحديث لا يقعدن رجل مع امرأة إلا ومعها محرم وقوله صلى الله عليه وسلم "ومعها ذو محرم" يحتمل أن يريد محرماً لها، ويحتمل أن يريد محرماً لها، أوله، وهذا الاحتمال الثاني هو الجاري على قواعد الفقهاء، فإنه لا فرق بين أن يكون معها محرم لها كابنها وأخيها وأمها وأختها أو يكون محرماً له كأخته وبنته وعمته وخالته، فيجوز القعود معها في هذه الأحوال. وللمسألة بقية تأتي في فقه الحديث. -[فقه الحديث]- اختلفت ألفاظ مسافة السفر بين الروايات "ثلاثاً". "فوق ثلاث". "ثلاثة". "يومين من الدهر". "مسيرة ليلة". "مسيرة يوم". "مسيرة يوم وليلة". وبدون تحديد مسافة "لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم".

هذه روايات مسلم، وفي رواية لأبي داود "لا تسافر بريداً" والبريد مسيرة نصف يوم. قال النووي: قال العلماء: اختلاف هذه الألفاظ لاختلاف السائلين، واختلاف المواطن، ليس في النهي عن الثلاثة تصريح بإباحة اليوم والليلة أو البريد. قال البيهقي: كأنه صلى الله عليه وسلم سئل عن المرأة تسافر ثلاثاً بغير محرم؟ فقال لا. وسئل عن سفرها يومين بغير محرم؟ فقال: لا. وسئل عن سفرها يوماً؟ فقال: لا. وكذلك البريد. فأدى كل ما سمعه، ما جاء منها مختلفاً في روايات واحد فيحمل على أنه سمعه في مواطن، فروى تارة هذا، وتارة هذا، وكله صحيح، وليس في هذا كله تحديد لأقل ما يقع عليه اسم السفر، ولم يرد صلى الله عليه وسلم تحديد أقل ما يسمى سفراً، فالحاصل أن كل ما يسمى سفراً تنهى عنه المرأة بغير زوج أو محرم، سواء كان ثلاثة أيام أو يومين أو يوماً أو نصف يوم أو غير ذلك، لرواية ابن عباس المطلقة روايتنا الثانية عشرة وهذا يتناول جميع ما يسمى سفراً. ثم قال النووي واستدل أصحاب أبي حنيفة برواية ثلاثة أيام لمذهبهم، وقالوا إن قصر الصلاة في السفر لا يجوز إلا في سفر يبلغ ثلاثة أيام. وهذا الاستدلال فاسد. اهـ وقال العيني رواية غير ابن عباس زادت على رواية ابن عباس، فالأخذ بالزائد أولى، ولكن الزائد في نفسه مختلف، فرجح خبر الثلاث. اهـ والتحقيق أن رواية ابن عباس غير مضطربة، ورواية غيره مضطربة، فكان الأخذ بالسالمة من الاضطراب أولى من الأخذ بالروايات المضطربة. ثم إن الزيادة في رواية ابن عباس، لأنها زيادة في الاحتياط والمنع الذي استهدفه الحديث، ثم إن قياس المنع من سفر المرأة على قصر الصلاة قياس فاسد بداهة. فالعلة في هذا غير العلة في ذاك، فالأصل والفرع لا يشتركان في علة واحدة، إذ علة قصر الصلاة للمسافر التخفيف لحصول المشقة بالسفر، وعلة منع المرأة من السفر وحدها حمايتها وتحقيق الأمن لها، ومجرد سفرها وبعدها عن وطنها وأهلها وحماتها يثير الخوف عليها، ولو كان ذلك ميلاً واحداً، ولذا حرمت الخلوة بها ولو كانت في ديار أهلها. وتفرع من هذه المسألة مسائل: الأولى: هل ينطبق ذلك على سفرها لحج الفريضة؟ . الثانية: وهل ينطبق ذلك على سفرها لحج التطوع؟ وللأمور المندوبة؟ . الثالثة: وهل ينطبق ذلك على سفرها لهجرتها من دار الكفر إلى دار الإسلام؟ . الرابعة: وهل يطبق ذلك على العجوز التي لا تشتهى كما يطبق على الشابة؟ . أما عن المسألة الأولى فقد قال النووي أجمعت الأمة على أن المرأة يلزمها حجة الإسلام إذا استطاعت، لعموم قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت} وقوله صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس ... " الحديث. واستطاعتها كاستطاعة الرجل، لكن اختلفوا في اشتراط المحرم

لها، فأبو حنيفة يشترطه لوجوب الحج عليها، إلا أن يكون بينها وبين مكة دون ثلاث مراحل، ووافقه جماعة من أصحاب الحديث وأصحاب الرأي، وحكي ذلك عن الحسن البصري والنخعي. وقال عطاء وسعيد بن جبير وابن سيرين ومالك والأوزاعي والشافعي في المشهور عنه: لا يشترط المحرم، بل يشترط الأمن على نفسها. قال النووي: قال أصحابنا: يحصل الأمن بزوج أو محرم أو نسوة ثقات، ولا يلزمها الحج عندنا إلا بأحد هذه الأشياء، فلو وجدت امرأة واحدة ثقة لم يلزمها. لكن يجوز لها الحج معها. هذا هو الصحيح. وقال بعض أصحابنا: يلزمها بوجود نسوة أو امرأة واحدة، وقد يكثر الأمن، ولا تحتاج إلى أحد، بل تسير وحدها في جملة القافلة، وتكون آمنة والمشهور من نصوص الشافعي وجماهير أصحابه هو الأول. اهـ ومن الواضح أن مالكاً والشافعية والجمهور اعتمدوا على حكمة التشريع، وعلة منع السفر، ولم يعتمدوا ظاهر النصوص، بينما اعتمد أبو حنيفة نصوص النهي عن سفرها. وأما عن المسألة الثانية فإن من منعها من السفر لحج الفريضة إلا بالمحرم يمنعها من السفر لحج التطوع وللأمور المندوبة من باب أولى. أما الجمهور الذي أباح لها السفر لحج الفريضة بدون محرم أو زوج فقد اختلفوا، يقول النووي: واختلف أصحابنا في خروجها لحج التطوع وسفر الزيارة، فقال بعضهم: يجوز لها الخروج فيها مع نسوة ثقات، كحجة الإسلام وقال الجمهور: لا يجوز إلا مع زوج أو محرم، وهذا هو الصحيح، للأحاديث الصحيحة. وقال القاضي واتفق العلماء على أنه ليس لها أن تخرج في غير الحج والعمرة إلا مع ذي محرم. إلا الهجرة من دار الحرب. المسألة الثالثة الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام. قال القاضي عياض: اتفقوا على أن عليها أن تهاجر من دار الحرب إلى دار الإسلام وإن لم يكن معها محرم، والفرق بينها وبين الحج أن إقامتها في دار الكفر حرام، إذا لم تستطع إظهار الدين، وتخشى على دينها ونفسها، وليس كذلك التأخر عن الحج، فإنهم اختلفوا في الحج. هل هو على الفور؟ أو على التراخي؟ . المسألة الرابعة قال الباجي: هذا عندي في الشابة، أما الكبيرة غير المشتهاة فتسافر كيف شاءت في كل الأسفار بلا زوج ولا محرم قال النووي وهذا الذي قاله الباجي لا يوافق عليه، لأن المرأة مظنة الطمع فيها، ومظنة الشهوة، ولو كانت كبيرة، وقد قالوا لكل ساقطة لاقطة، ويجتمع في الأسفار من سفهاء الناس وسقطهم من لا يرتفع عن الفاحشة بالعجوز وغيرها، لغلبة شهوته، وقلة دينه ومروءته وخيانته ونحو ذلك. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - استدل الشافعية بعموم قوله: "إلا ومعها ذو محرم" أن جميع المحارم سواء في ذلك، فيجوز لها المسافرة مع محرمها بالنسب كابنها وأخيها وابن أخيها وابن أختها وخالها وعمها، ومع محرمها بالرضاعة، كأخيها من الرضاع وابن أخيها وابن أختها منه ونحوهم، ومع محرمها من المصاهرة، كأبي زوجها وابن زوجها، ولا كراهة في شيء من ذلك، وكذا يجوز لكل هؤلاء الخلوة بها

والنظر إليها من غير حاجة، ولكن لا يحل النظر إليها بشهوة من أحدهم. قال النووي: هذا مذهب الشافعي والجمهور، ووافق مالك على ذلك كله إلا ابن زوجها فكره سفرها معه، لفساد الناس بعد العصر الأول، ولأن كثيراً من الناس لا ينفرون من زوجة الأب نفرتهم من محارم النسب. وعموم هذا الحديث يرد عليه. 2 - ومن الرواية الثالثة، ومن قوله "لا تشدوا الرحال ... " إلخ فضيلة هذه المساجد الثلاثة، ومزيتها على غيرها، لكونها مساجد الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم، ولفضل الصلاة فيها. قال النووي ولو نذر الذهاب إلى المسجد الحرام لزمه قصده بحج أو عمرة، ولو نذر الذهاب إلى أحد المسجدين الآخرين فقولان للشافعي أصحهما عن أصحابه يستحب قصدهما، ولا يجب، والثاني يجب، وبه قال كثيرون من العلماء، وأما باقي المساجد سوى الثلاثة فلا يجب قصدها بالنذر، ولا ينعقد نذر قصدها. هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة إلا محمد بن مسلمة المالكي فقال: إذا نذر قصد مسجد قباء لزمه قصده، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتيه كل سبت راكباً وماشياً، وقال الليث بن سعد: يلزمه قصد ذلك المسجد، أي مسجد كان، وعلى مذهب الجماهير لا ينعقد نذره، ولا يلزمه شيء، وقال أحمد يلزمه كفارة يمين. واختلف العلماء في شد الرحال وإعمال المطي إلى غير المساجد الثلاثة كالذهاب إلى قبور الصالحين، وإلى المواضع الفاضلة ونحو ذلك. فقال الشيخ الجويني من أصحابنا هو حرام، وهو الذي أشار القاضي عياض إلى اختياره، والصحيح عند أصحابنا، وهو الذي اختاره إمام الحرمين والمحققون أنه لا يحرم ولا يكره، قالوا والمراد أن الفضيلة التامة إنما هي في شد الرحال إلى هذه الثلاثة خاصة. والله أعلم. 3 - ومن الرواية الثانية عشرة، من قوله: "لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم" حرمة اختلاء المرأة بالأجنبي من غير ثالث، وهذا باتفاق العلماء، وكذا لو كان معهما من لا يستحى منه لصغره، كابن سنتين وثلاث ونحو ذلك، فإن وجوده كالعدم، قال النووي: وكذا لو اجتمع رجال بامرأة أجنبية فهو حرام بخلاف ما لو اجتمع رجل بنسوة أجانب، فإن الصحيح جوازه، لأن الأطماع تنقطع بجماعتهن لأن النساء يستحين من بعضهن بعضاً في ذلك. وقال القفال كما يحرم على الرجل أن يخلو بامرأة واحدة كذلك يحرم عليه أن يخلو بنسوة، ولو خلا رجل بنسوة وهو محرم إحداهن جاز، قال أصحابنا ولا فرق بين الخلوة في صلاة وغيرها، ويستثنى من هذا كله مواضع الضرورة. 4 - واستدل بها بعضهم على أن حج الرجل مع امرأته إذا أرادت حجة الإسلام أولى من سفره إلى الغزو. 5 - واستدل بعضهم بقوله "انطلق فحج مع امرأتك" على وجوب السفر على الزوج مع امرأته إذا لم يكن لها غيره، وبه قال أحمد، وهو وجه الشافعية، والمشهور أنه لا يلزمه، فلو امتنع إلا بأجرة لزمها، فهو في حقها كالمؤونة.

6 - وفيه تقديم الأهم من الأمور المتعارضة، فإن الرجل لما عرض له الغزو والحج رجح الحج، لأن امرأته لا يقوم غيره مقامه في السفر معها، بخلاف الغزو. 7 - واستدل به بعضهم على أنه ليس للزوج منع امرأته من الحج الفرض، وبه قال أحمد، وهو وجه للشافعية، والأصح عندهم أن له منعها لكون الحج على التراخي. 8 - وقد يستدل به على أن الحج على الفور، إذ لو كان على التراخي لقيل للرجل اذهب للغزو هذا العام، واخرج مع امرأتك في عام قابل. والله أعلم

(349) باب الذكر عند السفر إلى الحج وعند الرجوع منه

(349) باب الذكر عند السفر إلى الحج وعند الرجوع منه 2895 - عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجاً إلى سفر، كبر ثلاثاً، ثم قال {سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون} اللهم! إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى. ومن العمل ما ترضى. اللهم! هون علينا سفرنا هذا. واطو عنا بعده. اللهم! أنت الصاحب في السفر. والخليفة في الأهل. اللهم! إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب، في المال والأهل" وإذا رجع قالهن. وزاد فيهن "آيبون، تائبون، عابدون، لربنا حامدون". 2896 - عن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر، يتعوذ من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، والحور بعد الكون، ودعوة المظلوم، وسوء المنظر في الأهل والمال. 2897 - وفي رواية: "في المال والأهل". وفي رواية "قال: يبدأ بالأهل إذا رجع". وفي رواية "اللهم! إني أعوذ بك من وعثاء السفر". 2898 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا قفل من الجيوش أو السرايا أو الحج أو العمرة، إذا أوفى على ثنية أو فدفد، كبر ثلاثاً. ثم قال "لا إله إلا الله وحده لا شريك له. له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. آيبون تائبون عابدون ساجدون. لربنا حامدون. صدق الله وعده. ونصر عبده. وهزم الأحزاب وحده". 2899 - عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله إلا حديث أيوب فإن فيه التكبير مرتين.

2900 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أقبلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، أنا وأبو طلحة، وصفية رديفته على ناقته. حتى إذا كنا بظهر المدينة قال "آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون" فلم يزل يقول ذلك حتى قدمنا المدينة. -[المعنى العام]- السفر قطعة من العذاب، كثير الأخطار، وسائله غير آمنة، فيه بعد عن الأهل ورعايتهم، فكان أحوج أوقات المؤمن إلى الاستعانة بالله ودعائه، لذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو عند السفر بدعاء يناسبه، يعلمه لأمته لتدعوا به، فكان إذا ركب وسيلة السفر يكبر الله تعالى ثلاثاً، ثم يقول سبحان الذي سخر لنا هذا [الذي نركبه] وما كنا له مقرنين [أي وما كنا نستطيع تذليله وترويضه والانتفاع به لولا تدبير الله وتسخيره لنا] وإنا إلى ربنا لمنقلبون [أي وإن رجوعنا من سفرنا هذا وانقلابنا إلى أهلينا بعد غربتنا إنما هو بأمر الله وعونه، لأننا سنرجع إليه في نهاية حياتنا] ثم يسأل الله الخير، ويستعيذ به من الشر، فيقول اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر [وعمل الخير] والتقوى [أي وطاعتك] ومن العمل ما ترضى اللهم هون [ويسر] علينا سفرنا هذا، واطو عنا بعده [وقرب إلينا مسافته] ثم يطلب من الله السلامة في السفر، ورعاية الأهل من بعده، فيقول: "اللهم أنت الصاحب في السفر [فكن معي برحمتك ورضاك] والخليفة للأهل [فكن لهم من بعدي راعياً] ثم يستعيذ ويطلب العوذ والوقاية من الشر، فيقول: "اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر [ومشقته] وكآبة المنظر [وقبح المنظر من الحزن] وسوء المنقلب [والرجوع السيئ] في المال والأهل". وكان في رجوعه صلى الله عليه وسلم يكثر من التكبير والتهليل والذكر والدعاء، ويقول "آيبون. تائبون. عابدون. لربنا حامدون". فاللهم استجب. وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. آمين. -[المباحث العربية]- (كان إذا استوى على بعيره خارجاً إلى سفر كبر ثلاثاً) الاستواء العلو والركوب وفي مناسبة التكبير للعلو سواء هنا بالركوب، أو الصعود على مرتفع كما سيأتي في الرواية الثالثة قال المهلب تكبيره صلى الله عليه وسلم عند الارتفاع استشعار لكبرياء الله عز وجل، وأنه أكبر من كل شيء، وكذا عندما تقع العين على عظيم من خلقه. وقال الحافظ ابن حجر ومناسبة التكبير عند الصعود إلى المكان المرتفع أن الاستعلاء والارتفاع محبوب للنفوس، لما فيه من استشعار الكبرياء، فشرع لمن تلبس به أن يذكر كبرياء الله تعالى، وأنه أكبر من كل شيء فيكبره ليشكر له ذلك، فيزيده من فضله.

{سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون} هذا جزء الآية الثالثة عشرة والآية الرابعة عشرة من سورة الزخرف، قال تعالى {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم الذي جعل لكم الأرض مهداً وجعل لكم فيها سبلاً لعلكم تهتدون والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتاً كذلك تخرجون والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون} فالآية في ركوب الفلك والأنعام، ويلحق بها كل وسيلة سفر، ومعنى {وما كنا له مقرنين} أي وما كنا له مطيقين، أي وما كنا عليه قادرين بقدرتنا، لولا أن سخرته وذللته لنا. وحقيقة أقرنه جعله أو وجده قرينه، والصعب لا يكون قريناً للضعيف، وحاصل المعنى أنه ليس لنا من القوة ما نضبط به الدابة والفلك، إنما الله تعالى هو الذي سخر لنا ذلك، وضبطه لنا. {وإنا إلى ربنا لمنقلبون} راجعون. وفيه إيذان بأن حق الراكب أن يتأمل فيما يلابسه من السير، ويتذكر منه المسافرة العظمى التي هي الانقلاب إلى الله تعالى، فيبني أموره في مسيرة ذلك على تلك الملاحظة، ولا يأتي بما ينافيها، ومن ضرورة ذلك أن يكون ركوبه لأمر مشروع، وفيه إشارة إلى أن الركوب مخطرة، فلا ينبغي أن يغفل فيه عن تذكر الآخرة. (البر والتقوى) أي البر بالناس والإحسان إليهم وطاعتك وتقواك. (وعثاء السفر) بفتح الواو وسكون العين وبالثاء والمد، المشقة والشدة. (كآبة المنظر) أي تغير النفس من الحزن ونحوه. (سوء المنقلب) بفتح اللام، أي سوء المرجع، أي الرجوع السيئ في المال والأهل. (آيبون. تائبون ... إلخ) "آيبون" أي راجعون، وليس المراد الإخبار بمحض الرجوع فهو أمر واضح لا يحتاج إلى إخبار، فيشبه تحصيل الحاصل، وإنما المراد راجعون بهذه الأوصاف التوبة والعبادة وحمد الله. (والحور بعد الكور) الحور النقص، والكور الزيادة، والمعنى نعوذ بك من النقص بعد الزيادة، وقيل من فساد أمورنا بعد صلاحها، وقيل من البعد عن الجماعة بعد أن كنا معهم. قال النووي في معظم النسخ من صحيح مسلم "الكون" بالنون، بل لا يكاد يوجد في نسخ بلادنا إلا بالنون، وكذا ضبطه الحفاظ المتقنون في صحيح مسلم. قال القاضي وهكذا رواه الفارسي وغيره من رواة مسلم. قال ورواه العذري بعد الكور بالراء. قال النووي كلاهما روايتان، وممن ذكر الروايتين جميعاً الترمذي في جامعه وخلائق من المحدثين، قالوا ورواية الراء مأخوذة من تكوير العمامة وهو لفها وجمعها، يقال كار عمامته إذا لفها وحارها إذا أنقضها، ورواية النون مأخوذة من الكون. مصدر كان يكون كوناً، إذا وجد واستقر، فالمعنى على الراء نعوذ بك من أن تفسد أمورنا بعد صلاحها، كفساد العمامة

بعد استقامتها على الرأس، وعلى رواية النون نعوذ بك من أن نكون في حالة سيئة بعد أن كنا في حالة جميلة. (ودعوة المظلوم) ليس المقصود الاستعاذة من دعوة المظلوم، بل المراد الاستعاذة من سببها وهو الظلم، الذي يترتب عليه دعوة المظلوم، فإنها ليس بينها وبين الله حجاب. (قفل من الجيوش أو السرايا) أي رجع من الغزو، والمراد به قصد النبي صلى الله عليه وسلم الكفار بنفسه أو بجيش من قبله و"السرايا". جمع سرية، بفتح السين وكسر الراء وتشديد الياء، وهي قطعة من الجيش تخرج بالليل لمهمة ثم تعود، وتقدر عدداً من مائة إلى خمسمائة. (إذا أوفى على ثنية أو فدفد) معنى "أوفى" ارتفع وعلا. والثنية في الجبل كالعقبة فيه، وقيل هو الطريق العالي فيه، وقيل أعلى المسيل في رأسه. و"الفدفد" بفاءين مفتوحتين بينهما دال ساكنة هو الموضع الذي فيه غلظ وارتفاع، وقيل هو الفلاة التي لا شيء فيها وقيل غليظ الأرض ذات الحصى، وقيل الجلد من الأرض في ارتفاع، أي المكان المرتفع الصلب، وجمعه فدافد. (صدق الله وعده) أي صدق وعده في إظهار الدين، وكون العاقبة للمتقين، وغير ذلك من وعد الله سبحانه وتعالى، وهو لا يخلف الميعاد، فالوعد على عمومه، ويحتمل أن المراد بالوعد هنا وعد الله تعالى للمؤمنين بالنصر في غزوة الأحزاب، ويكون في ذلك تكذيب لقول المنافقين والذين في قلوبهم مرض {ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً} [الأحزاب: 12]. (ونصر عبده) محمداً صلى الله عليه وسلم على الكفار مطلقاً، بإظهار دينه، أو نصره على الأحزاب يوم الخندق. (وهزم الأحزاب وحده) أي من غير قتال من الآدميين، والحزب القطعة المجتمعة من الناس، والمراد الأحزاب الذين اجتمعوا يوم الخندق، وتحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل الله عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها، ويحتمل أن المراد أحزاب الكفر في جميع الأيام والمواطن، فاللام إما عهدية، وإما جنسية. (وصفية رديفته على ناقته) كان ذلك في طريق العودة من خيبر. (كنا بظهر المدينة) أي أعلاها ومشارفها. -[فقه الحديث]- قال الحافظ ابن حجر: ظاهر قوله [في الرواية الثالثة] "من غزو أو حج أو عمرة" اختصاص ذلك بهذه الأمور الثلاثة، وليس الحكم كذلك عند الجمهور، بل يشرع قول ذلك في كل سفر طاعة، كصلة الرحم، وطلب العلم، لما يشمل الجميع من اسم الطاعة وقيل يتعدى أيضاً إلى المباح، لأن المسافر فيه لا ثواب له، فلا يمتنع عليه فعل ما يحصل له الثواب، وقيل يشرع في سفر المعصية أيضاً، لأن

مرتكبها أحوج إلى تحصيل الثواب من غيره، قال وهذا التعليل متعقب، لأن الذي يخصه بسفر الطاعة لا يمنع من سافر في مباح ولا في معصية من الإكثار من ذكر الله، وإنما النزاع في خصوص هذا الذكر في هذا الوقت المخصوص. فذهب قوم إلى الاختصاص، لكونها عبادات مخصوصة، شرع لها ذكر مخصوص، فتختص به، كالذكر المأثور عقب الأذان وعقب الصلاة. وقال [عن الرواية الثالثة أيضاً] قول لا إله إلا الله ... إلخ يحتمل أنه كان يأتي بهذا الذكر عقب التكبير وهو على المكان المرتفع ويحتمل أن التكبير يختص بالمكان المرتفع وما بعده إن كان متسعاً أكمل الذكر المذكور فيه، وإلا فإذا هبط سبح، ويحتمل أن يكمل الذكر مطلقاً عقب التكبير، ثم يأتي بالتسبيح إذا هبط. قال القرطبي وفي تعقيب التكبير بالتهليل إشارة إلى أنه المتفرد بإيجاد جميع المخلوقات والموجودات، وأنه المعبود في كل الأماكن. اهـ وفي قوله "تائبون" إشارة إلى التقصير في العبادة، وقاله صلى الله عليه وسلم على سبيل التواضع، أو تعليماً لأمته، أو المراد أمته. وفي الرواية الثانية التحذير من الظلم، ومن التعرض لأسبابه. والله أعلم

(350) باب النزول ببطحاء ذي الحليفة

(350) باب النزول ببطحاء ذي الحليفة 2901 - عن نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أناخ بالبطحاء التي بذي الحليفة. فصلى بها. وكان عبد الله بن عمر يفعل ذلك. 2902 - عن نافع، قال: كان ابن عمر ينيخ بالبطحاء التي بذي الحليفة. التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينيخ بها ويصلي بها. 2903 - عن نافع: أن عبد الله بن عمر كان إذا صدر من الحج أو العمرة أناخ بالبطحاء التي بذي الحليفة. التي كان ينيخ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2904 - عن سالم، عن أبيه رضي الله عنه. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي في معرسه بذي الحليفة. فقيل له: إنك ببطحاء مباركة. 2905 - عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه رضي الله عنه. أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي وهو في معرسه من ذي الحليفة في بطن الوادي. فقيل: إنك ببطحاء مباركة. قال موسى: وقد أناخ بنا سالم بالمناخ من المسجد الذي كان عبد الله ينيخ به. يتحرى معرس رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو أسفل من المسجد الذي ببطن الوادي. بينه وبين القبلة. وسطاً من ذلك. -[المعنى العام]- إن مناسك الحج أساسها فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وقوله "خذوا عني مناسككم" ولا خوف في هذا بالنسبة للشعائر، أما ما لابس الشعائر من هيئات الركوب أو المشي أو الوقوف أو الجلوس أو النزول في منزل أو سلوك طريق من الطرق ونحو ذلك فقد تمسك باستحبابه جماعة الملتزمين، وعلى رأسهم ابن عمر رضي الله عنهما، ولم يتمسك به آخرون رأوا أن ذلك كان أمراً اتفاقياً، ولم يكن مقصوداً بالاستحباب، ولم يتطلبه هدف ديني، والكل متفق على أن من اقتدى به صلى الله عليه وسلم في مثل

هذه الأمور مستشعراً الاقتداء به، قاصداً المتابعة والأسوة الحسنة له أجر، لكن هل هو أجر العمل؟ أو أجر النية والقصد؟ هذا موطن الخلاف، ومن هذا القبيل ما نحن فيه من نزوله صلى الله عليه وسلم بالأبطح عند ذي الحليفة في طريق عودته إلى المدينة من حجة الوداع، فصلى الله وسلم عليه ورضي عن أصحابه أجمعين. -[المباحث العربية]- (أناخ بالبطحاء التي بذي الحليفة) أي أناخ بعيره، ونزل، ونزل المسلمون معه ليستريحوا من السفر، وليقضوا وقتاً بها، والبطحاء هو التراب الذي في مسيل الماء، وقيل إنه مجرى السيل إذا جف واستحجر، والبطحاء التي بذي الحليفة معروفة عند أهل المدينة وغيرهم بالمعرس. وقوله "التي بذي الحليفة" احتراز عن البطحاء التي بمكة بين مكة ومنى والمعروفة باسم المحصب، وقد سبق الكلام عليها في باب خاص قبل باب الهدي. وكان هذا النزول في عودته من الحج إلى المدينة، كما تشير إلى ذلك الرواية الثالثة بقولها "كان إذا صدر من الحج أو العمرة أناخ بالبطحاء" أي إذا رجع من الحج والعمرة. (أتى في معرسه) قال القاضي المعرس [بضم الميم وفتح العين وتشديد الراء المفتوحة] موضع النزول. قال أبو زيد عرس القوم في المنزل إذا نزلوا به، أي وقت كان من ليل أو نهار، وقال الخليل والأصمعي: التعريس النزول في آخر الليل، اهـ و"أتى" مبني للمجهول، أي أتاه الملك فقال له إنك ببطحاء مباركة. (أناخ بنا سالم بالمناخ من المسجد) أي بالمكان الذي أناخوا فيه من المسجد. -[فقه الحديث]- قال النووي قال القاضي: والنزول بالبطحاء بذي الحليفة في رجوع الحاج ليس من مناسك الحج، وإنما فعله من فعله من أهل المدينة تبركاً بآثار النبي صلى الله عليه وسلم ولأنها بطحاء مباركة. قال واستحب مالك النزول والصلاة فيه، وألا يجاوزه حتى يصلي فيه، وإن كان في غير وقت الصلاة مكث حتى يدخل وقت الصلاة فيصلي. قال وقيل إنما نزل به صلى الله عليه وسلم في رجوعه حتى يصبح لئلا يفجأ الناس أهاليهم ليلاً، كما نهي عنه صريحاً في الأحاديث المشهورة. والله أعلم. وللحديث علاقة بحديث نزول الأبطح الذي بين مكة ومنى وقد سبق في باب خاص بعد باب رمي جمرة العقبة إلخ فليراجع. والله أعلم

(351) باب لا يحج البيت مشرك ولا يطوف بالبيت عريان

(351) باب لا يحج البيت مشرك ولا يطوف بالبيت عريان 2906 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعثني أبو بكر الصديق في الحجة التي أمره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قبل حجة الوداع. في رهط، يؤذنون في الناس يوم النحر: لا يحج بعد العام مشرك. ولا يطوف بالبيت عريان. قال ابن شهاب: فكان حميد بن عبد الرحمن يقول: يوم النحر يوم الحج الأكبر. من أجل حديث أبي هريرة. -[المعنى العام]- الحج شريعة إبراهيم عليه السلام، وكان العرب يحجون قبل الإسلام، وإن انحرفت بهم هذه الشعيرة إلى تقديس الأصنام التي وضعوها في الكعبة وحولها وعلى الصفا والمروة وجاء الإسلام معدلاً لما انحرف مصلحاً من شعائره ما فسد، مقراً لما هو صالح، وظل المشركون يحجون في عهد الرسالة حتى السنة التاسعة من الهجرة، فنزل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة: 28]. وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ هذا الأمر الإلهي لأهل الحج بعامة، ولأهل مكة خاصة، لكنه صلى الله عليه وسلم قد قرر ألا يسافر إلى الحج ذاك العام، وكان يعلم أن المشركين يختلطون بالمسلمين في حجهم ويلبون بالشرك أثناء تلبيتهم ويطوفون بالبيت عراة، رجالاً ونساء، كما ولدتهم أمهاتهم، فأراد صلى الله عليه وسلم أن ينظف الحج من هذه الرذائل قبل أن يحج، فقرر أن يكون أبو بكر أميراً للحجاج، وراعياً لشئونهم نيابة عنه صلى الله عليه وسلم، وطلب إليه أن يعلن في الناس أنه لا يحج البيت بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، نعم لقد كان العرب يطوفون بالبيت عراة، الرجال بالنهار والنساء بالليل، وكانوا يقصدون بذلك أن يطوفوا كما ولدوا، بغير الثياب التي أذنبوا فيها، فإذا بلغ أحدهم باب المسجد قال لقريش من يعيرني ثوباً أطوف به؟ فإن أعطاه قرشي ثوباً طاف فيه، وإلا ألقى ثيابه بباب المسجد، ثم طاف سبعاً عرياناً، ومن طاف في ثياب لم يحل له أن يلبسها أبداً ولا ينتفع بها، وكان بعض النساء تتخذ سيوراً تعلقها في رقبتها وتستر بها سوأتها، وبعضهن تستر سوأتها بيديها، وبعضهن تخفض رأسها، فتستر سوأتها بشعرها، وفي ذلك تقول العامرية: اليوم يبدو بعضه أو كله ... وما بدا منه فلا أحله وفي ذلك نزل قوله تعالى {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} [الأعراف: 31].

وفي يوم النحر وفي منى نادى أبو هريرة وعلي ومن كلفه أبو بكر لينادي معهما في الناس، كل في جهة ليسمعوا أكبر عدد ممكن ألا لا يحج البيت بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت بعد العام عريان. -[المباحث العربية]- (في الحجة التي أمره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم) "أمر" بفتح الهمزة وتشديد الميم المفتوحة، أي جعله أميراً عليها ليحج بالناس، وذلك سنة تسع من الهجرة. (في رهط يؤذنون في الناس) أي بعثني في جملة رهط، والرهط من الرجال ما دون العشرة، لا يكون فيهم امرأة، ولا واحد له من لفظه، و"يؤذنون" أي يعلمون، فالمراد الأذان اللغوي، وضمير "يؤذنون" للرهط باعتبار المعنى، والمراد من الناس الحجاج، أو ما يعمهم ويعم الموجودين من أهل مكة وغيرهم. -[فقه الحديث]- قال النووي المراد بالمسجد الحرام في قوله تعالى {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة: 28]. الحرم كله، فلا يمكن مشرك من دخول الحرم بحال، حتى لو جاء في رسالة، أو أمر مهم لا يمكن من الدخول، بل يخرج إليه من يقضي الأمر المتعلق به ولو دخل خفية ومرض ومات نبش وأخرج من الحرم. اهـ قال العيني وكذلك لا يمكن أهل الذمة من الإقامة بعد ذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب. وقال النووي وفي الحديث إبطال لما كانت الجاهلية عليه من الطواف بالبيت عراة، واستدل به أصحابنا وغيرهم على أن الطواف يشترط له ستر العورة. اهـ وبه قال مالك والشافعي وأحمد في رواية، وذهب أبو حنيفة وأحمد في رواية إلى أنه لو طاف عرياناً يجبر بدم. قال النووي قال ابن شهاب وكان حميد بن عبد الرحمن يقول يوم النحر يوم الحج الأكبر من أجل حديث أبي هريرة رضي الله عنه ومعنى قول حميد بن عبد الرحمن إن الله تعالى قال {وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله} [التوبة: 3]. ففعل أبو بكر وعلي وأبو هريرة هذا الأذان يوم النحر، فتعين أنه يوم الحج الأكبر ولأن معظم المناسك تقع فيه. وبعبارة أخرى أن الله تعالى أمر بهذا الأذان يوم الحج الأكبر، فأذن به الصحابة يوم النحر، فدل على أنهم علموا أنه يوم الحج الأكبر المأمور بالأذان فيه. وهذا مذهب مالك والشافعي والجمهور. وقيل يوم الحج الأكبر هو يوم عرفة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة". قال العلماء وقيل الحج الأكبر للاحتراز من الحج الأصغر، وهو العمرة. والله أعلم

(352) باب فضل يوم عرفة

(352) باب فضل يوم عرفة 2907 - عن عائشة رضي الله عنها؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار، من يوم عرفة. وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة. فيقول: ما أراد هؤلاء؟ ". -[المعنى العام]- لله في خلقه شئون، يفضل بعض الأماكن على بعض، ويفضل بعض الآدميين على بعض، ويفضل بعض الأزمنة على بعض، ومعنى تفضيل الزمان والمكان تفضيل ما يقع فيه من أعمال البر والخير على مثيلاتها حين تقع في المكان أو الزمان المفضول، وبمعنى آخر زيادة فضل الله ورحمته التي تغمر المطيعين في الزمان أو المكان المفضل عنها في الزمان والمكان المفضول، ويوم عرفة يوم يجتمع فيه الحجاج شعثاً غبراً، يرجون رحمة الله ويخافون عذابه، تركوا أموالهم وأولادهم وما خولهم الله وراء ظهورهم، ورفعوا أكفهم ضارعة إلى ربهم، يباهي بهم ملائكته، يقول ما يريد هؤلاء بوقوفهم هنا هكذا؟ يقولون يطيعونك ويعبدونك ويرجونك. فيقول هل رأوني؟ فيقولون لا، فيقول يعبدونني هكذا ولم يروني، فكيف إذا رأوني؟ أشهدكم يا ملائكتي أني غفرت لهم. -[المباحث العربية]- (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة) "من يوم عرفة" جار ومجرور متعلق بأكثر، و"من أن يعتق الله فيه عبداً من النار" في موقع التمييز، و"من" في "ما من يوم" زائدة، والتقدير ليس يوم أكثر من يوم عرفة عتقاً من النار. (وإنه ليدنو) قال النووي أي تدنو رحمته وكرامته، لا دنو مسافة ومماسة. قال القاضي يتأول فيه ما يتأول في حديث النزول إلى السماء الدنيا، وقد يريد دنو الملائكة إلى الأرض، أو إلى السماء بما ينزل معهم من الرحمة. (ما أراد هؤلاء؟ ) الوقوف عند السؤال في هذه الرواية اختصار من الرواة، فقد بين مرادهم في رواية عبد الرزاق "هؤلاء عبادي جاءوني شعثاً غبراً، يرجون رحمتي، ويخافون عذابي، ولم يروني ... "

-[فقه الحديث]- قال النووي: هذا الحديث ظاهر الدلالة في فضل يوم عرفة، وهو كذلك، ولو قال رجل: امرأتي طالق في أفضل الأيام فلأصحابنا وجهان. أحدهما تطلق يوم الجمعة، لقوله صلى الله عليه وسلم "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة"، كما سبق في صحيح مسلم، وأصح الوجهين يوم عرفة للحديث المذكور في هذا الباب، ويتأول حديث يوم الجمعة على أنه أفضل أيام الأسبوع. والله أعلم

(353) باب فضل الحج والعمرة

(353) باب فضل الحج والعمرة 2908 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما. والحج المبرور، ليس له جزاء إلا الجنة". 2909 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق، رجع كما ولدته أمه". 2910 - وفي رواية "من حج فلم يرفث ولم يفسق". -[المعنى العام]- خلق الله الإنسان وكلفه بطاعته، وسلط عليه الشيطان والشهوات والنفس الأمارة بالسوء، فكان لزاماً أن يخطئ وأن يعصى، وكان من رحمته جل شأنه بالإنسان عامة وبالمسلم خاصة أن فتح له أبواب التوبة، وضاعف حسنته بعشرة أمثالها، وأفاض عليه من عفوه في أماكن مشرفة، كالمسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة والمسجد الأقصى بالشام، وفي أزمنة مشرفة، كشهر رمضان ويوم الجمعة وليلة القدر والعشر الأوائل من ذي الحجة، وفي أعمال مكرمة لعينها كالجهاد وبر الوالدين والصلاة لوقتها والحج والعمرة فقال "من حج فلم يرفث ولم يفسق [وأدى الحج كما شرعه الله وطلبه منه] رجع [من حجه مغفوراً له، نقياً] من ذنوبه كيوم ولدته أمه". كما كان من رحمة الله بالمسلم أن جعل الذنوب صغائر وكبائر، صغائر لا تحصى وكبائر قليلة محدودة، وجعل النقاء من الصغائر مغفوراً باجتناب الكبائر، وبفعل بعض الطاعات السهلة على كثير من الناس ومن ذلك العمرة، فهي تكفر ما سبقها من سيئات وكلما تكررت كلما غسلت ما قبلها من ذنوب صغائر، وزادت من الحسنات، ورفعت من الدرجات.

-[المباحث العربية]- (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما) العمرة في اللغة الزيارة يقال اعتمر فهو معتمر، أي زار وقصد، وقيل إنها مشتقة من عمارة المسجد الحرام، وفي الشرع زيارة البيت الحرام بشروط مخصوصة. وفي معنى "إلى العمرة" قال ابن التين يحتمل أن تكون "إلى" بمعنى مع كما في قوله تعالى {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} [النساء: 2]. اهـ ومعنى كفارة لما بينهما ليس على إطلاقه، بل المراد كفارة لما بينهما من الذنوب الصغائر، دون الكبائر. وسيأتي توضيحه في فقه الحديث. وهنا بحث جيد. هل العمرة الأولى هي المكفرة؟ أو الثانية؟ قال العيني كما هو الحديث أن العمرة الأولى هي المكفرة، لأنها هي التي وقع الخبر عنها أنها تكفر، ولكن الظاهر من حيث المعنى أن العمرة الثانية هي التي تكفر ما قبلها إلى العمرة التي قبلها، فإن التكفير قبل وقوع الذنب خلاف الظاهر. اهـ قلت: العمرة الأولى تكفر ما قبلها بالتوضيح الذي سنذكره في فقه الحديث، والعمرة الثانية تكفر ما قبلها، أي ما بينها وبين العمرة الأولى وهكذا. فكل عمرة تكفر ما قبلها. والله أعلم. (والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) أي لا يقتصر لصاحبه من الجزاء على تكفير بعض ذنوبه، بل لا بد أن يدخل الجنة. وفي المراد من "المبرور" قال النووي الأصح الأشهر أن المبرور هو الذي لا يخالطه إثم، مأخوذ من البر، وهو الطاعة، وقيل: هو المقبول، ومن علامات القبول أن يرجع خيراً مما كان، ولا يعاود المعاصي، وقيل: هو الذي لا رياء فيه، وقيل: الذي لا يعقبه معصية. قال القرطبي: الأقوال التي ذكرت في تفسير المبرور كلها متقاربة المعنى، وهي أنه الحج الذي وفيت أحكامه، ووقع الموقع الذي طلب من المكلف على الوجه الأكمل. (من أتى هذا البيت) يشمل الحج والعمرة، والمراد من أتاه زائراً قاصداً النسك وفي ملحق الرواية "من حج" وفي رواية البخاري "من حج لله" وفي بعض الروايات "من حج هذا البيت" وعند الدارقطني "من حج أو اعتمر". (فلم يرفث) يقال رفث بفتح الفاء ورفث بكسر الفاء يرفث بكسرها وفتحها وضمها وقال الحافظ فاء الرفث مثلثة في الماضي والمضارع والأفصح الفتح في الماضي، والضم في المستقبل. ويقال أرفث بالألف، والرفث يطلق على الجماع، وعلى التعريض به، وعلى الفحش في القول، وقال الأزهري الرفث اسم جامع لكل ما يريده الرجل من المرأة، وكان ابن عمر يخصه بما خوطب به النساء، وقال عياض هذا من قول الله تعالى {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} [البقرة: 197]. والجمهور على أن المراد به في الآية الجماع. قال الحافظ ابن حجر والذي يظهر أن المراد به في الحديث ما هو أعلم من ذلك، وهو المراد بقوله في الصيام "فإذا كان صوم أحدكم فلا يرفث".

(ولم يفسق) أي لم يأت بسيئة ولا معصية، والفسق العصيان، وترك أمر الله والخروج عن الطاعة. وأغرب ابن الأعرابي فقال إن لفظ الفسق لم يسمع في الجاهلية ولا في أشعارهم، وإنما هو إسلامي، وتعقب بأنه كثر استعماله في القرآن الكريم، وحكايته عمن قبل الإسلام، وقال القزاز أصله من انفسقت الرطبة إذا أخرجت من قشرها، فسمي بذلك الفاسق لخروجه من الخير وانسلاخه منه. (رجع كما ولدته أمه) أي بغير ذنب، ورجع بمعنى صار، والجار والمجرور "كما ولدته أمه" حال، أي صار مشبهاً لنفسه يوم ولدته أمه في البراءة من الذنوب. -[فقه الحديث]- روى مسلم "من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه" وروى "لا يتوضأ رجل مسلم فيحسن الوضوء، فيصلي صلاة إلا غفر الله له ما بينه وبين الصلاة التي تليها" وروى "ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة، وذلك الدهر كله". وروى "من توضأ هكذا غفر له ما تقدم من ذنبه، وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة". وروى "الصلوات الخمس كفارة لما بينهن". وروى "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر". وروى حديث الباب "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما". قال النووي: إذا كفر الوضوء فماذا تكفر الصلاة؟ وإذا كفرت الصلاة فماذا تكفر الجمعات؟ ورمضان؟ وكذلك صوم يوم عرفة كفارة سنتين؟ ويوم عاشوراء كفارة سنة؟ و"إذا وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه؟ . والجواب ما أجابه العلماء أن كل واحد من هذه المذكورات صالح للتكفير، فإن وجد ما يكفره من الصغائر كفره، وإن لم يصادف صغيرة ولا كبيرة كتبت به حسنات، ورفعت به درجات، وإن صادف كبيرة أو كبائر، ولم يصادف صغيرة رجونا أن يخفف من الكبائر. وقال الحافظ ابن حجر واستشكل بعضهم كون العمرة كفارة مع أن اجتناب الكبائر يكفر، بقوله تعالى {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} [النساء: 31]. فماذا تكفر العمرة؟ والجواب أن تكفير العمرة مقيد بزمنها، وتكفير الاجتناب عام لجميع عمر العبد فتغايرا من هذه الحيثية. اهـ هذا عن فضل العمرة، أما عن حكمها فقد قال النووي اختلف العلماء في وجوب العمرة، فمذهب الشافعي والجمهور أنها واجبة، وممن قال به عمر وابن عباس وطاووس وعطاء وابن

المسيب وسعيد بن جبير والحسن البصري ومسروق وابن سيرين والشعبي وأبو بردة بن أبي موسى وعبد الله بن شداد والثوري وأحمد وإسحق وأبو عبيد وداود. وقال مالك وأبو حنيفة وأبو ثور هي سنة وليست واجبة. وقال في المجموع شرح المهذب قال الشافعي في الجديد هي فرض، وقال في القديم ليست بفرض والصحيح الأول. واستدل البيهقي لوجوب العمرة بحديث عمر بن الخطاب في سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام وفيه في رواية البيهقي "وأن تحج البيت وتعتمر" ورجاله رجال مسلم، ورواه هكذا الدارقطني، ثم قال: هذا إسناد صحيح ثابت، واحتج البيهقي أيضاً بما رواه بإسناده عن أبي زرين العقيلي الصحابي رضي الله عنه أنه قال يا رسول الله إن أبي شيخ كبير، لا يستطيع الحج والعمرة ولا الطعن؟ "قال حج عن أبيك واعتمر"، قال البيهقي قال مسلم بن الحجاج سمعت أحمد بن حنبل يقول: لا أعلم في إيجاب العمرة حديث أجود من حديث أبي زرين هذا، ولا أصح منه. قال الحافظ ابن حجر وحديث أبي زرين هذا صحيح، رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم بأسانيد صحيحة وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. كما استدل القائلون بوجوبها بقوله تعالى {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة: 196] أي أقيموها قال ابن عباس: والله إنها لقرينة الحج في كتاب الله. وللحاكم عن ابن عباس "الحج والعمرة فريضتان" وقال ابن عمر: ليس من خلق الله أحد إلا عليه حجة وعمرة واجبتان من استطاع سبيلاً، فمن زاد شيئاً فهو خير له وتطوع. واستدل القائلون بأنها سنة بحديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العمرة. أهي واجبة؟ قال لا. وأن تعتمر خير لك. رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح. وقال الترمذي قال الشافعي: العمرة سنة لا نعلم أحداً رخص في تركها، وليس فيها شيء ثابت بأنها واجبة. ورد الجمهور حديث جابر بأنه ضعيف، بل موقوف على جابر غير مرفوع. ثم قال النووي: فإن قلنا هي فرض فهي في شرط صحتها وصحة مباشرتها ووجوبها وإحرامها عن عمرة الإسلام كالحج. والله أعلم. وأما عن وقتها فقد قال النووي: اعلم أن جميع السنة وقت للعمرة فتصح في كل وقت منها، إلا في حق من هو متلبس بالحج، فلا يصح اعتماره حتى يفرغ من الحج ولا تكره عندنا لغير الحاج في يوم عرفة والأضحى والتشريق وسائر السنة. وبهذا قال مالك وأحمد وجماهير العلماء، وقال أبو حنيفة تكره في خمسة أيام، يوم عرفة والنحر وأيام التشريق، وقال أبو يوسف تكره في أربعة أيام، وهي عرفة وأيام التشريق. وأما عن تكرارها فقد قال النووي: مذهب الشافعي والجمهور استحباب تكرار العمرة في السنة الواحدة مراراً. وقال الحافظ ابن حجر في حديث الباب دلالة على استحباب الاستكثار من الاعتمار، خلافاً لقول من قال يكره أن يعتمر في السنة أكثر من مرة، كالمالكية واستدل لهم بأنه صلى الله عليه

وسلم لم يفعلها إلا من سنة إلى سنة وأفعاله على الوجوب أو الندب، وتعقب بأن المندوب لم ينحصر في أفعاله، فقد كان يترك الشيء وهو يستحب فعله، لرفع المشقة، وقد ندب إلى ذلك بلفظه، فثبت الاستحباب من غير تقييد. ونقل الأترم عن أحمد إذا اعتمر فلا بد أن يحلق أو يقصر، فلا يعتمر بعد ذلك إلى عشرة أيام، ليمكن الحلق فيها، قال ابن قدامة هذا يدل على كراهة الاعتمار عنده في دون عشرة أيام، وقال وقال آخرون لا يعتمر في شهر أكثر من عمرة واحدة. والله أعلم

(354) باب توريث دور مكة وبيعها وشرائها

(354) باب توريث دور مكة وبيعها وشرائها 2911 - عن أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنهما أنه قال: يا رسول الله! أتنزل في دارك بمكة؟ فقال "وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور؟ ". وكان عقيل ورث أبا طالب هو وطالب. ولم يرثه جعفر ولا علي شيئاً. لأنهما كانا مسلمين. وكان عقيل وطالب كافرين. 2912 - عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قلت: يا رسول الله! أين تنزل غداً؟ وذلك في حجته، حين دنونا من مكة. فقال "وهل ترك لنا عقيل منزلاً". 2913 - عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أنه قال: يا رسول الله! أين تنزل غداً، إن شاء الله؟ وذلك زمن الفتح قال "وهل ترك لنا عقيل من منزل؟ ". -[المعنى العام]- يرى بعض السلف أن دور مكة ينبغي أن تكون كالسوائب، لا تباع ولا تشترى ولا توهب ولا تؤجر، وإنما تبقى مفتوحة لمن يحتاج أن يسكنها من الناس القادمين إليها، بل أثر عن عمر رضي الله عنه النهي عن تبوب هذه الدور، لينزل الحاج في عرصاتها وأفنيتها. وجمهور المسلمين على أن دور مكة كغيرها من دور بلاد المسلمين، ملك لأهلها يتصرفون فيها بالبيع والإجارة وغيرها، ويتوارثها الوارثون كغيرها، وهذا الحديث دليل للجمهور، حيث اعتبر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الدور ملكاً لأصحابها، لا ينزل فيها ولا ينزل حتى في الدار التي عاش بها قبل الهجرة، لأن عقيلاً ابن عمه باعها بعد هجرته صلى الله عليه وسلم فأقر بيعه لها، وفي ذلك حكم بجواز بيع هذه الدار كغيرها والله أعلم.

-[المباحث العربية]- (أتنزل في دارك بمكة)؟ في الرواية الثانية "أين تنزل غداً"؟ وفي الثالثة "أين تنزل غداً إن شاء الله"؟ فكأنه استفهم أولاً عن مكان نزوله، ثم ظن أنه ينزل في داره، فاستفهم عن ذلك. وإضافة الدار إلى ضميره صلى الله عليه وسلم لسكناه إياها قديماً، وأصلها وملكها كان لعمه أبي طالب، لأنه الذي كفله، وكانت أصلاً لعبد المطلب فلما مات استولى أبو طالب على أملاك عبد المطلب، وحازها وحده، لسنه ولعادة الجاهلية. (وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور) وفي الرواية الثانية "وهل ترك لنا عقيل منزلاً؟ " وفي الثالثة "وهل ترك لنا عقيل من منزل" والرباع بكسر الراء جمع ربع بفتحها وسكون الباء، وهو المنزل المشتمل على أبيات، وقيل هو الدار، وعلى هذا فقوله "أو دور" إما للتأكيد، أو شك من الراوي. والاستفهام إنكاري بمعنى النفي، أي لم يترك لنا عقيل [بفتح العين وكسر القاف] دوراً. (وكان عقيل ورث أبا طالب هو وطالب، ولم يرثه جعفر ولا علي شيئاً) ترك أبو طالب أربعة أولاد، في داره هذه ومعهم محمد صلى الله عليه وسلم وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم بعد موت أبي طالب بثلاث سنين، وهاجر علي بعده، ومات طالب في بدر، فاستولى عقيل على الدار وحده، ويقال إنه باعها قبل الفتح وقبل أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول، وسياق الحديث يقتضيه، ومفهومه أنه لو تركها لنزلها صلى الله عليه وسلم. قال الداودي وغيره كان من هاجر من المؤمنين باع قريبه الكافر داره وأمضى النبي صلى الله عليه وسلم تصرفات الجاهلية تأليفاً لقلوب من أسلم منهم. وحكى الفاكهي أن الدار لم تزل بأولاد عقيل إلى أن باعوها لمحمد بن يوسف أخي الحجاج بمائة ألف دينار. قال الخطابي وعندي أن تلك الدار إن كانت قائمة على ملك عقيل فإنما لم ينزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها دور هجروها في الله تعالى، فلم يرجعوا فيما تركوه. (وذلك في حجته) أي حجة الوداع سنة عشر من الهجرة حين أراد أن ينفر من منى، وفي الرواية الثالثة وذلك زمن الفتح أي فتح مكة سنة ثمان من الهجرة. قال الحافظ ابن حجر ويحمل على تعدد القصة. -[فقه الحديث]- وضع البخاري هذا الحديث تحت عنوان باب توريث دور مكة وبيعها وشرائها، وقدم له بقوله تعالى: {إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد} [الحج: 25]. قال النووي في الحديث دلالة لمذهب الشافعي وموافقيه أن مكة فتحت صلحاً، وأن دورها مملوكة لأهلها، لها حكم سائر البلدان في ذلك، فتورث عنهم، ويجوز لهم بيعها ورهنها وإجارتها وهبتها والوصية بها، وسائر التصرفات، وقال مالك وأبو حنيفة والأوزاعي وآخرون

فتحت عنوة، ولا يجوز شيء من هذه التصرفات. اهـ قال الحافظ ابن حجر والراجح عند من قال إنها فتحت عنوة أن النبي صلى الله عليه وسلم منَّ بها على أهلها، فخالفت حكم غيرها من البلاد في ذلك، ذكره السهيلي وغيره، ثم قال الحافظ وليس الاختلاف في ذلك ناشئاً عن هذه المسألة، فقد اختلف أهل التأويل في المراد بقوله "المسجد الحرام" هل هو الحرم كله؟ أو مكان الصلاة فقط، واختلفوا أيضاً في المراد بقوله "سواء" هل في الأمن والاحترام؟ أو فيما هو أعم من ذلك، وبواسطة ذلك نشأ الاختلاف المذكور أيضاً. قال ابن خزيمة لو كان المراد بقوله تعالى {سواء العاكف فيه والباد} جميع الحرم، وأن اسم المسجد الحرام واقع على جميع الحرم لما جاز حفر بئر ولا قبر، ولا التغوط ولا البول ولا إلقاء الجيف والنتن. قال ولا نعلم عالماً منع من ذلك ولا كره لحائض ولا لجنب دخول الحرم، ولا الجماع فيه. قال الحافظ ابن حجر والقول بأن المراد بالمسجد الحرام الحرم كله ورد عن ابن عباس وعطاء ومجاهد. أخرجه ابن أبي حاتم وغيره عنهم، والأسانيد بذلك كلها إليهم ضعيفة. وقال واحتج الشافعي بحديث أسامة روايات الباب قال الشافعي فأضاف الملك إليه وإلى من ابتاعها منه، وبقوله صلى الله عليه وسلم عام الفتح "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" فأضاف الدار إليه، واحتج ابن خزيمة بقوله تعالى {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم} [الحشر: 8]. فنسب الله الديار إليهم، كما نسب الأموال إليهم، ولو كانت الديار ليست بملك لهم لما كانوا مظلومين في الإخراج من دور ليست بملك لهم. اهـ ويؤخذ من الرواية الأولى أن المسلم لا يرث الكافر، قال النووي وهذا مذهب العلماء كافة إلا ما روي عن إسحق بن راهويه وبعض السلف أن المسلم يرث الكافر، وأجمعوا على أن الكافر لا يرث المسلم. والله أعلم

(355) باب ما يقيم المهاجر في مكة إذا فرغ من الحج والعمرة

(355) باب ما يقيم المهاجر في مكة إذا فرغ من الحج والعمرة 2914 - عن عبد الرحمن بن حميد: أنه سمع عمر بن عبد العزيز يسأل السائب بن يزيد يقول: هل سمعت في الإقامة بمكة شيئاً؟ فقال السائب: سمعت العلاء بن الحضرمي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "للمهاجر إقامة ثلاث، بعد الصدر، بمكة" كأنه يقول لا يزيد عليها. 2915 - عن عبد الرحمن بن حميد. قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يقول لجلسائه: ما سمعتم في سكنى مكة؟ فقال السائب بن يزيد: سمعت العلاء (أو قال العلاء بن الحضرمي) يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقيم المهاجر بمكة، بعد قضاء نسكه، ثلاثاً". 2916 - عن عبد الرحمن بن حميد: أنه سمع عمر بن عبد العزيز يسأل السائب بن يزيد. فقال السائب: سمعت العلاء بن الحضرمي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "ثلاث ليال يمكثهن المهاجر بمكة، بعد الصدر". 2917 - عن العلاء بن الحضرمي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "مكث المهاجر بمكة، بعد قضاء نسكه، ثلاث". -[المعنى العام]- الإقامة بمكة كانت حراماً على من هاجر منها إلى المدينة قبل الفتح فالذين هاجروا من مكة إلى المدينة قبل الفتح إنما هاجروا لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم، ومواساته بالنفس وتركوا في سبيل ذلك وطنهم العزيز عليهم، وما كانوا يملكون فيه من ديار وأموال وقربى تنازلوا عن كل ذلك في سبيل الله ولنصرة دينه، فأنى لهم الرجوع فيما ضحوا به وتركوه لله؟ .

لكنه أبيح لهم إذا وصلوا مكة بحج أو عمرة أو غيرهما من الأمور المرخص لهم بها كتجارة وزيارة أن يقيموا بعد فراغهم من مهمتهم ثلاثة أيام، لا يزيدون عليها، ويرحلون عنها امتداداً لرحيلهم الأول، ليكتب لهم ثواب هذا الرحيل مدى الحياة، وهو ثواب لا يدانيه ثواب. لهذا أسف النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن خولة أن مات بمكة بعد أن كان قد هاجر منها إلى المدينة. رضي الله عن السابقين الأولين المهاجرين وعن الصحابة أجمعين. -[المباحث العربية]- (هل سمعت في الإقامة بمكة شيئاً)؟ أي ممن سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والمراد إقامة المهاجر من مكة أياماً بمكة بعد قضاء نسك الحج أو العمرة، وفي الرواية الثانية "ما سمعتم في سكنى مكة"؟ أي لمن فر منها إلى المدينة مهاجراً. (للمهاجر إقامة ثلاث بعد الصدر بمكة) الصدر بفتح الصاد والدال الرجوع والمراد الرجوع من منى بعد الفراغ من شعائر الحج وبمكة متعلق بإقامة، أي لمن هاجر من مكة إقامة بمكة ثلاث ليال بعد قضائه نسكه، وصرحت بذلك الروايات واضحة، ففي الرواية الثانية "يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثاً" وفي الثالثة "ثلاث ليال يمكثهن المهاجر بمكة بعد الصدر" وفي الرابعة "مكث المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاث" قال النووي عن هذه الرواية الرابعة هو أكثر النسخ "ثلاثاً" وفي بعضها "ثلاث" ووجه المنصوب أن يقدر فيه محذوف، أي مكثه المباح أن يمكث ثلاثاً. اهـ فالمقصود الترخيص له بالإقامة في مكة بعد قضاء نسكه ثلاث ليال كأقصى حد مسموح به، يصرح الراوي بذلك في الرواية الأولى بقوله "كأنه يقول لا يزيد عليها". -[فقه الحديث]- قال القرطبي المراد بهذا الحديث من هاجر من مكة إلى المدينة لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يدخل فيه من هاجر من غير مكة إلى المدينة، لأن الحديث جاء جواباً عن سؤالهم لما تحرجوا من الإقامة بمكة إذ كانوا قد تركوها لله تعالى، فأجابهم بذلك، وأعلمهم أن الإقامة ثلاث ليال ليست بإقامة. اهـ قال القاضي عياض واتفق الجميع على أن الهجرة قبل الفتح كانت واجبة عليهم، وأن سكنى المدينة كان واجباً، وفي هذا الحديث حجة لمن منع المهاجر قبل الفتح من المقام بمكة بعد الفتح، قال وهو قول الجمهور، وأجاز لهم جماعة بعد الفتح، مع الاتفاق على وجوب الهجرة عليهم قبل الفتح، ووجوب سكنى المدينة لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم، ومواساتهم له بأنفسهم، وأما غير المهاجر، ومن آمن بعد ذلك فيجوز له سكنى أي بلد أراد، سواء مكة وغيرها بالاتفاق. اهـ قال القرطبي والخلاف الذي أشار إليه القاضي عياض كان فيمن مضى، وهل ينبني هذا الخلاف

ويطبق على من فر بدينه من موضع يخاف أن يفتن فيه في دينه؟ فهل له أن يرجع إليه بعد انقضاء تلك الفتنة؟ يمكن أن يقال إن كان تركها لله، كما فعله المهاجرون. فليس له أن يرجع لشيء من ذلك، وإن كان تركها فراراً بدينه ليسلم له، ولم يقصد إلى تركها لذاتها، فله الرجوع إلى ذلك. اهـ قال الحافظ ابن حجر وهو حسن متجه، إلا أنه خص ذلك بمن ترك رباعاً أو دوراً ولا حاجة إلى تخصيص المسألة بذلك. قال النووي وفي هذا الحديث دلالة لأصح الوجهين عند أصحابنا أن طواف الوداع ليس من مناسك الحج، بل هو عبادة مستقلة، أمر بها من أراد الخروج من مكة، لا أنه نسك من مناسك الحج، ولهذا لا يؤمر به المكي، ومن كان يقيم بها، وموضع الدلالة قوله صلى الله عليه وسلم "بعد قضاء نسكه" والمراد قبل طواف الوداع، كما ذكرنا، فإن طواف الوداع لا إقامة بعده، ومتى أقام بعده خرج عن كونه طواف الوداع، فسماه قبله قاضياً لمناسكه، فخرج طواف الوداع أن يكون من مناسك الحج. اهـ وقد سبق الحديث عن طواف الوداع قبل اثنى عشر باباً. وقال النووي أيضاً واستدل أصحابنا وغيرهم بهذا الحديث على أن إقامة ثلاثة ليس لها حكم الإقامة، بل صاحبها في حكم المسافر، قالوا فإذا نوى المسافر الإقامة في بلد ثلاثة أيام غير يوم الدخول ويوم الخروج جاز له الترخيص برخص السفر من القصر والفطر، وغيرهما من رخصة، ولا يصير له حكم المقيم. والله أعلم

(356) باب تحريم مكة، وتحريم صيدها، وخلاها وشجرها، ولقطتها، وحمل السلاح بها

(356) باب تحريم مكة، وتحريم صيدها، وخلاها وشجرها، ولقطتها، وحمل السلاح بها 2918 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فتح مكة "لا هجرة. ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا". وقال يوم الفتح فتح مكة "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض. فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة. وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي. ولم يحل لي إلا ساعة من نهار. فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة. لا يعضد شوكه. ولا ينفر صيده. ولا يلتقط إلا من عرفها. ولا يختلى خلاها" فقال العباس: يا رسول الله! إلا الإذخر. فإنه لقينهم ولبيوتهم. فقال "إلا الإذخر". 2919 - وفي رواية بمثله. ولم يذكر "يوم خلق السماوات والأرض" وقال، بدل القتال "القتل" وقال "لا يلتقط لقطته إلا من عرفها". 2920 - عن أبي شريح العدوي؛ أنه قال لعمرو بن سعيد، وهو يبعث البعوث إلى مكة: ائذن لي. أيها الأمير! أحدثك قولاً قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم، الغد من يوم الفتح. سمعته أذناي. ووعاه قلبي. وأبصرته عيناي حين تكلم به. أنه حمد الله وأثنى عليه. ثم قال "إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس. فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً ولا يعضد بها شجرة. فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا له: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم. وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار. وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس. وليبلغ الشاهد الغائب" فقيل لأبي شريح: ما قال لك عمرو؟ قال: أنا أعلم بذلك منك. يا أبا شريح! إن الحرم لا يعيذ عاصياً ولا فاراً بدم ولا فاراً بخربة. 2921 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما فتح الله عز وجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم

مكة. قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال "إن الله حبس عن مكة الفيل. وسلط عليها رسوله والمؤمنين. وإنها لن تحل لأحد كان قبلي. وإنها أحلت لي ساعة من نهار. وإنها لن تحل لأحد بعدي. فلا ينفر صيدها. ولا يختلى شوكها. ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد. ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين. إما أن يفدى وإما أن يقتل" فقال العباس: إلا الإذخر. يا رسول الله! فإنا نجعله في قبورنا وبيوتنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إلا الإذخر" فقام أبو شاه، رجل من أهل اليمن، فقال: اكتبوا لي. يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اكتبوا لأبي شاه". قال الوليد: فقلت للأوزاعي: ما قوله: اكتبوا لي يا رسول الله؟ قال: هذه الخطبة التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2922 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن خزاعة قتلوا رجلاً من بني ليث. عام فتح مكة. بقتيل منهم قتلوه. فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فركب راحلته فخطب فقال "إن الله عز وجل حبس عن مكة الفيل. وسلط عليها رسوله والمؤمنين. ألا وإنها لم تحل لأحد قبلي ولن تحل لأحد بعدي. ألا وإنها أحلت لي ساعة من النهار. ألا وإنها، ساعتي هذه، حرام. لا يخبط شوكها. ولا يعضد شجرها. ولا يلتقط ساقطتها إلا منشد. ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين. إما أن يعطى (يعني الدية)، وإما أن يقاد (أهل القتيل) " قال: فجاء رجل من أهل اليمن يقال له أبو شاه. فقال: اكتب لي. يا رسول الله؟ فقال "اكتبوا لأبي شاه". فقال رجل من قريش: إلا الإذخر. فإنا نجعله في بيوتنا وقبورنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إلا الإذخر". 2923 - عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "لا يحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح". -[المعنى العام]- شرع الله تعالى حرم مكة بأن شرع فيه من وسائل الأمن ما لم يشرع في غيره من بقاع الأرض، منذ خلق السموات والأرض، وتكريماً لإبراهيم عليه السلام بإجابة دعوته حين قال {رب اجعل هذا البلد

آمناً} [إبراهيم: 35]. وامتن الله على قريش بقوله: {أولم نمكن لهم حرماً آمناً} [القصص: 57]. {فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف} [قريش: 3، 4]. وبقوله {أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم} [العنكبوت: 67]. ولم يقتصر هذا الأمن على الإنسان، بل تعداه إلى الحيوان والطير والشجر حتى الشوك، لا يسفك فيه دم ولا ينفر صيده، ولا يصاد، ولا يقتل حيوانه، اللهم إلا الفواسق الخمس، العقرب والحدأة والفأرة والغراب والكلب العقور. ولقد فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عام ثمانية من الهجرة ودخل بجيوشه حاملين أسلحتهم بإذن ربهم، أذن الله له لنشر دينه، وإعلاء كلمته، وأحل له هذا الحرم جزءاً من نهار، من طلوع الشمس إلى صلاة العصر، ثم أعلن للناس عودة حرمته إلى ما كانت عليه. وحذر من أن يأتي أحد بعده يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل وقُتل في مكة، فالقتل والقتال فيها مباحان. حذر من ذلك كل التحذير، ونبه أنها لم تحل لأحد قبله، ولا تحل لأحد بعده، وإنما أحلت له صلى الله عليه وسلم ساعة من نهار، ثم عادت حرمتها كما كانت. وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشير بذلك إلى ما سيحدث بعده، وما حدث على يد الحجاج بن يوسف الثقفي حين غزا مكة لقتال عبد الله بن الزبير، وضرب الكعبة نفسها بالمنجنيق، حتى تهدمت. فاللهم إن هذا الحرم حرمك، والبلد بلدك، والأمن أمنك وأنا عبدك وابن أمتك، اللهم زد هذا الحرم تكريماً وتشريفاً وتعظيماً ومهابة وبراً، وزد من كرمه وشرفه وعظمه، بحج أو عمرة تكريماً وتشريفاً وتعظيماً ومهابة وبراً. -[المباحث العربية]- (يوم الفتح -فتح مكة) أل في "الفتح" للعهد، وقد أكد الراوي الفتح المعهود وزاده بياناً، بقوله "فتح مكة" ويوم الفتح متعلق بقال، والظاهر أن هذا القول لم يكن في يوم الفتح نفسه، ففيه مجاز التوسع، ففي الرواية الثانية "الغد من يوم الفتح" وفي الرواية الثالثة "لما فتح الله .... قام في الناس" وفي الرواية الرابعة "عام فتح مكة". (لا هجرة) أي بعد الفتح. قال النووي قال العلماء الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام باقية إلى يوم القيامة، وفي تأويل هذا الحديث قولان. أحدهما لا هجرة بعد الفتح من مكة، لأنها صارت دار إسلام وإنما تكون الهجرة من دار الحرب، وهذا يتضمن معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها تبقى دار الإسلام، لا يتصور منها الهجرة. الثاني: معناه لا هجرة بعد الفتح تساوي في فضلها الهجرة قبل الفتح، كما قال تعالى {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل} [الحديد: 10].

(ولكن جهاد ونية) "جهاد" مبتدأ، خبره محذوف، أي لكم جهاد ونية، والمعنى ولكن لكم طريق إلى تحصيل الفضائل التي في معنى الهجرة، وذلك بالجهاد، ونية الخير في كل شيء، وقال الطيبي الهجرة إما فراراً من الكفار، وإما إلى الجهاد، وإما إلى نحو طلب العلم وقد انقطعت الأولى، فاغتنموا الأخيرتين. (وإذا استنفرتم فانفروا) "استنفرتم" بضم التاء وسكون النون وكسر الفاء، أي إذا دعاكم الإمام إلى الغزو فاخرجوا إليه. فالجملة تفسير لبقاء الجهاد. (وقال يوم الفتح إن هذا البلد) أي مكة، وقد فصل مسلم الكلام الأول عن الثاني بهذا، فجعله حديثاً آخر مستقلاً وهو مقتضى صنيع من اقتصر على الكلام الأول كرواية البخاري في الجهاد. (حرمه الله يوم خلق السموات والأرض) في الرواية الثانية "إن مكة حرمها الله" وسيأتي قريباً في مسلم "إن إبراهيم حرم مكة، إذ قال {رب اجعل هذا بلداً آمناً} قال النووي فظاهر هذا الاختلاف، وفي المسألة خلاف مشهور في وقت تحريم مكة، فقيل إنها مازالت محرمة من يوم خلق السموات والأرض، وقيل مازالت حلالاً كغيرها إلى زمن إبراهيم عليه السلام، ثم ثبت لها التحريم من زمن إبراهيم. وهذا القول يوافق ملحق الرواية الأولى وليس فيه "يوم خلق السموات والأرض" والقول الأول يوافق الرواية الأولى، وبه قال الأكثرون، وأجابوا عن الحديث الثاني بأن تحريمها كان ثابتاً من يوم خلق الله السموات والأرض، ثم خفي تحريمها، واستمر خفاؤه إلى زمن إبراهيم، فأظهره وأشاعه، لا أنه ابتدأه ومن قال بالقول الثاني أجاب عن الحديث الأول بأن معناه أن الله كتب في اللوح المحفوظ أو في غيره يوم خلق السموات والأرض أن إبراهيم عليه السلام سيحرم مكة بأمر الله تعالى. (وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي) الهاء في "إنه" ضمير الشأن ولفظ "لم" أشبه بالمراد من حرف "لا" الوارد عند البخاري، ومن حرف "لن" الوارد في روايتنا الثالثة، ولعل الأخيرة خطأ من النساخ. وفي ملحق الرواية الأولى "القتل" بدل "القتال" والفرق بينهما ظاهر والمحرم فعلاً القتال، وسيأتي في فقه الحديث، أما القتل فنقل بعضهم الاتفاق على جواز إقامة حد القتل فيها على من أوقعه فيها، والخلاف فيمن قتل في الحل ثم لجأ إلى الحرم والقتال هو المراد من قوله في الرواية الثانية "أن يسفك بها دماً". (ولم يحل لي إلا ساعة من نهار) في الرواية الثانية "وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار" وفي الرواية الثالثة، "وإنها أحلت لي ساعة من نهار" وفي الرواية الرابعة "ألا وإنها أحلت لي ساعة من النهار" قال الحافظ ابن حجر مقدار هذه الساعة ما بين طلوع الشمس وصلاة العصر [فالساعة بمعناها اللغوي القطعة من الزمان كبرت أو صغرت] قال: ويستفاد من ذلك أن قتل من أذن النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم كابن خطل وقع في الوقت الذي أبيح للنبي صلى الله عليه وسلم فيه القتال، خلافاً لمن حمل الساعة على ظاهرها [العرفي] فاحتاج إلى الجواب عن قصة ابن خطل.

(فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة) في الرواية الثانية "وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس" وفي الرواية الرابعة "ألا وإنها ساعتي هذه حرام" أي هي حرام من ساعتي هذه، فبينت المراد من اليوم في الرواية الثانية وأنه الزمن الحاضر. (لا يعضد شوكه) أي لا يقطع، على صيغة المبني للمجهول، من عضدت الشجر عضداً، من ضرب يضرب إذا قطعته، والمعضد بكسر الميم الآلة التي يقطع بها، وقال الخليل: المعضد الممتهن من السيوف في قطع الشجر. وفي الرواية الثانية "ولا يعضد بها شجرة" وفي الرواية الثالثة "ولا يختلى شوكها" بضم أوله، مبني للمجهول، أي لا يقطع، ولا يؤخذ، وفي الرواية الرابعة "لا يخبط شوكها ولا يعضد شجرها" أي لا يضرب بالعصا ونحوها ليسقط ورقه وفي رواية لعمر بن شيبه "ولا يخضد" بالخاء بدل العين، وهو يرجع إلى معنى "يعضد" لأن أصله الكسر، ويستعمل في القطع. (ولا ينفر صيده) أي لا يزعج، ولا ينحى عن موضعه، والصيد ما يصاد من طير أو حيوان. (ولا يلتقط إلا من عرفها) "يلتقط" بفتح الياء، مبني للمعلوم، والفاعل ضمير مستتر، أي لا يلتقط لاقط لقطته، أو لا يلتقط أحد لقطته إلا من عرفها، أي إلا من ظل يعرفها أبدا الدهر، وليس يكفي التعريف سنة كغيرها من البلاد. وفي ملحق الرواية الأولى "ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها" وفي الرواية الرابعة "ولا يلتقط ساقطتها إلا منشد" قال النووي: والمنشد هو المعرف وأما طالبها فيقال له ناشد، وأصل النشد والإنشاد رفع الصوت. (ولا يختلى خلاها) الخلا بفتح الخاء مقصور هو الرطب من الكلأ. قال النووي: قالوا الخلا والعشب اسم للرطب منه، والحشيش والهشيم اسم لليابس منه، والكلأ يقع على الرطب واليابس. (إلا الإذخر) يجوز فيه الرفع والنصب، أما الرفع فعلى البدل، وأما النصب فعلى الاستثناء، والإذخر بكسر الهمزة نبت معروف، طيب الريح، له سيقان دقاق، أدق من سيقان القمح، يشبه الحلفاء، ينبت في السهل والحزن، والذي بمكة أجوده، وكان أهل مكة يسقفون به البيوت بين الخشب وفوقه، ويسدون به الخلل بين اللبنات في القبور ويستعملونه بدلاً من الحلفاء في الوقود. والعباس رضي الله عنه لم يرد بالاستثناء أن يستثنى هو، وإنما أراد أن يلقن النبي صلى الله عليه وسلم الاستثناء راجياً أن يستثنى الرسول صلى الله عليه وسلم إن كان مجتهداً، أو يطلب من ربه الاستثناء إن كان لا ينطق إلا بالوحي، فطلب العباس على سبيل الضراعة. (فإنه لقينهم ولبيوتهم) القين بفتح القاف وسكون الباء هو الحداد والصائغ، فإنه يستعمل الإذخر وقوداً لناره. والضمير في "لقينهم" لأهل مكة، كما سبق توضيحه، وفي الرواية الثالثة "فإنا نجعله في قبورنا وبيوتنا". (عن أبي شريح العدوي) قال الحافظ ابن حجر اختلف في اسمه، والمشهور أنه خويلد بن عمرو أسلم قبل الفتح، وسكن المدينة، ومات بها، سنة ثمان وستين.

(قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة) قال الحافظ: عمرو بن سعيد المعروف بالأشدق، لطيم الشيطان، ليست له صحبة ولا كان من التابعين بإحسان، وعرف بالأشدق لأنه صعد المنبر، فبالغ في شتم علي رضي الله عنه، وتشدق في الكلام، ولاه يزيد بن معاوية المدينة، وكان قدومه والياً على المدينة سنة ستين، وهي السنة التي ولي فيها يزيد الخلافة، فامتنع ابن الزبير من بيعته، وأقام بمكة، فجهز إليه عمرو بن سعيد بأمر من يزيد جيشاً لقتاله، وأمر على الجيش عمرو بن الزبير، وكان معادياً لأخيه عبد الله، فجاء مروان إلى عمرو بن سعيد، فنهاه، فامتنع، فجاء أبو شريح، فذكر ما في الحديث. فلما نزل الجيش ذا طوى قريباً من مكة خرج إليهم جماعة من أهل مكة، فهزموهم، وأسروا عمرو بن الزبير، فسجنه أخوه بسجن عارم، وكان عمرو بن الزبير قد ضرب جماعة من أهل المدينة، ممن اتهمهم وهو قائد الشرطة بالمدينة بالميل إلى أخيه، فأقادهم عبد الله منه، فمات من ذلك الضرب. فالمراد من البعوث الجيش المجهز للقتال. (ائذن لي أيها الأمير) روي "إيذن لي" وأصله إئذن لي بهمزتين، فقلبت الثانية ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، وأيها الأمير منادى، بحذف حرف النداء. (أحدثك) بسكون الثاء، مجزوم في جواب الأمر. (سمعته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي حين تكلم به) أي حملته عنه بغير واسطة، وبكل انتباه حين تكلم به، فذكر الأذنين لتأكيد السمع، وذكر العينين لزيادة تأكيد الإبصار، ويشير إلى بيان حفظه، وتحقق فهمه وتثبته بقوله ووعاه قلبي وزيادة في تحقيق ذلك أشار إلى أن سماعه منه لم يكن معتمداً على السمع فقط بل كان مع الشاهدة والتمكن والتحقق. (إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس) أي إن الله حرم مكة ابتداء، من غير سبب ينسب لأحد، ولا لأحد فيه مدخل، ثم أكد هذا المعنى بقوله ولم يحرمها الناس فتحريمها ثابت بالشرع، لا مدخل للعقل فيه، وليس من محرمات الناس في الجاهلية، كبعض الأمور التي حرموها من عند أنفسهم، فيجب امتثال ذلك. (فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر) قال ابن دقيق العيد هذا من خطاب التهييج، نحو قوله تعالى {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} [المائدة: 23]. فالمعنى أن استحلال هذا المنهي عنه لا يليق بمن يؤمن بالله واليوم الآخر بل ينافيه. (أن يسفك بها دماً) يسفك بكسر الفاء على المشهور، وحكى ضمها أي يسيله ويصبه، والمراد به القتل. (فإن أحد ترخص) "أحد" فاعل بفعل محذوف، يفسره ما بعده، أي إن ترخص أحد، وترخص من الرخصة، وفي رواية لأحمد "فإن ترخص مترخص" أي متكلف للرخصة.

(بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني لا يقول متحايل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل بمكة وأنا أقتل مثله، فإن قال ذلك قائل فقولوا له .... إلخ. (إن الحرم لا يعيذ عاصياً) أي لا يجير، ولا يعصم عاصياً خارجاً على الخليفة. (ولا فاراً بدم) بالفاء وتشديد الراء، أي هارباً بعد أن وجب عليه حد القتل. (ولا فاراً بخربة) قال النووي بفتح الخاء وإسكان الراء هذا هو المشهور، ويقال بضم الخاء أيضاً، وأصلها سرقة الإبل، وتطلق على كل خيانة. وفي صحيح البخاري أنها البلية، وقال الخليل هي الفساد في الدين، من الخارب، وهو اللص المفسد في الأرض، وقيل هي العيب. قال ابن بطال ليس كلام عمرو جواباً لأبي شريح، لأنه لم يختلف معه في أن من أصاب حداً في غير الحرم ثم لجأ إليه أنه يجوز إقامة الحد عليه في الحرم، فإن أبا شريح أنكر إرسال الجيوش إلى مكة، ونصب الحرب عليها، فأحسن في استدلاله بالحديث، وبعد عمرو عن جوابه، وأجاب على غير سؤاله. فإن ابن الزبير لم يرتكب أمراً يجب عليه فيه شيء من ذلك. (ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين. إما أن يفدى وإما أن يقتل) قال النووي: معناه أن ولي المقتول بالخيار، إن شاء قتل القاتل وإن شاء أخذ فداءه [أي ما يفتدى به القاتل] وهو الدية. اهـ فلفظ "يفدى" بضم أوله وسكون الفاء، أي يفدى القاتل، بأن يدفع فداء نفسه وهو الدية، وفي رواية "يفادى وإما أن يقتل"، بضم أوله وسكون ثانيه وفتح ثالثه، أي يقتل القاتل. كذا في الأصل، فالكلام في اللفظين عن القاتل، ولنا أن نجعل الكلام على ولي الدم الذي هو بخير النظرين، أي يختار أحد الأمرين. إما أن يفدي بكسر الدال القاتل فيأخذ الدية، وإما أن يقتل القاتل بفتح أوله وضم ثالثه، أي يقتص، وفي الرواية الرابعة "إما أن يعطى" يعني الدية "وإما أن يقاد أهل القتيل". وهذا القول قيل بمناسبة ما جاء في صدر الرواية الرابعة. (فقام أبو شاه) بهاء، تكون هاء في الوقف والوصل، ولا يقال بالتاء، ولا يعرف اسم أبي شاه هذا، وإنما يعرف بكنيته. -[فقه الحديث]- يمكن حصر نقاط هذه الأحاديث في ثلاث نقاط: 1 - القتال والقتل في مكة. 2 - شجرها وصيدها ولقطتها. 3 - ما يؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم.

أما عن النقطة الأولى فيقول النووي: هذه الأحاديث ظاهرة في تحريم القتال بمكة. قال الماوردي صاحب الحاوي من أصحابنا في كتاب الأحكام السلطانية: من خصائص الحرم ألا يحارب أهله، فإن بغوا على أهل العدل فإن أمكن ردهم بغير قتال لم يجز، وإن لم يمكن إلا بالقتال فقد قال بعض الفقهاء يحرم قتالهم، ويضيق عليهم حتى يرجعوا إلى الطاعة، ويدخلوا في أحكام أهل العدل، وقال جمهور الفقهاء يقاتلون على بغيهم إذا لم يمكن ردهم عن البغي إلا بالقتال، لأن قتال البغاة من حقوق الله تعالى، التي لا يجوز إضاعتها، فحفظها أولى في الحرم من إضاعتها. قال النووي هذا كلام الماوردي، وهذا الذي نقله عن جمهور الفقهاء هو الصواب، وقد نص عليه الشافعي في كتاب اختلاف الحديث من كتب الإمام، ونص عليه الشافعي أيضاً في آخر كتابه المسمى بسير الواقدي من كتب الأم. وقال القفال المروزي من أصحابنا، في كتابه شرح التلخيص في أول كتاب النكاح، في ذكر الخصائص لا يجوز القتال بمكة، حتى لو تحصن جماعة من الكفار فيها لم يجز لنا قتالهم فيها. قال النووي وهذا الذي قاله القفال غلط، نبهت عليه حتى لا يغتر به، وأما الجواب عن الأحاديث المذكورة هنا فهو ما أجاب به الشافعي في كتابه سير الواقدي أن معناها تحريم نصب القتال عليهم وقتالهم بما يعم، كالمنجنيق وغيره، إذا أمكن إصلاح الحال بدون ذلك، بخلاف ما إذا تحصن الكفار في بلد آخر، فإنه يجوز قتالهم على أي وجه، وبكل شيء. اهـ أقول هذا هو المنقول عن الفقهاء، والأحاديث مع بعض الفقهاء، لا مع جمهورهم، لأن الذي أبيح للرسول صلى الله عليه وسلم ساعة من نهار لا يباح لغيره من بعده، كما هو صريح الأحاديث التي لا تحتمل التأويل، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، وأراد أن يفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا له إن الله قد أذن لرسوله صلى الله عليه وسلم ولم يأذن لكم. فماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ليس إلا السيف والرمح والسهم فليمنع السيف، وإذا منع السيف منع القتال بما هو أشد منه من باب أولى يؤكد هذا المعنى قوله "فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً" وعموم قوله "وإنه لم يحل القتال فيه لأحد من قبلي وإنها لن تحل لأحد بعدي" وجواب الشافعي وغيره عن الأحاديث محل نظر. والله أعلم. وسواء في ذلك من قال إن مكة فتحت عنوة وهو مذهب أبي حنيفة والأكثرين ومن قال إنها فتحت صلحا وهو مذهب الشافعي، لأن ما فعله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح من قتل وقتال لا يباح لغيره، وما كان مباحاً له، مأذوناً فيه، ولم يفعله، ولو احتاج إليه لفعله صلى الله عليه وسلم على تأويل الشافعية هو أيضاً لا يباح لغيره، فالقتال في الحرم بأي صورة لا يباح، ووسيلة الحصار المحكم كافية في كل عصر ومع أية قوة لإرغام من تحصن به وإن طال الزمن. والله أعلم. أما عن النقطة الثانية فيقول النووي اتفق العلماء على تحريم قطع أشجار الحرم التي لا يستنبتها الآدميون، واختلفوا في ضمان الشجر إذا قطعه، فقال مالك يأثم، ولا فدية عليه، وقال الشافعي وأبو حنيفة عليه الفدية، واختلفا فيها، فقال الشافعي في الشجرة الكبيرة بقرة، وفي الصغيرة شاة، وكذا جاء عن ابن عباس وابن الزبير، وبه قال أحمد، وقال أبو حنيفة الواجب في الجميع القيمة قال الشافعي وتضمن الخلا بالقيمة، ويجوز عند الشافعي ومن وافقه رعي البهائم في كلأ الحرم، وقال أبو حنيفة وأحمد ومحمد لا يجوز.

قال وأما صيد الحرم فحرام بالإجماع على الحلال والمحرم، فإن قتله فعليه الجزاء عند العلماء كافة، إلا داود فقال يأثم ولا جزاء عليه. ولو دخل صيد من الحل إلى الحرم فله ذبحه وأكله وسائر أنواع التصرف فيه، هذا مذهبنا ومذهب مالك وداود، وقال أبو حنيفة وأحمد لا يجوز ذبحه ولا التصرف فيه، بل يلزمه إرساله قالا فإن أدخله مذبوحاً جاز أكله، وقاسوه على المحرم، واحتج أصحابنا والجمهور بحديث "يا أبا عمير ما فعل النغير"؟ وأبو عمير أخو أنس بن مالك لأمه، وكان نغر، بضم النون وفتح الغين، طائر صغير، كالعصفور، له منقار أحمر كان يلعب به، فمات، فدخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فرآه حزيناً، فقال ما شأنه؟ فقالوا مات نغره. فقال .... الحديث ولا دلالة فيه، فليس فيه أنه دخل من الحل والاحتمال القوي أن ذلك كان قبل تحريم تنفير الصيد فقد روى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم ليخالطنا، حتى يقول لأخ لي صغير يا أبا عمير وبالقياس على ما إذا دخل من الحل شجرة أو كلأ وهو قياس مع الفارق، كما هو ظاهر، ولأنه ليس بصيد حرم. ثم قال وتنفير صيده أيضاً حرام، فإن نفره عصى، سواء تلف أم لا، لكن إن تلف في نفاره قبل سكون نفاره ضمنه المنفر، وإلا فلا ضمان. قال العلماء ونبه صلى الله عليه وسلم بالتنفير على الإتلاف ونحوه، لأنه إذا حرم التنفير فالإتلاف أولى. ثم قال ومعنى الحديث لا تحل لقطته أي لمن يريد أن يعرفها سنة، ثم يتملكها كما في باقي البلاد، بل لا تحل إلا لمن يعرفها أبداً، ولا يتملكها، وبهذا قال الشافعي وعبد الرحمن بن مهدي وأبو عبيد وغيرهم، وقال مالك يجوز تملكها بعد تعريفها سنة، كما في سائر البلاد، وبه قال أصحاب الشافعي، ويتأولون الحديث تأويلات ضعيفة. -[أما عن النقطة الثالثة فيؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - استدل بعضهم بقوله "لا يعضد شوكه" في الرواية الأولى من يقول بتحريم جميع نباتات الحرم، من الشجر والكلأ سواء الشوك المؤذي وغيره. قال النووي وهو الذي اختاره المتولي من أصحابنا، وقال جمهور أصحابنا لا يحرم الشوك، لأنه مؤذ، فأشبه الفواسق الخمس، ويخصون الحديث بالقياس، والصحيح ما اختاره المتولي. 2 - قد يستدل من يقول بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في الأحكام بقوله صلى الله عليه وسلم إلا الإذخر ورد بأن هذا محمول على أنه صلى الله عليه وسلم أوحي إليه في الحال باستثناء الإذخر، وتخصيصه من العموم، ومن ادعى أن نزول الوحي يحتاج إلى أمد متسع فقد وهم كما يقول الحافظ ابن حجر، ويحتمل أن إجابته صلى الله عليه وسلم هذه كانت بطريق الإلهام، ويحتمل أنه أوحي إليه قبل الخطبة أنه إن طلب أحد استثناء شيء من ذلك فأجب سؤاله، ويحتمل أن الله كان قد فوض له الحكم في هذه المسألة مطلقاً. وحكى ابن بطال عن المهلب أن الاستثناء هنا للضرورة، كتحليل أكل الميتة للضرورة، ورد عليه بأن الذي يباح للضرورة يمتنع استعماله إلا عند تحقق ضرورته، وليس الإذخر كذلك.

3 - قوله "فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً" في الرواية الثانية قد يحتج به من يقول إن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الإسلام. قال النووي والصحيح عندنا وعند آخرين أنهم مخاطبون بها، كما هم مخاطبون بأصولها، وهذا التعبير للتهييج كما ذكرنا لأن المؤمن هو الذي ينقاد للأحكام وينزجر عن محرمات الشرع، ويستثمر أحكامه، فجعل الكلام فيه، وليس فيه أن غير المؤمن ليس مخاطباً بالفروع. 4 - وفي ضراعة العباس وإجابته رضي الله عنه عظيم منزلته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. 5 - وعنايته رضي الله عنه بأمر أهل مكة، لكونه كان منها، أصله ومنشؤه. 6 - وجواز مراجعة العالم في المصالح الشرعية والمبادرة إلى ذلك في المجامع والمشاهد. 7 - وفي الحديث رفع وجوب الهجرة عن مكة إلى المدينة. 8 - ومن الرواية الثانية، من قوله "ائذن لي أيها الأمير" يستفاد حسن التلطف في مخاطبة السلطان، ليكون أدعى لقبوله النصيحة، وأن السلطان لا يخاطب إلا بعد استئذانه، ولا سيما إذا كان في أمر يعترض به عليه. 9 - ومن خطبته صلى الله عليه وسلم استحباب حمد الله والثناء عليه في أول الخطبة، وبين يدي تعليم العلم، وتبيين الأحكام. 10 - والخطبة في الأمور المهمة. 11 - ومن قول شريح سمعته أذناي .... إلخ جواز إخبار الرجل عن نفسه، بما يقتضي الثقة به. 12 - وإنكار العالم على الحاكم ما يراه تغيراً في أمر الدين. 13 - والاقتصار في الإنكار على اللسان إذا لم يستطع باليد. 14 - وجواز المجادلة في الأمور الدينية. 15 - قال الحافظ ابن حجر وقد وهم من عد كلام عمرو بن سعيد حديثاً واحتج بما تضمنه كلامه. 16 - وجواز النسخ، لقوله وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس. 17 - وأن مسائل الاجتهاد لا يكون فيها مجتهد حجة على مجتهد. 18 - وفيه الخروج من عهدة التبليغ، والصبر على المكاره، لمن لا يستطيع بداً من ذلك. 19 - ومن قوله "وليبلغ الشاهد الغائب" الحث على تبليغ العلم. 20 - وقبول خبر الواحد، لأنه معلوم أن كل من شهد الخطبة لزمه الإبلاغ، وأنه لم يأمرهم بإبلاغ الغائب عنهم إلا والإبلاغ يلزم الغائب فرض العمل بما بلغه، كالذي لزم السامع سواء، وإلا لم يكن للتبليغ فائدة.

21 - وفي حل مكة للرسول صلى الله عليه وسلم إثبات خصائصه، واستواء المسلمين معه في الحكم عند عدم الخصوصية. 22 - وفي الحديث فضيلة أبي شريح لاتباعه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه، ومواجهة الحاكم والجرأة في الحق. 23 - ومن الكتابة لأبي شاه جواز كتابة الحديث وتقييد العلم، وأن الحديث كان يكتب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. 24 - ومن الرواية الخامسة منع حمل السلاح بمكة. 25 - وفي الأحاديث فضيلة لمكة المكرمة. حرسها الله تعالى. 26 - قال النووي عن القصاص والدية فيه حجة صريحة للشافعي وموافقيه أن الولي بالخيار بين أخذ الدية وبين القتل، وإن له إجبار الجاني على أي الأمرين شاء ولي القتيل وقال مالك ليس للولي إلا القتل أو العفو، وليس له الدية إلا برضى الجاني وهذا خلاف نص الحديث. والله أعلم

(357) باب جواز دخول مكة بغير إحرام

(357) باب جواز دخول مكة بغير إحرام 2924 - عن يحيى قال: قلت لمالك: أحدثك ابن شهاب عن أنس بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه مغفر. فلما نزعه جاءه رجل فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة. فقال "اقتلوه"؟ فقال مالك: نعم. 2925 - عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة (وقال قتيبة: دخل يوم فتح مكة) وعليه عمامة سوداء بغير إحرام. 2926 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء. 2927 - عن جعفر بن عمرو بن حريث، عن أبيه رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس وعليه عمامة سوداء. 2928 - عن جعفر بن عمرو بن حريث عن أبيه رضي الله عنه قال: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على المنبر وعليه عمامة سوداء. قد أرخى طرفيها بين كتفيه. ولم يقل -في رواية-: على المنبر. -[المعنى العام]- مكة بلد من بلاد الله، يعيش الناس فيها كما يعيشون في البلاد الأخرى، ويدخلها غير أهلها لمصالحهم المختلفة غير الحج والعمرة كما يدخلون البلاد الأخرى، ويخرج أهلها منها إلى غيرها، ويعودون إليها، كما يفعل أهل البلاد الأخرى، فهل حرمتها وقدسيتها وأماكن الشعائر بها تحتم على الداخل إليها أياً كان غرضه من دخولها أن يدخلها محرماً بحج أو عمرة؟ .

وهل حرمتها وقدسية كعبتها تعيذ العاصي الذي يلتجئ إليها؟ . هذا أهم ما تتعرض له هذه الأحاديث، ولئن اختلف الفقهاء في تلك المسائل فإن ظاهر هذه الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم دخلها يوم الفتح غير محرم، صرح بذلك جابر بن عبد الله رضي الله عنه وكذلك دخل المسلمون الفاتحون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إحرام، فهل كان هذا قراراً شرعياً، وحكماً ثابتاً ليوم القيامة؟ أو كان ضرورة من ضرورات الشرع أباحت المحظور، فأحلت القدسية ذاك اليوم، ثم عادت حرمتها وقدسيتها، ووجوب الإحرام لداخلها؟ خلاف، وفي خلافهم هذا رحمة إن شاء الله". -[المباحث العربية]- (وعلى رأسه مغفر) المغفر بكسر الميم وسكون الغين وفتح الفاء زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس، وقيل هو رفرف البيضة وقيل هو ما يجعل من فضل دروع الحديد على الرأس مثل القلنسوة وفي رواية للحاكم "عليه مغفر من حديد". (فلما نزعه جاءه رجل) قال الحافظ ابن حجر لم أقف على اسمه، وقد جزم الفاكهي في شرح العمدة أنه أبو برزة الأسلمي، وكأنه لما رجح عنده أنه الذي تولى قتل ابن خطل رأى أنه هو الذي جاء يخبر به. ويؤيده ما جاء في بعض الروايات بلفظ "اقتله" وفي الرواية الثانية والثالثة "دخل يوم الفتح وعليه عمامة سوداء" وقد زعم الحاكم في الإكليل أن بين الروايتين معارضة، وتعقب باحتمال أن يكون أول دخوله كان على رأسه المغفر، ثم نزعه ولبس العمامة بعد ذلك فحكى كل من أنس وجابر ما رآه، ويؤيده ما جاء في الرواية الرابعة والخامسة "أنه خطب الناس وعليه عمامة سوداء"، وكانت الخطبة عند باب الكعبة بعد تمام الدخول. وجمع بعضهم باحتمال أن يكون قد لف العمامة السوداء فوق المغفر، أو كانت تحت المغفر وقاية لرأسه من صدأ الحديد، فعبر كل منهما بما يوحي بقصده، أنس قصد بذكر المغفر أنه دخل متهيئاً للحرب، وجابر قصد بذكر العمامة أنه دخل غير محرم. (ابن خطل متعلق بأستار الكعبة؟ فقال اقتلوه) ابن خطل بفتح الخاء وفتح الطاء، واسمه عبد العزى وقيل اسمه عبد الله وجمع بين القولين بأنه كان يسمى عبد العزى فلما أسلم سمي عبد الله واسم خطل عبد مناف، من بني تيم ابن فهر بن غالب، ولم يؤمنه صلى الله عليه وسلم كما أمن أهل مكة لأنه كان مسلماً، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقاً وبعث معه رجلاً من الأنصار، ورجلاً من مزينة، وقال أطيعا الأنصاري حتى ترجعا، فقتل ابن خطل الأنصاري، وهرب المزني، ثم ارتد مشركاً، واتخذ جاريتين قينتين، تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه يوم الفتح مع آخرين، وقال "اقتلوه، وإن وجد متعلقاً بأستار الكعبة". وقد روى الحاكم أن ابن خطل أخذ من تحت أستار الكعبة، فقتل بين المقام وزمزم واختلف

فيمن قتله، ويجمع بين الروايات بأنهم ابتدروه ليقتلوه، فكان المباشر لقتله أبو برزة الأسلمي، ويحتمل أن الآخرين شاركوه. (فقال مالك: نعم) أي نعم حدثني. قال النووي جاء في الصحيحين في مواضع كثيرة مثل هذه العبارة، ولا يقول في آخره قال نعم. واختلف العلماء في اشتراط قوله نعم. فقال بعض الشافعية وبعض أهل الظاهر لا يصح السماع إلا بها، وقال جماهير العلماء من المحدثين والفقهاء وأصحاب الأصول يستحب قوله نعم. ولا يشترط نطقه بشيء، بل يصح السماع مع سكوته والحالة هذه، اكتفاء بظاهر الحال، فإنه لا يجوز لمكلف أن يقر على الخطأ في مثل هذه الحالة. قال القاضي هذا مذهب العلماء كافة، ومن قال من السلف نعم. إنما قاله توكيداً واحتياطاً، لا اشتراطاً. (كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفيها بين كتفيه) قال النووي هكذا هو في جميع نسخ بلادنا وغيرها طرفيها بالتثنية، وكذا هو في الجمع بين الصحيحين للحميدي، وذكر القاضي عياض أن الصواب المعروف طرفها بالإفراد، وأن بعضهم رواه طرفيها بالتثنية. -[فقه الحديث]- قال النووي في الحديث دليل لمن يقول بجواز دخول مكة بغير إحرام لمن لم يرد نسكاً، سواء كان دخوله لحاجة تكرر، كالحطاب والحشاش والسقاء والصياد وغيرهم، أم لا تتكرر كالتاجر والزائر وغيرهما وسواء كان آمناً أو خائفاً، وهذا أصح القولين للشافعي وبه يفتي أصحابه، والقول الثاني لا يجوز دخولها بغير إحرام، إن كانت حاجة لا تتكرر، إلا أن يكون مقاتلاً، أو خائفاً من قتال، أو خائفاً من ظالم لو ظهر، ونقل القاضي نحو هذا عن أكثر العلماء. وقال الحافظ ابن حجر اختلف العلماء في هذا، فالمشهور من مذهب الشافعي عدم الوجوب مطلقاً، وفي قول يجب مطلقاً، وفيمن يتكرر دخوله خلاف مرتب، وأولى بعدم الوجوب، والمشهور عن الأئمة الثلاثة الوجوب، وفي رواية عن كل منهم لا يجب وجزم الحنابلة باستثناء ذوي الحاجات المتكررة، واستثنى الحنفية من كان داخل الميقات. اهـ وقد سبقت المسألة مفصلة في باب مواقيت الحج، فيما يؤخذ من الحديث، المأخذ الرابع. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم: ]- 1 - قال النووي: في هذا الحديث حجة لمالك والشافعي وموافقيهما في جواز إقامة الحدود والقصاص في حرم مكة، وقال أبو حنيفة لا يجوز وتأولوا هذا الحديث على أنه قتله في الساعة التي أبيحت له. 2 - قال الحافظ ابن حجر واستدل بالحديث على أن مكة فتحت عنوة، قال وأجاب النووي بأنه صلى الله عليه وسلم كان صالحهم لكن لما لم يأمن غدرهم دخل متأهباً، قال الحافظ وهذا جواب قوي

إلا أن الشك في ثبوت كونه صالحهم، فإنه لا يعرف في شيء من الأخبار صريحاً. اهـ أقول ويكفي أن يوجه هذا الاحتمال للدليل، فيبطل به الاستدلال على أن مكة فتحت عنوة. والله أعلم. 3 - قال السهيلي في الحديث أن مكة لا تعيذ عاصياً. 4 - واستدل بالحديث على جواز قتل الذي سب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ وفيه نظر، لأن ابن خطل كان حربياً، ولم يدخله رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمانة لأهل مكة، فلا دلالة فيه لما ذكر. 5 - واستدل به على جواز قتل الأسير صبراً، لأن القدرة على ابن خطل صيرته كالأسير في يد الإمام، وهو غير مخير فيه بين القتل وغيره لكن قال الخطابي إنه صلى الله عليه وسلم قتله بما جناه في الإسلام، وقال ابن عبد البر قتله قوداً من دم المسلم الذي غدر به وقتله. ثم ارتد. 6 - واستدل به على جواز قتل الأسير من غير أن يعرض عليه الإسلام ترجم بذلك أبو داود. 7 - وفيه مشروعية لبس المغفر وغيره من آلات السلاح حال الخوف من العدو، وأنه لا ينافي التوكل. 8 - وفيه جواز رفع أخبار أهل الفساد إلى ولاة الأمر، ولا يكون ذلك من الغيبة المحرمة، ولا النميمة. 9 - وفيه جواز لباس الثياب السود، وجواز لباس الأسود في الخطبة، وإن كان الأبيض أفضل منه، كما ثبت في الحديث "خير ثيابكم البياض" وإنما لبس صلى الله عليه وسلم العمامة السوداء في هذا الحديث بياناً للجواز. والله أعلم

(358) باب فضل المدينة، وتحريم صيدها، وشجرها، والترغيب في سكناها، والصبر على لأوائها، وأنها تنفي خبثها، ومن أرادها بسوء أذابه الله

(358) باب فضل المدينة، وتحريم صيدها، وشجرها، والترغيب في سكناها، والصبر على لأوائها، وأنها تنفي خبثها، ومن أرادها بسوء أذابه الله 2929 - عن عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها. وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة. وإني دعوت في صاعها ومدها بمثلي ما دعا به إبراهيم لأهل مكة". 2930 - وفي رواية "مثل ما دعا به إبراهيم". وفي رواية "بمثلى ما دعا به إبراهيم". 2931 - عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن إبراهيم حرم مكة. وإني أحرم ما بين لابتيها" [يريد المدينة]. 2932 - عن نافع بن جبير: أن مروان بن الحكم خطب الناس. فذكر مكة وأهلها وحرمتها. ولم يذكر المدينة وأهلها وحرمتها. فناداه رافع بن خديج. فقال: ما لي أسمعك ذكرت مكة وأهلها وحرمتها، ولم تذكر المدينة وأهلها وحرمتها. وقد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين لابتيها. وذلك عندنا في أديم خولاني. إن شئت أقرأتكه. قال: فسكت مروان ثم قال: قد سمعت بعض ذلك. 2933 - عن جابر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "إن إبراهيم حرم مكة. وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها. لا يقطع عضاهها ولا يصاد صيدها.

2934 - عن عامر بن سعد عن أبيه رضي الله عنه. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني أحرم ما بين لابتي المدينة. أن يقطع عضاهها. أو يقتل صيدها". وقال: "المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون. لا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه. ولا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلا كنت له شفيعاً، أو شهيداً، يوم القيامة". 2935 - عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال. ثم ذكر مثل الحديث السابق. وزاد في الحديث "ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص، أو ذوب الملح في الماء". 2936 - عن عامر بن سعد أن سعداً ركب إلى قصره بالعقيق. فوجد عبداً يقطع شجراً أو يخبطه. فسلبه. فلما رجع سعد، جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم، أو عليهم، ما أخذ من غلامهم. فقال: معاذ الله! أن أرد شيئاً نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى أن يرد عليهم. 2937 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة "التمس لي غلاماً من غلمانكم يخدمني". فخرج بي أبو طلحة يردفني وراءه. فكنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما نزل. وقال في الحديث: ثم أقبل، حتى إذا بدا له أحد قال "هذا جبل يحبنا ونحبه" فلما أشرف على المدينة قال "اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثل ما حرم به إبراهيم مكة. اللهم! بارك لهم في مدهم وصاعهم". 2938 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم غير أنه قال "إني أحرم ما بين لابتيها". 2939 - عن عاصم. قال: قلت لأنس بن مالك: أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؟

قال: نعم. ما بين كذا إلى كذا. فمن أحدث فيها حدثاً. قال ثم قال لي: هذه "شديدة من أحدث فيها حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً" قال: فقال ابن أنس: أو آوى محدثاً. 2940 - عن عاصم الأحول. قال: سألت أنساً: أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؟ قال: نعم. هي حرام. لا يختلى خلاها: فمن فعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. 2941 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "اللهم! بارك لهم في مكيالهم. وبارك لهم في صاعهم. وبارك لهم في مدهم". 2942 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اللهم! اجعل بالمدينة ضعفي ما بمكة من البركة". 2943 - عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، قال: خطبنا علي بن أبي طالب فقال: من زعم أن عندنا شيئاً نقرؤه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة. (قال: وصحيفة معلقة في قراب سيفه) فقد كذب فيها أسنان الإبل. وأشياء من الجراحات. وفيها قال النبي صلى الله عليه وسلم "المدينة حرم ما بين عير إلى ثور. فمن أحدث فيها حدثاً. أو آوى محدثاً. فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا يقبل الله منه يوم القيامة. صرفاً ولا عدلاً. وذمة المسلمين واحدة. يسعى بها أدناهم. ومن ادعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه. فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً". 2944 - وانتهى حديث أبي بكر وزهير عند قوله "يسعى بها أدناهم" ولم يذكر ما بعده. وليس فيه: "معلقة في قراب سيفه". 2945 - عن الأعمش وبهذا الإسناد، نحو حديث أبي كريب عن أبي معاوية إلى

آخره. وزاد في الحديث "فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل" وليس فيه "من ادعى إلى غير أبيه" وليس فيه، ذكر يوم القيامة. 2946 - وفي رواية عن الأعمش بهذا الإسناد نحوه. إلا قوله "من تولى غير مواليه" وذكر اللعنة له. 2947 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال "المدينة حرم. فمن أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا يقبل منه يوم القيامة عدل ولا صرف". 2948 - وفي رواية عن الأعمش بهذا الإسناد مثله: ولم يقل "يوم القيامة" وزاد "وذمة المسلمين واحدة. يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا يقبل منه يوم القيامة عدل ولا صرف". 2949 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: لو رأيت الظباء ترتع بالمدينة ما ذعرتها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما بين لابتيها حرام". 2950 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين لابتي المدينة. قال أبو هريرة: فلو وجدت الظباء ما بين لابتيها ما ذعرتها. وجعل اثني عشر ميلاً، حول المدينة، حمى. 2951 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاءوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فإذا أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم! بارك لنا في ثمرنا. وبارك لنا في مدينتنا. وبارك لنا في صاعنا. وبارك لنا في مدنا! اللهم! إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك. وإني

عبدك ونبيك. وإنه دعاك لمكة. وإني أدعوك للمدينة. بمثل ما دعاك لمكة. ومثله معه". قال: ثم يدعو أصغر وليد له فيعطيه ذلك الثمر. 2952 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بأول الثمر فيقول "اللهم! بارك لنا في مدينتنا وفي ثمارنا وفي مدنا وفي صاعنا. بركة مع بركة". ثم يعطيه أصغر من يحضره من الولدان. 2953 - عن أبي سعيد مولى المهري أنه أصابهم بالمدينة جهد وشدة. وأنه أتى أبا سعيد الخدري. فقال له: إني كثير العيال. وقد أصابتنا شدة. فأردت أن أنقل عيالي إلى بعض الريف. فقال أبو سعيد: لا تفعل. الزم المدينة. فإنا خرجنا مع نبي الله صلى الله عليه وسلم (أظن أنه قال) حتى قدمنا عسفان. فأقام بها ليالي. فقال الناس: والله! ما نحن ها هنا في شيء. وإن عيالنا لخلوف. ما نأمن عليهم. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال "ما هذا الذي بلغني من حديثكم؟ (ما أدري كيف قال) والذي أحلف به، أو والذي نفسي بيده! لقد هممت أو إن شئتم (لا أدري أيتهما قال) لآمرن بناقتي ترحل. ثم لا أحل لها عقدة حتى أقدم المدينة" وقال "اللهم! إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حرماً. وإني حرمت المدينة حراماً ما بين مأزميها. أن لا يهراق فيها دم. ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا يخبط [تخبط] فيها شجرة إلا لعلف. اللهم! بارك لنا في مدينتنا. اللهم! بارك لنا في صاعنا. اللهم! بارك لنا في مدنا. اللهم! بارك لنا في صاعنا. اللهم! بارك لنا في مدنا. اللهم! بارك لنا في مدينتنا. اللهم! اجعل مع البركة بركتين والذي نفسي بيده! ما من المدينة شعب ولا نقب إلا عليه ملكان يحرسانها حتى تقدموا إليها". (ثم قال للناس) "ارتحلوا" فارتحلنا. فأقبلنا إلى المدينة. فوالذي نحلف به أو يحلف به (الشك من حماد) ما وضعنا رحالنا حين دخلنا المدينة حتى أغار علينا بنو عبد الله بن غطفان. وما يهيجهم قبل ذلك شيء. 2954 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "اللهم! بارك لنا في صاعنا ومدنا. واجعل مع البركة بركتين".

2955 - عن أبي سعيد، مولى المهري أنه جاء أبا سعيد الخدري، ليالي الحرة، فاستشاره في الجلاء من المدينة. وشكا إليه أسعارها وكثرة عياله. وأخبره أن لا صبر له على جهد المدينة ولأوائها. فقال له: ويحك! لا آمرك بذلك. إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا يصبر أحد على لأوائها فيموت، إلا كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة، إذا كان مسلماً". 2956 - عن أبي سعيد رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إني حرمت ما بين لابتي المدينة. كما حرم إبراهيم مكة" قال: ثم كان أبو سعيد يأخذ (وقال أبو بكر: يجد) أحدنا في يده الطير، فيفكه من يده، ثم يرسله. 2957 - عن سهل بن حنيف رضي الله عنه، قال أهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى المدينة فقال "إنها حرم آمن". 2958 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قدمنا المدينة وهي وبيئة. فاشتكى أبو بكر واشتكى بلال. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شكوى أصحابه قال "اللهم! حبب إلينا المدينة كما حببت مكة أو أشد. وصححها. وبارك لنا في صاعها ومدها. وحول حماها إلى الجحفة". 2959 - عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من صبر على لأوائها، كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة". 2960 - عن يحنس مولى الزبير: أنه كان جالساً عند عبد الله بن عمر في الفتنة. فأتته مولاة له تسلم عليه. فقالت: إني أردت الخروج، يا أبا عبد الرحمن! اشتد علينا الزمان. فقال لها عبد الله: اقعدي. لكاع! فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد، إلا كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة".

2961 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من صبر على لأوائها وشدتها، كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة (يعني المدينة) ". 2962 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا يصبر على لأواء المدينة وشدتها أحد من أمتي، إلا كنت له شفيعاً يوم القيامة أو شهيداً". 2963 - عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يصبر أحد على لأواء المدينة". 2964 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "على أنقاب المدينة ملائكة. لا يدخلها الطاعون ولا الدجال". 2965 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "يأتي المسيح من قبل المشرق. همته المدينة. حتى ينزل دبر أحد. ثم تصرف الملائكة وجهه قبل الشام. وهنالك يهلك". 2966 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه: هلم إلى الرخاء! هلم إلى الرخاء والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون. والذي نفسي بيده! لا يخرج منهم أحد رغبة عنها إلا أخلف الله فيها خيراً منه. ألا إن المدينة كالكير، تخرج الخبيث. لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها. كما ينفي الكير خبث الحديد". 2967 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أمرت بقرية تأكل القرى. يقولون يثرب. وهي المدينة. تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد".

2968 - وفي رواية عن يحيى بن سعيد بهذا الإسناد وقالا: "كما ينفي الكير الحبث" لم يذكرا "الحديد". 2969 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن أعرابياً بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأصاب الأعرابي وعك بالمدينة. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! أقلني بيعتي. فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جاءه فقال: أقلني بيعتي. فأبى. ثم جاءه فقال: أقلني بيعتي. فأبى. فخرج الأعرابي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما المدينة كالكير. تنفي خبثها وينصع طيبها". 2970 - عن زيد بن ثابت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال "إنها طيبة (يعني المدينة) وإنها تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة". 2971 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن الله تعالى سمى المدينة طابة". 2972 - عن أبي عبد الله القراظ: أنه قال: أشهد على أبي هريرة أنه قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم "من أراد أهل هذه البلدة بسوء (يعني المدينة) أذابه الله كما يذوب الملح في الماء". 2973 - عن القراظ (وكان من أصحاب أبي هريرة) يزعم أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أراد أهلها بسوء (يريد المدينة) أذابه الله كما يذوب الملح في الماء". 2974 - قال ابن حاتم في حديث ابن يحنس بدل قوله "بسوء": "شراً".

2975 - عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أراد أهل المدينة بسوء، أذابه الله كما يذوب الملح في الماء". 2976 - عن سعد بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله. غير أنه قال "بدهم أو بسوء". 2977 - عن أبي هريرة وسعد رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اللهم! بارك لأهل المدينة في مدهم" وساق الحديث. وفيه "من أراد أهلها بسوء أذابه الله كما يذوب الملح في الماء". 2978 - عن سفيان بن أبي زهير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تفتح الشام. فيخرج من المدينة قوم بأهليهم. يبسون والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون. ثم تفتح اليمن. فيخرج من المدينة قوم بأهليهم يبسون. والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون. ثم تفتح العراق فيخرج من المدينة قوم بأهليهم. يبسون. والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون". 2979 - عن سفيان بن أبي زهير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "يفتح اليمن فيأتي قوم يبسون. فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم. والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون. ثم يفتح الشام فيأتي قوم يبسون. فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم. والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون. ثم يفتح العراق فيأتي قوم يبسون. فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم. والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون". 2980 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمدينة "ليتركنها أهلها على خير ما كانت مذللة للعوافي يعني السباع والطير".

2981 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "يتركون المدينة على خير ما كانت. لا يغشاها إلا العوافي (يريد عوافي السباع والطير) ثم يخرج راعيان من مزينة. يريدان المدينة. ينعقان بغنمهما فيجدانها وحشاً. حتى إذا بلغا ثنية الوداع، خرا على وجوههما". -[المعنى العام]- فضل الله تعالى بعض الأماكن على بعض، {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً} [آل عمران: 96، 97]. كان البيت في مكة قبل إبراهيم عليه السلام، فاندثر وضاعت معالمه وآثاره، وبوأ الله لإبراهيم مكان البيت، فأعاد بناءه، وطلب من ربه تجديد قدسيته وميزاته، {رب اجعل هذا البلد آمناً} [إبراهيم: 35]. آمناً لنبي آدم، وآمناً لكل ذي روح، واستجاب الله دعاء إبراهيم، فحرم جل شأنه صيد الحرم، وسفك الدم فيه، وحرم قطع شجره. ولئن كانت مكة أحب البلاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتبارها مولده ونشأته ووطنه الأول إلا أن المدينة آوته ونصرته ونشرت دينه، وكان فيها ومنها ربيع الإسلام، رجع إليها صلى الله عليه وسلم بحنان ورغبة صادقة وحب أكيد بعد فتح مكة، وكانت مكافأته لهذه البلدة الكريمة أن دعا ربه لها أن يجعلها حراماً كمكة، فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك، وإنه دعاك لمكة وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة، ومثله معه. اللهم بارك لأهل المدينة في مدينتهم ومكيالهم وموازينهم ومقاييسهم وجميع مقاديرهم، بركة مع بركة. فأجاب الله دعاءه، فأخبر أمته فقال صلى الله عليه وسلم: إني حرمت المدينة بأمر الله كما حرم إبراهيم مكة، حرمتها بحدودها المعروفة، ما بين جبليها، حرمتها وما يقرب من اثنى عشر ميلاً حولها، لا يقطع شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا يسفك فيها دم من أحدث فيها حدثاً، أو أتى فيها بظلم، أو آوى ظالماً فهو مطرود من رحمة الله، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه عملاً صالحاً، وذمة المسلمين واحدة، يجير أدناهم كما يجير أعلاهم، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى. وقال. لقد دعوت الله أن يحبب إلينا المدينة، وأن يصحح أهلها من الأوبئة وعلى سكانها الصبر على شدتها لأكون شفيعاً وشهيداً لهم يوم القيامة. لقد دعوت الله تعالى أن يحرسها، فلن يدخلها الطاعون ولا الدجال وستنفي خبثها، وتخرج الفجرة من سكانها، فحافظوا على البقاء فيها، فمن خرج منها غير راغب فيها عوضها الله بخير منه إنها طيبة، من أرادها بسوء قصمه الله وأهلكه وأذابه كما يذوب الملح في الماء.

ستجدون رخاء في مدن كثيرة غيرها، فلا يغرنكم هذا الرخاء لتهاجروا إليه منها، فالمدينة خير لكم إن كنتم تعلمون. -[المباحث العربية]- (إن إبراهيم حرم مكة) سبق أن تحريم مكة كان من الله تعالى يوم خلق السموات والأرض، فالمراد من تحريم إبراهيم عليه السلام لها تجديد التحريم بعد اندراسه من الخلق بسبب طول العهد، وحتى تجديد التحريم هو من الله، فإبراهيم رسول لا يحلل ولا يحرم، وإنما يبلغ تحريم الله، ولهذا يقول النووي: إنه حرمها بأمر الله تعالى له بذلك، لا باجتهاده [أي بلغ تحريمها للناس] فلهذا أضاف التحريم إليه تارة، وإلى الله تعالى تارة أخرى، وقيل: إنه عليه السلام دعا لها، فحرمها الله تعالى بدعوته [أي فهو سبب تجديد التحريم] فنسب التحريم إليه. (وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة) تحريم المدينة مبتدأ، ليس كتحريم مكة على لسان إبراهيم، والمحرم أيضاً للمدينة الله تعالى، كما سبق، وإضافته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إما لأنه مبلغ، ويؤيده ما جاء عند أحمد عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الله عز وجل حرم على لساني ما بين لابتي المدينة" وإما لأنه السبب، دعا ربه فأجابه، وهذا هو وجه الشبه، والمحرم في المدينة قطع الشجر، وتنفير الصيد، واللقطة، وتغليظ عقوبة المسيء فيها. كما سيأتي. وفي الرواية الثانية "وإني أحرم ما بين لابتيها" تثنية "لابة" بتخفيف الباء وهي الأرض الملبسة حجارة سوداء، يقال: لابة، ولوبة، ونوبة بالنون، ثلاث لغات مشهورات، وجمع اللابة في القلة لابات، وفي الكثرة لاب ولوبة. وللمدينة لابتان لابة في الجنوب. ولابة في الشمال، وهي بينهما وقيل: لابة في المشرق، ولابة في المغرب. قال النووي: معناه تحريم اللابتين وما بينهما. اهـ فاللابتان داخلتان في التحريم. وفي الرواية الثالثة عشرة "ما بين عير إلى ثور" قال النووي: أما "عير" بفتح العين وإسكان الياء، وهو جبل معروف، قال الزبير "عير جبل بناحية المدينة، وقال القاضي: أكثر الرواة في كتاب البخاري ذكروا "عيراً" وأما "ثور" فمنهم من كنى عنه بـ"كذا" ومنهم من ترك مكانه بياضاً، لأنهم اعتقدوا ذكر "ثور" هنا خطأ. قال المازري: قال بعض العلماء: ذكر "ثور" هنا وهم من الراوي، وإنما "ثور" جبل بمكة، قال: والصحيح "إلى أحد" قال القاضي: وكذا قال أبو عبيد أصل الحديث "من عير إلى أحد" قال النووي: هذا ما حكاه القاضي، وكذا قال أبو بكر الحازمي الحافظ وغيره من الأئمة، أن أصله "من عير إلى أحد" قال النووي: قلت: ويحتمل أن ثوراً كان اسماً لجبل هناك، إما أحد، وإما غيره، فخفي اسمه. اهـ وقد أطال الحافظ ابن حجر في تتبع هذا الخلاف، ومال في النهاية إلى ما مال إليه النووي. وفي الرواية التاسعة عشرة "ما بين مأزميها" تثنية "مأزم" بكسر الزاي، وهو الجبل، وقيل:

المضيق بين الجبلين ونحوه، قال النووي: والأول هو الصواب هنا، والمعنى: ما بين جبليها. اهـ وهو لفظ الرواية الثامنة، وفي الرواية السادسة عشرة تحديد المسافة بالأميال، وفيها "وجعل اثنى عشر ميلاً حول المدينة حمى" وعند أحمد عن جابر "وأنا أحرم المدينة ما بين حريتها" والحرة بفتح الحاء وتشديد الراء، أرض ذات حجارة سود، كأنها أحرقت، وتطلق على موضع بظاهر المدينة تحت جبل واقم، وبها كانت وقعة الحرة، أيام يزيد بن معاوية. قال الحافظ ابن حجر: وادعى بعض الحنفية أن الحديث مضطرب، لأنه وقع في رواية "ما بين جبليها" وفي رواية "ما بين لابتيها" وفي رواية "ما بين مأزميها" وتعقب بأن الجمع واضح، وبمثل هذا لا ترد الأحاديث الصحيحة، فإن الجمع لو تعذر أمكن الترجيح، ولا شك أن رواية "ما بين لابتيها" أرجح، لتوارد الرواة عليها، ورواية "جبليها" لا تنافيها، فيكون عند كل "لابة" جبل، أو لابتيها من جهة الجنوب والشمال، وجبليها من جهة الشرق والغرب، وتسمية الجبلين في بعض الروايات لا تضر، والمأزم الجبل. (وإني دعوت في صاعها ومدها بمثلى ما دعا به إبراهيم لأهل مكة) أي دعوت الله بالبركة في مكيالها، بركة ضعف البركة التي دعا بها إبراهيم لأهل مكة، وفي الرواية الثامنة "اللهم بارك لهم في مدهم، وصاعهم" وفي الرواية الحادية عشرة "اللهم بارك لهم في مكيالهم، وبارك لهم في صاعهم، وبارك لهم في مدهم" فعطف الصاع والمد على المكيال من عطف الخاص على العام، والمراد البركة فيما يكال. وفي الرواية الثانية عشرة "اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما بمكة من البركة" وهذه الرواية أعم من الروايات السابقة، فهي لا تقتصر على المكاييل، بل تعم الموازيين والمقاييس والمعدودات وغيرها، والمراد من الضعفين المثلان، فإن الضعف قد يطلق على المثل. وفي الرواية السابعة عشرة "اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدنا ... وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة، ومثله معه". وفي الرواية الثامنة عشرة "اللهم بارك لنا في مدينتنا، وفي ثمارنا، وفي مدنا، وفي صاعنا، بركة مع بركة". وفي الرواية المتممة للعشرين "واجعل مع البركة بركتين" أي اجعل معها بركة أخرى لتصير بركتين، أو اجعل مع البركة في هذا الشيء بركتين في ذاك الشيء. وفي ملحق الرواية الأولى "مثل ما دعا به إبراهيم" أي وزيادة. فإن الدعاء بالمثل لا يمنع بمثلين، فقد يكون دعا بمثل أولاً، ثم دعا بالمثلين. (وذلك عندنا في أديم خولاني) أي وذلك التحريم مكتوب عندنا في صحيفة من أديم، والأديم هنا الجلد. (لا يقطع عضاها، ولا يصاد صيدها) وفي الرواية الخامسة .... "أن يقطع عضاها، أو يقتل

صيدها .. " في الرواية التاسعة عشرة "أن لا يهراق فيها دم، ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا تخبط فيها شجرة إلا لعلف" قال النووي: "العضا" بالقصر وكسر العين وتخفيف الضاد كل شجر فيه شوك، واحدتها عضاهة، وعضيهة. (وقال: المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون) أي لو كانوا يعلمون أن المدينة خير لهم ما تركوها، قال صلى الله عليه وسلم هذا عن قوم سيتركون المدينة إلى غيرها، رغبة في الرخاء، ففي الرواية الواحدة والثلاثين "يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه -أي من يهمه أمره- هلم إلى الرخاء. هلم إلى الرخاء. والمدينة خير لهم لو كانوا يعملون" وفي الرواية التاسعة والثلاثين "يفتح الشام، فيخرج من المدينة قوم بأهليهم يبسون". بفتح الياء، وضم الباء، وكسرها، أي يسوقون دوابهم، والبس سوق الإبل. قال الداودي: معناه يزجرون دوابهم، فيبسون ما يطؤونه من الأرض من شدة السير، فيصير غباراً، قال تعالى {وبست الجبال بساً} [الواقعة: 5]. أي سالت سيلاً، وقيل: سارت سيراً، وقال ابن عبد البر: وروي "يبسون" بضم أوله وكسر ثانيه، من الرباعي، من أبس إبساساً، ومعناه يزينون لأهليهم البلد التي يقصدونها، وإلى هذا ذهب ابن وهب، وكذا رواه ابن حبيب، وفسره بنحوه، وأنكر الأول غاية الإنكار. قال النووي: والصواب أن معناه الإخبار عمن خرج من المدينة متحملاً بأهله، باساً في سيره، مسرعاً إلى الرخاء والأمصار المفتتحة "والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون" وفي الرواية المتممة للأربعين "يفتح اليمن، فيأتي قوم يبسون، فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم" قال الحافظ ابن حجر: وعلى هذا فالذين يتحملون غير الذين يبسون، كأن الذي حضر الفتح أعجبه حسن البلد المفتوحة ورخاؤها، فدعا قريبه إلى المجيء إليها، فيتحمل المدعو بأهله وأتباعه، أي يحملهم "والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون" أي لو كانوا يعلمون فضل الصلاة والعبادة فيها، وثواب الإقامة بها، أو المعنى لو كانوا من أهل العلم، ففيه تجهيل لمن يفارقها، ويؤثر غيرها عليها، والمراد بهم الخارجون من المدينة رغبة عنها، كارهين لها، أما من خرج لحاجة أو تجارة أو جهاد أو نحو ذلك فليس بداخل في معنى الحديث، يؤكد هذا المعنى ما جاء في الرواية الواحدة والثلاثين بلفظ "لا يخرج أحد منها رغبة عنها إلا أخلف الله فيها خيراً منه". (لا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه) هذه بشرى للمدينة، ومن فيها، وليس في هذه العبارة ذم الخارجين منها رغبة عنها، إنما الذم ما جاء في الرواية الواحدة والثلاثين، بقوله "ألا إن المدينة كالكير، تخرج الخبيث، لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها، كما ينفي الكير خبث الحديد" وفي الرواية الثانية والثلاثين "تنفي الناس، [أي شرارهم] كما ينفي الكير خبث الحديد" وفي ملحقها "كما ينفي الكير الخبث" وفي الرواية الثالثة والثلاثين "إنما المدينة كالكير، تنفي خبثها، وينصع طيبها" وفي الرواية الرابعة والثلاثين "وإنما تنفي الخبث، كما تنفي النار خبث الفضة" فهذه الروايات تدمغ الخارجين منها رغبة عنها بأنهم خبث، وفي ذلك من التنفير ما فيه. (ولا يثبت أحد على لأوائها وجهدها) اللأواء بالمد الشدة والجوع، والجهد بفتح الجيم هو

المشقة. قال النووي: وفي لغة قليلة بضم الجيم، وأما الجهد بمعنى الطاقة فبضمها على المشهور، وحكي فتحها. وفي الرواية الواحدة والعشرين "لا يصبر أحد على لأوائها فيموت" وفي الرواية السادسة والعشرين "لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد" وفي الرواية السابعة والعشرين "من صبر على لأوائها وشدتها" وفي الرواية الثامنة والعشرين "لا يصبر على لأواء المدينة وشدتها أحد من أمتي". (إلا كنت له شفيعاً -أو شهيداً- يوم القيامة) قال النووي: قال القاضي عياض: قال بعض شيوخنا: "أو" هنا للشك، والأظهر عندنا أنها ليست للشك، لأن هذا الحديث رواه جابر بن عبد الله وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبو سعيد وأبو هريرة وأسماء بنت عميس وصفية بنت أبي عبيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ، ويبعد اتفاق جميعهم أو رواتهم على الشك، وتطابقهم فيه على صيغة واحدة، بل الأظهر أنه صلى الله عليه وسلم قال هكذا، فإما أن يكون أعلم بهذه الجملة هكذا، وإما أن يكون "أو" للتقسيم، ويكون "شهيداً" لبعض أهل المدينة، وشفيعاً لبقيتهم، إما شفيعاً للعاصين، وشهيداً للمطيعين، وإما شهيداً لمن مات في حياته، وشفيعاً لمن مات بعده، أو غير ذلك. قال القاضي: وهذه خصوصية زائدة على الشفاعة للمذنبين أو للعالمين في القيمة، وعن شهادته على جميع الأمة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد: أنا شهيد على هؤلاء. فيكون لتخصيصهم بهذا كله مزيد أو زيادة منزلة وحظوة. قال: وقد يكون "أو" بمعنى الواو، فيكون لأهل المدينة شفيعاً وشهيداً، قال: وقد روي "إلا كنت له شهيداً أو له شفيعاً" قال: وإذا جعلنا "أو" للشك -كما قال المشايخ- فإن كانت اللفظة الصحيحة "شهيداً" اندفع الاعتراض، لأنها زائدة على الشفاعة المدخرة المجردة، وإن كانت اللفظة الصحيحة "شفيعاً" فاختصاص أهل المدينة بهذا مع ما جاء من عمومها وادخارها لجميع الأمة أن هذه شفاعة أخرى غير العامة التي هي لإخراج أمته من النار، ومعافاة بعضهم منها بشفاعته صلى الله عليه وسلم في القيامة، وتكون هذه الشفاعة لأهل المدينة بزيادة الدرجات، أو تخفيف الحساب، أو بما شاء الله من ذلك، أو بإكرامهم يوم القيامة بأنواع من الكرامة، كإيوائهم إلى ظل العرش، أو كونهم في ردح وعلى منابر، أو الإسراع بهم إلى الجنة، أو غير ذلك من خصوص الكرامات الواردة لبعضهم دون بعض. والله أعلم. (ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص، أو ذوب الملح في الماء) وفي الرواية السادسة والثلاثين "من أراد أهل هذه البلدة بسوء -يعني المدينة- أذابه الله كما يذوب الملح في الماء" قال القاضي: قد يكون المراد من أرادها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كفى المسلمون أمره، واضمحل كيده، كما يضمحل الرصاص في النار، وقد يكون في اللفظ تأخير وتقديم، أي أذابه الله ذوب الرصاص في النار، ويكون ذلك لمن أرادها في الدنيا فلا يمهله الله، ولا يمكن له سلطان، بل يذهبه عن قرب، كما انقضى شأن من حاربها أيام بني أمية، مثل مسلم بن عقبة، فإنه هلك في منصرفه عنها، ثم هلك يزيد بن معاوية مرسله، على إثر ذلك، وغيرهما ممن صنع صنيعهما، وقيل: قد يكون المراد من كادها اغتيالاً وطلباً لغرتها في غفلة فلا يتم له أمره، بخلاف من أتى ذلك جهاراً.

(فوجد عبداً يقطع شجراً أو يخبطه فسلبه) معنى سلب الصائد وقاطع الشجر والكلأ في المدينة، أي تؤخذ ثيابه، وجميع ما عليه إلا ما يستر العورة، وقطع الجمهور أنه يسلب كسلب القتيل من الكفار، فيؤخذ فرسه وسلاحه، ونفقته وغير ذلك مما يدخل في سلب القتيل، ولصالح من يؤخذ هذا السلب؟ ثلاثة أقوال عند الشافعية، أصحها للسالب، وهو الموافق للحديث، والثاني لمساكين المدينة، والثالث لبيت المال. (نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم) بفتح النون وتشديد الفاء المفتوحة، كذا ضبطه الأصل، وفي تاج العروس بتخفيف الفاء، يقال: نفل الإمام الجند جعل لهم ما غنموا، والنافلة الغنيمة. (وقال في الحديث ... ) الحديث في البخاري في كتاب الجهاد -باب من غزا بصبي للخدمة، وكان أنس رضي الله عنه يحكي قصة رجوعهم من خيبر. (هذا جبل يحبنا ونحبه) قال النووي: الصحيح المختار أن معناه أن أحداً يحبنا حقيقة، أي جعل الله تعالى فيه تمييزاً يحب به، كما قال سبحانه وتعالى {وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله} [البقرة: 74]. وكما حن الجذع اليابس، وكما سبح الحصى، وكما فر الحجر بثوب موسى صلى الله عليه وسلم، وكما قال صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي"، وكما قال سبحانه وتعالى {وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} [الإسراء: 44]. قال النووي: وهذا ما أشبهه ما اخترناه واختاره المحققون في معنى الحديث، وأن أحداً يحبنا حقيقة، وقيل: المراد يحبنا أهله، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه وسيأتي قريباً بقية مباحثه في باب فضل جبل أحد. (فمن أحدث فيها حدثاً -ثم قال لي: هذه شديدة) قال القاضي: معناه من أتى فيها إثماً وظلماً. اهـ ومعنى "هذه شديدة" أي هذه الجريمة شديدة وعقوبتها شديدة. (من أحدث فيها حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) في الرواية الثالثة عشرة والرابعة عشرة "أو آوى محدثاً" قال القاضي: معناه من أتى فيها إثماً، أو آوى من أتاه وضمه إليه وحماه، يقال: أوى وآوى بالقصر والمد، في الفعل اللازم والمتعدي جميعاً، لكن القصر في اللازم أشهر وأفصح، والمد في المتعدي أشهر وأفصح. قال: ولم يرو لفظ "محدثاً" إلا بكسر الدال، وقال المازري: روي بوجهين، كسر الدال وفتحها، قال: فمن فتح أراد الإحداث نفسه، ومن كسر أراد فاعل الحدث. ومعنى "فعليه لعنة الله ... إلخ" أن الله تعالى يلعنه [فالجملة خبرية لفظاً ومعنى] وكذا يلعنه الملائكة والناس أجمعون، فاللعن في اللغة هو الطرد والإبعاد. قالوا: والمراد باللعن هنا العذاب الذي يستحقه على ذنبه، والطرد عن الجنة أول الأمر مع السابقين، وليس كلعن

الكفار الذي يبعدون من رحمة الله تعالى كل الإبعاد. والقصد من لعن الملائكة والناس المبالغة في هذا الإبعاد، والتنفير من الفعل بالوعيد الشديد. (لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً) في ملحق الرواية الثالثة عشرة "لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل" قيل: الصرف الفريضة، والعدل النافلة، وقيل: الصرف النافلة، والعدل الفريضة، وقيل: الصرف التوبة، والعدل الفدية، وقيل: الصرف الاكتساب، والعدل الفدية، وقيل: العدل الحيلة، وقيل: العدل المثل، وقيل: الصرف الدية، والعدل الزيادة، ذكر ذلك النووي. والظاهر أن المراد لا يقبل منه عمل صالح حالة الإحداث أو إيواء المحدث، بمعنى لا تقبل صالحاته قبول غيره مضعفة الأجر بالغة الثواب، مكفرة الذنوب، كبقية المذنبين، حين يعملون الصالحات في الحرم، وإن كانت تقبل قبول إسقاط الفريضة، أو قبول مجازاة عادية. (فقال ابن أنس) قال النووي: كذا وقع في أكثر النسخ، ووقع في بعضها "فقال أنس" بحذف لفظة "ابن" قال القاضي: ووقع عند عامة شيوخنا "فقال ابن أنس" بإثبات "ابن" قال: وهو الصحيح، وكأن ابن أنس ذكر أباه بهذه الزيادة، لأن سياق هذا الحديث من أوله إلى آخره من كلام أنس، فلا وجه لاستدراك أنس بنفسه. (اللهم بارك لهم في مكيالهم .... ) قال النووي: قال القاضي: البركة هنا بمعنى النمو والزيادة، وتكون بمعنى الثبات واللزوم. قال: فقيل: يحتمل أن تكون هذه البركة دينية، وهي ما تتعلق بهذه المقادير من حقوق الله تعالى في الزكاة والكفارات، فتكون بمعنى الثبات والبقاء لها، كبقاء الحكم بها ببقاء الشريعة وثباتها، ويحتمل أن تكون دنيوية، من تكثير الكيل والقدر بهذه الأكيال، حتى يكفي منه ما لا يكفي من غيره في غير المدينة، أو ترجع البركة إلى التصرف بها في التجارة وأرباحها، وإلى كثرة ما يكال بها من غلاتها وثمارها، أو تكون الزيادة فيما يكال بها، لاتساع عيشهم وكثرته بعد ضيقه، لما فتح الله عليهم، ووسع من فضله لهم وملكهم من بلاد الخصب والريف بالشام والعراق ومصر وغيرها، حتى كثر الحمل إلى المدينة، واتسع عيشهم، حتى صارت هذه البركة في الكيل، فزاد مدهم، وصار هاشمياً، مثل مد النبي صلى الله عليه وسلم مرتين، أو مرة ونصفاً، وفي هذا كله ظهور إجابة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وقبولها. قال النووي: هذا آخر كلام القاضي. والظاهر من هذا كله أن البركة في نفس المكيل في المدينة، بحيث يكفي المد فيها لمن لا يكفيه في غيرها. والله أعلم. (فيها أسنان الإبل) أي مقادير زكاة الإبل حسب أسنانها. (وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم) المراد بالذمة هنا الأمان، ومعناه أن أمان المسلمين للكافر صحيح، فإذا أمنه أحد المسلمين حرم على غيره التعرض له، مادام في أمان المسلم، عظم هذا المسلم أو لا، حتى العبد والمرأة، وقال البيضاوي: الذمة العهد، سمي بها لأنه يذم متعاطيها. ومعنى "يسعى بها أدناهم" أي يتولاها الشريف والوضيع.

(ومن ادعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه) أي من انتسب إلى غير أبيه تشرفاً، أو انتمى العتيق إلى غير معتقيه فعليه لعنة الله، لما في ذلك من كفر النعمة، وتضييع حقوق الإرث والولاء والعقل وغير ذلك، مع ما فيه من قطيعة الرحم والحقوق. (فمن أخفر مسلماً) معناه من نقض أمان مسلم وعهده، فتعرض لكافر أمنه مسلم فعليه .... يقال: أخفرت الرجل إذا نقضت عهده، وخفرت الرجل -بدون الهمزة- إذا أمنته. وقد جاءت روايات بأمور أخرى في الصحيفة غير ما ذكر، منها: لعن من ذبح لغير الله، وبدل "أسنان الإبل" "فيها فرائض الصدقة" "المسلمون تتكافأ دماؤهم" "وهم يد على من سواهم" "ألا لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده" "ولعن الله من سرق منار الأرض" "ولعن الله من لعن والده" "وفكاك الأسير" قال الحافظ ابن حجر: والجمع بين هذه الأخبار أن الصحيفة المذكورة كانت مشتملة على جميع ما ذكر، فنقل كل راو بعضها. (لو رأيت الظباء ترتع بالمدينة ما ذعرتها) معنى "ترتع" ترعى، وقيل تسعى، "ما ذعرتها" أي ما أفزعتها ولا نفرتها، وما حاولت أخذها فنفرتها، وكني بذلك عن عدم صيدها. (ثم يدعو أصغر وليد له فيعطيه ذلك الثمر) في الرواية الثامنة عشرة "ثم يعطيه أصغر من يحضره من الولدان" وخص الصغير بهذا لكونه أرغب فيه، وأكثر تطلعاً إليه، وحرصاً عليه، كذا قال النووي. ويحتمل أنه خص الصغير لأنه لم يذنب بعد، فإذا أعطي أول الثمر النازل من عند الله رجونا نزول البركة في هذا الثمر. (أن أنقل عيالي إلى بعض الريف) قال أهل اللغة: الريف بكسر الراء هو الأرض التي فيها زرع وخصب، وجمعه أرياف، ويقال: أريفنا أي صرنا إلى الريف. (عسفان) على وزن عثمان، قرية جامعة على مرحلتين من مكة لمن قصد المدينة، ولعلهم كانوا عائدين من غزوة. (والله ما نحن ههنا في شيء) كأنهم أحسوا بطول المقام من غير فائدة. (وأن عيالنا لخلوف) أي خلفناهم وراء ظهورنا، ليس عندهم من يحميهم، و"خلوف" بضم الخاء. (إن شئتم لآمرن بناقتي ترحل) بضم التاء وإسكان الراء وفتح الحاء مخففة، أي يشد عليها رحلها. يعلن صلى الله عليه وسلم استجابته لرغبتهم، ليقع المقدور، ويعلموا أن الحارس هو الله تعالى.

(ثم لا أحل لها عقدة حتى أقدم المدينة) "لا أحل" بفتح الهمزة وضم الحاء، و"أقدم" بفتح الهمزة والدال بينها قاف ساكنة. والمعنى ثم أواصل السير، ولا أحل عن ناقتي عقدة من عقد حملها ورحلها حتى أصل المدينة. يقصد المبالغة في الإسراع إلى المدينة. (ولا يخبط فيها شجرة إلا لعلف) بإسكان اللام، مصدر علفت الدابة علفاً، أما العلف بفتح اللام فاسم للحشيش والتبن والشعير وما يعلف به. (ما من المدينة شعب ولا نقب إلا عليه ملكان يحرسانها حتى تقدموا إليها) الشعب بكسر الشين هو الفرجة النافرة بين الجبلين، أو هو الطريق في الجبل، والنقب بسكون القاف، وفتح النون وحكي ضمها الطريق، وقيل: الطريق في الجبل، قال الأخفش: أنقاب المدينة طرقها وفجاجها. يريد صلى الله عليه وسلم أن يطمئنهم على أهليهم بالمدينة، وأنها محروسة بحراس كثيرين، يقفون على مداخلها. (وما يهيجهم قبل ذلك شيء) يقال: هاج الشر، وهاجت الحرب، وهاجها الناس، أي تحركت، وحركوها، وهجت زيداً: حركته للأمر، كله ثلاثي، والمعنى أن المدينة في حال غيبتهم كانت محمية محروسة، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم حتى إن بني عبد الله بن غطفان أغاروا عليها حين قدم رجالها، ولم يكن يمنعهم من الإغارة في غيبة رجالها مانع ظاهر. (ليالي الحرة) قال النووي: يعني ليالي الفتنة المشهورة التي نهبت فيها المدينة، سنة ثلاث وستين. (فاستشاره في الجلاء) بفتح الجيم، وهو الفرار من بلد إلى غيره. (قدمنا المدينة وهي وبيئة) أي ذات وباء، وهو المرض المنتشر المؤدي إلى الموت. (وصححها) أي صحح أهلها، وعافهم من الأمراض، وكشف الضر عنهم. (وحول حماها إلى الجحفة) "حول" بفتح الحاء وتشديد الواو المكسورة، دعاء بالتحويل، و"حماها" بضم الحاء وتشديد الميم، المرض المعروف، و"الجحفة" بضم الجيم وسكون الحاء، وكانت قرية خربة، بين المدينة ومكة، بينها وبين مكة مائة وعشرة أميال. قيل: سميت بذلك لأن السيل أجحفها، أي جرفها وذهب بها. (اقعدي لكاع) أي يالكاع. بفتح اللام، وبناء العين على الكسر. قال أهل اللغة: يقال: امرأة لكاع، ورجل لكع بضم اللام وفتح الكاف، ويطلق ذلك على اللئيم، وعلى العبد، وعلى الغبي الذي لا يهتدي لكلام غيره، وعلى الصغير. (لا يدخلها الطاعون ولا الدجال) الطاعون قيل الوباء مطلقاً، فاعول من الطعن، وقيل: مرض

معين يعم، فكل طاعون وباء، وليس كل وباء طاعوناً. وقد نقل النووي في الأذكار أن الطاعون لم يدخل المدينة أصلاً، ولا مكة أيضاً. (كما ينفي الكير خبث الحديد) "الكير" بكسر الكاف وسكون الياء الزق الذي ينفخ فيه الحداد، وأكثر أهل اللغة على أنه حانوت الحداد والصائغ. والخبث بفتح الخاء والباء الوسخ الذي تخرجه النار. قال النووي: وهذا والله أعلم زمن الدجال، وقال عياض: كأن هذا مختص بزمنه صلى الله عليه وسلم، لأنه لم يكن يصبر على الهجرة والمقام معه بها إلا من ثبت إيمانه. وقال الحافظ ابن حجر: يحتمل أن يكون المراد الزمنين، وكان الأمر في حياته صلى الله عليه وسلم كذلك للسبب المذكور، ويؤيده قصة الأعرابي [روايتنا الثالثة والثلاثون] فإنه صلى الله عليه وسلم ذكر هذا الحديث معللاً به خروج الأعرابي، وسؤاله الإقالة عن البيعة، ثم يكون ذلك أيضاً في آخر الزمان، عندما ينزل بها الدجال، فترجف بأهلها، فلا يبقى منافق ولا كافر إلا خرج إليه، وأما ما بين ذلك فلا. (أمرت بقرية تأكل القرى) قال النووي: معناه أمرني ربي بالهجرة إليها، واستيطانها، وذكروا في معنى أكلها القرى وجهين: أحدهما: أنها مركز جيوش الإسلام في أول الأمر، فمنها فتحت القرى، وغنمت أموالهم وسباياها، والثاني: معناه أن أكلها وميرتها تكون من القرى المفتتحة، وإليها تساق غنائمها. وقال الحافظ ابن حجر: "تأكل القرى" أي تغلبهم، وكنى بالأكل عن الغلبة لأن الأكل غالب على المأكول. وقال ابن المنير: يحتمل أن يكون المراد بأكلها القرى غلبة فضلها على فضل غيرها. (يقولون: يثرب. وهي المدينة) أي إن بعض المنافقين يسميها "يثرب" واسمها الذي يليق بها "المدينة". و"يثرب" إما من التثريب الذي هو التوبيخ والملامة، أو من الثرب، وهو الفساد، وكلاهما مستقبح، وكان صلى الله عليه وسلم يحب الاسم الحسن، ويكره الاسم القبيح. قال النووي: قال العلماء: ولمدينة النبي صلى الله عليه وسلم أسماء - المدينة - طابة - طيبة - الدار [لأمنها واستقرارها] اهـ وفي أخبار المدينة أن لها عشرة أسماء. ما سبق، والمطيبة، والمسكينة، والجابرة، والمجبورة، والمحببة، والمحبوبة والقاصمة. ومدينة الرسول صلى الله عليه وسلم سكنها العماليق قديماً، ثم نزلها طائفة من بني إسرائيل، ثم نزلها الأوس والخزرج، لما تفرق أهل سبأ بسبب سيل العرم. (فأصاب الأعرابي وعك) بفتح العين، وهو ألم الحمى، ووعك كل شيء معظمه وشدته. (أقلني بيعتي) بفتح الهمزة وكسر القاف وسكون اللام أي اصفح عني، وافسخ بيعتي لك، وأعد لي ما كان لي قبل البيعة، والظاهر أنه سأل الإقالة من الإسلام، كذا قال القاضي عياض وقال غيره: إنما استقاله من الهجرة، وإلا لقتله على الردة. (وينصع طيبها) "ينصع" بفتح الياء والصاد بينهما نون ساكنة، أي يصفو ويخلص ويتميز، والناصع الصافي الخالص، ومنه قولهم: ناصع البياض، أي صافيه وخالصه،

والمعنى أنه يخرج من المدينة من لم يخلص إيمانه، ويبقى فيها من خلص إيمانه. و"طيبها" بفتح الطاء وتشديد الياء المكسورة. (بدهم أو بسوء) يقال: فعل به ما أدهمه، أي ساءه، ودهمك كسمع ومنع، أي غشيك، والدهم الغائلة والأمر العظيم. (ليتركنها أهلها على خير ما كانت) في الرواية الثانية والأربعين "يتركون المدينة على خير ما كانت" أي على أحسن حال كانت عليه من قبل. (مذللة للعوافي) أي مسخرة خاضعة لعوافي الطير والسباع، والعوافي جمع عافية وهي التي تطلب أقواتها. قال النووي: الظاهر المختار أن هذا الترك للمدينة يكون في آخر الزمان، عند قيام الساعة، وتوضحه قصة الراعيين من مزينة [روايتنا الثانية والأربعون] فإنهما يخران على وجوههما حين تدركهما الساعة، وهما آخر من يحشر، كما ثبت في صحيح البخاري، فهذا هو الظاهر المختار، وقال القاضي عياض: هذا ما جرى في العصر الأول وانقضى، قال: وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم، فقد تركت المدينة على أحسن ما كانت، حين انتقلت الخلافة عنها إلى الشام والعراق، وذلك الوقت أحسن ما كانت للدين والدنيا، أما الدين فلكثرة العلماء وكمالهم، وأما الدنيا فلعمارتها وغرسها واتساع حال أهلها. قال: وذكر الأخباريون عن بعض الفتن التي جرت بالمدينة أنه قد خاف أهلها، حتى رحل عنها أكثر الناس، وبقيت ثمارها أو أكثرها للعوافي، وخلت مدة، ثم تراجع الناس إليها. قال: وحالها اليوم قريب من هذا، وقد خربت أطرافها. هذا كلام القاضي. والله أعلم. (ينعقان بغنمهما، فيجدانها وحشاً) "النعيق" زجر الغنم، يقال: نعق ينعق بكسر العين وفتحها نعيقاً ونعاقاً ونعقانا إذا صاح بالغنم، ومعنى "فيجدانها وحشاً" أي يجدان المدينة ذات وحش، أو يجدان أهلها قد صاروا وحوشاً، أي يجدان المدينة خالية، وهذا معنى "وحشاً" أي ليس بها أحد، والوحش من الأرض الخلاء. قال النووي: الصحيح أن معناه يجدانها ذات وحوش، قال: وقد يكون "وحشاً" بمعنى وحوش، وأصل الوحش كل شيء توحش من الحيوان. وقال النووي: وحكى القاضي عن ابن المرابط أن معناه أن غنمهما تصير وحوشاً، إما تنقلب ذاتها فتصير وحوشاً، وإما أن تتوحش وتنفر من أصواتها. وأنكر القاضي هذا، واختار أن الضمير في "يجدانها" عائد إلى المدينة، لا إلى الغنم. وهذا هو الصواب وقول ابن المرابط غلط. اهـ -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الأحاديث]- 1 - استدل بعضهم بهذه الأحاديث عامة، وبالرواية الثانية والثلاثين خاصة على أن المدينة أفضل البلاد. قال المهلب: لأن المدينة هي التي أدخلت مكة وغيرها من القرى في الإسلام، فصار

الجميع في صحائف أهلها، ولأنها تنفي الخبث. وأجيب عن الأول بأن أهل المدينة الذين فتحوا مكة معظمهم من أهل مكة، فالفضل ثابت للفريقين، ولا يلزم من ذلك تفضيل إحدى البقعتين، قال ابن حزم: لو فتحت بلد، فثبت بذلك الفضل للأول للزم أن تكون البصرة أفضل من خراسان وسجستان وغيرها مما فتح من جهة البصرة، وليس كذلك. وعن الثاني بأن ذلك إنما هو خاص ببعض الناس، وخاص ببعض الزمان، بدليل قوله تعالى {ومن أهل المدينة مردوا على النفاق} [التوبة: 101]. والمنافق خبيث ولا شك، ولم تنفه المدينة، وخرج منها كثير من أفاضل الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم خرج منها علي وطلحة وأبو عبيدة وابن مسعود والزبير وعمار. فدل ذلك على أن المراد بالحديث تخصيص ناس دون ناس، ووقت دون وقت. 2 - وفي هذه الأحاديث عامة، ومن الروايات الخاصة بمن يصبر على لأوائها، والروايتين التاسعة والثلاثين والمتممة للأربعين خاصة دلالات ظاهرة على فضل سكنى المدينة، قال النووي: وأن هذا الفضل باق مستمر إلى يوم القيامة، وقد اختلف العلماء في المجاورة بمكة والمدينة، فقال أبو حنيفة وطائفة: تكره المجاورة بمكة، وقال أحمد وطائفة: لا تكره المجاورة بمكة، بل تستحب، وإنما كرهها من كرهها لأمور. منها: خوف الملل، وقلة الحرمة للأنس، وخوف ملابسة الذنوب، فإن الذنب فيها أقبح منه في غيرها، كما أن الحسنة فيها أعظم منها في غيرها، واحتج من استحبها بما يحصل فيها من الطاعات التي لا تحصل في غيرها، وتضعيف الصلوات والحسنات وغير ذلك. قال: والمختار أن المجاورة بهما جميعاً مستحبة، إلا أن يغلب على ظنه الوقوع في المحذورات المذكورة وغيرها، وقد جاورتهما خلائق لا يحصون من سلف الأمة وخلفها، ممن يقتدى بهم، وينبغي للمجاور الاحتراز من المحذورات وأسبابها. اهـ 3 - وفي هذه الأحاديث حجة ظاهرة للشافعي ومالك وموافقيهما في تحريم صيد المدينة وشجرها، وأباح ذلك أبو حنيفة، واحتج له بحديث "يا أبا عمير. ما فعل النغير"؟ قال النووي: وأجاب أصحابنا بجوابين. أحدهما: أنه يحتمل أن حديث النغير كان قبل تحريم المدينة. والثاني: يحتمل أنه صاده من الحل، لا من حرم المدينة. وهذا الجواب لا يلزمهم على أصولهم، لأن مذهب الحنيفية أن صيد الحل إذا أدخله الحلال إلى الحرم ثبت له حكم الحرم، ولكن أصلهم هذا ضعيف، فيرد عليهم بدليله، والمشهور من مذهب مالك والشافعي والجمهور أنه لا ضمان في صيد المدينة وشجرها، بل هو حرام بلا ضمان، وقال ابن أبي ذئب وابن أبي ليلى: يجب فيه الجزاء، كحرم مكة، وبه قال بعض المالكية، وللشافعي قول قديم أنه يسلب القاتل، لحديث سعد بن أبي وقاص [روايتنا السابعة] قال القاضي عياض: لم يقل بهذا القول أحد بعد الصحابة إلا الشافعي في القديم، وخالفه أئمة الأمصار. قال النووي: ولا تضر مخالفتهم إذا كانت السنة معه، وهذا القول القديم هو المختار، لثبوت الحديث فيه، وعمل الصحابة على وفقه. 4 - ومن الرواية الثالثة عشرة والرابعة عشرة، من قوله "من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً" يستفاد

الوعيد الشديد لمن فعل ذلك، قال القاضي: واستدلوا بهذا على أن الحدث في المدينة من الكبائر، لأن اللعنة لا تكون إلا في كبيرة. 5 - وفيها أن المحدث والمؤوي للمحدث في الإثم سواء. 6 - وجواز لعن أهل المعاصي والفساد، لكن لا دلالة فيه على لعن الفاسق المعين. 7 - ومن الرواية الثالثة عشرة من تصريح علي رضي الله عنه إبطال ما زعمه الرافضة والشيعة ويخترعونه من قولهم: إن علياً رضي الله عنه أوصى إليه النبي صلى الله عليه وسلم بأمور كثيرة من أسرار العلم، وقواعد الدين، وكنوز الشريعة، وأنه صلى الله عليه وسلم خص أهل البيت بما لم يطلع عليه غيرهم. قال النووي: وهذه دعاوى باطلة، واختراعات فاسدة، لا أصل لها، ويكفي في إبطالها قول علي رضي الله عنه هذا. اهـ وقد بينت بعض الروايات سبب هذا الزعم، فقالت: كان علي رضي الله عنه يأمر بالأمر، فيقال: قد فعلناه، فيقول: صدق الله ورسوله، فقال له بعضهم: هذا الذي تقول. أهو شيء عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة دون الناس؟ فذكر الحديث. 8 - وفيه الحرص على كتابة العلم. قال الحافظ ابن حجر: استقر الأمر وانعقد الإجماع على جواز كتابة العلم، بل على استحبابه، بل لا يبعد وجوبه على من خشي النسيان، ممن يتعين عليه تبليغ العلم. 9 - وتغليظ تحريم انتماء الإنسان إلى غير أبيه، أو انتماء العتيق إلى غير مواليه. 10 - ومن الرواية السابعة عشرة والثامنة عشرة حرص الصحابة على دعاء النبي صلى الله عليه وسلم للثمر الجديد. 11 - وما كان عليه صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق، وكمال الشفقة والرحمة وملاطفة الكبار والصغار. 12 - ومن قوله "إلا لعلف" في الرواية التاسعة عشرة جواز أخذ أوراق الشجر للعلف. قال النووي: وهو المراد هنا، بخلاف خبط الأغصان، فإنه حرام. 13 - ومن حراسة المدينة زيادة في الكرامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. 14 - استدل بعضهم بقول عائشة في الرواية الرابعة والعشرين "قدمنا المدينة وهي وبيئة" على جواز دخول البلد الموبوءة. قال النووي: فإن قيل: كيف قدموا على الوباء؟ وفي الحديث الآخر الصحيح النهي عن القدوم عليه؟ فالجواب من وجهين، ذكرهما القاضي. أحدهما: أن هذا القدوم كان قبل النهي، لأن النهي كان في المدينة بعد استيطانها. والثاني: أن المنهي عنه هو القدوم على الوباء الذريع والطاعون، وأما هذا الذي كان في المدينة فإنما كان وخماً يمرض بسببه كثير من الغرباء. 15 - وفيه من دعائه صلى الله عليه وسلم لتحويل الحمى إلى الجحفة دليل للدعاء على الكفار بالأمراض والأسقام والهلاك. 16 - وفيه الدعاء للمسلمين بالصحة وطيب بلادهم، والبركة فيها، وكشف الضر والشدائد عنهم قال

النووي: وهذا مذهب العلماء كافة. قال القاضي: وهذا خلاف قول بعض المتصوفة: إن الدعاء قدح في التوكل والرضا، وأنه ينبغي تركه، وخلاف قول المعتزلة إنه لا فائدة في الدعاء مع سبق القدر، ومذهب العلماء كافة أن الدعاء عبادة مستقلة، ولا يستجاب منه إلا ما سبق به القدر. 17 - قال النووي: وفيه علم من أعلام النبوة، فإن الجحفة من يومئذ مجتنبة، ولا يشرب أحد من مائها إلا حم. اهـ 18 - ومن الرواية التاسعة والعشرين حماية المدينة من الطاعون والدجال. 19 - ومن الرواية الثانية والثلاثين كراهة تسمية المدينة يثرب. قال النووي: وقد جاء في مسند أحمد حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في كراهة تسميتها "يثرب" وحكي عن عيسى بن دينار أنه قال: من سماها "يثرب" كتبت عليه خطيئة. اهـ وأما تسميتها يثرب في القرآن فإنما هو حكاية عن قول المنافقين والذين في قلوبهم مرض. 20 - ومن الرواية الثالثة والثلاثين أنه لا يجوز لمن أسلم أن يترك الإسلام، ولا لمن هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم للمقام عنده أن يترك الهجرة ويذهب إلى وطنه أو غيره. 21 - ومن الروايتين التاسعة والثلاثين والمتممة للأربعين معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه أخبر بفتح هذه الأقاليم وأن يتحملوا بأهليهم إليها. وأن هذه الأقاليم تفتح على هذا الترتيب. قال النووي: ووجد جميع ذلك بحمد الله وفضله. 22 - ومن قوله "والمدينة خير لهم" فضل المدينة على البلاد المذكورة، وهو أمر مجمع عليه، ولم يختلف العلماء في ذلك وإنما اختلفوا في الأفضلية بينها وبين مكة. والله أعلم

(359) باب ما بين بيته ومنبره صلى الله عليه وسلم

(359) باب ما بين بيته ومنبره صلى الله عليه وسلم 2982 - عن عبد الله بن زيد المازني رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة". 2983 - عن عبد الله بن زيد الأنصاري رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما بين منبري وبيتي روضة من رياض الجنة". 2984 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على حوضي". -[المعنى العام]- إن المكان ظرف، وإن الزمان ظرف، والظرف يشرف بشرف المظروف فيه، ويعظم بعظم ما يشغله وما يقع فيه، وقد حظيت الروضة الشريفة -ما بين بيت عائشة رضي الله عنها وبين منبره صلى الله عليه وسلم- بما لم تحظ به بقعة على وجه الأرض، منذ بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده بالمدينة المنورة وإلى أن لحق بالرفيق الأعلى، لقد شغلت بصلاته صلى الله عليه وسلم وصلاة صحابته السابقين، وفيها كانت عظاته وتشريعاته ودروس العلم، وفيها نزل جبريل عليه السلام أكثر ما نزل، وفي طرفها المنبر الذي شرف وسعد بارتقائه صلى الله عليه وسلم في خطبه، وفي طرفها الآخر البيت الذي يحبه ويحب من فيه أكثر من غيره، والذي ضم جسده الشريف بعد وفاته، فهل هناك من يسامي هذا المكان منزلة وشرفاً؟ ولقد زاده صلى الله عليه وسلم تشريفاً وتعظيماً بأن خلع عليه أنه روضة من رياض الجنة، وأنه يلامس حوضه صلى الله عليه وسلم في الآخرة، حين يكون منبره هذا هو منبره على حوضه، يدعو فيه أمته لتشرب من حوضه شربة لا يظمأ شاربها أبداً. فاللهم اجعل لنا نصيباً منه. آمين.

-[المباحث العربية]- (ما بين بيتي ومنبري) قال الطبري: في المراد ببيتي هنا قولان. أحدهما القبر، قاله زيد بن أسلم، كما روي مفسراً "بين قبري ومنبري" وروي "ما بين حجرتي ومنبري" قال الطبري: والقولان متفقان، لأن قبره في حجرته، وهي بيته. اهـ قال الحافظ ابن حجر: كذا للأكثر "ما بين بيتي ومنبري" ووقع في رواية ابن عساكر وحده "قبري" بدل "بيتي" وهو خطأ. نعم وقع في حديث سعد بن أبي وقاص عند البزار بسند رجاله ثقات، وعند الطبراني من حديث ابن عمر بلفظ القبر، فعلى هذا المراد بالبيت في قوله "بيتي" أحد بيوته، لا كلها، وهو بيت عائشة الذي صار فيه قبره، وقد ورد الحديث بلفظ "ما بين المنبر وبيت عائشة ... " أخرجه الطبراني في الأوسط. ونقل عن بعضهم أن المسافة بين المنبر والبيت الذي فيه القبر الآن ثلاثة وخمسون ذراعاً، وقيل: أربعة وخمسون وسدس، وقيل: خمسون إلا ثلثي ذراع، قال الحافظ ابن حجر: وهو الآن كذلك، فكأنه نقص، لما أدخل من الحجرة في الجدار. (روضة من رياض الجنة) قال الحافظ ابن حجر: أي كروضة من رياض الجنة في نزول الرحمة، وحصول السعادة، بما يحصل من ملازمة حلق الذكر، لا سيما في عهده صلى الله عليه وسلم، فيكون تشبيهاً بغير أداة. أو المعنى أن العبادة فيها تؤدي إلى الجنة، فيكون مجازًا [مرسلًا بذكر المسبب وإرادة السبب] أو هو على ظاهره، وأن المراد أنه روضة حقيقية، بأن ينتقل ذلك الموضع بعينه في الآخرة إلى الجنة. قال الحافظ: هذا محصل ما أوله العلماء في هذا الحديث، وهي على ترتيبها هذا في القوة. (ومنبري على حوضي) قال الحافظ ابن حجر: أي ينتقل يوم القيامة، فينصب على الحوض، وقال الأكثر: المراد منبره بعينه الذي قال هذه المقالة وهو فوقه، وقيل: المراد المنبر الذي يوضع له يوم القيامة، والأول أظهر، [لارتباطه بالمنبر السابق] وقيل: معناه أن قصد منبره، والحضور عنده، لملازمة الأعمال الصالحة يورد صاحبه إلى الحوض، ويقتضي شربه منه. والله أعلم. -[فقه الحديث]- في الحديث فضل هذه البقعة على أي وجه من أوجه التأويلات السابقة، لكن هل يدل ذلك على أن المدينة أفضل من مكة، على أساس أن ما قرب من الأفضل أفضل؟ قيل ذلك، وفيه نظر، لأن ما قرب من الأفضل لا يلزم أن يكون أفضل مما بعد، وإلا لكانت الجحفة مثلاً أفضل من مكة، ولا قائل به. والله أعلم

(360) باب فضل جبل أحد

(360) باب فضل جبل أحد 2985 - عن أبي حميد رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وساق الحديث وفيه "ثم أقبلنا حتى قدمنا وادي القرى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني مسرع، فمن شاء منكم فليسرع معي، ومن شاء فليمكث، فخرجنا حتى أشرفنا على المدينة، فقال: هذه طابة، وهذا أحد، وهو جبل يحبنا ونحبه". 2986 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أحداً جبل يحبنا ونحبه". 2987 - وفي رواية عن أنس رضي الله عنه، قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد فقال "إن أحداً جبل يحبنا ونحبه". -[المعنى العام]- لا شك أن المدينة من خير البلاد، ومشاهدها ذات تأثير كبير في نفوس المسلمين، لأنها تذكرهم بأيام الله التي بها انتشر الإسلام، حلوها ومرها، انتصاراتها وهزيمتها، وابتلاء المسلمين بالخير والشر، لقد كان جبل أحد مكاناً لمعركة قاسية بين المسلمين ومشركي قريش، وكان بها درس بليغ للمسلمين، وكان لهذا الجبل فضل النصرة في أول المعركة، وفضل حماية المسلمين في شعابه حين الهزيمة، وهو الجبل الذي يحتضن مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ويحميها من الأعداء كحصن طبيعي، من هنا كان الحب متبادلاً بين هذا الجبل وبين ساكني المدينة وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. -[المباحث العربية]- (أحد) بضم الهمزة جبل معروف. كان بينه وبين المدينة أقل من فرسخ، واتصلت به مبانيها في هذه الأيام. (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك) وهي غزوة العسرة، وكانت في شهر رجب من سنة تسع قبل حجة الوداع، و"تبوك" مكان معروف على نصف طريق المدينة إلى دمشق.

(ثم أقبلنا) أي ثم رجعنا من الغزوة. (وهو جبل يحبنا ونحبه) سبق الكلام على المراد منه في باب فضل المدينة، الرواية الثامنة. وكانت عن أنس رضي الله عنه يحكي عن عودتهم من خيبر كروايتنا الثانية هنا، وهذه عن أبي حميد، يحكي عن عودتهم من غزوة تبوك، ويجمع بينهما بتكرار هذا القول. -[فقه الحديث]- في الحديث فضل جبل أحد، وقد يؤخذ منه فضل المدينة، وفيه نظر تقدم في الحديث السابق. والله أعلم

(361) باب فضل المساجد الثلاثة، ومسجد قباء

(361) باب فضل المساجد الثلاثة، ومسجد قباء 2988 - عن أبي هريرة رضي الله عنه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم. قال "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام". 2989 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صلاة في مسجدي هذا، خير من ألف صلاة في غيره من المساجد، إلا المسجد الحرام". 2990 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: صلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء. وإن مسجده آخر المساجد. قال أبو سلمة وأبو عبد الله: لم نشك أن أبا هريرة كان يقول عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمنعنا ذلك أن نستثبت أبا هريرة عن ذلك الحديث. حتى إذا توفي أبو هريرة، تذاكرنا ذلك وتلاومنا أن لا نكون كلمنا أبا هريرة في ذلك حتى يسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. إن كان سمعه منه. فبينا نحن على ذلك، جالسنا عبد الله بن إبراهيم بن قارظ. فذكرنا ذلك الحديث. والذي فرطنا فيه من نص أبي هريرة عنه. فقال لنا عبد الله بن إبراهيم: أشهد أني سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فإني آخر الأنبياء، وإن مسجدي آخر المساجد". 2991 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة (أو كألف صلاة) فيما سواه من المساجد، إلا أن يكون المسجد الحرام".

2992 - عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "صلاة في مسجدي هذا، أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام". 2993 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن امرأة اشتكت شكوى. فقالت: إن شفاني الله لأخرجن فلأصلين في بيت المقدس. فبرأت. ثم تجهزت تريد الخروج. فجاءت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تسلم عليها. فأخبرتها ذلك. فقالت: اجلسي فكلي ما صنعت. وصلي في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم. فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا مسجد الكعبة". 2994 - عن أبي هريرة رضي الله عنه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام ومسجد الأقصى". 2995 - وفي رواية عن الزهري بهذا الإسناد مثله غير أنه قال "تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد". 2996 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد: مسجد الكعبة، ومسجدي، ومسجد إيلياء". 2997 - عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: مر بي عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري. قال: قلت له كيف سمعت أباك يذكر في المسجد الذي أسس على التقوى؟ قال:

قال أبي: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت بعض نسائه. فقلت: يا رسول الله! أي المسجدين الذي أسس على التقوى؟ قال: فأخذ كفا من حصباء فضرب به الأرض. ثم قال: "هو مسجدكم هذا" (لمسجد المدينة) قال فقلت: أشهد أني سمعت أباك هكذا يذكره. 2998 - عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور قباء، راكباً وماشياً. 2999 - عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء، راكباً وماشياً. فيصلي فيه ركعتين. 3000 - عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء، راكباً وماشياً. 3001 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء، راكباً وماشياً. 3002 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي قباء راكباً وماشياً. 3003 - عن عبد الله بن دينار: أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يأتي قباء كل سبت. وكان يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأتيه كل سبت. 3004 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء، يعني كل سبت، كان يأتيه راكباً وماشياً. قال ابن دينار: وكان ابن عمر يفعله.

3005 - وفي رواية عن عبد الله بن دينار بمثله. ولم يذكر "كل سبت". -[المعنى العام]- الأزمنة والأمكنة ظروف تشرف بشرف ما يقع فيها من أعمال، ولما كانت الطاعات أفضل الأعمال، وكانت أفضل الطاعات الصلاة كان المكان والزمان الذي تفضل الصلاة فيه غيره من الأمكنة والأزمنة أفضل من غيره. وفي مكة أول بيت وضع للناس للعبادة، ومكة أحب بلاد الله إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنالت ونال المسجد الحرام بها فضلاً من الله وتكريماً، ونالت الصلاة في المسجد الحرام ثواباً وأجراً كبيراً، سواء قدرت بما يقرب من ألف صلاة في غيره، أو قدرت بمائة ألف صلاة في غيره، أما مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقد صرحت هذه الأحاديث بأن الصلاة فيه تفضل ألف صلاة في غيره إلا المسجد الحرام. أما المسجد الأقصى بالشام فله الفضيلة الثالثة بعد هذين المسجدين، وقد ورد أن الصلاة فيه بخمسمائة صلاة، وأما مسجد قباء، وهو أول مسجد بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب هجرته وفي طريقه إلى المدينة، وهو مسجد أسس على التقوى من أول يوم، وفيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين، فله فضل كبير، وللصلاة فيه فضيلة يمكن أن تكون رابع فضيلة بعد المساجد الثلاثة وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزور هذا المسجد كل سبت من كل أسبوع مدة وجوده بالمدينة صلى الله عليه وسلم، وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حرص الصحابة على الاقتداء به، فكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يأتي مسجد قباء كل سبت فيصلي فيه. -[المباحث العربية]- (صلاة في مسجدي هذا) تنكير "صلاة" ظاهره ما يعم الفريضة والنافلة، وسيأتي الخلاف فيه في فقه الحديث. والإضافة في "مسجدي" للتشريف، والمراد مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة. والإشارة للتأكيد، وقيل: لتأكيد البقعة التي كان عليها المسجد آنذاك، فلا يدخل ما زيد عليه. (أفضل من ألف صلاة فيما سواه) في الرواية الثانية "خير من ألف صلاة في غيره من المساجد" وفي الرواية الرابعة "خير من ألف صلاة -أو كألف صلاة- فيما سواه من المساجد" قال العلماء. هذا فيما يرجع إلى الثواب، فثواب صلاة فيه يزيد على ثواب ألف صلاة فيما سواه، ولا يتعدى ذلك إلى الإجزاء عن الفوائت، حتى لو كان عليه صلاتان، فصلى في مسجد المدينة صلاة لم تجزئه عنهما. قال النووي: وهذا لا خلاف فيه. (إلا المسجد الحرام) قال ابن بطال: يجوز في هذا الاستثناء أن يكون المراد فإنه مساو لمسجد المدينة، أو فاضلاً، أو مفضولاً. والأول أرجح، لأنه لو كان فاضلاً أو مفضولاً لم يعلم مقدار ذلك

إلا بدليل، بخلاف المساواة. اهـ قال الحافظ ابن حجر: كأنه لم يقف على دليل فضل المسجد الحرام، وقد أخرجه أحمد وصححه ابن حبان، ولفظه "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا" ولفظه في رواية ابن حبان "وصلاة في ذلك أفضل من مائة صلاة في مسجد المدينة" وفي ابن ماجه من حديث جابر "صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه" وفي بعض النسخ "أفضل من مائة صلاة فيما سواه" فعلى الأول معناه فيما سواه إلا مسجد المدينة، وعلى الثاني معناه من مائة صلاة في مسجد المدينة. قال الحافظ: ورجاله ثقات. قال: وروى البزار والطبراني من حديث أبي الدرداء رفعه "الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة" قال البزار: إسناده حسن. قال الحافظ: فوضح بذلك أن المراد بالاستثناء تفضيل المسجد الحرام. وهذا يرد تأويلات: منها تأويل عبد الله بن نافع وغيره إذ قال معناه "إلا المسجد الحرام" فإن الصلاة في مسجدي أفضل من الصلاة فيه بدون ألف صلاة، فيلتزم أن تكون الصلاة في مسجد المدينة أفضل من الصلاة في مسجد مكة بتسعمائة وتسع وتسعين صلاة. قال ابن عبد البر: وحسبك ضعفاً بقول يؤول إلى هذا. ومنها ما زعمه بعض الشافعية من أن الصلاة في مسجد المدينة أفضل من الصلاة في مسجد مكة، بمائة صلاة، محتجاً برواية عن عمر "صلاة في المسجد الحرام خير من مائة صلاة فيما سواه" قال الحافظ: وتعقب بأن المحفوظ في ذاك الإسناد بلفظ "صلاة في المسجد الحرام أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا مسجد الرسول، فإنما فضله عليه بمائة صلاة". (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) سبق الكلام عليه لغوياً وفقها في باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره. (ومسجد إيلياء) أي المسجد الأقصى. قال الحافظ ابن حجر: ولبيت المقدس عدة أسماء، تقرب من العشرين، منها: إيلياء. بالمد والقصر، وبحذف الياء الأولى، وبيت المقدس بسكون القاف، وبفتحها مع تشديد الدال، والقدس، بغير ميم مع ضم القاف وسكون الدال أيضاً. مع ضم القاف والدال وذكر أسماء أخرى. (فأخذ كفاً من حصباء فضرب به الأرض، ثم قال: هو مسجدكم هذا) قال النووي: أخذه صلى الله عليه وسلم الحصباء وضربه في الأرض المراد به المبالغة في الإيضاح، لبيان أنه مسجد المدينة. قال: والحصباء بالمد الحصى الصغار. (كان يزور قباء راكباً وماشياً) في الرواية الحادية عشرة "كان يأتي مسجد قباء راكباً وماشياً" وفي الرواية الرابعة عشرة والخامسة عشرة "كان يأتي قباء كل سبت" "وقباء" بضم القاف وتخفيف الباء ممدود عند أكثر أهل اللغة، وأنكر بعضهم قصره، لكن حكاه بعضهم، ومن العرب من

يذكره، فيصرفه، ومنهم من يؤنثه، فيمنعه من الصرف، وهو من عوالي المدينة، على ميلين أو ثلاثة أميال منها، على يسار قاصد مكة، وسمى المكان باسم بئر هناك، والمسجد المضاف إليها هو مسجد بني عمرو بن عوف، وهو أول مسجد أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنى "راكباً وماشياً" أي بحسب ما تيسر له، والواو بمعنى أو. -[فقه الحديث]- قال النووي: اختلف العلماء في تفضيل المسجد الحرام على حسب اختلافهم في مكة والمدينة، أيهما أفضل؟ ومذهب الشافعي وجماهير العلماء: أن مكة أفضل من المدينة، وأن مسجد مكة أفضل من مسجد المدينة، وعكسه مالك وطائفة، فالحديث عند الشافعي معناه "إلا المسجد الحرام" فإن الصلاة فيه أفضل من الصلاة في مسجدي، وعند مالك وموافقيه "إلا المسجد الحرام" فإن الصلاة في مسجدي تفضله بدون الألف. قال القاضي عياض: أجمعوا على أن موضع قبره صلى الله عليه وسلم أفضل بقاع الأرض، وأن مكة والمدينة أفضل بقاع الأرض، واختلفوا في أفضلهما -ماعدا موضع قبره صلى الله عليه وسلم، فقال عمر وبعض الصحابة ومالك وأكثر المدنيين: المدينة أفضل، وقال أهل مكة والكوفة والشافعي وبعض المالكية: مكة أفضل. قال النووي: ومما احتج به الشافعية لتفضيل مكة حديث عبد الله بن عوي بن الحمراء رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف على راحلة بمكة يقول: "والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت" رواه الترمذي والنسائي، وقال الترمذي: هو حديث حسن صحيح، وعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي" حديث حسن، رواه أحمد في مسنده والبيهقي وغيرهما بإسناد حسن. اهـ واستدل المالكية بقوله صلى الله عليه وسلم "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة" مع قوله "موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها". واستدل بالروايات الست الأوليات على تضعيف الصلاة مطلقاً في المسجدين. قال النووي: ومذهبنا أنه لا يختص هذا التفضيل بالصلاة الفريضة، بل يعم الفرض والنفل جميعاً، وبه قال مطرف من أصحاب مالك، وقال الطحاوي: يختص بالفرض. قال النووي: وهذا مخالف لإطلاق هذه الأحاديث الصحيحة. اهـ وقد استدل الطحاوي بحديث "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" قال الحافظ ابن حجر: ويمكن أن يقال: لا مانع من إبقاء الحديث على عمومه -أي بما يشمل الفرض والنفل- فتكون صلاة النافلة في بيت بالمدينة أو مكة تضاعف على صلاتها في البيت في غيرهما، وكذا في المسجدين، وإن كانت في البيوت أفضل مطلقاً. اهـ

قال النووي: قال العلماء: وهذا التضعيف إنما هو فيما يرجع إلى الثواب، فثواب صلاة فيه يزيد على ثواب ألف فيما سواه، ولا يتعدى ذلك إلى الإجزاء عن الفوائت، حتى لو كان عليه صلاتان، فصلى في مسجد المدينة صلاة لم تجزئه عنهما، وهذا لا خلاف فيه. اهـ ووافقه الحافظ ابن حجر، ونقل اتفاق العلماء عليه، لكنه قال: وقد أوهم كلام المقري أبي بكر النقاش في تفسيره خلاف ذلك، فإنه قال فيه: حسبت الصلاة بالمسجد الحرام، فبلغت صلاة واحدة بالمسجد الحرام عمر خمس وخمسين سنة وستة أشهر وعشرين ليلة. اهـ ثم قال الحافظ: وهذا التضعيف مع قطع النظر عن التضعيف بالجماعة، فإنها تزيد سبعاً وعشرين درجة، لكن يجتمع التضعيفان؟ أو لا؟ محل بحث. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - من قوله "في مسجدي هذا" أخذ النووي أن هذه الفضيلة مختصة بنفس مسجده صلى الله عليه وسلم الذي كان في زمنه، دون ما زيد فيه بعده، قال: فينبغي أن يحرص المصلي على ذلك، ويتفطن لما ذكرته. قال الحافظ: بخلاف مسجد مكة، فإنه يشمل جميع مكة، بل صحح النووي أنه يعم جميع الحرم. 2 - ويؤخذ من الرواية الثالثة مدى حرص التابعين على التثبت من الأحاديث المرفوعة وغير المرفوعة. 3 - ومن الرواية السادسة قال النووي: دلالة الحديث على ما استدلت به ميمونة -رضي الله عنها- ظاهرة، وهذا حجة لأصح الأقوال في مذهبنا في هذه المسألة، فإنه إذا نذر صلاة في مسجد المدينة أو الأقصى. هل تتعين؟ فيه قولان. الأصح تتعين، فلا تجزئه تلك الصلاة في غيره، والثاني لا تتعين، بل تجزئه تلك الصلاة حيث صلى، فإذا قلنا: تتعين، فنذرها في أحد هذين المسجدين، ثم أراد أن يصليها في الآخر ففيه ثلاثة أقوال أحدها يجوز، والثاني لا يجوز، والثالث وهو الأصح إن كان نذرها في الأقصى جاز العدول إلى مسجد المدينة، دون عكسه. والله أعلم. 4 - ومن الروايتين السابعة والثامنة فضيلة هذه المساجد الثلاثة. 5 - وفضيلة شد الرحال إليها، لأن معناه عند الجمهور لا فضيلة في شد الرحال إلى مسجد غيرها. 6 - واستدل بالرواية التاسعة على أن المراد بالمسجد الذي أسس على التقوى في قوله تعالى {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين} [التوبة: 108]. استدل بهذه الرواية على أن المراد بهذا المسجد مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة. لكن الحافظ ابن حجر يقول: الجمهور على أن المراد به مسجد قباء، وهو ظاهر الآية. قال الحافظ: والحق أن كلاً منهما أسس على التقوى، وقوله تعالى في بقية الآية {فيه رجال يحبون أن يتطهروا} يؤيد كون المراد مسجد قباء، وعند أبي داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: نزلت {فيه رجال يحبون أن يتطهروا} في أهل قباء. وعلى هذا فالسر

في جوابه صلى الله عليه وسلم بأن المسجد الذي أسس على تقوى مسجده رفع توهم أن ذلك خاص بمسجد قباء، والله أعلم. 7 - قال الحافظ: وفي حديث قباء على اختلاف الطرق دلالة على جواز تخصيص بعض الأعمال الصالحة، والمداومة على ذلك. قال النووي: وهذا هو الصواب وقول الجمهور، وكره ابن مسلمة المالكي ذلك. قالوا: لعله لم تبلغه هذه الأحاديث. 8 - وفيه أن النهي عن شد الرحال لغير المساجد الثلاثة ليس على التحريم، لكون النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي مسجد قباء راكباً، وتعقب بأن مجيئه صلى الله عليه وسلم إلى قباء إنما كان لمواصلة الأنصار، وتفقد حالهم وحال من تأخر منهم عن حضور الجماعة معه، وهذا هو السر في تخصيص ذلك بالسبت. اهـ ويمكن أن يقال: إن المراد من النهي عن شد الرحال النهي عن السفر، وهذه المسافة لا يطلق عليها سفر. 9 - وفيه بيان فضل قباء. 10 - وفضل مسجد قباء. 11 - وفضل الصلاة فيه. 12 - وفضيلة زيارته. 13 - وأنه تجوز زيارته ماشياً وراكباً. 14 - وفيه أنه يستحب أن تكون صلاة النفل بالنهار ركعتين، كصلاة الليل. قال النووي: وهو مذهبنا ومذهب الجمهور، وفيه خلاف أبي حنيفة. والله أعلم

كتاب النكاح

كتاب النكاح

النكاح في اللغة: الضم والتداخل. قال الحافظ ابن حجر: وتجوز من قال إنه الضم، وقال الفراء: العرب تقول: نكح المرأة بضم النون وسكون الكاف، ويجوز كسر النون بضعها، وهو كناية عن الفرج، فإذا قالوا: نكحها أرادوا أصاب ناكحها، وهو فرجها، وقلما يقال: ناكحها، كما يقال: باضعها. اهـ وظاهر هذا أن النكاح حقيقة في الوطء، واستعماله في العقد والزواج مجاز، من إطلاق المسبب وإرادة السبب، لأن العقد سبب شرعي للوطء. وقيل: هو حقيقة فيهما وإن كثر استعماله في الوطء. قال ابن فارس والجوهري وغيرهما من أهل اللغة: النكاح الوطء، وقد يكون العقد، يقال نكحتها، ونكحت هي، أي تزوجت، وأنكحته زوجته، وهي ناكح أي ذات زوج، واستنكحها تزوجها. وقيل: هو حقيقة فيهما، تحدد القرينة المراد منهما. قال ابن فارس: والعرب فرقت بينهما فرقاً لطيفاً، فإذا قالوا: نكح فلان بنت فلان، أو أخته، أرادوا عقد عليها، وإذا قالوا: نكح امرأته، أو زوجته لم يريدوا إلا الوطء، لأنه بذكر امرأته أو زوجته يستغنى عن ذكر العقد. وقال بعض أهل اللغة: أصله لزوم شيء لشيء مستعلياً عليه، ويكون في المحسوسات وفي المعاني، قالوا: نكح المطر الأرض، ونكح النعاس عينه، ونكحت القمح في الأرض، ونكحت الحصاة أخفاف الإبل. هذا عن أهل اللغة، أما الفقهاء فالحنفية على أنه حقيقة في الوطء مجاز في العقد. ويؤيدهم قوله تعالى: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة: 230]. فالمراد منه هنا الوطء، لأن العقد لا يكفي باتفاق، لحديث "حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك". وعند الشافعية ثلاثة أقوال. أصحها حقيقة في العقد، مجاز في الوطء، والحجة في ذلك كثرة وروده في الكتاب والسنة للعقد، حتى قيل: إنه لم يرد في القرآن إلا للعقد، حتى قوله تعالى: {حتى تنكح زوجاً غيره} المراد به العقد، ومعناه حتى تتزوج، فالعقد شرط أساسي لا بد منه، أما أنه غير كاف بمجرده فأمر خارجي زائد بينته السنة، وأنه لا بد مع العقد من ذوق العسيلة، كما أنه لا بد من التطليق ثم العدة. القول الثاني عند الشافعية كقول الحنفية، حقيقة في الوطء، مجاز في العقد، القول الثالث أنه حقيقة فيهما، مقول بالاشتراك على كل منهما، وهو الذي رجحه الحافظ ابن حجر. وأما قوله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح} [النساء: 6]. فليس مما نحن فيه، إذ لا يراد به العقد على الحقيقة، ولا يراد به الوطء على الحقيقة، وإنما المراد به الحلم، أي الاحتلام والإنزال. أما أوضاع النكاح في الجاهلية قبل الإسلام فتصورها عائشة رضي الله عنها، إذ تقول: كانت مناكح أهل الجاهلية على أربعة أقسام: أحدها: مناكح الرايات، وهو أن المرأة كانت تنصب على بابها راية، لتعرف أنها عاهرة، فيأتيها الناس.

والثاني: أن الرهط من القبيلة أو الناحية كانوا يجتمعون على وطء امرأة، لا يخالطها غيرهم، فإذا جاءت بولد ألحق بأشبههم. الثالث: نكاح الاستبضاع أو الاستخبار، وهو أن المرأة إذا أرادت أن يكون ولدها كريماً بذلت نفسها لعدة من فحول القبائل، ليكون ولدها كأحدهم. الرابع: النكاح الصحيح في الإسلام. والله أعلم

(362) باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه

(362) باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه 3006 - عن علقمة قال: كنت أمشي مع عبد الله بمنى. فلقيه عثمان. فقام معه يحدثه. فقال له عثمان: يا أبا عبد الرحمن! ألا نزوجك جارية شابة. لعلها تذكرك بعض ما مضى من زمانك. قال فقال عبد الله: لئن قلت ذاك، لقد قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج. فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج. ومن لم يستطع فعليه بالصوم. فإنه له وجاء". 3007 - عن علقمة قال: إني لأمشي مع عبد الله بن مسعود بمنى. إذ لقيه عثمان بن عفان. فقال: هلم! يا أبا عبد الرحمن! قال: فاستخلاه. فلما رأى عبد الله أن ليست له حاجة قال: قال لي: تعال يا علقمة. قال: فجئت. فقال له عثمان: ألا نزوجك، يا أبا عبد الرحمن! جارية بكراً. لعله يرجع إليك من نفسك ما كنت تعهد؟ فقال عبد الله: لئن قلت ذاك. فذكر بمثل الحديث السابق. 3008 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج. فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج. ومن لم يستطع، فعليه بالصوم. فإنه له وجاء". 3009 - عن عبد الرحمن بن يزيد. قال: دخلت أنا وعمي علقمة والأسود، على عبد الله بن مسعود. قال: وأنا شاب يومئذ. فذكر حديثاً رئيت أنه حدث به من أجلي. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. بمثل حديث أبي معاوية السابق وزاد: قال: فلم ألبث حتى تزوجت. 3010 - عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله، قال: دخلنا عليه وأنا أحدث القوم. بمثل السابق. ولم يذكر: "فلم ألبث حتى تزوجت".

3011 - عن أنس رضي الله عنه أن نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر؟ فقال بعضهم: لا أتزوج النساء. وقال بعضهم: لا آكل اللحم. وقال بعضهم: لا أنام على فراش. فحمد الله وأثنى عليه، فقال "ما بال أقوام قالوا كذا وكذا؟ لكني أصلي وأنام. وأصوم وأفطر. وأتزوج النساء. فمن رغب عن سنتي فليس مني". 3012 - عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل. ولو أذن له لاختصينا. 3013 - عن سعد رضي الله عنه قال: رد على عثمان بن مظعون التبتل. ولو أذن له لاختصينا. 3014 - عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: أراد عثمان بن مظعون أن يتبتل. فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولو أجاز له ذلك لاختصينا. -[المعنى العام]- رغب الإسلام في النكاح بقوله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله} [النور: 32]. وحث رسول الله صلى الله عليه وسلم شباب الأمة على الزواج في مواطن كثيرة، وبأحاديث جمة، نعرض لها في فقه الحديث، وأبرزها هذا الحديث الذي يعرض علقمة قصة وظروف رواية ابن مسعود له، فيقول: كنت أمشي في منى أنا وابن مسعود، فقابلنا عثمان بن عفان، فطلب من ابن مسعود أن يختلي به، فأمسك بيده، وكان ابن مسعود قد فقد زوجته، فقال له عثمان: ألا نساعدك في زواجك بشابة صغيرة تعيد لك بعض شبابك؟ وتذكرك بما مضى من نشاطك وحيويتك وشهواتك؟ وأراد ابن مسعود أن يعتذر لعثمان برفق، فبين له أن هذا المطلب يوجه للشباب، وليس لأمثال ابن مسعود من الشيوخ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه للشباب، فقال: يا معشر الشباب من استطاع منكم الزواج فليتزوج، فإن الزواج يساعد على غض البصر، وعلى حصانة الفرج، ومن لم يستطع الزواج فعليه بالصوم، فإن الصوم يساعد على ضعف الشهوة. ويسوق الإمام مسلم حديثا آخر يؤكد استحباب الزواج والحث عليه، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن عزم على التبتل والبعد عن النساء من أجل العبادة: ليس فيما عزمت عليه تقرب إلى الله، فأنا أقرب الناس إلى الله لكني أتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني.

ويسوق الإمام مسلم حديثاً ثالثاً مؤداه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التبتل والخصاء للانقطاع للعبادة لأن من أهداف الإسلام ومقاصده كثرة النسل والترغيب في النكاح، ووضع الشهوات في الإطار الذي حدده الإسلام. -[المباحث العربية]- (كنت أمشي مع عبد الله) أي ابن مسعود، وفي الرواية الثانية "إني لأمشي مع عبد الله بن مسعود". (بمنى) قال الحافظ ابن حجر: كذا وقع في أكثر الروايات، وفي رواية ابن حبان "بالمدينة" وهي شاذة. (فقام معه يحدثه) ليس المراد القيام من قعود أو اضطجاع، فقد كان يمشي، وإنما المراد ناداه، وأخذه معه، وفي الرواية الثانية "فقال: هلم يا أبا عبد الرحمن: فاستخلاه" أي طلب أن يختلى به، هكذا فهم علقمة من نداء عثمان له، وفي رواية البخاري "يا أبا عبد الرحمن إن لي إليك حاجة" قال علقمة "فخليا" قال الحافظ ابن حجر: كذا للأكثر "فخليا" وفي رواية "فخلوا" بالواو المفتوحة وألف الاثنين. قال ابن التين: وهي الصواب، لأنه واوي، يعني من الخلوة، مثل "دعوا" وفي رواية "فلقى عثمان، فأخذ بيده، فقاما -أي أخذاً يمشيان- وتنحيت عنهما". (ألا نزوجك جارية شابة؟ ) لعل عثمان عرض عليه هذا العرض لما رأى عليه من هيئة رثة غير أنيقة، نتيجة لفقد الزوجة التي ترفهه، وفي الرواية الثانية "ألا نزوجك جارية بكراً"؟ وفي رواية البخاري "هل لك في أن نزوجك بكراً"؟ ولعل عثمان ذكر العبارات الثلاث "جارية وشابة وبكراً" فذكر كل راو ما لم يذكر الآخر، والجارية هي البنت أو الفتاة الصغيرة السن. (لعلها تذكرك بعض ما مضى من زمانك؟ ) في الرواية الثانية "لعله يرجع إليك من نفسك ما كنت تعهد"؟ وفي رواية ابن حبان "لعلها أن تذكرك ما فاتك" والمعنى تعيد إليك بعض نشاط الشباب مع الشابات من المداعبة والحركة والإثارة مما ينعش البدن، ويبعث الحيوية في الجسم، وذكر "لعل" لأن هذه النتيجة غالبة وليست بلازمة، وعندما يعود إليه بعض النشاط يتذكر به ما مضى من قوة النشاط. (فقال عبد الله: لئن قلت: ذاك؟ ) أي ذاك الذي طلبتني من أجله؟ لقد حسبت أنك ستسر إلي أمراً يستر عن علقمة، تعال يا علقمة، تعال يا علقمة فاسمع ما يقوله عثمان، وفي الرواية الثانية "فلما رأى عبد الله أن ليست له حاجة قال لي: تعال يا علقمة"، وفي بعض الروايات "فلما رأى عبد الله أن ليست له حاجة يسرها قال: ادن يا علقمة" وفي الرواية الثانية "قال: فجئت، فقال له عثمان: ألا نزوجك .......... فقال عبد الله: لئن قلت ذاك" لقد قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب"

إلخ، فظاهر الرواية الثانية أن قول عثمان لعبد الله: ألا نزوجك .... ؟ إلخ كان بعد عودة علقمة لهما، ويؤكد هذا ما جاء في بعض الروايات بلفظ "فانتهيت إليه، وهو يقول: ألا نزوجك ... "؟ وظاهر الرواية الأولى أن قول عثمان لعبد الله: "ألا نزوجك ... " كان قبل عودة علقمة، وقد جمع الحافظ ابن حجر بين هذين المتعارضين ظاهراً بأنه يحتمل أن يكون عثمان أعاد على ابن مسعود -بعد عودة علقمة- ما كان قد قاله له قبل عودة علقمة، لكونه فهم منه إرادة إعلام علقمة بما كان. (يا معشر الشباب) المعشر هم الطائفة الذين يشملهم وصف، فالشباب معشر، والشيوخ معشر، والعلماء معشر، والنساء معشر، والشباب جمع شاب، ويجمع أيضاً على شببة، وشبان، بضم الشين وتشديد الباء، وذكر الأزهري أنه لم يجمع فاعل على فعلان غيره، وأصله الحركة والنشاط، وهو اسم لمن بلغ إلى أن يكمل ثلاثين سنة، هكذا أطلق الشافعية، وقال القرطبي في المفهم: يقال له: "حدث" بفتح الحاء والدال -إلى ستة عشر- والحداثة سن الشباب- ثم شاب إلى اثنتين وثلاثين، ثم كهل، وكذا ذكر الزمخشري، وقال ابن شاس المالكي: إلى الأربعين، وقال النووي: الأصح المختار أن الشاب من بلغ ولم يجاوز الثلاثين، ثم هو كهل إلى أن يجاوز الأربعين، ثم هو شيخ، وقال الروياني في وظائفه من جاوز الثلاثين سمي شيخاً، زاد ابن قتيبة: إلى أن يبلغ الخمسين. قال أبو إسحق الإسفرايني عن الأصحاب: المرجع في ذلك إلى اللغة، وأما بياض الشعر فيختلف باختلاف الأمزجة. اهـ ووجه الخطاب للشباب لأن الغالب وجود قوة الداعي فيهم إلى النكاح، فهم مظنة شهوة النساء، ولا ينفكون عنها غالباً، بخلاف الشيوخ، وإن كان المعنى معتبراً إذا وجد السبب في الشيوخ والكهول أيضاً. (من استطاع منكم الباءة فليتزوج) قال النووي: "الباءة" فيها أربع لغات، حكاها القاضي عياض: الفصيحة المشهورة بالمد والهاء، الثانية "الباة" بلا مد، والثالثة "الباء" بالمد بلا هاء، والرابعة "الباهة" بهاءين بلا مد، وأصلها في اللغة الجماع، مشتقة من الباءة، وهي المنزل، ومنه مباءة الإبل، وهي مواطنها، ثم قيل لعقد النكاح باءة، لأن من تزوج امرأة بوأها منزلاً. ثم قال: واختلف العلماء في المراد بالباءة هنا على قولين، يرجعان إلى معنى واحد، أصحهما أن المراد معناها اللغوي، وهو الجماع، فتقديره من استطاع منكم الجماع، لقدرته على مؤنه، وهي مؤن النكاح فليتزوج، ومن لم يستطع الجماع، لعجزه عن مؤنه فعليه بالصوم، ليدفع شهوته، ويقطع شر منيه، كما يقطعه الوجاء. والقول الثاني أن المراد هنا بالباءة مؤن النكاح، سميت باسم ما يلازمها، وتقديره: من استطاع منكم مؤن النكاح فليتزوج، ومن لم يستطعها فليصم، ليدفع شهوته. قال: والذي حمل القائلين بهذا على هذا قوله صلى الله عليه وسلم "ومن لم يستطع فعليه بالصوم" قالوا: والعاجز عن الجماع لا يحتاج إلى الصوم لدفع الشهوة، فوجب تأويل الباءة على المؤن. اهـ قال الحافظ ابن حجر: ولا مانع من الحمل على المعنى الأعم -أي معنى الجماع ومؤنة النكاح. ويراد بالباءة القدرة على الوطء ومؤن التزويج، وكأنه يرشد من لا يستطيع الجماع من الشباب

لفرط حياء، أو عدم شهوة، أو عنة مثلاً إلى ما يهيئ له استمرار تلك الحالة، فيكون قسم الشباب إلى قسمين، قسم يتوقون إليه، ولهم اقتدار عليه، فندبهم إلى التزويج، دفعاً للمحذور، خلاف الآخرين، فندبهم إلى أمر تستمر به حالتهم، لأن ذلك أرفق بهم للعلة التي ذكرت. (فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج) أي أشد غضاً للبصر، أي يزيد في غض البصر إلى الأجنبية لما يحدثه إشباع الشهوة في الحلال من عدم الرغبة -كما سيأتي في باب من رأي امرأة فوقعت في نفسه- وأشد إحصاناً للفرج، ومنعاً من الوقوع في الفاحشة، وأفعل التفضيل "أغض، وأحصن" على بابها، فإن التقوى سبب لغض البصر، وتحصين الفرج، وحصول التزويج يزيد الغض والإحصان عما كان عليه بفعل التقوى، ويحتمل أن أفعل التفضيل ليس على بابه، وأن المراد به مجرد الوصف، ليس الزيادة فيه، أي فإنه يغض البصر، ويحصن الفرج. (ومن لم يستطع فعليه بالصوم) قال المازري: فيه إغراء الغائب، وأصول النحويين أن لا يغرى الغائب، وقد تعقبه القاضي عياض بأنه ليس في الحديث إغراء الغائب، بل الخطاب للحاضرين الذين خاطبهم أولاً. (فإنه له وجاء) بكسر الواو، والمد، وأصله الغمز، ومنه وجأه في عنقه إذا غمزه دافعا له، ووجأه بالسيف إذا طعنه به، والوجاء رض الأنثيين، بخلاف الإخصاء، فهو سلهما، وإطلاق الوجاء على الصيام من مجاز المشابهة، بمعنى أن الصوم يقطع الشهوة، ويقطع شر المني، كما يفعل الوجاء. (عن عبد الرحمن بن يزيد قال: دخلت أنا وعمي علقمة والأسود على عبد الله بن مسعود) قال النووي: هكذا هو في جميع النسخ، وهو الصواب، قال القاضي: ووقع في بعض الروايات "أنا وعماي علقمة والأسود" وهو غلط ظاهر، لأن الأسود أخو عبد الرحمن بن يزيد، لا عمه، وعلقمة عمهما جميعاً. (فذكر حديثاً رئيت أنه حدث به من أجلي) قال النووي: هكذا هو في كثير من النسخ، وفي بعضها "رأيت" وهما صحيحان، الأول من الظن، والثاني من العلم. (أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) في رواية البخاري "جاء ثلاثة رهط" ولا منافاة بينهما، فالرهط من ثلاثة إلى عشرة، والنفر من ثلاثة إلى تسعة، وكل منهما اسم جمع، لا واحد له من لفظه. قال الحافظ ابن حجر: ووقع في مرسل سعيد بن المسيب عند عبد الرزاق أن النفر، أو الثلاثة المذكورين هم علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمرو بن العاص وعثمان بن مظعون، وقال: ووقع في "أسباب الواحدي" بغير إسناد "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الناس وخوفهم، فاجتمع عشرة من الصحابة -وهم أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وأبو ذر وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد وسليمان وعبد الله بن عمرو بن العاص، ومعقل بن مقرن- في بيت عثمان بن مظعون، فاتفقوا على أن يصوموا النهار، ويقوموا الليل، ولا يناموا على الفرش، ولا يأكلوا اللحم، ولا يقربوا النساء، ويجبوا مذاكيرهم". قال

الحافظ: فإن كان هذا محفوظاً احتمل أن يكون الرهط الثلاثة هم الذين باشروا السؤال، فنسب ذلك إليهم بخصوصهم تارة، ونسب تارة للجميع، لاشتراكهم في طلبه. قال الحافظ: لكن في عبد الله بن عمرو معهم نظر، لأن عثمان بن مظعون مات قبل أن يهاجر عبد الله فيما أحسب. (فقال بعضهم: لا أتزوج النساء) في رواية البخاري أنهم سألوا أزواجه صلى الله عليه وسلم عن عبادته في بيته "فلما أخبروا كأنهم تقالوها -أي استقلوها، أي رأى كل منهم أنها قليلة- فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال أحدهم: أما أنا فأعتزل النساء فلا أتزوج أبدا". (وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش) في رواية البخاري "فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء" وظاهر هذا زيادة عدد القائلين عن ثلاثة، لأن ترك أكل اللحم أخص من مداومة الصيام، واستغراق الليل بالصلاة أخص من ترك النوم على الفراش، ويمكن التوفيق بشيء من التجوز. (فحمد الله وأثنى عليه) في الكلام حذف، أوضحته عبارة مسلم في بعض الروايات، وفيها "فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه". (ما بال أقوام قالوا: كذا وكذا؟ ) وفي رواية البخاري "فجاء إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ " والتوفيق بينهما أن يقال: إنه صلى الله عليه وسلم منع من مثل هذا القول جهراً وعموماً، مع عدم تعيينهم، ثم وجههم خصوصاً فيما بينه وبينهم، رفقاً بهم، وستراً عليهم. (لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء) في رواية البخاري "أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء". (فمن رغب عن سنتي فليس مني) الرغبة عن الشيء الإعراض عنه إلى غيره، والمراد من السنة الطريقة، وليست التي تقابل الفرض، والمعنى من ترك طريقتي، وأخذ بطريقة غيري فليس مني، وألمح بذلك إلى طريق الرهبانية، فإنهم الذين ابتدعوا التشديد، قال تعالى {ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم} [الحديد: 27]. وقد عابهم بأنهم ما وفوا بما التزموه، قال تعالى {فما رعوها حق رعايتها} وطريقة النبي صلى الله عليه وسلم الحنيفية السمحة، فليفطر ليتقوى على الصوم، وينام ليتقوى على القيام، ويتزوج لكسر الشهوة وإعفاف النفس وتكثير النسل. ومعنى "فليس مني" أن الرغبة إن كانت بضرب من التأويل يعذر صاحبه فيه فمعناها ليس على طريقتي، ولا يلزم من ذلك أنه يخرج عن الملة، وإن كان إعراضاً وتنطعاً يفضي إلى اعتقاد أرجحية عمله فمعناها ليس على ملتي، لأن اعتقاد ذلك نوع من الكفر. (رد علي عثمان بن مظعون التبتل) قال النووي: قال العلماء "التبتل" هو الانقطاع عن النساء، وترك النكاح انقطاعاً إلى عبادة الله، وأصل التبتل القطع، ومنه: مريم البتول، وفاطمة البتول،

لانقطاعهما عن نساء زمانهما، ديناً وفضلاً ورغبة في الآخرة، ومنه: صدقة بتلة، أي منقطعة عن تصرف مالكها، وقال الطبري: التبتل هو ترك لذات الدنيا وشهواتها، والانقطاع إلى الله تعالى بالتفرغ للعبادة، ومعنى "رد عليه التبتل" نهاه عنه، ولم يأذن له، فقد أخرج الطبراني من حديث عثمان بن مظعون نفسه "أنه قال: يا رسول الله، إني رجل يشق علي العزوبة، فأذن لي في الخصاء. قال: لا، ولكن عليك بالصيام" فيحتمل أن الذي طلبه عثمان هو الاختصاء حقيقة، فعبر عنه الراوي بالتبتل، لأنه ينشأ عنه. (ولو أذن له لاختصينا) معناه لو أذن له في الانقطاع عن النساء والتبتل لكان مأذوناً لنا فيه أيضاً وتبتلنا، وعبر عن التبتل بالاختصاء لإرادة المبالغة، أي لبالغنا في التبتل حتى يفضي بنا الأمر إلى الاختصاء. وفي الرواية التاسعة: ولو أجاز له ذلك لاختصينا" والخصية بضم الخاء وكسرها البيضة، وللذكر من أعضاء تناسله خصيتان، وسل البيضتين من جلدهما هو الخصي ويكون في الإنسان والحيوان، والخصي يجتث الشهوة الجنسية. -[فقه الحديث]- في هذه الأحاديث الحث على النكاح والترغيب فيه، وهناك أحاديث كثيرة في هذا المعنى، وإن كان بعضها ضعيف الإسناد، نوردها لما فيها من المعنى الوارد المشروع وننبه على ما فيها. 1 - في مسند أحمد وصحيح البخاري عن سعيد بن جبير قال: قال لي ابن عباس: هل تزوجت؟ قلت: لا. قال: تزوج، فإن خير هذه الأمة أكثرها نساء. 2 - وفي سنن الترمذي وابن ماجه عن قتادة عن الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التبتل، وقرأ قتادة {ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية} [الرعد: 38]. قال الترمذي: حديث حسن غريب. 3 - وفي مسند الفردوس عن ابن عمر مرفوعاً "حجوا تستغنوا، وسافروا تصحوا، وتناكحوا تكثروا فإني أباهي بكم الأمم" وفي إسناده ضعف. ورواه البيهقي عن الشافعي، وزاد في آخره "حتى بالسقط". 4 - ورواه البيهقي عن أبي أمامة بلفظ "تزوجوا، فإني مكاثر بكم الأمم، ولا تكونوا كرهبانية النصارى" وفي إسناده ضعف. 5 - وعند الدارقطني في المؤتلف، وابن قانع في الصحابة عن حرملة بن النعمان بلفظ "امرأة ولود أحب إلى الله من امرأة حسناء لا تلد، إني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة" وقد ضعف إسناده ابن حجر، لكنه قال: حديث "إني مكاثر بكم الأمم" صح من حديث أنس، وورد من حديث أبي أمامة والصنابحي.

6 - وعند ابن ماجه عن عائشة -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "النكاح من سنتي، فمن لم يعمل بسنتي فليس مني، وتزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم، ومن كان ذا طول فلينكح، ومن لم يجد فعليه بالصوم، فإن الصوم له وجاء". 7 - وفي مسلم عن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم "الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة". 8 - وعند النسائي والطبراني بإسناد حسن عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم "حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة". 9 - وعند الترمذي والدارقطني والحاكم عن أبي هريرة مرفوعاً "ثلاثة حق على الله إعانتهم، المجاهد في سبيل الله، والناكح يريد أن يستعف، والمكاتب يريد الأداء". 10 - وعند الحاكم عن أنس بلفظ "من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه، فليتق الله في الشطر الثاني" قال النووي: في هذا الحديث الأمر بالنكاح لمن استطاع وتاقت إليه نفسه، وهذا مجمع عليه، لكنه عندنا وعند العلماء كافة أمر ندب، لا إيجاب، فلا يلزم التزوج ولا التسري، سواء خاف العنت أم لا. هذا مذهب العلماء كافة، ولا يعلم أحد أوجبه إلا داود ومن وافقه من أهل الظاهر، ورواية عن أحمد، فإنهم قالوا: يلزمه إذا خاف العنت أن يتزوج أو يتسرى. قالوا: وإنما يلزمه في العمر مرة واحدة، ولم يشترط بعضهم خوف العنت. قال أهل الظاهر: إنما يلزمه التزوج فقط، ولا يلزمه الوطء، وتعلقوا بظاهر الأمر في هذا الحديث "فليتزوج" مع غيره من الأحاديث -المشابهة- مع القرآن الكريم في قوله {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} [النساء: 3]. وغيرها من الآيات. اهـ وقد رد عليهم العلماء من وجوه: الأول: أن الآية التي احتجوا بها خيرت بين النكاح والتسري {فواحدة أو ما ملكت أيمانكم} قالوا: والتسري ليس واجباً اتفاقاً، فيكون التزويج غير واجب، إذ لا يقع التخيير بين واجب ومندوب، لأنه يؤدي إلى إبطال حقيقة الواجب، وأن تاركه لا يكون آثماً. الثاني: أن الواجب عندهم العقد، لا الوطء، والعقد بمجرده لا يدفع مشقة التوقان، فما ذهبوا إليه لم يتناوله الحديث، وما تناوله الحديث لم يذهبوا إليه. الثالث: في الحديث المستدل به "ومن لم يستطع فعليه بالصوم" والصوم الذي هو البدل ليس بواجب فالمبدل عنه مثله، ليس بواجب. وقد تخلص بعضهم من هذه الوجوه، فقيد وجوبه بما إذا لم يندفع التوقان بالتسري، فإذا لم يندفع تعين التزويج، صرح بذلك ابن حزم فقال: وفرض على كل قادر على الوطء إذا وجد ما يتزوج به أو يتسرى، أن يفعل أحدهما، فإذا عجز عن ذلك فليكثر من الصوم. وهو قول جماعة من السلف. وتخلصوا من الإشكال الثاني بأن قالوا بوجوب الوطء. وردوا الإشكال الثالث بأن بدل الواجب عند العجز لا يلزم أن يكون واجباً، فالأمر

بالصوم مرتب على عدم الاستطاعة، ولا استحالة أن يقول القائل: أوجبت عليك كذا، فإن لم تستطع فأندبك إلى كذا. والتحقيق أن النكاح تلحقه الأحكام الشرعية المختلفة، لاختلاف الظروف التي تحيط به. فالنكاح في حق من يخل بالزوجة في الوطء، ويعرضها للفحش، فلا يعفها لعدم قدرته أو عدم حاجته، ومن لا يستطيع الإنفاق فيعرض الزوجة للهلاك أو الانحراف. النكاح في مثل هذه الحالات حرام، لأنه يؤدي إلى الحرام. والنكاح في حق من خاف العنت والزنا، ولا ينكف عن الزنا إلا به، وهو قادر عليه دون موانع، النكاح في حقه واجب، لأن الإعفاف واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وعلى هذه الحالة يحمل ما جاء بالوجوب عند أحمد، إذ المشهور عنه أنه لا يجب للقادر التائق إلا إذا خشي العنت، وما جاء بالوجوب في عبارة المازري إذ قال: الذي نطق به مذهب مالك أنه مندوب، وقد يجب عندنا في حق من لا ينكف عن الزنا إلا به. وعبارة القرطبي إذ يقول: المستطيع الذي يخاف الضرر على نفسه ودينه من العزوبة بحيث لا يرتفع عنه ذلك إلا بالتزويج لا يختلف في وجوب التزويج عليه، وعبارة ابن دقيق العيد حيث جعل الوجوب فيما إذا خاف العنت، وقدر على النكاح، وتعذر التسري. والنكاح إذا قصد به معنى شرعي ممدوح من كسر شهوة، وإعفاف نفس، وتحصين فرج، ورغبة في نسل، مع القدرة عليه، وعدم الموانع هو مستحب، وعلى هذه الحالة يحمل قول القاضي عياض: هو مندوب في حق كل من يرجى منه النسل، ولو لم يكن له في الوطء شهوة، وكذا في حق من له رغبة في نوع من الاستمتاع بالنساء غير الوطء. والنكاح في حق غير التائق، وغير الخائف من العنت مكروه إذا كان سيحول بينه وبين طاعة واجبة أو مستحبة كطلب علم وحج فرض، وكذا نكاح من لا ينسل إذا لم ترض الزوجة بذلك. بقي النكاح لمن لا أرب له في النساء، ولا في الاستمتاع، وبعبارة أخرى النكاح من حيث هو نكاح بقطع النظر عن الظروف الرافعة من قدره، وبقطع النظر عن الظروف الموصلة إلى آفاته. هل هو مباح؟ أو مستحب؟ يرى جمهور الشافعية أن من يجد المؤن ولا تتوق للنكاح نفسه، أن ترك النكاح للتخلي للعبادة أفضل. قال النووي: ومذهب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي وبعض أصحاب مالك أن النكاح أفضل. يحتج للأولين بقوله تعالى في حق يحيى عليه السلام {وسيداً وحصوراً} [آل عمران: 39]. وهو الذي لا يأتي النساء مع القدرة على إتيانهن، فمدح الله به، ولو كان النكاح أفضل ما مدح به. ورد هذا الاحتجاج بأنه ليس في مدح حال يحيى عليه السلام بذلك ما يدل على أنه أفضل من النكاح، فإن مدح الصفة في ذاتها لا يقتضي ذم غيرها، فقد تكون الصفة حسنة وغيرها أحسن منها. فالجهاد المندوب حسنة، وعدمه لبر الوالدين أحسن منه، والنكاح تميز

على العبادة بفوائده التي هي في معناها عبادة، من تحصين النفس، وبقاء الولد الصالح وغير ذلك. ويحتج للأولين أيضاً بأن النكاح اتجاه نحو الشهوات والملذات، والفضيلة في المنع منها، بل مأمور بالبعد عنها، أو الزهد فيها. ورد هذا الاحتجاج بأن النكاح له مقاصد حسنة غير قضاء الشهوة من تحصين المرأة والنسل وغير ذلك. ويحتج للأولين أيضاً بما قاله الشافعي من أن النكاح معاملة، فلا فضل لها على العبادة، ورد بأن هذا نظر إلى صورة النكاح أيضاً دون معناه، ففي معناه عبادة كما سبق، ثم إن الأمر بالنكاح، والنهي عن الرهبانية وما ذكرناه في أول فقه الحديث من نصوص في الترغيب في النكاح كل ذلك يؤكد أن النكاح عبادة مطلوبة، ويكفي فيها "النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني" و"من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه فليتق الله في الشطر الثاني". -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - من الرواية الأولى من قول عثمان "ألا نزوجك" استحباب عرض الصاحب على صاحبه أن يتزوج إذا لم تكن له زوجة، وهو صالح للزواج وإن كان كبيراً. 2 - وفيه استحباب نكاح الشابة، قال النووي: لأنها المحصلة لمقاصد النكاح، فإنها ألذ استمتاعاً، وأطيب نكهة، وأرغب في الاستمتاع الذي هو مقصود النكاح، وأحسن عشرة، وأفكه محادثة، وأجمل منظراً، وألين ملمساً، وأقرب إلى أن يعودها زوجها الأخلاق التي يرتضيها. 3 - ومن استخلاء عثمان بابن مسعود استحباب الإسرار بمثل هذا، فإنه مما يستحيا من ذكره بين الناس. 4 - ومن قوله "لعلها تذكرك بعض ما مضى" جواز المداعبة اللطيفة، والممازحة الخفيفة. 5 - ومن استخلاء عثمان بابن مسعود دون علقمة جواز المناجاة، وترك الثالث للحاجة. 6 - وعلى الثالث تقدير الظروف وعدم الحزن، وخصوصاً إذا جبر خاطره، كما هنا. 7 - وفي الحديث إرشاد العاجز عن مؤن النكاح إلى الصوم، قال الحافظ ابن حجر: لأن شهوة النكاح تابعة لشهوة الأكل، تقوى بقوته، وتضعف بضعفه. 8 - واستدل به الخطابي على جواز المعالجة لقطع شهوة النكاح بالأدوية عند الحاجة، قال الحافظ ابن حجر: وينبغي أن يحمل على دواء يسكن الشهوة، دون ما يقطعها أصالة، لأنه قد يقدر بعد، فيندم لفوات ذلك في حقه، وقد صرح الشافعية بأن لا يكسرها بالكافور ونحوه، والحجة فيه أنهم اتفقوا على منع الجب والخصاة، فيلحق بذلك ما في معناه من التداوي بما يقطع الشهوة. 9 - واستدل به الخطابي أيضاً على أن المقصود من النكاح الوطء.

10 - وفيه الحث على غض البصر وتحصين الفرج بكل ممكن. 11 - وعدم التكليف بغير المستطاع. 12 - وأن الحظوظ والشهوات لا تتقدم على أحكام الشرع، بل هي دائرة معها. 13 - واستدل به بعض المالكية على تحريم الاستمناء باليد ونحوها، لأنه أرشد عند العجز عن التزويج إلى الصوم، الذي يقطع الشهوة، فلو كان الاستمناء مباحاً لكان الإرشاد إليه أسهل. قال الحافظ ابن حجر: وتعقب دعوى كونه أسهل، لأن الترك أسهل من الفعل، وقد أباح الاستمناء طائفة من العلماء وهو عند الحنابلة وبعض الحنفية لأجل تسكين الشهوة. 14 - ومن الرواية السادسة دلالة على فضل النكاح والترغيب فيه. 15 - وتتبع أحوال الأكابر للتأسي بهم في أفعالهم الحسنة. 16 - وأنه إذا تعذرت معرفته من الرجال جاز استكشافه من النساء. 17 - وأن من عزم على عمل بر، واحتاج إلى إظهاره حيث يأمن الرياء لم يكن ذلك ممنوعاً. 18 - وفيه تقديم الحمد والثناء على الله عند إلقاء مسائل العلم. 19 - وبيان الأحكام للمكلفين، وإزالة الشبهة عن المجتهدين. 20 - وأن المباحات قد تنقلب بالقصد إلى الكراهة أو الاستحباب. 21 - وقال الطبري: فيه الرد على من منع استعمال الحلال من الأطعمة والملابس، وآثر غليظ الثياب وخشن المأكل. قال الحافظ ابن حجر: الحق أن ملازمة استعمال الطيبات تفضي إلى الترفه والبطر، ولا يأمن من الوقوع في الشبهات، لأن من اعتاد ذلك قد لا يجده أحياناً، فلا يستطيع الانتقال عنه، فيقع في المحظور، كما أن منع تناول ذلك أحياناً يفضي إلى التنطع المنهي عنه، ويرد عليه صريح قوله تعالى {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} [الأعراف: 32]. كما أن الأخذ بالتشديد في العبادة يفضي إلى الملل القاطع لأصلها، وملازمة الاقتصار على الفرائض مثلاً وترك التنفل يفضي إلى إيثار البطالة، وعدم النشاط إلى العبادة، وخير الأمور الوسط. 22 - وفيه أيضاً إشارة إلى أن العلم بالله، ومعرفة ما يجب من حقه أعظم قدراً من مجرد العبادة البدنية (أخذ هذا من قوله صلى الله عليه وسلم في رواية البخاري "أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر ... " الحديث). 23 - ومن الرواية السابعة وما بعدها النهي عن قطع الشهوة قطعاً كلياً ولو من أجل العبادة. قال الحافظ ابن حجر: لم يرد سعد حقيقة الاختصاء، لأنه حرام، وقيل: بل هو على ظاهره، وكان ذلك

قبل النهي عن الاختصاء، ويؤيده توارد استئذان جماعة من الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، كأبي هريرة وابن مسعود وغيرهما، ثم قال: ولعل الراوي عبر بالخصاء عن الجب، لأنه هو الذي يحصل المقصود، والحكمة في منعهم من الاختصاء إرادة تكثير النسل، ليستمر جهاد الكفار، وإلا لو أذن في ذلك لأوشك تواردهم عليه، فينقطع النسل، فيقل المسلمون بانقطاعه، ويكثر الكفار، فهو خلاف المقصود من البعثة المحمدية. والله أعلم

(363) باب من رأى امرأة فوقعت في نفسه فليأت امرأته

(363) باب من رأى امرأة فوقعت في نفسه فليأت امرأته 3015 - عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة. فأتى امرأته زينب. وهي تمعس منيئة لها. فقضى حاجته. ثم خرج إلى أصحابه فقال "إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله. فإن ذلك يرد ما في نفسه". 3016 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة. فذكر بمثله. غير أنه قال: فأتى امرأته زينب وهي تمعس منيئة. ولم يذكر: تدبر في صورة الشيطان. 3017 - عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "إذا أحدكم أعجبته المرأة، فوقعت في قلبه، فليعمد إلى امرأته فليواقعها. فإن ذلك يرد ما في نفسه". -[المعنى العام]- غرس الله الشهوة في الإنسان، كما غرسها في الحيوان، وهي شهوة جامحة، كثيراً ما تدعوا وتدفع صاحبها إلى الانحراف، وجعل لها حدوداً ومصارف، وللوقاية من الانحراف بها وسائل، فنهى النساء عن التبرج وإبداء الزينة ونهى الرجال عن النظر إلى العورات، وأمرهم بغض البصر، لكن النظرة الأولى المرخص بها، لعدم القدرة على ضبطها قد تكون سهماً مسموماً من سهام إبليس، فتصيب مفاتن المرأة الأمامية أو الخلفية، ثم ترتد إلى قلب الناظر، فتشغله بالمرأة، وتوسوس له السوء والفاحشة، وبخاصة إذا لم تكن هذه المرأة على خلق قويم، فوصف الشارع دواء لمن أصابه هذا الداء، إن هو تناوله، وعالج به نفسه برأ من الداء بإذن الله، ذلك الدواء هو أن يذهب سريعاً إلى زوجته فيواقعها، فيشبع بها شهوته البهيمية، فيعود كسلان مهدوداً غير راغب في جنس النساء، فالجائع إذا شبع من أي طعام انصرفت نفسه عن أشهى طعام. -[المباحث العربية وفقه الحديث]- (إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان) للمرأة مفاتنها، وأعضاء

الإثارة فيها من خلف ومن أمام، فشيطان التزين والإغراء يلازمها عند مرورها على الرجل، فيكون رسولاً بينه وبينها، وقال العلماء: الكلام على الكناية، ولا شيطان على الحقيقة، وإنما هو إشارة إلى الهوى والدعوة إلى الفتنة بها، لما جعله الله تعالى في نفوس الرجال من الميل إلى النساء، والالتذاذ بنظرهن، وما يتعلق بهن، فهي شبيهة بالشيطان في دعائه إلى الشر بوسوسته وتزيينه له. (فإذا أبصر أحدكم امرأة) هذا الإبهام فسرته الرواية الثالثة بقولها "إذا أحدكم أعجبته المرأة فوقعت في قلبه" والمعنى إذا أبصر أحدكم امرأة فأعجبته، فوقعت في قلبه، أي فانشغل بها قلبه وهواه وعاطفته وشهوته، وهذا هو المقصود من الحديث، فقد يبصرها، ولا يعجب بها، ولا تقع في قلبه، فلا يلزمه إتيان أهله. (فليأت أهله) في الرواية الثالثة تفسير لهذا الإتيان، ولفظها "فليعمد إلى امرأته، فليواقعها" والزوجة يطلق عليها امرأة الرجل وأهله. (فإن ذلك يرد ما في نفسه) الإشارة لإتيان أهله، أي فمواقعة زوجته تشبع شهوته، وتكسر ثورته، وتطفئ نار غريزته، وفي رواية الترمذي والدارمي "فإن معها مثل الذي معها" أي فإن مع زوجته مما يقضي الشهوة مثل الذي مع المرأة التي أعجبته. (فأتى امرأته زينب وهي تمعس منيئة) قال النووي: قال أهل اللغة: المعس الدلك، والمنيئة بفتح الميم وكسر النون الممدودة ثم همزة، على وزن صغيرة هي الجلد أول ما يوضع في الدباغ. فإذا ما تم دبغه فهو أديم. وفي رواية الدارمي عن ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم "أتى امرأته سودة، وهي تصنع طيباً، وعندها نساء فأخلينه، فقضى حاجته، ثم قال .... الحديث"، فإن صح فلا مانع من تعدد القصة. والمقصود من وصف الزوجة وانشغالها بدبغ الجلد، أو بإعداد الطيب ووجود النساء حتمية موافقة الزوجة مهما كانت الظروف، لهذا قال النووي: قال العلماء: إنما فعل هذا بياناً لهم، وإرشاداً لما ينبغي لهم أن يفعلوه، فعلمهم بفعله وقوله، وفيه أنه لا بأس بطلب الرجل امرأته إلى الوقاع في النهار وغيره، وإن كانت مشتغلة بما يمكن تركه، لأنه ربما غلبت على الرجل شهوة يتضرر بالتأخير في بدنه أو في قلبه أو في بصره. وقال: ويستحب لمن رأى امرأة، فتحركت شهوته أن يأتي امرأته فليواقعها، ليدفع شهوته وتسكن نفسه، ويجمع قلبه على ما هو بصدده. اهـ أقول: وعلى الزوجة أن تستجيب لطلب زوجها، وبدون تلكؤ، وأن تدع ما بيدها من شغل لصالحها وصالح زوجها. والله أعلم

(364) باب نكاح المتعة

(364) باب نكاح المتعة 3018 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ليس لنا نساء، فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك. ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل. ثم قرأ عبد الله: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} 3019 - وفي رواية بهذا الإسناد مثله. وقال: ثم قرأ علينا هذه الآية. ولم يقل: قرأ عبد الله. 3020 - وفي رواية بهذا الإسناد. قال: كنا، ونحن شباب، فقلنا: يا رسول الله! ألا نستخصي؟ ولم يقل: نغزو. 3021 - عن جابر بن عبد الله وسلمة بن الأكوع رضي الله عنهما، قالا: خرج علينا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أذن لكم أن تستمتعوا. يعني متعة النساء. 3022 - عن سلمة بن الأكوع وجابر بن عبد الله رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتانا، فأذن لنا في المتعة. 3023 - عن عطاء قال: قدم جابر بن عبد الله معتمراً. فجئناه في منزله. فسأله القوم عن أشياء. ثم ذكروا المتعة. فقال: نعم. استمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر. 3024 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: قال: كنا نستمتع، بالقبضة من

التمر والدقيق، الأيام، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، حتى نهى عنه عمر، في شأن عمرو بن حريث. 3025 - عن أبي نضرة، قال: كنت عند جابر بن عبد الله. فأتاه آت فقال: ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين. فقال جابر: فعلناهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم نهانا عنهما عمر. فلم نعد لهما. 3026 - عن إياس بن سلمة، عن أبيه رضي الله عنه، قال: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، عام أوطاس، في المتعة ثلاثاً. ثم نهى عنها. 3027 - عن سبرة الجهني رضي الله عنه أنه قال: أذن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمتعة. فانطلقت أنا ورجل إلى امرأة من بني عامر. كأنها بكرة عيطاء. فعرضنا عليها أنفسنا. فقالت: ما تعطي؟ فقلت: ردائي. وقال صاحبي: ردائي. وكان رداء صاحبي أجود من ردائي. وكنت أشب منه. فإذا نظرت إلى رداء صاحبي أعجبها. وإذا نظرت إلي أعجبتها. ثم قالت: أنت ورداؤك يكفيني. فمكثت معها ثلاثاً. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من كان عنده شيء من هذه النساء التي يتمتع، فليخل سبيلها". 3028 - عن الربيع بن سبرة: أن أباه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة. قال: فأقمنا بها خمس عشرة. (ثلاثين بين ليلة ويوم) فأذن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في متعة النساء. فخرجت أنا ورجل من قومي. ولي عليه فضل في الجمال. وهو قريب من الدمامة. مع كل واحد منا برد. فبردي خلق. وأما برد ابن عمي فبرد جديد. غض. حتى إذا كنا بأسفل مكة أو بأعلاها. فتلقتنا فتاة مثل البكرة العنطنطة. فقلنا: هل لك أن يستمتع منك أحدنا؟ قالت: وماذا تبذلان؟ فنشر كل واحد منا برده. فجعلت تنظر إلى الرجلين. ويراها صاحبي تنظر إلى عطفها. فقال: إن برد هذا خلق وبردي جديد غض. فتقول: برد هذا لا بأس به. ثلاث مرار أو مرتين. ثم استمتعت منها. فلم أخرج حتى حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

3029 - وفي رواية عن سبرة الجهني قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح إلى مكة. فذكر بمثل الحديث السابق. وزاد: قالت: وهل يصلح ذاك؟ وفيه: قال: إن برد هذا خلق مح. 3030 - عن الربيع بن سبرة الجهني: أن أباه حدثه؛ أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "يا أيها الناس! إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء. وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة. فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله. ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً". 3031 - وفي رواية بهذا الإسناد وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً بين الركن والباب، وهو يقول. بمثل الحديث السابق. 3032 - عن عبد الملك بن الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه، عن جده قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالمتعة، عام الفتح، حين دخلنا مكة. ثم لم نخرج منها حتى نهانا عنها. 3033 - عن سبرة بن معبد رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم، عام فتح مكة أمر أصحابه بالتمتع من النساء. قال: فخرجت أنا وصاحب لي من بني سليم. حتى وجدنا جارية من بني عامر. كأنها بكرة عيطاء. فخطبناها إلى نفسها. وعرضنا عليها بردينا. فجعلت تنظر فتراني أجمل من صاحبي. وترى برد صاحبي أحسن من بردي. فآمرت نفسها ساعة. ثم اختارتني على صاحبي. فكن معنا ثلاثا. ثم أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفراقهن. 3034 - عن الربيع بن سبرة عن أبيه رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة. 3035 - عن الربيع بن سبرة عن أبيه رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى، يوم الفتح، عن متعة النساء.

3036 - عن الربيع بن سبرة الجهني، عن أبيه رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى، عن المتعة، زمان الفتح، متعة النساء. وأن أباه كان تمتع ببردين أحمرين. 3037 - عن عروة بن الزبير: أن عبد الله بن الزبير قام بمكة فقال: إن ناساً، أعمى الله قلوبهم، كما أعمى أبصارهم، يفتون بالمتعة. يعرض برجل. فناداه فقال: إنك لجلف جاف. فلعمري! لقد كانت المتعة تفعل على عهد إمام المتقين (يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم) فقال له ابن الزبير: فجرب بنفسك. فوالله! لئن فعلتها لأرجمنك بأحجارك. قال ابن شهاب: فأخبرني خالد بن المهاجر بن سيف الله: أنه بينا هو جالس عند رجل جاءه رجل فاستفتاه في المتعة. فأمره بها. فقال له ابن أبي عمرة الأنصاري: مهلاً! قال: ما هي؟ والله! لقد فعلت في عهد إمام المتقين. قال ابن أبي عمرة: إنها كانت رخصة في أول الإسلام لمن اضطر إليها. كالميتة والدم ولحم الخنزير. ثم أحكم الله الدين ونهى عنها. قال ابن شهاب: وأخبرني ربيع بن سبرة الجهني، أن أباه قال: قد كنت استمتعت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من بني عامر، ببردين أحمرين. ثم نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المتعة. قال ابن شهاب: وسمعت ربيع بن سبرة يحدث ذلك عمر بن عبد العزيز، وأنا جالس. 3038 - عن الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة. وقال "ألا إنها حرام من يومكم هذا إلى يوم القيامة. ومن كان أعطى شيئاً فلا يأخذه". 3039 - عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر. وعن أكل لحوم الحمر الإنسية. 3040 - وفي رواية بهذا الإسناد. وقال: سمع علي بن أبي طالب يقول لفلان: إنك رجل تائه. نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم. بمثل حديث يحيى بن يحيى عن مالك.

3041 - عن علي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر. وعن لحوم الحمر الأهلية. 3042 - عن علي رضي الله عنه أنه سمع ابن عباس يلين في متعة النساء. فقال: مهلاً. يا ابن عباس! فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها يوم خيبر. وعن لحوم الحمر الإنسية. 3043 - عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال لابن عباس: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن متعة النساء يوم خيبر. وعن أكل لحوم الحمر الإنسية. -[المعنى العام]- يقول الله تعالى {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة} [الروم: 21]. هذه حكمة الله في التشريع أن يجعل بين الزوجين استقراراً وسكناً ورحمة، تطول العشرة فيكون منها البنون والحفدة، فكان عقد الزواج عقداً قائماً دون حدود تحده بزمن أو مكان، وهكذا كان الزواج منذ شرعه الله للخليقة، مفتوح النهاية، لا يقطعه إلا أحد الأمرين، الطلاق أو الوفاة، وفي معنى الطلاق الفرقة الشرعية، لكن ظروفاً طرأت على المسلمين في أول الإسلام وفي أسفارهم البعيدة عن الأزواج، بالغزو ونحوه، وهم عرب، بلادهم حارة، كثيرو الرغبة في النساء، ومعظم الغزاة من الشباب، الذين لا يطيقون الثورة الشهوانية، ولا يستطيعون أن يستصحبوا نساءهم في الغزو، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى الغزوات: يا رسول الله، ألا نستخصي؟ أتسمح لنا بالخصي، لنقضي بذلك على ما نحن عليه من شبق ورغبة جامحة؟ فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، لكنه صلى الله عليه وسلم أهمه الأمر وأقلقه، وهو يقدر الحالة، ويعز عليه عنتهم ومشقتهم، ويعذر الشباب، وكان الشرع الرحيم بالأمة، على لسان الحريص عليهم، الرءوف بالمؤمنين، أن أرسل مناديه ينادي في جيش المسلمين: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أذن لكم أن تستمتعوا متعة النساء فكان الواحد يستمتع بامرأة ليلة أو أقل أو أكثر بقبضة من شعير أو قبضة من تمر، وكان الواحد منهم يستمتع بامرأة برداء أياماً، ولما انتهت الضرورة والحاجة إلى المتعة حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا جاءت الضرورة إليها في فتح مكة، رخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها لمدة ثلاثة أيام، وهي فترة كافية لتهدئة الثورة الشهوانية، ثم نهى عنها، وحرمها تحريماً أبدياً إلى يوم القيامة، وأعلن هذا القرار وهذا الحكم بمكة، ولكنه لم يبلغ بعض المسلمين، فظل على اعتقاد حل المتعة زمناً، ظل يفتي بإباحتها أيام أبي بكر وعمر، فلما علم عمر

بذلك غضب، وخطب الناس، وحذر وخوف وأوعد، كان شديداً يخافه شعبه، فانتهى من لم يبلغه نهي النبي صلى الله عليه وسلم انتهى بنهي عمر رضي الله عنه. وأجمع المسلمون على تحريم نكاح المتعة ولم يشذ عن هذا الإجماع إلا الرافضة من الشيعة الذين ظلوا إلى اليوم يبيحونها. فالحمد لله الذي أتم نعمته، وأكمل دينه، والحمد لله الذي أحل الحلال وحرم الحرام، وفي الحلال كفاية وراحة للمؤمنين. -[المباحث العربية]- (عن عبد الله) أي ابن مسعود رضي الله عنه. (كنا نغزو ... ليس لنا نساء) أي ليس معنا نساؤنا، أي ليس لنا نساء مصاحبات لنا. (ألا نستخصي؟ ) دفعهم إلى هذا المطلب أنهم كانوا شباباً في قوة مع عزوبة، فأرادوا كسر الشهوة بذلك. (ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل) أي بالثوب وغيره مما نتراضى به وفي الرواية الخامسة "كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق" والقبضة بضم القاف وسكون الباء، وبفتح القاف، والضم أفصح. قال الجوهري: القبضة بالضم ما قبضت عليه من الشيء، يقال: أعطاه قبضة من سويق أو تمر. قال: وربما فتح، وفي الرواية الثامنة وما بعدها كان المهر البرد -كما سيأتي- وهو الثوب. (ثم قرأ {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} [المائدة: 87]) قال النووي: في قراءته الآية إشارة إلى أنه كان يعتقد إباحتها، كابن عباس، وأنه لم يكن بلغه النسخ. (خرج علينا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال .... ) في الرواية الثالثة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتانا .... " قال النووي: "أتانا" يحمل على المجاز، أي أتانا رسول الله ومناديه، ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم مر عليهم، فقال لهم ذلك بلسانه. قال الحافظ: ويشبه أن يكون المراد بمنادي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً. (يعني متعة النساء) قال القاضي: واتفق العلماء على أن هذه المتعة كانت نكاحاً -أي زواجاً- إلى أجل، لا ميراث فيها، وفراقها يحصل بانقضاء الأجل، من غير طلاق. (رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثاً) أي ثلاث ليال، أي كانت المدة بين الترخيص بها، وبين النهي عنها ثلاث ليال، و"أوطاس" واد بالطائف، يصرف، ولا يصرف، فمن صرفه أراد المكان، ومن لم يصرفه أراد البقعة، وأكثر استعمالهم له غير مصروف. وكانت غزوة أوطاس مع فتح مكة في عام واحد، كان فتح مكة في رمضان، وغزوة أوطاس في شوال.

(كأنها بكرة عيطاء) "البكرة" الفتية من الإبل، أي الشابة القوية، و"العيطاء" بفتح العين وإسكان الياء بعدها طاء هي الطويلة العنق في اعتدال وحسن قوام، "والعيط" بفتح العين طول العنق، وفي الرواية التاسعة "مثل البكرة العنطنطة" بفتح العين بعدها نون مفتوحة ثم طاء ساكنة، ثم نون مفتوحة، ثم طاء، وهي كالعيطاء، وقيل: هي الطويلة فقط، والمشهور الأول. (فعرضنا عليها أنفسنا) في الرواية الثانية عشرة "فخطبناها إلى نفسها" وفي الرواية التاسعة "فقلنا: هل لك أن يستمتع منك أحدنا"؟ . (فقالت: ما تعطي؟ فقلت: ردائي. وقال صاحبي: ردائي) أي وقالت لصاحبي: ما تعطي؟ فقال: ردائي، وكأنها سألتهما واحداً واحداً، لكن في الرواية التاسعة "قالت: وما تبذلان؟ فنشر كل منا برده". (وكان رداء صاحبي أجود من ردائي، وكنت أشب منه) أي أحسن شباباً منه، وفي الرواية التاسعة "ولي عليه فضل في الجمال، وهو قريب من الدمامة -بفتح الدال، وهي القبح -مع كل منا برد، فبردي خلق -بفتح اللام أي قريب من البالي- وأما برد ابن عمي فبرد جديد غض" أي طري ناعم جيد، وفي ملحق الرواية التاسعة "إن برد هذا خلق مح" أي قال ابن العم الدميم يبغض في برد الشاب الجميل: إن برد الشاب قديم بال والمح بميم مفتوحة وحاء مشددة البالي، كما قال في الرواية التاسعة "إن برد هذا خلق، وبردي جديد غض". (فإذا نظرت إلى رداء صاحبي أعجبها، وإذا نظرت إلي أعجبتها، ثم قالت: أنت ورداؤك يكفيني) "أنت" خبر مبتدأ محذوف تقديره: المختار أنت، أو المقبول أنت. وجملة "ورداؤك يكفيني" معطوفة، هذا الإعراب خير من جعل "يكفيني" متنازعاً بين الضمير والرداء، لأنه لا يليق أن تقول له: أنت يكفيني، وفي الرواية التاسعة "فجعلت تنظر إلى الرجلين، ويراها صاحبي تنظر إلى عطفها" -والعطف بكسر وسكون الطاء الجانب، وقيل: من رأسها إلى وركها، أي جعل صاحبي ينظر إلى جمالها، ويتمناها لنفسه- "فتقول: برد هذا لا بأس به. ثلاث مرار أو مرتين" وفي ملحق الرواية التاسعة "قالت: وهل يصلح ذاك"؟ والاستفهام. إنكاري بمعنى النفي، أي قالت للجميل مشيرة إلى الدميم: لا يصلح لي ذاك، واختارت الجميل، وفي الرواية الثامنة عشرة "وجعلت تنظر فتراني أجمل من صاحبي، وترى برد صاحبي أحسن من بردي، فآمرت نفسها ساعة" -أي شاورت نفسها فترة من الزمن، "آمرت" بمد الهمزة، ومنه قوله تعالى {إن الملأ يأتمرون بك} [القصص: 20]. - ثم اختارتني". (فمكثت معها ثلاثاً) في الرواية الثانية عشرة "فكن معنا ثلاثاً، ثم أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفراقهن" بضمير جمع النسوة، فيحتمل أنه يتحدث عن نفسه وعن ابن عمه الذي تمتع بأخرى وأن سبرة تمتع أيضاً بأخرى ليصح أنه تمتع ببردين أحمرين، كما جاء في آخر الرواية الخامسة عشرة، إذ يقول ابن شهاب أن سبرة قال: استمتعت امرأة من بني عامر ببردين أحمرين" أي امرأة

وأخرى ببردين، ويحتمل أن يكون الجمع ما فوق الواحد على قول من يقول ذلك، وأنه أراد نفسه وابن عمه، والمعنى: استمتعت امرأة من بني عامر واستمتع ابن عمي أيضاً امرأة من بني عامر ببردين أحمرين. (من كان عنده شيء من هذه النساء التي يتمتع فليخل سبيلها) قال النووي: هكذا هو في جميع النسخ "التي يتمتع" بفتح الياء والتاء والميم وتشديد التاء الثانية، مبني للمعلوم، أي يتمتع هو بها، "فليخل سبيلها" بضم الياء وفتح الخاء، مضارع خلى بتشديد اللام. (فأقمنا بها خمس عشرة "ثلاثين بين ليلة ويوم") أي أقمنا بمكة خمس عشرة ليلة بخمسة عشرة يوماً، فمجموع ليلها ونهارها ثلاثون. (فلم أخرج حتى حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي فلم أخرج من عندها حتى حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت مدة إقامته عندها ثلاث ليال، كما جاء في الرواية الثامنة، ولفظها "فمكثت معها ثلاثاً" وفي الرواية الثانية عشرة "فكن معنا ثلاثاً، ثم أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفراقهن". (بين الركن والباب) أي بين ركن الحجر الأسود وباب الكعبة، وهو المكان المعروف باسم الملتزم. (إن ناساً أعمى الله قلوبهم) أي بعدم الاهتداء إلى الحق. (كما أعمى أبصارهم ... يعرض برجل) يعرض بابن عباس -رضي الله عنهما- وكان قد عمي في آخر عمره. (فناداه) أي نادى ابن عباس ابن الزبير، فقال له: (إنك لجلف جاف) "الجلف" بكسر الجيم وسكون اللام هو الجافي، وعلى هذا فلفظ "جاف" تأكيد، والجافي هو غليظ الطبع، قليل الفهم والعلم والأدب، ووصفه ابن عباس بذلك لفظاعة وصفه السابق لابن عباس رضي الله عنهم أجمعين. (لئن فعلتها) أي لئن تمتعت بعد أن أبلغتك إن كنت لم يبلغك النسخ من قبل. (لأرجمنك بأحجارك) أي كنت زانياً ورجمتك بأحجار الزاني. (خالد بن المهاجر بن سيف الله) "سيف الله" هو خالد بن الوليد رضي الله عنه، سماه بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه كان منتصراً على أعداء الله. (بينا هو جالس عند الرجل) يعني ابن عباس، وصرح به البيهقي في روايته. (فأمره بها) أي فرخص له فيها، كما جاء في بعض الروايات.

(مهلاً) أي تمهل يا ابن عباس في هذه الفتوى، وادرسها فليس أمرها كما ذكرت. (قال: ما هي) أي ما هي المشكلة في فتواي؟ . (إنها كانت رخصة ... إلخ) حاصل كلام ابن أبي عمرة التسليم بأنها فعلت في عهد إمام المتقين صلى الله عليه وسلم، لكنها كانت رخصة، ثم نهى عنها، ورفعت الرخصة، وأحكم الله دينه. (نهى عن متعة النساء، يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الأهلية) وفي الرواية التاسعة عشرة والمتممة للعشرين "الحمر الإنسية " قال النووي: ضبطوه بوجهين. أحدهما كسر الهمزة وإسكان النون، والثاني فتحهما جميعاً، صرح القاضي عياض بترجيح الفتح، وأنه رواية الأكثرين. وظاهر من العبارة أن "يوم خيبر" ظرف للنهي عن المتعة وعن أكل لحوم الحمر الأهلية، وليس في هذا أنه كان مرخصاً بالمتعة، فكل ما يفيده، وقوع النهي عنها زمن خيبر. لكن قال السهيلي: يتصل بهذا الحديث تنبيه على إشكال، لأن فيه النهي عن نكاح المتعة يوم خيبر، وهذا شيء لا يعرفه أحد من أهل السير ورواة الأثر. قال: فالذي يظهر أنه وقع تقديم وتأخير في لفظ الزهري -راوي الحديث- فالنهي زمن خيبر عن أكل لحوم الحمر الأهلية، وأما المتعة فكان في غير يوم خيبر. قال ابن عبد البر: وعلى هذا أكثر الناس، وقال أبو عوانة في صحيحه: سمعت أهل العلم يقولون: معنى حديث علي أنه نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر، وأما المتعة فسكت عنها، وإنما نهى عنها يوم الفتح. اهـ قال الحافظ: والحامل لهؤلاء على هذا ما ثبت من الرخصة فيها بعد زمن خيبر، لكن يمكن الانفصال عن ذلك بأن علياً لم تبلغه الرخصة فيها يوم الفتح، لوقوع النهي عنها عن قرب. (قال لفلان: إنك رجل تائه) "فلان" كناية عن ابن عباس، ففي الرواية التاسعة عشرة تصريح باسمه، وفي البخاري أن علياً قيل له: إن ابن عباس لا يرى بمتعة النساء بأساً" وعند الدارقطني "أن علياً سمع ابن عباس وهو يفتي في متعة النساء. فقال .... " وعند سعيد بن منصور "أن علياً مر بابن عباس وهو يفتي في متعة النساء أنه لا بأس بها ... " "والتائه" الحائر، الذاهب عن الطريق المستقيم. -[فقه الحديث]- قال النووي: اعلم أن القاضي عياضاً بسط شرح هذا الباب بسطاً بليغاً، وأتى فيه بأشياء نفيسة، وأشياء يخالف فيها، فالوجه أن ننقل ما ذكره مختصراً، ثم نذكر ما ينكر عليه، ويخالف فيه، وننبه على المختار. قال المازري: ثبت أن نكاح المتعة كان جائزاً في أول الإسلام، ثم ثبت بالأحاديث الصحيحة المذكورة هنا أنه نسخ، وانعقد الإجماع على تحريمه، ولم يخالف فيه إلا طائفة من المبتدعة، وتعلقوا بالأحاديث الواردة في ذلك، وقد ذكرنا أنها منسوخة، فلا دلالة لهم فيها، وتعلقوا بقوله تعالى {فما

استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن} [النساء: 24]. وفي قراءة ابن مسعود "فما استمتعتم به منهن إلى أجل" وقراءة ابن مسعود هذه شاذة، لا يحتج بها قرآناً ولا خبراً، ولا يلزم العمل بها. قال: وقال زفر: من نكح نكاح متعة تأبد نكاحه، وكأنه جعل ذكر الأجل من باب الشروط الفاسدة في النكاح، وأنها تلغى، ويصح النكاح. قال المازري: واختلفت الرواية في صحيح مسلم في النهي عن المتعة، ففيه أنه صلى الله عليه وسلم نهى عنها يوم خيبر، وفيه أنه نهى عنها يوم الفتح، فإن تعلق بهذا من أجاز المتعة، وزعم أن الأحاديث تعارضت، وأن هذا الاختلاف قادح فيها قلنا: هذا الزعم خطأ، وليس هذا تناقضاً، لأنه يصح أن ينهي عنه في زمن، ثم ينهي عنه في زمن آخر توكيداً، أو ليشتهر النهي ويسمعه من لم يكن سمعه أولاً، فسمع بعض الرواة النهي في زمن، وسمعه آخرون في زمن آخر، فنقل كل منهم ما سمعه، وأضافه إلى زمان سماعه. هذا كلام المازري. وحاصله أنه يختار أن الإباحة مختصة بما قبل خيبر، والتحريم يوم خيبر للتأبيد، وأن الذي كان يوم الفتح مجرد توكيد التحريم، من غير إباحة وترخيص يوم الفتح. وهذا الرأي وإن ساعدته الروايات (17، 18، 19، 20) فإن الروايات (7، 8، 9، 11، 12، 14) تعارضه معارضة صريحة، إذ هي تثبت الرخصة في المتعة عام فتح مكة. أما القاضي عياض فيقول: روى أحاديث إباحة المتعة جماعة من الصحابة، فذكره مسلم من رواية ابن مسعود وابن عباس وجابر وسلمة بن الأكوع وسبرة بن معبد الجهني، وليس في هذه الأحاديث كلها أنها كانت في الحضر، وإنما كانت في أسفارهم في الغزو، عند ضرورتهم، وعدم النساء، مع أن بلادهم حارة، وصبرهم عن النساء قليل، وقد ذكر في حديث ابن أبي عمرة أنها كانت رخصة في أول الإسلام، لمن اضطر إليها كالميتة، ونحوها، وعن ابن عباس رضي الله عنهما نحوه [يشير بذلك إلى ما رواه البخاري عن أبي جمرة قال: "سمعت ابن عباس يسأل عن متعة النساء، فرخص، فقال مولى له: إنما ذلك في الحال الشديد، وفي النساء قلة أو نحوه، فقال ابن عباس: نعم" وما أخرجه الخطابي والفاكهي عن سعيد بن جبير قال "قلت لابن عباس: لقد سارت بفتياك الركبان، وقال فيها الشعراء -يعني في المتعة- فقال: والله ما بهذا أفتيت، وما هي إلا كالميتة، لا تحل إلا للمضطر" وأخرجه البيهقي بلفظ "ألا إنما هي كالميتة والدم ولحم الخنزير" ثم ذكر مسلم عن سلمة بن الأكوع إباحتها يوم أوطاس، ومن رواية سبرة إباحتها يوم الفتح، وهما واحد، ثم حرمت يومئذ. وفي حديث علي تحريمها يوم خيبر، وهو قبل الفتح، وذكر غير مسلم عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها في غزوة تبوك، ولم يتابع علي هذا، وهو غلط، والصحيح يوم خيبر، كما في مسلم. وقد روى أبو داود من حديث سبرة النهي عنها في حجة الوداع. قال أبو داود: وهذا أصح ما روي في ذلك، وقد روي عن سبرة أيضا إباحتها في حجة الوداع، ثم نهى صلى الله عليه وسلم عنها حينئذ إلى يوم القيامة، وروي عن الحسن البصري أنها ما حلت قط إلا في عمرة القضاء، وروي هذا عن سبرة الجهني أيضاً. قالوا: وذكر الرواية بإباحتها يوم حجة الوداع خطأ، لأنه لم يكن يومئذ ضرورة ولا عزوبة،

وأكثرهم حجوا بنسائهم، والصحيح أن الذي جرى في حجة الوداع مجرد النهي، ويكون تجديده صلى الله عليه وسلم النهي يومئذ لاجتماع الناس، وليبلغ الشاهد الغائب، ولتمام الدين، وتقرر الشريعة، كما قرر غير شيء، وبين الحلال والحرام يومئذ، وبت تحريم المتعة حينئذ، لقوله "إلى يوم القيامة" قال القاضي: ويحتمل ما جاء من تحريم المتعة يوم خيبر، وفي عمرة القضاء" ويوم الفتح، ويوم أوطاس أنه جدد النهي عنها في هذه المواطن، لأن حديث تحريمها يوم خيبر صحيح لا مطعن فيه، بل هو ثابت من رواية الثقات الأثبات -ثم مال القاضي إلى أن حديث علي في تحريمها يوم خيبر فيه تقديم وتأخير، فيكون يوم خيبر ظرفاً لتحريم الحمر الأهلية خاصة. ثم قال: لكن بقي على هذا ما جاء من ذكر إباحته في عمرة القضاء ويوم الفتح ويوم أوطاس، فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم أباحها لهم للضرورة بعد التحريم، ثم حرمها تحريماً مؤبداً، فيكون حرمها يوم خيبر، وفي عمرة القضاء، ثم أباحها يوم الفتح للضرورة، ثم حرمها يوم الفتح أيضاً تحريماً مؤبداً، وتسقط رواية إباحتها يوم حجة الوداع، والذي في حجة الوداع التحريم، وأما قول الحسن: إنما كانت في عمرة القضاء لا قبلها ولا بعدها فترده الأحاديث الثابتة في تحريمها يوم خيبر، وهي قبل عمرة القضاء، وما جاء في إباحتها يوم فتح مكة، ويوم أوطاس فيترك ما خالف الصحيح. وقد قال بعضهم: هذا مما تداوله التحريم والإباحة والنسخ مرتين. هذا آخر كلام القاضي. وحاصله أنه بعد أن ذكر الروايات حكم بخطأ رواية النهي في غزوة تبوك، وحكم ببطلان القول بإباحتها في حجة الوداع، ورأى أن تحريمها في حجة الوداع من باب تأكيد التحريم وتكريره، وحكم ببطلان قول الحسن تخصيص المتعة بعمرة القضاء، وكل ذلك موافق لما عليه جمهور العلماء. أما الترخيص بها قبل خيبر وفي عمرة القضاء ويوم الفتح ويوم أوطاس فهو يذكر عنها احتمالين. الأول أن التحريم فيها تجديد النهي، والثاني تعدد الترخيص وتعدد التحريم، وهو ما يميل إليه. فاتهام النووي له بأنه يختار أن الإباحة مختصة بما قبل خيبر، والتحريم يوم خيبر للتأبيد، وأن الذي كان يوم الفتح مجرد توكيد التحريم من غير تقدم إباحة يوم الفتح. هذا الاتهام من النووي غير واضح من كلام القاضي الذي نقله النووي نفسه، ونقلناه عنه. والذي اختاره النووي ورجحه هو نفسه الذي يفهم مما انتهى إليه القاضي، إذ قال النووي: والصواب المختار أن التحريم والإباحة كانا مرتين، وكانت حلالاً قبل خيبر، ثم حرمت يوم خيبر، ثم أبيحت يوم فتح مكة، وهو يوم أوطاس، لاتصالهما، ثم حرمت يومئذ بعد ثلاثة أيام تحريماً مؤبداً إلى يوم القيامة واستمر التحريم. اهـ وفي قول النووي [ثم أبيحت يوم فتح مكة -وهو يوم أوطاس لاتصالهما، ثم حرمت يومئذ بعد ثلاثة أيام] في هذا القول نظر، لأن الروايات الصحيحة تصرح بأن التحريم الأبدي كان بمكة، كما هو واضح من الرواية الثامنة والتاسعة والعاشرة وملحقها والحادية عشرة والثانية عشرة والرابعة عشرة. ومن المعلوم أنهم تحولوا من مكة إلى حنين، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين لست خلت من

شوال، وقيل لليلتين بقيتا من رمضان، وجمع بعضهم بأنه بدأ بالخروج في أواخر رمضان وسار سادس شوال، وكان وصوله إليها في عاشر شوال، ثم كانت غزوة حنين، ثم كانت أوطاس عقب حنين، أو هي تتبع لفلول حنين، فليس يوم فتح مكة هو يوم أوطاس، وليس هناك اتصال، ولا يصح أن يذكر التحريم بعد أوطاس. والتوجيه الصحيح أن رواية أوطاس رواها مسلم، وليس فيها لفظ "يوم" بل لفظها وهي الرواية السابعة. "رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثاً، ثم نهى عنها" فيصدق هذا دون تأويل على الرخصة بالمتعة في مكة، والنهي عنها في مكة، فعام أوطاس هو عام فتح مكة، ولم يقع في يوم أوطاس ترخيص ولا تحريم. وعلى هذا لا يستقيم أيضاً قول القاضي عياض سابقاً [وذكر مسلم عن سلمة بن الأكوع إباحتها يوم أوطاس] فمسلم كما أوضحنا لم يذكر أباحتها يوم أوطاس. والله أعلم. ثم قال النووي: قال القاضي: واتفق العلماء على أن هذه المتعة كانت نكاحاً إلى أجل، لا ميراث فيها، وفراقها يحصل بانقضاء الأجل من غير طلاق، ووقع الإجماع بعد ذلك على تحريمها من جميع العلماء، إلا الروافض، قال: وكان ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول بإباحتها، وروي عنه أنه رجع عنه. قال: وأجمعوا على أنه متى وقع نكاح المتعة الآن حكم ببطلانه، سواء كان قبل الدخول أو بعده، إلا ما سبق عن زفر. واختلف أصحاب مالك: هل يحد الواطئ فيه؟ قال النووي: ومذهبنا أنه لا يحد، لشبهة العقد، وشبهة الخلاف، ومأخذ الخلاف اختلاف الأصوليين في أن الإجماع بعد الخلاف هل يرفع الخلاف؟ ويصير المسألة مجمعاً عليها؟ والأصح عند أصحابنا أنه لا يرفعه، بل يدوم الخلاف، ولا يصير المسألة بعد ذلك مجمعاً عليها أبداً، وبه قال القاضي أبو بكر الباقلاني. قال القاضي: وأجمعوا على أن من نكح مطلقاً ونيته ألا يمكث معها إلا مرة نواها فنكاحه صحيح حلال، وليس نكاح متعة، وإنما نكاح المتعة ما وقع بالشرط المذكور، ولكن قال مالك: ليس هذا من أخلاق الناس، وشذ الأوزاعي فقال: هو نكاح متعة، ولا خير فيه. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - من الرواية الأولى تحريم الخصي، قال النووي: لما فيه من تغيير خلق الله، ولما فيه من قطع النسل. 2 - استدل بالرواية الرابعة والخامسة والسادسة على أن المتعة منعت في عهد عمر، وهذا الاستدلال باطل، وكل ما في الأمر أن البعض لم يبلغه النسخ حتى نهى عمر عنها. 3 - ومن الرواية الثامنة والتاسعة ونحوها أن نكاح المتعة لا يحتاج إلى ولي ولا إلى شهود. 4 - ومن الرواية العاشرة، من قوله "قد كنت أذنت لكم ... وإن الله قد حرم ذلك" التصريح بالمنسوخ والناسخ في حديث واحد من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، كحديث" كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها".

5 - ومن قوله "إلى يوم القيامة" التصريح بتحريم نكاح المتعة إلى يوم القيامة. 6 - ومن قوله "ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً" أن المهر الذي كان أعطاها يستقر لها، ولا يحل أخذ شيء منه، وإن فارقها قبل الأجل المسمى، كما أنه يستقر في النكاح المعروف المهر المسمى بالوطء، ولا يسقط منه شيء بالفرقة بعده. 7 - ومن الرواية السابعة عشرة وما بعدها تحريم لحوم الحمر الأهلية، قال النووي: وهو مذهبنا ومذهب العلماء كافة إلا طائفة يسيرة من السلف، فقد روي عن ابن عباس وعائشة وبعض السلف إباحته، وروي عنهم تحريمه، وروي عن مالك كراهته وتحريمه. والله أعلم

(365) باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح، وأن تسأل المرأة طلاق أختها

(365) باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح، وأن تسأل المرأة طلاق أختها 3044 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها". 3045 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أربع نسوة، أن يجمع بينهن: المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها. 3046 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تنكح العمة على بنت الأخ، ولا ابنة الأخت على الخالة". 3047 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع الرجل بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها. قال ابن شهاب: فنرى خالة أبيها وعمة أبيها بتلك المنزلة. 3048 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها". 3049 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يخطب الرجل على خطبة أخيه. ولا يسوم على سوم أخيه. ولا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها. ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفئ صحفتها. ولتنكح. فإنما لها ما كتب الله لها". 3050 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة

على عمتها أو خالتها. أو أن تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفئ ما في صحفتها. فإن الله عز وجل رازقها. 3051 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها. -[المعنى العام]- جعل الله النكاح رحمة وسكناً بين الزوجين، وكان من حكمة مشروعيته أن يغرس بين الزوجين المودة، ليبث منهما رجالاً كثيراً ونساء، وعقب هذا بالحث على صلة الأرحام والحفاظ على العلاقة الطيبة بين الأقارب، فقال جل شأنه: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً} [النساء: 1]. ومن هنا حرص الإسلام على أن لا يتحول هذا الهدف إلى النقيض، وأن لا يكون الزواج سبباً في تقاطع الأهل، أو في عداوة الأقارب، أو حتى في خصومات أو اعتداءات بين الأجانب. في هذه الأحاديث تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها كزوجين لرجل في وقت واحد، لما في ذلك من عداوات تقع بين الضرائر، فتنقطع بذلك الأرحام، وتعادي البنت عمتها وخالتها، وتعادي العمة بنت أخيها وتعادي الخالة بنت أختها. وفيها التحريم على المرأة التي ترغب في الزواج من رجل أن تطلب منه وأن تشترط عليه قبل زواجه بها أن يطلق امرأته التي في عصمته، حتى تنفرد هي به، والتحريم على الزوجة أن تطلب من زوجها أن يطلق ضرتها لتنفرد هي به، وعلى أي امرأة أن تطلب من أي رجل أن يطلق زوجته لتحل محلها، أو لمجرد أن تقطع عيشها. وفي الأحاديث أيضاً نهي الرجل أن يخطب امرأة سبق لأخيه أن خطبها ولم يتركها بعد، ولم يأذن لغيره أن يخطبها، فالسابق اكتسب حقاً لا يجوز الاعتداء عليه، كما أن المشتري لأي سلعة إذا سامها واتفق مع صاحبها على شرائه لها لا يجوز لرجل آخر أن يعتدي عليه ويعرض على البائع ثمناً أكثر، أو أن يعرض على المشتري بضاعة أجود وأرخص. وهكذا يسد الإسلام منافذ العداوة والبغضاء، لتبقى نوافذ المحبة والمودة مفتوحة بين المسلمين.

-[المباحث العربية]- (لا يجمع. لا تنكح. لا يخطب. لا يسوم. لا تسأل) "لا" نافية، والفعل مرفوع، والجملة خبرية لفظاً والمراد به النهي، ويصح أن تكون "لا" ناهية، والفعل مجزوم، ويحرك آخره بالكسر عند التقاء الساكنين قال النووي: والخبر أبلغ من النهي في النهي لأن خبر الشارع لا يتصور وقوع خلافه، والنهي قد تقع مخالفته، فكان المعنى عاملوا هذا النهي معاملة الخبر المتحتم. اهـ وبعبارة أخرى: التعبير عن النهي بلفظ الخبر يشعر ويفترض أن النهي التزم ونفذ، ويخبر عنه بأنه حاصل فعلاً وواقع، وهذا الادعاء سر بلاغته. (ولا يسوم) قال النووي: هكذا هو في جميع النسخ بالواو، وهكذا "يخطب" مرفوع. اهـ (نهى عن أربع نسوة. أن يجمع بينهن) أربع في الصورة، لكن الحقيقة أنهن ثلاث. والمرأة وعمتها وخالتها، فالمرأة واحدة مع العمة أو الخالة، ومن باب أولى معهما معاً، والمصدر المنسبك من "أن يجمع بينهن" بدل من "أربع نسوة" أي نهى عن أن يجمع بين أربع نسوة، ثم فسر المراد بالجمع بينهن، بقوله: المرأة وعمتها [خبر لمبتدأ محذوف] والمرأة وخالتها، فلا يدخل معنا اجتماع العمة والخالة لامرأة ما عند رجل ليست عنده هذه المرأة. (لا تنكح العمة على بنت الأخ، ولا ابنة الأخت على الخالة) الصور أربع: (1) عمة على بنت أخ [أي الزواج ببنت الأخ أولاً، ثم العمة تدخل عليها وتجتمع بها] (2) بنت أخ على عمة (3) خالة على بنت أخت (4) بنت أخت على خالة، فذكر صورة مختلفة من كل ثنتين، ليشير إلى أنه لا عبرة بتقدم أو تأخر كل منهما، وإنما العبرة بالاجتماع، وسيأتي في فقه الحديث بطلان العقد المتأخر مع صحة المتقدم، فإن قرناً في عقد واحد بطل. (فنرى خالة أبيها وعمة أبيها بتلك المنزلة) "نرى" بضم النون بمعنى نظن، وبفتح النون بمعنى نعتقد، أي نظن أن خالة أبيها كخالتها في تحريم الجمع بينهما. (لا يخطب الرجل على خطبة أخيه) سيأتي بعد باب إن شاء الله. (ولا يسوم على سوم أخيه) صورته أن يتفق صاحب السلعة والراغب فيها على البيع، وقبل أن يعقداه يقول آخر لصاحبها. أنا أشتريها بأكثر، أو يقول للراغب: أنا أبيعك خيراً منها بأرخص، أما المزايدة والمناقصة فلا شيء فيها، لأنها تحدث قبل الاتفاق والاستقرار. وسيأتي الموضوع في كتاب البيع إن شاء الله. (ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفئ صحفتها ولتنكح، فإنما لها ما كتب الله لها) يجوز في "تسأل" الرفع، على أن "لا" نافية، والجزم مع التحريك بالكسر للتخلص من التقاء الساكنين على أن "لا" ناهية.

و"تكفئ" بفتح التاء وسكون الكاف وكسر الفاء مضارع كفأ، يقال: كفأت الإناء إذا قلبته وأفرغت ما فيه، من باب ضرب وفيه "أكفأ" و"لتكفأ" مع الفتح، وجاء في رواية "لتكفئ" بضم التاء وسكون الكاف وكسر الفاء، مضارع أكفات وهي أيضاً بمعنى أملته، ويقال: بمعنى كببته، والصحفة في الأصل إناء كالقصعة المبسوطة، وفي رواية للبخاري "لتستفرغ صحفتها" وهذا مثل يراد به رغبتها في حرمان أختها من حظوظها من زوجها لتستأثر، سواء لتستأثر به دونها، فتكون كمن قلبت إناء أختها في إنائها، أو لتحرمها فقط، فتكون كمن قلبت إناء أختها على الأرض أو في إناء أخرى غير مقصودة، ويصح أن يكون الكلام على سبيل الاستعارة التمثيلية، بأن نشبه النصيب والبخت بالصحفة، وحظوظها وتمتعاتها بما يوضع في الصحفة من الأطعمة اللذيذة، ونشبه الافتراق المسبب عن الطلاق باستفراغ الصحفة عن تلك الأطعمة، ثم ندخل المشبه في جنس المشبه به، ثم نحذف المشبه، ونعبر بالمشبه به. وفي المراد بالمرأة وأختها أقوال للعلماء. قيل: معنى هذا الحديث نهي المرأة الأجنبية أن تغوي رجلاً بها وأن تسأله طلاق زوجته، وأن يتزوجها هي، فالمراد بالأخت الأخت من النسب أو الرضاع أو الدين، قال النووي: ويلحق بذلك الكافرة في الحكم، وإن لم تكن أختاً في الدين، إما لأن المراد الغالب، أو أنها أختها في الجنس الآدمي. وقيل: معنى الحديث نهي الزوجة أن تسأل زوجها طلاق ضرتها، لتنفرد هي به. وقيل: معنى الحديث النهي عن أن تشترط زوجة جديدة على زوجها حين زواجها منه أن يطلق زوجته التي في عصمته، ويساعد هذا القول رواية أبي نعيم في المستخرج، وهي بلفظ "لا يصلح لامرأة أن تشترط طلاق أختها لتكفئ إناءها" وكذا أخرجه البيهقي، ويميل البخاري إلى هذا القول حيث ذكر الحديث تحت باب الشروط التي لا تحل في النكاح. أما قوله "ولتنكح" فقد روي بكسر اللام وسكونها على أنها لام الأمر، والفعل مجزوم وروي بكسر اللام للتعليل، ونصب الفعل، والمعنى -على القول الثالث من أقوال المراد بالمرأة وأختها- لا تسأل ولا تشترط طلاق أختها، ولتنكح ذلك الرجل من غير أن تتعرض لإخراج زوجته من عصمته، بل تكل الأمر في ذلك إلى ما يقدر الله، فإنها إن سألت ذلك واشترطته وألحت فيه فإنه لا يقع من ذلك إلا ما قدره الله، فينبغي أن لا تتعرض هي لهذا المحظور. أو المعنى ولتنكح غيره، فلم تضيق الأرض على هذا الرجل، أو المعنى بما يشمل الأمرين، أي ولتنكح مما تيسر لها، هو أو غيره. والمعنى على التعليل: لا تسأل ولا تشترط طلاق أختها لتكفئ صحفتها ولتنكح الرجل وتحل محلها. أما الضمير في قوله: "فإنما لها ما كتب لها" فيحتمل أن يكون للسائلة، والمعنى فإن للسائلة ما كتب لها قدراً وأزلاً، ولن يغير سؤالها من إرادة الله شيئاً، فإن كان هذا الزوج المسئول مكتوباً لها فستناله، سألت طلاق أختها أم لم تسأل، وإن لم يكن مكتوباً لها فلن يفيد سؤالها شيئاً، ويحتمل أن يكون الضمير للأخت المسئول طلاقها، والمعنى: لا تتعب السائلة نفسها في طلب طلاق أختها، فإن لأختها ما قدر لها، فإن كان مكتوباً لها أن تطلق فستطلق بالسؤال أو بغيره، وإن كان مكتوباً لها

الاستمرار فلن يؤثر فيها سؤال السائلة، وفي الرواية السابعة "فإن الله رازقها" والضمير هنا أيضاً على الاحتمالين، والفاء للتعليل، وفي رواية للبخاري "فإنما لها ما قدر لها". -[فقه الحديث]- قال النووي: هذا الحديث دليل لمذاهب العلماء كافة أنه يحرم الجمع بين المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها، سواء كانت عمة وخالة حقيقية، وهي أخت الأب وأخت الأم، أو مجازية، وهي أخت أبي الأب وأبي الجد وإن علا، أو أخت أم الأم وأم الجد من جهتي الأم والأب، وإن علت، فكلهن بإجماع العلماء يحرم الجمع بينهن. قال: وقالت طائفة من الخوارج والشيعة: يجوز، واحتجوا بقوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} [النساء: 24]. واحتج الجمهور بهذه الأحاديث، خصوا بها الآية، والصحيح الذي عليه جمهور الأصوليين جواز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، لأنه صلى الله عليه وسلم مبين للناس ما أنزل إليهم من كتاب الله، ثم قال: وأما الجمع بينهما في الوطء، بملك اليمين كالنكاح، فهو حرام عند العلماء كافة، وعند الشيعة مباح، قالوا: ويباح أيضاً الجمع بين الأختين بملك اليمين. قالوا: وقوله تعالى: {وأن تجمعوا بين الأختين} [النساء: 23]. إنما هو في النكاح، وقال العلماء كافة: هو حرام كالنكاح، لعموم قوله تعالى {وأن تجمعوا بين الأختين} وقولهم: إنه مختص بالنكاح لا يقبل، بل جميع المذكورات في الآية محرمات بالنكاح وبملك اليمين جميعاً، ومما يدل عليه قوله تعالى: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم} [النساء: 24]. فإن معناه أن ملك اليمين يحل وطؤها بملك اليمين، لا نكاحها، فإن عقد النكاح عليها لا يجوز لسيدها. قال: وأما باقي الأقارب -كالجمع بين بنتي العم أو بنتي الخالة أو نحوهما فجائز عندنا وعند العلماء كافة، إلا ما حكاه القاضي عياض عن بعض السلف أنه حرمه. دليل الجمهور قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} قال: وأما الجمع بين زوجة رجل وبنته من غيرها [صورته أن يتزوج امرأة كانت زوجة لرجل ومات عنها أو طلقها وله بنت من غيرها، يريد أن يجمع بين زوجة ذلك الرجل وبنته من غيرها التي كانت كربيبة لها] فجائز عندنا وعند مالك وأبي حنيفة والجمهور، وقال الحسن وعكرمة وابن أبي ليلى: لا يجوز. ثم قال: ولا فرق بين أن ينكح المرأتين معاً في صيغة واحدة، أو تقدم هذه أو هذه، فالجمع بينهما حرام كيف كان، وقد جاء في رواية أبي داود وغيره "لا تنكح الصغرى على الكبرى، ولا الكبرى على الصغرى" لكن إن عقد عليهما معاً بعقد واحد فنكاحهما باطل، وإن عقد على إحداهما ثم الأخرى فنكاح الأولى صحيح، ونكاح الثانية باطل. أما حكم سؤال الزوج طلاق زوجته فهو حرام، ففي رواية البخاري "لا يحل" قال الحافظ ابن حجر: هذا اللفظ ظاهر في تحريم ذلك، وهو محمول على ما إذا لم يكن هناك سبب يجوز ذلك، كريبة

في المرأة، لا ينبغي معها أن تستمر في عصمة الزوج، فيكون ذلك على سبيل النصيحة المحضة، أو لضرر يحصل لها من الزوج، أو للزوج منها، أو يكون سؤالها ذلك بعوض وللزوج رغبة في ذلك، فيكون كالخلع مع الأجنبي، إلى غير ذلك من المقاصد المختلفة. وقال ابن حبيب: حمل العلماء هذا النهي على الندب، فلو فعلت ذلك ونكحت لم يفسخ النكاح، وتعقبه ابن بطال بأن نفي الحل صريح في التحريم، ولكن لا يلزم منه فسخ النكاح، وإنما فيه التغليظ على المرأة أن تسأل طلاق الأخرى، ولترضى بما قسم الله لها. والله أعلم

(366) باب تحريم نكاح المحرم وكراهة خطبته

(366) باب تحريم نكاح المحرم وكراهة خطبته 3052 - عن نبيه بن وهب: أن عمر بن عبيد الله أراد أن يزوج طلحة بن عمر، بنت شيبة ابن جبير. فأرسل إلى أبان بن عثمان يحضر ذلك. وهو أمير الحج. فقال أبان: سمعت عثمان بن عفان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب". 3053 - عن نبيه بن وهب. قال: بعثني عمر بن عبيد الله بن معمر. وكان يخطب بنت شيبة بن عثمان على ابنه. فأرسلني إلى أبان بن عثمان وهو على الموسم. فقال: ألا أراه أعرابياً "إن المحرم لا ينكح ولا ينكح". أخبرنا بذلك عثمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. 3054 - عن نبيه بن وهب، عن أبان بن عثمان عن عثمان بن عفان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب". 3055 - عن عثمان رضي الله عنه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المحرم لا ينكح ولا يخطب". 3056 - عن نبيه بن وهب: أن عمر بن عبيد الله بن معمر أراد أن ينكح ابنه، طلحة بنت شيبة بن جبير. في الحج وأبان ابن عثمان يومئذ أمير الحاج. فأرسل إلى أبان: إني قد أردت أن أنكح طلحة بن عمر. فأحب أن تحضر ذلك. فقال له أبان: ألا أراك عراقياً جافياً! إني سمعت عثمان بن عفان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا ينكح المحرم". 3057 - عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم. زاد ابن نمير: فحدثت به الزهري فقال: أخبرني يزيد بن الأصم: أنه نكحها وهو حلال.

3058 - عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم. 3059 - عن يزيد بن الأصم، حدثتني ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال. قال: وكانت خالتي وخالة ابن عباس. -[المعنى العام]- كان الإحرام بالحج أو العمرة سبباً في تحريم كثير من الترفه والمتع والملذات، فحرم على المحرم لبس المخيط المحيط الذي هو على هيئة لباس الزينة في غير الإحرام، وحرم عليه الحذاء وتغطية كل القدم، وحرم عليه الطيب، وتغطية الرأس من الرجل والوجه من المرأة، وحرم عليه النساء. ولما كان عقد الزواج باعثاً على الوطء ومبيحاً له، ولما كان الهدف الأساسي من العقد هو النكاح منع العقد وحرم على المحرم، كما تحرم الوسيلة من أجل الغاية، فقال صلى الله عليه وسلم: إن المحرم لا ينكح ولا ينكح، ولا يخطب، أي لا يعقد لنفسه عقد زواج، ذكراً كان أو أنثى، ولا يعقد لغيره عقد زواج، ولو كان هذا الغير ليس محرماً، وانتشر هذا الحكم بين المسلمين، حتى عد الجاهل به بدوياً أو أعرابياً، قليل العلم والمعرفة، بعيداً عن الثقافة والحضارة، وقد رويت هذه القصة كمناسبة لذكر هذا الحديث. فقد كان أبان بن عثمان بن عفان أميراً للحج في زمن خلافة أبيه رضي الله عنه، وكان من عادة الناس كأيامنا يتشرف أهل العروس بدعوة كبراء القوم؛ ليحضروا حفل عقد القران، وأراد أحد المحرمين بالحج أن يزوج ابنه ويعقد له على عروسه في زمن الحج، وفي الحرم، تيمناً وتبركاً، وهو يجهل هذا الحكم، فأرسل إلى أمير الحج يدعوه لحضور عقد القران، فعجب أبان بن عثمان أمير الحج من جهل الداعي بالحكم، فروى له أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا ينكح المحرم لنفسه، ولا ينكح غيره مادام محرماً. فأجل عقد القران إلى ما بعد الحل اتباعاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. -[المباحث العربية]- (أن عمر بن عبيد الله أراد أن يزوج طلحة بن عمر، بنت شيبة) بنت شيبة واسمها أمة الحميد خطبها عمر لابنه طلحة قبل أن يحرموا بالحج، وفي موسم الحج، وبعد إحرامهم أراد عمر هذا أن يزوج ابنه طلحة خطيبته بنت شيبة، وأن يعقد عليها، ويدخل بها، وهم محرمون، فكان نبيه أن وهب الراوي مبعوث عمر إلى أمير الحج -أبان بن عثمان- يدعوه لحضور عقد القران تشريفاً وتكريماً. فساق الحديث.

وفي الرواية الخامسة "أن عمر أراد أن ينكح ابنه طلحة -أي يزوجه ويعقد له على- بنت شيبة". (لا ينكح المحرم ولا ينكح) بكسر الكاف فيهما، الأول بفتح الياء من الثلاثي، أي لا يتزوج المحرم، والثاني بضم الياء من الرباعي، أي لا ينكح غيره، ولا يزوج غيره امرأة بولاية ولا وكالة، قال النووي: سببه أنه لما منع من العقد لنفسه في مدة الإحرام صار كالمرأة، فلا يعقد لنفسه ولا لغيره، وظاهر هذا العموم أنه لا فرق بين أن يزوج بولاية خاصة كالأب والأخ والعم ونحوهم، أو بولاية عامة، وهو السلطان والقاضي ونائبه. (بنت شيبة بن عثمان) هكذا هو في الرواية الثانية من طريق يحيى عن مالك، وفي الرواية الأولى والخامسة "بنت شيبة بن جبير" من طريق حماد عن أيوب، قال النووي: وزعم أبو داود أن رواية حماد هي الصواب، وأن مالكاً وهم فيه، وقال الجمهور: بل قول مالك هو الصواب، فإنها بنت شيبة بن جبير بن عثمان الحجبي، قال القاضي: ولعل من قال: شيبة بن عثمان نسبه إلى جده، فلا يكون خطأ، بل الروايتان صحيحتان. (ألا أراك عراقياً جافياً) قال النووي: هكذا هو في جميع نسخ بلادنا "عراقياً" وذكر القاضي أنه وقع في بعض الروايات "عراقياً" وفي بعضها "أعرابياً" قال: وهو الصواب، أي جاهلاً بالسنة، والأعرابي هو ساكن البادية. قال: و"عراقياً" هنا خطأ، إلا يكون قد عرف من مذهب أهل الكوفة حينئذ جواز نكاح المحرم، فيصح "عراقياً" أي آخذاً بمذهبهم في هذا، جاهلاً بالسنة. (وكانت خالتي وخالة ابن عباس) ميمونة بنت الحارث الهلالية أم المؤمنين، زوجة النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم أبا رافع يخطبها -كان ذلك في عمرة القضاء - فجعلت أمرها إلى العباس، عمه صلى الله عليه وسلم وزوج أختها لبابة الكبرى، فزوجها النبي صلى الله عليه وسلم فهي خالة ابن عباس، ولها أخت ثالثة اسمها أم برزة بنت الحارث الهلالية وهي أم الراوي فهو يروي عن خالته ميمونة في الرواية الثامنة ولها أخت رابعة واسمها لبابة الصغرى، وهي أم خالد بن الوليد. ولعل في قول يزيد بن الأصم "وكانت خالتي وخالة ابن عباس" إشارة إلى خطأ ابن عباس في الروايتين السادسة والسابعة، حيث إن مصدر الصواب قريب منه. -[فقه الحديث]- اختلف العلماء في نكاح المحرم لاختلاف الأحاديث الصحيحة في ذلك، فالرواية عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم، وبقية أحاديث الباب تحرم نكاح المحرم. فقال مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء من الصحابة فمن بعدهم: لا يصح نكاح المحرم، واعتمدوا أحاديث الباب -عدا روايتي ابن عباس- وقال أبو حنيفة والكوفيون: يصح نكاحه، لحديث قصة ميمونة [في روايتي ابن عباس السادسة والسابعة].

وأجاب الجمهور عن روايتي ابن عباس بأجوبة: أصحها: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما تزوجها حلالاً. قال النووي: هكذا رواه أكثر الصحابة. قال القاضي وغيره: ولم يرو أنه تزوجها محرماً إلا ابن عباس وحده، [وتعقبه الحافظ ابن حجر، فقال: جاء مثله صحيحاً عن عائشة وأبي هريرة] وروت ميمونة [روايتنا الثامنة] وأبو رافع وغيرهما أنه تزوجها حلالاً، وهم أعرف بالقضية، لتعلقها بهم، بخلاف ابن عباس، ولأنهم أضبط من ابن عباس، وأكثر، قال ابن عبد البر: اختلفت الآثار في هذا الحكم، لكن الرواية أنه تزوجها وهو حلال جاءت من طرق شتى، وحديث ابن عباس صحيح الإسناد، لكن الوهم إلى الواحد أقرب منه إلى الجماعة، فأقل أحوال الخبرين أن يتعارضا، فتطلب الحجة من غيرهما، وحديث عثمان صحيح. الجواب الثاني: تأويل حديث ابن عباس، على أنه تزوجها في الحرم، وهو حلال، فإنه يقال لمن هو في الحرم: محرم، وإن كان حلالاً، وكذا في الشهر الحرام، وهي لغة شائعة معروفة. ومنه البيت المشهور: قتلوا ابن عفان الخليفة محرماً أي في البلد الحرام، أي في حرم المدينة. قال الحافظ ابن حجر: وإلى هذا التأويل جنح ابن حبان، فجزم به في صحيحه. الجواب الثالث: أن الأحاديث المحرمة قول، وحديث ابن عباس فعل للرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا تعارض القول والفعل ترجح القول عند الأصوليين على الصحيح، لأنه يتعدى إلى الغير، والفعل قد يكون مقصوراً عليه. الجواب الرابع: قريب من الثالث، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له أن يتزوج في حال الإحرام، وهو مما خص به دون الأمة. قال النووي: وهو جواب جماعة من أصحابنا، وهو أصح الوجهين، والوجه الثاني أنه حرام في حقه كغيره، وليس من الخصائص. الجواب الخامس: يترجح حديث عثمان بأنه تقعيد قاعدة، وحديث ابن عباس واقعة عين، فيحتمل أن ابن عباس كان يرى أن من قلد الهدي في عمرته أو حجته يصير محرماً، وإن لم يحرم، كما تقدم تقرير ذلك عنه في كتاب الحج، والنبي صلى الله عليه وسلم كان قد قلد الهدي في عمرته تلك التي تزوج فيها ميمونة، فيكون إطلاقه أنه صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو محرم، أي عقد عليها بعد أن قلد الهدي، وإن لم يكن تلبس بالإحرام، وذلك أنه كان أرسل إليها أبا رافع يخطبها، وقد أخرج الترمذي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما عن أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال، وبنى بها وهو حلال، وكنت أنا الرسول بينهما" قال الطبري: قصة ميمونة تعارضت الأخبار فيها، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد بعث إلى العباس لينكحها إياه، فأنكحه، فقال بعضهم: أنكحها قبل أن يحرم النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: بعدما أحرم. الجواب السادس: يحتمل أن النهي عن نكاح المحرم كان بعد عمرة القضاء وبعد زواج ميمونة، ولم يعلم به ابن عباس والله أعلم.

ثم قال النووي: واعلم أن النهي عن النكاح والإنكاح في حال الإحرام نهي تحريم، فلو عقد لم ينعقد، سواء كان المحرم هو الزوج أو الزوجة، أو العاقد لهما بولاية أو وكالة، فالنكاح باطل في كل ذلك، حتى لو كان الزوجان والولي محلين، ووكل الولي أو الزوجان محرماً في العقد لم ينعقد. أما النهي عن الخطبة فهو نهي تنزيه، ليس بحرام، وكذلك يكره للمحرم أن يكون شاهداً في نكاح عقده المحلون، وقال بعض أصحابنا: لا ينعقد بشهادته، لأن الشاهد ركن في النكاح كالولي، والصحيح الذي عليه الجمهور انعقاده. والله أعلم

(367) باب تحريم الخطبة على الخطبة حتى يأذن الخاطب أو يترك

(367) باب تحريم الخطبة على الخطبة حتى يأذن الخاطب أو يترك 3060 - عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يبع بعضكم على بيع بعض. ولا يخطب بعضكم على خطبة بعض". 3061 - عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال "لا يبع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، إلا أن يأذن له". 3062 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع حاضر لباد. أو يتناجشوا. أو يخطب الرجل على خطبة أخيه. أو يبيع على بيع أخيه. ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفئ ما في إنائها. أو ما في صحفتها. زاد في رواية: ولا يسم الرجل على سوم أخيه. 3063 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تناجشوا. ولا يبع المرء على بيع أخيه. ولا يبع حاضر لباد. ولا يخطب المرء على خطبة أخيه. ولا تسأل المرأة طلاق الأخرى لتكتفئ ما في إنائها". 3064 - وفي رواية "ولا يزد الرجل على بيع أخيه". - /5 عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يسم المسلم على سوم أخيه، ولا يخطب على خطبته".

3066 - وفي رواية "على سوم أخيه، وخطبة أخيه". 3067 - عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "المؤمن أخو المؤمن. فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه. ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر". -[المعنى العام]- يحرص الإسلام كل الحرص على ما من شأنه أن يغرس المودة والمحبة بين أفراد المجتمع، وما من شأنه، أن يقوي من الترابط والتساند بين الأسرة، وينأى بكل الوسائل عما من شأنه أن يقطع أوصاله، ويفرق مجتمعه، ويبذر بينهم بذور الشقاق والقطيعة والعداوة والبغضاء. ولما كانت المرأة عنصراً مهماً في العلاقات بين الناس، بل العنصر الأساسي والمهم في الترابط وفي التقاطع كليهما كانت موضع اهتمام الشارع الحكيم، وكان الصراع بين الأفراد من أجلها هو الموضوع الأساسي لهذه الأحاديث. لا يخطب الرجل على خطبة أخيه. لا يخطب بعضكم على خطبة بعض، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها، فإنما لها ما قدر لها. إن الخاطب الأول اكتسب حقاً بقبول المرأة المخطوبة، ورضاها به، وركونها إليه، وليس من الأخلاق الكريمة، ولا من المباحات الشرعية أن يعتدي عليه في هذا الحق من يرى نفسه أحق بها منه، أو من يقدر على إغرائها أو إغراء أهلها أكثر منه، فإنما لكل ما قدر الله له. وإذا حرمت الخطبة على الخطبة كانت حرمة الإيقاع بين الزوجين المتعاقدين على الزواج وقبل الدخول أشد حرمة ثم الإيقاع بين الداخلين أشد وأشد وأشد. والكلام عادة يجمع بين أطرافه جامع مشترك، فلما نهي عن الخطبة على الخطبة ربط به النهي عن البيع على البيع والسوم على السوم، والخداع في البيع، وتلقي الركبان، واستغلال الحاضر للبادي، ليؤكد بذلك أن الهدف العام هو المحافظة على روابط المودة والمحبة والإخاء بين أفراد المجتمع الإسلامي. -[المباحث العربية]- (لا يبيع بعضكم على بيع بعض، ولا يخطب بعضكم على خطبة أخيه) "لا يبيع" هكذا

هو في هذه الرواية، بإثبات الياء الثانية، مرفوع، و"لا" نافية، على الخبر، وهو أبلغ في المعنى من النهي، لما يفيده من أن النهي عنه قد اجتنب وأخبر عنه بعدم الحصول. و"لا يخطب" بضم الباء على الرفع عطفاً على المرفوع قبله، وهو أولى من جعل الواو استئنافية، و"لا" ناهية، و"يخطب" مجزوماً. و"خطبة" بكسر الخاء عرض النكاح، أما الخطبة بضم الخاء فهي ما يلقى من الكلمات في الجمعة وغيرها من المناسبات. والمراد بالأخ ما هو أعم من أخ النسب، بما يشمل الأخ في الإسلام قطعاً، والخلاف في الكافر إذا خطب ذمية، فأراد المسلم أن يخطب على خطبته، خلاف يأتي بين الفقهاء، ومن أدخله أدخله على التوسعة في الأخوة بأن جعلها في الإنسانية، أو بإلحاق الكافر بالمسلم في الحكم للعلة المشتركة بينهما، وهي منع الإيذاء. (إلا أن يأذن له) أي إلا أن يأذن الخاطب الأول للخاطب الثاني، وفي الرواية السادسة "حتى يذر" أي حتى يترك الخاطب الأول موضوع خطبته، وفي رواية البخاري "حتى ينكح أو يترك" وفي رواية له "حتى ينكح أو يدع" وقد استشكل قوله "حتى ينكح" أي حتى يتزوج الخاطب الأول، على اعتبار أنه لا يكون هناك خطبة على خطبة إذا تزوج المخطوبة الخاطب الأول؟ وأجيب بأن المراد حتى يتزوج الخاطب الأول امرأة أخرى، فيعتبر معرضاً عن المخطوبة المقصودة بخطبة الثاني، ورد باحتمال أن يقصد الزواج من اثنتين، فتبقى خطبته لواحدة مع زواجه بأخرى، والأولى أن يراد حتى يتزوج الخاطب الأول المخطوبة المتنافس عليها، فيحصل له اليأس، فيكون من قبيل {حتى يلج الجمل في سم الخياط} [الأعراف: 40] فكأنه قال: لا يخطب بعضكم على خطبة أخيه أبداً. (نهى أن يبيع حاضر لباد) "أن يبيع" أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، أي نهي عن بيع الحاضر للبادي، أي أن يكون سمساراً له، والحاضر من كان من أهل الحضر، أي المدن والقرى، والبادي من كان من أهل البادية، أي المضارب والخيام، وصورة هذا البيع أي يجيء البلد غريب بسلعة يريد بيعها بسعر الوقت في الحال، فيأتيه حضري، فيقول له: ضعها عندي لأبيعها لك على التدريج بأغلى من هذا السعر، والمبيع مما تعم الحاجة إليه، ويلحق بالبادي في ذلك كل من شاركه في عدم معرفة السعر الحاضر، وكل ما يلحق به ضرر بأهل البلد، ضرر ينشأ عن الإشارة بتأجيل البيع، وللمسألة شروط عند الفقهاء تأتي في كتاب البيع إن شاء الله. (أو يتناجشوا) معطوف على "يبيع" أي نهى عن أن يتناجشوا، والضمير للمسلمين، وليس خاصاً بالحاضر والبادي، وأصل النجش في اللغة تنفير الصيد من مكانه ليصاد، والمراد منه هنا الزيادة في ثمن السلعة ممن لا يريد شراءها، ليوقع غيره فيها، سمي بذلك لأن الناجش يثير الرغبة في السلعة ليوقع المشتري، كما يثير الصائد الصيد ليقع في الشباك. وفي الرواية الرابعة "لا تناجشوا" بالنهي، وأصله لا تتناجشوا بتاءين، فحذف إحدى التاءين. والتناجش كما يكون بمواطأة البائع وفي صالحه يكون بمواطأة المشتري وفي صالحه.

(أو يبيع على بيع أخيه) صورته أن يقول لمن اشترى سلعة في زمن خيار المجلس أو الشرط: افسخ لأبيعك خيراً منها بمثل ثمنها، أو مثلها بأنقص، ومثل ذلك الشراء على الشراء، كأن يقول للبائع: افسخ لأشتري منك بأكثر، وفي الرواية السادسة: "فلا يحل لمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه"، وسيأتي في كتاب البيوع. (ولا تسأل المرأة طلاق أختها) سبق الكلام عنه في الباب قبل السابق. (ولا يسم الرجل على سوم أخيه) سبق في الباب قبل السابق. -[فقه الحديث]- قال النووي: هذه الأحاديث ظاهرة في تحريم الخطبة على الخطبة، وأجمعوا على تحريمها، إذا كان قد صرح للخاطب بالإجابة، ولم يأذن ولم يترك، فلو خطب على خطبته وتزوج والحالة هذه عصى، وصح النكاح، ولم يفسخ هذا مذهبنا ومذهب الجمهور، وقال داود: يفسخ النكاح، وعن مالك روايتان، وقال جماعة من أصحاب مالك: يفسخ قبل الدخول، لا بعده، وحجة الجمهور أن المنهي عنه الخطبة، والخطبة ليست شرطاً في صحة النكاح، فلا يفسخ، النكاح بوقوعها غير صحيحة. أما إذا عرض له بالإجابة ولم يصرح -كقولها: لا رغبة عنك. أنت يتمناك الكثيرون-ففي تحريم الخطبة على خطبته قولان للشافعي، أصحهما لا يحرم، وهو قول المالكية والحنفية، وقال بعض المالكية: لا يحرم حتى يرضوا بالزوج، ويسمى المهر. أما إذا لم ترد ولم تقبل فيجوز أن يخطب الآخر، والحجة في ذلك حديث فاطمة بنت قيس، حديث خطبها معاوية وأبو جهم -فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم خطبة بعضهم على بعض -لأنها لم تكن قبلت أحدهما- وخطبها صلى الله عليه وسلم لأسامة. قال النووي: ولا حجة فيه، لاحتمال أن يكونا خطبا معاً، أو لم يعلم الثاني بخطبة الأول، والنبي صلى الله عليه وسلم أشار بأسامة، ولم يخطب، وعلى تقدير أن يكون خطب فكأنه لما ذكر لها ما في معاوية وأبي جهم ظهر فيها الرغبة عنهما، فخطبها لأسامة. وحكى الترمذي عن الشافعي أن معنى حديث الباب: إذا خطب الرجل المرأة، فرضيت به، وركنت إليه، فليس لأحد أن يخطب على خطبته، فإذا لم يعلم برضاها، ولا ركونها، فلا بأس أن يخطبها، والحجة في ذلك قصة فاطمة بنت قيس، فإنها لم تخبره برضاها بواحد منهما، ولو أخبرته بذلك لم يشر عليها بغير من اختارت. قال الحافظ ابن حجر: واستدل بقوله "إلا أن يأذن له" على أن الخاطب الأول إذا أذن للخاطب الثاني في التزويج ارتفع التحريم، ولكن هل يختص ذلك بالمأذون له؟ أو يتعدى لغيره؟ يميل الحافظ ابن حجر إلى الثاني، لأن مجرد الإذن الصادر من الخاطب الأول دال على إعراضه عن تزويج تلك المرأة، وبإعراضه يجوز لغيره أن يخطبها، فيكون الجواز للمأذون له بالتنصيص، ولغير المأذون له بالإلحاق. اهـ

ولسنا مع الحافظ ابن حجر في هذا، فقد يكون الإذن خاصاً بالمأذون له، لفضيلة فيه ليست في غيره مع عدم الإعراض عن تلك المرأة. وصرح الروياني من الشافعية بأن محل التحريم إذا كانت الخطبة من الأول جائزة، فإن كانت ممنوعة، كخطبة المعتدة لم يضر الثاني بعد انقضاء العدة أن يخطبها، لأن الأول لم يثبت له حق بذلك. واستدل بلفظ "أخيه" على أن محل التحريم إذا كان الخاطب مسلماً، فلو خطب الذمي ذمية فأراد المسلم أن يخطبها جاز له ذلك مطلقاً، وهو قول الأوزاعي، ووافقه من الشافعية ابن المنذر وابن جويرية. والخطابي، ويؤيده حديث "المؤمن أخو المؤمن، فلا يحل للمؤمن .... إلخ روايتنا السادسة. قال الخطابي: قطع الله الأخوة بين الكافر والمسلم، فيختص النهي بالمسلم، وقال ابن المنذر: الأصل في هذا الإباحة حتى يرد المنع، وقد ورد المنع مقيداً بالمسلم، فبقي ما عداه على أصل الإباحة، وذهب الجمهور إلى إلحاق الذمي بالمسلم في ذلك، وأن التعبير بأخيه خرج على الغالب، فلا مفهوم له. ونقل ابن القاسم عن مالك أن الخاطب الأول إذا كان فاسقاً جاز للعفيف أن يخطب على خطبته، ورجحه ابن العربي. قال الحافظ: وهو متجه فيما إذا كانت المخطوبة عفيفة، فيكون الفاسق غير كفء لها، فتكون خطبته كلا خطبة، ولم يعتبر الجمهور ذلك إذا صدرت منها علامة القبول. ويلحق بهذا ما حكاه بعضهم من الجواز إذا لم يكن الخاطب الأول أهلاً لخطبة تلك المرأة، كما لو خطب سوقى بنت ملك، وهذا يرجع إلى التكافؤ. واستدل به على تحريم خطبة المرأة على خطبة المرأة، إلحاقاً لحكم النساء بحكم الرجال. والله أعلم

(368) باب تحريم نكاح الشغار

(368) باب تحريم نكاح الشغار 3068 - عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار، والشغار أن يزوج الرجل ابنته، على أن يزوجه ابنته. وليس بينهما صداق. 3069 - عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله. غير أن في حديث عبيد الله قال: قلت لنافع: ما الشغار؟ . 3070 - عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار. 3071 - عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا شغار في الإسلام". 3072 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشغار. زاد ابن نمير: والشغار أن يقول الرجل للرجل: زوجني ابنتك وأزوجك ابنتي. أو زوجني أختك وأزوجك أختي. 3073 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشغار. -[المعنى العام]- في الجاهلية كان ولي المرأة يستولي على صداقها، وكان يعتبر الصداق حقاً له، لا لها، وكان من صور هذا الاستيلاء المجحف أن يجعل صداق وليته صداقاً لزوجة يتزوجها، كان ذلك نوعاً من نكاح الجاهلية، يزوج الرجل ابنته أو أخته أو أي امرأة له ولاية عليها إلى رجل آخر، على أن يزوجه هذا الآخر بنته أو أخته أو امرأة له عليها ولاية، ولا يدفع أي منهما صداقاً، فجاء الإسلام بأن المهر حق للمرأة، وليس للولي أن يستولي عليه، ولا أن يجعله عوضاً لشيء يخصه هو، فقال تعالى {وآتوا النساء

صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً} [النساء: 4]. وجاء الحديث الشريف بالنهي عن الشغار. -[المباحث العربية]- (نهى عن الشغار) بكسر الشين، أصله في اللغة الرفع، يقال: شغر الكلب إذا رفع رجله ليبول، وشغرت المرأة إذا رفعت رجلها عند الجماع وفي الشرع -كما فسره نافع- أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه ابنته، وليس بينهما صداق، وكأن بضع كل منهما صداق للأخرى، كأن كلاً منهما قال لصاحبه: لا ترفع رجل بنتي حتى أرفع رجل بنتك. وقيل: هو من شغر البلد إذا خلا، سمي بذلك لخلوه عن الصداق، ومعنى "نهى عن الشغار" أي نهى عن نكاح الشغار، ففي الكلام مضاف محذوف. -[فقه الحديث]- كان الشغار من نكاح الجاهلية، فحرمه الإسلام، وفي علة النهي خلاف بين الفقهاء، قيل: هو خلو بضع كل منهما من الصداق، وقيل: هو تزويج كل من الوليين وليته للآخر بشرط أن يزوجه وليته، وقيل: العلتان معاً، فعلى الأخير ليس من نكاح الشغار الممنوع أن يزوج كل منهما الآخر بغير شرط وإن لم يذكر الصداق، وليس منه أن يزوج كل منهما الآخر بالشرط مع ذكر صداق، وذهب أكثر الشافعية إلى أن علة النهي الاشتراك في البضع، لأن بضع كل منهما يصير مورد العقد، وجعل البضع صداقاً مخالف لإيراد عقد النكاح. قال الخطابي: كان أبو هريرة يشبهه برجل تزوج امرأة، واستثنى عضواً من أعضائها؛ وذلك أنه يزوج وليته ويستثني بضعها، حيث يجعله صداقاً للأخرى. وقال القفال: العلة في البطلان التعليق والتوقيف، فكأنه يقول: لا ينعقد لك نكاح ابنتي حتى ينعقد لي نكاح بنتك. ومهما كانت علة النهي، فقد أجمعوا على أنه منهي عنه، لكن اختلفوا في صحته، فعند الشافعي يقتضي إبطاله، وحكاه الخطابي عن أحمد، وقال مالك يفسخ قبل الدخول، لا بعده، وفي رواية عنه: يفسخ قبل الدخول وبعده، وذهب الحنفية إلى صحته ووجوب مهر المثل، وهو قول الزهري ومكحول والثوري والليث ورواية عن أحمد وإسحق وأبي ثور وهو قول على مذهب الشافعية وقال النووي: وأجمعوا على أن غير البنات من الأخوات، وبنات الأخ والعمات، وبنات الأعمام والإماء كالبنات في هذا.

(369) باب الوفاء بالشرط في النكاح

(369) باب الوفاء بالشرط في النكاح 3074 - عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أحق الشرط أن يوفى به، ما استحللتم به الفروج" هذا لفظ حديث أبي بكر وابن المثنى. غير أن ابن المثنى قال "الشروط". -[المعنى العام]- النكاح عقد شركة طويلة الأمد، تقوم عليه الحياة، وتترتب عليه آثار جمة ومهمة، وباستقراره تستقر أكثر أمور العيش، وبقلقه يتأرجح قارب النجاة. من هنا حرص الشارع على إحاطته بحصانات وحمايات، وأهم هذه الوقايات التزام كل من الطرفين بواجباته الشرعية، وأداؤه حقوق الآخرين، ووفاء كل بما اشترط لنفسه وعلى نفسه، وللطرف الآخر وعليه، من الشروط التي يجيزها الإسلام. ويقبلها شرعه الحكيم، فإن أحق الشروط بالوفاء تلك الشروط التي تتعلق بالأسرة وبنائها، وسعادتها أو شقائها. -[المباحث العربية]- (إن أحق الشرط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج) "أحق" اسم "إن" و"الشرط" مضاف إليه، والمصدر المنسبك من "أن يوفى به" مجرور بحرف جر محذوف متعلق بـ "أحق" والتقدير: إن أحق الشروط بالوفاء ما استحللتم به الفروج، فالخبر "ما استحللتم به الفروج" أي شروط النكاح. و"أن يوفى" بضم الياء وسكون الواو وفتح الفاء، مبني للمجهول من أوفى، وفي رواية البخاري "أحق ما أوفيتم". -[فقه الحديث]- قال الخطابي: الشروط في النكاح مختلفة: منها ما يجب الوفاء به اتفاقاً، وهو ما أمر الله به، من إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان، وعليه حمل بعضهم هذا الحديث.

ومنها ما لا يوفى به اتفاقاً، كسؤال طلاق أختها. ومنها ما اختلف فيه، كاشتراط أن لا يتزوج عليها، أو لا ينقلها من منزلها. وعند الشافعية: الشروط في النكاح على ضربين: منها ما يرجع إلى الصداق، فيجب الوفاء به، ومنها ما يكون خارجاً عنه فيختلف الحكم فيه، فإن كانت هذه الشروط لا تنافي مقتضى النكاح، بل تكون من مقتضياته ومقاصده، فيجب الوفاء بها، كاشتراط العشرة بالمعروف، والإنفاق، والكسوة، والسكنى، وألا يقتصر في شيء من حقها، من قسمة ونحوها، وكشرطه عليها ألا تخرج إلا بإذنه، ولا تمنعه نفسها، ولا تتصرف في متاعه إلا برضاه ونحو ذلك. وإن كانت هذه الشروط تنافي مقتضى النكاح، كأن لا يقسم لها، أو لا يتزوج عليها، أو لا ينفق عليها، أو نحو ذلك، فلا يجب الوفاء بها، بل إن وقع في صلب العقد لغاً، وصح النكاح بمهر المثل إن كان قد جعل المهر كله أو بعضه مقابلاً لهذا الشرط، وفي قول: يجب المهر المسمى، ولا أثر للشرط. وهو قول الليث والثوري والجمهور، حتى لو كان صداق مثلها مائة مثلاً، فرضيت بخمسين على ألا يخرجها فله إخراجها ولا يلزمه إلا المسمى، وقالت الحنفية: لها أن ترجع عليه بما نقصته له من الصداق. وحجتهم حديث "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل" وحقوق الزوج إذا شرط عليه إسقاط شيء منها كان شرطاً ليس في كتاب الله فيبطل. وحديث "المسلمون عند شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً، أو حرم حلالاً" وحديث "المسلمون عند شروطهم ما وافق الحق". وبهذا حكم علي رضي الله عنه، واختلفت الروايات عن عمر رضي الله عنه، فقد روى أن رجلاً تزوج امرأة فشرط لها أن لا يخرجها من دارها. فارتفعوا إلى عمر، فوضع الشرط، وقال: المرأة مع زوجها. وروي أنه قال في هذه القضية: "لها شرطها، قال الرجل: هلك الرجال، إذن لا تشاء امرأة أن تطلق زوجها إلا طلقت. فقال عمر: المؤمنون على شروطهم. إن مقاطع الحقوق عند الشروط، ولها ما اشترطت" وقال أحمد وجماعة: يجب الوفاء بالشرط مطلقاً. ويتعلق بهذه القضية مسألة ما يشترطه الولي لنفسه من مال وغيره، يدفعه الزوج له، ويعرف في بعض البلاد بالحلوان، فقيل: هو حق للمرأة مطلقاً، ولا حق فيه للولي، وهو قول عطاء وجماعة من التابعين، وبه قال الثوري وأبو عبيد، وقيل: هو لمن شرطه. قاله مسروق وعلي بن الحسين، وقيل: يختص ذلك بالأب، دون غيره من الأولياء. وقال الشافعي: إن وقع في نفس العقد وجب للمرأة مهر مثلها، وإن وقع خارجاً عنه لم يجب، وقال مالك: إن وقع في حال العقد فهو من جملة المهر، وإن وقع خارجاً عنه فهو لمن وهب له. والله أعلم

(370) باب استئذان الثيب والبكر في النكاح وتزويج الأب البكر الصغيرة

(370) باب استئذان الثيب والبكر في النكاح وتزويج الأب البكر الصغيرة 3075 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تنكح الأيم حتى تستأمر. ولا تنكح البكر حتى تستأذن" قالوا: يا رسول الله! وكيف إذنها؟ قال "أن تسكت". 3076 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجارية ينكحها أهلها. أتستأمر أم لا؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم "نعم. تستأمر" فقالت عائشة: فقلت له: فإنها تستحيي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فذلك إذنها إذا هي سكتت". 3077 - عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأيم أحق بنفسها من وليها. والبكر تستأذن في نفسها. وإذنها صماتها؟ " قال: نعم. 3078 - عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الثيب أحق بنفسها من وليها. والبكر تستأمر. وإذنها سكوتها". 3079 - عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الثيب أحق بنفسها من وليها. والبكر يستأذنها أبوها في نفسها وإذنها صماتها" وربما قال "وصمتها إقرارها".

3080 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم لست سنين. وبنى بي وأنا بنت تسع سنين. قالت: فقدمنا المدينة فوعكت شهراً. فوفى شعري جميمة. فأتتني أم رومان، وأنا على أرجوحة، ومعي صواحبي. فصرخت بي فأتيتها. وما أدري ما تريد بي. فأخذت بيدي. فأوقفتني على الباب. فقلت: هه هه. حتى ذهب نفسي. فأدخلتني بيتاً فإذا نسوة من الأنصار. فقلن: على الخير والبركة. وعلى خير طائر. فأسلمتني إليهن. فغسلن رأسي وأصلحنني. فلم يرعني إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى. فأسلمنني إليه. 3081 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا بنت ست سنين. وبنى بي وأنا بنت تسع سنين. 3082 - عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي بنت سبع سنين. وزفت إليه وهي بنت تسع سنين. ولعبها معها. ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة. 3083 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بنت ست. وبنى بها وهي بنت تسع. ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة. -[المعنى العام]- كانت المرأة قبل الإسلام تعامل معاملة الحيوان عند كثير من العرب، وكان البعض يستغلها في الفاحشة حتى نزل فيهم قوله تعالى {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا} [النور: 33]. وكانت عند عامة العرب تساق من بيت أبيها إلى بيت زوجها وقد لا تدري من هو؟ لا تستشار بشأنه، ولا تراه إلا وهي في بيته، وحتى لو رأته وعلمته ورفضته لا قيمة لرفضها، ولا يعبأ باعتراضها، فكانت أمام هذه المعاملة لا تعترض وهي كارهة خشية العواقب، فقد كان العضل والحبس والمنع من الزواج والضرب والإذلال أسلوب معاملة الأولياء للمرأة. وجاء النور من الله على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ليبدد الظلام الدامس الذي كانت تعيش فيه، وهب نسيم الحرية لتستنشق هواء العزة والكرامة والشعور بالإنسانية والشخصية في كل

مناحي الحياة: في العقيدة، والعبادة، والتعليم، والخروج، والميراث، والمشاركة في شئون الحياة، بل والتخطيط لمستقبل حياتها قبل خروجها من بيت أبيها إلى بيت زوجها، لتقول كلمتها، وتبدي رأيها في شريك حياتها، فلا تزوج البكر رجلاً حتى تستأذن في أمر زواجها منه، إن أذنت نفذ، وإن لم تأذن لم ينفذ، ولا ينبغي أن يحول حياؤها الذي ورثته دون أخذ رأيها، بل يعرض الأمر عليها، ويؤخذ بقرائن رضاها حين سكوتها، وبقرائن رفضها، أما الثيب فلا بد من نطقها وإعلان موافقتها قبل زواجها. نعم للأب أن يزوج ابنته الصغيرة التي لا تدرك مصلحتها حين يتقدم لها كفء مشرف، كما زوج أبو بكر ابنته عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وحتى في مثل هذه الحالة لم يسلبها الإسلام حريتها حين تدرك، وحين لا ترضى بزوجها الذي اختاره لها أبوها، فحين اشتكت إحدى النساء ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم رد نكاحها، فيا سعادة المرأة في ظل الإسلام وتعاليمه، ويا شقاءها حين تتمرد على شرائعه وتطلب السعادة في غيره. -[المباحث العربية]- (لا تنكح الأيم حتى تستأمر) "لا تنكح" "لا" ناهية، والفعل مجزوم بالسكون، وحرك بالكسر، للتخلص من التقاء الساكنين، أو "لا" نافية، والفعل مرفوع بالضمة، والخبر أبلغ من النهي كما سبق مراراً. و"الأيم" بفتح الهمزة والياء المشددة المكسورة تطلق على امرأة لا زوج لها، صغيرة أو كبيرة، بكراً كانت أو ثيباً، باتفاق أهل اللغة، والأيمة بسكون الياء العزوبة، ويقال: رجل أيم، وامرأة أيم. واختلف العلماء في المراد بالأيم هنا شرعاً، وسيأتي تفصيل أقوالهم. ومعنى "تستأمر" أي يطلب أمرها، والمعنى لا يعقد عليها حتى يطلب الأمر منها، ولا يكفي أن يطلب الأمر منها، بل المراد لا يعقد عليها إلا بعد أن تأمر بذلك. (ولا تنكح البكر حتى تستأذن) أي حتى يطلب إذنها، والمراد حتى تأذن. (وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت) "أن تسكت" مصدر، خبر مبتدأ محذوف، أي إذنها سكوتها. وفي الرواية الرابعة "وإذنها سكوتها" وفي الرواية الثانية "قالت عائشة: فإنها تستحي" أي من أن تتكلم وتأذن "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذلك إذنها إذا هي سكتت" أي فاستحياؤها مع قرائن رضاها إذنها. "إذا هي سكتت" ولم يظهر منها أي قرينة على المعارضة وعدم الرضا، وفي الرواية الثالثة "وإذنها صماتها" والصمات بضم الصاد: السكوت، وفي رواية للبخاري "رضاها صمتها" وفي إحدى الروايات "سكاتها إذنها" وفي روايتنا الخامسة "وصمتها إقرارها".

(سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجارية ينكحها أهلها. أتستأمر) "ينكحها" بضم الياء وسكون النون وكسر الكاف، والمراد من "أهلها" وليها، والمراد من الجارية البكر، بدليل رواية البخاري "قالت: يا رسول الله، إن البكر تستحي"؟ ومن حكم البكر ووجوب استئمارها يعلم حكم الثيب من باب أولى. (الأيم أحق بنفسها من وليها) الظاهر أن المراد من "الأيم" هنا الثيب، وعليه علماء الحجاز وجمهور الفقهاء، لأمور ثلاثة: الأول: أنه جاء مفسراً بالثيب في الرواية الرابعة والخامسة. الثاني: أنها جعلت مقابلة للبكر. الثالث: أن أكثر استعمالها في اللغة في الثيب. وقال الكوفيون وزفر: الأيم هنا كل امرأة لا زوج لها، بكراً كانت أو ثيباً، كما هو مقتضاه في اللغة. قالوا: فكل امرأة بلغت فهي أحق بنفسها من وليها، وعقدها على نفسها النكاح صحيح، وبه قال الشعبي والزهري. واختلفوا أيضاً في المراد من كلمة "أحق" هل هي أفعل تفضيل على بابها؟ تدل على أن أمرين اشتركا في صفة، وزاد أحدهما على الآخر في هذه الصفة؟ بمعنى أن لها في النكاح في نفسها حقاً، ولوليها حقاً؟ وحقها أوكد من حق وليها؟ فإن أراد تزويجها كفؤاً وامتنعت لم تجبر؟ ولو أرادت أن تزوج كفؤاً فامتنع الولي أجبر؟ فإن أصر زوجها القاضي؟ لما لها من حق آكد، ومن رجحان حقها؟ وفيم هي أحق؟ هل هي أحق من وليها في الإذن والموافقة؟ أو في كل شيء من عقد وغيره؟ أو أفعل التفضيل ليس على بابه؟ والمراد وأن الأيم صاحبة الحق في نفسها في النكاح، ولا حق لوليها فيه، وأن الولي ليس من أركان صحة النكاح، بل هو من تمامه وكماله؟ كما قال الكوفيون وزفر والشعبي والزهري؟ أو أن للولي حقاً، لكن لها أن تعقد على نفسها بدونه، وتتوقف صحة النكاح على إجازته؟ كما قال الأوزاعي وأبو يوسف ومحمد؟ . (تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم لست سنين، وبنى بي وأنا بنت تسع سنين) أي عقد عليها وهي بنت ست سنين، وفي الرواية الثامنة "سبع سنين" ويجمع بينهما بأنها كان لها ست سنين وأشهر، فمرة جبر الكسر، ومرة ألغى الكسر. (فوعكت شهراً) بضم الواو وكسر العين وسكون الكاف، والوعك ألم الحمى. (فوفى شعري جميمة) معطوف على محذوف، تقديره، فتساقط شعر رأسي، فشفيت، فعاد شعري، فوفى -بفتح الواو والفاء مخففة- أي كثر ونما، حتى ظهر في هيئة جميمة -تصغير "جمة" بضم الجيم وتشديد الميم، وهي الشعر النازل إلى الأذنين ونحوهما، أي صار إلى هذا الحد، بعد أن كان قد ذهب بالمرض.

(فأتتني أم رومان وأنا على أرجوحة) "أم رومان" هي أم عائشة، وهي بضم الراء على المشهور، وحكى ابن عبد البر فتح الراء وسكون الواو، ورجحه، وخالفه النووي. والأرجوحة بضم الهمزة كانت آنذاك خشبة عرضها نحو ثلاثين سنتيمتراً، وطولها نحو ستة أمتار، يكون وسطها على مكان مرتفع، ويجلس الأطفال على طرفيها، ويحركونها، فيرتفع جانب منها، وينزل جانب. (فصرخت بي) أي فنادتني بصوت مرتفع. (فقلت: هه. هه. حتى ذهب نفسي) "هه. هه" بإسكان الهاء الثانية، هاء السكت، وهو تعبير عن النفس المضطرب، من شدة الشهيق والزفير من سرعة الجري، فيتتابع النفس، وقد يحدث هذا الصوت، ويعرف بالنهج بفتح الهاء، والنفس بفتح النون والفاء، أي حتى ذهب اضطرابي، وهدأ وسكن نفسي. (فإذا نسوة) بكسر النون وضمها، لغتان، الكسر أفصح وأشهر. (وعلى خير طائر) أصله من التيامن بالطير، ضد التشاؤم، كأنهن يقلن: على خير ما تيمنت، أي على خير حظ وخير نصيب، ويقال في الدعاء للمسافر: على الطائر الميمون، ويقال: فلان ميمون الطائر. (فلم يرعني إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى) "يرعني" بفتح الياء وضم الراء وسكون العين، من راعه إذا فاجأه، والاستثناء من أعم الفاعلين، أي لم يرعني شيء إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو حذفنا النفي والاستثناء لكان الأصل: راعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى، أي فاجأني دخوله علي ضحى. (ولعبها معها) بضم اللام وفتح العين، جمع لعبة، والمراد بها اللعب المسماة بالبنات والدمى الصغار من خيل وجمال من الصلصال، كان من عادة الجواري الصغار اللعب بها، والمقصود من هذه العبارة التنبيه إلى صغر سنها عند زفافها. (ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة) فمكثت عنده صلى الله عليه وسلم تسع سنين، وتوفيت -رضي الله عنها- سنة سبع وخمسين من الهجرة. ولفظ "ثماني" في الأصل منسوب إلى الثمن، لأنه الجزء الذي صير السبعة ثمانية، فهو ثمنها، ثم فتحوا الثاء، لأنهم يغيرون في النسب، وحذفوا إحدى ياءى النسب، وعوضوا عنها الألف، كما فعلوا في المنسوب إلى اليمن، فثبتت ياؤه عند الإضافة، وتسقط مع التنوين عند الرفع والجر، وتثبت عند النصب، "وثمان عشرة" بكسر النون، لتدل الكسرة على الياء المحذوفة.

-[فقه الحديث]- يمكن توزيع أحكام تزويج المرأة بإذن أو غير إذن حسب الصور الآتية: 1 - البكر غير البالغ يزوجها أبوها. أو يزوجها وليها غير أبيها. 2 - البكر البالغ يزوجها أبوها. أو يزوجها وليها غير أبيها. 3 - الثيب غير البالغ يزوجها أبوها. أو يزوجها وليها غير أبيها. 4 - الثيب البالغ يزوجها أبوها. أو يزوجها وليها غير أبيها. 5 - المرأة تزوج نفسها بدون ولي. وهذا هو التفصيل: 1 - في الروايات السادسة والسابعة والثامنة والتاسعة أن عائشة -رضي الله عنها- تزوجت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البلوغ، وكانت بكراً، والذي زوجها أبوها، ولا يظهر من الروايات أنها استؤذنت. وظاهر الروايات الأول أن البكر تستأذن، ولم تفصل الروايات بين البكر البالغ وغير البالغ، ولا بين أن يزوجها أبوها أو ولي آخر غير أبيها، نعم في الرواية الخامسة "والبكر يستأذنها أبوها في نفسها" مما يشير إلى التفرقة بين الأب وغيره، مجرد الإشارة، وليس دليلاً، فإن عدم ذكر غيره لا يفيد عدم صلاحية غيره. وعن هاتين الصورتين يقول النووي عند الكلام على زواج عائشة -رضي الله عنها-: هذا صريح في جواز تزويج الأب الصغيرة بغير إذنها، لأنه لا إذن لها، والأب كالجد عندنا، وأجمع المسلمون على جواز تزويج الأب بنته البكر الصغيرة، لهذا الحديث، وإذا بلغت فلا خيار لها في فسخه عند مالك والشافعي وسائر فقهاء الحجاز. [وقال أهل العراق لها الخيار إذا بلغت وقال الحافظ ابن حجر أجمعوا على أنه يجوز للأب تزويج ابنته الصغيرة البكر] ولو كانت لا يوطأ مثلها، إلا أن الطحاوي حكى عن ابن شبرمة منعه فيمن لا توطأ، وحكى ابن حزم عن ابن شبرمة أن الأب لا يزوج بنته البكر الصغيرة حتى تبلغ وتأذن، وزعم أن تزويج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وهي بنت ست سنين كان من خصائصه. اهـ أما غير الأب والجد من الأولياء فلا يجوز أن يزوجها عند الشافعي والثوري ومالك وابن أبي ليلى وأحمد وأبي ثور وأبي عبيد والجمهور، قالوا: فإن زوجها فلا يصح الزواج. وقال الأوزاعي وأبو حنيفة وآخرون من السلف: يجوز لجميع الأولياء، ويصح الزواج، ولها الخيار إذا بلغت، وقال أبو يوسف: يجوز لجميع الأولياء، ويصح الزواج، ولا خيار لها. وأما الوصي الأجنبي فقد اتفق الجماهير على أنه لا يزوجها، وجوز شريح وعروة وحماد أن يزوجها، وحكاه الخطابي عن مالك أيضاً. اهـ

فتحصل من هذا أن البكر غير البالغ يجوز لأبيها أن يزوجها اتفاقاً، وفي تزويج جدها وبقية الأولياء والأوصياء خلاف، وفي خيارها بعد البلوغ خلاف. هذا عن جواز التزويج، أما ما يستحب فقد قال عنه النووي: واعلم أن الشافعي وأصحابه قالوا: يستحب ألا يزوج الأب والجد البكر حتى تبلغ، ويستأذنها، لئلا يوقعها في أسر الزوج وهي كارهة، قال: وهذا لا يخالف حديث عائشة، لأن استحباب ألا يزوجها قبل البلوغ إذا لم تكن هناك مصلحة ظاهرة، يخاف فوتها بالتأخير، أما في مثل حالة عائشة فيستحب تحصيل ذلك الزوج، لأن الأب مأمور بمصلحة ولده، فلا يفوتها. وأما عن سن الدخول والزفاف فيقول: إن اتفق الزوج والولي على شيء لا ضرر فيه على الصغيرة عمل به، وحده مالك والشافعي وأبو حنيفة بأن تطيق الجماع، ويختلف ذلك باختلافهن، ولا ينضبط بسن وهذا هو الصحيح، وليس في حديث عائشة منع منه قبل التسع لمن تطيقه، ولا إذن فيه لمن لا تطيقه وهي فوق تسع سنين. 2 - أما البكر البالغ فظاهر الروايات الخمس الأولى الاستئذان مع عموم كل بكر، وكل ولي، وأن سكوتها يكفي مطلقاً. قال النووي: وهذا هو الصحيح، وقال بعض أصحابنا وأحمد إن كان الولي أبا أو جدا فاستئذانه مستحب، ويكفي فيه سكوتها، ولو زوجها بغير استئذانها صح، لكمال شفقته، وإن كان غيرهما من الأولياء وجب الاستئذان، ولم يصح إنكاحها قبله، ولا بد من نطقها، لأنها تستحي من الأب والجد أكثر من غيرها، قال: والصحيح الذي عليه الجمهور أن السكوت كاف في جميع الأولياء، لعموم الحديث، ولوجود الحياء مع كل الأولياء. وقال الأوزاعي وأبو حنيفة وغيرهما من الكوفيين: يجب الاستئذان في كل بكر بالغة، فلو عقد عليها بغير استئذان لم يصح. قال الحافظ ابن حجر: والأحاديث دالة على أنه لا إجبار للأب عليها إذا امتنعت، وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم، لكن قال ابن أبي ليلى ومالك والليث والشافعي وأحمد وإسحق: يجوز للأب أن يزوجها بغير استئذان ولو كانت بالغاً، ومن حجتهم مفهوم حديث الباب، لأنه جعل الثيب أحق بنفسها من وليها، فدل على أن ولي البكر أحق بها منها. اهـ وفي هذا الاحتجاج نظر، فإن نفي الأحقية يصدق بالمساواة في الحقوق، فلا يجبرها، ولا يزوجها بغير إذنها، ولا تجبره، ولا تتزوج بغير إذنه. والأحاديث جعلت سكوتها دالاً على رضاها، وهذا إذا لم تظهر منها قرينة على عدم الرضا، كأن قامت من المجلس، أو غيرت مجرى الحديث، أو ظهرت منها قرينة السخط، بأن نفرت، أو بكت، أو أظهرت الكراهة ولو بضم الشفتين، وعند بعض الشافعية: لا أثر لشيء من ذلك في المنع إلا إذا قرنت مع البكاء الصياح ونحوه. وهل يستحب إعلامها أن سكوتها إذن؟ قال ابن المنذر: يستحب ولا يشترط، وهو مذهب الشافعية والجمهور وشرطه بعض المالكية، وقال ابن شعبان من المالكية: يقال لها: إن رضيت

فاسكتي، وإن كرهت فانطقي (ثلاثاً) وقال بعضهم: يطيل المستأذن المقام عندها، لئلا تخجل، فيمنعها ذلك من المسارعة، ولو قالت بعد العقد: ما كنت أعلم أن سكوتي قبول وإذن، لم يبطل العقد بذلك عند الجمهور، ويبطل عند بعض المالكية. [ملحوظة] علم من جعل سكوتها في قوة إذنها وموافقتها أن موافقتها الصريحة ونطقها بذلك إذن بداهة من باب أولى، وقد أغرب بعض أهل الظاهر، فجعلوا السكوت علامة على الرضا، ولم يقبلوا النطق بالموافقة، وقوفاً عند ظاهر قوله "وإذنها أن تسكت". 3 - أما الثيب غير البالغ فقال مالك وأبو حنيفة: يزوجها أبوها، كالبكر، وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد" لا يزوجها أبوها إذا زالت البكارة بالوطء، سواء كان ذلك بنكاح صحيح أو فاسد أو بوطء شبهة أو بزنا، لأنه زال كمال حيائها بممارسة الرجال، فلا بد من استئذانها، ولا بد من النطق بموافقتها، أما لو زالت بكارتها بوثبة أو بإصبع أو بطول المكث؛ فقيل: لها حكم الثيب، وقيل: لها حكم البكر. 4 - وأما الثيب البالغ فقد قال الحافظ ابن حجر: لا يزوجها الأب ولا غيره إلا برضاها، اتفاقاً، إلا من شذ. 5 - وأما عن الولي في النكاح فقد قال النووي: قال مالك والشافعي وأحمد، يشترط، ولا يصح نكاح إلا بولي، ولا ينعقد النكاح بعبارة النساء أصلاً. وقال أبو حنيفة: لا يشترط في الثيب ولا في البكر البالغة، بل لها أن تزوج نفسها بغير إذن وليها. وقال أبو ثور: يجوز أن تزوج نفسها بإذن وليها، ولا يجوز بغير إذنه. وقال داود: يشترط الولي في تزويج البكر، دون الثيب. واستدل المالكية والشافعية على اشتراط الولي في النكاح بما يأتي: 1 - قوله تعالى {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن} [البقرة: 232]. فقد أخرج البخاري عن معقل بن يسار أنها نزلت فيه حيث زوج رجلاً أختاً له فطلقها، حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها، فقال له معقل: زوجتك وأفرشتك وأكرمتك فطلقتها، ثم جئت تخطبها. لا. والله لا تعود إليك أبداً، وكان رجلاً لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع، فأنزل الله هذه الآية. فالآية ظاهرة في أن العضل يتعلق بالأولياء. وقوله تعالى {ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا} [البقرة: 221]. فالإنكاح خوطب به الأولياء. كذلك قوله تعالى {وأنكحوا الأيامى منكم} [النور: 32]. 2 - حديث البخاري في عرض عمر رضي الله عنه بنته حفصة على عثمان، ثم على أبي بكر رضي الله عنهما، ثم تزويجه إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فثبت به أن التزويج للأولياء.

3 - حديث "لا نكاح إلا بولي" أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم. 4 - حديث "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل". 5 - أحاديث الباب "البكر تستأذن. والأيم تستأمر" جعلت الولاية هي الأصل، وللبكر والثيب الاستئذان والاستثمار. 6 - أن الولي يصيبه العار إذا تزوجت من غير إذنه بغير كفء، فكان المختص بالتزويج ليدفع عن نفسه العار. ورد الحنفية بأن حديث "لا نكاح إلا بولي" ليس بمتفق عليه، فلا يعارض ما اتفق عليه، ونقلوا كلام المحدثين فيه وعلى فرض صحته فمعناه لا نكاح كامل، فالمنفي الكمال لا الصحة وبأن حديث "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل. فنكاحها باطل" قال الترمذي: قد تكلم بعض أهل الحديث فيه. فلا حجة فيه. واحتجوا بحديث "والثيب أحق بنفسها من وليها". كما احتجوا بالقياس على البيع، فإنها تستقل به، وخصوا بهذا القياس عموم الأحاديث الواردة في اشتراط الولي، فخصوها بالأمة والصغيرة، وتخصيص العموم بالقياس عمل سائغ وجائز عند كثير من علماء الأصول. هذا وقد اختلف العلماء في الأولياء. من هم؟ فقال مالك والثوري والليث والشافعي والجمهور: الأولياء في النكاح هم العصبة. وليس للخال، ولا والد الأم، ولا الأخوة من الأم ولاية. وعن الحنفية: هؤلاء من الأولياء. [ملحوظة] أخرج أبو داود من حديث ابن عمر رفعه "وآمروا النساء في بناتهن" قال الشافعي: لا خلاف أنه ليس للأم أمر، لكنه على معنى استطابة النفس. اهـ وقد ترجم البخاري بباب إذا زوج الرجل ابنته وهي كارهة فنكاح مردود، وذكر تحته حديث خنساء بنت خدام الأنصارية أن أباها زوجها وهي ثيب، فكرهت ذلك، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرد نكاحها. قال الحافظ ابن حجر: رد النكاح إذا كانت ثيباً، فزوجت بغير رضاها إجماع، إلا ما نقل عن الحسن أنه أجاز إجبار الأب للثيب ولو كرهت، وعن النخعي: إن كانت في عياله جاز، وإلا رد، واختلفوا إذا وقع العقد بغير رضاها، فقالت الحنفية: إن أجازته جاز، وعن المالكية: إن أجازته عن قرب جاز، وإلا فلا، ورده الباقون مطلقاً. -[ويؤخذ من حديث زواج عائشة رضي الله عنها: ]- 1 - استحباب الدعاء بالخير والبركة لكل واحد من الزوجين.

2 - واستحباب تنظيف العروس وتزيينها لزوجها. 3 - واستحباب اجتماع النساء لذلك، ولأنه يتضمن إعلان النكاح، ولأنهن يؤنسنها ويؤدبنها ويعلمنها آدابها حال الزفاف، وحال لقائها للزوج. 4 - وجواز الزفاف والدخول بالعروس نهاراً. وهو جائز ليلاً ونهاراً. 5 - وجواز اتخاذ اللعب. وإباحة لعب الجواري بهن، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ذلك فلم ينكره. قالوا: سببه تدريبهن لتربية الأولاد وإصلاح شأنهن وبيوتهن. قال النووي: هذا كلام القاضي، ويحتمل أن يكون مخصوصاً من أحاديث النهي عن اتخاذ الصور، لما ذكره من المصلحة، ويحتمل أن يكون هذا منهياً عنه، وكانت قصة عائشة هذه ولعبها في أول الهجرة قبل تحريم الصور. والله أعلم

(371) باب استحباب التزويج في شوال

(371) باب استحباب التزويج في شوال 3084 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال وبنى بي في شوال. فأي نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحظى عنده مني؟ قال: وكانت عائشة تستحب أن تدخل نساءها في شوال. 3085 - وفي رواية بهذا الإسناد. ولم يذكر فعل عائشة رضي الله عنها. -[المعنى العام]- كان التطير في الجاهلية عقيدة، تؤثر في المشاريع إقداماً أو إحجاماً، كأنها تنبئ عن الغيب المحقق. كانوا إذا أزمعوا أمراً مهماً أزعجوا ما يصادفهم من طير، فإن اتجه يميناً تيامنوا ومضوا في مشروعهم وتفاءلوا، وإن اتجه شمالاً تشاءموا، ورجعوا عن مشروعهم، فجاء الإسلام، وحارب هذه العقيدة بالقول وبالعمل، بالقول "لا طيرة". "إذا تطيرت فلا ترجع" وبالعمل كما في هذا الحديث، الأيام التي يتطيرون منها تجري فيها مشاريع الإسلام الكبرى، والأماكن التي يتطيرون منها تجري فيها العبادات العظمى، فيقام مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، مكان خربة، كانت قبوراً للمشركين، فيحل فيها الخير والرحمة والبركة، وتعد أفضل بقعة على الأرض، فتضم جسد الرسول صلى الله عليه وسلم، وتصبح الروضة الشريفة. روضة من رياض الجنة. -[المباحث العربية]- (تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال) أي عقد عليها في شهر شوال قبل الهجرة بسنة ونصف السنة على الأشهر، وبنى بها، أي دخل عليها في شوال بعد الهجرة بسنة ونصف السنة. و"شوال" فعال مبالغة من الشول، وهو في الأصل النقص والقلة، والشائلة من الإبل ما جف لبنها، ويقال: شال القوم إذا خفت منازلهم منهم ومضوا، أو إذا تفرقت كلمتهم، أو إذا ماتوا وتفرقوا، كأنه لم يبق منهم إلا بقية، أو إذا ذهب عزهم. و"شوال" شهر أوله عيد الفطر، قيل: سمي بذلك لتشويل ألبان الإبل فيه وإدبارها، وكانت العرب قبل الإسلام تتطير من عقد النكاح والدخول فيه، وتقول: إن المنكوحة فيه تمتنع من ناكحها، ويقل أولادها ولبنها، فأبطل الإسلام هذا التطير، باستحباب الزواج في شوال.

(فأي نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحظى عنده مني؟ ) لا تقصد -رضي الله عنها- أن دخولها في شوال كان سبباً في حظوتها عنده صلى الله عليه وسلم، وإنما تقصد أنه لم يكن شؤماً، ولم يحل دون حظوتها وسعادتها. (وكانت عائشة تستحب أن تدخل نساءها في شوال) أي النساء التي تلي أمرهن، أو اللاتي ينتسبن إليها وترعاهن. -[فقه الحديث]- قال النووي: فيه استحباب التزويج والتزوج والدخول في شوال، وقد نص أصحابنا على استحبابه، واستدلوا بهذا الحديث، وقصدت عائشة بهذا الكلام رد ما كانت الجاهلية عليه، وما يتخيله بعض العوام اليوم من كراهة التزويج والتزوج والدخول في شوال، وهذا باطل لا أصل له، وهو من آثار الجاهلية فقد كانوا يتطيرون بذلك، لما في اسم شوال من الإشالة والرفع. اهـ أقول: إن العمل المشروع يفضل غيره بأمر من أمور ثلاثة: إما بفضل المكان الذي يقع فيه، وإما بفضل الزمان الذي يقع فيه، وإما بفضل النية التي يقع بها، وقد تجتمع الأمور الثلاثة. وما هنا من قبيل الأمر الثالث، فاستحبابه عند الشافعية من هذه الحيثية. حيثية القصد والنية. والله أعلم

(372) باب النظر إلى المخطوبة

(372) باب النظر إلى المخطوبة 3086 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم. فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنظرت إليها؟ " قال: لا. قال "فاذهب فانظر إليها. فإن في أعين الأنصار شيئاً". 3087 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني تزوجت امرأة من الأنصار. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "هل نظرت إليها؟ فإن في عيون الأنصار شيئاً" قال: قد نظرت إليها؟ قال "على كم تزوجتها؟ " قال: على أربع أواق. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "على أربع أواق؟ كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل. ما عندنا ما نعطيك. ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه" قال: فبعث بعثاً إلى بني عبس. بعث ذلك الرجل فيهم. -[المعنى العام]- الإسلام دين النصيحة، ودين الوضوح، دين يحارب الغش والخداع في جميع المعاملات، دين يرفع الجهالة ويرفض وسائلها، ويحرص على وضوح الرؤية، والتعامل على بصيرة، ولقد جاء الإسلام والمرأة تساق من بيت أبيها إلى بيت زوجها كأنها مغمضة العينين، وكثيراً ما يكون الرجل كذلك بالنسبة لها، لم يسبق له رؤيتها، ولم يسبق لها رؤيته، مما يؤثر على الحياة الزوجية تأثيراً هادماً، أو يملؤها بجو البغض والكراهية والانقباض. جاء الإسلام بهذه التعاليم السمحة، لينظر الخاطب إلى مخطوبته، ولتنظر المخطوبة إلى خطيبها، لينظر كل منهما إلى ما يبدو من الآخر، إلى وجهه وكفيه، وليتأمل كل منهما محاسن الآخر في خلقته، في عينيه، في أنفه وفمه، في تقاسيم وجهه، في بدانة جسمه أو نحافته، في بياض بشرته أو سمرته، في تناسق أعضائه أو عاهاته وعيوبه، لا عيب على المرأة ولا على أهلها أن تكشف لخطيبها عن وجهها وكفيها، ولا عيب عليه أن يكشف لها ولأهلها عن عيوبه، بل العيب أن يخفي أحدهما عن الآخر ما ستكشفه الأيام، العيب والخطر يكمن في إخفاء كل منهما عن الآخر ما يفجأ صاحبه، ويعتبره غشاً وخداعاً ومكيدة وقع فيها. هذا هو الإسلام وصراطه المستقيم.

-[المباحث العربية]- (فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار) أي شرع في زواجها، فخطبها. (أنظرت إليها؟ قال: لا. قال: فاذهب فانظر إليها) في الرواية الثانية "هل نظرت إليها؟ .... قال: قد نظرت إليها" يحتمل أن يكون رجلاً آخر غير الأول، الأول لم يكن نظر إليها، فأمر بالذهاب والنظر إليها، والثاني قد نظر إليها قبل مجيئه، وقد جاء يطلب المساعدة في زواجه، كما يبينه الحديث، ويحتمل أن الحديثين عن رجل واحد، لم يكن نظر، فأمر بالنظر، فذهب فنظر فجاء، فسئل: هل نظرت؟ فأجاب بنعم، ثم عرض حاجته. قال الحافظ ابن حجر: وهذا الرجل يحتمل أن يكون المغيرة، فقد أخرج الترمذي والنسائي من حديثه أنه "خطب امرأة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: انظر إليها، فإنه أحرى أن يدوم بينكما". قلت: هذا الاحتمال بعيد، فقصة الرجل في الرواية الثانية لا تنطبق على المغيرة. (فإن في أعين الأنصار شيئاً) قال النووي: هكذا الرواية "شيئاً" بالهمزة، واحد الأشياء، قيل: المراد صغر، وقيل: المراد زرقة، وقال الغزالي: قيل عمش. ورجح الحافظ الصغر، حيث جاء اللفظ في بعض الروايات. (على أربع أواق) من الفضة. فهم الرسول صلى الله عليه وسلم هذا من حال الرجل، فأعادها على أسلوب الاستفهام التعجبي، أو التوبيخي، على معنى ما كان ينبغي. (كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل) "عرض" بضم العين وإسكان الراء، وهو الجانب والناحية و"تنحتون" بكسر الحاء، أي تقشرون وتقطعون. قال النووي: ومعنى هذا الكلام كراهة إكثار المهر بالنسبة إلى حال الزوج. -[فقه الحديث]- قال النووي: في الحديث استحباب النظر إلى وجه من يريد تزوجها، وهو مذهبنا ومذهب مالك وأبي حنيفة، وسائر الكوفيين وأحمد وجماهير العلماء، وحكى القاضي عن قوم كراهيته، [نسب هذا إلى المزني، حيث قال: لا يجوز أن ينظر إلى شيء منها، وقالت طائفة منهم يونس بن عبيد وإسماعيل بن علية وقوم من أهل الحديث: لا يجوز النظر إلى الأجنبية مطلقاً إلا لزوجها أو ذي رحم محرم منها، واحتجوا بحديث علي "لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى" رواه الطحاوي والبزار وأحمد وأبو داود والترمذي] وهذا خطأ مخالف لصريح هذا الحديث، ومخالف لإجماع الأمة على جواز النظر للحاجة، عند البيع والشراء والشهادة ونحوها. ثم إنه إنما يباح له النظر إلى وجهها وكفيها فقط، لأنهما ليسا بعورة، ولأنه يستدل بالوجه على الجمال، أو على ضده، وبالكفين على خصوبة البدن،

أو عدمها. هذا مذهبنا ومذهب الأكثرين. وقال الأوزاعي: ينظر إلى مواضع اللحم، وقال داود: ينظر إلى جميع بدنها [لا إلى فرجها] وقال ابن حزم: يجوز النظر إلى فرجها، وعن أحمد ثلاث روايات، الأولى كالجمهور، والثانية: ينظر غالباً، والثالثة: ينظر إليها مجردة. دليل الجمهور على المزني والطائفة التي تنحو نحوه حديث الباب "انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً" وروي عن المغيرة بن شعبة قال: أردت أن أنكح امرأة من الأنصار، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اذهب فانظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما -أي أن يدوم الوفاق بينكما- قال: فذهبت، فأخبرت أباها بذلك، فذكر أبوها ذلك لها، فرفعت الخمار، فقالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لك أن تنظر فانظر" أخرجه الطحاوي والترمذي وقال حديث حسن، ويجاب عن حديث علي رضي الله عنه بأنه في النظر لغير الخطبة، وفي غير الحاجة، ودليل الجمهور على داود وابن حزم قوله تعالى {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} [النور: 31]. قيل في التفسير: الوجه والكفان، وروى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أراد أحدكم تزويج امرأة فلينظر إلى وجهها وكفيها". ثم قال النووي عن مذهب داود: وهذا خطأ ظاهر، منابذ لأصول السنة والإجماع. ثم قال: ومذهبنا ومذهب مالك وأحمد والجمهور أنه لا يشترط في جواز هذا النظر رضاها، بل له ذلك في غفلتها، ومن غير تقدم إعلام، لكن قال مالك: أكره نظره في غفلتها، مخافة من وقوع نظره على عورة. [أو على ما لا تحب أن يراه من بعض أفعالها وأحوالها] وعن مالك رواية ضعيفة أنه لا ينظر إليها إلا بإذنها، وهذا ضعيف، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أذن في ذلك مطلقاً، ولم يشترط استئذانها، ولأنها تستحي غالباً من الإذن، وربما يكون في ذلك إيذاء لها إن هو رآها فلم تعجبه. ثم قال: قال أصحابنا: وإذا لم يمكنه النظر استحب له أن يبعث امرأة يثق بها، تنظر إليها، وتخبره ويكون ذلك قبل الخطبة. اهـ وحول هذا الموضوع مسائل، نرى فائدة كبرى في عرضها: الأولى: قال الشيخ أبو إسحق: يجوز للمرأة إذا أرادت أن تتزوج برجل أن تنظر إليه، لأنه يعجبها منه ما يعجبه منها. الثانية: لا يجوز للخاطب عند الجمهور أن ينظر إلى شيء من عورتها، ولا أن ينظر إلى وجهها وكفيها نظرة تلذذ وشهوة. الثالثة: له أن يردد النظر إلى الوجه والكفين، وأن يكرر ذلك، لما روى أبو الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا قذف الله في قلب امرئ خطبة امرأة فلا بأس أن يتأمل محاسن وجهها" إذ لا يمكنه تأمل ذلك إلا بالتكرار. الرابعة: إذا تزوج الرجل امرأة حل له الاستمتاع بها، وكان لكل واحد منهما النظر إلى جميع بدن الآخر، لأنه يملك الاستمتاع به. لكن في نظره إلى باطن الفرج وجهان: قيل:

يجوز، لأنه موضع الاستمتاع، وقيل: لا يجوز، لما روي من أن النظر إلى باطن الفرج يورث العمى، أو أن الولد بينهما يولد أعمى. الخامسة: نظر الرجل الأجنبي إلى وجه المرأة لغير حاجة ومن غير سبب لا يجوز، لقوله تعالى {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم} [النور: 30]. ويجوز أن ينظر إلى وجه المرأة الأجنبية عند الشهادة وعند البيع والشراء. السادسة: لا يجوز للمرأة الأجنبية أن تنظر إلى الرجل، لا إلى العورة ولا إلى غيرها لغير سبب، لقوله تعالى {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن} [النور: 31]. ولحديث دخول ابن أم مكتوم، وأمره صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين أن يحتجبن منه، ولأن المعنى الذي منع الرجل لأجله وهو صرف الافتتان موجود في المرأة، بل هي أسرع إلى الافتتان من الرجل. السابعة: يجوز للرجل أن ينظر إلى المرأة من ذوات محارمه، وكذلك يجوز لها النظر إليه من غير سبب ولا ضرورة، لقوله تعالى {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن} [النور: 31]. الآية. وفي المواضع التي يجوز له النظر إلى المرأة وجهان، حكاهما المسعودي، أحدهما -وهو قول البغداديين- أنه يجوز له النظر إلى جميع بدنها إلا ما بين السرة والركبة، لأنه لا يحل له نكاحها بحال، فجاز له النظر إلى ذلك كالرجل مع الرجل. والثاني: وهو اختيار القفال -أنه يجوز له النظر إلى ما يبدو منها عند المهنة، لأنه لا ضرورة به إلى النظر إلى ما زاد على ذلك. والله أعلم

(373) باب الصداق وأقله

(373) باب الصداق وأقله 3088 - عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: يا رسول الله! جئت أهب لك نفسي. فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فصعد النظر فيها وصوبه. ثم طأطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه. فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئاً، جلست. فقام رجل من أصحابه فقال: يا رسول الله! إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها. فقال "فهل عندك من شيء؟ " فقال: لا. والله! يا رسول الله! فقال "اذهب إلى أهلك. فانظر هل تجد شيئاً؟ " فذهب ثم رجع. فقال: لا. والله! ما وجدت شيئاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "انظر ولو خاتماً من حديد" فذهب ثم رجع. فقال: لا. والله! يا رسول الله! ولا خاتماً من حديد. ولكن هذا إزاري. (قال سهل ما له رداء) فلها نصفه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما تصنع بإزارك؟ إن لبسته لم يكن عليها منه شيء. وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء" فجلس الرجل. حتى إذا طال مجلسه قام. فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مولياً. فأمر به فدعي. فلما جاء قال "ماذا معك من القرآن؟ " قال: معي سورة كذا وسورة كذا. (عددها) فقال "تقرؤهن عن ظهر قلبك؟ " قال: نعم. قال "اذهب فقد ملكتها بما معك من القرآن". 3089 - وفي رواية قال "انطلق فقد زوجتكها. فعلمها من القرآن". 3090 - عن أبي سلمة بن عبد الرحمن: أنه قال: سألت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: كم كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كان صداقه لأزواجه ثنتي عشرة أوقية ونشا. قالت: أتدري ما النش؟ قال: قلت: لا. قالت: نصف أوقية. فتلك خمسمائة درهم. فهذا صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه.

3091 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة. فقال "ما هذا؟ " قال: يا رسول الله! إني تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب. قال: "فبارك الله لك. أولم ولو بشاة". 3092 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن عبد الرحمن بن عوف تزوج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، على وزن نواة من ذهب. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "أولم ولو بشاة". 3093 - عن أنس رضي الله عنه: أن عبد الرحمن بن عوف تزوج امرأة على وزن نواة من ذهب. وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له "أولم ولو بشاة". 3094 - وفي رواية قال: عبد الرحمن: تزوجت امرأة. 3095 - عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي بشاشة العرس. فقلت: تزوجت امرأة من الأنصار. فقال "كم أصدقتها؟ " فقلت: نواة. وفي حديث إسحق: من ذهب. 3096 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن عبد الرحمن تزوج امرأة على وزن نواة من ذهب. -[المعنى العام]- سبحان الذي خلق فأكرم، وشرع فأحكم، وهو أحكم الحاكمين، جعل لنا من أنفسنا أزواجاً لنسكن إليها وجعل بيننا وبينهن مودة ورحمة، نتمتع بهن، ويتمتعن بنا، يخدمننا ونخدمهن، ويتعبن من أجلنا ونتعب من أجلهن، المنافع مشتركة، ومتساوية، بل هن يزدن في الانتفاع من الرجال، والملذات

مشتركة ومتساوية بل هن يزدن فيها عن الرجال، فلماذا أوجب لهن المهر والنفقة؟ وما عوض المهر الذي نحن بصدده؟ وبم يرتفع مقداره؟ وبم ينخفض؟ إن السلعة ترخص إذا كثر العرض منها على الطلب، ويغلو سعرها إذا قل العرض عن الطلب، ولكن المهر كثيراً ما يخالف هذا القانون، كثير من الآباء يغالون في المهور، ويكلفون الأزواج ما يعجزهم، ظناً منهم أن في ذلك رفعاً لقيمة بناتهم عند أزواجهم، أو تعجيزاً لهم عن أن يستغنوا عنهن فتكون النتيجة نقيض القصد، وتكون النتيجة عجز الشباب عن تحصيل المطلوب منهم، فتتوقف حركة الزواج وتكثر العنوسة، وينتشر الفساد، ومن هنا كانت دعوة عمر رضي الله عنه يوم وقف على المنبر، يقول: يا أيها الناس: لا تغالوا في مهور النساء، لكن امرأة قاطعته بقولها: ليس هذا لك يا عمر. فإن الله تعالى يقول {وآتيتم إحداهن قنطاراً} [النساء: 20]. [من ذهب] كذا في قراءة ابن مسعود، وهي مرادة في غير قراءته، فقال عمر: امرأة خاصمت عمر فخصمته، امرأة أصابت. رجل أخطأ. وتوقف عمر عن النهي عن المغالاة في مهور النساء، لكن الحقيقة أن المغالاة شر، وإلا لكان أحق الناس بالمغالاة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يزد مهر إحداهن عن خمسمائة درهم. وهذا عبد الرحمن بن عوف يدفع مهراً لزوجته خمسة دراهم، وهذا صحابي جليل يطلب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من حديد مهراً لامرأة عرضت نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما لم يجد خاتم الحديد زوجه إياها على أن يعلمها آيات من القرآن، بهذا التيسير كثر الزواج، وعمت حصانة الشباب والفتيات، وضعفت نوازع الشر والفساد والمقت والفاحشة، وصلح المجتمع، وطبع بطابع الطهر والنقاء. -[المباحث العربية]- (جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت) في رواية للبخاري يقول سهل: إني لفي القوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قامت امرأة فقالت" في رواية أخرى "بينما نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم أتت إليه امرأة ... " ويمكن فهم "قامت" على معنى وقفت، والمراد أنها جاءت إلى أن وقفت عندهم، لا أنها كانت جالسة في المجلس فقامت، وقد أفادت بعض الروايات تعيين المكان الذي وقعت فيه القصة، ولفظها "جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد" قال الحافظ ابن حجر: ولم أقف على اسمها، وعند بعضهم أنها خولة بنت حكيم، أو أم شريك، وهذا نقل من اسم الواهبة الوارد في قوله تعالى: {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي} [الأحزاب: 50]. وقد تعددت الواهبات. (جئت أهب لك نفسي) في الكلام مضاف محذوف، تقديره: أهب لك أمر نفسي أو نحوه، لأن رقبة الحر لا تملك، فكأنها قالت: أتزوجك من غير عوض. (فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصعد النظر فيها، وصوبه) "صعد" بتشديد العين، أي رفع، و"صوب" بتشديد الواو، أي خفض، والتشديد إما للمبالغة في التأمل، وإما للتكرير، وبالثاني جزم القرطبي في المفهم، قال: أي نظر أعلاها وأسفلها مراراً، وفي رواية "فخفض فيها البصر ورفعه" وهما بالتشديد أيضاً. والمقصود أنه نظر إليها أولاً نظرة شاملة، ثم تأمل أعلاها وأسفلها.

(ثم طأطأ رأسه) هو بمعنى رواية البخاري "فلم يجبها شيئاً" ورواية أخرى "فصمت" ورواية ثالثة "فلم يردها" والمقصود أنه سكت سكوت من لا يستطيع قضاء الحاجة، وفهمته المرأة، وفهمه الحاضرون. وكان سكوته إما حياء من مواجهتها بالرد، وإما تفكراً في جواب يناسب المقام، وإما انتظاراً للوحي. (فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئاً جلست) لقد فهمت من السكوت عدم الرغبة، لكنها لم تبالغ في الإلحاح في الطلب مع شدة رغبتها، ولم تيأس من الرد، فجلست تنتظر الفرج. (فقام رجل من أصحابه) في بعض الروايات "فقام رجل أحسبه من الأنصار". (إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها) في بعض الروايات "أنكحنيها" وفي بعض الروايات "زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة" ولا يعارض هذا ما جاء في بعض الروايات من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قبل قول الرجل: "لا حاجة لي" لجواز أن تتجدد الرغبة فيها بعد أن لم تكن. (فهل عندك من شيء) الفاء في جواب شرط مقدر، أي إذا كنت تريد زواجها فهل عندك من شيء؟ زاد في بعض الروايات "تصدقها إياه"؟ وفي بعض الروايات "ألك مال"؟ . (فقال: لا. والله يا رسول الله) زاد في بعض الروايات (قال: إنه لا يصلح) وفي بعضها "قال: فلا بد لها من شيء" ووقع عند النسائي بعد قوله "لا حاجة لي". "ولكن تملكيني أمرك؟ قالت: نعم. فنظر في وجوه القوم، فدعا رجلاً، فقال لها: إني أريد أن أزوجك هذا إن رضيت. فقالت: ما رضيت لي فقد رضيت" قال الحافظ: إن كانت القصة متحدة يحتمل أن يكون قد استرضاها أولاً، ثم تكلم مع الرجل في الصداق، وإن كانت القصة متعددة فلا إشكال، ووقع في بعض الروايات "أن رجلاً قال: إن هذه امرأة رضيت بي فزوجها مني. قال: فما مهرها؟ قال: ما عندي شيء. قال: أمهرها ما قل أو كثر. قال: والذي بعثك بالحق ما أملك شيئاً". (انظر ولو خاتماً من حديد) "لو" هنا حرف للتقليل، و"خاتماً" مفعول "انظر" وفي بعض الروايات "اذهب فالتمس" وفي رواية للبخاري "اذهب فاطلب ولو خاتماً من حديد" وفي إعرابه أنه من باب حذف "كان" مع اسمها، والتقدير: ولو كان المنظور أو الملتمس خاتماً من حديد. (ولا خاتماً من حديد) وقع في "خاتم" النصب على المفعولية، أي ولا خاتماً من حديد وجدت، والرفع، على تقدير: ولا خاتم من حديد حصل لي. وقد وقع في كثير من الروايات أنه طلب إليه أن يذهب مرتين فذهب مرتين. (ولكن هذا إزاري -قال سهل: ما له رداء- فلها نصفه) قول سهل: "ما له رداء" وكلام الرجل: "هذا إزاري فلها نصفه". قال الحافظ: وهم القرطبي حين ظن أن قوله "فلها نصفه" من كلام سهل، فشرحه على أنه لو كان له رداء لشركها النبي صلى الله عليه وسلم فيه. قال الحافظ: وهذا بعيد، إذ ليس في كلام

النبي صلى الله عليه وسلم ولا الرجل ما يدل على شيء من ذلك. وقد جاء ذلك صريحاً في بعض الروايات، ولفظه "ولكن هذا إزاري ولها نصفه" قال سهل: "وما له رداء" وفي بعض الروايات "فقام رجل عليه إزار، وليس عليه رداء". ومراد سهل من قوله "ما له رداء" الإشارة إلى أنه لو كان يملك رداء لأمكن للمرأة أن تأخذ نصف ما عليه، إما الرداء وإما الإزار. (ما تصنع بإزارك؟ إن لبسته لم يكن عليها منه شيء) أي لبسته أنت كاملا لم يكن عليها منه شيء، وإن لبسته هي كاملاً لم يكن عليك منه شيء، فالمناصفة زمنية، فإن أريد شق الإزار مناصفة -كما تفيد الروايات الآتية- كان المعنى إن لبست أنت نصفه لم يسترها نصفه، ولم يسترك نصفه، فلم يستركما الإزار، والعرب تنفي الشيء إذا انتفى كماله. وفي رواية عند الطبراني "ما وجدت والله شيئاً غير ثوبي هذا. اشققه بيني وبينها، قال: ما في ثوبك فضل عنك" وفي رواية "ولكني أشق بردتي هذه، فأعطيها النصف، وآخذ النصف" وفي رواية "والله ما لي ثوب إلا هذا الذي علي" وفي رواية "ما عليه إلا ثوب واحد، عاقد طرفيه على عنقه". (فجلس الرجل، حتى إذا طال مجلسه قام، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مولياً، فأمر به فدعي) في رواية "فدعي له" وفي رواية "فدعاه أو دعي له" وفي رواية "فقال النبي صلى الله عليه وسلم "علي الرجل". (ماذا معك من القرآن؟ ) يحتمل أن يكون هذا السؤال بعد سؤال سابق، جاء في روايات للبخاري بلفظ "هل معك من القرآن شيء"؟ فاستفهمه حينئذ عن الكمية، ووقع الأمران في رواية، بلفظ "فهل تقرأ من القرآن شيئاً؟ قال: نعم. قال: ماذا؟ " وفهم من قوله "تقرؤهن عن ظهر قلبك" المراد من المعية، وأنها الاستصحاب القلبي. (معي سورة كذا، وسورة كذا. عددها) وفي رواية "عدهن" وفي رواية "لسور يعددها" وفي كتابي أبي داود والنسائي "قال: سورة البقرة أو التي تليها" كذا بلفظ "أو" وفي بعض الروايات "نعم سورة البقرة وسورة المفصل" وفي بعض الأحاديث "أن النبي صلى الله عليه وسلم زوج رجلاً على سورة البقرة. لم يكن عنده شيء" وفي بعضها "زوج النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من أصحابه امرأة على سورة من المفصل، جعلها مهرها، وأدخلها عليه، وقال: علمها" وفي بعضها "فعلمها عشرين آية، وهي امرأتك" وفي بعضها "أزوجها منك على أن تعلمها أربع -أو خمس- سور من كتاب الله" وفي بعضها "زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة على سورة من القرآن" وفي بعضها "هل تقرأ من القرآن شيئاً؟ قال: نعم. إنا أعطيناك الكوثر. قال: أصدقها إياها". قال الحافظ ابن حجر: ويجمع بين هذه الألفاظ بأن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ البعض، أو أن القصص متعددة. (اذهب. فقد ملكتها بما معك من القرآن) في ملحق الرواية "انطلق. فقد زوجتكها، فعلمها من القرآن" وفي رواية للبخاري "اذهب فقد أنكحتكها بما معك من القرآن" وفي رواية "قد

زوجتكها على ما معك من القرآن" وفي رواية "قد أملكتكها" وفي رواية "أمكناكها" وفي رواية "قد أنكحتكها على أن تقرئها وتعلمها، وإذا رزقك الله عوضتها. فتزوجها الرجل على ذلك" وفي رواية "فرأيته يمضي وهي تتبعه". قال النووي: في معظم نسخ مسلم "اذهب. فقد ملكتها بما معك" بضم الميم وكسر اللام المشددة، مبني للمجهول، وفي بعض النسخ "ملكتكها" بكافين. قال الدارقطني: رواية من روى "ملكتها" وهم. قال النووي: ويحتمل صحة اللفظين ويكون جرى لفظ التزويج أولاً، فملكها، ثم قال له اذهب فقد ملكتها بالتزويج السابق. (ثنتي عشرة أوقية ونشا) قال النووي: الأوقية بضم الهمزة وتشديد الياء -والمراد بها أوقية الحجاز- وهي أربعون درهماً، وأما النش" فبنون مفتوحة، ثم شين مشددة. (رأى على عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة .... ) طيب الزعفران فيه صفرة، وخص بالنساء، ونهي عنه الرجال، وسيأتي توجيهه في فقه الحديث. وفي الرواية السادسة "وعلي بشاشة الفرح" أي أثره وحسنه، أو فرحه وسروره، يقال: بش فلان بفلان، أي أقبل عليه فرحا به متلطفاً به، وفي بعض الروايات "لقيه النبي صلى الله عليه وسلم في سكة من سكك المدينة وعليه وضر من صفرة" أي أثر صفرة. وفي رواية "ردع من زعفران" بفتح الراء والدال، وهو أثر الطيب. (فقال: ما هذا؟ ) وفي بعض الروايات "مهيم"؟ يعني ما هذا. اسم فعل أمر بمعنى أخبرني، وقيل: كلمة استفهام مبنية على السكون، معناها ما شأنك؟ وروى الطبراني في الأوسط أنها كانت كلمته صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يسأل عن شيء. (إني تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب) في الرواية السادسة "تزوجت امرأة من الأنصار" وفيها وفي رواية للبخاري: كم أصدقتها"؟ وفي رواية الطبراني "على كم"؟ وفي رواية "ما سقت إليها"؟ وفي رواية "كم سقت إليها"؟ واختلف في المراد بقوله "نواة" فقيل: المراد واحدة نوى التمر، كما يوزن بنوى الخروب، وأن القيمة عنها يومئذ كانت خمسة دراهم، وقيل: كان قدرها يومئذ ربع دينار، ورد بأن نوى التمر يختلف في الوزن، فكيف يجعل معياراً لما يوزن به؟ وأجيب بأن لفظ "وزن نواة من ذهب" اصطلاح موازين على ما قيمته خمسة دراهم من الفضة. (قال: فبارك الله لك) يشير عبد الرحمن إلى إجابة هذا الدعاء، فيقول: فلقد رأيتني لو رفعت حجراً لرجوت أن أصيب ذهباً أو فضة. (أولم ولو بشاة) "لو" هنا للتقليل. (ملحوظة) لما قدم عبد الرحمن بن عوف المدينة آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فانطلق به سعد إلى منزله، فدعا بطعام، فأكلا، ثم قال سعد: أي أخي. أنا أكثر أهل المدينة مالاً، فانظر شطر مالي فخذه، وتحتي امرأتان، فانظر أعجبهما إليك، فسمها لي، فأطلقها،

فإذا انقضت عدتها تزوجتها. فقال عبد الرحمن: بارك الله في أهلك ومالك، لا حاجة لي في ذلك، هل من سوق فيه تجارة؟ قال: سوق قينقاع. قال: دلوني عليه، فدلوه، فخرج إلى السوق، فباع واشترى، فأصاب شيئاً من أقط وسمن، وتزوج، وصار من الأغنياء الموسرين: قال أنس: فلقد رأيته قسم لكل امرأة من نسائه بعد موته مائة ألف. قال الحافظ: مات عن أربع نسوة، فيكون الثمن أربعمائة ألف فتكون تركته ثلاثة آلاف ألف ومائتي ألف رضي الله عنه. -[فقه الحديث]- قال النووي: في الحديث دليل على أنه يستحب ألا ينعقد النكاح إلا بصداق، لأنه أقطع للنزاع، وأنفع للمرأة، من حيث أنه لو حصل طلاق قبل الدخول وجب نصف المسمى، فلو لم تكن تسمية لم يجب صداق، بل تجب المتعة، ولو عقد النكاح بلا صداق صح، قال الله تعالى {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة} [البقرة: 236]. فهذا تصريح بصحة النكاح والطلاق من غير مهر، ثم يجب لها المهر؛ وهل يجب بالعقد أم بالدخول؟ فيه خلاف مشهور، وهما قولان للشافعي، أصحهما بالدخول، وهو ظاهر هذه الآية. وفي هذا الحديث أنه يجوز أن يكون الصداق قليلاً وكثيراً مما يتمول، إذا تراضى به الزوجان، لأن خاتم الحديد نهاية من القلة، وهذا مذهب الشافعي، وهو مذهب جماهير العلماء من السلف والخلف، قال القاضي: وهو مذهب العلماء كافة من الحجازيين والبصريين والكوفيين والشاميين وغيرهم. وقال مالك: أقله ربع دينار، كالنصاب. قال القاضي: هذا مما انفرد به مالك، وقال أبو حنيفة وأصحابه: أقله عشرة دراهم، وقال ابن شبرمة: أقله خمسة دراهم. اعتباراً بنصاب القطع في السرقة عندهما، وكره النخعي أن يتزوج بأقل من أربعين درهماً، وقالوا في سر قياسه على حد السرقة: إنه عضو آدمي محترم، فلا يستباح بأقل من كذا، قياساً على يد السارق، وتعقبه الجمهور بأنه قياس في مقابل النص، فلا يصح، وبأن اليد تقطع وتبين، ولا كذلك الفرج، وبأن القدر المسروق يجب على السارق رده مع القطع، ولا كذلك الصداق، وأن اليد قطعت في السرقة نكالاً للمعصية، والنكاح مستباح. ثم قال النووي: وهذه المذاهب سوى مذهب الجمهور مخالفة للسنة، وهم محجوجون بهذا الحديث الصحيح الصريح. اهـ قال ابن العربي عن المالكية: لا شك أن خاتم الحديد لا يساوي ربع دينار، وهذا لا جواب عنه لأحد، ولا عذر فيه. اهـ وحاول بعض المالكية الجواب عن هذا الإشكال بأجوبة منها: قوله "ولو خاتماً من حديد" خرج مخرج المبالغة في طلب التيسير عليه، ولم يرد عين الخاتم الحديد، ولا قدر قيمته حقيقة، لأنه لما قال: لا أجد شيئاً عرف أنه فهم أن المراد بالشيء ما له قيمة، فقيل له: ولو أقل ماله قيمة، كخاتم الحديد، ومثله "تصدقوا ولو بظلف محرق، ولو بفرسن شاة" مع أن الظلف والفرسن لا ينتفع به، ولا يتصدق به. ومنها: احتمال أنه طلب منه ما يعجل نقده قبل الدخول، لا أن ذلك جميع الصداق، وهذا جواب ابن القصار، وهذا يلزم منه الرد عليهم. حيث استحبوا تقديم ربع دينار أو قيمته قبل الدخول، لا أقل.

ومنها: دعوى اختصاص الرجل المذكور بهذا القدر، دون غيره، وهذا جواب الأبهري، وتعقب بأن الخصوصية تحتاج إلى دليل خاص. ومنها: احتمال أن تكون قيمته إذ ذاك ثلاثة دراهم أو ربع دينار -[ويؤخذ من مجموعة الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - من الرواية الأولى، من قولها "جئت أهب لك نفسي" مع سكوته صلى الله عليه وسلم جواز هبة المرأة نكاحها له، كما قال الله تعالى {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين} [الأحزاب: 50]. قال النووي: قال أصحابنا: فهذه الآية وهذا الحديث دليلان لذلك، فإذا وهبت امرأة نفسها له صلى الله عليه وسلم فتزوجها بلا مهر حل له ذلك، ولا يجب عليه بعد ذلك مهرها بالدخول ولا بالوفاة ولا بغير ذلك، بخلاف غيره، فإنه لا يخلو نكاحه عن وجوب مهر، إما مسمى، وإما مهر المثل، وفي انعقاد نكاح النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الهبة وجهان لأصحابنا، أحدهما ينعقد، لظاهر الآية وهذا الحديث، والثاني لا ينعقد بلفظ الهبة، بل لا ينعقد إلا بلفظ التزويج أو النكاح، كغيره من الأمة، فإنه لا ينعقد إلا بأحد هذين اللفظين عندنا بلا خلاف. وقال أبو حنيفة: ينعقد نكاح كل أحد بكل لفظ يقتضي التمليك على التأبيد. وبمثل مذهبنا قال الثوري وأبو ثور وكثيرون من أصحاب مالك وغيرهم، وهو إحدى الروايتين عن مالك، والرواية الأخرى عنه أنه ينعقد بلفظ الهبة والصدقة والبيع، إذا قصد به النكاح، سواء ذكر الصداق أم لا، ولا يصح بلفظ الرهن والإجارة والوصية، ومن أصحاب مالك من صححه بلفظ الإحلال والإباحة. حكاه القاضي عياض. 2 - واستحباب عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح ليتزوجها. 3 - ومن تصعيده النظر وتصويبه جواز النظر لمن أراد أن يتزوج امرأة وتأمله إياها، وقد سبق في الباب قبله. 4 - ومن سكوته وطأطأة رأسه صلى الله عليه وسلم استحباب الاكتفاء بالسكوت عند الرفض إذا فهم السائل أما إذا لم يفهم إلا بصريح المنع فيصرح. 5 - قال الخطابي: فيه جواز نكاح المرأة من غير سؤالها: هل هي في عدة أم لا؟ حملاً على ظاهر الحال. قال: وعادة الحكام يبحثون عن ذلك احتياطاً. قال النووي: قال الشافعي: لا يزوج القاضي من جاءته لطلب الزواج حتى يشهد عدلان أنه ليس لها ولي خاص، وليست في زوجية، أو عدة، فمن أصحابنا من قال: هذا شرط واجب، والأصح عندهم أنه استحباب واحتياط، وليس بشرط. 6 - ومن قوله "انظر ولو خاتماً من حديد" جواز اتخاذ خاتم الحديد، وفيه خلاف للسلف، وللشافعية في كراهته وجهان. أصحهما لا يكره. وتفصيل الحكم في كتاب اللباس. 7 - وفيه استحباب تعجيل تسليم المهر إليها. 8 - ومن قوله "لا والله يا رسول الله ولا خاتماً من حديد" جواز الحلف من غير استحلاف ولا ضرورة.

لكن قال جمهور الشافعية: يكره من غير حاجة، وكان هذا محتاجاً ليؤكد قوله. 9 - وفيه جواز تزويج المعسر، وتزوجه. 10 - ومن قوله "ما تصنع بإزارك؟ إن لبسته لم يكن عليها منه شيء" دليل على نظر كبير القوم في مصالحهم، وهدايته إياهم إلى ما فيه الرفق بهم. 11 - وفيه جواز لبس الرجل ثوب امرأته إذا رضيت، أو غلب على ظنه رضاها، وهو المراد في هذا الحديث. 12 - وفيه دليل لجواز كون الصداق تعليم القرآن. 13 - وجواز الاستئجار لتعليم القرآن. وكلاهما جائز عند الشافعي، وبه قال عطاء والحسن بن صالح ومالك وإسحق وغيرهم، ومنعه جماعة، منهم الزهري وأبو حنيفة. قال النووي: وهذا الحديث مع الحديث الصحيح "إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله" يردان قول من منع ذلك، ونقل القاضي عياض جواز الاستئجار لتعليم القرآن عن العلماء كافة سوى أبي حنيفة. 14 - وفيه أن الهبة في النكاح خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، لقول الرجل: زوجنيها ولم يقل: هبها لي. 15 - وفيه أن الإمام يزوج من ليس لها ولي خاص، لمن يراه كفؤاً لها، ولكن لا بد من رضاها بذلك، وقال الداودي: ليس في الحديث أنه استأذنها، ولا أنها وكلته [لا يعترف بالروايات التي وردت في ذلك] وإنما هو من قوله تعالى {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} [الأحزاب: 6]. يعني فيكون خاصاً به صلى الله عليه وسلم، أنه يزوج من شاء من النساء بغير استئذانها لمن شاء. 16 - وفيه أن الهبة لا تتم إلا بالقبول. 17 - وفيه جواز الخطبة على خطبة من خطب إذا لم يقع بينهما ركون، ولا سيما إذا لاحت بوادر الرد. وفيه نظر. 18 - وفيه دليل على تخصيص العموم بالقرينة، لأنه لما قال له "فهل عندك من شيء" "فقال: لا" دل على أنه خصص عموم "شيء"، لأن لفظ "شيء" يشمل الخطير والتافه، وهو كان لا يعدم التافه، كالنواة، لكنه فهم ما له قيمة في الجملة، فلذلك نفى أن يكون عنده، ونقل القاضي عياض الإجماع على أن مثل الشيء الذي لا يتمول ولا له قيمة لا يكون صداقاً، ولا يحل به النكاح، لكن ابن حزم خرق هذا الإجماع، فقال: يجوز بكل ما يسمى شيئاً، ولو كان حبة من شعير. 19 - واستدل به على جواز جعل المنفعة صداقاً، ولو كان تعليم القرآن. قال المازري: هذا ينبني على أن الباء للتعويض، كقولك: بعتك ثوبي بدينار، وهذا هو الظاهر، وإلا لو كانت بمعنى اللام على معنى تكريمه، لكونه حاملاً للقرآن لصارت المرأة بمعنى الموهوبة، والموهوبة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: يحتمل أن يكون زوجه لأجل ما حفظه من القرآن، وأصدق عنه، أو ثبت الصداق في ذمته، ويكون ذكر القرآن وتعليمه على سبيل التحريض على تعلم القرآن وتعليمه، وتنويهاً بفضل أهله، قالوا: ومما يدل على أنه لم يجعل التعليم صداقاً أنه لم يقع معرفة الزوج بفهم المرأة، وهل فيها قابلية التعليم بسرعة أو ببطء، مما يجعل العوض مجهولاً، والجواب عن ذلك أن مثل هذا

يغتفر بين الزوجين لطول العشرة بينهما، وقال القرطبي: قوله "علمها" نص في الأمر بالتعليم، والسياق يشهد بأن ذلك لأجل النكاح، فلا يلتفت لقول من قال: إن ذلك كان إكراماً للرجل، فإن الحديث يصرح بخلافه. 20 - وفيه جواز كون الإجارة صداقاً، فتقوم المنفعة من الإجارة مقام الصداق. وهو قول الشافعي، وعند المالكية فيه خلاف، ومنعه الحنفية في الحر، وأجازوه في العبد إلا في الإجارة لتعليم القرآن فمنعوه مطلقاً، كما سبق. 21 - وفيه أنه لا يشترط في صحة العقد تقدم الخطبة، إذ لم يقع في شيء من طرق هذا الحديث وقوع حمد ولا تشهد ولا غيرهما من أركان الخطبة، وخالف في ذلك الظاهرية فجعلوها واجبة. 22 - ومن أثر الصفرة على عبد الرحمن بن عوف أجازه بعضهم للعرس خاصة. قال النووي: الصحيح في معنى هذا الحديث أنه تعلق به أثر من الزعفران وغيره من طيب العرس، ولم يقصده، ولا تعمد التزعفر، فقد ثبت في الصحيح النهي عن التزعفر للرجال، وكذا نهي الرجال عن الخلوق، لأنه شعار النساء، وقد نهي الرجال عن التشبه بالنساء، فهذا هو الصحيح في معنى الحديث، وهو الذي اختاره القاضي والمحققون، وقيل: إنه يرخص في ذلك للرجل العروس، وقد جاء ذلك في أثر ذكره أبو عبيد أنهم كانوا يرخصون في ذلك للشاب أيام عرسه. قال: وقيل لعله كان يسيراً، فلم ينكر. قال: وقيل: كان في أول الإسلام من تزوج لبس ثوباً مصبوغاً علامة لسروره وزواجه، وقيل: يحتمل أنه كان في ثيابه دون بدنه، ومذهب مالك وأصحابه جواز لبس الثياب المزعفرة، وحكاه مالك عن علماء المدينة، وهذا مذهب ابن عمر وغيره، وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يجوز ذلك للرجل. 23 - ومن الدعاء لعبد الرحمن بالبركة استحباب الدعاء للمتزوج، وأن يقال له: بارك الله لك أو نحوه. 24 - استدل داود بالأمر في قوله "أولم ولو بشاة" على أن وليمة العرس واجبة. قال النووي: والأصح عند أصحابنا أنها سنة مستحبة، ويحملون هذا الأمر في الحديث على الندب، وبه قال مالك وغيره واختلف العلماء في وقت فعلها، فحكى القاضي أن الأصح عند مالك وغيره أنه يستحب فعلها بعد الدخول، وعن جماعة من المالكية استحبابها عند العقد، وعن ابن حبيب المالكي استحبابها عند العقد وعند الدخول. 25 - وفيه أنه يستحب للموسر ألا ينقص عن شاة، ونقل القاضي الإجماع على أنه لا حد لقدرها المجزئ، بل بأي شيء أولم من الطعام حصلت الوليمة، وقد ذكر مسلم بعد هذا في وليمة عرس صفية أنها كانت بغير لحم. ولكن يستحب أن تكون على قدر حال الزوج. قال القاضي: واختلف السلف في تكرارها أكثر من يومين، فكرهته طائفة، ولم تكرهه طائفة. قال: واستحب أصحاب مالك للموسر كونها أسبوعاً، وللموضوع إضافات تأتي بعد باب إن شاء الله. والله أعلم

(374) باب فضيلة إعتاقه أمته، ثم يتزوجها، وزواجه صلى الله عليه وسلم بصفية رضي الله عنها

(374) باب فضيلة إعتاقه أمته، ثم يتزوجها، وزواجه صلى الله عليه وسلم بصفية رضي الله عنها 3097 - عن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا خيبر. قال: فصلينا عندها صلاة الغداة بغلس. فركب نبي الله صلى الله عليه وسلم وركب أبو طلحة وأنا رديف أبي طلحة. فأجرى نبي الله صلى الله عليه وسلم في زقاق خيبر. وإن ركبتي لتمس فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم. وانحسر الإزار عن فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم. فإني لأرى بياض فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم. فلما دخل القرية قال "الله أكبر! خربت خيبر. إنا إذا نزلنا بساحة قوم. {فساء صباح المنذرين} " قالها ثلاث مرات. قال: وقد خرج القوم إلى أعمالهم. فقالوا: محمد، والله! قال عبد العزيز: وقال بعض أصحابنا: محمد، والخميس. قال: وأصبناها عنوة. وجمع السبي. فجاءه دحية فقال: يا رسول الله! أعطني جارية من السبي. فقال "اذهب فخذ جارية" فأخذ صفية بنت حيي. فجاء رجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله! أعطيت دحية، صفية بنت حيي، سيد قريظة والنضير؟ ما تصلح إلا لك. قال "ادعوه بها" قال: فجاء بها. فلما نظر إليها النبي صلى الله عليه وسلم قال "خذ جارية من السبي غيرها" قال: وأعتقها وتزوجها. فقال له ثابت: يا أبا حمزة! ما أصدقها؟ قال: نفسها. أعتقها وتزوجها. حتى إذا كان بالطريق جهزتها له أم سليم. فأهدتها له من الليل. فأصبح النبي صلى الله عليه وسلم عروساً. فقال "من كان عنده شيء فليجيء به" قال: وبسط نطعاً. قال: فجعل الرجل يجيء بالأقط. وجعل الرجل يجيء بالتمر. وجعل الرجل يجيء بالسمن. فحاسوا حيساً. فكانت وليمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. 3098 - عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه أعتق صفية وجعل عتقها صداقها. وفي رواية: تزوج صفية وأصدقها عتقها. 3099 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الذي يعتق جاريته ثم يتزوجها "له أجران".

3100 - عن أنس رضي الله عنه قال: كنت ردف أبي طلحة يوم خيبر. وقدمي تمس قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فأتيناهم حين بزغت الشمس. وقد أخرجوا مواشيهم وخرجوا بفؤوسهم ومكاتلهم ومرورهم. فقالوا: محمد، والخميس. قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خربت خيبر! إنا إذا نزلنا بساحة قوم {فساء صباح المنذرين} قال: وهزمهم الله عز وجل. ووقعت في سهم دحية جارية جميلة. فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبعة أرؤس. ثم دفعها إلى أم سليم تصنعها له وتهيئها. (قال: وأحسبه قال) وتعتد في بيتها. وهي صفية بنت حيي. قال: وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وليمتها التمر والأقط والسمن. فحصت الأرض أفاحيص. وجيء بالأنطاع. فوضعت فيها. وجيء بالأقط والسمن فشبع الناس. قال: وقال الناس: لا ندري أتزوجها أم اتخذها أم ولد. قالوا: إن حجبها فهي امرأته. وإن لم يحجبها فهي أم ولد. فلما أراد أن يركب حجبها. فقعدت على عجز البعير فعرفوا أنه قد تزوجها. فلما دنوا من المدينة دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ودفعنا. قال: فعثرت الناقة العضباء. وندر رسول الله صلى الله عليه وسلم وندرت. فقام فسترها. وقد أشرفت النساء. فقلن: أبعد الله اليهودية. قال: قلت: يا أبا حمزة! أوقع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: إي. والله! لقد وقع. 3101 - 87 مم قال أنس رضي الله عنه: وشهدت وليمة زينب. فأشبع الناس خبزاً ولحماً. وكان يبعثني فأدعوا الناس. فلما فرغ قام وتبعته. فتخلف رجلان استأنس بهما الحديث. لم يخرجا. فجعل يمر على نسائه. فيسلم على كل واحدة منهن "سلام عليكم. كيف أنتم يا أهل البيت؟ " فيقولون: بخير. يا رسول الله! كيف وجدت أهلك؟ "فيقول: بخير" فلما فرغ رجع ورجعت معه. فلما بلغ الباب إذا هو بالرجلين قد استأنس بهما الحديث. فلما رأياه قد رجع قاما فخرجا. فوالله! ما أدري أنا أخبرته أم أنزل عليه الوحي بأنهما قد خرجا. فرجع ورجعت معه. فلما وضع رجله في أسكفة الباب أرخى الحجاب بيني وبينه وأنزل الله تعالى هذه الآية {لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم} الآية. 3102 - عن أنس رضي الله عنه قال: صارت صفية لدحية في مقسمه. وجعلوا يمدحونها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: ويقولون: ما رأينا في السبي مثلها. قال:

فبعث إلى دحية فأعطاه بها ما أراد. ثم دفعها إلى أمي فقال "أصلحيها" قال: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر. حتى إذا جعلها في ظهره نزل. ثم ضرب عليها القبة فلما أصبح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من كان عنده فضل زاد فليأتنا به" قال: فجعل الرجل يجيء بفضل التمر وفضل السويق. حتى جعلوا من ذلك سواداً حيساً. فجعلوا يأكلون من ذلك الحيس. ويشربون من حياض إلى جنبهم من ماء السماء. قال: فقال أنس: فكانت تلك وليمة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها. قال: فانطلقنا، حتى إذا رأينا جدر المدينة هششنا إليها. فرفعنا مطينا. ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطيته. قال: وصفية خلفه قد أردفها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فعثرت مطية رسول الله صلى الله عليه وسلم. فصرع وصرعت. قال: فليس أحد من الناس ينظر إليه ولا إليها. حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فسترها. قال: فأتيناه فقال: "لم نضر" قال: فدخلنا المدينة. فخرج جواري نسائه يتراءينها ويشمتن بصرعتها. -[المعنى العام]- جاء الإسلام والرق منتشر بين البشرية، لا تستغنى عنه أمة من الأمم، لأن القوة بين قبائل الإنسانية كانت هي الحكم والفصل، يغير القوي على الضعيف، فماذا يسلب من الضعيف إن لم يكن عنده مال؟ فكان النساء والذرية ضريبة الهزيمة، وثمن الحرب يدفعه المغلوب للغالب عنوة وقهراً. حتى كاد نصف المجتمعات يكون رقيقاً للنصف الآخر، إما بالرق الحقيقي والامتلاك، وإما بالرق السياسي والخضوع والذلة والرسوخ تحت الحماية. ونقول: إن الإسلام جاء على مجتمعات يكثر الرق فيها كثرة كبيرة وعادية، فأقره كوضع قائم مؤقت، وفتح له منافذ وطرق الحرية الإنسانية، كبيت ورثه وارث مغلق الحوائط، لا يخرج منه الهواء الفاسد ليدخل بدله الهواء النظيف، فكان علاجه فتح الحوائط والنوافذ، حتى لا يبقى بالداخل شيء فاسد إلا خرج، ففتح للرقيق والأسير باب الفداء، وباب المكاتبة، وباب العتق لأم الولد. وجعل الإسلام عتق الرقبة كفارة لليمين، وللظهار، وللقتل الخطأ، ولأخطاء دينية أخرى، ثم حض على عتق الرقاب ابتغاء الأجر والثواب الأخروي، ولتخطي عقبة النار، {فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة} [البلد: 11 وما بعدها]. وهذه صورة مشرقة من صور حرص الإسلام على حرية الرقيق، ودعوة إلى الإسراع في تحريره. لقد أشرنا إلى أن الأمة إذا وطئت بملك اليمين فولدت صارت أم ولد، لا يجوز بيعها ولا هبتها حيث يعتقها ولدها بمجرد وفاة سيدها، فهل يحرص الإسلام على بقائها مملوكة حتى يتوفى عنها سيدها، أم يفتح لها باباً عاجلاً للحرية؟ .

هذا هو رسول الحرية صلى الله عليه وسلم يقول: "الذي يعتق جاريته ويتزوجها له أجران" نعم له أجران. أجر العتق للمملوكة، وأجر إشراكها له في معيشته وحياته، أي تكريم للمملوك فوق أن يكون شريك سيده في حياته، يحمل اسمه، ويحمل شرف أم أولاده؟ . إن الإنسان حين يرغب في الزواج يبحث عن نسب مشرف، وعن أسرة عريقة يفخر بمصاهرتها، - رغبة في المباهاة بالأحساب والأنساب- فبأي ثمن؟ ولأي هدف يتنازل عن هذه النعرة البشرية، ليتزوج اليوم من كانت ملكه وخادمته بالأمس؟ إنه الأجر الأخروي، وإنه الدعوة إلى الحرية الإنسانية، والإسهام في تحرير البشرية. وقد يسهل على الفرد العادي أن يقوم بمثل ذلك، أما ذوو الشرف والسيادة والقيادة فإنه من الصعب عليهم أن يلغوا فوارق الطبقية بجرة قلم أو بكلمة. لكن محمداً صلى الله عليه وسلم في سبيل دعوته إلى الحرية ألغى هذه الفوارق بكلمة وبجرة قلم. بعد غزوة بني المصطلق جاءته أسيرة من أسراها كاتبها مالكها، فجاءت إليه صلى الله عليه وسلم تطلب مساعدته المالية لتفك رقبتها، ولتحصل على حريتها، وقالت له: أنا جويرية بنت الحارث وقعت في سهم فلان فكاتبني على كذا، وأرجو مساعدتي، ورأى صلى الله عليه وسلم وهو الذي يعز عليه العنت والمشقة، ويرحم عزيز قوم ذل، وهذه بنت سيد من سادات قريظة رأى أن يرحمها ويكرمها فقال لها: هل لك إلى أن أؤدي عنك كتابتك وأعتقك وأتزوجك؟ وعلى الفور رحبت، وعلى الفور أعتقها وتزوجها، وهذه الأخرى صاحبة قصتنا. صفية بنت حيي، بنت سيد قومها، وزوجة ابن سيد قومها، وقعت في الأسر، وقعت في سهم دحية الكلبي مملوكة، يفتديها صلى الله عليه وسلم بسبع من الإماء يدفعها لدحية، ويعتقها ويتزوجها. وصدق الله العظيم إذ يقول فيه {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128]. -[المباحث العربية]- (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا خيبر) "خيبر" على وزن جعفر، مدينة كبيرة، ذات حصون ومزارع على بعد نحو خمسين ميلاً من المدينة إلى جهة الشام، خرج النبي صلى الله عليه وسلم لغزوها في آخر المحرم سنة سبع من الهجرة، فأقام يحاصرها بضع عشرة ليلة، إلى أن فتحها في صفر، وكان يسكنها اليهود. (فصلينا عندها صلاة الغداة بغلس) في رواية للبخاري "أن النبي صلى الله عليه وسلم: أتى خيبر ليلاً" أي قرب منها، فنزل بواد يقال له: الرجيع، بين خيبر وبين غطفان، لئلا يمد غطفان خيبر، إذ كانوا حلفاءهم "وكان إذا أتى قوماً بليل لم يقربهم حتى يصبح" أي حتى يجيء الفجر، وينظر هل يسمع منهم أذاناً؟ أو لا؟ فإن سمع أذاناً كف عنهم، وإلا أغار عليهم. وكان أهل خيبر قد سمعوا بقصد محمد

صلى الله عليه وسلم، مسيره إليهم، فكانوا يخرجون كل يوم بأسلحتهم مستعدين، فلما طال انتظارهم ولم يروا أحداً خرجوا هذا الصباح إلى مزارعهم بفؤوسهم غير مسلحين عند السحر، وذهب ذو الزرع إلى زرعه، وذو الضرع إلى ضرعه، فأغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة، وفي الرواية الرابعة "فأتيناهم" أي أتينا الشوارع والبيوت "حين بزغت الشمس" بفتح الباء والزاي أي عند ابتداء طلوعها، أي قربنا من البيوت لحصارها، ومهاجمتها. "وقد أخرجوا مواشيهم، وخرجوا بفؤوسهم ومكاتلهم" -جمع مكتل، وهو القفة الكبيرة التي يحول فيها التراب وغيره- "ومرورهم"- جمع مر، بفتح الميم، وهو معروف، نحو المجرف وأكبر منها، ويقال لها: المساحي، قال النووي: هذا هو الصحيح في معناه، وحكى القاضي قولين. هذا، والثاني والمراد بالمرور هنا الحبال، كانوا يصعدون بها إلى النخيل، قال: واحدها "مر" بفتح الميم وكسرها، لأنه يمر حين يفتل. اهـ وفي رواية للبخاري "خرجت اليهود بمساحيهم ومكاتلهم" وهذا يؤيد المعنى الأول من المر، والمسحاة كالفأس، غير أن يدها في طول كفها وليست عمودية عليها كالفأس ويشبه ما يسمى اليوم "بالكريك" بيد صغيرة. (فركب نبي الله صلى الله عليه وسلم) أي وركب الناس ليدخلوا المدينة. (فأجرى نبي الله صلى الله عليه وسلم في زقاق خيبر) أي أجرى راحلته، ودفعها، وجعلها تجري، والزقاق بضم الزاي الطريق الضيق، نافذاً أو غير نافذ، والمراد هنا النافذ، يذكر ويؤنث، وجمعه أزقة. وهذا الجري كان بعد أيام من وصول النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه خيبر فقد سبق أنهم حاصروها بضع عشرة ليلة، ففي الكلام تقديم من تأخير، وترتيبه أن اليهود خرجوا إلى أعمالهم، لم يشعروا بمنزل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلا بعد خروجهم غير مسلحين، فرأوا الجيش بعيداً، فقالوا: هذا. والله محمد وجيشه، ورجعوا للقتال وتحصنوا بحصونهم، وحوصرت المدينة، وفتحت حصونها المنيعة حصناً حصناً في بضع عشرة ليلة، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وهو يقول: الله أكبر، خربت خيبر إلخ. (فقالوا: محمد والله) -قال عبد العزيز: قال بعض أصحابنا: محمد والخميس- "عبد العزيز" هو الراوي عن أنس، سمع الحديث عن أنس هو وغيره، فرواه هو عن أنس بلفظ "فقالوا: محمد والله" ورواه بعض أصحابه بلفظ "فقالوا: محمد والخميس" أي محمد والجيش، فالخميس الجيش، قيل: سمي بذلك لأنه يقسم خمسة أقسام، مقدمة، وساقة، وميمنة، وميسرة وقلب، وقيل: لتخميس الغنائم، ورد هذا القول بأن هذا الاسم كان معروفاً في الجاهلية، ولم يكن لهم تخميس. وقد روي الحديث بلفظ "محمد والخميس" عن أنس حميد الطويل ومحمد بن سيرين وثابت، فعرف بهم مقصوده من لفظ أصحابه. (فلما دخل القرية قال: الله أكبر. خربت خيبر) ظاهر هذا أن التكبير تكبير نصر، مصاحب لدخول القرية، وأن قوله "خربت خيبر" إخبار. لكن بقية الروايات تشير إلى أن هذا التكبير وهذا القول كان قبل النصر عند بدء الإغارة، ولذا قال السهيلي: يؤخذ من الحديث التفاؤل، لأنه صلى الله عليه وسلم لما رأى آلات الهدم في أيديهم أخذ منه أن مدينتهم ستخرب، وقال الحافظ ابن حجر:

يحتمل أن يكون قال "خربت خيبر" بطريق الوحي، أي ستخرب، وقال النووي: فيه وجهان: أحدهما أنه دعاء، وتقديره: أسأل الله خرابها، والثاني أنه إخبار بخرابها على الكفار، وفتحها للمسلمين. اهـ أي تبشير بحصول ذلك. (إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين) يستشهد صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {أفبعذابنا يستعجلون فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين} [الصافات: 176، 177]. والساحة هي المكان الواسع عند الدور، "وساء" معناها قبح، وقيل: بمعنى بئس، و"المنذرين" هم الكافرون، فإنهم ينذرون قبل الإغارة عليهم ومحاربتهم فالرسول صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه مقدماً بنتيجة المعركة. (وأصبناها عنوة) بفتح العين، أي قهراً، لا صلحاً. قال النووي: وبعض حصون خيبر أصيب صلحاً. أي حصل عليه المسلمون صلحاً، لكنهم نكثوا عهدهم، فسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء والذرية، ومن عليهم بأن أبقاهم عمالاً بالأرض على جعل مما يخرج منها، وليس لهم فيها ملك. (فجاءه دحية) بكسر الدال وفتحها. (فأخذ صفية بنت حيي) بن أخطب بن سعيه -فتح السين وسكون العين- بن عامر بن عبيد بن كعب، من ذرية هارون بن عمران، أخي موسى عليهما السلام، وأمها برة بنت شموال، من بني قريظة، وكانت تحت سلام بن مشكم القرظي، ثم فارقها، فتزوجها كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق النضيري، فقتل عنها يوم خيبر، فسبيت من حصن القموص، وهو حصن بني أبي الحقيق، فأبوها سيد قريظة، وزوجها ابن سيد بني النضير، قتل عنها وهو عروس. قيل: كان اسمها قبل أن تسبي زينب، فلما اصطفيت من السبي سميت صفية، والصحيح أن اسمها قبل السبي كان صفية، يؤيده قول الصحابي للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا نبي الله أعطيت دحية صفية بنت حيي"؟ . (خذ جارية من السبي غيرها) في الرواية الرابعة "ووقعت في سهم دحية جارية جميلة، فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبعة أرؤس" قال الحافظ ابن حجر: الأولى في طريق الجمع أن المراد بسهمه هنا نصيبه الذي اختاره لنفسه، وذلك أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيه جارية، فأذن له أن يأخذ جارية، فأخذ صفية، فلما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم إنها بنت ملك من ملوكهم ظهر له أنها ليست ممن توهب لدحية، لكثرة من كان في الصحابة مثل دحية، وفوقه، وقلة من كان في السبي مثل صفية في نفاستها، فلو خصه بها لأمكن تغير خاطر بعضهم، فكان من المصلحة العامة ارتجاعها منه، واختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بها، فإن في ذلك رضا الجميع، وليس ذلك من الرجوع في الهبة من شيء، وأما إطلاق الشراء على العوض فعلى سبيل المجاز، ولعله عوضه عنها بنت عمها أو بنت عم زوجها، فلم تطب نفسه، فأعطاه من جملة السبي زيادة على ذلك. (حتى إذا كان بالطريق جهزتها له أم سليم) هي أم أنس، وفي الرواية الرابعة "ثم دفعها إلى أم سليم تصنعها له، وتهيئها وتعتد في بيتها" أي تستبرئ، وفي رواية للبخاري "فخرج بها حتى

بلغنا سد الصهباء حلت" أي طهرت من الحيض، وفي رواية "دفعها إلى أمي أم سليم حتى تهيئها وتصبنها وتعتد عندها" وفي رواية للبخاري "أقام النبي صلى الله عليه وسلم بين خيبر والمدينة ثلاثاً، يبني عليه بصفية بنت حيي" فكأنه صلى الله عليه وسلم سار بالجيش ومعه صفية عائداً إلى المدينة حتى وصل إلى سد الصهباء، على بعد ستة أميال من خيبر نزل فأقام ثلاثاً، وفي الرواية الخامسة "ثم خرج من خيبر، حتى إذا جعلها في ظهره نزل، ثم ضرب عليها القبة". (فقال: من كان عنده شيء فليجئ به. قال: وبسط نطعاً) وفي رواية "فليجئني به" والنطع فيه أربع لغات مشهورات، فتح النون وكسرها، مع فتح الطاء، وإسكانها، أفصحن كسر النون مع فتح الطاء، وهو فراش يوضع عليه الطعام، أشبه بما يعرف اليوم بالمشمع، وفي الرواية الرابعة "فحصت الأرض أفاحيص" بضم الفاء وكسر الحاء المخففة، أي كشف التراب من أعلاها، حفرت قليلاً، لتوضع الأنظاع في المحفور، فتجمع الطعام، ولا يتبعثر في الجوانب. (فجعل الرجل يجيء بالأقط) وهو لبن محمض مجمد حتى يستجحر، وعند الحاجة إليه يطبخ. (فحاسوا حيساً) أي جعلوا ذلك حيساً والحيس بفتح الحاء وسكون الياء هو مجموع الأقط والتمر والسمن يخلط ويعجن بالماء، ثم يؤكل. (فكانت وليمة رسول الله صلى الله عليه وسلم) "كان" تامة، و"وليمة" فاعل، أي. حصلت بذلك وليمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو "كان" ناقصة، واسمها ضمير، و"وليمة" خبرها، أي فكانت هذه الخلطة وليمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الرواية الخامسة "حتى جعلوا من ذلك سواداً" أي كما كثيراً "حيساً". (فلما أراد أن يركب حجبها) في رواية للبخاري قال أنس: "فرأيته يحوي لها وراءه بعباءة، ثم يجلس عند بعيره، فيضع ركبته، وتضع صفية رجلها على ركبته، حتى تركب" وفي رواية له "فلما ارتحل وطأ لها خلفه، ومد الحجاب". (فلما دنوا من المدينة دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفعنا) أي دفع راحلته لتسرع، ودفعنا وأسرعنا، تعجلاً للوصول إلى الأهل، وفي الرواية الخامسة "فانطلقنا، حتى إذا رأينا جدر المدينة" أي مبانيها وحوائطها "هششنا إليها" بشينين، الأولى مكسورة مخففة، ومعناها نشطنا وخففنا وانبعثت نفوسنا إليها، يقال: هششت بكسر الشين في الماضي وفتحها في المضارع، وفي رواية "هشنا إليها" بشين واحدة مفتوحة مدغمة في الأخرى، ورواه بعضهم "هشنا" بكسر الهاء وإسكان الشين، من هاش يهيش، بمعنى هش. (فعثرت الناقة العضباء) "العضباء" اسم لناقته صلى الله عليه وسلم. (وندر رسول الله صلى الله عليه وسلم وندرت) أي وندرت صفية، أي سقط عن الناقة وسقطت

عنها، وأصل الندور الخروج والانفراد، ومنه كلمة نادرة، أي فريدة عن النظائر، وفي الرواية الخامسة "فصرع وصرعت". (وقد أشرفت النساء) أي طلعت من فوق، ومن الشرفات على السقطة، اطلاع شماتة، والمقصود من النساء نساؤه صلى الله عليه وسلم، والمراد شمتوا في سقوط صفية. (فليس أحد من الناس ينظر إليه ولا إليها) حياء ومهابة. (فجعل جواري نسائه يتراءينها) قال النووي: أي صغيرات الأسنان من نسائه. اهـ أو خادمات نسائه. (ملحوظة) ما يتعلق بقصة زينب سنتناوله في الباب الآتي إن شاء الله. -[فقه الحديث]- قال النووي عن قوله "أعتقها وتزوجها" فيه أنه يستحب أن يعتق الأمة ويتزوجها، كما قال في الحديث الذي بعده "له أجران" وقوله "أصدقها نفسها" اختلف في معناه، والصحيح الذي اختاره المحققون أنه أعتقها تبرعاً بلا عوض ولا شرط، ثم تزوجها برضاها بلا صداق، وهذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه يجوز نكاحه بلا مهر، لا في الحال، ولا فيما بعد، بخلاف غيره، وقال بعض أصحابنا: معناه أنه شرط عليها أن يعتقها ويتزوجها، فقبلت، فلزمها الوفاء به، وقال بعض أصحابنا: أعتقها وتزوجها على قيمتها، وكانت مجهولة، ولا يجوز هذا، ولا الذي قبله لغيره صلى الله عليه وسلم، بل هما من الخصائص، كما قال أصحاب القول الأول قال النووي: واختلف العلماء فيمن أعتق أمته على أن تتزوج به، ويكون عتقها صداقها، فقال الجمهور: لا يلزمها أن تتزوج به، ولا يصح هذا الشرط، وممن قاله مالك والشافعي وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن وزفر. قال الشافعي: فإن أعتقها على هذا الشرط فقبلت عتقت، ولا يلزمها أن تتزوجه، بل له عليها قيمتها، لأنه لم يرض أن يعتقها مجاناً، فإن رضيت وتزوجها على مهر يتفقان عليه فله عليها القيمة، ولها عليه المهر المسمى من قليل أو كثير، وإن تزوجها على قيمتها، فإن كانت القيمة معلومة له ولها صح الصداق، ولا تبقى له عليها قيمة، ولا لها عليه صداق، وإن كانت مجهولة ففيه وجهان لأصحابنا، أحدهما يصح الصداق، كما لو كانت معلومة، لأن هذا العقد فيه ضرب من المسامحة والتخفيف، وأصحهما وبه قال جمهور أصحابنا: لا يصح الصداق بل يصح النكاح، ويجب لها مهر المثل. وقال سعيد بن المسيب والحسن والنخعي والزهري والنووي والأوزاعي وأبو يوسف وأحمد وإسحاق: يجوز أن يعتقها على أن تتزوج به، ويكون عتقها صداقها، ويلزمها ذلك، ويصح الصداق على ظاهر لفظ هذا الحديث وتأوله الآخرون بما سبق.

-[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم: ]- 1 - من قوله في الرواية الأولى "فصلينا عندها صلاة الغداة" أنه لا كراهة في تسميتها الغداة، قال النووي وقال بعض أصحابنا: يكره، والصواب الأول. 2 - ومن قوله "وأنا رديف أبي طلحة" جواز الإرداف، إذا كانت الدابة مطيقة. 3 - ومن قوله "فأجرى نبي الله صلى الله عليه وسلم في زقاق خيبر" جواز ذلك، وأنه لا يسقط المروءة، ولا يخل بمراتب أهل الفضل، لا سيما عند الحاجة للقتال، أو رياضة النفس أو الدابة، أو معاناة أسباب الشجاعة. 4 - واستدل مالك بقوله "وانحسر الإزار عن فخذ نبي الله" صلى الله عليه وسلم على أن الفخذ ليس بعورة، قال النووي: ومذهبنا أنه عورة، ويحمل أصحابنا هذا الحديث على أن انحسار الإزار وغيره كان بغير اختياره صلى الله عليه وسلم، فانحسر للزحمة، ووقع نظر أنس إليه فجأة، لا تعمداً، وكذلك مست ركبته الفخذ من غير اختيارهما، بل للزحمة، ولم يقل: إنه تعمد ذلك، ولا أنه حسر الإزار، بل انحسر بنفسه. 5 - ومن قوله: "فلما دخل القرية قال: الله أكبر" استحباب الذكر والتكبير عند الحرب، وهو موافق لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً} [الأنفال: 45]. ولهذا قالها ثلاث مرات. 6 - ويؤخذ منه أن الثلاث كثير. 7 - ومن إرجاع هدية دحية قال المازري وغيره: يحتمل ما جرى مع دحية وجهين: أحدهما أن يكون رد الجارية برضاه، وأذن له في غيرها، والثاني أنه إنما أذن في جارية له من حشو السبي، لا أفضلهن، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ أنفسهن وأجودهن نسباً وشرفاً في قومها وجمالاً استرجعها، لأنه لم يأذن له فيها، ورأى في إبقائها لدحية مفسدة، لتميزه بمثلها على باقي الجيش، ولما فيه من انتهاكها مع مرتبتها، وكونها بنت سيدهم، ولما يخاف من استعلائها على دحية بسبب مرتبتها، وربما ترتب على ذلك شقاق أو غيره، فكان أخذه صلى الله عليه وسلم إياها لنفسه قاطعاً لكل هذه المفاسد المتخوفة، ومع هذا فقد عوض دحية عنها. 8 - ومن قوله: "أعطاه بدلها سبعة أنفس" أخذ أن ذلك كان تطييباً لخاطره، لا أنه جرى عقد بيع، وعلى هذا تتفق الروايات، وهذا الإعطاء لدحية محمول على التنفيل، فعلى قول من يقول: التنفيل يكون من أصل الغنيمة لا إشكال فيه، وعلى قول من يقول: إن التنفيل من خمس الخمس يكون هذا التنفيل من خمس الخمس بعد أن ميز، أو قبله ويحسب منه، قال النووي: فهذا الذي ذكرناه هو الصحيح المختار. قال القاضي: والأولى عندي أن تكون صفية فيئاً، لأنها كانت زوجة كنانة بن الربيع، وهو وأهله من بني أبي الحقيق كانوا صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشرط عليهم أن لا يكتموه كنزاً، فإن كتموه فلا ذمة لهم، وسألهم عن كنز حيي بن أخطب، فكتموه، وقالوا: أذهبته النفقات، ثم عثر عليه عندهم، فانتقض عهدهم، فسباهم، فصفية من سبيهم، فهي فيء لا يخمس،

بل يفعل فيه الإمام ما رأى، هذا رأي القاضي عياض، وهذا تفريع منه على مذهبه أن الفيء لا يخمس، قال النووي: ومذهبنا أنه يخمس كالغنيمة. 9 - وفي الحديث الزفاف بالليل. 10 - وفي جمع ما عند القوم دليل على وليمة العرس. 11 - وأنها بعد الدخول، وتجوز قبله. 12 - وفيه إدلال الكبير على أصحابه، وطلب طعامهم في نحو هذا. 13 - وأنه يستحب لأصحاب الزوج وجيرانه مساعدته في وليمته بطعام من عندهم. 14 - ومن قوله "إن حجبها فهي امرأته" استدلت المالكية ومن وافقهم على أنه يصح النكاح بغير شهود إذا أعلن، لأنه لو أشهد لم يخف عليهم، وهذا مذهب جماعة من الصحابة والتابعين وهو مذهب الزهري ومالك وأهل المدينة"، شرطوا الإعلان دون الشهادة، وقال جماعة من الصحابة ومن بعدهم: تشترط الشهادة دون الإعلان، وهو مذهب الأوزاعي والثوري والشافعي وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم، وكل هؤلاء يشترطون شهادة عدلين، إلا أبا حنيفة فقال: ينعقد بشهادة فاسقين، وأجمعت الأمة على أنه لو عقد سراً بغير شهادة لم ينعقد، وأما إذا عقد سراً بشهادة عدلين فهو صحيح عند الجماهير، وقال مالك: لا يصح. 15 - ومن قصة زواجه بصفية أخذ البخاري جواز البناء والدخول على الزوجة في السفر. 16 - قال الحافظ: وفيه إشارة إلى أن سنة الإقامة عند الثيب لا تختص بالحضر، ولا تتقيد بمن له امرأة غيرها. 17 - ويؤخذ منه جواز تأخير الأشغال العامة للشغل الخاص إذا كان لا يفوت به غرض. 18 - والاهتمام بوليمة العرس. 19 - وإقامة سنة النكاح بإعلامه. والله أعلم

(375) باب زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش ونزول الحجاب وإثبات وليمة العرس

(375) باب زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش ونزول الحجاب وإثبات وليمة العرس 3103 - عن أنس رضي الله عنه قال: لما انقضت عدة زينب. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد "فاذكرها علي" قال: فانطلق زيد حتى أتاها وهي تخمر عجينها. قال: فلما رأيتها عظمت في صدري. حتى ما أستطيع أن أنظر إليها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها. فوليتها ظهري ونكصت على عقبي. فقلت: يا زينب! أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك. قالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أوامر ربي. فقامت إلى مسجدها. ونزل القرآن. وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن. قال فقال: ولقد رأيتنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعمنا الخبز واللحم حين امتد النهار. فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعته. فجعل يتتبع حجر نسائه يسلم عليهن. ويقلن: يا رسول الله! كيف وجدت أهلك؟ قال: فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد خرجوا أو أخبرني. قال: فانطلق حتى دخل البيت. فذهبت أدخل معه فألقى الستر بيني وبينه. ونزل الحجاب. قال: ووعظ القوم بما وعظوا به. زاد في رواية: {لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه} إلى قوله {والله لا يستحيي من الحق} 3104 - عن أنس رضي الله عنه قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أولم على امرأة وفي رواية: "على شيء" من نسائه، ما أولم على زينب. فإنه ذبح شاة. 3105 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ما أولم رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة من نسائه أكثر أو أفضل مما أولم على زينب. فقال ثابت البناني: بما أولم؟ قال: أطعمهم خبزاً ولحماً حتى تركوه. 3106 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش، دعا

القوم فطعموا. ثم جلسوا يتحدثون. قال: فأخذ كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا. فلما رأى ذلك قام. فلما قام قام من قام من القوم. زاد عاصم وابن عبد الأعلى في حديثهما قال: فقعد ثلاثة. وإن النبي صلى الله عليه وسلم جاء ليدخل فإذا القوم جلوس. ثم إنهم قاموا فانطلقوا. قال: فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا. قال: فجاء حتى دخل. فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه. قال: وأنزل الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه} إلى قوله {إن ذلكم كان عند الله عظيماً} 3107 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أنا أعلم الناس بالحجاب. لقد كان أبي بن كعب يسألني عنه. قال أنس: أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عروساً بزينب بنت جحش. قال: وكان تزوجها بالمدينة. فدعا الناس للطعام بعد ارتفاع النهار. فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس معه رجال بعد ما قام القوم. حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمشى فمشيت معه حتى بلغ باب حجرة عائشة. ثم ظن أنهم قد خرجوا فرجع ورجعت معه. فإذا هم جلوس مكانهم. فرجع فرجعت الثانية حتى بلغ حجرة عائشة فرجع فرجعت. فإذا هم قد قاموا. فضرب بيني وبينه بالستر. وأنزل الله آية الحجاب. 3108 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بأهله. قال: فصنعت أمي أم سليم حيساً فجعلته في تور. فقالت: يا أنس! اذهب بهذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقل بعثت بهذا إليك أمي. وهي تقرئك السلام. وتقول: إن هذا لك منا قليل، يا رسول الله! قال: فذهبت بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: إن أمي تقرئك السلام وتقول: إن هذا لك منا قليل، يا رسول الله! فقال "ضعه" ثم قال "اذهب فادع لي فلاناً وفلاناً وفلاناً. ومن لقيت" وسمى رجالاً. قال: فدعوت من سمى ومن لقيت. قال: قلت لأنس: عدد كم كانوا؟ قال: زهاء ثلاثمائة. وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا أنس! هات التور" قال: فدخلوا حتى امتلأت الصفة والحجرة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليتحلق عشرة عشرة وليأكل كل إنسان مما يليه" قال: فأكلوا حتى شبعوا. قال: فخرجت طائفة ودخلت طائفة حتى أكلوا كلهم. فقال لي "يا أنس! ارفع" قال: فرفعت. فما أدري حين وضعت كان أكثر أم حين رفعت. قال: وجلس طوائف منهم يتحدثون في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورسول الله صلى الله عليه وسلم

جالس، وزوجته مولية وجهها إلى الحائط. فثقلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم على نسائه. ثم رجع. فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجع ظنوا أنهم قد ثقلوا عليه. قال: فابتدروا الباب فخرجوا كلهم. وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أرخى الستر ودخل. وأنا جالس في الحجرة. فلم يلبث إلا يسيراً حتى خرج علي. وأنزلت هذه الآية. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأهن على الناس: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي} إلى آخر الآية. قال الجعد: قال أنس بن مالك: أنا أحدث الناس عهداً بهذه الآيات. وحجبن نساء النبي صلى الله عليه وسلم. 3109 - عن أنس رضي الله عنه قال: لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب أهدت له أم سليم حيساً في تور من حجارة. فقال أنس: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اذهب فادع لي من لقيت من المسلمين" فدعوت له من لقيت. فجعلوا يدخلون عليه فيأكلون ويخرجون. ووضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على الطعام فدعا فيه. وقال فيه ما شاء الله أن يقول. ولم أدع أحداً لقيته إلا دعوته. فأكلوا حتى شبعوا. وخرجوا. وبقي طائفة منهم فأطالوا عليه الحديث. فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يستحيي منهم أن يقول لهم شيئاً. فخرج وتركهم في البيت. فأنزل الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه} (قال قتادة: غير متحينين طعاماً) {ولكن إذا دعيتم فادخلوا} حتى بلغ {ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن} -[المعنى العام]- أحل الله النكاح، وحرم السفاح، فكانت سمة السفاح التخفي به والتستر، وسمة النكاح الإشهار والإعلان، وقد ورد "أعلنوا النكاح، واضربوا عليه بالدف" وشرط جمهور الفقهاء لصحة النكاح الإعلان والإشهار، ومن أهم وسائل هذا الإعلان الوليمة، وبخاصة في بيئة تقل الولائم فيها، ويكثر المحتاجون إليها، وهذا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أولم عند زواجه بكل زوجة من أمهات المؤمنين، نعم كانت ولائمه حسب الظروف وحسب الاستطاعة، فقد أولم على بعض نسائه بمدين من شعير، وأولم علي رضي الله عنه حيث تزوج بفاطمة رضي الله عنها بمدين من شعير رهن درعه عند يهودي في مقابلهما. لكنه صلى الله عليه وسلم ما أولم على امرأة من نسائه مثل ما أولم على زينب بنت جحش، إذ شبع الناس خبزاً ولحماً، ولعل ذلك لأن زواجه منها كان بأمر من الله ولحكمة بالغة، هي إبطال التبني وما يترتب عليه بالفعل بعد القول، بأن تزوج امرأة من كان يدعي ابنه، فكان هذا الزوج في

حاجة إلى إعلان كبير لينتشر بين المسلمين. وكان زواجه صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش ظرفاً لتشريع آخر، ذاك هو حجاب أمهات المؤمنين، حيث جلس بعض المدعوين لوليمتها في حجرة الطعام بعد الطعام مستأنسين للحديث، فثقلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثقلوا على زوجه التي ظلت مدة طويلة مولية وجهها نحو الحائط، فنزل قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم} -أي لا تدخلوا بيوت النبي لسبب من الأسباب إلا بسبب الإذن {إلى طعام غير ناظرين إناه} أي غير منتظرين نضجه، أي إذا دخلتم لطعام فادخلوا بعد نضجه، لئلا يطول بكم الانتظار {ولكن إذا دعيتم} بعد تجهيز الطعام {فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا} أي فاخرجوا وانتشروا في الأرض، وتوجهوا إلى مصالحكم {ولا مستأنسين لحديث} أي لا يحملكم الاستئناس بالحديث على الجلوس بعد الأكل {إن ذلكم} الجلوس واللبث {كان يؤذي النبي} فيمنعه من قضاء حاجاته، ويضيق عليه وعلى أهله في المنزل {فيستحيي منكم} فلا يقول لكم: اخرجوا {والله لا يستحيي من الحق} فلا تعودوا لمثل هذا معشر الثقلاء، وعن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهم "حسبك في الثقلاء أن الله عز وجل لم يحتملهم" يقول الألوسي: وعندي كالثقيل المذكور من يدعي في وقت معين مع جماعة، فيتأخر عن ذلك الوقت من غير عذر شرعي بل لمحض أن ينتظر، ويظهر بين الحاضرين فريد جلالته {وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله} [الأحزاب: 53]. صلى الله عليه وسلم" ورضي عن أزواجه أجمعين. -[المباحث العربية]- (لما انقضت عدة زينب) بنت جحش، وأمها أميمة بنت عبد المطلب، عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبدأ هذه القصة بزيد بن حارثة الصبي الذي كان عبداً لخديجة رضي الله عنها، فوهبته لزوجها محمد صلى الله عليه وسلم، فجاءه أهله يفدونه، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: إن اختاركم فهو لكم بدون فداء، فاختار رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهله، فأشهدهم صلى الله عليه وسلم أنه عتيق، وأنه حر، وأنه منذ اللحظة ابن لمحمد، وليس عبداً لمحمد، وكان من تبنى رجلاً في الجاهلية دعاه الناس إليه، وورث ميراثه، فأصبح يدعى زيد بن محمد، حتى نزل قوله تعالى من سورة الأحزاب {وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم} [الأحزاب: 4، 5]. فأصبح يدعى زيد بن حارثة. وشب الصبي، وبلغ سن الزواج، فاختار له رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش ابنة عمته صلى الله عليه وسلم لتكون زوجة له، وترفعت زينب، بنت الحسب والنسب وابنة عمة الرسول صلى الله عليه وسلم، والتي تتيه بجمالها على قريناتها. ترفعت أن تتزوج من كان عبداً. فنزل قوله تعالى {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً} [الأحزاب: 36]. وخضعت زينب لأمر الله وأمر رسوله وتزوجت زيداً، لكنها بحكم طبيعة المرأة ظلت نافرة من زيد، متعاظمة عليه، وجاء زيد مراراً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكوها إليه، ويستأذن في طلاقها -

وأخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن زينب ستكون من أزواجه، لكن كيف؟ وماذا يقول الناس؟ يقولون: إن محمداً تزوج امرأة من كان ابنه؟ ليكن يا محمد، وليقل الناس ما يقولون، فهذه هي الوسيلة القوية الأكيدة لإبطال عقيدة التبني عملياً بعد إبطالها نظرياً -وأخفى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر الإلهي في نفسه حتى يحكم الله بنفاذه، وقال لزيد: {أمسك عليك زوجك واتق الله} ولما استحالت العشرة بين زينب وزيد، وأراد الله تنفيذ ما قضاه طلقها زيد، واعتدت، ولما انتهت العدة صدر الأمر الإلهي بتزويجها لمحمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى {فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً وكان أمر الله مفعولاً} [الأحزاب: 37]. (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد: فاذكرها علي) أي اخطبها لي من نفسها، واذكرني راغباً في زواجها، واذكر اسمها زوجة لي، داخلة علي. عجباً ثم عجباً. من كان زوجها منذ قليل هو الذي يخطبها؟ ولم فعل الرسول ذلك؟ نعم لئلا يظن أحد أن طلاقها قد وقع منه قهراً بغير رضاه، وليظهر ما عنده منها، هل بقي شيء من حبه لها؟ "قال: فلما رأيتها عظمت في صدري، حتى ما أستطيع أن أنظر إليها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها" أي خطبها أو طلبها، و"أن رسول الله" مجرور بحرف جر محذوف، أي لأن رسول الله طلبها، والمعنى أنه هابها وقدسها وعظمها من أجل إرادة النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها، فعاملها معاملة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الإعظام والمهابة والإجلال. (فوليتها ظهري، ونكصت على عقبي) أي التفت عنها، ووليتها ظهري لئلا أراها، وبعدت عنها قليلاً، احتراماً وتقديراً، وفي رواية "فقلت: يا زينب. أبشري. أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك". (ما أنا بصانعة شيئاً حتى أوامر ربي) أي ما أنا بمجيبة على هذا المطلب بنعم أو بلا، حتى أطلب أمر ربي وانشراحي للأمر أو عدمه، عن طريق صلاة الاستخارة التي علمنا إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم. (ونزل القرآن) بقوله تعالى {فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها} (فدخل عليها بغير إذن) لأن الله تعالى زوجه إياها بهذه الآية. (ولقد رأيتنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعمنا الخبز واللحم حين امتد النهار) أي ارتفع، في الرواية الخامسة "فدعا الناس للطعام بعد ارتفاع النهار" وفي الرواية السادسة في قصة زواج زينب "فصنعت أمي أم سليم حيساً" -من تمر وأقط وسمن- "فجعلته في تور" بفتح التاء وسكون الواو إناء مثل القدح، أو ما يسمى عندنا بالشفشق. وفي الرواية السابعة "في تور من حجارة" وفي رواية للبخاري "فعمدت إلى تمر وسمن وأقط، فاتخذت حبيسة" -أي طعاماً محبوساً- "في برمة، فأرسلت بها معي إليه، فانطلقت بها إليه، فقال لي: ضعها. ثم أمرني فقال: ادع لي" في الرواية السادسة "ادع لي فلاناً وفلاناً وفلاناً ومن لقيت"، وسمى رجالاً. قال: فدعوت من سمى ومن لقيت -زهاء ثلاثمائة بضم الزاي وفتح الهاء- أي نحو ثلاثمائة، وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أنس. هات التور. قال: فدخلوا،

حتى امتلأت الصفة" -أي البهو الواسع- "والحجرة" ..... "فقال لي: يا أنس. ارفع" -أي ارفع التور- "فرفعت. فما أدري حين وضعت" -التور- "كان" -ما فيه- "أكثر؟ أم حين رفعت". وقد استشكل القاضي عياض ما وقع في هذا الحديث من أن الوليمة بزينب بنت جحش كانت من الحيس الذي أهدته أم سليم، والمشهور من الروايات أنه صلى الله عليه وسلم أولم عليها بالخبز واللحم، وظن القاضي عياض أن هذا وهم، وتركيب قصة على قصة أخرى، ورد عليه القرطبي بأن لا مانع من الجمع بين الروايتين، ولا وهم، فلعل الذين دعوا إلى الخبز واللحم، فأكلوا حتى شبعوا، وذهبوا لم يرجعوا ثم جاء أنس بالحبيسة فأمر بأن يدعو ناسا آخرين ومن لقي فدخلوا فأكلوا أيضا حتى شبعوا، قال الحافظ: وهو جمع لا بأس به، وأولى منه أن يقال: إن حضور الحبيسة صادف حضور الخبز واللحم، فأكلوا كلهم من كل ذلك. (وبقي رجال يتحدثون في البيت) في الرواية الرابعة تفصيل، ففيها "دعا القوم، فطعموا، ثم جلسوا يتحدثون قال: فأخذ كأنه يتهيأ للقيام، فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام، فلما قام قام من قام من القوم. قال: فقعد ثلاثة .... " وفي الرواية الخامسة تفصيل لمجيئه وعودته مراراً، وفي الرواية السادسة وصف لوضع زوجته "وزوجته مولية وجهها إلى الحائط" قال النووي "وزوجته" بالتاء، وهي لغة قليلة، تكررت في الحديث والشعر والمشهور حذفها. (فما أدري؟ أنا أخبرته أن القوم قد خرجوا؟ أو أخبرني؟ ) في الرواية الرابعة "فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا" وكذا في رواية للبخاري، فوقع الجزم بأنه الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الرواية الخامسة "ثم ظن أنهم قد خرجوا "قال الحافظ: هو محمول على أنه كان يذكره، ثم عرض له الشك فكان يشك فيه، ثم تذكر، فجزم. اهـ ويمكن القول بأنهما توافقا. رسول الله صلى الله عليه وسلم ألهم أنهم خرجوا في الوقت الذي جاء فيه أنس يخبره بخروجهم، فكل منهما أخبر الآخر، وكل منهما سابق الآخر في الإخبار. (وانطلق حتى دخل البيت، فذهبت أدخل معه فألقى الستر بيني وبينه، ونزل الحجاب) أي ونزلت آية الحجاب، أو الأمر بالحجاب. وفي الرواية الرابعة "فجاء حتى دخل، فذهبت أدخل، فألقى الحجاب بيني وبينه" وفي الرواية السادسة "وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أرخى الستر ودخل، وأنا جالس في الحجرة، فلم يلبث إلا يسيراً حتى خرج علي وأنزلت هذه الآية، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرأهن على الناس" وفي رواية للبخاري "فرجع حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب" -بضم الهمزة وسكون السين وضم الكاف وفتح الفاء المشددة، أي عتبته "أرخى الستر بيني وبينه، وأنزلت آية الحجاب. (أنا أحدث الناس عهداً بهذه الآيات) أي أقربهم عهداً بنزولها، أي أول من علم بها من الناس.

(وحجبن نساء النبي صلى الله عليه وسلم) كذا في الأصل "وحجبن" بنون النسوة، على لغة "يتعاقبون فيكم ملائكة" لغة الجمع بين ضمير الفاعل والفاعل الظاهر، فنساء بدل من الضمير، أو النون علامة نسوة والفاعل "نساء" وكان الأصل أن يقول: وحجب نساء النبي صلى الله عليه وسلم. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من هذه الأحاديث: ]- 1 - قال النووي: فيه دليل على أنه لا بأس أن يبعث الرجل لخطبة المرأة من كان زوجاً لها، إذا علم أنه لا يكره ذلك كما كان حال زيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2 - ومن إعظام زيد لزينب ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين من إجلال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهيبته وهيبة وإجلال أمهات المؤمنين. 3 - ومن لجوء زينب إلى الاستخارة استحباب صلاة الاستخارة لمن هم بأمر، سواء كان ذلك الأمر ظاهر الخير أم لا، وهو موافق لصحيح البخاري عن جابر قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها، يقول: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ... إلى آخر الحديث. قال النووي: ولعلها استخارت لخوفها من تقصير في حقه صلى الله عليه وسلم. 4 - ومن سلامه صلى الله عليه وسلم على نسائه أنه يستحب للإنسان إذا أتى منزله أن يسلم على امرأته وأهله، قال النووي: هذا مما يتكبر عنه كثير من الجاهلين المترفعين. 5 - وأنه إذا سلم على واحد قال: سلام عليكم، أو السلام عليكم. بصيغة الجمع. قالوا: ليتناوله وملكيه. 6 - وسؤال الرجل أهله عن حالهم، فربما كانت في نفس المرأة حاجة فتستحيي أن تبتدئ بها، فإذا سألها انبسطت لذكر حاجتها. 7 - وأنه يستحب أن يقال للرجل عقب دخوله: كيف حالك، ونحو هذا. 8 - وفي زيادة وليمة زينب جواز أن يولم الرجل على بعض نسائه أكثر من بعض. قال النووي: يحتمل أن سبب ذلك الشكر لنعمة الله في أن الله تعالى زوجه إياها بالوحي، لا بولي وشهود، بخلاف غيرها. قال: ومذهبنا الصحيح المشهور عند أصحابنا صحة نكاحه صلى الله عليه وسلم بلا ولي ولا شهود، لعدم الحاجة إلى ذلك في حقه صلى الله عليه وسلم، وهذا الخلاف في غير زينب، أما زينب فمنصوص عليها. 9 - ومن هدية أم سليم -أم أنس- أنه يستحب لأصدقاء المتزوج أن يبعثوا إليه بطعام، يساعدونه به على وليمته. 10 - وفيه الاعتذار إلى المبعوث إليه بنحو ما اعتذرت به أم سليم "هذا لك منا قليل".

11 - واستحباب بعث السلام إلى الصاحب، وإن كان أفضل من الباعث، لكن هذا يحسن إذا كان بعيداً عن موضعه، أو له عذر في عدم الحضور بنفسه للسلام. 12 - وفيه أن الزائر لا يثقل على صاحب البيت بطول المكث والاستئناس بالحديث، وقد أطلق على هذه الآية آية الثقلاء. 13 - قال الحافظ ابن حجر: وفي الحديث مشروعية الحجاب لأمهات المؤمنين. قال عياض: فرض الحجاب مما اختصصن به، فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها، ولا إظهار شخوصهن وإن كن مستترات إلا ما دعت إليه الضرورة، ثم استدل بما في الموطأ من أن حفصة لما توفي عمر سترها النساء عن أن يرى شخصها، وأن زينب بنت جحش جعلت لها القبة فوق نعشها ليستر شخصها. اهـ قال الحافظ ابن حجر: وليس فيما ذكره دليل على ما ادعاه من فرض ذلك عليهن، وقد كن بعد النبي صلى الله عليه وسلم يحججن ويطفن. وكان الصحابة ومن بعدهم يسمعون منهن الحديث وهن مستترات الأبدان، لا الأشخاص. ثم قال: والحاصل أن عمر رضي الله عنه وقع في قلبه نفرة من اطلاع الأجانب على الحريم النبوي، حتى صرح بقوله له عليه الصلاة والسلام: احجب نساءك. وكرر ذلك حتى نزلت آية الحجاب، ثم قصد بعد ذلك أن لا يبدين أشخاصهن أصلاً، ولو كن مستترات، فبالغ في ذلك فلم يجب إلى هدفه وقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: "خرجت سودة -بعد ما ضرب الحجاب- لحاجتها، وكانت جسيمة لا تخفى على من يعرفها، فرآها عمر بن الخطاب، فقال: يا سودة، أما والله ما تخفين علينا، فانظري كيف تخرجين؟ قالت: فانكفأت راجعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، وأنه ليتعشى، وفي يده عرق -عظم عليه بقية لحم- فدخلت، فقالت: يا رسول الله، إني خرجت لبعض حاجتي، فقال لي عمر كذا وكذا. قالت: فأوحى الله إليه، ثم رفع عنه، وإن العرق في يده ما وضعه، فقال: "إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن" نعم ورد في سبب نزول الحجاب سبب آخر، أخرجه النسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كنت آكل مع النبي صلى الله عليه وسلم حيساً، فمر عمر، فدعاه، فأكل، فأصاب إصبعه إصبعي، فقال: حس -أو أوه- لو أطاع فيكن ما رأتكن عين، فنزل الحجاب" قال الحافظ ابن حجر: ويمكن الجمع بأن ذلك وقع قبل قصة زينب، فلقربه منها أطلقت نزول الحجاب بهذا السبب، ولا مانع من تعدد الأسباب. والله أعلم

(376) باب الدعوة إلى الوليمة والأمر بإجابتها

(376) باب الدعوة إلى الوليمة والأمر بإجابتها 3110 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها". 3111 - عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليجب". قال خالد: فإذا عبيد الله ينزله على العرس. 3112 - عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دعي أحدكم إلى وليمة عرس فليجب". 3113 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ائتوا الدعوة إذا دعيتم". 3114 - عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان يقول عن النبي صلى الله عليه وسلم "إذا دعا أحدكم أخاه فليجب عرساً كان أو نحوه". 3115 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من دعي إلى عرس أو نحوه فليجب". 3116 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ائتوا الدعوة إذا دعيتم". 3117 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أجيبوا هذه الدعوة إذا دعيتم لها". قال: وكان عبد الله بن عمر يأتي الدعوة في العرس وغير العرس. ويأتيها وهو صائم.

3118 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دعيتم إلى كراع فأجيبوا". 3119 - عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب. فإن شاء طعم، وإن شاء ترك". ولم يذكر ابن المثنى "إلى طعام". 3120 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا دعي أحدكم فليجب. فإن كان صائماً فليصل، وإن كان مفطراً فليطعم". 3121 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه كان يقول: بئس الطعام طعام الوليمة يدعى إليه الأغنياء ويترك المساكين. فمن لم يأت الدعوة، فقد عصى الله ورسوله. 3122 - عن سفيان قال: قلت للزهري: يا أبا بكر؟ كيف هذا الحديث: شر الطعام طعام الأغنياء؟ فضحك فقال: ليس هو: شر الطعام طعام الأغنياء. قال سفيان: وكان أبي غنياً. فأفزعني هذا الحديث حين سمعت به. فسألت عنه الزهري فقال: حدثني عبد الرحمن الأعرج أنه سمع أبا هريرة يقول: شر الطعام طعام الوليمة. ثم ذكر بمثل حديث مالك. 3123 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: شر الطعام طعام الوليمة. نحو حديث مالك. 3124 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "شر الطعام طعام الوليمة. يمنعها من يأتيها ويدعى إليها من يأباها. ومن لم يجب الدعوة، فقد عصى الله ورسوله".

-[المعنى العام]- الإسلام دين المحبة والمودة والإخاء، دين الترابط والتكاتف والتعاون والتراحم، يحث على كل ما. يحقق هذه الأهداف السامية، ويرغب في الوسائل المؤدية إليها، وأهم هذه الركائز إطعام الطعام، وقد عبر الحديث الصحيح أوضح تعبير عن هذه الوسيلة حين سئل صلى الله عليه وسلم: "أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف". والدعوة إلى الوليمة تجمع الأمرين. السلام والطعام، والإجابة إليها تجمع الأمرين السلام والطعام، وقد شرع الإسلام الدعوة إلى الطعام في كل وقت بصفة عامة، وزادها تأكيداً في مناسبات خاصة، وجعلها أساساً من أسس إشهار النكاح وإعلانه، فكانت وليمة العرس، ومن بعدها وليمة الولادة "العقيقة"، وإطعام بمناسبة الختان، وإطعام عند إتمام البناء، وإطعام عند القدوم من السفر، وإطعام عند فرح وسرور ونعمة كبرى، وإطعام عند المصيبة، ومأدبات في أوقات مختلفة دون مناسبة، وأمر الشارع من يدعى إلى ضيافة من هذه الضيافات أن يجيب، وليعلم أن ما بعث الداعي إلى الدعوة إلا صدق المحبة، والسرور بحضور المدعوا، والتحبب إليه بالمؤاكلة، وإقامة الطعام كعهد أمان بينهما، وقد يتبرك به أهل الطعام وقد يتجملون وينتفعون بحضوره، من هنا قال صلى الله عليه وسلم "من لم يأت الدعوة فقد عصى الله ورسوله" ولما كان الإسلام دين التواصل حرص على أن يكون بين أفراد الأمة بصرف النظر عن غنيها وفقيرها، فحذر من قصر الولائم على الأغنياء فقال صلى الله عليه وسلم "بئس الطعام طعام الوليمة [أي التي] يدعى إليه الأغنياء، ويترك المساكين" يمنعها من يأتيها" ويرغبها "ويدعى إليها من يأباها" ولا يرغبها. -[المباحث العربية]- (إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها) قال النووي: قال العلماء من أهل اللغة والفقهاء وغيرهم: الوليمة الطعام المتخذ للعرس، مشتقة من الولم، وهو الجمع، لأن الزوجين يجتمعان. قاله الأزهري وغيره، وقال الأنباري: أصلها تمام الشيء واجتماعه، والفعل منها أولم. وقال النووي: قال أصحابنا وغيرهم: الضيافات ثمانية أنواع: "الوليمة" للعرس بإسكان الراء وضمها، لغتان مشهورتان. "والخرس" بضم الخاء، وبالسين، ويقال بالصاد للولادة، "الإعذار" بكسر الهمزة وبالعين والذال، للختان، و"الوكيرة" للبناء، "والنقيعة" للقدوم من سفر، مأخوذة من النقع، وهو الغبار، ثم قيل: إن المسافر يصنع الطعام، وقيل: يصنعه غيره له، و"العقيقة" يوم سابع الولادة، و"الوضيمة" بفتح الواو، وكسر الضاء -الطعام عند المصيبة، و"المأدبة" بضم الدال وفتحها، الطعام المتخذ ضيافة بلا سبب. اهـ وبعض اللغويين يطلق الوليمة على طعام العرس وغيره، وقال الشافعي: تقع الوليمة على كل دعوة تتخذ لسرور حادث من نكاح أو ختان أو غيرهما. وظاهر الروايات إجابة الدعوة إلى جميع الضيافات، ففي الرواية الرابعة والسابعة "ائتوا الدعوة إذا دعيتم" وفي الخامسة "إذا دعا أحدكم

أخاه فليجب، عرساً كان أو نحوه" وفي السادسة "من دعي إلى عرس أو نحوه فليجب" وفي الثامنة "وكان ابن عمر يأتي الدعوة في العرس وغير العرس" وفي التاسعة "إذا دعيتم إلى كراع فأجيبوا" والكراع بضم الكاف مستدق الساق، العاري عن اللحم، مثل يضرب للعظم الخالي من اللحم. وفي العاشرة "إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن شاء طعم" بفتح الطاء وكسر العين، أي أكل أو شرب، فأصل الطعام تذوق الطعم، يطلق على المأكول والمشروب، قال تعالى: {إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني} [البقرة: 249]. (فإن كان صائماً فليصل) فسرها بعض الرواة بالدعاء، يعرفها، فرآها عمر بن الخطاب، قيمة لا تخفى على من يعرفها، فرآها عمر بن الخطاب، قففلم يجب إلى هدفه وقد روى البخاري عن عائشة مر فقال "والصلاة الدعاء" ويؤيده ما جاء أن أبي بن كعب لما حضر الوليمة وهو صائم أثنى ودعا، وعند أبي عوانة "أن ابن عمر كان إذا دعي وهو صائم دعا لهم وبرك، ثم انصرف" وحمله بعض الشراح على ظاهره، فقال: إن كان صائماً فليشتغل بالصلاة، ليحصل له فضلها، ويحصل للحاضرين وأهل المنزل بركتها. قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر لعموم قوله "لا صلاة بحضرة طعام" لكن يمكن تخصيصه: بغير الصائم. (يمنعها من يأتيها) أي من يرغب في إتيانها، ومن يحتاجها من الفقراء. (ويدعى إليها من يأباها) أي من لا يحتاجها، ويرغب في أن يأباها، ويمتنع ويترفع عنها، وفي رواية "شر الطعام طعام الوليمة، يدعى الغني، ويترك المسكين" وهذه الجملة قيد للوليمة. والظاهر أنه للاحتراز، أي هي شر الطعام في هذه الحالة، وليست شر الطعام دائماً. -[فقه الحديث]- قال النووي: في الحديث الأمر بحضور الوليمة، ولا خلاف في أنه مأمور به، ولكن هل هو أمر إيجاب؟ أو ندب؟ فيه خلاف في مذهبنا. الأصح أنه فرض عين على كل من دعي، لكن يسقط بأعذار. الثاني أنه فرض كفاية. الثالث أنه مندوب. هذا مذهبنا في وليمة العرس. وأما غيرها ففيه وجهان لأصحابنا: أحدهما أنه كوليمة العرس، والثاني أن الإجابة إليها ندب وإن كانت في العرس واجبة. ونقل القاضي عياض اتفاق العلماء على وجوب الإجابة في وليمة العرس. قال: واختلفوا فيما سواها، فقال مالك والجمهور: لا تجب الإجابة إليها، وقال أهل الظاهر: تجب الإجابة لكل دعوة من عرس وغيره، وبه قال بعض السلف. وقال الحافظ ابن حجر: جزم بعدم الوجوب في غير وليمة النكاح المالكية والحنفية والحنابلة وجمهور الشافعية، وبالغ السرخسي منهم، فنقل فيه الإجماع، ولفظ الشافعي: إتيان دعوة الوليمة حق، والوليمة التي تعرف وليمة العرس، وكل دعوة دعي إليها وليمة، فلا أرخص لأحد في تركها، ولو تركها لم يتبين لي أنه عاص في تركها، كما تبين لي في وليمة العرس. قال النووي: أما الأعذار التي يسقط بها وجوب إجابة الدعوة أو ندبها فمنها: أن يكون في الطعام

شبهة، أو يخص بها الأغنياء، أو يكون هناك من يتأذى بحضوره معه، أو لا تليق به مجالسته، أو يدعوه لخوف شره، أو لطمع في جاهه، أو ليعاونه على باطل، وأن لا يكون هناك منكر من خمر أو لهو أو فرش حرير، وصور حيوان غير مفروشة، أو آنية ذهب أو فضة، فكل هذه أعذار في ترك الإجابة، ومن الأعذار أن يعتذر إلى الداعي فيتركه، ولو دعاه ذمي لم تجب إجابته على الأصح، ولو كانت الدعوة ثلاثة أيام فالأول تجب الإجابة فيه، والثاني تستحب، والثالث تكره. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - قد يحتج بقوله "إذا دعي أحدكم إلى وليمة عرس فليجب" روايتنا الثالثة والسادسة من يخص وجوب الإجابة بوليمة العرس، ويتعلق الآخرون بالروايات المطلقة، روايتنا الرابعة والخامسة والسابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة والحادية عشرة، ويحملون ذكر "العرس" على أنه الغالب، وليس للاحتراز، أو أن النص على أمر لا يمنع غيره. 2 - ومن قوله "وإن كان مفطراً فليطعم" في الرواية الحادية عشرة اعتمد من أوجب الأكل، وعلى قوله "فإن شاء طعم وإن شاء ترك" في الرواية العاشرة اعتمد من لا يوجب الأكل ففيها التصريح بالتخيير، وحمله من أوجب على الصائم وحمله من لا يوجب الأكل حمل الأمر بالأكل على الندب. وإذا قيل بوجوب الأكل فأقله لقمة، ولا تلزمه الزيادة. قال النووي: صرح باللقمة جماعة من أصحابنا، لأنه قد يتخيل صاحب الطعام أن امتناعه لشبهة يعتقدها في الطعام، فإذا أكل لقمة زال ذلك التخيل. ثم قال: أما الصائم فلا خلاف أنه لا يجب عليه الأكل، لكن إن كان صومه فرضاً لم يجز له الأكل، لأن الفرض لا يجوز الخروج منه، وإن كان نفلاً جاز الفطر وتركه، فإن كان يشق على صاحب الطعام صومه فالأفضل الفطر، وإلا فالإتمام للصوم، وأطلق بعضهم استحباب الفطر على رأي من يجوز الخروج من صوم النفل، ويؤيده ما أخرجه الطيالسي والطبراني في الأوسط عن أبي سعيد قال: "دعا رجل إلى طعام، فقال رجل: إني صائم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعاكم أخوكم وتكلف لكم. أفطر وصم يوماً مكانه إن شئت". 3 - ومن قوله "وكان ابن عمر يأتيها وهو صائم" في الرواية الثامنة أن الصوم ليس بعذر لعدم الإجابة. قال النووي: وكذا قال أصحابنا، قالوا: إذا دعي وهو صائم لزمه الإجابة، كما يلزم المفطر، ويحصل المقصود بحضوره، وإن لم يأكل، فقد يتبرك به أهل الطعام والحاضرون، وقد يتجملون به، وقد ينتفعون بدعائه، أو بإشارته أو يتصانون عما لا يتصانون عنه في غيبته. 4 - ومن قوله "بئس الطعام طعام الوليمة يدعى إليه الأغنياء، ويترك المساكين" في الرواية الثالثة عشرة والثامنة عشرة والرابعة عشرة ذم هذه الفعلة والتحذير منها. 5 - ومن قوله "شر الطعام" إلخ أخذ بعضهم أن دعوة الأغنياء دون الفقراء عذر في عدم الحضور، ولهذا قال ابن مسعود: "إذا خص الغني وترك الفقير أمرنا أن لا نجيب" قال ابن بطال: إذا ميز الداعي بين الأغنياء والفقراء فأطعم كلاً على حدة لم يكن به بأس، وقد فعله ابن عمر.

6 - استدل بعضهم على وجوب إجابة الدعوة بقوله "ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله" في الرواية الثامنة عشرة والرابعة عشرة. 7 - وفي الحديث الحض على المواصلة والتحاب والتآلف بإجابة الداعي وقبول الهدية، قال المهلب: لا يبعث على الدعوة إلى الطعام إلا صدق المحبة، وسرور الداعي بأكل المدعوا من طعامه، والتحبب إليه بالمؤاكلة وتوكيد العهود بها. اهـ وهذا هو الغالب عند أهل الحق والصلاح. والله أعلم

(377) باب لا تحل المطلقة ثلاثا لمطلقها حتى تنكح زوجا غيره

(377) باب لا تحل المطلقة ثلاثاً لمطلقها حتى تنكح زوجاً غيره 3125 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت امرأة رفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: كنت عند رفاعة. فطلقني فبت طلاقي. فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير. وإن ما معه مثل هدبة الثوب. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا. حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك". قالت: وأبو بكر عنده. وخالد بالباب ينتظر أن يؤذن له. فنادى: يا أبا بكر! ألا تسمع هذه ما تجهر به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. 3126 - عن عائشة رضي الله عنها زوج: النبي صلى الله عليه وسلم؛ أن رفاعة القرظي طلق امرأته فبت طلاقها. فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير. فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إنها كانت تحت رفاعة. فطلقها آخر ثلاث تطليقات. فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير. وإنه، والله! ما معه إلا مثل الهدبة. وأخذت بهدبة من جلبابها. قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكاً. فقال "لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة. لا. حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته". وأبو بكر الصديق جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. وخالد بن سعيد بن العاص جالس بباب الحجرة لم يؤذن له. قال: فطفق خالد ينادي أبا بكر: ألا تزجر هذه عما تجهر به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ . 3127 - وفي رواية عن عائشة رضي الله عنها: أن رفاعة القرظي طلق امرأته فتزوجها عبد الرحمن بن الزبير. فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن رفاعة طلقها آخر ثلاث تطليقات. بمثل الحديث السابق. 3128 - عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن المرأة يتزوجها الرجل، فيطلقها، فتتزوج رجلاً، فيطلقها قبل أن يدخل بها. أتحل لزوجها الأول؟ قال "لا. حتى يذوق عسيلتها".

3129 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: طلق رجل امرأته ثلاثاً. فتزوجها رجل ثم طلقها قبل أن يدخل بها. فأراد زوجها الأول أن يتزوجها. فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. فقال "لا. حتى يذوق الآخر من عسيلتها، ما ذاق الأول". -[المعنى العام]- شرع الله الطلاق عند تعذر دوام العشرة حسماً للضرر والضرار، وحلاً لعقدة النكاح إذا لم يحقق النكاح أهدافه، واقتضت الحكمة الإلهية تقدير ظروف الغضب البشري، والانفعال الطبعي، والعجلة الإنسانية فقال: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة: 229]. فأعطى الزوج حق المراجعة في العدة بعد الطلقة الأولى والثانية، فإن طلق الثالثة {فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة: 230]. هذا عقاب للزوج الأول على عدم ضبطه لنفسه، وعدم كظمه لغضبه، وهو في الوقت نفسه عقاب للزوجة التي لم تقدر النعمة وتمردت على العشرة، وأساءت التبعل، وبخاصة إذا كان الزوج الأول قائماً بواجباتها، وكانت تجربة الزوج الثاني فاشلة كما في قصتنا، تحاول التخلص من الزوج الثاني، وأنى لها ذلك؟ وتحاول الرجوع إلى الأول، وقد يكون الأوان قد فات، والصيف ضيعت اللبن كما هو المثل. وقد تكون الفرصة مازالت قائمة لكنها لا تملك التخلص، تجري هنا وهناك، وتخدش قناع الحياء، وتميط اللثام عن أسرار لا يليق كشفها، وما كان أغناها عن كل ذلك لو حافظت على حقوق بعلها، وما كان أغنى زوجها الأول عن أن يسلم زوجته إلى زوج آخر، ثم يجري وراءها، وينتظر طلاقها منه، لتعود إليه بعد أن تذوق عسيلة الآخر، ما كان أغناه عن كل ذلك لو تحمل اعوجاج زوجته، وعايشها برفق وإحسان، واستوصى بها خيراً. -[المباحث العربية]- (جاءت امرأة رفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم) وصفها بامرأة رفاعة حين مجيئها أو حين تحديث عائشة باعتبار ما كان، وهذه المرأة اسمها تميمة بنت وهب، وعن قتادة أن اسمها تميمة بنت أبي عبيد القرظية، من بني قريظة. قال الحافظ ابن حجر: ولا تنافي فلعل اسم أبيها وهب، وكنيته أبو عبيد. أما "رفاعة" فهو ابن سموأل -بفتح السين والميم وسكون الواو وفتح الهمزة، منسوب إلى بني قريظة. وفي فتح الباري قصة أخرى مشابهة. (فطلقني، فبت طلاقي) "البت" بفتح الباء وتشديد التاء القطع، والمراد هنا به قطع

العصمة، وهو أعم من أن يكون بالثلاث مجموعة، أو بوقوع الثالثة التي هي آخر ثلاث تطليقات، والظاهر الثاني، فمعنى الرواية الثانية "فطلقها آخر ثلاث تطليقات". (فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير) بفتح الزاي وكسر الباء، قال النووي: بلا خلاف، وهو الزبير بن باطاء ويقال: باطياء، وكان عبد الرحمن هذا صحابياً، وكان أبوه الزبير يهودياً، قتل في غزوة بني قريظة. وهذا الذي ذكرناه من أن عبد الرحمن بن الزبير بن باطاء القرظي هو الذي تزوج امرأة رفاعة القرظي هو الذي ذكره أبو عمر بن عبد البر والمحققون، قال ابن مناة وأبو نعيم الأصبهاني في كتابيهما في معرفة الصحابة إنما هو عبد الرحمن بن الزبير بن زيد بن أمية بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن أوس. والصواب الأول. اهـ (وإن ما معه مثل هدبة الثوب) "ما" موصولة، ويحتمل وصلها بإن لتكون كافة ومكفوفة، أداة قصر، وتكتب هكذا "إنما" و"هدبة الثوب" بضم الهاء وإسكان الدال طرفه الذي لم ينسج، شبهوه بهدب العين، وهو شعر جفنها، أرادت أن ذكره يشبه الهدبة في الاسترخاء، وعدم الانتشار، وفي الرواية الثانية "وإنه والله ما معه إلا مثل الهدبة" و"ما" هنا نافية. "وأخذت بهدبة من جلبابها" وفي رواية للبخاري "ولم يكن معه إلا مثل الهدبة، فلم يقربني إلا هنة واحدة" - "هنة" بفتح الهاء والنون مخففة، أي لمسة خفيفة، وفي رواية "وسمع زوجها، فجاء ومعه ابنان له من غيرها قالت: والله ما لي إليه من ذنب إلا أن ما معه ليس بأغنى عني من هذه -وأخذت هدبة من ثوبها- فقال: كذبت والله يا رسول الله، إني لأنفضها نفض الأديم، ولكنها ناشزة، تريد رفاعة. قال صلى الله عليه وسلم: إن كان ذلك لم تحل له". (فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم) تعجباً منها، إما لتصريحها بما يستحي النساء من التصريح به غالباً، وإما لضعف عقل النساء، لكون الحامل لها على ذلك شدة بغضها للزوج الثاني، وشدة حبها للزوج الأول، ورغبتها في الرجوع إليه. وفي الرواية الثانية "فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكاً" فضاحكاً حال، أي شارعاً في الضحك، أعني تجاوز حد التبسم إلى الضحك، وقيل: هو حال مؤكدة، على أساس أن التبسم والضحك بمعنى، لكن المعروف وجود فرق بينهما، قال الحافظ ابن حجر: التبسم مبادئ الضحك من غير صوت، والضحك انبساط الوجه حتى تظهر الأسنان من السرور مع صوت خفي، فإن كان فيه صوت يسمع من بعيد فهو القهقهة، وقال الألوسي: كأن من ذهب إلى اتحاد التبسم والضحك خص ذلك بما كان من الأنبياء عليهم السلام، فإن ضحكهم تبسم. (أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا) جواب مختصر، ووقع كاملاً في رواية للبخاري بلفظ "لا تحلين لزوجك الأول". (حتى تذوقي عسيلته) بضم العين وفتح السين، تصغير عسله، مؤنث "عسل"

والعرب إذا حقرت شيئاً أدخلت عليه هاء التأنيث، والمراد ذوق حلاوة الجماع الذي يحصل بتغييب الحشفة في الفرج. (وأبو بكر عنده) في الرواية الثانية "وأبو بكر الصديق جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي يسمع كلام المرأة. (وخالد بالباب ينتظر أن يؤذن له) في الرواية الثانية "وخالد بن سعيد بن العاصي جالس بباب الحجرة، لم يؤذن له" فالرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعائشة والمرأة في داخل الحجرة، وخالد خارج الحجرة، قالت ذلك عائشة تبريراً لعدم تدخل خالد، وعدم مباشرته نهى المرأة بنفسه، فطلب ذلك من أبي بكر. (ألا تسمع هذه؟ ما تجهر به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ) "ما تجهر به" بدل من "هذه" أي ألا تسمع ما تجهر به هذه؟ وفي الرواية الثانية "ألا تزجر هذه عما تجهر به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم"؟ وفي رواية الداودي "تهجر" بدل "تجهر" والهجر بضم الهاء الفحش من القول. قال الحافظ ابن حجر: والمعنى عليه، لكن الثابت في الروايات "تجهر". -[فقه الحديث]- كان المناسب لهذا الحديث أن يؤخر إلى كتاب الطلاق، كما فعل البخاري ولعل الإمام مسلماً رحمه الله تعالى لاحظ الشق الثاني من الحديث. فالشق الأول الطلاق الثلاث وحكمه، والشق الثاني نكاح من تزوجت زوجاً غير زوجها الأول الذي طلقها بثلاث فلم يمسها الثاني فوضعه في كتاب النكاح. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - قال النووي: إن المطلقة ثلاثاً لا تحل لمطلقها حتى تنكح زوجاً غيره، ويطأها، ثم يفارقها، وتنقضي عدتها، فأما مجرد عقده عليها فلا يبيحها للأول، وبه قال جميع العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، وانفرد سعيد بن المسيب فقال: إذا عقد الثاني عليها، ثم فارقها حلت للأول، ولا يشترط وطء الثاني، لقول الله تعالى {حتى تنكح زوجاً غيره} والنكاح حقيقة في العقد على الصحيح، وأجاب الجمهور بأن هذا الحديث مخصص لعموم الآية، ومبين للمراد بها، قال العلماء: ولعل سعيداً لم يبلغه هذا الحديث. قال القاضي عياض: لم يقل أحد بقول سعيد في هذا إلا طائفة من الخوارج. 2 - ومن التعبير بذوق العسيلة، وتفسيرها بلذة الجماع استدل العلماء بأنه يكفي تغييب الحشفة في قبلها، من غير إنزال المني، وشذ الحسن البصري، فشرط إنزال المني، وجعله حقيقة العسيلة، وهذا الشرط انفرد به عن الجماعة الذين قالوا: يكفي من ذلك ما يوجب الحد، ويحصن الشخص، ويوجب كمال الصداق، ويفسد الحج والصوم.

3 - استدل بعضهم بقوله "مثل هدبة الثوب" على أن وطء الزوج الثاني لا يكون محللاً الارتجاع إلى الزوج الأول للمرأة إلا إن كان حال وطئه منتشراً، فلو كان ذكره أشل، أو كان هو عنيناً، أو طفلاً لم يكف، وهذا هو الأصح عند الشافعية وعند كثير من العلماء. 4 - واستدل بقوله "حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" على اشتراط وجود الذوق واللذة من كل منهما حتى لو وطئها نائمة، أو مغمى عليها لم يكف، ولو أنزل هو، وبالغ ابن المنذر، فنقله عن جميع الفقهاء، وتعقب، فهناك من يخالف في ذلك. 5 - استدل به على أن المرأة لا حق لها في الجماع، لأن هذه المرأة شكت أن زوجها لا يطؤها، وأن ذكره لا ينتشر، وأنه ليس معه ما يغني عنها، ولم يفسخ النبي صلى الله عليه وسلم نكاحها بذلك ومن هنا قال بعضهم: لا يفسخ بالعنة، ولا يضرب للعنين أجل، وقال ابن المنذر: اختلفوا في المرأة تطالب الرجل بالجماع، فقال الأكثر: إن وطئها بعد أن دخل بها مرة واحدة لم يؤجل أجل العنين، وهو قول الأوزاعي والثوري وأبي حنيفة ومالك والشافعي وإسحق، وقال أبو ثور: إن ترك جماعها لعلة أجل له سنة، وإن كان لغير علة فلا تأجيل، وقال عياض: اتفق كافة العلماء على أن للمرأة حقاً في الجماع، فيثبت الخيار لها إذا تزوجت المجبوب والممسوح جاهلة بهما، ويضرب للعنين أجل سنة، لاحتمال زوال ما به. 6 - واستدل بالحديث على جواز رجوعها لزوجها الأول إذا حصل الجماع من الثاني، لكن شرط المالكية أن لا يكون في ذلك مخادعة من الزوج الثاني، ولا إرادة تحليلها للأول، وقال الأكثرون: إن شرط ذلك في العقد فسد، وإلا فلا، واتفقوا على أنه إذا كان في نكاح فاسد لم يحلل، واختلفوا فيما إذا وطئها حائضاً، أو أحدهما صائم، أو محرم. 7 - استدل بالحديث على أن السنة مبينة للقرآن، وقد نقل ابن العربي عن بعضهم أنه أورد على حديث الباب ما ملخصه أنه يلزم من القول به إما الزيادة على ما في القرآن بخبر الواحد، فيلزم نسخ القرآن بالسنة غير المتواترة، أو حمل اللفظ الواحد على معنيين مختلفين، مع ما فيه من الإلباس. قال الحافظ ابن حجر: والجواب عن الأول أن الشرط إذا كان من مقتضيات اللفظ لم تكن إضافته نسخاً، ولا زيادة، وعن الثاني أن النكاح في الآية أضيف إليها، وهي لا تتولى العقد بمجردها، فتعين أن المراد في حقها الوطء، ومن شرطه اتفاقاً أن يكون وطأ مباحاً، فيحتاج إلى سبق العقد. 8 - ومن موقف خالد ما كان عليه الصحابة من سلوك الأدب بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم. 9 - وإنكارهم على من خالف ذلك بفعله أو قوله، ولو بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم. 10 - ومن ابتسامه صلى الله عليه وسلم وعدم إنكاره على المرأة لتصريحها بما يستحى من التصريح به جواز وقوع مثل ذلك من النساء. 11 - استدل بعضهم بكلام خالد على جواز الشهادة على الصوت.

12 - وجواز طلب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الغير إذا كانت المباشرة بالنفس عسيرة، أو في الغير ميزة القبول وأمل الاستجابة لقرب أو عظم. 13 - واستدل بذوق العسيلة أن الحكم يتعلق بأقل ما يطلق عليه الاسم، فصدق نكاحها غير زوجها الأول على ذوق العسيلة ولو لحظة. واعترض بعضهم على قوله "حتى تذوقي عسيلته" مع قولها: "ما معه إلا مثل الهدبة" فكأنه علق الأمر على مستحيل، وأجيب بأنه علقه على ممكن جائز الوقوع، فقد يتقوى الضعيف، وكأنه قال لها: اصبري حتى يتأتى منه ذلك. وإن تفارقا دون أن يتأتى المطلوب لزمها قبل الرجوع إلى زوجها الأول الزواج من آخر، يحصل لها منه ذلك. والله أعلم

(378) باب ما يستحب أن يقوله عند الجماع

(378) باب ما يستحب أن يقوله عند الجماع 3130 - عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله، قال باسم الله. اللهم! جنبنا الشيطان. وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبداً". 3131 - وفي رواية كالسابق وليس فيها ذكر "باسم الله". وفي رواية عبد الرزاق عن الثوري "باسم الله". وفي رواية ابن نمير قال منصور "أراه قال باسم الله". -[المعنى العام]- معركة الإنسان بينه وبين الشيطان في هذه الحياة بدأت منذ خلق آدم عليه السلام، ومنذ وسوس إليه الشيطان لينسيه ذكر ربه، ومنذ توعد إبليس ذرية آدم بالإغواء، والإبعاد عن ذكر الله، واستخدام الشيطان من وسائل الشهوات، شهوة البطن، وشهوة الفرج، ففيهما تضعيف الروحانية، وتطغى وتعلو المادية الشهوانية الحيوانية، فكانت اللفتة الإسلامية للمؤمن، أن يصحو لعدوه وأن يأخذ حذره منه، وأن يستعين بالله على شيطانه، وأن يدعو ربه أن يبارك له في شهوته، وأن يبارك في ثمرتها، وأن يحميه ويحمي نتاجه من الشيطان الرجيم، وقد وعدنا الله تعالى على لسان نبيه أن يجيب دعاء الداعي، وأن يحفظ النطفة والمولود المحصن بهذا الدعاء من الشيطان وشباكه ومكايده وأضراره. ونعوذ بالله من الشيطان الرجيم. -[المباحث العربية]- (لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال: ) يقال: أتى أهله أي جامع زوجته، وفي رواية للبخاري "أما أن أحدكم لو يقول حين يجامع أهله" وفي رواية "أما لو أن أحدهم يقول حين يأتي أهله" وفي رواية "لو أن أحدهم إذا جامع امرأته ذكر الله" فبعض الروايات تطلب ذكر الله قبل الجماع وحين إرادته، وقبل الشروع فيه، وبعضها تطلبه حين الجماع، أي وقت المباشرة، وسنعرض الرأيين في فقه الحديث. (بسم الله. اللهم جنبنا الشيطان) في رواية للبخاري "ذكر الله ثم قال اللهم جنبني" بالإفراد.

(فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك) أي في ذلك الوقت، أو في ذلك الوقاع وفي ذلك الجماع، أو في ذلك الحال. (لم يضره شيطان أبداً) بتنكير "شيطان" وفي رواية "لم يسلط عليه الشيطان، أو لم يضره الشيطان" فاللام للعهد، والمعهود الشيطان المذكور في دعائه "اللهم جنبنا الشيطان" وسيأتي في فقه الحديث تفصيل الضرر المنفي. -[فقه الحديث]- قال النووي: قال القاضي: معنى "لا يضره شيطان" أي لا يصرعه، وقيل: لا يطعنه عند ولادته، بخلاف غيره، قال: ولم يحمله أحد على العموم في جميع الضرر والوسوسة والإغواء. وقال الحافظ ابن حجر: واختلف في الضرر المنفي، بعد الاتفاق على ما نقل عياض على عدم الحمل على العموم في أنواع الضرر، وإن كانت صيغة النفي مع التأبيد ظاهره في الحمل على عموم الأحوال، لكن هذا الظاهر غير مراد باتفاق. ثم اختلفوا. فقيل: لا يطعنه عند ولادته، فإن هذا الطعن نوع ضرر في الجملة، وقد روى البخاري "كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بإصبعيه حين يولد غير عيسى ابن مريم" كذا قال الحافظ ولعله يريد: فإن هذا الطعن يؤثر ضرراً مستقبلاً يحمي الله منه بذكر الله عند الجماع الذي كان منه. وقيل: المعنى لم يسلط عليه من أجل بركة التسمية، بل يكون من جملة العباد الذين قال الله فيهم {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} [الحجر: 42]. أقول: وبركة الذكر على هذا مرتبطة بإخلاص الذاكر وأهليته للقبول والبركة، وقيل: لم يفتنه عن دينه إلى الكفر، وليس المراد عصمته من المعصية، وقيل: لم يصرعه ولم يصبه بالخبل، وقيل: لم يضره بمشاركة أبيه في جماع أمه. قال الحافظ: ولعل هذا أقرب الأجوبة. اهـ أما متى يقول هذا الذكر؟ وهذا الدعاء؟ فمذهب الجمهور أن يقوله في مقدمات المباشرة، كتشمير ثيابه، ومداعباته وتهيئه وقبل الإيلاج، وأجاز مالك أن يقوله عند المباشرة، بل في أثنائها. ومن نسي يذكر الله، ويدعو بقلبه دون لسانه عند الجمهور. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - استحباب التسمية والدعاء عند كل عمل، والمحافظة على ذلك، حتى في حالة الملاذ كالوقاع. 2 - الاعتصام بذكر الله، ودعاء الله من الشيطان، والتبرك باسمه، والاستعاذة به من كل سوء. 3 - الحث على أن يستحضر المؤمن أن الميسر لأي عمل، والمعين عليه هو الله تعالى. 4 - أن الشيطان ملازم لابن آدم، لا ينطرد عنه إلا بذكر الله تعالى. 5 - فيه رد على من منع المحدث من ذكر الله. والله أعلم

(379) باب جماع امرأته في قبلها من خلفها

(379) باب جماع امرأته في قبلها من خلفها 3132 - عن جابر رضي الله عنه قال: كانت اليهود تقول: إذا أتى الرجل امرأته، من دبرها، في قبلها، كان الولد أحول. فنزلت {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} 3133 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ أن يهود كانت تقول: إذا أتيت المرأة، من دبرها، في قبلها، ثم حملت كان ولدها أحول. قال: فأنزلت: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} 3134 - وفي رواية: "إن شاء مجبية، وإن شاء غير مجبية. غير أن ذلك في صمام واحد". -[المعنى العام]- جعل الله المرأة سكناً لزوجها، ومتعة شهوته، وزين له حبها، وأباح الاستمتاع بخفيات جسدها، فهي تشبه الأرض يحرثها الفلاح، فيضع فيها البذرة لتنبت، وإذا كان الفلاح لا يلزم بطريقة معينة في حرث الأرض وشقها فكذلك الزوج لا يجب أن يلتزم طريقة معينة في قضاء شهوته مع زوجته، بل كيف شاء، قائمة أو راكعة أو ساجدة أو نائمة على ظهرها أو على وجهها من أمامها أو من خلفها على أن يكون الإيلاج في قبلها، وأن يتجنب الدبر، ولقد كانت اليهود تعتقد خطأ أن الزوج إذا أتى زوجته في قبلها من خلفها فحملت جاء ولدها أحول، فبين الله خطأ هذه العقيدة بقوله تعالى: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} [البقرة: 223]. -[المباحث العربية]- (كانت اليهود تقول) أي كان بعض اليهود يعتقدون ويقولون كذا، فكذبهم الله تعالى. وفي الرواية الثانية "أن يهود كانت تقول" قال النووي: هكذا هو في النسخ "يهود" غير مصروف، لأن المراد قبيلة اليهود. فامتنع صرفه للتأنيث والعلمية.

(إن شاء مجبية) بضم الميم وفتح الجيم وتشديد الباء المكسورة وفتح الياء، أي مكبوبة على وجهها. (في صمام واحد) بكسر الصاد، أي ثقب واحد، والمراد به القبل. -[فقه الحديث]- قال النووي: قال العلماء: قوله تعالى {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} أي موضع الزرع من المرأة، وهو قبلها الذي يزرع فيه المني، لابتغاء الولد، ففيه إباحة وطئها في قبلها، إن شاء من بين يديها، وإن شاء من ورائها، وإن شاء مكبوبة. وأما الدبر فليس بحرث، ولا موضع زرع، ومعنى قوله {أنى شئتم} أي كيف شئتم. قال: واتفق العلماء الذين يعتد بهم على تحريم وطء المرأة في دبرها، حائضاً كانت أو طاهراً، لأحاديث كثيرة مشهورة، كحديث "ملعون من أتى امرأة في دبرها" قال أصحابنا: لا يحل الوطء في الدبر في شيء، من الآدميين ولا غيرهم من الحيوان في حال من الأحوال. وحديث الباب غير مرفوع، وإن كان له حكم الرفع عند بعض العلماء، لأن أسباب النزول لا مجال للرأي فيها، ثم الآية ليست صريحة في تحريم إتيان الزوجة في دبرها، فعلى فرض التسليم بأن المراد من الحرث القبل ليس في الجملة قصر عليه، حتى يحرم غيره، ثم إن إتيانها في مواضع أخرى غير الدبر ليس ممنوعاً باتفاق، فاحتاج القول بتحريم الدبر إلى دليل آخر، لهذا استدل النووي بالحديث المشهور، وقد رواه مرفوعاً خزيمة بن ثابت، وأخرجه أحمد وابن ماجه، وفي إسناده مجهول، واختلف في إسناده اختلافاً كثيراً، ورواه النسائي وأحمد وابن حبان من طريق أخرى، وفيها من لا يعرف حاله، وفي لفظ لأحمد وابن ماجه "لا ينظر الله إلى رجل جامع امرأته في دبرها" وفي لفظ لأحمد والترمذي عن أبي هريرة رفعه "من أتى حائضاً أو امرأة في دبرها أو كاهناً فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" ورواه أبو داود بلفظ مقارب، وهو ضعيف بالإرسال، وقال عنه البزار: حديث منكر، وأخرج أحمد عن علي رضي الله عنه رفعه "لا تأتوا النساء في أعجازهن، أو قال: في أدبارهن" وعن ابن عباس رفعه "لا ينظر الله إلى رجل أتى امرأة أو رجلاً في الدبر" رواه الترمذي، وقال: حديث غريب، وأخرجه النسائي وابن حبان والبزار، وقال: لا نعلمه يروى عن ابن عباس بإسناد حسن، ورواه النسائي موقوفاً. أمام هذه الآثار الكثيرة ذهب جمهور العلماء إلى تحريم إتيان المرأة في دبرها. وحكى ابن عبد الحكم عن الشافعي أنه قال: لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريمه ولا تحليله شيء، والقياس أنه حلال. وقد أخرجه عنه ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي، وأخرجه الحاكم في مناقب الشافعي عن الأصم عنه وكذلك الطحاوي عن ابن عبد الحكم عن الشافعي وروى الحاكم عن محمد بن عبد الله بن عبد

الحكم عن الشافعي أنه قال سألني محمد بن الحسن. فقلت له: إن كنت تريد المكابرة وتصحيح الروايات وإن لم تصح فأنت أعلم، وإن تكلمت بالمناصفة كلمتك على المناصفة؟ قال: على المناصفة. قلت: فبأي شيء حرمته؟ قال: بقوله تعالى {فأتوهن من حيث أمركم الله} [البقرة: 222]. وقوله {فأتوا حرثكم أنى شئتم} والحرث لا يكون إلا في الفرج. قلت: أفيكون ذلك محرماً لما سواه؟ قال: نعم. قلت: فما تقول: لو وطئها بين ساقيها؟ أو في أعكانها؟ العكنة بضم العين وسكون الكاف ما انطوى وتثنى من لحم البطن سمناً أو تحت إبطيها؟ أو أخذت ذكره بيدها؟ أو في ذلك حرث؟ قال: لا. قلت: فيحرم ذلك؟ قال: لا. قلت: فلم تحتج بما لا حجة فيه؟ قال الحاكم بعد أن حكى عن الشافعي ما سلف: لعل الشافعي كان يقول ذلك في المذهب القديم، فأما الجديد فالمشهور أنه حرمه، وقال المزني: قال الشافعي: ذهب بعض أصحابنا إلى إحلاله، وآخرون إلى تحريمه ولا أرخص فيه، بل أنهى عنه. وقال الحافظ ابن حجر في التلخيص: لا خلاف في ثقة ابن عبد الحكم وأمانته، ولم ينفرد بالنقل عن الشافعي، وقد روى الجواز أيضاً عن مالك، قال القاضي أبو الطيب في تعليقه إنه روى ذلك عنه أهل مصر وأهل المغرب، ورواه عنه ابن رشد في كتاب البيان والتحصيل، وقد نقل ابن قدامة رواية عن مالك قوله: ما أدركت أحداً أقتدي به في ديني يشك في أنه حلال، ثم أنكر ذلك أصحابه العراقيون. وقال المزني: حكى أن مالكاً سئل عن ذلك؟ فقال: الآن اغتسلت منه. والله أعلم

(380) باب تحريم امتناع المرأة من فراش زوجها

(380) باب تحريم امتناع المرأة من فراش زوجها 3135 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها، لعنتها الملائكة حتى تصبح". وفي رواية "حتى ترجع". 3136 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، "والذي نفسي بيده! ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها، فتأبى عليه، إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها، حتى يرضى عنها". 3137 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه، فلم تأته، فبات غضبان عليها، لعنتها الملائكة حتى تصبح". -[المعنى العام]- تسيطر الشهوة الجنسية على الإنسان سيطرة كبرى، حتى تكاد تغطي عقله، وتشل تفكيره، وتجمح به وقد جعل الله للزوج القوامة على الزوجة، وأوجب عليها طاعته في غير معصية الله، ومقتضى هذه القوامة أن يكون أمر شهوته بيده، وفي وقت رغبته، فلا يكون للزوجة حق القبول والرفض، والعطاء والمنع، والإعزاز والإذلال، فكانت هذه الإشارات السامية، إذا دعا الرجل امرأته لقضاء شهوته لزمها إجابته ولو كانت تعجن العجين، أو مشغولة اليدين، أو غير راغبة، فإن لم تفعل لعنتها الملائكة، وغضب عليها ربها حتى ترجع وترضي زوجها. -[المباحث العربية]- (إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها) في الرواية الثالثة "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلم تأته فبات غضبان عليها" وفي الرواية الثانية "ما من رجل يدعوا امرأته إلى فراشها

فتأبى عليه" قال ابن أبي جمرة: الظاهر أن الفراش كناية عن الجماع، ويقويه قوله "الولد للفراش" أي لمن يطأ في الفراش. وظاهر قوله في الرواية الأولى "إذا باتت" وقوله "حتى تصبح" وقوله في الرواية الثالثة "فبات غضبان عليها" أن هذا الوعيد خاص بمن وقع ذلك منها ليلاً، لأن الليل هو المعد لذلك غالباً لما فيه من قوة البواعث، فلا يتأتى هذا الوعيد بالذات فيمن وقع منها ذلك نهاراً، لكن لا يلزم منه رفع الحرج عنها، وعدم وقوعها في المعصية كلية، بل تكون عاصية مستحقة لوعيد آخر، كالذي في الرواية الثانية "سخط الذي في السماء" وليس اللعن. ويمكن أن يراد هذا الوعيد في عموم الليل والنهار، ويكون الباعث على ذكر الليل كونه مظنة ذلك غالباً، وليس المراد مطلق الهجر، بل الهجر والامتناع بدون عذر مقبول شرعاً، قال النووي. وليس الحيض بعذر في الامتناع، لأن له حقاً في الاستمتاع بها فوق الإزار. وفي الرواية الثالثة "فبات غضبان عليها" قال الحافظ ابن حجر: بهذه الزيادة يتجه وقوع اللعن، لأنها حينئذ يتحقق ثبوت معصيتها، بخلاف ما إذا لم يغضب من ذلك، فإنه يكون إما لأنه عذرها، وإما لأنه ترك حقه من ذلك. (لعنتها الملائكة حتى تصبح) في ملحق الرواية الأولى "حتى ترجع" وفي الرواية الثانية "حتى يرضى عنها" والمعنى أن اللعنة تستمر عليها حتى تزول المعصية، بطلوع الفجر، وانتهاء وقت الحاجة إليها، وحصول الاستغناء عنها، أو بتوبتها ورجوعها إلى الفراش، أو بوقوع الرضى عنها، والمقصود باللعن هنا الدعاء بالطرد، والمراد من الملائكة الحفظة، وقيل: غيرهم ويحتمل أن يكون بعض الملائكة موكلاً بذلك. قال الحافظ ابن حجر: ويرشد إلى تعميم الملائكة قوله [في الرواية الثانية] "الذي في السماء" اهـ. أي الخلق الذي في السماء، ويمكن أن يراد به الله تعالى من قبيل قوله تعالى {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض} [الملك: 16]. -[فقه الحديث]- روى ابن خزيمة وابن حبان من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعاً "ثلاثة لا تقبل لهم صلاة، ولا يصعد لهم إلى السماء حسنة، العبد الآبق حتى يرجع، والسكران حتى يصحو، والمرأة الساخط عليها زوجها حتى يرضى" وروى الطبراني من حديث ابن عمر رضي الله عنهما -رفعه "اثنان لا تجاوز صلاتهما رءوسهما. عبد آبق، وامرأة غضب عليها زوجها حتى ترجع" وصححه الحاكم. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - تحريم امتناعها من فراشه لغير عذر شرعي، أما لو بدأ هو بهجرها ظالماً لها فهجرت فلا يقع عليها هذا الوعيد. 2 - قال المهلب: فيه أن منع الحقوق [في الأبدان والأموال] يوجب سخط الله تعالى، إلا أن يتغمدها الله بعفوه.

3 - قال المهلب: وفيه جواز لعن العاصي المسلم إذا كان على وجه الإرهاب، لئلا يواقع الفعل، فإذا واقعه فإنما يدعى له بالتوبة والهداية، قال الحافظ ابن حجر: والحق أن من منع لعن العاصي المعين أراد به معناه اللغوي، وهو الإبعاد من الرحمة، وهذا لا يليق أن يدعى به على المسلم، بل يطلب له الهداية والتوبة والرجوع عن المعصية، والذي أجازه أراد به معناه العرفي، وهو مطلق السب، ولا يخفى أن محله إذا كان بحيث يرتدع العاصي به وينزجر، وأما حديث الباب فليس فيه إلا أن الملائكة تفعل ذلك، ولا يلزم منه جوازه على الإطلاق. 4 - وفيه أن الملائكة تدعو على أهل المعصية، ماداموا فيها، قال المهلب: وذلك يدل على أنهم يدعون لأهل الطاعة ماداموا فيها. 5 - وفيه دليل على قبول دعاء الملائكة من خير أو شر، لكونه صلى الله عليه وسلم خوف بذلك. 6 - وفيه الإرشاد إلى مساعدة الزوج وطلب مرضاته. 7 - وفيه أن أقوى التشويشات على الرجل داعية النكاح، ولذلك حض الشارع النساء على مساعدة الرجال في ذلك. 8 - وفيه إشارة إلى ملازمة طاعة الله، والصبر على عبادته، جزاء على مراعاته لعبده، حيث لم يترك شيئاً من حقوقه إلا جعل له من يقوم به، حتى جعل الملائكة تلعن من أغضب عبده بمنع شهوة من شهواته، فعلى العبد أن يوفي حقوق ربه التي طلبها منه. والله أعلم

(381) باب تحريم إفشاء سر المرأة

(381) باب تحريم إفشاء سر المرأة 3138 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها". 3139 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة، الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم ينشر سرها" وقال ابن نمير "إن أعظم". -[المعنى العام]- يقول الله تعالى {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} [البقرة: 187]. فالنساء لرجالهن ساترات كما يستر اللباس، والرجال لنسائهم ساترون كما يستر اللباس، ومن أقبح القبائح أن يتحول المقتضى مانعاً، ويتحول الحامي إلى الحرامي، ويتحول الساتر إلى كاشف وفاضح. من هنا كان من أكثر الناس شراً وعذاباً يوم القيامة الرجل الذي يصبح فينشر ما جرى بينه وبين زوجته عند قضاء شهوتهما من أحاديث أو أقوال أو أفعال، مما يخدش الحياء، أو يسيء إلى العفة، وقد جعل الله الكناية مخرجاً عند الحاجة إلى ذكر شيء من ذلك، وجعلت الشريعة ترفع اللسان وصيانته عن التصريح بما لا يليق من مكارم الأخلاق. -[المباحث العربية]- (إن من أشر الناس) قال النووي: قال القاضي: هكذا وقعت الرواية "أشر" بالألف، وأهل النحو يقولون: لا يجوز "أشر" و"أخير" وإنما يقال: هو خير منه، وشر منه. قال: وقد جاءت الأحاديث الصحيحة باللغتين جميعاً، وهي حجة في جوازهما جميعاً، وأنهما لغتان. اهـ وفي تاج العروس: ويقال: هو شر منك، و"أشر منك" لغة قليلة أو رديئة، القول الأول نسبه الفيومي إلى بني عامر، قال: وقرئ في الشاذ {سيعلمون غداً من الكذاب الأشر} [القمر: 26]. بفتح الشين، على هذه اللغة، وفي الصحاح: ولا يقال: أشر الناس إلا في لغة رديئة. اهـ (الرجل يفضي إلى امرأته) أي بالسر، وتفضي هي إليه بالسر، يقال: أفضى إليه بالسر أي

أعلمه به، أو المعنى: الرجل يخلو بالمرأة للجماع، وتخلو به، ويرى كل منهما من الآخر ما لا يراه غيرهما، وفي كتب اللغة: يقال: أفضي إلى المرأة خلابها، وفي التنزيل {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض} [النساء: 21]؟ وهذا المعنى أقرب هنا. (ثم ينشر سرها) أي يذيعه، والمراد يذيع سرها أو تذيع سره، فاكتفى بذكر أحد المتقابلين، أو لأن الأصل في المرأة الستر وإخفاء ما يخدش الحياء، وهي لحيائها يقل منها وقوع ذلك، بخلاف الرجل الذي يتوقع منه حصوله. -[فقه الحديث]- قال النووي: في هذا الحديث تحريم إفشاء الرجل ما يجرى بينه وبين امرأته من أمور الجماع والاستمتاع، ووصف تفاصيل ذلك، وما يجري من المرأة فيه من قول أو فعل أو نحوه، فأما مجرد ذكر الجماع فإن لم يكن فيه فائدة، ولا إليه حاجة فمكروه، لأنه خلاف المروءة، وقد قال صلى الله عليه وسلم "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت" وإن كان إليه حاجة، أو ترتب عليه فائدة فلا كراهة في ذكره، كأن ينكر عليه إعراضه عنها فيصرح بأنه جامعها، أو تدعي عليه العجز عن الجماع فيصرح به. والله أعلم

(382) باب حكم العزل

(382) باب حكم العزل 3140 - عن ابن محيريز أنه قال: دخلت أنا وأبو صرمة على أبي سعيد الخدري. فسأله أبو صرمة فقال: يا أبا سعيد! هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر العزل؟ فقال: نعم. غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة بلمصطلق. فسبينا كرائم العرب. فطالت علينا العزبة ورغبنا في الفداء. فأردنا أن نستمتع ونعزل. فقلنا: نفعل ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا لا نسأله! فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا عليكم أن لا تفعلوا. ما كتب الله خلق نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إلا ستكون". 3141 - وفي رواية قال: "فإن الله كتب من هو خالق إلى يوم القيامة". 3142 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أصبنا سبايا فكنا نعزل. ثم سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال لنا "وإنكم لتفعلون؟ وإنكم لتفعلون؟ وإنكم لتفعلون؟ ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا هي كائنة". 3143 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا عليكم أن لا تفعلوا. فإنما هو القدر". 3144 - وفي رواية، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في العزل "لا عليكم أن لا تفعلوا ذاكم. فإنما هو القدر". 3145 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن العزل؟

فقال "لا عليكم أن لا تفعلوا ذاكم. فإنما هو القدر". قال محمد: وقوله "لا عليكم" أقرب إلى النهي. 3146 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ذكر العزل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال "وما ذاكم" قالوا: الرجل تكون له المرأة ترضع فيصيب منها. ويكره أن تحمل منه. والرجل تكون له الأمة فيصيب منها. ويكره أن تحمل منه. قال "فلا عليكم أن لا تفعلوا ذاكم. فإنما هو القدر". قال ابن عون: فحدثت به الحسن فقال: والله! لكأن هذا زجر. 3147 - وفي رواية عن معبد بن سيرين. قال: قلنا لأبي سعيد: هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر في العزل شيئاً؟ قال: نعم. وساق الحديث بمعنى الحديث السابق. إلى قوله "القدر". 3148 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ذكر العزل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: "ولم يفعل ذلك أحدكم؟ (ولم يقل: فلا يفعل ذلك أحدكم) فإنه ليست نفس مخلوقة إلا الله خالقها". 3149 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل؟ فقال "ما من كل الماء يكون الولد. وإذا أراد الله خلق شيء لم يمنعه شيء". 3150 - عن جابر رضي الله عنه أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي جارية هي خادمنا وسانيتنا. وأنا أطوف عليها وأنا أكره أن تحمل. فقال "اعزل عنها إن شئت. فإنه

سيأتيها ما قدر لها". فلبث الرجل. ثم أتاه فقال: إن الجارية قد حبلت. فقال "قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قدر لها". 3151 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن عندي جارية لي. وأنا أعزل عنها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن ذلك لن يمنع شيئاً أراده الله" قال: فجاء الرجل فقال: يا رسول الله! إن الجارية التي كنت ذكرتها لك حملت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنا عبد الله ورسوله". 3152 - عن جابر رضي الله عنه قال: كنا نعزل والقرآن ينزل. زاد إسحق: قال سفيان: لو كان شيئاً ينهى عنه، لنهانا عنه القرآن. 3153 - عن جابر رضي الله عنه قال: لقد كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. 3154 - عن جابر رضي الله عنه قال: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك نبي الله صلى الله عليه وسلم. فلم ينهنا. -[المعنى العام]- يقول الله تعالى {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء} [النساء: 1]. فالذرية وكثرتها حكمة إلهية من حكم الزواج، لعمارة الأرض، والاستخلاف فيها، وكلما كثر الآدميون العابدون لله من ذرية آدم كلما علا وأعلن وتحقق قوله تعالى للملائكة {إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة: 30]. وقوله {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} [الذاريات: 56]. والذرية وكثرتها غرس حبها في جبلة البشر، مصداقاً لقوله تعالى {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث} [آل عمران: 14]. وقوله تعالى {المال والبنون زينة الحياة الدنيا} [الكهف: 46]. وخلق جل شأنه شهوة الفرج في

طبيعة الرجل والمرأة، يسعى بها كل منهما نحو الآخر، ويتمتع بلذتها كل منهما من الآخر، فإذا أخل أحدهما بمقتضيات هذه الشهوة ولوازمها أساء طبيعة وشرعاً إلى الطرف الآخر، وإذا وقف أحدهما أو وقفا معاً أمام أهداف الشريعة من الزواج كان أو كانا عاصيين لربهما، الخالق الحكيم العليم القدير. لقد حاول بعض الصحابة أن يعزل ماءه عن مملوكته عند قضاء شهوته، خوفاً من أن تحمل، فتصير أم ولد يحرم بيعها، وترفعاً أن يصبح ولده ابن أمة، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال لهم: ولم تفعلون ذلك؟ هل كل ماء من الرجل يدخل رحم المرأة يكون منه ولد، أم حصول الولد بهبة من الله وبقضائه وقدرته؟ إن عملكم هذا لا يحقق هدفكم، وإنما هو القدر، ما من روح أراد الله لها أن تخلق إلا خلقت، ولو شاء لخلقها بدون ماء الرجل، وأمامكم خلق عيسى عليه السلام بدون أب، فلا تعاندوا القدر، ولا تظهروا بمظهر المعترضين عليه، غير الراضيين به. وكأن واحداً منهم أراد أن يعزل عن جاريته بعد البيان الشافي، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا سأعزل عن جاريتي، ولن تحمل، فقال له صلى الله عليه وسلم: اعزل عنها إن شئت، فذهب ثم جاء بعد مدة يقول: يا رسول الله. إن الجارية التي عزلت عنها قد حملت. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم أقل لك: لا يغني حذر من قدر؟ أشهد أني عبد الله ورسوله. -[المباحث العربية]- (عن ابن محيريز أنه قال: دخلت أنا وأبو صرمة على أبي سعيد الخدري، فسأله أبو صرمة) "ابن محيريز" بحاء ثم راء، ثم زاي، مصغراً، واسمه عبد الله بن محيريز الجمحي، وهو مدني سكن الشام، و"أبو صرمة" بكسر الصاد وسكون الراء، اسمه مالك بن قيس، وقيل: قيس بن مالك، صحابي مشهور من الأنصار. ففي الرواية الأولى أن السائل لأبي سعيد أبو صرمة، وفي الرواية الثانية أن أبا سعيد أخبر ابن محيريز، فتحمل على أن أبا سعيد أخبره تبعاً لأبي صرمة السائل، لكن عند البخاري "عن ابن محيريز أنه قال: دخلت المسجد، فرأيت أبا سعيد الخدري، فجلست إليه، فسألته عن العزل .... إلخ فتحمل رواية البخاري على أن نسبة السؤال لابن محيريز باعتباره موافقاً لأبي صرمة، طالباً السؤال معه، كقوله {فعقروا الناقة} [الأعراف: 77]. (يذكر العزل) قال النووي: العزل هو أن يجامع، فإذا قارب الإنزال نزع، وأنزل خارج الفرج. (غزوة بلمصطلق) بفتح الباء وسكون اللام، وأصله بني المصطلق، بضم الميم وسكون الصاد وفتح الطاء وكسر اللام بعدها قاف، وهم بطن من خزاعة، وكانت الغزوة سنة ست، وقيل سنة خمس، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن بني المصطلق يجمعون له، وقائدهم الحارث بن أبي ضرار، فخرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم، يقال له المريسيع، قريباً من الساحل، فاقتتلوا، فهزمهم الله، ولم يفلت منهم إنسان، بل قتل منهم من قتل، وأسر الباقون، رجالاً ونساءً وأولاداً.

(فسبينا كرائم العرب) أي النفيسات من العرب. (فطالت علينا العزبة) بضم العين وسكون الزاي، بعدها باء، وهي عدم الزواج، والمراد هنا طال علينا البعد عن أزواجنا، أي احتجنا إلى الوطء. (ورغبنا في الفداء) قال النووي: المعنى احتجنا إلى الوطء، وخفنا من حمل السبايا، فتصير أم ولد، يمتنع علينا بيعها. اهـ أي احتجنا إلى الوطء، ورغبنا في ثمن السبايا، فوطئنا وعزلنا. (فأردنا أن نستمتع ونعزل، فقلنا .... فسألنا ... ) ظاهر هذا أنهم لم يعزلوا حتى سألوا، لكن الرواية الثانية تقول "فكنا نعزل، ثم سألنا" فتدل على أنهم عزلوا، ثم سألوا، ويؤكده قوله "وإنكم لتفعلون؟ " ويجمع بأن بعضهم عزل قبل أن يسأل، وبعضهم سأل قبل أن يعزل. (لا عليكم ألا تفعلوا) في ملحق الرواية الثالثة "لا عليكم أن لا تفعلوا ذاكم" أي العزل، وكذا في الرواية الخامسة ومعنى "لا عليكم أن لا تفعلوا العزل" لا عليكم أن تتركوا العزل، ولمعانيها احتمالات. الأول: أن "لا" في قوة جملة، رد لسؤالهم عن العزل، فكأنه قال: لا. لا تعزلوا، ثم أكده بقوله "عليكم أن لا تفعلوا" الاحتمال الثاني أن "لا" نافية، أي ليس عليكم أن لا تفعلوا، والمعنى لا حرج عليكم في أن لا تفعلوا، ففيه نفي الحرج عن ترك العزل، فيفهم منه ثبوت الحرج في فعل العزل، إذ لو أراد رفع الحرج عن فعل العزل لقال: لا عليكم أن تفعلوا، فأصحاب الاحتمال الأول قالوا: الأسلوب أقرب إلى النهي، كما قال محمد بن سيرين الراوي عن عبد الرحمن بن بشر الراوي عن أبي سعيد في الرواية الخامسة، وأصحاب الاحتمال الثاني قالوا: الأسلوب كأنه أسلوب زجر كما في ملحق الرواية الخامسة، أي أسلوب كراهة الفعل، الاحتمال الثالث: أن "لا" الأولى نافية، و"لا" الثانية زائدة، والمعنى: ليس عليكم جناح أن تفعلوا. وهذا الاحتمال مردود، لأن الأصل عدم الزيادة، ولأن بقية الحديث تفيد حرجاً للفعل. (وإنكم لتفعلون؟ ) في الرواية الثانية كررها مرتين، والمناسب لها أن تكون قبل قوله "لا عليكم ألا تفعلوا" وفي رواية البخاري "أو إنكم لتفعلون"؟ قال الحافظ: هذا الاستفهام يشعر بأنه صلى الله عليه وسلم ما كان اطلع على فعلهم ذلك. اهـ والاستفهام تعجبي، أي أتعجب من فعلكم ذلك، أو إنكاري توبيخي، بمعنى لا ينبغي أن تفعلوا، وليس استفهاماً حقيقياً عن أنهم يفعلون أو لا يفعلون، فهم قد أعلنوا أنهم فعلوا. (ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا هي كائنة) أي ما من نفس قدر لها في الأزل أن تخلق وتوجد إلا ستخلق وتوجد، لا يغير من هذا القدر عزل. فعزلكم لا أثر له، ومن اشتغل بما لا فائدة فيه فهو عابث. (فإنما هو القدر) أي فإنما المؤثر إيجاداً وعدماً هو القدر لا غيره.

(الرجل تكون له المرأة ترضع .... ويكره أن تحمل منه) خوفاً على الرضيع أو على صحة المرضعة من الحمل. (والرجل تكون له الأمة ... ويكره أن تحمل منه) خوفاً أن تصير أم ولد فيحرم من بيعها وثمنها، أو أنفة من أن يكون له ولد من أمة. (فإنه ليست نفس مخلوقة إلا الله خالقها) أي فإنه ليست نفس قدر لها في الأزل أن تكون مخلوقة إلا خلقت. (ما من كل الماء يكون الولد) المراد من الماء النطفة "المني" والواقع أنه ليس كل ماء يكون فيه ولد، فما أكثر ما يصب الماء ولا يكون حمل، وهناك رجال كل مائهم عقيم، ورجال ماؤهم غير عقيم والزوجة عقيم، وماء صالح للإنجاب في وقت، غير صالح في وقت آخر، وزوجات صالحات للحمل في وقت غير صالحات في وقت آخر، فليس كل ماء صب في فرج امرأة حملت، حتى يكون العزل مانعاً للولد. (وسانيتنا) أي التي تسقي لنا، وتحمل الماء من البئر إلينا، والسانية في الأصل الناقة التي تسقي. (وأنا أطوف عليها) كناية عن وطئها. (فقال: اعزل عنها) ليس المقصود أنه أشار عليه بالعزل عنها ابتداء، بل هذا مبني على أن الرجل جاء يستأذن في العزل عنها، فأذن له، ليتحقق للرجل عملياً صدق ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ففي الرواية التاسعة "إن عندي جارية لي، وأنا أعزل عنها". (أنا عبد الله ورسوله) معناه أن ما أقول لكم حق، فاعتمدوه، واستيقنوا، فإنه سيأتي مثل فلق الصبح، فإني لا أحدثكم من عند نفسي. (لو كان شيئاً ينهى عنه لنهانا عنه القرآن) أي لو كان العزل شيئاً منهياً عنه لنهانا عنه القرآن، وهذا استنباط من سفيان الراوي عن عطاء الراوي عن جابر رضي الله عنه. -[فقه الحديث]- نفرق في الأحكام الشرعية بالنسبة إلى العزل بين العزل بدون هدف، وبين العزل بهدف مشروع، وبين العزل بهدف غير مشروع، وبين العزل عن الحرة، وبين العزل عن الأمة. فالعزل بدون هدف مبني على الخلاف في حق الزوجة الحرة في الوطء وعدم حقها فيه، فالشافعية وأبو حنيفة يقولون بأن المرأة لا حق لها في الوطء إلا في وطأة واحدة، يستقر بها المهر،

والمالكية يقولون: إن لها حق المطالبة بالوطء إذا قصد بتركه إضرارها، وحيث إن العزل فيه تفويت كمال لذتها بالوطء فمن جعل لها حق المطالبة بالوطء اشترط إذنها وموافقتها على العزل، وكان المفروض أن من قال: لا حق لها في الوطء يقول: لا رأي لها في العزل، لكن أبا حنيفة يقول: لا يعزل عن الحرة بدون إذنها. وعلى هذا فقد اتفقت المذاهب الثلاثة المالكية والحنفية والحنابلة على أن الحرة لا يعزل عنها إلا بإذنها، وأن الأمة يعزل عنها بغير إذنها. وعليه قال ابن عبد البر: لا خلاف بين العلماء أنه لا يعزل عن الزوجة الحرة إلا بإذنها، لأن الجماع من حقها، ولها المطالبة به، وليس الجماع المعروف إلا ما لا يلحقه عزل. وتعقب هذا بما عند الشافعية من أن المرأة لا حق لها في الجماع أصلاً، لكن بين الشافعية في خصوص العزل خلاف مشهور، قيل: يجوز العزل عن الحرة بغير إذنها وبغير رضاها، وهو المصحح عند المتأخرين، وقيل: لا يجوز بغير إذنها، ويمنع إذا امتنعت، وفيما لو رضيت وجهان، أصحهما الجواز. هذا في العزل بدون هدف، أي بدون نظر إلى الحمل وعدمه، كالعزل عن الكبيرة في سن اليأس، والعزل عن الحامل، ونحو ذلك. ويلحق به العزل بهدف مشروع، ويمثل له بالحفاظ على صحة الأم، أو صحة الطفل الرضيع، وإن كان الأولى ترك العزل، لأن الصحة هبة من الله والحمل هبة من الله، فلو أراد الصحة للأم والرضيع وهبها مع عدم العزل، ولو أراد عدمها كان مع العزل، ولذلك حينما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الحالة رخص بها، ثم نفى فائدتها، فقد روى مسلم من حديث أسامة بن زيد قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أعزل عن امرأتي شفقة على ولدها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن كان ذلك فلا، ثم قال: ما ضر ذلك فارس ولا الروم" وسيأتي هذا الحديث بعد باب واحد. ويلحق به أيضاً العزل عن الأمة خشية أن تحمل فتصير أم ولد، فلا تباع. وهو ما كان عند الصحابة في الحالة والظروف التي سيقت لها أحاديث الباب. أما العزل خشية الفقر، وخشية ضيق الرزق على الأولاد، وخشية عدم القدرة على القيام بحسن تربيتهم، ومثله ادعاء الدولة أن كثرة النسل تأكل محاولات التنمية، وتبقى الأمة فقيرة ضعيفة، فهذا هدف وقصد غير مشروع، والعزل عليه حرام، حتى لو رضيت الزوجة لأمور: الأول: أن الرزق بيد الله وحده {وفي السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون} [الذاريات: 22]. {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} [هود: 6]. وقد رأينا بلاداً ترزق من باطن الأرض من غير جهد، وبلاداً تكد وتتعب ورزقها محدود. الثاني: أن كل مولود له رزقه، وقد يكون رزق أبيه ورزق إخوته تابعاً لرزق الولد الثالث أو الرابع أو الخامس، والله تعالى يقول {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم} [الإسراء: 31]. ويقول {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم} [الأنعام: 151]. وقد رأينا أسراً كانت نجدتها وعزها وسؤددها في ابنها الخامس أو السادس، وأمامنا قصة يوسف عليه السلام. الثالث: أن الذي يكتفي بولد أو ولدين لا يضمن بقاءهما وحياتهما، فالموت حق، وقد يلحقهما حين لا تجدي المحاولة للحمل بعد فوات الأوان. والشواهد لذلك في حياتنا كثيرة. الرابع: أن الولد قوة، ومصدر كسب، ومبعث عزة ومنعة، يقول تعالى {وجعلت له مالاً ممدوداً

وبنين شهوداً} [المدثر: 12، 13]. فكيف يدعي أن الأولاد وكثرتهم تؤدي إلى الفقر؟ أو إلى زيادة الفقر؟ قد يكون ذلك في أمة خذولة كسولة غير منتجة، وفي قيادة لا تهيئ لأبنائها ظروف العمل، وتكبل العاملين، وتصيب الطموحين بالشلل والإحباط، وإنها لدعوة خبيثة، تسري في أوساط المسلمين لزيادة إضعافهم، ينفق عليها ويغذيها، أعداؤهم، في الوقت الذي يشجعون فيه زيادة العدد لغير المسلمين. الخامس: أن الأولاد هدية من الله، يقول جل شأنه {لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ويجعل من يشاء عقيماً إنه عليم قدير} [الشورى: 49، 50]. وتخيل معي أن تقدم لإنسان هدية فيرفضها ويردها في وجهك، أو تعده وتعرض عليه هدية فيواجهك: لا أريدها. لا أحبها لا أقبلها. هي تضرني. هي لا تنفعني. هل تكون راضياً؟ وهل يكون في فعله هذا مرضياً لك؟ متقرباً منك؟ مقدراً عطفك وكرمك؟ . فما بالك بمن يفعل ذلك مع العليم القدير؟ الذي يعلم وحده ما ينفعك وما يضرك. إن العلماء يعبرون عن هذه الحالة بمعاندة القدر، فماذا عساها نتيجة معاندة القدر؟ . السادس: أن هذه المعاندة لا تنفع إن لم تضر، يعزل من يريد والله يفعل ما يريد، وقد رأينا في الرواية الثامنة والتاسعة كيف أن الجارية حملت وسيدها يتحرى العزل عنها، ونرى في حياتنا وسائل منع الحمل تفشل كثيراً أمام القدر، بل رأينا كثيراً منها يمنع فترة، ويؤدي إلى التوائم في فترة أخرى وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم "فإنما هو القدر". "ما من كل الماء يكون الولد". "ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا هي كائنة". "وإذا أراد الله خلق شيء لم يمنعه شيء" وعند أحمد والبزار وابن حبان يقول صلى الله عليه وسلم "لو أن الماء الذي يكون منه الولد أهرقته على صخرة لأخرج الله منها ولداً". وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العزل؟ فقال: "ذلك الوأد الخفي". أخرجه مسلم بعد باب واحد. وقد جنح إلى منع العزل من الشافعية ابن حبان، فقال في صحيحه: ذكر الخبر الدال على أن هذا الفعل مزجور عنه، لا يباح استعماله، ثم ساق حديث أبي ذر رفعه "ضعه في حلاله، وجنبه حرامه، وأقرره، فإن شاء الله أحياه، وإن شاء أماته، ولك أجر" هذا. وفي معنى العزل تعاطي المرأة أو الرجل حبوب منع الحمل، والوسائل الحديثة الأخرى. وقال الحافظ ابن حجر: وينتزع من حكم العزل حكم معالجة المرأة إسقاط النطفة قبل نفخ الروح فمن قال بالمنع في العزل ففي هذه أولى، ومن قال بالجواز في العزل يمكن أن يلحق هذا به، ويمكن أن يفرق بينهم بأن إسقاط النطفة أشد فتمنع، لأن العزل لم يقع فيه تعاطي السبب، ومعالجة السقط تقع بعد تعاطي السبب. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - قوله في الرواية الأولى "فسبينا كرائم العرب ... " استدل به من أجاز استرقاق العرب، وأنهم يجري عليهم الرق كما يجري على العجم وأنهم إذا كانوا مشركين وسبوا جاز استرقاقهم، لأن بني

المصطلق عرب من خزاعة، وقد استرقوهن، ووطئوا سباياهن، واستباحوا بيعهن، وبهذا قال مالك والشافعي وجمهور العلماء، وقال أبو حنيفة: لا يجري عليهن الرق لشرفهن. 2 - ومن أجاز وطء المشركات بملك اليمين، وإن لم يكن من أهل الكتاب، لأن بني المصطلق كانوا أهل أوثان، وقد رد عليه من منع باحتمال أن يكونوا ممن دان بدين أهل الكتاب. قال الحافظ ابن حجر: وهو باطل. وباحتمال أن يكون ذلك في أول الأمر، ثم نسخ، وفيه نظر، إذا النسخ لا يثبت بالاحتمال. وباحتمال أن تكون المسبيات أسلمن قبل الوطء، وهذا لا يتم مع قوله "وأحببنا في الفداء" فإن المسلمة لا تعاد للمشرك. والله أعلم. 3 - وفيها دلالة على إلحاق النسب مع العزل، لأن الماء قد سبق. 4 - وأنه إذا اعترف بوطء أمته صارت فراشاً له، ويلحقه أولادها، إلا أن يدعي الاستبراء، وهو مذهب مالك والشافعي. والله أعلم

(383) باب تحريم وطء الحامل المسبية

(383) باب تحريم وطء الحامل المسبية 3155 - عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أتى بامرأة مجح على باب فسطاط. فقال "لعله يريد أن يلم بها؟ " فقالوا: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لقد هممت أن ألعنه لعناً يدخل معه قبره. كيف يورثه وهو لا يحل له؟ كيف يستخدمه وهو لا يحل له؟ ". -[المعنى العام]- في شوال سنة ثمان، وبعد انتصار المسلمين في غزوة أوطاس، وبعد توزيع الغنائم رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم على باب خيمة من خيام أصحابه امرأة منتفخة البطن، تبدو عليها أنها حامل في شهرها الثامن أو التاسع، فوقع في نفسه أن صاحبها سيواقعها أو واقعها فعلاً دون استبراء رحمها، فسأل من حوله: لعل صاحبها وطأها؟ قالوا: نعم. هي مملوكته. قال: كيف يخلط ماءه بماء غيره؟ لقد هممت أن أدعوا عليه بالطرد من رحمة الله دعاء يلازمه إلى يوم يموت، لا يفارقه، لكنني لم أدع عليه، لعله لا يعلم الحكم فيعذر. ثم أرسل صلى الله عليه وسلم من ينادي في الناس: ألا لا توطأ حامل من السبايا حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة. -[المباحث العربية]- (وطء الحامل المسبية) أي الأمة التي وقعت في سهم أحد المجاهدين، فصارت مملوكة له. (أنه أتى بامرأة مجح على باب فسطاط) "المجح" بضم الميم وكسر الجيم بعدها حاء هي الحامل التي قربت ولادتها. و"الفسطاط" بيت من الشعر أو نحوه. و"أتى" بفتح الهمزة وفتح التاء كذا ضبطت في الأصل، وظاهر العبارة أن الذي أتى بالمرأة على باب الفسطاط هو النبي صلى الله عليه وسلم، وهو غير مقبول، أو الذي أتى بالمرأة على باب الفسطاط أبو الدرداء، وهو بعيد جداً، والظاهر أن "أتى" بضم الهمزة وكسر التاء، مبني للمجهول، ففي رواية أبي داود "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في غزوة، فرأى امرأة مجحاً، فقال: لعل صاحبها ألم بها؟ قالوا: نعم .... إلخ الحديث. (لعله يريد أن يلم بها) أي يطأها، وكانت حاملاً مسبية، لا يحل جماعها حتى تضع. وفي رواية أبي داود "لعل صاحبها ألم بها"؟ "قالوا: نعم" يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم حين رأها على باب

الفسطاط ظنها لم تدخله بعد، فقال: "لعل صاحبها يريد أن يلم بها" فلما تبين له أنها دخلته وخرجت قال: لعل صاحبها ألم بها؟ فأجابوا: نعم. فكان الهم بلعنه. ولم يقع اللعن لأن الرجل لم يكن يعلم الحكم. (لعنا يدخل معه قبره) أي يلازمه، ولا ترفعه توبة. (كيف يورثه وهو لا يحل له، كيف يستخدمه وهو لا يحل له؟ ) "يورثه" بفتح الواو وتشديد الراء المكسورة، أي كيف يجعل الحمل وارثاً له وهو ليس ابنه؟ قال النووي: معناه أنه قد تتأخر ولادتها ستة أشهر، حيث يحتمل كون الوالد من هذا السابي، ويحتمل أنه كان ممن كان قبله، فعلى تقدير كونه من السابي يكون ولداً، ويتوارثان، وعلى تقدير كونه من غير السابي لا يتوارثان، هو ولا السابي، لعدم القرابة، بل له استخدامه، لأنه مملوكه، فتقدير الحديث أنه قد يستلحقه ويجعله ابناً له ويورثه، مع أنه لا يحل له توريثه، لكونه ليس منه، ولا يحل له توارثه، ومزاحمته لباقي الورثة، وقد يستخدمه استخدام العبيد، ويجعله عبداً، يتملكه مع أنه لا يحل له ذلك؟ لكونه منه إذا وضعته لمدة محتملة كونه من كل واحد منهما، فيجب عليه الامتناع من وطئها خوفاً من هذا المحظور. قال النووي: فهذا هو الظاهر في معنى الحديث. وقال القاضي عياض: معناه الإشارة إلى أنه قد ينمي هذا الجنين بنطفة هذا السابي، فيصير مشاركاً له فيه، فيمتنع الاستخدام، وهو نظير الحديث الآخر "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسق ماءه ولد غيره" قال النووي: هذا كلام القاضي، وهذا الذي قاله ضعيف أو باطل، وكيف ينتظم التوريث مع هذا التأويل؟ بل الصواب ما قدمناه. اهـ -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث: ]- 1 - أن السبي ينقض الملك المتقدم، ويفسخ النكاح. 2 - وأن استحداث الملك يوجب الاستبراء في الإماء، فلا توطأ ثيب ولا عذراء حتى تستبرأ بحيضة ويدخل في ذلك المكاتبة إذا عجزت فعادت إلى الملك المطلق، وسواء كانت الأمة مشتراة من رجل أو امرأة، لأن العموم يأتي على ذلك أجمع. 3 - يؤخذ منه مقصود الباب، وتحريم وطء الحامل المسبية. والله أعلم

(384) باب جواز الغيلة، وهي وطء المرضع

(384) باب جواز الغيلة، وهي وطء المرضع 3156 - عن جدامة بنت وهب، الأسدية رضي الله عنها: أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لقد هممت أن أنهى عن الغيلة حتى ذكرت أن الروم وفارس يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم". 3157 - عن جدامة بنت وهب، أخت عكاشة رضي الله عنهما. قالت: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس، وهو يقول "لقد هممت أن أنهى عن الغيلة. فنظرت في الروم وفارس. فإذا هم يغيلون أولادهم، فلا يضر أولادهم ذلك شيئاً". ثم سألوه عن العزل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ذلك الوأد الخفي". زاد عبيد الله في حديثه عن المقرئ وهي: {وإذا الموءودة سئلت} 3158 - وفي رواية عن جدامة بنت وهب الأسدية رضي الله عنها: أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكر بمثل السابق في العزل والغيلة. غير أنه قال "الغيال". 3159 - عن أسامة بن زيد رضي الله عنه: أن أسامة بن زيد أخبر سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعزل عن امرأتي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "لم تفعل ذلك؟ " فقال الرجل: أشفق على ولدها، أو على أولادها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لو كان ذلك ضاراً، ضر فارس والروم". وقال زهير في روايته "إن كان لذلك فلا ما ضار ذلك فارس ولا الروم" -[المعنى العام]- الشريعة الإسلامية تحرص على مصالح العباد، بل كل مصالح العباد فيها وفي اتباعها، وفي هذا

الحديث يحرص صلى الله عليه وسلم على مصلحة الأمة حين بدا له أن وطء المرضع يعرضها للحمل، ولبن الحامل يفسد بالحمل، مما يعرض الطفل الرضيع للأمراض، فأراد أن ينهى عن وطء المرضع، ليتفادى أن تحمل وهي ترضع، ثم أمعن التفكير قبل أن ينهي، فرأى بثاقب فكره أن فارس والروم يجامعون المرضع فتحمل، وهي ترضع، وأولادهم سليمة صحيحة، لم يضرهم ما شربوا من لبن أمهاتهم الحوامل. فترجح عنده أن لبن الحامل غير فاسد، وأنه لا يضر الرضيع، وحتى لو لم يكن سليماً مائة في المائة فإن الضار والنافع هو الله تعالى، وكثيراً ما يأكل البشر مأكولات فيها جراثيم أو ميكروبات فلا يضار بها الجسم، بما أودعه الله فيه من جنود المقاومة، والحصانة ضد ما يهاجمه من جراثيم الأمراض، فتحول صلى الله عليه وسلم عن النهي الذي هم به إلى إقرار الأمر وجوازه، وأعلن عن الهم والعدول عنه ليختار المسلم ما يؤول إليه اقتناعه. -[المباحث العربية]- (عن جدامة بنت وهب الأسدية) في الرواية الثانية "أخت عكاشة" قال النووي: الصحيح أن "جدامة" بالدال لا بالذال، والجيم مضمومة بلا خلاف. قال القاضي عياض: قال بعضهم: إنها أخت عكاشة على قول من قال: إنها جدامة بنت وهب بن محصن، وقال بعضهم: إنها أخت رجل آخر، اسمه عكاشة بن وهب. قال النووي: والمختار أنها جدامة بنت وهب الأسدية أخت عكاشة "ابن محصن" المشهور الأسدي، وتكون أخته من أمه، وفي عكاشة لغتان تشديد الكاف وتخفيفها، والتشديد أفصح وأشهر. (لقد هممت أن أنهى عن الغيلة) بكسر الغين، ويقال لها: الغيلة بفتح الغين، اسم مرة، وأما بالكسر فهي الاسم من الغيل، قال النووي: واختلف العلماء في المراد بها في هذا الحديث، فقال مالك في الموطأ والأصمعي وغيره من أهل اللغة أن يجامع امرأته وهي مرضع، يقال منه: أغال الرجل، وأغيل إذا فعل ذلك، وقال ابن السكيت: هي أن ترضع المرأة وهي حامل، يقال منه غالت وأغيلت. وفي الرواية الثانية "فإذا هم يغيلون" بضم الياء، من أغال. (ذاك الوأد الخفي) الوأد دفن البنت وهي حية، وكانت العرب تفعله خشية الإملاق أو خوف العار، والموءودة المدفونة حية، وفي الجملة تشبيه العزل بالوأد لأنه قطع طريق الولادة قبل مجيئه، فأشبه قتل الولد بعد مجيئه، وقال ابن القيم: وإنما سماه وأداً خفياً لأن الرجل إنما يعزل هرباً من الحمل، فأجرى قصده لذلك مجرى الوأد، لكن الفرق بينهما أن الوأد ظاهر بالمباشرة، اجتمع فيه القصد والفعل، والعزل يتعلق بالقصد صرفاً، فلذلك وصفه بكونه خفياً. (ما ضار ذلك فارس ولا الروم) "ما ضار" بتخفيف الراء، أي ما ضرهم، يقال: ضارة يضيره ضيراً وضره يضره ضراً.

-[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث: ]- 1 - يجوز وطء المرأة المرضع، وشبهة المنع أن وطء المرضع يعرضها للحمل الذي يضر بالرضيع، حيث يقول الأطباء: إن لبن الحامل مضر بالرضيع، والعرب كانت تكره إرضاع الطفل لبن الحامل وتتقيه. وقد سبق الكلام عن العزل عن المرأة خوف أن تحمل وهي مرضع، في الباب الذي قبل الماضي. 2 - قال النووي: فيه جواز الاجتهاد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه هم أن ينهى عن الغيلة. قال: وبجواز اجتهاده صلى الله عليه وسلم قال جمهور أهل الأصول، وقيل: لا يجوز، لتمكنه من الوحي، والصواب الأول. 3 - وفيه كراهة العزل، لتشبيهه بالوأد، والوأد حرام، فلا أقل من أن يكون مكروهاً، وقد حاول العلماء الجمع بين هذا الحديث "العزل الوأد الخفي" وبين ما سبق في الباب الماضي قبل باب من أن الصحابة كانوا يعزلون، فقيل: إن التشبيه بالوأد ليس صريحاً في المنع، إذ لا يلزم من تسميته وأداً خفياً على طريق التشبيه أن يكون حراماً، وخصه بعضهم بالعزل عن الحامل، لزوال المعنى الذي كان يحذره الذي يعزل خوفاً من حصول الحمل، لما فيه من الإضرار بالحمل، لأن المني يغذوه، فقد يؤدي العزل إلى موته أو إلى ضعفه المفضي إلى موته، فيكون وأداً خفياً. وللحديث علاقة بباب العزل الماضي قريباً فليراجع. والله أعلم

كتاب الرضاع

كتاب الرضاع

(385) باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب

(385) باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب 3159 - عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عندها. وإنها سمعت صوت رجل يستأذن في بيت حفصة، قالت عائشة فقلت: يا رسول الله هذا رجل يستأذن في بيتك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أراه فلاناً" (لعم حفصة من الرضاعة) فقالت عائشة: يا رسول الله لو كان فلان حياً (لعمها من الرضاعة) دخل علي؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نعم إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة". 3160 - عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة". 3161 - عن عائشة رضي الله عنها: أنها أخبرته أن أفلح، أخا أبي القعيس، جاء يستأذن عليها. وهو عمها من الرضاعة. بعد أن أنزل الحجاب. قالت: فأبيت أن آذن له. فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته بالذي صنعت. فأمرني أن آذن له علي. 3162 - عن عائشة رضي الله عنها، قالت: أتاني عمي من الرضاعة، أفلح بن أبي قعيس. فذكر بمعنى حديث مالك. وزاد: قلت: إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل. قال "تربت يداك أو يمينك". 3163 - عن عائشة رضي الله عنها: أنه جاء أفلح أخو أبي القعيس يستأذن عليها. بعد ما نزل الحجاب. وكان أبو القعيس أبا عائشة من الرضاعة. قالت عائشة: فقلت: والله! لا آذن لأفلح، حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أبا القعيس ليس هو أرضعني. ولكن أرضعتني امرأته. قالت عائشة: فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله إن أفلح أخا أبي القعيس

جاءني يستأذن علي فكرهت أن آذن له حتى أستأذنك. قالت: فقال النبي صلى الله عليه وسلم "ائذني له" قال عروة: فبذلك كانت عائشة تقول: حرموا من الرضاعة ما تحرمون من النسب. 3164 - وفي رواية: جاء أفلح أخو أبي القعيس يستأذن عليها. بنحو حديثهم. وفيه "فإنه عمك تربت يمينك". وكان أبو القعيس زوج المرأة التي أرضعت عائشة. 3165 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء عمي من الرضاعة يستأذن علي. فأبيت أن آذن له حتى أستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: إن عمي من الرضاعة استأذن علي فأبيت أن آذن له. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فليلج عليك عمك" قلت: إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل. قال "إنه عمك. فليلج عليك". 3166 - وفي رواية: أن أخا أبي القعيس استأذن عليها. فذكر نحوه. -وفي رواية نحوه غير أنه قال: "استأذن عليها أبو القعيس". 3167 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: استأذن علي عمي من الرضاعة، أبو الجعد. فرددته (قال لي هشام: إنما هو أبو القعيس) فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته بذلك. قال "فهلا أذنت له؟ تربت يمينك أو يدك". 3168 - عن عائشة رضي الله عنها: أنها أخبرته أن عمها من الرضاعة يسمى أفلح. استأذن عليها فحجبته. فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال لها "لا تحتجبي منه. فإنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب". 3169 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: استأذن علي أفلح بن قعيس. فأبيت أن

آذن له. فأرسل: إني عمك. أرضعتك امرأة أخي. فأبيت أن آذن له. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكرت ذلك له. فقال "ليدخل عليك، فإنه عمك". 3170 - عن علي رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله ما لك تنوق في قريش وتدعنا؟ فقال "وعندكم شيء"؟ قلت: نعم. بنت حمزة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنها لا تحل لي. إنها ابنة أخي من الرضاعة". 3171 - عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم أريد على ابنة حمزة. فقال "إنها لا تحل لي. إنها ابنة أخي من الرضاعة. ويحرم من الرضاعة ما يحرم من الرحم". 3172 - وفي رواية نحوه غير أن حديث شعبة انتهى عند قوله "ابنة أخي من الرضاعة". وفي حديث سعيد "وإنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب". وفي رواية بشر بن عمر سمعت جابر بن زيد. 3173 - عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أين أنت يا رسول الله؟ ! عن ابنة حمزة؟ أو قيل: ألا تخطب بنت حمزة بن عبد المطلب؟ قال "إن حمزة أخي من الرضاعة". 3174 - عن أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله

صلى الله عليه وسلم فقلت له: هل لك في أختي بنت أبي سفيان؟ فقال "أفعل ماذا؟ " قلت: تنكحها. قال "أو تحبين ذلك؟ " قلت: لست لك بمخلية. وأحب من شركني في الخير أختي. قال "فإنها لا تحل لي" قلت: فإني أخبرت أنك تخطب درة بنت أبي سلمة. قال "بنت أم سلمة؟ " قلت: نعم. قال "لو أنها لم تكن ربيبتي في حجري، ما حلت لي. إنها ابنة أخي من الرضاعة. أرضعتني وأباها ثويبة. فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن". 3175 - عن أم حبيبة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله! انكح أختي عزة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أتحبين ذلك" فقالت: نعم يا رسول الله! لست لك بمخلية. وأحب من شركني في خير، أختي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فإن ذلك لا يحل لي". قالت: فقلت: يا رسول الله فإنا نتحدث أنك تريد أن تنكح درة بنت أبي سلمة. قال: "بنت أبي سلمة؟ " قالت: نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لو أنها لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي. إنها ابنة أخي من الرضاعة. أرضعتني وأبا سلمة ثويبة. فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن". -[المعنى العام]- يقول الله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفوراً رحيماً} [النساء: 23]. ذكرت هذه الآية الكريمة النساء المحرم نكاحهن، ووضحت السنة وبينت محرمات النكاح بما يشبه الإضافة صورة، فحرمت الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، كما سبق قبل أبواب، وبما هو بيان لمبهم أو تفصيل لمجمل، كتحريمها من الرضاع ما يحرم من النسب، وهو موضوع حديثنا. إن الغريزة الجنسية ترقى كلما رقت الإنسانية، وإن أبرز رقيها التعفف بها عن الحيوانية، وفي

هذا المجال نجد الحيوان ينكح أمه وبنته وأخته، ولا تفرق شهوته بين قريب أو بعيد، وقد بدأت حياة البشر بالتزويج بين الأخ وأخته من أبناء آدم، لعمارة الأرض، وبث الجنس الإنساني، وتدرجت الشرائع والأعراف في تحريم القرابات، وأخذت تترقى في هذا المنع تارة، وتنتكس أخرى، كما هو طبيعة التطور والقصور، وكان أرقى ما وصلت إليه الإنسانية من الرقي محرمات النكاح في الإسلام، حتى حدد المحرمات تحديداً، ورغب في نكاح البعيدات، ورغب عن نكاح القريبات مطلقاً. إن أرقى درجات الترفع بهذه الغريزة الترفع بها عن التناكح بين من جمع بينهما رضاع قريب، أو رضاع بعيد بعد الترفع بها عن النسب المحرم، وأن يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة. هكذا أكدت الأحاديث، فعم حفصة من الرضاع تأذن له بالدخول عليها والخلوة بها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم ذلك ويقره، وعم عائشة من الرضاع يستأذن عليها، فتحتجب منه وترده، فيقول لها: أنا عمك؟ فتقول له: من أين لك هذه العمومة؟ فيقول لها: أرضعتك امرأة أخي، فصار أخي أبا لك من الرضاع، وأصبحت عمك من الرضاع كعمك من النسب فتقول له: إنما أرضعتني المرأة، زوجة أخيك، ولم يرضعني أخوك حتى يكون بيني وبينك صلة، ولا تأذن له، ثم تحكي ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول لها: كان عليك أن تأذني له، إن استأذن ثانية فأذني له، إنه عمك من الرضاع، ويحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة. ويعرض علي رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوج ابنة عمه حمزة، فيقول صلى الله عليه وسلم: إنها لا تحل لي، لأن حمزة أخي من الرضاع، رضعت أنا وهو من امرأة واحدة هي ثويبة، ورضع معنا منها أبو سلمة. وتتحدث النساء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يتزوج بنت أم سلمة، فيقتل هذه الإشاعة بأنها لا تحل له، لأنها ربيبة في حجره، ولأنها ابنة أخيه من الرضاعة، وهكذا يرفع الإسلام الشهوة الجنسية، ويرفع الإنسان بها إلى أعلى ما تصبو إليه الإنسانية -فنعم الشرع الحكيم. -[المباحث العربية]- (كان عندها) أي في بيتها، وهو يجاور بيت حفصة، لا يفصل بينهما إلا حائط من قش وطين. (وأنها سمعت صوت رجل يستأذن في بيت حفصة) أي سمعت صوت رجل يستأذن حفصة في الدخول عليها في بيتها، وكأن عائشة توقعت إذن حفصة، وإلا ما قالت ذلك. قال الحافظ ابن حجر: ولم أقف على اسم هذا الرجل. (هذا رجل يستأذن في بيتك) أضافت أولاً البيت إلى حفصة باعتبارها مختصة به ساكنة فيه، وليس باعتبار الملك، ففي امتلاك أمهات المؤمنين لبيوتهن خلاف، وأضافته ثانياً إلى ضمير رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتباره المالك صاحب الأمر والنهي فيه، وأن الزوجة شرعاً لا تأذن في بيته إلا بإذنه، وكأنها بذلك تحركه صلى الله عليه وسلم نحو حفصة.

(أراه فلاناً) بضم الهمزة، أي أظنه فلاناً، وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم اسم رجل، هو عم حفصة من الرضاعة، قال الحافظ ابن حجر: ولم أقف على اسمه أيضاً. (لو كان فلان حياً -لعمها من الرضاعة- دخل علي؟ ) ذكرت عائشة اسم عم لها من الرضاعة يشبه في وضعه وضع عم حفصة الذي يستأذن، كأنها بذلك تثير غيرته صلى الله عليه وسلم. (إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة) أي وتبيح ما تبيح. فهي تحرم النكاح، وتبيح الدخول. و"الرضاعة" بفتح الراء وكسرها، والرضاع أيضاً بفتح الراء وكسرها، يقال: رضع الصبي أمه -بكسر الضاد- يرضعها -بفتح الضاد، رضاعاً. قال الجوهري: ويقول أهل نجد: رضع يرضع -بفتح الضاد في الماضي وكسرها في المضارع كضرب يضرب، وامرأة مرضع، أي لها ولد ترضعه. وفي الرواية الثانية "يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة" وفي الرواية الثامنة "يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب" فيحتمل أن إحداهما رواية بالمعنى، ويحتمل أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال اللفظين في وقتين مختلفين، قال الحافظ ابن حجر: والثاني هو المعتمد، فإن الحديثين مختلفان في القصة والسبب والراوي، وإنما يأتي الاحتمال الأول إذا اتحد ذلك. (أن أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن عليها، وهو عمها من الرضاعة) "القعيس" بضم القاف وفتح العين مصغر، وأبو القعيس -كما قال الدارقطني هو وائل بن أفلح الأشعري، وحكى هذا ابن عبد البر، ثم حكى أيضاً أن اسمه الجعد، قال الحافظ: فعلى هذا يكون أخوه وافق اسمه اسم أبيه، ويحتمل أن يكون أبو القعيس نسب لجده، ويكون اسمه وائل بن قعيس بن أفلح بن القعيس، وأخوه أفلح بن قعيس بن أفلح أبو الجعد. اهـ هذه المحاولة في تركيب الأسماء المبنية على احتمالات قصد بها الجمع بين الروايات التي اختلفت في اسم أو كنية أو نسب العم الذي استأذن على عائشة، والمؤكد عندنا أن أبا القعيس هو زوج المرأة التي أرضعت عائشة، فهو أبوها من الرضاعة، وأخوه عمها من الرضاع. فمن هو هذا الأخ؟ . الرواية الثالثة والخامسة وملحقها تقول "إن أفلح أخا أبي القعيس .... وهو عمها من الرضاعة" وهي ظاهرة لا إشكال فيها، الرواية الرابعة تقول "عمي من الرضاعة أفلح بن أبي قعيس" والرواية التاسعة تقول "أفلح بن قعيس" وإشكالهما يرفع بالاحتمال الذي ذكره الحافظ، فأفلح أخو أبي القعيس زوج المرضعة، وهو في الوقت نفسه ابن أبي القعيس الجد فعرف مرة بأخيه، ومرة بنسبه إلى جده، كما نسب إلى جده أيضاً في الملحق الثاني للرواية السادسة، ولفظة "استأذن عليها أبو القعيس" أي أفلح، وليس أبا القعيس زوج المرضعة، فإن المستأذن عمها، وليس أباها. أما الرواية السابعة، وفيها "استأذن علي عمي من الرضاعة أبو الجعد" فلا خطأ فيها لأن كنية أفلح "أبو الجعد" كما قال القرطبي ووافقه الحافظ ابن حجر. (فأبيت أن آذن له) في الرواية السادسة "فأبيت أن آذن له حتى أستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي

الرواية التاسعة "فأبيت أن آذن له، فأرسل: إني عمك، أرضعتك امرأة أخي؟ فأبيت أن آذن له" وفي رواية "فقال: أتحتجبين مني وأنا عمك؟ وفي رواية لأبي داود "فقال: أتستترين مني وأنا عمك؟ قلت: من أين؟ قال: أرضعتك امرأة أخي؟ قلت: إنما أرضعتني المرأة، ولم يرضعني الرجل" قال الحافظ ابن حجر: ويجمع بأنه دخل عليها أولاً، فاستترت ودار بينهما الكلام، فظن أنها قبلت قوله، فاستأذن، فلم تأذن له حتى تستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهنا إشكالان: الأول: أن عائشة -رضي الله عنها- قالت في الرواية الأولى "لو كان فلان حياً لعمها من الرضاعة دخل علي؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة" وهذه الرواية في حديث الرجل الذي يستأذن على حفصة وهو سابق على استئذان أفلح أخي أبي القعيس: فكيف قالت عن عمها من الرضاعة إنه ميت، ثم قالت إنه استأذن عليها؟ قال الحافظ ابن حجر: يحتمل أن تكون ظنت أنه مات لبعد عهدها به، ثم قدم بعد ذلك فاستأذن. اهـ وهذا الاحتمال بعيد جداً، إذ لو كان كذلك لنبهها رسول الله صلى الله عليه وسلم والجواب الحسن ما ذكره بعضهم من أنهما عمان من الرضاعة. فجاء الإشكال الثاني وهو مادامت سألت عن الأول وأجيبت، فلم توقفت في الثاني؟ وأجيب بأنه تكرر منها ذلك إما لأنها نسيت القصة الأولى، وإما لأنها جوزت تغير الحكم فأعادت السؤال، فلا استبعاد في تجويز ما ذكر من نسيان أو تجويز النسخ، وأحسن من هذا أن يقال: هما عمان من الرضاع، مختلفان في طريقة عمومتهما، فلما أجيبت عن أحدهما سألت عن الآخر في حالة مختلفة، يؤخذ هذا من كلام عياض: إن أحد العمين كان أعلى من الآخر أو أحدهما كان شقيقاً والآخر لأب فقط أو لأم فقط، أو أرضعتها زوجة أخيه بعد موته، والآخر في حياته. كما يؤخذ أيضاً من كلام ابن المرابط أن عم حفصة أرضعته المرأة مع عمر، فالرضاعة فيهما من قبل المرأة. وعم عائشة الذي سألت عنه في قصة عم حفصة كان نظير عم حفصة في ذلك أي في أن امرأة أرضعته وأرضعت أبا بكر، وأفلح أخ زوج المرأة التي أرضعت عائشة، فعمومته من جهة الفحل صاحب اللبن، فأخبرها الشارع أن لبن الفحل يحرم كما يحرم من قبل المرأة. اهـ وهذا جواب حسن. والله أعلم. (فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته بالذي صنعت) في الرواية الخامسة قالت "يا رسول الله، إن أفلح أخا أبي القعيس جاءني، يستأذن علي، فكرهت أن آذن له حتى أستأذنك". (فأمرني أن آذن له) أي إذا استأذن مرة أخرى، وفي الرواية الخامسة "ائذني له" أي إذا استأذن، "فإنه عمك" وفي الرواية السادسة "فليلج عليك عمك" أي يحل له أن يدخل عليك "قالت: قلت: إنما أرضعتني المرأة" ولا علاقة له بالمرأة التي أرضعتني "ولم يرضعني الرجل" أخوه حتى يوجد رباط بيني وبينه؟ قال: إنه عمك" لأن أخاه صاحب اللبن أبوك "فليلج عليك" إذا جاء مرة

أخرى دون حرج، "فهلا أذنت له"؟ أي وكان ينبغي أن تأذني له حين استأذن "تربت يداك -أو يمينك" وفي الرواية السابعة "تربت يمينك -أو يدك" شك من الراوي في أي الكلمتين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصل: تربت يمينك التصقت بالتراب، أي افتقرت. لكنها صارت من الكلمات التي أطلقها العرب في مواطن التعجب، دون أن يقصدوا معناها الأصلي، ومثلها "لا أم لك" و"قاتلك الله" و"ثكلتك أمك" وتقال عند إنكار الشيء، أو الزجر عنه: أو الذم عليه، أو استعظامه، أو الحث عليه، أو الإعجاب، والأنسب هنا الإنكار والزجر. (مالك تنوق في قريش وتدعنا؟ ) "تنوق" بتاء مفتوحة، ونون مفتوحة، وواو مشددة مفتوحة، ثم قاف، وأصله تتنوق بتاءين، حذفت إحداهما للتخفيف، يقال: تنوق الرجل في مطعمه وملبسه وأموره وتنبق، وتأنق، أي اختار الأجود، وبالغ في الاختيار، قال القاضي: وضبطه بعضهم هنا بتاءين الأولى مفتوحة والثانية مضمومة بعدها واو، أي تميل. اهـ والمعنى مالك تختار من نساء قريش زوجات لك وتدع نساء أسرتك وعائلتك؟ . (بنت حمزة) في الرواية الحادية عشرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم أريد على ابنة حمزة" "أريد" بضم الهمزة، أي عرض عليه، وطلب منه أن يريدها، وفي الرواية الثانية عشرة "قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أين أنت يا رسول الله عن ابنة حمزة؟ أو قيل: ألا تخطب بنت حمزة بن عبد المطلب"؟ والقائل هو علي بن أبي طالب، كما صرح به في الرواية العاشرة، وعند سعيد بن منصور "ألا تتزوج بنت عمك حمزة؟ فإنها من أحسن فتاة في قريش"؟ . قال الحافظ ابن حجر: وكأن علياً لم يكن يعلم أن حمزة رضيع النبي صلى الله عليه وسلم، أو جوز الخصوصية، أو كان ذلك قبل تقرير الحكم. قال القرطبي: وبعيد أن يقال عن علي: لم يعلم بتحريم ذلك. وقال الحافظ: جملة ما تحصل لنا من الخلاف في اسم ابنة حمزة هذه سبعة أقوال: أمامة وعمارة، وسلمى، وعائشة، وفاطمة، وأمة الله، ويعلى. (إنها ابنة أخي من الرضاعة) كانت ثويبة الآتي ذكرها في الرواية الثالثة عشرة والرابعة عشرة قد أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما أرضعت حمزة، ثم أرضعت أبا سلمة. (هل لك في أختي بنت أبي سفيان؟ فقال: أفعل ماذا؟ قالت: قلت: تنكحها) في الرواية الرابعة عشرة "انكح أختي عزة" قال الحافظ: وعند أبي موسى "درة بنت أبي سفيان" وجزم المنذري بأن اسمها "حمنة" كما في الطبراني، وقال عياض: لا نعلم لعزة ذكراً في بنات أبي سفيان إلا في رواية يزيد بن أبي حبيب، وقال أبو موسى: الأشهر فيها. (أفعل ماذا؟ ) استفهام استيضاح عن مرادها في قولها: هل لك في أختي؟ أجابت عنه بقولها: تنكحها، وفيه معنى التعجب. قال الحافظ ابن حجر: وفيه شاهد على جواز تقديم الفعل على "ما" الاستفهامية، خلافاً لمن أنكره من النحاة.

(أو تحبين ذلك؟ ) استفهام تعجب من كونها تطلب أن يتزوج غيرها، مع ما طبع عليه النساء من الغيرة. (لست لك بمخلية) بضم الميم وسكون الخاء وكسر اللام، اسم فاعل من أخلى يخلى أي لست لك بمنفردة، أي لم أقم بإخلائك من الضرة والزوجة الأخرى، وقال بعضهم: أخلى يستعمل متعدياً، ويستعمل لازماً بمعنى خلا يخلو، وهو المراد هنا، أي لست خالية ولا متفرغة من ضرة. قال الحافظ: وفي بعض الروايات بفتح اللام، بلفظ اسم المفعول، أي لم يقع علي إخلاء منك، ولم تفردني بك. (وأحب من شركني في الخير أختي) "شركني" بفتح الشين وكسر الراء، يقال: شرك فلاناً في ماله يشركه من باب علم، شركا وشركة وشركة، أي أحب من شاركني فيك وفي صحبتك، وفي الانتفاع منك بخيرات الدنيا والآخرة أختي، مما يستر أو يخفف الغيرة التي جرت بها العادة بين الزوجات، وفي رواية البخاري "وأحب من شاركني في خير أختي" وهذا منها محمول على أنها لم تكن تعلم تحريم الجمع بين الأختين. (فإنها لا تحل لي) وبين لها صلى الله عليه وسلم أنه يحرم الجمع بين الأختين فاعترضت بقولها الآتي "فإني أخبرت" إلخ. (فإني أخبرت أنك تخطب درة بنت أبي سلمة) "درة" بضم الدال المهملة وتشديد الراء المفتوحة. قال النووي: وهذا لا خلاف فيه، وأما ما حكاه القاضي عياض عن بعض رواة كتاب مسلم أنه ضبطه بفتح الذال المعجمة فتصحيف لا شك فيه. اهـ وفي الرواية الرابعة عشرة "فإنا نتحدث أنك تريد أن تنكح درة بنت أبي سلمة"؟ وفي رواية البخاري "فإنا نحدث" بضم النون وفتح الحاء، مبني للمجهول، وفي رواية للبخاري أيضاً "قلت: بلغني" وعند أبي داود "فوالله لقد أخبرت" وعن مصدر هذه الإشاعة يقول الحافظ ابن حجر: ولم أقف على اسم من أخبر بذلك، ولعله كان من المنافقين، فقد ظهر أن الخبر لا أصل له، وهذا مما يستدل به على ضعف المراسيل. اهـ وكأن أم حبيبة استدلت على جواز الجمع بين الأختين -كخصوصية له صلى الله عليه وسلم بجواز الجمع بين المرأة وابنتها بطريق الأولى، لأن الربيبة حرمت على التأبيد، والأخت حرمت في حالة الجمع فقط. (بنت أم سلمة؟ ) استفهام استثبات لرفع الإشكال، أو استفهام إنكار، والمعنى إن كانت بنت أبي سلمة من أم سلمة فيكون تحريمها من جهتين، من جهة كونها ابنة أخ من الرضاع، ومن جهة أنها ربيبتي في حجري. وإن كانت بنت أبي سلمة من غير أم سلمة فمن جهة واحدة.

(لو أنها لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي. إنها ابنة أخي من الرضاعة أرضعتني وأباها ثويبة) في الرواية الرابعة عشرة "أرضعتني وأبا سلمة ثويبة" والربيبة بنت الزوجة، مشتقة من الرب، وهو الإصلاح، لأنه يقوم بأمرها، وقيل: من التربية، وهو غلط فاحش من جهة الاشتقاق، فإن من شرط الاشتقاق الاتفاق في الحروف الأصلية، ولام الكلمة -وهو الحرف الأخير- مختلف، فإن آخر "رب" باء، وآخر "ربي" ياء. قاله النووي. و"الحجر" بفتح الحاء وكسرها من الإنسان حضنه، وذكر "الحجر" في الآية وهذا الحديث خرج مخرج الغالب؟ فتحرم الربيبة وإن لم تكن في الحجر؟ أو قيد للاحتراز؟ سيأتي في فقه الحديث. و"ثويبة" مصغر، كانت مولاة لأبي لهب بن عبد المطلب، عم النبي صلى الله عليه وسلم، ذكرها ابن مندة في الصحابة، وقال: اختلف في إسلامها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكرمها، وكانت تدخل عليه بعد ما تزوج خديجة، وكان يرسل إليها الصلة من المدينة، ماتت بعد فتح خيبر، ومات ابنها مسروح. وكانت ثويبة قد بشرت أبا لهب بمولد محمد صلى الله عليه وسلم، فأعتقها، مكافأة لها على البشرى وارتضع منها صلى الله عليه وسلم قبل حليمة السعدية رضي الله عنها. (فلا تعرضن على بناتكن ولا أخواتكن) إشارة إلى أخت أم حبيبة، وبنت أم سلمة و"تعرض" بفتح التاء، وسكون العين وكسر الراء وسكون الضاد، خطاب لجماعة النساء وبكسر الضاد وتشديد النون خطاب لأم حبيبة وحدها، والأول أولى وأبين. -[فقه الحديث]- قال النووي: هذه الأحاديث متفقة على ثبوت حرمة الرضاع، وأجمعت الأمة على ثبوتها بين الرضيع والمرضعة، وأنه يصير ابنها، يحرم عليه نكاحها أبداً، ويحل له النظر إليها والخلوة بها، والمسافرة بها، ولا يترتب عليه -أي على الرضاع- أحكام الأمومة من كل وجه، فلا يتوارثان، ولا يجب على كل منهما نفقة الآخر، ولا يعتق عليه بالملك، ولا ترد شهادته لها، ولا يعقل عنها -أي ولا يدفع عنها دية تجب عليها- ولا يسقط عنها القصاص بقتله، فهما كالأجنبيين في هذه الأحكام. وأجمعوا أيضاً على انتشار الحرمة بين المرضعة وأولاد الرضيع، وبين الرضيع وأولاد المرضعة، وأنه في ذلك كولدها من النسب. لهذه الأحاديث. وأما الرجل المنسوب ذلك اللبن إليه -لكونه زوج المرأة، أو وطئها بملك أو شبهة- فمذهبنا ومذهب العلماء كافة ثبوت حرمة الرضاع بينه وبين الرضيع، ويصير الرضيع ولداً له، وأولاد الرجل الذكور إخوة للرضيع، والإناث أخوات للرضيع، ويصير إخوة الرجل أعماماً للرضيع -كما هو صريح أحاديث عائشة مع أفلح أخي أبي القعيس -ويصير أخوات الرجل عمات للرضيع، وتكون أولاد الرضيع أولاد ابن الرجل. ولم يخالف في هذا إلا أهل الظاهر وابن علية، فقالوا: لا تثبت حرمة الرضاع بين الرجل والرضيع، ونقله المازري عن ابن عمر وعائشة. قال الحافظ ابن حجر: أغرب القاضي

عياض ومن تبعه في تخصيصهم ذلك بداود -أي أهل الظاهر- وإبراهيم بن علية، ففي لبن الفحل خلاف قديم، حكي عن ابن عمر وابن الزبير ورافع بن خديج وزينب بنت أم سلمة وغيرهم، ومن التابعين عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة والقاسم وسالم وسليمان بن يسار وعطاء بن يسار والشعبي وإبراهيم النخعي وأبي قلابة وإياس بن معاوية، وقال به من الفقهاء ربيعة الرأي وإبراهيم ابن علية وابن بنت الشافعي وداود وأتباعه. فلا يخصص الخلاف بأهل الظاهر وابن علية. اهـ وتحرير موطن الخلاف. هل تنتشر الحرمة بين الرضيع وبين صاحب اللبن إلى أبناء الرجل من غير المرضعة وإلى إخوة الرجل وأخواته؟ ويتصور تحديد الخلاف في رجل له امرأتان، ترضع إحداهما صبياً والأخرى صبية، فالجمهور قالوا: يحرم على الصبي تزويج الصبية، وقال من خالفهم: يجوز. واستدل المخالفون. أ- بقوله تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة} [النساء: 23]. ولم يذكر البنت أو العمة، كما ذكرهما في النسب، وأجيب بأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه، وليس في الآية نص بإباحة البنت والعمة ونحوهما، كيف وقد جاءت هذه الأحاديث الصحيحة بصريح التحريم؟ عم حفصة، وعم عائشة، وقوله صلى الله عليه وسلم "إن الرضاعة تحرم ما يحرم الولادة"؟ . ب- وبأن اللبن لا ينفصل من الرجل، وإنما ينفصل من المرأة، فكيف تنتشر الحرمة من الرجل؟ وأجيب بأن سبب اللبن هو ماء الرجل والمرأة معاً، فوجب أن يكون الرضاع منهما كالجد لما كان سبب الولد أوجب تحريم ولد الولد به، لتعلقه بولده. وفي هذه الإجابة نظر، فالفرق بين الجد الذي يدخل منه أجزاء إلى ابنه ثم من ابنه إلى ابن ابنه، وبين الزوج الذي ترضع زوجته وليداً في عدم انفصال شيء من الزوج إلى الوليد واضح، حيث لا تدخل نطفة الرجل في لبن المرأة، فقولهم: إن الوطء يدر اللبن، فللفحل فيه نصيب، بعيد عن القبول، لأن القول بانتشار الحرمة لا يشترط فيه الوطء، والجواب المقبول أن ذلك قياس في مقابلة النص فلا يلتفت إليه. والله أعلم. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - أن تحريم الرضاع لا يتعدى إلى أحد من قرابة الرضيع غير أبنائه، فليست أخته من الرضاعة أختاً لأخيه، ولا بنتاً لأبيه، إذ لا رضاع بينهم، وحكمة التحريم ما ينفصل من أجزاء المرأة وهو اللبن فإذا اغتذى به الرضيع صار جزءا من أجزائهما فانتشر التحريم بين الرضيع وبين المرأة التي صارت أمه، بخلاف قرابات الرضيع إخوته وأخواته وأبوه أو عمه وعماته، لأنهم ليس بينهم وبين المرضعة ولا زوجها نسب ولا سبب. 2 - ومن أحاديث عائشة استدل بعضهم على أن من ادعى الرضاع، وصدقه الرضيع ثبت حكم الرضاع بينهما، ولا يحتاج إلى بينة، لأن "أفلح" ادعى، وصدقته عائشة، وأذن الشارع بمجرد ذلك، وتعقب باحتمال أن يكون الشارع قد اطلع على ذلك من غير دعوى "أفلح" وتسليم عائشة.

3 - واستدل به على أن قليل الرضاع يحرم، كما يحرم كثيره، لعدم الاستفصال فيه ولا حجة فيه، لأن عدم الذكر لا يدل على العدم المحض. 4 - وفيه أن من شك في حكم يتوقف عن العمل حتى يسأل العلماء عنه. 5 - وأن من اشتبه عليه الشيء طالب المدعي ببيانه ليرجع إليه أحدهما. 6 - وأن العالم إذا سئل يصدق من قال الصواب قبله. 7 - وفيه وجوب احتجاب المرأة من الرجال الأجانب. 8 - ومشروعية استئذان المحرم على محرمه. 9 - وأن المرأة لا تأذن في بيت الرجل إلا بإذنه. 10 - قال القرطبي عن قوله في الرواية الثالثة عشرة والرابعة عشرة "لو أنها لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي" قال: فيه تعليل الحكم بعلتين، فإنه علل تحريمها بكونها ربيبة وبكونها بنت أخ من الرضاعة، قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر أنه نبه على أنها لو كان بها مانع واحد لكفي في التحريم، فكيف وبها مانعان؟ فليس من التعليل بعلتين في شيء لأن كل وصفين يجوز أن يضاف الحكم إلى كل واحد منهما لو انفرد، فإما أن يتعاقبا فيضاف الحكم إلى الأول منهما، كالسببين إذا اجتمعا ومثاله: إذا أحدث ثم أحدث بغير تخلل طهارة فالحدث الثاني لم يعمل شيئاً، أو يضاف الحكم إلى الثاني، كما في اجتماع السبب والمباشرة وقد يضاف إلى أشبههما وأنسبهما، سواء كان الأول أو الثاني، فعلى كل تقدير لا يضاف إليهما جميعاً، وإن قدر أنه يوجد فالإضافة إلى المجموع، ويكون كل منهما جزء علة، لا علة مستقلة، فلا تجتمع علتان على معلول واحد. هذا الذي يظهر. والمسألة مشهورة في الأصول، وفيها خلاف. قال القرطبي: والصحيح جوازه، لهذا الحديث وغيره. 11 - وفي الحديث إشارة إلى أن التحريم بالربيبة أشد من التحريم بالرضاعة. 12 - قال النووي: قوله "ربيبتي في حجري" فيه حجة لداود الظاهري أن الربيبة لا تحرم إلا إذا كانت في حجر زوج أمها، فإن لم تكن في حجره فهي حلال له، وهو موافق لظاهر قوله تعالى: {وربائبكم اللاتي في حجوركم} [النساء: 23]. ومذهب العلماء كافة سوى داود: أنها حرام، سواء كانت في حجره أم لا، قالوا: والتقييد إذا خرج على سبب لكونه الغالب لم يكن له مفهوم يعمل به، فلا يقتصر الحكم عليه، ونظيره قوله تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق} [الأنعام: 151]. ومعلوم أنه يحرم قتلهم بغير ذلك أيضاً، لكن خرج التقييد بالإملاق لأنه الغالب وقوله تعالى: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً} [النور: 33]. ونظائره في القرآن كثيرة. والله أعلم

(386) باب قدر الرضاع المحرم وسنه

(386) باب قدر الرضاع المحرم وسنه 3176 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (وقال سويد وزهير إن النبي صلى الله عليه وسلم قال) "لا تحرم المصة والمصتان". 3177 - عن أم الفضل رضي الله عنها قالت: دخل أعرابي على نبي الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيتي. فقال: يا نبي الله إني كانت لي امرأة فتزوجت عليها أخرى. فزعمت امرأتي الأولى أنها أرضعت امرأتي الحدثى رضعة أو رضعتين. فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم "لا تحرم الإملاجة والإملاجتان". 3178 - عن أم الفضل رضي الله عنها: أن رجلاً من بني عامر بن صعصعة قال: يا نبي الله هل تحرم الرضعة الواحدة؟ قال: "لا". 3179 - عن أم الفضل رضي الله عنها: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحرم الرضعة أو الرضعتان، أو المصة أو المصتان". 3180 - أما إسحق فقال كرواية ابن بشر "أو الرضعتان أو المصتان" وأما ابن أبي شيبة فقال "والرضعتان والمصتان". 3181 - عن أم الفضل رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا تحرم الإملاجة والإملاجتان".

3182 - عن أم الفضل رضي الله عنها: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم أتحرم المصة؟ فقال "لا". 3183 - عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان فيما أنزل من القرآن: عشر رضعات معلومات يحرمن. ثم نسخن: بخمس معلومات. فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن. 3184 - عن عمرة أنها سمعت عائشة تقول (وهي تذكر الذي يحرم من الرضاعة) قالت عمرة: فقالت عائشة: نزل في القرآن: عشر رضعات معلومات. ثم نزل أيضاً: خمس معلومات. 3185 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم (وهو حليفة). فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أرضعيه" قالت: وكيف أرضعه؟ وهو رجل كبير. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال "قد علمت أنه رجل كبير". زاد عمرو في حديثه وكان قد شهد بدراً وفي رواية ابن أبي عمر فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم. 3186 - عن عائشة رضي الله عنها: أن سالماً مولى أبي حذيفة كان مع أبي حذيفة وأهله في بيتهم. فأتت (تعني ابنة سهيل) النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن سالماً قد بلغ ما يبلغ الرجال. وعقل ما عقلوا وإنه يدخل علينا. وإني أظن أن في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئاً. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم "أرضعيه تحرمي عليه، ويذهب الذي في نفس أبي حذيفة" فرجعت فقالت: إني قد أرضعته، فذهب الذي في نفس أبي حذيفة.

3187 - عن عائشة رضي الله عنها: أن سهلة بنت سهيل بن عمرو جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن سالماً (لسالم مولى أبي حذيفة) معنا في بيتنا. وقد بلغ ما يبلغ الرجال وعلم ما يعلم الرجال. قال "أرضعيه تحرمي عليه" قال: فمكثت سنة أو قريباً منها لا أحدث به وهبته. ثم لقيت القاسم فقلت له: لقد حدثتني حديثاً ما حدثته بعد. قال: فما هو؟ فأخبرته. قال: فحدثه عني؛ أن عائشة أخبرتنيه. 3188 - عن زينب بنت أم سلمة قالت: قالت أم سلمة لعائشة إنه يدخل عليك الغلام الأيفع الذي ما أحب أن يدخل علي قال فقالت عائشة أما لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة قالت إن امرأة أبي حذيفة قالت يا رسول الله إن سالما يدخل علي وهو رجل وفي نفس أبي حذيفة منه شيء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أرضعيه حتى يدخل عليك". 3189 - عن زينب بنت أبي سلمة رضي الله عنهما قالت: سمعت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول لعائشة: والله ما تطيب نفسي أن يراني الغلام قد استغنى عن الرضاعة. فقالت: لم؟ قد جاءت سهلة بنت سهيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني لأرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم. قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أرضعيه" فقالت: إنه ذو لحية. فقال "أرضعيه يذهب ما في وجه أبي حذيفة" فقالت: والله ما عرفته في وجه أبي حذيفة. 3190 - عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها أنها كانت تقول: أبى سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخلن عليهن أحداً بتلك الرضاعة. وقلن لعائشة: والله ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم خاصة. فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة. ولا رائينا.

3191 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي رجل قاعد. فاشتد ذلك عليه. ورأيت الغضب في وجهه. قالت: فقلت: يا رسول الله إنه أخي من الرضاعة. قالت: فقال "انظرن إخوتكن من الرضاعة. فإنما الرضاعة من المجاعة". -[المعنى العام]- جعل الله الرضاعة من محرمات النكاح، بقوله: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة} [النساء: 23]. وأطلق القرآن الكريم، فلم يحدد عدد الرضعات المحرمة، ولا الزمن الذي يرضع فيه الرضيع رضاعاً محرماً، وجاءت السنة لتبين للناس ما نزل إليهم، نعم تروي عائشة -رضي الله عنها- أن عدد الرضعات كان قد حدد في القرآن الكريم بعشر رضعات كاملات معلومات، ثم نسخن بخمس رضعات معلومات كانت تقرأ في القرآن إلى قرب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم نسخت قراءة الخمس أيضاً، وبقي حكمهن، كما روت هي وأم الفضل -زوجة عم الرسول صلى الله عليه وسلم، العباس بن عبد المطلب- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تحرم الرضعة والرضعتان. وقد اختلف العلماء في مقدار اللبن المحرم، وعدد الرضعات المعتبرة للتحريم بين من يقول: يحرم قليل الرضاع وكثيره، ومن يقول: تحرم ثلاث رضعات، ومن يقول: أربع رضعات، ومن يقول خمس رضعات، ومن يقول: سبع رضعات، ومن يقول: عشر رضعات. ولكل قول وجهة نظر ودليل، وأوسط الأقوال: خمس رضعات معلومات. أما سن الرضيع الذي يحرم الرضاع فيه فعائشة رضي الله عنها قد انفردت مع قلة من الفقهاء بأن رضاع الكبير يحرم كرضاع الصغير، معتمدين الأحاديث الخاصة بسالم مولى أبي حذيفة، واعتبارها عامة لكل كبير يرضع، وعامة العلماء على أن الرضاع المحرم ما كان في الصغر، وإن اختلفوا قليلاً في تحديد أشهر الصغر، فمنهم من اعتبر دون الحولين، تفسيراً لقوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} [البقرة: 233]. وتفسيراً لقوله تعالى: {وحمله وفصاله ثلاثون شهراً} [الأحقاف: 15]. إذ أقل مدة الحمل ستة أشهر وأقصى مدة الرضاع أربعة وعشرون شهراً، ومنهم من اغتفر أياماً بعد السنتين، ومنهم من اغتفر شهراً. ومنهم من أوصل مدة الرضاع القصوى ثلاثين شهراً.

أما قصة سالم مولى أبي حذيفة الواردة في الأحاديث فهي خاصة به لا تتعداه إلى غيره وواقعة عين لا تصلح للاحتجاج بها. وقد أكد صلى الله عليه وسلم أن ليس كل رضاع محرماً، بل له كمية وزمن، فقال: انظرن وتأملن وافحصن معشر النساء الرضاعة المحرمة من غيرها، فإنما الرضاعة المعتبرة ما كانت في زمن الاعتماد على اللبن غذاء، وما كانت بمقدار يؤثر في بدن الطفل نمواً ووجوداً وكياناً. -[المباحث العربية]- (أم الفضل) زوجة العباس بن عبد المطلب، أخت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. (دخل أعرابي على نبي الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيتي) في الرواية الثالثة "أن رجلاً من بني عامر بن صعصعة" وفي الرواية الخامسة "سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم". (فزعمت امرأتي الأولى) عبر بالزعم للإشارة بأنه يشك في خبرها، والزعم مطية الكذب كما يقولون. (أنها أرضعت امرأتي الحدثى) بضم الحاء وسكون الدال، أي الجديدة. (لا تحرم الإملاجة والإملاجتان) بكسر الهمزة، وتخفيف الجيم المفتوحة، وهي المصة يقال: ملج الصبي أمه، وأملجته، وليس المقصود بالمصة الجرعة الواحدة الخفيفة، بل المقصود الرضعة الكاملة التي ينصرف الطفل بها عن الثدي والرضاع، يقال: مص القصب ونحوه مصاً شربه شرباً رفيقاً. وفي الرابعة "لا تحرم الرضعة أو الرضعتان أو المصة أو المصتان" فالمراد منهما واحد، وفي ملحق الرواية الرابعة "الرضعة والرضعتان" بالواو بدل "أو" وليس المراد جمع الرضعتين للرضعة حتى تصبح ثلاثاً، فالواو هنا بمعنى "أو" وهل المقصود الوقوف عند الرضعتين، فتحرم الثلاث؟ أو ذكرهما على سبيل التمثيل حتى تصل الرضعات خمساً، كما نص عليها في حديث عائشة؟ خلاف يأتي في فقه الحديث. (فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن) "يقرأ" بضم الياء، مبني للمجهول. قال النووي: معناه أن النسخ بخمس رضعات تأخر إنزاله جداً، حتى إنه صلى الله عليه وسلم توفي وبعض الناس يقرأ خمس رضعات، ويجعلها قرآناً متلواً، لكونه لم يبلغه النسخ، لقرب عهده، فلما بلغهم النسخ بعد ذلك رجعوا عن ذلك، وأجمعوا على أن هذا لا يتلى. (إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم) مفعول "أرى" محذوف، تقديره: تغيراً، والرؤية بصرية، وصرح به في الرواية التاسعة ولفظها "إني أظن أن في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئاً" ولما عبرت عن تغير الوجه قالت: "أرى" ولما عبرت عما في النفس قالت: "أظن".

و"سالم" بن معقل، مولى أبي حذيفة، كان من أهل فارس، أعتقته مولاته زوج أبي حذيفة، واسمها بثينة، أعتقته سائبة دون ولاء لها، فتولى أبا حذيفة، وتبناه أبو حذيفة، فكان ينسب إليه، فيقال: سالم بن أبي حذيفة، حتى نزلت {ادعوهم لآبائهم} [الأحزاب: 5]. وعد في المهاجرين وروي أنه هاجر مع عمر، وكان يؤم المهاجرين بقباء وفيهم عمر قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان إذا سافر مع أصحابه يؤمهم، لأنه كان أكثرهم قرآناً، وكان قد جاوز البلوغ في بدر، فشهدها، والظاهر أن ملابسات حديثنا كانت في هذه السن، واستشهد يوم اليمامة هو ومولاه أبو حذيفة فوجد رأس أحدهما عند رجلي الآخر، وذلك سنة اثنتي عشرة من الهجرة، وكان عمر يحبه ويقدره، حتى قال رضي الله عنه بعد أن طعن: لو كان سالماً حياً ما جعلتها شورى. وهو من القراء الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم: "خذو القرآن من أربعة. من أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة، وابن مسعود رضي الله عنه، وعن الصحابة أجمعين، وإنما أطلنا في ترجمته ليتضح لنا القول بأن إرضاعه كان رخصة خاصة به. وفي الرواية التاسعة "إن سالماً مولى أبي حذيفة كان مع أبي حذيفة وأهله في بيتهم" وقد علمنا أنه كان في بيت أبي حذيفة عبداً، ثم مولى، ثم ابنا، ثم مولى وحليفاً. "فأتت ابنة سهل" في الرواية العاشرة "أن سهلة بنت سهل بن عمرو جاءت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت .... " وهذه زوجة أخرى لأبي حذيفة، غير التي أعتقت سالماً، وفي رواية أبي داود تقول: "فكان يأوي معي ومع أبي حذيفة في بيت واحد، فيراني فضلاً" أي متبذلة في ثياب المهنة. (أرضعيه. قالت: وكيف أرضعه وهو رجل كبير؟ ) الظاهر أن استفهامها عن كيفية إرضاعه، أتحلب له من لبنها؟ أم تعطيه ثديها؟ ويحتمل أن الاستفهام تعجبي من إرضاع الكبير، وتأثير رضاعه حرمة. (قال: فمكثت سنة أو قريباً منها لا أحدث به وهبته) قائل ذلك ابن أبي مليكة، يتحرج من التحديث بهذا الحديث هيبة من مضمونة، قال النووي: هكذا هو في بعض النسخ "وهبته" من الهيبة وهي الإجلال، والواو حرف عطف، وفي بعضها "رهبته" بالراء من الرهبة، وهي الخوف، وهي بكسر الهاء، وإسكان الباء، وضم التاء، وضبطه القاضي عن بعضهم "رهبته" بإسكان الهاء وفتح الباء، ونصب التاء. قال القاضي: وهو منصوب بإسقاط حرف الجر، والضبط الأول أحسن، وهو الموافق للنسخ الأخر. (إنه يدخل عليك الغلام الأيفع) هو بالياء، وبالفاء، وهو الذي قارب البلوغ ولم يبلغ، وجمعه أيفاع، وقد أيفع ويفع، وهو يافع. وكانت عائشة -رضي الله عنها- ترى أن إرضاع الكبير يحرمه، وأرضعت غلاماً فعلاً، وكان يدخل عليها، وأنكر بقية أمهات المؤمنين ذلك، كما يظهر من الرواية الثانية عشرة والثالثة عشرة. (والله ما تطيب نفسي أن يراني الغلام قد استغنى عن الرضاعة) أي جاوز الحولين ورضع بعد مجاوزتهما، أي لا تطيب نفسي أن أرضع غلاماً استغنى عن الرضاع لتناوله الطعام، ولا

تطيب نفسي أن يراني معتمدة على هذا الإرضاع لو حصل فرضاً، كما قالت في الرواية الثالثة عشرة "فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة" أي لو فرض حصولها، ولن تحصل "ولا رائينا" أي ولا نمكنه من أن يرانا. (وعندي رجل قاعد) قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمه، وأظنه ابناً لأبي القعيس. اهـ أقول: ولا أظنه ابناً لأبي القعيس، إذ لو كان كذلك لكان محرماً لها دون إنكار من النبي صلى الله عليه وسلم فقد أقر صلى الله عليه وسلم في الباب قبله أبوة أبي القعيس من الرضاع لعائشة، فابنه أخوها من الرضاع دون نقاش. (فاشتد ذلك عليه، ورأيت الغضب في وجهه) في رواية البخاري "فكأنه تغير وجهه، كأنه كره ذلك" وفي رواية أبي داود "فشق ذلك عليه، وتغير وجهه" وفي رواية "فقال: يا عائشة. من هذا"؟ . (انظرن إخوتكن من الرضاعة) في رواية البخاري "انظرن من إخوانكن"؟ والمراد من النظر التفكر والتأمل، والمعنى تأملن ما وقع من ذلك، هل هو رضاع صحيح بشرطه؟ من وقوع ذلك في زمن الرضاع؟ ومقدار الارتضاع؟ أو لا؟ فإن الحكم الذي ينشأ من الرضاع إنما يتبع شروطاً. قال المهلب: معناه انظرن ما سبب هذه الأخوة. (فإنما الرضاعة من المجاعة) أي الرضاعة التي تثبت بها الحرمة، وتحل بها الخلوة هي حيث يكون الرضيع طفلاً، يسد اللبن جوعته، لأن معدته ضعيفة، يكفيها اللبن، وينبت بذلك لحمه، فيصير كجزء من المرضعة، فيشترك في الحرمة مع أولادها، فكأنه قال: لا رضاعة معتبرة إلا المغنية عن المجاعة، أو المطعمة من المجاعة، وقال أبو عبيد: معناه أن الذي جاع كان طعامه الذي يشبعه اللبن من الرضاع، لا حيث يكون الغذاء بغير الرضاع. -[فقه الحديث]- تتعرض أحاديث الباب إلى نقطتين أساسيتين: الأولى: مقدار الرضاعة المحرم، الثانية: زمن الرضاعة المحرم. ثم ما يؤخذ من الأحاديث بعد ذلك. أما عن النقطة الأولى فالخلاف فيها متشعب، والأدلة فيها متعارضة. 1 - المذهب الأول: يحرم قليل الرضاع وكثيره، وهو قول الجمهور، حكاه ابن المنذر عن علي وابن مسعود وابن عمر، وابن عباس وعطاء وطاوس وابن المسيب والحسن ومكحول والزهري وقتادة والحكم وحماد، وهو قول مالك وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي والليث، وهو المشهور عند أحمد. واستدلوا (أ) بعموم قوله تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة} [النساء: 23]. ولم يذكر فيه عدد للرضعات.

(ب) عموم بعض الأحاديث الصحيحة الواردة في الباب السابق، كقوله صلى الله عليه وسلم "إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة". (جـ) أن الأخبار اختلفت في العدد، وعائشة التي روت ذلك قد اختلف عليها في العدد الذي يعتبر -كما سيأتي- فوجب الرجوع إلى أقل ما يطلق عليه الاسم. (د) أن تحريم الرضاع أمر طارئ، فلا يشترط فيه العدد، كالمصاهرة. (هـ) أن الرضاع حاصله مائع يدخل البطن فيحرم، فلا يشترط فيه العدد كالمني. وأجابوا عن حديث "لا تحرم المصة والمصتان" و"الإملاجة والإملاجتان" و"الرضعة والرضعتان" رواياتنا الأولى والثانية والرابعة -بأنه مضطرب، لأنه اختلف فيه، هل هو عن عائشة، كروايتنا الأولى، أو عن الزبير، أو عن ابن الزبير -كما جاء في بعض الروايات- أو عن أم الفضل -كروايتنا الثانية والرابعة- قال النووي: وهذا غلط وجسارة على السنة وردها بمجرد الهوى، وتوهين صحيحها لنصرة المذاهب، وقد جاء اشتراط العدد في أحاديث كثيرة مشهورة، والصواب اشتراطه. وادعى بعضهم بأنه منسوخ. قال النووي: وهذا باطل، فلا يثبت النسخ بمجرد الدعوى. وزعم بعضهم أنه موقوف على عائشة. قال النووي: وهذا خطأ فاحش، حيث ذكره مسلم وغيره من طرق صحاح مرفوعاً من رواية عائشة ومن رواية أم الفضل. وزعم بعضهم أنه يمكن حمله على ما إذا لم يتحقق وصول لبن الرضعة إلى جوف الرضيع، كأنه قال: الرضاع المحقق وصوله إلى الجوف هو المحرم، فإن لم يتحقق فلا تحرم المصة والمصتان. قاله القرطبي، وهو احتمال ضعيف. 2 - المذهب الثاني: لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان، وتحرم الثلاث فما فوقها، وهو رواية عن أحمد، وهو قول إسحق وأبي عبيد وأبي ثور وابن المنذر وداود وأتباعه عدا ابن حزم. واستدلوا بمفهوم حديث "لا تحرم المصة والمصتان" [روايتنا الأولى والثانية والرابعة]، وقالوا: إن مفهوم "لا تحرم المصة والمصتان" أن الثلاث تحرم، وهذا الحديث في ذكر العدد مبين للعموم في الآية القرآنية. 3 - المذهب الثالث: لا تحرم الرضعة والرضعتان والثلاث، وتحرم الأربع، وقد أخرج البيهقي عن زيد بن ثابت بإسناد صحيح أنه يقول ذلك. 4 - المذهب الرابع: لا يحرم دون الخمس، خمس رضعات معلومات، وهو مذهب الشافعي ورواية عن أحمد، وبه قال ابن حزم، وقد صح عن عائشة عند عبد الرزاق "لا يحرم دون خمس رضعات معلومات". واستدلوا بأحاديث عائشة [روايتنا السادسة والسابعة]. وقالوا: إن التحريم بالثلاث فما فوقها إنما يؤخذ من حديث المصة والمصتين بطريق المفهوم، وقد عارض هذا المفهوم مفهوم حديث "خمس رضعات" فمفهوم الأول أن الثلاث تحرم، ومفهوم

الثاني أن ما دون الخمس لا يحرم، فتعارض المفهومان، وحديث الخمس جاء من طرق صحيحة، وحديث المصة والمصتين جاء من طرق صحيحة أيضاً. لكن حديث عائشة عند عبد الرزاق "أن ما دون الخمس لا يحرم" منطوق يرجح المفهوم. ويعترض الجمهور على الشافعية بأن حديث عائشة "خمس رضعات" روايتنا السادسة والسابعة لا يحتج به عند الشافعية أنفسهم، بناء على قواعدهم، لأن القرآن لا يثبت بخبر الواحد، وإذا لم يثبت قرآناً لم يثبت الحكم عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأن خبر الواحد إذا توجه إليه قادح يوقف عن العمل به. 5 - وجاء عن عائشة أيضاً: سبع رضعات، أخرجه ابن أبي خيثمة بإسناد صحيح عن عبد الله بن الزبير عنها. 6 - وجاء عنها أيضاً: عشر رضعات، أخرجه مالك في الموطأ، قال الحافظ ابن حجر: وعن حفصة كذلك. والذي تستريح إليه النفس مذهب الشافعية، فهو وسط بين هذه المذاهب، وتؤيده الأحاديث الكثيرة المشهورة. والله أعلم. النقطة الثانية زمن الرضاعة المحرم. قال النووي: واختلف العلماء في هذه المسألة، فقالت عائشة وداود: تثبت حرمة الرضاع برضاع البالغ، كما تثبت برضاع الطفل. قال الحافظ ابن حجر: وكذا نقل القرطبي عن داود أن رضاع الكبير يفيد رفع الاحتجاب منه. وحكاية هذا القول عن داود فيها نظر، فإن ابن حزم ذكر عن داود أنه مع الجمهور، وكذا نقل غيره من أهل الظاهر، وهم أخبر بمذهب صاحبهم، وإنما الذي نصر مذهب عائشة هذا، وبالغ في ذلك هو ابن حزم، ونقله عن علي، وهو من رواية الحارث الأعور عنه، ولذلك ضعفه ابن عبد البر، وقال عبد الرزاق عن ابن جريج: قال رجل لعطاء: إن امرأتي سقتني من لبنها بعد ما كبرت. أفأنكحها؟ قال: لا. قال ابن جريج: فقلت له: هذا رأيك؟ قال: نعم. كانت عائشة تأمر بذلك بنات أختها. اهـ وهو يشير بذلك إلى ما أخرجه أبو داود، ولفظه "فكانت عائشة تأمر بنات إخوتها وبنات أخواتها أن يرضعن من أحبت أن يدخل عليها ويراها، وإن كان كبيراً خمس رضعات، ثم يدخل عليها" قال الحافظ ابن حجر: وإسناده صحيح وهو قول الليث بن سعد. قال ابن عبد البر: لم يختلف عنه في ذلك. وذكر الطبري في تهذيب الآثار، في مسند علي هذه المسألة، وساق بإسناده الصحيح عن حفصة مثل قول عائشة قال الحافظ: وهذا مما يخص به عموم قول أم سلمة "أبي سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخلن عليهن أحداً بتلك الرضاعة" روايتنا الثالثة عشرة. فالقول بالجواز ليس خاصاً بعائشة ثم داود. وذهب الجمهور على اعتبار الصغر في الرضاع المحرم، لقوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} [البقرة: 233]. ولحديث ابن عباس رفعه "لا رضاع إلا ما كان في الحولين" أخرجه الدارقطني، ولحديث ابن مسعود "لا رضاع إلا ما شد العظم، وأنبت اللحم" أخرجه أبو داود، ولروايتنا الرابعة عشرة "فإنما الرضاعة من المجاعة" أي لا رضاعة معتبرة إلا

المغنية عن المجاعة "، وهي ليست كذلك إلا في الصغر (راجع المباحث العربية في ذلك)، ولحديث أم سلمة "لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء" والكبير مفتق الأمعاء أخرجه الترمذي وصححه، ويمكن الاستدلال بهذا أيضاً على أن الرضعة الواحدة لا تحرم. ويؤكد هذا أن الصحابة كان عندهم علم وتسليم بأن الصغر معتبر في الرضاعة، يدل على ذلك قول امرأة أبي حذيفة: "كيف أرضعه وهو رجل كبير"؟ "إنه ذو لحية"؟ روايتنا الثامنة، والثانية عشرة. وقد اختلف الجمهور في نهاية سن الصغر الذي تحرم فيه الرضاعة، فذهب أبو حنيفة إلى أن أقصى مدة الرضاع ثلاثون شهراً، لقوله تعالى: {وحمله وفصاله ثلاثون شهراً} [الأحقاف: 15]. فجعل المدة المذكورة لكل من الحمل والفصال، فكأنه قال: وحمله ثلاثون شهراً، وفصاله ثلاثون شهراً، قال الحافظ ابن حجر: وهو تأويل غريب، فإن أبا حنيفة لا يقول: إن أقصى الحمل ثلاثون شهراً. وعند المالكية رواية توافق قول الحنفية، إن أقصى مدة الرضاع ثلاثون شهراً، لكنهم لم يستدلوا بما استدل به الحنفية، بل قالوا: إنه يغتفر بعد الحولين مدة، يدمن الطفل فيها على الفطام، لأن العادة أن الصبي لا يفطم دفعة واحدة، بل على التدريج، فللأيام التي يحاول فيها فطامه حكم الحولين، ثم اختلفوا في تقدير تلك المدة، قيل: يفتقر بعد الحولين ستة أشهر وقيل: شهران، وقيل: شهر، وقيل: أيام يسيرة. وعند الشافعية: يغتفر كسر الشهر، فلو ابتدأ الرضاع في أثناء الشهر جبر المنكسر من الشهر المكمل للحولين ثلاثين يوماً. وعند مالك في رواية ابن وهب عنه: لا يحرم الرضاع متى وقع بعد الحولين، ولو بلحظة، وبه قال كثير من العلماء، ومن حجتهم حديث ابن عباس "لا رضاع إلا ما كان في الحولين". وعند زفر -صاحب أبي حنيفة- يستمر إلى ثلاث سنين، إذا كان يجتزئ باللبن، ولا يجتزئ بالطعام. وحكى عن الأوزاعي مثله، لكن قال: بشرط أن لا يفطم ولو قبل الحولين فما رضع بعده لا يكون رضاعاً. والجمهور -فيما عدا أبي حنيفة- على أن الآية {وحمله وفصاله ثلاثون شهراً} تقديره لمدة أقل الحمل، وأكثر مدة الرضاع. والله أعلم. ويتعين على الجمهور أن يجيب عن قصة سالم. قال الحافظ ابن حجر: وأجابوا بأجوبة منها: أنه حكم منسوخ، وبه جزم المحب الطبري في أحكامه، وقرره بعضهم بأن قصة سالم كانت في أول الهجرة، والأحاديث الدالة على اعتبار الحولين من رواية أحداث الصحابة فدل على تأخرها. قال الحافظ: وهو مستند ضعيف، إذ لا يلزم من تأخر إسلام الراوي ولا صغره أن لا يكون ما رواه متقدماً، وأيضاً ففي سياق قصة سالم ما يشعر بسبق الحكم باعتبار الحولين، لقول امرأة أبي حذيفة في بعض طرقه: "وكيف أرضعه وهو رجل كبير"؟ فهذا يشعر بأنها كانت تعرف أن الصغر معتبر في الرضاع المحرم. اهـ

وفي تعقيب الحافظ ابن حجر نظر، لأن قصة سالم كانت في أول الهجرة بلا نقاش، كما هو واضح من ترجمته في المباحث العربية، ورواية اعتبار الحولين تؤكد تأخر الحكم عن قصة سالم، وقول امرأة أبي حذيفة، وإن أشعر بتقدم الحكم على سبيل الاحتمال، لكنه لا يفيد تقدم الحكم، فقد يكون سؤالها عن الطريقة التي ترضعه بها، أتحلب اللبن؟ أم تلقمه ثديها؟ وقد يكون سؤالها تعجباً من الأمر بإرضاعه المنافي لما جبلت عليه البشرية من إرضاع الصغير دون الكبير فالقول بالنسخ ظاهر ومقبول، لا يعارضه سوى موقف عائشة رضي الله عنها. ومن أجوبة الجمهور عن قصة سالم دعوى الخصوصية بسالم وامرأة أبي حذيفة، وقول أم سلمة في روايتنا الثالثة عشرة "والله ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم خاصة" صريح في ذلك، وقرره ابن الصباغ وغيره بأن أصل قصة سالم ما وقع له من التبني الذي أدى إلى اختلاطه بسهلة فلما نزل الاحتجاب، ومنعوا من التبني شق ذلك على سهلة فوقع الترخيص لها في ذلك، لرفع ما حصل لها من المشقة، وقرره آخرون بأن قصة سالم واقعة عين، يتطرقها احتمال الخصوصية، فيجب الوقوف عن الاحتجاج بها. اهـ ومما يؤكد الخصوصية ذهاب ما في نفس أبي حذيفة نتيجة لهذا الرضاع، ولا أظنه يذهب ما في نفس غير أبي حذيفة مع غير سالم. والله أعلم. واستشكل عدم تفريق عائشة بين رضاع الصغير والكبير مع روايتها لحديث "فإنما الرضاعة من المجاعة" مما يفيد أن رضاعة الكبير لا تحرم، وقد أجاب الحافظ ابن حجر على هذا الإشكال بقوله: لعلها فهمت من قوله "إنما الرضاعة من المجاعة" أنه يخص مقدار ما يسد الجوعة من اللبن، فهو في عدد الرضعات، أعم من أن يكون المرتضع صغيراً أو كبيراً، فلا يكون الحديث نصاً في منع اعتبار رضاع الكبير، وحديث ابن عباس - مع تقدير ثبوته- ليس نصاً في ذلك أيضاً، وحديث أم سلمة يجوز أن يكون المراد منه أن لا رضاع بعد الفطام ممنوع، ثم لو وقع رتب عليه حكم التحريم، فما في الأحاديث المذكورة ما يدفع هذا الاحتمال، فلهذا عملت عائشة بذلك. اهـ -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - من الرواية السادسة وقوع النسخ في القرآن. قال النووي: والنسخ ثلاثة أنواع: أحدها ما نسخ حكمه وتلاوته، كعشر رضعات، والثاني ما نسخت تلاوته دون حكمه، كخمس رضعات، وكالشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما، والثالث ما نسخ حكمه، وبقيت تلاوته، وهذا هو الأكثر، ومنه قوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج} [البقرة: 240]. 2 - قال الحافظ ابن حجر: وفي قصة سالم جواز الإرشاد إلى الحيل. 3 - وقال ابن الرفعة: يؤخذ منه جواز تعاطي ما يحصل الحل في المستقبل، وإن كان ليس حلالاً في الحال. 4 - استدل ابن حزم بقصة سالم على جواز مس الأجنبي ثدي الأجنبية، والتقام ثديها إذا أراد أن

يرتضع منها مطلقاً، وهو استدلال خطأ، دعاه إليه أن الرضاعة المحرمة عنده إنما تكون بالتقام الثدي، ومص اللبن منه. 5 - ومن الرواية الرابعة عشرة أن الزوج يسأل زوجته عن سبب إدخال الرجال بيته والاحتياط في ذلك، والنظر فيه. 6 - قال الحافظ ابن حجر: وفي الحديث جواز دخول من اعترفت المرأة بالرضاعة معه عليها، وأنه يصير أخاً لها، ويراها، وقبول قولها فيمن اعترفت به. اهـ وهذا المأخذ غير ظاهر من الحديث، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقرها على قولها واعترافها. 7 - استدل بقوله "فإنما الرضاعة من المجاعة" على أن التغذية بلبن المرضعة يحرم، سواء كان بشرب أم أكل بأي صفة كان، حتى الحقنة والسعوط والثرد والطبخ وغير ذلك، إذا وقع ذلك بالشروط المطلوبة، فإن طرد الجوع موجود في كل ذلك، فيوافق الخبر والمعنى وبهذا قال الجمهور، لكن استثنى الحنفية الحقنة، واشترط الليث وأهل الظاهر في الرضاعة المحرمة التقام الثدي ومص اللبن منه. والله أعلم

(387) باب وطء المسبية

(387) باب وطء المسبية 3192 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم حنين بعث جيشاً إلى أوطاس. فلقوا عدواً. فقاتلوهم. فظهروا عليهم. وأصابوا لهم سبايا. فكأن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين. فأنزل الله عز وجل في ذلك: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} أي فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن. 3193 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم بعث يوم حنين سرية. بمعنى حديث يزيد بن زريع. غير أنه قال: إلا ما ملكت أيمانكم منهن فحلال لكم. ولم يذكر: إذا انقضت عدتهن. 3194 - عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: أصابوا سبياً يوم أوطاس لهن أزواج، فتخوفوا، فأنزلت هذه الآية {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} -[المعنى العام]- كان سبي النساء في الحرب بين المسلمين والكافرين شريعة، وكان النساء يقسمن بين المنتصرين كغنيمة، وكانت المسبية حين تقع في سهم أحد المجاهدين يتملكها، فإن شاء باعها وإن شاء أبقاها جارية، وإن شاء واقعها بملك اليمين، فإن ولدت أصبحت أم ولد. كان هذا حكماً ظاهراً في امرأة ليست زوجة قبل السبي، ولكن في غزوة أوطاس سنة ثمان من الهجرة سبي المسلمون زوجات المشركين، وتملكوهن، وأراد بعضهم مواقعة مسبيته لكنه خاف الوقوع في الحرج والإثم، لما أنها كانت زوجة لرجل لم يطلقها، ولم يمت عنها، نعم المسلمون يعلمون أنه لا بد من استبراء رحمها بحيضة لغير الحامل، وبوضع الحمل للحامل، لكن المشكلة الزوجية التي

كانت قبل السبي، فأنزل الله تعالى ما يفيد أن الزواج قبل السبي يفسخ بالسبي، وتصبح المسبية خالية من الزواج بمجرد سبيها، وأنها حلال لسيدها إذا انقضت عدتها، واستبرئ رحمها، فقال: {والمحصنات من النساء} أي وحرم عليكم نكاح المتزوجات من النساء {إلا ما ملكت أيمانكم} أي إلا المسبيات اللاتي ملكتموهن بالأسر فإنهن حلال لكم، دون حرج من زواجهن قبل السبي، وهكذا رفع الحرج عن المسلمين. -[المباحث العربية]- (يوم حنين بعث جيشاً إلى أوطاس) بفتح الهمزة، وسكون الواو، يمنع من الصرف ويصرف، فمن صرفه أراد الوادي والمكان، ومن منعه أراد البقعة، قيل واد في ديار هوازن، وهو موضع حرب حنين، والراجح أنه واد غير وادي حنين، قريب منه، وحنين واد قريب من الطائف، بينه وبين مكة بضعة عشر ميلاً من جهة عرفات، وكانت غزوة حنين في شوال سنة ثمان من الهجرة، بعد فتح مكة، ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين وانهزموا صارت طائفة منهم إلى الطائف، وطائفة إلى بجيلة، وطائفة إلى أوطاس، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم عسكراً إلى من مضى إلى أوطاس، ثم توجه صلى الله عليه وسلم هو وعساكره إلى الطائف. وفي الرواية الثانية "أن نبي الله صلى الله عليه وسلم بعث يوم حنين -أي بعد يوم حنين- سرية" والسرية بفتح السين وكسر الراء وتشديد الياء هي التي تخرج بالليل، والسارية التي تخرج بالنهار وقيل: سميت بذلك لأنها تخفي ذهابها، وهي قطعة من الجيش، تخرج منه، وتعود إليه، وهي من مائة إلى خمسمائة، فما زاد على خمسمائة إلى ثمانمائة يقال له: منسر، فإن زاد على الثمانمائة سمي جيشاً، فإن زاد على أربعة آلاف سمي جحفلاً، فإن زاد فجيش جرار والخميس الجيش العظيم، وما افترق من السرية يسمى بعثاً. وجمع السرية سرايا. أما السرية بضم السين وكسر الراء المشددة، وتشديد الياء، وقد تكسر السين أيضاً فهي الجارية تقع في سهم الغازي فيتملكها، ويباح له نكاحها بملك اليمين، سميت بذلك لأنها مشتقة من التسرر، وأصله من السر، وهو من أسماء الجماع، ويقال له الاستسرار أيضاً، أو أطلق عليها ذلك لأنها في الغالب يكتم أمرها عن الزوجة، وجمع السرية السراري. (فظهروا عليهم) أي غلبوهم وهزموهم، وانتصروا عليهم. (وأصابوا لهم سبايا) أي وغنم المسلمون لأنفسهم من عدوهم سبايا، والسبي الأسر يقال: سبي العدو سبياً من باب رمي، والسبي بكسر الباء وتشديد الياء، كغني، يطلق على الذكر والأنثى، يقال: غلام سبي ومسبي، وجارية سبية ومسبية، والجمع سبايا، كعطية وعطايا. (فكأن ناساً) "كأن" بالهمزة، على التشبيه، مقصود به الظن، لا اليقين، والمراد من الناس بعض من وقعت السبايا في سهمهم. (تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين) قال النووي: معنى "تحرجوا"

خافوا الحرج، وهو الإثم "من غشيانهن" أي من وطئهن، من أجل أنهن زوجات والمزوجة لا تحل لغير زوجها، فأنزل الله إباحتهن. {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} قبل هذه الآية يقول الله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم} أي وحرم عليكم المحصنات من النساء، أي المتزوجات من النساء اللاتي في عصمة أزواجهن. قال النووي: معناه: والزوجات حرام على غير أزواجهن إلا ما ملكتم بالسبي، فإنه ينفسخ نكاح زوجها الكافر، وتحل لكم إذا انقضى استبراؤها. (فهن حلال لكم إذا انقضت عدتهن) أي استبراؤهن، واستبراؤهن بوضع الحمل عن الحامل، وبحيضة من الحائل غير الحامل، كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة. -[فقه الحديث]- قال النووي: واعلم أن مذهب الشافعي ومن قال بقوله من العلماء أن المسبية من عبدة الأوثان وغيرهم من الكفار الذين لا كتاب لهم لا يحل وطؤها بملك اليمين حتى تسلم، فمادامت على دينها فهي محرمة، وهؤلاء المسبيات كن من مشركي العرب عبدة الأوثان، فيؤول هذا الحديث وشبهه على أنهن أسلمن. وهذا التأويل لا بد منه. واختلف العلماء في الأمة إذا بيعت وهي مزوجة مسلماً، هل ينفسخ النكاح، وتحل لمشتريها؟ أم لا؟ فقال ابن عباس: ينفسخ. لعموم قوله تعالى: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} وقال سائر العلماء: لا ينفسخ، وخصوا الآية بالمملوكة بالسبي. قال المازري: هذا الخلاف مبني على أن العموم إذا خرج على سبب. هل يقتصر على سببه؟ أم لا؟ فمن قال: يقتصر على سببه لم يكن فيه هنا حجة للمملوكة بالشراء، لأن التقدير: إلا ما ملكت أيمانكم بالسبي. ومن قال: لا يقتصر، بل يحمل على عمومه قال: ينفسخ نكاح المملوكة بالشراء، لكن ثبت في حديث شراء عائشة "بريرة" أن النبي صلى الله عليه وسلم خير "بريرة" في زوجها، فدل على أنه لا ينفسخ بالشراء. لكن هذا تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، وفي جوازه خلاف. والله أعلم. اهـ وتوضيحاً لمذهب الشافعي وموافقيه نقول: إن كل صنف حرم وطء حرائرهم بعقد النكاح حرم وطء إمائهم بملك اليمين، ويحل لمسلم نكاح حرائر أهل الكتاب، لقوله تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} [المائدة: 5]. وحرمته الإمامية، تمسكاً بقوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} [البقرة: 221]. وقوله تعالى: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} [الممتحنة: 10]. ولا يحل للمسلم نكاح المشركات، لقوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} ومع هذا قال الشافعية: يكره أن يتزوج حرائر أهل الكتاب، وأن يطأ إماءهم بملك اليمين، لأنا لا نأمن أن يميل إليها، فتفتنه عن الدين، أو يتولى أهل دينها، فإن كانت حربية فالكراهية أشد، لأنه لا يؤمن ما ذكرناه، ولأنه يكثر سواد أهل الحرب، ولأنه لا يؤمن أن يسبي ولده منها فيسترق، ولا يؤمن أن تزعزع عقيدة أبنائه منها.

فتح المنعم شرح صحيح مسلم تابع كتاب الرضاع - كتاب الطلاق - كتاب اللعان - كتاب العتق - كتاب البيوع - كتاب الفرائظ - كتاب الهبات - كتاب الوصية - كتاب النذر - كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات - كتاب الحدود والنهي عن الشفاعة فيها الجزء السادس الأستاذ الدكتور موسى شاهين لاشين دار الشروق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

فتح المنعم شرح صحيح مسلم 6 -

جميع حقوق النشر والطبع محفوظة الطبعة الأولى 1423 - هـ - 2002 م دار الشروق القاهرة: 8 شارع سيبويه المصري -رابعة العدوية- مدينة نصر ص. ب.: 33 البانوراما -تليفون: 4023399 - فاكس: 4037567 (202) e-mail: dar@ shorouk.com - www.shorouk.com بيروت: ص. ب.: 8064 - هاتف: 315859 - 817213 - فاكس: 315859 1 (961)

تابع كتاب الرضاع

(388) باب الولد للفراش

(388) باب الولد للفراش 3195 - عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في غلام. فقال سعد: هذا. يا رسول الله ابن أخي عتبة بن أبي وقاص. عهد إلي أنه ابنه. انظر إلى شبهه. وقال عبد بن زمعة: هذا أخي، يا رسول الله ولد على فراش أبي. من وليدته. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شبهه، فرأى شبها بينا بعتبة. فقال "هو لك يا عبد. الولد للفراش وللعاهر الحجر. واحتجبي منه يا سودة بنت زمعة". قالت: فلم ير سودة قط. ولم يذكر محمد بن رمح قوله "يا عبد". 3196 - - عن الزهري بهذا الإسناد نحوه غير أن معمرا وابن عيينة في حديثهما "الولد للفراش" ولم يذكرا "وللعاهر الحجر". 3197 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الولد للفراش وللعاهر الحجر". -[المعنى العام]- روى البخاري عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: "إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فنكاح منها نكاح الناس اليوم، يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته، فيصدقها، ثم ينكحها. ونكاح آخر: كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها - أي حيضها -: أرسلي إلى فلان، فاستبضعي منه - أي اطلبي منه الجماع، لتحملي منه - ويعتزلها زوجها، ولا يمسها أبدًا، حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع.

ونكاح آخر: يجتمع الرهط، ما دون العشرة، فيدخلون على المرأة، كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت، ومر ليال بعد أن تضع حملها، أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع، حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت، فهو ابنك يا فلان. تسمي من أحبت باسمه، فيلحق به ولدها، لا يستطيع أن يمتنع به الرجل. ونكاح رابع، يجتمع الناس الكثير، فيدخلون على المرأة، لا تمنع من جاءها، وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات، تكون علمًا، فمن أرادهن دخل عليهن، وإذا حملت إحداهن، ووضعت حملها، جمعوا لها، ودعوا لهم القافة، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاطته به [أي استلحقته به، وأصل اللوط اللصوق] ودعى ابنه، لا يمتنع عن ذلك. فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح الجاهلية كله، إلا نكاح الناس اليوم". اهـ. وواضح من هذا أنهم كانوا ينسبون الولد إلى الزاني، وكانت الأم تستلحق ولدها وكان القائف يلحق الولد بالزاني عن طريق الشبه بينهما، وكان أهل الجاهلية يقتنون الولائد، ويقررون عليهن الضرائب، ويكرهوهن على البغاء، والتكسب بالفجور، وكان السيد يطأ أمته، فتكون فراشًا له، ولا يحتاط لشرفها كالحرائر، فتزني خلسة منه، فإذا حملت وولدت واستلحقه السيد لحقه، وإن نفاه انتفى عنه، وإذا ادعاه غيره كان له إذا وافق السيد. وجاء الإسلام فأبطل إلحاق الولد بالزاني، ونسبه إلى صاحب الفراش، زوجًا كان أو سيدًا، حرة كانت المرأة أو أمة، وليس للزاني حظ من النسب، بل له الخيبة والخسران في الدنيا والآخرة، جاء الإسلام بقانون السماء "الولد للفراش، وللعاهر الحجر" وطبق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هذا القانون في قصتنا. سعد بن أبي وقاص يدعي أن الولد من أخيه عتبة الذي زنى بجارية زمعة وأوصاه قبل موته أن يستلحقه، فيرفع سعد الأمر إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يطلب إلحاق الولد بعتبة، و"عبد" بن زمعة يدعي أن الولد من أبيه الذي استولد جاريته وافترشها، وينظر الرسول صلى الله عليه وسلم للولد، فيرى فيه شبهًا كبيرًا بعتبة الزاني، لكن قانون السماء أن الولد ينسب إلى صاحب الفراش زمعة، فيقول صلى اللَّه عليه وسلم: الولد لك يا عبد، هو أخوك شرعًا. وهكذا حكم بأن الولد أخ لسودة أم المؤمنين رضي اللَّه عنها، لكن لوجود الشبه بينه وبين عتبة أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سودة أن تحتجب منه فنفذت الأمر، وبالغت في تنفيذه. -[المباحث العربية]- (اختصم سعد بن أبي وقاص) أسلم قديمًا، وصحب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولازمه طويلاً، قال الحافظ ابن حجر: من حين إسلامه إلى حين فتح مكة نحو العشرين سنة. (وعبد بن زمعة) "ابن زمعة" بدل، أو عطف بيان، ولا تصح إضافة "عبد" إلى "ابن زمعة" قال الحافظ ابن حجر: ووقع في مختصر ابن الحاجب: عبد اللَّه. وهو غلط، نعم عبد اللَّه بن زمعة آخر، ابن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى.

و"زمعة" بفتح الزاي وسكون الميم، وقد تحرك، والتسكين أشهر، وهو ابن قيس بن عبد شمس القرشي العامري، والد سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. ومعنى اختصامهما رفع القضية إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أو تنازعهما قبل رفع القضية ففي رواية البخاري عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: كان عتبة عهد إلى أخيه سعد أن ابن وليدة زمعة مني، فاقبضه إليك، فلما كان عام الفتح أخذه سعد، فقال: ابن أخي، عهد إليَّ فيه. فقام عبد بن زمعة، فقال: أخي، وابن وليدة أبي، ولد على فراشه، فتساوقا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ... " أي تلازما في الذهاب، بحيث أن كلا منهما كأنه يسوق الآخر. (في غلام) اسمه عبد الرحمن، وذكره ابن عبد البر في الصحابة، وقد أعقب في المدينة. (هذا ابن أخي عتبة بن أبي وقاص) عتبة بن أبي وقاص أخ لسعد من أبيه، فأمه هند بنت وهب بن الحارث بن زهرة، وأم سعد حمنة بنت سفيان بن أمية. وعتبة هذا مختلف في صحبته. ذكره بعضهم في الصحابة، وذكر بعضهم أنه الذي شج وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد، وأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليه بأن لا يحول عليه الحول حتى يموت كافرا، فمات قبل الحول. (عهد إلي أنه ابنه) في رواية "أوصاني أخي إذا قدمت - مكة - أن أقبض إليك ابن أمة زمعة، فإنه ابني". (انظر إلى شبهه) في لفظ أحمد "فلما كان يوم الفتح رأى سعد الغلام، فعرفه بالشبه، فاحتضنه، وقال: ابن أخي ورب الكعبة". (وقال عبد بن زمعة: هذا أخي يا رسول الله. ولد على فراش أبي من وليدته) الوليدة في الأصل المولودة، فعيلة بمعنى مفعولة من الولادة، وتطلق على الصبية الحرة، وعلى الأمة، وكانت وليدة زمعة أمة يمنية، وكان زمعة يلم بها ويطؤها، ولعل عتبة أصابها سرا من زنا، وهما كافران، فحملت، وولدت ولدا يشبهه، فغلب على ظنه أنه منه، وبغته الموت قبل أن يستلحقه، فأوصى أخاه أن يستلحقه. والفراش كناية عن صلاحية الوطء، لأن الواطئ يستفرشها، أي تصير بوطئه لها فراشا له، وسيأتي في فقه الحديث متى تعتبر الحرة؟ ومتى تعتبر الأمة فراشا. (هو لك يا عبد) في رواية الأكثرين "هو لك يا عبد ابن زمعة" وفي رواية النسائي "هو لك عبد ابن زمعة" بحذف حرف النداء، وقرأه بعضهم بالتنوين، أي هو لك عبد يا ابن زمعة. قال الحافظ ابن حجر: وهو مردود، فقد وقع في رواية البخاري المعلقة "هو لك، هو أخوك يا عبد". (الولد للفراش) أي الولد يلحق بصاحب الفراش، زوجًا كان أو سيدًا. (وللعاهر الحجر) أي وللزاني الخيبة والحرمان من الولد الذي يدعيه، وجرت عادة العرب أن

تقول لمن خاب: له الحجر. وبفيه الحجر. وبفيه التراب، ونحو ذلك، وقيل: المراد بالحجر هنا الرجم. قال النووي: وهو ضعيف، لأن الرجم مختص بالمحصن، ولأنه لا يلزم من رجمه نفي الولد، والخبر إنما سيق لنفي الولد، وفي رواية "الولد للفراش، وفي فم العاهر الحجر" وفي رواية عند ابن حبان "الولد للفراش، وبفي العاهر الأثلب" والأثلب قيل: هو الحجر، وقيل: دقاق الحجر، وقيل التراب. والعهر بفتح العين والهاء الزنا، وقيل: يختص بالزنا بالليل. (واحتجبي منه يا سودة بنت زمعة) حكم صلى الله عليه وسلم بأنه أخوها من أبيها، وأمرها بالاحتجاب منه احتياطا، وسيأتي تفصيل لذلك في فقه الحديث. وفي رواية البخاري "قالت عائشة: ثم قال لسودة بنت زمعة: احتجبي منه - لما رأى من شبهه بعتبة، فما رآها حتى لقي الله" وفي رواية "فوالله ما رآها حتى ماتت" وفي رواية "فلم تره سودة قط" يعني في المدة التي بين هذا القول وبين موت أحدهما. وفي رواية "فلم تره سودة بعد" والمعنى أنها امتثلت الأمر، وبالغت في الاحتجاب منه، حتى إنها لم تره، فضلا عن أن يراها. -[فقه الحديث]- قال النووي: "الولد للفراش" معناه أنه إذا كان للرجل زوجة أو مملوكة صارت فراشا له، فأتت بولد، يمكن أن يكون منه، لحقه الولد، وصار ولدا يجري بينهما التوارث وغيره من أحكام الولادة، سواء كان موافقا له في الشبه أو مخالفا. ومدة إمكان كونه منه ستة أشهر من حين اجتماعهما. أما ما تصير به المرأة فراشا فإن كانت زوجة صارت فراشا بمجرد عقد النكاح، ونقلوا في هذا الإجماع، وشرط مالك والشافعي والعلماء كافة إلا أبا حنيفة إمكان الوطء بعد ثبوت الفراش، فإن لم يمكن، بأن ينكح مغربي مشرقية، ولم يفارق واحد منهما وطنه، ثم أتت بولد لستة أشهر أو أكثر، لم يلحقه، لعدم إمكان كونه منه. ولم يشترط أبو حنيفة إمكان كونه منه، بل اكتفى بمجرد العقد، قال: حتى لو طلق عقب العقد من غير إمكان وطء، فولدت لستة أشهر من العقد لحقه الولد. قال النووي: وهذا ضعيف، ظاهر الفساد، ولا حجة له في إطلاق الحديث "الولد للفراش" لأنه خرج مخرج الغالب، وهو حصول الإمكان عند العقد. وأما الأمة فعند الشافعي ومالك تصير فراشا بالوطء، ولا تصير فراشا بمجرد الملك، حتى لو بقيت في ملكه سنين، وأتت بأولاد، ولم يطأها، ولم يقر بوطئها، لا يلحقه أحد منهم، فإذا وطئها صارت فراشا، فإذا أتت بولد أو أولاد لمدة الإمكان لحقوه. وقال أبو حنيفة: لا تصير فراشا إلا إذا ولدت ولدا واستلحقه، فما تأتي به بعد ذلك يلحقه، إلا أن ينفيه.

قال الشافعية: والفرق بين الزوجة - حتى تصير بالعقد فراشا - وبين الأمة حيث لا تصير بعقد الملك فراشا أن الزوجة تراد للوطء خاصة، فجعل الشارع العقد عليها كالوطء، لأنه هو المقصود، وأما الأمة فإنها تراد لملك الرقبة وأنواع أخرى من المنافع غير الوطء، ولهذا يجوز أن يملك أختين، ويملك أما وبنتها، ولا يجوز أن يجمع بينهما بعقد النكاح، فلم تصر الأمة بنفس عقد الملك فراشا، فإذا حصل الوطء صارت كالحرة، وصارت فراشا. وفي حديثنا حكم النبي صلى الله عليه وسلم لعتبة بالغلام، وألحق ذلك بقوله "الولد للفراش" وبهذا حكم بأن وليدة زمعة كانت فراشا لزمعة. فمن أين هذا الحكم؟ . قال النووي: ثبوت فراشه إما ببينة أقامها عتبة على إقرار أبيه بذلك في حياته، وإما بعلم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - فيه دلالة للشافعي ومالك على أبي حنيفة، في شرطه أن لا تصير الأمة فراشا إلا إذا ولدت ولدا واستلحقه، فإنه لم يكن لزمعة ولد آخر من هذه الأمة قبل هذا، فدل على أنه ليس بشرط. 2 - فيه دليل للشافعي وموافقيه على مالك وموافقيه على استلحاق الوارث نسبا لمورثه، بشرط أن يكون حائزا للإرث، أو يستلحقه كل الورثة، وبشرط أن يمكن كون المستلحق ولدا للميت، وبشرط أن لا يكون معروف النسب من غيره، وبشرط أن يصدقه المستلحق إن كان عاقلاً بالغًا، وهذه الشروط كلها موجودة في هذا الولد، الذي ألحقه النبي صلى الله عليه وسلم بزمعة حين استلحقه عبد بن زمعة. وخص مالك وطائفة الاستلحاق بالأب، وأجابوا عن الحديث بأن الإلحاق فيه لم ينحصر في استلحاق "عبد" لاحتمال أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على موجب آخر بوجه من الوجوه، كاعتراف زمعة بالوطء، وقالوا: أجمعوا على أنه لا يقبل إقرار أحد على غيره، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب عن المسألة، فأعلمهم أن الحكم كذا، بشرط أن يدعى صاحب الفراش، لا أنه قبل دعوى سعد عن أخيه عتبة، ولا دعوى عبد بن زمعة عن زمعة، بل عرفهم أن الحكم في مثلها يكون كذا، ولذلك قال: "احتجبي منه يا سودة" وتعقب بأن قوله في بعض الروايات "هو أخوك" يدفع هذا التأويل. فإن قيل: إن شرط حيازة "عبد" للتركة غير محقق، فإن زمعة كان له ورثة غير "عبد"؟ أجيب بأنه لم يخلف وارثا غيره إلا سودة، فإن كان زمعة قد مات كافرا فلا يرثه إلا "عبد" وحده، لأن سودة لا ترث، لاختلاف الدين، وعلى تقدير أن يكون أسلم، وورثته سودة فيحتمل أن تكون وكلت أخاها في ذلك، أو شاركته في الدعوى، وادعت هي أيضا. 3 - واستدل به على أن القائف إنما يعتمد على الشبه إذا لم يعارضه ما هو أقوى منه، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يلتفت هنا إلى الشبه، والتفت إليه في قصة زيد بن حارثة، وكذا لم يحكم بالشبه في قصة الملاعنة، لأنه عارضه حكم أقوى منه، وهو مشروعية اللعان. 4 - تمسك بعموم "الولد للفراش" بعض المالكية، قال الحافظ ابن حجر: وهو شاذ، ونقل عن الشافعي أنه قال: لقوله "الولد للفراش" معنيان. أحدهما هو له ما لم ينفه، فإذا نفاه بما شرع كاللعان انتفى عنه. الثاني: إذا تنازع رب الفراش والعاهر فالولد لرب الفراش.

5 - احتج بعض الحنفية وموافقوهم بهذا الحديث على أن الوطء بالزنا، له حكم الوطء بالنكاح، في حرمة المصاهرة، وبهذا قال أبو حنيفة والأوزاعي والثوري وأحمد، ووجه الاحتجاج به أن سودة أمرت بالاحتجاب. قال النووي: وهذا احتجاج باطل، والعجب ممن ذكره، لأن هذا على تقدير كونه من الزنا، فهو أجنبي من سودة، لا يحل لها الظهور له، سواء ألحق بالزاني أم لا، فلا تعلق له بالمسألة المذكورة. وقال مالك والشافعي وأبو ثور وغيرهم: لا أثر لوطء الزنا، بل للزاني أن يتزوج أم المزني بها وبنتها، بل زاد الشافعي، فجوز نكاح البنت المتولدة من مائه بالزنا. 6 - قال النووي: وفي هذا الحديث أن حكم الحاكم لا يحيل الأمر في الباطن، فإذا حكم بشهادة شاهدي زور أو نحو ذلك لم يحل المحكوم به للمحكوم له، وموضع الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم حكم به لعبد بن زمعة، وأنه أخ له ولسودة، واحتمل بسبب الشبه أن يكون من عتبة، فلو كان الحكم يحيل الباطن لما أمرها بالاحتجاب. 7 - واستدل به الحنفية [أي بقوله: واحتجبي منه يا سودة] بأنه صلى الله عليه وسلم لم يلحقه بزمعة، لأنه لو ألحقه به لكان أخا سودة، والأخ لا يؤمر بالاحتجاب منه. وأجاب الجمهور بأن الأمر بذلك كان للاحتياط، لأنه وإن حكم بأنه أخوها، لقوله في الطرق الصحيحة "هو أخوك يا عبد" لكنه لما رأى الشبه بعتبة أمرها بالاحتجاب منه احتياطا، وأشار الخطابي إلى أن في ذلك مزية لأمهات المؤمنين، لأن لهن في ذلك ما ليس لغيرهن. وقال القرطبي - بعد أن قرر أن أمر سودة بالاحتجاب للاحتياط وتوقي الشبهات -: ويحتمل أن يكون ذلك لتغليظ أمر الحجاب في حق أمهات المؤمنين، كما قال: "أفعمياوان أنتما"؟ فنهاهما عن رؤية الأعمى، مع قوله لفاطمة بنت قيس: "اعتدى عند ابن أم مكتوم، فإنه أعمى" فغلظ الحجاب في حقهن، دون غيرهن. قال الحافظ ابن حجر: وأيضا فإن للزوج أن يمنع زوجته من الاجتماع بمحارمها. 8 - واستدل به بعض المالكية على مشروعية الحكم بين حكمين، وهو أن يأخذ الفرع شبها من أكثر من أصل، فيعطي أحكامًا بعدد ذلك، وذلك أن الفراش يقتضي إلحاقه بزمعة في النسب، والشبه يقتضي إلحاقه بعتبة، فأعطى الفرع حكمًا بين حكمين، فروعي الفراش في النسب، والشبه البين في الاحتجاب. قال: وإلحاقه بهما - ولو كان من وجه - أولى من إلغاء أحدهما من كل وجه. 9 - واستدل به على أن السبب لا يخرج، ولو قلنا: إن العبرة بعموم اللفظ، وقد اعترض بهذا على الحنفية، إذ خصوا الفراش بالزوجة، وأخرجوا الأمة حتى تلد الولد الأول كما سبق. فهم بذلك يخرجون السبب، وهو وليدة زمعة. 10 - واستدل به على أن الوصي يجوز له أن يستلحق ولد موصيه، إذا أوصى إليه بأن يستلحقه، ويكون كالوكيل عنه في ذلك. واللَّه أعلم

(389) باب العمل بإلحاق القائف

(389) باب العمل بإلحاق القائف 3198 - عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل علي مسرورًا، تبرق أسارير وجهه. فقال "ألم تري أن مجززًا نظر آنفًا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد. فقال: إن بعض هذه الأقدام لمن بعض". 3199 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم مسرورًا. فقال "يا عائشة، ألم تري أن مجززًا المدلجي دخل علي. فرأى أسامة وزيدًا وعليهما قطيفة قد غطيا رءوسهما. وبدت أقدامهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض". 3200 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل قائف ورسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد. وأسامة بن زيد وزيد بن حارثة مضطجعان. فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض. فسر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأعجبه. وأخبر به عائشة. وزاد في حديث يونس "وكان مجزز قائفًا". -[المعنى العام]- زيد بن حارثة كان غلامًا لخديجة، فوهبته لمحمد بن عبد اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلما عرفه أهله طلبوا فداءه وتحرير رقبته، فاختار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الرجوع لأهله، فتبناه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وكان يعرف بزيد بن محمد، فلما أبطل اللَّه التبني، ونزل {ادعوهم لآبائهم} [الأحزاب: 5] دعي زيد بن حارثة. وتزوج "أم أيمن" واسمها "بركة" قيل: كانت من سبي الحبشة، الذين قدموا زمن الفيل، فصارت لعبد المطلب، فوهبها لابنه عبد اللَّه، والد النبي صلى الله عليه وسلم، وتزوجت "عبيد الحبشي" فولدت له "أيمن" فكنيت به، واشتهرت بذلك. ثم تزوجها زيد بن حارثة، فولدت له أسامة، وكانت سوداء اللون، وكان

زيد أبيض من القطن، فجاء أسامة أسود اللون، شديد السواد، فقدح الناس في نسب أسامة، وطعنوا في بنوته لزيد، وأنكروا ذلك، وانتشرت شائعتهم. فآلم ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأوجع قلبه، وأخذ يتلهف على ما يقطع دابر هذه الشائعة أو يخففها، وجاء هذا القائف، مارًا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبجواره زيد بن حارثة وابنه أسامة، قد تغطيا ببردة من قطيفة، غطيت رءوسهما، وانكشفت أرجلهما، ونظر القائف إلى الأرجل، فعرف أنها من بعضها، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، فسر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وفرح بهذا التصريح، لكونه زاجرًا لمن طعن في النسب، لأنهم يعتمدون قول القائف، ودخل مسرورًا على عائشة، يخبرها بتصريح القائف، ووجهه يتهلل ويضيء من الفرح صلى اللَّه عليه وسلم. -[المباحث العربية]- (تبرق أسارير وجهه) "تبرق" بفتح التاء وسكون الباء وضم الراء، أي تضيء وتستنير من السرور والفرح، والأسارير هي الخطوط التي في الجبهة، واحدها سر، وسرور، وجمعه أسرار، وجمع الجمع "أسارير" والجملة كناية عن أعراض الفرح والسرور على الوجه من الابتسامة وانبساط التجاعيد وظهور البياض على بشرة الوجه. والجملة حال مؤكدة لمسرورا. (ألم ترى) المراد من الرؤية هنا العلم، أو الإخبار، والاستفهام إنكاري بمعنى النفي، دخل على نفي، ونفي النفي إثبات، والمعنى اعلمي أو أعلمك، أو أخبرك، وإرادة الإخبار من الرؤية عن طريق المجاز المرسل بعلاقة السببية والمسببية، فإن الرؤية سبب للإخبار كثيرًا. (أن مجززًا) بضم الميم وفتح الجيم وكسر الزاي المشددة، بعدها زاي أخرى، قال النووي: هذا هو الصحيح المشهور، وحكي أنه بفتح الزاي الأولى، وحكي بإسكان الحاء بعدها راء، والصواب الأول، وذكر أنه سمي مجززًا لأنه كان إذا أخذ أسيرًا في الجاهلية جز ناصيته وأطلقه، وهذا يؤكد صحة الاسم الأول، وعليه فهذا لقب، وكان له اسم آخر غير مجزز: قال الحافظ ابن حجر: لكني لم أر من ذكره. وكان مجزز عارفا بالقيافة، وذكر فيمن شهد فتح مصر. وهو ابن الأعور بن جعدة المدلجي - بضم الميم وإسكان الدال وكسر اللام - نسبة إلى مدلج بن مرة بن عبد مناف بن كنانة، وكانت القيافة فيهم، وفي بني أسد، تعترف العرب لهم بذلك، حيث اشتهروا بها، وليس ذلك خاصا بهم على الصحيح، فقد صح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان قائفًا، وهو قرشي غير مدلجي وغير أسدي. (نظر آنفًا) أي قريبًا، وهو بمد الهمزة على المشهور، وبقصرها، وقرئ بهما في السبع. (دخل قائف) المقصود مجزز المصرح به في الرواية السابقة، والقائف هو الذي يعرف الشبه، ويميز الأثر، سمي بذلك لأنه يقفو الأشياء، أي يتتبعها، فكأنه مقلوب من

القافي، فحصل قلب بين الفاء وحرف العلة، يقال: قفا الأثر، ويقتاف الأثر قفوًا وقيافة. وجمع القائف القافة. -[فقه الحديث]- قال النووي: اختلف العلماء في العمل بقول القائف، فنفاه أبو حنيفة وأصحابه والثوري وإسحق، وأثبته الشافعي وجماهير العلماء، والمشهور عن مالك إثباته في الإماء، ونفيه في الحرائر، وفي رواية عنه إثباته فيهما. ودليل الشافعي حديث مجزز هذا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرح لكونه وجد في أمته من يميز أنسابها عند اشتباهها، ولو كانت القيافة باطلة لم يحصل بذلك سرور. واتفق القائلون بالقائف على أنه يشترط فيه العدالة، واختلفوا في أنه هل يكتفي بواحد؟ والأصح عند أصحابنا الاكتفاء بواحد، وبه قال ابن القاسم المالكي، وقال مالك: يشترط اثنان، وبه قال بعض أصحابنا، وهذا الحديث يدل للاكتفاء بواحد. واتفقوا على أنه يشترط أن يكون خبيرًا بهذا، مجربًا. واتفق القائلون بالقائف على أنه إنما يكون فيما أشكل من وطأين محترمين، كالمشتري والبائع يطآن الجارية المبيعة في طهر، قبل الاستبراء من الأول، فتأتي بولد لستة أشهر فصاعدًا من وطء الثاني، ولدون أربع سنين من وطء الأول، وإذا رجعنا إلى القائف فألحقه بأحدهما لحق به، فإن أشكل عليه، أو نفاه عنهما ترك الولد حتى يبلغ، فينتسب إلى من يميل إليه منهما، وإن ألحقه بهما فمذهب عمر بن الخطاب ومالك والشافعي أنه يتركه يبلغ، فينتسب إلى من يميل إليه منهما. وقال أبو الثور وسحنون: يكون ابنا لهما، وقال الماجشون ومحمد بن مسلمة المالكيان: يلحق بأكثرهما له شبها، قال ابن مسلمة: إلا أن يعلم الأول، فيلحق به. واختلف النافون للقائف في الولد المتنازع فيه، فقال أبو حنيفة: يلحق بالرجلين المتنازعين فيه، ولو تنازع فيه امرأتان لحق بهما، وقال أبو يوسف ومحمد: يلحق بالرجلين، ولا يلحق إلا بامرأة واحدة، وقال إسحق: يقرع بينهما. اهـ. والذي تستريح إليه النفس أن القائف يستأنس بقوله، ولا يحكم به، فإن حديث مجزز لا حكم بقوله، وكل ما حصل به استراحة النفس لدفع شبهة، لأن قوله هذا لمن يعتقد صحته من أهل الجاهلية سيخفف الإشاعة أو يقتلها، وهذا ما يرغبه الرسول صلى الله عليه وسلم بالنسبة للتشهير بأي مسلم، فضلا عن التشهير بالحبيب ابن الحبيب أسامة بن زيد رضي الله عنهما. واللَّه أعلم

(390) باب ما تستحقه البكر والثيب من إقامة الزوج عندها عقب الزفاف

(390) باب ما تستحقه البكر والثيب من إقامة الزوج عندها عقب الزفاف 3201 - عن أم سلمة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج أم سلمة أقام عندها ثلاثًا. وقال "إنه ليس بك على أهلك هوان. إن شئت سبعت لك. وإن سبعت لك سبعت لنسائي". 3202 - عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تزوج أم سلمة، وأصبحت عنده قال لها "ليس بك على أهلك هوان. إن شئت سبعت عندك. وإن شئت ثلثت ثم درت" قالت: ثلث. 3203 - عن أبي بكر بن عبد الرحمن رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تزوج أم سلمة فدخل عليها، فأراد أن يخرج أخذت بثوبه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن شئت زدتك وحاسبتك به. للبكر سبع وللثيب ثلاث". 3204 - عن أم سلمة رضي الله عنها: ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها. وذكر أشياء، هذا فيه. قال "إن شئت أن أسبع لك وأسبع لنسائي. وإن سبعت لك سبعت لنسائي". 3205 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعًا. وإذا تزوج الثيب على البكر أقام عندها ثلاثًا. قال خالد: ولو قلت: إنه رفعه لصدقت. ولكنه قال: السنة كذلك.

3206 - عن أنس رضي الله عنه قال: من السنة أن يقيم عند البكر سبعًا. قال الخالد: ولو شئت قلت: رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. -[المعنى العام]- كانت أم سلمة رضي الله عنها من السابقات إلى الإسلام هي وزوجها ابن عمها أبو سلمة، وهاجرا إلى الحبشة فولدت سلمة، ثم قدما مكة، وهاجرا إلى المدينة، فولدت له عمر ودرة وزينب، ثم مات عنها زوجها، فلما انقضت عدتها تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم في جمادى الآخرة سنة أربع من الهجرة، وكانت موصوفة بالجمال البارع والعقل البالغ والرأي الصائب. وكان عند النبي صلى الله عليه وسلم من أزواجه سودة وعائشة وحفصة حين تزوجها، وكانت ذات عيال، بل كانت عندها طفلة ولدت قبيل زواج النبي صلى الله عليه وسلم منها بأيام. ولم يكن العرب يلتزمون قسما بين الزوجات، ولا عدلا بينهن، بل كان العضل منتشرًا، وتعليق الزوجات شائعًا، وكانت الزوجة الجديدة تحظى من زوجها بإقامة لا حدود لها، فجاء الإسلام بالقسم والعدل، وكل ما ميز به الزوجة الجديدة هو الإقامة عندها ثلاث ليال عقب الزفاف إن كانت ثيبًا، وسبع ليال إن كانت بكرًا. وطبق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم هذا القانون على أم سلمة، دخل عليها فأقام عندها ثلاثا، فلما أصبح، ورأت منه مظاهر الخروج والانصراف عنها تعلقت بثيابه، ترجو طول بقائه معها، فقال لها: حقك ثلاث ليال، وقد مضت، فإن أردت الزيادة إلى سبع سبعت لك وسبعت لكل واحدة من أزواجي، وإن رضيت بالثلاث واكتفيت بها درت على كل واحدة من نسائي ليلة وجئت إليك بليلتك. فماذا تريدين مني؟ أسبع؟ أو أثلث؟ قالت: بل ثلث. رضي الله عنها وأرضاها. -[المباحث العربية]- (لما تزوج أم سلمة) إن كان من كلام أم سلمة ففيه التفات من التكلم إلى الغيبة، وكان الأصل أن تقول: لما تزوجني. (أقام عندها ثلاثًا. وقال: ) ظاهر في أن هذا التخيير كان بعد مضي الثلاث، فقوله في الرواية الثانية "حين تزوج أم سلمة، وأصبحت عنده" أي أصبحت عنده أي بعد ثالثة. وقوله في الرواية الثالثة "حين تزوج أم سلمة، فدخل عليها، فأراد أن يخرج" فيه حذف وطي، والأصل: فدخل عليها، فأقام عندها ثلاثا، فأراد أن يخرج لغيرها.

(إنه ليس بك على أهلك هوان) معناه: لا يلحقك هوان بانصرافي عنك إلى غيرك، ولا يضيع بذلك من حقك شيء، فقد حصلت عليه كاملا، قال القاضي عياض: المراد بأهلك هنا نفسه صلى الله عليه وسلم، أي لا أفعل فعلا فيه هوانك علي. اهـ. أي ليس في انصرافي عنك إهانة لك. (إن شئت سبعت لك، وإن سبعت لك سبعت لنسائي) "سبعت لك" أي أقمت عندك سبعًا، أي أكملت الثلاث التي مضت سبعًا، بالبقاء معك أربعًا أخرى، وفي هذه الحالة أسبع لكل واحدة من نسائي قبل أن أرجع إليك - وكان عنده صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت سودة وعائشة وحفصة، فكأنه لا يعود للإقامة معها إلا بعد إحدى وعشرين ليلة من تسبيعه لها. وفي الرواية الثانية "إن شئت سبعت عندك [أي وسبعت لكل واحدة من نسائي] وإن شئت ثلثت، ثم درت" أي اكتفيت بالثلاث التي مضت، ثم أدور على نسائي عند كل واحدة ليلة، فكأنه عند التثليث سيرجع بعد ثلاث ليقيم عندها ليلة، فالتخيير بين ثلاث بدون قضاء، وبين سبع تقضى كلها لكل واحدة، فاختارت الثلاث، وفي الرواية الثالثة "إن شئت زدتك - أي على الثلاث إلى السبع - وحاسبتك به" أي بقضاء السبع لكل واحدة، للبكر سبع، وللثيب ثلاث" فإن اكتفيت بحقك الثلاث فلك، ولم تتجاوزي حتى تحاسبي، لكن إن تجاوزت الثلاث إلى السبع فقد استوليت على حق الغير، وانتفعت بمزية توالي الليالي، وكمال الأنس، وتعويض ذلك قضاء الثلاث التي كانت من حقك، ولو أن القضاء للأربع فقط لحصلت على مزية زائدة عن حقها بدون تعويض. (عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم) كذا في الرواية الثانية، وفي الرواية الثالثة "عن عبد الملك بن أبي بكر عن أبي بكر بن عبد الرحمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الرواية الرابعة "عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أم سلمة" أما في الرواية الأولى فكالرابعة. قال النووي: هكذا روي متصلا [بذكر أم سلمة] ومرسلا [بعدم ذكرها] واستدركه الدارقطني على مسلم، واستدراكه فاسد، لأن مسلما رحمه الله قد بين اختلاف الرواة في وصله وإرساله، ومذهبه ومذهب الفقهاء والأصوليين ومحققي المحدثين أن الحديث إذا روي متصلا ومرسلا حكم بالاتصال، ووجب العمل به، لأنها زيادة ثقة، وهي مقبولة عند الجماهير، فلا يصح استدراك الدارقطني. (ولو قلت: إنه رفعه لصدقت، ولكنه قال: السنة كذلك) رواية البخاري "عن أنس قال: من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعا وقسم، وإذا تزوج الثيب على البكر أقام عندها ثلاثا، ثم قسم". وقول الصحابي: من السنة كذا له حكم المرفوع عند جمهور المحدثين، لأن مراده من السنة سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكأنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعند بعض المحدثين ليس له حكم المرفوع، بل هو موقوف، لاحتمال أن يريد الصحابي بلفظ السنة معناها اللغوي، أو ما يثاب على فعله، ولا يعاقب على تركه، وهذا الاحتمال وإن كان ضعيفًا يعتد به ويعمل به احتياطًا في قبول الحديث ورفعه.

وكأن "خالدا" الراوي عن أبي قلابة الراوي عن أنس سمع الحديث بهذا اللفظ "من السنة" وأنه يرى ما يقول به جمهور المحدثين، وأنه في حكم المرفوع، فقال: لو قلت: إنه رفعه لصدقت، لأنه له حكم المرفوع. وقد أخرج الإسماعيلي عن أبي قلابة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فصرح برفعه. وأخرجه ابن خزيمة وابن حبان والدارمي والدارقطني مصرحًا برفعه. فيحتمل أن "خالدًا" أو أبا قلابة علم أن الحديث مصرح برفعه على لسان أنس، لكنه لم يسمعه مصرحًا برفعه، وسمعه بلفظ "من السنة كذا" فتحرز عن التصريح بالرفع، وحافظ على اللفظ الذي سمعه والفرق بين الرأيين أن الحديث مرفوع؟ أو في حكم المرفوع؟ وفرق بين القولين. -[فقه الحديث]- قال النووي: في الحديث أن حق الزفاف ثابت للمزفوفة، وتقدم به على غيرها، فإن كانت بكرا كان لها سبع ليال، بأيامها، بلا قضاء، وإن كانت ثيبًا كان لها الخيار، إن شاءت سبعًا، ويقضي السبع لباقي النساء، وإن شاءت ثلاثا، ولا يقضي. هذا مذهب الشافعي وموافقيه، وهو الذي ثبتت فيه هذه الأحاديث الصحيحة، وممن قال به مالك وأحمد وإسحاق وأبو ثور وابن جرير وجمهور العلماء. وقال أبو حنيفة: يجب قضاء الجميع في الثيب والبكر، واستدلوا بالظواهر الواردة بالعدل بين الزوجات، وحجة الشافعي هذه الأحاديث، وهي مخصصة للظواهر العامة. واختلفوا. هل هذا مختص بمن له زوجات غير الجديدة؟ أو هو عام؟ قال ابن عبد البر: جمهور العلماء على أن ذلك حق للمرأة بسبب الزفاف، سواء كانت عنده زوجة أم لا. لعموم الحديث "إذا تزوج البكر أقام عندها سبعا، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثا" لم يخص من كانت له زوجة، وقالت طائفة: الحديث فيمن له زوجة أو زوجات غير هذه، لأن من لا زوجة له مقيم مع هذه كل دهره، مؤنس لها، متمتع بها، مستمتعة به بلا قاطع، بخلاف من له زوجات، فإنه جعلت هذه الأيام للجديدة تأنيسًا لها متصلاً، لتستقر عشرتها له، وتذهب حشمتها ووحشتها منه، ويقضي كل واحد منهما لذته من صاحبه، ولا ينقطع بالدوران على غيرها. ورجح القاضي عياض هذا القول، وبه جزم البغوي من الشافعية في فتاويه. والأول أقوى، وهو المختار لعموم الحديث. اهـ. وهكذا اختار النووي أنه لا فرق، قال الحافظ ابن حجر: وإطلاق الشافعي يعضده، ولكن يشهد للأول قوله - في روايتنا الخامسة - إذا تزوج البكر على الثيب" ويمكن أن يتمسك للآخر برواية "إذا تزوج البكر أقام عندها سبعا" حيث لم يقيده بما إذا تزوجها على غيرها، لكن القاعدة أن المطلق يحمل على المقيد، ويؤيده قوله أيضًا في الحديث عند البخاري "أقام عندها سبعًا وقسم" لأن القسم إنما يكون لمن عنده زوجة أخرى. قال الحافظ ابن حجر: وفي الحديث حجة على الكوفيين في قولهم: إن البكر والثيب سواء في الثلاث وفيه حجة على الأوزاعي في قوله: للبكر ثلاث وللثيب يومان.

هذا وقد اختلف القائلون بالمقام عند البكر سبعا وعند الثيب ثلاثا إذا كانت له زوجة أخرى. هل هذا المقام واجب؟ أو مستحب. قال النووي: ومذهب الشافعي وأصحابه وموافقيهم أنه واجب، وهي رواية ابن القاسم عن مالك، وروى عنه ابن عبد الحكم أنه على الاستحباب. قال الحافظ ابن حجر: وحكى النووي أنه يستحب إذا لم يكن عنده غيرها، وإلا فيجب. واللَّه أعلم

(391) باب القسم بين الزوجات

(391) باب القسم بين الزوجات 3207 - عن أنس رضي الله عنه قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم تسع نسوة. فكان إذا قسم بينهن لا ينتهي إلى المرأة الأولى إلا في تسع. فكن يجتمعن كل ليلة في بيت التي يأتيها. فكان في بيت عائشة. فجاءت زينب. فمد يده إليها. فقالت: هذه زينب فكف النبي صلى الله عليه وسلم يده. فتقاولتا حتى استخبتا. وأقيمت الصلاة. فمر أبو بكر على ذلك. فسمع أصواتهما. فقال: اخرج، يا رسول الله إلى الصلاة. واحث في أفواههن التراب. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقالت عائشة: الآن يقضي النبي صلى الله عليه وسلم صلاته فيجيء أبو بكر فيفعل بي ويفعل. فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته أتاها أبو بكر. فقال لها قولاً شديدًا. وقال: أتصنعين هذا؟ . -[المعنى العام]- خدم أنس رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، إذ قدمته أمه وهو ابن عشر سنين إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليخدمه فور قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فكان يطلع على بعض الأمور الخاصة التي تحدث في بيته صلى الله عليه وسلم، كهذه القصة، وإخباره رضي الله عنه بها من قبيل التبليغ لأحكام الشريعة، وليس من قبيل التشهير أو كشف الأسرار. ورسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج بإحدى عشرة امرأة، مات في حياته ثنتان. خديجة وزينب بنت خزيمة رضي الله عنهما، ومات صلى الله عليه وسلم عن تسع، غير سريته مارية القبطية، وليس لها في الشريعة قسم. ومن كرم خلقه صلى الله عليه وسلم أنه كان يدخل عليهن الأنس والسرور كل يوم، كان يستخدم أسلوبًا ثابتًا في أيام السلم والإقامة بالمدينة. كان يصلي العصر، فيدخل على كل واحدة منهن في بيتها، تقول عائشة رضي الله عنها: "كل يوم إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف علينا جميعًا، فيقبل، ويلمس ما دون الوقاع، فإذا جاء إلى التي هي يومها بات عندها" ومعنى هذا أنه كان يؤخر صاحبة النوبة حتى يطوف على صاحباتها هذه لفتة عطف وحنان وأنس ورحمة وكرم، ليست واجبة عليه صلى الله عليه وسلم، ولا على أمته، ولكنه الخلق الكريم. لفتة أخرى يصورها حديثنا لا تقل عن اللفتة السابقة، لفتة ترفع الغل والحقد بين الضرائر، وتغرس التواد والتقارب بينهن، كن يجتمعن في كل ليلة في بيت التي يأتيها صاحبة الليلة، يتحدثن معه صلى الله عليه وسلم، ويتحدث معهن، ويأنس بهن جميعًا، ويأنسن به.

نعم كانت هذه اللفتة محفوفة بالأخطار، فحركاته صلى الله عليه وسلم وسكناته مع كل واحدة منهن محسوبة عليه من الأخريات، مداعباته، بل نظراته مراقبة منهن بدافع الغيرة وفرط الحرص. إنها لفتة محفوفة بالأخطار، فقد يفعل فعلاً، أو يتحرك حركة، أو يقول كلمة تحمل على غير وجهها، وتثير في إحداهن حساسية ما وانفعالاً، كما في هذه الحادثة. في ليلة عائشة، وفي بيتها اجتمع بعض زوجاته صلى الله عليه وسلم، ودخلت أم المؤمنين زينب بنت جحش، وهي التي كانت تسامي عائشة جمالاً واعتزازًا وشموخًا ودلالاً - فمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يده عليها، قد يكون ربت على كتفها، أو لمس وجهها، أو مسح على شعرها، زوجته، ومن حقه، وليس من حق صاحبة الليلة سوى المبيت، وليس ممنوعًا في القسم إلا وطء غير صاحبة الليلة، لكن غيرة عائشة جعلتها تلفت نظره صلى الله عليه وسلم إلى رعاية مشاعرها، وبأدب جم، وابتسامة ناطقة، ودلال نادر تقول له: إنها - أي التي وضعت يدك عليها - زينب وليست عائشة، ويبتسم صاحب الخلق العظيم، ويهز رأسه موافقًا، ويرفع يده عن زينب، وتثور زينب، وتناوش عائشة، وتثور عائشة وتهاجم زينب، وترتفع أصواتهما، ويزداد صخبهما، وصاحب الخلق العظيم يبتسم ولا يتدخل، يقدر طبيعة المرأة في كل منهما، يقدر حب وحرص كل منهما، يقدر شخصية واعتزاز كل منهما، وأقيمت الصلاة، ومر أبو بكر على باب عائشة في طريقه إلى المسجد فسمع الصخب، وعرف فيه صوت ابنته، فاستأذن ودخل، فسكتتا، ورأى أبو بكر أن الوقت لا يسمح بمحاسبة ابنته فقد أقيمت الصلاة، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لم لا تكتم أنفاسهما؟ لم لا تملأ أفواههما بالتراب؟ هيا بنا إلى الصلاة. وأيقنت عائشة أن أباها سيعود بعد الصلاة لمعاقبتها، فقد عودها أن يؤدبها في بيت زوجها إن أساءت إلى مقامه صلى الله عليه وسلم. أخذت تفكر وتفكر فيما سيكون من أبيها، حتى كان ما حسبته وقدرته. جاء رضي الله عنه بعد الصلاة، فقال لها قولاً شديدًا، تهذيبًا وتأنيبًا، لم يسأل عن السبب فقد يكون خاصًا مستورًا، ولكنه اكتفى بتوجيه ابنته أن تحذر الصخب وارتفاع الصوت واللغط في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. -[المباحث العربية]- (تسع نسوة) هذا ما كان عليه الأمر في أخريات حياته صلى الله عليه وسلم، وهن اللاتي توفي عنهن، وهن عائشة وسودة وحفصة وأم سلمة وزينب وأم حبيبة وميمونة وجويرية وصفية. رضي الله عنهن، و"نسوة" بكسر النون وضمها، لغتان. الكسر أفصح وأشهر، وبه جاء القرآن. (لا ينتهي إلى المرأة الأولى) أي لا يصل، أي لا ينتهي منهن وينتقل إلى المرأة الأولى. (إلا في تسع) أي إلا في تاسع ليلة، إذ يمر على ثمان في ثمان، فقول النووي: لا ينتهي إلى الأولى إلا بعد انقضاء التسع معناه بما فيها ليلة الأولى.

(في بيت التي يأتيها) أي يضاجعها، أي صاحبة الليلة. (فجاءت زينب) أي بنت جحش، بنت عمته أم المؤمنين رضي الله عنها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد تزوج امرأة أخرى اسمها زينب بنت خزيمة، لكنها ماتت بعد شهرين من زواجها منه صلى الله عليه وسلم، فليست المرادة هنا. (فقالت: هذه زينب) أي فقالت عائشة، كما هو معلوم من السياق، وإن كان فيه تشتيت للضمائر. وليس المقصود الإفادة بأنها زينب، بل المقصود لازم الفائدة، أي ليست عائشة صاحبة الليلة ومقدماتها. (فتقاولتا) أي افتعلت كل منهما القول وتكلفته ودفعته نحو الأخرى، تتنازعان أحقية هذه اللمسة. (حتى استخبتا) بالتاء المثناة المفتوحة ثم الخاء المفتوحة، ثم الباء المفتوحة، ثم تاء المؤنثة، يقال: استخب بالسين، من السخب، واصطخب من الصخب بمعنى، وهو اختلاط الأصوات وارتفاعها. هكذا هو في معظم الأصول، وهو رواية الجمهور، وفي بعض النسخ "استخبثتا" أي قالتا الكلام الرديء الخبيث، وفي بعضها "استحيتا" من الاستحياء، وفي بعضها "استحثتا" أي حثت كل واحدة في وجه الأخرى التراب، وهذا بعيد، ولعله تصحيف. (فيفعل بي ويفعل) حذف المفعول وتكرير الفعل للتهويل. (أتصنعين هذا) الاستفهام إنكاري توبيخي، بمعنى لا ينبغي، والمشار إليه الصخب فالمعنى: لا ينبغي ولا يليق أن تحدثي صخبا في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. -[فقه الحديث]- القسم والعدل بين الزوجات واجب على المسلمين. وفي وجوبه على النبي صلى الله عليه وسلم خلاف، لكنه صلى الله عليه وسلم كان قائمًا به، بكل دقة. قال النووي: مذهبنا أنه لا يلزمه أن يقسم لنسائه، بل له اجتنابهن كلهن، لكن يكره تعطيلهن مخافة من الفتنة عليهن، والإضرار بهن، فإن أراد القسم لم يجز له أن يبتدئ بواحدة منهن إلا بقرعة، ويجوز أن يقسم ليلة ليلة، وليلتين ليلتين، وثلاثًا ثلاثًا، ولا يجوز أقل من ليلة، ولا يجوز الزيادة على الثلاث إلا برضاهن. هذا هو الصحيح في مذهبنا، وفيه أوجه ضعيفة في هذه المسائل غير ما ذكرته. واتفقوا على أنه يجوز أن يطوف عليهن كلهن، ويطأهن في الساعة الواحدة، برضاهن، ولا يجوز ذلك بغير رضاهن، وإذا قسم كان لها اليوم الذي بعد ليلتها، ويقسم للمريضة والحائض والنفساء لأنه يحصل لها الأنس به، ولأنه يستمتع بها بغير الوطء، من قبلة ونظر ولمس وغير ذلك.

قال أصحابنا: وإذا قسم لا يلزمه الوطء، ولا التسوية فيه، بل له أن يبيت عندهن، ولا يطأ واحدة منهن، وله أن يطأ بعضهن في نوبتها دون بعض، لكن يستحب ألا يعطلهن، وأن يسوي بينهن في ذلك. اهـ. وسبب الخلاف في وجوب القسم على النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن} [الأحزاب: 51]. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - أنه لا يستحب أن يزيد المسلم في القسم على ليلة ليلة، والمراد اليوم مع الليلة، قال البدر العيني: ذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه لا يزاد في القسم على يوم وليلة، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبه قال مالك وأبو ثور وأبو إسحاق المروزي من الشافعية، وحمل الشافعي ذلك على الأولوية، والاستحباب، ونص على جواز القسم ليلتين ليلتين، وثلاثًا ثلاثًا، وقال في المختصر: وأكره مجاوزة الثلاث، فحمله الأكثرون على المنع، ونقل عن نصه في الإملاء أنه كان يقسم مياومة - أي يومًا يومًا ومشاهرة - أي شهرًا شهرًا - ومسانهة - أي سنة سنة. قال الرافعي: فحملوه على ما إذا رضين، ولم يجعلوه قولا آخر، وحكي عن صاحب التقريب أنه يجوز أن يقسم سبعًا سبعًا، وعن الجويني وغيره أنه تجوز الزيادة ما لم تبلغ التربص بمدة الإيلاء، وقال إمام الحرمين: لا يجوز أن يبنى القسم على خمس سنين مثلاً، وحكى الغزالي في البسيط وجهًا: أنه لا تقدير بزمان، ولا توقيت أصلاً، فإنما التقدير إلى الزوج، وقال ابن المنذر: ولا أرى مجاوزة يوم، إذ لا حجة مع تخطي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غيرها، ألا ترى قوله في الحديث "إن سودة وهبت يومها لعائشة"؟ ولم يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قسمته لأزواجه أكثر من يوم وليلة، ولو جاز ثلاثة لجاز خمسة وشهرًا، ثم يتخطى بالقول إلى ما لا نهاية له، فلا يجوز معارضته السنة. والذي تستريح إليه النفس أنه يستحب ألا يزيد في القسم عن يوم وليلة، لئلا يعرض الحقوق للضياع، فقد يحال بينه وبين الوفاء بالحقوق بسبب المرض أو السفر أو العجز أو الموت. 2 - أنه يستحب للزوج أن يأتي كل امرأة في بيتها، ليقضي معها ليلتها، ولا يدعوها إلى بيته، لكن إن دعا كل واحدة في نوبتها إلى بيته كان له ذلك، وهو خلاف الأفضل، ولو دعاها إلى بيت ضرائرها لم تلزمها الإجابة، ولا تكون بالامتناع ناشزة، بخلاف ما إذا امتنعت من الإتيان إلى بيته، لأن عليها ضررًا في الإتيان إلى ضرتها. قاله النووي. 3 - أخذ بعضهم أنه يستحب أن لا يمس امرأة في بيت الأخرى في ليلتها، وقد اعتذر بعض العلماء عن مد الرسول صلى الله عليه وسلم يده إلى زينب بأنه لم يكن عمدًا، بل ظنها عائشة صاحبة النوبة، قال: لأنه كان في الليل، وليس في البيوت مصابيح. وهذا اعتذار بعيد، فإن عائشة كانت موجودة من مدة وزينب دخلت، ومن الصعب أن نتصور اختلاطهما، وقيل: كان ذلك برضاهن. وهو بعيد أيضًا، فكلام عائشة ظاهر في عدم رضاها. والذي تستريح إليه النفس أن مثل هذا مباح، وكف صلى الله عليه وسلم يده استجابة لأحاسيس عائشة، وإرضاء لها.

4 - قد يحتج الحنفية به على أن اللمس لا ينقض الوضوء، قال النووي: ولا حجة فيه، فإنه لم يذكر أنه لمس بلا حائل، ولا أنه صلى ولم يتوضأ. 5 - وفي الحديث ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من حسن الخلق، ولطف المعاملة. 6 - وفيه فضيلة لأبي بكر رضي الله عنه، وشفقته ونظره في المصالح. 7 - وفي قوله "اخرج إلى الصلاة، واحث في أفواههن التراب" إشارة المفضول على صاحبه الفاضل بما فيه مصلحته. 8 - وفيه غيرة النساء، وطبيعة المرأة. واللَّه أعلم

(392) باب جواز هبة المرأة نوبتها لضرتها

(392) باب جواز هبة المرأة نوبتها لضرتها 3208 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت امرأة أحب إلي أن أكون في مسلاخها من سودة بنت زمعة. من امرأة فيها حدة. قالت: فلما كبرت جعلت يومها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة. قالت: يا رسول الله، قد جعلت يومي منك لعائشة. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومين: يومها، ويوم سودة. 3209 - وعن هشام بهذا الإسناد: أن سودة لما كبرت، بمعنى حديث جرير وزاد في حديث شريك "قالت: وكانت أول امرأة تزوجها بعدي". 3210 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول: وتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل الله عز وجل {ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت} قالت: قلت: والله ما أرى ربك إلا يسارع لك في هواك. 3211 - عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول: أما تستحيي امرأة تهب نفسها لرجل؟ حتى أنزل الله عز وجل: {ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء} فقلت: إن ربك ليسارع لك في هواك. 3212 - عن عطاء قال: حضرنا، مع ابن عباس، جنازة ميمونة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، بسرف. فقال ابن عباس: هذه زوج النبي صلى الله عليه وسلم. فإذا رفعتم نعشها فلا تزعزعوا. ولا تزلزلوا. وارفقوا. فإنه كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع. فكان يقسم لثمان ولا يقسم لواحدة قال عطاء التي لا يقسم لها صفية بنت حيي بن أخطب.

3213 - وزاد في رواية: قال عطاء: كانت آخرهن موتًا. ماتت بالمدينة. -[المعنى العام]- عاش صلى الله عليه وسلم مع خديجة رضي الله عنها نحو خمس وعشرين سنة، لم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت، فأحس بوحدة وأسى، حتى سمي عام وفاتها عام الحزن، وجاءته الخاطبة تنصحه بالزواج، وعرضت عليه بكرًا وثيبًا، أما البكر فعائشة وأما الثيب فسودة، فخطبهما صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة بنحو عامين، وعقد عليهما، عقد على عائشة، ثم عقد على سودة، عقد على عائشة حبًا في أبيها، فهي لم تتجاوز السادسة أو السابعة من عمرها، أما سودة فهي تناهز الخمسين من عمرها، دخل على سودة قبل الهجرة بسنتين، ودخل على عائشة بعد الهجرة بعام أو يزيد، ثم تزوج حفصة بنت عمر وزينب بنت خزيمة، فماتت عنده بعد شهرين، فتزوج أم سلمة، ثم جويرية بنت الحارث، ثم زينب بنت جحش، ثم أم حبيبة بنت أبي سفيان، ثم صفية بنت حيي، ثم ميمونة بنت الحارث، فاجتمع عنده تسع من النساء يقسم لكل واحدة منهن ليلة ويومًا، هذا قسمه صلى الله عليه وسلم فيما يملك، وهو الإقامة والمبيت، لكن ما لا يملكه قلبه وحبه وميله، فقد كان حب عائشة بقدر لا يخفى على الزوجات، بل لا يخفى على الصحابة، حتى كانوا يتحرون بهداياهم له يوم عائشة، يوم سكنه وسروره وانبساطه، وكانت رغبته في سودة أقل الرغبات، فقد طعنت في الستين، وكانت ثبطة ضخمة الجسم، ثقيلة الوزن والحركة، ووهن عظمها، واشتعل بالشيب رأسها، بسيطة في تفكيرها، سهلة الانقياد لعائشة، مستسلمة لها، حتى كادت لا تعد من الزوجات، بل أشيع أن الرسول صلى الله عليه وسلم طلقها، أو هو على وشك تطليقها، وعلمت بذلك، وخشيت إن هي انتظرته في ليلتها لتحدثه عما في نفسها أن يفوت الوقت، ويقع الطلاق، فمتى وأين تكلمه؟ إنها تجتمع مع صواحباتها في بيت إحداهن كل ليلة، لكنها لا تستطيع أن تفاتحه في أمر كهذا أمامهن، فانتظرته في طريقه من المسجد إلى بيت إحدى الزوجات صاحبة النوبة عصر يوم من الأيام، ثم استوقفته، فقالت: يا رسول الله، هل طلقتني أو ستطلقني لموجدة وجدتها علي؟ أي لعيب أو خطأ أستطيع إصلاحه؟ قال: لا. قالت: والذي بعثك بالحق. مالي في الرجال حاجة، ولكن أحب أن أبعث مع نسائك يوم القيامة. إن كنت طلقتني فراجعني، فإني قد جعلت يومي وليلتي منك لعائشة حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم تبتغي بذلك مرضاته صلى الله عليه وسلم، وقبل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا العرض، الذي رفع عن كاهله ثقل القسم، فكان يقسم لعائشة يومها ويوم سودة. هذا عن تنازل سودة عن يومها لعائشة، أما عن الزوجات اللائي يرغبن في الزواج من رسول الله صلى الله عليه وسلم تشرفًا ورغبة في القرب منه فقد كثر عرضهن، حتى عرضت إحدى أمهات المؤمنين أختها عليه، وحتى كثر الواهبات أنفسهن له صلى الله عليه وسلم، وحتى أنزل الله له حرية القبول والرفض،

{ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء} [الأحزاب: 51] لكنه صلى اللَّه عليه وسلم توقف عند التسع، ولم يزد صلى اللَّه عليه وسلم، ورضي عن زوجاته أمهات المؤمنين. -[المباحث العربية]- (ما رأيت امرأة أحب إلي أن أكون في مسلاخها من سودة) المسلاخ بكسر الميم الجلد، أي أن أكون أنا هي. والمعنى ليس هناك امرأة أحب أن أعمل عملها أكثر من سودة. (من امرأة فيها حدة) الحدة بكسر الحاء وتشديد الدال الشدة وسرعة الغضب، وتطلق على حدة الذهن والذكاء وقوة القريحة، وضبط النفس، وهذا هو المراد هنا، إذ لم ترد عائشة أن تعيب سودة، ثم إن سودة معروفة في تاريخها بغير سرعة الغضب، ثم إن ما حدثت به عنها من تنازلها عن يومها لعائشة ذكاء وحسن تصرف، وبعد نظر، وغاية في التسامح والحكمة، فـ"من" في "من امرأة" بيانية، ويجوز حمل الحدة على المعنى الأول، فقد ذكر في الإصابة وصحح عن عائشة قولها: "إن بها إلا حدة فيها" أي ما كان فيها من عيب إلا حدة وسرعة غضب "كانت تسرع منها اللعنة". (فلما كبرت) الكبر والصغر أمر نسبي، فقد تزوجت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كبيرة، فالمراد زادت كبرًا. (جعلت يومها) أي نوبتها، وهي يوم وليلة من كل تسع ليال بأيامها. (وكانت أول امرأة تزوجها بعدي) قال النووي: كذا ذكره مسلم أنه صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة قبل سودة، وروي أنه تزوج سودة قبل عائشة. قال الحافظ ابن حجر: معناه عقد على سودة بعد أن عقد على عائشة، وأما دخوله على سودة فكان قبل دخوله على عائشة بالاتفاق. نبه على ذلك ابن الجوزي. (كنت أغار على اللائي وهبن أنفسهن لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم) كذا وقع هنا "أغار" بالغين، والمراد أنتقد وألوم وأعتب، يؤيد هذا المعنى رواية الإسماعيلي بلفظ "كانت تعير اللائي وهبن أنفسهن" بالعين. كما يؤيد هذا المراد قولها في روايتنا الرابعة "أما تستحيي امرأة تهب نفسها لرجل"؟ وليس في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل هبة من وهبت نفسها له، لكن فيه أن الواهبة كانت أكثر من واحدة، قال الحافظ ابن حجر: في النكاح حديث سهل بن سعد أن امرأة قالت: يا رسول الله إني وهبت لك نفسي .. " وفيه قصة الرجل الذي طلبها، وقال له: "التمس ولو خاتمًا من حديد". ومن حديث أنس "أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت له: إن لي ابنة - وذكرت عن جمالها فآثرتك بها. فقال: قد قبلتها. فلم تزل تذكر، حتى قالت: لم تصدع قط. فقال: لا حاجة لي في ابنتك" وهذه امرأة أخرى بلا شك، وعن أبي حاتم من حديث عائشة "التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم هي خولة بنت حكيم" أشار إليه البخاري معلقًا. ومن طريق الشعبي قال: من الواهبات أم شريك، وأخرجه النسائي. وعند

معمر بن المثنى أن من الواهبات فاطمة بنت شريح، وقيل: إن ليلى بنت الحكيم ممن وهبن أنفسهن، ومنهن زينب بنت خزيمة - جاء عن الشعبي وليس بثابت - وعن ابن عباس قال: التي وهبت نفسها ميمونة بنت الحارث. وهذا منقطع وإسناده ضعيف، ويعارضه حديث سماك عن عكرمة عن ابن عباس "لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها له" أخرجه الطبري، وإسناده حسن، والمراد أنه لم يدخل بواحدة ممن وهبت نفسها له - وإن كان مباحًا له، لأنه راجع إلى إرادته، لقوله تعالى: {إن أراد النبي أن يستنكحها} [الأحزاب: 50]. (وأقول: وتهب المرأة نفسها؟ ) الكلام على الاستفهام الإنكاري التوبيخي والواو عاطفة على محذوف والتقدير أتخلع المرأة برقع الحياء؟ وتهب نفسها؟ لا ينبغي ولا يليق ذلك. {ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن} [الأحزاب: 51]. "ترجي" أي ترجئ وتؤخر "وترجئ" بالهمز قرئ به "من تشاء منهن" أي من نسائك أو من نساء الأمة، "وتؤوي إليك من تشاء" أي وتضم إليك من تشاء من نسائك، وتضاجعها، أو تطلق من تشاء منهن، وتمسك من تشاء، أو تقبل من تشاء من الواهبات، وترد من تشاء، واللفظ محتمل لكل الأقوال "ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك" أي ومن طلبتها ممن تجنبتها فلا إثم عليك "ذلك" أي تفويض الأمر إلى مشيئتك "أدنى" أي أقرب إلى {أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضون بما آتيتهن كلهن} أي أقرب إلى قرة عيونهن وسرورهن ورضاهن جميعًا، لأنه حكم، كلهن فيه سواء، إن سويت بينهن وجدن ذلك تفضلاً منك، وإن رجحت بعضهن علمن أنه بحكم الله تعالى، فتطمئن نفوسهن. (واللَّه ما أرى ربك إلا يسارع لك في هواك) في الرواية الرابعة "إن ربك ليسارع لك في هواك". و"أرى" بفتح الهمزة، معناه أعلم وأعتقد، أن ربك يخفف عنك، ويوسع عليك في الأمور، ولهذا خيرك، وفوض الأمر إلى مشيئتك. (حضرنا مع ابن عباس جنازة ميمونة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم بسرف) "ميمونة" بنت الحارث الهلالية أخت لبابة أم الفضل زوجة عمه العباس، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة في عمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع من الهجرة، وكانت زوجة لأبي رهم، فتأيمت منه. وهي آخر من دخل بها من أزواجه صلى الله عليه وسلم، دخل بها في "سرف" بفتح السين، وكسر الراء بعدها فاء، وهو مكان يقرب من مكة، بينها وبينه ستة أميال، أي أكثر من عشرة كيلو مترات، أعدت لها قبة بسرف دخلت فيها، وكانت وفاتها سنة إحدى وستين - وكذا قال الواقدي، وكانت آخر زوجاته صلى الله عليه وسلم موتًا، ماتت بمكة، ويقال: إنها دفنت في موضع قبتها التي تزوجت فيها بسرف، بناء على وصيتها لابن عباس، ابن أختها رضي الله عنهم. وفي ملحق الرواية الخامسة "قال عطاء: كانت آخرهن موتًا. ماتت بالمدينة" قال

القاضي عياض: قوله "بالمدينة" وهم، فقد ماتت بسرف، وهي قريبة من مكة، وقال النووي: يحتمل أن قوله "بالمدينة" عائد على صفية، ولفظه فيه صحيح يحتمله، أو ظاهر فيه. اهـ. إذ كان آخر الرواية الخامسة "قال عطاء: التي لا يقسم لها صفية بنت حيي بن أخطب" فيصح بعده "ماتت بالمدينة"، لكن يعكر على هذا الاحتمال قوله "وكانت آخرهن موتًا" وصفية ماتت سنة خمسين، وعائشة سنة سبع وخمسين، وميمونة سنة إحدى وستين. ففي كلام عطاء وهم، إما في "ماتت بالمدينة" وإما في "كانت آخرهن موتًا" قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن المراد من المدينة البلد الكبير، ويقصد به مكة. وهناك وهم آخر وهو قوله "التي لا يقسم لها صفية بنت حيي بن أخطب" قال العلماء: هو وهم من ابن جريج الراوي عن عطاء، والصواب "سودة" كما سبق في الأحاديث. (فإذا رفعتم نعشها فلا تزعزعوا ولا تزلزلوا وارفقوا) النعش السرير الذي يوضع عليه الميت، والزعزعة تحريك الشيء الذي يرفع، والزلزلة الاضطراب، والمراد من الرفق السير الوسط المعتدل. -[فقه الحديث]- قال النووي: فيه جواز هبة المرأة نوبتها لضرتها، لأنه حقها، لكن يشترط رضا الزوج بذلك، لأن له حقًا في الواهبة، فلا يفوته إلا برضاه. ولا يجوز أن تأخذ على هذه الهبة عوضًا. ويجوز أن تهب للزوج نوبتها، فيجعل الزوج نوبتها لمن شاء، وقيل: يلزمه توزيعها على الباقيات، ويجعل الواهبة كالمعدومة، والأول أصح. وللواهبة الرجوع متى شاءت، فترجع في المستقبل، دون الماضي - أي لا تطالب بعوض عما فات من نوبات نتيجة لهبتها - لأن الهبات يرجع فيما لم يقبض منها، دون المقبوض، وهذا مذهب الثوري والشافعي وأحمد، وأخرجه البيهقي عن علي، وحكاه ابن المنذر عن جماعة، وقالوا: إن رجعت فعليه أن يقسم لها، وإن شاء فارقها وعن الحسن: ليس لها أن تنقض هبتها، وهو قياس قول مالك في العارية. قال: والأصح عند أصحابنا أنه لا يجوز الموالاة للموهوب لها إلا برضى الباقيات، فمعنى "كان يقسم لعائشة يومين. يومها ويوم سودة" أنه كان يكون عند عائشة في يومها، ويكون عندها أيضًا في يوم سودة، لا أنه يوالي لها اليومين، قال: وجوز الموالاة بغير رضاهن له بعض أصحابنا، وهو ضعيف. هذا ورواياتنا الثالثة والرابعة والخامسة ليست في هبة المرأة نوبتها لضرتها، وإن كانت في القسم بصفة عامة، ويمكن أن توضع تحت عنوان: هبة المرأة نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، وواضح أن هذا غير هبة المرأة نوبتها لضرتها.

قال النووي: هبة المرأة نفسها من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو زواج من وهبت نفسها له بلا مهر، قال تعالى: {خالصة لك من دون المؤمنين} [الأحزاب: 50]. اهـ. وقال الحافظ ابن حجر: ذهب الجمهور إلى بطلان نكاح المؤمن بلفظ الهبة المجرد، من غير ذكر المهر، وأجازه الحنفية والأوزاعي، ولكن قالوا: يجب مهر المثل، وقال الأوزاعي: إن تزوج بلفظ الهبة، وشرط أن لا مهر، لم يصح النكاح، وحجة الجمهور قوله تعالى: {خالصة لك من دون المؤمنين} فعدوا ذلك من خصائصه، صلى الله عليه وسلم، وأنه يتزوج بلفظ الهبة، بغير مهر، في الحال ولا في المآل، وأجاب المجيزون عن ذلك بأن المراد أن الواهبة تختص به، لا مطلق الهبة. اهـ أي فليس معنى الآية أن الهبة خالصة لك من دون المؤمنين، ولكن معناها إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة له، مختصة به من دون المؤمنين، وهو تأويل فاسد، لأن كل نكاح تكون فيه الزوجة خالصة لزوجها. فلا معنى لذكر خالصة لك من دون المؤمنين. أما عقد النكاح بجميع أركانه لكن بلفظ الهبة. هل يكون من ألفاظ الكناية؟ ويصح النكاح به؟ ذهب الشافعية وطائفة إلى أن النكاح لا يصح إلا بلفظ النكاح أو التزويج، لأنهما الصريحان اللذان ورد بهما القرآن والحديث، وذهب الأكثرون إلى أنه يصح بالكنايات، واحتج الطحاوي لهم بالقياس على الطلاق، فإنه يجوز بصرائحه، وبكناياته مع القصد. والله أعلم. واستدل بعضهم بالرواية الثالثة والرابعة، وبقوله تعالى: {ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء} على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن مطالبًا بالقسم بين زوجاته، وهذا الاستدلال غير مسلم، فقد ذكرنا أنه أحد التفسيرات للآية. واستدل بعضهم بقول عائشة "ما أرى ربك إلا يسارع في هواك" على أن الغيرة يغتفر لأجلها بعض التعبير غير السليم، فإن عائشة أضافت الهوى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظاهر هذه الإضافة غير سليم، لأنه لا ينطق عن الهوى، ولا يفعل بالهوى، ولو قالت "إلى مرضاتك" لكان أليق. والله أعلم. أما الرواية الخامسة فعلاقتها بالباب قوله "كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع، فكان يقسم لثمان ولا يقسم لواحدة" وفيها من الوهم ما ذكرنا. والله أعلم. ويؤخذ من قوله فيها "فلا تزعزعوها إلخ" أن حرمة المؤمن بعد موته باقية، كما كانت في حياته، قال الحافظ ابن حجر: وفيه حديث "كسر عظم المؤمن ميتًا ككسره حيًا" أخرجه أبو داود وابن ماجه وصححه ابن حبان. واللَّه أعلم

(393) استحباب نكاح ذات الدين ونكاح البكر

(393) استحباب نكاح ذات الدين ونكاح البكر 3214 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها. فاظفر بذات الدين تربت يداك". 3215 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: تزوجت امرأة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلقيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال "يا جابر تزوجت؟ " قلت: نعم. قال "بكر أم ثيب؟ " قلت: ثيب قال "فهلا بكرًا تلاعبها؟ " قلت: يا رسول الله، إن لي أخوات. فخشيت أن تدخل بيني وبينهن. قال "فذاك إذن. إن المرأة تنكح على دينها، ومالها، وجمالها، فعليك بذات الدين تربت يداك". 3216 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: تزوجت امرأة. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "هل تزوجت؟ " قلت: نعم. قال "أبكرًا أم ثيبًا؟ " قلت: ثيبًا. قال "فأين أنت من العذارى ولعابها؟ ". قال شعبة: فذكرته لعمرو بن دينار. فقال: قد سمعته من جابر. وإنما قال "فهلا جارية تلاعبها وتلاعبك؟ ". 3217 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن عبد الله هلك وترك تسع بنات (أو قال: سبع) فتزوجت امرأة ثيبًا. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا جابر تزوجت؟ " قال: قلت: نعم. قال "فبكر أم ثيب؟ " قال: قلت: بل ثيب يا رسول الله. قال "فهلا جارية تلاعبها وتلاعبك" (أو قال: تضاحكها وتضاحكك) قال. قلت له: إن عبد الله هلك وترك تسع بنات (أو سبع) وإني كرهت أن آتيهن أو أجيئهن بمثلهن. فأحببت أن أجيء بامرأة تقوم عليهن وتصلحهن. قال "فبارك الله لك" أو قال لي خيرًا. وفي رواية أبي الربيع: "تلاعبها وتلاعبك وتضاحكها وتضاحكك".

3218 - - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "هل نكحت يا جابر؟ " وساق الحديث. إلى قوله: امرأة تقوم عليهن وتمشطهن. قال "أصبت" ولم يذكر ما بعده. 3219 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فلما أقبلنا تعجلت على بعير لي قطوف. فلحقني راكب خلفي. فنخس بعيري بعنزة كانت معه. فانطلق بعيري كأجود ما أنت راء من الإبل. فالتفت فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "ما يعجلك يا جابر؟ " قلت: يا رسول الله، إني حديث عهد بعرس. فقال "أبكرًا تزوجتها أم ثيبًا؟ " قال: قلت: بل ثيبًا. قال "هلا جارية تلاعبها وتلاعبك؟ " قال: فلما قدمنا المدينة ذهبنا لندخل، فقال "امهلوا حتى ندخل ليلاً (أي عشاء) كي تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة". قال: وقال "إذا قدمت فالكيس الكيس". 3220 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة. فأبطأ بي جملي. فأتى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي "يا جابر" قلت: نعم. قال "ما شأنك؟ " قلت: أبطأ بي جملي وأعيا فتخلفت. فنزل فحجنه بمحجنه. ثم قال "اركب" فركبت. فلقد رأيتني أكفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "أتزوجت؟ " فقلت: نعم فقال "أبكرًا أم ثيبًا؟ " فقلت: بل ثيب. قال "فهلا جارية تلاعبها وتلاعبك؟ " قلت: إن لي أخوات. فأحببت أن أتزوج امرأة تجمعهن وتمشطهن وتقوم عليهن. قال "أما إنك قادم. فإذا قدمت فالكيس الكيس" ثم قال "أتبيع جملك؟ " قلت: نعم. فاشتراه مني بأوقية. ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدمت بالغداة. فجئت المسجد فوجدته على باب المسجد. فقال "الآن حين قدمت؟ " قلت: نعم. قال "فدع جملك وادخل فصل ركعتين" قال: فدخلت فصليت. ثم رجعت. فأمر بلالاً أن يزن لي أوقية. فوزن لي بلال فأرجح في الميزان. قال: فانطلقت. فلما وليت قال "ادع لي جابرًا" فدعيت. فقلت: الآن يرد علي الجمل. ولم يكن شيء أبغض إلي منه. فقال "خذ جملك ولك ثمنه".

3221 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا في مسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا على ناضح. إنما هو في أخريات الناس. قال فضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال نخسه. (أراه قال) بشيء كان معه. قال: فجعل بعد ذلك يتقدم الناس. ينازعني حتى إني لأكفه. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أتبيعنيه بكذا وكذا؟ والله يغفر لك" قال: قلت: هو لك. يا نبي الله. قال "أتبيعنيه بكذا وكذا؟ والله يغفر لك" قال: قلت: هو لك يا نبي الله. قال: وقال لي "أتزوجت بعد أبيك؟ " قلت: نعم. قال "ثيبًا أم بكرًا؟ " قال: قلت: ثيبًا. قال "فهلا تزوجت بكرًا تضاحكك وتضاحكها وتلاعبك وتلاعبها؟ ". قال أبو نضرة: فكانت كلمة يقولها المسلمون. افعل كذا وكذا. والله يغفر لك. -[المعنى العام]- النكاح عماد الحياة، وأساس عمارة الأرض، واستمرار الإنسان على ظهر الأرض، به العفة والمودة والسكن، والاستقرار والمساعدة على مشاق الحياة ومشاكلها، ومنه يخلق لنا جل شأنه بنين وحفدة. والمرأة الحسنة متاع الرجل، بل خير متاع للرجل في الدنيا، والمرأة السوء أساس شقاء الرجل وتعاسته فيها. من هنا كان لا بد أن يتخير الرجل شريكته، وأن يبذل جهده في التحري والانتقاء، وأن يهتم أولاً بالدين فكل فضائل المرأة ومحاسنها تصبح شرًا، أو مصدر شر إذا لم تتحصن بالدين. نعم قد يكون من المرغبات في الزوجة مالها، وحسبها، وجمالها، وثقافتها، ورجاحة عقلها، ورقة معاملاتها ورهافة أحاسيسها، وكل ذلك مقاصد مشروعة، لكن لا بد أن تحاط بالأخلاق والدين. وزواج البكر مقصد مشروع مستحب، دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنها تشارك الزوج الشاب تمتعه ولعبه ومضاحكته ومداعباته وفكاهاته وغير ذلك مما يثير الغريزة الجنسية، ويزيد الترابط والتواد بين الزوجين، نعم قد يضطر الشاب إلى زواج غير البكر لمصلحة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج إحدى عشرة امرأة، لم يتزوج بكرًا منهن إلا واحدة، وهذا جابر بن عبد الله الشاب الفتي، يتزوج ثيبًا، لأن أباه مات وترك تسع بنات، لو جاءهن ببنت مثلهن ما استقامت حياته ولا حياتهن، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم، واستحسن عمله، ودعا له ولزوجه، وأعانه وأكرمه. لقد استشهد أبوه في غزوة أحد، والنبي صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، لقد بشر جابرًا بحسن خاتمة أبيه، وبأنه رآه بعد موته في المنام، يقول له ربه: تمن علي، فقال: أتمنى أن أحيا فأقتل في

سبيل الله، ثم أحيا ثم أقتل. لما رأى من نعيم الله وفضيلة ما حصل عليه من الشهادة في سبيل الله. وتكميلاً للبشرى، ورعاية لجابر ابن الشهيد، رآه يسير بجمل ضعيف في آخر القوم في عودتهم من إحدى الغزوات، ورسول الله صلى الله عليه وسلم خير من يرعى الرعية، ويحرص عليها، ويحوطها بالعناية، فتأخر صلى الله عليه وسلم حتى جاء من خلف جابر. فقال له: ما شأنك يا جابر؟ فشكا له جمله، فنخسه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له بالبركة، فقام الجمل وأسرع كأحسن جمل في الركب، واشتراه منه صلى الله عليه وسلم، ثم رد عليه الجمل وأبقى له الثمن، هبة وعونًا وكرمًا وتكرمًا صلى الله عليه وسلم، ورضي عن الصحابة أجمعين. -[المباحث العربية]- (تنكح المرأة) ببناء الفعل للمجهول، و"المرأة" نائب فاعل، والأصل: ينكح الناكح المرأة. (لأربع) إذا حذف تمييز العدد كما هنا جاز في العدد التذكير والتأنيث، التذكير إذا قدر المعدود مؤنثًا، والتأنيث إذا قدر مذكرًا، والتقدير هنا لأربع خصال. (لمالها) بدل من السابق بإعادة حرف الجر، وإعادة حرف الجر يشير إلى استقلال كل في المقصد. (ولحسبها) الحسب في الأصل الشرف بالآباء والأقارب، مأخوذ من الحساب، لأنهم كانوا إذا تفاخروا عدوا مناقبهم، ومآثر آبائهم وأجدادهم، وحسبوها، فيحكم لمن زاد عدده على غيره بالشرف، وقيل: الحسب المال، وهو مردود، لذكر المال قبله، وذكره معطوفًا عليه، وأما ما أخرجه أحمد والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم من حديث بريدة، رفعه "إن أحساب أهل الدنيا الذي يذهبون إليه المال" فيحتمل أن يكون المراد أنه حسب من لا حسب له، فيقوم المال لصاحبه مقام الحسب لمن لا نسب له، ومنه حديث سمرة رفعه "الحسب المال، والكرم التقوى" أخرجه أحمد والترمذي وصححه هو والحاكم، ويحتمل أن هذين الحديثين يشيران إلى خطأ أهل الدنيا في اعتبارهم المال واعتدادهم به كالحسب وزيادة، وكأنه يقول: إن شأن أهل الدنيا في بعض المجتمعات وفي بعض الأزمنة يرفعون كثير المال وإن كان وضيعًا، ويضعون من كان مقلاً ولو كان رفيع النسب. وهو موجود مشاهد، لكن لا يقره شرع ولا عقل سليم. (ولجمالها) في رواية للبخاري "وجمالها" بدون اللام، وعليها حذف اللام الجارة قد يكون للإشارة إلى أن صفة الجمال قد لا تقصد لذاتها، بل تقصد تابعة لغيرها. (فاظفر بذات الدين) الفاء في جواب شرط مقدر، أي إذا تحققت ما فصلت لك فاظفر بذات الدين، أي صاحبة الدين، وفي الرواية الثانية "فعليك بذات الدين" والظفر هو

تحصيل البغية، والمعنى أن اللائق بذي الدين والمروءة أن يكون الدين مطمح نظره في كل شيء، لا سيما فيما تطول صحبته. (تربت يداك) الجملة جواب شرط مقدر، أي إن خالفت ما أمرتك به افتقرت، يقال: ترب الرجل إذا افتقر، وأصله: التصقت يداه بالتراب، ويلزمه الفقر، فالجملة خبرية لفظًا ومعنى، وقيل: هي خبرية لفظًا طلبية دعائية معنى، لكنها لا يراد بها حقيقة الدعاء، بل القصد منها الحث على امتثال الأمر الذي قبلها، وللعرب كلمات توسعوا فيها، حتى أخرجوها عن حقيقتها، لإرادة الإنكار، أو التعجب، أو التعظيم أو الحث على الشيء كما هنا. ومن هذه الكلمات فلان لا أب له. ثكلته أمه. لا أم له. (تزوجت امرأة) ذكر ابن سعد أن اسمها كان سهلة بنت مسعود بن أوس بن مالك الأنصارية الأوسية. (فلقيت النبي صلى الله عليه وسلم) الرواية الخامسة والسادسة وضحتا أن هذا اللقاء كان في العودة من غزوة، قيل: هي غزوة ذات الرقاع، في السنة الخامسة. (يا جابر. تزوجت؟ ) الكلام على حذف حرف الاستفهام، ففي الرواية الثالثة "هل تزوجت"؟ وفي الرواية الخامسة أن جابرًا رضي الله عنه هو الذي أخبر أنه تزوج، إذ فيها "ما يعجلك يا جابر" أي ما الذي يدفعك إلى العجلة؟ ومحاولة الإسراع؟ "قال: قلت: يا رسول الله، إني حديث عهد بعرس" فالاستفهام "أتزوجت"؟ على هذا للتعجب والاستحسان، وكذا في قوله في الرواية السابقة "أتزوجت بعد أبيك"؟ وظاهره أن السؤال وقع عقب تزوجه، وليس كذلك، بل الحقيقة أن بين تزوجه والسؤال مدة طويلة. قاله الحافظ ابن حجر، ربما لعدم اللقاء، وربما لعدم ظهور الدافع إلى السؤال، وهو الظاهر. (قال: بكر؟ أم ثيب؟ ) "بكر" خبر مبتدأ محذوف، تقديره: التي تزوجتها بكر؟ وفي الرواية الثالثة والسادسة والسابعة "أبكرًا" بالنصب، مفعول به لفعل محذوف، وفي الرواية الخامسة "أبكرًا تزوجتها أم ثيبًا" فبكرًا منصوب على الاشتغال. (قلت: ثيب) "ثيب" خبر مبتدأ محذوف، أي التي تزوجتها ثيب، وفي الرواية الثالثة. والسابعة "قلت: ثيبًا" مفعول به لفعل محذوف، أي تزوجت ثيبًا، وفي الرواية الرابعة والسادسة "بل ثيب" وفي الرواية الخامسة "بل ثيبًا" ببل التي للإضراب الإبطالي للشق الآخر، أي لم أتزوج بكرًا بل هي ثيب، أو بل تزوجت ثيبًا. (فهلا بكرًا تلاعبها؟ ) وفي ملحق الرواية الثالثة وفي الرواية الخامسة "فهلا جارية تلاعبها وتلاعبك" زاد في ملحق الرواية الرابعة وفي الرواية السابعة "وتضاحكها وتضاحكك" وفي رواية "أفلا جارية" والجارية البنت الصغيرة البكر، حرة كانت أو أمة، والمراد هنا الحرة. و"بكرًا" و"جارية"

بالنصب، مفعول به لفعل محذوف، تقديره فهلا تزوجت بكرًا؟ وهلا تزوجت جارية؟ أي بكرًا صغيرة؟ والملاعبة مفاعلة من الجانبين، من اللعب، والمقصود اللعب المباح، وما يقع بين الزوجين من المداعبة، يؤيد هذا المعنى رواية "وتضاحكها وتضاحكك" وعند الطبراني" وتعضها وتعضك" وليس شرطًا أن يكون الزوج البادئ بالملاعبة والمضاحكة، وإن كان هذا هو الغالب والشأن، لما جبلت عليه الفتاة من الحياء والخجل، ولذا جاء في الرواية السابعة بلفظ "وتضاحكك وتضاحكها وتلاعبك وتلاعبها" على غير الغالب. وفي الرواية الثالثة "فأين أنت من العذارى ولعابها"؟ والعذارى بفتح الراء الأبكار جمع عذراء، وهي التي لم تفض بكارتها. و"لعابها" هكذا ضبطه الأكثرون بكسر اللام، أي وملاعبتها، يقال: لاعب لعابًا وملاعبة، مثل قاتل قتالاً ومقاتلة، ووقع في رواية بضم اللام، والمراد به الريق، وفيه إشارة إلى مص لسانها، ورشف شفتيها، وذلك يقع عند الملاعبة والتقبيل. قال القرطبي: وهو ليس ببعيد. (عن جابر بن عبد اللَّه أن عبد اللَّه هلك) يريد أباه، ومعنى "هلك" مات، كقوله تعالى {إن امرؤ هلك ليس له ولد} [النساء: 176] فلا يقصد منه الذم، فقد مات أبوه شهيدًا في أحد. (وترك تسع بنات - أو قال: سبع) "سبع" بدون تنوين لملاحظة الإضافة، والأصل أو قال: سبع بنات، والشك من الراوي، وفي رواية الشعبي "ست بنات" قال الحافظ ابن حجر: فكأن ثلاثًا منهن كن متزوجات. اهـ فهن تسع، والسبع أو الست مقصود بهن غير المتزوجات اللائي يحمل مسئوليتهن. (وإني كرهت أن آتيهن أو أجيئهن بمثلهن) أي ببكر وهذا دليل على أنه أراد من أخواته غير المتزوجات. (فأحببت أن أجيء بامرأة تقوم عليهن وتصلحهن) في ملحق الرواية الرابعة "تقوم عليهن وتمشطهن" بفتح التاء وضم الشين، وفي الرواية السادسة "أن أتزوج امرأة تجمعهن" أي تضمهن، كأم لهن، لا تفرقهن، ولا توقع بينهن، ولا توغر صدري عليهن، أي تجمعهن علي، وتجمعهن مع بعضهن - وتمشطهن وتقوم عليهن" أي في غير ذلك من مصالحهن، وهو من ذكر العام بعد الخاص. وفي رواية "فكرهت أن أجمع إليهن جارية خرقاء مثلهن، ولكن امرأة تقوم عليهن وتمشطهن" والخرقاء بفتح الخاء وسكون الراء بعدها قاف هي التي لا تعمل بيدها شيئًا، وهي تأنيث الأخرق، وهو الجاهل بمصلحة نفسه وغيره. (قال: فبارك الله لك. أو قال لي خيرًا) في ملحق الرواية "قال: أصبت". (فلما أقبلنا تعجلت على بعير لي قطوف) قال النووي: هكذا هو في نسخ بلادنا "أقبلنا" أي رجعنا من الغزوة، وفي رواية "أقفلنا" بالفاء، ووجهه "قفلنا" أي رجعنا. اهـ ومعنى تعجله ظهوره بمظهر العجل في محاولة الإسراع بالبعير الضعيف، فالقطوف بفتح القاف بطيء المشي.

(فنخس بعيري بعنزة كانت معه) العنزة بفتح النون عصا في نحو نصف الرمح، في أسفلها "زج" بضم الزاي، أي حديدة، وفي الرواية السابعة "نخسه بشيء كان معه" وفي الرواية السادسة "فنزل فحجنه بمحجنة" والمحجن بكسر الميم عصا فيها تعقف، في رأسها اعوجاج. وفي الرواية الخامسة "تعجلت على بعير لي قطوف، فلحقني راكب خلفي، فنخس بعيري بعنزة كانت معه، فانطلق بعيري كأجود ما أنت راء من الإبل، فالتفت، فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم .. إلخ". وظاهرها أنه لم يعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعد النخس، وأن النخس كان بعنزة، وأن الناخس كان راكبًا، وأن جابرًا كان راكبًا. أما الرواية السادسة، وفيها "فأبطأ بي جملي فأتى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: يا جابر، قلت: نعم، قال: ما شأنك؟ قلت: أبطأ بي جملي وأعيا" أي تعب - "فتخلفت، فنزل"، [أي ونزلت، "فحجنه بمحجنه، ثم قال: اركب ... " وظاهرها أن الرسول صلى الله عليه وسلم كلمه قبل النخس، وأن النخس كان بمحجن، لا بعنزة، وهما مختلفان، وأن الناخس حين النخس لم يكن راكبًا، وأن جابرا لم يكن راكبًا. وللتوفيق بينهما يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم لحق جابرًا من خلفه فنخس جمله بعنزة وهما راكبان، فالتفت جابر، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله عن سبب تأخره، فشكا له جمله، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل جابر، فنخس الجمل بالمحجن، ثم قال لجابر: اركب، فركب، فكأن الجمل قد تغير حاله، ويحتمل أنه أطلق على المحجن عنزة تساهلاً، ويحتمل أن العصا كانت معوجة من طرف، وفي طرفها الآخر حديدة، فهي محجن وعنزة. (فلما قدمنا المدينة) فيه مجاز المشارفة، أي فلما قاربنا دخولها. (كي تمتشط الشعثة) بفتح الشين وكسر العين بعدها ثاء، والشعث إهمال الشعر، وعدم نظافته، وعدم الامتشاط، وأطلق عليها ذلك لأن التي يغيب زوجها في مظنة عدم التزين. (وتستحد المغيبة) "تستحد" بالحاء، أي تستعمل الحديدة في إزالة شعر سوءتها، والمراد من الحديدة الموسى، وكانت وسيلتهن لإزالة ذلك الشعر غالبًا، وليس في ذلك منع إزالته بغير الموسى. و"المغيبة" بضم الميم وكسر الغين بعدها ياء ساكنة ثم باء، التي غاب عنها زوجها. (إذا قدمت فالكيس الكيس) بفتح الكاف وسكون الياء بعدها سين، يقال: كاس يكيس كيسًا وكياسة، عقل، وظرف، وفطن، و"الكيس" منصوب على الإغراء، أي الزم الكيس، وهل الثانية توكيد للأولى، وهما بمعنى واحد، أو كل منهما لمعنى، أي الزم العقل والظرف، أو الزم الذكاء والظرف في معالجة أمور زوجك وأخواتك. قال النووي: قال ابن الأعرابي: الكيس الجماع، والكيس العقل، والمراد حثه على ابتغاء الولد. اهـ وفيه بعد. (فاشتراه مني بأوقية) أي بوزن أوقية من ذهب، ولم تكن هناك مساومة، بل قال صلى الله عليه وسلم

"بأوقية"؟ فقال جابر: هو لك: يا رسول الله. وفي الرواية السابعة "قال: أتبيعه بكذا وكذا؟ والله يغفر لك. قال: قلت: هو لك يا نبي الله" فقوله "والله يغفر لك" ليس من العوض والمقابل، وإنما هي كلمة تجري على ألسنتهم للدعاء للمخاطب عقب الطلب منه، وتكليفه بأي شيء. (ثم قدم صلى الله عليه وسلم وقدمت بالغداة) "الغداة" في كتب اللغة ما بين الفجر وطلوع الشمس، وقيل: الضحوة، والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مسجد المدينة بالغداة أيضًا، لكنه سبق جابرًا، ولا يتنافى هذا مع الأمر بالتمهل خارج المدينة ليدخلوا عشاء، فإنه لم يكن المقصود أن يدخلوا ليلاً، بل كان المقصود أن يتركوا فرصة للنساء لتتهيأ لاستقبال أزواجهن بعد علمهن بوصولهم، فإذا طالت الفرصة، وكان الدخول نهارًا جمع بين هذا الأمر وبين النهي عن طروق النساء ليلاً. (فوزن لي بلال فأرجح في الميزان) أي زاد في وزن الذهب بعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإشارته. (فقلت: الآن يرد عليَّ الجمل) أي قلت ذلك في نفسي، أي يرد الجمل ويسترد الثمن. (وأنا على ناضح) الناضح الجمل الذي يستقى عليه. (إنما هو في أخريات الناس) "أخريات" بضم الهمزة وسكون الخاء وفتح الراء، أي في مؤخرتهم. -[فقه الحديث]- تتعلق هذه الروايات بنقطتين أساسيتين. الأولى الحث على نكاح ذات الدين، الثانية الحث على نكاح البكر. فالحديث الأول والثاني يحثان على نكاح ذات الدين، ويتحدثان عن مقاصد الرجال في اختيار الزوجات. يقول القرطبي في شرح الحديث الأول: معنى الحديث أن هذه الخصال الأربع هي التي يرغب في نكاح المرأة لأجلها، فهو إخبار عما في الوجود، لا أنه وقع الأمر بذلك، بل ظاهره إباحة النكاح لقصد كل من ذلك، لكن قصد الدين أولى، فهو يبين العادة الجارية بين الناس، ويوافق عليها، ويقدم بعضها على بعض، فالمال يعين الزوج عند الشدة، وتستغني به المرأة عن مطالبة الزوج بما تحتاج إليه، أو بما لا طاقة له بتحمله، وقد يحصل له منها ولد، فيعود إليه مالها. والحسب يحفظ للرجل منزلة أدبية بين المجتمع الذي يعيش فيه، وقد حمل عليه بعضهم قوله صلى الله عليه وسلم "تخيروا لنطفكم" فكرهوا نكاح بنت الزنا وبنت الفاسق واللقيطة ومن لا يعرف أبوها. والجمال يعف الزوج عن النظر إلى الغير، ويشرح الصدر، روى الحاكم "خير النساء من

تسر إذا نظرت، وتطيع إذا أمرت" والجمال مطلوب في كل شيء، لا سيما في المرأة التي تكون قرينة وضجيعة. هذا إذا لم يؤد الجمال إلى زهوها ودلالها وفساد أخلاقها. أما الدين فهو سنام الصفات المبتغاة، وهو اللائق طلبه من ذوي المروءات وأرباب الديانات، لأن أثره عظيم، وخطر فقده جسيم، ولذا أرشد إليه صلى الله عليه وسلم بآكد وجه وأبلغه، فعبر بالظفر الذي هو غاية البغية ومنتهى الاختيار، وبصيغة الطلب الدالة على الاهتمام بالمطلوب. اهـ. وهناك مقاصد أخرى غير هذه الأربعة المذكورة في الحديث، منها البكر الواردة في الحديث الثاني وما بعده، ومنها أن تكون عاقلة، حكيمة في تصرفاتها، وأن تكون على درجة من إحسان تدبير المنزل، وأن تكون متعلمة، وأن تكون ودودًا، وأن تكون ولودًا، وأن لا تكون قريبة قرابة تضعف الشهوة، وأن لا تكون ذات ولد من غيره، إلا لمصلحة، كما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة ومعها أولاد أبي سلمة. وإنما اقتصر الحديث على هذه الأربعة لأنها أهم ما ألف اعتباره عند جمهرة الناس، على أن الكثير من غيرها يمكن رده إليها. ولا يتعارض هذا الحديث مع ما رواه ابن ماجه عن ابن عمر، مرفوعًا "لا تتزوجوا النساء لحسنهن، فعسى حسنهن أن يرديهن" - أي يهلكهن ويوقعهن في الفساد والرذيلة - "ولا تتزوجوهن لأموالهن، فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين، ولأمة سوداء ذات دين أفضل" لأن المراد به النهي عن مراعاة الجمال أو المال مجردًا عن الدين، فلا يتنافى استحباب ذلك في المرأة إذا روعي الدين، بدليل أمره صلى الله عليه وسلم من يريد التزوج أن ينظر إلى المخطوبة، وهو لا يفيد معرفة الدين، وإنما يعرف به الجمال أو القبح. فإذا اختصت كل واحدة بخصلة أو أكثر من هذه الخصال قدم أكثرهن تقوى، وأما التفاضل بين المسلمة والكتابية فإن كانتا متساويتين في بعض الصفات دون بعض قدمت المسلمة قطعًا، وإذا اجتمعت جميع خصال الكمال في الكتابية، وكانت المسلمة على النقيض منها كان للنظر في الترجيح مجال. وقد اختلف العلماء في كفاءة النكاح، فقيل: هي في الدين، وقيل: هي في النسب والحسب، وقيل: هي في المال، والأولى تحكيم العرف. أما النقطة الثانية وهي الحث على نكاح البكر فهي واضحة وصريحة في الرواية الثانية وما بعدها، وأصرح من ذلك ما أخرجه ابن ماجه، بلفظ "عليكم بالأبكار، فإنهن أعذب أفواهًا، وأنتق أرحامًا" أي أكثر حركة في أرحامهن، والنتق بنون وتاء وقاف الحركة، قال الحافظ، لعله يريد أنها كثيرة الأولاد، وأخرج الطبراني نحوه، وزاد "وأرضى باليسير" ولا يعارضه حديث "عليكم بالولود" من حيث إن البكر لا يعرف كونها ولودًا، لأن المقصود أن في البكر مظنة الولود، فيكون المراد بالولود من هي كثيرة الولادة بالتجربة أو بالمظنة. وأما من جربت فظهرت عقيمًا، وكذلك الآيسة فالخبران متفقان على مرجوحيتهما.

-[ويؤخذ من هذه الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - من الحديث الأول الحث على تنشئة البنات على الدين والفضيلة. 2 - الحث على حسن اختيار الزوجة، وأن يهتم بالصلاح أولا وبالذات. 3 - استدل به بعضهم على أن للزوج الاستمتاع بمال الزوجة، فإنه يقصد نكاحها لذلك، فإن طابت به نفسها فهو له حلال، وإن منعته فإنما له من ذلك بقدر ما بذل من الصداق قال المهلب، وهذا مردود، فإن هذا التفصيل ليس في الحديث، ولا ينحصر قصد نكاح المرأة لأجل مالها في استمتاع الزوج به، بل قد يقصد تزويج ذات الغنى لما عساه يحصل له منها ولد، فيعود إليه ذلك المال. بطريق الإرث إن وقع، أو لكونها تستغني بمالها عن كثرة مطالبته بما يحتاج إليه النساء أو نحو ذلك، قال الحافظ ابن حجر: فهذا الاستدلال عجيب. 4 - قال الحافظ ابن حجر: وأعجب منه استدلال بعض المالكية به على أن للرجل أن يحجر على امرأته في مالها. قال: لأنه تزوج لأجل المال، فليس لها تفويته عليه، ولا يخفى وجه الرد عليه. اهـ فالرد عليه هو الرد على سابقه. 5 - استدل بالحديث على استحباب تزوج الجميلة، إلا إن تعارض بغير التدين، ويلتحق بجمال الخلقة جمال الخلق والصفات. 6 - ويؤخذ من قوله "تربت يداك" جواز استعمال الكلمات التي استعملها العرب دون قصد معناها. وهذا على أنها دعاء، ولم يقصد الدعاء على مسلم. 7 - قال النووي: وفي هذا الحديث الحث على مصاحبة أهل الدين في كل شيء، لأن صاحبهم يستفيد من أخلاقهم وبركتهم وحسن طرائقهم، ويأمن المفسدة من جهتهم. 8 - وفي أحاديث جابر رضي الله عنه فضيلة تزوج الأبكار. 9 - وملاعبة الرجل امرأته، وملاطفته لها، ومضاحكتها، وحسن العشرة. 10 - وسؤال الإمام الكبير أصحابه عن أمورهم الخاصة، وتفقد أحوالهم، وإرشادهم إلى مصالحهم، وتنبيههم على وجه المصلحة فيها. 11 - وفي انطلاق بعير جابر بعد النخس معجزة ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأثر بركته. 12 - وفيه فضيلة لجابر رضي الله عنه، لإيثاره مصلحة أخواته على حظ نفسه. 13 - وفيه الدعاء لمن فعل خيرًا وطاعة، سواء تعلقت بالداعي أو لا. 14 - وفيه جواز خدمة المرأة زوجها وأولاده وعياله، قال النووي: برضاها، وأما من غير رضاها فلا. 15 - من قوله في الرواية الخامسة "امهلوا حتى ندخل ليلاً" جواز الدخول على النساء في العودة من السفر ليلاً، ويجمع بينه وبين النهي عن الطروق ليلاً بأن المراد بالأمر بالدخول في أول الليل، وفي

النهي الدخول في أثناء الليل، ويحتمل أن المراد بالأمر بالدخول ليلاً لمن أعلم أهله بقدومه، فاستعدوا له، والنهي عمن لم يفعل ذلك. 16 - وفيه أنه يستحب للمرأة التي غاب عنها زوجها أن تستعد له قبل قدومه بالتنظف والتزين والتجمل والاستحداد والامتشاط وغير ذلك. 17 - وفي بيع جابر جمله في الطريق، وبقائه راكبًا عليه بعد البيع حتى وصل المسجد جواز أن يشترط البائع للدابة استثناء ظهرها حتى توصله إلى مكان مسمى، ذكره البخاري، وهو مما اختلف فيه وفيما يشبهه، كاشتراط سكنى الدار، وخدمة العبد، والجمهور على بطلان البيع، لأن الشرط المذكور ينافي مقتضى العقد، ويوجه حديثنا بأن ذلك كان على طريق الهبة، وهي واقعة عين لا يستدل بها، وذهب الأوزاعي وأحمد وأبو ثور وآخرون إلى صحة البيع، وأن الشرط ينزل منزلة الاستثناء، ووافقهم مالك في الزمن اليسير، دون الكثير. 18 - وفيه ابتداء المشتري بذكر الثمن. 19 - وأن القبض ليس شرطًا في صحة البيع. 20 - وفي رد الجمل وثمنه إعانة الإمام أصحابه. 21 - وفي وزن بلال جواز الوكالة في أداء الديون. 22 - وجواز الزيادة في الثمن عند الأداء. واللَّه أعلم

(394) باب الوصية بالنساء

(394) باب الوصية بالنساء 3222 - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الدنيا متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة". 3223 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن المرأة كالضلع. إذا ذهبت تقيمها كسرتها. وإن تركتها استمتعت بها وفيها عوج". 3224 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن المرأة خلقت من ضلع. لن تستقيم لك على طريقة. فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج. وإن ذهبت تقيمها كسرتها. وكسرها طلاقها". 3225 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فإذا شهد أمرًا فليتكلم بخير أو ليسكت. واستوصوا بالنساء. فإن المرأة خلقت من ضلع. وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه. إن ذهبت تقيمه كسرته. وإن تركته لم يزل أعوج. استوصوا بالنساء خيرًا". 3226 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يفرك مؤمن مؤمنة. إن كره منها خلقًا رضي منها آخر" أو قال "غيره". 3227 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لولا حواء، لم تخن أنثى زوجها، الدهر".

3228 - عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر أحاديث منها: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لولا بنو إسرائيل، لم يخبث الطعام. ولم يخنز اللحم. ولولا حواء، لم تخن أنثى زوجها، الدهر". -[المعنى العام]- الزوجة شريكة الحياة بالنسبة للزوج، خلقها الله ليسكن إليها، وجعل بينه وبينها مودة ورحمة، وعليهما بنيت حياة البشر على الأرض، بث الله منهما رجالاً كثيرًا ونساء، بعد معاشرة جنسية تجعل منهما جسدًا واحدًا، وتخلق بينهما سرًا كبيرًا، وكان مقتضى ذلك أن يتأقلما، وأن ينصهرا في بوتقة واحدة، وأن يتعاونا على الحياة ومشاكلها، وتربية الأطفال ومسئولياتهم الضخمة الصعبة. لكن النزعات الطبيعية التي خلقت مع كل من الجنسين عملت كعنصر مفرق بينهما، الرجل بما خلق الله فيه من قوة العضلات، وخشونة الجسم والصوت والحركة، وبما فرضه الله عليه من واجبات النفقة والرعاية والحماية والمسئولية عن الزوجة وأولادها، تربع على عرش القوامة شرعًا وعقلاً وعرفًا وواقعًا، وهذا حق لا نزاع فيه، لكن بعض الرجال يتعسف كثيرًا في استخدام هذا الحق، فيحوله إلى سلطة وسيطرة وقهر وإذلال. وفي المقابل تحس بعض الزوجات فضلاً أو ميزة ما لها على زوجها، فتتمرد على وظيفتها، وتنازع زوجها، وتنابذه، وقد تصارعه مع يقينها بأنها ستكون المغلوبة، لا الغالبة، المهزومة، لا الهازمة، فتصبح كالفراشة التي تلقي نفسها على ضوء النار لتطفئها، فتحرق نفسها. من هنا كانت وصية الرجال أن يترفقوا بنسائهم، وأن يضعوا بين أعينهم طبيعة المرأة وخلقتها، وأن يصبروا على ما يقع منهن من اعوجاج، فإن ما فيهن من شر، له فيهن ما يقابله من خير، ومنذ حواء تلك طبيعتهن، فقد غررت بآدم وهي تظن أنها تصلحه وتنفعه. فاستوصوا بالنساء خيرًا. -[المباحث العربية]- (الدنيا متاع) التنكير في "متاع" للتقليل، يقول تعالى: {قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى} [النساء: 77] والمعنى أن الدنيا ظرف للتمتع بلذاتها وشهواتها شهوة البطن وشهوة الفرج وشهوات النفس الأخرى من السيطرة والانتقام والأنانية إلخ. (المرأة الصالحة) التي تسر إذا نظرت، وتطيع إذا أمرت، وتحفظ نفسها وماله وأولاده.

(إن المرأة كالضلع) بكسر الضاد، وفتح اللام وقد تسكن، وفي الكلام تشبيه، حذف منه وجه الشبه، أي هي كالضلع في الاعوجاج، فالمعنى المرأة معوجة الطباع والتصرفات بخلقتها وطبيعتها كما خلق الضلع معوجًا، لا يسهل تقويمهما. وفي الرواية الثالثة "إن المرأة خلقت من ضلع" والكلام على التشبيه أيضًا، والأصل خلقت من طبيعة معوجة كالضلع، ففي الكلام استعارة، بحذف المشبه ووجه الشبه والأداة، واستعير لفظ المشبه به للمشبه، على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية، وقيل: أراد من هذه الرواية أول النساء "حواء" فقد أخرج ابن إسحق في "المبتدأ" عن ابن عباس "أن حواء خلقت من ضلع آدم الأيسر، وهو نائم قبل أن يدخل الجنة" أي فدخلاها سويًا، وقيل: في الجنة. وكذا أخرجه ابن أبي حاتم وغيره من حديث مجاهد، قال الحافظ ابن حجر: وأغرب النووي فعزاه للفقهاء أو بعضهم. اهـ والحقيقة أن هذا القول مصدره بعض الآثار عن ابن عباس ومجاهد، وليس للفقهاء به صلة. فلفظ الضلع على هذا على حقيقته، ويكون معنى خلقها من الضلع الحقيقي إخراجها منه عند أصل الخلقة كما تخرج النخلة من النواة، لكن يلزمه الإشارة إلى طبيعة النساء واعوجاجهن، وهو المقصود، فكأنه يقول: إن النساء في تصرفاتهن الاعوجاج لأن أصلهن حواء خلقت من عوج. (وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه) قيل: فيه إشارة إلى أن أعوج شيء في المرأة لسانها، وفيه إشارة إلى أنها خلقت من أشد أجزاء الضلع اعوجاجًا، مبالغة في إثبات هذه الصفة لها. ولفظ "أعوج" صفة مشبهة، وليس أفعل تفضيل، لأن أفعل التفضيل لا يأتي من ألفاظ العيوب التي صفتها على وزن "أفعل" وقيل: هو أفعل تفضيل شذوذًا، أو محل المنع عند الالتباس بالصفة، فإذا تميز عنها بالقرينة فلا منع. (إذا ذهبت تقيمها كسرتها) ضمير المؤنث للمرأة، بدليل قوله بعد "وإن تركتها استمتعت بها وفيها عوج" وبدليل قوله في الرواية الثالثة "وكسرها طلاقها". وقيل: الضمير المؤنث في "إذا ذهبت تقيمها كسرتها" للضلع، وهي تذكر وتؤنث. وجملة "تقيمها" في موضع النصب على الحال، وفي الرواية الرابعة "إن ذهبت تقيمه كسرته" بتذكير الضمير، فهو عائد على الضلع. (وإن تركتها) دون تقويم وكسر "استمتعت بها" وبالنواحي الحسنة فيها، "وفيها عوج". (من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر) فعل "كان" لا دلالة له في الأصل على غير الوجود في الماضي، من غير دلالة على انقطاع أو دوام، وتستعمل للأزلية، كما في صفاته تعالى، وقد تستعمل للزوم الشيء، وعدم انفكاكه، نحو قوله تعالى {وكان الإنسان عجولا} [الإسراء: 11]. والمراد بالإيمان الإيمان الكامل، فلا يفهم منه أن من لم يتكلم بخير لا يكون مؤمنًا. وذكر هذه

العبارة للحض على الطاعة، وخصه بالله واليوم الآخر إشارة إلى المبدأ والمعاد، أي من آمن بالذي خلقه، وآمن بأنه سيجازيه بعمله فعل ما أمر به، وكف عما نهى عنه. (واستوصوا بالنساء) السين والتاء للقبول والمطاوعة، مثلهما في قولنا: أقمته فاستقام، أي اقبلوا وصيتي، واعملوا بها، وقيل: السين والتاء للطلب، جيء بهما للمبالغة، أي اطلبوا من أنفسكم الوصية بهن، أو ليطلب الوصية بهن بعضكم من بعض، ويلزم من ذلك أن تحافظوا، لأن من وصى غيره بشيء كان أحرص عليه. و"النساء" اسم جمع، لا واحد له من لفظه، وواحده من معناه امرأة، و"خيرًا" المذكور في آخر الرواية منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف، والتقدير: استوصوا استيصاء خيرًا، أو على أنه مفعول لفعل محذوف، والتقدير: استوصوا وافعلوا خيرًا، أو على أنه خبر "يكن" المحذوفة مع اسمها، والتقدير: استوصوا بالنساء يكن الاستيصاء خيرًا، ذكر ذلك النحاة في قوله تعالى: {وأنفقوا خيرًا لأنفسكم} [التغابن: 16]. والجملة معطوفة على "فليتكلم بخير أو ليسكت" أي تكلموا بخير، أو اسكتوا، واستوصوا، وفي الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب، لمزيد العناية بالخطاب. (فإن المرأة) الفاء للتعليل، وما بعدها بيان لسبب الوصية بهن. (لا يفرك مؤمن مؤمنة) "يفرك" بفتح الياء وسكون الفاء وفتح الراء، والكاف ساكنة على النهي، ومعناه لا يبغض، يقال: فركه بكسر الراء يفركه بفتحها - من باب سمع - إذا أبغضه، والفرك بفتح الفاء وإسكان الراء البغض والمراد من "المؤمنة" الزوجة، والكلام على النهي، وليس على الإخبار، لأن الواقع أن بعض الناس يبغض زوجته بغضًا شديدًا، قال النووي: ولو روي مرفوعًا لكان نهيًا بلفظ الخبر، والمعنى: لا ينبغي أن يبغض مؤمن مؤمنة، أي زوج زوجته بغضًا شديدًا يؤدي إلى ظلمها وتركها. (إن كره منها خلقًا رضي منها آخر) الجملة تعليلية، أي لا ينبغي أن يبغض لأنها لا تخلو من خير، فإن رأى شرًا منها فليذكر ما فيها من خير، ليحارب البغض الذي داخله، قال النووي: لأنه إن وجد فيها خلقًا يكرهه وجد فيها خلقًا يرضى عنه، فقد تكون شرسة الخلق لكنها متدينة أو جميلة أو عفيفة، أو نحو ذلك. (لولا حواء) قال ابن عباس: سميت حواء لأنها أم كل حي، ذكره النووي، وفيه نظر فهي ليست أم كل حي، بل أم للإنسان أم بني آدم فقط. قيل: إنها ولدت لآدم أربعين ولدًا في عشرين بطنًا، في كل بطن ذكر وأنثى، تزوج ذكر كل بطن أنثى من البطن الأخرى. اهـ. وليس لذلك سند يعتمد عليه. وفي الكلام مضاف محذوف، والتقدير: لولا خيانة حواء لآدم.

(لم تخن أنثى زوجها الدهر) قال الحافظ ابن حجر: فيه إشارة إلى ما وقع من حواء، في تزيينها لآدم الأكل من الشجرة، حتى وقع في ذلك، فمعنى خيانتها أنها قبلت ما زين لها إبليس، حتى زينته لآدم، ولما كانت هي أم بنات آدم أشبهنها بالولادة، ونزع العرق، فلا تكاد امرأة تسلم من خيانة زوجها، بالفعل أو بالقول، وليس المراد بالخيانة هنا ارتكاب الفواحش، حاشا وكلا، ولكن لما مالت إلى شهوة النفس من أكل الشجرة، وحسنت ذلك لآدم، عد ذلك خيانة له، وأما من جاء بعدها من النساء فخيانة كل واحدة منهن بحسبها - أي فخياناتهن مختلفة، ووجه الشبه بينهن وبين حواء مطلق الخيانة فقط - قال: وقريب من هذا حديث "جحد آدم، فجحدت ذريته". ومعنى "الدهر" الزمان كله، والمعنى لم تخن أنثى زوجها أبدًا. (لولا بنو إسرائيل لم يخبث الطعام، ولم يخنز اللحم) "يخنز" بفتح الياء وسكون الخاء وكسر النون وبفتحها أيضًا، أي ينتن. والخنز التغير والنتن، والمراد من خبث الطعام تغيره وفساده، قال الحافظ ابن حجر: في بعض الكتب: لولا أني كتبت الفساد على الطعام لخزنه الأغنياء عن الفقراء. وفي سبب تحمل بني إسرائيل مسئولية هذا الفساد قيل: إن بني إسرائيل ادخروا لحم السلوى، وكانوا نهوا عن ذلك، فعوقبوا بذلك، ذكر ذلك عن قتادة، وقال بعضهم: معناه لولا أن بني إسرائيل سنوا ادخار اللحم حتى انتن لما ادخر، فلم ينتن. -[فقه الحديث]- هذه الأحاديث تحث على الوصاية بالنساء، إما بالأمر الصريح بذلك "استوصوا بالنساء خيرًا". "لا يفرك مؤمن مؤمنة". وإما بالترغيب في الزوجة، وأنها خلقت لسكن الزوج وراحته، وهي حين تحسن المعاشرة خير متاع الدنيا. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ يقول: "من سعادة المرء المرأة الصالحة، ومن شقاء المرء المرأة السوء". ومرة بالتماس العذر لها في سوء معاملاتها، وفي كفرانها العشير، وفي خيانتها لزوجها، وخداعه، وتزيين الباطل له، فهي مخلوقة في طبع معوج، ومطلوب منها شرعًا أن تعدل وتصلح من طبعها، لتوافق شرعها، فتجازى على ذلك خيرًا، لكنها لا تكاد تفعل، "إن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه"، "لولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر". ومرة بالحث على الصبر على اعوجاجها للحاجة إليها، فهي بما هي عليه لا بد منها، فلتحتمل، ولتستمتع بها بحالها، لأنك إن ذهبت تقيمها كسرتها، ولم تستقم، وكانت النتيجة طلاقها وفراقها. هي أشبه بكوب فيه قليل من الماء، إن نظرت إلى الماء فيه وإن قل رأيت خيرًا، وإن نظرت إلى

الفراغ فيه وعدم الفائدة رأيت شرًا، فانظر إلى ما عندها من خير، وتغاضى عما يقابلك من شر، ولا تترك البغض يسيطر على حياتك وحياتها، فإن كان فيها شر، ففيها جانب من خير، أما ماذا تفعل في تعاملك معها؟ . فضع بين عينيك أنها ضعيفة، محتاجة إليك، وكريم النفس لا يؤذي مثل هذا، بل يحسن إليه، وضع بين عينيك أنها معذورة، ما دام هذا الاعوجاج في أصل الخلقة. أمام هذا عليك بحسن الخلق معها، ليس بكف الأذى عنها فحسب، بل وبالإحسان إليها، وليس معنى ذلك تركها بدون تقويم، بل المعنى الرفق في المعاملة، باستعمال اللين في غير ضعف، والشدة من غير عنف، لا تكن لينًا فتعصر، ولا جامدًا فتكسر. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - مداراة سيِّئ الأخلاق، وعدم الاصطدام به. 2 - الندب إلى الملاينة، لاستمالة النفوس، وتأليف القلوب. 3 - أن عدم الإيذاء باللسان أو باليد من كمال الإيمان. 4 - الرفق بالضعيف وحسن معاملته. 5 - ملاطفة النساء والإحسان إليهن. 6 - احتمال عوج أخلاقهن، وكراهة طلاقهن. 7 - أنه لا يطمع في استقامتهن، ففيه تسلية الرجال فيما يقع لهم من نسائهم بما وقع من أمهن الكبرى حواء. 8 - فيه حث للنساء على علاج هذا الاعوجاج، فلا يسترسلن في الأخطاء، بل يضبطن أنفسهن ويجاهدن طبائعهن. 9 - الحث على الكلام بخير أو السكوت. 10 - تحميل مبتدع الشر مسئولية من عمل بعمله فيما بعد "من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة". واللَّه أعلم

كتاب الطلاق

كتاب الطلاق

(395) باب تحريم طلاق الحائض

(395) باب تحريم طلاق الحائض 3229 - عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه طلق امرأته وهي حائض. في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " مره فليراجعها. ثم ليتركها حتى تطهر. ثم تحيض. ثم تطهر. ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس. فتلك العدة التي أمر الله عز وجل أن يطلق لها النساء". 3230 - عن نافع عن عبد الله رضي الله عنه أنه طلق امرأة له وهي حائض. تطليقة واحدة. فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر. ثم تحيض عنده حيضة أخرى. ثم يمهلها حتى تطهر من حيضتها. فإن أراد أن يطلقها فليطلقها حين تطهر من قبل أن يجامعها. فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء. وزاد ابن رمح في روايته: وكان عبد الله إذا سئل عن ذلك: قال لأحدهم: أما أنت طلقت امرأتك مرة أو مرتين. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني بهذا. وإن كنت طلقتها ثلاثًا فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجًا غيرك. وعصيت الله فيما أمرك من طلاق امرأتك. قال مسلم: جود الليث في قوله: تطليقة واحدة. 3231 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: طلقت امرأتي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حائض. فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال "مره فليراجعها. ثم ليدعها حتى تطهر. ثم تحيض حيضة أخرى. فإذا طهرت فليطلقها قبل أن يجامعها. أو يمسكها. فإنها العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء". قال عبيد الله: قلت لنافع: ما صنعت التطليقة؟ قال: واحدة اعتد بها. 3232 - - قال ابن المثنى في روايته "فليرجعها" وقال أبو بكر "فليراجعها".

3233 - عن نافع: أن ابن عمر رضي الله عنهما طلق امرأته وهي حائض. فسأل عمر النبي صلى الله عليه وسلم. فأمره أن يرجعها ثم يمهلها حتى تحيض حيضة أخرى. ثم يمهلها حتى تطهر. ثم يطلقها قبل أن يمسها. فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء. قال: فكان ابن عمر إذا سئل عن الرجل يطلق امرأته وهي حائض يقول: أما أنت طلقتها واحدة أو اثنتين. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يرجعها. ثم يمهلها حتى تحيض حيضة أخرى. ثم يمهلها حتى تطهر. ثم يطلقها قبل أن يمسها. وأما أنت طلقتها ثلاثًا. فقد عصيت ربك فيما أمرك به من طلاق امرأتك. وبانت منك. 3234 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: طلقت امرأتي وهي حائض. فذكر ذلك عمر للنبي صلى الله عليه وسلم فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "مره فليراجعها. حتى تحيض حيضة أخرى مستقبلة، سوى حيضتها التي طلقها فيها. فإن بدا له أن يطلقها، فليطلقها طاهرًا من حيضتها. قبل أن يمسها. فذلك الطلاق للعدة كما أمر الله". وكان عبد الله طلقها تطليقة واحدة. فحسبت من طلاقها. وراجعها عبد الله كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم. 3235 - - وفي رواية قال ابن عمر: فراجعتها. وحسبت لها التطليقة التي طلقتها. 3236 - عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه طلق امرأته وهي حائض. فذكر ذلك عمر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال "مره فليراجعها. ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملاً". 3237 - عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه طلق امرأته وهي حائض فسأل عمر عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "مره فليراجعها حتى تطهر. ثم تحيض حيضة أخرى. ثم تطهر ثم يطلق بعد، أو يمسك".

3238 - عن ابن سيرين قال: مكثت عشرين سنة يحدثني من لا أتهم: أن ابن عمر طلق امرأته ثلاثًا وهي حائض. فأمر أن يراجعها. فجعلت لا أتهمهم ولا أعرف الحديث، حتى لقيت أبا غلاب، يونس بن جبير الباهلي. وكان ذا ثبت. فحدثني: أنه سأل ابن عمر. فحدثه: أنه طلق امرأته تطليقة وهي حائض. فأمر أن يرجعها. قال: قلت: أفحسبت عليه؟ قال: فمه. أو إن عجز واستحمق؟ . 3239 - - وفي رواية بنحوه غير أنه قال: فسأل عمر النبي صلى الله عليه وسلم فأمره. 3240 - وفي رواية عن أيوب بهذا الإسناد. وقال في الحديث: فسأل عمر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فأمره أن يراجعها حتى يطلقها طاهرًا من غير جماع. وقال "يطلقها في قبل عدتها". 3241 - عن يونس بن جبير قال: قلت لابن عمر: رجل طلق امرأته وهي حائض. فقال: أتعرف عبد الله بن عمر؟ فإنه طلق امرأته وهي حائض. فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم فسأله؟ فأمره أن يرجعها. ثم تستقبل عدتها. قال: فقلت له: إذا طلق الرجل امرأته وهي حائض، أتعتد بتلك التطليقة؟ فقال: فمه. أو إن عجز واستحمق؟ . 3242 - عن يونس بن جبير قال: سمعت ابن عمر يقول: طلقت امرأتي وهي حائض. فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "ليراجعها. فإذا طهرت، فإن شاء فليطلقها". قال: فقلت لابن عمر: أفاحتسبت بها؟ قال: ما يمنعه. أرأيت إن عجز واستحمق؟ . 3243 - عن أنس بن سيرين قال: سألت ابن عمر عن امرأته التي طلق؟ فقال: طلقتها وهي حائض. فذكر ذلك لعمر. فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فقال "مره فليراجعها. فإذا طهرت

فليطلقها لطهرها" قال: فراجعتها ثم طلقتها لطهرها. قلت: فاعتددت بتلك التطليقة التي طلقت وهي حائض؟ قال: ما لي لا أعتد بها؟ وإن كنت عجزت واستحمقت. 3244 - عن أنس بن سيرين: أنه سمع ابن عمر قال: طلقت امرأتي وهي حائض. فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال "مره فليراجعها. ثم إذا طهرت فليطلقها" قلت لابن عمر: أفاحتسبت بتلك التطليقة؟ قال: فمه. 3245 - - وفي رواية "ليرجعها" وفيها: "قال قلت له: أتحتسب بها؟ قال: فمه". 3246 - عن ابن طاوس عن أبيه: أنه سمع ابن عمر يسأل عن رجل طلق امرأته حائضًا؟ فقال: أتعرف عبد الله بن عمر؟ قال: نعم. قال: فإنه طلق امرأته حائضًا. فذهب عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره. الخبر فأمره أن يراجعها. قال: لم أسمعه يزيد على ذلك (لأبيه). 3247 - عن أبي الزبير: أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن (مولى عزة) يسأل ابن عمر؟ وأبو الزبير يسمع ذلك. كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضًا؟ فقال: طلق ابن عمر امرأته وهي حائض. على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "ليراجعها" فردها. وقال "إذا طهرت فليطلق أو ليمسك". قال ابن عمر: وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ في قبل عِدَّتِهِنَّ} 3248 - - عن أبي الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن (مولى عروة) يسأل ابن عمر؟ وأبو الزبير يسمع. بمثل حديث حجاج. وفيه بعض الزيادة. قال مسلم: أخطأ حيث قال: عروة. إنما هو مولى عزة.

-[المعنى العام]- كان الطلاق قبل الإسلام على مصراعيه، دون تحديد بعدد، وكان مباحًا في طهر أو حيض، لا يحسب للمرأة حساب. في تطويل عدتها، بل كانوا يسيئون إليها، يتركونها تعتد، حتى آخر يوم من عدتها يرجعونها، ثم يطلقونها، فتعتد، حتى آخر يوم من عدتها يرجعونها، وهكذا دون تحديد، فتعيش المرأة معلقة، لا هي زوجة فتحصن ولا هي أيم فتتزوج، فلما جاء الإسلام رعاها، وأحاط حق الرجل في الطلاق والرجعة بسياج يمنع تعسفه في استخدام هذا الحق ونزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] حرص الإسلام أن لا تطول عدة المرأة يومًا واحدًا عما قدره لها، بل أمر أن يكون الطلاق بحيث تستقبل عدتها، وذلك لا يكون إلا إذا طلقها في طهر لم يجامعها فيه، لأنه لو طلقها في طهر جامعها فيه لم يحسب هذا الطهر من القروء الثلاثة، وبدأت عدتها بالطهر الذي يلي حيضتها عند من يقول بأن العدة بالأطهار، ولو طلقها في الحيض لم تحسب هذه الحيضة من القروء الثلاثة، وبدأت عدتها بحيضة أخرى عند من يقول بأن العدة بالحيضات. فكان لزامًا أن يطلق من أراد الطلاق في طهر لم يجامع فيه. وأخطأ عبد الله بن عمر فطلق امرأته في الحيض، وعلم بذلك أبوه عمر - رضي الله عنهما - ولم يدر ماذا عليه وقد أخطأ وفعل هذا الممنوع؟ فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: يا رسول الله، إن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض، فغضب صلى الله عليه وسلم لهذه المخالفة التي وقعت من أشد الصحابة حرصًا على الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وصغيرة الكبير كبيرة، غضب حتى تغيظ صلى الله عليه وسلم، وقال لعمر: مر ابنك عبد الله أن يراجعها، ثم ليمسكها عنده بقية حيضتها، ثم يظل ممسكًا لها طهرًا بعد حيضها، ثم حيضًا آخر، فإذا طهرت بعد الحيضة الثانية، وكان مصرًا على طلاقها، فليطلقها طاهرًا قبل أن يجامعها، فتلك الحالة هي التي أذن الله للرجال أن يطلقوا فيها النساء. -[المباحث العربية]- (أنه طلق امرأته وهي حائض) الطلاق في اللغة حل الوثاق، مشتق من الإطلاق، وهو الإرسال والترك، وفي الشرع حل عقدة التزويج، قال إمام الحرمين، هو لفظ جاهلي، ورد الشرع بتقريره، وطلقت المرأة بفتح الطاء، وضم اللام وفتحها، وفتحها أفصح، وطلقت أيضًا بضم الطاء وكسر اللام المشددة وامرأة ابن عمر هذه اسمها آمنة بنت غفار، وقيل: اسمها النوار، ويمكن الجمع بأن يكون اسمها آمنة، ولقبها النوار. ولم يؤنث لفظ "حائض" لأن الصفة إذا كانت خاصة بالنساء فلا حاجة لتأنيثها، وجملة "وهي حائض" في محل النصب على الحال.

والراوي هنا عن ابن عمر نافع، وقد سمع القصة عن ابن عمر، فحكاها، وهي الرواية الثالثة، يسند القول لابن عمر، "قال: طلقت امرأتي ... " وفي الرواية العاشرة يقول يونس بن جبير: سمعت ابن عمر يقول: "طلقت امرأتي ... " وكذا الرواية الثانية عشرة عن ابن سيرين. (في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم) أي في زمنه وأيام حياته، والجار والمجرور متعلق بـ"طلق" قال الحافظ ابن حجر: وأكثر الرواة لم يذكروا ذلك، استغناء بما في الخبر أن عمر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فاستلزم أن ذلك وقع في عهده. وزاد في الرواية الثانية "تطليقة واحدة" وفي ملحقها "جود مسلم هذه الزيادة" وقال: جود الليث في قوله "تطليقة واحدة. يعني أنه حفظ وأتقن قدر الطلاق الذي لم يتقنه غيره، ولم يخطئ فيه، ولم يجعله ثلاثًا، كما أخطأ فيه غيره، كما تصرح بهذا الخطأ الرواية الثامنة، ولم يهمله الليث، كما أهملته روايات كثيرة، بل بينه بيانًا صحيحًا. (فسأل عمر بن الخطاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك) الإشارة إلى الطلاق بهذه الصفة، وفي الكلام مضاف محذوف، أي عن حكم ذلك الطلاق، وفي الرواية الحادية عشرة "فذكر ذلك لعمر، فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم" وفي سؤال عمر النبي صلى الله عليه وسلم إشعار بأنه لم يتقبل هذا العمل شرعًا، إما لأن الطلاق في الحيض كان ممنوعًا منهيًا عنه، وتعقب بأنه لو كان كذلك لعلمه ابن عمر، ولم يفعله، وأجيب بأن عمر ربما كان يعلم أنه ممنوع، لكن لا يعلم ماذا يصنع من فعل ذلك؟ فسأل، ويحتمل أن حكم الطلاق في الحيض لم يكن بين بعد، فوقع في نفس عمر تساؤل عنه بعد نزول قوله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} فسأل. زاد في الرواية الخامسة "فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال ابن دقيق العيد: وتغيظ النبي صلى الله عليه وسلم إما لأن المعنى الذي يقتضي المنع كان ظاهرًا، فكان مقتضى الحال التثبت في ذلك، أو لأنه كان مقتضى الحال مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك إذا عزم عليه. (مره فليراجعها) أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عمر أن يأمر ابنه بالمراجعة. فهل ابن عمر حينئذ يكون مأمورًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وبلغة الأصوليين: هل الأمر بالأمر بشيء أمر بذلك الشيء؟ سيأتي تفصيله وتوضيحه في فقه الحديث، وفي الرواية الثانية "فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يراجعها" والضمير في "فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم" لابن عمر، كما هو ظاهر، فكأن ابن عمر اعتبر أمر عمر أن يأمره أمرًا له من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ملحق الرواية الثانية "فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني بهذا" أي بالرجعة. واللام في "فليراجعها" لام الأمر، تجزم الفعل المضارع، والكثير فيها إسكانها بعد الفاء والواو، وقد تكسر، وكسرها بعد "ثم" كثير، وقد تسكن. وأصل "مر" اؤمر بهمزتين، الأولى همزة الوصل جيء بها توصلاً للنطق بالساكن، كما في اكتب، فإن وصل بما قبله سقطت، نحو قوله تعالى: {وأمر أهلك بالصلاة} [طه: 132] والهمزة الثانية فاء الكلمة، فحذفوها تخفيفًا، فلم يعد هناك داع لهمزة الوصل لتحرك ما بعدها، فقيل "مر".

(ثم ليتركها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر) اللام في "ليتركها" ساكنة، والمراد بتركها في عصمته حائضًا حتى تطهر من حيضتها، وحتى تحيض حيضة أخرى، غير التي طلقت وروجعت فيها، وحتى تطهر من حيضتها الثانية، وفي الرواية الثانية "فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم" أن يراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض عنده حيضة أخرى، ثم يمهلها حتى تطهر من حيضتها" وفي الرواية الثالثة "مره فليراجعها، ثم ليدعها - أي ليمسكها - حتى تطهر، ثم تحيض حيضة أخرى، فإذا طهرت فليطلقها ... " وفي الرواية الخامسة "فليراجعها حتى تحيض حيضة أخرى مستقبلة، سوى حيضتها التي طلقها فيها" وعلى هذا تحمل الروايات التي لم تذكر الحيضة الثانية، حيث إن القضية واحدة، كالرواية السادسة، وفيها "مره فليراجعها، ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملاً" والرواية التاسعة، وفيها "فأمره أن يراجعها، حتى يطلقها طاهرًا من غير جماع" والرواية العاشرة، وفيها "ليراجعها، فإذا طهرت فإن شاء فليطلقها" والحادية عشرة، وفيها "مره فليراجعها، فإذا طهرت فليطلقها لطهرها" والثانية عشرة، وفيها "مره فليراجعها، ثم إذا طهرت فليطلقها" والرابعة عشرة، وفيها "ليراجعها ... وإذا طهرت فليطلق أو ليمسك". فتحمل هذه الروايات على أن فيها طيًا وحذفًا، وأن ابن عمر أمر بالإمساك حيضة أخرى، وإن لم يشترط ذلك عامة الفقهاء، وسيأتي توضيحه في فقه الحديث. (ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس) أي قبل أن يجامع، وفي الرواية الثانية "فإن أراد أن يطلقها فليطلقها حين تطهر من قبل أن يجامعها" وفي الرواية الثالثة "فإذا طهرت فليطلقها قبل أن يجامعها، أو يمسكها" وفي الرواية الرابعة "ثم يطلقها قبل أن يمسها" أي إن شاء، وفي الرواية الخامسة "فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرًا من حيضتها، قبل أن يمسها". (فتلك العدة التي أمر اللَّه - عز وجل - أن يطلق لها النساء) أي فتلك التطليقة التي تستقبل بها المرأة عدتها من غير تطويل عليها، والتي أمر الله بها في قوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن} وفي الرواية الرابعة عشرة "قال ابن عمر: وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} بضم القاف والباء - أي وقت استقبال عدتهن، قال النووي: هذه قراءة ابن عباس وابن عمر، وهي شاذة، لا تثبت قرآنًا بالإجماع. اهـ. والآية تنادي النبي صلى الله عليه وسلم وتعم المخاطبين بالحكم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إمام أمته، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان. افعلوا كيت وكيت. وقيل: الخطاب كالنداء، له صلى الله عليه وسلم، إلا أنه اختير ضمير الجمع "إذا طلقتم" للتعظيم. وقوله {إذا طلقتم النساء} فيه مجاز المشارفة، أي إذا أردتم تطليقهن، وأشرفتم على ذلك، ففيه تنزيل المشارف للفعل منزلة المباشر له، ولولا هذا المجاز لم يستقم الكلام، إذ يكون لطلب تحصيل الحاصل. واللام في {فطلقوهن لعدتهن} على القراءة المتواترة لام التوقيت، أي فطلقوهن لوقت عدتهن، أو مستقبلات عدتهن، أي في الوقت الذي يحتسب من عدتهن، والحيض الذي تطلق فيه لا يحتسب من العدة باتفاق، فالمطلوب طلاقها في

طهر لم يجامع فيه، فهي بذلك تعتد بذلك الطهر ويحسب لها قرءًا من ثلاثة قروء، على مذهب الشافعي وموافقيه، بتفسير القرء بالطهر، وإذا فسر القرء بالحيض كما يقول أبو حنيفة وموافقوه، استقبلت عدتها بالحيضة التي تلي الطهر الذي لم تجامع فيه. (أما أنت طلقت امرأتك مرة أو مرتين فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمرني بهذا، وإن كنت طلقتها ثلاثًا فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجًا غيرك، وعصيت اللَّه فيما أمرك من طلاق امرأتك) في الرواية الرابعة "أما أنت طلقتها واحدة أو اثنتين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يراجعها .. وأما أنت طلقتها ثلاثًا فقد عصيت ربك فيما أمرك به من طلاق امرأتك، وبانت منك". ومقصود العبارتين أن الرجعة المأمور بها إنما تكون بعد طلقة واحدة أو طلقتين. فإن طلقها الثالثة في حيض بانت منه، ولا رجعة، والطلاق في الحيض حرام ومعصية، سواء كانت طلقة أولى أو ثانية أو ثالثة. هذا مقصود العبارتين، أما كيفية دلالة الألفاظ على هذا المقصود فقد قال القاضي عياض: قيل: إنه بفتح الهمزة من "أما" أي وتخفيف الميم، بعدها "إن" الشرطية - أي أما إن كنت، فحذفوا الفعل "كان" فانفصل الضمير "أنت" وفتحوا همزة "إن" الشرطية، وأدغموا النون في "ما" فصارت "أما أنت" بتشديد الميم، ويدل على ذلك قوله بعد "وإن كنت طلقتها ثلاثًا .... ". (قلت لنافع: ما صنعت التطليقة؟ قال: واحدة اعتد بها) أي ماذا كانت نتيجة التطليقة التي طلقها ابن عمر في الحيض؟ قال: كانت واحدة، فحسبت عليه، فاعتد بها ابن عمر، وحسبها، وفي الرواية الخامسة "وكان عبد الله طلقها تطليقة واحدة، فحسبت من طلاقها، وراجعها ... " وفي ملحق هذه الرواية "قال ابن عمر: فأرجعتها، وحسبت لها التطليقة التي طلقتها" وفي الرواية الثامنة "أفحسبت عليه؟ قال: فمه؟ أو إن عجز واستحمق؟ ". "فمه" الفاء في جواب شرط مقدر، و"مه" اسم فعل أمر، أي إذا كان الأمر واضحًا فانزجر وكف عن الشك في احتسابها. وقيل "مه" أصلها "ما" الاستفهامية، أبدلت الألف هاء، كما قالوا في "مهما" أصلها "ماما" أي: أي شيء؟ والمعنى: فماذا يترتب على احتسابها؟ أي لا يترتب على احتسابها شيء، فلا يكون إلا احتسابها، ومعنى "أو إن عجز واستحمق" أفيرتفع عنه الطلاق لأنه جهل الحكم وكان أحمق؟ والاستفهام إنكاري، أي لا مانع من حسبان الطلاق وإن كان عاجزًا عن إدراك الحكم ساعتها وكان أحمق، وفي الرواية العاشرة "أفتحتسب بها؟ قال: ما يمنعه"؟ أي ما يمنع ابن عمر من احتسابها؟ "أرأيت إن عجز واستحمق"؟ أي أخبرني إن لم يدرك الحكم وصار أحمق. أيعفيه ذلك من احتسابها؟ لا يعفيه، وفي الرواية الحادية عشرة "قال: ما لي لا أعتد بها؟ وإن كنت عجزت واستحمقت"؟ وجاء في غير مسلم أن ابن عمر قال: أرأيت إن كان ابن عمر عجز واستحمق، فما يمنعه أن يكون طلاقًا؟ " وقال القاضي: أي إن عجز عن الرجعة، وفعل فعل الأحمق، وقال الكرماني: يحتمل أن يكون كلمة "إن" نافية، أي ما عجز ابن عمر، وما استحمق.

-[فقه الحديث]- يتعلق الحديث بثلاث نقاط أساسية: 1 - الأحكام الشرعية للطلاق في ذاته، ومن حيث ما يعرض له من أسباب ودوافع. 2 - الطلاق في الحيض، وما يتعلق به. 3 - ما يؤخذ من الحديث من أحكام أخرى. أما عن النقطة الأولى فقد قال غير واحد: الطلاق في ذاته محظور، لما فيه من كفران نعمة النكاح، وإنما يباح، أو يستحب، أو يجب للحاجة التي تختلف قوة وضعفًا، ومعنى هذا أننا لو جردناه من دوافع الفعل ومن دوافع الترك الآتية يكون مكروهًا، كمن يطلق لمجرد العبث والقدرة على الزواج والطلاق، ويمكن أن يستدل له بما رواه أبو داود وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن من أبغض المباحات عند الله - عز وجل - الطلاق" وفي لفظ "أبغض الحلال إلى الله الطلاق" والحلال البغيض أو الأبغض يمكن أن يصدق على المكروه. وقيل هو في أصله مباح، لوصفه في الحديثين السابقين بالإباحة والحل، وقد يستدل لهذا أيضًا بقوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} والخلاف في هذا سهل يسير، لأن هذه الصورة نادرة أو فرضية، وما مثل به من طلاق المغيرة بن شعبة زوجاته الأربع، حيث قال لهن في دفعة واحدة: أنتن حسنات الأخلاق، ناعمات الأطواق، طويلات الأعناق. اذهبن فأنتن طلاق. فهو محمول على وجود حاجة لم يصرح بها. أما من حيث أسباب الطلاق ودوافعه فقد يكون واجبًا، كطلاق المولى الذي آلى أن لا يطأ زوجته أربعة أشهر، أي حلف ألا يطأها أربعة أشهر، وهو قادر على الوطء، فيتربص أربعة أشهر، فإن انقضت ولم يكن له عذر ثبت لها المطالبة بالفيئة أو الطلاق، فإن طالبته بذلك وجب الفيئة أو الطلاق، ولو امتنع طلق عليه الحاكم على القول الصحيح. وكالطلاق الذي حكم به الحكمان بسبب الشقاق الذي يستحيل معه العشرة. وقد يكون مستحبًا، كما إذا وقعت الخصومة بين الزوجين، وخافا أن لا يقيما حدود الله، أو تكون غير عفيفة، أو سيئة الخلق، بحيث لا يصبر على عشرتها عادة، فيستحب له طلاقها. وقد يكون حرامًا كالطلاق البدعي، وهو موضوع النقطة الثانية الآتية. وقد يكون مكروهًا كطلاق مستقيمة الحال، ولا يكره شيئًا من خلقها، ولا دينها، وتطيب نفسه بمؤنتها وعشرتها. فإن خلا الطلاق من هذه الأسباب ومن تلك الدوافع كان مباحًا، ونفاه النووي، وصوره بعضهم بما إذا كان لا يريدها ولا تطيب نفسه أن يتحمل مؤنتها، من غير حصول غرض الاستمتاع، وقد سبق توضيح هذا النوع بما فيه الكفاية، واللَّه أعلم.

أما النقطة الثانية فهي الطلاق البدعي، وهي الطلاق في الحيض، أو في طهر جامعها فيه، والحكمة في ذلك حمايتها من تطويل العدة عليها، لأنها إذا طلقت في الحيض لم تحسب هذه الحيضة من القروء المطلوبة للعدة بقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة: 228] عند القائلين بأن المراد بالقرء الحيض وهم الحنفية وموافقوهم، لأنهم يشترطون أن تستقبل العدة بحيضة كاملة، وتطول أيضًا إذا طلقها في طهر جامعها فيه، لاحتمال أن تحمل فتطول أو يندم، وعند القائلين بأن المراد بالقرء الطهر، وهم المالكية والشافعية وموافقوهم ستطول عدتها بزمن الحيضة التي طلقت فيها، لأنها لا تحتسب، كذلك ستطول عدتها إذا طلقت في طهر جامعها فيه، لأن هذا الطهر لن يحتسب من عدتها، فتطول ببقية أيام هذا الطهر وبالحيضة الكاملة التي بعده، وقد تحمل فيندم. والقرء في اللغة يطلق على الحيض والطهر، لهذا اختلف الفقهاء في المراد منه، كما سبق، فمن قال إن المراد به الحيض اشترط في العدة ثلاث حيضات كاملة، أي لا تخرج من العدة إلا بانقطاع الدم في الحيضة الثالثة، وقيل: حتى ينقطع الدم وتغتسل، أو يذهب وقت صلاة، وقيل: تنتهي العدة بانقطاع الدم، وتنقطع الرجعة ويصح الصيام، لكن لا تحل للأزواج حتى تغتسل احتياطًا، وخروجًا من الخلاف. أما القائلون بأن المراد من الأقراء الأطهار فتبدأ العدة بطهر لم يجامعها فيه، ولو طلقها قبل نهاية هذا الطهر بلحظة، فهو محسوب من العدة، حيث لم يجامعها فيه، واختلفوا في نهاية العدة، فقيل، بمجرد رؤية الدم بعد الطهر الثالث، وقيل: بعد انقضاء يوم وليلة على رؤية الدم، ويتفرع على هذا مسائل: الأولى: لو كانت الحائض حاملاً - على القول بأن الحامل تحيض - فالصحيح عند الشافعية، وهو نص الشافعي أن طلاقها لا يحرم، لأن تحريم الطلاق في الحيض إنما كان لمنع تطويل العدة، والحامل الحائض عدتها بوضع الحمل، فلا يحصل في حقها تطويل، وقال أبو إسحاق: هو بدعة، لأنه طلاق في الحيض، وعن أحمد رواية أنه ليس بسني ولا بدعي. الثانية: طلاق غير المدخول بها في الحيض لا يحرم، وليس طلاق بدعة، لأنه لا عدة عليها. الثالثة: المدخول بها الصغيرة التي لا تحمل، والكبيرة الآيسة التي لا تحمل، طلاقها في الحيض ليس بدعة، ولا يحرم. الرابعة: لو طلقها في حيض طلقة أولى أو ثانية أمر بالرجعة، قال النووي: أجمعوا على أنه إذا طلقها في حيض أمر برجعتها، وهذه الرجعة مستحبة، لا واجبة، هذا مذهبنا، وبه قال الأوزاعي وأبو حنيفة وسائر الكوفيين وأحمد وفقهاء المحدثين وآخرون، وقال مالك وأصحابه: هي واجبة. اهـ ويجبر عليها، فإن امتنع أدبه الحاكم، فإن أصر ارتجع الحاكم عليه، ووضح الحافظ ابن حجر حجة

الفريقين، فقال: أما القائلون بأنها مستحبة فاحتجوا بأن ابتداء النكاح لا يجب، فاستدامته كذلك، والحجة لمن قال بالوجوب ورود الأمر بها، ولأن الطلاق لما كان محرمًا في الحيض كانت استدامة النكاح في الحيض واجبة. فإن تمادى الذي طلق في الحيض، ولم يراجع حتى طهرت، قال مالك وأكثر أصحابه: يجبر على الرجعة أيضًا، وقال أشهب من أصحابه: إذا طهرت انتهى الأمر بالرجعة. واتفقوا على أنها إذا انقضت عدتها أن لا رجعة، وأنه إذا طلقها في طهر قد مسها فيه لا يؤمر بمراجعتها، كذا نقله ابن بطال وغيره، لكن الخلاف فيه ثابت، قد حكاه الحناطي من الشافعية وجهًا، واتفقوا على أنه لو طلق قبل الدخول وهي حائض لم يؤمر بالمراجعة، إلا ما نقل عن زفر، فقد طرد الباب. اهـ. الخامسة: لو طلقها في الحيض، وراجعها، وأراد أن يطلقها، فهل يطلقها في الطهر الذي يلي تلك الحيضة التي طلقها فيها، قبل أن يجامعها؟ أو يمسكها بعد هذا الطهر حتى تحيض حيضة أخرى عنده، ثم تطهر طهرًا آخر، يطلق فيه، كما هو ظاهر أكثر روايات الحديث؟ . قال الحافظ ابن حجر: في جواز تطليقها في الطهر الذي يلي الحيضة التي وقع فيها الطلاق والمراجعة وجهان للشافعية، أصحهما المنع، وبه قطع المتولي، وهو الذي يقتضيه ظاهر الزيادة التي في الحديث، وكلام المالكية يقتضي أن التأخير مستحب، وقال ابن تيمية في المحرر: ولا يطلقها في الطهر المتعقب له، فإنه بدعة. وعن أحمد جواز ذلك، وفي كتب الحنفية عن أبي حنيفة الجواز، وعن أبي يوسف ومحمد المنع. ثم ذكر وجهة نظر الفريقين، فقال: ووجه الجواز أن التحريم إنما كان لأجل الحيض، فإذا طهرت زال موجب التحريم، فجاز طلاقها في هذا الطهر، كما يجوز في الطهر الذي بعده، وكما يجوز طلاقها في الطهر، حيث لم يتقدم طلاق في الحيض. اهـ. ويجيبون عن أمر ابن عمر بالإمساك طهرًا، ثم حيضة أخرى بأن هذا كان خاصًا بابن عمر رضي الله عنه عقوبة له على وقوعه في أمر، لا يخفى على مثله، أو أن الأمر بهذا التأخير للإرشاد، لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا، ولعل طول مدة الإمساك يجعله يجامعها، أو يذهب ما في نفسه من سبب طلاقها، فيمسكها. أما وجهة نظر المانعين للتطليق في الطهر الذي يلي حيضة الطلاق فقيل: إن الطهر الأول مع الحيض الذي يليه كقرء واحد، فلو طلقها في أول طهر كان كمن طلق في الحيض، وهو ممنوع أن يطلق في الحيض، فلزم أن يتأخر إلى الطهر الثاني، وقيل: عقوبة له من معصية جنايته، حيث قصد تطويل العدة، فعوقب بتطويل الإمساك. وخير ما قيل في ذلك أن الأمر بهذا التأخير لئلا تصير الرجعة لغرض الطلاق، إذ لو طلقها عقب تلك الحيضة كان قد راجعها ليطلقها، وهذا عكس مقصود الرجعة، فإنها شرعت لإيواء المرأة، ولإعطائها فرصة الإصلاح، ولهذا سماها إمساكًا، فأمره أن يمسكها في ذلك الطهر، وأن لا يطلق فيه

حتى تحيض حيضة أخرى، ثم تطهر، لتكون الرجعة للإمساك، لا للطلاق، قال الحافظ ابن حجر: ويؤيد ذلك أن الشارع أكد هذا المعنى حيث أمر أن يمسكها في الطهر الذي يلي الحيض الذي طلقها فيه، فإذا كان قد أمره بأن يمسكها في ذلك الطهر، فكيف يبيح له أن يطلقها فيه؟ السادسة: لو طلقها في الحيض. هل تحسب هذه التطليقة عليه؟ ظاهر الروايات أنها تحسب عليه تطليقة، ففي الرواية الثالثة "ما صنعت التطليقة؟ قال: واحدة أعتد بها" وفي ملحق الرواية الخامسة "وكان عبد الله طلقها تطليقة واحدة، فحسبت من طلاقها" وفي رواية "قال ابن عمر: فراجعتها، وحسبت لها التطليقة التي طلقتها" وفي الرواية التاسعة "أتعتد بتلك الطلقة؟ فقال: فمه؟ أو إن عجز واستحمق"؟ وفي الرواية العاشرة "أفاحتسبت بها؟ قال: ما يمنعه؟ أرأيت إن عجز واستحمق؟ وفي الرواية الحادية عشرة "فاعتددت بتلك التطليقة التي طلقت وهي حائض؟ قال: ما لي لا أعتد بها؟ وإن عجزت واستحمقت". قال النووي: وبه قال العلماء كافة، وشذ بعض أهل الظاهر، فقال: لا يقع طلاقه، لأنه غير مأذون له فيه، فأشبه طلاق الأجنبية. قال النووي: والصواب الأول، ودليلهم الأمر بالرجعة، ولو لم يقع لم تكن رجعة، فإن قيل: المراد بالرجعة الرجعة اللغوية، وهي الرد إلى حالها الأول، لا أنه تحسب عليه طلقة. قلنا: هذا غلط لوجهين. أحدهما: أن حمل اللفظ على الحقيقة الشرعية يقدم على حمله على الحقيقة اللغوية، كما تقرر في علم أصول الفقه، الثاني: أن ابن عمر صرح في روايات مسلم وغيره بأنه حسبها طلقة. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: كأن النووي أراد ببعض الظاهرية ابن حزم، فإنه ممن جرد القول بذلك، وانتصر له، وبالغ، وأجاب عن أمر ابن عمر بالمراجعة بأن ابن عمر كان اجتنبها، فأمره أن يعيدها إليه على ما كانت عليه من المعاشرة، فحمل المراجعة على معناها اللغوي، وأجاب عن قول ابن عمر: حسبت على تطليقة بأنه لم يصرح بمن حسبها عليه، ولا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ ابن حجر: وقد وافق ابن حزم على ذلك من المتأخرين ابن تيمية، وله كلام طويل في تقرير ذلك، والانتصار له، وأعظم ما احتجوا به ما وقع في رواية أبي الزبير [روايتنا الرابعة عشرة] "ليراجعها، فردها، وقال: إذا طهرت فليطلق أو يمسك" لفظ مسلم، ولفظ أبي داود" فردها علي" وزاد أبو داود "ولم يرها شيئًا" قال أبو داود: روى هذا الحديث عن ابن عمر جماعة، وأحاديثهم كلها على خلاف ما قاله أبو الزبير، وقال ابن عبد البر: قوله "ولم يرها شيئًا" منكر، لم يقله غير أبي الزبير، وليس بحجة فيما خالفه فيه مثله، فكيف بمن هو أثبت منه؟ ولو صح فمعناه عندي - والله أعلم - ولم يرها شيئًا مستقيمًا، لكونها لم تقع على السنة. وقال الخطابي: قال أهل الحديث: لم يرو أبو الزبير حديثًا أنكر من هذا، وقد يحتمل أن يكون معناه لم يرها شيئًا تحرم معه المراجعة، أو لم يرها شيئًا جائزًا في السنة، ماضيًا في الاختيار، وإن كان لازمًا له مع الكراهة، ونقل البيهقي في "المعرفة" عن الشافعي أنه

ذكر رواية أبي الزبير، فقال: نافع أثبت من أبي الزبير، والأثبت من الحديثين أولى أن يؤخذ به إذا تخالفا، وقد وافق نافعًا غيره من أهل الثبت. اهـ. وأطال الحافظ ابن حجر في هذه المسألة بما لم يسمح بذكره المقام. والله أعلم. -[وأما عن النقطة الثالثة فيؤخذ من الحديث]- 1 - قال ابن دقيق العيد: يتعلق بقوله "مره فليراجعها" مسألة أصولية، وهي أن الأمر بالأمر بالشيء. هل هو أمر بذلك الشيء؟ أم لا؟ فقال ابن الحاجب: الأمر بالأمر بالشيء ليس أمرًا بذلك الشيء، لأنه لو كان أمرًا بذلك الشيء لكان قولنا: مر عبدك بكذا تعديًا - أي وكان أمرًا للعبد بما لا يملك الآمر. وقال الرازي: الأمر بالأمر بالشيء أمر بذلك الشيء، والتحقيق التفرقة، إن كان الآمر الأول بحيث يسوغ له الحكم على المأمور الثاني فهو أمر له، وإلا فلا. قال الحافظ ابن حجر: وهذا قوي، وهو مستفاد من الدليل الذي استدل به ابن الحاجب على النفي، لأنه لا يكون متعديًا إلا إذا أمر من لا حكم له عليه، لئلا يصير متصرفًا في ملك غيره بغير إذنه، والشارع حاكم على الآمر والمأمور، فوجد فيه سلطان التكليف على الفريقين، ومنه قوله تعالى {وأمر أهلك بالصلاة} [طه: 132] فإن كل أحد يفهم منه أمر اللَّه لأهل بيته بالصلاة. ثم ذكر الحافظ نظائر كثيرة، ثم قال: والحاصل أن الخطاب إذا توجه لمكلف أن يأمر مكلفًا آخر بفعل شيء كان المكلف الأول مبلغًا محضًا، والثاني مأمور من قبل الشارع، فإذا أمر الأول الثاني بذلك، فلم يمتثله كان عاصيًا، وإن توجه الخطاب من الشارع لمكلف أن يأمر غير مكلف، أو توجه الخطاب من غير الشارع بأمر من له عليه الأمر أن يأمر من لا أمر للأول عليه لم يكن الأمر بالأمر بالشيء أمرًا بالشيء. فهذا فصل الخطاب. والله المستعان. 2 - وفيه أن الرجعة يستقل بها الزوج، دون الولي. 3 - وأن الرجعة لا تفتقر إلى رضا المرأة، ولا رأيها، ولا تجديد عقد، لأنه جعل ذلك إليه دون غيره، وهو كقوله تعالى {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} [البقرة: 228]. 4 - وفيه أن طلاق الطاهرة لا يكره، لأنه أنكر إيقاعه في الحيض، لا في غيره، ولقوله في آخر الحديث "فإن شاء أمسك، وإن شاء طلق" كذا قال الحافظ ابن حجر، وفيه نظر، فقد يكره لسبب آخر كما ذكرنا في أحكام الطلاق. 5 - وفيه أن الحامل لا تحيض لقوله في الرواية السادسة "ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملاً" فحرم صلى الله عليه وسلم الطلاق في زمن الحيض، وأباحه في زمن الحمل، فدل على أنهما لا يجتمعان. قال الحافظ: وأجيب بأن حيض الحامل لما لم يكن له تأثير في تطويل العدة ولا تخفيفها - لأنها بوضع الحمل - أباح الشارع طلاقها حاملاً مطلقًا، وأما غير الحامل ففرق بين الحائض والطاهر. اهـ. وهذا على جعل لفظ "أو" مانعة جمع، كقولنا: تزوج هندًا أو أختها، لكن لو جعلناها مانعة خلو تبيح الجمع، من قبيل: جالس الحسن أو ابن سيرين فلا يؤخذ من الحديث هذا المأخذ.

6 - وفيه أن الأب يقوم عن ابنه البالغ الرشيد في الأمور التي تقع له، مما يحتشم الابن من ذكره، ويتلقى عنه ما لعله يلحق من العتاب على فعله، شفقة منه وبرًا. 7 - واستدل به من ذهب إلى أن المراد بالأقراء الأطهار، لقوله في الروايات الخمس الأوليات "فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء" للأمر بطلاقها في الطهر، وقوله تعالى {فطلقوهن لعدتهن} أي وقت ابتداء عدتهن، وقد جعل للمطلقة تربص ثلاثة قروء، فلما نهي عن الطلاق في الحيض، وقال: إن الطلاق في الطهر هو الطلاق المأذون فيه، علم أن الأقراء الأطهار. قاله ابن عبد البر. 8 - قال النووي: في قوله "ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملاً" دلالة لجواز طلاق الحامل التي تبين حملها، وهو مذهب الشافعي. قال ابن المنذر: وبه قال أكثر العلماء، منهم طاووس والحسن وابن سيرين وربيعة وحماد بن أبي سليمان ومالك وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد، قال ابن المنذر: وبه أقول، وبه قال بعض المالكية، وقال بعضهم: هو حرام، وحكى ابن المنذر رواية أخرى عن الحسن أنه قال: طلاق الحامل مكروه. ثم مذهب الشافعي ومن وافقه أن له أن يطلق الحامل ثلاثًا بلفظ واحد، وبألفاظ متصلة، وفي أوقات متفرقة، وكل ذلك جائز، لا بدعة فيه، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: يجعل بين الطلقتين شهرًا، وقال مالك وزفر ومحمد بن الحسن: لا يوقع عليها أكثر من واحدة حتى تضع. اهـ. 9 - ومن قوله في الرواية الأولى "وإن شاء طلق قبل أن يمس" وفي الثانية "فإن أراد أن يطلقها فليطلقها حين تطهر، من قبل أن يجامعها" وفي الثالثة "فإذا طهرت فليطلقها قبل أن يجامعها" وفي الرابعة "ثم يطلقها قبل أن يمسها" وفي الخامسة "فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرًا من حيضتها قبل أن يمسها" وفي التاسعة "حتى يطلقها طاهرًا من غير جماع" استدل على أن الطلاق في طهر جامعها فيه حرام، وبه صرح الجمهور. وقال المالكية: لا يحرم، وفي رواية كالجمهور، ورجحها الفاكهاني، لكونه شرط في الإذن في الطلاق عدم المسيس، والمعلق بشرط، معدوم عند عدمه. 10 - وفي الحديث حرص الإسلام أن لا يشق الزوج بالزوجة، حتى عند فراقه لها، مهما كان غاضبًا عليها. واللَّه أعلم

(396) باب طلاق الثلاث وكفارة من حرم امرأته ولم ينو الطلاق

(396) باب طلاق الثلاث وكفارة من حرم امرأته ولم ينو الطلاق 3249 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدة. فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم. 3250 - عن أبي الصهباء أنه قال لابن عباس: أتعلم أنما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وثلاثًا من إمارة عمر؛ فقال ابن عباس: نعم. 3251 - عن طاوس أن أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هناتك. ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر واحدة؟ فقال: قد كان ذلك. فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق. فأجازه عليهم. 3252 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقول، في الحرام: يمين يكفرها. وقال ابن عباس: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [الأحزاب: 21]. 3253 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إذا حرم الرجل عليه امرأته فهي يمين يكفرها. وقال: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} 3254 - عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت

جحش فيشرب عندها عسلاً. قالت فتواطيت أنا وحفصة؛ أن أيتنا ما دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فلتقل: إني أجد منك ريح مغافير. أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما فقالت ذلك له. فقال "بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش ولن أعود له" فنزل {لم تحرم ما أحل الله لك} إلى قوله: {إن تتوبا} لعائشة وحفصة {وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثًا} لقوله: بل شربت عسلاً. 3255 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل. فكان إذا صلى العصر، دار على نسائه. فيدنو منهن. فدخل على حفصة فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس. فسألت عن ذلك، فقيل لي: أهدت لها امرأة من قومها عكة من عسل. فسقت رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شربة. فقلت: أما والله لنحتالن له. فذكرت ذلك لسودة. وقلت: إذا دخل عليك فإنه سيدنو منه. فقولي له: يا رسول الله أكلت مغافير؟ فإنه سيقول لك: لا. فقولي له: ما هذه الريح؟ (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح) فإنه سيقول لك: سقتني حفصة شربة عسل. فقولي له: جرست نحله العرفط. وسأقول ذلك له. وقوليه أنت يا صفية. فلما دخل على سودة. قالت: تقول سودة: والذي لا إله إلا هو لقد كدت أن أبادئه بالذي قلت لي. وإنه لعلى الباب، فرقا منك. فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: يا رسول الله أكلت مغافير؟ قال: "لا". قالت: فما هذه الريح؟ قال: "سقتني حفصة شربة عسل" قالت: جرست نحله العرفط. فلما دخل علي قلت له مثل ذلك. ثم دخل على صفية فقالت بمثل ذلك. فلما دخل على حفصة قالت: يا رسول الله ألا أسقيك منه؟ قال "لا حاجة لي به". قالت: تقول سودة: سبحان الله والله لقد حرمناه. قالت: قلت لها: اسكتي. -[المعنى العام]- كان الطلاق في الجاهلية لا يخضع لعدد معين، بل ولا يخضع لذم أو تنفير، فجاء الإسلام فأقر مبدأه، فقد يكون ضرورة، أو تدعو إليه حالات الشقاق بين الزوجين، أباحه الإسلام لكن نفر منه، فقال صلى الله عليه وسلم "أبغض الحلال إلى الله الطلاق".

ولما كانت طبيعة البشر الغضب والرضا اقتضت الحكمة الإلهية، والرحمة بالأزواج أن يراجعوا طلقة وطلقتين أما الثالثة إذا وقعت لم تحل الزوجة حتى تنكح زوجًا غيره، فقال تعالى {الطلاق مرتان} وبعدهما {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة: 229]. ولم يحدد القرآن الكريم، ولا السنة النبوية فاصلاً زمنيًا بين الطلقات، فكان اختلاف العلماء. هل لو جمع الثلاث في لفظ واحد، أو في دقيقة واحدة تحسب ثلاثًا أو تحسب واحدة، فذهب الجمهور إلى الحزم والتقليل من أبغض الحلال، والتحذير من التلاعب بألفاظ الطلاق، فحكم بأنها تحسب ثلاثًا. وذهب قلة من العلماء إلى أنها تحسب واحدة ما دامت في لفظ واحد. وكان على رأس الحزم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ووافقه الصحابة، وأجمعوا على ما ذهب إليه. ولما كان الطلاق يصدر من الرجل بألفاظ صريحة لا تقبل التأويل لم يشترط فيها النية، ويصدر من الرجال بألفاظ غير صريحة، تحتمل الطلاق وغيره اشترط فيها النية. ومن الألفاظ غير الصريحة لفظ "حرمت زوجتي" أو "زوجتي فلانة علي حرام" هذه اللفظة ونحوها تتبع النية، فإن نوى بها طلاقًا وقع الطلاق، وإن نوى بها ظهارًا وقع الظهار، وإن نوى بها يمينًا لزمه كفارة يمين، وإن لم ينو بها شيئًا كانت لغوًا. على خلاف بين العلماء. أما تحريم الحلال من غير الزوجة، كقوله: هذا الطعام علي حرام، أو كلامك علي حرام. أو بيتك علي حرام، أو أموالك علي حرام، أو ما شابه ذلك من تحريم ما أحل الله فلا يلزم منه شيء، إلا إذا حلف على ذلك، فعليه كفارة يمين إن فعل ما حرمه على نفسه. هذا فضل من الله على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن من كان قبلهم كانوا إذا حرموا شيئًا حرم عليهم، كما وقع ليعقوب "إسرائيل" عليه السلام، فقد روي أنه كان به عرق النساء، فجعل على نفسه إن شفاه الله أن لا يأكل العروق من كل شيء، فشفاه الله، وألزمه تحريم ما حرم، وأخبرنا بذلك، فقال جل شأنه {كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه} [آل عمران: 93]. فكان من نعم الله على هذه الأمة أن خفف ذلك عليهم، فلم يحرم عليهم ما حرموا على أنفسهم، ونهاهم أن يحرموا على أنفسهم شيئًا مما أحل لهم، فقال تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} [المائدة: 87]. ولما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسه العسل، لتحايل عليه وقع من بعض زوجاته، وحرم على نفسه وطء جاريته إرضاء لبعض زوجاته عاتبه ربه بقوله {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم} [التحريم: 1، 2]. فسبحان أحكم الحاكمين، شرع ما فيه مصالح العباد في الدنيا والآخرة، وخفف على

الأمة الإسلامية ووضع عنها إصرها والأغلال التي كانت عليها. فتبارك الله أحسن الخالقين. والحمد لله رب العالمين. -[المباحث العربية]- (كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي في زمنه وفي حياته. (طلاق الثلاث واحدة) "طلاق الثلاث" بدل من "الطلاق" والبدل على نية تكرار العامل، أي كان طلاق الثلاث واحدة. فواحدة خبر، والمعنى: كان الطلاق الثلاث في دفعة واحدة يحسب واحدة. (إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة) "أناة" بفتح الهمزة، آخره تاء مربوطة، على وزن "قناة" الحلم والوقار والتثبت والرفق والانتظار وعدم العجلة، يقال: أني الرجل من باب سمع أينا، وتأني تأنيًا. والمعنى إن الناس استعجلوا الطلاق الثلاث، وأكثروا منه في دفعة واحدة، وكانوا من قبل لا يتعجلونه، ولا يطلقون الثلاث إلا نادرًا. (فلو أمضيناه عليهم) "لو" للتمني، فلا تحتاج إلى جواب، أي ليتنا نمضيه وننفذه عليهم، ونلزمهم به ثلاثًا - كما نطقوه، لا واحدة. ويصح أن تكون شرطية، وجواب الشرط محذوف، أي لكان خيرًا. (أتعلم أنما كانت الثلاث تجعل واحدة) "الثلاث" صفة لموصوف محذوف، أي التطليقات الثلاث. والاستفهام حقيقي، ولذلك أجاب. (وثلاثًا من إمارة عمر)؟ "ثلاثًا" منصوب على الظرفية، أي وكانت الثلاث تجعل واحدة في ثلاث سنوات من خلافة عمر، وفي الرواية الأولى "وسنتين من خلافة عمر" فيحتمل أن الواقع كان سنتين ونصفًا مثلاً، فألغي الكسر تارة، وجبر الكسر تارة أخرى. (هات من هناتك) أي من أخبارك وأمورك المستغربة، وفي كتب اللغة: الهناة الداهية والشدائد والأمور العظام، والكلمات والأراجيز. (تتايع الناس في الطلاق) قال النووي: هو بياء مثناة من تحت بين الألف والعين، هذه رواية الجمهور، وضبطه بعضهم بالباء الموحدة، وهما بمعنى، ومعناه أكثروا منه، وأسرعوا إليه، لكن بالياء المثناة إنما يستعمل في الشر، وبالباء الموحدة يستعمل في الخير والشر، فالياء المثناة هنا أجود. (فأجازه عليهم) ثلاثًا، أي أمضاه ونفذه عليهم ثلاثًا. (كان يقول في الحرام: يمين يكفرها) "في الحرام" متعلق بيقول، أي يقول فيمن قال لامرأته أنت علي حرام، يقول: هي يمين يكفرها قائلها. فيمين خبر لمبتدأ محذوف، وفي الرواية الخامسة" إذا حرم الرجل عليه امرأته فهي يمين يكفرها".

(قال ابن عباس: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}) يشير بذلك إلى قوله تعالى {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} بعد قوله {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك} [التحريم: 1] أي جعل الله لنبيه تحريم ما أحل يمينًا عليه كفارته. (فتواطيت أنا وحفصة) من التواطؤ، وهو التوافق، قال النووي: "فتواطيت" بالياء، هكذا هو في النسخ، وأصله فتواطأت بالهمز، اهـ، أي خففت الهمز، وفي البخاري "فتواصيت" بالصاد، من التواصي. (أن أيتنا ما دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فلتقل) "أيتنا" بفتح الهمزة، وتشديد الياء المفتوحة، وفتح التاء، وهي كلمة "أي" دخلت عليها تاء التأنيث وأضيفت إلى نون المتكلمين، و"ما" في "ما دخل عليها" زائدة. (أجد منك ريح مغافير. أكلت مغافير؟ ) الكلام في "أكلت" على الاستفهام، و"المغافير" بالغين والفاء، بعدها ياء في جميع نسخ البخاري، وفي بعض نسخ مسلم في بعض المواضع من الحديث بحذفها، قال القاضي عياض: والصواب إثباتها، لأنها عوض عن الواو التي في المفرد، اهـ والمغفور صمغ حلو، له رائحة كريهة، ينضحه شجر، يقال له: العرفط، بضم العين والفاء، بينهما راء ساكنة، آخره طاء، قال القاضي عياض: وزعم المهلب أن رائحة المغافير والعرفط حسنة، وهو خلاف ما يقتضيه الحديث، وخلاف ما قاله أهل اللغة. اهـ قال الحافظ ابن حجر: ولعل المهلب قال: خبيثة. فصحفت، أو استند إلى ما نقل عن الخليل، ونسبه ابن بطال إلى العين، من أن العرفط شجر العضاة، والعضاة كل شجر له شوك، وإذا استيك به كانت له رائحة حسنة، تشبه رائحة طيب النبيذ. اهـ وعلى هذا فيكون ريح عيدان العرفط طيبًا، وريح الصمغ الذي يسيل منه غير طيبة، ولا منافاة في ذلك، ولا تصحيف. قال القرطبي في المفهم: إن رائحة ورق العرفط طيبة، فإذا رعته الإبل خبثت رائحته. قال الحافظ ابن حجر: وهذا طريق آخر في الجمع حسن جدًا. (فدخل على إحداهما) قال الحافظ: أظنها حفصة. (قال: بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش) "بل" للإضراب الإبطالي. أي لم آكل مغافير، بل شربت عسلاً. وفي الرواية السابعة "فإنه سيقول لك: سقتني حفصة شربة عسل" فهاتان روايتان في الصحيح في قصة العسل، هل الشرب كان في بيت زينب بنت جحش، والقائلتان حفصة وسودة مع عائشة؟ أو كان في بيت حفصة؟ والقائلتان عائشة وصفية. أخرجهما ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه. قال السيوطي: وسنده صحيح عن ابن عباس. قال النووي: قال القاضي عياض: ذكر مسلم أن التي شرب عندها العسل زينب، وأن المتظاهرتين عليه عائشة وحفصة، وكذلك ثبت في حديث عمر بن الخطاب وابن عباس أن المتظاهرتين عائشة وحفصة، وذكر مسلم أيضًا أن حفصة هي التي شرب عندها العسل، وأن عائشة وسودة وصفية من

اللواتي تظاهرن عليه. قال: والأول أصح. قال النسائي: إسناد حديث حجاج - روايتنا السادسة - صحيح جيد غاية. وقال الأصيلي: حديث حجاج أصح وهو أولى بظاهر كتاب الله تعالى، وأكمل فائدة، يريد قوله تعالى {وإن تظاهرا عليه} فهما ثنتان، لا ثلاث، وأنهما عائشة وحفصة كما قال فيه، وكما اعترف به عمر رضي الله عنه، وقد انقلبت الأسماء على الراوي في الرواية الأخرى. ثم قال القاضي عياض بعد هذا: الصواب أن شرب العسل كان عند زينب. (ولن أعود له) زاد في رواية "وقد حلفت، لا تخبري بذلك أحدًا". (فنزل {لم تحرم ما أحل الله لك ... }) هكذا ظهر أن سبب نزول الآية قضية شرب العسل، وقد أخرج النسائي والحاكم وصححه، ابن مردويه عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها فلم تزل به عائشة وحفصة حتى جعلها على نفسه حرامًا، فأنزل الله تعالى هذه الآية {يا أيها النبي لم تحرم} ويوافق ما أخرج البزار والطبراني بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: نزلت {يا أيها النبي لم تحرم} إلخ في سريته. قال الحافظ ابن حجر: والمشهور أن السبب مارية وأنه عليه السلام وطئها في بيت حفصة في يومها، فوجدت وعاتبته، فقال صلى الله عليه وسلم: ألا ترضين أن أحرمها، فلا أقربها: قالت: بلى. تحرمها، وفي رواية أن ذلك كان في بيت حفصة في يوم عائشة، وفي الكشاف: روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا بمارية في يوم عائشة، وعلمت بذلك حفصة، فقال لها: اكتمي علي، وقد حرمت مارية على نفسي، وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتي، فأخبرت عائشة وكانتا متصادقتين. قال النووي: الصحيح أن الآية في قصة العسل، لا في قصة مارية، المروية في غير الصحيحين، ولم تأت قصة مارية في طريق صحيح. (يحب الحلواء والعسل) كذا وقعت في أكثر الروايات "الحلواء" بالمد، وفي بعضها "الحلوى" بالقصر، وهي مغايرة للعسل، ولو صنعت منه، فليس من قبيل عطف الخاص على العام، وإنما الذي يشمل العسل وغيره كلمة "حلو" ذكر ذلك الحافظ ابن حجر، وذكر النووي خلافه، وأن المراد بالحلواء هنا كل شيء حلو، فهو من ذكر الخاص بعد العام. (كان إذا صلى العصر دار على نسائه) في رواية عند ابن مردويه عن ابن عباس "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح جلس في مصلاه، وجلس الناس حوله، حتى تطلع الشمس، ثم يدخل على نسائه، امرأة. امرأة، يسلم عليهن، ويدعو لهن، فإذا كان يوم إحداهن كان عندها". قال الحافظ ابن حجر: ويمكن الجمع بأن الذي كان يقع في أول النهار سلام ودعاء محض، والذي في آخره معه جلوس واستئناس ومحادثة، ولكن المحفوظ ذكر العصر، ورواية ابن مردويه شاذة. وفي رواية "أجاز إلى نسائه" أي مشي وقطع المسافة إليهن، واحدة واحدة. (فيدنو منهن) أي يدنو من كل واحدة منهن، والمقصود من الدنو أنه يقبل ويباشر من غير جماع، كما صرح به في بعض الروايات الصحيحة.

(فدخل على حفصة، فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس) أي أقام عندها أكثر مما كان يقيم عندها، أو أكثر مما كان يقيم عند غيرها. (فسألت عن ذلك) في رواية البخاري "قالت عائشة: فغرت، فسألت ... " وقد بينت كيفية السؤال في حديث لابن عباس، ولفظه "فأنكرت عائشة احتباسه عند حفصة، فقالت لجويرية حبشية عندها، يقال لها: خضراء: إذا دخل على حفصة فادخلي عليها - أي بحجة ما - فانظري ما يصنع؟ ". (فقيل لي: أهدت لها امرأة من قومها عكة من عسل) "العكة" بضم العين، وقد تفتح، زق صغير بكسر الزاي، أي وعاء صغير من جلد مقصوص الشعر، يوضع ويخزن فيه السمن غالبًا، والمراد من العسل هنا عسل النحل. (فسقت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم منه شربة) ورد أنه صلى اللَّه عليه وسلم كان يأخذ منه بإصبعه، فالمراد من الشربة ما يشرب. (أما واللَّه لنحتالن له) يقال: احتال عليه طلب منه الشيء بالحيلة، والحيلة وسيلة بارعة تحيل الشيء عن ظاهره، ابتغاء الوصول إلى المقصود، واللام في "له" للتعليل، وفي الكلام مضاف محذوف، أي لمنعه من الاحتباس عند حفصة، و"أما" بتخفيف الميم، حرف استفتاح للتأكيد، مثل "ألا". (فذكرت ذلك لسودة) أي ذكرت الرغبة في الاحتيال ومحاولة منعه من الاحتباس. (إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك، فقولي له: أكلت مغافير؟ ) في رواية "فذكرت ذلك لسودة، وقلت لها: إنه إذا دخل عليك سيدنو منك ... " وفي رواية "إذا دخل على إحداكن فلتأخذ بأنفها، فإذا قال: ما شأنك؟ فقولي: ريح المغافير". (وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح) أي الكريه، ومعنى "يشتد عليه" أي يكره ويبغض وجود الريح الكريه. (جرست نحله العرفط) "جرست" بفتح الجيم والراء، أي رعت نحل هذا العسل شجر العرفط الذي صمغه المغافير. (تقول سودة ... ) أي لعائشة بعد أن نفذت الحيلة. (فرقا منك) أي خوفًا منك، وحرصًا على تحقيق وتنفيذ أمرك. (فلما دخل على حفصة) أي في اليوم الثاني بعد أن سمع ما قالته عائشة وسودة وصفية. (سبحان اللَّه) تقال في مناسبات كثيرة، وهي هنا للتحسر.

(واللَّه لقد حرمناه) بفتح الراء مخففة، أي منعناه من العسل، يقال: حرمته وأحرمته، والأول أفصح. (قلت لها: اسكتي) أي لا تثيري هذا الموضوع، خشية أن يفشو ذلك، فيظهر ما دبر من كيد واحتيال. -[فقه الحديث]- تتلخص نقاط الحديث الأساسية في ثلاث: الأولى: الطلاق الثلاث دفعة واحدة، وهل يحسب طلقة؟ أو ثلاثًا؟ وتوجيه الأحاديث الواردة في ذلك. الثانية: فيمن يقول لامرأته: أنت علي حرام. وهل يكون طلاقًا؟ أو لا؟ وإذا كان طلاقًا هل يكون باتًا كالثلاث أو لا؟ وهل تحريم أي حلال يجعله حرامًا؟ أو هو يمين يكفر؟ أو ماذا؟ الثالثة: سبب نزول قوله تعالى {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك .... } والآيات والأحكام التي تؤخذ من الحديث. وهذا هو التفصيل: النقطة الأولى: قال النووي - بعد أن ذكر الروايات الخمس الأولى: هذا الحديث معدود من الأحاديث المشكلة. اهـ. والإشكال الذي أشار إليه أن جمهور العلماء ينفون بشدة أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أمضى الثلاث واحدة، والحديث في ظاهره يثبت ذلك. وبظاهره أخذ طاووس وبعض أهل الظاهر، فقالوا: من قال لامرأته: أنت طالق ثلاثًا لا يقع بذلك إلا واحدة، وبهذا القول قال الحجاج بن أرطاة ومحمد بن إسحاق في رواية عنهما. واحتج هؤلاء بظاهر حديث ابن عباس هذا فعملوا بما كان عليه الأمر في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم - حسب فهمهم - وطرحوا ما أمضاه عمر رضي الله عنه. كما احتجوا بحديث ركانة عند أبي داود، وأخرجه أحمد، وأبو يعلى وصححه عن طريق محمد بن إسحاق، ولفظه "عن ابن عباس قال: طلق ركانة بن عبد يزيد امرأته ثلاثًا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنًا شديدًا، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: كيف طلقتها؟ قال: ثلاثًا في مجلس واحد: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما تلك واحدة، فارتجعها إن شئت. فارتجعها". كما احتجوا برواية من روايات حديث ابن عمر في طلاقه امرأته وهي حائض - وقد تقدم في الباب السابق - وفيها أن ابن عمر طلق امرأته ثلاثًا وهي حائض فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم برجعتها، فلو لم يحسبها واحدة ما أمره برجعتها.

وقالوا: إن من قال: أحلف بالله ثلاثًا، لا يعد حلفه إلا يمينًا واحدًا. فكذلك في الطلاق. المذهب الثاني في هذه المسألة أن من قال لامرأته: أنت طالق ثلاثًا لا يقع بذلك شيء، وبه قال بعض الشيعة وبعض أهل الظاهر، قالوا: لأنه منهي عنه، واستدلوا على النهي عنه بحديث عن محمود بن لبيد رضي الله عنه قال: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا؟ فقال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم"؟ الحديث. أخرجه النسائي، ورجاله ثقات. كما استدلوا بما أخرجه سعيد بن منصور عن أنس رضي الله عنه "أن عمر رضي الله عنه كان إذا أتي برجل طلق امرأته ثلاثًا أوجع ظهره" وسنده صحيح. وأطلقوا هذا القول في كل طلاق منهي عنه، كالطلاق في زمن الحيض. قال الحافظ ابن حجر: وهو شذوذ. المذهب الثالث في هذه المسألة أنه لا يجوز أن يقول الرجل لامرأته: أنت طالق ثلاثًا، فهو محرم، كالطلاق في زمن الحيض، لكن إن قالها وقعت طلقة واحدة. وبهذا قال بعض أهل الظاهر، واستدلوا للنهي عنه بما سبق. ومذهب الجمهور صوره النووي: قال: من قال لامرأته: أنت طالق ثلاثًا. فقال الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأحمد وجماهير العلماء من السلف والخلف: يقع الثلاث. واحتجوا بقول الله تعالى {ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا} [الطلاق: 1] قالوا: معناه أن المطلق قد يحدث له ندم، فلا يمكنه تداركه، لوقوع البينونة، فلو كانت الثلاث لا تقع ثلاثًا، وتقع واحدة رجعية فلا يندم. كما استدلوا بأحاديث الباب، من حيث إنها تفيد الإجماع في عهد عمر على إمضاء الثلاث ثلاثًا، وحاولوا جهدهم أن يوجهوا صدر هذه الأحاديث، ويمنعوا أنها كانت تحسب واحدة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. قال النووي: قال المازري: وقد زعم من لا خبرة له بالحقائق أن ذلك كان، ثم نسخ. قال: وهذا غلط فاحش، لأن عمر رضي الله عنه لا ينسخ، ولو نسخ - وحاشاه - لبادرت الصحابة إلى إنكاره. وإن أراد هذا القائل أنه نسخ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فذلك غير ممتنع، ولكن يخرج عن ظاهر الحديث، لأنه لو كان كذلك لم يجز للراوي أن يخبر ببقاء الحكم في خلافة أبي بكر وبعض خلافة عمر. فإن قيل: قد يجمع الصحابة على النسخ، فيقبل ذلك منهم؟ قلنا: إنما يقبل ذلك لأنه يستدل بإجماعهم على وجود ناسخ، وأما أنهم ينسخون من تلقاء أنفسهم فمعاذ الله، لأنه إجماع على الخطأ، وهم معصومون من ذلك. [أي وهم بذلك يشرعون شرعًا جديدًا مخالفًا لشرع الله ورسوله]. فإن قيل: فلعل الناسخ إنما ظهر لهم في زمن عمر؟ قلنا: هذا غلط أيضًا، لأنه يكون قد حصل الإجماع على الخطأ في زمن أبي بكر، والمحققون من الأصوليين لا يشترطون انقراض العصر في صحة الإجماع. اهـ.

ويعقب الحافظ ابن حجر على قول المازري، فيقول: إن الذي ادعى نسخ الحكم لم يقل: إن عمر هو الذي نسخ، وإنما قال - عن ابن عباس الذي أفتى بلزوم الثلاث، مع أنه الراوي أنها كانت الثلاث واحدة - قال: - والقائل هو الشافعي، فيما نقله عنه البيهقي. قال: يشبه أن يكون ابن عباس علم شيئًا نسخ ذلك، قال البيهقي: ويقويه ما أخرجه أبو داود عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان الرجل إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها، وإن طلقها ثلاثًا، فنسخ ذلك" أي اطلع ابن عباس على ناسخ للحكم، ولذلك أفتى بخلافه، ومعنى ظهور النسخ في زمن عمر انتشاره، لكنه كان ظاهرًا عند البعض غير منتشر، فمعنى أنه كان يفعل في زمن أبي بكر محمول على أن الذي كان يفعله من لم يبلغه النسخ. والنتيجة أن الطلاق الثلاث كان ثلاثًا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أو في آخر عهده، على ما يراه الجمهور وأجابوا عن حديث ابن عباس بأجوبة منها: 1 - أن حديث ابن عباس معلول، لأنه عند أبي داود بلفظ "أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة"؟ فهو مردود بروايتيه، أو تعتمد رواية أبي داود، وأنه في المطلقة قبل الدخول، فهي تبين بالطلقة الأولى، وتلغي الثانية والثالثة، لوقوعها بعد البينونة. 2 - أن حديث ابن عباس شاذ مردود. وهذه طريقة البيهقي، إذ ساق الروايات عن ابن عباس بلزوم الثلاثة، ثم نقل عن ابن المنذر أنه لا يظن بابن عباس أنه يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا، يفتي بخلافه، فتعين المصير إلى الترجيح، والأخذ بقول الأكثر أولى من الأخذ بقول الواحد إذا خالفهم. 3 - قال ابن العربي: حديث ابن عباس مختلف في صحته. 4 - دعوى النسخ، وقد سبق الكلام عنها قريبًا. 5 - دعوى الاضطراب. قال القرطبي في المفهم: وقع فيه مع الاختلاف على ابن عباس الاضطراب في لفظه، وظاهر سياقه يقتضي النقل عن جميعهم أن معظمهم كانوا يرون ذلك، والعادة في مثل هذا أن يفشو الحكم وينتشر، فكيف ينفرد به واحد عن واحد؟ قال: فهذا الوجه يقتضي التوقف عن العمل بظاهره، إن لم يقتض القطع ببطلانه. 6 - دعوى أنه ورد في صورة خاصة. قال ابن سريج وغيره: يشبه أن يكون ورد في تكرير اللفظ، كأن يقول: أنت طالق. أنت طالق. أنت طالق. وكانوا أولاً على سلامة صدورهم يقبل منهم أنهم أرادوا التأكيد، فلما كثر الناس في زمن عمر، وكثر فيهم الخداع ونحوه مما يمنع قبول من ادعى التأكيد حمل عمر اللفظ على ظاهر التكرار، فأمضاه عليهم. قال الحافظ ابن حجر: وهذا الجواب ارتضاه القرطبي، وقواه بقول عمر: "إن الناس استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة" وكذا قال النووي: إن هذا أصح الأجوبة. 7 - ذهب بعضهم إلى تأويل قوله "واحدة" فقال: إن معنى قوله "كان الثلاث واحدة" أن الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يطلقون واحدة، فلما كان زمن عمر كانوا يطلقون ثلاثًا، ومحصله أن المعنى أن الطلاق الموقع في عهد عمر ثلاثًا كان لا يوقع كذلك قبله، بل كان يوقع قبل ذلك واحدة، أي كانوا

لا ينطقون بالثلاث، ولا يستعملون الثلاث أصلاً، أو كانوا يستعملونها نادرًا، وأما في عصر عمر فكثر استعمالهم لها. ومعنى قوله "فأمضاه عليهم وأجازه" أنه صنع فيه من الحكم بإيقاع الطلاق ما كان يصنع قبله. ورجح هذا التأويل ابن العربي، ونسبه إلى أبي زرعة الرازي، أورده البيهقي بإسناده الصحيح إلى أبي زرعة أنه قال: معنى هذا الحديث عندي أن ما تطلقون أنتم ثلاثًا كانوا يطلقونه واحدة، قال النووي: وعلى هذا فيكون الخبر وقع عن اختلاف عادة الناس خاصة، لا عن تغير الحكم في الواحدة. 8 - دعوى وقف حديث ابن عباس، إذ ليس في السياق أن ذلك كان يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فيقره، والحجة إنما هي في تقريره. وإذا كان المحدثون قد قالوا: إن قول الصحابي: كنا نفعل كذا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم له حكم المرفوع على الراجح. فإن هذا ينبغي أن يكون مرجوحًا إذا عورض بمثل هذه المعارضة، وإذا كانت هناك قرائن تبعده، ومن القرائن حديث ركانة في روايته القوية "أنه طلق امرأته البتة. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: الله ما أردت إلا واحدة - أي احلف بالله ما أردت إلا واحدة - قال: الله ما أردت إلا واحدة" فهذا دليل على أنه لو أراد الثلاث لوقع الثلاث. وهذا الذي تستريح إليه النفس في حديث ابن عباس. والله أعلم. قال النووي: وأما الرواية التي رواها المخالفون أن ركانة طلق ثلاثًا، فجعلها واحدة، فرواية ضعيفة عن قوم مجهولين، وإنما الصحيح منها ما قدمناه أنه طلقها البتة، ولفظ "البتة" محتمل للواحدة وللثلاث، ولعل صاحب هذه الرواية الضعيفة اعتقد أن لفظ "البتة" يقتضي الثلاث، فرواه بالمعنى الذي فهمه، وغلط في ذلك. وأما حديث ابن عمر فالروايات الصحيحة التي ذكرها مسلم وغيره أنه طلقها واحدة. اهـ. وأما قولهم: من قال: أحلف بالله ثلاثًا لا يعد حلفه إلا يمينًا واحدًا، فكذلك الطلاق. فقد رده الحافظ ابن حجر باختلاف الصيغتين، فإن المطلق ينشئ طلاق امرأته، وقد جعل أمد طلاقها ثلاثًا، فإذا قال: أنت طالق ثلاثًا فكأنه قال: أنت طالق جميع الطلاق، وأما الحلف فلا أمد لعدد أيمانه فافترقا. أما بعد. فيعجبني قول الحافظ ابن حجر: وفي الجملة فالذي وقع في هذه المسألة نظير ما وقع في مسألة المتعة، سواء بسواء، أعني قول جابر: إنها كانت تفعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر. قال: ثم نهانا عمر عنها، فانتهينا. فالراجح في الموضعين تحريم المتعة، وإيقاع الثلاث، للإجماع الذي انعقد في عهد عمر على ذلك، ولا يحفظ أن أحدًا في عهد عمر خالفه في واحدة منهما، وقد دل إجماعهم على وجود ناسخ، وإن كان خفي عن بعضهم قبل ذلك، حتى ظهر لجميعهم في عهد عمر، فالمخالف بعد هذا الإجماع منابذ له، والجمهور على عدم اعتبار من أحدث الاختلاف بعد الاتفاق. والله أعلم. النقطة الثانية: قال النووي: اختلف العلماء فيما إذا قال لزوجته: أنت علي حرام. فمذهب

الشافعي أنه إن نوى طلاقها كان طلاقًا، وإن نوى ظهارًا كان، وإن نوى تحريم عينها بغير طلاق ولا ظهار لزمه بنفس اللفظ كفارة يمين، ولا يكون يمينًا، وإن لم ينو شيئًا ففيه قولان للشافعي، أصحهما يلزمه كفارة يمين، والثاني أنه لغو، لا شيء فيه، ولا يترتب عليه شيء من الأحكام. هذا مذهبنا، وحكى القاضي عياض في المسألة أربعة عشر مذهبًا. أحدها: المشهور من مذهب مالك أنه يقع به ثلاث طلقات، سواء كانت مدخولاً بها أم لا، لكن لو نوى أقل من الثلاث قبل في غير المدخول بها خاصة. قال: وبهذا المذهب قال أيضًا علي بن أبي طالب وزيد والحسن والحكم. والثاني: أنه يقع ثلاث طلقات، ولا تقبل نيته في المدخول بها ولا غيرها. قاله ابن أبي ليلى وابن الماجشون المالكي. والثالث: يقع به على المدخول بها ثلاث، وعلى غيرها واحدة، قاله أبو مصعب ومحمد بن عبد الحكم المالكيان. الرابع: أنه يقع به طلقة واحدة بائنة. سواء المدخول بها وغيرها، وهو رواية عن مالك. الخامس: أنها طلقة رجعية. قاله عبد العزيز بن أبي مسلمة المالكي. السادس: أنه يقع ما نوى، ولا يكون أقل من طلقة واحدة. قاله الزهري. السابع: أنه إن نوى واحدة أو عددًا أو يمينًا فهو كما نوى، وإلا فلغو. قاله سفيان الثوري. الثامن: مثل السابع. إلا إنه إن لم ينو شيئًا لزمه كفارة يمين. قاله الأوزاعي وأبو ثور. التاسع: مذهب الشافعي، وسبق إيضاحه، وبه قال أبو بكر وعمر وغيرهما من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم. العاشر: إن نوى الطلاق وقعت طلقة بائنة، وإن نوى ثلاثًا وقع الثلاث، وإن نوى اثنتين وقعت واحدة، وإن لم ينو شيئًا فيمين، وإن نوى الكذب فلغو. قاله أبو حنيفة وأصحابه. والحادي عشر: مثل العاشر، إلا أنه إذا نوى اثنين وقعت. قاله زفر. والثاني عشر: أنه تجب به كفارة الظهار، قاله إسحق بن راهويه. والثالث عشر: هي يمين فيها كفارة اليمين، قاله ابن عباس وبعض التابعين. والرابع عشر: أنه كتحريم الماء والطعام، فلا يجب فيه شيء أصلاً، ولا يقع به شيء، بل هو لغو. قاله مسروق والشعبي وأبو سلمة وإصبغ المالكي. قال القرطبي: قال بعض علمائنا: سبب الاختلاف أنه لما لم يرد في القرآن صريحًا، ولا في السنة نص ظاهر يعتمد عليه في حكم هذه المسألة تجاذبها العلماء، فمن تمسك

بالبراءة الأصلية قال: لا يلزمه شيء، ومن قال إنها يمين أخذ بظاهر قوله تعالى {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} [التحريم: 2] بعد قوله تعالى {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك} ومن قال: تجب الكفارة، وليست بيمين بناه على أن معنى اليمين التحريم، فوقعت الكفارة على المعنى، ومن قال: تقع به طلقة رجعية حمل اللفظ على أقل وجوهه الظاهرة، وأقل ما تحرم به المرأة طلقة تحرم الوطء ما لم يرتجعها، ومن قال بائنة فلاستمرار التحريم بها، ما لم يجدد العقد، ومن قال: ثلاث حمل اللفظ على منتهى وجوهه، ومن قال: ظهار نظر إلى معنى التحريم وقطع النظر عن الطلاق، فانحصر الأمر عنده في الظهار. اهـ. هذا كله إذا قال لزوجته الحرة. أما إذا قاله للأمة فمذهب الشافعي أنه إن نوى عتقها عتقت، وإن نوى تحريم عينها لزمه كفارة يمين، ولا يكون يمينًا، وإن لم ينو شيئًا وجب كفارة يمين على الصحيح من المذهب. وقال مالك: هذا في الأمة لغو، لا يترتب عليه شيء، قال القاضي: وعامة العلماء عليه كفارة يمين بنفس التحريم، وقال أبو حنيفة: يحرم عليه ما حرمه من أمة وطعام وغيره، ولا شيء عليه حتى يتناوله، فيلزمه حينئذ كفارة يمين، وأم الولد كالأمة فيما ذكرناه. ثم قال النووي: ومذهب مالك والشافعي والجمهور أنه إن قال: هذا الطعام حرام علي، أو هذا الماء، أو هذا الثوب، أو دخول البيت، أو كلام زيد، وسائر ما يحرمه غير الزوجة والأمة، يكون هذا لغوًا، لا شيء فيه، ولا يحرم عليه ذلك الشيء، فإذا تناوله فلا شيء عليه. وقال البخاري: ليس الذي يقول لامرأته: أنت علي حرام كالذي يحرم الطعام، لأنه لا يقال للطعام الحل: حرام، ويقال للمطلقة حرام. اهـ. وقد ذهب أحمد إلى التسوية بين تحريم الطعام ونحوه وبين قوله لزوجته، فعليه في الجميع كفارة يمين. النقطة الثالثة: ظاهر قول ابن عباس في الرواية الرابعة والخامسة {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} بعد قوله "إذا حرم الرجل عليه امرأته فهي يمين يكفرها" أن ابن عباس يرى أن سبب نزول أول سورة التحريم، تحريم مارية. وظاهر الرواية السادسة أن سبب نزول أول سورة التحريم شرب العسل عند زينب بنت جحش، ففي آخره "ولن أعود" وفي رواية للبخاري "ولن أعود له وقد حلفت". وعند سعيد بن منصور. بإسناد صحيح إلى مسروق رضي الله عنه: "حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم لحفصة لا يقرب أمته، وقال: هي علي حرام، فنزلت كفارة ليمينه، وأمر أن لا يحرم ما أحل الله". وأخرج الضياء في "المختارة" عن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحفصة: لا تخبري أحدًا أن أم إبراهيم علي حرام. قال: فلم يقربها حتى أخبرت عائشة، فأنزل الله {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} وأخرج الطبراني في عشرة النساء وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم

بمارية بيت حفصة [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أسكن "مارية" جاريته بيتًا في عوالي المدينة، ونكحها بملك اليمين، فولدت له إبراهيم، ولم يكن يقسم لها مع نسائه، لأنها جارية، لا حق لها في القسم، وجاءت من عوالي المدينة لحاجة، وكان بيت حفصة خاليًا في هذا الوقت، فدخل بمارية فيه] فجاءت، فوجدتها معه، فقالت: يا رسول الله، في بيتي؟ تفعل هذا معي دون نسائك؟ الحديث. وللطبراني عن ابن عباس قال: "دخلت حفصة بيتها، فوجدته يطأ مارية، فعاتبته ... الحديث. وروى النسائي عن أنس هذه القصة مختصرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به حفصة وعائشة حتى حرمها، فأنزل الله تعالى {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك} الآية. قال الحافظ ابن حجر: هذه الطرق يقوي بعضها بعضًا، فيحتمل أن تكون الآية نزلت في السببين معًا. اهـ وسواء أكان هذا هو السبب أو ذاك فإن النتيجة أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم على نفسه شيئًا أحله الله له، وتحريم الحلال على وجهين. الأول: اعتقاد ثبوت حكم التحريم فيه، وهو كاعتقاد ثبوت حكم التحليل في الحرام، وهو محظور، يوجب الكفر، فلا يمكن صدوره من المعصوم أصلاً، وقد زل الزمخشري، فزعم أن ما وقع منه صلى الله عليه وسلم من تحريم الحلال المحظور، لكنه غفر له صلى الله عليه وسلم، وقد شن عليه العلماء غارة كبرى من التشنيع. الثاني: الامتناع من الحلال مطلقًا من غير حلف، أو مؤكدًا بالحلف، مع اعتقاد حله، وهذا مباح صرف، وحلال محض، ولو كان ترك المباح والامتناع منه غير مباح لاستحالت حقيقة الحلال، فإن أصل الحلال أن يفعل أو يترك. وما وقع منه صلى الله عليه وسلم كان من هذا النوع، وإنما عاتبه الله عليه رفقًا به، وتنويهًا بقدره، وإجلالاً لمنصبه صلى الله عليه وسلم أن يراعي مرضاة أزواجه على حساب نفسه، وبما يشق عليه. وفي وقوع الحلف منه على ذلك خلاف. ومعنى {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} أي قد شرع لكم تحليلها، وهو حل ما عقدته الأيمان بالكفارة. {وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثًا} هو. شربت عسلاً عند زينب ولن أعود له. وقد حلفت. لا تخبري بذلك أحدًا. أو هو: قد حرمت مارية على نفسي، واكتمي علي. {فلما نبأت به} أي فلما أخبرت عائشة حفصة بالحديث، أو فلما أخبرت حفصة عائشة بالحديث، وكانتا متصادقتين {وأظهره الله عليه} وأطلعه على إفشاء السر {عرف بعضه وأعرض عن بعض} أعلم مفشية السر أنه علم بعض ما أفشى، وأخفى أنه علم كل ما أفشى. تكرمًا منه صلى الله عليه وسلم وتخفيفًا من خجلها {فلما نبأها به} أي بما أراد مما عرف {قالت من أنبأك هذا} تظن أن أختها فضحتها وكشفت سرها. {قال نبأني العليم الخبير} قيل: إن السر كان مكونًا من جزأين. تحريم العسل أو مارية، والإخبار بأن أبا بكر وعمر سيليان الأمر بعده، فعاتب عن الأول، وأعرض عن الثاني مخافة أن يفشو {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} أي فقد أديتما ما وجب عليكما، والخطاب لعائشة وحفصة على الصحيح {وإن تظاهرا عليه} أي وإن تتعاونا عليه بما يسوؤه {فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير}

-[ويؤخذ من الحديث]- 1 - ما جبل عليه النساء من الغيرة، وأن الغيراء تعذر فيما يقع منها من الاحتيال، فيما يدفع عنها ترفع ضرتها عليها بأي وجه كان. كذا قال الحافظ ابن حجر. وفيه نظر، لأن القصة لم تعذر، بل عاتبت، بل عاقبت، لأن قدرهن عظيم. قال الكرماني: هذا من مقتضيات الغيرة الطبيعية للنساء، وهو صغيرة، معفو عنها، مكفرة. 2 - استنبط منه البخاري كراهية احتيال المرأة مع الزوج والضرائر. 3 - أن الاحتيال غالبًا فيه تعريض بالكذب. قال ابن المنير: إنما ساغ لهن أن يقلن: أكلت مغافير؟ لأنهن أوردنه على طريق الاستفهام، بدليل جوابه بقوله "لا" وأردن بذلك التعريض، لا صريح الكذب، فهذا وجه الاحتيال التي قالت عائشة "لنحتالن له" ولو كان كذبًا محضًا لم يسم حيلة، إذ لا شبهة لصاحبه. اهـ وهذا كلام جيد يفسر كونهن ارتكبن مكروهًا، ولم يرتكبن محرمًا. 4 - وفيه الأخذ بالحزم في الأمور، وترك ما يشتبه الأمر فيه من المباح، خشية الوقوع في المحذور. قاله الحافظ ابن حجر. 5 - وفيه ما يشهد بعلو مرتبة عائشة عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى كانت ضرتها تهابها، وتطيعها فيما تأمرها به، حتى في مثل هذا الأمر مع الزوج، الذي هو أرفع الناس قدرًا. 6 - وفيه إشارة إلى ورع سودة، لما ظهر منها من التندم على ما فعلت، لأنها وافقت أولاً على دفع ترفع حفصة عليهن بمزيد الجلوس عندها بسبب العسل، ورأت أن التوصل إلى بلوغ المراد ذلك، لحسم مادة شرب العسل الذي هو سبب الإقامة، لكن أنكرت بعد ذلك أن يترتب عليه منع النبي صلى الله عليه وسلم من أمر كان يشتهيه، وهو شرب العسل، مع ما تقدم من اعتراف عائشة الآمرة لها بذلك في صدر الحديث، فأخذت سودة تتعجب مما وقع منهن في ذلك، ولم تجسر على التصريح بالإنكار، ولا راجعت عائشة بعد ذلك لما قالت لها: اسكتي، بل أطاعتها وسكتت، لما تقدم من اعتذارها في أنها كانت تهابها، وإنما كانت تهابها لما تعلم من مزيد حب النبي صلى الله عليه وسلم لها أكثر منهن، فخشيت إذا خالفتها أن تغضبها، وإذا أغضبتها لا تأمن أن تغير عليها خاطر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تحتمل ذلك. فهذا معنى خوفها منها. كذا قال الحافظ ابن حجر، وهو كلام حسن في تلمس الاعتذار عن سودة رضي الله عنها لكن لا يدل على ورعها، وورعها ثابت بغير هذا، وإن دل قولها "لقد حرمناه" على شيء فإنما يدل على إشفاقها عليه صلى الله عليه وسلم وندمها لا يعتبر ورعًا، بل يرجى به أن يمحو الصغيرة، ولعله أدى مهمته، فهي لم تدخل في المتظاهرتين المعاتبتين بالقرآن الكريم. 7 - وفيه أن عماد القسم الليل. وأن النهار يجوز الاجتماع فيه بالجميع، لكن بشرط ألا تقع المجامعة إلا مع التي هي صاحبة النوبة. 8 - وفيه استعمال الكنايات فيما يستحيا من ذكره، لقولها "فيدنو منهن" والمقصود التقبيل ونحوه. 9 - وفيه جواز أكل لذيذ الأطعمة والطيبات من الرزق، وأن ذلك لا ينافي الزهد والمراقبة. 10 - وفيه حسن خلقه صلى الله عليه وسلم وصبره وحلمه وجميل معاشرته لأزواجه. وللحديث علاقة بالحديث الآتي.

(397) باب تخيير الرجل امرأته لا يكون طلاقا إلا بالنية

(397) باب تخيير الرجل امرأته لا يكون طلاقًا إلا بالنية 3256 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي. فقال "إني ذاكر لك أمرًا. فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك" قالت: قد علم أن أبوي لم يكونا ليأمراني بفراقه. قالت: ثم قال إن الله عز وجل قال {يَاَ أيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} قالت فقلت: في أي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. قالت: ثم فعل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت. 3257 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذننا. إذا كان في يوم المرأة منا بعد ما نزلت {ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء} فقالت لها معاذة: فما كنت تقولين لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنك؟ قالت: كنت أقول: إن كان ذاك إلي لم أوثر أحدًا على نفسي. 3258 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قد خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نعده طلاقًا. 3259 - عن مسروق قال: ما أبالي خيرت امرأتي واحدة أو مائة أو ألفًا. بعد أن تختارني. ولقد سألت عائشة فقالت: قد خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفكان طلاقًا؟ . 3260 - عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير نساءه فلم يكن طلاقًا.

3261 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه فلم يعده طلاقًا. 3262 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه. فلم يعددها علينا شيئًا. 3263 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد الناس جلوسًا ببابه. لم يؤذن لأحد منهم. قال: فأذن لأبي بكر فدخل. ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له. فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسًا، حوله نساؤه. واجمًا ساكتًا. قال: فقال: لأقولن شيئًا أضحك النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: يا رسول الله لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال "هن حولي كما ترى. يسألنني النفقة. فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها. فقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها. كلاهما يقول: تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده. فقلن: والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا أبدًا ليس عنده. ثم اعتزلهن شهرًا أو تسعًا وعشرين. ثم نزلت عليه هذه الآية {يا أيها النبي قل لأزواجك} حتى بلغ {للمحسنات منكن أجرًا عظيمًا} قال: فبدأ بعائشة. فقال "يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمرًا أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك" قالت: وما هو يا رسول الله؟ فتلا عليها الآية. قالت: أفيك يا رسول الله أستشير أبوي؟ بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة. وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت. قال "لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها. إن الله لم يبعثني معنتًا ولا متعنتًا. ولكن بعثني معلمًا ميسرًا". 3264 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما اعتزل نبي الله صلى الله عليه وسلم نساءه، قال:

دخلت المسجد. فإذا الناس ينكتون بالحصى ويقولون: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه. وذلك قبل أن يؤمرن بالحجاب. فقال عمر فقلت: لأعلمن ذلك اليوم. قال: فدخلت على عائشة. فقلت: يا بنت أبي بكر أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: ما لي وما لك يا ابن الخطاب؟ عليك بعيبتك. قال: فدخلت على حفصة بنت عمر. فقلت لها: يا حفصة أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والله لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحبك. ولولا أنا لطلقك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبكت أشد البكاء. فقلت لها: أين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت هو في خزانته في المشربة. فدخلت فإذا أنا برباح غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدًا على أسكفة المشربة. مدل رجليه على نقير من خشب. وهو جذع يرقى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وينحدر. فناديت يا رباح استأذن لي عندك على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنظر رباح إلى الغرفة. ثم نظر إلي. فلم يقل شيئًا. ثم قلت: يا رباح استأذن لي عندك على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنظر رباح إلى الغرفة. ثم نظر إلي. فلم يقل شيئًا. ثم رفعت صوتي فقلت: يا رباح استأذن لي عندك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني أظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظن أني جئت من أجل حفصة. والله لئن أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب عنقها لأضربن عنقها. ورفعت صوتي. فأومأ إلي أن ارقه. فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على حصير. فجلست. فأدنى عليه إزاره. وليس عليه غيره. وإذا الحصير قد أثر في جنبه. فنظرت ببصري في خزانة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع. ومثلها قرظًا في ناحية الغرفة. وإذا أفيق معلق. قال: فابتدرت عيناي. قال "ما يبكيك يا ابن الخطاب؟ " قلت: يا نبي الله وما لي لا أبكي؟ وهذا الحصير قد أثر في جنبك. وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى. وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار وأنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفوته. وهذه خزانتك. فقال "يا ابن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟ " قلت: بلى. قال: ودخلت عليه حين دخلت وأنا أرى في وجهه الغضب. فقلت: يا رسول الله ما يشق عليك من شأن النساء؟ فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك. وقلما تكلمت، وأحمد الله، بكلام إلا رجوت أن يكون الله يصدق قولي الذي أقول. ونزلت هذه الآية. آية التخيير {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجًا خيرًا منكن} {وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير} وكانت عائشة بنت أبي بكر وحفصة تظاهران على سائر نساء النبي صلى الله عليه وسلم. فقلت: يا رسول الله أطلقتهن؟ قال "لا" قلت: يا رسول الله إني دخلت المسجد والمسلمون ينكتون بالحصى. يقولون: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم

نساءه. أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن؟ قال "نعم. إن شئت" فلم أزل أحدثه حتى تحسر الغضب عن وجهه. وحتى كشر فضحك. وكان من أحسن الناس ثغرًا. ثم نزل نبي الله صلى الله عليه وسلم ونزلت. فنزلت أتشبث بالجذع ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما يمشي على الأرض ما يمسه بيده. فقلت: يا رسول الله إنما كنت في الغرفة تسعة وعشرين. قال "إن الشهر يكون تسعًا وعشرين" فقمت على باب المسجد. فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه. ونزلت هذه الآية {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر. وأنزل الله عز وجل آية التخيير. 3265 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: مكثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية. فما أستطيع أن أسأله هيبة له. حتى خرج حاجًا فخرجت معه. فلما رجع، فكنا ببعض الطريق، عدل إلى الأراك لحاجة له. فوقفت له حتى فرغ. ثم سرت معه. فقلت: يا أمير المؤمنين من اللتان تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه؟ فقال: تلك حفصة وعائشة. قال فقلت له: والله إن كنت لأريد أن أسألك عن هذا منذ سنة فما أستطيع هيبة لك. قال: فلا تفعل. ما ظننت أن عندي من علم فسلني عنه. فإن كنت أعلمه أخبرتك. قال: وقال عمر: والله إن كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمرًا. حتى أنزل الله تعالى فيهن ما أنزل. وقسم لهن ما قسم. قال: فبينما أنا في أمر أأتمره، إذ قالت لي امرأتي: لو صنعت كذا وكذا. فقلت لها: وما لك أنت ولما ها هنا؟ وما تكلفك في أمر أريده؟ فقالت لي: عجبًا لك، يا ابن الخطاب ما تريد أن تراجع أنت، وإن ابنتك لتراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يظل يومه غضبان. قال عمر: فآخذ ردائي ثم أخرج مكاني. حتى أدخل على حفصة. فقلت لها: يا بنية إنك لتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يظل يومه غضبان. فقالت حفصة: والله إنا لنراجعه. فقلت: تعلمين أني أحذرك عقوبة الله وغضب رسوله. يا بنية لا يغرنك هذه التي قد أعجبها حسنها. وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها. ثم خرجت حتى أدخل على أم سلمة. لقرابتي منها. فكلمتها. فقالت لي أم سلمة: عجبًا لك يا ابن الخطاب قد دخلت في كل شيء حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه. قال: فأخذتني أخذًا

كسرتني عن بعض ما كنت أجد. فخرجت من عندها. وكان لي صاحب من الأنصار. إذا غبت أتاني بالخبر. وإذا غاب كنت أنا آتيه بالخبر. ونحن حينئذ نتخوف ملكًا من ملوك غسان. ذكر لنا أنه يريد أن يسير إلينا. فقد امتلأت صدورنا منه. فأتى صاحبي الأنصاري يدق الباب. وقال: افتح. افتح. فقلت: جاء الغساني؟ قال: أشد من ذلك. اعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجه. فقلت: رغم أنف حفصة وعائشة. ثم آخذ ثوبي فأخرج. حتى جئت. فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشربة له يرتقي إليها بعجلة. وغلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم أسود على رأس الدرجة. فقلت: هذا عمر. فأذن لي. قال عمر: فقصصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث. فلما بلغت حديث أم سلمة تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء. وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف. وإن عند رجليه قرظًا مضبورًا. وعند رأسه أهبًا معلقة. فرأيت أثر الحصير في جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبكيت. فقال: "ما يبكيك؟ " فقلت: يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هما فيه. وأنت رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أما ترضى أن تكون لهما الدنيا ولك الآخرة؟ ". 3266 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أقبلت مع عمر. حتى إذا كنا بمر الظهران. وساق الحديث بطوله. كنحو حديث سليمان بن بلال. غير أنه قال: قلت: شأن المرأتين؟ قال: حفصة وأم سلمة. وزاد فيه: وأتيت الحجر فإذا في كل بيت بكاء. وزاد أيضًا: وكان آلى منهن شهرًا. فلما كان تسعًا وعشرين نزل إليهن. 3267 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت أريد أن أسأل عمر عن

المرأتين اللتين تظاهرتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلبثت سنة ما أجد له موضعًا. حتى صحبته إلى مكة. فلما كان بمر الظهران ذهب يقضي حاجته. فقال: أدركني بإداوة من ماء. فأتيته بها. فلما قضى حاجته ورجع ذهبت أصب عليه. وذكرت فقلت له: يا أمير المؤمنين من المرأتان؟ فما قضيت كلامي حتى قال: عائشة وحفصة. 3268 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لم أزل حريصًا أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله تعالى {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} حتى حج عمر وحججت معه. فلما كنا ببعض الطريق عدل عمر وعدلت معه بالإداوة. فتبرز. ثم أتاني فسكبت على يديه. فتوضأ. فقلت: يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان قال الله عز وجل لهما: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} قال عمر: واعجبًا لك يا ابن عباس (قال الزهري: كره، والله ما سأله عنه ولم يكتمه) قال: هي حفصة وعائشة. ثم أخذ يسوق الحديث. قال: كنا، معشر قريش، قومًا نغلب النساء. فلما قدمنا المدينة وجدنا قومًا تغلبهم نساؤهم. فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم. قال: وكان منزلي في بني أمية بن زيد، بالعوالي. فتغضبت يومًا على امرأتي. فإذا هي تراجعني. فأنكرت أن تراجعني. فقالت: ما تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه. وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل. فانطلقت فدخلت على حفصة. فقلت: أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: نعم. فقلت: أتهجره إحداكن اليوم إلى الليل؟ قالت: نعم. قلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر. أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله صلى الله عليه وسلم. فإذا هي قد هلكت. لا تراجعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسأليه شيئًا. وسليني ما بدا لك. ولا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك (يريد عائشة). قال: وكان لي جار من الأنصار. فكنا نتناوب النزول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فينزل يومًا وأنزل يومًا. فيأتيني بخبر الوحي وغيره. وآتيه بمثل ذلك. وكنا نتحدث؛ أن غسان تنعل الخيل لتغزونا. فنزل صاحبي، ثم أتاني عشاء فضرب بابي، ثم ناداني. فخرجت إليه. فقال: حدث أمر عظيم. قلت: ماذا؟ أجاءت غسان؟ قال: لا. بل أعظم من ذلك وأطول. طلق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه. فقلت: قد خابت حفصة وخسرت. قد كنت أظن هذا كائنًا. حتى إذا صليت الصبح شددت علي ثيابي. ثم نزلت فدخلت على حفصة وهي تبكي. فقلت: أطلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: لا أدري. ها هو ذا معتزل في هذه المشربة. فأتيت غلامًا له أسود. فقلت: استأذن لعمر. فدخل ثم خرج إلي. فقال: قد ذكرتك له فصمت. فانطلقت حتى انتهيت إلى المنبر فجلست. فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم. فجلست قليلاً. ثم غلبني ما أجد. ثم أتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر. فدخل ثم خرج إلي فقال: قد ذكرتك له فصمت. فوليت مدبرًا. فإذا الغلام يدعوني. فقال: ادخل. فقد أذن لك. فدخلت فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا هو متكئ على رمل حصير. قد أثر في جنبه. فقلت: أطلقت، يا رسول الله نساءك؟ فرفع رأسه إلي وقال "لا" فقلت: الله أكبر لو رأيتنا، يا رسول الله وكنا، معشر

قريش، قومًا نغلب النساء. فلما قدمنا المدينة وجدنا قومًا تغلبهم نساؤهم. فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم. فتغضبت على امرأتي يومًا. فإذا هي تراجعني. فأنكرت أن تراجعني. فقالت: ما تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه. وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل. فقلت: قد خاب من فعل ذلك منهن وخسر. أفتأمن إحداهن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله صلى الله عليه وسلم. فإذا هي قد هلكت؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: يا رسول الله قد دخلت على حفصة فقلت: لا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم منك وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك. فتبسم أخرى فقلت: أستأنس. يا رسول الله قال "نعم" فجلست. فرفعت رأسي في البيت. فوالله ما رأيت فيه شيئًا يرد البصر، إلا أهبًا ثلاثة. فقلت: ادع الله يا رسول الله أن يوسع على أمتك. فقد وسع على فارس والروم. وهم لا يعبدون الله. فاستوى جالسًا ثم قال "أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا". فقلت: استغفر لي. يا رسول الله وكان أقسم أن لا يدخل عليهن شهرًا من شدة موجدته عليهن. حتى عاتبه الله عز وجل. 3269 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما مضى تسع وعشرون ليلة، دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ بي. فقلت: يا رسول الله إنك أقسمت أن لا تدخل علينا شهرًا. وإنك دخلت من تسع وعشرين. أعدهن. فقال "إن الشهر تسع وعشرون" ثم قال "يا عائشة إني ذاكر لك أمرًا فلا عليك أن لا تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك". ثم قرأ علي الآية {يا أيها النبي قل لأزواجك} حتى بلغ {أجرًا عظيمًا} قالت عائشة: قد علم، والله أن أبوي لم يكونا ليأمراني بفراقه. قالت: فقلت: أو في هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. قال معمر: فأخبرني أيوب: أن عائشة قالت: لا تخبر نساءك أني اخترتك. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله أرسلني مبلغًا ولم يرسلني متعنتًا". قال قتادة: صغت قلوبكما مالت قلوبكما. -[المعنى العام]- يخطئ من يظن أن بيت الرسول صلى الله عليه وسلم كان هادئًا، خاليًا من المشاكل، ترفرف عليه أجنحة السعادة في كل حين، وكيف يظن ذلك ظان في بيت يجمع بين تسع نسوة من البشر، ذوات طباع

مختلفة، وبيئات مختلفة، وأسر مختلفة، وأسنان مختلفة، فيهن الصغيرة التي تعيش ما بين العاشرة والثامنة عشرة من عمرها. وكبيرة السن التي تقضي ما بين الخمسين والستين من عمرها، كلهن متزوجات قبله برجال آخرين إلا واحدة. كلهن عشن مع أزواجهن السابقين عيشة الحياة العادية، عشن مع أزواج في ريعان شبابهن، وبحياة الجاهلية وأعرافها وتقاليدها، بعضهن من أسر عالية الحسب، كأم حبيبة بنت أبي سفيان زعيم قريش، وبعضهن من أسر متواضعة، بعضهن ابنة أحب الناس إليه صلى الله عليه وسلم وبعضهن ابنة من كان أعدى أعدائه، وقائد محاربيه، إحداهن ابنة عمته، وبعضهن من قبائل اليهود، بعضهن جميلات يتيه بهن الحسن، وبعضهن غير ذات جمال. كيف يمكن لهذا الخليط غير المتجانس، أن يتعايش في أمن وأمان، على هيئة ضرائر، يتنازعن رجلاً واحدًا؟ وكيف يستطيع رجل أن يسوس تسعًا مختلفات المشارب، متباينات الأهواء؟ وأكثر الرجال يعجز أمام سياسة امرأة واحدة؟ حقًا إنه صلى الله عليه وسلم فريد في أخلاقه، فريد في حكمته، فريد في قدرته وتحمله، فريد في صبره، فريد في حلمه، فريد في عدله، فريد في عفوه، فريد في عطائه، فريد في حسن معاشرته. يخطئ من يظن أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن على طبائع غير طبائع النساء العاديات، نعم إنهن بمجرد انتسابهن إلى بيت النبوة، وبمجرد استظلالهن بظل الرسول صلى الله عليه وسلم، وبمجرد تشريفهن بلقب أمهات المؤمنين، وجب عليهن ما لم يجب على بقية النساء، وصار لهن من الحقوق فوق ما لغيرهن من الزوجات، صارت السيئة منهن مضاعفة العقاب، والحسنة منهن مضاعفة الثواب {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء} [الأحزاب: 32]. {يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين} [الأحزاب: 30]. {ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحًا نؤتها أجرها مرتين} [الأحزاب: 31] من هنا كانت الصغيرة منهن كبيرة، وكان ما يقبل من غيرهن لا يليق بمقامهن، وكان ما عددناه عليهن لا نعده ولا نحسبه شيئًا من غيرهن. فماذا يا ترى وقع منهن؟ وكيف عالجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ يذكر الرسول صلى الله عليه وسلم بالخير زوجته الأولى خديجة أمام عائشة، ويترحم عليها، ويدعو لها، فتثور عائشة، وتغار من خديجة وهي في قبرها، فتقول: خديجة؟ خديجة؟ خديجة؟ كأنه لم يكن في الأرض إلا خديجة؟ ما تذكر من عجوز شمطاء، حمراء الشدقين - أي سقطت أسنانها - هلكت في غابر الدهر. قد أبدلك الله خيرًا منها. فيقول صلى الله عليه وسلم في هدوء الحكيم: كلا. والله ما أبدلني الله خيرًا منها. صدقتني حين كذبني الناس، وآوتني حين هجرني الناس، وواستني بمالها حين حرمني الناس، ورزقت منها الولد وحرمتموه. وتعتز عائشة بأنها وحدها التي تزوجها بكرًا، وتتعالى على أخواتها أمهات المؤمنين بذلك، وتحاول أن تزيد من استئثارها به فوق ما كان يحبها، فتقول: يا رسول الله، أرأيت لو نزلت واديًا فيه شجر قد رعي، وشجر لم يرع، في أيها ترتع بعيرك؟ فيقول: في الشجر الذي لم يرع. فتقول: فأنا هيه، كل واحدة من نسائك كانت عند رجل غيرك. إلا أنا. فيبتسم صلى الله عليه وسلم. وتخرج هي وحفصة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فتدفعها الغيرة أن تظن أنه صلى الله عليه وسلم

يكلم حفصة بما لا يكلمها من معسول القول، أو تريد أن تكايد حفصة وتريها كيف يحادثها رسول الله صلى الله عليه وسلم محادثة الحبيب للحبيب، فتقول لحفصة وقد جمعهما سفر من الأسفار: اركبي جملي، وادخلي هودجي، واركب جملك وادخل هودجك. فيظنك رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة، ويظنني حفصة، فننظر ما يقول لكل منا؟ ويسير رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلاً بجوار حفصة يظنها عائشة، فتغار عائشة، وينزل الركب فينزل صلى الله عليه وسلم بجوار حفصة بعيدًا عن عائشة، وتلوم نفسها، وتعض على كفها، وتضع رجلها في الحشائش لعل ثعبانًا يلدغها، تقول: رب سلط علي عقربًا يلدغني. أنا التي جئت به لنفسي. ويشتد النقاش بين صفية وبين إحدى نساء النبي صلى الله عليه وسلم فتقول لصفية: يا بنت اليهودية، فتبكي صفية، وتشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول لها: قولي: أبي موسى وعمي هارون عليهما السلام. ويتحزب نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلى حزبين، حزب تقوده عائشة، وحزب تقوده زينب بنت جحش، وتذهب زينب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة تطلب منه أن ينصفها وحزبها من عائشة وحزبها فتهاجمها عائشة، وتكيل لها، وهي تكيل لعائشة حتى أسكتتها عائشة، وخرجت مغضبة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتدخل. وقصة العسل، وتحايل فريق عائشة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى حرمه على نفسه إرضاء لزوجاته وغضب له ربه، وعاتبه على حرصه الشديد على مرضاة أزواجه على حساب نفسه. {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك} وحذر الأزواج وهددهن {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجًا خيرًا منكن} [التحريم: 5] ومع ذلك لم يتوقف التظاهر، ففي يوم من الأيام تجمع الحزبان على هدف واحد، هو المطالبة بزينة الدنيا كنساء كسرى وقيصر، وأحطن به تسكت هذه وتتكلم الأخرى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت واجم، ولولا أبو بكر وعمر دخلا فأمسك كل منهما ابنته لكانت نتيجة هذه المظاهرة غير محمودة. كم كان صلى اللَّه عليه وسلم صبورًا، إنما للصبر حدود. فلما ضاق صبره كان لا بد من موقف، فحلف أن لا يدخل عليهن شهرًا، واعتزلهن، واعتزل بيوتهن، وعاش في حجرة صغيرة عالية في المسجد شهرًا يصلي بالناس في المسجد، ثم يصعد إليها، لا يكلم أحدًا. فلما انتهى الشهر، وقد اكتفى صلى اللَّه عليه وسلم بهذه العقوبة أراد ربه أن يأخذ منهن موقفًا أشد، فأنزل عليه آية التخيير {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحًا جميلاً * وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرًا عظيمًا} [الأحزاب: 28، 29] يعني من أرادت أن تعيش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم دون تمرد ودون إيذاء، وعلى ما هو عليه من ضيق العيش فجزاؤها عند الله، ومن أرادت الدنيا وشهواتها فباب الطلاق والفراق مفتوح. لكنهن جميعًا اخترن الله ورسوله والدار الآخرة. أعد الله لهن أجرًا عظيمًا. -[المباحث العربية]- (لما أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه) أي لما أمره الله تعالى بقوله {يا أيها

النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحًا جميلاً * وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرًا عظيمًا} وكان هذا التخيير عقب اعتزاله لأزواجه شهرًا، كما هو واضح من الرواية الثامنة ولكن هذا التخيير في السنة التاسعة على الصحيح. (بدأ بي) تقول ذلك دلالاً وفخرًا، لإعلان منزلتها عنده صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم بدأ بها لعلمه أنها تقود جماعة من نسائه، وسيفعلن مثل ما تفعل، ويغلب على ظنه أنها ستختاره، ويعلم يقينًا أن أبويها لا يوافقان على فراقها له. وقيل: يحتمل أن يكون هذا البدء عفويًا، لأنها كانت صاحبة النوبة، وهو بعيد. قال النووي: إنما بدأ بها لفضيلتها. والمراد بدأ بتخييري. والفاء في "فقال" تفسيرية. (فقال: إني ذاكر لك أمرًا) هذه المقدمة لتتريث في الأمر قبل أن تختار. (فلا عليك أن لا تعجلي) أي لا حرج عليك، ولا ضرر عليك إذا تريثت ولم تتعجلي، أي لا ضرر عليك في عدم العجلة، ونفي النفي إثبات، فيتحصل من مفهومه عليك حرج وضرر في التعجيل، وفي الرواية الثامنة "إني أريد أن أعرض عليك أمرًا، أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك" قال النووي: وإنما قال لها ذلك شفقة عليها وعلى أبويها، ونصيحة لهما في بقائها عنده صلى الله عليه وسلم [أقول: وحرصًا عليها، وحبًا فيها، ورغبة في أن تختاره، وتبقى معه] فإنه خاف أن يحملها صغر سنها وقلة تجاربها على اختيار الفراق، فيجب فراقها، فتضطر هي وأبوها وباقي النسوة بالاقتداء بها. اهـ. أي بموافقتها. (حتى تستأمري أبويك) أي حتى تطلبي أمر أبويك بهذا الخصوص وتعملي به. (قالت: قد علم أن أبوي لم يكونا ليأمراني بفراقه) تقول هذا اعتزازًا وتيهًا وفخرًا، أي أنه لحرصه عليها، وتمسكه بها علق فراقها على مستحيل، وجعل اختيارها للفراق مرتبطًا بمن لا يرضى بالفراق. {إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها} ذكر الزينة تخصيص بعد تعميم، أي إن كنتن تردن السعة والتنعم والزخرف والزينة. {(فتعالين)} أصل "تعال" أمر بالصعود لمكان عال، ثم غلب في الأمر بالمجيء مطلقًا، والمراد هنا أقبلن بإرادتكن واختياركن لإحدى الخصلتين. {(أمتعكن)} أعطكن متعة الطلاق، والمتعة عند الجمهور واجبة للمطلقة التي لم يدخل بها ولم يفرض لها صداق، ومستحبة لكل مطلقة، وهي ثوب وخمار وملحفة، على حسب السعة والاقتار. {(وأسرحكن سراحًا جميلاً)} أي أطلقكن طلاقًا حسنًا بالمعروف، وليس بدعيًا ضارًا.

{(وإن كنتن تردن الله ورسوله)} أي تردن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر الله تعالى للإيذان بجلالة محله عليه الصلاة والسلام عنده تعالى. {(والدار الآخرة)} أي نعيمها الوفير الباقي الذي لا يقاس به أي نعيم في الدنيا. ولما كان سبب هذا التخيير وسبب اعتزاله صلى الله عليه وسلم أزواجه مختلفًا فيه كان السبب الظاهر لهذا التخيير طلبهن زيادة النفقة، كما جاء في الرواية الثامنة. (في أي هذا أستأمر أبوي؟ ) "أي" تضاف إلى متعدد، وهنا متعدد في المعنى، لأنهما أمران. الطلاق والبقاء، فكأنها قالت: في أي هذين الأمرين أستأمر؟ والاستفهام إنكاري. أي لا أستأمر أبوي في اختيار أحد الأمرين. وفي الرواية الثامنة "أفيك يا رسول الله أستشير أبوي"؟ (فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة) أي بل أختار رسول الله صلى الله عليه وسلم، زاد في الرواية الثامنة "وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت" أي باختياري لك. قيل: تريد أن تستأثر منه صلى الله عليه وسلم بحظ أوفر إن اختارت بعض النساء الفراق، وقيل: إنها تريد أن يكون اختيارهن مبنيًا على إرادتهن وحدها، دون التأثر برأي الآخرين، وفي الرواية الثانية عشرة "لا تخبر نساءك أني اخترتك". كما زاد في الرواية الثامنة أيضًا "قال: لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها، إن الله لم يبعثني معنتًا أو متعنتًا، ولكن بعثني معلمًا ميسرًا" وكأنه صلى الله عليه وسلم قبل أن لا يخبر من تلقاء نفسه بما اختارت عائشة لكن حين يسأل يلزم أن يجيب، وإلا كان مضيقًا على نفسه وعلى غيره، والعنت الضيق والعسر والمشقة. (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذننا إذا كان في يوم المرأة منا، بعد ما نزلت {ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ... }) "ترجي" أي ترجئ وتؤخر مضاجعة من تشاء من نسائك، وتضم إليك وتضاجع من تشاء {ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح} أي ومن طلبت ممن تجنبت فلا حرج عليك. هذا التفويض الذي منحه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم لم يكن يستخدمه صلى الله عليه وسلم فكان يلتزم القسم، ويحافظ عليه بدقة، لدرجة أنه إذا احتاج الأمر إلى زيادة واحدة من يوم الأخرى استأذن صاحبة اليوم. (إن كان ذاك إلي لم أوثر أحدًا على نفسي) قال النووي: هذه المنافسة فيه صلى الله عليه وسلم ليست لمجرد الاستمتاع ولمطلق العشرة وشهوات النفوس وحظوظها التي تكون من بعض الناس، بل هي منافسة في أمور الآخرة، والقرب من سيد الأولين والآخرين والرغبة فيه، وفي خدمته ومعاشرته، والاستفادة منه، وفي قضاء حقوقه وحوائجه، وتوقع نزول الرحمة والوحي عليه عندها، ونحو ذلك.

(أفكان طلاقًا؟ ) الاستفهام أنكاري بمعنى النفي، كبقية الروايات [الثالثة والخامسة والسادسة]. (فلم يعددها علينا شيئًا) في بعض النسخ "فلم يعدها علينا شيئًا" أي فلم يعدها طلاقًا. (فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسًا، حوله نساؤه، واجمًا ساكتًا) "واجمًا" بالجيم. قال أهل اللغة: هو الذي اشتد حزنه حتى أمسك عن الكلام. (لأقولن شيئًا أضحك النبي صلى الله عليه وسلم) "أضحك" بضم الهمزة وكسر الحاء بينهما ضاد ساكنة، والجملة صفة لـ"شيئاً" والعائد محذوف، أي أضحك به النبي صلى الله عليه وسلم وفي بعض النسخ "يضحك" وهي أوضح. (فوجأت عنقها) يقال: وجأ يجأ بمعنى ضرب وطعن، وكأنه ضربها في عنقها ضربة شديدة بمجمع يده، وكأن عمر فهم من الموقف أنهن يطلبن النفقة، فساق واقعته مع امرأته حين طلبت هذا المطلب، وكأنه بذلك يشير على النبي صلى الله عليه وسلم أن يستخدم أسلوب عمر، ليقطع دابر هذا التحزب. (فضحك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم) لحزم عمر مع امرأته لعلاج مباح، وإن كان خير الناس لأهله صلى الله عليه وسلم لم يستخدم هذا الأسلوب، وما ضرب بيده امرأة ولا خادمًا قط. (هن حولي كما ترى) كان نساء النبي صلى الله عليه وسلم حزبين، حزبًا تقوده عائشة، وحزبًا تقوده زينب بنت جحش، لكنهن تجمعن وتحزبن ككتلة واحدة في هذا الموقف، فكان ذلك سببًا في شدة موجدته وألمه صلى الله عليه وسلم. قال في البحر: لما نصر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم، ورد عنه الأحزاب، وفتح عليه النضير وقريظة ظن أزواجه عليه الصلاة والسلام أنه اختص بنفائس اليهود وذخائرهم، فقعدن حوله، وقلن له: يا رسول الله، بنات كسرى وقيصر في الحلي والحلل، والإماء والخول، ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق. وطالبن بتوسعة الحال، وأن يعاملن بما تعامل به الملوك أزواجهم. (تسألن رسول اللَّه ما ليس عنده؟ ) الكلام على الاستفهام الإنكاري التوبيخي، أي لا ينبغي أن تسألن. (ثم اعتزلهن شهرًا) ظاهره أن الاعتزال سببه هذا التحزب، وظاهر الرواية الثانية عشرة أن التظاهر من أجل قصة العسل أو مارية الماضية في الباب السابق كان سبب الاعتزال، ولا مانع من أن يكون معًا سببًا، وأنه صلى الله عليه وسلم تحمل وتحمل حتى لزم الحزم. (دخلت المسجد) أي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة. (فإذا الناس) أي الموجودون بالمسجد. (ينكتون بالحصى) أي يأخذون الحصى من الأرض، ويضغطونه بأيديهم، ثم

يضربون به الأرض، فعل المهموم المفكر المغتاظ. وكانت أرض المسجد بعضها مفروش بالحصى الصغير. (ويقولون: طلق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أزواجه) أي يقولون ذلك في أنفسهم تأسفًا وتحسرًا وتألمًا، أو يقول بعضهم ذلك لبعض، وهذا الأخير هو الظاهر، لأنه لو كان القول في أنفسهم لما علمه عمر، وقد بنوا هذا القول على إشاعة نشرها المنافقون والمرجفون في المدينة، وساعد على تصديقها اعتزاله صلى الله عليه وسلم، ومن هنا أيضًا أطلق الأنصاري جار عمر العبارة نفسها "طلق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه" كما جاء في الرواية الثانية عشرة. وكان على هذا الأنصاري وعلى هؤلاء الصحابة أن يتثبتوا قبل أن يقولوها، ولهذا عاتبهم اللَّه بقوله {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} [النساء: 83] فكان عمر رضي الله عنه من الذين يستنبطونه، إذ رجع إلى الأزواج يسألهن، ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله: "أطلقت نساءك؟ قال: لا". (وذلك قبل أن يؤمرن بالحجاب) هذه الجملة مقدمة من تأخير، ومكانها بعد قوله "فدخلت على عائشة" وهذه الجملة أصلاً وهم من الراوي. قال الحافظ ابن حجر: هذه الجملة في الرواية غلط بين، فإن نزول الحجاب كان في أول زواج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش، كما هو مفهوم في سورة الأحزاب، وهذه القصة كانت سبب نزول آية التخيير، وكانت زينب بنت جحش فيمن خير، فآية التخيير نزلت سنة تسع، والحجاب كان سنة أربع أو خمس. ثم قال الحافظ: وقد أجاب بعضهم بتأويلات بعيدة، وأحسن محامله عندي أن يكون الراوي لما رأى قول عمر أنه دخل على عائشة ظن أن ذلك كان قبل الحجاب، فذكره، لكن جوابه أنه لا يلزم من الدخول رفع الحجاب، فقد يدخل من الباب، وتخاطبه من وراء الحجاب، كما لا يلزم من وهم الراوي في لفظة من الحديث أن يطرح حديثه كله. (فقلت: لأعلمن ذلك اليوم) الإشارة إلى الطلاق أو عدمه، وظاهر من هذه الرواية أن عمر حين جاء من عوالي المدينة بدأ بدخول المسجد، فرأى الناس وأحوالهم فيه، فخرج إلى بيوت الأزواج، ليسأل عن مكان النبي صلى الله عليه وسلم، أما الدخول على الأزواج المذكور في أول الرواية العاشرة والثانية عشرة فهو دخول آخر في يوم سابق على اعتزاله صلى الله عليه وسلم، فالدخول الأول سببه مراجعة زوجة عمر، والدخول الثاني سببه إخبار الأنصاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم طلق نساءه واعتزل. والدخول الأول كان لتحذير حفصة ثم أم سلمة، والدخول الثاني كان للوم حفصة ومعاتبة عائشة والسؤال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدخول الأول كان من عوالي المدينة إلى بيوت الأزواج، أما الثاني فكان إلى المسجد ثم البيوت. (أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ ) الاستفهام إنكاري، أي ما كان ينبغي منك - مهما بلغ شأنك وعظم - أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(فقالت: ما لي ولك؟ ) أي لا شأن لي عندك، فلا أجيبك، ولا شأن لك عندي فلا تسألني. فـ"ما" نافية، والجار والمجرور خبر لمبتدأ محذوف. (عليك بعيبتك) بفتح العين وسكون الياء وفتح الباء، والعيبة في كلام العرب وعاء يجعل الإنسان فيه أفضل ثيابه ونفيس متاعه، كأنها تقول: عليك بخزانتك، كناية عن ابنته حفصة، أي عليك بوعظ ابنتك ودعني. (هو في خزانته في المشربة) الخزانة المكان الذي يخزن فيه، والمشربة بفتح الميم وسكون الشين، وفتح الراء وضمها الغرفة العالية، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم غرفة عالية في المسجد، من جذوع النخل وجريده، يصعد إليها على جذع نخل مائل كالدرج، ويستعرض أمام بابها جذع آخر، يقف عليه الداخل قبل أن يدخل، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يستعملها كمخزن، تضع فيها بعض زوجاته بعض الأمتعة. فكان فيها حين دخلها عمر: حصير ووسادة، وقبضة من شعير، وقبضة من قرظ يدبغ به الجلود، وعدد من جلود الغنم حديثة الدبغ. (فدخلت) أي خرجت من بيت حفصة فدخلت المسجد، متجهًا نحو المشربة، وفي الرواية العاشرة "ثم آخذ ثوبي، فأخرج" والتعبير بالمضارع لاستحضار الصورة، والأصل ثم أخذت ثوبي، فخرجت" حتى جئت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشربة" وفي الرواية الثانية عشرة" حتى إذا صليت الصبح شددت علي ثيابي، ثم نزلت، فدخلت على حفصة، وهي تبكي، فقلت: أطلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: لا أدري. ها هو ذا معتزل في هذه المشربة، فأتيت غلامًا ... " إلخ ففي بعض الروايات طي تبرزه الروايات الأخرى، وأما رواية البخاري. ولفظها" فجمعت علي ثيابي فصليت الفجر مع النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم مشربة له، فاعتزل فيها، ودخلت على حفصة ...... فقالت: لا أدري. ها هو ذا معتزل في المشربة، فخرجت فجئت إلى المنبر، فإذا حوله رهط يبكي بعضهم، فجلست معهم قليلاً، ثم غلبني ما أجد، فجئت المشربة ... " فظاهر هذه الرواية يعارض روايتنا في صلاة عمر الصبح، هل كان في العوالي؟ أو كان مع الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ويمكن الجمع بأن معنى روايتنا فنزلت من العوالي، فصليت الصبح مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم قام لا يكلم أحدًا، فدخل المشربة، ورأيت الناس يضربون بالحصى، فشددت علي ثيابي ثم نزلت إلى الحجرات، فدخلت على حفصة ... إلخ. الإشكال الثاني أن رواية البخاري تفيد أن عمر علم مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخل على حفصة، وروايتنا التاسعة يسأل فيها حفصة "أين رسول الله صلى الله عليه وسلم"؟ ويمكن أن يجاب عن هذا الإشكال بأن سؤاله لم يكن لمعرفة أين هو؟ وإنما ليتبين. هل تعلم هي مكانه أو لا؟ أو الاستفهام للتبكيت، أن كانت هي سبب وجوده في هذا المكان. (فإذا أنا برباح) بفتح الراء وتخفيف الباء، وفي الرواية العاشرة "وغلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم أسود على رأس الدرجة".

(قاعدًا على أسكفة المشربة) الأسكفة بضم الهمزة وسكون السين وضم الكاف وتشديد الفاء المفتوحة، العتبة السفلى للباب. و"قاعدًا" حال وفي رواية "قاعد". (مدل رجليه على نقير من خشب) "مدل" خبر لمبتدأ محذوف، أي هو مدل. والنقير بفتح النون وكسر القاف. بمعنى منقور، أي جذع من خشب قد نقر على مسافات ليكون درجًا، يصعد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وينزل، قال النووي: "نقير" بالنون ثم القاف. هذا هو الصحيح الموجود في جميع النسخ، وذكر القاضي أنه بالفاء بدل النون، والفقير بمعنى مفقور، مأخوذ من فقار الظهر. اهـ أي جذع جعلت فيه فقر كالدرج، وفي الرواية العاشرة "في مشربة له، يرتقي إليها بعجلة" أي بسرعة، وفي نسخة "بعجلها" وفي نسخة "بعجلتها" وكله صحيح قال ابن قتيبة وغيره: هي درجة من النخل، كما قال في رواية "جذع". (فناديت: يا رباح. استأذن لي عندك على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. فنظر رباح إلى الغرفة، ثم نظر إلي، فلم يقل شيئًا، ثم قلت يا رباح. استأذن لي عندك على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فنظر رباح إلى الغرفة ثم نظر إلي، فلم يقل شيئًا، ثم رفعت صوتي، فقلت .... إلخ) ظاهره أنه طلب الإذن ثلاث مرات في وقت واحد، ووقفة واحدة، وهو غير مراد، فالرواية الثانية عشرة بينت أن بين المرة والمرة كان ينتهي إلى المنبر، ويجلس قليلاً، ثم يعود يستأذن، وظاهره أن الغلام كان يرد ويرفض الإذن بالإشارة، دون أن يدخل، اعتمادًا على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصاه أن لا يأذن لأحد بالدخول، وهو غير مراد، فالرواية الثانية عشرة بينت أن الغلام كان يدخل، ويذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أن عمر يستأذن، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجيب، وهذا رفض للإذن، على ما عهدوا منه صلى الله عليه وسلم ولعل الغلام كان يفعل الأمرين، يرفض بالإشارة، ثم يدخل فلا يؤذن فيعود، فيخبر عمر بالرفض الصريح. قال الحافظ ابن حجر: يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم في المرتين الأوليين كان نائمًا أو ظن أن عمر جاء يستعطفه على أزواجه، لكون حفصة ابنته منهن. اهـ. قلت: الاحتمال الأول لا يتناسب مع ظاهر الروايات. (فأومأ إلي أن ارقه) أصله: ارق، أي اصعد وادخل، دخلت عليه هاء السكت، وليس المراد أن الغلام أذن له من نفسه ساعة الاستئذان الثالث، بل المراد ما أوضحته الرواية الثانية عشرة، وفيها بعد الاستئذان الثالث "فدخل، ثم خرج إلي، فقال: قد ذكرتك له، فصمت، فوليت مدبرًا، فإذا الغلام يدعوني، فقال: أدخل فقد أذن لك، فدخلت" فظاهرها أن الغلام سمع صوت النبي صلى الله عليه وسلم يأذن لعمر بالدخول. (فدخلت على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على حصير، فجلست، فأدنى عليه إزاره، وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثر في جنبه) في الرواية العاشرة "فقصصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث [أي ما حصل بينه وبين حفصة] فلما بلغت حديث أم سلمة تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنه لعلى حصير، ما بينه وبينه شيء، وتحت رأسه وسادة من أدم - أي من جلد مدبوغ - حشوها ليف" وفي الرواية الثانية عشرة "فإذا هو متكئ على رمل حصير - أي على حصير منسوج، يقال:

رملت الحصير وأرملته إذا نسجته، وفي غير هذه الرواية "رمال حصير" - قد أثر في جنبه، فقلت ... وساق قصته مع حفصة ثم قال: "فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم أخرى، فقلت: أستأنس يا رسول الله"؟ - أي أجلس؟ "قال: نعم فجلست". فمعنى "مضطجع على حصير" أي متكئ، وتمام الصورة أنه صلى الله عليه وسلم كان يلبس إزارًا فقط، وليس عليه رداء، فنصفه العلوي عار تمامًا، ظهر فيه تأثير حبال الحصير، وأن الإزار من النوم كان قد تجعد فأرخاه صلى الله عليه وسلم وعدله، وأن عمر ظل واقفاً يؤنس النبي صلى الله عليه وسلم ويقص عليه ما كان من شأنه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ظاهر الغضب حين دخل عمر، فلما أنس بكلام عمر وتبسم مرتين اطمأن عمر وطلب الجلوس، وجلس على الأرض، أو على طرف الحصير إن كان قد اتسع له، والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم ظل مضطجعًا. (فنظرت ببصري في خزانة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم) دعاه إلى النظر المفارقة الكبيرة بين مقامه صلى الله عليه وسلم عند ربه وعند أصحابه، وما يراه من حاله النبوي، وقلنا: إن ذلك كان في السنة التاسعة، وكانت نفائس بني قريظة وبني النضير وغيرهم قد صارت للمسلمين، وقد أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم الكثير. فما بال خزانته هكذا؟ أليس هذا أمر عجيب؟ . (فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع) ليس المراد القبضة الحقيقية، ما يجمعه الكف الواحد، وإنما هي كناية عن القليل، وإلا فالصاع أربع حفنات بكف الرجل المتوسط، أي ثمان قبضات على الأقل. (ومثلها قرظًا في ناحية الغرفة) "مثلها" مجرور، عطفًا على "قبضة" و"قرظًا" تمييز، وهو بفتح القاف والراء والظاء يطلق على شجر عظام، لها سوق غلاظ، وهو نوع من أنواع السنط العربي، ويطلق على ثمرته وبذوره التي تخرج من القرون، وهي المرادة هنا، ويدبغ به الجلود، وفي الرواية العاشرة "وإن عند رجليه قرظًا مضبورًا" قال النووي: وقع في بعض الأصول بالضاد، وفي بعضها بالصاد المهملة، وكلاهما صحيح، أي مجموعًا. اهـ. وفي رواية "مصبوبًا" بباءين، ولا تنافي، فالمراد أنه مجموع غير منتشر، وإن كان في غير وعاء. فهو مصبوب مجتمع. (وإذا أفيق معلق) "أفيق" بفتح الهمزة، وكسر الفاء، وهو الجلد الذي لم يتم دباغه، وجمعه أفق بفتح الهمزة والفاء، مثل أديم وأدم، وفي الرواية العاشرة "وعند رأسه أهبًا معلقة" والأهب بضم الهمزة والهاء وبفتحهما، لغتان مشهورتان، جمع إهاب، وهو الجلد قبل الدباغ، وقيل: الجلد مطلقًا، دبغ أو لم يدبغ والذي يظهر أن المراد هنا جلد شرع في دبغه ولم يكمل، وفي الرواية الثانية عشرة "فوالله ما رأيت فيه شيئًا يرد البصر إلا أهبا ثلاثة" وفي رواية البخاري "غير أهبة ثلاثة" وفي أخرى له "غير أهبة ثلاثة" بفتح الهمزة والهاء، وبضمها أيضًا بمعنى الأهب. (فابتدرت عيناي) أي سالت دموعهما، وفي الرواية العاشرة "فبكيت".

(ما يشق عليك من شأن النساء) "من" بمعنى "بعض" أي لا يشق على نفسك بعض شأن النساء، أو زائدة داخلة على فاعل "يشق" أي لا يشق عليك شأن النساء، أي لا تشغل بالك بعوجهن، ولا تغضب من إساءتهن، فإنهن ناقصات عقل. (فإن كنت طلقتهن فإن اللَّه معك وملائكته وجبريل وميكائيل، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك، وقلما تكلمت - وأحمد اللَّه - بكلام إلا رجوت أن يكون اللَّه يصدق قولي الذي أقول، ونزلت هذه الآية، آية التخيير {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجًا خيرًا منكن} {وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير}) هذه من موافقات عمر رضي الله عنه، وكان يعتز بها، ويتحدث عنها، كما هنا، وكما جاء عند البخاري وغيره من قوله "وافقت ربي في ثلاث فقلت: لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى؟ فنزلت {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} وآية الحجاب، قلت: يا رسول الله، لو أمرت نساءك أن يحتجبن؟ فإنه يكلمهن البر والفاجر، فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه، فقلت لهن: {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجًا خيرًا منكن} فنزلت هذه الآية". قال الحافظ ابن حجر: والمعنى وافقني ربي، فأنزل القرآن على وفق ما رأيت، لكن لرعاية الأدب أسند الموافقة إلى نفسه. اهـ. أقول: أو المعنى وافقت بقولي ما هو ثابت عند الله قبل أن ينزله. ثم قال الحافظ ابن حجر: وقد حصلت له الموافقة في أشياء غير هذه، من مشهورها قصة أسارى بدر، وقصة الصلاة على المنافقين، وهما في الصحيح، وصحح الترمذي من حديث ابن عمر أنه قال: "ما نزل بالناس أمر قط، فقالوا فيه، وقال فيه عمر إلا نزل القرآن فيه على نحو ما قال عمر" وهذا دال على كثرة موافقاته وأكثر ما وقفنا عليه منها على التعيين خمسة عشر، لكن ذلك بحسب المنقول. اهـ. (وكانت عائشة بنت أبي بكر وحفصة تظاهران على سائر نساء النبي صلى الله عليه وسلم) أي تتظاهران، مضارع محذوف إحدى التاءين، أي تدعيان الظهور والسمو والرفعة. (فلم أزل أحدثه حتى تحسر الغضب عن وجهه، وحتى كشر) "تحسر الغضب" أي زال وانكشف، و"كشر" بفتح الكاف والشين مخففة، أي أبدى أسنانه تبسمًا، ويقال أيضًا في الغضب. والمراد هنا الأول. (ثم نزل نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم ونزلت .... فقلت: يا رسول اللَّه، إنما كنت في الغرفة تسعة وعشرين؟ قال: إن الشهر يكون تسعًا وعشرين. فقمت على باب المسجد فناديت ... إلخ) قال الحافظ ابن حجر: هذا مشكل، فإن ظاهره أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل عقب ما خاطبه عمر، فيلزم منه أن يكون عمر تأخر كلامه معه تسعة وعشرين يومًا، وسياق غيره ظاهر في أنه تكلم معه في ذلك اليوم، وكيف يمهل عمر تسعة وعشرين يومًا لا يتكلم في ذلك؟ وهو مصرح

بأنه لم يصبر ساعة في المسجد، حتى يقوم ويرجع إلى الغرفة، ويستأذنه؟ قال: ولكن تأويل هذا سهل، وهو أن يحمل قوله "فترك" أي بعد أن مضت المدة، ويستفاد منه أنه كان يتردد إلى النبي صلى الله عليه وسلم في تلك المدة التي حلف عليها، فاتفق أنه كان عنده عند إرادته النزول، فنزل معه، ثم خشي أن يكون نسي تمام الشهر، فذكره كما ذكرته عائشة. (فلما رجع، فكنا ببعض الطريق عدل إلى الأراك، لحاجة له) حددت الرواية الحادية عشرة المكان المشار إليه، بأنه مر الظهران، وفي الرواية الثانية عشرة "فلما كنا ببعض الطريق عدل عمر، وعدلت معه بالإداوة - إبريق ماء يصب منه عند الوضوء والاستنجاء ونحوهما - فتبرز" وأصل التبرز من البراز، وهو الموضع الخالي البارز عن البيوت، ثم أطلق التبرز على نفس الفعل - قضاء الحاجة، والمعنى عدل عن الطريق المسلوك إلى مكان لا يسلك غالبًا، به أشجار الأراك، ليستره أثناء قضاء حاجته، عدل بدون ماء لقلته، وطلب من ابن عباس أن يستحضر له إداوة من ماء حتى يرجع، فلما رجع وقد استجمر أخذ ابن عباس يصب عليه ماء الوضوء. فتكلم معه وسأله، كانت البداية أثناء الوضوء، واستمر الحديث بالطريق، ففي الرواية الثانية عشرة "فسكبت على يديه، فتوضأ، فقلت ... " وفي الرواية الحادية عشرة "ذهبت أصب عليه وذكرت، فقلت له ... " وفي الرواية العاشرة "ثم سرت معه، فقلت ... ". (إن كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمرًا) "إن" بكسرة الهمزة وسكون النون، مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن والقصة، والجملة بعد ذلك خبرها، والمعنى أن الشأن والقصة والحكاية كنا في الجاهلية قبل الإسلام كذا وكذا ما نعتبر للنساء أمرًا أو نهيًا، ولا نعتد لهن برأي. (حتى أنزل اللَّه تعالى فيهن ما أنزل) من حقوق ورفع شأن، واعتداد بالرأي. (وقسم لهن ما قسم) من حقوق مالية، وحقوق تعليمية وحقوق أدبية إلخ، وساعدهن على الوقوف بجوار حقوقهن، والمطالبة بها ومواجهة الرجال ما رأينه من نساء الأنصار من الجرأة والصلابة، ففي الرواية الثانية عشرة "كنا معشر قريش قومًا نغلب النساء - أي نحكم عليهن، ولا يحكمن علينا - فلما قدمنا المدينة وجدنا قومًا تغلبهم نساؤهم" وفي رواية "كنا ونحن بمكة لا يكلم أحد امرأته، إلا إذا كانت له حاجة قضى منها حاجته" وفي رواية "كنا لا نعتد بالنساء، ولا ندخلهن في أمورنا" "فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم" وفي رواية "فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار" أي من سيرتهن وطريقهن وفي رواية "فلما قدمنا المدينة تزوجنا من نساء الأنصار، فجعلن يكلمننا ويراجعننا". (فبينما أنا في أمر أأتمره) أي أشاور فيه نفسي وأفكر فيه وأقدره بصوت مرتفع. (إذا قالت لي امرأتي: لو صنعت كذا وكذا؟ فقلت لها: وما لك أنت ولما ها هنا؟ وما تكلفك في أمر أريده؟ فقالت لي: عجبًا لك يا ابن الخطاب ما

تريد أن تراجع أنت) وفي الرواية الثانية عشرة "فغضبت يومًا على امرأتي، فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ما تنكر أن أراجعك" وفي رواية للبخاري "وكان بيني وبين امرأتي كلام، فأغلظت لي" وفي رواية "فقمت إليها بقضيب، فضربتها به فقالت: عجبًا لك يا ابن الخطاب، ولم تنكر أن أراجعك"؟ وفي رواية الطيالسي "فقلت: متى كنت تدخلين في أمورنا؟ فقالت: يا ابن الخطاب ما يستطيع أحد أن يكلمك" وفي رواية "فصخبت" وفي أخرى "فسخبت على امرأتي، فراجعتني، فأنكرت أن تراجعني". (وإن ابنتك لتراجع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى يظل يومه غضبان) المراد ابنته حفصة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الرواية الثانية عشرة "فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل" وفي رواية للبخاري "تقول لي هذا وابنتك تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم"؟ . (لا يغرنك هذه التي قد أعجبها حسنها وحب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إياها) وفي الرواية الثانية عشرة" ولا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك -يريد عائشة" "إن كانت "بفتح همزة" أن "وكسرها. والمراد من جارتها ضرتها، أو هو على الحقيقة، لأنها كانت مجاورة لها في المسكن، والعرب تطلق على الضرة جارة، لتجاورهما المعنوي، لكونهما عند شخص واحد. و"أوسم" من الوسامة، وهي العلامة، والمراد أجمل، كأن الجمال وسمها وعلمها بعلامة. وفي رواية البخاري "أوضأ" من الوضاءة. والمعنى لا تغتري بكون عائشة تفعل ما نهيتك عنه، فلا يؤاخذها بذلك، فإنها تدل بجمالها ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم لها، فلا تغتري أنت بذلك، لاحتمال أن لا تكوني عنده في تلك المنزلة، فلا يكون لك من الإدلال مثل الذي لها. وعند ابن سعد "أنه ليس لك مثل حظوة عائشة" وفي الرواية التاسعة "والله لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحبك، ولولا أنا لطلقك". (ثم خرجت حتى أدخل على أم سلمة، لقرابتي منها) "أدخل" مراد به دخلت، والتعبير بالمضارع لاستحضار الصورة وقرابته من أم سلمة ترجع إلى أن أم عمر كانت مخزومية، مثل أم سلمة، وأم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة، ووالدة عمر حنتمة بنت هاشم بن المغيرة، فهي بنت عم أمه، وفي رواية "ودخلت على أم سلمة، وكانت خالتي" وكأنه أطلق عليها خالة لكونها في درجة أمه، وهي بنت عمها، ويحتمل أن تكون أرضعت معها فتكون أخت أمه من الرضاع، ويحتمل أن تكون أختها لأمها. يقصد أن الأولى بالنصح القريبات. (فأخذتني أخذًا كسرتني عن بعض ما كنت أجد) في رواية البخاري "فأخذتني واللَّه أخذًا .... " أي منعتني من الذي كنت أريده، تقول: أخذ فلان على يد فلان، أي منعه عما يريد أن يفعله، أي أخذتني بلسانها أخذًا أبعدني عن مقصدي وفي رواية لابن سعد" فقالت أم سلمة: أي والله. إنا لنكلمه، فإن تحمل ذلك فهو أولى، وإن نهانا عنه كان أطوع عندنا منك. قال عمر: فندمت على كلامي لهن" وفي رواية "قالت: ما يمنعنا أن نغار على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجكم يغرن عليكم" وفي رواية "قالت: يا عمر أما في رسول الله ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت"؟

(وكان لي صاحب من الأنصار) قال الحافظ ابن حجر: اسم الجار المذكور أوس بن خولى بن عبد الله بن حارث الأنصاري. هذا هو المعتمد. (ونحن حينئذ نتخوف ملكًا من ملوك غسان ... ) وفي رواية للبخاري "وكان من حول رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقام له، فلم يبق إلا ملك غسان بالشام، كنا نخاف أن يأتينا" وفي الرواية الثانية عشرة "وكنا نتحدث أن غسان تنعل الخيل لتغزونا" "تنعل" بضم التاء وكسر العين، وبفتح التاء، أي تركب النعال، وهي الحديدة التي تركب في حوافر الخيل. و"غسان" في الأصل قبيلة، وكان منها ملوك بالشام، قيل: بلغوا سبعة وثلاثين ملكًا، أولهم حفنة بن عمرو بن ثعلبة، وآخرهم جبلة بن الأيهم، وهو الذي أسلم في خلافة عمر رضي الله عنه ثم عاد إلى الروم وتنصر. (أتيت الحجر فإذا في كل بيت بكاء) "الحجر" بضم الحاء وفتح الجيم، أي حجرات أمهات المؤمنين، أي بيوتهن. وفي البخاري عن ابن عباس قال: "أصبحنا يومًا ونساء النبي صلى الله عليه وسلم يبكين، عند كل امرأة منهن أهلها". (وكان آلى منهن شهرًا) في رواية للبخاري "وكان قد قال: ما أنا بداخل عليهن شهرًا" ومعنى "آلى" حلف وأقسم. (واعجبًا لك يا ابن عباس) "وا" في قوله "واعجبًا" اسم فعل بمعنى أعجب، ومثله واهًا، ووى، وعجبًا بالتنوين مصدر مؤكد. وإن كان "عجبًا" بغير تنوين كان "وا" حرف نداء، أو ندبة لغير مندوب، وأصل "عجبًا" عجبي، فأبدلت الكسرة فتحة، فصارت الياء ألفاء كقولهم: يا أسفا ويا حسرتا، وفي رواية "واعجبي لك". وتعجب عمر من ابن عباس لشهرته بعلم التفسير، كيف خفي عليه هذا القدر مع شهرته وعظمته في نفس عمر، وتقدمه في العلم على غيره، ومع ما كان ابن عباس مشهورًا به من الحرص على طلب العلم، ومداخلة كبار الصحابة وأمهات المؤمنين فيه، أو تعجب من حرصه على طلب فنون التفسير، حتى معرفة المبهم، ووقع في الكشاف، وفي روايتنا الثانية عشرة قول الزهري: كره والله ما سأله عنه، ولم يكتمه. ويحتمل أنه تعجب من تحرج ابن عباس السؤال عن العلم، وتهيبه من عمر مدة سنة، أي عجبًا لتحرجك من سؤالي فلا تعد لمثلها، ما ظننت أن عندي من علم فسلني عنه، فإن كنت أعلمه أخبرتك. (وكان منزلي في بني أمية بن زيد بالعوالي) العوالي جمع عالية، وهي قرى بقرب المدينة، مما يلي المشرق، وكانت منازل الأوس، والمعنى كان منزلي في منطقة يسكنها بنو أمية، وهي على أربعة أميال أو أكثر أو أقل من المدينة.

(فقلت: خابت حفصة وخسرت) الجملة خبرية لفظًا ومعنى، وخص حفصة بذلك مع شمول الخيبة والخسران أمهات المؤمنين، لمكانتها منه، لأنها ابنته، ولكونه كان قريب العهد بتحذيرها من وقوع ذلك، ووقع في روايتنا العاشرة" رغم أنف حفصة وعائشة" وكأنه خصهما بالذكر لكونهما كانتا السبب في ذلك. (قد كنت أظن هذا كائنًا) في رواية البخاري "قد كنت أظن هذا يوشك أن يكون" أي كنت أتوقع حدوث هذا بسبب كثرة مراجعتهن التي قد تفضي إلى الغضب المفضي إلى الفرقة. (فاستوى جالسًا) في رواية البخاري "فجلس النبي صلى الله عليه وسلم وكان متكئاً" وهذا مظهر من مظاهر الاهتمام بالموقف، وبالكلام الآتي. (ثم قال: أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ ) أي أأنت في شك في أن التوسع في الآخرة خير من التوسع في الدنيا؟ وفي رواية البخاري "أو في هذا أنت يا ابن الخطاب"؟ وهذا يشعر بأنه صلى الله عليه وسلم ظن أنه بكى من الموقف العصيب، موقف النبي صلى الله عليه وسلم من أزواجه وموقفهن منه، وغضبه صلى الله عليه وسلم عليهن، واعتزاله لهن، فلما ذكر له أمر الدنيا كان إنكاره صلى الله عليه وسلم لما شغل عمر، وأحس عمر بشدة الإنكار، ووقعه عليه، فقال: (فقلت: استغفر لي يا رسول اللَّه) أي عن اعتقادي أن التجملات الدنيوية مرغوب فيها، أو عن انشغالي بهذا الأمر عن الأمر الأهم. (وكان أقسم أن لا يدخل عليهن شهرًا، من شدة موجدته عليهن) أي من شدة غضبه منهن. (فقال: إن الشهر تسع وعشرون) وفي رواية البخاري "وكان ذلك الشهر تسعًا وعشرين ليلة" قال الحافظ ابن حجر: في هذا إشارة إلى تأويل الكلام الذي قبله، وأنه لا يراد به الحصر، وأن كل شهر تسع وعشرون، أو أن اللام في قوله "الشهر" للعهد، أي الشهر المحلوف عليه، ولا يلزم من ذلك أن تكون الشهور كلها كذلك. -[فقه الحديث]- قال الله تعالى {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحًا جميلاً * وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرًا عظيمًا} [الأحزاب: 28، 29]. عن هذا التخيير يقول الماوردي: اختلف. هل كان التخيير بين الدنيا والآخرة؟ أو بين الطلاق والإقامة عنده؟ اهـ.

والمتحصل من هذا الخلاف أقوال: الأول: أنه ليس طلاقًا أصلاً، وليس التخيير بين الطلاق والإقامة عنده، بل هو تخيير بين الدنيا والآخرة، فإن اختارت الدنيا كان عليه أن يطلقها، بدليل قوله (فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحًا جميلاً) وإن اختارته - كما حصل من أمهات المؤمنين فلا شيء. قال الحافظ ابن حجر: ظاهر هذه الآية أن ذلك بمجرده لا يكون طلاقًا، بل لا بد من إنشاء الزوج الطلاق، لأن فيها (فتعالين أمتعكن وأسرحكن) أي بعد الاختيار، وهذه دلالة منطوق، ودلالة المنطوق مقدمة على دلالة المفهوم. اهـ. وبهذا يرد على القرطبي إذ قال في "المفهم" يؤخذ من قول عائشة "فاخترناه فلم يكن ذلك طلاقًا" أنها إذا اختارت نفسها كان نفس ذلك الاختيار طلاقًا من غير احتياج إلى النطق بلفظ يدل على الطلاق. الثاني: أن مثل هذا التخيير تمليك للزوجة أمر نفسها، أو تفويض وتوكيل لها أن تطلق نفسها، فإن اختارته فلا شيء، وإن اختارت نفسها فطلقة رجعية. وهذا مروي عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما. الثالث: كالثاني، لكن إن اختارت نفسها فطلقة بائنة، لأنها لو كانت رجعية لبقيت في أسر الزوج. وهذا مروي عن عمر وابن مسعود أيضًا، وبه أخذ أبو حنيفة. الرابع: كالثاني أيضًا، لكن إن اختارت نفسها يقع ثلاثًا، وهو مروي عن زيد بن ثابت، وأخذ به مالك، واحتج بعض أتباعه بأن معنى الخيار بت أحد الأمرين، إما الأخذ وإما الترك. وهذه المذاهب الثلاثة تتفق في أنها لو اختارت زوجها فلا شيء، ويؤيدها حديث عائشة، وحديث مسروق [رواياتنا الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة]، ويؤيدها من حيث المعنى أن التخيير ترديد بين شيئين، فلو كان اختيارها لزوجها طلاقًا لاتحدا، فدل على أن اختيارها لنفسها بمعنى الفراق، واختيارها لزوجها بمعنى البقاء في العصمة. الخامس: أنها إن اختارت نفسها فواحدة بائنة، وإن اختارت زوجها فواحدة رجعية، لأن الزوج بهذا التفويض قد فك القيد والرباط الذي عقده، وهذا القول حكاه الترمذي عن علي رضي الله عنه، وأخرج ابن أبي شيبة من طريق زاذان قال: "كنا جلوساً عند علي، فسئل عن الخيار، فقال: سألني عنه عمر. فقلت: إن اختارت نفسها فواحدة بائن، وإن اختارت زوجها فواحدة رجعية. قال: ليس كما قلت. إن اختارت زوجها فلا شيء. قال: فلم أجد بداً من متابعته، فلما وليت رجعت إلى ما كنت أعرف. السادس: إن اختارت نفسها فثلاث، وإن اختارت زوجها فواحدة بائنة، وهذا مروي عن زيد بن ثابت. السابع: قال الشافعي: التخيير كناية، فإذا خير الزوج امرأته، وأراد بذلك تخييرها بين أن تطلق منه، وبين أن تستمر في عصمته، فاختارت نفسها، وأرادت بذلك الطلاق طلقت، فلو قالت: لم أرد باختيار نفسي الطلاق صدقت. قال الحافظ ابن حجر: ويؤخذ من هذا أنه لو وقع التصريح في التخيير بالتطليق أن الطلاق يقع جزمًا.

الثامن: أن التخيير طلاق في حق الأمة، وفي حقه صلى الله عليه وسلم ليس بطلاق. فهو خصوصية. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - من البدء في التخيير بعائشة ومن موقفها منه وموقفه صلى الله عليه وسلم يؤخذ فضل عائشة رضي الله عنها، لبداءته بها. 2 - أن صغر السن مظنة لنقص الرأي. قال العلماء: إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة أن تستأمر أبويها خشية أن يحملها صغر سنها على اختيار الشق الآخر، لاحتمال أن يكون عندها من الملكة ما يدفع ذلك العارض، فإذا استشارت أبويها أوضحا لها ما في ذلك من المفسدة، وما في مقابله من المصلحة، ولهذا لما فطنت عائشة لذلك قالت: قد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه، ووقع في رواية في هذه القصة عن عائشة قالت: "وخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم حداثتي". 3 - وفيه منقبة عظيمة لعائشة، وبيان كمال عقلها، وصحة رأيها مع صغر سنها، إذ أسرعت باختياره صلى الله عليه وسلم. 4 - وأن الغيرة تحمل المرأة الكاملة الرأي والعقل على ارتكاب ما لا يليق بحالها، لسؤال عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم أن لا يخبر أحداً من أزواجه باختيارها له، فقد حملها على ذلك ما طبع عليه النساء من الغيرة، ومحبة الاستبداد، دون ضرائرها، وفهم البعض من السياق أنها أرادت أن يختار نساؤه الفراق. 5 - أن حب الرسول صلى الله عليه وسلم لعائشة، وحرصه على إرضائها لم يكن على حساب واحدة من جاراتها، إذ لم يسعفها بما طلبت من ذلك، بل رد مطلبها في مواجهتها. 6 - من موقف أمهات المؤمنين منقبة عظيمة لهن رضي الله عنهن. 7 - المبادرة إلى الخير، وإيثار أمور الآخرة على الدنيا. 8 - استدل بعضهم بقولها: "ثم فعل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت" على ضعف ما جاء أن من الأزواج حينئذ من اختارت الدنيا. 9 - من أسباب الاعتزال يستفاد مدى ملاطفة النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه، وحلمه عنهن، وصبره على ما كان يصدر منهن من إدلال وغيرة، ففي الرواية الثامنة تحزبهن للمطالبة بالنفقة، وبما لا يقدر عليه، وقصة العسل أو مارية المذكورة في الباب السابق فيها من الاحتيال ما لا يحتمله زوج، وما جاء عند ابن سعد في سبب غضبه منهن وحلفه أن لا يدخل عليهن شهراً عن عائشة قالت: "أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم هدية، فأرسل إلى كل امرأة من نسائه نصيبها، فلم ترض زينب بنت جحش بنصيبها، فزادها مرة أخرى، فلم ترض، فقالت عائشة: لقد أقمأت وجهك. ترد عليك الهدية؟ فقال: لأنتن أهون على الله من أن تقمئنني. "لا أدخل عليكن شهراً".

كل ذلك، وغيره من المعاملات التي يضيق بها صدر الرجل كثير، لكن الرءوف الرحيم صلى الله عليه وسلم تحمل وتحمل فلما ضاق صدره، استخدم الدواء الثاني للعوج الاعتزال بعد الوعظ، ولم يستعمل في حياته العلاج الثالث وهو الضرب، مع أنه كان سائغاً مشهوراً. 10 - ومن مدة الاعتزال لطيفة، قال بعضهم: الحكمة في الشهر أن مشروعية الهجر ثلاثة أيام، وكانت عدتهن تسعاً، فإذا ضربت في ثلاثة كانت سبعة وعشرين، واليومان لمارية، لكونها كانت أمة، فنقصت عن الحرائر. 11 - وفيه أن شدة الوطأة على النساء مذموم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بسيرة الأنصار في نسائهم، وترك سيرة قومه، وسمح لنسائه بمراجعته ومغاضبته، حتى كانت إحداهن تهجره اليوم حتى الليل. 12 - ومن الرواية الثامنة تأديب الرجل ابنته في بيت زوجها، لأجل إصلاحها لزوجها. 13 - ومن موقف عبد الله بن عباس من عمر توقير العالم ومهابته عن استفهام ما يخشى من تغيره عند ذكره. 14 - وترقب خلوات العالم، ليسأل عما لعله لو سئل عنه بحضرة الناس أنكره على السائل. 15 - وفي ذلك مراعاة للمروءة. 16 - حسن تلطف ابن عباس، وشدة حرصه على الاطلاع على فنون التفسير. 17 - وطلبه علو الإسناد، لأن ابن عباس أقام مدة طويلة، ينتظر خلوة عمر، ليأخذ عنه، وكان يمكنه أخذ ذلك بواسطة عنه، ممن لا يهاب سؤاله، كما كان يهاب عمر. 18 - البحث في العلم في الطرق والخلوات، وفي حال القعود والمشي. 19 - جواز السؤال عن تسمية من أبهم أو أهمل. 20 - وسؤال العالم عن بعض أمور أهله، وإن كان عليه فيه غضاضة، إذا كان في ذلك سنة تنقل، ومسألة تحفظ. 21 - وجواز ذكر العمل الصالح -حج عمر وابن عباس- لسياق الحديث على وجهه. 22 - والعدول عن الطريق المسلوك لقضاء الحاجة، وأن المسافر في الخلاء يستتر بما يمكنه التستر به من شجر وغيره. 23 - وفي موقف عمر من ابن عباس تواضع العالم للطالب وصبره على مساءلته وإن كان في ذلك غضاضة عليه. 24 - وإيثار الاستجمار في الأسفار وإبقاء الماء للوضوء. 25 - وجواز الاستعانة في الوضوء.

26 - وسياق القصة على وجهها، وإن لم يسأل السائل عن ذلك إذا كان في ذلك مصلحة من زيادة شرح وبيان، وخصوصاً إذا كان الطالب يؤثر ذلك. 27 - وفيه ذكر العالم ما يقع من نفسه وأهله بما يترتب عليه فائدة دينية، وإن كان في ذلك حكاية ما يستهجن. 28 - ومن تناوب عمر وصاحبه النزول من عوالي المدينة التناوب في العلم إذا لم يتيسر لكل واحد الحضور بنفسه. 29 - واستحباب حضور مجالس العلم والحرص عليها. 30 - أن الطالب لا يغفل عن العمل لمعاشه، ليستعين على طلب العلم وغيره، فإن عمر رضي الله عنه كان يشتغل بالتجارة آنذاك. 31 - الحرص على العلم، وسؤال الغائب عما فاته في يوم غيبته، وحرص الصحابة على أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم جلت أو قلت أولا بأول. 32 - الاعتماد على خبر الواحد، ولو كان الآخذ فاضلا والمأخوذ عنه مفضولاً، فإن كلاً من عمر وصاحبه كان يعتمد خبر الآخر. 33 - العمل بمراسيل الصحابة. 34 - وجواز ضرب الباب ودقه، إذا لم يسمع الداخل بغير ذلك. 35 - ورواية الكبير عن الصغير. 36 - وأن الأخبار التي تشاع -ولو كثر ناقلوها- إن لم يكن مرجعها إلى أمر حس من مشاهدة أو سماع لا تستلزم الصدق. فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم لم يطلق نساءه، رغم الإشاعة التي استفيضت. 37 - وفيه الاكتفاء بمعرفة الحكم بأخذه عن القرين، مع إمكان أخذه عالياً عمن أخذ عنه القرين، وأن السعي إلى علو الإسناد حيث لا يعوق عنه عائق، شرعي. 38 - واهتمام الصحابة بما يغير خاطر النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الأنصاري وعمر اعتبرا تطليق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه أعظم وأخطر من هجوم ملك الشام الغساني بجيوشه على المدينة لغزو من بها، وكان ذلك بالنظر إلى ثقتهما في قوة المسلمين، وأن عدوهم -ولو طرقهم- مغلوب ومهزوم، بخلاف الذي وقع- حسبما توهما من التطليق الذي يتحقق معه حصول الغم والقلق وتشويش الخاطر للنبي صلى الله عليه وسلم. 39 - ومن أخذ عمر رداءه عند النزول استحباب التجمل بالثوب ونحوه عند لقاء الأئمة والكبار، احتراما لهم. 40 - ومن دخول عمر دخول الآباء على البنات، ولو كان بغير إذن الزوج، والتنقيب عن أحوالهن، لا سيما ما يتعلق بالمتزوجات، والكلام مع القريبات وغيرهن للمصلحة.

41 - ومن موقف عمر مع امرأته شدته وحزمه في معاملة النساء. 42 - ومن نصيحته لحفصة وتحذيره لها ما يفيد أن عائشة كانت أجمل وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من حفصة، وأنه لا بأس أن يواجه الأب ابنته بمثل هذا من قبيل التأديب. 43 - ومن رد عائشة على عمر ما يفيد قوة شخصيتها وقوة منطقها وأدبها. 44 - وفي رد أم سلمة على عمر ما كانت عليه رضي الله عنها من رجاحة العقل، وقوة الحجة والعزة والأنفة. 45 - وفي تعبير عمر عن عائشة بجارتك دون ضرتك أدب عمر، وتحاشيه أن يضيف لفظ الضرر إلى أحد من أمهات المؤمنين. وكان ابن سيرين يكره تسميتها ضره، ويقول: إنها لا تضر ولا تنفع، ولا تذهب من رزق الأخرى بشيء، وإنما هي جارة. 46 - وجواز سكنى المشربة. 47 - وجواز اعتزال النساء خارج البيوت. 48 - وجواز اتخاذ الحاكم عند الخلوة بواباً، يمنع من يدخل عليه إلا بإذنه، ويكون قول أنس في المرأة التي وعظها النبي صلى الله عليه وسلم في المقابر، فلم تعرفه، ثم جاءت إليه، فلم تجد له بوابين، يكون محمولاً على الأوقات التي يجلس فيها للناس. 49 - قال المهلب: وفيه أن للإمام أن يحتجب عن بطانته وخاصته، عند الأمر الذي يغضبه من أهله، حتى يذهب غيظه، ويخرج للناس، وهو منبسط إليهم، فإن الكبير إذا احتجب لم يحسن الدخول إليه بغير إذن، ولو كان الذي يريد الدخول جليل القدر عظيم المنزلة عنده. 50 - وفيه الرفق بالأصهار إذا وقع للرجل من زوجه ما يقتضي معاتبتهم. 51 - وفيه أن السكوت قد يكون أبلغ من الكلام، وأكثر فائدة في بعض الأحايين، لأنه عليه الصلاة والسلام لو أمر غلامه برد عمر لم يجز لعمر العود إلى الاستئذان مرة بعد أخرى. أشار إلى هذا المهلب. 52 - وفيه أن الحاجب إذا علم منع الإذن بسكوت المحجوب لم يأذن. 53 - وفيه مشروعية الاستئذان على الإنسان، ولو كان وحده، لاحتمال أن يكون على حالة يكره الاطلاع عليها. 54 - وفيه جواز تكرار الاستئذان لمن لم يؤذن له، إذا رجا حصول الإذن، وأن لا يتجاوز به ثلاث مرات. 55 - وفيه أن المرء إذا رأى صاحبه مهموماً استحب له أن يحدثه بما يزيل همه، ويطيب نفسه، لقول عمر: لأقولن شيئاً يضحك النبي صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ ابن حجر: ويستحب أن يكون ذلك بعد استئذان الكبير في ذلك.

56 - وفيه أن الغضب والحزن يحمل الرجل الوقور على ترك التأني المألوف منه، لقول عمر: ثم غلبني ما أجد. ثلاث مرات. 57 - وفيه شدة الفزع والجزع للأمور المهمة. 58 - وجواز نظر الإنسان إلى نواحي بيت صاحبه وما فيه، إذا علم أنه لا يكره ذلك، قال الحافظ ابن حجر: وبهذا يجمع بين ما وقع لعمر، وبين ما ورد من النهي عن فضول النظر. أشار إلى ذلك النووي قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون نظر عمر في بيت النبي صلى الله عليه وسلم وقع أولاً اتفاقاً، فرأى الشعير والقرظ مثلاً، فاستقله، فرفع رأسه لينظر. هل هناك شيء أنفس منه؟ فلم ير إلا الأهب، فقال ما قال، ويكون النهي محمولاً على من تعمد النظر في ذلك، والتفتيش ابتداء. 59 - وفيه كراهية سخط النعمة، واحتقار ما أنعم الله به، ولو كان قليلاً. 60 - وفيه طلب الاستغفار من أهل الفضل. 61 - وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من إيثار القناعة، وعدم الالتفات إلى ما خص به الغير من أمور الدنيا الفانية. 62 - وفيه المعاقبة على إفشاء السر بما يليق بمن أفشاه. 63 - أخذ منه بعضهم أن كل لذة أو شهوة قضاها المرء في الدنيا فهي استعجال له من نعيم الآخرة، وأنه لو ترك ذلك لادخر له في الآخرة، وقال آخرون: إن المراد أن حظ الكفار هو ما نالوه من نعيم الدنيا، إذ لا حظ لهم في الآخرة. 64 - وفيه تذكير الحالف بيمينه إذا وقع منه ما ظاهره نسيانها، لا سيما ممن له تعلق بذلك، لأن عائشة خشيت أن يكون صلى الله عليه وسلم نسي مقدار ما حلف عليه، وهو شهر، والشهر ثلاثون يوماً، أو تسعة وعشرون يوماً، فلما نزل في تسعة وعشرين ظنت أنه ذهل عن القدر، أو أن الشهر لم يهل. فأعلمها أن الشهر استهل، فإن الذي كان عليه الحلف جاء تسعة وعشرين، وفيه تقوية لقول من قال: إن يمينه صلى الله عليه وسلم اتفق أنها كانت في أول الشهر، ولهذا اقتصر على تسعة وعشرين، وإلا فلو اتفق ذلك في أثناء الشهر فالجمهور على أنه لا يقع البر إلا بثلاثين. وذهبت طائفة إلى الاكتفاء بتسعة وعشرين، أخذاً بأقل ما ينطلق عليه الاسم. قال ابن بطال: يؤخذ منه أن من حلف على فعل شيء يبر بفعل أقل ما ينطلق عليه الاسم. والقصة محمولة عند الشافعي ومالك على أنه دخل أول الهلال، وخرج به، فلو دخل في أثناء الشهر لم يبر إلا بثلاثين. 65 - استنبط منه بعضهم إيثار الفقر على الغنى، وخصه الطبري بمن لم يصرف الغنى في وجوهه، ويفرقه في سبله التي أمر الله بوضعه فيها، وأما من فعل ذلك فهو من منازل الامتحان، والصبر على المحن مع الشكر أفضل من الصبر على الضراء وحده. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: وهي مسألة اختلف فيها السلف والخلف، وهي طويلة الذيل. والله أعلم

(398) باب المطلقة البائن في عدتها سكنها ونفقتها وخروجها

(398) باب المطلقة البائن في عدتها سكنها ونفقتها وخروجها 3270 - عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها: أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة. وهو غائب. فأرسل إليها وكيله بشعير. فسخطته. فقال: والله ما لك علينا من شيء. فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له. فقال "ليس لك عليه نفقة". فأمرها أنت تعتد في بيت أم شريك. ثم قال "تلك امرأة يغشاها أصحابي. اعتدي عند ابن أم مكتوم. فإنه رجل أعمى. تضعين ثيابك. فإذا حللت فآذنيني" قالت: فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه. وأما معاوية فصعلوك لا مال له. انكحي أسامة بن زيد" فكرهته. ثم قال "انكحي أسامة" فنكحته. فجعل الله فيه خيرًا، واغتبطت. 3271 - عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها: أنه طلقها زوجها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وكان أنفق عليها نفقة دون. فلما رأت ذلك قالت: والله لأعلمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن كان لي نفقة أخذت الذي يصلحني. وإن لم تكن لي نفقة لم آخذ منه شيئًا. قالت: فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "لا نفقة لك. ولا سكنى". 3272 - عن أبي سلمة أنه قال: سألت فاطمة بنت قيس. فأخبرتني أن زوجها المخزومي طلقها. فأبى أن ينفق عليها. فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا نفقة لك. فانتقلي. فاذهبي إلى ابن أم مكتوم. فكوني عنده. فإنه رجل أعمى. تضعين ثيابك عنده". 3273 - عن أبي سلمة: أن فاطمة بنت قيس، أخت الضحاك بن قيس، أخبرته أن

أبا حفص بن المغيرة المخزومي طلقها ثلاثًا. ثم انطلق إلى اليمن. فقال لها أهله: ليس لك علينا نفقة. فانطلق خالد بن الوليد في نفر. فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة. فقالوا: إن أبا حفص طلق امرأته ثلاثًا. فهل لها من نفقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليست لها نفقة. وعليها العدة". وأرسل إليها "أن لا تسبقيني بنفسك". وأمرها أن تنتقل إلى أم شريك. ثم أرسل إليها "أن أم شريك يأتيها المهاجرون الأولون. فانطلقي إلى ابن أم مكتوم الأعمى. فإنك إذا وضعت خمارك، لم يرك" فانطلقت إليه. فلما مضت عدتها أنكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد بن حارثة. 3274 - عن أبي سلمة عن فاطمة بنت قيس. قال: كتبت ذلك من فيها كتابًا. قالت: كنت عند رجل من بني مخزوم فطلقني البتة. فأرسلت إلى أهله أبتغي النفقة. واقتصوا الحديث بمعنى حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة. غير أن في حديث محمد بن عمرو "لا تفوتينا بنفسك". 3275 - عن فاطمة بنت قيس: أنها كانت تحت أبي عمرو بن حفص بن المغيرة. فطلقها آخر ثلاث تطليقات. فزعمت أنها جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستفتيه في خروجها من بيتها. فأمرها أن تنتقل إلى ابن أم مكتوم الأعمى. فأبى مروان أن يصدقه في خروج المطلقة من بيتها. وقال عروة: إن عائشة أنكرت ذلك على فاطمة بنت قيس. 3276 - - ومثله مع قول عروة: إن عائشة أنكرت ذلك على فاطمة. 3277 - عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: أن أبا عمرو بن حفص بن المغيرة خرج مع علي بن أبي طالب إلى اليمن. فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت من طلاقها. وأمر لها الحارث بن هشام وعياش بن أبي ربيعة بنفقة فقالا لها: والله! ما لك نفقة إلا أن تكوني حاملاً. فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له قولهما. فقال "لا نفقة لك"

فاستأذنته في الانتقال فأذن لها. فقالت: أين يا رسول الله؟ فقال "إلى ابن أم مكتوم" وكان أعمى. تضع ثيابها عنده ولا يراها. فلما مضت عدتها أنكحها النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد. فأرسل إليها مروان قبيصة بن ذؤيب يسألها عن الحديث. فحدثته به. فقال مروان: لم نسمع هذا الحديث إلا من امرأة. سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها. فقالت فاطمة، حين بلغها قول مروان: فبيني وبينكم القرآن. قال الله عز وجل (لا تخرجوهن من بيوتهن) الآية. قالت: هذا لمن كانت له مراجعة. فأي أمر يحدث بعد الثلاث؟ فكيف تقولون: لا نفقة لها إذا لم تكن حاملاً؟ فعلام تحسبونها؟ 3278 - عن الشعبي قال: دخلت على فاطمة بنت قيس. فسألتها عن قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها. فقالت: طلقها زوجها البتة. فقالت: فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في السكنى والنفقة. قالت: فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة. وأمرني أن أعتد في بيت ابن أم مكتوم. 3279 - عن الشعبي قال: دخلنا على فاطمة بنت قيس فأتحفتنا برطب ابن طاب. وسقتنا سويق سلت. فسألتها عن المطلقة ثلاثًا أين تعتد؟ قالت: طلقني بعلي ثلاثًا. فأذن لي النبي صلى الله عليه وسلم أن أعتد في أهلي. 3280 - عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم، في المطلقة ثلاثًا. قال: "ليس لها سكنى ولا نفقة". 3281 - عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت: طلقني زوجي ثلاثًا. فأردت النقلة. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم. فقال "انتقلي إلى بيت ابن عمك عمرو بن أم مكتوم، فاعتدي عنده".

3282 - عن أبي إسحق قال: كنت مع الأسود بن يزيد جالسًا في المسجد الأعظم. ومعنا الشعبي. فحدث الشعبي بحديث فاطمة بنت قيس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى ولا نفقة. ثم أخذ الأسود كفا من حصى فحصبه به. فقال: ويلك تحدث بمثل هذا. قال عمر: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة. لا ندري لعلها حفظت أو نسيت. لها السكنى والنفقة. قال الله عز وجل: {لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} 3283 - عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت: إن زوجها طلقها ثلاثًا. فلم يجعل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم سكنى ولا نفقة. قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا حللت فآذنيني" فآذنته. فخطبها معاوية وأبو جهم وأسامة بن زيد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أما معاوية فرجل ترب لا مال له. وأما أبو جهم فرجل ضراب للنساء. ولكن أسامة بن زيد" فقالت بيدها هكذا: أسامة أسامة! فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم "طاعة الله وطاعة رسوله خير لك" قالت: فتزوجته فاغتبطت. 3284 - عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت: أرسل إلي زوجي، أبو عمرو بن حفص بن المغيرة، عياش بن أبي ربيعة بطلاقي. وأرسل معه بخمسة آصع تمر، وخمسة آصع شعير. فقلت: أما لي نفقة إلا هذا؟ ولا أعتد في منزلكم؟ قال: لا. قالت: فشددت علي ثيابي. وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: "كم طلقك؟ " قلت: ثلاثًا. قال "صدق. ليس لك نفقة. اعتدي في بيت ابن عمك ابن أم مكتوم، فإنه ضرير البصر. تلقي ثوبك عنده. فإذا انقضت عدتك فآذنيني" قالت: فخطبني خطاب. منهم معاوية وأبو الجهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إن معاوية ترب خفيف الحال. وأبو الجهم منه شدة على النساء (أو يضرب النساء أو نحو هذا) ولكن عليك بأسامة بن زيد".

3285 - عن أبي بكر بن أبي الجهم قال: دخلت أنا وأبو سلمة بن عبد الرحمن على فاطمة بنت قيس. فسألناها فقالت: كنت عند أبي عمرو بن حفص بن المغيرة. فخرج في غزوة نجران. وساق الحديث بنحو حديث ابن مهدي. وزاد: قالت: فتزوجته فشرفني الله بأبي زيد. وكرمني الله بأبي زيد. 3286 - وعنها أن زوجها طلقها طلاقًا باتًا. بنحو حديث سفيان. 3287 - عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت: طلقني زوجي ثلاثًا. فلم يجعل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم سكنى ولا نفقة. 3288 - عن هشام حدثني أبي قال: تزوج يحيى بن سعيد بن العاص بنت عبد الرحمن بن الحكم. فطلقها فأخرجها من عنده. فعاب ذلك عليهم عروة. فقالوا: إن فاطمة قد خرجت. قال عروة: فأتيت عائشة فأخبرتها بذلك فقالت: ما لفاطمة بنت قيس خير في أن تذكر هذا الحديث. 3289 - عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله زوجي طلقني ثلاثًا. وأخاف أن يقتحم علي. قال: فأمرها فتحولت. 3290 - عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما لفاطمة خير أن تذكر هذا. قال: تعني قولها: لا سكنى ولا نفقة. 3291 - عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه. قال: قال عروة بن الزبير لعائشة: ألم تري إلى فلانة بنت الحكم؟ طلقها زوجها البتة فخرجت. فقالت: بئسما صنعت. فقال: ألم تسمعي إلى قول فاطمة؟ فقالت: أما إنه لا خير لها في ذكر ذلك.

3292 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: طلقت خالتي. فأرادت أن تجد نخلها. فزجرها رجل أن تخرج. فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال "بلى فجدي نخلك. فإنك عسى أن تصدقي أو تفعلي معروفًا". -[المعنى العام]- شرع الله العدة للمتوفى عنها زوجها، وللمطلقة طلاقًا رجعيًا أو طلاقًا بائنًا لأمرينا: الأول: استبراء رحمها والتأكد من أنها غير حامل إن كانت حائلاً، وعدم سقى ولده بماء غيره إن كانت حاملاً. الثاني: احترام رباط الزوجية وقدسيته والالتزام بصيانة آثاره مدة محددة حتى لو وثقنا بعدم الحمل وبراءة الرحم. ومن هنا كان من الضروري وضع القواعد الشرعية لهذه المدة، ما للمرأة من حقوق؟ وما عليها من واجبات. وأول هذه الحقوق سكنها، وهل من حق الزوج أن يخرج مطلقته من مسكن الزوجية؟ وهل من حقها أن تتركه وتسكن خارجه؟ وهل من حقها أن تخرج في عدتها لقضاء حاجاتها ومصالحها؟ أو هي محبوسة على ذكرى زوجها؟ وهل تجب عليه نفقتها مدة العدة وكسوتها؟ أوليس عليه ذلك؟ وهل هناك فرق بين الرجعية والمبتوتة والمتوفى عنها زوجها؟ . لقد كان تشريع هذه الأمور من أخريات التشريعات، وفي السنة الأخيرة من حياته صلى الله عليه وسلم، فلم يتكرر تطبيقها، وإن تكرر لم تحدث مشاكل بين الزوجين، فكان الزوج يرضي مطلقته ويحسن إليها فوق حقها، وكانت الزوجة وأهلها كرماء النفس يتنازلون عن كثير من حقوق الزوجة عند الطلاق، وكانت قصة فاطمة بنت قيس مع زوجها المخزومي هي الأزمة الوحيدة التي رفعت خصومتها للنبي صلى الله عليه وسلم وقضى فيها بحكمه الذي يمكن أن يكون قد روعي فيه ظروف خاصة بفاطمة، وليس تشريعًا عامًا. ومن هنا اختلف العلماء في مثل قضيتها وكان لكل وجهة، شرحتها في فقه الحديث، وفق الله الجميع لفهم شريعته والعمل على منهاجه وعلى الله قصد السبيل. -[المباحث العربية]- (عن فاطمة بنت قيس) رضي الله عنها. بن خالد، من بني محارب بن فهر بن مالك، أخت الضحاك بن قيس الذي ولى العراق ليزيد بن معاوية، كانت من المهاجرات الأول، ولها عقل وجمال، وفي بيتها اجتمع أصحاب الشورى عند قتل عمر بن الخطاب. توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في سن السابعة عشرة. فقصة حديثها قبل ذلك.

(أن أبا عمرو بن حفص طلقها) ويقال له: أبو حفص بن عمرو بن المغيرة المخزومي، وهو ابن عم خالد بن الوليد بن المغيرة. (طلقها ألبتة) يقال: أبت فلان طلاق امرأته، أي طلقها طلاقًا بائنًا، أي بائنًا ثلاثًا، والبتة المنقطعة التي لا رجعة فيها إلا بعد زوج آخر. و"ألبتة" بهمزة قطع، وحكي فيها همزة الوصل. وفي الرواية الرابعة والثالثة عشرة "طلقها ثلاثًا" وفي الرواية الحادية عشرة والسادسة عشرة "طلقني زوجي ثلاثًا" وفي ملحق الرواية الخامسة عشرة "طلقها طلاقًا باتًا" وفي الرواية الثانية والثالثة "طلقها زوجها" بدون عدد، وفي الرواية السادسة "فطلقها آخر ثلاث تطليقات" وفي الرواية السابعة "أرسل إلى امرأته بتطليقة كانت بقيت من طلاقها" قال النووي: فالجمع بين هذه الروايات أنه طلقها قبل هذا طلقتين، ثم طلقها هذه المرة الطلقة الثالثة، فمن روى أنه طلقها مطلقًا، أو طلقها واحدة، أو طلقها آخر ثلاث تطليقات فهو ظاهر، ومن روى "البتة" فمراده طلقها طلاقًا صارت به مبتوتة بالثلاث - وليس مراده أنه قال لها: أنت طالق البتة - ومن روى ثلاثًا أراد تمام الثلاث. (وهو غائب) أي في غير مواجهتها، وفي الرواية الرابعة عشرة "أرسل إلى زوجي أبو عمرو بن حفص بن المغيرة، عياش بن أبي ربيعة بطلاقي" وفي الرواية الرابعة "طلقها ثلاثًا، ثم انطلق إلى اليمن" والظاهر أنه طلقها وهو عند أهله في المدينة يستعد للرحيل إلى اليمن، مرافقًا لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فطلقها أمام ابني عميه. الحارث بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، وأرسلهما إليها بالطلاق وبشيء من الشعير والتمر. (فأرسل إليها وكيله بشعير) أي أنه قبل رحيله وكل وكيلاً يبلغها الطلاق، ويبعث إليها بشيء، فأرسل هذا الوكيل رجلاً بذلك، والظاهر أن الوكيل في ذلك ابن عمه، أو ابنا عمه، الحارث، وعياش، وأنهما ذهبا بنفسيهما إليها، كما في الرواية السابعة، فناقشاها، بعد أن بلغاها الطلاق، وسلماها خمسة آصع من الشعير، وخمسة آصع من التمر، والصاع أربع حفنات بكفي الرجل المعتدل - وطلبا من الخروج من منزل الزوجية. والمناقشة في الرواية الرابعة عشرة "قالت: أما لي نفقة إلا هذا؟ ولا أعتد في منزلكم؟ قالا: لا" وفي الرواية الأولى "والله ما لك علينا من شيء" وفي الرواية السابعة "فقالا لها: والله ما لك نفقة إلا أن تكوني حاملاً" وفي الرواية الثانية "وكان أنفق عليها نفقة دون - بإضافة "نفقة "إلى "دون" والدون الرديء الحقير، قال الجوهري: ولا يشتق منه فعل، وبعضهم يقول منه: دان يدون دونًا. وهي تشير بذلك إلى أصع الشعير والتمر، وفي الرواية الخامسة "فأرسلت إلى أهله أبتغي النفقة" فالظاهر أنها بعد مناقشة ابني عمه حاولت مع أهله الآخرين. (فجاءت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له) في الرواية الثانية "فلما رأت ذلك قالت: والله لأعلمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان لي نفقة أخذت الذي يصلحني - أي أخذتها لتصلحني - وإن لم يكن لي نفقة لم آخذ منه شيئًا" أي وأرد إليه أصع الشعير والتمر، وفي الرواية الرابعة عشرة "فشددت علي ثيابي، وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم".

ففي هذه الروايات أنها ذهبت بنفسها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن في الرواية الرابعة "فانطلق خالد بن الوليد - وهو ابن عم زوجها - في نفر، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة - خالة خالد - فقالوا: إن أبا حفص طلق امرأته ثلاثًا، فهل لها نفقة"؟ ولا تعارض، فقد تكون ذهبت بنفسها ترفع شكواها وأجيبت، وذهب أهله بعدها يسألون، وأجيبوا. (فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ليس لك عليه نفقة) "وأمرها أن تعتد" خارج بيت الزوجية، أي أن تخرج، وفي الرواية الثانية "فقال: لا نفقة لك ولا سكنى" وفي الرواية الثالثة "لا نفقة لك، فانتقلي" وفي الرواية السابعة "فقال: لا نفقة لك، فاستأذنته في الانتقال - أي من بيت زوجها - فأذن لها" وفي الرواية الثامنة "فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة" وفي الرواية الثالثة عشرة "فلم يجعل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم سكنى ولا نفقة" وفي الرواية الرابعة عشرة "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم طلقك؟ قلت: ثلاثًا. قال: ليس لك نفقة. اعتدي في بيت ابن عمك". (فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك) بفتح الشين وكسر الراء، وفي الرواية الرابعة "وأمرها أن تنتقل إلى أم شريك، ثم أرسل إليها أن أم شريك يأتيها المهاجرون الأولون" وهي قرشية عامرية، قيل: اسمها غزية بالياء والتصغير، وقيل: غزيلة بنت دودان بن عوف بن عمرو. أسلمت قديمًا بمكة، ثم جعلت تدخل على نساء قريش سرًا، فتدعوهن وترغبهن في الإسلام، حتى ظهر لأهل مكة، فأخذوها، وقالوا لها: لولا قومك لفعلنا بك وفعلنا. وحبسوها ثلاثًا لا يطعمونها ولا يسقونها، فأطعمها الله وسقاها، وهاجرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ووهبت نفسها إليه بدون مهر. قيل: فلم يقبلها فعاشت وحدها بالمدينة، وكانت كبيرة السن صالحة رضي الله عنها. (اعتدي عند ابن أم مكتوم) في الرواية الثالثة "فاذهبي إلى ابن أم مكتوم، فكوني عنده". (فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك) أي فلا يراك، وفي الرواية الثالثة "فإنه رجل أعمى، تضعين ثيابك عنده" أي فلا يراك، وفي الرواية الرابعة "فإنك إذا وضعت خمارك لم يرك" وفي الرواية الحادية عشرة "انتقلي إلى بيت ابن عمك، عمرو بن أم مكتوم" قال النووي: هكذا وقع هنا، وكذا جاء في صحيح مسلم في آخر الكتاب، وزاد، فقال: هو رجل من بني فهر من البطن الذي هي منه، وقال القاضي: المشهور خلاف هذا، وليس هما من بطن واحد، هي من محارب ابن فهر، وهو من بني عامر بن لؤي. قال النووي: هو ابن عمها مجازًا، يجتمعان في فهر. واختلف في اسم ابن أم مكتوم، فقيل: عمرو، وقيل: عبد الله، وقيل غير ذلك. وفي الرواية التاسعة "فأذن لي أن أعتد في أهلي" يحتمل أن هذا حين استأذنته في الانتقال، ثم أمرها بالانتقال إلى أم شريك، ثم أمرها أخيرًا بالانتقال إلى ابن أم مكتوم. (فإذا حللت فآذنيني) أي فإذا انقضت عدتك، وحللت للزواج فأعلميني، أي قبل أن تتفقي مع أحد، وفي الرواية الرابعة "لا تسبقيني بنفسك" أي لا تسبقيني بعد العدة باتخاذ قرار في نفسك بالزواج. وفي ملحق الرواية الخامسة "لا تفوتينا بنفسك" أي لا تتزوجي بدون علمنا.

(أما معاوية فصعلوك لا مال له) بضم الصاد وسكون العين، أي فقير. فقوله "لا مال له" تأكيد لفقره، وليس المراد نفي أن يكون له مال أصلاً، ولكنه من قبيل: اعتبار القليل في حكم العدم. وفي الرواية الثالثة عشرة "أما معاوية فرجل ترب لا مال له" بفتح التاء وكسر الراء، أي كفه والتراب، أي فقير. وفي الرواية الرابعة عشرة "إن معاوية ترب خفيف الحال". (وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه) قيل: كناية عن كثرة أسفاره، مما يضر بالزوجة، والعاتق ما بين العنق والمنكب، وقيل: معناه أنه يحمل عصاه على كتفه دائمًا ليضرب بها زوجته، ففي الرواية الثالثة عشرة "وأما أبو جهم فرجل ضراب للنساء" وفي الرواية الرابعة عشرة "وأبو الجهم منه شدة على النساء - أو يضرب النساء" قال النووي عن هذه الرواية "أبو الجهيم" بضم الجيم مصغر، والمشهور أنه بفتحها مكبر، وهو المعروف في باقي الروايات وفي كتب الأنساب وغيرها. وأبو جهم هذا هو ابن حذيفة القرشي العدوي. (انكحي أسامة بن زيد، فكرهته، ثم قال: انكحي أسامة) "فكرهته" أي فكرهت نكاحه، لأنه كان مولى، فهو ابن زيد بن حارثة، الذي كان عبدًا لخديجة رضي الله عنها، ثم عبدًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أعتقه وتبناه، ثم زوجه حاضنته أم أيمن، فكان أسامة ابنه، وهي قرشية، وفوق ذلك أن أسامة كان أسود اللون جدًا، وهي تتيه بجمالها. وفي الرواية الثالثة عشرة "ولكن أسامة بن زيد. فقالت بيدها هكذا. أسامة. أسامة" أي أشارت بيدها إشارة طرد واحتقار، تلوح بها إلى الأمام، أو إشارة رفض، تلوح بها يمينًا وشمالاً. تعني: لا. لا. (فنكحته، فجعل الله فيه خيرًا، واغتبطت به) قال النووي: ولم تقع لفظة "به" في أكثر النسخ، و"اغتبطت" بفتح التاء والباء، والغبطة أن يتمنى مثل حال المغبوط من غير إرادة زوال النعمة عنه، يقال: غبطته بما نال، أغبطه، بكسر الباء، غبطًا وغبطة، فاغتبط. اهـ. ومعنى فاغتبطت به سعدت به. وفي ملحق الرواية الخامسة عشرة "فتزوجته، فشرفني الله بابن زيد، وكرمني الله بابن زيد" قال النووي: وفي بعض النسخ "بأبي زيد" في الموضعين على أنه كنية، وكلاهما صحيح، فهو أسامة بن زيد، كنيته أبو زيد، ويقال: أبو محمد. (تضعين ثيابك عنده) "عنده" متعلق بمحذوف حال من ضمير "تضعين" وليس متعلقًا بتضعين، إذ ليس المعنى وضع الثياب عنده كأمانة، ولكن المعنى تضعين ثيابك وتكشفي عورتك مادمت عنده، لأنه لا يراك. (كتبت ذلك من فيها كتابًا) أي كتبت حديثها أخذًا من لسانها بدون واسطة، و"كتابًا" يستعمل اسمًا لما سطر، ويستعمل مصدرًا بمعنى كتابة، والمراد الثاني، أي كتبت حديثها كتابة ولم أكتف بالسماع. (فأبى مروان أن يصدقه في خروج المطلقة من بيتها) أي فأبى مروان أن يصدق حديث

فاطمة بنت قيس في كونه يخرج المطلقة من بيتها. وحاصل القصة، وسيأتي بعضها في الرواية السابعة وأخرجها النسائي عن الزهري أن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان طلق امرأته، بنت سعيد بن زيد، البتة، وأمها حزمة بنت قيس، فأمرتها خالتها فاطمة بنت قيس بالانتقال، فسمع ذلك مروان - وهو أمير المدينة - فأنكر، فذكرت أن خالتها أخبرتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفتاها بذلك، فأرسل مروان قبيصة بن ذؤيب إلى فاطمة، يسألها عن ذلك، فذكرت الحديث، ورجع به ابن ذؤيب إلى مروان، فأبى مروان أن يصدقه، وقال - كما في الرواية السابعة - لم نسمع هذا الحديث إلا من امرأة، لن نأخذ به، سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها [قال النووي: هكذا هو في معظم النسخ "بالعصمة" بكسر العين، وفي بعضها "بالقضية" بالقاف والضاد، وهذا واضح، ومعنى الأول: بالثقة والأمر القوي الصحيح] فقالت فاطمة بنت قيس حين بلغها قول مروان - تدافع عن حديثها وفهمها، قالت: فبيني وبينكم القرآن. قال الله عز وجل {لا تخرجوهن من بيوتهن} الآية. قالت: هذا لمن كانت له مراجعة - أي في المطلقة رجعيًا، لأنها محبوسة على زوجها، تحل له في أي وقت يشاء، فتبقى في بيته، لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا، فيكون قربها منه ووجودها في بيته وفي جواره مساعدًا لرجعتها، أما المطلقة ثلاثًا لا يحدث بينها وبين زوجها أمر، فلم تحبس في بيت من طلقها؟ أليس هذا يؤيد حديثي وأن المطلقة ثلاثًا تعتد وتخرج خارج بيت مطلقها؟ والآية التي تفسرها فاطمة في أول سورة الطلاق، قوله تعالى {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا} والظاهر أن مروان ظل منكرًا حديث فاطمة بعد مناقشتها، يميل إلى عدم العمل به ويرده، حتى جاءته قضية أخرى، هي التي تحدثت عنها الروايات السابعة عشرة والتاسعة عشرة والمتممة للعشرين، وحاصلها: أن يحيى بن سعيد بن العاص - وكان أبوه أمير المدينة لمعاوية قبل مروان - طلق امرأته بنت عبد الرحمن بن الحكم، قيل: اسمها عمرة. وهي بنت أخي مروان، الذي كان أمير المدينة آنذاك - طلقها ثلاثًا، وأخرجها من بيته، فعاب عروة بن الزبير على يحيى وأهله إخراجها من بيتها. فاستدلوا على إخراجها بحديث فاطمة بنت قيس، وخروجها - ويبدو أن اعتراض عروة كان أمام مروان، فذهب عروة إلى خالته عائشة يستعيد منها الفتوى التي سمعها من قبل، قال لها: ألم تعلمي أن عمرة بنت عبد الرحمن بن الحكم طلقها زوجها يحيى ألبتة؟ فخرجت، أو أخرجت؟ قالت: بئسما صنعت، وبئسما صنعوا بها. لم تكن لتخرج من بيتها. قال: قد اعتمدوا على حديث فاطمة بنت قيس؟ قالت: لا خير لفاطمة بنت قيس في ذكرها لهذا الحديث وتمسكها به، وحقها أن لا تذكره، فقد كانت لها حالة خاصة، من الإساءة إليها أن تنشر، ورجع عروة يقول لمروان: إن عائشة أنكرت ذلك على فاطمة. وأرسلت عائشة إلى مروان تقول له: اتق الله وارددها إلى بيتها، قال لها: لقد حاولت، لكن أباها أخي عبد الرحمن بن الحكم لم يطعني

في ردها لبيتها. قالت له عائشة: لا يضرك أن لا تذكر حديث فاطمة، فقد كان بها شر استدعى خروجها. قال مروان: إن كانت فاطمة خرجت لشر فيها فهذه أيضًا بها شر لا يقل عن شر فاطمة. (دخلنا على فاطمة بنت قيس فأتحفتنا برطب ابن طاب، وسقتنا سويق سلت) إتحاف الضيف ما يقدم له أول نزوله، و"رطب ابن طاب" اسم لنوع من رطب المدينة، قال النووي: وأنواع تمر المدينة مائة وعشرون نوعًا. وأما "السلت" بضم السين وسكون اللام بعدها تاء، حب بين الشعير والحنطة، قيل: طبعه طبع الشعير في البرودة، ولونه قريب من لون الحنطة. (وأخاف أن يقتحم علي) الاقتحام الهجوم على الشخص بغير إذن. (فأرادت أن تجد نخلها) يقال: جد يجد وجذ يجذ من باب شد يشد، أي قطع، وجذ النخل جذًا وجذاذًا قطع ثمره وجناه. -[فقه الحديث]- قال النووي وغيره: اختلف العلماء في المطلقة البائن الحائل - غير الحامل - هل لها النفقة والسكنى مدة العدة؟ أم لا؟ فقال عمر وأبو حنيفة وآخرون: يجب لها السكنى والنفقة، واحتجوا بقوله تعالى: {واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن} بعد قوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة} وقوله تعالى: {أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم} فهذا أمر بالسكنى، وأما النفقة فلأنها محبوسة عليه وبسببه، لا تتزوج غيره إلا بعد العدة، فالنفقة تابعة للسكنى، ومن حججهم أن القرآن لم يفرق بين مطلقة ومطلقة، فكانت البائن كالرجعية. وأنكروا حديث فاطمة بنت قيس، وردوه، روى الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "لا ندع كتاب ربنا - يشير إلى الآيتين السابقتين - وسنة نبينا بقول امرأة، لا ندري حفظت أو نسيت، لها السكنى والنفقة" وأخرجه أبو داود بلفظ "لا ندري أحفظت؟ أو لا؟ " وأخرجه النسائي بلفظ "قال عمر لها: إن جئت بشاهدين يشهدان أنهما سمعاه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وإلا لم نترك كتاب الله لقول امرأة" وروايتنا الثانية عشرة مؤيدة لإنكار عمر. وأنكره أيضًا عائشة وأسامة بن زيد، كما تصرح بذلك روايتنا السابعة عشرة، والمتممة للعشرين. وبالغ الطحاوي في تقرير هذا المذهب، فقال: خالفت فاطمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن عمر روى خلاف ما روت - يشير إلى رواية عن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لها السكنى والنفقة" قال المحققون: وهذا منقطع لا تقوم به حجة - فخرج المعنى الذي أنكر عليها عمر خروجًا صحيحًا، وبطل حديث فاطمة، فلم يجب العمل به أصلاً. اهـ. المذهب الثاني: مذهب أحمد في أظهر روايتيه وإسحق وأبي ثور وداود وأتباعهم، وهو أنه لا نفقة

لها ولا سكنى، وحجتهم ظاهر حديث فاطمة بنت قيس، ونازعوا في تناول الآية المطلقة البائن، واعتمدوا مراجعة فاطمة وتفسيرها للآية الواردة في روايتنا السابعة، وشرحناه قريبًا في المباحث العربية، عند فقرة "فأبى مروان أن يصدقه" وقالوا: الآية في الرجعية. المذهب الثالث: مذهب الشافعية والمالكية والجمهور، وهو أن لها السكنى - إلا لسبب شرعي - ولا نفقة لها، وهو قول ابن مسعود وابن عمر وعائشة وسعيد بن المسيب والثوري وأصحاب الرأي وإحدى الروايتين عن أحمد ويستدلون على وجوب السكنى بما استدل به أصحاب المذهب الأول قوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن} وقوله تعالى: {أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم} ولم يفرق في المطلقة في هذا بين الرجعية والبائن، فهما سواء في وجوب السكنى. أما النفقة فقد خصتها الآية بالحامل، حيث يقول جل شأنه في العدة وواجباتها {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرًا * ذلك أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرًا* أسكنوهن} - أي في العدة المذكورة بأنواعها - {من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن} [الطلاق: 4 وما بعدها]. فمفهوم الآية أن غير الحامل لا نفقة لها، وإلا لم يكن لتخصيصها بالذكر معنى، قالوا: والسياق يفهم أن الآية في غير الرجعية، لأن نفقة الرجعية واجبة وجوبًا ظاهرًا مدة عدتها، ولو لم تكن حاملاً، لأنها زوجة ترثه ويرثها إذا مات أحدهما في العدة، ولا كذلك البائن. وهؤلاء لا يردون حديث فاطمة بنت قيس، وإنما يوجهونه، كما سيأتي. أما الحنفية فيقولون عن الآية: إنما قيد النفقة بحالة الحمل ليدل على إيجابها في غير حالة الحمل بطريق الأولى، لأن مدة الحمل تطول غالبًا، فإذا وجبت في المدة الأطول وجبت في المدة الأقصر من باب أولى. ورد هذا بأنه قياس فاسد، لأن مدة الحمل قد تقصر عن عدة القروء، ولأن قياس الحائل على الحامل يتضمن إسقاط قيد ورد به القرآن الكريم. فتحصل في حكم السكنى والنفقة مدة العدة للمطلقة ما يأتي: أولاً: المطلقة طلاقًا رجعيًا لها السكنى والنفقة والكسوة مدة العدة بلا خلاف، حاملاً كانت أو حائلاً، لأنها زوجة ترثه ويرثها إن مات أحدهما أثناء العدة، ولأن الزوجية باقية، والتمكين من الاستمتاع موجود. وتسكن حيث يختار لها، مادام المسكن يصلح لمثلها، وإن طلقت وهي في مسكن لزمها أن تعتد فيه، ويحرم على الزوج أن يخرجها من مسكنها، ويحرم عليها أن تخرج منه، إلا في الموضع الذي استثناه جل شأنه بقوله {واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن

يأتين بفاحشة مبينة} أي فيحل إخراجهن، ولو أخرجت أو خرجت دون هذا العذر أثم أو أثمت. ولا تنقطع العدة. والفاحشة المبينة هي البذاء على زوجها وعلى أحمائها. قال عكرمة: في مصحف أبي "إلا أن يفحشن عليكم" وعن ابن عباس: الفاحشة كل معصية كالزنا والسرقة والبذاء على الأهل، واعترض على هذا بالغيبة ونحوها من المعاصي، فهي لا تبيح الإخراج ولا الخروج. أما من قال: إن المراد بالفاحشة الزنا، فقد رده ابن العربي، فقال: أما من قال: إنه الخروج للزنا فلا وجه له، لأن ذلك الخروج هو خروج القتل والإعدام، وليس ذلك بمستثنى في حلال ولا حرام. اهـ. وقيل: إنه الخروج بغير حق، وتقدير الكلام: لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن شرعًا، إلا أن يخرجن تعديًا وبغير حق. ثانيًا: المطلقة طلاقًا بائنًا، ثلاثًا أو باتًا، وهي حامل يجب لها السكنى والنفقة قولاً واحدًا، لا نعلم خلافًا في ذلك بين أهل العلم، لقوله تعالى: {وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن} فوجب لها السكنى والنفقة إن لم يكن من أجلها فمن أجل ولده الذي تحمله. ثالثًا: المطلقة طلاقًا بائنًا، ثلاثًا أو باتًا، وهي غير حامل فيها خلاف بين العلماء. قيل: لها السكنى والنفقة، وقيل: ليس لها سكنى ولا نفقة، وقيل: لها السكنى وليس لها نفقة. رابعًا: المتوفى عنها زوجها إن كانت غير حامل فلا نفقة لها بالإجماع، وإن كانت حاملاً فالأصح عند الشافعية أنه لا نفقة لها كالحائل، وقيل: تجب لها النفقة كالمطلقة الحامل. أما السكنى فالأصح عند الشافعية وجوب السكنى. والذي تستريح إليه النفس بخصوص حديث فاطمة بنت قيس: (أ) أنه صحيح، لا مجال لرده، فقد أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما، بطرق كثيرة بلغت حد الشهرة، وقيل: حد التواتر. (ب) وأنه بخصوص نفقة المطلقة طلاقًا بائنًا صريح في أنها لا نفقة لها، ولم تشر رواية من رواياته إلى أنها كانت تستحق النفقة فلم يحكم لها بها لسبب من الأسباب، بل بعض الروايات تعرضت إلى أنه لا نفقة لها، ولم تتعرض للسكنى، ففي الرواية الأولى أن شكواها من وكيل زوجها كان من أجل النفقة، حيث أنكر حقها في النفقة، وأرسل إليها نفقة دون، وأنها ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ليس لك عليه نفقة" إذن السكنى كان أمرها مقررًا، لم تكن سببًا في الخصومة، وأصرح من الرواية الأولى في أن الخصومة كانت من أجل النفقة قولها في الرواية الثانية "إن كان لي نفقة أخذت الذي يصلحني، وإن لم تكن لي نفقة لم آخذ منه شيئًا" وفي الرواية الثالثة "لا نفقة لك" وفي الرواية الرابعة "فقال لها أهله: ليس لك علينا نفقة". ولما ذهب أهله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن نفقتها ولم يسألوه عن سكناها، وكان جوابه لهم: "ليست لها نفقة" وفي الرواية الخامسة تقول "فأرسلت إلى أهله. أبتغي النفقة" وفي الرواية السابعة "فقالا لها: والله ما لك نفقة إلا أن تكوني حاملا، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت له قولها؟ فقال: لا نفقة لك".

(ج) وأن موضوع السكنى في حديث فاطمة كان له ظروف خاصة جعلها تخرج من بيتها، وتعتد خارج مسكنها، من هذه الظروف أنها هي التي طلبت الانتقال، وكأنها تنازلت عن هذا الحق بعد ثبوته، ففي الرواية السابعة "فاستأذنته في الانتقال؟ فأذن لها، فقالت: أين يا رسول الله؟ قال .... إلخ" وفي الرواية التاسعة "فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أعتد في أهلي" أي هي التي استأذنت في الخروج، وفي الرواية الحادية عشرة "فأردت النقلة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: انتقلي ... إلخ" ومن هذه الظروف أن بيت الزوجية كان في مكان موحش، تخشى على نفسها فيه، فطلبت النقلة منه. ففي الرواية الثامنة عشرة "وأخاف أن يقتحم علي؟ قال: فأمرها فتحولت". ومن هذه الظروف أنها كانت امرأة خشنة لسنة بذيئة بذاءة تبيح لوكيل زوجها أن يخرجها من مسكنها، تشير إلى هذا عائشة في روايتنا السابعة عشرة والتاسعة عشرة والمتممة للعشرين، إذ تقول "ما لفاطمة بنت قيس خير في أن تذكر هذا الحديث" أي لأن الشخص لا ينبغي له أن يذكر شيئًا عليه فيه غضاضة، وروي عن عائشة أنها قالت لفاطمة بنت قيس: اتقي الله، فإنك تعلمين لم أخرجت؟ وفي كتاب أبي داود قال سعيد بن المسيب عن فاطمة بنت قيس: تلك امرأة فتنت الناس، واستطالت على أحمائها بلسانها، فأمرها عليه الصلاة والسلام أن تنتقل. ودافع الشوكاني في نيل الأوطار عنها، ونفى فحش لسانها حيث ارتضاها رسول الله صلى الله عليه وسلم لحبه وابن حبه أسامة بن زيد، وحقق بعض العلماء القضية، فقال: البذاء المنسوب لفاطمة لم يكن موجهًا لزوجها، بل كان موجهًا لأحمائها، وهذا أمر غير مستبعد من أي امرأة مطلقة، تحس بشخصيتها، لا سيما إذا كان البذاء مجرد المخاشنة في القول، والاستعلاء على نساء الأحماء، والحدة في اللهجة والصوت. وكأن فاطمة - بعد بيان هذه الظروف - تحكي قرار عدم إسكانها، وأنه حكم لها بعدم السكن، أي في النهاية، وربما فهمته حكمًا عامًا لكل النساء، ولم تفهمه خاصًا بها لظروفها. ويمكن حمل جميع الروايات على هذا بدون تعسف، فأولى المذاهب بالاختيار مذهب الشافعية والجمهور. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - يؤخذ من قوله في الرواية الأولى "طلقها البتة وهو غائب" أن الطلاق يقع في غيبة المرأة. 2 - ومن قوله "أرسل إليها وكيله" جواز الوكالة في أداء الحقوق. قال النووي: وقد أجمع العلماء على هذين الحكمين. 3 - ومن قوله "تلك امرأة يغشاها أصحابي" جواز زيارة الرجال للنساء الأجانب ما لم تكن فتنة ولا خلوة. 4 - وكثرة التردد على الصالحين. 5 - ومن رجوعه صلى الله عليه وسلم عن أن تعتد في بيت أم شريك حرصه صلى الله عليه وسلم على رفع الحرج عن الأمة وفي كل تشريع، إذ رأى صلى الله عليه وسلم أن على فاطمة من الاعتداد عندها حرجًا، من حيث إنه يلزمها التحفظ من نظرهم إليها، ونظرها إليهم وانكشاف شيء منها، وفي التحفظ من هذا مع كثرة دخولهم وترددهم مشقة ظاهرة.

6 - ومن أمره لها بالاعتداد عند ابن أم مكتوم أخذ بعض الناس جواز نظر المرأة إلى الأجنبي، بخلاف نظره إليها. قال النووي: وهذا قول ضعيف، بل الصحيح الذي عليه جمهور العلماء وأكثر الصحابة أنه يحرم على المرأة النظر إلى الأجنبي، كما يحرم عليه النظر إليها، لقوله تعالى {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم .... وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن} [النور: 30، 31] لأن الفتنة مشتركة، وكما يخاف الافتتان بها تخاف الافتتان به، ويدل عليه من السنة حديث نبهان مولى أم سلمة عن أم سلمة أنها كانت هي وميمونة عند النبي صلى الله عليه وسلم فدخل ابن أم مكتوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: احتجبا منه. فقالتا: إنه أعمى، لا يبصر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟ " وهذا الحديث حسن. رواه أبو داود والترمذي وغيرهما، وقال الترمذي: هو حديث حسن، ولا يلتفت إلى قدح من قدح فيه بغير حجة معتمدة. ثم قال النووي: وأما حديث فاطمة بنت قيس مع ابن أم مكتوم فليس فيه إذن لها بالنظر إليه، بل فيه أنها تأمن عنده من نظر غيرها لها، وهي مأمورة بغض بصرها، فيمكنها الاحتراز عن النظر بلا مشقة، بخلاف مكثها في بيت أم شريك. اهـ. 7 - ومن قوله "فإذا حللت فآذنيني" جواز التعريض بخطبة البائن. قال النووي: وهو الصحيح عندنا. 8 - ومن قوله صلى الله عليه وسلم عن أبي جهم: "لا يضع عصاه عن عاتقه" جواز استعمال الكناية. 9 - ومن قوله عن معاوية: "إنه صعلوك" جواز ذكر الإنسان الغائب بما فيه من العيوب التي يكرهها إذا كان على وجه النصيحة. 10 - ومن قوله عن معاوية: "لا مال له" نفي الشيء مع وجود قليله على سبيل المجاز واعتبار القليل في حكم العدم، فإن أبا جهم كان يضع العصا عن عاتقه في حال نومه وأكله، ومعاوية كان له ثوب يلبسه وغير ذلك من المال القليل. 11 - ومن قوله "انكحي أسامة بن زيد" جواز الإشارة بنكاح شخص علم دينه وفضله وحسن طرائقه. 12 - وجواز الخطبة على الخطبة إذا لم يحصل للأول إجابة، لأنها أخبرته أن معاوية وأبا جهم خطباها. 13 - واستحباب إرشاد الإنسان إلى مصلحته، وإن كرهها، وتكرار ذلك عليه، لتكراره "انكحي أسامة" بعد قولها "فكرهته". 14 - وقبول نصيحة أهل الفضل، والانقياد إلى إشارتهم، وأن عاقبتها محمودة. 15 - وجواز نكاح غير الكفء، إذا رغبت به الزوجة والولي، لأن فاطمة قرشية، وأسامة من الموالي. 16 - والحرص على مصاحبة أهل الفضل والتقوى وإن دنت أنسابهم. 17 - ومن إنكار عائشة على فاطمة؛ جواز إنكار المفتي على مفت آخر، خالف النص، أو عمم ما هو خاص.

18 - ومن إتحاف أم شريك لزوارها؛ استحباب إتحاف الزائر وإكرامه بطيب الطعام والشراب، سواء كان المضيف رجلاً أو امرأة. 19 - ومن خروج فاطمة من منزل الزوجية؛ جواز خروج المطلقة ثلاثًا من بيتها لعذر. 20 - ومن الرواية الواحدة والعشرين جواز خروج المعتدة البائن للحاجة. قال النووي: ومذهب مالك والثوري والليث والشافعي وأحمد وآخرين جواز خروجها في النهار للحاجة، وكذلك عن هؤلاء يجوز لها الخروج في عدة الوفاة، ووافقهم أبو حنيفة في عدة الوفاة، وقال في البائن: لا تخرج ليلاً ولا نهارًا. اهـ. أما المطلقة رجعيًا فلا تخرج إلا بإذن زوجها. 21 - وفيه استحباب الصدقة من التمر عند جذاذه. 22 - واستحباب الهدية منه. 23 - واستحباب التعريض لصاحب التمر بفعل ذلك. 24 - والتذكير بالمعروف والبر. واللَّه أعلم

(399) باب عدة الحامل المتوفى عنها زوجها

(399) باب عدة الحامل المتوفى عنها زوجها 3293 - عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: أن أباه كتب إلى عمر بن عبد الله بن الأرقم الزهري، يأمره أن يدخل على سبيعة بنت الحارث الأسلمية، فيسألها عن حديثها وعما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين استفتته. فكتب عمر بن عبد الله إلى عبد الله بن عتبة يخبره؛ أن سبيعة أخبرته؛ أنها كانت تحت سعد بن خولة. وهو في بني عامر بن لؤي. وكان ممن شهد بدرًا. فتوفي عنها في حجة الوداع. وهي حامل. فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته. فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب. فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك (رجل من بني عبد الدار) فقال لها: ما لي أراك متجملة؟ لعلك ترجين النكاح. إنك، والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر. قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك، جمعت علي ثيابي حين أمسيت. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك؟ فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي. وأمرني بالتزوج إن بدا لي. قال ابن شهاب: فلا أرى بأسًا أن تتزوج حين وضعت. وإن كانت في دمها. غير أن لا يقربها زوجها حتى تطهر. 3294 - عن سليمان بن يسار: أن أبا سلمة بن عبد الرحمن وابن عباس اجتمعا عند أبي هريرة. وهما يذكران المرأة تنفس بعد وفاة زوجها بليال. فقال ابن عباس: عدتها آخر الأجلين. وقال أبو سلمة: قد حلت. فجعلا يتنازعان ذلك. قال فقال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي (يعني أبا سلمة) فبعثوا كريبًا (مولى ابن عباس) إلى أم سلمة يسألها عن ذلك؟ فجاءهم فأخبرهم؛ أن أم سلمة قالت: إن سبيعة الأسلمية نفست بعد وفاة زوجها بليال. وإنها ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فأمرها أن تتزوج. -[المعنى العام]- شرعت العدة للمرأة المطلقة والمتوفى عنها زوجها، والتي فسخ نكاحها لأي سبب من الأسباب، وإذا كان لنا أن نبحث ونتلمس لكل تشريع حكمة، لكن ليس لنا أن نعتبر حكمة التشريع التي نصل

إليها علة، يدور معها الحكم وجودًا وعدمًا، فقد يكون للتشريع حكمة لا نعلمها، كتقبيل الحجر الأسود، ويقال له: حكم تعبدي وقد يكون ما نعلم جزء حكمة، وليس كل الحكمة، كما في تشريع عدة الزوجية إذا انتهى رباط الزوجية بطريقة أو بأخرى هل هي استبراء الرحم، والتأكد من عدم الحمل عند الحائل؟ وتفريغ توابع الزوج عند الحامل؟ لو كانت كذلك لما وجبت على العجوز اليائسة من الحمل، والتي يقرر الأطباء بشكل يصل إلى اليقين أنها لا تحمل. هل هي لحرمة عقد الزواج، ووجود فسحة بين الزوج الأول والثاني لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا؟ أو هي مجموع الأمرين؟ أو هي مجموع الأمرين مع التعبد. ظاهر حديث سبيعة الذي نحن بصدده أن العدة لاستبراء الرحم من الزوج السابق، لئلا تختلط الأنساب، ولئلا يسقى ولد الرجل السابق بماء الرجل اللاحق، وبخاصة إذا لم يكن هناك أمل أن يحدث الله بين الزوجين بعد ذلك أمرًا من عودة أو رجعة، فهذه سبيعة مات عنها زوجها، وهي حامل، فولدت بعد ليال من وفاته، وكانت تقرأ قوله تعالى {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق: 6] فلما وضعت اعتقدت أنها حلت للأزواج، فتزينت وتهيأت للخطاب، فرآها أحد الرجال الذين يرغبون في الزواج منها وهي لا ترغبه، فقال لها: لا يحل لك أن تتزوجي قبل أربعة أشهر وعشر، مصداقًا لقوله تعالى {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا} [البقرة: 234] يرجو بذلك أن تتريث لعلها ترضى به، وكانت تعتقد أن الآية في غير الحوامل، وصدق فهمها، إذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: قد حللت للأزواج بوضعك، فتزوجي إن شئت. وبقي التساؤل: إذا كانت العدة لاستبراء الرحم، ولإعطاء فرصة للزوجين انتظارًا لأن يحدث الله بعد ذلك أمرًا، فلم كانت عدة الحائل المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرًا، ولم تكن ثلاثة قروء في أقل من ثلاثة أشهر، كما في الطلاق؟ فإن قلنا: إن زيادة المتوفى عنها زوجها على المطلقة للإشعار بمظهر من مظاهر الحزن والأسى على الزوج الراحل فلم لم يراع ذلك في الحامل التي كسبيعة، وهي أولى بإظهار الحزن من غير الحامل، لبقاء أثر الزوج السابق، ووجود شيء من العلاقة به، وهو ابنه؟ وبقي التساؤل، ولا جواب له عندي إلا أن يكون تعبدًا، والله أعلم. -[المباحث العربية]- (عن سبيعة - رضي الله عنها) "سبيعة" بضم السين، تصغير سبع، بنت الحارث الأسلمي، من المهاجرات. (كانت تحت سعد بن خولة) أي كانت زوجة له. (وهو في بني عامر بن لؤي) قال النووي: هكذا هو في النسخ "في بني عامر" بالفاء، وهو صحيح، ومعناه ونسبه في بني عامر، أي هو من بني عامر. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: وثبت فيه أنه كان من حلفائهم.

(وكان ممن شهد بدرًا) فائدة ذكر هذه الجملة والتي قبلها الإشادة بزوجها، لترفع بذلك من شأنها. (فتوفي عنها في حجة الوداع) قال الحافظ ابن حجر: نقل ابن عبد البر الاتفاق على ذلك، وفيه نظر، فقد ذكر ابن سعد أنه مات قبل الفتح، وذكر الطبري أنه مات سنة سبع، وفي بعض الروايات "أنه قتل" ومعظم الروايات على أنه مات، وهو المعتمد. (فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته) "فلم تنشب" أي فلم تلبث ولم تمكث زمنًا. وفي رواية للبخاري "فمكثت قريبًا من عشر ليال، ثم جاءت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: انكحي" وفي رواية عند أحمد "فلم أمكث إلا شهرين حتى وضعت" وفي رواية عند النسائي "بعشرين ليلة أو خمس عشرة" وعند الترمذي والنسائي "بثلاثة وعشرين يومًا، أو خمسة وعشرين يومًا" وعند ابن ماجه "ببضع وعشرين ليلة" قال الحافظ ابن حجر: والجمع بين هذه الروايات متعذر، لاتحاد القصة. اهـ ولعل السر في اختلاف الرواة أنه أمر غير مهم، والمهم أنها وضعت لأقل من أربعة أشهر وعشر، فلم يعن الرواة بضبطه. (فلما تعلت من نفاسها) ضبطها في الأصول "تعلت" بفتح التاء والعين وتشديد اللام المفتوحة، لكن في كتب اللغة: تعالت المرأة من نفاسها خرجت منه وطهرت - بألف بين العين واللام، وفي تاج العروس: وتعللت - بلامين - المرأة من نفاسها، أي خرجت منه وطهرت وحل وطؤها، كتعالت، وتخفف اللام أيضًا. (تجملت للخطاب) بضم الخاء وتشديد الطاء، جمع خاطب، والتجمل التزين، وفي رواية "فتهيأت للنكاح واختضبت" وفي رواية "فتطيبت وتصنعت" وفي رواية "فلقيها أبو السنابل وقد اكتحلت". (فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك، رجل من بني عبد الدار) "السنابل" بفتح السين، جمع سنبلة، و"بعكك" بفتح الباء وسكون العين وكافين، الأولى مفتوحة، واسم أبي السنابل عمرو، وقيل: حبة، بالباء. وهو أبو السنابل بن بعكك بن الحجاج بن الحارث بن السباق بن عبد الدار، وقيل في نسبه غير هذا. وكان من المؤلفة، وسكن الكوفة، وكان شاعرًا، ونقل الترمذي عن البخاري أنه قال: لا نعلم أن أبا السنابل عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم. وفي رواية البخاري "فخطبها أبو السنابل بن بعكك، فأبت أن تنكحه، فقال: والله ما يصلح أن تنكحي حتى تعتدي آخر الأجلين" فدخوله عليها وتردده عليها كان للخطبة، رجاء أن تقبله، فلما قبلت غيره قال ما قال. ففي الموطأ "فخطبها رجلان، أحدهما شاب والآخر كهل، فحطت إلى الشاب، فقال الكهل: لم تحلي، وكان أهلها غائبين، فرجا أن يؤثروه بها" فأفتاها بأنها لا تحل بالوضع، لكونه كان خطبها فمنعته، ورجا أنها إذا قبلت ذلك منه، وانتظرت مضي المدة حضر أهلها، فرغبوها في زواجه، دون غيره.

(لعلك ترجين) بفتح التاء والراء وتشديد الجيم المكسورة، والأصل تترجين. (إنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر) أي ما يصح ويحل نكاحك حتى كذا وكذا. (وإن كانت في دمها) أي قبل أن تتطهر من النفاس، أي وإن كانت في أول نفاسها. (وهما يذكران: المرأة تنفس) بفتح التاء وسكون النون وفتح الفاء، وفي تاج العروس: يقال: نفست المرأة، كسمع، وعني نفسًا ونفاسة ونفاسًا، أي ولدت، وقال أبو حاتم: ويقال: نفست على ما لم يسم فاعله. (عدتها آخر الأجلين) نظرًا لقوله تعالى {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا} وقوله تعالى {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} يقصد إن وضعت الحامل قبل أربعة أشهر وعشر انتظرت نهاية هذه المدة، وإن تأخر الحمل فلم تضع وانتهت هذه المدة انتظرت وضع الحمل. (وقال أبو سلمة قد حلت) أي بالوضع إذا تقدم على الأشهر المذكورة. (فجعلا يتنازعان ذلك) أي يتجاذبان النقاش فيه. (إن سبيعة الأسلمية نفست) بضم النون وكسر الفاء وفتح السين، قال النووي: وفي لغة بفتح النون، وهما لغتان في الولادة. (فأمرها أن تتزوج) أي إذا أرادت، كما جاء في الرواية الأولى "إن بدا لها" فليس أمرًا مطلقًا، بل أمر مبني على رغبتها، وفي رواية "فقال: "انكحي" وفي رواية "وأمرها بالتزويج" وفي رواية "فقد حللت فتزوجي" وفي رواية "فقال: إن وجدت زوجًا صالحًا فتزوجي" وفي رواية "إذا أتاك أحد ترتضينه فتزوجي" فالمراد من الأمر الإذن. -[فقه الحديث]- قال جمهور العلماء من السلف وأئمة الفتوى في الأمصار: إن الحامل إذا مات عنها زوجها تحل للأزواج بوضع الحمل، وتنقضي عدة الوفاة، حتى لو وضعت بعد موت زوجها بلحظة. هذا قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد والعلماء كافة. إلا رواية عن علي وابن عباس وسحنون المالكي: أن عدتها بأقصى الأجلين. إما أربعة أشهر وعشر، وإما بوضع الحمل، أيهما يتأخر منها هو نهاية عدتها. وإلا ما روي عن الشعبي والحسن وإبراهيم النخعي وحماد أنها لا يصح زواجها حتى تطهر من

نفاسها. هذا وقد نقل غير واحد الإجماع على أنها لا تنقضي عدتها بالأشهر الأربعة والعشر إذا طالت فيها مدة الحمل، فلا تنقضي عدتها في هذه الحالة إلا بالوضع، والخلاف فقط فيما إذا وضعت قبل أربعة أشهر وعشر. وحجة الجمهور حديث سبيعة، وهو مخصص لعموم قوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن بأنفسن أربعة أشهر وعشرًا} أي إذا لم تكن حاملاً. وحديث سبيعة مبين أن قوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} عام في المطلقة والمتوفى عنها، وأنه على عمومه. قال الجمهور: وقد تعارض عموم هاتين الآيتين، وإذا تعارض العمومان وجب الرجوع إلى مرجح، لتخصيص أحدهما، وقد وجد هنا حديث سبيعة المخصص لأربعة أشهر وعشر، وأنها محمولة على غير الحامل. قال ابن عبد البر: لولا حديث سبيعة لكان القول ما قال علي وابن عباس، لأنهما عدتان مجتمعتان بصفتين، وقد اجتمعتا في الحامل المتوفى عنها زوجها، فلا تخرج من عدتها إلا بيقين، واليقين آخر الأجلين. اهـ. أي لكن حديث سبيعة نص في المسألة. أما الرد على الشعبي ومن معه فإنه يرد عليهم قولها في الرواية الأولى "فأفتاني النبي صلى الله عليه وسلم بأني قد حللت حين وضعت حملي" وهذا تصريح بانقضاء العدة بنفس الوضع، فإن احتجوا بقولها في الرواية الأولى "فلما تعلت من نفاسها" أي طهرت منه فالجواب أن هذا إخبار عن وقت سؤالها ولا حجة فيه، وإنما الحجة في قول النبي صلى الله عليه وسلم "إنها حلت حين وضعت" ولم يعلل بالطهر من النفاس. قال النووي: قال العلماء من أصحابنا وغيرهم: سواء كان حملها ولدًا أو أكثر، وسواء كان كامل الخلقة أو ناقصها، أو علقة، أو مضغة، فتنقضي العدة بوضعه، ودليله إطلاق سبيعة من غير سؤال عن صفة حملها. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - أن الصحابة كانوا يفتون في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. 2 - وأن المفتي إذا كان له ميل إلى الشيء لا ينبغي له أن يفتي فيه، لئلا يحمله الميل إليه على ترجيح ما هو مرجوح، كما وقع من أبي السنابل. 3 - وفيه شهامة سبيعة وفطنتها، حيث ترددت فيما أفتاها به، وحملها ذلك على استيضاح الحكم من الشارع، وكذا ينبغي لمن ارتاب في فتوى المفتي أو حكم الحاكم في مواضع الاجتهاد أن يبحث عن النص في تلك المسألة. 4 - وفيه الرجوع في الوقائع إلى الأعلم. 5 - ومباشرة المرأة السؤال عما ينزل بها ولو كان مما يستحي النساء من مثله. 6 - وفيه جواز تجمل المرأة بعد انقضاء عدتها لمن يخطبها.

7 - واستدل به على أن المرأة لا يجب عليها أن تتزوج لقولها "وأمرني بالتزويج إن بدا لي". 8 - وفيه أن الثيب لا تزوج إلا برضاها من ترضاه، ولا إجبار لأحد عليها. 9 - وفي الرواية الثانية حرص علماء الصحابة على فهم الكتاب والسنة، واستخدامهم العقل والقياس وحكمة التشريع، وهذا ما دعا عليًا وابن عباس إلى القول بأن عدتها أقصى الأجلين. والذي تستريح إليه نفسي قول علي وابن عباس، فبالإضافة إلى أنه يجيب على التساؤل الذي أوردته في المعنى العام أرى أن أقصى الأجلين عما بالآيتين، وهو أولى من العمل بإحداهما وتخصيص الأخرى، ويحتمل أن حديث سبيعة كان لحالة خاصة بها، فهو واقعة عين، لا يلزم تطبيق حكمها بصفة عامة، كأن يكون زوجها قد مات بعيدًا عنها، لم يعرف تاريخ موته، فاستتر عند النبي صلى الله عليه وسلم أنها جاوزت الأربعة أشهر خصوصًا وقد ذكرنا اختلافًا كبيرًا في المدة التي اعتدت بها سبيعة، وذكرنا رواية أحمد "فلم أمكث إلا شهرين ووضعت" فإذا أضفنا إلى ذلك أنها انتظرت حتى تعالت من نفاسها، وخرجت منه وطهرت، وصلت المدة أكثر من ثلاثة أشهر، فإذا أضفنا أن زوجها مات بمكة، وهي في المدينة مما يحتمل معه تأخر علمها بموته أمكن أن تكون قد قضت أقصى الأجلين. وهذا التوجيه لحديث سبيعة خير من أن نرده، كما رد جمهور العلماء حديث فاطمة بنت قيس المذكور في الباب السابق على أنه خبر امرأة يخالف كتاب الله. واللَّه أعلم

(400) باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة

(400) باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة 3295 - عن حميد بن نافع عن زينب بنت أبي سلمة؛ أنها أخبرته هذه الأحاديث الثلاثة. قال: قالت زينب: دخلت على أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، حين توفي أبوها أبو سفيان فدعت أم حبيبة بطيب فيه صفرة. خلوق أو غيره. فدهنت منه جارية. ثم مست بعارضيها. ثم قالت: والله ما لي بالطيب من حاجة. غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، على المنبر "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج، أربعة أشهر وعشرًا". قالت زينب: ثم دخلت على زينب بنت جحش حين توفي أخوها. فدعت بطيب فمست منه. ثم قالت: والله ما لي بالطيب من حاجة. غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، على المنبر "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج، أربعة أشهر وعشرًا". قالت زينب: سمعت أمي، أم سلمة تقول: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها. وقد اشتكت عينها. أفنكحلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا" (مرتين أو ثلاثًا. كل ذلك يقول: لا). ثم قال "إنما هي أربعة أشهر وعشر. وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول". قال حميد: قلت لزينب: وما ترمي بالبعرة على رأس الحول؟ فقالت زينب: كانت المرأة، إذا توفي عنها زوجها، دخلت حفشًا، ولبست شر ثيابها، ولم تمس طيبًا ولا شيئًا. حتى تمر بها سنة. ثم تؤتى بدابة، حمار أو شاة أو طير، فتفتض به. فقلما تفتض بشيء إلا مات. ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها. ثم تراجع، بعد، ما شاءت من طيب أو غيره. 3296 - عن زينب بنت أم سلمة قالت: توفي حميم لأم حبيبة. فدعت بصفرة فمسحته بذراعيها. وقالت: إنما أصنع هذا، لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، أن تحد فوق ثلاث، إلا على زوج، أربعة أشهر وعشرًا".

3297 - عن حميد بن نافع قال: سمعت زينب بنت أم سلمة تحدث عن أمها؛ أن امرأة توفي زوجها. فخافوا على عينها. فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فاستأذنوه في الكحل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قد كانت إحداكن تكون في شر بيتها في أحلاسها (أو في شر أحلاسها في بيتها) حولاً. فإذا مر كلب رمت ببعرة فخرجت. أفلا أربعة أشهر وعشرًا؟ ". 3298 - عن حميد بن نافع بالحديثين جميعًا: حديث أم سلمة في الكحل. وحديث أم سلمة وأخرى من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. غير أنه لم تسمها زينب. نحو حديث محمد بن جعفر. 3299 - عن زينب بنت أبي سلمة تحدث عن أم سلمة وأم حبيبة. تذكران أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكرت له أن بنتًا لها توفي عنها زوجها. فاشتكت عينها فهي تريد أن تكحلها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قد كانت إحداكن ترمي بالبعرة عند رأس الحول. وإنما هي أربعة أشهر وعشر". 3300 - عن زينب بنت أبي سلمة قالت: لما أتى أم حبيبة نعي أبي سفيان، دعت، في اليوم الثالث، بصفرة. فمسحت به ذراعيها وعارضيها. وقالت: كنت عن هذا غنية. سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، أن تحد فوق ثلاث، إلا على زوج. فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرًا". 3301 - عن حفصة أو عن عائشة أو عن كلتيهما رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر (أو تؤمن بالله ورسوله) أن تحد على ميت فوق ثلاثة أيام، إلا على زوجها".

3302 - عن حفصة بنت عمر زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث الليث وابن دينار وزاد "فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرًا". 3303 - عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوجها". 3304 - عن أم عطية رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث. إلا على زوج، أربعة أشهر وعشرًا. ولا تلبس ثوبًا مصبوغًا إلا ثوب عصب. ولا تكتحل. ولا تمس طيبًا. إلا إذا طهرت، نبذة من قسط أو أظفار". 3305 - - عن عمرو الناقد ويزيد بن هارون وقالا "عند أدنى طهرها. نبذة من قسط وأظفار". 3306 - عن أم عطية رضي الله عنها قالت: كنا ننهى أن نحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج، أربعة أشهر وعشرًا. ولا نكتحل. ولا نتطيب. ولا نلبس ثوبًا مصبوغًا. وقد رخص للمرأة في طهرها، إذا اغتسلت إحدانا من محيضها، في نبذة من قسط وأظفار. -[المعنى العام]- الجزع عند المصاب أمر طبيعي، لا يملك الإنسان دفعه، إنما يستطيع دفع الهلع، من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعوى الجاهلية، والصلق والصراخ والحلق، وطلاء الوجه بالزرقة والنيلة ونحو ذلك. وبين الجزع والهلع مظاهر حزن، رخص فيها الإسلام للمرأة، لا للرجل، لأنها أرق عاطفة، وأسرع وأكثر تأثرًا بالحزن والفرح من الرجل، فرخص لها أن تظهر مظاهر الحزن، وأن تبتعد عن مظاهر الزينة والبهجة عند فقد حبيب أو قريب، ثلاثة أيام بلياليها، لا تزيد.

أما الزوجة المتوفى زوجها فقد أوجب عليها أن تبتعد عن الزينة بأنواعها، وعن مظاهر التنعم، وأن تعلن عن الحزن بالبعد عن الطيب والكحل والثياب الملونة والمزركشة مدة العدة التي أوجبها الله، وزادها عن عدة المطلقة، تقديسًا لرباط الزوجية، ووفاء لزوج لم يعد يدافع عن حقه، ومما هو واقع أن الزوجة التي كانت تكفر العشير في دنياه، وتنكر فضل زوجها وهو حي، تذكر فضله بعد مماته، وقد تنسى أو تتناسى مثالبه وعيوبه وشروره، ومما هو واقع أيضًا أن هذه الزوجة تحرص كل الحرص على أن تظهر للناس وفاءها لزوجها، وأن زوجها الراحل لا يعوضه أي رجل آخر، وأنها حزينة عليه حزنًا لا يساويه حزن، وأنها لن تفكر في غيره، وأنها ستبكيه الدهر كله، وستلبس عليه الحداد ما بقي لها من حياة، من هنا حرص الشارع على أن يمنع زيادة مدة الحداد، ولم يأمر بالحداد نفسه، لأنه واقع، ومبالغ فيه غالبًا، فكان التوجيه الشرعي أنه لا يحل ولا يجوز لزوجة تؤمن بالله وبقضائه وقدره، وتؤمن باليوم الآخر، وأجر المحتسبين الصابرين فيه، أن تزيد في الإحداد عما هو مقدر، على ميت غير زوج ثلاثة أيام بلياليها، وعلى الزوج أربعة أشهر وعشرًا، واستجابت النساء المسلمات لأوامر الشرع، وكان المثل الأعلى والقدوة الحسنة أمهات المؤمنين، فلم تكن مدة الحداد المقدرة تنتهي حتى تسارع المصابة إلى نقض مظاهرها، وتغيير حالة الحزن الظاهرية، وإن بقي الحزن في قلبها، فكانت تسارع بالتطيب ولبس الثياب المعتادة، اتباعًا لأوامر الشرع الحنيف. -[المباحث العربية]- (الإحداد) والحداد مشتق من الحد، وهو المنع، ومنه سميت العقوبة حدًا، لأنها تمنع وتردع عن المعصية، والإحداد امتناع المرأة المتوفى عنها زوجها من الزينة كلها من لباس وطيب، في بدنها أو ثيابها، لمنع الخطاب من خطبتها والطمع فيها، وامتناعها عن كل ما كان من دواعي النكاح، وله تفاصيل مشهورة في كتب الفقه، يقال: أحدت المرأة من الرباعي، تحد بضم التاء وكسر الحاء، إحدادًا، ويقال: حدت المرأة، من الثلاثي، تحد بفتح التاء، وبضم الحاء وكسرها، حدًا، كذا قال جمهور أهل اللغة. وقال أبو حاتم: لم يعرف الأصمعي "حدت" الثلاثي وأنكره، ولم يعرف إلا الرباعي. (عن زينب بنت أبي سلمة) وهي بنت أم سلمة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وهي ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم، قيل: ولدتها أمها بأرض الحبشة، وقيل: ولدتها بالمدينة عقب استشهاد أبيها أبي سلمة، وتزوجت عبد الله بن زمعة بن الأسود، فولدت له، وكانت من أفقه نساء زمانها. (دخلت على أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي أبوها أبو سفيان) ابن حرب، والد معاوية، وفي الرواية السادسة "لما أتى أم حبيبة نعي أبي سفيان" و"نعي" بسكون العين وتخفيف الياء، وبكسر العين وتشديد الياء، أي خبر موته. قال الحافظ ابن حجر: مات أبو سفيان بالمدينة بلا خلاف بين أهل العلم بالأخبار، فرواية البخاري "لما جاء نعي أبي سفيان من الشام" أظنها وهما. والذي جاء نعيه من

الشام وأم حبيبة في الحياة هو أخوها يزيد بن أبي سفيان الذي كان أميرًا على الشام، فربما سقط لفظ "ابن" من هذه الرواية. اهـ. وفي الرواية الثانية "توفي حميم لأم حبيبة" والحميم القريب وفي مسند ابن أبي شيبة "جاء نعي أخي أم حبيبة أو حميم لها" وعند الدارمي "إن أخًا لأم حبيبة مات أو حميمًا لها" قال الحافظ ابن حجر: وإطلاق لفظ الحميم على الأخ أقرب من إطلاقه على الأب، فقوي الظن أن تكون القصة تعددت لزينب مع أم حبيبة عند وفاة أخيها يزيد، ثم عند وفاة أبيها، أبي سفيان، والجمهور على أن أبا سفيان مات سنة ثلاث وثلاثين، أو ثنتين وثلاثين، ويزيد قبل هذا بقليل. اهـ. (فدعت أم حبيبة بطيب) الفاء عاطفة على محذوف مطوي، تقديره: وأحدت ثلاثة أيام، يدل على ذلك قولها في الرواية السادسة "دعت في اليوم الثالث بصفرة" وكذا قولها في الرواية الثانية "فدعت بصفرة" أي بعد انتهاء مدة الحداد. (فيه صفرة، خلوق أو غيره) في الرواية الثانية "فدعت بصفرة" أي بطيب فيه صفرة "خلوق أو غيره"، فخلوق مرفوع، وكذلك "غيره" مرفوع، أي فيه صفرة، أودعت بصفرة، وهي خلوق أو غيره، والخلوق بفتح الخاء طيب مخلوط. (ثم مست بعارضيها) أي جانبي وجههًا، مما فوق الذقن إلى ما دون الأذن، وفي الرواية الثانية "فمسحته بذراعيها" ولا تعارض، فقد فعلت الأمرين، كما صرحت بذلك الرواية السادسة، ولفظها "فمسحت به ذراعيها وعارضيها". (لا يحل لامرأة) هل يدخل في عمومها المدخول بها؟ وغير المدخول بها، حرة كانت أو أمة؟ وهل تخرج بهذا القيد الصغيرة؟ يأتي الخلاف في ذلك في فقه الحديث. (تحد على ميت فوق ثلاث) "تحد" بضم التاء وكسر الحاء على الأشهر، والفعل مسبوك بمصدر من غير سابك، فاعل "يحل" أي لا يحل لامرأة الإحداد، وفي الرواية الثانية والسادسة والسابعة والثامنة وجد السابك، ولفظها "أن تحد". (وقد اشتكت عينها) قال النووي: "عينها" برفع النون، ووقع في بعض الأصول "عيناها" اهـ. وقال ابن دقيق العيد: يجوز فيه وجهان، ضم النون على الفاعلية، على أن تكون العين هي المشتكية، وفتحها على أن يكون فاعل "اشتكت" ضمير المرأة، ورجح هذا المنذري، ورجح النووي الضم، واقتصر عليه. (أفنكحلها) بفتح النون وسكون الكاف وضم الحاء. (كل ذلك يقول: لا) أي لا تكتحل، كما صرح به في بعض الروايات. (إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن ... إلخ) فيه إشارة إلى تقليل المدة

بالنسبة لما كان قبل ذلك، وتهوين الصبر عليها. والمراد من قوله "قد كانت إحداكن" أي إحدى النساء، وليس المراد إحدى أمهات المؤمنين. (ترمي بالبعرة على رأس الحول) "البعرة" رجيع وفضلات ذوات الخف وذوات الظلف إلا البقر الإنسي. وقد فسرت زينب الكيفية والدافع بما سيأتي. (دخلت حفشًا) بكسر الحاء وسكون الفاء بعدها شين، وهو البيت الصغير، أو الخص بضم الخاء بعدها صاد، وقال الشافعي: الحفش البيت الذليل الشعث البناء، وفي رواية للنسائي "عمدت إلى شر بيت لها، فجلست فيه" وفي الرواية الثالثة "تكون في شر بيتها". (ولبست شر ثيابها) أي أحقر ثيابها، وفي الرواية الثالثة "في شر بيتها في أحلاسها" أي في شر أحلاسها، أو "في شر أحلاسها في بيتها" أي في شر بيتها، والأحلاس بفتح الهمزة وإسكان الحاء، جمع حلس بكسر الحاء، وحلس البعير وغيره من الدواب الكساء الرقيق الذي يوضع تحت البرذعة، والمراد هنا شر ثيابها. والترديد بين العبارتين في الرواية الثالثة للشك من الراوي في أي اللفظين وقع، وصف الثياب، أم وصف المكان، وعلى أي فالمقصود وصف الثياب والمكان بالحقارة. (ولم تمس طيبًا ولا شيئًا) من الزينة والتنعم، وكأنه قال: ولم تمس طيبًا ولا نحوه من مظاهر الترف والرفاهية، كالخضاب والكحل والألوان والمساحيق والحلي والثياب الملونة بألوان الزينة، وهي المرادة من الثوب المصبوغ في الرواية التاسعة والعاشرة، "إلا ثوب عصب" بفتح العين وسكون الصاد، وهو من برود اليمن، يعصب له جملة من الخيوط كحزمة قبل النسيج، فتصبغ هذه الحزمة، ثم تدخل في النسيج، و"ثوب عصب" من إضافة الموصوف إلى صفته، أي ثوبًا معصوبًا، به عصابات وحزم. وسيأتي في فقه الحديث ما هو ممنوع من الثياب وما يرخص فيه منها. (ثم تؤتى بدابة، حمار أو شاة، أو طير، فتفتض به، فقلما تفتض بشيء إلا مات) الدابة ما يدب على الأرض من حيوان، وأصله من دب يدب دبيبًا إذا مشي مشيًا فيه تقارب خطو، فلفظ "حمار أو شاة. بدل بعض من كل، أما لفظ "طير" فإن اعتبر أنه يدب على الأرض أحيانًا، ويمشي على رجليه ولو نادرًا دخل مع الحمار والشاة في كونه بدلاً من "دابة" وإن كان مغايرًا للدابة عطف عليها، وهذا الثاني ظاهر في قوله تعالى: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم} [الأنعام: 38] و"تفتض بفتح التاءين بينهما فاء ساكنة، أخره ضاد، وأصل الفض الكسر، والمعنى تكسر ما كانت فيه من الإحداد، وتخرج من الإحداد بما تفعله بالدابة. عادة وعقيدة جاهلية، كانت المرأة إذا انقضت مدة الحداد، وهي سنة كاملة، تؤتى بحمار أو شاة أو دجاجة أو حمامة فتمسح بها، وتمسح قبلها فيه، كما يتمسح المستجمر بالأحجار ثم تبعده عنها وتعتقد أنه غالبًا ما يموت هذا الذي تتمسح به، لأنه يفض الحالة الناشئة عن الموت، فكأنه أخذ الموت وذهب به بعيدًا عنها، عقيدة جاهلية أنكرها الإسلام، وقرر الحداد المشروع، وقيل: المراد تمسح بيدها على

ظهر الدابة، ثم تمسح بيدها قبلها، تشير بذلك إلى حل زواجها، والخروج من حالة منع النكاح إلى حالة إباحته. (ثم تخرج) من البيت الذي اعتدت وأحدت فيه إلى الفضاء أو إلى مكان آخر، إشارة إلى الخروج من حالة إلى حالة. (فتعطى بعرة فترمي بها) في رواية "ترمي ببعرة من بعر الغنم أو الإبل، فترمي بها أمامها، فيكون ذلك إحلالاً لها" وفي رواية "فترمي ببعرة من بعر الغنم من وراء ظهرها" وفي رواية "فإذا كان حول فمر كلب رمت ببعرة" وفي روايتنا الثالثة "فإذا مر كلب رمت ببعرة" قال الحافظ ابن حجر: وظاهره أن رميها البعرة يتوقف على مرور كلب، سواء طال زمن انتظار مروره أم قصر، وبه جزم بعض الشراح - أقول: وهو سهل أن تؤتى في لحظة بكلب يمر عليها - ثم قال الحافظ: واختلف في المراد برمي البعرة، فقيل: هو إشارة إلى أنها رمت العدة رمي البعرة، وقيل: إشارة إلى أن مظاهر الحداد التي مرت بها لا تساوي بعرة بجانب حق زوجها عليها، وقيل: ترميها على سبيل التفاؤل رجاء عدم عودها إلى حداد. (ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره) أي ثم ترجع بعد ذلك إلى ما شاءت من طيب وزينة. (أفلا أربعة أشهر وعشرًا) الفاء عاطفة على محذوف، هو مدخول الاستفهام الإنكاري، أي أليس الحول الكامل كثيرًا؟ فلا تستكثرن أربعة أشهر وعشرًا، وفي الرواية الخامسة "وإنما هي أربعة أشهر وعشر" أي لا تتعجلن الكحل، فإنما المدة اللازمة لعدمه أربعة أشهر وعشر. (ولا تمس طيبًا إلا إذا طهرت نبذة من قسط أو أظفار) "نبذة" بالنصب على الاستثناء، أو بدل من "طيبًا" أي لا تمس إلا نبذة من قسط عند اغتسالها من حيض، والنبذة بضم النون وسكون الباء بعدها ذال القطعة، وتطلق على الشيء اليسير، والقسط بضم القاف وسكون السين بعدها طاء، ويقال فيه كست بكاف مضمومة بدل القاف، وبتاء بدل الطاء، وهو والأظفار نوعان معروفان من البخور وليسًا من مقصود الطيب، ورخص فيه للمغتسلة من الحيض، لإزالة الرائحة الكريهة المتخلفة من دم الحيض، ويتتبع به مجرى الدم، وفي ملحق الرواية التاسعة "عند أدنى طهرها نبذة من قسط وأظفار" أي لا تمس طيبًا إلا نبذة من قسط وأظفار عند آخر طهرها من حيضها، وفي الرواية العاشرة "وقد رخص للمرأة في طهرها - إذا اغتسلت إحدانا من محيضها - في نبذة من قسط وأظفار". -[فقه الحديث]- نحصر الكلام عن فقه الحديث في نقاط: الأولى: حكم إحداد من توفي عنها زوجها، ولا نعلم خلافًا بين أهل العلم في وجوبه عليها، إلا عن

الحسن البصري، فإنه قال: لا يجب عليها الإحداد، وهو قول شذ به عن أهل العلم، وخالف به السنة. فلا يعرج عليه. ودليل الوجوب ليس قوله صلى الله عليه وسلم "لا يحل لامرأة ... " بل قيل: إن هذا لا يصلح دليلاً للوجوب لأن الاستثناء وقع بعد النفي، فيدل على عدم الحل فوق الثلاث، أما الثلاث لغير الزوج والأربعة أشهر وعشرًا للزوج فلا يفيد الأسلوب الوجوب، قال الحافظ ابن حجر: الوجوب استفيد من دليل آخر كالإجماع. وقيل: إن السياق يدل على الوجوب، فإن كل ما منع منه إذا دل دليل على جوازه كان ذلك الدليل بعينه دالاً على الوجوب. وعندي أن الأسلوب لا يدل على الوجوب وإلا لوجب الإحداد على القريب ثلاثة أيام، وليس كذلك، فالأولى ما قاله الحافظ ابن حجر. ومذهب الشافعي والجمهور أن الإحداد واجب على كل زوجة معتدة عن وفاة، سواء المدخول بها وغيرها، والصغيرة والكبيرة، والبكر والثيب، والحرة والأمة، والمسلمة والكافرة. وقال أبو حنيفة وغيره من الكوفيين وأبو ثور وبعض المالكية: لا يجب على الزوجة الكتابية، بل يختص بالمسلمة، لقوله صلى الله عليه وسلم "تؤمن بالله واليوم الآخر" فخصه بالمؤمنة، ويجيب الجمهور: بأن هذا القيد ليس للاحتراز، بل هو للتهييج والإثارة للانصياع للحكم، لأن المؤمن هو الذي يستثمر خطاب الشرع، وينتفع به، وينقاد له، وحقوق الذمية في النكاح كحقوق المسلمة كالنفقة والسكنى وغيرها. وقال أبو حنيفة أيضًا: لا إحداد على الصغيرة ولا على الزوجة الأمة، لقوله "لا يحل لامرأة" والصغيرة لا يعبر عنها بامرأة، ولأنها غير مكلفة، والجمهور على أن وليها مسئول عن تنفيذ ما يجب عليها، فهو المخاطب بمنعها مما تمنع منه. وأجمعوا على أنه لا إحداد على أم الولد، ولا على الأمة الموطوءة بملك اليمين إذا توفي عنهما سيدهما. الثانية: إحداد المطلقة التي توفي زوجها وهي في العدة. قال النووي وغيره: المطلقة طلاقًا رجعيًا لا يجب عليها الإحداد اتفاقًا. واختلفوا في المطلقة ثلاثًا، فقال عطاء وربيعة ومالك والليث والشافعي وابن المنذر: لا إحداد عليها، لأن الإحداد يجب في عدة الوفاة، وهذه معتدة عن غير وفاة، فلم يجب عليها الإحداد كالرجعية، ولأن الإحداد في عدة الوفاة لإظهار الأسف على فراق الزوج بموته، فأما الطلاق فباختيار الزوج نفسه، فلا معنى لتكليفها الحزن عليه. واختلفت الرواية عن أحمد في وجوب الإحداد على المطلقة البائن. الثالثة: الحكمة في الإحداد ومدته، يقول النووي: قال العلماء: والحكمة في وجوب الإحداد في عدة الوفاة دون الطلاق أن الزينة والطيب يدعوان إلى النكاح، ويوقعان فيه فنهيت عنه، ليكون الامتناع من ذلك زاجرًا عن النكاح، لكون الزوج ميتًا، لا يمنع معتدته من النكاح، ولا يراعيه ناكحها، ولا يخاف منه، بخلاف المطلق الحي، فإنه يستغني بوجوده عن زاجر آخر، ولهذه العلة وجبت العدة على كل متوفى عنها، وإن لم تكن مدخولاً بها، بخلاف الطلاق.

قال: وجعلت أربعة أشهر وعشرًا لأن الأربعة فيها ينفخ الروح في الولد إن كان، والعشر احتياطًا، وفي هذه المدة يتحرك الولد في البطن. قال النووي: والتقييد عندنا بأربعة أشهر وعشر خرج مخرج الغالب، فالمعتاد غالبًا تعتد بالأشهر، أما إذا كانت حاملاً فعدتها بالحمل، ويلزمها الإحداد في جميع العدة حتى تضع، سواء قصرت المدة أم طالت، فإذا وضعت فلا إحداد عليها بعد الوضع، وقال بعض العلماء: لا يلزمها الإحداد بعد أربعة أشهر وعشر، وإن لم تضع. الرابعة: مظاهر الإحداد. قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أنه لا يجوز للحادة لبس الثياب المعصفرة والمصبوغة، إلا ما صبغ بالسواد، رخص في المصبوغ بالسواد عروة بن الزبير ومالك والشافعي، وكرهه الزهري، ورخص جميع العلماء في الثياب البيض، ومنع بعض متأخري المالكية جيد البيض الذي يتزين به، وكذلك جيد السواد، قال النووي: وقال أصحابنا: يجوز كل ما صبغ ولا يقصد منه الزينة، ويجوز لها لبس الحرير في الأصح، ويحرم حلي الذهب والفضة، وكذلك اللؤلؤ. اهـ. أما الكحل فحرام بصريح الحديث، فإن اضطرت الحادة أن تكتحل للتداوي فلها أن تكتحل ليلاً وتمسحه نهارًا، ورخص فيه عند الضرورة عطاء والنخعي ومالك وأصحاب الرأي، والمقصود من الاكتحال الممنوع الاكتحال بما يتخذ للزينة، أما التوتيا والألوان التي لا يتزين بها فلا تمنع. ولا تمنع من التنظيف بتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق الشعر المندوب حلقه، ولا من الاغتسال بالسدر والامتشاط ونحوه. ويحرم عليها الطيب، لأنه يحرك الشهوة، ويدعو إلى المباشرة. ويحرم عليها لبس الحلي، لأنه يزيد في الحسن، ويحرك الشهوة، قيل: حتى الخاتم، وقال عطاء: يباح حلي الفضة دون الذهب. ومما يحرم عليها لبس الملابس المطرزة بالألوان، والملابس المحزقة للزينة والشفافة التي تصف ما تحتها من حمالات وقمص. -[الخامسة: ما يؤخذ من الحديث، ويؤخذ منه فوق ما تقدم]- 1 - جواز الإحداد على غير الزوج من أب أو أم أو أخ أو أخت أو قريب أو حبيب ثلاث ليال، فما دونها، وتحريمه فيما زاد عليها، وكأن هذا القدر أبيح لأجل حظ النفس، وغلبة الطباع البشرية، وتمنع الزيادة وإن بقيت آثار الحزن عندها. 2 - مفهوم الحديث أن مظاهر الإحداد لا تحل للرجال، من ترك الحلاقة ولباس السواد وترك الطيب ونحو ذلك، لأننا إذا قلنا: يحل للمرأة الإحداد ثلاثة أيام، كان مفهومه أنه لا يحل للرجل ذلك. 3 - يسر الإسلام، ومسايرته للطبائع، وشجبه عادات الجاهلية القبيحة. 4 - تبصير المسلمين ومن خفي عليه منهم هذا التيسير، ليظهر فضل الله ومنته على خلقه.

5 - استدل بقوله "على ميت" على أنه لا إحداد على امرأة المفقود، لأنه لم تتحقق وفاته، خلافًا للمالكية. 6 - استدل به على أن قوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا وصية لأزواجهم متاعًا إلى الحول غير إخراج} [البقرة: 240] منسوخ بقوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا} [البقرة: 234] قال ابن عبد البر: لم يختلف العلماء أن العدة بالحول نسخت إلى أربعة أشهر وعشر. واللَّه أعلم

كتاب اللعان

كتاب اللعان

(401) باب اللعان

(401) باب اللعان 3307 - عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: أن عويمرًا العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي الأنصاري فقال له: أرأيت، يا عاصم لو أن رجلاً وجد مع امرأته رجلاً. أيقتله فتقتلونه؟ أم كيف يفعل؟ فسل لي عن ذلك. يا عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما رجع عاصم إلى أهله جاءه عويمر فقال: يا عاصم ماذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عاصم لعويمر: لم تأتني بخير. قد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة التي سألته عنها. قال عويمر والله لا أنتهي حتى أسأله عنها. فأقبل عويمر حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسط الناس. فقال: يا رسول الله أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً، أيقتله فتقتلونه؟ أم كيف يفعل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قد نزل فيك وفي صاحبتك. فاذهب فأت بها". قال سهل: فتلاعنا، وأنا مع الناس، عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما فرغا قال عويمر: كذبت عليها، يا رسول الله إن أمسكتها. فطلقها ثلاثًا، قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن شهاب: فكانت سنة المتلاعنين. 3308 - عن سهل بن سعد الأنصاري رضي الله عنه أن عويمرًا الأنصاري من بني العجلان، أتى عاصم بن عدي. وساق الحديث بمثل حديث مالك. وأدرج في الحديث قوله: وكان فراقه إياها، بعد، سنة في المتلاعنين. وزاد فيه: قال سهل: فكانت حاملاً. فكان ابنها يدعى إلى أمه. ثم جرت السنة أنه يرثها وترث منه ما فرض الله لها. 3309 - عن ابن شهاب عن المتلاعنين وعن السنة فيهما. عن حديث سهل بن سعد أخي بني ساعدة؛ أن رجلاً من الأنصار جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً؟ وذكر الحديث بقصته. وزاد فيه: فتلاعنا في المسجد، وأنا شاهد. وقال في الحديث: فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم. ففارقها عند النبي صلى الله عليه وسلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "ذاكم التفريق بين كل متلاعنين".

3310 - عن سعيد بن جبير قال: سئلت عن المتلاعنين في إمرة مصعب. أيفرق بينهما؟ قال فما دريت ما أقول: فمضيت إلى منزل ابن عمر بمكة. فقلت للغلام: استأذن لي. قال: إنه قائل. فسمع صوتي. قال: ابن جبير؟ قلت: نعم. قال: ادخل. فوالله ما جاء بك، هذه الساعة، إلا حاجة. فدخلت. فإذا هو مفترش برذعة. متوسد وسادة حشوها ليف. قلت: أبا عبد الرحمن المتلاعنان، أيفرق بينهما؟ قال: سبحان الله نعم. إن أول من سأل عن ذلك فلان بن فلان. قال: يا رسول الله أرأيت أن لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة، كيف يصنع؟ إن تكلم تكلم بأمر عظيم. وإن سكت سكت على مثل ذلك. قال: فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبه. فلما كان بعد ذلك أتاه فقال: إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به. فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات في سورة النور: {والذين يرمون أزواجهم} فتلاهن عليه ووعظه وذكره. وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة. قال: لا، والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها. ثم دعاها فوعظها وذكرها وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة. قالت: لا، والذي بعثك بالحق إنه لكاذب. فبدأ بالرجل فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين. والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. ثم ثنى بالمرأة فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين. والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين. ثم فرق بينهما. 3311 - - عن سعيد بن جبير قال: سئلت عن المتلاعنين زمن مصعب بن الزبير. فلم أدر ما أقول: فأتيت عبد الله بن عمر. فقلت أرأيت المتلاعنين أيفرق بينهما؟ ثم ذكر بمثل حديث ابن نمير. 3312 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتلاعنين "حسابكما على الله. أحدكما كاذب. لا سبيل لك عليها" قال: يا رسول الله ما لي؟ قال "لا مال لك. إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها. وإن كنت كذبت عليها فذاك أبعد لك منها".

3313 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أخوي بني العجلان وقال "الله يعلم أن أحدكما كاذب. فهل منكما تائب؟ ". 3314 - - عن سعيد بن جبير قال: سألت ابن عمر عن اللعان؟ فذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله. 3315 - عن سعيد بن جبير قال لم يفرق المصعب بين المتلاعنين قال سعيد. فذكر ذلك لعبد الله بن عمر. فقال: فرق نبي الله صلى الله عليه وسلم بين أخوي بني العجلان. 3316 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً لاعن امرأته على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وألحق الولد بأمه؟ قال: نعم. 3317 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال لاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين رجل من الأنصار وامرأته، وفرق بينهما. 3318 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: إنا، ليلة الجمعة، في المسجد. إذ جاء رجل من الأنصار فقال: لو أن رجلاً وجد مع امرأته رجلاً فتكلم جلدتموه، أو قتل قتلتموه؛ وإن سكت سكت على غيظ. والله لأسألن عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما كان من الغد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله. فقال: لو أن رجلاً وجد مع امرأته رجلاً فتكلم جلدتموه، أو قتل قتلتموه، أو سكت سكت على غيظ. فقال: اللهم افتح، وجعل يدعو. فنزلت آية اللعان {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم} هذه الآيات. فابتلي به ذلك الرجل من بين الناس. فجاء هو وامرأته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاعنا. فشهد الرجل أربع شهادات بالله إنه

لمن الصادقين. ثم لعن الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. فذهبت لتلعن. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم "مه" فأبت فلعنت. فلما أدبرا قال "لعلها أن تجيء به أسود جعدًا" فجاءت به أسود جعدًا. 3319 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه: قال إن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء. وكان أخًا البراء بن مالك لأمه. وكان أول رجل لاعن في الإسلام. قال: فلاعنها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أبصروها. فإن جاءت به أبيض سبطًا قضيء العينين فهو لهلال بن أمية. وإن جاءت به أكحل جعدًا حمش الساقين فهو لشريك بن سحماء" قال: فأنبئت أنها جاءت به أكحل جعدًا حمش الساقين. 3320 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ذكر التلاعن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عاصم بن عدي في ذلك قولاً. ثم انصرف. فأتاه رجل من قومه يشكو إليه أنه وجد مع أهله رجلاً. فقال عاصم: ما ابتليت بهذا إلا لقولي. فذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بالذي وجد عليه امرأته. وكان ذلك الرجل مصفرًا، قليل اللحم، سبط الشعر. وكان الذي ادعى عليه أنه وجد عند أهله خدلاً، آدم، كثير اللحم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اللهم بين" فوضعت شبيهًا بالرجل الذي ذكر زوجها أنه وجده عندها. فلاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما. فقال رجل لابن عباس؛ في المجلس: أهي التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لو رجمت أحدًا بغير بينة رجمت هذه؟ " فقال ابن عباس: لا. تلك امرأة كانت تظهر في الإسلام السوء. 3321 - - عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ذكر المتلاعنان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. بمثل حديث الليث. وزاد فيه، بعد قوله كثير اللحم. قال: جعدًا قططًا.

3322 - قال عبد الله بن شداد وذكر المتلاعنان عند ابن عباس. فقال ابن شداد: أهما اللذان قال النبي صلى الله عليه وسلم "لو كنت راجمًا أحدًا بغير بينة لرجمتها؟ " فقال ابن عباس: لا. تلك امرأة أعلنت. 3323 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن سعد بن عبادة الأنصاري قال: يا رسول الله أرأيت الرجل يجد مع امرأته رجلاً أيقتله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا" قال سعد: بلى، والذي أكرمك بالحق! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اسمعوا إلى ما يقول سيدكم". 3324 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله إن وجدت مع امرأتي رجلاً، أأمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ قال: "نعم". 3325 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال سعد بن عبادة: يا رسول الله لو وجدت مع أهلي رجلاً، لم أمسه حتى آتي بأربعة شهداء؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نعم" قال: كلا، والذي بعثك بالحق إن كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اسمعوا إلى ما يقول سيدكم. إنه لغيور. وأنا أغير منه. والله أغير مني". 3326 - عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح عنه. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال "أتعجبون من غيرة سعد؟ فوالله لأنا أغير منه. والله أغير مني. من أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن. ولا شخص أغير من الله. ولا شخص أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث الله المرسلين مبشرين ومنذرين. ولا شخص أحب إليه المدحة من الله. من أجل ذلك وعد الله الجنة".

3327 - - ومثله، لكنه قال: غير مصفح ولم يقل عنه. 3328 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل من بني فزارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي ولدت غلامًا أسود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "هل لك من إبل؟ " قال: نعم. قال "فما ألوانها؟ " قال: حمر. قال "هل فيها من أورق؟ " قال: إن فيها لورقا. قال "فأني أتاها ذلك؟ " قال: عسى أن يكون نزعه عرق. قال "وهذا عسى أن يكون نزعه عرق". 3329 - وفي حديث معمر فقال: يا رسول الله ولدت امرأتي غلامًا أسود. وهو حينئذ يعرض بأن ينفيه. وزاد في آخر الحديث: ولم يرخص له في الانتفاء منه. 3330 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن أعرابيًا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلامًا أسود. وإني أنكرته. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "هل لك من إبل؟ " قال: نعم قال "ما ألوانها؟ " قال: حمر. قال "فهل فيها من أورق؟ " قال: نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فأنى هو؟ " قال: لعله، يا رسول الله يكون نزعه عرق له. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "وهذا لعله يكون نزعه عرق له". -[المعنى العام]- يقول اللَّه تعالى: {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً} [الإسراء: 32]. حقًا إنه دليل الأخلاق الفاسدة، وسلوك الإنسانية الهابطة، واندفاع الطبيعة البهيمية يورث المقت من ذوي النفوس النقية، والبغض من ذوي العفة والمروءة، وهو أسوأ طريق عاقبته السوء في الدنيا، والسوء في الآخرة، أما سوء الدنيا فيتمثل في تطبيق حد الزنا، مائة جلدة وتغريب عام لمن لم

يتزوج، والرجم للمتزوج، مع التشهير والفضيحة، {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} [النور: 2]. هذه الوصمة الكبرى لم تترك للأهواء والاختلافات والتهم، ولم تهمل للألسنة والإشاعات، {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة} [النور: 19] أما عذاب الدنيا فهو حد القذف، ثمانون جلدة، للذين يرمون المحصنات بالزنا، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء، يشهدون بأنهم رأوا بأعينهم عملية الزنا، وتحققوا منها تحقق دخول المرود في المكحلة، وأنى للشهود أن يصلوا إلى ذلك. ليس الجلد فقط للذين يرمون المحصنات، بل خزي في الدنيا يقطع ألسنة السوء قطعًا، يقول الله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا وأولئك هم الفاسقون} [النور: 4]. لكن تطبيق هذا القانون على الزوجين يضر بأخلاقية الحياة الزوجية، فقد يرى الزوج الفاحشة في أهله ولا يستطيع أن يأتي بأربعة شهداء، فإن غلبته العصبية الجاهلية قتل الزوجة وخليلها؟ وإن تغلب عليها ماذا يفعل؟ إن تكلم اعتبر قاذفًا، وقيل له: البينة أو حد في ظهرك؟ وإن سكت سكت على نار تأكل أحشاءه، وعلى غيظ قد يودي بحياته، ووقعت هذه الصورة، ورأى عويمر العجلاني بعينى رأسه رجلاً جاثمًا فوق زوجته يفعل بها الفاحشة، فجرى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتيه؟ ماذا يفعل؟ وخشي صلى الله عليه وسلم أن يفتح هذا الباب للتشهير والإشاعة وإذاعة الفضيحة للمسلمين، وأعداؤهم من اليهود والكافرين والمنافقين حولهم يتربصون بهم، فكره عرض الصورة بهذا العرض، ولم ينزل عليه في مثل هذه الحالة حكم، فصرف الرجل إلى الغد، وفي الغد جاء سعد بن عبادة الأنصاري سيد قومه - وقد سمع بالقصة - جاء يناقش رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول: يا رسول الله، لو وجدت مع امرأتي رجلاً لم أمسه، وأذهب أبحث عن أربعة شهداء؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم. قال: إذن يكون قد قضى حاجته وانصرف؟ كلا. يا رسول الله، والذي بعثك بالحق، لو رأيت رجلاً مع امرأتي لعاجلته بسيفي هذا؟ قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أتسمعون ما يقول سيدكم؟ إنه لغيور غيرة محمودة، وأنا أغير منه، والله أغير منا، ولكن ليس أمامي إلا ما نزل من حكم الله، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا، ولا يمضي زمن كبير حتى يأتي هلال بن أمية، يقول: يا رسول الله، إني وجدت شريك بن سحماء فوق امرأتي. ماذا أفعل؟ ونزل الوحي، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يأخذه من حالة النزول الشديدة. فلما سرى عنه قرأ الآيات: {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين * والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين * ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين * والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين} [النور: 6 - 9]. ودعا الرسول صلى الله عليه وسلم الزوجين، وتلاعنا، وفرق بينهما، وألحق الولد

الذي حملته المرأة بأمه، لا بأبيه، وقضى بعدم التوارث بين الزوجين، وبين الزوج والولد. وعرف هذا القانون في الفقه الإسلامي باللعان. وقانا الله السوء وأهله، إنه سميع مجيب. -[المباحث العربية]- (اللعان) مصدر لاعن، يلاعن، ملاعنة، ولعانًا، ويقال: تلاعن الزوجان، تلاعنًا، والتعنا التعانًا، ويقال للرجل ملاعن، وللمرأة ملاعنة. وأصل اللعن الطرد والإبعاد، وعلاقة اللعان الشرعي باللعان اللغوي واضحة، فالشرعي طرد وإبعاد مخصوص، سواء قلنا: إنه إبعاد عن رحمة الله لأحد المتلاعنين، أو قلنا: إنهما به يبعد كل منهما عن الآخر، على التأبيد، فيحرم النكاح بينهما طول حياتهما، بخلاف الطلاق. واختير لهذا الموضوع لفظ "اللعان" لوروده في الألفاظ المطلوبة على لسان الرجل، إذ يشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، ويقول في الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، أما المرأة فتشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، وتقول في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين. واختير لفظ اللعنة المطلوب على لسان الرجل على لفظ الغضب المطلوب على لسانها لأن جانب الرجل في هذه القضية أقوى من جانبها، فهو الذي يبدأ باللعن قبلها، وهو السابق في الآية عليها، وقد ينفك لعانه عن لعانها، فيلاعن ثم يرجع، أو تعترف، أو تنكص فلا تلاعن، ولا عكس، ولأن الطرد والإبعاد من الزوجية مشترك بينهما، بخلاف غضب الله فسيكون خاصًا بواحد منهما. قال الحافظ ابن حجر: وخصت المرأة في الآية بلفظ الغضب لعظم الذنب بالنسبة لها، لأن الرجل إذا كان كاذبًا لم يصل ذنبه إلى أكثر من القذف، وإن كانت هي كاذبة فذنبها أعظم، لما فيه من تلويث الفراش والتعرض لإلحاق من ليس من الزوج به، فتنتشر المحرمية، وتثبت الولاية والميراث لمن لا يستحقهما. اهـ. وفي هذا الكلام نظر، لأن الرجل إذا كان كاذبًا فقد لوث فراش المرأة الطاهر، وعرض الحمل لعدم إلحاقه بمن يستحق، فيتحول الحرام بالنسبة للولد إلى حلال، والحلال إلى حرام، ويحرم من الولاية والميراث من يستحقهما. ثم اللعن والطرد من رحمة الله غضب، لا ينفك عن غضب اللَّه. (أن عويمرا العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي الأنصاري) "عاصم" ابن عم والد عويمر، وسبب مجيئه إليه وقوله له ما قال أن زوجة عويمر المتهمة هي بنت عاصم. فعند ابن أبي حاتم "المرأة والزوج والخليل ثلاثتهم بنو عم عاصم". (أرأيت يا عاصم) أي أخبرني يا عاصم، ودلالة "أرأيت" على "أخبرني" عن طريق مجازين، الأول في الاستفهام، بإرادة مطلق الطلب من طلب الفهم، والثاني بإرادة الإخبار المتسبب عن الرؤية غالبًا، فآل الأمر إلى طلب الإخبار، المدلول عليه بلفظ أخبرني.

(لو أن رجلاً وجد مع امرأته رجلاً) في هذا الأسلوب كناية، فليس القصد مطلق رجل وإن كان محرمًا، ولا مطلق وجوده معها، بل المراد وجد رجلاً أجنبيًا يزني بها. (أيقتله فتقتلونه؟ ) قصاصًا؟ (أم كيف يفعل؟ ) أمام هذا الوضع المثير للغيرة التي في طبائع البشر، في الرواية الرابعة "كيف يصنع؟ إن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكت سكت على مثل ذلك" وفي الرواية العاشرة "فتكلم جلدتموه؟ أو قتل قتلتموه؟ وإن سكت سكت على غيظ"؟ . (فسل لي عن ذلك يا عاصم) خص عاصمًا بذلك - كما تقدم - لأنه كان كبير قومه، وصهره على ابنته أو ابنة أخيه. وهل كان المسئول عنه قد وقع محققًا عند عويمر؟ فخشي من العقوبة إن صرح به؟ أو كان شكًا متخيلاً عن عويمر، لم يتحقق منه بعد في امرأته؟ أو كان مجرد سؤال ورد على خاطره، دون بواعث من زوجته؟ . (فسأل عاصم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم) صيغة السؤال مذكورة في الرواية الثالثة، وعبر عنه في الرواية الثانية عشرة بعبارة "فقال عاصم بن عدي في ذلك قولاً، ثم انصرف". (فكره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها، حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم) المراد كراهة المسائل التي لا يحتاج إليها، لا سيما ما كان فيه هتك ستر مسلم، أو إشاعة فاحشة، أو تشنيع، وليس المراد المسائل التي يحتاج إليها إذا وقعت، فقد كان المسلمون يسألون عن النوازل، فيجيبهم صلى الله عليه وسلم بغير كراهة. فلما كان في سؤال عاصم شناعة، ويترتب عليه تسليط اليهود والمنافقين على أعراض المسلمين كره مسألته. وربما كان في المسألة تضييق، والأمر بدونها ميسر، كالرجل الذي سأل عن الحج. أهو كل عام؟ وكان صلى الله عليه وسلم يحب التيسير على أمته، فكره السؤال مخافة أن يكون في جواب التشريع تضييقًا. وقال الشافعي: كانت المسائل فيما لم ينزل فيها حكم زمن نزول الوحي ممنوعة، لئلا ينزل الوحي بالتحريم فيما لم يكن قبل ذلك محرمًا، فيحرم. ومعنى "وعابها" أي وبخ سائلها وأنبه، ومعنى "كبر على عاصم" بفتح الكاف وضم الباء، أي عظم واشتد القول على عاصم، لأن الحامل له على السؤال شخص آخر، وتحمل هو الإنكار والتأنيب، ولذلك قال لعويمر حين سأله: لم تأتني بخير. (فقال عويمر: واللَّه لا أنتهي حتى أسأله عنها) الظاهر أن كلام عويمر مع عاصم أولا كان قبل أن يعلم عويمر الفاحشة بيقين، وأن عاصمًا سأل عن الأمر قبل وقوعه، فوقع لعويمر التحقق، فقال لعاصم: "إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به" وأصر على أن يعرف الحكم، فذهب بنفسه يستفتي في اليوم الثاني أو الثالث من سؤال عاصم وكان هلال بن أمية قد سأل بعد عاصم، ونزلت آية اللعان، فلما جاء عويمر قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد نزل فيك وفي صاحبتك" ... إلخ.

(وسط الناس) بفتح السين وسكونها، والقصد أنه لم ينتظر حتى يخلو برسول الله صلى الله عليه وسلم، لشدة غيظه. فالظاهر أن المقصود بفلان ابن فلان في الرواية الرابعة عاصم. وترتيب الأحداث أن عاصمًا سأل، وسكت صلى الله عليه وسلم، فلم يجبه على سؤاله، وإنما أنكر مثل هذه المسائل، فانصرف، وجاء هلال بن أمية، فشكا وسأل، وطلب من الله الفرج، لأنه صرح بالقذف، فكان الحكم البينة أو حد في ظهرك. فنزلت آيات اللعان، فلما كان بعد ذلك أتاه عويمر: يقول: يا رسول الله، ما سألتك عنه عن طريق عاصم قد ابتليت به فكان الله عز وجل أنزل الآيات، فتلاهن عليه. (فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم) في الكلام حذف وطي، حاصله: قال: اذهب فأت بها، فذهب فأتى بها فسألها فأنكرت، فوعظًا، فتلاعنا، زاد في بعض الروايات "في المسجد" وفي رواية "بعد العصر" وفي رواية "بعد العصر عند المنبر". والقائل "وأنا مع الناس" سهل راوي الحديث يشير بذلك إلى أنه حضر القصة، وصرح بذلك في رواية وفيها "قال سهل بن سعد: شهدت المتلاعنين وأنا ابن خمس عشرة سنة" وفي رواية "توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأنا ابن خمس عشرة سنة" مما يدل على أن قصة اللعان كانت في السنة الأخيرة من زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم. (فلما فرغا قال عويمر: كذبت عليها إن أمسكتها) أي لن أبقيها في عصمتي، ولن أقربها، فإن بقيت ظاهرًا لم يطابق الظاهر الواقع، فأكون بيني وبين نفسي كاذبًا عليها، وفي رواية "إن حبستها فقد ظلمتها" فهي طالق ثلاثًا. (فكانت سنة المتلاعنين) قيل: معناه فكانت التطليقات الثلاث بعد اللعان سنة المتلاعنين، وقيل: معناه فكانت الفرقة بين الزوجين بعد اللعان سنة المتلاعنين. وسيأتي مزيد بحث لهذا في فقه الحديث. (سئلت عن المتلاعنين في إمرة مصعب) يعني ابن الزبير، حيث كان أميرًا على العراق، ولم يفرق بين المتلاعنين، كما جاء في الرواية السابعة، وفي الرواية الرابعة في ملحقها عن سعيد بن جبير "سئلت عن المتلاعنين زمن مصعب بن الزبير فرحل سعيد بن جبير من العراق إلى مكة ليستفتي ابن عمر، فأفتى بالتفريق، وطلب من مصعب أن يفرق بينهما. (إنه قائل) أي نائم نوم القيلولة، ما بعد الظهر. (قال: ابن جبير؟ ) الكلام على الاستفهام. أي أأنت ابن جبير؟ . (حسابكما على اللَّه. أحدكما كاذب) فيه تغليب المذكر على المؤنث، قال القاضي: ظاهره أنه قال هذا الكلام بعد فراغهما من اللعان، والمراد أنه يلزم الكاذب التوبة. قال: وقال الداودي: إنما قاله قبل اللعان، تحذيرًا لهما منه. قال: والأول أظهر وأولى بسياق الكلام.

قال الحافظ ابن حجر: وقال عياض وتبعه النووي: في قوله "أحدكما" رد على من قال من النحاة: إن لفظ "أحد" لا يستعمل إلا في النفي، وعلى من قال منهم: لا يستعمل إلا في الوصف، وأنها لا توضع موضع واحد، ولا توقع موقعه، وقد أجازه المبرد، وجاء في هذا الحديث في غير وصف ولا نفي وبمعنى واحد. اهـ. قال الفاكهي: هذا من أعجب ما وقع للقاضي، مع براعته وحذقه، فإن الذي قاله النحاة إنما هو في أحد التي للعموم نحو: ما في الدار من أحد، وما جاءني من أحد، أما "أحد" بمعنى واحد، فلا خلاف في استعمالها في الإثبات نحو {قل هو الله أحد} ونحو {فشهادة أحدهم} ونحو "أحدكما كاذب". (لا سبيل لك عليها) أي لا تسليط لك عليها بعد لعانها، ولا حق لك عليها. (قال: مالي؟ ) الذي دفعته صداقًا؟ كأنه لما سمع "لا سبيل لك عليها" قال: أيذهب مالي؟ فأجيب: (لا مال لك) فقد استوفيته بدخولك عليها، وتمكينها لك نفسها، ثم أوضح ذلك بتقسيم مستوعب، فقال: (إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فذاك أبعد لك منها) لأنه مع الصدق يبعد عليه استحقاق إعادة المال، ففي الكذب أبعد، لئلا يجمع عليها الظلم في عرضها، ومطالبتها بمال، قبضته منه قبضًا صحيحًا تستحقه. (بين أخوي بني العجلان) أي بين الزوجين كليهما من قبيلة بني العجلان، ففي لفظ "أخوي" تغليب، حيث غلب الأخ على الأخت. وقد سبق أن الزوج والزوجة كانا أولاد عم. (وألحق الولد بأمه) وفي رواية "وكان الولد يدعى إلى أمه" أي صيره لها وحدها، ونفاه عن الزوج، فلا توارث بينهما، وأما أمه ترث منه ما فرض الله لها، وقيل: معنى إلحاقه بأمه أنه صيرها له أبًا وأمًا، فترث جميع ماله إذا لم يكن له وارث آخر من ولد ونحوه. (فقال: اللَّهم افتح، وجعل يدعو) معناه اللهم بين لنا الحكم، وقد روى البخاري عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: البينة أو حد في ظهرك. فقال يا رسول الله، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة؟ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: البينة وإلا حد في ظهرك، فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، فلينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد" أي ثم قال: اللهم افتح، وجعل يدعو - فنزل جبريل. (مه) أي اكففي لا تلاعني. (أسود جعدًا) هذا ما في الرواية العاشرة، والظاهر فيها أن الملاعن هلال بن أمية، والمتهم فيها

شريك بن سحماء، وقد وصف هلال في الرواية الحادية عشرة بأنه "أبيض سبط قضيء العينين" ووصف شريك بأنه "أكحل جعد حمش الساقين" والسبط بكسر الباء وإسكانها مسترسل الشعر، ضد الأجعد، وأما "قضيء العينين" "قضيء" على وزن فعيل، آخره همزة، وقضيء العينين فاسدهما بكثرة الدمع أو الحمرة أو غير ذلك. أما شريك بن سحماء فقد وصف بالسواد لونًا، وبأنه "أكحل" أي أسود، أو جيد العينين، شديد سوادهما عكس هلال، يقال: كحلت العين بكسر الحاء، أي اسودت أجفانها خلفه، ووصف بأنه "جعد" أي مكسر الشعر غير مسترسله، ووصف بأنه "حمش الساقين" بفتح الحاء وسكون الميم بعدها شين، أي رقيقهما دقيقهما. فبالمقارنة بين الرجلين يكون هلال أبيض وشريك أسود، وهلال ضعيف العينين وشريك جيد العينين، وهلال مسترسل الشعر ناعمه، وشريك أجعد الشعر خشنه، وهلال غليظ الساقين، وشريك رقيق الساقين. وشريك بن سحماء ليس أخًا البراء بن مالك لأمه، كما ذكرت الرواية الحادية عشرة، فإن أم البراء هي أم أنس بن مالك، وهي أم سليم، ولم تكن سحماء، ولا تسمى سحماء. قال الحافظ ابن حجر: فلعل شريكًا كان أخاه من الرضاعة، وقد وقع عند البيهقي "أن شريكًا كان يأوي إلى منزل هلال" وفي تفسير مقاتل: أن والدة شريك التي يقال لها سحماء كانت حبشية، وقيل: كانت يمانية، وعند الحاكم "كانت أمة سوداء". اهـ. والعجب أن يكون هلال بهذه الصفات من الحسن، وشريك بهذه الصفات من القبح، وتخون زوجة الجميل مع رجل قبيح. أما عويمر فقد وصفته الرواية الثانية عشرة بأنه "مصفر، قليل اللحم، سبط الشعر" أي شديد الصفرة ونحيف الجسم ومسترسل الشعر، وأما الرجل المدعى عليه فوصفته الرواية نفسها بأنه "خدل" بفتح الخاء وإسكان الدال، أي ممتلئ الساقين، أو ممتلئ الأعضاء، أو غليظ العظم واللحم "آدم" أي يميل إلى السواد، "كثيرا اللحم" أي ممتلئ الجسم. ووصف في ملحقها بأنه "جعد قطط" والقطط تفلفل الشعر، وهو بفتح الطاء. قال الحافظ ابن حجر: وعن ابن مردويه في مرسل ابن أبي ليلى "أن الرجل الذي رمى عويمر امرأته به هو شريك بن سحماء" وهو ابن عم عويمر، وعند ابن أبي حاتم "فقال الزوج لعاصم: يا ابن عم. أقسم بالله لقد رأيت شريك بن سحماء على بطنها، وإنها لحبلى، وما قربتها منذ أربعة أشهر" وعند الدارقطني "لا عن بين عويمر العجلاني وامرأته، فأنكر حملها الذي في بطنها، وقال: هو لابن سحماء" قال الحافظ: ولا يمتنع أن يتهم شريك بن سحماء بالمرأتين معًا. اهـ. لكن الأوصاف التي جاءت عن المتهم في قضية عويمر لا تتفق مع أوصاف شريك، فقد وصف بامتلاء الساقين وكثرة اللحم، ووصف شريك برقة الساقين. (تلك امرأة كانت تظهر في الإسلام السوء) أي كانت تظهر الفاحشة وهي مسلمة، وهذا معنى قوله في الرواية الثالثة عشرة "تلك امرأة أعلنت" أي اشتهر وشاع عنها الفاحشة، ولكن لم تثبت عليها، لا بالبينة، ولا بالاعتراف.

(إن كنت لأعاجله بالسيف) "إن" بكسر الهمزة وسكون النون، مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن والقصة، وجملة "كنت ... " خبرها. (لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف، غير مصفح عنه) قال الماوردي وغيره: ليس قول سعد ردًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم، ولا مخالفة من سعد بن عبادة لأمره صلى الله عليه وسلم، وإنما معناه الإخبار عن حالة الإنسان عند رؤيته الرجل عند امرأته، واستيلاء الغضب عليه، فإنه حينئذ يعاجله بالسيف وإن كان عاصيًا. ومعنى "غير مصفح" بكسر الفاء، أي غير ضارب بصفح السيف، وهو جانبه، بل أضر به بحده. (ولا شخص أغير من اللَّه) أي لا أحد، وقيل: معناه لا ينبغي لشخص أن يكون أغير من الله، فإنه لا يعاجلهم بالعقوبة، بل حذرهم وأنذرهم، وكرر ذلك عليهم، وأمهلهم، فكذا ينبغي للعبد ألا يبادر بالقتل وغيره في غير موضعه. (ولا شخص أحب إليه العذر من اللَّه) أي ليس أحد أحب إليه الإعذار من الله، فالعذر هنا بمعنى الإعذار، وقبول العذر، والإنذار قبل الأخذ بالعقوبة. (ولا شخص أحب إليه المدحة من اللَّه) "المدحة" بكسر الميم وسكون الدال المدح بفتح الميم، أي الثناء على الله لهذه الصفات الحسنة الجميلة الكمالية. (جاء رجل) في الرواية التاسعة عشرة "أن أعرابيًا أتى" وعند النسائي "جاء رجل من أهل البادية". قال الحافظ ابن حجر: واسم هذا الأعرابي ضمضم بن قتادة، من بني فزارة. (إن امرأتي ولدت غلامًا أسود) أي وأنا أبيض فكيف يكون مني؟ يعرض بأنه ليس منه، ويعرض بامرأته، ففي الرواية التاسعة عشرة "وإني أنكرته" أي استنكرته بقلبي، ولم يرد أنه أنكر كونه ابنه بلسانه، وإلا كان تصريحًا بالنفي، لا تعريضًا، وفي ملحق الرواية الثامنة عشرة "وهو حينئذ يعرض بأن ينفيه". (قال: حمر) بسكون الميم، وفي رواية "رمك" جمع أرمك، وهو الأبيض إلى حمرة. (هل فيها من أورق؟ قال: إن فيها لورقًا) بضم الواو وسكون الراء، جمع أورق، وهو الذي فيه سواد ليس بحالك، بل يميل إلى الغبرة، ومنه قيل للرماد أورق، وللحمامة ورقاء. (فأنى أتاها ذلك؟ ) أي من أين أتاها اللون الذي خالفها؟ هل هو بسبب فحل من غير لونها طرأ عليها؟ أو لأمر آخر؟ وفي الرواية التاسعة عشرة "فأنى هو"؟ أي فمن أين هو ذلك اللون المغاير؟ . (قال: عسى أن يكون نزعه عرق) المراد بالعرق هنا الأصل من النسب، شبهه بعرق الشجرة وجذرها، ومنه قولهم: فلان عريق في الأصالة، عريق في الكرم، عريق في اللؤم، أي ذو جذور فيه.

ومعنى "نزعه" أشبهه واجتذبه إليه، وأظهر لونه عليه، وأصل النزع الجذب، فكأنه جذبه إليه لشبهه، يقال منه: نزع الولد لأبيه، وإلى أبيه، ونزعه أبوه، ونزعه إليه. -[فقه الحديث]- ألفاظ اللعان صريحة وواضحة في قوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين * والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين * ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين * والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين} والعبارة الكاملة في اللعان أن يقول الزوج: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا. ويقول في الخامسة: وعلي لعنة الله إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به من الزنا، ويشير إليها في كل ذلك. وأن تقول الزوجة: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا، وتقول في الخامسة: وعلي غضب الله إن كان من الصادقين فيما رماني به من الزنا، ولو كان القذف بالزنا ونفي الولد يزيد في صورة اللعان بعد قوله {لمن الصادقين} نفي الولد، فيقول: فيما رميتها به من الزنا، ومن نفي الولد، وتزيد هي بعد "إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا ومن نفي الولد. وعن الشافعي أن الزوج يقول: زوجتي فلانة بنت فلان، ويشير إليها إن كانت حاضرة أربع مرات، ثم يقعده الإمام، ويذكره الله تعالى، فإن رآه يريد أن يمضي أمر من يضع يده على فيه، فإن لم يمتنع تركه يقول الخامسة، ويسمى من قذفها به بعينه، واحدًا أو أكثر في كل شهادة. وقد اختلف العلماء في اللعان. هل هو شهادة؟ أو يمين، فقال الشافعي ومالك والجمهور: إنه يمين. وقال أبو حنيفة وبعض الشافعية: اللعان شهادة مؤكدة بأيمان وقيل: شهادة فيها شائبة يمين، وقيل: يمين فيه شائبة شهادة. واستدل القائلون بأن اللعان أيمان بأن قوله تعالى: {أربع شهادات بالله} محكم في اليمين "بالله"، وبأن المعهود في الشرع عدم قبول شهادة الإنسان لنفسه. بخلاف اليمين. وبأن المعهود شرعًا عدم تكرار الشهادة في موضع، بخلاف اليمين. وبأن اللعان يجري بين من ليسا أهلاً للشهادة كالفاسقين والمحدودين. بخلاف اليمين. وبلفظ رواية البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رجلاً من الأنصار قذف امرأته، فأحلفهما النبي صلى الله عليه وسلم ثم فرق بينهما" فسماه حلفًا. وبلفظ رواية للحاكم "قل: أحلف بالله الذي لا إله إلا هو إني لصادق". واستدل القائلون بأن اللعان شهادات بقوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات ... } وحمل الشهادة هنا على اليمين مجاز، والحمل على الحقيقة أولى.

وبأن جعل "الشهداء" مجازًا عن الحالفين يأباه المعنى، إذ يصير "ولم يكن لهم حالفون إلا أنفسهم" فيفيد أنه إذا لم يكن للذين يرمون أزواجهم من يحلف لهم يحلفون لأنفسهم، وهو غير مستقيم. قال الحافظ ابن حجر: وانبنى على الخلاف أن اللعان يشرع بين كل زوجين، مسلمين أو كافرين، حرين أو عبدين، عدلين أو فاسقين. بناء على أنه يمين، فمن صح يمينه صح لعانه. وقيل: لا يصح اللعان إلا من زوجين حرين مسلمين. لأن اللعان شهادة. والله أعلم. وعن حكم اللعان يقول الحافظ ابن حجر: وأجمعوا على مشروعية اللعان، وعلى أنه لا يجوز مع عدم التحقق، واختلف في وجوبه على الزوج، لكن لو تحقق أن الولد ليس منه قوي الوجوب، قال: وهو ينقسم إلى واجب ومكروه وحرام، فالأول أن يراها تزني، أو أقرت بالزنا فصدقها، وأتت بولد يتحقق أنه ليس منه، والثاني أن يرى أجنبيًا يدخل عليها، بحيث يغلب على ظنه أنه زنى بها، فيجوز له أن يلاعن، الثالث ما عدا ذلك. كذا قال الحافظ ابن حجر، وهو سهو في النوع الثاني، لأن اللعان لا يجوز ولا يشرع إطلاقًا إلا عند التحقق بالإجماع. وقال بعض العلماء: هو مباح ما لم يكن هناك تحقق من نفي الولد، فإن تحقق من نفي الولد وجب عليه هذا النفي، لما في السكوت أو الإقرار من استلحاق نسب ليس منه، وهو حرام، كنفي نسب هو منه، فإن لم يكن نفي ولد كان اللعان مباحًا للزوج، ويجوز له أن يستر عليها ويمسكها، لظاهر ما روي من "أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن امرأتي لا ترد يد لامس؟ قال: طلقها. قال: إني أحبها؟ قال: فأمسكها" كذا قال الألوسي، وعندي أن قوله "لا ترد يد لامس" كناية لا تنحصر في ارتكاب الزنا، بل لا تحمل ابتداء على الزنا، وإلا لكان قاذفًا، وطالبه الرسول صلى الله عليه وسلم بالبينة أو الحد أو اللعان. وعندي أن إمساك من تمارس الزنا، وعدم تطليقها. وعدم لعانها حرام، مادام يعلم فيها ذلك. لكن اللعان حتى في مثل هذه الحالة ليس واجبًا، بل عليه أن يفارقها ولو بالطلاق ونحوه، فملعون من يعلم الفاحشة في أهله ثم يسكت. والأفضل للزوجة التي رماها زوجها بالزنا بينه وبينها ألا تطالب باللعان، وتستر الأمر - حتى ولو كانت بريئة، وللحاكم أن يأمرها بذلك، فإن رفعت أمر القذف إلى القضاء، وأقر به الزوج، أو أقامت الزوجة بينة، شاهدين من الرجال، يشهدان بسماعهما القذف بالزنا، وطلبت اللعان وجب اللعان، فإن امتنع الزوج عن اللعان في هذه الحالة حد حد القذف عند الشافعية، وكذا إذا لاعن الزوج، فامتنعت عن اللعان حدت حد الزنا. وعند الحنفية: تحبس حتى تلاعن أو تصدق. والله أعلم. وعن حكمة مشروعية اللعان أقول: إن الغيرة المشروعة الممدوحة في المؤمن تثير غضبه إذا رأى الفاحشة في أهله، وقد شل الشارع جوارحه عن أن يقتل، فلا أقل من أن يرخص له بالتنفيس عن نفسه باللسان والقذف، وإذا كان قذف الأجنبي والأجنبية يستلزم البينة أو حد القذف، عملاً بقوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} [النور: 4] لأن ثورته على الفاحشة البعيدة عن أهله أقل منها على أهله، كان لا بد من مخرج للخروج من أن يحد حد

القذف، إن هو ثار وقذف، فشرع له أن يشهد أربع شهادات، تقوم مقام أربعة شهود، بالإضافة إلى الخامسة التي تقوم مقام الدعوى، لكن إن قامت هذه الشهادات مقام الشهود في الفرقة وسقوط حقوقها عليه فإنها لا تقوم مقام الشهود في إقامة حد الزنا عليها، فرخص لها أيضًا أن يدرأ عنها العذاب بأن تشهد مثله خمس شهادات. وتظهر حكمة المشروعية هذه في سبب نزول آيات اللعان، سواء كان قصة عويمر وزوجته، كما تشير روايتنا الأولى والرابعة، أو قصة هلال بن أمية وزوجته، كما تشير روايتنا الحادية عشرة، أو سؤال سعد بن عبادة، كما يفهم من روايتنا الرابعة عشرة والخامسة عشرة والسادسة عشرة والسابعة عشرة، أو كل ذلك مجتمعًا. وقد اختلف العلماء في الفرقة باللعان على خمسة أقوال: القول الأول: تحصل الفرقة بنفس لعان الزوج وحده، لأن لعانه سبب في إثبات الزنا عليها، فيستلزم غالبًا انتفاء نسب الولد، فينتفي الفراش، وإذا انتفى الفراش انقطع النكاح، ولعان المرأة إنما شرع لدفع الحد عنها، لقوله تعالى: {ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات ... } وهذا مذهب الشافعي ومن تبعه، وسحنون من المالكية، وتقع الفرقة عندهم على التأبيد. القول الثاني: تحصل الفرقة بنفس لعان كل من الزوج والزوجة، ولا تحتاج لحكم الحاكم، وتقع الفرقة على التأبيد أيضًا. وهذا مذهب مالك وغالب اتباعه. وتظهر فائدة الخلاف بين القولين في التوارث لو مات أحدهما عقب فراغ الزوج من لعانه، وقبل أن تلاعن الزوجة، فلا توارث على المذهب الأول، ويشرع التوارث على المذهب الثاني. القول الثالث: لا تقع الفرقة بلعان الزوجين وحده، حتى يوقعها الحاكم بعد لعانهما، وهذا مذهب الثوري وأبي حنيفة وأتباعهما، واحتجوا بظاهر ما وقع في أحاديث اللعان، في الرواية الرابعة "ثم فرق بينهما" وفي الرواية السادسة والسابعة والثامنة "فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي التاسعة "لاعن ... وفرق بينهما" وتظهر فائدة الخلاف أيضًا بين هذا المذهب والمذهبين السابقين فيما إذا مات أحد الزوجين بعد لعانهما وقبل تفريق الحاكم، وتقع الفرقة على التأبيد أيضًا، لكن إن كذب نفسه بعد اللعان وبعد حكم الحاكم جاز له العودة إليها وتحل له، لزوال المعنى المحرم عند أبي حنيفة ويقع باللعان وحكم الحاكم طلقة واحدة بائنة، ويكون الملاعن خاطبًا من الخطاب، وعن الشعبي والضحاك: إذا أكذب نفسه ردت إليه امرأته ولا تحل له أبدًا عند المالكية والشافعية لعموم قوله في الرواية الخامسة "لا سبيل لك عليها". القول الرابع: أنه لا تقع الفرقة باللعان، حتى يوقعها الزوج، وهذا قول عثمان البتي، ونسب أيضًا إلى أبي الشعثاء جابر بن زيد البصري، أحد أصحاب ابن عباس، من فقهاء التابعين، وحجتهما أن الفرقة لم تذكر في القرآن، ولأن ظاهر الرواية الأولى أن الزوج طلق ابتداء، وكأنه لم تبلغه بقية الأحاديث.

القول الخامس: أن الفرقة تقع بين الزوجين بنفس القذف، ولو لم يقع اللعان، وهو قول أبي عبيد. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - من الرواية الأولى، ومن قوله "أيقتله فتقتلونه" أثير حكم من قتل زانيًا تحقق أنه زنى بامرأته، فقال الجمهور: لا يقبل قوله، بل يلزمه القصاص، إلا أن تقوم بذلك بينة، أو يعترف به ورثة القتيل، والبينة أربعة من عدول الرجال، يشهدون على نفس الزنا، ويكون القتيل محصنًا. وأما فيما بينه وبين الله تعالى: فإن كان صادقًا فلا شيء عليه. قال النووي: وقال بعض أصحابنا: يجب على كل من قتل زانيًا محصنًا القصاص، ما لم يأمر السلطان بقتله، والصواب الأول، وجاء عن بعض السلف تصديقه وعدم القصاص منه. 2 - ومن كراهية رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا السؤال وعيبه، كراهة إشاعة الفاحشة، واستحباب ستر المسلم، وأن للعالم إذا كره السؤال أن يظهر غضبه ويعيبه. 3 - ومن قوله: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم" أن اللعان يكون بحضرة الإمام أو القاضي. 4 - وبمجمع من الناس وأقلهم أربعة، قال النووي: وهذا أحد أنواع تغليظ اللعان، فإنه يغلظ كذلك بالزمان، فيكون بعد العصر، والمكان فيكون في المسجد وفي أشرف مكان في ذلك البلد. قال النووي: وهذه التغليظات قيل: واجبة، وقيل: مستحبة، والأصح عندنا الاستحباب. 5 - من قوله: فطلقها ثلاثًا" استدل بعض الشافعية على أن جمع الطلقات الثلاث بلفظ واحد ليس حرامًا، قال النووي: وموضع الدلالة أنه لم ينكر عليه إطلاق لفظ الثلاث، وقد يعترض على هذا فيقال: إنما لم ينكر عليه لأنه لم يصادف الطلاق محلاً مملوكًا له، ولم يصادف نفوذًا، ويجاب عن هذا الاعتراض بأنه لو كان الثلاث محرمًا لأنكر عليه، وقال له: كيف ترسل لفظ الطلاق الثلاث مع أنه حرام؟ . 6 - استدل به بعضهم على استحباب إظهار الطلاق بعد اللعان، مع أن الفرقة تحصل باللعان. قال النووي: وهذا فاسد، وكيف يستحب للإنسان أن يطلق من صارت أجنبية؟ . 7 - من الزيادة في الرواية الثانية، ومن قوله "فكانت حاملاً إلخ" جواز لعان الحامل قبل الوضع، يؤكد ذلك ما جاء في الرواية العاشرة والحادية عشرة، بلفظ "فلعنت، فلما أدبرا قال: لعلها أن تجيء به ... إلخ" قال الحافظ ابن حجر: وبه قال الجمهور، وحجته أن اللعان شرع لدفع حد القذف عن الرجل، ودفع حد الرجم عن المرأة فلا فرق بين أن تكون حاملاً أو حائلاً، ولذلك يشرع اللعان مع الآيسة. 8 - وأنه إذا لاعنها، ونفى عنه نسب الحمل انتفى عنه. 9 - وأنه يثبت نسبه إلى الأم، لقوله "فكان ابنها يدعى إلى أمه" ويؤكد هذا ما جاء في الرواية الثامنة بلفظ "وألحق الولد بأمه".

10 - وأن ولد الملاعنة يرثها وترث منه ما فرض الله لها، وهو الثلث إن لم يكن للميت ولد ولا ولد ابن، ولا اثنان من الإخوة أو الأخوات، وإن كان شيء من ذلك فلها السدس قال النووي: وقد أجمع العلماء على جريان التوارث بينه وبين أمه، وبينه وبين أصحاب الفروض من جهة أمه، وهم إخوته وأخواته من أمه، وجداته من أمه، ثم إذا دفع إلى أمه فرضها أو إلى أصحاب الفروض، وبقي شيء فهو لموالي أمه إن كان عليها ولاء، فإن لم يكن لها موال فهو لبيت المال. هذا تفصيل مذهب الشافعي، وبه قال الزهري ومالك وأبو ثور، وقال الحكم وحماد: ترثه ورثة أمه، وقال آخرون: عصبته أمه، وروي هذا عن علي وابن مسعود وعطاء وأحمد بن حنبل. وقال أحمد: فإن انفردت الأم أخذت جميع ماله بالعصوبة، وقال أبو حنيفة: إذا انفردت أخذت الجميع، لكن الثلث بالفرض، والباقي بالرد، على قاعدة مذهبه في إثبات الرد. 11 - واستدل به على أن الولد المنفي باللعان لو كان بنتًا حل للملاعن نكاحها. قال الحافظ ابن حجر: وهو وجه شاذ لبعض الشافعية، والأصح كقول الجمهور أنها تحرم عليه، لأنها ربيبته في الجملة. اهـ أي لو بقيت الزوجية وبقيت في حجره. 12 - ومن الرواية الرابعة "من قول سعيد بن جبير: سئلت ... فما دريت ... فمضيت" أن المفتي إذا سئل عن واقعة، ولم يعلم حكمها، ورجا أن يجد فيها نصًا، لا يبادر بالاجتهاد فيها. 13 - وفيه الرحلة في المسألة النازلة. 14 - وإتيان العالم في منزلة، ولو كان في قائلته إذا عرف أنه لا يشق عليه. 15 - وفي مخاطبة سعيد بن جبير لابن عمر بكنيته تعظيم العالم. 16 - وفي حالة ابن عمر دليل زهده وتواضعه. 17 - ومن قول ابن عمر: سبحان الله مشروعية التسبيح عند التعجب. 18 - والإشعار بسعة علم سعيد بن جبير، لأن ابن عمر عجب من خفاء مثل هذا الحكم عليه، ويحتمل أنه تعجب لعلمه بأن الحكم المذكور كان مشهورًا من قبل، فتعجب كيف خفي على بعض الناس؟ . 19 - ومن قوله "فوعظه وذكره ... ثم دعاها فوعظها وذكرها" على أن الإمام يعظ المتلاعنين ويخوفهما من وبال اليمين الكاذبة، وأن الصبر على عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة. 20 - وفي جواب ابن عمر ذكر الدليل عند بيان الحكم. 21 - ومن إصرار عويمر على السؤال بعد علمه بكراهة النبي صلى الله عليه وسلم - في الرواية الأولى - أن المحتاج إلى معرفة الحكم لا يرده كراهة العالم لما سأل عنه، ولا غضبه عليه، ولا جفاؤه له، بل يعاود ملاطفته حتى يقضي حاجته. 22 - ومن سؤاله وسط الناس أن السؤال عما يلزم من أمور الدين مشروع سرًا وجهرًا، ولا عيب على السائل في ذلك، ولو كان مما يستقبح.

23 - ومن الرواية الخامسة، من قوله "لا مال لك ... " دليل على استقرار المهر بالدخول، وهو مجمع عليه. 24 - وعلى ثبوت مهر الملاعنة المدخول بها، وهو مجمع عليه، وأنها لو صدقته، وأقرت بالزنا لم يسقط مهرها. 25 - ومن قوله "أحدكما كاذب" انحصار الحق في أحد الجانبين، عند تعذر الواسطة. 26 - وأن الخصمين المتكاذبين لا يعاقب واحد منهما، وإن علمنا كذب أحدهما على الإبهام. 27 - وأن اللعان إذا وقع سقط حد القذف عن الملاعن، حد قذف المرأة، وحد قذف من رميت به، لأنه صرح باسم من رميت به في بعض الطرق، ولم ينقل أن القاذف حد. قال الداودي: ولم يقل به مالك، لأنه لم يبلغه الحديث، ولو بلغه لقال به، وأجاب بعض من قال يحد من المالكية والحنفية: بأن المقذوف لم يطلب، وهو حقه، فلذلك لم ينقل أن القاذف حد. 28 - واستدل به على أنه لا كفارة في اليمين الغموس، لأنها لو وجبت لبينت في هذه القصة، وتعقب: بأنه لم يتعين الحانث؟ وأجيب: بأنه لو كانت واجبة لبينها جملة، كأن يقول مثلاً: فليكفر الحانث منكما عن يمينه، كما أرشد أحدهما إلى التوبة. 29 - وأن الحكم يتعلق بالظاهر، واللَّه يتولى السرائر. 30 - وفيه ذكر الأوصاف المذمومة عند الضرورة الداعية إلى ذلك، ولا يكون ذلك من الغيبة المحرمة. 31 - ومن المرأة التي أعلنت؛ أنه لا يقام الحد بمجرد الشيوع والقرائن، بل لا بد من بينة أو اعتراف. 32 - ومن حديث غيرة سعد أن الغيرة من صفات الكمال. 33 - ومن الرواية الثامنة عشرة والتاسعة عشرة أن الولد يلحق بالزوج، وإن خالف لونه لونه، حتى ولو كان الولد أسود والأب أبيض أو العكس، ولا يحل للوالد نفيه بمجرد المخالفة في اللون، وكذا لو كان الزوجان أبيضين، فجاء الولد أسود، أو عكسه، لاحتمال أن يكون نزعه عرق من أسلافه. 34 - وأن التعريض بنفي الولد لا يعتبر نفيًا. 35 - وأن التعريض بالقذف ليس قذفًا، وهو مذهب الشافعي وموافقيه. 36 - وفيه إثبات القياس، والاعتبار بالأشباه، وضرب الأمثال. 37 - وفيه الاحتياط للأنساب، وإلحاقها بمجرد الإمكان. 38 - تمسك بالحديث من قال بإلغاء حكم القافة، وتعقب بأن إلغاء حكم الشبه هنا إنما وقع حيث عارضه حكم الظاهر بالشرع، وإنما يعتبر حكم القافة حيث لا يوجد ظاهر يتمسك به، ويقع الاشتباه، فيرجع حينئذ إلى القافة. واللَّه أعلم

كتاب العتق

كتاب العتق

(402) باب عتق الشركاء، والولاء، وفضل العتق

(402) باب عتق الشركاء، والولاء، وفضل العتق 3331 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أعتق شركًا له في عبد، فكان له مال يبلغ ثمن العبد، قوم عليه قيمة العدل، فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق". 3332 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: في المملوك بين الرجلين فيعتق أحدهما قال "يضمن". 3333 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من أعتق شقصًا له في عبد، فخلاصه في ماله إن كان له مال. فإن لم يكن له مال، استسعي العبد غير مشقوق عليه". 3334 - وزاد في رواية "إن لم يكن له مال قوم عليه العبد قيمة عدل. ثم يستسعى في نصيب الذي لم يعتق. غير مشقوق عليه". 3335 - - وفي رواية بمعنى حديث ابن أبي عروبة وذكر في الحديث: قوم عليه قيمة عدل. 3336 - عن عائشة رضي الله عنها أنها أرادت أن تشتري جارية تعتقها. فقال أهلها: نبيعكها على أن ولاءها لنا. فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "لا يمنعك ذلك. فإنما الولاء لمن أعتق".

3337 - عن عائشة رضي الله عنها: أن بريرة جاءت عائشة تستعينها في كتابتها. ولم تكن قضت من كتابتها شيئًا. فقالت لها عائشة: ارجعي إلى أهلك. فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك، ويكون ولاؤك لي، فعلت. فذكرت ذلك بريرة لأهلها. فأبوا. وقالوا: إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل. ويكون لنا ولاؤك. فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم "ابتاعي فأعتقي. فإنما الولاء لمن أعتق" ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "ما بال أناس يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله؟ من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله، فليس له، وإن شرط مائة مرة. شرط الله أحق وأوثق". 3337 - عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنها قالت: جاءت بريرة إلي. فقالت: يا عائشة إني كاتبت أهلي على تسع أواق. في كل عام أوقية. بمعنى حديث الليث. وزاد: فقال "لا يمنعك ذلك منها. ابتاعي وأعتقي". وقال في الحديث: ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال "أما بعد". 3339 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت علي بريرة فقالت: إن أهلي كاتبوني على تسع أواق في تسع سنين. في كل سنة أوقية. فأعينيني. فقلت لها: إن شاء أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة، وأعتقك، ويكون الولاء لي، فعلت. فذكرت ذلك لأهلها. فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم. فأتتني فذكرت ذلك. قالت: فانتهرتها. فقالت: لا ها الله إذا. قالت: فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألني فأخبرته. فقال "اشتريها واعتقيها. واشترطي لهم الولاء. فإن الولاء لمن أعتق" ففعلت. قالت: ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية. فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله. ثم قال "أما بعد. فما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله؟ ما كان من شرط ليس في كتاب الله عز وجل فهو باطل. وإن كان مائة شرط. كتاب الله أحق. وشرط الله أوثق. ما بال رجال منكم يقول أحدهم: أعتق فلانًا والولاء لي. إنما الولاء لمن أعتق".

3340 - وفي رواية قال: وكان زوجها عبدًا فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختارت نفسها. ولو كان حرًا لم يخيرها. وليس في حديثهم. "أما بعد". 3341 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان في بريرة ثلاث قضيات: أراد أهلها أن يبيعوها ويشترطوا ولاءها. فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم. فقال "اشتريها واعتقيها. فإن الولاء لمن أعتق" قالت: وعتقت. فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فاختارت نفسها. قالت: وكان الناس يتصدقون عليها وتهدي لنا. فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال "هو عليها صدقة. وهو لكم هدية فكلوه". 3342 - عن عائشة رضي الله عنها أنها اشترت بريرة من أناس من الأنصار. واشترطوا الولاء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الولاء لمن ولي النعمة" وخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان زوجها عبدًا. وأهدت لعائشة لحمًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لو صنعتم لنا من هذا اللحم؟ " قالت عائشة: تصدق به على بريرة. فقال "هو لها صدقة ولنا هدية". 3343 - عن عائشة رضي الله عنها أنها أرادت أن تشتري بريرة للعتق. فاشترطوا ولاءها. فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال "اشتريها واعتقيها. فإن الولاء لمن أعتق". وأهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم لحم. فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: هذا تصدق به على بريرة. فقال "هو لها صدقة. وهو لنا هدية". وخيرت. فقال عبد الرحمن: وكان زوجها حرًا. قال شعبة: ثم سألته عن زوجها؟ فقال: لا أدري. 3344 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان زوج بريرة عبدًا.

3345 - عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها أنها قالت: كان في بريرة ثلاث سنن: خيرت على زوجها حين عتقت. وأهدي لها لحم فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم والبرمة على النار. فدعا بطعام. فأتي بخبز وأدم من أدم البيت. فقال "ألم أر برمة على النار فيها لحم؟ " فقالوا: بلى يا رسول الله ذلك لحم تصدق به على بريرة. فكرهنا أن نطعمك منه. فقال "هو عليها صدقة وهو منها لنا هدية" وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيها "إنما الولاء لمن أعتق". 3346 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أرادت عائشة أن تشتري جارية تعتقها. فأبى أهلها إلا أن يكون لهم الولاء. فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال "لا يمنعك ذلك. فإنما الولاء لمن أعتق". 3347 - عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وعن هبته. 3348 - - وفي رواية لم يذكر كلمة "إلا البيع" ولم يذكر: الهبة. 3349 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كتب النبي صلى الله عليه وسلم على كل بطن عقوله. ثم كتب "أنه لا يحل لمسلم أن يتوالى مولى رجل مسلم بغير إذنه" ثم أخبرت؛ أنه لعن في صحيفته من فعل ذلك. 3350 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من تولى قومًا بغير إذن مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة. لا يقبل منه عدل ولا صرف".

3351 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من تولى قومًا بغير إذن مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه، يوم القيامة، عدل ولا صرف". 3352 - - وفي رواية بمثله غير أنه قال "ومن والى غير مواليه بغير إذنهم". 3353 - عن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال: خطبنا علي بن أبي طالب فقال: من زعم أن عندنا شيئًا نقرؤه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة. (قال: وصحيفة معلقة في قراب سيفه" فقد كذب. فيها أسنان الإبل. وأشياء من الجراحات. وفيها قال النبي صلى الله عليه وسلم "المدينة حرم ما بين عير إلى ثور. فمن أحدث فيها حدثًا أو آوى محدثًا. فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا يقبل الله منه، يوم القيامة، صرفًا ولا عدلاً. وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم. ومن ادعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا يقبل الله منه، يوم القيامة، صرفًا ولا عدلاً". 3354 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من أعتق رقبة مؤمنة، أعتق الله، بكل إرب منها، إربًا منه من النار". 3355 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من أعتق رقبة، أعتق الله بكل عضو منها، عضوًا من أعضائه من النار. حتى فرجه بفرجه". 3356 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من أعتق رقبة مؤمنة، أعتق الله بكل عضو منه، عضوًا من النار. حتى يعتق فرجه بفرجه". 3357 - عن سعيد بن مرجانة (صاحب علي بن حسين) قال: سمعت أبا هريرة

يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أيما امرئ مسلم أعتق امرأ مسلمًا، استنقذ الله، بكل عضو منه، عضوًا منه من النار" قال: فانطلقت حين سمعت الحديث من أبي هريرة. فذكرته لعلي بن الحسين. فأعتق عبدًا له قد أعطاه به ابن جعفر عشرة آلاف درهم، أو ألف دينار. 3358 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يجزي ولد والدًا إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه". وفي رواية ابن أبي شيبة "ولد والده". -[المعنى العام]- استعباد الإنسان للإنسان قديم قدم الزمان، باق ما بقي الدهر، في صور شتى، ليس البيع والشراء والتملك إلا صورة من صوره، وويل للضعيف من القوي، وللفقير من الغني، وللوضيع من الرفيع، وللذليل من العزيز. جاء الإسلام والمجتمعات البشرية طبقات، طبقة السادة والأكرمين، وطبقة العبيد والمستضعفين، فنادى {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات: 13]، "لا فضل لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى" "كلكم لآدم وآدم من تراب". جاء الإسلام والعبودية منتشرة، والإماء والعبيد في كل بيت، ومصادر التملك كثيرة، الغارات التي تغيرها قبيلة على قبيلة، فيغنم الغالب أموال المغلوب، ويسبي ذراريه ونساءه، ويبيعها في الأسواق بيع الإبل والأغنام. ولا تكاد تنجو قبيلة من الإغارة، حيث قال شاعرهم: وأحيانًا على بكر أخينا ... إذا ما لم نجد إلا أخانا وكانت السواحل المفتوحة، والبلاد البعيدة مرتعًا للخاطفين، يخطفون الأطفال والصبية منها، ثم يبيعونها، بل كان بعض الآباء يبيعون أبناءهم وبناتهم من ضيق العيش. فماذا فعل الإسلام؟ . أغلق هذه المنافذ جميعًا، وسد تلك الروافد كلها، ولم يبق مصدرًا للرق إلا عن طريق حرب المسلمين مع الكافرين كضرورة لا تقل في أهميتها عن القتل والقتال من أجل الدعوة، ومعاملة من المسلمين بمثل ما يعاملهم به الكافرون، ومع ذلك قال {فإذا لقيتم

الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء} [محمد: 4] هذا من حيث مصادر الرق، أما من حيث استمرارية الرق فقد ضرب الإسلام المثل الأعلى في الحرص على حرية الرقيق، وفتح أبوابًا عديدة لعتقه، فجعله في مقدمة الكفارات، كفارة القتل، وكفارة الظهار، وكفارة الإفطار بالجماع في نهار رمضان، وكفارة اليمين، وجعل تحرير العبد منقذًا لسيده من النار {وما أدراك ما العقبة} [البلد: 12] التي تحول بين الإنسان وبين الجنة {فك رقبة} فمن أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو عضوًا من أعضائه من النار، "وأي امرئ مسلم يعتق امرأ مسلمًا إلا استنقذ الله بكل عضو منه مثله من النار، حتى فرجه بفرجه" هذا الترغيب الفريد في العتق حرر الآلاف من العبيد، حرصًا من مالكيهم على إنقاذ أنفسهم من النار، وفوزهم بالجنة والنعيم المقيم. وقد بلغ تشوف الإسلام لتحرير الرقيق مبلغًا عجيبًا، فقد جعل الهزل في لفظ العتق جدًا، فمن قال: عبدي حر، عتق العبد وإن كان السيد قد قال ذلك مزاحًا، وجعل الشريك في عبد إذا أعتق نصيبه عتق العبد جميعه، والتزم المعتق بإعطاء الشريك قيمة نصيبه. ورغب في مكاتبة الرقيق، وتمكينه من السعي والعمل لسداد قيمة الكتابة، وحث على مساعدة المكاتب ليحرر رقبته {والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} [النور: 33] وربط الإسلام بين المعتق والرقيق عند تحريره برباط الولاء، كأن العتيق ابنًا للمعتق، يرثه ويرثه، ويرعى كل منهما الآخر، ويعتز كل منهما بالآخر، وعلى العتيق أن يحفظ للمعتق فضله حيث تفضل عليه بالحرية، فعليه أن ينتمي وينتسب إليه، فمن انتسب إلى غير معتقه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. أما معاملة الأسياد المسلمين لعبيدهم فقد وضع الإسلام قواعدها بما لم يسبق له مثيل في تاريخ الإنسانية حيث يقول صلى الله عليه وسلم "إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يطعم، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم من العمل ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم" حتى رأينا أبا ذر الغفاري يشتري الثوب ثوبين من نوع واحد، ولون واحد، يلبس هو حلة، ويلبس عبده حلة مماثلة، وحتى رأينا كثيرًا من العبيد يتمنون أن يظلوا عبيدًا، ويفضلون البقاء في العبودية عن الحرية من حسن معاملة الأسياد وقصة زيد بن حارثة في ذلك مشهورة، فأنعم بالإسلام نصيرًا وحاميًا للضعفاء. -[المباحث العربية]- (من أعتق شركًا له في عبد) يقال: عتق العبد، بفتح العين والتاء، فعل لازم، ولا يعرف "عتق" بضم العين، وإنما يقال للمتعدي: أعتق بالهمزة، فيقال: عتق العبد يعتق العبد - أي يقوم به العتق، عتقًا بكسر العين وفتحها، وعتاقًا، وعتاقة، وعبد عتيق، وأمة عتيق وعتيقة، وعبيد عتقاء، وإماء عتائق، وأعتق السيد عبده، فالسيد معتق بضم الميم وكسر التاء والعبد معتق بضم الميم وفتح التاء.

والمراد من العتق هنا الحرية، وأصله من قولهم: عتق الفرس إذا سبق ونجا، وعتق الفرخ طار واستقل، وأطلق على الحرية عتق لأن العبد يتخلص بالعتق ويذهب حيث يشاء. وإنما قيل لمن أعتق إنسانًا أنه أعتق رقبة، وفك رقبة، فخصت الرقبة دون سائر الأعضاء، مع أن العتق يتناول جميع الأعضاء، لأن حكم اليد عليه، وملكه له: كحبل في رقبة العبد، وكالغل المانع له من الخروج، فإذا أعتق فكأنه أطلقت رقبته من ذلك، وهو مجاز مرسل، من إطلاق الجزء وإرادة الكل. و"شركًا" بكسر الشين وسكون الراء أصله مصدر أطلق على العبد المشترك، أو الجزء المشترك، أي نصيبًا وجزءًا، وفي الرواية الثالثة "من أعتق شقصًا له في عبد" والشقص بكسر الشين وسكون القاف هو النصيب والجزء ويطلق على القليل والكثير، وفي رواية للبخاري "من أعتق نصيبًا له في مملوك" ويقال له: الشقيص بالتصغير. و"العبد" اسم للمملوك الذكر بأصل وضعه، والأمة اسم لمؤنثه من غير لفظه، ولم يفرق الجمهور في هذا الحكم بين الذكر والأنثى، فهو هنا يشمل الأمة، إما باعتبار أن المراد بالعبد الجنس، وإما على طريق الإلحاق لعدم الفارق، وعند الدارقطني "من كان له شرط في عبد أو أمة". (فكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة العدل، فأعطى شركاؤه حصصهم، وعتق عليه العبد) في الرواية الثانية "في المملوك بين الرجلين" وذكر الرجلين كالمثال، فلا فرق بين أن يكون بين رجلين أو امرأتين أو ثلاثة أو عشرة، "فيعتق" - بضم الياء "أحدهما" - أي نصيبة -؟ "قال: يضمن" أي يضمن هذا المعتق نصيب الشركاء. وفي الرواية الثالثة "من أعتق شقصًا له في عبد فخلاصه في ماله إن كان له مال" وفي رواية للبخاري "من أعتق شركًا له في مملوك فعليه عتقه كله، إن كان له مال يبلغ ثمنه، فإن لم يكن له مال" يبلغ ثمنه، لكن يبلغ بعض الثمن "يقوم عليه قيمة عدل، فأعتق منه ما أعتق" أي أعتق منه ما أمكن. وفي رواية للبخاري "فكان له من المال ما يبلغ قيمته بقيمة العدل فهو عتيق" وفي البخاري أيضًا "وكان ابن عمر يقول: قد وجب عليه عتقه كله، إذا كان للذي أعتق من المال ما يبلغ قيمة العدل، ويدفع إلى الشركاء أنصباءهم، ويخلي سبيل المعتق، يخبر ذلك ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم". والمراد بقيمة العدل القيمة التي يراها العدل، دون زيادة ولا نقصان، زاد في رواية النسائي "لا وكس ولا شطط" والوكس النقص، والشطط الجور. وقوله "فأعطى شركاؤه حصصهم" ببناء الفعل للمجهول، و"شركاؤه" نائب فاعل، وحصصهم مفعول، أي قيمة حصصهم. (وإلا فقد عتق منه ما عتق) بفتح العين فيهما، أي وإن لم يكن له مال قام العتق بالجزء الذي قام به من المعتق. وفي الرواية الثالثة "فإن لم يكن له مال استسعى العبد غير مشقوق عليه" "استسعى" بالبناء

للمجهول، أي طلب من العبد السعي لسداد قيمة ما بقي، أي يكلف الاكتساب والطلب حتى يحصل قيمة نصيب الشريك الآخر، فإذا دفعها إليه عتق، وقيل: المراد بالاستسعاء هو أن يخدم سيده الذي لم يعتق بقدر ما له فيه من الرق. ومعنى "غير مشقوق عليه" أي لا يكلف ما يشق عليه. وفي ملحق الرواية الثالثة "إن لم يكن له مال قوم عليه العبد قيمة العدل، ثم يستسعى" هكذا هو في الرواية وظاهرها أن التقويم يشرع في حق من لم يكن له مال، وليس كذلك، اللهم إلا أن يقال: إن التقويم عليه حينئذ ليعرف الباقي الذي يستسعى العبد لأجله. (أنها أرادت أن تشتري جارية تعتقها) بضم تاء "تعتقها" وظاهرها أن هذه الإرادة سابقة على عرض بريرة على عائشة أن تساعدها، ويمكن أن تكون مرتبة على طلب بريرة المساعدة، وهو الذي ينسجم مع بقية الروايات، فالمراد من الجارية بريرة. وفي الرواية الخامسة "أن بريرة جاءت عائشة، تستعينها في كتابتها، ولم تكن قضت من كتابتها شيئًا، فقالت لها عائشة: ارجعي إلى أهلك، فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك، ويكون ولاؤك لي فعلت" وفي الرواية السادسة "عن عائشة: جاءت بريرة إلي، فقالت: يا عائشة، إني كاتبت أهلي على تسع أواق، في كل عام أوقية" وفي الرواية السابعة عن عائشة قالت: "دخلت علي بريرة فقالت: إن أهلي كاتبوني على تسع أواق، في تسع سنين، في كل سنة أوقية، فأعينيني، فقلت لها: إن شاء أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة، وأعتقك، ويكون الولاء لي فعلت" أي أدفعها لهم دفعة واحدة، لا على أقساط. وهدف عائشة من شراء جارية وعتقها قد يكون كفارة عن يمين، أو وفاء بنذر، أو تقربًا إلى الله تعالى لاقتحام العقبة. (فقال أهلها) أي مالكوها، وفي الكلام طي، والتقدير: أرادت أن تشتري بريرة، فقالت لها: ارجعي إلى أهلك، فقولي لهم كذا وكذا، فرجعت إلى أهلها، فذكرت ذلك لهم، فقالوا (نبيعكها على أن ولاءها لنا) الولاء بفتح الواو، والمراد منه هنا استحقاق السيد المعتق الميراث ممن كان عبده وأعتق، وسبب هذا الاستحقاق شبهه بالنسب، فمن أعتق كمن ولد، وكما ينسب الولد إلى من ولد، ينسب العتق لمن أعتق. وهذا معنى "الولاء لمن أعتق" وفي الرواية الخامسة "فأبوا" أي أبى أهلها أن يبيعوها لعائشة على أن يكون الولاء لعائشة، "وقالوا: إن شاءت" عائشة "أن تحتسب عليك" بالشراء والعتق وقد تحتسب ثوابها عند الله "فلتفعل، ويكون لنا ولاؤك" وفي الرواية السابعة "فأبوا" بيعها لعائشة "إلا أن يكون الولاء لهم" وفي الرواية الثامنة "أراد أهلها أن يبيعوها ويشترطوا ولاءها" وفي الرواية العاشرة "فاشترطوا ولاءها" وفي الرواية السابعة "فأتتني، فذكرت ذلك". قالت "عائشة: فانتهرتها" أي بالغت في زجرها وإضرابها، لما سمعت من قولهم، فتنصلت بريرة من مسئولية هذا القول، "فقالت: لا" أي لا تزجروني، فلا شأن لي بهذا القول، ولا ذنب لي فيه "هاالله إذا" أي هذا - والله - الذي حصل منهم. قال النووي عن هذا التركيب: فقالت: لا.

هاالله ذلك، وفي بعض النسخ "لا. هاء الله إذا" وهو كذلك في روايات المحدثين، بمد قوله "هاء" وبالهمزة في "إذا" قال المازري وغيره من أهل العربية: هذان لحنان، وصوابه "لا. ها الله ذا" بالقصر في "ها" وحذف الألف من "إذا" قالوا: وما سواه خطأ، قالوا: ومعناه: ذا يميني. قال أبو حاتم السجستاني: معناه: لا. والله هذا ما أقسم به. فأدخل اسم الله تعالى بين "ها" و"ذا". (قالت: فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألني، فأخبرته) في الرواية الخامسة والثامنة فذكرت ذلك فيما بيني وبينها ما أراد أهلها، فانتهرتها، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما شأن بريرة؟ . (فقال: لا يمنعك ذلك) أي لا يمنعك من شرائها وعتقها ذلك الشرط الذي يشترطونه، وفي الرواية السابعة "فقال: اشتريها، واعتقيها، واشترطي لهم الولاء" أي واقبلي شرطهم، فإنه شرط لاغ، لا قيمة له، وفي ملحق الرواية السادسة "لا يمنعك ذلك" الشرط "منها" أي من شرائها "ابتاعي" أي اشتري "وأعتقي". (فإنما الولاء لمن أعتق) "إنما" أداة حصر، أي الولاء مقصور على من أعتق، لا يتعداه إلى البائعين، وفي الرواية التاسعة "الولاء لمن ولي النعمة" أي لمن باشر وعالج نعمة العتق. (ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي قام يخطب في الناس، وفي الرواية السابعة "ففعلت" أي اشتريت، وعتقت "ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية". (ما بال أناس يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟ ) البال الحال والشأن، وجملة "يشترطون شروطًا ... إلخ صفة "أناس" والاستفهام إنكاري توبيخي. أي ما كان ينبغي لأناس أن يشترطوا شروطًا ليست في كتاب الله. يقصد شرط البائع أن يكون الولاء له. والمراد بما ليس في كتاب الله ما خالف كتاب الله، وقال ابن بطال: المراد من كتاب الله هنا حكمه، من كتابه أو سنة رسوله أو إجماع الأمة، وقال ابن خزيمة: "ليس في كتاب الله" أي ليس في حكم الله جوازه، وقال القرطبي: "ليس في كتاب الله" أي ليس مشروعًا في كتاب الله، تأصيلاً، ولا تفصيلاً. (من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فليس له) في الرواية السابعة "فهو باطل". (وإن شرط مائة شرط) في الرواية السابعة "وإن كان مائة شرط" وفي رواية البخاري "وإن شرط مائة مرة" قال النووي: معناه أنه لو شرط مائة مرة توكيدًا لشرطه فهو باطل وإنما حمله على التأكيد لأن العموم في قوله "كل شرط" دال على بطلان جميع الشروط المذكورة، فلا حاجة إلى تقييدها بالمائة فإنها لو زادت على المائة كان الحكم كذلك، لما دلت عليها الصيغة، وقيل ذكر المائة على سبيل المبالغة، أي خرج مخرج التكثير، يعني أن الشروط غير المشروعة باطلة ولو كثرت. (شرط الله أحق وأوثق) أي أحق بالاتباع من الشروط المخالفة، وأقوى، وأفعل التفضيل هنا

على غير بابه، إذ ليس هناك مشاركة بين الحق والباطل، فهو من قبيل قولنا: العسل أحلى من المر. وفي الرواية السابعة "كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق" وفي رواية للبخاري "فقضاء الله أحق، وشرط الله أوثق". (في كل سنة وقية) قال النووي: وقع في جميع النسخ "وقية" بدون ألف في الرواية الثانية - أي في الرواية السابقة - ووقع في الرواية الأولى - أي السادسة - "في كل عام أوقية" بالألف، وفي بعض النسخ بدونها، وكلاهما صحيح، وهما لغتان، إثبات الألف أفصح، والأوقية الحجازية أربعون درهمًا. (وكان زوجها عبدًا، فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاختارت نفسها، ولو كان حرًا لم يخيرها) في الرواية العاشرة "قال عبد الرحمن بن القاسم: وكان زوجها حرًا. قال شعبة: ثم سألته عن زوجها - أي أكان حرًا أم عبدًا؟ - فقال: لا أدري" قال النووي: قال الحافظ: رواية من روى أنه كان حرًا غلط وشاذة مردودة، لمخالفتها روايات الثقات. وحكم التخيير سيأتي في فقه الحديث. وكان هذا التخيير عقب عتقها، ففي الرواية الثامنة "وعتقت فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاختارت نفسها" أي خيرها بين أن تبقى تحت زوجها العبد، وبين أن ينفسخ نكاحها، فاختارت فسخ النكاح. وفي الرواية الثانية عشرة "خيرت على زوجها حين عتقت". واسم زوجها هذا مغيث وكان عبدًا أسود، وكان يحب بريرة حبًا غالبًا، جعله يتبعها في شوارع المدينة، وهو يبكي، ودموعه تسيل على لحيته، يترضاها، ويرجوها أن تعود إليه، بعد أن اختارت نفسها، وفسخ زواجها، حتى قال صلى الله عليه وسلم لعمه العباس: يا عباس، ألا تعجب من حب مغيث بريرة؟ ومن بغض بريرة مغيثًا؟ وحتى قال لها صلى الله عليه وسلم: لو راجعتيه؟ قالت: يا رسول الله، تأمرني؟ قال: لا. إنما أنا أشفع. قالت: لا حاجة لي فيه. لو أعطاني كذا وكذا ما قبلت أن أكون عنده. خدمت بريرة عائشة قبل أن تعتق، وشهدت لعائشة خيرًا في حديث الإفك، ويبدو أن أهلها مالكيها أذنوا لها بخدمتها، بأجر أو بدون أجر، وشراء عائشة لها وعتقها كان في السنة التاسعة، وعاشت إلى خلافة معاوية. (كان في بريرة ثلاث قضيات) جمع قضية، وفي الرواية الثانية عشرة "ثلاث سنن" جمع سنة، أي ثلاثة أحاديث تشريعية، أي كان بسببها ثلاثة أحكام. الولاء لمن أعتق، وتخيير الأمة إذا أعتقت وهي تحت عبد، والصدقة على موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وستأتي هذه القضايا في فقه الحديث. (لو صنعتم لنا من هذا اللحم) طعامًا؟ "لو" للتمني، أو شرطية جوابها محذوف، أي لكان خيرًا. والرواية الثانية عشرة توضح الصورة أكثر، ولفظها "وأهدي لها لحم، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والبرمة على النار" رأى فيها لحمًا، وهي مكشوفة، فرأى اللحم، "فدعا بطعام، فأتى بخبز وأدم" - بضم

الهمزة وسكون الدال - "من أدم البيت" بضم الهمزة وضم الدال، والأدم بضم الهمزة وسكون الدال الإدام بكسرها، وهو ما يستمرأ به الخبز من نحو ملح وخل وجبن "فقال: ألم أر برمة على النار، فيها لحم؟ فقالوا: بلى، يا رسول الله ذلك لحم تصدق به على بريرة"؟ أي وآل محمد لا تحل لهم الصدقات "فكرهنا أن نطعمك منه، فقال: هو عليها صدقة، وهو منها لنا هدية" "لو صنعتم لنا من هذا اللحم طعامًا؟ " ويحتمل أن يكون هذا القول صدر منه صلى الله عليه وسلم بعد قوله "ألم أر برمة على النار فيها لحم"؟ "لو صنعتم لنا من هذا اللحم طعامًا؟ " فقالوا ... إلخ وهذا هو الظاهر من الرواية التاسعة. (نهى عن بيع الولاء، وعن هبته) الولاء لحمة كلحمة النسب، حق ثابت لمن أعتق، وكما لا يجوز التنازل أو بيع النسب، أو هبته، لا يجوز التنازل عن الولاء أو بيعه أو هبته. (كتب النبي صلى الله عليه وسلم على كل بطن عقوله) بضم العين وضم القاف، ونصب اللام، مفعول "كتب" والهاء ضمير البطن، والعقول الديات، جمع عقل، والمعنى على كل بطن أن يتحملوا الديات، إذا وقع من أحدهم القتل الخطأ والعاقلة هم الذين يدفعون الديات، وهم العصبات، الآباء وإن علوا، والأبناء وإن سفلوا. والعاقلة جمع عاقل، وهو دافع الدية، لأنهم كانوا يعقلون الإبل على باب ولي المقتول، ثم كثر الاستعمال حتى أطلق العقل على الدية، ولو لم تكن إبلاً. ومعنى "كتب" أثبت وأوجب، والبطن دون القبيلة، والفخذ دون البطن. (لا يحل لمسلم أن يتوالى مولى رجل مسلم بغير إذنه) أي لا يحل لمسلم أن يقبل ولاء هو حق لغيره، وأن ينسب إلى نفسه مولى رجل مسلم، فهذا النهي للأسياد الذين يقبلون انتماء الموالي إليهم، وهم ليسوا أصحاب الولاء، أما الرواية السادسة عشرة فهي نهي للموالي أن يتولوا وينتسبوا إلى غير من أعتقهم، ولفظها "من تولى قومًا بغير إذن مواليه" والسبب أن الولاء كالنسب، فيحرم تضييعه، كما يحرم تضييع النسب، ويشترك في الحرمة العتيق الذي ينتمي إلى غير معتقه، والسيد الذي يقبل هذا الانتماء. وقيد "بغير إذنه" قيد لبيان الغالب والكثير وليس للاحتراز عند جمهور العلماء، فهو نظير قوله تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق} [الأنعام: 151] والهاء في "بغير إذنه" للمعتق. (لعن في صحيفته) المراد منها كتابه صلى الله عليه وسلم إلى البطون. (ولا يقبل منه عدل ولا صرف) قال الحافظ ابن حجر: اختلف في تفسيرهما، فعند الجمهور الصرف الفريضة، والعدل النافلة، وعن الحسن البصري بالعكس، وعن الأصمعي الصرف التوبة، والعدل الفدية، وقيل: الصرف الدية، والعدل الزيادة عليها، وقيل بالعكس وقيل: الصرف الوزن، والعدل الكيل، وقيل: الصرف الشفاعة، والعدل الفدية، وقيل: الصرف الرشوة، والعدل الكفيل. ثم قال: قال عياض: معناه لا يقبل قبول رضا، وإن قبل قبول جزاء. (من زعم أن عندنا شيئًا نقرؤه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة ... فقد كذب) أي من زعم

أن عندنا شيئًا مكتوبًا اختصصنا به عن الناس فقد كذب، وسبب قول علي هذا أن عليًا كان يأمر بالأمر، فيقال له: قد فعلناه. فيقول: صدق الله ورسوله، فقال له الأشتر: إن هذا الذي تقول. أهو شيء عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما عهد إلي شيئًا خاصة، دون الناس، إلا شيئًا سمعته منه، فهو في صحيفة، قراب سيفي. فلم يزالوا به حتى أخرج الصحيفة، فإذا فيها. (أسنان الإبل، وأشياء من الجراحات) المراد أسنان الإبل المتعلقة بالخراج، أو المتعلقة بالزكاة، أو ما هو أعم، والمراد من الجراحات القصاص فيها أو أرشها. (المدينة حرم، ما بين عير إلى ثور) "عير" بفتح العين وإسكان الياء، جبل معروف بالمدينة، أما "ثور" بفتح الثاء وإسكان الواو فهو جبل معروف في مكة، وغير معروف بهذا الاسم في المدينة، ولذا قال المحدثون إن الرواية "ما بين عير وأحد" قال النووي: يحتمل أن ثورًا كان اسمًا لجبل هناك، إما أحد، وإما غيره فخفي اسمه. اهـ. ومعنى "المدينة حرم" أي يحرم تنفير صيدها، وقطع شجرها. (فمن أحدث فيها حدثًا، أو آوى محدثًا) أي من أتي فيها إثمًا، أو آوى من أتاه، وحماه، فعليه لعنة اللَّه .. إلخ ولفظ "آوى" بالقصر والمد في الفعل اللازم والمتعدي جميعًا لكن القصر في اللازم أشهر وأفصح. (فعليه لعنة اللَّه) اللعن في اللغة الطرد والإبعاد، والمراد المبالغة في إبعاده عن رحمة الله تعالى، وعن الجنة في أول الأمر، فهو إبعاد مؤقت، والجملة خبرية لفظًا ومعنى. (وذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم) الذمة هنا الأمان، والمعنى أن أمان المسلمين للكافر صحيح، فإن أمنه أحد المسلمين حرم على غيره التعرض له، ما دام في أمان المسلم، يستوي في ذلك عظيمهم وحقيرهم ذكرهم وأنثاهم، حرهم وعبدهم. وللأمان شروط معروفة في كتب الفقه. (من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل إرب منها إربًا منه من النار) الإرب بكسر الهمزة وسكون الراء العضو، وفي الرواية المتممة للعشرين "أعتق الله بكل عضو منها عضوًا من أعضائه من النار حتى يعتق فرجه بفرجه" وفي الرواية الواحدة والعشرين "أعتق الله بكل عضو منه - أي من العتيق - عضوًا من النار، حتى يعتق فرجه بفرجه" وفي الرواية الثانية والعشرين "استنقذ الله بكل عضو منه مثله من النار" وقيد "مؤمنة" قيل: للاحتراز، وقيل: لا. وسيأتي في فقه الحديث. (قال سعيد فانطلقت ... فذكرته لعلي بن الحسين) سعيد بن مرجانة كان منقطعًا إلى علي بن الحسين ملازمًا له في غدواته وروحاته، فعرف بصحبته، وعلي بن الحسين هو علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب. زاد أحمد "فقال علي بن الحسين: أنت سمعت هذا من أبي هريرة؟ فقال: نعم: (فأعتق عبدًا له، قد أعطاه به ابن جعفر عشرة آلاف درهم، أو ألف دينار) المراد من "ابن جعفر" عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وهو ابن عم والد علي بن الحسين. وفي

التعبير بالدراهم والدنانير إشارة إلى أن الدينار إذ ذاك كان بعشرة دراهم. والمقصود من ذكر هذه القيمة رفع شأن الرقبة التي حررت، وأفضل الرقاب عند العتق أعلاها ثمنًا وأنفسها عند أهلها. (لا يجزي ولد والدًا) "لا يجزي" بفتح الياء، أي لا يكافئه على إحسانه، وقضاء حقه، إلا أن يعتقه. وعتق الأقارب إذا ملكوا سيأتي في فقه الحديث. -[فقه الحديث]- في هذه المجموعة من الأحاديث ثلاث قضايا رئيسية: 1 - عتق العبد المشترك بين مالكين. 2 - ولاء العتيق [الولاء لمن أعتق - بيع الولاء وهبته - تولى العتيق غير مواليه]. 3 - فضل العتق. فالقضية الأولى: تتمثل في الأحاديث الثلاثة الأولى، وعنها يقول النووي: في هذا الحديث أن من أعتق نصيبه من عبد مشترك، قوم عليه باقيه، إذا كان موسرًا، بقيمة عدل، سواء كان العبد مسلمًا أو كافرًا، وسواء كان الشريك مسلمًا أو كافرًا، وسواء كان العتيق عبدًا أو أمة، ولا خيار للشريك في هذا، ولا للعبد، ولا للمعتق، بل ينفذ هذا الحكم، وإن كرهه كلهم، مراعاة لحق الله تعالى في الحرية، وأجمع العلماء على أن نصيب العتق يعتق بنفس الإعتاق، إلا ما حكاه القاضي عن ربيعة أنه قال: لا يعتق نصيب المعتق، موسرًا كان أو معسرًا، وهذا مذهب باطل، مخالف للأحاديث الصحيحة كلها والإجماع. وأما نصيب الشريك أو الشركاء فاختلفوا في حكمه إذا كان المعتق موسرًا على ستة مذاهب: أحدها: وهو الصحيح في مذهب الشافعي، وبه قال ابن شبرمة والأوزاعي والثوري وابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل وإسحق وبعض المالكية، أنه عتق بنفس الإعتاق، أي عتق العبد كله بنفس إعتاق جزئه - ويقوم عليه نصيب شريكه بقيمته يوم الإعتاق، ويكون ولاء جميعه للمعتق، وحكمه من حين الإعتاق حكم الأحرار في الميراث وغيره، وليس للشريك إلا المطالبة بقيمة نصيبه كما لو قتله. قال هؤلاء: ولو أعسر المعتق بعد ذلك استمر نفوذ العتق، وكانت القيمة دينًا في ذمته، ولو مات أخذت من تركته، فإن لم تكن له تركة ضاعت القيمة، واستمر عتق جميعه، قالوا: ولو أعتق الشريك نصيبه بعد إعتاق الأول نصيبه كان إعتاقه لغوًا، لأنه قد صار كله حرًا - بإعتاق الأول. المذهب الثاني: أنه لا يعتق إلا بدفع القيمة، وهو المشهور من مذهب مالك، وبه قال أهل الظاهر، وهو قول الشافعي. المذهب الثالث: مذهب أبي حنيفة. للشريك الخيار، إن شاء استسعى في نصف قيمته، وإن شاء

أعتق نصيبه، والولاء بينهما، وإن شاء قوم نصيبه على شريكه المعتق ثم قبضه ثم يرجع المعتق بما دفع إلى شريكه يرجع على العبد، يستسعيه في ذلك، والولاء كله للمعتق. قال: والعبد في مدة الكتابة بمنزلة المكاتب في كل أحكامه. المذهب الرابع مذهب عثمان الليثي: لا شيء على المعتق، إلا أن تكون جارية رائعة الجمال، تراد للوطء، فيضمن ما أدخل على شريكه فيها من الضرر. المذهب الخامس: حكاه ابن سيرين أن القيمة في بيت المال. المذهب السادس: محكي عن إسحق بن راهويه: أن هذا الحكم للعبيد دون الإماء. قال النووي: وهذا القول شاذ مخالف للعلماء كافة. والأقوال الثلاثة قبله فاسدة مخالفة لصريح الأحاديث، فهي مردودة على قائليها. هذا كله فيما إذا كان المعتق لنصيبه موسرًا، فأما إذا كان معسرًا حال الإعتاق ففيه أربعة مذاهب: أحدها: مذهب مالك والشافعي وأحمد وأبي عبيد وموافقيهم: ينفذ العتق في نصيب المعتق فقط ولا يطالب السيد المعتق بشيء، ولا يستسعى العبد، بل يبقى نصيب الشريك رقيقًا، كما كان، وبهذا قال جمهور علماء الحجاز، لحديث ابن عمر [روايتنا الأولى]. المذهب الثاني: مذهب ابن شبرمة والأوزاعي وأبي حنيفة وابن أبي ليلى وسائر الكوفيين وإسحق: يستسعى العبد في حصة الشريك، واختلف هؤلاء في رجوع العبد بما أدى في سعايته على معتقه، فقال ابن أبي ليلى: يرجع به عليه، وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يرجع، ثم هو عند أبي حنيفة في مدة السعاية بمنزلة المكاتب، وعند الآخرين: هو حر بالسراية. المذهب الثالث: مذهب زفر وبعض البصريين: أنه يقوم على المعتق، ويؤدي القيمة إذا أيسر. المذهب الرابع: حكاه القاضي عن بعض العلماء: أنه لو كان المعتق معسرًا بطل عتقه في نصيبه أيضًا، فيبقى العبد كله رقيقًا، كما كان. قال النووي: وهذا مذهب باطل. ثم قال: أما إذا ملك الإنسان عبدًا بكماله، فأعتق بعضه، فيعتق كله في الحال، بغير استسعاء. هذا مذهب الشافعي ومالك وأحمد والعلماء كافة وانفرد أبو حنيفة فقال: يستسعى في بقيته لمولاه، وخالفه أصحابه في ذلك، فقالوا بقول الجمهور. وقال أهل الظاهر: إن للرجل أن يعتق من عبده ما شاء. والقضية الثانية: قضية الولاء - وتتمثل في الأحاديث من الرواية الرابعة وحتى الرواية الثالثة عشرة، ويتبعها الروايات الرابعة عشرة والخامسة عشرة والسادسة عشرة والسابعة عشرة والثامنة عشرة. وفي هذه المجموعة أحكام كثيرة، وقواعد جمة، ومواضع تشعبت فيها المذاهب نعرضها أخذًا من كلام النووي وغيره.

الموضع الأول: بيع المكاتب وظاهر الرواية الخامسة والسادسة والسابعة أن بريرة كانت قد كاتبها أهلها ثم باعوها، واشترتها عائشة، وأقر النبي صلى الله عليه وسلم هذا البيع فاحتج بهذا طائفة من العلماء على أنه يجوز بيع المكاتب إذا رضي بذلك، ولو لم يعجز نفسه، ومن جوزه عطاء والنخعي وأحمد ومالك في رواية عنه. وقال ابن مسعود وربيعة وأبو حنيفة والشافعي في أصح القولين وبعض المالكية ومالك في رواية عنه: لا يجوز بيع المكاتب، وأجابوا عن قصة بريرة بأنها عجزت نفسها، وفسخوا كتابتها قبل بيعها، ورد هذا الجواب ابن عبد البر، فقال: ليس في شيء من طرق حديث بريرة أنها عجزت عن أداء النجم، ولا أخبرت بأنه قد حل عليها شيء، ولم يرد في شيء من طرقه استفصال النبي صلى الله عليه وسلم لها عن شيء من ذلك. وأول بعضهم قولها في الرواية السادسة "إني كاتبت أهلي" وفي السابعة "إن أهلي كاتبوني" فقال معناه: راودتهم على مكاتبتي، وراودوني، واتفقت معهم على هذا القدر، ولم يقع العقد بعد، ولذلك بيعت فلا حجة فيه على بيع المكاتب مطلقًا. قال الحافظ ابن حجر: وهو خلاف ظاهر سياق الحديث. وقال بعض المالكية إن الذي اشترته عائشة كتابة بريرة، لا رقبتها، ولا حجة فيه على جواز بيع المكاتب، ورد هذا بأنه لو كان كذلك لكان المعتقون لها أهلها، وكان اللوم على عائشة، بطلبها ولاء من أعتقها غيرها والروايات صريحة في أن عائشة أرادت أن تشتري جارية شراء صحيحًا، تمتلكها بموجبه وتعتقها. وقال بعض العلماء: إنما يجوز بيع المكاتب بشرط العتق، وهو أصح القولين عند الشافعية والمالكية وعند الحنفية يبطل. الموضع الثاني: ما يجوز من الشروط، وما لا يجوز. قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم [في الرواية السابعة] "ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل" صريح في إبطال كل شرط ليس له أصل في كتاب الله تعالى. قال العلماء: الشرط في البيع ونحوه أقسام: أحدها شرط يقتضيه العقد، كأن شرط تسليمه إلى المشتري، أو تبقية التمر على الشجر إلى أوان الجداد، أو الرد بالعيب. الثاني: شرط فيه مصلحة، وتدعو إليه الحاجة، كاشتراط الرهن، والضامن، والخيار وتأجيل الثمن، ونحو ذلك. الثالث: اشتراط العتق في العبد المبيع أو الأمة، وهذا جائز أيضًا عند الجمهور لحديث عائشة ترغيبًا في العتق، لقوته وسرايته. الرابع: ما سوى ذلك من الشروط، كشرط استثناء منفعة، وشرط أن يبيعه شيئًا آخر أو يكريه داره، أو نحو ذلك. فهذا شر باطل مبطل للعقد، هكذا قال الجمهور وقال أحمد: لا يبطله شرط واحد، وإنما يبطله شرطان. اهـ.

وقد استشكل على قول الجمهور أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أعلم الناس بأن اشتراط البائع الولاء باطل. فكيف صدر منه الإذن في البيع على شرط فاسد؟ حيث قال في الرواية السابعة "اشتريها واعتقيها، واشترطي لهم الولاء، فإن الولاء لمن أعتق"؟ وقد أجيب عن هذا الإشكال بأجوبة. منها: (أ) إنكار الشرط وتضعيف الرواية. أشار إلى ذلك الشافعي في الأم. ورد بأن الحديث متفق على صحته فلا وجه لرده. (ب) زعم الطحاوي أن المزني حدثه به عن الشافعي بلفظ "وأشرطي" بهمزة قطع، ثم وجهه بأن معناه أظهري لهم حكم الولاء، والإشراط الإظهار، ورد بأن هذه الرواية منكرة، فلا يعتد بها. (ج) حكى الطحاوي أيضًا أن اللام في قوله "واشترطي لهم الولاء" بمعنى "على" كقوله تعالى {وإن أسأتم فلها} [الإسراء: 7] فالمعنى: اشترطي عليهم الولاء، ليكون لك. قال النووي: تأويل اللام بمعنى "على" هنا ضعيف، لأنه صلى الله عليه وسلم أنكر الاشتراط، ولو كانت بمعنى "على" لم ينكره. (د) قال بعضهم: إن الأمر في قوله "اشترطي" للإباحة، وهو على جهة التنبيه على أن ذلك لا ينفعهم، فوجوده وعدمه سواء، وكأنه يقول: اشترطي أو لا تشترطي، فذلك لا يفيدهم، ويقوي هذا التأويل قوله في إحدى الروايات عند البخاري "اشتريها ودعيهم يشترطون ما شاءوا". (هـ) قال بعضهم: الأمر في قوله "اشترطي" مراد به التهديد على ما يؤول إليه الحال، كقوله {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله} [التوبة: 105] وكقول موسى {ألقوا ما أنتم ملقون} [الشعراء: 43] أي فليس ذلك بنافعكم، وكأنه يقول اشترطي لهم، فسيعلمون أن ذلك لا ينفعهم، يريد بذلك توبيخهم، مشيرًا إلى أنه قد تقدم منه بيان حكم الله بإبطاله، إذ لو لم يتقدم بيان ذلك لبدأ بيان الحكم في الخطبة، لا بتوبيخ الفاعل. (و) قال النووي: أقوى الأجوبة أن هذا الحكم خاص بعائشة في هذه القضية، وأن سببه المبالغة في الرجوع عن هذا الشرط، لمخالفته حكم الشرع، وهو كفسخ الحج إلى العمرة، إذ كان خاصًا بتلك الحجة مبالغة في إزالة ما كانوا عليه من منع العمرة في أشهر الحج وتعقب بأنه استدلال بمختلف فيه على مختلف فيه، وتعقبه ابن دقيق العيد بأن التخصيص لا يثبت إلا بدليل، ولأن الشافعي نص على خلاف هذه المقالة. (ز) وقال ابن الجوزي: ليس في الحديث أن اشتراط الولاء والعتق كان مقارنًا للعقد، فيحمل على أنه كان سابقًا للعقد، فيكون الأمر بقوله "اشترطي" مجرد وعد، ولا يجب الوفاء به. وتعقب باستبعاد أنه صلى الله عليه وسلم يأمر شخصًا بأن يعد، مع علمه بأنه لا يفي بذلك الوعد. (ح) وأغرب ابن حزم، فقال: كان الحكم ثابتًا بجواز اشتراط الولاء لغير المعتق، فوقع الأمر

باشتراطه في الوقت الذي كان جائزًا فيه، ثم نسخ ذلك الحكم بخطبته صلى الله عليه وسلم، وبقوله "إنما الولاء لمن أعتق". قال الحافظ ابن حجر: ولا يخفى بعد ما قال، وسياق طرق هذا الحديث تدفع هذا الجواب. وخير الأجوبة ما ذكرناه في الفقرة (د) قال الخطابي موضحًا ومؤيدًا: وجه هذا الحديث أن الولاء لما كان لحمة كلحمة النسب، والإنسان إذا ولد له ولد ثبت له نسبه، ولا ينتقل نسبه عنه ولو نسب إلى غيره، فكذلك إذا أعتق عبدًا ثبت له ولاؤه؛ ولو أراد نقل ولائه عنه أو أذن في نقله عنه لم ينتقل، فلم يعبأ باشتراطهم الولاء، وقال: اشترطي ودعيهم يشترطون ما شاءوا لأن ذلك غير قادح في العقد بل هو بمنزلة اللغو من الكلام، وأخر إعلامهم بذلك ليكون رده وإبطاله قولاً شهيرًا، يخطب به على المنبر ظاهرًا، إذ هو أبلغ في النكير، وأوكد في التعبير. الموضع الثالث: الولاء لمن أعتق. قال النووي: أجمع المسلمون على ثبوت الولاء لمن أعتق عبده أو أمته عن نفسه، وأنه يرث بالولاء، وأما العتيق فلا يرث سيده عند الجماهير، وقال جماعة من التابعين: يرثه كعكسه. اهـ. قال ابن بطال: هذا الحديث يقتضي أن الولاء لكل معتق، سواء كان ذكرًا أو أنثى. وهو مجمع عليه، أما جر الولاء وميراثه فقال الأبهري لا خلاف بين الفقهاء في أنه ليس للنساء من الولاء إلا ما أعتقن أو أولاد من أعتقن. وقال مسروق: لا يختص الذكور بولاء من أعتق آباؤهم، بل الذكور والإناث فيه سواء، كالميراث. وقال ابن حجر: العبارة السليمة أن يقال: ليس للنساء من الولاء إلا ما أعتق، أو جره إليهن من أعتقن بولادة أو عتق، والحجة للجمهور اتفاق الصحابة، ومن حيث النظر أن المرأة لا تستوعب المال بالفرض، الذي هو آكد من التعصيب، فاختص بالولاء من يستوعب المال، وهو الذكر، وإنما ورثن من عتقن لأنه عن مباشرة، لا عن جر الإرث. واستدل بقول في الرواية التاسعة "الولاء لمن ولى النعمة" وبقوله في رواية البخاري "الولاء لمن أعطى الورق، وولى النعمة" على أن المراد بقوله "لمن أعتق" أي لمن كان مالكًا لمن أعتق حين العتق، لا من باشر العتق ولو بوصية أو بوكالة. والله أعلم. الموضع الرابع: بيع الولاء وهبته، ولفظ الرواية الرابعة عشرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء، وعن هبته" ويقول النووي: فيه تحريم بيع الولاء وهبته وأنهما لا يصحان، وأنه لا ينتقل الولاء عن مستحقه، بل هو لحمة كلحمة النسب، وبهذا قال جماهير العلماء من السلف والخلف، وأجاز بعض السلف نقله، ولعلهم لم يبلغهم الحديث. اهـ. والموضع الخامس: تولى العتيق غير مواليه، ولا يتم هذا إلا بأمرين، الأول: رغبة العتيق وحرصه على أن ينتمي إلى غير معتقه، وأن ينتسب إلى غير من له الولاء. الأمر الثاني: رضا الولي المستعار بهذا الانتماء، وقبوله لهذا الانتساب. أما الأمر الأول فتقول عنه الرواية السادسة عشرة والسابعة عشرة "من تولى قومًا بغير إذن مواليه

فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه يوم القيامة عدل ولا صرف" وتقول عنه الرواية الثامنة عشرة "ومن ادعي إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفًا ولا عدلاً". وأما الأمر الثاني فتقول عنه الرواية الخامسة عشرة "لا يحل لمسلم أن يتوالى مولى رجل مسلم بغير إذنه" يقول الراوي: ثم أخبرت "أنه لعن في صحيفته من فعل ذلك". وقد روى أحمد والطبراني عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن لله عبادًا لا يكلمهم الله تعال ... " الحديث وفيه "ورجل أنعم عليه قوم، فكفر نعمتهم، وتبرأ منهم". والحكمة في تحريم ذلك ما فيه من كفر النعمة، وتضييع حق الإرث بالولاء، والعقل، وغير ذلك. أما قيد "بغير إذن مواليه" الوارد في بعض الروايات فقد شذ عطاء بن أبي رباح بالأخذ بمفهوم هذا القيد، وقال: إن أذن الرجل لمولاه أن يوالي من شاء جاز، واستدل بهذا الحديث قال ابن بطال: وجماعة الفقهاء على خلاف ما قال عطاء. قال الحافظ ابن حجر: وانعقد الإجماع على خلاف هذا القول. قال ابن بطال: وفي الحديث أنه لا يجوز للعتيق أن يكتب: فلان ابن فلان، ويسمي نفسه ومولاه الذي أعتقه، بل يقول: فلان مولى فلان، ولكن يجوز أن ينتسب إلى نسب الذي أعتقه، كالقرشي وغيره، والأولى أن يفصح بذلك أيضًا، كأن يقول: القرشي بالولاء، أو مولاهم. -[ويؤخذ من مجموعة هذه الأحاديث]- 1 - من قوله "إنما الولاء لمن أعتق" من منطوقه إثبات الولاء لمن أعتق سائبة - أي العبد يقول له سيده: لا ولاء لأحد عليك، أو أنت سائبة، أو أعتقتك سائبة، أو أنت حر سائبة. وقد اختلف في هذا الشرط، والجمهور على كراهته، وشذ من قال بإباحته، واختلف في ولائه، والجمهور على أن ولاءه لمن أعتق، ففي البخاري عن هزيل قال: "جاء رجل إلى عبد الله بن عمر، فقال: إني أعتقت عبدًا لي سائبة، فمات، فترك مالاً، ولم يدع وارثًا؟ فقال عبد الله: أنت ولي نعمته، فلك ميراثه، فإن تأثمت - أي خشيت أن تقع في الإثم - أو تحرجت في شيء فنحن نقبله، ونجعله في بيت المال". وبهذا الحكم في السائبة قال الحسن البصري وابن سيرين والشافعي. وقال عطاء: إذا لم يخلف السائبة وارثًا دعي الذي أعتقه، فإن قبل ماله، وإلا ابتيعت به رقاب فأعتقت. وفيه مذهب آخر أن ولاءه للمسلمين، يرثونه ويعقلون عنه. قال عمر بن عبد العزيز والزهري، وهو قول مالك. قال ابن المنذر: واتباع ظاهر قوله "الولاء لمن أعتق" أولى. اهـ.

2 - ومن منطوق العبارة أيضًا ثبوت الولاء للمسلم على الكافر، وعكسه، وإن لم يتوارثا ما دام الدين مختلفًا. 3 - ومن مفهوم قوله "إنما الولاء لمن أعتق" أنه لا ولاء لملتقط، لأن كلمة "إنما" للحصر، وهو إثبات الحكم للمذكور، ونفيه عما عداه، والجمهور على أن اللقيط حر، وولاؤه في بيت المال، لأن الحديث يقتضي أن من لم يعتق لا ولاء له، لأن العتق يستدعي سبق مالك، واللقيط من دار الإسلام لا يملكه الملتقط، لأن الأصل في الناس الحرية، إذ لا يخلو المنبوذ أن يكون ابن حرة، فلا يسترق، أو ابن أمة قوم فميراثه لهم، فإذا جهل وضع في بيت المال، ولا رق عليه للذي التقطه. وجاء عن النخعي وإسحاق بن راهويه أن ولاء اللقيط للذي التقطه، واحتج بقول عمر لأبي جميلة في الذي التقطه: "اذهب فهو حر، وعلينا نفقته، ولك ولاؤه" وأجاب الحافظ ابن حجر: بأن معنى قول عمر: "لك ولاؤه" أي أنت الذي تتولى تربيته، والقيام بأمره، فهي ولاية الإسلام، وليست ولاية العتق. وجاء عن علي أن اللقيط مولى من يشاؤه ويختاره إلى أن يغفل عنه، فلا ينتقل بعد ذلك عن العاقلة التي عقلت عنه. وبه قال الحنفية. ومفهوم الحديث يؤيد قول الجمهور. 4 - ومن مفهوم قوله "إنما الولاء لمن أعتق" أيضًا أنه لا ولاء لمن أسلم على يديه، بهذا قال مالك والأوزاعي والثوري والشافعي وأحمد وداود وجماهير العلماء. وقال ربيعة والليث وأبو حنيفة وأصحابه: من أسلم على يديه رجل فولاؤه له. 5 - ومن مفهوم قوله "إنما الولاء لمن أعتق" أيضًا أنه لا ولاء لمن حالف إنسانًا على المناصرة وبه قال الجمهور، وقال أبو حنيفة يثبت الولاء بالحلف، ويتوارثان به. 6 - ومن قصة بريرة جواز الكتابة. 7 - وجواز فسخ الكتابة إذا عجز المكاتب نفسه، واحتج به طائفة لجواز بيع المكاتب، كما سبق. 8 - وجواز كتابة الأمة، ككتابة العبد. 9 - وجواز كتابة المزوجة، ولو لم يأذن الزوج، وأنه ليس له منعها من كتابتها، ولو كانت تؤدي إلى فراقها منه، كما أنه ليس للعبد المتزوج منع السيد من عتق أمته التي تحته، وإن أدى ذلك إلى بطلان نكاحها. 10 - وجواز كتابة من لا حرفة له وفاقًا للجمهور واختلف عن مالك وأحمد، وذلك أن بريرة جاءت تستعين على كتابتها، ولم تكن قضت منها شيئًا. 11 - وجواز سعي المكاتب في حال الكتابة، وتمكين السيد له من ذلك، بشرط حل جهة الكسب. 12 - وفيه البيان بأن النهي الوارد عن كسب الأمة محمول على من لا يعرف وجه كسبها، أو محمول على غير المكاتبة.

13 - وأن للمكاتب أن يسأل من حين الكتابة، ولا يشترط في ذلك عجزه، خلافًا لمن شرطه. 14 - وجواز السؤال لمن احتاج إليه، من دين أو غرم أو نحو ذلك. 15 - وأنه لا بأس بتعجيل مال الكتابة. 16 - وأن الكتابة تكون على نجوم وأقساط، لقولها في الرواية السادسة والسابعة أنها كاتبت أهلها على تسع أواق، في تسع سنين، في كل سنة أوقية ومذهب الشافعي أنها لا يجوز على نجم واحد، بل لا بد من نجمين فصاعدًا. وقال مالك والجمهور: تجوز على نجوم وعلى نجم واحد. 17 - أن المكاتب لا يصير حرًا بنفس الكتابة، بل هو عبد ما بقي عليه درهم، وبهذا قال الشافعي ومالك وجماهير العلماء، وحكى القاضي عن بعض السلف أنه يصير حرًا بنفس الكتابة، ويثبت المال في ذمته، ولا يرجع إلى الرق أبدًا، وعن بعضهم أنه إذا أدى نصف المال صار حرًا، ويصير الباقي دينًا عليه، وقيل: إذا أدى الثلث، وقيل: إذا أدى ثلاثة أرباع المال. 18 - إعانة المكاتب في كتابته، ولو بالصدقة، وعند المالكية رواية أنه لا تجزئ عن الفرض. 19 - المساومة في البيع. 20 - جواز تصرف المرأة في مالها، بالشراء والإعتاق وغيره، إذا كانت رشيدة، ولو كانت متزوجة بغير إذن زوجها خلافًا لمن منع ذلك. 21 - وأن العبد إذا أذن له سيده بالتجارة جاز تصرفه. 22 - وأن بيع الأمة المزوجة ليس بطلاق، ولا ينفسخ به النكاح، وبه قال جماهير العلماء، وقال سعيد بن المسيب: هو طلاق، وعن ابن عباس أنه ينفسخ به النكاح، وحديث بريرة يرد المذهبين، لأنها خيرت في بقائها معه. 23 - وأنه لا بأس لمن أراد أن يشتري للعتق أن يظهر ذلك لأصحاب الرقبة، ليتساهلوا له في الثمن، ولا يعد ذلك رياء. 24 - وأن المراد بالخير في قوله تعالى: {إن علمتم فيهم خيرًا} [النور: 33] القدرة على الكسب. 25 - وجواز التأقيت في الديون، في كل شهر مثلاً كذا، من غير بيان أوله أو وسطه، ولا يكون ذلك مجهولاً، لأنه يتبين الحلول بانقضاء الشهر. قاله ابن عبد البر، وتعقب بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن السلف إلا إلى أجل معلوم، ويحمل أن الراوي قصر في بيان تعيين الوقت من العام، حيث قال: "في كل عام أوقية" أي في غرته مثلاً. 26 - وجواز البيع على شرط العتق، بخلاف البيع بشرط أن لا يبيعه لغيره، ولا يهبه مثلاً. 27 - وفيه جواز مناجاة المرأة دون زوجها سرًا، إذا كان المناجي ممن يؤمن. 28 - وأن الرجل إذا رأى شاهد الحال يقتضي السؤال عن ذلك، سأل وأعان.

29 - وأنه لا بأس للحاكم أن يحكم لزوجته، ويشهد. 30 - وفيه قبول خبر الواحد، ولو كانت أمه، ويؤخذ منه حكم العبد من باب أولى. 31 - وأن اكتساب المكاتب له، لا لسيده. 32 - قبول هدية الفقير والمعتق. 33 - جواز الصدقة على موالي قريش. 34 - تحريم الصدقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال النووي: ومذهبنا أنه كان تحرم عليه صدقة الفرض بلا خلاف، وكذا صدقة التطوع على الأصح. 35 - أن الصدقة لا تحرم على قريش، غير بني هاشم وبني المطلب، لأن عائشة قرشية، وقبلت ذلك اللحم من بريرة على أن له حكم الصدقة، وأنها حلال لها، دون النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينكر عليها النبي صلى الله عليه وسلم هذا الاعتقاد. كذا قال النووي، وهو غير ظاهر، بل قوله في الرواية الثامنة "وهو لكم هدية، فكلوه" يبعد ذلك. 36 - جواز خدمة العتيق لمعتقه برضاه، فقد ظلت بريرة بعد العتق تخدم عائشة. 37 - أنه يستحب للإمام عند وقوع بدعة. أو أمر يحتاج إلى بيانه أن يخطب الناس، ويبين لهم حكم ذلك، وينكر على من ارتكب ما يخالف الشرع. 38 - استعمال الأدب والستر عند الإنكار، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: ما بال أقوام ... ولم يواجه صاحب الخطأ. 39 - أنه يستحب في الخطبة أن يقول بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة والسلام على رسوله "أما بعد". 40 - من قوله "هو لها صدقة، ولنا هدية" أن الصفة إذا تغيرت تغير حكمها، فيجوز للغني شراءها من الفقير، وأكل الهاشمي لها إذا أهداها إليه. 41 - جواز الشفاعة من الحاكم إلى المحكوم له للمحكوم عليه. وهذا مأخوذ من رواية للبخاري في قصة بريرة. 42 - وجواز الشفاعة إلى المرأة للبقاء مع زوجها. وهذا أيضًا مأخوذ من رواية للبخاري. 43 - تخيير الأمة إذا أعتقت تحت عبد قال النووي: وأجمعت الأمة إذا أعتقت كلها تحت زوجها وهو عبد كان لها الخيار في فسخ النكاح، فإن كان حرًا فلا خيار لها عند مالك والشافعي والجمهور وقال أبو حنيفة: لها الخيار، واحتج بالرواية العاشرة، وفيها أن زوجها كان حرًا، واحتج الجمهور بأن القضية واحدة، والروايات المشهورة أن زوجها كان عبدًا، بل من قال: كان حرًا قال حين سئل: لا أدري. ويؤيد قول الجمهور قول عائشة في ملحق الرواية السابعة "ولو كان حرًا لم

يخيرها". قال النووي: وفي هذا الكلام دليلان. أحدهما: إخبارها أنه كان عبدًا، وهي صاحبة القضية، والثاني قولها: لو كان حرًا لم يخيرها، ومثل هذا لا يكاد أحد يقوله إلا توقيفًا، ولأن الأصل في النكاح اللزوم، ولا طريق إلى فسخه إلا بالشرع، وثبت الفسخ بالشرع في العبد، فبقي الحر على الأصل، ولأنه لا ضرر ولا عار عليها وهي حرة في المقام تحت حر، وإنما يكون ذلك إذا قامت تحت عبد. والله أعلم. قال ابن بطال: أكثر الناس في تخريج الوجوه في حديث بريرة، حتى بلغوها مائة وجه. وقال الحافظ ابن حجر: وقد بلغ بعض المتأخرين الفوائد من حديث بريرة إلى أربعمائة، أكثرها مستبعد، متكلف. والله أعلم. أما القضية الثالثة: وهي فضل العتق فتتناولها الروايات التاسعة عشرة والمتممة للعشرين والواحدة والعشرون والثانية والعشرون والثالثة والعشرون. وعنها يقول النووي: في هذه الأحاديث بيان فضل العتق، وأنه من أفضل الأعمال، ومما يحصل به العتق من النار، ودخول الجنة، وفيها استحباب عتق كامل الأعضاء، فلا يكون خصيًا، ولا فاقد عضو من أعضائه، وفي الخصي وغيره أيضًا الفضل العظيم، لكن الكامل أولى، وأفضل العتق أغلاه ثمنًا، وأنفسه عند أهله، وهذه الأحاديث دليل على أن عتق العبد أفضل من عتق الأمة. قال القاضي عياض: واختلف العلماء أيهما أفضل؟ عتق الإناث؟ أم الذكور؟ فقال بعضهم: الإناث أفضل، لأنها إذا عتقت كان ولدها حرًا، سواء تزوجها حر أو عبد، وقال آخرون: عتق الذكور أفضل، لهذه الأحاديث، ولما في الذكر من المعاني العامة، والمنفعة التي لا توجد في الإناث من الشهادة والقضاء والجهاد وغير ذلك، مما يختص بالرجال، إما شرعًا، وإما عادة، ولأن من الإماء من لا ترغب في العتق، وتضيع به، بخلاف العبيد، وهذا القول هو الصحيح. وأما التقييد في الرقبة بكونها مؤمنة فيدل على أن هذا الفضل الخاص الوارد في هذه الأحاديث إنما هو في حق عتق المؤمنة، وأما غير المؤمنة ففيه أيضًا فضل بلا خلاف، ولكن دون فضل المؤمنة، ولهذا أجمعوا على أنه يشترط في عتق كفارة القتل كونها مؤمنة، وحكى القاضي عياض عن مالك أن الأعلى ثمنًا أفضل، وإن كان كافرًا، وخالفه غير واحد من أصحابه وغيرهم. قال: وهذا أصح. واختلف العلماء في إنقاذ العتق من النار، وبكل عضو من أعضاء العتيق عضوًا من أعضاء المعتق حتى الفرج بالفرج. قال ابن العربي: الفرج لا يتعلق به ذنب يوجب له النار إلا الزنا، والزنا كبيرة لا تكفر إلا بالتوبة، ثم قال: يحتمل أن يكون المراد أن العتق يرجح عند الموازنة، بحيث يكون مرجحًا لحسنات المعتق ترجيحًا يوازي سيئة الزنا. اهـ قال الحافظ ابن حجر: ولا اختصاص لذلك بالفرج، بل يأتي في غيره من الأعضاء، كاليد في الغصب مثلاً. ثم قال النووي: واختلفوا في عتق الأقارب إذا ملكوا، فقال أهل الظاهر لا يعتق أحد منهم بمجرد

الملك، سواء الوالد والولد وغيرهما. بل لا بد من إنشاء عتق، واحتجوا بمفهوم هذا الحديث. وقال جماهير العلماء: يحصل العتق في الآباء والأمهات والأجداد والجدات وإن علوا وعلون، وفي الأبناء والبنات وأولادهم الذكور والإناث وإن سفلوا بمجرد الملك، سواء المسلم والكافر، والقريب والبعيد، والوارث وغيره، ومختصره أنه يعتق عمود النسب بكل حال، واختلفوا فيما وراء عمودي النسب، فقال الشافعي وأصحابه: لا يعتق غيرهما بالملك، لا الإخوة، ولا غيرهم، وقال مالك: يعتق الإخوة أيضًا، وعنه رواية: يعتق جميع ذوي الأرحام المحرمة، وقال أبو حنيفة: يعتق جميع ذوي الأرحام المحرمة. واللَّه أعلم

كتاب البيوع

كتاب البيوع

قال الأزهري: تقول العرب. بعت. بمعنى بعت ما كنت ملكته، وبعت بمعنى اشتريت، قال: وكذلك شريت بالمعنيين. قال: وكل واحد بَيِّع وبائع، لأن الثمن والمثمن كل منهما مبيع. وكذا قاله آخرون من أهل اللغة، ويقال: بعته وابتعته، فهو مبيع ومبيوع، كما يقال: مخيط ومخيوط، قال الخليل: المحذوف من مبيع واو مفعول، لأنها زائدة، فهي أولى بالحذف، وقال الأخفش: المحذوف عين الكلمة. قال المازري: كلاهما حسن، وقول الأخفش أقيس، والابتياع الاشتراء، وتبايعا وبايعته، ويقال: استبعته، أي سألته البيع، وأبعت الشيء أي عرضته للبيع، وبيع الشيء بكسر الباء وضمها، وبوع لغة فيه، وكذلك القول في "قيل"، "وكيل". والبيوع جمع بيع، وجمع لاختلاف أنواعه، والبيع نقل ملك إلى الغير بثمن، والشراء قبول نقل ملك الغير بثمن. وأجمع المسلمون على جواز البيع، قال تعالى: {وأحل الله البيع وحرم الربا} [البقرة: 275] ولفظ "البيع" في الآية عام، وعمومه ليس مرادًا، فقد حرم الشارع بيوعًا ستأتي، لهذا قيل: إنه عام أريد به الخصوص، وقيل: مجمل بينته السنة، وقيل، الألف واللام فيه للعهد، أي أحل الله البيع المعهود الذي أحله الله من قبل. والحكمة من إباحة البيع أن حاجة الإنسان تتعلق بما في يد صاحبه غالبًا، وصاحبه لا يبذله له إلا بمقابل، ففي تشريع البيع وسيلة إلى بلوغ الغرض من غير حرج، وبالتراضي، فالقرآن الكريم يقيد التجارة المباحة بالتراضي، فيقول: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء: 29] أي لكن إن حصلت تجارة بينكم وتراضيتم بها فليس بباطل. ولما كانت أنواع البيوع المباحة كثيرة، وكانت البيوع المحرمة محدودة محصورة جمع الإمام مسلم كثيرًا منها في الأحاديث الآتية:

(403) باب بيع الملامسة والمنابذة والحصاة وحبل الحبلة وبيع الغرر

(403) باب بيع الملامسة والمنابذة والحصاة وحبل الحبلة وبيع الغرر 3359 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الملامسة والمنابذة. 3360 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: نهي عن بيعتين: الملامسة والمنابذة. أما الملامسة فأن يلمس كل واحد منهما ثوب صاحبه بغير تأمل. والمنابذة أن ينبذ كل واحد منهما ثوبه إلى الآخر، ولم ينظر واحد منهما إلى ثوب صاحبه. 3361 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين ولبستين: نهى عن الملامسة والمنابذة في البيع. والملامسة لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار. ولا يقلبه إلا بذلك. والمنابذة أن ينبذ الرجل إلى الرجل بثوبه وينبذ الآخر إليه ثوبه. ويكون ذلك بيعها من غير نظر ولا تراض. 3362 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر. 3363 - عن عبد الله رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع حبل الحبلة.

3364 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان أهل الجاهلية يتبايعون لحم الجزور إلى حبل الحبلة. وحبل الحبلة أن تنتج الناقة ثم تحمل التي نتجت. فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. -[المعنى العام]- شاء الله تعالى لحكمة بالغة أن يحتاج الإنسان للإنسان في الخدمات العامة، وفي العلاقات التجارية، وفي المعاملات المالية، وسيلة من وسائل الترابط، وربما كان هذا فرقًا واضحًا بين الإنسان والحيوان، وقد وضع الإسلام لهذه العلاقة قواعد وقوانين، تراعي العدالة والنصفة، وإحقاق الحق، وإبطال الباطل. وفي مجال البيع والشراء، وقد ملك البعض مالاً، وملك البعض متاعًا، وكل من الطرفين يحرص على منفعة نفسه ويضن بما يملك على غيره، بحكم الطبيعة البشرية التي قال الله عنها: {وتأكلون التراث أكلاً لما * وتحبون المال حبًا جمًا} [الفجر: 19، 20] ولما كان الأمر كذلك في هذا المجال قال جل شأنه: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء: 29] فكان شرط التراضي بين المتعاملين شرطًا أساسيًا، لكنه قد يحتاج أحد الطرفين المعاملة احتياجًا يجعل الرضا حتمًا وإرغامًا، وقد يعلم الطرف الثاني حاجة الطرف الأول، فيتعسف ويتحكم، وقد ينطوي هذا التعامل على الإضرار بأحد الطرفين إضرارًا مستترًا، ومن أسس الشريعة مراعاة مصالح الناس وعدم الإضرار بينهم "لا ضرر ولا ضرار" فشرطت الشريعة في البيع صيغة الإيجاب والقبول، وأن يكون المبيع معلومًا كيلاً أو وزنًا أو مقياسًا، وأن يكون معلوم العين والصفة، وأن يكون الثمن كذلك معلوم المقدار، ومعلوم الحلول والأجل، وأن يخلو كل من المتبادلين من الجهالة والغرر خلوًا يحفظ لكل من الطرفين حقه ومصلحته. لقد كانت الجاهلية تبايع في ممتلكاتها مبايعات فيها غبن وخداع، فنهى الإسلام عنها. من هذه المبايعات أنهم كانوا يبيعون بعض السلع في الظلمة، لا يراها ولا يفحصها المشتري، أو ملفوفة مطوية يجهل المشتري حقيقة داخلها، أو كانوا يطرحون السلعة أمامهم، ويطرح المشتري الثمن، دون فحص أو عبارة بيع وشراء، بل كانوا يبيعون ما تقع عليه الحصاة من الثياب مثلاً حين يقذفون بالحصاة على الأثواب، وأحيانًا يبيعون ما في بطون الأنعام وهم يجهلونها أذكرًا تكون أم أنثى؟ ضعيفة تكون أم قوية؟ سليمة تكون أم مريضة؟ بل كانوا أحيانًا يبيعون جنين الجنين يبيعون مجهولاً من مجهول. كل هذه البيوع وغيرها من بيوع الغرر والخداع والجهل الكبير بالسلع،

حرمها الإسلام حماية للبشرية من أن يدفع بها الطمع إلى أكل الأموال بالباطل، أو إلى استغلال البعض للبعض والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. -[المباحث العربية]- (نهى عن الملامسة) في كتب اللغة: لمسه يلمسه، من باب ضرب ونصر، مسه بيده، فاللمس باليد، والمس بأي جزء من البشرة، وقيل: اللمس كالمس مطلقًا، وهو إدراك بظاهر البشرة، والملامسة هنا المماسة باليد. وفي المراد من الملامسة المنهي عنها هنا ثلاث صور، أو ثلاثة أوجه، أو ثلاثة تأويلات. أحدها: تأويل الشافعي، وهو أن يأتي بثوب مطوي، أو في ظلمة، فيلمسه المشتري، فيقول صاحبه: بعتكه بكذا، بشرط أن يقوم لمسك مقام نظرك، ولا خيار لك إذا رأيته. اهـ. وقد جاء هذا التأويل في الرواية الثانية بلفظ "أما الملامسة فأن يلمس كل واحد منهما ثوب صاحبه، بغير تأمل" أي بغير فحص، وغير دراية بالثوب فيكون في البيع جهالة بالمبيع. وفسرها أبو سعيد في الرواية الثالثة بقوله "والملامسة لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار، ولا يقلبه إلا بذلك" أي لا يدرك أوصاف المبيع إلا بهذه اللمسة السطحية، ففي ذلك جهالة المشتري للمبيع، وفسرت الملامسة عند أبي عوانة بأن يتبايع القوم السلع، لا ينظرون إليها، ولا يخبرون عنها. وفسرت عند النسائي بأن يقول الرجل للرجل: أبيعك ثوبي بثوبك، ولا ينظر واحد منهما إلى ثوب الآخر ولكن يلمسه لمسًا. وفسرت عند أحمد بلفظ "والملامسة أن يلمس بيده، ولا ينشره، ولا يقلبه، إذا مسه وجب البيع" وقوله "ولا يقلبه" بفتح الياء وسكون القاف وتخفيف اللام وبضم الباء وفتح القاف وتشديد اللام. وكلها تفسيرات متقاربة تجمع على أن علة المنع والنهي الجهالة من حيث عدم النظر وعدم التقليب، واشتراط نفي الخيار. التأويل الثاني أن يجعلا نفس اللمس بيعًا، كأن يقول: إذا لمست الثوب فهو مبيع لك. وعلة النهي على هذا التأويل انعدام الصيغة في عقد البيع. التأويل الثالث: أن يبيعه شيئًا على أنه متى مسه لزمه البيع، ولا خيار له، وعلة النهي على هذا التأويل شرط في خيار المجلس وغيره. وبيع الملامسة بهذه الصور الثلاث باطل، وكان سائغًا في الجاهلية. (والمنابذة) في كتب اللغة، نبذك الشيء طرحك الشيء من يدك أمامك أو وراءك أو عام، يقال، نبذ الشيء إذا رماه وأبعده، وفي القرآن {فنبذوه وراء ظهورهم} [آل عمران: 187] وفي مفردات الراغب: أصل النبذ طرح ما لا يعتد به.

وفسر الراوي المنابذة في الرواية الثانية بأن ينبذ كل واحد منهما ثوبه إلى الآخر، ولم ينظر واحد منهما إلى ثوب صاحبه. وفي الرواية الثالثة "بأن ينبذ الرجل إلى الرجل بثوبه، وينبذ الآخر إليه ثوبه، ويكون ذلك بيعهما، من غير نظر ولا تراض". فعلة النهي كعلة النهي عن الملامسة، الجهالة، وانعدام صيغة البيع في العقد، وقطع الخيار. وقيل: المراد من النبذ طرح الحصاة الآتي في الرواية الرابعة، والصحيح أنه غيره. قال الحافظ ابن حجر: ظاهر الطرق كلها أن تفسير المنابذة والملامسة من الحديث المرفوع، وقيل: التفسير من الصحابي، وهو ظاهر حديث أبي سعيد الخدري [روايتنا الثالثة]. (نهانا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن بيعتين ولبستين) "بكسر اللام اسم هيئة، ولم يوضح هنا اللبستين ما هما؟ ووضح إحداهما في رواية للبخاري بقوله "أن يحتبي الرجل في الثوب الواحد، ثم يرفعه على منكبه" وبين الثنتين عند أحمد، فقال "أن يحتبي الرجل في ثوب واحد، ليس على فرجه منه شيء، وأن يرتدي في ثوب، يرفع طرفيه على عاتقيه" يقال: احتبى بالثوب إذا أداره على ساقيه وظهره، وكانوا لقلة مالهم كثيرًا ما كانوا يلبسون ثوبًا واحدًا، يستخدمونه إزارًا ورداء في وقت واحد، فكان بعضهم يعني بالنصف الأسفل، فيلف الثوب عليه وليس على عاتقيه منه شيء، وكان بعضهم يعني بالنصف الأعلى فيغطي عاتقيه، ويعرض عورته للكشف، فنهوا عن ذلك وتلك. وعلمهم صلى الله عليه وسلم الكيفية المثلى عند الاكتفاء بالثوب الواحد، فلفه حول وسطه، يستر عورته، ثم أخذ طرفه فألقاه من الأمام على كتفه الأيمن، ومرره من ظهره إلى تحت يده اليسرى، وأخذ الطرف الثاني، فألقاه من الأمام على كتفه الأيسر، ومرره من خلفه إلى تحت يده اليمنى، ثم جمع الطرفين فعقدهما على صدره ففي هذا الوضع ستر للعورة، وستر لجزء من العاتق أو المنكب، مع تمكن الثوب من الجسم، بحيث لا تنكشف العورة أثناء الركوع والسجود. (نهى عن بيع الحصاة) أي عن بيع الشيء بواسطة الحصاة. قال النووي: في بيع الحصاة ثلاثة تأويلات: أحدها: أن يقول: بعتك من هذه الأثواب ما وقعت عليه الحصاة التي أرميها، أو بعتك من هذه الأرض من هنا إلى ما انتهت إليه هذه الحصاة التي أرميها، فعلة النهي الجهالة والغرر. والثاني: أن يقول: بعتك على أنك بالخيار، إلى أن أرمي بهذه الحصاة، فعلة النهي إبطال شرط خيار المجلس وغيره. والثالث: أن يجعلا نفس الرمي بالحصاة بيعًا، فيقول: إذا رميت بالحصاة فهو مبيع لك بكذا. فعلة النهي انعدام الصيغة في عقد البيع. وكل هذه بيوع جاهلية. (وعن بيع الغرر) في كتب اللغة: غره الشيطان يغره غرًا وغرورًا، وغرة بكسر الغين، وغررًا محركة، فهو مغرور وغرير، خدعه وأطمعه بالباطل، والغرر محركة هو الخطر، وفيه الحديث "نهي عن بيع الغرر" وهو مثل بيع السمك في الماء، والطير في الهواء، وقيل: هو ما كان له ظاهر يغر المشتري، وباطن مجهول، وقيل: هو أن يكون على غير عهده ولا ثقة. قال

الأزهري: ويدخل في بيع الغرر البيوع المجهولة التي لا يحيط بكنهها المتبايعان، وعطف بيع الغرر على بيع الحصاة من عطف العام على الخاص. (نهي عن بيع حبل الحبلة) قال أهل اللغة: الحبل بفتح الحاء والباء الحمل، يقال: حبلت المرأة من باب فرح حبلاً، فهي حابلة وحبلى، ونساء حبليات وحبالى. واختلف في هذه الصفة، أعامة للإناث؟ أم خاصة؟ فقيل: الحبل للآدميات، والحمل لغيرهن، ولم يأت الحبل لغير الآدميات إلا في حديث "نهي عن بيع حبل الحبلة - بفتح الحاء والباء فيهما - وقيل: الحبل للآدميات ولكل ذي ظفر. والحبلة بفتح الحاء والباء جمع حابل، مثل ظلمة وظالم، وكتبة وكاتب. وبيع حبل الحبلة هو بيع نتاج الدابة قبل أن تلد ويمكن أن يكون قبل أن تحمل أو بيع نتاج النتاج قبل أن تلد الأولى، بمعنى بيع الجنين، وهو في بطن أمه أو قبل أن تحمله أمه أو بيع جنين الجنين، وعلى أي حال فهو بيع مجهول العين، ومجهول الأجل، وغير مقدور على تسليمه ويضاف إلى ذلك في حالة بيع جنين الجنين أنه بيع معدوم، وكذلك بيع الجنين قبل أن تحمل الدابة، هو بيع معدوم. (كان أهل الجاهلية يتبايعون لحم الجزور إلى حبل الحبلة) هذا من كلام ابن عمر، وكذلك التفسير الآتي، والجزور بفتح الجيم وضم الزاي هو البعير، ذكرًا كان أو أنثى، أي يتبايعون لحم الجزور، وهو في بطن أمه على أن يتم التسليم بعد وضع حبل الحبلة، وفي رواية البخاري "كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة، ثم تنتج التي في بطنها". (وحبل الحبلة أن تنتج الناقة، ثم تحمل التي نتجت) أي فيباع حمل النتاج الذي هو حمل، أي جنين الجنين قبل أن يولد الأول، و"تنتج" بضم التاء الأولى وسكون النون وفتح التاء الثانية على هيئة المبني للمجهول لكنه مبني للمعلوم، و"الناقة" فاعل، وهذا من الأفعال النادرة في صياغتها. -[فقه الحديث]- هذه خمسة بيوع نهى عنها الإسلام، وكانت شائعة في الجاهلية. بيع الملامسة، وهو باطل بصوره الثلاث التي ذكرناها. وبيع المنابذة، وهو باطل أيضًا. وبيع الحصاة، وهو باطل أيضًا. وكذلك بيع حبل الحبلة. وقد قلنا إن علة المنع والبطلان إما الجهالة الكبيرة في المبيع، أو الجهالة الكبيرة في الأجل، أو خلو البيع من عقده، أو إبطال شرط الخيار، أعني خيار المجلس الذي شرعه الإسلام، وقد يكون في بعض الصور أكثر من علة من هذه العلل.

وأهم العلل في هذه البيوع علة تحقق الغرر، ولذلك كان عطف بيع الغرر على هذه الأربعة ليست عطفًا مغايرًا خامسًا، لكنه عطف عام على خاص، وستأتي بيوع أخرى منهي عنها، والأساس الإضرار بالبائع أو بالمشتري أو بهما جميعًا، أو بمصلحة المجتمع. نعم. لا يكاد يخلو بيع من غرر، لكن هناك القليل المغتفر للحاجة أو الضرورة، وهناك الكثير الذي لا يغتفر ولذلك يقول النووي: وأما النهي عن بيع الغرر فهو أصل عظيم من أصول كتاب البيوع، ويدخل فيه مسائل كثيرة، غير منحصرة، كبيع العبد الآبق - أي الهارب غير معروف المكان - وبيع المعدوم، والمجهول وما لا يقدر على تسليمه، وما لم يتم ملك البائع عليه، وبيع السمك في الماء الكثير، وبيع اللبن في الضرع، وبيع الحمل في بطن الدابة، وبيع الصبرة - أي الكومة - مبهمة، وبيع ثوب من أثواب، وشاة من شياه، ونظائر ذلك. وكل هذا بيعه باطل، لأنه غرر من غير حاجة، وقد يحتمل بعض الغرر إذا دعت إليه حاجة. كالجهل بأساس الدار عند شرائها، وكما إذا باع الشاة الحامل، والتي في ضرعها لبن، فإن البيع صحيح لأن الأساس تابع للظاهر من الدار، واللبن تابع للشاة، ولأن الحاجة تدعو إليه، ولا يمكن رؤيته وكذلك أجمع المسلمون على جواز أشياء فيها غرر حقير، منها: أنهم أجمعوا على صحة بيع الجبة - واللحاف والوسادة - المحشوة، وإن لم ير حشوها، وأجمعوا على جواز إجارة الدار والدابة والثوب ونحو ذلك شهرًا، مع أن الشهر قد يكون ثلاثين يومًا وقد يكون تسعة وعشرين يومًا. وأجمعوا على جواز دخول الحمام بالأجرة، مع اختلاف الناس في كمية استعمالهم الماء، وفي قدر مكثهم، وأجمعوا على جواز الشرب من السقاء بالعوض - وكذلك الوجبة في المطعم المفتوح - مع جهالة قدر المشروب - والمأكول - لاختلاف عادة وقدرة الشاربين والآكلين. وأجمعوا على بطلان بيع الأجنة في البطون، وبيع الطير في الهواء. قال العلماء: مدار البطلان بسبب الغرر، والصحة مع وجوده، على ما ذكرناه، وهو أنه إذا دعت حاجة إلى ارتكاب الغرر، ولا يمكن الاحتراز عنه إلا بمشقة، وكان الغرر حقيرًا، جاز البيع، وإلا فلا وما وقع في بعض مسائل بيع الغرر، من اختلاف العلماء، في صحة البيع فيها وفساده مبني على تقديرهم لهذه القاعدة فبيع العين الغائبة بعضهم يرى أن الغرر فيها حقير، فيجعله كلا غرر، فيصحح البيع، وبعضهم يراه غير حقير، فيبطل البيع. ثم قال: واعلم أن بيع الملامسة وبيع المنابذة، وبيع حبل الحبلة، وبيع الحصاة، وعسب الفعل، وأشباهها من البيوع التي جاء فيها نصوص خاصة، هي داخلة في النهي عن بيع الغرر، ولكن أفردت بالذكر، ونهي عنها لأنها من بياعات الجاهلية المشهورة. اهـ. وعسب الفحل الذي ذكره النووي هو بفتح العين وسكون السين والفحل الذكر معه الحيوان،

وعسبه لقاحه الأنثى، وأكثر العلماء على تحريم الأجرة على ذلك، لما فيه من الغرر، لأن الفحل قد يضرب، وقد لا يضرب، وقد تلقح الأنثى، وقد لا تلقح، فهو أمر مظنون، والغرر فيه موجود، وحديث النهي عنه رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح، وأخرجه النسائي وأبو داود في البيوع. وقد استدل بعض العلماء بقوله في الرواية الثانية "ولم ينظر واحد منها إلى ثوب صاحبه" وبقوله في الرواية الثالثة "من غير نظر" على بطلان بيع الغائب، وهو قول الشافعي في الجديد، وعن أبي حنيفة: يصح مطلقًا، ويثبت الخيار إذا رآه، وحكي هنا عن مالك والشافعي أيضًا، وعن مالك: يصح إن وصفه، وإلا فلا، وهو قول الشافعي في القديم وأحمد وإسحق وأبي ثور وأهل الظاهر. واستدل به أيضًا على بطلان بيع أو شراء الأعمى مطلقًا، وهو قول معظم الشافعية، حتى من أجاز منهم بيع الغائب، لكون الأعمى لا يراه بعد ذلك، فيكون كبيع الغائب مع اشتراط نفي الخيار، وقيل: يصح إذا وصفه له غيره، وبه قال مالك وأحمد، وعن أبي حنيفة: يصح مطلقًا، وعلى تفاصيل عندهم أيضًا. واللَّه أعلم

(404) باب بيع الرجل على بيع أخيه، وسومه على سومه وخطبته على خطبته والنجش والتصرية، وتلقي الركبان وبيع الحاضر للبادي، وسؤال المرأة طلاق أختها

(404) باب بيع الرجل على بيع أخيه، وسومه على سومه وخطبته على خطبته والنجش والتصرية، وتلقي الركبان وبيع الحاضر للبادي، وسؤال المرأة طلاق أختها 3365 - عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبع بعضكم على بيع بعض". 3366 - عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يبع الرجل على بيع أخيه. ولا يخطب على خطبة أخيه. إلا أن يأذن له". 3367 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا يسم المسلم على سوم أخيه". 3368 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يستام الرجل على سوم أخيه. وفي رواية الدورقي: على سيمة أخيه. 3369 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا يتلقى الركبان لبيع ولا يبع بعضكم على بيع بعض. ولا تناجشوا. ولا يبع حاضر لباد. ولا تصروا الإبل والغنم. فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين، بعد أن يحلبها. فإن رضيها أمسكها. وإن سخطها ردها وصاعًا من تمر".

3370 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن التلقي للركبان. وأن يبيع حاضر لباد. وأن تسأل المرأة طلاق أختها. وعن النجش. والتصرية. وأن يستام الرجل على سوم أخيه. 3371 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن النجش. 3372 - عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تتلقى السلع حتى تبلغ الأسواق. وهذا لفظ ابن نمير. وقال الآخران: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التلقي. 3373 - عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن تلقي البيوع. 3374 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتلقى الجلب. 3375 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تلقوا الجلب. فمن تلقاه فاشتري منه، فإذا أتى سيده السوق، فهو بالخيار". 3376 - عن أبي هريرة رضي الله عنه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يبع حاضر لباد". وقال زهير: عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه نهى أن يبيع حاضر لباد.

3377 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتلقى الركبان وأن يبيع حاضر لباد. قال: فقلت لابن عباس: ما قوله: حاضر لباد؟ قال: لا يكن له سمسارًا. 3378 - عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يبع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" غير أن في رواية يحيى: "يرزق". 3379 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: نهينا أن يبيع حاضر لباد. وإن كان أخاه أو أباه. 3380 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: نهينا عن أن يبيع حاضر لباد. 3381 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اشترى شاة مصراة فلينقلب بها. فليحلبها. فإن رضي حلابها أمسكها. وإلا ردها ومعها صاع من تمر". 3382 - عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ابتاع شاة مصراة فهو فيها بالخيار ثلاثة أيام. إن شاء أمسكها وإن شاء ردها. ورد معها صاعًا من تمر". 3383 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من اشترى شاة مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام. فإن ردها رد معها صاعًا من طعام، لا سمراء". 3384 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اشترى

شاة مصراة فهو بخير النظرين. إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها. وصاعًا من تمر، لا سمراء". 3385 - وفي رواية مثله غير أنه قال: "من اشترى من الغنم فهو بالخيار". 3386 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها. وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا ما أحدكم اشترى لقحة مصراة أو شاة مصراة، فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها. إما هي، وإلا فليردها وصاعًا من تمر". -[المعنى العام]- كان من أهم أهداف الإسلام غرس المودة والمحبة والترابط والانتماء والتفاعل الصحيح بين أفراد المجتمع، وقد نجحت التشريعات الإسلامية في بلوغ هدفها في فترة وجيزة، لحرص الأمة آنذاك على الاستجابة والالتزام، فقال تعالى: {واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا} [آل عمران: 103]. وللمودة والترابط أسباب، كما أن العداوة والبغضاء لها الأسباب المناقضة لأسباب المودة وأهم أسباب هذه وتلك: المعاملات، مالية كانت أو اجتماعية. وفي طبائع البشر الأنانية، وحب الذات، والحرص على الحياة، وعلى المنافع، والشح بما يملك، والنظر والطمع فيما تحت يد الغير، وحب السيطرة والتملك، ونتيجة لهذه النوازع الطبيعية تتعارض المصالح وتعلو مصلحة أحد المتعاملين على حساب هبوط مصلحة الآخر ويفرح المشتري حين ينخفض سعر السلعة في حين يحزن البائع، ويفرح البائع حين يرتفع سعر السلعة إذ يضر المشتري، ونتيجة لحرص كل من الطرفين على مصلحة نفسه قد يستغل العالم الجاهل، والذكي الغبي، والمتحضر البدوي، والماكل الساذج فكان من الحكمة وضع قواعد للمعاملة، مهمتها الأولى حماية الضعفاء من الأقوياء، ومهمتها الثانية حماية المجتمع من الانتهازيين، ورحم الله الخليفة الأول إذ قال: (القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له). فكانت النتيجة ترابط المجتمع وتكامله، وعموم الخير والبركات. على النقيض من ذلك القوانين الوضعية قوانين أهل الأرض، إذ يعبر عنها الحكيم بأنها قيود وضعها الأقوياء لاستغلال الضعفاء، فكانت النتيجة تفكك المجتمعات، ومحاربة الطبقات بعضها لبعض، ومحق الخير، وكثرة الجوع والعري، والفساد والإفساد.

لقد تعرضت أحاديث الباب السابق إلى مجموعة من قوانين الإصلاح في المعاملات، النهي عن بيع الملامسة، وعن بيع المنابذة، وعن بيع الحصاة، وعن بيع حبل الحبلة، وعن بيع الغرر. وتعرضت أحاديث هذا الباب إلى مجموعة أخرى من قوانين استقامة المعاملة وتوازنها بين الأفراد، النهي عن بيع الرجل على بيع أخيه، وعن سوم الرجل على سوم أخيه، وعن خطبة الرجل على خطبة أخيه، وعن سؤال المرأة طلاق أختها لتحل محلها، وعن النجش والتغرير، وعن وسائل الخداع في بيع الدواب، وعن بيع الحاضر للبادي، وعن تلقي السلع في الطريق قبل وصولها للأسواق. وفي الأبواب القادمة مجموعات أخرى من قوانين التعامل بين أفراد المجتمع، تحمي بعضه من بعض، وتحمي كل واحد من نفسه التي بين جنبيه، نفسه الأمارة بالسوء. -[المباحث العربية]- (لا يبع الرجل على بيع أخيه) "لا يبع" بالجزم على النهي، وفي رواية للبخاري "لا يبيع" في رواية الأكثر، على أن "لا" نافية، والتعبير بالرجل من باب الغالب، وإلا فالحكم يعم النساء، والمراد من الأخ الأخ في الإنسانية عند الجمهور، لأن الذمي والمسلم في ذلك سواء، أو ذكر الأخ خرج للغالب والكثير، فلا مفهوم له. وصورة البيع على البيع أن يقول الرجل لمن اشترى سلعة في زمن خيار المجلس أو الشرط: افسخ. لأبيعك خيرًا منها بمثل قيمتها، أو مثلها بأنقص مما اشتريت. ومثل ذلك الشراء على الشراء، كأن يقول للبائع: افسخ لأشتري منك بأكثر، وفي الرواية الأولى والخامسة "ولا يبع بعضكم على بيع بعض" وفي رواية للبخاري "لا يبيع على بيع أخيه". (ولا يخطب على خطبة أخيه) "ولا يخطب" بالرفع والجزم، أما الرفع فعلى أنه خبر بمعنى النهي، و"لا" نافية وجعل سياقه في صورة الخبر أبلغ في المنع، لإشعاره بأنه أمر امتثل فعلاً، ويخبر عنه، وأما الجزم فعلى النهي الصريح. والخطبة بكسر الخاء طلب المرأة من وليها، وأصلها الهيئة التي يكون عليها الإنسان حين يخطب نحو الجلسة، من خطب يخطب من باب نصر، فهو خاطب، والمبالغة منه خطاب بتشديد الطاء، وأما الخطبة بضم الخاء فهي من القول والكلام، فهو خطاب وخطيب، والمراد من الأخوة الأخوة في العهد والحرمة، فتشمل المسلم والذمي، وذكر الأخ جرى على الغالب، ولأنه ادعى لسرعة الامتثال. وصورتها المنهي عنها أن يخطب رجل امرأة، فتركن إليه، ويتفقا ويتراضيا، ولم يبق إلا العقد، فيجيء آخر، وهو يعلم بكل هذا، فيخطب على خطبة الأول، أما إذا لم تركن إليه، أو لم يركن إليه وليها، أو قبل أن يتفقا، كوقت المشورة، أو لم يكن الثاني يعلم بخطبة الأول، فكل ذلك لا يدخل في النهي. وفي فقه الحديث زيادة تفصيل.

(إلا أن يأذن له) يحتمل أن يكون استثناء من الحكمين، كما هو قاعدة الشافعي، ويحتمل أن يختص بالأخير، ويؤيد الثاني رواية البخاري في النكاح، ولفظها "نهي أن يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه، حتى يترك الخاطب قبله، أو يأذن له الخاطب" ويؤيد الأول رواية النسائي ولفظها "لا يبع الرجل على بيع أخيه حتى يبتاع أو يذر". (لا يسم المسلم على سوم أخيه) يقال: سام البائع السلعة، وسام البائع بالسلعة يسوم، سومًا وسوامًا وسيمة عرضها للبيع، وذكر ثمنها، وسام المشتري السلعة، وسام بها طلب ابتياعها، ويقال: سمت فلانًا بضم السين وسكون الميم - سلعته إذا قومتها وأغليت ثمنها. وساومه مساومة وسوامًا فاوضه في البيع والابتياع، واستام المشتري من البائع بسلعته عرض عليه ثمنها فقوله "لا يسم" بضم السين، أي لا يذكر ثمنًا لسلعة، وفي الرواية الرابعة "نهي أن يستام الرجل" أي نهي عن أن يعرض الرجل ثمنًا، وفي ملحق الرواية "على سيمة أخيه" أي على سوم أخيه. والسوم المنهي عنه يقع من البائع والمشتري، وصورته أن يتفق صاحب السلعة والراغب فيها على البيع، وعلى الثمن، وقبل أن يعقدا يقول آخر لصاحبها: أنا أشتريها بأكثر، أو يقول للراغب فيها: أنا أبيعك خيرًا منها بأرخص، فالسوم على السوم شبيه بالبيع على البيع، والشراء على الشراء، والمعنى في ذلك ما فيه من الإيذاء والتقاطع. أما المزايدة فهي غير ممنوعة، لأنها تكون قبل الاتفاق على البيع، وكذلك المناقصة. (لا يتلقى الركبان لبيع) "لا يتلقى" "لا" نافية، و"يتلقى" بضم أوله، مبني للمجهول، و"الركبان" نائب فاعل، أي لا تتلقوا الركبان القادمين من بعيد ليبيعوا أو ليشتروا قبل وصولهم إلى السوق، لاستغلال جهلهم بالسوق والأسعار. فقول "لبيع" إما أن يتعلق بلا يتلقى. أي لا تتلقوا للبيع أو للشراء، أو بالركبان جمع راكب. فهم ركبان للبيع أو الشراء، وفي الرواية السادسة "نهي عن التلقي للركبان" ليس أي ركبان، بل الركبان القادمين من بعيد للبيع أو الشراء، وفي الرواية الثامنة "نهى أن تتلقى - بضم أوله مبني للمجهول - السلع حتى تبلغ الأسواق" وفي الرواية التاسعة "نهي عن تلقي البيوع" وفي الرواية العاشرة "نهى أن يتلقى الجلب" بفتح الجيم وفتح اللام، ما جلب من إبل وغنم ومتاع للتجارة، والجمع أجلاب. وفي الرواية الحادية عشرة "لا تلقوا الجلب" بحذف إحدى التاءين، وأصله لا تتلقوا. (فإذا أتي سيده السوق) أي مالكه، أو بائعه. (ولا تناجشوا) أصل النجش الاستثارة، ومنه نجشت الصيد أنجشه - بضم الجيم - نجشًا، أي استثرته. وقال ابن قتيبة: أصل النجش الختل، وهو الخداع، ومنه قيل للصاعد: ناجش - وكل من استثار شيئًا فهو ناجش، والنجش في البيع أن يزيد في ثمن السلعة، لا لرغبة فيها، بل ليخدع غيره، ويوقعه فيها، ويقع ذلك بمواطأة البائع، وبغير علم البائع، ويقع من البائع نفسه، كأن يخبر بأنه

اشتراها بأكثر مما اشتراها به، ليغر غيره بذلك، وفي الرواية السابعة "نهي عن النجش" وهو بسكون الجيم، وحكى فتحها، وقيل: بفتح الجيم وحكى سكونها. (ولا يبع حاضر لباد) البادي من سكن البادية، والمراد أن يقدم غريب من البادية، أو من بلد آخر بمتاع تعم الحاجة إليه، ليبيعه بسعر يومه، فيقول له البلدي: اتركه عندي لأبيعه على التدريج بأعلى، وفسره ابن عباس في الرواية الثالثة عشرة بالبيع بالأجرة كالسمسار. (ولا تصروا الإبل والغنم) "تصروا" بضم التاء وفتح الصاد، و"الإبل" مفعول به. والتصرية هي الجمع، يقال: صري بتشديد الراء، يصري، تصرية، وصراها بتشديد الراء، يصريها، تصرية فهي مصراة، كغشاها يغشيها تغشية، فهي مغشاة، وزكاها يزكيها تزكية فهي مزكاة. قال القاضي: ورويناه في غير صحيح مسلم عن بعضهم "لا تصروا" بفتح التاء وضم الصاد، من الصر، قال: وعن بعضهم "لا تصر الإبل" بضم التاء، مبني للمجهول، و"الإبل" نائب فاعل، من الصر، وهو ربط أخلافها، والأول هو الصواب المشهور، ومعناه: لا تجمعوا اللبن في ضرعها عند إرادة بيعها، حتى يعظم ضرعها، فيظن المشتري أن كثرة لبنها عادة لها مستمرة. (فمن ابتاعها بعد ذلك) أي فمن اشترى المصراة بعد هذا النهي، وقيل: بعد التصرية. (فهو بخير النظرين) أي فهو مختار، يأخذ خير الأمرين بالنسبة له، ويختار أحسن الرأيين. (بعد أن يحلبها) بفتح الياء وسكون الحاء وضم اللام. (فإن رضيها أمسكها) أي أبقاها على ملكه. (رد معها صاعًا من طعام لا سمراء) السمراء الحنطة. (إذا ما أحدكم اشترى لقحة) بكسر اللام وبفتحها، وهي الناقة القريبة العهد بالولادة، نحو شهرين أو ثلاثة، والكسر أفصح، والجمع لقح، كقربة وقرب. -[فقه الحديث]- يتعلق بهذه الأحاديث ثمان قضايا. خطبة الرجل على خطبة أخيه، وسؤال المرأة طلاق أختها، وبيع الرجل على بيع أخيه، وسومه على سومه، والنجش، والتصرية، وتلقي الركبان، وبيع الحاضر للبادي. 1 - أما خطبة الرجل على خطبة أخيه - وقد صورناها في المباحث العربية - فقد فصلنا القول فيها، في باب مستقل في أول كتاب النكاح.

2 - وكذلك سؤال المرأة طلاق أختها، وضحنا القول فيه تحت باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها في النكاح. 3 - وأما البيع على البيع، وكذا الشراء على الشراء فقد أجمع العلماء على أنه حرام، واستثنى بعض الشافعية من التحريم ما إذا كان البائع أو المشتري مغبونًا غبنًا فاحشًا، وبه قال ابن حزم، واحتج بحديث "الدين النصيحة" وهذا قول مردود، فلم تنحصر النصيحة في البيع، فله أن يعرفه أن قيمتها كذا، وأنك إذا بعتها بكذا تكون مغبونًا، من غير أن يبيع على البيع - أو يشتري على شراء أخيه، فيجمع بذلك بين المصلحتين. ومع القول بأن البيع على البيع والشراء على الشراء حرام هل يصح البيع؟ أو يبطل؟ خلاف بين الفقهاء، الجمهور على صحة البيع مع الحرمة وتأثيم فاعله، وعند المالكية والحنابلة روايتان في فساده، وهو قول أهل الظاهر. 4 - وأما سوم المسلم على سوم أخيه المسلم فقد وضحنا صورته في المباحث العربية، وقلنا: إن محل الحرمة وقوع السوم بعد استقرار الثمن وركون أحدهما إلى الآخر، فإن تحقق ذلك صريحًا، وعلم به من سيسوم فلا خلاف في التحريم، وإن لم يتحقق وكان احتمالاً ففيه وجهان للشافعية، والراجح اشتراط تحقق استقرار الثمن وركون البائع إليه، وهو الأمر المبين لموضع التحريم. وهذا هو الفرق بين السوم على السوم وبين المزايدة التي لا يرى أهل العلم بها بأسًا، وعليها العمل، وخص الأوزاعي وإسحاق جواز المزايدة في الغنائم والمواريث دون غيرهما، أخذًا بحديث "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع أحدكم على بيع أحد حتى يذر، إلا الغنائم والمواريث" أخرجه ابن خزيمة وابن الجارود والدارقطني. والجمهور يلحق بهما في المزايدة غيرهما، للاشتراك في الحكم، فذكرها في الحديث خروج على الغالب فيما كان الناس يعتادون في المزايدة، ولا يختص الجواز بهما، فإن الباب واحد، والمعنى مشترك. 5 - وأما النجش فقد قال ابن بطال: أجمع العلماء على أن الناجش عاص بفعله، واختلفوا في البيع إذا وقع على ذلك، ونقل ابن المنذر عن طائفة من أهل الحديث فساد ذلك البيع، وهو قول أهل الظاهر، ورواية عن مالك، والمشهور عند الحنابلة إذا كان ذلك بمواطأة البائع أو صنعه، والمشهور عند المالكية في مثل ذلك ثبوت الخيار، وهو وجه للشافعية، قياسًا على المصراة، والأصح عندهم صحة البيع مع الإثم، وهو قول الحنفية. واشترط بعض العلماء بالنهي لتعصية الناجش والبيع على البيع، ولم يشترط ذلك بعضهم، لأن أمر التحريم ظاهر ومعلوم، واشترطه بعضهم في البيع على البيع، ولم يشترطه في النجش، لأن النجش خديعة، وتحريم الخديعة واضح لكل أحد. وعن ابن أبي أوفى قال: أقام رجل سلعته، فحلف بالله لقد أعطى فيها ما لم يعط، فنزلت {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم} [آل عمران: 77] قال ابن أبي أوفى: الناجش آكل

ربا خائن، وأطلق ابن أبي أوفى على من أخبر بأكثر مما اشترى به أنه ناجش، لمشاركته لمن يزيد في السلعة وهو لا يريد أن يشتريها في غرور الغير. وقيد ابن العربي وابن عبد البر وابن حزم التحريم بأن تكون الزيادة المذكورة فوق ثمن المثل. قال ابن العربي: فلو أن رجلاً رأى سلعة رجل تباع بدون قيمتها، فزاد فيها لتنتهي إلى قيمتها لم يكن ناجشًا عاصيًا بل يؤجر على ذلك بنيته. وقد وافقه على ذلك بعض المتأخرين من الشافعية. قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر، إذ لم تتعين النصيحة في أن يوهم أنه يريد الشراء وليس من غرضه بل غرضه أن يزيد على من يريد الشراء أكثر مما يريد أن يشتري به، فللذي يريد النصيحة مندوحة عن ذلك، كأن يعلم البائع بأن قيمة سلعتك أكثر من ذلك، ثم هو باختياره بعد ذلك، ويحتمل أن لا يتعين عليه إعلامه بذلك حتى يسأله، للحديث الآتي [روايتنا الرابعة عشرة] "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض"، فإذا استنصح أحدكم أخاه فلينصحه. 6 - وأما التصرية فظاهر قوله "لا تصروا الإبل والغنم" في الرواية الخامسة أن الحكم خاص بهما، ولا يشمل البقر مثلاً، لكن العلماء على شمول ما في معناهما من النعم وإنما اقتصر عليهما لغلبتهما عندهم خلافًا لداود، وقد عممه جمهور العلماء في غير النعم من مأكول اللحم، للجامع المشترك، وهو تغرير المشتري، وقال الحنابلة وبعض الشافعية: يختص ذلك بالنعم. واختلفوا في غير المأكول كالأتان والجارية، والأصح أنه لا يرد للبن عوضًا، وبه قال الحنابلة في الأتان دون الجارية. وظاهر هذه العبارة أيضًا، وقوله في الرواية السادسة "نهي عن التصرية" أن التصرية وجمع اللبن في الضرع منهي عنه ولو لم يكن للبيع، فلو جمع اللبن زائدًا على المعتاد من أجل الولد أو العيال أو الضيف فهو داخل في النهي، وبهذا قال بعض الشافعية، وقالوا: إن العلة إيذاء الحيوان، والجمهور على أن النهي عن التصرية من أجل البيع فعند النسائي "لا تصروا الإبل والغنم للبيع" وظاهر رواياتنا تؤيد ذلك، فهي تتكلم عن حق المشتري للمصراة في الرجوع على البائع. وقد فرع العلماء على أحاديث التصرية هذه مسائل. منها: أ- هل الأيام الثلاثة الواردة في الرواية الثامنة عشرة والتاسعة عشرة للخيار فيها معتد بها؟ أو العبرة بالعموم الوارد في الروايات الأخرى؟ قال الحافظ ابن حجر: الظاهر أن من زاد "الثلاث" معه زيادة علم، وهو حافظ، ويحمل الأمر فيمن لم يذكرها على أنه لم يحفظها، أو اختصرها. اهـ. وقيل: تشترط فورية الرد عقب العلم، قياسًا على سائر العيوب، وعلى القول بها فمتى تبدأ هذه الأيام الثلاثة؟ الحنابلة يقولون: تبدأ هذه المدة من وقت بيان التصرية، وهو يصير المدة أوسع من الثلاث في بعض الصور. والشافعية يقولون: تبدأ هذه المدة من حين العقد، وقيل: من حين التفرق. ب- في الرواية الخامسة والسابعة عشرة والثامنة عشرة والواحدة والعشرين أن الرد

يصاحبه صاع من تمر، وفي التاسعة عشرة يصاحبه صاع من طعام وكلاهما ينفي السمراء فكيف الجمع؟ وما الحكم؟ . قال الحافظ ابن حجر: تحمل رواية الطعام على التمر. اهـ. فالمطلوب صاع من تمر، حملاً للمطلق على المقيد، وكأنه قال: تمر ليس ببر، قال الحافظ ابن حجر: ويعكر عليه ما رواه البزار بلفظ "إن ردها ردها ومعها صاع من بر، لا سمراء" وهذا يقتضي أن المنفي في قوله "لا سمراء" حنطة مخصوصة، وهي الحنطة الشامية، فيكون المرجح لعموم الطعام أولى. ويؤيده رواية أحمد، ولفظها "فإن ردها رد معها صاعًا من طعام، أو صاعًا من تمر" قال الحافظ ابن حجر: وإذا وقع الاحتمال في هذه الروايات لم يصح الاستدلال بشيء منها، فيرجع إلى الروايات التي لم يختلف فيها، وهي التمر فهي الراجحة، وروايات التمر أكثر عددًا من الروايات التي لم تنص عليه، أو أبدلته بذكر الطعام. وقد أخذ بهذا جمهور أهل العلم، ولم يفرقوا بين أن يكون اللبن الذي احتلب قليلاً أو كثيرًا، ولا بين أن يكون التمر قوت تلك البلد أم لا. وخالف في أصل المسألة الحنفية، فقالوا: لا يرد بعيب التصرية، ولا يجب رد صاع من التمر، واعتذروا عن الأحاديث المصرحة بالرد وبالصاع بأعذار شتى، فمنهم من طعن في الحديث، لكونه من رواية أبي هريرة، ولم يكن كابن مسعود وغيره من فقهاء الصحابة، فلا يأخذ بما رواه مخالفًا للقياس الجلي. قال الحافظ ابن حجر: وهو كلام آذى قائله به نفسه، وفي حكايته غنى عن تكلف الرد عليه. ثم أطال في الرد عليه. ومنهم من قال: هو حديث مضطرب لذكر التمر فيه تارة والقمح أخرى واللبن ثالثة، واعتباره بالصاع تارة، وبالمثل أو المثلين تارة أخرى، والجواب أن الطرق الصحيحة لا اختلاف فيها. ومنهم من قال: هو معارض لعموم القرآن، كقوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النحل: 126] وأجيب بأنه من ضمان المتلفات، لا من العقوبات. ثم أطال الحافظ في الرد على الحنفية بما لا يتسع له المقام. وخالف الحنفية زفر، فقال بقول الجمهور. لكنه قال: يتخير بين صاع، ونصف صاع بر، وأبو يوسف في رواية، لكنه قال: لا يتعين صاع التمر، بل تصح قيمته، وفي رواية عن مالك وبعض الشافعية كذلك. جـ- هل الاحتلاب الوارد في الرواية الخامسة والسابعة عشرة والواحدة والعشرين شرط للرد؟ على معنى أن الخيار لا يثبت للمشتري إلا بعد الحلب؟ أو لا؟ الجمهور على أنه إذا علم بالتصرية ثبت له الخيار، ولو لم يحلب، لكن لما كانت التصرية لا تعرف غالبًا إلا بعد الحلب ذكر قيدًا في ثبوت الاختيار، فلو ظهرت التصرية بغير الحلب فالخيار ثابت. د- لو كان المشتري عالمًا بالتصرية قبل الشراء. هل يثبت له الخيار؟ والجواب: فيه وجه

للشافعية، والراجح عندهم أنه لا يثبت، فقد جاء عند الطحاوي "من اشترى مصراة ولم يعلم أنها مصراة" والله أعلم. وللإمام النووي كلام جيد في هذه القضية أوثر أن أنقله بنصه: قال رحمه الله تعالى: واختلف أصحابنا في خيار المشتري للمصراة. هل هو على الفور بعد العلم؟ أو يمتد ثلاثة أيام؟ فقيل: يمتد ثلاثة أيام لظاهر هذه الأحاديث، والأصح عندهم أنه على الفور، ويحملون التقييد بثلاثة أيام في بعض الأحاديث على إذا ما لم يعلم أنها مصراة إلا في ثلاثة أيام، لأن الغالب أنه لا يعلم فيما دون ذلك، فإنه إذا نقص اللبن في اليوم الثاني عن الأول، احتمل كون النقص لعارض، من سوء مرعاها في ذلك اليوم، أو غير ذلك، فإذا استمر كذلك ثلاثة أيام، علم أنها مصراة. ثم إذا اختار رد المصراة بعد أن حلبها ردها وصاعًا من تمر، سواء كان اللبن قليلاً أو كثيرًا، سواء كانت ناقة أو شاة أو بقرة. هذا مذهبنا، وبه قال مالك والليث وابن أبي ليلى وأبو يوسف وأبو ثور وفقهاء المحدثين، وهو الصحيح الموافق للسنة، وقال بعض أصحابنا: يرد صاعًا من قوت البلد، ولا يختص بالتمر، وقال أبو حنيفة وطائفة من أهل العراق وبعض المالكية ومالك في رواية غريبة عنه: يردها ولا يرد صاعًا من تمر، لأن الأصل أنه إذا أتلف شيئًا لغيره، رد مثله إن كان مثليًا، وإلا فقيمته، وأما رد جنس آخر من العروض فخلاف الأصول. وأجاب الجمهور عن هذا بأن السنة إذا وردت لا يعترض عليها بالمعقول، وأما الحكمة في تقييده بصاع التمر فلأنه كان غالب قوتهم في ذلك الوقت، فاستمر حكم الشرع على ذلك، وإنما لم يجب مثله ولا قيمته، بل وجب صاع في القليل والكثير، ليكون ذلك حدًا يرجع إليه، ويزول به التخاصم، وكان صلى الله عليه وسلم حريصًا على رفع الخصام، والمنع من كل ما هو سبب له، وقد يقع بيع المصراة في البوادي والقرى، وفي مواضع لا يوجد فيها من يعرف القيمة، ويعتمد قوله فيها، وقد يتلف اللبن، ويتنازعون في قلته وكثرته وفي عينه، فجعل الشرع لهم ضابطًا لا نزاع معه، وهو صاع تمر، ونظير هذا الدية، فإنها مائة بعير، ولا تختلف باختلاف حال القتيل، قطعًا للنزاع، ومثله الغرة في الجناية على الجنين سواء كان ذكرًا أو أنثى، تام الخلق أو ناقصه، جميلاً كان أو قبيحًا، ومثله الجبران بين الشيئين في الزكاة، جعله الشرع شاتين أو عشرين درهمًا، قطعًا للنزاع، سواء كان التفاوت بينهما قليلاً أو كثيرًا. فإن قيل: كيف يلزم المشتري رد عوض اللبن مع الخراج بالضمان، وأن من اشترى شيئًا معيبًا، ثم علم العيب، فرد به، لا يلزمه رد الغلة والأكساب الحاصلة في يده؟ فالجواب أن اللبن ليس من الغلة الحاصلة في يد المشتري، بل كان موجودًا عند البائع، وفي حالة العقد، ووقع العقد عليه وعلى الشاة جميعًا فهما مبيعان بثمن واحد، وتعذر رد اللبن لاختلاطه بما حدث منه في ملك المشتري، فوجب رد عوضه، والله أعلم. اهـ. 7 - وأما تلقي الركبان فيقول النووي: في هذه الأحاديث تحريم تلقي الجلب، وهو مذهب الشافعي

ومالك والجمهور، وقال أبو حنيفة والأوزاعي: يجوز التلقي إذا لم يضر بالناس، فإن أضر كره، والصحيح الأول، للنهي الصريح. قال أصحابنا: وشرط التحريم أن يعلم النهي عن التلقي، ولو لم يقصد التلقي، بل خرج لشغل، فاشترى منه، ففي تحريمه وجهان لأصحابنا، وقولان لأصحاب مالك، أصحهما عند أصحابنا التحريم، لوجود المعنى، ولو تلقاهم وباعهم ففي تحريمه وجهان، وإذا حكمنا بالتحريم فاشترى صح العقد. قال العلماء: وسبب التحريم إزالة الضرر عن الجالب، وصيانته ممن يخدعه. قال المازري: فإن قيل: المنع من بيع الحاضر للبادي سببه الرفق بأهل البلد، واحتمل فيه غبن البادي، والمنع من التلقي ألا يغبن البادي، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم "فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار"؟ فالجواب: أن الشرع ينظر في مثل هذه المسائل إلى مصلحة الناس، والمصلحة تقتضي أن ينظر للجماعة على الواحد، لا للواحد على الجماعة، ولا للواحد على الواحد، فلما كان البادي إذا باع بنفسه انتفع جميع أهل السوق، واشتروا رخيصًا، فانتفع به جميع سكان البلد نظر الشرع لأهل البلد على البادي، ولما كان في التلقي إنما ينتفع المتلقي خاصة، وهو واحد في قبالة واحد لم يكن في إباحة التلقي مصلحة، لا سيما إذا انضاف إلى ذلك علة ثانية، وهي لحوق الضرر بأهل السوق في انفراد المتلقي عنهم بالرخص، وقطع المواد عنهم، وهم أكثر من المتلقي، فنظر الشرع لهم عليه، فلا تناقض بين المسألتين، بل هما متفقتان في الحكمة والمصلحة. اهـ. ثم قال النووي: قال أصحابنا: "فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار" معناه لا خيار له قبل أن يقدم، ويعلم السعر، فإذا قدم وعلم السعر وكان الشراء بأرخص من سعر البلد ثبت له الخيار، سواء أخبر المتلقي بالسعر كاذبًا أم لم يخبر، وإن كان الشراء بسعر البلد أو أكثر فوجهان. الأصح: لا خيار له لعدم الغبن، وقيل: له الخيار، لإطلاق الحديث. وجزم البخاري بأن البيع مردود، بناء على أن النهي يقتضي الفساد، قال الحافظ ابن حجر: لكن محل أن النهي يقتضي الفساد عند المحققين فيما يرجع إلى ذات المنهي عنه، لا ما إذا كان يرجع إلى أمر خارج عنه فيصح البيع، ويثبت الخيار بشروطه. ولا يلزم من كون صاحبه عاصيًا أن يكون البيع مردودًا لأن النهي لا يرجع إلى نفس العقد، ولا يخل بشيء من أركانه وشرائطه، وإنما هو لدفع الإضرار بالركبان، والقول ببطلان البيع صار إليه بعض المالكية وبعض الحنابلة، والجمهور على صحة البيع، فإن وجود الخداع والمعصية في المصراة لم يبطل بيعها، وحديث "فإن كذبا وكتمًا محقت بركة بيعهما" لم يبطل بيعهما بالكذب وكتمان العيب. وقد اختلف العلماء في تحديد مسافة مبدأ التلقي ونهايته، وجهة المتلقي البداية، وجهة الجالب نهاية المتلقي، فقال الحافظ ابن حجر: الظاهر أنه لا يحد لانتهائه من جهة الجالب. اهـ ومعنى ذلك أن المتلقي لو ذهب إلى بلد الجالب الذي كان يقصد سوقًا معينة، ودخل بيته، واشترى منه، يعتبر متلقيًا. وفي هذا نظر. ثم قال: وابتداء الخروج من جهة المتلقي من السوق، فعن ابن عمر قال: "كانوا يبتاعون الطعام

في أعلى السوق - أي في مساحة خارجة عن السوق - فيبيعونه في مكانه، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه في مكانه حتى ينقلوه" قال الشافعية: إن خرج عن السوق، ولم يخرج من البلد لا يدخل في النهي، وحد ابتداء التلقي عندهم الخروج من البلد، والمعنى فيه عندهم أنهم إذا قدموا البلد أمكنهم معرفة السعر، وطلب الحظ لأنفسهم، فإن لم يفعلوا ذلك فهو من تقصيرهم، وأما إمكان معرفتهم ذلك قبل الدخول فنادر. والمعروف عند المالكية اعتبار السوق مطلقًا، كما هو ظاهر الحديث، وهو قول أحمد وإسحق، وعن الليث كراهة التلقي، ولو في الطريق، ولو على باب البيت، حتى تدخل السوق، ويؤيده رواية "ولا تلقوا السلع حتى يهبط بها السوق". اهـ. والتحقيق أن العرف يعتمد في هذه المسألة، فالمستوردون يسافرون إلى المصانع في بلادها ويشترون، ولا نظنهم يدخلون في النهي، والمصدرون يرسلون البضائع إلى بيوت المستوردين ومخازنهم، ولا نظنهم يدخلون في النهي، والعبرة بحكمة النهي. هل هي توفير السلع في أسواق المستهلكين وعدم الإضرار بهم؟ أو هي في حماية صاحب السلعة من استغلال جهله بالأسعار؟ فيدور النهي مع الحكمة من التشريع. واللَّه أعلم. 8 - وأما بيع الحاضر للبادي فقد قال الشافعي والأكثرون إنه حرام بشروط: أن يكون القادم غريبًا من البادية أو من بلد آخر، وأن تكون السلعة متاعًا تعم الحاجة إليه، وأن يكون عالمًا بالنهي، وأن يعرض الحضري ذلك على البدوي، فلو عرضه البدوي على الحضري لم يمنع، ولو خالف وباع الحاضر للبادي صح البيع مع التحريم. هذا مذهب الشافعية، وبه قال جماعة من المالكية وغيرهم. وقال بعض المالكية: يفسخ البيع ما لم يفت، وقال عطاء ومجاهد وأبو حنيفة: يجوز بيع الحاضر للبادي مطلقًا، لحديث "الدين النصيحة" قالوا: وحديث النهي عن بيع الحاضر للبادي منسوخ، وقال بعضهم: إنه على كراهة التنزيه، وقال بعضهم: إنه خاص بمن يبيع بالأجرة، كما فسره ابن عباس، لأنه لا يكون غرضه نصح البائع غالبًا، وإنما غرضه تحصيل الأجرة. وجعل المالكية البداوة قيدًا، وعن مالك: لا يلتحق بالبدوي في ذلك إلا من كان يشبهه. واللَّه أعلم

(405) باب بيع المبيع قبل قبضه وبيع الصبرة المجهولة القدر

(405) باب بيع المبيع قبل قبضه وبيع الصبرة المجهولة القدر 3387 - عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه" قال ابن عباس: وأحسب كل شيء مثله. 3388 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه" قال ابن عباس: وأحسب كل شيء بمنزلة الطعام. 3389 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يكتاله" فقلت لابن عباس: لم؟ فقال: ألا تراهم يتبايعون بالذهب، والطعام مرجأ؟ ولم يقل أبو كريب: مرجأ. 3390 - عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه". 3391 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم نبتاع الطعام. فيبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه. إلى مكان سواه. قبل أن نبيعه. 3392 - عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من اشترى طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه".

قال: وكنا نشتري الطعام من الركبان جزافًا. فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه. حتى ننقله من مكانه. 3393 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من اشترى طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه ويقبضه". 3394 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه". 3395 - عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنهم كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا اشتروا طعامًا جزافًا، أن يبيعوه في مكانه حتى يحولوه. 3396 - عن سالم بن عبد الله رضي الله عنهما: أن أباه قال: قد رأيت الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ابتاعوا الطعام جزافًا، يضربون في أن يبيعوه في مكانهم. وذلك حتى يؤووه إلى رحالهم. قال ابن شهاب: وحدثني عبيد الله بن عبد الله بن عمر؛ أن أباه كان يشتري الطعام جزافًا، فيحمله إلى أهله. 3397 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من اشترى طعامًا فلا يبعه حتى يكتاله" وفي رواية أبي بكر "من ابتاع". 3398 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال لمروان: أحللت بيع الربا؟ فقال مروان: ما فعلت. فقال أبو هريرة: أحللت بيع الصكاك. وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يستوفى. قال: فخطب مروان الناس. فنهى عن بيعها. قال سليمان: فنظرت إلى حرس يأخذونها من أيدي الناس.

3399 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إذا ابتعت طعامًا، فلا تبعه حتى تستوفيه". 3400 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الصبرة من التمر، لا يعلم مكيلتها، بالكيل المسمى من التمر. -[المعنى العام]- أحل الله البيع لحاجة الناس، رغم ما في كثير منه من الغرر والجهالة، وعدم الوضوح التام، وما عساه يقع فيه البائع من أضرار، وما عساه يقع فيه المشتري من خسائر ومفاسد، ليس من السهل على طرفي هذه المعاملة أن يكتشفا كل شيء في سلعتها، مهما حرصًا على ذلك، من أجل هذا نصحهما الشارع بأن يصدقا - ما أمكنهما - ويبينا - ما أمكنهما - ليبارك لهما في بيعهما، لأنهما إن تعمدا الكذب وإخفاء العيوب محقت بركة بيعهما. لا شك أن البيع معاملة مشوبة بالأضرار والأخطار، بقدر ما يترتب عليها من فوائد ومنافع، من هنا أحاطها الشارع الحكيم بكثير من الاحتياطات والأسوار ورفع العقبات، وتنقية ما يخالجها من شوائب، وتسليط الأضواء على ما يداخلها من ظلمات، وفتح نوافذ الهواء النقي ليدفع الهواء الفاسد. فنهي عن أصناف من بيوع كانت متداولة وكثيرة، وشرط شروطًا لبيوع كانت فاسدة، من هذه الشروط: النهي عن بيع السلعة قبل قبضها، بمعنى أن الإنسان إذا اشترى بضاعة ودفع ثمنها، ولم يتسلمها لا يجوز له بيعها حتى يقبضها، لأنه لو باعها قبل قبضها فكأنه باع نقدًا بنقد مع التفاوت بينهما، فإذا اشترى بضاعة بمائة، ولم يتسلمها، وباعها بمائة وخمسين، فكأنه باع المائة التي دفعها بمائة وخمسين قبضها، فكأنه باع ذهبًا بذهب، والبضاعة مرجأة مؤخرة، بعيدة عن البيع والشراء حيث لم يجر عليها قبض وانتقال. وقبض كل مبيع بحسبه، فقبض الدار التخلية من البائع، وخروجها من حيازته إلى حيازة المشتري، وهو ما يطلق عليه وضع اليد، وكذا قبض الأرض الزراعية وغير الزراعية والمصانع ونحو ذلك

مما لا ينتقل. أما ما ينتقل من مكان إلى مكان كالطعام والسيارة والماشية والثياب والآلات والأثاث فقبضه نقله من مكان يخص البائع إلى مكان لا اختصاص للبائع به، وهذا القبض الذي دعا إليه الشارع يرفع كثيرًا من الخلافات والمنازعات، فلو هلكت السلعة بعد قبضها فهي في ذمة المشتري وضمانه ومسئوليته، أما لو هلكت بعد البيع وقبل القبض وقد بيعت ثانيًا كان ذلك مثارًا للمنازعات وتداخل المسئوليات. وإذا كان الحديث قد أكد على النهي عن بيع الطعام قبل قبضه فغير الطعام له حكم الطعام، وما ذكر الطعام إلا لأنه غالب ما كان يباع ويشترى في ذلك الزمان. ومن الاحتياطات التي أمر بها الشارع قبض المكيل كيلاً، والموزون وزنًا، والمعدود عدًا، والمقادير قياسًا، فإنه لا يجوز بيع صنف ربوي بجنسه إلا أن يكون كل منهما معلوم المقدار، وأن تتحقق المساواة بين المتماثلين، فكومة التمر لا يجوز بيعها بما هو معلوم الوزن أو الكيل من التمر، وكذلك المعلوم وزنًا أو كيلاً، لا يجوز بيعه بكومة منه، لأن في ذلك جهالة وغرر ينهى الإسلام عنه حفاظًا على حقوق كل من المتبايعين. واللَّه أعلم. -[المباحث العربية]- (من ابتاع طعامًا) أي من اشترى طعامًا، والمراد من الطعام المأكول والمشروب والمتفكه به، أي ما من شأنه ذلك وإن لم يطعم، وما يؤول إلى ذلك. وفي الرواية السادسة والحادية عشرة "من اشترى طعامًا". (فلا يبعه حتى يستوفيه) قيل: معناه حتى يستوفي كيله ووزنه ومقداره، وقيل: حتى يقبضه المشتري، ويدخل في حوزته، وإن كان في مكانه، وقيل: حتى ينقله من مكانه، وفي ذلك خلاف يأتي في فقه الحديث. وفي الرواية الثانية والثامنة "حتى يقبضه" وفي الرواية السابعة جمع بين اللفظين "حتى يستوفيه ويقبضه" وفي الرواية الثالثة والحادية عشرة "حتى يكتاله" وفي الرواية الخامسة "يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه" وفي الرواية السادسة "حتى ننقله من مكانه" وفي الرواية التاسعة "حتى يحولوه" وفي الرواية العاشرة "حتى يؤووه إلى رحالهم". (وأحسب كل شيء مثله) من كلام ابن عباس، أي وأظن اجتهادًا أن كل مبيع مثل الطعام في ذلك الحكم. وفي الرواية الثانية "وأحسب كل شيء بمنزلة الطعام" وفي رواية للبخاري "ولا أحسب كل شيء إلا مثله". (قال: فقلت لابن عباس: لم)؟ وعند البخاري: قال طاووس لابن عباس: كيف ذاك؟ (ألا تراهم يتبايعون بالذهب، والطعام مرجأ) أي مؤخر، و"مرجأ" بالهمز،

وبدونه، ووقع عند بعضهم "مرجى" بضم الميم وفتح الراء وتشديد الجيم المفتوحة، مبالغة في التأخير. والمعنى أن ابن عباس استنبط من بيع المشتري الطعام قبل قبضه أنه من قبيل بيع الدراهم بدارهم، ما دام الطعام مرجأ ومؤخرًا استلامه، فسأله طاووس عن كيفية هذا الاستنباط، فأجابه ابن عباس بما معناه: أنه إذا باعه المشتري قبل القبض، وتأخر المبيع في يد البائع فكأنه باعه دراهم بدراهم، فإذا اشترى طعامًا بمائة دينار مثلاً، ودفعها للبائع، ولم يقبض منه الطعام، ثم باع هذا الطعام لآخر بمائة وعشرين دينارًا، وقبضها، والطعام في يد البائع الأول، فكأنه باع مائة دينار دفعها للبائع بمائة وعشرين دينارًا قبضها من المشتري، فكأن التبايع وقع بين ذهب وذهب، مادام الطعام مرجأ. (فيبعث علينا من يأمرنا بانتقاله) أي فيبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم. (كنا نشتري الطعام من الركبان جزافًا) بكسر الجيم، وضمها، وفتحها، ثلاث لغات، والكسر أفصح وأشهر، وهو البيع بلا كيل، ولا وزن، ولا عد، بل تقديرها بطريق الخبرة والظن والتخمين. و"الركبان" بضم الراء: الجماعة من أصحاب الإبل في السفر، جمع راكب. وفي الرواية الرابعة عشرة "نهي عن بيع الصبرة من التمر، لا يعلم مكيلتها بالكيل المسمى من التمر" والصبرة بضم الصاد الكومة من الطعام، ويقال: اشترى الطعام صبرة، أي جزافًا. والمعنى لا يعلم مقدار كيلها بالكيل المعروف بالنسبة لنوعها. فلكل نوع كيل مسمى معروف. (كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتروا طعامًا جزافًا أن يبيعوه في مكانه، حتى يحولوه) "أن يبيعوه في مكانه" علة الضرب، أي يضربون لبيعهم له في مكانه. وفي الرواية العاشرة "يضربون في أن يبيعوه" فلفظ "في" سببية، أي بسبب بيعهم. (أحللت بيع الربا؟ ) همزة الاستفهام محذوفة، والأصل: أأحللت بيع الربا؟ والاستفهام إنكاري توبيخي، أي ما كان ينبغي أن تحل بيع الربا. (أحللت بيع الصكاك) الصكاك جمع صك، وهو الورقة المكتوبة بدين، ويجمع أيضًا على صكوك، والمراد هنا الورقة التي تخرج من ولي الأمر بالرزق لمستحقه، بأن يكتب فيها: لزيد مثلاً، أو لحامله كذا وكذا من طعام وغيره، فيبيع صاحب الصك هذا الصك لإنسان قبل أن يقبض ما فيها. (فنظرت إلى حرس يأخذونها من أيدي الناس) الحرس بفتحات الحراس، وفي القرآن الكريم {وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسًا شديدًا وشهبًا} [الجن: 8] والمراد بهم هنا الجند الذين يرتبون لحفظ الحاكم وحراسته، وتنفيذ أوامره على الرعية. أي فكانوا يأخذون الصكوك المباعة من أيدي الناس الذين يتبايعونها. (نهي عن بيع الصبرة من التمر، لا يعلم مكيلتها، بالكيل المسمى من التمر)

قوله "بالكيل المسمى" هو مقابل البيع، أي الثمن، أي نهي عن بيع الصبرة من التمر بتمر مكيل معلوم. -[فقه الحديث]- قال النووي: في هذه الأحاديث النهي عن بيع المبيع حتى يقبضه البائع، واختلف العلماء في ذلك، قال الشافعي: لا يصح بيع المبيع قبل قبضه، سواء كان طعامًا، أو عقارًا، أو منقولاً، أو نقدًا، أو غيره. وقال عثمان البتي: يجوز في كل مبيع، وقال أبو حنيفة: لا يجوز في أي شيء إلا العقار [وما لا ينقل] وقال مالك: لا يجوز في الطعام، ويجوز فيما سواه، ووافقه كثيرون، وقال آخرون لا يجوز في المكيل والموزون، ويجوز فيما سواهما. قال: أما مذهب عثمان البتي فحكاه المازري والقاضي، ولم يحكه الأكثرون، بل نقلوا الإجماع على بطلان بيع الطعام المبيع قبل قبضه. قالوا: وإنما الخلاف فيما سواه. فمذهب عثمان البتي شاذ متروك. اهـ. قال ابن قدامة في المغني: ومن اشترى ما يحتاج إلى القبض لم يجز بيعه حتى يقبضه، ولا أرى بين أهل العلم فيه خلافًا إلا ما حكي عن عثمان البتي، وأما غير ذلك فيجوز بيعه قبل قبضه في أظهر الروايتين [أي عن أحمد] ونحوه قول مالك بن المنذر. اهـ. وقال عطاء بن أبي رباح والثوري وابن عيينة وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والشافعي في الجديد ومالك في رواية وأحمد في رواية وأبو ثور وداود: النهي الذي ورد في البيع قبل القبض قد وقع على الطعام وغيره، وهو مذهب ابن عباس أيضًا، ولكن أبا حنيفة قال: لا بأس ببيع الدور والأرضين قبل القبض، لأنها لا تنقل ولا تحول. لكن الشافعي وموافقوه يقولون: إن قبض كل شيء بحسبه. فما يتناول باليد، كالدراهم والدنانير والثوب، فقبضه بالتناول والحيازة والنقل من يد البائع واختصاصه، وما لا ينقل كالعقار، والأرض، والثمر على الشجر، فقبضه بالتخلية، وما ينقل في العادة كالأخشاب والحبوب والحيوان فقبضه بالنقل إلى مكان، لا اختصاص للبائع به، وفيه قول أنه يكفي فيه التخلية. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - من الرواية الثالثة والحادية عشرة من قوله "فلا يبعه حتى يكتاله" فرق مالك في المشهور عنه بين الجزاف والمكيل، فأجاز بيع الجزاف قبل قبضه، وبه قال الأوزاعي وإسحق، فالاستيفاء عندهم إنما يكون في مكيل أو موزون، ويساعدهم ما رواه أحمد عن ابن عمر مرفوعًا "من اشترى طعامًا بكيل أو وزن فلا يبعه حتى يقبضه" ورواه أبو داود والنسائي بلفظ "نهي أن يبيع أحد طعامًا اشتراه بكيل حتى يستوفيه". لكن الروايات الأولى والثانية والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والثانية عشرة

والثالثة عشرة تعمم الطعام، ولا تفرق بين المكيل والجزاف، بل الرواية التاسعة والعاشرة تنص على النهي عن بيع الجزاف حتى يقبضه. وبهذا قال الجمهور. 2 - استدل بعضهم بقوله "حتى يحولوه" في الرواية التاسعة، وقوله "حتى يؤووه إلى رحالهم" في الرواية العاشرة بأن المبيع من الطعام جزافًا قبضه النقل والتحويل إلى الرحال، والجمهور أن هذا القيد خرج مخرج الغالب. 3 - استدل بعضهم بقوله في الرواية الثالثة والحادية عشرة "حتى يكتاله" بأن شرط القبض في المكيل الكيل، وفي الموزون الوزن، فمن اشترى شيئًا مكايلة أو موازنة فقبضه جزافًا فقبضه فاسد، ومن اشترى مكايلة وقبضه، ثم باعه لغيره لم يجز تسليمه بالكيل الأول، حتى يكيله على من اشتراه ثانيًا، أما بيع الصبرة جزافًا فالرواية التاسعة والعاشرة تبيحه مطلقًا، على أن لا يباع ثانية حتى ينقل، وبه قال الجمهور، أي سواء علم البائع قدرها أم لم يعلم وسواء علم المشتري قدرها أم لم يعلم، وعن مالك التفرقة، فلو علم البائع دون المشتري لم يصح. قال ابن قدامة: يجوز بيع الصبرة جزافًا، لا نعلم فيه خلافًا إذا جهل البائع والمشتري قدرها. اهـ. 4 - استدل بالرواية الرابعة عشرة على تحريم بيع التمر المجهولة القدر بتمر معلوم القدر، قال النووي: هذا تصريح بتحريم التمر بالتمر حتى تعلم المماثلة. قال العلماء: لأن الجهل بالمماثلة في هذا الباب كحقيقة المفاضلة، لقوله صلى الله عليه وسلم "إلا سواء بسواء" ولم يحصل تحقق المساواة مع الجهل، وحكم الحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، وسائر الربويات، إذا بيع بعضها ببعض حكم التمر بالتمر. والله أعلم. 5 - واستدل بالرواية الثانية عشرة على منع بيع الصكوك. قال النووي: وقد اختلف العلماء في ذلك، والأصح عند أصحابنا وغيرهم جواز بيعها، والثاني منعها، فمن أخذ بظاهر قول أبي هريرة وبحجته منعها، ومن أجازها تأول قضية أبي هريرة على أن المشتري ممن خرج له الصك باعه لثالث قبل أن يقبضه المشتري، فكان النهي عن البيع الثاني، لا عن الأول، لأن الذي خرجت له مالك لذلك ملكًا مستقرًا، وليس هو بمشتر، فلا يمنع بيعه قبل القبض، كما لا يمتنع بيعه ما ورثه قبل قبضه. قال القاضي عياض - بعد أن تأوله على هذا النحو - وكانوا يتبايعونها، ثم يبيعها المشترون قبل قبضها، فنهوا عن ذلك، قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فرده عليه، وقال: لا تبع طعامًا ابتعته حتى تستوفيه. اهـ. قال النووي: وكذا جاء الحديث مفسرًا في الموطأ أن صكوكًا خرجت للناس في زمن مروان بطعام، فتبايع الناس تلك الصكوك قبل أن يستوفوها. وفي الموطأ ما هو أبين من هذا، وهو أن حكيم بن حزام ابتاع طعامًا أمر به عمر بن الخطاب رضي الله عنه فباع حكيم الطعام الذي اشتراه قبل قبضه ... " واللَّه أعلم. 6 - ومن الرواية التاسعة والعاشرة، من قوله "كانوا يضربون" أن ولي الأمر يعزر من تعاطى

بيعًا فاسدًا، ويعزره بالضرب وغيره مما يراه من العقوبات في البدن، على ما تقرر في كتب الفقه. 7 - وفيه إقامة الإمام على الناس من يراعي أحوالهم في ذلك. 8 - استنبط البخاري من النهي عن البيع قبل القبض منع بيع ما ليس عندك بالطريق الأولى، وحديث النهي عن بيع ما ليس عندك أخرجه أصحاب السنن، من حديث حكيم بن حزام، قال: قلت: يا رسول الله، يأتيني الرجل، فيسألني البيع ليس عندي، أبيعه منه، ثم أبتاعه له من السوق؟ فقال، "لا تبع ما ليس عندك" قال ابن المنذر: وبيع ما ليس عندك يحتمل معنيين. أحدهما: أن يقول: أبيعك دارًا معينة - وهي غائبة - فيشبه بيع الغرر، لاحتمال أن تتلف، أو لا يرضاها، ثانيها أن يقول: هذه الدار بكذا، على أن أشتريها لك من صاحبها، أو على أن يسلمها لك صاحبها. قال: وقصة حكيم موافقة للاحتمال الثاني. 9 - وقد فرع العلماء على منع البيع قبل القبض: ضمان المبيع لو هلك في يد البائع بعد العقد، وقبل القبض. فمن باع دابة واحتبسها عنده حتى يأتي المشتري بالثمن، فهلكت في يديه قبل أن يأتي المشتري بالثمن. قال سعيد بن المسيب وربيعة: الضمان على البائع. وقال سليمان بن يسار: هو على المشتري، ورجع إليه مالك بعد أن كان أخذ بالأول، وتابعه أحمد وإسحق وأبو ثور، وقال بالأول الحنفية والشافعية، والأصل في ذلك اشتراط القبض في صحة البيع، فمن اشترطه في كل شيء جعله من ضمان البائع، ومن لم يشترطه جعله من ضمان المشتري، وقد سئل الإمام أحمد عمن اشترى طعامًا، فطلب من يحمله، فرجع فوجده قد احترق، فقال: هو من ضمان المشتري. واللَّه أعلم

(406) باب خيار المجلس للمتبايعين، وقول أحدهما: لا خلابة

(406) باب خيار المجلس للمتبايعين، وقول أحدهما: لا خلابة 3402 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "البيعان، كل واحد منهما بالخيار على صاحبه، ما لم يتفرقا، إلا بيع الخيار". 3403 - عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكان جميعًا، أو يخير أحدهما الآخر، فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك، فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع، فقد وجب البيع". 3404 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا تبايع المتبايعان بالبيع فكل واحد منهما بالخيار من بيعه ما لم يتفرقا. أو يكون بيعهما عن خيار. فإذا كان بيعهما عن خيار، فقد وجب" زاد ابن أبي عمر في روايته قال نافع: فكان إذا بايع رجلاً فأراد أن لا يقيله، قام فمشي هنية، ثم رجع إليه. 3405 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا. إلا بيع الخيار".

3406 - عن حكيم بن حزام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا. فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما. وإن كذبا وكتما محق بركة بيعهما". 3407 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ذكر رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيوع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من بايعت فقل: لا خلابة". فكان إذا بايع يقول: لا خيابة. 3408 - - وفي رواية عن عبد الله بن دينار بهذا الإسناد، مثله. وليس في حديثهما: فكان إذا بايع يقول: لا خيابة. -[المعنى العام]- ومازلنا مع الضوابط والقيود والاحتياطات التي وضعها الإسلام لحماية المشتري أو البائع من الغبن، ووقاية كل منهما من استغلال الآخر، أو التغرير به، فقد يتعجل بالإيجاب أو بالقبول نتيجة إغراء، وقد تثار الرغبة، وتهيج من كوامن أحد الطرفين لتلك المعاملة، فيقع في شراكها وهو لا يريدها، أو لا يحتاجها، أو لا يقدرها، فجعلت هذه الأحاديث لكل من المتبايعين حق الرجوع في البيع، وحق إلغاء التعاقد، ماداما في مجلس العقد، أو ماداما متلاقيين، أو ماداما على هيئة يعتبرهما العرف عليها مجتمعين، كأن يكونا على الهاتف مثلاً، ولا ينقطع هذا الخيار إلا بتفرق الأبدان على أصح الأقوال، فإذا أراد أحدهما أو كلاهما إمضاء العقد ولزومه مع حاجتهما لبقاء اللقاء قام أحدهما من مجلسه، وسار بعيدًا للحظة، ثم عاد، ليقطع بذلك مجلس العقد. كان ابن عمر - رضي اللَّه عنهما - يفعل ذلك. إن أحد المتبايعين قد يحاول أن ينزع هذا الحق من يد الآخر، فيقول له: اقطع بالرأي، ولا خيار لك إن قبلت، وفورًا قل: نعم أو لا، ولا رجوع. وهذا الأسلوب يتناقض مع حكمة تشريع خيار المجلس، حتى قال بعض العلماء: إنه يبطل البيع.

ولم يكتف الإسلام بمنحه التؤدة والتمهل وإعطاء فرصة الرجوع بالمجلس، بل طالب كلاً من الطرفين بالنصح للطرف الآخر، وأن يبين له ما في سلعته من عيوب وأن يصدقه القول، ليبارك لهما في بيعهما، وليجعل الله في هذه المعاملة خيرًا كثيرًا، أما إن كتمه عيوبها، وأخفاها عليه، ولم يصدقه النصيحة محق الله بركة هذه البيعة، وجعلها شرًا ووبالاً. ولم يكتف الإسلام بهذا أيضًا، بل سمح لكل من الطرفين أن يشترط الخيار، وأن يحتفظ لنفسه بحق التراجع في البيع، مدة قد تصل إلى ثلاثة أيام أو تزيد. وحمى الإسلام المغفل في البيع والشراء من استغلال الآخرين له، فلقنه أن يقول لصاحبه في البيع: لا خلابة. أي لا خداع بيننا. ولا تغرير، وله بعد ذلك أن يستشير الخبراء، وأن يرجع على الطرف الآخر إن كان مغبونًا. فنعم الإسلام، ونعم التشريع الذي يحفظ المودة والرحمة بين المتعاملين. -[المباحث العربية]- (خيار المجلس) "خيار" بكسر الخاء، وهو طلب خير الأمرين، من إمضاء البيع أو فسخه، والخيار في البيع نوعان: "خيار المجلس" أي الخيار طالما كان المتبايعان بمجلس العقد، أو إلى حين يتم الإيجاب والقبول ويحصل التراضي في المجلس. وخيار الشرط وسيأتي في فقه الحديث، وزاد بعضهم خيار النقيصة، وهو أن يظهر بالمبيع عيب يوجب الرد، ويلتزم البائع فيه شرطًا لم يكن فيه، وبعضهم يجعله مندرجًا في خيار الشرط. (للمتبايعين) التثنية لتغليب البيع على الشراء، أو على أن كل واحد منهما بائع. (البيعان) بفتح الباء وتشديد الياء المكسورة جمع بيع بتشديد الياء بمعنى البائع، كضيق وضائق والمراد البائع والمشتري. (كل واحد منها بالخيار) أي بخيار المجلس. (ما لم يتفرقا) في رواية النسائي "ما لم يفترقا" بتقديم الفاء على التاء، وعن بعض أهل اللغة يقال: افترقا إذا كان بالكلام، وتفرقا إذا كان بالأبدان. وفي الرواية الثانية "وكانا جميعًا" أي ما لم يتفرقا عن تجمع. (إلا بيع الخيار) قال الكرماني: فيه ثلاثة أقوال: أصحها أنه استثناء من أصل الحكم، أي البيعان بالخيار إلا بيعًا جرى فيه التخاير بينهما - كأن يقول كل منها للآخر: أنت بالخيار. تمضي عقد البيع أو لا تمضيه. فيقول كل منهما: أختار إمضاء البيع - فإن العقد يلزم به وإن لم يتفرقا بعد. والثاني: أن الاستثناء من مفهوم الغاية "حتى يتفرقا" أي أنهما بالخيار ما لم يتفرقا إلا بيعًا شرط فيه خيار يوم أو يومين مثلاً، فإن الخيار باق بعد التفرق، إلى مضي المدة المشروطة. الثالث: أن

معناه إلا بيعًا شرط فيه أن لا خيار لهما في المجلس، فيلزم البيع بنفس العقد، ولا يكون فيه خيار أصلاً. وسيأتي خلاف الفقهاء في الأول والثالث. وفي الرواية الثانية "أو يخير أحدهما الآخر، فإن خير أحدهما الآخر، فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع" وهذا يؤيد المعنى الأول، وكذا جاء في الرواية الثالثة "أو يكون بيعهما عن خيار، فإذا كان بيعهما عن خيار فقد وجب" مما يؤيد المعنى الأول أيضًا. (أو يكون بيعهما عن خيار) في الأصول بنصب الفعل "يكون" وكذا في الرواية الثانية بنصب الفعل "يخير" وتوجيهه أن "أو" بمعنى "إلا أن" كقولهم: لألزمنك أو تقضيني ديني، والمعنى هنا: كل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن يخير أحدهما الآخر، وإلا أن يكون بيعهما عن خيار. وقيل في توجيهه غير ذلك مما فيه تعسف. (فأراد أن لا يقيله) أقاله البيع وافقه على فسخه، والمعنى فأراد أن لا ينفسخ البيع. (فكان إذا بايع رجلاً) أي فكان ابن عمر إذا بايع إلخ. (قام، فمشي هنيهة) كأن مذهب ابن عمر أن التفرق بالأبدان، قال النووي: هو في بعض النسخ "هنية" بتشديد الياء، وفي بعضها "هنيهة" بتخفيف الياء، وزيادة هاء، أي شيئًا يسيرًا. (كل بيعين لا بيع بينهما) أي لا بيع لازم نافذ، و"بيعين" بتشديد الياء الأولى تثنية "بيع" بتشديد الياء أيضًا، وهو البائع. (فإن صدقا وبينا بورك لهما) أي بين كل واحد لصاحبه ما يحتاج إلى بيانه من عيب ونحوه في السلعة والثمن، وصدق في ذلك، وفي الإخبار بالثمن، وما يتعلق بالعوضين. (وإن كذبا وكتما محق بركة بيعهما) "محق" بدون تأنيث لأن الفاعل غير حقيقي التأنيث فيجوز في الفعل التذكير والتأنيث، وفي رواية البخاري و"محقت بركة بيعهما" قال الحافظ ابن حجر: يحتمل أن يكون على ظاهره، وأن شؤم التدليس والكذب وقع في ذلك العقد، فمحق بركته، وإن كان الصادق مأجورًا، والكاذب مأزورًا، ويحتمل أن يكون ذلك مختصًا بمن وقع منه التدليس والعيب، دون الآخر. اهـ. والأخير هو الراجح. (ذكر رجل لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيوع) أي فطلب منه وسيلة تحميه من ذلك. وهذا الرجل هو حبان بن منقذ - صحابي ابن صحابي، أنصاري، شهد أحدًا وما بعدها، ومات في زمن عثمان، وقد شج في بعض غزواته مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن حصن من الحصون، أصابه حجر في رأسه، فتغير لسانه وعقله، لكنه لم يخرج عن التمييز، فكانت بلسانه لوثة، وكان يغبن في البيوع، وكان لا يدع التجارة رغم أن لسانه كان لا يساعده على مخارج الحروف. (من بايعت فقل: لا خلابة) في رواية البخاري "إذا بايعت فقل: لا خلابة" بكسر الخاء

وتخفيف اللام، أي لا خديعة، يقال: خلبه يخلبه - من باب نصر وضرب - خلبًا وخلابة، ورجل خالب وخلاب، أي خداع. و"لا" نافية للجنس، أي لا خديعة في الدين، لأن الدين النصيحة، أي لا تحل لك خديعتي، أو لا يلزمني خديعتك، زاد ابن إسحق "ثم أنت بالخيار في كل سلعة ابتعتها ثلاث ليال، فإن رضيت فأمسك، وإن سخطت فاردد" فبقي حتى أدرك عثمان، وهو ابن مائة وثلاثين سنة، وكان إذا اشترى شيئًا، فقيل له: إنك غبنت فيه رجع به، فيشهد له الرجل من الصحابة بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعله بالخيار ثلاثًا، فيرد له دراهمه، وقد لقنه النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول، ليتلفظ به عند البيع، فيطلع به صاحبه على أنه ليس من ذوي البصائر في معرفة السلع، ومقادير القيمة، فينصح له كما ينصح لنفسه، وذكر الدارقطني: أنه كان ضريرًا. (فكان إذا بايع يقول: لا خيابة) بخاء مكسورة بعد ياء بدل اللام، ثم باء بعد الألف، ورواه بعضهم بنون بعد الألف، وهو تصحيف، ووقع في غير مسلم (خذابة) بالذال، والصواب الأول، وقد قلنا: إن لسانه كان ألثغ لا يساعده على إخراج الحروف من مخارجها. -[فقه الحديث]- قال النووي: هذا الحديث دليل لثبوت خيار المجلس لكل واحد من المتبايعين بعد انعقاد البيع، حتى يتفرقا من ذلك المجلس بأبدانها، وبهذا قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وممن قال به: علي بن أبي طالب وابن عمر وابن عباس وأبو هريرة وأبو برزة الأسلمي وطاووس وسعيد بن المسيب وعطاء وشريح القاضي والحسن البصري والشعبي والزهري والأوزاعي وابن أبي ذئب وسفيان بن عيينة والشافعي وابن المبارك وعلي بن المديني وأحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه وأبو ثور وأبو عبيد والبخاري وسائر المحدثين وآخرون. وقال مالك وأبو حنيفة: لا يثبت خيار المجلس، بل يلزم البيع بنفس الإيجاب والقبول. وبه قال ربيعة، وحكى عن النخعي، وهو رواية عن الثوري. قال: وهذه الأحاديث الصحيحة ترد على هؤلاء، وليس لهم عنها جواب صحيح، والصواب ثبوته، كما قاله الجمهور. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن إبراهيم النخعي، أنه قال: "البيع جائز وإن لم يتفرقا" ورواه عنه سعيد بن منصور بلفظ "إذا وجبت الصفقة فلا خيار" وبذلك قال المالكية إلا ابن حبيب، والحنفية كلهم. قال ابن حزم: لا نعلم لهم سلفًا إلا إبراهيم النخعي وحده. وقد ذهبوا في الجواب عن هذه الأحاديث مذاهب شتى: 1 - فمنهم من ردها بحجة أنها معارضة لما هو أقوى منها، مما سيأتي على أنه ناسخ. 2 - ومنهم من قال: إنها منسوخة:

أ- بحديث "المسلمون على شروطهم" والخيار بعد لزوم العقد يفسد الشرط. ب- وبحديث التحالف عند اختلاف المتبايعين، لأنه يقتضي الحاجة إلى اليمين، وذلك يستلزم لزوم العقد، ولو ثبت الخيار لكان كافيًا في رفع العقد. جـ- وبقوله تعالى {وأشهدوا إذا تبايعتم} [البقرة: 282] والإشهاد إن وقع بعد التفرق لم يطابق الأمر، وإن وقع قبل التفرق لم يصادف محلاً. د- وبأنه من رواية مالك، وقد عمل بخلافه، فدل على أنه عارضه ما هو أقوى منه، والراوي إذا عمل بخلاف ما روى دل على وهن المروي عنه. هـ- وبأنه معارض بعمل أهل المدينة. و- ونقل ابن التين عن أشهب: أنه مخالف لعمل أهل مكة أيضًا. ز- وقالت طائفة: هو خبر واحد، فلا يعمل به إلا فيما تعم به البلوى. ح- وقال آخرون: هو مخالف للقياس الجلي، في إلحاق ما قبل التفرق بما بعده. ط- وقال بعضهم: الحديث جاء بألفاظ مختلفة، فهو مضطرب، لا يحتج به. 3 - وقال آخرون: التفرق بالأبدان محمول على الاستحباب تحسينًا للمعاملة مع المسلم لا على الوجوب. 4 - وقال آخرون: هو محمول على الاحتياط، للخروج من الخلاف. 5 - وقالت طائفة: المراد بالتفرق في هذه الأحاديث التفرق بالكلام، كما في عقد النكاح والإجارة والعتق. 6 - وقيل: المراد بالمتبايعين المتساومان. وقد ذكر الحافظ ابن حجر ضعف هذه الأجوبة، ورد عليها، واكتفينا بما ذكرنا، وكانت ردوده على ما ذكرنا كالآتي: عن 1، 2، أ، ب، ج قال: لا حجة في شيء من ذلك، لأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، والجمع بين الدليلين، مهما أمكن لا يصار معه إلى الترجيح، والجمع هنا ممكن بين الأدلة المذكورة، بغير تعسف ولا تكلف. أما أنه من رواية مالك فإن مالكًا لم ينفرد به، فقد رواه غيره، وعمل به، وهم أكثر عددًا، رواية وعملاً، وقد خص كثير من محققي الأصوليين الخلاف المشهور - فيما إذا عمل الراوي بخلاف ما روي - بالصحابة دون ما جاء بعدهم. ومن قاعدتهم: أن الراوي أعلم بما روى، وابن عمر هو راوي الخبر، وكان إذا باع يفارق ببدنه، فاتباعه أولى من غيره. (هـ) وأما أنه معارض بعمل أهل المدينة، فإنه قد قال به ابن عمر، ثم سعيد بن المسيب، ثم الزهري، ثم ابن أبي ذئب، وهؤلاء من أكابر علماء المدينة في أعصارهم، ولا يحفظ عن أحد من علماء المدينة القول بخلافه سوى عن ربيعة.

(ز) وأما أنه مخالف لعمل أهل مكة، فلا يعرف عن أحد منهم القول بخلافه، فقد سبق عن عطاء وطاووس وغيرهما من أهل مكة. (ح) وأما أنه خبر واحد، فلا يعمل به، فقد رد بأنه مشهور، فيعمل به. (ط) وأما أنه مخالف للقياس الجلي، فقد رد بأن القياس مع النص فاسد الاعتبار. (ي) وأما أنه جاء بألفاظ مختلفة فهو مضطرب لا يحتج به، فقد تعقب بأن الجمع بين ما اختلف من ألفاظه ممكن بغير تكلف ولا تعسف، فلا يضره الاختلاف، وشرط المضطرب أن يتعذر الجمع بين مختلف ألفاظه، وليس هذا الحديث من ذلك. 3 - ، 4 - وأما قولهم: التفرق بالأبدان محمول على الاستحباب، أو محمول على الاحتياط فهو على خلاف الظاهر، ولا ضرورة إليه. 5 - وأما قولهم: المراد التفرق بالكلام، كما في عقد النكاح والإجارة والعتق، فقد تعقب بأنه قياس مع ظهور الفارق، لأن البيع ينقل فيه ملك رقبة المبيع ومنفعته، بخلاف ما ذكر. 6 - وأما أن المراد بالمتبايعين المتساومان فهو مجاز لا يلجأ إليه إلا عند تعذر الحقيقة، فالأصل الحمل على الحقيقة حتى يقوم الدليل على خلافه. وأخيرًا قال الحافظ ابن حجر: قال ابن عبد البر: قد أكثر المالكية والحنفية من الاحتجاج لرد هذا الحديث بما يطول ذكره، وأكثره لا يحصل منه شيء. واللَّه أعلم. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - من قوله في الرواية الأولى "إلا بيع الخيار" وقوله في الرواية الثالثة "أو يكون بيعهما عن خيار" أخذت مشروعية خيار الشرط. 2 - وأخذ من عدم تحديد مدته في الحديث أنه لا يتقيد بأيام، بل يفوض الأمر فيه إلى الحاجة، لتفاوت السلع في ذلك، وذهب الشافعية والحنفية إلى أن أمده ثلاثة أيام، واحتج لهم بما رواه البيهقي عن ابن عمر مرفوعًا "الخيار ثلاثة أيام". وأنكر مالك التوقيت في خيار الشرط، وتحديد غايته بثلاثة أيام. قال: نعم هي في الغالب يمكن الاختيار فيها، لكن لكل شيء أمد بحسبه، يتخير فيه، فللدابة مثلاً وللثوب يوم أو يومان، وللجاريه جمعة، وللدار شهر. وقال الأوزاعي: يمتد الخيار شهرًا وأكثر، بحسب الحاجة إليه. وقال الثوري: يختص الخيار بالمشتري، ويمتد له إلى عشرة أيام وأكثر. 3 - من قوله في الرواية الثانية "أو يخير أحدهما الآخر، فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع" قال النووي: فإن خير أحدهما الآخر، فسكت لم ينقطع خيار الساكت، وفي انقطاع خيار القائل وجهان لأصحابنا، أصحهما الانقطاع، لظاهر الحديث.

4 - فسر بعضهم قوله في الرواية الأولى: "إلا بيع الخيار" بأن معناه إلا بيعًا شرط فيه أن لا خيار لهما في المجلس، واستدل به على لزوم البيع وصحته على ذلك. قال النووي: والأصح عند أصحابنا بطلانه بهذا الشرط. 5 - من قوله في الرواية الخامسة "فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محق بركة بيعهما" فضل الصدق، والحث عليه، وذم الكذب والحث على منعه. 6 - وأن الكذب سبب لذهاب البركة. 7 - وأن عمل الآخرة يحصل خيري الدنيا والآخرة. 8 - وحصول البركة للمتبايعين إن حصل منها الصدق والتبيين. 9 - ومحق البركة لهما إن لم يحصل منها الصدق والتبيين. 10 - وأن الدنيا لا يتم حصولها إلا بالعمل الصالح. 11 - وأن شؤم المعاصي يذهب بخير الدنيا والآخرة. 12 - ومن الرواية السادسة: كراهة الخداع في البيع. 13 - واستدل بهذا الحديث على: أنه يرد بالغبن الفاحش، لمن لم يعرف قيمة السلعة. وهو مذهب أحمد وأحد قولي مالك. وتعقب: بأنه صلى الله عليه وسلم إنما جعل له الخيار لضعف عقله، ولو كان الغبن في نفسه يؤدي إلى الفسخ لما احتاج إلى شرط الخيار. وقال ابن العربي: قصة هذا الرجل ليست قصة عامة، وإنما هي خاصة، في واقعة عين، فيحتج بها في حق من كان بصفة الرجل، فلا يحتج بها في مسألة الغبن مطلقًا. 14 - واستدل به على أن من قال عند العقد: لا خلابة. أنه يصير في تلك الصفقة بالخيار سواء وجد فيه عيبًا أو غبنًا أم لا، وبالغ ابن حزم في جموده، فقال: لو قال: لا خديعة أو لا غش، أو ما أشبه ذلك لم يكن له الخيار، حتى يقول: لا خلابة. قال الحافظ ابن حجر: ومن أسهل ما يرد به عليه ما ثبت في صحيح مسلم من أن الرجل كان يقول "لا خيابة" بالياء بدل اللام، ومع ذلك لم يتغير الحكم في حقه عند أحد من الصحابة الذين كانوا يشهدون له بأن النبي صلى الله عليه وسلم جعله بالخيار، فدل على أنهم اكتفوا في ذلك بالمعنى. 15 - واستدل به على أن الكبير لا يحجر عليه ولو تبين سفهه، لما في بعض طرق الحديث أن أهله أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله احجر عليه. فدعاه، فنهاه عن البيع، فقال: لا أصبر عنه فقال: إذا بايعت فقل: لا خلابة. ورد هذا الاستدلال بأنه لو كان الحجر على الكبير لا يصح لأنكر عليهم، أما كونه لم يحجر عليه فلا يدل على منع الحجر على السفيه.

16 - واستدل به على جواز البيع بشرط الخيار. 17 - وعلى جواز شرط الخيار للمشتري وحده. 18 - وفيه ما كان عليه أهل هذا العصر من الرجوع إلى الحق. 19 - وفيه قبول خبر الواحد في الحقوق وغيرها. واللَّه أعلم

(407) باب النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها وعن بيع المزابنة والترخيص في العرايا والنهي عن بيع المحاقلة والمخابرة والمعاومة والسنين والاستثناء

(407) باب النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها وعن بيع المزابنة والترخيص في العرايا والنهي عن بيع المحاقلة والمخابرة والمعاومة والسنين والاستثناء 3409 - عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحها. نهى البائع والمبتاع. 3410 - عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع النخل حتى يزهو وعن السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة. نهى البائع والمشتري. 3411 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تبتاعوا الثمر حتى يبدو صلاحه وتذهب عنه الآفة" قال: يبدو صلاحه، حمرته وصفرته. 3412 - عن عبد الله بن دينار أنه سمع ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحه". 3413 - - وزاد في حديث شعبة فقيل لابن عمر: ما صلاحه؟ قال تذهب عاهته. 3414 - عن جابر رضي الله عنه قال: نهى (أو نهانا) رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر حتى يطيب.

3415 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه. 3416 - عن أبي البختري قال سألت ابن عباس عن بيع النخل؟ فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع النخل حتى يأكل منه أو يؤكل. وحتى يوزن. قال: فقلت: ما يوزن؟ فقال رجل عنده: حتى يحزر. 3417 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تبتاعوا الثمار حتى يبدو صلاحها". 3418 - عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه وعن بيع الثمر بالتمر. 3419 - - قال ابن عمر: وحدثنا زيد بن ثابت، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا. زاد ابن نمير في روايته: أن تباع. 3420 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تبتاعوا الثمر حتى يبدو صلاحه. ولا تبتاعوا الثمر بالتمر". 3421 - عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المزابنة والمحاقلة. والمزابنة أن يباع ثمر النخل بالتمر. والمحاقلة أن يباع الزرع بالقمح. واستكراء الأرض بالقمح قال: وأخبرني سالم بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا تبتاعوا الثمر حتى يبدو صلاحه ولا تبتاعوا الثمر بالتمر". وقال سالم: أخبرني عبد الله عن

زيد بن ثابت، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رخص بعد ذلك في بيع العرية بالرطب أو بالتمر. ولم يرخص في غير ذلك. 3422 - عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لصاحب العرية أن يبيعها بخرصها من التمر. 3423 - عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في العرية يأخذها أهل البيت بخرصها تمرًا. يأكلونها رطبًا. 3424 - وفي رواية عن يحيى بن سعيد بهذا الإسناد غير أنه قال والعرية النخلة تجعل للقوم فيبيعونها بخرصها تمرًا. 3425 - عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرية بخرصها تمرًا. قال يحيى: العرية أن يشتري الرجل ثمر النخلات لطعام أهله رطبًا، بخرصها تمرًا. 3426 - عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في العرايا أن تباع بخرصها كيلاً. 3427 - وفي رواية بهذا الإسناد وقال: أن تؤخذ بخرصها. 3428 - عن نافع، بهذا الإسناد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا بخرصها. 3429 - عن بشير بن يسار عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل دارهم. منهم سهل بن أبي حثمة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمر بالتمر. وقال "ذلك الربا،

تلك المزابنة" إلا أنه رخص في بيع العرية. النخلة والنخلتين يأخذها أهل البيت بخرصها تمرًا. يأكلونها رطبًا. 3430 - عن بشير بن يسار عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيع العرية بخرصها تمرًا. 3431 - عن بشير بن يسار عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل داره؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى فذكر بمثل حديث سليمان بن بلال عن يحيى. غير أن إسحق وابن المثنى جعلا (مكان الربا) الزبن. وقال ابن أبي عمر: الربا. 3432 - عن بشير بن يسار مولى بني حارثة؛ أن رافع بن خديج وسهل بن أبي حثمة حدثاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة. الثمر بالتمر. إلا أصحاب العرايا. فإنه قد أذن لهم. 3433 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا بخرصها فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة (يشك داود قال: خمسة أو دون خمسة)؟ قال: نعم. 3434 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة. والمزابنة بيع الثمر بالتمر كيلاً. وبيع الكرم بالزبيب كيلاً. 3435 - عن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة، بيع ثمر النخل بالتمر كيلاً، وبيع العنب بالزبيب كيلاً، وبيع الزرع بالحنطة كيلاً.

3436 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة. والمزابنة بيع ثمر النخل بالتمر كيلاً. وبيع الزبيب بالعنب كيلاً. وعن كل ثمر بخرصه. 3437 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة. والمزابنة أن يباع ما في رءوس النخل بتمر، بكيل مسمى. إن زاد فلي، وإن نقص فعلي. 3438 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة: أن يبيع ثمر حائطه، إن كانت نخلاً، بتمر كيلاً. وإن كان كرمًا، أن يبيعه بزبيب كيلاً. وإن كان زرعًا، أن يبيعه بكيل طعام. نهى عن ذلك كله. 3439 - - وفي رواية قتيبة: أو كان زرعًا. 3440 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من باع نخلاً قد أبرت، فثمرتها للبائع. إلا أن يشترط المبتاع". 3441 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيما نخل اشترى أصولها وقد أبرت، فإن ثمرها للذي أبرها. إلا أن يشترط الذي اشتراها". 3442 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أيما امرئ أبر نخلاً، ثم باع أصلها، فللذي أبر ثمر النخل. إلا أن يشترط المبتاع".

3443 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من ابتاع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها للذي باعها. إلا أن يشترط المبتاع. ومن ابتاع عبدًا فماله للذي باعه. إلا أن يشترط المبتاع". 3444 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة. وعن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه. ولا يباع إلا بالدينار والدرهم. إلا العرايا. 3445 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة والمحاقلة والمزابنة. وعن بيع الثمرة حتى تطعم. ولا تباع إلا بالدراهم والدنانير. إلا العرايا. قال عطاء: فسر لنا جابر قال: أما المخابرة فالأرض البيضاء يدفعها الرجل إلى الرجل فينفق فيها، ثم يأخذ من الثمر. وزعم أن المزابنة بيع الرطب في النخل بالتمر كيلاً. والمحاقلة في الزرع على نحو ذلك. يبيع الزرع القائم بالحب كيلاً. 3446 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة. وأن تشترى النخل حتى تشقه. (والإشقاه أن يحمر أو يصفر أو يؤكل منه شيء) والمحاقلة أن يباع الحقل بكيل من الطعام معلوم. والمزابنة أن يباع النخل بأوساق من التمر. والمخابرة الثلث والربع وأشباه ذلك.

3447 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة والمحاقلة والمخابرة. وعن بيع الثمرة حتى تشقح. قال: قلت لسعيد: ما تشقح؟ قال تحمار وتصفار ويؤكل منها. 3448 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة والمعاومة والمخابرة (قال أحدهما: بيع السنين هي المعاومة) وعن الثنيا ورخص في العرايا. 3449 - - وفي رواية عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمثله. غير أنه لا يذكر: بيع السنين هي المعاومة. 3450 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض. وعن بيعها السنين. وعن بيع الثمر حتى يطيب. -[المعنى العام]- البيوع ومبادلة السلعة بالمال، والسلعة بالسلعة، والمال بالمال معاملات بين البشر منذ عمرت بهم الأرض، وهي ضرورة من ضرورات حياتهم، فقد يملك الواحد شيئًا، أو أشياء، ويحتاج غير ما يملك، ونزل قوله تعالى: {وأحل الله البيع وحرم الربا} [البقرة: 275] والعرب يتعاملون معاملات شتى، بعضها ربا، وبعضها بيع، وبعضها ليس بيعًا ولا ربًا، فبينت السنة للناس ما نزل إليهم، وميزت البيع من الربا، والبيع الفاسد من البيع الصحيح، وكان الهدف الأساسي من التشريع حماية كل من المتعاملين من الغرر والغش والخداع والقمار لتحقيق مصلحة المتبايعين قدر الإمكان، وهذه الأحاديث تضع القوانين الحكيمة لبعض المعاملات التي كانت سائدة. وأول هذه القوانين: النهي عن بيع الثمار قبل أن تأمن الآفة، ويبدو صلاحهما وعلامات قرب نضجها من صفرة أو حمرة أو غيرهما، لأنها لو بيعت قبل بدو الصلاح لم يؤمن عليها من الآفة، فتقع الخصومة، فإن تحملها المشتري أكل البائع الثمن دون مقابل.

وثانيها: بيع المجهول بالمعلوم، وبيع الثمار على شجرها تخمينًا لمقاديرها بمقادير معلومة من نفس هذه الثمار جافة على الأرض. ولما كانت حياة القوم تقوم على النخل وثمره إلى حد كبير، وكان بعضهم يملك تمرًا ويحتاج رطبًا، وبعضهم يملك رطبًا ويحتاج تمرًا رخص لهم في بيع ثمر النخل على نخله تخمينًا لمقداره بقدر معين من التمر. وثالث هذه القوانين: النهي عن بيع الزرع في سنبله بكيل معلوم من القمح، ونهي عن كراء الأرض مقابل جزء مما يخرج منها، ونهي عن بيع ثمر الشجر عامين أو أكثر، لأنه بيع مجهول وغير مملوك للبائع، كما نهي عن استثناء المجهول من قدر مجهول، فإن جهالة أحد العوضين يفسد البيع. وهكذا تحاول الشريعة الإسلامية أن تغلق أبواب الشر والغرر والخداع، وأن تحقق الأمن والأمان والعدالة والتوازن بين الحقوق. -[المباحث العربية]- (نهي عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحها) قال أهل اللغة: الثمر بفتح الثاء والميم جمع ثمرة، كخشب جمع خشبة، وجمع الجمع ثمر بضم الثاء والميم، وجمع جمع الجمع أثمار. والثمر حمل الشجر مطلقًا، نخل أو غيره كالعنب والرمان والتفاح والبرتقال والخوخ، وأما التمر بالتاء المثناة فثمرة النخل في حالة معينة، كالزبيب للكرم. وبدو الصلاح - بضم الدال وتشديد الواو - ظهوره، قال النووي: وقع في كثير من كتب المحدثين وغيرهم "حتى يبدوا" بالألف في الخط، وهو خطأ، والصواب حذفها في مثل هذا. والواو مفتوحة، والفعل منصوب بحتى، ومثله "يزهو" في الرواية الثانية. يقال: زها النخل يزهو إذا ظهرت ثمرته، وأزهى إذا احمر أو اصفر. قال الخطابي: هكذا يروى "حتى يزهو" قال: والصواب "حتى يزهى" والإزهاء في الثمر أن يحمر أو يصفر، وذلك علامة الصلاح فيها، ودليل صلاحها من الآفة. اهـ. وقال ابن الأثير: منهم من أنكر "يزهي" كما أن منهم من أنكر "يزهو" وقال الجوهري: الزهو - بفتح الزاي - وأهل الحجاز يضمونها - وهو البسر الملون، يقال إذا ظهرت الحمرة أو الصفرة في النخل: ظهر فيه الزهو، وقد زها النخل زهوًا، وأزهى لغة. قال النووي: هذه أقوال أهل العلم فيه، ويحصل من مجموعها جواز ذلك كله. اهـ. وفي رواية للبخاري عن أنس "حتى يزهو. قيل: وما يزهو؟ قال: يحمار أو يصفار" وفي رواية "قلنا لأنس: ما زهوها؟ قال: تحمر" وفي رواية للنسائي "قيل يا رسول الله، وما تزهي؟ قال: تحمر" وظاهره أن هذا التفسير مرفوع. وفي الرواية الثالثة عطف على "حتى يبدو صلاحه" "وتذهب عنه الآفة" وهما متلازمان غالبًا، ولذا جاء في ملحق الرواية الرابعة تفسير ابن عمر لبدو الصلاح بذهاب العاهة، أي يأمن العاهة، كما جاء في الرواية الثانية. وهي الآفة التي تصيب الثمر أو الزرع فتفسده.

وقد فسرت حالة بدو صلاح ثمر النخل في الرواية السابعة بقوله "حتى يأكل منه (صاحبه) أو يؤكل (أي يصلح للأكل) وحتى يوزن. قال: فقلت. ما يوزن؟ قال الرجل عنده حتى يحرز" بضم الياء وفتح الزاء، بينهما حاء ساكنة، أي يخرص ويقدر، قال النووي: ووقع في بعض الأصول بتقديم الراء على الزاي، وهو تصحيف. اهـ. وهذه أوصاف لازمة لبدو الصلاح غالبًا، ومثلها قوله في الرواية الثانية "وعن السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة"، كما عبر عن هذه الحالة في الرواية الخامسة بقوله "حتى يطيب" وعبر عنها في الرواية الثانية والثلاثين بقوله "حتى تشقه" والهاء فيه بدل من الحاء في "تشقح" بضم التاء وسكون الشين وكسر القاف فيهما، وقد فسر الراوي الإشقاه والإشقاح بالاحمرار والاصفرار، والمراد تغير اللون يسيرًا إلى الحمرة أو الصفرة أو غيرهما، وليس المراد حقيقة الحمرة والصفرة وكمالهما، هذا. وبدو الصلاح متفاوت بتفاوت الأثمار، فيبدو صلاح التين بأن يطيب وتوجد فيه الحلاوة، ويظهر السواد في أسوده، والبياض في أبيضه، وكذلك العنب الأسود، بدو صلاحه أن ينحو أسوده إلى السواد، وأن ينحو أبيضه إلى البياض، مع النضج، وكذلك الزيتون بدو صلاحه أن ينحو إلى السواد، وبدو صلاح القثاء والفقوس أن ينعقد، ويبلغ مبلغًا يوجد له طعم، وأما البطيخ فإنه ينحو ناحية الاصفرار والطيب، وأما الموز فقيل: إذا بلغ في شجره قبل أن يطيب، فإنه لا يطيب حتى ينزع. وهكذا، والعرف في ذلك مشهور. وليست هذه الحالة مانعة للآفة، فقد تحصل الآفة بعدها، ولكنها الحالة التي يغلب عندها أمن الآفة، وليس استحالتها. وسيأتي في فقه الحديث حكمة هذا التشريع. (نهي البائع والمبتاع) أي والمشتري، كما صرح به في الرواية الثانية، أي نهي البائع عن الإقدام على بيع ثمرته قبل بدو صلاحها، لئلا يعرض نفسه لأكل مال الغير، لو تلفت الثمرة، ونهي المشتري عن أن يقدم على شراء الثمرة قبل بدو صلاحها، لئلا يعرض ماله للضياع، لو تلفت الثمرة، وقد نهي عن إضاعة المال. وقد وجه النهي إلى المشترين في الرواية الثالثة والثامنة والعاشرة "لا تبتاعوا" ووجهه إلى البائعين في الرواية الرابعة "لا تبيعوا". (عن أبي البختري) قال النووي: هو بفتح الباء وإسكان الخاء وفتح التاء، واسمه سعيد بن عمران، من أفاضل أهل الكوفة، قتل سنة ثلاث وثمانين، ورجح النووي توثيقه، ورد تضعيف الحاكم له. (عن بيع النخل) أي عن بيع ثمر النخل، وليس المراد أصول النخل، لأن الأصول تباع، وثمرها على أي حالة تابعة له. (وعن بيع الثمر بالتمر) أي عن بيع ثمر النخل حالة كونه بسرًا أو رطبًا بتمر، وليس المراد أي ثمار، فإن سائر الثمار - غير ثمر النخل - يجوز بيعها بالتمر. وكان هذا النهي قبل الترخيص بالعرية، كما سيأتي. ولذلك ألحقه ابن عمر بحديث زيد بن ثابت "رخص في بيع العرايا".

(رخص في بيع العرايا) جمع "عرية" بفتح العين وكسر الراء وتشديد الياء المفتوحة، كمطايا جمع مطية، وضحايا جمع ضحية، مشتقة من التعري، وهو التجرد، لأنها عريت عن حكم باقي البستان. قال الأزهري: هي فعيلة بمعنى فاعلة، (أي قام بها التعري) وقال الهروي: فعيلة بمعنى مفعولة، من عراه يعروه، إذا أتاه وتردد إليه، لأن صاحبها يتردد إليها، وقيل: سميت بذلك لتخلي صاحبها الأول عنها من بين سائر نخله. والمراد من العرية هنا النخلة أو النخلات عليها رطب، يحتاج صاحبها تمرًا، أو يحتاج صاحب تمر رطبها، فيخرص ما عليها من رطب - أي يخمن ويقدر، فيقال: فيها الآن من الأوسق كذا، فإذا يبس كان من الأوسق كذا وكذا، فيدفع صاحب التمر تمره على الأرض ويخلي صاحب النخلة بينه وبينها. ولها صور كثيرة يختلف فيها الفقهاء، ستأتي في فقه الحديث. فالمراد من "رخص في بيع العرايا" أي في بيع ثمرتها، لا في بيع رقبتها، فإن بيع الرقبة لا شيء فيه، والرخصة استثناء من أصل للحاجة. وقد جاء تفسير بعض صورها في الروايات، ففي الرواية الثانية عشرة "رخص لصاحب العرية أن يبيعها بخرصها من التمر" وفي الثالثة عشرة "رخص في العرية، يأخذها أهل البيت بخرصها تمرًا، يأكلونها رطبًا" وفي ملحقها "والعرية النخلة، تجعل للقوم، فيبيعونها بخرصها تمرًا" ويقصد بهذه الصورة أن رطب النخلة يوهب لقوم، وهم يحتاجون التمر، لا يحتاجون الرطب، فيبيعون رطبها على رأسها خرصًا بتمر على الأرض كيلاً. وفي ملحق الرابعة عشرة "العرية أن يشتري الرجل ثمر النخلات لطعام أهله رطبًا، بخرصها تمرًا" وفي الرواية السادسة عشرة "رخص في بيع العرية، النخلة والنخلتين، يأخذها أهل البيت بخرصها تمرًا، يأكلونها رطبًا". (بشير بن يسار) قال النووي: بضم الباء وفتح الشين. مدني أنصاري. كان شيخًا كبيرًا فقيهًا، أدرك عامة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قليل الحديث. (من أهل دارهم) يعني بني حارثة، والمراد من الدار المحلة. (عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) ذكر منهم في الرواية التاسعة عشرة رافع بن خديج، وسهل بن أبي حثمة. (ذلك الربا - ذلك الزبن) بفتح الزاي وسكون الباء، وهو الدفع. (تلك المزابنة) مفاعلة من الزبن. والمراد منها هنا شراء ثمر النخل على رءوس النخل خرصًا بالتمر على الأرض كيلاً، وهل يلحق الكرم وغيره بالنخل؟ ظاهر الروايات ذلك، وسيأتي في فقه الحديث، وسمي هذا البيع المخصوص بالمزابنة، لما فيه من الغرر الذي يوقع كلاً من المتبايعين في المخاصمة والمدافعة عما يراه حقًا له. (فيما دون خمسة أوسق - أو في خمسة) شك من الراوي. و"أوسق" جمع وسق بفتح الواو وضمها، ويقال بكسرها، والفتح أفصح، ويقال في الجمع أيضًا: أوساق ووسوق، والوسق في الأصل. ضم

الشيء بعضه إلى بعض، وقدره ستون صاعًا، والصاع خمسة أرطال وثلث بالبغدادي، وكان كيلاً معروفًا ووزنه يختلف من مكيل إلى مكيل من الحبوب والثمار، وكان كيل الصاع نحو أربع حفنات بحفنات رجل معتدل. (من باع نخلاً قد أبرت) بضم الهمزة وتشديد الباء المكسورة وفتح الراء، مبني للمجهول، يقال: أبرت النخل بالفتح والتخفيف آبره أبرًا مثل أكلت اللحم آكله أكلاً، ويقال: أبرت النخل، بالتشديد، أؤبره تأبيرًا، كعلمته أعلمه تعليمًا، وتأبير النخل أن يشق طلع النخلة، ويطرح فيه شيء من طلع ذكر النخل. (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة، والمزابنة، والمخابرة) المحاقلة فسرها في الرواية الواحدة والثلاثين. ببيع الزرع القائم بالحب كيلاً، وقيل: بيع الطعام في سنبله بالبر، مأخوذ من الحقل، والمنهي عنه بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وقيل: بيع ما في رءوس النخل بالتمر، وقيل: كراء الأرض بالحنطة، أو بكيل طعام أو إدام. قال الحافظ ابن حجر: والمشهور أن المحاقلة كراء الأرض ببعض ما تنبت. اهـ. فعلى المشهور الذي ذكره تكون المحاقلة والمخابرة شيئًا واحدًا. قال النووي: المخابرة والمزارعة متقاربتان وهما المعاملة على الأرض ببعض ما يخرج منها من الزرع، كالثلث والربع وغير ذلك من الأجزاء المعلومة، لكن في المزارعة يكون البذر من مالك الأرض، وفي المخابرة يكون البذر من العامل، وقال بعض أصحابنا وجماعة من أهل اللغة وغيرهم: هما بمعنى، قالوا: والمخابرة مشتقة من الخبر، وهو الأكار، أي الفلاح. هذا قول الجمهور، وقيل: مشتقة من الخبار، وهي الأرض اللينة، وقيل: من الخبرة بضم الخاء، وهي النصيب، وقال ابن الأعرابي: مأخوذة من خيبر، لأن أول هذه المعاملة كان فيها. (وعن المعاومة) فسرها الراوي ببيع السنين، ومعناه أن يبيع ثمر الشجر عامين أو ثلاثة أو أكثر، وسيأتي حكمه في فقه الحديث. (وعن الثنيا) بضم الثاء وسكون النون بعدها ياء، وهي الاستثناء في البيع، كقوله: بعتك هذه الكومة إلا بعضها، وهذه الأشجار إلا بعضها، وسيأتي الحكم في فقه الحديث. -[فقه الحديث]- تتعرض هذه الأحاديث إلى ثمان نقاط: بيع الثمار قبل بدو صلاحها - وبيع المزابنة أو بيع الرطب حرصًا بالتمر كيلاً - والترخيص في العرايا - وبيع المحاقلة - وبيع المخابرة - وبيع المعاومة أو بيع السنين - وبيع الثنيا، وبيع النخل بثمره. 1 - أما عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها وبعده فله حالات:

الأولى: بيع الثمار قبل بدو صلاحها بشرط قطعها، وهو صحيح عند عامة العلماء، وقال الثوري وابن أبي ليلى بأنه باطل. دليلهما ظاهر العموم في الأحاديث، ودليل عامة العلماء الإجماع، ولأن علة المنع أن الثمرة قد تتلف بعد البيع وقبل النضج، بل هي معرضة لذلك كثيرًا، فيكون البائع قد أكل مال أخيه، فإذا شرط القطع انتفى هذا الضرر، فلو شرط القطع. ثم لم يقطع فالبيع صحيح، ويلزمه البائع بالقطع. الثانية: بيع الثمار قبل بدو صلاحها مطلقًا، بشرط بقائها على شجرها، وهو باطل عند عامة العلماء، وقال يزيد بن أبي حبيب: يجوز. الثالثة: بيع الثمار قبل بدو صلاحها مطلقًا، بدون شرط القطع وبدون شرط الإبقاء، ومذهب الشافعي وأحمد والجمهور ورواية عن مالك أن البيع باطل، لإطلاق هذه الأحاديث، وإنما صححوه بشرط القطع للإجماع، فخصصوا الأحاديث بالإجماع فيما إذا شرط القطع، ولأن العادة في الثمار الإبقاء، فصار الإبقاء كأنه مشروط وإن لم يذكر، فحكمه حكم ما شرط فيه البقاء. وقال أكثر الحنفية إن البيع صحيح ما دام لم يشترط التبقية، وحملوا النهي على بيع الثمار قبل أن توجد أصلاً، أو أن النهي للتنزيه. الرابعة: بيع الثمار بعد بدو صلاحها. ومذهب الشافعي ومالك وأحمد جواز بيعها مطلقًا، سواء شرط القطع، أو شرط التبقية، أو لم يشترط، لمفهوم هذه الأحاديث، ولأن ما بعد الغاية يخالف ما قبلها، إذا لم يكن من جنسها، ولأن الغالب فيها السلامة، بخلاف ما قبل الصلاح. وقال أبو حنيفة: إن شرط إبقاءها على شجرها لم يصح البيع، وإن لم يشترط إبقاءها صح هذا. ثم قال النووي: ثم إذا بيعت بشرط التبقية أو مطلقًا يلزم البائع بسقايتها إلى أوان الجذاذ، لأن ذلك هو العادة فيها. ثم قال: ومذهب مالك والكوفيين وأكثر العلماء أنه يجوز بيع السنبل المشتد -وتؤيدهم روايتنا الثانية- قال: وأما مذهبنا ففيه تفصيل، فإن كان السنبل شعيرًا أو ذرة أو ما في معناهما، مما ترى حباته، جاز بيعه، وإن كان حنطة ونحوها مما تستر حباته بالقشور التي تزال بالدياس ففيه قولان للشافعي رضي الله عنه، الجديد أنه لا يصح، وهو أصح قوليه، والقديم أنه يصح. وأما قبل الاشتداد فلا يصح بيع الزرع إلا بشرط القطع كما ذكرنا، وإذا باع الزرع قبل الاشتداد مع الأرض بلا شرط جاز، تبعًا للأرض، وكذا الثمر قبل بدو الصلاح إذا بيع مع الشجر جاز بلا شرط تبعًا، وهكذا حكم البقول في الأرض، لا يجوز بيعها في الأرض، دون الأرض إلا بشرط القطع. قال: وفروع المسألة كثيرة. اهـ. وقال الحافظ ابن حجر: واختلف السلف في قوله "حتى يبدو صلاحها" هل المراد به جنس الثمار، حتى لو بدا الصلاح في بستان من البلد مثلاً جاز بيع ثمرة جميع البساتين، وإن لم يبد الصلاح فيها؟ أو لا بد من بدو الصلاح في كل بستان على حدة؟ أو لا بد من بدو الصلاح في كل جنس على حدة؟ أو في كل شجرة على حدة؟ الأول قول الليث، وهو عند المالكية بشرط أن يكون الصلاح

متلاحقًا، والثاني قول أحمد، وعنه رواية كالرابع، والثالث قول الشافعية، ويمكن أن يؤخذ ذلك من التعبير ببدو الصلاح، لأنه دال على الاكتفاء بمسمى الإزهار، من غير اشتراط تكامله، فيؤخذ منه الاكتفاء بزهو بعض الثمرة، وبزهو الشجرة، مع حصول المعنى، وهو الأمن من العاهة، ولولا حصول المعنى لكان تسميتها مزهية بإزهاء بعضها قد لا يكتفي به، لكونه على خلاف الحقيقة، وأيضًا فلو قيل بإزهاء الجميع لأدى إلى فساد الحديقة أو أكثرها، وقد من الله تعالى بكون الثمار لا تطيب دفعة واحدة، ليطول زمن التفكه بها. 2 - وأما بيع المزابنة: فقد عبر عنه في الرواية التاسعة والعاشرة ببيع التمر بالتمر، وفسرها في الرواية الحادية عشرة بقوله "والمزابنة أن يباع ثمر النخل بالتمر" وفي الرواية السادسة عشرة "نهي عن بيع الثمر بالتمر، وقال: تلك المزابنة" وفي الرواية التاسعة عشرة "نهي عن المزابنة -الثمر بالتمر" وفي الرواية الواحدة والعشرين "نهي عن المزابنة، والمزابنة بيع الثمر بالتمر كيلاً، وبيع الكرم بالزبيب كيلاً" وفي الرواية الثانية والعشرين "نهي عن المزابنة، بيع ثمر النخل بالتمر كيلاً، وبيع العنب بالزبيب كيلاً، وبيع الزرع بالحنطة كيلاً" وفي الرواية الثالثة والعشرين "والمزابنة بيع ثمر النخل بالتمر كيلاً، وبيع الزبيب بالعنب كيلاً، وعن كل ثمر بخرصه" وفي الرواية الرابعة والعشرين "والمزابنة أن يباع ما في رءوس النخل بتمر، بكيل مسمى، إن زاد فلي، وإن نقص فعلي" وفي الرواية الخامسة والعشرين "أن يبيع ثمر حائطه، إن كانت نخلاً بتمر كيلاً، وإن كانت كرمًا أن يبيعه بزبيب كيلاً، وإن كان زرعًا أن يبيعه بكيل طعام "وفي الرواية الثانية والثلاثين" والمزابنة أن يباع النخل بأوساق من التمر". ولا خلاف في أن بيع الرطب على النخل بالتمر كيلاً، وبيع العنب على الكرم بالزبيب كيلاً مزابنة، والخلاف بين العلماء في إلحاق غيرهما من الثمار بهما، فقيل: تختص المزابنة بهما، والجمهور على الإلحاق، أما الشافعي فيلحق بذلك كل بيع مجهول بمجهول وكل بيع مجهول بمعلوم من جنس يجري الربا في نقده، وقال عن مثل الصورة الواردة في الرواية الرابعة والعشرين، ومعناها خرص ما على رءوس النخل، ثم تقديره بكيل محدد، ثم الالتزام بالنقص وأخذ الزيادة، قال: إنها من قبيل القمار، وليس من قبيل المزابنة، والتحقيق أنها قمار ومزابنة. ومن صور المزابنة على هذا بيع الزرع بالحنطة كيلاً. وأما مالك فقد ألحق بهما كل شيء من الجزاف، لا يعلم كيله ولا وزنه ولا عدده إذا بيع بشيء مسمى من الكيل وغيره، سواء كان من جنس يجري الربا في نقده أم لا. وسبب النهي عنده ما يدخله من القمار والغرر، فنظر مالك إلى معنى المزابنة لغة، وهي المدافعة، ويدخل فيها القمار والمخاطرة، وكل ما يباع مثلاً بمثل لا يجوز فيه كيل بجزاف، ولا جزاف بجزاف. وتفرع عن هذه المسألة مسائل: منها بيع الرطب على رءوس النخل برطب على الأرض، أو على رءوس نخل أخرى، فأجازه ابن خيران من الشافعية، ومنعه الاصطرخي، وصححه جماعة، وقيل: إن كانا نوعًا واحدًا لم يجز، إذ لا حاجة إليه، وإن كانا نوعين جاز، وهو رأي أبي إسحق.

ومنها بيع العنب على الكرم خرصًا بالتمر على الأرض كيلاً، وهو جائز. وبيع الرطب والعنب على أصولهما خرصًا بالدرهم والدينار، وهو جائز أيضًا. 3 - والظاهر أن العرايا من قبيل المزابنة، لكنها مستثناة منها، رخص بها للحاجة، وقيل: إن العرايا ليست بيعًا، وليست من المزابنة أصلاً، وإنما هي هدية، لكن الروايات الكثيرة التي تعبر عنها ببيع العرايا لا تساعد هذا القول، بل تعارضه وترفضه. وللعرايا صور يختلف العلماء في حكمها. منها: (أ) أنها نخلة أو نخل، عليها رطب، توهب لمساكين، أي يوهب رطبها لمساكين، وليس أصولها، فيحتاج هؤلاء المساكين إلى التمر، لا يستطيعون أن ينتظروا حتى يصير الرطب تمرًا ولا يحبون أن يأكلوا رطبًا، فرخص لهم أن يبيعوا الرطب على النخل خرصًا بتمر عاجل كيلاً. (ب) النخلة أو النخلات في بستان لرجل يوهب رطبها لمحتاجين -وكانت العادة أنهم يخرجون بأهليهم في وقت الثمار إلى البساتين، فيكره صاحب البستان دخولهم، ويتضرر منهم، فيعرض على الموهوب له أن يبيعه، بخرص رطبه تمرًا، ليدفع الضرر بدخولهم، فرخص له في ذلك، أو يتأذى الموهوب له، فيعرض على الواهب أن يشتري منه الرطب بتمر، فيقبل. اشترط مالك في جواز هذه الصورة أن يكون البيع بعد بدو الصلاح، وأن يكون بتمر مؤجل، وخالفه الشافعي في الشرط الأخير، فقال: يشترط التقابض. كما اشترط مالك في هذه المعاملة أن تكون مع الواهب خاصة، مالك أصول النخل، ورخص بها لما يلحقه من الضرر، وقصر العارية المرخص بها على هذه الصورة، وأجازها الشافعي للمالك ولغيره، كما أجاز الصور الأخرى. (ج) أن يقول الرجل لصاحب بستان: بعني رطب هذه النخلات بخرصها، فيخمن ما عليها، ويقدر كم ينقص إذا يبس، ثم يسلم نفس المقدار تمرًا، ويسلم البائع النخلات. وهذه الصورة أجازها الشافعي في حدود أقل من خمسة أوسق، وفي الخمسة أوسق نفسها خلاف. (د) أن يبيع الرجل ثمر حائطه بعد بدو صلاحه، ويستثني منه نخلات معلومة، يبيتها لنفسه أو لعياله، وهي التي يعفي له عن خرصها في الصدقة، فرخص لأهل الحاجة الذين لا نقد لهم، وعندهم فضول من التمر أن يبتاعوا بذلك التمر من رطب تلك النخلات بخرصها. وهذه الصورة أجازها الشافعي في أقل من خمسة أوسق. ومنع أبو حنيفة صور البيع كلها، وقصر العرية على الهبة، وهي أن يعري الرجل تمر نخلة من نخله، ولا يسلم ذلك له، ثم يبدو له ارتجاع تلك الهبة، فرخص له الشرع أن يحتبس ذلك، ويعطيه بقدر ما وهبه له من الرطب بخرصه تمرًا، وحمله على ذلك عموم النهي عن بيع الثمر بالتمر، وتعقب باستثناء العرايا في حديث ابن عمر، وزيد بن ثابت، ورافع بن خديج وسهل بن أبي حثمة. وقال بعض الحنفية: العرية العطية، فلا تطلق إلا على الهبة، ورد بأنه لا يلزم من كون أصل العرية العطية أن لا تطلق العرية شرعًا على صور أخرى.

ثم إن حملهم الرخصة على الهبة بعيد، لأن الرخصة لا تكون إلا بعد ممنوع، والمنع إنما كان في البيع، لا في الهبة، ثم إن الرخصة قيدت بخمسة أوسق، فما دونها، والهبة لا تتقيد. وحكى الطحاوي عن بعض الحنفية أن معنى الرخصة أن الذي وهبت له العرية لم يملكها، لأن الهبة لا تملك إلا بالقبض، فلما جاز له أن يعطي بدلها تمرًا وهو لم يملك المبدل منه حتى يستحق البدل، كان ذلك مستثنى، وكان رخصة. وقال الطحاوي: معنى الرخصة فيه أن المرء مأمور بإمضاء ما وعد به، فلما أذن له أن يحبس ما وعد به، ويعطي بدله، ولا يكون في حكم من أخلف وعده، ظهر بذلك معنى الرخصة. اهـ ولا يخفى أن هذه التعسفات لا تغني شيئًا، فإن الذي رخص في العرية هو الذي نهي عن بيع الثمر بالتمر، في لفظ واحد، من رواية جماعة من الصحابة. قال المحققون: الشافعي أقعد باتباع أحاديث هذا الباب من غيره، فإنها ناطقة باستثناء العرايا من بيع المزابنة، وكل ما ورد من تفسير العرايا في الأحاديث لا يخالفه الشافعي، وإنما يتجه الاعتراض على من تمسك بصورة من الصور الواردة في تفسير العرية، ويمنع غيرها، وأما من عمل بها كلها، ونظمها في ضابط يجمعها فلا اعتراض عليه. وحكي عن الشافعي تقييد العرية الجائزة بالمساكين، وأنكر الغزالي نقل ذلك عن الشافعي، واعتبر الحنابلة هذا القيد مضمومًا إلى القيد الذي اعتبره مالك. فعندهم لا تجوز العرية إلا لحاجة صاحب الحائط إلى البيع، أو لحاجة المشتري إلى الرطب. والله أعلم. 4 - وأما بيع المحاقلة فقد سبق ما قيل في المراد منه في المباحث العربية، وعلى أنه بيع الزرع بالطعام قال ابن بطال: أجمع العلماء على أنه لا يجوز بيع الزرع قبل أن يقطع بالطعام، لأنه بيع مجهول بمعلوم، وأما بيع رطب الزرع بيابسه بعد القطع، مع إمكان المماثلة، فالجمهور لا يجيزون شيئًا من ذلك بجنسه، لا متفاضلاً، ولا متماثلاً. وأجاز أبو حنيفة بيع الزرع الرطب -كالذرة اللين- بالحب اليابس. 5 - وأما بيع المخابرة وقد قلنا إنها قريبة من المزارعة، وأنها المعاملة على الأرض ببعض ما يخرج منها من الزرع، فسنعرض له في الباب الآتي، إن شاء الله. 6 - وأما بيع المعاومة أو بيع السنين. فقد قال النووي: هو باطل بالإجماع، نقل الإجماع فيه ابن المنذر وغيره، لهذه الأحاديث، ولأنه بيع غرر، وبيع معدوم، وبيع مجهول غير مقدور على تسليمه، وغير مملوك للعاقد. 7 - وأما بيع الثنيا والاستثناء من المجموع، كبعتك هذه الثياب إلا بعضها؛ فقد قال النووي: لا يصح البيع، لأن المستثنى مجهول، فلو قال: بعتك هذه الأشجار إلا هذه الشجرة، أو بعتك هذه الشجرة إلا ربعها، أو بعتك بألف إلا درهمًا، وما أشبه ذلك من الثنيا المعلومة صح البيع باتفاق العلماء، ولو باع الصبرة إلا صاعًا منها فالبيع باطل عند الشافعي وأبي حنيفة، وصحح مالك أن يستثنى منها ما لا يزيد على ثلثها، والله أعلم.

8 - ويؤخذ من حديث بيع النخل بثمره، روايتنا السادسة والعشرين والسابعة والعشرين والثامنة والعشرين والتاسعة والعشرين جواز تأبير النخل وغيره من الثمار. قال النووي: وقد أجمعوا على جوازه. قال: وقد اختلف العلماء في حكم بيع النخل، المبيعة بعد التأبير وقبله، هل تدخل فيها الثمرة عند إطلاق بيع النخلة؟ من غير تعرض للثمرة بنفي ولا إثبات؟ فقال مالك والشافعي والليث والأكثرون: إن باع النخلة بعد التأبير فثمرتها للبائع، إلا أن يشترطها المشتري، بأن يقول: اشتريت النخلة بثمرتها هذه، وإن باعها قبل التأبير فثمرتها للمشتري، فإن شرطها البائع لنفسه جاز عند الشافعي والأكثرين، وقال مالك: لا يجوز شرطها للبائع، وقال أبو حنيفة: هي للبائع قبل التأبير وبعده عند الإطلاق، وقال ابن أبي ليلى: هي للمشتري قبل التأبير وبعده، فأما الشافعي والجمهور فأخذوا في المؤبرة بمنطوق الحديث، وفي غيرها بمفهومه: وهو دليل الخطاب، وهو حجة عندهم، وأما أبو حنيفة فأخذ بمنطوقه في المؤبرة، وهو لا يقول بدليل الخطاب، فألحق غير المؤبرة بالمؤبرة. واعترضوا عليه بأن الظاهر يخالف المستتر في حكم التبعية، كما أن الجنين يتبع الأم في البيع، ولا يتبعها الولد المنفصل. وأما ابن أبي ليلى فقوله باطل، منابذ لصريح السنة، ولعله لم يبلغه الحديث. ثم قال: وفي هذا الحديث دلالة لمالك وقول الشافعي القديم أن العبد إذا ملكه سيده مالاً ملكه، لكنه إذا باعه بعد ذلك كان ماله للبائع، إلا أن يشترط المشتري، لظاهر هذا الحديث. وقال الشافعي في الجديد وأبو حنيفة: لا يملك العبد شيئًا أصلاً، وتأولاً الحديث على أن المراد أن يكون في يد العبد شيء من مال السيد، فأضيف ذلك المال إلى العبد، للاختصاص والانتفاع، لا للملك، كما يقال: جل الدابة وسرج الفرس. وإلا فإذا باع السيد العبد فذلك المال للبائع، لأنه ملكه، إلا أن يشترطه المبتاع، فيصح، لأنه يكون قد باع شيئين، العبد والمال الذي في يده بثمن واحد، وذلك جائز. قالا: ويشترط الاحتراز من الربا. قال الشافعي: فإن كان المال دراهم لم يجز بيع العبد وتلك الدراهم بدراهم، فكذا إن كان دنانير، لم يجز بيعها بذهب. وإن كان حنطة لم يجز بيعها بحنطة. وقال مالك: يجوز أن يشترط المشتري وإن كان دراهم والثمن دراهم، وكذلك في جميع الصور، لإطلاق الحديث، قال: وكأنه لا حصة للمال من الثمن. ثم قال: وفي هذا الحديث دليل للأصح عند أصحابنا أنه إذا باع العبد أو الجارية، وعليه ثيابه، لم تدخل في البيع، بل تكون للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع، لأنه مال في الجملة، وقال بعض أصحابنا: تدخل، وقال بعضهم: يدخل ساتر العورة فقط، والأصح أنه لا يدخل ساتر العورة ولا غيره، لظاهر هذا الحديث، ولأن اسم العبد لا يتناول الثياب. والله أعلم

(408) باب كراء الأرض

(408) باب كراء الأرض 3451 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض. 3452 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من كانت له أرض فليزرعها، فإن لم يزرعها فليزرعها أخاه". 3453 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان لرجال فضول أرضين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم. "من كانت له فضل أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه. فإن أبى فليمسك أرضه". 3454 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ للأرض أجر أو حظ. 3455 - عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من كانت له أرض فليزرعها. فإن لم يستطع أن يزرعها، وعجز عنها، فليمنحها أخاه المسلم. ولا يؤاجرها إياه". 3456 - سأل سليمان بن موسى عطاء فقال: أحدثك جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من كانت له أرض فليزرعها، أو ليزرعها أخاه، ولا يكرها" قال: نعم. 3457 - عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة. 3458 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال

"من كان له فضل أرض فليزرعها، أو ليزرعها أخاه. ولا تبيعوها" فقلت لسعيد: ما قوله: ولا تبيعوها؟ يعني الكراء؟ قال: نعم. 3459 - عن جابر رضي الله عنه قال كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصيب من القصري ومن كذا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من كانت له أرض فليزرعها أو فليحرثها أخاه. وإلا فليدعها". 3460 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم نأخذ الأرض بالثلث أو الربع. بالماذيانات. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فقال "من كانت له أرض فليزرعها. فإن لم يزرعها فليمنحها أخاه. فإن لم يمنحها أخاه فليمسكها". 3461 - عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "من كانت له أرض فليهبها أو ليعرها". 3462 - وفي رواية عن الأعمش بهذا الإسناد. غير أنه قال "فليزرعها أو فليزرعها رجلاً". 3463 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض. قال بكير: وحدثني نافع أنه سمع ابن عمر يقول: كنا نكري أرضنا ثم تركنا ذلك حين سمعنا حديث رافع بن خديج. 3464 - عن جابر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الأرض البيضاء سنتين أو ثلاثًا.

3465 - عن جابر رضي الله عنه قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع السنين. وفي رواية ابن أبي شيبة: عن بيع الثمر سنين. 3466 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه. فإن أبى فليمسك أرضه". 3467 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهي عن المزابنة والحقول. فقال جابر بن عبد الله: المزابنة الثمر بالتمر. والحقول كراء الأرض. 3468 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة. 3469 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة والمحاقلة. والمزابنة اشتراء الثمر في رءوس النخل. والمحاقلة كراء الأرض. 3470 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا لا نرى بالخبر بأسًا. حتى كان عام أول. فزعم رافع أن نبي الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه. 3471 - وزاد في حديث ابن عيينة: فتركناه من أجله. 3472 - عن مجاهد قال: قال ابن عمر رضي الله عنهما: لقد منعنا رافع نفع أرضنا.

3473 - عن نافع أن ابن عمر كان يكري مزارعه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي إمارة أبي بكر وعمر وعثمان. وصدرًا من خلافة معاوية. حتى بلغه في آخر خلافة معاوية؛ أن رافع بن خديج يحدث فيها بنهي عن النبي صلى الله عليه وسلم. فدخل عليه وأنا معه. فسأله فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن كراء المزارع. فتركها ابن عمر بعد. وكان إذا سئل عنها، بعد، قال: زعم رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها. 3474 - وزاد في حديث ابن علية: قال: فتركها ابن عمر بعد ذلك. فكان لا يكريها. 3475 - عن نافع قال: ذهبت مع ابن عمر إلى رافع بن خديج. حتى أتاه بالبلاط. فأخبره؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع. 3476 - عن ابن عمر أنه أتى رافعًا. فذكر هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. 3477 - عن نافع أن ابن عمر كان يأجر الأرض. قال: فنبئ حديثًا عن رافع بن خديج. قال: فانطلق بي معه إليه. قال: فذكر عن بعض عمومته، ذكر فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه نهى عن كراء الأرض قال: فتركه ابن عمر فلم يأجره. 3478 - - عن ابن عون بهذا الإسناد. وقال: فحدثه عن بعض عمومته، عن النبي صلى الله عليه وسلم. 3479 - عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر كان يكري أرضيه. حتى بلغه أن رافع بن خديج الأنصاري كان ينهى عن كراء الأرض. فلقيه عبد الله فقال: يا ابن خديج ماذا تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كراء الأرض؟

قال رافع بن خديج لعبد الله: سمعت عمي (وكانا قد شهدا بدرًا) يحدثان أهل الدار؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض. قال عبد الله: لقد كنت أعلم، في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الأرض تكرى. ثم خشي عبد الله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث في ذلك شيئًا لم يكن علمه. فترك كراء الأرض. 3480 - عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: كنا نحاقل الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنكريها بالثلث والربع والطعام المسمى. فجاءنا ذات يوم رجل من عمومتي. فقال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعًا. وطواعية الله ورسوله أنفع لنا. نهانا أن نحاقل بالأرض فنكريها على الثلث والربع والطعام المسمى. وأمر رب الأرض أن يزرعها أو يزرعها. وكره كراءها وما سوى ذلك. 3481 - - عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: كنا نحاقل بالأرض فنكريها على الثلث والربع. ثم ذكر بمثل حديث ابن علية. 3482 - - وبهذا الإسناد عن رافع بن خديج رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقل: عن بعض عمومته. 3483 - عن رافع رضي الله عنه أن ظهير بن رافع (وهو عمه) قال: أتاني ظهير فقال: لقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان بنا رافقًا. فقلت: وما ذاك؟ ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق. قال: سألني كيف تصنعون بمحاقلكم؟ فقلت: نؤاجرها، يا رسول الله على الربيع أو الأوسق من التمر أو الشعير. قال "فلا تفعلوا. ازرعوها. أو أزرعوها. أو أمسكوها". 3484 - - عن رافع رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا. ولم يذكر: عن عمه ظهير.

3485 - عن حنظلة بن قيس أنه سأل رافع بن خديج عن كراء الأرض؟ فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض قال فقلت: أبالذهب والورق؟ فقال أما بالذهب والورق، فلا بأس به. 3486 - عن حنظلة بن قيس الأنصاري قال: سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق؟ فقال: لا بأس به. إنما كان الناس يؤاجرون، على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، على الماذيانات. وأقبال الجداول. وأشياء من الزرع. فيهلك هذا ويسلم هذا. ويسلم هذا ويهلك هذا. فلم يكن للناس كراء إلا هذا. فلذلك زجر عنه. فأما شيء معلوم مضمون، فلا بأس به. 3487 - عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: كنا أكثر الأنصار حقلاً. قال: كنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه. فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه. فنهانا عن ذلك. وأما الورق فلم ينهنا. 3488 - عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة. 3489 - عن عبد الله بن السائب رضي الله عنه قال: دخلنا على عبد الله بن معقل فسألناه عن المزارعة؟ فقال: زعم ثابت؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة. وأمر بالمؤاجرة. وقال "لا بأس بها". 3490 - عن مجاهد أنه قال لطاوس: انطلق بنا إلى ابن رافع بن خديج. فاسمع منه الحديث عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال فانتهره. قال: إني والله لو أعلم أن رسول

الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه ما فعلته. ولكن حدثني من هو أعلم به منهم (يعني ابن عباس) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لأن يمنح الرجل أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليها خرجًا معلومًا". 3491 - عن طاوس أنه كان يخابر. قال عمرو: فقلت له: يا أبا عبد الرحمن لو تركت هذه المخابرة فإنهم يزعمون؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة. فقال: أي عمرو أخبرني أعلمهم بذلك (يعني ابن عباس) أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها. إنما قال "يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليها خرجًا معلومًا". 3492 - عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليها كذا وكذا" (لشيء معلوم). قال: وقال ابن عباس: هو الحقل. وهو بلسان الأنصار المحاقلة. 3493 - عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من كانت له أرض فإنه أن يمنحها أخاه خير". -[المعنى العام]- إن المعاملة الثانية التي لا يستغني عنها المجتمع بعد البيع والشراء - معاملة الإجارة، ولم تكن إجارة البيوت والمساكن شائعة كما هو الحال اليوم، ولكن كان الشائع إجارة الأرض الزراعية، فجاءت الشريعة بالأحكام والقوانين والقواعد والضوابط التي تحمي كلا من المتعاملين من الآخر، تحقيقًا لقاعدة: لا ضرر ولا ضرار. إن طائفة من المجتمع تملك الأرض، وطائفة لا تملك، وقد رفع الله بعض الناس على بعض ليتخذ بعضهم بعضًا سخريًا، تلك حكمة الله في المجتمعات لتترابط أفرادها، وتضام أشتاتها، الكل يحتاج إلى الكل، الغني المالك يحتاج الفقير العامل، وإلا لم ينتفع بملكه، وأصبح كلاً ملك، والعامل يحتاج إلى الغني المالك، ليعيش من أجر عمله، وقانون العرض

والطلب يحكم المعاملات البشرية، وقد تستغل طبقة الأخرى نتيجة لهذا القانون، فرغبت الشريعة الإسلامية في الرفق والمواساة والمعروف "من كان له أرض فليزرعها بنفسه، فإن عجز عن زراعتها بنفسه فلا يستغل أخاه العامل في زراعتها، ولكن يمنحها له منحة ليزرعها، فإن لم يزرعها، ولم تجد نفسه بها على أخيه فليملكها خالية بدون زراعة، ولا يؤجرها للعامل بإيجار ظالم مستغل. لقد كان كراء الأرض وتأجيرها للمحتاجين والعاملين يأخذ قبل الإسلام أشكالاً كثيرة، يعطى العامل ثمر قطعة صغيرة منها ليزرع جميعها، أو يعطى الشواطئ والحروف وحافات الطرق ومسالك المياه ليزرع للمالك باقي أرضه، ويسلمه خيراتها، أو يعطى نسبه صغيرة مما تنتج الأرض، ووفرتها لمالكها، أو يؤجرها المالك بإيجار مالي قد يعجز العامل عن الوفاء به، وكثيرًا ما يحدث الشقاق والمخاصمة بين المالك ومستأجر الأرض فكانت الشريعة حكمًا، وكانت الأحاديث التي أعمل الفقهاء فيها عقولهم، واستنبطوا منها أحكامهم ومذاهبهم، وهدف الجميع تحقيق حكمة التشريع. والحفاظ على الحقوق، ورفع المظالم. والله الهادي إلى سواء السبيل. -[المباحث العربية]- (نهي عن كراء الأرض) "كراء" بكسر الكاف. قال أهل اللغة: الكروة والكراء بكسر الكاف فيهما: أجرة المستأجر، والكراء أيضًا مصدر كاراه، مكاراة، وكراء، ويقال: كاراه، واكتراه، وأكراني داره وأرضه، فهي مكراه، واكتريت منه دارًا، واستكريتها بمعنى، فقوله في الرواية السادسة "ولا يكرها" هو بضم الياء وسكون الكاف وكسر الراء، من أكريته أرضى، وهو معنى قوله في الرواية الخامسة "ولا يؤاجرها إياه" وكذلك قوله في الرواية الثانية عشرة "كنا نكري أرضنا" هو بضم النون، وقوله في ملحق الرواية المتممة للعشرين "فكان لا يكريها" هو بضم الياء أيضًا، وقوله في الرواية الثالثة والعشرين "أن الأرض تكرى" هو بضم التاء وسكون الكاف وفتح الراء، مبني للمجهول. (فإن لم يزرعها فليزرعها أخاه) "يزرع" الأولى بفتح الياء، والثانية بضم الياء، والمعنى فإن لم يزرعها بنفسه فليجعلها مزروعة من أخيه، ومعناه يعيرها إياه بلا عوض، وهو معنى قوله في الرواية الثالثة "أو ليمنحها أخاه" وقوله في الرواية التاسعة "أو فليحرثها أخاه" بضم الياء، أي ليجعلها محروثة من أخيه، وقوله في الرواية الحادية عشرة "فليهبها أو ليعرها" وقوله في الرواية الرابعة والثلاثين "فإنه أن يمنحها أخاه خير". "أن" بفتح الهمزة وسكون النون، وفعل "يمنحها" منصوب، والمعنى: فإنه لأن يمنحها أخاه خير له من أن يأخذ عليها أجرًا. وبكسر الهمزة على أنها شرطية، وفعل "يمنحها" مجزوم. (كان لرجال فضول أرضين) أي كان لهم أرضون فاضلة وزائدة على مجهودهم وقدراتهم على الزراعة. فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف. (فإن أبى فليمسك أرضه) أي فإن أبى منحها فليمسكها من غير زراعة، ولا يكريها، وهو معنى قوله في الرواية التاسعة "وإلا فليدعها".

(نهي أن يؤخذ للأرض أجر أو حظ) الحظ النصيب، أي نهي أن يؤخذ في مقابل زراعة الأرض مال أو جزء ونصيب من إنتاجها. والنهي للتنزيه، وسيأتي في فقه الحديث. (نهي عن المخابرة) سبق توضيحها ومأخذها اللغوي في الباب السابق. وقلنا: إن المحاقلة والمخابرة والمزارعة متقاربات على المشهور. (ولا تبيعوها) إطلاق البيع وإرادة الكراء - إن كانت الرواية باللفظ - مجاز، بجامع المقابل والبدل. (فنصيب من القصري ومن كذا) "القصري" بكسر القاف، بعدها صاد ساكنة، ثم راء مكسورة، ثم ياء مشددة، على وزن القبطي، قال النووي: هكذا ضبطناه وضبطه الجمهور، وهو المشهور، وعن الطبري بفتح القاف والراء، مقصور، والصواب الأول، وهو ما بقي من الحب في السنبل بعد الدياس. ويقال له: القصارة بضم القاف. والمعنى. كنا نكري أرضنا فنحصل على بعض ما تنبت من حب صاف ومن حب في سنبله لم يخرج بالدياس، ومن كذا وكذا كناية عن جهات أخرى نحصل منها على بعض الإنتاج. (كنا نأخذ الأرض بالماذيانات) قال النووي: بذال مكسورة، ثم ياء ثم ألف ثم نون ثم ألف ثم تاء، هذا هو المشهور، وحكي عن بعض الرواة فتح الذال، وهي مسايل المياه، وقيل: ما ينبت على حافتي مسيل الماء، وقيل: ما ينبت حول السواقي، وهي لفظة معربة، ليست عربية - وفي الرواية السابعة والعشرين "على الماذيانات وأقبال الجداول" وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا" أما قوله "وأقبال" فبفتح الهمزة، و"الجداول" جمع جدول، وهو النهر الصغير كالساقية، فالمراد أوائل القنوات ورؤوسها وحوافها، وفي الرواية الخامسة والعشرين "نؤاجرها - يا رسول الله - على الربيع أو الأوسق من التمر أو الشعير" هكذا هو في معظم النسخ "الربيع" وهو الساقية والنهر الصغير، أي الزرع الذي ينبت على شاطئيه، وفي بعض النسخ "الربع" بخذف الياء، وهو صحيح أيضًا. والمعنى أنهم كانوا يدفعون الأرض إلى من يزرعها ببذر من عنده، على أن يكون لمالك الأرض ما ينبت على الماذيانات وأقبال الجداول، أو هذه القطعة من الأرض، والباقي للعامل، فنهوا عن ذلك، لما فيه من الغرر، فربما هلك هذا دون ذلك، أو عكسه. (نهي عن بيع الأرض البيضاء) أي التي لا شجر عليها، ولا زرع ولا غرس. (سنتين أو ثلاثًا) في الرواية الرابعة عشرة "عن بيع السنين" وقد تقدم في الباب السابق. (كنا لا نرى بالخبر بأسًا) "الخبر" قال النووي: ضبطناه بكسر الخاء وفتحها، والكسر أصح وأشهر، وحكى القاضي فيه الضم أيضًا، ورجح الكسر، ثم الفتح، وهو بمعنى المخابرة.

(حتى كان عام أول) "كان" تامة، وفاعلها "عام" مرفوع بدون تنوين، لأنه مضاف، و"أول" مضاف إليه، مجرور بالفتحة، للمنع من الصرف وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف. (فتركناه من أجله) أي فتركنا الخبر من أجل زعم رافع، فابن عمر ترك كراء أرضه احتياط أخذًا بالأحوط، فإن معلوماته أنه مباح، فهو يقول في الرواية الثالثة والعشرين "لقد كنت أعلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأرض تكرى" ويقول نافع: "خشي عبد الله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث في ذلك شيئًا - من الأحكام - لم يكن علمه، فترك كراء الأرض" وفي ملحق الرواية التاسعة عشرة يقول ابن عمر "لقد منعنا رافع نفع أرضنا" أي منعنا بحديثه الذي حدثه، ولا يقصد بذلك الطعن في رافع وروايته، فقد استوثق منه عنها، ولكن يظن أنها كانت مخصوصة بحالة، أو موجهة توجيهًا غير الظاهر، كما سيأتي في فقه الحديث. (وصدرًا من خلافة معاوية) المراد من إمارة أبي بكر وعمر وعثمان خلافتهم، قال الحافظ ابن حجر: ولم يذكر خلافة علي لأنه لم يبايعه، لوقوع الاختلاف عليه، وكان يرى أنه لا يبايع لمن لم يجتمع عليه الناس، ولهذا لم يبايع أيضًا لابن الزبير، ولا لعبد الملك في حال اختلافهما، وبايع ليزيد بن معاوية، ثم لعبد الملك بن مروان بعد قتل ابن الزبير. قال الحافظ: ولعل في تلك المدة، مدة خلافة علي لم يؤاجر أرضه، فلم يذكرها لذلك. اهـ. أقول: هذا الاحتمال بعيد جدًا عن صحيح الحديث، ويحتمل أن سقط خلافة علي سقط ذكري غير مقصود من ابن عمر، وكان آخر خلافة معاوية في سنة ستين من الهجرة، فكأن ابن عمر ظل يكري أرضه أكثر من خمسين سنة، وهذا أمر لا يخفى على عامة الصحابة. (حتى أتاه بالبلاط) بفتح الباء، مكان معروف بالمدينة، مبلط بالحجارة، وهو بقرب مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. (كأن يأجر الأرض) "يأجر" بالجيم المضمومة بعدها راء، وكذا في آخر الحديث "فلم يأجره" هكذا هو في كثير من النسخ، قال النووي: "يأخذ" بالخاء والذال في الموضعين، وهو تصحيف، وفي بعض النسخ "يؤاجر" وهذا صحيح. اهـ. وكان الظاهر أن يقول في آخر الحديث "فلم يأجرها" بتأنيث الضمير العائد على الأرض، وتوجيهه سهل، بتأويله بالمكان أو بالموقع أو نحو ذلك. (كان يكري أرضيه) بفتح الراء وكسر الضاد، بعدها ياء علامة النصب، فقد جمع هذا الاسم جمع مذكور سالم شذوذًا، وفي بعض النسخ "أرضه" بالإفراد، قال النووي: وكلاهما صحيح. (سمعت عمي) بفتح الميم المشددة، تثنية عمي بكسرها، وهما المقصودان ببعض عمومته في الرواية الثانية والعشرين وأحدهما "ظهير" بالتصغير، الوارد في الرواية الخامسة والعشرين، وهو المقصود بقوله "فجاءنا ذات يوم رجل من عمومتي" في الرواية الرابعة والعشرين، والآخر قيل: لم يوقف على اسمه. وقيل: إن اسمه "مظهر" بضم الميم، وفتح الظاء، وتشديد الهاء المكسورة، قيل: مهير على وزن ظهير أخيه.

(عن رافع أن ظهير بن رافع - وهو عمه - قال: أتاني ظهير) قال النووي: هكذا هو في جميع النسخ، وهو صحيح، وتقديره: عن رافع أن ظهيرًا عمه حدثه بحديث. قال رافع في بيان ذلك الحديث: أتاني ظهير فقال ... إلخ. وهذا التقدير دل عليه فحوى الكلام، ووقع في بعض النسخ "أنبأني" بدل "أتاني" والصواب المنتظم "أتاني" من الإتيان. (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان بنا رافقًا) أي كان هذا الأمر ذا رفق بنا. (كيف تصنعون بمحاقلكم؟ ) أي بمزارعكم. جمع محقل من الحقل، والحقل الزرع، وقيل: مادام أخضر، والمحاقلة المزارعة بجزء مما يخرج، وقيل: هو بيع الزرع بالحنطة، وقيل غير ذلك. (أبا لذهب والورق) بفتح الواو وكسر الراء الفضة. (كنا أكثر الأنصار حقلاً) "حقلاً" تمييز، وفي رواية البخاري "مزدرعًا" أي مكان زرع. (على أن لنا هذه، ولهم هذه) الإشارة إلى قطع من الأرض. (فاسمع منه الحديث عن أبيه) الأب هنا مراد منه العم، وقوله "فاسمع" بهمزة وصل، مجزومًا على الأمر، وبهمزة قطع، مرفوع على الخبر، قال النووي: وكلاهما صحيح، والأول أجود. (فانتهره) أي انتهر طاووس مجاهدًا، أي لامه بعنف، ترفعًا عن أخذ الحديث عن رافع عن عمه بعد أخذه عن ابن عباس، وربما أحس طاووس أن مجاهدًا يغمزه بحديث رافع، لأن طاووسًا كان يكري أرضه، لهذا ثار وانفعل وانتهره. (خير من أن يأخذ عليها خرجًا معلومًا) أي أجرًا معلومًا، وأصله ما يخرج من الأرض من غلة ونحوها. -[فقه الحديث]- 1 - كراء الأرض قد يكون لسقي ورعاية ما عليها من الأشجار، وهو المعروف عند الفقهاء بالمساقاة. وأجازها مالك والثوري والليث والشافعي وأحمد وجميع فقهاء المحدثين وأهل الظاهر وجماهير العلماء. وعمدة أدلتهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع، وسيأتي في الباب التالي. ومنعها أبو حنيفة، وتأول أحاديثها بأن خيبر فتحت عنوة، وكان أهلها عبيدًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أخذه فهوله، وما تركه فهوله. والقائلون بالجواز اختلفوا فيما تجوز عليه المساقاة من الأشجار، فقال داود: تجوز على النخل خاصة، إذ هي رخصة، والرخصة لا تتعدى المنصوص عليه، وكان نخلاً، وقال الشافعي: تجوز على

النخل والعنب خاصة، إذ هي رخصة، لكن حكم العنب حكم النخل في معظم الأبواب. وقال مالك: تجوز على جميع الأشجار، لأن سبب الجواز الحاجة والمصلحة، وهذا يشمل الجميع، فيقاس عليه، وهو قول للشافعي. وسيأتي بقية مباحثها في الباب التالي. 2 - وقد يكون كراء الأرض لسقي ورعاية ما عليها من أشجار، وزراعة الأرض الخالية، وهذا ما يعرف بالمزارعة التابعة للمساقاة، وأجازها الشافعي وموافقوه، وهم الأكثرون، فتجوز عندهم المزارعة تبعًا للمساقاة، وإن كانت المزارعة عندهم لا تجوز منفردة، فيساقيه على النخل، ويزارعه على الأرض، وحجتهم ما جرى في خيبر. وقال مالك: لا تجوز المزارعة، لا منفردة، ولا تبعًا، إلا ما كان من الأرض بين الشجر. وقال أبو حنيفة وزفر: المزارعة والمساقاة فاسدتان، سواء جمعهما أو فرقهما، ولو عقدتا فسختا. وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد وسائر الكوفيين وفقهاء المحدثين وأحمد وابن خزيمة وابن شريح وآخرون: تجوز المساقاة والمزارعة مجتمعتين، وتجوز كل واحدة منهما منفردة. قال النووي: وهذا هو الظاهر المختار، لحديث خيبر، ولا يقبل دعوى كون المزارعة في خيبر إنما جازت تبعًا للمساقاة، بل جازت مستقلة، ولأن المعنى المجوز للمساقاة موجود في المزارعة، قياسًا على القراض، فإنه جائز بالإجماع، وهو كالمزارعة في كل شيء، ولأن المسلمين في جميع الأعصار والأمصار مستمرون على العمل بالمزارعة. ثم قال: وأما الأحاديث السابقة في النهي عن المخابرة فمحمولة على ما إذا شرطًا لكل واحد قطعة معينة من الأرض. وقد صنف ابن خزيمة كتابًا في جواز المزارعة، واستقصى فيه وأجاد، وأجاب عن أحاديث النهي. 3 - وقد يكون كراء الأرض الخالية من الأشجار لزراعتها ببعض ما يخرج منها، والبذر من المالك، وهو ما يعرف عند بعض فقهاء الشافعية بالمزارعة، ويعرف عندهم - إذا كان البذر من العامل - بالمخابرة، والبعض الآخر من فقهاء الشافعية يرون أن المزارعة والمخابرة بمعنى واحد، زراعة الأرض ببعض ما يخرج منها مطلقًا. وقد أجازهما أحمد في رواية، ومن الشافعية ابن خزيمة وابن المنذر والخطابي. قال البخاري: وقال قيس بن مسلم عن أبي جعفر قال: ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع، وزارع علي وسعد بن مالك وعبد الله بن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم وعروة وآل أبي بكر وآل عمر وآل علي وابن سيرين، وعامل عمر الناس على: إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر، وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا، وقال الحسن: لا بأس أن تكون الأرض لأحدهما، فينفقان جميعًا، فما خرج فهو بينهما، ورأى ذلك الزهري، وقال ابن حزم: وممن أجاز إعطاء الأرض بجزء مسمى مما يخرج منها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد وابن مسعود وحذيفة ومعاذ رضي الله عنهم، وهو قول ابن أبي ليلى وسفيان الثوري والأوزاعي وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وابن المنذر، وأجازها أحمد

وإسحق، إلا أنهما قالا: إن البذر يكون من عند صاحب الأرض، وإنما على العامل البقر والآلة والعمل. وقال ابن بطال: كرهت المزارعة طائفة. منهم ابن عباس وابن عمر وعكرمة والنخعي، وهو قول مالك وأبي حنيفة والليث والشافعي وأبي ثور. قالوا: لا تجوز المزارعة وهي كراء الأرض بجزء منها. واعتمد من قال بالجواز على معاملة أهل خيبر، وتقرير النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، واستمراره على عهد أبي بكر. إلى أن أجلاهم عمر، وعلى أن المزارعة عقد عمل في المال ببعض نمائه، فهو كالمضاربة، لأن المضارب يعمل في المال بجزء من نمائه، وهو معدوم ومجهول، وبأنه قد صح عقد الإجارة مع أن المنافع معدومة، فكذلك هنا. واستدل المانعون بأنها إجارة بثمرة معدومة أو مجهولة، وقد أجاب عنه المجوزون قريبًا، كما قال المانعون: إن العامل إذا أخرج البذر كأنه باعه إلى صاحب الأرض بمجهول من الطعام نسيئة، وهو لا يجوز، وأجاب المجوزون: بأنه مستثنى من النهي عن بيع الطعام بالطعام نسيئة، جمعًا بين الأحاديث - وقال المجوزون إن القياس في إبطال نص أو إجماع مردود. واستدل المانعون بأحاديث النهي عن المخابرة وعن كراء الأرض [رواياتنا السابعة والثامنة والعاشرة والثانية عشرة والسادسة عشرة والسابعة عشرة والثامنة عشرة والتاسعة عشرة وما بعدها من روايات رافع بن خديج]، ورد المجوزون بأن الممنوع نوع من المخابرة كان سببًا في المنازعات، وهو جعل قطعة من الأرض لهذا وأخرى لهذا كما تصرح الرواية السابعة والعشرون، أو يحمل النهي على ما إذا تضمن العقد شرطًا فيه جهالة، أو يؤدي إلى الغرر، وقد روى أبو داود عن سعد بن أبي وقاص، قال: "كان أصحاب المزارع يكرونها بما يكون على المساقي من الزرع، فاختصموا في ذلك، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكروا بذلك، وقال: اكروا بالذهب والفضة". وقد يحمل النهي على التنزيه، على أن أحاديث رافع بن خديج فيها كلام كثير، فقد بين الطحاوي علة النهي فيه، فروي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: يغفر الله لرافع بن خديج. أنا والله كنت أعلم منه بالحديث، إنما جاء رجلان من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد اقتتلا، فقال: إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع. فالنهي الذي سمعه رافع لم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم على وجه التحريم، وإنما كان لكراهيته وقوع الشر بينهم، ويروي الطحاوي أن ابن عمر حين استفهم من رافع عن الحديث، وأسنده رافع إلى أحد عميه قال ابن عمر: قد علمنا أن عمك هذا كان صاحب مزرعة يكريها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن له ما في جداول السواقي وطائفة من التبن. فالظاهر أن ابن عمر كان ينكر على رافع تعميم النهي وإطلاقه على كراء الأرض ببعض ما يخرج منها مطلقًا، مع أن المراد منه ما تضمن الشرط الفاسد، يؤكد ذلك قول عمه في الرواية الخامسة والعشرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "نؤاجرها على الربيع" - أي على النهر الصغير، أي على ما يخرج على شواطئه. وهذا شرط فاسد، وقول رافع في الرواية السابعة والعشرين "إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الماذيانات، وأقبال الجداول، وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا، ويهلك هذا. فلم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه" وقوله في الرواية الثامنة والعشرين "كنا نكري الأرض على أن لنا هذه، فربما أخرجت هذه، ولم تخرج

هذه، فنهانا عن ذلك" فكل هذا يؤكد أن النهي مقصود به نوع خاص من كراء الأرض، وليس كراء الأرض ببعض ما يخرج منها مطلقًا. على أن الترمذي قال: حديث رافع حديث فيه اضطراب، روي عنه روايات مختلفة. والله أعلم. 4 - وقد يكون كراء الأرض الخالية من الأشجار لزراعتها، بالنقد والذهب والفضة وغير ذلك، وعنه يقول النووي: قال طاووس والحسن البصري: لا يجوز بكل حال. سواء أكراها بطعام أو ذهب أو فضة أو بجزء من زرعها، وذهب إليه ابن حزم، واحتج له بالأحاديث المطلقة في ذلك وهي أحاديث النهي عن كراء الأرض. وقال الشافعي وأبو حنيفة وكثيرون: تجوز إجارتها بالذهب والفضة وبالطعام والثياب وسائر الأشياء، سواء كان من جنس ما يزرع فيها أم من غيره، لكن لا يجوز أن يشترط له زرع قطعة معينة. واستدلوا بصريح روايات رافع بن خديج وثابت بن الضحاك في جواز الإجارة بالذهب والفضة ونحوهما، وهي الروايات السادسة والعشرون والسابعة والعشرون والثامنة والعشرون، وتأولوا أحاديث النهي بحملها على ما تضمن العقد من فساد كزرع قطعة معينة، أو بحملها على جزء ما يخرج منها ونحو ذلك. وقال ربيعة: يجوز بالذهب والفضة فقط، وقال مالك: يجوز بالذهب والفضة وغيرهما إلا الطعام، لئلا يصير من بيع الطعام بالطعام، قال ابن المنذر: ينبغي أن يحمل ما قال مالك على ما إذا كان الطعام المكري به جزءًا مما يخرج منها، فأما إذا اكتراها بطعام معلوم في ذمة المكتري، أو بطعام حاضر، يقبضه المالك، فلا مانع من الجواز. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - من الروايات الست الأوليات الحث على مواساة المسلمين بعضهم بعضا، والحث على الهبة والمنيحة ونحوها. 2 - والحث على إفادة الآخرين بما لا ينتفع به صاحبه. 3 - من قوله في الرواية الثالثة "فإن أبى فليمسك أرضه" جواز إمساك الممتلكات دون استثمار، ولا يكون ذلك من قبيل إضاعة المال المنهي عنها، فقد يكون في ذلك حماية للممتلكات، ورفع لقيمتها. 4 - من توقف ابن عمر عن كراء أرضه يتبين ورع ابن عمر واحتياطه وبعده عن الشبهات. 5 - ومن موقفه من رافع مدى استيثاق الصحابة عند أخذ الحديث، وتتبع مصادره. 6 - ومن موقف رافع وأعمامه من نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن أمر فيه مصلحتهم حرص الصحابة على الالتزام بطاعة الله ورسوله، ولو كان في ذلك ضياع لمصلحتهم ومنفعتهم. 7 - من فتوى رافع بجواز كراء الأرض بالذهب والفضة ما كان عليه الصحابة من الاجتهاد في الأحكام، والتعمق في الفهم والاستنباط. هذا وللأحاديث علاقة وثيقة بالباب الآتي. والله أعلم

كتاب المساقاة والمزارعة

كتاب المساقاة والمزارعة

(409) باب المساقاة والمزارعة

(409) باب المساقاة والمزارعة 3494 - عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع. 3495 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع. فكان يعطي أزواجه كل سنة مائة وسق: ثمانين وسقًا من تمر، وعشرين وسقًا من شعير. فلما ولي عمر قسم خيبر. خير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، أن يقطع لهن الأرض والماء، أو يضمن لهن الأوساق كل عام. فاختلفن. فمنهن من اختار الأرض والماء. ومنهن من اختار الأوساق كل عام. فكانت عائشة وحفصة ممن اختارتا الأرض والماء. 3496 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما خرج منها من زرع أو ثمر. واقتص الحديث بنحو حديث علي بن مسهر. ولم يذكر: فكانت عائشة وحفصة ممن اختارتا الأرض والماء. وقال: خير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع لهن الأرض. ولم يذكر الماء. 3497 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: لما افتتحت خيبر سألت يهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم فيها. على أن يعملوا على نصف ما خرج منها من الثمر والزرع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أقركم فيها على ذلك ما شئنا" ثم ساق الحديث بنحو حديث ابن نمير وابن مسهر عن عبيد الله. وزاد فيه: وكان الثمر يقسم على السهمان من نصف خيبر. فيأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس. 3498 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها. على أن يعتملوها من أموالهم. ولرسول الله صلى الله عليه وسلم شطر ثمرها.

3499 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز. وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على خيبر أراد إخراج اليهود منها. وكانت الأرض، حين ظهر عليها، لله ولرسوله وللمسلمين. فأراد إخراج اليهود منها. فسألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم بها. على أن يكفوا عملها. ولهم نصف الثمر. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "نقركم بها على ذلك، ما شئنا" فقروا بها حتى أجلاهم عمر إلى تيماء وأريحاء. -[المعنى العام]- كان اليهود يسكنون قرى حول المدينة، وكانوا يكيدون للإسلام ولنبيه وللمسلمين، وكانوا يتحالفون مع قريش في الظلام، ويظهرون المسالمة في النور، وكانوا يعاهدون وينقضون العهد والميثاق، يسكنون متعصبين في النضير وبني قريظة وخيبر، فكانوا شوكة في ظهر المسلمين، وكانت خيبر أبعد بلادهم عن المدينة، فتخلص المسلمون من بني النضير بمحاصرتهم وإخراجهم من ديارهم إلى الشام بما حملت رحالهم من أموالهم، وتخلصوا من بني قريظة بقتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم ونسائهم، وفي السنة السابعة من الهجرة جاء دور خيبر، غزاهم الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون، فتحصنوا بحصونهم المنيعة، لكن الله فتحها للمسلمين بعد حصار دام بضع عشرة ليلة، واستسلموا، ولم يكن لهم إلا أن يرحلوا كما رحل بنو النضير، أو يقتلوا كما قتل بنو قريظة، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم عمالاً وزراعًا للأرض التي صارت ملكًا للمسلمين على نصف ما يخرج منها، وقبل الرسول الكريم هذا العرض مؤقتًا، كمعاهدة مرحلية، لكنه ليس خادعًا ولا مخادعًا، فقد قال في عهده لهم: نقركم على ذلك مدة مشيئتنا، فإن شئنا لم نقركم. فوافقوا، وظلوا يعملون بها على ذلك قرابة عشر سنين، فنقضوا العهد، وغشوا المسلمين الذين يراعون أموالهم هناك، ورموا عبد الله بن عمر من فوق بيت، فالتوت يداه ورجلاه، فأجلاهم عمر إلى تيماء وأريحاء بالشام، وأعاد أرض خيبر لمن شهد هذه الغزوة من المجاهدين. -[المباحث العربية]- (عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع) في الكلام حذف، مفهوم من

فحوى الكلام، يعود عليه ضمير "منها" والتقدير: عامل أهل خيبر على أرضها - أي على زراعتهم أرضها - بشطر ما يخرج منها. "وخيبر" على وزن جعفر مدينة كبيرة، ذات حصون منيعة، وحولها مزارع ونخيل وافرة غنية، بين المدينة والشام، على نحو مائة وثلاثين ميلاً من المدينة، تحصن بها اليهود داخل أسوارها حين غزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أواخر المحرم سنة سبع من الهجرة، حاصرهم بضع عشرة ليلة، ثم فتحها الله، واستسلم اليهود، وأراد النبي صلى الله عليه وسلم إخراجهم من خيبر إلى الشام، كما فعل ببني النضير، لكنهم طالبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم في ديارهم وأرضيهم التي صارت للمسلمين، على أن يسقوا شجرها، ويحرثوا أرضها، ويرعوا زرعها، والبذر ونفقات الرعاية من جانبهم، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين نصف ما يخرج من الأرض من ثمر أو زرع. فالشطر بفتح الشين المراد منه هنا النصف. وأشار بالثمر إلى المساقاة، وبالزرع إلى المزارعة. (أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر بشطر ما يخرج .. ) التقدير: أعطى أهل خيبر أرض خيبر بشطر ما يخرج. (فكان يعطي أزواجه كل سنة مائة وسق) أي فكانت نفقته على بيوته من ثمار خيبر، من ثمرها وشعيرها مائة وسق، بضم الواو وفتحها وكسرها مع سكون السين، والوسق ستون صاعًا، والصاع خمسة أرطال وثلث. (ثمانين وسقًا من تمر) "ثمانين" بالنصب بدل من "مائة" وعند الأكثرين "ثمانون" بالرفع على القطع. (فلما ولي عمر قسم خيبر) "قسم" بتخفيف السين، وفي الكلام طي، والتقدير: فلما ولي عمر، وعزم على إخراج اليهود من جزيرة العرب، وأجلى أهل خيبر قسم أرضها على من كان شهد خيبر من المسلمين، وكانوا يأخذون أسهمًا من ثمرها وزرعها. (خير أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم) في رواية البخاري "فخير" وهي أوضح، والكلام مستأنف على رواية مسلم، وهذا التخيير من عمر تكريم منه لهن. رضي الله عنهن. (أن يقطع لهن الأرض والماء) بضم الياء في "يقطع" وكسر الطاء، أي يعطيهن سهمهن أرضًا وماء للري، بدل التمر والشعير. (أو يضمن لهن الأوساق كل عام) في رواية البخاري "أو يمضي لهن" أي يجري لهن الأوساق التي كانت تجري عليهن أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وذلك بأن يعامل على أرضهن بالمساقاة والمزارعة ويحصل على الثمر والزرع لبيت المال، ويجري عليهن من بيت المال ما كان لهن من أوساق.

(فكانت عائشة وحفصة ممن اختارتا الأرض والماء) كذا في جميع الأصول التي بين أيدينا "ممن اختارتا" وهو مبني على جعل "من" تبعيضية، إذ كان حقه أن يقول: "ممن اختار" أو "ممن اخترن" وتوجيهه بجعل "من" بيانية أو زائدة، والفرق بينهما أن التبعيضية يكون ما بعدها أكثر مما قبلها بخلاف البيائية أو الزائدة، كما في قوله تعالى {يحلون فيها من أساور} [الكهف: 31] وعلامة الزائدة أن المعنى على عدم وجودها، وهي هنا كذلك، كأنه قال: عائشة وحفصة من اختارتا. هما اللتان اختارتا، وهذا هو الواقع، فلم يختر ذلك من أمهات المؤمنين غيرهما. وفي رواية البخاري "وكانت عائشة اختارت الأرض" على معنى اختارت أن يقطع لها سهمها أرضًا، تتعامل عليها بالمساقاة والمزارعة. (أقركم فيها على ذلك ما شئنا) في الرواية الخامسة "نقركم بها على ذلك ما شئنا" "على ذلك" أي على ما تعرضون من نصف الزرع والثمر والإقامة، و"ما" في "ما شئنا" ظرفية دوامية، أي مدة مشيئتنا، وطالما نحن نشاء، أي نمكنكم من المقام في خيبر ما شئنا، ثم نخرجكم إذا شئنا، لأنه صلى الله عليه وسلم كان عازمًا على إخراج الكفار من جزيرة العرب. (وكان الثمر يقسم على السهمان) أي كان الثمر الذي يحصل عليه المسلمون من أرض خيبر يقسم على من حضر غزوة خيبر، والسهمان بضم السين جمع سهم. أي كان يقسم حسب أسهم الغازين لخيبر. (فيأخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الخمس) أي ويدفعه إلى مستحقيه، وهم الأصناف الخمسة المذكورة في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] فيأخذ لنفسه خمسًا واحدًا من الخمس، ويصرف الأخماس الباقية من الخمس إلى الأصناف الأربعة الباقين. (حتى أجلاهم عمر إلى تيماء وأريحاء) وهما قريتان معروفتان بفلسطين. -[فقه الحديث]- في الباب السابق تكلمنا عن خلاف الفقهاء وأدلتهم في حكم المساقاة والمزارعة. -[ويؤخذ من هذه الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - من قوله "بشطر ما يخرج منها" أن الجزء المتفق عليه في المساقاة يكون معلومًا، من نصف وربع وغيرهما، من الأجزاء المعلومة، فلا يجوز على مجهول، كقوله: على أن لك بعض الثمر. قال النووي: واتفق المجوزون للمساقاة على جوازها بما اتفق عليه المتعاقدان من قليل أو كثير. 2 - من قوله "من ثمر أو زرع" احتج الشافعي وموافقوه على جواز المزارعة تبعًا للمساقاة، وإن كانت المزارعة عندهم لا تجوز منفردة.

3 - ومن قوله "نقركم بها على ذلك ما شئنا" احتج أهل الظاهر به على جواز المساقاة مدة مجهولة، وقال الجمهور: لا تجوز المساقاة إلا إلى مدة معلومة، كالإجارة، وتأولوا الحديث بأن معناه نقركم إلى مدة العهد، وقيل: كان ذلك جائزًا في أول الإسلام خاصة للنبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: معناه أن لنا إخراجكم بعد انقضاء المدة المسماة، وكانت هناك مدة مسماة للعقد لم تذكر، أو يكون المراد بيان أن المساقاة ليست بعقد دائم كالبيع والنكاح، بل بعد انقضاء المدة تنقضي المساقاة، فإن شئنا عقدنا عقدًا آخر. وإن شئنا أخرجناكم. وقال أبو ثور: إذا أطلقا المساقاة اقتضى ذلك سنة واحدة. والظاهر أن العرف حكم في المدة. 4 - استدل بقوله "على أن يعتملوها من أموالهم" على أن وظيفة عامل المساقاة أن عليه كل ما يحتاج إليه في إصلاح الثمر واستزادته، مما يتكرر كل سنة، كالسقي وتنقية مجاري المياه، وإصلاح منابت الشجر وتلقيحه وتنقية الحشيش والقضبان وحفظ الثمرة وجذاذها ونحو ذلك. وأما ما يقصد به حفظ الأصل، ولا يتكرر كل سنة، كبناء الحيطان، وحفر الأنهار فعلى المالك. قاله النووي. 5 - استدل بهذه الأحاديث لمذهب الشافعي وموافقيه أن الأرض التي تفتح عنوة تقسم بين الغانمين الذين فتحوها، كما تقسم بينهم الغنيمة المنقولة بالإجماع، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم خيبر بينهم. وقال مالك وأصحابه: يقفها الإمام على المسلمين، كما فعل عمر رضي الله عنه في أرض سواد العراق، وقال أبو حنيفة والكوفيون: يتخير الإمام بحسب المصلحة في قسمتها أو تركها في أيدي من كانت لهم، بخراج يوظفه عليها، وتصير ملكًا لهم، كأرض الصلح. 6 - استدل بقوله "فأجلاهم عمر إلى تيماء وأريحاء" على أن مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب إخراجهم من بعضها، وهو الحجاز خاصة، لأن تيماء من جزيرة العرب، لكنها ليست من الحجاز، قاله النووي. واللَّه أعلم

(410) باب فضل الغرس والزرع

(410) باب فضل الغرس والزرع 3500 - عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من مسلم يغرس غرسًا إلا كان ما أكل منه له صدقة. وما سرق منه له صدقة. وما أكل السبع منه فهو له صدقة. وما أكلت الطير فهو له صدقة. ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة". 3501 - عن جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم مبشر الأنصارية في نخل لها. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم "من غرس هذا النخل؟ أمسلم أم كافر؟ " فقالت: بل مسلم. فقال "لا يغرس مسلم غرسًا، ولا يزرع زرعًا، فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا شيء، إلا كانت له صدقة". 3502 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يغرس رجل مسلم غرسًا، ولا زرعًا، فيأكل منه سبع أو طائر أو شيء، إلا كان له فيه أجر". وقال ابن أبي خلف: طائر شيء. 3503 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم معبد، حائطًا. فقال "يا أم معبد من غرس هذا النخل؟ أمسلم أم كافر؟ " فقالت: بل مسلم. قال "فلا يغرس المسلم غرسًا، فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا طير، إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة". ومثله.

3504 - عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من مسلم يغرس غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة". 3505 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم دخل نخلاً لأم مبشر، امرأة من الأنصار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من غرس هذا النخل؟ أمسلم أم كافر؟ " قالوا: مسلم. بنحو حديثهم. -[المعنى العام]- خلق اللَّه تعالى آدم وذريته على كوكب الأرض، وهيأ لهم فيها أسباب عمارتها، ووسائل الانتفاع منها. أخرج منها ماءها ومرعاها، وأرسل السماء عليها مدرارًا، وأنبت فيها الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات، وكان على الإنسان أن يحرث الأرض، ويبذر فيها البذر، وأن يسقيها بالماء، وعلى الله أن يشق الأرض، ويفلق الحب والنوى، ويخرج الحي من الميت، ينشئ جنات معروشات وغير معروشات، والزرع والنخل مختلفًا أكله والزيتون والرمان، متشابهًا وغير متشابه، صنوان وغير صنوان، يسقى بماء واحد، وينبت في مكان واحد، ويفضل بعضها على بعض في الأكل والطعم. تبارك الله رب العالمين. خلق الأرض، وقدر فيها أقواتها، وطلب منا أن نثير الأرض، ونضع البذر، ونرعاه بالسقي وغيره لمصلحتنا نحن. ومع ذلك وعدنا على ذلك بالأجر والثواب "ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة إلا كان له به صدقة" حتى ما يسرق منه، له به أجر، ما ينزل عليه من آفة له به أجر، ما يقع له في زرعه من ابتلاء ومصيبة له به أجر، أجر مستمر متكرر متجدد كلما انتفع بهذا الزرع حي من الأحياء، حتى لو مات الزارع بقي زرعه وغرسه صدقة جارية يصله ثواب نفعه، وهو في قبره، طيلة انتفاع الناس به. ففي بعض الروايات "من غرس غرسًا في غير ظلم ولا اعتداء كان له أجر جار، ما انتفع من خلق الرحمن تبارك وتعالى أحد" وفي رواية "من نصب شجرة، فصبر على حفظها، والقيام عليها حتى تثمر، كان له في كل شيء يصاب من ثمرها صدقة عند الله عز وجل" ولقد بلغ من حث الشريعة على الزرع، والحرص عليه حتى آخر لحظة من الحياة أن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن قامت الساعة، وبيد أحدكم فسيلة - أي نبته شجر صغيرة أو نخلة صغيرة "شتلة زرع" فاستطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها".

-[المباحث العربية]- (ما من مسلم) "من" زائدة، والتعبير بالمسلم للاحتراز عن الكافر، فإن هذا الأجر خاص بالمسلم، تصرح بذلك الرواية الثانية والرابعة، إذ يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغارس. أمسلم أم كافر؟ ثم عموم المسلم بسبب تنكيره، ووقوعه في سياق النفي، وإدخال "من" عليه، مما يزيد عمومه يشمل الحر والعبد والمطيع والعاصي وقاصد النفع العام، وقاصد نفع نفسه، ومن يغرس بأجر، ومن يتطوع بذلك وغير ذلك، وأما المرأة فهي داخلة في الحكم لأن التعبير بالمسلم للتغليب، ولفظ "رجل" في الرواية الثالثة لا مفهوم له، بل هو لبيان الواقع والغالب والكثير، وأما رواية "ما من عبد" والعبد يشمل المسلم والكافر فالمراد منها المسلم، حملاً للمطلق على المقيد. لما يأتي في فقه الحديث. (يغرس غرسًا) في الرواية الثانية "لا يغرس مسلم غرسًا، ولا يزرع زرعًا" والغرس خاص بالشجر، والزرع بالنبات الصغير. (إلا كان ما أكل منه له صدقة) "ما أكل" بالبناء للمجهول، وحذف الفاعل لإرادة عموم الآكل، وهو ما أشار إليه في الرواية الثانية "إنسان ولا دابة، ولا شيء" وفي الرواية الثالثة "سبع أو طائر أو شيء" وفي الرواية الخامسة "طير أو إنسان أو بهيمة" وفي رواية لأحمد "آدمي أو خلق ممن خلق الله" وفي رواية "ما أصابت منه العوافي" والعوافي طلاب الرزق من الناس والدواب والطير، والتعبير بالأكل لأنه أهم مقاصد النفع والمراد مطلق الانتفاع ولو بالظل أو باللمس أو بالريح أو بالمنظر الجميل. (ولا يرزؤه أحد) براء قبل الزاي ثم همزة، أي لا يأخذ منه أحد أخذًا ينقص ما عنده، يقال: رزأه يرزأه بفتح الهمزة فيهما رزءًا بضم الراء وسكون الزاي، إذا أصابه برزء، أي مصيبة. ففيه إشارة إلى أن الأجر ثابت، ولو كان الأخذ رغم أنفه، ولو كان فيه إفساد في نظره. (إلا كان له صدقة) أي إلا كان هذا الأكل له صدقة، أي يشبه الصدقة في حصول الأجر الأخروي فالكلام على التشبيه. ففيه استعارة تصريحية. (دخل على أم مبشر الأنصارية في نخل لها) أي في حائط نخل أو حديقة نخل. وأم مبشر بضم الميم وفتح الباء وتشديد الشين المكسورة - هي أم معبد - بفتح الميم وسكون العين وفتح الباء الواردة في الرواية الرابعة. قال النووي: ويقال "أم بشير" بفتح الباء وكسر الشين، فحصل أنها يقال لها: أم مبشر وأم معبد وأم بشير، واسمها قيل الخليدة، ولم يصح، وهي امرأة زيد بن حارثة. أسلمت وبايعت. (إلى يوم القيامة) جعل الغاية مرتبطة بقوله "لا يغرس المسلم غرسًا" على معنى أن هذا الحكم ثابت للغارس الذي يغرس في أي زمان إلى يوم القيامة لا يفيد جديدًا، فهذا الحكم كالأحكام

الشرعية عمومًا قائمة إلى يوم القيامة، لهذا ربطها العلماء بصدقة، أي صدقة جارية مستمرة بعد مماته، وليس المراد أن أجره لا ينقطع إلى يوم القيامة، وإن فنى الزرع أو الغرس، بل المراد ما بقي ذلك الزرع والغرس منتفعًا به، وإن بقي إلى يوم القيامة. -[فقه الحديث]- في هذه الأحاديث فضيلة الغرس والزرع، واستدل بها بعضهم على أن الزراعة أفضل المكاسب، قال النووي: وقد اختلف العلماء في أطيب المكاسب وأفضلها، فقيل: التجارة، وقيل الصنعة باليد، وقيل: الزراعة، وهو الصحيح. اهـ. فالذي يفضل الزراعة على بقية المكاسب يستدل بهذا الحديث وبأنها أقرب المكاسب إلى التوكل، وأكثرها تذكيرًا بفضل الله وقدرته، ولما فيها من النفع العام للآدمي والدواب، ولأنها لا بد فيها في العادة أن يؤكل منها بغير عوض. والذي يفضل التجارة قد يستدل بقوله تعالى {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} [الجمعة: 10] وبأن الكثيرين من المهاجرين كانوا يضربون في الأسواق. والذي يفضل الصناعة يستدل بحديث "ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود - عليه السلام - كان يأكل من عمل يده". والتحقيق أن الإطلاق في هذا غير سليم، بل كل منها ومن غيرها يختلف باختلاف النوع والشخص والناس والظروف العامة، فليست الزراعة بالعمال مثل الزراعة باليد، فالزارع بنفسه يأكل من عمل يده، والتاجر يأكل من عمل يده، وزراعة ما يحتاجه الناس، وتتوقف عليه حياتهم كالحبوب، لا يساويها زراعة الكماليات والفواكه المرتفعة الأسعار ابتغاء الكسب، والزراعة حين تكثر المزروعات ليست كالزراعة في أوقات الحاجات والضرورات والزارع المحتسب المخلص لا يساويه المنتفع المستغل، فدرجة الحل في كل مكسب تختلف، ودرجات النفع العام من التكسب تختلف، ودرجات حاجات الناس إلى هذا التكسب تختلف. المهم أن يعمل المسلم ولا يتواكل، وأن يجد في الحلال ولا يتكاسل. وفي الأحاديث المذكورة أن الغرس والزرع - وكذا الصنائع والتجارة - مباح، وغير قادح في الزهد، أما حديث الترمذي "لا تتخذوا الضيعة فتركنوا إلى الدنيا" فهو محمول على الاستكثار من الضياع، والانصراف إليها بالقلب. الذي يفضي بصاحبه إلى الركون إلى الدنيا، فسبيل الضيعة سبيل المال، غير مستحب إلا إذا أخذه بحقه ووضعه في حقه. وفي حديث أم مبشر أن الأجر يحصل لمن قام بالزرع، ولو لم يكن مالكًا له أو للأرض، فقد سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغارس، وهو يعلم أنها المالكة. وفي الأحاديث جواز نسبة الزرع إلى الآدمي، فحديث ابن أبي حاتم "لا يقل أحدكم زرعت، ولكن

ليقل حرثت، ألم تسمع لقول الله تعالى {أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون} [الواقعة: 64] بعد قوله تعالى {أفرأيتم ما تحرثون} حديث ضعيف، وعلى فرض صحته فهو توجيه للزارع الحارث أن يعتقد أن الله هو مخرج الزرع ومنبته وراعيه في النمار والثمر، ولا يعتقد شيئًا من ذلك بحول نفسه وقوته. وفي هذه الأحاديث، الحض على عمارة الأرض لنفسه ولمن يأتي بعده. وأنه قد يثاب المرء رغم أنفه، وأن نفع المسلم المسلمين مأجور عليه، وإن لم يقصد. وأن في الإحسان إلى كل ذات كبد رطبة أجرًا. واللَّه أعلم

(411) باب وضع الجوائح، وفضل إنظار المعسر والتجاوز عن الموسر

(411) باب وضع الجوائح، وفضل إنظار المعسر والتجاوز عن الموسر 3506 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن بعت من أخيك ثمرًا". وعن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لو بعت من أخيك ثمرًا، فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا. بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ ". 3507 - عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ثمر النخل حتى تزهو. فقلنا لأنس: ما زهوها؟ قال: تحمر وتصفر. أرأيتك إن منع الله الثمرة، بم تستحل مال أخيك؟ . 3508 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة حتى تزهي. قالوا: وما تزهي؟ قال: تحمر. فقال: إذا منع الله الثمرة، فبم تستحل مال أخيك؟ . 3509 - عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن لم يثمرها الله، فبم يستحل أحدكم مال أخيه". 3510 - عن جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح. 3511 - عن أبي سعيد الخدري قال: أصيب رجل في عهد رسول الله

صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها. فكثر دينه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تصدقوا عليه" فتصدق الناس عليه. فلم يبلغ ذلك وفاء دينه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه "خذوا ما وجدتم. وليس لكم إلا ذلك". 3512 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت خصوم بالباب. عالية أصواتهما. وإذا أحدهما يستوضع الآخر ويسترفقه في شيء. وهو يقول: والله لا أفعل. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما. فقال "أين المتألي على الله لا يفعل المعروف؟ " قال: أنا يا رسول الله، فله أي ذلك أحب. 3513 - عن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينًا كان له عليه، في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، في المسجد. فارتفعت أصواتهما. حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته. فخرج إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كشف سجف حجرته. ونادى كعب بن مالك. فقال "يا كعب" فقال: لبيك يا رسول الله. فأشار إليه بيده أن ضع الشطر من دينك. قال كعب: قد فعلت، يا رسول الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قم فاقضه". 3514 - عن كعب بن مالك أنه تقاضى دينًا له على ابن أبي حدرد بمثل حديث ابن وهب. 3515 - عن كعب بن مالك رضي الله عنه أنه كان له مال على عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي. فلقيه فلزمه فتكلما حتى ارتفعت أصواتهما. فمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال "يا كعب" فأشار بيده. كأنه يقول النصف. فأخذ نصفًا مما عليه. وترك نصفًا.

3516 - عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول) "من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس (أو إنسان قد أفلس) فهو أحق به من غيره". 3517 - - وفي رواية قال ابن رمح من بينهم في روايته: أيما امرئ فلس. 3518 - عن حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي يعدم، إذا وجد عنده المتاع ولم يفرقه "أنه لصاحبه الذي باعه". 3519 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا أفلس الرجل، فوجد الرجل متاعه بعينه، فهو أحق به". وقالا "فهو أحق به من الغرماء". 3520 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا أفلس الرجل، فوجد الرجل عنده سلعته بعينها، فهو أحق بها". 3521 - عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم. فقالوا: أعملت من الخير شيئًا؟ قال: لا. قالوا: تذكر. قال: كنت أداين

الناس. فآمر فتياني أن ينظروا المعسر ويتجوزوا عن الموسر. قال: قال الله عز وجل: تجوزوا عنه". 3522 - اجتمع حذيفة وأبو مسعود رضي الله عنهما فقال حذيفة "رجل لقي ربه. فقال: ما عملت؟ قال: ما عملت من الخير، إلا أني كنت رجلاً ذا مال. فكنت أطالب به الناس. فكنت أقبل الميسور وأتجاوز عن المعسور. فقال: تجاوزوا عن عبدي" قال أبو مسعود: هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول. 3523 - عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن رجلاً مات فدخل الجنة. فقيل له: ما كنت تعمل؟ (قال: فإما ذكر وإما ذكر) فقال: إني كنت أبايع الناس. فكنت أنظر المعسر وأتجوز في السكة أو في النقد. فغفر له" فقال أبو مسعود: وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. 3524 - عن حذيفة رضي الله عنه قال: "أتي الله بعبد من عباده، آتاه الله مالاً فقال له: ماذا عملت في الدنيا؟ (قال: ولا يكتمون الله حديثًا) قال: يا رب آتيتني مالك. فكنت أبايع الناس. وكان من خلقي الجواز. فكنت أتيسر على الموسر وأنظر المعسر. فقال الله: أنا أحق بذا منك. تجاوزوا عن عبدي". فقال عقبة بن عامر الجهني، وأبو مسعود الأنصاري: هكذا سمعناه من في رسول الله صلى الله عليه وسلم. 3525 - عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "حوسب رجل ممن كان قبلكم. فلم يوجد له من الخير شيء. إلا أنه كان يخالط الناس. وكان موسرًا. فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر. قال: قال الله عز وجل: نحن أحق بذلك منه. تجاوزوا عنه".

3526 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "كان رجل يداين الناس. فكان يقول لفتاه: إذا أتيت معسرًا فتجاوز عنه. لعل الله يتجاوز عنا. فلقي الله فتجاوز عنه". 3527 - عن عبد الله بن أبي قتادة أن أبا قتادة طلب غريمًا له فتوارى عنه. ثم وجده. فقال: إني معسر. فقال: آلله؟ قال آلله. قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر، أو يضع عنه". -[المعنى العام]- خلق الله الإنسان وفي طبعه الشح، وفي طبعه حب المال، وفي طبعه الحرص على ما يملك، وفي طبعه السعي لجمع ما لا يملك، وفي طبعه الأثرة، وليس الإيثار، كل ذلك يظهر في المعاملات المالية بين البشر، من بيع وشراء، ودين ووفاء، وإتلاف وضمان، وخصومات وقضاء، وكثيرًا ما تكون المعاملة بين قوي وضعيف، وغني وفقير، وعظيم وحقير، وسيد ومسود، فمن يحفظ الحق للضعيف؟ ليس إلا الإسلام، وتشريعات الإسلام، وحكام الإسلام، الذين قال أوائلهم: القوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه، والضعيف منكم قوي حتى آخذ الحق له. أما التشريعات الواردة في هذه الأحاديث، والتي تعالج النزعات الإنسانية فهي السماحة والسهولة والتيسير وفيها يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "رحم الله رجلاً سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى" إذا أعطى ما عليه أعطى بسهولة من غير مطل ومن غير إجحاف، وإذا طلب ماله عند الغير طلب برفق، وأخذ ما تيسر، وأجل ما لم تيسر، ويتنازل عن بعض الحق إذا أمكن، ولا يضيق على معسر، ويقدر ظروف معامله، وملابسات التعامل، فإذا هلكت سلعة باعها وقبض ثمنها، وهي عنده تحملها، لأنه إن أكل ثمنها فقد أكل مال أخيه بدون مقابل وبغير حق، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع صوت خصمين وهو في بيته، فخرج إليهما، فوجد مدينًا يستعطف الدائن أن يمهله، ودائنًا يحلف بالله أن لا يدعه ولا يتنازل عن شيء من حقه، فخرج صلى الله عليه وسلم يعنف الدائن على غلظته وقسوته،

وقال: من منكما الذي يحلف ألا يفعل الخير؟ قال الدائن: أنا يا رسول الله، ولن أعود، وسأعاقب نفسي على ما فعلت بأن أتنازل عن بعض الدين، أو أؤجله الدين إلى ميسرة، ولخصمي أي الأمرين أحب. ويحكي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً فيمن كان قبلنا لم يقدم خيرًا قط، ولم يعمل صالحًا قط، إلا أنه كان سمحًا إذا باع، سمحًا إذا داين، سمحًا عند استيفاء حقه، فلما مات قال الله تعالى: نحن أحق بالتجاوز منه. تجاوزت عنه، وعن تقصيره في حقي، يا ملائكتي، تجاوزوا عنه، وأدخلوه الجنة. وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ -[المباحث العربية]- (لو بعت من أخيك ثمرًا) كذا هو في الأصول التي بين أيدينا "لو بعت من أخيك ثمرًا" والمراد: لو بعت أخاك ثمرًا، فالمخاطب البائع الذي تلفت عنده الثمرة وقد أخذ ثمنها من المشتري، فمن زائدة في الإثبات، على مذهب الأخفش والكوفيين، كما في قوله تعالى {يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم} [الأحقاف: 31] فالإيمان يجب ما قبله، ويغفر كل الذنوب. (فأصابته جائحة) الجائحة الشدة العظيمة التي تجتاح المال وتهلكه وتستأصله. أي فأصابت الثمر المباع مهلكة. (فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا) أي لا يحل لك أيها البائع أن تأخذ من أخيك المشتري شيئًا من مال. (بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ ) الاستفهام إنكاري توبيخي، أي لا ينبغي ولا يحل لك أيها البائع ذلك. فإنك إن أخذت شيئًا كان بغير حق. وفي الرواية الثانية "بم تستحل مال أخيك"؟ وفي الرواية الثالثة "إذا منع الله الثمرة فبم تستحل مال أخيك"؟ والمراد من منعها هلاكها، ومنعها من السلامة والنضوج، وفي الرواية الرابعة "إن لم يثمرها الله فبم يستحل أحدكم مال أخيه"؟ أي إن لم يحفظها لتكون ثمرة صالحة للأكل. (أرأيتك إن منع الله الثمرة. بم تستحل مال أخيك؟ ) "أرأيتك" أي أخبرني، فالاستفهام يراد به مطلق الطلب بدل طلب الفهم. مجاز مرسل، والرؤية يراد بها الإخبار، مجاز مرسل، علاقته السببية والمسببية. فآل الأمر إلى طلب الإخبار، المدلول عليه بلفظ أخبرني. (أمر بوضع الجوائح) أي بالتنازل عن قيمة الجائحة، فلا يأخذ البائع قيمة المبيع الذي هلك عنده قبل قبضه. (أصيب في ثمار ابتاعها) أي هلكت ثمار اشتراها، والظاهر أنها كانت بعد بدو الصلاح، أو أن ذلك كان بتقصير منه قبل الجذاذ، إذ لم يرجع على البائع بشيء.

(لغرمائه) أي لدائنيه. (صوت خصوم بالباب، عالية أصواتهما) جمع "خصوم" و"أصوات" باعتبار من حضر الخصومة، فإنهم ينضمون إلى أحد الخصمين، ويتكلمون، وثنى باعتبار الخصمين، أو كأن التخاصم من الجانبين بين جماعة، فجمع، ثم ثنى باعتبار جنس الخصم، وليس فيه حجة لمن جوز صيغة الجمع بالاثنين، كما زعم بعض الشراح. كذا قال الحافظ ابن حجر. وهو كما قال في جمع "خصوم" وتثنية الضمير، أما إفراد "صوت" في الأول وجمعه "أصوات" في الثاني فلأن الصوت مصدر يطلق على القليل والكثير، مثل "عدو" وقد بدأ وصول الصوت إليه بجملة، ثم كثر، و"عالية" يجوز فيه الجر على الصفة، والنصب على الحال، والمراد من الباب باب إحدى بيوته صلى الله عليه وسلم، والظاهر أنه بيت عائشة، والمراد قريبًا من الباب. (وإذا أحدهما يستوضع الأخر) أي يطلب منه أن يضع عنه، ويسقط عنه بعض الدين، وهو المعروف في الفقه بالحطيطة. (ويسترفقه في شيء) أي ويطلب منه أن يرفق به، وقد وقع بيان هذا الشيء، وأن المخاصة كانت في ثمر بين البائع والمشتري في رواية ابن حبان. (وهو يقول) أي والآخر يقول. (والله أفعل) هذا ولا ذاك، أي لا أضع ولا أنقص الثمن أو الدين، ولا أرفق بك فأؤخره، أو أمنحك ما يزيل خصومتك ويرضيك. (فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم) من بيته إليهما. (أين المتألي على الله لا يفعل المعروف؟ ) "المتألي" بضم الميم وفتح التاء وفتح الهمزة وكسر اللام المشددة. أي الحالف المبالغ في اليمين، مأخوذ من الألية، بفتح الهمزة وكسر اللام وتشديد الياء، وهي اليمين. (فله أي ذلك أحب) أي فلخصمي أي الأمرين أحب، الوضع أو الرفق. (أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينًا) أي طالبه به، وأراد قضاءه، و"حدرد" بفتح الحاء وسكون الدال وفتح الراء بعدها دال، وفي الرواية التاسعة "فلقيه" أي في المسجد. (فخرج إليهما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى كشف سجف حجرته) بكسر السين وفتحها مع سكون الجيم، الستر، فخروجه صلى الله عليه وسلم بروزه، والمعلوم أن بعض حجراته صلى الله عليه وسلم كان يسترها عن المسجد ستر. (قال صلى اللَّه عليه وسلم: قم فاقضه) أي قال للمدين بعد أن حط الدائن عنه النصف - قم

فأد نصف دينك، والظاهر أنه قام فأدى في الحال، بدليل الرواية التاسعة، ففيها "فأخذ نصفًا مما عليه، وترك نصفًا". (عند رجل قد أفلس) المفلس شرعًا من تزيد ديونه على موجوداته، سمي مفلسًا لأنه صار ذا فلوس بعد أن كان ذا دراهم ودنانير. [الفلس عملة كانت تقدر بسدس الدرهم] إشارة إلى أنه صار لا يملك إلا أدنى الأموال، وهي الفلوس، أو سمي بذلك لأنه يمنع من التصرف إلا في الشيء التافه كالفلوس، لأنهم ما كانوا يتعاملون بها إلا في الأشياء الحقيرة، أو لأنه صار إلى حالة لا يملك فيها فلسًا، فعلى هذا فالهمزة في أفلس للسلب. (فهو أحق به من غيره) ظاهره: أيا كان ذلك الغير، وارثًا أو غريمًا. وفي ملحق الرواية الثانية عشرة "فهو أحق به من الغرماء" وسيأتي الخلاف في فقه الحديث. (في الرجل الذي يعدم) بضم الياء وسكون العين وكسر الدال، أي يفتقر. (تلقت الملائكة روح رجل) أي استقبلت روحه عند الموت. (فقالوا: أعملت من الخير شيئًا؟ قال: لا. قالوا: تذكر. قال) ظاهر هذه الرواية أن السائلين. ملائكة تلقى الأرواح عند الموت، وكأنهم رأوا منزلته في الجنة، أو أن القبضة كانوا ملائكة الرحمة، ولم يروا من الخير عملاً يؤهله لذلك، فسألوا. وفي الرواية الخامسة عشرة "رجل لقي ربه، فقال: ما عملت؟ قال: ما عملت من الخير، إلا أني كنت ... " وظاهر هذه الرواية أن السائل هو الله تعالى لإظهار المنة والرحمة، فالسؤال سؤال استنطاق وتقرير. وفي الرواية السادسة عشرة "أن رجلاً مات فدخل الجنة، فقيل له: ما كنت تعمل؟ فإما ذكر - أي من تلقاء نفسه - وإما ذكر - أي ذكره غيره فقال ... " وفي الرواية السابعة عشرة "أتى الله بعبد من عباده .. فقال له: ماذا عملت في الدنيا؟ .. " وهي كالرواية الخامسة عشرة، وفي الرواية الثامنة عشرة أن هذا القول عند الحساب. ولا تعارض، فقد يسأل الرجل ويجيب في كل هذه المواطن، ومن السائلين المختلفين. (كنت أداين الناس .... ) في الرواية الخامسة عشرة "كنت رجلاً ذا مال فكنت أطالب به الناس" أي كنت أداين، فأطالب. وفي الرواية السادسة عشرة والسابعة عشرة "كنت أبايع الناس" وفي الرواية الثامنة عشرة "كان يخالط الناس" ولا تعارض، فقد يبيع بالأجل، ويقرض، ويخالط الناس بمعاملات أخرى كالشركة والقراض ونحو ذلك. (فآمر فتياني أن ينظروا المعسر، ويتجوزوا عن الموسر) وفي الرواية السادسة عشرة "فكنت أنظر المعسر، وأتجوز في السكة - المراد بها المعادن المسكوكة والمضروبة نقودًا للتعامل بها

- أو في النقد" شك من الراوي في أي اللفظين قيل: وفي الرواية الخامسة عشرة "فكنت أقبل الميسور، وأتجاوز عن المعسور" وفي الرواية السابعة عشرة "وكان من خلقي الجواز - أي التجاوز والتجوز والتسامح - فكنت أتيسر على الموسر - أي أيسر عليه في الدفع - وأنظر المعسر" وفي الرواية الثامنة عشرة "فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر". والفتيان جمع فتى هم الغلمان، كما جاء في الرواية الثامنة عشرة، والمراد الخدم، أحرارًا كانوا أو عبيدًا، وتجاوز الفتيان تجاوز منه، ينسب إليه بالأصالة وللفتيان بالمباشرة. والتجاوز المسامحة في الاقتضاء والاستيفاء، أعني في الكم والكيف، فيتسامح في الكم بالتنازل عن جزء الدين، ويتسامح في كيفية الأداء بالتقسيط وتأخير السداد، وهو على هذا يصلح أن يعامل به الموسر والمعسر. ومن هنا جاءت الرواية الرابعة عشرة بالتجاوز عن الموسر، وجاءت الرواية الخامسة عشرة والثامنة عشرة بالتجاوز عن المعسر. والإنظار هو تأخير وقت السداد، وهو يصلح أن يعامل به الموسر والمعسر، وإذا كانت روايات مسلم لم تأت بإنظار الموسر، فإن روايات البخاري جاءت به، ففي بعضها "أنظروا الموسر" وفي بعضها "أن ينظروا ويتجاوزوا عن الموسر" ولهذا ترجم البخاري "باب من أنظر موسرًا" ثم "باب من أنظر معسرًا". واختلف العلماء في حد الموسر والمعسر، وسيأتي في فقه الحديث. (آللَّه؟ قال: اللَّه) "آللَّه" بحذف حرف الجر، أي أبالله، يعني أتقسم بالله أنك صادق؟ قال: الله. بحذف حرف القسم. أي والله إني معسر. (من كرب يوم القيامة) بضم الكاف وفتح الراء، جمع كربة، وهي الشدة. (فلينفس عن معسر) بضم الياء وفتح النون وكسر الفاء المشددة، أي يفرج عنه، وأصله يمكنه من النفس المريح. -[فقه الحديث]- تتعرض الأحاديث إلى السماحة وسهولة المعاملة والتيسير في استيفاء الحقوق في أربع صور: الصورة الأولى: تلف الثمرة عند البائع، بعد البيع، وقبل قبض المشتري، وقد ذكرنا قبل ثلاثة أبواب حكم بيع الثمار، قبل بدو صلاحها، وبعد بدو صلاحها بشرط القطع، وبشرط الإبقاء على الشجر، ووضحنا المراد من بدو الصلاح هناك بما يغني عن إعادته هنا. وهذا الباب ليس في صحة البيع أو بطلانه، وإنما هو في تلف الثمرة عند البائع قبل قبض المشتري، وظاهر الرواية الأولى أن الثمرة في ضمان البائع، حتى يقبضها المشتري، سواء أكان بيعها

قبل بدو الصلاح أو بعده، وسواء شرط المشتري بقاءها على الشجر لحين استلامها، أم لم يشترط، لكن الرواية الثانية والثالثة ربطت هذا الحكم بالنهي عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، ومفهومه أن ضمان البائع لها إنما هو في حالة بيعها قبل بدو الصلاح، وقد قلنا قبل ثلاثة أبواب: إن علة النهي عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها أن الثمرة قد تتلف بعد البيع وقبل النضج، بل هي معرضة لذلك كثيرًا، فيكون البائع قد أكل مال أخيه. وقلنا: إن البيع قبل بدو الصلاح بدون شرط القطع الفوري باطل عند عامة العلماء. ومعنى هذا أن الثمرة قبل بدو صلاحها في ذمة البائع، فإذا تلفت لم يحل له من مال المشتري شيئًا، وهذا ما يقوله عامة العلماء، لم يخالف في ذلك إلا شاذ. والخلاف المنتشر في بيع الثمرة بعد بدو صلاحها إذا تلفت، وقد خلى البائع بين المشتري وبينها. فقال الشافعي في القديم وأحمد وطائفة: هي في ضمان البائع، ويجب وضع الجائحة، إلا إذا تلفت بعد أوان الجذاذ، وفرط المشتري في تركها بعد ذلك على الشجر، واحتجوا بروايتنا الخامسة ولفظها "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح" وبروايتنا الأولى، ولفظها "لو بعت من أخيك ثمرًا، فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا. بم تأخذ مال أخيك بغير حق"؟ أي لو تلف الثمر لانتفى في مقابلته العوض، فأخذ مال المشتري في هذه الحالة أخذ بلا مقابل، فهو بغير حق. وقالوا: إن الثمرة في هذه الحالة في معنى الباقية في يد البائع، من حيث إنه يلزم بسقيها، فكأنها تلفت في يده قبل القبض، كما استندوا إلى قوله صلى الله عليه وسلم في روايتنا السادسة للغرماء، وفيهم البائعون "خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك" ولو كانت الجوائح لا توضع لكان لهم طلب بقية الثمن. وقال الشافعي في أصح قوليه وأبو حنيفة والليث بن سعد وآخرون: هي في ضمان المشتري، ولا يجب وضع الجائحة، بل تستحب، واحتجوا بروايتنا الخامسة، قالوا: لو وجب وضع الجائحة لقال صلى الله عليه وسلم للبائعين: لا حق لكم عنده، ولما أمر بالتصدق عليه، لسداد ثمن الثمار، أما قوله "ليس لكم إلا هذا" فمعناه ليس لكم الآن إلا هذا، فقد أخذتم كل ما وجد، ولا تحل لكم مطالبته ما دام معسرًا، بل عليكم أن تنظروه إلى ميسرة، وحملوا الأمر بوضع الجوائح على الاستحباب، أو فيما إذا بيع قبل بدو الصلاح. وقال مالك: إن كانت الجائحة في دون ثلث الثمار وجب وضعها، وإن كانت في الثلث فأكثر لا يجب وضعها، بل يجب حينئذ وضع الجائحة في حدود ثلث الثمار المشتراة، ولعله بذلك يتوسط بين القول بضمان البائع وبين القول بضمان المشتري، وأن التلف خارج عن مسئوليتهما معًا. واللَّه أعلم. الصورة الثانية: التيسير على المدين، بوضع جزء من الدين عنه، أو بتأجيل الاستيفاء، أو بهما معًا، ووجه دخول هذه الصورة في كتاب البيع أن الدين قد يكون عن طريق البيع،

وقد كان الدائن في الجاهلية يستعبد المدين ويسترقه إذا جاء الأجل فلم يسدد، فجاء الإسلام، لا بإمهال المدين فحسب، بل وبالحط عنه بعض الدين، وليس بالربا وزيادة الدين. وعن هذه الصورة تتحدث روايتنا السابعة والثامنة والتاسعة والرابعة عشرة والخامسة عشرة والسادسة عشرة والسابعة عشرة والثامنة عشرة والتاسعة عشرة. وقد اختلف العلماء في حد الموسر والمعسر، فقال الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحق: من عنده خمسون درهمًا أو قيمتها من الذهب فهو موسر، وقال الشافعي: قد يكون الشخص بالدرهم غنيًا بكسبه، وقد يكون فقيرًا بالألف مع ضعفه في نفسه وكثرة عياله، وقيل: الموسر من يملك نصاب الزكاة، وقيل: الموسر من لا يحل له الزكاة، وقيل: الموسر من يجد فاضلاً عن ثوبه ومسكنه وخادمه ودينه وقوت من يمونه، وعند الحنفية: الغنى على ثلاث مراتب: المرتبة الأولى: الغنى الذي يتعلق به وجوب الزكاة. المرتبة الثانية: الغنى الذي يتعلق به وجوب صدقة الفطر والأضحية وحرمان الأخذ من الزكاة، وهو أن يملك ما يفضل عن حوائجه الأصلية ما يبلغ قيمة مائتي درهم، مثل دور لا يسكنها، وحوانيت يؤجرها، ونحو ذلك. والمرتبة الثالثة: غنى حرمة السؤال. قيل: أن يكون عنده ما قيمته خمسون درهمًا، وقال عامة العلماء: إن من ملك قوت يومه وما يستر به عورته يحرم عليه السؤال، وكذا الفقير القوي المكتسب يحرم عليه السؤال. قال العيني: هذا كله في حق من يجوز له السؤال، وأخذ الصدقة ومن لا يجوز، وأما ههنا - أعني في إنظار الموسر - فالاعتماد على أن الموسر والمعسر يرجعان إلى العرف، فمن كانت حاله بالنسبة إلى مثله يعد يسارًا فهو موسر، وكذا عكسه. اهـ. الصورة الثالثة: المفلس، وسداد ديونه للغرماء، ومن باعه شيئًا فوجد متاعه عنده بعينه لم يتصرف فيه. وعن هذه الصورة تتحدث روايتنا العاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة والثالثة عشرة. وهذه الصورة يقول عنها النووي: اختلف العلماء فيمن اشترى سلعة، فأفلس، أو مات قبل أن يؤدي ثمنها، ولا وفاء عنده، وكانت السلعة باقية بحالها، فقال الشافعي وطائفة: بائعها بالخيار، إن شاء تركها وضارب مع الغرماء بثمنها، وإن شاء رجع فيها، واستردها بعينها. سواء في حالة الإفلاس أو حالة الموت، وقال أبو حنيفة: لا يجوز له الرجوع فيها، بل تتعين المضاربة. وقال مالك: يرجع في صورة الإفلاس، ويضارب في حالة الموت، واحتج الشافعي بهذه الأحاديث، وبحديث أبي داود وغيره في حالة الموت. وتأولها أبو حنيفة تأويلات ضعيفة مردودة، وتعلق بشيء يروى عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما، وليس بثابت عنهما. اهـ. وهذا الذي أشار إليه النووي شرحه العيني بإسهاب، نقتطف منه ما يناسب المقام، ومن أراد المزيد فليرجع إليه. قال: احتج بهذا الحديث عطاء بن أبي رباح وعروة بن الزبير وطاوس والشعبي والأوزاعي ومالك والشافعي وأحمد وإسحق وداود. كلهم قالوا: إذا أفلس الرجل وعنده متاع قد اشتراه، وهو قائم بعينه فإن صاحبه أحق به من غيره من الغرماء، [وهناك بينهم بعد ذلك خلافات في فروع المسألة، سنأتي على بعضها فيما يؤخذ من الحديث] وذهب إبراهيم النخعي والحسن البصري والشعبي في رواية ووكيع بن الجراح وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر إلى أن بائع السلعة أسوة

للغرماء إذا وجدها بعينها. وأجاب الطحاوي - من الحنفية - على الحديث بأن المذكور فيه "من أدرك ماله بعينه" والمبيع ليس هو عين ماله، وإنما هو عين مال قد كان له، وإنما يكون عين ماله في المغصوب والعارية والوديعة وما أشبه ذلك، فذلك ماله بعينه، فهو أحق بعينه، إذا وجده عند رجل أفلس، وليس للغرماء فيه نصيب، لأنه باق على ملكه، لأن يد الغاصب عليه يد التعدي والظلم، بخلاف ما إذا باعه، وسلمه إلى المشتري، فإنه يخرج عن ملكه، وإن لم يقبض الثمن، وتبدل الصفة كتبدل الذات، فصار المبيع غير ماله، وقد كان ماله أو لا. [ومعنى هذا أن الحنفية يحملون الحديث - أي روايتنا العاشرة - على المقرض والمودع، دون البائع، وهذا مردود من وجوه. الأول: أنه لا خلاف أن صاحب الوديعة أحق بها، سواء وجدها عند مفلس أو غيره، لكن الحديث شرط الإفلاس، فتعين حمله على البائع. الثاني: أنه جعل لصاحب المتاع الرجوع، إذا وجده بعينه، والمودع أحق بعينه، سواء كان على صفته أو تغير عنها، فلا يجوز حمل الحديث على المودع. الثالث: أن الحديث الصحيح [روايتنا الحادية عشرة] تنص على البيع، وفيها "أنه لصاحبه الذي باعه". وقال بعض الحنفية: إن الحديث مخالف للأصول الثابتة، فإن المبتاع قد ملك السلعة، وصارت في ضمانه، فلا يجوز أن ينقض عليه ملكه. ويرد عليهم بأن الحديث لا يترك بالقياس، على أن المالك قد ينقض عليه ملكه في مواضع كثيرة، يقول بها الحنفية، كالشفعة وتقديم الرهن على الغرماء، واختلاف المتبايعين وتعجيز المكاتب وغير ذلك، وحمل بعض الحنفية الحديث على البيع قبل القبض، وهذا الحمل تمجه وتستبعده بداهة ألفاظ الحديث، ففيه "ووجد الرجل سلعته عنده" والسلعة قبل القبض ليست عند المفلس، ولا يقال: وجدها صاحبها وهي عنده. الصورة الرابعة: تفريج الكروب، وعنها تتحدث الرواية المتممة للعشرين. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - قد يستدل بالنهي عن أخذ مقابل الجائحة على عدم أخذ ما يعرف بالعوض عما يهلك، كأن يصيب بسيارته سيارة الغير فيتلفها، أو يستعير إناء فينكسر عنده، لكن الحديث لا دلالة فيه على ذلك، فما في الحديث لا دخل للإنسان في الجائحة، أما الصور الأخرى فللإنسان دخل في الإتلاف بوجه من الوجوه، ومن أتلف شيئًا فعليه إصلاحه أو مثيله أو قيمته، وقد أخذ صلى الله عليه وسلم قصعة عائشة السليمة حين كسرت عائشة قصعة إحدى أمهات المؤمنين، وقال: قصعة بقصعة. نعم إن تنازل صاحب المتاع المتلف عن العوض أو بعضه كان من قبيل الإحسان، وإن أخذ الكل فهو حق. 2 - ومن الرواية السادسة التعاون على البر والتقوى. 3 - ومواساة المحتاج ومن عليه دين. 4 - والحث على الصدقة عليه. 5 - وأن المعسر لا تحل مطالبته، ولا ملازمته، ولا سجنه، وبه قال الشافعي ومالك وجمهورهم، وحكي

عن ابن شريح حبسه حتى يقضي الدين، وإن كان قد ثبت إعساره، وعن أبي حنيفة ملازمته. والتحقيق أنه إن بدا للقاضي مماطلة حبسه. 6 - وأن يسلم إلى الغرماء جميع مال المفلس ما لم يقض دينهم، ولا يترك للمفلس سوى ثيابه ونحوها. وقد ذهب الجمهور إلى أن من ظهر فلسه فعلى الحاكم الحجر عليه في ماله، حتى يبيعه عليه، ويقسمه بين غرمائه على نسبة ديونهم. 7 - ومن الرواية السابعة الحض على الرفق بالغريم والإحسان إليه بالوضع عنه. 8 - والزجر عن الحلف على ترك فعل الخير، لأنه صلى الله عليه وسلم كره للرجل أن قطع نفسه عن فعل الخير. 9 - وفيه سرعة فهم الصحابة لمراد الشارع، وطواعيتهم لما يشير إليه. 10 - وحرصهم على فعل الخير. 11 - وفيه الصفح عما يجري بين المتخاصمين من اللغط ورفع الصوت عند الحاكم. 12 - وجواز سؤال المدين الحطيطة من صاحب الدين، خلافًا لمن كرهه من المالكية، واعتل بما فيه من تحمل المنة. قال القرطبي: لعل من أطلق كراهته أراد أنه خلاف الأولى، وقال النووي: لا بأس بمثل هذا، ولكن بشرط ألا ينتهي إلى الإلحاح وإهانة النفس، أو الإيذاء، ونحو ذلك، إلا من ضرورة. 13 - وفيه إشارة الحاكم على الخصمين بالصلح، وإن اتجه الحق لأحدهما، وبه قال الجمهور، ومنع من ذلك بعض المالكية. 14 - وفيه الحض على ترك بعض الحق. 15 - وأنه يستحب لمن حلف لا يفعل خيرًا أن يحنث، فيكفر عن يمينه. 16 - وفيه الشفاعة إلى أصحاب الحقوق. 17 - وقبول الشفاعة في الخير، وفي غير معصية. 18 - ومن الرواية الثامنة جواز رفع الصوت في المسجد، قال الحافظ ابن حجر: وهو كذلك ما لم يتفاحش، والمنقول عن مالك منعه في المسجد مطلقًا، وعنه التفرقة بين رفع الصوت بالعلم والخير وما لا بد منه، فيجوز، وبين رفعه باللغط ونحوه، فلا. قال المهلب: لو كان رفع الصوت في المسجد لا يجوز لما تركهما النبي صلى الله عليه وسلم، ولبين لهما ذلك. 19 - والاعتماد على الإشارة إذا فهمت. 20 - وجواز إرخاء الستر على الباب. 21 - والمطالبة بالدين في المسجد.

22 - وحسن التوسط بين الخصمين. 23 - ومن قوله في الرواية العاشرة "ماله بعينه" وفي الثانية عشرة "متاعه بعينه" وفي الحادية عشرة "ولم يفرقه" أخذ أن شرط استحقاق صاحب المال دون غيره أن يجد ماله بعينه لم يتغير ولم يتبدل، وإلا فإن تغيرت العين في ذاتها بالنقص مثلاً، أو في صفة من صفاتها، فهو أسوة للغرماء. 24 - واستدل بقوله في رواية مالك "ولم يقبض البائع من ثمنه شيئًا" استدل بمفهومه أنه أحق به من الغرماء إلا أن يكون اقتضى من ماله شيئًا، فهو أسوة الغرماء. إلا أن للشافعي قولاً، هو الراجح في مذهبه، أنه لا فرق بين تغير السلعة أو بقائها، ولا بين قبض بعض ثمنها، أو عدم قبض شيء منه، على تفاصيل في ذلك مشروحة في كتب الفروع. 25 - ومن الرواية الرابعة عشرة وما بعدها الحض على السماحة في المعاملة، واستعمال معالي الأخلاق، وترك المشاحة، والحض على ترك التضييق على الناس في المطالبة، وأخذ العفو منهم. 26 - وفضل من أنظر معسرًا، أو وضع له، وفي الصحيح "من أنظر معسرًا، أو وضع له أظله الله في ظل عرشه" وروايتنا المتممة للعشرين تقول "من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر، أو يضع عنه" ولأحمد "وقاه الله من فيح جهنم". 27 - وأن اليسير من الحسنات إذا كان خالصًا للَّه يكفر كثيرًا من السيئات. 28 - وأن الأجر يحصل لمن يأمر بالخير والمعروف، وإن لم يتول ذلك بنفسه. 29 - وأنه لا يحتقر شيء من أفعال الخير، فلعله يكون سبب السعادة والرحمة. 30 - وفيه جواز توكيل العبيد، والإذن لهم في التصرف. وكل هذا على قول من يقول: شرع من قبلنا شرع لنا إذا جاء في شرعنا في سياق المدح. واللَّه أعلم

(412) باب مطل الغني ومشروعية الحوالة

(412) باب مطل الغني ومشروعية الحوالة 3528 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "مطل الغني ظلم. وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع". -[المعنى العام]- رفع اللَّه بعض الناس على بعض في الرزق، فكان منهم دائنون ومدينون، أو قادرون ومحتاجون، فإن وجدت الأمانة بين الفريقين، وتحققت الثقة بينهم تعاونوا، وإن فقدت الثقة والأمانة تباعدوا، وتقاطعوا، وضاعت الألفة والمصالح، من هنا ترسم الشريعة الإسلامية الطريق الصحيح للعلاقة بين الدائن والمدين في جملتين: الأولى "مطل الغني ظلم" أي مماطلة القادر على السداد، وانتحاله الأعذار الكاذبة للتهرب من السداد ظلم منه للدائن، وظلم منه للمجتمع، لأنه سيخيف القادرين، وسيحول بينهم وبين مساعدة المحتاجين، لفقدان الثقة في السداد، وقديمًا قالوا: من أخذ ورد وسدد صار المال ماله. وليعلم من يعتزم المماطلة في سداد الديون، ويعتمدها أسلوب المعاملة أن الله سيعجزه عن السداد، مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله". تلك نصيحة المديونين، أما نصيحة الدائنين فقد مضى في الباب السابق نصحهم بإنظار المعسر، والتجاوز عن الموسر، وفي هذا الحديث نصيحة أخرى، مأخوذة من الجملة الثانية وهي أن يتعاون الدائنون والمدينون فيما بينهم على تحويل المديونات، فقد يكون الدائن لزيد مدينًا لعمرو، وقد يكون للدائن مصلحة في نقل دينه من مدين إلى مدين، وقد يكون للمدين مصلحة في أن يكون مدينًا لهذا بدلاً من ذلك، فشرعت الحوالة، تخفيفًا على الناس، وحفاظًا على ترابط التعامل بينهم، وكانت هذه النصيحة الهادفة، إذا أحال المدين الدائن على آخر غني، بدينه، فليقبل الحوالة، فقد يكون في ذلك حسن أداء، وحسن استيفاء، وعون من الله، وبركة للمتعاملين. والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. -[المباحث العربية]- (مطل الغني ظلم) أصل المطل - بفتح الميم وسكون الطاء - المد. يقال: مطلت

الحديدة أمطلها، إذا مددتها لتطول، وقيل: المطل المدافعة. والمراد هنا تأخير ما استحق أداؤه بغير عذر. والغني مختلف في تقديره، وفي الباب السابق بيان له عند تفسير الموسر والمعسر، والمراد منه هنا من قدر على الأداء فأخره، ولو كان فقيرًا، وهل يتصف بالمطل من ليس عنده ما عليه، لكنه قادر على تحصيله بالكسب، فلم يتكسب؟ خلاف يأتي في فقه الحديث. وفي رواية عند غير مسلم "لي الواجد يحل عرضه وعقوبته" واللي بفتح اللام وتشديد الياء هو المطل، والواجد الموسر. (وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع) المشهور في الرواية واللغة في "أتبع" ضم الهمزة وإسكان التاء وكسر الباء، مبني للمجهول، والأصل إذا اتبع المدين أحدكم، وأما "فليتبع" فالأكثر على التخفيف، سكون التاء وفتح الباء، فيكون مثل: إذا أخرج أحدكم فليخرج. وحكى القاضي عياض عن بعض المحدثين أنه يشدد التاء ويكسر الباء في "فليتبع". قال النووي: والصواب الأول، والمعنى إذا أحيل أحدكم بالدين الذي له على موسر فليحتل، أي فليقبل الحوالة، والمليء بالهمزة مأخوذ من الملاء، يقال: ملؤ الرجل - بضم اللام - أي صار مليًا، وقال الكرماني: الملي كالغني لفظًا ومعنى، فاقتضى أنه بغير همز، وليس كذلك، فقد قال الخطابي: إنه في الأصل بالهمز، ومن رواه بتركها فقد سهله. وادعى الرافعي أن جملة "وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع" لا تعلق لها بالجملة الأولى. قال الحافظ ابن حجر: وزعم بعض المتأخرين أنه لم يرد إلا بالواو، وغفل عما في صحيح البخاري هنا، فإنه بالفاء في جميع الروايات، وهو كالتوطئة والعلة لقبول الحوالة، أي إذا كان المطل ظلمًا فليقبل من يحتال بدينه عليه، فإن المؤمن من شأنه أن يحترز عن الظلم، فلا يمطل، ومناسبة الجملة لما قبلها - على رواية الواو - أنه لما دل على أن مطل الغني ظلم عقبه بأنه ينبغي قبول الحوالة على المليء، لما في قبولها من دفع الظلم الحاصل بالمطل، فإنه قد تكون مطالبة المحال عليه سهلة على المحتال، دون المحيل، ففي قبول الحوالة إعانة على كفه عن الظلم. -[فقه الحديث]- الحوالة عند الفقهاء نقل دين من ذمة إلى ذمة، واختلفوا: هل هي بيع دين بدين، رخص فيه للحاجة، فاستثنى من النهي عن بيع الدين بالدين؟ أو هي استيفاء، ولا بيع فيها؟ أي استيفاء حق كأن المحتال استوفى ما كان له على المحيل، وأقرضه المحال عليه، أو هي عقد إرفاق مستقل؟ ويشترط في صحتها رضا المحيل بلا خلاف، لأن له إيفاء الحق من حيث شاء، فلا يعين عليه بعض الجهات قهرًا، ورضا المحتال، عند الأكثرين، لأن حقه في ذمة المحيل، فلا ينفك عن ذمة المحيل إلا برضاه، كما أن الأعيان المستحقة للشخص لا تبدل إلا برضاه، أما رضا المحال عليه ففيه خلاف. إن كانت الحوالة على من عليه دين للمحيل فيشترط رضاه عند أبي حنيفة وبعض الشافعية، لأنه أحد

أركان الحوالة، والناس يختلفون في استيفاء حقوقهم، منهم السهل المسامح الذي يرتاح المدين إلى سماحته، ومنه الصعب الذي لا يحب المدين أن يكون الدين له، ولا يشترط رضاه عند مالك وأحمد وجمهور الشافعية، لأنه محل الحق للمحيل، ومن حق المحيل أن يستوفي حقه بنفسه، وبغيره، كما لو وكل في الاستيفاء وكيلاً. وإن كانت الحوالة على من لا دين عليه للمحيل لم تصح دون رضاه، لأنا لو صححناها لألزمناه قضاء دين الغير قهرًا، وإن رضي ففي صحة الحوالة وجهان. وهناك تفريعات فقهية كثيرة تطلب من كتب الفروع، والذي يعنينا في هذا المقام أن قوله صلى الله عليه وسلم "وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع" ليس على إطلاقه، ومن هنا ذهب الشافعية والجمهور إلى أن المحتال يستحب له أن يقبل الحوالة على مليء، وحملوا الأمر في الحديث على الندب، وذهب بعض العلماء إلى أن قبول الحوالة مباح، لا مندوب، وذهب أهل الظاهر إلى الوجوب. وتفرع عن هذا الأمر رجوع المحتال على المحيل إذا عجز المحال عليه، أو مات، فذهب أبو حنيفة إلى أنه يرجع على المحيل إذا أفلس المحال عليه مطلقًا، سواء عاش أو مات، ولا يرجع بغير الفلس، وقال مالك: لا يرجع إلا إن غره، كأن علم فلس المحال عليه، ولم يعلمه بذلك، وذهب قتادة والحسن إلى أنه لا يرجع إن كان المحال عليه يوم الإحالة مليًا، وعن الثوري يرجع بالموت، ولا يرجع بالفلس، وذهب الشافعي والجمهور إلى عدم الرجوع مطلقًا، على أساس أن الحوالة معناها إبراء المحيل، وتحويل الحق عنه، وإثباته على غيره، وقال الحسن وزفر: الحوالة كالكفالة، فيرجع على أيهما شاء. وقد تلحق بالحوالة الكفالة، الكفالة في القروض، والكفالة في الديون، والكفالة في الأبدان. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - يؤخذ من الجزء الأول من الحديث الزجر عن المطل، واختلف: هل يعد فعله عمدًا كبيرة؟ وهل يعتبر فاعله فاسقًا وإن صدر منه مرة واحدة؟ قيل: لا يعتبر فاسقًا إلا بالتكرار، والجمهور على أنه يعتبر فاسقًا دون تكرار، لأن منع الحق بعد طلبه، وانتحال العذر عن أدائه - دون عذر - يشبه الغصب، والغصب كبيرة وإن لم يتكرر، وتسميته ظلمًا يشعر بكونه كبيرة، والكبيرة لا يشترط فيها التكرار، نعم لا يحكم عليه بذلك إلا بعد أن يظهر عدم عذره. قالوا: ويدخل في المطل كل من لزمه حق للغير، كالزوج لزوجته، والحاكم لرعيته، وبالعكس. 2 - واستدل بلفظ "الغني" على أن العاجز عن الأداء لا يدخل في الظلم. 3 - واستنبط منه أن المعسر لا يحبس، ولا يطالب حتى يوسر، قال الشافعي: لو جازت مؤاخذته لكان ظالمًا، والفرض أنه ليس بظالم لعجزه. 4 - واستدل به على ملازمة المماطل. 5 - وإلزامه بدفع الدين. 6 - والتوصل إليه بكل طريق. 7 - وأخذه منه قهرًا. 8 - وفيه الإرشاد إلى ترك الأسباب القاطعة لاجتماع القلوب، لأنه زجر عن المماطلة، وهي تؤدي إلى ذلك.

(413) باب بيع فضل الماء، وضراب الفحل

(413) باب بيع فضل الماء، وضراب الفحل 3529 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع فضل الماء. 3530 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ضراب الجمل. وعن بيع الماء والأرض لتحرث. فعن ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم. 3531 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ". 3532 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ". -[المعنى العام]- قد يملك الإنسان ما لا غنى لغيره عنه، وقد يملك ما لا جهد له فيه، وما منحه الله له، وقد يفيض هذا عما يحتاجه، فيكون من مكارم الأخلاق بذل هذا الفاضل، فإن كانت هذه السلعة ضرورية لحياة الآخرين، أو لحياة دوابهم ومواشيهم وجب بذل الفاضل منها بدون مقابل، فمن أخرج الله له عينًا في أرضه، أو حفر بئرًا في ملكه، أو في أرض حيازته، فاحتاج آخرون ما زاد عن حاجته وجب عليه بذله، ونهي عن بيعه. وخير الصدقة الجارية الماء، وشر الذنوب والآثام رجل له فضل ماء بالطريق يمنعه ابن السبيل والمحتاج. وسقى

رجل كلبًا يلهث من شدة العطش، فغفر الله له، ودخلت امرأة النار في هرة حبستها حتى ماتت، لا هي أطعمتها وسقتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض. إن مكارم الأخلاق تتمثل في أمور كثيرة يملكها المؤمن، فيعود بنفعها على الآخرين، دون مقابل، لأنه لم يبذل في ذلك مقابلاً، من ذلك من يملك فحلاً، ذكرًا من الدواب، يحتاجه من يملك أنثى ليلقحها، فلا يليق بالمالك أن يؤجر الفحل أو يبيع ماءه أو جماعه للأنثى بثمن أو مقابل، وقد كان أهل الجاهلية يبيعون ويؤجرون، فنهوا عن ذلك. وهكذا يوجه الإسلام أبناءه إلى بذل المعروف ابتغاء وجه الله، ليدخر بذلك الثواب {وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير} [البقرة: 110] و {ما عندكم ينفد وما عند الله باق} [النحل: 96]. -[المباحث العربية]- (نهي عن بيع فضل الماء) هكذا هو في الرواية الأولى والثانية مطلق، لكنه في الرواية الثالثة والرابعة والخامسة مقيد "ليمنع به الكلأ". "لتمنعوا به الكلأ". "ليباع به الكلأ" فيحمل المطلق على المقيد، ويكون النهي موجهًا إلى قصد منع الكلأ. وصورته أن تكون للإنسان بئر مملوكة له بالفلاة - أي بالصحراء المترامية الأطراف، ويكون قريبًا منها كلأ وعشب عام غير مملوك لأحد، ولا يقرب من هذا العشب ماء آخر غير هذه البئر، فإذا رعت الدواب من ذلك العشب احتاجت إلى ماء تلك البئر، وإلا تضررت بالعطش بعد الرعي، فإذا منع صاحب البئر الدواب من الشرب من بئره فقد منعها من الرعي في الكلأ، وإذا باع أصحابها ماء بئره فكأنه باع الكلأ المباح الذي لا يملكه. و"فضل الماء" أصله الماء الفاضل، أي الزائد عن حاجته، و"الكلأ" بفتح الكاف واللام، بعدها همزة، هو النبات، سواء كان رطبًا أو يابسًا، أما الحشيش والهشيم فهو مختص باليابس، والعشب مختص بالرطب. ومعنى قوله في الرواية الثانية "عن بيع الأرض لتحرث" أي نهي عن إجارتها لتزرع، وقد سبقت المسألة في باب كراء الأرض. وقوله في الرواية الثالثة "لا يمنع فضل الماء" ببناء الفعل للمجهول، وبرفعه على أنه خبر، والمراد به مع ذلك النهي، وجاء في رواية بالجزم على النهي. (نهي عن بيع ضراب الجمل) في رواية البخاري "الفحل" و"الفحل" الذكر من كل حيوان، فرسًا كان أو جملاً أو تيسًا أو كبشًا أو غير ذلك وضرابه - بكسر الضاد - ضربه الأنثى لتلقيحها، يقال: ضاربه ضرابًا ومضاربة، إذا ضرب كل منهما الآخر، والمعنى نهي عن بيع ماء الفحل عند ضرابه، أو نهي عن أجرة جماعه. وفي البخاري "نهي عن عسب الفحل" بفتح وإسكان السين، ويقال له: العسيب، وهو ماء الفحل، وقيل: جماعه.

-[فقه الحديث]- قال النووي: قال أصحابنا: يجب بذل فضل الماء بالفلاة بشروط: أحدها ألا يكون ماء غيره يستغنى به، الثاني: أن يكون البذل لحاجة الماشية، لا لسقي الزرع. الثالث: ألا يكون مالكه محتاجًا إليه. ثم قال: واعلم أن المذهب الصحيح أن من نبع في ملكه ماء صار مملوكًا له، وقال بعض أصحابنا: لا يملكه. أما إذا أخذ الماء في إناء من الماء المباح فإنه يملكه. هذا هوالصواب، وقد نقل بعضهم الإجماع عليه، وقال بعض أصحابنا: لا يملكه، بل يكون أخص به. وهذا غلط ظاهر. اهـ. وبذل الماء المأمور به محمول عند الجمهور على ماء البئر المحفورة في الأرض المملوكة، وكذلك في الموات، إذا كان بقصد التملك، والصحيح عند الشافعية، ونص عليه في القديم أن الحافر يملك ماءها، أما البئر المحفورة في الموات لقصد الارتفاق، لا للتملك فإن الحافر لا يملك ماءها، بل يكون أحق به، إلى أن يرتحل، وفي الصورتين يجب عليه بذل ما يفضل عن حاجته، والمراد حاجة نفسه وعياله وزرعه وماشيته. هذا هو الصحيح عند الشافعية، وخص المالكية هذا الحكم بالموات، وقالوا في البئر التي في الملك: لا يجب عليه بذل فضلها، أما الماء المحرز في إناء فلا يجب بذل فضله لغير المضطر على الصحيح. والبذل الواجب خاص بالماشية والآدميين على الصحيح عند الشافعية والحنفية، وفرقوا بين الماشية والزرع بأن الماشية ذات أرواح، يخشى من عطشها موتها، بخلاف الزرع، ويلتحق بالماشية الزرع عند مالك، واستدل بعموم روايتنا الأولى، والجمهور يحملون المطلق على المقيد، أو يحملون النهي في هذه الرواية على التنزيه. وظاهر الحديث وجوب البذل مجانًا بدون مقابل، وبه قال الجمهور، وقيل: لصاحب الماء طلب القيمة من المحتاج إليه، كما في إطعام المضطر، ورد بأنه يلزم منه جواز المنع، حالة امتناع المحتاج من بذل القيمة، وأجيب بأن يقال: يجب عليه البذل، وتترتب له القيمة في ذمة المبذول له، حتى يكون له أخذ القيمة منه متى أمكن ذلك نعم يعارض هذا القول روايتنا الخامسة، ولفظها "لا يباع فضل الماء" لكن للمخالف أن يقول: إن البيع الممنوع ما كان لبيع الكلأ. واستدل به ابن حبيب من المالكية على أن البئر إذا كانت بين مالكين، فيها ماء، فاستغنى أحدهما في نوبته كان للآخر أن يسقي منها، لأنه ماء فضل عن حاجة صاحبه، وعموم الحديث يشهد له، وإن خالفه الجمهور على أساس أن الزرع عندهم لا يلتحق بالماشية. واستدل به بعض المالكية للقول بسد الذرائع، لأنه نهى عن منع الماء لئلا يتذرع به إلى منع الكلأ. ولا يخفى أن الكلام في وجوب البذل وعدم وجوبه. أما البذل كإحسان ومكارم الأخلاق فمطلوب في جميع الأحوال، بالنسبة للماء المملوك في الأواني وفي غيرها، وللزرع وغيره. واللَّه أعلم. أما عن ضراب الفحل فقد قال النووي: اختلف العلماء في إجارة الفحل وغيره من الدواب

للضراب، فقال الشافعي وأبو حنيفة وأبو ثور وآخرون: استئجاره لذلك باطل وحرام، ولا يستحق فيه عوض، ولو أنزاه المستأجر لم يلزمه أجرة ولا شيء من الأموال، قالوا: لأنه غرر مجهول، وغير مقدور على تسليمه وقال جماعة من الصحابة والتابعين ومالك وآخرون من الشافعية والحنابلة: يجوز استئجاره لضراب مدة معلومة، أو لضربات معلومة، لأن الحاجة تدعو إليه، وحملوا النهي على التنزيه والحث على مكارم الأخلاق. قال الحافظ ابن حجر: وأما عارية ذلك فلا خلاف في جوازها، فإن أهدى للمعير هدية بغير شرط جاز. واللَّه أعلم

(414) باب اقتناء الكلب، وبيعه، وحلوان الكاهن ومهر البغي، وأجر الحجامة

(414) باب اقتناء الكلب، وبيعه، وحلوان الكاهن ومهر البغي، وأجر الحجامة 3534 - عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن. 3535 - عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "شر الكسب مهر البغي، وثمن الكلب، وكسب الحجام". 3536 - عن رافع بن خديج رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ثمن الكلب خبيث. ومهر البغي خبيث. وكسب الحجام خبيث". 3537 - عن أبي الزبير قال سألت جابرًا عن ثمن الكلب والسنور؟ قال: زجر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. 3538 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب. 3539 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب. فأرسل في أقطار المدينة أن تقتل. 3540 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بقتل الكلاب.

فننبعث في المدينة وأطرافها فلا ندع كلبًا إلا قتلناه. حتى إنا لنقتل كلب المرية من أهل البادية، يتبعها. 3541 - عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب. إلا كلب صيد أو كلب غنم، أو ماشية. فقيل لابن عمر: إن أبا هريرة يقول: أو كلب زرع. فقال ابن عمر: إن لأبي هريرة زرعًا. 3542 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب. حتى إن المرأة تقدم من البادية بكلبها فنقتله. ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها. وقال "عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين. فإنه شيطان". 3543 - عن ابن المغفل رضي الله عنه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب. ثم قال "ما بالهم وبال الكلاب؟ " ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم. 3544 - وفي رواية ابن حاتم عن يحيى: ورخص في كلب الغنم والصيد والزرع. 3545 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من اقتنى كلبًا إلا كلب ماشية أو ضاري، نقص من عمله، كل يوم، قيراطان". 3546 - عن سالم، عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من اقتنى كلبًا، إلا كلب صيد أو ماشية، نقص من أجره كل يوم قيراطان". 3547 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من اقتنى كلبًا إلا كلب ضارية أو ماشية، نقص من عمله، كل يوم قيراطان".

3548 - عن سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من اقتنى كلبًا إلا كلب ماشية أو كلب صيد، نقص من عمله، كل يوم، قيراط" قال عبد الله: وقال أبو هريرة: "أو كلب حرث". 3549 - عن سالم عن أبيه رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من اقتنى كلبًا إلا كلب ضار أو ماشية، نقص من عمله، كل يوم، قيراطان" قال سالم: وكان أبو هريرة يقول: "أو كلب حرث" وكان صاحب حرث. 3550 - عن سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أيما أهل دار اتخذوا كلبًا إلا كلب ماشية أو كلب صائد، نقص من عملهم، كل يوم، قيراطان". 3551 - عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من اتخذ كلبًا إلا كلب زرع أو غنم أو صيد، ينقص من أجره، كل يوم، قيراط". 3552 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من اقتنى كلبًا ليس بكلب صيد ولا ماشية ولا أرض، فإنه ينقص من أجره قيراطان، كل يوم" وليس في حديث أبي الطاهر "ولا أرض". 3553 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من اتخذ كلبًا، إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع، انتقص من أجره، كل يوم، قيراط" قال الزهري: فذكر لابن عمر قول أبي هريرة. فقال: يرحم الله أبا هريرة كان صاحب زرع.

3554 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أمسك كلبًا فإنه ينقص من عمله، كل يوم، قيراط. إلا كلب حرث أو ماشية". 3555 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من اتخذ كلبًا ليس بكلب صيد ولا غنم. نقص من عمله، كل يوم، قيراط". 3556 - عن سفيان بن أبي زهير رضي الله عنه (وهو رجل من شنوءة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من اقتنى كلبًا لا يغني عنه زرعًا ولا ضرعًا، نقص من عمله، كل يوم، قيراط" قال: آنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: إي، ورب هذا المسجد. 3557 - عن حميد قال: سئل أنس بن مالك عن كسب الحجام؟ فقال: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم. حجمه أبو طيبة. فأمر له بصاعين من طعام. وكلم أهله فوضعوا عنه من خراجه. وقال "إن أفضل ما تداويتم به الحجامة. أو هو من أمثل دوائكم". 3558 - عن حميد قال: سئل أنس عن كسب الحجام؟ فذكر بمثله. غير أنه قال "إن أفضل ما تداويتم به الحجامة والقسط البحري. ولا تعذبوا صبيانكم بالغمز". 3559 - عن حميد قال: سمعت أنسًا يقول: دعا النبي صلى الله عليه وسلم غلامًا لنا حجامًا. فحجمه. فأمر له بصاع أو مد أو مدين. وكلم فيه. فخفف عن ضريبته.

3560 - عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام أجره، واستعط. 3561 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حجم النبي صلى الله عليه وسلم عبد لبني بياضة. فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم أجره. وكلم سيده فخفف عنه من ضريبته. ولو كان سحتًا لم يعطه النبي صلى الله عليه وسلم. -[المعنى العام]- إن المعاملات المالية - وبخاصة البيع والشراء ضرورة من ضرورات الحياة منذ عاشت الإنسانية على هذه الأرض، وكانت الأجور على المنافع أيضًا ضرورة من ضرورات هذه الحياة، ولو أن هذه وتلك تركت للإنسان وقوانينه لأكل الأقوياء الضعفاء، واستغل المالكون حاجة المحتاجين. وقد غابت القوانين الشرعية عن الجزيرة العربية أمدًا طويلاً تعثرت فيه البشرية، واختلفت الموازين بينها، فجاءت شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بإصلاح ما فسد من هذه المعاملات. كانت طرقات المدينة حاضنة الرسالة المحمدية تعج بالكلاب، إذ تعيش البوادي حولها، والكلاب عدة من عدد حياتهم، لكن المدينة لا تألف هذا الإزعاج، ولا تتحمل أذى الكلاب وتخويفها الناس، وتنجيسها ما تلاقيه من إناء أو متاع. فكان العلاج لهذا المرض أن أمر صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب، فقام صبيان المدينة وشبابها بهذه المهمة بكل نشاط، حتى كادت طرقات المدينة لا يرى فيها كلب، ولم يكن الهدف من هذا الأمر القضاء على الكلاب نهائيًا، بل كان الهدف التخفيف من كثرتها، والتنفير من نجاستها، والإعلان عن أضرارها وإيذائها، حتى يخف حرص الناس عليها، وحتى إذا ما نصحوا بإمساك المهم والنافع منها وقعت النصيحة على آذان عليمة فاهمة، حريصة على الاستفادة من الرخصة بالقدر المحتاج إليه. وقد كان أن قيل لصبيان المدينة: ما لكم وللكلاب، أي دعوا متابعة الكلاب وقتلها، إلا الأسود صاحب النقطتين المستديرتين حول عينيه، فاقتلوه، لأنه متمرد كثير الإيذاء، ثم نصح الأمة أن لا تقتني الكلاب إلا لحاجة الزرع أو الماشية أو الصيد أو حراسة البيوت والطرقات، ونبه على نقصان أجر العمل الصالح اليومي ممن يقتني الكلاب لغير حاجة، ونهى عن بيع الكلب وحرم ثمنه، وقرنه بأجرة الزانية على زناها، وأجر الكاهن على كهانته فكل هذه المكاسب حرام. كما نبه الشرفاء أن يترفعوا عن الأعمال الوضيعة الدنيئة، فنفر من الحجامة ومن كسبها، ليظل المسلمون في عزة وكرامة وعفة وطهارة مال.

-[المباحث العربية]- (ومهر البغي) بفتح الباء وكسر الغين وتشديد الياء، وأصله بغوي - بفتح الباء وضم الغين مع المد، ثم ياء على وزن فعول، بمعنى فاعلة، اجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، وكسرت الغين لمناسبة الياء، وأصل بغي يبغي طلب يطلب، بغيًا وبغاء، وكثر استعماله في الشر والفساد، ومنه الفئة الباغية، وجمع بغي بغايا، والمراد بها الزانية، والمراد من مهرها ما تأخذه على زناها، وسماه مهرًا لكونه على صورته، في كونه يوصل إلى الجماع، وجاء في رواية "وأجر البغي" وفي آخرى "وكسب الأمة" والمراد أجر البغي على فجورها وزناها، وكسب الأمة من زناها، وليس المراد كسبها من صنعة أو عمل شريف. (وحلوان الكاهن) الحلوان بضم الحاء وسكون اللام ما يعطى للكاهن كمقابل لكهانته، وأصله من الحلاوة، شبه بالشيء الحلو، من حيث إنه يؤخذ سهلاً، دون مشقة أو مقابل، يقال: حلوته إذا أطعمته الحلو، ويطلق الحلوان أيضًا على ما يأخذه الرجل من مهر ابنته لنفسه. "والكاهن" هو الذي يدعي معرفة الأخبار عن الكائنات في مستقبل الزمان، أي يدعي علم الغيب، ويخبر الناس بما يدعي في مقابل الحلوان، وكان في العرب كهنة، يدعون أنهم يعرفون كثيرًا من الأمور، ومنهم من يزعم أن له رفقاء من الجن وتبعة منهم يلقون إليه بالأخبار. أما العراف فهو الذي يزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات وأسباب، يستدل بها على مواقعها، من أسئلة يوجهها، وكلام يسمعه من آخرين، وذكاء واستنباط، وتخمين وبيان، فهو يزعم أنه يعرف مكان الشيء المسروق، ومكان الضالة الضائعة، والطفل الضال، وتتهم المرأة بالريبة، فيدعي أنه يعرف من هو صاحبها، وقريب من هذا ما يعرف في زمننا بالخط في الرمل، وضرب الودع، وقراءة الكف، ورمي الورق، قال النووي: وحديث النهي عن إتيان الكهان يشمل النهي عن إتيان هؤلاء كلهم، وعن تصديقهم، أو الركون إلى قولهم. نعم كانوا يدعون الطبيب كاهنًا، وربما سموه عرافًا، فهذا غير داخل في النهي. (وكسب الحجام) أي مقابل حجامته، وليس المراد عموم كسبه، ولو كان من عمل مشروع. (والسنور) بكسر السين وتشديد النون المفتوحة، ويقال له: القط والقطة، والهر والهرة. (فأرسل في أقطار المدينة) أي في نواحيها وأطرافها. (فنبعث في المدينة وأطرافها) من كلام عبد الله بن عمر، والمعنى فنبعث أنفسنا فنبعث بعضنا، أي فيبعث بعضنا بعضًا. (كلب المرية) أصله المريأة تصغير المرأة، خففت الهمزة إلى ياء، وأدغمت في الياء وجملة "يتبعها" حال. وفي الرواية التاسعة "حتى إن المرأة تقدم من البادية بكلبها فنقتله".

(عليكم بالأسود البهيم) أي الخالص السواد. (ذي النقطتين) أي صاحب النقطتين البيضاوين فوق عينيه. قال النووي: وهو مشاهد معروف. (فإنه شيطان) الشيطان كل متمرد مفسد، ويقال على الوجه القبيح وجهه وجه شيطان، وفي القرآن الكريم عن شجرة الزقوم {طلعها كأنه رءوس الشياطين} [الصافات: 65]. (ما بالهم وبال الكلاب؟ ) البال الحال والشأن، قال تعالى {وأصلح بالهم} [محمد: 2] والمعنى ما شأنهم وشأن الكلاب؟ أي لماذا يقتلون الكلاب؟ كان ذلك بعد أن نسخ الأمر بقتلها، ورخص فيها. (أو ضار) في الرواية الثالثة عشرة "إلا كلب ضارية" وفي الرواية السادسة عشرة "أو كلب صائد" قال النووي: هو في معظم النسخ "أو ضاري" بالياء، وفي بعضها "ضاريًا" بالألف بعد الياء، منصوبًا، وفي الرواية الأخرى "إلا كلب ضارية" فأما "ضاريًا" فهو ظاهر الإعراب - منصوب على الاستثناء معطوف على المستثنى - وأما "ضار" فهو مجرور على العطف على "ماشية" ويكون من إضافة الموصوف إلى صفته، وثبوت الياء في "ضاري" على اللغة القليلة في إثباتها في المنقوص المجرور من غير ألف ولام، والمشهور حذفها، وقيل: إن لفظة "ضار" هنا صفة للرجل الصائد، صاحب الكلاب المعتاد للصيد، فسمي ضاريًا استعارة كما في الرواية السادسة عشرة "أو كلب صائد" وأما رواية "إلا كلب ضارية" فقالوا: تقديره: إلا كلب ذي كلاب ضارية، والضاري هو المعلم الصيد، يقال منه: ضرى الكلب يضري، كشرى يشري، ضرًا وضراوة وأضراه صاحبه عوده على ذلك. (نقص من عمله) أي من أجر عمله، كما في الرواية الثانية عشرة، ولفظها "من أجره". (قيراطان) في الرواية الرابعة عشرة والسابعة عشرة والمتممة للعشرين والواحدة والعشرين والثانية والعشرين "قيراط" فقيل: يحتمل أنه في نوعين من الكلاب، أحدهما أشد أذى من الآخر، ولمعنى فيهما، أو يكون ذلك مختلفًا باختلاف المواضع، فيكون القيراطان في المدينة مثلاً، لزيادة فضلها، والقيراط في غيرها، أو القيراطان في المدائن، والقيراط في القرى والبوادي، أو يكون ذلك في زمنين، فذكر القيراط أولاً، ثم زاد التغليظ، فذكر القيراطين، أو العكس، ذكر القيراطين أولاً، ثم خفف ورخص. واختلفوا في العمل الذي ينقص من أجره، فقيل: ينقص مما مضى من عمله، وقيل: من مستقبله، وقيل: من عمل النهار قيراط، ومن عمل الليل قيراط، وقيل: من الفرض قيراط، ومن النفل قيراط، والقيراط هنا مقدار معلوم عند الله تعالى، والمراد نقص جزء من أجر عمله. (لا يغني عنه زرعًا ولا ضرعًا) المراد بالضرع هنا الماشية، كما في سائر الروايات. (إي ورب هذا المسجد) "إي" بكسر الهمزة، حرف جواب، بمعنى نعم، ويقع قبل القسم، وفي القرآن الكريم {ويستنبئونك أحق هو؟ قل: إي وربي إنه لحق} [يونس: 53].

(حجمه أبو طيبة) بفتح الطاء، بعدها ياء ساكنة، ثم باء مفتوحة، وفي الرواية الخامسة والعشرين دعا النبي صلى الله عليه وسلم غلامًا لنا حجامًا، فحجمه" وفي الرواية السابعة والعشرين "حجم النبي صلى الله عليه وسلم عبد لبني بياضة" قيل اسمه نافع، وقيل: عاش مائة وثلاثًا وأربعين سنة. (وكلم أهله) في الرواية الخامسة والعشرين "وكلم فيه" فحذف المفعول للعلم به، وفي الرواية السابعة والعشرين "وكلم سيده" وفي رواية البخاري "وكلم مواليه" أي ساداته، وهم بنو حارثة على الصحيح، ومولى أبي طيبة من بني حارثة اسمه محيصة بن مسعود، والظاهر أن هذا العبد كان مشتركًا، فكلم الشركاء. (فوضعوا عنه من خراجه) كان هذا العبد يعمل لحسابه بأمر سادته على أن يورد لهم كل يوم قدرًا من المال معينًا كضريبة أو خراج، فكلم مواليه أن يخففوا عنه هذه الضريبة، فخففوها، وعند أبي شيبة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحجام: كم خراجك؟ قال صاعان. فوضع عنه صاعًا". (والقسط البحري) بضم القاف وسكون السين، وهو العود الهندي. (ولا تعذبوا صبيانكم بالغمز) أي إذا أصيب صبيانكم بمرض العذرة الذي يصيب الحلق فلا تعذبوهم بطعن عرق الحلق، بل داووهم بالقسط البحري. (واستعط) النبي صلى الله عليه وسلم بفتح العين، فعل ماض، يقال: استعط الدواء، أي أدخله في أنفه، والسعوط بفتح السين الدواء يدخل في الأنف، ودقيق التبغ (النشوق). (ولو كان سحتًا لم يعطه النبي صلى الله عليه وسلم) "السحت" بضم السين ما خبث وقبح من المكاسب، فلزم عنه العار، أي ولو كان أجر الجحام خبيثًا لم يدفعه صلى الله عليه وسلم. -[فقه الحديث]- تتناول هذه المجموعة من الأحاديث خمس مسائل: اقتناء الكلب، وبيعه، وحلوان الكاهن، وأجر البغي، وأجر الحجام. 1 - أما اقتناء الكلب فتتناوله الرواية الخامسة "أمر بقتل الكلاب" والسادسة "أمر بقتل الكلاب فأرسل في أقطار المدينة أن تقتل"، والسابعة "فنبعث في المدينة وأطرافها، فلا ندع كلبًا إلا قتلناه" والثامنة "أمرنا بقتل الكلاب إلا كلب صيد، أو كلب غنم، أو كلب ماشية" والتاسعة "أمرنا بقتل الكلاب، حتى إن المرأة تقدم من البادية بكلبها فنقتله، ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها، وقال: عليكم بالأسود البهيم" والعاشرة "أمرنا بقتل الكلاب، ثم قال: ما بالهم وبال الكلاب؟ ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم (والزرع) والحادية عشرة "من اقتنى كلبًا إلا كلب ماشية أو ضاري نقص من عمله كل يوم قيراطان" وقريب منها الثانية عشرة والثالثة عشرة والرابعة عشرة والخامسة عشرة والسادسة عشرة والسابعة عشرة والثامنة عشرة والتاسعة عشرة والمتممة للعشرين والواحدة والعشرون والثانية والعشرون.

قال النووي: أجمع العلماء على قتل الكلب الكلب (بكسر اللام، أي المريض بداء الكلب، بفتح اللام، وهو الذي إذا عض الإنسان أصابه بداء الكلب) والكلب العقور، للحديث الصحيح "خمس كلهن فاسق، يقتلن في الحرام". ثم قال: واختلفوا في قتل ما لا ضرر فيه (أي سواء كان فيه نفع أو لا) فقال إمام الحرمين من الشافعية: أمر النبي صلى الله عليه وسلم أولاً بقتلها كلها، ثم نسخ ذلك، ونهي عن قتلها إلا الأسود البهيم (كما جاء في روايتنا التاسعة) ثم استقر الشرع على النهي عن قتل جميع الكلاب التي لا ضرر فيها، سواء الأسود وغيره، ويستدل على ذلك بروايتنا العاشرة. (وحاصل هذا الرأي أن قتل الكلاب النافعة أو غير النافعة، السوداء وغير السوداء منهي عنه، ولا يجوز إلا الكلاب التي تضر وتؤذي بالعض أو بالإزعاج أو التخويف والترويع، وهذا مذهب الشافعية، لا خلاف بينهم). الرأي الثاني: رأي كثير من العلماء، وهو جواز قتل جميع الكلاب إلا ما استثنى من كلب الصيد وغيره (ومعنى هذا أنه يجب قتل ما فيه ضرر، ويجوز قتل ما لا ضرر فيه، وإن كان نافعًا، إلا ما استثنى) وإلى هذا ذهب مالك وأصحابه واختلفوا: هل كلب الصيد ونحوه منسوخ من العموم الأول في الحكم بقتل الكلاب؟ وأن القتل كان عامًا في الجميع؟ أم كان الأمر الأول بقتل الكلاب مخصوصًا بما سوى ذلك؟ . وذهب آخرون: إلى جواز اتخاذ جميعها (أي ما لا ضرر فيه، سواء أكان فيه نفع أم لا) ونسخ الأمر بقتلها، ونسخ النهي عن اقتنائها، إلا الأسود البهيم عند أحمد، وبدون استثناء عند أبي حنيفة، وذهب أحمد إلى أنه لا يحل صيد الكلب الأسود البهيم. والشافعي وأصحابه على أنه يحرم اقتناء الكلاب بغير حاجة، أما المستثنى فبلا خلاف، وأما غيرها مما يحتاج إليه لحراس الدور أو الطرقات أو الأشخاص أو الكلاب البوليسية فعلى الأصح، قياسًا على المستثنى وعملاً بالعلة المفهومة من الأحاديث، وهي الحاجة، والنفع المشروع. واختلف العلماء في سبب نقصان الأجر باقتناء الكلب غير المرخص به، فقيل: إن ذلك عقوبة له، لاتخاذه ما نهي عن اتخاذه، وعصيانه بفعل ذلك، وقيل: لامتناع الملائكة من دخول بيته بسببه، وقيل: لما يلحق المارين من الأذى والخوف والترويع، وقيل: لما يبتلى به من ولوغه في غفلة صاحبه، ولا يغسله بالماء والتراب. أما الخنزير فيجب قتله قطعًا إن كانت فيه عدوى تنتقل إلى الناس، وإن لم تكن فيه عدوى فقيل: يجب قتله أيضًا، وقيل: لا يجب قتله بل يجوز قتله ويجوز إرساله، هذا عن قتله، أما عن اقتنائه فقد قال النووي في شرح المهذب: لا يجوز بحال. وعن زيادة أبي هريرة لكلب الحرث، وتعقيب ابن عمر عليه في روايتنا الثامنة يقول النووي: قال العلماء: ليس هذا توهينًا لرواية أبي هريرة، ولا شكًا فيها، بل معناه أنه لما كان صاحب زرع وحرث اعتنى بذلك، وحفظه وأتقنه، والعادة أن المبتلى بشيء يتقنه ما لا يتقنه غيره، ويتعرف من أحكامه

ما لا يعرفه غيره، وقد ذكر مسلم هذه الزيادة عن ابن عمر - في روايتنا السابعة عشرة، فيحتمل أن ابن عمر لما سمعها من أبي هريرة وتحققها عن النبي صلى الله عليه وسلم رواها عنه بعد ذلك، وزادها في حديثه الذي كان يرويه بدونها، ويحتمل أنه تذكر في وقت أنه سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم فرواها، بعد أن كان قد نسيها في وقت فتركها، والحاصل أن أبا هريرة ليس منفردًا بهذه الزيادة، بل وافقه جماعة من الصحابة في روايتها عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولو انفرد بها لكانت مقبولة مكرمة. اهـ. 2 - وأما بيع الكلب فإن النهي عن ثمنه، وكونه من شر الكسب، وكونه خبيثًا - في الرواية الأولى والثانية والثالثة - يدل على تحريم بيعه، وأنه لا يصح بيعه، ولا يحل ثمنه، ولا قيمة على متلفه، سواء كان معلمًا أم لا، وسواء كان مما يجوز اقتناؤه أم لا. قال النووي: وبهذا قال جماهير العلماء، منهم أبو هريرة والحسن البصري وربيعة والأوزاعي والحكم وحماد والشافعي وأحمد وداود وابن المنذر وغيرهم، وقال أبو حنيفة: يصح بيع الكلاب التي فيها منفعة، وتجب القيمة على متلفها، وحكى ابن المنذر عن جابر وعطاء والنخعي جواز بيع كلب الصيد، دون غيره، وعن مالك روايات: لا يجوز بيعه ولكن تجب القيمة على متلفه - ويصح بيعه وتجب القيمة على متلفه - ولا يصح بيعه ولا تجب القيمة على متلفه، دليل الجمهور هذه الأحاديث، وما خالفها من الأحاديث ضعيف باتفاق أئمة الحديث. وعلة تحريم بيعه عند الشافعي نجاسته مطلقًا، وهي قائمة في المعلم وغيره، وعلة المنع عند من لا يرى نجاسته النهي عن اتخاذه، والأمر بقتله، ولذلك خص منه ما أذن في اتخاذه، وقد يستدل بما أخرجه النسائي عن جابر "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب إلا كلب صيد". وعن مالك في المشهور من مذهبه جواز اتخاذ الكلب، وكراهية بيعه، ولا يفسخ إن وقع، وكأنه لما لم يكن عنده نجسًا، وأذن في اتخاذه لمنافعه الجائزة كان حكمه حكم جميع المبيعات، لكن الشرع نهى عن بيعه تنزيها، لأنه ليس من مكارم الأخلاق، وأما تسويته في النهي بينه وبين مهر البغي وحلوان الكاهن فمحمول على الكلب الذي لم يؤذن في اتخاذه، وعلى تقدير العموم في كل كلب فالنهي في هذه الثلاثة في القدر المشترك من الكراهة، أعم من التنزيه والتحريم، إذ كل واحد منها منهي عنه، ثم تؤخذ خصوصية كل واحد منها من دليل آخر، فإنا عرفنا تحريم مهر البغي وحلوان الكاهن من الإجماع لا من مجرد النهي، ولا يلزم من الاشتراك في العطف الاشتراك في جميع الوجوه، إذ قد يعطف الأمر على النهي، والإيجاب على النفي، ومثل هذا يقال في عطف "كسب الحجام" على "مهر البغي" في روايتنا الثانية. أما السنور الوارد في روايتنا الرابعة فقد قال النووي: أما النهي عن ثمن السنور فهو محمول على أنه لا ينفع، أو على أنه نهي تنزيه، حتى يعتاد الناس هبته وإعارته والسماحة به، كما هو الغالب، فإن كان مما ينفع وباعه صح البيع، وكان ثمنه حلالاً. هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة إلا ما حكى ابن المنذر عن أبي هريرة وطاووس ومجاهد وجابر بن زيد أنه لا يجوز بيعه، واحتجوا بالحديث، وأجاب الجمهور بأنه محمول على ما ذكرنا، واحتجوا بأنه طاهر، منتفع به، ووجد فيه جميع شروط البيع بالخيار، فجاز بيعه كالحمار والبغل. والله أعلم. 3 - وأما حلوان الكاهن فقد قال النووي: أجمع المسلمون على تحريمه، لأنه عوض عن محرم،

ولأنه أكل المال بالباطل. قال: وأجمعوا على تحريم أجرة المغنية على الغناء، والنائحة على النواح. قال الحافظ ابن حجر: وفي معنى الكاهن التنجيم والضرب بالحصى وغير ذلك مما يتعاناه العرافون من استطلاع الغيب، وفي ذم الكهانة أخرج أصحاب السنن وصححه الحاكم عن أبي هريرة، رفعه "من أتى كاهنًا أو عرافًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد" وعند مسلم "من أتى عرافًا أو ساحرًا أو كاهنًا لم يقبل له صلاة أربعين يومًا" وعند الطبراني "من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد برئ مما أنزل على محمد، ومن أتاه غير مصدق له لم تقبل صلاته أربعين يومًا". 4 - وأما أجر البغي على بغائها فهو حرام بإجماع المسلمين. 5 - وأما كسب الحجام من الحجامة فعنه يقول النووي: كونه خبيثًا، من شر الكسب، فيه دليل لمن يقول بتحريمه، وقد اختلف العلماء فيه، فقال الأكثرون من السلف والخلف، لا يحرم كسب الحجام، ولا يحرم أكله على الحر، ولا على العبد، وهو المشهور من مذهب أحمد، وفي رواية عنه قال بها فقهاء المحدثين: يحرم على الحر دون العبد، واعتمدوا هذه الأحاديث وشبهها، واحتج الجمهور بحديث ابن عباس رضي الله عنهما - روايتنا السابعة والعشرين - قالوا: ولو كان حرامًا لم يعطه صلى الله عليه وسلم، وحملوا الأحاديث الواردة في النهي على التنزيه، والارتفاع عن دنيء الأكساب، والحث على مكارم الأخلاق، ومعالي الأمور، ولو كان حرامًا لم يفرق فيه بين الحر والعبد، فإنه لا يجوز للرجل أن يطعم عبده ما لا يحل. اهـ. وقال الحافظ ابن حجر: ذهب الجمهور إلى أن الكسب بالحجامة حلال، واحتجوا بهذا الحديث أي حديث ابن عباس، وقالوا: هو كسب فيه دناءة، وليس بمحرم، وحملوا الزجر عنه على التنزيه، ومنهم من ادعى النسخ، وأنه كان حرامًا، ثم أبيح، وجنح إلى ذلك الطحاوي، والنسخ لا يثبت بالاحتمال، وذهب أحمد وجماعة إلى الفرق بين الحر والعبد، فكرهوا للحر الاحتراف بالحجامة، ويحرم عليه الإنفاق على نفسه منها، ويجوز له الإنفاق منها على الرقيق والدواب، وأباحوها للعبد مطلقًا، وعمدتهم في ذلك حديث محيصة "أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام، فنهاه، فذكر له الحاجة، فقال: "أعلفه نواضحك" أخرجه مالك وأحمد وأصحاب السنن، ورجاله ثقات، وذكر ابن الجوزي أن أجر الحجام إنما كره لأنه من الأشياء التي تجب للمسلم على المسلم، إعانة له عند الاحتياج له، فما كان ينبغي أن يأخذ على ذلك أجرًا، وجمع ابن العربي بين قوله صلى الله عليه وسلم "كسب الحجام خبيث" وبين إعطائه الحجام أجرته، بأن محل الجواز ما إذا كانت الأجرة على عمل معلوم، ويحمل الزجر على ما إذا كان على عمل مجهول. ويؤخذ من حديث ابن عباس إباحة الحجامة، والأجرة على المعالجة بالطب، والشفاعة إلى أصحاب الحقوق أن يخففوا منها، وجواز مخارجة السيد لعبده، كأن يقول له: أذنت لك أن تكتسب على أن تعطيني كل يوم كذا، وما زاد فهو لك، وفيه استعمال العبد بغير إذن سيده الخاص، إذا كان قد تضمن تمكينه من العمل إذنه العام. والله أعلم

(415) باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام

(415) باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام 3562 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بالمدينة قال "يا أيها الناس إن الله تعالى يعرض بالخمر. ولعل الله سينزل فيها أمرًا. فمن كان عنده منها شيء فليبعه ولينتفع به". قال: فما لبثنا إلا يسيرًا حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله تعالى حرم الخمر. فمن أدركته هذه الآية وعنده منها شيء فلا يشرب ولا يبع" قال: فاستقبل الناس بما كان عنده منها، في طريق المدينة، فسفكوها. 3563 - عن عبد الرحمن بن وعلة السبإي (من أهل مصر) أنه سأل عبد الله بن عباس عما يعصر من العنب؟ فقال ابن عباس: إن رجلاً أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "هل علمت أن الله قد حرمها؟ " قال: لا. فسار إنسانًا. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "بم ساررته؟ " فقال: أمرته ببيعها. فقال "إن الذي حرم شربها حرم بيعها" قال: ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها. 3564 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة. خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقترأهن على الناس. ثم نهى عن التجارة في الخمر. 3565 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما أنزلت الآيات من آخر سورة البقرة. في الربا، قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد، فحرم التجارة في الخمر.

3566 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، عام الفتح، وهو بمكة "إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام" فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال "لا. هو حرام" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، عند ذلك "قاتل الله اليهود. إن الله عز وجل لما حرم عليهم شحومها. أجملوه ثم باعوه. فأكلوا ثمنه". 3567 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بلغ عمر أن سمرة باع خمرًا. فقال: قاتل الله سمرة. ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لعن الله اليهود. حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها". 3568 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "قاتل الله اليهود. حرم الله عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها". -[المعنى العام]- الإسلام دين الطهارة، طهارة الظاهر، وطهارة الباطن، طهارة المأكل والمشرب، يحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، وطهارة العقيدة من الشرك والأوثان، وما يحل أكله وشربه يحل بيعه وشراؤه، وما لا ينفع البشرية، ويضرها في بدنها، أو عقيدتها لا يحل بيعه، فالبيع أحله الله لمنافع الإنسانية. من هنا حرم الإسلام بيع الخمر وشراءها وهبتها، بعد أن حرم شربها، ولقد كان العرب في

جاهليتهم يشربونها بكثرة، كما يشربون الماء، وكانت الشراب المفضل في سهراتهم ومسامراتهم، رغم علمهم بمضارها، وتمكنت منهم هذه العادة حتى كان من الصعب اقتلاعها بدون تمهيد وتدرج، فنزل قوله تعالى {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} [البقرة: 219] فامتنع بعض من كان يشربها، وتردد بعض، فنزل قوله تعالى {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} [النساء: 43] فامتنع بعض آخر، وتوقع الباقون أن تحرم، وتوقع صلى الله عليه وسلم قرب تحريمها، فنصحهم أن يتخلصوا مما عندهم منها بالشرب أو بالبيع أو بالهبة ولم يمض قليل من الزمن حتى نزل قول الله تعالى {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه} [المائدة: 90] فقال صلى الله عليه وسلم لهم: من كان عنده خمر فلا يشربها ولا يبعها فلم يكن أمامهم إلا أن يسفكوها في طرقات المدينة. وقرن الإسلام تحريم بيعها بتحريم بيع الميتة والخنزير والأصنام، وحذر من التحايل على التشريع، ونعى على اليهود أنهم لما حرم الله عليهم الشحوم، تحايلوا على هذا التحريم، فأذابوها، وباعوها، وأكلوا ثمنها، وتعللوا بأنهم لم يأكلوها، يحذر المسلمين أن يفعلوا فعلهم، وأن يلتفوا حول الأحكام الشرعية بالألاعيب والحيل. -[المباحث العربية]- (يخطب بالمدينة) في إحدى خطب الجمعة، كعظة من المواعظ التي كان ينبههم بها إلى مصالحهم. (إن اللَّه تعالى يعرض بالخمر) وهي المتخذة من عصير العنب، و"يعرض" بضم الياء وفتح العين وكسر الراء المشددة من التعريض، أي يقول فيها قولاً يعيبها، ولم يصرح. وقد مهد الله لتحريم الخمر، وعرض بها قبل التحريم بتعريضين. الأول قوله تعالى {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} فقال بعض الناس: نشربها، لمنافعها التي فيها، وقال آخرون: لا نشربها فلا خير في شيء فيه إثم. الثاني قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} فقال بعض الناس: نشربها بعد العشاء، ونفيق منها قبل الفجر، وبين الصلاتين المتباعدتين، أو نشرب قدرًا لا يسكر، وقال آخرون: لا نشربها، فلا خير في شيء يحول بيننا وبين الصلاة، وكان عمر رضي الله عنه يقول: اللهم بين لنا في ذلك بيانًا شافيًا. فكانت الخطبة المذكورة في هذا الوقت، قبل نزول آية التحريم {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه} (فمن كان عنده منها شيء فليبعه، ولينتفع به) بوجه من الوجوه كالإهداء، وتحويله إلى خل، والأمر للإرشاد، حتى لا يلحقه ضرر عند التحريم.

(فما لبثنا إلا يسيرًا) أي إلا زمنًا يسيرًا، أيامًا قلائل. (حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن اللَّه تعالى حرم الخمر) أي بعد أن نزلت الآية السابقة، وفيها {فهل أنتم منتهون} أي انتهوا عنها واجتنبوها. (فمن أدركته هذه الآية، وعنده منها شيء، فلا يشرب، ولا يبع) أي من أدركته هذه الآية حيًا فلا يشرب ولا يبع، أو المعنى فمن أدرك وعلم هذه الآية فلا يشرب ولا يبع، فالآية تدرك المسلم وتصله، ويدركها المسلم ويعلمها، والمراد من الآية آية تحريم الخمر المذكورة في سورة المائدة. وفي الرواية الثالثة "لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي من بيته إلى المسجد "فاقترأهن على الناس، ثم نهى عن التجارة في الخمر" وفي الرواية الرابعة "لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا خرج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المسجد، فحرم التجارة في الخمر" وظاهر هاتين الروايتين أن تحريم التجارة في الخمر والنهي عنها كان بعد نزول آيات الربا في آخريات آيات سورة البقرة، وليس بعد تحريم الخمر بالآيات التي في سورة المائدة، وليس هذا الظاهر مرادًا، فقد حرمت الخمر وبلغ صلى الله عليه وسلم تحريمها قبل نزل آية الربا بمدة طويلة، فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم جدد وكرر النهي عن الخمر والإتجار فيها بعد آية الربا للتذكير والتأكيد، والمبالغة في إشاعة الحكم والاهتمام به، قال القاضي: ولعله حضر هذا من لم يكن بلغه تحريم التجارة في الخمر قبل ذلك. قلت هذا الاحتمال بعيد، والاحتمال الأول حسن. (فاستقبل الناس بما كان عنده منها، في طريق المدينة فسفكوها) هكذا هو في الأصول التي بين يدي "فاستقبل الناس بما كان عنده" بإفراد الضمير العائد على الناس باعتبار اللفظ، والأصل: بما كان عندهم، وقوله "في طريق المدينة فسفكوها" فيه تقديم الجار والمجرور على متعلقه، والمعنى فاستقبل الناس هذا النهي بما كان عندهم من الخمر، فسفكوها في طريق المدينة، وقد روي "فلبث المسلمون زمانًا يجدون ريحها من طرق المدينة، مما أهراقوا منها". (عما يعصر من العنب) أي عن حكم الخمر، عن حكم شربها وبيعها وهبتها، وليس السؤال عن عصير العنب قبل أن يتخمر، بدليل جواب ابن عباس. (راوية خمر) في آخر الرواية "ففتح المزادة" قال أبو عبيد: الراوية والمزادة. بمعنى، وقال ابن السكيت: إنما يقال لها: المزادة، وأما الراوية فاسم للبعير الذي يروي عليه خاصة، والحديث يشهد لأبي عبيد. وهي وعاء من جلد، يحمل فيه الماء للمسافر ونحوه، يحمل لترًا أو لترين أو ثلاثة، وسميت مزادة لأنه يتزود بمائها في السفر وغيره، وقيل: لأنه يزاد فيها جلد لتتسع عند الحاجة، وسميت راوية لأنها تروي صاحبها ومن معه بمائها، فقوله "راوية خمر" من إضافة الظرف إلى المظروف، مثل كوب ماء، والمقصود الخمر، لا الراوية.

(هل علمت أن اللَّه قد حرمها؟ ) قال النووي: لعل السؤال كان ليعرف حاله - أي إن الاستفهام حقيقي، وليس إنكاريًا - توبيخيًا فإن كان عالمًا بتحريمها - أي تحريم شربها فقط - أنكر عليه هديتها وإمساكها وحملها، وعذره على ذلك، فلما أخبره بأنه كان جاهلاً بذلك عذره. والظاهر أن هذه القضية كانت على قرب تحريم الخمر، قبل اشتهار ذلك. (فسار إنسانًا) بتشديد الراء، فأسر إلى إنسان كان معه، فالمسار هو الرجل الذي أهدى الراوية. (ففتح المزادة، حتى ذهب ما فيها) أي ففتح المزادة، وصب ما فيها على الأرض، حتى أفرغ ما فيها، والظاهر أنهم كانوا في مكان لا يؤذيه، ولا يؤذي من فيه، صب هذا القدر من الخمر. (عام الفتح) قال الحافظ ابن حجر: فيه بيان تاريخ ذلك، وكان ذلك في رمضان سنة ثمان من الهجرة، ويحتمل أن يكون التحريم وقع قبل ذلك، ثم أعاده صلى الله عليه وسلم، ليسمعه من لم يكن سمعه. اهـ. المهم فيه أن الخمر كانت محرمة في ذلك التاريخ. (إن اللَّه ورسوله حرم) قال الحافظ ابن حجر: هكذا وقع في الصحيحين، بإسناد الفعل "حرم" إلى الضمير الواحد، وكان الأصل "حرمًا" قال القرطبي: إنه صلى الله عليه وسلم تأدب، فلم يجمع بينه وبين اسم الله في ضمير الاثنين، لأنه من نوع ما رد به على الخطيب الذي قال "ومن يعصهما" كذا قال. ولم تتفق الرواة في هذا الحديث على ذلك، فإن بعض طرقه في الصحيح "إن الله حرم" ليس فيه "ورسوله" وفي رواية لابن مردويه، من وجه آخر عن الليث "إن الله ورسوله حرما" وقد صح في حديث أنس، في النهي عن أكل الحمر الأهلية "إن الله ورسوله ينهيانكم" والتحقيق جواز الإفراد في مثل هذا، ويكون فيه الإشارة إلى أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم ناشئ عن أمر الله. (والميتة) بفتح الميم مازالت عنه الحياة بغير ذكاة شرعية، وبكسر الميم الهيئة، وليست مرادة هنا. (والأصنام) جمع صنم، قال الجوهري: هو الوثن، وقال غيره: الوثن ماله جثة، والصنم ما كان مصورًا، فبينهما عموم وخصوص وجهي، فإن كان مصورًا فهو وثن وصنم. (أرأيت شحوم الميتة ... ) أي أخبرني عن شحوم الميتة، يفعل بها كذا وكذا، فهل يحل بيعها لما ذكر من المنافع؟ فإنها مقتضية لصحة البيع؟ . (ويستصبح بها الناس) أي يجعلونها في مصابيحهم لتضيء لهم. (فقال: لا. هو حرام) قال النووي: "هو" يعود إلى البيع، لا إلى الانتفاع، ومن العلماء من حمله على الانتفاع، وسيأتي التفصيل في فقه الحديث.

(قاتل اللَّه اليهود) "قاتل" فاعل، وأصله أن يقع الفعل بين اثنين، ولكنه ربما جاء من واحد، كسافر، فالمعنى عليه قتل الله اليهود، أي لعن الله اليهود، فالمراد من القتل اللعن بجامع الطرد في كل، القتل طرد من الحياة، واللعن طرد من رحمة الله، فهو دعاء عليهم بذلك، أو المراد الدعاء عليهم بأن يقتلوا. (لما حرم اللَّه عليهم شحومها أجملوه) تذكير في "أجملوه" على تقدير أجملوا هذا الشيء، وفي الرواية السادسة "حرمت عليهم الشحوم، فجملوها" وفي الرواية السابعة "حرم الله عليهم الشحوم فباعوها" أي أذابوها فباعوها، وفي الرواية الثامنة "حرم عليهم الشحم، فباعوه" يقال: أجمل الشحوم بالهمز، وجمله بالتشديد، أي أذابه، ويقال فيه "جمل" بالتخفيف من باب نصر. -[فقه الحديث]- شرب الخمر حرام بالإجماع، والكلام هنا عن بيعها، وإهدائها، والانتفاع بها بوجه من الوجوه. أما البيع فالرواية الأولى، ولفظها "فلا يشرب ولا يبع" والثانية، ولفظها "إن الذي حرم شربها حرم بيعها" والثالثة ولفظها "ثم نهى عن التجارة في الخمر" والرابعة، ولفظها "فحرم التجارة في الخمر" هذه الروايات صريحة في تحريم بيعها، قال النووي: وهو مجمع عليه. وقال الحافظ ابن حجر: وقد نقل ابن المنذر وغيره في ذلك الإجماع، وشذ من قال: يجوز بيعها، ويجوز بيع عنقود العنب الذي تحول ما في باطنه إلى خمر. واختلف العلماء في علة تحريم بيعها، وهي عند الشافعي وموافقيه النجاسة، فيلحق بها كل عين نجسة كروث الحيوانات، وأجاز الكوفيون بيع النجس المنتفع به، كالسرجين وزرق الحمام، وذهب بعض المالكية إلى جواز ذلك للمشتري، دون البائع، لاحتياج المشتري دون البائع. وقيل: لأنه ليس فيها منفعة مباحة مقصودة، فيلحق بها ما كان كذلك كالسباع والحشرات، وقيل: حرم بيعها مبالغة في التنفير عنها. أما الهبة فهي ملحقة بالبيع، وأما تخليلها، والانتفاع بها فهو حرام عند الشافعي وأحمد والثوري ومالك في أصح الروايتين عنه، قالوا: لو جاز تخليلها، وتحويلها إلى خل لبينه النبي صلى الله عليه وسلم لهم، ونهاهم عن إضاعتها (حين سكبوها وأراقوها في طرقات المدينة) كما نصحهم وحثهم على الانتفاع بها قبل تحريمها، حين توقع نزول تحريمها، وكما نبه أهل الشاة الميتة على دباغ جلدها، والانتفاع به. وجوز تخليلها الأوزاعي والليث وأبو حنيفة ومالك في رواية عنه. قال النووي: وأما إذا انقلبت بنفسها خلا فتطهر عند جميعهم إلا ما حكي عن سحنون المالكي، أنه قال: لا تطهر. اهـ ومعنى هذا أنها إذا تخللت بنفسها طهرت وجاز بيعها وهبتها، وإذا تخللت بفعل مخللها لم تطهر عند الشافعي وموافقيه، ولا يجوز بيعها، وسيأتي مزيد بحث فيما يؤخذ من حديث سمرة قريبًا.

وأما بيع الميتة فقد نقل ابن المنذر وغيره الإجماع على تحريمه، ويستثنى من ذلك السمك والجراد، ويستثنى كذلك عند بعض العلماء ما لا تحله الحياة، كالشعر والصوف والوبر، فإنه طاهر، فيجوز بيعه، وهو قول أكثر المالكية والحنفية، وزاد بعضهم العظم والسن والقرن والظلف، وقال بنجاسة الشعور الحسن والليث والأوزاعي، ولكنها تطهر عندهم بالغسل، وكأنها عندهم متنجسة بما يتعلق بها من رطوبات الميتة. ونحوه قال ابن القاسم في عظم الفيل، إنه يطهر إذا سلق بالماء. وأما شحوم الميتة والانتفاع بها بغير الأكل فقد تعرضت له الرواية الخامسة، وعنه يقول النووي: الصحيح عند الشافعي وأصحابه أنه يجوز الانتفاع بشحم الميتة في طلي السفن، والاستصباح بها وغير ذلك مما ليس بأكل، وليس في بدن الآدمي، وبهذا أيضًا قال عطاء بن أبي رباح ومحمد بن جرير الطبري، وقال الجمهور: لا يجوز الانتفاع به في شيء أصلاً، لعموم النهي عن الانتفاع بالميتة إلا ما خص، وهو الجلد المدبوغ، وأما الزيت والسمن ونحوهما من الأدهان التي أصابتها نجاسة. فهل يجوز الاستصباح بها ونحوه من الاستعمالات في غير الأكل وغير البدن؟ أو يجعل من الزيت صابون؟ أو يطعم العسل المتنجس للنحل؟ أو يطعم الميتة لكلابه؟ أو يطعم الطعام النجس لدوابه؟ فيه خلاف بين السلف، الصحيح من مذهبنا جواز جميع ذلك، ونقله القاضي عياض عن مالك وكثير من الصحابة والشافعي والثوري وأبي حنيفة وأصحابه والليث بن سعد. قال: وأجاز أبو حنيفة وأصحابه والليث وغيرهم بيع الزيت النجس إذا بينه، وقال ابن الماجشون وأحمد بن حنبل: لا يجوز الانتفاع بشيء من ذلك كله في شيء من الأشياء. اهـ. ثم قال النووي: قال العلماء: وفي عموم تحريم بيع الميتة أنه يحرم بيع جثة الكافر إذا قتلناه، وطلب الكفار شراءه، أو دفع عوض عنه، وقد جاء في الحديث أن نوفل بن عبد الله المخزومي قتله المسلمون يوم الخندق، فبذل الكفار في جسده عشرة آلاف درهم للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يأخذها، ودفعه إليهم. وأما الخنزير فمحرم بيعه بالإجماع، وعلة التحريم عند الشافعية النجاسة، والمشهور عند المالكية طهارة الخنزير، ورخص بعض العلماء في بيع القليل من شعر الخنزير للغرز، حكاه ابن المنذر عن الأوزاعي وأبي يوسف وبعض المالكية. وأما الأصنام فبيعها حرام، والعلة في حرمتها عدم المنفعة المباحة، فعلى هذا إن كانت بحيث إذا كسرت ينتفع بمعدنها ومادتها وأجزائها جاز بيعها عند بعض العلماء من الشافعية وغيرهم، والأكثر على المنع حملاً للنهي على ظاهره، والظاهر أن النهي عن بيعها لزيادة التنفير عنها. قال الحافظ ابن حجر: ويلتحق بها في الحكم الصلبان التي تعظمها النصارى، ويحرم نحت جميع ذلك وصنعته. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - في قوله في الرواية الأولى "إن الله يعرض بالخمر ... إلخ" دليل على أن الأشياء قبل ورود الشرع لا تكليف فيها بتحريم ولا غيره، وفي المسألة خلاف مشهور للأصوليين، الأصح: أنه لا حكم ولا

تكليف قبل ورود الشرع، لقوله تعالى {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} [الإسراء: 15] والثاني: أن أصلها على التحريم، حتى يرد الشرع بغير ذلك. الثالث: أن أصلها على الإباحة، الرابع: التوقف. وهذا الخلاف في غير الضروريات التي لا يمكن الاستغناء عنها، كالتنفس ونحوه، فإنها ليست محرمة بلا خلاف، إلا على قول من يجوز التكليف بما لا يطاق. 2 - وفي هذا الحديث أيضًا بذل النصيحة للمسلمين في دينهم ودنياهم، لأنه صلى الله عليه وسلم نصحهم في تعجيل الانتفاع بها مادامت حلالاً. 3 - ومن الرواية الثانية أن من ارتكب معصية جاهلاً تحريمها لا إثم عليه، ولا تعزير. 4 - وفي قوله "بم ساررته"؟ دليل لجواز سؤال الإنسان عن بعض ما أسر به لآخر، فإن كان مما يجب كتمانه كتمه، وإلا ذكره. 5 - وفي فتح المزادة، وتفريغها دليل للشافعي والجمهور أن أواني الخمر لا تكسر، ولا تشق، بل يراق ما فيها، وتغسل وينتفع بها، وعن مالك روايتان، إحداهما كالجمهور، والثانية يكسر الإناء، ويشق السقاء، قال النووي: وهذا ضعيف لا أصل له، أما حديث أبي طلحة أنهم كسروا الدنان فإنما فعلوا ذلك بأنفسهم مبالغة، من غير أمر النبي صلى الله عليه وسلم. 6 - قال القاضي عن الرواية الخامسة: تضمن هذا الحديث أن ما لا يحل أكله والانتفاع به لا يجوز بيعه، ولا يحل أكل ثمنه، كما في الشحوم المذكورة في الحديث. اهـ وخالف في ذلك بعضهم. 7 - ومن الرواية السادسة، من قول عمر: "قاتل الله سمرة" أخذ بعضهم جواز لعن العاصي المعين. وهو غير مسلم إذ يحتمل أن عمر قالها لم يقصد معناها، كما يقولها العرب كثيرًا. 8 - وفيه إقالة ذوي الهيئات زلاتهم، لأن عمر اكتفى بتلك الكلمة عن مزيد عقوبة. قال ابن الجوزي والقرطبي وغيرهما: اختلف في كيفية بيع سمرة للخمر على ثلاثة أقوال: أحدها أنه أخذها من أهل الكتاب عن قيمة الجزية، فباعها لهم، وأخذ ثمنها كجزية، معتقدًا جواز ذلك وهذا حكاه ابن الجوزي عن ابن ناصر ورجحه، وقال: كان ينبغي له أن يتركهم يبيعونها، ولا يدخل في المحظور، وإن أخذ منهم أثمانها بعد ذلك، لأنه حينئذ لا يكون قد تعاطى محرمًا، ويكون شبيهًا بقصة بريرة، حيث قال "هو عليها صدقة، ولنا هدية" والثاني: قال الخطابي: يجوز أن يكون باع العصير ممن يتخذه خمرًا، والعصير يسمى خمرًا، كما قد يسمى العنب به، لأنه يئول إليه، ثم قال الخطابي: ولا يظن بسمرة أنه باع عين الخمر بعد أن شاع تحريمها، وإنما باع العصير. الثالث: أن يكون خلل الخمر وباعها، وكان عمر يعتقد أن ذلك لا يحلها، كما هو قول أكثر العلماء، واعتقد سمرة الجواز، كما ذهب إلى ذلك بعض العلماء. وقد أبدى الإسماعيلي فيه احتمالاً آخر، وهو أن سمرة علم تحريم الخمر، ولم يعلم تحريم بيعها، ولذلك اقتصر عمر على ذمه، دون عقوبته، وهذا هو الظن به.

9 - وفيه إبطال الحيل والوسائل للوصول إلى المحرم. 10 - وفيه أن الشيء إذا حرم عينه حرم ثمنه. 11 - وفيه دليل على أن بيع المسلم الخمر من الذمي أو إلى الذمي لا يجوز. 12 - وفيه استعمال القياس في الأشباه والنظائر. والله أعلم

(416) باب الربا

(416) باب الربا 3570 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل. ولا تشفوا بعضها على بعض. ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلاً بمثل. ولا تشفوا بعضها على بعض. ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز". 3571 - عن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما قال له رجل من بني ليث: إن أبا سعيد الخدري يأثر هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. في رواية قتيبة: فذهب عبد الله ونافع معه. وفي حديث ابن رمح: قال نافع: فذهب عبد الله وأنا معه والليثي. حتى دخل على أبي سعيد الخدري. فقال: إن هذا أخبرني أنك تخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الورق بالورق إلا مثلاً بمثل. وعن بيع الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل. فأشار أبو سعيد بإصبعيه إلى عينيه وأذنيه. فقال: أبصرت عيناي وسمعت أذناي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا تبيعوا الذهب بالذهب. ولا تبيعوا الورق بالورق. إلا مثلاً بمثل. ولا تشفوا بعضه على بعض. ولا تبيعوا شيئًا غائبًا منه بناجز، إلا يدًا بيد". 3572 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تبيعوا الذهب بالذهب. ولا الورق بالورق. إلا وزنًا بوزن، مثلاً بمثل سواء بسواء". 3573 - عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تبيعوا الدينار بالدينارين ولا الدرهم بالدرهمين". 3574 - عن مالك بن أوس بن الحدثان أنه قال: أقبلت أقول: من يصطرف

الدراهم؟ فقال طلحة بن عبيد الله (وهو عند عمر بن الخطاب): أرنا ذهبك. ثم ائتنا، إذا جاء خادمنا، نعطك ورقك. فقال عمر بن الخطاب: كلا والله لتعطينه ورقه. أو لتردن إليه ذهبه. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الورق بالذهب ربًا إلا هاء وهاء. والبر بالبر ربًا إلا هاء وهاء. والشعير بالشعير ربًا إلا هاء وهاء. والتمر بالتمر ربًا إلا هاء وهاء". 3575 - عن أبي قلابة قال: كنت بالشام في حلقة فيها مسلم بن يسار. فجاء أبو الأشعث. قال: قالوا: أبو الأشعث، أبو الأشعث. فجلس فقلت له: حدث أخانا حديث عبادة بن الصامت. قال: نعم. غزونا غزاة. وعلى الناس معاوية. فغنمنا غنائم كثيرة. فكان، فيما غنمنا، آنية من فضة. فأمر معاوية رجلاً أن يبيعها في أعطيات الناس. فتسارع الناس في ذلك. فبلغ عبادة بن الصامت فقام فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا سواء بسواء. عينًا بعين. فمن زاد أو ازداد فقد أربى. فرد الناس ما أخذوا. فبلغ ذلك معاوية فقام خطيبًا فقال: ألا ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث. قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه. فقام عبادة بن الصامت فأعاد القصة. ثم قال: لنحدثن بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كره معاوية (أو قال: وإن رغم). ما أبالي أن لا أصحبه في جنده ليلة سوداء. 3576 - عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الذهب بالذهب. والفضة بالفضة. والبر بالبر. والشعير بالشعير. والتمر بالتمر. والملح بالملح. مثلاً بمثل. سواء بسواء. يدًا بيد. فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدًا بيد". 3577 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الذهب بالذهب.

والفضة بالفضة. والبر بالبر. والشعير بالشعير. والتمر بالتمر. والملح بالملح. مثلاً بمثل. يداً بيد. فمن زاد أو استزاد فقد أربى. الآخذ والمعطي فيه سواء". 3578 - - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الذهب بالذهب. مثلاً بمثل" فذكر بمثله. 3579 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "التمر بالتمر. والحنطة بالحنطة. والشعير بالشعير. والملح بالملح. مثلاً بمثل. يدًا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى إلا ما اختلفت ألوانه". 3580 - ومثله عن فضيل بن غزوان بهذا الإسناد ولم يذكر: "يدًا بيد". 3581 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الذهب بالذهب وزنًا بوزن. مثلاً بمثل. والفضة بالفضة وزنًا بوزن. مثلاً بمثل. فمن زاد أو استزاد فهو ربًا". 3582 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الدينار بالدينار لا فضل بينهما. والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما". 3583 - عن أبي المنهال قال: باع شريك لي ورقًا بنسيئة إلى الموسم، أو إلى الحج. فجاء إلي فأخبرني. فقلت: هذا أمر لا يصلح. قال: قد بعته في السوق. فلم ينكر ذلك علي أحد. فأتيت البراء بن عازب فسألته. فقال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ونحن نبيع هذا البيع. فقال "ما كان يدًا بيد، فلا بأس به. وما كان نسيئة فهو ربًا" وائت زيد بن أرقم فإنه أعظم تجارة مني. فأتيته. فسألته. فقال مثل ذلك. 3584 - عن أبي المنهال قال: سألت البراء بن عازب عن الصرف؟ فقال: سل

زيد بن أرقم فهو أعلم. فسألت زيدًا فقال: سل البراء فإنه أعلم. ثم قالا: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الورق بالذهب دينًا. 3585 - عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفضة بالفضة. والذهب بالذهب. إلا سواء بسواء. وأمرنا أن نشتري الفضة بالذهب كيف شئنا. ونشتري الذهب بالفضة كيف شئنا. قال: فسأله رجل فقال: يدًا بيد؟ فقال: هكذا سمعت. 3586 - عن فضالة بن عبيد الأنصاري رضي الله عنه قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر، بقلادة فيها خرز وذهب وهي من المغانم تباع. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده. ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "الذهب بالذهب وزنًا بوزن". 3587 - عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: اشتريت، يوم خيبر، قلادة باثني عشر دينارًا. فيها ذهب وخرز. ففصلتها. فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارًا. فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال "لا تباع حتى تفصل". 3588 - عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر. نبايع اليهود الوقية الذهب بالدينارين والثلاثة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تبيعوا الذهب بالذهب، إلا وزنًا بوزن". 3589 - عن حنش أنه قال: كنا مع فضالة بن عبيد في غزوة. فطارت لي ولأصحابي قلادة فيها ذهب وورق وجوهر. فأردت أن أشتريها. فسألت فضالة بن عبيد

فقال: انزع ذهبها فاجعله في كفة. واجعل ذهبك في كفة. ثم لا تأخذن إلا مثلاً بمثل. فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يأخذن إلا مثلاً بمثل". 3590 - عن معمر بن عبد الله أنه أرسل غلامه بصاع قمح. فقال: بعه ثم اشتر به شعيرًا. فذهب الغلام فأخذ صاعًا وزيادة بعض صاع. فلما جاء معمرًا أخبره بذلك. فقال له معمر: لم فعلت ذلك؟ انطلق فرده. ولا تأخذن إلا مثلاً بمثل. فإني كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "الطعام بالطعام مثلاً بمثل" قال: وكان طعامنا، يومئذ، الشعير. قيل له: فإنه ليس بمثله. قال: إني أخاف أن يضارع. 3591 - عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أخًا بني عدي الأنصاري فاستعمله على خيبر. فقدم بتمر جنيب. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "أكل تمر خيبر هكذا؟ " قال: لا والله يا رسول الله، إنا لنشتري الصاع بالصاعين من الجمع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تفعلوا. ولكن مثلاً بمثل. أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا. وكذلك الميزان". 3592 - عن أبي سعيد الخدري وعن أبي هريرة رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر. فجاءه بتمر جنيب. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "أكل تمر خيبر هكذا؟ " فقال: لا والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين. والصاعين بالثلاثة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فلا تفعل بع الجمع بالدراهم. ثم ابتع بالدراهم جنيبًا". 3593 - عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: جاء بلال بتمر برني. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أين هذا؟ " فقال بلال: تمر، كان عندنا، رديء، فبعت منه صاعين بصاع. لمطعم النبي صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله، عند ذلك "أوه. عين الربا. لا تفعل. ولكن إذا أردت أن تشتري التمر فبعه ببيع آخر. ثم اشتر به". لم يذكر ابن سهل في حديثه: عند ذلك.

3594 - عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمر. فقال "ما هذا التمر من تمرنا". فقال الرجل: يا رسول الله، بعنا تمرنا صاعين بصاع من هذا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هذا الربا. فردوه. ثم بيعوا تمرنا واشتروا لنا من هذا". 3595 - عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: كنا نرزق تمر الجمع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الخلط من التمر. فكنا نبيع صاعين بصاع. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "لا صاعي تمر بصاع ولا صاعي حنطة بصاع. ولا درهم بدرهمين". 3596 - عن أبي نضرة قال: سألت ابن عباس عن الصرف؟ فقال: أيدًا بيد؟ قلت: نعم. قال: فلا بأس به. فأخبرت أبا سعيد. فقلت: إني سألت ابن عباس عن الصرف؟ فقال: أيدا بيد؟ قلت: نعم. قال: فلا بأس به. قال: أو قال ذلك؟ إنا سنكتب إليه فلا يفتيكموه. قال: فوالله لقد جاء بعض فتيان رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمر فأنكره. فقال "كأن هذا ليس من تمر أرضنا". قال: كان في تمر أرضنا (أو في تمرنا)، العام، بعض الشيء. فأخذت هذا وزدت بعض الزيادة. فقال "أضعفت. أربيت. لا تقربن هذا إذا رابك من تمرك شيء فبعه. ثم اشتر الذي تريد من التمر". 3597 - عن أبي نضرة قال: سألت ابن عمر وابن عباس عن الصرف؟ فلم يريا به بأسًا. فإني لقاعد عند أبي سعيد الخدري فسألته عن الصرف؟ فقال: ما زاد فهو ربا. فأنكرت ذلك، لقولهما. فقال: لا أحدثك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. جاءه صاحب نخله بصاع من تمر طيب. وكان تمر النبي صلى الله عليه وسلم هذا اللون. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "أنى لك هذا؟ " قال: انطلقت بصاعين فاشتريت به هذا الصاع. فإن سعر هذا في السوق كذا. وسعر هذا كذا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ويلك أربيت. إذا أردت ذلك فبع تمرك بسلعة. ثم اشتر بسلعتك أي تمر شئت". قال أبو سعيد: فالتمر بالتمر أحق أن يكون ربًا أم الفضة بالفضة؟ قال: فأتيت ابن عمر، بعد، فنهاني. ولم آت ابن عباس. قال: فحدثني أبو الصهباء أنه سأل ابن عباس عنه بمكة، فكرهه.

3598 - عن أبي صالح قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، مثلاً بمثل. من زاد أو ازداد فقد أربى. فقلت له: إن ابن عباس يقول غير هذا. فقال: لقد لقيت ابن عباس. فقلت: أرأيت هذا الذي تقول أشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو وجدته في كتاب الله عز وجل؟ فقال لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أجده في كتاب الله. ولكن حدثني أسامة بن زيد؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الربا في النسيئة". 3599 - عن ابن عباس رضي الله عنه قال: أخبرني أسامة بن زيد؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إنما الربا في النسيئة". 3600 - عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا ربا فيما كان يدًا بيد". 3601 - عن عطاء بن أبي رباح: أن أبا سعيد الخدري لقي ابن عباس فقال له: أرأيت قولك في الصرف، أشيئًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أم شيئًا وجدته في كتاب الله عز وجل؟ فقال ابن عباس: كلا لا أقول. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنتم أعلم به وأما كتاب الله فلا أعلمه. ولكن حدثني أسامة بن زيد؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ألا إنما الربا في النسيئة". 3602 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله قال قلت: وكاتبه وشاهديه؟ قال: إنما نحدث بما سمعنا. 3603 - عن جابر رضي الله عنه قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه؟ وقال: هم سواء.

-[المعنى العام]- الربا نوع من أنواع الاستغلال في المعاملة، وفيه قدر كبير من الضرر، وفيه سحت وأخذ زيادة بالباطل، وبدون مقابل، وفيه تسلط وتحكم أحد المتعاملين في الآخر، ومن هنا كان محرمًا في جميع الشرائع، واشتهر به اليهود قبل الإسلام، ونعاه عليهم الإسلام، فقال القرآن الكريم {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرًا * وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل} [النساء: 160، 161] وحينما اشتبه على الكفار الفرق بين البيع والربا "قالوا: {إنما البيع مثل الربا} ورد الله عليهم بقوله {وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [البقرة: 275] فبين أن المشرع الحكيم، الذي يعلم مصالح العباد حرم الربا، فعليكم أن تنتهوا عنه، علمتم الحكمة من تحريمه أم لم تعلموها، اقتنعتم بما وصلتم إليه من الحكم أم لم تقتنعوا، فقد جاءكم القرار والموعظة من ربكم، ومن لم ينته فليأذن بحرب من الله ورسوله. وكان الربا معلومًا عند اليهود والعرب شائعًا في النقدين، الذهب والفضة مادة التعامل بين الناس، وكان في حقيقته كبيع ذهب عاجل بذهب آجل مع الزيادة، وكان من عليه دين بسبب البيع، أو بسبب القرض، أو بأي سبب آخر، إذا حل ميعاد الأداء فلم يستطع المدين الأداء اتفق مع الدائن على تأجيل الدفع مع الزيادة، وهو بهذا سم قاتل، مغلف بالعسل، يتلذذ المدين بأنه لم يدفع ويتلذذ الدائن بأنه يضاعف ويجمع بدون خسارة، وبدون جهد ولا مشقة، فيجد المدين نفسه وقد غرق ويجد الدائن نفسه كالجزار مع ذبيحته لا رحمة ولا شفقة ويمتلئ المجتمع بهذه المناظر الكريهة، قاتل ومقتول، مليء ومعدوم، متجبر وذليل ثم هذه المعاملة تصيب المجتمع بالتواكل والتكاسل وضعف الإنتاج. جاء الإسلام بتحريم الربا المعهود في النقدين، وأضاف إليه الربا في الأقوات، والزيادة في تبادل المثيلين، البر بالبر ربًا إلا مثل بمثل، لا زيادة بين المتقابلين في الكيل ولا في الوزن، ويدًا بيد، لا تأجيل لبائع ولا لمشتر، نصت الشريعة على أنواع من الربا، البر والشعير والتمر والملح بالإضافة إلى النقدين وتركت لعلماء الأمة قياس ما عداها عليها إذا اجتمعت فيه علة التحريم وتوعدت الشريعة آكل الربا وموكله، آخذه ومعطيه، بل لعنت كاتبه وشاهديه لتسد منافذ شره، وتقطع دابر التعامل به، فتبارك الله أحكم الحاكمين. -[المباحث العربية]- (الربا) مقصور، من ربا يربو، فيكتب - حسب القواعد الإملائية - بالألف، وتثنيته ربوان، وأجاز الكوفيون كتبه وتثنيته بالياء، لسبب كسرة الراء في أوله، وغلطهم البصريون، قال العلماء: وقد كتبوه

في المصحف بالواو، قال الفراء: إنما كتبوه بالواو لأن أهل الحجاز تعلموا الخط من أهل الحيرة، ولغتهم "الربو" فعلموهم صورة الخط على لغتهم، قال: وكذا قرأها أبو سماك العدوي بالواو، وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة، بسبب كسرة الراء، وقرأ الباقون بالتفخيم، لفتحة الباء، قال: ويجوز كتبه بالألف والواو والياء. وأصل الربا الزيادة، يقال: ربا الشيء، يربو، إذا زاد، وأربى الرجل عامل بالربا. (إلا مثلاً بمثل) في الرواية الثالثة "إلا وزنًا بوزن، مثلاً بمثل، سواء بسواء" قال النووي: يحتمل أن يكون الجمع بين هذه الألفاظ توكيدًا ومبالغة في الإيضاح، اهـ. وفي الرواية السادسة "عينًا بعين". (ولا تشفوا بعضها على بعض) "تشفوا" بضم التاء وكسر الشين، وتشديد الفاء، أي لا تفضلوا، والشف بكسر الشين يطلق أيضًا على النقصان، فهو من الأضداد، والمعنيان يصلحان. أي لا تزيدوا بعضها على بعض، ولا تنقصوا بعضها عن بعض، يقال: شف الدرهم بفتح الشين، إذا زاد وإذا نقص، يشف بكسر الشين، وأشفه الرجل إذا زاده أو نقصه. (ولا تبيعوا الورق بالورق) بفتح الواو، وكسر الراء وإسكانها على المشهور، ويجوز فتحها، وهو الفضة، وقيل: بكسر الواو المضروبة، وبفتحها المال، والمراد هنا جميع أنواع الفضة، مضروبة وغير مضروبة. (ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز) المراد بالناجز الحاضر، وبالغائب المؤجل أو غير الحاضر، أي لا تبيعوا حالاً حاضرًا من الذهب بمؤجل منه، ولا بغائب عن مجلس العقد، ولو لم يكن مؤجلاً. (إن أبا سعيد الخدري يأثر هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) يقال: أثر الحديث يأثره أي نقله، وزنًا ومعنى، والإشارة إلى قضية كانت محور نقاش، وهي قضية صرف الذهب بالذهب، وصرف الفضة بالفضة، وكان ابن عمر يرخص بالتفاضل مع القبض، وكان الرجل يمنع التفاضل، واستند الرجل إلى أبي سعيد وحديثه. (فذهب عبد اللَّه ونافع معه) لم يذكر في هذه الرواية أن الرجل الليثي ذهب معهما، وذكره في الرواية الثانية. (إن هذا أخبرني أنك تخبر) الإشارة إلى الرجل الليثي. (فأشار أبو سعيد بإصبعيه إلى عينيه وأذنيه) أي أشار بسبابة اليد اليمنى إلى عينه اليمنى، ثم إلى أذنه اليمنى، وأشار بسبابة اليد اليسرى إلى عينه اليسرى، ثم إلى أذنه اليسرى، والهدف من الإشارة وذكر السمع والبصر التأكيد والتوثيق. (إلا يدًا بيد) أي مقابضة في المجلس، يسلم هذا بيده، ويسلم هذا بيده، وهو المراد بقوله في الرواية الخامسة "إلا هاء وهاء".

(أقبلت أقول: من يصطرف الدراهم؟ ) بيع النقد بمثله يسمى المراطلة، كبيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، وقد يسمى صرفًا من كبير إلى صغير، وبيع الذهب بالفضة وعكسه يسمى صرفًا، وبيع العرض بالنقد، يسمى النقد ثمنًا، والعرض كالتمر يسمى عوضًا، وبيع العرض بالعرض كثوب بثوب يسمى مقايضة، والمراد هنا بيع الذهب بفضة، فقد كان مع مالك بن أوس بن الحدثان مائة دينار - كما جاء في رواية البخاري - يريد تحويلها إلى دراهم. (أرنا ذهبك) في رواية البخاري "فأخذ الذهب يقلبها في يده، ثم قال". (ائتنا إذا جاء خادمنا نعطك ورقك) "نعطك" مجزوم في جواب الأمر، وفي رواية "نعطيك" بالرفع على الاستئناف، أي فنحن نعطيك، وفي رواية البخاري "حتى يأتي خازني من الغابة". (لتعطينه ورقه) أي في المجلس، ويتم التقابض يدًا بيد، أو لتردن إليه ذهبه. (إلا هاء وهاء) بالمد فيهما، وفتح الهمزة، وقيل: بالكسر، وقيل: بالسكون، وحكي القصر بغير همز، وخطأها الخطابي، ورد عليه النووي، وقال: هي صحيحة، ولكن قليلة، والمعنى خذ وهات، وحكي "هاك" بزيادة كاف مكسورة، ويقال: "هاء" بكسر الهمزة، بمعنى هات، وبفتحها بمعنى خذ، بغير تنوين. وقال ابن الأثير: "هاء وهاء" هو أن يقول كل واحد من البيعين" هاء، فيعطيه ما في يده، كالحديث الآخر "إلا يدًا بيد" يعني مقابضة في المجلس، وقيل: معناه خذ واعط. قال: وغير الخطابي يجيز فيها السكون، على حذف العوض، ويتنزل منزلة "ها" التي للتنبيه، وقال ابن مالك: "ها" اسم فعل، بمعنى خذ. (في حلقة فيها مسلم بن يسار) أي في حلقة علم، ولعل مسلم بن يسار كان يحدثهم حتى يأتي شيخ الحلقة. (حدث -أخانا - حديث عبادة) "أخانا" منادى. (فمن زاد أو ازداد فقد أربى) أي فمن أعطى زيادة، أو أخذ زيادة فقد فعل الربا المحرم، فدافع الزيادة، وآخذها عاصيان مرابيان، وفي الرواية الثامنة والتاسعة والعاشرة "فمن زاد أو استزاد". (فرد الناس ما أخذوا) أعاد المشترون السلع، وأعاد البائعون المقابل. (وإن رغم) بفتح الراء وكسر الغين وفتحها، أي وإن ذل معاوية، وصار كمن أنفه في التراب. (إلا ما اختلفت ألوانه) أي أصنافه، كشعير بتمر، والاستثناء من "مثلاً بمثل" كما سيأتي. (باع شريك لي ورقًا بنسيئة إلى الموسم) هذه صورة بيع فضة عاجلة مسلمة بذهب مؤجل،

وهي المعروفة بالصرف، وشرطها كما سيأتي أن تكون يدًا بيد، فشريك باع نائبًا ووكيلاً عن أبي المنهال باع فضته وسلمها بذهب نسيئة. (فجاء إلي) أي جاء شريك إلى أبي المنهال يخبره بالبيع، فقال له أبو المنهال: هذا بيع خطأ. (فقال مثل ذلك) أي قال زيد مثل ما قال البراء "ما كان يدًا بيد فلا بأس به، وما كان نسيئة فهو ربا". وفي الرواية الثالثة عشرة أن كلاً من زيد والبراء أحال أبا المنهال على الآخر، قبل أن يجيب، فلما رجع إلى كل منهما بعد الإحالة قال. فقوله "ثم قالا" أي قال كل منهما القول السابق، وهذه الزيادة. (دينًا) يعني مؤجلاً. (كيف شئنا) ظاهره بدون مماثلة في الوزن، وبدون مقابضة في المجلس، ولهذا سأل الرجل، فلم يجد الجواب. (اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر دينارًا) قال النووي: هكذا هو في نسخ معتمدة "قلادة باثني عشر دينارًا" وفي كثير من النسخ "قلادة فيها اثنا عشر دينارًا" فأصلحها بعضهم، والصواب الأول. (لا تباع حتى تفصل) بتشديد الصاد المفتوحة، أي تميز، ويعزل الذهب عن الخرز. (نبايع اليهود: الوقية الذهب بالدينارين وثلاثة) "الوقية" بضم الواو، لغة قليلة، والأشهر الأوقية، بالهمز في أوله، قال النووي: يحتمل أن مراده كانوا يتبايعون الأوقية من ذهب وخرز وغيره بدينارين أو ثلاثة، وإلا فالأوقية وزن أربعين درهمًا، ومعلوم أن أحدًا لا يبتاع هذا القدر من ذهب خالص بدينارين أو ثلاثة، وكان هذا سبب مبايعة الصحابة على هذا الوجه، ظنوا جوازه، لاختلاط الذهب بغيره، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه حرام، حتى يميز، ويباع الذهب بوزنه ذهبًا. (فطارت لي ولأصحابي قلادة) أي حصلت لنا من الغنيمة. (واجعل ذهبك في كفة) بكسر الكاف. قال النووي: قال أهل اللغة: كفة الميزان وكل مستدير، بكسر الكاف، وكفة الثوب والصائد، وكذلك كل مستطيل، بضمها، وقيل بالوجهين فيهما معًا، اهـ، وكفة الصائد حبالته، وكفة الثوب ما استدار حول الذيل وجوانبه. (إني أخاف أن يضارع) بكسر الراء، أي أن يشابه بعضه بعضًا، ويشارك بعضه بعضًا في الحكم، أي أن يكونا في معنى المتماثلين. (فقدم بتمر جنيب) بفتح الجيم، وكسر النون، نوع من أعلى أنواع التمر.

(بالصاعين من الجمع) بفتح الجيم وسكون الميم، أي المجموع من البقايا ونوافل أنواع التمر، وهو من أردأ ما يباع من التمر، وفسره في الرواية الرابعة والعشرين بأنه "الخلط من التمر" بكسر الخاء وسكون اللام، أي المخلوط من أنواع مختلفة. (وكذلك الميزان) أي لا يجوز التفاضل في الموزونات الربوية إذا اتحد جنسها، كما لم يجز التفاضل في المكيل. (بتمر برني) بفتح الباء وسكون الراء، بعدها نون، ثم ياء مشددة، وهو نوع جيد من التمر معروف، أصفر مدور، وعند أحمد "خير تمراتكم البرني، يذهب الداء، ولا داء فيه". (لمطعم النبي صلى الله عليه وسلم) في رواية البخاري "لنطعم" بضم النون، وفي رواية "ليطعم" بفتح الياء وفتح العين، بينهما طاء ساكنة. (أوه. عين الربا) المراد بعين الربا نفس الربا، وكلمة "أوه" ذكرت هنا مرة واحدة، وفي البخاري ذكرت مرتين، وهي كلمة تقال عند التوجع والتحزن، وفيها لغات، أشهرها في الروايات "أوه" بفتح الهمزة، وواو مفتوحة مشددة، بعدها هاء ساكنة، وتقال بنصب الهاء منونة، ويقال "أوه" بإسكان الواو، وكسر الهاء، منونة وغير منونة، ويقال "أوه" بكسر الواو، وسكون الهاء، ويقال "أو" بحذف الهاء وتشديد الواو المكسورة المنونة، ويقال "آه" بمد الهمزة، وتنوين الهاء مكسورة، وساكنة، ومن العرب من يمد الهمزة، ويجعل بعدها واوين، ثم هاء "آووه" قيل: لتطويل الصوت بالشكاية، قال ابن التين: إنما تأوه صلى الله عليه وسلم ليكون أبلغ في الزجر، وقاله إما للتألم من هذا الفعل، وإما من سوء الفهم. (إذا رابك من تمرك شيء فبعه) يقال راب الرجل يروب روبًا إذا تحير وفترت نفسه، ويقال: رابه الأمر، أي أوقعه في الظن والشك. (فأنكرت ذلك لقولهما) أي أنكرت قول أبي سعيد، بسبب ما سمعته من قول ابن عمر وابن عباس. (وكان تمر النبي صلى الله عليه وسلم هذا اللون) أي هذا الصنف، وأشار إلى صنف رديء. (فكرهه) أي فرجع عن فتواه الأولى، وكره ما أجازه. (أرأيت هذا الذي تقول) أي أخبرني عن هذا الذي تقوله، وفي الرواية المتممة للثلاثين "أرأيت قولك في الصرف" والمراد من الصرف هنا صرف الدنانير بدنانير والدراهم بدراهم، الجنس بجنسه من كبير إلى صغير، كما هو واضح من الرواية السابعة والعشرين. (كلا. لا أقول) هكذا هو في النسخ التي بين يدي، في الرواية المتممة للثلاثين، ونقل الحافظ

ابن حجر عن مسلم بلفظ "كل ذلك لا أقول" وهكذا رواه البخاري. قال الحافظ: بنصب "كل" على أنه مفعول مقدم، وهو في المعنى نظير قوله عليه الصلاة والسلام في حديث ذي اليدين "كل ذلك لم يكن" فالمنفي هو المجموع، اهـ. (وأما كتاب اللَّه فلا أعلمه) أي لا أعلم هذا الحكم فيه، فالضمير يعود على الحكم، وليس على "كتاب اللَّه". -[فقه الحديث]- أجمع المسلمون على تحريم الربا، وعلى أنه من الكبائر، وحكى الماوردي أنه كان محرمًا في جميع الشرائع. والقرآن الكريم صريح في أن اليهود أكلوه وهو محرم عليهم، إذ يقول {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرًا * وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابًا أليمًا} [النساء: 160، 161]. والأصل في تحريمه قوله تعالى {وأحل الله البيع وحرم الربا} [البقرة: 275] وقوله تعالى {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} [البقرة: 275] وقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون} [البقرة: 278، 279]. وقوله صلى الله عليه وسلم "لعن الله آكل الربا وموكله ... " الحديث روايتنا الواحدة والثلاثون، والثانية والثلاثون. وكان الربا في الجاهلية يوم نزلت هذه الآيات الزيادة في المال بزيادة الأجل، وكان أحدهم إذا حل أجل دينه، ولم يوفه الغريم أضعف له المال، وأضعف الأجل، ثم يفعل كذلك عند الأجل الآخر، وهو معنى قوله تعالى {لا تأكلوا الربا أضعافًا مضاعفة} [آل عمران: 130] فكان قوله تعالى {وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم} مبينًا المراد من التحريم، وهو الزيادة مطلقًا على رأس المال، وجاءت السنة، فبينت وأضافت الأصناف الواردة في هذه الأحاديث على ما كان معهودًا من الربا. والخلاف بين العلماء - بعد إجماعهم على تحريم ما نصت عليه السنة - في هل السنة مفسرة للمجمل؟ وكل ما جاءت به السنة من أحكام الربا بيان لمجمل القرآن؟ نقدًا، أو نسيئة؟ أم ما جاءت به السنة أحكام زائدة، مضافة إلى ما جاء به القرآن؟ ثم هل يقاس على ما جاءت به السنة ما في معناه؟ أو يلتزم فقط بما نصت عليه السنة؟ ثم هل التعامل بالربا حرام مع المحاربين وفي دار الحرب؟ أو حرمته خاصة بدار الإسلام ومع غير المحاربين؟ وسيأتي قريبًا تفصيل هذا الخلاف. والعجيب أن بعض الجهلة المتحللين المغرضين يحاولون تحليل الربا بتغيير اسمه، ظنًا منهم أن

تغيير الاسم يغير المسمى، فيطلقون على المعاملات الربوية للبنوك في هذه الأيام إطلاقات من خيالهم، وواقع هذه المعاملة أن يودع شخص في البنك مبلغًا، ويتفق مع البنك على أخذ زيادة عن المبلغ بنسبة معينة كل شهر أو كل عام، ويقوم البنك بإقراض هذه المبالغ لآخرين بزيادة أكثر، يستفيد البنك من هذا الفرق. مرة يطلقون عليه إنه ليس من ربا الجاهلية، لأن ربا الجاهلية كان دينًا لا زيادة فيه في العام الأول، وتبدأ الزيادة بعد حلول الأجل، وهذه التفرقة لا يقبلها عاقل، إذ كيف تحرم الزيادة التي تحدث بعد عام؟ ولا تحرم الزيادة التي تبدأ من اليوم؟ ومرة يقولون: إن ما يأخذه البنك ليس دينًا، لأن المودع يعطي البنك باختياره، ويرد البنك بنفسه هذا القول، إذ يكتب في دفاتره وفي أوراقه المتعامل بها بين الطرفين (دائن ومدين) ثم إذا جاز هذا بالنسبة للمودع، فماذا يقولون للمقترض من البنك؟ ومرة يقولون: إن علة تحريم الربا استغلال حاجة المحتاج، وليس في معاملة البنوك استغلال حاجة المحتاج، وهو قول ظاهر البطلان، فالمودع محتاج للإيداع، والمقترض محتاج للقرض، والبنك محتاج لكل منهما، وإلا لما قام، والكل يستغل حاجة المحتاج، ومرة يقولون: إنها شركة ومضاربة، وإن فقدت الصيغة الشرعية، والرد عليهم أن الشركة أو المضاربة تقوم على تحمل المكسب والخسارة، والمودع في البنك لا يتحمل الخسارة، ثم ماذا يقولون حين إقراض البنك هذه المبالغ لمحتاج ينفقها في حلال أو حرام؟ هل البنك يكون مشاركًا للمقترض في مشاريعه؟ ربحت أو خسرت؟ ومرة يقولون: إنها معاملة حديثة، لم تكن موجودة، فلا يحكم عليها بالتحريم، ولا بالربا، وهذا أعجب مما مضى، فهو يشبه قولنا: أنا لم أكن موجودًا، فلا يسري علي حكم أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. ذكرت هذه الشبهات والرد عليها لأنها مثارة في مصر في هذه الأيام. والله الهادي سواء السبيل. والأعيان التي نصت الأحاديث على تحريم الربا فيها هي: الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح، قال النووي في المجموع: أجمع المسلمون على تحريم الربا في هذه الأعيان الستة، المنصوص عليها، واختلفوا فيما سواها، فقال داود الظاهري وسائر أهل الظاهر والشيعة والفاساني وسائر ثقات الناس: لا تحريم في الربا في غيرها، وحكاه صاحب الحاوي عن طاووس ومسروق والشعبي وقتادة وعثمان البتي. وقال سائر العلماء: لا يتوقف تحريم الربا عليها، بل يتعداها إلى ما في معناها، وهو ما وجدت فيه العلة التي هي سبب التحريم، واختلفوا فيها. فأما الذهب والفضة: فالعلة عند الشافعي فيهما كونهما جنس الأثمان غالبًا - وقوله "غالبًا" احتراز عن الفلوس لو راجت، وصارت أثمانًا، وهذه العلة قاصرة على الذهب والفضة، ويدخل فيها الأواني والتبر وغير ذلك. وقال أبو حنيفة: العلة فيها الوزن في جنس واحد، فألحق بها كل موزن، كالحديد والنحاس والرصاص والقطن والكتان والصوف وكل ما يوزن في العادة، لكنه قال: إن المضروب من النحاس والحديد والرصاص لا ربا فيه، بل يجوز بيع بعضه ببعض متفاضلاً، وإنما الربا في هذه الأصناف في

التبر منها [أي الخام]، واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم في الرواية المتممة للعشرين "وكذلك الميزان" وأجاب الشافعية عن الحديث بأجوبة، منها جواب البيهقي، قال: قد قيل: إن قوله "وكذلك الميزان" من كلام أبي سعيد الخدري، موقوف عليه فلا يستدل به، الثاني جواب القاضي أبي الطيب وآخرين، أن ظاهر الحديث غير مراد، فإن الميزان نفسه [الآلة] لا ربا فيه فأرادوا به الموزون، وأرادوا شموله وعمومه لكل موزون، وهذه الدعوى غير صحيحة وغير مقبولة: أنه يحمل الموزون على الذهب والفضة، جمعًا بين الأدلة. وأما الأعيان الأربع فالعلة فيها عند الشافعي في الجديد وهو مذهب أحمد وابن المنذر، أنها مطعومة بدليل الرواية التاسعة عشرة، وفيها "الطعام بالطعام مثلاً بمثل" والطعام اسم لكل ما يطعم، فعلى هذا يحرم الربا في كل ما يطعم من الأقوات والأدام والحلاوات والفواكه والأدوية. وعند الشافعي في القديم: العلة فيها أنها مطعومة مكيلة، أو مطعومة موزونة، فلا يحرم إلا في مطعوم يكال أو يوزن، فنفاه عن كل ما لا يؤكل ولا يشرب، وعما يؤكل أو يشرب لكنه لا يكال ولا يوزن. والعلة عند أبي حنيفة: كونه مكيل جنس، فحرم الربا في كل مكيل وإن لم يؤكل كالجص، ونفاه عما لا يكال ولا يوزن، وإن كان مأكولاً. والعلة عند مالك: كونه مقتاتًا مدخر جنس، فحرم الربا في كل ما كان قوتًا مدخرًا، ونفاه عما ليس بقوت كالفواكه، وعما هو قوت لا يدخر كاللحم: والعلة عند ابن سيرين وبعض الشافعية: الجنسية، فحرموا الربا في كل شيء بيع بجنسه، كالتراب بالتراب متفاضلاً، والثوب بالثوبين، والشاة بالشاتين. والعلة عند ربيعة: كونه جنسًا تجب فيه الزكاة، فحرم الربا في كل جنس تجب فيه الزكاة من المواشي والزروع وغيرها، ونفاه عما لا زكاة فيه. وهناك أقوال أخرى في العلة وما تنطبق عليه، في ذكرها طول لا يناسب المقام. أحوال بيع الربوي وأحكامه: لبيع الربوي ثلاثة أحوال: أحدها: أن يبيعه بجنسه، فيحرم فيه ثلاثة أشياء التفاضل، والنساء، والتفرق قبل التقابض، وهو صريح الأحاديث "مثلاً بمثل، يدًا بيد" وظاهر الرواية السابعة والعشرين والروايات الثلاث بعدها أن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما كانا أولاً يعتقدان أنه لا ربا فيما كان يدًا بيد، وأنه يجوز بيع درهم بدرهمين، ودينار بدينارين، وصاع تمر بصاعين من التمر، وكذا الحنطة، وسائر الربويات، كانا يريان جواز بيع الجنس بعضه ببعض متفاضلاً وأن الربا لا يحرم في شيء من الأشياء إلا إذا كان نسيئة، وهذا معنى قوله في الرواية الخامسة والعشرين والسادسة والعشرين أنه سألهما عن الصرف، فلم يريا به بأسًا، يعني الصرف متفاضلاً، كدرهم بدرهمين، وكان معتمدهما حديث أسامة بن زيد - روايتنا الثامنة والعشرين -" إنما الربا في النسيئة" ثم رجع ابن عمر وابن عباس عن ذلك، وقالا بتحريم بيع الجنس بعضه ببعض متفاضلاً، حين بلغهما حديث أبي سعيد، وقد جاء رجوعهما عن ذلك صريحًا في روايتنا السادسة والعشرين، قال النووي: هذه الأحاديث التي ذكرها مسلم تدل على ابن عمر وابن عباس لم يكن بلغهما حديث النهي عن التفاضل في غير النسيئة، فلما بلغهما رجعا إليه،

وأما حديث أسامة فقد قال قائلون بأنه منسوخ بهذه الأحاديث، وقد أجمع المسلمون على ترك العمل بظاهره وهذا يدل على نسخه، وتأوله آخرون بأنه محمول على غير الربويات، كبيع الدين بالدين مؤجلاً، أو أنه محمول على الأجناس المختلفة، أو أنه مجمل، وحديث عبادة وأبي سعيد الخدري وغيرهما مبين، فوجب العمل بالمبين، وتنزيل المجمل عليه. اهـ. ثانيها: أن يبيعه جنسه، لكن بما يجمعهما علة واحدة، كالذهب بالفضة، وكالحنطة بالشعير أو بالتمر أو بالملح، فيجوز التفاضل، ويحرم النساء والتفرق قبل التقابض، لقوله في الرواية السابعة "فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدًا بيد" وقوله في الرواية الثانية عشرة "ما كان يدًا بيد فلا بأس به، وما كان نسيئة فهو ربا" وقولهما في الرواية الثالثة عشرة "نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الورق بالذهب دينًا" وموقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه وحديثه في الرواية الخامسة واضح في ذلك وصريح، قال النووي: وجوز إسماعيل بن علية التفرق عند اختلاف الجنس، وهو محجوج بالأحاديث والإجماع ولعله لم يبلغه الحديث، فلو بلغه لما خالفه. اهـ. ثالثها: أن يبيعه بغير جنسه، مما لا يجمعهما علة واحدة، كالقمح بالذهب، فيجوز التفاضل والنساء والتفرق قبل التقابض. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - من قوله "لا تبيعوا الذهب بالذهب ... إلخ" أخذ العلماء أنه يتناول جميع أنواع الذهب والورق، من جيد ورديء، وصحيح ومكسور، وحلي وتبر، وغير ذلك، وسواء الخالص والمخلوط بغيره، قال النووي: وهذا كله مجمع عليه. 2 - وأنه يستوي في تحريم الربا الرجل والمرأة والعبد والمكاتب بالإجماع. 3 - وظاهر التعميم أنه لا فرق في تحريمه بين دار الإسلام ودار الحرب، فما كان حرامًا في دار الإسلام كان حرامًا في دار الحرب، سواء جرى بين مسلمين، أو مسلم وحربي، وسواء دخلها المسلم بأمان أم بغيره. قال النووي في المجموع: هذا مذهبنا، وبه قال مالك، وأحمد وأبو يوسف والجمهور، وقال أبو حنيفة: لا يحرم الربا في دار الحرب بين المسلم وأهل الحرب، ولا بين مسلمين لم يهاجرا منها، واحتج له بحديث "لا ربا بين مسلم وحربي في دار الحرب" ولأن أموال أهل الحرب مباحة بغير عقد، فالعقد الفاسد أولى. واحتج الجمهور بعموم القرآن والسنة وأجابوا عن الحديث المذكور بأنه ضعيف. 4 - واستدل أصحاب مالك بالرواية الخامسة، وأنه لم يصح البيع مع انتظار الخادم، على أنه يشترط التقابض عقب العقد، حتى لو أخره عن العقد، وقبض في المجلس لا يصح عندهم، والجمهور يقول بصحة القبض في المجلس، وإن تأخر عن العقد يومًا أو أيامًا ما لم يتفرقا. وليس في هذا الحديث حجة لأصحاب مالك، لأنه يحتمل أن طلحة قال ذلك ظانا جوازه، ولم يكن بلغه حكم المسألة، فأبلغه عمر رضي الله عنه فترك المصارفة.

5 - قال ابن عبد البر: وفي هذا الحديث أن الكبير يلي البيع والشراء لنفسه، وإن كان له وكلاء وأعوان يكفونه. 6 - ومن قوله "أرنا ذهبك" وفي رواية البخاري "فتراضيا" جواز المماكسة في البيع، وتقليب السلعة، وفائدته الأمن من الغبن. 7 - وأن من العلم ما قد يخفى على الرجل الكبير، حتى يذكره غيره. 8 - وأن الإمام إذا سمع أو رأى شيئًا لا يجوز، ينهى عنه، ويرشد إلى الحق، ويتفقد أحوال الرعية. 9 - وأن من أفتى بحكم، حسن أن يذكر دليله. 10 - وفي حلف عمر رضي الله عنه جواز اليمين لتأكيد الخبر. 11 - وفيه الحجة بخبر الواحد. 12 - وأن الحجة على من خالف في حكم من الأحكام التي في كتاب الله أو في حديث رسوله. 13 - وفي قوله "البر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعيير ربا إلا هاء وهاء". دليل ظاهر على أن البر والشعير صنفان، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة والثوري وفقهاء المحدثين وآخرين، وقال مالك والليث والأوزاعي ومعظم علماء المدينة والشام من المتقدمين: إنهما صنف واحد، وهو محكي عن عمر وسعيد وغيرهما من السلف رضي الله عنهم، واستدلوا بقوله "الطعام بالطعام مثلاً بمثل" في روايتنا التاسعة عشرة، فقالوا: لا يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلاً. واحتج الشافعي والجمهور بما سبق، وقالوا: يجوز التفاضل بينهما كالحنطة والأرز. واتفقوا على أن الدخن صنف، والذرة صنف، والأرز صنف، إلا الليث وابن وهب، فقالا: هذه الثلاثة صنف واحد. 14 - وفي الرواية السادسة، من قوله "فرد الناس ما أخذوا" دليل على أن البيع المذكور باطل. 15 - وفي موقف عبادة بن الصامت رضي الله عنه الاهتمام بتبليغ السنن، ونشر العلم، وإن كرهه من كرهه. 16 - وفيه القول بالحق، وإن كان المقول له كبيرًا. 17 - وأخذ بعضهم من قوله "الآخذ والمعطي فيه سواء" في الرواية الثامنة مساواتهما في الإثم، والتحقيق أن المراد أنهما سواء في أصل الإثم، لا في مقداره. 18 - ومن الرواية الثانية عشرة من قوله "باع شريك لي ورقًا بنسيئة إلى الموسم" استنبط البخاري الاشتراك في الذهب والفضة. قال ابن بطال: أجمعوا على أن الشركة الصحيحة أن يخرج كل واحد مثل ما أخرج صاحبه، ثم يخلطا ذلك، حتى لا يتميز، ثم ينصرفا جميعًا، إلا أن يقيم كل واحد منهما الآخر مقام نفسه، وأجمعوا على أن الشركة بالدراهم والدنانير جائزة، لكن اختلفوا إذا كانت الدنانير من أحدهما،

والدراهم من الآخر، فمنعه الشافعي ومالك في المشهور عنه والكوفيون إلا الثوري، وزاد الشافعي أيضًا أن لا تختلف الصفة، كالصحاح والمكسرة. 19 - ومن الرواية الثانية عشرة والثالثة عشرة ما كان عليه الصحابة من التواضع، وإنصاف بعضهم بعضًا، ومعرفة أحدهم حق الآخر. 20 - واستظهار العالم في الفتيا بنظيره في العلم. 21 - وفي حديث فضالة، روايتنا الخامسة عشرة والسادسة عشرة والسابعة عشرة والثامنة عشرة أنه لا يجوز بيع ذهب مع غيره، بذهب، حتى يفصل، فيباع الذهب بوزنه ذهبًا، ويباع الآخر بما أراد، وكذا لا تباع فضة مع غيرها بفضة، وكذا الحنطة مع غيرها بحنطة، وكذا سائر الربويات، بل لا بد من فصلها، قال النووي: وهذه هي المسألة المشهورة في كتب الشافعي وأصحابه وغيرهم، المعروفة بمسألة "مد عجوة" وصورتها بيع مد عجوة ودرهم بمدي عجوة، أو بدرهمين، وهو لا يجوز لهذا الحديث، وهو منقول عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابنه وجماعة من السلف، وهو مذهب الشافعي وأحمد وإسحق ومحمد بن الحكم المالكي، وقال أبو حنيفة والثوري والحسن بن صالح: يجوز بيعه بأكثر مما فيه من الذهب، ولا يجوز بمثله، ولا بدونه، وقال مالك وأصحابه وآخرون: يجوز بيع السيف المحلى بذهب، يجوز بيعه بذهب إذا كان الذهب في المبيع تابعًا لغيره، وقدروه بأن يكون الثلث فما دونه، وقال حماد بن أبي سليمان: يجوز بيعه بالذهب مطلقًا، سواء باعه بمثله من الذهب أو أقل منه، أو أكثر. وهذا غلط مخالف لصريح الحديث. واحتج أصحابنا بحديث القلادة، وأجابت الحنفية بأن الذهب كان فيها أكثر من اثنى عشر دينارًا، واشتراها باثني عشر دينارًا، قالوا: ونحن لا نجيز هذا، وإنما نجيز البيع إذا باعها بذهب أكثر مما فيها، فيكون ما زاد من الذهب المنفرد في مقابلة الخرز ونحوه، مما هو مع الذهب المبيع، فيصير كعقدين، وأجاب الطحاوي بأنه إنما نهي عنه لأنه كان في بيع الغنائم، لئلا يغبن المسلمون في بيعها. قال النووي: قال أصحابنا: وهذان الجوابان ضعيفان، لا سيما جواب الطحاوي، فإنه دعوى مجردة. قال أصحابنا: ودليل صحة قولنا، وفساد التأويلين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يباع حتى يفصل" وهذا صريح في اشتراط فصل أحدهما عن الآخر في البيع، وأنه لا فرق بين أن يكون الذهب المبيع قليلاً أو كثيرًا، وأنه لا فرق بين بيع الغنائم وغيرها. 22 - ومن الرواية المتممة للعشرين، من قوله "بيعوا هذا، واشتروا بثمنه من هذا" أخذ الشافعية وموافقوهم أن العينة ليست بحرام، وهي الحيلة التي يعملها بعض الناس، توصلاً إلى مقصود الربا، بأن يريد أن يعطيه مائة درهم بمائتين، فيبيعه ثوبًا بمائتين، ثم يشتريه منه بمائة، قال النووي: وموضع الدلالة من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بيعوا هذا، واشتروا بثمنه من هذا" ولم يفرق بين أن يشتري من المشتري، أو من غيره، فدل على أنه لا فرق، وهذا كله ليس بحرام عند الشافعي وآخرين، وقال مالك وأحمد: هو حرام. 23 - وفي قوله "هذا الربا. فردوه" في الرواية الثالثة والعشرين، دليل على أن المقبوض ببيع فاسد

يجب رده على بائعه، وإذا رده استرد الثمن، قال النووي: فإن قيل: فلم لم يذكر في الحديث السابق (روايتنا المتممة للعشرين والواحدة والعشرين والثانية والعشرين) أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برده؟ فالجواب: أن الظاهر أنها قضية واحدة، وأمر فيها برده، فبعض الرواة حفظ ذلك، وبعضهم لم يحفظه، فقبلنا زيادة الثقة، ولو ثبت أنهما قضيتان لحملت الأولى على أنه أيضًا أمر به، وإن لم يبلغنا ذلك، ولو ثبت أنه لم يأمر به، مع أنهما قضيتان لحملناها على أنه جهل بائعه، ولا يمكن معرفته، فصار مالاً ضائعًا لمن عليه دين بقيمته، وهو الثمن الذي قبضه عوضًا، فلا إشكال في الحديث. 24 - وفي قصة أبي سعيد مع ابن عمر وابن عباس أن العالم يناظر العالم، ويوقفه على معنى قوله، ويرده من الاختلاف إلى الاجتماع، ويحتج عليه بالأدلة. 25 - وفيه إقرار الصغير للكبير بفضل التقدم. 26 - وفي الرواية الواحدة والثلاثين والثانية والثلاثين تصريح بتحريم كتابة المبايعة بين المترابيين، والشهادة عليهما. 27 - وفيهما تحريم الإعانة على الباطل. واللَّه أعلم

(417) باب الحلال بين والحرام بين، وبينهما متشابهات

(417) باب الحلال بين والحرام بين، وبينهما متشابهات 3604 - عن الشعبي عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال سمعته يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (وأهوى النعمان بإصبعيه إلى أذنيه) "إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه. ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام. كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه. ألا وإن لكل ملك حمى. ألا وإن حمى الله محارمه. ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب". 3605 - عن عامر الشعبي أنه سمع نعمان بن بشير بن سعد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الناس بحمص وهو يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "الحلال بين والحرام بين" فذكر بمثل حديث زكرياء عن الشعبي إلى قوله "يوشك أن يقع فيه". -[المعنى العام]- يقول اللَّه تعالى {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [البقرة: 188] ويقول عن الرسول صلى الله عليه وسلم: {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف: 157] وإن اللَّه يغار على حرماته، ويغضب إذا ارتكبت محارمه، وما لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى إلا كانت الشريعة واضحة المعالم، حلالها وحرامها، إذ يقول: "تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها" وهنا يقول "الحلال بين، والحرام بين" كل المسلمين يعلمون الحلال من المأكل والمشرب والملبس والمركب والنكاح والمعاملات وما يحتاجونه في حياتهم، ومن خفي عليه منهم حكم وجد العلماء والراسخين في العلم بجواره، وهم كثيرون بحمد الله، مستجيبون لكل سائل في ليل أو نهار، دون مقابل، فتلك رسالتهم، وهذا واجبهم، فلا عذر لجاهل أو متجاهل، ولا عذر لمشتبه في الأحكام، فقد ترك صلى الله عليه وسلم

فينا ما إن تمسكنا به لن نضل بعده أبدًا، كتاب الله وسنته، نعم هناك بعض الأمور القليلة يخفى حكمها على العامة، ويترددون في حلها وحرمتها، بل قد يخفى حكمها على غير الراسخين في العلم، فيبدو خلاف فيها بين العلماء، منهم من يحلها، ومنهم من يحرمها، وواجب الكل حينئذ اتقاؤها، والبعد عنها، كأنها محرمة باتفاق وبظهور، دون إخفاء، فإن كانت في حقيقة الأمر محرمة فقد برئ منها، واجتنبها، وبعد عنها، وإن كانت في حقيقة الأمر حلالاً، وبعد عنها خوفًا من الوقوع في الحرام، أثيب على هذا القصد، ونال أجرًا، فالبعد عنها مكسب على كل حال والوقوع فيها خسارة على كل حال، إن كانت حرامًا ووقع فيها، فالويل له، وإن كانت حلالاً، ووقع فيها تجرأ على الوقوع في أمثالها، وتساهل في الشبهات، ولم يتحرز عما هو قريب من المحرمات، فيقع في الحرام من غير قصد، والعاقل من ترك ما يريبه، ويشك فيه، وعمل بما لا يريبه، ولا يشك فيه، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به، حذرًا مما به البأس" وطهارة القلب، وإبعاده عن الريب والشك أفضل الطاعات. -[المباحث العربية]- (الحلال بين والحرام بين) أي الأمور التي حكمها الحل ظاهرة بحكمها، في ذاتها، ووصفها، وأدلة حكمها ظاهرة، وكذا الأمور التي حكمها الحرمة، فأكل الخبز والفواكه والعسل والسمن ولبن مأكول اللحم، ولبس ثياب القطن بألوانها، والجلوس والوقوف والمشي والنوم، كل هذه أمور ظاهرة الحل، وشرب الخمر وأكل الخنزير والميتة والزنا والكذب وأشباه ذلك أمور ظاهرة الحرمة، فلفظ "الحلال" مراد به الذات الموصوفة بهذا الوصف، وقد يراد الحكم نفسه والوصف، فيكون المعنى: الحل في هذه الأمور بين، والحرمة في تلك الأمور بينة، ومعنى ظهورها أنه يعلمها العامة والخاصة من الناس، وإن جهل بعضها الشواذ من البشر. (وبينهما مشتبهات) بسكون الشين وفتح التاء وكسر الباء، أي أمور مكتسبات الشبه بالحلال، ومكتسبات الشبه بالحرام، وفي رواية للبخاري "وبينهما أمور مشتبهة" بسكون الشين وفتح التاء وكسر الباء وفتحها، وفي رواية للبخاري "وبينهما مشبهات" بفتح الشين، وفتح الباء المشددة، أي شبهها الناس بالحلال تارة، وبالحرام أخرى، لخفاء حكمها، فصار حكمها غير واضح على التعيين، وفي رواية الدارمي "وبينهما متشابهات" أي اكتسبت التشابه بالأمرين المتضادين، والمعاني في الألفاظ المختلفة متقاربة، وسيأتي في فقه الحديث آراء العلماء في المراد بها. (لا يعلمهن كثير من الناس) أي لا يعلم حكمهن، وجاء واضحًا في رواية الترمذي بلفظ "لا يدري كثير من الناس أمن الحلال هي؟ أم من الحرام؟ " ومفهوم "كثير" أن معرفة حكمها ممكن وواقع، يعلمه القليل من الناس، وهم العلماء المتخصصون المجتهدون، فهي شبهات - على هذا - في حق غيرهم، أما في حقهم فتصبح بينة الحل أو الحرمة، ويمكن أن يراد بالكثير الكل، أو يعطل المفهوم، ويراد بالمتشابهات أمور قليلة تعارضت أدلتها، فلم يظهر للمجتهد ترجيح أحدها، وتكون

الحكمة من وجودها كذلك في التشريع أن تكون شاهدًا على قصور العقل البشري، فلا يغتر، ولا يتمرد، ويستسلم، ويعترف بصحة قوله تعالى {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} [الإسراء: 85] {وفوق كل ذي علم عليم} [يوسف: 76] وهذان القولان يتساوقان مع قوله تعالى {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به، كل من عند ربنا} [آل عمران: 7] فالرأي الأول يتفق مع من وقف على {والراسخون في العلم} أي يعلمون تأويله، والرأي الثاني يتفق مع من وقف على {وما يعلم تأويله إلا الله} أي والراسخون في العلم لا يعلمون تأويله، ويسلمون به. (فمن اتقى الشبهات) أي جعل بينه وبين الوقوع فيها وقاية، أي من بعد عنها، وحذر منها، ومن الوقوع فيها، واستوثق في دراستها للعلم بحكمها و"الشبهات" بضم الشين وضم الباء، جمع شبهة، وفي رواية للبخاري "فمن اتقى المشبهات". (استبرأ لدينه وعرضه) السين والتاء للطلب، أي طلب البراءة والنقاء لدينه من النقص، ولعرضه من الطعن فيه - وعرض الإنسان موضع الذم والمدح فيه - أو للصيرورة، أي صار دينه بريئًا نقيًا من النقص، وصار عرضه بعيدًا عن الطعن، لأن من لم يعرف باجتناب الشبهات لم يسلم من طعن الطاعنين. (ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام) أي عرض نفسه للوقوع في الحرام، وفي رواية للبخاري "فمن ترك ما شبه عليه من الإثم، كان لما استبان له أترك، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان" وفي التشبيه الآتي زيادة إيضاح. (كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه) في رواية للبخاري "كراع يرعي حول الحمى، يوشك أن يواقعه" والمراد من الحمى المكان المحمي. (ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه) كان ملوك العرب يجمعون لمراعي مواشيهم أماكن مختصة، يتوعدون من يرعى فيها بغير إذنهم، بالعقوبة الشديدة، فمثل لهم النبي صلى الله عليه وسلم بما هو مشهور عندهم، فالخائف من العقوبة، المراقب لرضا الملك، يبتعد عن ذلك الحمى، خشية أن تقع مواشيه في شيء منه، فبعده أسلم له، مهما اشتد حذره، وغير الخائف، غير المراقب يقرب منه، ويرعى من جوانبه، فلا يأمن أن تنفرد ماشية شاردة، فتقع فيه بغير اختياره، أو يمحل المكان الذي هو فيه، ويرى الخصب في الحمى، فلا يملك نفسه أن يقع فيه لاعتياده التساهل، فالله سبحانه وتعالى هو الملك حقًا، وحماه محرماته، من قرب منها بالوقوع في الشبهات قرب من الوقوع في الحرام. قال الحافظ ابن حجر: وقد ادعى بعضهم أن التمثيل من كلام الشعبي، وأنه مدرج في الحديث، وتردد ابن عون الراوي عن الشعبي - في رفعه، وقال: لا أدري المثل من قول النبي صلى الله عليه وسلم؟ أو من قول

الشعبي؟ قال الحافظ: وتردد ابن عون في رفعه لا يستلزم كونه مدرجًا، لأن الأثبات قد جزموا باتصاله ورفعه، فلا يقدح شك بعضهم فيه، وكذلك سقوط المثل من رواية بعض الرواة، ومما يقوي عدم الإدراج ثبوت المثل مرفوعًا في رواية ابن عباس وعمار بن ياسر أيضًا. اهـ. ولفظ "ألا" للتنبيه على صحة ما بعدها وتأكيده، وتكريرها للإشارة إلى عظم شأن ما بعدها. والمراد من المحارم المحرمات، أي فعل الشيء المحرم، أو ترك الواجب المأمور به، وقد ثبتت الواو بين "ألا" وما بعدها في روايتنا، وسقطت في بعض الروايات، كما سقط من روايتنا ورواية للبخاري لفظ "في أرضه". (ألا وإن في الجسد مضغة) المضغة القطعة من اللحم، قدر ما يمضغ، قالوا: المراد تصغير القلب بالنسبة إلى باقي الجسد، مع أن صلاح الجسد وفساده تابعان للقلب. (إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله) قال أهل اللغة: يقال: صلح الشيء وفسد بفتح اللام، وفتح السين، وضمهما، والفتح أفصح وأشهر. (ألا وهي القلب) خص القلب بذلك لأنه أمير البدن، وبصلاح الأمير تصلح الرعية، وبفساده تفسد، والمراد به ما يتعلق به من قدرة الفهم، وسيأتي في فقه الحديث أقوال العلماء في مكان قدرة الإدراك والفهم. (يخطب الناس بحمص) ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث، مدينة بالشام، وفي رواية "بالكوفة" مدينة بالعراق، قال الحافظ ابن حجر: ويجمع بينهما بأنه سمع منه مرتين، فإنه ولي إمرة البلدين، واحدة بعد الأخرى. -[فقه الحديث]- قال النووي: أجمع العلماء على عظم وقع هذا الحديث، وكثرة فوائده، وأنه أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، وقال جماعة: هو ثلث الإسلام، وإن الإسلام يدور عليه، وعلى حديث "الأعمال بالنية" وحديث "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" زاد أبو داود حديث "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" وزاد بعضهم حديث "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد ما في أيدي الناس يحبك الناس" قال العلماء: وسبب عظم موقعه أنه صلى الله عليه وسلم نبه فيه على إصلاح المطعم والمشرب والملبس، وغيرها، وأنه ينبغي ترك المشتبهات، فإنه سبب لحماية الدين والعرض، ثم بين أهم الأمور، وهو مراعاة القلب. اهـ. وقال الحافظ ابن حجر: هذا الحديث فيه تقسيم الأحكام إلى ثلاثة أشياء، وهو صحيح، لأن الشيء إما أن ينص على طلبه، مع الوعيد على تركه، أو ينص على تركه، مع الوعيد على فعله، أو لا ينص على واحد منهما، فالأول الحلال البين، والثاني الحرام البين، والثالث مشتبه، لخفائه، فلا يدري هل هو حلال؟ أو هو حرام؟

ثم قال: وقد توارد أكثر المحدثين على إيراد هذا الحديث في كتاب البيوع، لأن الشبهة في المعاملات تقع فيها كثيرًا، وله تعلق أيضًا بكتاب الإيمان، وبالنكاح، وبالصيد والذبائح، والأطعمة والأشربة، وغير ذلك مما لا يخفى. ثم قال: وحاصل ما فسر به العلماء الشبهات أربعة أشياء: أحدها: تعارض الأدلة. أقول: دليل يجذبها نحو الحرام، ودليل يجذبها نحو الحلال، يجتهد في فهمها المجتهدون، فيلحقها بعضهم بالحلال إلحاقًا غير واضح، ويلحقها بعضهم بالحرام إلحاقًا غير واضح، وبعضهم يتوقف عجزًا عن إلحاقها بأحد الأمرين، والاستبراء لمن ألحقها بالحلال إلحاقًا غير واضح وغير مسلم من عامة العلماء، أن لا يقر بها بنفسه، وأن لا يعلن للناس حلها، فيقع فيها العامة على أنها حلال، والعامة في هذه الحالة لا يبرءون من المسئولية، إذا أصموا آذانهم عن المعارضين، ولم يتقوا الشبهات، قال الحافظ ابن حجر: وما كان هذا سبيله ينبغي اجتنابه لأنه إن كان في نفسه وواقع الأمر حرامًا فقد برئ من تبعته، وإن كان حلالاً فقد أجر على تركه بهذا القصد. ثانيها: اختلاف العلماء. أقول: أي الأمور التي اختلف العلماء في حكمها أحلال هي؟ أم حرام؟ اختلافًا غير مدعم، وغير مطمئن للنفس، مثير للريب والشك. قال الحافظ ابن حجر: وهذا التفسير منتزع من التفسير الأول. ثالثها: أن المراد بها مسمى المكروه، لأنه يجتذبه جانبًا الفعل والترك. رابعها: أن المراد بها المباح، ولا يمكن لقائل هذا أن يحمله على متساوي الطرفين من كل وجه، بل يمكن حمله على ما يكون من قسم خلاف الأولى، بأن يكون متساوي الطرفين باعتبار ذاته، راجح الفعل أو الترك باعتبار أمر خارج، قال بعضهم: المكروه عقبة بين العبد والحرام، فمن استكثر من المكروه تطرق إلى الحرام والمباح عقبة بينه وبين المكروه، فمن استكثر منه تطرق إلى المكروه. قال الحافظ: وهو منزع حسن، ويؤيده رواية ابن حبان "اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال، من فعل ذلك استبرأ لعرضه ودينه، ومن أرتع فيه كان كالمرتع إلى جنب الحمى، يوشك أن يقع فيه" والمعنى أن بعض الحلال حيث يخشى أن يؤول فعله مطلقاً إلى مكروه أو محرم ينبغي اجتنابه، كالإكثار مثلاً من الطيبات، فإنه يحوج إلى كثرة الاكتساب، الموقع في أخذه ما لا يستحق، أو يفضي إلى بطر النفس، وأقل ما فيه الاشتغال عن العبودية، وهذا معلوم بالعادة، مشاهد بالعيان. ثم قال: والذي يظهر لي رجحان الوجه الأول، ولا يبعد أن يكون كل من الأوجه مرادًا، ويختلف ذلك باختلاف الناس، فالعالم الفطن لا يخفى عليه تمييز الحكم، فلا يقع له ذلك إلا في الاستكثار من المباح، أو المكروه، كما تقرر قبل، ودونه تقع له الشبهة في جميع ما ذكر بحسب اختلاف الأحوال. اهـ. والتحقيق أن المكروه وخلاف الأولى اللذين أشار إليهما الحافظ ابن حجر لا يطلق عليهما شبهات مادام الحكم الشرعي بينًا واضحًا، وإن كان البعد عنهما يباعد بين المسلم وبين الحرام والكثرة منهما تقرب المسلم من الحرام، فهذا التوجيه إن استقام مع الجزء الثاني من الحديث لا

يستقيم مع الجزء الأول، والمستقيم مع الجزأين معًا هو التفسير الأول والثاني، ويؤيدهما حديث "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" أخرجه الترمذي والنسائي وأحمد وابن حبان والحاكم. والله أعلم. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - قال النووي: احتج بعضهم بهذا الحديث على أن العقل في القلب، لا في الرأس، وفيه خلاف مشهور، ومذهب أصحابنا وجماهير المتكلمين أنه في القلب، وقال أبو حنيفة: هو في الدماغ، وقد يقال: في الرأس، وحكوا الأول أيضًا عن الفلاسفة، والثاني عن الأطباء قال المازري: واحتج القائلون بأنه في القلب بقوله تعالى {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها} [الحج: 46] وقوله تعالى: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب} [ق: 37] وبهذا الحديث، فإنه صلى الله عليه وسلم جعل صلاح الجسد وفساده تابعًا للقلب، مع أن الدماغ من جملة الجسد، فيكون صلاحه وفساده تابعًا للقلب، فعلم أن الدماغ ليس محلاً للعقل، واحتج القائلون بأنه في الدماغ بأنه إذا فسد الدماغ فسد العقل، ويكون من فساد الدماغ الصرع في زعمهم، ولا حجة لهم في ذلك، لأن الله سبحانه وتعالى أجرى العادة بفساد العقل عند فساد الدماغ، مع أن العقل ليس فيه، ولا امتناع من ذلك. فقال المازري: لا سيما على أصولهم في الاشتراك الذي يذكرونه بين الدماغ والقلب، وهم يجعلون بين الرأس والمعدة والدماغ اشتراكًا. اهـ. والحق أن هذا الخلاف لا يستقيم بعد ثبوت الحقائق العلمية التشريحية بأن القوة المدركة العاقلة في الرأس، لا في القلب، أما الآيات والأحاديث التي أسندت التفكير للقلب فمن السهل توجهيها، إذ الأمور قد تنسب للسبب البعيد على الحقيقة، وللسبب القريب المباشر على الحقيقة أيضًا، فتقول: قطع الجزار اللحم، وتقول: قطع السكين اللحم، ولا شك أن القلب مصدر الحياة لجميع أعضاء الجسم، ومنها الدماغ. 2 - وفي الحديث تأكيد السعي نحو إصلاح التفكير، وحمايته من الفساد. 3 - استدل به ابن المنير على جواز بقاء المجمل بعد النبي صلى الله عليه وسلم قال الحافظ: وفي الاستدلال بذلك نظر، إلا إن أراد أنه مجمل في حق بعض دون بعض. 4 - استدل به البخاري على أن الاستبراء للعرض والدين من أمور الإيمان. 5 - وفيه حث على الورع. واللَّه أعلم

(418) باب بيع البعير واستثناء ركوبه

(418) باب بيع البعير واستثناء ركوبه 3606 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أنه كان يسير على جمل له قد أعيا فأراد أن يسيبه. قال: فلحقني النبي صلى الله عليه وسلم فدعا لي وضربه فسار سيرًا لم يسر مثله. قال "بعنيه بوقية" قلت: لا. ثم قال "بعنيه" فبعته بوقية واستثنيت عليه حملانه إلى أهلي. فلما بلغت أتيته بالجمل فنقدني ثمنه ثم رجعت. فأرسل في أثري فقال "أتراني ماكستك لآخذ جملك؟ خذ جملك ودراهمك فهو لك". 3607 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاحق بي وتحتي ناضح لي قد أعيا ولا يكاد يسير قال: فقال لي "ما لبعيرك؟ " قال: قلت: عليل قال: فتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فزجره ودعا له فما زال بين يدي الإبل قدامها يسير. قال: فقال لي "كيف ترى بعيرك؟ " قال: قلت: بخير قد أصابته بركتك قال "أفتبيعنيه؟ " فاستحييت ولم يكن لنا ناضح غيره. قال: فقلت: نعم فبعته إياه على أن لي فقار ظهره حتى أبلغ المدينة. قال: فقلت له: يا رسول الله إني عروس فاستأذنته. فأذن لي. فتقدمت الناس إلى المدينة. حتى انتهيت. فلقيني خالي فسألني عن البعير. فأخبرته بما صنعت فيه فلامني فيه. قال: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي حين استأذنته "ما تزوجت؟ أبكرًا أم ثيبًا؟ فقلت له: تزوجت ثيبًا. قال "أفلا تزوجت بكرًا تلاعبك وتلاعبها؟ " فقلت له: يا رسول الله توفي والدي (أو استشهد) ولي أخوات صغار. فكرهت أن أتزوج إليهن مثلهن. فلا تؤدبهن ولا تقوم عليهن. فتزوجت ثيبًا لتقوم عليهن وتؤدبهن. قال: فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة. غدوت إليه بالبعير، فأعطاني ثمنه، ورده علي. 3608 - عن جابر رضي الله عنه قال: أقبلنا من مكة إلى المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتل جملي. وساق الحديث بقصته. وفيه: ثم قال لي "بعني جملك هذا" قال: قلت: لا. بل هو

لك. قال "لا بل بعنيه" قال: قلت: لا. بل هو لك يا رسول الله. قال "لا بل بعنيه" قال: قلت: فإن لرجل علي أوقية ذهب فهو لك بها. قال "قد أخذته فتبلغ عليه إلى المدينة" قال: فلما قدمت المدينة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال "أعطه أوقية من ذهب. وزده" قال: فأعطاني أوقية من ذهب. وزادني قيراطًا. قال: فقلت: لا تفارقني زيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فكان في كيس لي فأخذه أهل الشام يوم الحرة. 3609 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر. فتخلف ناضحي. وساق الحديث وقال فيه: فنخسه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لي "اركب باسم الله" وزاد أيضًا: قال: فما زال يزيدني ويقول "والله يغفر لك". 3610 - عن جابر رضي الله عنه قال: لما أتى علي النبي صلى الله عليه وسلم وقد أعيا بعيري. قال: فنخسه فوثب. فكنت بعد ذلك أحبس خطامه لأسمع حديثه، فما أقدر عليه. فلحقني النبي صلى الله عليه وسلم فقال "بعنيه" فبعته منه بخمس أواق. قال: قلت: على أن لي ظهره إلى المدينة. قال "ولك ظهره إلى المدينة" قال: فلما قدمت المدينة أتيته به، فزادني وقية، ثم وهبه لي. 3611 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره (أظنه قال غازيًا). واقتص الحديث وزاد فيه: قال "يا جابر أتوفيت الثمن؟ " قلت: نعم. قال "لك الثمن ولك الجمل. لك الثمن ولك الجمل". 3612 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: اشترى مني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرًا بوقيتين ودرهم أو درهمين. قال: فلما قدم صرارًا أمر ببقرة فذبحت. فأكلوا منها. فلما قدم المدينة أمرني أن آتي المسجد فأصلي ركعتين ووزن لي ثمن البعير فأرجح لي. 3613 - عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذه القصة. غير أنه قال: فاشتراه مني بثمن قد سماه. ولم يذكر الوقيتين والدرهم والدرهمين. وقال: أمر ببقرة فنحرت، ثم قسم لحمها.

3614 - عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له "قد أخذت جملك بأربعة دنانير. ولك ظهره إلى المدينة". -[المعنى العام]- صورة إسلامية مشرقة، صورة الإمام القائد الأعظم مع جنده، أو صغار جنده، وكيف يتتبع أحوالهم، ويساعدهم، ويتفقد أمورهم الخاصة، ويسامرهم، ويرشدهم إلى مصالحهم، صورة القائد الذي يتصدر الجند في المعارك، ولا يتصدرهم في طريق العودة، بل يسير أمامهم أحيانًا، وفي وسطهم أحيانًا، وفي مؤخرتهم أحيانًا، يعين الضعيف، وينجد ذا الحاجة، صورة الإمام الأعظم الذي يعطي دون أن يمن، ودون أن يجرح المعطى. هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود من غزوة ذات الرقاع، في السنة الخامسة للهجرة، يعود بجيشه بعد نصر الله، وفي الجند جابر بن عبد الله، الصحابي المشهور، يركب جملاً له عليلاً، اشتد به الإعياء حتى لا يكاد يسير، فتخلف جابر عن آخر القوم، وكاد يترك الجمل في الصحراء، ويسير على أقدامه، وبينما هو يتدبر أمره فوجئ بمن يناديه من خلفه: جابر؟ فالتفت، فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: لبيك يا رسول الله. قال: مالك تأخرت؟ ما لبعيرك؟ قال: بعيري عليل، لا يكاد يسير، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ناقته، ونزل جابر عن جمله، أدبًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خلف بعير جابر، فنخسه في عجزه بعصاة كانت معه، فقفز البعير من النخسة، وسمع جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم، يدعو للبعير بالبركة، ثم قال: يا جابر: اركب بعيرك باسم الله. فركب جابر بعيره، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقته، وتجول بين الجند، ركب جابر بعيره، فإذا هو غير البعير، بعير يسير سيرًا لم يسر مثله قبل، بل لا يسير مثله بعير، إنه يسابق إبل القوم، إنه يسبقهم، ويسير قدامهم ومرة أخرى يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بجواره، يقول له: يا جابر. قال: لبيك يا رسول الله. قال: كيف ترى بعيرك؟ ماذا فعل؟ قال: حصلت له بركتك يا رسول الله، ها هو كأحسن بعير، بفضل دعائك، ها هو ذا يحاول سبق ناقتك، أشده من خطامه لأمنعه من الإسراع، لتتقدم علي يا رسول الله، قال: يا جابر. أتزوجت بعد وفاة أبيك؟ قال: نعم، وأن عروس، لهذا أستأذنك في أن أسبق الجيش إلى المدينة. قال: لا بأس. فماذا تزوجت؟ بكرًا؟ أم ثيبًا؟ قال: ثيبًا. قال: فلم لم تتزوج بكرًا وأنت شاب في مقتبل الشباب؟ لم لم تتزوج بكرًا تلاعبها وتلاعبك؟ لم لم تتزوج عذراء تضاحكها وتضاحكك؟ قال: لقد مات أبي شهيدًا في أحد، وترك تسعًا من البنات، منهن الصغيرة، فكرهت أن أتزوج بكرًا في سن بعضهن، فلا تستطيع خدمتهن، وتمشيطهن، وجمعهن، والقيام عليهن، فتزوجت امرأة تقوم مقام أمهن، وتدبر شئونهن. قال: أصبت. فبارك الله لك، يا جابر العقل العقل، والحكمة الحكمة في معالجتك لأمور زوجك مع أخواتك، فما أصعب هذه العلاقة. ثم قال: يا جابر أتبيعني جملك هذا؟ واستحيا جابر. بماذا يجيب؟

وليس لهم جمل يستقون عليه إلا هذا؟ قال: هو لك يا رسول الله هدية لا بيعًا. قال: لا بعنيه. قال: هو لك هدية لا بيعًا يا رسول الله قال: لا بعنيه بأوقية من الذهب. قال: لا أبيعه. قال: بعنيه بأوقية من ذهب، والله يغفر لك. قال: بعتكه. وقد كان لرجل علي أوقية من الذهب، فهي تسد الدين، لكن أتبلغ عليه حتى المدينة. قال: تبلغ عليه إلى المدينة. وسبق جابر الجيش، وضرب الرسول صلى الله عليه وسلم خيام الجيش قرب المدينة، على ثلاثة أميال منها، حتى يصل خبر الجيش وتستعد النساء للقاء الأزواج، وأصبح جابر بجمله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجده على باب المسجد، فسلمه الجمل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال، خازن بيت المال: زن له أوقية من ذهب، وزده، فوزن له أوقية وقيراطًا، ونقده، فرجع جابر إلى بيته وقبل أن يجلس جاءه من يقول له: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوك إليه. قال: سمعًا وطاعة، وأخذ يقلب الأمور. لماذا يطلبني رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وقد كنت معه منذ قليل؟ أخشى أن يكون قد غضب لترددي في الموافقة على البيع، أو أن يكون سيرد علي الجمل، ويسترد الثمن وهو غير راض عني. ووصل جابر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتظن أنني ساومتك على ثمن الجمل وبيعه لآخذه منك؟ الثمن لك، والجمل مني هدية لك. وقف جابر مشدوهًا، للمفاجأة، وأعاد صلى الله عليه وسلم: لك الثمن، ولك الجمل، ومرة أخرى وقف جابر مشدوهًا لا يصدق نفسه. ومرة أخرى يقول صلى الله عليه وسلم. لك الثمن ولك الجمل، فصدق الله العظيم {رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128]. -[المباحث العربية]- (أنه كان يسير على جمل له) في الرواية الثانية "غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلاحق بي، وتحتي ناضح لي" - أي جمل يستقى عليه - وفي الرواية السادسة "سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره" وفي روايتين لمسلم، سبقتا في كتاب النكاح - باب استحباب نكاح ذات الدين ونكاح البكر "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة". "خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة" ومن مجموع الروايات يتبين أن اللقاء في العودة من غزوة، قيل: هي غزوة ذات الرقاع، في السنة الخامسة. (قد أعيا) يقال: أعيا البعير في سيره، إذا تعب تعبًا شديدًا، وفي الرواية الثانية "ولا يكاد يسير" وفي الرواية الثالثة "فاعتل جملي" أي مرض، وفي الرواية الرابعة "فتخلف ناضحي" أي تخلف عن القوم بسبب الإعياء، وفي رواية لمسلم في كتاب النكاح "فأبطأ بي جملي" وفي أخرى هناك "وأنا على ناضح، إنما هو في أخريات الناس". (فأراد أن يسيبه) بضم الياء الأولى وفتح السين وكسر الياء المشددة، أي يتركه ويخليه يسيب ويذهب حيث يشاء، والسائبة المهملة. (فلحقني النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا لي، وضربه) في الرواية الثانية "فتلاحق بي، فقال لي: ما

لبعيرك؟ قلت: عليل. قال: فتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزجره، ودعا له" وفي الرواية الرابعة "فنخسه" أي رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخلف بعد أن كان في محاذاة جابر، فزجر الجمل بنخسه، وفي رواية لمسلم سبقت "نخسه بشيء كان معه" وفي أخرى هناك "نخس بعيري بعنزة كانت معه" والعنزة بفتح العين والنون عصا في نحو نصف الرمح في أسفلها حديدة، وفي أخرى هناك أيضًا "فنزل فحجنه بمحجنة، ثم قال: اركب. فركبت" والمحجن بكسر الميم عصا في رأسها اعوجاج. والحاصل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحيانًا يسير في مقدمة أصحابه، وأحيانًا يتوسطهم، وأحيانًا يتأخر إلى المؤخرة، ليساعد ضعيفهم، كما في هذه القضية، فلما تأخر عن القوم جاء جابرًا من خلفه، حتى حاذاه، فسأله عن سر تأخره، فشكا إليه جمله، فنزل صلى الله عليه وسلم عن جمله، ونزل جابر، فتأخر صلى الله عليه وسلم إلى الجمل من الخلف، وضربه ضربة خفيفة، كالنخس، فوثب الجمل، فدعا للجمل، ثم قال لجابر: اركب فركب وركب صلى الله عليه وسلم، وأخذ يؤنس جابرًا ويسأله عن حاله. (فسار سيرًا لم يسر مثله) من الحسن والسرعة والنشاط. في الرواية الثانية "فما زال - أي البعير - بين يدي الإبل - أي أمامها - قدامها يسير" وفي الرواية الخامسة "فكنت بعد ذلك أحبس خطاه - أي أشد الحبل المربوط في رأسه وأنفه، وهو الزمام - لأسمع حديثه صلى الله عليه وسلم، فما أقدر عليه - فأسرع مرة وسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلحقني النبي صلى الله عليه وسلم" وفي رواية عند مسلم سبقت "فانطلق بعيري كأجود ما أنت راء من الإبل" وفي أخرى هناك "فلقد رأيتني أكفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي أخرى هناك أيضًا "فجعل - الجمل - بعد ذلك يتقدم الناس، ينازعني، حتى إني لأكفه". (قال: بعنيه بوقية. قلت: لا ثم قال: بعنيه. فبعته بوقية) وفي الرواية الثانية "قال: أفتبيعنيه؟ فاستحييت، ولم يكن لنا ناضح غيره" وفي الرواية الثالثة "بعني جملك هذا. قال: قلت: بل هو لك. قال: لا. بل بعنيه. قال: قلت: لا. بل هو لك يا رسول الله. قال: لا. بل بعنيه. قال: قلت: فإن لرجل علي أوقية ذهب، فهو لك بها" وفي الرواية الخامسة "فقال: بعنيه. فبعته منه بخمس أواق" وفي الرواية السابعة "اشترى مني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرًا بوقيتين ودرهم أو درهمين" وفي الرواية التاسعة "أخذت جملك بأربعة دنانير" وفي رواية "أحسبه بأربع أواق" زادها البخاري وزاد "بثمانمائة درهم" وفي رواية "بعشرين دينارًا" والظاهر أن جابرًا رفض البيع أولاً، لأنه لم يكن لهم ناضح سواه، ولذلك لامه خاله عندما قابله في المدينة، كما في الرواية الثانية، ثم لما أعاد صلى الله عليه وسلم الطلب قال: هو لك بدون ثمن، فلما أصر صلى الله عليه وسلم قال له جابر: إنه مدين بأوقية من الذهب لرجل، وأنه يبيع بهذه الأوقية، فالرسول صلى الله عليه وسلم عرض الثمن أولاً، وقبل جابر وأعلنه أخيرًا. أما اختلاف الروايات في الثمن، فعنه يقول النووي: وسبب اختلاف هذه الروايات أنهم رووا بالمعنى، وهو جائز، فالمراد وقية ذهب، كما فسر في الرواية الثالثة، ويحمل عليه رواية من روى "أوقية" مطلقًا، وأما من روى "خمس أواق" فالمراد خمس أواق من الفضة، وهي بقدر قيمة أوقية الذهب في ذلك الوقت، فيكون الإخبار بأوقية الذهب عما وقع به العقد، وعن أواق الفضة عما حصل به الإيفاء [وهذا غير مسلم، فالإيفاء تم بأوقية ذهب، كما هو صريح الرواية الثالثة] ويحتمل أن يكون

هذا كله زيادة على الأوقية، كما قال: "فما زال يزيدني" في الرواية الرابعة [وهذا أيضًا غير مسلم، إذ لو زاده في العقد لزاده في الوفاء، ولعل معنى "فما زال يزيدني" طلبًا للبيع ويكرره] وأما رواية "أربعة دنانير" فموافقة أيضًا، لأنه يحتمل أن أوقية الذهب حينئذ وزن أربعة دنانير، وأما رواية "أوقيتين" فيحتمل أن إحداهما وقع بها البيع، والأخرى زيادة، كما قال: "فزادني وقية" في الرواية الخامسة [وهذا غير مسلم، لما هو ثابت عند الوفاء] وقوله "ودرهم أو درهمين" في الرواية السابعة موافق لقوله: "وزادني قيراطًا" وأما رواية "عشرين دينارًا" فمحمولة على دنانير صغار، كانت لهم [وهذا غير مسلم، فلم يثبت أنه كان لهم دنانير كبار، ودنانير صغار، العشرون من الصغار تعادل أربعًا] ورواية "أربع أواق" شك فيها الراوي، فلا اعتبار بها. اهـ. وهذه التوجيهات بعضها غير مقبول، وبعضها ظاهر التعسف، والأولى أن يحكم لبعضها بالمحفوظ، وعلى بعضها بالشذوذ، وخاصة أن تحديد ثمن البعير لا يتعلق به حكم شرعي. والله أعلم. (واستثنيت حملانه إلى أهلي) "حملانه" بضم الحاء الحمل بفتحها، يقال: حمل الحمل على ظهر الدابة حملاً وحملانًا، والمعنى: واستثنيت حمله لي إلى أهلي بالمدينة. وقد وضح هذا الاستثناء في الرواية الخامسة، ولفظها "قلت على أن لي ظهره إلى المدينة" ووضح إجابته إلى طلبه في الرواية الخامسة والتاسعة "قال: ولك ظهره إلى المدينة" وفي الرواية الثالثة "فتبلغ عليه إلى المدينة" وفي الرواية الثانية "فبعته إياه على أن لي فقار ظهره حتى أبلغ المدينة" و"فقار ظهره" بفاء مفتوحة، ثم قاف، وهي خرزاته ومفاصل عظامه، واحدتها فقرة. (فلما بلغت أتيته بالجمل) أي فلما بلغت المدينة، وبلغت أهلي، ووضعت عندهم رحلي ومتاعي أتيته عن المسجد بالجمل، وطوت هذه الرواية بعض الأحداث التي ذكرتها الروايات الأخرى، وهي: (فقلت له: يا رسول اللَّه، إني عروس) جاء هذا في الرواية الثانية، أي إني عجل إلى أهلي، فأستأذنك في الإسراع. ولفظ "عروس" يقال للرجل كما يقال للمرأة بلفظ واحد، لكن يختلفان في الجمع، فيقال: رجل عروس، ورجال عرس، بضم العين والراء، وامرأة عروس ونسوة عرائس. (قال: ما تزوجت؟ ) لم يكن السؤال عن ذات الزوجة حتى يسأل بـ"من تزوجت" ولكن كان السؤال عن صفتها "أبكرًا؟ أم ثيبًا"؟ وهما منصوبان مفعول به لفعل محذوف، ومعطوف، أي أتزوجت بكرًا؟ أم ثيبًا؟ قال: ثيبًا. (قال: أفلا تزوجت بكرًا تلاعبك وتلاعبها؟ ) في روايات لمسلم سبقت "فهلا بكرًا تلاعبها"؟ "فأين أنت من العذارى"؟ (بفتح الراء جمع عذراء) و"لعابها" (بكسر اللام، أي ملاعبتها؟ ) "فهلا جارية تلاعبها وتلاعبك"؟ . "أو قال: تضاحكها وتضاحكك"؟ "أتزوجت بعد أبيك؟ ".

(توفي والدي - أو استشهد) والدي. فقد استشهد أبوه في أحد رضي الله عنه. (ولي أخوات صغار) في رواية لمسلم سبقت في كتاب النكاح "وترك تسع بنات - أو سبع -" وفي رواية "ست" قال الحافظ ابن حجر: فكأن ثنتين منهن أو ثلاثة كن متزوجات من تسع، فقصد الكل تارة، وقصد غير المتزوجات تارة أخرى. (فكرهت أن أتزوج إليهن مثلهن) في الصغر، وعدم الدراية، وعدم القدرة على رعاية الشئون، والمعنى فكرهت أن أتزوج مثلهن مضمومة إليهن. (فلا تؤدبهن، ولا تقوم عليهن) وفي رواية "فكرهت أن أجمع إليهن جارية خرقاء مثلهن". (فتزوجت ثيبًا لتقوم عليهن، وتؤدبهن) في رواية "فأحببت أن أجيء بامرأة تقوم عليهن وتصلحهن" وفي رواية "تقوم عليهن وتمشطهن" وفي رواية "تجمعهن، وتمشطهن، وتقوم عليهن" ذكر ابن سعد أن هذه المرأة كان اسمها سهلة بنت مسعود بن أوس بن مالك الأنصارية الأوسية. وفي رواية سبقت "قال: أصبت" وفي أخرى "قال: فبارك الله لك. أو قال لي خيرًا" وفي ثالثة "أما إنك قادم، فإذا قدمت فالكيس الكيس" أي الزم العقل والذكاء والظرف في معالجتك أمور زوجك وأخواتك. وظاهر إحدى روايات مسلم أن البيع كان بعد حديث الزواج، ولفظها بعد أن ذكر محادثة الزواج "ثم قال: أتبيع جملك ... إلخ". (فاستأذنته، فأذن لي) أي أستأذنته في أن أسبقه وأسبق القوم إلى المدينة، فأذن لي، فتقدمت الناس إلى المدينة. (حتى انتهيت. فلقيني خالي، فسألني عن البعير) أي حتى انتهيت إلى المدينة وإلى بيتي، ولعل سر سؤال خاله عن البعير أنه رآه يسير كأحسن بعير بعد أن كان ضعيفًا. (فلامني فيه) اللوم سببه أن البعير كان على هذا مرغوبًا فيه عندهم، ولم يكن لهم ناضح سواه، كما سبق، وليس لأنه باعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبثمن أقل مما يستحق. (فلما قدم صرارًا أمر ببقرة فذبحت) "صرار" بفتح الصاد وكسرها، والكسر أشهر وأفصح، وتخفيف الراء، وهو موضع قريب من المدينة، وقال الخطابي: هي بئر قديمة، على ثلاثة أميال من المدينة، وضبطه بعض الرواة في مسلم والبخاري "ضرار" بالضاد، وهو خطأ، و"صرار" غير مصروف، والمشهور صرفه. وفي الرواية الثامنة "فنحرت" والنحر الذبح هنا، جمعًا بين الروايات، والمشهور أن النحر في الإبل خاصة، أي الطعن في المنحر، وهو أعلى الصدر، حتى يبدو الحلقوم من أعلى الصدر، أما الذبح فهو في الرقبة بقطع الودجين ويكون فيما عدا الإبل.

وكان من عادة الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يدخل المدينة فجأة، فنزل بأصحابه قبلها بثلاثة أميال، وذبح لهم، ليأكلوا، ويستريحوا، حتى يستعد النساء للقاء الأزواج. (فلما بلغت أتيته بالجمل، فنقدني ثمنه) في الرواية الثانية " فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة غدوت إليه بالبعير" أي ذهبت إليه بالبعير صباحًا، وفي الرواية الخامسة "فلما قدمت المدينة أتيته به" أي فلما قدمت المدينة، واسترحت عند أهلي، وأصبحت أتيته به، وفي الرواية الثالثة "فلما قدمت المدينة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال: أعطه ... إلخ" وفي الرواية السابعة "فلما قدم المدينة أمرني أن آتي المسجد، فأصلي ركعتين، ووزن لي ثمن البعير" وعند مسلم في رواية سبقت في كتاب النكاح "وقدمت بالغداة، فجئت المسجد، فوجدته على باب المسجد، فقال: الآن حين قدمت؟ قلت: نعم. قال: فدع جملك، وادخل، فصل ركعتين، قال: فدخلت فصليت، ثم رجعت، فأمر بلالاً أن يزن لي أوقية" فوزن لي بلال، فأرجح في الميزان" أي بعلم الرسول صلى الله عليه وسلم، وبأمره، ففي الرواية الثالثة "قال لبلال: أعطه أوقية من ذهب، وزده، قال: فأعطاني أوقية من ذهب، وزادني قيراطًا، قال: فقلت: لا تفارقني زيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم" (أي سأحتفظ بها في كيس كبركة، لا أنفقه أبدًا) فكان القيراط في كيس لي، فأخذه أهل الشام يوم الحرة" بفتح الحاء، والحرة الحجارة السوداء، والمراد حرة المدينة، ويوم الحرة كان سنة ثلاث وستين، وكان قتال ونهب من أهل الشام لأهل المدينة. (ثم رجعت، فأرسل في أثري) أي بعد أن نقدني ثمن البعير وسلمته إياه، رجعت إلى أهلي، فأرسل عقب عودتي سريعًا يطلبني، فجئته، في رواية لمسلم سبقت "قال: فانطلقت فلما وليت قال: ادع لي جابرًا، فدعيت، فقلت" - أي في نفسي، في طريقي إليه - "الآن يرد علي الجمل" - أي ويسترد ثمنه، "ولم يكن شيء أبغض إلي منه" أي من رده، لسعادتي بمعاملة النبي صلى الله عليه وسلم. (أتراني ماكستك لآخذ جملك؟ ) "تراني" بضم التاء، أي أتظني، والمماكسة في البيع والشراء هي المساومة، والمراد هنا المكالمة في النقص من الثمن، وأصلها النقص مطلقًا. (خذ جملك ودراهمك، فهو لك) في الرواية الثانية "فأعطاني ثمنه، ورده علي" وفي الرواية الخامسة "فزادني وقية، ثم وهبه لي" والمقصود بالأوقية الأوقية الأولى. وفي الرواية السادسة "لك الثمن ولك الجمل. لك الثمن ولك الجمل" كررها مرتين. لأنه أمر مستغرب. -[فقه الحديث]- ما يتعلق بهذا الحديث من أحكام النكاح سبق في كتاب النكاح، باب نكاح ذات الدين ونكاح البكر، [باب رقم 393] كما سبق هناك كثير مما يؤخذ من الحديث من الأحكام. ونضيف هنا: قال النووي: حديث جابر حديث مشهور، واحتج به أحمد ومن وافقه على جواز بيع الدابة، مع اشتراط البائع لنفسه ركوبها، وقال مالك: يجوز إذا كانت مسافة الركوب قريبة، وحمل هذا الحديث

على هذا. وقال الشافعي وأبو حنيفة وآخرون: لا يجوز ذلك، سواء قلت المسافة أو كثرت، ولا ينعقد البيع، واحتجوا بالحديث السابق في النهي عن بيع الثنيا - أي الاستثناء في البيع، وقد سبق قريبًا أن النهي عنه لأن المستثنى غالبًا مجهول - وبالحديث الآخر في النهي عن بيع وشرط، وأجابوا عن حديث جابر بأنها قضية عين، تتطرق إليها احتمالات، قالوا: ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يعطيه الثمن، ولم يرد حقيقة البيع، قالوا: ويحتمل أن الشرط لم يكن في نفس العقد، وإنما يضر الشرط إذا كان في نفس العقد، ولعل الشرط كان سابقًا، فلم يؤثر، ثم تبرع صلى الله عليه وسلم بإركابه. اهـ. وقال ابن سيرين وعبد الله بن شبرمة التابعيان، وحماد بن أبي سليمان: البيع صحيح والشرط صحيح. وقال الحسن البصري والنخعي وابن أبي ليلى وأبو ثور وابن المنذر: البيع صحيح، والشرط باطل لاغ. وقال أحمد وإسحق: إن شرطًا شرطًا واحدًا صح البيع، ولزم الشرط، وإن شرطا شرطين فأكثر بطل البيع. -[ويؤخذ من الحديث بالإضافة إلى المآخذ المذكورة في كتاب النكاح]- 1 - جواز طلب البيع ممن لم يعرض سلعته للبيع. 2 - وجواز المماكسة في البيع. 3 - واستحباب الابتداء بالمسجد، وصلاة ركعتين فيه عند القدوم من السفر. 4 - وأن نافلة النهار يستحب كونها ركعتين ركعتين، كصلاة الليل. وهو مذهب الشافعية ومذهب الجمهور. 5 - استحباب الدلالة على الخير. 6 - قال النووي: فيه التبرك بآثار الصالحين، لقوله "لا تفارقه زيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم". 7 - وجواز تقدم بعض الجيش الراجع، بإذن الأمير. واللَّه أعلم

(419) باب اقتراض الحيوان وحسن الوفاء

(419) باب اقتراض الحيوان وحسن الوفاء 3615 - عن أبي رافع رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرًا. فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة. فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره. فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد إلا خيارًا رباعيًا. فقال "أعطه إياه. إن خيار الناس أحسنهم قضاء". 3616 - عن أبي رافع رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: استسلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بكرًا. بمثله. غير أنه قال "فإن خير عباد الله أحسنهم قضاء". 3617 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان لرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حق فأغلظ له. فهم به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إن لصاحب الحق مقالاً" فقال لهم "اشتروا له سنًا فأعطوه إياه" فقالوا إنا لا نجد إلا سنًا هو خير من سنه. قال "فاشتروه فأعطوه إياه فإن من خيركم - أو خيركم - أحسنكم قضاء". 3618 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: استقرض رسول الله صلى الله عليه وسلم سنا. فأعطى سنا فوقه. وقال "خياركم محاسنكم قضاء". 3619 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل يتقاضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرًا. فقال "أعطوه سنًا فوق سنه" وقال "خيركم أحسنكم قضاء". -[المعنى العام]- يقول اللَّه تعالى {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} [الرحمن: 60]؟ ويقول {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها} [النساء: 86] أدب عام رفيع من آداب الإسلام، أن يوفى المدين دينه فور التمكن من الأداء، وأن يحسن إلى الدائن عند الوفاء، بالزيادة أو بالكلمة الطيبة، والشكر على ما

قدم من معروف، وأن يتحمل المدين مطالبة الدائن، وإن شدد، فهو صاحب حق، مادام يطالب في حدود الآداب، وإن ألح. بهذه الآداب يتم التعاون بين المسلمين، ويصبح مثل المؤمنين كمثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى، ولا يخشى القادر إقراض المحتاج، ويجد المحتاج من يساعده عند الشدائد. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في تطبيق هذه الآداب. وكيف لا وقد كان خلقه القرآن صلى الله عليه وسلم. كان صلى الله عليه وسلم يمر على بيوته الشهر والشهران ثلاثة أهله في شهرين، لا يوقد في بيته نار، لعدم وجود ما يطهى بالنار، فلم يكن يستقرض لنفسه شاة ولا بعيرًا، ولكنه كان يقترض للفقراء حين لا يكون في بيت المال ما يحتاجون، فإذا جاءت إبل الصدقة، سدد ما اقترض، بما هو مثله، أو بأحسن مما اقترض، وكان يتحمل شدة صاحب الحق، ويقول: إن لصاحب الحق مقالاً، وكان يدعو إلى إكرام المقرض، والإحسان عند أداء الحقوق، ويقول "خيركم أحسنكم قضاء" بهذا يقول الدائن للمدين "أوفيتني أوفي الله بك وأوفاك". -[المباحث العربية]- (استسلف من رجل بكرًا) يقال: أسلفت رجلاً مالاً، وسلفته مالاً، بتشديد اللام، أقرضته إياه، ويقال: استلف واستسلف من رجل مالاً، أي اقترض، والبكر بفتح الباء وسكون الكاف الصغير من الإبل، كالغلام من الآدميين، والأنثى بكرة وقلوص، وهي الصغيرة من الإبل، كالجارية من الآدميين. (لم أجد فيها إلا خيارًا رباعيًا) بفتح الراء، وتخفيف الياء، وهو من الإبل ما استكمل ست سنين ودخل في السابعة، والذكر رباع، والأنثى رباعية بتخفيف الياء. أي لم أجد في إبل الصدقة إلا ما هو خير من سنه، لم أجد إلا رباعيًا. (إن خيار الناس أحسنهم قضاء) "خيار" جمع خير بفتح الخاء وسكون الياء، ومثله أخيار وخيور. وفي الرواية الثانية "إن خير عباد الله" وفي الرواية الثالثة "إن خيركم" وفي الرواية الرابعة "خياركم" وفي الرواية الخامسة "خيركم" قال العلماء: لما أضيف أفعل أي "خير" والمقصود به الزيادة جاز فيه الإفراد والجمع، ومثله "أحسنكم" ففي الرواية الأولى والثانية "أحسنهم قضاء" وفي الرواية الثالثة والخامسة "أحسنكم قضاء" وفي الرواية الرابعة "محاسنكم قضاء" و"من" مقدره في "خيار الناس" و"خير عباد الله" وقد صرح بها في الرواية الثالثة، فإن من فعل ذلك ليس خير عباد الله على الإطلاق، بل من خيرهم. (كان لرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حق، فأغلظ له) أي في المطالبة به، أي شدد المطالبة، من غير قدر زائد، قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون الإغلاظ بغير ذلك، ويكون صاحب الدين كافرًا،

فقد قيل: إنه كان يهوديًا، والأول أظهر، فقد روي أنه كان أعرابيًا، وكأنه جرى على عادته من جفاء المخاطبة. قيل: إنه العرباض بن سارية، وقيل: غيره. والقصة وقعت للعرباض ولغيره. (فهم به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) أي أرادوا أن يؤذوه بالقول أو الفعل، لكن لم يفعلوا أدبًا مع النبي صلى الله عليه وسلم. (إن لصاحب الحق مقالاً) أي حجة قوية، وجرأة في الطلب، لكن مع مراعاة الأدب المشروع. (اشتروا له سنًا) أي جملاً له سن معين. قال الحافظ ابن حجر: ويجمع بين رواية "اشتروا له" والرواية الأولى، وأن القضاء من إبل الصدقة بأنه صلى الله عليه وسلم أمر بالشراء أولاً، ثم قدمت إبل الصدقة، فأعطاه منها، أو أنه أمر بالشراء من إبل الصدقة ممن استحق منها شيئًا، ويؤيده رواية ابن خزيمة "إذا جاءت الصدقة قضيناك". -[فقه الحديث]- قال النووي: الحديث في اقتراض الحيوان، وفيه ثلاثة مذاهب: الشافعي ومالك وجماهير العلماء من السلف والخلف أنه يجوز قرض جميع الحيوان، إلا الجارية لمن يملك وطأها، فإنه لا يجوز، ويجوز إقراضها لمن لا يملك وطأها، كمحارمها، والمرأة والخنثى. والمذهب الثاني مذهب المزني وابن جرير وداود أنه يجوز قرض الجارية وسائر الحيوان لكل واحد. والثالث مذهب أبي حنيفة والكوفيين أنه لا يجوز قرض شيء من الحيوان، وهذه الأحاديث ترد عليهم ولا تقبل دعواهم النسخ بغير دليل. اهـ واحتجوا بحديث النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، وهو حديث قد روي عن ابن عباس مرفوعًا، أخرجه ابن حبان والدارقطني وغيرهما، ورجال إسناده ثقات، إلا أن الحفاظ رجحوا إرساله، وأخرجه الترمذي، وفي سنده مقال، وهو حديث صالح للحجة في الجملة، وادعى الطحاوي أنه ناسخ لحديث الباب، وتعقب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، والجمع بين الحديثين ممكن، فقد جمع بينهما الشافعي وجماعة، بحمل النهي على ما إذا كان نسيئة من الجانبين، ويتعين المصير إلى ذلك، لأن الجمع بين الحديثين أولى من إلغاء أحدهما باتفاق، وإذا كان ذلك هو المراد من الحديث بقيت الدلالة على جواز استقراض الحيوان والسلم فيه. واعتل من منع قرض شيء من الحيوان كذلك بأن الحيوان يختلف اختلافًا كبيرًا يمنع من الوقوف على حقيقة المثلية فيه، وأجيب بأنه لا مانع من الإحاطة به بالوصف، بما يدفع التغاير، وقد جوز الحنفية التزويج والكتابة على الرقيق الموصوف في الذمة، مع احتمال الاختلاف بين الوصف وبين الواقع. وقد استشكل على حديث الباب، فقيل: كيف قضى من إبل الصدقة أجود من الذي يستحقه

الغريم، مع أن الناظر على الصدقات لا يجوز له التبرع منها؟ وأجيب بأنه يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم اقترض لنفسه، فلما جاءت إبل الصدقة، وأعطى المستحقون إبلاً، اشترى من أحدهم بعيرًا رباعيًا، فملكه النبي صلى الله عليه وسلم بثمنه، وأوفاه، متبرعًا بالزيادة من ماله، ويدل على هذا ما جاء في رواية أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اشتروا له سنًا" قال النووي: فهذا هو الجواب المعتمد، وقد قيل فيه أجوبة أخرى، منها أن المقترض كان أحد المحتاجين، استقرض لنفسه من آخر، فلما جاءت إبل الصدقة أعطاه منها، وأمره بالقضاء، فلم يكن صلى الله عليه وسلم طرفًا في الاستقراض والأداء. اهـ وهذا الرد غير مقبول لأن ألفاظ الحديث تبعد ذلك وبخاصة الرواية الثالثة فالجواب هو الأول. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - جواز المطالبة بالدين، إذا حل أجله. 2 - وفيه حسن خلقه صلى الله عليه وسلم، وعظم حلمه وتواضعه وإنصافه. 3 - وأن من عليه دين لا ينبغي له مجافاة صاحب الحق والإساءة إليه لمطالبته، فإن له مقالاً، لكن بالآداب الشرعية. 4 - وأن من أساء الآداب على الإمام استحق التعزير بما يقتضيه الحال، إلا أن يعفو الإمام. 5 - وفيه أن الاقتراض في الأمور المباحة لا يعاب، فكيف في البر والطاعة؟ 6 - وأن للإمام أن يقترض على بيت المال، لحاجة بعض المحتاجين، ليوفي ذلك من مال الصدقات. 7 - وفيه حسن القضاء، وأنه يستحب لمن عليه الدين، من قرض وغيره أن يرد أجود من الذي عليه، وهذا من السنة ومكارم الأخلاق، وليس هو من قرض جر منفعة فهو منهي عنه، لأن المنهي عنه ما كان مشروطًا في عقد القرض، قال النووي: ومذهبنا أنه يستحب الزيادة في الأداء، عما عليه، ويجوز للمقرض أخذها، سواء زاد في الصفة، أو في العدد، بأن أقرضه عشرة، فأعطاه أحد عشرة، ومذهب مالك أن الزيادة في العدد منهي عنها، وحجة أصحابنا عموم قوله صلى الله عليه وسلم "خيركم أحسنكم قضاء". 8 - وفي هذه الأحاديث جواز السلف في الحيوان، وحكمه حكم القروض. 9 - واستدل به الشافعي على جواز تعجيل الزكاة على أساس أن استقراضه صلى الله عليه وسلم كان للمحتاجين مستحقي الزكاة، فأعطاهم من الزكاة عاجلة حتى جاءت إبل الصدقة. واللَّه أعلم

(420) باب بيع الحيوان بالحيوان من جنسه متفاضلا

(420) باب بيع الحيوان بالحيوان من جنسه متفاضلاً 3620 - عن جابر رضي الله عنه: قال جاء عبد فبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الهجرة ولم يشعر أنه عبد فجاء سيده يريده. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "بعنيه" فاشتراه بعبدين أسودين. ثم لم يبايع أحدًا بعد حتى يسأله "أعبد هو؟ ". -[المعنى العام]- مازال الموضوع فيما يجوز بيعه، وما لا يجوز، ولما كنا في أبواب سابقة ذكرنا الربا في أصناف معينة الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح وكان الاختلاف بين العلماء في القياس على هذه الأصناف أو عدم القياس عليها، كان من تمام الموضوع النص على بيع الحيوان بالحيوان مقابضة، أو نسيئة، وهذا الحديث يصور قصة عبد أسلم، وسمع بالهجرة وبأجرها، فسافر من موطن سيده بدون علمه إلى المدينة، وطالب أن يبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الهجرة، وظن الرسول الكريم أنه حر، فبايعه، فلما علم سيده بهجرته جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب رده. فاعتذر إلى سيده بأنه لم يكن يعلم أنه عبد، وإلا لما بايعه إلا بإذن سيده، وطلب أن يشتريه من سيده بعبدين أسودين، وقبل السيد ولم يعد صلى الله عليه وسلم يبايع أحدًا حتى يتحقق منه، أعبد هو فلا يبايعه، إلا بإذن سيده، أم حر فيبايعه. صلى الله عليه وسلم. -[المباحث العربية]- (على الهجرة) من مكة إلى المدينة، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم بيعته. فلا يصح رجوعه إلى دار الكفر. (فجاء سيده) من موطنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة. (أعبد هو؟ ) خبر مقدم ومبتدأ مؤخر، وفي بعض النسخ "أعبد هو أو حر"؟ -[فقه الحديث]- لا يجوز بيع العبد المسلم لكافر. والحديث يفيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم باع الرجل عبدين أسودين، ولم يبين هل كانا مسلمين؟ أو كافرين، وهل السيد المشتري كان مسلمًا؟ أو كافرًا؟ فهذا الحديث محمول على أن السيد كان مسلمًا، أو أن العبدين الأسودين كانا كافرين.

ولم يبين الحديث كيف ثبتت ملكية السيد للعبد المهاجر؟ والملكية تثبت بالبينة، أو بتصديق العبد للسيد قبل إقراره بالحرية، أو بهما معًا. قال النووي: وجواز بيع عبد بعبدين، وبعير ببعيرين جائز مجمع عليه، إذا تم التقابض، ولم يكن أحدهما نسيئة إلى أجل، سواء كانت القيمة متفقة أو مختلفة. فإن باع عبدًا بعبدين، أو بعيرًا ببعيرين إلى أجل فمذهب الشافعي والجمهور جوازه، وقال أبو حنيفة: لا يجوز. اهـ. لكن الحافظ ابن حجر يقول: وشرط مالك أن يختلف الجنس، ومنع الكوفيون وأحمد مطلقًا، واحتج الجمهور بحديث عبد الله بن عمرو "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشًا" ... وفيه "فابتاع البعير بالبعيرين بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم" أخرجه الدارقطني وغيره، وإسناده قوي. واحتج البخاري لهذا بأن ابن عمر اشترى راحلة بأربعة أبعرة، وبقول ابن عباس: قد يكون البعير خيرًا من البعيرين، وبأن رافع بن خديج اشترى بعيرًا ببعيرين فأعطاه أحدهما، وقال: آتيك بالآخر غدًا إن شاء الله. وبأن ابن المسيب قال: "لا ربا في الحيوان، البعير بالبعيرين, والشاة بالشاتين إلى أجل" اهـ. وفي الحديث ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق والإحسان العام، فإنه كره أن يرد ذلك العبد خائبًا مما قصده من الهجرة، وملازمة الصحبة، فاشتراه ليحقق له ما أراد. واللَّه أعلم

(421) باب الرهن

(421) باب الرهن 3621 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهودي طعامًا بنسيئة فأعطاه درعًا له رهنًا. 3622 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهودي طعامًا ورهنه درعًا من حديد. 3623 - عن الأعمش قال: ذكرنا الرهن في السلم عند إبراهيم النخعي. فقال: حدثنا الأسود بن يزيد عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعامًا إلى أجل. ورهنه درعًا له من حديد. 3624 - - عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله. ولم يذكر: من حديد. -[المعنى العام]- غنم المسلمون من غزوة حنين وحدها من السبي ستة آلاف نفس، بين نساء وأطفال، ومن الإبل أكثر من أربعة وعشرين ألفًا، ومن الغنم أربعين ألفًا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم خمس هذه المغانم، بنص القرآن الكريم، أي كان له ألف ومائتا عبد، وخمسة آلاف بعير، وثمانية آلاف شاة من معركة واحدة، فأين ذهبت هذه الأموال، حتى يبيت جائعًا هو وأزواجه؟ وحتى يقول لخادمه أنس رضي الله عنه ما أصبح ولا أمسي في بيوت محمد - وهي تسع بيوت - إلا صاع واحد من شعير، أربع حفنات من شعير في تسع بيوت، أين ذهبت هذه الأموال حتى اقترض صلى الله عليه وسلم ثلاثين صاعًا شعيرًا من يهودي في المدينة، ورهن في مقابلها درعه؟ إعلان صارخ للعالم يقول: لم يكن محمد صلى الله عليه وسلم يعيش لنفسه، بل لم يكن أزواجه - رضي الله عنهن - وقد قبلن هذه الحياة يعشن لأنفسهن، لقد قسم كل ما أعطاه الله على المسلمين، ألا فليسمع ملوك الأرض وحكامها أن محمدًا صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة عند يهودي في مقابل شعير يأكله هو وأهله، ولم يترك إلا سلاحه وبغلته، وسريرًا من جريد، ووسادة

حشوها ليف، ليس من فقر ألم به، ولكن من كرم وجود، ورعايته لرعيته، ورأفة ورحمة بالمؤمنين. صلى الله عليه وسلم. -[المباحث العربية]- (الرهن) بفتح الراء وسكون الهاء، في اللغة الاحتباس، ومنه قوله تعالى {كل نفس بما كسبت رهينة} [المدثر: 38] وفي الشرع جعل مال وثيقة على دين، ويطلق أيضًا على العين المرهونة، تسمية للمفعول باسم المصدر. ويجمع على رهان بكسر الراء، وعلى رهن بضم الراء والهاء. (اشترى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من يهودي طعامًا بنسيئة) بفتح النون وكسر السين، أي بأجل، وقد بينت بعض روايات البخاري نوع الطعام بأنه الشعير، ولفظها "ولقد رهن رسول الله صلى الله عليه وسلم درعه بشعير" وفي رواية له "ولقد رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعًا له بالمدينة عند يهودي، وأخذ منه شعيرًا لأهله" كما بينت بعض رواياته مقدار الشعير، ولفظها "توفي النبي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين، يعني صاعًا من شعير" وأخرج أحمد وابن ماجه والطبراني والترمذي والنسائي أن مقدار الشعير كان عشرين، قال الحافظ ابن حجر: ولعله كان دون الثلاثين وفوق العشرين فجبر الكسر تارة، وألغى أخرى، كما بينت رواية عند ابن حبان أن قيمة هذا الشعير كانت دينارًا، وبينت رواية عند الشافعي والبيهقي اسم هذا اليهودي، ولفظها "أن النبي صلى الله عليه وسلم رهن درعًا له عند أبي الشحم اليهودي، رجل من بني ظفر، في شعير" و"أبو الشحم" بفتح الشين وسكون الحاء، اسمه كنيته، و"ظفر" بفتح الظاء والفاء بطن من الأوس، وكان حليفًا لهم. -[فقه الحديث]- قال النووي: في الحديث جواز الرهن في الحضر، وبه قال الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأحمد والعلماء كافة، إلا مجاهدًا [والضحاك، فيما نقله الطبري عنهما] فقالا: لا يجوز الرهن إلا في السفر، تعلقًا بقوله تعالى {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبًا فرهان مقبوضة} [البقرة: 283] وبه قال داود وأهل الظاهر، واحتج الجمهور لقولهم من حيث المعنى بأن الرهن شرع توثقة على الدين، لقوله تعالى {فإن أمن بعضكم بعضًا} [البقرة: 283] فإنه يشير إلى أن المراد بالرهن الاستيثاق، وإنما قيده بالسفر لأنه مظنة فقد الكاتب، فأخرجه مخرج الغالب، واحتجوا بهذا الحديث، وهو مقدم على دليل خطاب الآية، وقال ابن حزم: إن شرط المرتهن الرهن في الحضر لم يكن له ذلك، وإن تبرع به الراهن جاز قال: وأما اشتراء النبي صلى الله عليه وسلم الطعام من اليهودي، ورهنه عنده، دون أغنياء وميسوري الصحابة، فقيل: فعله لبيان جواز ذلك، وقيل: لأنه لم يكن هناك طعام فاضل عن حاجة صاحبه إلا عند اليهودي، وقيل: لأن الصحابة لا يأخذون رهنه صلى الله عليه وسلم، ولا يقبضون منه الثمن، فعدل إلى معاملة اليهودي، لئلا يضيق على أحد من أصحابه، والتعليل الأول أولى.

-[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - جواز معاملة أهل الذمة وغيرهم من الكفار، إذا لم يتحقق تحريم ما معه، لكن لا يجوز للمسلم أن يبيع أهل الحرب سلاحًا وآلة حرب، وما يستعينون به في إقامة دينهم. 2 - وجواز معاملة من أكثر ماله حرام. 3 - وثبوت أملاك أهل الذمة في أيديهم. 4 - وجواز الشراء بالثمن المؤجل. 5 - واتخاذ الدروع والعدد وغيرها من آلات الحرب، وأنه غير قادح في التوكل. 6 - وأن أكثر قوت أهل ذلك العصر كان الشعير. 7 - وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من التواضع والزهد في الدنيا، والتقلل منها مع قدرته عليها. 8 - وما كان عليه من الكرم الذي أفضى به إلى عدم الادخار، حتى احتاج إلى رهن درعه. 9 - وما كان عليه من الصبر على ضيق العيش، والقناعة باليسير. 10 - وفيه فضيلة لأزواجه - رضي الله عنهن - لصبرهن معه على ذلك. 11 - وفيه أن حديث "نفس المؤمن معلقة بدينه، حتى يقضى عنه" محله نفس غير الأنبياء، فإنها لا تكون معلقة بدين، فهي خصوصية، وقد ذكر بعض العلماء أن أبا بكر أفتك الدرع، بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وسلمها لعلي بن أبي طالب. واللَّه أعلم

(422) باب السلم

(422) باب السلم 3625 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين. فقال "من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم". 3626 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يسلفون. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أسلف فلا يسلف إلا في كيل معلوم، ووزن معلوم". 3627 - - وفي رواية عن ابن أبي نجيح، بهذا الإسناد، مثل حديث عبد الوارث. ولم يذكر "إلى أجل معلوم". 3628 - - وفي رواية عن ابن أبي نجيح، بإسنادهم. مثل حديث ابن عيينة. يذكر فيه "إلى أجل معلوم". -[المعنى العام]- علاقة السلم بكتاب البيع أنه شراء سلعة موصوفة في الذمة بثمن عاجل، وقد تناولت الأحاديث بيوعًا ممنوعة بعد أن كانت في الجاهلية سائدة منتشرة، وبيوعًا جائزة يظن أن تمنع، لكنها للحاجة إليها أجيزت مع ما فيها من غرر محتمل، وجهالة يغض الطرف عنها، لما تعود على المتعاملين بالفائدة، ولما يعود منعها بالضرر الذي لا يحتمل. من هذا النوع السلم، فكثيرًا ما يحتاج الناس شراء شيء ليس موجودًا في الحال في يد البائع، ولكنه محقق الوجود عنده غالبًا في وقت يتفق عليه الطرفان، وقد يكون من مصلحة البائع تسويق بضاعة قبل حيازته لها صالحة للبيع، كالثياب قبل نسيجها، والبترول قبل استخراجه، ويكون من مصلحة المشتري الاطمئنان على وصول السلعة عند الحاجة إليها، وقد يستغرق وصولها أيامًا وشهورًا، من هنا أجاز الشارع بيع الشيء الموصوف في

الذمة المقدور على تسليمه، بشرط أن يكون معلوم الكيل إذا كان مكيلاً، معلوم الوزن إذا كان موزونًا، معلوم العد إذا كان معدودًا، معلوم المقياس إذا كان مقيسًا، وبصفة عامة معلوم المقدار، وأن يكون أجل التسليم معلومًا. -[المباحث العربية]- (السلم) بفتح السين واللام، هو السلف، وزنًا ومعنى، وذكر الماوردي أن السلف لغة أهل العراق، والسلم لغة أهل الحجاز، وقيل: السلف تقديم رأس المال، والسلم تسليمه في المجلس، فالسلف أعم. والسلم شرعًا: بيع موصوف في الذمة وقيل: عقد على موصوف في الذمة ببذل يعطى عاجلاً، وبعضهم يقيد التعريف بلفظ السلم، وذكروا في تعريفه عبارات أخرى. (قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة) أي مهاجرًا. وفي الرواية الثانية بدون ذكر المدينة، وهي مقصودة. (وهم يسلفون في الثمار) الضمير لأهل المدينة، وفي الرواية الثانية "والناس يسلفون" فأل في الناس للعهد، أي ناس المدينة وفي الرواية الثانية بدون "في الثمار" وذكرها ليس قيدًا، فقد كانوا يسلفون في الثياب والحيوان. (السنة والسنتين) أي إلى أجل، وعند البخاري "لعام ولعامين" أو قال "عامين أو ثلاثة" وفي رواية "السنتين والثلاثة" وقوله "السنة والسنتين" منصوب، إما على نزع الخافض، أي إلى السنة، وإلى السنتين، أو على المصدر أي إسلاف السنة، فالإسلاف مصدر منصوب، فلما حذف قام المضاف إليه مقامه. (من أسلف في تمر) وفي رواية "من سلف" بتشديد اللام، وفي بعض النسخ "تمر" بالتاء، وفي بعضها "ثمر" بالثاء، وهو أعم، وفي رواية للبخاري "من أسلف في شيء" وهي أشمل، وفي روايتنا الثانية "من أسلف". (في كيل معلوم، ووزن معلوم) الواو بمعنى "أو" والمراد اعتبار الكيل فيما يكال، والوزن فيما يوزن، ويلحق بهما العدد فيما يعد، والقياس فيما يقاس بالأذرع ونحوها، لأن القصد عدم الجهالة بالمقدار. ويشترط في كل ذلك تحديد نوع الكيل والوزن والقياس، لاختلافها باختلاف الأماكن. -[فقه الحديث]- قال الحافظ ابن حجر: واتفق العلماء على مشروعيته، إلا ما حكي عن ابن المسيب. اهـ. وقال النووي: وأجمع المسلمون على جواز السلم. اهـ. أي السلم المؤجل.

واختلفوا في بعض شروطه، واتفقوا على أنه يشترط له ما يشترط للبيع. واختلفوا هل هو عقد غرر، جوز للحاجة؟ أم لا؟ واختلفوا في جواز السلم الحال، مع إجماعهم على جواز المؤجل، فجوزه الشافعي وآخرون، ومنعه مالك وأبو حنيفة وآخرون، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم "إلى أجل معلوم" فالأجل المعلوم شرط صحة، كالكيل المعلوم، والوزن المعلوم، وقال الشافعية: إذا جاز السلم مع الأجل، وفيه من الغرر ما فيه، فمع الحال أولى، لكونه أبعد عن الغرر، وحملوا الأمر في قوله: "فليسلف إلى أجل معلوم" على العلم بالأجل إذا كان هناك أجل، لا على أنه يشترط الأجل، فالشرط العلم، وليس الأجل، والمعنى: من أسلم إلى أجل فليسلم إلى أجل معلوم، لا مجهول. وهذا هو المراد من قوله: "في كيل معلوم" أي إن كان هناك كيل فليسلم في كيل معلوم، وإن كان هناك وزن فليسلم في وزن معلوم، فالكيل ليس بشرط، والوزن ليس بشرط، إذ يجوز السلم في الثياب بالذرع والقياس. ثم اختلفوا في المراد بالأجل المعلوم، هل يلزم تحديده باليوم والشهر مثلاً؟ أو يكفي وصفه التقريبي؟ ذهب بعض العلماء إلى الأول، واعتمدوا على قول ابن عباس: لا تسلف إلى العطاء - أي إلى يوم وصول العطاء من الأمير - ولا إلى الحصاد، واضرب أجلاً. اهـ. فهم يشترطون تعيين الأجل بشيء لا يختلف، فإن خروج العطاء قد يختلف ولو بيوم، وكذلك الحصاد، وقدوم الحاج، وأجاز ذلك مالك وأبو ثور، واختار ابن خزيمة من الشافعية توسيع الأجل، فأجاز تأقيته إلى ميسرة. واختلفوا: هل يشترط قبض المال المبذول في مجلس العقد؟ أو يجوز التفرق قبل القبض؟ قال مالك: يجوز التفرق في السلم قبل القبض، إن كان بغير شرط، لأنه لم يذكر في الحديث، وقال الشافعي والكوفيون: يفسد بالافتراق قبل القبض، لأنه يصير من باب بيع الدين بالدين. واختلفوا: هل يشترط في السلم تحديد مكان القبض؟ قال أحمد وإسحق وأبو ثور: يصح السلم إذا لم يذكر مكان القبض، لأنه لم يشترط في الحديث، وزاد مالك: ويقبضه في مكان السلم، وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي: لا يجوز السلم فيما له حمل ومؤنة إلا أن يشترط في تسليمه مكانًا معلومًا. واختلفوا: هل يجوز السلم إلى من ليس عنده أصل مما أسلم فيه؟ على معنى هل يصح السلم في قمح لمن لا يزرع ولا يتاجر في القمح، وفي العنب إلى من لا يملك شجرة عنب؟ الجمهور على جوازه، فالحديث لا يشترط ذلك، وقد روى البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: "كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يسلفون في الحنطة ... فقيل له: إلى من كان أصله عنده؟ قال: ما كنا نسألهم عن ذلك" وعن عبد الرحمن بن أبزى "كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسلفون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم نسألهم: ألهم حرث أم لا"؟ فاستفيد الحكم من عدم الاستفصال، وتقرير النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. واختلفوا: هل يجوز السلم في الموزون كيلاً؟ قال النووي: يجوز السلم في المكيل وزنًا بلا خلاف، وفي جواز السلم في الموزون كيلاً وجهان، لأصحابنا، أصحهما جوازه، كعكسه. اهـ. ولعل من منع يرى أن وزن المكيل يعطي دقة أكثر، أما كيل الموزون فهو أقل دقة، والحق أن الجواز ليس على الإطلاق،

بل الجواز حيث يكون الكيل ضابطاً كالوزن، والمنع حيث يكون الكيل غير ضابط، فالبرتقال مثلاً، كيله لا يضبطه، والمعدود كالبيض، يكفى فيه العد، إلا أن يتفاوت تفاوتًا يقتضي اختلاف الثمن. واختلفوا: في السلم في الحيوان، ذكر البخاري معلقًا عن الحسن البصري أنه كان لا يرى بأسًا بالسلف في الحيوان، إذا كان شيئًا معلومًا إلى أجل معلوم، وقال ابن حزم: لا يجوز السلم إلا في مكيل أو موزون، ولا يجوز في مزروع ولا معدود ولا شيء غير ما ذكر في النص. واللَّه أعلم

(423) باب تحريم الاحتكار في الأقوات

(423) باب تحريم الاحتكار في الأقوات 3629 - عن معمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من احتكر فهو خاطئ" فقيل لسعيد فإنك تحتكر؟ قال سعيد: إن معمرًا الذي كان يحدث هذا الحديث كان يحتكر. 3630 - عن معمر بن عبد الله رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا يحتكر إلا خاطئ". -[المعنى العام]- الإسلام دين المحبة والتعاون والإيثار، يدعو إلى كل ما يحقق ذلك، ويحرم كل ما يؤدي إلى نقيض ذلك، يحذر من كل ما يبعث الشقاق والتقاطع، ويمنع استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، واستغلال حاجة المحتاج، والإثراء على حساب المضطرين، وأصعب ما لا يستغني عنه الإنسان القوت والطعام، من هنا يحرم الإسلام احتكاره واحتباسه عن المحتاجين، لإذلالهم وإخضاعهم، أو للثراء على حساب حاجتهم وشدتهم، فإن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن شق على الناس شق الله عليه، ويقول صلى الله عليه وسلم "الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون" أخرجه ابن ماجه والحاكم ويقول "من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام والإفلاس" ويقول "من احتكر حكرة، يريد أن يغالي بها على المسلمين فهو خاطئ". -[المباحث العربية]- (من احتكر فهو خاطئ) يقال: حكر من باب فرح، فهو حكر، كفرح، والاسم الحكرة، بضم الحاء وسكون الكاف، وكذلك الحكر، وأصل الحكرة الجمع والإمساك، والمراد منها هنا حبس السلعة عن البيع، وقال الكرماني: الحكرة احتكار الطعام، أي حبسه يتربص به الغلاء، واشترط الفقهاء لها

شروطا. "والخطأ" كما يقول أهل اللغة بفتح الخاء والطاء، والخطء بفتح الخاء وسكون الطاء ضد الصواب، وخطئ الرجل يخطأ، من باب فرح أذنب، وتعمد الذنب، أما أخطأ فيقال لمن سلك سبيلاً خطأ، عامداً، أو غير عامد، وقيل: المخطئ من أراد الصواب فصار إلى غيره، والخاطئ من تعمد غير الصواب، وقال أبو عبيد: خطئ خطأ من باب علم، وأخطأ، بمعنى واحد، لمن يذنب على غير عمد. -[فقه الحديث]- قال النووي: هذا الحديث صريح في تحريم الاحتكار، قال أصحابنا: الاحتكار المحرم هو الاحتكار في الأقوات خاصة، وهو أن يشتري الطعام في وقت الغلاء، للتجارة، ولا يبيعه في الحال، بل يدخره، ليغلو ثمنه، فأما إذا جاءه من أرضه، أو اشتراه في وقت الرخص وادخره، أو ابتاعه في وقت الغلاء لحاجته إلى أكله، أو ابتاعه ليبيعه في وقته، فليس باحتكار، ولا تحريم فيه، وأما غير الأقوات فلا يحرم الاحتكار فيه بكل حال. هذا تفصيل مذهبنا. قال العلماء: والحكمة في تحريم الاحتكار دفع الضرر عن عامة الناس، كما أجمع العلماء على أنه لو كان عند إنسان طعام، واضطر الناس إليه، ولم يجدوا غيره أجبر على بيعه، دفعاً للضرر عن الناس. ثم قال: وأما ما ذكر عن سعيد بن المسيب ومعمر راوي الحديث أنهما كانا يحتكران، فقال ابن عبد البر وآخرون: إنما كانا يحتكران الزيت، وحملاً الحديث على احتكار الأقوات عند الحاجة إليها والغلاء، وكذا حمله الشافعي وأبو حنيفة وآخرون، وهو صحيح. والله أعلم

(424) باب النهي عن الحلف في البيع

(424) باب النهي عن الحلف في البيع 3631 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "الحلف منفقة للسلعة ممحقة للربح". 3632 - عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إياكم وكثرة الحلف في البيع فإنه ينفق ثم يمحق". -[المعنى العام]- يقول اللَّه تعالى: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم} [آل عمران: 77] وفي سبب نزول هذه الآية يقول عبد الله بن أبي أوفى: إن رجلاً أقام سلعة، وهو في السوق، فحلف بالله لقد أعطى بها ما لم يعط، ليوقع فيها رجلاً من المسلمين، فنزلت. ويقول صلى الله عليه وسلم "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم. رجل على فضل ماء بالطريق، يمنع منه ابن السبيل، ورجل بايع إمامًا، لا يبايعه إلا لدنياه، فإن أعطاه ما يريد وفى له، وإلا لم يف له، ورجل بايع رجلاً بسلعة بعد العصر، فحلف بالله لقد أعطى بها كذا وكذا، فصدقه فأخذها، ولم يعط بها" ويقول صلى الله عليه وسلم "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة: المنان الذي لا يعطي شيئًا إلا منه، والمنفق سلعته بالحلف الفاجر، والمسبل إزاره". -[المباحث العربية]- (الحلف) بفتح الحاء وكسر اللام، وعن ابن فارس: بسكون اللام أيضًا والمراد به اليمين الكاذبة. (منفقة للسلعة، ممحقة للريح) "منفقة" بفتح الميم وسكون النون وفتح الفاء والقاف، على وزن مفعلة، بلفظ اسم المكان، من نفق المبيع إذا راج، ضد كسد. و"ممحقة" على الوزن نفسه، من المحق، وهو النقص، ونقص الربح مراد به نفص البركة، والمعنى أن الحلف الكاذب في البيع وإن روج السلعة، وزاد في المال صورة، فإنه يمحق البركة، ومحق البركة يفضي إلى اضمحلال العدد في الدنيا غالبًا.

(إياكم وكثرة الحلف) "إياكم" أصلها أي باعدوا أنفسكم، فحذف الفعل والفاعل والمفعول لكثرة الاستعمال، فانفصل الضمير فقيل: إياكم، "وكثرة الحلف" معطوف عليه، ويعرف هذا في النحو بالتحذير. (فإنه ينفق، ثم يمحق) يقال: نفقت السلعة، تنفق بفتح التاء وسكون النون وضم الفاء، وأنفق الحلف السلعة، ينفقها بضم الياء وسكون النون وكسر الفاء، أي يروجها، ويرغب فيها. ويقال: محق الحلف السلعة يمحقها بفتح الحاء ثلاثي أي يهلكها. -[فقه الحديث]- الحلف صادقًا من غير حاجة مكروه، والكذب في البيع بدون الحلف حرام، ما حق لبركة البيع، مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما" فالحلف مع الكذب لترويج السلعة وتغرير المشتري يتضمن ثلاثة جرائم. الكذب، وتأكيده بالحلف، والإضرار بالمسلم، وللحلف في البيع صور، أن يحلف البائع أنه أعطى - بفتح الهمزة - أي دفع في السلعة كذا وهو لم يدفع، أو يحلف أنه أعطى - بضم الهمزة - أي عرض عليه ثمنًا لها كذا وهو لم يعرض عليه ذلك، أو يحلف المشتري أنه اشترى أو عرض عليه مثلها بأنقص، أو أحسن منها بهذا الثمن، وهو كاذب، وكل ذلك الحلف إن أدى إلى زيادة المكسب بائعًا أو مشتريًا نتيجته المحق والخسارة في الدنيا والآخرة. واللَّه أعلم

(425) باب الشفعة

(425) باب الشفعة 3633 - عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من كان له شريك في ربعة أو نخل فليس له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن رضي أخذ وإن كره ترك". 3634 - عن جابر رضي الله عنه قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شركة لم تقسم ربعة أو حائط لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن شاء أخذ وإن شاء ترك فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به. 3635 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الشفعة في كل شرك في أرض أو ربع أو حائط لا يصلح أن يبيع حتى يعرض على شريكه فيأخذ أو يدع فإن أبى فشريكه أحق به حتى يؤذنه". -[المعنى العام]- لا ضرر ولا ضرار، وكل ما يحمي التعامل من ضرر الآخرين مطلوب ومشروع، ومما يقع به الضرر بين الشريكين في أرض أو بيت أو حديقة على المشاع أن يبيع أحدهما نصيبه لأجنبي، نعم يكون في ذلك ضرر للشريك الآخر غالبًا، لأن الإنسان قد يستريح لشركة إنسان، ولا يقبل شركة الآخر، لكن هل يمنع المالك من التصرف في ملكه؟ ويمنع الشريك من بيع نصيبه؟ ليس من الحق والإنصاف ذلك، وكل ما عليه أن يستأذنه شريكه في ذلك، وللشريك في هذه الحالة أن يختار بين أربعة أمور. الأول: أن يبيع هو الآخر نصيبه، ويتفق الشريكان على بيع العقار كله دفعة واحدة. الثاني: أن يقسما العقار، ويقيما بينهما الحدود، ويبيع من أراد البيع، ويستقل من لا يريد. الثالث: أن يقبل الشريك الجديد بدلاً من الشريك الأول. الرابع: وهو المقصود هنا أن يأخذ نصيب شريكه، ويضمه إلى نصيبه، بقوة الشرع، ولو لم يرغب البائع، على أن يدفع الثمن نفسه الذي يدفعه المشتري، وهذا هو المعروف شرعًا بالشفعة، التي شرعها الله لعباده حتى يحمي البعض من أضرار البعض الآخر في المشاركات، فعلى الشريك الذي يرغب في بيع نصيبه في شركة مشاعة أن يستأذن شريكه في هذا البيع، ولا يحل له أن يبيع حتى يعلم شريكه، فإن رغب في أخذ هذا النصيب أخذ، وإلا فلا يعترض، وعليه أن يترك، بهذا لا ضرر ولا ضرار.

-[المباحث العربية]- (الشفعة) بضم الشين، وسكون الفاء، من شفعت الشيء إذا ضممته وثنيته، ومنه شفع الأذان، وسميت شفعة لضم نصيب إلى نصيب. وبعضهم يضم الفاء، والصواب الإسكان. قال ابن حزم: لفظة الشفعة لفظة شرعية، لم تعرف العرب معناها قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما لم يعرفوا معنى الصلاة والزكاة ونحوهما، حتى بينها الشارع، وقال الكرماني: الشفعة في الاصطلاح تملك قهري في العقار بعوض يثبت على الشريك القديم للحادث، وقيل: هي تملك العقار على مشتريه جبرًا بمثل ثمنه، وقال الحنفية: الشفعة تملك البقعة جبرًا على المشتري بما قام عليه، وقيل: هي ضم بقعة مشتراة إلى عقار الشفيع بسبب الشركة أو الجوار، قال العيني: وهذا أحسن. (من كان له شريك في ربعة) بفتح الراء وسكون الباء، وهي الدار والمسكن، ومطلق الأرض، وكذا الربع، وأصله المنزل الذي كانوا يرتبعون فيه، والربعة تأنيث الربع، وقيل: الربعة واحدة الربع، كالتمرة واحدة التمر. (حتى يؤذن شريكه) "يؤذن" بضم الياء وسكون الهمزة وكسر الذال مضارع آذن، أي حتى يعلم شريكه. (فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به) أي إذا باع الشريك، ولم يعلم شريكه، فالشريك أحق بالمبيع من المشتري. وفي الرواية الثالثة "لا يصلح أن يبيع حتى يعرض على شريكه، فيأخذ" هذا الشريك المبيع "أو يدع، فإن أبى" البائع أن يؤذن شريكه "فشريكه أحق به" أي بالبيع "حتى يؤذنه". -[فقه الحديث]- هناك مسائل في الشفعة يختلف عليها الفقهاء بعد إجماع المسلمين على ثبوت الشفعة في العقار ما لم يقسم، وشذ أبو بكر الأصم فأنكرها مطلقًا. قالوا: والحكمة في ثبوت الشفعة إزالة الضرر عمن له حق الشفعة، ومن المسائل المختلف فيها: 1 - لمن تثبت الشفعة؟ لا خلاف في ثبوتها للشريك المقيم في البلد، المسلم مع المسلم، أما الشريك الأعرابي فقد أثبتها له الشافعي والثوري وأبو حنيفة وأحمد وإسحق وابن المنذر والجمهور، وقال الشعبي: لا شفعة لمن لا يسكن بالمصر، والحديث مع الجمهور، لأنه عام يشمل الأعرابي وغيره. وأما الشريك المسلم مع الذمي، والذمي مع المسلم فقد قال الشافعي ومالك وأبو حنيفة والجمهور: تثبت الشفعة للذمي على المسلم، كما تثبت للمسلم على الذمي، والحديث عام يشمل المسلم والكافر، وقال الشعبي والحسن وأحمد: لا شفعة للذمي على المسلم. وأما الجار غير الشريك فمذهب الشافعي ومالك وأحمد وجماهير العلماء أن الشفعة لا تثبت بالجوار، وحكاه ابن المنذر عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وسعيد، وجماهير الصحابة والتابعين، وصريح الأحاديث معهم.

وذهب أبو حنيفة والثوري إلى أنها تثبت للجار الملاصق، عملاً بهذا الحديث وبأحاديث الوصية بالجار، وبحديث "جار الدار أحق بالدار" أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن، وحديث "جار الدار أحق بشفعة الدار" أخرجه أحمد والطبراني وابن أبي شيبة، وحديث "الجار أحق بسقبه" عن أبي رافع في قصة ذكرها البخاري، والسقب بالسين وبالصاد ما قرب من الدار، والجمهور يضعف بعض هذه الأحاديث، ويؤولها على فرض صحتها بأن المراد بالجار فيها الجار الشريك جمعًا بين الأحاديث. ويدافع الحنفية عن حديث الباب بأن الشريك يسمى جارًا، لما بينهما من الاختلاط في الشركة، ويرد الجمهور بأن للشريك مفهومًا يغاير مفهوم الجار، فلا يراد أحدهما من لفظ الآخر. وتثبت الشفعة للشريك الحاضر والغائب، ومنع الشعبي الشفعة للغائب. وتثبت للصغير والكبير، وقال ابن أبي ليلى: لا شفعة لصغير. ولا تباع الشفعة ولا توهب ولا تعار. ولا تورث عند الثوري وأبي حنيفة وأحمد وإسحق، وقال مالك والشافعي: تورث، فمذهب أبي حنيفة أن الشفعة تبطل بموت الشفيع قبل الأخذ، بعد الطلب أو قبله، فلا تورث عنه، والجمهور على خلافه، لأن الوارث يقوم مقام المورث في التضرر. 2 - فيم تثبت الشفعة؟ ولا خلاف في ثبوتها في العقار الذي يقبل القسمة، قبل القسمة، كالأرض والبيت والحديقة، بخلاف الحمام الصغير فلا تثبت فيه الشفعة عن الشافعية، ولا شفعة في الحيوان والثياب والأمتعة وسائر المنقولات عند الجمهور، وعند أحمد رواية أنها تثبت في الحيوان. قال القاضي: وشذ بعض الناس، فأثبت الشفعة في العروض، وفي رواية عن عطاء أنها تثبت في كل شيء، وهو رواية عن مالك، ومعنى ثبوتها في العقار قبل القسمة أنه لو قسم العقار بين الشريكين وتحددت الحدود صار كل من الشريكين جارًا للآخر، فلا شفعة إلا عند من يقول بثبوتها للجار. 3 - واختلفوا فيما لو أعلم شريكه بالبيع، فأذن فيه، فباع، ثم أراد الشفيع أن يأخذ بالشفعة، فقال الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأصحابهم: له أن يأخذ بالشفعة، وقال الحكم والثوري وطائفة من أهل الحديث: ليس له الأخذ، وعن أحمد روايتان، واختلفوا فيما لو باع بدون إعلام شريكه، هل يبطل بيعه؟ أو يحرم؟ الشافعية على أن لفظ "لا يحل" هنا محمول على الندب إلى إعلامه، وكراهة بيعه قبل إعلامه كراهة تنزيه، وليس بحرام، ويتأولون الحديث على هذا، إذ يصدق على المكروه أنه ليس بحلال، ويكون الحلال بمعنى المباح، وهو مستوي الطرفين، والمكروه ليس بمباح مستوي الطرفين، بل هو راجح الترك. والله أعلم

(426) باب غرز الخشبة في جدار الجار

(426) باب غرز الخشبة في جدار الجار 3636 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره" قال: ثم يقول أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين والله لأرمين بها بين أكتافكم. -[المعنى العام]- كانت جدر البيوت سميكة، وفي بنائها مشقة وتكلفة على كثيرين، لا يطيقونها، مع الحاجة إليها لوضع السقف عليها، واستخدام جدار بيت الجار في أن يوضع عليه جذع جاره لا يضره، بل يفيده غالبًا، ويقوي جداره، ويربطه بجدار آخر، على أن يكون الغرز لا يضر بمالك الجدار، في هذه الحالة يكون الإذن بغرز الخشبة مكرمة وتعاونًا ومساعدة دون كلفة أو ضرر. وكلما كان المسلمون عاملين بذلك كان التآلف والتكافل والتواد قائمًا بينهم، وكلما عز أو انعدم وجود هذا التعاون كان دليلاً على ضعف إيمانهم، مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [الحشر: 9]. -[المباحث العربية]- (لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة) قال القاضي: رويناه في صحيح مسلم وغيره من الأصول والمصنفات بالإفراد "خشبة" وبالجمع المضاف إلى الضمير "خشبه". (ما لي أراكم عنها معرضين) أي معرضين عن هذه السنة، غير عاملين بها؟ أو معرضين عن كلماتي هذه وعظاتي، غير مهتمين بها؟ والخطاب من أبي هريرة لمن معه من الصحابة والتابعين. وفي رواية أبي داود "فنكسوا رءوسهم فقال: "ما لي أراكم أعرضتم" مما يرشح المعنى الثاني. (والله لأرمين بها بين أكتافكم) هو بالتاء، أي بينكم، وقد رواه بعض رواة الموطأ "أكنافكم" بالنون، والكنف الجانب، فمعناه أيضا بينكم، والمعنى إني أصرح بها بينكم، وأوجعكم بالتقريع، وألزمكم الحجة.

-[فقه الحديث]- قال النووي: اختلف العلماء في معنى هذا الحديث. هل هو على الندب إلى تمكين الجار من وضع الخشب على جدار جاره؟ أم على الإيجاب، وفيه قولان للشافعي وأصحاب مالك، أصحهما في المذهبين الندب، وبه قال أبو حنيفة والكوفيون، والثاني الإيجاب، وبه قال أحمد وأبو ثور وأصحاب الحديث، وهو ظاهر الحديث، ومن قال بالندب قال: ظاهر الحديث أنهم توقفوا عن العمل، فلهذا قال: ما لي أراكم عنها معرضين؟ وهذا يدل على أنهم فهموا منه الندب، لا الإيجاب، ولو كان واجبًا لما أطبقوا على الإعراض عنه. اهـ. وكان أبو هريرة يلي إمرة المدينة في ذلك الوقت، نيابة عن مروان. ويستند القائلون بالندب إلى الأحاديث الدالة على تحريم مال المسلم إلا برضاه، ولو أنه للوجوب لما جهل الصحابة تأويله، ولما أعرضوا عن أبي هريرة حين حدثهم به. واستند القائلون بالوجوب إلى أن عمر قضى به، ولم يخالفه أحد من عصره. قال الحافظ ابن حجر: ومحل الوجوب عند من قال به أن يحتاج إليه الجار، ولا يضع على الجدار ما يتضرر به المالك، ولا فرق بين أن يحتاج في وضع الجذع إلى نقب الجدار أولا، لأن رأس الجذع يسد المنفتح، ويقوي الجدار. اهـ. واللَّه أعلم

(427) باب تحريم الظلم وغصب الأرض

(427) باب تحريم الظلم وغصب الأرض 3637 - عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من اقتطع شبرًا من الأرض ظلمًا طوقه الله إياه يوم القيامة من سبع أرضين". 3638 - عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه: أن أروى خاصمته في بعض داره. فقال: دعوها وإياها فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من أخذ شبرًا من الأرض بغير حقه طوقه في سبع أرضين يوم القيامة" اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها واجعل قبرها في دارها. قال: فرأيتها عمياء تلتمس الجدر تقول أصابتني دعوة سعيد بن زيد فبينما هي تمشي في الدار مرت على بئر في الدار فوقعت فيها فكانت قبرها. 3639 - عن هشام بن عروة عن أبيه: أن أروى بنت أويس ادعت على سعيد بن زيد أنه أخذ شيئًا من أرضها فخاصمته إلى مروان بن الحكم. فقال سعيد: أنا كنت آخذ من أرضها شيئًا بعد الذي سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ! قال: وما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من أخذ شبرًا من الأرض ظلمًا طوقه إلى سبع أرضين" فقال له مروان: لا أسألك بينة بعد هذا. فقال: اللهم إن كانت كاذبة فعم بصرها واقتلها في أرضها. قال: فما ماتت حتى ذهب بصرها ثم بينا هي تمشي في أرضها إذ وقعت في حفرة فماتت. 3640 - عن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "من أخذ شبرًا من الأرض ظلمًا فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين". 3641 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يأخذ أحد شبرًا من الأرض بغير حقه إلا طوقه الله إلى سبع أرضين يوم القيامة".

3642 - عن أبي سلمة وكان بينه وبين قومه خصومة في أرض وأنه دخل على عائشة فذكر ذلك لها. فقالت: يا أبا سلمة اجتنب الأرض فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين". 3643 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا اختلفتم في الطريق جعل عرضه سبع أذرع". -[المعنى العام]- الظلم ظلمات، ظلمات في الدنيا، وظلمات في الآخرة، أما في الدنيا فإن الظالم مبغض من الناس، ملعون منهم فيما بينهم وبين أنفسهم، وإن خافوه وجاملوه ونافقوه، وقد يعاقبه الله في الدنيا بمصائبها بما كسبت يداه، فيشمت فيه الناس، وقد تصيبه دعوة المظلوم، فينكشف أمره، ويفرح فيه عدوه، وقصة هذا الحديث عبرة لأولي الألباب، فسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل الصحابي الجليل، أحد العشرة المبشرين بالجنة، له أرض بجوار داره، كفناء لها دون سور، ولأروى بنت أويس دار بجواره، يلتقي فناؤه بفنائها، دون سور، وقد حفرت أروى في الحد ودفنت ضفيرة شعر من شعرها، كعلامة، لكنها ضاعت عنها، فادعت - حين بنى سعيد سورًا - أن سعيدًا اقتطع من أرضها، وأرسلت إليه رجلين تطالبه، ورفعت شكوى بذلك إلى مروان بن الحكم، وإلى المدينة، فقال سعيد: كيف أظلمها وأستولي على أرضها وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أخذ شبرًا من الأرض ظلمًا طوقه يوم القيامة من سبع أرضين"؟ قال له مروان: صدقتك تصديقًا لا يحتاج إلى شهود، قال سعيد: وأنا لن آخذ ما تدعيه، وسأتركه لها، فتأخذه وهي تأخذ قطعة من النار، ثم قال: اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها، وأمتها مقتولة في دارها، فما لبثت دعوة سعيد أن أجيبت، وعميت المرأة، وسقطت في بئر في بيتها، فماتت، وأصبحت مثلاً للظالمين، وأصبح أهل المدينة إذا دعوا على أحد قالوا: أعماه الله كعمى أروى. -[المباحث العربية]- (سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل) القرشي، أحد العشرة المبشرين بالجنة، أسلم قديمًا، وكان مجاب الدعوة.

(من اقتطع شبرًا من الأرض ظلمًا) وفي الرواية الثانية "من أخذ شبرًا من الأرض بغير حقه" وفي الرواية الثالثة "من أخذ شبرًا من الأرض ظلمًا" وفي الرواية السادسة "من ظلم قيد شبر من الأرض" والشبر في هذه الأحاديث ليس مقصودًا كمقدار، بل المقصود التقليل، فيشمل ما فوقه وما دونه، ولفظ "قيد شبر" بكسر القاف وسكون الياء، ومعناه قدر شبر. (طوقه الله إياه يوم القيامة من سبع أرضين) في الرواية الثانية "طوقه - بالبناء للمجهول - في سبع أرضين يوم القيامة" وفي هذه الرواية الثالثة "طوقه إلى سبع أرضين" قال أهل اللغة: الأرضون بفتح الراء، وفيها لغة قليلة بإسكانها. وفي معنى تطويقه إياه من سبع أرضين قال العلماء أقوالاً: منها أن معناه أنه يكلف حمل وإطاقة تراب ما ظلم، بعد أن يعمق هذا المقدار إلى سبع طبقات من الأرض، على معنى أنه إذا غصب مترًا مربعًا من سطح الأرض من طبقتها العليا كلف أن يحمل سبعة أمتار مكعبة يوم القيامة في أرض المحشر، كالذي يغل من الغنيمة بعيرًا يكلف أن يحمله على رقبته يوم القيامة، فمعنى "طوقه" كلف إطاقته. وقيل: يجعل هذا المقدار طوقًا يلف حول عنقه يوم القيامة، من قبيل قوله تعالى {سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة} [آل عمران: 180]. قال النووي: ويطول الله عنقه، كما جاء في غلظ جلد الكافر، وعظم ضرسه. وقيل: كلف أن يحفر هذا المقدار في أرض يوم القيامة، يتعمق في حفرته أعماقًا كثيرة، أي كلف هذا العمل، وفي تهذيب الطبري ما يصحح هذا القول، ولفظه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيما رجل ظلم شبرًا من الأرض كلفه الله أن يحفره، حتى يبلغ سبع أرضين، ثم يطوقه - أي يكلف إطاقته - يوم القيامة، حتى يقضى بين الناس" وقيل: معناه طوقه، وجعل هذا المقدار من الأرض كالطوق يحيط به ويهبط به إلى سبع أرضين، ويؤيد هذا المعنى رواية للبخاري، ولفظها "خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين" وقيل: يطوق إثم هذا الغصب، وهو إثم كبير، ويلزمه هذا الإثم، كلزوم الطوق بعنقه، ويبعد هذا المعنى ذكر "سبع أرضين" وسيأتي في فقه الحديث الكلام عن الأرضين السبع، لكن يحتمل هنا في هذ الحديث أن المراد بالسبع التكثير، وليس حقيقة العدد، فقد قالوا: أن السبعة يقصد بها الكثرة في الآحاد، والسبعين يراد بها الكثرة في العشرات، والسبعمائة يراد بها الكثرة في المئات، كما في قوله تعالى {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر} [لقمان: 27] وقوله {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} [التوبة: 80] وقوله {كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة} [البقرة: 261]. (عن سعيد بن زيد بن عمرو نفيل أن أروى خاصمته في بعض داره) "أروى" بفتح الهمزة وسكون الراء، مقصور، وفي الرواية الثالثة "أن أروى بنت أويس ادعت على سعيد بن زيد أنه أخذ شيئًا من أرضها، فخاصمته إلى مروان بن الحكم" وفي رواية للبخاري أنها خاصمته - في حق زعمت أنه انتقصه لها - إلى مروان" وفي بعض الروايات "استعدت أروى بنت أويس مروان بن الحكم - وهو والي المدينة - على سعيد بن زيد، في أرضه بالشجرة، وقالت: إنه أخذ حقي، وأدخل ضفيرتي في أرضه" وكانت دفنت ضفيرتين من شعرها في عمق الحد الفاصل بين أرضها وأرضه،

فترك سعيد ما ادعت، وترك لها الجزء الذي أرادته، وفي روايتنا الثانية "فقال: دعوها وإياها" أي اتركوا لها قطعة الأرض التي تدعيها، وبعد فترة جاء سيل كما في بعض الروايات، فجرف الأرض، فظهرت ضفيرتها في أرضها، بعيدة عن أرض سعيد. (اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها، واجعل قبرها في دارها) "أعم" فعل دعاء من أعمى، ويقال: عمي فلان بفتح العين وكسر الميم وفتح الياء، ويعمى بفتح الميم، ذهب بصره كله من عينيه كلتيهما، فهو أعمى، ويقال: أعماه الله صيره أعمى، ويقال: عماه الله بتشديد الميم، صيره أعمى، وفي الرواية الثالثة "اللهم إن كانت كاذبة فعم بصرها" والمراد من الدعاء عليها بأن يكن قبرها في دارها أن تكون ميتتها قتلاً في الأرض التي اغتصبتها، وفي الرواية الثالثة "واقتلها في أرضها" وليس المراد أن تدفن في بيتها. (فبينما هي تمشي في الدار، مرت على بئر في الدار، فوقعت فيها، فكانت قبرها) في الرواية الثالثة "بينا هي تمشي في أرضها إذ وقعت في حفرة، فماتت" وفي رواية "فجعلت تمشي في دارها، فوقعت في بئرها" والظاهر أنهم كانوا يحفرون بئرًا جديدًا في دارها، لم تعهده من قبل، فوقعت في حفرته العميقة على رأسها، فماتت. (إذا اختلفتم في الطريق) التي يراد ابتداؤها وإنشاؤها، كما في بلد يفتحها المسلمون، ليس فيها طريق مسلوك، في مكان محتاج إلى طريق، وكأرض مشتركة، يريد الشركاء إنشاء طريق بينها، وكبيوت تحتاج مدخلاً جديدًا، وعند البخاري "إذا تشاجروا في الطريق". (جعل عرضه سبع أذرع) "جعل" بالبناء للمجهول، قال الحافظ ابن حجر: الذي يظهر أن المراد بالذراع ذراع الآدمي، فيعتبر ذلك بالمعتدل، وقيل: المراد بالذراع ذراع البنيان المتعارف، قال الطبري: معناه أن يجعل قدر الطريق المشتركة سبعة أذرع، ثم يبقى بعد ذلك لكل واحد من الشركاء في الأرض قدر ما ينتفع به، ولا يضر غيره. والذراع يذكر ويؤنث، والتأنيث أفصح، وعليه روايتنا "سبع أذرع" وفي نسخة "سبعة أذرع" قال النووي: وهما صحيحان. -[فقه الحديث]- في هذا الحديث تحريم غصب الأرض. قال النووي: وهو مذهبنا ومذهب الجمهور، وقال أبو حنيفة: لا يتصور غصب الأرض. اهـ. وشرح العيني مذهب الحنفية في هذه المسألة، فقال: عند أبي حنيفة وأبي يوسف: الغصب لا يتحقق إلا فيما ينتقل ويحول، لأن إزالة اليد بالنقل، ولا نقل في العقار، فإذا غصب عقارًا، فهلك في يده لا يضمن، وقال محمد: يضمن، وهو قول أبي يوسف الأول، وبه قال زفر والشافعي ومالك وأحمد، لأن الغصب عندهم يتحقق في العقار. اهـ.

والحديث حجة على أبي حنيفة ومن تبعه. وفي الحديث دليل على أن من ملك أرضًا ملك أسفلها إلى منتهاها، وله أن يمنع من حفر تحتها سربًا، أو بئرًا، وسواء أضر ذلك بأرضه أو لا، قاله الخطابي، وقال ابن الجوزي: لأن حكم أسفلها تبع لأعلاها، وقال القرطبي: وقد اختلف فيما إذا حفر أرضه، فوجد فيها معدنًا أو شبهه، فقيل: هو له، وقيل: بل للمسلمين، وعلى ذلك فله أن ينزل بالحفر ما شاء ما لم يضر بجاره، وكذلك له أن يرفع في الهواء المقابل لذلك القدر من الأرض، من البناء ما شاء، ما لم يضر بأحد. قال الحافظ ابن حجر: وفي الحديث تحريم الظلم والغصب، وتغليظ عقوبته. وفيه أن الأرضين السبع طباق، كالسموات، وهو ظاهر قوله تعالى {ومن الأرض مثلهن} [الطلاق: 12] خلافًا لمن قال: إن المراد بقوله "سبع أرضين" سبعة أقاليم، لأنه لو كان كذلك لم يطوق الغاصب شبرًا من إقليم آخر. قال ابن التين: وهو وما قبله مبني على أن العقوبة متعلقة بما كان بسببها. وقال النووي عن الرواية السابعة: إن جعل الرجل بعض أرضه المملوكة له طريقًا، مسبلة للمحاربين فقدرها إليه، والأفضل توسيعها، وليست هذه الصورة مرادة في الحديث، وإن كان الطريق بين أرض لقوم، وأنفقوا على شيء فذاك، وإن اختلفوا في قدره جعل سبعة أذرع، وهذا مراد الحديث، أما إذا وجدنا طريقًا مسلوكًا وهو أكثر من سبعة أذرع فلا يجوز لأحد أن يستولي على شيء منه، وإن قل. هذا ما ذكره أصحابنا فيما يتعلق بهذا الحديث، وقال آخرون: هذا في الأفنية، إذا أراد أهلها البنيان، فيجعل طريقهم عرضه سبعة أذرع، لدخول الأحمال والأثقال، ومخرجها، وتلاقيها. قال القاضي: هذا كله عند الاختلاف، كما نص عليه في الحديث، فأما إذا اتفق أهل الأرض على قسمتها، وإخراج طريق منها كيف شاءوا، فلهم ذلك، ولا اعتراض عليهم، لأنها ملكهم. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: ويلتحق بأهل البنيان من قعد للبيع في حافة الطريق، فإن كانت الطريق أزيد من سبعة أذرع لم يمنع من القعود في الزائد وإن كان أقل منع، لئلا يضيق الطريق على غيره. واللَّه أعلم

كتاب الفرائض

كتاب الفرائض

(428) باب اختلاف الدين - الفرائض والعصبات - الكلالة النبي أولى بالمؤمنين

(428) باب اختلاف الدين - الفرائض والعصبات - الكلالة النبي أولى بالمؤمنين 3644 - عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يرث المسلم الكافر ولا يرث الكافر المسلم". 3645 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر". 3646 - عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ألحقوا الفرائض بأهلها فما تركت الفرائض فلأولى رجل ذكر". 3647 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله فما تركت الفرائض فلأولى رجل ذكر". 3648 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: مرضت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يعوداني ماشيين فأغمي علي فتوضأ ثم صب علي من وضوئه فأفقت. قلت: يا رسول الله كيف أقضي في مالي؟ فلم يرد علي شيئًا حتى نزلت آية الميراث {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} [النساء: 176]. 3649 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: عادني النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في بني سلمة يمشيان فوجدني لا أعقل فدعا بماء فتوضأ ثم رش علي منه

فأفقت. فقلت: كيف أصنع في مالي يا رسول الله؟ فنزلت {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء: 11]. 3650 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريض ومعه أبو بكر ماشيين فوجدني قد أغمي علي فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صب علي من وضوئه فأفقت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: يا رسول الله كيف أصنع في مالي؟ فلم يرد علي شيئًا حتى نزلت آية الميراث. 3651 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريض لا أعقل فتوضأ فصبوا علي من وضوئه فعقلت. فقلت: يا رسول الله إنما يرثني كلالة فنزلت آية الميراث. فقلت لمحمد بن المنكدر {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} قال هكذا أنزلت. 3652 - - وفي رواية عن شعبة بهذا الإسناد في حديث وهب بن جرير فنزلت آية الفرائض، وفي حديث النضر والعقدي فنزلت آية الفرض، وليس في رواية أحد منهم قول شعبة لابن المنكدر. 3653 - عن معدان بن أبي طلحة: أن عمر بن الخطاب خطب يوم جمعة فذكر نبي الله صلى الله عليه وسلم وذكر أبا بكر، ثم قال إني لا أدع بعدي شيئًا أهم عندي من الكلالة ما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما راجعته في الكلالة وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيه حتى طعن بإصبعه في صدري وقال "يا عمر ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء" وإني إن أعش أقض فيها بقضية يقضي بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن.

3654 - عن البراء رضي الله عنه قال: آخر آية أنزلت من القرآن {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} 3655 - عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: آخر آية أنزلت آية الكلالة وآخر سورة أنزلت براءة. 3656 - عن البراء رضي الله عنه أن آخر سورة أنزلت تامة سورة التوبة. وأن آخر آية أنزلت آية الكلالة. 3657 - - وفي رواية عن البراء رضي الله عنه بمثله غير أنه قال: آخر سورة أنزلت كاملة. 3658 - عن البراء رضي الله عنه قال: آخر آية أنزلت يستفتونك. 3659 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل الميت عليه الدين فيسأل "هل ترك لدينه من قضاء؟ " فإن حدث أنه ترك وفاء صلى عليه. وإلا قال "صلوا على صاحبكم" فلما فتح الله عليه الفتوح قال "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم. فمن توفي وعليه دين فعلي قضاؤه ومن ترك مالاً فهو لورثته". 3660 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "والذي نفس محمد بيده إن على الأرض من مؤمن إلا أنا أولى الناس به. فأيكم ما ترك دينًا أو ضياعًا فأنا مولاه وأيكم ترك مالاً فإلى العصبة من كان".

3661 - عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنا أولى الناس بالمؤمنين في كتاب الله عز وجل فأيكم ما ترك دينًا أو ضيعة فادعوني فأنا وليه. وأيكم ما ترك مالاً فليؤثر بماله عصبته من كان". 3662 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "من ترك مالاً فللورثة ومن ترك كلاً فإلينا". 3663 - - وفي رواية في حديث غندر "ومن ترك كلاً وليته". -[المعنى العام]- أنزل الله تعالى آية المواريث، وفرض فرائض لورثة الميت، وجعل نصيبا محددًا لمن يدلي إليه بالقرابة، وقال: {للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبًا مفروضًا} [النساء: 7] وبينت السنة ما جاء مجملاً في هذه الآيات، ووضعت في هذه الأحاديث جملة من القواعد والأحكام. أولها: يمنع من التوارث بين القريبين اختلاف الدين، فلا يرث الكافر من المسلم، ولا يرث المسلم من الكافر. ثانيها: تقديم أصحاب الفروض على العصبات، فتقسم تركة الميت على ما شرع الله من الأنصباء المحددة بالنصف ونصفه ونصف نصفه، والثلثين ونصفهما ونصف نصفهما، وتلحق الأجزاء بأصحابها، وما بقي فهو للعصبة على ترتيبهم في شرع الله. ثالثها: ما يسمى بالكلالة، وهي الميت لا يترك ابنًا ولا أبًا، ويترك إخوة لأم، وإخوة لأب وأم، أو إخوة لأب، وقد بينت آية الميراث في أول سورة النساء ميراث الأخوة لأم، فقالت {وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث} [النساء: 12] وأخذ الصحابة يتساءلون عن النوع الثاني من الإخوة، ما ميراثهم إذا لم يكن للميت ولد ولا والد؟ يستفتون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسكت، لا يجيب، حيث لم ينزل فيهم قرآن، وفي هذه الأحاديث يسأل الصحابي الجليل جابر بن عبد الله، ولا يجيبه صلى الله عليه وسلم. ستة أشهر بين

آية الميراث الأولى، وبين أن نزل قوله تعالى {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالاً ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء: 176] وأخذ الصحابة بعدها يتناقشون في معانيها، وما يستنبط منها من أحكام، ويفرعون على الصور صورًا، ويتساءلون عن صور مفترضة، ومن هؤلاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي أكثر من مراجعة الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى أغلظ له الرد، وقال له: يكفيك آية الكلالة في وضوحها، وهي التي في آخر سورة النساء. رابعها: الميت يترك دينًا، ولا يخلف مالاً، وكان صلى الله عليه وسلم في أول الأمر يخوف من مثل هذا فلا يصلي عليه صلاة الجنازة، فلما أدرك الصحابة خطر هذا الفعل، وتحاشوا الاستدانة إلا لضرورة، وفتح الله على نبيه الفتوح تحمل دين من يموت، ونزل عليه قوله تعالى {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} [الأحزاب: 6] فقال لصحابته: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفي وعليه دين، لا يترك له وفاء، فعلي قضاءه، ومن ترك مالاً فهو لورثته، ومن ترك عيالاً فقراء محتاجين فأنا مولاهم، المسئول عنهم. صلى الله عليه وسلم. بالمؤمنين رؤوف رحيم. -[المباحث العربية]- (لا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم) قال النووي: في بعض النسخ "ولا الكافر المسلم" بحذف لفظة "يرث".اهـ. وفي رواية للبخاري "المؤمن" في الموضعين، وعند النسائي "لا يتوارث أهل ملتين" وسيأتي في فقه الحديث ما يتعلق بتوارث أهل الملل المختلفة. قال المبرد: الإرث أصله العاقبة، ومعناه الانتقال من واحد إلى واحد. (ألحقوا الفرائض بأهلها) الفرائض جمع فريضة، فعيلة بمعنى مفعولة، مأخوذة من الفرض، وهو القطع، قال تعالى {للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبًا مفروضًا} [النساء: 7] أي مقطوعًا محددًا، ومنه فريضة الصلاة، والمراد بالفرائض هنا الأنصباء المقدرة في كتاب الله تعالى، وهي النصف ونصفه ونصف نصفه، والثلثان ونصفهما ونصف نصفهما، والمراد بأهلها من يستحقها بنص القرآن، وفي الرواية الرابعة "اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله" أي على وفق ما أنزل في كتاب الله. (فما بقي فهو لأولى رجل ذكر) في الرواية الثالثة "فما تركت الفرائض فلأولى رجل ذكر" "أولى" بفتح الهمزة وسكون الواو، وفتح اللام، أفعل تفضيل من الولي - بسكون اللام. وهو القرب، أي لمن يكون أقرب في النسب إلى المورث، وليس المراد بالأولى هنا الأحق، وليس من قبيل: الرجل أولى بما له من غيره، فذا بمعنى أحق. لأنه لو حمل هنا على معنى أحق لخلا عن الفائدة، لأنا لا ندري من هو الأحق. قاله النووي. وفي رواية "لأدنى" بالدال والنون، والمراد لأقرب.

وقد استشكل التعبير بـ"ذكر" بعد "رجل" والرجل لا يكون إلا ذكرًا، وهي كذلك في جميع النسخ وجميع الروايات فقال الخطابي: إنما كرر للبيان في نعته بالذكورة، ليعلم أن العصبة إذا كان عمًا، أو ابن عم مثلاً، وكان معه أخت له، أن الأخت لا ترث، ولا يكون المال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين. وتعقب بأن هذا ظاهر من التعبير بقوله "رجل" والإشكال باق. وقال ابن التين: للتأكيد. وزيفه القرطبي، فقال: إن العرب إنما تؤكد حيث يفيد التأكيد فائدة، إما تعيين المعنى في النفس، وإما رفع المجاز، وليس ذلك هنا. وقال غيره: إن التأكيد هنا لمتعلق الحكم، وهو الذكورة، لأن الرجل قد يراد به معنى النجدة والقوة في الأمر، فأكد حتى لا يراد به خصوص البالغ. وقيل: إنه احتراز عن الخنثى، وقيل: للاعتناء بالجنس، وقيل: لنفي توهم اشتراك الأنثى معه، لئلا يحمل على التغليب. قال النووي ومن قبله القاضي عياض والمازري وغيرهم: التعبير بـ"ذكر" للتنبيه على سبب الاستحقاق بالعصوبة، وسبب الترجيح في الإرث، ولهذا جعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وحكمته: أن الرجال تلحقهم المؤن، كالقيام بالعيال، والضيفان، وإرفاد القاصدين، ومواساة السائلين، وتحمل الغرامات، وغير ذلك. وأطال القائلون بذلك في توضيح ما يقصدون بما لا يخلو من مغاليق، ومن المعلوم أن تلمس الحكمة كالوردة تشم ولا تدلك. (يعوداني ماشيين) في بعض النسخ "ماشيان" على القطع، أي وهما ماشيان، وفي الرواية السادسة "عادني النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في بني سلمة، يمشيان". (فأغمي علي) الظاهر من مجموع الروايات أن الإغماء حدث قبل وصولهما، فالفاء للتعقيب والترتيب الذكري، ففي الرواية السادسة "فوجدني لا أعقل" شيئًا، فحذف المفعول، إشارة إلى عظم الحال. وقد صرح به في رواية للبخاري. أي لا أفهم شيئًا من الغيبوبة والإغماء. (فتوضأ، ثم صب علي من وضوئه) "الوضوء" بفتح الواو الماء الذي يتوضأ به، فيحتمل أن يكون صب عليه بعض الماء الذي توضأ به، ويحتمل أنه صب عليه مما تبقى من ماء وضوئه. وفي الرواية السادسة "فتوضأ، ثم رش علي منه" وفي الرواية الثامنة "فصبوا علي من وضوئه" ولا تعارض، فقد يكون الرسول صلى الله عليه وسلم رش عليه ماء ورش بعض الحاضرين بعض ماء وضوئه صلى الله عليه وسلم. (كيف أقضي في مالي؟ ) أي كيف أقسم مالي بين ورثتي وأنا أتوقع الموت؟ في الرواية السادسة "كيف أصنع في مالي"؟ . (إنما يرثني كلالة) أي لا ولد لي، ولا والد، وإنما يرثني أخواتي، قيل: الكلالة من الإكليل المحيط بالرأس، لأن الكلالة وراثة أحاطت بالميت من الطرفين، وهي مصدر كالقرابة، وسمي أقرباء الميت كلالة بالمصدر، كما يقال: هم قرابة، أي ذوو قرابة، وإن أردت المصدر قلت: ورثوه عن كلالة،

وتطلق الكلالة على الورثة مجازًا، وقيل: الكلالة مشتقة من التكلل، وهو التطرف، فابن العم مثلاً يقال له: كلالة، لأنه ليس على عمود النسب، بل على طرفه، وقيل: مشتقة من كل الشيء إذا بعد وانقطع، ومنه قولهم: كلت الرحم، إذا بعدت، وطال انتسابها، ومنه كل في مشيه إذا انقطع، لبعد مسافته، قال النووي: واختلف العلماء في المراد بالكلالة في الآية. فقيل: المراد بها الوراثة، إذا لم يكن للميت ولد ولا والد، وتكون "كلالة" منصوبة على تقدير: يورث وراثة كلالة. وقيل: إنه اسم للميت الذي ليس له ولد، ولا والد، ذكرًا كان الميت أو أنثى، وتقديره: يورث كما يورث في حال كونه كلالة. وقيل: اسم للورثة الذين ليس فيهم ولد ولا والد، وعليه قول جابر في حديثنا "إنما يرثني كلالة" وقيل اسم للمال الموروث. وقال الشيعة: الكلالة من ليس له ولد، وإن كان له أب أو جد. وسيأتي في فقه الحديث. (حتى نزلت آية الميراث) {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ... } وفي الرواية السادسة "فنزلت {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء: 176] " وفي الرواية السابعة والثامنة "حتى نزلت آية الميراث" وفي ملحق الرواية الثامنة "فنزلت آية الفرائض". "فنزلت آية الفرض" قال ابن العربي: هذا تعارض، لم يتفق بيانه إلى الآن، ثم أشار إلى ترجيح آية المواريث، وتوهيم {يستفتونك} وقال الحافظ ابن حجر: هكذا وقع في رواية ابن جريج فنزلت {يوصيكم الله في أولادكم} وقيل: إنه وهم في ذلك، وأن الصواب أن الآية التي نزلت في قصة جابر هذه الآية الأخيرة من النساء، وهي {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} لأن جابرًا يومئذ لم يكن له ولد ولا والد. ويحتمل أن يكون مراد جابر من قوله {يوصيكم الله في أولادكم} أي ذكر الكلالة المتصل بهذه الآية. والله أعلم. (فذكر نبي الله صلى الله عليه وسلم، وذكر أبا بكر) أي ذكرهما بالثناء على كل منهما، والدعاء لكل منهما. (إني لا أدع بعدي شيئًا أهم عندي من الكلالة) أي إن أمت مت منشغلاً ومهمومًا بحكم توزيع الأنصباء في صورة الكلالة، لعدم وضوح حكمها أو حكمتها في نظري، وعند بعض المتفقهين في كتاب الله تعالى. (ألا تكفيك آية الصيف) ألا تكفي آية آخر النساء، وهي التي نزلت في الصيف؟ وتغنيك هذه الآية عن المراجعات؟ بعد آية أول النساء التي نزلت في الشتاء؟ وسنشرح الآيتين وحكم الكلالة في فقه الحديث.

(وإني إن أعش أقض فيها بقضية يقضي بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن) أي وإن أعش حتى يموت ميت على صورة الكلالة، ويأتوني للحكم فيها "أقض" مجزوم جواب للشرط، أي أحكم فيها "بقضية" أي بقضاء وحكم "يقضي بها" أي يسلم بها، ويقبل هذا الحكم، ويقتنع به "من يقرأ" آياتها في "القرآن" يتفهم معانيها، ويعقل حكمها وحكمتها "من لا يقرأ القرآن" يريد أنه يطبق فهمًا لآيات القرآن مقنعًا، وهو ما ذهب إليه العلماء فيما بعد. (آخر آية أنزلت آية الكلالة) في الرواية الثانية عشرة "آخر آية أنزلت يستفتونك" وهي آية الكلالة، وفي آخر آية نزلت أقوال للعلماء نذكرها في فقه الحديث، وللجمع بينها يقال: إن الآخرية نسبية، فكل أخبر بآخر ما علم، وقد ينزل بعد علمه ما ينزل، أو الآخرية بالنسبة لآيات الميراث، أو بالنسبة لآيات الأحكام. ويقصد بذكرها وذكر آخريتها هنا أنها محكمة، لم تنسخ، أما ذكر سورة التوبة فعلى سبيل الاستطراد. (كان يؤتى بالرجل الميت) أي بالجنازة تأتي إلى المسجد للصلاة عليها، فذكر "الرجل" ليس قيدًا، وإنما لما هو الغالب في المديونية. والحكم يعم المرأة. (عليه الدين فيسأل: هل ترك لدينه من قضاء) هذه هي الخطوة الثانية، فالخطوة الأولى: كان يسأل: هل عليه دين؟ فإذا أجيب بنعم سأل هل ترك لدينه قضاء وما يوفيه؟ (إن على الأرض من مؤمن إلا أنا أولى الناس به) "إن" نافية، و"من" زائدة لتأكيد النفي، أي ما على الأرض مؤمن. (فأيكم ما ترك دينًا أو ضياعًا) بفتح الضاد، قال الخطابي: وهو وصف لمن خلفه الميت، بلفظ المصدر، أي ضائعين، أي ترك ذوي ضياع، أي لا شيء لهم. اهـ وفي الرواية الخامسة عشرة "فأيكم ما ترك دينًا أو ضيعة، أي ضائعين، لا يملكون شيئًا". وفي الرواية السادسة عشرة "ومن ترك كلا" بفتح الكاف وتشديد اللام، وأصله الثقل، والمراد به هنا العيال. (فأنا مولاه) أي المتولي أمر دينه ووفاءه، وفي الرواية الثالثة عشرة "فمن توفي وعليه دين - أي ولا وفاء له - فعلي قضاؤه" وفي الرواية الخامسة عشرة "فادعوني - أي طالبوني بدينه - فأنا وليه" المسئول عند دينه وعن ضياعه وعياله، وفي الرواية السادسة عشرة "ومن ترك كلا فإلينا" أي فأمر ثقله ودينه إلينا، وفي ملحقها "ومن ترك كلا وليته" بفتح الواو وكسر اللام، أي توليت ثقله. (وأيكم ترك مالاً فإلي العصبة من كان) المراد بالعصبة هنا الورثة، لا من يرث بالتعصيب، لأن العاصب في الاصطلاح من له سهم، من المجمع على توريثهم، ويرث كل المال إذا انفرد، ويرث ما فضل بعد الفروض بالتعصيب، وقيل: المراد بالعصبة هنا قرابة الرجل، وهم من يلتقي مع الميت في

أب ولو علا، سموا بذلك لأنهم يحيطون به، يقال: عصب الرجل، وقال الكرماني: المراد العصبة بعد أصحاب الفروض، قال: ويؤخذ حكم أصحاب الفروض من ذكر العصبة بالطريق الأولى، ويشير إلى ذلك قوله "من كان" فإنه يتناول أنواع المنتسبين إليه، بالنفس أو بالغير. -[فقه الحديث]- تتناول هذه الأحاديث الفرائض والعصبات - والإرث عند اختلاف الدين - والكلالة - وقضاء الديون - وما يؤخذ من الأحاديث من الأحكام. أما الفرائض والعصبات ففيها يقول النووي: أجمع المسلمون على أن ما بقي بعد الفروض فهو للعصبات، يقدم الأقرب فالأقرب، فلا يرث عاصب بعيد، مع وجود قريب، فإذا خلف بنتًا وأخًا وعمًا، فللبنت النصف فرضًا، والباقي للأخ، ولا شيء للعم. قال أصحابنا: والعصبة ثلاثة أقسام: عصبة بنفسه، كالابن وابنه، والأخ وابنه، والعم وابنه، وعم الأب والجد وابنهما، ونحوهم، وقد يكون الأب والجد عصبه، وقد يكون لهما فرض، فمتى كان للميت ابن أو ابن ابن، لم يرث الأب إلا السدس فرضًا، ومتى لم يكن ولد، ولا ولد ابن، ورث بالتعصيب فقط، ومتى كانت بنت، أو بنت ابن، أو بنتان، أو بنتا ابن، أخذ البنات فرضهن، وللأب من الباقي السدس فرضًا، والباقي بالتعصيب. هذا أحد الأقسام، وهو العصبة بنفسه. القسم الثاني العصبة بغيره، وهو البنات بالبنين، وبنات الابن ببني الابن، والأخوات بالإخوة. والثالث العصبة مع غيره، وهو الأخوات للأبوين، أو لأب، مع البنات، أو بنات الابن، فإذا خلف بنتًا وأختًا لأبوين، أو لأب، فللبنت النصف فرضًا، والباقي للأخت تعصيبًا، وإن خلف بنتًا وبنت ابن وأختًا لأبوين، أو أختًا لأب، فللبنت النصف، ولبنت الابن السدس، والباقي للأخت، وإن خلف بنتين، وبنتي ابن، وأختا لأبوين، أو لأب، فللبنتين الثلثان، والباقي للأخت، ولا شيء لبنتي الابن، لأنه لم يبق شيء من فرض جنس البنات، وهو الثلثان. قال أصحابنا: وحيث أطلق العصبة، فالمراد به العصبة بنفسه، وهو كل ذكر يدلي بنفسه بالقرابة، ليس بينه وبين الميت أنثى، ومتى انفرد العصبة أخذ جميع المال، ومتى كان مع أصحاب فروض مستغرقة، فلا شيء له، وإن لم يستغرقوا كان له الباقي بعد فروضهم. (أقول: استثنى من ذلك ما عرف بالمسألة الحجرية، فالفروض فيها مستغرقة، ومع ذلك ورث العصبة، كما في زوج وأم وأخوة لأم وأخ شقيق، فللزوج النصف، وللأم السدس، وللأخوة لأم الثلث، ويشاركهم فيه الأخ الشقيق) كذا عند الجمهور، وكان علي وأبي وأبو موسى لا يشركون الإخوة، ولو كانوا أشقاء مع الإخوة لأم، لأنهم عصبة، وقد استغرقت الفرائض المال، وبذلك قال جمع من الكوفيين، وأقرب العصبات البنون، ثم بنوهم وإن سفلوا، ثم الأب، ثم الجد إن لم يكن أخ، والأخ إن لم يكن جد، فإن كان جد وأخ ففيها خلاف مشهور، ثم بنو الإخوة، ثم بنوهم وإن سفلوا، ثم الأعمام، ثم بنوهم وإن سفلوا.

ومن أدلى بأبوين يقدم على من يدلي بأب، فيقدم أخ لأبوين على أخ لأب ويقدم عم لأبوين على عم لأب. وكذا الباقي، ويقدم الأخ من الأب على ابن الأخ من الأبوين، ويقدم ابن أخ لأب على عم لأبوين، ويقدم عم لأب على ابن عم لأبوين. وكذا الباقي. ولو خلف بنتًا، وأختًا لأبوين، وأخًا لأب، فمذهبنا ومذهب الجمهور أن للبنت النصف، والباقي للأخت، ولا شيء للأخ، وقال ابن عباس - رضي الله عنها - للبنت النصف، والباقي للأخ، دون الأخت. اهـ. ولم يوافق ابن عباس على ذلك أحد، إلا أهل الظاهر. وأما الإرث مع اختلاف الدين فيقول النووي: أجمع المسلمون على أن الكافر لا يرث المسلم، وأما المسلم فلا يرث الكافر أيضًا عند جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وذهبت طائفة إلى توريث المسلم من الكافر، وهو مذهب معاذ بن جبل، ومعاوية، وسعيد بن المسيب، ومسروق، وغيرهم، وروي أيضًا عن أبي الدرداء والشعبي والزهري والنخعي نحوه، على خلاف بينهم في ذلك، واحتجوا بحديث "الإسلام يعلو، ولا يعلى عليه". وبحديث "الإسلام يزيد ولا ينقص" أخرجه أبو داود وصححه الحاكم، وقالوا: نرث أهل الكتاب ولا يرثونا، كما نتزوج منهم، ولا يتزوجون منا وحجة الجمهور هذا الحديث الصحيح الصريح - روايتنا الأولى - ولا حجة في حديث "الإسلام يعلو، ولا يعلى عليه" ولا حديث "الإسلام يزيد ولا ينقص" لأن الحديث الثاني متعقب بالانقطاع، وقيل: باطل وأما الحديث الأول فلأن المراد به فضل الإسلام على غيره، ولم يتعرض أي من الحديثين للميراث، فلا يترك نص صحيح صريح بمثل هذا. ولعل هذه الطائفة لم يبلغها هذا الحديث. ثم قال النووي: وأما المرتد فلا يرث المسلم بالإجماع، وأما المسلم فلا يرث المرتد عند الشافعي ومالك، بل يكون ما له فيئًا للمسلمين، وقال أبو حنيفة والكوفيون والأوزاعي وإسحاق، يرثه ورثته من المسلمين، وروي ذلك عن علي وابن مسعود وجماعة من السلف، لكن قال الثوري وأبو حنيفة: ما كسبه في ردته فهو للمسلمين، وقال الآخرون: الجميع لورثته من المسلمين. وأما توريث الكفار بعضهم من بعض، كاليهودي من النصراني وعكسه، والمجوسي منهما، وهما منه، فقال به الشافعي وأبو حنيفة وآخرون، ومنعه مالك. قال الشافعي: لكن لا يرث حربي من ذمي، ولا ذمي من حربي، والله أعلم. وأما الكلالة فقد تناولتها آية الشتاء، في أوائل سورة النساء، وآية الصيف في آخرها. فالآية الأولى آية المواريث {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعًا فريضة من الله إن الله كان عليمًا حكيمًا * ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم

من بعد وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث. من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم} فهذه الآيات تناولت الكلالة في حالة ما إذا لم يترك الميت ولدًا ولا والدًا، وترك إخوة لأم، فقد كان ابن مسعود يقرأ "وله أخ أو أخت من أم" وكذلك قرأ سعد بن أبي وقاص، فيما أخرجه البيهقي بسند صحيح، ومن الشتاء إلى الصيف أخذ الصحابة يستفتون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكلالة بخصوص الإخوة والأخوات الشقيقات أو لأب، كما حدث من جابر رضي الله عنه رواياتنا الخامسة والسادسة والسابعة والثامنة، فنزلت في الصيف آية الكلالة {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالاً ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم} [النساء: 176]. ولا بد من تقدير "من أم" في الأخ والأخت في الآية الأولى، لأن فرض السدس لا يكون للأخ إلا إذا كان من أم، أما الشقيق أو لأب فهو عصبة، وأما الشقيقة فلها النصف فرضًا، فتقييد الأخوة في الآية الأولى بكونهم من أم، وتقييد الأخوة في الآية الثانية بكونهم من الأبوين أو لأب، ويلحق بالولد في الآية الثانية الوالد، فيكون المعنى إن امرؤ هلك ليس له ولد ولا والد، لأنه لو كان له والد لحجب الإخوة، إلا عند الشيعة، فإنهم يورثون الإخوة مع الأب، قال القاضي عياض: وذكر بعض العلماء الإجماع على أن الكلالة من لا ولد له ولا والد. اهـ. لكن العلماء اختلفوا في المراد بالولد في الآية الثانية هل يشمل البنت؟ وهل ينزل الجد منزلة الأب، فلا ترث معه الإخوة؟ وقد سبق الخلاف فيمن ترك أختًا وبنتًا وأخًا، ومذهب ابن عباس فيها. والله أعلم. وأما قضاء ولي الأمر ديون المتوفى فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا جاءته جنازة سأل قبل أن يصلي عليها: هل عليه دين؟ فإن قالوا: لا. صلى عليه، وإن قالوا: نعم. سأل: هل ترك مالاً زائدًا على مؤنة تجهيزه يسد دينه؟ فإن قالوا: نعم. صلي عليه، وإن قالوا: لا. وتكفل أحد الصحابة بدينه صلى عليه، فقد روى البخاري أنه صلى الله عليه وسلم "سأل هل عليه دين؟ ، فقيل له: نعم. فقال: هل ترك شيئًا؟ قالوا: لا. قال: صلوا على صاحبكم. قال أبو قتادة: صل عليه يا رسول الله وعلى دينه. فصلى عليه" فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقي أبا قتادة يقول: ما صنعت الديناران - مقدار الدين الذي تكفل به -؟ حتى كان آخر ذلك أن قال: قضيتهما يا رسول الله. قال: الآن بردت عليه جلده. قال العلماء: كان صلى الله عليه وسلم يترك الصلاة على من عليه دين، ليحرض الناس على قضاء الديون في حياتهم، والتوصل إلى البراءة منها، لئلا تفوتهم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وليحذر بذلك من الاستدانة إلا لضرورة، واختلفوا: هل كانت صلاته على من عليه دين محرمة عليه؟ أو جائزة؟ قال النووي: الصواب الجزم بجوازها. اهـ

وظاهر الحديث أنه لم يكن يؤدي عن المدين دينه لضيق اليد، فلما فتح الله له الفتوح ضمن الديون وقضاها، ولكن الحقيقة أنه صلى الله عليه وسلم لما تحقق الهدف من عدم صلاته، واهتم الناس بالدين، وفهموا آثارها السيئة وصادف ذلك ما فتحه الله من فتوح ضمن الديون، وهل كان يقضيها من مال مصالح المسلمين؟ أم كان يقضيها من خالص ماله؟ وهل كان القضاء واجبًا عليه؟ أم لا؟ وهل يلزم القائم بأمر المسلمين أن يفعل ذلك بمن مات وعليه دين؟ فإن لم يفعل فالإثم عليه؟ أو لا؟ أقوال للعلماء. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - من أحاديث جابر، الرواية الخامسة والسادسة والسابعة والثامنة يؤخذ فضيلة عيادة المريض. 2 - واستحباب المشي فيها، إذ فيه زيادة الأجر والثواب. 3 - وفي صب ماء الوضوء التبرك بآثار الصالحين وفضل طعامهم وشرابهم ونحوهما، وفضل مؤاكلتهم ومشاربتهم ونحو ذلك. قاله النووي. 4 - ظهور آثار بركة النبي صلى الله عليه وسلم. 5 - استدل به الشافعية وغيرهم على طهارة الماء المستعمل في الوضوء والغسل، ردًا على أبي يوسف، القائل بنجاسته، وهي رواية عن أبي حنيفة. قال النووي: وفي الاستدلال بهذا الحديث نظر، لأنه يحتمل أنه صب من الماء الباقي في الإناء، ولكن قد يقال: إن البركة العظمى فيما لاقى أعضاءه في الوضوء، صلى الله عليه وسلم. 6 - وجواز وصية المريض، وإن كان عقله يذهب في بعض أوقاته، بشرط أن تقع الوصية في حال إفاقته، وحضور عقله. 7 - وبسكوت النبي صلى الله عليه وسلم، وعدم رده على جابر استدل من لا يجوز الاجتهاد في الأحكام للنبي صلى الله عليه وسلم، والجمهور على جوازه، ويتأولون هذا الحديث وشبهه على أنه لم يظهر له بالاجتهاد شيء، فلهذا لم يرد عليه شيئًا، رجاء أن ينزل الوحي. 8 - استنبط منه البخاري مشروعية عيادة المغمى عليه، ولا يقال: إن عيادته لا فائدة منها، لكونه لا يعلم بعائده، وقيل إن حديث جابر ليس فيه التصريح بأنهما علما أنه مغمى عليه قبل عيادته، فلعل الإغماء وافق حضور حضورهما، بل الظاهر من السياق وقوع ذلك حال مجئيهما، وقبل دخولهما عليه، فلا دلالة فيه على زيارة المغمى عليه، وأجيب بأن مجرد علم المريض بعائده بعد الإفاقة يسر خاطره، على أن مشروعية عيادة المريض لا تتوقف على المريض وحده، بل فيها وراء ذلك جبر لخاطر أهله، وما يرجى من بركة دعاء العائد، ووضع يده على المريض، والمسح على جسده، إلى غير ذلك. 9 - ومن الرواية التاسعة من قول عمر: "وإني إن أعش ... إلخ" جواز تأخير القضاء في قضية لم يظهر

الحكم فيها ظهورًا بينا، فيؤخر الحكم حتى يتم الاجتهاد فيها، ويستوفى نظرها، ويتقرر الحكم، ثم يقضي به ويشيعه بين الناس. قال النووي: ولعل النبي صلى الله عليه وسلم إنما أغلظ له لخوفه من اتكاله، واتكال غيره على ما نص عليه صريحًا، وتركهم الاستنباط من النصوص، وقد قال الله تعالى {ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} [النساء: 83] فالاعتناء بالاستنباط من آكد الواجبات المطلوبة، لأن النصوص الصريحة لا تفي إلا باليسير من المسائل الحادثة، فإذا أهمل الاستنباط فات القضاء في معظم الأحكام النازلة، أو في بعضها. والله أعلم. 10 - استدل بعضهم بحديث البراء - روايتنا العاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة على أن آية الكلالة في آخر النساء آخر آية نزلت من القرآن، وأخرج البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم آية الربا، وجاء عنه من وجه آخر "آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم {واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله} [البقرة: 281] يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم مكث بعدها تسع ليال. وجمع بعضهم بأن الآيتين نزلتا جميعًا، فيصدق أن كلاً منهما آخر بالنسبة لما عداهما، ويحتمل أن تكون الآخرية في آية النساء مقيدة بما يتعلق بالمواريث مثلاً، بخلاف آية البقرة، ويحتمل عكسه. والله أعلم. 11 - ومن الرواية الثالثة عشرة، من قوله "صلوا على صاحبكم" الأمر بصلاة الجنازة، وهي فرض كفاية. 12 - واستدل بعضهم بروايتنا الأولى، بقوله "لا يرث الكافر المسلم" على جواز تخصيص عموم القرآن بخبر الآحاد، لأن قوله تعالى {يوصيكم الله في أولادكم} عام في الأولاد، فخص منه الولد الكافر، فلا يرث من المسلم، بالحديث المذكور، وأجيب بأن المنع حصل بالإجماع، وخبر الواحد إذا حصل الإجماع على وفقه كان التخصيص بالإجماع، لا بخبر الواحد فقط. واللَّه أعلم

كتاب الهبات

كتاب الهبات

(429) باب الرجوع في الصدقة والهبة

(429) باب الرجوع في الصدقة والهبة 3664 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: حملت على فرس عتيق في سبيل الله فأضاعه صاحبه فظننت أنه بائعه برخص، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. فقال "لا تبتعه ولا تعد في صدقتك فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه". 3665 - - وفي رواية عن مالك بن أنس بهذا الإسناد وزاد "لا تبتعه وإن أعطاكه بدرهم". 3666 - عن عمر رضي الله عنه: أنه حمل على فرس في سبيل الله فوجده عند صاحبه وقد أضاعه وكان قليل المال فأراد أن يشتريه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له. فقال "لا تشتره وإن أعطيته بدرهم فإن مثل العائد في صدقته كمثل الكلب يعود في قيئه". 3667 - عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن عمر بن الخطاب حمل على فرس في سبيل الله فوجده يباع فأراد أن يبتاعه. فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. فقال "لا تبتعه ولا تعد في صدقتك". 3668 - عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن عمر حمل على فرس في سبيل الله ثم رآها تباع فأراد أن يشتريها، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تعد في صدقتك يا عمر". 3669 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "مثل الذي يرجع في صدقته كمثل الكلب يقيء ثم يعود في قيئه فيأكله".

3670 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إنما مثل الذي يتصدق بصدقة ثم يعود في صدقته كمثل الكلب يقيء ثم يأكل قيئه". 3671 - عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "العائد في هبته كالعائد في قيئه". 3672 - عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه". -[المعنى العام]- أهدى تميم الداري لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرسًا عريقًا نفيسًا، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه وكان يقال له الورد، ولم يكن أمام عمر وضع يضع فيه هدية رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل وأكرم من ساحة الجهاد، وعنده من الخيل ما علمه وتعود عليه، فقدمه لأحد المجاهدين بأنفسهم، الفقراء الذين لا يجدون حمولة تحملهم إلى الميدان، الذين قال الله فيهم {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا} [التوبة: 92] قدمه عمر لأحد هؤلاء الأبطال الذين تحتاجهم المعارك الإسلامية، ليرفعوا راية الإسلام عالية، وخرج به الفقير، وجاهد في الله حق جهاده، وعاد من الغزو، فلم يجد ما ينفق به على علف الفرس ومؤنته، وضعف الفرس يومًا بعد يوم عند الرجل، فرأى الرجل أن يبيعه لمن يعرف قدره، ويعتني به ويرعاه، ثم هو ينتفع بثمنه في ضرورات حياته، ورآه عمر يباع في السوق، ومنظره لا يدل على حقيقته وقيمته، وتأكد أنه سيباع برخص، ففكر أن يشتريه، ليعيد إليه صحته ونشاطه وحيويته، وربما يحمل عليه رجلاً آخر في سبيل الله. لكن كيف يمتلك صدقة بعد أن أخرجها وقبضها صاحبها؟ شك في الحكم الشرعي لما فكر فيه، فسأل رسول الله

صلى الله عليه وسلم. فقال له: لا تشتره. لا تشتره ولو أعطاكه بدرهم، إنك إن اشتريت أشبهت العائد في صدقته، والعائد في صدقته كالكلب، يقيء، ثم يعود إلى قيئه فيأكله، ونفر عمر رضي الله عنه من الفعل ومن شبهه، وبعد عن شرائه، وفي ذلك من أدب التشريع ما يرفع الحياء عن المتصدق عليه إذا أراد أن يبيع الصدقة التي أعطيت له، وكان في ذلك من أدب التشريع ما يمنع المتصدق من أن يمد عينه إلى ما تصدق به، وما يعظم نفسه عن التفكير فيما أخرج في وجوه الخير. -[المباحث العربية]- (حملت على فرس عتيق في سبيل الله) أي تصدقت به، ووهبته لمن يقاتل عليه في سبيل الله، وأصله حملت مجاهدًا على فرس لي، وكانت الخيل والإبل من أهم عدة الجهاد، وكانت وسيلة السفر، والعتيق الكريم الفائق من كل شيء، والمراد هنا فرس نفيس جواد، يقال عتق بفتح التاء يعتق بكسرها، فهو عاتق وعتيق، أي بلغ نهايته ومداه، وعتق بضم التاء يعتق بضمها أيضًا فهو عتيق، وهي عتيق، أي قدر وكرم. وهل كان هذا الحمل على سبيل الهدية والهبة؟ أو على سبيل الصدقة؟ احتمالان، والفرق بينهما أن الصدقة لا تكون إلا لمستحقها، أما الهبة فتكون لمستحق الزكاة، ولغير مستحق الزكاة، والصدقة لا يقصد لها مقابل إلا من الله، أما الهبة فقد تكون بمقابل دنيوي من الموهوب له، والفرس يطلق على الذكر والأنثى. (فأضاعه صاحبه) أي أهمله، وقصر في إطعامه وعلفه والعناية بأمره، والضائع الجائع، والمفقود، وفي الرواية الثانية "وكان قليل المال" وقيل لم يعرف مقداره فأراد بيعه بدون قيمته، وقيل: استعمله فيما لا يليق به، والأول أصح. (فظننت أنه بائعه برخص) أي بثمن بخس رخيص، وهذا الظن بعد أن وجده يبيعه، ففي الرواية الثالثة "فوجده يباع" وفي الرواية الرابعة "ثم رآها تباع". (فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك) أي عن حكم شرائه بعد هبته، وكأنه وقع في نفسه من ذلك شيء، فسأل عن الحكم، وكان ما توقع، وفي الرواية الثانية "فأراد أن يشتريه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له" وفي الرواية الثالثة "فأراد أن يبتاعه، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك". (فقال: لا تبتعه، ولا تعد في صدقتك) جعل شراءه عودًا في الصدقة للتنفير، فهو يشبه العود من حيث رجوع المتصدق به إلى المتصدق، ولو بطريق ما، وفي الرواية الثانية "لا تشتره، وإن أعطيته بدرهم" مبالغة في رخصه، الحامل له على الشراء. وقال الحافظ ابن حجر: سمي شراءه برخص عودًا في الصدقة لأن العادة جرت بالمسامحة من البائع للمشتري في مثل ذلك، فأطلق على القدر الذي يسامح به رجوعًا، أو سماه عودًا في الصدقة من حيث إن الغرض كان ثواب الآخرة، والشراء جعله للدنيا، وبخاصة إذا كان برخص.

(فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه) في الرواية الثانية "فإن مثل العائد في صدقته كمثل الكلب، يعود في قيئه" وفي الرواية الخامسة "مثل الذي يرجع في صدقته كمثل الكلب، يقيء ثم يعود في قيئه، فيأكله" وفي الرواية السادسة "مثل الذي يتصدق بصدقة، ثم يعود في صدقته، كمثل الكلب، يقيء، ثم يأكل قيأه" وفي هذا التشبيه تنفير من وجوه. تشبيه العائد بالكلب، وهو أخس وأقذر الحيوان، وتشبيه ما يعاد بالقيء، وهو مستقذر، وتشبيه العود بأكل القيء، وهو شديد القذارة والاستقباح. -[فقه الحديث]- اختلف العلماء في حكم الرجوع في الهبة والصدقة بطريق الشراء ونحوه، فقال ابن بطال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجوع في الهبة كالرجوع في القيء، وهو حرام، فكذا الرجوع في الهبة. اهـ. وقد روى البخاري "ليس لنا مثل السوء، الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه" فهذا المثل ظاهر في تحريم الرجوع في الهبة والصدقة بعد إقباضها. كذلك جاء في حديث "لا يحل لواهب أن يرجع في هبته". قال النووي: هذا الحديث ظاهر في تحريم الرجوع في الهبة والصدقة بعد إقباضهما، وهو محمول على هبة الأجنبي، أما إذا وهب لولده وإن سفل، فله الرجوع فيه، كما صرح به في حديث النعمان بن بشير، ولا رجوع في هبة الإخوة والأعمام وغيرهم من ذوي الأرحام، هذا مذهب الشافعي، وبه قال مالك والأوزاعي، وقال أبو حنيفة وآخرون: يرجع كل واهب، إلا الولد، وكل ذي رحم محرم. اهـ ويجيب الحنفية عن هذا الحديث بأن الراجع في القيء هو الكلب، لا الرجل، والكلب غير متعبد، بتحليل ولا بتحريم، فلا يثبت منع الواهب من الرجوع، فالرسول صلى الله عليه وسلم ينزه أمته من أمثال الكلب، لا أنه أبطل أن يكون لهم الرجوع في هباتهم، وأما حديث "لا يحل لواهب أن يرجع في هبته" فإنه لا يستلزم التحريم، وهو كقوله "لا تحل الصدقة لغني" فنفي الحل لا يستلزم الحرمة. كما يستدلون بحديث "الرجل أحق بهبته ما لم يثب منها" رواه ابن ماجه والدارقطني، وحديث "من وهب هبة فهو أحق بهبته ما لم يثب منها" رواه الطبراني. ويحملون هذا الحديث ونحوه على كراهة التنزيه. والله أعلم. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - استدل بالحديث بعضهم على جواز بيع الموقوف، إذا بلغ غاية لا يتصور الانتفاع به فيما وقف له، وهذا الاستدلال مبني على أن عمر حبس هذا الفرس ووقفه على الجهاد، وهذا يفتقر إلى دليل، والظاهر أن حمل الفرس كان حمل تمليك، لا حمل تحبيس. واستثنى العلماء من عموم عدم الرجوع في الهبة صورًا. قال الطبري: يخص من عموم هذا

الحديث من وهب بشرط الثواب، ومن كان والدًا والموهوب له ولده، والهبة التي لم تقبض، والتي ردها الميراث إلى الواهب لثبوت الأخبار باستثناء كل ذلك، وأما ما عدا ذلك، كالغني يثيب الفقير، ونحو من يصل رحمه، فلا رجوع لهؤلاء، قال: ومما لا رجوع فيه مطلقًا الصدقة، يراد بها ثواب الآخرة. 2 - وأخذ بعضهم من قول عمر: حملت على فرس عتيق في سبيل الله جواز إذاعة عمل البر، وتعقب بأن كتمان عمل البر أفضل، لكن عمر رضي الله عنه تعارض عنده المصلحتان، الكتمان، وتبليغ الحكم الشرعي، فرجح الثاني، فعمل به، وتعقب بأنه كان يمكنه أن يقول: حمل رجلاً على فرس مثلاً، ولا يقول: حملت، فيجمع بين المصلحتين، قال الحافظ ابن حجر: والظاهر أن محل رجحان الكتمان إنما هو قبل الفعل وعنده، وأما بعد وقوعه فلعل الذي أعطيه أذاع ذلك، فانتقى الكتمان، ويضاف إليه أن في إضافته ذلك إلى نفسه تأكيدًا لصحة الحكم المذكور، لأن الذي تقع له القصة أجدر بضبطها ممن ليس عنده إلا وقوعها بحضوره، فلما أمن ما يخشى من الإعلان بالقصة، صرح بإضافة الحكم إلى نفسه، ويحتمل أن يكون محل ترجيح الكتمان لمن يخشى على نفسه من الإعلان، العجب والرياء، أما من أمن من ذلك كعمر فلا. اهـ. وفي هذا القول نظر، فإن كتمان عمل البر مطلوب قبل فعله، وعند فعله، وبعد فعله، واحتمال أن الذي أعطيه أذاع ذلك لا يبنى عليه حتى ولو تأكد أنه ذاع، ولو أن تأكيد الصحة والضبط يفتح الباب للإعلان لأعلن كل من فعل برًا، وأما أن الأمن من الرياء يبيح الإعلان فغير مسلم، لأن الكتمان من حكمته عدم جرح مشاعر المعطى، وخاصة في مثل هذه الواقعة التي أساء فيها بائع الفرس بإضاعته. والظاهر أن عمر رضي الله عنه رأى في القصة هضمًا لنفسه، وخطأ كاد يقع فيه، وقصدًا لا يقصده أهل المروءات، وقربًا من الوقوع في زلة شبهها رسول الله صلى الله عليه وسلم بفعل أحقر الحيوانات، فذكر القصة على أنه كاد يسيء لا على أنه فعل برًا ومعروفًا، كما يقول المتصدق: تصدقت ومننت بصدقتي، فليس مقصوده إعلان البر، بل مقصوده إعلان الخطأ، والله أعلم. 3 - وفي الحديث فضل الحمل في سبيل الله، والإعانة على الغزو بكل شيء. 4 - وأن الحمل في سبيل الله يعطي المحمول حق بيعه، والانتفاع به، والانتفاع بثمنه. 5 - وفيه ما كان عليه عمر رضي الله عنه من جهاد بالمال، ويقظة وحيطة من الوقوع في الأخطاء الشرعية. 6 - وفيه جواز استخدام الألفاظ المستقذرة عند إرادة التنفير، ليرتدع من تسول له نفسه الوقوع في الزلل، أو الاستهانة بالحكم الشرعي. والله أعلم

(430) باب تفضيل بعض الأولاد على بعض في الهبة

(430) باب تفضيل بعض الأولاد على بعض في الهبة 3673 - عن النعمان بن بشير رضي الله عنه: أنه قال: إن أباه أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني نحلت ابني هذا غلامًا كان لي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ " فقال: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فارجعه". 3674 - عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: أتى بي أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني نحلت ابني هذا غلامًا. فقال "أكل بنيك نحلت؟ " قال: لا. قال "فاردده". 3675 - وفي رواية "أكل بنيك". وفي حديث الليث وابن عيينة "أكل ولدك" ورواية الليث عن محمد بن النعمان وحميد بن عبد الرحمن "أن بشيرًا جاء بالنعمان". 3676 - عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: وقد أعطاه أبوه غلامًا. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "ما هذا الغلام؟ " قال: أعطانيه أبي. قال "فكل إخوته أعطيته كما أعطيت هذا؟ " قال: لا. قال "فرده". 3677 - عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: تصدق علي أبي ببعض ماله. فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فانطلق أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليشهده على صدقتي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "أفعلت هذا بولدك كلهم" قال: لا. قال "اتقوا الله واعدلوا في أولادكم" فرجع أبي فرد تلك الصدقة.

3678 - عن النعمان بن بشير رضي الله عنه: أن أمه بنت رواحة سألت أباه بعض الموهبة من ماله لابنها، فالتوى بها سنة ثم بدا له، فقالت: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما وهبت لابني فأخذ أبي بيدي وأنا يومئذ غلام فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال يا رسول الله إن أم هذا بنت رواحة أعجبها أن أشهدك على الذي وهبت لابنها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا بشير ألك ولد سوى هذا؟ " قال: نعم. فقال "أكلهم وهبت له مثل هذا؟ " قال: لا. قال "فلا تشهدني إذا فإني لا أشهد على جور". 3679 - عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ألك بنون سواه؟ " قال: نعم. قال "فكلهم أعطيت مثل هذا؟ " قال: لا. قال "فلا أشهد على جور". 3680 - عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبيه "لا تشهدني على جور". 3681 - عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: انطلق بي أبي يحملني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أشهد أني قد نحلت النعمان كذا وكذا من مالي. فقال "أكل بنيك قد نحلت مثل ما نحلت النعمان؟ " قال: لا. قال "فأشهد على هذا غيري" ثم قال "أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء؟ " قال: بلى. قال "فلا إذا". 3682 - عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: نحلني أبي نحلاً ثم أتى بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشهده. فقال "أكل ولدك أعطيته هذا؟ " قال: لا. قال "أليس تريد منهم البر مثل ما تريد من ذا؟ " قال: بلى. قال "فإني لا أشهد" قال ابن عون: فحدثت به محمداً. فقال إنما تحدثنا أنه قال "قاربوا بين أولادكم".

3683 - عن جابر رضي الله عنه قال: قالت امرأة بشير: أنحل ابني غلامك وأشهد لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن ابنة فلان سألتني أن أنحل ابنها غلامي وقالت أشهد لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال "أله إخوة؟ " قال: نعم. قال "أفكلهم أعطيت مثل ما أعطيته؟ " قال: لا. قال "فليس يصلح هذا وإني لا أشهد إلا على حق". -[المعنى العام]- المال والحرص عليه من أهم أسباب الشقاء الإنساني في هذه الحياة، يورث الشقاق بين الإخوة وذوي الأرحام ويزرع عقوق الأبناء للآباء، من أجل هذا اهتم الإسلام بتصرف الآباء في مالهم مع الأبناء. لقد وضعت القواعد والقيود والفرائض في الميراث، ورضي المسلمون بحكم الله فيه، ولم يعد أداة للنزاع، أو سببًا للفرقة والبغضاء. فماذا عن تصرفات الآباء في حياتهم؟ هل يسوون بين أولادهم؟ أو يتبعون النوازع النفسية، وزيادة حبهم لبعض الأولاد فوق حب البعض، لا نقاش في درجات الحب القلبي، ولا عقوبة على ميل الآباء للبعض فوق البعض، فذلك مما لا يملكه البشر، إنما النقاش في عدم المساواة بين الأولاد في العطاء المادي، وقد تتعدد أمهات الأولاد، فتكون لإحداهن حظوة ودلال على الأب تحاول من خلاله تمييز أولادها عن أولاد ضرائرها في مال أبيهم، وها هي عمرة بنت رواحة تطلب من زوجها بشير بن سعد أن يمنح ابنها منه النعمان منحة يختص بها دون إخوته من ضرائرها، ويماطل زوجها في الإجابة، وتلح في الطلب، وتمضي سنة وبعض أخرى، وعمرة تلح، وبشير يراوغ ويماطل، حتى هددته بالتوقف عن تربية النعمان ورعايته إذا لم يمنحه عبدًا يملكه، أو حديقة هي أعز أمواله، ولم يجد بشير بدا من إجابتها، فوهب للنعمان عبدًا غلامًا، أو حديقة، أو الأمرين، وخافت عمرة من تراجع بشير أمام ضغط الأبناء الآخرين وأمهاتهم، فطلبت منه أن يشهد على هذه المنحة رسول الله صلى الله عليه وسلم، توثيقًا وتمكينًا وتبركًا، وذهب بشير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصحب معه ابنه، يحمله في بعض الطريق لصغره، ويمشي معه في بعضه، حتى وصلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال بشير: يا رسول الله، إن النعمان هذا ابني من عمرة بنت رواحة وإنها طلبت مني أن أمنحه عطية، فوهبته غلامًا هو أحب ما لي إلي، فقالت لي أمه: لا يرضيني إلا أن تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الهبة. فاشهد يا رسول الله أنني منحت ابني النعمان هذا الغلام. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألك ولد سواه؟ قال: نعم قال له: أأعطيت أولادك الآخرين مثل ما أعطيت النعمان؟ قال: لا قال: هل تحب من الجميع أن يبروك بأحسن درجات البر؟ قال: نعم. قال: سو بينهم اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، سووا بين أولادكم في الهبة كما تحبون أن يسووا لكم في البر، رد - يا بشير - هذه العطية، وإلا فأشهد عليها غيري، فليس يصلح هذا، وإني لا أشهد على جور، ولا أشهد إلا على حق، فرجع بشير إلى بيته، وأعلن إلى عمرة

أنه استرد عطيته، بناء على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلمت عمرة بحكم الله، وهي تقول في نفسها: ليتني رضيت بالهدية دون إشهاد، وليتني لم أطمع، وقد علمت أن الطمع يذهب بما جمع. -[المباحث العربية]- (عن النعمان بن بشير) "بشير" بن سعد بن ثعلبة بن الجلاس - بضم الجيم وتخفيف اللام - الخزرجي، صحابي مشهور، من أهل بدر، وشهد غيرها، مات في خلافة أبي بكر سنة ثلاث عشرة، ويقال: أنه أول من بايع أبا بكر من الأنصار. (إن أباه أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي الرواية الخامسة "فأخذ أبي بيدي، وأنا يومئذ غلام، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي الرواية الثامنة "انطلق بي أبي يحملني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" ويجمع بين الروايتين بأنه أخذه بيده، فمشى معه بعض الطريق، وحمله في بعضها، لصغر سنه، أو عبر عن استتباعه إياه بالحمل. (فقال: إني نحلت ابني هذا غلامًا كان لي) "نحلت" بفتح الحاء وسكون اللام، يقال: نحل ينحل، من باب ذهب يذهب، والنحلة بكسر النون وسكون الحاء العطية بغير عوض، وهي المرادة بالصدقة في قوله في الرواية الرابعة "تصدق علي أبي ببعض ماله" وفي الرواية الثالثة "فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا الغلام؟ قال: أعطانيه أبي" فكأنهما أخذا الغلام معهما، وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل عنه، وأجيب من النعمان، ثم حكى بشير قصته. وواضح من هذا أن النحلة كانت غلامًا، لكن وقع عند ابن حبان والطبراني عن النعمان بن بشير أنه خطب بالكوفة فقال: إن والدي بشير بن سعد أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن عمرة بنت رواحة نفست بغلام، وإني سميته النعمان، وإنها أبت أن تربيه حتى جعلت له حديقة من أفضل مال هو لي، وأنها قالت: أشهد على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفيه قوله صلى الله عليه وسلم "لا أشهد على جور" وجمع ابن حبان بين الروايتين بالحمل على وقعتين، إحداهما عند ولادة النعمان، وكانت العطية حديقة، والأخرى بعد أن كبر النعمان، وكانت العطية عبدًا. قال الحافظ ابن حجر: وهو جمع لا بأس به، إلا أنه يعكر عليه أنه يبعد أن ينسى بشير مع جلالته الحكم في المسألة، حتى يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيستشهده على العطية الثانية، بعد أن قال له في الأولى "لا أشهد على جور" وجوز ابن حبان أن يكون بشير ظن نسخ الحكم، وقال غيره: يحتمل أن يكون بشير حمل الأمر الأول على كراهة التنزيه، أو ظن أنه لا يلزم من الامتناع في الحديقة الامتناع في العبد، لأن ثمن الحديقة في الأغلب أكثر من ثمن العبد. قال الحافظ ابن حجر: ثم ظهر لي وجه آخر من الجمع، يسلم من هذا الخدش، ولا يحتاج إلى جواب، وهو أن عمرة لما امتنعت من تربيته إلا أن يهب له شيئًا، يخصه به، وهبه الحديقة المذكورة، تطييبًا لخاطرها، ثم بدا له فارتجعها، لأنه لم يقبضها منه أحد غيره، فعاودته عمرة في ذلك، فماطلها

سنة أو سنتين، ثم طابت نفسه أن يهب له بدل الحديقة غلامًا، ورضيت عمرة بذلك، إلا أنها خشيت أن يرتجعه أيضًا فقالت له: أشهد على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، تريد بذلك تثبيت العطية وأن تأمن من رجوعها فيها، ويكون مجيئه إلى النبي صلى الله عليه وسلم للإشهاد، مرة واحدة، وهي الأخيرة، وغاية ما فيه أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ بعض، أو كان النعمان يقص بعض القصة تارة، ويقص بعضها أخرى، فسمع كل ما رواه، فاقتصر عليه. اهـ. وهو جمع حسن، وإن كان يقوم على احتمال الهبة والرجوع فيها، ثم الهبة مرة أخرى، وهذا يحتاج إلى معتمد، ثم إن رواية ابن حبان والطبراني فيها الحديقة، وفيها إتيان النبي صلى الله عليه وسلم وقوله "لا أشهد على جور" ورواية العبد في الصحيحين فيها الإتيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله "لا أشهد على جور" فبقي الإشكال، وعندي احتمال قد يرفع الإشكال، وهو أن يكون بشير قد نحل ابنه حديقة وغلامًا معًا، ويكون الذهاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة واحدة، وأنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني قد نحلت ابني هذا حديقة وغلامًا ... إلخ، فذكر النعمان في تحديثه إحدى النحلتين، أو اقتصر بعض الرواة على ذكر إحدى النحلتين، وذكر إحدى النحلتين لا ينفي الأخرى، حيث لا قصر في الأسلوب، هذا إذا كانت هناك ضرورة للجمع، وإلا فالاعتماد على روايات الصحيحين. والله أعلم. (أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ ) الهمزة للاستفهام الحقيقي، و"كل" منصوب على الاشتغال، وهو مفعول مقدم في الرواية الثانية "أكل بنيك نحلت"، والولد يطلق على الذكر والأنثى، ولم يذكر ابن سعد لبشير والد النعمان ولدًا غير النعمان، وذكر له بنتًا اسمها أبية تصغير أبي وفي الرواية الثانية "أكل بنيك نحلت" والابن يطلق على الذكر، فإن كان لبشير ذكور وإناث فذكر "بنيك" للتغليب والرواية السادسة، ولفظها "ألك بنون سواه؟ قال: نعم" ترد كلام ابن سعد، اللهم إلا أن يقال: إنهم كانوا وماتوا، وهو بعيد. وفي الرواية الثالثة "فكل إخوته أعطيته كما أعطيت هذا"؟ والضمير في "أعطيته" يجوز إفراده مراعاة للفظ "كل" وجمعه مراعاة لمعناه، ومثل ذلك ما جاء في الرواية الخامسة بلفظ "أكلهم وهبت له مثل هذا"؟ والولد بفتح الواو واللام، وكذا بضم الواو وسكون اللام يطلق على المفرد والجمع، ولذا جاء في الرواية الرابعة "أفعلت هذا بولدك كلهم"؟ . (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فارجعه) أي ارجع ما نحلته لابنك. وفي الرواية الثانية "فاردده" وفي الرواية الثالثة "فرده" وفي الرواية الرابعة "فرجع أبي فرد تلك الصدقة". (عمرة بنت رواحة) بن ثعلبة الخزرجية، أخت عبد الله بن رواحة، الصحابي المشهور، و"رواحة" بفتح الراء. (بعض الموهبة) قال النووي: كذا في بعض النسخ، وفي معظمها "بعض الموهوبة" وتقديرها بعض الأشياء الموهوبة. (فالتوى بها سنة) أي فماطلها سنة، وعند ابن حبان "حولين" ويجمع بينهما بأن المدة كانت سنة وشيئًا، فجبر الكسر تارة، وألغى أخرى.

(اتقوا الله واعدلوا في أولادكم) في رواية للبخاري "فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم" زاد في بعضها "في العطية" وفي رواية "سووا بين أولادكم في العطية، كما تحبون أن يسووا بينكم في البر" وسيأتي في فقه الحديث خلاف العلماء في المراد بالتسوية، وفي ملحق روايتنا التاسعة "قاربوا بين أولادكم" بالباء، وفي بعض النسخ "قارنوا" بالنون. (فلا تشهدني إذًا، فإني لا أشهد على جور) وفي الرواية السابعة "لا تشهدني على جور" وفي الرواية الثامنة "فأشهد على هذا غيري ... فلا. إذًا" والتنوين في "إذًا" عوض عن جملة الشرط، أي إذا كنت يسرك أن يكونوا إليك في البر سواء فلا أشهد، وفي الرواية العاشرة "فليس يصلح هذا، وإني لا أشهد إلا على حق" والجور الميل عن الاستواء والاعتدال، وعن الطريق المستقيم، فإن كان شديدًا فهو الحرام، وإن كان قليلاً فهو المكروه. -[فقه الحديث]- لا خلاف بين العلماء في أن التسوية بين الأبناء والبنات، أي بين الأولاد مطلوبة شرعًا، ولكن الخلاف في: هل هي واجبة؟ فعدم التسوية حرام؟ وعلى القول بأنها واجبة، وعدمها حرام، هل تكون باطلة؟ أو ماضية نافذة مع الحرمة؟ وعلى القول بأنها مستحبة، هل يستحب التسوية بين الذكر والأنثى؟ أو للذكر مثل حظ الأنثيين؟ ولكل أدلته، ووجهة نظر في هذه الأحاديث وغيرها، نعرضها بالتفصيل الذي يسمح به المقام. أولاً: القول بأن التسوية واجبة، وعدمها حرام، وهي باطلة قال به طاووس وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وعروة وأبو جريج والنخعي والشعبي وابن شبرمة وأحمد وإسحق وسائر الظاهرية. واحتجوا على وجوب التسوية وحرمة التفضيل بظاهر عبارات هذه الأحاديث: (أ) "اتقوا الله واعدلوا في أولادكم" روايتنا الرابعة. (ب) "لا أشهد على جور" والجور الظلم، وهو حرام - روايتنا الخامسة والسادسة. (ج) "لا تشهدني على جور" - روايتنا السابعة. (د) "لا أشهد إلا على حق" روايتنا العاشرة. (هـ) عند أحمد "إن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم والحق واجب". (و) وعند أبي داود "إن لهم عليك من الحق أن تعدل بينهم، كما أن لك عليهم من الحق أن يبروك". (ز) وعند النسائي "إلا سويت بينهم" وعنده وعند ابن حبان "سو بينهم". فهذه الألفاظ وإن اختلفت ترجع إلى معنى واحد، وتفيد وجوب التسوية.

يضاف إلى ذلك أن التسوية مقدمة للواجب، وأن التفضيل مقدمة للمحرم، فهو مقدمة لقطع الرحم والعقوق، وما يؤدى إلى المحرم محرم، فالتفضيل محرم. واحتجوا على بطلان التفضيل بالأمر بالرد، "فارجعه" روايتنا الأولى "فاردده" روايتنا الثانية "فرده" روايتنا الثالثة، فلولا فساد العقد ما أمر بالرد، وفي الرواية العاشرة "فليس يصلح هذا" أي فهو باطل. ثانيًا: القول بأن التسوية واجبة، وعدمها حرام، ويجب عليه رد التفضيل، فإن لم يرد التفضيل صح ونفذ مع الحرمة، وهذا القول لبعض الفريق السابق، وهو المشهور عن أحمد، بل أصح شيء عنه، كما ذكره الخرقي عنه، إذ قال: وإذا فضل بعض ولده في العطية أمر برده، فإن مات ولم يرده فقد ثبت لمن وهب له، إذا كان ذلك في صحته. اهـ وبه قال بعض المالكية، ويقولون: إن في قوله "ارجعه" دليل على الصحة، إذ لو لم تصح الهبة لم يصح الرجوع. ثالثًا: تجب التسوية إن قصد بالتفضيل الإضرار، وهو قول أبي يوسف. رابعًا: تجب التسوية ما لم يكن للتفضيل سبب، فإن كان للتفضيل سبب، كاحتياج الولد، لزمانته، أو دينه، أو نحو ذلك جاز. وهذا القول رواية عن أحمد. خامسًا: التسوية مستحبة، ويسوى بين الذكر والأنثى، وتفضيل بعض الأولاد على بعض مكروه، وليس بحرام، وهو قول جمهور الشافعية، وظاهر الأمر بالتسوية يشهد لهم. سادسًا: التسوية مستحبة، ومعناها أن يكون للذكر مثل حظ الأنثيين، وأما التفضيل فقد كرهه الثوري وابن المبارك وأحمد، وكان إسحق يقول مثل هذا، ثم رجع إلى قول الشافعي: ترك التفضيل في عطية الأبناء فيه حسن الأدب، ويجوز له ذلك في الحكم. اهـ. وباستحباب التسوية قال الشافعية والحنفية والمالكية والجمهور، فإن فضل بعض أولاده صح وكره، واستحبت المبادرة إلى التسوية أو الرجوع. وأما أن العدل في إعطاء الذكر مثل حظ الأنثيين فلأنه حظه من ذلك المال، لو أبقاه الواهب في يده حتى مات. ويجيب الجمهور على أدلة الموجبين للتسوية. بأن قوله "لا أشهد على جور" لا يلزم منه أن يكون حرامًا، بل لو كان حرامًا أو باطلاً ما قال في روايتنا الثامنة "فأشهد على هذا غيري" فإن قيل: قاله تهديدًا قلنا: الأصل في كلام الشرع الحقيقة، وليس التهديد، فقوله "أشهد" بفعل الأمر يعطي وجوب إشهاد الغير أو ندبه، أو على الأقل إباحته، فوجب، تأويل الجور على أنه مكروه كراهة تنزيه، فمعنى "لا أشهد على جور" لا أشهد على ميل الأب لبعض الأولاد، دون بعض. وبأن امتناعه صلى الله عليه وسلم عن الشهادة كان توقيًا عن مثل ذلك لرفعة مقامه، أو لكونه

الإمام، وكأنه قال: لا أشهد لأن الإمام ليس من شأنه أن يشهد، وإنما من شأنه أن يحكم. حكاه الطحاوي، وارتضاه ابن القصار، وتعقب بأنه لا يلزم من كون الإمام ليس من شأنه أن يشهد، أن يمتنع من تحمل الشهادة، ولا من أدائها إذا تعينت عليه. ويجيبون بأن مقدمة الحرام لا يلزم أن يكون حرامًا، ولا يلزم من وقوع التفاضل وقوع قطيعة الرحم، فقد يكون هذا التفاضل تافها في نظر الآخرين، أو معقول السبب فلا يحصل عقوق. وحكى ابن عبد البر عن مالك أن الموهوب للنعمان كان جميع مال والده، ولذلك منعه، فليس فيه حجة على منع التفضيل وتعقب بأن كثيرًا من طرق الحديث صرح بالبعضية، كروايتنا الرابعة، وفيها "تصدق على أبي ببعض ماله" والخامسة وفيها "بعض الموهبة من ماله" والثامنة وفيها "من مالي" ومنها يعلم على القطع أنه كان له مال غير هذه العطية. وحكى الطحاوي أنما حدث كان من قبيل الاستشارة والنصيحة، فقد جاء بشير يستشير النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأشار عليه بأن لا تفعل. لكن في أكثر طرق الحديث ما يعارضه. وتمسك بعضهم بملحق روايتنا التاسعة، ولفظها "فقاربوا بين أولادكم" وقال: إنه المحفوظ، فالمطلوب من التسوية المقاربة ولا يخفى بعده. وقال بعضهم: إن التشبيه الواقع في التسوية بين الأولاد بالتسوية منهم في بر الوالدين قرينة على أن المراد بالأمر بالتسوية الندب. كما استدل الجمهور بظاهر حديث "أنت ومالك لأبيك" لأنه إذا كان المال للأب، ووهب منه شيئًا لولده كان كأنه قد وهب مال نفسه لنفسه، قال المحققون: والحديث صحيح، رواه ابن ماجه في سننه بسند قال ابن القطان: صحيح، وقال المنذري: رجاله ثقات، ورواه أيضًا ابن حبان في صحيحه، والطبراني في معجمه. كما استدلوا بعمل الخليفتين أبي بكر وعمر، بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الموطأ بإسناد صحيح عن عائشة "أن أبا بكر قال لها في مرض موته: إني كنت نحلتك نحلاً، فلو كنت اخترتيه لكان لك، وإنما هو اليوم للوارث". وذكر الطحاوي وغيره أن عمر بن الخطاب نحل ابنه عاصمًا، دون سائر ولده. وأقوى ما استدل به الجمهور أن الإجماع انعقد على جواز عطية الرجل ما له لغير ولده، فإذا جاز له أن يخرج جميع ولده من ماله - وفي ذلك احتمال عقوق من جميعهم - جاز له أن يخرج عن ذلك بعضهم. فإن قيل: هذا قياس مع وجود النص؟ أجيب بأنه يمتنع القياس مع وجود النص إذا ترك النص على الإطلاق، أما إذا عمل بالنص على وجه من الوجوه - كما ذكرنا - فلا يمتنع. والله أعلم. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - استدل به على أن للأب أن يرجع فيما وهبه لابنه، وعند أكثر الفقهاء أن الأم كذلك، وقال المالكية: للأم أن ترجع إن كان الأب حيًا، دون ما إذا مات، وقيدوا رجوع الأب بما إذا كان الابن الموهوب له لم يستحدث دينًا، أو ينكح، وبذلك قال إسحاق، وقال الشافعي: للأب الرجوع مطلقًا، وقال أحمد: لا يحل لواهب أن يرجع في هبته مطلقًا، وقال الكوفيون: إن كان الموهوب له صغيرًا لم

يكن للأب الرجوع، وكذا إن كان كبيرًا، وقبضها، قالوا: وإن كانت الهبة لزوج من زوجته، أو بالعكس، أو لذي رحم، لم يجز الرجوع في شيء من ذلك، ووافقهم إسحق في ذي الرحم، وقال للزوجة أن ترجع، بخلاف الزوج. قال الحافظ ابن حجر: والاحتجاج لكل واحد من ذلك يطول، وحجة الجمهور في استثناء الأب أن الولد وماله لأبيه، فليس في الحقيقة رجوعًا، وعلى تقدير كونه رجوعًا فربما اقتضته مصلحة التأديب، ونحو ذلك. 2 - وفي الحديث الندب إلى التآلف بين الإخوة، وترك ما يوقع بينهم الشحناء، أو يورث العقوق للآباء. 3 - وأن عطية الأب لابنه الصغير، في حجره، لا تحتاج إلى قبض. 4 - وأن الإشهاد فيها يغني عن القبض، وقيل: إن كانت الهبة ذهبًا أو فضة فلا بد من عزلها. 5 - وفيه كراهة الشهادة فيما ليس بمباح. 6 - وأن الإشهاد في الهبة مشروع، وليس بواجب. 7 - وفيه جواز الميل إلى بعض الأولاد والزوجات، دون بعض، وإن وجبت التسوية بينهم في غير ذلك. 8 - وأن للإمام الأعظم أن يتحمل الشهادة، وتظهر فائدتها، إما ليحكم في ذلك بعلم عند من يجيزه، أو يؤديها عند بعض نوابه. 9 - وفيه مشروعية استفصال الحاكم والمفتي عما يحتمل الاستفصال، لقوله "ألك ولد غيره"؟ فلما قال: نعم. قال: أفكلهم أعطيت مثله"؟ فلما قال: لا. قال: "لا أشهد" فيفهم منه أنه لو قال نعم لشهد. 10 - وفيه جواز تسمية الهبة صدقة. 11 - وأن للإمام كلامًا في مصلحة الولد. 12 - والمبادرة إلى قبول الحق. 13 - وأمر الحاكم والمفتي بتقوى الله في كل حال. 14 - وفيه إشارة إلى سوء عاقبة الحرص والتنطع، لأن عمرة لو رضيت بما وهبه زوجها لولده لما رجع فيه، فلما اشتد حرصها في تثبيت ذلك أفضى إلى رده. 15 - قال المهلب: وفيه أن للإمام أن يرد الهبة والوصية ممن يعرف منه هروبًا عن بعض الورثة. اهـ وهو بذلك يلحق الورثة بالأبناء، وفيه نظر، فالفرع الملحق ليس في درجة الأصل. 16 - انتزع منه بعضهم حل أكل الرجل من مال ابنه بالمعروف، لأنه إذا جاز للوالد انتزاع ملك ولده، الثابت بالهبة، لغير حاجة، فلأن يجوز عند الحاجة أولى، وفيه نظر، فأصل المال الموهوب من الأب، وليس كذلك الأكل من مال الابن الخاص. واللَّه أعلم

(431) باب العمرى والرقبى

(431) باب العمرى والرقبى 3684 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه فإنها للذي أعطيها لا ترجع إلى الذي أعطاها لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث". 3685 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من أعمر رجلاً عمرى له ولعقبه فقد قطع قوله حقه فيها وهي لمن أعمر ولعقبه" غير أن يحيى قال في أول حديثه "أيما رجل أعمر عمرى فهي له ولعقبه". 3686 - عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أيما رجل أعمر رجلاً عمرى له ولعقبه فقال قد أعطيتكها وعقبك ما بقي منكم أحد فإنها لمن أعطيها وإنها لا ترجع إلى صاحبها من أجل أنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث". 3687 - عن جابر رضي الله عنه قال: إنما العمرى التي أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول هي لك ولعقبك فأما إذا قال هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها. 3688 - عن جابر وهو ابن عبد الله رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيمن أعمر عمرى له ولعقبه فهي له بتلة لا يجوز للمعطي فيها شرط ولا ثنيا. قال أبو سلمة: لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث فقطعت المواريث شرطه.

3689 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "العمرى لمن وهبت له". 3690 - عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حيًا وميتًا ولعقبه". 3691 - وفي حديث أيوب من الزيادة قال: جعل الأنصار يعمرون المهاجرين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أمسكوا عليكم أموالكم". 3692 - عن جابر رضي الله عنه قال: أعمرت امرأة بالمدينة حائطًا لها ابنًا لها ثم توفي وتوفيت بعده وتركت ولدًا وله إخوة بنون للمعمرة. فقال ولد المعمرة رجع الحائط إلينا. وقال بنو المعمر بل كان لأبينا حياته وموته. فاختصموا إلى طارق مولى عثمان، فدعا جابرًا فشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرى لصاحبها، فقضى بذلك طارق. ثم كتب إلى عبد الملك فأخبره ذلك وأخبره بشهادة جابر. فقال عبد الملك صدق جابر. فأمضى ذلك طارق فإن ذلك الحائط لبني المعمر حتى اليوم. 3693 - عن سليمان بن يسار: أن طارقًا قضى بالعمرى للوارث لقول جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

3694 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "العمرى جائزة". 3695 - عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "العمرى ميراث لأهلها". 3696 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "العمرى جائزة". 3697 - - ومثله عن قتادة بهذا الإسناد غير أنه قال "ميراث لأهلها" أو قال "جائزة". -[المعنى العام]- نوع من أنواع الهبة، كان أهل الجاهلية يتعاملون به، عرف عندهم بالعمرى والرقبى، كان الرجل منهم يعطي الآخر دارًا، ويقول له: أعمرتك إياها، أي أبحتها لك مدة عمرك، وكان المهدي يرقب وفاة المهدى إليه، لتعود إليه الدار، وكان هذا شبيهًا بالعودة في الهبة، التي مثلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعودة الكلب في قيئه، فجاء الإسلام فأمضاها كهبة صحيحة، تأخذ حكم الهبات، فلا يجوز الرجوع فيها، وتصبح بمجرد القبض ملكًا للموهوب له، ولعقبه من بعده، ونصحهم أن يقولوا في هبتهم: أعمرتك هذا الدار ولعقبك من بعدك، لأنها لن ترجع للواهب أبدًا، ولا يصح أن تتعلق عين الواهب بها، وأن يرقب موت الآخر، فإن كانت عزيزة عليه فليمسكها، ولا يعمرها، فإن أعمرها فليقطع أمله فيها، لتكون هبة خالصة، كصدقة خالصة، يؤجر عليها في الدنيا والآخرة. فالعمرى جائزة، لكنها للموهوب له حياته، وهي ميراث للموهوب له بعد مماته. وبهذا قضى حكام المسلمين حين جاءتهم الخصومة في حديقة أعمرتها امرأة من المدينة ابنًا لها، فتنازعها من بعده إخوته وأبناؤه، فحكم بها لأبنائه. -[المباحث العربية]- (أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه) "أي" شرطية، دخلت عليها "ما" الزائدة، والتقدير: أي رجل، و"أعمر" بضم الهمزة، مبني للمجهول، والأصل: أي رجل أعمره رجل عمرى، و"عمرى" مقصور،

فعلى، بضم العين وسكون الميم، وحكي ضم الميم، وحكي فتح العين مع سكون الميم، مأخوذة من العمر بفتح العين وضمها، مع سكون الميم، وهو الحياة، يقال: أعمر فلان فلانًا دارًا، أي جعلها له عمره، على سبيل العمرى، تمليكًا للعين، أو تمليكًا للمنفعة على ما سيأتي في فقه الحديث، فالعمرى نوع من الهبة، كان شائعًا في الجاهلية، ويقال لها: الرقبى، بضم الراء وسكون القاف، لأن المعمر والمعمر كان كل منهما يرقب موت الآخر لتعود إليه، فكان الواحد منهم يعطي الآخر دارًا، ويقول له: أعمرتك إياها، أي أبحتها لك مدة عمرك ولها صور تأتي في فقه الحديث. وعقب الإنسان - بكسر القاف ويجوز إسكانها مع فتح العين، ويجوز كسر العين مع سكون القاف - هم أولاد الإنسان ما تناسلوا. (فإنها للذي أعطيها، لا ترجع إلى الذي أعطاها) "أعطيها" فعل ماض مبني للمجهول. (لأنه أعطى عطاء، وقعت فيه المواريث) أي لأن قوله: أعمرتها لك ولعقبك أثبت ميراث العقب لها، فبهذا القول والعطاء ثبتت المواريث، وفي الرواية الثانية "فقد قطع قوله حقه فيها". (فهي له بتلة، لا يجوز للمعطي فيها شرط ولا ثنيا) "بتلة" أي عطية ماضية غير راجعة للواهب، يقال: بتله يبتله من باب ضرب، بتلاً، أي قطعه عن غيره وفصله، و"الثنيا" الاستثناء أي فهي للموهوب له خالصة، لا يجوز للواهب فيها شرط ولا استثناء. (أمسكوا عليكم أموالكم، ولا تفسدوها) ليس المراد بذلك النهي عن العمرى، واعتبارها إفسادًا للأموال، وإنما المراد إعلامهم أن العمرى هبة صحيحة ماضية، يملكها الموهوب له ملكًا تامًا، لا يعود للواهب أبدًا، فإذا علموا ذلك فمن شاء أعمر، ودخل على بصيرة، ومن شاء ترك، لأنهم كانوا يتوهمون أنها كالعارية، فكانت كإفساد الأموال، لأنها تزيل الملك بغير عوض. (أعمرت امرأة بالمدينة ... إلخ) المرأة لها أولاد، ولها حديقة، قالت لأحد أولادها: أعمرتك هذه الحديقة. ثم توفي هذا الولد وترك بنين له، ثم توفيت المرأة، فتنازع الحديقة أبناء المرأة على أن الحديقة رجعت إلى أمهم، فرجعت إليهم، وأبناء الابن المتوفى، على أنها لا ترجع إلى الواهب، بل هي ميراث لعقب وأبناء المتوفى، على أساس أن العمرى لمن أعمرها حيًا وميتًا. (فاختصموا إلى طارق) بن عمرو، مولى عثمان بن عفان، ولاه عبد الملك بن مروان المدينة، بعد إمارة ابن الزبير. (العمرى جائزة) أي ماضية ونافذة، كما فهم قتادة، وقيل معناه حلال وصحيحة. -[فقه الحديث]- للعمرى ثلاثة أحوال: أحدها: أن يقول: أعمرتك هذه الدار، فإذا مت فهي لورثتك أو لعقبك، وهي صحيحة عند عامة العلماء، وحكى الماوردي أنها لا تصح عند داود وطائفة.

والخلاف بين العلماء في هذه الصورة في: هل ينتقل إلى المعمر ملك الرقبة؟ حتى يجوز له البيع والشراء، والهبة، وغير ذلك من التصرفات؟ فهي هبة كاملة، لكنها بعبارة طويلة، فإذا مات فالدار لورثته، فإن لم يكن له وارث فلبيت المال، ولا تعود للواهب بحال؟ بهذا قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد والجمهور، وقال مالك والشافعي في القديم: إنما تنتقل المنفعة فقط، كالوقف، فلا يجوز للمعمر التصرف في عينها، فإذا مات فلورثته المنفعة أيضًا، فإن لم يكن له وارث رجعت إلى الواهب، ولا ترجع إلى بيت المال، وهل يسلك به مسلك العارية فيستردها الواهب متى شاء؟ أو الوقف؟ روايتان عند المالكية. والحكم كذلك في الرقبى، إلا أن الحنفية يقولون: التمليك في العمرى يتوجه إلى الرقبة، وفي الرقبى يتوجه إلى المنفعة، وعنهم أن الرقبى باطلة، وهي ممنوعة عند مالك أيضًا. الثاني: أن يقول أعمرتك هذه الدار مثلاً ويطلق، أو يقول جعلتها لك عمرك، ولا يتعرض لما سواه، ولا يتعرض لورثته ولا عقبه، وفي حكم هذه الصورة أربعة أقوال: أ- العقد صحيح ويسلك به مسلك الحالة الأولى، وتكون له، ولورثته من بعده، وتؤيده روايتنا السادسة ولفظها "العمرى لمن وهبت له" والسابعة ولفظها "فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حيًا وميتًا ولعقبه" والثامنة والتاسعة "في المرأة التي أعمرت ابنًا لها حائطًا". وهذا مذهب الشافعي الجديد، وبه قال أبو حنيفة وأحمد وسفيان الثوري وأبو عبيد وآخرون. ب- العقد باطل من أساسه، لأنه تمليك مؤقت، فأشبه ما لو باعه أو وهبه شيئًا إلى وقت معين، ويؤيده روايتنا الرابعة، في جزئها الأول، ولفظه "إنما العمرى التي أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: هي لك ولعقبك" وهو مذهب الشافعي في القديم. ج- العقد صحيح، ويكون للمعمر في حياته فقط، فإذا مات رجعت إلى المعمر، أو لورثته إن كان قد مات. وحكي هذا القول عن الشافعي في القديم أيضًا. د- أنها عارية، يستردها المعمر متى شاء، فإذا مات عادت إلى ورثته. حكاه بعض الشافعية عن القديم أيضًا. الثالث: أن لا يذكر العقب، ولا الورثة، ولا يقتصر على الإطلاق، بل يقول: جعلتها لك عمرك، فإذا مت عادت إلي، أو إلى ورثتي إن كنت مت. وفي حكم هذه الصورة أربعة أقوال أيضًا: (أ) الأصح عند الشافعية أن العقد صحيح، ويلغي الشرط، ويسلك به مسلك الحالة الأولى، وتكون له ولورثته من بعده، وعمدتهم الأحاديث المطلقة الصحيحة، روايتنا العاشرة "العمرى جائزة" والحادية عشرة "العمرى ميراث لأهلها" وقالوا: شرط الرجوع المقارن للعقد، مثل الرجوع الطارئ بعده، وقد شبه بالكلب يعود في قيئه، فإما أن يبقي ماله مطلقًا، أو يخرجه مطلقًا فإن أخرجه على خلاف ذلك بطل الشرط، وصح العقد. (ب) عن بعض الشافعية أن العقد باطل من أساسه، للعلة السابقة في الحالة الأولى. (ج) أن العقد صحيح، ويكون للمعمر في حياته، فإذا مات رجعت إلى المعمر. (د) أنها عارية، يستردها المعمر متى شاء، فإذا مات عادت إلى ورثته. واللَّه أعلم

كتاب الوصية

كتاب الوصية

(432) باب الوصية وكتابتها

(432) باب الوصية وكتابتها 3698 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده". 3699 - وفي رواية عن عبيد الله بهذا الإسناد غير أنهما قالا "وله شيء يوصي فيه" ولم يقولا "يريد أن يوصي فيه". 3700 - وفي رواية بمثل حديث عبيد الله وقالوا جميعًا "له شيء يوصي فيه" إلا في حديث أيوب فإنه قال "يريد أن يوصي فيه". 3701 - عن سالم عن أبيه رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ثلاث ليال إلا ووصيته عنده مكتوبة". قال عبد الله بن عمر: ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك إلا وعندي وصيتي. 3702 - عن عامر بن سعد عن أبيه رضي الله عنه قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع من وجع أشفيت منه على الموت. فقلت: يا رسول الله بلغني ما ترى من الوجع وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال "لا" قال: قلت: أفأتصدق بشطره؟ قال "لا الثلث والثلث كثير إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى اللقمة تجعلها في

في امرأتك" قال: قلت: يا رسول الله أخلف بعد أصحابي؟ قال "إنك لن تخلف فتعمل عملا تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة ولعلك تخلف حتى ينفع بك أقوام ويضر بك آخرون اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم لكن البائس سعد بن خولة" قال: رثى له رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن توفي بمكة. 3703 - - وفي رواية عن سعد رضي الله عنه قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم علي يعودني فذكر بمعنى حديث الزهري ولم يذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم في سعد بن خولة غير أنه قال وكان يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها. 3704 - عن مصعب بن سعد عن أبيه رضي الله عنه قال: مرضت فأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقلت: دعني أقسم مالي حيث شئت. فأبى. قلت: فالنصف؟ فأبى. قلت: فالثلث؟ قال: فسكت بعد الثلث. قال: فكان بعد الثلث جائزًا. 3705 - - وفي رواية عن سماك بهذا الإسناد نحوه ولم يذكر فكان بعد الثلث جائزًا. 3706 - عن مصعب بن سعد عن أبيه رضي الله عنه قال: عادني النبي صلى الله عليه وسلم. فقلت: أوصي بمالي كله؟ قال "لا" قلت: فالنصف؟ قال "لا" فقلت: أبالثلث؟ فقال "نعم والثلث كثير". 3707 - عن ثلاثة من ولد سعد رضي الله عنه كلهم يحدثه عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على سعد يعوده بمكة. فبكى. قال "ما يبكيك؟ " فقال: قد خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها كما مات سعد بن خولة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "اللهم اشف سعدًا اللهم اشف سعدًا" ثلاث مرار. قال: يا رسول الله إن لي مالاً كثيرًا وإنما يرثني ابنتي أفأوصي بمالي كله؟ قال "لا" قال: فبالثلثين؟ قال: "لا" قال فالنصف؟ قال "لا" قال: فالثلث؟ قال "الثلث والثلث كثير إن صدقتك من مالك صدقة وإن نفقتك على عيالك صدقة وإن ما

تأكل امرأتك من مالك صدقة وإنك أن تدع أهلك بخير" (أو قال بعيش) "خير من أن تدعهم يتكففون الناس" وقال بيده. 3708 - عن ثلاثة من ولد سعد رضي الله عنه قالوا: مرض سعد بمكة فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده بنحو حديث الثقفي. 3709 - - وفي رواية عن ثلاثة من ولد سعد بن مالك كلهم يحدث بمثل حديث صاحبه فقال مرض سعد بمكة فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده بمثل حديث عمرو بن سعيد عن حميد الحميري. 3710 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الثلث والثلث كثير" وفي حديث وكيع "كبير أو كثير". 3711 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبي مات وترك مالاً ولم يوص فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه؟ قال "نعم". 3712 - عن عائشة رضي الله عنها: أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي افتلتت نفسها وإني أظنها لو تكلمت تصدقت فلي أجر أن أتصدق عنها؟ قال "نعم". 3713 - عن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: إن أمي افتلتت نفسها ولم توص وأظنها لو تكلمت تصدقت أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال "نعم".

3714 - وفي رواية عن هشام بن عروة بهذا الإسناد أما أبو أسامة وروح ففي حديثهما "فهل لي أجر؟ ". كما قال يحيى بن سعيد، وأما شعيب وجعفر ففي حديثهما "أفلها أجر؟ " كرواية ابن بشر. 3715 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له". 3716 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أصاب عمر أرضًا بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها. فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضًا بخيبر لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه فما تأمرني به؟ قال "إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها" قال: فتصدق بها عمر أنه لا يباع أصلها ولا يبتاع ولا يورث ولا يوهب. قال: فتصدق عمر في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقًا غير متمول فيه. قال: فحدثت بهذا الحديث محمدًا فلما بلغت هذا المكان غير متمول فيه قال محمد غير متأثل مالا قال ابن عون وأنبأني من قرأ هذا الكتاب أن فيه غير متأثل مالاً. 3717 - - وفي رواية ابن أبي زائدة وأزهر انتهى عند قوله "أو يطعم صديقًا غير متمول فيه" ولم يذكر ما بعده. 3718 - عن عمر رضي الله عنه قال: أصبت أرضًا من أرض خيبر فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أصبت أرضًا لم أصب مالاً أحب إلي ولا أنفس عندي منها. وساق الحديث بمثل حديثهم ولم يذكر فحدثت محمدًا وما بعده.

3719 - عن طلحة بن مصرف قال: سألت عبد الله بن أبي أوفى هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا. قلت: فلم كتب على المسلمين الوصية أو فلم أمروا بالوصية؟ قال: أوصى بكتاب الله عز وجل. 3720 - وفي رواية وكيع قلت: فكيف أمر الناس بالوصية؟ وفي حديث ابن نمير قلت: كيف كتب على المسلمين الوصية؟ . 3721 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارًا ولا درهمًا ولا شاة ولا بعيرًا ولا أوصى بشيء. 3722 - عن الأسود بن يزيد قال: ذكروا عند عائشة أن عليًا كان وصيًا. فقالت: متى أوصى إليه؟ فقد كنت مسندته إلى صدري (أو قالت حجري) فدعا بالطست فلقد انخنث في حجري وما شعرت أنه مات فمتى أوصى إليه؟ . 3723 - عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس يوم الخميس وما يوم الخميس ثم بكى حتى بل دمعه الحصى. فقلت: يا ابن عباس وما يوم الخميس؟ قال: اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه فقال "ائتوني أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعدي" فتنازعوا وما ينبغي عند نبي تنازع. وقالوا ما شأنه؟ أهجر؟ استفهموه قال "دعوني فالذي أنا فيه خير أوصيكم بثلاث أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم". قال: وسكت عن الثالثة أو قالها فأنسيتها.

3724 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال يوم الخميس وما يوم الخميس ثم جعل تسيل دموعه حتى رأيت على خديه كأنها نظام اللؤلؤ. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ائتوني بالكتف والدواة (أو اللوح والدواة) أكتب لكم كتابًا لن تضلوا بعده أبدًا" فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يهجر. 3725 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "هلم أكتب لكم كتابًا لا تضلون بعده" فقال عمر. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت فاختصموا فمنهم من يقول قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا لن تضلوا بعده ومنهم من يقول ما قال عمر. فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قوموا". قال عبيد الله: فكان ابن عباس يقول إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم. -[المعنى العام]- إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، واعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا، وتأهب للموت وما بعده، ولا تنتظر حتى يأتي فتقول: {رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين * ولن يؤخر الله نفسًا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون} [المنافقون: 10، 11]. تصدق، واكتب وصيتك وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى، وتخشى الفقر، ولا تهمل، حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا. ولفلان كذا. ولفلان كذا. وقد خرج المال من يديك، ولم يعد ملكك ولم يعد لك التصرف فيه، فقد صار لفلان وفلان وفلان من ورثتك. إن مالك ما قدمت، ومال وارثك ما أخرت، وليس مال وارثك أحب إليك من مالك، فأوص في سبيل الله وقدم لآخرتك ما ينفعك، وكن مثل سعد بن أبي وقاص لما عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتصدق بكل ماله، فمنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرض أن يتصدق بثلثي ماله، فمنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: يا

رسول الله ليس لي إلا ابنة، هي التي ترثني؟ أأتصدق بنصف مالي؟ وأترك لها نصفه؟ قال: لا تصدق بالثلث، والثلث كثير. إنك إن تترك ورثتك أغنياء كان لك أجر على ما أبقيت لهم من مال، وأنفق في حياتك من مالك على زوجك وبنتك والأقربين، فما أنفقت من نفقة تبتغي بها وجه الله إلا كان لك بها أجر حتى اللقمة التي تأكلها زوجتك أو بنتك، لك فيها أجر. وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشتري أرضًا زراعية في أحسن أرض، فكانت أحب أمواله إليه، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خير السبل لتكون في سبيل الله، فأشار عليه بأن يوقف أصلها، ويتصدق بريعها ونتاجها. فالكيس الكيس، والعقل العقل، والمبادرة المبادرة، قبل أن تنتظر من ابنك أو ورثتك أن يتصدق عليك بعد موتك، وإن وصلك أجر صدقته، فلن يكون مثل أجر ما تخرج يداك. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يترك دينارًا ولا درهمًا ولا شاة ولا بعيرًا، وهو الذي وزع آلاف الدنانير وآلاف الإبل والشاة على أصحابه، فكانت وصيته كتاب الله والعمل به، وكانت وصيته "نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة" وكانت وصيته "ما حق امرئ مسلم، له شيء يوصي فيه، يبيت ليلتين، إلا ووصيته مكتوبة عنده" صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبع هداهم إلى يوم الدين. -[المباحث العربية]- (الوصية) جمعه وصايا، كهدية وهدايا، وتطلق على فعل الموصي، وعلى ما يوصي به من مال أو عهد، أو غير ذلك، فتكون بمعنى المصدر، وهو الإيصاء، وتكون بمعنى المفعول، وهو الاسم، وفي الشرع: عهد خاص مضاف إلى ما بعد الموت، وهو يصحبه التبرع، كما في وصية سعد، ووصية عمر، رضي الله عنهما، قال الأزهري: الوصية من وصيت الشيء، بالتخفيف، أوصيه، إذا وصلته، وسميت وصية لأن الميت يصل بها ما كان في حياته، ويقال: وصية بتشديد الياء، ووصاة، بالتخفيف بغير همزة. وتطلق شرعًا - في غير هذا الموضوع - على ما يقع به الزجر عن المنهيات والحث على المأمورات. (ما حق امرئ مسلم) "ما" نافية و"الحق" لغة الشيء الثابت، والحكم الثابت أعم من أن يكون واجبًا أو مندوبًا، والمرء هو الرجل، لكن التعبير به هنا خرج مخرج الغالب، إذ لا فرق في الوصية الصحيحة بين الرجل والمرأة، وكذلك الوصف بالمسلم خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له، أو ذكر للتهييج، لتقع المبادرة بالامتثال، لما يشعر به من نفي الإسلام عن تارك ذلك. (له شيء يريد أن يوصي فيه) وفي ملحق الرواية الأولى "له شيء يوصي فيه" بكسر الصاد، وعند أحمد "له ما يوصي فيه" وفي رواية "له مال" ورواية "شيء" أشمل من رواية "مال" لأنها تعم ما يتمول، وما لا يتمول، كالمختصات، وجملة "يريد أن يوصي فيه" أو "يوصي فيه" صفة "شيء".

(يبيت ليلتين) جملة فعلية، صفة أخرى لامرئ، وفي الرواية الثانية، "ثلاث ليال" قال الحافظ ابن حجر. وكأن ذكر الليلتين والثلاث لرفع الحرج، لتزاحم أشغال المرء التي يحتاج إلى ذكرها، ففسح له هذا القدر، ليتذكر ما يحتاج إليه، واختلاف الروايات فيه دال على أنه للتقريب، لا التحديد، والمعنى: لا يمضي عليه زمان وإن كان قليلاً، إلا ووصيته مكتوبة، وفيه إشارة إلى اغتفار الزمن اليسير، وكأن الثلاث غاية التأخير، قال الطيبي: أي لا ينبغي أن يبيت زمانًا ما، وقد سامحناه في الليلتين والثلاث، فلا ينبغي له أن يتجاوز ذلك. (إلا ووصيته مكتوبة عنده) أي بشروطها، والجملة مبتدأ وخبر، مستثنى من عموم الأحوال، أي لا ينبغي لمسلم المبيت ليلتين على حال من الأحوال إلا على حال كتابة وصيته، وهل لفظ "مكتوبة" مقصود؟ يأتي التفصيل والشروط في فقه الحديث. (عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع) في بعض الروايات "في فتح مكة" أخرجها الترمذي وغيره، وهو وهم باتفاق الحفاظ، وفي الرواية السادسة "دخل على سعد يعوده بمكة" أي في حجة الوداع، وقال الحافظ ابن حجر: أخرج أحمد والبزار والطبراني والبخاري في التاريخ وابن سعد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم، فخلف سعدًا مريضًا حيث خرج إلى حنين، فلما فقدم الجعرانة معتمرًا دخل عليه وهو مغلوب، فقال: يا رسول الله، إن لي مالاً، وإني أورث كلالة، أفأوصي بمالي؟ .... الحديث، وفيه: قلت: يا رسول الله أموت أنا بالدار التي خرجت منها مهاجرًا؟ قال: لا. إني لأرجو أن يرفعك الله، حتى ينتفع بك أقوام" الحديث. قال الحافظ: ويمكن الجمع بين الروايتين، بأن يكون ذلك وقع له مرتين، مرة عام الفتح، ومرة عام حجة الوداع، ففي الأولى لم يكن له وارث من الأولاد أصلاً، وفي الثانية كانت له ابنة فقط. اهـ. وفي هذا الجمع نظر، إذ من المستبعد أن يقال له: الثلث والثلث كثير، حيث لا ولد له، ويسأل بعد ذلك أن يتصدق بكل ماله وله ولد، فالحق أن رواية "حجة الوداع" هي المعتمدة، وقد اشتبه على بعض الرواة وقت زيارته في مرضه بمكة، فوهم. والظاهر أن الرسول صلى الله عليه وسلم عاده بناء على طلبه، ففي الرواية الرابعة، مرضت، فأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم. (من وجع أشفيت منه على الموت) الوجع اسم لكل مرض، ومعنى "أشفيت منه على الموت" أشرفت منه على الموت، وقاربته، يقال: شفت الشمس شفوا، قاربت الغروب، وشفى الله العليل شفاء، أبرأه من علته، وأشفي المريض على الموت قاربه، وأشاف الشيء، طال وأشرف. (ولا يرثني إلا ابنة واحدة)، كان لسعد في ذلك الوقت، ورثة آخرون، عصبات من بني زهرة، وكانوا كثيرًا، لهذا وجه العلماء هذه العبارة توجيهًا يتفق مع الواقع، فقال النووي: أي لا يرثني من الولد، وخواص الورثة، إلا ابنة، وقيل: معناه: لا يرثني من أصحاب الفروض إلا ابنة، وقيل: معناه: لا يرثني ممن أخاف عليه الضياع والعجز إلا ابنة، أو ظن أنها ترث جميع المال، أو استكثر عليها نصف التركة، أما بعد هذا الوقت فقد كان لسعد بنات أخريات، قيل: إحدى عشرة بنتًا، أمهاتهن متأخرات

الإسلام، كما كان له أبناء، هم: عامر بن سعد، راوي الحديث عن أبيه، وإبراهيم ومصعب وعمر ومحمد وعبد الله وعبد الرحمن وعمران وصالح وعثمان وإسحق ويحيى وعمير، وغيرهم. كذا وقع في كلام بعض الشيوخ. وكان سعد أحد العشرة المبشرين بالجنة، وآخرهم موتًا، توفي سنة خمس وخمسين على الأشهر، من السابقين إلى الإسلام، وهو أحد الستة الذين رشحهم عمر للخلافة من بعده، وقال عنه عمر آنذاك: إن أصابته الإمرة فذاك، وإلا فليستعن به الوالي، وكان رأس من فتح العراق، وولي الكوفة لعمر، وهو الذي بناها، وهو الذي فتح مدائن كسرى، ولما قتل عثمان اعتزل الفتنة، ولزم بيته، وكان مجاب الدعوة، مات بالعقيق، وحمل إلى المدينة، فصلى عليه في المسجد صلى الله عليه وسلم. (أفأتصدق بثلثي مالي؟ ) المراد من الصدقة الوصية في وجوه البر، كما جاء في الرواية السادسة، ولفظها "أفأوصي بمالي كله؟ " والفاء عاطفة على محذوف، والتقدير: هل تدعني أقسم مالي حيث شئت فأتصدق بمالي كله؟ قال: لا. قال: إذا لم تصرح لي بالتصدق بمالي كله فهل تسمح لي بالتصدق بثلثي مالي؟ . (الثلث. والثلث كثير) "كثير" بالثاء، وفي بعض النسخ "كبير" بالباء، وكلاهما صحيح، قال القاضي: يجوز نصب "الثلث" الأول ورفعه، أما النصب فعلى الإغراء، أو على تقدير فعل محذوف، نحو "أعط" وأما الرفع فعلى أنه فاعل، أي يكفيك الثلث، أو أنه مبتدأ، حذف خبره، أي الثلث كاف، أو خبر محذوف المبتدأ أي المرخص به الثلث. وفي الرواية الرابعة "قلت: فالثلث؟ قال: فسكت بعد الثلث" أي سكتة لطيفة "ثم قال: الثلث. والثلث كثير". (فكان - بعد - الثلث جائزًا) أي فكانت الوصية بالثلث جائزة بعد هذا التصريح، وهو من كلام سعد، وقيل: هو كلام من دونه من الرواة. (إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير .... ) قال القاضي: روينا "إن تذر" بفتح الهمزة وكسرها، وكلاهما صحيح، يعني بالفتح تكون للتعليل، وبالكسر تكون للشرط، وجواب الشرط تقديره فهو خير، فحذفت الفاء والمبتدأ. قال الزين بن المنير: إنما عبر له صلى الله عليه وسلم بلفظ "الورثة" ولم يقل: أن تذر بنتك، مع أنه لم يكن له يومئذ إلا ابنة واحدة، لكون الوارث حينئذ لم يتحقق، لأن سعدًا إنما قال ذلك بناء على موته في ذلك المرض، وبقائها بعده حتى ترثه، وكان من الجائز أن تموت هي قبله، فأجاب صلى الله عليه وسلم بكلام مطابق لكل حالة، وهو قوله "ورثتك" ولم يخص بنتًا من غيرها، وقال الفاكهي: إنما عبر صلى الله عليه وسلم بالورثة لأنه اطلع على أن سعدًا سيعيش، ويأتيه أولاد غير البنت المذكورة، وكان كذلك، وقال الحافظ ابن حجر: إن ميراث سعد لم يكن منحصرًا في بنته آنذاك، فقد كان لآخيه

عتبة بن أبي وقاص - إذ ذاك - أولاد، منهم هاشم بن عتبة الصحابي، الذي قتل بصفين، فجاز التعبير بالورثة لتدخل البنت وغيرها ممن يرث، لو وقع موته إذ ذاك، أو بعد ذلك. وفي الرواية السادسة "وإنك إن تدع أهلك بخير" أو قال "بعيش". (من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) العالة الفقراء، جمع عائل، وهو الفقير، من عال يعيل إذا افتقر، والتكفف بسط الكف للسؤال، أو يسأل الناس كفافًا من الطعام، يقال: تكفف السائل إذا بسط كفه بالمسألة، وتكفف الرجل الشيء، إذا أخذه بكفه، وتكفف الناس سألهم. (حتى اللقمة تضعها في في امرأتك) تؤجر عليها، فحتى ابتدائية، و"اللقمة" مبتدأ، وجملة تضعها صفة، و"في" الأولى حرف جر، و"في" الثانية هي الفم حذفت منه الميم، وياؤها علامة الجر، والخبر محذوف، للعلم به مما قبله. (أخلف بعد أصحابي؟ ) "أخلف" بضم الهمزة وفتح الخاء وتشديد اللام المفتوحة، والكلام على الاستفهام، والمعنى: هل يخلفني أصحابي بمكة بسبب مرضي، ويرجعون معك إلى المدينة؟ قاله إشفاقًا أن يحرم من صحبة النبي صلى الله عليه وسلم والأصحاب في العودة، أو خوفًا أن يموت بمكة، وقد هاجر منها، فيكون كسعد بن خولة، يؤيد الاحتمال الثاني ما جاء في ملحق الرواية من قول ابنه الراوي "وكان يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها"، وما جاء في الرواية السادسة. (إنك لن تخلف، فتعمل عملاً تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة) حول النبي صلى الله عليه وسلم التخلف من مراد سعد إلى العيش والحياة الطويلة بعد أصحابه، وقد عاش أكثر من خمس وأربعين سنة بعد هذا القول، أي إنك إذ تعيش طويلاً، فتعمل .... إلخ. (ولعلك تخلف) ذكرها بصيغة الترجي، قال بعض العلماء: "لعل" من الله للأمر الواقع، وكذلك إذا وردت على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم غالبًا. (حتى ينفع بك أقوام، ويضر بك آخرون) "ينفع" و"يضر" بضم الأول مبني للمجهول، وفي بعض النسخ "ينتفع" بفتح الياء، وفي رواية للبخاري، "وعسى الله أن يرفعك، فينتفع بك ناس، ويضر بك آخرون" قال العلماء: فتح العراق وغيره، فتضرر به الكافرون، وانتفع به المسلمون، وقال ابن التين: إن المراد بالنفع به ما وقع من الفتوح على يديه، وبالضرر ما وقع من ابنه عمر بن سعد، حيث كان أمير الجيش الذي قتل الحسين بن علي ومن معه. قال الحافظ: وهو كلام مردود، لما فيه من التكلف من غير ضرورة، إذ يحمل ضرره على ضرر ابنه، مع أن ضرره للكفار محقق. والأولى حمل نفعه وضرره على عامة أفعاله النافعة والضارة. (اللَّهم امض لأصحابي هجرتهم) أي أتمها ولا تبطلها، ولا تردهم على أعقابهم بترك هجرتهم ورجوعهم عن مستقيم حالهم، يقال: أمضى الحكم والأمر إذا أنفذه، وأمضى البيع إذا أجازه.

(لكن البائس سعد بن خولة رثى له رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن توفي بمكة) قال العلماء: هذا من كلام الراوي، وليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، واختلفوا في قائل هذا الكلام، من هو؟ فقيل: هو سعد بن أبي وقاص، وقيل: هو الزهري الراوي عن عامر بن سعد. قال النووي: واختلفوا في قصة سعد بن خولة، فقيل: لم يهاجر من مكة حتى مات بها، وقيل: هاجر، وشهد بدرًا، ثم انصرف إلى مكة ومات بها، وقيل: شهد بدرًا وغيرها، وتوفي بمكة في حجة الوداع، وقيل: توفي بمكة سنة سبع في الهدنة، خرج مختارًا تاركًا المدينة، فسبب بؤسه سقوط هجرته، لرجوعه مختارًا، وموته بمكة، وقيل: سبب بؤسه موته بمكة على أي حال كان، وإن لم يكن باختياره، لما فاته من الأجر والثواب الكامل بالموت في دار الهجرة، والغربة عن وطنه إلى هجرة الله تعالى، وهذا ما كان يخافه سعد بن أبي وقاص، كما في الرواية السادسة، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم خلف مع سعد بن أبي وقاص رجلاً، وقال له: إن توفي بمكة فلا تدفنه بها. (عن ثلاثة من ولد سعد، قالوا: مرض سعد بمكة، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم)، هكذا هو في ملحق الرواية السادسة، وهذه الرواية مرسلة، سقط فيها الصحابي، لأن أولاد سعد تابعيون، أما الرواية السادسة نفسها فهي متصلة، وذكر مسلم لهذه الروايات المختلف في وصلها وإرسالها لا يقدح في صحة الرواية المرسلة، ولا في صحة أصل الحديث، لأن الصحيح الذي عليه المحققون أن الحديث إذا روي متصلاً ومرسلاً يحكم باتصاله، لأنها زيادة ثقة. قاله النووي. (لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع) "غضوا" أي نقصوا. (فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه؟ ) أي هل تكفر صدقتي عنه سيئاته؟ (إن أمي افتلتت نفسها) بالفاء وضم التاء وكسر اللام، مبني للمجهول، "ونفسها" بالرفع نائب فاعل، وبالنصب على المفعول، يقال: افتلت الرجل الأمر إذا تعجله، وافتلت الأمر فلانًا فاجأه، والفلتة الأمر يحدث عجل، والمراد هنا ماتت بغتة فجأة. (وإني أظنها لو تكلمت تصدقت) منشأ ظنه ما علمه من حرصها على الخير، أو ما علمه من رغبتها في الوصية. (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة) إذا حذف المعدود في الثلاث وما فوقها إلى التسع جاز تذكير العدد وتأنيثه، والاستثناء متصل، فإن الثلاثة المذكورة إنما هي من عمله، لأنه كان سببها ومصدرها (الولد والعلم والصدقة الجارية)، ومعنى "انقطع عمله" انقطع تجدد الثواب لعمله. (أصاب عمر أرضًا بخيبر) هذه الأرض اشتراها عمر بماله من أهل خيبر، واسم هذه الأرض ثمغ، بالثاء المفتوحة والميم الساكنة بعدها غين، وهي غير الأسهم الذي حصل عليها كغنيمة على مشاركته في فتح خيبر، فعند النسائي "جاء عمر، فقال: يا رسول الله، إني أصبت مالاً، لم أصب مالاً مثله قط، كان لي مائة رأس، فاشتريت بها مائة سهم من خيبر، من أهلها".

(لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه) في ملحق الرواية "لم أصب مالاً أحب إلي، ولا أنفس عندي منها"، والنفيس الجيد المغتبط به، يقال: نفس، بفتح النون وضم الفاء نفاسة، قال الراوي: سمي نفيسًا لأنه يأخذ بالنفس. (فما تأمرني به؟ ) في بعض الروايات "أني استفدت مالاً، وهو عندي نفيس، فأردت أن أتصدق به؟ " وفي رواية للبخاري "فكيف تأمرني به؟ "وفي رواية عند عمر بن شبة بإسناد صحيح "أن عمر رأى في المنام ثلاث ليال أن يتصدق بثمغ "ووقع في رواية للدارقطني بإسناد ضعيف "أن عمر قال: يا رسول الله إني نذرت أن أتصدق بمالي" قال الحافظ: ولم يثبت هذا، وإنما كان صدقة تطوع. (إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها) الحبس المنع، والمعنى إن شئت منعت أصلها عن البيع والإرث والهبة، وتصدقت بثمارها، وما ينتج منها، وهو المعروف في الفقه بالوقف، وفي رواية للبخاري "تصدق بأصله، لا يباع ولا يوهب ولا يورث، ولكن ينفق ثمره" وفي رواية "احبس أصلها، وسبل ثمرتها". (فتصدق بها عمر أنه لا يباع أصلها) أي فتصدق عمر بأصله حبسًا، وبما ينتج منها صرفًا، وفي رواية قال: حبيس ما دامت السموات والأرض. (فتصدق عمر في الفقراء) أي حبسها وجعل ثمرها للفقراء، أي والمساكين، فإنهما إذا اجتمعا افترقا في المفهوم، وإذا ذكر أحدهما أريد الآخر معه. (وفي القربى) جزم القرطبي بأن المراد قربى الواقف. وقيل: ذو قربى النبي صلى الله عليه وسلم، وهم بنو هاشم وبنو المطلب. (لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف)، قال القرطبي: جرت العادة بأن العامل يأكل من ثمرة الأوقاف، حتى لو اشترط الواقف أن العامل لا يأكل منه، والمراد بالمعروف القدر الذي جرت به العادة، وقيل: القدر الذي يدفع به الشهوة، وقيل: المراد أن يأخذ منه بقدر عمله، والأول أولى. (أو يطعم صديقًا غير متمول فيه) وفي رواية "غير متمول به" أي غير متخذ منها مالاً، أي ملكًا، والمراد أن لا يملك شيئًا من رقابها. (غير متأثل مالاً) معناه غير جامع مالاً، وكل شيء له أصل قديم، أو جمع حتى يصير له أصل فهو مؤثل، ومنه مجد مؤثل، أي مؤصل. (طلحة بن مصرف) بضم الميم وفتح الصاد وكسر الراء المشددة، وحكي فتح الراء، والصواب المشهور كسرها.

(هل أوصى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا .... قال: أوصى بكتاب اللَّه) في الكلام نفي للوصية، وإثبات لها، ولا تعارض إذا حمل النفي على أشياء معينة، والإثبات على أشياء أخرى، ومن هنا قال النووي: أي لم يوص بثلث ماله، ولا غيره، إذ لم يكن له مال، ولم يوص إلى علي رضي الله عنه ولا إلى غيره بالولاية، بخلاف ما يزعمه الشيعة، وأما الأرض التي كانت له صلى الله عليه وسلم بخيبر وفدك، فقد سبلها صلى الله عليه وسلم في حياته، ونجز الصدقة بها على المسلمين، قال: وأما الأحاديث الصحيحة في وصيته صلى الله عليه وسلم بكتاب الله، ووصيته بأهل بيته، ووصيته بإخراج المشركين من جزيرة العرب، وبإجازة الوفد، فليست مرادة بقوله "لم يوص، إنما المراد به مقصود السائل، وهو ما قدمناه، فلا مناقضة بين الأحاديث. والمراد من وصيته بكتاب الله أي بالعمل بما فيه، ولعله يشير إلى حديث "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا. كتاب اللَّه ..... ". (فلم كتب على المسلمين الوصية) أي كيف يؤمر المسلمون بشيء لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم أي إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يوص فلم أوجب على المسلمين أو يوصوا، بقوله تعالى {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقًا على المتقين} وهذه الآية منسوخة عند الجمهور، وسيأتي تفصيل المسألة في فقه الحديث. (فقد كنت مسندته إلى حجري) بفتح الحاء وكسرها، والمراد حجر الثوب، لأن حجر الإنسان ما بين يديه من ثوبه. (فدعا بالطست) ليتفل فيه. (فلقد انخنث) معناه مال وسقط، يقال: خنث الرجل يخنث من باب علم، إذا استرخى وتكسر. (يوم الخميس وما يوم الخميس؟ ) الاستفهام للتهويل، أي ما أشد هوله، وما أعظم مصيبته، حسبما يعتقد ابن عباس، أي بسبب عدم كتابة النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال في الرواية الثامنة عشرة "إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب، من اختلافهم ولغطهم" وسيأتي في فقه الحديث توجيه ما حدث. (وما ينبغي عند نبي تنازع) جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه. (أهجر؟ استفهموه) يقال: هجر المريض إذا هذي، والاستفهام حقيقي، أو للتعجب؟ و"استفهموه" بكسر الهاء، فعل أمر، أي اطلبوا منه أن يكشف لكم. (قال: دعوني. فالذي أنا فيه خير) كان صلى الله عليه وسلم مدركًا لغطهم، ولم يكن الوقت يسمح بمناقشتهم وتفهيمهم، فقال: دعوني من اختلافكم ولغطكم، فقد شاء الله أن أعرض عن طلبي،

وأتوجه إلى لقائه، وفي رواية للبخاري "فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه" "أو" دعوني "أي اتركوني، وقوموا، كما جاء في الرواية الثامنة عشرة. (أجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم) يقال: أجاز الوفد أي أعطاه جائزة وهدية وهبة وعطاء، والمراد بما يقرب مما كنت أعطيهم، وكان يجيز الواحد بأوقية من فضة، أي نحو أربعين درهمًا. (وسكت عن الثالثة، أو قالها فأنسيتها) قال النووي: الساكت ابن عباس، والناسي سعيد بن جبير، قال المهلب: الثالثة هي تجهيز جيش أسامة رضي الله عنه. قال القاضي عياض: ويحتمل أنها قوله صلى الله عليه وسلم "لا تتخذوا قبري مسجدًا يعبد" وقال الداودي: الثالثة الوصية بالقرآن، ويحتمل أن يكون ما وقع "الصلاة وما ملكت أيمانكم". -[فقه الحديث]- تتناول الأحاديث النقاط الست التالية: 1 - الحث على الوصية، وحكمها، وكتابتها. 2 - الوصية بالثلث، والوصية للوارث. 3 - الصدقة عن الميت الذي لم يوص. 4 - الوقف - أو الوصية بحبس العين والتصدق بإنتاجها. 5 - ما أوصى به الرسول صلى الله عليه وسلم، وما أراد أن يوصي به ثم عدل عنه. 6 - ما يؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم. وهذا هو التفصيل: 1 - الحث على الوصية، وحكمها، وكتابتها: يقول الله تعالى {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقًا على المتقين} [البقرة: 180]. واستدل بهذه الآية وبرواياتنا الأولى والثانية والثالثة عشرة على وجوب الوصية، وبه قال الزهري وأبو مجلز وعطاء وطلحة بن مصرف وآخرون، وحكاه البيهقي عن الشافعي في القديم، وبه قال إسحق وداود وأهل الظاهر، والجمهور على أنها مندوبة، لا واجبة، ونسب ابن عبد البر القول بعدم الوجوب إلى الإجماع سوى من شذ، واستدل لعدم الوجوب من حيث المعنى، بأنه لو لم يوص لقسم جميع ماله بين ورثته بالإجماع، فلو كانت الوصية واجبه لما قسم جميع ماله، ولحجز من ماله سهم ينوب عن الوصية. كما استدل بأن الأمر بالوصية اقترن بما يدل على الندب، وهو تفويض الوصية إلى

إرادة الموصي، حيث جاء في روايتنا الأولى: "له شيء يريد أن يوصي فيه" فلو كانت واجبة لما علقها بإرادته. وأجابوا عن الآية بأنها منسوخة، ففي حديث لابن عباس "كان المال للولد، وكانت الوصية للوالدين، فنسخ الله من ذلك ما أحب، فجعل لكل واحد من الأبوين السدس ... " الحديث. فإن قيل: الذي نسخ من الآية الوصية للوالدين، والأقارب الذين يرثون؟ قلنا: لم تعد الآية صالحة للاستدلال، حيث تطرق إليها الاحتمال. وأجابوا عن الحديث بما فسره به الشافعي، حيث قال: إن المراد الحزم والاحتياط، لأنه قد يفجؤه الموت وهو على غير وصية، ولا ينبغي للمؤمن أن يغفل عن ذكر الموت والاستعداد له، وقال غيره: الحق لغة الشيء الثابت، ويطلق شرعًا على ما ثبت به الحكم، والحكم الثابت أعم من أن يكون واجبًا أو مندوبًا، وقد يطلق على المباح أيضًا، لكن بقلة. قاله القرطبي. قال: فإن اقترن به "علي" أو نحوها كان ظاهرًا في الوجوب، وإلا فهو على الاحتمال، وعلى هذا التقدير فلا حجة في هذا الحديث لمن قال بالوجوب. وأجابوا عن رواية "لا يحل" بأنه يحتمل أن يكون راويها أراد بنفي الحل ثبوت الجواز بالمعنى الأعم الذي تحته الواجب والمندوب والمباح. ونقل ابن المنذر عن أبي ثور أن الوصية تجب على من عليه حق شرعي، يخشى أن يضيع على صاحبه إن لم يوص به، كوديعة، ودين لله أو لآدمي، وتندب لغير ذلك. والتحقيق: أن هذا القول يرجع إلى قول الجمهور، إذ حاصله أن الوصية غير واجبة لعينها، وأن الواجب لعينه الخروج من الحقوق الواجبة للغير، وقال الحافظ ابن حجر: وعرف من مجموع الأقوال السابقة أن الوصية قد تكون واجبة، كما في قول أبي ثور، وقد تكون مندوبة فيمن رجا منها كثرة الأجر، وقد تكون مكروهة، كما في عكسه، وقد تكون مباحة فيمن استوى الأمران فيه، وقد تكون محرمة، فيما إذا كان فيها إضرار، كما ثبت عن ابن عباس بإسناد صحيح "الإضرار في الوصية من الكبائر" رواه النسائي ورجاله ثقات. واستدل بالحديث بقوله "مكتوبة عنده" على جواز الاعتماد على الكتابة والخط، ولو لم يقترن ذلك بالشهادة، وخص أحمد ومحمد بن نصر من الشافعية، ذلك بالوصية، لثبوت الخبر فيها، دون غيرها من الأحكام. والجمهور على اشتراط الشهادة، بأمر خارج عن الحديث، كقوله تعالى {شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم} [المائدة: 106]، فإنه يدل على اعتبار الإشهاد في الوصية، وقال القرطبي: ذكر الكتابة مبالغة في زيادة التوثق، وإلا فالوصية المشهود بها متفق على صحتها، ولو لم تكون مكتوبة. وقال النووي: فمذهبنا ومذهب الجمهور أنه لا يعمل بالوصية، ولا تنفع إلا إذا كان أشهد عليها. واستدل بروايتينا الثالثة عشرة والرابعة عشرة بعدم طلب الوصية، لا وجوبًا ولا ندبًا، لمن ليس له

شيء يوصي فيه، فلا تشرع لمن له مال قليل، قال ابن عبد البر: أجمعوا على أن من لم يكن عنده إلا اليسير التافه من المال، أنه لا تندب له الوصية، قال الحافظ ابن حجر: وفي نقل الإجماع نظر، فالثابت عن الزهري أنه قال: جعل الله الوصية حقًا فيما قل أو كثر، والمصرح به عند الشافعية ندبية الوصية، من غير تفريق بين قليل وكثير، وقد يستدل بقوله "ما حق امرئ" والمرء هو الرجل، على أن الصبي المميز لا تصح وصيته، وقد ذهب إلى ذلك الحنفية والشافعي في أظهر قوليه، وصحح وصيته مالك وأحمد والشافعي في قول، وقيد أحمد صحة وصيته ببلوغه سبع سنين، وعنه عشر سنين. 2 - الوصية بالثلث، والوصية للوارث: أما الوصية بالثلث فقد قال النووي: أجمع العلماء في هذه الأعصار على أن من له وارث لا تنفذ وصيته بزيادة على الثلث إلا بإجازة الوارث، وأجمعوا على نفوذها في جميع المال [أي إذا أجازوها]، وأما من لا وارث له فمذهبنا ومذهب الجمهور أنه لا تصح وصيته فيما زاد على الثلث، وجوزه أبو حنيفة وأصحابه وإسحق وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وروي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما. اهـ. واستدلوا بقوله "إنك إن تذر ورثتك أغنياء" فمفهومه أن من لا وارث له، لا يبالي بالوصية بما زاد، لأنه لا يترك ورثة، يخشى عليهم الفقر. وتعقب من الشافعية هذا الاستدلال بأنه ليس تعليلاً محضًا، وإنما هو تنبيه على الأحظ الأنفع، إذ لو كان تعليلاً محضًا لاقتضى جواز الوصية بأكثر من الثلث، لمن كانت ورثته أغنياء، ولنفذ ذلك عليهم بغير إجازتهم، ولا قائل بذلك، وعلى تقدير أن يكون تعليلاً محضًا، فهو للنقص عن الثلث، لا للزيادة عليه، فكأنه لما شرع الإيصاء بالثلث، وأنه لا يعترض به على الموصي، إلا أن الحط عنه أولى، ولا سيما لمن يترك ورثة غير أغنياء، فنبه سعدًا على ذلك. كما استدلوا بأن الوصية مطلقة بالآية، فقيدتها السنة بمن له وارث، فيبقى من لا وارث له على الإطلاق، وتعقب بأن الآية منسوخة، كما سبق. أما الوصية للوارث فقد أخرج أبو داود والترمذي وغيرهما من حديث أبي أمامة "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته في حجة الوداع" إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث" وروي هذا الحديث من وجوه أخرى، قال الحافظ ابن حجر عنها: مجموعها يقتضي أن للحديث أصلاً، لكن الحجة في الإجماع على مقتضاه، كما صرح الشافعي، والمراد بعدم صحة الوصية للوارث عدم اللزوم، لأن الأكثرين على أنها موقوفة على إجازة الورثة. وأما قول النووي: أجمع العلماء في هذه الأعصار على أن من له وارث لا تنفذ وصيته بزيادة على الثلث، إلا بإجازة الورثة، لعله يريد بالعلماء علماء الشافعية، وحجتهم بأن المنع إنما كان في الأصل لحق الورثة، فإذا أجازوه لم يمتنع، لكن بعض العلماء قالوا: لا تصح الوصية للوارث ولا لغير الوارث بما زاد على الثلث ولو أجازت الورثة. وبه قال المزني وداود، وقواه السبكي، واحتج له بحديث عمران بن حصين، في الذي أعتق ستة أعبد، فإن فيه عند مسلم "فقال له النبي صلى الله عليه وسلم، قولاً شديدًا" وفسر

القول الشديد في رواية أخرى، بأنه قال: "لو علمت ذلك ما صليت عليه" ولم ينقل أنه راجع الورثة، فدل على منعه مطلقًا، وبقوله صلى الله عليه وسلم في حديث سعد بن أبي وقاص، في روايتنا الرابعة "فكان بعد الثلث جائزًا" فإن مفهومه أن الزائد على الثلث ليس جائزًا، وبأنه صلى الله عليه وسلم منع سعدًا من الوصية بالشطر، ولم يستثن إجازة الورثة. واختلف العلماء بعد ذلك في وقت إجازة الورثة، والجمهور على أنهم إن أجازوا في حياة الموصي كان لهم الرجوع متى شاءوا، وإن أجازوا بعد موته نفذ، وفصل المالكية في الحياة بين مرض الموت وغيره، فألحقوا مرض الموت بما بعده .. وقال الزهري وربيعة: ليس لهم الرجوع مطلقًا. واتفقوا على اعتبار كون الموصي له وارثًا بيوم الموت، حتى لو أوصى لأخيه الوارث، حيث لم يكن له ابن يحجب الأخ المذكور، فولد له ابن، قبل موته، يحجب الأخ، فالوصية للأخ المذكور صحيحة، ولو أوصي لأخيه، وله ابن، فمات الابن قبل موت الموصي، فهي وصية لوارث. ومن الرواية السابعة أخذ العلماء استحباب النقص عن الثلث. قال النووي: وبه قال جمهور العلماء مطلقًا، ومذهبنا: أنه إن كان ورثته أغنياء استحب الإيصاء بالثلث، وإلا فيستحب النقص منه، وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أنه يوصي بالخمس، وعن علي رضي الله عنه نحوه، وعن ابن عمر وإسحق بالربع، وقال آخرون بالسدس، وآخرون بالعشر، وروي عن علي وابن عباس وعائشة وغيرهم أنه يستحب لمن له ورثة وماله قليل ترك الوصية. 3 - الصدقة عن الميت الذي لم يوص: وأما الصدقة عن الميت، وهي موضوع رواياتنا الثامنة والتاسعة والعاشرة والحادية عشرة. قال النووي: في هذه الأحاديث جواز الصدقة عن الميت، واستحبابها، وأن ثوابها يصله، وينفعه، وينفع المتصدق أيضًا، وهذا كله أجمع عليه المسلمون. وقال في شرح مقدمة صحيح مسلم: من أراد بر والديه فليتصدق عنهما، فإن الصدقة تصل إلى الميت، وينتفع بها بلا خلاف بين المسلمين، وأما ما حكاه الماوردي البصري الفقيه الشافعي عن بعض أصحاب الكلام من أن الميت لا يلحقه بعد موته ثواب، فهو مذهب باطل قطعًا، وخطأ بين، مخالف لنصوص الكتاب والسنة، وإجماع الأمة، فلا التفات إليه، ولا تعريج عليه، وأما الصلاة والصوم عن الميت فمذهب الشافعي وجماهير العلماء أنه لا يصل ثوابهما إلى الميت، إلا إذا كان الصوم واجبًا عن الميت، فقضاه عنه وليه، أو من أذن له الولي، فإن فيه قولين للشافعي، وأما قراءة القرآن فالمشهور من مذهب الشافعي أنه لا يصل ثوابها إلى الميت، وقال بعض أصحابه: يصل ثوابها إلى الميت، وذهب جماعة من العلماء أنه يصل إلى الميت ثواب جميع العبادات، من الصلاة والصوم والقراءة وغير ذلك، ودليلهم القياس على الدعاء والصدقة والحج، فإنها تصل بالإجماع. ثم قال عن رواياتنا المذكورة: وهذه الأحاديث مخصصة لعموم قوله تعالى {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [النجم: 39] وأجمع المسلمون على أنه لا يجب على الوارث التصدق

عن ميته صدقة التطوع، بل هي مستحبة، وأما الحقوق المالية الثابتة على الميت، فإن كان له تركة وجب قضاؤها منها سواء أوصى بها الميت أم لا، ويكون ذلك من رأس المال، سواء ديون الله تعالى، كالزكاة، والحج والنذر، والكفارة وبدل الصوم ونحو ذلك، ودين الآدمي، فإن لم يكن للميت تركة لم يلزم الوارث قضاء دينه، لكن يستحب له ولغيره قضاؤه. وأما الحج فيجزئ عن الميت عند الشافعي وموافقيه، وهذا داخل في قضاء الدين، إن كان حجًا واجبًا، وإن كان تطوعًا وصى به، فهو من باب الوصايا، والله أعلم. اهـ. 4 - الوقف - أو الوصية بحبس العين والتصدق بإنتاجها: وحديث عمر رضي الله عنه، روايتنا الثانية عشرة أصل في الوقف. قال النووي: في هذا الحديث دليل على صحة أصل الوقف، وأنه مخالف لشوائب الجاهلية، وهذا مذهبنا، ومذهب الجماهير، ويدل عليه إجماع المسلمين على صحة وقف المساجد والسقايات. اهـ. وقال الترمذي: لا نعلم بين الصحابة والمتقدمين من أهل العلم خلافًا في جواز وقف الأرضين، وجاء عن شريح أنه أنكر الحبس، ومنهم من تأوله. وقال أبو حنيفة: لا يلزم، أي إن إيقاف الأرض لا يمنع من الرجوع فيها، وخالفه جميع أصحابه، إلا زفر، وقد انتصر الطحاوي لأبي حنيفة وزفر، فقال: حبس الأصل وسبل الثمرة في حديث عمر، لا يستلزم التأبيد، بل يحتمل أن يكون أراد مدة اختياره لذلك. وقد رده الحافظ ابن حجر بقوله: ولا يخفى ضعف هذا التأويل، ولا يفهم من قوله "وقفت وحبست" إلا التأبيد، قال: وكأنه لم يقف على الرواية التي فيها "حبيس مادامت السموات والأرض". ويستدل الطحاوي أيضًا لأبي حنيفة وزفر بما رواه هو وابن عبد البر من طريق مالك عن ابن شهاب قال: قال عمر: "لولا أني ذكرت صدقتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم لرددتها" فقال: إن الذي منع عمر من الرجوع كونه ذكره للنبي صلى الله عليه وسلم، فكرة أن يفارقه على أمر، ثم يخالفه إلى غيره، قال الحافظ ابن حجر: ولا حجة فيما ذكره من وجهين: أحدهما أنه منقطع، لأن ابن شهاب لم يدرك عمر، وثانيهما أنه يحتمل أن عمر أخر وفقتيه، ولم يقع منه مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلا استشارته في كيفيته، وأنه ما كتب كتاب وقفه إلا في خلافته، إذ في كتاب وقفه وصف عمر بأمير المؤمنين، ويحتمل أن يكون عمر كان يرى صحة تعليق الوقف ولزومه، إلا إن شرط الواقف الرجوع، فله أن يرجع، وهذا عند المالكية، قال ابن سريج: فتعود منافعه بعد المدة المعينة إليه، ثم إلى ورثته. وأحسن ما يعتذر به عن أبي حنيفة وزفر أنهما لم يبلغهما هذا الحديث، يؤكد ذلك ما حكاه الطحاوي نفسه عن عيسى بن أبان، قال: كان أبو يوسف (صاحب أبي حنيفة) يجيز بيع الوقف، فبلغه حديث عمر هذا، فقال: من سمع هذا من ابن عون؟ فحدثه به ابن علية، فقال: هذا لا يسع أحدًا خلافه، ولو بلغ أبا حنيفة لقال به، فرجع أبو يوسف عن بيع الوقف (وأبو يوسف أعلم بأبي حنيفة من غيره) حتى صار كأنه لا خلاف فيه بين أحد.

قال القرطبي: رد الوقف مخالف للإجماع، فلا يلتفت إليه. وبقية ما يتعلق بهذا الحديث تأتي فيما يؤخذ من الأحاديث قريبًا إن شاء الله. 5 - ما أوصى به الرسول صلى الله عليه وسلم، وما أراد أن يوصي به ثم عدل عنه: أما وصية النبي صلى الله عليه وسلم فقد تحدثت عنها الروايات الثالثة عشرة، وما بعدها، وقد أطال النووي في تحليل موقف الرسول صلى الله عليه وسلم وموقف الصحابة رضي الله عنهم من طلبه صلى الله عليه وسلم الكتف والدواة، ليملي عليهم وصيته الأخيرة، نقتطف منها ما يلي: قال - رحمة الله عليه - اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الكذب، ومن تغيير شيء من الأحكام الشرعية، في حال صحته، وفي حال مرضه، ومعصوم من ترك بيان ما أمر ببيانه، ومن ترك تبليغ ما أوجب الله عليه تبليغه، إذا علمت هذا فاعلم أن العلماء اختلفوا في الكتاب الذي هم به النبي صلى الله عليه وسلم. فقيل: أراد أن ينص على الخلافة في إنسان معين، لئلا يقع نزاع وفتن، قاله البيهقي: وقد حكى سفيان بن عيينة عن أهل العلم قبله، أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب استخلاف أبي بكر رضي الله عنه، ثم ترك ذلك اعتمادًا على ما علمه من تقدير الله تعالى ذلك، ثم نبه أمته على استخلاف أبي بكر بتقديمه إياه في الصلاة. وقيل: أراد كتابًا يبين فيه مهمات الأحكام ملخصة، ليرتفع النزاع فيها، ويحصل الاتفاق على المنصوص عليه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم، هم بالكتاب حين ظهر له أنه مصلحة، أو أوحي إليه بذلك، ثم ظهر أن المصلحة تركه، أو أوحي إليه بذلك، ونسخ ذلك الأمر الأول. وأما كلام عمر رضي الله عنه فقد اتفق العلماء المتكلمون في شرح الحديث على أنه من دلائل فقه عمر وفضائله، ودقيق نظره، لأنه خشي أن يكتب صلى الله عليه وسلم أمورًا، ربما عجزوا عنها، واستحقوا العقوبة عليها، لأنها تكون حينئذ منصوصة، لا مجال للاجتهاد فيها، فكان عمر أفقه من ابن عباس وموافقيه. قال البيهقي: لو كان مراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب ما لا يستغنون عنه، لم يتركه، لاختلافهم، ولا لغيره كما لم يترك تبليغ غير ذلك، لمخالفة من خالفه، ومعاداة من عاداه، وكما أمر في ذلك الحال، بإخراج اليهود من جزيرة العرب، وغير ذلك مما ذكره في الحديث. ثم قال: وفي تركه صلى الله عليه وسلم الإنكار على عمر دليل على استصوابه. قال الخطابي: ولا يجوز أن يحمل قول عمر، على أنه توهم الغلط على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ظن به غير ذلك مما لا يليق به بحال، لكنه لما رأى ما غلب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، من الوجع وقرب الوفاة، مع ما اعتراه من الكرب خاف أن يكون ذلك القول مما يقوله المريض، مما لا عزيمة له فيه، فيجد المنافقون بذلك سبيلاً إلى الكلام في الدين، وقد كان أصحابه صلى الله عليه وسلم يراجعونه في بعض الأمور، قبل أن يجزم فيها بتحتيم، كما راجعوه يوم الحديبية، وفي كتاب الصلح مع قريش، فأما إذا أمر بالشيء أمر عزيمة، فلا يراجعه فيه أحد منهم. والله أعلم.

وأما وصية الرسول صلى الله عليه وسلم بإخراج الكفار من جزيرة العرب فقد أخذ بها مالك والشافعي وغيرهما من العلماء فأوجبوا إخراج الكفار من جزيرة العرب، وقالوا: لا يجوز تمكينهم من سكناها، ولكن الشافعي خص هذا الحكم ببعض جزيرة العرب، وهو الحجاز، وهو عنده مكة والمدينة واليمامة وأعمالها دون اليمن وغيره مما هو من جزيرة العرب، بدليل آخر، مشهور في كتبه وكتب أصحابه، وعن مالك عن ابن شهاب قال: جزيرة العرب، المدينة، وقال الأصمعي: هي ما لم يبلغه ملك فارس من أقصى عدن إلى أطراف الشام، وقال أبو عبيد: هي من أقصى عدن إلى ريف العراق طولاً، ومن جدة إلى أطراف الشام عرضًا. وقال العلماء: ولا يمنع الكفار من التردد مسافرين في الحجاز، ولكن لا يمكنون من الإقامة فيه أكثر من ثلاثة أيام وقال الشافعي وموافقوه: إلا مكة وحرمها فلا يجوز تمكين كافر من دخوله بحال، فإن دخله في خفية وجب إخراجه، فإن مات ودفن فيه نبش وأخرج، ما لم يتغير، هذا مذهب الشافعي وجماهير الفقهاء، وجوز أبو حنيفة دخولهم الحرم، وحجة الجماهير قول الله تعالى {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة: 28]. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: الذي يمنع المشركون من سكناه من جزيرة العرب الحجاز خاصة، وهو مكة والمدينة واليمامة، وما والاها، لا فيما سوى ذلك مما يطلق عليه اسم جزيرة العرب، لاتفاق الجميع على أن اليمن لا يمنعون منها، مع أنها من جملة جزيرة العرب. هذا مذهب الجمهور، وعن الحنفية يجوز مطلقًا إلا المسجد، وعن مالك يجوز دخولهم الحرم للتجارة، وقال الشافعي: لا يدخلون الحرم أصلاً، إلا بإذن الإمام، لمصلحة المسلمين خاصة. وعرض الألوسي المذاهب، فقال بظاهر الآية {فلا يقربوا المسجد الحرام} فأراد من دخول المسجد الحرام نفسه، وصرف المنع عن دخول المسجد الحرام إلى المنع من الحج والعمرة، أي لا يحجوا ولا يعتمروا بعد حج عامهم هذا، وهو عام تسع من الهجرة، فالإمام الأعظم لا يمنع من دخولهم المسجد الحرام وسائر المساجد في الحرم، ومذهب الشافعي وأحمد ومالك رضي الله عنه كما قال الخازن: أنه لا يجوز للكافر، ذميًا كان، أو مستأمنًا، أن يدخل المسجد الحرام بحال من الأحوال، ويجوز دخوله سائر المساجد عند الشافعي، وعن مالك: كل المساجد سواء في منع الكافرين عن دخولها. -[6 - ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- (1) من قوله في الروايتين الأولى والثانية "ما حق امرئ مسلم" شذ بعضهم فقال بعدم صحة وصية غير المسلم، وقد بحثه السبكي من حيث إن الوصية شرعت زيادة في العمل الصالح، والكافر لا عمل له بعد الموت، وحكى ابن المنذر الإجماع على صحة وصية الكافر، كالإعتاق، وهو يصح من الذمي والحربي. (2) واستدل الإمام محمد بن نصر المروزي من الشافعية، من قوله "إلا ووصيته مكتوبة عنده" بأن الكتابة في الوصية تكفي من غير إشهاد، وقد سبقت هذه المسألة.

(3) واستدل بقوله "له شيء يوصي فيه" على صحة الوصية بالمنافع، وهو قول الجمهور، ومنعه ابن أبي ليلى وابن شبرمة وداود وأتباعه، واختاره ابن عبد البر. (4) وفي الحديث الحض على الوصية، ومطلقها يتناول الصحيح، لكن السلف خصوها بالمريض، وإنما لم يقيد الحديث بالمريض، لاطراد العادة، كذا قيل، والحق تناول الحض للصحيح، وإن اختلفت درجة الحض بين الصحيح والمريض. ويؤكد ذلك فعل ابن عمر رضي الله عنهما. (5) ومن قوله "مكتوبة" أعم أن تكون بخطه أو بغير خطه. (6) ويستفاد منه أن الأشياء المهمة ينبغي أن تضبط بالكتابة، لأنها أثبت من الضبط بالحفظ، لأنه يخون غالبًا. (7) ومن فعل ابن عمر - رضي الله عنهما - ملحق روايتنا الثانية منقبة لابن عمر، رضي الله عنهما، لمبادرته الامتثال لقول الشارع، ومواظبته عليه. (8) وفيه الندب إلى التأهب للموت، والاحتراز قبل الفوات، لأن الإنسان لا يدري متى يفجؤه الموت، لأنه ما من سن يفرض، إلا وقد مات فيه جمع كبير، وكل واحد بعينه معرض للموت في الحال، فينبغي أن يكون متأهبًا لذلك، فيكتب وصيته، ويجمع فيها ما يحصل له به الأجر، ويحبط عنه الوزر من حقوق الله، وحقوق عباده. (9) ومن حديث سعد، من رواياتنا الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة استحباب عيادة المريض، وهي مستحبة للإمام، كاستحبابها لآحاد الناس، وتتأكد باشتداد المرض، وحاجة المريض إلى شخصية من يعوده. (10) ومن قول سعد "بلغني ما ترى من الوجع" وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لذلك جواز إخبار المريض بمرضه، وشدته، وقوة ألمه، إذا لم يقترن بذلك شيء مما يمنع أو يكره، من التبرم، وعدم الرضا، بل حيث يكون ذلك لطلب دعاء أو دواء، وأن ذلك لا ينافي الصبر المحمود. وإذا جاز ذلك أثناء المرض كان الإخبار به بعد الشفاء أولى بالجواز، وإنما يكره من ذلك ما كان على سبيل التسخط ونحوه، فإنه يقدح في أجر مرضه. (11) ومن قوله "وأنا ذو مال" دليل على جواز جمع المال، لأن هذه الصيغة لا تستعمل في العرف إلا لمال كثير. (12) ومن قوله " اللهم اشف سعدًا) استحباب الدعاء للمريض. (13) وفيه مراعاة العدل بين الورثة والوصية، قال بعض العلماء: إن كان الورثة أغنياء استحب أن يوصى بالثلث تبرعًا، وإن كانوا فقراء استحب أن ينقص من الثلث. (14) وفيه الشفقة على الورثة. (15) والحث على صلة الأرحام، والإحسان إلى الأقارب.

(16) وأن من فاته بعض أنواع البر أمكنه أن يعوضه بعمل بر آخر، وربما زاد على الأول، وذلك أن سعدًا خاف أن يموت بالدار التي هاجر منها، فيفوت عليه بعض أجر هجرته، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه إن تخلف، فعمل عملاً صالحًا من حج أو جهاد أو غير ذلك كان له به أجر يعوضه ما فاته من الجهة الأخرى. (17) ومن قوله "تبتغي بها وجه الله" أن الأعمال بالنيات. (18) والحث على إخلاص النية، قال ابن دقيق العيد: فيه أن الثواب في الإنفاق مشروط بصحة النية، وابتغاء وجه الله، وسبق تخليص هذا المقصود مما يشوبه. (19) وأن الواجبات إذا أديت على قصد أداء الواجب ابتغاء وجه الله أثيب عليها، فإن نفقة الزوجة واجبة ومع ذلك جعلت اللقمة لها صدقة. (20) وأن المباح إذا قصد به وجه الله تعالى صار طاعة، ويثاب عليه، وقد نبه صلى الله عليه وسلم على هذا بقوله "حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك" لأن الزوجة هي من أخص حظوظ الإنسان الدنيوية وشهواته وملاذه المباحة، وإذا وضع اللقمة في فيها فإنما يكون ذلك في العادة عند الملاعبة والملاطفة والتلذذ بالمباح، فهذه الحالة أبعد الأشياء عن الطاعة وأمور الآخرة، ومع هذا أخبر صلى الله عليه وسلم أنه إذا قصد بهذه اللقمة وجه الله تعالى حصل له الأجر بذلك، فغير هذه الحالة أولي بحصول الأجر، إذا أراد وجه الله تعالى، ويتضمن ذلك أن الإنسان إذا فعل شيئًا أصله على الإباحة، وقصد به وجه الله تعالى يثاب عليه، وذلك كالأكل بنية التقوى على طاعة الله، والنوم للاستراحة ليقوم إلى العبادة نشيطًا، والاستمتاع بزوجته ليكف نفسه وبصره ونحوهما عن الحرام قاله النووي. (21) ومن قوله "ولعلك تخلف حتى ينفع بك أقوام" الدعاء بطول العمر والعمل الصالح، ففي ذلك فضيلة. (22) ومن قوله "ونفقتك على عيالك صدقة" أن الإنفاق على العيال يثاب عليه. قال النووي: إذا قصد به وجه الله تعالى. (23) ومن بكاء سعد خشية التخلف بمكة حرص المسلم على ما كسب من الخير أن ينقصه عمل، لأنه هاجر، وترك مكة وما كان له فيها لله تعالى، فالبقاء بعد ذلك بمكة كالرجوع في الهبة، قال القاضي: قيل: لا يحبط أجر هجرة المهاجر بقاؤه بمكة وموته بها، إذا كان لضرورة، وإنما يحبطه ما كان بالاختيار، وقال قوم: موت المهاجر بمكة محبط هجرته كيفما كان، وقيل: لم تفرض الهجرة إلا على أهل مكة خاصة، فمن هاجر إلى المدينة من غير أهل مكة لا يحبط هجرته البقاء بمكة. (24) قال الحافظ ابن حجر: وفيه منع نقل الموتى من بلد إلى بلد، إذ لو كان ذلك مشروعًا لأمر بنقل سعد بن خولة. قاله الخطابي. اهـ وفيه نظر فقد يكون الإحباط بالموت في مكة، وليس بالدفن بها.

(25) وفي قوله "ولا تردهم على أعقابهم" سد للذرائع، لئلا يتذرع بالمرض أحد لأجل حب الوطن. (26) وفي تقييد الوصية بالثلث تقييد لمطلق القرآن بالسنة، لقوله تعالى {من بعد وصية يوصي بها أو دين} [النساء: 12] فأطلق، وقيدت السنة، وتخصيص القرآن بالسنة قول جمهور الأصوليين، وهو الصحيح. (27) وفيه جواز التصدق بجميع المال لمن عرف بالصبر، ولم يكن له من تلزمه نفقته. (28) وفيه الاستفسار عن المحتمل، لأن سعدًا لما منع من الوصية بجميع المال احتمل عنده المنع من الكل والجواز فيما دونه، فاستفسر عما دون ذلك. (29) وفيه أن خطاب الشرع لواحد يعم من كان بصفته من المكلفين، لإطباق العلماء على الاحتجاج بحديث سعد هذا. ولقد أبعد من قال: إن ذلك يختص بسعد، ومن كان في مثل حاله ممن يخلف وارثًا ضعيفًا، أو كان ما يخلفه قليلاً، لأن البنت من شأنها أن يطمع فيها، وإن كانت بغير مال لم يرغب فيها. (30) واستدل به بعضهم على فضل الغني على الفقير. (31) واستدل بقوله "ولا يرثني إلا ابنة" من قال بالرد، وفيه نظر، للاحتمالات التي مرت في المباحث العربية. (32) ومن الرواية الثامنة والتاسعة والعاشرة والحادية عشرة فضيلة الزواج، لرجاء الولد الصالح. (33) من الرواية التاسعة كره بعض الناس موت الفجاءة، لما فيه من حرمان الوصية، وترك الاستعداد للموت وللمعاد بالتوبة وغيرها من الأعمال الصالحة، وفي مصنف أبي شيبة، "موت الفجأة راحة للمؤمن، وأسف على الفاجر". (34) وفيه حث الأبناء أن يتصدقوا على الآباء والأمهات الذين ماتوا فجأة، وليستدركوا لهم من أعمال البر ما أمكنهم مما يقبل النيابة. (35) وجواز الصدقة عن الميت، وأن ذلك ينفعه، بوصول ثواب الصدقة إليه، ولا سيما إن كان من الولد، وهو مخصص لعموم قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} (36) وفيه ما كان عليه الصحابة من استشارة النبي صلى الله عليه وسلم في أمور الدين. (37) ومن قوله "وإني أظنها لو تكلمت تصدقت" العمل بالظن الغالب. (38) وفيه المبادرة إلى بر الوالدين. (39) وأن إظهار الصدقة قد يكون خيرًا من إخفائها. (40) ومن الرواية الثانية عشرة فضيلة الوقف، وهو الصدقة الجارية.

(41) وفضيلة الإنفاق مما يحب. (42) منقبة عظيمة وفضيلة كبيرة لعمر رضي الله عنه. (43) ومشاورة أهل الفضل والصلاح في الأمور، وطرق الخير. (44) واستدل به على أن خيبر فتحت عنوة، وأن الغانمين، ملكوها، وتقاسموها، واستقرت أملاكهم على حصصهم، ونفذت تصرفاتهم فيها. كذا قال النووي، وهو مبني على ما أصاب عمر من أرض خيبر كان ذا طريقه. وليس كذلك كما بينا من قبل. (45) وفيه فضيلة صلة الأرحام والوقف عليهم. (46) ومن قول ابن عمر: "أصاب عمر أرضًا" جواز ذكر الولد أباه باسمه المجرد، ومن غير كنية ولا لقب. (47) وفيه أن المشير يشير بأحسن ما يظهر له في جميع الأمور. (48) وصحة شروط الواقف، واتباعها والتزامها. (49) وأن الوقف يكون فيما له أصل، يدوم الانتفاع به، فلا يصح وقف مالا يدوم الانتفاع به كالطعام. (50) وفيه جواز الوقف على الأغنياء، لأن ذوي القربى والضيف لم يقيد بالحاجة، وهو الأصح عن الشافعية. (51) قال الحافظ: وفيه أن للواقف أن يشترط لنفسه جزءًا من ريع الموقوف، لأن عمر شرط لمن ولي وقفه أن يأكل منه بالمعروف، ولم يستثن إن كان هو الناظر أو غيره، فدل على صحة الشرط، وإذا جاز في المبهم الذي تعينه العادة، كان فيما يعينه هو أجوز. (52) ويستنبط منه صحة الوقف على النفس، وهو قول ابن أبي ليلى وأبي يوسف وأحمد في الأرجح عنه. وقال به من المالكية، ابن شعبان، وجمهورهم على المنع، إلا إذا استثنى لنفسه شيئًا يسيرًا، بحيث لا يتهم أنه قصد حرمان ورثته. (53) استدل بهم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو لا يهم إلا بحق أن كتابة الحديث جائزة وحق، وقد كره جماعة من الصحابة والتابعين كتابة الحديث، واستحبوا أن يؤخذ عنهم حفظًا، كما أخذوا حفظًا، لكن لما قصرت الهمم، وخشي الأئمة ضياع العلم دونوه، وكثر التدوين، ثم التصنيف، وحصل بذلك خير كثير. (54) استدل بقوله "دعوني فالذي أنا فيه خير" في الرواية السادسة عشرة، ومن قوله "قوموا" بعد اختصامهم واختلافهم، كما جاء في الرواية الثامنة عشرة على أن الاختلاف قد يكون سببًا في حرمان الخير، كما وقع في قصة الرجلين اللذين تخاصما، فرفع تعيين ليلة القدر، بسبب ذلك.

(55) واستدل بعضهم بقوله "قوموا" و"دعوني" على أن الأمر بإتيان أدوات الكتابة لم يكن للوجوب، بل كان للإرشاد والاختيار، وقد عاش صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أيامًا ولم يعاود أمرهم بذلك، ولو كان واجبًا لم يتركه لاختلافهم. قال الحافظ ابن حجر: "قال القرطبي وغيره: "ائتوني" أمر، وكان حق المأمور أن يبادر للامتثال، لكن ظهر لعمر رضي الله عنه مع طائفة - أنه ليس على الوجوب فكرهوا أن يكلفوه من ذلك ما يشق عليه في تلك الحالة، وظهر لطائفة أخرى أن الأولى أن يكتب، لما فيه من امتثال أمره، ثم قال: واختلافهم في ذلك كاختلافهم في قوله لهم" لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة، فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا، وتمسك آخرون بظاهر الأمر، فلم يصلوا، فما عنف أحدًا منهم"، من أجل الاجتهاد المسوغ، والمقصد الصالح. (56) وفي الحديث أن الأمراض ونحوها لا تنافي النبوة، ولا تدل على سوء الحال. (57) ويؤخذ من الأمر بإجازة الوفد حسن الضيافة وإكرام من يفد، تطييبًا لنفوسهم، وترغيبًا للمؤلفة قلوبهم. قال العلماء: سواء كان الوفد مسلمين أو كفارًا. والله أعلم

كتاب النذر

كتاب النذر

(433) باب النذر والقدر

(433) باب النذر والقدر 3726 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: استفتى سعد بن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم في نذر كان على أمه، توفيت قبل أن تقضيه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فاقضه عنها". 3727 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا ينهانا عن النذر. ويقول "إنه لا يرد شيئًا. وإنما يستخرج به من الشحيح". 3728 - عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "النذر لا يقدم شيئًا ولا يؤخره. وإنما يستخرج به من البخيل". 3729 - عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر وقال "إنه لا يأتي بخير. وإنما يستخرج به من البخيل". 3730 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تنذروا. فإن النذر لا يغني من القدر شيئًا. وإنما يستخرج به من البخيل". 3731 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر. وقال "إنه لا يرد من القدر. وإنما يستخرج به من البخيل".

3732 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن النذر لا يقرب من ابن آدم شيئًا لم يكن الله قدره له. ولكن النذر يوافق القدر. فيخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج". 3733 - عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل. فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني عقيل وأصابوا معه العضباء. فأتى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الوثاق. قال: يا محمد! فأتاه. فقال "ما شأنك؟ " فقال: بم أخذتني؟ وبم أخذت سابقة الحاج؟ فقال (إعظامًا لذلك) "أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف" ثم انصرف عنه فناداه. فقال: يا محمد! يا محمد! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيمًا رقيقًا. فرجع إليه فقال "ما شأنك؟ " قال: إني مسلم. قال "لو قلتها وأنت تملك أمرك، أفلحت كل الفلاح" ثم انصرف. فناداه فقال: يا محمد! يا محمد! فأتاه فقال "ما شأنك؟ " قال: إني جائع فأطعمني. وظمآن فأسقني. قال "هذه حاجتك" ففدي بالرجلين. قال: وأسرت امرأة من الأنصار. وأصيبت العضباء. فكانت المرأة في الوثاق وكان القوم يريحون نعمهم بين يدي بيوتهم. فانفلتت ذات ليلة من الوثاق فأتت الإبل. فجعلت إذا دنت من البعير رغا فتتركه. حتى تنتهي إلى العضباء. فلم ترغ. قال: وناقة. منوقة فقعدت في عجزها ثم زجرتها فانطلقت. ونذروا بها فطلبوها فأعجزتهم. قال: ونذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها. فلما قدمت المدينة رآها الناس. فقالوا: العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إنها نذرت إن نجاها الله عليها لتنحرنها. فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له. فقال "سبحان الله بئسما جزتها. نذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها. لا وفاء لنذر في معصية. ولا فيما لا يملك العبد". وفي رواية ابن حجر "لا نذر في معصية الله".

3734 - - وفي رواية عن أيوب، بهذا الإسناد. نحوه، في حديث حماد قال: كانت العضباء لرجل من بني عقيل وكانت من سوابق الحاج. وفي حديثه أيضًا: فأتت على ناقة ذلول مجرسة. وفي حديث الثقفي: وهي ناقة مدربة. 3735 - عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شيخًا يهادى بين ابنيه. فقال "ما بال هذا؟ " قالوا نذر أن يمشي قال "إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني" وأمره أن يركب. 3736 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك شيخًا يمشي بين ابنيه يتوكأ عليهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم "ما شأن هذا؟ " قال ابناه: يا رسول الله كان عليه نذر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "اركب. أيها الشيخ! فإن الله غني عنك وعن نذرك". 3737 - عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية. فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيته. فقال: "لتمش ولتركب". 3738 - عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه أنه قال: نذرت أختي. فذكر بمثل حديث مفضل. ولم يذكر في الحديث: حافية وزاد: وكان أبو الخير لا يفارق عقبة. 3739 - عن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "كفارة النذر كفارة اليمين".

-[المعنى العام]- النذر عهد يقطعه الإنسان على نفسه، ويلتزمه، ولم يكن من قبل لازمًا، وكانت العرب قبل الإسلام تنذر القرابين لأصنامها، وكانت تعتبر الوفاء بالنذر نوعًا من المروءة والشهامة والنجدة والأصالة والمعالي والمفاخر، فلما جاء الإسلام محض النذر لله، وجعله عهدًا لله وحده بشيء من الأشياء، لما مدح القرآن الكريم الوفاء بالنذر، وجعله من صفات الأبرار، أكثر المسلمون من النذر، حتى خيل لبعضهم أن الله يعطي من أجل النذر، وأن المقدور يتغير من شر إلى خير بسبب النذر، وأصبح المنذور في مخيلتهم كبدل ومقابل للفضل والعطاء، وأصبحت الطاعات التي تنذر ليست متمحضة للقربة والعبادة، بل كالعوض على أمر ومصلحة، بحيث لو لم تحصل للناذر هذه المصلحة لا يؤدي هذه الطاعة، فمن قال: إن شفى الله مريضي تصدقت بشاة، لم يتصدق بها إن لم يشف الله مريضه. ولما كان الإسلام حريصًا على خلوص الطاعات من الشوائب نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النذر، وقال لأصحابه: لا تنذروا، فإن النذر لا يغير مما قدر لكم شيئًا، إن النذر يجعل العبادة ثقيلة على صاحبها، إنه أشبه بإلزام البخيل بإخراج شيء لم يكن يريد أن يخرجه من تلقاء نفسه، أطيعوا الله ابتداء وطواعية، ولا تطلبوا للطاعة مقابلاً. ومع ذلك. من نذر منكم أن يطيع الله وجب أن يوفي بنذره، وأن يطيعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه، من نذر منكم طاعة فمات قبل أن يوفي نذره المالي قضى عنه ورثته نذره، فإن نفسه ستكون مرهونة بوفاء نذره. وعلم صلى الله عليه وسلم أن امرأة نذرت أن تذبح الناقة التي أسعفتها بالنجاة من أعدائها، فقال: بئس هذا الصنيع. بئست هذه المجازاة، هل جزاء الإحسان الإساءة، إن إيذاء المحسن معصية، ولا نذر في معصية، ثم إن هذه الناقة ليست ملكها، ولا نذر فيما لا يملكه الإنسان. ورأى صلى الله عليه وسلم رجلا عجوزًا حطامًا، يمشي بين ولديه، تجر رجلاه في الأرض، يتمايل ذات اليمين، وذات الشمال، يتحامل على ابنه هذا مرة، وعلى ابنه الثاني أخرى، فقال: ما هذا؟ ما شأنه؟ قال ولداه: نذر أن يزور الكعبة ماشيًا، ولا يستطيع الوفاء إلا هكذا، فقال صلى الله عليه وسلم: إن الله غني عن تعذيب هذا نفسه. مروه فليركب. وسئل صلى الله عليه وسلم عن امرأة نذرت أن تحج ماشية حافية، فأمر أن تلبس نعلها وأن تركب. وصدق الله العظيم إذ يقول: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128]. -[المباحث العربية]- (استفتى سعد بن عبادة في نذر كان على أمه) قيل: كان نذرًا بطاعة مطلقًا،

وقيل: كان صومًا، وقيل: كان عتقًا، وقيل: كان صدقة، والنذر مصدر نذر ينذر بكسر الذال وضمها في المضارع، لغتان. وفي رواية "قال سعد: إن أمي توفيت وأنا غائب عنها، فهل ينفعها شيء إن تصدقت به عنها"؟ فيحتمل أن يكون سأل عن النذر وعن الصدقة عنها، وبين النسائي جهة الصدقة، وفيه "فأي الصدقة أفضل؟ قال: سقي الماء" وفي الموطأ، "خرج سعد بن عبادة مع النبي صلى الله عليه وسلم، في بعض مغازيه، وحضرت أمه الوفاة بالمدينة، فقيل لها: أوصي. فقالت: فيم أوصي؟ المال مال سعد. فتوفيت قبل أن يقدم سعد". (فاقضه عنها) في رواية "أفيجزئ عنها أن أعتق عنها؟ قال: أعتق عن أمك". (أخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يومًا ينهانا عن النذر) في الرواية الخامسة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تنذروا". (ويقول: إنه لا يرد شيئًا، وإنما يستخرج به من الشحيح) في الرواية الخامسة: "فإن النذر لا يغني من القدر شيئًا، وإنما يستخرج به من البخيل" وفي ملحقها "إنه لا يرد من القدر" وفي الرواية الثالثة "النذر لا يقدم شيئًا ولا يؤخره" وفي الرواية السادسة "إن النذر لا يقرب من ابن آدم شيئًا، لم يكن الله قدره، ولكن النذر يوافق القدر، فيخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج" وفي رواية "لا يأتي ابن آدم النذر بشيء لم يكن قدر له" وفي هذه الألفاظ تعليل للنهي عن النذر، وليس المراد بالنهي الزجر عنه والتحذير من فعله، إذ لو كان كذلك لبطل حكمه، ولما لزم الوفاء به، لأنه بالنهي يصير معصية، فلا يلزم، كيف وقد مدح الله تعالى فاعله ووفاءه به؟ وإنما المراد من النهي تعظيم أمر النذر، وتحذير عن التهاون به بعد إيجابه، وعدم التفريط في الوفاء به، فليس هناك نهي عن النذر في الحقيقة. وقيل: المراد النهي عن النذر حقيقة نهي تنزيه، من حيث إن الناذر يأتي بالقربة - عند الوفاء - مستثقلاً لها، لما صارت عليه ضربة لازم، وكل ملزوم لا ينشط للفعل نشاط مطلق الاختيار. وقيل: المراد النهي عن النذر، لأن الناذر لما لم ينذر القربة إلا بشرط أن يفعل له ما يريد صار كالمعاوضة التي تقدح في نية المتقرب. وقيل: المراد النهي عن عقيدة تصاحب النذر غالبًا، وليس عن النذر مطلقًا، وكأنه قال: لا تنذروا على أنكم تدركون بالنذر شيئًا لم يقدره الله لكم، أو على أنكم تصرفون به عنكم ما قدره الله عليكم، قال القاضي عياض: ويحتمل أن النهي لكونه قد يظن بعض الجهلة أن النذر يرد القدر، ويمنع من حصول المقدر، فنهى عنه خوفًا من جاهل يعتقد ذلك. وفي الرواية الثانية، "يستخرج به من الشحيح" وفي الثالثة "من البخيل" وفي رواية "من اللئيم" والمعاني متقاربة، لأن الشح أخص، واللؤم أعم، قال الراغب: البخل إمساك ما يقتضي عمن يستحق، والشح بخل مع حرص. واللؤم فعل ما يلام عليه.

قال البيضاوي: والمعنى أن عادة الناس تعليق النذر على تحصيل منفعة، أو دفع مضرة، فنهي عنه لأنه فعل البخلاء، إذ السخي إذا أراد أن يتقرب بادر إليه، والبخيل لا تطاوعه نفسه بإخراج شيء من يده إلا في مقابلة عوض يستوفيه أولا، فيلتزمه في مقابلة ما يحصل له، وذلك لا يغني من القدر شيئًا، فلا يسوق إليه خيرًا لم يقدر له، ولا يرد عنه شرًا قضي عليه، لكن النذر قد يوافق القدر، فيخرج من البخيل ما لولاه لم يكن ليخرجه. ومعنى أنه لا يأتي بخير، كما جاء في الرواية الرابعة، أن عقباه لا تحمد، وقد يتعذر الوفاء به، وإن كان يترتب عليه خير، وهو فعل الطاعة التي نذرها، وقال النووي: معناه أنه لا يرد شيئًا من القدر، كما بينته الروايات الأخرى. (كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل) "ثقيف" علم على قبيلة، ممنوع من الصرف، و"عقيل" مصغر، والحلف بكسر الحاء التعاهد على النصرة والنصيحة والتعاون والحماية. (وأصابوا معه العضباء) أي واستولوا على الناقة التي كانت معه، والتي سميت العضباء، وفي أحمد وأبي داود، "كانت العضباء لرجل من بني عقيل، وكانت من سوابق الحاج، فأسر الرجل، وأخذت العضباء معه "وكانت ناقة سباقة، لا تكاد تسبق، فأطلق عليها عند الرجل: سابقة الحاج. (فأتى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم) في رواية أحمد "رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار، عليه قطيفة". (فقال -إعظامًا لذلك-: أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف) أي بجريمتهم، أي أجابه على سؤاله إعظامًا أن يكون قد أخذه بغير جريرة، أي إعظامًا للأخذ بدون جريمة. (لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح) أي لو قلت كلمة الإسلام قبل الأسر، حين كنت مالك أمرك، أفلحت كل الفلاح، لأنه لا يجوز أسرك لو أسلمت قبل الأسر، فكنت فزت بالإسلام، وبالسلامة من الأسر، ومن أخذ مالك وناقتك غنيمة، وأما إذ أسلمت بعد الأسر، فيسقط الخيار في قتلك، ويبقى الخيار بين الاسترقاق والمن والفداء، قاله النووي. (هذه حاجتك) أي خذ طعامًا وماء. (ففدي بالرجلين) أي فك إساره على سبيل المفاداة بالرجلين اللذين أسرا من المسلمين"، وحبس رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء لرحله، فكانت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم. (وأسرت امرأة من الأنصار) قال النووي: هي امرأة أبي ذر رضي الله عنه. (وأصيبت العضباء) في رواية لأحمد "ثم إن المشركين أغاروا على سرح المدينة، فذهبوا به، وكانت العضباء فيه، وأسروا امرأة من المسلمين" ولعلها كانت قريبة من السرح، فأخذوها مع السرح. (وكان القوم يريحون نعمهم بين يدي بيوتهم) في رواية أحمد "فكانوا إذا نزلوا أراحوا إبلهم بأفنيتهم".

(فانفلتت ذات ليلة من الوثاق) أي فتخلصت من وثاقها، واتجهت نحو الإبل، لتركب وتهرب. (فجعلت إذا دنت من البعير رغا) أي كلما قربت من بعير، وحاولت أن تركب عليه صوت وضج. (حتى تنتهي إلى العضباء فلم ترغ)، أي حتى انتهت إلى العضباء، ففيه التعبير عن الماضي بالمضارع لاستحضار الصورة، وفي رواية لأحمد "حتى أتت العضباء، فلم ترغ" يقال: رغا يرغو رغوًا، أي صارت له رغوة، ورغا البعير رغوًا ورغاء. (وناقة منوقة) أي والعضباء ناقة منوقة، بضم الميم وفتح النون وتشديد الواو المفتوحة، أي مذللة، وفي ملحق الرواية "فأتت على ناقة ذلول مجرسة" بضم الميم وفتح الجيم وتشديد الراء المفتوحة، يقال: جرسته الأمور، أي حنكته، وناقة مجرسة، أي مدربة على السير والركوب. (فقعدت في عجزها) التعبير بفي للإشارة إلى صغر حجم المرأة، وانكماشها وتخفيها، والأصل قعدت على عجزها. (ثم زجرتها، فانطلقت) كانت الناقة باركة، فركبت، وحركتها للقيام، ووجهتها جهة المدينة، فانطلقت بها وأسرعت. (ونذروا بها، فطلبوها، فأعجزتهم) "ونذروا" فتح النون وكسر الذال، أي علموا بها، يقال: نذر بالشيء، ينذر بفتح الذال في المضارع، علمه فحذره، وأنذره الشيء أعلمه به، وطلبوها أي التمسوها وأرادوها، وسعوا وراءها فسبقتهم، فلم يدركوها. (رأى شيخًا يهادى بين ابنيه) في الرواية التاسعة "أدرك شيخًا يمشي بين ابنيه، يتوكأ عليهما" وهو معنى "يهادى" بضم الياء وفتح الدال، مبني للمجهول، يقال: هادى فلان فلانًا، أي جعله يتمايل في مشيته، كما يقال: جاء يتهادى بين اثنين، أي يعتمد عليهما من ضعف، وفي رواية الترمذي "يتهادى". (قالوا: نذر أن يمشي) في الرواية التاسعة أن الذي أجاب عن السؤال ولدا الرجل، والمراد المشي إلى بيت الله. (نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية) عند أحمد وأصحاب السنن "حافية غير مختمرة" زاد الطبري "وهي امرأة ثقيلة والمشي يشق عليها". (لتمش ولتركب) في رواية "مرها فلتختمر، ولتصم ثلاثة أيام" وفي رواية "قال: فلتركب، ولتهد بدنة".

-[فقه الحديث]- النذر أنواع 1 - ) نذر التبرر المحض، كأن يقول: لله علي حجة، أو صوم ثلاثة أيام مثلاً ويسمى نذر الطاعة المطلق. 2 - ) ونذر اللجاج، كأن يقول: إن كلمت زيدًا مثلاً فلله علي حجة، وهو يريد الامتناع من كلام زيد، فيكلمه. 3 - ) ونذر الطاعة المعلق على فعل طاعة، كأن يقول: إن حججت فلله علي أن أذبح هناك عشرًا. 4 - ) ونذر الطاعة المعلق على معصية، كأن يقول: إن شربت خمرًا فلله علي أن أصوم شهرًا. 5 - ) ونذر المعصية المطلق، كأن يقول: لله علي أن أقتل فلانًا -وهو لا يحل قتله. 6 - ) ونذر المعصية المعلق على مباح أو على معصية، كأن يقول: إن أكلت عندك فلله علي أن أشرب خمرًا، أو يقول: إن قتلت زيدًا فلله علي أن أشرب دمه. والنوعان الأخيران نذر معصية، يجب عدم الوفاء به، وهل يجب فيه كفارة يمين؟ أو هو لاغ لا ينعقد، ولا شيء عليه؟ يرى أحمد وبعض الشافعية أن عليه كفارة يمين، واحتجوا برواية عن عمران بن حصين، وعن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين" وحديث عمران أخرجه النسائي وضعفه، وحديث عائشة أخرجه أصحاب السنن، ورواته ثقات، لكنه معلول، كما قال الحافظ ابن حجر، كما احتجوا بعموم حديث عقبة بن عامر، روايتنا الحادية عشرة، ولفظها "كفارة النذر كفارة اليمين" واحتج لهم بأن الشارع نهى عن المعصية، وأمر بالكفارة، فتعينت. قال النووي: وقوله صلى الله عليه وسلم "لا وفاء لنذر في معصية" و"لا نذر في معصية الله" كما هو في روايتنا السابعة وملحقها -قال: في هذا دليل على أن من نذر معصية، كشرب الخمر ونحو ذلك، فنذره باطل، لا ينعقد، ولا تلزمه كفارة يمين، ولا غيرها، وبهذا قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وداود وجمهور العلماء. والأنواع الأربعة الأول نذر طاعة، وهناك نوع سابع، وهو نذر المباح، وفي انعقاده خلاف فمن صححه استدل بقوله صلى الله عليه وسلم "لا نذر في معصية" فنفي النذر في المعصية يبقي ما عداها ثابتًا، كما استدلوا بما أخرجه أحمد والترمذي من حديث بريدة "أن امرأة قالت: يا رسول الله، إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف؟ فقال: أوف بنذرك" كان ذلك وقت خروجه صلى الله عليه وسلم في غزوة، فنذرت: إن رده الله سالمًا. كما أخذ من الحديث جواز الضرب بالدف في غير النكاح والختان. قال الحافظ ابن حجر: والحديث حجة في ذلك، اهـ وفيه خلاف طويل، لا يتسع له المقام. وذهب جماعة إلى أن النذر لا ينعقد في المباح، واستدلوا بما أخرجه أحمد "إنما النذر ما يبتغي به وجه الله" وأجابوا عن قصة المرأة التي نذرت الضرب بالدف بأن من قسم المباح ما قد يصير بالقصد مندوبًا. هذا من حيث الوفاء بالنذر، أما من حيث حكم النذر نفسه فقد ذكر أكثر الشافعية، ونقل عن نص

الشافعي: أن النذر مكروه، لثبوت النهي عنه، وكذا نقل عن المالكية، واحتجوا بأنه ليس طاعة محضة، لأنه لم يقصد به خالص القربة، وإنما قصد أن ينفع نفسه، أو يدفع عنها ضررًا، بما التزمه، وجزم الحنابلة بالكراهة وعندهم رواية في أنها كراهة تحريم، وتوقف بعضهم في صحتها. قال الترمذي -بعد أن ترجم: كراهة النذر - والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، كرهوا النذر. وقال ابن المبارك: معنى الكراهة في النذر في الطاعة أنه إن وفى به فله فيه أجر، ويكره له النذر، قال ابن دقيق العيد: وفيه إشكال على القواعد، فإنها تقتضي أن الوسيلة إلى الطاعة طاعة، كما أن الوسيلة إلى المعصية معصية، والنذر وسيلة إلى التزام القربة، فيلزم أن يكون قربة، إلا أن الحديث دل على الكراهة، ثم أشار إلى التفرقة بين نذر المجازاة، فحمل النهي عليه، وبين نذر الابتداء، فهو قربة محضة، وقال ابن أبي الدم: القياس استحبابه، والمختار أنه خلاف الأولى، وليس بمكروه. قال الحافظ ابن حجر: ونوزع بأن خلاف الأولى ما اندرج في عموم نهي، والمكروه ما نهي عنه بخصوصه، وقد ثبت النهي عن النذر بخصوصه، فيكون مكروهًا، وأقل درجاته أن يكون مكروهًا كراهة تنزيه. وذهب بعض الشافعية إلى أن نذر الطاعة مستحب، لأن الله أثنى على من وفى به، ولأنه وسيلة إلى القربة، فيكون قربة. وتوسط بعضهم، فقال: الذي دل الخبر على كراهته نذر المجازاة، وأما نذر التبرر فهو قربة محضة، ووجه الكراهة في نذر المجازاة أنه لما وقف فعل القربة على حصول الغرض المذكور ظهر أنه لم يتمحص له نية التقرب إلى الله تعالى، بل سلك فيها مسلك المعاوضة، ويوضحه أنه لو لم يحصل له المعلق عليه لم يفعل المعلق، وهذه حالة البخيل، فإنه لا يخرج شيئًا من ماله إلا بعوض عاجل، يزيد على ما أخرج غالبًا. وقد حمل بعضهم النهي على من علم من حاله عدم القيام بما التزمه. وهو بعيد. والله أعلم. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- (1) من الرواية الأولى، من قوله "فاقضه عنها" دليل لقضاء الحقوق الواجبة على الميت. أما الحقوق المالية فمجمع عليها، وأما البدنية ففيها خلاف، قدمناه قريبًا في كتاب الوصية. قال النووي: ثم إن مذهب الشافعي وطائفة أن الحقوق المالية الواجبة على الميت، من زكاة وكفارة ونذر، يجب قضاؤها، من تركته، سواء أوصى بها أم لا، كديون الآدمي، وقال أبو حنيفة ومالك وأصحابهما: لا يجب قضاء شيء من ذلك إلا أن يوصى به، ولأصحاب مالك خلاف في الزكاة إذا لم يوص بها. ثم قال: واعلم أن مذهبنا ومذهب الجمهور أن الوارث لا يلزمه قضاء النذر الواجب على الميت، إذا كان غير مالي، ولا إذا كان ماليًا ولم يخلف تركة، لكن يستحب له ذلك، وقال أهل الظاهر: يلزمه ذلك، لحديث سعد هذا. اهـ ولكن يمكن أن يكون سعد قضاه من تركتها، أو تبرع به. قاله الحافظ ابن حجر.

(2) وفيه استفتاء الأعلم. (3) وفيه بر الوالدين بعد موتهما، والحث على براءة ما في ذمتهما. (4) ومن روايات النهي عن النذر، رواياتنا الثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة، عمم بعض العلماء النهي على جميع أنواع النذر، وقد سبق اختلافهم في حكمه، وقال القاضي عياض -عن نذر الطاعة - ومحصل مذهب مالك أنه مباح، إلا إذا كان مؤبدًا، لتكرره عليه في أوقات، فقد يثقل عليه فعله، فيفعله بالتكلف، من غير طيب نفس، وهو غير خالص النية، فحينئذ يكره. (5) قال ابن العربي: في قوله: "يستخرج به من البخيل" حجة على وجوب الوفاء بما التزمه الناذر -أي من الطاعات - لأن الحديث نص على ذلك بقوله: "يستخرج به" فإنه لو لم يلزمه إخراجه لما تم المراد من وصفه بالبخل من صدور النذر عنه، إذ لو كان مخيرًا في الوفاء لاستمر لبخله على عدم الإخراج. (6) وفي الحديث الرد على القدرية، الذين ينفون أن الله قدر الأشياء أزلاً. (7) وفيه أن كل شيء من وجوه البر يبتدئه المكلف، أفضل مما يلتزمه بالنذر. (8) وفيه الحث على الإخلاص في عمل الخير، وذم البخل، وأن من فعل المأمورات واجتنب المنهيات لا يعد بخيلاً. (9) ومن الرواية السابعة جواز المفاداة. (10) وأن إسلام الأسير لا يسقط حق الغانمين منه، بخلاف ما لو أسلم قبل الأسر. قال النووي: وليس في هذا الحديث أنه حين أسلم، وفادى به، رجع إلى دار الكفر، ولو ثبت رجوعه إلى دارهم، وهو قادر على إظهار دينه، لقوة شوكة عشيرته، أو نحو ذلك، لم يحرم ذلك، فلا إشكال في الحديث، وقد استشكله المازري، وقال: كيف يرد المسلم إلى دار الكفر؟ وهذا الإشكال باطل مردود بما ذكرته. (11) وفي هذا الحديث جواز سفر المرأة وحدها، بلا زوج ولا محرم ولا غيرهما، إذا كان سفر ضرورة، كالهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام، وكالهرب ممن يريد منها فاحشة ونحو ذلك، والنهي عن سفرها وحجها محمول على غير الضرورة. (12) قال النووي: وفي هذا الحديث دلالة لمذهب الشافعي وموافقيه أن الكفار إذا غنموا مالاً للمسلم لا يملكونه، وقال أبو حنيفة وآخرون: يملكونه إذا حازوه إلى دار الحرب وحجة الشافعي وموافقيه هذا الحديث، وموضع الدلالة منه ظاهر. اهـ فالعضباء عادت إلى ملك المسلمين بدون عوض ولا مقابل، فدل على أنها لم تخرج عن ملكهم، ولم تدخل ملك الكفار. (13) واستدل بقوله "ولا فيما لا يملك العبد" أن النذر فيما لا يملك لا ينعقد، ولا تجب فيه كفارة يمين، والمقصود به ما إذا أضاف النذر إلى معين لا يملكه، كأن يقول: إذا شفى الله مريضي فلله

علي أن أعتق عبد فلان، أو أن أتصدق بثوب فلان أو دار فلان، أو نحو ذلك، فأما إذا التزم في الذمة شيئًا لا يملكه، فيصح نذره، مثاله: أن يقول: إن شفى الله مريضي فلله علي عتق رقبة، وهو في هذه الحالة لا يملك رقبة ولا قيمتها فيصح نذره، وإن شفى الله المريض ثبت العتق في ذمته، قاله النووي. أما الحنابلة فقالوا: عليه كفارة يمين لأن النذر يمين، لأنه عقد لله بالتزام شيء، والحالف عقد يمينه بالله ملتزمًا بشيء. (14) استدل بقوله "كفارة النذر كفارة اليمين" أن جميع النذور يخير صاحبها بين الوفاء بما التزمه، وبين كفارة اليمين، كذا قال جماعة من فقهاء المحدثين، وحمله جمهور الشافعية على نذر اللجاج، وحمله مالك وكثيرون على النذر المطلق، كقوله: علي نذر، وحمله أحمد وبعض الشافعية على النذر في المعصية. والله أعلم

كتاب الأيمان

كتاب الأيمان

(434) باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى

(434) باب النهي عن الحلف بغير اللَّه تعالى 3740 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم" قال عمر: فوالله ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها ذاكرًا ولا آثرًا. 3741 - وفي رواية عن الزهري بهذا الإسناد مثله غير أن في حديث عقيل ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنها ولا تكلمت بها ولم يقل ذاكرًا ولا آثرًا. 3742 - - وفي رواية عن سالم عن أبيه قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم عمر وهو يحلف بأبيه بمثل رواية يونس ومعمر. 3743 - عن عبد الله رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب وعمر يحلف بأبيه فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت". 3744 - ومثله عن ابن عمر رضي الله عنهما. 3745 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من كان حالفًا فلا يحلف إلا بالله" وكانت قريش تحلف بآبائها. فقال "لا تحلفوا بآبائكم".

3746 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من حلف منكم فقال في حلفه باللات فليقل لا إله إلا الله. ومن قال لصاحبه تعال أقامرك فليتصدق". 3747 - - وفي رواية عن الزهري بهذا الإسناد. وحديث معمر مثل حديث يونس غير أنه قال "فليتصدق بشيء" وفي حديث الأوزاعي "من حلف باللات والعزى" قال أبو الحسين مسلم هذا الحرف (يعني قوله تعالى أقامرك فليتصدق) لا يرويه أحد غير الزهري قال وللزهري نحو من تسعين حديثاً يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيه أحد بأسانيد جياد. 3748 - عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تحلفوا بالطواغي ولا بآبائكم". -[المعنى العام]- كانت العرب تحلف بآبائها وآلهتها، تعظيمًا لهم، فكانوا يقولون بأبي لأفعلن كذا، وباللات والعزى لقد فعلت كذا، فجاء الإسلام، يعظم الله وحده، ويذر تعظيم ما كانوا يعظمون، جاء الإسلام لينتزع من قلوبهم نزعة الجاهلية، والتفاخر بالآباء والأحساب، ولينتزع من عقيدتهم تقديس أصنام لا تملك لهم ضرًا ولا نفعًا، وطبق رسول الله صلى الله عليه وسلم، على من هو قريب منه، عمر بن الخطاب هذا المبدأ، ليستجيب من عداه، وليحذر غيره ما حذر منه، فقد سمعه صلى الله عليه وسلم يحلف بأبيه، فقال له بصوت يسمعه كل من حوله، من الركب العائد من الغزوة: إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم. وأعلن عمر - وهو خليفة المسلمين، وأمير المؤمنين - على من كان حوله من رعيته، أعلن مدى التزامه بالقرار، ومدى ضبطه لحواسه وعقله، في يقظته وسهوه، في عمده وغفلته، أعلن أنه لم يحلف بأبيه - بعد أن سمع النهي - قاصدًا ولا غير قاصد، بل لم يجر على لسانه حكاية من حلف بأبيه، فلم ينشئ حلفًا بأبيه، ولم يحك عن غيره أنه حلف بأبيه، صيانة للسانه عما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، رضي الله عنه وأرضاه. -[المباحث العربية]- (إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم) في ملحق هذه الرواية "سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم

عمر، وهو يحلف بأبيه فقال .... " وفي الرواية الثانية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب في ركب، وعمر يحلف بأبيه، فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم "وفي رواية يعقوب بن شيبة عن عمر" بينما أنا راكب، أسير في غزاة، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع عمر، وهو يحلف بأبيه، وهو يقول: وأبي. وأبي" وفي رواية "قال عمر: حدثت قوما حديثًا، فقلت: لا. وأبي، فقال رجل من خلفي: لا تحلفوا بآبائكم، فالتفت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: لو أن أحدكم حلف بالمسيح هلك، والمسيح خير من آبائكم". وعند النسائي وأبي داود عن أبي هريرة بلفظ "لا تحلفوا بآبائكم، ولا بأمهاتكم، ولا بالأنداد، ولا تحلفوا إلا بالله". وفي الرواية الثانية "فمن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت" عن الحلف، أي لا يحلف. وفي الرواية الخامسة "لا تحلفوا بالطواغي، ولا بآبائكم" والطواغي هي الأصنام، واحدها طاغية، سمي الصنم باسم المصدر، لطغيان الكفار بعبادته، لأنه سبب طغيانهم وكفرهم، والطغيان في الأصل مجاوزة الحد مطلقًا، ومنه قوله تعالى {إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية} [الحاقة: 11]. ويجوز أن يكون المراد من الطواغي هنا، الطغاة من الكفار، المجاوزين الحد في الشر، وهم عظماؤهم، وفي غير مسلم "لا تحلفوا بالطواغيت" وهو جمع طاغوت، وهو الصنم، ويطلق على الشيطان أيضًا، ويكون الطاغوت واحدًا وجمعًا ومذكرًا ومؤنثًا. (ما حلفت بها ذاكرًا، ولا آثرًا) "ذاكرًا" أي عامدًا، قائلاً لها من عند نفسي، "ولا آثرًا" أي ناقلاً لها، ومحدثًا بها عن غيري، أنه حلف بها، فذاكرًا من الذكر بكسر الذال. "ولا آثرًا" من الأثر بفتح الهمزة والثاء، وهو ما يروى، أي يكتب من العلم، وقيل "ذاكرًا" من الذكر بضم الذال، أي التذكر، ضد النسيان، و"آثرًا" من آثر كذا، أي اختاره، والمعنى لا عامدًا ولا مختارًا. (ومن الحلف باللات والعزى) عند البخاري قال ابن عباس: كان اللات رجلاً يلت سويق الحاج" وفي رواية "كان يلت السويق على الحجر، فلا يشرب منه أحد إلا سمن، فعبدوه" فأصله بتشديد التاء، وخففت بكثرة الاستعمال، وروى الفاكهي من طريق مجاهد، قال: "كان رجل في الجاهلية، على صخرة بالطائف، وعليها له غنم، فكان يسلو من رسلها - أي يأخذ من لبنها - ويأخذ من زبيب الطائف والأقط، فيجعل منه حيسًا، ويطعم من يمر به من الناس، فلما مات عبدوه" وفي رواية للفاكهي "فلما مات قال لهم عمرو بن لحي: إنه لم يمت، ولكنه دخل الصخرة فعبدوها، وبنوا عليها بيتًا" قال قتادة: كان اللات لثقيف. أما العزى - وهي تأنيث الأعز - فقد كانت ثلاث شجرات من النخيل، وقيل: نخلة، بنوا بجوارها بيتًا، أقام فيه السدنة، وادعوا علم الغيب، وأطلقوا العزى على شيطانة بداخلها، وكان أول من اتخذها معبودًا ظالم بن سعد، بوادي نخلة، فوق ذات عرق. وأما مناة فكانت صخرة بين مكة والمدينة، يهل إليها الأنصار، قبل أن يسلموا.

ثم صورت حجارة لهذه الأصنام الثلاثة، ووضعت في الكعبة، وعلى الصفا، وعلى المروة، وفي فتح مكة حطم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبار صحابته ما في جوف الكعبة، وما حولها من أصنام، وأرسل المغيرة بن شعبة فهدم اللات، وأرسل خالد بن الوليد إلى نخلة فقطع العزى، وأرسل عليًا إلى مناة فحطمها. (تعال أقامرك) من القمار، وهو كل لعب فيه مقامرة ومراهنة. -[فقه الحديث]- قال العلماء: السر في النهي عن الحلف بغير الله أن الحلف بالشيء، يقتضي تعظيمه، والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده، فلا يضاهى به غيره، وقد جاء عن ابن عباس: لأن أحلف بالله مائة مرة، فآثم، خير من أن أحلف بغيره، فأبر. فإن قيل: الحديث مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم "أفلح وأبيه إن صدق" فجوابه أن هذه الكلمة كانت تجري على لسانهم، لا يقصدون بها اليمين. وسبق الكلام عنه في كتاب الإيمان. فإن قيل: قد أقسم الله تعالى بمخلوقاته، كقوله تعالى {والصافات} [الصافات: 1]، {والذاريات} [الذاريات: 1]. {والطور} [الطور: 1]. {والنجم} [النجم: 1] فالجواب أن الله تعالى يقسم بما يشاء من مخلوقاته، تنبيهًا على شرفه. وظاهر الحديث تخصيص الحلف بالله خاصة، لكن الفقهاء قد اتفقوا على أن اليمين تنعقد بالله وذاته وصفاته العلية، وإن اختلفوا في انعقادها ببعض الصفات، فقد كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده - والذي نفس محمد بيده - لا. ومقلب القلوب - ورب الكعبة. فدل ذلك على أن النهي عن الحلف بغير الله لا يراد به اختصاص لفظ الجلالة بذلك، بل يتناول كل اسم وصفة تختص به سبحانه وتعالى، وقد جزم ابن حزم - وهو ظاهر كلام المالكية والحنفية، بأن جميع الأسماء الواردة في القرآن الكريم والسنة الصحيحة، وكذا الصفات، صريح في اليمين، تنعقد به، وتجب لمخالفته الكفارة، وهو وجه غريب عند الشافعية، وعندهم وجه أغرب منه، أنه ليس في شيء من ذلك صريح، إلا لفظ الجلالة، ويمين النبي صلى الله عليه وسلم بألفاظه السابقة ترد هذا القول الغريب، والمشهور عندهم وعند الحنابلة أنها ثلاثة أقسام: أحدها: ما يختص به، كالرحمن، ورب العالمين، وخالق الخلق، فهو صريح، تنعقد به اليمين، سواء قصد الله، أو أطلق، ثانيها: ما يطلق عليه، وقد يقال لغيره، لكن بقيد، كالرب، والحق، فتنعقد به اليمين، إلا إن قصد به غير الله. ثالثها: ما يطلق على السواء، كالحي، والموجود، والمؤمن، فإن نوى غير الله، أو أطلق، فليس بيمين، وإن نوى به الله تعالى انعقد على الصحيح. وإذا تقرر هذا. فمثل: والذي نفسي بيده، ينصرف عند الإطلاق لله جزمًا، فإن نوى به غيره، كملك الموت مثلاً، لم يخرج عن الصراحة على الصحيح، وفيه وجه عن بعض الشافعية وغيرهم، ويلتحق به: والذي فلق الحبة، ومقلب القلوب. وأما مثل: والذي أعبده، أو أسجد له، أو أصلي له، فصريح جزمًا. وحروف القسم ثلاثة. والله، وبالله، وتالله، والواو، والباء تدخلان على اسم الجلالة، وعلى غيره من أسمائه تعالى، أما التاء فلا تدخل إلا على لفظ الجلالة.

وجمهور العلماء على أن من حلف بغير الله، مطلقًا، لم تنعقد يمينه، سواء كان المحلوف به يستحق التعظيم، لمعنى غير العبادة، كالأنبياء والملائكة والعلماء والصالحين والملوك والآباء والكعبة، أو كان لا يستحق التعظيم، كآحاد الناس، أو يستحق التحقير والإذلال، كالشياطين والأصنام وسائر من عبد من دون الله. واستثنى بعض الحنابلة من ذلك الحلف بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقالوا: تنعقد به اليمين، وتجب الكفارة بالحنث، واعتلوا بكونه أحد ركني الشهادة التي لا تتم إلا به، وأطلق ابن العربي نسبته لمذهب أحمد، وتعقبه بأن الإيمان عند أحمد لا يتم إلا بفعل الصلاة، فيلزمه أن من حلف بالصلاة تنعقد يمينه، ويلزمه الكفارة إذا حنث. ويمكن رد تعقب ابن العربي. وقال ابن المنذر: اختلف أهل العلم في معنى النهي عن الحلف بغير الله، فقالت طائفة: هو خاص بالأيمان التي كان أهل الجاهلية يحلفون بها، تعظيمًا لغير الله تعالى كاللات والعزى والآباء، فهذه يأثم الحالف بها، ولا كفارة فيها، وأما ما كان يؤول إلى تعظيم الله، كقوله: وحق النبي، وحق الإسلام، وحق الحج والعمرة، وحق الصيام والصدقة ونحوها مما يراد به تعظيم الله، والقربة إليه، فليس داخلاً في النهي. وتعقبه ابن عبد البر بأن ذكر هذه الأشياء، وإن كانت بصورة الحلف، فليست يمينًا في الحقيقة، ولا يمين في الحقيقة إلا بالله. وقال المهلب: كانت العرب تحلف بآبائها وآلهتها، فأراد الله نسخ ذلك من قلوبهم، لينسيهم ذكر كل شيء سواه، ويبقى ذكره، لأنه الحق المعبود، فلا يكون اليمين إلا به، والحلف بالمخلوقات في حكم الحلف بالآباء. وقال الطبري: إن اليمين لا تنعقد إلا بالله، وإن من حلف بالكعبة أو آدم أو جبريل ونحو ذلك تنعقد يمينه، ولزمه الاستغفار، لإقدامه على ما نهي عنه، ولا كفارة في ذلك. وقال ابن هبيرة: أجمعوا على أن اليمين منعقدة بالله، وبجميع أسمائه الحسنى، وبجميع صفات ذاته، كعزته وجلاله وعلمه وقوته وقدرته. وقال النووي: في الحديث النهي عن الحلف بغير الله وأسمائه وصفاته، وهو عند أصحابنا مكروه، ليس بحرام، وقال عن روايتنا الرابعة: قال أصحابنا: إذا حلف باللات والعزى وغيرهما من الأصنام، أو قال: إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني، أو بريء من الإسلام، أو بريء من النبي صلى الله عليه وسلم، أو نحو ذلك لم تنعقد يمينه، بل عليه أن يستغفر الله تعالى، ويقول: لا إله إلا الله، ولا كفارة عليه، سواء فعله أم لا، هذا مذهب الشافعي ومالك وجماهير العلماء، وقال أبو حنيفة، تجب الكفارة في كل ذلك، إلا في قوله: أنا مبتدع، أو بريء من النبي صلى الله عليه وسلم، أو واليهودية، واحتج بأن الله تعالى أوجب على المظاهر الكفارة، لأنه منكر من القول وزور، والحلف بهذه الأشياء منكر وزور، واحتج أصحابنا والجمهور بظاهر هذا الحديث، فإنه صلى الله عليه وسلم، إنما أمره بقول: "لا إله إلا الله، ولم يذكر كفارة، ولأن الأصل عدمها حتى يثبت فيها شرع، وأما قياسهم على المظاهر فينتقض بما استثنوه.

قال الحافظ ابن حجر: وأما القياس على الظهار فلا يصح، لأنهم لم يوجبوا فيه كفارة الظهار، ولأنهم استثنوا أشياء، لم يوجبوا فيها كفارة أصلاً، مع أنه منكر من القول. وقال النووي في الأذكار: الحلف بذلك حرام، تجب التوبة منه، ولم يتعرض لوجوب قول: لا إله إلا الله. وقال البغوي في شرح السنة، تبعًا للخطابي: في هذا الحديث دليل على أن لا كفارة على من حلف بغير الإسلام، وإن أثم به، لكن تلزمه التوبة، لأنه صلى الله عليه وسلم، أمره بكلمة التوحيد، فأشار إلى أن عقوبته تختص بذنبه، ولم يوجب عليه في ماله شيئًا، وإنما أمره بالتوحيد، لأن الحلف باللات والعزى يضاهي الكفار، فأمره أن يتدارك بالتوحيد. وقال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن قال لصاحبه تعال أقامرك فليتصدق" قال العلماء: أمر بالصدقة لتكفير خطيئته في كلامه بهذه المعصية، قال الخطابي: معناه فليتصدق بمقدار ما أمر أن يقامر به، والصواب الذي عليه المحققون، وهو ظاهر في الحديث أنه لا يختص بذلك المقدار، بل يتصدق بما تيسر، مما ينطلق عليه اسم الصدقة، ويؤيده ملحق الرواية الرابعة، ولفظه "فليتصدق بشيء". قال الخطابي: وفي هذا الحديث دلالة لمذهب الجمهور أن العزم على المعصية، إذا استقر في القلب، كان ذنبًا، يكتب عليه، بخلاف الخاطر، الذي لا يستقر في القلب. اهـ ويمكن أن يقال: إن الذنب ليس ما استقر في القلب، وإنما هو ما خرج على اللسان من طلب المنكر من صاحبه، والدعوة إلى القمار من عمل الجوارح. وقال الطيبي: وفي الحديث أن من دعا إلى اللعب، فكفارته أن يتصدق، ويتأكد ذلك في حق من لعب بطريق الأولى. واللَّه أعلم

(435) باب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها

(435) باب من حلف يمينًا فرأى غيرها خيرًا منها 3749 - عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في رهط من الأشعريين نستحمله فقال "والله لا أحملكم وما عندي ما أحملكم عليه" قال: فلبثنا ما شاء الله ثم أتي بإبل فأمر لنا بثلاث ذود غر الذرى. فلما انطلقنا قلنا (أو قال بعضنا لبعض) لا يبارك الله لنا أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم نستحمله فحلف أن لا يحملنا ثم حملنا فأتوه فأخبروه. فقال "ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم وإني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين ثم أرى خيرًا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير". 3750 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال: أرسلني أصحابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله لهم الحملان إذ هم معه في جيش العسرة (وهي غزوة تبوك). فقلت: يا نبي الله إن أصحابي أرسلوني إليك لتحملهم. فقال "والله لا أحملكم على شيء" ووافقته وهو غضبان ولا أشعر فرجعت حزينًا من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن مخافة أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وجد في نفسه علي فرجعت. إلى أصحابي فأخبرتهم الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلم ألبث إلا سويعة إذ سمعت بلالاً ينادي: أي عبد الله بن قيس. فأجبته. فقال: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك. فلما أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "خذ هذين القرينين وهذين القرينين وهذين القرينين (لستة أبعرة ابتاعهن حينئذ من سعد) فانطلق بهن إلى أصحابك فقل إن الله (أو قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم) يحملكم على هؤلاء فاركبوهن" قال أبو موسى فانطلقت إلى أصحابي بهن فقلت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحملكم على هؤلاء ولكن والله لا أدعكم حتى ينطلق معي بعضكم إلى من سمع مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سألته لكم ومنعه في أول مرة ثم إعطاءه إياي بعد ذلك لا تظنوا أني حدثتكم شيئًا لم يقله. فقالوا لي: والله إنك عندنا لمصدق ولنفعلن ما أحببت. فانطلق أبو موسى بنفر منهم حتى أتوا الذين سمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنعه إياهم ثم إعطاءهم بعد فحدثوهم بما حدثهم به أبو موسى سواء.

3751 - عن زهدم الجرمي قال أيوب وأنا لحديث القاسم أحفظ مني لحديث أبي قلابة، قال: كنا عند أبي موسى فدعا بمائدته وعليها لحم دجاج فدخل رجل من بني تيم الله أحمر شبية بالموالي، فقال له: هلم. فتلكأ. فقال: هلم فإني قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل منه. فقال الرجل: إني رأيته يأكل شيئًا فقذرته فحلفت أن لا أطعمه. فقال: هلم أحدثك عن ذلك إني أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من الأشعريين نستحمله، فقال "والله لا أحملكم وما عندي ما أحملكم عليه" فلبثنا ما شاء الله فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنهب إبل فدعا بنا فأمر لنا بخمس ذود غر الذرى. قال: فلما انطلقنا. قال: بعضنا لبعض أغفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه لا يبارك لنا فرجعنا إليه. فقلنا: يا رسول الله إنا أتيناك نستحملك وإنك حلفت أن لا تحملنا ثم حملتنا أفنسيت يا رسول الله؟ قال "إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها فانطلقوا فإنما حملكم الله عز وجل". 3752 - - وفي رواية عن زهدم الجرمي قال: كان بين هذا الحي من جرم وبين الأشعريين ود وإخاء فكنا عند أبي موسى الأشعري فقرب إليه طعام فيه لحم دجاج فذكر نحوه. 3753 - - وفي رواية عن زهدم الجرمي قال: كنا عند أبي موسى. واقتصوا جميعًا الحديث بمعنى حديث حماد بن زيد. 3754 - - وفي رواية عن زهدم الجرمي قال: دخلت على أبي موسى وهو يأكل لحم دجاج. وساق الحديث بنحو حديثهم وزاد فيه قال: "إني والله ما نسيتها". 3755 - عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم نستحمله فقال "ما عندي ما أحملكم والله ما أحملكم" ثم بعث إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة ذود بقع الذرى.

فقلنا: إنا أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم نستحمله فحلف أن لا يحملنا فأتيناه فأخبرناه. فقال "إني لا أحلف على يمين أرى غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذي هو خير". 3756 - - وفي رواية عن أبي موسى قال: كنا مشاة فأتينا نبي الله صلى الله عليه وسلم نستحمله. بنحو حديث جرير. 3757 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أعتم رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى أهله فوجد الصبية قد ناموا فأتاه أهله بطعامه فحلف لا يأكل من أجل صبيته ثم بدا له فأكل فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأتها وليكفر عن يمينه". 3758 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليكفر عن يمينه وليفعل". 3759 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه". 3760 - عن سهيل في هذا الإسناد بمعنى حديث مالك "فليكفر يمينه وليفعل الذي هو خير". 3761 - عن تميم بن طرفة قال: جاء سائل إلى عدي بن حاتم فسأله نفقة في ثمن خادم أو في بعض ثمن خادم. فقال: ليس عندي ما أعطيك إلا درعي ومغفري فأكتب إلى أهلي أن يعطوكها. قال: فلم يرض فغضب عدي. فقال: أما والله لا أعطيك شيئًا ثم إن الرجل رضي. فقال: أما والله لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من حلف على يمين ثم رأى أتقى لله منها فليأت التقوى ما حنثت يميني".

3762 - عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير وليترك يمينه". 3763 - عن عدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا حلف أحدكم على اليمين فرأى خيرًا منها فليكفرها وليأت الذي هو خير". 3764 - عن تميم بن طرفة قال: سمعت عدي بن حاتم وأتاه رجل يسأله مائة درهم. فقال: تسألني مائة درهم وأنا ابن حاتم؟ والله لا أعطيك، ثم قال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من حلف على يمين ثم رأى خيرًا منها فليأت الذي هو خير". 3765 - - وفي رواية عن تميم بن طرفة قال: سمعت عدي بن حاتم أن رجلاً سأله فذكر مثله وزاد ولك أربعمائة في عطائي. 3766 - عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير". 3767 - - وفي رواية عن عبد الرحمن بن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث وليس في حديث المعتمر عن أبيه ذكر الإمارة.

-[المعنى العام]- يقول الله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم} [المائدة: 89] وهكذا شرع الله عبادة مالية أو بدنية فداء لليمين، وكفارة للحنث فيه، وإذا كان اليمين عقدًا وتعهدًا من الحالف مع ربه، فقد جعل الله جل شأنه تحلة هذا العقد، وفك رباطه بهذه الكفارة، حيث قال: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} [التحريم: 2] فأصبح الحالف بين خيرين، إما أن يمضي ما حلف عليه، فيبر بيمينه وعهده مع ربه، وينتفع بتحقيق ما حلف عليه إذا كان من وجوه الخير، وإما أن يكفر عن يمينه، بتلك العبادة المالية أو البدنية، وفي كل خير، فإذا حلف أن يفعل مباحًا أو خيرًا، فرأى خيرًا مما حلف عليه رسم له الحديث الشريف طريقًا إلى الحصول على الخيرين معًا، أن يفعل الشيء الذي حلف ألا يفعله، أو أن يترك الشيء الذي حلف أن يفعله، وليكفر عن يمينه، فالارتقاء بالخير تقوى، وتكفير اليمين تقوى، واغتنام الخيرين أفضل من خير واحد، ومن تقوى واحدة. وبدأ بنفسه صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً، فقال "إني - والله - إن شاء الله - لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذي هو خير، وتحللتها" وطبق هذا القانون على نفسه، يوم جاءه أبو موسى الأشعري يطلب لنفسه ولجماعة من الأشعريين نوقًا يركبونها، ويحملون عليها زادهم في سفرهم إلى غزوة العسرة، غزوة تبوك، إنهم مشاة لا يملكون ما يحملهم، وإن الطريق طويل من المدينة إلى تبوك، والحر الشديد، والرسول صلى الله عليه وسلم يوزع على المحتاجين ما عنده من إبل، ليتعاقب على البعير الواحد من يتعاقبون، ويأتي أبو موسى، وقد نفد ما عنده صلى الله عليه وسلم، فيسأل، وهو يظن وجود الفضل، ويعتذر الرسول صلى الله عليه وسلم، بأنه ليس عنده ما يحملهم عليه، ويلح أبو موسى لشدة حاجته، وأكثر ما كان يؤلم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعجز عن مساعدة المحتاجين، وكم يغضبه أن يلح من لا يعرف حاله، فقال لأبي موسى: والله ما أحملكم، لأني لا أجد ما أحملكم عليه، وانصرف أبو موسى حزينًا، وبعد قليل جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم غنيمة، فيها إبل، فدعا أبا موسى وأعطاه ستًا منها، له ولأصحابه، فلما وصل أصحابه قالوا: لقد حلف صلى الله عليه وسلم ألا يعطينا، لعله نسي، فلنذكره، فلما جاءوه قال: لم أنس يميني، ولكني - إن شاء الله - لا أحلف على يمين فأجد غيرها خيرًا منها إلا كفرت عن يميني، وفعلت الذي هو خير، صلى الله عليه وسلم. -[المباحث العربية]- (أبو موسى الأشعري) عبد الله بن قيس، مشهور باسمه وكنيته، قدم المدينة بعد فتح خيبر، صادفت سفينته سفينة جعفر بن أبي طالب، فقدموا جميعًا، استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على بعض اليمن، واستعمله عمر على البصرة.

(أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في رهط من الأشعريين نستحمله) أي يطلبون منه أن يحملهم على أبعرة من عنده، أي يطلبون منه ما يحملهم ويحمل أمتعتهم، والجملة صفة ثانية لرهط، والرهط الجماعة من ثلاثة - أو من سبعة - إلى عشرة - أو إلى ما دون العشرة. و"في" في قوله "في رهط" سببية، أي بسبب رهط، كقوله صلى الله عليه وسلم "دخلت امرأة النار في هرة" وإسناد اللإتيان إلى الجماعة - في قوله في الرواية الرابعة "أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم نستحمله" من قبيل إسناد الفعل إلى الراضين به، كقوله "فعقروا الناقة" والرواية الثانية توضح أن أصحابه أرسلوه نيابة عنهم. والأشعريون قومه من أهل اليمن، وجمع الحافظ ابن حجر بأن أبا موسى حضر هو والرهط، فباشر الكلام بنفسه عنهم. وهذا الجمع تستبعده الرواية الثانية، إذ طلب من أصحابه أن يستوثقوا من نقله عن الرسول صلى الله عليه وسلم. وقوله في الرواية الثانية "أسأله لهم الحملان" بضم الحاء، أي الحمل، وفي كتب اللغة: الحملان ما تحمل عليه الأمتعة من الدواب، وعند البخاري "وهو يقسم نعمًا - بفتح النون والعين - من نعم الصدقة" فبين سبب الإتيان في هذا الوقت، ولعل النعم انتهى توزيعها ونفدت حين وصوله، فتألم رسول الله صلى الله عليه وسلم لشدة حاجة أصحابه إلى الظهر مع نفاد ما عنده، فكان غاضبًا، حين طلب أبو موسى الأشعري، فكان في رده بعض العنف، وبهذا عذره أبو موسى، وعذر نفسه، حيث قال في الرواية الثانية "ووافقته وهو غضبان ولا أشعر". (والله لا أحملكم، وما عندي ما أحملكم عليه) الجملة الثانية كالتعليل للجملة الأولى، وقد قدمت على الجملة الأولى في الرواية الرابعة، وفي الرواية الثانية، "والله لا أحملكم على شيء" والظاهر أن أبا موسى ألح في الطلب، ففي الرواية الثانية "فرجعت حزينًا، من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن مخافة أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد وجد في نفسه علي" يقال: وجد فلان، بفتح الجيم يجد، بكسرها، وجدًا، بسكونها مع فتح الواو، إذا حزن ووجد عليه إذا غضب، وهؤلاء الأشعريون ليسوا من البكائين، الذين قال الله فيهم" {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا .... } [التوبة: 92]. (فلبثنا ما شاء الله) أي فلبثنا زمنًا شاءه الله، وفي الرواية الثانية "فلم ألبث إلا سويعة" والساعة في اللغة جزء من أجزاء الوقت، قل أو كثر، فالمعنى لم ألبث إلا وقتًا، وليس المراد منها هنا جزءًا من أربعة وعشرين جزءًا من الليل والنهار، والظاهر أنه لبث جزءًا من نهار. (ثم أتي بإبل) في الرواية الثالثة "فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنهب إبل" بالإضافة، وبتنوين "نهب" و"إبل" بدل منه. والنهب بفتح النون وسكون الهاء بعدها باء، الغنيمة، وأصله ما يؤخذ اختطافًا، بحسب السبق إليه على غير تسوية بين الآخذين. وفي الرواية الثانية، "ابتاعهن حينئذ من سعد" قال الحافظ ابن حجر، ويجمع بينهما باحتمال أن تكون الغنيمة لما حصلت حصل لسعد منها القدر المذكور، فابتاع النبي صلى الله عليه وسلم منه نصيبه، فحملهم عليه، قيل: هو سعد بن عبادة.

(فأمر لنا بثلاث ذود) معطوف على محذوفات أبرزتها الرواية الثانية، وفي رواية البخاري "فقيل: أين هؤلاء الأشعريون؟ فأتينا، فأمر لنا" والذود بفتح الذال وسكون الواو من الثلاث إلى العشر من النوق، وقيل: إلى السبع، وقيل: من الاثنتين إلى التسع، و"ثلاث ذود" من إضافة الشيء إلى نفسه، وبتنوين "ثلاث" و"ذود" بدل، أي بثلاث هي ثلاث نوق، وفي روايتنا الرابعة "بثلاثة ذود" والصواب الأول، لأن الذود مؤنث، ووجهها الحافظ ابن حجر، بأن الذود قد يطلق على الذكر والأنثى، وقال النووي: وهو صحيح، يعود إلى معنى الإبل، وهو الأبعرة، وظاهر هذه الرواية أن الرسول صلى الله عليه وسلم حملهم على ثلاث نوق، لكن الرواية الثالثة، تقول "فأمر لنا بخمس ذود" قال ابن التين: الله أعلم أيهما يصح، قال الحافظ ابن حجر، لعل الجمع بينهما يحصل من الرواية الأخرى روايتنا الثانية "ولفظها "خذ هذين القرينين - أي البعيرين المقرون أحدهما بصاحبه - وهذين القرينين، لستة أبعرة" فلعل رواية الثلاث باعتبار ثلاثة أزواج إذ كان كل اثنين قد ربطا ببعضهما كأنهما واحد - ورواية الخمس باعتبار أن أحد الأزواج كان قرينه - صغيرًا - تابعًا له، فاعتد به تارة، ولم يعتد به أخرى. أو أن أحد الأزواج كان سنمه مخالفًا للخمسة، فلم يكن غر الذرى، ويمكن أن يجمع بأنه أمر لهم بثلاث ذود أولاً، ثم زادهم اثنتين. (غر الذرى) "الذرى" بضم الذال وكسرها، وفتح الراء المخففة، جمع ذروة، بكسر الذال وضمها. وذروة كل شيء أعلاه، والمراد هنا الأسنمة، "والغر" البيض، وكذلك "البقع" الوارد في الرواية الرابعة، المراد بها البيض، وأصلها ما كان فيه بياض وسواد، والمعنى أمر لنا بإبل بيض الأسنمة. (ما أنا حملتكم، ولكن الله حملكم) قيل: معناه نسبة الأفعال الاختيارية إلى الله، وإن الله خالق كل شيء، وقيل: معناه أن الله تعالى آتاني ما أحملكم عليه، وقيل: معناه أن الله أمرني أن أحملكم، فاشتريت لكم ما يحملكم، ويكون قد أوحي إليه أن يحملهم. (وإني -إن شاء الله- لا أحلف على يمين) التعليق على المشيئة يقال له استثناء، فكأن فيه إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، ومعنى "لا أحلف على يمين" أي لا أحلف على شيء، وهو محلوف اليمين، فأطلق عليه لفظ "يمين" للملابسة، والمراد ما شأنه يكون محلوفًا عليه، فهو من مجاز الاستعارة، ويجوز أن يكون "على" بمعنى الباء، ورجح الأول بقوله "ثم رأى خيرًا منها" لأن الضمير "منها" لا يصح عوده على اليمين، بل على المحلوف عليه. (إذ هم معه في جيش العسرة، وهي غزوة تبوك) وكانت في شهر رجب من سنة تسع، و"تبوك" مكان معروف، في نصف المسافة من طريق المدينة - دمشق، والمشهور في "تبوك" المنع من الصرف للعلمية والتأنيث، ومن صرفها أراد الموضع، خرج المسلمون في قلة من الظهر، وفي عسرة من الماء والنفقة، وفي حر شديد، حتى كانوا ينحرون البعير، فيشربون ما في كرشه من الماء، فسميت غزوة العسرة.

(وعليها لحم دجاج) مثلث الدال، الواحدة دجاجة، مثلثة الدال أيضًا، وقيل: إن الضم ضعيف. (فدخل رجل من بني تيم الله، أحمر، شبيه بالموالي) "أحمر" أي أحمر اللون، والمراد من "الموالي" العجم، قال الحافظ ابن حجر: وهذا الرجل هو زهدم الراوي، أبهم نفسه، ففي ملحق الرواية الثالثة "عن زهدم قال: دخلت على أبي موسى، وهو يأكل لحم الدجاج .... الحديث، وعند البيهقي عند زهدم قال: رأيت أبا موسى يأكل الدجاج فدعاني، فقلت: إني رأيته يأكل نتنًا؟ فقال: ادن فكل فقلت: إني حلفت لا آكله". (فتلكأ) أي تمنع وتوقف. (إني رأيته يأكل شيئًا فقذرته) أي إني رأيت جنس هذا الدجاج - وليس المراد المأكول عند أبي موسى نفسه - يأكل شيئًا نتنًا، أو قذرًا، "فقذرته" بكسر الذال وفي رواية "إني رأيتها تأكل قذرًا" وكأنه ظن أنها أكثرت من ذلك، بحيث صارت جلالة، فبين له أبو موسى أنها ليست كذلك، أو أنه لا يلزم من كون تلك الدجاجة التي رآها كذلك أن يكون كل الدجاج كذلك. (هلم أحدثك عن ذلك) أي عن الطريق في حل اليمين. (أغفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه) "أغفلنا" بسكون اللام، أي جعلناه غافلاً، ومعناه كنا سبب غفلته عن يمينه، ونسيانه إياها، وما ذكرناه إياها، أي أخذنا منه ما أخذنا، وهو ذاهل عن يمينه. (وتحللتها) معنى "تحللتها" خرجت من حرمتها، إلى ما يحل منها، وذلك يكون بالكفارة. (قال: إني - واللَّه - ما نسيتها) رد لقولهم: أفنسيت يا رسول الله؟ أي ما نسيت يميني. (فليأتها، وليكفر عن يمينه) كذا في الرواية الخامسة، وفي الرواية الأولى تقديم التكفير على الإتيان، وكذا السادسة "فليكفر عن يمينه، وليفعل" أي وليفعل غير ما حلف عليه، وفي الرواية الثامنة "ثم رأى أتقى لله منها، فليأت التقوى" وهي بمعنى "الذي هو خير" وفي الرواية التاسعة "فليأت الذي هو خير، وليترك يمينه" أي وليترك ما حلف عليه، ويكفر عن يمينه. وفي كل الروايات العطف بين الإتيان والتكفير بالواو، وهي لا تقتضي ترتيبًا ولا تعقيبًا، وسيأتي في فقه الحديث حكم تقديم التكفير على الحنث. (فسأله نفقة في ثمن خادم) أي إعانة مالية يستكمل بها ثمن عبد يخدمه، وفي الرواية الحادية عشرة "يسأله مائة درهم" فيمكن أن تكون قصة واحدة، ويحتمل أن تكونا حادثتين. (ليس عندي ما أعطيك إلا درعي ومغفري .... ) المغفر زرد ينسج على قدر الرأس يلبس تحت القلنسوة عند الحرب، وفي الرواية الحادية عشرة "تسألني مائة درهم، وأنا ابن حاتم"؟ أي الطائي أي الجواد بن الجواد، الذي يقصد في عظائم الأمور، لا في تافهها؟ فإن كانتا في قصتين فلا

إشكال، وإن كانت قصة واحدة، فيحتمل أن الرجل سأل مائة درهم، فاستحقرها عدي، فقال ما قال، وعرض درعه ومغفره، وهما يساويان مئات الدراهم، فلم يرض الرجل أن يجرد عديًا من عدة قتاله، ولعله لم يصدقه، مما أغضب عديًا، فحلف، ولعله غضب لأن الرجل لم يتوجه بهذا الفخار، ثم جاءه مال، فأعطى الرجل أربعة أو خمسة أمثال ما طلب، كرمًا وجودًا. (وكلت إليها) بضم الواو، وكسر الكاف مخففًا ومشددًا، وسكون اللام، ومعنى المخفف صرفت إليها، ومن وكل إلى نفسه هلك، ومنه في الدعاء، "ولا تكلني إلى نفسي" والمراد من الإمارة الولاية مطلقًا، فيدخل فيها القضاء والحسبة وكل ما يتعلق بالحكم، وفي بعض نسخ مسلم "أكلت إليها" بالهمزة. قاله النووي. والمعنى أن من طلب الإمارة، فأعطيها تركت إعانته عليها، من أجل حرصه، ومن لم يكن له عون من الله على عمله، لا يكون فيه كفاية لذلك العمل، ومن المعلوم أن كل ولاية لا تخلو من المشقة، فمن لم يكن له من الله إعانة تورط فيما دخل فيه، وخسر دنياه وعقباه، فمن كان ذا عقل لم يتعرض للطلب أصلاً، بل إذا كان كفأ، وأعطيها من غير مسألة فقد وعده الصادق بالإعانة، قال ابن التين: وهو محمول على الغالب، فقد سألها يوسف وقال {اجعلني على خزائن الأرض} [يوسف: 55] وقال سليمان {وهب لي ملكًا} [ص: 35] قال: ويحتمل أن يكون ذلك في غير الأنبياء. -[فقه الحديث]- قال النووي: في هذه الأحاديث دلالة على أن من حلف على فعل شيء، أو تركه، وكان الحنث خيرًا من التمادي على اليمين، استحب له الحنث، وتلزمه الكفارة، وهذا متفق عليه، وأجمعوا على أنه لا تجب عليه الكفارة قبل الحنث، وعلى أنه يجوز تأخيرها عن الحنث، وعلى أنه لا يجوز تقديمها على اليمين، واختلفوا في جوازها بعد اليمين، وقبل الحنث، فجوزها مالك والأوزاعي والثوري والشافعي وأربعة عشر صحابيًا وجماعات من التابعين، وهو قول جماهير العلماء، لكن قالوا: يستحب كونها بعد الحنث، واستثنى الشافعي التكفير بالصوم، فقال: لا يجوز قبل الحنث، لأنه عبادة بدنية، فلا يجوز تقديمها على وقتها، كالصلاة وصوم رمضان، وأما التكفير بالمال فيجوز تقديمه، كما يجوز تعجيل الزكاة، واستثنى بعض أصحابنا حنث المعصية، فقال: لا يجوز، لأن فيه إعانة على المعصية، والجمهور على إجزائها، كغير المعصية. وقال أبو حنيفة وأصحابه وأشهب المالكي: لا يجوز تقديم الكفارة على الحنث بأي حال، ودليل الجمهور ظواهر هذه الأحاديث - ففي بعضها تقديم الكفارة على الحنث - والقياس على تعجيل الزكاة. اهـ. ووافق الحنفية داود الظاهري، وخالفه ابن حزم، واحتج لهم الطحاوي بقوله تعالى: {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم} [المائدة: 89] فإن المراد إذا حلفتم، فحنثتم، ورده مخالفوهم، فقالوا: بل المراد إذا حلفتم فعزمتم على الحنث، أو المراد ما هو أعم من ذلك، واحتجوا أيضًا بأن الكفارة بعد الحنث فرض، وإخراجها قبله تطوع، فلا يقوم التطوع مقام الفرض.

واحتج الجمهور بأن عقد اليمين، لما كان يحله الاستثناء، وهو كلام، فلأن تحله الكفارة، وهي فعل مالي أو بدني من باب أولى. وقال ابن حزم: أجاز الحنفية تعجيل الزكاة قبل الحول، وتقديم زكاة الزرع، وأجازوا تقديم كفارة القتل، قبل موت المجني عليه. اهـ أي فيلزمهم القول بجواز تعجيل كفارة اليمين، قيل الحنث. والله أعلم. -[ويستفاد من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - من قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأولى والثالثة "إني واللَّه - إن شاء الله - لا أحلف على يمين .... " الاستثناء في اليمين، فإذا قال: لأفعلن كذا إن شاء الله، أو إلا أن يشاء الله، أو لا أفعل كذا إن شاء الله، أو إن أراد الله، أو إن اختار الله، فقد استثنى، وقد اتفقوا على أن من قال ذلك، وقصد به التبرك فقط، ففعل، يحنث، وإن قصد الاستثناء فلا حنث عليه، واتفقوا على دخول الاستثناء في كل ما يحلف به، إلا الأوزاعي، فقال: لا يدخل في الطلاق والعتق والمشي إلى بيت الله، وكذا جاء مثله عن مالك وطاووس، وعن أحمد: يدخل الجميع إلا العتق. 2 - وجواز الحلف من غير استحلاف، لتأكيد الخبر، ولو كان مستقبلاً. 3 - وفي الحديث أن تعمد الحنث في مثل ذلك يكون طاعة، لا معصية. 4 - وفي حمله صلى الله عليه وسلم للأشعريين تطييب قلوب الأتباع، واستدراك جبر خاطر السائل. 5 - ومن قوله: "والله لا أحملكم" جواز اليمين عند المنع. 6 - ورد السائل الملحف عند تعذر الإسعاف. 7 - وتأديبه بنوع من الإغلاظ بالقول. 8 - ومن قولهم "لا يبارك الله لنا" أن من أخذ شيئًا، يعلم أن المعطي لم يكن راضيًا بإعطائه لا يبارك له فيه. 9 - أخذ بعضهم من قوله "إلا كفرت عن يميني" أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يترك التكفير، وروي عن الحسن البصري أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكفر أصلاً، لأنه مغفور له، وإنما نزلت كفارة اليمين تعليمًا للأمة. 10 - ومن قوله "ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم" إزالة المنة عن المعطي، بإضافة النعمة لمالكها الأصلي. 11 - ومن الرواية الثالثة إباحة لحم الدجاج، إنسيه ووحشيه. 12 - وإباحة ملاذ الأطعمة والطيبات. 13 - ومن قوله "فدعا بمائدته" استخدام الكبير من يباشر له نقل طعامه، ووضعه بين يديه، قال القرطبي: ولا يناقض ذلك الزهد، ولا ينقصه، خلافًا لبعض المتقشفة، قال الحافظ ابن حجر: والجواز ظاهر، وأما كونه لا ينقص الزهد، ففيه وقفة.

14 - دخول المرء على صديقه، في حال أكله. 15 - استدعاء صاحب الطعام الداخل، وعرضه الطعام عليه، ولو كان قليلاً، لأن اجتماع الجماعة على الطعام سبب للبركة فيه. 16 - وأن أكل الطيور لبعض القاذورات لا يحرم أكلها، واستثنى بعضهم التي تكثر من أكل القاذورات وظاهر صنيع أبي موسى أنه لم يبال بذلك، واختلف الفقهاء في حكم أكل الجلالة، وهي الدابة التي تأكل الجلة، وهي البعر، وادعى ابن حزم اختصاص الجلالة بذوات الأربع، والمعروف التعميم، وفي الحديث من طرق صحيحة النهي عن لحوم الجلالة، وقد أطلق الشافعي كراهة أكلها، إذا تغير لحمها بأكل النجاسة، وفي وجه إذا أكترث من ذلك، ورجح أكثرهم أنها كراهة تنزيه، ومن حجتهم أن العلف الطاهر إذا صار في كرشها تنجس، فلا تتغذى إلا بالنجاسة، ومع ذلك فلا يحكم على اللحم واللبن بالنجاسة، فكذلك هنا. وذهب جماعة من الشافعية - وهو قول الحنابلة - إلى أن النهي للتحريم، قال الحافظ ابن حجر: وفي معنى الجلالة ما يتغذى بالنجس، كالشاة ترضع من كلبة، وعن بعض السلف أنه كان يحبس الدجاجة الجلالة ثلاثًا، وبعضهم لا يأكلها إلا بعد أن يعلفها أربعين يومًا. 17 - ومن الرواية السابعة عشرة كراهة سؤال الولاية، وأن من سألها لا يكون معه إعانة من الله تعالى. والله أعلم

(436) باب اليمين على نية المستحلف

(436) باب اليمين على نية المستحلف 3768 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك" وقال عمرو "يصدقك به صاحبك". 3769 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اليمين على نية المستحلف". -[المعنى العام]- يقول صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" هذا التعميم ليس مرادًا في كل الأحوال، فقد تضيع بذلك حقوق الآخرين، وبخاصة إذا كان اليمين بديلاً عن البينة، أمام القضاء، وبطلب من القاضي ويترتب عليه حكم القاضي، إن التورية في مثل هذه الحالة، واستخدام ألفاظ لها ظاهر معنى وخفي معنى، وإرادة الخفي منها عند الحلف، يخدع الحاكم، ويضر بالعدالة، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم عن هذه الحالة "يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك". "اليمين على نية المستحلف". -[المباحث العربية]- (المستحلف) بكسر اللام، أي طالب الحلف. فقه الحديث قال النووي: هذا الحديث محمول على الحلف باستحلاف القاضي، فإذا ادعى رجل على رجل حقًا، فحلفه القاضي، فحلف، وورى، فنوى غير ما نوى القاضي، انعقدت يمينه على ما نواه القاضي، ولا تنفعه التورية. وهذا مجمع عليه، ودليله هذا الحديث والإجماع. فأما إذا حلف بغير استحلاف القاضي، وورى، تنفعه التورية، ولا يحنث، سواء حلف ابتداء من غير تحليف، أو حلفه غير القاضي وغير نائبه في ذلك، ولا اعتبار بنية المستحلف غير القاضي،

وحاصله أن اليمين على نية الحالف في كل الأحوال، إلا إذا استحلفه القاضي أو نائبه في دعوى توجهت عليه، فتكون على نية المستحلف، أما إذا حلف عند القاضي من غير استحلاف القاضي في دعوى، فالاعتبار بنية الحالف، وسواء في هذا كله اليمين بالله تعالى، أو بالطلاق والعتاق، إلا أنه إذا حلفه القاضي بالطلاق أو بالعتاق، تنفعه التورية، ويكون الاعتبار بنية الحالف، لأن القاضي ليس له التحليف بالطلاق والعتاق، وإنما يستحلف بالله تعالى. واعلم أن التورية، وإن كان لا يحنث بها، لا يجوز فعلها، حيث يبطل بها حق مستحق، وهذا مجمع عليه. هذا تفصيل مذهب الشافعي وأصحابه، ونقل القاضي عياض عن مالك في ذلك اختلافًا وتفصيلاً، فقال: لا خلاف بين العلماء أن الحالف من غير استحلاف، ومن غير تعلق حق بيمينه، له نيته، ويقبل قوله، وأما إذا حلف لغيره في حق، أو وثيقة متبرعًا، أو بقضاء عليه، فلا خلاف أنه يحكم عليه بظاهر يمينه، سواء حلف متبرعًا باليمين، أو باستحلاف، وأما فيما بينه وبين الله تعالى فقيل: اليمين على نية المحلوف له، وقيل: على نية الحالف، وقيل: إن كان مستحلفًا فعلى نية المحلوف له، وإن كان متبرعًا باليمين فعلى نية الحالف، وقيل: عكسه، وقيل: تنفعه نيته فيما لا يقضي به عليه، ويفترق التبرع فيما يقضي به عليه، وحكي عن مالك أن ما كان من ذلك على وجه المكر والخديعة فهو فيه آثم حانث، وما كان على وجه العذر فلا بأس به، وروي عن مالك: ما كان على وجه المكر والخديعة فله نيته، وما كان في حق فهو على نية المحلوف له. قال القاضي: ولا خلاف في إثم الحالف بما يقع به حق غيره، وإن ورى. والله أعلم

(437) باب الاستثناء في اليمين وغيرها

(437) باب الاستثناء في اليمين وغيرها 3770 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان لسليمان ستون امرأة، فقال لأطوفن عليهن الليلة فتحمل كل واحدة منهن فتلد كل واحدة منهن غلامًا فارسًا يقاتل في سبيل الله، فلم تحمل منهن إلا واحدة فولدت نصف إنسان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لو كان استثنى لولدت كل واحدة منهن غلامًا فارسًا يقاتل في سبيل الله". 3771 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "قال سليمان بن داود نبي الله لأطوفن الليلة على سبعين امرأة كلهن تأتي بغلام يقاتل في سبيل الله. فقال له صاحبه أو الملك قل إن شاء الله فلم يقل ونسي فلم تأت واحدة من نسائه إلا واحدة جاءت بشق غلام" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ولو قال إن شاء الله لم يحنث وكان دركًا له في حاجته". 3772 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال سليمان بن داود لأطيفن الليلة على سبعين امرأة تلد كل امرأة منهن غلامًا يقاتل في سبيل الله. فقيل له قل إن شاء الله فلم يقل فأطاف بهن فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان دركًا لحاجته". 3773 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "قال سليمان بن داود لأطوفن الليلة على تسعين امرأة كلها تأتي بفارس يقاتل في سبيل الله. فقال له صاحبه قل إن شاء الله. فلم يقل إن شاء الله فطاف عليهن جميعًا فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة فجاءت بشق رجل. وايم الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانًا أجمعون".

3774 - - عن أبي الزناد بهذا الإسناد مثله غير أنه قال "كلها تحمل غلامًا يجاهد في سبيل الله". -[المعنى العام]- سأل اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم بواسطة كفار قريش عن قصة أصحاب الكهف فقال لهم: غدًا أجيبكم. ولم يقل: إن شاء الله، فتأخر الوحي، ثم نزلت القصة ونزل قوله تعالى {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدًا * إلا أن يشاء الله} [الكهف: 23، 24] وأخذ الوحي يذكر المسلمين بهذا الاستثناء، الذي يفوض الأمور إلى خالقها وأنه ما من شيء يقع في الكون إلا بإذنه، ولا يقع في ملكه إلا ما يريد والإنسان مهما بلغت قوته وسلطته هو وعمله في قبضة القاهر فوق عباده، فلا يظنن أنه يفعل الشيء بحوله وقوته، دون مشيئة ربه، وإرادته وقوته، ولا يظن أنه سيفعل غدًا كذا وكذا، فيعد، ويجزم، ويحلف، دون أن يفوض لله الأمر، فقد لا يأتي عليه الغد هو نفسه، وقد يجيء عليه الغد وهو عاجز عن الفعل، وقد ينسى ما وعد به، وقد يكون ما تمناه في غده ورجاه، وظن أنه ميسور، قد لا يكون في دائرة مقدوره ومشيئته أصلاً. بل هو في محض مشيئة الله وإرادته، كالحمل والولد والحياة. وهكذا يذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته بهذه الحقيقة بين الحين والحين، ويقص عليهم في هذا الحديث ما قصه الله عليه في وحيه، عن أخيه سليمان بن داود عليهما السلام، مما يؤكد هذه الحقيقة، فيقول: لقد كان لسليمان عليه السلام ملكًا ليس لأحد من بعده، وكان تحته من النساء ستون أو سبعون أو تسعون امرأة، وكانت جنوده لا قبل لمن حوله من الملوك بها، وكان يطمع في زيادة هذه القوة بفرسان من صلبه، فتمنى على الله أن يعينه على أن يطوف على نسائه جميعهن في ليلة واحدة، فتحمل كل واحدة ذكرًا، فيصير رجلاً فارسًا، ولو أنه أجيب لذلك ربما قدر له مائة رجل في كل عام، لكنه نسي أن يقول: إن شاء الله، بلسانه، وهي دائمًا في عقيدته، وخاطره، لكنه لم ينطق بها لسانه فعاقبه ربه، طاف على نسائه كلهن - ربما مرات - فلم تحمل واحدة منهن، غير امرأة واحدة، حملت وبعد تسعة أشهر ولدت نصف طفل، وألقته القابلة على كرسيه متعجبة، فتذكر سليمان خطأه، واستغفر ربه، ونزل على محمد صلى الله عليه وسلم قوله سبحانه وتعالى {ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدًا ثم أناب * قال رب اغفر لي وهب لي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب} [ص: 34، 35].

-[المباحث العربية]- (كان لسليمان ستون امرأة) في الرواية الثانية "لأطوفن الليلة على سبعين امرأة" وفي الرواية الرابعة "لأطوفن الليلة على تسعين امرأة" وعند النسائي وابن حبان "مائة امرأة" وفي رواية "مائة امرأة أو تسع وتسعون" بالشك، فمحصل الروايات: ستون - سبعون - تسعون - تسع وتسعون - مائة. وقد رجح بعض العلماء رواية السبعين، وحاول بعضهم الجمع بين الروايات، فقال النووي: هذا كله ليس بمتعارض، لأنه عند جماهير الأصوليين من مفهوم العدد، ولا يعمل به، وليس في ذكر القليل نفي الكثير. اهـ ومعناه أن العبرة بالكثير، فمن قال عندي مائة شاة هو صادق لو قال: عندي خمسون أو سبعون، فهو بحق عنده المائة، وعنده ما دونها، ولم يرتض الحافظ ابن حجر هذا الرأي بحجة أن مفهوم العدد معتبر عند كثير من الأصوليين. وارتضى في الجمع بين الروايات أن الستين كن حرائر، وما زاد عليهن كن سرارى أو بالعكس ويقصد بما فوق الستين ما بين التسعين والمائة، فمن قال: تسعون ألغى الكسر ومن قال مائة، جبر الكسر، ومن هنا وقع التردد في رواية المائة والتسع والتسعين، أما رواية السبعين فحملها على قصد المبالغة والتكثير، فإن السبعة يقصد بها الكثرة في الآحاد، والسبعين يقصد بها الكثرة في العشرات والسبعمائة يقصد بها الكثرة في المئات ومن ذلك قوله تعالى {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله} [لقمان: 27] وقوله {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن تغفر الله لهم} [التوبة: 80] وقوله {كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة} [البقرة: 261]. (فقال: لأطوفن عليهن الليلة) في الرواية الثالثة "لأطيفن" بضم الهمزة وهما لغتان، يقال: طاف بالشيء، وأطاف به، إذا دار حوله، وتكرر عليه، وهو هنا كناية عن الجماع، واللام في جواب القسم المحذوف، أي والله لأطوفن يشير إلى ذلك قوله في الرواية الثانية والثالثة "لم يحنث" لأن الحنث لا يكون إلا عن قسم، والقسم لا بد له من مقسم به، وقال بعضهم: اللام ابتدائية، والمراد بعدم الحنث، وقوع ما أراد، وجزم النووي بأن الذي جرى منه ليس بيمين، لأنه ليس في الحديث تصريح بيمين، وتعقبه الحافظ ابن حجر، بأن لفظ اليمين ثبت في بعض طرق الحديث، ثم قال الحافظ: واختلف في الذي حلف عليه، هل جميع ما ذكر؟ أو دورانه على النساء فقط، دون ما بعده، من الحمل والوضع وغيرهما؟ والثاني أوجه، لأنه الذي يقدر عليه، بخلاف ما بعده، فإنه ليس إليه وإنما هو مجرد تمني حصول ما يستلزم جلب الخير له، وإلا فلو كان حلف على جميع ذلك لم يكن إلا بوحي، ولو كان بوحي لم يتخلف، ولو كان بغير وحي لزم أنه حلف على غير مقدور له، وذلك لا يليق بجنابه. قال الحافظ: قلت: وما المانع من جواز ذلك، ويكون من شدة وثوقه بحصول مقصوده، جزم بذلك وأكد

بالحلف، فقد ثبت في الحديث الصحيح "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره" اهـ وأشم في كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله طنطنة بعض الصوفية، والإقسام في الحديث الذي ساقه مراد به الرجاء، كقول الصحابي: أقسمت عليك يا رب أن لا تغيب شمس هذا اليوم حتى أطأ بعرجتي في خضر الجنة "فلم تغب شمس اليوم حتى كان شهيدًا، فقد رجا، وتحقق رجاؤه، والرجاء والتمني من باب واحد، وبينهما وبين الحلف بعد، ومن المستبعد حقًا على عامة المسلمين، فضلاً عن الأنبياء أن يقسموا على غيبي عند الله، لا يملكون منه شيئًا، وهو الحمل، وأن يكون ذكرًا، وأن يعيش، وأن يكون فارسًا، وأن يجاهد في سبيل الله. (فتلد كل واحدة منهن غلامًا فارسًا) سمى الطفل المولود غلامًا وفارسًا باعتبار ما سيكون، لشدة تعلقه بالهدف من الحمل. (فلم تحمل منهن إلا واحدة) معطوف على محذوف، تقديره: فطاف عليهن، وقد صرح به في الرواية الرابعة، وفي الرواية الثانية "فلم تأت واحدة من نسائه" أي بمولود، وفي الرواية الثالثة "فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة "والمقصود من نفي الولادة نفي الحمل. (فولدت نصف إنسان) في الرواية الثانية "جاءت بشق غلام" وفي الرواية الرابعة "بشق رجل" وفي رواية للبخاري "ولم تحمل شيئًا إلا واحدًا ساقطًا أحد شقيه" قال النووي: قيل: هو الجسد الذي ذكره الله تعالى أنه ألقى على كرسيه، في قوله {ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدًا ثم أناب} [ص: 34]. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: كذا حكاه النقاش في تفسيره، وهو صاحب مناكير وقال غير واحد من المفسرين: إن المراد بالجسد المذكور في الآية شيطان، وهو المعتمد، قال مجاهد: {ألقينا على كرسيه جسدًا} شيطانًا، يقال له: آصف، قال له سليمان: كيف تفتن الناس؟ قال: أرني خاتمك أخبرك، فأعطاه، فرماه آصف في البحر، فذهب ملك سليمان، وقد آصف على كرسيه، وتقمص شخصية سليمان، وقام يحكم بين الناس، ومنعه الله نساء سليمان، فلم يقربهن، وفي رواية أن الشيطان أتاهن في حيضهن، وأعطت امرأة حوتًا لسليمان، فلما فتح بطنه وجد خاتمه في بطنه، فرد الله له ملكه، وفر آصف، فدخل البحر. اهـ. فالمراد بالجسد الذي ألقي على الكرسي - على ما قاله النووي - هو شق الإنسان الذي ولد له، ومعنى إلقائه على كرسيه، وضع القابلة له عليه ليراه. والمراد من الجسد - على ما اعتمده الحافظ ابن حجر - الشيطان، وأطلق عليه "جسد" لأنه إنما تمثل بصورة غيره، وهو سليمان عليه السلام، وتلك الصورة المتمثلة ليس فيها روح صاحبها الحقيقي، وإنما حل في قالبها ذلك الشيطان، فلذا سمي جسدًا، وعبارة القاموس صريحة في أن الجسد يطلق على الجني. والذي اعتمده الحافظ ابن حجر، ليس معتمدًا عند المحققين من المفسرين، رغم أن روايته

أخرجها النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم، وقال عنها ابن حجر والسيوطي: بسند قوي عن ابن عباس، فقد قال أبو حيان وغيره: إن هذه المقالة من أوضاع اليهود وزنادقة السوفسطائية، ولا ينبغي لعاقل أن يعتقد صحة ما فيها، وكيف يجوز تمثل الشيطان بصورة نبي، حتى يلتبس أمره عند الناس؟ ويعتقدوا أن ذلك المقصود هو النبي؟ ولو أمكن وجود هذا، لم يوثق بإرسال نبي، نسأل الله تعالى سلامة ديننا وعقولنا، قال: ومن أقبح ما فيها زعم أن الشيطان تسلط على نساء نبيه، حتى وطئهن، وهن حيض. الله أكبر. هذا بهتان عظيم، ونسبة الخبر إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - لا نسلم صحتها، وكذا لا نسلم دعوى قوة سنده إليه. وقال ابن المنذر ما معناه: إن ذلك من أخبار كعب، ومعلوم أن كعبًا يرويه عن كتب اليهود، وهي لا يوثق بها. (لو كان استثنى لولدت كل واحدة منهن غلامًا فارسًا) المراد من الاستثناء هنا، قول: إن شاء الله. كما صرح به في الروايات الثلاث التالية. قال النووي: وهذا محمول على أن النبي صلى الله عليه وسلم أوحى إليه بذلك في حق سليمان، لا أن كل من فعل هذا يحصل له هذا. (فقال له صاحبه، أو الملك) قيل: المراد بصاحبه الملك، وهو الظاهر، وقيل: القرين، وقيل: صاحب له آدمي، وقيل: خاطره، وهو بعيد. (فلم يقل، ونسي) قال النووي: ضبطه بعض الأئمة بضم النون وتشديد السين، وهو ظاهر حسن. اهـ. وفي الرواية الرابعة "فلم يقل: إن شاء الله" وفي رواية للبخاري "ونسي أن يقول: إن شاء الله" ومعنى "فلم يقل" أي بلسانه، لا أنه أبى أن يفوض إلى الله، بل كان ذلك ثابتًا في قلبه، لكنه اكتفى بذلك أولاً، ونسي أن يجريه على لسانه، لشيء عرض له، لما قيل له، وقيل: نسي أن يقصد الاستثناء الذي يرفع حكم اليمين، يشير إلى ذلك قوله "ولو قال: إن شاء الله لم يحنث". (وايم الذي نفس محمد بيده) اليمين الحلف، والقسم، مؤنث، سمي باسم يمين اليد، لأنهم كانوا يتماسحون بأيمانهم، فيتحالفون، وفي الصحاح: لأنهم كانوا إذا تحالفوا ضرب كل امرئ منهم يمينه على يمين صاحبه، والواو في "وايم" استئنافية، و"ايم" بضم الميم مبتدأ، خبره محذوف، والتقدير: ايم الذي نفس محمد بيده قسمي، أي أيمان الله قسمي، وأصل "ايم" أيمن، جمع يمين، وهمزتها في الأصل همزة قطع، خففت، وصارت همزة وصل، لكثرة استعمالهم لها، كما حذفت تخفيفًا لكثرة الاستعمال. (وكان دركًا له في حاجته) "دركًا" بفتح الدال والراء، أي إدراكًا، قال تعالى {لا تخاف دركًا ولا تخشى} [طه: 77] وفي رواية للبخاري "وكان أرجى لحاجته" والمراد أنه كان يحصل له ما طلب.

-[فقه الحديث]- قال القاضي: أجمع المسلمون على أن قول: "إن شاء الله" يمنع انعقاد اليمين، إذا كان متصلاً باليمين، ولا خلاف في ذلك إذا كان اليمين بالله تعالى. قال: واختلفوا في الاتصال، فقال مالك والأوزاعي، والشافعي والجمهور: هو أن يكون قوله "إن شاء الله" متصلاً باليمين، من غير سكوت بينهما، قال مالك: إذا سكت، أو قطع كلامه، فلا استثناء، وقال الشافعي: يشترط وصل الاستثناء بالكلام الأول، ووصله أن يكون نسقًا، فإن كان بينهما سكوت انقطع، إلا إن كانت سكتة تذكر، أو تنفس، أو مرض عي، أو انقطاع صوت، وكذا يقطعه الأخذ في كلام آخر. وعن طاووس والحسن وجماعة من التابعين أن له الاستثناء ما لم يقم من مجلسه، وعن أحمد نحوه، وقال: مادام في ذلك الأمر. وقال قتادة: ما لم يقم، أو يتكلم، وعن عطاء: قدر حلب ناقة. وقال سعيد بن جبير: إلى أربعة أشهر، وعن مجاهد سنتين، وعن ابن عباس أقوال: شهر. أربعة أشهر. سنة. له الاستثناء أبدًا، متى تذكره. قال أبو عبيد: وهذا لا يؤخذ على ظاهره، لأنه يلزم منه أن لا يحنث أحد في يمينه، وأن لا تتصور الكفارة التي أوجبها الله على الحالف، ووجه ما ورد عن هؤلاء بأن مرادهم سقوط الإثم عن الحالف، لتركه التبرك بقوله "إن شاء الله" لأنه مأمور به، في قوله تعالى {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدًا * إلا أن يشاء الله} [الكهف: 23، 24] فكأنهم يقولون: إذا نسي أن يقول: إن شاء الله، يستدركه، ولم يريدوا أن الحالف، إذا قال ذلك بعد أن ينقضي كلامه، أن ما عقده باليمين ينحل، وأنه بذلك يمنع الحنث. واتفق العلماء - كما حكاه ابن المنذر - على أن شرط الحكم بالاستثناء أي يتلفظ به المستثنى، وأنه لا يكفي القصد إليه بغير لفظ، وحكي عن بعض المالكية صحة الاستثناء بالنية، من غير لفظ. وهل يعمل بالاستثناء في غير اليمين بالله؟ قال النووي: مذهب الشافعي والكوفيين وأبي ثور وغيرهم صحة الاستثناء في جميع الأشياء، حتى في الطلاق والعتق، فلو قال: أنت طالق إن شاء الله، أو أنت حر إن شاء الله، أو أنت علي كظهر أمي إن شاء لله، أو لزيد في ذمتي ألف درهم إن شاء الله، أو إن شفى الله مريضي فلله علي صوم شهر إن شاء الله، صح الاستثناء في كل ذلك، ولا ينعقد، ولا حنث. وقال مالك والأوزاعي: لا يصح الاستثناء في شيء من ذلك، إلا اليمين بالله تعالى، وحكي عن الأوزاعي وطاووس: لا يدخل الاستثناء في الطلاق والعتق والمشي إلى بيت الله، وعن مالك مثله، وعنه مثله إلا المشي، وقال الحسن وقتادة وابن أبي ليلى والليث: يدخل في الجميع إلا الطلاق، وعن أحمد: يدخل في الجميع إلا العتق، واحتج بتشوف الشارع له.

-[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - أنه يستحب للإنسان، إذا قال: سأفعل كذا، أن يقول: إن شاء الله تعالى. 2 - وأنه إذا حلف، وقال متصلاً بيمينه: إن شاء الله، لم يحنث بفعله المحلوف عليه. 3 - وخصوصية سليمان في عدد نسائه. 4 - وفيه ما اختص به الأنبياء من القوة والإطاقة على جماع هذا العدد من النساء في ليلة واحدة. قاله النووي. 5 - ومن قوله "لو كان استثنى لولدت .... " جواز قول "لو" و"لولا" قال النووي: قال القاضي عياض: هذا يستدل به على جواز قول "لو" و"لولا" وقد جاء في القرآن كثيرًا، وفي كلام الصحابة والسلف، وترجم البخاري على هذا: باب ما يجوز من اللو، وأدخل فيه قول لوط {لو أن لي بكم قوة} [هود: 80] وقول النبي صلى الله عليه وسلم "لو كنت راجمًا بغير بينة لرجمت هذه" و"لو مد لي الشهر لواصلت" و"لولا حدثان قومك بالكفر لأتممت البيت على قواعد إبراهيم" و"لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار" وأمثال هذا. قال: والذي يتفهم من ترجمة البخاري، وما ذكره في الباب من القرآن والآثار، أنه يجوز استعمال "لو" و"لولا" فيما يكون للاستقبال وهو ما يمتنع فعله لوجود غيره، في "لولا" وما يمتنع فعله لامتناع غيره في "لو" لأنه لم يدخل في الباب سوى ما هو للاستقبال، أو ما هو حق صحيح متيقن، كحديث "لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار" دون الماضي والمنقضي، أو ما فيه اعتراض على الغيب والقدر السابق، وقد ثبت في الحديث الآخر، في صحيح مسلم "وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل" قال القاضي، قال بعض العلماء: هذا إذا قاله على جهة الحتم والقطع بالغيب، أنه لو كان كذا لكان كذا، من غير ذكر مشيئة الله تعالى، والنظر إلى سابق قدره، فأما من قاله على التسليم، ورد الأمر إلى مشيئته، فلا كراهة فيه، والذي عندي أن "لو" و"لولا" سواء إذا استعملتا فيما لم يحط به الإنسان علمًا، ولا هو داخل تحت مقدور قائلهما، مما هو تحكم على الغيب، واعتراض على القدر، مثل قول المنافقين {لو أطاعونا ما قتلوا} [آل عمران: 168] و {لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا} [آل عمران: 156] و {لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا} [آل عمران: 154] فمثل هذا هو المنهي عنه، وأما هذا الحديث الذي نحن فيه، فإنما أخبر صلى الله عليه وسلم فيه عن يقين نفسه، أن سليمان لو قال: إن شاء الله، لجاهدوا، إذ ليس هذا مما يدرك بالظن والاجتهاد، وإنما أخبر عن حقيقة، أعلمه الله تعالى بها، فلا معارضة بين هذا، وبين حديث النهي عن "لو" وقال تعالى {لولا كتاب من الله سبق لمسكم} [الأنفال: 68] {ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا .... } [الزخرف: 33] لأن الله تعالى مخبر في كل ذلك عما مضى، أو يأتي عن علم، خبرًا قطعيًا، وكل ما يكون

من "لو" و"لولا" مما يخبر به الإنسان عن علة امتناعه من فعله، مما يكون فعله في قدرته، فلا كراهة فيه، لأنه إخبار - حقيقة - عن امتناع شيء لامتناع شيء وامتناع شيء لحصول شيء، فلا كراهة، إلا أن يكون كاذبًا في ذلك، كقول المنافقين {لو نعلم قتالاً لاتبعناكم} [آل عمران: 167]. 6 - أن في ذكر "إن شاء الله" رجاء لحصول المقصود، وفي ترك الاستثناء خشية عدم حصول المطلوب. 7 - وفي فضل فعل الخير، وتعاطي أسبابه. 8 - ومن إتيان سليمان نساءه بهذا القصد أن كثيرًا من المباحات والملذات يصير مستحبًا بالنية. 9 - ومما تمناه سليمان جواز الإخبار عن الشيء الذي قد يحصل في المستقبل، والبناء عليه، إذا غلب على الظن، فإن سليمان جزم بما قال، ولم يكن ذلك عن وحي، وإلا لوقع، قال القرطبي: ولا يظن بسليمان عليه السلام أنه قطع بذلك على ربه، لا يظن ذلك إلا من جهل حال الأنبياء، وأدبهم مع ربهم. 10 - وفيه جواز السهو والنسيان على الأنبياء، وأن ذلك لا يقدح في علو منصبهم. 11 - وفيه جواز إضمار المقسم به في اليمين، لقوله "لأطوفن" مع قوله صلى الله عليه وسلم "لم يحنث". 12 - وفيه حجة للحنفية، حيث قالوا: لا يشترط التصريح بمقسم به معين، فمن قال أحلف، أو أشهد ونحو ذلك فهو يمين، وقيده المالكية بالنية، وقال بعض الشافعية: ليست بيمين مطلقًا. 13 - وفيه استعمال الكناية في اللفظ الذي يستقبح ذكره، لقوله "لأطوفن" بدل قوله "لأجامعن" كذا قيل. (وفي كثير من هذه المآخذ نظر من حيث إن كلام سليمان لم يكن بالعربية، ولم تكن في لغته هذه الأسرار البلاغية، وكثير منها مبني على أن شرع من قبلنا شرع لنا). 14 - وفي قوله صلى الله عليه وسلم، في الرواية الرابعة "وايم الذي نفس محمد بيده" جواز الحلف بهذا اللفظ، واختلف العلماء في ذلك، فقال مالك وأبو حنيفة: هو يمين، وقال الشافعية: إن نوى به اليمين فهو يمين، وإلا فلا. والله أعلم

(438) باب الإصرار على اليمين

(438) باب الإصرار على اليمين 3775 - عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "والله لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي فرض الله". -[المعنى العام]- قلنا قبل بابين: إن الله تعالى شرع كفارة اليمين كعبادة مالية أو بدنية، إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام. وقلنا: إن الحالف إذا وجد خيرًا مما حلف عليه كان بين خيرين، عليه أن يقدم أحسنهما بالإنجاز، وهو غير المحلوف عليه، ويكفر عن يمينه، وبذلك يحصل على الخيرين معًا. وهذا الحديث يعالج حالة من حالات التزمت والجهل، حين يظن الحالف أن الكفارة للحنث معصية، وأن تحقيق ما حلف عليه خير من الحنث مع الكفارة، ولو كان فيما حلف عليه ضرر له وللآخرين، وهذا فهم خاطئ، لأن الحنث مع الكفارة عبادة مطلوبة، ومقدمة ما لم يكن المحلوف عليه طاعة وعبادة أكبر منها، وصدق الله العظيم، حيث يقول {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم} [التحريم: 2]. -[المباحث العربية]- (لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله) "لأن" اللام المفتوحة في جواب القسم، و"أن" بفتح الهمزة وسكون النون الناصبة، و"يلج" بفتح الياء، وفتح اللام، وتشديد الجيم، من اللجاج، وهو الإصرار على الشيء، يقال: لج في الأمر، يلج بكسر اللام في المضارع، لجاجًا بفتح اللام ولجاجة، لازمه وأبي أن ينصرف عنه، وفي القرآن الكريم {ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون} [المؤمنون: 75] والمعنى لأن يتمادى ويصر أحدكم على تنفيذ يمينه وتحقيق ما حلف عليه، وذكر الأهل ليس للاحتراز عن غيرهم، بل للتهيج والإثارة، والمسلمون جميعًا كالأهل. (آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي فرض الله) "آثم" بهمزة ممدودة، أفعل تفضيل، أي أكثر إثمًا وذنبًا، وأصل أفعل التفضيل اشتراك أمرين في صفة، وزيادة أحدهما على الآخر

في هذه الصفة، ولما كانت كفارة اليمين لا إثم فيها أصلاً، كانت أفعل التفضيل على غير بابها، وكانت من قبيل قولهم: العسل أحلى من الخل، وقال النووي: خرج لفظ المفاعلة المقتضية للاشتراك في الإثم، لأنه قصد مقابلة اللفظ، على زعم الحالف وتوهمه، فإنه يتوهم أن عليه إثمًا في الحنث، مع أنه إثم عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: الإثم عليه في اللجاج أكثر لو ثبت الإثم اهـ وحاصل توجيهه أن المفاضلة حسب توهم الحالف، لا على الحقيقة، أو أنها على سبيل الفرض، لا على سبيل الواقع. -[فقه الحديث]- قال النووي: لا بد من تنزيل الحديث على ما إذا كان الحنث ليس بمعصية، والمعنى أنه إذا حلف يمينًا تتعلق بأهله، ويكون الحنث ليس بمعصية، فينبغي له أن يحنث، فيفعل ذلك الشيء، ويكفر عن يمينه، فإن قال: لا أحنث، بل أتورع عن ارتكاب الحنث، وأخاف الإثم فيه، وأصر على تنفيذ ما حلفت عليه، فهو مخطئ بهذا القول، بل استمراره في عدم الحنث، وإدامة الضرر على أهله أكثر إثمًا من الحنث. اهـ. (ملحوظة) هذا الحديث حقه أن يلحق بأحاديث باب "من حلف يمينًا، فرأى غيرها خيرًا منها" وقد تقدم شرحه وفقهه قبل بابين، بما فيه الكفاية، فليراجع. والله أعلم

(439) باب نذر الكافر إذا أسلم

(439) باب نذر الكافر إذا أسلم 3776 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر قال: يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام. قال "فأوف بنذرك". 3777 - - عن عمر بهذا الحديث. أما أبو أسامة والثقفي ففي حديثهما "اعتكاف ليلة" وأما في حديث شعبة فقال جعل عليه يومًا يعتكفه وليس في حديث حفص ذكر يوم ولا ليلة. 3778 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة بعد أن رجع من الطائف فقال: يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف يومًا في المسجد الحرام فكيف ترى؟ قال "اذهب فاعتكف يومًا" قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطاه جارية من الخمس فلما أعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا الناس سمع عمر بن الخطاب أصواتهم يقولون أعتقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟ فقالوا: أعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا الناس فقال: عمر يا عبد الله اذهب إلى تلك الجارية فخل سبيلها. 3779 - - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما قفل النبي صلى الله عليه وسلم من حنين سأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نذر كان نذره في الجاهلية اعتكاف يوم ثم ذكر بمعنى حديث جرير بن حازم. 3780 - عن نافع قال: ذكر عند ابن عمر عمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة فقال لم

يعتمر منها. قال: وكان عمر نذر اعتكاف ليلة في الجاهلية ثم ذكر نحو حديث جرير بن حازم ومعمر عن أيوب. 3781 - عن ابن عمر رضي الله عنه بهذا الحديث في النذر وفي حديثهما جميعًا "اعتكاف يوم". -[المعنى العام]- عن أعمال الكافرين الحسنة في حال كفرهم، وموتهم كفارًا يقول تعالى {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورًا} [الفرقان: 23] ويقول {ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها} [الأحقاف: 20] وعلى هذا يقول العلماء: إنما يجزى الكافر على صالحاته بنعمة يمتعه الله بها في دنياه، لأنه ليس من أهل العبادة مادام على كفره، لا تنعقد العبادة ولا تصح إلا من مؤمن، حتى القائلين بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، قالوا: معناه أنهم مطالبون بها على أن يسلموا أولاً، فهم مطالبون بالإسلام وفروعه على الترتيب، كمن يكلف ببناء بيت من طابقين، لا يقوم الطابق الثاني إلا بقيام الطابق الأول. وقد سأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نذر نذره قبل إسلامه، قال: إني نذرت في جاهليتي أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام. فماذا ترى يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك، واذهب فاعتكف. فمن قال من العلماء: إن النذر في نفسه عبادة قال: إن النذر مع الكفر لا يصح ولا ينعقد، ولا يلتزم به صاحبه إذا أسلم، وإنما أمر عمر بالوفاء على سبيل التطوع والاستحباب. ومن قال: إن النذر في ذاته التزام بشيء، قد يكون بمباح، فليس هو في ذاته عبادة، ومثل نذر عمر رضي الله عنه هو التزام بطاعة وعبادة، يجب عليه أداء هذه الطاعة والعبادة في وقت صلاحيتها، كمن التزم بدين وهو معسر، عليه أن يسدد هذا الدين عند اليسر، وكما إذا نذرت الحائض أن تصلي لله ركعتين، ينعقد نذرها وهي حائض، وهي لا تصح منها الصلاة وهي حائض، لكن يلزمها الوفاء بالنذر عند صلاحيتها للوفاء. والله الهادي سواء السبيل. -[المباحث العربية]- (أن عمر قال: يا رسول الله، إني نذرت في الجاهلية) بينت الرواية الثانية مكان وزمان هذا السؤال، وفيها "سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة، بعد أن رجع من الطائف" و"الجعرانة" بكسر

الجيم وسكون العين وتخفيف الراء، وقد تكسر العين وتشدد الراء، أما كسر الجيم فبلا خلاف، وقال الشافعي: تشديد الراء خطأ، وهي علم بين مكة والطائف، على سبعة أميال من مكة، وهي في الحل، وهي من مواقيت العمرة. والمراد من الجاهلية في هذا الحديث جاهلية عمر، أي قبل إسلامه، وليس المراد الجاهلية المطلقة، التي هي ما قبل البعثة، وإليك ظروف القصة الزمانية والمكانية، كما وردت في الأحاديث. لما فتح الله مكة، وهو وأصحابه ما زالوا بها، بلغه أن كفار هوازن جمعوا قبائلهم، واتفقوا مع ثقيف، أهل الطائف، على محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزلوا وادي حنين، يستعدون للقاء المسلمين فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، في عشرة آلاف، ومعه الطلقاء، حتى قال أحد المسلمين: لن نغلب اليوم عن قلة، وكانت هوازن قد خرجت عن بكرة أبيهم بنسائهم وأطفالهم وأموالهم ونعمهم وشائهم، وأعدوا أنفسهم، وتهيئوا في مضايق الوادي المعروفة لهم، وصفوا أنفسهم بأحسن صفوف، صف الخيل، ثم المقاتلة، ثم النساء من وراء ذلك والذرية، ثم الغنم، ثم النعم وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حتى انحط بهم الوادي في عماية الصبح، فثارت في وجوهم خيل المشركين، فشد عليهم المسلمون، فانهزموا، وانكشفت النساء والذرية والغنم والنعم، فأسرع المسلمون على الغنائم يجمعونها، فارتقت هوازن أعلى الجبل، ورشقوا المسلمين بالنبال وكانوا رماة، لا تكاد رمايتهم تخطئ الهدف، فولى المسلمون الأدبار، ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا القليل، وهو على بغلته البيضاء يندفع بها نحو الكافرين، وهو يقول: أنا النبي لا كذب: أنا ابن عبد المطلب وصرخ من معه في الفارين، فعادوا، ونصر الله المسلمين، واستولوا على غنائم كثيرة، جمعوها، وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسيروا بها إلى الجعرانة، وأقام عليها الحراسة الكافية، ولم يقسمها، ورحل بالمسلمين إلى الطائف لمحاربة ثقيف، لكنهم تحصنوا بحصونهم، وأعدوا بداخلها ما يكفيهم سنة، فلم ينل المسلمون منهم، فعادوا إلى الجعرانة بعد حصار الطائف قرابة عشرين يومًا، فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم هوازن، فأصاب عمر جاريتين، وهب إحداهما لابنه عبد الله واحتفظ بالأخرى. وجاء وفد هوازن مسلمين يطلبون استرجاع الأسرى والأموال، ولكن بعد فوات الأوان، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد انتظرتكم لتأتوا مسلمين قبل تقسيم الغنيمة عشرين يومًا، أما وقد قسمت الغنائم فقد أصبح الأمر بيد المسلمين، ولكن اختاروا إما السبي، وإما المال، فاختاروا السبي، فعرض صلى الله عليه وسلم على أصحابه أن يتنازل منهم عن سبيه من يتنازل، وأن يعوض عن سبيه من لا يتنازل، فأطلقت أسارى وسبايا هوازن في طرقات الجعرانة، ولهم أصوات فرح وزغاريد، فسمع عمر، فأطلق جاريته. (سمع عمر أصواتهم) في بعض النسخ "أصواتهن يقلن" وكلاهما صحيح، فالسبي المعتق كان ذكورًا وإناثًا. -[فقه الحديث]- قال النووي: اختلف العلماء في صحة نذر الكافر، فقال مالك وأبو حنيفة وسائر الكوفيين وجمهور

أصحابنا: لا يصح، وقال المغيره المخزومي وأبو ثور والبخاري وابن جرير وبعض أصحابنا: يصح، وحجتهم ظاهر حديث عمر، وأجاب الأولون عنه أنه محمول على الاستحباب، أي يستحب لك أن تفعل الآن مثل ذلك الذي نذرته في الجاهلية. اهـ. وموطن الخلاف. هل ينعقد النذر في حال جاهليته، ويجب عليه الوفاء به في حال إسلامه؟ أم لا ينعقد، ولا يجب عليه في حال إسلامه الوفاء به؟ أما أنه بعد إسلامه يستحب له أن يأتي بالمنذور إذا كان طاعة؟ فلا نقاش فيه، فالطاعة مطلوبة بغير النذر. وظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك" أنه طلب من عمر أداء الطاعة على أنها وفاء بالنذر، فهو منعقد صحيح، وبه قال أحمد في رواية عنه، وعارض الحافظ ابن حجر في نسبة ذلك للبخاري، فقال: إن وجد عن البخاري التصريح بالوجوب قبل - أي ولم يوجد - وإلا فمجرد ترجمته (باب إذا نذر أو حلف أن لا يكلم إنسانًا في الجاهلية، ثم أسلم) لا يدل على أنه يقول بوجوبه، لأنه محتمل لأن يقول بالندب، فيكون تقدير جواب الاستفهام، يندب له ذلك. وموقف الجمهور من حديث عمر موقف صعب، فبعضهم يقول: لم يؤمر عمر على جهة الإيجاب، بل على جهة المشورة. قال القابسي، وفيه نظر، وإلا لحولنا كل الأوامر لنحو ذلك بدون قرينة. وبعضهم يقول: أراد صلى الله عليه وسلم أن يعلمهم أن الوفاء بالنذر من آكد الأمور، فغلظ أمره، بأن أمر عمر بالوفاء وهو كالأول، يحول الأمر إلى غير الظاهر بدون قرينة. وبعضهم يقول: يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم فهم من عمر أنه يجب أن يفعل ما كان نذره، فأمره به، على أنه حينئذ طاعة لله تعالى، فكان ما أمره به، غير ما نذره. قاله الطحاوي، وهذا إن احتملته رواية "اذهب فاعتكف يومًا" لا تحتمله رواية "فأوف بنذرك". وبعضهم يقول: إن عمر لما نذر في الجاهلية، ثم أسلم، أراد أن يكفر ذلك بمثله، أي بنية مثله في الإسلام، فلما أراده ونواه سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فأعلمه أنه لزمه، قاله ابن العربي، ثم قال: وكل عبادة ينفرد بها العبد عن غيره تنعقد بمجرد النية العازمه الدائمة، كالنذر في العبادة والطلاق في الأحكام، وإن لم يتلفظ بشيء من ذلك. اهـ ومعنى ذلك أن النذر المأمور بوفائه غير نذر الجاهلية، ومن أين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، العلم بنية عمر؟ بل نقل بعض المالكية الاتفاق على أن العبادة لا تلزم إلا بالنية مع القول، أو مع الشروع، فلا يلزم هذا النذر المنوي، ثم ظاهر كلام عمر مجرد الإخبار بما وقع، مع الاستخبار عن حكمه، هل لزم أولا؟ وليس فيه ما يدل على ما ادعاه ابن العربي من تجديد نية منه في الإسلام. والذي اضطر الجمهور إلى هذا أن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشريعة، وعلى القول بأنهم مخاطبون بها، فمعناه أنهم محاسبون عليها، لكن لا تنعقد، ولا تصح منهم العبادة وهم كافرون، ونذر الطاعة نفسه عبادة، فلا يصح منهم، ولا ينعقد. وقال بعض من أوجبه: إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وإن كانت هذه الفروع لا تصح منهم إلا بعد أن يسلموا، فأمر عمر وجوبًا بوفاء ما التزمه في الشرك، وتعقب بأن الواجب بأصل الشرع

كالصلاة لا يجب عليهم قضاؤه، فكيف يكلفون بقضاء ما ليس واجبًا بأصل الشرع؟ وأجاب بعضهم عن هذا الاعتراض بأن الواجب بأصل الشرع كالصلاة مرتبط بوقت، وقد خرج قبل أن يسلم الكافر، ففات وقت أدائه، فلم يؤمر بقضائه، لأن الإسلام يجب ما قبله، فأما إذا لم يوقت نذره، فلم يتعين له وقت حتى أسلم، فإيقاعه له بعد الإسلام يكون أداء، لاتساع ذلك باتساع العمر، ولهذا يجب الحج على ما من أسلم، لاتساع وقته، بخلاف ما فات وقته، ويرد على هذا بأن وجوب الحج على من أسلم بوجوب جديد توجه إليه بعد إسلامه. النقطة الثانية التي يتعرض لها الحديث اعتكاف ليلة، قال النووي: أما الرواية التي فيها اعتكاف يوم فلا تخالف رواية اعتكاف ليلة، لأنه يحتمل أنه سأله عن اعتكاف ليلة وسأله عن اعتكاف يوم، فأمره بالوفاء بما نذر، فحصل منه صحة اعتكاف الليل وحده، ويؤيده رواية ابن عمر "أن عمر نذر أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: أوف بنذرك، فاعتكف عمر ليلة" رواه الدارقطني، وقال: إسناده ثابت. هذا مذهب الشافعي، وبه قال الحسن البصري وأبو ثور وداود وابن المنذر، وهو أصح الروايتين عن أحمد، وقال ابن عمر وابن عباس وعائشة وعروة بن الزبير والزهري ومالك والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وأحمد وإسحق في رواية عنهما: لا يصح الاعتكاف إلا يصوم، وهو قول أكثر العلماء. أما نفي ابن عمر عمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة، فمحمول على نفي علمه، أي إنه لم يعلم ذلك، قال النووي: وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر من الجعرانة، والإثبات مقدم على النفي، لما فيه من زيادة العلم. والله أعلم

(440) باب معاملة المماليك

(440) باب معاملة المماليك 3782 - عن زاذان أبي عمر قال: أتيت ابن عمر وقد أعتق مملوكًا. قال: فأخذ من الأرض عودًا أو شيئًا، فقال: ما فيه من الأجر ما يسوى هذا إلا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه". 3783 - عن زاذان أن ابن عمر دعا بغلام له فرأى بظهره أثرًا، فقال له: أوجعتك؟ قال: لا. قال: فأنت عتيق. قال: ثم أخذ شيئًا من الأرض، فقال: ما لي فيه من الأجر ما يزن هذا. إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من ضرب غلامًا له حدًا لم يأته أو لطمه فإن كفارته أن يعتقه". 3784 - - وفي رواية عن فراس بإسناد شعبة وأبي عوانة أما حديث ابن مهدي فذكر فيه "حدًا لم يأته "وفي حديث وكيع "من لطم عبده" ولم يذكر "الحد". 3785 - عن معاوية بن سويد قال: لطمت مولى لنا فهربت ثم جئت قبيل الظهر فصليت خلف أبي فدعاه ودعاني ثم قال: امتثل منه فعفا، ثم قال: كنا بني مقرن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لنا إلا خادم واحدة فلطمها أحدنا فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال "اعتقوها" قالوا: ليس لهم خادم غيرها. قال "فليستخدموها فإذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها". 3786 - عن هلال بن يساف قال: عجل شيخ فلطم خادمًا له. فقال له سويد بن مقرن عجز عليك إلا حر وجهها لقد رأيتني سابع سبعة من بني مقرن ما لنا خادم إلا واحدة لطمها أصغرنا فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نعتقها.

3787 - - عن هلال بن يساف قال: كنا نبيع البز في دار سويد بن مقرن أخي النعمان بن مقرن فخرجت جارية فقالت لرجل منا كلمة فلطمها؛ فغضب سويد فذكر نحو حديث ابن إدريس. 3788 - عن سويد بن مقرن رضي الله عنه أن جارية له لطمها إنسان فقال له سويد أما علمت أن الصورة محرمة؟ فقال: لقد رأيتني وإني لسابع إخوة لي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لنا خادم غير واحد فعمد أحدنا فلطمه؛ فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نعتقه. 3789 - عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: قال أبو مسعود البدري: كنت أضرب غلامًا لي بالسوط فسمعت صوتًا من خلفي "اعلم أبا مسعود" فلم أفهم الصوت من الغضب. قال: فلما دنا مني إذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يقول "اعلم أبا مسعود اعلم أبا مسعود" قال: فألقيت السوط من يدي. فقال "اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام" قال: فقلت: لا أضرب مملوكًا بعده أبدًا. 3790 - - وفي رواية عن الأعمش بإسناد عبد الواحد نحو حديثه غير أن في حديث جرير "فسقط من يدي السوط من هيبته". 3791 - عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: كنت أضرب غلامًا لي فسمعت من خلفي صوتًا "اعلم أبا مسعود لله أقدر عليك منك عليه" فالتفت فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله هو حر لوجه الله. فقال "أما لو لم تفعل للفحتك النار أو لمستك النار".

3792 - عن أبي مسعود رضي الله عنه أنه كان يضرب غلامه؛ فجعل يقول أعوذ بالله. قال: فجعل يضربه. فقال: أعوذ برسول الله؛ فتركه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "والله لله أقدر عليك منك عليه" قال فأعتقه. 3793 - - وفي رواية عن شعبة بهذا الإسناد ولم يذكر قوله "أعوذ بالله أعوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم". 3794 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم "من قذف مملوكه بالزنا يقام عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال". 3795 - - وفي رواية عن فضيل بن غزوان بهذا الإسناد وفي حديثهما سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم نبي التوبة. 3796 - عن المعرور بن سويد قال: مررنا بأبي ذر بالربذة وعليه برد وعلى غلامه مثله. فقلنا: يا أبا ذر لو جمعت بينهما كانت حلة. فقال: إنه كان بيني وبين رجل من إخواني كلام وكانت أمه أعجمية فعيرته بأمه فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلقيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال "يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية" قلت: يا رسول الله من سب الرجال سبوا أباه وأمه. قال "يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم فاطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم". 3797 - عن الأعمش بهذا الإسناد وزاد في حديث زهير وأبي معاوية بعد قوله "إنك امرؤ فيك جاهلية" قال: قلت: على حال ساعتي من الكبر؟ قال "نعم" وفي رواية أبي معاوية "نعم على حال ساعتك من الكبر" وفي حديث عيسى "فإن كلفه ما يغلبه فليبعه"

وفي حديث زهير "فليعنه عليه" وليس في حديث أبي معاوية "فليبعه" ولا "فليعنه" انتهى عند قوله "ولا يكلفه ما يغلبه". 3798 - عن المعرور بن سويد قال: رأيت أبا ذر وعليه حلة وعلى غلامه مثلها فسألته عن ذلك؟ قال: فذكر أنه ساب رجلاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعيره بأمه. قال: فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إنك امرؤ فيك جاهلية إخوانكم وخولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يديه فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه". 3799 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق". 3800 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا صنع لأحدكم خادمه طعامه ثم جاءه به وقد ولي حره ودخانه فليقعده معه فليأكل فإن كان الطعام مشفوهًا قليلاً فليضع في يده منه أكلة أو أكلتين" قال داود يعني لقمة أو لقمتين. 3801 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن العبد إذا نصح لسيده وأحسن عبادة الله فله أجره مرتين". 3802 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "للعبد المملوك المصلح أجران" والذي نفس أبي هريرة بيده لولا الجهاد في سبيل الله والحج وبر أمي لأحببت أن

أموت وأنا مملوك. قال: وبلغنا أن أبا هريرة لم يكن يحج حتى ماتت أمه لصحبتها. قال أبو الطاهر في حديثه "للعبد المصلح" ولم يذكر المملوك. 3803 - - وفي رواية عن ابن شهاب بهذا الإسناد ولم يذكر بلغنا وما بعده. 3804 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أدى العبد حق الله وحق مواليه كان له أجران" قال: فحدثتها كعبًا. فقال كعب: ليس عليه حساب ولا على مؤمن مزهد. 3805 - عَن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نِعِمَّا لِلْمَمْلُوكِ أَنْ يُتَوَفَّى يُحْسِنُ عِبَادَةَ اللَّهِ وَصَحَابَةَ سَيِّدِهِ نِعِمَّا لَهُ". 3806 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أعتق شركًا له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة العدل فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد وإلا فقد عتق منه ما عتق". 3807 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أعتق شركًا له من مملوك فعليه عتقه كله إن كان له مال يبلغ ثمنه فإن لم يكن له مال عتق منه ما عتق". 3808 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أعتق نصيبًا له في عبد فكان له من المال قدر ما يبلغ قيمته قوم عليه قيمة عدل وإلا فقد عتق منه ما عتق". 3809 - - عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث وليس في حديثهم

"وإن لم يكن له مال فقد عتق منه ما عتق" إلا في حديث أيوب ويحيى بن سعيد فإنهما ذكرًا هذا الحرف في الحديث وقالا لا ندري أهو شيء في الحديث أو قاله نافع من قبله وليس في رواية أحد منهم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في حديث الليث بن سعد. 3810 - عن سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من أعتق عبدًا بينه وبين آخر قوم عليه في ماله قيمة عدل لا وكس ولا شطط ثم عتق عليه في ماله إن كان موسرًا". 3811 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من أعتق شركًا له في عبد عتق ما بقي في ماله إذا كان له مال يبلغ ثمن العبد". 3812 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: في المملوك بين الرجلين فيعتق أحدهما قال "يضمن". 3813 - وفي رواية عن شعبة بهذا الإسناد قال "من أعتق شقيصًا من مملوك فهو حر من ماله". 3814 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من أعتق شقيصًا له في عبد فخلاصه في ماله إن كان له مال فإن لم يكن له مال استسعي العبد غير مشقوق عليه". 3815 - وفي رواية عن ابن أبي عروبة بهذا الإسناد وفي حديث عيسى "ثم يستسعى في نصيب الذي لم يعتق غير مشقوق عليه".

3816 - عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رجلاً أعتق ستة مملوكين له عند موته لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزأهم أثلاثًا ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة، وقال له قولاً شديدًا. 3817 - وفي رواية أن رجلاً من الأنصار أوصى عند موته فأعتق ستة مملوكين. 3818 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رجلاً من الأنصار أعتق غلامًا له عن دبر لم يكن له مال غيره فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال "من يشتريه مني؟ " فاشتراه نعيم بن عبد الله بثمان مائة درهم فدفعها إليه. قال: عمرو سمعت جابر بن عبد الله يقول عبدًا قبطيًا مات عام أول. 3819 - عن جابر رضي الله عنه قال: دبر رجل من الأنصار غلامًا له لم يكن له مال غيره فباعه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: جابر فاشتراه ابن النحام عبدًا قبطيًا مات عام أول في إمارة ابن الزبير. -[المعنى العام]- كانت المجتمعات قبل الإسلام طبقتين، طبقة الأسياد، وطبقة العبيد، طبقة الأسياد ولها كل حقوق الحياة والعزة والكرامة، وطبقة العبيد الأذلين، الذين يسامون الخسف والقهر، وإن كانوا في

الصورة أحرارًا، طبقة الجبابرة، وطبقة الضعفاء، فجاء الإسلام بقانونه الخالد من فوق سبع سموات، بقول الله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات: 13] جاء الإسلام والرق منتشر بين أهل الأرض، نتيجة الحروب والإغارات، ثم البيع والشراء، وما كان الإسلام ليمتنع عن استرقاق أعدائه، ماداموا يسترقون أبناءه إذا هزم، لكنه بعد أن يسترق أعداءه يفتح للأرقاء باب الحرية بالكفارات والتطوع بالعتق وفضله وبالكتابة والتدبير وبغير ذلك من منافذ الحرية، ثم حض الأسياد على حسن معاملة العبيد، فمنع ضرب العبيد، حتى قال صلى الله عليه وسلم "من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه" واستجاب بعض الصحابة، فأعتق عبده إذا ضربه، لكن البعض كان يرى هذا العتق تفضلاً وإحسانًا، فلم يكن ينفذه، فكان صلى الله عليه وسلم حين يبلغه ضرب عبد أو أمة يأمر الضاربين بأن يعتقوها، فإذا اعتذروا بحاجتهم الشديدة إلى خدمتها، أمرهم أن يستخدموها، فإذا استغنوا عنها أعتقوها، وكان إذا رأى سيدًا يضرب غلامه. عنفه، وحذره انتقام الله لعبده، فإن الله أقدر على من يضرب عبده قدرة أعلى من قدرة السيد على عبده، "وإنه تعالى يتوعد من يضرب عبده بلفحة شديدة من النار". ولم يكتف الإسلام بحماية العبيد من الضرب والأذى، بل طالب الأسياد بأن يعاملوهم معاملة إخوانهم في الإنسانية، فيطعموهم مما يطعمون، ويلبسوهم مما يلبسون، ولا يكلفوهم من العمل مالاً يطيقون، فإن كلفوهم بما يشق عليهم أعانوهم عليه بأنفسهم وبمن يقدرون عليه من غيرهم، واعتبر مجرد شتمهم أو سبهم خلقًا من أخلاق الجاهلية التي ينبغي البعد عنها. ثم أخذ يواسي العبيد، ويرفع من شأنهم، إذا هم أخلصوا لأسيادهم، وقاموا بواجباتهم نحوهم على الوجه المطلوب، وإذا هم قاموا بواجباتهم نحو عبادة ربهم، إذا هم أدوا واجبهم في هذين الميدانين كان لهم أجران، وبهذه الفرصة التي أتيحت لهم يمكنهم أن يلقوا ربهم من غير حساب ولا عقاب. لقد أصبح الأحرار يغبطون العبيد على ما منحهم الإسلام من رعاية وعناية، حتى قال أبو هريرة رضي الله عنه: والذي نفسي بيده. لولا ميزة الجهاد التي يمتاز بها الحر عن العبد، ولولا الحج الذي يقوم به الحر، ولولا بر أمي ولا أستطيع القيام به لو كنت عبدًا، لولا هذه الثلاث لأحببت أن أكون عبدًا، ولأحببت أن أموت وأنا مملوك. حقًا. نال المملوك في الإسلام حقوقًا لم يسبق للبشرية أن عرفتها، ومنح تكريمًا لم يمنح في تاريخ الإنسانية الطويل للخدم من الأحرار. ونادى الإسلام بتحرير الرقبة قبل أن تنادى به المدينة بألف وأربعمائة عام. ونادى الإسلام باحترام آدمية الآدمي بدرجة لم تعرفها المدنية، حتى في قرنها العشرين. فالحمد لله على ما هدانا، والحمد لله على ما أولانا، والحمد لله رب العالمين. -[المباحث العربية]- (وقد أعتق مملوكًا) بينت الرواية الثانية دوافعه إلى هذا الإعتاق، وفيها "دعا بغلام له، فرأى

بظهره أثرًا - أي أثرًا لضربه إياه - فقال له: أوجعتك؟ - سؤال تأثر وتأسف وتحسر على أن ضربه - قال: لا. قال: فأنت عتيق". (فأخذ من الأرض عودًا أو شيئًا) أي كورقة شجرة جافة، والمقصود شيئًا تافها. (ما فيه من الأجر ما يسوى هذا) الإشارة إلى العود التافه، ومعنى "ما فيه" أي ما في عتقي له من الأجر، و"ما يسوى" بفتح الياء وسكون السين وفتح الواو، وفي بعض النسخ "ما يساوى" وهذه هي اللغة الفصيحة الصحيحة المعروفة، والأولى عدها أهل اللغة في لحن العوام، وأجاب بعض العلماء عن هذه اللفظة بأنها تعتبر من بعض الرواة، لا أن ابن عمر نطق بها، ومعنى كلام ابن عمر أنه ليس في إعتاقه أجر المعتق تبرعًا، وإنما عتقه كفارة لضربه. أي أجر مقابل بإثم ضربه. (إلا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول) قيل: هو استثناء منقطع، فالمستثنى ليس من جنس المستثنى منه، فإلا بمعنى لكن، وفي الرواية الثانية، "إني سمعت .. " على الاستئناف التعليلي. وقيل: الاستثناء متصل من عموم العلل والأسباب، أي ما أعتقته لسبب من الأسباب إلا لسبب سماعي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم. (من لطم مملوكه أو ضربه) المملوك أعم من العبد والأمة، وهو المراد من الغلام في الرواية الثانية، وإن كان الغلام يشمل الحر والمملوك، يقال: لطمه يلطمه، بفتح الطاء في الماضي، وكسرها في المضارع، ضرب خده، أو صفحه جسده بالكف مبسوطة، والضرب الإصابة والصدم، فبينه وبين اللطم عموم وخصوص، فكل لطم ضرب، ولا عكس، ويطلق الضرب على الجلد، قال تعالى {وخذ بيدك ضغثًا فاضرب به ولا تحنث} [ص: 44] وهذا المعنى يناسب قوله في الرواية الثانية "من ضرب غلاما له، حدًا لم يأته" أي عقابًا لم يأت الغلام ما يناسبه من الجرم. (عن معاوية بن سويد قال: لطمت مولى لنا) معاوية هذا ابن أحد الإخوة السبعة من بني مقرن - بضم الميم وفتح القاف وكسر الراء المشددة، ابن سويد راوي الرواية الخامسة، والمذكور في الرواية الرابعة، والمراد من المولى المعتق بفتح التاء والمنعم عليه، والمراد منه هنا غلام لهم، يظهر أنهم ملكوه بعد قصة الجارية. (فهربت) هرب خوفًا من أبيه، حتى يسكن غضبه. (فدعاه ودعاني) أي دعا الضارب والمضروب، معاوية والعبد. (ثم قال: امتثل منه) ثم قال الأب للغلام، امتثل من معاوية، أي عاقبه، والطمه قصاصًا بمثل ما لطمك. (ثم قال) أي ثم قال الأب سويد. (ليس لنا إلا خادم واحدة) الخادم يطلق على الذكر والأنثى، رقيقًا أو حرًا، ولا يقال: خادمة

إلا في لغة قليلة شاذة، والمراد به هنا جارية، ولذلك وصف بالمؤنث "واحدة" وأعيد الضمير عليها مؤنثًا "فلطمها - اعتقوها - غيرها - فليستخدموها - استغنوا عنها - سبيلها" أما قوله في الرواية الخامسة "وما لنا خادم غير واحد" والمراد من الخادم الجارية نفسها، وأعيد الضمير عليها مذكرًا باعتبارها إنسان، وكذلك في "فلطمه" و"أن نعتقه". (قال: فليستخدموها) في الكلام التفات من المخاطبين "أعتقوها" إلى "فليستخدموها، فإذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها" و"فليخلوا" بضم الياء، وفتح الخاء، وتشديد اللام. (عن هلال بن يساف) بفتح الياء وكسرها، ويقال أيضًا: أساف. (عجل شيخ، فلطم خادمًا له) أي تعجل رجل كبير بسبب غضبه، فلطم ... ، وفي ملحق الرواية الرابعة "كنا نبيع البز" ... فخرجت جارية، فقالت لرجل منا كلمة، فلطمها" وفي الرواية الخامسة "عن سويد بن مقرن أن جارية له لطمها إنسان" والقصة واحدة، وظاهر الروايات التعارض. فجارية من هي؟ ومن اللاطم؟ ويمكن الجمع بينها باحتمال أن يكون اللاطم أخًا لسويد، كان مع البائعين مشتريًا، والجارية له، ولسويد، فهو الشيخ العجل، وهو الرجل من الرجال المجتمعين للبيع والشراء، وهو الإنسان الذي لطم جارية له، والبز بفتح الباء، نوع من الثياب، ويطلق على السلاح. (عجز عليك إلا حر وجهها؟ ) "عجز" يعجز بفتح الجيم في الماضي، وكسرها في المضارع، يقال: عجز عن كذا إذا ضعف، ولم يقدر عليه، ويقال بكسر الجيم في الماضي، وحر كل شيء أفضله وأرفعه، و"حر الوجه" بضم الحاء وتشديد الراء صفحته وما رق من بشرته، والاستثناء مفرغ، و"حر" فاعل "عجز". والمعنى عجزت عن ضربها في مكان ما إلا في وجهها وخدها؟ (أما علمت أن الصورة محرمة؟ ) صورة الإنسان في وجهه، أي أما علمت أن الوجه، أي ضرب الوجه محرم، ففي الحديث "إذا ضرب أحدكم العبد فليجتنب الوجه" إكرامًا للوجه، لأن فيه محاسن الإنسان، وأعضاءه المشخصة، وإذا حصل فيه شين أو عيب كان أقبح. (كنت أضرب غلامًا لي بالسوط) الظاهر أنه كان يضربه بالطريق. (فسمعت صوتًا من خلفي: اعلم أبا مسعود ... ) في بقية الرواية "فلم أفهم الصوت من الغضب" أي لم أنتبه إلى ألفاظه، ولا إلى مصدره، بسبب ما كان يشغلني من الغضب، والظاهر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "اعلم أبا مسعود" ثلاث مرات أو أكثر، ليوقفه عن الضرب، يناديه: يا أبا مسعود. يا أبا مسعود. يا أبا مسعود، لينتبه إلى المنادى، ويترك ما هو فيه، ولذلك لم يذكر ما يريد أن يعلمه به، إلا بعد أن توقف وانتبه. (فألقيت السوط من يدي) في ملحق الرواية: "فسقط من يدي السوط من هيبته" أي ألقى السوط دون شعور كامل، ودون إرادة كاملة، فأشبه السقوط دون إرادة.

(أعوذ باللَّه .... أعوذ برسول اللَّه) أي ألجأ إلى اللَّه أن يحميني من ضربك. والظاهر أن الغلام لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف أبي مسعود قال: ألجأ إلى رسول الله أن يحميني. (أما لو لم تفعل للفحتك النار، أو لمستك النار) "أو" لشك الراوي في أي الجملتين قيلت. واللفح الإصابة في الوجه، والمس إصابة الجلد مطلقًا، أي لو لم تعتقه، وتكفر بالعتق عن ضربه لعوقبت بالنار يوم القيامة، و"أما" بتخفيف الميم حرف استفتاح، مثل "ألا" تفيد تأكيد الجملة بعدها، وفي بعض النسخ "أما والله لو لم تفعل ... ". (نبي التوبة) وصف بذلك، مع أن الأنبياء جميعًا جاءوا بالتوبة، لأنه صلى الله عليه وسلم جاء بقبول التوبة بالقول والاعتقاد، وكانت توبة من قبلنا بقتل أنفسهم، ويحتمل أن يراد بالتوبة الإيمان، والرجوع عن الكفر إلى الإسلام، وأصل التوبة الرجوع، قاله القاضي. (عن المعرور بن سويد) بفتح الميم وسكون العين وضم الراء الأولى. (بالربذة) بفتح الراء والباء والذال، موضع بالبادية، بينه وبين المدينة مسيرة ثلاثة أيام بالراحلة نحو خمسين ميلاً، من جهة مكة، في منطقة ذات عرق، وبها دفن أبو ذر الغفاري رضي الله عنه. (وعليه برد، وعلى غلامه مثله) البرد بضم الباء وسكون الراء كساء مخطط، يلتحف به، ويؤتزر به، والحلة من بردين، كالبدلة، وفي الرواية الحادية عشرة "وعليه حلة. وعلى غلامه مثلها" وفسرت بمعنى: وعليه جزء حلة، وفي رواية "فإذا حلة، عليه منها ثوب، وعلى عبده منها ثوب". (كان بيني وبين رجل من إخواني كلام) أي إخواني في الإسلام، أي كان بيني وبين رجل من المسلمين كلام، أي سباب، قيل: إن الرجل المذكور هو بلال المؤذن، مولى أبي بكر رضي الله عنه. (وكانت أمه أعجمية، فعيرته بأمه) الأعجمي من لا يفصح باللسان العربي، سواء كان عربيًا أم أعجميًا، وفي الرواية الحادية عشرة "أنه ساب رجلاً .... فعيره بأمه" فالفاء في "فعيره" تفسيرية، كأنه فسر السب بالتعيير، والظاهر أنه وقع بينهما سباب، وزاد عليه التعيير، فتكون عاطفة، ويدل على هذا قوله في الرواية العاشرة "قلت: من سب الرجال سبوا أباه وأمه". وفي رواية للبخاري "وكانت أمه أعجمية، فنلت منها" وفي رواية "فقلت له: يا ابن السوداء". (إنك امرؤ فيك جاهلية) أي هذا التعبير من أخلاق الجاهلية، ففيك خلق من أخلاقهم، وينبغي للمسلم ألا يكون فيه شيء من أخلاقهم. قال الحافظ ابن حجر: ويظهر لي أن ذلك كان من أبي ذر قبل أن يعرف تحريمه، فكانت تلك الخصلة من خصال الجاهلية باقية عنده، فلهذا قال - كما في ملحق الرواية العاشرة - "قلت: على ساعتي هذه من الكبر" وفي رواية البخاري "على ساعتي هذه من كبر السن؟ قال: نعم" كأنه تعجب من خفاء ذلك عليه، مع كبر سنه، فبين له أن هذه الخصلة مذمومة شرعًا، فكان بعد ذلك يساوي غلامه بنفسه احتياطًا.

(هم إخوانكم) "هم" يعود على المماليك، والمراد من الأخوة الأخوة في الإنسانية، وفي الرواية الحادية عشرة: "إخوانكم وخولكم" فإخوانكم خبر مبتدأ محذوف، أي هم إخوانكم، أو مبتدأ خبره "جعلهم الله تحت أيديكم"، والخول بفتح الخاء والواو، عطية الله من النعم والعبيد والإماء وغيرهم من الأتباع والحشم، يقال للواحد والجمع، والذكر والأنثى. (فإن كلفه ما يغلبه فليبعه) في الملحق الثاني "فليعنه عليه" قال النووي: الثانية هي الصواب، الموافقة لباقي الروايات. (للمملوك طعامه وكسوته) "كسوته" بضم الكاف وكسرها، لغتان، الكسر أفصح، ونبه بالطعام والكسوة على سائر المؤن التي يحتاج إليها العبد. (إذا صنع لأحدكم خادمه طعامه) "خادمه" بالرفع، فاعل "صنع". (وقد ولي حره ودخانه) أي تولى طبخه، فأصابه حر ناره، ودخانها، وعند البخاري "ولي حره وعلاجه" أي تحصيل آلاته، وصناعته. (فإن كان الطعام مشفوهًا قليلاً) "مشفوهًا" بفتح الميم وسكون الشين وضم الفاء "أصله الذي تكثر عليه الشفاه، حتى يقل، وفسره في الحديث بقوله "قليلاً" إشارة إلى أن محل الإجلاس أو المناولة ما إذا كان الطعام قليلاً، وإنما كان كذلك، لأنه إذا كان كثيرًا وسع السيد والخادم، فإن القلة مظنة أن لا يفضل منه شيء. (فليضع في يده منه أكلة أو أكلتين) بضم الهمزة وسكون الكاف وفتح اللام، وهي اللقمة، و"أو" للتقسيم بحسب حال الطعام، وحال الخادم، والقلة منسوبة إلى من اجتمع عليه، ومقتضى ذلك أن الطعام إذا كان كثيرًا، فإما أن يقعده معه، وإما أن يجعل حظه منه كثيرًا. (إذا نصح لسيده) أي أخلص خدمته، وقام بما يصلح أموره. (للعبد المملوك المصلح) المصلح أمر سيده، وأمر ربه. (ليس عليه حساب، ولا على مؤمن مزهد) بضم الميم وسكون الزاي وكسر الهاء، ومعناه قليل المال، والمراد بهذا الكلام أن العبد إذا أدى حق الله تعالى، وحق مواليه، فليس عليه حساب، لكثرة أجره، وعدم معصيته، قال النووي: وهذا الذي قاله كعب يحتمل أن يكون قد أخذه بتوقيف عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أنه بالاجتهاد، لأن من رجحت حسناته، وأوتي كتابه بيمينه، فسوف يحاسب حسابًا يسيرًا، وينقلب إلى أهله مسرورًا. (نعما للمملوك أن يتوفى، يحسن عبادة اللَّه، وصحابة سيده) "نعما" فيها ثلاث لغات، إحداها كسر النون مع إسكان العين، والثانية كسرها، والثالثة فتح النون مع كسر العين، والميم

مشددة في جميع ذلك. وأصله نعم ما، هو، أي نعم شيء هو، فأدغمت الميم في الميم. قال القاضي: ورواه العذري "نعما" بضم النون وسكون العين وتنوين الميم، والنعم طيب العيش واتساعه، - أي له مسرة وقرة عين، و"يحسن عبادة الله" بضم الياء وسكون الحاء، و"عبادة" منصوب، ومعنى "صحابة سيده" صحبة سيده. (ملحوظة) من الرواية الثامنة عشرة، وحتى الرواية الخامسة والعشرين، سبقت مباحثها في كتاب العتق. (فجزأهم أثلاثًا) "جزأهم" بتشديد الزاي وتخفيفها، لغتان مشهورتان، ومعناه قسمهم. (وقال له قولاً شديدًا) أي قال في شأنه قولاً شديدًا، كراهية لفعله، فهو صلى الله عليه وسلم لم يواجهه بالقول الشديد، فقد مات، إنما قال لأجل فعله قولاً شديدًا لأصحابه، تغليظًا عليه، وتنفيرًا من فعله، وفسر هذا القول الشديد بأنه قال: لو علمنا ما صلينا عليه. أي ما صليت أنا عليه، ولتركتكم تصلون عليه. (أعتق غلامًا له عن دبر) أي أعتقه في دبره، أي قال له: أنت حر بعد موتي، وسمي هذا تدبيرًا، والعبد مدبرًا، لأن العتق يحصل فيه في دبر الحياة، قال النووي: واسم هذا الرجل الأنصاري أبو مذكور، واسم الغلام المدبر يعقوب. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الأحاديث: ]- 1 - من قوله "من لطم مملوكه أو ضربه، فكفارته أن يعتقه" وكذا في الأحاديث التي بعده، قال العلماء: فيه الرفق بالمماليك، وحسن صحبتهم، وكف الأذى عنهم، وأجمع المسلمون على أن عتقه بهذا ليس واجبًا، وإنما هو مندوب، رجاء كفارة ذنبه، ومما استدلوا به لعدم وجوب إعتاقه حديث سويد بن مقرن -روايتنا الثالثة- فقد أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإعتاقها، فلما قالوا: "ليس لنا خادم غيرها، قال: فليستخدموها، فإذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها" فلو كان إعتاقها واجبًا لما قبل اعتذارهم. قال القاضي عياض: وأجمع العلماء على أنه لا يجب إعتاق العبد لشيء مما يفعله به مولاه، مثل هذا الأمر الخفيف. قال: واختلفوا فيما كثر من ذلك وشنع، من ضرب مبرح منهك لغير موجب لذلك. أو حرقه بالنار، أو قطع عضو منه، أو إفساد عضو، أو نحو ذلك، مما فيه مثلة، فذهب مالك وأصحابه والليث إلى عتق العبد على سيده بذلك، ويكون ولاؤه له، ويعاقبه السلطان على فعله، وقال سائر العلماء: لا يعتق عليه. واختلف أصحاب مالك فيما لو حلق رأس الأمة، أو لحية العبد. 2 - وفي الحديث إزالة آثار الظلم، وتعويض المظلوم.

3 - وأن المراد من الضرب واللطم الداعي إلى العتق ما كان عنيفًا وبلا ذنب، ويدل على ذلك روايتنا الثانية وفيها "من ضرب غلامًا له حدًا لم يأته" فلا يدخل الضرب على سبيل التعليم والأدب. 4 - ومن روايتنا الثالثة، من فعل سويد، مع ابنه وعبده، تطييب نفس المولى المضروب، والرفق بالموالي، واستعمال التواضع، وإلا فلا يجب القصاص في اللطمة ونحوها، وإنما حقه التعزير واللوم الرادع عن مثل ذلك، لكن سويدًا تبرع، فأمكن العبد من القصاص من سيده. 5 - ومن قوله "فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نعتقها" أمر الشركاء بالعتق إذا لزم واحدًا منهم، قال النووي: وهو محمول على أنهم كلهم رضوا بعتقها وتبرعوا به، وإلا فاللطمة إنما كانت من واحد منهم، فسمحوا له بعتقها تكفيرًا لذنبه. اهـ كذا قال، وليس في الحديث أنهم سمحوا له بعتقها، إنما فيه أمر الشركاء بالعتق، إما لأنهم لم يستنكروا الضرب، فكانوا كفاعليه، وإما لأنها تعتق من مال الضارب وعليه إعطاء الشركاء حقوقهم، كما سبق في العتق. 6 - ومن حديث أبي مسعود -روايتنا السادسة والسابعة والثامنة رعاية الرسول صلى الله عليه وسلم لرعيته، ومتابعته لتصرفاتهم، وإصلاح أخطائهم. 7 - ورفقه صلى الله عليه وسلم في النصيحة، والحث على الرفق بالمملوك. 8 - وتعليله الأوامر والنواهي، لتكون أدعى للانصياع والاتباع، ذلك قوله: "اعلم أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام". 9 - وفيه حرص الصحابة على الاستجابة لمطالب الشرع، ومبادرتهم بإصلاح خطئهم. 10 - ومن روايتنا التاسعة إشارة إلى أنه لا حد على قاذف العبد في الدنيا، وهذا مجمع عليه، لكن يعزر قاذفه، وسواء في هذا كامل الرق والمبعض والمكاتب وأم الولد. هذا حكمه في الدنيا، أما في الآخرة فيستوفى له الحد من قاذفه، لاستواء الأحرار والعبيد في الآخرة. قاله النووي. 11 - ومن حديث أبي ذر رضي الله عنه روايتنا العاشرة والحادية عشرة أن السب من أخلاق الجاهلية، وعلى المسبوب أن يعفو، فإن كان -ولا بد- أن يرد فبقدر ما سب، ولا يتعرض للأب والأم. 12 - أنه يستحب إطعام العبيد مما يأكل الأسياد، وأن يلبسوا مما يلبسون، نعم هذا الأمر على الاستحباب بإجماع المسلمين، وأما فعل أبي ذر، في كسوة غلامه مثل كسوته، فهو عمل بالمستحب، وإنما يجب على السيد نفقة المملوك وكسوته بالمعروف، بحسب البلدان والأشخاص، سواء كان من جنس نفقة السيد ولباسه، أو دونه، أو فوقه، حتى لو قتر السيد على نفسه تقتيرًا خارجًا عن عادة أمثاله، إما زهدًا وإما شحًا، لا يحل له التقتير على المملوك، وإلزامه بموافقته إلا برضاه. 13 - وأجمع المسلمون على أنه لا يجوز للسيد أن يكلف العبد ما لا يطيقه، فإن وقع ذلك لزمه إعانته بنفسه أو بغيره.

14 - وفيه النهي عن التعيير وتنقيص الآباء والأمهات، وأنه من أخلاق الجاهلية. 15 - ومن قوله "فليقعده معه فليأكل" في روايتنا الثالثة عشرة استحباب الأكل مع الخادم، على قصد التواضع، وعند أحمد "فليجلسه معه، فإن لم يجلسه معه فليناوله" والمعنى إذا ترفع السيد عن مؤاكلة غلامه فليناوله وعند أحمد بإسناد حسن "أمرنا أن ندعوه، فإن كره أحدنا أن يطعم معه، فليطعمه في يده". 16 - ومن قوله "وقد ولي حره ودخانه" في الرواية الثالثة عشرة أن للعين حظًا في المأكول، فينبغي صرفها بإطعام صاحبها من ذلك الطعام، لتسكن نفسه، فيكون أكف لشره. 17 - ومن التعبير بالخادم في الرواية الثالثة عشرة أن ذلك لا يختص بالعبد، بل يشمل الخادم الحر، بل هو أولى بالرفق والإحسان والإكرام. 18 - وفي هذا الحديث بعامة الحث على مكارم الأخلاق، والمواساة في الطعام، ولا سيما في حق من له به صلة. 19 - ومن الرواية الخامسة عشرة فضيلة ظاهرة للمملوك المصلح الناصح لسيده، والقائم بعبادة ربه، وأن له أجرين، لقيامه بالحقين، ولانكساره بالرق. 20 - وفضل بر الوالدين، والأم بصفة خاصة، وأراد ببر الأم القيام بمصالحها. 21 - وفيه أن المملوك لا جهاد عليه ولا حج، لأنه غير مستطيع. 22 - وإن صحبة الأم وخدمتها أولى من حج التطوع، لأن برها فرض، فقدم على التطوع. قال النووي: ومذهبنا ومذهب مالك أن للأب والأم منع الولد من حجة التطوع، دون حجة الفرض. 23 - راجع ما سبق في كتاب العتق بشأن ما يؤخذ من أحاديث الرواية الثامنة عشرة والتاسعة عشرة، والمتممة للعشرين والواحدة والعشرين والثانية والعشرين والثالثة والعشرين والرابعة والعشرين. 24 - ومن الرواية الخامسة والعشرين إثبات القرعة في العتق ونحوه، وأنه إذا أعتق عبيدًا في مرض موته، أو أوصى بعتقهم، ولا يخرجون من الثلث، أقرع بينهم، فيعتق ما يدخل في الثلث بالقرعة. وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وداود وابن جرير والجمهور، وقال أبو حنيفة: القرعة باطلة، لا مدخل لها في ذلك، بل يعتق من كل واحد قسطه، ويستسعى في الباقي. وهذا مردود بهذا الحديث الصحيح وأحاديث كثيرة، وقد قال بقول أبي حنيفة الشعبي والنخعي وشريح والحسن وحكى أيضًا عن ابن المسيب. 25 - وعن الرواية السادسة والعشرين والسابعة والعشرين قال النووي: وفي هذا الحديث دلالة أيضًا لمذهب الشافعي وموافقيه أنه يجوز بيع المدبر قبل موت سيده، لهذا الحديث، قياسًا على الموصي بعتقه، فإنه يجوز بيعه بالإجماع، وممن جوزه عائشة وطاووس وعطاء والحسن ومجاهد

وأحمد وإسحق وأبو ثور وداود. وقال أبو حنيفة ومالك وجمهور العلماء والسلف من الحجازيين والشاميين والكوفيين: لا يجوز بيع المدبر، قالوا: وإنما باعه النبي صلى الله عليه وسلم في دين كان على سيده، وقد جاء في رواية النسائي والدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "اقض به دينك" قالوا: وإنما دفع إليه ثمنه، ليقضي به دينه، وتأوله بعض المالكية على أنه لم يكن له مال غيره، فرد تصرفه. قال هذا القائل، وكذلك يرد تصرف من تصدق بكل ماله. قال النووي: وهذا ضعيف باطل والصواب نفاذ تصرف من تصدق بكل ماله. وقال القاضي عياض: الأشبه عندي أنه فعل ذلك نظرًا لأنه لم يترك لنفسه مالاً. قال النووي: والصحيح ما قدمناه أن الحديث على ظاهره، وأنه يجوز بيع المدبر، بكل حال، ما لم يمت السيد. اهـ. وقال الحافظ ابن حجر: الجواز مطلقًا مذهب الشافعي وأهل الحديث، وقد نقله البيهقي في "المعرفة" عن أكثر الفقهاء، وعن الحنفية والمالكية تخصيص المنع بمن دبر تدبيرًا مطلقًا، أما إذا قيده، كأن يقول: إن مت من مرضي هذا ففلان حر، فإنه يجوز بيعه، لأنها كالوصية، فيجوز الرجوع فيها، وعن أحمد: يمتنع بيع المدبرة، دون المدبر. وعن الليث: يجوز بيعه إن شرط على المشتري عتقه، وعن ابن سيرين: لا يجوز بيعه إلا من نفسه، ومال ابن دقيق العيد إلى تقييد الجواز بالحاجة، فقال: من منع مطلقًا كان الحديث حجة عليه، لأن المنع الكلي يناقضه الجواز الجزئي، ومن أجازه في بعض الصور، فله أن يقول: قلت بالحديث في الصورة التي ورد فيها، فلا يلزمه القول به في غير ذلك من الصور. اهـ. وتفرع عن حكم بيع المدبر حكم إجزائه في الكفارة. 26 - واستدل بالحديث على صحة التدبير، وقد أجمع المسلمون عليه، ثم مذهب الشافعي ومالك والجمهور أنه يحسب عتقه من الثلث، وقال الليث وزفر: هو من رأس المال. 27 - وفي الحديث نظر الإمام في مصالح رعيته، وأمره إياهم بما فيه الرفق بهم، وبإبطالهم ما يضرهم من تصرفاتهم التي يمكن فسخها. 28 - وفيه بيع الإمام على الناس أموالهم وضياعهم، ويقع ذلك في مال السفيه، أو في وفاء دين الغائب أو إذا امتنع من أداء حق الغير. واللَّه أعلم

كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات

كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات

(441) باب القسامة

(441) باب القسامة 3820 - عن سهل بن أبي حثمة وعن رافع بن خديج رضي الله عنهما أنهما قالا: خرج عبد الله بن سهل بن زيد ومحيصة بن مسعود بن زيد، حتى إذا كانا بخيبر تفرقا في بعض ما هنالك، ثم إذا محيصة يجد عبد الله بن سهل قتيلاً، فدفنه. ثم أقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وحويصة بن مسعود وعبد الرحمن بن سهل، وكان أصغر القوم. فذهب عبد الرحمن ليتكلم قبل صاحبيه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "كبر" (الكبر في السن) فصمت، فتكلم صاحباه، وتكلم معهما، فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مقتل عبد الله بن سهل. فقال لهم "أتحلفون خمسين يمينًا فتستحقون صاحبكم؟ " (أو قاتلكم) قالوا: وكيف نحلف ولم نشهد؟ قال "فتبرئكم يهود بخمسين يميناً؟ " قالوا: وكيف نقبل أيمان قوم كفار؟ فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى عقله. 3821 - عن سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج رضي الله عنهما أن محيصة بن مسعود وعبد الله بن سهل انطلقا قبل خيبر، فتفرقا في النخل، فقتل عبد الله بن سهل، فاتهموا اليهود. فجاء أخوه عبد الرحمن وابنا عمه حويصة ومحيصة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فتكلم عبد الرحمن في أمر أخيه وهو أصغر منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كبر الكبر" أو قال "ليبدأ الأكبر" فتكلما في أمر صاحبهما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته؟ " قالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف؟ قال "فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم؟ " قالوا: يا رسول الله قوم كفار. قال: فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبله. قال سهل: فدخلت مربدًا لهم يومًا فركضتني ناقة من تلك الإبل ركضة برجلها. قال حماد: هذا أو نحوه.

3822 - عن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه وقال في حديثه فعقله رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده ولم يقل في حديثه فركضتني ناقة. 3823 - عن بشير بن يسار رضي الله عنه أن عبد الله بن سهل بن زيد ومحيصة بن مسعود بن زيد الأنصاريين ثم من بني حارثة، خرجا إلى خيبر في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي يومئذ صلح وأهلها يهود. فتفرقا لحاجتهما. فقتل عبد الله بن سهل، فوجد في شربة مقتولاً، فدفنه صاحبه، ثم أقبل إلى المدينة. فمشى أخو المقتول عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم شأن عبد الله وحيث قتل. فزعم بشير وهو يحدث عمن أدرك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لهم "تحلفون خمسين يمينًا وتستحقون قاتلكم؟ " (أو صاحبكم) قالوا: يا رسول الله ما شهدنا ولا حضرنا. فزعم أنه قال "فتبرئكم يهود بخمسين؟ " فقالوا: يا رسول الله كيف نقبل أيمان قوم كفار؟ فزعم بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقله من عنده. 3824 - عن بشير بن يسار رضي الله عنه أن رجلاً من الأنصار من بني حارثة يقال له عبد الله بن سهل بن زيد انطلق هو وابن عم له يقال له محيصة بن مسعود ابن زيد. وساق الحديث بنحو حديث الليث إلى قوله "فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده" قال يحيى: فحدثني بشير بن يسار قال: أخبرني سهل بن أبي حثمة قال "لقد ركضتني فريضة من تلك الفرائض بالمربد". 3825 - عن سهل بن أبي حثمة الأنصاري رضي الله عنه أن نفرًا منهم انطلقوا إلى خيبر فتفرقوا فيها فوجدوا أحدهم قتيلاً. وساق الحديث وقال فيه فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه فوداه مائة من إبل الصدقة.

3826 - عن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه عن رجال من كبراء قومه أن عبد الله بن سهل ومحيصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهم. فأتى محيصة فأخبر أن عبد الله بن سهل قد قتل وطرح في عين أو فقير. فأتى يهود فقال: أنتم والله قتلتموه. قالوا: والله ما قتلناه. ثم أقبل حتى قدم على قومه فذكر لهم ذلك. ثم أقبل هو وأخوه حويصة وهو أكبر منه وعبد الرحمن بن سهل فذهب محيصة ليتكلم وهو الذي كان بخيبر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحيصة "كبر كبر" (يريد السن) فتكلم حويصة ثم تكلم محيصة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يؤذنوا بحرب؟ " فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم في ذلك. فكتبوا إنا والله ما قتلناه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن "أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟ " قالوا: لا. قال "فتحلف لكم يهود؟ " قالوا: ليسوا بمسلمين. فواداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة ناقة حتى أدخلت عليهم الدار. فقال سهل: فلقد ركضتني منها ناقة حمراء. 3827 - عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية. 3828 - عن ابن شهاب بهذا الإسناد مثله وزاد "وقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ناس من الأنصار في قتيل ادعوه على اليهود". -[المعنى العام]- كانت القسامةُ في الجاهليةِ قبلَ الإسلام، فكان إذا وُجِدَ قتيل في مكان، ولم تقم أدلةُ الثبوت على القاتل، وكانت هناك شبهة، تغلب على الظن اتهام شخص أو جماعة بقتله، وجه أولياء القتيل التهمة إلى من يتهمون، فيقضي عليهم أن يحلف خمسون منهم اليمين على صحة اتهامهم، فإن هم حلفوا قضى على المتهمين وقومهم أن يحلفوا خمسين يمينًا أنهم ما قتلوا: وما علموا القاتل، فإن هم حلفوا

حقنوا دماءهم، ودفعوا دية القتيل، وإن رفضوا الحلف كان عليهم القود والقصاص، وإن لم يحلف أولياء القتيل، ولا بينة عندهم لم يستحقوا شيئًا، وبخاصة إذا حلف المدعى عليهم، أو إذا لم يقبل المدعون أن يحلفوا. كان في هذه القسامة محاذير بالنسبة لقواعد الإسلام، قوم يحلفون لمجرد الظن، ولم يروا، ولم يحضروا، ولم يجزموا بحقيقة. فكيف تقبل أيمانهم؟ وقوم يستحلفون لمجرد اتهام، لا تقوم عليه أدلة. لماذا يستحلفون؟ وكيف يطالبون بدية قتل لم يثبت عليهم؟ إن هذه الأحكام تتيح لتلفيق التهم مجالاً فسيحًا، وتفتح لإلصاق الجرائم بالبراء بابًا واسعًا، وفي المقابل، لولا هذه الأحكام لأهدرت دماء يجب حقنها، ولتمكن المجرمون من ارتكاب جرائمهم، والهروب من العقاب بل ولتمالأ أهلوهم معهم، وتستروا على جرائمهم، إنها - بحق - قضية شائكة، طرفاها لا يتسمان بالعدالة الظاهرة، وكل من الحكمين فيها لا يخلو من مجاوزة على المحكوم عليه. ولكن أحد الحكمين - وهو القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية - أقل ضررًا، وأكثر نفعًا من الحكم الآخر، واحتمال أخف الضررين واجب، من هنا أقر الإسلام القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية، ومن هنا أعذر بعض العلماء الذين لم يقروا بها، ولم يعملوها، ولم يجوزوها، بحجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم عرضها، ولم ينفذها، فلم يقتص بها، ولم يفرض الدية على المتهمين بناء عليها، بلد دفعها من عنده، ولم يثبت أن أبا بكر قضى بها ونفذها في حادثة واحدة، ولم يثبت أن عمر قضى بها ونفذها في حادثة واحدة، فهل يعقل أن نحوًا من ثلاث عشرة سنة لا تقع فيها حادثة تقتضي القسامة؟ معذورون أولئك المتوقفون عن القسامة وإن كانوا قليلين، ومأجورون أولئك القائلون بها، مأجورون، بحسن القصد، وإخلاص النية، والعمل بالسنة، وليس كل ما كان في الجاهلية مذمومًا، فهناك الكثير مما كان فيها وأقره الإسلام مراعاة لمصالح العباد، وعلى الله قصد السبيل. -[المباحث العربية]- (القسامة) بفتح القاف، وفتح السين مخففة، هي مصدر أقسم قسمًا وقسامة، وهي الأيمان تقسم على أولياء القتيل، إذا ادعوا الدم، أو على المدعى عليهم بالدم، وخص القسم على الدم بلفظ القسامة، وقال إمام الحرمين: القسامة عند أهل اللغة اسم للقوم الذين يقسمون، وعند الفقهاء اسم للأيمان، وقال في المحكم: القسامة: الجماعة يقسمون على الشيء، أو يشهدون به، ويمين القسامة منسوب إليهم، ثم أطلقت على الأيمان نفسها. (خرج عبد الله بن سهل بن زيد، ومحيصة بن مسعود بن زيد، حتى إذا كانا بخيبر تفرقا في بعض ما هنالك) أي في الأماكن هنالك، و"محيصة" بضم الميم وفتح الحاء وتشديد الياء المكسورة. و"حويصة" بضم الحاء وفتح الواو وتشديد الياء المكسورة، وحكي تخفيف الياء في الاسمين معًا.

وفي الرواية الثانية "انطلقا قبل - أي جهة - خيبر، فتفرقا في النخل" وفي الرواية الرابعة "خرجا إلى خيبر، في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي يومئذ صلح، وأهلها يهود، فتفرقا لحاجتهما" وفي ملحقها "عبد الله بن سهل بن زيد انطلق هو وابن عم له، يقال له: محيصة بن مسعود بن زيد" وفي الرواية السادسة "أن عبد الله بن سهل ومحيصة، خرجا إلى خيبر من جهد أصابهم" أي ضيق عيش، وكان حقه أن يقول: أصابهما، لكنه راعى أن الجهد أصابهما وأصاب أهلهما. وفي رواية لمحمد بن إسحق "خرج عبد الله بن سهل في أصحاب له، يمتارون تمرًا". وكان خروجهم بعد فتح خيبر، فإنها لما فتحت أقر النبي صلى الله عليه وسلم أهلها فيها، على أن يعملوا في المزارع بالشطر مما يخرج منها. (ثم إذا محيصة يجد عبد الله بن سهل قتيلاً، فدفنه، ثم أقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وحويصة بن مسعود وعبد الرحمن بن سهل) في بعض النسخ "ثم إن محيصة". وتبين الروايات الأخرى أن محيصة وجد عبد الله بن سهل مقتولاً ينزف دمه، في حفرة غير عميقة من حفر الأرض، وبعد أن دفنه اتهم يهود بقتله، فنفوا، فرجع من خيبر إلى المدينة، فأخذ أخاه حويصة وابن عمه أخا القتيل، عبد الرحمن بن سهل، وذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الرواية الثانية "فاتهموا اليهود فجاء أخوه عبد الرحمن، وابنا عمه حويصة ومحيصة إلى النبي صلى الله عليه وسلم"، وفي الرواية الرابعة "فقتل عبد الله بن سهل فوجد في شربة مقتولاً - والشربة بفتح الشين والراء والباء، هي حوض أو حفرة واسعة غير عميقة، تكون في أصل النخلة، وجمعها شرب بفتحتين، مثل ثمرة، وثمر"، وفي الرواية السادسة "أن عبد الله بن سهل قد قتل، وطرح في عين أو فقير" بفتح الفاء وكسر القاف، أي حفيرة، وفي رواية: "فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل، وهو يتشحط في دمه، أي يضطرب، فيتمرغ في دمه" وفي رواية "فأتى محيصة يهود، فقال: أنتم والله قتلتموه، قالوا: والله ما قتلناه". وفي رواية للبخاري "فقالوا للذين وجد فيهم: قد قتلتم صاحبنا، قالوا ما قتلنا ولا علمنا قاتلاً". (وكان أصغر القوم) أي كان أخو القتيل، عبد الرحمن بن سهل، أصغر الثلاثة. (فذهب عبد الرحمن ليتكلم قبل صاحبيه) فإن الأمر أمر أخيه، وهو ولي الدم، وهو الوارث، وأما الآخران فابنا عم، لا ميراث لهما مع الأخ، وإقامة الدعوى تكون من الوارث، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له "كبر. كبر" وفي الرواية السادسة "فذهب محيصة ليتكلم، وهو الذي كان بخيبر" وهو أعلم بشرح ما وقع، ولكنه لما كان أصغر من أخيه حويصة قال له صلى الله عليه وسلم: "كبر. كبر"، ومادام صلى الله عليه وسلم سيسمع من الثلاثة، فليكن سماعه من الأسن، فالأقل سنًا، فالأقل سنًا، حويصة، ثم محيصة، ثم عبد الرحمن، كأدب شرعي. (كبِّر. الكُبْرَ في السن) "كبر" بتشديد الباء المكسورة، فعل أمر، أي قدم الأكبر منك. و"الكبر" بضم الكاف وسكون الباء، منصوب على الإغراء، مفعول لفعل محذوف، أي الزم الكبر في السن، وفي الرواية الثانية "كبر. الكبر" - أو قال: "ليبدأ الأكبر" وفي الرواية السادسة: "كبر. كبر" - الثانية

توكيد - "يريد السن" فتكلم حويصة، ثم محيصة أي ثم عبد الرحمن، ففي الرواية الأولى "فصمت، فتكلم صاحباه" وتكلم معهما أي بعدهما. (فقال لهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أتحلفون خمسين يمينًا، فتستحقون صاحبكم؟ أو قاتلكم؟ ) معناه أيحلف منكم خمسون رجلاً خمسين يمينًا، فيثبت حقكم على من حلفتم عليه؟ أي فأحكم لكم بثبوت حقكم فيمن تعينونه قاتلاً؟ وفي الرواية الثانية "يقسم خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع برمته"؟ أي فيدفع إليكم من تعينونه؟ والرمة بضم الراء، وتشديد الميم الحبل، والمراد هنا الحبل الذي يربط في رقبة القاتل، ويسلم فيه إلى ولي القتيل. (قالوا: وكيف نحلف؟ ولم نشهد)؟ استفهام إنكاري، أو تعجبي، والمراد به النفي، أي لا نحلف، وفي الرواية الثانية "أمر لم نشهده. كيف نحلف؟ " وفي الرواية الثالثة "ما شهدنا ولا حضرنا"؟ وفي الرواية السادسة "قالوا: لا"، وفي بعض الروايات أنه طلب منهم البينة - شاهدين - ففي رواية للبخاري "فقال لهم: تأتون بالبينة على من قتله؟ قالوا: ما لنا ببينة". (فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: إما أن يدوا صاحبكم، وإما أن يؤذنوا بحرب) أي إما أن يدفعوا دية صاحبكم، وإما أن يعلمونا بحرب، إن هم أقروا بقتله خطأ، أو ثبت عليهم القتل بقسامتكم. فقوله "يؤذنِوا" بكسر الذال. (فتبرئكم يهود بخمسين يمينًا) "يهود" ممنوع من الصرف، للعلمية والتأنيث، لأنه اسم القبيلة والطائفة. وقوله "فتبرئكم" بضم التاء وفتح الباء وكسر الراء المشددة، يقال: برأه من الذنب والتهمة، بتشديد الراء أي خلصه منه، وقضى ببراءته، والمعنى يخلصونكم من اليمين، بأن يحلفوا. أو "فتبرأكم يهود" بفتح التاء وسكون الباء وفتح الراء، من برئ يبرأ، بكسر الراء في الماضي، وفتحها في المضارع، يقال: برئ فلان من التهمة إذا خلص منها، أو بضم الراء، يقال: برؤ من التهمة إذا خلا منها، والمعنى فتبرأ منكم يهود، أي فتبرأ من دعواكم، وتبرأ من خصومتكم، ففيه حذف حرف الجر، وإيصال المجرور بالفعل. (وكيف نقبل أيمان قوم كفار؟ ) الاستفهام إنكاري بمعنى النفي، وفي الرواية الثانية "قوم كفار" خبر مبتدأ محذوف أي هم قوم كفار، لا نقبل يمينهم، وفي الرواية السادسة "ليسوا بمسلمين" وعند البخاري "لا نرضى بأيمان اليهود" وفي رواية "ما يبالون أن يقتلونا أجمعين ثم يحلفون". (أعطى عقله) أي أعطى ديته، وسميت الدية عقلاً تسمية بالمصدر، لأن الإبل كانت تعقل بفناء ولي القتيل، ثم كثر الاستعمال، حتى أطلق العقل على الدية، ولو لم تكن إبلاً. وعاقلة الرجل قراباته من قبل الأب، وهم عصبته، وهم الذين كانوا يعقلون الإبل على باب ولي المقتول. وفي الرواية الثانية "فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبله" بكسر القاف وفتح الباء، أي من جهته، ومن

عنده، كما في الرواية الرابعة، وفي السادسة "فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة ناقة، حتى أدخلت عليهم الدار". (فكره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه، فوداه مائة من إبل الصدقة) كذا في الأصول "يُبْطِل دمه" بضم الياء وسكون الباء وكسر الطاء، والفاعل ضمير رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي يضيع دمه هدرًا، دون دية، وفي رواية للبخاري "فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطل دمه" بضم الياء وفتح الطاء وتشديد اللام، مبني للمجهول، أي يهدر دمه يقال: طل دم القتيل، بفتح الطاء مبني للمعلوم، وطل دم القتيل، بضم الطاء، مبني للمجهول وهو الأكثر استعمالاً، أي بطل وهدر، أو أبطل وأهدر، و"وداه" بتخفيف الدال، أي دفع ديته وقوله "من إبل الصدقة" قال النووي: قال بعض العلماء: إنها غلط من الرواة، لأن الصدقة المفروضة لا تصرف هذا المصرف، قال جمهور أصحابنا: معناه: اشتراها من إبل الصدقة. وسيأتي تفصيل لذلك في فقه الحديث. وفي الرواية الثانية "فوداه من قبله" أي من جهته، وفي الرواية الرابعة "من عنده" قال النووي: يحتمل أن يكون من خالص ماله، ويحتمل أنه من مال بيت المسلمين لمصالحهم. (قال سهل: فدخلت مِرْبَدًا لهم يومًا، فركضتني ناقة من تلك الإبل ركضة برجلها) "المربد" بكسر الميم وسكون الراء وفتح الباء: الموضع الذي تجمع فيه الإبل وتحبس، والربد الحبس، ومعنى "ركضتني" رفستني، وأراد بهذا الكلام التوثيق في الرواية، وأنه يضبط الحديث ويحفظه حفظًا بليغًا، حتى إنه يضبط ملابساته. وفي الرواية الرابعة "لقد ركضتني فريضة من تلك الفرائض بالمربد" والمراد بالفريضة هنا الناقة من تلك النوق المفروضة في الدية، وتسمى المدفوعة في الزكاة أو في الدية فريضة، لأنها مفروضة، أي مقدرة بالسن والعدد. وأما قول المازري: إن المراد بالفريضة هنا الناقة الهرمة فقد غلط فيه. كذا قال النووي. -[فقه الحديث]- في القسامة اختلاف كبير بين العلماء نحصره في أربع نقاط: الأولى: هل القسامة مشروعة، يعمل بها؟ أولاً؟ الثانية: إذا كانت مشروعة، يعمل بها، فهل توجب القود؟ أو الدية؟ الثالثة: وهل يبدأ بالمدعين؟ أو المدعى عليهم؟ الرابعة: ما يؤخذ من الحديث من الأحكام. وهذا هو التفصيل. النقطة الأولى: روي عن جماعة إبطال القسامة، وأنه لا حكم لها، ولا عمل بها، وممن قال بهذا: سالم بن عبد الله، وسليمان بن يسار، والحكم بن عتيبة، وقتادة، وأبو قلابة، ومسلم بن خالد، وابن علية، والبخاري، وغيرهم، وعن عمر بن عبد العزيز روايتان كالمذهبين.

أما سالم بن عبد الله بن عمر فقد أخرج ابن المنذر عنه، أنه كان يقول: "يالقوم يحلفون على أمر لم يروه، ولم يحضروه، ولو كان لي أمر لعاقبتهم، ولجعلتهم نكالاً، ولم أقبل لهم شهادة". وأما أبو قلابة فيروي البخاري عنه "أن عمر بن عبد العزيز أبرز سريره يومًا للناس، ثم أذن لهم، فدخلوا فقال: ما تقول يا أبا قلابة؟ ونصبني للناس. فقلت يا أمير المؤمنين. عندك رؤوس الأجناد، وأشراف العرب. أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل محصن بدمشق، أنه قد زنى، ولم يروه، أكنت ترجمه؟ قال: لا. قلت: أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل بحمص أنه سرق ولم يروه، أكنت تقطعه؟ قال: لا. قلت: فوالله ما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدًا قط إلا في إحدى ثلاث خصال: رجل قتل بجريرة نفسه فقتل، أو رجل زنى بعد إحصان، أو رجل حارب الله ورسوله، وارتد عن الإسلام ثم استدل أبو قلابة بحديثنا على أن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يعمل بالقسامة - وإن عرضها - ولم يجبر أي من الطرفين أن يحلف، بل ودي القتيل من عنده. ثم قال أبو قلابة: وقد كان عبد الملك بن مروان أقاد رجلاً بالقسامة، ثم ندم بعد ما صنع، فأمر بالخمسين الذين أقسموا، فمحوا من الديوان، وسيرهم إلى الشام. وأما عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فقد ورد عنه في القسامة: "إن من القضايا ما لا يقضى فيه إلى يوم القيامة، وإن هذه القضية لمنهن" وقد اختلف على عمر بن عبد العزيز في القسامة، كما اختلف على معاوية، فقد أخرج ابن المنذر من طريق الزهري قال: "قال لي عمر بن عبد العزيز: إني أريد أن أدع القسامة، يأتي رجل من أرض كذا، وآخر من أرض كذا، وآخر من أرض كذا، فيحلفون على ما لا يرون؟ فقلت: إنك إن تتركها يوشك أن الرجل يقتل عند بابك، فيبطل دمه، وإن للناس في القسامة لحياة". أما القائلون بمشروعية القسامة، وبالعمل بها، فعامة العلماء من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم علماء الأمصار الحجازيين والشاميين والكوفيين وغيرهم، ممن سيأتي ذكرهم في النقطة التالية. النقطة الثانية: هل القسامة توجب القود أو الدية؟ إذا كان القتل عمدًا؟ إذ لا خلاف في أن القتل الخطأ إذا ثبت ولو بالبينة يوجب الدية. إذن الخلاف في القتل العمد مع القسامة. قال معظم الحجازيين: يجب بها القصاص والقود، وهو قول الزهري وربيعة وأبي الزناد ومالك وأصحابه والليث والأوزاعي وأحمد وإسحق وأبي ثور وداود، وهو قول الشافعي في القديم، وروي عن ابن الزبير وعمر بن عبد العزيز. قال أبو الزناد: قلنا بها وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون، إني لأرى أنهم ألف رجل، فما اختلف منهم اثنان. وقال الكوفيون والشافعي في الجديد وفي أصح قوليه: لا يجب بها القصاص، وإنما تجب بها الدية، وهو مروي عن الحسن البصري والشعبي والنخعي وعثمان الليثي والحسن بن صالح، وروي أيضًا عن أبي بكر وعمر وابن عباس ومعاوية رضي الله عنهم. استدل الأولون بقوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأولى "فتستحقون صاحبكم أو قاتلكم" وفي

الرواية الثانية "على رجل منهم، فيدفع برمته" وفي الرواية الرابعة "وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم" وفي الرواية السادسة "وتستحقون دم صاحبكم" فهذه الألفاظ كلها ظاهرها يفيد القصاص، كما استندوا إلى روايتنا السابعة، وفيها إقرار القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية. قال الحافظ ابن حجر: وهذا يتوقف على ثبوت أنهم كانوا في الجاهلية يقتلون بالقسامة. ويتأولها الفريق الثاني: بأن المراد أن يسلم المدعى عليه بالقتل، ليستوفي منه الدية، لكونها تثبت عليه. كما استدلوا بما في مصنف عبد الرزاق، ولفظه" قلت لعبيد الله بن عمر العمري: أعلمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاد بالقسامة؟ قال: لا. قلت: فأبو بكر؟ قال: لا. قلت: فعمر؟ قال: لا. قلت: فلم تجترئون عليها؟ فسكت. وأخرج ابن أبي شيبة من طريق إبراهيم النخعي قال: القود بالقسامة جور. اهـ وهذا الذي نستريح إليه، فإن القود والقصاص إنما يكون حيث لا شبهة، والشبهة هنا محققة، والأخذ بالدية أفضل من عدم الأخذ بالقسامة، إذ فيها حماية للدماء، ومواساة لأهل القتيل، وكل من الفريقين، القائلين بالقصاص، والقائلين بالدية، متفقون كلهم على أنها لا تجب بمجرد دعوى الأولياء، حتى يقترن بها شبهة، يغلب على الظن الحكم بها، واختلفوا في تصوير الشبهة، ولها سبع صور: الأولى: أن يقول المقتول في حياته: دمي عند فلان، أو فلان قتلني، أو ضربني، وإن لم يكن به أثر، ويذكر العمد. فهذا موجب للقسامة عند مالك والليث. وادعى مالك أنه مما أجمع عليه الأئمة قديمًا وحديثًا. قال القاضي: ولم يقل بهذا من فقهاء الأمصار غيرهما، ولا روي عن غيرهما، وخالف في ذلك العلماء كافة، فلم ير أحد غيرهما في هذا قسامة. واشترط بعض المالكية في هذه الصورة، وجود الأثر والجرح، واحتج مالك في ذلك بقضية بني إسرائيل، قوله تعالى {فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيى الله الموتى} [البقرة: 73] قالوا: فحيى الرجل، فأخبر بقاتله، وتعقب بخفاء الدلالة من هذه القضية، فخوارق العادات لا يستدل بها، بل هذه القضية أقوى في الإثبات من البينة. واحتج أصحاب مالك أيضًا بأن تلك حالة يطلب القاتل فيها غفلة الناس، فلو شرطنا الشهادة، وأبطلنا قول المجروح، أدى ذلك إلى إبطال الدماء غالبًا، قالوا: ولأنها حالة، يتحرى فيها المجروح الصدق، ويتجنب الكذب والمعاصي، ويتزود بالبر والتقوى، فوجب قبول قوله. واختلف المالكية في أنه: هل يكتفي في الشهادة على قوله بشاهد؟ أم لا بد من شاهدين يشهدان بأن المقتول قال ذلك؟ . الثانية: اللوث: وهو شبه الدلالة على حدث من الأحداث، حيث لا بينة - وبهذا قال مالك والليث والشافعي ومن اللوث شهادة عدل واحد، أو شهادة جماعة ليسوا عدولاً. الثالثة: أن يشهد عدلان بالجرح، فيعيش بعده أيامًا، ثم يموت قبل أن يفيق منه، قال مالك والليث: هو لوث. وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا قسامة هنا، بل يجب القصاص بشهادة العدلين. الرابعة: أن يوجد المتهم عند المقتول، أو قريبًا منه، أو آتيًا من جهته، ومعه آلة القتل، وعليه أثره من لطخ دم وغيره، وليس هناك حيوان مفترس، ولا من يمكن إحالة القتل عليه غيره، أو تفترق جماعة عن قتيل، فهذا لوث موجب للقسامة عند مالك والشافعي.

الخامسة: أن تقتتل طائفتان، فيوجد بينهما قتيل، ففيه القسامة عند مالك والشافعي وأحمد وإسحق، وعن مالك رواية: لا قسامة، بل فيه دية على الطائفة الأخرى، إن كان من إحدى الطائفتين، وإن كان غيرهما فعلى الطائفتين ديته. السادسة: أن يوجد الميت في زحمة الناس، قال الشافعي: تثبت فيه القسامة، وتجب به الدية، وقال مالك، هو هدر، وقال الثوري وإسحق: تجب دية في بيت المال. السابعة: أن يوجد في محلة قوم، أو قبيلتهم، أو مسجدهم، فقال مالك والليث والشافعي وأحمد وداود وغيرهم: لا يثبت بمجرد هذا قسامة، بل القتل هدر، لأنه قد يقتل الرجل الرجل، ويلقيه في محل طائفة، لينسب إليهم، قال الشافعي: إلا أن يكون في محلة أعدائه، لا يخالطهم غيرهم، فيكون كالقصة التي جرت بخيبر، فحكم النبي صلى الله عليه وسلم بالقسامة لورثة القتيل، لما كان بين الأنصار وبين اليهود من العداوة، ولم يكن هناك سواهم، وعن أحمد نحو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة والثوري ومعظم الكوفيين: وجود القتيل في المحلة والقرية يوجب القسامة، ولا تثبت القسامة عندهم في شيء من الصور السبع السابقة إلا هنا، لأنها عندهم هي الصورة التي حكم النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالقسامة، ولا قسامة عندهم إلا إذا وجد القتيل وبه أثر، قالوا: فإن وجد القتيل في المسجد حلف أهل المحلة، ووجبت الدية في بيت المال، وذلك إذا ادعوا على أهل المحلة. وحجة الجمهور القياس على هذه الواقعة، والجامع أن يقترن بالدعوى شيء يدل على صدق المدعي، فيقسم معه، ويستحق. النقطة الثالثة: هل يبدأ الحلف بالمدعين؟ أو بالمدعى عليهم؟ يقول مالك: أجمعت الأئمة في القديم والحديث على أن المدعين يبدءون الحلف في القسامة، لأن جنبة المدعي إذا قويت بشهادة أو شبهة صارت اليمين له، وههنا الشبهة قوية، وقالوا: هذه سنة بحيالها، وأصل قائم برأسه، لحياة الناس، وردع المعتدين، وخالفت الدعاوي في الأموال، فهي على ما ورد فيها، وكل أصل يتبع ويستعمل، ولا تطرح سنة لسنة، واحتجوا بحديث أبي هريرة "البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه، إلا القسامة" وقال القرطبي: الأصل في الدعاوي أن اليمين على المدعى عليه، وحكم القسامة أصل بنفسه، لتعذر إقامة البينة على القتل فيها غالبا، فإن القاصد للقتل يقصد الخلوة، ويترصد الغفلة، ثم ليس هذا خروجًا على الأصل بالكلية، بل لأن المدعى عليه إنما كان القول قوله، لقوة جانبه، بشهادة الأصل له بالبراء مما ادعى عليه، وهو موجود في القسامة في جانب المدعي، لقوة جانبه باللوث، الذي يقوي دعواه. وذهب من قال بالدية إلى تقديم المدعى عليهم في اليمين، إلا الشافعي وأحمد، فقالا بقول الجمهور: يبدأ بأيمان المدعين، وردها - إن أبوا - على المدعى عليهم، وقال بعكسه أهل الكوفة، وكثير من أهل البصرة، وبعض أهل المدينة، والأوزاعي، فقال: يستحلف من أهل القرية خمسون رجلاً خمسين يمينًا: ما قتلناه، ولا علمنا من قتله، فإن حلفوا برئوا، وإن نقصت قسامتهم عن عدد، أو نكلوا حلف المدعون على رجل واحد، واستحقوا.

-[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - أن أيمان القسامة خمسون يمينًا، واختلف في عدد الحالفين، فقال الشافعي: لا يجب الحق حتى يحلف الورثة خمسين يمينًا، سواء قلوا، أم كثروا، فلو كانوا بعدد الأيمان حلف كل واحد منهم يمينًا، وإن كانوا أقل، أو نكل بعضهم، ردت الأيمان على الباقين، فإن لم يكن إلا واحد، حلف خمسين يمينًا، واستحق، حتى لو كان من يرث بالفرض والتعصيب، أو بالنسب والولاء، حلف واستحق. وقال مالك: إن كان ولى الدم واحدا ضم إليه آخر من العصبة، ولا يستعان بغيرهم، وإن كان الأولياء أكثر حلف منهم خمسون. وقال الليث: لم أسمع أحدًا يقول: إنها تنزل عن ثلاثة أنفس. قال النووي: قد يقال: كيف عرضت اليمين على الثلاثة - في قوله صلى الله عليه وسلم "أتحلفون خمسين يمينًا، فتستحقون صاحبكم" - وإنما يكون اليمين للوارث خاصة؟ والوارث عبد الرحمن خاصة، وهو أخو القتيل، وأما الآخران فابنا عم، لا ميراث لهما مع الأخ؟ والجواب أنه كان معلومًا عندهم، أن اليمين تختص بالوارث، فأطلق الخطاب لهم، والمراد من تختص به اليمين، واحتمل ذلك لكونه معلومًا للمخاطبين، كما سمع كلام الجميع في صورة قتله، وكيفية ما جرى له، وإن كانت حقيقة الدعوى وقت الحاجة مختصة بالوارث. اهـ وقد يكون في هذا حجة لليث في أن الأيمان لا تنقص عن ثلاثة. ثم قال النووي عن قوله صلى الله عليه وسلم "يقسم خمسون منكم على رجل منهم" قال: هذا مما يجب تأويله، لأن اليمين إنما تكون على الوارث خاصة، لا على غيره من القبيلة، وتأويله عند أصحابنا أن معناه: يؤخذ منكم خمسون يمينًا، والحالف هم الورثة، فلا يحلف أحد من الأقارب غير الورثة، يحلف كل الورثة، ذكورًا كانوا أو إناثًا، سواء كان القتل عمدا أم خطأ. هذا مذهب الشافعي، وبه قال أبو ثور وابن المنذر، ووافقهم مالك، إذا كان القتل خطأ، وأما في العمد، فقال: يحلف الأقارب خمسين يمينًا، ولا تحلف النساء ولا الصبيان، ووافقه ربيعة والليث والأوزاعي وأحمد وداود وأهل الظاهر، واحتج الشافعي بقوله صلى الله عليه وسلم "تحلفون خمسين يمينًا، فتستحقون صاحبكم" فجعل الحالف هو المستحق للدية والقصاص، ومعلوم أن غير الوارث لا يستحق شيئًا، فدل على أن المراد حلف من يستحق الدية. 2 - وفيه إثبات القسامة. 3 - والابتداء بيمين المدعي في القسامة. 4 - وفيه رد اليمين على المدعى عليه، إذا نكل المدعي في القسامة. 5 - واستدل بقوله في الرواية الثانية "فيدفع إليكم برمته" على القود والقصاص في القسامة، وقد سبق توجيهه. 6 - واستدل به على أن القسامة تكون على رجل واحد، لقوله "على رجل منهم" وهو قول أحمد،

ومشهور قول مالك، وقال الجمهور: يشترط أن تكون على معين، سواء كان واحدًا أم أكثر، واختلفوا: هل يختص القتل بواحد؟ أو يقتل الكل؟ . 7 - واستدل به الحنفية على جواز سماع الدعوى في القتل على غير معين، لأن الأنصار ادعوا على اليهود أنهم قتلوا صاحبهم، وسمع النبي صلى الله عليه وسلم دعواهم، ورد بأن الذي ذكره الأنصاري أولا، ليس على صورة الدعوى بين الخصمين، لأن من شرطها - إذ لم يحضر المدعى عليه - أن يتعذر حضوره. 8 - وفيه أن من توجهت عليه اليمين، فنكل عنها، لا يقضى عليه، حتى يرد اليمين على الآخر، وهو المشهور عند الجمهور. وعند أحمد والحنفية: يقضى عليه، دون رد اليمين. 9 - ويؤخذ منه أن مجرد الدعوى لا توجب إحضار المدعى عليه، لأن في إحضاره مشغلة له عن أشغاله، وتضييعًا لماله، من غير موجب ثابت لذلك، أما لو ظهر ما يقوي الدعوى من شبهة ظاهرة، فهل يسوغ استحضار الخصم؟ أولاً؟ محل نظر، والراجح أن ذلك يختلف بالقرب والبعد، وشدة الضرر، وخفته. 10 - وفيه الاكتفاء بالمكاتبة، أخذًا من الرواية السادسة. 11 - والاكتفاء بخبر الواحد، مع إمكان المشافهة. 12 - وفيه أن اليمين قبل توجيهها من الحاكم لا أثر لها، لقول اليهود في جوابهم: والله ما قتلناه. 13 - وفي قولهم "لا نرضى بأيمان اليهود" استبعاد لصدقهم، لما عرفوه من إقدامهم على الكذب، وجراءتهم على الأيمان الفاجرة. 14 - واستدل به على أن الدعوى في القسامة لا بد فيها من عداوة، أو لوث. 15 - واستدل بقوله في الرواية الثانية "يقسم خمسون منكم" على أن من يحلف في القسامة لا يشترط أن يكون رجلاً ولا بالغًا، لإطلاق قوله "خمسون" وبه قال ربيعة والثوري والليث والأوزاعي وأحمد، وقال مالك: لا مدخل للنساء في القسامة، لأن المطلوب في القسامة القتل، ولا يسمع من النساء، وقال الشافعي: لا يحلف في القسامة إلا الوارث البالغ، لأنها يمين في دعوى حكمية، فكانت كسائر الأيمان، ولا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة. 16 - واستدل به على تقديم الأسن في الأمور المهمة، إذا كان فيه أهلية لذلك، لا ما إذا كان عريًا عن أهليته لها، ففيه فضيلة السن عند التساوي في الفضائل. قال النووي: ولهذا نظائر، فإنها يقدم بها في الإمامة، وفي ولاية النكاح ندبًا، وغير ذلك. 17 - واستدل بقوله "فتحلف لكم يهود" على صحة يمين الكافر والفاسق. 18 - ومن قوله "فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه فوداه ... إلخ" ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الكرم، وحسن السياسة، وجلب المصالح، ودرء المفاسد، وتأليف القلوب، ولا سيما عند تعذر الوصول إلى استيفاء الحق.

19 - وفيه استحباب جبر الخاطر، ومواساة المجروحين، فإن أهل القتيل لا يستحقون إلا أن يحلفوا، أو يستحلفوا المدعى عليهم، وقد امتنعوا من الأمرين، وهم مكسورون بقتل صاحبهم. 20 - وفيه أنه ينبغي للإمام مراعاة المصالح العامة، والاهتمام بإصلاح ذات البين. 21 - استدل الإمام أبو إسحاق المروزي من الشافعية، بقوله في الرواية الخامسة "من إبل الصدقة"، بجواز صرف الدية من الزكاة، والجمهور على أن الصدقة المفروضة لا تصرف هذا المصرف، بل هي لأصناف سماهم الله تعالى، ووجهه الجمهور بأن معناه: اشتراها من أهل الصدقات، بعد أن ملكوها، ثم دفعها تبرعًا إلى أهل القتيل، وحكى القاضي عياض عن بعض العلماء أنه يجوز صرف الزكاة في المصالح العامة، ونزل الحديث على هذا، وتأوله بعضهم على أن أولياء القتيل كانوا محتاجين، ممن تباح لهم الزكاة، قال النووي: وهذا تأويل باطل، لأن هذا قدر كثير، لا يدفع إلى الواحد، ولأنه سماه دية، وتأوله بعضهم على أنه دفعه من سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة، استئلافًا لليهود، لعلهم يسلمون، وهذا ضعيف، لأن الزكاة لا يجوز صرفها إلى كافر، فالمختار أنه اشتراها من إبل الصدقة. 22 - وفيه أن الحكم بين المسلم والكافر يكون بحكم الإسلام. 23 - وفيه جواز الحكم على الغائب. 24 - وسماع الدعوى في الدماء من غير حضور الخصم. 25 - وجواز اليمين بالظن، وإن لم يتيقن. 26 - واستدل بقوله في الرواية السادسة "إما أن يدوا صاحبكم" على أن الواجب بالقسامة الدية، دون القصاص. 27 - استدل بالحديث على أن القسامة لا يطالب فيها المدعون بالبينة أولا، لأنه لم يرد لها ذكر، وتعقب بأن عدم الذكر لا يدل على عدم الوقوع، فقد يحفظ بعض الرواة ما لم يحفظ الآخر، فعند النسائي" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقم شاهدين على من قتله، أدفعه إليك برمته. قال: يا رسول الله، أنى أصيب شاهدين؟ وإنما أصبح قتيلاً على أبوابهم؟ قال: فتحلف خمسين قسامة ... إلخ". وعند أبي داوود: "أصبح رجل من الأنصار بخيبر مقتولاً، فانطلق أولياؤه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم. قالوا: لم يكن ثم أحد من المسلمين، وإنما هم اليهود، وقد يجترئون على أعظم من هذا" فتحمل رواياتنا على أنه طلب البينة أولاً فلم تكن لهم بينة، فعرض الأيمان. أما قول بعضهم: إن ذكر البينة في بعض الروايات وهم، لأنه قد علم أن خيبر حينئذ لم يكن بها أحد من المسلمين، فهو مردود، فإنه لو سلم أنه لم يسكن مع اليهود أحد من المسلمين، فإنه ثبت في نفس القصة أن المسلمين كانوا يدخلونها لمصالحهم وتجاراتهم. واللَّه أعلم

(442) باب المحاربين والمرتدين

(442) باب المحاربين والمرتدين 3829 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن ناسًا من عرينة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فاجتووها. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن شئتم أن تخرجوا إلى إبل الصدقة فتشربوا من ألبانها وأبوالها" ففعلوا؛ فصحوا. ثم مالوا على الرعاة فقتلوهم وارتدوا عن الإسلام وساقوا ذود رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فبعث في أثرهم فأتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة حتى ماتوا. 3830 - عن أنس رضي الله عنه أن نفراً من عكل ثمانية قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الإسلام، فاستوخموا الأرض وسقمت أجسامهم، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال "ألا تخرجون مع راعينا في إبله فتصيبون من أبوالها وألبانها؟ " فقالوا: بلى. فخرجوا فشربوا من أبوالها وألبانها فصحوا، فقتلوا الراعي وطردوا الإبل. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث في آثارهم فأدركوا فجيء بهم. فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا وقال ابن الصباح في روايته "واطردوا النعم" وقال "وسمرت أعينهم". 3831 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من عكل أو عرينة فاجتووا المدينة؛ فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بلقاح وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها. بمعنى حديث حجاج بن أبي عثمان قال: وسمرت أعينهم وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون. 3832 - عن أبي قلابة قال: كنت جالسًا خلف عمر بن عبد العزيز، فقال للناس: ما

تقولون في القسامة؟ فقال عنبسة: قد حدثنا أنس بن مالك كذا وكذا. فقلت: إياي حدث أنس قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قوم وساق الحديث بنحو حديث أيوب وحجاج. قال أبو قلابة: فلما فرغت قال عنبسة سبحان الله. قال أبو قلابة فقلت: أتتهمني يا عنبسة؟ قال: لا. هكذا حدثنا أنس بن مالك لن تزالوا بخير يا أهل الشام مادام فيكم هذا أو مثل هذا. 3833 - - وفي رواية عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية نفر من عكل بنحو حديثهم وزاد في الحديث "ولم يحسمهم". 3834 - عن أنس رضي الله عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من عرينة فأسلموا وبايعوه وقد وقع بالمدينة الموم (وهو البرسام) ثم ذكر نحو حديثهم وزاد وعنده شباب من الأنصار قريب من عشرين فأرسلهم إليهم وبعث معهم قائفًا يقتص أثرهم. 3835 - - عن أنس وفي حديث همام قدم على النبي صلى الله عليه وسلم رهط من عرينة. وفي حديث سعيد من عكل وعرينة بنحو حديثهم. 3836 - عن أنس رضي الله عنه قال: إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاء. -[المعنى العام]- إن السارق يعتدي على المال، فتقطع يده، وإن القاتل يقتل قصاصًا، فماذا لقاطع الطريق الذي يعتدي على المال؟ ويقتل؟ ويلقي الرعب في قلوب الناس؟ هؤلاء الذين يحاربون الله ورسوله، ويسعون في الأرض فسادًا، وقد بينت الآية الكريمة جزاءهم {أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض} [المائدة: 33]. وفي هذه القصة، ثمانية من أهل البوادي، أكرمهم النبي صلى الله عليه وسلم، وآواهم، وأطعمهم، وسقاهم، تحايلوا للإفساد في الأرض، وبيتوا نية الغدر، والغصب والقتل، فطلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا مع

الرعاة، رعاة إبل الصدقة، وإبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، بحجة أن أجسامهم سقمت في المدينة، فهم أبناء الصحراء والبوادي، وبحجة أن أمراضهم شفيت بشرب لبن الإبل وبولها، وهم مع الرعاة يجدون حاجتهم من الأبوال والألبان، وأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجوا، ولما بعدوا عن المدينة، وانقطعوا في المراعي النائية، سولت لهم نفوسهم الشريرة، وسول لهم الشيطان أن يقتلوا الراعيين، ويستولوا على الإبل، ويسوقوها إلى حيث يأمنون، بعيدًا عن سلطات محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه، إنهم ثمانية رجال، وإن الرعاة غلامان ضعيفان، والإبل فوق الأربعين، غنيمة كبرى، بعدوان بسيط، لقد استفردوا بأحد الغلامين فقيدوه، وفقئوا عينيه لئلا يرى، لكنه صرخ واستغاث، فذبحوه، ورأى الغلام الثاني الجريمة من بعيد، ففر هاربًا إلى المدينة، ولم يشغلوا أنفسهم بمحاولة اللحاق به، فهو أسرع، وأصح نشاطًا وحيوية، فاستاقوا الإبل إلى حيث يقصدون. وبلغ الغلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حدث، وكان معه عشرون من شباب المسلمين الأشداء الفوارس، فثارت نفوسهم أن يلحقوا بهم، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم قائفًا، يعرف الأثر، ليدلهم على الطريق الذي سلكوه، وما هي إلا ساعات حتى أدركوهم، ولم يمض يوم حتى كانوا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم فيهم بحكم الله، أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وأن يقتص منهم بفقء عيونهم، وأن يتركوا في شمس الصحراء حتى يموتوا، وكان في ذلك الجزاء الأمن والأمان، لأبناء المجتمع الإسلامي، والعقوبة الرادعة لمن تسول له نفسه من الأشقياء السعي في الأرض بالفساد. -[المباحث العربية]- (أن ناسًا من عُرَينة) بضم العين وفتح الراء، مصغر، اسم قبيلة، أوحى من بجيلة، وفي الرواية الثانية "أن نفرًا من عكل" بضم العين وسكون الكاف، وهي قبيلة من تيم الرباب، وفي الرواية الثالثة "قوم من عكل أو عرينة" بأو، وفي الرواية الخامسة "نفر من عرينة" وفي ملحق الرابعة "نفر من عكل" وفي ملحق الخامسة "رهط من عرينة" وفي ملحقها "من عكل وعرينة" والظاهر أن بعضهم كان من عكل، وبعضهم كان من عرينة فحين ذكرت واحدة قصدت الثانية معها، وحين ذكرت "أو" كانت بمعنى الواو. وكان عددهم "ثمانية" كما جاء في الرواية الثانية، وملحق الرواية الرابعة. (قدموا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة) ليعلنوا إسلامهم، ويبايعوه، كما جاء في الرواية الثانية والخامسة، وكان قدومهم في شوال أو ذي القعدة سنة ست من الهجرة. (فاجتووا المدينة) يقال: اجتويت البلد، إذا كرهت المقام فيه، أو تضررت بالإقامة فيه، وفي الرواية الثانية "فاستوخموا الأرض" أي أرض المدينة، وهو بمعنى اجتووا. وعند البخاري "فقالوا: يا نبي الله، إنا كنا أهل ضرع" أي رعاة إبل وبقر في البرية "ولم نكن أهل ريف" أي أهل إقامة وزراعة، كما هو الحال في المدينة، وفي رواية له أيضًا "إن ناسًا كان بهم سقم، قالوا: يا رسول الله آونا وأطعمنا، فلما صحوا قالوا: إن المدينة وخمة" أما السقم

الذي كان بهم فهو الهزال الشديد من الجوع والجهد، ففي رواية "كان بهم هزال شديد" وفي رواية "مصفرة ألوانهم" وفي رواية أنهم أقاموا في الصفة. (وسقمت أجسامهم) أي بعد أن صحت أجسامهم من الهزال، أصابهم مرض، كان قد انتشر بالمدينة، ففي الرواية الخامسة "وقد وقع بالمدينة الموم" بضم الميم وسكون الواو "وهو البرسام" بكسر الباء وسكون الراء، سرياني معرب، أطلق على اختلال العقل، وعلى ورم الرأس، وعلى ورم الصدر، والمراد منه هنا ورم الصدر، ففي رواية "فعظمت بطونهم". (فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئتم أن تخرجوا إلى إبل الصدقة، فتشربوا من ألبانها وأبوالها؟ ففعلوا، وصحوا) بفتح الصاد وتشديد الحاء المضمومة، وكان هذا العرض من النبي صلى الله عليه وسلم بناء على شكواهم من الإقامة في المدينة وطلبهم الخروج إلى البادية، ففي الرواية الثانية "فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ألا تخرجون مع راعينا في إبله، فتصيبون من أبوالها وألبانها؟ فقالوا: بلى. فخرجوا، فشربوا من أبوالها وألبانها، فصحوا" وفي رواية عند أبي عوانة، أنهم بدءوا بطلب الخروج إلى اللقاح -ولعلهم بيتوا نية الشر- "فقالوا: يا رسول الله، قد وقع بنا هذا الوجع، فلو أذنت لنا، فخرجنا إلى الإبل؟ وفي رواية للبخاري أنهم طلبوا لبنًا كثيرًا "فقال لهم: ما أجد لكم إلا أن تلحقوا بالذود" وفي الرواية الثالثة "فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بلقاح" واللقاح بكسر اللام هي النوق ذوات الألبان، واحدها لقحة بكسر اللام وسكون القاف، أي أمر لهم، وأذن لهم بشرب لبن اللقاح، وفي الرواية الأولى "أن تخرجوا إلى إبل الصدقة" وفي الرواية الثانية "ألا تخرجون مع راعينا في إبله ... " وفي رواية البخاري "ألا أن تلحقوا بإبل رسول الله صلى الله عليه وسلم" وقال الحافظ ابن حجر: والجمع بينهما أن إبل الصدقة كانت ترعى خارج المدينة، وصادف بعث النبي صلى الله عليه وسلم بلقاحه إلى المرعى طلب هؤلاء النفر الخروج إلى الصحراء، لشرب ألبان الإبل، فأمرهم أن يخرجوا مع راعيه، فخرجوا معه إلى إبل الصدقة. وذكر ابن سعد أن عدد لقاحه صلى الله عليه وسلم كانت خمس عشرة، وأنهم نحروا منها واحدة. (ثم مالوا على الرعاء، فقتلوهم) في الرواية الثانية "فقتلوا الراعي" وفي رواية "فقتلوا أحد الراعيين، وجاء الآخر، قد جزع، فقال: قد قتلوا صاحبي، وذهبوا بالإبل" ولم تختلف روايات البخاري في أن المقتول راعي النبي صلى الله عليه وسلم، وكان اسمه يسار - بفتح الياء والسين المخففة، كان غلامًا للنبي صلى الله عليه وسلم، فرآه يحسن الصلاة فأعتقه، وبعثه في لقاح له، قال الحافظ ابن حجر: فيحتمل أن إبل الصدقة كان لها رعاة، فقتل بعضهم مع راعي لقاح النبي صلى الله عليه وسلم، فاقتصر بعض الرواة على راعي النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر بعضهم معه غيره، ويحتمل أن يكون بعض الرواة ذكر الحديث بالمعنى، فتجوز في الإتيان بصيغة الجمع، وهذا أرجح، لأن أصحاب المغازي لم يذكر أحد منهم أنهم قتلوا غير يسار. اهـ وفي بعض النسخ "الرعاة" بضم الراء وبالتاء، وهما لغتان.

(وساقوا ذود النبي صلى الله عليه وسلم) الذود القطيع من الإبل، قيل: من الثلاث إلى العشر. وفي الرواية الثانية "وطردوا الإبل" أي ساقوها أمامهم، وفي ملحقها "واطردوا النعم" أي جعلوها تطرد وتتابع أمامهم، وفي رواية للبخاري "واستاقوا النعم". (فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم) في رواية للبخاري "فجاء الخبر في أول النهار" وسبق أن الذي جاء بالخبر أحد الرعاة. (فبعث في إثرهم) وفي الرواية الثانية "فبعث في آثارهم" والإثر بكسر الهمزة العقب، والأثر بفتح الهمزة والتاء وجمعه آثار بقية الشيء وما تخلف عنه، فالمعنى بعث وراءهم من يلحقهم ويأتي بهم، أو بعث من يتتبع آثارهم حتى يلحقهم، وفي ملحق الرواية الخامسة "وعنده شباب من الأنصار، قريب من عشرين، فأرسلهم إليهم، وبعث معهم قائفًا يقتفي أثرهم". (فأتى بهم) في الرواية الثانية "فأدركوا، فجيء بهم" أي أسارى. فاعترفوا. (فقطع أيديهم وأرجلهم) في الرواية الثانية "فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم" يعني قطع يدا كل واحد ورجلاه من خلاف. وفي ملحق الرواية الرابعة "ولم يحسمهم" أي لم يكو ما قطع منهم بالنار، لينقطع الدم، بل تركه ينزف، كما فعلوا بالراعي أو الرعاة. (وسمل أعينهم) بفتح السين والميم مخففة، والسمل فقء العين بأي شيء كان، وفي الرواية السادسة "إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين أولئك، لأنهم سملوا أعين الرعاء" وفي الرواية الثانية "وسمر أعينهم" بضم السين وكسر الميم مخففة، مبني للمجهول، وفي ملحقها "وسمرت أعينهم" بضم السين وتشديد الميم المكسورة. مبني للمجهول أيضًا، ولم يؤنث الفعل تارة، وأنث أخرى، لأن نائب الفاعل مجازي التأنيث. وتسمير الأعين لغة في سملها، ومخرجهما متقارب، وقد يكون من المسمار، يريد أنهم كحلوا بمسامير قد أحميت، ففي رواية عند البخاري "ثم أمر بمسامير، فأحميت، فكحلهم بها" ولا يخالف ذلك رواية السمل، لأنه فقء العين بأي شيء كان. (وتركهم في الحرة حتى ماتوا) "الحرة" بفتح الحاء وتشديد الراء المفتوحة أرض ذات حجارة سود، كأنها أحرقت. والمقصود منها هنا موضع بظاهر المدينة بهذه الصفة معروف. وفي الرواية الثانية "ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا"، وفي الرواية الثالثة "وألقوا في الحرة، يستسقون فلا يسقون" وفي رواية "يعضون الحجارة" وفي رواية "يعض الأرض، ليجد بردها، مما يجد من الحر والشدة" وفي البخاري "قال أنس: فرأيت الرجل منهم يكدم الأرض بلسانه حتى يموت". -[فقه الحديث]- يقول الله تعالى {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض}

أخرج عبد الرزاق عن قتادة، قال: بلغنا أن هذه الآية نزلت في العرنيين، وذهب جمهور الفقهاء إلى أنها نزلت فيمن خرج من المسلمين، يسعى في الأرض فسادًا، ويقطع الطريق، وهو قول مالك والشافعي والكوفيين. قال الحافظ ابن حجر: والمعتمد أن الآية نزلت أولاً في العرنيين، وهي تتناول بعمومها من حارب من المسلمين بقطع الطريق، لكن عقوبة الفريقين مختلفة، فإن كانوا كفارًا يخير الإمام فيهم، إذا ظفر بهم، وإن كانوا مسلمين، فعلى قولين. أحدهما وهو قول الشافعي والكوفيين: ينظر في الجناية، فمن قتل قتل، ومن أخذ المال قطع، ومن لم يقتل، ولم يأخذ مالاً نفى، وجعلوا "أو" للتنويع. وقال مالك: بل هي للتخيير، فيتخير الإمام في المحارب المسلم بين الأمور الثلاثة. واختلفوا في المراد بالنفي في الآية، فقال مالك والشافعي: يخرج من بلد الجناية إلى بلد أخرى، زاد مالك: فيحبس فيها. وعن أبي حنيفة: بل يحبس في بلده. أما المثلة التي وقعت بهم فقد مال ابن الجوزي وجماعة إلى أن ذلك وقع عليهم على سبيل القصاص، وروايتنا السادسة تشير إلى ذلك، وقد نقل أهل المغازي أنهم مثلوا بالراعي. وذهب آخرون إلى أن ذلك منسوخ بحديث النهي عن المثلة، فقد قال عنه ابن شاهين: أنه ينسخ كل مثلة. وتعقبه ابن الجوزي بأن ادعاء النسخ يحتاج إلى تاريخ، ومال الحافظ ابن حجر إلى أن التاريخ ثابت، فقد نقل قتادة عن ابن سيرين أن قصتهم كانت قبل أن تنزل الحدود، ولموسى بن عقبة في المغازي: وذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى بعد ذلك عن المثلة، وإلى هذا مال البخاري، وحكاه إمام الحرمين في النهاية عن الشافعي واستشكل القاضي عياض عدم سقيهم الماء، للإجماع على أن من وجب عليه القتل، فاستسقى، لا يمنع. وأجاب بأن ذلك لم يقع عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا وقع منه نهي عن سقيهم. قال الحافظ: وهو ضعيف جدًا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك، وسكوته كاف في ثبوت الحكم. وأجاب النووي بأن المحارب المرتد لا حرمة له في سقي الماء ولا غيره. وقال الخطابي: إنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بهم ذلك، لأنه أراد بهم الموت بذلك، وقيل: إن الحكمة في تعطيشهم لكونهم كفروا نعمة سقي ألبان الإبل، التي حصل لهم بها الشفاء من الجوع والوخم. وقد احتج بهذا الحديث من قال بطهارة بول ما يؤكل لحمه، لشربهم بول الإبل، ويقاس على الإبل بول مأكول اللحم، وهذا قول مالك وأحمد وطائفة من السلف، ووافقهم من الشافعية ابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان والاصطرخي والروياني. وذهب الشافعي والجمهور إلى القول بنجاسة الأبوال والأرواث كلها، من مأكول اللحم وغيره قال ابن العربي: وقد تعلق بهذا الحديث من قال بطهارة أبوال الإبل، وعورضوا بأنه أذن لهم في شربها

للتداوي، وتعقب بأن التداوي ليس حال ضرورة، قال الحافظ ابن حجر: بل هو حال ضرورة إذا أخبره بذلك من يعتمد على خبره، وما أبيح للضرورة لا يسمى حرامًا وقت تناوله. فإن قالوا: لو كان نجسًا ما جاز التداوي به، لقول النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليهم" رواه أبو داود، والنجس حرام، فلا يتداوى به، لأنه غير شفاء، فالجواب أن الحديث محمول على حالة الاختيار، وأما في حالة الضرورة فلا يكون حرامًا، كالميتة للمضطر. وقد روى ابن المنذر عن ابن عباس مرفوعًا "إن في أبوال الإبل شفاء لذربة بطونهم" والذرب فساد المعدة. واستشكل الإذن لهم من شرب لبن الصدقة، وأجيب بأن ألبانها للمحتاجين من المسلمين، وهؤلاء إذ ذاك منهم. -[وفي الحديث غير ما تقدم]- 1 - قدوم الوفود على الإمام. 2 - ونظره في مصالحهم. 3 - ومشروعية الطب والتداوي بألبان الإبل وأبوالها. 4 - وأن كل جسد يداوى بما اعتاده. 5 - وقتل الجماعة بالواحد، سواء قتلوه غيلة أو حرابة، إن قلنا: إن قتلهم كان قصاصًا. 6 - وفيه المماثلة في القصاص، وليس ذلك من المثلة المنهي عنها. 7 - وثبوت حكم المحاربة في الصحراء وأما في القرى ففيه خلاف. 8 - وفيه العمل بقول القائف، وللعرب في ذلك معرفة تامة. 9 - وفيه الحزم والشدة مع أعداء الله، واستبعاد الرحمة في تنفيذ الحدود، ففي ذلك مصلحة المجتمع. 10 - وفيه أن المدينة تنفي خبثها، كما جاء في الحديث الشريف. واللَّه أعلم

(443) باب القصاص في القتل بالحجر وغيره

(443) باب القصاص في القتل بالحجر وغيره 3837 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن يهوديًا قتل جارية على أوضاح لها، فقتلها بحجر. قال: فجيء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبها رمق. فقال لها "أقتلك فلان" فأشارت برأسها أن لا، ثم قال لها الثانية فأشارت برأسها أن لا، ثم سألها الثالثة. فقالت: نعم وأشارت برأسها. فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين. 3838 - - وفي رواية عن شعبة بهذا الإسناد نحوه وفي حديث ابن إدريس فرضخ رأسه بين حجرين. 3839 - عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود قتل جارية من الأنصار على حلي لها، ثم ألقاها في القليب ورضخ رأسها بالحجارة. فأخذ، فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر به أن يرجم حتى يموت فرجم حتى مات. 3840 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن جارية وجد رأسها قد رض بين حجرين. فسألوها من صنع هذا بك؟ فلان؟ فلان؟ حتى ذكروا يهوديًا فأومت برأسها فأخذ اليهودي فأقر، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بالحجارة. -[المعنى العام]- النفوس البشرية الشريرة موجودة في كل مجتمع، وتزيد ويعظم شرها إذا لم تؤخذ بجريرتها، وتعاقب عقوبة رادعة، وإذا كان الإسلام قد غرس في نفوس أبنائه الوازع الداخلي، والخوف من الله، ومراقبته في السر والعلن، فإن غير المسلمين أول الإسلام، وبخاصة اليهود لم يكن عندهم وازع سوى الأحكام الدنيوية فإذا أحس الواحد منهم غفلة القانون والحكام، راح يرتكب أبشع الجرائم، لأتفه الأسباب.

وقصة هذا الحديث تحكي مدى ما وصل إليه اليهود من المادية ولتجدنهم أحرص الناس على حياة وأحرص الناس على المال، وارتكاب أفظع الجنايات من أجل عرض حقير. هذا يهودي يسكن الجزيرة العربية، ويجاور المسلمين بالمدينة، يرى صبية صغيرة، لم تبلغ الحلم، تبتعد قليلاً عن العمران، ربما كانت ترعى بعض غنمها، يراها وعليها بعض الحلي الفضية، حلق وخلخال مثلاً، بل ربما أسورة وقلادة، وماذا يساوي هذا القدر من الفضة؟ لكنه في نظر اليهودي كنز يضحي من أجله بالكثير، ربما حاول إغراء الصبية وخداعها لتعطيه حليها بوجه أو بآخر، ففشل، وربما حاول خلع حليها من أطرافها فامتنعت، وقاومت فلجأ إلى القوة، مستغلاً انقطاع الساحة من البشر، وخلوها ممن يمكن أن ينجد المسكينة، مهما صرخت واستغاثت، لقد أمسك حجرًا كبيرًا فضربها على رأسها، فسقطت برأسها على الأحجار، مغشيًا عليها، فسلبها ما على جسدها من حلي، وخاف أن تفيق فتبلغ عنه، فحملها وألقاها في بئر، ولم يكتف بذلك بل أخذ يرجمها بالحجارة، حتى ظن أنها فارقت الحياة. فانصرف، وتركها. وأفاقت يسيل دمها، وجراحها تؤلمها، فصرخت وصرخت، وسمعها أحد المارة، فأخرجها من البئر، وحملها إلى أهلها بالمدينة، الذين حملوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأرشد منقذها عن مكان حادثتها، والقوم يعرفون من يتردد على هذا المكان، أو من يسكنه، فأرشدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أسماء أناس، تنحصر الشبهة فيهم، فعرضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها واحدًا واحدًا، لكنها لا تستطيع الكلام مما بها، فكانت تشير برأسها حين يذكر لها الاسم: ليس هو، حتى ذكر اسم قاتلها، فأشارت بنعم، فجيء به، وضيق عليه الخناق، فأقر وأعترف، وقام بتمثيل ما فعله بها، فحكم الرسول صلى الله عليه وسلم بالقصاص، فربطت رأسه إلى حجر كبير، ثم رجمت رأسه بالحجارة حتى مات. جزاء وفاقا {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة: 194]. {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النحل: 126] {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون} [البقرة: 179]. -[المباحث العربية]- (أن يهوديًا قتل جارية) الجارية تطلق على الحرة والأمة، في سن الغلام دون البلوغ، والظاهر هنا أنها كانت حرة ففي الرواية الثانية "جارية من الأنصار". (على أوضاح لها) أي بسبب أوضاح، وهي جمع وضح، والأوضاح حلي الفضة، أي قتلها من أجل أوضاح وحلي من فضة كانت عليها، وفي الرواية الثانية "على حلي لها" وفي رواية للبخاري "خرجت جارية عليها أوضاح بالمدينة" وفي رواية له "عدا يهود على جارية، فأخذ أوضاحًا كانت عليها، ورضخ رأسها".

(فقتلها بحجر) في الرواية الثانية "ألقاها في القليب - أي البئر - ورضخ رأسها بالحجارة" وفي الرواية الثالثة "وجد رأسها قد رض بين حجرين" وفي رواية للبخاري "فرماها يهودي بحجر" ويجمع بينها بأنه رماها بحجر، فأصاب رأسها، فسقطت على حجر آخر، فألقاها في البئر، وضرب رأسها بالحجارة، والتعبير بـ"فقتلها" باعتبار ما آلت إليه، وإلا فحين ضربها لم يقتلها، وإنما آل أمرها إلى القتل نتيجة الإصابة. والرضخ، والرض بمعنى. (فجيء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبها رمق) الرمق بقية الحياة والروح. (فقال لها: أقتلك فلان؟ ) القائل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي رواية للبخاري "فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلان قتلك"؟ ولا مانع أن يكون غيره صلى الله عليه وسلم قد اشترك في سؤالها، ففي الرواية الثالثة "فسألوها من صنع هذا بك؟ " و"فلان" كناية عن اسم من الأسماء ذكر لها. (فأشارت برأسها: أن لا) معناه أنها لم تكن تستطيع أن تنطق، فهزت رأسها يمينًا وشمالاً تفيد النفي و"أن" مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، وخبرها ما دلت عليه "لا" أي أشارت إشارة يستفاد منها ما يستفاد منها لو نطقت بقولها: الحال والشأن لم يقتلها فلان المذكور. (ثم قال لها الثانية، فأشارت برأسها: أن لا) أي قال لها المرة الثانية: أقتلك فلان؟ كناية عن اسم آخر غير الأول. وفي الرواية الثالثة "فلان؟ فلان؟ " وفي رواية للبخاري "من فعل بك هذا؟ أفلان؟ أفلان؟ " وفي رواية "فلان قتلك؟ فرفعت رأسها - أي أشارت: لا - فأعاد، فقال: فلان قتلك؟ فرفعت رأسها، فقال لها في الثالثة: فلان قتلك؟ فخفضت رأسها". (ثم سألها الثالثة فقالت: نعم، وأشارت برأسها) أي أشارت برأسها بما يفيد نعم، أي خفضتها مرة أو مرتين، وفي الرواية الثالثة "حتى ذكروا يهوديًا - أي ذكروا لها اسم يهودي في المرة الثالثة - فأومأت برأسها" أي نعم. وفي رواية للبخاري "حتى سمى اليهودي". (فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين) معطوف على محذوف، تقديره: فطلب اليهودي، فأخذ، فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلب منه أن يعترف، فتلكأ، فلم يزالوا به برفق ولطف حتى اعترف، وأقر، فقتله، أي أمر بقتله بين حجرين، وفي ملحق الرواية "فرضخ رأسه بين حجرين" وفي الرواية الثانية "فأمر به أن يرجم حتى يموت، فرجم حتى مات" وفي الرواية الثالثة "فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بالحجارة" ولا تنافي بين هذه الروايات، إذ يجمعها أنه نام ورأسه على حجر مربوط به، وأمر بقذفه بالحجارة، فدق رأسه بين حجر تحته، وحجر رجم به.

-[فقه الحديث]- احتج الجمهور بهذا الحديث على أن القاتل يقتل بما قتل به، وتمسكوا بقوله تعالى {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} وبقوله تعالى {فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} وخالف في ذلك الكوفيون، واحتجوا بحديث "لا قود إلا بالسيف" وهو ضعيف، وطرقه كلها ضعيفة، وعلى تقدير ثبوته، فإنه على خلاف قاعدتهم في أن السنة لا تنسخ الكتاب، ولا تخصصه. واستدلوا بحديث النهي عن المثلة، وهو صحيح، لكنه محمول عند الجمهور على غير المماثلة في القصاص، جمعا بين الدليلين. وتفرع على القتل بمثقل كحجر أو عصا أو حديدة خلاف بين الفقهاء في مسألتين: الأولى: متى يعتبر هذا القتل عمدًا؟ ومتى لا يعتبر؟ فقال عطاء وطاووس: شرط العمد أن يكون بسلاح، إذن القتل بحجر أو عصا أو حديدة ليس عمدًا على الإطلاق. وقال الحسن البصري والشعبي والنخعي والحكم وأبو حنيفة ومن تبعهم: شرط أن يكون بحديدة، والحديث يرد عليهم، وقد أجاب بعض الحنفية بأن هذا الحديث لا دلالة فيه على المماثلة في القصاص، لأن المرأة كانت حية، والقود لا يكون في حي، ورد بأنه إنما أمر بقتله بعد أن ماتت، فكان قصاصًا. وقال ابن المنذر: قال الأكثر: إذا قتله بشيء يقتل مثله غالبًا، فهو عمد. وقال ابن أبي ليلى: إن قتل بالحجر أو العصا ففيه نظر: إن كرر ذلك فهو عمد، وإلا فلا. وهذا غير مسلم، فقد يكون تأثير حجر واحد أقوى من تأثير مائة حجر، وكذلك العصا، وكلام ابن المنذر يتفق مع حديث المرأة التي رمت ضرتها بعمود الفسطاط، فقتلتها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل فيها الدية. المسألة الثانية: اختلف القائلون بالقصاص بما قتل به، فيما إذا استعمل ما قتل، فلم يقتل، كرجل ضرب رجلاً بعصا مرة واحدة، فقتله، فأقيد، فضرب بالعصا، فلم يمت، هل يكرر عليه حتى يموت؟ فقيل: لا يكرر، وقيل: إن لم يمت قتل بالسيف. وماذا لو قتل رجل رجلاً بمحرم، كخمر ولواط وتحريق، قال ابن العربي: يستثنى من المماثلة ما كان فيه معصية، قال الحافظ ابن حجر: الأولان بالاتفاق، وفي الثالث خلاف عند الشافعية. والحديث ظاهر في جواز سؤال الجريح: من جرحك؟ قال النووي: وفائدة السؤال أن يعرف المتهم، ليطالب، فإن أقر ثبت عليه القتل، وإن أنكر فالقول قوله مع يمينه، ولا يلزمه شيء بمجرد قول المجروح. هذا مذهبنا ومذهب الجماهير، وقد سبق في القسامة. ومذهب مالك ثبوت القتل على المتهم بمجرد قول المجروح، وتعلقوا بهذا الحديث، وهذا تعلق باطل، لأن اليهودي اعترف، كما صرح به مسلم في إحدى رواياته، فقتل باعترافه.

قال الحافظ ابن حجر: وادعى ابن المرابط، من المالكية، أن هذا الحكم كان في أول الإسلام، وهو قبول قول القتيل، قال: وأما ما جاء أنه اعترف، فهو في رواية قتادة، ولم يقله غيره، وهذا مما عد عليه. اهـ قال الحافظ: ولا يخفى فساد هذه الدعوى، فقتادة حافظ، وزيادته مقبولة، لأن غيره لم يتعرض لنفيها، فلم يتعارضا، والنسخ لا يثبت بالاحتمال. واستدل بالحديث على وجوب القصاص على الذمي، وتعقب بأنه ليس فيه تصريح بكونه ذميًا، فيحتمل أن يكون معاهدًا أو مستأمنًا. وفي الحديث قتل الرجل بالمرأة. قال النووي: وهذا إجماع من يعتد به. اهـ وقال ابن المنذر: أجمعوا على أن الرجل يقتل بالمرأة، إلا رواية عن علي وعن الحسن وعطاء، وخالف الحنفية فيما دون النفس. واللَّه أعلم

(444) باب الصائل على نفس الإنسان أو عضوه والقصاص في الأسنان وما في معناها

(444) باب الصائل على نفس الإنسان أو عضوه والقصاص في الأسنان وما في معناها 3841 - عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قاتل يعلى بن منية أو ابن أمية رجلاً فعض أحدهما صاحبه، فانتزع يده من فمه فنزع ثنيته (وقال ابن المثنى ثنيتيه) فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال "أيعض أحدكم كما يعض الفحل؟ لا دية له". 3842 - عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رجلاً عض ذراع رجل فجذبه فسقطت ثنيته. فرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأبطله وقال "أردت أن تأكل لحمه؟ ". 3843 - عن صفوان بن يعلى رضي الله عنه أن أجيرًا ليعلى بن منية عض رجل ذراعه فجذبها فسقطت ثنيته. فرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأبطلها وقال "أردت أن تقضمها كما يقضم الفحل؟ ". 3844 - عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رجلاً عض يد رجل فانتزع يده فسقطت ثنيته أو ثناياه، فاستعدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما تأمرني؟ تأمرني أن آمره أن يدع يده في فيك تقضمها كما يقضم الفحل؟ ادفع يدك حتى يعضها ثم انتزعها". 3845 - عن صفوان بن يعلى بن منية عن أبيه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل وقد عض يد رجل فانتزع يده فسقطت ثنيتاه (يعني الذي عضه) قال: فأبطلها النبي صلى الله عليه وسلم وقال "أردت أن تقضمه كما يقضم الفحل؟ ". 3846 - أخبرني صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه قال: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك قال: وكان يعلى يقول تلك الغزوة أوثق عملي عندي. فقال عطاء: قال صفوان: قال

يعلى: كان لي أجير فقاتل إنسانًا فعض أحدهما يد الآخر (قال لقد أخبرني صفوان أيهما عض الآخر) فانتزع المعضوض يده من في العاض فانتزع إحدى ثنيتيه، فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم، فأهدر ثنيته. 3847 - عن أنس رضي الله عنه أن أخت الربيع أم حارثة جرحت إنسانًا، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "القصاص القصاص" فقالت أم الربيع: يا رسول الله أيقتص من فلانة؟ والله لا يقتص منها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "سبحان الله يا أم الربيع القصاص كتاب الله" قالت: لا والله، لا يقتص منها أبدًا. قال: فما زالت حتى قبلوا الدية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره". -[المعنى العام]- حماية الإنسان من الإنسان شريعة الله منذ قديم الزمان، فقد اعتدى هابيل على قابيل، من أجل ذلك كتب الله على بني آدم في التوراة {أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص} [المائدة: 45] وقال في القرآن الكريم {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النحل: 126] وقال {ولكم في القصاص حياة} [البقرة: 179] وقال {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة: 194] وكان في هذا القانون الإلهي، وفي تطبيقه حصر دائرة الجناية على نفس الآدمي وأعضائه في أضيق الحدود، لكن من كان قبل الإسلام أسرفوا الشفاعات في حدود الله، والمجاملات والمحاباة في توقيع العقوبات، فكانوا إذا جنى فيهم الشريف تركوه، وإذا جنى فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، فحسم الإسلام هذا الداء بقانونه الخالد: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها" وهذه أم الربيع، من أشراف العرب، ضربت جارية على وجهها، فسقطت سن من أسنانها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القصاص. القصاص. كتاب الله يأمر بالقصاص، وعظم على أهل الشريفة الجميلة أن تكسر سنتها فتشفعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه لا شفاعة في حكم الله. فلم يزد على قوله: القصاص. القصاص. وتشفعوا عند أهل المجني عليها، وعرضوا عليهم من المال عوضًا ما عرضوا، فتمسكوا بالقصاص، فقال أخوها: والله يا رسول الله لا تكسر سنة أم الربيع أبدًا. إننا نطمع في شفاعتك، وفي عفو المجني عليها، فيقول صلى الله عليه وسلم: سبحان الله. لماذا التلكؤ في تنفيذ حكم الله؟ القصاص. القصاص، ويطمئن أهل المجني عليها على ثبوت الحق، والقدرة على الجانية، ومن باب العفو عند القدرة يتنازلون عن القصاص، ويرضون بالدية، ويعجب صلى الله عليه وسلم من يمين أخ الجانية أن أبره الله، ولم يحنثه فيه، فيقول: إن من عباد الله من يجيب الله دعاءه، ويبر قسمه.

لكن الجناية أحيانًا لا تكون مقصودة للجاني، أو تكون دفاعًا عن النفس، أو ردًا على جناية سابقة، فهل الجناية على المعتدي تعتبر اعتداء يقتص لها؟ هذا ما تصوره قصة الأحاديث الأولى، يعلى بن أمية، الصحابي الجليل، يختلف مع رجل، قد استأجره يعلى، ليساعده على بعض أموره، يغضبان، فيتدافعان بأيديهما، فيقضم يعلى يد الأجير فيتألم الأجير، فينتزع يده بقوة من فم يعلى، فتسقط سن من أسنان يعلى، فيرفع الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ليحكم له بالقصاص، أو بدية السن، فيحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة الأجير، لأنه كان في حالة الدفاع عن النفس، فيقول: لا دية ولا قصاص. -[المباحث العربية]- (باب الصائل) يقال: صال يصول صولاً وصولانًا، سطا عليه ليقهره. (قاتل يعلى ابن منية أو ابن أمية) "منية" بضم الميم وسكون النون وفتح الياء وهي أم يعلى، وقيل: جدته، والأول هو المعتمد. وبعض الرواة صحفها إلى "منبه" بالباء، وهو خطأ، و"أمية" اسم أبيه، فيصح أن يقال: يعلى بن أمية، ويعلى بن منية، أسلم يوم الفتح، وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم ما بعدها، كحنين والطائف وتبوك. (رجلاً، فعض أحدهما صاحبه) وفي الرواية الثالثة "عن صفوان بن يعلى أن أجيرًا ليعلى بن منية، عض رجل ذراعه" وهذه الرواية مرسلة، فصفوان تابعي، وهي تفيد أن المعضوض أجير يعلى، وفي رواية "أن رجلاً من بني تميم قاتل رجلاً، فعض يده" ويعلى من بني تميم، والأجير ليس من بني تميم، فهي تشير أن العاض يعلى، ومن هنا يرى الحافظ ابن حجر أن الرجلين المبهمين يعلى وأجيره، وأن يعلى أبهم نفسه، لأنه العاض، وأنكر القرطبي أنك يكون يعلى هو العاض فقال: يظهر من هذه الرواية أن يعلى هو الذي قاتل الأجير وفي الرواية الأخرى "أن أجيرًا ليعلى عض يد رجل" وهذا هو الأولى والأليق، إذا لا يليق ذلك الفعل بيعلى، مع جلالته وفضله، اهـ قال الحافظ ابن حجر: لم يقع في شيء من الطرق أن الأجير هو العاض، وأما استبعاده أن يقع ذلك من يعلى مع جلالته فلا معنى له مع ثبوت التصريح به في الخبر الصحيح، فيحتمل أن يكون ذلك صدر منه في أوائل إسلامه، فلا استبعاد. وقال النووي: أما أن في بعض الروايات أن يعلى هو المعضوض، وفي بعضها أن المعضوض أجير ليعلى، لا يعلى، فقال الحفاظ: الصحيح المعروف أن المعضوض أجير يعلى، لا يعلى، ويحتمل أنهما قضيتان، جرتا ليعلى ولأجيره، في وقت أو وقتين. وتعقبه الترمذي بأنه ليس في رواية مسلم ولا رواية غيره في الكتب الستة ولا غيرها أن المعضوض هو يعلى، لا صريحًا ولا إشارة، فيتعين على هذا أن يعلى هو العاض. وفي روايات مسلم أن المعضوض "يد" أو "ذراع" ولا تعارض، لكن المشكل رواية البخاري في

الإجارة "فعض إصبع صاحبه، فانتزع إصبعه" قال الحافظ ابن حجر: وفي الجمع بين الذراع والإصبع عسر، ويبعد الحمل على تعدد القصة، لاتحاد المخرج، لأن مدارها على عطاء عن صفوان بن يعلى عن أبيه، فالذي يترجح الذراع، وانفراد ابن علية عن ابن جريج بلفظ الإصبع، لا يقاوم الروايات المتعاضدة على الذراع. اهـ قلت: يحتمل أن يعلى عض إصبع الرجل، فانتزعه بسرعة لصغره، فأمسك بذراعه فعضه، فحصل ما حصل، فهذا الاحتمال خير من رد رواية صحيحة. (فجذبه، فسقطت ثنيته) أي فجذب المعضوض ذراعه، كذا في الرواية الثانية "فجذبه" بالتذكير، مع أن الذراع مؤنث عند جمهور أهل اللغة، فإعادة الضمير عليه مذكرًا باعتباره عضوًا، وعند الجوهري: ذراع اليد يذكر ويؤنث، وذراع الآدمي من طرف المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى. "والثنية" إحدى الأسنان الأربع التي في مقدم الفم، ثنتان من فوق، وثنتان من تحت، وفي الرواية الخامسة "فسقطت ثنيتاه" بالتثنية، وفي الرواية الرابعة "ثنيته أو ثناياه" قال الحافظ ابن حجر: وقد تترجح رواية التثنية، لأنه يمكن حمل الرواية التي بصيغة الجمع عليها، على رأي من يجيز في الاثنين صيغة الجمع، ورد الرواية التي بالإفراد إليها، على إرادة الجنس، وقول من يقول بالتعدد بعيد، لاتحاد المخرج. (فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم) من المتبادر أن الذي رفع الأمر هو يعلى الذي سقطت ثنيتاه، يقوي هذا قوله في الرواية الرابعة "فسقطت ثنيته، فاستعدى رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي استعانه واستنصره، وكان الخطاب له في "ما تأمرني؟ تأمرني أن آمره أن يدع يده في فيك .... إلخ". وفي الرواية السادسة "فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم ولعل من سقطت ثنيته أخذ من أسقطها، وانضم إليهما بعض أهلهما فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، ففي بعض الروايات عند البخاري "فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم". (أيعض أحدكم كما يعض الفحل؟ ) يقال: عض يعض بفتح العين، والفحل الذكر من الإبل، ويطلق على الذكر من غير الإبل من الدواب، والاستفهام إنكاري توبيخي، أي لا ينبغي أن يعض أحدكم .. وفي الرواية الرابعة والخامسة "أن تقضمه كما يقضم الفحل" يقال: قضم يقضم بفتح الضاد على اللغة الفصيحة، والقضم الأكل بأطراف الأسنان. وفي الرواية الثانية "أردت أن تأكل لحمه؟ " وفي الرواية الخامسة "أردت أن تقضمه، كما يقضم الفحل"؟ وفي الرواية الرابعة "ما تأمرني؟ تأمرني أن آمره أن يدع يده في فيك، تقضمها، كما يقضم الفحل، ادفع يدك حتى يعضها، ثم انتزعها" قال النووي: ليس المراد بهذا أمره بدفع يده ليعضها، وإنما معناه الإنكار عليه، أي إنك لا تدع يدك في فيه يعضها، فكيف تنكر عليه أن ينتزع يده من فيك؟ وتطالبه بما جنى في جذبه لذلك؟ (لا دية له) أي لا دية له عن ثنيته، ومن باب أولى لا قصاص. وفي الرواية الثانية "فأبطله" أي فأبطل طلب الدية، وفي الرواية الثالثة والخامسة "فأبطلها" أي أبطل قصاصها وديتها، وفي الرواية السادسة "فأهدر ثنيته" أي جعلها هدرًا لا دية لها.

(أن أخت الربيع - أم حارثة، جرحت إنسانًا) قال النووي: هذه رواية مسلم، وخالفه البخاري في روايته، فقال: عن أنس بن مالك أن عمته الربيع - بضم الراء وفتح الباء وتشديد الياء المكسورة - كسرت ثنية جارية، فطلبوا إليها العفو، فعرضوا الأرش، فأبوا، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبوا إلا القصاص، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص، فقال أنس بن النضر: يا رسول الله، أتكسر ثنية الربيع؟ لا. والذي بعثك بالحق، لا تكسر ثنيتها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أنس، كتاب الله القصاص، فرضي القوم، فعفوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره" هذا لفظ رواية البخاري، فحصل الاختلاف في الروايتين من وجهين: أحدهما: أن في رواية مسلم، أن الجارحة الجانية أخت الربيع، وفي رواية البخاري أنها الربيع بنفسها. والثاني: أن في رواية مسلم أن الحالف لا تكسر ثنيتها أم الربيع، في رواية البخاري أنه أنس بن النضر، قال العلماء: المعروف في الروايات رواية البخاري، وقد ذكرها من طرقه الصحيحة، وكذا رواه أصحاب كتب السنن، قال النووي: قلت: إنهما قضيتان، أما الربيع الجارحة في رواية البخاري وهي أخت الجارحة في رواية مسلم فهي بضم الراء وفتح الباء وتشديد الياء، وأما أم الربيع الحالفة في رواية مسلم فبفتح الراء وكسر الباء وتخفيف الياء. اهـ. قال الكرماني: القول بأن هذه امرأة أخرى لم ينقل عن أحد، والصواب "أن الربيع جرحت إنسانًا" بحذف لفظة "أخت" ومال الحافظ ابن حجر إلى قول النووي، وأضاف وجهًا ثالثًا للاختلاف بين الروايتين وهو: هل الجناية كسر الثنية أو الجراحة؟ وقال: وجزم ابن حزم بأنهما قصتان صحيحتان، وقعتا لامرأة واحدة، إحداهما أنها جرحت إنسانًا، فقضي عليها بالضمان، والأخرى أنها كسرت ثنية جارية، فقضي عليها بالقصاص، وحلفت أمها في الأولى - فالمقصود من أم الربيع ليست الكنية، وإنما والدة الربيع، والجانية في المرتين هي الربيع - وحلف أخوها في الثانية، وقال البيهقي بعد أن أورد الروايتين: ظاهر الخبرين يدل على أنهما قصتان، فإن قبل هذا الجمع، قبل، وإلا فثابت (الراوي عن أنس عند مسلم) أحفظ من حميد (الراوي عن أنس عند البخاري). (القصاص. القصاص) منصوب على الإغراء، مفعول به لفعل محذوف، أي الزموا القصاص. (أيقتص من فلانة؟ واللَّه لا يقتص منها) وفي رواية البخاري: قال أنس بن النضر: يا رسول الله، أتكسر ثنية الربيع؟ لا. والذي بعثك بالحق، لا تكسر ثنيتها" وسواء كان القائل أنسًا، أو أم الربيع، أو هما، فليس معناه رد حكم النبي صلى الله عليه وسلم، بل المراد به الرغبة إلى مستحق القصاص أن يعفو، وإلى النبي صلى الله عليه وسلم في الشفاعة إليهم في العفو، وإنما حلف أنس أو أم الربيع ثقة بهم ألا يحنثوه، أو ثقة بفضل الله ولطفه ألا يحنثه، بل يلهمهم العفو، وقد وقع الأمر على ما أراد. (القصاص كتاب اللَّه) المشهور على أنهما مرفوعان، مبتدأ وخبر، ويحتمل نصبهما على

الإغراء، والمراد بالكتاب الحكم، أي الزموا القصاص، الزموا حكم الله، ويحتمل تقدير مضاف، أي الزموا حكم كتاب الله، والمقصود به قوله تعالى: {فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} وقيل: قوله تعالى {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص} (فمازالت حتى قبلوا الدية) أي فمازالت ترجو مستحق القصاص وتشفع لهم حتى عفوا عن القصاص، وقبلوا دية السن، وفي رواية البخاري "فرضي القوم وعفوا" وفي رواية له "فرضي القوم، وقبلوا الأرش" وفي رواية "فرضي أهل المرأة بأرش أخذوه، فعفوا". (إن من عباد اللَّه من لو أقسم على الله لأبره) أي لأبر قسمه، ولم يحنثه. وفي رواية للبخاري "فعجب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره" ووجه تعجبه أن أنس بن النضر أقسم على نفي فعل غيره، مع إصرار ذلك الغير على إيقاع ذلك الفعل، فكان قضية ذلك في العادة أن يحنث في يمينه، فألهم الله الغير العفو، فبر قسم أنس، وأشار بقوله "إن من عباد الله" إلى أن هذا الاتفاق، إنما وقع إكرامًا من الله لأنس، ليبر بيمينه، وإنه من جملة عباد الله الذين يجيب دعاءهم، ويعطيهم طلبهم. -[فقه الحديث]- في هذه الأحاديث نقطتان رئيستان: الأولى: هل على المعضوض إذا أسقط أسنان العاض - في مثل هذه القصة المروية في الروايات الست قصاص؟ أو دية؟ الثانية: وهي الخاصة بالرواية السابعة القصاص في السن، وما في معناها. أما النقطة الأولى: فقد أخذ بظاهر هذه القصة الشافعية والحنفية والجمهور، فقالوا: لا يلزم المعضوض قصاص ولا دية، لأن العاض في حكم الصائل، واحتجوا أيضًا بالإجماع على أن من شهر على آخر سلاحًا، ليقتله، فدفع عن نفسه، فقتل الشاهر، أنه لا شيء عليه، فكذا لا يضمن سنه، بدفعه إياه، قالوا: ولو جرحه المعضوض في موضع آخر، لم يلزمه شيء، وشرط الإهدار أن يتألم المعضوض، وأن لا يمكنه التخلص بغير ذلك من ضرب في شدقيه، أو فك لحيته، ومهما أمكن التخلص بدون ذلك، فعدل عنه إلا الأثقل، لم يهدر. وعند الشافعية وجه أن يهدر على الإطلاق، ووجه أنه لو دفعه بغير ذلك ضمن، وإن كان بأخف. وعن مالك روايتان، أشهرهما يجب الضمان، وأجابوا عن هذا الحديث باحتمال أن يكون سبب الإنذار شدة العض، لا النزع، فيكون سقوط ثنية العاض بفعله، لا بفعل المعضوض، إذ لو كان من فعل صاحب اليد لأمكنه أن يخلص يده من غير قلع، ولا يجوز الدفع بالأثقل مع إمكان الأخف، وقال بعض

المالكية: العاض قصد العضو نفسه، والذي استحق في إتلاف ذلك العضو، غير ما فعل به، فوجب أن يكون كل منهما ضامنًا ما جناه على الآخر، كمن قلع عين رجل، فقطع الآخر يده. وتعقب بأنه قياس في مقابلة النص، فهو فاسد. وقال بعضهم: لعل أسنانه كانت تتحرك، فسقطت عقب النزع، وسياق الحديث يدفع هذا الاحتمال. وتمسك بعضهم بأنها واقعة عين، ولا عموم لها وتعقب بأن البخاري أخرج في الإجارة، عقب حديث يعلى هذا، من طريق أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه وقع عنده مثل ما وقع عند النبي صلى الله عليه وسلم وقضى فيه بمثله. وقد نبه ابن دقيق العيد على أن القيود التي وضعها الجمهور ليست في الحديث، وإنما أخذها الجمهور من القواعد الكلية، وكذا إلحاق عضو آخر غير الفم بالفم، فإن النص إنما ورد في صورة مخصوصة. قال ابن بطال: لم يقع هذا الحديث لمالك، وإلا لما خالفه، وقال الداودي: لم يروه مالك، لأنه من رواية أهل العراق، وقال أبو عبد الملك: كأنه لم يصح الحديث عنده، لأنه أتى من قبل المشرق. ولم يقبل الحافظ ابن حجر هذا الاعتذار عن مالك، فقال: إن سلم هذا في حديث عمران فلا يسلم في طريق يعلى بن أمية، فقد رواها أهل الحجاز، وحملها عنهم أهل العراق. واعتذر بعض المالكية بفساد الزمان. وأما النقطة الثانية: فقد قال ابن بطال: أجمعوا على قلع السن بالسن في العمد، واختلفوا في سائر عظام الجسد، فقال مالك: فيها القود، إلا ما كان مجوفًا، ففيه الدية، واحتج بالآية، ووجه الدلالة منها أن شرع من قبلنا شرع لنا، إذا ورد على لسان الشارع بغير إنكار، وقد دل قوله (السن بالسن) على أجراء القصاص في العظم، لأن السن عظم، إلا ما أجمعوا على أن لا قصاص فيه، إما لخوف ذهاب النفس، وإما لعدم الاقتدار على المماثلة فيه. وقال الشافعي والليث والحنفية: لا قصاص في العظم، غير السن، لأن دون العظم حائلاً، من جلد ولحم وعصب، يتعذر معه المماثلة، فلو أمكنت لحكمنا بالقصاص، ولكنه لا يصل إلى العظم، حتى ينال ما دونه، مما لا يعرف قدره. وقال الطحاوي: اتفقوا على أنه لا قصاص في عظم الرأس، فيلتحق به سائر العظام. وتعقب بأنه قياس مع وجود النص، فإن في حديث الباب أنها كسرت الثنية، فأمرت بالقصاص، مع أن الكسر لا تطرد فيه المماثلة. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - استدل بعضهم بقوله في الرواية الرابعة "ادفع يدك حتى يعضها، ثم انتزعها" على إجراء القصاص في العضة، وقد يقال: إن العض هنا إنما أذن فيه للتوصل إلى القصاص في قلع السن. والجواب السديد، أن هذا الأمر أمر تهديد. 2 - استدل بالقصة على التحذير من الغضب، وأن عاقبة الانسياق معه، والتصرف بدوافعه عاقبة وخيمة لأنه أدى إلى سقوط ثنية الغضبان، لأن يعلى غضب من أجيره، فعضه

يعلى، فنزع الأجير يده، فسقطت ثنية يعلى، ولولا الاسترسال مع الغضب لسلم من ذلك، فينبغي لمن غضب أن يكظم غيظه. 3 - استدل بالرواية السادسة، بقول يعلى عن غزوة تبوك "كان لي أجير" على جواز استئجار الحر، للخدمة وكفاية مؤنة العمل في الغزو، لا ليقاتل عنه. 4 - وفيه رفع الجناية إلى الحاكم من أجل الفصل، وأن المرء لا يقتص لنفسه. 5 - وأن المتعدي بالجناية يسقط ما ثبت له بسببها من جناية، إذا ترتبت الثانية على الأولى. 6 - ومن قوله "كما يعض الفحل" جواز تشبيه فعل الآدمي بفعل البهيمة، إذا وقع في مقام التنفير عن مثل ذلك الفعل، وفي الحديث "الراجع في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه". 7 - ومن إنكار يعلى نفسه، أن من وقع له أمر يأنفه، أو يحتشم من نسبته إليه إذا حكاه، كنى عن نفسه بأن يقول: فعل رجل، أو إنسان، أو نحو ذلك، كذا وكذا. وقد وقع لعائشة - رضي الله عنها - مثل ذلك، حيث قالت "قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من نسائه" فقال لها عروة: هل هي إلا أنت؟ "فتبسمت". 8 - وفيه إشارة إلى تحريم العض، وقبحه، وأنه لا يليق بأهل المروءات. 9 - ومن قوله في الرواية الرابعة "ما تأمرني؟ تأمرني أن آمره أن يدع يده في فيك، تقضمها كما يقضم الفحل" تنبيه الجاني إلى حيثيات الحكم ليقتنع به. 10 - ومن الرواية السابعة قال النووي: فيها إثبات القصاص بين الرجل والمرأة، وفيه ثلاثة مذاهب: أحدها: مذهب عطاء والحسن، أنه لا قصاص بينهما، في نفس ولا طرف، تعلقا بقوله تعالى {والأنثى بالأنثى} [البقرة: 178]. الثاني: مذهب جماهير العلماء من الصحابة والتابعين، فمن بعدهم، ثبوت القصاص بينهما في النفس، وفيما دونها، مما يقبل القصاص، واحتجوا بقوله تعالى {النفس بالنفس .. } إلى آخر الآية. الثالث: وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه: يجب القصاص بين الرجال والنساء في النفس، ولا يجب فيما دونها. اهـ. كذا قال النووي. ولست أرى دلالة في الحديث على ما قال: وإنما يستدل على المسألة بحديث اليهودي والجارية السابقة. 11 - وفيه وجوب القصاص في السن، وهو مجمع عليه، إذا قلعها كلها، فإن كسر بعضها ففيه في كسر سائر العظام خلاف. 12 - وجواز الحلف فيما يظنه الإنسان.

13 - والثناء على من لا يخاف عليه الفتنة بالثناء. 14 - واستحباب العفو عن القصاص. 15 - واستحباب الشفاعة في العفو. 16 - وأن الخيرة بين القصاص والدية إلى مستحقه. 17 - وأن كل من وجب له القصاص في النفس أو دونها، فعفا على مال، فرضوا به جاز. واللَّه أعلم

(445) باب حرمة الدماء والأعراض والأموال

(445) باب حرمة الدماء والأعراض والأموال 3848 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة". 3849 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "والذي لا إله غيره لا يحل دم رجل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا ثلاثة نفر: التارك الإسلام المفارق للجماعة أو الجماعة (شك فيه أحمد) والثيب الزاني، والنفس بالنفس". 3850 - - وفي رواية عن الأعمش بالإسنادين جميعًا نحو حديث سفيان ولم يذكرا في الحديث قوله "والذي لا إله غيره". 3851 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل". 3852 - - وفي رواية عن الأعمش بهذا الإسناد وفي حديث جرير وعيسى بن يونس "لأنه سن القتل" لم يذكرا أول.

3853 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء". 3854 - - عن شعبة "يقضى" وبعضهم قال "يحكم بين الناس". 3855 - عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات، ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب شهر مضر الذي بين جمادى وشعبان" ثم قال "أي شهر هذا؟ " قلنا الله ورسوله أعلم. قال: فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال "أليس ذا الحجة؟ " قلنا: بلى. قال "فأي بلد هذا؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال "أليس البلدة؟ " قلنا: بلى. قال "فأي يوم هذا؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال "أليس يوم النحر؟ " قلنا: بلى يا رسول الله. قال "فإن دماءكم وأموالكم (قال محمد وأحسبه قال) وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا. وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم فلا ترجعن بعدي كفارًا (أو ضلالاً) يضرب بعضكم رقاب بعض. ألا ليبلغ الشاهد الغائب فلعل بعض من يبلغه يكون أوعى له من بعض من سمعه" ثم قال "ألا هل بلغت؟ " قال ابن حبيب في روايته "ورجب مضر" وفي رواية أبي بكر "فلا ترجعوا بعدي". 3856 - عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه رضي الله عنه قال: لما كان ذلك اليوم قعد على بعيره وأخذ إنسان بخطامه. فقال "أتدرون أي يوم هذا؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه. فقال "أليس بيوم النحر؟ " قلنا: بلى يا رسول الله. قال "فأي شهر هذا؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم. قال "أليس بذي الحجة؟ " قلنا: بلى يا رسول الله. قال

"فأي بلد هذا؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه. قال "أليس بالبلدة؟ " قلنا: بلى يا رسول الله قال "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا فليبلغ الشاهد الغائب" قال: ثم انكفأ إلى كبشين أملحين فذبحهما وإلى جزيعة من الغنم فقسمها بيننا. 3857 - - عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: لما كان ذلك اليوم جلس النبي صلى الله عليه وسلم على بعير. قال: ورجل آخذ بزمامه (أو قال بخطامه) فذكر نحو حديث يزيد بن زريع. 3858 - عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر فقال "أي يوم هذا؟ " وساقوا الحديث بمثل حديث ابن عون غير أنه لا يذكر "وأعراضكم" ولا يذكر ثم انكفأ إلى كبشين وما بعده وقال: في الحديث "كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم ألا هل بلغت؟ " قالوا: نعم. قال "اللهم اشهد". -[المعنى العام]- {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة: 30]. وخلق آدم وحواء، وأنزلهما من الجنة إلى الأرض، وأنزل معهما إبليس عدوهما، وحذرهما منه، بل حذر ذريتهما منه، فقال: {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما} [الأعراف: 27] وكان سفك الدماء البشرية على هذه الأرض نتيجة مهمة من نتائج كفاح إبليس مع ابن آدم، فهو أكبر إفساد في الأرض، وقد بدأ في حياة آدم عليه السلام، ومع ولدين من أولاده، قابيل وهابيل، ووضحت مسالك البشر في دنياهم مناظرتهما ومجادلتهما، بشر يحترمون الآدميين، ويخافون الله، ويجتنبون الآثام، ليبتعدوا عن نار يوم القيامة، وبشر لا يخافون الله، ولا يحترمون الآدميين، ويستهينون بالقتل، وإراقة الدماء، ويذكرنا الله بعد حين من الدهر بمناقشتهم وجدالهم، فيقول {واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانًا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين * لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما

أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين * إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين * فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين * فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين * من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا} [المائدة: 27 وما بعدها] ومن أجل ذلك كان على ابن آدم القاتل لأخيه نصيب من ذنب كل من يقتل مسلمًا، فهو الذي سن القتل وابتدعه في بني آدم ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة. وجاءت الشرائع السماوية كلها، شريعة بعد شريعة، تعظم إراقة دماء البشر، وتحذر من اعتداء الإنسان على أخيه الإنسان، وتغلظ حرمة الدماء والأموال والأعراض، وكم حذر رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، وكم أنذر، فقال: إن أول خصمين يوم القيامة، يقفان في ساحة القضاء، بين يدي أحكم الحاكمين، قاتل ومقتول، قاتل يقف مكتوف اليدين مغلولهما، مقيد الرجلين، في سلسلة ذرعها سبعون ذراعًا، مطرق الرأس ذليلاً، ومقتول يحمل بين يديه رأسه، يسيل الدم ويتدفق من عروقه وأوداجه، يقول المقتول رب: سل هذا القاتل. فيم قتلني؟ منظر رهيب، وقضاء عادل، يوم يقتص للشاة من شاة كانت نطحتها في الدنيا. كم حذر صلى الله عليه وسلم من قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وكم حذر القرآن الكريم، حتى كانت الوصية الأخيرة التي قدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، في حجة الوداع، فكان فيها: أيها الناس. إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، يوم النحر، في شهركم هذا الذي حرمه الله، في بلدكم هذه التي حرمها ربكم. هذا بلاغي عن ربي لكم، فبلغوه لمن وراءكم. ألا هل بلغت. اللهم فاشهد أنني قد بلغت. فسلام الله عليك يا رسول الله نشهد أنك بلغت الرسالة وأديت الأمانة، ونصحت الأمة وكشفت الغمة، وعبدت ربك حتى أتاك اليقين. فصلى الله وسلم وبارك عليك وعلى آلك وأصحابك ومن اتبع هداك إلى يوم الدين. -[المباحث العربية]- (لا يحل دم امرئ مسلم) وفي الرواية الثانية "لا يحل دم رجل مسلم" والمراد لا يحل إراقة دم امرئ مسلم أي إراقة دمه كله، وهو كناية عن قتله. (يشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأني رسول اللَّه) هذه صفة ثانية، ذكرت لبيان أن المراد بالمسلم هو الآتي بالشهادتين أو حال مقيدة للموصوف، إشعارًا بأن الشهادة هي العمدة في حقن الدماء، ويشهد له قوله صلى الله عليه وسلم لأسامة "كيف تصنع بلا إله إلا الله"؟ فهي صفة مفسرة لقوله "مسلم" وليست قيدًا فيه، إذ لا يكون مسلمًا إلا بذلك. (إلا بإحدى ثلاث) استثناء من عموم الأحوال، أي لا يحل دم امرئ مسلم في حال من الأحوال

إلا في حالة من أحوال ثلاث أو من عموم العلل والأسباب، أي لا يحل دم امرئ مسلم لسبب من الأسباب ولخصلة من الخصال إلا بخصلة من ثلاث وفي الرواية الثانية "إلا ثلاثة نفر" أي لا يحل دم أي رجل من المسلمين إلا ثلاثة رجال. (النفس بالنفس) ذكرت أولاً في رواية البخاري، وذكرت ثانيًا في روايتنا الأولى، وثالثًا في روايتنا الثانية. والمراد به القصاص بشروطه، أي يحل دم النفس القاتلة عمدًا بغير حق بسبب قتلها النفس الأخرى وفي رواية للبزار "من قتل نفسًا ظلمًا". (الثيب الزان) قال النووي: هكذا هو في النسخ "الزان" من غير ياء بعد النون، وهي لغة صحيحة قرئ بها في السبع، كما في قوله تعالى {الكبير المتعال} [الرعد: 9] والأشهر في اللغة إثبات الياء. والمراد رجمه بالحجارة حتى يموت، أي فيحل قتله، وعند النسائي "ورجل زنى بعد إحصان". (والتارك لدينه، المفارق للجماعة) وفي الرواية الثانية "التارك الإسلام" بنصب "الإسلام" مفعول "التارك" "والمفارق للجماعة" بلام الجر، أو "المفارق الجماعة" بنصب "الجماعة" مفعول "المفارق" والواو في الرواية الثانية الداخلة على "المفارق" واو تفسيرية، فالمراد من المفارق للجماعة التارك لدينه، وإلا لصارت الخصال أربعًا، والمراد بالجماعة جماعة المسلمين. (إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه كان أول من سن القتل) يشير بذلك إلى القصة التي قصها القرآن عن ابني آدم، إذ قتل أحدهما أخاه، واختلف في القاتل، قال الحافظ ابن حجر: والمشهور قابيل والمقتول هابيل، وقيل غير ذلك، وقيل في سبب القتل أن آدم كان يزوج ذكر كل بطن من ولده، بأنثى البطن الآخر، وأن أخت قابيل كانت أحسن من أخت هابيل، فأراد قابيل أن يستأثر بأخته، فمنعه آدم، فلما ألح عليه أمرهما أن يقربا قربانًا، فقرب قابيل حزمة من زرع، وكان صاحب زرع، وقرب هابيل بقرة سمينة، وكان صاحب ضرع، فنزلت نار، فأكلت قربان هابيل، دون قابيل. هذا هو المشهور. والكفل بكسر الكاف الجزء والنصيب، وقال الخليل: هو الضعف، والمناسب هنا الأول، والمراد من "سن" بفتح السين وتشديد النون، ابتدع، فالسنة لغة الطريقة المبتدعة، غير المسبوقة. (أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء) "في الدماء" متعلق بمحذوف، أي يقضى في الدماء التي وقعت بين الناس في الدنيا، أي أول القضايا التي تعرض يوم القيامة قضايا الدماء، وفي ملحق الرواية "أول ما يحكم بين الناس في الدماء" زاد في رواية "ويأتي كل قتيل، قد حمل رأسه، فيقول: يا رب سل هذا. فيم قتلني"؟ وفي رواية "يأتي المقتول معلقًا رأسه بإحدى يديه، ملببًا قاتله بيده الأخرى، تشخب أوداجه دمًا، حتى يقف بين يدي الله" ولا يعارض هذا حديث "أول

ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة" إذ الأولية في كل منهما مقيدة، فهناك الأولية بالنسبة لمعاملات الخلق، والأولية بالنسبة لمعاملة الخالق. (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللَّه السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا) المراد بالزمان السنة، ولفظ الزمان في الأصل يطلق على القليل والكثير من الوقت، والمراد باستدارته إلى الوضع الذي كان عليه يوم خلق السموات والأرض وقوع تاسع ذي الحجة في شهر مارس، وهو آذار، وهو برمهات بالقبطية، وفيه يستوي الليل والنهار، عند حلول الشمس برج الحمل. وفي رواية عند ابن مردويه "إن الزمان قد استدار، فهو اليوم، كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض" والكاف في "كهيئته" صفة لمصدر محذوف، تقديره: استدارة مشبهة وضعه يوم خلق الله السموات والأرض. قال النووي: قال العلماء: معناه أنهم في الجاهلية كانوا يتمسكون بملة إبراهيم عليه السلام في تحريم الأشهر الحرم، وكان يشق عليهم منع القتال ثلاثة أشهر متواليات، فكانوا إذا احتاجوا إلى قتال، أخروا تحريم المحرم إلى الشهر الذي بعده، فيغيرون الأسماء، يسمون المحرم صفرًا، وصفر المحرم، ثم يؤخرونه في السنة الأخرى إلى شهر آخر، وهكذا يفعلون في سنة بعد سنة، حتى اختلط عليهم الأمر، وصادفت حجة النبي صلى الله عليه وسلم رجوع المحرم إلى موضعه. اهـ. فكان نتيجة ذلك أن تغيرت الأشهر الحرم عن مكانها الحقيقي، حتى كادت تصبح أربعة مطلقة من السنة والمراد من "السنة" في الحديث السنة الهجرية، أي العربية الهلالية اثنا عشر شهرًا. قال الله تعالى {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب اللَّه} أي في اللوح المحفوظ {يوم خلق السماوات والأرض} [التوبة: 36] أي في ابتداء إيجاد العالم. والشهر العربي القمري يرتبط برؤية الهلال شرعًا بالشرط المعروف في الفقه، وحقيقة يرتبط باجتماع القمر مع الشمس في نقطة، وعوده بعد المفارقة إليها، ولا دخل للخروج من تحت الشعاع، إلا في إمكان الرؤية، بحسب العادة الشائعة، ومدة ما ذكر (29 - ) تسعة وعشرون يومًا، ومائة وواحد وتسعون جزءًا من ثلاثمائة وستين جزءًا لليوم بليلته، وتكون السنة القمرية ثلاثمائة وأربعة وخمسين يومًا، وخمس يوم وسدسه وثانية، وذلك أحد عشر جزءًا من ثلاثين جزءًا من اليوم بليلته (354 - يومًا) وكانوا إذا اجتمع من هذه الأجزاء أكثر من نصف عدده حسبوه يومًا كاملاً، وزادوه في الأيام، وتكون تلك السنة حينئذ كبيسة، وتكون أيامها (355) ثلاثمائة وخمسة وخمسين يومًا. ولما كان مدار الشهر الشرعي على الرؤية اختلفت الأشهر، فكان بعضها ثلاثين يومًا، وبعضها تسعة وعشرين يومًا، ولا يتعين شهر للكمال، وشهر للنقصان، بل قد يكون الشهر ثلاثين يومًا في بعض السنين وتسعة وعشرين يومًا في بعض آخر منها، أما ما في الصحيحين، من قوله صلى الله عليه وسلم "شهرا عيد لا ينقصان. رمضان وذو الحجة" فمحمول على معنى لا ينقص أجرهما وثوابهما، وقيل: معناه لا ينقصان جميعًا في سنة واحدة غالبًا.

(منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات، ذو القعدة وذو الحجة، والمحرم ورجب شهر مضر، الذي بين جمادى وشعبان) كان العرب قبل الإسلام يؤرخون بالحوادث الكبيرة، فيقال: عام الفيل، وعام موت هشام بن المغيرة، ونحو ذلك ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ كثير من المسلمين هجرته مبدأ لتاريخهم، وكانت في ربيع الأول وتناسوا ما قبله، وسموا السنوات بأسماء الحوادث الكبرى، كعام الحديبية، وعام الفتح، وعام العسرة، وظل الأمر على هذا المنوال إلى خلافة عمر رضي الله عنه حيث روي أنه - رضي الله عنه - رفع إليه صك مؤرخ بشعبان، فقال: أي شعبان هو؟ وجمع أهل الرأي، وطلب منهم أن يضعوا للناس تاريخًا، يتعاملون عليه، ويضبط أوقاتهم، حيث اتسعت بلادهم، وكثرت أموالهم ومعاملاتهم، فذكروا له تاريخ اليهود، فما ارتضاه، وذكروا له تاريخ الفرس، فما ارتضاه، فاستحسنوا تاريخ الهجرة، وجعلوا أول شهورها المحرم، فأصبحت الأشهر الحرم الثلاثة المتوالية (القعدة والحجة والمحرم) من سنتين، وكانت قبل من سنة واحدة. وإنما أضيف "رجب" إلى مضر، لأنهم كانوا متمسكين بحرمته وتعظيمه، بخلاف غيرهم الذين نقلوه إلى شعبان ونقلوا شعبان مكانه، فسموا شعبان رجبًا، وسموا رجبًا بشعبان، فوصف بكونه بين جمادى وشعبان في الحديث تأكيدًا لمكانه بين الشهور، و"ذو القعدة" بفتح القاف، و"ذو الحجة" بكسر الحاء في اللغة المشهورة، ويجوز في لغة قليلة كسر القاف وفتح الحاء. (أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم) إلخ. قال النووي: هذا السؤال والسكوت والتفسير، أراد به التفخيم والتقرير والتنبيه على عظم مرتبة هذا الشهر والبلد واليوم، ليبنى على هذا التعظيم والتفخيم تعظيم شأن المشبه، وهو الدماء والأموال والأعراض، وقولهم: "الله ورسوله أعلم" فوضوا علم الشهر والبلد واليوم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، مع أنهم يعلمونها حق العلم، لأنهم فهموا أنه صلى الله عليه وسلم لا يخفى عليه أنهم يعرفون الجواب، ففهموا أنه ليس المراد الإخبار بالأسماء، وأن المراد من السؤال شيء آخر، ففوضوا العلم به. (أليس البلدة؟ ) "ال" فيها للكمال، أي البلدة الجامعة للخير، المستحقة لجمع فضائل هذا الاسم. (فلا ترجعن بعدي كفارًا - أو ضلالاً - يضرب بعضكم رقاب بعض) "ترجعن" بضم العين، ونون التوكيد، وفي ملحق الرواية "فلا ترجعوا" ومعنى "بعدي" بعد فراقي من موقفي هذا، أي بعد الآن، أو من ورائي وخلفي، أي لا تخلفوني في أنفسكم بغير الذي أمرتكم به، أو بعد مماتي، ويكون النبي صلى الله عليه وسلم، قد تحقق أن هذا لا يكون في حياته، فنهاهم عنه بعد مماته، وفي لفظ للبخاري "لا ترتدوا". و"يضرب" روي بالجزم، وروي بالرفع، وضرب الرقاب كناية عن القتل، فالمعنى لا يقاتل فيقتل بعضكم بعضًا، وقال الخطابي: المراد بالكفار المتكفرون بالسلاح، يقال: تكفر الرجل بسلاحه إذا لبسه، وقيل: معناه لا يكفر بعضكم بعضًا، فتستحلوا قتال بعض.

(ألا ليبلغ الشاهد الغائب) المراد من "الشاهد" الحاضر السامع. (لما كان ذلك اليوم) أي يوم حجة الوداع، وفي منى. (قعد على بعيره) الضمير للرسول صلى الله عليه وسلم، وإن لم يسبق له ذكر، للعلم به، كقوله تعالى {حتى توارت بالحجاب} [ص: 32]. (وأخذ إنسان بخطامه) أي خطام البعير، وهو بكسر الخاء الزمام، وهو الحبل الذي يوضع على أنف البعير ليقاد به. والقصد هنا من إمساكه والأخذ به، منعه من الحركة والاضطراب. (ثم انكفأ إلى كبشين أملحين) "انكفأ" بهمز في آخره، أي انقلب، والأملح هو الذي فيه بياض وسواد، والبياض أكثر. (وإلى جزيعة من الغنم، فقسمها بيننا) "الجزيعة" بضم الجيم وفتح الزاي، ورواه بعضهم بفتح الجيم وكسر الزاي، وكلاهما صحيح، والأول هو المشهور، وهي القطعة من الغنم، وأصلها القليل من الشيء وكأنه قسم مجموعة قليلة من الشياه على أصحابه الذين لا يملكون ذبائح، ليذبحوها. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث]- 1 - تغليظ حرمة الدماء، والذنب يعظم بحسب عظم المفسدة، المترتبة عليه، وتفويت المصلحة الناتج عنه، وإراقة دم الإنسان غاية في ذلك. 2 - وفي قوله "الثيب الزاني" دليل على قتل الزاني المحصن بالرجم، قال النووي: وهذا بإجماع المسلمين. 3 - وبقوله "النفس بالنفس" استدل أصحاب أبي حنيفة على قتل المسلم بالذمي، والحر بالعبد، وجمهور العلماء - مالك والشافعي والليث وأحمد - على خلافه. 4 - استدل بقوله "التارك لدينه" على أن الردة عن الإسلام سبب لإباحة دم المسلم، وهو محل إجماع في الرجل، أما في المرأة ففيها خلاف. 5 - استدل بهذا الحديث الجمهور على أن المرأة في الردة حكمها حكم الرجل، لاستواء حكمهما في الزنا، وتعقب بأنها دلالة اقتران، وهي ضعيفة. 6 - استدل بقوله "المفارق للجماعة" على إباحة دم المخالف والخارج على الإجماع، فيكون متمسكًا لمن يقول: مخالف الإجماع كافر، قال ابن دقيق العيد: وقد نسب ذلك إلى بعض الناس. قال: وليس ذلك بالهين، فإن المسائل الإجماعية، تارة يصحبها التواتر بالنقل عن صاحب الشرع،

كوجوب الصلاة مثلاً، وتارة لا يصحبها التواتر، فالأول يكفر جاحده، لمخالفة التواتر، لا لمخالفة الإجماع، والثاني لا يكفر به، قال في شرح الترمذي: الصحيح في تكفير منكر الإجماع، تقييده بإنكار ما يعلم وجوبه من الدين بالضرورة، كالصلوات الخمس. 7 - واستدل به على إباحة دم كل خارج عن الجماعة ببدعة، كالروافض والخوارج وغيرهم قاله النووي. قال الحافظ ابن حجر: والقول في القدرية وسائر المبتدعة مفرع على القول بتكفيرهم. 8 - قال بعضهم: إن حصر ما يباح دمهم في هذه الثلاثة من قبيل العام المخصوص، فهناك غيرهم ممن يباح دمهم، كالصائل، فإنه يباح دمه في الدفع، وقد يجاب عن هذا بأنه داخل في المفارق للجماعة، أو يكون المراد: لا يحل تعمد قتله، بمعنى أنه لا يحل قتله إلا مدافعة، بخلاف الثلاثة. وكالبغاة: لقوله تعالى {فقاتلوا التي تبغي} [الحجرات: 9] وقد يجاب بأن الآية تبيح القتال، وليس القتل، بدليل أنه لو استسلم لم يقتل. وكالزنديق: وقد يجاب بأن قتله استصحاب لكفره، فإن تاب لم يقتل. وكمانعي الزكاة: وقد يجاب بأنها تؤخذ منه قهرًا، فإن نصب القتال قوتل، وليس بقتل. وكتارك الصلاة: عند من لا يكفره، وقد اختلف فيه، فذهب أحمد وإسحق وبعض المالكية، ومن الشافعية ابن خزيمة وغيره إلى أنه يكفر بذلك، ولو لم يجحد وجوبها، وذهب الجمهور إلى أنه يقتل حدًا، وذهب الحنفية ووافقهم المزني إلى أنه لا يكفر، ولا يقتل. 9 - وفي الحديث جواز وصف الشخص بما كان عليه، ولو انتقل عنه، لاستثنائه المرتد من المسلمين، وهو باعتبار ما كان. 10 - ومن الرواية الثالثة أن كل من ابتدع شيئًا من الشر كان عليه مثل وزر كل من اقتدى به في ذلك العمل، إلى يوم القيامة، ومثله من ابتدع شيئًا من الخير، كان له مثل أجر كل من يعمل به إلى يوم القيامة، وهو موافق للحديث الصحيح "من سن سنة حسنة ... ومن سن سنة سيئة ... " وللحديث الصحيح "من دل على خير، فله مثل أجر فاعله". 11 - ومن الرواية الخامسة وما بعدها أن الأشهر الحرم أربعة، وقد أجمع على ذلك المسلمون، ولكن اختلفوا في الأدب المستحب في كيفية عدها فقالت طائفة من أهل الكوفة وأهل الأدب: يقال: المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة، ليكون الأربعة من سنة واحدة، وقال علماء المدينة والبصرة وجماهير العلماء: هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، ثلاثة سرد، وواحد فرد. قال النووي: وهذا هو الصحيح الذي جاءت به الأحاديث الصحيحة. 12 - ومن قول الصحابة "الله ورسوله أعلم" أدب الصحابة، ودقة فهمهم، وحسن جوابهم. 13 - ومن قوله "ليبلغ الشاهد الغائب" وجوب تبليغ العلم، وهو فرض كفاية، وقد يتعين في حق بعض الناس.

14 - ومن قوله "فلعل بعض من يبلغه، يكون أوعى له من بعض من سمعه" جواز رواية الفضلاء وغيرهم، من الشيوخ الذين لا علم لهم ولا فقه، إذا ضبط ما يحدث به. 15 - قال المهلب: فيه أنه يأتي في آخر الزمان من يكون له من الفهم في العلم، ما ليس لمن تقدمه، إلا أن ذلك يكون في الأقل. 16 - وفيه دلالة على جواز تحمل الحديث لمن لم يفهم معناه ولا فقهه إذا ضبط ما يحدث به، ويجوز وصفه بأنه من أهل العلم. 17 - ومن خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم على بعيره استحباب الخطبة على موضع عال، من منبر وغيره، سواء خطبة الجمعة والعيدين وغيرهما، وحكمته أنه كلما ارتفع كان أبلغ في إسماعه الناس، ورؤيتهم إياه، ووقوع كلامه في نفوسهم. 18 - ومن قوله "أليس البلدة"؟ أن المطلق قد يحمل على الكامل، فهو اسم خاص بمكة، وهي المرادة بقوله تعالى {إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة} [النمل: 91]. 19 - ومن قوله "أي شهر هذا" إلخ تأكيد التحريم وتغليظه بأبلغ ما يمكن من تكراره ونحوه. 20 - وفيه مشروعية ضرب المثل، وإلحاق النظير بالنظير، ليكون أوضح للسامع. وإنما شبه حرمة الدم والعرض والمال بحرمة اليوم والشهر والبلد، لأن المخاطبين بذلك كانوا يعظمون هذه الأشياء، ولا يرون هتك حرمتها، ويعيبون على من فعل ذلك أشد العيب، فقدم السؤال عنها تذكيرًا لحرمتها، وتقريرًا لما ثبت في نفوسهم، ليبني عليه ما أراد تقريره على سبيل التأكيد. واللَّه أعلم

(446) باب صحة الإقرار بالقتل

(446) باب صحة الإقرار بالقتل 3859 - عن علقمة بن وائل عن أبيه رضي الله عنه قال: إني لقاعد مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل يقود آخر بنسعة فقال: يا رسول الله هذا قتل أخي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أقتلته؟ " (فقال إنه لو لم يعترف أقمت عليه البينة) قال: نعم قتلته. قال "كيف قتلته؟ " قال: كنت أنا وهو نختبط من شجرة فسبني فأغضبني فضربته بالفأس على قرنه فقتلته. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "هل لك من شيء تؤديه عن نفسك؟ " قال ما لي مال إلا كسائي وفأسي. قال "فترى قومك يشترونك؟ " قال: أنا أهون على قومي من ذاك فرمى إليه بنسعته وقال "دونك صاحبك" فانطلق به الرجل فلما ولى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن قتله فهو مثله" فرجع فقال: يا رسول الله إنه بلغني أنك قلت "إن قتله فهو مثله" وأخذته بأمرك. فقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم "أما تريد أن يبوء بإثمك وإثم صاحبك؟ " قال: يا نبي الله (لعله قال) بلى. قال "فإن ذاك كذاك" قال: فرمى بنسعته وخلى سبيله. 3860 - عن علقمة بن وائل عن أبيه رضي الله عنه قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل قتل رجلاً فأقاد ولي المقتول منه فانطلق به وفي عنقه نسعة يجرها. فلما أدبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "القاتل والمقتول في النار" فأتى رجل الرجل فقال له مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلى عنه. قال إسمعيل بن سالم فذكرت ذلك لحبيب بن أبي ثابت. فقال: حدثني ابن أشوع "أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما سأله أن يعفو عنه فأبى". -[المعنى العام]- سبق في حديث اليهودي الذي قتل الجارية بالحجارة أنه أخذ بإقراره واعترافه، واقتص منه بالطريقة نفسها التي قتل بها الجارية، فالإقرار سيد الأدلة، كما يقولون، وكان يكفي لصحة الإقرار بالقتل العمد، وللعمل بهذا الإقرار الحديث المشار إليه سابقًا، وما هو معلوم في نفوس الصحابة، كما كان من المناسب أن يوضع هذا الحديث وذاك تحت باب واحد، من حيث دلالة كل منهما على صحة الإقرار بالقتل. لكن ذاك الحديث استدل به على القصاص بالحجر ونحوه.

وهذا الحديث يبرز أن القتل أو الضرب بما يقتل غالبًا كالفأس هو من القتل العمد، وإن لم يقصد الضارب القتل، وإن كان مثارًا أو مغضبًا، فهذا الرجل لا يملك إلا ثوبه وفأسه، خرج يجمع بعض الحشائش وعلف المواشي، ليبيعها، ويعيش من ثمنها، فشاء القدر أن يجعل له منافسًا على هذا الرزق الضيق، وأن يتسابق هو وآخر في جمع أوراق شجرة، واحتك أحدهما بالآخر، فكان السباب وكان التصارع، وأسرع أحدهما إلى فأسه فضرب الآخر على رأسه، فكان قدره، ولم يهرب القاتل من هول الموقف، فليس القتل حرفته، ولم يظن أن الضربة قاتلة، وتجمع الناس حوله، ومعهم أخو القتيل، وكان الإسلام قد هذب نفوس البدو، وأقنعهم بضبط النفس، وكظم الغيظ، ورفع الأمر للقضاء، فلم تمتد يد الأخ إلى القاتل، ولم يمسسه أحد بسوء، ولكنهم ربطوه من عنقه بحبل، واقتادوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال أخو المقتول: يا رسول الله؛ هذا قتل أخي. وسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقتلته؟ قال: نعم قتلته. قال له: لم وكيف قتلته؟ قال: كنا نجمع سويًا أوراق شجرة لبيعها، فتزاحمنا، فدفعني ودفعته، فسبني سبًا جارحًا، فضربته بفأس على رأسه، فكانت القاضية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تملك دية القتيل؟ قال: لا أملك إلا ثوبي وفأسي. قال: هل يدفع أهلك دية القتيل؟ قال: لا يملكون دية، ولا يهمهم أمري. قال: لأخ القتيل؟ هل تعفو ولك الأجر من الله؟ قال: لا. قال: خذه فاقتص منه، فأخذه الرجل ومضى، وسمع أحد الحاضرين رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن قتله فقد صار مثله، لا فضل لأحدهما على الآخر، فجرى إليه، وبلغه مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع به، فقال: يا رسول الله ألست أذنت لي بقتله؟ قال: نعم، ولكنك لو عفوت عنه كان لك أجرك وأجر أخيك. فعفا عنه وأطلقه. -[المباحث العربية]- (إذ جاء رجل يقود آخر بنسعة) النسعة بكسر النون، وسكون السين، وفتح العين ضفيرة من جلود، أي حبل مضفور من جلود، والنسع بكسر النون سير طويل عريض، تشد به الحقائب أو الرحال، وكان ولي المقتول قد ربط القاتل بسير طويل عريض من الجلد في رقبته، وأمسك بطرف النسعة، يقوده بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. (أقتلته؟ ) استفهام حقيقي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، موجه إلى القاتل. (فقال: إنه لو لم يعترف أقمت عليه البينة) أي فقال أخو المقتول - حين رأى القاتل وقد تلكأ في الجواب - إنه لو لم يقر ويعترف جئت بالشهود. (قال: نعم قتلته) أي اعترف القاتل، ولم يكتف بنعم، بل أكد الجواب بالتصريح بمضمون "نعم". (كيف قتلته)؟ استفهام عن كيفية القتل، للتأكد من استعمال القتل في معناه الحقيقي، ومن كونه عمدًا، أو خطأ.

(كنت أنا وهو نختبط من شجرة) أي نجمع الخبط، بفتح الخاء والباء، وهو ورق الشجر الساقط بسبب الخبط - بسكون الباء - يقال: خبط الشجرة بالمخبط، أي ضربها به، ليسقط ورقها، وفي رواية "كنت أنا وهو نحتطب من شجرة"، بالنون المفتوحة والحاء الساكنة، بعدها تاء ثم طاء، أي نجمع الحطب، والحطب كل ما جف من زرع وشجر، توقد به النار، وفي حديث عمر "ولقد رأيتني بهذا الحبل أحتطب مرة وأختبط أخرى" أي فكان الرجلان يضربان شجرة، بالعصا ونحوها ليسقط الورق فيجمعانه علفًا". (فضربته بالفأس على قرنه) قرن الإنسان جانب رأسه، مكان القرن من الحيوان ذي القرن. (هل لك من شيء تؤديه عن نفسك؟ ) كدية للقتيل، تفدي به نفسك من القصاص؟ (فترى قومك يشترونك) أي يدفعون دية القتيل، كمقابل لحياتك؟ (فرمى إليه بنسعته) كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ممسكًا بالحبل المربوط به الرجل، أو كان الحبل قريبًا منه، فألقى بالحبل إلى ولي المقتول، يمكنه منه. وفي الرواية الثانية "فأقاد ولي المقتول منه" أي مكنه من القود والقصاص "فانطلق به، وفي عنقه نسعة يجرها" كان هذا بعد أن طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من ولي المقتول أن يعفو عن القاتل، فأبى كما جاء في ملحق الرواية الثانية. (وقال: دونك صاحبك) "دون" هنا اسم فعل، بمعنى خذ، وصلت بكاف الخطاب، و"صاحبك" مفعول به. (إن قتله فهو مثله) قال النووي: الصحيح في تأويله أنه مثله، في أنه لا فضل ولا منة لأحدهما على الآخر، لأنه استوفى حقه منه، بخلاف ما لو عفا عنه، فإنه يكون له الفضل والمنة وجزيل ثواب الآخرة، وجميل الثناء في الدنيا، وقيل: فهو مثله في أنه قاتل، وإن اختلفا في التحريم والإباحة، ومثله في أنهما استويا في إطاعتهما الغضب، ومتابعة الهوى، لا سيما وقد طلب النبي صلى الله عليه وسلم منه العفو. (أما تريد أن يبوء بإثمك، وإثم صاحبك؟ ) قيل: معناه يتحمل إثم المقتول، بإتلافه نفسه، وإثم الولي، لكونه فجعه في أخيه؟ قال النووي: ويكون قد أوحي إليه صلى الله عليه وسلم، بذلك في هذا الرجل خاصة، ويحتمل أن معناه: يكون عفوك عنه سببًا لسقوط إثمك وإثم أخيك المقتول، والمراد إثمهما السابق، بمعاص لهما متقدمة، لا تعلق لها بهذا القاتل، فيكون معنى "يبوء"، وأطلق هذا اللفظ عليه مجازًا. (قال: بلى. قال: فإن ذاك كذاك) أي قال: ولي المقتول: بلى. أريد أن يبوء بإثمي وإثم أخي. قال صلى الله عليه وسلم: فإن ذلك العفو المطلوب يشبه أن يبوء بإثمك وإثم أخيك. (القاتل والمقتول في النار) عبارة قيلت في المتقاتلين، إذا التقى المسلمان بسيفيهما في

المقاتلة المحرمة، وإنما ذكرت هنا للتعريض والتخويف، وليس المراد بهذه العبارة ولي المقتول إذا اقتص من القاتل، لأنه إنما أخذه ليقتله، بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي في فقه الحديث توضيحه ونظائره. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث]- 1 - أن الإقرار بالقتل مقبول، ويعمل به، بل الحكم بالإقرار حكم يقيني، والحكم بالبينة ظني. قاله النووي. 2 - جواز سؤال المدعى عليه، قبل مطالبة المدعي بالبينة، فلعل المدعى عليه يقر، فيستغني المدعي والقاضي عن التعب في إحضار الشهود وتعديلهم. 3 - الإغلاظ على الجناة، وربطهم، واقتيادهم، وإحضارهم إلى ولي الأمر. إذ أقر الرسول صلى الله عليه وسلم ربط القاتل، وسلم حبله لولي القتيل. 4 - وفيه سؤال الحاكم وغيره، ولي الدم العفو عن الجاني. 5 - وجواز العفو بعد بلوغ الأمر إلى الحاكم. 6 - وجواز أخذ الدية في قتل العمد، لقوله صلى الله عليه وسلم في تمام الحديث "هل لك من شيء تؤديه عن نفسك"؟ وأن ولي المقتول بخير النظرين: إما أن يقتص، وإما أن يأخذ الدية. 7 - قال بعض العلماء: فيه أنه يستحب للمفتي - ذا رأى مصلحة في التعريض للمستفتي أن يعرض تعريضًا يحصل به المقصود، مع أنه صادق فيه، قالوا: ومثاله أن يسأله إنسان عن القاتل، هل له توبة؟ ويظهر للمفتي - بقرينة - أنه إن أفتى بأن له توبة، ترتب عليه مفسدة، كأن يستهون القتل، لكونه يجد منه بعد ذلك مخرجًا بالتوبة، فيقول المفتي في هذه الحالة: صح عن ابن عباس أنه قال: لا توبة لقاتل. فهو صادق في أنه صح عن ابن عباس، وإن كان المفتي لا يعتقد ذلك، ولا يوافق ابن عباس في هذه المسألة، لكن السائل إنما يفهم منه أنه يوافق ابن عباس، وكمن يسأل عن الغيبة في الصوم، هل يفطر بها الصائم؟ فيقول: جاء في الحديث" الغيبة تفطر الصائم" قاله النووي. وحاصله استخدام المعاريض، والتورية في الفتوى للمصلحة، وفي التعاريض مندوحة عن الكذب. وأن النبي صلى الله عليه وسلم استخدم هذا الأسلوب في هذا الحديث في موضعين. الأول: في قوله "إن قتله فهو مثله" فهو صادق في هذا القول حسب مراده الذي شرحناه في المباحث العربية، لكنه يوهم ولي المقتول معنى آخر، قد يؤدي إلى خوفه، وعفوه عن القاتل وهو الذي حصل، والعفو مصلحة للولي، وللمقتول في دينهما، وفيه مصلحة للجاني، وهو إنقاذه من القتل، فلما كان العفو مصلحة توصل إليه بالتعريض.

الموضع الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم "القاتل والمقتول في النار" فهو في مسألة أخرى تغاير ما نحن فيه وإنما ذكر هنا تعريضًا وتخويفًا، لعل الولي يفهم منه دخوله في معناه فيعفو، وهذا ما حصل. 8 - استدل بقوله "أما تريد أن يبوء بإثمك وإثم صاحبك" أن قتل القصاص لا يكفر ذنب القاتل بالكلية، وإن كفرها بينه وبين الله، كما جاء في الحديث الآخر "فهو كفارة له" ويبقى حق المقتول. واللَّه أعلم

(447) باب دية الجنين، ووجوب الدية في قتل الخطأ

(447) باب دية الجنين، ووجوب الدية في قتل الخطأ 3861 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخرى فطرحت جنينها فقضى فيه النبي صلى الله عليه وسلم بغرة عبد أو أمة. 3862 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتًا بغرة عبد أو أمة. ثم إن المرأة التي قضي عليها بالغرة توفيت. فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها وأن العقل على عصبتها. 3863 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: اقتتلت امرأتان من هذيل. فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها. فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ومن معهم. فقال حمل بن النابغة الهذلي: يا رسول الله كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل؟ فمثل ذلك يطل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما هذا من إخوان الكهان" من أجل سجعه الذي سجع. 3864 - - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: اقتتلت امرأتان وساق الحديث بقصته ولم يذكر وورثها ولدها ومن معهم. وقال: فقال قائل كيف نعقل؟ ولم يسم حمل بن مالك. 3865 - عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: ضربت امرأة ضرتها بعمود فسطاط وهي حبلى فقتلتها. قال: وإحداهما لحيانية. قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دية المقتولة على عصبة القاتلة وغرة لما في بطنها. فقال: رجل من عصبة القاتلة. أنغرم دية من لا أكل ولا شرب ولا استهل؟ فمثل ذلك يطل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أسجع كسجع الأعراب؟ " قال: وجعل عليهم الدية.

3866 - عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن امرأة قتلت ضرتها بعمود فسطاط فأتي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى على عاقلتها بالدية، وكانت حاملاً فقضى في الجنين بغرة. فقال بعض عصبتها أندي من لا طعم ولا شرب ولا صاح فاستهل؟ ومثل ذلك يطل. قال: فقال "سجع كسجع الأعراب". 3867 - - وفي رواية عن منصور بإسنادهم الحديث بقصته غير أن فيه: فأسقطت فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى فيه بغرة وجعله على أولياء المرأة ولم يذكر في الحديث دية المرأة. 3868 - عن المسور بن مخرمة قال: استشار عمر بن الخطاب الناس في ملاص المرأة. فقال المغيرة بن شعبة: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة عبد أو أمة. قال: فقال عمر: ائتني بمن يشهد معك. قال: فشهد محمد بن مسلمة. -[المعنى العام]- حقًا إن الشيطان للإنسان عدو مبين، وإن الغضب ميدان إبليس وجنوده، ينفخ في أوداج الغاضب حتى يخرجه عن طبعه وعقله، ويدفعه إلى ارتكاب ما هو أكبر وأخطر، فإذا كان الغضب بين مخلوقين من طبعهما العداوة والمضرة، كان الطريق أمام الشيطان سهلاً، فإذا كان بين امرأتين ناقصتي عقل ودين، وفي الوقت نفسه هما ضرتان، زوجتان لرجل واحد، ترى كل منهما أن الأخرى لا تألو جهدًا في الإضرار بها، ومنع الخير عنها كان طريق الشيطان معبدًا، وهذه قصة ضرتين في فسطاطين متجاورين، يفصل بينهما فاصل من قماش الخيام، تتراميان بالكلام، ثم بالسباب والشتائم، ثم تخرج الخالية إلى الحامل، فترميها بحجر، فيصيب بطنها، فترد بالتهديد والوعيد فتثني عليها بعمود الخباء أو بوتد مما يشد به الخباء، فترميها به في بطنها، فتصرخ وتستغيث، وما هي إلا ساعات حتى ينزل الدم والحمل، والمرأة تئن وتتوجع مما بها من آلام، ويرفع الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحكم على الضاربة بعبد أو أمة تدفع للمضروبة، دية لجنينها، يدفعها عصبتها، ولم يعرف العرب قبل ذلك دية للجنين، فيعترضون. كيف تدفع دية لحمل لم يأكل ولم يشرب ولم يصرخ؟ ولم نسمع له صوتًا

فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا حكم الله، ودعونا من السجع الذي تقولون، وبعد قليل تموت المرأة متأثرة بالضربة التي أصابتها، ويعلن الرسول صلى الله عليه وسلم حكم الله وأن الدية على عصبة القاتلة، أما المقتولة فيرثها زوجها وأولادها. -[المباحث العربية]- (أن امرأتين من هذيل) في الرواية الثانية أن المقتولة من بني لحيان، ولحيان بطن من هذيل، وفي الرواية الرابعة أنهما ضرتان، وعند أبي داود أنهما كانتا تحت حمل بن مالك بن النابغة، وعند الطبراني أن اسم المرأتين مليكة بنت عويمر، وأم عفيف بنت مسروح، فضربت أم عفيف مليكة، و"حمل" بفتح الحاء والميم. (رمت إحداهما الأخرى) في الرواية الثالثة "رمت إحداهما الأخرى بحجر" وفي الرواية الرابعة "ضربت امرأة ضرتها بعمود فسطاط وهي حبلى" وفي رواية "بعمود فسطاط، أو خباء" الخباء بيت من وبر أو شعر أو صوف، يكون على عمودين أو ثلاثة، فهو أصغر كثيرًا من الفسطاط، والظاهر أنها حذفتها مرة بحجر، ومرة بعمود خشبي صغير، قال النووي: هذا محمول على حجر صغير وعمود صغير، لا يقصد به القتل غالبًا، فيكون شبه عمد. اهـ وفي رواية عند أحمد "فضربت أم عفيف مليكة بمسطح" بكسر الميم وسكون السين وفتح الطاء، وهو عمود الخباء، وفي رواية للبخاري "فأصاب بطنها وهي حامل". (فطرحت جنينها) الجنين على وزن العظيم حمل المرأة مادام في بطنها، سمي بذلك لاستتاره، فإن خرج حيًا فهو ولد، وإن خرج ميتًا فهو سقط، بضم السين وكسرها وسكون القاف، ذكرًا كان أو أنثى، ويطلق عليه جنين ما لم يستهل صارخًا، وفي ملحق الرواية الخامسة "فأسقطت" بفتح الهمزة، يقال: أسقطت الحامل جنينها، ألقته سقطًا، وفي الرواية الثالثة "فقتلتها وما في بطنها" والتعبير بقتلتها باعتبار المآل، فإن المرأة ماتت بعد نزول جنينها ميتًا بفترة، ففي الرواية الثانية، بعد أن قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية الجنين "ثم إن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت ... " فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشأنها ما قضى. قال النووي: قال العلماء: هذا الكلام، أي قوله "إن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت" قد يوهم خلاف مراده، والصواب أن المرأة التي ماتت هي المجني عليها، أم الجنين لا الجانية، وقد صرح به في الحديث بعده - روايتنا الثالثة - بقوله "فقتلتها وما في بطنها" فيكون المراد بقوله "التي قضى عليها بالغرة" أي التي قضى لها بالغرة، فعبر بعليها عن "لها". (بغرة عبد أو أمة) قال النووي: ضبطناه على شيوخنا في الحديث والفقه "بغرة" بالتنوين، وهكذا قيده العلماء في كتبهم، وفي مصنفاتهم في هذا، وفي شروحهم، وقال القاضي عياض: الرواية فيه "بغرة" بالتنوين، وما بعده بدل منه، قال: ورواه بعضهم بالإضافة. قال: والأول أوجه وأقيس. قال النووي: ومما يؤيده ويوضحه رواية البخاري في صحيحه "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغرة، عبدًا

أو أمة" وقد فسر الغرة في الحديث بعبد أو أمة، و"أو" هنا للتقسيم لا للشك. فالمراد بالغرة عبد أو أمة. قال الجوهري: كأنه عبر بالغرة عن الجسم كله - من إطلاق الجزء وإرادة الكل كما قالوا: أعتق رقبة، وأصل الغرة بياض في الوجه ولهذا قال أبو عمرو: المراد بالغرة الأبيض منهما خاصة وسيأتي في فقه الحديث وفي رواية "غرة عبد أو أمة، عشر من الإبل، أو مائة شاة" فدية الجنين عشر الدية. (فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها، وأن العقل على عصبتها) أي وأن الدية على عصبتها. ومرجع الضمائر يؤهم خلاف المراد، والمعنى: قضى بأن ميراث المقتولة لزوجها وبنيها، وأن العقل والدية على عصبة القاتلة، وفي الرواية الثالثة "وقضى بدية المرأة على عاقلتها" أي قضى بدية المرأة المقتولة، على عاقلة المرأة القاتلة "وورثها ولدها ومن معهم" وورث المقتولة أولادها وزوجها الذي معهم، يوضح ذلك الرواية الرابعة، ولفظها "فجعل دية المقتولة على عصبة القاتلة". وقد أراد أبو القاتلة وأخوها أن يتهربا من الاشتراك في دية المقتولة وجنينها، وأن يحملا بنيها الدية، فعند البيهقي "فقال أبوها: إنما يعقلها بنوها" وفي رواية "فقال أخوها: إن لها ولدًا هم سادة الحي، وهم أحق أن يعقلوا عن أمهم؟ قال: بل أنت أحق أن تعقل عن أختك من ولدها". كما حاول عم المقتولة أن يزيد في الدية، فادعى أن الجنين يستحق دية رجل كبير، ففي رواية "فقال عمها: إنها قد أسقطت غلامًا قد نبت شعره؟ فقال أبو القاتلة: إنه كاذب، إنه والله ما استهل، ولا شرب، ولا أكل، فمثله يطل" وبهذا حاول أبو القاتلة أن يتهرب من دية الجنين، بعد أن قضى عليه بالاشتراك في دية المرأة. وفي الرواية الثالثة أن الذي سجع هو الزوج، حمل بن النابغة، وفي الرواية الرابعة والخامسة أن الذي سجع رجل من عصبة القاتلة، وفي رواية عند الطبراني "فقال أخوها العلاء بن مسروح: يا رسول الله، أنغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل، فمثل هذا يطل" قال الحافظ ابن حجر: يجمع بين هذا الاختلاف بأن يكون كل من أبيها وأخيها وزوجها، قالوا ذلك لأنهم كلهم من عصبتها، فإن المقتولة عامرية، والقاتلة هذلية، اهـ ويتصور الزوج من العصبة حين يكون ابن عم لها. وعندي عدم الاعتماد على الرواية التي ذكرت الزوج، فهو سيرث أكثر مما يغرم فهو أب للجنين مما يبعد اعتراضه. أما أبناء القاتلة فإن كانوا من زوجها حمل بن النابغة فهم من عصبتها وعاقلتها، وإن كان أبوهم من غير عصبتها فهم ليسوا من عصبتها، ولا يعقلون. ( .. ولا استهل؟ فمثل ذلك يطل) استهل الصبي رفع صوته بالبكاء وصاح عند الولادة، أما لفظ "يطل" فقد قال النووي: روي في الصحيحين وغيرهما بوجهين، أحدهما "يطل" بضم الياء وتشديد اللام، ومعناه يهدر ويلغي ولا يضمن، والثاني "بطل" بفتح الباء والطاء وتخفيف اللام، فعل ماض من البطلان، وهو بمعنى الملغي أيضًا، وأكثر نسخ بلادنا بالياء المثناة، ونقل القاضي: أن جمهور الرواة في صحيح مسلم ضبطوه بالباء الموحدة،

قال أهل اللغة: يقال: طل دمه بضم الطاء، وأطل أي هدر، وأطله الحاكم وطله أهدره، وجوز بعضهم: طل دمه بفتح الطاء في اللازم، وأباها الأكثرون. (إنما هذا من إخوان الكهان) المشار إليه الرجل الذي سجع، وفي الرواية الرابعة "أسجع كسجع الأعراب"؟ وفي الرواية الخامسة "سجع كسجع الأعراب" وأصل السجع الاستواء، وفي الاصطلاح تناسب آخر الكلمات لفظًا، وقوله في الرواية الثالثة "من أجل سجعه الذي سجع" هو من تفسير الراوي. والكهان جمع كاهن، والكهانة بفتح الكاف، ويجوز كسرها ادعاء علم الغيب، والكاهن لفظ يطلق على العراف، والذي يضرب بالحصى والمنجم، وكانت الكهانة في الجاهلية فاشية، خصوصًا في العرب، لانقطاع النبوة فيهم. ومن عادتهم تكلف السجع في كلامهم، فشبه الساجع بهم للتنفير من فعله. (استشار عمر بن الخطاب الناس في ملاص المرأة) يقال: أملصت المرأة والناقة إذا رمت ولدها، وإذا قبضت على شيء، فسقط من يدك قلت: أملص من يدي إملاصًا، وملص ملصًا، فالمراد من إملاص المرأة إسقاطها. وفي رواية للبخاري "قال عمر: أيكم سمع من النبي صلى الله عليه وسلم في إملاص المرأة شيئًا؟ ". (ائتني بمن يشهد معك. قال: فشهد محمد بن مسلمة) وفي رواية للبخاري "فقال عمر: من يشهد معك؟ فقام محمد، فشهد بذلك" وفي رواية "فقال: ائتني بمن يشهد معك، فجاء محمد بن مسلمة، فشهد له" وفي رواية "لا تبرح حتى تجيء بالمخرج مما قلت، قال: فخرجت، فوجدت محمد بن مسلمة، فجئت به، فشهد معي أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قضى به". -[فقه الحديث]- قال النووي: اتفق العلماء على أن دية الجنين هي الغرة، سواء كان الجنين ذكرًا أم أنثى، وإنما كان كذلك، لأنه قد يخفى، فيكثر فيه النزاع، فضبطه الشرع بضابط يقطع النزاع، وسواء كان خلقه كامل الأعضاء أم ناقصها، أو كان مضغة تصور فيها خلق آدمي، ففي كل ذلك الغرة بالإجماع، ثم الغرة تكون لورثته على مواريثهم الشرعية، وهذا الشخص يورث ولا يرث، ولا يعرف له نظير إلا من بعضه حر، وبعضه رقيق، فإنه رقيق لا يرث عندنا، وهل يورث؟ فيه قولان، أصحهما يورث، هذا مذهبنا ومذهب الجماهير. وحكى القاضي عن بعض العلماء أن الجنين كعضو من أعضاء الأم، فتكون ديته لها خاصة. قال: واعلم أن المراد بهذا كله إذا انفصل الجنين ميتًا، أما إذا انفصل حيًا، ثم مات، فيجب فيه كمال دية الكبير، فإن كان ذكرًا وجب مائة بعير، وإن كان أنثى فخمسون، وهذا مجمع عليه. وسواء في هذا كله العمد والخطأ، ومتى وجبت الغرة فهي على العاقلة، لا على الجاني، هذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وسائر الكوفيين، وقال مالك والبصريون: تجب على الجاني، وقال الشافعي وآخرون: يلزم الجاني الكفارة، وقال بعضهم: لا كفارة عليه، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة. اهـ.

-[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - استدل بعضهم بلفظ الغرة - وهي في الأصل البياض - بأنه لا يجزئ الأسود، قال: ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد بالغرة معنى زائدًا على شخص العبد والأمة، لما ذكرها، ولاقتصر على قوله: عبد أو أمة. قال النووي: وهذا خلاف ما اتفق عليه الفقهاء، أنه تجزئ فيها السوداء ولا تتعين البيضاء، وإنما المعتبر عندهم أن تكون قيمتها عشر دية الأم، أو نصف عشر دية الأب. 2 - حكي عن طاووس وعطاء ومجاهد أن دية الجنين، عبد أو أمة أو فرس، أخذًا من رواية في غير الصحيحين. قال النووي: وهي رواية باطلة. 3 - استدل بإطلاق لفظ "عبد أو أمة" على أنه لا يشترط سن معين، واستنبط الشافعي من ذلك أن يكون منتفعًا به، فشرط أن لا ينقص عن سبع سنين، لأن من لم يبلغها لا يستقل غالبًا بنفسه، فيحتاج إلى التعهد بالتربية، فلا يجبر المستحق على أخذه، وأخذ بعضهم من لفظ الغلام الوارد في بعض الروايات أن لا يزيد على خمس عشرة، ولا تزيد الجارية على عشرين، والراجح كما قال ابن دقيق العيد أنه يجزئ، ولو بلغ الستين، وأكثر منها ما لم يصل إلى عدم الاستقلال بالهرم. 4 - استدل بقوله في الرواية الثالثة "وقضى بدية المرأة على عاقلتها" بأن شبه العمد، الدية فيه على العاقلة، ولا يجب فيه قصاص، ولا دية على الجاني، وهذا مذهب الشافعي والجماهير. 5 - وأن دية الخطأ على العاقلة إنما تختص بعصبات القاتل. 6 - استدل به من كره السجع في الكلام، قال الحافظ ابن حجر: وليس على إطلاقه، بل المكروه منه ما يقع من التكلف، وفي مواجهة الحق ومدافعته، كما وقع من الرجل، وأما السجع الذي وقع من الرسول صلى الله عليه وسلم، في بعض الأوقات فليس من هذا، لأنه لا يعارض به حكم الشرع، ولا يتكلفه، فلا نهي فيه، بل هو حسن، ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم "كسجع الأعراب" فأشار إلى أن بعض السجع هو المذموم. والحاصل أن السجع ينقسم إلى أربعة أنواع: فالمحمود ما جاء عفوا في حق، ودونه ما يقع متكلفًا في حق أيضًا، والمذموم عكسهما. 7 - وفي الحديث رفع الجناية للحاكم. 8 - ويؤخذ من الرواية السادسة سؤال الإمام عن الحكم، إذا كان لا يعلمه، أو كان عنده شك، أو أراد الاستثبات. 9 - أن الوقائع الخاصة قد تخفى على الأكابر، ويعلمها من دونهم، وفي ذلك رد على المقلد إذا استدل عليه بخبر يخالفه، فيجيب: لو كان صحيحًا لعلمه فلان مثلاً. 10 - استدل بقول عمر: لتأتين بمن يشهد معك على اعتبار العدد في الرواية، وأنه يشترط أن لا يقبل أقل من اثنين، كما هو في غالب الشهادات. قال ابن دقيق العيد: وهو ضعيف، فإنه قد ثبت قبول الفرد في عدة مواطن، وطلب العدد في صورة جزئية، لا يدل على اعتباره في كل واقعة، لجواز

المانع الخاص بتلك الصورة، أو وجود سبب يقتضي التثبت، وزيادة الاستظهار، ولا سيما إذا قامت قرينة. 11 - استدل بورود القصة في جنين الحرة على أن الحكم المذكور خاص بولد الحرة، وقد تصرف الفقهاء في ذلك، فقال الشافعية: الواجب في جنين الأمة عشر قيمة أمه، كما أن الواجب في جنين الحرة عشر ديتها. 12 - وعلى أن الحكم المذكور خاص بمن يحكم بإسلامه، ولم يتعرض لجنين محكوم بتهوده أو تنصره، ومن الفقهاء من قاسه على الجنين المحكوم بإسلامه تبعًا. قال الحافظ: وليس هذا من الحديث. واللَّه أعلم

كتاب الحدود، والنهي عن الشفاعة فيها

كتاب الحدود، والنهي عن الشفاعة فيها

(448) باب حد السرقة ونصابها

(448) باب حد السرقة ونصابها 3869 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع السارق في ربع دينار فصاعدًا. 3870 - عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدًا". 3871 - عن عائشة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فما فوقه". 3872 - عن عائشة رضي الله عنها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدًا". 3873 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم تقطع يد سارق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقل من ثمن المجن حجفة أو ترس وكلاهما ذو ثمن. 3874 - - وفي رواية "وهو يومئذ ذو ثمن".

3875 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع سارقًا في مجن قيمته ثلاثة دراهم. 3876 - - وفي رواية مثله غير أن بعضهم قال قيمته، وبعضهم قال "ثمنه ثلاثة دراهم". 3877 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده". 3878 - - وفي رواية عن الأعمش بهذا الإسناد مثله غير أنه يقول "إن سرق حبلاً وإن سرق بيضة". 3879 - عن عائشة رضي الله عنها أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فكلمه أسامة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أتشفع في حد من حدود الله؟ " ثم قام فاختطب فقال "أيها الناس إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". وفي حديث ابن رمح "إنما هلك الذين من قبلكم". 3880 - عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن قريشًا أهمهم شأن المرأة التي سرقت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا:

ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه فيها أسامة بن زيد، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "أتشفع في حد من حدود الله؟ " فقال له أسامة: استغفر لي يا رسول الله. فلما كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختطب فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال "أما بعد فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها. قال يونس: قال ابن شهاب: قال عروة: قالت عائشة: فحسنت توبتها بعد وتزوجت وكانت تأتيني بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. 3881 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تقطع يدها، فأتى أهلها أسامة بن زيد فكلموه، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها. ثم ذكر نحو حديث الليث ويونس. 3882 - عن جابر رضي الله عنه أن امرأة من بني مخزوم سرقت فأتي بها النبي صلى الله عليه وسلم فعاذت بأم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم "والله لو كانت فاطمة لقطعت يدها" فقطعت. -[المعنى العام]- كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه. فصان الله الدماء بتشريع القصاص والديات، قال تعالى {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب} [البقرة: 179] وصان الأموال بتشريع حد السرقة، قال تعالى {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله} [المائدة: 38] وصان الأعراض بتشريع حد الزنا وحد القذف. إنها عقوبات رادعة مخيفة، قد يظنها البعض قاسية، ولكن الشاعر يقول: فقسا ليزدجروا ومن يك حازمًا ... فليقس أحيانًا على من يرحمه إن النفوس الشريرة، الأمارة بالسوء، والمدعومة من إبليس وجنوده تحتاج إلى ما يلقي في قلوبها الرعب، حتى تحجم عن الدخول في مسالك الفساد في الأرض، وعن ترويع الناس على ممتلكاتهم. وإن أهم ما يروع المسلم يد السارق، فهي التي تمتد خفية إلى ماله، وتسلبه ثمرة جهده، وحصيلة

شقائه، فكانت عقوبة الشرع قطع هذه اليد اليمنى، لقطع الغاية ومنعها من الوقوع، فإن سرق ثانيًا قطعت رجله اليسرى، فإن سرق ثالثًا قطعت يده اليسرى، فإن سرق رابعًا قطعت رجله اليمنى. تلك حدود الله، ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه، ومن يعرض نفسه لهذه العقوبات فهو الجاني على نفسه. من سرق ربع جنيه ذهبي قطعت يده؟ ما أغلى هذه التضحية، وما أبخس ما حصله في مقابلها؟ يد ديتها خمسمائة دينار، تقطع إن سرقت ربع دينار؟ نعم. لكن ليس الربع دينار هو المقابل لليد، وإنما مقابل اليد تأمين الناس على أموالهم، والأمن أغلى ما في الوجود. ولا شفاعة في الحدود، ولا رحمة في تنفيذها، فالله تعالى يقول {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} [النور: 2]. نعم لا شفاعة في الحدود ولا محاباة، الشريف أمامها كالوضيع، ولا فداء لها، فالغني أمامها كالفقير. تحكي الأحاديث قصة المرأة الشريفة القرشية، ذات الحسب والنسب، سرقت، فتعرضت لحد الله، وانزعج أهلها، وحسبوا حسابًا للتشهير بهم، ولافتضاحهم، فعرضوا الفداء المضاعف، لعل وعسى، لكنهم يعلمون حق العلم أنه لا يقبل الفداء، فظنوا أن الشفاعة قد تجدي، وهم يستبعدون جدواها، لكن الغريق يتشبث كثيرًا بما لا ينجيه، فمن صاحب الحظوة والدلال عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ومن الجريء الذي تسمح له مودته أن يتقدم بهذا الطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إنه ليس إلا أسامة بن زيد، الحبيب ابن الحبيب، فوسطوه، فذهب فشفع، فغضب صلى الله عليه وسلم أشد الغضب، وتلون وجهه، واهتزت أعصابه، وزجر أسامة بغضب قائلاً: أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة؟ ما كان يصح منك هذا. يا بلال خذ المرأة فاقطع يدها، ثم خطب في الناس. حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنما أهلك الله من قبلكم لأنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. ولن تقع أمة الإسلام فيما وقع فيه الأولون. والذي نفسي بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها. وبهذا استقر الأمن، وعم ربوع الإسلام، بتطبيق وتنفيذ حدود الله. -[المباحث العربية]- (كتاب الحدود) جمع حد، وأصله ما يحجز بين شيئين، فيمنع اختلاطهما، وحد الدار ما يميزها، وحد الشيء وصفه المحيط به المميز له عن غيره، وسميت عقوبة السارق والزاني حدًا لكونها تمنعه المعاودة، أو لكونها مقدرة من الشارع. قال الراغب: وتطلق الحدود ويراد بها نفس المعاصي، كقوله تعالى {تلك حدود الله فلا تقربوها} [البقرة: 187]. اهـ. والحدود الشرعية كثيرة، حصرها بعض العلماء، أو حصر ما قيل بوجوب الحد به في سبعة عشر شيئًا: فمن المتفق عليه حد الردة، والحرابة ما لم يتب قبل القدرة، والزنا والقذف به، وشرب الخمر سواء أسكر أم لا، والسرقة.

ومن المختلف فيه جحد العارية، وشرب ما يسكر كثيره من غير الخمر، والقذف بغير الزنا، والتعريض بالقذف، واللواط، وإتيان البهيمة، والسحاق، وتمكين المرأة القود وغيره من الدواب من وطئها، والسحر، وترك الصلاة تكاسلاً، والفطر في رمضان. وهذا كله خارج عما تشرع فيه المقاتلة، كما لو ترك قوم الزكاة، ونصبوا لذلك الحرب. (في ربع دينار، فصاعدًا) قال صاحب المحكم: يختص هذا بالفاء، ويجوز "ثم" بدلها، ولا تجوز الواو، وقال ابن جني: هو منصوب على الحال المؤكدة، أي ولو زاد، ومن المعلوم أنه إذا زاد لم يكن إلا صاعدًا. اهـ. وفي الرواية الثالثة "فما فوقه" بدل "فصاعدًا" وهو بمعناه. (المجن) بكسر الميم وفتح الجيم والمجنة من الاجتنان، وهو الاستتار مما يحاذره المستتر، والمجن بكسر الميم آلة استتار، وقد بينت في الرواية الخامسة بقول عائشة "حجفة أو ترس" يقال: استجن به، وفيه، وعنه، ومنه. (حجفة أو ترس) الحجفة بفتح الحاء، والجيم والفاء الترس من جلود، بلا خشب ولا رباط من عصب، والترس بضم التاء مثلها، قيل: هما بمعنى وقيل: كل آلة منهما تغاير الأخرى، ويطلق عليهما الدرقة، وقد تكون من خشب أو عظم، وتغلف بالجلد أو غيره، هذه هي الحجفة أو الترس قديمًا. أما اليوم فهي من معدن أو نحوه، يحملها الشرطي في يده في المظاهرات ونحوها. (وكلاهما ذو ثمن) هذا التعبير يؤيد أن الحجفة غير الترس، و"أو" بينهما للتنويع وملحق الرواية الخامسة "وهو يومئذ ذو ثمن" يؤيد أنهما بمعنى واحد. والتنوين في "ثمن" للتكثير، والمراد أنه ثمن يرغب فيه، فأخرج الشيء التافه، وليس المراد ترسًا بعينه، أو حجفة بعينها، وإنما المراد الجنس، وأن القطع كان يقع في كل شيء يبلغ قدر ثمن المجن، سواء كان ثمن المجن قليلاً أو كثيرًا، والاعتماد إنما هو على الأقل، فيكون نصابًا، ولا يقطع فيما دونه. وسيأتي خلاف الفقهاء في النصاب وأدلتهم في فقه الحديث. (لعن الله السارق) قال الطيبي: لعل المراد هنا باللعن الإهانة والخذلان. اهـ وأصله الطرد من رحمة الله، والجملة يحتمل أن تكون خبرًا، ليرتدع من سمعه عن السرقة، ويحتمل أن يكون دعاء، ويحتمل أن يراد بها التنفير فقط. (يسرق البيضة، فتقطع يده، ويسرق الحبل، فتقطع يده) أشهر معاني البيضة ما تضعه إناث الطير ونحوها، وهي بهذا المعنى مثل لتحقير ما يسرق، ومن معانيها الخوذة - بضم الخاء - وهي غطاء للرأس من الحديد، يلبسها الجندي والشرطي. وهي بهذا المعنى تبلغ نصاب السرقة غالبًا، والحبل - بفتح الحاء وسكون الباء منه الرفيع الصغير الحقير، ومنه حبل السفينة الغليظ الطويل الغالي الثمن. ولما كان جماهير العلماء يشترطون للقطع بالسرقة نصابًا، ذهب الكثيرون منهم إلى أن المراد

بالبيضة بيضة الحديد وأن المراد بالحبل حبل السفينة، ومن هؤلاء الأعمش، راوي الحديث عن أبي صالح، راويه عن أبي هريرة، إذ قال في البخاري: كانوا يرون أنه بيض الحديد، والحبل كانوا يرون أنه من الحبال ما يساوي دراهم. وذهب بعضهم إلى أن المراد بالبيضة البيضة الحقيرة، وبالحبل الحبل الحقير، ووجهوا الحديث بعدة توجيهات، قالوا أولاً: إن هذا الأسلوب في الشائع من الكلام، يقال في موضع التقليل، لا التكثير، لأنه لا يذم في العادة من خاطر بيده، في شيء له قدر، وإنما يذم من خاطر بها فيما لا قدر له، فلا يقال: أخزى الله فلانًا عرض يده في مال له قيمة، وإنما يقال: أخزى الله فلانًا ضحى بيده في شيء تافه حقير. وإذا كان الأمر كذلك كان المراد بالبيضة والحبل ضرب المثل، للتنبيه على عظم ما خسر وهي اليد في حقارة ما حرص عليه، وهو ربع دينار فصاعدًا، والمثل لا يقصد معاني ألفاظه، كقولهم: رجع بخفي حنين. وكما في الحديث: "من بنى لله مسجدًا ولو كمفحص قطاة بنى الله له مثله في الجنة". التوجيه الثاني: أن في الكلام حذفًا، بني عليه القطع والتقدير: يسرق البيضة، وتتكرر السرقة للشيء التافه، فلا يقطع، فيتعود السرقة، فيسرق النصاب، فتقطع يده. التوجيه الثالث: أن القطع المذكور ليس حدًا، بمعنى يسرق البيضة أو الحبل، فيقطعه بعض الولاة سياسة، لا قطعًا جائزًا شرعيًا. التوجيه الرابع: أن هذا منسوخ بأحاديث النصاب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا عند نزول آية السرقة مجملة، من غير بيان نصاب، فقاله على ظاهر اللفظ. والله أعلم. (أن قريشًا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت) المراد من قريش بعض هذه القبيلة المشهورة، ممن أدرك القصة، "أهمهم شأن المرأة" أي أجلب إليهم هما، أو صيرهم ذوي هم، يقال: أهمني الأمر إذا أقلقني، والمراد من شأنها أمرها المتعلق بالسرقة خوفًا من أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها، ففي رواية "لما سرقت تلك المرأة أعظمنا ذلك، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ... " وسبب إعظامهم ذلك خشية أن تقطع يدها، لعلمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرخص في الحدود، وكان قطع السارق معلومًا عندهم قبل الإسلام، كذا قيل، والمقصود منه أن الإعظام والاستشفاع بأسامة كان قبل أن يبلغ السلطان، أو قبل أن يحكم. واسم المرأة على الصحيح فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وهي بنت أخي أبي سلمة بن عبد الأسد، الصحابي الجليل، الذي كان زوجًا لأم سلمة، قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه المرأة قتل أبوها كافرًا يوم بدر، قتله حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه. أما المسروق ففي بعض الروايات "قطيفة" وفي بعضها "حلي" وجمع الحافظ ابن حجر

باحتمال أن تكون الحلي في القطيفة، فالذي ذكر القطيفة أراد بما فيها، والذي ذكر الحلي ذكر المظروف دون الظرف. اهـ. وقد جاء في الرواية العاشرة "كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع، وتجحده" وعند النسائي "استعارت امرأة على ألسنة ناس يعرفون - وهي لا تعرف - حليًا، فباعته، وأخذت ثمنه" وعند عبد الرزاق "أن امرأة جاءت امرأة، فقالت: إن فلانة تستعيرك حليًا، فأعارتها إياه، فمكثت لا تراه، فجاءت إلى التي استعارت لها، فسألتها، فقالت: ما استعرتك شيئًا، فرجعت إلى الأخرى، فأنكرت، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فدعاها، فسألها، فقالت: والذي بعثك بالحق ما استعرت منها شيئًا. فقال: اذهبوا إلى بيتها، تجدوه تحت فراشها، فأتوه، فأخذوه، وأمر بها، فقطعت" وجمع الحافظ ابن حجر بأنه يحتمل أن تكون سرقت القطيفة، وجحدت الحلي، وأطلق عليها في جحد الحلي في رواية أنها سرقت مجازًا. واستبعد الحافظ ابن حجر ما قاله ابن حزم وغيره من أنهما قصتان، بأن في كل من الطريقين أنهم استشفعوا بأسامة، وأنه شفع، وأنه قيل له: لا تشفع في حد من حدود الله، فيبعد أن أسامة يسمع النهي المؤكد عن ذلك، ثم يعود إلى ذلك مرة أخرى، ولا سيما إن اتحد زمن القصتين، ولم يرتض الحافظ ابن حجر جواب ابن حزم عن ذلك بأن أسامة يجوز أن ينسى، ويجوز أن يكون الزجر عن الشفاعة في حد السرقة تقدم، فظن أن الشفاعة في جحد العارية جائزة، وأنه لا حد فيه فشفع، فأجيب بأن فيه الحد أيضًا. قال الحافظ: ولا يخفى ضعف الاحتمالين. وحكى ابن المنذر عن بعض العلماء أن القصة لامرأة واحدة، استعارت وجحدت، وسرقت فقطعت للسرقة، لا للعارية، زاد الخطابي في معالم السنن أن العارية والجحد إنما ذكرت في هذه القصة، تعريفًا لها بخاص صفتها، إذ كانت تكثر ذلك، كما عرفت بأنها مخزومية - وكأنها لما كثر منها ذلك ترقت إلى السرقة، وتجرأت عليها. قال البيهقي: فتحمل رواية من ذكر جحد العارية على تعريفها بذلك، والقطع على السرقة. اهـ وكل هذه التوجيهات محاولات لإبعاد أن يكون القطع على جحد العارية، حيث إن الجمهور لا يقول بالقطع في جحد العارية - وزاد القرطبي هذه التوجيهات إيضاحًا، فقال: يترجح أن يدها قطعت على السرقة، لا لأجل جحد العارية من أوجه: أحدها: قوله في آخر الحديث الذي ذكرت فيه العارية - روايتنا التاسعة والعاشرة - "لو أن فاطمة سرقت" فإن فيه دلالة قاطعة على أن المرأة قطعت في السرقة، إذ لو كان قطعها لأجل الجحد لكان ذكر السرقة لاغيًا، ولقال: لو أن فاطمة جحدت العارية. ثانيها: لو كانت قطعت في جحد العارية لوجب قطع كل من جحد شيئًا، إذا ثبت عليه، ولو لم يكن بطريق العارية. ثالثها: أنه عارض ذلك حديث "ليس على خائن، ولا مختلس، ولا منتهب قطع" وهو حديث قوي. قال الحافظ: أخرجه الأربعة وصححه أبو عوانة والترمذي. اهـ. وقواه الحافظ ابن حجر ودافع عنه، ورد على من وهمه. وسيأتي زيادة لهذه المسألة في فقه الحديث. (فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة؟ حب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم) "يجترئ" بفتح الياء

وسكون الجيم وكسر الراء من الجرأة بضم الجيم وسكون الراء وفتح الهمزة، ويجوز فتح الجيم والراء مع المد، وهي الإقدام مع إدلال، وهذا القول كان بعد أن استفهم بعضهم بقوله: "من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم"؟ أي من يشفع عنده فيها أن لا تقطع، إما عفوًا، وإما بفداء، ففي بعض الروايات "لما سرقت تلك المرأة أعظمنا ذلك، فجئنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقلنا: نحن نفديها بأربعين أوقية؟ فقال: تطهر خير لها" وكأنهم ظنوا أن الحد يسقط بالفدية، كما ظن ذلك من أفتى والد العسيف الذي زنى، بأنه يفتدي منه بمائة شاة ووليدة. فالذين استفهموا: من يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ غير الذين قالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة؟ قال الطيبي: الواو - أي في "ومن" عاطفة على محذوف، تقديره: لا يجترئ عليه أحد لمهابته، ولا يجترئ عليه إلا أسامة، وكأنهم لما قال لهم صلى الله عليه وسلم "تطهر خير لها" ظنوا أن باب الشفاعة أو الفداء مفتوح، ففزعوا إلى أسامة، ففي بعض الروايات "فلما سمعنا لين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أتينا أسامة" قيل: وسبب لجوئهم إلى أسامة أنه علم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشفعه، ويقبل شفاعته، إضافة إلى أنه حب رسول الله صلى الله عليه وسلم - بكسر الحاء، أي محبوبه. (فكلمه أسامة) في الكلام طي، تقديره: فجاءوا إلى أسامة، فكلموه، فجاء أسامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه، وفي الرواية التاسعة "فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه فيها أسامة بن زيد" فرسول الله بالرفع نائب فاعل، أي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمرأة، فأفادت هذه الرواية أن أسامة تشفع لها في حضورها، وفي الرواية الحادية عشرة "فأتى بها النبي صلى الله عليه وسلم، فعاذت بأم سلمة" أي استجارت بأم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، لأنها قريبتها، وكانت أم سلمة زوجة لعمها، أبي سلمة، وعند الحاكم "فعاذت بزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال المحققون: في هذه الرواية تصحيف، فإن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت قد ماتت قبل هذه القصة، فلعل أصل الرواية: "فعاذت بزينب ربيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم" وهي بنت أبي سلمة، أو أن الرواية لا تصحيف فيها، وأن زينب بنت أم سلمة نسبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل المجاز، فقيل، بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتباره مربيها، وعند أحمد "فعاذت بربيب النبي صلى الله عليه وسلم" وقال في آخره" وكان ربيب النبي صلى الله عليه وسلم سلمة بن أبي سلمة، وعمر بن أبي سلمة" وعند عبد الرزاق "فجاء عمر بن أبي سلمة، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: أي أبه. إنها عمتي (يقصد عمتي من جهة كبر سنها، وهي حقيقة بنت عمه) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها" وعند ابن أبي الشيخ "فعاذت بأسامة" ولا تنافي بين ذلك كله، فمثلها يستجير بكل من يظن فيه نجدة، وتكون قد استجارت بكل هؤلاء وبغيرهم. (فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أتشفع في حد من حدود اللَّه؟ ) أي هذا الذي تشفع فيه ليس لي، ولكنه حد الله الذي لا أعصيه، والاستفهام إنكاري توبيخي، بمعنى نفي الانبغاء، أي لا ينبغي، ولا يليق، ولا يجوز أن تشفع في حد من حدود الله، وفي الرواية التاسعة "فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم" زاد النسائي "وهو يكلمه" أي وأسامة يكلمه، وعند النسائي "فزبره" بفتح الزاي والباء، أي أغلظ له في النهي، حتى نسبه إلى الجهل، لأن الزبر بفتح الزاي وسكون الباء العقل. (ثم قام فاختطب) افتعل فيها معنى المعالجة وبذل الجهد، وفي رواية للبخاري "فخطب"

وقد بينت الرواية التاسعة وقت هذه الخطبة، وأنها لم تتراخ عن الشفاعة، وأنها كانت في العشي من اليوم نفسه. (إنما أهلك الذين قبلكم) في رواية "إنما هلك الذين قبلكم" وفي رواية النسائي "إنما هلك بنو إسرائيل". (أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد) "أنهم" إلخ في محل الرفع فاعل "أهلك"، وفي محل النصب على المفعول لأجله على رواية "هلك" وقد كان فيمن قبلنا أمور كثيرة تقتضي الإهلاك، كأكل الربا، وأكل أموال الناس بالباطل، وقتل الأنبياء بغير حق، وعدم التناهي عن منكر فعلوه، فالقصر هنا ادعائي، كأن ماعدا تعطيل الحدود لا شيء، ولا يعتد به بجواره. وفي رواية للبخاري "كانوا يقيمون الحد على الوضيع" وهو من الوضع، وهو النقص، وفي رواية للنسائي بلفظ "الدون الضعيف". "والشريف" يقابل ذلك، لما يستلزم الشرف من الرفعة والقوة. (وايم الله) تقدم شرحه، وحكمه في كتاب الأيمان والنذور، وفي الرواية التاسعة "وإني والذي نفسي بيده" وفي الرواية الحادية عشرة "والله" والظاهر أن هذا التغاير من تصرف الرواة، والرواية بالمعنى. (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) هذا القول من أمثلة مجيء "لو" حرف امتناع لامتناع، وإنما خص فاطمة ابنته بالذكر، لأنها أعز أهله عنده، ولأنه لم يكن بقي من بناته حينئذ غيرها، فأراد المبالغة في إثبات إقامة الحد على كل مكلف، وترك المحاباة في ذلك. قيل: ولأن اسمها - رضي الله عنها - يوافق اسم السارقة، فناسب أن يضرب المثل بها. وهذا التعليل ليس بذاك. وفي رواية "لقطع محمد يدها" على أسلوب التجريد. (ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت، فقطعت يدها) في رواية للنسائي "قم يا بلال، فخذ بيدها، فاقطعها". (فحسنت توبتها بعد، وتزوجت) هذا يفيد أنها حين سرقت لم تكن متزوجة، وهذه حقيقة، وفي رواية "فنكحت تلك المرأة رجلاً من بني سليم، وتابت" أي لم تعد للسرقة "وكانت حسنة التلبس والمخالطة والمعاشرة". وفي رواية "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بعد ذلك يرحمها ويصلها" وعند أحمد أنها قالت: هل لي من توبة يا رسول الله؟ فقال: أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك". -[فقه الحديث]- قال النووي: أجمع العلماء على قطع يد السارق، واختلفوا في اشتراط النصاب، فقال أهل

الظاهر: لا يشترط نصاب أصلاً، بل يقطع في القليل والكثير تافها كان، أو غير تافه، وبه قال ابن بنت الشافعي من أصحابنا، وحكاه القاضي عياض عن الحسن البصري والخوارج، واحتجوا بعموم قوله تعالى {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة: 38] ولم يخصوا الآية. وقال جماهير العلماء: لا تقطع إلا في نصاب، لهذه الأحاديث. اهـ. ثم اختلفوا في النصاب على مذاهب، قاربت العشرين مذهبًا. ذكرها الحافظ ابن حجر، نقتطف منها: 1 - أن القطع لا يجب إلا في أربعين درهمًا، أو أربعة دنانير. نقله القاضي عياض ومن تبعه عن إبراهيم النخعي. وهذا القول يقابل عدم اشتراط النصاب، في شذوذ كل منهما. 2 - أن القطع لا يشترط فيه نصاب، إلا أنه لا يقطع في الشيء التافه، كتمرة، لحديث "لم يكن القطع في شيء من التافه" ولأن عثمان رضي الله عنه قطع في فخارة، وقال لمن يسرق السياط: لئن عدتم لأقطعن فيه، وقطع ابن الزبير في نعلين، وعن عمر بن عبد العزيز أنه قطع في مد أو مدين. 3 - تقطع اليد في درهم فصاعدًا، وهو قول عثمان البتي - بفتح الباء وتشديد التاء - من فقهاء البصرة وربيعة من فقهاء المدينة. 4 - تقطع اليد في درهمين، فصاعدًا. وهو قول الحسن البصري. 5 - تقطع اليد إذا زاد المسروق عن درهمين، ولو لم يبلغ الثلاثة. وسنده عن أنس رضي الله عنه قال: قطع أبو بكر في شيء ما يساوي ثلاثة دراهم" أخرجه ابن أبي شيبة بسند قوي. 6 - تقطع اليد في ثلاثة دراهم، ويقوم ما عداها بها، ولو كان ذهبًا، وهي رواية عن أحمد، وحكاه الخطابي عن مالك. 7 - تقطع اليد في ثلاثة دراهم، ويقوم ما عداها بها، إلا إن كان المسروق ذهبًا، فنصابه ربع دينار، وهذا قول مالك، المعروف عند أتباعه، وهو رواية عن أحمد. 8 - تقطع اليد في ثلاثة دراهم، أو ربع دينار ذهبًا، فإن كان المسروق غيرهما قطع به إذا بلغت قيمته أحدهما، وهو المشهور عن أحمد، ورواية عن إسحق. 9 - تقطع اليد في ثلاثة دراهم، أو ربع دينار ذهبًا، فإن كان المسروق غيرهما قطع به إذا بلغت قيمته الغالب منهما الكثير في الاستعمال عرفًا. وهو قول جماعة من المالكية. 10 - تقطع اليد في ربع دينار، أو ما يبلغ قيمته ربع دينار، ولو كان دراهم كثيرة، فالمعتبر الذهب وقيمته، وهو مذهب الشافعي، وهو قول عائشة وعمرة وأبي بكر بن حزم وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي والليث ورواية عن إسحاق وعن داود، ونقله الخطابي وغيره عن عمر وعثمان وعلي. 11 - يقطع في أربعة دراهم، نقله القاضي عياض عن بعض الصحابة، ونقله ابن المنذر عن أبي هريرة وأبي سعيد.

12 - يقطع في ثلث دينار. حكاه ابن المنذر عن أبي جعفر الباقر. 13 - يقطع في خمسة دراهم، وهو قول ابن شبرمة وابن أبي ليلى من فقهاء الكوفة، ونقل عن الحسن البصري وعن سليمان بن يسار. أخرج النسائي عن عمر بن الخطاب "لا تقطع الخمس إلا في خمس" أي لا تقطع الأصابع الخمس إلا في خمسة دراهم. 14 - لا تقطع اليد إلا في عشرة دراهم، أو ما بلغ قيمتها من ذهب أو عرض، وهو قول أبي حنيفة والثوري وأصحابهما. 15 - لا تقطع اليد إلا في دينار، أو ما بلغ قيمته من فضة أو عرض. حكاه ابن حزم عن طائفة. 16 - لا تقطع اليد إلا في دينار، أو عشرة دراهم، أو ما يساوي أحدهما. حكي عن علي وابن مسعود، وبه قال عطاء. ونكتفي بهذا القدر، وهدفنا من ذكر هذه الأقوال أن في الأمر سعة، تسمح لأولي الأمر بحرية الحركة في دائرة تحفظ أموال الناس، وتقطع دابر السرقات والإفساد في الأرض، وقد يفيض المال في آخر الزمان وتضعف القيمة، فيصبح الكثير تافها، والعبرة - فيما أرى - بنصاب أو مقدار يزجر السارق، ويؤمن المسلم على ماله. الأمر الثاني الذي اختلف فيه العلماء بعد النصاب اشتراط الحرز أو عدم اشتراطه، وحرز كل شيء هو المكان المناسب لحفظه وصيانته، ولكل شيء حصنه الذي يناسبه، فترك ذهب أو فضة مكشوف أما البيت أو في فنائه والباب مفتوح ليس في حرز مثله، فإذا أخذ خفية، هل يقطع آخذه؟ قال الظاهرية وأبو عبيد الله البصري: نعم، لأن آية السرقة عامة في كل من سرق، وليس فيها ما ينبئ عن اشتراط الحرز، وليس هناك من الأحاديث ما يخصصها، فتبقى عامة تشمل السرقة من الحرز ومن غير الحرز، واشترط الجمهور الحرز، فلا قطع إلا فيما سرق من حرز، والمعتبر فيه العرف فما عده العرف حرزًا لذلك الشيء فهو حرز له، وما لا فلا. وزعم ابن بطال أن شرط الحرز مأخوذ من معنى السرقة. قال الحافظ ابن حجر: فإن صح ما قال سقطت حجة من لا يشترط الحرز. اهـ قلت: إن أراد معنى السرقة لغة فغير مسلم، وإن أراد شرعًا فهو اصطلاح، لا يحتج به عند الاختلاف. ومما اختلف فيه العلماء أيضًا مكان القطع من اليد، فقال بعض الخوارج من المنكب - أي عند اتصال اليد بالكتف، ونقل عن سعيد بن المسيب، واستنكره جماعة، وحجتهم أن العرب تطلق الأيدي على ذلك. وعن بعض السلف: تقطع من المرفق: وحجتهم آية الوضوء {وأيديكم إلى المرافق} [المائدة: 6]. وقال الشافعي وأبو حنيفة ومالك والجماهير: تقطع اليد من الرسغ، وهو المفصل الذي بين الكف والساعد. وهو مراد من قال: من الكوع. وعن علي تقطع من أصول الأصابع، واستحسنه أبو ثور، ورد بأنه لا يسمى مقطوع اليد لغة ولا عرفًا، بل مقطوع الأصابع.

وحجة الجمهور الأخذ بأقل ما ينطلق عليه الاسم، لأن اليد قبل السرقة كانت محترمة، فلما جاء النص بقطع اليد، وكانت تطلق على هذه المعاني، وجب أن لا يترك المتيقن، وهو تحريمها إلا بمتيقن، وهو القطع من الكف. الأمر الرابع الذي اختلف فيه العلماء من سرق ثانيًا وثالثًا ورابعًا بعد أن قطع، قال الجمهور: من سرق أولا قطعت يده اليمنى، فإن سرق ثانيًا قطعت رجله اليسرى - من المفصل بين الساق والقدم - فإن سرق ثالثًا قطعت يده اليسرى، فإن سرق رابعًا قطعت رجله اليمنى. واحتجوا بآية المحاربة، وبفعل الصحابة، وبأنهم فهموا من الآية أنها في المرة الواحدة، فإن عاد السارق وجب عليه القطع ثانيًا، إلى أن لا يبقى له ما يقطع، ثم إن سرق عزر وسجن، وقيل: يقتل في الخامسة استدلالاً بحديث منكر. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - استدل بالأحاديث وبالآية على أن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، لأن آية السرقة نزلت في سارق رداء صفوان، أو سارق المجن، وعمل بها الصحابة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم في غيرهما من السارقين. 2 - واستدل بالقطع في المجن على مشروعية القطع في كل ما يتمول، قياسًا، واستثنى الحنفية ما يسرع إليه الفساد، وما أصله الإباحة، كالحجارة واللبن والخشب والملح والتراب والكلأ والطير، وفيه رواية عن الحنابلة، والراجح عندهم في مثل السرجين القطع، تفريعًا على جواز بيعه. 3 - ومن الرواية السابعة قال القاضي عياض: جوز بعضهم لعن المعين، ما لم يحد، لأن الحد كفارة، قال: وليس هذا بسديد، لثبوت النهي عن اللعن في الجملة، فحمله على المعين أولى، وقال ابن بطال: لا ينبغي تعيين أهل المعاصي، ومواجهتهم باللعن، وإنما ينبغي أن يلعن في الجملة من فعل ذلك، ليكون ردعًا لهم، وزجرًا عن انتهاك شيء منها، ولا يكون لمعين، لئلا يقنط. وقيل: إن لعن النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المعاصي كان تحذيرًا لهم، قبل وقوعها، فإذا فعلوها استغفر لهم، ودعا لهم بالتوبة، وأما من أغلظ له، ولعنه تأديبًا على فعل فعله، فقد دخل في عموم شرطه، حيث قال: "سألت ربي أن يجعل لعني له كفارة ورحمة" هذا إذا صدر في حق من ليس له بأهل. قال النووي: في هذا الحديث دليل لجواز لعن غير المعين، من العصاة، لأنه لعن للجنس، لا لمعين ولعن الجنس جائز، كما قال الله تعالى {ألا لعنة الله على الظالمين} [هود: 18] وأما المعين فلا يجوز لعنه. 4 - ومن الرواية الثامنة وما بعدها قال النووي: في هذه الأحاديث تحريم الشفاعة في الحد، بعد بلوغه إلى الإمام، وقد أجمع العلماء عليه، وعلى أنه يحرم التشفيع فيه، فأما قبل بلوغه إلى الإمام فقد أجاز الشفاعة فيه أكثر العلماء، إذا لم يكن المشفوع فيه صاحب شر وأذى للناس، فإن كان لم يشفع فيه، وأما المعاصي التي لا حد فيها، وواجبها التعزير، فتجوز الشفاعة والتشفيع فيها، سواء بلغت الإمام أم لا، لأنها أهون، ثم الشفاعة فيها مستحبة، إذا لم يكن المشفوع فيه صاحب أذى ونحوه. اهـ.

ويؤيد هذا ما جاء في بعض الروايات أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأسامة، لما شفع في المرأة "لا تشفع في حد، فإن الحدود إذا انتهت إلي فليس لها مترك" وفي بعض الأحاديث "تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد، فقد وجب" صححه الحاكم. وأخرج الطبراني عن عروة بن الزبير، قال "لقي الزبير سارقًا، فشفع فيه، فقيل له: حتى يبلغ الإمام. فقال: إذا بلغ الإمام فلعن الله الشافع والمشفع" وعند ابن أبي شيبة بسند صحيح عن عكرمة أن ابن عباس وعمارًا والزبير أخذوا سارقًا، فخلوا سبيله، قال عكرمة: فقلت لابن عباس: بئسما صنعتم حين خليتم سبيله. فقال: لا أم لك. أما لو كنت أنت لسرك أن يخلى سبيلك" وهذا إذا لم يكن محترفًا، وكان من ذوي الهيئات، فعند أحمد عن عائشة مرفوعًا "أقيلوا ذوي الهيئات زلاتهم إلا في الحدود". 5 - وفي الحديث منقبة لأسامة رضي الله عنه. وكان يومئذ غلامًا. 6 - من قوله "وايم الله" جواز الحلف من غير استحلاف، وهو مستحب إذا كان فيه تفخيم لأمر مطلوب، كما في الحديث. 7 - استدل بالرواية العاشرة على أن جحد العارية يقطع به كالسرقة، وبه قال أحمد وإسحق، وجماهير العلماء وفقهاء الأمصار على أنه لا قطع على من جحد العارية، وقد سبق في المباحث العربية مزيد لهذه المسألة، وفرق العلماء بين السرقة وبين النهب والاختلاس، حيث يقطع في السرقة، ولا يقطع فيهما، فقال القاضي عياض: صان الله تعالى الأموال بإيجاب القطع على السارق، ولم يجعل ذلك في غير السرقة، كالاختلاس والانتهاب والغصب، لأن ذلك قليل بالنسبة إلى السرقة، ولأنه يمكن استرجاع هذا النوع، بالاستدعاء إلى ولاة الأمور، وتسهل إقامة البينة عليه، بخلاف السرقة، فإنها تندر إقامة البينة عليها، فعظم أمرها، واشتدت عقوبتها، ليكون أبلغ في الزجر عنها. اهـ أقول: ثم إن باب التعزير واسع، وعقوبته متنوعة متروكة لولي الأمر، وقد بلغ به بعض الفقهاء الإلقاء من شاهق الجبل. 8 - استشكل أبو العلاء المعري على قطع اليد في سرقة ربع دينار مع أن ديتها خمسمائة دينار، فقال: يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار؟ وأجابه القاضي عبد الوهاب المالكي، بأنها لما كانت نظيفة نزيهة كانت غالية، ولما تدنست بالسرقة رخصت، فقال: صيانة العضو أغلاها، وأرخصها صيانة المال، فافهم حكمة الباري وشرح ذلك الحافظ ابن حجر، فقال: إن الدية لو كانت ربع دينار لكثرت الجنايات على الأيدي، ولو كان النصاب للقطع في السرقة خمسمائة دينار لكثرت الجنايات على الأموال، فظهرت الحكمة في الجانبين، وكان في ذلك صيانة من الطرفين. واللَّه أعلم

(449) باب حد الزنا

(449) باب حد الزنا 3883 - عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم". 3884 - عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه كرب لذلك وتربد له وجهه. قال: فأنزل عليه ذات يوم فلقي كذلك، فلما سري عنه قال "خذوا عني فقد جعل الله لهن سبيلاً، الثيب بالثيب، والبكر بالبكر، الثيب جلد مائة ثم رجم بالحجارة، والبكر جلد مائة ثم نفي سنة". 3885 - وفي رواية عن قتادة بهذا الإسناد غير أن في حديثهما "البكر يجلد وينفى والثيب يجلد ويرجم" لا يذكران "سنة ولا مائة". 3886 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال عمر بن الخطاب وهو جالس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله قد بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجم قرأناها ووعيناها وعقلناها، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده. فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله. وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف.

3887 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: أتى رجل من المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فناداه، فقال يا رسول الله إني زنيت. فأعرض عنه. فتنحى تلقاء وجهه فقال له يا رسول الله إني زنيت. فأعرض عنه. حتى ثنى ذلك عليه أربع مرات. فلما شهد على نفسه أربع شهادات. دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "أبك جنون؟ " قال: لا. قال "فهل أحصنت؟ " قال: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اذهبوا به فارجموه". قال ابن شهاب: فأخبرني من سمع جابر بن عبد الله يقول: فكنت فيمن رجمه فرجمناه بالمصلى فلما أذلقته الحجارة هرب فأدركناه بالحرة فرجمناه. 3888 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: رأيت ماعز بن مالك حين جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجل قصير أعضل ليس عليه رداء. فشهد على نفسه أربع مرات أنه زنى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فلعلك؟ " قال: لا، والله إنه قد زنى الأخر. قال: فرجمه ثم خطب فقال "ألا كلما نفرنا غازين في سبيل الله خلف أحدهم له نبيب كنبيب التيس يمنح أحدهم الكثبة. أما والله إن يمكني من أحدهم لأنكلنه عنه". 3889 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل قصير أشعث ذي عضلات عليه إزار وقد زنى. فرده مرتين. ثم أمر به فرجم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كلما نفرنا غازين في سبيل الله تخلف أحدكم ينب نبيب التيس يمنح إحداهن الكثبة. إن الله لا يمكني من أحد منهم إلا جعلته نكالاً" (أو نكلته). قال: فحدثته سعيد بن جبير فقال إنه رده أربع مرات.

3890 - - وفي رواية عن جابر بن سمرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث ابن جعفر ووافقه شبابة على قوله "فرده مرتين" وفي حديث أبي عامر "فرده مرتين أو ثلاثًا". 3891 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لماعز بن مالك "أحق ما بلغني عنك؟ " قال: وما بلغك عني؟ قال "بلغني أنك وقعت بجارية آل فلان" قال: نعم. قال: فشهد أربع شهادات ثم أمر به فرجم. 3892 - عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رجلاً من أسلم يقال له ماعز بن مالك أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أصبت فاحشة فأقمه علي فرده النبي صلى الله عليه وسلم مرارًا. قال: ثم سأل قومه؟ فقالوا: ما نعلم به بأسًا إلا أنه أصاب شيئًا يرى أنه لا يخرجه منه إلا أن يقام فيه الحد. قال: فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمرنا أن نرجمه. قال: فانطلقنا به إلى بقيع الغرقد. قال: فما أوثقناه ولا حفرنا له. قال: فرميناه بالعظم والمدر والخزف. قال: فاشتد واشتددنا خلفه حتى أتى عرض الحرة فانتصب لنا فرميناه بجلاميد الحرة (يعني الحجارة) حتى سكت. قال: ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً من العشي فقال "أو كلما انطلقنا غزاة في سبيل الله تخلف رجل في عيالنا له نبيب كنبيب التيس. علي أن لا أوتى برجل فعل ذلك إلا نكلت به". قال: فما استغفر له ولا سبه. 3893 - وفي رواية عن داود بهذا الإسناد مثل معناه وقال في الحديث: فقام النبي صلى الله عليه وسلم من العشي فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال "أما بعد فما بال أقوام إذا غزونا يتخلف أحدهم عنا له نبيب كنبيب التيس". ولم يقل "في عيالنا". 3894 - - وفي رواية عند داود بهذا الإسناد بعض هذا الحديث غير أن في حديث سفيان فاعترف بالزنى ثلاث مرات. 3895 - عن سليمان بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: جاء ماعز بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله طهرني. فقال "ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه" قال: فرجع غير

بعيد. ثم جاء فقال يا رسول الله طهرني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه" قال: فرجع غير بعيد. ثم جاء فقال يا رسول الله طهرني. فقال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك. حتى إذا كانت الرابعة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "فيم أطهرك؟ " فقال: من الزنى. فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم "أبه جنون؟ " فأخبر أنه ليس بمجنون. فقال "أشرب خمرًا؟ " فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أزنيت؟ " فقال: نعم. فأمر به فرجم. فكان الناس فيه فرقتين. قائل يقول لقد هلك، لقد أحاطت به خطيئته. وقائل يقول ما توبة أفضل من توبة ماعز أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده في يده ثم قال اقتلني بالحجارة. قال: فلبثوا بذلك يومين أو ثلاثة. ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم جلوس فسلم ثم جلس فقال "استغفروا لماعز بن مالك" قال: فقالوا: غفر الله لماعز بن مالك. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم". قال: ثم جاءته امرأة من غامد من الأزد، فقالت: يا رسول الله طهرني. فقال "ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه" فقالت: أراك تريد أن ترددني كما رددت ماعز بن مالك. قال "وما ذاك؟ " قالت: إنها حبلى من الزنا. فقال "آنت؟ " قالت: نعم. فقال لها "حتى تضعي ما في بطنك" قال: فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت. قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال قد وضعت الغامدية. فقال "إذًا لا نرجمها وندع ولدها صغيرًا ليس له من يرضعه" فقام رجل من الأنصار فقال: إلي رضاعه يا نبي الله. قال: فرجمها. 3896 - عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه أن ماعز بن مالك الأسلمي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني قد ظلمت نفسي وزنيت وإني أريد أن تطهرني. فرده. فلما كان من الغد أتاه فقال يا رسول الله إني قد زنيت. فرده الثانية. فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه فقال "أتعلمون بعقله بأسًا تنكرون منه شيئًا؟ " فقالوا: ما نعلمه إلا وفي العقل من صالحينا فيما نرى. فأتاه الثالثة. فأرسل إليهم أيضًا فسأل عنه. فأخبروه أنه لا بأس به ولا بعقله. فلما كان الرابعة حفر له حفرة ثم أمر به فرجم. قال: فجاءت الغامدية فقالت: يا رسول الله إني قد زنيت فطهرني وإنه ردها. فلما كان الغد قالت يا رسول الله لم تردني؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزًا فوالله إني لحبلى. قال "إما لا فاذهبي حتى تلدي" فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة قالت: هذا قد ولدته. قال "اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه" فلما

فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز فقالت: هذا يا نبي الله قد فطمته وقد أكل الطعام. فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين. ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها. فيقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها، فتنضح الدم على وجه خالد، فسبها. فسمع نبي الله صلى الله عليه وسلم سبه إياها فقال "مهلاً يا خالد فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له" ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت. 3897 - عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن امرأة من جهينة أتت نبي الله صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنا فقالت: يا نبي الله أصبت حدًا فأقمه علي فدعا نبي الله صلى الله عليه وسلم وليها، فقال "أحسن إليها فإذا وضعت فأتني بها" ففعل فأمر بها نبي الله صلى الله عليه وسلم فشكت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت ثم صلى عليها. فقال له عمر تصلي عليها؟ يا نبي الله وقد زنت. فقال "لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم. وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى؟ ". 3898 - عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما أنهما قالا: إن رجلاً من الأعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله. فقال الخصم الآخر وهو أفقه منه نعم فاقض بيننا بكتاب الله وأذن لي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قل" قال: إن ابني كان عسيفًا على هذا فزنى بامرأته. وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة. فسألت أهل العلم فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله الوليدة والغنم رد، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام. واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" قال فغدا عليها فاعترفت فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت.

3899 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بيهودي ويهودية قد زنيا. فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء يهود. فقال "ما تجدون في التوراة على من زنى؟ " قالوا: نسود وجوههما ونحملهما ونخالف بين وجوههما ويطاف بهما. قال "فأتوا بالتوراة إن كنتم صادقين" فجاءوا بها فقرءوها حتى إذا مروا بآية الرجم. وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم، وقرأ ما بين يديها وما وراءها. فقال له عبد الله بن سلام وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مره فليرفع يده، فرفعها فإذا تحتها آية الرجم. فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما. قال عبد الله بن عمر كنت فيمن رجمهما، فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه. 3900 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم في الزنى يهوديين رجلاً وامرأة زنيا، فأتت اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما. وساقوا الحديث بنحوه. 3901 - - وفي رواية عن ابن عمر رضي الله عنهما أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة قد زنيا. وساق الحديث بنحو حديث عبيد الله عن نافع. 3902 - عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: مر علي النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محممًا مجلودًا فدعاهم صلى الله عليه وسلم فقال "هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ " قالوا: نعم. فدعا رجلاً من علمائهم، فقال "أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ " قال: لا ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك نجده الرجم ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد. قلنا تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع. فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه" فأمر به فرجم. فأنزل الله عز وجل {يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر} إلى قوله {إن أوتيتم هذا فخذوه} [المائدة: 41] يقول ائتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، فأنزل الله تعالى {ومن لم يحكم بما

أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [المائدة: 44] {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} [المائدة: 45] {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} [المائدة: 47] في الكفار كلها. 3903 - - وفي رواية عن الأعمش بهذا الإسناد نحوه إلى قوله فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فرجم ولم يذكر ما بعده من نزول الآية. 3904 - 28 م/ 16 عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: رجم النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من أسلم ورجلاً من اليهود وامرأته. 3905 - - وفي رواية عن ابن جريج بهذا الإسناد مثله غير أنه قال وامرأة. 3906 - عن أبي إسحق الشيباني قال: سألت عبد الله بن أبي أوفى هل رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال: قلت: بعد ما أنزلت سورة النور أم قبلها؟ قال: لا أدري. 3907 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمعه يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها. ثم إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب عليها. ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر". 3908 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في جلد الأمة إذا زنت ثلاثًا "ثم ليبعها في الرابعة". 3909 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن؟

قال "إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير" قال ابن شهاب: لا أدري أبعد الثالثة أو الرابعة. وقال القعنبي في روايته قال ابن شهاب والضفير الحبل. 3910 - عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة بمثل حديثهما ولم يذكر قول ابن شهاب والضفير الحبل. 3911 - عن أبي عبد الرحمن قال: خطب علي فقال يا أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحد من أحصن منهم ومن لم يحصن، فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت فأمرني أن أجلدها فإذا هي حديث عهد بنفاس؛ فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال أحسنت. 3912 - - وفي رواية عن السدي بهذا الإسناد ولم يذكر من أحصن منهم ومن لم يحصن وزاد في الحديث "اتركها حتى تماثل". -[المعنى العام]- قال تعالى {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا} [الإسراء: 32] وقد أودع الله في طبيعة الإنسان الغيرة على عرضه، بل وجد نوع من الغيرة عند بعض الطيور، وبعض الحيوانات، ولكن حماية الأعراض، وحرص الرجال على عفة نسائهم، وحرص النساء على عفة رجالهن بلغت عند العرب وفي الإسلام مبلغًا لم يبلغه من قبل، ولم يرهف حس آدمي إلى أحسن منه بعد، لقد وصف القرآن نساء الجنة بأنهن حور مقصورات في الخيام، لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان، وأمر أزواج محمد صلى الله عليه وسلم أن يحجبن أشخاصهن عن الرجال، وأمر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ونساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن، وذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين، وأغلق منافذ الزنا بتحريم كشف العورة، وتحريم النظر، {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم} [النور: 30]. {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن .... } [النور: 31].

وجعل الإسلام طهارة الفروج علامة من علامات الإيمان، فقال {قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون * والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} [المؤمنون: 1 وما بعدها]. أمام هذه الحصون المنيعة من ارتكاب الفاحشة كان لا بد من عقاب شديد مرعب مخيف قاس مزعج لمن يتسلق هذه الأسوار، ويرتكب هذا الأمر المقيت، فكان قوله تعالى {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا} [النساء: 15]. ثم كان للثيب المتزوج الذي وطيء ولو مرة في نكاح صحيح "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، نكالاً من الله، والله عزيز حكيم" وكان للبكر الذي لم ينكح أصلاً في نكاح صحيح {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} [النور: 2]. فالبكر يجلد مائة جلدة، وبنفي عن موطن زناه لمدة عام، والثيب المحصن يرجم ويرمى بالحجارة حتى الموت، موت بطيء، مؤلم، مخز، حقير، ولولا أن الله يقول {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} لما نفذ في مسلم أو مسلمة. لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره أن يعترف زان بزناه، ويقر به، بعد أن ستره الله، كان يحب أن يستر الزاني نفسه ويستغفر الله ويتوب إليه، ولا يفضح نفسه، ويفضح شريكته، ويفضح كل من يتصل بهما من قريب أو بعيد بل كان بعد اعتراف الزاني أمامه يلقنه التراجع عن إقراره، ويعرض عنه المرة بعد المرة، ويرده عن لقاء بعد لقاء، فإذا لم يكن بد، وشهد أربعة شهداء، أو أقر الزاني إقرارات لا شبهة فيها أمر برجمه ورجمها. ولم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم باشر الرجم بنفسه، أو حضره حتى النهاية، بل كل ما ثبت أنه أمر برجمهم طيلة حياته خمسة، ماعز، وشريكته الغامدية، والجهنية صاحبة العسيف، واليهودي وصاحبته اليهودية، ولولا إقرار الزاني والزانية لتوقف حد الرجم أو كاد، بل حد الزنا بعامة، إذ لا يكاد يتحقق شهادة أربعة من الشهداء يشهدون أنهم رأوا بأعين رءوسهم دخول ذكر الرجل في فرج الأنثى، وغيابه كغياب المرود في المكحلة؟ وفوق ذلك يدرأ الحد بالشبهات كأن يدعي الجنون أو الإكراه أو شبهة الحل بأي وجه من الوجوه. فما أكثر الزنا في واقع الحياة ولكنه الستار الحليم، الغفور الرحيم. -[المباحث العربية]- (خذوا عني. خذوا عني) أي خذوا عني حكم الزانية والزاني. كرر في هذه الرواية للتأكيد، وفي الرواية الثانية بدون تكرير، والظاهر أن هذه العبارة قصد منها إعلان سروره صلى الله عليه وسلم، واستبشاره بما نزل عليه، ففي الرواية الثانية أنه قال ذلك عقب الوحي.

(كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه كرب لذلك) أي إذا أنزل عليه الوحي كرب - بضم الكاف وكسر الراء، مبني للمجهول، أي أصابه كرب وشدة تأخذ بنفسه كالمخنوق لثقل الوحي. (وتربد له وجهه) بفتح التاء والراء وتشديد الباء المفتوحة بعدها دال، يقال: اربد وجهه بتشديد الدال، أي احمر حمرة فيها عبوس وغبرة. (فلقي كذلك) الفعل مبني للمجهول، أي لقيه أصحابه يومًا على هذه الحالة. (فلما سري عنه قال: خذوا عني) أي فلما زال ما به، وكشف عنه قال (قد جعل الله لهن سبيلا) يشير بذلك إلى قوله تعالى {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا} [النساء: 15] والمعنى قد جعل لهن مخرجا، غير الحبس حتى الموت. (البكر بالبكر جلد مائة، ونفى سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) أي زنا الرجل البكر بالفتاة البكر، حده جلد مائة جلدة لكل منهما، وتغريب سنة للرجل، كما سيأتي في فقه الحديث، وزنا الرجل الثيب - أي المحصن الذي سبق له الزواج، بالمرأة الثيب، التي سبق لها الزواج جلد مائة جلدة لكل منهما والرجم لكل منهما، وعلم من هذا حكم زنا الرجل البكر بالمرأة الثيب، وزنا الرجل الثيب بالفتاة البكر، وكان يكفي أن يقول: البكر جلد مائة، والثيب الرجم، لكن المقام مقام تفصيل، وسيأتي مزيد بحث لهذا في فقه الحديث وفي الرواية الثانية "الثيب بالثيب، والبكر بالبكر، جلد مائة، ثم رجم بالحجارة، والبكر جلد مائة، ثم نفي سنة" وفيها لف ونشر مرتب، "جلد مائة ثم رجم بالحجارة" يرتبط بالثيب بالثيب، و"جلد مائة ثم نفي سنة" يرتبط بالبكر بالبكر. وقوله "جلد مائة" بالإضافة عند الأكثرين، وقرأه بعضهم بتنوين "جلد" وتنوين "مائة" والمراد من النفي التغريب، واختلف في مسافته على ما سيأتي في فقه الحديث. (فكان مما أنزل عليه آية الرجم) أراد بها "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، نكالاً من الله، والله عزيز حكيم" قال النووي: وهذا مما نسخ لفظه، وبقي حكمه. (أتى رجل من المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي من عامة المسلمين، ليس من أكابرهم، ولا بالمشهور فيهم وفي الرواية الثامنة "أن رجلاً من أسلم، يقال له: ماعز بن مالك أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي الرواية العاشرة "أن ماعز بن مالك الأسلمي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم" ففي هذه الروايات أن ماعزًا أتى من تلقاء نفسه، وفي الرواية السادسة "أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل قصير أشعث ذي عضلات" فهذه الرواية تدل على أنه جيء به، وفي غير مسلم أن قومه أرسلوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للذي أرسله: لو سترته بثوبك يا هزال لكان خيرًا لك، وكان ماعز عند "هزال" ولا تعارض فمن جيء به فقد جاء، ومن أرسل فقد جاء.

ومعنى "أشعث" وهو ممنوع من الصرف للوصفية ووزن الفعل، مجرور بالفتحة، متلبد الشعر، متغيره وسخه، ومعنى "ذي عضلات" كثير العضلات، بارزها، والعضلة، ما اجتمع من اللحم في أعلى الساق والذراع، وهذا الوصف يوحي بالشدة والقوة. (فقال: يا رسول الله، إني زنيت) في الرواية العاشرة "إني قد ظلمت نفسي وزنيت، وإني أريد أن تطهرني" وفي الرواية الحادية عشرة "إني أصبت حدًا، فأقمه علي" وفي الرواية الثامنة "إني أصبت فاحشة، فأقمه علي" وفي الرواية التاسعة "طهرني" ولا تناقض، فقد يقول الرجل كل ذلك، وينقل كل راو بعض ما قال. (فأعرض عنه، فتنحى تلقاء وجهه، فقال له: يا رسول الله، إني زنيت، فأعرض عنه، حتى ثنى ذلك عليه أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات، دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أبك جنون؟ قال: لا. قال: فهل أحصنت؟ قال: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهبوا به، فارجموه) وفي الرواية الخامسة "فشهد على نفسه أربع مرات أنه زنى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلعلك" في هذه الرواية اختصار، واكتفاء، اعتمادًا على دلالة الكلام والحال على المحذوف، أي لعلك قبلت؟ أو لعلك غمزت؟ فظننت ذلك زنا؟ "قال: لا. والله إنه قد زنى الأخر" الهمزة بدون مد، والخاء مكسورة، ومعناه الأرذل والأبعد والشقي واللئيم، وأصله الأخير المتأخر عن الخير، المؤخر المطروح. ومعنى "تنحى تلقاء وجهه" انتقل من الناحية التي كان فيها إلى الناحية التي يستقبل بها وجه النبي صلى الله عليه وسلم، بعد أن أعرض عنه صلى الله عليه وسلم، وحول وجهه عنه إلى الجهة الأخرى، ومعنى "حتى ثنى ذلك عليه أربع مرات" حتى كرر ذلك أربع مرات، يقال: ثنى الشيء بتخفيف النون، يثنيه، ثنيًا، إذا عطفه، ورد بعضه على بعض. ففي هاتين الروايتين نجد المراجعة أربع مرات في مجلس واحد، لكن الرواية التاسعة تقول "فقال: يا رسول الله، طهرني. فقال: ويحك" أي ويلك وهلاكك، يقال: ويحك وويحًا لك "ارجع فاستغفر الله وتب إليه، قال: فرجع غير بعيد، ثم جاء، فقال: يا رسول الله، طهرني. فقال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، حتى كانت الرابعة" ويمكن الجمع بينهما بأن التحول من وجه إلى وجه كان بعد الرجوع غير بعيد، لكن الرواية العاشرة تفيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم رده يومًا بعد يوم، ويمكن الجمع بأن الترديد حصل في يوم، ثم في أيام، ثم بالغ في الاستيثاق في اليوم الأول، بسؤاله "أبك جنون"؟ "أشربت خمرًا"؟ "فقام رجل فاستنكهه" وبالغ في شم رائحة فمه، ثم بسؤاله عن صفة فعله، ففي بعض الروايات "هل ضاجعتها؟ قال نعم. قال: فهل باشرتها؟ قال: نعم. قال: هل جامعتها؟ قال: نعم. وفي رواية ذكر لفظ الجماع الدارج، من غير أن يكنى، وفي رواية "قال: حتى دخل ذلك منك، في ذلك منها؟ قال: نعم" قال: كما يغيب المرود في المكحلة؟ والرشا في البئر؟ قال: نعم" ثم بعد الترديد أيامًا سأل أهله. وكان ماعز بن مالك يتيمًا في حجر "هزال" فأصاب امرأة من الحي. (فيم أطهرك؟ فقال من الزنا) كذا في الرواية التاسعة وكان الظاهر أن يقول: مم أطهرك؟

قال النووي: هكذا هو في جميع الأصول "فيم"؟ بالفاء والياء، وهو صحيح، وتكون "في" للسببية، أي بسبب ماذا أطهرك؟ اهـ مثلها في قوله صلى الله عليه وسلم "دخلت امرأة النار في هرة حبستها". (ثم سأل قومه؟ فقالوا: ما نعلم به بأسًا) كذا في الرواية الثامنة، وفي الرواية التاسعة سألهم: "أبه جنون؟ فأخبر أنه ليس بمجنون، فقال: أشرب خمرًا"؟ وفي الرواية العاشرة "فقال: أتعلمون بعقله بأسًا؟ تنكرون منه شيئًا؟ فقالوا: ما نعلمه إلا وفي العقل" أي كامله ووفيره "من صالحينا، فيما نرى" بضم النون، أي فيما نظن ... " "فأخبروه أنه لا بأس به، ولا بعقله". (إلا أنه أصاب شيئًا) الاستثناء منقطع، بمعنى لكنه، والمراد من الشيء جريمة الزنا، ويمكن أن يكون متصلاً وأن الزنا نقص في العقل. وفي الرواية العاشرة أن سؤال قومه تكرر فيحمل على سؤال بعضهم مرة، وبعضهم مرة، للاستيثاق. (فرجمه) أي أمر برجمه، وفي الرواية السادسة والسابعة والتاسعة والعاشرة "فأمر به، فرجم" وفي الرواية الثامنة "فأمرنا أن نرجمه". (فانطلقنا به إلى بقيع الغرقد) وهو مقبرة أهل المدينة، وأصل البقيع المكان المتسع، ذو الأشجار المختلفة، والغرقد نوع من الشجر، من الفصيلة الباذنجانية، تؤكل ثمرتها، وتسمى الغرقد. (فما أوثقناه، ولا حفرنا له) في الرواية العاشرة "فلما كان الرابعة حفر له حفرة" قال الحافظ ابن حجر: يمكن الجمع بأن المنفى حفرة عميقة، لا يمكنه الوثوب منها، والمثبت حفيرة صغيرة، أمكنه الوثوب منها، أو أنهم في أول الأمر لم يحفروا، ثم لما فر، فأدركوه حفروا له حفرة لا يمكنه الوثوب منها، فانتصب لهم فيها، حتى فرغوا منه. (فرجمناه بالمصلى) المراد مصلى الجنائز ببقيع الغرقد. (فرميناه بالعظم والمدر والخزف) "المدر" بفتحات الطين اللزج المتماسك، و"الخزف" بفتحات، الآنية التي تتخذ من الطين المحروق، والمراد ما تكسر منها. (فاشتد، واشتددنا خلفه، حتى أتى عرض الحرة، فانتصب لنا) "اشتد" أي جرى وأسرع، وفي الرواية الرابعة "فلما أذلقته الحجارة هرب، فأدركناه بالحرة" أي فلما أصابته الحجارة بحدها، وآلمته هرب، و"عرض الحرة" بضم العين وسكون الراء، والحرة بفتح الحاء، أي جانب الأرض ذات الحجارة السوداء، وهي منطقة مشهورة بظاهر المدينة. (فرميناه بجلاميد الحرة) فسرها الراوي بحجارة الحرة، جمع جلمود بضم الجيم، وهو الصخر. (حتى سكت) قال النووي: هو بالتاء في آخره. هذا هو المشهور في الروايات. قال القاضي عياض: ورواه بعضهم "سكن" بالنون، والأول الصواب، ومعناه مات.

(ثم خطب صلى الله عليه وسلم)، وفي الرواية الثامنة "ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبًا من العشي" من اليوم نفسه. (ألا كلما نفرنا، غازين في سبيل اللَّه خلف أحدهم؟ ) أي تخلف أحد الناس عنا، وبقي في المدينة، حيث لا رجال وفي الرواية السادسة "كلما نفرنا غازين في سبيل الله، تخلف أحدكم"؟ وفي الرواية الثامنة "أو كلما انطلقنا غزاة في سبيل الله، تخلف رجل في عيالنا"؟ أي في نسائنا؟ وفي ملحقها "فما بال أقوام إذا غزونا، يتخلف أحدهم عنا"؟ . (له نبيب كنبيب التيس) "التيس" ذكر الماعز، ونبيب التيس صياحه وصوته عند ركوبه على أنثاه. (يمنح أحدهم الكثبة) بضم الكاف وسكون الثاء، كل قليل مجتمع من طعام أو لبن أو غير ذلك، وفي الرواية السادسة "يمنح إحداهن الكثبة" وفيها "ينب نبيب التيس" و"لا ينب" بفتح الياء وكسر النون وتشديد الباء. (أما واللَّه. إن يمكني من أحدهم لأنكلنه عنه) "يمكني" بضم الياء وسكون الميم وكسر الكاف، مضارع أمكن، أي إن يمكني الله من أحد هؤلاء، لأجعلنه نكالاً، أي عظة وعبرة لمن بعده، بما أصيبه من العقوبة عن هذا الفعل القبيح. وفي الرواية السادسة "إن الله لا يمكني من أحد منهم إلا جعلته نكالاً، أو نكلته" يقال: نكل به، بتشديد الكاف، أي عاقبه بما يردعه، ويخيف غيره من إتيان صنيعه. (ثم جاءته امرأة من غامد، من الأزد) قال النووي: "غامد" بالغين، بطن من جهينة، وكأنه يجمع بذلك بين روايتنا التاسعة والعاشرة عن بريدة، وبين روايتنا الحادية عشرة، عن عمران، وفيها "أن امرأة من جهينة، على أن القصة واحدة. ومال الحافظ ابن حجر إلى أنهما قضيتان، فقال: جمع بين روايتي "بريدة" بأن في الثانية زيادة، فتحمل الأولى على أن المراد بقوله "إلى رضاعه" أي تربيته، وجمع بين حديثي عمران وبريدة، أن الجهنية كان لولدها من يرضعه، بخلاف الغامدية. (فقال: حتى تضعي ما في بطنك) غاية لمحذوف، تقديره: لا أطهرك حتى تضعي ما في بطنك. وفي الرواية العاشرة "إما لا" قال النووي: هو بكسر الهمزة من "إما" وتشديد الميم، وبالإمالة، ومعناه: إذا أبيت أن تستري على نفسك، وتتوبي، وترجعي عن قولك، فاذهبي حتى تلدي. اهـ. وفي الرواية الحادية عشرة "فدعا نبي الله صلى الله عليه وسلم وليها، فقال: أحسن إليها، فإذا وضعت فأتني بها" قال النووي: هذا الإحسان له سببان: الأول: الخوف عليها من أقاربها، أن تحملهم الغيرة، ولحوق العار بهم أن يؤذوها، فأوصى بالإحسان إليها، تحذيرًا لهم من ذلك. الثاني: أمر بالإحسان إليها رحمة بها، إذ قد تابت، وحرض على الإحسان إليها لما في نفوس الناس من النفرة من مثلها، وإسماعها الكلام المؤذي، ونحو ذلك، فنهي عن هذا كله. وفي الرواية التاسعة "فكفلها رجل من الأنصار" أي قام بمؤنتها ومصالحها، وليس هو

من الكفالة بمعنى الضمان، لأن هذا لا يجوز في الحدود. "حتى وضعت، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: قد وضعت الغامدية، فقال: إذًا لا نرجمها، وندع ولدها صغيرًا، ليس له من يرضعه، فقام رجل من الأنصار، فقال إلي رضاعه يا نبي الله. قال: فرجمها" وظاهر هذه الرواية أنها لم ترضعه حتى الفطام، وتوجيهها أن الرجل الأنصاري قال ذلك بعد الفطام، وأراد بالرضاع تربيته وحضانته، وسماها رضاعًا مجازًا. قاله النووي. وهذا التوجيه ضروري، ففي الرواية العاشرة "فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة. قالت: هذا قد ولدته، قال: اذهبي، فأرضعيه، حتى تفطميه" يقال: فطم، بفتحات، يفطم، بكسر الطاء "فلما فطمته أتت بالصبي، في يده كسرة خبز، فقالت: هذا يا نبي الله قد فطمته، وقد أكل الطعام، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين" فهذه الرواية صريحة في أن رجمها كان بعد فطامه وأكله الخبز، وهما قضية واحدة، والروايتان صحيحتان، فتعين تأويل الأولى، وحملها على وفق الثانية. (فيقبل خالد بن الوليد بحجر) أصله: فأقبل خالد بن الوليد بحجر، ولكنه عبر عن الماضي بالمضارع استحضارًا للصورة. (فتنضح الدم على وجه خالد) قال النووي "فتنضح" روي بالحاء، وبالخاء، والأكثر على الحاء، ومعناه ترشش وانصب، اهـ. يقال: نضح الثوب بالماء رشه به، وتنضح الماء على الشيء ترشش عليه، ونضخ الشيء بالماء بلله ورشه، وتنضح الدم على الوجه رشه وتناثر عليه. (لو تابها صاحب مكس لغفر له) "المكس" الضريبة، يأخذها المكاس، ممن يدخل البلد، من التجار، وجمعه مكوس، قال النووي: وهو من أقبح المعاصي والذنوب الموبقات، وذلك لكثرة مطالبات الناس له، وظلاماتهم عنده، وتكرر ذلك منه، وانتهاكه للناس، وأخذ أموالهم بغير حقها، وصرفها في غير وجهها. (فصلى عليها) في الرواية الحادية عشرة "ثم أمر بها فرجمت، ثم صلى عليها، فقال له عمر: تصلي عليها يا نبي الله، وقد زنت"؟ قال النووي: أما الرواية الثانية فصريحة في أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليها، وأما الرواية الأولى فقال القاضي عياض: هي بفتح الصاد واللام عند جماهير رواة مسلم، قال: وعند الطبري بضم الصاد، قال: وكذا هو في رواية ابن أبي شيبة وأبي داود، وفي رواية لأبي داود "ثم أمرهم أن يصلوا عليها" قال القاضي: ولم يذكر مسلم صلاته صلى الله عليه وسلم على ماعز، وقد ذكرها البخاري. اهـ قلت: ورواية ضم الصاد لا تمنع من كونه صلى الله عليه وسلم صلى عليها، ولا رواية أبي داود "ثم أمرهم أن يصلوا عليها" لاحتمال أن يكون أمرهم، وصلى بهم، فتفهم الرواية المحتملة على الرواية الصريحة، حيث لا تعارض. (فإذا وضعت فائتني بها، ففعل) أي فعل وليها ما أمر به. (فأمر بها نبي الله صلى الله عليه وسلم، فشكت عليها ثيابها) هكذا هو في معظم النسخ "فشكت" وفي

بعضها "فشدت" بالدال بدل الكاف، وهما بمعنى، يقال: شك عليه الثوب، بالبناء للمجهول، أي جمع واتصل ولصق بعضه ببعض. (أنشدك الله) بفتح الهمزة وضم الشين بينهما نون ساكنة، أي أسألك رافعًا نشيدي - وهو صوتي - إلى الله. هذا أصل استعماله، لكنه كثر استعماله من غير رفع صوت، على معنى أسألك بالله، ثم استعمل في كل مطلوب مؤكد، ولو لم يقصد استحلاف. (إلا قضيت لي بكتاب الله) أي بما تضمنه كتاب الله، فالمراد من كتاب الله القرآن، وقيل: المراد من كتاب الله حكم الله الذي حكمه به، وكتبه على عباده، ولعل الأعرابي قصد الإشارة إلى آية الرجم المنسوخة، أو آية {أو يجعل الله لهن سبيلا} أو آية الجلد {فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} أو آيات النهي عن أكل أموال الناس بالباطل، لأن خصمه كان قد أخذ منه الغنم والوليدة، أو قصد العدالة مطلقًا في جميع أركان الحادثة، وكأنه قال: لا أسألك، ولا أطلب منك إلا الحق، ولم يتوهم الأعرابي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد يحكم بغير الحق، وبغير كتاب الله، حتى يقال: لم سأل هذا السؤال، ولكنه قصد الإعلان بذلك عن قبوله ورضاه لما يصدر من الأحكام. (فقال الخصم الآخر، وهو أفقه منه: نعم. فاقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي) أن أقص عليك القضية. جملة "وهو أفقه منه" معترضة بين القول والمقول، والمراد إما إعلان الراوي أن الثاني أكثر فقهًا من الأول بصفة عامة، عن طريق معرفته بهما قبل أن يتحاكما، فلا دخل لها فيما تكلما، وإما إعلان أن الثاني أعلم بتفاصيل القضية وحسن عرضها من الأول، وإما لأدبه واستئذانه في الكلام، وحذره من الوقوع في التقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. (إن ابني كان عسيفًا على هذا، فزنى بامرأته) في رواية البخاري "إن ابني هذا" مما يفيد أن الابن كان حاضرًا، والإشارة في "كان عسيفًا على هذا" لخصم المتكلم، وهو زوج المرأة، والعسيف الأجير، وجمعه عسفاء، كأجير وأجراء، وفقيه وفقهاء، ويطلق أيضًا على الخادم وعلى العبد، وسمي الأجير عسيفًا، لأن المستأجر يعسفه في العمل، والعسف الجور، أو العسيف الراعي والقائم على الشيء، يقال: هو يعسف ضيعتهم، أي يرعاها ويقوم عليها، و"على" بمعنى "عند" وفي النسائي "كان ابني أجيرًا لامرأته" وفي رواية "كان ابني عسيفًا في أهل هذا" وكأن الرجل استخدمه فيما تحتاج إليه امرأته من الأمور، فكان ذلك سببًا لما وقع له معها. (وإني أخبرت أن على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة) أي وجارية مملوكة، وفي رواية للبخاري "بمائة شاة وخادم" وفي رواية "بمائة شاة وجارية لي" ولم يبين في الروايات من الذي أفتاه بذلك، فهنا "أخبرت" بالبناء للمجهول. وفي رواية "فقالوا لي: على ابنك الرجم" وفي رواية "فأخبروني أن على ابني الرجم" أي فظن أن هذا حق لخصمه، يصح أن يتنازل عنه على مال يأخذه، فاتفق مع خصمه على هذا الفداء، وسلمه إياه. (فسألت أهل العلم، فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة

هذا الرجم) يقصد أنه إن كان هذا القول حقًا، فرد على الغنم والوليدة، ونفذ الحكم في ابني، وفي امرأة خصمي. و"ما" في "أنما" موصولة، أي فأخبروني أن الذي على ابني الجلد، وليس الرجم وإنما الرجم على امرأته، قال الحافظ ابن حجر: ولم أقف على اسم الخصمين، ولا الابن، ولا المرأة. (الوليدة والغنم رد) أي مردودة، ومعناه أنه يجب على خصمك ردها عليك، وفي رواية للبخاري "المائة شاة والخادم رد "وفي رواية "أما غنمك وجاريتك فرد عليك" أي مردودة، من إطلاق المصدر على اسم المفعول، كقولهم: ثوب نسج، أي منسوج. (وعلى ابنك جلد مائة، وتغريب عام) وفي رواية "وأما ابنك فنجلده مائة جلدة، ونغربه سنة" وفي رواية "وجلد ابنه مائة، وغربه عامًا" وهذا ظاهر في أن قوله صلى الله عليه وسلم حكم وليس فتوى، قال النووي: وهو محمول على أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أن الابن كان بكرًا، وأنه اعترف بالزنا، وقرينة اعترافه حضوره مع أبيه، وسكوته عما نسبه إليه، وأما العلم بكونه بكرًا، فوقع صريحًا في رواية، ولفظها "كان ابني أجيرًا لامرأة هذا. وابني لم يحصن". (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها) هذا أيضًا دليل على أن المقام مقام حكم، وليس مقام فتوى، و"اغد" أي اذهب أول النهار، وقيل: المراد الذهاب والتوجه مطلقًا وليس المراد التأخير إلى أول النهار، بدليل رواية "قم يا أنيس، فسل امرأة هذا" و"أنيس" بالتصغير هو ابن الضحاك الأسلمي، معدود في الشاميين، والمرأة أيضًا أسلمية ولعل هذا سر اختياره لهذه المهمة. (أتى بيهودي ويهودية قد زنيا) جاء في الرواية الخامسة عشرة ظروف هذا الإتيان، ولفظها "مر علي النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محممًا" بضم الميم وفتح الحاء، وتشديد الميم المفتوحة، بعدها ميم، أي مسودًا وجهه بالحمم، بضم الحاء، أي بالفحم "مجلودًا" أي مضروبا جلده بالسوط ونحوه "فدعاهم صلى الله عليه وسلم" أي دعا الرجل والمرأة ومن معهما ممن ينفذ عليهما الحكم، وعلى هذا المعنى يحمل ملحق الرواية الرابعة عشرة "أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة قد زنيا ... ". (فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى جاء يهود) معناه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبقى الرجل والمرأة في حيازته، وذهب مع بعض أصحابه إلى محلة اليهود، ليناقش أئمتهم، ويستخرج منهم الحكم الحقيقي الذي أخفوه، ويبطل فعلهم الذي استحدثوه. (فقال: ما تجدون في التوراة على من زنى؟ ) سؤال استنطاق وتقرير لإلزامهم بما في كتابهم، وليس لتقليدهم، ولا لمعرفة الحكم منهم، ولعل الله أوحى إليه أن الرجم في التوراة التي في أيديهم لم يغيروه كما غيروا أشياء، أو أنه أخبره بذلك من أسلم منهم، ولهذا لم يخف ذلك عليه حين كتموه. (قالوا: نسود وجوههما ونحملهما، ونخالف بين وجوههما، ويطاف بهما) في

طرقات المدينة، وقولهم: "ونحملهما" رويت بضم النون وفتح الحاء وتشديد الميم المكسورة، أي نجعلهما حملاً على جمل أو بغل، وفي بعض النسخ "ونجملهما" بالجيم بدل الحاء، أي نضعهما فوق الجمل، وفي بعضها "نحممهما" بميمين، أي نسود وجوههما، وهذا الأخير ضعيف، لسبق "نسود وجوههما" وصورة المخالفة بين وجوههما أن يلصق ظهر كل منهما بظهر الآخر، فيكون وجه أحدهما إلى الأمام، ووجه الآخر إلى الخلف. قال صلى الله عليه وسلم: أهكذا تجدون حد الزنا في كتابكم؟ قالوا: نعم. (قال: فأتوا بالتوراة إن كنتم صادقين) أي فأتوا بالتوراة فاتلوها. (فجاءوا بها، فقرءوها) وما كان لهم أن يمتنعوا، فهم تحت حكمه صلى الله عليه وسلم بالمدينة. (حتى إذا مروا بآية الرجم وضع الفتى الذي يقرأ، يده على آية الرجم، وقرأ ما بين يديها، وما وراءها) أي ما قبلها من الآيات، وما بعدها، ولم يقرأها. (فدعا رجلاً من علمائهم) ليجتمع به على انفراد، ويعيد السؤال عليه على انفراد، لعله يبيح بالسر الذي جعلهم يغيرون القول الذي أنزله الله، ويبدلون ويحرفون الكلم عن مواضعه، وقد تحقق للرسول صلى الله عليه وسلم ما قصده. (فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه) أي إذا أخذنا الشريف زانيًا، وثبت عندنا زناه تركناه، فلم نرجمه. (فقلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء، نقيمه على الشريف والوضيع) أي قال أئمة اليهود بعضهم لبعض: تعالوا. فلنتفق على عقاب نطبقه على الشريف والوضيع. (فأمر به فرجم) أي وأمر بالمرأة فرجمت, ففي الرواية الثالثة عشرة "فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجما" وفي الرواية الرابعة عشرة "رجم في الزنا يهوديين، رجلاً وامرأة" وفي الرواية السادسة عشرة "رجم النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من أسلم" وهو ماعز "ورجلاً من اليهود وامرأته" أي صاحبته التي زنى بها، ولم يرد زوجته. والظاهر أن الرجل والمرأة اليهوديين رجما في مكان واحد، وفي وقت واحد، ففي الرواية الثالثة عشرة قال ابن عمر: "كنت فيمن رجمهما، فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه" أي ينحني عليها، ويحيطها بنفسه، يحميها من الحجارة ويتلقاها هو بدلها. (فليجلدها الحد، ولا يثرب عليها) التثريب التعنيف، أي لا يعنفها، ولا يؤنبها، ولا يلومها على الذنب، فقد فقدت حريتها الكاملة. (ولو بحبل من شعر) في الرواية المتممة للعشرين "ثم بيعوها، ولو بضفير" وفي ملحقها فسر ابن شهاب الضفير بالحبل، والمراد المبالغة في حقارة القيمة، بحيث يسرع البائع ويمضي بيعها ولا يتربص بها طلب الراغبين بالثمن العالي، وليس المراد بيعها بقيمة الحبل حقيقة، فهو من قبيل "من بنى لله مسجدًا ولو كمفحص قطاه".

(اتركها حتى تماثل) بفتحات، مضارع حذف منه إحدى التاءين، وأصله تتماثل، يقال: تماثل المريض من علته إذا قارب البرء، فأشبه الصحيح، أي اتركها حتى تقارب الشفاء أو تشفى. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث]- 1 - حد الزاني إذا كان بكرًا حرًا، والمراد بالبكر من لم يجامع في نكاح صحيح، وهو بالغ عاقل، فيعد بكرًا من جامع بوطء شبهة، أو بنكاح فاسد، أو غيرهما. قال النووي: وأجمع العلماء على وجوب جلد الزاني البكر مائة جلدة، سواء زنى ببكر، أو زنى بثيب، حرة أو أمة. والجمهور على أنه يجب مع الجلد نفيه وتغريبه سنة، وقال الحسن: لا يجب النفي. اهـ. والحنفية على أنه لا نفي، وقالوا: ليس في الآية ذكر للنفي، ولا يزاد على القرآن بخبر الواحد، وحد الزانية إذا كانت بكرًا حرة مائة جلدة أيضًا، سواء زنى بها بكر، أو زنى بها محصن، وسواء كان الزاني بها حرًا أو عبدًا، أما تغريبها سنة فمذهب الشافعي وبعض العلماء، وظاهر الرواية الأولى يؤيده، ففيها "البكر بالبكر جلد مائة، ونفي سنة" قالوا: والرسول صلى الله عليه وسلم مبين للكتاب، فزاد التغريب على قوله تعالى {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [النور: 2] قالوا: وخطب عمر بذلك على رءوس الناس، وعمل به الخلفاء الراشدون، فلم ينكره أحد، فكان إجماعًا. واختلفوا في المسافة التي ينفى إليها، فقيل: هي إلى رأي الإمام، وقيل: إلى مسافة القصر، وقيل: إلى ثلاثة أيام بالإبل، وقيل: إلى يومين، وقيل إلى يوم وليلة، وقيل: من عمل إلى عمل، وقيل: إلى ميل، وقيل: إلى ما ينطلق عليه اسم نفي. وشرط بعض المالكية الحبس في المكان الذي ينفى إليه. وقال مالك والأوزاعي: لا نفي على النساء، وروي ذلك عن علي رضي الله عنه، قالوا: لأنها عورة، وفي نفيها تضييع لها، وتعريض لها للفتنة، ولهذا نهيت عن المسافرة إلا مع محرم. 2 - ويؤخذ من الرواية الثامنة عشرة وما بعدها أن حد الجارية الأمة، وكذا العبد الجلد، سواء كانا محصنين بالتزويج أم لا، وحدهما نصف حد الحر، قال تعالى {فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} [النساء: 25] ففيه بيان من أحصنت، فحصل من الآية الكريمة والحديث بيان أن الأمة المحصنة بالتزويج وغير المحصنة تجلد، لأن الذي ينصف الجلد، أما الرجم فلا ينصف، وقد أجمعوا على أن الأمة المزوجة إذا زنت لا ترجم، والرواية الثامنة عشرة "إذا زنت أمة أحدكم، فتبين زناها، فليجلدها الحد" مطلقة، تتناول المزوجة وغير المزوجة، وهذا مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة، وأحمد وجماهير علماء الأمة، وقال جماعة من السلف: لا حد على من لم تكن مزوجة من الإماء والعبيد، وممن قاله ابن عباس وطاووس وعطاء وابن جريج وأبو عبيدة.

أما النفي للرقيق إذا زنى فقد ذهب إليه الشافعية، والصحيح عندهم أنه ينفى نصف سنة، وفي وجه ضعيف لبعضهم ينفى سنة كاملة، وفي قول ثالث للشافعية: لا نفي على رقيق، وهو قول الأئمة الثلاثة، لأنه لا وطن له، وفي نفيه قطع حق السيد. 3 - كما يؤخذ من الحديث حد الثيب الحر، ذكرًا كان أو أنثى، وهو الرجم، قال النووي: أجمع العلماء على رجم المحصن، وهو الثيب، والمراد بالثيب من جامع في دهره مرة من نكاح صحيح وهو بالغ عاقل حر، والرجل والمرأة في هذا سواء، وسواء في كل هذا المسلم والكافر، والرشيد والمحجور عليه لسفه. قال: ولم يخالف في رجم المحصن أحد من أهل القبلة، إلا ما حكى القاضي عياض وغيره عن الخوارج وبعض المعتزلة، كالنظام وأصحابه، فإنهم لم يقولوا بالرجم، وقال ابن بطال: أجمع الصحابة وأئمة الأمصار على أن المحصن إذا زنى عامدًا عالمًا مختارًا فعليه الرجم، ودفع ذلك الخوارج وبعض المعتزلة، واعتلوا بأن الرجم لم يذكر في القرآن، وحكاه ابن العربي عن طائفة من أهل المغرب لقيهم، وهم من بقايا الخوارج، واحتج الجمهور بأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم، وكذلك الأئمة بعده، كما استدلوا بحديث عبادة وعمر بن الخطاب، روايتنا الأولى والثانية والثالثة. قال النووي: واختلفوا في جلد الثيب مع الرجم، فقالت طائفة: يجب الجمع بينهما، فيجلد، ثم يرجم، وبه قال علي بن أبي طالب والحسن البصري وإسحق بن راهويه، وداود وأهل الظاهر، وبعض أصحاب الشافعي، وقال جماهير العلماء: الواجب الرجم وحده، وحجتهم أن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر على رجم الثيب في أحاديث كثيرة، منها قصة ماعز والغامدية، وقوله صلى الله عليه وسلم لأنيس [في روايتنا الثانية عشرة] "واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها" اهـ. أما ما أشار إليه النووي عن علي رضي الله عنه فقد روى علي بن الجعد "أن عليًا أتى بامرأة زنيت، فضربها يوم الخميس، ورجمها يوم الجمعة" وكذا عند النسائي والدارقطني، زاد ابن الجعد "فقيل لعلي: جمعت حدين؟ قال: جلدتها بالقرآن، ورجمتها بالسنة" وقال أبي بن كعب مثل ذلك. قال الحازمي: ذهب أحمد وإسحق وداود وابن المنذر إلى أن الزاني المحصن يجلد، ثم يرجم. اهـ وروايتنا الأولى تؤيد هذا القول، ولفظها "والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" والرواية الثانية "الثيب بالثيب، جلد مائة، ثم رجم بالحجارة" ويقولون: ليس في قصة ماعز ومن ذكر معه تصريح بسقوط الجلد عن المرجوم، لاحتمال أن يكون ترك ذكره لوضوحه، ولكونه الأصل، فلا يرد ما وقع التصريح به بالاحتمال، فالسكوت عن الشيء لا يدل على سقوطه. ويجيب الجمهور بأن قصة ماعز جاءت من طرق متنوعة، بأسانيد مختلفة، ولم يذكر في شيء منها أنه جلد، وكذلك الغامدية والجهنية، واليهوديين، وقال في ماعز "اذهبوا فارجموه" وكذا في حق غيره، ولم يذكر الجلد، فدل ترك ذكره على عدم وقوعه، ودل عدم وقوعه على عدم وجوبه. ثم إن قصة ماعز متراخية عن حديث عبادة بن الصامت، فهو منسوخ، والناسخ له ما ثبت في

قصة ماعز، نعم حديث عبادة ناسخ لما شرع أولاً من حبس الزاني في البيوت، فنسخ الحبس بالجلد، وزيد الثيب بالرجم. وقد قام الدليل على أن الرجم وقع بعد سورة النور، لأن نزولها كان في قصة الإفك سنة أربع أو خمس أو ست، والرجم كان بعد ذلك، فقد حضره أبو هريرة، وقد أسلم سنة سبع، وحضره ابن عباس، وقد جاء مع أمه إلى المدينة سنة تسع. وقال القاضي عياض: شذت فرقة من أهل الحديث، فقالت: إن الجمع بين الجلد والرجم، خاص بالشيخ والشيخة - أي من جاوز الأربعين محصنًا - وأما الشباب المحصن، فيرجم فقط، وهذا من المذاهب المستغربة حكاها ابن المنذر وابن حزم عن أبي بن كعب. قال النووي: وهو مذهب باطل. ودافع عنه الحافظ ابن حجر بما هو غير مسلم. 4 - ومن قوله في الرواية الثانية "خذوا عني. خذوا عني. فقد جعل الله لهن سبيلا ... إلخ" أن الآية الخامسة عشرة من سورة النساء، وهي قوله تعالى {فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا} غير معمول بظاهر حكمها، سواء قلنا: إن الحديث مبين لها، ومفسر لها، وهي محكمة، أو قلنا: إنها منسوخة بالآية التي في أول النور {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} وقيل: إن آية النور في البكرين وآية النساء في الثيبين، والحديث مبين لها ومفسر، ويمكن أن يكون الحديث ناسخًا لها، على القول بأن السنة المشهورة تنسخ القرآن. 5 - ومن الرواية الثالثة من قول عمر "فكان مما أنزل عليه آية الرجم، قرأناها، ووعيناها، وعقلناها" وقوع النسخ في القرآن، وهذا مما نسخ لفظه، وبقي حكمه، وقد وقع نسخ الحكم دون اللفظ، ومثل له بقوله تعالى {أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات} [المجادلة: 13] بعد قوله {فقدموا بين يدي نجواكم صدقة} وقوله {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفًا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين} بعد قوله {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفًا من الذين كفروا} [الأنفال: 65] كما وقع نسخ اللفظ والحكم جميعًا. قال النووي: فمما نسخ لفظه ليس له حكم القرآن في تحريمه على الجنب ونحو ذلك، وفي ترك الصحابة كتابة هذه الآية دلالة ظاهرة على أن المنسوخ لا يكتب في المصحف اهـ. وهو يشير بذلك إلى رواية للموطأ لهذا الحديث، وفيها أن عمر قال "والذي نفسي بيده. لولا أن يقول الناس: زاد عمر ما ليس في كتاب الله لكتبتها بيدي" والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة" وأخرج النسائي أن مروان بن الحكم قال لزيد بن ثابت "ألا تكتبها في المصحف؟ قال: لا. ألا ترى أن الشابين الثيبين يرجمان؟ ولقد ذكرنا ذلك، فقال عمر: أنا أكفيكم. فقال: يا رسول الله، أكتبني آية الرجم. قال لا أستطيع" وأخرج الحاكم "قال عمر لزيد بن ثابت: لما نزلت أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: أكتبها؟ فكأنه كره ذلك" ثم قال عمر لزيد بن ثابت: ألا ترى أن الشيخ إذا زنى ولم يحصن جلد، وأن الشاب إذا زنى وقد أحصن رجم"؟ قال الحافظ ابن حجر: فيستفاد من هذا السبب في نسخ تلاوتها، وهو كون العلم على غير الظاهر من عمومها.

6 - ومن "قول عمر" فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله" كرامة من كرامات عمر رضي الله عنه ويحتمل أنه علم بذلك من جهة النبي صلى الله عليه وسلم. 7 - ومن قوله "إذا قامت البينة، أو كان الحبل، أو الاعتراف" قال النووي: وأجمعوا على أن البينة أربعة شهداء ذكور وعدول، هذا إذا شهدوا على نفس الزنا، ولا يقبل دون الأربعة، وإن اختلفوا في صفاتهم. وأجمعوا على وجوب الرجم على من اعترف بالزنا، وهو محصن، يصح إقراره بالحد واختلفوا في اشتراط تكرار إقراره أربع مرات. وأما الحبل وحده فمذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجوب الحد به، إذا لم يكن لها زوج ولا سيد، وتابعه مالك وأصحابه، فقالوا: إذا حبلت، ولم يعلم لها زوج ولا سيد، ولا عرفنا إكراهها، لزمها الحد، إلا أن تكون غريبة طارئة، وتدعي أنه من زوج أو سيد، قالوا: ولا تقبل دعواها الإكراه، إذا لم تقم بالاستغاثة عند الإكراه، قبل ظهور الحمل. وقال الشافعي وأبو حنيفة وجماهير العلماء: لا حد عليها بمجرد الحبل، سواء كان لها زوج أو سيد، أم لا، سواء الغريبة وغيرها، وسواء ادعت الإكراه أم سكتت، فلا حد عليها مطلقًا، إلا ببينة أو اعتراف، لأن الحدود تسقط بالشبهات. والحق مع الجمهور، فالحمل يحصل بوسائل كثيرة غير الزنا، وبخاصة في هذه الأزمنة التي تقدم فيها العلم. والله أعلم. 8 - ومن الرواية الرابعة إلى العاشرة قصة ماعز والغامدية من إعراض الرسول صلى الله عليه وسلم عن ماعز التعريض للمقر بالزنا، بأن يرجع، ويقبل رجوعه، وجاء عن مالك رواية: أنه لا أثر لرجوعه، وهو ضعيف. 9 - واحتج أبو حنيفة وسائر الكوفيين وأحمد وموافقوهم بإقرار ماعز أربع مرات، على أن الإقرار بالزنا لا يثبت، ولا يرجم به المقر، حتى يقر أربع مرات، واشترط ابن أبي ليلى وغيره من العلماء، إقراره أربع مرات، في أربع مجالس، وقال مالك والشافعي وآخرون: يثبت الإقرار بالزنا بمرة واحدة، ويرجم، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم "واغد يا أنيس إلي امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها" ولم يطلب إليه سماع أربعة إقرارات، وحديث الغامدية ليس فيه أربعة إقرارات، واستند الأولون إلى القياس على عدد شهود الزنا، دون غيره من الحدود، ورده الجمهور بأنه لو كان هذا القياس صحيحًا لم يقتل القاتل بإقراره حتى يقر مرتين، لأنه لا يقبل فيه إلا شاهدان، مع أن الجميع يتفقون على أنه يكفي فيه مرة واحدة. والجمهور على أن إقرار ماعز المتعدد كان لزيادة التثبت من النبي صلى الله عليه وسلم. 10 - ومن سؤال أهل ماعز عنه استحباب تثبت الإمام، والمبالغة في هذا التثبت قدر الإمكان. 11 - وفي الحديث منقبة عظيمة لماعز بن مالك، لأنه استمر على طلب إقامة الحد عليه، مع توبته، ليتم تطهيره، ولم يرجع عن إقراره، مع أن الطبع البشري يقتضي ألا يستمر على الإقرار، بما يقتضي إزهاق نفسه، فجاهد نفسه على ذلك، وغلب نفسه، وأقر من غير اضطرار إلى إقامة ذلك، مع وضوح الطريق إلى سلامته من القتل بالتوبة، ولا يقال لعله لم يعلم أن الحد بعد أن يرفع إلى الإمام يرتفع بالرجوع، لأنه في الرواية التاسعة قد طلب منه الرجوع والاستغفار والتوبة.

12 - ويؤخذ من طلب الرجوع والتوبة والاستغفار أنه يستحب لمن وقع له مثل قضيته أن يتوب إلى الله تعالى، ويستر نفسه، ولا يذكر ذلك لأحد. 13 - وأنه يستحب لمن اطلع على ذلك أن يستر عليه، ولا يفضحه، ولا يرفعه إلى الإمام، كما قال صلى الله عليه وسلم في هذه القضية "لو سترته بثوبك لكان خيرًا لك" وبهذا جزم الشافعي، فقال: أحب لمن أصاب ذنبًا، فستره الله عليه أن يستره على نفسه ويتوب، واحتج بقصة ماعز، وقال ابن العربي: هذا كله في غير المجاهر، فأما إذا كان متظاهرًا بالفاحشة، فإني أحب مكاشفته، والتبريح به، لينزجر هو وغيره، وقد استشكل استحباب الستر، مع ما وقع من الثناء على ماعز والغامدية، وأجيب بأن الغامدية كان قد ظهر بها الحمل، مع كونها غير ذات زوج، فتعذر الاستتار، ومن هنا قيد بعضهم ترجيح الاستتار حيث لا يكون هناك ما يشعر بضده، فإن وجد فالرفع إلى الإمام، ليقيم عليه الحد أفضل. قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر أن الستر مستحب، والرفع لقصد المبالغة في التطهير أحب. 14 - وفيه مشروعية الإقرار بفعل الفاحشة، عند الإمام وفي المسجد، والتصريح فيه بما يستحى من التلفظ به من أنواع الرفث في القول، من أجل الحاجة الملجئة إلى ذلك. 15 - ومن قوله "أبك جنون"؟ أن إقرار المجنون لاغ، لا يعمل به، ولا يرجم المجنون، إن زنى في حال الجنون، وهو إجماع. 16 - ومن قوله "أشرب خمرًا" أن إقرار السكران لاغ لا يعمل به، والذين اعتبروه قالوا: إن عقله زال بمعصيته، وقد تكون قصة ماعز متقدمة على تحريم الخمر. 17 - ومن قوله في الرواية الخامسة "لعلك" أن الإمام يلقن الرجوع عن الإقرار بالزنا، ومحاولة التعلق بشبهة ليدرأ عنه الحد، وأنه يقبل رجوعه، لأن الحدود مبنية على المساهلة والدرء، بخلاف حقوق الآدميين وحقوق الله المالية، كالزكاة والكفارة وغيرهما، فلا يجوز التلقين فيها، ولو رجع لم يقبل رجوعه، وقد جاء التلقين للرجوع عن الإقرار بالحدود عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الخلفاء الراشدين، ومن بعدهم، واتفق العلماء عليه. 18 - ومن قوله في الرواية الرابعة "فهل أحصنت"؟ أن الإمام يسأل عن شروط الرجم، من الإحصان وغيره، سواء ثبت بالإقرار، أو بالبينة، ومؤاخذة الإنسان بإقراره. 19 - وفيه ترك سجن من اعترف بالزنا في مدة الاستثبات، وفي الحامل حتى تضع وقيل: إن المدينة لم يكن بها حينئذ سجن، وإنما كان يسلم كل جان لوليه، وقال ابن العربي: إنما لم يؤمر بسجنه ولا التوكيل به، لأن رجوعه مقبول، فلا فائدة في سجنه مع جواز الإعراض عنه إذا رجع. 20 - وفيه أن الإمام لا يشترط أن يبدأ بالرجم فيمن أقر، وإن كان ذلك مستحبًا، لأن الإمام إذا بدأ مع كونه مأمورًا بالتثبت والاحتياط فيه، كان ذلك أدعى إلى الزجر عن التساهل في الحكم، ولهذا يبدأ إذا ثبت الرجم بالبينة.

21 - وفي تفويض أنيس وأمره للصحابة برجم ماعز، جواز تفويض الإمام إقامة الحد لغيره. 22 - ومن قوله في الرواية الثامنة "فما أوثقناه، ولا حفرنا له" قال النووي: هكذا الحكم عند الفقهاء في الإيثاق، أما الحفر للمرجوم والمرجومة ففيه مذاهب للعلماء، قال مالك وأبو حنيفة وأحمد في المشهور عنهم: لا يحفر لواحد منهما، وقال قتادة وأبو ثور وأبو يوسف، وأبو حنيفة في رواية: يحفر لهما، وقال بعض المالكية: يحفر لمن يرجم بالبينة، لا من يرجم بالإقرار، أما أصحابنا فقالوا: لا يحفر للرجل، سواء ثبت زناه بالبينة أم بالإقرار. وأما المرأة ففيها ثلاثة أوجه لأصحابنا: أحدها: يستحب الحفر لها إلى صدرها، ليكون أستر لها، والثاني: لا يستحب ولا يكره. بل هو إلى خبرة الإمام. والثالث: وهو الأصح إن ثبت زناها بالبينة استحب، وإن ثبت بالإقرار فلا، ليمكنها الهرب إن رجعت. فمن قال بالحفر لها احتج بأنه حفر للغامدية، ففي الرواية العاشرة "ثم أمر بها، فحفر لها إلى صدرها" وكذا لماعز في الرواية العاشرة "فلما كان الرابعة حفر له حفرة" ويجيب هؤلاء عن الرواية الأخرى في ماعز "أنه لم يحفر له" أن المراد لم يحفر له حفرة عظيمة عميقة، وإنما حفر له حفيرة، تمكن من تسلقها والهرب. وأما من قال: لا يحفر، فاحتج برواية "فما أوثقناه ولا حفرنا له" قال النووي: وهذا المذهب ضعيف، لأنه منابذ لحديث الغامدية، ولرواية الحفر لماعز، وأما من قال بالتخيير فظاهر، وأما من فرق بين الرجل والمرأة، فيحمل رواية الحفر لماعز على أنه لبيان الجواز، وهذا تأويل ضعيف، ومما احتج به من ترك الحفر حديث اليهوديين. اهـ روايتنا الثالثة عشرة. 23 - ومن شم رائحة الخمر أخذ أصحاب مالك وجمهور الحجازيين أنه يحد -حد الخمر- من وجد منه ريح الخمر، وإن لم تقم عليه بينة بشربها، وإن لم يقر بالشرب، ومذهب الشافعي وأبي حنيفة وغيرهما أنه لا يحد بمجرد ريحها، بل لا بد من بينة على شرابه، أو إقراره، وليس في هذا الحديث دلالة لأصحاب مالك، فالسؤال هنا عن شربه الخمر، وشم رائحته، لا لإقامة حد الخمر بالرائحة، ولكن لإيجاد شبهة في إقراره بالزنا، ليدرأ عنه الحد. 24 - وعن قوله في الرواية الرابعة "فرجمناه بالمصلى" قال البخاري وغيره من العلماء: فيه دليل على أن مصلى الجنائز والأعياد، إذا لم يكن قد وقف مسجدًا، لا يثبت له حكم المسجد، إذ لو كان له حكم المسجد لتجنب الرجم فيه، خشية تلطخه بالدماء والميتة. وذكر الدارمي -وهو من الشافعية- أن المصلى الذي للعيد ولغيره -إذا لم يكن مسجدًا- هل يثبت له حكم المسجد؟ فيه وجهان، أصحهما: ليس له حكم المسجد. 25 - وعن قوله "فلما أذلقته الحجارة هرب، فأدركناه بالحرة، فرجمناه" قال النووي: اختلف العلماء في المحصن إذا أقر بالزنا، فشرعوا في رجمه، ثم هرب، هل يترك؟ أم

يتبع ليقام عليه الحد؟ فقال الشافعي وأحمد وغيرهما: يترك ولا يتبع، فإن رجع عن الإقرار ترك، وإن أعاد الإقرار رجم، وقال مالك في رواية وغيره: إنه يتبع ويرجم، واحتج الشافعي وموافقوه بما جاء في رواية أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ألا تركتموه حتى أنظر في شأنه"؟ وفي رواية "هلا تركتموه؟ فلعله يتوب، فيتوب الله عليه"؟ واحتج الآخرون بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلزمهم ذنبه، مع أنهم قتلوه بعد هربه، وأجاب الشافعي وموافقوه عن هذا بأنه لم يصرح بالرجوع، وقد ثبت إقراره، فلا يتركه حتى يصرح بالرجوع، قالوا: وإنما قلنا: لا يتبع في هربه، لعله يريد الرجوع، ولم نقل: إنه سقط الرجم بمجرد الهرب. 26 - ويؤخذ من قوله "فرميناه بالعظام والمدر والخزف" دليل لما اتفق عليه العلماء أن الرجم يحصل بالحجر أو المدر أو العظام أو الخزف أو الخشب وغير ذلك مما يحصل به القتل، ولا تتعين الأحجار. 27 - ومن قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية التاسعة لماعز "ارجع فاستغفر الله، وتب إليه" دليل على سقوط المعاصي الكبائر بالتوبة، وهو بإجماع المسلمين، إلا ما جاء عن ابن عباس في عدم قبول توبة القاتل خاصة، قال النووي: فإن قيل: فما بال ماعز والغامدية لم يقنعا بالتوبة، وهي محصلة لغرضهما، وهو سقوط الإثم؟ بل أصرا على الإقرار، واختارا الرجم؟ فالجواب أن تحصيل البراءة بالحدود، وسقوط الإثم متيقن على كل حال، لا سيما وإقامة الحد بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وأما التوبة فيخاف ألا تكون نصوحًا، وأن يخل من شروطها، فتبقى المعصية وإثمها دائمًا عليه، فأرادا حصول البراءة بطريق متيقن، دون ما يتطرق إليه احتمال. 28 - ومن قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية التاسعة: "استغفروا لماعز ... لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم". ومن لوم خالد على سبه الغامدية ومن قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية العاشرة والحادية عشرة "لقد تابت توبة ... إلخ" دليل على أن الحد يكفر ذنب المعصية التي حد لها، وقد جاء ذلك صريحًا في حديث عبادة بن الصامت، وهو قوله صلى الله عليه وسلم "من فعل شيئًا من ذلك، فعوقب به في الدنيا، فهو كفارة له" قال النووي: ولا نعلم في هذا خلافًا. اهـ أما قوله عن ماعز في الرواية الثامنة "فما استغفر له، ولا سبه" فقد قال النووي: أما عدم السب فلأن الحد كفارة له، مطهرة له من معصيته، وأما عدم الاستغفار -أي في نفس وقت الرجم- فلئلا يغتر عليه، فيقع في الزنا اتكالاً على استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم. 29 - ومن خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بعد رجم ماعز استحباب خطبة الإمام عند الأمور المهمة وتبصير المسلمين بالأخطار، والاستفادة من ظروف الأحداث في الترغيب والترهيب. 30 - ومن قوله "حتى تضعي ما في بطنك" في الرواية التاسعة أنه لا ترجم الحبلى حتى تضع، سواء كان حملها من زنا أو غيره، وهذا مجمع عليه، لئلا يقتل جنينها، قال النووي: وكذا لو كان حدها الجلد وهي حامل، لم تجلد بالإجماع، حتى تضع.

31 - وأن المرأة ترجم إذا زنت، وهي محصنة، كما يرجم الرجل، وهذا الحديث محمول على أنها كانت محصنة، لأن الأحاديث الصحيحة والإجماع متطابقان على أنه لا يرجم غير المحصن. 32 - وأنه من وجب عليها قصاص وهي حامل لا يقتص منها، حتى تضع، وهذا مجمع عليه. 33 - ومن قوله في الرواية التاسعة "لا نرجمها وندع ولدها صغيرًا، ليس له من يرضعه" أن الحامل الزانية لا ترجم، ولا يقتص منها بعد الوضع، حتى تسقي الولد اللبن، ويستغني عنها، ولو بلبن غيرها. قال النووي: واعلم أن مذهب الشافعي وأحمد وإسحق والمشهور من مذهب مالك أنها لا ترجم، حتى تجد من ترضعه، فإن لم تجد أرضعته، حتى تفطمه، ثم ترجم. وقال أبو حنيفة ومالك في رواية عنه: إذا وضعت رجمت، ولا ينتظر حصول مرضعة. 34 - ومن قوله في الرواية الحادية عشرة "فشكت عليها ثيابها" استحباب جمع أثوابها عليها عند الرجم، وشدها بحيث لا تنكشف عورتها في تقلبها وتكرار اضطرابها، قال النووي: واتفق العلماء على أنه لا ترجم إلا قاعدة، وأما الرجل، فالجمهور على أنه يرجم قائمًا، وقال مالك: قاعدًا، وقال غيره: يخير الإمام بينهما. 35 - ومن قوله "فأمر بها، فرجمت" وقوله "وأمر الناس فرجموها" وفي حديث ماعز "أمرنا أن نرجمه "فيها كلها دلالة لمذهب الشافعي ومالك وموافقيهما أنه لا يلزم الإمام حضور الرجم، وكذا لو ثبت بشهود لم يلزمه الحضور، وقال أبو حنيفة وأحمد: يحضر الإمام مطلقًا، وكذا الشهود إن ثبت ببينة. ويبدأ الإمام بالرجم، إن ثبت بالإقرار، وإن ثبت بالشهود بدأ الشهود، وحجة الشافعي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحضر أحدًا ممن رجم. 36 - ومن الرواية الحادية عشرة، من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على الغامدية بعد رجمها قال النووي: وقد اختلف العلماء في الصلاة على المرجوم، فكرهها مالك وأحمد للإمام ولأهل الفضل، دون باقي الناس، ويصلي عليه غير الإمام وأهل الفضل، وقال الشافعي وآخرون: يصلي عليه الإمام وأهل الفضل وغيرهم، والخلاف بين الشافعي ومالك إنما هو في الإمام وأهل الفضل، وأما غيرهم فاتفقا على أنه يصلي، وبه قال جماهير العلماء، قالوا: فيصلى على الفساق والمقتولين في الحدود والمحاربة وغيرهم، وقال الزهري: لا يصلي أحد على المرجوم وقاتل نفسه، وقال قتادة "لا يصلى على ولد الزنا" واحتج الجمهور بهذا الحديث. وأجاب أصحاب مالك بجوابين: أحدهما: أنهم ضعفوا رواية الصلاة، لكون أكثر الرواة لم يذكروها. والثاني: تأولوها على أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة، أو دعا، فسمي صلاة على المعنى اللغوي، قال النووي: وهذان الجوابان فاسدان. أما الأول فإن هذه الزيادة ثابتة في الصحيح،

وزيادة الثقة مقبولة، وأما الثاني فهذا التأويل مردود، لأن التأويل إنما يصار إليه إذا اضطربت الأدلة الشرعية، ولم يكن بد من ارتكابه، وليس هنا شيء من ذلك، فوجب حمله على ظاهره. 37 - ومن قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الرابعة "اذهبوا به فارجموه" جواز استنابه الإمام من يقيم الحد، قال العلماء: لا يستوفي الحد إلا الإمام أو فوض ذلك إليه. 38 - ومن الرواية الثانية عشرة، قصة العسيف، من قول الرجل "فسألت أهل العلم" قال النووي: فيه جواز استفتاء غير النبي صلى الله عليه وسلم في زمنه، لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر ذلك عليه، وأن الصحابة كانوا يفتون في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وفي بلده. 39 - وجواز استفتاء المفضول مع وجود الفاضل، أو من هو أفضل منه. 40 - ومن قوله "الوليدة والغنم رد" أن الصلح الفاسد يرد، وأن أخذ المال فيه باطل، يجب رده، قال ابن دقيق العيد: وبهذا يتبين ضعف عذر من اعتذر من الفقهاء عن بعض العقود الفاسدة، بأن المتعاوضين تراضيا، وأذن كل منهما للآخر في التصرف، والحق أن الإذن في التصرف مقيد بالعقود الصحيحة. 41 - وأن الحدود لا تقبل الفداء. 42 - ومن قوله "وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام" بعد إقرار الأب في حضور الابن وسكوت الابن، أخذ بعضهم صحة إقرار الأب على الابن، والصحيح أن إقرار الأب على الابن لا يقبل، ويحمل ما حصل على أن الابن اعترف، وتبين أن الابن زنى وهو بكر، أو يكون هذا إفتاء، أي إن كان ابنك زنى وهو بكر فعليه جلد مائة وتغريب عام، والأول أقرب. 43 - وعن قوله "واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها" قال النووي: بعث أنيس محمول عند العلماء من أصحابنا وغيرهم، على إعلام المرأة، بأن هذا الرجل قذفها بابنه، فلها عنده حد القذف، فتطالب به، أو تعفو عنه، إلا أن تعترف بالزنا، فلا يجب عليه حد القذف، بل يجب عليها حد الزنا، وهو الرجم، لأنها كانت محصنة "امرأة هذا" فذهب إليها أنيس، فاعترفت بالزنا، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمها، فرجمت، قال النووي: ولا بد من هذا التأويل، لأن ظاهره أنه بعث لإقامة حد الزنا، وهذا غير مراد، لأن حد الزنا لا يتوصل إليه بالتجسس والتفتيش عنه، بل لو أقر به الزاني استحب أن يلقن الرجوع، فحينئذ يتعين التأويل المذكور. 44 - وذهب بعض العلماء إلى أن هذا البعث واجب على القاضي، فإذا قذف إنسان إنسانًا معينًا في مجلسه، وجب عليه أن يبعث إليه من يعرفه بحقه، من حد القذف، وقيل: لا يجب، قال النووي: والأصح وجوبه. 45 - وفي الحديث الرجوع إلى كتاب الله نصًا، أو استنباطًا. 46 - وجواز القسم على الأمر من غير استحلاف، لتأكيده.

47 - وحسن خلقه صلى الله عليه وسلم، وحلمه على من يخاطبه بشيء من جفاء الأعراب، مما لا يليق بمقامه. 48 - واستحباب التأسي به في ذلك، فلا ينزعج الحاكم، ولا يغضب إذا قيل له مثلاً: احكم بيننا بالحق. قال البيضاوي: إنما تواردا على سؤال الحكم بكتاب الله، مع أنهما يعلمان أنه لا يحكم إلا بحكم الله، ليحكم بينهما بالحق الصرف، لا بالمصالحة، ولا الأخذ بالأرفق، لأن للحاكم أن يفعل ذلك برضا الخصمين. اهـ. أي فليس في كلامهما جفاء، ولا مجال هنا لاستنباط حلمه صلى الله عليه وسلم. 49 - وأن للإمام أن يأذن لمن شاء من الخصمين في الدعوى، إذا جاءا معًا، وأمكن أن كلاً منهما يدعي. وهذا على أساس أن الرجل وابنه مدعى عليهما، أما على أساس أن الرجل جاء يطلب استرداد الغنم والوليدة، فهو المدعي، وصاحب الحق في عرض الدعوى. 50 - ومن قوله "وائذن لي" استحباب استئذان المدعي والمستفتي الحاكم والعالم في الكلام. 51 - وفيه أن من أقر بحد، وجب على الإمام إقامته عليه، ولو لم يعترف مشاركه في الجريمة. 52 - وأن من قذف غيره، لا يقام عليه حد القذف، إلا إن طلبه المقذوف. وفيه نظر، لأن المقذوف هنا لم يكن حاضرًا، وقد سبق أن بعث أنيس لها كان لإعلامها بحقها. 53 - وفيه أن المخدرة التي لا تعتاد البروز، لا تكلف الحضور لمجلس الحكم، بل يجوز أن يرسل إليها من يحكم لها وعليها. 54 - وأنه يجوز لمن يعرض مسألته أن يتعرض لبعض الجوانب الخارجة عنها، ليخدم مسألته، فإن الرجل قال: إن ابني كان عسيفًا على هذا. ومسألته حكم الزنا، لكنه أراد أن يقيم لابنه معذرة ما، وأن ابنه لم يكن مشهورًا بالعهر، ولم يهجم على المرأة مثلاً، ولا استكرهها، وإنما وقع له ذلك لطول الملازمة، المقتضية لمزيد التأنيس والإدلال، فيستفاد منه الحث على إبعاد الأجنبي من الأجنبية، مهما أمكن، لأن العشرة قد تفضي إلى الفساد، ويتسور بها الشيطان إلى الإفساد. 55 - وفيه جواز الاستنابة في الحكم والحد، إذا قلنا: إن أنيسًا أنيب في ذلك، وبعث حاكمًا، فاستوفى شروط الحكم، ثم استأذن في رجمها، فأذن له في رجمها. 56 - قال القاضي عياض: احتج قوم -بقصة أنيس- بجواز حكم الحاكم في الحدود وغيرها بما أقر به الخصم عنده، وهو أحد قولي الشافعي، وبه قال أبو ثور، وأبي ذلك الجمهور، فقال بوجوب ضبط بشهادة عليه، قالوا: ويحتمل أن يكون أنيس قد أشهد على إقرارها، قبل رجمها، ثم إنها واقعة عين، لا يحتج بها. 57 - وفيه الاكتفاء في الاعتراف بالمرة الواحدة، لأنه لم ينقل أن المرأة تكرر اعترافها. 58 - والاكتفاء بالرجم، من غير جلد.

59 - وجواز استئجار الحر. 60 - وجواز إجارة الأب ولده الصغير لمن يستخدمه، إذا احتاج لذلك. 61 - وأن حال الزانيين إذا اختلفا أقيم على كل واحد حده، لأن العسيف جلد، والمرأة رجمت، فكذا لو كان أحدهما حرًا، والآخر رقيقًا، وكذا لو زنى بالغ بصبية، أو عاقل بمجنونة، حد البالغ والعاقل، دونهما، وكذا عكسه. 62 - وفيه أن من قذف ولده، لا يحد له، لأن الرجل قال: إن ابني زنى، ولم يثبت عليه حد القذف. كذا قال الحافظ ابن حجر، وفيه نظر، فقد أقر الابن، وجلد. 63 - ومن قصة اليهوديين في الروايات من الثالثة عشرة، حتى السادسة عشرة، دليل على وجوب حد الزنا على الكافر الذمي، وهو قول الجمهور، وفيه خلاف عند الشافعية، وأنه يصح نكاحه، لأنه لا يجب الرجم إلا على محصن فلو لم يصح نكاحه لم يثبت إحصانه، ولم يرجم. وقال المالكية ومعظم الحنفية وربيعة شيخ مالك: شرط الإحصان الإسلام، وأجابوا عن حديث الباب بأنه صلى الله عليه وسلم إنما رجمهما بحكم التوراة، وليس هو من حكم الإسلام في شيء، وإنما هو من باب تنفيذ الحكم عليهم بما في كتابهم، فإن في التوراة الرجم على المحصن وغير المحصن. قالوا: وكان ذلك أول دخول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان مأمورًا باتباع حكم التوراة والعمل بها حتى ينسخ ذلك في شرعه، فرجم اليهوديين على ذلك الحكم، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا} [النساء: 15] ثم نسخ ذلك بالتفرقة بين من أحصن، ومن لم يحصن. قال الحافظ ابن حجر: وفي دعوى الرجم على من لم يحصن نظر. وقال مالك: إنما رجم اليهوديين، لأن اليهود يومئذ لم يكن لهم ذمة، فتحاكموا إليه، ورده الطحاوي بأنه لو لم يكن واجبا عليه ما فعله. أقول: وليس بلازم أن يكون ما يفعله واجبًا عليه. ثم قال الطحاوي: وإذا أقام الحد على من لا ذمة له، فلأن يقيمه على من له ذمة أولى. اهـ. وسلم بعض المالكية بأنهما كانا من أهل العهد والذمة، واحتج بأن الحاكم مخير، إذا تحاكم إليه أهل الذمة بين أن يحكم فيهم بحكم الله، وبين أن يعرض عنهم، على ظاهر قوله تعالى {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئًا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين} [المائدة: 42]. فاختار صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة أن يحكم بينهم. ورد بأن ذلك لا يستقيم على مذهب مالك، لأن شرط الإحصان عنده الإسلام، وهما كانا كافرين، ودافع ابن العربي عن هذا بأنهما كانا محكمين له في الظاهر، ومختبرين ما عنده في الباطن. هل هو نبي حق؟ أو مسامح في الحق؟ قال الحافظ ابن حجر: وهذا لا يرفع الإشكال، ولا يخلص عن الإيراد. اهـ أي لأنه صلى الله عليه وسلم في النهاية حكم ورجم، كيف؟ وهما

كافران؟ وقال ابن العربي - وهو مالكي - والحق أحق أن يتبع، ولو جاءوني لحكمت عليهم بالرجم، ولم أعتبر الإسلام في الإحصان. اهـ وفي وجهات النظر تفصيلات أخرى لا يتسع لها المقام. 64 - وفي الحديث قبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض. قال القرطبي: الجمهور على أن الكافر لا تقبل شهادته على مسلم، ولا على الكافر، لا في حد، ولا في غيره، ولا فرق بين السفر والحضر في ذلك، وقبل شهادتهم جماعة من التابعين وبعض الفقهاء، إذا لم يوجد مسلم، واستثنى أحمد حالة السفر، إذا لم يوجد مسلم. وقال النووي: الظاهر أنه رجمهما بالاعتراف، فإن ثبت حديث جابر عند أبي داود "فدعا بالشهود" فلعل الشهود كانوا مسلمين، وإلا فلا عبرة بشهادتهم، ويتعين أنهما أقرا بالزنا، قال الحافظ ابن حجر: لم يثبت أنهم كانوا مسلمين، ولم يحكم صلى الله عليه وسلم فيهم، إلا مستندًا لما أطلعه الله تعالى، فحكم في ذلك بالوحي، وألزمهم الحجة بينهم، كما قال تعالى {وشهد شاهد من أهلها} [يوسف: 26] وأن شهودهم شهدوا عليهم عند أحبارهم بما ذكر، فلما رفعوا الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم كان مستند حكمه ما أطلعه الله عليه. 65 - استدل بقول ابن عمر في نهاية الرواية الثالثة عشرة "فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه" أن الرجل يرجم قائمًا والمرأة قاعدة، وتعقب أنه واقعة عين، فلا دلالة فيها، وفعلهما وقت الرجم ليس حجة، وقد يقيها وهما واقفان، أو وهما قاعدان. 66 - وفيه أن اليهود كانوا ينسبون إلى التوراة ما ليس فيها، ويخفون بعض ما فيها. 67 - استدل به بعضهم على أن اليهود لم يسقطوا شيئًا من ألفاظها. والاستدلال به لذلك غير واضح، لاحتمال خصوص ذلك بهذه الواقعة فلا يدل على التعميم. 68 - واستدل به بعضهم على أن التوراة التي أحضرت حينئذ كانت كلها صحيحة، سليمة من التبديل، وهو مردود، باحتمال خصوص ذلك بهذه الواقعة أيضًا. 69 - ومن الرواية الثامنة عشرة وما بعدها "زنا الأمة" من قوله في الرواية الثامنة عشرة "إذا زنت أمة أحدكم، فتبين زناها، فليجلدها الحد" وقوله في الرواية الواحدة والعشرين "أقيموا على أرقائكم الحد" استدل على أن السيد يقيم الحد على من يملكه من جارية وعبد، أما الجارية فبالنص، وأما العبد فبالإلحاق. وقد اختلف السلف فيمن يقيم الحدود على الأرقاء، فقالت طائفة: لا يقيمها إلا الإمام، أو من يأذن له، وهو قول الحنفية، وعن الأوزاعي والثوري: لا يقيم السيد إلا حد الزنا، وقال آخرون: يقيمها السيد، ولو لم يأذن الإمام له، وهو قول الشافعي، وعن ابن عمر، في الأمة إذا زنت، ولا زوج لها، يحدها سيدها، فإن كانت ذات زوج، فأمرها إلى الإمام. أخرجه عبد الرزاق، وبه قال مالك، إلا إن كان زوجها عبدًا لسيدها، فأمرها إلى السيد، واستثنى مالك القطع في السرقة، وهو

وجه الشافعية، وفي آخر: يستثنى حد الشرب. وحجة الجمهور حديث علي رضي الله عنه روايتنا الواحدة والعشرين، واحتج ابن العربي لقول مالك في الأمة المتزوجة بأن للزوج تعلقًا بالفرج في حفظه عن النسب الباطل والماء الفاسد، فكان الأمر إليه، ورد هذا بأن حديث النبي صلى الله عليه وسلم أولى أن يتبع، وفيه "من أحصن منهم، ومن لم يحصن". 70 - في قوله "إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فيجلدها الحد" غير مقيد بالإحصان، أنه لا أثر للإحصان، وأن موجب الحد في الأمة مطلق الزنا، ومعنى "فليجلدها الحد" أي الحد اللائق بها المبين في الآية، وهو نصف ما على الحرة، ففيه دليل على أن العبد والأمة لا يرجمان، سواء كانا مزوجين، أم لا. 71 - ومن قوله "ولا يثرب عليها" أنه لا يوبخ الزاني، بل يقام عليه الحد فقط، قاله النووي. 72 - وأن الزاني إذا حد، ثم زنى ثانيًا يلزمه حد آخر فإن زنى ثالثة لزمه حد آخر، فإن حد، ثم زنى لزمه حد آخر، وهكذا أبدًا، فأما إذا زنى مرات، ولم يحد لواحدة منهن، فيكفيه حد واحد للجميع. 73 - أخذ بعضهم من قوله "ثم إن زنت الثالثة، فتبين زناها، فليبعها" وفي رواية "البيع بعد الرابعة" أن محصل الاختلاف هل يجلدها في الرابعة قبل البيع؟ أو يبيعها بلا جلد؟ والراجح الأول. 74 - وفي الحديث أن الزنا عيب، يرد به الرقيق، للأمر بالحط من قيمة المرقوق إذا وجد منه الزنا. 75 - وفيه جواز عطف الأمر المقتضي للندب على الأمر المقتضي للوجوب، لأن الأمر بالجلد واجب، والأمر بالبيع مندوب عند الجمهور، خلافًا لأبي ثور وأهل الظاهر، وادعى بعض الشافعية أن سبب صرف الأمر عن الوجوب أنه منسوخ. قال ابن بطال: حمل الفقهاء الأمر بالبيع على الحض على مساعدة من تكرر منه الزنا، لئلا يظن بالسيد الرضا بذلك، ولما في ذلك من الوسيلة إلى تكثير أولاد الزنا، وحمله بعضهم على الوجوب، ولا سلف له من الأمة، فلا يستقل به. وقد ثبت النهي عن إضاعة المال، فكيف يجب بيع الأمة ذات القيمة، بحبل من شعر، لا قيمة له. فدل على أن المراد الزجر عن معاشرة من تكرر منه ذلك. 76 - وفيه جواز بيع الشيء النفيس بثمن حقير، قال النووي: وهذا مجمع عليه، إذا كان البائع عالمًا به، فإن كان جاهلاً، فكذلك عندنا وعند الجمهور، ولأصحاب مالك فيه خلاف. 77 - أخذ من الحديث بعضهم أن يلزم السيد عند بيع الأمة أن يبين حالها للمشتري، لأنه عيب، والإخبار بالعيب واجب. قال النووي: فإن قيل: كيف يكره شيئًا ويرتضيه لأخيه المسلم؟ فالجواب لعلها تستعف عند المشتري، بأن يعفها بنفسه، أو يصونها بهيبته، أو بالإحسان إليها، والتوسعة عليها، أو يزوجها، فالسبب الذي باعها لأجله، غير محقق الوقوع عند المشتري، وكثيرًا ما يتغير الحال بتغير المحل. 78 - ومن الرواية الواحدة والعشرين أن النفساء والمريضة ونحوهما يؤخر جلدهما إلى البرء. والله أعلم

(450) باب حد الخمر

(450) باب حد الخمر 3913 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين. قال: وفعله أبو بكر فلما كان عمر استشار الناس. فقال عبد الرحمن: أخف الحدود ثمانين. فأمر به عمر. 3914 - - وفي رواية "أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل" فذكر نحوه. 3915 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال، ثم جلد أبو بكر أربعين. فلما كان عمر ودنا الناس من الريف والقرى، قال: ما ترون في جلد الخمر؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: أرى أن تجعلها كأخف الحدود. قال: فجلد عمر ثمانين. 3916 - عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضرب في الخمر بالنعال والجريد أربعين. ثم ذكر نحو حديثهما ولم يذكر الريف والقرى. 3917 - عن حصين بن المنذر أبي ساسان قال: شهدت عثمان بن عفان وأتي بالوليد قد صلى الصبح ركعتين، ثم قال أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر وشهد آخر أنه رآه يتقيأ، فقال: عثمان إنه لم يتقيأ حتى شربها، فقال: يا علي قم فاجلده. فقال علي: قم يا حسن فاجلده. فقال الحسن، ول حارها من تولى قارها (فكأنه وجد عليه) فقال يا عبد الله بن جعفر: قم فاجلده. فجلده وعلي يعد حتى بلغ أربعين. فقال: أمسك. ثم قال: جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين وجلد أبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي.

3918 - عن علي رضي الله عنه قال: ما كنت أقيم على أحد حدًا فيموت فيه فأجد منه في نفسي إلا صاحب الخمر، لأنه إن مات وديته، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه. -[المعنى العام]- العقل هبة الله تعالى، ميز به الإنسان على سائر مخلوقات الأرض، به يحس بالخير والشر، فيستكثر من الخير، ويتباعد عن السوء، فالاعتداء على العقل، ولو للحظة واحدة، اعتداء على أقدس مخلوق، وأشرف الأعضاء، والإنسان بجهله أحيانًا يعالج مشاكله بالهروب منها بعض الوقت، مع أنه يعلم يقينًا أنه بذلك لا يحلها، بل ستظل معه حتى يعود إليها، إنه حين يلجأ إلى شرب الخمر، فيغيب عن حقائق حياته، ويدخل في متاهات الفكر، وسراديب الخيال، يهذي، وينفلت لسانه من عقاله، فيسب حيث لا داعي للسب، ويتهارج ويتقاتل، وهو لا يدرك ما يفعل، ويكشف سرًا، ويهتك سترًا، ويقلب صورته التي خلقها الله في أحسن تقويم، إلى شبح متمايل، وهيكل مترنح مضحك، مثير للسخرية منه والاستهزاء به. من هنا حرم الله شرب الخمر، وجعل لشاربها عقابًا وحدًا زاجرًا لمن له قلب أو ألقى السمع، عقاب يسوده الإهانة والذلة، وهو الضرب بالنعال أربعين، يضربه عامة الناس، وإن كان الشارب من الخاصة، يضربه العظيم والحقير، والشريف والوضيع، مهما كان الشارب شريفًا، فهذا الوليد بن عقبة، في عهد الخليفة عثمان بن عفان، وهو أخوه لأمه، وقد عينه واليًا على الكوفة، يشرب ويسكر، فيأتي به رعيته إلى عثمان فيأمر بضربه، ثم عزله، نعم عقاب الخمر رادع للنفوس الأبية الكريمة العزيزة، في زمن كان نور الإسلام يشاغف القلوب، فلما بعد النور، وفي عهد عمر بن الخطاب، ضعفت النفوس، وكثر شاربو الخمر، المستهينون بعقوبته، فاستشار عمر كبار الصحابة أن يضيف إلى حد الخمر زيادة على سبيل التعزير والتخويف، والتأديب والتهذيب، فأشاروا عليه بأن يجعل العقوبة ثمانين ضربة، وأن يجعل الضرب جلدًا بالسوط، بدلاً من الضرب باليد، والثياب والنعال، ففعل، فحسم الداء، وقل المرضى، وأصلح الله بالراعي الحازم القوي أمور المسلمين. -[المباحث العربية]- (الخمر) اللغة الفصحى تأنيث الخمر، وأثبت بعضهم فيها التذكير، ويقال لها: الخمرة بفتح الخاء وسكون الميم، قيل سميت بذلك لأنها تخامر العقل، أي تخالطه وتغطيه، وقيل: لأنها هي تخمر - بفتح الميم، مبني للمجهول، أي تغطي حتى تغلي، أو لأنها تختمر، كالعجين حين يتفاعل بالخميرة، قال الكرماني: هذا تعريف من حيث اللغة، وأما بحسب

العرف فهو ما يخامر العقل من عصير العنب خاصة، ورده الحافظ ابن حجر، وسيأتي بسط الكلام في ذلك في فقه الحديث. (أتي برجل) قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمه صريحًا، ووقع عند الإسماعيلي أنه النعيمان، وقال ابن عبد البر: إن الذي كان قد أتي به قد شرب الخمر هو ابن النعيمان، فإنه قيل في ترجمة النعيمان: كان رجلاً صالحًا، وكان له ابن انهمك في شرب الخمر، فجلده النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: وأظن أن ابن النعيمان جلد في الخمر أكثر من خمسين مرة. وفي البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أن رجلاً كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حمارًا، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يومًا، فأمر به، فجلد ... " فيحتمل هذا ويحتمل غيرهما، فالذين أمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلدوا كثيرون. (قد شرب الخمر) في رواية للبخاري "قد شرب" بحذف المفعول، للعلم به، وفي رواية له "وهو سكران". (فجلده) أي أمر بجلده. (بجريدتين نحو أربعين) قال النووي: اختلفوا في معناه، فأصحابنا يقولون: معناه أن الجريدتين كانتا مفردتين، جلد بكل منهما عددًا، حتى كمل من الجميع أربعون، فالحد أربعون، وقال آخرون ممن يقول: جلد الخمر ثمانون: معناه أنه جمعهما، وجلده بهما أربعين جلدة، فيكون البالغ ثمانين. قال: وتأويل أصحابنا أظهر، لأن الرواية الأخرى [روايتنا الثانية والثالثة] مبينة لهذه، وأيضًا فحديث علي رضي الله عنه [روايتنا الرابعة] مبين لها. اهـ وفي الرواية الثانية "جلد في الخمر بالجريد والنعال". (فلما كان عمر استشار الناس) أي فلما كان عمر خليفة استشار الناس، وظاهرها أن الاستشارة وقعت في أول خلافة عمر، وليس كذلك، ففي الرواية الثانية "فلما كان عمر، ودنا الناس من الريف والقرى، قال: ما ترون في جلد الخمر"؟ والريف المواضع التي فيها المياه، والقريبة منها، أي لما كان زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفتحت الشام والعراق، وسكن الناس في الريف، وأقاموا في مواضع الخصب وسعة العيش وكثرة الأعناب والثمار، أكثروا من شرب الخمر، فاستشار عمر في زيادة حد الخمر، تغليظًا عليهم، وزجرًا لهم. وفي رواية للبخاري عن السائب بن يزيد قال: "كنا نؤتى بالشارب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإمرة أبي بكر، فصدرا من خلافة عمر، فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا، حتى كان آخر إمرة عمر، فجلد أربعين، حتى إذا عتوا، وفسقوا جلد ثمانين" وهذه الرواية ظاهرها أن

الاستشارة وقعت في نهاية خلافة عمر، وليس كذلك أيضًا، فإن الذي رجحه ابن حجر أن الاستشارة وقعت وسط إمارته. والمراد من "الناس" من كان حوله في مجلسه بالمسجد حينئذ من الصحابة، من المهاجرين والأنصار، ذكروا فيهم عليًا وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف. (فقال عبد الرحمن بن عوف: أخف الحدود ثمانين) هكذا وقع لبعض رواة مسلم "ثمانين" بالنصب ورواية الرفع ثابتة، وأعربت مبتدأ وخبرًا، قال الفاكهي: الذي يظهر أن راوي النصب وهم، واحتمال توهيمه أولى من ارتكاب ما لا يجوز لفظًا ولا معنى، ووجهها بعضهم على تقدير حذف عامل النصب، أي أخف الحدود أجده ثمانين، أو أجد أخف الحدود ثمانين، ويؤيد هذا التوجيه ظاهرالعبارة في الرواية الثانية، ولفظها "أرى أن تجعلها - أي تجعل العقوبة، التي هي للخمر حد - كأخف الحدود" يعني المنصوص عليها في القرآن، وهي حد السرقة بقطع اليد، وحد الزنا بالجلد مائة، وحد القذف بالجلد ثمانين، فاجعلها ثمانين كأخف هذه الحدود. فعامل النصب المحذوف تقديره: اجعل الحد أخف الحدود ثمانين، والكلام على التشبيه، أي كأخف الحدود. وفي رواياتنا أن المشير على عمر رضي الله عنه هو عبد الرحمن بن عوف، وفي غير مسلم روايات تفيد أن المشير بذلك علي رضي الله عنه، أخرجها مالك والطبراني والطحاوي، والبيهقي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة، ومثلها عند أبي داود والنسائي، ولا تعارض، فقد يكون كل من علي وعبد الرحمن قد أشار بذلك، فذكر بعض الرواة عبد الرحمن لكبره، وذكر آخرون عليًا لفضله. (فأمر به عمر) أي فأمر بهذا القدر من الجلد عمر، وفي الرواية الثانية "فجلد عمر ثمانين". (عن حضين بن المنذر) قال النووي: هو بالضاد المعجمة، وليس في الصحيح حضين بالمعجمة غيره. (شهدت عثمان بن عفان، وأتي بالوليد) جملة "وأتي بالوليد" حالية، أي وقد أتي بالوليد على أنه شرب خمرًا، ليقيم عليه الحد. والوليد هو ابن عقبة بن أبي معيط الأموي، أخو عثمان بن عفان لأمه، كان أبوه شديدًا على المسلمين، كثير الأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ممن أسر ببدر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله، نشأ الوليد وتربى في كنف عثمان، فلما استخلف عثمان ولاه الكوفة، بعد عزل سعد بن أبي وقاص، واستعظم الناس ذلك، وصلى بالناس الصبح، فلما فرغ وكان في سكره قال للمصلين: أزيدكم للصبح ركعتين أخريين؟ بل روي أنه صلى بالناس الصبح أربعًا، وهو سكران، فجلده عثمان، وعزله بعد جلده عن الكوفة، وولاها سعيد بن العاص، قيل: كانت ولايته الكوفة سنة خمس وعشرين، وعزل عنها سنة تسع وعشرين، واعتزل الفتنة، ولكنه كان يحرض معاوية على قتال علي، ومات في خلافة معاوية. (فقال عثمان: يا علي، قم. فاجلده) أي فأقم عليه الحد، بنفسك، أو بأن تأمر من ترى بذلك.

قال ذلك لعلي على سبيل التكريم له، وتفويض الأمر إليه في استيفاء الحد، ويحتمل أن عثمان رضي الله عنه أراد أن لا يضرب أخاه لأمه، وواليه على الكوفة أمام عامة الناس، ولذا نرى عليًا، وقد قبل التفويض، يأمر أحب وأقرب الناس إليه، ابنه الأكبر الحسن، ليقوم بالمهمة. (ول حارها من تولى قارها) الحسن يخاطب أباه رضي الله عنهما، ويطلب منه أن يفوض هذه المهمة لأحد أقارب عثمان، فقوله "ول" فعل أمر، يقال: ولى بتشديد اللام - فلانًا الأمر جعله واليًا عليه، و"الحار" بتشديد الراء الساخن، ومن العمل شاقه وشديده، و"القار" بتشديد الراء البارد الهنيء الطيب، وهذا مثل من أمثال العرب، معناه: ول شدتها وأوساخها من تولى هنيئها ولذاتها، والضمير عائد إلى الخلافة والولاية، أي كما أن عثمان وأقاربه يتولون هنيء الخلافة، ويختصون به، يتولون نكدها وقاذوراتها، ومعناه: ليتول عثمان بنفسه هذا الجلد، أو ليول ذلك أقاربه الأدنين. (فكأنه وجد عليه) أي فكأن عليًا غضب وتألم على ابنه، لرفضه أمره، وإن كان محقًا. يقال: وجد عليه، بفتح الجيم، يجد بكسرها، وجدًا بسكونها، وموجدة بكسرها، أي غضب عليه. (فقال: يا عبد اللَّه بن جعفر) أي فطلب علي رضي الله عنه، من عبد الله بن أخيه جعفر بن أبي طالب أن يقوم بالمهمة. (وكل سنة) أي الاقتصار على الأربعين سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وبلوغ الثمانين سنة خلفائه رضي الله عنهم، ومعناه أن عليًا رضي الله عنه يعظم آثار عمر رضي الله عنه، ويعتبر حكمه سنة، وأن أمره حق. (وهذا أحب إلي) الإشارة قبل: إلى الثمانين التي فعلها عمر رضي الله عنه، وقيل: إن عليًا جلد الوليد ثمانين، والإشارة إلى فعله. (ما كنت أقيم على أحد حدًا، فيموت فأجد منه في نفسي إلا صاحب الخمر) الفاء في "فيموت" للسببية، والفعل منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية، وكذا "أجد" معطوف على "يموت" ومعناه أحزن، والمراد من صاحب الخمر شاربها، والمعنى لم أكن أحزن على موت يتسبب عن إقامة حد إلا موت شارب الخمر المتسبب عن حده. (لأنه إن مات وديته) بفتح الواو والدال وسكون الياء أي غرمت ديته، وأعطيتها لمن يستحق قبضها، وعند النسائي وابن ماجه عن علي رضي الله عنه قال: "من أقمنا عليه حدًا، فمات، فلا دية له، إلا من ضربناه في الخمر". قال بعض العلماء: "فإنه إن مات وديته" بالفاء، لا باللام، وهكذا هو في رواية البخاري بالفاء. (لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يسنه) أي لم يقدر فيه حدًا مضبوطًا، ولم يحدد فيه عددًا معينًا، فوق الأربعين وفي رواية "فإنما هو شيء صنعناه" أي فإنما تحديده بثمانين وقع باجتهاد منا في عهد عمر، تعزيرًا لا حدًا.

-[فقه الحديث]- حرمت الخمر بقوله تعالى {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون * إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} [المائدة: 90، 91]. والصحيح أنه كان في عام الفتح، قبل الفتح، وذهب بعضهم إلى أنه كان عام الحديبية سنة ست، قال الرازي في أحكام القرآن: يستفاد تحريم الخمر من هذه الآية من تسميتها رجسًا، وقد سمى الله به ما أجمع على تحريمه، وهو لحم الخنزير، كما يستفاد التحريم من قوله {من عمل الشيطان} فكل ما كان من عمل الشيطان حرم تناوله، ومن الأمر بالاجتناب، وهو للوجوب، وما وجب اجتنابه حرم تناوله، ومن الفلاح المرتب على الاجتناب، ومن كون الشرب سببًا للعداوة والبغضاء بين المؤمنين، وتعاطي ما يوقع ذلك حرام، ومن كونها تصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، ومن ختام الآية بقوله تعالى {فهل أنتم منتهون} فإنه استفهام معناه الردع والزجر، ولهذا قال عمر لما سمعها: انتهينا. انتهينا. اهـ. وقد روى البخاري "من شرب الخمر في الدنيا، ثم لم يتب منها، حرمها في الآخرة" وروى "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها، وهو مؤمن". قال الحافظ ابن حجر: وقد انعقد الإجماع على أن القليل من الخمر المتخذ من العنب يحرم، كما يحرم كثيره، وقال في موضع آخر: والمجمع على تحريمه عصير العنب إذا اشتد، فإنه يحرم تناول قليله وكثيره بالاتفاق، وحكى ابن قتيبة عن قوم من مجان أهل الكلام أن النهي عنها للكراهة، وهو قول مهجور، لا يلتفت إلى قائله، وحكى أبو جعفر النحاس عن قوم أن الحرام ما أجمعوا عليه، وما اختلفوا فيه ليس بحرام، قال: وهذا عظيم من القول، يلزم منه القول بحل كل شيء اختلف في تحريمه، ولو كان مستند الخلاف واهيًا. ونقل الطحاوي في "اختلاف العلماء" عن أبي حنيفة: الخمر حرام قليلها وكثيرها، والسكر من غيرها حرام، وليس كتحريم الخمر، والنبيذ المطبوخ لا بأس به، من أي شيء كان، وإنما يحرم منه القدر الذي يسكر، وعن أبي يوسف: لا بأس بالنقيع من كل شيء، وإن غلى، إلا الزبيب والتمر. قال: وكذا حكاه محمد عن أبي حنيفة، وعن محمد: ما أسكر كثيره، فأحب إلي أن لا أشربه، ولا أحرمه، وقال الثوري: أكره نقيع التمر إذا غلي، ونقيع العسل لا بأس به. وقد ذكرنا في المباحث العربية معنى الخمر، وأصل اشتقاقها في اللغة، وأما المراد منها في عرف الشرع واصطلاحه، فالحنفية يقصرونها على ما يخامر العقل من عصير العنب خاصة. والجمهور على أن المراد بها ما خامر العقل من الشراب، ويستدلون بما رواه البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "خطب عمر على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنه قد نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة أشياء: العنب والتمر والحنطة والشعير والعسل، والخمر ما خامر العقل" وسئل ابن عمر عن شيء يصنع بالسند من الأرز؟ فقال: ذاك لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: أو قال: على عهد عمر - وفي رواية مكان "العنب". "والزبيب" قال الحافظ ابن حجر: هذا الحديث أورده أصحاب المسانيد والأبواب

في الأحاديث المرفوعة، لأن له عندهم حكم الرفع، لأنه خبر صحابي، شهد التنزيل، أخبر عن سبب نزول الآية، وقد خطب به عمر على المنبر، بحضرة كبار الصحابة وغيرهم، فلم ينقل عن أحد منهم إنكاره، وأراد عمر بنزول تحريم الخمر الآية المذكورة في سورة المائدة {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر .... } فأراد عمر التنبيه على أن المراد بالخمر في هذه الآية ليس خاصًا بالمتخذ من العنب، بل يتناول المتخذ من غير العنب، قال الحافظ: ويوافقه حديث أنس الذي رواه البخاري "قال أنس: كنت قائمًا على الحي أسقيهم الفضيخ، فجاء آت، فقال: إن الخمر قد حرمت. فقال أبو طلحة: قم يا أنس، فاهرقها، قال: فهرقتها" وفي رواية "أن أنس بن مالك حدثهم أن الخمر حرمت، والخمر يومئذ البسر والتمر" والفضيخ اسم للبسر إذا نبذ، والبسر الذي يحمر أو يصفر، قبل أن يترطب. وفي رواية عن أنس "وإنا نعدها يومئذ الخمر". فحديث أنس يدل على أن الصحابة فهموا من تحريم الخمر تحريم كل مسكر، سواء كان من العنب أم من غيرها، وقد جاء هذا الذي قاله عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم صريحًا، أخرجه أصحاب السنن الأربعة، وصححه ابن حبان، فعند أبي داود وابن حبان، عن النعمان بن بشير، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الخمر من العصير والزبيب، والتمر والحنطة والشعير والذرة، وإني أنهاكم عن كل مسكر" ولأبي داود بلفظ "إن من العنب خمرًا، وإن من التمر خمرًا، وإن من العسل خمرًا، وإن من البر خمرًا، وإن من الشعير خمرًا" وكذا لأصحاب السنن. فعمر رضي الله عنه على المنبر لم يكن في مقام تعريف اللغة، بل كان في مقام تعريف الحكم الشرعي، فكأنه قال: "الخمر الذي وقع تحريمه في لسان الشرع هو ما خامر العقل". ثم إن الحكم الشرعي ينزل على ما يعهده المخاطبون وقد أخرج البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما - "نزل تحريم الخمر، وإن بالمدينة يومئذ خمسة أشربة، ما فيها شراب العنب". ماذا يقول الحنفية في هذه الأحاديث؟ جعل الطحاوي هذه الأحاديث متعارضة. حديث لأبي هريرة في صحيح مسلم "الخمر من هاتين الشجرتين، النخلة والعنبة" فكون الخمر من شيئين يعارض حديث عمر والنعمان بن بشير وابن عمر، وأنس يعد الخمر في البر والتمر. فلما اختلفت الصحابة في ذلك، ووجدنا اتفاق الأمة على أن عصير العنب إذا اشتد وغلي وقذف بالزبد، فهو خمر، ومستحله كافر، دل على أنهم لم يعملوا بحديث أبي هريرة، إذ لو عملوا به لكفروا مستحل نبيذ التمر، فثبت أنه لم يدخل في الخمر غير المتخذ من عصير العنب. اهـ. ورد عليه الحافظ ابن حجر بقوله: لا يلزم من كونهم لم يكفروا مستحل نبيذ التمر أن يمنعوا تسميته خمرًا، فقد يشترك الشيئان في التسمية، ويفترقان في بعض الأوصاف، مع أن الطحاوي يوافق على أن حكم المسكر من نبيذ التمر حكم قليل العنب في التحريم، فلم تبق المشاحة إلا في التسمية، والجمع بين حديث أبي هريرة وغيره بحمل حديث أبي هريرة على الغالب والكثير، وليس في

أسلوبه قصر، وبحمل حديث عمر وحديث من وافقه على إرادة استيعاب ما هو معهود حينئذ أن يتخذ منه الخمر، وذكر بعض الأمور لا يتنافى مع ذكر الكل أو الأغلب. وقال صاحب الهداية من الحنفية: لنا إطباق أهل اللغة على تخصيص الخمر بالعنب. اهـ ورده الحافظ ابن حجر بثبوت النقل عن بعض أهل اللغة بأن غير المتخذ من العنب يسمى خمرًا. قال الخطابي: وزعم قوم أن العرب لا تعرف الخمر إلا من العنب، فقال لهم: إن الصحابة الذين سموا غير المتخذ من العنب خمرًا عرب فصحاء، فلو لم يكن هذا الاسم صحيحًا لما أطلقوه. وقال بعض الحنفية: إن الخمر من العنب، لقوله تعالى {إني أراني أعصر خمرًا} فهو يدل على أن الخمر ما يعتصر، لا ما ينتبذ، ورد بأنه لا يفيد القصر، ولا دليل فيه على الحصر. هذا. وفي الموضوع كلام آخر كثير، وسنعود إليه عند أحاديث كتاب الأشربة إن شاء الله، وإنما تعجلنا هذه العجالة لإلقاء الضوء على حد الخمر، هل يثبت على من شرب النبيذ، ولم يسكر؟ أو لا يثبت؟ قال النووي: اختلف العلماء فيمن شرب النبيذ - وهو ما سوى عصير العنب من الأنبذة المسكرة - فقال الشافعي ومالك وأحمد - رحمهم الله تعالى - وجماهير العلماء من السلف والخلف: هو حرام، يجلد فيه، كجلد شارب الخمر، الذي هو عصير العنب، سواء كان يعتقد إباحته، أو تحريمه، وقال أبو حنيفة والكوفيون - رحمهم الله تعالى - لا يحرم ولا يحد شاربه، وقال أبو ثور: هو حرام، يجلد بشربه من يعتقد تحريمه، دون من يعتقد إباحته. والهدف من أحاديث الباب بيان حد الخمر، وعنه قال النووي: واختلف العلماء في قدر حد الخمر، فقال الشافعي، وأبو ثور وداود وأهل الظاهر وآخرون: حده أربعون. قال الشافعي وللإمام أن يبلغ به ثمانين، وتكون الزيادة على الأربعين تعزيرات، على تسببه في إزالة عقله، وفي تعرضه للقذف والقتل، وأنواع الإيذاء، وترك الصلاة، وغير ذلك. ونقل القاضي عن الجمهور من السلف والفقهاء، منهم مالك وأبو حنيفة والأوزاعي والثوري وأحمد وإسحق أنهم قالوا: حده ثمانون، واحتجوا بأنه الذي استقر عليه إجماع الصحابة، وأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن للتحديد، ولهذا قال في الرواية الأولى "نحو أربعين" وحجة الشافعي وموافقيه أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما جلد أربعين، كما صرح به في الرواية الثالثة، وأما زيادة عمر فتعزيرات، والتعزير إلى رأي الإمام، وأما الأربعون فهي الحد المقدر الذي لا بد منه، ولو كانت الزيادة حدًا لم يتركها النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، ولم يتركها علي رضي الله عنه - بعد فعل عمر. ولهذا قال علي "وكل سنة" ومعناه الاقتصار على الأربعين، وبلوغ الثمانين سنة، قال النووي: وهذا الذي قاله الشافعي هو الظاهر الذي تقتضيه هذه الأحاديث، ولا يشكل شيء منها. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: وفي سياق قصة استشارة عمر ما يقتضي أنهم كانوا يعرفون أن الحد أربعون، وإنما تشاوروا في أمر يحصل به الارتداع، يزيد على ما كان مقررًا، ويشير إلى ذلك ما وقع من التصريح في بعض طرقه أنهم احتقروا العقوبة، وانهمكوا في الشرب، فاقتضى رأيهم أن يضيفوا إلى

الحد المذكور قدره، إما اجتهادًا، بناء على جواز دخول القياس في الحدود، فيكون الكل حدًا، أو استنبطوا من النص معنى يقتضي الزيادة في الحد، لا النقصان منه، أو القدر الذي زادوه كان على سبيل التعزير، تحذيرًا وتخويفًا، لأن من احتقر العقوبة إذا عرف أنها غلظت في حقه، كان أقرب إلى ارتداعه، فيحتمل أنهم ارتدعوا بذلك، ورجع الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك، فرأى علي رضي الله عنه الرجوع إلى الحد المنصوص، وأعرض عن الزيادة، لانتفاء سببها، ويحتمل أن يكون القدر الزائد كان عندهم خاص بمن تمرد، وظهرت منه أمارات الاشتهار بالفجور، ويدل على ذلك أن في بعض الروايات عند الدارقطني وغيره "فكان عمر إذا أتي بالرجل الضعيف، تكون منه الزلة، جلده أربعين" وكذلك عثمان، جلد أربعين وثمانين. وقد فهم بعضهم من قول علي رضي الله عنه في الرواية الخامسة "لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه" أن مراده لم يشرع في الخمر حدًا معينًا أصلاً، لا دون الأربعين ولا الزيادة عليها، قال المازري: لو فهم الصحابي أن النبي صلى الله عليه وسلم حد في الخمر حدًا معينًا، لما قالوا فيه بالرأي، كما لم يقولوا بالرأي في غيره، فلعلهم فهموا أنه ضرب فيه باجتهاده في حق من ضربه. اهـ وقد يستأنس لهذا القول بما أخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير قال: "كان الذي يشرب الخمر يضربونه بأيديهم ونعالهم، فلما كان عمر فعل ذلك، حتى خشي، فجعله أربعين سوطًا، فلما رآهم لا يتناهون جعله ثمانين سوطًا". فظاهره أن عمر كان يضرب دون عدد، ثم جعله أربعين، وهذا الظاهر مستبعد، لورود النص بالأربعين في روايتنا الثانية، وإنما مراد رواية عبد الرزاق أن عمر جعل السوط آلة، بعد أن كان الضرب باليد والنعال، قال الحافظ ابن حجر: فيحمل النفي في قوله "لم يسنه" على أنه لم يحد الثمانين، أي لم يسن الثمانين وقيل: أي لم يسن شيئًا زائدًا على الأربعين، وعلى هذا فقوله، في روايتنا الخامسة "لو مات لوديته" أي لو مات بسبب ما زاد على الأربعين وبذلك جزم البيهقي وابن حزم، ويحتمل أن يكون الضمير في "لم يسنه" لصفة الضرب، وكونها بسوط الجلد، أي لم يسن الجلد بالسوط، وإنما كان يضرب فيه بالنعال وغيرها، أشار إلى ذلك البيهقي وابن حزم، وقال ابن حزم: لو جاء عن غير علي من الصحابة في حكم واحد أنه مسنون، وأنه غير مسنون، لوجب حمل أحدهما على غير ما حمل عليه الآخر، فضلاً عن علي، مع سعة علمه، وقوة فهمه، وإذا تعارض خبر عمير بن سعيد - روايتنا الخامسة - وخبر أبي ساسان - روايتنا الرابعة - فخبر أبي ساسان أولى بالقبول، لأنه مصرح فيه برفع الحديث عن علي، وخبر عمير موقوف على علي، وإذا تعارض المرفوع والموقوف قدم المرفوع. قال القاضي عياض: أجمعوا على وجوب الحد في الخمر، واختلفوا في تقديره. وتعقب بأن الطبري وابن المنذر وغيرهما حكوا عن طائفة من أهل العلم أن الخمر لا حد فيها، وإنما فيها التعزير، واستندوا إلى ما أخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج ومعمر: سئل ابن شهاب: كم جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر؟ فقال: لم يكن فرض فيها حدًا، كان يأمر من حضره أن يضربوا بأيديهم ونعالهم حتى يقول لهم: "ارفعوا" وما أخرجه أبو داود والنسائي بسند قوي، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوقت في الخمر حدًا، قال ابن عباس: "وشرب رجل فسكر، فانطلق به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما حاذى دار العباس انفلت، فدخل على العباس، فالتزمه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فضحك ولم يأمر فيه بشيء". وأخرج

الطبري عن ابن عباس "ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر إلا أخيرًا، ولقد غزا تبوك، فغشي حجرته من الليل سكران، فقال: ليقم إليه رجل، فيأخذه بيده، حتى يرده إلى رحله". والجواب عن هذه الشبهة الواهية أن الإجماع انعقد بعد ذلك على وجوب الحد، لأن أبا بكر تحرى ما كان النبي صلى الله عليه وسلم ضرب السكران، فصيره حدًا، واستمر عليه، وكذلك استمر من بعده، وإن اختلفوا في العدد، وجمع القرطبي بين الأخبار، بأنه لم يكن أولاً في شرب الخمر حد، وعلى ذلك يحمل حديث ابن عباس في الذي استجار بالعباس، ثم شرع فيه التعزير، على ما في سائر الأحاديث التي لا تقدير فيها، ثم شرع الحد، ولم يطلع أكثرهم على تعيينه صريحًا، مع اعتقادهم أن فيه الحد المعين، ومن هنا توخى أبو بكر ما فعل بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، فاستقر عليه الأمر، ثم رأى عمر ومن وافقه الزيادة على الأربعين، إما حدًا، وإما تعزيرًا. اهـ. أما كيفية الضرب ففي روايتنا الأولى "فجلده بجريدتين" وفي روايتنا الثالثة "كان يضرب في الخمر بالنعال والجريد" وفي رواية للبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال "أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب، فقال: اضربوه. قال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه". وقد اختلف في ذلك على ثلاثة أقوال، وهي ثلاثة أوجه عند الشافعية، أصحها يجوز الجلد بالسوط، ويجوز الاقتصار على الضرب بالأيدي والنعال والثياب، ثانيها يتعين الجلد، ثالثها يتعين الضرب. وحجة جواز الأمرين أن أحدهما فعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت نسخه، وفعل ثانيهما في عهد الصحابة فدل على جوازه، وأما تعين الجلد بالسوط فقد صرح به القاضي حسين من الشافعية، واحتج بأنه إجماع الصحابة، وتعقب بأنه لا يسلم فيه إجماع الصحابة، واعتبر النووي هذا القول شاذًا غلطًا ومنابذًا للأحاديث الصحيحة، وقال: أجمعوا على الاكتفاء بالجريد والنعال وأطراف الثياب. اهـ. وأما تعين الضرب، ومنع الجلد بالسوط فقد جاء عن الشافعي في الأم: لو أقام عليه الحد بالسوط فمات، وجبت الدية. اهـ فسوى بينه وبين ما إذا زاد، فدل على أن الأصل الضرب بغير السوط. قال الحافظ ابن حجر: وتوسط بعض المتأخرين، فعين السوط للمتمردين، وأطراف الثياب والنعال للضعفاء، ومن عداهم بحسب ما يليق بهم. وهو متجه. قال النووي: قال أصحابنا: وإذا ضربه بالسوط، يكون سوطًا معتدلاً في الحجم، بين القضيب والعصا، فإن ضربه بجريدة فلتكن خفيفة بين اليابسة والرطبة، ويضربه ضربًا بين ضربين، فلا يرفع يده فوق رأسه، ولا يكتفي بالوضع، بل يرفع ذراعه رفعًا معتدلاً. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - يؤخذ من قول عبد الرحمن بن عوف في الرواية الثانية "أرى أن تجعلها كأخف الحدود" جواز القياس. 2 - ومن فعل عمر رضي الله عنه مشاورة القاضي والمفتي والحاكم أصحابه وحاضري مجلسه في الأحكام.

3 - ومن قول علي رضي الله عنه في الرواية الرابعة "وكل سنة" أن فعل الصحابي سنة، يعمل بها، وهو موافق لقوله صلى الله عليه وسلم "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ" قاله النووي. 4 - وفي هذا دليل على أن عليًا رضي الله عنه كان معظمًا لآثار عمر، وأن حكمه وقوله سنة، وأن أمره حق، وكذلك أبو بكر - رضي الله عنهم جميعًا - وهذا يخالف ما عليه الشيعة. 5 - استدل بقول علي رضي الله عنه في الرواية الخامسة "إلا صاحب الخمر، لأنه إن مات وديته" على أن من وجب عليه الحد، فجلده الإمام أو جلاده الحد الشرعي، فمات، فلا دية فيه، ولا كفارة، لا على الإمام، ولا على جلاده، ولا في بيت المال، وأما من مات من التعزير فمذهب الشافعية وجوب ضمانه بالدية والكفارة، وفي محل ضمانه قولان للشافعي، أصحهما: تجب ديته على عاقلة الإمام، والكفارة في مال الإمام، والثاني تجب الدية في بيت المال، وفي الكفارة وجهان، في بيت المال، أو في مال الإمام. وقال جماهير العلماء: لا ضمان فيه، لا على الإمام، ولا على عاقلته، ولا في بيت المال. أما من مات في حد الخمر فمذهب علي رضي الله عنه واضح وصريح، وقال الشافعي: إن ضرب بغير السوط فلا ضمان، وإن جلد بالسوط ضمن، قيل: الدية، وقيل: قدر تفاوت ما بين الجلد بالسوط وبغيره، والدية في ذلك على عاقلة الإمام، وكذلك لو مات فيما زاد على الأربعين. 6 - وقد يستدل بالرواية الأولى والرابعة، وبما رواه البخاري عن عقبة بن الحارث قال: "جيء بالنعيمان شاربًا، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان في البيت أن يضربوه. قال فضربوه، فكنت أنا فيمن ضربه بالنعال" قد يستدل بذلك على جواز إقامة الحد في البيت، خلافًا لمن قال: لا يضرب الحد سرًا، وقد ورد عن عمر في قصة ولده أبو شحمة، لما ضرب بمصر، فحده عمرو بن العاص في البيت، أن عمر أنكر عليه، وأحضره إلى المدينة، وضربه الحد جهرًا، روى ذلك ابن سعد، وأخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن ابن عمر مطولاً. قال الحافظ ابن حجر: وجمهور أهل العلم على الاكتفاء، وحملوا صنيع عمر على المبالغة في تأديب ولده، لا أن إقامة الحد لا تصح إلا جهرًا. 7 - ومن قول عثمان رضي الله عنه في الرواية الرابعة "إنه لم يتقيأ حتى شربها" استدل لمالك وموافقيه على أن من تقيأ الخمر يحد حد الشارب. قال النووي: ومذهبنا أنه لا يحد بمجرد ذلك، لاحتمال أنه شربها جاهلاً كونها خمرًا، أو مكرها عليها، أو غير ذلك من الأعذار المسقطة للحدود. قال: ودليل مالك هنا قوي، لأن الصحابة اتفقوا على جلد الوليد بن عقبة المذكور في هذا الحديث، وقد يجيب أصحابنا عن هذا بأن عثمان رضي الله عنه علم شرب الوليد، فقضى بعلمه في الحدود، وهذا تأويل ضعيف وظاهر كلام عثمان يرد على هذا التأويل. اهـ. 8 - وقد يستدل بالرواية الأولى، وبرواية البخاري "جيء بالنعيمان، وهو سكران" على جواز إقامة الحد على السكران في حال سكره، وبه قال أهل الظاهر، والجمهور على خلافه، لأن المعنى المقصود بالضرب في الحد الإيلام، ليحصل به الردع.

9 - وفي هذه الأحاديث تحريم الخمر، ووجوب الحد على شاربها، سواء شرب كثيرًا أم قليلاً، وسواء سكر أم لا. (إضافة) ذكر الحافظ ابن حجر: أحاديث كثيرة تأمر بقتل شارب الخمر، إذا تكرر شربه خامسة، ونقد هذه الأحاديث نقدًا علميًا، ثم قال: مال الخطابي إلى تأويل الحديث في الأمر بالقتل، فقال: قد يرد الأمر بالوعيد، ولا يراد به وقوع الفعل، وإنما يراد الردع والتحذير، ثم قال: ويحتمل أن يكون القتل في الخامسة كان واجبًا، ثم نسخ بحصول الإجماع من الأمة، على أنه لا يقتل، وأما ابن المنذر فقال: كان العمل فيمن شرب الخمر أن يضرب وينكل به، ثم نسخ بالأمر بجلده، فإن تكرر ذلك أربعًا قتل، ثم نسخ ذلك بالأخبار الثابتة، وبإجماع أهل العلم، إلا من شذ، ممن لا يعد خلافه خلافًا. اهـ وهو يشير بذلك إلى بعض أهل الظاهر، وقد استمر على هذا القول ابن حزم، واستدل له، وادعى أن لا إجماع. ورد عليه الحافظ ابن حجر، بما لا يتسع له المقام. والله أعلم

(451) باب قدر سوط التعزير

(451) باب قدر سوط التعزير 3919 - عن أبي بردة الأنصاري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله". -[المعنى العام]- قدر الله عقوبات دنيوية لبعض المعاصي كالسرقة والزنا، والقذف والقتل، وسميت هذه العقوبات في الشريعة الإسلامية حدًا، وترك العقوبات الدنيوية لبعض الذنوب، ليقدرها ولاة الأمور حسب حالة المعصية وأثرها وظروفها، وحالة من عصي الله والناس بها، وسميت هذه العقوبات في الشريعة الإسلامية بالتعزيرات. ولما كانت المعاصي الأولى أكبر جرمًا - غالبًا - من الثانية كانت عقوبتها المقدرة أشد إيلامًا وإيذاء وتخويفًا، فكان الإرشاد الإلهي لمن يقوم بمعاقبة الجاني في المعاصي الثانية أن لا يبلغ بعقوبتها أقل العقوبات التي شرعت للمعاصي الأولى أو أن لا يزيد على عشرة أسواط، إذا جردنا هذه المعاصي عن الظروف والملابسات التي تستدعي مضاعفة العقوبات، على أن يؤدي التعزير إلى معالجة المعاصي وتأديب العاصي وتحذير وتخويف من تسول له نفسه الوقوع فيها. -[المباحث العربية]- (التعزير) مصدر عزره، بفتح العين وتشديد الزاي المفتوحة، أي منعه ورده وأدبه، يقال: عزره القاضي أي أدبه ودفعه ورده عن العودة إلى القبيح، ويكون بالفعل والقول، بحسب ما يليق. (لا يجلد أحد) قال النووي: ضبطوه بوجهين، أحدهما بفتح الياء وكسر اللام، والثاني بضم الياء وفتح اللام، وكلاهما صحيح. وهل الفعل مرفوع؟ و"لا" نافية؟ أو مجزوم؟ و"لا" ناهية؟ قولان، ويؤيد النهي رواية للبخاري بلفظ "لا تجلدوا". (فوق عشرة أسواط) في رواية "فوق عشر جلدات" وفي أخرى "لا عقوبة فوق عشر ضربات". (إلا في حد من حدود اللَّه) قال الحافظ ابن حجر: ظاهره أن المراد بالحد ما ورد فيه من الشارع عدد مخصوص من الجلد أو الضرب، أو ورد فيه عقوبة مخصوصة. قال: والمتفق عليه من ذلك

الزنا والسرقة وشرب الخمر والحرابة والقذف بالزنا والقتل، واختلف في أشياء كثيرة، يستحق مرتكبها العقوبة، هل تسمى عقوبته حدًا؟ أو لا؟ منها جحد العارية، واللواط، والقذف بشرب الخمر، وترك الصلاة تكاسلاً. وذهب بعضهم إلى أن المراد بالحد في هذا الحديث حق الله، فيشمل كل معصية، فالحدود أوامر الله ونواهيه، وهي المراد بقوله تعالى {ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون} [البقرة: 229] وبقوله {فقد ظلم نفسه} [الطلاق: 1] وقوله {تلك حدود الله فلا تقربوها} [البقرة: 187] وقوله {ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارًا} [النساء: 14] فمعنى الحديث على هذا، لا يزاد على عشرة أسواط إلا على معصية ومحرم، فيزاد عليها. -[فقه الحديث]- اختلف السلف في مدلول هذا الحديث، فأخذ بظاهره الليث وأحمد - في المشهور عنه - وإسحق وبعض الشافعية وأشهب من المالكية، وقالوا: لا تجوز الزيادة على عشرة أسواط. وقال الجمهور: تجوز الزيادة على العشر، ولكن إلى أي حد؟ اختلفوا. فقال الشافعي وجمهور أصحابه: لا يبلغ أدنى الحدود. واختلفوا. هل الاعتبار بحد الحر؟ فلا يبلغ في تعزير الحر أو العبد أربعين؟ أو الاعتبار بحد العبد؟ فلا يبلغ بالتعزير للحر أو العبد عشرين؟ أو لا يبلغ بتعزير كل إنسان أدنى حدوده؟ فلا يبلغ بتعزير الحر أربعين؟ ولا يبلغ بتعزير العبد عشرين؟ أقوال. وقال أبو حنيفة: لا يبلغ بالتعزير أربعين. وعن ابن أبي ليلى - في رواية - وأبي يوسف: لا يزاد على خمس وتسعين. وعن ابن أبي ليلى - في رواية - لا يزاد على خمس وسبعين، وهي رواية عن مالك. وعن عمر رضي الله عنه: لا يجاوز به ثمانين، وهي رواية عن مالك، وأبي يوسف. وعن عمر رضي الله عنه أيضًا أنه كتب إلى أبي موسى: لا تجلد في التعزير أكثر من عشرين. وعن عثمان رضي الله عنه ثلاثين، ومثله عن عمر. وعن عمر وابن مسعود أنه يبلغ بالتعزير مائة سوط. وعن مالك وأبي ثور وعطاء: لا يعزر إلا من تكرر منه، وأما من وقع منه معصية مرة واحدة، من المعاصي التي لا حد فيها، فلا يعزر. وقال ابن أبي ذؤيب وابن أبي يحيى: لا يضرب أكثر من ثلاثة في الأدب.

وقال باقي الجمهور: التعزير إلى رأي الإمام بالغًا ما بلغ، ولا ضبط لعدد ضرباته، وهو اختيار أبي ثور. وأجاب الجمهور عن الحديث بأجوبة، منها: 1 - أن الحديث مقصور على الجلد، فلا يزاد فيه على العشر وأما الضرب بالعصا والجريد واليد، فيجوز الزيادة، لكن لا يبلغ أدنى الحدود. وهذا رأي الاصطرخي من الشافعية، قال الحافظ ابن حجر: وكأنه لم يقف على الرواية الواردة بلفظ الضرب. 2 - ومنها أن الحديث منسوخ، دل على نسخه إجماع الصحابة، ورد بأنه قال به بعض التابعين. 3 - ومنها معارضة الحديث بما هو أقوى منه، وهو الإجماع على أن التعزير يخالف الحدود. 4 - ومنها أن التعزير موكول إلى رأي الإمام من حيث التشديد في الضرب أو التخفيف فيه، لا من حيث العدد. واللَّه أعلم

(452) باب الحدود كفارات لأهلها

(452) باب الحدود كفارات لأهلها 3920 - عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس، فقال "تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا ولا تزنوا ولا تسرقوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق. فمن وفى منكم فأجره على الله. ومن أصاب شيئًا من ذلك فعوقب به فهو كفارة له. ومن أصاب شيئًا من ذلك فستره الله عليه فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه". 3921 - وفي رواية عن الزهري بهذا الإسناد وزاد في الحديث فتلا علينا آية النساء {أن لا يشركن بالله شيئًا} الآية [الممتحنة/ 12]. 3922 - عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخذ على النساء أن لا نشرك بالله شيئًا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا يعضه بعضنا بعضًا "فمن وفى منكم فأجره على الله. ومن أتى منكم حدًا فأقيم عليه فهو كفارته. ومن ستره الله عليه فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له". 3923 - عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال: إني لمن النقباء الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: بايعناه على أن لا نشرك بالله شيئًا ولا نزني ولا نسرق ولا نقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا ننتهب ولا نعصي. فالجنة إن فعلنا ذلك. فإن غشينا من ذلك شيئًا كان قضاء ذلك إلى الله. وقال ابن رمح "كان قضاؤه إلى الله". -[المعنى العام]- خلق الله آدم وذريته ليعبدوه، ولا يشركوا به شيئًا، نعم كان قد خلق الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، يسبحون بحمده، ويقدسون له، بالليل والنهار لا يفترون، لكنه لحكمته أراد خلقًا يكافح غرائز وطباعًا، وهوى وشحًا مطاعًا، وشيطانًا وسواسًا، يأتيهم من بين أيديهم ومن خلفهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم، ليزين لهم المعاصي ويغويهم.

شرع الله لبني آدم الشرائع التي تصلح بها دنياهم وأخراهم، وأول هذه الفرائض أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأن يطيعوا الله فيما أمر، ولا يعصوه فيما نهى عنه وزجر. ولما كان الالتزام شاقًا وصعبًا، وكانت أخطار المعاصي ودوافعها البشرية غالبة، فتح الله باب تكفيرها، ومحوها وغفرانها بعد وقوعها، فشرع الحدود، لتكون رادعة لأمثال العاصي، مكفرة لذنب من عصى، وأنزل البلايا والمصائب، من الخوف والجوع والنقص من الأموال والأنفس والثمرات، فما من مسلم يصاب بمصيبة من هم ولا غم ولا حزن ولا أذى، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر له من خطاياه، ثم فتح للمسلم باب التوبة، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، فمن تاب وآمن وعمل عملاً صالحًا، فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات، وفوق هذا وذلك أعلن أنه الغفور الرحيم، وقال في كتابه العزيز {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا إنه هو الغفور الرحيم} [الزمر: 53] وعلى هذا الأساس الإسلامي، والقانون الإلهي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع المسلمين والمسلمات. -[المباحث العربية]- (عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في مجلس، فقال: تبايعوني .. ) عبادة بن الصامت شهد بيعة العقبة الأولى، وكان أحد النقباء في بيعة العقبة الثانية، وشهد بيعة ثالثة بعد الفتح، فبيعة العقبة الأولى كانت قبل الهجرة بثلاث سنوات، لما مات أبو طالب، وعرض الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه على أهل الطائف، فآذوه، أخذ يعرض نفسه على القبائل في موسم الحج، يكلم كل شريف قوم، يقول: هل من رجل يحملني إلى قومه؟ فيمنعني ممن يؤذيني، حتى أبلغ رسالة ربي؟ فإن قريشًا منعوني أن أبلغ رسالة ربي؟ فكان الناس يخافون قريشًا، فيتهربون منه حتى أتى مجلسًا فيه ستة نفر، من الأوس والخزرج، وهم الذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار، وكان فيهم عبادة بن الصامت، دعاهم إلى الإسلام، وتلا عليهم القرآن، وكانوا يعلمون من جيرانهم اليهود أن نبيًا يبعث الآن، فقال بعضهم لبعض: لا تسبقنا إليه اليهود، فآمنوا، وصدقوا، ووعدوه أن يخبروا قومهم، وأن يدعوا إلى الإسلام، وأن يعودوا إليه في العام المقبل، وواعدوه العقبة، فجاءوا في السنة الثانية في نحو سبعين رجلاً، قيل: ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان، فطلب منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا منهم اثنى عشر نقيبًا، يكونون كفلاء على قومهم، ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم. وكان عبادة بن الصامت أحد النقباء. قالوا: تكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ما أحببت، وأخذ البراء بن معرور بيده، يبايعه، فقال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم حين أقدم إليكم، وأسالم من سالمتم، وأحارب من حاربتم، وعلي السمع والطاعة في النشاط والكسل، وأن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وأسألكم لنفسي ولأصحابي أن تئوونا وتنصرونا. قالوا: فما لنا إن نحن فعلنا ذلك؟ قال لكم الجنة. قال العباس عمه، وكان معه: إن محمدًا منا من حيث علمتم، وقد منعناه، وهو في عز

ومنعة، فإن كنتم تريدون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وذاك، وإلا فمن الآن؟ قالوا: قد بايعناه. البيعة الثالثة التي شهدها عبادة بيعة الرجال على مثل ما بويع عليه النساءٍ، المذكورة في سورة الممتحنة في قوله تعالى {يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئًا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم} [الممتحنة: 12]. وكانت هذه البيعة بعد الفتح، وحضرها عبادة بن الصامت، وروايات الباب تتحدث عن هذه البيعة الثالثة، لكن عبارة "إني لمن النقباء الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم" الواردة في الرواية الثالثة، أوهمت أن المذكور في البيعة كان في بيعة العقبة الثانية، التي كان فيها عبادة نقيبًا، وليس كذلك، ففي ملحق الرواية الأولى قال "فتلا علينا آية النساء. أن لا يشركن بالله شيئًا" وعند النسائي "ألا تبايعونني على ما بايع عليه النساء؟ أن لا تشركوا بالله شيئًا .. " الحديث، وهناك روايات كثيرة تصرح بأن أحاديث الباب تتكلم عن البيعة التي كانت بعد فتح مكة، وإنما حصل الالتباس من جهة أن عبادة بن الصامت حضر البيعتين معًا، وكانت بيعة العقبة من أعظم ما يتمدح به، فكان يذكرها إذا حدث، تنويهًا بسابقيته، فلما ذكر هذه البيعة التي صدرت على مثل بيعة النساء عقب ذكر كونه أحد النقباء، توهم من لم يقف على حقيقة الحال أن بيعة العقبة وقعت على ذلك. والمبايعة عبارة عن المعاهدة، سميت بذلك تشبيهًا لها بالمعاوضة المالية. (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) في الرواية الثانية "ولا نقتل أولادنا" قال بعضهم: خص القتل بالأولاد لأنه قتل وقطيعة رحم، فالعناية بالنهي عنه آكد، أي عناية بالأهم، ولأنه كان شائعًا فيهم، وهو وأد البنات، وقتل البنين خشية الإملاق، وقيل: خصهم بالذكر لضعفهم، لأنهم يعجزون عن الدفاع عن أنفسهم. (فمن وفى منكم فأجره على الله) "وفى" في رواية بتخفيف الفاء، وفي رواية بتشديدها وهما بمعنى، أي فمن ثبت على العهد فأجره على الله، ولم يحدد أجره، بل أطلق على سبيل التفخيم، وعبر بلفظ "على" للمبالغة في تحقق وقوعه كالواجبات، وليس للوجوب، فإن الله لا يجب عليه شيء، وقد بينت الرواية الثالثة هذا الأجر، ففيها "فالجنة إن فعلنا ذلك" وقال النووي: قال "فأجره على الله" في الرواية الأولى، ولم يقل: فالجنة، لأنه لم يقل في الرواية الأولى: ولا نعصي، وقد يعصي الإنسان بغير الذنوب المذكورة في هذا الحديث، كشرب الخمر، وأكل الربا وشهادة الزور، مع تجنب المعاصي المذكورة في الحديث، فيعطى أجره على الوفاء بما ذكر في الحديث. ويجازى على المعاصي الأخرى. اهـ أما الرواية الثالثة ففيها "ولا نعصي" فكان الأجر الجنة لمن وفى. (ومن أصاب شيئًا من ذلك) في الرواية الثالثة "فإن غشينا من ذلك شيئًا". (فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب شيئًا من ذلك، فستره الله عليه، فأمره إلى

الله) الإشارة إلى المذكورات. الإشراك بالله، والزنا، والسرقة، وقتل النفس، أو قتل الأولاد على الرواية الثانية، زاد في الرواية الثانية "ولا يعضه بعضنا بعضًا" بفتح الياء والضاد، أي لا يؤذي بعضنا بعضًا، وقيل: لا يأتي بعضنا ببهتان على بعض، وقيل: لا يأتي بعضنا نميمة على بعض. وزاد في الرواية الثالثة "ولا ننتهب، ولا نعصي" والانتهاب أخذ مال الغير مواجهة، وفي رواية البخاري "ولا تعصوا في معروف" وفيها "ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم" والبهتان الكذب الذي يبهت سامعه وخص الأيدي والأرجل بالافتراء، لأن معظم الأفعال تقع بهما، ولأنها كانت العوامل والحوامل للمباشرة والسعي، وقد يعاقب الرجل بجناية قولية، ويقال: هذا بما كسبت يداك. ويحتمل أن يكون المراد: ولا تبهتوا الناس كفاحًا، وبعضكم يشاهد بعضًا، كما يقال: قلت كذا بين يدي فلان، أي بمشاهدته. فالعمدة الأيدي، وذكر الأرجل مبالغة وتأكيد، ويحتمل أن يراد بما بين الأيدي والأرجل القلب، لأنه الذي تترجم الجوارح عنه، وقيل: أصل هذا كان في بيعة النساء، وكني بذلك عن نسبة المرأة الولد الذي تزني به، أو تلتقطه إلى زوجها، فجيء به كما هو لبيعة الرجال، وأريد به مطلق الافتراء. فهل الإشارة إلى كل تلك المعاصي، ما كانت منها ذات حد، وما لم تكن ذات حد؟ ظاهر الرواية الثانية أن المراد ذوات الحدود وأن المراد بالعقوبة الدنيوية إقامة الحد، ولفظها "ومن أتى منكم حدًا، فأقيم عليه، فهو كفارته" على أن يستثنى من ذلك الشرك، لأن المرتد إذا قتل على ارتداده لا يكون القتل كفارة له، لهذا قيل: الإشارة لذوات الحدود المذكورة بعد الشرك، بقرينة أن المخاطب بذلك المسلمون. وظاهر الروايات الأخرى أن الإشارة للمعاصي المذكورة، ذات الحدود وغيرها، ويشملها لفظ "ولا نعصي" في الرواية الثالثة، فالمراد بالعقوبة الدنيوية ما هو أعم من الحدود من نحو البلايا والمصائب التي تصيب، والرواية الأولى تعرضت لأمرين: معصية عوقب بها في الدنيا بالحد أو بالبلاء مع الستر فالله أكرم من أن يعاقبه على ذنب مرتين، ومعصية سترها الله، ولم يعاقب عليها في الدنيا بالبلاء، فأمر عقوبتها يوم القيامة إلى الله، وعلى هذا فالمراد من قوله في الرواية الثانية "ومن ستره الله عليه، فأمره إلى الله" أي من ستره الله عليه، ولم يعاقبه في الدنيا بالآلام والأسقام، فأمره إلى الله. أما الرواية الثالثة فقد أشارت إلى الحالة الأخيرة فقط، وهي المعصية مع الستر، وعدم العقوبة في الدنيا. -[فقه الحديث]- قال القاضي عياض: ذهب أكثر العلماء إلى أن الحدود كفارات، واستدلوا بهذه الأحاديث، ومنهم من توقف، لحديث أبي هريرة [وقد أخرجه الحاكم في المستدرك والبزار، وهو صحيح على شرط

الشيخين] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا أدري. الحدود كفارة لأهلها أم لا" لكن حديث عبادة أصح إسنادًا، ويمكن (للجمع بينهما) أن يكون حديث أبي هريرة ورد أولاً، قبل أن يعلمه الله، ثم أعلمه بعد ذلك. اهـ وهذا على أن أبا هريرة سمع الحديث من صحابي آخر، فقد كان إسلام أبي هريرة عام خيبر، وعلى أنه لم يسمع بعد ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، أن الحدود كفارة. قال الحافظ ابن حجر: ولا وجه للتوقف في كون الحدود كفارة، ولم ينفرد عبادة برواية هذا المعنى بل روي عن علي رضي الله عنه مرفوعًا، "من أصاب ذنبًا، فعوقب به في الدنيا، فالله أكرم من أن يثني العقوبة على عبده في الآخرة"، رواه الترمذي وصححه الحاكم، وعند أحمد بإسناد حسن عن خزيمة بن ثابت، مرفوعًا "من أصاب ذنبًا، أقيم عليه ذلك الذنب، فهو كفارة له" وللطبراني عن ابن عمرو، مرفوعًا "ما عوقب رجل على ذنب، إلا جعله الله كفارة لما أصاب من ذلك الذنب". وقال المازري: وفي الحديث رد على الخوارج الذين يكفرون بالذنوب، ورد على المعتزلة الذين يوجبون تعذيب الفاسق، إذا مات بلا توبة، فقوله صلى الله عليه وسلم "إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه" يشمل من تاب من ذلك، ومن لم يتب، والجمهور على أن من تاب لا يبقى عليه مؤاخذة، ومع ذلك فلا يأمن مكر الله، لأنه لا اطلاع له على قبول توبته أو عدم قبولها. وقيل: يفرق بين ما يجب فيه الحد، وما لا يجب، واختلف في من أتى ما يوجب الحد، فقيل: يجوز أن يتوب سرًا، ويكفيه ذلك، وقيل: بل الأفضل أن يأتي الإمام، ويعترف، ويطلب أن يقيم عليه الحد، كما وقع لماعز والغامدية، وفصل بعض العلماء بين المعلن بالفجور، فيستحب أن يعلن توبته، وإلا فلا. وحكى ابن التين عن بعضهم أن قتل القاتل إنما هو رادع لغيره، وأما في الآخرة فالطلب للمقتول قائم، لأنه لم يصل إليه حق. قال الحافظ ابن حجر: بل وصل إليه حق، وأي حق؟ فإن المقتول ظلمًا تكفر ذنوبه بالقتل، كما ورد في الخبر الذي صححه ابن حبان وغيره "إن السيف محاء للخطايا" وعند الطبراني "إذا جاء القتل محا كل شيء" وللبزار "لا يمر القتل بشيء إلا محاه" فلولا القتل ما كفرت ذنوبه، وأي حق يصل إليه أعظم من هذا؟ ولو أن حد القتل شرع للردع فقط لم يشرع العفو عن القاتل. اهـ. وعندي أن قتل القاتل هو رادع لغيره بالدرجة الأولى، لقوله تعالى {ولكم في القصاص حياة} [البقرة: 179] وشفاء لصدور أولياء المقتول بالدرجة الثانية، ولا يستفيد المقتول نفسه شيئًا بقتل القاتل، وما ذكره الحافظ ابن حجر هو أجر المقتول ظلمًا من عند الله على سبيل الفضل، وهذا حاصل، سواء قتل القاتل أم لا، فليس قتل القاتل مكفرًا لذنب من قتله، وفي تكفيره لذنب نفسه نظر، لأنه لم يقتل مظلومًا، بل ظالمًا. والله أعلم. وقال الطيبي: في الحديث إشارة إلى الكف عن الشهادة بالنار على أحد، أو بالجنة لأحد، إلا ما ورد النص فيه بعينه. واللَّه أعلم

(453) باب جرح العجماء جبار، والمعدن، والبئر

(453) باب جرح العجماء جبار، والمعدن، والبئر 3924 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "العجماء جرحها جبار. والبئر جبار. والمعدن جبار. وفي الركاز الخمس". 3925 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: البئر جرحها جبار. والمعدن جرحه جبار. والعجماء جرحها جبار. وفي الركاز الخمس". -[المعنى العام]- {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها} [البقرة: 286] و {كل نفس بما كسبت رهينة} [المدثر: 38]. {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [فاطر: 18] قانون سماوي أقيمت على أساسه الحدود والتعزيرات والضمانات، وبنيت عليه قواعد هذا الحديث الشريف. إن مسئولية الإضرار بالآخرين مرتبة بفعل تفعله غير مأذون فيه شرعًا، فإن وقع ضرر لغيرك بسب لست مسئولا عنه، فلا ضمان عليك، ولا مسئولية. لقد كانت البهائم في الماضي لا تحبس ولا تربط نهارًا، وكانت الأرض كلأ مباحًا، إلا ما أحيط منها بحائط يحفظها، ويحميها من الدواب، وكانت الدواب تأوي إلى مالكيها في الليل يعلفونها، ويحلبون لبنها، ويراعون رضيعها، فكان حفظ الحوائط في النهار على أهلها، وحفظ الماشية في الليل على أهلها، وكان ما أتلفت البهائم دون تقصير من صاحبها هدرًا لا ضمان فيه، وكان البئر المأذون فيه، والذي يستسقى منه بعامة، أو يحفر في ملك المالك، فيستسقى منه خاصة، إذا وقع فيه إنسان، أو هلك فيه شيء، هدرًا لا ضمان فيه على الحافر ولا على المالك، وكذا كل حفرة، مأذون بحفرها شرعًا، إذا تلف فيها شيء، دون تسبب أو تقصير، لا ضمان له، وإذا كان الضدان يتلازمان ذكرًا، تلازم الليل والنهار، والنور والإظلام، كان الضمان والنفع يتلازمان ذكرًا أيضًا، فقرن الحديث بين الضمان وبين الركاز فذكر حكم كل قرين.

-[المباحث العربية]- (العجماء جرحها جبار) "العجماء" بفتح العين وسكون الجيم وبالمد، تأنيث أعجم، وهي البهيمة، ويقال أيضًا لكل حيوان غير الإنسان، ويقال لمن لا يفصح، والمراد هنا الأول. قيل: سميت البهيمة عجماء لأنها لا تتكلم. و"جرحها" بفتح الجيم لا غير، كما نقله في النهاية عن الأزهري، والمراد بجرحها ما يحصل منها من الإتلاف، فليس الحكم قاصرًا على الجراحة، بل كل الإتلافات ملحقة بها، وإنما عبر بالجرح لأنه الأغلب، أو هو مثال، نبه به على ما عداه، والحكم على جميع الإتلافات بها سواء كان على نفس أو مال. وفي رواية للبخاري "العجماء عقلها جبار" والمراد بالعقل الدية، أي لا دية فيما تتلفه، وفي رواية عند أحمد والبزار "السائمة جبار" وفيها إشعار بأن المراد بالعجماء البهيمة التي ترعى في كلأ مباح ولا تعلف، كما في الزكاة، لكنه ليس مقصودًا هنا. ومعنى "جبار" بضم الجيم، أي هدر، لا غرامة فيه، ولا ضمان. (والبئر جبار) وفي الرواية الثانية "البئر جرحها جبار" والمراد بجرحها إتلافها كما سبق، والبئر بكسر الباء وسكون الهمزة، ويجوز تسهيلها إلى الياء، وهي مؤنثة، ويجوز تذكيرها على معنى القليب والطوي، والجمع أبؤر، وآبار. (والمعدن جبار) معناه أن الرجل يحفر معدنًا في ملكه أو في موات، وفي الرواية الثانية "والمعدن جرحه جبار" والمراد الحفر التي تحفر في المعادن كالحديد والنحاس والذهب والفضة والرصاص، لقطعها واستخراجها. (وفي الركاز الخمس) "الركاز" بكسر الراء وتخفيف الكاف آخره زاي، المال المدفون، مأخوذ من الركز بفتح الراء، يقال: ركزه ركزًا، إذا دفنه، فهو مركوز، وفي المراد منه هنا خلاف يأتي في فقه الحديث. -[فقه الحديث]- قال النووي: "العجماء جرحها جبار" محمول على ما إذا أتلفت شيئًا بالنهار أو بالليل، بغير تفريط من مالكها، أو أتلفت شيئًا وليس معها أحد، فهذا غير مضمون، وهو مراد الحديث، فأما إذا كان معها سائق أو قائد أو راكب، فأتلفت بيدها أو برجلها أو فمها ونحوه، وجب ضمانه في مال الذي هو معها، سواء كان مالكًا، أو مستأجرًا، أو مستعيرًا، أو غاصبًا، أو مودعًا، أو وكيلا، أو غيره، إلا أن تتلف آدميًا فتجب ديته على عاقلة الذي معها، والكفارة في ماله.

قال القاضي عياض: أجمع العلماء على أن جناية البهائم بالنهار لا ضمان فيها، إذا لم يكن معها أحد، فإن كان معها أحد راكب أو سائق أو قائد فجمهور العلماء على ضمان ما أتلفته، وقال داود وأهل الظاهر: لا ضمان بكل حال، إلا أن يحملها الذي هو معها على ذلك، أو يقصده، كان يلوي عنانها نحو شيء فتتلفه، أو يطعنها عند شيء فتفزع وتتلف، وجمهور العلماء على أن الضارية من الدواب - أي المؤذية العنيفة - كغيرها على ما ذكرناه، وقال مالك وأصحابه: يضمن مالكها ما أتلفت، وكذا قال أصحاب الشافعي: يضمن إذا كانت معروفة بالإفساد، لأن عليه ربطها والحالة هذه. وأما إذا أتلفت ليلا فقال مالك: يضمن صاحبها ما أتلفته، وقال الشافعي وأصحابه: يضمن إن فرط في حفظها، وإلا فلا، وقال أبو حنيفة: لا ضمان فيما أتلفته البهائم، لا في ليل ولا في نهار، وجمهورهم على أنه لا ضمان فيما رعته نهارًا، وقال الليث وسحنون: يضمن. اهـ واستدل الحنفية والظاهرية بالحديث على أنه لا يفرق في إتلاف البهيمة للزروع وغيرها في الليل والنهار، فحملوه على عمومه، مع أنهم لا يقولون بالعموم، فالظاهرية استثنوا ما إذا حملها راكبها أو سائقها على ذلك، كما سبق، والحنفية فرقوا فيما أصابت الدابة بيدها، أو رجلها، فقالوا: لا يضمن الراكب ما أصابت برجلها وذنبها، ولو كانت الإصابة بسببه، ويضمن ما أصابت بيدها أو فمها، واحتج لهم الطحاوي بأنه لا يمكن للراكب أن يتحفظ من الرجل والذنب، لأنه لا سلطان له عليهما، بخلاف اليد والفم، فإنه يمكنه منعها منهما باللجام ونحوه، بل بعض الحنفية فرقوا بين الراكب والسائق، فقالوا: يضمن السائق لما أصابت برجلها أو يدها، لأن ضربة الرجل بمرأى عينه، فيمكنه الاحتراز عنها. واستند الحنفية إلى حديث و"الرجل جبار" أخرجه الدارقطني، وهو ضعيف، وهذه الزيادة وهم. وعلى فرض صحته فالمراد بالرجل الدابة كلها. وعلى هذا فالحديث ليس على عمومه عند الجميع، وحجة الشافعية في عدم الفرق بين ما أتلفت بيدها أو برجلها وإذا كان معها راكب أو سائق أو لا إن الإتلاف لا فرق فيه بين العمد وغيره، ومن هو مع البهيمة حاكم عليها، فهي كالآلة بيده، ففعلها منسوب إليه، سواء حملها عليه أم لا، سواء علم به أم لا، ولهذه الحجة لا يفرقن بين ما أتلفته ليلا أو نهارًا، إذا كان معها سائق أو راكب، أما إذا لم يكن معها أحد، فهم يفرقون بين ما أتلفت نهارًا، فهو جبار، وأما أتلفت ليلا، ففيه الضمان، لأن على مالكها حفظها ليلا، فإذا أتلفت ليلا فمن تقصيره في حفظها، ويستدلون على ذلك بما أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه، من أن البراء بن عازب كانت له ناقة ضاربة، فدخلت حائطًا، فأفسدت فيه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها، وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها، وأن على أهل المواشي ما أصابت ماشيتهم بالليل". والشافعية في ذلك يحكمون العرف، إذ قالوا: إذا جرت عادة القوم إرسال المواشي ليلا، وحبسها نهارًا، انعكس الحكم على الأصح، متبعين في ذلك المعنى وحكمة التشريع، قالوا: ونظيره القسم بين الزوجات، لو كان الزوج يتكسب ليلا، ويأتي إلى أهله نهارًا، انعكس الحكم في حقه، مع أن عماد

القسم الليل، نعم لو اضطربت العادة في بعض البلاد، فكان بعضهم يرسلها ليلاً، وبعضهم يرسلها نهارًا، فإنه يقضي بما دل عليه الحديث. وأما البئر فقد قال أبو عبيد، المراد بها هنا البئر العادية القديمة، التي لا يعلم لها مالك، تكون في البادية فيقع فيها إنسان أو دابة، فلا شيء في ذلك على أحد، وكذلك لو حفر بئرًا في ملكه، أو في موات، فوقع فيها إنسان أو غيره، فتلف، فلا ضمان، إذا لم يكن منه تسبب إلى ذلك، ولا تغرير، وكذا لو استأجر إنسانًا ليحفر له البئر، فانهارت عليه، فلا ضمان، وأما من حفر بئرًا في طريق المسلمين، أو في ملك غيره، بغير إذن، فتلف بها إنسان فإنه يجب ضمانه على عاقلة الحافر، والكفارة في ماله، وإن تلف بها غير آدمي وجب ضمانه في مال الحافر، ويلتحق بالبئر كل حفرة، على التفصيل المذكور. قال ابن بطال: وخالف الحنفية في ذلك، فضمنوا حافر البئر مطلقًا، قياسًا على راكب الدابة، ولا قياس مع النص. وأما المعدن: فحكمه حكم البئر في كل ما ذكر. ويمكن أن يلحق بالبئر والمعدن في ذلك كل أجير على عمل، كمن استؤجر على صعود نخلة، فسقط منها فمات، كما يلحق بذلك كل جماد، كمن أوقد نارًا، مما يجوز له، فتعدت، حتى أتلفت شيئًا، فلا ضمان عليه، ولو أن شخصًا عثر، فوقع رأسه في جدار فمات، أو انكسر لم يجب على صاحب الجدار شيء. وأما الركاز: فقد قال النووي: في الحديث تصريح بوجوب الخمس فيه، وهو زكاة عندنا، والركاز عندنا هو دفين الجاهلية، وهذا مذهبنا ومذهب أهل الحجاز وجمهور العلماء، وقال أبو حنيفة وغيره من أهل العراق: هو المعدن. وهما عندهم لفظان مترادفان، وهذا الحديث يرد عليهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بينهما، وعطف أحدهما على الآخر. اهـ وقد روي عن مالك أنه قال: الركاز دفن الجاهلية، الذي يؤخذ من غير أن يطلب بمال، ولا يتكلف له كثير عمل. واللَّه أعلم

فتح المنعم شرح صحيح مسلم كتاب الأقضية - كتاب اللقطة - كتاب الجهاد والسير - كتاب الإمارة - كتاب الصيد والذبائح الجزء السابع الأستاذ الدكتور موسى شاهين لاشين دار الشروق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

فتح المنعم شرح صحيح مسلم 7 -

جميع حقوق النشر والطبع محفوظة الطبعة الأولى 1423 - هـ - 2002 م دار الشروق القاهرة: 8 شارع سيبويه المصري -رابعة العدوية- مدينة نصر ص. ب.: 33 البانوراما -تليفون: 4023399 - فاكس: 4037567 (202) e-mail: dar@ shorouk.com - www.shorouk.com بيروت: ص. ب.: 8064 - هاتف: 315859 - 817213 - فاكس: 315859 1 (961)

كتاب الأقضية

كتاب الأقضية

(454) باب اليمين

(454) باب اليمين 3926 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه". 3927 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين على المدعى عليه. 3928 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد. -[المعنى العام]- من الناس من يخاف الله ويتقى الحرام بل والشبهات ومنهم من لا يبالي في كسبه من حلال أم من حرام بل من يتعمد أخذ الحرام والتحايل على الاستيلاء على الحرام فمن للمدعى عليه المظلوم يحميه من ادعاء الظالم؟ وما هي الوسائل التي يحفظ بها القاضي حقوق الناس؟ إن القرآن الكريم طلب من صاحب الحق المدعي أن يقدم البينة شاهدين من الرجال فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى فماذا إذا لم يجد المدعي إلا شاهدا واحدا؟ ولم يجد امرأتين معه؟ بين الحديث أن يمين المدعي مع الشاهد الواحد يقوم مقام الشاهد الآخر أو مقام المرأتين وماذا لو لم يجد المدعي إلا شاهدا واحدا؟ لا يثبت له حق في دعواه إلا بأحد أمرين إما بالشهود وإما بإقرار المدعى عليه ولولا هذين القيدين لاستبيحت الدماء والأموال بالادعاءات الكاذبة الباطلة وهل للمدعي حق مطلق في طلب يمين المدعى عليه لبراءته مما ادعى عليه؟ جمهور العلماء على ذلك على أساس أن المدعى عليه مهما كان وفي جميع الأحوال تلوثت ذمته بالاتهام والادعاء ولا تبرأ ذمته ولا تنقى ساحته إلا بيمينه ثم له بعد ذلك أن يرفع إلى القضاء طلبا برد الشرف أو تعويض الإساءة أما المالكية فيرون أن المدعي لا يستجاب لطلبه يمين المدعى عليه إلا إذا استقر عند الحاكم علاقة بينهما تجيز هذه الدعوى لئلا يمتهن السفهاء أهل الفضل والعظماء وذوات الخدور بكثرة الادعاءات وعلى القاضي أن يكون خبيرا بصيرا حكيما يضع الأمور في نصابها والله المستعان.

-[المباحث العربية]- (الأقضية) القضاء في الأصل إحكام الشيء وانتهاؤه والفراغ منه ويكون بمعنى الحكم فمن الأول قوله تعالى {فلما قضى موسى الأجل} [القصص: 29] ومن الثاني قوله تعالى {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين} [الإسراء: 4] وسمي القاضي قاضيا لأنه يدرس القضية ويصدر الحكم فيها ويكون بمعنى الإيجاب يقال: قضى بمعنى أوجب فيجوز أن يسمى قاضيا لإيجابه الحكم على من حكم عليه. فالقاضي يجمع بين المعاني الثلاثة يدرس المسألة وينتهي منها وينهيها ثم يصدر حكمه ثم يوجبه ويسمى القاضي حاكما وقراره حكما لمنعه الظالم من الظلم يقال: حكمت الرجل وأحكمته إذا منعته وسميت حكمة الدابة - بفتح الحاء والكاف لمنعها من الانفلات وسميت الحكمة حكمة -بكسر الحاء وسكون الكاف- لمنعها النفس من هواها. (لو يعطى الناس بدعواهم) أي لو يعطى الناس ما يدعونه على الآخرين لمجرد دعواهم بدون دليل. (لادعى ناس دماء رجال وأموالهم) عرف الناس في الأول للاستغراق ونكره في الثاني لصدقه على البعض المبهم والمعنى: لو أعطى كل أحد ما يدعيه لادعى بعض الناس ما ليس له وليس المقصود نفي الادعاء بل المقصود نفي التمكن والاستيلاء على دماء الغير وأموالهم فالمعنى: لو يعطى الناس ما يدعون لمجرد دعواهم لتمكن ناس واستولوا على حقوق غيرهم. (ولكن اليمين على المدعى عليه) أي ولكن يرد دعوى المدعي -إذا لم يكن له بينة- يمين المدعى عليه وهل العبارة تقصر اليمين على المدعى عليه دون المدعي فلا يحكم له بشاهد ويمين؟ أولا تقصر؟ خلاف يأتي في فقه الحديث واختلف الفقهاء في تعريف المدعي والمدعى عليه قال الحافظ ابن حجر: والمشهور فيه تعريفان: الأول: المدعي من يخالف قوله الظاهر والمدعى عليه بخلافه والثاني: من إذا سكت ترك وسكوته والمدعى عليه من لا يخلى سبيله إذا سكت والأول أشهر والثاني أسلم وقد أورد على الأول بأن المودع إذا ما ادعى الرد أو التلف فإن دعواه تخالف الظاهر ومع ذلك فالقول قوله. (قضى بيمين وشاهد) أي قضى للمدعي الذي ليس لديه إلا شاهد واحد أن يقوم يمينه مقام الشاهد الثاني فلم يعد اليمين في القضاء مقصورا على المدعى عليه وسيأتي تفصيل الحكم في فقه الحديث. -[فقه الحديث]- يقول النووي عن الرواية الأولى والثانية: هذا الحديث قاعدة كبيرة من قواعد أحكام الشرع ففيه

أنه لا يقبل قول الإنسان فيما يدعيه بمجرد دعواه بل يحتاج إلى بينة أو تصديق المدعى عليه فإن طلب يمين المدعى عليه فله ذلك. وقد بين صلى الله عليه وسلم الحكمة في كونه لا يعطى بمجرد دعواه لأنه لو كان يعطى بمجردها لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ولا يمكن للمدعى عليه أن يصون ماله ودمه وأما المدعي فيمكنه صيانتها بالبينة. اهـ. وقد وضح بعض العلماء الحكمة في ذلك فقال: لأن جانب المدعي ضعيف لأنه يقول خلاف الظاهر فكلف الحجة القوية وهي البينة لأنها لا تجلب لنفسها نفعا ولا تدفع عنها ضررا فيقوى بها ضعف المدعي وجانب المدعى عليه قوي لأن الأصل فراغ ذمته فاكتفى منه باليمين وهي حجة ضعيفة لأن الحالف يجلب لنفسه النفع ويدفع الضرر فكان ذلك في غاية الحكمة. وهذا الذي ذكره النووي لا خلاف فيه بالنسبة للنقطة الأولى (لا يقبل قول المدعي بمجرد دعواه) أما النقطة الثانية وهي (أن للمدعي طلب يمين المدعى عليه مطلقا) ففيها خلاف ولذلك قال: وفي هذا الحديث دلالة لمذهب الشافعي والجمهور من سلف الأمة وخلفها أن اليمين توجه على كل من ادعى عليه حق سواء كان بينه وبينه اختلاط أم لا وقال مالك وجمهور أصحابه والفقهاء السبعة فقهاء المدينة: أن اليمين لا تتوجه إلى المدعى عليه إلا إذا كان بينه وبين المدعي خلطة (أي علاقة معاملة أو شبهة أو صلاحية معاملة) لئلا يبتذل السفهاء أهل الفضل بتحليفهم مرارا في اليوم الواحد فاشترطت الخلطة دفعا لهذه المفسدة واختلفوا في تفسير الخلطة فقيل: هي معرفته بمعاملته ومدينته وقيل: تكفي الشبهة وقيل: هي أن تليق به الدعوى بمثلها على مثله وقيل: أن يليق به أن يعامله بمثلها قال: ودليل الجمهور حديث الباب ولا أصل لا شتراط الخلطة في كتاب ولا سنة ولا إجماع. اهـ. ولست مع النووي ولا مع الجمهور في ذلك والنصوص تقيد وتخصص بالقرائن وليس من الحكمة أن يقف رئيس الدولة أو سيدات المجتمع المخدرات أمام القضاء للحلف كلما ادعى عليهم صعلوك بأمر ما ويعجبني قول الاصطخرى من الشافعية: إن قرائن الحال إذا شهدت بكذب المدعي لم يلتفت إلى دعواه. اهـ. ثم إن الكوفيين خصصوا اليمين على المدعى عليه في الأموال دون الحدود واستثنى مالك النكاح والطلاق والعتاق والفدية فقال: لا يجب في شيء منها اليمين حتى يقيم المدعي البينة ولو شاهدا واحدا. فتعميم الشافعية للحديث في الأفراد والأموال والحدود والنكاح ونحوه لا يخلو من تعقيب. وقد استدل بالحديث في قوله "ولكن اليمين على المدعى عليه" بأن المدعي لا يحلف استظهارا مع بينته ولا يحلف مع شاهد بدلا من الشاهد الثاني، وهي قضية الرواية الثالثة. ولكن هذه العبارة لا قصر فيها حتى يثبت الحكم للمذكور وينفي عما عداه. وعبارة

الرواية الثالثة صريحة في قبول شاهد واحد ويمين ويمنع الحنفية والشعبي والحكم والأوزاعي والليث والأندلسيون من أصحاب مالك قبول شاهد واحد ويمين والحكم بناء على ذلك في الأموال وما يقصد به الأموال ويستدلون بقوله تعالى {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ... } [البقرة: 282] فالقول بالحكم بناء على شاهد ويمين زيادة على ما في القرآن فهو يشبه النسخ والسنة الآحادية لا تنسخ القرآن ولا تقبل الزيادة من الأحاديث إلا إذا كان الخبر بها مشهورا كما في أحاديث "لا يرث الكافر المسلم" و"لا يقتل الوالد بالولد" و"لا يرث القاتل من القتيل". ويجيب الجمهور بأنه لا يلزم من التنصيص على الشيء نفيه عما عداه والزيادة على ما في القرآن كما هنا ليست نسخا ولا تشبه النسخ لأن النسخ رفع الحكم ولا رفع هنا وأيضا فالناسخ والمنسوخ لا بد أن يتواردا على محل واحد وهذا غير متحقق في هذه الزيادة فهي أشبه بالتخصيص وتخصيص الكتاب بالسنة جائز كما في قوله تعالى {وأحل لكم ما وراء ذلكم} [النساء: 24] مع تحريم نكاح العمة مع بنت أخيها وهو مجمع عليه على أن حديث القضاء بالشاهد واليمين مشهور جاء من طرق كثيرة مشهورة وثبت من طرق صحيحة متعددة فإن ادعى نسخه رد بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال. وتفرع على هذا هل يقضى باليمين مع الشاهد الواحد مع التمكن من الشاهدين؟ أو من شاهد وامرأتين؟ أو لا يقضى باليمين مع الشاهد الواحد إلا عند فقد الشاهدين؟ أو ما يقوم مقامهما من المرأتين؟ وجهان عند الشافعية والله أعلم. كما تفرع عليه لو حلف المدعى عليه ثم أراد المدعي إقامة البينة هل تقبل منه؟ أو لا؟ ذهب مالك إلى أن من رضي بيمين غريمه ثم أراد إقامة البينة بعد حلفه أنها لا تسمع إلا إن أتى بعذر يتوجه له في ترك إقامتها قبل استحلافه. كما استدل بقوله "ولكن اليمين على المدعى عليه" أن يمين الفاجر تسقط عنه الدعوى وفي حديث اليهودي الذي سبق في الأيمان والنذور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمدعي المسلم "بينتك أو يمينه" فلما اعترض المسلم بأن المدعى عليه يهودي فاجر لا يبالي باليمين قال له صلى الله عليه وسلم "ليس لك منه إلا ذلك". والله أعلم.

(455) باب حكم الحاكم لا يغير الباطن

(455) باب حكم الحاكم لا يغير الباطن 3929 - عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنكم تختصمون إلي. ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو مما أسمع منه فمن قطعت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له به قطعة من النار". 3930 - عن أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع جلبة خصم بباب حجرته فخرج إليهم فقال "إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضهم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو يذرها". 3931 - وفي رواية عن الزهري بهذا الإسناد نحو حديث يونس وفي حديث معمر قالت: سمع النبي صلى الله عليه وسلم لجبة خصم بباب أم سلمة. -[المعنى العام]- إن حكم الحاكم المبني على القواعد الشرعية واجب النفاذ وليس للمحكوم عليه أن يمتنع عن التنفيذ مادامت قد قامت البينة لدى الحاكم أو حلف المدعى عليه عند عدم البينة. وقد يكون الحق في جانب والحكم في جانب آخر نتيجة شهادة زور أو نتيجة عجز المدعي من إثبات دعواه أو فصاحة المدعى عليه بحيث يلبس على القاضي الحق بالباطل والباطل بالحق ومع ذلك يكون الحكم واجب النفاذ والإثم في هذه الحالة على المحكوم له بحق ليس له إن هو أخذ حق امرئ مسلم وإن كان شبرا من عود شجر وإن كان سواكا من أراك فهو قطعة من النار يأتي هذا العود يوم القيامة سيخا من نار حامية يحرق بدنه فيكوى به جبهته وجنبه وظهره ويقال له: هذا ما استوليت عليه بغير وجه حق. إن الدنيا لا تغني عن الآخرة وما متاع الدنيا في الآخرة إلا قليل فليحذر الذين يأكلون أموال الناس بالباطل يوم يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء.

إن الرسول صلى الله عليه وسلم يحذر الفصحاء من أن يستغلوا فصاحتهم في دعواهم الباطلة يحذر الذين يلبسون الحق بالباطل ويكتمون الحق وهم يعلمون ويعلن أنه صلى الله عليه وسلم بشر لا يعلم الغيب وقد أمر أن يحكم بين الناس بمقتضى قواعد الشرع وربما حكم لامرئ بحق أخيه ظنا أنه صادق فمن قضى له بحق مسلم فليعلم أنها قطعة من النار فليأخذها أو يتركها وكل نفس بما كسبت رهينة. -[المباحث العربية]- (إنكم تختصمون إلي) الخطاب للخصوم الذين سمع أصواتهم وهو في بيت زوجه أم سلمة فخرج إليهم كما سيأتي في الرواية الثانية ولفظها "سمع جلبة خصم بباب حجرته فخرج إليهم فقال ... " والجلبة بفتح الجيم واللام اختلاط الأصوات وفي ملحق الرواية الثانية "لجبة" بتقديم اللام على الجيم وهي لغة فيها والخصم فتح الخاء وسكون الصاد مصدر يطلق على الواحد وعلى الاثنين وعلى الأكثر وعلى المذكر والمؤنث وقد يثنى كما في قوله تعالى {هذان خصمان اختصموا} [الحج: 19] وقد يجمع كما في رواية بلفظ "خصوم" كما جاء في رواية للبخاري "سمع خصوم" وقد وقع التصريح في بعض الروايات عند أبي داود أن الخصومة كانت بين اثنين وأنها كانت في مواريث لهما ولفظها "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان يختصمان في مواريث لهما" فلعل الجمع في "إنكم تختصمون إلي" على لغة من يطلق الجمع على الاثنين فصاعدا أو الخطاب لهما ولمن تجمع من المارة على خصومتهما ولعل الرجلين كانا في طريقهما إليه صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهما وارتفعت أصواتهما بغير قصد أو بقصد إثارة انتباهه ليخرج إليهم إن شاء بدلا من طرق بابه أو أنهما كانا في الطريق إلى مكان آخر فوقعت الجلبة في هذا المكان صدفة ورواية أبي داود تفيد أنهما كانا قاصدين داره صلى الله عليه وسلم. والمقصود من الباب ومن الحجرة الواردين في الرواية الثانية بلفظ "بباب حجرته" منزل أم سلمة كما صرح به في ملحق الرواية ولم تكن الخصومة بالباب بل عند الباب قريبة منه كأنها مصاحبة له. (ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض) اللحن القدرة على التعبير عما يريد وقال النووي: "ألحن" بالحاء معناه أبلغ وأعلم بالحجة كما صرح به في الرواية الثانية. اهـ. واختلف في تعريف البلاغة فقيل: أن يبلغ بعبارة لسانه كنه ما في قلبه وقيل: إيصال المعنى إلى الغير بأحسن لفظ وقيل إجمال اللفظ واتساع المعنى وعرفها المتأخرون من أهل المعاني والبيان بأنها مطابقة الكلام لمقتضى الحال والفصاحة خلو الكلام عن التعقيد. والمراد هنا لعل بعض الخصوم يكون أقدر على إلباس الحق ثوب الباطل والباطل ثوب الحق بأدلته من البعض الآخر. (فأقضي له على نحو مما أسمع منه) أي فأقضي له بناء على ما يقع من إقناعه لي بحجته

وفي الرواية الثانية "فأحسب أنه صادق" وفي رواية "فأظنه صادقا" وفي الكلام حذف تقديره: وهو في الباطن والحقيقة كاذب. (فمن قطعت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه) أي فمن أعطيته من حق أخيه شيئا فلا يأخذه وفي الرواية الثانية "فمن قضيت له بحق مسلم" والتقييد بالمسلم خرج على الغالب إذ الكثير في معاملات المسلم أن تكون مع المسلم وليس المراد به الاحتراز عن الكافر فإن مال الذمي والمعاهد والمرتد في هذا كمال المسلم فالمراد من الأخوه الأخوة في الإنسانية. (فإنما أقطع له به قطعة من النار) الفاء للتعليل أي لا يأخذه لأنه قطعة من النار وليس المراد أنه الآن حين القضاء قطعة من نار تحرق فقد يكون نافعا للمحكوم له في الدنيا ولكن المراد أنه سيتحول إلى قطعة من النار يوم القيامة يجبر على أخذها لتحرقه وفي الرواية الثانية "فإنما هي قطعة من النار" قال الحافظ ابن حجر: ضمير "هي" للحالة أو القصة. اهـ ويصح أن يعود إلى القضية أي المقضي به أي فإن ما أقضي به بغير حق من مال المسلم قطعة من النار. (فليحملها أو يذرها) في رواية للبخاري "فليأخذها أو ليتركها" قال النووي: ليس معناه التخيير بل هو التهديد والوعيد كقوله تعالى {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف: 29] وكقوله سبحانه {اعملوا ما شئتم} [فصلت: 40]. اهـ. وحاصله النهي والتحذير من أخذها لأنها غير حق ولأنها قطعة من النار. وقال ابن التين: هو خطاب للمقضي له (يقصد مطلقا سواء قضي له بحقه أو بحق أخيه) ومعناه أنه أعلم من نفسه هل هو محق؟ أو مبطل فإن كان محقا فليأخذ وإن كان مبطلا فليترك فإن الحكم لا ينقل الأصل عما كان عليه اهـ وهذا المعنى لا يستقيم مع الحكم السابق وأنه حق الغير وأنه قطعة من النار. (إنما أنا بشر) البشر الخلق يطلق على الجماعة والواحد والمراد أنه صلى الله عليه وسلم مشارك للبشر في أصل الخلقة وإن زاد عليهم بمزايا اختص بها في ذاته وصفاته والحصر هنا مجازي قصر قلب لأنه أتى به ردا على من زعم أن من كان رسولا فإنه يعلم كل غيب حتى لا يخفى عليه المظلوم أي ما أنا إلا بشر والبشر لا يعلمون من الغيب وبواطن الأمور شيئا إلا أن يطلعهم تعالى على شيء من ذلك وأنه يجوز عليه في أمور الأحكام ما يجوز عليهم. -[فقه الحديث]- هذا الحديث حجة لمن يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد يحكم بالشيء في الظاهر ويكون الأمر في الباطن خلافه ولا مانع من ذلك إنما الممتنع أن يخبر عن أمر بأن الحكم الشرعي فيه كذا ويكون ناشئا عن اجتهاده ويكون خطأ فهو في هذه الحالة لا يقر على الخطأ أما ما نحن فيه فهو الحكم في القضايا

بين الناس بناء على البينة واليمين وقد أمر أن يحكم بالظاهر والله يتولى السرائر وهذا نحو قوله صلى الله عليه وسلم "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" ولو شاء الله لأطلعه صلى الله عليه وسلم على باطن أمر الخصمين فحكم بالواقع واليقين من غير حاجة إلى شهادة أو يمين لكن لما أمر الله تعالى أمته باتباعه والإقتداء به في أقواله وأفعاله وأحكامه أجرى له حكمهم في عدم الاطلاع على باطن الأمور ليكون حكم الأمة في ذلك حكمه فأجرى الله تعالى أحكامه على الظاهر الذي يستوي فيه هو وغيره ليصح الاقتداء به وتطيب نفوس العباد للانقياد للأحكام الظاهرة التي سيحكم بها الحكام من بعده من غير نظر إلى الباطن والواقع. قال النووي: فإن قيل: هذا الحديث ظاهره أنه قد يقع منه صلى الله عليه وسلم في الظاهر مخالف الباطن وقد اتفق الأصوليون على أنه صلى الله عليه وسلم لا يقر على خطأ في الأحكام؟ فالجواب أنه لا تعارض بين الحديث وقاعدة الأصوليين لأن مراد الأصوليين فيما حكم فيه باجتهاده فهل يجوز أن يقع فيه الخطأ؟ فيه خلاف الأكثرون على جوازه ومنهم من منعه لكن الذين جوزوه قالوا: لا يقر على إمضائه بل يعلمه الله تعالى به ويتداركه وأما الذي في الحديث فمعناه إذا حكم بغير اجتهاد كما إذا حكم بالبينة واليمين فهذا إذا وقع منه ما يخالف ظاهره باطنه لا يسمى الحكم خطأ بل الحكم صحيح بناء على ما استقر به التكليف وهو وجوب العمل بشاهدين مثلا فإن كانا شاهدي زور فالتقصير منهما وممن ساعدهما وأما الحكم فلا حيلة له في ذلك ولا عيب عليه بسببه بخلاف ما إذا أخطأ في الاجتهاد فإن هذا الذي حكم به ليس هو حكم الشرع. اهـ. وزاد بعضهم الأمر إيضاحا فقال: في قصة ابن وليدة زمعة السابقة في باب "الولد للفراش" حكم صلى الله عليه وسلم بالولد لعبد بن زمعة وألحقه بزمعة بناء على قاعدة: الولد للفراش فلما كان الوالد شبيها بعتبة وليس شبيها بزمعة قال لسودة بنت زمعة: احتجبي منه أي احتياطا أنه ليس أخاها وليس ابنا لزمعة فحكم بالظاهر واحتاط للباطن. وفي قصة المتلاعنين لما لاعنت المرأة فرق بينها وبين زوجها ولم يبطل لعانها ولم يحكم عليها بالزنا مع أن ابنها جاء مشبها من رميت به ولهذا قال صلى الله عليه وسلم "لولا الإيمان (أي بحكم الله وقضاء الله والاحتكام إلى اللعان) لكان لي ولها شأن". ومنع قوم وقوع الخطأ في اجتهاده وقالوا: لو جاز وقوع الخطأ في حكمه للزم أمر المكلفين بالخطأ لثبوت الأمر باتباعه في جميع أحكامه حتى قال الله تعالى {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} [النساء: 65] وقالوا: إن الإجماع معصوم من الخطأ فالرسول أولى بذلك لعلو رتبته. قال الحافظ ابن حجر: والجواب عن الأول: أن الأمر إذا استلزم إيقاع الخطأ لا محذور فيه لأنه موجود في حق المقلدين فإنهم مأمورون باتباع المفتي والحاكم ولو جاز عليه الخطأ والجواب عن

الثاني: أن الملازمة مردودة فإن الإجماع إذا فرض وجوده دل على أن مستندهم ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم فرجع الأتباع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لا إلى نفس الإجماع. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - قال النووي: في هذا الحديث دلالة لمذهب مالك والشافعي وأحمد وجماهير علماء الإسلام وفقهاء الأمصار من الصحابة والتابعين فمن بعدهم: أن حكم الحاكم لا يحيل الباطن ولا يحل حراما فإذا شهد شاهدا زور لإنسان بمال فحكم به الحاكم لم يحل للمحكوم له ذلك المال ولو شهدا عليه بقتل لم يحل للولي قتله مع علمه بكذبهما وإن شهدا بالزور أنه طلق امرأته لم يحل لمن علم بكذبهما أن يتزوجها بعد حكم القاضي بالطلاق وقال أبو حنيفة: يحل حكم الحاكم الفروج دون الأموال فقال: يحل نكاح المذكورة وهذا مخالف لهذا الحديث الصحيح ولإجماع من قبله ومخالف لقاعدة وافق عليها هو وغيره وهي أن الأبضاع أولى بالاحتياط من الأموال. اهـ. قال الشافعي: إنه لا فرق في دعوى حل الزوجة لمن قام بتزويجها بشاهدي زور وهو يعلم بكذبهما وبين من ادعى على حر أنه في ملكه وأقام بذلك شاهدي زور وهو يعلم حريته فإذا حكم له الحاكم بأنه ملكه لم يحل له أن يسترقه بالإجماع. وقال القرطبي: شنعوا على من قال ذلك -يقصد أبا حنيفة- قديما وحديثا لمخالفة الحديث الصحيح ولأن في هذا القول صيانة المال وابتذال الفروج وهي أحق أن يحتاط لها وتصان. اهـ. وقد حاول بعض الحنفية تبرير هذا القول والدفاع عنه. فقال: أ- جاء عن علي رضي الله عنه "أن رجلا خطب امرأة فأبت فادعى أنه زوجها وأقام شاهدين فقالت المرأة: إنهما شهدا بالزور فزوجني أنت منه فقد رضيت فقال شاهداك زوجاك وأمضى عليها النكاح". ورد بأن هذا لم يثبت عن علي رضي الله عنه وكيف يتوهم أن عليا رضي الله عنه حكم بصحة النكاح بعد علمه بشهادة الزور؟ وكيف يتوهم أنه حكم بصحة النكاح مع أن المرأة أنكرت الركن الأساسي فيه وهو الإيجاب والقبول؟ وكيف تقول المرأة: زوجني أنت منه فقد رضيت فلا يزوجها زواجا شرعيا صحيحا متفقا عليه ويمضي ويحكم بصحة زواج ثابت الفساد؟ أعتقد لو أن هذه القصة ثابتة لكان معنى "شاهداك زوجاك" أي كانا سببا في رضاها بك وقبولها اليوم بزواجك بعد أن كانت غير راضية بك وكان معنى قول الراوي "وأمضى عليها النكاح" أي زوجها وعقد لها عليه ويكفي في هذا الدليل هذا الاحتمال ليسقط به الاستدلال؟ ثم كيف ينهض هذا الأثر لمقاومة الحديث الصحيح؟ ب- وقال تبريرا لهذا الحكم: إن الحاكم في النكاح قضى بحجة شرعية أمر الله تعالى بها وهي البينة العادلة في علمه ولم يكلف بالاطلاع على صدقهم في باطن الأمر (وهذا يرد الأثر السابق فإن عليا رضي الله عنه لم يحكم بناء على البينة العادلة في علمه بل ثبت له أن البينة غير

عادلة) فإذا حكم بشهادتهم فقد امتثل ما أمر الله فلو قلنا: لا ينفذ في باطن الأمر للزم إبطال ما وجب بالشرع وصيانة الحكم عن الإبطال مطلوبة. ورد هذا من وجوه: أولا: صيانة الحكم عن الإبطال مطلوبة إذا صادف حجة صحيحة. ثانيا: لسنا في مسألة الحكم وإثم القاضي وإنما نحن في التنفيذ ولا يلزم من حكم الحاكم التنفيذ الفعلي في باطن الأمر فالرسول صلى الله عليه وسلم إذا قضى لامرئ بحق امرئ لا إثم عليه ومع ذلك فالتنفيذ قطعة من النار فكيف يباح للمنفذ أن يأخذها وهو يعلم حقيقتها. ثالثا: أن أبا حنيفة يقع في هذه الاعتراضات حين يقول بعدم التنفيذ في الأموال فهو لم يصن الحكم عن الإبطال وأبطل ما وجب بالشرع. ج- وقال أيضا تبريرا لهذا الحكم: لو حكم الحاكم بالطلاق بناء على شهادتي زور فتزوجت رجلا غيره لو لم ينفذ هذا الحكم باطنا لبقيت حلالا للزوج الأول باطنا وللثاني ظاهرا ولو ابتلي الثاني بمثل ما ابتلي به الأول وحكم بالطلاق منه بناء على شاهدي زور حلت للثالث وهكذا فتحل لجمع متعدد في زمن واحد. ورد بأن هذا إلزام بما لا يقال من الذي أباح لها أن تتزوج الثاني بناء على حكم الحاكم؟ وهي وزوجها الثاني يعلمان أنه زور؟ إنهما إذا علما أن الحكم ترتب على شهادتي زور واعتمدا على هذا الحكم وتعمدا الدخول فقد ارتكبا المحرم كما لو كان الحكم بالمال فأكله ولو ابتلي الثاني كان الحكم كذلك بالنسبة للثالث وهكذا فكانوا كما لو زنوا ظاهرا واحدا بعد واحد. د- وأخيرا قال: إن الحديث صريح في المال وليس النزاع فيه. ورد بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ولفظ الحديث عام "فمن قضيت له بحق مسلم" والحق يكون في الأموال وفي النكاح وغيرهما. والحق أن هذا القول جدير بالتشنيع وليس قائله معصوما من الخطأ. والله أعلم. 2 - ويؤخذ من الحديث أيضا إثم من خاصم في باطل حتى استحق به في الظاهر شيئا هو في الباطن ليس حقا له. 3 - وإثم من احتال لأمر باطل بأي وجه من وجوه الحيل. 4 - وفيه أن المجتهد قد يخطئ فيرد به على من زعم أن كل مجتهد مصيب. 5 - وفيه أن المجتهد إذا أخطأ لا يلحقه إثم بل يؤجر على بذل الجهد. 6 - وأن النبي صلي الله عليه وسلم كان يقضي بالاجتهاد فيما لم ينزل عليه فيه شيء قال الحافظ ابن حجر: وخالف في ذلك قوم وهذا الحديث من أصرح ما يحتج به عليهم.

7 - وفيه أن الحكم بين الناس يقع على ما يسمع من الخصمين بما لفظوا به وإن كان في قلوبهم غيره. 8 - واستدل بالحديث لمن قال: إن الحاكم لا يحكم بعلمه أخذا من رواية "إنما أقضي له بما أسمع". بدليل الحصر فيها وفي المسألة خلاف لكن لو شهدت البينة مثلا بخلاف ما يعلمه علما حسيا بمشاهدة أو سماع يقينيا أو ظنيا راجحا لم يجزله أن يحكم بما قامت به البينة. 9 - قال الحافظ ابن حجر: وفيه أن التعمق في البلاغة بحيث يحصل اقتدار صاحبها على تزيين الباطل في صورة الحق وعكسه مذموم. اهـ. وهذه العبارة غير سليمة وسلامتها أن يقال: إن استخدام القدرة البلاغية في تزيين الباطل وعكسه مذموم. ولذلك قال الحافظ ابن حجر بعد: لو كان ذلك في التوصل إلى الحق لم يذم وإنما يذم من ذلك ما يتوصل به إلى الباطل في صورة الحق فالبلاغة إذن لا تذم لذاتها وإنما تذم بحسب ما تستخدم فيه وهي في ذاتها ممدوحة وهذا كما يذم صاحبها إذا طرأ عليه بسببها الإعجاب وتحقير غيره ممن لم يصل إلى درجته ولا سيما إن كان هذا الغير من أهل الصلاح فإن البلاغة إنما تذم من هذه الحيثية بحسب ما ينشأ عنها من الأمور الخارجة عنها ولا فرق في ذلك بين البلاغة وغيرها بل كل فتنة توصل إلى المطلوب محمودة في حد ذاتها وقد تذم أو تمدح بحسب متعلقها. اهـ. 10 - وفيه أيضا موعظة الإمام الخصوم ليعتمدوا الحق. 11 - وفيه عمل الحاكم بالنظر الراجح وبناء الحكم عليه وهو أمر إجماعي للحاكم والمفتي. والله أعلم

(456) باب قضية هند

(456) باب قضية هند 3932 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني إلا ما أخذت من ماله بغير علمه فهل علي في ذلك من جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك". 3933 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت هند إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله والله ما كان على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي من أن يذلهم الله من أهل خبائك وما على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي من أن يعزهم الله من أهل خبائك فقال النبي صلى الله عليه وسلم "وأيضا والذي نفسي بيده" ثم قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل ممسك فهل علي حرج أن أنفق على عياله من ماله بغير إذنه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لا حرج عليك أن تنفقي عليهم بالمعروف". 3934 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت هند بنت عتبة بن ربيعة فقالت: يا رسول الله والله ما كان على ظهر الأرض خباء أحب إلي من أن يذلوا من أهل خبائك وما أصبح اليوم على ظهر الأرض خباء أحب إلي من أن يعزوا من أهل خبائك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وأيضا والذي نفسي بيده" ثم قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل مسيك فهل علي حرج من أن أطعم من الذي له عيالنا؟ فقال لها: لا إلا بالمعروف". -[المعنى العام]- هند بنت عتبة امرأة وافرة العقل من زعيمات نساء العرب زوجة أبي سفيان بن حرب أم معاوية ظلت رائدة في الكفر محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤلبة رجال قريش عليه، حتى ألقى الله في قلبها نور الإيمان بعد فتح مكة وبعد إسلام زوجها أبي سفيان لما أسلم زوجها وبخته وأنبته وأخذت

بلحيته تهزه وتسخر منه ثم تلبث يومين أو ثلاثة حتى قالت لأبي سفيان: إني أريد أن أبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فافعلي فذهبت في نسوة محجبات وبايعهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما ناقشته البيعة عرفها. فقال: أنت هند فكشفت عن أمرها برزانة وحكمة. قالت: يا رسول الله والله لقد مضى علي زمان كان بيتك أبغض البيوت إلى نفسي وكنت أتمنى أن يذل الله هذا البيت ذلا فوق ذل البشر وأصبحت اليوم أراك وأرى بيتك أحب البيوت إلى نفسي ولا أتمنى لأحد أن يعزه الله مثلما أتمنى لك قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأيضا سيزيدك الله حبا لي بتمكين الإيمان في قلبك واستراحت هند بهذا اللقاء وأنست بهذا الجواب وهذا الاستقبال فعرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم دخيلة نفسها وخاصة أمرها وسر بيتها وما يقع بينها وبين زوجها قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح بخيل ممسك مقتر في النفقة علي وعلى أولاده لا يعطينا ما يكفينا وأستطيع أن أكمل نقص نفقتنا من ماله الذي تحت يدي بدون علمه دون أن يشعر فهل علي إثم إذا أنا أخذت من ماله بغير علمه؟ قال لها صلى الله عليه وسلم لا إثم عليك إذا أخذت من ماله بغير علمه ما هو حق مستحق لك ولبنيك بشرط أن لا تزيدي عما تستحقين وعما هو معروف عرفا وعادة أنه يكفيك ويناسب معيشة أمثالك. -[المباحث العربية]- (دخلت هند) "هند" روي بالصرف وبدون الصرف ومن المعلوم أن ساكن الوسط يجوز فيه الأمران الصرف وتركه كما في نوح ودعد. وهند أم معاوية وكان من أمرها لما قتل أبوها عتبة وعمها شيبة وأخوها الوليد يوم بدر شق عليها فلما كان يوم أحد وقتل حمزة فرحت بذلك وعمدت إلى بطنه فشقتها وأخذت كبده فلاكتها فلما كان يوم الفتح ودخل أبو سفيان مكة مسلما -بعد أن أسرته خيل النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة فأجاره العباس- غضبت هند لأجل إسلامه وأخذت بلحيته ثم إنها بعد استقرار النبي صلى الله عليه وسلم بمكة جاءت فأسلمت وبايعت. (إن أبا سفيان رجل شحيح) الشح البخل مع حرص والشح أعم من البخل لأن البخل يختص بمنع المال والشح بكل شيء وقيل: الشح لازم كالطبع والبخل غير لازم قال القرطبي: لم ترد هند وصف أبي سفيان بالشح في جميع أحواله وإنما وصفت حالها معه وأنه كان يقتر عليها وعلى أولادها وهذا لا يستلزم البخل مطلقا فإن كثيرا من الرؤساء يفعل ذلك مع أهله ويؤثر الأجانب استئلافا لهم. وقال الخطابي: إن أبا سفيان كان رئيس قومه ويبعد أن يمنع زوجته وأولاده النفقة فكأنه كان يعطيها قدر كفايتها وولدها. وفي الرواية الثانية "رجل ممسك" وفي الرواية الثالثة "رجل مسيك" بكسر الميم وتشديد السين على المبالغة مثل شريب وسكير وضبط بفتح الميم وكسر السين مخففا على وزن شحيح قال النووي: الأول أشهر في الرواية والثاني أصح من حيث اللغة. من إمساك المال ومنعه من الإنفاق وهو الشح.

(لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني) لم تبين إن كان بنوها صغارا أو كبارا. (إلا ما أخذت من ماله بغير علمه) في رواية البخاري "إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم" زاد الشافعي في روايته "سرا". (فهل علي في ذلك من جناح) "من" زائدة داخلة على المبتدأ في سياق الاستفهام والأصل فهل على جناح وإثم في أخذى من ماله بغير علمه؟ وبينت الرواية الثانية والثالثة مصرف ما تأخذه ففي الثانية "فهل علي حرج أن أنفق على عياله من ماله بغير إذنه"؟ وفي الثالثة "فهل علي حرج من أن أطعم من الذي له عيالنا"؟ أي هل علي إثم إن أطعمت عيالنا من ماله الذي له بغير إذنه؟ ولما كان سؤالها غير محدد المقدار مما يدخل الإسراف كان جوابه صلى الله عليه وسلم مانعا الإسراف. (خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك) والمراد من المعروف هنا ما يقره الشرع والعرف والعادة من مقدار نفقة مثيلاتها دون تقتير أو إسراف عملا بقوله تعالى {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله} [الطلاق: 7] وفي الرواية الثانية "لا حرج عليك أن تنفقي عليهم بالمعروف" وفي الرواية الثالثة "لا. إلا بالمعروف" وبالرغم من أن الروايات كلها تفيد الإذن لها بأن تأخذ من ماله بغير علمه إلا أنها لم تصرح نصا بذلك بل أطلقت الأخذ "خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك وما يكفي بنيك" "لا حرج عليك أن تنفقي عليهم بالمعروف" وقوله "لا. إلا بالمعروف" هكذا هو في جميع النسخ وهو صحيح والاستثناء استدراك بمعنى لكن والمعنى لا أي لا حرج عليك أن تأخذي من ماله من غير علمه لكن بالمعروف. (والله ما كان على ظهر الأرض خباء أحب إلي من أن يذلهم الله من أهل خبائك) قال القاضي عياض: أرادت بقولها "أهل خباء" نفسه صلى الله عليه وسلم فكنت عنه بأهل الخباء إجلالا له قال: ويحتمل أن تريد بأهل الخباء أهل بيته والخباء يعبر عن مسكن الرجل وداره وأصل الخباء خيمة من وبر أو صوف ثم أطلقت على البيت كيفما كان. (وأيضا والذي نفسي بيده) يقال: آض يئيض إذا رجع والمعنى ورجوعا مني على قولك. قال ابن التين: فيه تصديق لها فيما ذكرته قال الحافظ ابن حجر: كأن ابن التين رأى أن المعنى: وأنا أيضا بالنسبة إليك مثل ذلك على معنى وأنا كذلك لم يكن على ظهر الأرض أحب إلي من أن يذلها الله منك. قال الحافظ ابن حجر: وتعقب قول ابن التين من جهة طرفي البغض والحب -أي هذه الجملة طرف البغض والجملة الآتية طرف الحب- فقد كان في المشركين من كان أشد أذى للنبي صلى الله عليه وسلم من هند وأهلها وكان في المسلمين -بعد أن أسلمت- من هو أحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم منها ومن أهلها فلا يمكن حمل الخبر على ظاهره- أي ويحمل على المبالغة. وقال النووي وغيره: "وأيضا" خاص بما يتعلق بها أي زال ورجعت عن بغضك لي وحل محله ورجعت إلي حبك لي وأيضا سيزيد زوال بغضك لي وسيزيد حبك لي كلما تمكن الإيمان من قلبك ويصبح بغضه صلى الله عليه وسلم لها وحبه لها مسكوتا عنه.

(وما على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي من أن يعزهم الله من أهل خبائك) هكذا هو في الرواية الثانية "وما على ظهر الأرض" والقيد فيها ملاحظ كما صرح به في الرواية الثالثة حيث جاء فيها "وما أصبح اليوم على ظهر الأرض". -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث]- 1 - فيه دلالة على وفور عقل هند وحسن تأنيها في المخاطبة. 2 - وأن صاحب الحاجة يستحب له أن يقدم بين يدي حاجته ما يزيل موجدة الذي يخاطبه. 3 - وأن المعتذر يستحب له أن يقدم ما يؤكد صدقه عند من يعتذر إليه لأن هندا قدمت الاعتراف بذكر ما كانت عليه من البغض لتؤكد صدقها فيما ادعته من الحب. 4 - وجواز سماع كلام الأجنبية عند الإفتاء والحكم وكذا ما في معناهما وأما عند من يقول: إن صوتها عورة فيقول: جاز هنا للضرورة. 5 - وفيه وجوب نفقة الزوجة. 6 - وأنها مقدرة بالكفاية وهو قول أكثر العلماء والمشهور عن الشافعي أنه قدرها بالأمداد فعلى الموسر كل يوم مدان والمتوسط مد ونصف والمعسر مد وتقديرها بالأمداد رواية عن مالك أيضا قال النووي: والحديث حجة على أصحابنا. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: وليس صريحا في الرد عليهم لكن التقدير بالأمداد محتاج إلى دليل فإن ثبت حملت الكفاية في حديث الباب على القدر بالأمداد فكأنه كان يعطيها وهو موسر ما يعطي المتوسط فأذن لها في أخذ التكملة. وتمسك بعض الشافعية بأنها لو قدرت بالحاجة لسقطت نفقة المريضة التي لا تنفق ونفقة الغنية لأنها غير محتاجة فوجب إلحاقها بما يشبه الدوام وهو الكفارة لاشتراكهما في الاستقرار في الذمة ويقويه قوله تعالى {من أوسط ما تطعمون أهليكم} [المائدة: 89] فاعتبروا الكفارة بها والأمداد معتبرة في الكفارة ويخدش هذا الدليل أن الشافعية صححوا الاعتياض عنه وبأنها لو أكلت معه على العادة سقطت بخلاف الكفارة فيها وبأن الشافعية جعلوا نفقة القريب مقدرة بالكفاية ففرقوا بدون موجب بين نفقة الزوجة ونفقة الأولاد قال الحافظ ابن حجر: والراجح من حيث الدليل أن الواجب الكفاية ولا سيما وقد نقل بعض الأئمة الإجماع الفعلي في زمن الصحابة والتابعين على ذلك ولا يحفظ عن أحد منهم خلافه. 7 - وفيه جواز ذكر الإنسان بما لا يعجبه إذا كان على وجه الاستفتاء والاشتكاء ونحو ذلك وهو أحد المواضع التي تباح فيها الغيبة. 8 - وجواز خروج المرأة لحاجتها إذا أذن زوجها لها في ذلك أو علمت رضاه به وهذا مبني على أن أبا

سفيان علم وسمح وفيه نظر والأولى أن يقال: فيه جواز خروج الزوجة للفتوى والقضاء ولو لم يأذن الزوج. 9 - وأن للمرأة مدخلا في كفالة أولادها والإنفاق عليهم من مال أبيهم. قال النووي: قال أصحابنا: إذا امتنع الأب من الإنفاق على الولد الصغير أو كان غائبا أذن القاضي لأمه في الأخذ من آل الأب أو الاستقراض عليه والإنفاق على الصغير بشرط أهليتها. وهل لها الاستقلال بالأخذ من ماله بغير إذن القاضي؟ فيه وجهان مبنيان على وجهين لأصحابنا في أن إذن النبي صلى الله عليه وسلم لهند امرأة أبي سفيان كان إفتاء -فيعم غيرها دون إذن القاضي -أم قضاء- فيحتاج إلى إذن -والأصح أنه كان إفتاء وأن هذا يجري في كل امرأة أشبهتها فيجوز. 10 - واستدل به على أن القول قول الزوجة في قبض النفقة لأنه لو كان القول قول الزوج أنه منفق لكلفت هند البينة على إثبات عدم الكفاية. 11 - وعلى جواز إطلاق الفتوى مع إرادة تعليقها وتقييدها فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطلق الإباحة لكنه أراد: إن صح ما ذكرت يا هند فخذي ما يكفيك كذا قال القرطبي وقال غيره: يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم علم صدقها فيما ذكرت فاستغنى عن التقييد ولم يقصده. 12 - وفيه جواز استماع كلام أحد الخصمين في غيبة الآخر. 13 - واستدل به بعضهم على اعتبار حال الزوجة حين تقدير النفقة وهو قول الحنفية والفتوى عند الحنفية على اعتبار حال الزوجين معا والشافعية على اعتبار حال الزوج تمسكا بقوله تعالى {لينفق ذو سعة من سعته} [الطلاق: 7]. 14 - واستدل به بعض الشافعية على جواز القضاء على الغائب وفي المسألة خلاف للعلماء قال أبو حنيفة وسائر الكوفيين: لا يقضى عليه بشيء وقال الشافعي والجمهور: يقضى عليه في حقوق الآدميين ولا يقضى عليه في حدود الله تعالى ولا يصح الاستدلال بهذا الحديث لهذه المسألة لأن هذه القضية كانت بمكة بعد إسلام هند وأبي سفيان وكان أبو سفيان حاضرا بها وشرط القضاء على الغائب أن يكون غائبا عن البلد أو مستترا لا يقدر عليه أو متعذرا لا يقدر عليه ولم يكن هذا الشرط في أبي سفيان موجودا فلم يكن قضاء على الغائب بل هو إفتاء اهـ. قال الحافظ ابن حجر: وفي بعض الروايات الضعيفة أن أبا سفيان كان معها حاضرا وذهب الأكثرون إلى أن الموضوع فتوى لا قضاء فلا يصح الاستدلال به على القضاء على الغائب. ورجح القائلون بأنه قضاء بالتعبير بصيغة الأمر حيث قال لها "خذي" ولو كان فتيا لقال مثلا: لا حرج عليك إذا أخذت وبأن الأغلب في تصرفاته صلى الله عليه وسلم إنما هو الحكم ورجح القائلون بأنه فتوى بوقوع الاستفهام من هند في القضية "هل على جناح"؟ ولأنه فوض تقدير الاستحقاق إليها ولو كان قضاء لم يفوضه إلى المدعي ولأنه لم يستحلفها على ما ادعته ولا طلب منها البينة.

15 - وفيه وجوب نفقة الأولاد وإن كانوا كبارا لقولها "بني" على الإطلاق ورد بأنها واقعة عين لا تعم قال ابن المنذر: اختلف في نفقة من بلغ من الأولاد ولا مال له ولا كسب فأوجبت طائفة النفقة لجميع الأولاد أطفالا كانوا أو بالغين إناثا وذكرانا إذا لم يكن أموال يستغنون بها وذهب الجمهور إلى أن الواجب أن ينفق عليهم حتى يبلغ الذكر أو تتزوج الأنثى ثم لا نفقة على الأب إلا إذا كانوا زمني فإن كانت لهم أموال فلا وجوب على الأب وألحق الشافعي ولد الولد وإن سفل بالولد في ذلك. 16 - قال الخطابي: وفيه وجوب نفقة خادم المرأة على الزوج لأن أبا سفيان كان رئيس قومه ويبعد أن يمنع زوجته وأولاده النفقة فكأنه كان يعطيها قدر كفايتها وولدها دون من يخدمهم فأضافت ذلك لنفسها لأن خادمها داخل في جملتها. اهـ. وهو غير مسلم. 17 - واستدل به على أن من له عند غيره حق وهو عاجز عن استيفائه جاز له أن يأخذ من ماله قدر حقه بغير إذنه وهو قول الشافعي وجماعة وتسمى هذه المسألة مسألة الظفر والراجح عندهم أن لا يأخذ غير جنس حقه إلا إذا تعذر جنس حقه وعن أبي حنيفة المنع وعنه يأخذ جنس حقه ولا يأخذ من غير جنس حقه إلا أحد النقدين بدل الآخر وعن مالك ثلاث روايات كهذه الآراء وعن أحمد المنع مطلقا قال الخطابي: يؤخذ من حديث هند جواز أخذ الجنس وغير الجنس لأن منزل الشحيح لا يجمع كل ما يحتاج إليه من النفقة والكسوة وسائر المرافق اللازمة وقد أطلق لها الإذن في أخذ الكفاية من ماله وعقب عليه الحافظ ابن حجر بما يحتاج إلى تعقيب. 18 - وفي الحديث تحكيم العرف والعادة في الأمور التي ليس فيها تحديد شرعي قال القرطبي: فيه اعتبار العرف في الشرعيات خلافا لمن أنكر ذلك لفظا وعمل به معنى كالشافعية ورد عليه الحافظ ابن حجر فقال: إن الشافعية إنما أنكروا العمل بالعرف إذا عارضه النص الشرعي أو لم يرشد النص الشرعي إلى العرف. والله أعلم.

(457) باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة والنهي عن منع وهات

(457) باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة والنهي عن منع وهات 3935 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال". 3936 - عن سهيل بهذا الإسناد مثله غير أنه قال "ويسخط لكم ثلاثا" ولم يذكر "ولا تفرقوا". 3937 - عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الله عز وجل حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنعا وهات. وكره لكم ثلاثا: قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال". 3938 - -/- وفي رواية عن منصور بهذا الإسناد مثله غير أنه قال "وحرم عليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم" ولم يقل "إن الله حرم عليكم". 3939 - عن الشعبي حدثني كاتب المغيرة بن شعبة قال: كتب معاوية إلى المغيرة اكتب إلي بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب إليه أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن الله كره لكم ثلاثا: قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال". 3940 - عن وراد قال: كتب المغيرة إلى معاوية سلام عليك أما بعد فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن الله حرم ثلاثا ونهى عن ثلاث حرم عقوق الوالد ووأد البنات ولا وهات ونهى عن ثلاث: قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال".

-[المعنى العام]- رضا الله في اتباع أوامره واجتناب نواهيه {فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين} [التوبة: 96] وأهم أوامره وأولها أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وثانيها أن تعتصموا بحبل الله جميعا المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ثالث هذه الأوامر النهي عن التفرق والنهي عن الشيء أمر بضده فالأمر الثالث في الحديث المحافظة على الوحدة واستمرارها وزيادتها فلا يرفع المسلم سلاحه في وجه مسلم إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار ويرتد عن الإسلام ويخرج من دائرته التارك لدينه المفارق للجماعة. وسخط الله -وهو المقابل للرضا- في ارتكاب معاصيه وبين الأمرين مكروهات لله تعالى ليست بالمعاصي الكبيرة ولكنها تسيء إلى الإيمان وتعكره وتضعفه وتزيد في السيئات والذنوب ويحسبها المسلم أمرا هينا وهو عند الله عظيم اختار الحديث ثلاثة من هذا النوع كمثل ورمز لما يشبهها أولها كثرة الكلام فيما ينفع وما لا ينفع مما يوقع في الخطأ والآثام والتعرض لأخبار الناس ونقل أحوالهم وغيبتهم ثانيها كثرة سؤال الناس ما في أيديهم أعطوه أو منعوه فهذه ذلة بعيدة عن سيما المؤمنين فلله العزة ولرسوله وللمؤمنين ثالثها: إضاعة المال وإنفاقه في غير وجهه المشروع مهما كان المنفق غنيا إن الله لا يحب المسرفين وإن المبذرين كانوا إخوان الشياطين {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا} [الإسراء: 29] -[المباحث العربية]- (إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا) قال النووي: قال العلماء: الرضا والسخط والكراهة من الله تعالى المراد بها أمره ونهيه وثوابه وعقابه أو إرادته الثواب لبعض العباد والعقاب لبعضهم. (فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا) إن أريد من العبادة التوحيد كان قوله {ولا تشركوا به شيئا} تأكيدا وإن أريد منها مطلق الطاعة كان تأسيسا والثاني هو الظاهر ليكون المطلوب ثلاثا. (وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) الاعتصام افتعال من العصمة والمراد التمسك والامتثال والحبل يطلق على العهد وعلى الأمان وعلى الوصلة وعلى السبب وأصله من استعمال العرب الحبل في مثل هذه الأمور لاستمساكهم بالحبل عند شدائد أمورهم ويوصلون به المتفرق والمراد هنا التمسك بعهد الله وهو اتباع كتابه العزيز وحدوده والتأدب بآدابه ففي الكلام

استعارة شبه الكتاب العزيز وتعاليمه بالحبل بجامع أن كلا منهما سبب لحصول المقصود به وحذف المشبه وأقيم المشبه به مقامه على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية. والمراد من النهي عن التفرق الأمر بلزوم جماعة المسلمين وتآلف بعضهم ببعض وهذه الجملة منتزعة من قوله تعالى في سورة آل عمران {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} [آل عمران: 103]. (ويكره لكم قيل وقال) في الرواية الثالثة "ونهى عن ثلاث: قيل وقال" واختلفوا في إعراب هذين اللفظين فقيل: إنهما فعلان. الأول ماض مبني للمجهول والثاني ماض مبني للمعلوم وهما في الرواية الأولى مفعول به مبني على الفتح في محل نصب مقصود حكايته وعلى الرواية الثالثة مقصود حكايتهما في محل جر بدل من "ثلاث" على أنهما فعلان. الرأي الثاني أنهما اسمان مصدران من الفعل قال تقول: قلت قولا وقالا وقيلا ويؤيد ذلك دخول الألف واللام عليهما فتقول: كثر القيل والقال وهما في الرواية الثالثة مجروران منونان وأما المراد منهما فقيل: كثرة الكلام لأنه يؤدي غالبا إلى الخطأ وقيل المراد منهما حكاية أقاويل الناس والخوض في أخبارهم فيقول: قال فلان كذا وقيل كذا ومحل النهي نقل ذلك من غير تثبت ولا احتياط وقيل: المراد منهما حكاية الاختلاف في أمور الدين ومحل النهي النقل تقليدا دون احتياط فهو من قبيل "كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع". (وكثرة السؤال) حذف المسئول عنه جعل في هذه العبارة احتمالات: الأول: سؤال الناس أموالهم وما في أيديهم وقد كثرت الأحاديث الصحيحة بالنهي عن ذلك. الثاني: كثرة السؤال عن أخبار الناس وأحداث الزمان وما جرى لهم مما لا يعني فهو الطرف المقابل لقيل وقال واحد يسأل ويطلب الغيبة والآخر يجيب: قيل كذا وكذا إلخ. الثالث: كثرة سؤال إنسان بعينه عن تفاصيل حاله مما يكرهه المسئول فيترتب على ذلك حرج المسئول وألمه إذا أجاب بصدق أو الوقوع في الإثم إذا أجاب بكذب أو تكلف المشقة إذا تكلف التعريض أو سوء الأدب إن أهمل جوابه. الرابع: كثرة السؤال عن أمور غير مهمة قد يؤذي جوابها كما وقع في سبب نزول قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبدلكم تسؤكم} [المائدة: 101]. الخامس: كثرة التكلف والتنطع وتتبع الغرائب والأغلوطات والتقعر في المسائل العلمية. السادس: العموم فيراد كل ذلك وسنعرض ونبسط المسألة في فقه الحديث. (وإضاعة المال) أي صرفه في غير وجوهه الشرعية فهذا بمثابة إتلافه لأن الله تعالى جعل المال في أيدي الناس ليقوم بمصالحهم وصرفها في غير وجوهها الشرعية تضييع لتلك المصالح.

(إن الله عز وجل حرم عليكم عقوق الأمهات) في ملحق الرواية "وحرم عليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم" ولا تعارض فما حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو بتحريم الله. وعقوق الوالدين بضم العين مشتق من العق وهو القطع والمراد به صدور ما يتأذى به الوالد من ولده من قول أو فعل إلا في شرك أو معصية ما لم يتعنت الوالد وضبطه ابن عطية بوجوب طاعتهما في المباحات فعلا وتركا واستحبابها في المندوبات وفروض الكفاية والأمهات جمع أمهة والأمهات لفظ لمن يعقل بخلاف لفظ أم فإنه أعم. وخص الأمهات هنا بالذكر بدلا من الوالدين من قبيل تخصيص الشيء بالذكر وإظهارا لعظم موقعه قال النووي: لأن حرمتهن آكد من حرمة الآباء ولهذا قال صلى الله عليه وسلم حين قال له السائل: من أبر؟ قال: أمك .. ثلاثا ثم قال في الرابعة "ثم أباك" ولأن أكثر العقوق يقع للأمهات لضعفهن وطمع الأولاد فيهن. اهـ. وعقوق الأب مثل عقوق الأم وقد جاءت الرواية الرابعة بلفظ "حرم عقوق الوالد". (ووأد البنات) بسكون الهمزة وهو دفن البنات بالحياة فيمتن تحت التراب وكان أهل الجاهلية من العرب يفعلون ذلك كراهة فيهن ويقال: إن أول من فعل ذلك قيس بن عاصم التميمي وكان بعض أعدائه أغار عليه فأسر بنته فاتخذها لنفسه ثم حصل بينهم صلح فخير ابنته فاختارت زوجها فآلى قيس على نفسه ألا تولد له بنت إلا دفنها حية فتبعه العرب في ذلك وكانوا في صفة الوأد على طريقين أحدهما أن يأمر امرأته حين يأتيها المخاض أن تلد بجوار حفيرة فإذا وضعت ذكرا أبقته وإذا وضعت أنثى طرحتها في الحفيرة ومنهم من كان ينتظر بحياتها أشهرا يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون؟ أم يدسه في التراب ثم يزينها ويطيبها ويخرج بها إلى الصحراء فيلقي بها في حفرة ويهيل عليها التراب ومن العرب من كان يفعل ذلك في الأولاد حتى الذكور خشية الفقر والحاجة وإنما خص الوأد هنا بالبنات لأنه كان المعتاد والكثير عند العرب. (ومنعا وهات) "منعا" هنا بسكون النون وتنوين آخره وفي رواية للبخاري "ومنع" بدون تنوين مع سكون النون وهي في الموضعين مصدر منع يمنع وهي بدون تنوين على نية الإضافة أي منع إعطاء الحقوق أما "هات" فبكسر التاء فعل أمر من الإيتاء قال الخليل: أصل هات آت فقلبت الألف هاء والحاصل من النهي منع ما أمر بإعطائه وطلب مالا يستحق أخذه و"هات" معطوف على "منع" مقصود حكايتها مفعول "حرم" وفي الرواية الرابعة "لا وهات" أي لا أعطيك حقك وأعطني ما ليس حقي. (كتب المغيرة إلى معاوية) قال الحافظ ابن حجر: ظاهره أن المغيرة باشر الكتابة وليس كذلك فقد أخرجه ابن حبان بلفظ "كتب معاوية إلى المغيرة: اكتب إلي بحديث سمعته فدعا غلامه ورادا فقال: اكتب .. " فذكره وأخرجه الطبراني عن وراد بلفظ "كتب معاوية إلى المغيرة: اكتب إلي بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فكتبت إليه بخطى ... "

-[فقه الحديث]- وجه إدخال هذا الحديث في كتاب الأقضية أنه يتضمن قضايا "قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال وعقوق الأمهات ووأد البنات ومنع وهات". ومن مجموع الروايات نحصل على ثلاثة واجبات وثلاثة محرمات وثلاثة مكروهات. ومن المعلوم أن ترك الواجب محرم فتصبح المحرمات ستة: العصيان وعدم الطاعة والإشراك بالله والتفرق والخروج على الجماعة ثم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنع وهات. والثلاثة الأولى معلومة من الدين بالضرورة أما الثلاثة الثانية: فقد وردت في جميع الروايات بلفظ التحريم ومن المعلوم أن المحرمات درجات أكبر الكبائر. الكبائر. محرمات دون الكبائر فليس يلزم من اقترانها في الذكر أنها في درجة سواء. والمكروهات الثلاثة صدرت بلفظ "يكره" و"كره" و"نهى" وليس معنى ذلك أنها مكروهات في عرف الفقهاء على الإطلاق وستأتي الأحكام بالتفصيل. أما عقوق الأمهات ومثله عقوق الآباء فقد سبق في كتاب الإيمان أنه من أكبر الكبائر ومن السبع الموبقات وقرن بالإشراك بالله وقتل النفس ولا خلاف في ذلك بين علماء المسلمين. ووأد البنات: من الكبائر الموبقات بل من أكبر الكبائر فقتل النفس بغير حق من أكبر الكبائر وقرن بالإشراك بالله فمن باب أولى قتل نفس لها حرمة كبرى وحق أكبر. أما منع وهات: والمراد منها الامتناع عن إعطاء الحقوق للآخرين وطلب ومحاولة أخذ ما ليس بحق من الآخرين فحكمها يختلف باختلاف قيمة هذا الحق فقد يكون كبيرة وقد يكون مكروها لكن ذكره تحت عنوان المحرمات يجعل المراد منه من قصد الأمور الكبيرة أو من أصبحت تلك عادته حتى اشتهر بها ولو كانت الحقوق صغائر فالإصرار على الصغيرة كبيرة والإصرار على الصغائر يحولها إلى كبائر وهل الكبيرة في الجمع بين الصفتين؟ أو كل منها مستقلا كبيرة؟ أميل إلى الثاني فمن اعتاد منع الحقوق أو منع حقا كبيرا فقد دخل في هذا وإن لم يأخذ من الآخرين ما ليس حقا له ومن أخذ ما ليس حقه متعمدا من الآخرين دخل في هذا وإن لم يمنع الآخرين حقهم عنده ومن جمع بين الأمرين فهو من باب أولى. وأما قيل وقال: فالحكمة في النهي عن ذلك أن الكثرة من ذلك لا يؤمن معها وقوع الخطأ إذا أريد من المقول ما لا فائدة فيه من الكلام فإن كانت الكثرة من قيل وقال في أمور الخير فلا يكره. وأما كثرة السؤال: فقد ذكرنا في المباحث العربية خمسة أنواع من السؤال. النوع الأول: سؤال الناس أموالهم وما في أيديهم والأحاديث كثيرة في الحض على التعفف عن المسألة "لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يأتي رجلا فيسأله أعطاه أو منعه".

ودوافع هذه المسألة مختلفة. الدافع الأول: مسألة الفقير المحتاج العاجز عن الكسب عجزا لا دخل له فيه والمسألة في هذه الحالة مباحة والمطلوب من صاحبها الرفق في السؤال وعدم الإلحاح وعدم الاستكثار والأولى له العفة والصبر على الحاجة ما أمكن فقد مدح الله هذا الصنف بقوله {وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم} [البقرة: 272 وما بعدها]. والخلاف بين الفقهاء في حدود الفقير المحتاج الذي يباح له السؤال وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في تحديده "ليس المسكين الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان ولكن المسكين الذي لا يجد غني يغنيه" وقد اتفقوا على أن من استطاع ضربا في الأرض وكان قادرا على الاكتساب فهو غني وهو واجد نوعا من الغنى وقد قال تعالى في وصف الفقراء {لا يستطيعون ضربا في الأرض} [البقرة: 273]. تقول: إن الخلاف بين الفقهاء في حدود الفقير المحتاج الذي يباح له السؤال فقال بعضهم: أن الفقير من لا يملك خمسين درهما أو قيمتها من الذهب واستندوا إلى حديث ضعيف رواه الترمذي من حديث ابن مسعود مرفوعا "من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش قيل: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: خمسون درهما أو قيمتها من الذهب". وقال بعضهم: إن الفقير هو من لا يملك قوت يومه واستندوا إلى حديث رواه أبو داود وصححه ابن حبان عن سهل ابن الحنظلية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار فقالوا: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: قدر ما يغديه ويعشيه". وقال أبو حنيفة: إن الغني من ملك نصابا. وقال الشافعي: قد يكون الرجل غنيا بالدرهم مع الكسب ولا يغنيه الألف مع ضعفه في نفسه وكثرة عياله. الدافع الثاني: مسألة الفقير المحتاج القادر على الكسب وهي المقصودة من الحديث والأصح عند الشافعية أن سؤال من هذا حاله حرام وينظر فيمن يعطيه هل يكون معينا ومساعدا على الحرام؟ أميل إلى هذا إذا تأكد من حاله. وإنما قبح الشارع السؤال سواء أعطى المسئول السائل أو منعه لما يدخل على السائل من ذل السؤال وعظم المنة إذا أعطى ومن ذلك السؤال والخسة والحرمان إذا لم يعط ولما يدخل على المسئول من الضيق في ماله إذا أعطى ومن الحرج إذا لم يعط. الدافع الثالث: من يسأل ليجمع الكثير من غير احتياج إليه وهذا النوع حرام باتفاق

وورد فيه وعيد شديد ففي البخاري "ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه قزعة لحم" أي قطعة لحم وفي مسلم "من سأل الناس تكثرا فإنما يسأل جمرا" وعند الترمذي "ومن سأل الناس ليثري ماله كان خموشا في وجهه يوم القيامة فمن شاء فليقل ومن شاء فليكثر" وعند الطبراني "لا يزال العبد يسأل وهو غني حتى يخلق وجهه -أي يبلى وجهه- فلا يكون له عند الله وجه". النوع الثاني: كثرة السؤال عن أخبار الناس. والنوع الثالث: كثرة سؤال إنسان بعينه عن تفاصيل أموره وأحواله. وهذان النوعان واضحان في النهي عنهما لكنهما في ضعف أهميتهما يبعد أن يكونا المرادين من هذا الحديث. النوع الرابع: السؤال عن أمور غير مهمة قد يؤذي جوابها كقول رجل دعي إلى غير أبيه قال: "يا رسول الله .. من أبي .. " لو أن هذا الرجل قدر أنه في نفس الأمر لم يكن لأبيه فبين الرسول صلى الله عليه وسلم أباه الحقيقي لافتضح وافتضحت أمه. ورجل آخر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مصير أبيه الذي مات وألح في السؤال فكان الجواب: أبوك في النار. النوع الخامس: سؤال التنطع والتكلف وتتبع الغرائب والأغلوطات والتقعر في المسائل العلمية. قال بعض الأئمة: والتحقيق في ذلك أن البحث عما لا يوجد فيه نص على قسمين أحدهما أن يبحث عن دخوله في دلالة النص على اختلاف وجوهها فهذا مطلوب لا مكروه بل ربما كان فرضا على من تعين عليه من المجتهدين. ثانيهما: أن يدقق النظر في وجوه الفروق فيفرق بين متماثلين بفرق ليس له أثر في الشرع مع وجود وصف الجمع أو بالعكس فيجمع بين متفرقين بوصف طردي مثلا فهذا الذي ذمه السلف وعليه ينطبق حديث ابن مسعود رفعه "هلك المتنطعون" أخرجه مسلم. فرأوا أن فيه تضييع الزمان بما لا طائل تحته ومثله الإكثار من التخريج على مسألة لا أصل لها في الكتاب ولا السنة ولا الإجماع وهي نادرة الوقوع جدا فيصرف فيها زمانا كان صرفه في غيرها أولى ولا سيما إن لزم من ذلك إغفال التوسع في بيان ما يكثر وقوعه وأشد من ذلك البحث عن أمور مغيبة ورد الشرع بالإيمان بها مع ترك كيفيتها ومنها ما لا يكون له شاهد في عالم الحس كالسؤال عن وقت الساعة وعن الروح وعن مدة هذه الأمة إلى أمثال ذلك مما لا يعرف إلا بالنقل الصرف والكثير منه لم يثبت فيه شيء فيجب الإيمان به من غير بحث. وأشد من ذلك ما يوقع كثرة البحث عنه في الشك والحيرة كحديث أبي هريرة رفعه "لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا. الله خلق الخلق فمن خلق الله"؟

وقال بعض الشراح: مثال التنطع في السؤال حتى يفضى بالمسئول إلى الجواب بالمنع بعد أن يفتى بالإذن أن يسأل عن السلع التي توجد في الأسواق هل يجوز له أن يشتري سلعة مجهول مصدرها عند البائع فيجاب بنعم يجوز فإذا سأل: أخشى أن تكون مسروقة أو منهوبة ونحن في زمن يكثر فيه ذلك فيجاب بلا لا تشتر لأنك إن جزمت بأن مصدرها حرام الشراء وإذا تشككت كره أو كان خلاف الأولى. وإذا تقرر ذلك فمن يسد باب المسائل حتى يفوته كثير من الأحكام التي يكثر وقوعها فإنه يقل فهمه وعلمه ومن توسع في تفريع المسائل وتوليدها ولا سيما فيما يقل وقوعه أو يندر ولا سيما إن كان الحامل على ذلك المباهاة والمغالبة فإنه يذم فعله وهو عين الذي كرهه السلف. وأظهر الأنواع مناسبة في هذا الحديث النوع الأول والله أعلم. وأما إضاعة المال: فالأكثرون حملوه على الإسراف في الإنفاق وقيده بعضهم بالإنفاق في الحرام والأقوى أنه ما أنفق في غير وجهه المأذون فيه شرعا سواء كانت دينية أو دنيوية فمنع منه لأن الله تعالى جعل الأموال قياما لمصالح العباد وفي تبذيرها تفويت تلك المصالح إما في حق مضيعها وإما في حق غيره ويستثنى من ذلك كثرة إنفاقه في وجوه البر لتحصيل ثواب الآخرة ما لم يفوت حقا أخرويا أهم منه. قال الحافظ ابن حجر: والحاصل في كثرة الإنفاق ثلاثة أوجه الأول إنفاقه في الوجوه المذمومة شرعا فلا شك في منعه والثاني إنفاقه في الوجوه المحمودة شرعا فلا شك في كونه مطلوبا بالشروط المذكورة والثالث إنفاقه في المباحات بالأصالة كملاذ النفس فهذا ينقسم إلى قسمين أحدهما أن يكون على وجه يليق بحال المنفق وبقدر ماله فهذا ليس بإسراف والثاني مالا يليق به عرفا وهو ينقسم أيضا إلى قسمين أحدهما ما يكون لدفع مفسدة إما ناجزة أو متوقعة فهذا ليس بإسراف والثاني ما لا يكون في شيء من ذلك فالجمهور على أنه إسراف وذهب بعض الشافعية إلى أنه ليس بإسراف قال: لأنه تقوم به مصلحة البدن وهو غرض صحيح وإذا كان في غير معصية فهو مباح له قال ابن دقيق العيد: وظاهر القرآن يمنع ما قال. اهـ. وقد صرح بالمنع القاضي حسين وتبعه الغزالي وجزم به الرافعي وفي المحرر أنه ليس بتبذير وتبعه النووي. قال الحافظ ابن حجر: والذي يترجح أنه ليس مذموما لذاته لكنه يفضي غالبا إلى ارتكاب المحذور كسؤال الناس وما أدى إلى المحذور فهو محذور نعم يجوز التصدق بجميع المال لمن عرف من نفسه الصبر على المضايقة وجزم الباجي من المالكية بمنع استيعاب جميع المال بالصدقة قال: ويكره كثرة إنفاقه في مصالح الدنيا ولا بأس به إذا وقع نادرا لحادث يحدث كضيف أو عيد أو وليمة ومما لا خلاف في كراهته مجاوزة الحد في الإنفاق على البناء زيادة على قدر الحاجة ولا سيما إن أضاف إلى ذلك المبالغة في الزخرفة. ويدخل في إضاعة المال سوء الإنفاق على الرقيق والبهائم حتى تهلك ودفع المال لمن لا يؤمن منه الرشد.

وقال السبكي الكبير: الضابط في إضاعة المال أن لا يكون لغرض ديني ولا دنيوي فإن انتفيا حرم قطعا وإن وجد أحدهما وجودا له بال وكان الإنفاق لائقا بالحال ولا معصية فيه جاز قطعا وبين الرتبتين وسائط كثيرة لا تدخل تحت ضابط فعلى المفتي أن يرى فيها رأيه. فالإنفاق في المعصية حرام كله ولا نظر إلى ما يحصل في مطلوبه من قضاء شهوة ولذة حسنة وأما إنفاقه في الملاذ المباحة وهو موضع الاختلاف فظاهر قوله تعالى {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما} [الفرقان: 67] أن الزائد الذي لا يليق بحال المنفق إسراف ثم قال: وبذل مال كثير في غرض يسير تافه عده العقلاء مضيعا والله أعلم. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - قال النووي: عن قوله "نهي عن ثلاث قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال" هذا الحديث دليل لمن يقال: إن النهي لا يقتضي التحريم والمشهور أنه يقتضي التحريم وهو الأصح ويجاب عن هذا بأنه خرج بدليل آخر. 2 - واستدل النووي بكتابة المغيرة إلى معاوية "سلام عليك أما بعد" على استحباب المكاتبة على هذا الوجه فيبدأ بـ"سلام عليك" كما كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل: السلام على من اتبع الهدى. 3 - وفي مكاتبة المغيرة حجة على من لم يعمل في الرواية بالمكاتبة قال الحافظ ابن حجر: اعتل بعضهم بأن العمدة حينئذ على الذي بلغ الكتاب كأن يكون الذي أرسله أمره أن يوصل الكتاب وأن يبلغ ما فيه مشافهة وتعقب بأن هذا يحتاج إلى نقل وعلى تقدير وجوده تكون الرواية عن مجهول ولو فرض أنه ثقة عند من أرسله ومن أرسل إليه فتجيء فيه مسألة التعديل على الإبهام والمرجح عدم الاعتداد به. 4 - قال الطيبي: هذا الحديث أصل في معرفة حسن الخلق وهو تتبع جميع الأخلاق الحميدة والخلال الجميلة. والله أعلم.

(458) باب بيان أجر الحاكم إذا أخطأ

(458) باب بيان أجر الحاكم إذا أخطأ 3941 - عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر". -[المعنى العام]- دعوة للقضاة والحكام والعلماء والمفتين إلى الاجتهاد وبذل الوسع وعدم التقصير في البحث والتنقيب مع الأهلية والاستعداد. إن الأحكام من أهل الأحكام يترتب عليها مصالح العباد الدنيوية والأخروية فالتصدي لها دون أهلية تعرض الناس لضلال في معايشهم ومآلهم يتحمل وزر هذا الضلال من حكم ومن أفتى فمن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة. فالحكم أو الفتوى لا بد أن تصدر بعد الاجتهاد الكامل من أهل الاجتهاد فالقاضي الذي عرف الحق وقضى به هو الناجي أما الذي عرف الحق وقضى بخلافه فهو في النار والذي قضى عن جهل هو أيضا في النار. وأما الحاكم المؤهل والمفتي العالم المتفقه إذا اجتهد كل منهما وبذل قصارى وسعه وحقق ودقق وعمق البحث والنظر فأصاب فله أجران أجر الاجتهاد والبحث وأجر إفادة الغير بالحق فإن هو أخطأ بعد اجتهاده فله أجر واحد أجر تعبه ومشقته في سبيل الوصول إلى الحق وبهذا تتم الدعوة إلى الاجتهاد والتشجيع عليه فهو ميزة للدين الإسلامي على غيره من الأديان. -[المباحث العربية]- (إذا حكم الحاكم فاجتهد) كان الظاهر أن يقول: إذا اجتهد الحاكم فحكم فالاجتهاد مقدم على الحكم والأصل في الفاء ترتيب وتعقيب ما بعدها لما قبلها.

قال القرطبي: هكذا وقع في الحديث بدأ بالحكم قبل الاجتهاد والأمر بالعكس فإن الاجتهاد يتقدم الحكم إذ لا يجوز الحكم قبل الاجتهاد اتفاقا لكن التقدير في قوله "إذا حكم" إذا أراد أن يحكم اهـ ففي الكلام مجاز المشارفة أي إذا أشرف على الحكم وأراده فاجتهد فترتيب الاجتهاد على إرادة الحاكم لا على الحكم. وقال الحافظ ابن حجر: ويجوز أن تكون الفاء تفسيرية لا تعقيبية اهـ. والقول الأول أقعد لأن الفاء التفسيرية يكون ما بعدها مساويا ومبينا لما قبلها كما في قولنا: توضأ فغسل وجهه ويديه .. إلخ. وكقولنا: خطب فقال كذا وكذا. أما هنا فليس الاجتهاد مفسرا للحكم. (ثم أصاب) "ثم" ليست للتراخي الزمني وعند أحمد "فأصاب" وهو معطوف على "اجتهد". والمراد من الإصابة مطابقة حكمه لما في نفس الأمر أو مطابقته لحكم الله تعالى. (فله أجران) أجر الاجتهاد وأجر الإصابة وعند عبد الرزاق "فله أجران اثنان". (ثم أخطأ) أي ظن أن الحق في جهة فصادف أن الذي في نفس الأمر بخلاف ذلك. (فله أجر) واحد أجر الاجتهاد. -[فقه الحديث]- قال ابن المنذر: إنما يؤجر الحاكم إذا أخطأ إذا كان عالما بالاجتهاد فاجتهد وأما إذا لم يكن عالما فلا واستدل بحديث "القضاء ثلاثة" وفيه "وقاض قضي بغير حق فهو في النار وقاض قضي وهو لا يعلم فهو في النار". وقال النووي: من ليس بأهل للاجتهاد والحكم فلا يحل له الحكم فإن حكم فلا أجر له بل هو آثم ولا ينفذ حكمه سواء وافق الحق أم لا لأن إصابته اتفاقية ليست صادرة عن أصل شرعي فهو عاص في جميع أحكامه سواء وافق الصواب أم لا وهي مردودة كلها ولا يعذر في شيء من ذلك. اهـ. والقضية التي يثيرها هذا الحديث قضية تعدد الحق أو عدم تعدده وبعبارة أخرى هل يكون الحق في طرفين؟ وكل مجتهد مصيب؟ أم الحق لا يكون إلا في جهة واحدة؟ والمصيب واحد؟ أهل التحقيق من الفقهاء والمتكلمين مع الأول وهو مروي عن الأئمة الأربعة لكن حكي عن كل منهم قول بالرأي الآخر والعجيب أن كلا من الفريقين المختلفين في هذه القضية يستدل بهذا الحديث. فالقائلون إن الحق لا يكون مع الطرفين وإن الحق في جهة واحدة يقولون: لو كان كل من الطرفين مصيبا لم يطلق على أحدهما الخطأ لاستحالة النقيضين في حالة واحدة وبعبارة أخرى: سماه مخطئا ولو كان مصيبا لم يسمه مخطئا وأما الأجر الذي له فإنه حصل له على تعبه في الاجتهاد.

أما الذين يجيزون كون الحق في الطرفين وأن كل مجتهد مصيب فيقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل له أجرا فلو كان لم يصب لم يؤجر وأجابوا عن تسميته مخطئا بأنه محمول على من أخطأ النص أو اجتهد فيما لا يسوغ فيه الاجتهاد كالمجمع عليه ونحوه فإن مثل هذا إن اتفق له الخطأ نسخ حكمه وفتواه ولو اجتهد بالإجماع فهذا الذي يصح إطلاق الخطأ عليه وأما من اجتهد في قضية ليس فيها نص ولا إجماع فلا يطلق عليه الخطأ. والتحقيق في هذه القضية التفصيل وليس الإطلاق ففي حالة تنازع زيد وعمرو على ملكية شيء هو ملك لزيد في واقع الأمر فإذا قضى به لزيد فهو مصيب وثبت له أجر لاجتهاده وأجر إعطاء الحق لمستحقه أما إن قضى به لعمرو بعد الاجتهاد وبعد بذل الجهد ربما لأن عمرا ألحن بحجته من زيد فهذا الحاكم مخطئ معذور ولا يمكن أن يقال عنه: إنه مصيب للحق فالحق لا يتعدد بالنسبة لواقع الأمر ومن وافق في حكمه الواقع فهو مصيب وإلا فهو مخطئ لكن إذا نظرنا لحكم الشرع وقوانينه والحكم بالبينة للمدعي فالحاكم مصيب لقواعد الشرع وقوانينه وإن حكم لعمرو أي وإن لم يوافق الواقع فهو مصيب قواعد الشرع مخطئ واقع الأمر فيؤجر على اجتهاده ولا يأثم بخطئه وإعطاء الحق لغير مستحقه مادام قد بذل وسعه في الاجتهاد وكان من أهله ووزر المحكوم له قاصر عليه وقد سبق في ذلك قريبا حديث "إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضهم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو يذرها". فهذه حالة لا يصح أن نقول فيها إن الحق مع الطرفين وإن صح أن نقول: كل مجتهد مصيب فموافق الواقع مصيب غير مخطئ وغير الموافق للواقع مصيب في تطبيق قواعد الشرع مخطئ الواقع. أما حالة اختلاف المجتهدين في الفروع نتيجة لاختلافهم في استنباط الحكم من الدليل فيمكن أن يطلق على كل منهم أنه مصيب لأن صاحب النص أراد لهم أن يختلفوا وأن يقبل منهم ما يصلون إليه ولو أن المشرع أراد جعل الصواب في ناحية والخطأ في أخرى لحرر الحكم ونص عليه نصا لا يقبل الخلاف كما في أصول التوحيد فالمصيب فيها واحد بإجماع من يعتد به قال النووي: ولم يخالف في ذلك إلا عبد الله بن الحسن العبتري وداود الظاهري فصوبا المجتهدين في ذلك أيضا. اهـ. وإذا كان المختلفون في الفروع مصيبين في أحكامهم بعد استفراغ جهدهم في الاجتهاد رجونا لهم جميعا أجرين واعتبرناهم غير داخلين في الحديث وجعلناه خاصا بالقضاة. والله أعلم.

(459) باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان

(459) باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان 3942 - عن عبد الرحمن بن أبي بكرة رضي الله عنه قال: كتب أبي وكتبت له إلى عبيد الله بن أبي بكرة وهو قاض بسجستان أن لا تحكم بين اثنين وأنت غضبان فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان". -[المعنى العام]- أبو بكرة أخو زياد لأمه فحين تولى زياد على العراق أراد أن يكرم أخاه في شخص أبناء أخيه فقربهم إليه وشرفهم وأقطعهم وولي عبيد الله بن أبي بكرة سجستان فكتب أبو بكرة إلى ابنه كتابا ينصحه فيه ويقول له: إنك توليت القضاء والحكم بين الناس فاقصد الحق وابذل وسعك في الوصول إليه وجرد نفسك من شواغلها حين النظر في القضايا ولا تصدر الحكم وأنت مشغول البال بشيء غير القضية واحذر الحكم وأنت غضبان فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان". -[المباحث العربية]- (كتب أبي -وكتبت له- إلى عبيد الله بن أبي بكرة) قيل: معناه كتب أبو بكرة بنفسه مرة وأمر ولده عبد الرحمن -راوي الحديث- أن يكتب لأخيه فكتب له مرة أخرى فالضمير المجرور في "له" ضمير عبيد الله أخيه وهو خلاف الظاهر قال الحافظ ابن حجر: ولا يتعين ذلك بل الذي يظهر أن قوله "كتب أبي" أي أمر بالكتابة وقوله "وكتبت له" أي باشرت الكتابة التي أمر بها أبي والأصل عدم تعدد الكتابة في شيء واحد ويزيد القول الأول بعدا عن الواقع قوله في المكتوب "فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول .. " فإنه لا يصح أن يقع على لسان عبد الرحمن فإنه لا صحبة له. (وهو قاض بسجستان) بكسر السين والجيم وسين ساكنة بعدها تاء ممدودة بعدها

نون ممنوعة من الصرف للعلمية والعجمة أو للعلمية وزيادة الألف والنون والجملة في محل النصب على الحال. (أن لا تحكم بين اثنين وأنت غضبان) "أن" تفسيرية بمعنى أي فما بعدها مفسر للمكتوب "ولا" ناهية والفعل بعدها محزوم و"غضبان" غير مصروف للوصفية وزيادة الألف والنون وفي رواية البخاري "أن لا تقضي بين اثنين". (فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم) الفاء تعليلية. (لا يحكم أحد بين اثنين) في رواية البخاري "لا يقضين حكم بين اثنين" وفي رواية للشافعي "لا يقضي القاضي -أو لا يحكم الحاكم- بين اثنين" والحكم بفتح الحاء والكاف هو الحاكم. -[فقه الحديث]- قال المهلب: سبب هذا النهي أن الحكم حالة الغضب قد يتجاوز بالحاكم إلى غير الحق وقال ابن دقيق العيد: النهي عن الحكم حالة الغضب لما يحصل بسببه من التغير الذي يختل به النظر فلا يحصل استيفاء الحكم على الوجه قال: وعداه الفقهاء بهذا المعنى إلى كل ما يحصل به تغير الفكر كالجوع والعطش المفرطين وغلبة النعاس وألحق به بعض العلماء الهم البالغ والفرح المفرط ومدافعة الحدث وما يتعلق به القلب تعلقا يخل بانتظام الفكر واستقامته. قال الحافظ ابن حجر: وهو قياس مظنة على مظنة وكأن الحكمة في الاقتصار على ذكر الغضب لاستيلائه على النفس وصعوبة مقاومته بخلاف غيره. فالعلماء استنبطوا معنى دل عليه النص جعلوه علة للحكم وهو تغير الفكر فألحقوا بالغضب ما في معناه وإن كانت درجة تغير الفكر في كل تختلف والمقصود حماية الحكم من القصور الذي ينشأ من تغير الفكر واشتغال البال بغير القضية. وجمهور العلماء يطلقون الغضب فلا فرق بين مراتبه ولا أسبابه وفصل إمام الحرمين والبغوي فقيدا الكراهية بما إذا كان الغضب لغير الله واستغرب الروياني هذا التفصيل واستبعده غيره لمخالفته لظواهر الأحاديث وللمعنى الذي نهى عن الحكم حالة الغضب لأجله. والجمهور على أن الحكم في هذه الحالات مكروه فإن وقع صح ونفذ وقال بعض الحنابلة: لا ينفذ الحكم في حالة الغضب لثبوت النهي عنه والنهي يقتضي الفساد وفصل بعضهم بين أن يكون الغضب طرأ عليه بعد أن استبان له الحكم أو قبل أن يستبين ففي الحالة الأولى لا يؤثر الغضب والحالة الثانية هي محل الخلاف قال الحافظ ابن حجر: وهو تفصيل معتبر. واستدل للجمهور بأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى وهو غضبان وأجاب المخالفون بأن النبي صلى الله عليه وسلم مأمون من التعدي والقصور أو أن غضبه كان للحق فمن كان في مثل حاله جاز.

-[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - أن الكتابة بالحديث كالسماع من الشيخ في وجوب العمل وأما في الرواية فمنع منها قوم والمشهور الجواز. 2 - ذكر الحكم مع دليله في التعليم وكذا الفتوى. 3 - وفيه شفقة الوالد على ولده وإعلامه بما ينفعه وتحذيره من الوقوع فيما يكره. 4 - وفيه نشر العلم للعمل به والاقتداء وإن لم يسأل العالم عنه. والله أعلم

(460) باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور

(460) باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور 3943 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". 3944 - عن سعد بن إبراهيم قال: سألت القاسم بن محمد عن رجل له ثلاثة مساكن فأوصى بثلث كل مسكن منها. قال: يجمع ذلك كله في مسكن واحد ثم قال: أخبرتني عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد". -[المعنى العام]- يقول الله تعالى {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} [المائدة: 3] وقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها ترك لنا أمرين ما إن تمسكنا بهما لن نضل بعده أبدا كتاب الله وسنته صلى الله عليه وسلم وما لحق صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى إلا وكانت أمور الشريعة إما منصوصا عليها وإما داخلة تحت نص وأصل أرساه الشرع. نعم قد جدت في الحياة أمور لم تكن وستجد أمور كثيرة غير كائنة اليوم وواجب العلماء والمجتهدين إدخالها تحت أصل ونص شرعي فإن عجزوا قدموا درء المفاسد على جلب المصالح والحذر من المشتبهات خير من الوقوع فيها. فمثلا شهادات الاستثمار التي تصدرها البنوك لم تكن ثم كانت وبحثها العلماء المجتهدون فرادى وفي مؤتمرات وأجمعوا على إدخالها تحت أصل الربا ولم يشذ عنهم إلا من لا يعتد بشذوذه. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر من يوم تلعب فيه الأهواء وتأخذ بالعلماء ذات اليمين أو ذات اليسار ويدعو الجماعة القائمة على حدود الله في كل عصر أن يردوا أي عمل لا يتوافق مع أصول الشرع وقواعده ونصوصه. والله الهادي سواء السبيل. -[المباحث العربية]- (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) المراد من قوله "أمرنا" سنتنا أي من

حكم بغير السنة جهلا أو غلطا يجب عليه الرجوع إلى حكم السنة وترك ما خالفها امتثالا لأمر الله تعالى بإيجاب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم والإشارة لتأكيد المراد. والأصل في الإحداث الابتداع والابتداء بالشيء وإنشاؤه على غير مثال سابق فالمعنى من اخترع في الدين مالا يشهد له أصل من أصوله فلا يعتد به ولا يلتفت إليه. وفي الرواية الثانية "من عمل عملا ليس عليه أمرنا" فعمم العمل بغير السنة سواء كان محدثا له مخترعا له لأول مرة أو كان مسبوقا به ومن هنا قال النووي: وفي الرواية الثانية زيادة وهي أنه قد يعاند بعض الفاعلين في بدعة سبق إليها فإذا احتج عليه بالرواية الأولى يقول: أنا ما أحدثت شيئا -فعله قبلي فلان فلست محدثا فلا أدخل فيه ولا يحتج به عليه بالثانية التي فيها التصريح برد كل المحدثات سواء أحدثها الفاعل أو سبق بإحداثها. اهـ. وقوله "رد" معناه مردود من إطلاق المصدر على اسم المفعول مثل الخلق يطلق على المخلوق كأنه قال: فهو باطل ولا يعتد به ولا يعتد بالثمرات المترتبة عليه. -[فقه الحديث]- قال الطرقي: هذا الحديث يصلح أن يسمى نصف أدلة الشرع لأن الدليل يتركب من مقدمتين وهذا الحديث مقدمة كبرى في إثبات كل حكم شرعي ونفيه لأن منطوقه مقدمة كلية في كل دليل ناف لحكم مثل أن يقال في الوضوء بماء نجس: هذا ليس من أمر الشرع وكل ما كان كذلك فهو مردود فهذا العمل مردود فالمقدمة الثانية ثابتة بهذا الحديث ومفهوم الحديث أن من عمل عملا عليه أمر الشرع فهو صحيح فحديث الباب نصف أدلة الشرع. وقال النووي: هذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم فإنه صريح في رد كل البدع والمخترعات. اهـ. أي في الدين. وقد ذكره مسلم تحت كتاب الأقضية كمستدل به على رد الحكم الصادر من القاضي جهلا أو غلطا إذا خالف حكم السنة وقد ترجم البخاري ترجمة مساوية لهذا الحديث في كتاب الأحكام فقال (باب إذا قضى الحاكم بجور أو خلاف أهل العلم فهو رد) لكنه لم يذكر هذا الحديث تحت هذه الترجمة. وذكر قصة خالد بن الوليد مع الأسرى وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد مرتين". وذكر البخاري حديثنا تحت ترجمة (باب إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ من غير علم فحكمه مردود). قال الكرماني: المراد بالعامل عامل الزكاة وبالحاكم القاضي وقوله "فأخطأ" أي في أخذ واجب الزكاة أو في قضائه قال الحافظ ابن حجر: على تقدير ثبوت هذه الرواية التي أخذ منها البخاري ترجمته فالمراد بالعالم المفتي أي أخطأ في فتواه. وذكر البخاري حديثنا أيضا في كتاب الصلح تحت (باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود).

وقد أثارت الرواية الثانية إشكالا. قال الحافظ ابن حجر: قول القاسم "يجمع ذلك كله في مسكن واحد" مشكل جدا فالذي أوصى بثلث كل مسكن أوصى بأمر جائز اتفاقا وإلزام القاسم بأن يجمع في مسكن واحد فيه نظر لاحتمال أن يكون بعض المساكن أعلى قيمة من بعض لكن يحتمل أن تكون تلك المساكن متساوية فيكون الأولى أن تقع الوصية بمسكن واحد من الثلاثة ولعله كان في الوصية شيء زائد على ذلك يوجب إنكارها وقد استشكل القرطبي هذا الإشكال وأجاب عنه بالحمل على ما إذا أراد أحد الفريقين الفدية أو أراد أحد الموصى لهم القسمة وتمييز حقه وكانت المساكن بحيث يضم بعضها إلى بعض في القسمة فحينئذ تقوم المساكن قيمة التعديل ويجمع نصيب الموصى لهم في موضع ويبقى نصيب الورثة فيما عدا ذلك. وحاصل الدفاعات عن الإشكال أن في القضية عنصرا لم يذكر في الحديث بنى عليه القاسم حكمه والله أعلم. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - قال النووي: فيه دليل لمن يقول من الأصوليين: إن النهي يقتضي الفساد ومن قال: لا يقتضي الفساد يقول: هذا خبر واحد ولا يكفي في إثبات هذه القاعدة المهمة قال النووي: وهذا جواب فاسد. 2 - وفيه أن الصلح الفاسد منتقض والمأخوذ عليه مستحق الرد. 3 - ويستفاد منه أن حكم الحكام لا يغير ما في باطن الأمر. 4 - وفيه رد المحدثات. قال النووي: وهذا الحديث مما ينبغي حفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به.

(461) باب بيان خير الشهود

(461) باب بيان خير الشهود 3945 - عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ألا أخبركم بخير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها". -[المعنى العام]- يقول الله تعالى {وأقيموا الشهادة لله} [الطلاق: 2] ويقول {ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} [البقرة: 283] ويقول {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} [البقرة: 282]. من هنا كانت الشهادة واجبة الأداء لأنها وسيلة رد الحقوق إلى أصحابها وهي البينة التي يبني عليها القاضي حكمه وكانت حيطة الشارع لها من حيث أهلية الشاهد للشهادة ومن حيث الأداء على وجهها الصحيح فحذر من شهادة الزور وجعلها تعدل الشرك وحماها من العوامل النفسية ومن النوازع البشرية عندما تكون القضية لقريب أو ضد قريب فقال تعالى {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين} [النساء: 135]. هذه أمور مقررة واضحة ولكن المسألة الفرعية التي يتكلم عنها الحديث هي: هل يؤدي الشاهد شهادته لدى الحاكم متطوعا ودون أن تطلب منه؟ ظاهر الحديث أنه في هذه الحالة يكون خير الشهود لكن حديث آخر يجعل الشاهد الذي يؤدي الشهادة دون أن يستشهد من علامات سوء الزمان وفساد الأحوال وتكلم العلماء في الجمع بين الحديثين كما سيأتي في فقه الحديث. -[المباحث العربية]- (ألا أخبركم بخير الشهداء؟ ) الهمزة للاستفهام الإنكاري بمعنى النفي دخلت على "لا" النافية ونفي النفي إثبات فآل المعنى أخبركم بخير الشهداء. (الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها) الموصول خبر مبتدأ محذوف أي خير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها والخيرية هنا إضافية أي هذا خير من الذي يأتي بالشهادة بعد أن يسألها.

-[فقه الحديث]- يعرف هذا الحديث بحديث زيد بن خالد وهو يتعارض مع حديث ابن مسعود "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته" وحديث عمران بن حصين "إن بعدكم قوما يخونون ولا يؤتمنون ويشهدون ولا يستشهدون وينذرون ولا يوفون" فإن هذين الحديثين ذم للشهادة قبل أن تسأل أمام هذا التعارض جنح بعض العلماء إلى الترجيح فرجح فريق حديث زيد بن خالد على رأسهم ابن عبد البر لكون الحديث من رواية أهل المدينة فقدمه على رواية أهل العراق وبالغ فزعم أن حديث عمران هذا لا أصل له ورجح فريق حديث عمران لاتفاق البخاري ومسلم عليه بخلاف حديث زيد الذي انفرد به مسلم. وجنح آخرون إلى الجمع بين الحديثين فأجابوا بأجوبة: أحدها: أن المراد بحديث زيد: من عنده شهادة لإنسان بحق لا يعلم به صاحبه فيأتي إليه فيخبره به أو يموت صاحبه العالم به ويخلف ورثة فيأتي الشاهد إليهم أو إلى من يتحدث عنهم فيعلمه به أجاب بهذا التخصيص لحديث زيد يحيى بن سعيد شيخ مالك ومالك وأصحاب الشافعي. قال الحافظ ابن حجر: وهو أحسن الأجوبة. اهـ. لأن الشهادة حينئذ أمانة واجبة الأداء. ثانيها: أن المراد بحديث زيد شهادة الحسبة وهي ما لا يتعلق بحقوق الآدميين المختصة بهم محضا ويدخل في الحسبة -ما يتعلق بحق الله أو فيه شائبة منه- كالعتاق والوقف والوصية العامة والعدة والطلاق والحدود ونحو ذلك. وحاصله أن المراد بحديث ابن مسعود: الشهادة في حقوق الآدميين والمراد بحديث زيد: الشهادة في حقوق الله فمن علم شيئا من هذا النوع وجب عليه رفعه إلى القاضي وإعلامه به والشهادة واجبة قال تعالى {وأقيموا الشهادة لله} [الطلاق: 2]. ثالثها: أن حديث زيد محمول على المبالغة في الإجابة إلى أداء الشهادة بعد طلبها لا قبله فيكون لشدة استعداده لها وحرصه على أدائها كالذي أداها قبل أن يسألها كما يقال في وصف الجواد: إنه ليعطي قبل الطلب أي يعطي سريعا عقب السؤال من غير توقف. فالمعنى: الذي يبادر بالشهادة حين طلبها. رابعها: أن حديث عمران محمول على شهادة الزور فيشهد بما لا أصل له ولم يستشهد. خامسها: أن حديث عمران محمول على الحلف والإكثار منه واليمين قد تسمى شهادة فيصبح المعنى: ويكثرون من الحلف ولا يستحلفون. سادسها: أن حديث عمران يراد به الشهادة على المغيب من أمر الناس فيشهد على قوم أنهم في النار ولقوم بأنهم في الجنة بغير دليل كما يصنع ذلك أهل الأهواء.

سابعها: أن المراد بحديث عمران من ينتصب شاهدا وليس من أهل الشهادة. هذا والأجوبة من الرابع إلى السابع مبنية على القول بجواز أداء الشهادة عند الحاكم قبل الطلب أما من يقول: إن الأصل في أداء الشهادة عند الحكام أن لا تكون إلا بعد الطلب من صاحب الحق فيكفيه الإجابات الثلاث الأوليات. والله أعلم.

(462) باب اختلاف المجتهدين

(462) باب اختلاف المجتهدين 3946 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "بينما امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما. فقالت: هذه لصاحبتها إنما ذهب بابنك أنت. وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك. فتحاكمتا إلى داود فقضى به للكبرى. فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام فأخبرتاه. فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما. فقالت الصغرى: لا يرحمك الله هو ابنها. فقضى به للصغرى. قال: قال أبو هريرة: والله إن سمعت بالسكين قط إلا يومئذ ما كنا نقول إلا المدية. -[المعنى العام]- جاءت الشريعة الإسلامية بنصوص محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما المحكمات فلا اجتهاد فيها وأما المتشابهات فكانت مجالا للنظر والاجتهاد وكذلك أمور الحياة منها ما هو بديهي حقائق ثابتة واضحة ومنها ما هو في حاجة إلى اجتهاد وفكر ونظر واستنباط وكانت ميزة الشريعة الإسلامية أن جعلت للعقل نصيبا كبيرا في إدارة شئون الحياة بل وفي كثير من أمور العباد وكان القضاء والعلم والفتوى في كثير من الأحيان في حاجة ماسة إلى الاجتهاد ونتيجة لذلك كان اختلاف المجتهدين وكان تشجيع الشريعة للاجتهاد وسبق أن مر بنا أنها جعلت للمصيب أجرين وللمخطئ أجرا واحدا. والشرع الحكيم يحكي لنا في هذا الحديث قصة رسولين اجتهدا في قضية وكان الصواب في جانب الابن وكان للأب أجره على اجتهاده. امرأتان كانتا في بادية الشام ترعيان أغنامهما أو تحتطبان ومع كل منهما ابنها الرضيع تركتا ابنيهما على الأرض متجاورين وذهبتا لبعض شأنهما وعادتا وقد عدا الذئب على الطفلين فذهب بأحدهما فلما رجعتا وجدتا طفلا واحدا ادعت كل واحدة منهما أنه ابنها وقالت كل منهما للأخرى: إنما ذهب الذئب بابنك أنت فتحاكمتا إلى داود عليه السلام والكبرى تحمل الطفل والصغرى لا شاهد معها ولا دليل فقضى داود للكبرى بالطفل وخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام الكبرى مسرورة فرحة والصغرى حزينة باكية قال لهما: ما شأنكما؟ فقصتا عليه القصة

وخطر لسليمان أن كلا من المرأتين تعرف الحقيقة فالأم تعرف ابنها معرفة لا تخلطه بغيره بعد أيام من ولادته لونه ولون عينيه وتقاسيم وجهه ووزنه إلى غير ذلك لكن أنى له الوصول إلى الحقيقة فلجأ إلى حيلة يستخرج منها الحقيقة. قال لمن حوله: هاتوا لي سكين. قالت الصغرى: ولم؟ قال: أشقه بينكما كل منكما تأخذ نصفه وثارت عاطفة الأم. إنها تقبل أن يعيش ابنها في أحضان أخرى تراه حيا ولو من بعيد ولا تقبل أن يموت وأما غير الأم التي تعلم أن ابنها أكله الذئب لا تعبأ أن يقتل ابن الأخرى بل قتله قد يخفف عنها مصابها فإذا عمت البلوى هانت أمام هذه المشاعر قبلت غير الأم وهي الكبرى وسكتت سكوت الراضية أما الأم فأزعجها قول سليمان فقالت على الفور وبلهفة وجزع: لا لا تشقه يرحمك الله هو ابنها سلمه لها وعرف سليمان أنها الأم الحقيقية فحكم به لها يذكر لنا الحديث هذه القصة لنجتهد يذكرها وهو يستحسن الاجتهاد والرأي الآخر يذكرها وهو لا يذم المخطئ لكنه يستحسن المصيب وصدق الله العظيم إذ يقول {ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما} [الأنبياء: 79]. -[المباحث العربية]- (بينما امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب) "بينما" هي "بين" الظرفية زيدت عليها "ما" وناصبها هنا "جاء الذئب" وجملة "معهما ابناهما" صفة "امرأتان" والتقدير: جاء الذئب وقت كون امرأتين معهما ابناهما. و"أل" في "الذئب" للجنس المتمثل في فرد من أفراده. (فذهب بابن إحداهما) أي خطفه وجرى ليأكله. (فقالت هذه لصاحبتها) الإشارة لإحداهما من غير تعيين الصغرى أو الكبرى كأنه قال قالت إحداهما للأخرى. (فتحاكمتا إلى داود) عليه السلام وفي رواية البخاري "فحاكما" وفي نسخة له "فاختصما" والتذكير باعتبارهما شخصين. (فقضى به للكبرى) قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسم واحدة من هاتين المرأتين ولا على اسم واحد من ابنيهما في شيء من الطرق. اهـ. والظاهر أن فارق السن وشكل الجسم كان مميزا لهما وسيأتي في فقه الحديث توجيه حكمه للكبرى. (ائتوني بالسكين) المخاطبون بذلك حاشيته وخاصته ويحتمل أنه خطاب للمرأتين مع من حولهما أما قوله "أشقه بينكما" فهو خطاب للمرأتين. (أشقه بينكما) الجملة مستأنفة استئنافا تعليليا. كأن سائلا سأل: لماذا نأتي بالسكين؟ (لا يرحمك الله) "لا" في قوة جملة: لا تشقه. وتم الكلام عندها وجملة "يرحمك الله" خبرية

لفظا إنشائية دعائية معنى وينبغي في الكتابة وضع نقطة بين "لا" وبين ما بعدها وينبغي في النطق أن يقف قليلا بعد "لا" حتى يتبين للسامع أن الذي بعدها كلام مستأنف لأنه إذا وصلها بما بعدها يتوهم السامع أنه دعا عليه بينما المراد أنه يدعو له وعلم البلاغة يزيد واوا ليزول الإيهام فيقال: لا. ويرحمك الله. (والله إن سمعت بالسكين قط) "إن" نافية أي ما سمعت بالسكين و"قط" مبني على الضم أي أبدا. والسكين تذكر وتؤنث قيل لها ذلك لأنها تسكن حركة الحيوان. (ما كنا نقول إلا المدية) بضم الميم وكسرها وفتحها قيل: سميت بذلك لأنها تقطع مدى حياة الحيوان. قاله النووي وعلق محقق نسخة النووي على نفي أبي هريرة سماعه بالسكين فقال: والعجب من أبي هريرة هل ما قرأ سورة يوسف وهي مكية وإسلامه متأخر كان عام خيبر ففي هذه السورة {وآتت كل واحدة منهن سكينا} [يوسف: 31]. اهـ. وكان على المحقق أن يعتذر عن أبي هريرة بأنه كان يمنيا هاجر إلى المدينة عام خيبر ولعل سماعه هذا الحديث كان عقب وصوله المدينة والعبرة بسماعه لا بتحديثه فكأنه قال: ما كنت سمعت بالسكين إلا يومئذ يوم سمعت الحديث. -[فقه الحديث]- يثير هذا الحديث أربع قضايا: الأولى: علام بنى داود عليه السلام حكمه للكبرى؟ وأجاب ابن الجوزي بأنهما استويا عنده في وضع اليد فقدم الكبرى للسن وتعقبه القرطبي وحكي أنه قيل: كان من شرع داود أن يحكم للكبرى قال: وهو فاسد لأن الكبرى والصغرى وصف طردي كالطول والقصر والسواد والبياض ولا أثر لشيء من ذلك في الترجيح قال: وهذا مما يكاد يقطع بفساده قال: والذي ينبغي أن يقال: إن داود عليه السلام قضى به للكبرى لسبب اقتضى به عنده ترجيح قولها إذ لا بينة لواحدة منهما وكون هذا السبب لم يذكر في الحديث اختصارا لا يلزم منه عدم وقوعه فيحتمل أن يقال: إن الولد الباقي كان في يد الكبرى وعجزت الصغرى عن إقامة البينة قال: وهذا تأويل حسن جار على القواعد الشرعية وليس في السياق ما يأباه ولا يمنعه. اهـ. وقيل: لعل داود قضى به للكبرى لشبه رآه فيها أو نحو ذلك. ويؤيد هذا التوجيه أن الله تعالى اعتبر ما وصل إليه داود علما وحكمة فقال {ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما} [الأنبياء: 79]. 2 - القضية الثانية: كيف ساغ لسليمان نقض حكم أبيه داود عليهما السلام؟ مع أن المجتهد لا ينقض حكم المجتهد؟ وأجيب بأجوبة: أحدها أن داود عليه السلام لم يكن جزم بالحكم بل كان

الوقت وقت دراسة الحيثيات فليس هناك نقض للحكم وتعقب بأن التعبير بقوله "فقضى للكبرى" يأباه ويفيد صدور الحكم من داود ثانيها: أن ذلك كان فتوى من داود عليه السلام لا حكما ونقض الفتوى أو فتوى المجتهد يمكن أن تغاير فتوى مجتهد آخر وتعقب بأن التعبير بقوله "فتحاكمتا" .. وقوله "فقضى" يأبى ذلك. ثالثها: لعله كان في شرعهم فسخ الحكم إذا رفعه الخصم إلى حكم آخر يرى خلافه وبهذا يقول بعض العلماء فقد استنبط النسائي من هذا الحديث نقض الحاكم ما حكم به غيره ممن هو مثله أو أجل إذا اقتضى الأمر ذلك. وعلى هذا محاكم الاستئناف والنقض في مصر وغيرها. رابعها: أن سليمان لم ينقض الحكم عمدا وإنما فعل ذلك حيلة إلى إظهار الحق وظهور الصدق فلما أقرت به الكبرى عمل بإقرارها وإن كان بعد الحكم كما لو اعترف المحكوم له بعد الحكم أن الحق لخصمه فليس هذا من قبيل نقض الحكم وإنما هو من قبيل تبدل الأحكام بتبدل الأسباب. القضية الثالثة: كيف ساغ لسليمان أن يلغي إقرار المدعية" فقد أقرت الصغرى بأنه ابن الكبرى "لا يرحمك الله هو ابنها" فكيف يحكم لها بنقيضه؟ وأجيب بأنه لم يلتفت إلى إقرارها لأنه علم أنها آثرت حياته وأن إقرارها لم يكن عن حقيقة فظهر له من القرائن ما يدفعه إلى هذا الحكم وقد يكون سليمان عليه السلام ممن يسوغ له أن يحكم بعلمه وقد استنبط النسائي من الحديث أنه يجوز للحاكم الحكم بخلاف ما يعترف به المحكوم له إذا تبين للحاكم أن الحق غير ما اعترف به. القضية الرابعة: كيف ساغ لسليمان عليه السلام أن يحكم هذا الحكم دون بينة أو يمين؟ مع احتمال أن جزع الصغرى كان من مزيد الشفقة عامة لا من موقع الأمومة؟ واحتمال أن رضا الكبرى بالشق كان من قساوة القلب عامة لا من موقع عدم الأمومة؟ وأجيب باحتمال أن يكون سليمان عليه السلام ممن أجيز له الحكم بما يستقر في علمه أو احتمال أن تكون الكبرى في تلك الحالة قد أقرت بالحق واعترفت به لما رأت من سليمان عليه السلام الجد والعزم في ذلك. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - أن الفطنة والفهم موهبة من الله تعالى لا تتعلق بكبر سن ولا صغره قال تعالى {ففهمناها سليمان} 2 - وأن الحق في جهة واحدة. 3 - وأن الأنبياء يسوغ لهم الحكم بالاجتهاد وإن كان وجود النص ممكنا لديهم بالوحي لكن ذلك يزيد في أجورهم. 4 - استنبط منه النسائي في السنن الكبرى التوسعة للحاكم أن يقول للشيء الذي لا يفعله سأفعل كذا ليستبين له الحق. 5 - وفيه الحكم بالاستدلال.

6 - وفيه استلحاق الأم. قال ابن بطال: أجمعوا على أن الأم لا تستلحق بالزوج ما ينكره فإن أقامت البينة قبلت حيث تكون في عصمته فلو لم تكن ذات زوج وقالت لمن لا يعرف له أب: هذا ابني ولم ينازعها فيه أحد فإنه يعمل بقولها وترثه ويرثها ويرثه إخوته لأمه ونازعه ابن التين فحكى عن ابن القاسم: لا يقبل قولها إذا ادعت اللقيط. (إضافة) يروى أن سليمان عليه السلام أصاب الحق في قضايا أخرى غير هذه القضية. منها: 1 - ما جاء في القرآن الكريم في سورة الأنبياء من قوله تعالى {وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما} [الآيتان 78 - 79]. والقصة -كما جاءت في الروايات- أن جماعة لهم حرث من عنب دخلت فيه غنم قوم ليلا فرعت العنب فقضى داود بأن يأخذوا الغنم ملكا لهم في مقابل ثمرة الحرث التي فسدت وحكم سليمان حكما آخر قال: إن الحرث لا يخفي على صاحبه ما يخرج منه كل عام فلصاحب الحرث من صاحب الغنم قيمة ما أفسدت الغنم فتدفع الغنم لصاحب الحرث يرعاها ويحصل منها على الصوف والألبان وما يخرج من أولادها حولا فيستوفي ثمن حرثه ويقوم أهل الغنم على الحرث حولا يصلحونه ويراعونه حتى يعود كما كان ثم يدفع الحرث إلى صاحبه وترد الأغنام لأهلها. 2 - القصة الثانية: قصة المرأة التي اتهمت بالزنا فشهد عليها أربعة بذلك فأمر داود برجمها فعمد سليمان -وهو غلام فصور ومثل قصتها بين غلمان أمام الشهود ثم فرق بين الشهود وسألهم وامتحنهم فيما رأوا فتخالفوا فدرأ الرجم عنها. 3 - وقصة ثالثة قصة المرأة التي صب عند فرجها ماء البيض وهي نائمة ثم اتهمت بالزنا فأمر داود برجمها فقال سليمان: يشوى ذلك الماء على النار فإن اجتمع فهو بيض وإلا فهو مني فشوى فاجتمع. والله أعلم.

(463) باب استحباب إصلاح الحاكم بين الخصمين

(463) باب استحباب إصلاح الحاكم بين الخصمين 3947 - عن همام بن منبه رضي الله عنه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اشترى رجل من رجل عقارا له فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب. فقال له الذي اشترى العقار خذ ذهبك مني إنما اشتريت منك الأرض ولم أبتع منك الذهب. فقال الذي شرى الأرض إنما بعتك الأرض وما فيها. قال: فتحاكما إلى رجل فقال الذي تحاكما إليه ألكما ولد؟ فقال: أحدهما لي غلام. وقال الآخر: لي جارية. قال: أنكحوا الغلام الجارية وأنفقوا على أنفسكما منه وتصدقا". -[المعنى العام]- رأينا في الباب السابق صورة من التنازع على ما ليس بحق ونرى في هذا الحديث صورة من الورع عن أخذ ما هو بحق وهكذا نجد الإنسانية تنحرف بها الأهواء نحو الظلم والافتراء والبغي تارة وينحو بها الضمير والروح نحو السمو والعلو والترفع والرقي والأمانة الغالية تارة أخرى. رجلان يبيع أحدهما للآخر دارا بمبلغ من المال قبضه وسلمه الدار وأراد المشتري هدم جدار في الدار فوجد تحته جرة فيها كمية كبيرة من الذهب فذهب المشتري للبائع يقول له: تعال فخذ الجرة وما فيها من ذهب فإنها حقك وملكك لأنني اشتريت منك الدار ولم أشتر منك جرة فيها ذهب قال له البائع ليست الجرة حقي فأنا لم أدفنها ولم أعلم عنها شيئا وقد بعتك الدار وما فيها أرضها ومبانيها وما عساه يكون بداخلها. فكان لا بد من حكم يقضي من يستحق جرة الذهب فاتجها إلى حكم وعرضا عليه القضية وتحير الحكم لكل من الخصمين وجهة نظر وهما مشكوران على إيثارهما وورعهما وبالغ أمانتهما ومن كان كذلك استحق التقدير والجزاء ماذا يفعل هذا الحكم؟ أيقسم الذهب بينهما؟ وما حيثيات هذا الحكم؟ إذن فليلجأ إلى وسيلة يكافأ بها الرجلان على ورعهما بطريق غير مباشر فسألهما عن أولادهما فوجد أحدهما عنده ولد ووجد الآخر عنده بنت فطلب منهما أن يزوجا الولد للبنت وأن يصرف من المال على العرس وأن يعطي العروسان ما يبقى ينفقان منه حياتهما.

المباحث العربية (اشترى رجل من رجل عقارا له) أي عقارا يملكه ليس وكيلا عن غيره في البيع والعقار بفتح العين -في اللغة المنزل والضيعة وخصه بعضهم بالنخل ويقال للمتاع النفيس الذي للمنزل عقار أيضا وقال عياض: العقار الأصل من المال وقيل: المنزل والضيعة وقيل: متاع البيت فجعله خلافا والمعروف في اللغة أنه مقول بالاشتراك على الجميع. والمراد به هنا الدار صرح بذلك في بعض الروايات. (فقال له الذي اشترى العقار: خذ ذهبك مني) هكذا هو في الأصول وفي البخاري فضمير "له" يعود على البائع وقد بعد المرجع لكنه مغتفر حيث حدده المقام. (ولم أبتع منك الذهب) أي ولم أشتر منك الذهب. (فقال الذي شرى الأرض) أي الذي باعها كما في قوله تعالى {وشروه بثمن بخس} [يوسف: 20] وهكذا هو في أكثر نسخ مسلم "شرى" وفي بعضها "اشترى" ووهمها القرطبي قال: إلا إن ثبت أن لفظ "اشترى" من الأضداد كشري فلا وهم. (إنما بعتك الأرض وما فيها) الظاهر أن العقد إنما وقع بينهما على الأرض خاصة فاعتقد البائع دخول ما فيها ضمنا واعتقد المشتري أنه لا يدخل. (فتحاكما إلى رجل) ظاهره أنهما حكما رجلا غير المنصبين للقضاء لكن في بعض الروايات أنه كان حاكما منصوبا للناس وجزم الغزالي في "نصيحة الملوك" أنهما تحاكما إلى كسرى. (ألكما ولد) بفتح الواو واللام والمراد الجنس لأنه يستحيل أن يكون للرجلين ولد واحد والمعنى: ألكل منكما ولد؟ ويجوز أن يكون بضم الواو وسكون اللام جمع ولد ويجوز كسر الواو مع سكون اللام أي أولاد. (فقال أحدهما: لي غلام) في بعض الروايات أن الذي قال: لي غلام هو الذي اشترى العقار. (أنكحوا الغلام الجارية) في بعض الروايات "اذهبا. فزوج ابنتك من ابن هذا". (وأنفقوا على أنفسكما منه وتصدقا) هكذا هو في مسلم "على أنفسكما" وعند البخاري "وأنفقوا على أنفسهما منه" وهي أوجه وفي بعض الروايات "وجهزوهما من هذا المال وادفعا إليهما ما بقي يعيشان به".

-[فقه الحديث]- ذكر البخاري هذا الحديث في كتاب الأنبياء تحت "باب" لم يحدد عنوانه وذكر معه أمورا حدثت قبل الإسلام وقد اختلف العلماء في شرع من قبلنا. هل هو شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما يعارضه؟ أو ليس شرعا لنا حتى يرد في شرعنا ما يؤيده؟ أما حكم الإسلام في مثل هذه القضية فيقول الحافظ ابن حجر: لفظ الحديث صريح في أن العقد إنما وقع على الأرض خاصة وأما صورة الدعوى بينهما فوقعت على هذه الصورة وأنهما لم يختلفا في صورة العقد التي وقعت والحكم في شرعنا على هذا في مثل ذلك أن القول قول المشتري وأن الذهب باق على ملك البائع ويحتمل أنهما اختلفا في صورة العقد بأن يقول المشتري لم يقع تصريح ببيع الأرض وما فيها بل بيع الأرض خاصة والبائع يقول: وقع التصريح بذلك والحكم في هذه الصورة أن يتحالفا ويستردا المبلغ وهذا كله بناء على ظاهر اللفظ أنه وجد فيه جرة من ذهب لكن في رواية أن المشتري قال: إنه اشترى دارا فعمرها فوجد فيها كنزا وأن البائع قال له لما دعاه إلى أخذه: ما دفنت ولا علمت وأنهما قالا للقاضي: ابعث من يقبضه وتضعه حيث رأيت فامتنع وعلى هذا فحكم هذا المال حكم الركاز في هذه الشريعة إن عرف أنه من دفين الجاهلية وإلا فإن عرف أنه من دفين المسلمين فهو لقطة وإن جهل فحكمه حكم المال الضائع يوضع في بيت المال. ولعلهم لم يكن في شرعهم هذا التفصيل فلهذا حكم القاضي بما حكم به. ثم قال: فإن ثبت أنهما تحاكما إلى كسرى ارتفعت هذه المباحث الماضية والمتعلقة بالتحكيم لأن الكافر لا حجة فيما يحكم به. اهـ. وقد احتج بهذا الحديث من جوز للمتداعين أن يحكما بينهما رجلا وينفذا حكمه فإن ثبت أنه كان حاكما منصوبا للناس فلا حجة فيه لهم وهي مسألة مختلف فيها فأجاز ذلك مالك والشافعي بشرط أن يكون فيه أهلية الحكم وأن يحكم بينهما بالحق سواء وافق ذلك رأي قاضي البلد أم لا واستثنى الشافعي الحدود وشرط أبو حنيفة أن لا يخالف ذلك رأي قاضي البلد وجزم القرطبي بأنه لم يصدر منه حكم على أحد منهما وإنما أصلح بينهما لما ظهر له أن حكم المال المذكور حكم المال الضائع فرأى أنهما أحق بذلك من غيرهما لما ظهر له من ورعهما وحسن حالهما وارتجى طيب نسلهما وصلاح ذريتهما. ويثور هنا سؤال: أي الرجلين أكثر أمانة؟ البائع؟ أم المشتري؟ وقع في بعض الروايات عن أبي هريرة: لقد رأيتنا يكثر تمارينا -أي جدالنا- ومنازعتنا عند النبي صلى الله عليه وسلم أيهما أكثر أمانة؟ والله أعلم

كتاب اللقطة

كتاب اللقطة

(464) باب اللقطة

(464) باب اللقطة 3948 - عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن اللقطة؟ فقال "اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها". فقال: فضالة الغنم؟ قال "لك أو لأخيك أو للذئب". قال: فضالة الإبل؟ قال "ما لك ولها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها" قال يحيى: أحسب قرأت عفاصها. 3949 - عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة؟ فقال "عرفها سنة ثم اعرف وكاءها وعفاصها ثم استنفق بها فإن جاء ربها فأدها إليه" فقال: يا رسول الله فضالة الغنم؟ قال "خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب". قال: يا رسول الله فضالة الإبل؟ قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرت وجنتاه (أو احمر وجهه) ثم قال "ما لك ولها؟ معها حذاؤها وسقاؤها حتى يلقاها ربها". 3950 - وفي رواية عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن بهذا الإسناد مثل حديث مالك غير أنه زاد قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه فسأله عن اللقطة؟ قال: وقال عمرو في الحديث "فإذا لم يأت لها طالب فاستنفقها". 3951 - عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحو حديث إسمعيل بن جعفر غير أنه قال: فاحمار وجهه وجبينه وغضب وزاد (بعد قوله ثم عرفها سنة) "فإن لم يجيء صاحبها كانت وديعة عندك".

3952 - عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة الذهب أو الورق؟ فقال "اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك فإن جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه". وسأله عن ضالة الإبل؟ فقال "ما لك ولها؟ دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها" وسأله عن الشاة؟ فقال "خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب". 3953 - عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ضالة الإبل؟ زاد ربيعة فغضب حتى احمرت وجنتاه واقتص الحديث بنحو حديثهم وزاد "فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها وعددها ووكاءها فأعطها إياه وإلا فهي لك". 3954 - عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة؟ فقال "عرفها سنة فإن لم تعترف فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها فإن جاء صاحبها فأدها إليه". 3955 - وفي رواية عن الضحاك بن عثمان بهذا الإسناد وقال في الحديث "فإن اعترفت فأدها وإلا فاعرف عفاصها ووكاءها وعددها". 3956 - عن سويد بن غفلة قال: خرجت أنا وزيد بن صوحان وسلمان بن ربيعة غازين فوجدت سوطا فأخذته. فقالا لي. دعه. فقلت: لا ولكني أعرفه فإن جاء صاحبه وإلا استمتعت به. قال: فأبيت عليهما. فلما رجعنا من غزاتنا قضي لي أني حججت فأتيت المدينة فلقيت أبي بن كعب فأخبرته بشأن السوط وبقولهما. فقال: إني وجدت صرة فيها مائة دينار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "عرفها حولا" قال: فعرفتها فلم أجد من يعرفها ثم أتيته فقال "عرفها حولا" فعرفتها فلم أجد من يعرفها ثم أتيته فقال "عرفها حولا" فعرفتها فلم أجد من يعرفها فقال "احفظ عددها ووعاءها ووكاءها فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها" فاستمتعت بها. فلقيته بعد ذلك بمكة. فقال: لا أدري بثلاثة أحوال أو حول واحد؟ . 3957 - -/- وفي رواية عن سويد بن غفلة قال: خرجت مع زيد بن صوحان وسلمان بن ربيعة فوجدت سوطا. واقتص الحديث بمثله إلى قوله فاستمتعت بها. قال شعبة: فسمعته بعد عشر سنين يقول عرفها عاما واحدا. 3958 - وفي رواية نحو حديث شعبة وفي حديثهم جميعا ثلاثة أحوال إلا حماد بن سلمة فإن في حديثه "عامين أو ثلاثة" وفي حديث سفيان وزيد بن أبي أنيسة وحماد بن سلمة "فإن جاء أحد يخبرك بعددها ووعائها

ووكائها فأعطها إياه" وزاد سفيان في رواية وكيع "وإلا فهي كسبيل مالك". وفي رواية ابن نمير "وإلا فاستمتع بها". 3959 - عن عبد الرحمن بن عثمان التيمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لقطة الحاج. 3960 - عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "من آوى ضالة فهو ضال ما لم يعرفها". -[المعنى العام]- من تشريعات الإسلام السامية المحافظة على الملكية الفردية وحماية أموال الناس من الناس حمايتها وهي في حرز مثلها من أن تغتصب أو تسرق أو تنهب أو يتحايل على الاستيلاء عليها بطريق النصب أو بطريق القضاء الخاطئ "كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه" "من اغتصب قيد شبر من أرض طوقه من سبع أرضين يوم القيامة" "من قضيت له بحق امرئ مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو يدعها"

هذا بعد نهى القرآن بقوله {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون} [البقرة: 188]. كثير من نصوص الكتاب والسنة تحذر من أكل أموال الناس بالباطل وهي في حرز مثلها ولكن الأرقى تشريعا والأسمى معاملة حماية أموال الناس الضائعة من أصحابها حين نجدها ولا نعلم أصحابها وما واجبنا نحوها؟ هذه الأحاديث ترسم لنا طريق التكافل الاجتماعي وأن المسلمين كاليدين تغسل إحداهما الأخرى وأن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وأن على المؤمن إذا وجد شيئا ضائعا من صاحبه أن يحميه من نفسه الأمارة بالسوء التي بين جنبيه الطامعة فيه وأن يلتقطه ليحفظه لصاحبه ليس هذا فحسب بل يجب عليه أن يعلن عنه في مكان التقاطه وفي الأسواق وفي أماكن اجتماع الناس سنة كاملة على الأقل تكون اللقطة وديعة لدى الملتقط خلالها لا يحل له منها نتاجها المنفصل ولا المتصل ولا أجرة له على حفظها اللهم إلا ما ينفقه عليها لتحيا إن كانت ذات حياة أما لقطة المال والمتاع الذي لا يفسد بمرور الأيام فيعلن عنها إن جاء صاحبها وأخبر بأوصافها واطمأنت لصدقه نفس الملتقط سلمها له أما بعد مرور العام فتنتقل من الوديعة التي لا يجوز التصرف فيها ولا الانتفاع بها إلى وديعة يتصرف فيها الملتقط تصرف الملكية مع الضمان إن جاء صاحبها في يوم من الأيام فإن كانت اللقطة إبلا أو نحوها مما لا خطر منها ولا عليها إن هي تركت في مكانها فعلى المسلم تركها حتى يعود إليها مالكها في مكان ضياعها فهل هناك تشريع أرقى من هذا التشريع؟ إنه بحق تشريع الحكيم الخبير. -[المباحث العربية]- (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله) في الرواية الثالثة "أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه" وفي رواية البخاري "جاء أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم" وقد ذهب بعض المتأخرين أن السائل المذكور هو بلال المؤذن وفيه بعد لأنه لا يوصف بأنه أعرابي وقيل: السائل هو الراوي نفسه زيد بن خالد الجهني وفيه بعد أيضا لظاهر الرواية الثالثة ولأنه لا يوصف بأنه أعرابي نعم في رواية لأحمد عن زيد بن خالد "أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أو أن رجلا سأل" على الشك قال الحافظ ابن حجر: لعله نسب السؤال إلى نفسه لكونه كان مع السائل قال: وقد ظفرت باسم السائل فيما أخرجه الحميدي والطبراني وغيرهما عن عقبة بن سويد الجهني عن أبيه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ... " وهو أولى ما يفسر به المبهم. اهـ. فالسائل سويد الجهني رضي الله عنه اهـ وقد سأل آخرون في غير هذا الحديث عن اللقطة بألفاظ مختلفة. (عن اللقطة) بضم اللام وفتح القاف على المشهور عند أهل اللغة والمحدثين وقال عياض: لا يجوز غيره وقال الزمخشري في الفائق: اللقطة بفتح القاف والعامة تسكنها وجزم الخليل بأنها

بالسكون قال: وأما بالفتح فهو اللاقط قال الأزهري: هذا الذي قاله هو القياس ولكن الذي سمع من العرب وأجمع عليه أهل اللغة والحديث الفتح وقال ابن برى: التحريك للمفعول نادر فاقتضى أن الذي قاله الخليل هو القياس وفيها لغتان أيضا: لقاطة بضم اللام ولقطة بفتحها. اهـ. والمراد من اللقطة ما وجده الإنسان ضائعا أو ساقطا من صاحبه من غير الحيوان أما الحيوان فيقال عنه: ضالة. قال الأزهري وغيره: يقال للضوال الهوامي والهوافي واحدتها هامية وهافية وهمت وهفت وهملت إذا ذهبت على وجهها بلا راع. وفي الرواية الخامسة "عن اللقطة الذهب أو الورق" بكسر الراء وهو الفضة و"الذهب" بالجر بدل من اللقطة وذكر الذهب أو الفضة كالمثال ولا فرق بينهما وبين الجوهر واللؤلؤ والأمتعة والأدوات والمقصود من السؤال عن اللقطة السؤال عن جواز التقاطها من عدمه وعما يفعل فيها إذا التقطت. (اعرف عفاصها) بكسر العين بعدها فاء ممدودة بعدها صاد الوعاء الذي تكون فيه النفقة جلدا كان أو غيره وقيل له العفاص أخذا من العفص وهو الثني لأن الوعاء يثنى على ما فيه وفي بعض الروايات "خرقتها" بدل "عفاصها" والعفاص أيضا الجلد الذي يكون على رأس القارورة وأما الذي يدخل فم القارورة من جلد أو غيره فهو الصمام بكسر الصاد المهملة قال الحافظ ابن حجر: فحيث ذكر العفاص مع الوعاء فالمراد به الثاني وحيث لم يذكر العفاص مع الوعاء فالمراد به الأول. والغرض معرفة الآلات التي تحفظ النفقة ويلتحق بما ذكر حفظ الجنس والصفة والقدر والكيل فيما يكال والوزن فيما يوزن والذرع فيما يذرع. والمراد من الأمر بالمعرفة العلم والحفظ وقال بعض الشافعية يستحب تقييدها بالكتابة خوف النسيان. (ووكاءها) بكسر الواو الخيط الذي يشد به الوعاء يقال: أوكيته إيكاء فهو موكى بلا همز وفي ملحق الرواية السابعة "اعرف عفاصها ووكاءها وعددها" وفي ملحق الرواية الثامنة "فإن جاء أحد يخبرك بعددها ووعائها ووكائها". (ثم عرفها سنة) معناه إذا أخذتها فعرفها سنة أما أن الأخذ واجب أو مستحب فسيأتي في فقه الحديث والمراد من التعريف الإعلان عنها بالصوت أو بالكتابة في الموضع الذي وجدها فيه وفي الأسواق وعلى أبواب المساجد ومواضع اجتماع الناس فيقول مثلا: من ضاع منه شيء؟ من ضاع منه حيوان؟ من ضاع منه دراهم؟ ونحو ذلك ويكرر ذلك بحسب العادة فيعرفها أولا في كل يوم ثم في كل أسبوع ثم في كل شهر. (فإن جاء صاحبها) في الرواية الأولى جواب الشرط محذوف تقديره: فأدها إليه. ظهر هذا الجواب في الرواية الثانية ولفظها "فإن جاء ربها فأدها إليه" والرواية الخامسة ولفظها "فإن جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه" والرواية السادسة ولفظها "فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها وعددها ووكاءها فأعطها إياه" والرواية السابعة ولفظها "فإن جاء صاحبها فأدها إليه". (وإلا فشأنك بها) أي وإن لم يجيء صاحبها فحذف فعل الشرط و"شأن" منصوب على

الإغراء أي الزم شأنك ويجوز الرفع على الابتداء والجار والمجرور "بها" متعلق بمحذوف خبر أي شأنك متعلق بها والشأن الحال أي تصرف فيها وفي الرواية الثانية "ثم استنفق بها" أي صيرها نفقة لك وفي الرواية الثالثة "فإذا لم يأت لك طالب فاستنفقها" وفي الرواية الرابعة "فإن لم يجيء صاحبها كانت وديعة عندك" وفي الرواية الخامسة "فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك" و"تعرف" بضم التاء وسكون العين وفتح الراء مبني للمجهول أي: إن لم يعرفها أحد. وفي الرواية السادسة "وإلا فهي لك" وفي الرواية السابعة "فإن لم تعترف فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها" أي تملكها و"تعترف" بضم التاء وسكون العين وفتح التاء الثانية مبني للمجهول أي وإن لم يعترف بها أحد ويخبر أنها له فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها وهذه معرفة أخرى فيكون الملتقط مأمورا بمعرفتين فيتعرفها أول ما يلتقطها حتى يعلم صدق واصفها إذا وصفها ولئلا تختلط وتشتبه بماله فإذا عرفها سنة وأراد تملكها استحب له أن يتعرفها أيضا مرة أخرى تعرفا وافيا محققا ليعلم قدرها وصفتها فيردها إلى صاحبها إذا جاء بعد تملكها وتلفها. وسيأتي مزيد لهذا في فقه الحديث. (قال: فضالة الغنم؟ ) مبتدأ خبره محذوف أو خبر لمبتدأ محذوف والفاء فصيحة في جواب شرط مقدر أي إذا كان هذا حكم لقطة الأشياء والنقود فما حكم لقطة ضالة الغنم؟ أي الغنم الضالة؟ وفي الرواية الخامسة "وسأله عن الشاة" أي عن الشاة الضالة؟ (قال: لك أو لأخيك أو للذئب) قال النووي: معناه الإذن في أخذها و"لك" خبر مبتدأ محذوف وفي الرواية الثانية والخامسة "خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب" كأنه قال: هي ضعيفة معرضة للهلاك مترددة بين أن تأخذها أنت أو أخوك في الإنسانية أعم من صاحبها أو ملتقط آخر والمراد بالذئب جنس ما يأكل الشاة من السباع ففيه حث له على أخذها لأنه إذا علم أنه إن لم يأخذها بقيت للذئب دفعه ذلك إلى أخذها. (قال: فضالة الإبل؟ ) أي ما حكم لقطة الإبل الضالة؟ (قال: مالك ولها؟ ) أي أي شيء لك معها؟ والاستفهام إنكاري بمعنى النفي أي لا شيء لك معها ولا شأن لك بها وفي الرواية الثانية "فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرت وجنتاه -أو احمر وجهه- ثم قال: مالك ولها" الوجنة ما ارتفع من الخدين وإنما غضب صلى الله عليه وسلم لكثرة أسئلة الرجل وفي الرواية الرابعة "فاحمار وجهه وجبينه وغضب". (معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها) المراد من سقائها كرشها فهي تملؤه مرة واحدة بحيث يكفيها أياما بدون حاجة للشرب والمراد من حذائها أخفافها فهي تقوى بأخفافها على السير الطويل وقطع الصحارى المترامية الأطراف التي لا ماء فيها فهي مستغنية عن الحفظ لها بما ركب في طباعها من الجلادة على العطش وتناول المأكول من غير تعب فلا تحتاج إلى ملتقط ثم هي ممتنعة من الذئاب وغيرها من صغار السباع التي كانت في صحارى العرب.

(خرجت أنا وزيد بن صوحان وسلمان بن ربيعة غازين) سويد بن غفلة بفتح الغين وفتح الفاء أبو أمية الجعفي تابعي كبير مخضرم أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وكان في زمنه رجلا ولم يره على الصحيح وأعطى الصدقة وقيل: إنه صلى خلفه ولم يثبت وإنما قدم المدينة حين نفضوا أيديهم من دفنه صلى الله عليه وسلم ثم شهد الفتوح ونزل الكوفة ومات بها سنة ثمانين أو بعدها وله مائة وثلاثون سنة أو أكثر. أما زيد بن صوحان -بضم الصاد- العبدي فتابعي كبير مخضرم أيضا وزعم الكلبي أن له صحبة وكان قدومه في عهد عمر وقتل يوم الجمل في صفوف علي رضي الله عنهم. وأما سلمان بن ربيعة الباهلي فيقال: إن له صحبة ويقال له: سليمان الخيل لخبرته بها وكان أميرا على بعض المغازي في فتوح العراق في عهد عمر وعثمان وكان أول من ولي قضاء الكوفة واستشهد في خلافة عثمان في فتوح العراق. (فأبيت عليهما) أي امتنعت عن تنفيذ رأيهما. (قال شعبة: فلقيته بعد ذلك بمكة فقال: لا أدري: بثلاثة أحوال؟ أو حول واحد؟ ) أصل الإسناد عند مسلم: وحدثني أبو بكر بن نافع -واللفظ له- حدثنا غندر -حدثنا شعبة عن سلمة ابن كهيل قال: سمعت سويد بن غفلة .. الحديث وقد بينت إحدى روايات مسلم أن القائل: فلقيته هو شعبة وأنه لقى شيخه سلمة ابن كهيل فالشك من سلمة وأغرب بعض العلماء فقال: إن الشك من أبي بن كعب والقائل هو سويد بن غفلة وقد رواه غير شعبة عن سلمة ابن كهيل بغير شك جماعة كلهم قالوا في حديثهم ثلاثة أحوال إلا حماد بن سلمة فإن في حديثه "عامين أو ثلاثة" وقد حاول بعض العلماء الجمع والتوجيه وسيأتي في فقه الحديث وفي ملحق الرواية الثامنة "قال شعبة: فسمعته بعد عشر سنين يقول عرفها عاما واحدا" وفي رواية "عامين أو ثلاثة" والرواية التي في الأصل "بثلاثة أحوال أو حول واحد" بالجر وتقديرها: لا أدري. أمر بثلاثة أعوام؟ أو بعام واحد. ورواية البخاري "لا أدري. ثلاثة أحوال؟ أو حولا واحدا" بالنصب وهو ظاهر. (وإلا فهي كسبيل مالك) أي وإن لم يجيء صاحبها فطريقها طريق ما تملك. (نهى عن لقطة الحاج) أي عن التقاط ما ضاع من الحاج في الحرم قال النووي: يعني نهى عن التقاطها للتملك وأما التقاطها للحفظ فقط فلا مانع منه وقد أوضح هذا صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر "ولا تحل لقطتها إلا لمنشد" وقد سبقت المسألة مبسوطة في آخر كتاب الحج. (من أوى ضالة فهو ضال ما لم يعرفها) قال النووي: يجوز أن يكون المراد بالضالة هنا ضالة الإبل ونحوها مما لا يجوز التقاطها للتملك بل إنها تلتقط للحفظ على صاحبها فيكون معناه: من آوى ضالة فهو ضال ما لم يعرفها أبدا ولا يتملكها والمراد بالضال المفارق للصواب.

-[فقه الحديث]- يتعلق باللقطة وهذه الأحاديث مسائل فقهية: الأولى: حكم أخذ اللقطة من مكان وجودها وفي ذلك يقول النووي: فيه مذاهب عند أصحابنا الشافعية أصحها أنه مستحب ولا يجب. والثاني: يجب والثالث: إن كانت اللقطة في موضع يأمن عليها إذا تركها استحب الأخذ وإلا وجب. اهـ. والذي تستريح إليه النفس أنه إن كان الملتقط معرضا للهلاك أو الفساد أو الإفساد وكان هذا الشخص متعينا أو نادرا ما يمر غيره وجب أخذها لأن الله لا يحب المفسدين وإن كان الملتقط آمنا مأمونا يغلب على الظن عودة صاحبه إليه فلا يجوز أخذها وإن كان غير ذلك جاز أو استحب حسب ظروف الملتقط والآخذ والصاحب. النقطة أو المسألة الثانية: التعريف قالوا: إذا أخذها وجب عليه أن يعرفها سنة على الأقل بإجماع المسلمين إذا كانت اللقطة ليست تافهة ولا في معنى التافهة ولم يرد حفظها على صاحبها بل أراد تملكها قال النووي: ولا بد من تعريفها سنة بالإجماع فأما إذا لم يرد تملكها بل أراد حفظها على صاحبها فهل يلزمه التعريف؟ فيه وجهان لأصحابنا: أحدهما لا يلزمه بل إن جاء صاحبها وأثبتها دفعها إليه وإلا دام حفظها والثاني: وهو الأصح: أنه يلزمه التعريف لئلا تضيع على صاحبها فإنه لا يعلم أين هي؟ حتى يطلبها فوجب تعريفها. اهـ. ولعل القول الأول يعتمد على أن صاحبها سينشدها وسيعلن عنها فهو أحق بالبحث عنها ممن وجدها. وأما الشيء الحقير فيجب تعريفه زمنا يظن أن فاقده لا يطلبه في العادة أكثر من ذلك الزمان وفي حديث أبي بن كعب روايتنا الثامنة أنه صلى الله عليه وسلم أمر بتعريفها ثلاث سنين وفي رواية سنة وفي رواية أن الراوي شك قال: لا أدري؟ أقال حولا أو ثلاثة أحوال وفي رواية "عامين أو ثلاثة" قال القاضي عياض: قيل في الجمع بين الروايات قولان. أحدهما: أن يطرح الشك والزيادة ويكون المراد سنة في رواية الشك وترد الزيادة لمخالفتها باقي الأحاديث والثاني أنهما قضيتان فروايات زيد في التعريف سنة محمولة على أقل ما يجزئ ورواية أبي بن كعب "ثلاث سنين" محمولة على الورع وزيادة الفضيلة. قال: وقد أجمع العلماء على الاكتفاء بتعريف سنة ولم يشترط أحد تعريف ثلاثة أعوام إلا ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولعله لم يثبت عنه وقد يحمل ذلك على عظم اللقطة وحقارتها وجزم ابن حزم وابن الجوزي بأن هذه الزيادة غلط قال: والذي يظهر أن سلمة أخطأ فيها ثم تثبت واستذكر واستمر على عام واحد ولا يؤخذ إلا بما لا يشك فيه راويه وقال ابن الجوزي: يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم عرف أن تعريف أبي لم يقع على الوجه الذي ينبغي فأمره بإعادة التعريف كما قال للمسيئ صلاته "ارجع فصل فإنك لم تصل" قال الحافظ ابن حجر: ولا يخفى بعد هذا على مثل أبي مع كونه من فقهاء الصحابة وفضلائهم وقد حكى صاحب الهداية من الحنفية رواية عندهم أن

الأمر في التعريف مفوض لأمر الملتقط فعليه أن يعرفها إلى أن يغلب على ظنه أن صاحبها لا يطلبها بعد ذلك. المسألة الثالثة: إذا جاء صاحبها أثناء مدة التعريف قال النووي: قال أصحابنا: إذا عرفها فجاء صاحبها في أثناء مدة التعريف فأثبت أنه صاحبها أخذها بزيادتها المتصلة والمنفصلة فالمتصلة كالزيادة في الوزن والشحم في الحيوان وتعليم الحرث والسقي وتدريب الفرس ونحو ذلك والمنفصلة كالولد واللبن والصوف ونحو ذلك. اهـ. وللملتقط أن يطالب صاحبها بما أنفقه عليها. فإذا جاء من يدعيها ولم يصدقه الملتقط لم يجز له دفعها إليه وإن صدقه جاز له الدفع إليه ولا يلزمه إلا أن يقيم البينة فيجبر على تسليمها كذا عند الشافعي وأبي حنيفة وذهب مالك وأحمد إلى وجوب تسليمها لمن جاء فأخبر بأوصافها عملا بظاهر ملحق روايتنا الثامنة ولفظه "فإن جاء أحد يخبرك بعددها ووعائها ووكائها فأعطها إياه" وظاهر روايتنا الخامسة ولفظها "فإن جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه". أي فإن جاء من وصفها فأصاب أو أقام البينة فادفعها إليه فإن جاء آخر فوصفها فأصاب أو أقام بينة أخرى ففي ذلك تفاصيل في المذاهب الفقهية. وقال بعض متأخري الشافعية: يمكن أن يحمل وجوب الدفع لمن أصاب الوصف على ما إذا كان ذلك قبل التملك لأنه حينئذ مال ضائع لم يتعلق به حق ثان بخلاف ما بعد التملك فإنه حينئذ يحتاج المدعي إلى البينة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم "البينة على المدعي". المسألة الرابعة: إذا لم يجيء صاحبها بعد تعريفها سنة فهي لمن وجدها غنيا كان أو فقيرا له أن يتملكها وله أن يديم حفظها لصاحبها فإن أراد تملكها فقد قال جمهور الشافعية: لا يملكها إلا بلفظ التملك بأن يقول: تملكتها أو اخترت تملكها وقال بعضهم: لا يملكها إلا بالتصرف فيها بالبيع ونحوه وقال بعضهم: يكفيه نية التملك ولا يحتاج إلى لفظ وقيل: يملكها بمجرد مضي السنة. فإذا تملكها ولم يظهر لها صاحب فلا شيء عليه بل هو كسب طيب لا مطالبة عليه به في الآخرة وإن جاء صاحبها بعد تملكها أخذها بزيادتها المتصلة دون المنفصلة فإن كانت قد تلفت بعد التملك لزم الملتقط بدلها عندنا وعند الجمهور كذا قال النووي. وقال الحافظ ابن حجر: اختلف العلماء فيما إذا تصرف في اللقطة بعد تعريفها سنة ثم جاء صاحبها هل يضمنها له؟ أم لا؟ فالجمهور على وجوب الرد إن كانت العين موجودة أو البدل إن كانت استهلكت وخالف في ذلك بعض الشافعية وداود الظاهري. واحتج الجمهور بروايتنا الثانية وفيها "عرفها سنة ثم اعرف وكاءها وعفاصها ثم استنفق بها فإن جاء ربها فأدها إليه" وروايتنا الرابعة ولفظها "ثم عرفها سنة فإن لم يجيء صاحبها كانت وديعة عندك" والخامسة ولفظها "ثم عرفها سنة فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك فإن جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه" والسابعة ولفظها "عرفها سنة فإن لم تعترف فاعرف عفاصها

ووكاءها ثم كلها فإن جاء صاحبها فأدها إليه" فهذه الروايات تدل على وجوب ردها لصاحبها إذا جاء قبل التصرف فيها أو بعده والأمر بردها بعد الأمر بأكلها ظاهر في وجوب رد البدل. وقد يحتج لداود ومن قال بقوله بروايتنا الأولى ولفظها "وإلا فشأنك بها" وروايتنا السادسة ولفظها "وإلا فهي لك" وملحق روايتنا الثامنة ولفظه "وإلا فهي كسبيل مالك" وبقوله عن الغنم "هي لك أو لأخيك أو للذئب" فتمسك به مالك في أنه يملكها بالأخذ ولا يلزمه غرامة ولو جاء صاحبها لأنه سوى بين الذئب والملتقط والذئب لا غرامة عليه فكذلك الملتقط وأجيب بأن اللام ليست للتمليك لأن الذئب لا يملك وإنما يملكها الملتقط بعد التعريف على شرط ضمانها. فيصبح الفرق بين سنة التعريف وما بعد سنة التعريف أن سنة التعريف لا يجوز له أن يتصرف في اللقطة مطلقا إلا إذا تعرضت للفساد وهو ضامن على كل حال أما بعد سنة التعريف فشأنه بها والتصرف فيها وهي كسبيل ماله وهي له تصرفا مع الضمان". المسألة الخامسة: جاء أن عثمان بن عفان وعليا رضي الله عنهما أمرا بالتقاط ضالة الإبل وأنهما بذلك خالفا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم والحق أنهما أمرا بذلك حين أصبحت الإبل الضالة غير آمنة إذ اتسعت رقعة البلاد الإسلامية وداخلهم غير المسلمين واللصوص وكثر الخطف والسرقة حتى للإبل غير الضالة فكان الأمر بالتقاطها أمرا بحفظها لصاحبها وهو مفهوم الأحاديث دون أية مخالفة لها فالحكمة والعلة في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتركها وعدم التقاطها أنها ممتنعة مأمونة محفوظة لصاحبها حتى يجدها فتغير الوضع في عهد عثمان وأصبحت غير آمنة فتغير الحكم وعمل بلفظ الحديث في حالة أمنها وعمل بمفهوم الحديث في حالة عدم أمنها فتحقق العمل بالحديث في الحالين لأن مؤداه. لا تلتقطها مادامت آمنة ومفهومه: التقطها مادامت غير آمنة. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - استدل بعضهم بالرواية الثانية على جواز الحكم والفتوى وقت الغضب دون كراهة وقيل: إن ذلك من خصوصياته صلى الله عليه وسلم فإن غضبه صلى الله عليه وسلم لا يخرجه عن الحق بخلاف غيره فيكره له الحكم في حال الغضب وإن كان نافذا كما سبق قريبا. 2 - جواز قول كلمة "رب" في مثل رب المال ورب المتاع ورب الماشية بمعنى صاحبها الآدمي قال النووي: وهذا هو الصحيح الذي عليه جماهير العلماء ومنهم من كره إضافته إلى ما له روح دون المال والدار ونحوه وهذا غلط لقوله صلى الله عليه وسلم "فإن جاء ربها فأدها إليه" و"حتى يلقاها ربها" ونظائر ذلك كثيرة. 3 - قال النووي: في قوله "من آوى ضالة فهو ضال ما لم يعرفها" دليل للمذهب المختار أنه يلزمه تعريف اللقطة مطلقا سواء أراد تملكها أو حفظها على صاحبها وهذا هو الصحيح. 4 - يؤخذ من أحاديث الباب أن التقاط اللقطة وتملكها لا يفتقر إلى حكم حاكم ولا إلى إذن السلطان وهذا مجمع عليه.

5 - ويؤخذ من عمومها وإطلاقها أنه لا فرق فيها بين الغني والفقير وهذا مذهب الشافعية ومذهب الجمهور. 6 - استدل بقوله "فإن لم يجيء صاحبها كانت وديعة عندك" في روايتنا الرابعة أنها لو تلفت لم يكن عليه ضمانها وهو اختيار البخاري تبعا لجماعة من السلف وقد سبق تفصيل القول فيه. 7 - استدل بروايتنا التاسعة أن لقطة مكة لا تلتقط للتمليك بل للتعريف خاصة وهو قول الجمهور وإنما اختصت بذلك عندهم لإمكان إيصالها إلى ربها لأنها إن كانت للمكي فظاهر وإن كانت للأفاقي فلا يخلو أفق غالبا من وارد إليها فإذا عرفها واجدها كل عام سهل التوصل إلى معرفة صاحبها وقال أكثر المالكية وبعض الشافعية: هي كغيرها من البلاد وإنما تختص مكة بالمبالغة في التعريف لأن الحاج يرجع إلى بلده وقد لا يعود فاحتاج الملتقط بها إلى المبالغة في التعريف. والله أعلم.

(465) باب تحريم حلب الماشية بدون إذن صاحبها

(465) باب تحريم حلب الماشية بدون إذن صاحبها 3961 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر خزانته فينتقل طعامه؟ إنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه". 3962 - -/- وفي رواية عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث مالك غير أن في حديثهم جميعا "فينتثل" إلا الليث بن سعد فإن في حديثه "فينتقل طعامه" كرواية مالك. -[المعنى العام]- مظهر ثالث من مظاهر المحافظة على أموال الناس فقد حرم على الخصوم أن يستولى أحدهم على مال الغير عن طريق القضاء وحدد طريقة حفظ الملتقط للمال الضائع وها هو في هذا الحديث يحفظ اللبن في ضروع المواشي من أن يستولى عليه أحد من غير إذن صاحبه. لقد كانت المواشي ترعى قطعانا في الكلأ المباح منطلقة في نباتات الأرض المباحة وكان الناس يقطعون الفيافي والقفار على أقدامهم يمرون بتلك المواشي وهم جياع وعطاشى ومن يملك إبلا أو بقرا أو غنما كثيرات يكفيه لبن بعض ما يملك فرخصت الشريعة لابن السبيل والمحتاج أن يشرب حاجته من لبن هذه المواشي إن لم يجد صاحبها ولم يجد راعيها يشرب قدر الحاجة ولا يحمل فلما استغنى ابن السبيل بحمل زاده وشحت النفوس نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلب أحد ماشية أحد بغير إذنه وشبه اللبن في الضرع بالحب في المخازن وكما لا يجوز لأحد أن يكسر خزانة أحد ويستولى على ما فيها من طعام لا يجوز لأحد أن يحلب ماشية أحد بدون إذنه. -[المباحث العربية]- (لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه) "لا يحلبن" بفتح الياء وضم اللام بينهما حاء ساكنة وفي رواية "لا يحتلبن" بزيادة التاء وكسر اللام وفي رواية البخاري "لا تحتلب ماشية أحد" بالبناء

للمجهول وفي رواية له "لا يحلبن أحد ماشية امرئ بغير إذنه" وفي رواية عند أحمد "نهى أن يحتلب مواشي الناس إلا بإذنهم" والماشية تقع على الإبل والبقر والغنم ولكنه في الغنم يقع أكثر. (أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته؟ ) بضم الراء وقد تفتح أي غرفته وبفتح الراء مكان شربه. (فتكسر خزانته؟ ) بكسر الخاء المكان أو الوعاء الذي يخزن فيه ما يراد حفظه وفي رواية أحمد "فيكسر بابها". (فينتقل طعامه؟ ) بضم الياء وسكون النون وفتح التاء والقاف أي يحول من مكان إلى آخر وفي رواية "فينتثل" بالثاء بدل القاف والنثل النثر مرة واحدة وبسرعة وقيل: الاستخراج وهو أخص من النقل. (وإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم) "تخزن" بفتح التاء وسكون الخاء وضم الزاي وفي رواية "تحرز" بضم التاء وسكون الحاء وكسر الراء والضروع جمع ضرع وهو للبهائم كالثدي للمرأة. وفي رواية للبخاري "أطعماتهم" جمع أطعمة والأطعمة جمع طعام والمراد به هنا اللبن. ومعنى الحديث أنه صلى الله عليه وسلم شبه اللبن في الضرع بالطعام المخزون المحفوظ في الخزانة في أنه لا يحل أخذه بغير إذن مالكه. -[فقه الحديث]- ظاهر الحديث وصريحه النهي عن حلب الماشية بدون إذن صاحبها لكن أخرج أبو داود والترمذي وصححه "إذا أتى أحدكم على ماشية فإن لم يكن صاحبها فيها فليصوت ثلاثا فإن أجاب فليستأذنه فإن أذن له وإلا فليحلب وليشرب ولا يحمل" وأخرج ابن ماجه والطحاوي وصححه ابن حبان والحاكم "إذا أتيت على راع فناده ثلاثا فإن أجابك وإلا فاشرب من غير أن تفسد وإذا أتيت على حائط بستان ... " إلى آخر الحديث. أمام هذا التعارض بين حديثنا وهذه الأحاديث قال بعض العلماء: إن حديث النهي أصح فهو أولى بأن يعمل به وإن الأحاديث المعارضة لا يعمل بها ولا يلتفت إليها لأنها معارضة للقواعد الشرعية القطعية في تحريم مال المسلم بغير إذنه. ومن العلماء من حاول الجمع بين حديثنا وبينها فقال بعضهم: يحمل الإذن على ما إذا علم طيب نفس صاحبه ويحمل النهي على ما إذا لم يعلم. وقال بعضهم: أحاديث الإذن والشرب مخصوصة بابن السبيل دون غيره أو بالمضطر أو بحال المجاعة مطلقا وهذه التخصيصات متقاربة.

وقال ابن بطال: إن حديث الإذن بالشرب كان في زمنه صلى الله عليه وسلم وحديث النهي أشار به إلى ما سيكون بعده من التشاح وترك المواساة. وقال بعضهم: حديث النهي محمول على ما إذا كان المالك أحوج من المار لحديث أبي هريرة "بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر إذ رأينا إبلا مصرورة -أي مملوء ضرعها باللبن- فابتدرها القوم ليحلبوها فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هذه الإبل لأهل بيت من المسلمين هو قوتهم أيسركم لو رجعتم إلى مزاودكم فوجدتم ما فيها قد ذهب؟ قالوا: لا. قال: فإن ذلك كذلك" قالوا: فيحمل حديث الإذن بالحلب على ما إذا لم يكن المالك محتاجا ويحمل حديث النهي على ما إذا كان المالك محتاجا. وقال بعضهم: يقصر الإذن بالشرب على ماشية أهل الذمة ويحمل النهي على ما كان للمسلمين واستؤنس لهذا القول بما شرطه بعض الصحابة على أهل الذمة من ضيافة المسلمين وصح ذلك عن عمر لكن جاء عن مالك في المسافر ينزل بالذمي قال: لا يأخذ منه شيئا إلا بإذنه قيل له: فالضيافة التي جعلت عليهم؟ قال: كانوا يومئذ يخفف عنهم بسببها وأما الآن فلا. وجنح بعضهم إلى نسخ الإذن وحملوه على أنه كان قبل إيجاب الزكاة قالوا: وكانت الضيافة واجبة حينئذ ثم نسخ ذلك بفرض الزكاة. واختار ابن العربي الحمل على العادة قال: وكانت عادة أهل الحجاز والشام وغيرهم المسامحة في ذلك بخلاف بلدنا. وقال النووي: في شرح المهذب: اختلف العلماء فيمن مر ببستان أو زرع أو ماشية: قال الجمهور: لا يجوز أن يأخذ منه شيئا إلا في حال الضرورة فيأخذ ويغرم عند الشافعي والجمهور وقال بعض السلف: لا يلزمه شيء وقال أحمد إذا لم يكن على البستان حائط جاز له الأكل من الفاكهة الرطبة في أصح الروايتين ولو لم يحتج لذلك وفي الرواية الأخرى إذا احتاج ولا ضمان عليه في الحالين. وعلق الشافعي القول بذلك على صحة حديث "إذا مر أحدكم بحائط فليأكل ولا يتخذ خبيئة" قال الحافظ ابن حجر: والحديث بمجموع طرقه لا يقصر عن درجة الصحيح وقد احتجوا في كثير من الأحكام بما هو دونه. اهـ. قلت: الاحتجاج بما دونه في كثير من الأحكام حيث لا يوجد غيره شيء وكونه معارضا بحديث صحيح أقوى منه شيء آخر. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - ضرب الأمثال للتقريب للأفهام وتمثيل ما قد يخفى بما هو أوضح منه 2 - واستعمال القياس في النظائر. 3 - وفيه ذكر الحكم بعلته وإعادته بعد ذكر العلة تأكيدا وتقريرا.

4 - وأن القياس لا يشترط في صحته مساواة الفرع للأصل بكل اعتبار بل ربما كان للأصل مزية لا يضر سقوطها في الفرع إذا تشاركا في أصل الصفة لأن الضرع لا يساوي الخزانة في الحرز كما أن الصر لا يساوي القفل فيه ومع ذلك فقد ألحق الشارع الضرع المصرور في الحكم بالخزانة المقفلة في تحريم تناول كل منهما بغير إذن صاحبه أشار إلى ذلك ابن المنير. 5 - وفيه إباحة خزن الطعام واحتكاره إلى وقت الحاجة إليه خلافا لغلاة المتزهدة المانعين من الادخار مطلقا قاله القرطبي. 6 - وفيه أن اللبن يسمى طعاما فيحنث من حلف لا يتناول طعاما إلا أن يكون له نية في إخراج اللبن. قاله النووي. 7 - قال النووي: وفيه أن بيع لبن الشاة بشاة في ضرعها لبن باطل وبه قال الشافعي والجمهور وأجازه الأوزاعي. اهـ. وهذا المأخذ غير واضح. 8 - وفيه كما قال النووي: تحريم أخذ مال الإنسان بغير إذنه والأكل منه والتصرف فيه وأنه لا فرق بين اللبن وغيره وسواء المحتاج وغيره إلا المضطر الذي لا يجد ميتة ويجد طعاما لغيره فيأكل الطعام للضرورة ويلزمه بدله لمالكه عندنا وعند الجمهور وقال بعض السلف وبعض المحدثين: لا يلزمه وهذا ضعيف فإن وجد ميتة وطعاما لغيره ففيه خلاف مشهور للعلماء وفي مذهبنا الأصح عندنا أكل الميتة أما غير المضطر إذا كان له إدلال على صاحب اللبن أو غيره من الطعام بحيث يعلم أو يظن أن نفسه تطيب بأكله منه بغير إذنه فله الأكل بغير إذنه وأما شرب النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وهما قاصدان المدينة في الهجرة من لبن غنم الراعي فيحتمل أنهما شرباه إدلالا على صاحبه لأنهما كانا يعرفانه أو أنه أذن للراعي أن يسقي منه من مر به أو أنه كان عرفهم إباحة ذلك أو أنه مال حربي لا أمان له. والله أعلم.

(466) باب الضيافة ونحوها

(466) باب الضيافة ونحوها 3963 - عن أبي شريح العدوي رضي الله عنه أنه قال: سمعت أذناي وأبصرت عيناي حين تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته" قالوا: وما جائزته؟ يا رسول الله؟ قال "يومه وليلته. والضيافة ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه" وقال "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت". 3964 - عن أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الضيافة ثلاثة أيام وجائزته يوم وليلة. ولا يحل لرجل مسلم أن يقيم عند أخيه حتى يؤثمه" قالوا: يا رسول الله وكيف يؤثمه؟ قال "يقيم عنده ولا شيء له يقريه به". 3965 - عن أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه قال: سمعت أذناي وبصر عيني ووعاه قلبي حين تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر بمثل حديث الليث وذكر فيه "ولا يحل لأحدكم أن يقيم عند أخيه حتى يؤثمه" بمثل ما في حديث وكيع. 3966 - عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه قال: قلنا: يا رسول الله إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقروننا فما ترى؟ فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم". -[المعنى العام]- إكرام الضيف وإتحافه والاحتفاء به من أخلاق الإنسانية المحمودة وبها جاءت الشرائع وقد مدح الله إبراهيم عليه السلام بإكرامه ضيفه فقال {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين* ... *فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين* فقربه إليهم ... } [الذاريات: 24 وما بعدها] وكانت العرب تعتز بهذا الخلق وتفخر به وتبالغ فيه حتى قال قائلهم لعبده وخادمه:

أوقد فإن الليل ليل قر ... والريح يا غلام ريح صر لعل أن يبصرها المعتر ... إن جلبت ضيفا فأنت حر وللضيافة آداب للنازل وآداب للمنزول به بسطناها في كتاب الإيمان وحاصلها أن لا يحرج أحدهما الآخر فالهدف الإسلامي هو ترابط المجتمع وتعاطف أفراده ليكون المسلمان كمثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى. وفي القرآن الكريم آية تعرف بآية الثقلاء تعيب على الضيف أن يكون ثقيلا على صاحب البيت يقول تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق} [الأحزاب: 53]. إن على الضيف أن لا يلجأ للضيافة إلا عند الحاجة أو عند الرغبة في الترابط بين الزائر والمزور لله وفي الله وعلى صاحب البيت كذلك أن يستفيد من الضيافة دنيويا وأخرويا. وبذلك تحقق الضيافة هدفها ويحقق الإسلام أن يكون أبناؤه كالجسد الواحد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. -[المباحث العربية]- (سمعت أذناي وأبصرت عيناي حين تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم) مفعول "سمعت" و"أبصرت" محذوف والتقدير: سمعت أذناي صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تكلم وهاتان العبارتان تذكران كثيرا قبل الأحاديث لتوثيق الراوي من روايته وتستعملان بكثرة في الكلام العربي. سمعته بأذني هاتين. رأيته بعيني هاتين. (فقال) الفاء تفسيرية و"قال" وما بعدها تفسير لقوله "تكلم". (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر) ذكر المبدأ والنهاية كناية عن الكل كقولنا: باع ما أمامه وما خلفه وقولنا: هو الأول والآخر وذكر هذه العبارة قبل الأوامر والنواهي للإثارة وإلهاب العزائم للاستجابة كقولنا: يا ابن الرجل الصالح افعل كذا والمعنى يا من تتحلى بصفة الإيمان بالله وباليوم الآخر وما بين ذلك من لوازم الإسلام أكرم ضيفك. قال الطوخي: ظاهر الحديث انتفاء الإيمان عمن لا يكرم ضيفه وليس مرادا بل أريد المبالغة كما يقول القائل: إن كنت ابني فأطعني -تهييجا له على الطاعة لا أنه بانتفاء طاعته ينتفي أنه ابنه. (فليكرم ضيفه جائزته) لفظ "ضيف" يطلق على الواحد وعلى الجمع وجمع القلة أضياف وجمع الكثرة ضيوف وضيفان قال تعالى {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم

المكرمين* إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما} [الذاريات: 24 وما بعدها] " فضيف فلان معناه أضيافه. و"جائزته" بدل أي يكرم جائزته والجائزة في الأصل ما يجوز به المسافر ويحمله ويكفيه من مكان إلى مكان وتطلق على العطية. وفي الرواية الثانية "جائزته يوم وليلة" وفي الرواية الأولى "قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: يومه وليلته" والمعنى فليكرمه يوما وليلة. (والضيافة ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه) قال ابن بطال: سئل عنه مالك فقال: يكرمه ويتحفه يوما وليلة وثلاثة أيام ضيافة واختلفوا هل الثلاثة غير اليوم الأول؟ أو به فقال أبو عبيد: يتكلف له في اليوم الأول بالبر والإلطاف وفي الثاني والثالث يقدم له ما حضره ولا يزيده على عادته ثم يعطيه ما يجوز به مسافة يوم وليلة وقال الخطابي: معناه أنه إذا نزل به الضيف أن يتحفه ويزيده في البر على ما في حضرته يوما وليلة وفي اليومين الأخيرين يقدم له ما يحضره فإذا مضى الثلاث فقد قضى حقه فما زاد عليها مما يقدمه له يكون صدقة قال الحافظ ابن حجر: وقد وقع عند مسلم (روايتنا الثانية) بلفظ "الضيافة ثلاثة أيام وجائزته يوم وليلة" وهذا يدل على المغايرة ويؤيده ما قال أبو عبيد. (ولا يحل لرجل مسلم أن يقيم عند أخيه حتى يؤثمه) وفي ملحق الرواية "ولا يحل لأحدكم أن يقيم عند أخيه حتى يؤثمه" وعند البخاري "ولا يحل له أن يثوي عنده يحرجه" يقال: ثوى يثوي أي أقام يقيم بفتح الواو في الماضي وكسرها في المضارع ومعنى "حتى يؤثمه" حتى يوقعه في الإثم لأنه قد يغتابه لطول مقامه أو يعرض بما يؤذيه أو يظن به ظنا سيئا وهذا معنى "حتى يحرجه". (يقيم عنده ولا شيء له يقريه به) "يقريه" بفتح الياء يقال: قريت الضيف أقريه قرى وقرى الضيف ما يقدم له. (إنك تبعثنا) البعوث التي تدعو إلى الإسلام. (فننزل بقوم) ضيوفا. (فلا يقروننا) بفتح الياء وفي رواية "لا يقرونا" بنون واحدة ومنهم من شددها وفي رواية الترمذي "فلا هم يضيفوننا ولا هم يؤدون ما لنا من الحق". (فما ترى؟ ) أي فما رأيك فيهم؟ يقال: رآه رأيا أي اعتقده والمعنى أخبرنا عن حكم ضيافتهم لنا وفي رواية البخاري "فما ترى فيه" أي في عدم قراهم لنا. (إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا) وفي رواية البخاري "فأمر لكم". (فإن لم يفعلوا) في رواية للبخاري "فإن أبوا".

(فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم) وفي رواية البخاري "فخذوا منهم" أي من مالهم. وسيأتي الكلام عن حق الضيف في فقه الحديث وقال: "الذي ينبغي لهم" ولم يقل: لكم لأن الضيافة على قدر سعة المنزول عليه لا على قدر النازل. -[فقه الحديث]- ظاهر الرواية الثالثة أن قرى الضيف واجب يوما وليلة وأن المنزول عليه لو امتنع من الضيافة أخذت منه قهرا وبهذا قال الليث مطلقا وخصه أحمد بأهل البوادي لأن النازل بهم لا يجد من يبيعه طعاما أو شرابا غالبا. بخلاف أهل القرى والمدن وفي رواية خصه بأهل البوادي والقرى دون أهل المدن. وقال الشافعي ومالك وأبو حنيفة والجمهور: هي سنة ليست بواجبة واهتمام الأحاديث بها لعظم موقعها وأنها من متأكدات مكارم الأخلاق كحديث "غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم" أي متأكد الاستحباب. ووجه الجمهور حديث حق الضيف وأجابوا عن ظاهر روايتنا الثالثة بأجوبة: أحدها: حمل الحديث على المضطرين فإن ضيافتهم واجبة فإن لم يضيفوهم فلهم أن يأخذوا حاجتهم من مال الممتنعين ثم اختلفوا هل يلزم المضطر العوض أم لا؟ ثانيها: أن ذلك كان أول الإسلام وكانت المواساة واجبة فلما فتحت الفتوح نسخ ذلك ويدل على نسخه قوله "جائزته يوم وليلة" والجائزة تفضل لا واجبة قال الحافظ ابن حجر: وهذا ضعيف لاحتمال أن يراد بالتفضل تمام اليوم والليلة لا أصل الضيافة وفي حديث المقدام بن معد يكرب مرفوعا "أيما رجل ضاف قوما فأصبح الضيف محروما فإن نصره حق على كل مسلم حتى يأخذ بقرى ليلته من زرعه وماله" أخرجه أبو داود وهو محمول على ما إذا لم يظفر منه بشيء. ثالثها: أنه مخصوص بالعمال المبعوثين لقبض الصدقات من جهة الإمام فكان على المبعوث إليهم إنزالهم في مقابلة عملهم الذي يتولونه لأنه لا قيام لهم إلا بذلك حكاه الخطابي وقال: وكان هذا في ذلك الزمان إذ لم يكن للمسلمين بيت مال فأما اليوم فأرزاق العمال من بيت المال قال: وإلى هذا نحا أبو يوسف في الضيافة على أهل نجران خاصة وتعقب بأن في رواية الترمذي "إنا نمر بقوم". رابعها: أنه خاص بأهل الذمة وقد شرط عمر حين ضرب الجزية على نصارى الشام ضيافة من نزل بهم وتعقب بأنه تخصيص يحتاج إلى دليل خاص ولا حجة لذلك فيما صنعه عمر لأنه متأخر عن زمان السؤال.

خامسها: تأويل المأخوذ فحكي عن بعضهم أن المراد أن لكم أن تأخذوا من أعراضهم بألسنتكم وتذكروا للناس عيوبهم وتعقب بأن الأخذ من العرض وذكر العيب ندب في الشرع إلى تركه لا إلى فعله. قال الحافظ ابن حجر: وأقوى الأجوبة الأول. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - التنفير من إقامة الضيف فوق ثلاث إذ عبر عن ذلك بأنه صدقة ونفي عنه الحل في الرواية الثانية قال النووي: وهذا محمول على ما إذا أقام بعد الثلاث من غير استدعاء من المضيف أما إذا استدعاه وطلب منه زيادة إقامته أو علم أو ظن أنه لا يكره إقامته فلا بأس بالزيادة لأن النهي إنما كان لكونه يؤثمه وقد زال هذا المعنى والحالة هذه أما لو شك في حال المنزول به هل يكره الزيادة؟ ويلحقه بها حرج أم لا؟ لم تحل له الزيادة لظاهر الحديث. 2 - أنه ينبغي الإمساك عن الكلام الذي ليس فيه خير ولا شر لأنه مما لا يعنيه ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ولأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام وهذا موجود في العادة وكثير وقد سبق شرح ذلك مبسوطا في كتاب الإيمان. 3 - استدل بالرواية الثالثة على ما عرف بمسألة الظفر قصاص المظلوم من الظالم إذا وجد ماله. وبها قال الشافعي فجزم بجواز الأخذ فيما إذا لم يكن تحصيل الحق بالقاضي كأن يكون غريمه منكرا ولا بينة له فعند وجود الجنس يجوز للمظلوم أخذه إن ظفر به وإن لم يجد الجنس ووجد غيره أخذ من غيره بقدره ويجتهد في التقويم ولا يحيف فإن أمكن تحصيل الحق بالقاضي فالأصح عند أكثر الشافعية الجواز أيضا وعند المالكية الخلاف وجوزه الحنفية في المثلى دون المتقوم لما يخشى فيه من الحيف واتفقوا على أن محل الجواز في الأموال لا في العقوبات البدنية لكثرة الغوائل في ذلك ومحل الجواز في الأموال أيضا أن يأمن الغائلة والوقوع تحت طائلة القانون كأن يتهم بالسرقة ونحو ذلك. والله أعلم.

(467) باب استحباب المواساة بفضول المال واستحباب خلط الأزواد إذا قلت

(467) باب استحباب المواساة بفضول المال واستحباب خلط الأزواد إذا قلت 3967 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلة له. قال: فجعل يصرف بصره يمينا وشمالا: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له. ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له" قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل. 3968 - عن إياس بن سلمة عن أبيه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فأصابنا جهد حتى هممنا أن ننحر بعض ظهرنا فأمر نبي الله صلى الله عليه وسلم فجمعنا مزاودنا فبسطنا له نطعا فاجتمع زاد القوم على النطع. قال: فتطاولت لأحزره كم هو؟ فحزرته كربضة العنز ونحن أربع عشرة مائة. قال: فأكلنا حتى شبعنا جميعا ثم حشونا جربنا. فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم "فهل من وضوء؟ " قال: فجاء رجل بإداوة له فيها نطفة فأفرغها في قدح فتوضأنا كلنا ندغفقه دغفقة أربع عشرة مائة. قال: ثم جاء بعد ذلك ثمانية فقالوا هل من طهور؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فرغ الوضوء". -[المعنى العام]- صور من صور انتفاع المسلم بمال غيره صور من صور التكافل الاجتماعي ومواساة بعضه بعضا فبعد أن مرت بنا صور اللقطة وحفظ مال الغير ومحاولة إيصال الضائع منه إلى صاحبه ثم الانتفاع به بدلا من هلاكه وبعد أن مر بنا حماية مال الغير وعدم الاعتداء عليه إلا بإذن صاحبه حتى اللبن في ضرع الماشية السائمة التي تأكل في كلأ الله تعالى وبعد أن مر بنا مواساة الضيف وإكرامه يأتينا في هذين الحديثين الأمر بالمواساة بصفة عامة بالمال والطعام والشراب ووسيلة الانتقال يأتينا الأمر بمد مظلة الخير التي فتحها الله للمسلم أن يمدها إلى من حوله فالمال مال الله فما زاد عن حاجتك فللمحتاجين حق فيه "من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له" وهكذا كل من كان عنده فوق حاجته من أي نعمة فليقدم ذلك إلى من هو في حاجة إليه.

وكانت القدوة العملية والأسوة الحسنة في فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه. ففي شهر رجب سنة تسع من الهجرة وقبيل حجة الوداع بلغ المسلمين أن اليوم جمعوا جموعا لقتالهم فندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس لملاقاتهم وكان المسلمون في ضيق من العيش فاستعدوا بقليل الزاد الذي يملكون وجهز عثمان جزءا كبيرا من جيش العسرة لكنهم مع ذلك خرجوا في قلة من الظهر يتعاقب الأربعة منهم بعيرا والوقت صيف والحر شديد قطعوا مئات الأميال في اتجاه دمشق حتى وصلوا إلى موضع يسمى "تبوك" وقد بلغ بهم الجهد واشتد بهم العطش ولم يسعفهم ماء عين تبوك الناضبة فكانوا ينحرون البعير فيشربون ما في كرشه من الماء ونفذ طعام أكثرهم وأملقوا وأصابتهم مجاعة كبرى ولجأ بعضهم إلى النوى يمصه ويشرب عليه قليلا من الماء وذهب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنونه في ذبح ما تبقى لديهم من إبلهم التي يركبونها ولم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم منقذا من هذه الضائقة إلا أن يأذن لهم ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرا. ورأى عمر الناس يعقلون إبلهم لنحرها فقال لهم: ما شأنكم؟ قالوا: استأذنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في نحرها فأذن لنا فقال: وما بقاؤكم بعد إبلكم؟ أمسكوا حتى ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ودخل عمر فزعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما بقاء الناس بعد إبلهم؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنه يقول: وماذا ينقذ الناس من هذه الضائقة غير ذلك؟ وعمر يؤمن بمعجزات النبي صلى الله عليه وسلم ويطمع في رحمة الله بإنقاذ المسلمين على يد نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله لو جمعت ما بقي من أزواد القوم فدعوت الله عليه بالبركة لكان في ذلك خير. وسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرة الثانية إنه لم يكن يغيب عنه ما أشار به عمر بل كان يؤمن بأن الله لن يخيب رجاءه إذا رجاه ولكنه صلى الله عليه وسلم كان يقصد تعويد الأمة على الاعتماد على نواميس الحياة دون خوارق العادات أما وقد طلبت المعجزة -من عمر- فالطريق الموافقة عليها والاستجابة لطالبها. فقال صلى الله عليه وسلم لعمر: ناد في الناس فليأتوا ببقايا أطعمتهم ثم مد فراش الطعام على الأرض ليلقوا عليه ما جاءوا به. جاء بعضهم بما يملأ الكف من الذرة وجاء بعضهم بما يملأ الكف من الشعير والآخر يلقي ما يملأ الكف من القمح والآخر يلقي ما يملأ الكف من التمر والآخر يلقي كسرة خبز حتى ألقى بعضهم بعض النوى الذي كان يمصه ويشرب عليه الماء فاجتمع على الفراش قدر العنز الصغير فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا وبرك عليه ثم قال: خذوا بأيديكم وفي أوعيتكم فجعلوا يأخذون ويأكلون حتى شبعوا وكانوا أربعمائة وألفا وفضلت فضلة فقال خذوا في أوعيتكم فملئوا أوعيتهم ولم يتركوا في العسكر وعاء إلا ملئوه. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه سرورا بإكرام ربه له ولأمته ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يموت عبد وهو يشهد هاتين الشهادتين لا يشك فيهما إلا دخل الجنة.

-[المباحث العربية]- (بينما نحن في سفر إذ جاء رجل) "بينما" هي "بين" زيد عليها "ما" ظرف منصوب بمعنى "إذ" الفجائية والتقدير: فاجأنا رجل وقت وجودنا في سفر. (فجعل يصرف بصره يمينا وشمالا) قال النووي: هكذا وقع في بعض النسخ وفي بعضها "يصرف" فقط بحذف "بصره" وفي بعضها "يضرب" وفي رواية أبي داود "يصرف راحلته" والمعنى يتعرض للمساعدة من غير سؤال. (من كان معه فضل ظهر) من إضافة الصفة إلى الموصوف أي ظهر دابة فاضلة عن حاجته. (فليعد به على من لا ظهر له) على الرغم من أن الرجل جاء على راحلة رغب رسول الله صلى الله عليه وسلم في التصدق عليه بظهر يستعين به في حمل متاعه أو يبيعه فينتفع بثمنه أو هذه الدعوة عامة لا تخص الرجل توطئة لما يخصه. (ومن كان له فضل من زاد) زاد المسافر طعام وشراب ولباس وغطاء أي من كان عنده زاد فاضل عن حاجته. (فليعد به على من لا زاد له) أي فليرجع به وليأت به مرة بعد أخرى على من لا زاد له يقال: عاد يعود عودا وعيادة. (فذكر من أصناف المال ما ذكر) أي كأن قال: من كان معه فضل شاة فليعد به من كان معه فضل ذهب أو فضة فليعد به من كان معه فضل مسكن فليعد به ونحو ذلك. (حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل) رأى هنا ظنية والمعنى حتى ظننا أنه ليس لأحد منا حق في شيء فاضل عن حاجته وأن كل زائد عن الحاجة هو حق للفقير والمسكين وابن السبيل. (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة) الظاهر أنها غزوة تبوك وهي غزوة العسرة فقد ذكر مسلم الحديث برواية مشابهة في كتاب الإيمان باب زيادة فضلة الطعام ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم. (فأصابنا جهد) بفتح الجيم أي مشقة وفي رواية لمسلم في كتاب الإيمان "أصاب الناس مجاعة" وفي رواية له "فنفدت أزواد القوم" أي كادت تنفد أو نفدت أزواد أكثر القوم وفي رواية البخاري "خفت أزواد الناس وأملقوا". (حتى هممنا أن ننحر بعض ظهرنا) في رواية مسلم في كتاب الإيمان "حتى هم بنحر بعض حمائلهم" والحمائل الإبل يحمل عليها واحدها حمولة بفتح الحاء وروي "جمائلهم" بالجيم بدل الحاء جمع جمالة بكسرها جمع جمل وهو الذكر.

وفي رواية أخرى له "قالوا: يا رسول الله لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادهنا؟ -أي اتخذنا دهنا من شحومها- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: افعلوا". (فأمر نبي الله صلى الله عليه وسلم فجمعنا مزاودنا) الفاء في "فأمر" عاطفة على محذوف أظهرته رواية مسلم في كتاب الإيمان ولفظها "فجاء عمر فقال: يا رسول الله إن فعلت قل الظهر ولكن ادعهم بفضل أزوادهم ثم ادع الله لهم عليها بالبركة لعل الله أن يجعل في ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم". فأمر .. إلخ والمأمور به محذوف تقديره: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بجمع المزاود وفي رواية أخرى لمسلم "قال عمر: يا رسول الله لو جمعت ما بقي من أزواد القوم فدعوت الله عليها؟ قال: ففعل" أي فوافق على الفعل وفي رواية للبخاري "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ناد في الناس يأتون بفضل أزواد". (فجمعنا مزاودنا) قال النووي: هكذا هو في بعض النسخ أو أكثرها وفي بعضها "أزوادنا" والزاد يجمع على أزواد قياسا وأزودة على غير قياس والمزود بكسر الميم وسكون الزاي وفتح الواو وعاء الزاد وجمعه مزاود والمراد من جمع المزاود جمع ما فيها أو المعنى جمعنا مزاودنا فأفرغنا ما فيها. (فبسطنا له نطعا) "له" أي للرسول صلى الله عليه وسلم أو للشيء الذي في المزاود وهذا الخير أولى والنطع فيه أربع لغات مشهورة فتح الطاء وسكونها مع كسر النون وفتحها وهو ما يبسط على الأرض لوضع الطعام عليه وكان غالبه من خوص النخل وفي رواية لمسلم في كتاب الإيمان "فدعا بنطع فبسطه -أي أمر ببسطه- ثم دعا بفضل أزوادهم" ولعله أمر بالنداء في الناس ليجمعوا ما عندهم ثم بسط النطع ثم دعا بوضع فضل الأزواد عليه. (فاجتمع زاد القوم على النطع) وفي رواية لمسلم قال أبو هريرة: "فجاء ذو البر ببره وذو التمر بتمره وذو النواة بنواه قال مجاهد. قلت: وما كانوا يصنعون بالنوى؟ قال: كانوا يمصونه ويشربون عليه الماء". (قال -سلمة-: فتطاولت لأحزره. كم هو؟ ) أي رفعت رأسي ورقبتي ووقفت على أصابع قدمي لأرى الكومة وأقدر كميتها وأنا خلف بعض الناس يقال: حزر الشيء حزرا أي قدره بالتخمين، فهو حازر. (فحزرته كربضة العنز) أي فقدرته كمكان مبرك العنز أو كالعنز وهي رابضة وربضة بفتح الراء في الرواية كما قال القاضي وحكاه ابن دريد بكسرها وفي رواية لمسلم "فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة". (فأكلنا حتى شبعنا جميعا) أي الألف والأربعمائة رجل وفي رواية لمسلم "فأكلوا حتى شبعوا وفضلت فضلة" وفي رواية للبخاري "فدعا وبرك عليه ثم دعاهم بأوعيتهم فاحتثى الناس أي أخذوا حثية -حتى فرغوا" والظاهر أن بعضهم أخذ من الكومة بوعائه وبعضهم أخذ منها بكفيه فأكلوا حتى شبعوا.

(ثم حشونا جربنا) بضم الجيم وبضم الراء وإسكانها جمع جراب بكسر الجيم على المشهور ويقال بفتحها وفي رواية لمسلم "قال صلى الله عليه وسلم: خذوا في أوعيتكم قال: فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملئوه". (فهل من وضوء) سؤال عن الماء بعد أن حلت مشكلة الطعام والوضوء ما يتوضأ به وهو بفتح الواو على المشهور وحكي ضمها. (فجاء رجل بإداوة له فيها نطفة فأفرغها في قدح) الإداوة إناء صغير يحمل فيه الماء أشبه بما يعرف اليوم بالإبريق والنطفة الماء القليل الصافي والقدح إناء يشرب به الماء أشبه بما يعرف اليوم بطاس الماء والعامة تقول: طاسة. (فتوضأنا كلنا) منه معطوف على محذوف أي فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة. (ندغفقه دغفقة) أي نصبه صبا شديدا يقال: دغفق ماله أنفقه وفرقه وبذره. -[فقه الحديث]- قال النووي: في هذا الحديث معجزتان ظاهرتان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهما تكثير الطعام وتكثير الماء هذه الكثرة الظاهرة. قال المازري: في تحقيق المعجزة في هذا أنه كلما أكل منه جزء أو شرب جزء خلق الله تعالى جزءا آخر يخلفه وقيل: يحتمل أن يكون بتضعيف الأزواد وزيادة الكمية دفعة واحدة والأول أولى بالقبول حيث لم يتعرض الرواة لعظم الكمية ولو صح الاحتمال الثاني لقالوا مثلا: فكثر اليسير حتى صار مثل الجبل وقال: ومعجزات النبي صلى الله عليه وسلم ضربان أحدهما القرآن وهو منقول تواترا والثاني مثل تكثير الطعام والشراب ونحو ذلك وذلك فيه طريقان أحدهما أن تقول: تواترت الأخبار على المعنى كتواتر جود حاتم الطائي وحلم الأحنف بن قيس فإنه لا ينقل في ذلك قصة بعينها متواترة ولكن تكاثرت أفرادها بالآحاد حتى أفاد مجموعها تواتر الكرم والحلم وكذلك تواتر انخراق العادة للنبي صلى الله عليه وسلم بغير القرآن والطريق الثاني أن نقول: إذا روى الصحابي مثل هذا الأمر العجيب وأحال على حضوره فيه مع سائر الصحابة وهم يسمعون روايته ودعواه أو بلغهم ذلك ولا ينكرون عليه كان ذلك تصديقا له يوجب العلم بصحة ما قال. -[ويؤخذ من الأحاديث]- 1 - من الحديث الأول الحث على الصدقة والجود والمواساة والإحسان إلى الرفقة والأصحاب والاعتناء بمصالح الأصحاب. 2 - وأمر كبير القوم أصحابه بمواساة المحتاج. 3 - وأنه يكفي في فهم حاجة المحتاج عرضه للعطاء من غير سؤال.

4 - وفيه مواساة ابن السبيل والصدقة عليه إذا كان محتاجا وإن كان له راحلة وعليه ثياب أو كان موسرا في وطنه ولهذا يعطى من الزكاة في هذه الحال. 5 - ومن الحديث الثاني الشركة في الطعام والشراب وجواز أكل الشركاء بعضهم مع بعض بدون مساواة وليس هذا من الربا في شيء وإنما هو من نحو الإباحة وكل واحد مبيح لرفقته الأكل من طعامه سواء تحقق أن أحدا أكل أكثر من حصته أو دونها أو مثلها لكن يستحب لكل شريك الإيثار والتقلل وخاصة إن كان في الطعام قلة وقد اعترض على أخذ هذا الحكم من الحديث بأن الذي حصل جمع خاص للضرورة على أن الأكل لم يكن من الأزودة بل من الزيادة ولا حق لأحد فيها. 6 - وفيه حمل الزاد في السفر وفي الغزو وأنه ليس منافيا للتوكل. 7 - وحسن خلقه صلى الله عليه وسلم وإجابته إلى ما يلتمس منه أصحابه. 8 - وإجراؤهم وموافقتهم على العادة البشرية في الاحتياج إلى الزاد في السفر. 9 - وجواز المشورة على الإمام بالمصلحة وإن لم يتقدم منه الاستشارة. 10 - قال ابن بطال: استنبط منه بعض الفقهاء أنه يجوز للإمام في الغلاء إلزام من عنده ما يفضل عن قوته أن يخرجه للبيع لما في ذلك من صلاح الناس. والله أعلم.

كتاب الجهاد والسير

كتاب الجهاد والسير

(468) باب جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام

(468) باب جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام 3969 - عن ابن عون قال: كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال قال: فكتب إلي إنما كان ذلك في أول الإسلام قد أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون وأنعامهم تسقى على الماء فقتل مقاتلتهم وسبى سبيهم وأصاب يومئذ (قال يحيى أحسبه قال) جويرية (أو قال البتة) ابنة الحارث وحدثني هذا الحديث عبد الله بن عمر وكان في ذاك الجيش. 3970 - -/- وفي رواية عن ابن عون بهذا الإسناد مثله وقال: جويرية بنت الحارث ولم يشك. 3971 - وفي رواية عن سفيان قال: أملاه علينا إملاء. -[المعنى العام]- إن الجهاد في سبيل الله هدفه تبليغ الدعوة الإسلامية إلى الناس وتحقيق حريتهم في اختيار دينهم ولا إكراه في الدين بعد أن تبين الرشد من الغي إن الحكام كانوا يخدعون الرعية بمعسول القول أحيانا ويخضعونهم ويلزمونهم دينا معينا بالبطش والقهر أحيانا أخرى فلإزالة هاتين العقبتين كان الجهاد وكان القتال وكان الحديث الشريف "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" وكان كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعظيم الروم "أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين" وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يقاتل يدعو القوم المقصودين إلى الإسلام أولا ولا يأخذهم على غرة فلما انتشر الإسلام بواسطة البعوث والوفود والسرايا وأصبح الكافرون كافرين بعد معرفة الإسلام معرفة كافية حتى كان اليهود والنصارى يعرفون نبي الإسلام كما يعرفون أبناءهم لم تكن هناك حاجة إلى دعوة الكافرين قبل قتالهم لئلا يستعدوا للقتال ويؤلبوا القبائل بل جاز أخذ أهل الغدر وهم غافلون على غرة كما فعل صلى الله عليه وسلم مع بني المصطلق في السنة الخامسة من الهجرة.

-[المباحث العربية]- (أسأله عن الدعاء قبل القتال) أي دعاء الكفار إلى الإسلام قبل مقاتلتهم. (إنما كان ذلك في أول الإسلام) أي في أوائل الهجرة وقبل غزوة بني المصطلق وكان ذلك لتعريف الناس بالإسلام وتبليغهم دعوته لتقام عليهم الحجة قبل قتالهم أما بعد أن ذاع الإسلام في الجزيرة العربية وانتشر وعرفه القاصي والداني فلم تعد هناك حاجة إلى دعوة الذين يقاتلون إلى الإسلام قبل قتالهم ثم استدل ببني المصطلق على ما يقول وفي المسألة خلاف يأتي في فقه الحديث. (قد أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون) بتشديد الراء جمع غار بالتشديد أي غافل ويقال: أغار عليهم أي دفع عليهم الخيل وأوقع بهم على غرة أو على غير غرة. وبنو المصطلق بضم الميم وسكون الصاد وفتح الطاء وكسر اللام بعدها قاف وهو لقب واسمه جزيمة بن سعد بن عمر بن ربيعة بن حارثة وبنو المصطلق بطن من بني خزاعة والإغارة عليهم كانت في شعبان سنة خمس من الهجرة على الصحيح. (وأنعامهم تسقى على الماء) هذا دليل الأخذ على غرة "وتسقى" بالبناء للمجهول وكان لهم بئر ماء يسمى المريسيع وكان رئيسهم الحارث بن أبي ضرار وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن الحارث جمع جموعا لقتاله فندب النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة لمباغتته قبل أن يجمع أمره وكان الحارث قد أرسل عينا تأتيه بخبر المسلمين فظفروا به فقتلوه ووصل المسلمون فجأة إلى بئر المريسيع فصف الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه للقتال ورموهم بالنبال وهم على الماء وحملوا عليهم حملة واحدة. (فقتل مقاتلتهم) وأحاط بهم فلم ينج منهم أحد قتل منهم عشرة وأسر الباقون رجالا ونساء وذرية. (وأصاب يومئذ "جويرية" -أو البتة- ابنة الحارث) أصل الإسناد: حدثنا يحيى بن يحيى التميمي. حدثنا سليم بن أخضر عن ابن عون قال النووي: معناه أن يحيى بن يحيى قال: أصاب يومئذ ابنة الحارث وأظن شيخي سليم بن أخضر سماها في روايته "جويرية" أو أعلم ذلك وأجزم به وأقول: البتة وحاصله أنها جويرية فيما أحفظه إما ظنا وإما علما. وفي ملحق الرواية قال: هي جويرية بنت الحارث بلا شك. اهـ. ومعنى "البتة" أي جزما وقطعا فيحيى قبل أن يقول: "جويرية" وحين قالها كان يظن ويشك أن شيخه سماها ثم بعد أن نطق بها تذكر وتيقن أن ما قاله لا شك فيه فجزم به وقال: جزما وقطعا أن شيخي سماها: جويرية ابنة الحارث بن أبي ضرار المصطلقى. وقصتها: أنها -رضي الله عنها- وقعت في سبايا بني المصطلق سنة خمس أو ست من الهجرة

وكانت تحت مسافع بن صفوان المصطلقى وكانت عند توزيع الغنائم في سهم ثابت بن قيس فكاتبته على نفسها وأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينه في كتابتها وقالت: يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث سيد قومه وقد أصابني من البلايا ما لم يخف عليك وقد كاتبت على نفسي فأعني على كتابتي. فقال صلى الله عليه وسلم: أو خير من ذلك؟ أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك؟ فقالت: نعم. ففعل ذلك فبلغ الناس أنه قد تزوجها فقالوا: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأرسلوا ما في أيديهم من بني المصطلق فلقد أعتق الله بها مائة أهل بيت من بني المصطلق. فمعنى "وأصاب يومئذ جويرية" أي غنمها ضمن السبايا والمعنى حازها وتزوجها. -[فقه الحديث]- موضوع هذا الحديث: هل يشترط دعاء الكافرين إلى الإسلام عند قتالهم؟ قبل الإغارة عليهم؟ لجواز أن يسلموا فلا يقاتلوا؟ وهي مسألة خلافية. وظاهر الحديث أن اشتراط ذلك كان أول الهجرة حيث كان الكفار لم تبلغهم الدعوة ولم يتضح لهم الإسلام أما بعد أن بلغت دعوة الإسلام الجزيرة العربية وغيرها فلا يشترط ذلك. ذهب إلى ذلك الأكثرون قال النووي: في هذه المسألة ثلاثة مذاهب: أحدها: يجب الإنذار مطلقا -أي بلغتهم الدعوة أو لم تبلغهم الدعوة- قال: وهذا ضعيف والثاني: لا يجب مطلقا وهذا أضعف منه أو باطل الثالث: يجب إن لم تبلغهم الدعوة ولا يجب إن بلغتهم لكن يستحب وهذا هو الصحيح وبه قال نافع مولى ابن عمر والحسن البصري والثوري والليث والشافعي وأبو ثور وابن المنذر والجمهور قال ابن المنذر: وهو قول أكثر أهل العلم وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على معناه فمنها هذا الحديث وحديث قتل كعب بن الأشرف وحديث قتل أبي الحقيق. اهـ. وقد نص الشافعي على أن من وجد ممن لم تبلغه الدعوة لم يقاتل حتى يدعى. وقال مالك: من قربت داره قوتل بغير دعوة لاشتهار الإسلام ومن بعدت داره فالدعوة أقطع للشك وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن أبي عثمان النهدي أحد كبار التابعين قال: كنا ندعو وندع قال الحافظ ابن الحجر: وهو منزل على الحالين المتقدمين. قال النووي: وفي هذا الحديث جواز استرقاق العرب لأن بني المصطلق عرب من خزاعة وهذا قول الشافعي في الجديد وهو الصحيح وبه قال مالك وجمهور أصحابه وأبو حنيفة والأوزاعي وجمهور العلماء وقال جماعة من العلماء: لا يسترقون وهذا قول الشافعي في القديم. والله أعلم.

(469) باب تأمير الأمراء على البعوث ووصاياهم

(469) باب تأمير الأمراء على البعوث ووصاياهم 3972 - عن سليمان بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال "اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله. اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا. وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال (أو خلال) فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم. ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم. ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا". 3973 - وفي رواية عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا أو سرية دعاه فأوصاه وساق الحديث بمعنى حديث سفيان. .

3974 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أحدا من أصحابه في بعض أمره قال "بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا". 3975 - عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه ومعاذا إلى اليمن فقال "يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا وتطاوعا ولا تختلفا". 3976 - -/- عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث شعبة وليس في حديث زيد بن أبي أنيسة "وتطاوعا ولا تختلفا". 3977 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يسروا ولا تعسروا وسكنوا ولا تنفروا". -[المعنى العام]- إن حاكم الدولة هو السلطة العليا التي تعين السلطات الأخرى التي تحتها ولا يجوز الخروج عليها إلا في حالات حددها الشارع ولا يجوز أن يولي الإنسان نفسه على بعض الولايات الخاضعة لسلطان الحاكم الأعلى إلا في ضرورات حددها الشارع كأن يتعين للولاية وتتعذر مراجعة الإمام ويتفق عليه من سيدخل في حكمه وتحت إمرته حينئذ تثبت الولاية له شرعا وتجب طاعته حكما. لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حاكم الدولة الإسلامية لا يصدرون إلا عن أمره حتى في خاصة أنفسهم عملا بقوله تعالى {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا} [الأحزاب: 36] وكان يؤمر الأمراء ويولي الولاة والقضاة والعاملين على الزكاة والجزية ويبعث البعوث والمعلمين للدين وشريعته وما بعث اثنين إلا أمر أحدهما وما أمر أحدا إلا وعظه ونصحه ووصاه بتقوى الله في أمر نفسه وفي أمر من يتولى أمره وأن يرفق بمن ولي عليهم وأن يتفق مع شركائه في الولاية ويطيعهم وأن يبشر ولا ينفر وييسر ولا يعسر وأن يدعوهم بالتي هي أحسن إلى الإسلام ويبين لهم معالمه وشرائعه وأهدافه وحكم مشروعيته

ليقنعهم به فإن أسلموا -وكان ذلك قبل فتح مكة- رغبهم في الهجرة إلى المدينة ليغزو مع الغازين وليغنموا مع الغانمين فإن هم أبوا أن يسلموا فعليهم الجزية دينار أو نحوه في العام مقابل حمايته وهو على دينه فإن أبى الإسلام والجزية فالسيف هو الحكم وكان صلى الله عليه وسلم يوصي أمراء الجيوش أن لا يعطوا لأعدائهم عهد الله فقد يضطرون إلى مقابلة الغدر بالغدر ولكن يعطون عهد أنفسهم فإذا نقضوا عهد أنفسهم كان أهون من أن ينقضوا عهد الله تعالى. -[المباحث العربية]- (إذا أمر أميرا) يقال: أمر فلانا بتشديد الميم مع فتح الهمزة أي صيره أميرا أي حاكما والأصل أمر رجلا فصار بالتأمير أميرا. (على جيش أو سرية) السرية بفتح السين وكسر الراء وتشديد الياء. وهي القطعة من الجيش تخرج منه وتغير وترجع إليه وهي من مائة إلى خمسمائة فما زاد على خمسمائة يقال له: منسر فإن زاد على ثمانمائة سمي جيشا وما بينهما يسمى هبطة فإن زاد على أربعة آلاف يسمى جحفلا فإن زاد فجيش جرار والخميس الجيش العظيم والكتيبة ما اجتمع ولم ينتشر كذا ذكر الحافظ ابن حجر. قيل: سميت سرية لأنها تسري في الليل غالبا فعيلة بمعنى فاعلة يقال: سرى وأسرى إذا ذهب ليلا وقيل: سميت بذلك لأنها تخفي ذهابها وكأنها مأخوذة من السر وهو لا يصح لاختلاف مادة الكلمة. (أوصاه في خاصته) أي فيما يختص به دون غيره. (ومن معه من المسلمين خيرا) "ومن معه" معطوف على "خاصته" والتقدير: أوصاه فيما يخصه بتقوى الله وأوصاه فيما يعم من معه من المسلمين خيرا. (اغزوا ولا تغلوا) الأمر للأمير وجنده وكرر الأمر بالغزو للتأكيد للأهمية أو ليربط به عن قرب ما يتعلق بالغزو من الوصايا والغلول بضم الغين واللام الخيانة في المغنم سمي بذلك لأن آخذه يغله في متاعه أي يخفيه فيه يقال: غل بفتح الغين يغل بضمها غلولا أما غل بفتحها يغل بكسرها غلا بكسرها وغليلا فمعناه كان ذا حقد وضغن أو غش. (ولا تغدروا) بكسر الدال أي لا تنقضوا العهد وأوفوا بالعهود يقال: غدر بفتحات يغدر بكسر الدال غدرا بسكونها فهو غادر وجمعه غدرة بفتح الغين والدال والراء وهو غدار بتشديد الدال وغدور بفتح الغين. (ولا تمثلوا) بفتح التاء وضم الثاء بينهما ميم ساكنة كذا الرواية من مثل بفتح الميم والثاء

يقال: مثل بفلان مثلا بفتح الميم وبسكون الثاء ومثلة بضم الميم وسكون الثاء أي نكل به بجدع أنفه أو قطع أذنه أو غيرهما من الأعضاء ومثله مثل بتشديد الثاء تمثيلا والتشديد للمبالغة. (ولا تقتلوا وليدا) الوليد المولود حين يولد والصبي إلى أن يبلغ للذكر والأنثى ويقال: وليدة مؤنث وليد. (وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال -أو خلال) وجه الأمر إلى القائد لأنه واجبه أما الأوامر والنواهي السابقة فهي تعمه هو وجنده والمراد ادعهم إلى واحدة من ثلاث خلال مرتبة لا تنتقل إلى الثانية إلا بعد رفض التي قبلها والخصلة بفتح الخاء وسكون الصاد في خلق الإنسان تكون فضيلة أو رذيلة والجمع خصال والخلة بفتح الخاء الخصلة يقال: فيه خلة حسنة وخلة سيئة وقوله "أو خلال" شك من الراوي. (ثم ادعهم إلى الإسلام) قال النووي: هكذا هو في جميع نسخ صحيح مسلم "ثم ادعهم" قال القاضي عياض: صواب الرواية "ادعهم" بإسقاط "ثم" وقد جاء بإسقاطها على الصواب في كتاب أبي عبيد وفي سنن أبي داود وغيرهما لأنه تفسير للخصال الثلاث وليست غيرها وقال المازري: ليست "ثم" هنا زائدة بل دخلت لاستفتاح الكلام والأخذ. اهـ. ومعنى هذا أنها تفيد ابتداء الكلام وليست لترتيب ما بعدها على ما قبلها وهذا لا يختلف عن كلام القاضي إلا من حيث التوجيه بدلا من التخطئة. (فإن أجابوك) إلى دعوتك وأسلموا. (ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين) أي المدينة المنورة وسيأتي تفصيل الحكم الشرعي للهجرة في فقه الحديث. (فإن أبوا فسلهم الجزية) "الجزية" من فعلة اسم هيئة من جزأت الشيء إذا قسمته ثم سهلت الهمزة وقيل: فعلة من جزي يجزي جزاء لأنها جزاء تركهم ببلاد الإسلام وحماية أهله لهم وقيل: فعلة من أجزأ يجزئ إجزاء لأنها تكفي من توضع عليه في عصمة دمه وسيأتي الكلام عن مقدارها وعمن تؤخذ منه في فقه الحديث. (فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه) الذمة العهد والأمان والكفالة. (فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون) "تخفروا" بضم التاء وسكون الخاء وكسر الفاء من أخفر ذمته أي نقض عهده وغدر والخطاب لمن أعطى العهد وأصحابهم من غابوا عن إعطاء العهد ودخلوا فيه بإدخال قيادتهم لهم فيه ولما كانوا عرضة لنقض العهد مع الكفار كجزاء لنقض الكفار عهدهم كانت التوصية أن لا يقعوا شكلا في نقض عهد الله ولو كان مجازاة. (إذا بعث أحدا من أصحابه في بعض أمره) أي بعث أحدا واليا أو عاملا لجمع الزكاة أو قاضيا أو معلما للدين أو مقاتلا في سرية أو غير ذلك.

(بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا) التبشير في الأصل الإخبار بخبر يظهر أثره على البشرة خير أو شر لكنه غلب على خبر الخير وهو المراد هنا. وقوله "ولا تنفروا" ليس من المقابلة الحقيقية بل من المقابلة بالمعنى إذ مقابل التبشير الإنذار ومقابل التنفير الإيناس فجمع بينهما ليعم البشارة والإنذار والتأنيس والتنفير قاله الطيبي والتصريح بالمقابل أو اللازم للتأكيد وقد اختلف العلماء: هل الأمر بشيء نهي عن ضده؟ أو لا؟ فعلى القول بأنه يلزم فهو تصريح باللازم. وفي الرواية الرابعة "وسكنوا ولا تنفروا" يقال: سكن المتحرك جعله يسكن أي هدئوا من روع الناس وعاملوهم المعاملة التي تريحهم. (وتطاوعا ولا تختلفا) أي فليطع كل منكما صاحبه أما النهي عن اختلافهما فمقصوده استمرار المطاوعة ودوامها لأنهما قد يتطاوعان في وقت ويختلفان في وقت وقد يتطاوعان في شيء ويختلفان في شيء. -[فقه الحديث]- عن دعوتهم للهجرة يقول النووي: معنى هذا الحديث أنهم إذا أسلموا استحب لهم أن يهاجروا إلى المدينة فإن فعلوا ذلك كانوا كالمهاجرين قبلهم في استحقاق الفيء والغنيمة وغير ذلك وإلا فهم أعراب كسائر أعراب المسلمين الساكنين في البادية من غير هجرة ولا غزو فتجري عليهم أحكام الإسلام ولا حق لهم في الغنيمة والفيء وإنما يكون لهم نصيب من الزكاة إن كانوا بصفة استحقاقها قال الشافعي: الصدقات للمساكين ونحوهم ممن لا حق لهم في الفيء للأخبار قال: ولا يعطى أهل الفيء من الصدقات ولا أهل الصدقات من الفيء واحتج بهذا الحديث وقول مالك وأبي حنيفة: المالان سواء ويجوز صرف كل واحد منهما إلى النوعين وقال أبو عبيد: هذا الحديث منسوخ وإنما كان هذا الحكم في أول الإسلام لمن لم يهاجر ثم نسخ بقوله تعالى {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض} [الأنفال: 75] قال النووي: وهذا الذي ادعاه أبو عبيد لا يسلم له. أما موضوع الجزية ومن تقبل منهم ومن لا تقبل منهم ففيه خلاف فقهي عريض بعد اتفاقهم على قبولها من أهل الكتاب اليهود والنصارى لقوله تعالى {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} [التوبة: 29]. والخلاف في قبول الجزية من المشركين ومن المجوس عربا أو عجما هل تقبل منهم كأهل الكتاب أو لا تقبل منهم الجزية؟ وليس أمامهم إلا الإسلام أو السيف؟ فعن مالك: تقبل من جميع الكفار إلا من ارتد وبه قال الأوزاعي وفقهاء الشام فيجوز عندهم أخذ الجزية من كل كافر عربيا كان أو عجميا كتابيا كان أو مجوسيا أو غيرهما.

وهذا الحديث دليل لهم فلفظه "قاتلوا من كفر بالله ... فإن هم أبوا فسلهم الجزية" وحكى ابن القاسم عن مالك: لا تقبل من قريش. وقال الشافعي: تقبل من أهل الكتاب عربا كانوا أو عجما ويلتحق بهم المجوس في ذلك واحتج بالآية المذكورة فإن مفهومها أنها لا تقبل من غير أهل الكتاب واستثنى المجوس من هذا المفهوم لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها منهم. قال أبو عبيد: ثبتت الجزية على اليهود والنصارى بالكتاب وعلى المجوس بالسنة. اهـ. وكان عمر يرفض أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر. رواه البخاري فكتب عمر لواليه: انظر مجوس من قبلك فخذ منهم الجزية فإن عبد الرحمن بن عوف أخبرني .. "قال ابن عباس: فأخذ الناس بقول عبد الرحمن بن عوف. وفي الموطأ عن جعفر بن محمد عن أبيه "أن عمر قال: لا أدري ما أصنع بالمجوس؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سنوا بهم سنة أهل الكتاب" وأخرج الطبراني الحديث بلفظ "سنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب". قال مالك في الجزية: واستدل بقوله "سنة أهل الكتاب" على أنهم ليسوا أهل كتاب لكن روى الشافعي وعبد الرزاق وغيرهما بإسناد حسن عن علي "كان المجوس أهل كتاب يقرءونه وعلم يدرسونه فشرب أميرهم الخمر فوقع على أخته فلما أصبح دعا أهل الطمع فأعطاهم وقال: إن آدم كان ينكح أولاده بناته فأطاعوه وقتل من خالفه فأسرى على كتابهم وعلى ما في قلوبهم منه فلم يبق عندهم منه شيء". وفرق الحنفية بين مجوس العجم ومجوس العرب فقالوا: تؤخذ من مجوس العجم دون مجوس العرب وحكى الطحاوي عنهم: تقبل الجزية من أهل الكتاب ومن جميع كفار العجم ولا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف وحديثنا يعارضهم ففي لفظه "وإذا لقيت عدوك من المشركين .. فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم". أما مقدار الجزية فيتفاوت وأقلها عند الجمهور دينار لكل سنة وخصه الحنفية بالفقير وأما المتوسط فعليه ديناران وعلى الغني أربعة دنانير وعند الشافعية أن للإمام أن يماكس حتى يأخذها أربعة منهم وبه قال أحمد وأخرج أصحاب السنن وصححه الترمذي والحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث معاذا إلى اليمن قال له: "خذ من كل حالم دينارا" واختلف السلف في أخذها من الصبي فالجمهور على أنها لا تؤخذ منه عملا بمفهوم الحديث السابق وكذا لا تؤخذ من شيخ فان ولا زمن ولا امرأة ولا مجنون ولا عاجز عن الكسب ولا أجير ولا أصحاب الصوامع. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - تحريم الغدر

2 - وتحريم الغلول 3 - وتحريم قتل الصبيان إذا لم يقاتلوا 4 - وكراهة المثلة. 5 - واستحباب وصية الإمام أمراءه وجيوشه بتقوى الله تعالى والرفق بأتباعهم وتعريفهم ما يحتاجون في غزوهم وما يجب عليهم وما يحل لهم وما يحرم عليهم وما يكره وما يستحب. 6 - وفيه حجة لمن يقول: ليس كل مجتهد مصيبا بل المصيب واحد وهو الموافق لحكم الله تعالى في نفس الأمر. 7 - وفيه الأمر بالتبشير بفضل الله وعظيم ثوابه وجزيل عطائه وسعة رحمته 8 - والنهي عن التنفير بذكر التخويف وأنواع الوعيد من غير ضمها إلى التبشير. 9 - وفيه تأليف من قرب إسلامه وترك التشديد عليهم. 10 - وفيه أمر الولاة بالرفق واتفاق المشاركين في ولاية ونحوها. 11 - وفيه وصية أهل الفضل والصلاح كمعاذ وأبي موسى رضي الله عنهما فإن الذكرى تنفع المؤمنين. والله أعلم.

(470) باب تحريم الغدر

(470) باب تحريم الغدر 3978 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء فقيل هذه غدرة فلان بن فلان". 3979 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الغادر ينصب الله له لواء يوم القيامة فيقال ألا هذه غدرة فلان". 3980 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لكل غادر لواء يوم القيامة". 3981 - عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لكل غادر لواء يوم القيامة يقال هذه غدرة فلان". 3982 - -/- وفي رواية عن شعبة في هذا الإسناد وليس في حديث عبد الرحمن "يقال هذه غدرة فلان". 3983 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به يقال هذه غدرة فلان". 3984 - عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به".

3985 - عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة". 3986 - عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره ألا ولا غادر أعظم غدرا من أمير عامة". -[المعنى العام]- يقول الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة: 1] ويقول {والموفون بعهدهم إذا عاهدوا} [البقرة: 177] ويقول {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم} [النحل: 91] ويقول صلى الله عليه وسلم "آية المنافق ثلاث. إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر". فالغدر وعدم الوفاء بالعهد حرام باتفاق العلماء في الشريعة الإسلامية بل هو لا يليق بالرجال الأحرار ذوي الشهامة والمروءة والنجدة في عرف العقلاء وكان العرب يتمدحون بخلق الوفاء بالعهد ويفخرون به ويحرصون عليه ولو كان في ذلك قتل لأبنائهم فلذة أكبادهم. وأكبر وعيد على جريمة الغدر بالعهود ذلك الوعيد المذكور في هذا الحديث حيث يعلن على ملأ الخلائق في الموقف العظيم يوم يجمع الله الأولين والآخرين يعلن إعلان عن كل غادر ترفع راية عالية على رءوس الخلائق مرتكزة على عجز الغادر مكتوب عليها انظروا أيها الناس إلى هذا الغادر إنه فلان بن فلان غدر بكذا يوم كذا فيكون في ذلك فضيحته جزاء غدره {فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما} [الفتح: 10]. -[المباحث العربية]- (إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة) يبدأ يوم القيامة بالبعث من القبور وينتهي بدخول أهل الجنة الجنة وأهل النار وفيه الموقف العظيم وهو المقصود بجمع الأولين والآخرين. (يرفع لكل غادر لواء) الغادر هو الذي يواعد على أمر ولا يفي به وفي حديث علامات المنافق "إذا عاهد غدر" يقال: غدر بفتح الدال يغدر بكسرها: نقض عهده وترك الوفاء به فهو غادر وجمعه غدرة بفتحات وهو غدار وغدور.

واللواء بكسر اللام والمد هي الراية ويسمى أيضا العلم وكان الأصل أن يمسكه رئيس الجيش ثم صارت تحمل على رأسه وقيل: اللواء غير الراية فاللواء ما يعقد في طرف الرمح ويلوى عليه والراية ما يعقد فيه ويترك حتى تصفقه الرياح وقيل: اللواء دون الراية وقيل: اللواء العلم الضخم والعلم علامة على محل الأمير يدور معه حيث دار والراية يتولاها صاحب الحرب وجنح الترمذي إلى التفرقة فترجم بالألوية وأورد حديث جابر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة ولواؤه أبيض" ثم ترجم للرايات وأورد حديث البراء "أن راية رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت سوداء مربعة من نمرة" وحديث ابن عباس "كانت رايته سوداء ولواؤه أبيض" وروى أبو داود عن رجل "رأيت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم صفراء" قال الحافظ ابن حجر: ويجمع بينها باختلاف الأوقات. وعند ابن أبي الشيخ "كان مكتوبا على رايته: لا إله إلا الله محمد رسول الله" وعن رفع اللواء للغادر يوم القيامة يقول القرطبي: هذا خطاب منه صلى الله عليه وسلم للعرب بنحو ما كانت تفعل لأنهم كانوا يرفعون للوفاء راية بيضاء وللغدر راية سوداء ليلوموا الغادر ويذموه فاقتضى الحديث وقوع مثل ذلك للغادر ليشتهر بصفته يوم القيامة فيذمه أهل الموقف وأما الوفاء فلم يرد فيه رفع لواء مغاير ولا يبعد أن يقع ذلك. اهـ. فرفع اللواء حقيقة ولا يحتاج الرفع إلى من يحمله وأما مقدار رفعه فيكفي فيه أن يراه أهل الموقف وأما بدء اللواء المرفوع فقد تعرضت له الرواية السادسة ولفظها "عند استه" والاست العجز وقد يراد بها حلقة الدبر وهي مؤنث وهمزته همزة وصل وأصله السته وقد بينت الرواية الخامسة الغرض من رفع اللواء بأنه ليعرف أي ليشتهر بين الناس ليذم فهو من باب التشهير. (يقال: هذه غدرة فلان بن فلان) الظاهر أن القول هنا ليس على حقيقته وأن المراد به الإعلان أي يعلن اللواء عن مكان الغدرة وصاحبها وربما يكون اللواء مكتوبا عليه هذا المقول والغدرة اسم مرة وهل هذا اللواء لكل من وقع منه الغدر؟ قليلا؟ أو كثيرا؟ عظمت الغدرة؟ أو حقرت؟ الظاهر أن التشهير لا يكون إلا بمن تعود ذلك وكثر منه كما توحي عبارة الحديث "إذا عاهد غدر" أو كانت الغدرة عظيمة تلحق آثارها الكثيرين فهو في قوة غدرات أما قوله في الرواية السابعة "يرفع له بقدر غدره" فالمراد منه أن التشهير ينتشر ويعلن بالدرجة التي وقع بها الغدر لكن أصل التشهير لا يستحقه من وقع منه غدرة صغيرة. (لا غادر أعظم غدرا من أمير عامة) "من أمير عامة" بدون تنوين "أمير" وأمير العامة أمير الناس عامة أي أمير الدولة وحاكمها وفي رواية للبخاري قال ابن عمر "وإنا قد بايعنا هذا الرجل أي يزيد بن معاوية على بيع الله ورسوله وإني لا أعلم غدرا أعظم من أن يبايع رجل على بيع الله ورسوله ثم ينصب له القتال". -[فقه الحديث]- الغدر حرام باتفاق سواء كان في حق المسلم أو الذمي وقد ترجم البخاري لهذا الحديث بعنوان: باب إثم الغادر للبر والفاجر قال الحافظ ابن حجر: أي سواء كان من بر لفاجر أو لبر أو من فاجر

وفي الحديث غلظ تحريم الغدر لا سيما من صاحب الولاية العامة لأن غدره يتعدى ضرره إلى خلق كثيرين ولأنه غير مضطر للغدر لقدرته على الوفاء. وقال عياض: المشهور أن هذا الحديث ورد في ذم الإمام إذا غدر في عهوده لرعيته أو لمقاتلته أو للإمامة التي تقلدها والتزم القيام بها فمتى خان فيها أو ترك الرفق فقد غدر بعهده وقيل: المراد نهي الرعية عن الغدر بالإمام فلا تخرج عليه ولا تتعرض لمعصيته لما يترتب على ذلك من الفتنة قال: والصحيح الأول قال الحافظ ابن حجر: ولا أدري ما المانع من حمل الخبر على أعم من ذلك؟ اهـ وبخاصة أن الذي فهمه ابن عمر من الحديث -كما ذكرنا في المباحث العربية- هو غدر الرعية بعهدهم للإمام. ويؤخذ من قوله "هذه غدرة فلان بن فلان" أن الناس يدعون يوم القيامة بآبائهم قال ابن دقيق العيد: وإن ثبت أنهم يدعون بأمهاتهم فقد يخص هذا من العموم. وتمسك بهذا الحديث قوم فقالوا بترك الجهاد مع ولاة الجور الذين يغدرون -حكاه الباجي. وفيه أن العقوبة يوم القيامة قد تكون بنقيض القصد قاله ابن المنير أخذا من روايتنا السادسة من لفظ "لواء عند استه" لأن عادة اللواء أن يكون عند الرأس فنصب عند السفل زيادة في فضيحته لأن الأعين غالبا تمتد إلى الألوية فيكون ذلك سببا لامتدادها إلى التي بدت له ذلك اليوم فتزداد بها فضيحته. والله أعلم.

(471) باب جواز الخداع في الحرب

(471) باب جواز الخداع في الحرب 3987 - عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الحرب خدعة". 3988 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الحرب خدعة". -[المعنى العام]- للحرب أساليبها وفنونها وهي تعتمد في كثير من أحوالها على خداع كل طرف للطرف الآخر فليس الفوز فيها للقوة دائما بل كثيرا ما تكون الحيلة سبب النصر وكثيرا ما يكون إخفاء الخطط والتظاهر بغير ما في العزم والتصميم سببا في الفوز وقد كان صلى الله عليه وسلم يبعث من يفت في عضد الأعداء وعزيمتهم ويخوفهم من قوة المسلمين وقد يكون في ذلك غير الصدق ولو التزم المسلمون الصدق في أخبارهم حين الحرب مع الكفار ولو التزم أبو بكر الصدق حين سأله الكفار عن الرسول صلى الله عليه وسلم في الهجرة لساءت النتيجة على الإسلام وقد نام علي رضي الله عنه مكان الرسول صلى الله عليه وسلم خدعة وكانت أسماء رضي الله عنها ترعى أغنامها في طريق الغار خدعة فالحرب خدعة رخص الإسلام في هذا الخداع للصالح العام ولدفع الضرر الأشد ولجلب المصلحة الأعظم. -[المباحث العربية]- (الحرب خدعة) في "خدعة" ثلاث لغات مشهورات اتفقوا على أن أفصحهن "خدعة" بفتح الخاء وإسكان الدال قال ثعلب وغيره: وهي لغة النبي صلى الله عليه وسلم والثانية بضم الخاء وإسكان الدال والثالثة بضم الخاء وفتح الدال وحكى المنذري لغة رابعة بالفتح فيهما وحكى مكي لغة خامسة كسر أوله مع إسكان الدال أما فتح الخاء وإسكان الدال فعلى بناء المصدر من وصف الفاعل باسم المصدر أي إنها تخدع أهلها أو من وصف المفعول باسم المصدر كما يقال: هذا الدرهم ضرب الأمير أي مضروبه وقال الخطابي: إنها على بناء اسم المرة أي الحرب خدعة واحدة وأي خدعة؟ فمن خدعته مرة صرعته وأهلكته ولا عودة له أو على معنى -إن كان للمسلمين- اخدعوا أعداءكم في الحرب ولو مرة واحدة وإن كان من الكفار فالمعنى احذروا خداع الكفار ومكرهم ولو كان خداعهم لمرة واحدة فلا ينبغي التهاون بهم لما ينشأ عنهم من المفسدة ولو قل.

وأما ضم الخاء وفتح الدال فعلى صيغة المبالغة أي كثيرة الخداع كهمزة ولمزة وأما ضم الخاء مع إسكان الدال فعلى المصدر. وأما الفتح فيهما فهو جمع خادع أي أهلها بهذه الصفة وكأنه قال: أهل الحرب خادعون. هذا ويقال: خدعت الرجل أخدعه خدعا وخدعا وخديعة وخدعة إذا أظهرت له خلاف ما تخفي ورجل خداع وخدوع وخدع وخدعة إذا كان خبا وقال ابن العربي: الخديعة في الحرب تكون بالتورية وتكون بالكمين وتكون بخلف الوعد. -[فقه الحديث]- قال النووي: اتفق العلماء على جواز خداع الكفار في الحرب وكيف أمكن الخداع إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يحل. اهـ. وفي الحديث التحريض على أخذ الحذر في الحرب وفيه الإشارة إلى استعمال الرأي في الحرب بل الاحتياج إليه آكد من الشجاعة. ويجرنا هذا الحديث إلى حكم الكذب في الحرب وعند الترمذي من حديث أسماء بنت يزيد مرفوعا "لا يحل الكذب إلا في ثلاث تحدث الرجل امرأته ليرضيها والكذب في الحرب وفي الإصلاح بين الناس" وقد اختلف العلماء في جواز الكذب في هذه الثلاث؟ أو تقييده بالتلويح والتعريض فقال النووي: الظاهر إباحة حقيقة نفس الكذب في الأمور الثلاثة لكن التعريض أولى وقال ابن العربي: الكذب في الحرب من المستثنى الجائز بالنص رفقا بالمسلمين لحاجتهم إليه لضعفهم وليس للعقل في تحريمه ولا في تحليله أثر إنما هو إلى الشرع. وقال ابن بطال: سألت بعض شيوخي فقال: الكذب المباح في الحرب ما يكون من المعاريض لا التصريح بالتأمين مثلا. وقال المهلب: لا يجوز الكذب الحقيقي في شيء من الدين أصلا. اهـ. وعندي أن الترخيص بالكذب في هذه الأمور الثلاثة نصا وفي غيرها قياسا إنما هو من قبيل احتمال أخف الضررين واحتمال أخف الضررين واجب أو مقدم ندبا على الأقل ولا يقال حينئذ إن فعل الضرر الأقل مباح في حد ذاته وكذا الكذب في الأمور الثلاثة ونحوها لا نقول إن الكذب حلال وجائز في حد ذاته ولكنها تبيحه بالنسبة للضرر المترتب على عدمه ومن غير هذه الثلاثة مثلا: لو أن مجرما قاتلا سفاكا يجري وراء إنسان ليقتله ظلما فرأيت هذا المظلوم يختبئ في خندق فسألك المجرم: قل رأيته؟ وأين هو؟ فهل تدل عليه ليقتله؟ أم تكذب؟ وهل تعاقب على الكذب حينئذ أو تثاب؟ الجواب واضح. والله أعلم.

(472) باب كراهة تمني لقاء العدو والأمر بالصبر عند اللقاء واستحباب الدعاء بالنصر عند اللقاء

(472) باب كراهة تمني لقاء العدو والأمر بالصبر عند اللقاء واستحباب الدعاء بالنصر عند اللقاء 3989 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا تمنوا لقاء العدو فإذا لقيتموهم فاصبروا". 3990 - عن أبي النضر عن كتاب رجل من أسلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له عبد الله بن أبي أوفى فكتب إلى عمر بن عبيد الله حين سار إلى الحرورية يخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في بعض أيامه التي لقي فيها العدو ينتظر حتى إذا مالت الشمس قام فيهم فقال يا "أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف" ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم وقال "اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم". 3991 - عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب فقال "اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب. اللهم اهزمهم وزلزلهم". 3992 - وفي رواية عن ابن أبي أوفى رضي الله عنه قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث خالد غير أنه قال "هازم الأحزاب" ولم يذكر قوله "اللهم". 3993 - -/- وفي رواية عن إسمعيل بهذا الإسناد وزاد ابن أبي عمر في روايته "مجري السحاب". 3994 - عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول يوم أحد "اللهم إنك إن تشأ لا تعبد في الأرض".

-[المعنى العام]- لم يشرع الجهاد وقتال الكفار لمجرد القتال والقتل بل لنشر دين الله وتبليغ رسالة الإسلام فإذا ما تحقق الهدف بدون قتال كان خيرا كبيرا من هنا نهي عن تمني لقاء العدو وقتاله فإن وقع كان الأمر بالثبات والصبر كما يقول الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون* وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين* ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط} [الأنفال: 45 وما بعدها]. نعم لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية وتحقيق الغاية بدون قتال واسألوا الله العافية إذا وقع القتال فإذا لقيتم عدوكم فاثبتوا واصبروا على شدائد المعارك مؤمنين بوعد ربكم فقد تكفل للمجاهد بإحدى الحسنيين إما السلامة والغنيمة وإما الجنة فالجنة تحت ظلال سيوف المجاهدين واذكروا الله كثيرا قبل المعارك وفي شدتها فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعين بالدعاء على النصر وكان يقول: اللهم يا منزل القرآن لخيري الدنيا والآخرة يا مجري السحاب والمطر نحن في حاجة إلى جريان رحمتك وفضلك ونصرك ويا من هزمت الأحزاب وحدك يوم الخندق من غير قتال اهزم الكفار وزلزل أقدامهم في الميدان وزلزل أحوالهم وأمورهم حتى لا يستقروا في دنياهم على حال. -[المباحث العربية]- (لا تمنوا لقاء العدو) بتاء واحدة وفتح النون المشددة وأصله لا تتمنوا بتاءين كما جاء في الرواية الثانية والمراد من لقاء العدو مقاتلته. (فإذا لقيتموهم فاصبروا) العدو يطلق على الواحد والجمع وحين إطلاقه على الجمع يكون مفردا لفظا جمعا معنى فيعود الضمير عليه مفردا باعتبار لفظه وجمعا -كما هنا- باعتبار معناه والمراد من الصبر تحمل الأذى والمجالدة والثبات. (عن أبي النضر عن كتاب رجل من أسلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له: عبد الله بن أبي أوفى فكتب إلى عمر بن عبيد الله حين سار إلى الحرورية) أبو النضر واسمه سالم مولى عمر بن عبيد الله وكان كاتبا له في رواية البخاري "قال: كنت كاتبا له قال: كتب إليه عبد الله بن أبي أوفى حين خرج إلى الحرورية فقرأته فإذا فيه .. الحديث فأبو النضر لم يسمع من ابن أبي أوفى وإنما قرأ كتابه فقال بعضهم: إن الحديث حجة في صحة رواية المكاتبة وتعقب بأن شرط صحة الرواية بالمكاتبة عند أهل الحديث أن تكون الرواية صادرة إلى المكتوب إليه وابن أبي أوفى لم يكتب إلى سالم إنما كتب إلى عمر بن عبيد الله فعلى هذا تكون رواية سالم

للحديث عن عبد الله بن أبي أوفى من صور الوجادة ويمكن أن يقال: الظاهر أنه من رواية سالم عن مولاه عمر بن عبيد الله بقراءة سالم الكتاب على عمر لأنه كان كاتبه فهو من صور قراءة التلميذ على الشيخ المكتوب الموجه إلى الشيخ كأنه قال: عن عبد الله بن أبي أوفى أنه كتب إلى عمر فيصير حينئذ من صور المكاتبة من عبد الله بن أبي أوفى إلى عمر وعمر بن عبيد الله بن معمر التيمي وكان أميرا على حرب الخوارج والحرورية طائفة من الخوارج تنسب إلى حروراء بلدة بقرب الكوفة لأنه كان بها أول اجتماعهم وتحكيمهم حين خالفوا عليا رضي الله عنه وكان عندهم تشدد في الدين حتى خرجوا عنه. قال اللغويون: وهو من نوادر معدول النسب. (كان في بعض أيامه) أي أيام غزواته. (ينتظر) لا يبدأ القتال. (حتى إذا مالت الشمس قام فيهم) أي في أصحابه وفي رواية للبخاري "كان إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تهب الأرواح وتحضر الصلوات" وعند أحمد أنه صلى الله عليه وسلم كان يحب أن ينهض إلى عدوه عند زوال الشمس" وعند ابن منصور "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمهل إذا زالت الشمس ثم ينهض إلى عدوه" قال الحافظ ابن حجر: فيظهر أن فائدة التأخير لكون أوقات الصلاة مظنة إجابة الدعاء وهبوب الريح قد وقع النصر به في الأحزاب فصار مظنة لذلك. وقد أخرج الترمذي عن النعمان بن مقرن رضي الله عنه قال "غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان إذا طلع الفجر أمسك حتى تطلع الشمس فإذا طلعت قاتل فإذا انتصف النهار أمسك حتى تزول الشمس فإذا زالت الشمس قاتل فإذا دخل وقت العصر أمسك حتى يصليها ثم يقاتل وكان يقال: عند ذلك تهيج رياح النصر ويدعو المؤمنون لجيوشهم في صلاتهم". (واسألوا الله العافية) السلامة من المكروهات في البدن والمال والأهل والدنيا والآخرة وخصت بالدعاء في هذا المقام لأن الحرب مجال الإصابات والابتلاء وهل المراد بها هنا عدم لقاء العدو مع تحقيق الهدف؟ أم السلامة مع لقائه؟ الظاهر الأول. (واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف) الظلال جمع ظل وإذا تدانى الخصمان صار كل منهما تحت ظل سيف صاحبه لحرصه على رفعه عليه ولا يكون ذلك إلا عند التحام القتال ... وعند الطبراني بإسناد صحيح "الجنة تحت الأبارقة" أي تحت السيوف البارقة شديدة اللمعان. وهو من الكلام النفيس الجامع الموجز المشتمل على ضروب من البلاغة مع الوجازة وعذوبة اللفظ فإنه أراد الحض على الجهاد والإخبار بالثواب عليه والحض على مقاربة العدو واستعمال السيوف والاجتماع حين الزحف حتى تصير السيوف تظل المتقاتلين.

وقال ابن الجوزي: المراد أن الجنة تحصل بالجهاد وقال النووي: معناه ثواب الله عند الضرب بالسيوف في سبيل الله والسبب الموصل إلى الجنة ضرب السيوف في سبيل الله. (اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب) "منزل" بضم الميم وسكون النون من أنزل وهو يشير بإنزال الكتاب إلى قوله تعالى {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم} [التوبة: 14] ويشير بمجري السحاب إلى القدرة الظاهرة في تسخير السحاب حيث يحرك الريح السحاب بمشيئة الله وحيث يستمر في مكانه مع هبوب الريح بمشيئة الله وحيث يمطر السحاب تارة ولا يمطر أخرى فأشار بحركته إلى إعانة المجاهدين في حركتهم في القتال وبوقوفه إلى إمساك أيدي الكفار عنهم وبإنزال المطر إلى غنيمة ما معهم حيث يكون قتلهم وبعدمه إلى هزيمتهم حيث لا يحصل الظفر بشيء منهم وكلها أحوال صالحة للمسلمين وأشار بهازم الأحزاب إلى التوسل بالنعمة السابقة في غزوة الأحزاب وإلى تجريد التوكل واعتقاد أن الله هو المنفرد بالفعل قاله الحافظ ابن حجر. (اللهم إنك إن تشأ لا تعبد في الأرض) مفعول المشيئة محذوف أي إن تشأ هزيمتنا واستئصالنا لا تعبد من الإنس في الأرض لأننا الذين نعبدك وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدوك وهذا الدعاء متضمن أيضا طلب النصر. -[فقه الحديث]- قال النووي: إنما نهي عن تمني لقاء العدو لما فيه من صورة الإعجاب والاتكال على النفس والوثوق بالقوة وهو نوع بغي وقد ضمن الله تعالى لمن بغي عليه أن ينصره ولأنه يتضمن قلة الاهتمام بالعدو واحتقاره وهذا يخالف الاحتياط والحزم. وتأوله بعضهم على النهي عن التمني في صورة خاصة وهي إذا شك في المصلحة فيه وحصول ضرر منه وإلا فالقتال كله فضيلة وطاعة فتمنيه لا ينهى عنه والصحيح الأول ولهذا تممه صلى الله عليه وسلم بقوله "واسألوا الله العافية". وقال ابن بطال: حكمة النهي أن المرء لا يعلم ما يؤول إليه الأمر وهو نظير سؤال العافية من الفتن وقد قال الصديق: لأن أعافى فأشكر أحب إلي من أن أبتلى فأصبر وأخرج سعيد بن منصور مرسلا "لا تمنوا لقاء العدو فإنكم لا تدرون عسى أن تبتلوا بهم" وقال ابن دقيق العيد: لما كان لقاء الموت من أشق الأشياء على النفس وكانت الأمور الغائبة ليست كالأمور المحققة لم يؤمن أن يكون عند الوقوع فيكره التمني لذلك. اهـ. وفي الحديث حث على الصبر في القتال وهو آكد أركان القتال وآدابه وقد جمعها الله تعالى في قوله {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون* وأطيعوا الله

ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين* ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله} [الأنفال: 45 وما بعدها]. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - استدل بقوله "لا تمنوا لقاء العدو" على منع طلب المبارزة وهو رأي الحسن البصري وكان علي رضي الله عنه يقول: لا تدع إلى المبارزة فإذا دعيت فأجب تنصر لأن الداعي باغ. 2 - وفي الدعاء المذكور التنبيه على عظم النعم الثلاث فإن بإنزال الكتاب حصلت النعمة الأخروية وهي الإسلام وبإجراء السحاب حصلت النعمة الدنيوية وهي الرزق وبهزيمة الأحزاب حصل حفظ النعمتين وكأنه قال: اللهم كما أنعمت بعظيم النعمتين الأخروية والدنيوية وحفظتهما فأبقهما. 3 - وفيه الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة أي الدعاء عليهم بالهزيمة وإن انهزموا لا يقر لهم قرار. 4 - وفي حديث ابن أبي أوفى صحة رواية المكاتبة والعمل بها قال الدارقطني: اتفاق البخاري ومسلم على روايته حجة في جواز العمل بالمكاتبة والإجازة وبه قال جماهير العلماء من أهل الحديث والأصول والفقه ومنعت طائفة الرواية بها. قال النووي: وهذا غلط. 5 - قال المهلب: في هذه الأحاديث جواز القول بأن قتلى المسلمين في الجنة لكن على الإجمال لا على التعيين. 6 - عن قوله في الرواية الرابعة "اللهم إنك إن تشأ لا تعبد في الأرض" قال النووي: فيه التسليم لقدر الله تعالى والرد على غلاة القدرية الزاعمين أن الشر غير مراد ولا مقدر -تعالى الله عن قولهم- وجاء في هذه الرواية أنه صلى الله عليه وسلم قال هذا يوم أحد وجاء أنه قاله يوم بدر وهو المشهور في كتب السير والمغازي ولا معارضة بينهما فقاله في اليومين. والله أعلم.

(473) باب تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب وفي البيات

(473) باب تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب وفي البيات 3995 - عن عبد الله رضي الله عنه أن امرأة وجدت في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتولة فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان. 3996 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: وجدت امرأة مقتولة في بعض تلك المغازي فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان. 3997 - عن الصعب بن جثامة رضي الله عنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الذراري من المشركين؟ يبيتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم فقال "هم منهم". 3998 - عن الصعب بن جثامة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله إنا نصيب في البيات من ذراري المشركين قال "هم منهم". 3999 - عن الصعب بن جثامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: لو أن خيلا أغارت من الليل فأصابت من أبناء المشركين؟ قال "هم من آبائهم". -[المعنى العام]- من أبرز البراهين على أن قتال المسلمين للكفار لم يكن للقتل وسفك الدماء فالإسلام دين المسالمة والسلم لا يقاتل إلا من تصدى لقتاله ولا يقتل إلا من يحاول أن يقتل المسلمين فقتال المسلمين للكفار من قبيل الدفاع عن النفس وفتح الطريق أمام دعوة الإسلام. أبرز البراهين على ذلك نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن قتل من لا يقاتل فقد نهى عن قتل النساء والصبيان الذين لا يقاتلون.

وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة مقتولة في بعض غزواته فقال: ما كانت هذه لتقاتل فلم قتلت؟ ثم نهى عن قتل الصبيان والنساء ورأى امرأة مقتولة فقال: ألم أنهكم عن قتل النساء؟ من قتل هذه؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله أركبتها على راحلتي خلفي فأرادت قتلي ودفعتني عن دابتي فقتلتها فعذره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بدفنها. كما عذر المسلمين الذي يغيرون على البيوت ليلا وفيها رجال ونساء وصبيان لا يستطيعون أن يميزوا الرجال عن غيرهم إذا هم ضربوا بالسيف من يلاقونه دون قصد النساء ودون قصد الصبيان بالقتل عذر المسلمين المقاتلين إذا هم قتلوا في هذه الحالة النساء والصبيان فهؤلاء من هؤلاء والأبناء من الآباء يتبعونهم ويتحملون وزرهم فهم ثمرتهم ونتيجة سعيهم وشركاؤهم. وهكذا رسم رسول الله صلى الله عليه وسلم طريق الشهامة والعزة والكرامة والرحمة بالضعيف وعدم الاعتداء على المسالمين. -[المباحث العربية]- (أن امرأة وجدت في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتولة) أخرج الطبراني في الأوسط من حديث ابن عمر قال: "لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أتى بامرأة مقتولة فقال: ما كانت هذه تقاتل ونهى" وأخرج أبو داود في المراسيل عن عكرمة "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة مقتولة بالطائف فقال: ألم أنه عن قتل النساء؟ من صاحبها؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله أردفتها فأرادت أن تصرعني فتقتلني فقتلتها فأمر بها أن توارى" وأخرج ابن حبان في حديث الصعب زيادة في آخره "ثم نهى عنهم يوم حنين" فذهب بعضهم إلى التعدد وذهب بعضهم إلى الجمع وأن النهي عن قتل النساء والصبيان كان في غزوة حنين وفتح مكة وغزوة حنين في عام واحد. (سئل عن الذراري من المشركين يبيتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم) قال النووي: هكذا هو في أكثر نسخ بلادنا "سئل عن الذراري" وفي رواية "عن أهل الدار من المشركين" ونقل القاضي هذه عن رواية جمهور رواة صحيح مسلم. قال: وهي الصواب فأما الرواية الأولى فقال: ليست بشيء بل هي تصحيف قال: وما بعده هو تبيين الغلط فيه. قال النووي: قلت: وليست باطلة كما ادعى القاضي بل لها وجه وتقديره سئل عن حكم صبيان المشركين الذين يبيتون فيصاب من نسائهم وصبيانهم بالقتل؟ فقال: هم من آبائهم" أي لا بأس بذلك والسائل هو الراوي كما هو صريح في الرواية الرابعة. والذراري بتشديد الياء وتخفيفها لغتان التشديد أفصح وأشهر والمراد بالذراري هنا النساء والصبيان ومعنى "يبيتون" مبني للمجهول أي يغار عليهم ليلا بحيث لا يعرف الرجل من المرأة والصبي يقال: بيت الشيء أي عمله ليلا ودبره ليلا قال تعالى {بيت طائفة منهم غير الذي تقول} [النساء: 81] ويقال: بيت القوم أي أوقع بهم ليلا فالمعنى:

سئل عن أهل الدار من المشركين يغير عليهم المسلمون ليلا وبغته فيصيبون أي يقتلون من النساء والذرية دون قصد النساء والذرية يوضح هذا المعنى الرواية الخامسة ولفظها "لو أن خيلا أغارت من الليل فأصابت من أبناء المشركين؟ أي قتلت من الذرية قال: هم من آبائهم". ومعنى "إنا نصيب في البيات" إنا نقتل في الإغارة ليلا من ذراري المشركين فقال: "هم منهم" أي في الحكم في تلك الحالة. -[فقه الحديث]- قال النووي: أجمع العلماء على العمل بهذا الحديث وتحريم قتل النساء والصبيان إذا لم يقاتلوا فإن قاتلوا قال جماهير العلماء: يقتلون. وقال ابن بطال: اتفق الجميع على منع القصد إلى قتل النساء والولدان أما النساء فلضعفهن وأما الولدان فلقصورهم عن فعل الكفر ولما في استبقائهم جميعا من الانتفاع بهم إما بالرق وإما بالفداء فيما يجوز أن يفادي به وحكى الحازمي قولا بجواز قتل النساء والصبيان على ظاهر حديث الصعب (وفيه "هم منهم" أي هم من آبائهم أي لا بأس بذلك لأن أحكام آبائهم جارية عليهم في الميراث وفي النكاح وفي القصاص والديات وغير ذلك) وزعم أنه ناسخ لأحاديث النهي. قال الحافظ ابن حجر: وهو غريب. وقال الشافعي والكوفيون: إذا قاتلت المرأة جاز قتلها وقال ابن حبيب من المالكية: لا يجوز القصد إلى قتلها إلا إن باشرت القتل وقصدت إليه قال: وكذلك الصبي المراهق. ويؤيد قول الجمهور ما أخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان من حديث رباح قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فرأى الناس مجتمعين فرأى امرأة مقتولة فقال: ما كانت هذه لتقاتل" فإن مفهومه أنها لو قاتلت لقتلت. وقال مالك والأوزاعي: لا يجوز قتل النساء والصبيان بحال حتى لو تترس أهل الحرب بالنساء والصبيان أو تحصنوا بحصن أو سفينة وجعلوا معهم النساء والصبيان لم يجز رميهم ولا تحريقهم. قال النووي: وأما شيوخ الكفار فإن كان فيهم رأي قتلوا وإلا ففيهم وفي الرهبان خلاف قال مالك وأبو حنيفة: لا يقتلون والأصح في مذهب الشافعي قتلهم. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - جواز البيات ومفاجأة الكفار بغتة ليلا. 2 - وجواز الإغارة على من بلغتهم الدعوة من غير إعلامهم بذلك. 3 - أن أولاد الكفار حكمهم في الدنيا حكم آبائهم وأما في الآخرة ففيهم إذا ماتوا قبل البلوغ

ثلاثة مذاهب الصحيح أنهم في الجنة والثاني: هم في النار والثالث: لا يجزم فيهم بشيء. 4 - جواز قتل النساء والصبيان في البيات إذا لم يتميزوا هذا مذهب الشافعية ومذهب مالك وأبي حنيفة. 5 - وفي الحديث دليل على جواز العمل بالعام حتى يرد الخاص لأن الصحابة تمسكوا بالعمومات الدالة على قتل أهل الشرك ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان فخص ذلك العموم. 6 - واستدل به بعضهم على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة. 7 - قال الحافظ ابن حجر: ويستنبط منه الرد على من يتخلى عن النساء وغيرهن من أصناف الأموال زهدا لأنهم وإن كان قد يحصل منهم الضرر في الدين لكن يتوقف تجنبهم على حصول ذلك الضرر فمتى حصل اجتنب وإلا فليتناول من ذلك بقدر الحاجة. والله أعلم.

(474) باب جواز قطع أشجار الكفار وتحريقها

(474) باب جواز قطع أشجار الكفار وتحريقها 4000 - عن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير وقطع وهي البويرة. زاد قتيبة وابن رمح في حديثهما فأنزل الله عز وجل {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين} [الحشر: 5]. 4001 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع نخل بني النضير وحرق ولها يقول حسان: 4 - وهان على سراة بني لؤي حريق بالبويرة مستطير وفي ذلك نزلت {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها} الآية. 4002 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير. -[المعنى العام]- على رأس ستة أشهر من وقعة بدر الكبرى كانت غزوة بني النضير وهم طائفة من اليهود كانت منازلهم ونخلهم بضاحية المدينة وقبل الغزوة ذهب إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية رجلين فخلا بعضهم ببعض وقالوا: إنكم لن تجدوه على مثل هذه الحال وكان جالسا إلى جانب جدار لهم فقالوا: يعلو رجل على هذا البيت فيلقي هذه الصخرة عليه فيقتله ويريحنا منه فأتاه الخبر من السماء فقام مظهرا أنه يقضي حاجة وقال لأصحابه لا تبرحوا ورجع مسرعا إلى المدينة فأمر المسلمين بحربهم وخرج إليهم فحاصرهم بعد أن تحصنوا بحصونهم وكان ناس من المنافقين قد بعثوا إليهم أن اثبتوا فإن قوتلتم قاتلنا معكم ولئن أخرجتم لنخرجن معكم {والله يشهد إنهم لكاذبون* لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون} [الحشر: 11 وما بعدها] {وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله} وعندهم خزائن الزاد الذي يكفيهم شهورا وأمامهم نخيلهم تضمن لهم رزقا طويلا فلم يعبئوا بالحصار فأمر

رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بقطع نخيلهم وتحريقها {فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب} [الحشر: 2] ويئسوا من صلاحية المقام في هذا المكان بعد ست ليال من الحصار نزلوا على الجلاء عن دورهم على أن لهم ما حملت إبلهم إلا السلاح فقاموا يخربون بيوتهم بأيديهم يحملون منها ما يقدرون على حمله حتى الأبواب والنوافذ والأخشاب حملوها وهدموا ما استطاعوا هدمه من بيوتهم وكان جلاؤهم إلى الشام ونزلت فيهم سورة الحشر وفيها قوله تعالى {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين} وفي صدرها يقول تعالى {هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا} [الحشر: 2] وهان على أشراف قريش حلفائهم هذا التحريق وهذا الإخراج كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال: إني بريء منك وهكذا حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون. -[المباحث العربية]- (حرق نخل بني النضير وقطع) ضبطوه "حرق" بفتح الحاء وتشديد الراء رباعي والتضعيف للمعالجة والتكلف وبذل الجهد أو للتكثير والمخفف صحيح من حيث اللغة يقال: حرقت النار الشيء والفاعل حارق والمفعول محروق. وبنو النضير -بفتح النون وكسر الضاد- قبيلة كبيرة من اليهود وكانت منازلهم ونخلهم في ضواحي المدينة و"قطع" بتشديد الطاء وتخفيفها معطوف على "حرق" وتنازعا كلمة "نخل" أي حرق وقطع نخل بني النضير أي حرق بعضه وقطع بعضه وفي الرواية الثانية "قطع نخل بني النضير وحرق". (وهي البويرة) اسم للبقعة التي كان بها نخلهم وهي مكان معروف بين المدينة وتيماء وهي من جهة قبلة مسجد قباء إلى جهة الغرب والبويرة أصلها البؤيرة تصغير بؤرة وهي الحفرة خففت الهمزة. {ما قطعتم من لينة أو تركتموها} اللينة المذكورة في القرآن هي أنواع ثمر النخلة كلها إلا العجوة وقيل: كرام النخل وقيل النخل وقيل: كل الأشجار للينها. وهان على سراة بني لؤي حريق بالبويرة مستطير "سراة بني لؤي" بفتح السين وتخفيف الراء أي أشراف بني لؤي ورؤسائهم والمراد من بني لؤي قريشا وذلك أن قريشا كانوا يظاهرون كل من عادى النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا قد وعدوا بني النضير المساعدة والنصرة فلما وقع ببني النضير ما وقع خذلتهم قريش فقال حسان هذه الأبيات توبيخا لهم ومعنى "مستطير" منتشر.

-[فقه الحديث]- قال النووي: في هذا الحديث جواز قطع شجر الكفار وإحراقه وبه قال عبد الرحمن بن القاسم ونافع مولى ابن عمر ومالك والثوري وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق والجمهور وقال أبو بكر الصديق والليث بن سعد وأبو ثور والأوزاعي في رواية عنهم: لا يجوز. اهـ. أي مكروه وما أشار إليه النووي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه هو وصيته لجيوشه أن لا يفعلوا شيئا من ذلك وأجيب بأنه إنما نهى أبو بكر جيوشه عن ذلك لأنه علم أن تلك البلاد ستفتح فأراد إبقاءها للمسلمين وأجاب الطبري بأن النهي محمول على القصد لذلك بخلاف ما إذا أصابوا ذلك في خلال القتال كما وقع في نصب المنجنيق على الطائف ومثل التحريق والقطع التغريق ونحوه. والتحقيق أن قطع أشجار الكفار أو تحريقها أو تغريقها أو تهديم ديارهم أو تحريقها لا يصار إليه إلا إذا تعين وسيلة لهزيمتهم والغلبة عليهم. والله أعلم.

(475) باب تحليل الغنائم لهذه الأمة خاصة

(475) باب تحليل الغنائم لهذه الأمة خاصة 4003 - عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبن ولا آخر قد بنى بنيانا ولما يرفع سقفها ولا آخر قد اشترى غنما أو خلفات وهو منتظر ولادها. قال: فغزا فأدنى للقرية حين صلاة العصر أو قريبا من ذلك فقال للشمس أنت مأمورة وأنا مأمور اللهم احبسها علي شيئا فحبست عليه حتى فتح الله عليه. قال: فجمعوا ما غنموا فأقبلت النار لتأكله فأبت أن تطعمه فقال فيكم غلول فليبايعني من كل قبيلة رجل فبايعوه فلصقت يد رجل بيده فقال فيكم الغلول فلتبايعني قبيلتك فبايعته. قال: فلصقت بيد رجلين أو ثلاثة فقال فيكم الغلول. أنتم غللتم. قال: فأخرجوا له مثل رأس بقرة من ذهب. قال: فوضعوه في المال وهو بالصعيد فأقبلت النار فأكلته. فلم تحل الغنائم لأحد من قبلنا ذلك بأن الله تبارك وتعالى رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا". -[المعنى العام]- كان من تقدم على الإسلام على ضربين منهم من لم يؤذن له في الجهاد فلم تكن لهم مغانم ومنهم من أذن له فيه لكن كانوا إذا غنموا شيئا لم يحل لهم أن يأكلوه وجاءت نار فأحرقته فمن مضى قبلنا من الأمم لم تحل لهم الغنائم أصلا. وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة". فحل الغنائم لهذه الأمة ثابت ولها خاصة فلم تحل الغنائم لأحد ممن كان قبلنا ذلك لأن الله تبارك وتعالى رأى ضعفنا وعجزنا وحاجتنا إلى هذه الغنائم فأحلها لنا وجعلها لنا حلالا طيبا. يؤكد هذا المعنى نبينا صلى الله عليه وسلم إذ يحكي لنا قصة نبي من الأنبياء عزم على غزو قرية من القرى

فخطب في قومه يجهزهم للحرب ويطلب منهم أن لا يخرج معه من هو مشغول بأمور دنياه ولا يخرج معه للغزو إلا من كان قوي العزيمة حازم الرأي فلا يخرج معه من هو مرتبط بالنساء أو بالبناء أو بالمواشي فغزا ووصل إلى الأعداء قبيل غروب الشمس ولم يكن صلى العصر. كيف يقاتل؟ وكيف يصلي العصر؟ إن الوقت لا يسمح بالأمرين فسأل الله تعالى أن يحبس الشمس عن المغيب حتى يقاتل ثم يصلي العصر فحبس الله الشمس وانتصر النبي وصلى العصر وجمع الغنائم وانتظر النار تأتي لتأكل الغنيمة علامة على قبول الغزو وجزاء الغزاة فجاءت النار فلم تأكل الغنيمة فدل على أن القربان غير مقبول لارتكاب معصية كبيرة وكان معلوما لهم أن من أكبر الكبائر السرقة من الغنائم وكانت علامة الغال أن تلتصق يده بيد النبي صلى الله عليه وسلم إذا وضع يده في يده وبهذا استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يحدد الغالين وأن يعترفوا وأن يعيدوا إلى المغانم ما سرقوه فلما وضعوه مع بقية الغنيمة جاءت النار فأكلتها. -[المباحث العربية]- (غزا نبي من الأنبياء) فيه مجاز المشارفة أي أشرف على الغزو وأراد الغزو وهذا النبي هو يوشع بن نون كما رواه الحاكم وأخرجه أحمد من طريق صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الشمس لم تحبس لبشر إلا ليوشع بن نون ليالي سار إلى بيت المقدس" وروي أن الشمس أخر طلوعها في الفجر لموسى عليه السلام ولا تعارض بين الحديثين فتأخير طلوع الشمس غير تأخير غروبها ويوشع حبس له غروبها وموسى حبس له طلوعها الأمر كذلك بالنسبة لما روي من أن محمدا صلى الله عليه وسلم حبس له شروق الشمس أيضا لما أخبر قريشا صبيحة الإسراء والمعراج أنه رأى العير التي لهم وأنها تقدم مع شروق الشمس فدعا الله فحبست الشمس حتى دخلت العير. أما ما رواه الطبراني في الأوسط من حديث جابر من أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الشمس فتأخرت ساعة من النهار فيجمع بينه وبين حديث أحمد بأن الحصر في حديث أحمد محمول على ما مضى للأنبياء قبل نبينا صلى الله عليه وسلم فلم تحبس الشمس إلا ليوشع وليس فيه نفي أنها تحبس بعد ذلك لنبينا صلى الله عليه وسلم فقد روى الطحاوي والطبراني في الكبير والحاكم والبيهقي في الدلائل عن أسماء بنت عميس أنه صلى الله عليه وسلم دعا لما نام على ركبة علي رضي الله عنه ففاتته صلاة العصر فردت الشمس حتى صلى علي رضي الله عنه ثم غربت قال الحافظ ابن حجر: وقد أخطأ ابن الجوزي بإيراده هذا الحديث في الموضوعات وكذا ابن تيمية في كتاب الرد على الروافض في زعم وضعه. أما ما حكى القاضي عياض: من أن الشمس ردت للنبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق لما شغلوا عن صلاة العصر حتى غربت الشمس فردها الله عليه حتى صلى العصر فإن ثبت ما قال القاضي فهذه قصة أخرى وجاء أيضا أنها حبست لسليمان بن داود عليهما السلام ذكره الثعلبي ثم البغوي عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى {ردوها علي} [ص: 33] وأنه عليه السلام تشاغل بالخيل حتى غابت الشمس فقال للملائكة الموكلين بالشمس بإذن الله لهم: ردوها علي فردوها عليه حتى صلى العصر في وقتها.

(لا يتبعني رجل) أي لا يخرج معي في جندي رجل صفته كذا وكذا. (قد ملك بضع امرأة) بضم الباء وسكون الضاد أي فرج امرأة أي عقد عليها بالزواج. (وهو يريد أن يبني بها ولما يبن) أي وهو يريد أن يدخل بها ولما يدخل بها والتعبير بلما يشعر بتوقع ذلك وفي التقييد بعدم الدخول يفيد أن الأمر بعد الدخول بخلاف ذلك فهناك فرق بين الأمرين وإن كان بعد الدخول ربما استمر تعلق القلب بها لكن ليس هو كما قبل الدخول غالبا. (ولا آخر قد بنى بنيانا ولما يرفع سقفها) "سقفها" بضم السين والقاف جمع سقف وفي رواية البخاري "سقوفها" يقال: سقف وجمعه سقوف وأسقف وسقف. (ولا آخر قد اشترى غنما أو خلفات وهو منتظر ولادها) الخلفات بفتح الخاء وكسر اللام جمع خلفة وهي الحامل من النوق وقد يطلق على غير النوق و"أو" هنا للتنويع ويحتمل أن تكون للشك والمعتمد أنها للتنويع ففي رواية أبي يعلى "ولا رجل له غنم أو بقر أو خلفات" و"ولادها" بكسر الواو مصدر ولد ولادا وولادة. (قال: فغزا) معطوف على محذوف أي فتبعه وخرج معه من هم على غير هذه الصفة فغزا بهم. (فأدنى للقرية حين صلاة العصر أو قريبا من ذلك) في رواية البخاري "فدنا من القرية" أي التي يقصدها بالغزو وهي أريحا قال النووي: هكذا هو في جميع النسخ "فأدنى" بهمزة قطع رباعي (متعد ومفعوله محذوف أي أدنى جيشه للقرية) أي قرب جموعه للقرية حين صلاة العصر اهـ. وفي الكلام مضاف محذوف أي حين انتهاء وقت صلاة العصر ففي رواية سعيد بن المسيب "فلقي العدو عند غيبوبة الشمس" وعند الحاكم "أنه وصل إلى القرية وقت عصر يوم الجمعة فكادت الشمس أن تغرب ويدخل الليل". (فقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور) الشمس مأمورة أمر تسخير وهكذا أمر الجمادات وهو مأمور أمر تكليف وهكذا أمر العقلاء وخطابه للشمس يحتمل أن يكون على حقيقته وأنه تلفظ بالكلام فعلا يخاطبها على احتمال أن الله تعالى يخلق فيها تمييزا وإدراكا أو على استحضار وضعها وأنه لا يمكن تحولها عن عادتها إلا بخرق عادتها ويحتمل أنه لم يتلفظ بالخطاب وإنما قال ذلك واستحضره في نفسه وهذا الثاني أولى ففي رواية سعيد بن المسيب "اللهم إنها مأمورة وإني مأمور فاحبسها علي حتى تقضي بيني وبينهم فحبسها الله عليه". (اللهم احبسها علي شيئا) من الزمن أي وقتا يسمح لي بالقتال والصلاة فشيئا منصوب نصب المصدر أي قدر ما تنقضي حاجتنا. قال القاضي عياض: اختلف في حبس الشمس هنا فقيل: ردت على أدراجها وقيل: وقفت وقيل: بطئت حركتها وكل ذلك محتمل والثالث أرجح.

(فحبست عليه حتى فتح الله عليه) في رواية أبي يعلى "فواقع القوم فظفر". (فجمعوا ما غنموا) في رواية البخاري "فجمع الغنائم". (فأقبلت النار لتأكله) في رواية البخاري "فجاءت -يعني النار- لتأكلها" زاد في رواية سعيد بن المسيب "وكانوا إذا غنموا غنيمة بعث الله عليها النار فتأكلها" وكانت هذه عادة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في الغنائم أن يجمعوها فتجيء نار من السماء فتأكلها فيكون ذلك علامة لقبولها وعدم الغلول فلما جاءت في هذه المرة فأبت أن تأكلها علم أن فيهم غلولا. (فأبت أن تطعمه) في رواية البخاري "فلم تطعمها" أي لم تذق لها طعما مبالغة في عدم أكلها. (فيكم غلول) في رواية البخاري "إن فيكم غلولا" والغلول بضم الغين السرقة من الغنيمة أو الخيانة في المغنم قال ابن قتيبة: سمي بذلك لأن آخذه يغله في متاعه أي يخفيه فيه والخطاب في "فيكم" للجيش. (فلصقت يد رجل بيده) أي لصقت يد مندوب قبيلة بيده. (فقال: فيكم الغلول) الخطاب للقبيلة التي لصقت يد مندوبها بيده أي في قبيلتك غلول. (فلتبايعني قبيلتك) أي ليبايعني أفراد القبيلة رجلا رجلا أو رجلين رجلين. (فلصقت بيد رجلين أو ثلاثة) فاعل "لصقت" ضمير يعود على يد النبي عليه السلام. وفي رواية البخاري "فلزقت يد رجلين أو ثلاثة" أي بيد النبي عليه السلام قال ابن المنير: جعل الله علامة الغلول إلزاق يد الغال وفيه تنبيه على أنها يد عليها حق يطلب أن يتخلص منه أو أنها يد ينبغي أن يضرب عليها ويحبس صاحبها حتى يؤدي الحق إلى الإمام وهو من جنس شهادة اليد على صاحبها يوم القيامة. (فقال: فيكم الغلول) في رواية سعيد بن المسيب "فقالا: أجل غللنا". (فأخرجوا له مثل رأس بقرة من ذهب) في رواية البخاري "فجاءوا برأس مثل رأس بقرة من الذهب". (فوضعوه في المال) أي فوضعوا مثل رأس البقرة في مال الغنيمة. (وهو بالصعيد) الصعيد وجه الأرض والموضع الواسع والمعنى ومال الغنيمة بموضع واسع من الأرض. (فطيبها لنا) أي فأحل الغنمية لنا قال تعالى {فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا} [الأنفال: 69].

-[فقه الحديث]- -[ويؤخذ من هذا الحديث]- 1 - فيه أن الأمور المهمة ينبغي ألا تفوض إلا إلى أولى الحزم وفراغ البال لها ولا تفوض إلى متعلق القلب بغيرها لأن ذلك يضعف عزمه ويفوت كمال بذل وسعه فيه. 2 - أن فتن الدنيا تدعو النفس إلى الهلع ومحبة البقاء لأن من ملك بضع امرأة ولم يدخل بها أو دخل بها وكان على قرب من ذلك فإن قلبه متعلق بالرجوع إليها ويجد الشيطان السبيل إلى شغل قلبه عما هو عليه من الطاعة وكذلك غير المرأة من أحوال الدنيا. 3 - وفيه أن من مضى كانوا يغزون ويأخذون أموال أعدائهم وأسلابهم لكن لا يتصرفون فيها بل يجمعونها وعلامة قبول غزوهم ذلك أن تنزل النار من السماء فتأكلها وعلامة عدم قبوله أن لا تنزل ومن أسباب عدم القبول أن يقع فيهم الغلول وقد من الله على هذه الأمة ورحمها لشرف نبيها عنده فأحل لهم الغنيمة وستر عليهم الغلول فطوى عنهم فضيحة أمر عدم القبول. قال بعضهم: ودخل في عموم أكل النار الغنيمة السبي قال الحافظ ابن حجر: وفيه بعد لأن مقتضاه إهلاك الذرية ومن لم يقاتل من النساء ويمكن أن يستثنوا من ذلك ويلزم استثناؤهم من تحريم الغنائم عليهم. 4 - وفيه معاقبة الجماعة بفعل سفهائها. 5 - وأن أحكام الأنبياء قد تكون بحسب الأمر الباطن كما في هذه القصة وقد تكون بحسب الأمر الظاهر كما في حديث "إنكم تختصمون إلي" 6 - استدل به ابن بطال على جواز إحراق أموال المشركين وتعقب بأن ذلك كان في تلك الشريعة وقد نسخ بحل الغنائم لهذه الأمة. والله أعلم.

(476) باب الأنفال

(476) باب الأنفال 4004 - عن مصعب بن سعد عن أبيه رضي الله عنه قال: أخذ أبي من الخمس سيفا فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هب لي هذا فأبى. فأنزل الله عز وجل {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول} [الأنفال: 1]. 4005 - عن مصعب بن سعد عن أبيه رضي الله عنه قال: نزلت في أربع آيات أصبت سيفا فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله نفلنيه. فقال "ضعه" ثم قام. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "ضعه من حيث أخذته" ثم قام فقال نفلنيه يا رسول الله فقال "ضعه" فقام فقال يا رسول الله نفلنيه أؤجعل كمن لا غناء له؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "ضعه من حيث أخذته" قال: فنزلت هذه الآية {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول} 4006 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية وأنا فيهم قبل نجد فغنموا إبلا كثيرة فكانت سهمانهم اثنا عشر بعيرا أو أحد عشر بعيرا ونفلوا بعيرا بعيرا. 4007 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية قبل نجد وفيهم ابن عمر وأن سهمانهم بلغت اثني عشر بعيرا. ونفلوا سوى ذلك بعيرا فلم يغيره رسول الله صلى الله عليه وسلم. 4008 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى نجد

فخرجت فيها فأصبنا إبلا وغنما فبلغت سهماننا اثني عشر بعيرا اثني عشر بعيرا ونفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرا بعيرا. 4009 - عن سالم عن أبيه رضي الله عنه قال: نفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نفلا سوى نصيبنا من الخمس فأصابني شارف (والشارف المسن الكبير). 4010 - وفي رواية عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية بنحو حديث ابن رجاء. 4011 - عن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة سوى قسم عامة الجيش والخمس في ذلك واجب كله. -[المعنى العام]- أحل الله الغنيمة لهذه الأمة كما سبق وكانت السرايا التي خرجت قبل غزوة بدر تغنم فتقسم غنائمها بين أفرادها وكانوا يختلفون فجعل الله الغنيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول} [الأنفال: 1] أي لرسول الله يصرفها حسبما يرى ثم نزل قوله تعالى {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} [الأنفال: 41] فأصبحت الغنائم تقسم أخماسا أربعة أخماسها للمقاتلين لا يشاركهم فيها أحد وخمسا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مفوض إلى رأيه وكذلك الإمام من بعده وقد حاول سعد بن أبي وقاص أن يهبه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفا أعجبه في الغنمية ويبدو أنه حاول الاستئثار به قبل القسمة عن طريق هبة الرسول صلى الله عليه وسلم من الخمس الذي له فأغلق رسول الله صلى الله عليه وسلم باب الطمع في ذلك فأمره بإعادته إلى مكانه فلما وصل كومة الغنيمة ليضعه فيها غلبته نفسه أن يحاول مع الرسول صلى الله عليه وسلم مرة أخرى فلما كانت المحاولة الثالثة نهره صلى الله عليه وسلم بصوت فيه حدة وقال له ضعه حيث أخذته فذهب فوضعه فلما نزل قوله تعالى {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول} دعاه فقال له: خذ سيفك فإنك سألتنيه وليس لي ولا لك وقد جعله الله لي وجعلته لك ثم نزل قوله تعالى {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول .. } الآية فصارت الغنيمة تقسم خمسة أقسام أربعة

أخماسها للمقاتلين والخمس لرسول الله يصرفه في المواطن المذكورة في الآية وينفل منه ما شاء لمن شاء من المقاتلين أو لبعض السرايا كما حدث للسرية التي صحبها ابن عمر فقد غنموا إبلا كثيرة قيل: بلغت مائة وخمسين بعيرا وكانوا عشرة فكان نصيب الواحد من الأربعة أخماسها اثني عشر بعيرا ونفلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كل واحد منهم بعيرا فكان نصيب ابن عمر رضي الله عنهما -بعيرا عجوزا كبيرا مسنا. -[المباحث العربية]- (الأنفال) جمع "نفل" كجمل وأجمال ووتد وأوتاد يقال: نفل الكريم فلانا بفتح الفاء إذا أعطاه نافلة من المعروف ينفل -بضم الفاء نفلا بسكونها ويقال: نفل القائد الجند أي جعل لهم ما غنموا أو أعطاهم زيادة على نصيبهم الواجب لهم وهذا الثاني هو المقصود هنا وتنفل المصلي صلى النوافل والنافلة ما زاد على النصيب أو ما زاد على الحق أو ما زاد على الفرض وتطلق على الغنيمة والهبة والغنيمة في الأصل هي المال المأخوذ من الكفار بإيجاف الخيل والركاب وأما الفيء فما أخذ منهم بغير ذلك كالأموال التي يصالحون عليها. (عن مصعب بن سعد عن أبيه) سعد بن أبي وقاص. (أخذ أبي من الخمس سيفا) "الخمس" بضم الخاء والميم ما يؤخذ من الغنيمة وكانت الغنائم تقسم على خمسة أقسام فيعزل خمس منها لرسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف في مصارف حددها قوله تعالى {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} وسيأتي في فقه الحديث متى فرض؟ وأوجه صرفه من بعده صلى الله عليه وسلم. وفي الرواية الثانية "أصبت سيفا" أي أخذت سيفا من الغنيمة من الخمس الذي خصص لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية لمسلم في كتاب فضائل سعد "أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غنيمة عظيمة فإذا فيها سيف فأخذته .. " الحديث. (هب لي هذا) السيف "فأبى" في الرواية الثانية "نفلنيه" بتشديد الفاء المكسورة من نفل مشددة مفتوحة ووضحت الرواية الثانية إباء النبي صلى الله عليه وسلم بقوله "ضعه" أي في مكانه الذي أخذته منه "ثم قام" سعد وأوضحت رواية مسلم في كتاب فضائل الصحابة تردد سعد فقالت "فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: نفلني هذا السيف فأنا من قد علمت حاله. فقال: رده من حيث أخذته فانطلقت حتى إذا أردت أن ألقيه في القبض" -أي المكان الذي قبضت وجمعت فيه الغنائم- "لامتني نفسي" أي كيف أستجيب بهذه السهولة ولا ألح في طلبي من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ "فرجعت إليه فقلت: أعطنيه قال: فشد لي صوته: رده من حيث أخذته" زادت روايتنا الثانية الطلب مرة

ثالثة "نفلنيه أجعل كمن لا غناء له" بفتح الغين أي لا كفاية له أي أتجعلني يا رسول الله بدون سيف جيد؟ وبدون كفاية من السلاح؟ "فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ضعه من حيث أخذته". {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين} [الأنفال: 1] نزلت في بدر قيل: إن المسلمين اختلفوا في غنائم بدر وفي قسمتها فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تقسم؟ وما الحكم فيها؟ أهو للمهاجرين؟ أم للأنصار؟ أم لهم جميعا؟ فنزلت هذه الآية وفوضت أمر الغنائم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرت المؤمنين بالتقوى واجتناب ما هم فيه من التشاجر والاختلاف وأمرتهم بإصلاح البين والخصومات وبطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يأمر به وفيما ينهى عنه ليتحقق لهم وصف الإيمان الصحيح الكامل. (نزلت في أربع آيات) لم يذكر في هذا الموضع من الأربع إلا هذه الواحدة الأنفال وقد ذكرت رواية مسلم في فضائل الصحابة بقية الأربع وفيها هذه وفيها "حلفت أم سعد ألا تكلمه أبدا حتى يكفر بدينه ولا تأكل ولا تشرب قالت: زعمت أن الله وصاك بوالديك وأنا أمك وأنا آمرك بهذا قال: مكثت ثلاثا حتى غشي عليها من الجهد فقام ابن لها يقال له: عمارة فسقاها فجعلت تدعو على سعد فأنزل الله عز وجل في القرآن هذه الآية {ووصينا الإنسان بوالديه ... وإن جاهداك على أن تشرك بي .. وصاحبهما في الدنيا معروفا} [لقمان: 14 وما بعدها]. قال ومرضت فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاني فقلت: دعني أقسم مالي حيث شئت؟ قال: فأبى قلت: فالنصف؟ قال: فأبى: قلت: فالثلث؟ قال: فسكت فكان بعد الثلث جائزا قال: وأتيت على نفر من الأنصار والمهاجرين فقالوا: تعال نطعمك ونسقيك خمرا وذلك قبل أن تحرم الخمر قال: فأتيتهم في حش -والحش البستان- فإذا رأس جزور مشوي عندهم وزق من خمر قال: فأكلت وشربت معهم قال: فذكرت الأنصار والمهاجرين عندهم فقلت: المهاجرون خير من الأنصار قال: فأخذ رجل أحد لحيي الرأس فضربني به فجرح بأنفي فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأنزل الله عز وجل في -يعني نفسه شأن الخمر {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان} [المائدة: 90]. (أصبت سيفا فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم) قال النووي: هذا من تلوين الخطاب وتقديره عن مصعب بن سعد أنه حدث عن أبيه بحديث قال فيه: قال أبي: أصبت سيفا. اهـ. أي كان النسق أن يقول مصعب: أصاب أبي سيفا فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم إلخ فيكون فاعل "قال" هو مصعب أو أن يكون فاعل "قال" هو أبوه سعد والنسق على هذا أن يقول: أصبت سيفا فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم لكنه لون الكلام فقال: "نزلت في أربع آيات" ثم استأنف تفصيلها بقوله "أصبت سيفا" فالضمير ضمير المتكلم والقائل سعد أما "فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم" فالضمير ضمير الغيبة والمتكلم مصعب وفي هذا تلوين الضمائر وهو مقبول حيث أمن اللبس. (بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية -وأنا فيهم- قبل نجد) قيل: كانت هذه السرية بعد غزوة الطائف و"قبل" بكسر القاف وفتح الباء أي جهتها وفي الرواية الخامسة "بعث سرية إلى نجد فخرجت

فيها" وفي الرواية الرابعة "بعث سرية قبل نجد وفيهم ابن عمر" والسرية قطعة من الجيش تخرج وتعود إليه. (فغنموا إبلا كثيرة) في الرواية الخامسة "فأصبنا إبلا وغنما" ولا تعارض. (فكانت سهمانهم اثني عشر بعيرا) أو أحد عشر بعيرا ونفلوا بعيرا بعيرا هكذا بالشك في الرواية الثالثة وفي الرواية الرابعة والخامسة "اثني عشر بعيرا" بدون شك ولم تبين الروايات في مسلم من الذي أعطى السهام؟ ولا من الذي نفل؟ إلا الرواية الخامسة والسادسة فذكرتا أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي نفلهم. لكن عند أبي داود "وأعطانا أميرنا بعيرا بعيرا لكل إنسان ثم قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم فقسم بيننا غنيمتنا فأصاب كل رجل منا اثنا عشر بعيرا لكن ظاهر الرواية الرابعة أن الذي أعطى السهام ونفلهم أميرهم وأن النبي صلى الله عليه وسلم "كان مقررا لذلك مجيزا له لأنه قال فيها" ولم يغيره النبي صلى الله عليه وسلم ورواية ابن إسحق صريحة أن التنفيل كان من الأمير والقسم من النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا اختلف العلماء في القسم والتنفيل. هل كانا جميعا من أمير الجيش؟ أو من النبي صلى الله عليه وسلم؟ أو أحدهما من أحدهما؟ قال النووي: معناه أن أمير السرية نفلهم فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم فجازت نسبته لكل منهما. والسهمان بضم السين السهام جمع سهم وهو النصيب وفي كثير من الأصول "فكانت سهمانهم اثنا عشر بعيرا" قال النووي: وهو صحيح على لغة من يجعل المثنى بالألف سواء كان مرفوعا أو منصوبا أو مجرورا وهي لغة أربع قبائل من العرب وقد كثرت في كلام العرب ومنها قوله تعالى {إن هذان لساحران} [طه: 63] ثم قال: والمعنى فكان سهم كل واحد منهم اثني عشر بعيرا وقيل: معناه أن سهام جميع الغانمين اثنا عشر بعيرا وهو غلط. اهـ. قال ابن التين: وقد جاء أنهم كانوا عشرة وأنهم غنموا مائة وخمسين بعيرا فخرج منها الخمس وهو ثلاثون وقسم عليهم البقية فحصل لكل واحد اثنا عشر بعيرا ثم نفلوا بعيرا بعيرا فعلى هذا فقد نفلوا ثلث الخمس. اهـ. (نفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نفلا سوى نصيبنا من الخمس) التقدير: نفلنا من الخمس الذي له سوى نصيبنا من الغنيمة فعند الطحاوي "نفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية بعثها قبل نجد من إبل جاءوا بها نفلا سوى نصيبهم من المغنم". (فأصابني شارف) الشارف من الدواب المسن والمراد هنا بعير مسن. (كان ينفل بعض من يبعث من السرايا) "ينفل" بضم الياء وفتح النون وتشديد الفاء المكسورة من نفل المضعف. (لأنفسهم خاصة سوى قسم عامة الجيش) إذا خرج الجيش فاستقلت قطعة منه بمهمة فغنمت شيئا كانت الغنيمة للجميع لا يختلف الفقهاء في ذلك ويكون التنفيل من الخمس ولكن إذا

خرجت قطعة من الجيش المقيم في بلده فإن الجيش لا يشارك السرية في غنيمتها كما حصل في سرية ابن عمر الواردة في الأحاديث السابقة. (والخمس في ذلك واجب كله) قال النووي: "كله" مجرور تأكيد لقوله "في ذلك" وهذا تصريح بوجوب الخمس في كل الغنائم وهو إجماع. -[فقه الحديث]- قال النووي: اختلفوا في محل النفل هل هو من أصل الغنيمة؟ أو من أربعة أخماسها؟ أو من خمس الخمس؟ وهي ثلاثة أقوال للشافعي وبكل منها قال جماعة من العلماء والأصح عندنا أنه من خمس الخمس وبه قال ابن المسيب ومالك وأبو حنيفة وآخرون وممن قال إنه من أصل الغنيمة الحسن البصري والأوزاعي وأحمد وأبو ثور وآخرون وأجاز النخعي أن تنفل السرية جميع ما غنمت دون باقي الجيش وهو خلاف ما قاله العلماء كافة قال أصحابنا: ولو نفلهم الإمام من أموال بيت المال العتيد دون الغنيمة جاز (سبق أن ذكرنا في المباحث العربية أن هذا في حالة ما إذا خرج الجيش كله وانفصلت عنه سرية بمهمة أما إذا خرجت السرية من جيش مقيم في بلده فلها ما غنمت). والتنفيل إنما يكون لمن صنع صنعا جميلا في الحرب انفرد به. اهـ. والظاهر أن إباء النبي صلى الله عليه وسلم تنفيل السيف لسعد كان قبل أن يرخص له صلى الله عليه وسلم بالتنفيل وقبل نزول قوله تعالى {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول} سواء قلنا: إن التنفيل من الغنيمة أو من الخمس أو من خمس الخمس فقد ذكر النووي أنه روى في تمام هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسعد بعد نزول الآية "خذ سيفك فإنك سألتنيه وليس لي ولا لك وقد جعله الله لي وجعلته لك". قال الحافظ ابن حجر: قال مالك وطائفة: لا نفل إلا من الخمس وقال الخطابي: أكثر ما روي من الأخبار يدل على أن النفل من أصل الغنيمة والذي يقرب من حديث ابن عمر أنه كان من الخمس لأنه أضاف الاثنى عشر إلى سهمانهم فكأنه أشار إلى أن ذلك قد تقرر لهم استحقاقه من الأخماس الأربعة الموزعة عليهم فيبقى للنفل الخمس. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: ويؤيده ما رواه النسائي بإسناد حسن "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس وهو مردود عليكم". وقال ابن عبد البر: إن أراد الإمام تفضيل بعض الجيش لمعنى فيه فذلك من الخمس لا من رأس الغنيمة وإن انفردت قطعة فأراد أن ينفلها مما غنمت دون سائر الجيش فذلك من غير الخمس بشرط أن لا يزيد على الثلث. اهـ. وقال الحافظ ابن حجر: وهذا الشرط قال به الجمهور.

وقال الشافعي: لا يتحدد بل هو راجع إلى ما يراه الإمام من المصلحة ويدل له قوله تعالى {قل الأنفال لله والرسول} ففوض أمرها إليه. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - استدل بالرواية الأولى وبالآية على أن للإمام أن ينفل من الغنائم ما شاء لمن شاء بحسب ما يراه فالآية محكمة عامة وقيل: محكمة مخصوصة بأنفال السرايا وبالخمس أو خمس الخمس. 2 - وفي الحديث استحباب بعث السرايا قال النووي: وما غنمت تشترك فيه هي والجيش إن انفردت عن الجيش في بعض الطريق وأما إذا خرجت من البلد وأقام الجيش في البلد فتختص هي بالغنيمة ولا يشاركها الجيش. اهـ. وقيد مالك مشاركة الجيش للسرية في الغنيمة بأن يكون قريبا منها يلحقها عونه وغوثه لو احتاجت. 3 - وفي الحديث أن أمير الجيش إذا فعل مصلحة لم ينقضها الإمام. 4 - واستدل به على تعين قسمة أعيان الغنيمة لا أثمانها وفيه نظر لجواز أن يكون ذلك وقع اتفاقا. 5 - قال ابن دقيق العيد: للحديث تعلق بمسائل الإخلاص في الأعمال. اهـ. والأولى أن يقال: فيه أن بعض المقاصد الخارجة عن محض التعبد لا تقدح في الإخلاص. 6 - من الرواية السابعة تصريح بوجوب الخمس في كل الغنائم ورد علي من جهل وزعم أنه لا يجب فاغتربه بعض الناس قال النووي: وهذا مخالف للإجماع. والله أعلم.

(477) باب استحقاق القاتل سلب القتيل

(477) باب استحقاق القاتل سلب القتيل 4012 - عن أبي محمد الأنصاري وكان جليسا لأبي قتادة قال: قال أبو قتادة: واقتص الحديث. 4013 - عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حنين فلما التقينا كانت للمسلمين جولة قال: فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين فاستدرت إليه حتى أتيته من ورائه فضربته على حبل عاتقه وأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت ثم أدركه الموت فأرسلني. فلحقت عمر بن الخطاب فقال: ما للناس؟ فقلت أمر الله ثم إن الناس رجعوا وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه" قال: فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست ثم قال مثل ذلك فقال فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست. ثم قال ذلك الثالثة. فقمت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما لك؟ يا أبا قتادة" فقصصت عليه القصة. فقال رجل من القوم صدق يا رسول الله سلب ذلك القتيل عندي فأرضه من حقه وقال أبو بكر الصديق: لاها الله إذا لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله وعن رسوله فيعطيك سلبه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صدق فأعطه إياه" فأعطاني. قال: فبعت الدرع فابتعت به مخرفا في بني سلمة فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام وفي حديث الليث فقال أبو بكر: كلا لا يعطيه أضيبع من قريش ويدع أسدا من أسد الله وفي حديث الليث لأول مال تأثلته. 4014 - عن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: بينا أنا واقف في الصف يوم بدر نظرت عن يميني وشمالي فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما. تمنيت لو كنت بين أضلع منهما فغمزني أحدهما فقال يا عم هل تعرف أبا جهل؟ قال: قلت: نعم. وما

حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا. قال: فتعجبت لذلك. فغمزني الآخر فقال مثلها. قال: فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يزول في الناس فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألان عنه. قال: فابتدراه فضرباه بسيفيهما حتى قتلاه ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه فقال "أيكما قتله؟ " فقال كل واحد منهما: أنا قتلت. فقال "هل مسحتما سيفيكما؟ " قالا: لا. فنظر في السيفين فقال "كلاكما قتله" وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح (والرجلان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء). 4015 - عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: قتل رجل من حمير رجلا من العدو فأراد سلبه فمنعه خالد بن الوليد وكان واليا عليهم. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عوف بن مالك فأخبره. فقال لخالد "ما منعك أن تعطيه سلبه؟ " قال: استكثرته يا رسول الله. قال "ادفعه إليه" فمر خالد بعوف فجر بردائه ثم قال: هل أنجزت لك ما ذكرت لك من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستغضب فقال "لا تعطه يا خالد. لا تعطه يا خالد. هل أنتم تاركون لي أمرائي؟ إنما مثلكم ومثلهم كمثل رجل استرعى إبلا أو غنما فرعاها ثم تحين سقيها فأوردها حوضا فشرعت فيه فشربت صفوه وتركت كدره فصفوه لكم وكدره عليهم". 4016 - عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: خرجت مع من خرج مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة ورافقني مددي من اليمن. وساق الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه غير أنه قال في الحديث: قال عوف: فقلت: يا خالد أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل؟ قال: بلى ولكني استكثرته. 4017 - عن سلمة بن الأكوع قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هوازن فبينا نحن نتضحى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على جمل أحمر فأناخه ثم انتزع طلقا من حقبه

فقيد به الجمل. ثم تقدم يتغدى مع القوم. وجعل ينظر وفينا ضعفة ورقة في الظهر وبعضنا مشاة. إذ خرج يشتد فأتى جمله فأطلق قيده ثم أناخه وقعد عليه فأثاره فاشتد به الجمل فاتبعه رجل على ناقة ورقاء. قال سلمة: وخرجت أشتد فكنت عند ورك الناقة ثم تقدمت حتى كنت عند ورك الجمل ثم تقدمت حتى أخذت بخطام الجمل فأنخته فلما وضع ركبته في الأرض اخترطت سيفي فضربت رأس الرجل فندر ثم جئت بالجمل أقوده عليه رحله وسلاحه فاستقبلني رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه فقال "من قتل الرجل؟ " قالوا: ابن الأكوع قال "له سلبه أجمع". -[المعنى العام]- أحل الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وللمسلمين المقاتلين غنائم الكفار تشجيعا لهم على الجهاد وإرهابا لمن حارب الله ورسوله فكانت تقسم أخماسا أربعة أخماسها للمقاتلين للراجل سهم وللفارس سهمان سهم له وسهم لفرسه وخمسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم يصرفه في المصارف التي شرعها له الله. أما الفيء وهو الغنائم التي يمنحها الله للرسول صلى الله عليه وسلم بدون حرب من المسلمين وبدون إيجاف خيل أو ركاب فهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي منها من يشاء من المصارف التي ذكرها الله تعالى وزيادة في تشجيع المجاهدين للمسارعة إلى الجهاد والمخاطر والفداء شرع للقاتل الذي يقتل كافرا محاربا خرج لقتال المسلمين شرع للقاتل أن يأخذ سلبه وما معه من سلاح أو خيل أو ناقة أو ثياب ثمينة أو أمتعة أو ذهب أو فضة. وكان لهذا التشريع أثره وإن كان المسلم يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا لكن المكافأة المالية ترغب في العمل وتدفع إليه بحكم الطبيعة البشرية وإن شئت فقل: إعطاء القاتل سلب القتيل نتيجة ومكافأة وليس هدفا ودافعا للمؤمن الذي يبتغي بذلك الجهاد وجه الله. هذا أبو قتادة بعد أن ولى وفر في غزوة حنين مع الفارين ورجع مع الراجعين رأى فارسا من المشركين يركب على رجل من المسلمين يقتله فأسرع إليه فضربه بالسيف على رقبته فقتله وبعد المعركة وانتصار المسلمين وجمعهم لغنائم هوازن الكثيرة سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من قتل قتيلا وله شاهد يشهد له بأنه وحده الذي قتله فله سلبه فقال أبو قتادة للجيش: من يشهد لي أنني القاتل للرجل الذي فعل كذا وكذا فقال صحابي أن أشهد وسلب هذا المقتول عندي فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سلبه. وذاك الصبي معاذ بن عمرو بن الجموح يقتل أبا جهل في غزوة بدر الكبرى فيعطيه النبي صلى الله عليه وسلم سلبه. وهذا اليمني الحميري يقتل مشركا في غزوة مؤتة فيتوقف خالد بن الوليد قائد المعركة في

إعطائه سلب القتيل ويتدخل صديقه ورفيقه عوف بن مالك ويذكر خالدا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قتل قتيلا فله سلبه" ويطلب منه أن يسلمه سلبه فيستكثر خالد السلب فيشكوه للنبي صلى الله عليه وسلم فيأمر خالدا بأن يعطيه سلبه. وهذا سلمة بن الأكوع يقتل جاسوسا للمشركين فيقضي رسول الله صلى الله عليه وسلم له بالسلب أجمع فنعم التشريع من لدن حكيم عليم. -[المباحث العربية]- (عام حنين) أي لغزوة حنين بعد شهر من فتح مكة سنة ثمان من الهجرة وحنين بضم الحاء مصغر واد بين مكة والطائف على بعد بضعة عشر ميلا من مكة من جهة عرفات. (فلما التقينا كانت للمسلمين جولة) أي فلما التقى المسلمون والمشركون والجولة بفتح الجيم هزيمة غير مستقرة يقال: جال القوم في الحرب جولة أي فروا ثم كروا قال النووي: وهذا إنما كان في بعض الجيش وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم وطائفة معه فلم يولوا. اهـ. وسيأتي بسط المعركة وما وقع فيها في غزوة حنين. (فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين) يعني ظهر عليه وغلبه وكاد يقتله فالعلو معنوي أو صرعه وقعد عليه ليقتله فالعلو مادي. (فاستدرت إليه) أي كان أبو قتادة موليا عن مكان المعركة فرجع بوجهه نحوها ونحو الرجل المشرك. (فضربته على حبل عاتقه) العاتق ما بين العنق والكتف وفي رواية البخاري "فضربته من ورائه على حبل عاتقه بالسيف فقطعت الدرع". (فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت) قال النووي: يحتمل أنه أراد شدة كشدة الموت -فالكلام كناية عن الشدة- ويحتمل قاربت الموت. وفي رواية البخاري "فأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت". (ثم أدركه الموت فأرسلني) أي أطلقني ولم يعد يمسكني. (فلحقت عمر بن الخطاب) معطوف على محذوف ذكر في رواية البخاري أي "ثم برك" فتحلل ودفعته ثم قتلته وانهزم المسلمون وولوا ووليت معهم فإذا بعمر بن الخطاب في الناس". (فقال: ما للناس؟ فقلت: أمر الله) في روايتي البخاري أن السائل أبو قتادة والجواب من عمر ولفظ إحداهما "فلحقت عمر فقلت: ما بال الناس؟ قال: أمر الله عز وجل" أي حكمه وقضاؤه وروايتا البخاري أكثر قبولا.

(ثم إن الناس رجعوا) في رواية للبخاري "ثم تراجعوا" وسيأتي في غزوة حنين كيف رجعوا. (وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم) معطوف على مطوي أي وشدوا على المشركين فهزموهم وغنموا أموالهم. (من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه) بفتح السين واللام وهو ما يوجد مع المحارب من ملبوس وغيره عن الجمهور وعن أحمد: لا تدخل الدابة وعن الشافعي: يختص بأداة الحرب وسيأتي الكلام عن البينة في فقه الحديث والمراد بها الشهود. (من يشهد لي؟ ) أي بأني قتلت قتيلا؟ صفته كذا؟ في مكان كذا؟ فلم يجبه أحد ففي بعض الروايات "فلم أر أحدا يشهد لي". (فقصصت عليه القصة) أي والقوم يسمعون. (فقال رجل من القوم) في رواية للبخاري "فقال رجل من جلسائه" ذكر الواقدي أن اسمه أسود بن خزاعي قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر لأن في الرواية الصحيحة أن الذي أخذ السلب قرشي. (سلب ذلك القتيل عندي فأرضه من حقه) في رواية "فأرضه مني" (لاها الله إذا) "إذا" بالألف والتنوين قال الحافظ ابن حجر: هكذا ضبطناه في الأصول المعتمدة من الصحيحين وغيرهما. فأما "لاها" فقال الجوهري "ها" للتنبيه وحرف القسم محذوف والأصل: لا والله قال ابن مالك: فيه شاهد على جواز الاستغناء عن واو القسم بحرف التنبيه قال: ولا يكون ذلك إلا مع الله. اهـ. وقد نقل الأئمة الاتفاق على جر لفظ الجلالة. وأما "إذا" فثبتت في جميع الروايات المعتمدة والأصول المحققة من الصحيحين وغيرها بكسر الألف ثم ذال منونة وأنكر ذلك الخطابي وأهل اللغة وقالوا: هو تغيير من الرواة وصوابه "لاها الله ذا" بغير ألف في أوله والمعنى لا -والله- يكون ذا أو وإن ذا يميني وقسمي أي لا والله هذا ما أقسم به وقد أطال الحافظ ابن حجر في هذا اللفظ فمن أراد الإطناب فيه فليرجع إليه. (لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله وعن رسوله فيعطيك سلبه) أي سلب قتيله أي لا يقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل كأنه أسد في الشجاعة يقاتل عن دين الله ورسوله فيأخذ حقه ويعطيك بغير طيبة من نفسه و"لا يعمد" ضبطوه بالياء والنون وكذا قوله "فيعطيك" بالياء والنون. (صدق فأعطه إياه فأعطاني) أي صدق القائل والأمر في "فأعطه" للرجل الذي اعترف بأن السلب عنده والمفعول الثاني في "فأعطاني" محذوف أي فأعطاني السلب.

(فبعت الدرع) ذكر الواقدي أن الذي اشتراه منه حاطب بن أبي بلتعه وأن الثمن كان سبع أواق. (فابتعت به مخرفا في بني سلمة) أي فاشتريت به مخرفا بفتح الميم والراء ويجوز كسر الراء أي بستانا سمي بذلك لأنه يخترف منه الثمر أي يجتني يقال: خرف الثمر خرفا وخرافا جناه في الخريف وقيل: المخرف السكة من النخل تكون صفين يخرف من أيهما شاء وقال ابن وهب: هي الجنينة الصغيرة وقال غيره: هي نخلات يسيرة وأما المخرف بكسر الميم وفتح الراء فهو الوعاء الذي يجعل فيه ما يجتني من الثمار وقال القاضي: رويناه بفتح الميم وكسر الراء كالمسجد. أي مكان الخرف وجني الثمار وبنو سلمة بكسر اللام قاله النووي وهم بطن من الأنصار وهم قوم أبي قتادة. (فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام) هو بالثاء بعد الألف أي اقتنيته وتأصلته وأثلة الشيء أصله وفي ملحق الرواية لم يذكر "في الإسلام". (كلا لا يعطيه أصيبغ من قريش) قال القاضي: اختلف رواة كتاب مسلم في هذا الحرف أحدهما "أصيبغ" بالصاد والغين والثاني "أضيبع" بالضاد والعين وكذا اختلف فيه رواة البخاري فعلى الثاني هو تصغير ضبع على غير قياس كأنه لما وصف أبا قتادة بأنه أسد صغر هذا بالإضافة إليه وشبهه بالضبيع لضعف افتراسها وما توصف به من العجز والحمق وأما على الوجه الأول فوصفه به لتغير لونه وقيل: حقره وذمه بسواد لونه وقيل: معناه أنه صاحب لون غير محمود وقيل: وصفه بالمهانة والضعف قال الخطابي: الأصيبغ نوع من الطير قال: ويجوز أنه شبهه بنبات ضعيف يقال له: الصيبغا أول ما يطلع من الأرض يكون مما يلي الشمس منه أصفر. (بينا أنا واقف في الصف يوم بدر نظرت) "بينا" هي "بين" الظرفية أشبعت الفتحة منصوب بمعنى المفاجأة في "فإذا أنا بين غلامين" ويضاف إلى جملة ويحتاج إلى جواب والمعنى فاجأني وجودي بين غلامين وقت وقوفي في صف القتال يوم غزوة بدر ووقت نظري يميني وشمالي والغلام من فوق البلوغ وهو الطار الشارب. (حديثة أسنانهما) "حديثة" بالجر صفة لغلامين و"أسنانهما" بالرفع فاعل "حديثة". (تمنيت لو كنت بين أضلع منهما) قال النووي: هكذا هو في جميع النسخ "أضلع" بالضاد وبالعين وكذا حكاه القاضي عن جميع نسخ صحيح مسلم وهو الأصوب قال: ووقع في بعض روايات البخاري "أصلح" بالصاد والحاء قال النووي: وكذا في حاشية بعض نسخ صحيح مسلم ولكن الأول أصح وأجود مع أن الاثنين صحيحان ولعله قالهما جميعا ومعنى "أضلع" أقوى أفعل من الضلاعة وهي القوة. (لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا) "سوادي سواده" بفتح

السين أي لا يفارق شخصي شخصه وأصل الشخص يرى في البعد سوادا حتى يموت الأقرب الأعجل منا أي حتى يموت أحدنا وقيل: إن لفظ "الأعجل" تحريف وإنما هو "الأعجز". (فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل) أي فلم ألبث يقال: نشب بعضهم في بعض أي دخل وتعلق أي لم أتعلق بشيء ولم يخطر ببالي شيء بعد هذا القول حتى نظرت إلى أبي جهل. (يزول في الناس) أي يضطرب ويتنقل في المواضع ولا يستقر في المكان والزوال القلق وفي رواية للبخاري "يجول" بالجيم وقال النووي: هكذا هو في جميع نسخ بلادنا "يزول" بالزاي والواو قال القاضي: ووقع عند بعضهم "يرفل" بالراء والفاء والأول أظهر وأوجه فإن صحت الرواية الثانية فمعناه يسبل ثيابه ودرعه ويجره. (فابتدراه) أي سبقاه مسرعين. (حتى قتلاه) وفي رواية "ضرباه حتى برد" أي حتى صار في حالة من مات وقيل حتى فتر وسكن يقال: جد في الأمر حتى برد أي فتر وفي رواية "حتى برك" أي سقط على الأرض. (ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه) بأنهما قتلاه. (أيكما قتله؟ ) لما أخبراه بأنهما قتلاه احتمل الأمر أن يكون القاتل أحدهما وأن الآخر مساعد أو أحدهما على الحقيقة والآخر على المجاز فسأل عن القاتل الحقيقي. (فقال كل واحد منهما: أنا قتلت) في رواية البخاري "أنا قتلته" اعتقادا من كل منهما أن ضربه هو الذي قتل. (فقال: هل مسحتما سيفيكما) من الدم؟ . (قالا: لا فنظر في السيفين فقال: كلاكما قتله) قال المهلب: نظر صلى الله عليه وسلم في السيفين ليرى ما بلغ الدم من سيفيهما ومقدار عمق دخولهما في جسم المقتول ليحكم للسيف الذي هو أبلغ في ذلك وقيل: ليستدل بالسيفين على كيفية قتلهما وأن أحدهما ضرب الرجل مثلا والآخر ضرب الرقبة أو البطن أو الصدر وأيا ما كان فالهدف من النظر في السيفين الوصول إلى القاتل الحقيقي. فماذا وجد؟ قيل: وجد السيفين متشابهين وأن عمل كل من السيفين كعمل الآخر فقال كلاكما قتله أما أنه صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب لأحدهما فلأن الإمام مخير في السلب يفعل فيه ما يشاء هذا ما يقوله أصحاب مالك قال الطحاوي: فيه دليل على أن السلب لا يجب للقاتل بالقتل إذ لو وجب بذلك لقضى بالسلب لهما مناصفة ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ينتزعه من أحدهما فيدفعه إلى الآخر لأن كل واحد منهما -على هذا- له فيه من الحق مثل ما لصاحبه. وقيل: وجد السيفين متشابهين فقال: كلاكما قتله لكنه علم أن معاذ بن عمرو بن الجموح سبق

بالضرب فصار في حكم المثبت لجراحه المثخن له وجاءت الضربة الثانية فاشتركا في القتل إلا أن الأول قتله وهو ممتنع يمكن أن يدفع عن نفسه أما الثاني فقتله وهو مثبت فحكم بالسلب للأول لأن القتل الشرعي الذي يتعلق به استحقاق السلب هو الإثخان وإخراجه عن كونه ممتنعا. وقيل: وجد سيف معاذ بن عمرو بن الجموح السيف القاتل دون الآخر فحكم له بالسلب وقال: كلاكما قتله تطييبا لقلب الآخر من حيث إن له مشاركة في قتله. وقد جاء في البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه أتى أبا جهل وبه رمق يوم بدر فأخذ بلحيته وقال: أنت أبو جهل؟ وفي رواية الطبراني: أخزاك الله يا عدو الله وروى الحاكم في إكليله "مر ابن مسعود على أبي جهل فقال: الحمد لله الذي أعز الإسلام فقال أبو جهل: تشتمني يا رويعي هذيل؟ فقال: نعم والله وأقتلك. فحذفه أبو جهل بسيفه وقال: دونك هذا إذا فأخذه عبد الله فضربه حتى قتله وعن الحاكم قال ابن مسعود: فوجدته بآخر رمق فوضعت رجلي على عنقه فقال: لقد ارتقيت -يا رويع الغنم- مرتقى صعبا قال: ثم احتززت رأسه فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذه الروايات لا تعارض قوله في روايتنا "كلاكما قتله" لأن معناه كلاكما جعله في حالة من مات ولم يبق فيه سوى حركة المذبوح فأطلق عليه القتل باعتبار ما سيئول إليه وهذه الرواية وإن أثبتت الاشتراك في إنهاء القتل لكن السلب ثبت للذي أثخنه كما سبق. (والرجلان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء) قال النووي: هكذا رواه البخاري ومسلم وجاء في صحيح البخاري أيضا أن الذي ضربه ابنا عفراء. اهـ. وعفراء أمه بنت عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار وهو معاذ بن الحارث بن رفاعة بن سواد هكذا قال محمد بن إسحق وقال ابن هشام: هو معاذ بن الحارث بن عفراء بن سواد بن مالك بن النجار وادعى القرطبي أن رواية "ابنا عفراء" وهم من الرواة التبس عليهم معاذ بن الجموح بمعاذ بن عفراء وقال ابن الجوزي: ابن الجموح ليس من ولد عفراء ومعاذ بن عفراء ممن باشر قتل أبي جهل ولعل الحديث "ابن عفراء" فغلط الرواي فقال: ابنا عفراء وقال ابن التين: يحتمل أن يكونا أخوين لأم أو يكون بينهما رضاع. والله أعلم. (قتل رجل من حمير رجلا من العدو) في الرواية الرابعة يقول عوف بن مالك: "خرجت مع من خرج مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة ورافقني مددي من اليمن" يعني رافقني أثناء الغزوة رجل من المدد أي الذين جاءوا يمدون جيش مؤتة ويساعدونهم والقاتل هو مرافق عوف اليمني الحميري ففي رواية لأحمد قال عوف: فانضم إلينا رجل من أمداد حمير فأوى إلى رحلنا ليس معه شيء إلا سيف ليس معه سلاح غيره فلقينا عدونا وفيهم رجل من الروم على فرس أشقر وسرج مذهب ومنطقة ملطخة ذهبا وسيف مثل ذلك فجعل يحمل على القوم ويغري بهم فلم يزل ذلك المددي يحتال لذلك الرومي حتى مر به فاستقفاه فضرب عرقوب فرسه بالسيف فوقع ثم أتبعه ضربا بالسيف حتى قتله.

وغزوة مؤتة -بضم الميم وسكون الهمزة- قال النووي: ويجوز ترك الهمز كما في نظائره وهي قرية معروفة في طرف الشام عند الكرك. اهـ. قال ابن إسحق: وهي بالقرب من البلقاء وقال غيره: هي على مرحلتين من بيت المقدس وكانت في جمادى من السنة الثامنة على الصحيح ويقال: إن السبب فيها أن شرحبيل بن عمرو الغساني -وهو من أمراء قيصر على الشام قتل رسولا أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى صاحب بصرى فجهز النبي صلى الله عليه وسلم إليهم جيشا في ثلاثة آلاف كان فيهم عوف بن مالك. (فأراد سلبه فمنعه خالد بن الوليد وكان واليا عليهم) أي فأراد الرجل الحميري سلب المقتول أي ما كان معه من سيف وسرج ومنطقة مذهبة وغير ذلك فمنع خالد السلب عن الرجل أو منع خالد الرجل من الاستيلاء على السلب كله ففي رواية لأحمد "فلما فتح الله الفتح أقبل يسأل السلب وقد شهد له الناس بأنه قاتله فأعطاه خالد بعض سلبه وأمسك سائره" وكان خالد واليا عليهم يعني كان خالد قائدا لهذا الجيش وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر على الجيش زيد بن حارثة وقال: إن قتل زيد فجعفر بن أبي طالب وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة" فقتل زيد فأخذ الراية جعفر فقتل جعفر فأخذ الراية عبد الله بن رواحة فقتل عبد الله بن رواحة فأمر نفسه على الجيش خالد بن الوليد وأمره الجيش واختاروه وارتضوه فأخذ الراية ففتح الله به وأوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة ما حصل للجيش في الشام فأخبر به أصحابه وقال لهم: "أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذها جعفر فأصيب ثم أخذها ابن رواحة فأصيب حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم" فمنذ ذلك الحين سمي خالد بن الوليد سيف الله. (فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عوف بن مالك) وذلك بعد أن رجع الجيش وفي حضور خالد بن الوليد وفي رواية لأحمد: "فلما رجع الحميري إلى رحل عوف ذكر ما جرى بينه وبين خالد فقال له عوف: ارجع إليه فليعطك ما بقي فرجع إليه فأبى عليه فمشى عوف حتى أتى خالدا فقال: أما تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل؟ قال: بلى. قال: فما يمنعك أن تدفع إليه سلب قتيله؟ قال خالد: استكثرته له. قال عوف: لئن رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأذكرن ذلك له فلما قدم المدينة بعثه عوف فاستعدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدعا خالدا وعوف قاعد". (فمر خالد بعوف فجر بردائه) أي فانصرفوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر خالد بعوف في مكان قريب من رسول الله صلى الله عليه وسلم فجر عوف برداء خالد أي شده وجذبه تشفيا واستهتارا واستهزاء. (ثم قال: هل أنجزت لك ما ذكرت لك من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ) أي هل أنجزت لك وعيدي لك بأن أشكوك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والاستفهام توبيخي يستهزئ به ويتشفى فيه إذ حكم الرسول صلى الله عليه وسلم وفي رواية لأحمد "ليجزى لك ما ذكرت لك من رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي ليكفيك موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم منك ومحاسبته لك وإرغامك على تنفيذ ما طلبته منك.

(فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستغضب) أي فغضب أي فصار مغضبا بسبب تشفي البعض في البعض وبسبب استهانة الرعية بالولاة وكان قد سمع أن عوفا والحميري أطلقا لسانهما في خالد رضي الله عنه وانتهكا حرمة الوالي ومن ولاه. (فقال: لا تعطه يا خالد) مرتين أي لا تعط القاتل سلبه مطلقا؟ أو مؤقتا؟ تنكيلا به وعقوبة له. (هل أنتم تاركون لي أمرائي؟ ) يخاطب صلى الله عليه وسلم عوف بن مالك والحميري ومن يظاهرهما. قال النووي في بعض النسخ "هل أنتم تاركو لي أمرائي" بغير نون وفي بعضها "تاركون" بالنون وهو الأصل والأول صحيح أيضا وهي لغة معروفة وقد جاءت بها أحاديث كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم "لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا" اهـ. والاستفهام مراد منه الطلب على سبيل العرض والتحضيض أي اتركوا لي أمرائي لا تنقصوا من كرامتهم ولا تستهينوا بهم فالاستهانة بهم استهانة بمن ولاهم ووثق في صلاحيتهم. (إنما مثلكم ومثلهم كمثل رجل استرعى إبلا أو غنما فرعاها ثم تحين سقيها فأوردها حوضا فشرعت فيه فشربت صفوه وتركت كدره فصفوه لكم وكدره عليهم) هذا تشبيه تمثيل تشبيه هيئة بهيئة ويعود إلى تشبيهات مفردة فشبه الحاكم الأعلى براع وشبه الرعية عوف بن مالك والحميري وأضرابهما بإبله وغنمه وشبه عناية الحاكم بشعبه برعاية إبله وغنمه أكلا وشربا على أحسن ما يستطيع وشبه أعمال أمرائه بالماء صفوه وكدره فمعاملة الأمراء حسنة لا تخلو من إساءة كبشر وشبه معاملة الرعية للأمراء واستفادتهم من محاسنهم ثم تلمس أخطائهم والتشهير بهم بشرب الماء الصفو وتحميل الماء صورة الكدر وهكذا كانوا مع خالد بن الوليد سيف الله المسلول أفاد منه المسلمون النصر يوم مؤتة وهاهم يشهرون به من أجل سلب قتيل. ثم شبه الهيئة الحاصلة من المشبهات بالهيئة الحاصلة من المشبهات بها على سبيل التشبيه التمثيلي. ومعنى "ثم تحين سقيها" أي اختار لها الوقت والموضع المناسب لشربها عطشا وماء ومعنى "فأوردها حوضا" أي جاء بها إلى بئر ماء عذب عليه حوض لسقي الدواب فرفع الماء من البئر وملأ لها الحوض ومعنى "فشرعت فيه" بفتح الراء أي شربت منه يقال: شرع الوارد شرعا إذا تناول الماء بفيه والصفو في اللغة بفتح الصاد لا غير وهو الخالص قال النووي: فإذا ألحقوه الهاء فقالوا: الصفوة كانت الصاد مضمومة ومفتوحة ومكسورة ثلاث لغات. ثم قال: ومعنى الحديث أن الرعية يأخذون صفو الأمور فتصلهم أعطياتهم بغير نكد وتبتلى الولاة

بمقاساة الأمور وجمع الأموال على وجوهها وصرفها في وجهها وحفظ الرعية والشفقة عليهم والذب عنهم وإنصاف بعضهم من بعض ثم متى وقعت غلطة أو عتب في بعض ذلك توجه على الأمراء دون الناس. (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هوازن) "هوازن" قبيلة كبيرة من العرب فيها عدة بطون ينسبون إلى هوازن بن منصور بن عكرمة .. ابن مضر وهم القوم الذين قاتلهم المسلمون في غزوة حنين. (فبينما نحن نتضحى) أي نتغذى مأخوذ من الضحاء بفتح الضاد وهو الوقت الذي بعد امتداد النهار وبعد الضحى بضم الضاد وفي رواية لأحمد "ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يتصبحون" أي يأكلون وجبة الصباح. (إذ جاء رجل على جمل أحمر فأناخه) قريبا من المسلمين وقد نزلوا منزلا يستريحون في الطريق قبل المعركة ففي رواية لأحمد "نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلا فجاء عين من المشركين" وفي رواية له "رجل شاب". (ثم انتزع طلقا من حقبه فقيد به الجمل) قال النووي: أما الطلق بفتح الطاء واللام وهو العقال من جلد وأما قوله "من حقبه" فهو بفتح الحاء والقاف وهو حبل الشد على حقو البعير قال القاضي: لم يرد هذا الحرف إلا بفتح القاف قال: وكان بعض شيوخنا يقول: صوابه بإسكانها أي مما احتقب خلفه وجعله في حقيبته وهي الرمادة في مؤخر القتب ووقع هذا الحرف في سنن أبي داود. "حقوه" وفسره مؤخره قال القاضي: والأشبه عندي أن يكون "حقوه" في هذه الرواية "حجزته وخرامه" والحقو: معقد الإزار من الرجل وبه سمي الإزار حقوا ووقع في رواية "من جعبته" فإن صح ولم يكن تصحيفا فله وجه بأن علقه بجعبة سهامه وأدخله فيها. اهـ. والمقصود أن الرجل استخرج حبلا قيد به جمله ففي رواية لأحمد "فانتزع شيئا من حقب البعير فقيد به البعير". (ثم تقدم يتغدى مع القوم) في رواية لأحمد "ثم جاء يمشي حتى قعد معنا يتغدى" وفي رواية "فدعوه إلى طعامهم". (وجعل ينظر) في القوم يجمع في نفسه معلومات عن المسلمين عددا وظهرا وصحة وقوة وعتادا. (وفينا ضعفة ورقة في الظهر وبعضنا مشاة) قال النووي: "ضعفة" ضبطوه على وجهين الصحيح المشهور ورواية الأكثرين بفتح الضاد وإسكان العين أي حالة ضعف وهزال قال القاضي: وهذا الوجه هو الصواب والثاني بفتح العين جمع ضعيف وفي بعض النسخ "وفينا ضعف" بحذف الهاء. اهـ. وفي رواية لأحمد "وعامتنا مشاة" وفي رواية "فنظر في القوم فإذا ظهرهم فيه قلة وأكثرهم مشاة".

(إذ خرج يشتد) أي يعدو أي يشتد في سيره ويسرع وفي رواية لأحمد "فلما رأى ضعفهم وقلة ظهرهم خرج إلى جمله" وفي رواية له "فلما طعم انسل" وفي رواية "فلما نظر إلى القوم خرج يعدو". (فأتى جمله فأطلق قيده ثم أناخه وقعد عليه فأثاره فاشتد به الجمل) أي فحل عقال الجمل فوقف الجمل فأناخه وركبه وهيجه ليقوم ويجري فجرى به مسرعا وفي رواية "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "على الرجل اقتلوه" قال: فابتدر القوم أي تسابقوا إلى اللحاق به. (فاتبعه رجل على ناقة ورقاء وخرجت أشتد) الورقاء رمادية اللون وفي رواية لأحمد "فاتبعه رجل منا من أسلم على ناقة له ورقاء" وفي رواية "على ناقة ورقاء هي أمثل ظهر القوم فاتبعته وخرجت أعدو" وفي رواية "فاتبعته أعدو على رجلي" وفي رواية يقول إياس بن سلمة: "وكان أبي يسبق الفرس شدا فسبقهم إليه". (فكنت عند ورك الناقة) أي ناقة الصحابي الذي يجري خلف الرجل. (ثم تقدمت حتى كنت عند ورك الجمل) جمل الجاسوس. (ثم تقدمت حتى أخذت بخطام الجمل فأنخته) أي شددت الخطام إلى أسفل وطلبت منه أن ينخ وفي رواية لأحمد "ثم أخذت بخطام الجمل فقلت له أخ. أخ". (فلما وضع ركبته في الأرض اخترطت سيفي فضربت رأس الرجل فندر) أي فلما برك الجمل اخترطت سيفي -أي سللته من غمده- فضربت عنق الرجل فندر رأسه أي سقط منفصلا عن العنق. (ثم جئت بالجمل أقوده عليه رحله وسلاحه) في رواية لأحمد "ثم جئت براحلته وما عليها أقودها". (له سلبه أجمع) أي كله. -[فقه الحديث]- يمكن حصر نقاط هذا الموضوع في خمس: 1 - هل السلب للقاتل سواء قال الإمام: من قتل قتيلا فله سلبه أم لم يقل؟ 2 - وهل السلب حق للقاتل وإن لم يكن مقاتلا هو؟ أو المقتول؟ 3 - وهل السلب لمن ادعى القتل وإن لم يقم البينة؟ 4 - وهل السلب يخمس كالغنيمة؟ 5 - وماذا يؤخذ من الأحاديث من الأحكام غير ما تقدم؟

وهذا هو التفصيل: 1 - هل السلب للقاتل سواء قال الإمام: من قتل قتيلا فله سلبه أم لم يقل؟ قال الشافعي ومالك والأوزاعي والليث وأبو ثور والثوري وأحمد وإسحق وابن جرير وغيرهم: يستحق القاتل سلب القتيل في جميع الحروب سواء قال أمير الجيش (من قتل قتيلا فله سلبه) أم لم يقل ذلك قالوا: وما حدث من النبي صلى الله عليه وسلم هو فتوى وإخبار عن حكم الشرع فلا يتوقف استحقاق السلب على قول أحد وقال أبو حنيفة ومالك ومن تابعهما: لا يستحق القاتل سلب القتيل بمجرد القتل بل هو لجميع الغانمين كسائر الغنمية إلا أن يقول الأمير قبل القتال: من قتل قتيلا فله سلبه وحملوا الحديث على هذا وجعلوا هذا إطلاقا من النبي صلى الله عليه وسلم وليس بفتوى ولا إخبار عام قال النووي: وهذا الذي قالوه ضعيف لأنه صرح في هذا الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا بعد الفراغ من القتال واجتماع الغنائم. اهـ. وهذا واضح من الرواية الأولى ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى سلب أبي جهل ولم يكن قد قال ذلك قبل المعركة وخالد بن الوليد لم يقل ذلك وسلم السلب للقاتل وكذا لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وأعطى السلب لسلمة بن الأكوع قال مالك: يكره للإمام أن يقول: من قتل قتيلا فله سلبه لئلا تضعف نيات المجاهدين وعند الحنفية: لا كراهة له في ذلك. 2 - وهل السلب حق للقاتل وإن لم يكن مقاتلا؟ هو؟ أو المقتول؟ . ثم إن الشافعي يشترط في استحقاق السلب أن يغزو بنفسه في قتل كافر ممتنع في حال القتال قال النووي: والأصح أن القاتل لو كان ممن له رضخ ولا سهم له كالمرأة والصبي والعبد استحق السلب وقال مالك: لا يستحقه إلا المقاتل وقال الأوزاعي والشاميون: لا يستحق السلب إلا في قتيل قتله قبل الالتحام في الحرب فأما من قتل في التحام الحرب فلا يستحقه. اهـ. وقال الحافظ ابن حجر: استدل بعموم قوله "من قتل قتيلا فله سلبه" على دخول من لا يسهم له وعن الشافعي في قول وبه قال مالك: لا يستحق السلب إلا من استحق السهم قال: لأنه إذا لم يستحق السهم فلا يستحق السلب بطريق الأولى وعورض بأن السهم علق على المظنة والسلب يستحق للقاتل بالفعل فهو أولى وهذا هو الأصل قال الحافظ: واستدل به على أن السلب للقاتل في كل حال حتى قال أبو ثور وابن المنذر: يستحقه ولو كان المقتول منهزما وقال أحمد: لا يستحق إلا بالمبارزة قال الحافظ: واستدل به على أن السلب يستحقه القاتل من كل مقتول حتى ولو كان المقتول امرأة وبه قال أبو ثور وابن المنذر وقال الجمهور: شرطه أن يكون المقتول من المقاتلة. 3 - وهل السلب لمن ادعى القتل وإن لم يقم البينة؟ . قال الحافظ ابن حجر: واتفقوا (أي الشافعية) على أنه لا يقبل قول من ادعى السلب إلا ببينة تشهد له بأنه قتله والحجة فيه قوله في الحديث (في روايتنا الأولى) "له عليه بينة" فمفهومه أنه إذا لم تكن له بينة لا يقبل وسياق أبي قتادة يشهد لذلك. اهـ. قال النووي: وقال مالك والأوزاعي: يعطى بقوله بلا بينة قالا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه السلب في هذا الحديث [روايتنا الأولى] بقول واحد

ولم يحلفه قال الحافظ: وقع في مغازي الواقدي أن أوس بن خولى شهد لأبي قتادة وعلي تقدير أنه لا يصح فيحمل على أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أنه القاتل بطريق من الطرق وأبعد من قال من المالكية أن المراد بالبينة (في الحديث) هنا الذي أقر له أن السلب عنده فهو شاهد والشاهد الثاني وجود السلب فإنه بمنزلة الشاهد على أنه قتله ولذلك جعل لوثا في باب القسامة. وقيل: إنما استحقه أبو قتادة بإقرار الذي هو بيده وهذا ضعيف لأن الإقرار إنما يفيد إذا كان المال منسوبا لمن هو بيده فيؤاخذ بإقراره والمال هنا منسوب لجميع الجيش ونقل ابن عطية عن أكثر الفقهاء أن البينة هنا شاهد واحد يكتفى به. 4 - وهل السلب يخمس كالغنيمة؟ . وفي تخميس السلب أربعة أقوال: لا يخمس مطلقا -يخمس مطلقا -يخمس إذا كان كثيرا- الإمام بالخيار. فالجمهور على أن القاتل يستحق السلب كله دون تخميس قل السلب أو كثر وهو قول ضعيف للشافعي وبه قال أحمد وابن جرير وابن المنذر وآخرون وعن مكحول والثوري ومالك: يخمس مطلقا وقد حكي عن الشافعي أيضا وتمسكوا بعموم قوله تعالى {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} ولم يستثن شيئا واحتج الجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم "من قتل قتيلا فله سلبه" فإنه خصص ذلك العموم وتعقب بأنه صلى الله عليه وسلم لم يقل "من قتل قتيلا فله سلبه" إلا يوم حنين قال مالك: لم يبلغني ذلك غير حنين وأجاب الشافعي وغيره بأن ذلك حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم في عدة مواطن منها يوم بدر في حديث مقتل أبي جهل فقد أعطى سلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح ومنها حديث حاطب بن أبي بلتعة أنه قتل رجلا يوم أحد فسلم له رسول الله صلى الله عليه وسلم سلبه أخرجه البيهقي ومنها حديث جابر أن عقيل بن أبي طالب قتل يوم مؤتة رجلا فنفله النبي صلى الله عليه وسلم درعه ثم كان ذلك مقررا عند الصحابة كما في روايتنا الثالثة ومحاورة عوف بن مالك وخالد بن الوليد ومنها حديث أحمد عن عبد الله بن الزبير قال: "كانت صفية في حصن حسان بن ثابت يوم الخندق" فذكر الحديث في قصة قتلها اليهودي وقولها لحسان "انزل فاسلبه فقال: ما لي بسلبه حاجة". وقال عمر بن الخطاب: يخمس إذا كثر وبه قال إسحق وابن راهويه. وعن مالك رواية اختارها إسماعيل القاضي أن الإمام بالخيار إن شاء خمس وإلا فلا. -[5 - ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - من الحديث الأول من قوله "كانت للمسلمين جولة" تحاشى الصحابة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهزيمة قال النووي: الأحاديث الصحيحة المشهورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يول هو وطائفة معه في غزوة حنين وقد نقلوا إجماع المسلمين على أنه لا يجوز أن يقال: "انهزم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرو أحد قط أنه انهزم بنفسه صلى الله عليه وسلم في موطن من المواطن بل ثبتت الأحاديث الصحيحة بإقدامه وثباته صلى الله عليه وسلم في جميع المواطن.

2 - استدل بقول أبي بكر "لاها الله" أن هذه اللفظة تكون يمينا قال الشافعية: إن نوى بها اليمين كانت يمينا وإلا فلا لأنها ليست متعارفة في الأيمان. 3 - في قول أبي بكر "إذن لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله" إلخ فضيلة ظاهرة لأبي بكر في إفتائه بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم واستدلاله لذلك وتصديق النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. 4 - وفيه منقبة وفضيلة ظاهرة لأبي قتادة فإن أبا بكر سماه أسدا من أسد الله تعالى يقاتل عن الله ورسوله وصدقه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله "صدق". 5 - ومن الرواية الثانية المبادرة إلى الخيرات والاستباق إلى الفضائل. 6 - والغضب لله ورسوله صلى الله عليه وسلم. 7 - وينبغي أن لا يحتقر أحد فقد يكون بعض من يستصغر عن القيام بأمر أكبر مما في النفوس وأحق بذلك الأمر كما جرى لهذين الغلامين. 8 - ومن الرواية الثالثة أن الأمير يجتهد وإن أخطأ. 9 - وحماية الوالي من الانتقاص بدون وجه والاستهزاء به وإن أخطأ. 10 - وتعزير المخطئ وعقابه بالحرمان من الخير وقد يقال: إذا كان السلب حقا للقاتل فكيف منعه رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه؟ أجاب النووي: فقال: لعله أعطاه بعد ذلك للقاتل وإنما أخره تعزيرا له ولعوف بن مالك لكونهما أطلقا ألسنتهما في خالد رضي الله عنه وانتهكا حرمة الوالي ومن ولاه. الوجه الثاني: لعله استطاب قلب صاحب السلب فتركه صاحبه باختياره وجعله للمسلمين وكان المقصود بذلك استطابة قلب خالد للمصلحة في إكرام الأمراء. اهـ. والوجه الأول أحرى بالقبول ويمكن أن يستدل بهذا على أن الإمام مخير في السلب إن شاء أعطاه للقاتل وإن شاء جعله غنيمة. 11 - وجواز القضاء في حالة الغضب ونفوذه وأن النهي في ذلك للتنزيه. 12 - ومن الرواية الرابعة من قوله "فاستقبلني رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه" استقبال السرايا. 13 - والثناء على من فعل جميلا. 14 - وقتل الجاسوس الكافر الحربي إذا دخل بغير أمان والظاهر أنه أوهم المسلمين أنه مؤمن له أمان فلما قضى حاجته انطلق مسرعا ففطن له أنه حربي دخل بغير أمان قال النووي: وهو كذلك بإجماع المسلمين وأما الجاسوس المعاهد والذمي فقال مالك والأوزاعي: يصير ناقضا للعهد فإن رأى استرقاقه أرقه ويجوز قتله وقال جماهير العلماء: لا ينتقض عهده بذلك قال الشافعية: إلا أن يكون قد شرط عليه انتقاض العهد بذلك.

وأما الجاسوس المسلم فقال الشافعي والأوزاعي وأبو حنيفة وبعض المالكية وجماهير العلماء: يعزره الإمام بما يرى من ضرب وحبس ونحوهما ولا يجوز قتله وقال مالك: يجتهد فيه الإمام ولم يفسر الاجتهاد وقال القاضي عياض: قال كبار أصحابه: يقتل وقال: واختلفوا في تركه بالتوبة قال ابن الماجشون: إن عرف بذلك قتل وإلا عزر. 15 - وفيه استحباب مجانسة الكلام إذا لم يكن فيه تكلف ولا فوات مصلحة. والله أعلم.

(478) باب التنفيل وفداء المسلمين بالأسارى

(478) باب التنفيل وفداء المسلمين بالأسارى 4018 - عن إياس بن سلمة حدثني أبي قال: غزونا فزارة وعلينا أبو بكر أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا. فلما كان بيننا وبين الماء ساعة أمرنا أبو بكر فعرسنا ثم شن الغارة فورد الماء فقتل من قتل عليه وسبى. وأنظر إلى عنق من الناس فيهم الذراري فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل فرميت بسهم بينهم وبين الجبل فلما رأوا السهم وقفوا فجئت بهم أسوقهم وفيهم امرأة من بني فزارة عليها قشع من أدم قال: القشع النطع معها ابنة لها من أحسن العرب فسقتهم حتى أتيت بهم أبا بكر فنفلني أبو بكر ابنتها فقدمنا المدينة وما كشفت لها ثوبا فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم في السوق فقال "يا سلمة هب لي المرأة" فقلت: يا رسول الله والله لقد أعجبتني وما كشفت لها ثوبا ثم لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد في السوق فقال لي "يا سلمة هب لي المرأة لله أبوك" فقلت: هي لك يا رسول لله. فوالله ما كشفت لها ثوبا. فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة ففدى بها ناسا من المسلمين كانوا أسروا بمكة". -[المعنى العام]- يقول الله تعالى {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول} بهذا فطم الله نفوس الجند المشرئبة إلى الغنائم وبهذا التنفيل الذي منحه الله لرسوله ومنحه رسول الله صلى الله عليه وسلم لولاته وقادته تنافس المسلمون بعامة والمجاهدون في سبيل الله بخاصة في وجوه الخير والدفاع عن الإسلام ومواجهة أعداء الدعوة بحزم وشجاعة وقوة. وإذا كان للإمام حق التنفيل والإكرام والمكافأة فمن حسن خلقه -إذا احتاج إلى ما وهب لمصلحة أكبر- أن يطلب من الموهوب له أن يهبه صلى الله عليه وسلم ما حصل عليه ومن حق الموهوب له في مثل هذه الحالة أن يتمسك بما ملك وإن كان الأكرم له أن يبادر إلى إجابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عملا بقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} [الأنفال: 24]. وقصة هذا الحديث تحكي هذا الموقف -سلمة بن الأكوع البطل الشجاع الفقير الذي لا يملك في الجهاد ما يحمله إلا ساقين مسرعتين تسبقان الإبل غزا مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه قبيلة فزارة

وقبل الهجوم طلب قائد الجيش أبو بكر من جنده الاستراحة آخر الليل على بعد ساعة من ماء القوم فلما أشرق الصباح أمر بالهجوم على الأعداء فقتل منهم من قتل وسبى من سبى وهرب الباقون ورأى سلمة جماعة من الأعداء يحاولون في فرارهم اللجوء إلى شعاب الجبل فأرسل سهما بينهم وبين الجبل يوهمهم أن الجبل في سيطرة المسلمين فوقفوا رجالا ونساء وأطفالا. فقال لهم: استسلموا. من يرفع رأسه منكم فسأقطع رقبته فاستسلموا وساقهم سلمة إلى أبي بكر فكافأه أبو بكر بابنة جميلة من أشراف القوم زيادة على سهمه من الغنيمة وكان كثيرا ما يسهم له سهمان كالفارس الذي معه فرس لأنه في سرعته وشجاعته يعدل من معه فرس فلما قدموا المدينة وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما جرى طلب من سلمة أن يهبه الفتاة ليفدي بها أناسا من المسلمين أسروا لدى قريش بمكة فاعتذر سلمة بأنه أحبها ويصعب عليه التنازل عنها وكان من كريم خلقه صلى الله عليه وسلم أن سكت ولم يرغمه بل لم يعنفه بل لم يلمه وانصرف عنه فلما قابله في اليوم الثاني قال له: يا سلمة هب لي المرأة لأفدي بها جماعة من أسرى المسلمين فهي عندك فتاة وسأعوضك خيرا منها لكنها عند قومها ذات قدر يفدي بها عدد من الرجال فوهبها له سلمة ففدى بها ناسا من المسلمين. -[المباحث العربية]- (عن إياس بن سلمة عن أبيه) سلمة بن الأكوع رضي الله عنه. (غزونا فزارة) وهي من غطفان. (فلما كان بيننا وبين الماء ساعة) قال النووي: هكذا رواه جمهور رواة صحيح مسلم وفي رواية بعضهم "بيننا وبين الماء ساعة" والصواب الأول اهـ. أي ذكر "فلما كان". (أمرنا أبو بكر فعرسنا) التعريس النزول آخر الليل أي أمرنا بالتوقف عن المسير والاستراحة آخر الليل. (ثم شن الغارة) أي فرقها وبدأها. (وأنظر إلى عنق من الناس) أي إلى جماعة من الناس أي ورأيت جماعة من الرجال معهم النساء والأطفال وهم من الأعداء يريدون أن يدخلوا الجبل ليتفرقوا في شعابه ويحتموا به. (فيهم الذراري) أي مع هؤلاء الرجال النساء والأطفال. (فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل) فلا أقدر عليهم. (فرميت بسهم بينهم وبين الجبل) فتوقفوا وظنوا أن الجبل عليه رماة من المسلمين فخافوا أن يتجهوا نحوه.

(فلما رأوا السهم وقفوا) خائفين مستسلمين. (فجئت بهم أسوقهم) أمامي أسرى. (وفيهم امرأة من بني فزارة عليها قشع من أدم) "القشع" بفتح القاف وكسرها لغتان مشهورتان مع سكون الشين. وفسره الراوي بالنطع وهو صحيح. اهـ. أي عليها كساء من جلد مدبوغ. (فنفلني أبو بكر ابنتها) "فنفلني" بتشديد الفاء والتنفيل إعطاء نافلة زائدة على الحق الواجب. (وما كشفت لها ثوبا) كناية عن عدم مواقعتها. (فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم في السوق) أي في سوق المدينة. (هب لي المرأة) التي نفلك أبو بكر إياها وهي ابنة الفزارية. (فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لقد أعجبتني) اعتذار عن عدم الإجابة إلى الهبة المطلوبة لكن بأدب. -[فقه الحديث]- الحديث ظاهر في جواز تنفيل الإمام أو القائد بعض الرعية أو أحد أفراد الجيش تشجيعا وإكراما له على جهد في الخير قال النووي: وقد يحتج به من يقول: التنفيل من أصل الغنيمة وقد يجيب عنه الآخرون بأنه حسب قيمتها ليعوض أهل الخمس عن حصتهم كما هو ظاهر فيما ترجم له من جواز فداء أسرى المسلمين. وجواز التفريق بين الأم وولدها البالغ ولا خلاف في جوازه عن الشافعية. وجواز استيهاب الإمام أهل جيشه بعض ما غنموه ليفادي به مسلما أو يصرفه في مصالح المسلمين أو يتألف به من في تألفه مصلحة كما فعل صلى الله عليه وسلم هنا وفي غنائم حنين. وجواز قول الإنسان للآخر: لله أبوك ولله درك. ولهذا الحديث علاقة بباب الأنفال المذكور قبل باب. والله أعلم.

(479) باب حكم الفيء

(479) باب حكم الفيء 4019 - عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها: وقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أيما قرية أتيتموها وأقمتم فيها فسهمكم فيها. وأيما قرية عصت الله ورسوله فإن خمسها لله ولرسوله ثم هي لكم". 4020 - عن عمر رضي الله عنه قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة. فكان ينفق على أهله نفقة سنة وما بقي يجعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله. 4021 - عن مالك بن أوس قال: أرسل إلي عمر بن الخطاب فجئته حين تعالى النهار قال: فوجدته في بيته جالسا على سرير مفضيا إلى رماله متكئا على وسادة من أدم فقال لي: يا مال إنه قد دف أهل أبيات من قومك وقد أمرت فيهم برضخ فخذه فاقسمه بينهم. قال: قلت: لو أمرت بهذا غيري قال: خذه يا مال. قال: فجاء يرفا فقال هل لك يا أمير المؤمنين في عثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد؟ فقال عمر: نعم فأذن لهم فدخلوا ثم جاء فقال: هل لك في عباس وعلي؟ قال: نعم فأذن لهما. فقال عباس يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن فقال القوم أجل يا أمير المؤمنين فاقض بينهم وأرحهم فقال مالك بن أوس: يخيل إلي أنهم قد كانوا قدموهم لذلك. فقال عمر اتئدا أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا نورث ما تركنا صدقة"؟ قالوا: نعم ثم أقبل على العباس وعلي فقال: أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا نورث ما تركناه صدقة"؟ قالا: نعم. فقال عمر: إن الله جل وعز كان خص رسوله صلى الله عليه وسلم بخاصة لم يخصص بها أحدا غيره قال {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول} [الحشر: 7] (ما أدري هل قرأ الآية التي قبلها أم لا) قال: فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينكم أموال

بني النضير فوالله ما استأثر عليكم ولا أخذها دونكم حتى بقي هذا المال فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ منه نفقة سنة ثم يجعل ما بقي أسوة المال. ثم قال: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون ذلك؟ قالوا: نعم ثم نشد عباسا وعليا بمثل ما نشد به القوم أتعلمان ذلك؟ قالا: نعم. قال: فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئتما تطلب ميراثك من ابن أخيك ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها فقال أبو بكر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما نورث ما تركناه صدقة" فرأيتماه كاذبا آثما غادرا خائنا والله يعلم إنه لصادق بار راشد تابع للحق ثم توفي أبو بكر وأنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم وولي أبي بكر فرأيتماني كاذبا آثما غادرا خائنا والله يعلم إني لصادق بار راشد تابع للحق فوليتها. ثم جئتني أنت وهذا وأنتما جميع وأمر كما واحد فقلتما ادفعها إلينا. فقلت: إن شئتم دفعتها إليكما على أن عليكما عهد الله أن تعملا فيها بالذي كان يعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذتماها بذلك. قال أكذلك؟ قالا: نعم. قال: ثم جئتماني لأقضي بينكما ولا والله لا أقضي بينكما بغير ذلك حتى تقوم الساعة فإن عجزتما عنها فرداها إلي. 4022 - عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: أرسل إلي عمر بن الخطاب فقال: إنه قد حضر أهل أبيات من قومك بنحو حديث مالك غير أن فيه فكان ينفق على أهله منه سنة وربما قال معمر: يحبس قوت أهله منه سنة ثم يجعل ما بقي منه مجعل مال الله عز وجل. 4023 - عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أردن أن يبعثن عثمان بن عفان إلى أبي بكر فيسألنه ميراثهن من النبي صلى الله عليه وسلم قالت عائشة لهن: أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا نورث ما تركنا فهو صدقة"؟ . 4024 - عن عائشة رضي الله عنها أنها أخبرته أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا نورث ما تركنا صدقة إنما يأكل آل محمد صلى الله عليه وسلم في هذا المال" وإني والله لا أغير شيئا من صدقة رسول

الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة شيئا فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك قال: فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت. وعاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة. أشهر فلما توفيت دفنها زوجها علي بن أبي طالب ليلا ولم يؤذن بها أبا بكر. وصلى عليها علي وكان لعلي من الناس وجهة حياة فاطمة فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته ولم يكن بايع تلك الأشهر فأرسل إلى أبي بكر أن ائتنا ولا يأتنا معك أحد كراهية محضر عمر بن الخطاب فقال عمر لأبي بكر والله لا تدخل عليهم وحدك فقال أبو بكر وما عساهم أن يفعلوا بي إني والله لآتينهم فدخل عليهم أبو بكر. فتشهد علي بن أبي طالب ثم قال: إنا قد عرفنا يا أبا بكر فضيلتك وما أعطاك الله ولم ننفس عليك خيرا ساقه الله إليك ولكنك استبددت علينا بالأمر وكنا نحن نرى لنا حقا لقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل يكلم أبا بكر. حتى فاضت عينا أبي بكر فلما تكلم أبو بكر قال: والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي. وأما الذي شجر بيني وبينكم من هذه الأموال فإني لم آل فيها عن الحق ولم أترك أمرا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيها إلا صنعته. فقال علي لأبي بكر: موعدك العشية للبيعة. فلما صلى أبو بكر صلاة الظهر رقي على المنبر فتشهد وذكر شأن علي وتخلفه عن البيعة وعذره بالذي اعتذر إليه. ثم استغفر وتشهد علي بن أبي طالب فعظم حق أبي بكر وأنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبي بكر ولا إنكارا للذي فضله الله به ولكنا كنا نرى لنا في الأمر نصيبا فاستبد علينا به فوجدنا في أنفسنا. فسر بذلك المسلمون وقالوا: أصبت. فكان المسلمون إلى علي قريبا حين راجع الأمر المعروف. 4025 - عن عائشة رضي الله عنها أن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما حينئذ يطلبان أرضه من فدك وسهمه من خيبر فقال لهما أبو بكر: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وساق الحديث بمثل معنى حديث عقيل عن الزهري غير أنه قال: ثم قام علي فعظم من حق أبي بكر وذكر فضيلته وسابقته. ثم مضى إلى أبي بكر فبايعه فأقبل الناس إلى علي: فقالوا أصبت وأحسنت فكان الناس قريبا إلى علي حين قارب الأمر المعروف.

4026 - عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم سألت أبا بكر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن يقسم لها ميراثها مما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه. فقال لها أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا نورث ما تركنا صدقة" قال: وعاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر. وكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة. فأبى أبو بكر عليها ذلك. وقال: لست تاركا شيئا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به إني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي وعباس فغلبه عليها علي. وأما خيبر وفدك فأمسكهما عمر. وقال: هما صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه وأمرهما إلى من ولي الأمر. قال: فهما على ذلك إلى اليوم. 4027 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا يقتسم ورثتي دينارا. ما تركت بعد نفقة نسائي ومئونة عاملي فهو صدقة". 4028 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا نورث ما تركنا صدقة". -[المعنى العام]- أحل الله الغنيمة وأموال الكفار والمحاربين لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين وإذا كانوا قد استباحوا دماء المسلمين واستباح المسلمون دماءهم في ميادين القتال فأموالهم ليست أعز من دمائهم وكانت الحروب في ديانات سابقة مشروعة والغنائم مشروعة لكنها لم تكن يملكها المجاهدون أما في الإسلام فقد أخذت صورا وأشكالا فما استولى عليه المجاهد المسلم من ملابس كافر وسلاحه وفرسه وما معه في مقاتلة بينه وبينه قبل المعركة هو للمجاهد الذي قتل الكافر ويسمى بالسلب وما استولى عليه جيش المسلمين من أموال الكفار نتيجة لقتال يقسم خمسة أقسام: أربعة منها للمجاهدين والخمس يصرفه الحاكم في مصالح المسلمين وما تم الاستيلاء عليه من أموال الكافرين ينفق منه على أهله ويصرف الباقي في مصالح المسلمين ومن هذا النوع الأخير كانت أموال بني النضير إذ اصطلحوا قبل القتال على أن يجلوا عن قريتهم ونخيلهم على أن يحملوا ما تستطيعه إبلهم عدا السلاح وكذلك أهل فدك من اليهود ونخيل وهبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة كل ذلك حازه رسول

الله صلى الله عليه وسلم وكان ينفق منه على أهله وعلى المحتاجين من المهاجرين وعلى الفقراء والمساكين واليتامى وابن السبيل وتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك أعيان هذه الأموال. فظنت فاطمة وزوجها علي والعباس ونساء النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهن أن رقاب وأعيان هذه الأراضي وهذه النخيل كانت ملكا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يورث لفاطمة النصف ولنساء النبي صلى الله عليه وسلم الثمن وللعباس عمه الباقي فطلبوا من أبي بكر أن يسلمهم ميراثهم فقال لهم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا نورث ما تركناه صدقة" وقال لهم: لكم عندي أن أنفق عليكم من هذه الممتلكات كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ولكن الأعيان وما زاد عن نفقاتكم ملك للدولة يصرفها الحاكم في الوجوه التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرفها فيها وغضب بعضهم من أبي بكر وقيل بعضهم حكم الله وبعد عامين استخلف عمر رضي الله عنه فذهب إليه العباس وعلي يستطلعان رأيه فيما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدا رأيه من رأي أبي بكر فطلبا منه أن يتوليا إدارة أرض بني النضير ونخيلهم وكلاء عن الخليفة على أن يصرفوها في الوجوه التي كان يصرفها فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر فسلمها لهم دون قسمة فاختلفا وتنازعا وغلب علي عمه عليها فذهبا إلى عمر مرة أخرى يختصمان فأنبهما وهددهما باستيلائه عليها وانتزاعها منهما إن لم يتفقا على إدارتها وإن عجزا على أن يصلحا ما بينهما فقاما من عنده وتركا الخصومة وتنازل العباس لعلي رضي الله عنهم أجمعين. -[المباحث العربية]- (الفيء) الغنمية تنال بلا قتال يقال: فاء فيئا رجع وأفاء عليه الخير جلبه له وأفاء عليه المال جعله فيئا له دون مقابل. (أيما قرية أتيتموها وأقمتم فيها فسهمكم فيها) "أيما" هي "أي" زيدت عليها "ما". (وأيما قرية عصت الله ورسوله فإن خمسها لله ولرسوله ثم هي لكم) قال القاضي: يحتمل أن يكون المراد بالقرية الأولى الفيء الذي لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب بل جلا عنه أهله أو صالحوا عليه فيكون سهمهم فيها أي حقهم من العطايا كما يصرف الفيء ويكون المراد بالقرية الثانية ما أخذ عنوة فيكون غنيمة ويخرج منه الخمس وباقيه للغانمين وهو معنى قوله: "ثم هي لكم" أي باقيها. (كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب) الإيجاف الإسراع ولم يختلف العلماء في أن أموال بني النضير كانت خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم وأن المسلمين لم يوجفوا عليهم بخيل ولا ركاب وأنه لم يقع بينهم قتال أصلا. وكان طوائف اليهود الثلاث قريظة والنضير وقينقاع قد وادعهم النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا يحاربوه ولا يمالئوا عليه عدوه فكان أول من نقض العهد من اليهود بنو قينقاع فحاربهم صلى الله عليه وسلم في

شوال بعد وقعة بدر فنزلوا على حكمه وأراد قتلهم فاستوهبهم منه عبد الله بن أبي وكانوا حلفاءه فوهبهم له وأخرجهم من المدينة إلى أذرعات ثم نقض العهد بنو النضير ثم نقضت قريظة. وكانت غزوة بني النضير على رأس ستة أشهر بعد وقعة بدر وكانت منازلهم ونخلهم بناحية المدينة فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على الجلاء وعلى أن لهم ما حملت الإبل من الأمتعة والأموال إلا السلاح فاحتملوا حتى أبواب بيوتهم فكانوا يخربون بيوتهم بأيديهم فيهدمونها ويحملون ما يوافقهم من خشبها وكان جلاؤهم إلى الشام وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل بني النضير يجعل له الرجل من صحابته نخلات يأكل منها فلما جعل الله له مال بني النضير كان يرد عليهم ما كانوا أعطوه بل روي أنه صلى الله عليه وسلم قال للأنصار لما فتح النضير: إن أحببتم قسمت بينكم ما أفاء الله علي وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في منازلكم وأموالكم وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا عنكم فاختاروا الثاني فكان يعطي من الفيء للمهاجرين المحتاجين. (فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة) قال النووي: هذا يؤيد مذهب الجمهور أنه لا خمس في الفيء. اهـ. وسيأتي الكلام على ذلك في فقه الحديث. (فكان ينفق على أهله نفقة سنة) أي يعزل لهم نفقة سنة ولكنه كان يضيق التقدير فتنفد قبل انقضاء السنة لصرف كثير منها في وجوه الخير ولهذا توفى صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة على شعير استدانه لأهله ولم يشبع ثلاثة أيام تباعا. (وما بقي يجعله في الكراع والسلاح) الكراع بضم الكاف الخيل والكراع من الإنسان ما دون الركبة إلى الكعب ومن البقر والغنم مستدق الساق العاري من اللحم. (مالك بن أوس) بن الحدثان بفتح الحاء والدال قال الحافظ ابن حجر: أبوه صحابي وأما هو فقد ذكر في الصحابة وقال ابن أبي حاتم وغيره: لا تصح له صحبه. قال الحافظ: لعله لم يدخل المدينة إلا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فدخل أبوه وصحب وتأخر هو مع إمكان ذلك. (قال: أرسل إلى عمر بن الخطاب) في رواية البخاري "بينما أنا جالس في أهلي حين متع النهار" بفتح الميم والتاء أي علا وامتد وقيل: هو ما قبل الزوال وهذا معنى قوله في روايتنا: فجئته حين تعالى النهار-"إذا رسول عمر بن الخطاب يأتيني فقال: أجب أمير المؤمنين فانطلقت معه حتى أدخل على عمر" أي حتى دخلت على عمر ففيه التعبير عن الماضي بالمضارع استحضارا للصورة. (فوجدته في بيته جالسا على سرير مفضيا إلى رماله) بضم الراء وكسرها والكسر أكثر وهو ما ينسج من سعف النخيل والرمال كل ما نسج وكان السرير قوائمه من الجريد وحصيره من الخوص والقصد من قوله "مفضيا إلى رماله" الإفادة بأنه لم يكن تحته فراش والعادة على أن يكون على السرير فراش ففي رواية البخاري "على رمال سرير ليس بينه وبينه فراش".

(متكئا على وسادة من أدم) بفتح الألف والدال والأديم الجلد المدبوغ والأدمة بفتح الهمزة والدال باطن الجلد وفي رواية البخاري "فسلمت عليه ثم جلست" (فقال لي: يا مال) أي يا مالك منادى حذف منه آخره ترخيما ويجوز في اللام الكسر على الأصل على لغة من ينتظر والضم على لغة من لا ينتظر أي على أنه صار اسما مستقلا فيعرب إعراب المنادى المفرد يبنى على الضم في محل نصب. (إنه قد دف أهل أبيات من قومك) الدف المشي بسرعة كأنهم جاءوا مسرعين للضر الذي نزل بهم وقيل: معناه السير اليسير أي ورد جماعة من قومك شيئا بعد شيء يسيرون قليلا قليلا وفي رواية البخاري "إنه قدم علينا من قومك أهل أبيات" وكأنهم قد أصابهم جدب في بلادهم فانتجعوا إلى المدينة. (وقد أمرت فيهم برضخ) بفتح الراء وسكون الضاد وهو العطية غير الكثيرة وغير المقدرة. (قلت: لو أمرت بهذا غيري) "لو" للتمني أي أتمنى أن تأمر بهذا غيري ويحتمل أنها شرطية محذوفة الجواب أي لكان خيرا. قال ذلك تحرجا من قبول أمانة قد يخطئ فيها. (قال: خذه يا مال) الظاهر أنه أخذه لعزم عمر عليه ثاني مرة وفي رواية البخاري "فاقبضه أيها المرء". (قال: فجاء يرفا) بفتح الياء وإسكان الراء بعدها فاء ثم ألف غير مهموز هكذا ذكره الجمهور ومنهم من همزه وهو حاجب عمر بن الخطاب ففي رواية البخاري "قال: فبينما أنا جالس عنده أتاه حاجبه يرفا" وكان يرفا هذا من موالي عمر أدرك الجاهلية ولا تعرف له صحبة يقال: إنه عاش إلى خلافة معاوية. (هل لك في عثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد؟ ) زاد في رواية "وطلحة" ونقص في رواية "عثمان بن عفان" والمراد هل تريد دخولهم فآذن لهم؟ (ثم جاء) يرفا مرة أخرى يستأذن عمر. (فقال: هل لك في عباس وعلي) وفي رواية البخاري "هل لك في علي وعباس"؟ زاد في رواية "يستأذنان"؟ (فقال عباس: يا أمير المؤمنين. اقض بيني وبين هذا ... ) المشار إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قال النووي: قال جماعة من العلماء: معناه هذا الكاذب إن لم ينصف -أي إن لم ينصفني من نفسه فهو كاذب فليس في ذلك اتهام ولا وصف بالكذب وغيره من الصفات المذكورة. وقال القاضي

عياض: قال المازري: هذا اللفظ الذي وقع لا يليق ظاهره بالعباس -أي لا يليق أن يصدر من العباس وحاشا لعلي أن يكون فيه بعض هذه الأوصاف فضلا عن كلها لسنا نقطع بالعصمة إلا للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن شهد له بها ولكنا مأمورون بحسن الظن بالصحابة رضي الله عنهم أجمعين ونفي كل رذيلة عنهم وإذا انسدت طرق تأويلها نسبنا الكذب إلى رواتها (الأولى أن نقول: نسبنا الخطأ إلى رواتها) وقد حمل هذا المعنى بعض الناس على أن أزال هذا اللفظ من نسخته تورعا عن إثبات مثل هذا [من الذين لم يذكروا هذا اللفظ الإمام البخاري] ولعله حمل الوهم على رواته. قال المازري: وإذا كان هذا اللفظ لا بد من إثباته ولم نضف الوهم إلى رواته فأجود ما حمل عليه أنه صدر من العباس على جهة الإدلال على ابن أخيه لأنه بمنزلة ابنه وقال مالا يعتقده وما يعلم براءة ذمة ابن أخيه منه ولعله قصد بذلك ردعه عما يعتقد أنه مخطئ فيه وأن هذه الأوصاف يتصف بها لو كان يفعل عن قصد وأن عليا كان لا يراها إلا موجبة لذلك في اعتقاده وهذا كما يقول المالكي: شارب النبيذ ناقص الدين والحنفي يعتقد أنه ليس بناقص فكل واحد محق في اعتقاده ولا بد من هذا التأويل لأن هذه القضية جرت في مجلس عمر رضي الله عنه وهو الخليفة وعثمان وسعد والزبير وعبد الرحمن رضي الله عنهم ولم ينكر أحد منهم هذا الكلام مع تشددهم في إنكار المنكر وما ذلك إلا لأنهم فهموا بقرينة الحال أنه تكلم بما لا يعتقد ظاهره مبالغة في الزجر قال المازري: وكذلك قول عمر رضي الله عنه: إنكما جئتما أبا بكر فرأيتماه كاذبا آثما غادرا خائنا وكذلك ذكر عن نفسه أنهما رأياه كذلك وتأويل هذا نحو ما سبق وهو أن المراد أنكما تعتقدان أن الواجب أن يفعل في هذه القضية خلاف ما فعلته أنا وأبو بكر فنحن على مقتضى رأيكما لو أتينا ما أتينا ونحن معتقدان ما تعتقدانه لكنا بهذه الأوصاف أو يكون معناه أن الإمام إنما يخالف إذا كان على هذه الأوصاف ويتهم في قضاياه فكأن مخالفتكما لنا تشعر من رآها أنكم تعتقدان ذلك فينا. والله أعلم. اهـ. وهذا الذي ذكره المازري حسن بالنسبة لقول عمر رضي الله عنه ومقبول فاختلاف وجهتي نظر بالنسبة لفهم حديث لا بأس به لكن الأمر يختلف في وصف أحد الخصمين الآخر بهذه الأوصاف في قضية يعرفها الرأي العام ويعرف الحق فيها من الباطل فالمسألة ليست عندية وإنما هناك حقيقة أرض أو ثمرتها واتفق على أن يتصرف فيها بأسلوب معين فقد روي عن عائشة قالت: كانت هذه الصدقة بيد علي منعها عباسا فغلبه عليها ثم كانت بيد الحسن ثم بيد الحسين ثم بيد علي بن الحسين والحسن بن الحسن ثم بيد زيد بن الحسن ثم بيد عبد الله بن الحسن حتى ولي العباسيون فقبضوها وزاد بعضهم أن إعراض العباس عنها كان في خلافة عثمان قال عمر بن شبة: سمعت أبا غسان يقول: إن الصدقة المذكورة اليوم بيد الخليفة يولي عليها من قبله من يقبضها ويفرقها في أهل الحاجة من أهل المدينة قال الحافظ ابن حجر: كان ذلك على رأس المائتين ثم تغيرت الأمور. اهـ. وفي السنن لأبي داود "أرادا أن عمر يقسمها لينفرد كل منهما بنظر ما يتولاه فامتنع عمر من ذلك وروي أنه قال لهما: "فأصلحا أمركما وإلا لم يرجع -والله- إليكما فقاما وتركا الخصومة". (فقال القوم: أجل يا أمير المؤمنين. فاقض بينهم وأرحهم) في

رواية "فقال الزبير بن العوام: اقض بينهما" فالقائل واحد منهم ونسب القول إلى جميعهم لموافقتهم له. (قال مالك بن أوس: يخيل إلي أنهم قد كانوا قدموهم لذلك) أي يظن أوس أن العباس وعليا قدما هذا الرهط من كبراء القوم ليدخلوا على عمر قبلهم. فيحضروا القضية ويتدخلوا في حلها. (اتئدا) اسم فعل أمر أي اصبرا وتمهلا حتى أشرح حالكما وحال ما جئتماني من أجله حتى يكون قضائي مبنيا على حيثيات الحكم وفي رواية البخاري "تؤيدكم" وفي رواية "أتيدوا" وفي رواية "أيتد". (أنشدكم بالله) الخطاب للقوم أي أسألكم بالله مأخوذ من النشيد وهو رفع الصوت يقال: أنشدتك ونشدتك بالله ونشدتك الله. (لا نورث) أي نحن معشر الأنبياء لا نورث وقيل: يتحدث عن نفسه وسيأتي في فقه الحديث. (ما تركنا صدقة) برفع صدقة و"ما" موصول والعائد في هذه الرواية محذوف ذكر في خطابه للعباس وعلي "ما تركناه" وبعض جهلة الشيعة يصحفه وفي رواية "ما تركناه فهو صدقة". (ما أدري هل قرأ الآية التي قبلها؟ أم لا؟ ) هذا كلام مالك بن أوس وأنه يشك هل قرأ عمر الآية التي قبلها المشتملة على حكمة الخصوصية أو لم يقرأها؟ وهي قوله تعالى {وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير} [الحشر: 6] نزلت في بني النضير سورة الحشر وقد ذكر في رواية البخاري الآية الأولى التي لم تذكر في رواية مسلم. (فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينكم أموال بني النضير) أي كان يوزع من ثمر نخل بني النضير على أهله وأقاربه كل حسب حاجته فيدخر لكل منهم قوت سنة مع إضافة احتياط للنوائب ثم يتصدق بجزء من الباقي ويجعل جزءا لشراء السلاح والعدة والخيل والركاب للجهاد في سبيل الله ومعنى ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يعط المجاهدين في هذه الغزوة شيئا من غنيمتها بصفتهم مجاهدين. (فوالله ما استأثر عليكم) أي ما قدم نفسه عليكم في الانتفاع بهذه الأموال. (ولا أخذها دونكم) في رواية البخاري "ووالله ما احتازها دونكم ولا استأثر بها عليكم قد أعطاكموه -أي هذا المال- وبثها فيكم" أي واساكم بها حسب حاجتكم. (حتى بقى هذا المال) متجددا كل عام لهذه المصارف. (فكان يأخذ منه نفقة سنة ثم يجعل ما بقي أسوة المال) أي

متأسيا بمال الله وفي الرواية الرابعة "يحبس قوت أهله منه سنة ثم يجعل ما بقي منه مجعل مال الله عز وجل". (فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم) في رواية البخاري "ثم توفى الله نبيه فقال أبو بكر" (فجئتما) أبا بكر. (فرأيتماه كاذبا ... ) أي فظننتماه .. والكلام هنا غير الكلام في "اقض بيني وبين هذا الكاذب .. " لأن هناك مواجهة صريحة بعيدة التأويل أما هنا فهو تعبير من عمر رضي الله عنه عما يظنان وقد يكون توهما وقد يكون على التشبيه أي حالكما كحال من يظن وقد يكون منه ومنهما من قبيل الخواطر والوساوس التي لا يؤاخذ عليها وليس في ذلك تصريح بانتقاصهما أبا بكر وعمر ومع ذلك كان الزهري الراوي عن مالك بن أوس يصرح بهذه الألفاظ تارة ويكنى عنها أخرى وكذلك كان يفعل مالك. وهي محذوفة في رواية البخاري. (والله يعلم إنه لصادق بار راشد تابع للحق) في رواية البخاري "فقبضها أبو بكر فعمل فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم". (ثم جئتني أنت وهذا) الخطاب للعباس والإشارة لعلي. (وأنتما جميع وأمركما واحد) أي وأنتما مجتمعان على رأي واحد وأمر واحد وفي ذلك تبكيت على اختلافهما أمامه الساعة. (فقلتما: ادفعها إلينا) أي ادفع أرض بني النضير إلينا نقوم نحن بتوزيع ثمارها بالطريقة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل فيها أي نكون وكلاء عن أمير المؤمنين في ذلك. ولا إشكال في هذه الرواية لكن جاء في رواية أن عمر قال: "جئتني يا عباس تسألني نصيبك من ابن أخيك ... فقلت لكما: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث" قال الحافظ ابن حجر: وفي ذلك إشكال شديد وهو أن أصل القصة صريح في أن العباس وعليا قد علما بأنه صلى الله عليه وسلم قال "لا نورث" فإن كانا قد سمعاه من النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يطلبانه من أبي بكر؟ وإن كانا إنما سمعاه من أبي بكر أو في زمنه بحيث أفاد عندهما العلم بذلك فكيف يطلبانه بعد ذلك من عمر؟ . وفي رفع هذا الإشكال ذكر أقوالا. منها: احتمال أن يكونا قد ظنا أن أبا بكر فهم في الحديث فهما قد يفهم غيره عمر على احتمال أن عموم قوله "لا نورث" مخصوص ببعض ما يخلفه دون بعض ولذلك نسب عمر إليهما أنهما كانا يعتقدان ظلم من خالفهما في ذلك ومنها أن سؤال العباس لعمر نصيبه من ابن أخيه ليقسم الأرض بينه وبين علي يقوم كل منها بالولاية على نصيبه حيث حصل الخلاف على الولاية الشائعة بينهما يؤيد هذا ما جاء عند أبي داود بلفظ "أرادا أن عمر يقسمها

لينفرد كل منهما بنظر ما يتولاه فامتنع عمر من ذلك وأراد أن لا يقع عليها اسم التقسيم" وعلى هذا اقتصر أكثر الشراح واستحسنوه. (تسأله ميراثها) ولم يكن بقى من أولاده صلى الله عليه وسلم غيرها. (مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر) قال القاضي عياض: صدقات النبي صلى الله عليه وسلم المذكورة في هذه الأحاديث صارت إليه بثلاثة حقوق. أحدها ما وهب له صلى الله عليه وسلم وذلك وصية مخيريق اليهودي عند إسلامه يوم أحد وكانت سبع حوائط في بني النضير (وكان يهوديا من بقايا بني قينقاع نازلا ببني النضير وشهد أحدا فقال: إن أصبت فأموالي لمحمد يضعها حيث أراه الله فقتل وكانت أمواله في بني النضير) وما أعطى الأنصار من أرضهم وهو ما لا يبلغه الماء وكان هذا ملكا له صلى الله عليه وسلم الثاني حقه من الفيء من أرض بني النضير حين أجلاهم فأعطى أكثرها للمهاجرين وبقى منها صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما منقولات بني النضير فحملوا منها ما حملته الإبل غير السلاح ثم قسم صلى الله عليه وسلم الباقي بين المسلمين وكذلك نصف أرض فدك صالح أهلها بعد فتح خيبر على نصف أرضها وكان خالصا له وكذلك ثلث أرض وادي القرى أخذه في الصلح حين صالح أهلها اليهود وكذلك حصنان من حصون خيبر وهما الوطيخ والسلالم أخذهما صلحا. الثالث: سهمه من خمس خيبر وما افتتح فيها عنوة فكانت هذه كلها ملكا لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة لاحق فيها لأحد غيره لكنه صلى الله عليه وسلم كان لا يستأثر بها بل ينفقها على أهله والمسلمين وللمصالح العامة وكل هذه صدقات محرمات التملك بعده. اهـ. (إنما يأكل آل محمد صلى الله عليه وسلم في هذا المال) أي لهم النفقة منه وليس لهم تملك رقبته. (وإني لا أغير شيئا من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي إذا كان صلى الله عليه وسلم لا يورث وإذا كان ما تركه لا تتملك رقابه للورثة من بعده بقيت منافع ما كان يملك على حالها ويقوم ولي الأمر مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوزيعها. (فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة شيئا) من أملاكه صلى الله عليه وسلم لا للتملك ولا لتولي أمره وكذلك فعل أبو بكر مع العباس وعلي وإنما كان يعطيهم من ثمرته فلما كان عمر فعل ما كان يفعل أبو بكر غير أنه جعل العباس وعليا ولاة على أرض بني النضير كنظار وقف يصرفان ثمرته على ما كانت عليه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأما خيبر وفدك فأمسكهما عمر ولم يدفعهما لأحد. (فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك) "في" هنا تعليلية أي لذلك ولأجل ذلك وبسبب ذلك ومعنى "وجدت" غضبت يقال: وجد عليه -بفتح الجيم- يجد عليه -بكسرها موجدة أي غضب.

(فهجرته لم تكلمه حتى توفيت) قال النووي: "فلم تكلمه" يعني في هذا الأمر أو لانقباضها لم تطلب منه حاجة أو لم تضطر إلى لقائه فتكلمه ولم ينقل قط أنهما التقيا فلم تسلم عليه ولا كلمته. اهـ. وفي رواية البخاري "فغضبت فاطمة فهجرت أبا بكر فلم تزل مهاجرته حتى توفيت" وسيأتي في فقه الحديث بقية لهذه المسألة. (وعاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر) هذا هو الصحيح المشهور وقيل ثمانية أشهر وقيل ثلاثة وقيل شهرين وقيل سبعين يوما وعلى الصحيح قالوا: توفيت لثلاث مضين من شهر رمضان سنة إحدى عشرة. (وكان لعلي من الناس وجهة حياة فاطمة) "وجهة" بكسر الواو وضمها أي إقبال واتجاه وقصد. (استنكر على وجوه الناس) أي انصرافهم عنه وضعف إقبالهم عليه. (فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته) هذا ظن عائشة -رضي الله عنها- في دوافع علي لمصالحة أبي بكر رضي الله عنهما وهو ظن يخالف ما صرح به في الحديث مما سنوضحه بعد وإن أضفنا إليه دافعا قلنا: إن غضب فاطمة رضي الله عنها من أبي بكر كان حائلا بينه وبين المصالحة فلما توفيت زال الحائل وخف غضب علي رضي الله عنهم أجمعين. (ولم ننفس عليك خيرا ساقه الله إليك) يقصد الخلافة يقال: نفس الشيء على فلان أي حسده ولم يره أهلاله "ننفس" بفتح النون الأولى وسكون الثانية وفتح الفاء وهو في الماضي بكسر الفاء. (ولكنك استبددت بالأمر) يقال: استبد به إذا انفرد به وكأن عليا رضي الله عنه كان يرى أنه لوجاهته ومكانته وفضيلته في نفسه وقربه من النبي صلى الله عليه وسلم لا يقضي الأمر بدون مشورته وحضوره. (وكنا نحن نرى لنا حقا) في أن تطلب رأينا وتحرص على مبايعتنا لك. (لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي) "أن أصل" المصدر المنسبك مبتدأ ثان والتقدير: قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى لها أحب إلي من وصلي لقرابتي. (وأما الذي شجر بيني وبينكم من هذه الأموال) يقصد طلب فاطمة رضي الله عنها ميراث أبيها يقال: شجر الأمر بينهم بفتح الجيم يشجر بضمها شجورا إذا اضطرب وتنازعوا فيه. قال تعالى {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} [النساء: 65].

(فإني لم آل فيها عن الحق) أي لم أقصر فيها عن الحق يقال: ألا بفتح الهمزة واللام يألو ألوا بسكون اللام وفتح الهمزة وألوا بضم الهمزة واللام وتشديد الواو وأليا بضم الهمزة وكسر اللام وتشديد الياء أي فتر وضعف وقصر ومنه: لا آلوك نصحا ولا آلو جهدا في رعايتك. (موعدك العشية للبيعة) أمام الناس والعشية والعشي من زوال الشمس إلى المغرب أو من صلاة المغرب إلى العتمة وصلاتا العشى الظهر والعصر والعشاءان المغرب والعشاء. (رقي على المنبر) بفتح الراء وكسر القاف وفتح الياء مضارعه يرقى بفتح الياء وسكون الراء وفتح القاء من باب علم يعلم. (وذكر شأن علي) أي ما جرى بينه وبينه من عتب. (ولكنا كنا نرى لنا في الأمر نصيبا) في الكلام التفات من الغيبة إلى التكلم وكان النسق أن يقال: ولكنه كان يرى .. إلخ والمراد من "الأمر" أمر البيعة والتشاور فيها وليس المراد الاشتراك في الخلافة. (فكان المسلمون إلى علي قريبا حين راجع الأمر المعروف) الأمر المعروف هو التصالح والبيعة وراجع الأمر أي رجع إليه والمعنى أصبح المسلمون قريبين إلى علي راضين عنه مقبلين عليه مادحين فعله حين رجع إلى الصف والصلح والبيعة وفي الرواية السابعة "حين قارب الأمر بالمعروف" أي حين دنا ودخل الأمر بالمعروف. (إني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ) أي أن أميل عن الحق إلى الباطل يقال: زاغ يزوغ زوغا وزوغانا وزاغ يزيغ زيغا وزيوغا وزيغانا أي مال عن القصد وعن الطريق الحق. (فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي وعباس) تقصد أرض بني النضير وقد سبق إيضاحها. (كانتا لحقوقه التي تعروه) أي ما يعتريه وما يطرأ عليه من الحقوق الواجبة والمندوبة يقال: عروته واعتريته وعررته واعتررته إذا أتيته تطلب منه حاجة. (ونوائبه) جمع نائبة وهي ما ينزل بالرجل من الكوارث والحوادث المؤلمة. (فهما على ذلك إلى اليوم) الضمير لخيبر وفدك وهذه الجملة من كلام الزهري أي إلى اليوم الذي حدث فيه الزهري لكن لما كان عثمان تصرف في فدك بحسب ما رآه فأقطعها مروان وتأول أن الذي يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم يكون للخليفة بعده فاستغنى عثمان عنها بأمواله. (لا يقتسم ورثتي دينارا) التقييد بالدينار من باب التمثيل والتنبيه على ما سواه كما في قوله تعالى {ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك} [آل عمران: 75] وفي رواية "دينارا ولا درهما".

وسماهم ورثة له مع أنهم لا يرثونه باعتبار أنهم ورثته بالقوة وإن كانوا غير ورثة له بالفعل فهم ورثته لو كان يورث والذي منعهم من الإرث الفعلي الدليل الشرعي وهو قوله "لا نورث" كالوارث القاتل لمورثه هو وارث في الأصل وبالقوة لكن منعه من الميراث الفعلي القتل. وقوله "لا يقتسم" ورواية البخاري "لا تقتسم" بإسكان الميم على النهي وبضمها على النفي وهو الأشهر قال النووي: وهو الصحيح لأنه إنما ينهي عما يمكن وقوعه وإرثه صلى الله عليه وسلم غير ممكن وإنما هو بمعنى الإخبار معناه لا يقتسمون شيئا لأني لا أورث. اهـ. وتوضيحه أنه صلى الله عليه وسلم لم يترك مالا حتى يورث فإرث من لا مال له غير ممكن فلا يصح النهي عنه ووجه بعضهم النهي بأنه لم يقطع بأنه لا يخلف شيئا بل كان ذلك محتملا فنهاهم عن قسمة ما يخلف إن وقع أنه خلف. (ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤونة عاملي فهو صدقة) وفي رواية "إنما يأكل آل محمد من هذا المال" ونفقة نسائه صلى الله عليه وسلم تشمل الكسوة والسكنى ولذلك اختصصن بمساكنهن كل واحدة في مسكنها حياتها لكونهن محبوسات عن الأزواج بسببه ولعظم حقهن في بيت المال لفضلهن وكونهن أمهات المؤمنين. لكن لم يرث هذه البيوت ورثتهن. والمراد من عامله صلى الله عليه وسلم هنا قيل: هو القائم على هذه الصدقات والناظر فيها وترجم البخاري لهذا الحديث في كتاب الوقف بعنوان: باب نفقة القيم للوقف ليستدل به على مشروعية أجرة العامل على الوقف وقيل: كل عامل للمسلمين من خليفة وغيره لأنه عامل للنبي صلى الله عليه وسلم ونائب عنه في أمته وقيل: المراد من عامله هنا خادمه صلى الله عليه وسلم وقيل: المراد به حافر قبره صلى الله عليه وسلم وهو أبعد الأقوال. وحاول السبكي الكبير أن يفرق بين النفقة والمؤونة وعن سر التعبير بالنفقة في جانب نسائه والمؤونة في جانب العامل فقال: إن المؤونة في اللغة القيام بالكفاية والإنفاق بذل القوت وهذا يقتضي أن النفقة دون المؤونة فلنسائه القوت أما العامل لما كان في صورة الأجير احتاج إلى ما يكفيه كذا قال وفيه نظر فقد كان الخلفاء يقدمون لأمهات المؤمنين ما يكفيهن وزيادة. -[فقه الحديث]- هناك اصطلاحات تكرر التفريق بينها: الغنيمة -السلب -التنفيل -الخمس -الفيء. فالغنيمة: ما استولى عليه المسلمون من أموال وممتلكات الكفار بعد معركة معهم وحكمها الشرعي أن خمسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأربعة أخماسها يقسم بين المجاهدين. وأما السلب فهو ما يوجد مع المحارب من ملبوس وغيره إذا قتله مسلم قبل المعركة وحكمه الشرعي أنه للمقاتل وقد سبق الكلام فيه قريبا.

وأما التنفيل: فهو إعطاء القائد أحد المجاهدين شيئا نافلة وزيادة على سهمه مقابل عمل زائد فعله وقد سبق قريبا أيضا. وأما الخمس: فيراد به خمس الغنيمة وهو عند الجمهور مفوض إلى الإمام ورأيه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان صلى الله عليه وسلم يجعله لنوائب المسلمين وكان يؤثر أهل الصفة والأرامل على أهله وأقاربه فقد طلبت منه ابنته فاطمة رضي الله عنها خادما من خمس إحدى الغنائم فمنعها ولو كان لذوي القربى سهم معين لازم لما منع ابنته وأعز الناس عليه من أقاربه وصرفه إلى غيرهم فدل ذلك على أن خمس الغنيمة للإمام يقسمه حيث يرى وله أن يؤثر بعض مستحقيه على بعض ويعطي الأوكد فالأوكد. وبعضهم يقسم خمس الغنيمة إلى خمسة أقسام للرسول صلى الله عليه وسلم قسم سواء حضر القتال أم لم يحضر وهل كان يملكه أو لا؟ وجهان للشافعية والأخماس الأربعة لمن جاء ذكرهم في الآية ذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. وأما الفيء وهو موضوع أحاديثنا فهو الغنيمة التي يستولى عليها المسلمون دون قتال والرواية الثانية ظاهرة في أن الفيء خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه لا يخمس وهكذا يقول جمهور العلماء أما الشافعي فيخمس الفيء ويجعل منه أربعة أخمسه وخمس خمسه الباقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون له واحد وعشرون سهما من خمسة وعشرين والأربعة الباقية لذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ويتأول هذا الحديث "كانت أموال بني النضير" أي معظمها. قال ابن المنذر: لا نعلم أحدا قبل الشافعي قال بالخمس في الفيء. اهـ. -[ويؤخذ من الأحاديث من الأحكام]- 1 - أن أموال بني النضير كانت خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم وأن المسلمين لم يوجفوا عليهم بخيل ولا ركاب ولم يختلف العلماء في ذلك. 2 - من قوله في الرواية الثانية "فكان ينفق على أهله نفقة سنة" وقوله في الرواية الثالثة "فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ منه نفقة سنة" وقوله في الرواية الرابعة "يحبس قوت أهله منه سنة "جواز ادخار المسلم قوت سنة وجواز الادخار للعيال وأن هذا لا يقدح في التوكل قال النووي: وأجمع العلماء على جواز الادخار فيما يستغله الإنسان من قريته كما جرى للنبي صلى الله عليه وسلم وأما إذا أراد أن يشتري من السوق ويدخره لقوت عياله فإن كان في وقت ضيق الطعام لم يجز بل يشترى مالا يضيق على المسلمين كقوت أيام أو شهر وإن كان في وقت سعة اشترى قوت سنة وأكثر. هكذا نقل القاضي هذا التفصيل عن أكثر العلماء وعن قوم إباحته مطلقا. 3 - من قوله "وما بقي يجعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله" وجوب استعداد المسلمين بالسلاح للدفاع عن أنفسهم ودينهم قال تعالى {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم} [الأنفال: 60].

4 - من الرواية الثالثة من قول عمر: "يا مال" جواز ذكر الرجل وندائه باسمه من غير كنية وإن كان عظيما وكذلك من غير لقب وبالترخيم حيث لم يرد بذلك تنقيصه. 5 - ومن قوله "فوجدته في بيته" جواز احتجاب الوالي عن الرعية في وقت الحاجة إلى طعامه أو وضوئه أو راحته أو نحو ذلك. 6 - ومن قوله "جالسا على سرير" جواز الجلوس على مرتفع عن الأرض من مقعد وسرير ونحوهما. 7 - ومن قوله "مفضيا إلى رماله متكئا على وسادة من أدم" زهد عمر وتقشفه وهو الذي ملئت خزائنه بأموال كسرى وقيصر. 8 - ومن طلب عمر من مالك أن يأخذ العطية ويقسمها بين أهله أنه ينبغي أن يولي أمر كل قبيلة سيدهم وتفوض إليه مصلحتهم لأنه أعرف وأرفق بهم وهم لا يأنفون أن ينقادوا له وفي مثل ذلك ستر لهم في أخذ العطاء ولهذا قال الله تعالى {فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما} [النساء: 35]. 9 - وفي اعتذار مالك جواز استعفاء المرء من الولاية. 10 - وسؤال الإمام ذلك برفق. 11 - وجواز اتخاذ الحاجب. 12 - وفي حضور كبار الصحابة قضية العباس وعلي جواز استعانة الحاكم برأي أولي النهي وتدخلهم في القضايا أمامه حيث قالوا: "أجل يا أمير المؤمنين فاقض بينهم وأرحهم". 13 - وجواز أن يشرح الحاكم ظروف القضية وملابساتها دون أن يسمع كلام الخصمين إذا كان عليما بها ليبين وجه الحكمة في حكمه. 14 - واستشهاد الإمام على ما يقوله بحضرة الخصمين استشهاده بالحضور العدول لتقوى حجته في إقامة الحق وقمع الخصم. 15 - واستحلافهم على ما يعرض من حقائق. 16 - واستحلاف الخصمين على مقدمات الحكم. 17 - ومن قوله "فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينكم أموال بني النضير ... إلخ تذكير الخصوم بالمنة عليهم حتى يسهل إنهاء الخصومة. 18 - من قوله صلى الله عليه وسلم "لا نورث" قال عمر رضي الله عنه في رواية البخاري "يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه" إشارة إلى أن النون في "نورث" للمتكلم خاصة لا للجمع. أن الحديث يتعرض لعدم إرثه صلى الله عليه وسلم ولا دليل فيه على عدم إرث جميع الأنبياء. قال الحافظ ابن حجر: وأما ما اشتهر في كتب أهل الأصول وغيرهم بلفظ "نحن معاشر الأنبياء لا نورث" فقد أنكره جماعة من الأئمة قال: وهو كذلك بالنسبة لخصوص لفظ "نحن" لكن

أخرجه النسائي بلفظ "إنا معاشر الأنبياء لا نورث" وهو كذلك في مسند الحميدي عن محمد بن منصور عن ابن عيينة وهو من أتقن أصحاب ابن عيينة فيه وأخرجه الطبراني في الأوسط والدارقطني في العلل قال ابن بطال وغيره: ووجه ذلك -والله أعلم- أن الله بعثهم مبلغين رسالته وأمرهم أن لا يأخذوا على ذلك أجرا فكانت الحكمة في أن لا يورثوا لئلا يظن أنهم جمعوا المال لوارثهم قال: وقوله تعالى {وورث سليمان داوود} [النمل: 16] حمله أهل العلم بالتأويل على العلم والحكمة وكذا قول زكريا {فهب لي من لدنك وليا* يرثني ويرث من آل يعقوب} [مريم: 5 , 6] وقد حكى ابن عبد البر أن للعلماء في ذلك قولين وأن الأكثر على أن الأنبياء لا يورثون وذهب البعض إلى أن الأنبياء يورثون وأن عدم الإرث من خصائصه صلى الله عليه وسلم بل قول عمر "يريد نفسه" يؤيد اختصاصه بذلك. وقيل: الحكمة في كونه لا يورث حسم المادة في تمني الوارث موت المورث من أجل المال إذ يؤمن في الورثة من يتمنى موته فيهلك ولئلا يظن بهم الرغبة في الدنيا لوارثهم فيهلك الظان وينفر الناس عنه وقيل: لكون النبي صلى الله عليه وسلم كالأب لأمته فيكون ميراثه للجميع وهذا معنى الصدقة العامة. 19 - ادعى بعض الشيعة أن الحديث لا يدل على عدم ميراث الرسول صلى الله عليه وسلم ليدين بذلك أبا بكر وعمر في منعهما فاطمة رضي الله عنهم أجمعين من ميراثها من أبيها فقرءوا الحديث أحيانا "لا يورث" بالياء لا بالنون وقرءوا أحيانا "صدقة" بالنصب وجعلوا "ما" نافية أي لم نترك صدقة قال الحافظ ابن حجر: والذي توارد عليه أهل الحديث في القديم والحديث "لا نورث" بالنون و"صدقة" بالرفع وأن الكلام جملتان و"ما تركنا" في موضع الرفع بالابتداء و"صدقة" خبره وقد احتج بعض المحدثين على بعض الإمامية بأن أبا بكر احتج بهذا الكلام على فاطمة رضي الله عنها حين التمست منه ميراثها من الذي خلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأراضي وهما من أفصح الفصحاء وأعلمهم بمدلولات الألفاظ ولو كان الأمر كما يقرؤه الرافضي لم يكن فيما احتج به أبو بكر حجة ولم يكن جوابه مطابقا لسؤالها وهذا واضح لمن أنصف. اهـ. ويرد هذا الفهم الشيعي أنه لما صارت الخلافة إلى علي رضي الله عنه لم يغيرها عن كونها صدقة وقد احتج بهذا السفاح على الشيعي فإنه لما خطب أول خطبة قام إليه رجل معلق في عنقه المصحف فقال: أنشدك الله إلا ما حكمت بيني وبين خصمي بهذا المصحف فقال: من هو خصمك؟ قال أبو بكر في منعه فدك. قال: أظلمك؟ قال: نعم قال فمن بعده؟ قال: عمر قال: أظلمك؟ قال: نعم. قال: فمن بعده؟ قال: عثمان. قال أظلمك؟ قال: نعم. قال: فعلي ظلمك؟ فسكت الرجل فأغلظ له السفاح. 20 - من دفع عمر أرض بني النضير إلى العباس وعلي جواز إقامة الإمام من ينظر الوقف نيابة عنه. 21 - والتشريك بين الاثنين في ذلك وجواز أكثر من اثنين إذا اقتضت المصلحة. 22 - ومن حكم عمر جواز حكم الحاكم بعلمه وأن الإمام إذا قام عنده الدليل صار إليه وقضى بمقتضاه ولم يحتج إلى أخذه من غيره.

23 - واستدل بالحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يملك شيئا من الفيء ولا من خمس الغنيمة إلا قدر حاجته وحاجة من يمونه وما زاد على ذلك كان له فيه التصرف بالقسم والعطية وقال آخرون: لم يجعل الله لنبيه ملك رقبة ما غنمه وإنما ملكه منافعه وجعل له منها قدر حاجته وكذلك القائم بالأمر بعده. 24 - ومن الرواية السادسة يؤخذ من هجران فاطمة رضي الله عنها أبا بكر أن الانقباض عن اللقاء والاجتماع ليس من الهجران المحرم لأن شرطه أن يلتقيا فيعرض هذا ويعرض هذا ولم يؤثر أنهما التقيا وكأن فاطمة عليها السلام لما خرجت غضبى من عند أبي بكر انشغلت بمرضها وحزنها على أبيها. 25 - ومن قول أبي بكر "وإني والله لا أغير شيئا من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم". أخذ بعضهم أن سهم النبي صلى الله عليه وسلم يصرفه الخليفة بعده لمن كان النبي صلى الله عليه وسلم يصرفه له وما بقي منه يصرف في المصالح وعن الشافعي: يصرف في المصالح وفي وجه: هو للإمام وقال مالك والثوري: يجتهد فيه الإمام وقال أحمد: يصرف في الخيل والسلاح وقال أبو حنيفة: يرد مع سهم ذوي القربى إلى الثلاثة (اليتامى والمساكين وابن السبيل) وقيل: يرد خمس الخمس من الغنيمة إلى الغانمين ومن الفيء إلى المصالح. 26 - ومن دفن علي لفاطمة ليلا. قال النووي: فيه جواز الدفن ليلا وهو مجمع عليه لكن النهار أفضل إذا لم يكن عذر. 27 - ومن تأخر علي رضي الله عنه عن البيعة لأبي بكر أن تأخر وجيه من وجهاء القوم أو من كبرائهم لا يمنع البيعة من الإتمام ولا يقدح فيها فقد اتفق العلماء على أنه لا يشترط لصحتها مبايعة كل الناس ولا كل أهل الحل والعقد وإنما يشترط مبايعة من تيسر إجماعهم من العلماء والرؤساء ووجوه الناس. 28 - وأن التأخير في مثل هذا لا يقدح في علي رضي الله عنه قال النووي: وأما عدم القدح في علي فلأنه لا يجب على كل واحد أن يأتي إلى الإمام فيضع يده في يده ويبايعه وإنما يلزمه إذا عقد أهل الحل والعقد للإمام الانقياد له وأن لا يظهر خلافا ولا يشق العصا وهكذا كان شأن علي رضي الله عنه في تلك المدة التي كانت قبل بيعته إنه لم يظهر على أبي بكر خلافا ولا شق العصا ولكنه تأخر عن الحضور للعذر المذكور في الحديث ولم يكن انعقاد البيعة وانبرامها متوقفا على حضوره فلم يجب عليه الحضور لذلك ولا لغيره فلما لم يجب لم يحضر (في هذا نظر) وما نقل عنه قدح في البيعة ولا مخالفة ولكن بقى في نفسه عتب فتأخر حضوره إلى أن زال العتب وكان سبب العتب أنه مع وجاهته وفضيلته في نفسه في كل شيء وقر به من النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك رأى أنه لا يستبد بأمر إلا بمشورته وحضوره وكان عذر أبي بكر وعمر وسائر الصحابة واضحا لأنهم رأوا المبادرة بالبيعة من أعظم مصالح المسلمين وخافوا من تأخيرها حصول خلاف ونزاع يترتب

عليه مفاسد عظيمة ولهذا أخروا دفن النبي صلى الله عليه وسلم حتى عقدوا البيعة لكونها كانت أهم الأمور كيلا يقع نزاع في مدفنه أو كفنه أو غسله أو الصلاة عليه أو غير ذلك وليس لهم من يفصل الأمور فرأوا تقدم البيعة أهم الأشياء. اهـ. وهذا توجيه سديد فقد أمرنا بحسن الظن بالصحابة أجمعين والدوافع البشرية وما يقع في الصدور وما يبعث على تصرف من التصرفات أمور يعلمها الله وما جاء على لسان علي رضي الله عنه في كتب الشيعة من نقد البيعة لأبي بكر والاعتراض عليها وأحقيته لها لا يعتد به. والله أعلم. 29 - ومن قول علي رضي الله عنه لأبي بكر "أن ائتنا" جواز طلب حضور الخليفة إلى منزل وجيه من الوجهاء وأن ذلك لا يعد استكبارا وتعاليا على الخليفة بل قد يكون نوعا من التقارب والإدلال المقبول. 30 - ومن استجابة أبي بكر لهذا المطلب تواضع أبي بكر وسماحته وحسن خلقه ولين طبعه وجميل فعله مع رعيته. 31 - ومن طلب علي من أبي بكر ألا يكون معه أحد جواز مثل ذلك حرصا على نجاح مهمة الصلح فقد علم وعلموا شدة عمر وجهره بما يرى أنه الحق وحدته حين يرى أو يسمع ما لا يرضيه ومجلس الصلح لا يخلو من نحو هذا فخاف على أن ينتصر عمر لأبي بكر فيتكلم بكلام يثير نفس علي ويوحش قلبه على أبي بكر وكانت قلوبهم قد طابت عليه وانشرحت له فخاف أن يكون حضور عمر سببا لتغيرها. 32 - ومن قول عمر لأبي بكر" والله لا تدخل عليهم وحدك" حرص عمر على حماية الخليفة ووقايته مما يسيء إليه ولو بكلمة لأنه خاف أن يغلظوا لأبي بكر في المعاتبة اعتمادا على لينه وصبره عن الرد عن نفسه ولو حضر عمر لأحجموا عن الإغلاظ. 33 - ومن تحنيث أبي بكر لعمر في حلفه دليل على أن إبرار القسم إنما يؤمر به الإنسان إذا أمكن احتماله بلا مشقة ولا تكون فيه مفسدة وعلى هذا يحمل حديث الحث على إبرار القسم. 34 - ومن مبايعة علي لأبي بكر صحة خلافة أبي بكر وانعقاد الإجماع عليها. 35 - ومن حديث أبي هريرة -روايتنا التاسعة- دلالة على صحة وقف المنقولات وأن الوقف لا يختص بالعقار لعموم قوله "ما تركت بعد نفقة نسائي". 36 - ومن عموم هذه الأحاديث وأن النبي صلى الله عليه وسلم وما تركه صدقة تخصيص السنة القرآن فهذه الأحاديث تخصص قوله تعالى {يوصيكم الله في أولادكم} [النساء: 11] إما بعدم دخوله صلى الله عليه وسلم في الخطاب لما عرف من كثرة خصائصه وإما بتخصيص الممتلكات التي تركها المتوفى فإذا ثبت أن المتوفى وقف شيئا قبل موته فإنه لا يدخل في الميراث وإن كان مما ترك. والله أعلم.

(480) باب كيفية قسمة الغنيمة بين الحاضرين

(480) باب كيفية قسمة الغنيمة بين الحاضرين 4029 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم في النفل للفرس سهمين وللرجل سهما. 4030 - -/- وفي رواية عن عبيد الله بهذا الإسناد مثله. ولم يذكر في النفل. -[المعنى العام]- يقول الله تعالى {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم} [الأنفال: 60] فالخيل كانت عدة العرب في القتال أو العدة الأساسية المهمة ولذلك عطفت خاصة على عموم القوة في الآية الكريمة وهي فوق ذلك مظهر من مظاهر العزة والكرامة والعز والسؤدد ومن هنا رغب الإسلام أنصاره الأوائل في اقتناء الخيل وقال الرسول الكريم "الخيل في نواصبها الخير إلى يوم القيامة". وزادهم ترغيبا في اقتناء الفرس والقتال عليه بأن جعل للفرس من الغنيمة سهمين وللفارس سهما ليكون للفارس بفرسه ثلاثة أسهم حين تقسم الغنمية إلى خمسة أسهم خمسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأربعة أخماسها للمقاتلين فيحسب الفارس بثلاثة ويحسب الراجل بواحد ثم توزع أسهما اللهم إلا إذا رأى الإمام أو القائد نفل أحد المجاهدين لعمل مجيد قام به فيعطيه نافلة فوق سهمه إما من الأخماس الأربعة وإما من الخمس الذي للإمام. هكذا كانت قسمة الغنائم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وفي عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين. -[المباحث العربية]- (قسم في النفل للفرس سهمين) أي قسم في الغنيمة وقلنا في باب الأنفال قريبا إن أصلها إعطاء النافلة والزيادة وإنها تطلق على الغنمية كلها وهي المرادة هنا باعتبارها عطية من الله تعالى زائدة على أجر المجاهدين أو زائدة على الأمم السابقة الذين لم تحل لهم الغنائم.

والفرس واحد الخيل الذكر والأنثى سواء والجمع أفراس وفروس والحصان الذكر منها وأما البغل فهو ابن الفرس من الحمار والبرذون بكسر الباء وسكون الراء وفتح الذال يطلق على غير العربي من الخيل والبغال وسيأتي الخلاف في سهم هذه الحيوانات واللام في "للفرس" للاختصاص وفي الحقيقة السهمان لصاحب الفرس ولكن لما كانا له بسبب الفرس أضيفا إليه. (فائدة) قال العيني: كان للنبي صلى الله عليه وسلم أربعة وعشرون فرسا كل واحد منها كان مسمى باسم مخصوص مثل السكب والمرتجز واللحيف وكان له حمار يقال له: يعفور وغيره وكان له بغلة تسمى دلدل وكانت له لقاح تسمى الخناء والسمراء وغير ذلك وكانت له ناقة تسمى القصوى والأخرى العضباء وغيرهما وكانت له غنم منها سبعة أعنز كل واحدة منها مسماة باسم وشاة تدعى عيثة. اهـ. والسهم الجزء. وهل السهمان للفرس وحده غير سهم الفارس؟ أو للفرس مع الفارس؟ لكل منهما سهم؟ خلاف فقهي سيأتي في فقه الحديث. (وللرجل سهما) هذا أعم من رواية البخاري ولفظها "ولصاحبه سهما" فهي قاصرة على الفارس الذي معه فرس وقد فسرها نافع بما يتفق ولفظ مسلم بقوله: إذا كان مع الرجل فرس فله ثلاثة أسهم وإن لم يكن معه فرس فله سهم قال النووي: هكذا هو في أكثر الروايات "للرجل" وفي بعضها "للراجل" وهو المحارب ماشيا على رجليه. -[فقه الحديث]- قال النووي: اختلف العلماء في سهم الفارس والراجل من الغنيمة فقال الجمهور: يكون للراجل سهم واحد وللفارس ثلاثة أسهم سهمان بسبب فرسه وسهم بسبب نفسه بهذا قال مالك والأوزاعي والثوري والليث والشافعي وأبو يوسف ومحمد وأحمد وإسحق وأبو عبيد وابن جرير وآخرون. وقال أبو حنيفة: للفارس سهمان فقط سهم لفرسه وسهم له وحجة الجمهور هذا الحديث وهو صريح على رواية من روي "للفرس سهمين وللرجل سهما" بغير ألف في الرجل وهي رواية الأكثرين ومن روي "وللراجل" بالألف روايته محتملة فيتعين حملها على موافقة الأولى جمعا بين الروايتين قال: قال أصحابنا وغيرهم: ويرفع هذا الاحتمال ما ورد مفسرا في غير هذه الرواية في حديث ابن عمر هذا بلفظ: "أسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم سهما له وسهمين لفرسه" اهـ. وفي الباب أحاديث كثيرة تؤيد الجمهور منها ما رواه أبو داود عن أبي عمرة عن أبيه قال: "أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة نفر ومعنا فرس فأعطى كل إنسان منا سهما وأعطى الفرس سهمين" وما رواه النسائي من حديث يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن جده قال: "ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر للزبير أربعة أسهم سهم للزبير وسهم لذي القربى لصفية بنت عبد المطلب أم الزبير (رضي الله تعالى عنهم) وسهمين للفرس" وما رواه أحمد من حديث مالك بن أوس عن عمر وطلحة بن

عبيد الله والزبير قالوا: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسهم للفرس سهمين" وروى الدارقطني من حديث أبي رهم قال: "غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم أنا وأخي ومعنا فرسان فأعطانا ستة أسهم أربعة لفرسينا وسهمين لنا" وروى الدارقطني أيضا من حديث أبي كبشة قال: "لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إني جعلت للفرس سهمين والفارس سهما فمن أنقصهما أنقصه الله عز وجل" وروي أيضا من حديث ضباعة بنت الزبير عن المقداد قال: "أسهم لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر سهما ولفرسي سهمين" وروي أيضا من حديث عطاء عن ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم لكل فرس بخيبر سهمين سهمين" وروي أيضا من حديث هشام بن عروة عن أبي صالح عن جابر قال: "شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزاة فأعطى الفارس منا ثلاثة أسهم وأعطى الراجل سهما" وروي أيضا من حديث الواقدي عن محمد بن يحيى بن سهل بن أبي خيثمة عن أبيه عن جده أنه شهد حنينا مع النبي صلى الله عليه وسلم "فأسهم لفرسه سهمين وله سهما". أما أبو حنيفة فاحتج بما رواه الطبراني عن المقداد بن عمرو أنه كان يوم بدر على فرس فأسهم له النبي صلى الله عليه وسلم سهمين لفرسه سهم واحد وله سهم" وبما رواه الواقدي أيضا في المغازي "قال الزبير: شهدت بني قريظة فارسا فضرب لي بسهم ولفرسي بسهم" وبما رواه ابن مردويه في تفسير سورة الأنفال من حديث عروة عن عائشة قالت: "أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني المصطلق فأخرج الخمس منها ثم قسم بين المسلمين فأعطى الفارس سهمين والراجل سهما" وبما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للفارس سهمين وللراجل سهما" وقال أبو حنيفة: أكره أن أفضل بهيمة على مسلم. قال ابن سحنون: انفرد أبو حنيفة بذلك دون فقهاء الأمصار وفي التوضيح: خالف أبو حنيفة عامة العلماء قديما وحديثا وخالفه أصحابه فبقي وحده. والتحقيق أن ما استند إليه أبو حنيفة من أحاديث كلها واهية لا يخلو واحد منها من لين وأما قوله: أكره أن أفضل بهيمة على مسلم فغير وارد لأن السهام كلها في الحقيقة للرجل والفرس ما قام بما قام به إلا بالرجل فالرجل على الفرس يبذل من الجهد ما لا يبذله الراجل من سرعة الكر والفر على أن الاعتماد في ذلك على الحديث والله أعلم. وهل كل دابة ركبت في الحرب واستعين بها في القتال يسهم لها ما يسهم للفرس؟ قال مالك: يسهم للخيل والبراذين منها لقوله تعالى {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} [النحل: 8] فامتن الله تعالى بركوب الخيل وقد أسهم لها رسول الله صلى الله عليه وسلم واسم الخيل يقع على البرذون والهجين وبقول مالك قال أبو حنيفة والثوري والشافعي وأبو ثور وقال الليث: للهجين والبرذون سهم دون سهم الفرس ولا يلحق الهجين والبرذون بالفرس العربي وعند أبي داود في المراسيل "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هجن الهجين يوم خيبر وعرب العربي للعربي سهمان وللهجين سهم" وفي الأم للشافعي "أغارت الخيل فأدركت العراب وتأخرت البراذن فقام ابن المنذر الوادعي فقال: لا أجعل ما أدرك كمن لم يدرك

فأقره عمر رضي الله عنه فكان أول من أسهم للبراذين دون سهام العراب وقال ابن حزم: للراجل وراكب البغل والحمار والجمل سهم واحد فقط وقال أحمد: للفارس ثلاثة أسهم ولراكب البعير سهمان. هذا ومادامت المسألة قياسية على الفرس المنصوص عليه فيحسن أن يكون مرجع المساواة أو عدمها للإمام حسب الجهود والنتائج والله أعلم. وهناك مسائل فرعية: منها: هل يسهم لأكثر من فرس لفارس واحد؟ قال مالك والجمهور: لا يسهم لأكثر من فرس وقال الأوزاعي والثوري والليث وأحمد وأبو يوسف وإسحق: يسهم لفرسين. ومنها: هل يسهم للفرس ولو لم تقاتل؟ قال مالك والشافعي والأوزاعي وأبو ثور: إذا كان المسلمون في سفن فلقوا العدو فغنموا -ولم تتحرك الخيل- أنه يضرب للخيل التي معهم في السفن بسهمها؟ وقال بعض الفقهاء: القياس أن لا يسهم لها. ومنها: هل يسهم لفرس يموت قبل القتال؟ قال مالك: يسهم له وقال الشافعي وأبو ثور والباقون: لا يسهم له إلا إذا حضر القتال فلو مات الفرس في الحرب استحق صاحبه وإن مات صاحبه استمر استحقاقه وهو للورثة ومنها: لو باع فرسه في موضع القتال فكيف يسهم له؟ الظاهر استحقاق البائع مما غنموا قبل العقد واستحقاق المشتري مما غنموا بعد العقد وما اشتبه فيه يقسم بينهما وقيل: يوقف حتى يصطلحا وعن أبي حنيفة: من دخل أرض العدو راجلا لا يقسم له إلا سهم راجل ولو اشترى فرسا وقاتل عليه. والله أعلم.

(481) باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم

(481) باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم 4031 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاث مائة وتسعة عشر رجلا فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه "اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم آت ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض" فمازال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه. ثم التزمه من ورائه وقال يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله عز وجل {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} [الأنفال: 9] فأمده الله بالملائكة. قال أبو زميل: فحدثني ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول أقدم حيزوم فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط فاخضر ذلك أجمع. فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة" فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين. قال أبو زميل: قال ابن عباس رضي الله عنهما. فلما أسروا الأسارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر "ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ " فقال أبو بكر: يا نبي الله هم بنو العم والعشيرة أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار فعسى الله أن يهديهم للإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما ترى؟ يا ابن الخطاب" قلت: لا والله يا رسول الله ما أرى الذي رأى أبو بكر ولكني أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم. فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه. وتمكني من فلان نسيبا لعمر فأضرب عنقه. فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت. فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان. قلت: يا رسول الله أخبرني من أي

شيء تبكي أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة (شجرة قريبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله عز وجل {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض} إلى قوله {فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا} [الأنفال: 67 - 69] فأحل الله الغنيمة لهم. -[المعنى العام]- هاجر المسلمون من مكة إلى المدينة أخرجهم المشركون بثيابهم التي هي عليهم لم يسمحوا لأحدهم أن يصحب مالا أو متاعا أخرجوهم من ديارهم وأموالهم فأذن الله لهم في المدينة أن يتعرضوا لقوافل المشركين أهل مكة القادمة من الشام والمارة بالمدينة ليعوضوا بعض أموالهم التي استولى عليها المشركون وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قافلة كبيرة تضم عيرا كثيرة نحو ألف بعير تحمل تجارة غالية تقدر بخمسين ألف دينار على قيادتها أبو سفيان ومعه عمرو بن العاص ومخرمة بن نوفل وآخرون يزيدون على أربعين رجلا فطلب من المسلمين بالمدينة الخروج لاعتراض هذه القافلة فخرج ثلاثمائة رجل وبضعة عشر رجلا بما تيسر لهم من سلاح وركاب وعلم أبو سفيان بخروج المسلمين فغير طريقه إلى طريق الساحل وأسرع المسير وأرسل إلى أهل مكة أن يخرجوا للدفاع عن تجارتهم وأموالهم وحمايتها من المسلمين فخرج من أهل مكة ما يزيد على الألف مدججين بما يملكون من سلاح ووصل المسلمون إلى ماء بدر ووصل مشركو مكة إلى ماء بدر وأرسل أبو سفيان إليهم أن عودوا إلى مكة فقد نجت العير وأمنت تجارتكم فأخذتهم العزة وقالوا: لا والله لا نرجع حتى نلقن المسلمين درسا حتى لا يعودوا لمثل ما فعلوا. واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه قال: إن الله وعدني إحدى الطائفتين. العير أو الحرب وقد أفلتت العير فماذا ترون في الحرب؟ وكانت العير بطبيعة الحال أحب إليهم فإنها غير ذات شوكة وهي غنيمة كبرى ولكن الله أراد لهم الأخرى وكان جواب المسلمين إيمانا صادقا وشجاعة نادرة وعزة وإباء قال قائلهم: يا رسول الله امض لما أمرك الله لعلك خرجت لأمر فأحدث الله غيره فامض لما شئت وصل حبال من شئت واقطع حبال من شئت وسالم من شئت وعاد من شئت وخذ من أموالنا ما شئت لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: {فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} [المائدة: 24] ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون والله لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك ما تخلف منا أحد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف المسلمين للقتال وطلبت المبارزة فخرج علي للوليد وخرج حمزة لشيبة بن ربيعة وخرج عبيدة بن الحارث لعتبة بن ربيعة فقتل الوليد وشيبة وعتبة ثم التحمت الجيوش ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبل القبلة ورفع

يديه إلى السماء وأخذ يدعو ربه ويستغيث اللهم أنجز لي وعدك الذي وعدتني اللهم اهزمهم وانصرنا عليهم اللهم إن هذه الجماعة هي التي تعبدك في الأرض من بني آدم واستغرق صلى الله عليه وسلم في الاستغاثة بصوت مرتفع حتى سقط رداؤه عن كتفيه فضمه أبو بكر رضي الله عنه وأعاد عليه رداءه وقال له: رفقا بنفسك يا رسول الله فلن يخذلك ربك أبدا وسينجز وعده لك وما هي إلا جولات وانجلت المعركة عن هزيمة المشركين وفرارهم مخلفين وراءهم سبعين قتيلا من كبرائهم وسبعين أسيرا من ساداتهم وسيق الأسرى إلى المسجد النبوي وربطوا في سواريه واستشار الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم القتل؟ أو المن؟ أو الفداء؟ فأشار أبو بكر رضي الله عنه بالفداء وأشار عمر بالقتل ودخل صلى الله عليه وسلم بيته يفكر ثم خرج مرتاحا لرأي أبي بكر فأخذ منهم الفداء وفي اليوم الثاني نزل عتاب الله لنبيه على أخذ الفداء نزل الوحي الأمين مؤيدا لما قاله عمر رضي الله عنه مؤاخذا على تنفيذ إشارة أبي بكر فجلس صلى الله عليه وسلم هو وصاحبه أبو بكر يبكيان وأنزل الله تعالى {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة} [الأنفال: 67] لكن الله تعالى أباح لهم ما أخذوا من فداء وكان هذا النصر من الله وبمدد جاءهم من السماء أمدهم الله في معركتهم بألف من الملائكة مردفين {وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم} [آل عمران: 126]. -[المباحث العربية]- (لما كان يوم بدر) "لما" شرطية و"كان" تامة بمعنى حصل ووقع ووجد و"يوم" بالرفع فاعل و"بدر" بئر لرجل يسمى بدر بن الحارث كناني قال الشعبي وقيل: سميت البئر بدرا لاستدارتها كالبدر وقيل لصفائها ورؤية البدر فيها وقيل: هي قرية عامرة كانت سوقا بأرض العرب ومجمعا من مجامعهم في الجاهلية وبها آبار ومياه عذبة وعينان جاريتان عليهما الموز والنخل والعنب تقع بين المدينة ومكة على ثمانية وعشرين فرسخا من المدينة وكان بهذا الوادي غزوة بدر الكبرى قال الحافظ: والمحفوظ أنها كانت يوم الجمعة. (نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا) في البخاري "كان المهاجرون يوم بدر نيفا على ستين والأنصار نيفا وأربعين ومائتين" وقال ابن إسحق: كان المهاجرون ثلاثة وثمانين وكان من الأوس واحد وستون رجلا ومن الخزرج مائة وسبعون رجلا منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان جميعهم ثلاثمائة وأربعة عشر رجلا وقال ابن سعد: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثمائة رجل وخمسة نفر كان المهاجرون منهم أربعة وسبعين وسائرهم من الأنصار وثمانية تخلفوا لعلة ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهامهم وآجرهم وهم عثمان بن عفان تخلف على امرأته رقية وطلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد بعثهما عليه الصلاة والسلام يتجسسان خبر العير وأبو لبابة خلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة وعاصم بن عدي خلفه على أهل العالية والحارث

بن حاطب رده من الروحاء إلى بني عمرو بن عوف لشيء بلغه عنهم والحارث بن الصمة كسر بالروحاء وخوات بن جبير كسر أيضا فهؤلاء ثمانية لا خلاف فيهم عندنا وقيل غير ذلك وحاول بعضهم الجمع بين هذه الأقوال بأن الذي زاد ضم إلى العدد من استصغر ولم يؤذن له في القتال يومئذ كالبراء وابن عمر وأنس وجابر وذكر بعضهم في العدد سعد بن مالك الساعدي والد سهل وقد مات في الطريق واختلف في سعد بن عبادة هل شهدها؟ أورد لحاجة. (فجعل يهتف) بفتح الياء وكسر التاء بينهما هاء ساكنة معناه يصيح ويستغيث بالله بالدعاء وفي القرآن الكريم {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم} [الأنفال: 9] قال المفسرون: والظاهر أن المستغيث هم المؤمنون قيل: إنهم لما علموا أن لا محيص من القتال أخذوا يقولون: أي رب انصرنا على عدونا أغثنا يا غياث المستغيثين وقال الزهري: إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه وظاهر حديثنا يدل على أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه فالجمع في الآية للتعظيم. (اللهم أنجز لي ما وعدتني) يقال: نجز الشيء بفتح النون والجيم ينجز بضم الجيم نجزا تم وقضى لازم ونجز الشيء متعد أتمه وقضاه وأنجز الشيء نجزه وقضاه ومنه المثل: أنجز حر ما وعد فألف "أنجز لي" ألف وصل أو قطع والذي وعده صلى الله عليه وسلم هو ما جاء في قوله تعالى {وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم} [الأنفال: 7] أي العير أو النفير وكانت العير قد ذهبت وفاتت فكان الدعاء بإنجاز الوعد بالنصر. (اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض) قال النووي: ضبطوه "تهلك" بفتح التاء وضمها فعلى الأول ترفع "العصابة" على أنها فاعل وعلى الثاني تنصب مفعول و"العصابة" الجماعة اهـ وإنما قال ذلك لأنه علم أنه خاتم النبيين فلو هلك هو ومن معه حينئذ لم يبعث أحد ممن يدعو إلى الإيمان فيستمر المشركون يعبدون غير الله فالمعنى لا تعبد في الأرض بهذه الشريعة. (كفاك مناشدتك ربك) المناشدة السؤال مأخوذ من النشيد وهو رفع الصوت يقال: نشد فلانا إذا قصده وسأله ونشد فلانا بكذا ذكره به واستعطفه يقال: نشدتك الله وبه ونشدتك الرحم وبها و"كفاك" هكذا هو وقع لبعضهم ووقع لجماهير رواة مسلم "كذاك" بالذال وفي رواية البخاري "حسبك مناشدتك ربك" وكل بمعنى وضبطوا "مناشدتك" بالرفع والنصب وهو الأشهر قال القاضي: من رفعه جعله فاعلا بكفاك ومن نصبه فعلى المفعول بما في حسبك وكفاك وكذاك من معنى الفعل من الكف. {أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} "أني ممدكم" أي معينكم والإمداد الإعانة وقيل: إعطاء الشيء بعد الشيء وقيل: المد في الشر والإمداد في الخير و"مردفين" أي متتابعين أي وراء كل ملك ملك وقيل: مردفين المؤمنين أي جائين

خلفهم وقرئ "مردفين" بفتح الدال أي مردفين بالمؤمنين فيكون الملائكة في المقدمة أو جعلهم الله مردفين للمؤمنين فيكون الملائكة في مؤخرة الجيش. والتنصيص على الألف هنا لا ينافي الثلاثة آلاف الواردة في قوله تعالى {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون* إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين} [آل عمران: 123، 124] ولا ينافي الخمسة آلاف الواردة في قوله تعالى {بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين} [آل عمران: 125] لأن معنى "مردفين" يردفهم غيرهم ويتبعهم ألوف أخر مثلهم قال الربيع بن أنس: أمد الله المسلمين بالألف ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم صاروا خمسة آلاف ومعنى "مسومين" بفتح الواو أي معلمين قيل: كانت علامتهم الصوف الأبيض وقيل: العهن الأحمر وقيل: عمائم حمر وقيل: عمائم سود و"مسومين" بكسر الواو أي معلمين أنفسهم أو معلمين خيولهم في نواصيها. (إذ سمع ضربة بالسوط فوقه) أي فوق المشرك الذي أمامه. (وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم) أي وسمع صوت الفارس الضارب -وهو لا يراه- يقول لفرسه: أقدم يا حيزوم. قال النووي: "حيزوم" هو بحاء مفتوحة ثم ياء ساكنة ثم زاي مضمومة ثم واو ثم ميم قال القاضي: ووقع في رواية "حيزون" بالنون والصواب الأول وهو المعروف لسائر الرواة والمحفوظ وهو اسم فرس الملك وهو منادى بحذف حرف النداء وأما "أقدم" فضبطوه بوجهين أصحهما وأشهرهما -ولم يذكر ابن دريد وكثيرون أو الأكثرون غيره- أنه بهمزة قطع مفتوحة وبكسر الدال من الإقدام قالوا: وهي كلمة زجر للفرس معلومة في كلامهم والثاني بضم الدال وبهمزة وصل مضمومة من التقدم. (فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه) الخطم بالخاء الأثر على الأنف. يقال: خطمه بفتح الطاء يخطمه بكسرها أي ضرب خطمه بسكونها والخطم بسكون الطاء الأنف ويقال: خطم أنفه أي جعل عليه خطاما والخطام الزمام وما وضع على خطم الجمل ليقاد به والمعنى هنا أن المشرك الذي وقع بضربة من سوط الملك كان أنفه مجروحا ووجهه مشقوقا من أثر الضربة أو من أثر شيء يشبه الضربة و"خطم" بضم الخاء وكسر الطاء مبني للمجهول و"أنفه" نائب فاعل. (فاخضر ذلك أجمع) أي انقطع الأنف والوجه أجمع وتشوه كل منهما يقال: اخضره أي قطعه واستأصله. (ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ ) بضم الهمزة وعند أحمد والترمذي والحاكم "لما كان يوم بدر جيء بالأسارى وفيهم العباس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ (هم بنو العم والعشيرة) بالجر أي وبنو العشيرة وعشيرة الرجل بنو أبيه الأقربون وقبيلته

وفي القرآن الكريم {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214] والجمع عشائر وفي رواية "يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قومك وأهلك استبقهم لعل الله تعالى أن يتوب عليهم". (ولكني أرى أن تمكنا) بضم التاء وفتح الميم وتشديد الكاف المكسورة أي تمكنا منهم ومن ضرب رقابهم وفي رواية "يا رسول الله كذبوك وأخرجوك وقاتلوك قدمهم فاضرب أعناقهم". (فتمكن عليا من عقيل) أخيه ابن أبي طالب. (وتمكني من فلان -نسيبا لعمر- فأضرب عنقه) "فلان" كنى به الراوي عن اسم نطق به عمر و"نسيبا" حال منه وفي رواية أحمد "قريبا لعمر وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين". (فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها) "الصناديد" جمع صنديد بفتح الصاد وكسرها وهو الشديد وكان الظاهر أن يقول "وصناديده" ليعود الضمير على الكفر أو "وصناديدهم" ليعود الضمير على أئمة الكفر قال النووي: والضمير في "صناديدها" يعود على "أئمة الكفر" أو مكة اهـ. وفي عوده على أئمة الكفر نظر وفي عوده على مكة عود على ما لم يسبق له ذكر والأولى منه على هذا أن يعود على قريش فصناديد قريش أشهر من صناديد مكة ورواية أحمد "هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم" فلعل اللفظ في روايتنا سهو من الناسخ. وفي رواية أحمد والترمذي والحاكم "وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله انظر واديا كثير الحطب فأضرمه عليهم نارا فدخل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرد عليهم شيئا فقال أناس: يأخذ بقول أبي بكر وقال أناس: يأخذ بقول عمر وقال أناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله تعالى ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن وإن الله سبحانه ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم عليه السلام قال {فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم} [إبراهيم: 36] ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى -عليه السلام- قال {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} [المائدة: 118] ومثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام إذ قال {ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم} [يونس: 88] ومثلك يا عمر مثل نوح -عليه السلام- إذ قال {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا} [نوح: 26] ثم قال لأصحابه: أنتم عالة -أي فقراء محتاجون فلا يفلتن أحد من الأسرى إلا بفداء أو ضرب عنق. (فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت) أي فنفذ إشارة أبي بكر وفي رواية لأحمد "فأخذ منهم الفداء" و"هوي" بكسر الواو أي أحب ذلك واستحسنه يقال: هوي الشيء بكسر الواو يهوى بفتحها هوى والهوى المحبة أما هوى بفتح الواو يهوي بكسرها فمعناه سقط قال النووي: "ولم يهو ما قلت" هكذا هو في بعض النسخ "ولم يهو" وفي كثير منها "ولم يهوي" وهي لغة قليلة بإثبات حرف العلة مع الجازم ومنه قراءة من قرأ {إنه من يتق ويصبر} [يوسف: 90] بالياء ومنه قول الشاعر: ألم يأتيك والأنباء تنمي.

(أبكي للذي عرض على أصحابك) اللام للتعليل وعائد الصلة محذوف والتقدير: أبكي من أجل الذي عرضه على أصحابك والمقصود من أصحابه أبو بكر ومن وافقه رضي الله عنهم وفي رواية "أبكي على أصحابك". (لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة) أي لقد رأيت ما كان سيحل بهم من العذاب الدنيوي الذي كان قريب الوقوع بهم قرب هذه الشجرة لولا كتاب من الله سبق إثباته في اللوح المحفوظ وهو أن لا يعذب قوما على فعل قبل أن يبين لهم حكمه أمرا أو نهيا لمسهم العذاب العظيم. (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) أي ما صح وما استقام لنبي من الأنبياء أن يكون له أسرى حتى يبالغ في القتل ويكثر منه حتى يذل الكفر ويضعف حزبه ويعز الإسلام ويرفع أهله وأصل معنى الثخانة الغلظ والكثافة في الأجسام ثم استعير هنا للمبالغة في القتل والجراحة لأنها لمنعها من الحركة صيرته كالثخين الذي لا يسيل وقرئ "يثخن" بفتح الثاء وتشديد الخاء المكسورة للمبالغة في المقاتلة. {تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة} وثوابها لكم. {فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا} فأحل الله الغنيمة لهم روي أنه لما نزلت الآية الأولى كف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أيديهم عما أخذوا من الفداء فنزلت هذه الآية فالمراد "مما غنمتم" إما الفدية وإما مطلق الغنائم والمقصود ما اندرج فيها من الفدية وإلا فحل الغنائم قد علم سابقا من قوله سبحانه {واعلموا أنما غنمتم} إلخ أي لا أؤاخذكم بم أخذتم من فداء فكلوه أكلا حلالا طيبا. -[فقه الحديث]- نزول الملائكة في ساحة القتال يوم بدر ثابت بالقرآن الكريم والأحاديث الكثيرة البالغة حد الشهرة فالقرآن الكريم يقول {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين* وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم* إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام* إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان} [الأنفال: 9 وما بعدها]. ويقول: {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون* إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين* بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين* وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم

به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم} [آل عمران: 123 وما بعدها] وحديثنا عن عمر بن الخطاب صريح في نزول الملائكة يوم بدر والخلاف بين العلماء في قتال الملائكة مع المؤمنين أو عدم قتالهم. والجمهور على أنهم قاتلوا مع المؤمنين يوم بدر ويستدلون بالآيات السابقة ويفسرون {فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان} بأنه أمر من الله للملائكة أن يضربوا رقاب الكافرين ويقطعوا أصابعهم وأطرافهم. وقول ابن عباس في حديثنا "بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد .. إلخ" ثم قول الأنصاري ما رأى من قتل المشرك وخطم أنفه وتصديق النبي صلى الله عليه وسلم له وقوله "ذلك من مدد السماء الثالثة" دليل على أنهم قاتلوا وقد أخرج عبد بن حميد وابن مردويه عن أبي داود المازني قال: "بينما أنا أتبع رجلا من المشركين يوم بدر فأهويت بسيفي إليه فوقع رأسه قبل أن يصل سيفي إليه فعرفت أنه قد قتله غيري" فإن قيل: ما الحكمة في قتال الملائكة مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ مع أن جبريل قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه؟ أجيب بأن ذلك وقع لإرادة أن يكون الفعل للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتكون الملائكة مددا على عادة مدد الجيوش رعاية لصورة الأسباب التي أجراها الله تعالى في عباده والله تعالى هو فاعل الجميع. القول الثاني: أن الملائكة كانت مهمتها تثبيت المؤمنين {فثبتوا الذين آمنوا} وهذا الفريق يجعل الخطاب في قوله تعالى {فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان} للمؤمنين. ومن حجته أن قدرة ملك واحد كفيلة بهزيمة المشركين فلو كانت مهمتهم قتالا لكان ملك واحد كافيا وقد وردت أحاديث في تثبيتهم المؤمنين قيل: كان ذلك بظهورهم لهم في صورة بشرية يعرفونها ووعدهم إياهم النصر على أعدائهم فقد أخرج البيهقي في الدلائل "أن الملك كان يأتي الرجل في صورة الرجل يعرفه فيقول: أبشروا فإنهم ليسوا بشيء والله معكم كروا عليهم" وفي رواية "كان الملك يتشبه بالرجل فيأتي ويقول: إني سمعت المشركين يقولون: والله لئن حملوا علينا لنكشفن ويمشي بين الصفوف فيقول: أبشروا فإن الله تعالى ناصركم". وقيل: كان التثبيت بأشياء يلقونها في قلوبهم تصح بها عزائمهم ويتأكد جدهم وللملك قوة إلقاء الخير في القلب ويقال له الإلهام كما أن للشيطان قوة إلقاء الشر ويقال له الوسوسة وقيل: كان التثبيت بمجرد تكثير السواد والله أعلم. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - من مناشدة رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه بهذه الحالة استحباب استقبال القبلة في الدعاء. 2 - ورفع اليدين فيه. 3 - وأنه لا بأس برفع الصوت في الدعاء ليراه الناس فيدعوا كما يدعو أو تقوى بدعائه قلوبهم.

4 - وأن الدعاء بشيء موثوق من حصوله مشروع فقد كان الله تعالى قد وعد نبيه صلى الله عليه وسلم إحدى الطائفتين إما العير وإما النصر وكانت العير قد ذهبت وفاتت فكان على ثقة من حصول الأخرى ومع ذلك استغاث وسأل إنجاز الوعد مع ثقته في الإنجاز كما قال له أبو بكر. قال الخطابي: لا يجوز أن يتوهم أحد أن أبا بكر كان أوثق بربه من النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحال بل الحامل للنبي صلى الله عليه وسلم على ذلك شفقته على أصحابه وتقوية قلوبهم لأنها كانت أول معركة يشهدها فبالغ في التوجه والدعاء والابتهال لتسكن نفوسهم عند ذلك لأنهم كانوا يعلمون أن دعاءه مستجاب فلما قال له أبو بكر ما قال كف عن ذلك وعلم أنه استجيب له. اهـ. وقال غيره: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة في مقام الخوف وهو أكمل حالات القرب وجاز عنده أن لا يقع النصر يومئذ لأن وعده بالنصر لم يكن معينا لتلك الواقعة وإنما كان مجملا وهذا ليس بشيء لقوله صلى الله عليه وسلم في مناشدته" اللهم أنجز ما وعدتني اللهم آت ما وعدتني" والتوجيه الأول حسن. والله أعلم.

(482) باب ربط الأسير وحبسه وجواز المن عليه

(482) باب ربط الأسير وحبسه وجواز المن عليه 4032 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد. فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة فربطوه بسارية من سواري المسجد فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "ماذا عندك؟ يا ثمامة" فقال: عندي يا محمد خير إن تقتل تقتل ذا دم وإن تنعم تنعم على شاكر وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان بعد الغد فقال "ما عندك يا ثمامة؟ " قال: ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر وإن تقتل تقتل ذا دم وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان من الغد فقال "ماذا عندك؟ يا ثمامة" فقال: عندي ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر وإن تقتل تقتل ذا دم وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أطلقوا ثمامة" فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي. والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك فأصبح دينك أحب الدين كله إلي. والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي. وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر فلما قدم مكة قال له قائل: أصبوت؟ فقال: لا ولكني أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. 4033 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلا له نحو أرض نجد فجاءت برجل يقال له ثمامة بن أثال الحنفي سيد أهل اليمامة. وساق الحديث بمثل حديث الليث إلا أنه قال "إن تقتلني تقتل ذا دم".

-[المعنى العام]- صورة مشرقة لسماحة الإسلام وكرم رسوله الرحيم وحسن معاملته وعفوه عمن أساء بل والإحسان إليه صورة تبرز كيف انتشر هذا الدين الحنيف؟ وكيف دخل القلوب؟ وكيف أحبه وأحب تعاليمه من دخل فيه؟ صورة تلقم الحجر كل من يدعي أن الإسلام انتشر بالسيف وأن الناس دخلوا فيه عن طريق الإرهاب. في السنة السادسة من الهجرة وفيما قبلها وفيما بعدها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل فرسانا مسلحين على خيلهم يجوبون الصحاري حول المدينة يؤمنونها من الأعداء ويأتون بأخبار المتآمرين عليهم ويحذرون ويخيفون من تسول له نفسه التحزب ضدهم وفي طلعة من هذه الطلعات لقي الجنود رجلا تبدو على ملامحه السيادة قبضوا عليه سألوه عرفوا أنه سيد قبيلة بني حنيفة باليمامة جهة نجد بين اليمن ومكة وكانت القبيلة كافرة تعين الكافرين على قتال المسلمين جاءوا به إلى المسجد النبوي أسيرا وربطوه في عمود من أعمدته وخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعرفه إنه ثمامة بن أثال قال له صلى الله عليه وسلم: كيف حالك يا ثمامة؟ ما تظن أني فاعل بك؟ قال: ما أظن إلا خيرا فقد علمت العرب أنك تعفو وتغفر وتكرم إن قتلتني فمن حقك تقتل عدوا لك عنده ثأر وإن تعف عني وتنعم علي وجدتني شاكرا مقدرا للمعروف غير منكر لجميل وإن أردت مالا فداء لي فسل منه ما شئت فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان اليوم الثاني أعاد عليه السؤال وأعاد ثمامة نفس الجواب فتركه لليوم الثالث فأعاد عليه نفس السؤال وأعاد ثمامة نفس الجواب وفي الأيام الثلاثة يقدم لثمامة أفضل ما في بيته صلى الله عليه وسلم من طعام وشراب قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه في اليوم الثالث: أطلقوا ثمامة حلوا وثاقه وحرروه يذهب كيف شاء. بهذا دخل الإسلام قلب ثمامة تحول بغضه لمحمد صلى الله عليه وسلم حبا له وبغضه للإسلام عشقا له وبغضه للمدينة اعتزازا بها طلب أن يعتمر ثم يعود إلى بلده فأذن له وعلم أهل مكة بإسلامه فأرادوا إيذاءه فهددهم بمنع حنطة اليمامة عنهم فأطلقوه فلما وصل منع أهله أن يبيعوا الحنطة لأهل مكة وقال: والله لا آذن بحبه حنطة من اليمامة إلى أهل مكة حتى يأذن بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب أهل مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتشفع صلى الله عليه وسلم لهم عند ثمامة حتى باعهم وبعد عامين أو يزيد ذهب وفد بني حنيفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمين مبايعين بفضل حسن معاملة الإسلام وسماحة رسوله الكريم. -[المباحث العربية]- (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلا) أي سرية وقطعة من الجيش على خيل وفي الرواية الثانية "خيلا له" (قبل نجد) أي جهة نجد وفي الرواية الثانية "نحو أرض نجد"

(فجاءت برجل من بني حنيفة) قال الحافظ ابن حجر: زعم سيف في كتاب الزهد أن الذي أخذ ثمامة العباس بن عبد المطلب وفيه نظر لأن العباس إنما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمان فتح مكة وقصة ثمامة تقتضي أنها كانت قبل ذلك بحيث اعتمر ثمامة ثم رجع إلى بلاده ثم منعهم أن يميروا أهل مكة ثم شكا أهل مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك .. " فكانت قصته قبل وفد بني حنيفة بزمان وكان وفد بني حنيفة سنة تسع. و"حنيفة" بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل قبيلة كبيرة شهيرة تنزل اليمامة بين مكة واليمن (يقال له: ثمامة بن أثال) بضم الهمزة مصروف وهو ابن النعمان بن مسلمة الحنفي وكان من فضلاء الصحابة. (سيد أهل اليمامة) "سيد" بالرفع صفة "ثمامة". (فربطوه في سارية من سواري المسجد) النبوي بالمدينة والسارية الأسطوانة والعمود وكان مثل هذا الربط بديلا عن سجون اليوم. (فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي خرج للصلاة في المسجد فمر به. (ماذا عندك يا ثمامة؟ ) أي ماذا استقر في ذهنك وفي ظنك أن نفعله بك يا ثمامة؟ بعد عدائك لنا وللإسلام؟ وبعد أسرنا لك؟ و"ماذا" اسم استفهام مبتدأ و"عندك" خبره ويحتمل أن تكون "ما" استفهامية و"ذا" موصولة و"عندك" صلة أي ما الذي استقر في ظنك؟ (عندي -يا محمد- خير) جملة النداء لا محل لها من الإعراب معترضة بين الخبر المقدم والمبتدأ المؤخر أي استقر في ذهني ما هو خير واطمئنان لأنك لست ممن يظلم بل ممن يعفو ويحسن. (إن تقتل تقتل ذا دم) "دم" بالدال المفتوحة والميم المخففة وهي رواية الأكثر وفي رواية "ذم" بالذال بدل الدال قال النووي: ومعنى رواية الأكثرين: إن تقتلني [كما في رواية البخاري وروايتنا الثانية] تقتل صاحب دم لدمه أي تثأر ممن لك عنده ثأر فتشفي نفسك بالثأر منه وهو مستحق لما يفعل به وهو إن لم يقتل مسلما لكنه كان لرئاسته وعظمته وسيادته يعتبر نفسه مسئولا عما فعله أهل اليمامة بالمسلمين ويحتمل أن يكون المعنى أنه عليه دم فعلا -ولو لغير المسلمين- فهو مطلوب ويستحق القتل وأما رواية "ذا ذم" بالذال المعجمة فمعناها ذا ذمة وضعفها عياض لأنها تقلب المعنى لأنه إذا كان ذا ذمة يمتنع قتله قال النووي: ويمكن تصحيحها بأن يحمل على الوجه الأول والمراد بالذمة الحرمة في قومه. (وإن تنعم تنعم على شاكر) ومقدر لجميلك وإنعامك وقد قدمت هذه الجملة في اليوم الثاني

والثالث على الجملة الأولى خلافا لليوم الأول لأنه بالمقابلة الأولى ازداد اطمئنانا على عدم القتل وأصبح الإنعام عنده أرجح الاحتمالات. (حتى كان بعد الغد) هكذا هو في مسلم بعد اللقاء الأول وبعد اللقاء الثاني "حتى كان من الغد" وهو مشكل والأولى عكسهما كما في رواية البخاري. (عندي ما قلت لك) رواية البخاري اقتصرت في اليوم الثاني على قوله "ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر" واقتصرت في اليوم الثالث على "عندي ما قلت لك" ووجهها الحافظ ابن حجر بقوله: هكذا اقتصر في اليوم الثاني على أحد الشقين -كان حقه أن يقول: على شق من الثلاثة -وحذف الأمرين في اليوم الثالث- وكان حقه أن يقول: وحذف الأمور الثلاثة في اليوم الثالث- وذلك أنه قدم أول يوم أشق الأمرين عليه وأشفى الأمرين لصدر خصومه وهو القتل فلما لم يقع اقتصر على ذكر الاستعطاف وطلب الإنعام في اليوم الثاني: فكأنه في اليوم الأول رأى أمارات الغضب فقدم ذكر القتل فلما لم يقتله طمع في العفو فاقتصر عليه فلما لم يعمل شيئا مما قال اقتصر في اليوم الثالث على الإجمال تفويضا إلى جميل خلقه صلى الله عليه وسلم. وهذا الذي ذكره الحافظ -على الرغم من أنه عد شقين وأهمل الثالث- إن صلح مع رواية البخاري لا يصلح مع رواية مسلم فالأولى أن نقول: إن بعض الرواة ذكر ما لم يذكر الآخر وهو في الأيام الثلاثة ردد بين الأمور الثلاثة وإن قدم الأول في اليوم الأول للعلة السابقة. (أطلقوا ثمامة) في رواية "قال: قد عفوت عنك يا ثمامة وأعتقتك" وفي رواية ابن إسحق "أنه لما كان في الأسر جمعوا ما كان في أهل النبي صلى الله عليه وسلم من طعام ولبن فلم يقع ذلك من ثمامة موقعا فلما أسلم جاءوه بالطعام فلم يصب منه إلا قليلا فتعجبوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إن الكافر يأكل في سبعة أمعاء وإن المؤمن يأكل في معي واحد". (فانطلق إلى نخل قريب من المسجد) قال النووي: هكذا هو في البخاري ومسلم وغيرهما "نخل" بالخاء وتقديره انطلق إلى نخل فيه ماء فاغتسل منه قال القاضي: قال بعضهم: صوابه "نجل" بالجيم وهو الماء القليل المنبعث وقيل: الجاري قلت: بل الصواب الأول لأن الروايات صحت به ولم يرو إلا هكذا وهو صحيح ولا يجوز العدول عنه. (فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني بشره بما حصل له من الخير العظيم بالإسلام وأن الإسلام يهدم ما كان قبله. (فلما قدم مكة) زاد ابن هشام قال: بلغني أنه خرج معتمرا فلما كان ببطن مكة لبى فكان أول من دخل مكة يلبي فأخذته قريش فقالوا: لقد اجترأت علينا وأرادوا قتله فقال قائل منهم: دعوه فإنكم تحتاجون إلى الطعام من اليمامة فتركوه.

(قال له قائل: أصبوت؟ ) قال النووي: هكذا هو في الأصول "أصبوت"؟ وهي لغة والمشهور "أصبأت" بالهمزة وعلى الأول جاء قولهم: الصباة كقاض وقضاة. (فقال: لا. ولكني أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) كأنه قال: لا ما خرجت من الدين لأن عبادة الأوثان ليست دينا فإذا تركتها لا أكون خرجت من دين بل استحدثت دين الإسلام وقوله "مع محمد" أي وافقته على دينه فصرنا متصاحبين في الإسلام أنا بالابتداء وهو بالاستدامة وفي رواية ابن هشام "ولكن تبعت خير الدين دين محمد" (ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم) "ولا والله" فيه حذف تقديره: والله لا أرجع إلى دينكم ولا أرفق بكم فأترك الميرة تأتيكم من اليمامة زاد ابن هشام: ثم خرج إلى اليمامة فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئا فكتبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: إنك تأمر بصلة الرحم؟ فكتب إلى ثمامة أن يخلي بينهم وبين الحمل إليهم. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من هذا الحديث]- 1 - جواز ربط الأسير وحبسه. 2 - وجواز إدخال الكافر المسجد ومذهب الشافعي جوازه بإذن مسلم سواء كان كافرا كتابيا أو غيره وقال عمر بن عبد العزيز وقتادة ومالك: لا يجوز وقال أبو حنيفة: يجوز لكتابي دون غيره. قال النووي: ودليلنا على الجميع هذا الحديث وأما قوله تعالى {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام} [التوبة: 28] فهو خاص بالحرم ونحن نقول: لا يجوز إدخاله الحرم. 3 - ويؤخذ من إطلاق ثمامة جواز المن على الأسير. قال النووي: وهو مذهبنا ومذهب الجمهور. 4 - وتعظيم أمر العفو عن المسيء لأن ثمامة أقسم أن بغضه انقلب حبا في ساعة واحدة لما أسداه النبي صلى الله عليه وسلم إليه من العفو والمن بغير مقابل. 5 - وأن الإحسان يزيل البغض ويثبت الحب. 6 - وأن الكافر إذا أراد عمل خير ثم أسلم شرع له أن يستمر في عمل ذلك الخير. 7 - ومن قوله "ما عندك يا ثمامة" فيه الملاطفة بمن يرجى إسلامه من الأسارى إذا كان في ذلك مصلحة للإسلام ولا سيما من يتبعه على إسلامه العدد الكثير من قومه. 8 - وعن غسله ثم إعلان إسلامه قال الشافعية: إذا أراد الكافر الإسلام بادر به ولا يؤخره للاغتسال ولا يحل لأحد أن يأذن له في تأخيره بل يبادر به ثم يغتسل قال النووي: ومذهبنا أن اغتساله واجب إن كان عليه جنابة في الشرك سواء كان اغتسل منها أم

لا وقال بعض أصحابنا إن كان اغتسل أجزأه وإلا وجب وقال بعض أصحابنا وبعض المالكية: لا غسل عليه وسقط حكم الجنابة بالإسلام كما تسقط الذنوب وضعفوا هذا بالوضوء فإنه يلزمه بالإجماع ولا يسقط أثر الحدث بالإسلام هذا كله إذا كان أجنب في الكفر أما إذا لم يجنب أصلا ثم أسلم فالغسل مستحب له وليس بواجب هذا مذهبنا ومذهب مالك وآخرين وقال أحمد وآخرون: يلزمه الغسل. 9 - وفي الحديث بعث السرايا إلى بلاد الكفار وأسر من وجد منهم. 10 - والتخيير بعد ذلك في قتله أو الإبقاء عليه. والله أعلم.

(483) باب إجلاء اليهود من الحجاز

(483) باب إجلاء اليهود من الحجاز 4034 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: بينا نحن في المسجد إذ خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "انطلقوا إلى يهود" فخرجنا معه حتى جئناهم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فناداهم فقال "يا معشر يهود أسلموا تسلموا" فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "ذلك أريد أسلموا تسلموا" فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "ذلك أريد" فقال لهم الثالثة فقال "اعلموا أنما الأرض لله ورسوله وأني أريد أن أجليكم من هذه الأرض فمن وجد منكم بماله شيئا فليبعه وإلا فاعلموا أن الأرض لله ورسوله". 4035 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن يهود بني النضير وقريظة حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير. وأقر قريظة ومن عليهم حتى حاربت قريظة بعد ذلك فقتل رجالهم وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين إلا أن بعضهم لحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فآمنهم وأسلموا. وأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود المدينة كلهم بني قينقاع وهم قوم عبد الله بن سلام ويهود بني حارثة وكل يهودي كان بالمدينة. 4036 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلما". -[المعنى العام]- اليهود في كل زمان شيمتهم الغدر يعاهدون ولا يوفون ويحلفون ويكذبون ويتظاهرون في حالة الضعف بالمسالمة وهم يبيتون الخيانة ولقد كانوا في المدينة وحولها شوكة في ظهر المسلمين

وجنوبهم ومن الصعب على عاقل حكيم أن يأمن لعدو في داخل داره وكيف يأمن كيس لثعبان يسكنه في فراشه. لقد غدر اليهود برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمسلمين مرة ومرة ونقضوا مواثيقهم من بعد عهدهم وبدت البغضاء من أفواههم وما تخفى صدورهم أكبر. ولما نفد الصبر وضاق بهم الصدر ولم يعد لاحتمالهم مجال خيرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الإسلام وبين الجلاء وترك البلاد على أن لهم أن يبيعوا ما يملكون لمن شاءوا وكيف شاءوا. مثل أعلى لمعاملة الأعداء المحاربين في حالة ضعفهم إنهم بضع مئات من البشر الجبناء أمام الآلاف من المؤمنين الأقوياء من السهل قتلهم في قتال ومن السهل أسرهم واغتنام أموالهم ونسائهم وأولادهم ولكن أن تترك أرواحهم وأموالهم وذراريهم لهم؟ هذا منتهى الرحمة والمسالمة والإحسان. -[المباحث العربية]- (بينا نحن في المسجد) "بينا" هي "بين" الظرفية زيدت عليها الألف وناصبها المفاجأة في "إذ" والتقدير: فاجأنا خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلينا وقت وجودنا بالمسجد النبوي بالمدينة. (انطلقوا إلى يهود) أي انطلقوا معي و"يهود" ممنوع من الصرف. قال الحافظ ابن حجر: ولم أر من صرح بنسب اليهود المذكورين هنا والظاهر أنهم بقايا من اليهود تأخروا بالمدينة بعد إجلاء بني قينقاع وقريظة والنضير والفراغ من أمرهم لأنه كان قبل إسلام أبي هريرة وإنما جاء أبو هريرة بعد فتح خيبر وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم يهود خيبر على أن يعملوا في الأرض واستمروا إلى أن أجلاهم عمر قال: ويحتمل -والله أعلم- أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن فتح خيبر سمح لمن كان قد بقى بالمدينة من اليهود بالاستمرار فيها معتمدين على الرضا بإبقائهم للعمل في أرض خيبر ثم منعهم هنا في هذا الحديث من سكنى المدينة أصلا. وسياق كلام القرطبي في شرح مسلم يقتضي أنه فهم أن المراد بهؤلاء اليهود بنو النضير ولعل الذي أوهم ذلك أن مسلما أورد حديث ابن عمر في إجلاء بني النضير -روايتنا الثانية- عقب حديث أبي هريرة -روايتنا الأولى- فأوهم أن اليهود المذكورين في حديث أبي هريرة هم بنو النضير ولكن لا يصح لتقدمه على مجيء أبي هريرة وأبو هريرة يقول في الحديث إنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم. وقصة بني النضير كانت قبل بدر أو كانت بعد بئر معونة وعلى الحالين فهي قبل مجيء أبي هريرة وسياق إخراجهم مخالف لسياق هذه القصة فإنهم لم يكونوا داخل المدينة وإنهم إنما جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم ليستعين بهم في دية رجلين فأرادوا الغدر به فرجع إلى المدينة وأرسل إليهم يخيرهم بين الإسلام وبين الخروج فأبوا فحاصرهم فرضوا بالجلاء والرواية الثانية توضح ما كان من أمر يهود

بني قريظة وتشير إلى أن المراد من اليهود هنا جماعة من الفرق المذكورة استمروا في المدينة معتمدين على الرضا ثم منعهم النبي صلى الله عليه وسلم هنا. (فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فناداهم) القيام هنا ليس عن جلوس وإنما المراد به البدء والإنشاء وفي رواية "فنادى". (فقال: يا معشر يهود) المعشر كل جماعة أمرهم واحد والجمع معاشر. (أسلموا تسلموا) من القتال والقتل والإجلاء والمعاداة. وفيه جناس حسن لسهولة لفظه وعدم تكلفه. (قد بلغت يا أبا القاسم) كلمة مكر وخداع ليوهموا بذلك أنهم قد سمعوا وسيطيعون أي فاطمئن. (ذلك أريد أسلموا تسلموا) أي ذلك الاعتراف بأني بلغت ولا عذر لكم هو الذي أريده وفي الكلام قصر طريقه تقديم المفعول على الفعل أي لا أريد غير ذلك الاعتراف لأمضي فيما يستتبعه. (فقال لهم الثالثة) أي فقال لهم: أسلموا تسلموا للمرة الثالثة. (فقال: اعلموا أنما الأرض لله ورسوله) "اعلموا" جملة مستأنفة في جواب سؤال مقدر ناشئ عن الكلام السابق كأنهم قالوا في جواب "أسلموا تسلموا" لم قلت هذا وكررته؟ فقال: اعلموا أني أريد أن أجليكم فإن أسلمتم سلمتم من ذلك ومما هو أشق منه. وفي رواية "أن الأرض لله ورسوله" قال الداودي "لله" افتتاح كلام -أي وتبرك غير مقصود والأصل لرسول الله- حقيقة لأنها مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب وقال غيره: إن المراد أن الحكم لله في ذلك ولرسوله لكونه المبلغ عنه والقائم بتنفيذ أوامره فهي لله ورسوله ملكا وحكما. (وأني أريد أن أجليكم من هذه الأرض) "أجليكم" بضم الهمزة وسكون الجيم أي أخرجكم وزنا ومعنى قال الهروي: جلى القوم عن مواطنهم وأجلى القوم عن مواطنهم بمعنى واحد الاسم الجلاء والإجلاء. (فمن وجد منكم بماله شيئا فليبعه) أي فمن وجد منكم مقابل ممتلكاته شيئا فليبعها فوجد من الوجدان أي من وجد مشتريا فليبع وقيل: من الوجد أي المحبة لأن بعضهم يشق عليه فراق شيء مما يملك مما لا يستطيع حمله وتحويله فأذن لهم ببيعه. (أن يهود بني النضير وقريظة حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم) إلخ طوائف اليهود الثلاثة قريظة والنضير وقينقاع وادعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة الأولى من الهجرة على أن لا يحاربوه ولا يمالئوا عليه

عدوه فكان أول من نقض العهد منهم بنو قينقاع فحاربهم في شوال بعد وقعة بدر فنزلوا على حكمه وأراد قتلهم فاستوهبهم منه عبد الله بن أبي وكانوا حلفاءه فوهبهم له وأخرجهم من المدينة إلى أذرعات ثم نقض العهد بنو النضير فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس ستة أشهر من وقعة بدر وفي اليوم الثاني من حصاره لبني النضير حاصر بني قريظة فعاهدوه فأقرهم ومن عليهم فصاروا في أمان وذمة ثم واصل حصار بني النضير حتى نزلوا على الجلاء وأن لهم ما حملت الإبل إلا السلاح فأجلاهم إلى الشام ولما تحزبت قريش إلى غزوة الأحزاب مالأتهم قريظة وظاهروهم ونقضوا العهد فلما هزم الله الأحزاب أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى بني قريظة فتحصنوا فحاربهم فنزلوا على حكم سعد بن معاذ فحكم بقتل مقاتلتهم - وكانوا نحو ثمانمائة رجل - وبسبي نسائهم وذرياتهم كما سيأتي في الباب التالي. (بني قينقاع) "بني" بالنصب بدل من "يهود المدينة" وقينقاع بفتح القاف ويقال بضم النون وفتحها وكسرها ثلاث لغات مشهورات. (لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب) أي إن عشت وكانت هذه الجملة بمثابة وصية كما صرح بها وصية عند موته صلى الله عليه وسلم بلفظ "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب". وجزيرة العرب قيل: مكة والمدينة واليمن واليمامة وعن ابن شهاب: جزيرة العرب المدينة وعن الزبير في أخبار المدينة: جزيرة العرب ما بين العذيب إلى حضرموت وحضرموت آخر اليمن وقال الأصمعي: هي ما لم يبلغه ملك فارس من أقصى عدن إلى أطراف الشام وقال أبو عبيد: من أقصى عدن على ريف العراق طولا ومن جدة وما والاها من الساحل إلى أطراف الشام عرضا. وسميت جزيرة العرب لأن بحر فارس وبحر الحبشة والفرات ودجلة أحاطت بها وأضيفت إلى العرب لأنها كانت بأيديهم قبل الإسلام وبها أوطانهم ومنازلهم أما أرض الحجاز فهي ما يفصل بين نجد وتهامة. (حتى لا أدع إلا مسلما) أي حتى لا أدع في جزيرة العرب إلا مسلما وكأنه عمم الكفار في الحكم بعد تخصيص اليهود والنصارى. -[فقه الحديث]- ترجم البخاري لهذا الحديث بباب إخراج اليهود من جزيرة العرب. قال الحافظ ابن حجر: وكأنه اقتصر على ذكر اليهود لأنهم يوحدون الله تعالى إلا القليل منهم ومع ذلك أمر بإخراجهم فيكون إخراج غيرهم من الكفار بطريق الأولى. وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم يهود خيبر على أن يعملوا في الأرض على أن يجليهم حين يريد وقال: نقركم

بها على ذلك ما شئنا" ثم أوصى عند موته بإخراج اليهود والنصارى فأجلى عمر يهود خيبر وقد روى البخاري أن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- خرج إلى ما له في خيبر فاعتدى عليه من الليل ففدعت يداه ورجلاه -أي نقلت مفاصلهما- وليس للمسلمين هناك عدو غيرهم فخطب عمر في المسلمين وقال: هم عدونا وتهمتنا وقد رأيت إجلاءهم فأجلاهم وأعطاهم قيمة ما كان لهم منه الثمر مالا وإبلا وعروضا. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - قال النووي: يؤخذ منه أن المعاهد والذمي إذا نقض العهد صار حربيا وجرت عليه أحكام أهل الحرب وللإمام سبي من أراد منهم وله المن على من أراد. 2 - وأنه إذا من عليه ثم ظهرت منه محاربة انتقض عهده وإنما ينفع المن فيما مضى لا فيما يستقبل. 3 - من قوله "فمن وجد منكم بما له شيئا فليبعه" استدل به على جواز بيع المكره قال الحافظ ابن حجر: والحديث ببيع المضطر أشبه فإن المكره على البيع هو الذي يحمل على بيع الشيء شاء أو أبى واليهود لو لم يبيعوا لم يلزموا ولكنهم شحوا فاختاروا بيعها فصاروا كأنهم اضطروا إلى بيعها كمن رهقه دين فاضطر إلى بيع ماله فيكون جائزا ولو أكره عليه لم يجز. 4 - قال الطبري: فيه أن على الإمام إخراج كل من دان بغير دين الإسلام من كل بلد غلب عليه المسلمون عنوة إذا لم يكن بالمسلمين ضرورة إليهم كعمل الأرض ونحو ذلك وزعم أن ذلك لا يختص بجزيرة العرب بل يلتحق بها ما كان على حكمها وهذا باطل. 5 - قال النووي: أخذ بهذا الحديث مالك والشافعي وغيرهما من العلماء فأوجبوا إخراج الكفار من جزيرة العرب وقالوا: لا يجوز تمكينهم من سكناها ولكن الشافعي خص هذا الحكم ببعض جزيرة العرب وهو الحجاز وهو عنده مكة والمدينة واليمامة وأعمالها دون اليمن وغيره مما هو من جزيرة العرب بدليل آخر مشهور في كتبه وكتب أصحابه وقال: أما مجرد الدخول فقد قال العلماء: لا يمنع الكفار من التردد مسافرين في الحجاز ولا يمكنون من الإقامة فيه أكثر من ثلاثة أيام وقال الشافعي وموافقوه: إلا مكة وحرمها فلا يجوز تمكين كافر من دخوله بحال فإن دخله في خفية وجب إخراجه فإن مات ودفن فيه نبش وأخرج ما لم يتغير هذا مذهب الشافعي وجماهير الفقهاء وجوز أبو حنيفة دخولهم الحرم إلا المسجد وعن مالك: يجوز دخولهم الحرم للتجارة وحجة الجماهير قول الله تعالى {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة: 28]. 6 - قال النووي: وفي هذا الحديث استحباب تجنيس الكلام "أسلموا تسلموا" وهو من بديع الكلام وأنواع الفصاحة. والله أعلم.

(484) باب جواز قتال من نقض العهد وجواز إنزال أهل الحصن على حكم حاكم عدل أهل للحكم وجواز المبادرة بالغزو وتقديم أهم الأمرين المتعارضين

(484) باب جواز قتال من نقض العهد وجواز إنزال أهل الحصن على حكم حاكم عدل أهل للحكم وجواز المبادرة بالغزو وتقديم أهم الأمرين المتعارضين 4037 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد فأتاه على حمار فلما دنا قريبا من المسجد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار "قوموا إلى سيدكم" أو خيركم ثم قال "إن هؤلاء نزلوا على حكمك" قال: تقتل مقاتلتهم وتسبي ذريتهم. قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم "قضيت بحكم الله" وربما قال "قضيت بحكم الملك" ولم يذكر ابن المثنى وربما قال "قضيت بحكم الملك". 4038 - وفي رواية عن شعبة بهذا الإسناد وقال: في حديثه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لقد حكمت فيهم بحكم الله" وقال مرة "لقد حكمت بحكم الملك". 4039 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: أصيب سعد يوم الخندق رماه رجل من قريش يقال له ابن العرقة رماه في الأكحل فضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد يعوده من قريب فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق وضع السلاح فاغتسل فأتاه جبريل وهو ينفض رأسه من الغبار فقال وضعت السلاح والله ما وضعناه اخرج إليهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فأين؟ " فأشار إلى بني قريظة فقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم فيهم إلى سعد قال: فإني أحكم فيهم أن تقتل المقاتلة وأن تسبى الذرية والنساء وتقسم أموالهم. 4040 - عن هشام قال: قال أبي: فأخبرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لقد حكمت فيهم بحكم الله عز وجل".

4041 - عن عائشة رضي الله عنها أن سعدا قال: وتحجر كلمه للبرء فقال: اللهم إنك تعلم أن ليس أحد أحب إلي أن أجاهد فيك من قوم كذبوا رسولك صلى الله عليه وسلم وأخرجوه اللهم فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني أجاهدهم فيك. اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم فإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها واجعل موتي فيها فانفجرت من لبته فلم يرعهم وفي المسجد معه خيمة من بني غفار إلا والدم يسيل إليهم فقالوا: يا أهل الخيمة ما هذا الذي يأتينا من قبلكم فإذا سعد جرحه يغذ دما فمات منها. 4042 - وعن هشام بهذا الإسناد نحوه غير أنه قال: فانفجر من ليلته فمازال يسيل حتى مات وزاد في الحديث قال: فذاك حين يقول الشاعر: ألا يا سعد سعد بني معاذ ... فما فعلت قريظة والنضير لعمرك إن سعد بني معاذ ... غداة تحملوا لهو الصبور تركتم قدركم لا شيء فيها ... وقدر القوم حامية تفور وقد قال الكريم أبو حباب ... أقيموا قينقاع ولا تسيروا وقد كانوا ببلدتهم ثقالا ... كما ثقلت بميطان الصخور 4043 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: نادى فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم انصرف عن الأحزاب "أن لا يصلين أحد الظهر إلا في بني قريظة" فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا دون بني قريظة وقال آخرون لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن فاتنا الوقت قال: فما عنف واحدا من الفريقين. -[المعنى العام]- لما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه من غزوة الأحزاب راجعا إلى المدينة كان سعد بن معاذ سيد

الأوس قد أصيب في الغزوة في عرق في ذراعه فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقامة خيمة له في المسجد النبوي يعالج فيها وهو قريب من منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسهل عليه صلى الله عليه وسلم زيارته والاطمئنان عليه ورعايته. ودخل صلى الله عليه وسلم بيته فوضع سلاحه وخلع ثياب الحرب ودخل فاغتسل وخرج من مغتسله ففوجئ بجبريل عليه السلام بلباس الحرب على رأسه غبارها رآه واقفا خارج البيت فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعا فقال له جبريل: عذيرك من محارب أي هات من يلتمس لك العذر في سرعة نخلصك من آثار الحرب والحرب لم تنته بعد فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الغبار عن وجه جبريل معتذرا إليه يسأل عن الخطب قال له جبريل: عفا الله عنك وضعت السلاح ولم تضعه ملائكة الله قم فشد عليك سلاحك قال صلى الله عليه وسلم: إلى أين؟ فأشار إلى ديار بني قريظة إنهم الذين نقضوا العهد وتمالئوا مع الأحزاب فحان وقت عقابهم هيا فملائكة الله تسبقكم إليهم. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا أن ينادي في الناس: يا خيل الله اركبي. من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة ومن لم يصل الظهر فلا يصل إلا في بني قريظة ومن كان لم يصل العصر فلا يصلين وقته إلا في بني قريظة وتسابق ثلاثة آلاف من المسلمين إلى بني قريظة وكادت الشمس تغرب وهم لم يصلوا بعد إلى ديار بني قريظة وممتلكاتهم فقال بعضهم: نؤخر صلاة العصر حتى نصل الديار ولو للعشاء فقد نهينا عن صلاتها إلا في بني قريظة وقال بعضهم: بل ننزل ونصلي العصر فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرد منا تأخير الصلاة وإنما أراد الإسراع ونفذ كل منهم ما رآه وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلوا فلم يعنف أحدا من الفريقين فقد اجتهدوا ولهم أجورهم. وحاصر المسلمون بني قريظة بضع عشرة ليلة ولما اشتد بهم الحصار وألقى الله في قلوبهم الرعب فكروا أن يقتلوا نساءهم وأولادهم ثم يخرجوا مقاتلين مستقتلين وتراجعوا عن الفكرة وفضلوا النزول على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم على احتمال أن يقبل جلاءهم عن البلاد كما قبل جلاء بني النضير وكان بنو قينقاع قد حوصروا من قبل وهم حلفاء الخزرج فتشفع فيهم رئيس الخزرج عبد الله ابن أبي فلم يخرجوا فطلب الأوس وهم حلفاء بني قريظة أن يشفعوا لهم كما شفع الخزرج لحلفائهم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أترضون حكم رئيسكم سعد بن معاذ فيهم؟ قالوا: نعم وسئل بنو قريظة: تنزلون على حكم سعد بن معاذ؟ قالوا: نعم. فطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حضور سعد من مسجد المدينة فحملوه بجرحه على حمار حتى وصل إلى مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوله الأنصار والمهاجرون فقال للأنصار: قوموا إلى سيدكم سعد قوموا له إجلالا وإكراما وإعزازا لمقامه وجهاده وقوموا له مهنئين على ما أنعم الله به عليه من أن يكون حكما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أعدائه قوموا له مساعدين على إنزاله عن الحمار وتوصيله إلى مكانه ونزل سعد وجلس بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هؤلاء -بني قريظة قد نزلوا من حصارهم على أن تحكم أنت فيهم وقد رضوا حكمك فيهم ورضينا نحن حكمك فيهم فبماذا تحكم عليهم؟ تذكر سعد خيانتهم المرة بعد المرة وتذكر تآمرهم مع قريش والأحزاب وتذكر عداءهم لله

ولرسوله وللمؤمنين وتذكر أنهم لم يستسلموا حين توجه إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون ولم يطلبوا الصلح أو العفو أو الجلاء بل نصبوا أنفسهم للقتال وتحصنوا في حصونهم تذكر أنهم لو أن في مقدورهم قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين لما تأخروا طرفة عين تذكر أن بقاءهم على الحياة خطر على المسلمين وأن في استئصالهم إرهابا لعدو الله وعدو المؤمنين تذكر كل ذلك فقدمه على الحلف الذي كان بينه وبينهم وألهمه الله ما أراد فقال: أحكم فيهم بأن يقتل رجالهم المقاتلون وأن تسبى نساؤهم وأولادهم وتغنم أموالهم للمسلمين فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: حكمت فيهم بحكم الله فيهم من فوق سبع سموات حكمك هذا موافق لما أوحي إلي به أنه حكم الله فيهم ألهمك الله النطق بحكمه وجعل الحق فيهم على لسانك. شق لهم خندق في الأرض وضربت أعناقهم فيه وكانوا نحو أربعمائة رجل أو أكثر ووزعت نساؤهم وأولادهم وأموالهم على جيش المسلمين. وعاد سعد إلى خيمته راضيا حامدا شاكرا يفكر في مصير نفسه إنه جريح معركة بين المسلمين والكفار إن مات من جرحه مات شهيدا لكنه يتمنى أن يعيش ليجاهد في سبيل الله وليقاتل كفار قريش بصفة خاصة فهم في اعتقاده أعتى أعداء الله ورسوله فهم الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم الذين أخرجوه وأصحابه من ديارهم وأموالهم وهم الذين يهاجمون المسلمين في ديارهم بالمدينة وهم الذين يؤلبون القبائل والأحزاب عليهم فجهادهم أعظم جهاد فماذا يتمنى سعد؟ وبماذا يدعو ربه؟ قال: اللهم إني أظن أن قريشا يئست من النصر وأنهم لن يقاتلوا المسلمين بعد الأحزاب اللهم إن كان في قدرك أن حربا ستقوم بيننا وبينهم فأحيني حتى أقاتلهم وأستشهد في معاركهم وإن كان قدرك أن الحرب قد وضعت أوزارها بيننا وبينهم وأنه لن يكون قتال يتوقع أن أستشهد فيه بيننا وبينهم فافجر جراحتي لأموت شهيد حرب قريش وكان جرحه قد ورم وسرى الورم من الذراع إلى الكتف إلى الصدر فانفجر الجرح من أعلى الصدر وأسفل الرقبة وجرى الدم على الأرض حتى دخل الخيمة المجاورة لخيمته بالمسجد ولقي ربه شهيدا مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. -[المباحث العربية]- (نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ) بنو قريظة قبيلة من اليهود كانوا يسكنون ضاحية قريبة من المدينة وكانوا يزعمون أنهم من ذرية شعيب نبي الله عليه السلام وهو محتمل وكانوا قبيل إجلاء بني النضير قد عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نقضوا العهد عند غزوة الأحزاب وظاهروا المشركين فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب نصر الله المسلمين في غزوة الأحزاب كما تبين الرواية الثالثة وكان خروجه صلى الله عليه وسلم إليهم لسبع بقين من ذي القعدة وخرج إليهم في ثلاثة آلاف فحاصرهم بضع عشرة ليلة فأجهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب فعرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد أن يؤمنوا أو يقتلوا نساءهم وأبناءهم ويخرجوا مستقتلين أو يبغتوا المسلمين

ليلة السبت فقالوا: لا نؤمن ولا نستحل ليلة السبت وأي عيش لنا بعد أبنائنا ونسائنا؟ فأرسلوا إلى أبي لبابة بن عبد المنذر وكانوا حلفاءه فاستشاروه في النزول على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إلى حلقه -يعني الذبح- ثم ندم فتوجه إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فارتبط به حتى تاب الله عليه. وفي الرواية الثالثة "فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم فيهم إلى سعد" وعند ابن إسحق قال: لما اشتد بهم الحصار أذعنوا إلى أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتواثب الأوس: فقالوا: يا رسول الله قد فعلت في موالي الخزرج ما علمت -يريدون بني قينقاع حيث وهبهم لعبد الله بن أبي حيث كانوا حلفاءه فأخرجهم من المدينة إلى أذرعات- فقال: ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى. قال: فذلك إلى سعد بن معاذ وكانوا حلفاءه. ولا تعارض بل يجمع بأنهم نزلوا على حكمه صلى الله عليه وسلم ثم رد الحكم إلى سعد فقبلوا النزول على حكم سعد فسبب رد الحكم إلى سعد على هذا سؤال الأوس. (فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد) في الرواية الثالثة "أصيب سعد يوم الخندق رماه رجل من قريش يقال له: ابن العرقة" بفتح العين وكسر الراء بعدها قاف والعرقة أمه وهو حبان بكسر الحاء وتشديد الباء بن قيس من بني معيص بفتح الميم وكسر العين "رماه في الأكحل" بفتح الهمزة وسكون الكاف وفتح الحاء وهو عرق في وسط الذراع قال الخليل: هو عرق الحياة قيل: إذا قطع لم يرفأ الدم. "فضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد يعوده من قريب" قال ابن إسحق: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل سعدا في خيمة رفيدة وكانت امرأة تداوي الجرحى فقال اجعلوه في خيمتها لأعوده من قريب فلما خرج إلى بني قريظة وحاصرهم وسأله الأنصار أن ينزلوا على حكم سعد أرسل إليه فظاهر كلام ابن إسحق أن سعدا استقدم من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وقيل: استقدم من مسجد كان النبي صلى الله عليه وسلم أعده للصلاة فيه في ديار بني قريظة أيام حصارهم والأول هو الأوفق لما سيأتي. (فأتاه على حمار) وعند ابن إسحق "فحملوه على حمار ووطؤوا له وكان جسيما" أي هيئوا له فراشا على الحمار مبالغة في راحته. (فلما دنا قريبا من المسجد) أي المسجد الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم أعده للصلاة فيه في ديار بني قريظة أيام حصارهم وكان قريبا من مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم. (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار: قوموا إلى سيدكم -أو خيركم) قيام تكريم وتشريف أو قياما ليساعدوه على النزول وسيأتي الكلام على القيام للتشريف في فقه الحديث وهل المخاطبون بذلك الأنصار خاصة؟ أو هم وغيرهم؟ (ثم قال: إن هؤلاء نزلوا على حكمك) أي قال لسعد: إن هؤلاء بني قريظة نزلوا على حكمك

ووافقناهم فاحكم فيهم وفي رواية "احكم فيهم يا سعد قال: الله ورسوله أحق بالحكم قال: قد أمرك الله تعالى أن تحكم فيهم". (تقتل مقاتلتهم وتسبي ذريتهم) "تقتل" و"تسبي" بفتح التاء مبني للمعلوم والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي تأمر بقتلهم وفي الرواية الثالثة "أن تقتل المقاتلة وأن تسبي الذرية والنساء وتقسم أموالهم" قال النووي: الذرية تطلق على النساء والصبيان معا. اهـ. وعليه فعطف النساء عليها في هذه الرواية من قبيل عطف الخاص على العام قال ابن إسحق: فخندق لهم خنادق فضربت أعناقهم فجرى الدم في الخنادق وقسم أموالهم ونساءهم وأبناءهم على المسلمين. واختلف في عدتهم فيما بين أربعمائة وتسعمائة على أساس عد أتباعهم أو عدم عدهم. (قضيت بحكم الله -قضيت بحكم الملك) بكسر اللام أي حكم الله والشك من أحد الرواة في أي اللفظين صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقع عند الكرماني بفتح اللام وقرره بجبريل لأنه الذي ينزل بالأحكام وفي رواية "لقد حكمت فيهم اليوم بحكم الله الذي حكم به من فوق سبع سموات" وفي رواية "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة" جمع رقيع وهو اسم من أسماء السماء قيل: سميت بذلك لأنها رقعت بالنجوم ومعناه أن الحكم نزل من فوق ولا يستحيل وصفه تعالى بالفوق على المعنى الذي يليق بجلاله. (فلما رجع من الخندق وضع السلاح فاغتسل فأتاه جبريل وهو ينفض رأسه من الغبار) وعند الطبراني والبيهقي أن عائشة قالت: سلم علينا رجل ونحن في البيت فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعا فقمت في إثره فإذا بدحية الكلبي فقال: "هذا جبريل" وفي رواية "يأمرني أن أذهب إلى بني قريظة" وفي رواية "فكأني برسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الغبار عن وجه جبريل" وعند أحمد والطبراني "فأتاه جبريل وإن على ثناياه لنقع الغبار" إشارة إلى أن آثار غزوة الخندق مازالت باقية على جبريل عليه السلام" وإلى أن المعركة لم تنته وإلى أن الوقت لا يسمح بالاغتسال بل يوجب الإسراع. (وضعت السلاح؟ والله ما وضعناه. اخرج إليهم) عند ابن سعد "فقال له جبريل: عفا الله عنك وضعت السلام ولم تضعه ملائكة الله" وفي رواية "قم فشد عليك سلاحك فوالله لأدقنهم دق البيض على الصفا". (أن سعدا قال -وتحجر كلمه للبرء- ... فقال) الكلم بفتح الكاف الجرح وتحجر أي يبس والجملة حالية أي قال هذا القول حالة قرب التئام جرحه وشفائه. (أن ليس أحد أحب إلي أن أجاهد فيك من قوم كذبوا رسولك صلى الله عليه وسلم) "أن" الأولى مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن محذوف وخبرها جملة "ليس أحد أحب" وجملة أن وخبرها سدت مسد مفعولي "تعلم" والتقدير: اللهم إنك تعلم أن الحال ليس جهاد في سبيلك أحب إلي من جهاد أحارب فيه قوما كذبوا رسولك.

(اللهم فإن كان ... ) الفاء عاطفة للجملة بعدها على الجملة قبلها وإعادة "اللهم" لزيادة الاستعطاف. (اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم) قال بعض الشراح: ولم يصب في هذا الظن لأنه قد وقعت حروب وغزوات بعد ذلك فيحمل على أنه دعا بذلك فلم تجب دعوته بعينها وادخر له ما هو أفضل من ذلك كما ورد في حديث دعاء المؤمن أو أن سعدا أراد بوضع الحرب أي في تلك الغزوة الخاصة لا فيما بعدها قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر لي أن ظن سعد كان مصيبا وأن دعاءه في هذه القصة كان مجابا وذلك أنه لم يقع بين المسلمين وبين قريش من بعد وقعة الخندق حرب يكون ابتداء القصد فيها من المشركين فإنه صلى الله عليه وسلم تجهز إلى العمرة فصدوه عن دخول مكة وكادت الحرب أن تقع بينه وبينهم فلم تقع كما قال الله تعالى {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم} [الفتح: 24] ثم وقعت الهدنة واعتمر صلى الله عليه وسلم من قابل واستمر ذلك إلى أن نقضوا العهد فتوجه إليهم غازيا ففتحت مكة فعلى هذا فالمراد بقوله: "أظن أنك وضعت الحرب" أي أن يقصدونا محاربين. اهـ. والذي يظهر لي أن توجيه الحافظ ابن حجر بعيد وفيه تعسف فسعد كان يتمنى جهاد قريش ومحاربتهم وغلبتهم وإذلالهم وأن يكون له في ذلك إسهام سواء أكانوا مهاجمين أو كانوا مهاجمين -بكسر الجيم وفتحها- وقصر تمنيه على كونهم مهاجمين -بكسر الجيم- لا يليق بسعد ولا بتمنيه فكون المسلم مدافعا فقط لا يليق بنشر الدعوة ولا بأبطالها الأوائل ثم إن وضع الحرب بين فريقين يشمل الهجوم والدفاع ولا قرينة تخصصه بأحدهما وهذا من حيث الظن ولا ينقص المسلم أن يظن شيئا فلا يتحقق أما دعاؤه فشيء آخر ويبدو أنه قصد بدعائه أن يموت شهيدا مجاهدا لكفار قريش إما بحرب مقبلة وإما بهذه الحرب فأجاب الله دعاءه فمات بسبب جرح ناتج عن إصابته في غزوة الخندق. (فافجرها واجعل موتي فيها) أي فافجر الإصابة والجراحة وكان الجرح قد ورم وسرى الورم من الذراع إلى الصدر ثم إلى الرقبة. (فانفجرت من لبته) بفتح اللام وتشديد الباء وهي موضع القلادة من الصدر أي كان انفجار الجراحة من نهاية الورم من اللبة لا من الذراع وفي رواية "فإذا لبته قد انفجرت من كلمه" وفي رواية الكشميهني وروايتنا الخامسة "من لبته" قال الحافظ ابن حجر: وهو تصحيف. (فلم يرعهم -وفي المسجد معه خيمة من بني غفار- إلا والدم يسيل إليهم) جملة "وفي المسجد معه خيمة من بني غفار" حالية ومعنى "يرعهم" يفزعهم والضمير فيها لأهل الخيمة وكانت -على ما يقول ابن إسحق- لرفيدة الأسلمية قال الحافظ: فيحتمل أن تكون لها زوج من بني

غفار اهـ. والاستثناء مفرغ من عموم الفاعل والتقدير: فلم يفزعهم شيء إلا منظر فظيع والدم يجري إليهم من الخيمة المجاورة. (ما هذا الذي يأتينا من قبلكم؟ ) بكسر القاف وفتح الباء أي من جهتكم؟ (فإذا سعد جرحه يغذ دما) قال النووي: هكذا هو في معظم الأصول المعتمدة "يغذ" بكسر الغين وتشديد الذال ونقله القاضي عن جمهور الرواة وفي بعضها "يغذو" بإسكان الغين وضم الذال وكلاهما صحيح ومعناه يسيل يقال غذ الجرح يغذ إذا دام سيلانه وغذا يغذو سال. اهـ. (فما فعلت قريظة والنضير) قال النووي: هكذا هو في معظم النسخ وكذا حكاه القاضي عن المعظم وفي بعضها "لما فعلت" باللام بدل الفاء وقال: وهو الصواب والمعروف في السير. اهـ. تركتم قدركم لا شيء فيها وقدر القوم حامية تفور الخطاب للأوس ويوبخ به الشاعر جبل بن جوال الثعلبي وكان حينئذ كافرا يوبخ سعد بن معاذ على حكمه بقتل مقاتلة بني قريظة وهذا البيت مثل يضرب لعدم الناصر فكأن الأوس بهذا الحكم فرغوا قدرهم من الطعام بفقدهم لبني قريظة حلفائهم وكانوا بهم أقوياء وأشار بعض القوم إلى الخزرج الذين تقووا بحلفائهم بني قينقاع حيث تشفعوا لهم عند النبي صلى الله عليه وسلم فأبقاهم. وقد قال الكريم أبو حباب أقيموا قينقاع ولا تسيروا يمدح عبد الله بن أبي وهو أبو حباب رئيس الخزرج حيث شفع لبني قينقاع فأقاموا. وقد كانوا ببلدتهم ثقالا كما ثقلت بميطان الصخور الكلام عن بني قريظة وأنهم كانوا في بلادهم بسبب كثرة مالهم أقوياء راسخين رسوخ الصخر في جبل ميطان المعروف في أرض الحجاز في ديار بني مزينة وميطان بفتح الميم على المشهور وحكي بكسرها. (ألا يصلين أحد الظهر إلا في بني قريظة) "ألا" أصلها "أن" المفسرة دخلت على "لا" الناهية. قال النووي: هكذا رواه مسلم "لا يصلين أحد الظهر" ورواه البخاري في باب صلاة الخوف من رواية ابن عمر أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا لما رجع من الأحزاب: لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة فأدرك بعضهم العصر في الطريق وقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها وقال بعضهم بل نصلي ولم يرد ذلك منا فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدا منهم" ويجمع بين الروايتين في كونها الظهر أو العصر باحتمال أن هذا النهي كان بعد دخول وقت الظهر وقد صلى الظهر بالمدينة بعضهم دون بعض فقيل للذين لم يصلوا الظهر: لا تصلوا الظهر إلا في بني قريظة وللذين صلوا بالمدينة: لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة (ويبعد هذا الاحتمال أن النداء صدر مرات بلفظ واحد من شخص واحد وهذا الاحتمال يحتاج نداءين مختلفين) كما يبعده اتحاد مخرج الحديث لأنه عند الشيخين بإسناد واحد من مبدئه إلى منتهاه فيبعد أن يكون كل من رجال الإسناد قد حدث به على الوجهين

إذ لو كان كذلك لحمله واحد منهم عن بعض رواته على الوجهين ولم يوجد ذلك قال الحافظ ابن حجر: ثم تأكد عندي أن الاختلاف المذكور من حفظ بعض رواته فإن لفظ البخاري مخالف للفظ مسلم كما سبق فالذي يظهر من تغاير اللفظين أن عبد الله بن محمد بن أسماء شيخ الشيخين فيه حدث البخاري على هذا اللفظ وحدث مسلما والآخرين بلفظ آخر -فتغيير اللفظ على هذا من شيخ الشيخين والنهي كان عن وقت واحد- أو أن البخاري كتبه من حفظه ولم يراع اللفظ كما عرف من مذهبه في تجويز ذلك بخلاف مسلم فإنه يحافظ على اللفظ كثيرا وإنما لم أجوز عكسه لموافقة من وافق مسلما على لفظه بخلاف البخاري -فتغيير اللفظ على هذا من البخاري والنهي كان عن وقت واحد وهو الظهر- قال الحافظ: وهذا كله من حيث حديث ابن عمر أما بالنظر إلى حديث غيره فالاحتمالان المتقدمان في كونه قال الظهر لطائفة والعصر لطائفة متجه فيحتمل أن تكون رواية الظهر هي التي سمعها ابن عمر ورواية العصر هي التي سمعها كعب بن مالك وعائشة. اهـ. قال النووي: ويحتمل أنه قيل للجميع: لا تصلوا الظهر ولا العصر إلا في بني قريظة ويحتمل أنه قيل للذين ذهبوا أولا: لا تصلوا الظهر إلا في بني قريظة وللذين ذهبوا بعدهم: لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الروايات الثلاث الأولى]- 1 - جواز التحكيم في أمور المسلمين وفي مهماتهم العظام وقد أجمع العلماء عليه ولم يخالف فيه إلا الخوارج فإنهم أنكروا على "علي" التحكيم وأقام الحجة عليهم. 2 - وجواز مصالحة أهل قرية أو حصن على حكم حاكم مسلم عدل صالح للحكم أمين على هذا الأمر وعليه الحكم بما فيه مصلحة للمسلمين. 3 - وإذا حكم بالشيء لزم حكمه ولا يجوز للإمام ولا لهم الرجوع عنه ولهم الرجوع قبل الحكم. قاله النووي. 4 - وفي قوله "قوموا إلى سيدكم" في الرواية الأولى إكرام أهل الفضل وتلقيهم بالقيام لهم إذا أقبلوا قال النووي: هكذا احتج به جماهير العلماء لاستحباب القيام قال القاضي: وليس هذا من القيام المنهي عنه وإنما ذلك فيمن يقومون عليه وهو جالس ويمثلون قياما طول جلوسه. قال النووي: القيام للقادم من أهل الفضل مستحب وقد جاء فيه أحاديث ولم يصح في النهي عنه شيء صريح وقد جمعت كل ذلك مع كلام العلماء عليه في جزء وأجبت فيه عما توهم النهي عنه. اهـ. 5 - قال ابن بطال: في هذا الحديث أمر الإمام الأعظم بإكرام الكبير من المسلمين.

6 - ومشروعية إكرام أهل الفضل في مجلس الإمام الأعظم والقيام فيه لغيره من أصحابه. 7 - قال الخطابي: فيه أن قيام المرءوس للرئيس الفاضل والإمام العادل والمتعلم للعالم مستحب وإنما يكره لمن كان بغير هذه الصفات. قال الحافظ ابن حجر: وقد منع من ذلك قوم واحتجوا بحديث أبي أمامة قال "خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم متوكئا على عصا فقمنا له فقال: لا تقوموا كما تقوم الأعاجم بعضهم لبعض" وأجاب عنه الطبري بأنه حديث ضعيف مضطرب السند فيه من لا يعرف. واحتجوا أيضا بحديث عبد الله بن بريدة: أن أباه دخل على معاوية فأخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أحب أن يتمثل له الرجال قياما وجبت له النار" وأجاب عنه الطبري بأن هذا الخبر إنما فيه نهي من يقام له عن السرور بذلك لا نهي من يقوم له إكراما له وأجاب عنه ابن قتيبة بأن معناه: من أراد أن يقوم الرجال على رأسه كما يقام بين يدي ملوك الأعاجم وليس المراد به نهي الرجل عن القيام لأخيه إذا سلم عليه. واحتج ابن بطال للجواز بما أخرجه النسائي عن عائشة "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى فاطمة بنته قد أقبلت رحب بها ثم قام فقبلها ثم أخذ بيدها حتى يجلسها في مكانه". وذكر البخاري في الأدب المفرد حديث كعب بن مالك في قصة توبته وفيه "فقام إلى طلحة ابن عبيد الله يهرول". قال الحافظ ابن حجر: ومحصل المنقول عن مالك إنكار القيام مادام الذي يقام لأجله لم يجلس ولو كان في شغل نفسه فإنه سئل عن المرأة تبالغ في إكرام زوجها فتلقاه وتنزع ثيابه وتقف حتى يجلس؟ فقال: أما التلقي فلا بأس به وأما القيام حتى يجلس فلا فإن هذا فعل الجبابرة. وقد أنكره عمر بن عبد العزيز. وقد أطال الحافظ ابن حجر في عرض وجهتي نظر الفريقين في موضوع النزاع فقال: نقل المنذري عن بعض من منع ذلك مطلقا أنه رد على قصة سعد هذه بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمرهم بالقيام لسعد لينزلوه عن الحمار لكونه كان مريضا ويستأنس لهذا بما في مسند عائشة عند أحمد بلفظ "قوموا إلى سيدكم فأنزلوه" قال الحافظ: وسنده حسن وهذه الزيادة تخدش الاستدلال بقصة سعد على مشروعية القيام المتنازع فيه. واحتج النووي بحديث سعد ونقل عن البخاري ومسلم وأبي داود أنهم احتجوا به ولفظ مسلم: لا أعلم في قيام الرجل للرجل حديثا أصح من هذا وقد اعترض عليه الشيخ أبو عبد الله ابن الحاج فقال ما ملخصه: لو كان القيام المأمور به لسعد هو المتنازع فيه لما خص به الأنصار فإن الأصل في أفعال القرب التعميم ولو كان القيام لسعد على سبيل البر والإكرام لكان هو صلى الله عليه وسلم أول من فعله وأمر به من حضر من كبار الصحابة فلما لم يأمر به ولا فعله ولا فعلوه دل ذلك

على أن الأمر بالقيام لغير ما وقع فيه النزاع وإنما هو لينزلوه عن دابته لما كان فيه من المرض ولأن عادة العرب أن القبيلة تخدم كبيرها فلذلك خص الأنصار بذلك دون المهاجرين وعلى تقدير تسليم أن القيام المأمور به حينئذ لم يكن للإعانة فليس هو المتنازع فيه بل لأنه غائب قدم والقيام للغائب إذا قدم مشروع ويحتمل أن يكون القيام المذكور إنما هو لتهنئته بما حصل له من تلك المنزلة الرفيعة من التحكيم والرضا بما يحكم به والقيام لأجل التهنئة مشروع أيضا. وأجاب ابن الحاج على احتجاج النووي بقيام طلحة لكعب بن مالك بأن طلحة إنما قام لتهنئته ومصافحته ولذلك لم يحتج به البخاري للقيام وإنما أورده في المصافحة ولو كان قيامه محل النزاع لما انفرد به فلم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم قام له ولا أمر به ولا فعله أحد ممن حضر وإنما انفرد طلحة لقوة المودة بينهما على ما جرت به العادة أن التهنئة والبشارة ونحو ذلك تكون على قدر المودة والخلطة بخلاف السلام فإنه مشروع على من عرفت ومن لم تعرف وإذا حمل فعل طلحة على محل النزاع لزم أن يكون من حضر من المهاجرين قد ترك ما هو مندوب ولا يظن بهم ذلك. وأجاب ابن الحاج عن احتجاج النووي بقيام النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة باحتمال أن يكون القيام لها لأجل إجلاسها في مكانه إكراما لها لا على وجه القيام المنازع فيه ولا سيما ما عرف من ضيق بيوتهم وقلة الفرش فيها فكانت إرادة إجلاسها في موضعه مستلزمة لقيامه. واحتج النووي أيضا بما أخرجه أبو داود "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالسا يوما فأقبل أبوه من الرضاعة فوضع له بعض ثوبه فجلس عليه ثم أقبلت أمه فوضع لها شق ثوبه من الجانب الآخر ثم جاء أخوه من الرضاعة فقام فأجلسه بين يديه" واعترضه ابن الحاج بأن هذا القيام لو كان محل النزاع لكان الوالدان أولى به من الأخ وإنما قام للأخ إما لأن يوسع له في الرداء أو في المجلس. واحتج النووي أيضا بما أخرجه مالك في قصة عكرمة بن أبي جهل أنه لما فر إلى اليمن يوم الفتح ورحلت امرأته إليه حتى أعادته إلى مكة مسلما فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم وثب إليه فرحا وما عليه رداء واحتج أيضا بقيام النبي صلى الله عليه وسلم لجعفر لما قدم من الحبشة فقال: ما أدري بأيهما أنا أسر: بقدوم جعفر؟ أو بفتح خيبر؟ وبحديث عائشة "قدم زيد بن حارثة المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم في بيتي فقرع الباب فقام إليه فاعتنقه وقبله" وأجاب ابن الحاج بأنها ليست من محل النزاع. واحتج النووي بعمومات تنزيل الناس منازلهم وإكرام ذي الشيبة وتوقير الكبير واعترضه ابن الحاج بما حاصله أن القيام على سبيل الإكرام داخل في العمومات المذكورة لكن محل النزاع قد ثبت النهي عنه فيخص من العمومات. وأخرج الترمذي عن أنس قال: "لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك" قال الترمذي: حسن صحيح غريب وترجم له: باب كراهة قيام الرجل للرجل وأجاب النووي عن هذا الحديث من وجهين. أحدهما أنه خاف عليهم الفتنة

إذا أفرطوا في تعظيمه فكره قيامهم له لهذا المعنى كما قال "لا تطروني" ولم يكره قيام بعضهم لبعض فإنه قد قام لبعضهم وقاموا لغيره بحضرته فلم ينكر عليهم بل أقره وأمر به ثانيهما أنه كان بينه وبين أصحابه من الأنس وكمال الود والصفاء ما لا يحتمل زيادة بالإكرام بالقيام فلم يكن في القيام مقصود ورد عليه ابن الحاج بما لا يسمح له المقام. وقال الغزالي: القيام على سبيل الإعظام مكروه وعلى سبيل الإكرام لا يكره قال الحافظ: وهو تفصيل حسن. وعن الوليد بن رشد: أن القيام يقع على أربعة أوجه: الأول محظور وهو أن يقع لمن يريد أن يقام له تكبرا وتعاظما على القائمين إليه والثاني مكروه وهو أن يقع لمن لا يتكبر ولا يتعاظم على القائمين ولكن يخشى أن يدخل نفسه بسبب ذلك ما يحذر ولما فيه من التشبه بالجبابرة. والثالث جائز وهو أن يقع على سبيل البر والإكرام لمن لا يريد ذلك ويؤمن معه التشبيه بالجبابرة والرابع مندوب وهو أن يقوم لمن قدم من سفر فرحا بقدومه ليسلم عليه أو إلى من تجددت له نعمة فيهنئه بحصولها أو مصيبة فيعزيه بسببها. والله أعلم. 8 - قال الخطابي: في الحديث جواز إطلاق السيد على الخير الفاضل. 9 - وفي الحديث تحكيم الأفضل من هو مفضول. 10 - وجواز الاجتهاد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والمسألة خلافية في أصول الفقه والمختار الجواز سواء كان بحضور النبي صلى الله عليه وسلم أم لا واستبعد المانعون وقوع الاعتماد على الظن مع إمكان القطع لكن لا يضر ذلك لأنه بالتقرير يصير قطعيا. 11 - ومن ضرب الخيمة في المسجد لسعد جواز النوم في المسجد. 12 - وجواز مكث المريض فيه وإن كان جريحا. 13 - واتخاذ المسجد مكانا لعلاج الجرحى. 14 - ومن دعاء سعد بجعل موته في الجراحة جواز تمني الشهادة وهو مخصوص من عموم النهي عن تمني الموت وقيل: هذا ليس من تمني الموت المنهي عنه لأن المنهي عنه تمني الموت لضر أصابه ونزل به هذا إنما تمنى انفجارها ليكون شهيدا. 15 - ومن الرواية السادسة مدى اهتمام الصحابة بالصلاة في وقتها. 16 - ومن عدم تعنيف النبي صلى الله عليه وسلم لأحد من الفريقين أنه لا يعنف المجتهد فيما فعله باجتهاده إذا بذل وسعه في الاجتهاد. 17 - وأنه لا يعاب على من أخذ بظاهر حديث أو آية. 18 - ولا على من استنبط من النص معنى يخصصه.

19 - قال السهيلي: وفيه أنه لا يستحيل أن يكون الشيء صوابا في حق إنسان وخطأ في حق غيره وإنما المحال أن يحكم في النازلة بحكمين متضادين في حق شخص واحد قال: والأصل في ذلك أن الحظر والإباحة صفات أحكام لا أعيان قال: فكل مجتهد وافق اجتهاده وجها من التأويل فهو مصيب. اهـ. فكل مختلفين في الفروع من المجتهدين مصيب. قال الحافظ ابن حجر: والمشهور أن الجمهور ذهبوا إلى أن المصيب في القطعيات واحد وخالف الجاحظ والعنبري وأما ما لا قطع فيه قال الجمهور أيضا: المصيب واحد وقد ذكر ذلك الشافعي وقرره ونقل عن الأشعري أن كل مجتهد مصيب وأن حكم الله تابع لظن المجتهد وقال بعض الحنفية وبعض الشافعية: هو مصيب باجتهاده وإن لم يصب ما في نفس الأمر فهو مخطئ وله أجر واحد. وحديث "إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له بذلك فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها" هذا الحديث يدل على أن المجتهد قد يخطئ وليس كل مجتهد مصيبا غاية الأمر أن المجتهد إذا أخطأ لا يلحقه إثم بل يؤجر. قال الحافظ ابن حجر: ثم الاستدلال بهذه القصة على أن كل مجتهد مصيب على الإطلاق ليس بواضح وإنما فيه ترك تعنيف من بذل وسعه واجتهد فيستفاد منه عدم تأثيمه قال: وحاصل ما وقع في القصة أن بعض الصحابة حملوا النهي على حقيقته ولم يبالوا بخروج الوقت ترجيحا للنهي الثاني على النهي الأول وهو ترك تأخير الصلاة عن وقتها واستدلوا بجواز التأخير لمن اشتغل بأمر الحرب بنظير ما وقع في تلك الأيام بالخندق فقد صلوا العصر بعد ما غربت الشمس لشغلهم بأمر الحرب فجوزوا أن يكون ذلك عاما في كل شغل يتعلق بأمر الحرب ولا سيما والزمان زمان التشريع والبعض الآخر حملوا النهي على غير الحقيقة وأنه كناية عن الحث والاستعجال والإسراع إلى بني قريظة اهـ. ونعود إلى قولهم: كل مجتهد مصيب. مصيب ماذا؟ هل مصيب عين الواقع المراد للمتكلم؟ أو مصيب في حكم الشرع مأمور بالعمل بما أدى إليه اجتهاده؟ ونزيد الأمر وضوحا على قصتنا. لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قصد من نهيه "لا يصلين أحد الظهر إلا في بني قريظة" تأخير صلاة الظهر فعلا لمن لم يصلها إلى أن يصليها في ممتلكات بني قريظة كان الذين أخروها مصيبين الواقع المقصود والذين صلوا في الطريق مخطئين الواقع المقصود وإن كانوا معذورين لا يعنفون فمصيب الواقع هنا واحد ولا شك ولو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قصد من نهيه الحث على الإسراع ولم يرد أصلا تأخير صلاة من لم يصل كان المصلون في الطريق مصيبين الواقع المراد إذا أسرعوا المسير وكان المؤخرون للصلاة مخطئين الواقع المراد غاية الأمر أننا لم نعرف المصيب من المخطئ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلن عن قصده ومراده من النهي ولو أنه أبان عن مقصوده لتحدد الفريق المصيب من الفريق المخطئ أما لو كان قصده صلى الله عليه وسلم كلا من الأمرين

وإباحة كل من الأمرين لمن شاء فكلا الفريقين مصيب للواقع المراد وفي جميع الحالات الكل مصيب في حكم الشرع له أجره مصيب عين الحقيقة له أجران عند الله ومخطئ عين الحقيقة له أجر واحد. وقد حاول ابن القيم ترجيح رأي الذين صلوا في الطريق على أساس أنهم حازوا الفضيلتين: امتثال الأمر في الإسراع وامتثال الأمر في المحافظة على الوقت لا سيما في صلاة العصر. قال: فاجتهاد الذين صلوا أصوب من اجتهاد الطائفة الأخرى. 20 - واستدل به ابن حبان على أن تارك الصلاة حتى يخرج وقتها لا يكفر وفيه نظر لأن التأخير هنا بطلب من الشارع وما يقصده ابن حبان التأخير بدون طلب من الشارع وبدون عذر. 21 - واستدل به بعضهم على أن الذي يتعمد تأخير الصلاة حتى يخرج وقتها يقضيها بعد ذلك لأن الذين لم يصلوا في الطريق حتى خرج وقتها صلوها بعد ذلك روي أنهم صلوها في وقت العشاء وروي أنهم صلوها بعد أن غابت الشمس وفي هذا الاستدلال نظر لأنهم لم يؤخروها إلا لعذر تأولوه والنزاع إنما هو فيمن أخر عمدا بغير تأويل. 22 - استدل به بعضهم على جواز الصلاة على الدواب في شدة الخوف وادعى أن الطائفة الذين صلوا العصر لما أدركتهم في الطريق إنما صلوها وهم على الدواب واستند إلى أن النزول إلى الصلاة ينافي مقصود الإسراع في الوصول فصلوا ركبانا ليجمعوا بين دليل وجوب الصلاة ودليل وجوب الإسراع لأنهم لو صلوا نزولا لكانوا تاركين لما أمروا به من الإسراع ولا يظن بهم ذلك مع ثقوب أفهامهم. وفي هذا الاستدلال نظر لأن دعوى أنهم صلوا ركبانا تحتاج إلى دليل ولم يرد صريحا في شيء من طرق هذه القصة أنهم صلوا ركبانا. 23 - قال النووي: في الحديث دلالة لمن يقول بالمفهوم والقياس ومراعاة المعنى. والله أعلم.

(485) باب رد المهاجرين إلى الأنصار منائحهم من الشجر والثمر حين استغنوا عنها بالفتوح

(485) باب رد المهاجرين إلى الأنصار منائحهم من الشجر والثمر حين استغنوا عنها بالفتوح 4044 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما قدم المهاجرون من مكة المدينة قدموا وليس بأيديهم شيء. وكان الأنصار أهل الأرض والعقار. فقاسمهم الأنصار على أن أعطوهم أنصاف ثمار أموالهم كل عام ويكفونهم العمل والمئونة. وكانت أم أنس ابن مالك وهي تدعى أم سليم وكانت أم عبد الله بن أبي طلحة كان أخا لأنس لأمه وكانت أعطت أم أنس رسول الله صلى الله عليه وسلم عذاقا لها فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن مولاته أم أسامة ابن زيد قال ابن شهاب: فأخبرني أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من قتال أهل خيبر وانصرف إلى المدينة رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم من ثمارهم. قال: فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمي عذاقها وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن مكانهن من حائطه قال ابن شهاب: وكان من شأن أم أيمن أم أسامة بن زيد أنها كانت وصيفة لعبد الله بن عبد المطلب وكانت من الحبشة. فلما ولدت آمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما توفي أبوه فكانت أم أيمن تحضنه حتى كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقها ثم أنكحها زيد بن حارثة ثم توفيت بعد ما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة أشهر. 4045 - عن أنس رضي الله عنه أن رجلا وقال حامد وابن عبد الأعلى: أن الرجل كان يجعل للنبي صلى الله عليه وسلم النخلات من أرضه حتى فتحت عليه قريظة والنضير فجعل بعد ذلك يرد عليه ما كان أعطاه قال أنس: وإن أهلي أمروني أن آتي النبي صلى الله عليه وسلم فأسأله ما كان أهله أعطوه أو بعضه وكان نبي الله صلى الله عليه وسلم قد أعطاه أم أيمن. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأعطانيهن فجاءت أم أيمن فجعلت الثوب في عنقي وقالت: والله لا نعطيكاهن وقد أعطانيهن فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم "يا أم أيمن اتركيه ولك كذا وكذا" وتقول كلا والذي لا إله إلا هو. فجعل يقول كذا حتى أعطاها عشرة أمثاله أو قريبا من عشرة أمثاله.

-[المعنى العام]- هاجر المؤمنون من مكة إلى المدينة فرارا بدينهم تاركين ديارهم وأموالهم وأهليهم وأوطانهم وهاجروا خفية من كفار قريش متسربلين بجنح الظلام أخرجوا من ديارهم فوصلوا المدينة وهم ليس في أيديهم مال يتعيشون منه نزلوا على الأنصار نزول الضيف على صاحب البيت والأنصار في المدينة يملكون البيوت والمزارع والحدائق والأشجار والأرض والمياه والإبل والبقر والغنم والخيل والقمح والشعير والتمر والكساء والغطاء والذهب والفضة والنساء. لم يكن بد من التكافل الاجتماعي فآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار وربط أخوة إسلامية وتكافلية بين رجل من هنا ورجل من هناك وكان الأنصار -بحق- كراما أحبوا من هاجر إليهم ولم يحفظوا في صدورهم حقدا أو غلا أو كرها أو تبرما بسبب ما يعطونه للمهاجرين بل عرضوا عليهم نصف ما يملكون عن طيب خاطر بل كانوا يؤثرون المهاجرين على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة وكان الأنصاري يقول لأخيه المهاجر: انظر أي زوجتي هويت نزلت لك عنها فإذا حلت فتزوجها. وكان المهاجرون كرام النفوس أعزة يأبون الضيم والذل يأبون أن يكونوا عالة وكلا على غيرهم فقبلوا أن يعملوا في أرض الأنصار وأشجارهم في مقابل نسبة من ثمارهم لكن هذا لم يرفع من قيمة المهاجرين ليعيشوا على قدم المساواة مع الأنصار فمازال هؤلاء عمالا وأولئك ملاكا ومازال هؤلاء ممنوحين وأولئك مانحين فلما حانت الفرصة وأفاء الله على رسوله من الغنائم ما أفاء وفي ظل التفويض الذي منحه الله له أن يصرف هذا الفيء كيف شاء عرض على الأنصار -بعد غنائم خيبر- أن يختاروا أحد الأمرين: إما أن يشترك الأنصار والمهاجرون في عطائه صلى الله عليه وسلم من فيء خيبر على أن يظل المهاجرون مشاركين للأنصار في أموالهم على ما هم عليه وإما أن يخص بهذا الفيء المهاجرين دون الأنصار على أن يرد المهاجرون للأنصار عطاياهم ومنائحهم فاختاروا أن ترد لهم منائحهم فردها المهاجرون حتى أم أنس التي كانت قد وهبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمار نخلات من نخلها استردت هبتها وعاد إليها ثمارها وعادت العزة والكرامة وتكافؤ الفرص بين المهاجرين والأنصار مع شكر الأنصار والاعتراف بفضلهم وقوة إيمانهم وسماحة أخلاقهم رضي الله عنهم أجمعين. -[المباحث العربية]- (لما قدم المهاجرون من مكة المدينة) يقال: قدم البلد -بكسر الدال يقدم بفتحها- إذا دخلها فهو قادم فالجار والمجرور مقدم على المفعول والأصل: لما قدم المهاجرون المدينة من مكة. (قدموا وليس بأيديهم شيء) أي ليس معهم شيء من مال لأنهم أخرجوا من ديارهم

وأموالهم وينسب خلو الإنسان من المال إلى خلو اليد كما ينسب الكسب إليها فيقال: هذا ما كسبت أيديهم لأن أكثر الأفعال وأقواها تقع بها فالكلام كناية عن الخلو من الأملاك والأموال وجملة "وليس بأيديهم شيء" حالية. (وكان الأنصار أهل الأرض والعقار) بالمدينة والمراد بالعقار هنا النخل كذا قال النووي: قال الزجاج: العقار كل ما له أصل وقيل: إن النخل خاصة يقال له العقار اهـ. وهو بفتح العين ولما كانت القصة هنا عن النخل حمل عليه العقار وهو كل ملك ثابت له أصل كالأرض والدار ولا مانع من إرادة المعنى الأصلي من قبيل عطف العام على الخاص. (فقاسمهم الأنصار) الضمير للمهاجرين و"الأنصار" بالرفع فاعل أي قاسم الأنصار المهاجرين يقال: قاسم فلان فلانا إذا أخذ كل منهما قسمه والمقصود المقاسمة في ثمر النخل فقد روى البخاري أن الأنصار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: "اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل" -أي الأرض والنخيل تملكا- قال صلى الله عليه وسلم: "لا" لأنه صلى الله عليه وسلم علم أن الفتوح ستفتح عليهم فكره أن يخرج الأنصار شيئا من أملاكهم فلما فهم الأنصار ذلك جمعوا بين المصلحتين امتثال ما أمرهم به صلى الله عليه وسلم من عدم المشاركة في الأرض وأصل النخيل ومواساة الأنصار لإخوانهم المهاجرين فعرضوا المقاسمة في الثمار مقابل مساعدة المهاجرين للأنصار بالعمل في أرضهم بالسقي والرعاية وهذه هي المساقاة عند الفقهاء. وهذا لم يكن عاما للمهاجرين فقد اعتذر بعضهم عن عدم قبول المواساة وقبل بعضهم أصول أملاك الأنصار وزعم الداودي وأقره ابن التين أن المراد بقوله هنا "قاسمهم الأنصار" أي حالفوهم أي جعله من القسم بفتح القاف وفتح السين لا من القسم بسكون السين وهو بعيد. (على أن أعطوهم أنصاف ثمار أموالهم كل عام ويكفونهم العمل والمؤونة) المؤنة بضم الميم وسكون الهمزة والمؤونة بفتح الميم القوت والمراد منه هنا تكاليف رعاية النخل أي المقاسمة في الثمر على أساس أن أعطى -أي يعطي- الأنصار المهاجرين نصف ثمار نخيلهم كل عام مقابل أن يقوم المهاجرون مقام الأنصار في سقي النخيل ورعايتها فضمير الفاعل في "أعطوهم" للأنصار وفي "يكفونهم" للمهاجرين. (وكانت أم أنس بن مالك -وهي تدعي أم سليم وكانت أم عبد الله بن أبي طلحة كان أخا لأنس لأمه- وكانت أعطت أم أنس رسول الله صلى الله عليه وسلم عذاقا لها) الظاهر أن هذا الكلام من كلام الزهري الراوي عن أنس وفيه استطرادات والأصل: وكانت أم أنس قد أعطت رسول الله صلى الله عليه وسلم عذاقا لها أي نخلا حاملا ثمرا كانت تملكه وأم أنس هي أم عبد الله بن أبي طلحة فهو وأنس أخوان لأم واسمها أم سليم.

وإذا لم يكن هذا الكلام من كلام الزهري وكان من كلام أنس حمل على التجريد كأن أنسا جرد من نفسه شخصا آخر يتحدث عنه والأصل أن يقول: وكانت أمي قد أعطت .. إلخ. والعذاق بكسر العين جمع عذق بفتح العين وسكون الذال كحبل وحبال والعذق النخلة إذا كان حملها موجودا والمراد أنها وهبت له ثمرها. (فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن مولاته) أي فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم العذاق وثمر النخل الذي منحته له أم أنس إلى أم أيمن وذلك قبل زمن رد المنائح قال النووي: وهو محمول على أن أم أنس أعطته صلى الله عليه وسلم الثمرة يفعل فيها ما شاء من أكله بنفسه وعياله وضيفه وإيثاره بذلك من يشاء فلهذا آثر بها أم أيمن ولو كانت أم أنس أباحت الثمرة له خاصة لما أباحها لغيره لأن المباح له بنفسه لا يجوز له أن يبيح ذلك الشيء لغيره بخلاف الموهوب له نفس رقبة الشيء فإنه يتصرف فيه كيف شاء. (لما فرغ من قتال أهل خيبر وانصرف إلى المدينة رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم من ثمارهم) "خيبر" مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع على بعد نحو مائة وثلاثين ميلا من المدينة إلى جهة الشام وكانت الغزوة في المحرم وصفر سنة سبع من الهجرة على الصحيح وغنم المسلمون منها مغانم كثيرة حتى قال بعضهم: ما شبعنا من التمر حتى فتحنا خيبر غنموا البقر والإبل والمتاع والحوائط. فخير النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار بين أن يقتسموا الغنائم مع المهاجرين وبين أن يعطيها المهاجرين مقابل أن يتركوا لهم منائحهم فاختاروا عودة منائحهم إليهم فقد روى الحاكم في الإكليل "قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار لما فتح النضير: إن أحببتم قسمت بينكم ما أفاء الله علي وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في منازلكم وأموالكم وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا عنكم فاختاروا الثاني" وعائد الصلة في قوله "منائحهم التي كانوا منحوهم" محذوف تقديره: التي كانوا منحوهم إياها من ثمارهم و"منائح" جمع منيحة والمنيحة والمنحة العطية. (فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمي عذاقها وأعطى أم أيمن مكانهن من حائطه) في الرواية الثانية زيادة تفصيل ففيها "وإن أهلي أمروني أن آتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسأله ما كان أهله أعطوه أو بعضه" يحتمل أن يكون من سبيل التجريد والأصل ما كان أهلي أعطوه والمراد بأهله أمه "وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أعطاه أم أيمن فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأعطانيهن" أي أمر بإعطائي إياها وردها إلى أمي "فجاءت أم أيمن" فعلمت بالأمر بإعادة العذاق إلينا "فجعلت الثوب في عنقي" أي شدت ثوبه من عنقه "وقالت: والله لا نعطيكهن وقد أعطانيهن" أي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرى ويسمع "فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: يا أم أيمن. أتركيه ولك كذا وكذا" كناية عن نخلات مماثلة عرضها في مكان آخر "وتقول: كلا" لا أرضى بديلا "والذي لا إله إلا هو فجعل يقول: كذا" أي يعرض عليها مضاعفا "حتى أعطاها عشرة أمثاله" أي أمثال العذق "أو قريبا من عشرة أمثاله" وفي معظم النسخ "والله لا يعطيكاهن" قال

النووي: وهو صحيح كأنه أشبع فتحة الكاف فتولدت منها ألف وفي بعض النسخ "والله ما نعطاكهن" وفي بعضها "لا نعطيكهن". وقوله "مكانهن من حائطه" هكذا هو في رواية مسلم وفي رواية للبخاري "مكانهن من خالصه" أي من خالص ماله قال ابن التين: المعنى واحد لأن حائطه صار له خالصا. (وكان من شأن أم أيمن -أم أسامة بن زيد- أنها كانت وصيفة لعبد الله بن عبد المطلب [أي خادمة له] وكانت من الحبشة) قال النووي: هذا تصريح من ابن شهاب أن أم أيمن -أم أسامة بن زيد- حبشية وكذا قال الواقدي وغيره ويؤيده ما ذكره بعض المؤرخين أنها كانت من سبي الحبشة أصحاب الفيل وقيل إنها لم تكن حبشية وإنما الحبشية امرأة أخرى واسم أم أيمن التي هي أم أسامة بركة كنيت بابنها أيمن بن عبيد الحبشي صحابي استشهد يوم خيبر. قاله الشافعي وغيره. (فلما ولدت آمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم -بعد ما توفي أبوه- فكانت أم أيمن تحضنه حتى كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم) جواب "لما" محذوف تقديره: فلما ولدت آمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما توفي أبوه انتقل ملكها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت تحضنه إلخ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بركة أمي بعد أمي". (ثم أنكحها زيد بن حارثة) فولدت له أسامة وكان أسود أفطس توفي آخر أيام معاوية سنة ثمان أو تسع وخمسين ومات النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن عشرين سنة. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث]- 1 - قال النووي: فيه فضيلة ظاهرة للأنصار في مواساتهم وإيثارهم وما كانوا عليه من حب الإسلام وإكرام أهله وأخلاقهم الجميلة ونفوسهم الطاهرة وقد شهد الله تعالى لهم بذلك فقال تعالى {والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم} [الحشر: 9]. 2 - وفيه فضيلة للمهاجرين حيث لم تطب نفوسهم أن يقبلوا منيحة خالصة بدون مقابل وكرهوا أن يكونوا كلا على غيرهم. 3 - في قوله "رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم من ثمارهم" دليل على أن هذه المنائح كانت منائح ثمار وليست تمليكا لرقاب النخل إذ لو كانت هبة لرقبة النخل لم يرجعوا فيها فإن الرجوع في الهبة بعد القبض لا يجوز وإباحة الثمر يجوز الرجوع فيها.

4 - في إعطاء أم أيمن منيحة أم أنس تكريم لها وتقدير لدورها في تربيته صلى الله عليه وسلم واعتراف وشكر لجميلها. وكذا في تعويضها والزيادة فيه حتى رضيت. 5 - استطابة قلب من تعلقت نفسه بشيء قبل أخذ هذا الشيء وإنما رفضت أم أيمن تسليم المنيحة لمعطيها لتعلق نفسها بها تعلقا يصعب عليها التسليم بسهولة قال النووي: لأنها ظنت أنها كانت هبة مؤبدة وتمليكا لأصل الرقبة. اهـ. وأقول: ومع ذلك لم يكن لها أن تتوقف عن تنفيذ الأمر الصادر إليها من الرسول صلى الله عليه وسلم فالظاهر أن هذا التوقف منها كان على سبيل الإدلال والطمع في كرمه والرغبة في الحصول على زيادة خيره وعطائه وقد تحقق لها بهذا الإدلال ما أرادت. 6 - في الحديث منقبة وفضيلة ظاهرة لأم أيمن رضي الله عنها. 7 - وفي الحديث مشروعية هبة المنفعة دون الرقبة. 8 - وفيه فرط جوده وكرمه وحلمه صلى الله عليه وسلم. 9 - وفيه حرص الإسلام على العزة والكرامة ورفع الهامة لتخليص المهاجرين من عطاء الأنصار ومن عملهم في أرضهم. والله أعلم.

(486) باب جواز الأكل من طعام الغنيمة في دار الحرب

(486) باب جواز الأكل من طعام الغنيمة في دار الحرب 4046 - عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: أصبت جرابا من شحم يوم خيبر قال: فالتزمته. فقلت: لا أعطي اليوم أحدا من هذا شيئا قال: فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متبسما. 4047 - عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه يقول: رمي إلينا جراب فيه طعام وشحم يوم خيبر فوثبت لآخذه قال: فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحييت منه. 4048 - -/- وفي رواية عن شعبة بهذا الإسناد غير أنه قال "جراب من شحم" ولم يذكر "الطعام". -[المعنى العام]- الغلول وهو أخذ شيء من الغنيمة قبل قسمتها من أكبر الكبائر ورد فيه وعيد شديد في القرآن الكريم والسنة النبوية قال تعالى {ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة} [آل عمران: 161] وحذر منه صلى الله عليه وسلم ولو كان شراكا خيطا يربط به النعل لكن الضرورات -كما يقول الأصوليون- تبيح المحظورات والضرورات تقدر بقدرها. الجائع شديد الجوع يجد طعاما ملكا للكفار في دار الحرب يحصل عليه بطريق ما كغنيمة هل ينتظر حتى يحوزه الجيش ويقسمه الإمام كغنيمة؟ أو يسد منه جوعته؟ وفي ذلك بلا شك إذن عام من الإمام وكذا لو كانت دابته جائعة وحصل على علف لها في دار الحرب أيطعمها لتقوى على حمله؟ أو ينتظر حتى تقسم الغنائم؟ الصحابي الجليل عبد الله بن مغفل مقاتل من جنود الله في غزوة خيبر وقد حاصروا حصنا من حصونها وطال بهم انتظار الفتح ونفدت أزوادهم فأكلوا لحوم الحمر الأهلية وأكلوا النباتات الأرضية حتى البصل والثوم وحتى مص النوى وفي هذه المجاعة يتبرع ساكن أو ساكنة من القصر المحاصر بكيس من جلد يملؤه طعاما ويلقيه على جند الإسلام فيثب ويقفز عبد الله بن المغفل فيلتقطه ويسارع فيلتقم لقمة منه ويراه جامع الغنيمة فيحاول أخذه منه ويلتفت الرجلان وراءهما فإذا النبي صلى الله عليه وسلم مبتسما وهو يقول لجامع الغنمية: اتركه ويقول

لعبد الله: هو لك ويخجل عبد الله لما أتى من القفز والحرص والاقتناص للجراب أمام الرسول صلى الله عليه وسلم وكان ينبغي أن يكون على غير هذا وأن يحافظ على وقاره ومروءته وقناعته رضي الله عنه. -[المباحث العربية]- (أصبت جرابا من شحم يوم خيبر) الجراب بكسر الجيم وفتحها لغتان الكسر أفصح وأشهر وهو وعاء من جلد يحفظ فيه الزاد ونحوه والجمع أجربة وجرب بضم الجيم وسكون الراء وفي الرواية الثانية "رمى إلينا جراب فيه طعام وشحم يوم خيبر" وعند البخاري "كنا محاصرين قصر خيبر فرمى إنسان بجراب فيه شحم" وعند أحمد "دلى جراب من شحم يوم خيبر" وكانت قد أصابت المسلمين مجاعة أيام الحصار. (قال: فالتزمته) أي فتعلقت به فأخذته وفي الرواية الثانية "فوثبت لأخذه" أي فأخذته وعند البخاري "فنزوت لآخذه" أي وثبت مسرعا يقال: نزا الفحل نزوا بفتح النون وسكون الزاي ونزوا بضم النون والزاي وتشديد الواو ونزوانا بفتح النون والزاي والواو وثب. وعند ابن وهب أن صاحب المغانم كعب بن عمرو بن زيد الأنصاري أخذ منه الجراب فقال النبي صلى الله عليه وسلم "خل بينه وبين جرابه". (قال: فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مبتسما) في الرواية الثانية "فاستحييت منه" فلعله استحيا من وثبه وإسراعه وحرصه مما لا يليق بالكرامة والمروءة وفي الرواية الأولى "فقلت: لا أعطي اليوم أحدا من هذا شيئا" فربما كان قد قالها بصوت مرتفع فسمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحيا من قوله هذه العبارة وزاد أبو داود الطيالسي في آخره "فقال: هو لك". -[فقه الحديث]- ترجم البخاري لهذا الحديث بباب ما يصيب من الطعام في أرض الحرب قال الحافظ ابن حجر: أي ما يصيب المجاهد من الطعام في أرض الحرب هل يجب تخميسه في الغانمين؟ أو يباح أكله للمقاتلين؟ وهي مسألة خلاف والجمهور على جواز أخذ الغانمين من القوت وما يصلح به القوت وكل طعام يعتاد أكله عموما وكذلك علف الدواب سواء كان قبل القسمة أو بعدها بإذن الإمام وبغير إذنه والمعنى فيه: أن الطعام يعز في دار الحرب فأبيح للضرورة [والحديث ظاهر في هذا وموضع الحجة منه عدم إنكار النبي صلى الله عليه وسلم بل فيه ما يدل على رضاه لقوله "مبتسما" ويؤيد هذا ما في بعض الروايات من قوله "هو لك"] قال: والجمهور أيضا على جواز الأخذ ولو لم تكن الضرورة ناجزة واتفقوا على جواز ركوب دوابهم ولبس ثيابهم واستعمال سلاحهم في حال الحرب ورد ذلك بعد انقضاء الحرب وشرط الأوزاعي فيه إذن الإمام وعليه أن يرده إذا فرغت حاجته ولا يستعمله

في غير الحرب ولا ينتظر برده انقضاء الحرب لئلا يعرضه للهلاك قال: وحجته حديث رويفع بن ثابت مرفوعا "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يأخذ دابة من المغنم فيركبها حتى إذا أعجفها ردها إلى المغانم" وذكر في الثوب مثل ذلك وهو حديث أخرجه أبو داود والطحاوي ونقل عن أبي يوسف أنه حمله على ما إذا كان الآخذ غير محتاج عنده دابته وثوبه بخلاف ما ليس له ثوب ولا دابة وقال الزهري: لا يأخذ شيئا من الطعام ولا غيره إلا بإذن الإمام وقال سليمان بن موسى: يأخذ إلا إن نهي الإمام وقال ابن المنذر: قد وردت الأحاديث الصحيحة في التشديد في الغلول واتفق علماء الأمصار على جواز أكل الطعام وجاء الحديث بنحو ذلك فليقتصر عليه وأما العلف فهو في معناه وقال مالك: يباح ذبح الأنعام للأكل كما يجوز أخذ الطعام وقيده الشافعي بالضرورة إلى الأكل حيث لا طعام. وقال القاضي: أجمع العلماء على جواز أكل طعام الحربيين مادام المسلمون في دار الحرب فيأكلون منه قدر حاجتهم وجمهورهم على أنه لا يجوز أن يخرج معه منه شيئا إلى عمارة دار الإسلام فإن أخرجه لزمه رده إلى المغنم وأجمعوا على أنه لا يجوز بيع شيء منه في دار الحرب ولا غيرها. وفي هذا الحديث: دليل لجواز أكل شحوم ذبائح اليهود وإن كانت شحومها محرمة عليهم وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وجماهير العلماء وقال الشافعي وأبو حنيفة والجمهور: لا كراهة فيها وقال مالك: هي مكروهة وقال بعض أصحاب أحمد: هي محرمة وحكي هذا أيضا عن مالك واحتج الشافعي والجمهور بقوله تعالى {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} [المائدة: 5] قال المفسرون: المراد به الذبائح ولم يستثن منها شيئا لا لحما ولا شحما ولا غيره. وفيه حل ذبائح أهل الكتاب: وهو مجمع عليه ولم يخالف إلا الشيعة قال النووي: ومذهبنا ومذهب الجمهور إباحتها سواء سموا الله تعالى عليها أم لا وقال قوم: لا يحل إلا أن يسموا الله تعالى فأما إذا ذبحوا على اسم المسيح أو كنيسة أو نحوها فلا تحل تلك الذبيحة عندنا وبه قال جماهير العلماء. وفيه ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من توقير النبي صلى الله عليه وسلم ومن معاناة التنزه عن خوارم المروءة.

(487) باب كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل ملك الشام وإلى ملوك الكفار يدعوهم إلى الإسلام

(487) باب كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل ملك الشام وإلى ملوك الكفار يدعوهم إلى الإسلام 4049 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أبا سفيان أخبره من فيه إلى فيه. قال: انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فبينا أنا بالشام إذ جيء بكتاب من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل يعني عظيم الروم. قال: وكان دحية الكلبي جاء به فدفعه إلى عظيم بصرى فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل فقال: هرقل هل هاهنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قالوا: نعم. قال: فدعيت في نفر من قريش فدخلنا على هرقل فأجلسنا بين يديه فقال أيكم أقرب نسبا من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: فقلت: أنا فأجلسوني بين يديه وأجلسوا أصحابي خلفي ثم دعا بترجمانه فقال له: قل لهم إني سائل هذا عن الرجل الذي يزعم أنه نبي فإن كذبني فكذبوه قال: فقال أبو سفيان: وايم الله لولا مخافة أن يؤثر علي الكذب لكذبت. ثم قال لترجمانه: سله كيف حسبه فيكم؟ قال: قلت: هو فينا ذو حسب قال: فهل كان من آبائه ملك؟ قلت: لا قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا قال: ومن يتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ قال: قلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قال: قلت: لا بل يزيدون قال: هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟ قال: قلت: لا. قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قال: قلت: تكون الحرب بيننا وبينه سجالا يصيب منا ونصيب منه قال: فهل يغدر؟ قلت: لا ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها قال: فوالله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه قال: فهل قال هذا القول أحد قبله؟ قال: قلت: لا قال لترجمانه: قل له إني سألتك عن حسبه فزعمت أنه فيكم ذو حسب وكذلك الرسل تبعث في أحساب قومها وسألتك هل كان في آبائه ملك فزعمت أن لا فقلت لو كان من آبائه ملك قلت رجل يطلب ملك آبائه وسألتك عن أتباعه أضعفاؤهم أم أشرافهم فقلت بل ضعفاؤهم وهم أتباع الرسل وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فزعمت أن لا فقد عرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله وسألتك هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخله

سخطة له فزعمت أن لا وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب وسألتك هل يزيدون أو ينقصون فزعمت أنهم يزيدون وكذلك الإيمان حتى يتم وسألتك هل قاتلتموه فزعمت أنكم قد قاتلتموه فتكون الحرب بينكم وبينه سجالا ينال منكم وتنالون منه وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة وسألتك هل يغدر فزعمت أنه لا يغدر وكذلك الرسل لا تغدر وسألتك هل قال هذا القول أحد قبله فزعمت أن لا فقلت لو قال هذا القول أحد قبله قلت رجل ائتم بقول قيل قبله قال: ثم قال بم يأمركم؟ قلت: يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف. قال: إن يكن ما تقول فيه حقا فإنه نبي وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظنه منكم ولو أني أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه وليبلغن ملكه ما تحت قدمي. قال: ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه فإذا فيه "بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين و {يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} [آل عمران: 64] فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده وكثر اللغط وأمر بنا فأخرجنا. قال: فقلت لأصحابي حين خرجنا: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة إنه ليخافه ملك بني الأصفر قال: فمازلت موقنا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام. 4050 - -/- وفي رواية عن ابن شهاب بهذا الإسناد وزاد في الحديث: وكان قيصر لما كشف الله عنه جنود فارس مشى من حمص إلى إيلياء شكرا لما أبلاه الله وقال في الحديث "من محمد عبد الله ورسوله" وقال "إثم اليريسيين" وقال "بداعية الإسلام". 4051 - عن أنس رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم.

4052 - -/- وفي رواية عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله ولم يقل وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم. -[المعنى العام]- في أوائل سبع من الهجرة كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتبا إلى الملوك والأمراء ورؤساء القبائل والعشائر يدعوهم في هذه الكتب إلى الله تعالى وإلى الإسلام. كتب إلى كسرى ملك الفرس فمزق الكتاب فقال صلى الله عليه وسلم حين بلغه ذلك: مزق الله ملكه كما مزق كتابي. وكتب إلى النجاشي ملك الحبشة فأحسن وفادة حامل الكتاب وظل كافرا مع أن أباه النجاشي كان قد أسلم وكان قد آوى المهاجرين إلى الحبشة وزوج الرسول صلى الله عليه وسلم أم حبيبة وأصدقها عنه ولما مات صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكتب إلى هوذة بن علي حاكم اليمامة والمنذر بن ساوى حاكم هجر وجيفر وعباد ابني الجلندي بعمان وابن أبي شمر الغساني وإلى مسيلمة وإلى المقوقس. وعلى رأس هؤلاء وهذه الكتب كتاب هرقل وهو ما يحدثنا عنه في هذا الحديث أبو سفيان بن حرب الذي أسلم يوم فتح مكة وكان في زمن كتاب هرقل هذا زعيم مشركي مكة وقائد أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أبو سفيان: في أوائل سريان الهدنة بين قريش وبين محمد صلى الله عليه وسلم المنصوص عليها في صلح الحديبية انطلقت على رأس نفر من قريش إلى الشام تجارا وبينما نحن في سوق الشام نتاجر إذ هجم علينا شرطة هرقل أنتم من مكة؟ قلنا نعم أنتم من قريش؟ قلنا: نعم أنتم تعرفون محمد بن عبد الله الذي يدعي أنه نبي؟ قلنا: نعم قالوا: هيا معنا إلى هرقل وساقونا جميعا نحوا من ثلاثين رجلا قلنا لهم ما الخبر؟ قالوا: إن هرقل جاءه كتاب من محمد الذي يدعي أنه نبي سلمه إليه حاكم بصرى إحدى مدن مملكة هرقل بعد أن سلمه إياه عربي مسلم يدعي دحية الكلبي ليوصله إلى هرقل فلما قرأ هرقل كتاب محمد صلى الله عليه وسلم قال: إن هذا كتاب خطير يهتم به كل الاهتمام ثم جمع حاشيته وخواصه وقال لهم: هل هنا في الشام في حمص هذه عاصمة ملكي أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قالوا: نعم إن الكثيرين منهم في سوق المدينة فنادى رئيس شرطته وبلهجة الحزم والشدة قال له: قلب المدينة ظهرا لبطن حتى تأتيني برجل أو رجال من قوم هذا الذي يدعي أنه نبي

بحثنا عنكم حتى وجدناكم فهيا إلى القصر فلما علم بوصولنا دعانا إلى مجلسه فأدخلنا عليه فإذا هو جالس في مجلس ملكه وعليه التاج المرصع باللؤلؤ والجواهر وحوله عظماء الروم وعنده بطارقته والقسيسون والرهبان وبين يديه حراس مدججون بالسلاح منظرهم يثير الرعب والرهبة فأمر بنا أن نجلس أمامه بين يديه فجلسنا على فراش الأرض فدعا بترجمانه وطلب منه أن يسألنا: أيكم أقرب نسبا من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم إليه نسبا قال: ما قرابتك منه؟ قلت: هو ابن عمي قال: اقترب وأجلسوني وحدي بين يديه وأجلسوا أصحابي خلفي عند ظهري يا لهذا الداهية؟ إنه يخص الأقرب نسبا بالأسئلة لأنه الأكثر إطلاعا على أموره ظاهرا وباطنا ولأن الأبعد لا يؤمن أن يقدح في نسبه يا لهذا الداهية؟ أنه أجلسه وحده بين يديه وأجلس أصحابه خلفه لئلا يستحيوا منه إذ يكذبونه إن كذب لأن المواجهة بالتكذيب وبتكذيب السيد الكبير صعبة محرجة فكونهم خلفه يجعل تكذيبهم له أهون عليه. ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا عن الرجل الذي يدعي أنه نبي والسؤال في الحقيقة موجه إليكم جميعا فإن كذبني فكذبوه وإن أخطأ فصوبوه وأصدقوني القول ولا تخفوا علي شيئا من الأمر يقول أبو سفيان: وكنت في داخلي أتمنى أن أسيء إلى محمد ولو كذبا ولكني كنت أخاف أن يمسك على قومي كذبا فأظل في نظرهم بعد عودتنا كذابا والكذب عند العرب لا يليق بكرام الرجال فضلا عن رؤسائهم إنني لا أخاف من أصحابي أن يكذبوني أمام هرقل فأنا واثق من عدم تكذيبهم لي لو كذبت لمقامي عندهم ولاشتراكهم معي في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم فوالله لو كذبت ما ردوا علي ولكني كنت امرأ سيدا أتكرم عن الكذب وأخشى أن يأخذ على رفقائي كذبا وسألني هرقل: هذا الذي يزعم أنه نبي كيف حسبه فيكم؟ أهو من أشرافكم؟ ومن ذوي الأصل فيكم؟ قال أبو سفيان قلت: هو صاحب حسب كبير فينا. سأل هرقل عن طريق الترجمان: هل كان من آبائه ملك؟ قال أبو سفيان: لا لم يكن من آبائه من ملك. سأل هرقل: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ أجاب أبو سفيان: لا. سأل هرقل: ومن الذين يتبعونه؟ أشراف الناس؟ أم ضعفاؤهم؟ أجاب أبو سفيان: بل ضعفاؤهم. سأل هرقل: أيزيدون؟ أم ينقصون؟ أجاب أبو سفيان: بل يزيدون. سأل هرقل: هل يرتد أحد منهم عن دينه؟ ساخطا عليه بعد أن يدخله؟ أجاب أبو سفيان: لا. سأل هرقل: هل قاتلتموه؟ أجاب أبو سفيان: نعم. سأل هرقل: كيف كان قتالكم إياه؟ يغلبكم؟ أم تغلبونه؟ أجاب أبو سفيان: تارة يغلبنا وتارة

نغلبه فالحرب بيننا وبينه نوبا نوبة له ونوبة لنا غلبنا مرة يوم بدر وأنا غائب وغزوته في بيته فبقرنا البطون وجدعنا الآذان. سأل هرقل: فهل يغدر بكم إذا عاهد؟ قال أبو سفيان: لا وأراد أبو سفيان أن ينال من محمد صلى الله عليه وسلم فلم يجد إلا أن يشكك في وفائه بالعهد فقال: وبيننا وبينه عهد لا ندري أيغدر بنا؟ أم يفي؟ . سأل هرقل: هل ادعى أحد منكم قبله مثل ما يدعي؟ قال: لا. وهنا بدأ هرقل يعلن لهم هدفه من الأسئلة واستنتاجاته من الإجابات فقال: سألتك عن حسبه؟ فقلت: إنه فينا ذو حسب وكذلك الرسل تبعث في أفضل أنساب قومها. وسألتك هل كان في آبائه ملك؟ فزعمت أن لا فقلت: لو كان من آبائه ملك جاز أن يكون طالبا ملك آبائه وسألتك عن أتباعه الأشراف أم الضعفاء؟ فقلت: الضعفاء. وهكذا أتباع الرسل لأن الأشراف يأنفون من تقدم مثلهم عليهم والضعفاء لا يأنفون فيسرعون للانقياد واتباع الحق وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب؟ فقلت: لا فعرفت أنه ما كان ليترك الكذب على الناس ثم يكذب على الله وسألتك: هل يرتد أحد منهم عن دينه الجديد ساخطا عليه بعد أن يدخله؟ فقلت: لا وكذلك الإيمان إذا خالط غشاء القلوب لا يزول عنه وسألتك هل قاتلتموه؟ وكيف كانت نتيجة قتالكم إياه؟ فقلت: إن الحرب بينكم وبينه سجالا وهكذا الرسل يبتلون بالهزيمة ثم تكون لهم العاقبة وسألتك هل يغدر بكم؟ فقلت: لا وكذلك الرسل لا تغدر وسألتك: هل قال هذا القول أحد معاصر قبله؟ فقلت: لا قلت: لو قال هذا القول أحد قبله قلت: رجل يأتم بغيره ويقول ما يقولون ثم سألتك بم يأمركم؟ قلت: يأمرنا بالصلاة والصدقة وصلة الأرحام والعفة وكذلك الرسل ولقد كنت أعلم أن نبيا سيرسل في آخر الزمان لكني كنت أتوقعه من بني إسرائيل وليس منكم أما اليوم فقد ظهر أنه من العرب لقد كنت أقرأ أوصافه التي ذكرت ففي التوراة نحو ما سمعت من علامات النبوة إن يكن ما قلته حقا فهو النبي صلى الله عليه وسلم الذي سيملك أتباعه مكان قدمي وملكي ولو كنت أستطيع أن أصل إليه ماشيا لفعلت ولغسلت بيدي رجليه خضوعا له وتبركا به ولكني أخاف من قومي أن يقتلوني لقد كان لي صديق قسيس أسقف أظهر إسلامه وألقى ثيابه التي كانت عليه ولبس ثيابا بيضا وخرج على الروم فدعاهم إلى الإسلام وشهد شهادة الحق فقاموا إليه فضربوه حتى قتلوه إنني أخافهم ولولا ذلك لتكلفت المشي إليه ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه القارئ وترجمه الترجمان وسمعه بالعربية أبو سفيان فسمع: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى "أما بعد" فإني أدعوك بدعوة الإسلام أسلم تسلم في الدنيا والآخرة أسلم يؤتك الله أجرك مرتين مرة على إيمانك بعيسى ومرة على إيمانك بمحمد عليهما الصلاة والسلام فإن توليت ورفضت ولم تسلم فإنما عليك إثمك وإثم أتباعك الذين يقتدون بك ويتبعونك في دينك ثم ختم الكتاب بالآية الكريمة {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أرباب من دون الله} [آل عمران: 64].

ثم طوى الكتاب وبمظاهر التكريم حفظه وظهر عليه الميل نحو الإيمان فكثر اللغط في المجلس وارتفعت الأصوات باستنكار الكتاب واستنكار ما فيه فأمر هرقل بإخراج أبي سفيان وأصحابه فخرجوا فقال أبو سفيان لأصحابه لما خلا بهم إن أمر محمد سيعظم إن هرقل يخاف محمدا قال أبو سفيان: ودخلني الخوف من محمد وأيقنت أنه لا محالة ظاهر وغالب حتى أدخل الله في قلبي الإسلام فأسلمت عام الفتح بعد هذه الحادثة بسنتين. هذا ما كان مع أبي سفيان وأما ما كان من شأن هرقل فقد غزا جيش كسرى بلاده ثم انهزم الفرس فمشى هرقل على قدميه من حمص إلى بيت المقدس شكرا لله تعالى وهو مازال في داخله يعالج أمر الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ويجاهد أن يؤمن ويعلن إسلامه مع الاحتفاظ بعرشه وملكه إنه كان يتمنى أن يسلم قومه الروم بل حاول أن يدعوهم إلى ذلك صريحا فقد روى البخاري أنه دعا زعماء الروم وعظماءهم إلى قصره وأغلق عليهم أبوابه ثم طلع عليهم من شرفة عالية فقال لهم: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد؟ وأن يثبت ملككم؟ بايعوا هذا النبي. فحاصوا حيصة حمر الوحش واتجهوا إلى الأبواب نفورا من هذه الدعوة ورفضا لها فوجدوا الأبواب مغلقة فأعادهم هرقل وهدأ من روعهم وغضبهم وقال لهم: إني قلت لكم ما قلت لأمتحن مدى تمسككم بدينكم فشكرا لكم على شدة تمسككم به فقد رأيت منكم ما سرني فسجدوا له ورضوا عنه. واستمر هرقل مظاهرا الروم وأعد جيوشه ووجهها لحروب المسلمين. -[المباحث العربية]- (أن أبا سفيان أخبره من فيه إلى فيه) هذا من أبي سفيان من قبيل التحمل كافرا والأداء مسلما وهذا جائز ولا شيء فيه لأن العبرة أن يكون الراوي لأداء ما تحمل وهو عاقل. وقوله "من فيه إلى فيه" قصد به التحقق من السماع والتوثيق بالرواية كقولهم سمعته أذناي ووعاه قلبي وهو أيضا يرفع إيهام الواسطة بين التلميذ والشيخ وكان حقه أن يقول: من فيه إلى أذني أي من فم أبي سفيان إلى أذن ابن عباس لكنه آثر المشاكلة لظهور المراد وهذا نوع بليغ من البديع. (انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم) المعنى انطلقت إلى الشام تاجرا في مدة سريان صلح الحديبية الذي عقد أواخر سنة ست من الهجرة وكانت مدة الصلح عشر سنين وقيل: أربع سنين والأول أشهر لكن قريشا نقضوا العهد فغزاهم النبي صلى الله عليه وسلم سنة ثمان وفتح مكة والظاهر أن انطلاق أبي سفيان كان في السنة الأولى من صلح الحديبية في المحرم سنة سبع وقوله "بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي بيننا معشر قريش في مكة وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان حينذاك زعيمهم والمتحدث باسمهم والمتعاقد عنهم وعند ابن إسحق في المغازي عن أبي سفيان قال: "كنا قوما تجارا

وكانت الحرب قد حصبتنا فلما كانت الهدنة خرجت تاجرا إلى الشام مع رهط من قريش فوالله ما علمت بمكة امرأة ولا رجلا إلا وقد حملتني بضاعة" (فبينا أنا بالشام إذ جيء بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل يعني عظيم الروم) "بينا" "بين" زيدت عليها الألف ظرف زمان منصوب بمعنى المفاجأة في "إذ" مضاف إلى الجملة بعده أي فاجأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هرقل وقت وجودي بالشام. "وهرقل" هو ملك الروم وهو بكسر الهاء وفتح الراء وسكون القاف هذا هو المشهور وحكي بكسر الهاء وإسكان الراء وكسر القاف وهو اسم علم لهذا الملك ولقبه قيصر وكذا كل ملك من ملوك الروم يقال له: قيصر كما يلقب ملك الفرس كسرى. (وكان دحية الكلبي جاء به) من رسول الله صلى الله عليه وسلم و"دحية" بكسر الدال وحكي فتحها لغتان ويقال: إن معناه الرئيس بلغة أهل اليمن وهو ابن خليفة الكلبي صحابي جليل كان أحسن الناس وجها وأسلم قديما ومات في خلافة معاوية. (فدفعه إلى عظيم بصرى) أي أميرها و"بصرى" بضم الباء وسكون الصاد والقصر مدينة ذات قلاع وأعمال بين المدينة ودمشق قريبة من طرف البرية التي بين الشام والحجاز وهي مدينة حوران. (فقال هرقل) لحاشيته وخواصه: هذا كتاب لم أسمع بمثله. (هل هنا) في الشام. (أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ ) وعند ابن إسحق "فقال هرقل لصاحب شرطته: قلب الشام ظهرا لبطن حتى تأتي برجل من قوم هذا أسأله عن شأنه قال أبو سفيان: فوالله إني وأصحابي بغرة إذ هجم علينا فساقنا جميعا". (فدعيت في نفر من قريش) الفاء فصيحة أفصحت عن جمل محذوفة أي فبحثوا فوجدونا فأخبروه فدعانا قيل: كانوا ثلاثين رجلا وقيل كانوا نحوا من عشرين رجلا وسمي منهم المغيرة بن شعبة. (فدخلنا على هرقل) عند البخاري "فدعاهم في مجلسه" أي دعاهم حالة كونه في مجلسه "وحوله عظماء الروم ثم دعاهم ودعا بترجمانه" وعند البخاري في الجهاد "فأدخلنا عليه فإذا هو جالس في مجلس ملكه وعليه التاج" وعند ابن السكن "فأدخلنا عليه وعنده بطارقته والقسيسون والرهبان". (فأجلسنا بين يديه) أي أمامه.

(فقال: أيكم أقرب نسبا من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ ) الظاهر أن هذا السؤال وجه إليهم عن طريق ترجمان آخر غير الذي سيدعي وإنما سأل عن الأقرب نسبا لأنه أحرى بالاطلاع على أموره ظاهرا وباطنا أكثر من غيره ولأن الأبعد لا يؤمن أن يقدح في نسبه بخلاف الأقرب وفي رواية البخاري "أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل"؟ بالباء بدل "من" على تضمين "أقرب" معنى "أوصل" والزعم يستعمل كثيرا في المكذوب والمشكوك فيه وقد يستعمل بمعنى القول ويأتي في المستيقن كما في حديث "زعم جبريل". (قال أبو سفيان: فقلت: أنا) وفي رواية البخاري "قلت: أنا أقربهم نسبا" وفي رواية ابن السكن "فقالوا: هذا أقربنا به نسبا هو ابن عمه أخي أبيه" وعند البخاري "قال: ما قرابتك منه؟ قلت: هو ابن عمي" "قال أبو سفيان: ولم يكن في الركب من بني عبد مناف غيري". وعبد مناف الأب الرابع للنبي صلى الله عليه وسلم وكذا لأبي سفيان فعبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف هو ابن عم أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ففي كونه ابن عمه تجوز وفي رواية ابن السكن "هو ابن عم أخي أبيه" نظر. (فأجلسوني بين يديه) أي قربوني منه وقدموني على أصحابي. (وأجلسوا أصحابي خلفي) عند البخاري "فقال: أدنوه مني وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره" أي لئلا يستحيوا أن يواجهوه بالتكذيب إن كذب فكونهم خلفه يجعل تكذيبهم له أهون عليهم. (ثم دعا بترجمانه) بضم التاء وفتحها والفتح أفصح وهو المعبر عن لغة بلغة أخرى قال النووي: والتاء فيه أصلية وأنكروا على الجوهري كونه جعلها زائدة. (فقال له: قل لهم: إني سائل هذا عن الرجل الذي يزعم أنه نبي) أي إن السؤال في ظاهره سيتوجه إلى أبي سفيان ولكنه في الحقيقة موجه إليكم جميعا. (فإن كذبني فكذبوه) "كذبني" بتخفيف الذال أي إن نقل إلى كذبا فقولوا له: كذبت وأصدقوني القول. (وايم الله) اسم وضع للقسم وألفه ألف وصل عند أكثر النحويين وهو مبتدأ خبره محذوف أي وايم الله قسمي. (لولا مخافة أن يؤثر على الكذب لكذبت) "يؤثر" بضم الياء وسكون الهمزة وفتح الثاء مبني للمجهول يقال: أثر الحديث بفتح الألف والثاء نقله ورواه عن غيره يأثر بضم الثاء أثرا بسكونها وأثارة والمعنى هنا لولا مخافة أن ينقل عني رفقتي إلى قومي أني كذبت ويتحدثون بذلك عني في بلادي لكذبت عليه لبغضي إياه ومحبتي تنقيصه وفي رواية البخاري "فوالله لولا الحياء

من أن يأثروا على كذبا لكذبت عنه" أي لكذبت عند الإخبار بحاله فعدم كذبه ناشئ من خوفه أن ينقلوا عنه أنه كذب لا خوف تكذيبهم له في المجلس فقد كان واثقا منهم بعدم التكذيب أن لو كذب لاشتراكهم معه في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم لكنه ترك ذلك استحياء وأنفة أن يتحدثوا بذلك بعد أن يرجعوا فيصير عند سامعي ذلك كذابا صرح بذلك في رواية ابن إسحق إذ قال "فوالله لو قد كذبت ما ردوا علي ولكني كنت امرأ سيدا أتكرم عن الكذب وعلمت أن أيسر ما في ذلك إن أنا كذبته -أن يحفظوا ذلك عني ثم يتحدثوا به فلم أكذبه" ثم يقول أبو سفيان عن هرقل وعن مهارته "فوالله ما رأيت من رجل قط كان أدهى من ذلك الأقلف" أي غير المختون. (كيف حسبه فيكم؟ ) المراد من الحسب -بفتح الحاء والسين- النسب وذلك أنهم كانوا يعدون مناقب الآباء وشرفهم حين التفاخر بهم أي ما حال نسبه فيكم؟ أهو من أشرافكم؟ أم لا؟ . (هو فينا ذو حسب) التنوين في "حسب" للتعظيم وليس للتحقير كما ظن بعض الشارحين. (فهل كان من آبائه ملك)؟ وفي رواية "فهل كان من آبائه من ملك" بزيادة "من" حرف جر بكسر الميم قال النووي: هكذا هو في جميع نسخ صحيح مسلم "فهل كان من آبائه ملك" ووقع في صحيح البخاري "فهل كان في آبائه من ملك" وروي هذا اللفظ بكسر الميم و"ملك" بفتح الميم وكسر اللام وروي بفتح ميم "من" و"ملك" بفتح الميم واللام فعل ماض والمعنى في الكل واحد. (فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ ) أي هل كنتم تتهمونه بالكذب على الناس؟ ولم يقل: هل عهدتم عليه الكذب؟ مبالغة في صدقه لأن إقرارهم بنفي التهمة بالكذب أدل على إقرارهم بصدقه من نفي الكذب فالتهمة بالكذب قد تكون مع وقوع الكذب غالبا ومع عدم وقوعه فإذا انتفت انتفى العلم بكذبه من باب أولى. وقوله "قبل أن يقول ما قال" من دعوى الرسالة لمحة ذكاء من هرقل لأنه علم أنهم لم يتبعوه فهم لم يصدقوه. (ومن يتبعه؟ أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ ) يعني بأشرافهم: كبارهم وأهل الأحساب فيهم وقيل: إن المراد بالأشراف هنا أهل النخوة والتكبر منهم لا كل شريف حتى لا يكون كاذبا في مثل أبي بكر وعمر ممن أسلم قبل هذا السؤال وفي رواية البخاري "فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم"؟ وفي رواية "أيتبعه أشراف الناس"؟ . (قلت: بل ضعفاؤهم) في رواية ابن إسحق "تبعه منا الضعفاء والمساكين فأما ذوو الأنساب والشرف فما تبعه منهم أحد" وهو محمول على الأكثر الأغلب. (قلت: لا بل يزيدون) "لا" رد للنقصان أي لا ينقصون فلما كان المحتمل: لا يزيدون ولا ينقصون أضرب واستدرك بقوله: بل يزيدون.

(هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟ ) "سخطة" بفتح السين وحكي بضمها والسخط كراهة الشيء وعدم الرضا به وأخرج بهذا القيد من ارتد مكرها أو لرغبة في حظ نفساني أو غيره كما وقع لعبيد الله بن جحش بالحبشة. (تكون الحرب بيننا وبينه سجالا) بكسر السين أي نوبا -بضم النون وفتح الواو جمع نوبة -أي نوبة لنا ونوبة له والسجل الدلو الملآى فكأنه شبه المحاربين بالمستقين يستقي هذا دلوا وهذا دلوا أي يكون لكل واحد منا سجل. (يصيب منا ونصيب منه) في رواية البخاري: "ينال منا وننال منه" يشير بذلك إلى ما وقع بينهم في غزوة بدر وغزوة أحد وفي رواية "قال أبو سفيان: غلبنا مرة يوم بدر وأنا غائب ثم غزوتهم في بيوتهم ببقر البطون وجدع الآذان" وقد صرح بذلك أبو سفيان يوم أحد إذ قال: يوم بيوم بدر والحرب سجال. (فهل يغدر؟ ) بكسر الدال والغدر عدم الوفاء. (قلت: لا ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها) يعني ونحن معه في مدة الهدنة والصلح الذي جرى بالحديبية ويلمح بذلك إلى أنه يخشى غدره في هذه الهدنة لأن أتباع أبي سفيان وحلفاءه من شيمتهم الغدر الذي يفتح الباب لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يرد هذا الغدر بغدر. وجاء في رواية "إلا أن يغدر في هدنته هذه فقال: وما يخاف من هذه؟ فقال: إن قومي أمدوا حلفاءهم على حلفائه قال: إن كنتم بدأتم فأنتم أغدر". (قال: فوالله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه) أي لم أتمكن في أثناء حديثي مع هرقل من كلمة أنتقصه فيها وبها إلا هذه الكلمة ووجه الانتقاص بها أن من يقطع بعدم غدره أرفع رتبة ممن يحتمل وقوع ذلك منه ولما كان هذا الأمر غيبا أمن أبو سفيان أن ينسب إليه أصحابه الكذب فيها ولهذا أوردها بالتردد ولهذا لم يعرج عليها هرقل ففي رواية ابن إسحق: قال أبو سفيان: فوالله ما التفت إليها مني. (فهل قال هذا القول أحد قبله؟ ) ممن عاصره وأمكنه الأخذ عنه؟ (وكذلك الرسل تبعث في أحساب قومها) يعني في أفضل أنسابهم وأشرفها قيل: الحكمة في ذلك أنه أبعد من انتحاله الباطل وأقرب إلى انقياد الناس له والظاهر أن إخبار هرقل بذلك بالجزم كان عن العلم المقرر عنده في الكتب السابقة. (بل ضعفاؤهم وهم أتباع الرسل) لكون الأشراف يأنفون من تقدم مثلهم عليهم والضعفاء لا يأنفون فيسرعون إلى الانقياد واتباع الحق. (وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب) أي وكذلك أمر الإيمان وشأنه إذا خالط

انشراح الصدور تمكن منها وعند ابن إسحق "وكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلبا فتخرج منه" وأصل البشاشة اللطف بالإنسان عند قدومه وإظهار السرور برؤيته يقال: بش به وتبشش به فهو بش وبشاش أي تهلل وضحك إليه. وكذلك الإيمان يدخل نوره في القلب فيظل في زيادة بسبب التعمق والترقي في تشاريعه حتى يتم قال تعالى {ويأبى الله إلا أن يتم نوره} [التوبة: 32]. و"بشاشة القلوب" روي هكذا بنصب "بشاشة" وجر "القلوب" على الإضافة وروي في البخاري بلفظ "بشاشته" بالهاء ورفع بشاشة ونصب "القلوب" أي إذا خالطت بشاشته ونوره وشرحه القلوب. (وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة) أي يبتليهم الله بذلك ليعظم أجرهم بكثرة صبرهم وبذلهم وسعهم في طاعة الله وفي النهاية يكون النصر لهم {إنا لننصر رسلنا} [غافر: 51]. (وكذلك الرسل لا تغدر) لأنها لا تطلب حظ الدنيا ومن طلب الآخرة لم يرتكب غدرا ولا شيئا من القبائح لكن من طلب الدنيا لم يبال بالغدر وغيره. (رجل ائتم بقول قيل قبله) في رواية البخاري "رجل يأتسى بقول قيل قبله" وفي رواية "رجل تأسى بقول قيل قبله" وفي رواية "يتأسى". (بم يأمركم؟ ) في رواية البخاري "بماذا يأمركم"؟ (يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف) قال النووي: أما الصلة فالمراد منها صلة الأرحام وكل ما أمر الله به أن يوصل وذلك بالبر والإكرام وحسن المراعاة وأما العفاف فهو الكف عن المحارم وخوارم المروءة قال صاحب المحكم: العفة الكف عما لا يحل ولا يجمل من قول أو فعل يقال: عف يعف عفة وعفافا وعفافة وتعفف واستعف ورجل عف وعفيف والأنثى عفيفة وجمع العفيف أعفة وأعفاء. اهـ. وفي رواية البخاري "ويأمرنا بالصلاة والصدق" وفي رواية له "بالصلاة والصدقة" بدل "الصدق" ورجحها بعضهم لرواية "الزكاة" واقتران الصلاة بالزكاة معتاد في الشرع ويرجحها أيضا أنهم كانوا يستقبحون الكذب فذكر ما لم يألفوه أولى قال الحافظ ابن حجر: وليس الأمر بالصدق ممتنعا فقد جاء في رواية أمرهم بوفاء العهد وأداء الأمانة وقد كانا من مألوف عقلائهم وقد ثبت الصدق والصدقة معا في رواية للبخاري في الجهاد ولفظها "بالصلاة والصدق والصدقة". وقد جاء في رواية البخاري "ماذا يأمركم؟ قلت: يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة" فذكر بعض الرواة ما لم يذكر الآخر.

قال المازني: هذه الأشياء التي سأل عنها هرقل ليست قاطعة على النبوة إلا أنه يحتمل أنها كانت عنده علامات على هذا النبي بعينه لأنه قال بعد ذلك: قد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظن أنه منكم وقيل: هذا الذي قاله هرقل أخذه من الكتب القديمة ففي التوراة هذا أو نحوه من علامات رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرفه بالعلامات وأما الدليل القاطع على النبوة فهو المعجزة الظاهرة الخارقة للعادة. (ولو أني أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه) قال النووي: هكذا هو في مسلم ووقع في البخاري "لتجشمت لقاءه" وهو أصح في المعنى ومعناه لتكلفت الوصول إليه وارتكبت المشقة في ذلك ولكن أخاف أن أقتطع دونه ولا عذر له في هذا لأنه قد عرف صدق النبي صلى الله عليه وسلم وإنما شح في الملك ورغب في الرياسة فآثرها على الإسلام وقد جاء ذلك مصرحا به في رواية البخاري ولفظها "ولو أراد الله هدايته لوفقه كما وفق النجاشي ومازالت عنه الرياسة" اهـ. والظاهر أنه كان يتحقق أنه لا يسلم من القتل إن هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم اعتبارا بالقس الذي أعلن الإيمان بمحمد فقتلوه. (ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه) اختلف في قول هرقل ما قال: هل آمن؟ وهل استمر على إيمانه أم لا؟ أو لم يؤمن أصلا؟ وسيأتي في فقه الحديث. (ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه) في رواية البخاري "ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به دحية إلى عظيم بصري فدفعه [عظيم بصرى] إلى هرقل فقرأه" أي دعا هرقل من وكل إليه أمر الكتاب قبل هذه الجلسة فقرأه الترجمان. (عظيم الروم) فيه عدول عن ذكره بالملك أو الأمير قيل: لأنه معزول بحكم الإسلام لكنه أكرمه للتأليف بلفظ "عظيم الروم". (سلام على من اتبع الهدى) في البخاري في الاستئذان "السلام" بالتعريف. (أما بعد) "أما" في معنى "مهما يكن من شيء" وهي هنا مستأنفة ليست لتفصيل ما قبلها وقد ترد لتفصيل ما قبلها بما يذكر بعدها وقال الكرماني: هي هنا للتفصيل وتقديره: أما الابتداء فهو اسم الله وأما المكتوب فهو من محمد رسول الله ... إلخ كذا قال. اهـ. و"بعد" ظرف مبني على الضم وكان الأصل أن تفتح لو استمرت على الإضافة فلما قطعت عن الإضافة بنيت على الضم. (فإني أدعوك بدعاية الإسلام) "دعاية" بكسر الدال من قولك دعا يدعو دعاية نحو شكا يشكو شكاية وفي ملحق الرواية "بداعية الإسلام" أي بالكلمة الداعية إلى الإسلام وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله والباء في "بداعية الإسلام" بمعنى إلى. (أسلم تسلم) فيه جناس الاشتقاق وهو نوع من البديع غاية في البلاغة. (وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين) قيل: "أسلم" الأولى للدخول في الإسلام و"أسلم" الثانية

للدوام عليه وإعطاؤه الأجر مرتين لكونه كان مؤمنا بنبيه ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يكون تضعيف الأجر له من جهة إسلامه ومن جهة أن إسلامه يكون سببا لدخول أتباعه. (وإن توليت) أعرضت عن الإجابة إلى الدخول في الإسلام وحقيقة التولي إنما هي بالوجه ثم استعمل مجازا في الإعراض عن الشيء استعارة تبعية. (فإن عليك إثم الأريسيين) جمع أريسى وهو منسوب إلى أريس بوزن فعيل وقد تقلب همزته ياء كما في ملحق الرواية الأولى قال ابن سيدة: الأريس الأكار أي الفلاح وقيل: الأريس هو الأمير وأنكر ابن فارس أن تكون الكلمة عربية وقد جاء في رواية "إثم الأكارين" زاد في هذه الرواية "يعني الحراثين" وفي رواية مرسلة "إثم الفلاحين" والمراد بالفلاحين الفلاحون في مملكته قال الخطابي: أراد أن عليك إثم الضعفاء والأتباع إذا لم يسلموا تقليدا له لأن الأصاغر أتباع الأكابر قال الحافظ ابن حجر: وفي الكلام حذف دل المعنى عليه وهو: فإن عليك مع إثمك إثم الأريسيين لأنه إذا كان عليه إثم الأتباع بسبب أنهم تبعوه على استمرار الكفر فلأن يكون عليه إثم نفسه أولى وهذا يعد من مفهوم الموافقة وقال أبو عبيد: ليس المراد بالفلاحين الزراعيين خاصة بل المراد بهم جميع أهل مملكته وقيل المراد بالأريسيين اليهود والنصارى أتباع عبد الله بن أريس الذي تنسب إليه الأروسية من النصارى ولهم مقالات في كتب المقالات ويقال لهم الأروسيون وقيل المراد بالأريسيين الملوك الذين يقودون الناس إلى المذاهب الفاسدة ويأمرونهم بها. قال النووي: "الأريسيين" هكذا وقع في الرواية الأولى وهو الأشهر في روايات الحديث وفي كتب أهل اللغة وعلى هذا اختلف في ضبطه على أوجه: أحدها بياءين بعد السين والثاني بياء واحدة بعد السين وعلى هذين الوجهين الهمزة مفتوحة والراء مكسورة مخففة والثالث بكسر الهمزة وتشديد الراء وياء واحدة بعد السين. {يا أهل الكتاب تعالوا} الآية الكريمة بدون الواو قال الحافظ ابن حجر: وهكذا وقع بإثبات الواو في أوله وذكر القاضي عياض أن الواو ساقطة في رواية الأصيلي وأبي ذر وعلى ثبوتها فهي داخلة على مقدر معطوف على قوله "أدعوك" فالتقرير: أدعوك بدعاية الإسلام وأقول لك ولأتباعك: يا أهل الكتاب ويحتمل أن تكون من كلام أبي سفيان لأنه لم يحفظ جميع ألفاظ الكتاب فاستحضر منها أول الكتاب فذكره وكذا الآية وكأنه قال فيه: كان فيه كذا وكذا وكان فيه: يا أهل الكتاب فالواو من كلامه لا من نفس الكتاب وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم كتب ذلك قبل نزول الآية فوافق لفظه لفظها لما نزلت والسبب في هذا أن هذه الآية في قصة وفد نجران وكانت قصتهم سنة الوفود سنة تسع وقصة أبي سفيان كانت قبل ذلك سنة ست وجوز بعضهم نزول الآية مرتين وهو بعيد. اهـ. (فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده وكثر اللغط) "اللغط" بفتح الغين وإسكانها الأصوات المختلفة المتداخلة وهو الصخب واختلاط الأصوات في المخاصمة وفي رواية

البخاري "فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب وارتفعت الأصوات" وزاد في رواية "فلا أدري ما قالوا" والضمير في "فرغ" يعود على هرقل باعتباره الآمر. (وأمر بنا فأخرجنا) "أمر" بفتح الهمزة والميم وضمير الفاعل لهرقل وفي رواية البخاري "فأخرجنا" بالبناء للمجهول في الروايتين. (فقلت لأصحابي حين خرجنا) في رواية البخاري "حين أخرجنا" زاد في رواية "حين خلوت بهم". (لقد أمر أمر ابن أبي كبشة) "أمر" الأولى بفتح الهمزة وكسر الميم المخففة فعل ماض معناه عظم يقال: أمر الشيء يأمر من باب سمع يسمع أمرا وإمارة كثر ونما فهو أمر بفتح الهمزة وكسر الميم المخففة فالمعنى لقد عظم أمر ابن أبي كبشة يعني محمدا صلى الله عليه وسلم قال النووي وغيره: قيل أبو كبشة أحد أجداد النبي صلى الله عليه وسلم وعادة العرب إذا انتقصت نسبت إلى جد غامض دون النسب المشهور إذا لم يمكنهم الطعن في نسبه المعلوم وقال أبو قتيبة وكثيرون: أبو كبشة جد النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أمه جد وهب جد النبي صلى الله عليه وسلم لأمه قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر لأن وهبا جد النبي صلى الله عليه وسلم اسم أمه عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال ولم يقل أحد من أهل النسب: إن الأوقص يكنى أبا كبشة وقيل: هو جد عبد المطلب لأمه وفيه نظر أيضا لأن أم عبد المطلب سلمى بنت عمرو بن زيد الخزرجي ولم يقل أحد من أهل النسب: إن عمرو بن زيد يكنى أبا كبشة لكن ذكر ابن حبيب في المجتبى جماعة من أجداد النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أبيه ومن قبل أمه كان واحد منهم يكنى أبا كبشة وقيل: هو أبوه من الرضاعة واسمه الحارث بن عبد العزى السعدي قيل: إنه أسلم وكانت له بنت تسمى كبشة يكنى بها وقيل: أبو كبشة عم والد حليمة مرضعته صلى الله عليه وسلم وقيل أبو كبشة رجل من خزاعة كان يعبد الشعري وهو كوكب في السماء ولم يوافقه أحد من العرب في عبادتها فشبهوا النبي صلى الله عليه وسلم به لمخالفتهم إياه في دينهم قال بعضهم: ولم يريدوا انتقاصه بذلك بل أرادوا مجرد التشبيه. (إنه ليخافه ملك بني الأصفر) "ملك" بفتح الميم وكسر اللام وبنو الأصفر هم الروم وهم في الأصل بيض لكن يقال: إن جدهم روم بن عيص تزوج بنت ملك الحبشة فجاء لون ولده بين البياض والسواد فقيل له: الأصفر وقيل: لقبوا بالأصفر لأن جيشا من الحبشة غلب على بلادهم في وقت فوطئ نساءهم فولدن أولادا صفرا من سواد الحبشة وبياض الروم والأول أشبه بالصواب. والجملة مستأنفة استئنافا تعليليا كأنه قيل: لم عظم أمر ابن أبي كبشة؟ فقيل: إنه ليخافه والضمير في "إنه" بكسر الهمزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجملة "يخافه ملك بني الأصفر" خبر إن. (فمازلت موقنا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيظهر حتى أدخل الله على الإسلام) أي فمنذ ذلك الحين وأنا موقن بأن محمدا نبي وبأنه سيظهر دينه وينتشر حتى أدخل الله على طاعته

وإعلان ما في قلبي وأسلمت وليس معنى ذلك أنه كان مؤمنا إيمانا شرعيا باطنا وانقيادا باطنا بل كان هذا اليقين مع الرفض والعناد كشأن اليهود الذين كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم لكنهم كفروا وجحدوا وعادوه. وقيل: المراد اليقين بظهوره وغلبته على من حوله وليس اليقين بالنبوة وفي رواية الطبراني "فمازلت مرعوبا من محمد حتى أسلمت" والغاية داخلة فهذا اليقين قد استمر ولم يرتفع. (وكان قيصر لما كشف الله عنه جنود فارس مشى من حمص إلى إيلياء شكرا لما أبلاه الله) "قيصر" لقب هرقل كما سبق وإيلياء هو بيت المقدس بهمزة مكسورة بعدها ياء ثم لام مكسورة بعدها ياء مفتوحة ثم ألف ثم همزة وحكي فيها القصر ويقال لها: الياء بدون الياء الأولى وسكون اللام وبالمد والهمزة قيل معناه بيت الله و"حمص" مدينة معروفة كانت عاصمة ملك هرقل ومعنى "شكرا لما أبلاه الله" أي شكرا لما أنعم الله به عليه من هزيمة الفرس وعودة الأمن إلى بلاده والنعمة ابتلاء والنقمة ابتلاء وكان كسرى قد غزا جيشه بلاد هرقل فخربوا كثيرا من بلاده ثم أراد كسرى أن يغير قائد الحملة وعزم على قتله فعلم القائد فتآمر القائد مع هرقل على كسرى وانهزم بجيشه أمام جنود هرقل فمشى هرقل على قدميه من حمص إلى بيت المقدس زاد ابن إسحق أنه كان يبسط له البسط وتوضع عليها الرياحين فيمشي عليها. (أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي وإلى كل جبار) قال النووي: "كسرى" بفتح الكاف وكسرها وهو لقب لكل ملك من ملوك الفرس و"قيصر" لقب لكل من ملك الروم و"النجاشي" لكل من ملك الحبشة و"خاقان" لكل من ملك الترك و"فرعون" لكل من ملك القبط و"العزيز" لكل من ملك مصر "وتبع" لكل من ملك حمير. اهـ. وأهل السير يختلفون في تاريخ هذه الكتب فقيل: سنة سبع في زمن الهدنة منصرفه من الحديبية وقيل: سنة تسع لما رجع من تبوك وقيل: إن الكتب تكررت. والمراد بكل جبار بعض الحكام ذكر منهم الطبراني أنه صلى الله عليه وسلم بعث بكتبه سليط بن عمرو إلى هوذة بن علي باليمامة والعلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى بهجر وعمرو بن العاص إلى جيفر وعباد بن الجلندي بعمان وشجاع بن وهب إلى ابن أبي شمر الغساني فرجعوا جميعا قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم غير عمرو بن العاص وزاد أصحاب السير أنه بعث المهاجر بن أبي أمية وجريرا إلى ذي الكلاع والسائب إلى مسيلمة وحاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس. (وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم) النجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أسلم وهو الذي آوى المهاجرين إلى الحبشة ورد وفد كفار قريش خائبين وهو الذي زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة وقد كاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن المقصود هنا النجاشي الذي ولي بعده وكان كافرا. وكاتبه صلى الله عليه وسلم سنة تسع وقيل: قبيل مرضه ووفاته صلى الله عليه وسلم.

-[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث]- 1 - جواز تحمل الكافر للحديث على أن يكون مسلما حين الأداء. 2 - من قوله "من فيه إلى فيه" دقة الصحابة في الرواية والتصريح بما يؤكد التوثيق والاتصال. 3 - جواز مكاتبة الكفار ودعاؤهم إلى الإسلام. 4 - دعاء الكفار إلى الإسلام قبل قتالهم قال النووي: وهذا الدعاء واجب والقتال قبله حرام إن لم تكن بلغتهم دعوة الإسلام وإن كانت بلغتهم فالدعاء مستحب هذا مذهبنا وفيه خلاف للسلف حكاه المازري والقاضي على ثلاثة مذاهب: أحدها: يجب الإنذار مطلقا قاله مالك وغيره وهو ضعيف. والثاني: لا يجب مطلقا وهذا أضعف منه أو باطل. والثالث: يجب إن لم تبلغهم الدعوة ولا يجب إن بلغتهم لكن يستحب وهذا هو الصحيح. قال ابن المنذر: وهو قول أكثر أهل العلم وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على معناه. 5 - من أسئلة هرقل يتبين ذكاؤه وحكمته ودقته وسعة علمه. 6 - من قول أبي سفيان: لولا مخافة أن يؤثر على الكذب لكذبت قبح الكذب في الجاهلية كما هو قبيح في الإسلام. 7 - من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل استحباب تصدير الكتاب بـ (بسم الله الرحمن الرحيم) وإن كان المبعوث إليه كافرا قال النووي: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أجذم" فالمراد بحمد الله فيه ذكر الله تعالى وقد جاء في رواية له "بذكر الله تعالى" وقد بدأ صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب ببسم الله دون الحمد لله وهذا الكتاب كان ذا بال بل من المهمات العظام. 8 - وأنه يجوز للمسافر إلى أرض العدو أن يصحب معه الآية والآيتين ونحوهما وأن يبعث بذلك إلى الكفار وإنما نهي عن المسافرة بالقرآن إلى أرض العدو أي بكماله أو بجملة من سوره وذلك أيضا محمول على ما إذا خيف وقوعه في أيدي الكفار وأغرب ابن بطال فادعى أن ذلك نسخ بالنهي عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو ويحتاج هذا القول إلى إثبات التاريخ. 9 - وأنه يجوز للمحدث والكافر مس آية أو آيات يسيرة منفصلة عن القرآن وقيل: في هذا دليل على جواز قراءة الجنب للآية أو الآيتين وفي الاستدلال بذلك من هذه القصة نظر فإنها واقعة عين لا عموم فيها فيفيد الجواز على ما إذا وقع احتياج إلى ذلك كالإبلاغ والإنذار كما في هذه القصة وأما الجواز مطلقا حيث لا ضرورة فلا يتجه.

10 - وأن السنة في المكاتبة والرسائل بين الناس أن يبدأ الكتاب بنفسه فيقول: من فلان بن فلان إلى فلان وهذه مسألة مختلف فيها قال الإمام أبو جعفر في كتابه (صناعة الكتاب) قال: أكثر العلماء يستحب أن يبدأ بنفسه ثم روي فيه أحاديث كثيرة وآثارا قال: وهذا هو الصحيح عند أكثر العلماء لأنه إجماع الصحابة قال: وسواء في هذا تصدير الكتاب والعنوان قال: ورخص جماعة في أن يبدأ بالمكتوب إليه فيقول في التصدير والعنوان: إلى فلان من فلان ثم روي بإسناده أن زيد بن ثابت كتب إلى معاوية فبدأ باسم معاوية وعن محمد بن الحنفية أنه لا بأس بذلك قال: وأما العنوان فالصواب أن يكتب عليه: إلى فلان ولا يكتب لفلان لأنه إليه لا له إلا على سبيل المجاز قال: هذا هو الصواب الذي عليه أكثر العلماء من الصحابة والتابعين. 11 - والتوقي في المكاتبة واستعمال الورع فيها فلا يفرط ولا يفرط ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: إلى هرقل عظيم الروم فلم يقل: ملك الروم لأنه لا ملك له ولا غيره إلا بحكم دين الإسلام ولا سلطان لأحد إلا لمن ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ولاه من أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرط وإنما ينفذ من تصرفات الكفار ما تنفذه الضرورة ولم يقل: إلى هرقل فقط بل أتى بنوع من الملاطفة فقال: عظيم الروم أي الذي يعظمونه ويقدمونه وقد أمر الله تعالى بإلانة القول لمن يدعي إلى الإسلام فقال تعالى {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} [النحل: 125] وقال تعالى {فقولا له قولا لينا} [طه: 44]. 12 - واستحباب البلاغة والإيجاز وتحري الألفاظ الجزلة في المكاتبة فإن قوله صلى الله عليه وسلم "أسلم تسلم" في نهاية من الاختصار وغاية من الإيجاز والبلاغة وجمع المعاني مع ما فيه من بديع التجنيس وشموله لسلامته من خزي الدنيا بالحرب والسبي والقتل وأخذ الديار والأموال ومن عذاب الآخرة. 13 - ومن قوله "يؤتك الله أجرك مرتين" أن من أدرك من أهل الكتاب نبينا صلى الله عليه وسلم فآمن به فله أجران وفي الحديث "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم أدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه وعبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه فله أجران ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن غذاءها وأدبها فأحسن أدبها فأعتقها وتزوجها فله أجران". 14 - البيان الواضح أن من كان سببا لضلالة أو سبب منع من هداية كان آثما لقوله صلى الله عليه وسلم "وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين" ومن هذا المعنى قوله تعالى {وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم} [العنكبوت: 13] ولا يعارض بقوله تعالى {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [فاطر: 18] لأن وزر الآثم لا يتحمله غيره ولكن الفاعل المتسبب والمتلبس بالسيئات يتحمل من جهتين جهة فعله وجهة تسببه. 15 - واستحباب "أما بعد" في الخطب والمكاتبات. 16 - ومن قوله "سلام على من اتبع الهدى" جواز مثله مع الكفار ولا يقال: إن الكافر لا يبدأ بالسلام

فإنه ليس المراد هنا التحية وإنما المعنى سلم من عذاب الله من أسلم ولهذا جاء بعده {أن العذاب على من كذب وتولى} [طه: 48] حين قال موسى عليه السلام {والسلام على من اتبع الهدى} [طه: 47] وكذلك جاء في هذا الكتاب "فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين" فمحصل المقام أنه لم يبدأ الكافر بالسلام قصدا لأنه ليس ممن اتبع الهدى فلم يسلم عليه. مع أن المسألة خلافية فمذهب الشافعي وجمهور أصحابه وأكثر العلماء أنه لا يجوز للمسلم أن يبتدئ كافرا بالسلام وأجازه كثيرون من السلف قال النووي: وهذا مردود بالأحاديث الصحيحة في النهي عن ذلك وجوزه آخرون لاستئلاف أو لحاجة إليه أو نحو ذلك. 17 - وفي الحديث العمل بالكتاب. 18 - وفيه العمل بخبر الواحد. 19 - أخذ بعضهم من قول هرقل "ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه" وقوله في رواية البخاري "فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه" وقوله في رواية الطبراني "أعرف أنه كذلك ولكن لا أستطيع أن أفعل إن فعلت ذهب ملكي وقتلني الروم" أن هرقل أقر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وآمن وأنه لم يصرح بالإيمان خوفا على نفسه من القتل وهكذا أطلق صاحب الاستيعاب فقال: إن هرقل آمن قال الحافظ ابن حجر: أمر هرقل في الإيمان عند كثير من الناس مشتبه لأنه يحتمل أن يكون عدم تصريحه بالإيمان للخوف على نفسه من القتل ويحتمل أن يكون استمر على الشك حتى مات كافرا. والجمهور على أن هرقل آثر ملكه على الإيمان واستمر على الضلال فقد حارب المسلمين في غزوة مؤتة سنة ثمان بعد هذه القصة بنحو السنتين وفي السير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه من تبوك يدعوه إلى الإسلام وأنه قارب الإجابة ولم يجب مما يدل على أنه استمر على الكفر أما قول بعضهم: يحتمل أنه كان يضمر الإيمان ويفعل هذه المعاصي مراعاة لملكه وخوفا من أن يقتله قومه فهذا القول مستبعد. ففي مسند أحمد أنه كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك: إني مسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كذب بل هو على نصرانيته" وفي رواية أبي عبيد في كتاب الأموال "كذب عدو الله ليس بمسلم". فالتحقيق: أنه أظهر بهذه القرائن التصديق لكنه لم يستمر عليه ولم يعمل بمقتضاه بل شح بملكه وآثر الفانية على الباقية وقد سبق في المعنى العام نبذة عن آخر شأن هرقل تؤكد ما ذهبنا إليه وهي مستقاة من الروايات. ثم قال الحافظ ابن حجر: واختلف الإخباريون. هل هرقل هذا هو الذي حاربه المسلمون في زمن أبي بكر وعمر؟ أو ابنه؟ والأظهر أنه هو. اهـ. والله أعلم.

(488) باب غزوة حنين

(488) باب غزوة حنين 4053 - عن عباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نفارقه ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي فلما التقى المسلمون والكفار ولى المسلمون مدبرين فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار قال عباس: وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفها إرادة أن لا تسرع وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أي عباس ناد أصحاب السمرة" فقال عباس -وكان رجلا صيتا- فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة؟ قال: فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها فقالوا: يا لبيك يا لبيك. قال: فاقتتلوا والكفار والدعوة في الأنصار يقولون يا معشر الأنصار يا معشر الأنصار قال: ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج فقالوا يا بني الحارث بن الخزرج يا بني الحارث بن الخزرج فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هذا حين حمي الوطيس" قال: ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات فرمى بهن وجوه الكفار ثم قال "انهزموا ورب محمد" قال: فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى قال: فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته فمازلت أرى حدهم كليلا وأمرهم مدبرا. 4054 - وفي رواية عن الزهري بهذا الإسناد نحوه غير أنه قال فروة بن نعامة الجذامي وقال "انهزموا ورب الكعبة انهزموا ورب الكعبة" وزاد في الحديث "حتى هزمهم الله" قال: وكأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يركض خلفهم على بغلته. 4055 - عن أبي إسحق قال: قال رجل للبراء يا أبا عمارة أفررتم يوم حنين؟ قال: لا والله ما ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه خرج شبان أصحابه وأخفاؤهم حسرا ليس عليهم سلاح أو كثير سلاح فلقوا قوما رماة لا يكاد يسقط لهم سهم جمع هوازن وبني نصر

فرشقوهم رشقا ما يكادون يخطئون فأقبلوا هناك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يقود به فنزل فاستنصر وقال: أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب ثم صفهم. 4056 - عن أبي إسحق قال: جاء رجل إلى البراء فقال: أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة؟ فقال: أشهد على نبي الله صلى الله عليه وسلم ما ولى ولكنه انطلق أخفاء من الناس وحسر إلى هذا الحي من هوازن وهم قوم رماة فرموهم برشق من نبل كأنها رجل من جراد فانكشفوا فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان بن الحارث يقود به بغلته فنزل ودعا واستنصر وهو يقول: 4 - أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب اللهم نزل نصرك" قال البراء كنا والله إذا احمر البأس نتقي به وإن الشجاع منا للذي يحاذي به يعني النبي صلى الله عليه وسلم. 4057 - عن أبي إسحق قال: سمعت البراء وسأله رجل من قيس أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ فقال البراء: ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر. وكانت هوازن يومئذ رماة وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا فأكببنا على الغنائم فاستقبلونا بالسهام ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء وإن أبا سفيان بن الحارث آخذ بلجامها وهو يقول: 4 - أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب 4058 - عن إياس بن سلمة حدثني أبي قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا فلما واجهنا العدو تقدمت فأعلو ثنية فاستقبلني رجل من العدو فأرميه بسهم فتوارى عني فما دريت ما صنع ونظرت إلى القوم فإذا هم قد طلعوا من ثنية أخرى فالتقوا هم وصحابة النبي صلى الله عليه وسلم فولى صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وأرجع منهزما وعلي بردتان متزرا بإحداهما مرتديا

بالأخرى فاستطلق إزاري فجمعتهما جميعا ومررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهزما وهو على بغلته الشهباء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لقد رأى ابن الأكوع فزعا" فلما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة ثم قبض قبضة من تراب من الأرض ثم استقبل به وجوههم فقال "شاهت الوجوه" فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا بتلك القبضة فولوا مدبرين فهزمهم الله عز وجل وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين. -[المعنى العام]- في النصف الأول من رمضان على رأس ثمان سنين ونصف السنة من وصول النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرا إلى المدينة سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة لفتحها بدأ خروجه من المدينة ومعه عشرة آلاف وانضم إليهم في الطريق من قبائل العرب المسلمين ألفان. جيش عظيم جرار فتح الله به مكة دون قتال يذكر وقبل أن ينعم المسلمون بهذا الفتح العظيم بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن مالك بن عوف النضري جمع القبائل الكافرة القريبة من مكة وعلى رأسها هوازن ووافقهم الثقفيون أهل الطائف وتجمعوا في حنين لمحاربة المسلمين وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن هوازن خرجت بنسائهم وذراريهم ونعمهم وشائهم خرجوا إما للفناء على بكرة أبيهم وإما للحياة العزيزة بعد هزيمة المسلمين فندب النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وجيشه للتحرك نحو تجمعاتهم في حنين وتحرك الجيش جيش لا يكاد يرى أوله أو آخره جيش الفتح ومن انضم إليهم من أهل مكة من مسلميها والطلقاء والمنافقين والمؤلفة قلوبهم جيش يغتر أهله بكثرته حتى قال أحدهم: لن نغلب اليوم عن قلة جيش كثير العدد حقا لكن تداخله شبان لا يجيدون القتال ولا يصبرون على حره وشدته ولم يتمرسوا عليه ولم يستعدوا له خرجوا مكشوفي الصدور دون دروع مكشوفي الرءوس دون مغافر خرجوا يحسبونها نزهة يعودون بعدها بالغنائم الكثيرة خرجوا لا يحسنون الرمي ولا كيف يتقنونه كما تداخله بعض المسلمين حديثا من المؤلفة قلوبهم من مسلمة الفتح لا يقاتلون عن عقيدة ثابتة ولا تعنيهم التضحية في سبيل الله ولا يحرصون على الشهادة. جيش كثير العدد حقا لكنه يهاجم قوما أدرى بشعابهم ووديانهم وهو لا يعرف طبيعة أرضهم يهاجم قوما سيستميتون في الدفاع عن وطنهم وأرضهم وشرفهم وكبريائهم وأولادهم ونسائهم وهم مع ذلك يجيدون القتال ورمي النبال والكر والفر والهجوم والخديعة وقد تحصنوا في وديانهم ومنعطفات جبالهم قوم صفوا نفوسهم كالبنيان الفرسان ثم المشاة ثم النساء ثم الأطفال ثم النعم والشياه ونزل المسلمون إلى الوديان المجهولة في عماية الغلس ومع ذلك التقوا بالكفار وقاتلوهم وأزالوهم عن مواقعهم وحسبوا أن المعركة قد انتهت فانكبوا على الغنائم يجمعون الإبل والشاة والنساء والذراري فجأة كانت الخديعة التي أعدها الكفار وهوازن فاستقبلوا المسلمين بنبال كأسراب الجراد كثيرة متتالية كلها تصيب لا تكاد نبل تخطئ إصابة أصابت المفاجأة المسلمين

بالهول والذهول والفزع والارتباك والتفكك فولوا الأدبار منهزمين واتجهوا فرارا إلى الشعاب المختلفة متناثرين ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الموقف وهو على بغلته البيضاء فنادى بصوت مرتفع: يا للمهاجرين؟ فسمع الرد من بعيد: لبيك يا رسول الله نحن معك نادى: يا معشر الأنصار فسمع الإجابة المتناثرة من بعيد: لبيك يا رسول الله نحن معك قال: يا عباس -وهو يمسك رأس بغلته: يا عباس ناد أصحاب الشجرة شجرة الرضوان الذين بايعوا الله ورسوله على الجهاد حتى النصر فنادى: يا أصحاب الشجرة فكانت الإجابة: يا لبيك يا لبيك وكاد الكفار يحيطون بالنبي صلى الله عليه وسلم وابن عمه الحارث بن عبد المطلب يشارك عمه العباس في قيادة بغلة الرسول صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدفعها إلى الأمام نحو الكفار وهو يقول: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب والعباس والحارث يكفونها عن الإقدام خوفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع نداء كل مجموعة لأفرادها الأنصار ينادون الأنصار والمهاجرون ينادون المهاجرين والأوس ينادون الأوس والخزرج ينادون الخزرج وتجمع المتفرقون وعاد الفارون المنهزمون وكر المسلمون على قتال الكافرين وحمى الوطيس واشتد البأس فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بغلته وأخذ شيئا من حصى الأرض وترابها ورماها نحو الأعداء وقال: شاهت وجوه الكفار ثم دعا ربه وطلب نصره: اللهم أنزل نصرك الذي وعدتني فما هي إلا جولة قصيرة حتى انهزم الكافرون وولوا الأدبار واستولى المسلمون على الغنائم الكثيرة التي لم يسبق لهم مثلها وقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المجاهدين من المهاجرين والمؤلفة قلوبهم وبعد أيام جاءت هوازن مسلمين يرجون استعادة أموالهم ونسائهم وذراريهم فأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم نساءهم وأولادهم وفي هذه الغزوة يقول الله تعالى {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين* ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين} [التوبة: 25 وما بعدها]. -[المباحث العربية]- (حنين) بضم الحاء وفتح النون مصغر واد إلى جنب ذي المجاز بين مكة والطائف بينه وبين مكة بضعة عشر ميلا من جهة عرفات قيل: سمي باسم حنين بن قابئة بن مهلائيل وهو مصروف كما جاء في القرآن الكريم. (شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين) أي شهدت وقعة وغزوة حنين. (فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم) المراد من الملازمة المصاحبة المتصلة على الهيئة التي سيذكرها فقوله "فلم نفارقه" تأكيد وأبو سفيان هذا

ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وكان إسلامه قبل فتح مكة لقي النبي صلى الله عليه وسلم وهو في طريقه إلى فتح مكة فأسلم وحسن إسلامه وخرج إلى غزوة حنين فكان فيمن ثبت. (ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء) في الرواية الخامسة يصف سلمة بن الأكوع بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهباء أي التي يخالط بياضها سواد قال النووي: قال العلماء: لا يعرف له صلى الله عليه وسلم بغلة سواها وهي التي يقال لها دلدل. قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر لأن دلدل أهداها له المقوقس قال القطب الحلبي: يحتمل أن يكون يومئذ ركب كلا من البغلتين إن ثبت أنها كانت صحبته. اهـ. وهذا الذي قاله القطب بعيد جدا وما قاله النووي لا غرابة فيه والأشهب إذا كثر بياضه قيل عنه أبيض فلا تعارض والذي أوقع في هذا اللبس أن بغلته صلى الله عليه وسلم اشتهرت باسم الشهباء. (أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي) "نفاثة" بنون مضمومة ثم فاء ثم ألف ثم ثاء مثلثة قال القاضي: واختلفوا في إسلامه فقال الطبري: أسلم وعمر عمرا طويلا وقال غيره: لم يسلم قال النووي: وفي صحيح البخاري أن الذي أهداها له ملك أيلة واسم ملك أيلة فيما ذكره ابن إسحق: يحنة بن رونة وفي ملحق الرواية الأولى "فروة بن نعامة" بالنون والعين والألف والميم والأول هو الصحيح المعروف. (فلما التقى المسلمون والكفار ولى المسلمون مدبرين) ظاهره أن المسلمين ولوا الأدبار بمجرد اللقاء وليس كذلك فقد وضحت الرواية الرابعة أن المسلمين حملوا على الكفار حتى انكشف الكفار فأكب المسلمون على الغنائم فاستقبلوا بسهام لا قبل لهم بها فولوا. (فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار) "قبل" بكسر القاف وفتح الباء أي جهة الكفار والركض العدو مسرعا. (وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفها إرادة أن لا تسرع) أي أمنعها من العدو نحو الكفار خوفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. (وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) الركاب لسرج الدابة ما توضع فيه رجل الراكب وهما ركابان والمراد أخذه وإمساكه بأحدهما حماية وتكريما لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الرواية الثانية "وأبو سفيان يقود به" مع أن القيادة لممسك اللجام وفي الثالثة "يقود به بغلته" وفي الرواية الرابعة "وإن أبا سفيان بن الحارث أخذ بلجامها" وعند البخاري "وإن أبا سفيان آخذ بزمامها" وهو الحبل الذي يربط في رأس الدابة وفيه "وأبو سفيان بن الحارث آخذ برأس بغلته البيضاء" قال الحافظ ابن حجر: ويمكن الجمع بأن أبا سفيان كان آخذا أولا بزمامها فلما ركضها النبي صلى الله عليه وسلم إلى جهة المشركين خشي العباس فأخذ بلجام البغلة يكفها وأخذ أبو سفيان بالركاب وترك اللجام إجلالا له لأنه عمه اهـ. وظاهر هذا الجمع أن العباس في البداية كان آخذا بالركاب أو لم يكن آخذا

بشيء مما لا يتفق وعبارة الرواية الأولى ففيها أن الركض بدأ والعباس ممسك باللجام وأبو سفيان ممسك بالركاب فالأولى أن يقال: إن أبا سفيان لما خشي تغلب البغلة على عمه ساعده في كفها فشاركه في الإمساك بالزمام وترك الركاب والرواية الثانية والثالثة والرابعة تصرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة وأبو سفيان ممسك بالزمام فإمساكه باللجام كان آخرا وليس أولا. (أي عباس) "أي" حرف نداء أي يا عباس. (ناد أصحاب السمرة) بفتح السين وضم الميم في كتب اللغة: السمر بفتح السين وضم الميم ضرب من شجر الطلح والطلح شجر عظام من شجر العضاه ترعاه الإبل ويطلق على الموز والمراد هنا الأول واحدته سمرة والمقصود الشجرة التي بايعوا تحتها بيعة الرضوان والمعنى: ناد أهل بيعة الرضوان يوم الحديبية. (وكان رجلا صيتا) الصيت: بفتح الصاد وتشديد الياء المكسورة شديد الصوت قوية وعالية. والجملة لا محل لها من الإعراب معترضة. (فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها) يقال: عطف يعطف بفتح الطاء في الماضي وكسرها في المضارع إذا مال وتحول وحمل وكر والعطفة الكرة ووجه الشبه هنا سرعة الميل والعودة والكر. (يا لبيك يا لبيك) أي إجابة لك بعد إجابة والنداء هنا معناه يا إجابة هذا وقتك فاحضري وأعلني عن نفسك. (فاقتتلوا والكفار) قال النووي: هكذا هو في النسخ وهو بنصب الكفار أي مع الكفار مفعول معه. (والدعوة في الأنصار يقولون: يا معشر الأنصار يا معشر الأنصار) يقال: دعا فلانا أي صاح به وناداه. والمعنى: ودعا الأنصار بعضهم بعضا واستغاث بعضهم ببعض وصرخ بعضهم في بعض بالكر والقتال. (ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج فقالوا: يا بني الحارث بن الخزرج يا بني الحارث بن الخزرج) يقال: قصر الشيء على الشيء أي رده إليه لم يجاوز به إلى غيره والمعنى أن الاستغاثة والمناداة انتقلت إلى الخزرج خاصة بعد أن توجهت للأنصار عامة. أي ثم توجهت إلى الفرق بعضها إلى بعض حتى نادى الأفراد بعضهم بعضا. (فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو على بغلته كالمتطاول عليها- إلى قتالهم) يقال: تطاول أي تمدد قائما لينظر إلى بعيد وجملة "وهو على بغلته" حال وشبه جملة

"كالمتطاول عليها" حال متداخلة من جملة الحال الأولى والمعنى فرأى القتال شديدا ورأى أصحابه في شدة. (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا حين حمى الوطيس) بفتح الواو وكسر الطاء قال الأكثرون: هو شبه التنور يوقد فيه حتى يحمى ويضرب مثلا لشدة الحرب التي يشبه حرها حره وقال آخرون: الوطيس هو التنور نفسه وقال الأصمعي: هي حجارة مدورة إذا حميت لم يقدر أحد أن يطأ عليها فيقال: الآن حمى الوطيس وقيل: هو الضرب في الحرب وقيل: هو الحرب الذي يطيس الناس أي يدقهم قالوا: هذه اللفظة من فصيح الكلام وبديعه الذي لم يسمع من أحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم والإشارة في "هذا" للفعل والقول الآتيين أي أخذ الحصيات وقال: انهزموا ورب محمد حين حمى الوطيس. (قال: ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات فرمى بهن وجوه الكفار) في الرواية الخامسة "فلما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة ثم قبض قبضة من تراب الأرض ثم استقبل به وجوههم" يقال: غشي فلان فلانا بكسر الشين وفتح الياء أي غطاه وحواه والمراد هنا: لما قرب المشركون من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكادوا يحيطون به وبمن معه والقتال مستعر بين المشركين وبين أصحابه الذين كروا بعد فرارهم ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الوطأة على أصحابه في هذا الوقت نزل عن بغلته ليأخذ التراب والحصى ويدعو ويرمي بها في وجوه القوم ثم يعود فيركب بغلته فعند أحمد وأبي داود والترمذي "ثم اقتحم عن فرسه فأخذ كفا من تراب" وللجمع بين رواية "الحصى" ورواية "التراب" قال العلماء: يحتمل أنه أخذ قبضة من حصى وقبضة من تراب فرمي بهذا مرة وبهذا مرة ويحتمل أنه أخذ قبضة واحدة مخلوطة من حصى وتراب ولأحمد والحاكم من حديث ابن مسعود "فقال: ناولني كفا من تراب فضرب به وجوههم" وعند البزار من حديث ابن عباس "أن عليا ناول النبي صلى الله عليه وسلم التراب فرمي به في وجوه المشركين يوم حنين" ويجمع بين هذه الأحاديث بأنه صلى الله عليه وسلم قال أولا لصاحبه: ناولني فناوله فرماهم ثم نزل عن البغلة. فأخذ بيده فرماهم أيضا ويحتمل أن الحصى كان في إحدى المرتين وكان التراب في الأخرى. (ثم قال: انهزموا ورب محمد) "انهزموا" فعل ماض لفظا مضارع معنى بفتح الزاي إخبار عن أنهم سينهزمون إن شاء الله أخذا من وعد الله له وثقته بربه صلى الله عليه وسلم ولهذا أقسم برب محمد وبرب الكعبة مرتين في ملحق الرواية وفي الرواية الثانية "فنزل فاستنصر" أي دعا بالنصر. "وقال: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب وفي الرواية الثالثة. "فنزل ودعا واستنصر وهو يقول: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب. اللهم نزل نصرك" وفي الرواية الخامسة "فقال: شاهت الوجوه" أي قبحت وجوه الكفار. (قال: فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى) من الشدة والقسوة وكأن هذا النظر وقع ساعة الدعاء وساعة أخذ الحصى قبل أن يصل التراب وجوه القوم.

(فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته) ضمير "هو" للحال والشأن. (فمازلت أرى حدهم كليلا وأمرهم مدبرا) الحد هو الشدة والقوة والكليل الضعيف أي ما هو إلا أن دعا ورش الحصيات في وجوه الكفار حتى رأيت قوتهم ضعفا وإقبالهم إدبارا حتى هزمهم الله ورأيت النبي صلى الله عليه وسلم يركض خلفهم على بغلته وفي الرواية الخامسة "فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا بتلك القبضة فولوا مدبرين فهزمهم الله عز وجل". (يا أبا عمارة) كنية البراء. (أفررتم يوم حنين؟ قال: لا والله ما ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه خرج شبان أصحابه وأخفاؤهم حسرا ليس عليهم سلاح أو كثير سلاح) قال النووي: هذا الجواب الذي أجاب به البراء رضي الله عنه من بديع الأدب لأن تقدير الكلام: أفررتم كلكم؟ فيقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم وافقهم في ذلك فقال البراء: لا ما فر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن جماعة الصحابة جرى لهم كذا وكذا و"شبان" بضم الشين وتشديد الباء جمع شاب و"الأخفاء" بفتح الهمزة وكسر الخاء وتشديد الفاء جمع خفيف والمراد بهم المسارعون المستعجلون ورويت هذه الكلمة "وجفاؤهم" بالجيم وفسرت بسرعانهم قالوا: تشبيها بجفاء السيل وهو غثاؤه. قال القاضي: إن صحت هذه الرواية فمعناها ما سبق من خروج من خرج معهم من أهل مكة ومن انضم إليهم ممن لم يستعدوا وإنما خرجوا للغنمية من النساء والصبيان ومن في قلبه مرض فشبهوا بغثاء السيل ومعنى "حسرا" بضم الحاء وتشديد السين المفتوحة أي بغير دروع جمع حاسر وهو من لا درع عليه وقد فسره بقوله "ليس عليهم سلاح أو كثير سلاح" وفي كتب اللغة: حسر بفتح السين يحسر بضمها حسورا انكشف والحاسر من الجنود من لا درع له ولا مغفر ومن الرجال من لا غطاء على رأسه ومن النساء المكشوفة الرأس والذراعين والتي ألقت عنها ثيابها والجمع حسر وحواسر. (فلقوا قوما رماة لا يكاد يسقط لهم سهم جمع هوازن وبني نصر) "جمع هوازن" بالنصب بدل من "قوما". (فرشقوهم رشقا) التنوين في "رشقا" للتكثير والتعظيم والرشق رمي السهام يقال: رشقه وأرشقه ثلاثي ورباعي والثلاثي أشهر وأفصح وفي الرواية الثالثة "فرموهم برشق من نبل كأنها رجل من جراد فانكشفوا" والرشق بكسر وسكون الشين الشوط من الرمي وما يرمى به أو اسم للسهام التي ترميها الجماعة دفعة واحدة وأما الرشق بفتح الراء فهذا المصدر والنبل بفتح النون وسكون الباء السهام والمعنى فرموهم بمجموعة من السهام دفعة واحدة شبيهة بأرجل الجراد في التجمع والتتابع "فانكشفوا" أي انهزموا وفارقوا مواضعهم وكشفوها. (كنا إذا احمر البأس نتقي به) أي نجعل النبي صلى الله عليه وسلم لنا وقاية أي نحتمي به واحمرار البأس كناية عن شدة الحرب واستعير ذلك لحمرة الدماء الحاصلة فيها عادة أو لاستعار الحرب

واشتعالها كاحمرار الحجر والبأس الشدة في الحرب أو الحرب أو العذاب الشديد والبأساء المشقة والحرب الداهية. أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب قال النووي: قال القاضي عياض: قال المازري: أنكر بعض الناس كون الرجز شعرا لوقوعه من النبي صلى الله عليه وسلم مع قوله تعالى {وما علمناه الشعر وما ينبغي له} [يس: 69] وهذا مذهب الأخفش واحتج به على فساد مذهب الخليل في أنه شعر وأجابوا عن هذا بأن الشعر هو ما قصد إليه واعتمد الإنسان أن يوقعه موزونا مقفى يقصده إلى القافية ويقع في ألفاظ العامة كثير من الألفاظ الموزونة ولا يقول أحد: إنها شعر ولا صاحبها شاعر وهكذا الجواب عما في القرآن من الموزون كقوله تعالى {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92] وقوله تعالى {نصر من الله وفتح قريب} [الصف: 13] ولا شك أن هذا لا يسميه أحد من العرب شعرا لأنه لم يقصد تقفيته وجعله شعرا قال: وقد غفل بعض الناس عن هذا القول فأوقعه ذلك في أن قال: الرواية "لا كذب" بفتح الباء حرصا منه على أن يفسد الروي فيستغنى عن الاعتذار مع أن الرواية بالإسكان قال النووي: لكن قال الإمام أبو القاسم على ابن جعفر بن علي السعدي الصقلي المعروف بابن القطاع في كتابه الشافي في علم القوافي: قد رأى قوم منهم الأخفش وهو شيخ الصناعة بعد الخليل أن مشطور الرجز ومنهوكه ليس بشعر كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الله مولانا ولا مولى لكم" وقوله صلى الله عليه وسلم "هل أنت إلا أصبع دميت"؟ وفي سبيل الله ما لقيت" وقوله صلى الله عليه وسلم أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب وأشباه هذا قال ابن القطاع: وهذا الذي زعمه الأخفش وغيره غلط بين وذلك لأن الشاعر إنما سمي شاعرا لوجوه منها أنه شعر القول وقصده وأراده واهتدى إليه وأتى به كلاما موزونا على طريقة العرب مقفى فإن خلا من هذه الأوصاف أو بعضها لم يكن شعرا ولا يكون قائله شاعرا بدليل أنه لو قال كلاما موزونا على طريقة العرب وقصد الشعر أو أراده ولم يقفه لم يسم شاعرا ولم يسم ذلك الكلام شعرا بإجماع العلماء والشعراء وكذا لوقفاه وقصد به الشعر ولكن لم يأت به موزونا لم يكن شعرا وكذا لو أتى به موزونا مقفى ولكن لم يقصد به الشعر لا يكون شعرا ويدل عليه أن كثيرا من الناس يأتون بكلام موزون مقفى غير أنهم ما قصدوه ولا أرادوه ولا يسمى شعرا وإذا تفقد ذلك وجد كثيرا في كلام الناس فدل على أن الكلام الموزون لا يكون شعرا إلا بالشروط المذكورة وهي القصد وغيره مما سبق والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد بكلامه ذلك الشعر ولا أراده فلا يعد شعرا وإن كان موزونا. اهـ. وحاصل هذا الرد أن مشطور الرجز شعر إذا توفرت له الشروط المذكورة لكن هذا القول من الرسول صلى الله عليه وسلم ليس شعرا لعدم توفر شروط الشعر لا لأن مشطور الرجز ليس شعرا. ومعنى "أنا النبي لا كذب" أي أنا النبي حقا فلا أفر ولكن أثبت.

(تقدمت فأعلو ثنية) أي فعلوت ثنية ولكنه عبر عن الماضي بالمضارع لاستحضار الصورة والثنية بفتح الثاء وكسر النون بعدها ياء مشددة مفتوحة وبكسر الثاء وسكون النون وفتح الياء مخففة الطريق في الجبل. (فأرميه بسهم) أي فرميته بسهم. (ونظرت إلى القوم فإذا هم قد طلعوا من ثنية أخرى) غير التي توارى فيها الرجل وغير المتوقعة. (فأرجع منهزما وعلي بردتان متزرا بإحداهما مرتديا بالأخرى فاستطلق إزاري فجمعتهما جميعا) أي فرجعت ووليت منهزما والبردة كساء مخطط يلتحف به والإزار ثوب يحيط بالنصف الأسفل من البدن يقال: ائتزر واتزر لبس الإزار والرداء الثوب يستر النصف الأعلى من البدن ويقال: ارتدى الرداء وبالرداء لبسه ومعنى "استطلق إزاري" أي انحل وتحرر من قيده من شدة الخوف والعدو ومعنى "فجمعتهما جميعا" أي جمعت إزاري على ردائي وجعلتهما رداءين مع ارتخائهما بحيث يستران العورة ومثل هذا المنظر الذي لا يؤتزر فيه ولا يستر الإزار نصف الساق مظهر من مظاهر الهلع ولذا قال صلى الله عليه وسلم "لقد رأى ابن الأكوع فزعا". (وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين) أي من انهزم وفر ثم عاد ومن ثبت ولم يفر. وكانت الغنائم كثيرة كانت الإبل أربعة وعشرين ألفا والغنم أربعين ألف شاة والأنفس ستة آلاف نفس من النساء والأطفال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بجمع الغنائم هذه وحبسها بالجعرانة حتى يرجع من حصار الطائف فلما رجع من الطائف قسمها في المهاجرين والمؤلفة قلوبهم والطلقاء الذين من عليهم يوم الفتح ولم يعط الأنصار منها شيئا ولم يمض وقت طويل والمسلمون بالجعرانة حتى أسلمت هوازن وجاء وفدها يطلب إعادة الغنائم فخيرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الأموال وبين السبي فاختاروا السبي وسيأتي مزيد لذلك في فقه الحديث. -[فقه الحديث]- يقول الطبري: الانهزام المنهي عنه هو ما وقع على غير نية العود وأما الاستطراد للكثرة فهو كالتحيز إلى فئة. اهـ. ويقول الحافظ ابن حجر: والعذر لمن انهزم من غير المؤلفة قلوبهم أن العدو كانوا ضعفهم في العدد وأكثر من ذلك. وقد وردت روايات في المنهزمين والتائبين والمعلوم أن جيش المسلمين كان يزيد على عشرة آلاف وقد روى الترمذي من حديث ابن عمر بإسناد حسن أنه لم يبق مع الرسول صلى الله عليه وسلم مائة رجل" قال الحافظ: وهذا أكثر ما وقفت عليه من عدد من ثبت يوم حنين وروى أحمد والحاكم عن عبد الله بن

مسعود "قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين فولى عنه الناس وثبت معه ثمانون رجلا من المهاجرين والأنصار فكنا على أقدامنا ولم نولهم الدبر وهم الذين أنزل الله عليهم السكينة" فابن عمر نفى أن يكونوا مائة وابن مسعود أثبت أنهم كانوا ثمانين فلا تعارض. وأما ما ذكره النووي أنه ثبت معه اثنا عشر رجلا فكأنه أخذه مما ذكره ابن إسحق في حديثه أنه ثبت معه العباس وابنه الفضل وعلي وأبو سفيان بن الحارث وأخوه ربيعة وأسامة بن زيد وأخوه من أمه أيمن ابن أم أيمن ومن المهاجرين أبو بكر وعمر فهؤلاء تسعة وقد تقدم ذكر ابن مسعود فهؤلاء عشرة فلعل هذا هو الثبت ومن زاد على ذلك يكون عجل في الرجوع فعد في من لم ينهزم. اهـ. وفي سبب هزيمة المسلمين تذكر الرواية الثانية سببا من جانب المسلمين وهو استهتارهم بهوازن وإعجابهم بكثرتهم حتى أثر عن بعضهم قوله" لن نغلب اليوم عن قلة" واشتمال جيشهم على مؤلفة قلوبهم وشبان متسرعين لم يجربوا القتال خرجوا دون سلاح وسببا من جانب المشركين وهو أنهم قوم رماة لا يكادون يسقط لهم سهم دون إصابة وذكرت الرواية الرابعة سببا آخر وهو تعجل المسلمين إلى الغنيمة وانكبابهم عليها بمجرد الفوز في الجولة الأولى فوقعوا في الخديعة وفي الشرك الذي نصبه لهم المشركون وذكرت رواية أنس عند مسلم سببا آخر فقال أنس "افتتحنا مكة ثم إنا غزونا حنينا قال: فجاء المشركون بأحسن صفوف رأيت صف الخيل ثم المقاتلة ثم النساء من وراء ذلك ثم الغنم ثم النعم" وذكر ابن إسحق من حديث جابر وغيره في سبب انكشاف المسلمين أمرا آخر وهو "أن مالك بن عوف سبق بهم إلى حنين فأعدوا وتهيئوا في مضايق الوادي وأقبل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى انحط بهم الوادي في عماية الصبح" وعن وقائع هذه الغزوة ونتائجها يروي البخاري مجموعة من الأحاديث نذكر منها: 1 - عن أنس رضي الله عنه قال: "لما كان يوم حنين أقبلت هوازن وغطفان وغيرهم بنعمهم وذراريهم ومع النبي صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف والطلقاء فأدبروا عنه حتى بقي وحده فنادى يومئذ نداءين لم يخلط بينهما التفت عن يمينه فقال: يا معشر الأنصار قالوا: لبيك يا رسول الله. أبشر نحن معك ثم التفت عن يساره فقال: يا معشر الأنصار قالوا: لبيك يا رسول الله أبشر نحن معك وهو على بغلة بيضاء فنزل فقال: أنا عبد الله ورسوله فانهزم المشركون فأصاب يومئذ غنائم كثيرة فقسم في المهاجرين والطلقاء ولم يعط الأنصار شيئا فقالت الأنصار: إذا كانت شديدة فنحن ندعى ويعطى الغنيمة غيرنا فبلغه ذلك فجمعهم في قبة فقال: يا معشر الأنصار ما حديث بلغني عنكم؟ فسكتوا فقال: يا معشر الأنصار ألا ترضون أن يذهب الناس بالدنيا وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم تحوزونه إلى بيوتكم؟ قالوا: بلى فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار شعبا لأخذت شعب الأنصار". 2 - وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: "لما كان يوم حنين التقى هوازن ومع النبي صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف والطلقاء فأدبروا قال: يا معشر الأنصار قالوا: لبيك يا رسول الله وسعديك لبيك نحن بين يديك فنزل النبي

صلى الله عليه وسلم فقال: أنا عبد الله ورسوله فانهزم المشركون فأعطى الطلقاء والمهاجرين ولم يعط الأنصار شيئا فقالوا .. فدعاهم فأدخلهم في قبة فقال: أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير؟ وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ". 3 - وفي رواية عنه -رضي الله عنه- قال: جمع النبي صلى الله عليه وسلم ناسا من الأنصار فقال: إن قريشا حديث عهد بجاهلية ومصيبة [فتح مكة] وإني أردت أن أجبرهم وأتألفهم أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوتكم"؟ . 4 - وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: "قال ناس من الأنصار -حين أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ما أفاء من أموال هوازن فطفق النبي صلى الله عليه وسلم يعطي رجالا المائة من الإبل فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشا ويتركنا؟ وسيوفنا تقطر من دمائهم؟ قال أنس: فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم [من جلد] ولم يدع معهم غيرهم فلما اجتمعوا قام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما حديث بلغني عنكم؟ فقال فقهاء الأنصار: أما رؤساؤنا يا رسول الله فلم يقولوا شيئا وأما ناس منا حديثة أسنانهم فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشا ويتركنا؟ وسيوفنا تقطر من دمائهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فإني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال وتذهبون بالنبي [صلى الله عليه وسلم] إلى رحالكم؟ فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به قالوا: يا رسول الله قد رضينا فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ستجدون أثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله [صلى الله عليه وسلم]-فإني على الحوض". 5 - وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "لما كان يوم حنين آثر النبي صلى الله عليه وسلم ناسا أعطى الأقرع مائة من الإبل وأعطى عيينة مثل ذلك وأعطى ناسا فقال رجل من الأنصار: ما أريد بهذه القسمة وجه الله فقلت: لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر". 6 - وعن عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه قال: لما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار شيئا فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس فخطبهم فقال: يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي وعالة فأغناكم الله بي؟ كلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمن. قال: ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله [صلى الله عليه وسلم؟ ] قال: كلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمن قال: لو شئتم قلتم: جئتنا كذا وكذا [في بعض الروايات "لو شئتم لقلتم فصدقتم: أتيتنا مكذبا فصدقناك ومخذولا فنصرناك وطريدا فآويناك وعائلا فواسيناك". 7 - وعن مروان والمسور بن مخرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام حين جاء وفد هوازن مسلمين فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم وفي المغازي "ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف إلى الجعرانة وبها سبي هوازن وقدمت عليه وفد هوازن مسلمين فيهم تسعة نفر من أشرافهم فأسلموا وبايعوا ثم كلموه فقالوا: يا رسول الله إن فيمن أصبتم الأمهات والأخوات والعمات والخالات [وهن مخازي

الأقوام] "فقال": [سأطلب لكم وقد وقعت المقاسم] " معي من ترون وأحب الحديث إلي أصدقه فاختاروا إحدى الطائفتين إما السبي وإما المال وقد كنت استأنيت بكم -وكان أنظرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف- فلما تبين لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير راد إليهم إلا إحدى الطائفتين قالوا: فإنا نختار سبينا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد فإن إخوانكم قد جاءونا تائبين وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم فمن أحب منكم أن يطيب ذلك فليفعل ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل فقال الناس: قد طيبنا ذلك يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم طيبوا وأذنوا". وفي رواية "فمن أحب منكم أن يعطي غير مكره فليفعل ومن كره أن يعطي فعلى فداؤهم فأعطى الناس ما بأيديهم إلا قليلا من الناس سألوا الفداء". وفي رواية "فقال المهاجرون: ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم -وقالت الأنصار كذلك وقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا وقال عيينة: أما أنا وبنو فزارة فلا وقال العباس بن مرداس: أما أنا وبنو سليم فلا فقالت بنو سليم: بل ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تمسك منكم بحقه فله بكل إنسان ست فرائض -الفريضة من الدواب المسنة- من أول فيء نصيبه فردوا إلى الناس نساءهم". -[يؤخذ من الحديث]- 1 - من موقف العباس وأبي سفيان عطف الأقارب بعضهم على بعض عند الشدائد وذب بعضهم عن بعض. 2 - قيل في إهداء فروة بن نفاثة البغلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقبوله صلى الله عليه وسلم الهدية قبول هدية الكافر قال النووي: فإن قيل: هذا مع الحديث الآخر "هدايا العمال غلول" ومع حديث ابن اللتبية عامل الصدقات وفي الحديث الآخر "أنه رد بعض هدايا المشركين وقال: إنا لا نقبل زبد المشركين" أي رفدهم فكيف يجمع بين هذه الأحاديث؟ قال القاضي: قال بعض العلماء: إن هذه الأحاديث ناسخة لقبول الهدية وقال الجمهور: لا نسخ بل سبب القبول أن النبي صلى الله عليه وسلم مخصوص بالفيء الحاصل بلا قتال بخلاف غيره فقبل النبي صلى الله عليه وسلم ممن طمع في إسلامه وتأليفه لمصلحة يرجوها للمسلمين وكافأ بعضهم ورد هدية من لم يطمع في إسلامه ولم يكن في قبولها مصلحة لأن الهدية توجب المحبة والمودة وأما غير النبي صلى الله عليه وسلم من العمال والولاة فلا يحل له قبولها لنفسه عند جمهور العلماء فإن قبلها كانت فيئا للمسلمين فإنه لم يهدها إليه إلا لكونه إمامهم وإن كانت من قوم هو محاصرهم فهي غنيمة قال القاضي: وهذا قول الأوزاعي ومحمد بن الحسن وابن القاسم وابن حبيب وبعض أهل العلم وقال آخرون هي للإمام خالصة قاله أبو يوسف وأشهب وسحنون وقال الطبري: إنما رد النبي صلى الله عليه وسلم من هدايا المشركين ما علم أنه أهدى

له في خاصة نفسه وقبل ما كان خلاف ذلك مما فيه استئلاف المسلمين. قال: ولا يصح قول من ادعى النسخ قال: وحكم الأئمة إجراؤها مجرى مال الكفار من الفيء أو الغنيمة بحسب اختلاف الحال وهذا معنى "هدايا العمال غلول" أي إذا خصوا بها أنفسهم لأنها لجماعة المسلمين بحكم الفيء والغنيمة قال القاضي: وقيل: إنما قبل النبي صلى الله عليه وسلم هدايا كفار أهل الكتاب ممن كان على النصرانية كالمقوقس وملوك الشام فلا معارضة بينه وبين قوله صلى الله عليه وسلم" لا يقبل زبد المشركين" وقد أبيح لنا ذبائح أهل الكتاب ومناكحتهم بخلاف المشركين عبدة الأوثان. قال النووي: وقال أصحابنا: متى أخذ القاضي أو العامل هدية محرمة لزمه ردها إلى مهديها فإن لم يعرفه وجب عليه أن يجعلها في بيت المال. والله أعلم. 3 - ومن ركوبه صلى الله عليه وسلم البغلة إشارة إلى مزيد الثبات لأن ركوب الفرس مظنة الاستعداد للفرار والتولي قال النووي: فركوبه صلى الله عليه وسلم البغلة -وهي أضعف من الفرس- في موطن الحرب وعند اشتداد الناس هو النهاية في الشجاعة والثبات وإذا كان رأس الجيش قد وطن نفسه على عدم الفرار وأخذ بأسباب ذلك كان ذلك أدعى لأتباعه على الثبات وإنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عمدا وإلا فقد كانت له أفراس معروفة. 4 - ومن ثباته صلى الله عليه وسلم شجاعته في الحروب والشدائد ففي هذا الحديث أنه كان يركض بغلته نحو الكفار وقد فر الناس وأنه نزل إلى الأرض حين غشوه وهذه مبالغة في الثبات والشجاعة والصبر -وقيل: فعل ذلك مواساة لمن كان نازلا على الأرض من المسلمين وقد أخبر البراء في هذا الحديث أن الشجاع من الصحابة هو الذي يحاذي برسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أشجع منه وأنهم كانوا يتقون به ويحتمون فيه وأخبار الصحابة بشجاعته صلى الله عليه وسلم كثيرة. 5 - ومن موقفه هذا صلى الله عليه وسلم جواز التعرض إلى الهلاك في سبيل الله ولا يقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم متيقنا للنصر لوعد الله تعالى له بذلك وهو حق لأن أبا سفيان بن الحارث قد ثبت معه آخذا بلجام بغلته وليس هو في اليقين مثل النبي صلى الله عليه وسلم وقد استشهد في تلك الحالة أيمن ابن أم أيمن. 6 - وفي الحديث معجزة الحصى. 7 - وفي جواب البراء حسن الأدب في الخطاب والإرشاد إلى حسن السؤال بحسن الجواب. 8 - وفيه ذم الإعجاب. 9 - ومن قوله "أنا ابن عبد المطلب" جواز الانتساب إلى الآباء ولو ماتوا في الجاهلية والنهي عن ذلك محمول على ما هو خارج الحرب قال النووي: فإن قيل: كيف قال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا ابن عبد الطلب؟ فانتسب إلى جده دون أبيه وافتخر بذلك؟ مع أن الافتخار في حق أكثر الناس من عمل الجاهلية؟ فالجواب أنه صلى الله عليه وسلم كانت شهرته بجده أكثر لأن أباه عبد الله توفي

شابا في حياة أبيه عبد المطلب قبل اشتهار عبد الله وكان عبد المطلب مشهورا شهرة ظاهرة شائعة وكان سيد أهل مكة وكان كثير من الناس يدعون النبي صلى الله عليه وسلم ابن عبد المطلب ينسبونه إلى جده لشهرته ومنه حديث ضمام بن ثعلبة في قوله "أيكم ابن عبد المطلب"؟ وقد كان مشتهرا عندهم أن عبد المطلب بشر بالنبي صلى الله عليه وسلم وأنه سيظهر وسيكون شأنه عظيما فأراد النبي صلى الله عليه وسلم تذكيرهم بذلك وتنبيههم بأنه صلى الله عليه وسلم لا بد من ظهوره على الأعداء وأن العاقبة له لتقوى نفوسهم وأعلمهم أيضا بأنه ثابت ملازم للحرب لم يول مع من ولى وعرفهم موضعه ليرجع إليه الراجعون. اهـ. 10 - وجواز قول الإنسان في الحرب: أنا فلان وأنا ابن فلان ومنه قول سلمة بن الأكوع وقول علي رضي الله عنه: أنا الذي سمتني أمي حيدرة وأشباه ذلك قال النووي: وقد صرح بجوازه علماء السلف قالوا: وإنما يكره ذلك على وجه الافتخار كفعل الجاهلية. 11 - وفيه جواز الرجز والشعر. 12 - والدعاء عند الحرب. 13 - ومن نفي البراء لهزيمة النبي صلى الله عليه وسلم قال النووي: لم ينقل أحد قط أنه صلى الله عليه وسلم انهزم في موطن من المواطن وقد نقلوا إجماع المسلمين على أنه لا يجوز أن يعتقد انهزامه صلى الله عليه وسلم ولا يجوز ذلك عليه. 14 - وفيه شجاعة الصحابة وجهادهم في سبيل الله واستجابتهم لنداء الإسلام واعتزازهم بمواقفهم المشهورة. والله أعلم.

(489) باب غزوة الطائف

(489) باب غزوة الطائف 4059 - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف فلم ينل منهم شيئا فقال "إنا قافلون إن شاء الله" قال: أصحابه نرجع ولم نفتتحه؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "اغدوا على القتال فغدوا عليه فأصابهم جراح" فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنا قافلون غدا" قال: فأعجبهم ذلك. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم. -[المعنى العام]- نصر الله رسوله صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين على هوازن وعجل له غنيمة كبيرة من هزيمتهم وكان معهم في حنين بنو نضر بقيادة مالك بن عوف النضري وهم من سكان أعمال الطائف فلما انهزموا في حنين فر مالك بن عوف وأتباعه نحو الطائف ولما كانت القيادة الحكيمة تقضي بتتبع فلول الجيش المنهزم قبل أن تتجمع أو تكيد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلحق بأتباع مالك ويحاصر الطائف فلم يقسم غنائم حنين على المجاهدين بل جمعها في الجعرانة في طريق الطائف حتى يعود من غزوه وكان أهل الطائف قد حسبوا لهذا اليوم حسابا فجمعوا في حصونهم ما يكفيهم سنة وكانت حصونهم منيعة ذات أسوار عالية قوية لم يؤثر الحصار فيهم أو لم يرغمهم على الاستسلام بل كانوا في موقف المهاجم جيش المسلمين في العراء وهم في قلاع وطواب وشرفات يصيدون ولا يصادون وهم قوم رماة أهل قوة وشكيمة وحضارة كانوا يحمون قطعة الحديد في النار ويقذفونها على جند المسلمين وكانت نبالهم تصيد المسلمين من أعلاهم ولا تصل نبال المسلمين إليهم. فلما يئس رسول الله صلى الله عليه وسلم من هزيمتهم واعتبر حصارهم درسا كافيا وهو يرجو أن يسلموا طلب من أصحابه العودة فعز عليهم أن يحاصروا هذه المدة ثم يعودوا دون فتح فأبدوا الأسى والأسف للعودة وقالوا: يعز علينا أن نرجع دون أن نفتح ونحن في عزة وقوة ونشوة انتصار على هوازن. فقال لهم صلى الله عليه وسلم: إذن استمروا في القتال وفي الصباح بدءوا مناوشة أهل الطائف فأصابهم أهل الطائف بما آلمهم وأوجعهم فأعاد عليهم صلى الله عليه وسلم طلب الرجوع فرضوا به وسروا فتبسم صلى الله عليه وسلم لاقتناعهم بإشارته بعد أن جربوا غيرها تجربة مريرة. -[المباحث العربية]- (عن عبد الله بن عمرو) قال النووي: هكذا هو في نسخ صحيح مسلم "عن عبد الله بن عمرو"

بفتح العين وهو ابن عمرو بن العاص قال القاضي: كذا هو في رواية الجلودي وأكثر أهل الأصول عن ابن ماهان قال: وقال القاضي الشهيد أبو علي: صوابه "ابن عمر بن الخطاب" كذا ذكره البخاري وكذا صوبه الدارقطني وذكر ابن أبي شيبة الحديث في مسنده عن سفيان فقال: عبد الله بن عمرو ابن العاص ثم قال: إن ابن عقبة حدث به مرة أخرى عن عبد الله بن عمر هذا ما ذكره القاضي عياض وقد ذكر خلف الواسطي هذا الحديث في كتاب الأطراف في مسند ابن عمر ثم في مسند ابن عمرو وأضافه في الموضعين إلى البخاري ومسلم جميعا وأنكروا هذا على خلف وذكره أبو مسعود الدمشقي في الأطراف عن ابن عمر بن الخطاب وأسنده إلى البخاري ومسلم: وذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين في مسند ابن عمر ثم قال: هكذا أخرجه البخاري ومسلم في كتب الأدب عن قتيبة وأخرجه هو ومسلم جميعا في المغازي عن ابن عمرو بن العاص قال: والحديث من حديث ابن عيينة وقد اختلف فيه عليه فمنهم من رواه عنه هكذا ومنهم من رواه بالشك قال الحميدي: قال أبو بكر البرقاني: الأصح ابن عمر بن الخطاب قال: وكذا أخرجه ابن مسعود في مسند ابن عمر بن الخطاب قال الحميدي: وليس لأبي العباس هذا في مسند ابن عمر بن الخطاب غير هذا الحديث المختلف فيه وقد ذكره النسائي في سننه في كتاب السير عن ابن عمرو بن العاص فقط. (حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف) الطائف بلد كبير مشهور كثير الأعناب والنخيل على ثلاث مراحل أو اثنتين من مكة من جهة المشرق. سار النبي صلى الله عليه وسلم إليهم بعد منصرفه من حنين وحبس الغنائم بالجعرانة وكان مالك بن عوف النضري قائد هوازن لما انهزم دخل الطائف وكان له حصن قبل الطائف على أميال منها فمر به النبي صلى الله عليه وسلم وهو سائر إلى الطائف فأمر بهدمه. قال أهل المغازي: وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف في شوال سنة ثمان وقيل: بل وصل إليها في أول ذي القعدة. واستمر الحصار مدة قيل: أربعين يوما وقيل: عشرين يوما وقيل: بضع عشرة ليلة. (فلم ينل منهم شيئا) أي فلم يفتحه ولم يهزم أهله لأنهم كانوا قد أعدوا في حصونهم ما يكفيهم لحصار سنة وكانوا يرمون على المسلمين من الأسوار قطع الحديد المحماة ورموهم بالنبل فأصابوا قوما ولما أوذي المسلمون منهم قالوا: يا رسول الله أحرقتنا نبال ثقيف فادع الله عليهم فقال: اللهم اهد ثقيفا واستشار نوفل بن معاوية الديلي في شأنهم فقال: هم ثعلب في جحر إن أقمت عليه أخذته وإن تركته لم يضرك. (فقال: إنا قافلون إن شاء الله) أي راجعون إلى الجعرانة غدا إن شاء الله. (قال أصحابه: نرجع ولم نفتتحه؟ ) في رواية البخاري "فثقل عليهم وقالوا: نذهب ولا نفتحه"؟ أي لما أخبرهم بالرجوع بغير فتح لم يعجبهم.

(فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم اغدوا على القتال) أي فلما رأى أنهم لم يعجبهم الرأي أمرهم بالقتال أي اذهبوا غدوة للقتال والغدوة والغداة ما بين الفجر وطلوع الشمس وقد يراد بالأمر "اغدوا" أي اذهبوا وانطلقوا بقطع النظر عن زمانه. (فغدوا عليه) أي استمروا على الحصار مع المناوشة بالنبال فكانت سهامهم لا تصل إلى من على السور وكانوا تحت سهام ثقيف. (فأصابهم جراح) التنكير للتكثير أي جراح كثيرة شديدة. (فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم) لأنه لما أعاد عليهم القول بالرجوع أعجبهم حينئذ فقد تبين لهم تصويب القول الأول والإعلان عن الرجوع وفي رواية "فتبسم صلى الله عليه وسلم". -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث]- 1 - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قائدا حكيما. 2 - وأنه كان رحيما بأصحابه عزيزا عليه عنتهم وصدق الله العظيم إذ يقول: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128]. 3 - ترك المخالف للرأي الحكيم حتى يلمس بنفسه صحته ولو كانت النتيجة الكي. 4 - نتيجة مخالفة إشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم. 5 - التبسم عند الإعجاب وبيان صحة الرأي لتنبيه المخالف إلى ما كان ينبغي لا شماتة فيه وفيما أصابه.

(490) باب غزوة بدر

(490) باب غزوة بدر 4060 - عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان قال: فتكلم أبو بكر فأعرض عنه ثم تكلم عمر فأعرض عنه فقام سعد بن عبادة فقال: إيانا تريد يا رسول الله والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا. قال: فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فانطلقوا حتى نزلوا بدرا ووردت عليهم روايا قريش وفيهم غلام أسود لبني الحجاج فأخذوه فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه عن أبي سفيان وأصحابه فيقول ما لي علم بأبي سفيان ولكن هذا أبو جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف فإذا قال ذلك ضربوه فقال: نعم أنا أخبركم هذا أبو سفيان فإذا تركوه فسألوه فقال ما لي بأبي سفيان علم ولكن هذا أبو جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف في الناس. فإذا قال هذا أيضا ضربوه ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي فلما رأى ذلك انصرف قال "والذي نفسي بيده لتضربوه إذا صدقكم وتتركوه إذا كذبكم" قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هذا مصرع فلان" قال: ويضع يده على الأرض هاهنا هاهنا قال: فما ماط أحدهم عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم. -[المعنى العام]- أوذي المسلمون بمكة على أيدي جبابرة قريش إيذاء لا يحتمله بشر فهاجر بعضهم إلى الحبشة مرتين ثم هاجروا إلى المدينة فرارا بدينهم وكان من يخرج منهم يترك وطنه وبيته وأملاكه وأمواله ويخرج سرا أو بحجة التجارة أو الزيارة بل كان صناديد قريش يشترطون على من يأذنوا له بالهجرة أن يتنازل عن ممتلكاته وما معه من مال فيخرج بالثياب التي على جسده حتى وصفهم الله في مهجرهم بالفقراء وجعلهم من مستحقي الصدقة وإن كانوا قبل ذلك بمكة من الأغنياء فقال تعالى {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب* للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون} [الحشر: 7 وما بعدها]. ماذا يحق شرعا وقانونا وعقلا لهؤلاء الذين اغتصبت أموالهم إذا قويت شوكتهم؟ واستطاعوا أن يستردوا شيئا من أموالهم المنهوبة من أيدي من نهبوهم؟ هذا ما كان منهم كانت قريش تجارا

يرتحلون في تجارتهم إلى الشام فيمرون بقرب المدينة فعلم المسلمون بالمدينة أن أبا سفيان في ثلاثين رجلا من قريش يقودون قافلة تجارية من مكة إلى الشام فخرجوا ليتعرضوا لها في غزوة عرفت بغزوة العشيرة ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم معهم ففاتتهم فترقبوا رجوعها وأوحى الله إلى نبيه أن يخرج إلى هذه القافلة ووعده أن يغنم إحدى الطائفتين إما عير هذه القافلة وأموالها وإما غنيمة أموال قريش الذين يخرجون لحربه فاستنفر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فخرجوا في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا نيفا على الستين رجلا من المهاجرين ونيفا وأربعين ومائتين من الأنصار حتى وصلوا ماء يعرف ببدر قريب من طريق القافلة وترصدوها كان أبو سفيان قائد القافلة يتجسس الأخبار ويتوقع من النبي صلى الله عليه وسلم ومن المسلمين أن يتعرضوا له وبلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم استنفر أصحابه يقصد القافلة فأرسل رجلا من قافلته يدعى ضمضما إلى قريش بمكة يحرضهم على المجيء لحفظ أموالهم ويحذرهم المسلمين فاستنفرهم ضمضم فخرجوا في ألف راكب مسلح ومعهم مائة فرس واشتد حذر أبي سفيان فغير الطريق المعتاد المرتقب وأخذ طريق الساحل وأسرع في السير حتى فات موقع المسلمين فلما أمن أرسل من يلقى قريشا يأمرهم بالرجوع لكن أبا جهل زعيم المستنفرين أقسم أن لا يرجع مكة حتى يلقن المسلمين درسا ويحتل الماء الذي ينزلون عنده ويشرب بنفسه من ماء بدر. ووصلت عيون المسلمين بأخبار المشركين وبعددهم وعددهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أشيروا علي أيها الناس إن الله وعدني إحدى الطائفتين غنيمة العير أو غنيمة الحرب وقد أفلتت العير واستعدت قريش للحرب وهاهم على مرمى جيشنا فهل ننسحب ونرجع؟ أو نثبت ونقاتل؟ وأجابه أبو بكر فأحسن الجواب. امض يا رسول الله إلى ما أمرك الله فنحن معك عن يمينك وشمالك وبين يديك ومن خلفك أرواحنا ملك لله ورسوله فلم يعقب رسول الله صلى الله عليه وسلم على كلام أبي يكر فهو لم يكن يقصده بالسؤال وصرف بصره عنه إلى جهة أخرى وتكلم عمر فأحسن بمثل كلام أبي بكر فلم يعقب رسول الله صلى الله عليه وسلم على كلامه فهو لم يكن يقصد المهاجرين أصلا وصرف بصره ناحية زعماء الأنصار إنه لم يكن بايعهم على أن يخرجوا معه للقتال وطلب العدو وإنما بايعهم على أن يمنعوه ممن يقصده فما موقفهم من طلبه العدو؟ وقتالهم له؟ وفهم الأنصار قصده فقال زعيمهم سعد بن معاذ: كأنك تريدنا يا رسول الله؟ امض يا رسول الله لما أمرت به فنحن معك فوالله لئن أمرتنا أن نخوض بخيلنا هذا البحر لخضناه معك ما تخلف منا أحد ولو أمرتنا أن نضرب أكباد خيولنا إلى أبعد مكان تقصده لفعلنا ما تخلف منا أحد ولا نكون كالذين قالوا لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ولكنا نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ولعلك -يا رسول الله- خرجت لأمر فأحدث الله غيره فامض لما شئت وصل حبال من شئت واقطع حبال من شئت وسالم من شئت وعاد من شئت وخذ من أموالنا ما شئت فسر النبي صلى الله عليه وسلم وتكلم المقداد بن الأسود بمثل ذلك فأشرق وجهه صلى الله عليه وسلم وقرر القتال وصف الصفوف إنه يعلم أن أصحابه كانوا يتمنون العير غير ذي الشوكة ولكن يريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ولقد صف المشركون صفوفهم وخيلهم في مواجهة المسلمين وأخذ أبو جهل يصول ويجول ويتبختر بين

صفوفهم وطلب المشركون المبارزة وخرج من بين صفوفهم عتبة ابن ربيعة ينادي من يبارزني من المسلمين؟ وتبعه ابنه الوليد ينادي نفس النداء وتبعه أخوه شيبة بن ربيعة ينادي كذلك فبرزلهم ثلاثة من شباب الأنصار فقال لهم عتبة: لا حاجة لنا فيكم إنما أردنا بني عمنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا حمزة قم يا علي قم يا عبيدة فأقبل حمزة إلى عتبة فقتله وأقبل علي إلى شيبة فقتله وتبادل عبيدة والوليد الضربات فأثخن كل منهما الآخر فمال حمزة وعلى على الوليد فقتلاه واحتملا عبيدة وتلاحمت الصفوف وحمى الوطيس والقوتان غير متكافئتين ولكن نصر الله نزل من السماء فأنزل الله ماء قليلا على المسلمين لينشطهم ويثبت به أقدامهم على الرمال وأنزل ملائكة مددا إجابة لاستغاثة رسول الله صلى الله عليه وسلم لربه إذ رفع يديه إلى السماء ينادي: اللهم نصرك الذي وعدتني اللهم إني أنشدك ما وعدتني اللهم إن شئت لم تعبد في الأرض حتى وقع رداؤه صلى الله عليه وسلم عن كتفيه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه فقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك ولم يكن أبو بكر بذلك أوثق بربه من النبي صلى الله عليه وسلم بل الحامل على هذه المناشدة الحامية شفقته صلى الله عليه وسلم على أصحابه فاستقرت نفسه صلى الله عليه وسلم لما رأى من نزول الملائكة وقال: سيهزم الجمع ويولون الدبر وانهزم المشركون وفروا تاركين وراءهم سبعين من القتلى وسبعين من الرجال الأسرى وغنم المسلمون الإبل والشاة والأموال وكان على رأس القتلى أبو جهل زعيم العصابة المشركة. وأنزل الله تعالى {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون* إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين* بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين* وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحيكم* ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين} [آل عمران: 123 - 127] وأنزل {وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين* ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون* إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين* وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم* إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام* إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان* ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب* ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار* يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار* ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير* فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم} [الأنفال: 7 - 17].

-[المباحث العربية]- (بدر) قرية مشهورة بقرب ينبع والصفراء والجار والجحفة وهو موسم من مواسم العرب ومجمع من مجامعهم في الجاهلية وبها آبار ومياه على نحو خمسمائة ميل من المدينة قيل: سميت باسم بدر بن الحارث وقيل: باسم بئر بها لصفائه واستدارته. (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور) مفعوله محذوف أي شاور أصحابه أبا بكر وعمر وغيرهما أو نزل منزلة اللازم فلم يقصد له مفعول أي حدثت منه المشاورة كأن قال: ماذا نفعل أيها الناس؟ وهذا هو الظاهر. (فتكلم أبو بكر) وأبدى رأيه في الموقف يقاتلون؟ أو يرجعون؟ وعند ابن إسحق أن هذه المشاورة كانت بعد أن وصل النبي صلى الله عليه وسلم الصفراء وبلغه أن قريشا قصدت بدرا وأن أبا سفيان نجا بمن معه فاستشار الناس فقام أبو بكر فقال فأحسن ثم قام عمر كذلك. (فأعرض عنه) أي لم يعلق على كلامه لأنه لم يكن يقصده بل كان يقصد الأنصار. (فقام سعد بن عبادة) كذا في مسلم "سعد بن عبادة" وكذا عند ابن أبي شيبة قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر لأن سعد بن عبادة لم يشهد بدرا وإن كان يعد فيهم لكونه ممن ضرب له بسهمه والمحفوظ أن هذا الكلام لسعد بن معاذ كذا ذكره موسى بن عقبة وغيره من كتاب السير وزادوا "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشيروا علي فعرفوا أنه يريد الأنصار لأنه لم يكن بايعهم على أن يخرجوا معه للقتال وطلب العدو وإنما بايعهم على أن يمنعوه ممن يقصده فكان يتخوف أن لا يوافقوه على القتال فقال له سعد بن معاذ: امض يا رسول الله لما أمرت به فنحن معك لئن سرت حتى تأتي برك الغماد من ذي يمن لنسيرن معك ولا نكون كالذين قالوا لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ولكنا نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ولعلك -يا رسول الله- خرجت لأمر فأحدث الله غيره فامض لما شئت وصل حبال من شئت واقطع حبال من شئت وسالم من شئت وعاد من شئت وخذ من أموالنا ما شئت" والمحفوظ أيضا أن المقداد بن الأسود قال هذا القول فقد روى البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: شهدت من المقداد بن الأسود مشهدا -لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عدل به أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين فقال: لا نقول كما قال قوم موسى: اذهب أنت وربك فقاتلا ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه وسره" قال الحافظ ابن حجر: ويمكن الجمع بأن النبي صلى الله عليه وسلم استشارهم في غزوة بدر مرتين الأولى وهو بالمدينة أول ما بلغه خبر العير مع أبي سفيان وذلك بين في رواية مسلم ولفظه "أن النبي صلى الله عليه وسلم شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان" والثانية كانت بعد أن خرج ووقع عند الطبراني أن سعد بن عبادة قال ذلك بالحديبية وهذا أولى بالصواب. اهـ. (فقال: إيانا [معشر الأنصار] تريد يا رسول الله؟ ) وعلم من أسارير رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نعم فقال:

(والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها) "نخيضها" بضم النون وكسر الخاء يعني الخيل يعني نجعلها تخوض البحر وتخترقه لجعلناها كذلك. (ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا) قال النووي: أما "برك" فهو بفتح الباء وسكون الراء هذا هو المعروف المشهور في كتب الحديث وروايات المحدثين قال القاضي عياض: قال بعض أهل اللغة: صوابه كسر الراء قال النووي: وذكره جماعة من أهل اللغة بالكسر لا غير واتفق الجميع على أن الراء ساكنة إلا ما حكى القاضي عن الأصيلي أنه ضبطه بإسكانها وفتحها وهذا غريب ضعيف. وأما "الغماد" فبكسر الغين وضمها لغتان مشهورتان لكن الكسر أفصح وهو المشهور في روايات المحدثين والضم هو المشهور في كتب اللغة وهو موضع من وراء مكة بخمس ليال بناحية الساحل وقيل: بلدتان وقيل: موضع بأقاصي هجر وقيل: برك الغماد وسعفات هجر كناية تقال فيما تباعد أي من غير قصد حقيقة الأمكنة. (فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فانطلقوا حتى نزلوا بدرا) أي دعاهم إلى الخروج للقاء العير وهذا ظاهر في أن المشاورة كانت بالمدينة. (ووردت عليهم روايا قريش) الروايا من الإبل الحوامل للماء واحدتها راوية فالمراد مرت بهم إبل قريش التي يستقون عليها وتروي القوم والمراد الروايا ورعاتها. (وفيهم غلام أسود) أي وفي رعاتها ومرافقيها غلام أسود. (ما لي علم بأبي سفيان) هذه حقيقة الغلام فهو لا يعلم عن أبي سفيان وقافلته شيئا وإنما هو مع قريش الذين خرجوا من مكة ونزلوا بدرا لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم. (ولكن هذا أبو جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف في الناس) أي هؤلاء الذين أعرفهم وهم الذين أستقي لهم في طائفة كبيرة من قريش إن أبا سفيان أرسل إلى قريش: أن أدركوا أموالكم مع أبي سفيان فقد عرض لها محمد فاستنفر أبو جهل الناس وغير أبو سفيان الطريق فنجا بالعير لكن أبا جهل وعصابته أبوا إلا أن يواجهوا محمدا في بدر. (فلما رأى ذلك انصرف) عن الصلاة بالتسليم بعد أن أكملها مخففة. (لتضربوه إذا صدقكم وتتركوه إذا كذبكم) قال النووي: هكذا وقع في النسخ "تضربوه" و"تتركوه" بغير نون [وكان الأصل أن يقول: تضربونه وتتركونه] وهي لغة تحذف النون بغير نصب ولا جزم. (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا مصرع فلان قال: ويضع يده على الأرض ههنا) أي فكان صلى الله عليه وسلم يشير بيده إلى أماكن مصارع زعماء قريش فيما صار ميدان المعركة وممن

ذكرهم: عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وأبو جهل بن هشام وكان يدعو عليهم بمكة. (فما ماط أحدهم عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي فما بعد مصرع أحدهم عن موضع إشارة يده صلى الله عليه وسلم يقال: ماط عني ميطا وميطانا وأماط أي تنحى وبعد وذهب ومنه إماطة الأذى عن الطريق أي تنحيته. -[فقه الحديث]- ذكر البخاري تحت غزوة بدر مجموعة من الأحاديث منها: تحت باب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من يقتل ببدر "عن سعد بن معاذ أنه قال: كان صديقا لأمية بن خلف وكان أمية إذا مر بالمدينة نزل على سعد وكان سعد إذا مر بمكة نزل على أمية فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق سعد معتمرا فنزل على أمية بمكة فقال لأمية: انظر لي ساعة خلوة لعلي أن أطوف البيت فخرج به قريبا من نصف النهار فلقيهما أبو جهل فقال: يا أبا صفوان من هذا معك؟ فقال: هذا سعد. فقال له أبو جهل: ألا أراك تطوف بمكة آمنا وقد آويتم الصباة [جمع صابي وهو الذي ينتقل من دين إلى دين] وزعمتم أنكم تنصرونهم وتعينونهم؟ أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالما فقال له سعد -ورفع صوته عليه- أما والله لئن منعتني هذا لأمنعنك ما هو أشد عليك منه طريقك على المدينة [أي ما يقاربها ويحاذيها في طريق الشام] فقال له أمية: لا ترفع صوتك يا سعد على أبي الحكم سيد أهل الوادي فقال سعد: دعنا عنك يا أمية فوالله لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنهم قاتلوك قال: بمكة؟ قال: لا أدري ففزع لذلك أمية فزعا شديدا فلما رجع أمية إلى أهله قال: يا أم صفوان ألم ترى ما قال لي سعد؟ قالت: وماذا قال لك؟ قال: زعم أن محمدا أخبرهم أنهم قاتلي فقلت له: بمكة؟ قال: لا أدري فقال أمية: والله لا أخرج من مكة فلما كان يوم بدر استنفر أبو جهل الناس قال: أدركوا عيركم فكره أمية أن يخرج فأتاه أبو جهل فقال: يا أبا صفوان إنك متى يراك الناس قد تخلفت وأنت سيد أهل الوادي تخلفوا معك فلم يزل به أبو جهل حتى قال: أما إذ غلبتني فوالله لأشترين أجود بعير بمكة ثم قال أمية: يا أم صفوان جهزيني فقالت له: يا أبا صفوان وقد نسيت ما قال لك أخوك اليثربي؟ قال: ما أريد أن أجوز معهم إلا قريبا فلم يزل حتى قتله الله عز وجل ببدر". قيل: قتله ابن إساف وقيل: قتله رجل من بني مازن من الأنصار وقال ابن هشام: اشترك في قتله معاذ ابن عفراء وخارجة بن زيد وخبيب وذكر الحاكم أن رفاعة بن رافع طعنه بالسيف ويقال: قتله بلال وأما ابنه علي بن أمية فقتله عمار. وذكر البخاري هنا أيضا حديث قتل أبي جهل وسيذكره مسلم بعد ستة أبواب وسبق حديث ابني عفراء بخصوصه في باب استحقاق القاتل سلب القتيل قبل خمسة عشر بابا".

وذكر حديث شهود الملائكة بدرا وقد ذكره مسلم قبل عشرة أبواب. وذكر حديث أبي طلحة "أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش فقذفوا في طوي من أطواء بدر [أي في بئر مهمل] خبيث مخبث وبعد ثلاث قام يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: يا فلان ابن فلان ويا فلان ابن فلان أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا؟ فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم". وذكر أحاديث في فضل من شهد بدرا وأحاديث للبدريين وأخيرا ذكر أسماء البدريين مرتبة على حروف المعجم فمن أراد البسط فليراجع. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - استشارة الأصحاب وأهل الرأي والخبرة. 2 - ومن انصرافه من الصلاة قال النووي: فيه استحباب تخفيف الصلاة إذا عرض أمر في أثنائها. 3 - ومن ضرب الغلام جواز ضرب الكافر الذي لا عهد له وإن كان أسيرا قاله النووي: والأظهر أن فيه جواز الضرب لإظهار الحقيقة إذا ظن إخفاؤها هذا على أساس أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر ذلك. 4 - وفي الحديث معجزتان من أعلام النبوة إحداهما إخباره صلى الله عليه وسلم بمصرع جبابرتهم فلم يتعد أحد مصرعه الثانية إخباره صلى الله عليه وسلم بأن الغلام الذي كانوا يضربونه يصدق إذا تركوه ويكذب إذا ضربوه وكان كذلك في نفس الأمر. 5 - فيه منقبة عظيمة لسعد بن عبادة وجهاده لرفعة راية الإسلام. 6 - ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من شغل أوقاته بالصلاة النافلة حتى في وقت الشدة. والله أعلم.

(491) باب فتح مكة

(491) باب فتح مكة 4061 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وفدت وفود إلى معاوية وذلك في رمضان. فكان يصنع بعضنا لبعض الطعام فكان أبو هريرة مما يكثر أن يدعونا إلى رحله فقلت: ألا أصنع طعاما فأدعوهم إلى رحلي. فأمرت بطعام يصنع. ثم لقيت أبا هريرة من العشي فقلت الدعوة عندي الليلة فقال: سبقتني؟ قلت: نعم فدعوتهم فقال أبو هريرة: ألا أعلمكم بحديث من حديثكم يا معشر الأنصار ثم ذكر فتح مكة فقال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قدم مكة فبعث الزبير على إحدى المجنبتين وبعث خالدا على المجنبة الأخرى وبعث أبا عبيدة على الحسر فأخذوا بطن الوادي ورسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبة. قال: فنظر فرآني فقال "أبو هريرة" قلت: لبيك يا رسول الله فقال "لا يأتيني إلا أنصاري" زاد غير شيبان فقال "اهتف لي بالأنصار" قال: فأطافوا به ووبشت قريش أوباشا لها وأتباعا فقالوا نقدم هؤلاء فإن كان لهم شيء كنا معهم وإن أصيبوا أعطينا الذي سئلنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ترون إلى أوباش قريش وأتباعهم" ثم قال بيديه إحداهما على الأخرى ثم قال: "حتى توافوني بالصفا" قال فانطلقنا فما شاء أحد منا أن يقتل أحدا إلا قتله وما أحد منهم يوجه إلينا شيئا قال: فجاء أبو سفيان فقال يا رسول الله أبيحت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم ثم قال "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" فقالت الأنصار بعضهم لبعض: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته قال أبو هريرة وجاء الوحي وكان إذا جاء الوحي لا يخفى علينا فإذا جاء فليس أحد يرفع طرفه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينقضي الوحي فلما انقضى الوحي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا معشر الأنصار" قالوا: لبيك يا رسول الله قال "قلتم أما الرجل فأدركته رغبة في قريته" قالوا: قد كان ذاك قال "كلا إني عبد الله ورسوله هاجرت إلى الله وإليكم والمحيا محياكم والممات مماتكم" فأقبلوا إليه يبكون ويقولون والله ما قلنا الذي قلنا إلى الضن بالله وبرسوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم" قال: فأقبل الناس إلى دار أبي سفيان وأغلق الناس أبوابهم قال: وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبل إلى الحجر

فاستلمه ثم طاف بالبيت قال: فأتى على صنم إلى جنب البيت كانوا يعبدونه قال: وفي يد رسول الله صلى الله عليه وسلم قوس وهو آخذ بسية القوس فلما أتى على الصنم جعل يطعنه في عينه ويقول: {جاء الحق وزهق الباطل} فلما فرغ من طوافه أتى الصفا فعلا عليه حتى نظر إلى البيت ورفع يديه فجعل يحمد الله ويدعو بما شاء أن يدعو. 4062 - وفي رواية عن سليمان بن المغيرة بهذا الإسناد: وزاد في الحديث: ثم قال بيديه إحداهما على الأخرى "احصدوهم حصدا" وقال في الحديث: قالوا: قلنا ذاك يا رسول الله قال "فما اسمي إذا؟ كلا إني عبد الله ورسوله". 4063 - عن عبد الله بن رباح قال: وفدنا إلى معاوية بن أبي سفيان وفينا أبو هريرة فكان كل رجل منا يصنع طعاما يوما لأصحابه فكانت نوبتي فقلت: يا أبا هريرة اليوم نوبتي فجاءوا إلى المنزل ولم يدرك طعامنا فقلت: يا أبا هريرة لو حدثتنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يدرك طعامنا فقال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فجعل خالد بن الوليد على المجنبة اليمني وجعل الزبير على المجنبة اليسرى وجعل أبا عبيدة على البياذقة وبطن الوادي فقال "يا أبا هريرة ادع لي الأنصار" فدعوتهم فجاءوا يهرولون. فقال "يا معشر الأنصار هل ترون أوباش قريش" قالوا: نعم قال "انظروا إذا لقيتموهم غدا أن تحصدوهم حصدا" وأخفى بيده ووضع يمينه على شماله وقال "موعدكم الصفا" قال: فما أشرف يومئذ لهم أحد إلا أناموه قال: وصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا وجاءت الأنصار فأطافوا بالصفا فجاء أبو سفيان فقال يا رسول الله أبيدت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم قال أبو سفيان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن" فقالت الأنصار: أما الرجل فقد أخذته رأفة بعشيرته ورغبة في قريته ونزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "قلتم أما الرجل فقد أخذته رأفة بعشيرته ورغبة في قريته ألا فما اسمي إذا ثلاث مرات أنا محمد عبد الله ورسوله هاجرت إلى الله وإليكم فالمحيا محياكم والممات مماتكم" قالوا: والله ما قلنا إلا ضنا بالله ورسوله قال "فإن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم".

4064 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول الكعبة ثلاث مائة وستون نصبا فجعل يطعنها بعود كان بيده ويقول {جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا} [الإسراء: 81] {جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد} [سبأ: 49]. زاد ابن أبي عمر يوم الفتح. 4065 - -/- وفي رواية عن ابن أبي نجيح بهذا الإسناد إلى قوله (زهوقا) ولم يذكر الآية الأخرى وقال بدل "نصبا" "صنما". 4066 - عن عبد الله بن مطيع عن أبيه رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "يوم فتح مكة لا يقتل قرشي صبرا بعد هذا اليوم إلى يوم القيامة". 4067 - وفي رواية عن زكرياء بهذا الإسناد وزاد قال: ولم يكن أسلم أحد من عصاة قريش غير مطيع كان اسمه العاصي فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم مطيعا. -[المعنى العام]- في ذي القعدة سنة ست من الهجرة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة قاصدا العمرة فصدهم المشركون عن الوصول إلى البيت عند الحديبية ووقع بينهم الصلح المشهور وفيه أن يرجع من عامه هذا على أن يدخل مكة في العام المقبل وفيه [من أحب أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده فليدخل ومن أحب أن يدخل في عقد قريش فليدخل] فدخلت بنو بكر بن عبد مناة في عهد قريش ودخلت خزاعة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وكان بين بكر وخزاعة حروب وقتلى في الجاهلية فلما كانت الهدنة خرج نوفل بن معاوية من بني بكر حتى بيت خزاعة على ماء لهم يقال له الوثير فأصاب منهم رجلا يقال له منبه واستيقظت لهم خزاعة فاقتتلوا إلى أن دخلوا الحرم ولم يتركوا القتال وأمدت قريش بني بكر بالسلاح والطعام وقاتل بعضهم معهم ليلا في خفية وانتصرت بنو بكر على خزاعة فجاء وفد خزاعة يستنصر بالمسلمين وبرسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قريش أنهم نقضوا العهد وخيرهم بين ثلاث أن يودوا قتيل خزاعة وبين أن يبرءوا من حلف بكر وبين أن ينبذ إليهم على السواء فقالوا: لا نودي ولا نبرأ ولكننا ننبذ إليه سواء فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرة آلاف من أصحابه على رأس ثمان سنين ونصف السنة من الهجرة على الأصح ولما علم بذلك أبو

سفيان زعيم قريش وتأكد أن قريشا لا قبل لها بالمسلمين خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند مر الظهران يطلب منه الأمان لقريش وأسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن ومن أغلق عليه داره فهو آمن ودخلت القوات المسلمة مكة خالد بن الوليد على الميمنة والزبير بن العوام على الميسرة وأبو عبيدة بن الجراح على الساقة ونهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال وكانت قريش قد جمعت من حولها جموعا من أوباش القبائل وغوغائهم واستعدت لحرب المسلمين فلما وقع الأمان لأبي سفيان لم يلتزم به الغوغائيون وتعرضوا لقتال المسلمين ودخل الناس دورهم ودار أبي سفيان فأشار النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: أن احصدوهم حصدا فحصدوا منهم أربعة وعشرين رجل وفر الباقون وأوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم إراقة الدماء بعد أن شكى إليه أبو سفيان وقال له أبيدت قريش وأعلن الأمان لقريش أمانا على الأرواح وأمانا على الممتلكات لا أسرى ولا غنائم ولا قتل وهذا أسلوب لم يعهده الأنصار في حروبهم السابقة فقال بعضهم لبعض: إن النبي صلى الله عليه وسلم يحكم بشريته أخذته الرقة والرأفة بأهله فاتخذ هذا القرار ونخشى أن تأخذه عاطفة الوطن وحبه لمكة أن يقيم بها وينصرف عنا وعن ديارنا وأوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بما قالوا فدعاهم فسألهم فأقروا واعتذروا بأن هذا الكلام صدر منهم لشدة حرصهم عليه وعلى جواره فصدقهم وقبل عذرهم وطمأنهم بأنه عبد الله ورسوله لا يصدر إلا عن الوحي ولا ينفذ إلا ما أمره الله به وقد أمره ربه أن تكون حياته بالمدينة مع الأنصار فلا يفسد هجرته وأن يكون مماته بالمدينة بين الأنصار ففرحوا بهذا النبأ وبكوا لشدة فرحتهم بحيازتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقه إلى المسجد الحرام وإلى الكعبة والمسلمون من حوله فدخل المسجد واتجه نحو الحجر الأسود فاستلمه وطاف حول الكعبة وحطم الأصنام التي كانت في المسجد وعددها ثلاثمائة وستون صنما حطم بعضها بقوس كان في يده وهو يقول: جاء الحق وزهق الباطل {إن الباطل كان زهوقا} وأمر بتحطيم باقيها ثم عاد حاجب الكعبة وأمين مفتاحها عثمان بن طلحة فأخذ منه المفتاح ففتحها ودخلها وصلى بداخلها ومكث فيها ما شاء الله ثم أعاد المفتاح إلى عثمان بن طلحة وقال: "خذها -أي المفاتيح- خالدة مخلدة إني لم أدفعها إليكم ولكن الله دفعها إليكم ولا ينزعها منكم إلا ظالم فظلوا خزنة الكعبة وحافظي مفتاحها هم وورثتهم حتى اليوم. فلما فرغ صلى الله عليه وسلم من طوافه أتى الصفا فارتقى ربوته ونظر إلى الكعبة وأخذ يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ويدعوه بما شاء من الدعاء. ثم أعلن صلى الله عليه وسلم قرار ربه "لا يقتل قريشي صبرا بعد هذا اليوم إلى يوم القيامة". "إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرا فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا له: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذن له فيها ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس وليبلغ الشاهد الغائب". ومكث صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يوما وعاد إلى المدينة وهو يقرأ في

صلاته {إذا جاء نصر الله والفتح* ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا* فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا} -[المباحث العربية]- (وفدت وفود إلى معاوية) يقال: وفد على القوم وإليهم بفتح الفاء يفد بكسرها وفدا ووفودا ووفادة. قدم وقائل ذلك عبد الله بن رباح ولما كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا عن أبي هريرة قال في الإسناد: عن أبي هريرة وكان الأولى أن يقول: عن عبد الله بن رباح قال: وفدت وفود ... إلخ وفي الرواية الثانية "وفدنا إلى معاوية بن أبي سفيان وفينا أبو هريرة". (فكان يصنع بعضنا لبعض الطعام) في الرواية الثانية "فكان كل رجل منا يصنع طعاما يوما لأصحابه" (فكان أبو هريرة مما يكثر أن يدعونا إلى رحله) أي كان أبو هريرة من الأشخاص الذين يدعوننا بكثرة إلى منازلهم ورحالهم ويعني هذا أن بعضهم كان مقلا وبعضهم كان مكثرا. (فقلت: ألا أصنع طعاما فأدعوهم إلى رحلي؟ ) أي قلت في نفسي أو لأهلي أحضها على أن تفعل. (ثم لقيت أبا هريرة من العشي) أي آخر النهار. (فقلت: الدعوة عندي الليلة فقال: سبقتني؟ ) على الاستفهام وفي الرواية الثانية: "فقلت: يا أبا هريرة اليوم نوبتي". (فدعوتهم فقال أبو هريرة: ألا أعلمكم بحديث من حديثكم يا معشر الأنصار؟ ) أي أعرض عليكم أن أعلمكم وأخبركم وفي الكلام طي أوضحته الرواية الثانية وفيها "فجاءوا إلى المنزل ولم يدرك طعامنا -يقال: أدرك التمر أي نضج أي لم ينضج طعامنا- فقلت: يا أبا هريرة: لو حدثتنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ حتى يدرك طعامنا؟ فقال .. ". (أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قدم مكة) أي أقبل من المدينة في أول رمضان بعد ثمان سنوات ونصف السنة من الهجرة ليفتح مكة وسار بأصحابه حتى قارب مكة. (فبعث الزبير على إحدى المجنبتين وبعث خالدا على المجنبة الأخرى وبعث أبا عبيدة على الحسر فأخذوا بطن الوادي) في الرواية الثانية "فجعل خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى وجعل الزبير على المجنبة اليسرى وجعل أبا عبيدة على البياذقة وبطن الوادي" والمجنبة بضم الميم وفتح الجيم وكسر النون من الجيش جناحه وهما مجنبتان بينهما القلب.

و"الحسر" بضم الحاء وتشديد السين المفتوحة الذين لا دروع عليهم ولا مغافر. وعند ابن إسحق وموسى بن عقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الزبير بن العوام على المهاجرين وخيلهم وأمره أن يدخل من كداء من أعلى مكة وأمره أن يغرز رايته بالحجون ولا يبرح حتى يأتيه وبعث خالد بن الوليد في قبائل قضاعة وسليم وغيرهم وأمره أن يدخل من أسفل مكة وأن يغرز رايته عند أدنى البيوت وبعث سعد بن عبادة في كتيبة الأنصار في مقدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. "والبياذقة" الرجالة قال النووي: قالوا: فارسي معرب وأصله بالفارسية أصحاب ركاب الملك ومن يتصرف في أموره وقيل: سموا بذلك لخفتهم وسرعة حركتهم وقال: هكذا الرواية في هذا الحرف هنا وفي غير مسلم أيضا قال القاضي: هكذا روايتنا فيه ووقع في بعض الروايات "الساقة" وهم الذين يكونون آخر العسكر وقد يجمع بينه وبين البياذقة بأنهم رجاله وساقة ورواه بعضهم "الشارفة" وفسروه بالذين يشرفون على مكة قال القاضي: وهذا ليس بشيء لأنهم أخذوا في بطن الوادي والبياذقة هنا هم الحسر في الرواية الأولى وهم رجالة لا دروع عليهم اهـ. ومعنى "أخذوا بطن الوادي" أي جعلوا طريقهم في بطن الوادي. (اهتف لي بالأنصار قال: فأطافوا به) أي ادعهم إلي. (لا يأتيني إلا أنصاري) قال النووي: إنما خصهم لثقته بهم ورفعا لمراتبهم وإظهارا لجلالتهم وخصوصيتهم. اهـ. وفي الرواية الثانية "ادع لي الأنصار فدعوتهم فجاءوا يهرولون" وأحاطوا به يقال: أطاف به أو عليه وطاف وأطاف به ألم به وقاربه وأحاط به. (ووبشت قريش أوباشا لها وأتباعا فقالوا: نقدم هؤلاء فإن كان لهم شيء كنا معهم وإن أصيبوا أعطينا الذي سئلنا) يقال: وبش فلان للحرب بتشديد الباء المفتوحة أي جمع جموعا من قبائل شتى والوبش بسكون الباء واحد الأوباش من الناس وهم الأخلاط والسفلة والمعنى أن قريشا كانت قد جمعت جموعا من قبائل شتى وقدموهم للحرب في المقدمة على أساس أنهم إن انتصروا واستفادوا شاركتهم قريش وإن قتلوا كانوا وحدهم طعمة لنيران الحرب واستسلمت قريش سليمة دون إصابة. (ترون إلى أوباش قريش وأتباعهم؟ ) في الرواية الثانية "يا معشر الأنصار هل ترون أوباش قريش؟ قالوا: نعم". (ثم قال بيديه إحداهما على الأخرى ثم قال: حتى توافوني بالصفا) في الرواية الثانية "انظروا -إذا لقيتموهم غدا- أي الأوباش والأتباع -أن تحصدوهم حصدا وأخفى بيده ووضع يمينه على شماله وقال: موعدكم الصفا" "احصدوهم" بضم الصاد وكسرها والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم أشار بيديه إشارة القتل والاستئصال والحصد فوضع شماله أسفل يمينه فأخفاها ومرر يمينه عليها ذهابا وجيئة ثم أكد هذه الإشارة بالتعبير والكلام وقوله "موعدكم الصفا" قال

النووي: يعني قال هذا لخالد ومن معه الذين أخذوا أسفل من بطن الوادي وأخذ هو صلى الله عليه وسلم ومن معه أعلى مكة. (فانطلقنا فما شاء أحد منا أن يقتل أحدا -من الأوباش- إلا قتله وما أحد منهم يوجه إلينا شيئا) من اللوم أو المنع وفي الرواية الثانية "فما أشرف يومئذ لهم أحد" أي فما ظهر من الأوباش للمسلمين أحد "إلا أناموه" قال النووي: أي ما ظهر لهم أحد إلا قتلوه فوقع على الأرض أو يكون بمعنى أسكنوه بالقتل كالنائم يقال: نامت الريح إذا سكنت وضربه حتى سكن أي مات ونامت الشاة وغيرها ماتت قال الفراء: النائمة الميتة هكذا تأول هذه اللفظة القائلون بأن مكة فتحت عنوة ومن قال: فتحت صلحا يقول "أناموه" ألقوه إلى الأرض من غير قتل إلا من قاتل. (أبيحت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم) قال النووي: كذا في هذه الرواية "أبيحت" وفي الرواية الثانية "أبيدت" وهما متقاربتان أي استؤصلت قريش بالقتل وأفنيت وخضراؤهم بمعنى جماعتهم ويعبر عن الجماعة المجتمعة بالسواد والخضرة ومنه السواد الأعظم. اهـ. (ثم قال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن) في الرواية الثانية "قال أبو سفيان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن ومن أغلق عليه بابه فهو آمن". وظاهرها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك لأبي سفيان وأن أبا سفيان أعلنها للناس. (أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته) أي رغبة في الإقامة في مكة قال النووي: معنى هذه الجملة أنهم رأوا رأفة النبي صلى الله عليه وسلم بأهل مكة وكف القتل عنهم فظنوا أنه يرجع إلى سكنى مكة والمقام فيها دائما ويرحل عنهم ويهجر المدينة فشق ذلك عليهم فقالوا ما قالوا. اهـ. وعبروا عنه صلى الله عليه وسلم بالرجل دون النبوة والرسالة إشارة إلى أن هذا من طبع الناس لا يلام عليه. (وجاء الوحي .. فلما انقضى الوحي قال) ظاهر في أن النبي صلى الله عليه وسلم علم مقالتهم عن طريق الوحي لا عن طريق الصحابة. (قال: كلا) يحتمل أن تكون بمعنى "حقا" أي حقا أدركتني رغبة في قريتي ورأفة في عشيرتي ولكني لا أصدر في سلوكياتي عن الرغبات الشخصية والعواطف البشرية ويحتمل أن تكون بمعنى النفي أي لم تدركني رغبة في الإقامة بقريتي لأني هاجرت إلى الله وإلى دياركم لاستيطانها فلا أتركها ولا أرغب في الرجوع عن هجرتي ولم تدركني رأفة في عشيرتي ولكنه الإسلام القتل ليس بقصد القتل وللقتل وقد انتهى الهدف منه وفي الرواية الثانية "ألا فما اسمي إذن؟ -ثلاث مرات-؟ أنا محمد عبد الله ورسوله" والمقصود من الاسم ما تبعه من العبودية لله والرسالة التي لا يصدر فعله إلا عنها.

(إني عبد الله ورسوله) قال النووي: يحتمل وجهين أحدهما: إني رسول الله حقا فيأتيني الوحي وأخبر بالمغيبات كهذه القضية وشبهها فثقوا بما أقول لكم وأخبركم به في جميع الأحوال والآخر لا تفتتنوا بإخباري إياكم بالمغيبات وتطروني كما أطرت النصارى عيسى عليه السلام فإني عبد الله ورسوله. اهـ. وهكذا ربط النووي هذه الجملة بنزول الوحي وربطناها نحن بالقضية المثارة. والله أعلم. (المحيا محياكم والممات مماتكم) أي مكان حياتي مكان حياتكم ومكان مماتي مكان مماتكم أي أنا ملازم لكم لا أحيا إلا عندكم ولا أموت إلا عندكم. (فأقبلوا إليه يبكون) الإقبال هنا معنوي فهم معه مقبلون عليه ويحتمل أنهم تحركوا نحوه حبا وانعطافا والتصاقا وكان بكاؤهم فرحا بما قال لهم وحياء مما خافوا أن يكون بلغه عنهم مما يستحى منه. (والله ما قلنا الذي قلنا إلا الضن بالله وبرسوله) "الضن" بكسر الضاد وفتحها الشح والبخل الشديد يقال: ضن به عليه ضنا وضنا وضنانه و"الضن" هنا مستثنى من عموم العلل أي ما قلنا الذي قلنا لعلة من العلل وبدافع من الدوافع إلا لعلة الضن بك أن تفارقنا ويحظى بك غيرنا وإلا بدافع الحرص عليك وعلى مصاحبتك ودوامك عندنا لنستفيد منك ونتبرك بك. (إن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم) أي يصدقانكم في اعتذاركم ويقبلان عذركم يقال: عذره فيما صنع -بفتح العين والذال- يعذره -بكسر الذال- رفع عنه اللوم فيه. (وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبل إلى الحجر) الأسود أي أقبل نحو البيت واستمر حتى واجه الحجر فأقبل إليه. (فاستلمه) أي لمسه بالقبلة أو اليد أو كلتاهما. (وهو أخذ بسية القوس) "سية القوس" بكسر السين وفتح الياء مخففة المنعطف من طرفي القوس وللقوس سيتان والقوس آلة على هيئة هلال ترمى بها السهام تذكر وتؤنث. (جعل يطعنه في عينه) أي شرع و"يطعنه" قال النووي: بضم العين على المشهور ويجوز فتحها في لغة قال: وهذا الطعن قصد به الإذلال للأصنام ولعابديها وإظهار كونها لا تضر ولا تنفع ولا تدفع عن نفسها. {جاء الحق وزهق الباطل} في الرواية الثانية {إن الباطل كان زهوقا} الآية (81) من سورة الإسراء ومعناها جاء الإسلام والدين الثابت الراسخ وزال الشرك واضمحل الكفر وتسويلات الشيطان من زهقت نفسه إذا خرجت من الأسف إن الباطل كائنا ما كان مضمحل غير ثابت وزاد في الرواية الثانية {جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد} الآية (49 من سورة سبأ) والمعنى: جاء

الإسلام والتوحيد أما الكفر والشرك فلا يفيد شيئا فـ "ما" في "وما يبدئ الباطل" نافية والجملة حالية أي الباطل والشرك لا يبدأ شيئا ولا يعيد شيئا كناية عن عدم الأثر كما يقال: لا يأكل ولا يشرب ولا يقدم ولا يؤخر. (وحول الكعبة ثلاثمائة وستون نصبا) في رواية البخاري "دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب" والنصب بضم النون والصاد وقد تسكن الصاد وهي واحدة الأنصاب وهو ما ينصب للعبادة من دون الله تعالى ووقع في رواية ابن أبي شيبة وفي ملحق روايتنا الثالثة "صنما" بدل "نصبا" ويطلق النصب ويراد به الحجارة التي كانوا يذبحون عليها للأصنام. وليست مرادة هنا إنما قد يراد في قوله تعالى {وما ذبح على النصب} زاد عند الفاكهي وصححه ابن حبان "فيسقط الصنم ولا يمسه" وفي رواية له وللطبراني "فلم يبق وثن استقبله إلا سقط على قفاه مع أنها كانت ثابتة في الأرض" (لا يقتل قرشي صبرا بعد هذا اليوم إلى يوم القيامة) قال النووي: قال العلماء: معناه الإعلام بأن قريشا يسلمون كلهم ولا يرتد أحد منهم كما ارتد غيرهم بعده صلى الله عليه وسلم ممن حورب وقتل صبرا وليس المراد أنهم لا يقتلون ظلما صبرا فقد جرى على قريش بعد ذلك ما هو معلوم. اهـ. وحاصل هذا الإخبار بأنهم لا يأتون مستقبلا ما يستحقون عليه القتل صبرا ويحتمل أن المراد منح قريش خصوصية عدم إباحة قتلهم صبرا حتى إن أتوا ما يستحقون عليه القتل صبرا فيقتلون بغير هذه الهيئة والقتل صبرا هو الحبس حتى الموت. (ولم يكن أسلم أحد من عصاة قريش غير مطيع) أي لم يكن أحد ممن اسمه العاص في قريش غير مطيع قال النووي: قال القاضي عياض: "عصاة" هنا جمع العاص من أسماء الأعلام لا من الصفات أي ما أسلم ممن كان اسمه العاص مثل العاص بن وائل السهمي والعاص بن هشام أبو البختري والعاص بن سعيد بن العاص بن أمية والعاص بن هشام بن المغيرة المخزومي (وليس المراد الصفة في "عصاة قريش" فقد أسلمت عصاة قريش وعتاتهم كلهم بحمد الله تعالى). (كان اسمه العاص فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم مطيعا) قيل لم يلتزم هذا في كل من أسلم ممن اسمه العاص فقد ترك أبا جندل بن سهيل بن عمر وكان اسمه العاص قيل: ويحتمل أنه ترك التغيير لأبي جندل لأنه غلبت عليه كنيته وجهل اسمه والله أعلم. -[فقه الحديث]- اختلف العلماء في فتح مكة هل فتحت عنوة؟ أو فتحت صلحا فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد وجماهير العلماء وأهل السير: فتحت عنوة وقال الشافعي: فتحت صلحا وادعى المازني أن الشافعي انفرد بهذا القول.

واحتج الجمهور بهذا الحديث وفيه: أ- "أبيدت خضراء قريش" ب- "من ألقى سلاحه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن" فلو كانوا كلهم آمنين لم يحتج إلى هذا. جـ- "فما أشرف لهم أحد إلا أناموه" "فما شاء أحد منا أن يقتل أحدا إلا قتله وما أحد منهم يوجه إلينا شيئا". د- وفيه الأمر بالقتال "انظروا إذا لقيتموهم غدا أن تحصدوهم حصدا". هـ- وفيه وقوع القتال من خالد بن الوليد وقتله من قتل منهم. كما استدلوا بحديث أم هانئ -رضي الله عنها- حين أجارت رجلين أراد علي رضي الله عنه قتلهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم "قد أجرنا من أجرت" فكيف يدخلها صلحا ويخفى ذلك على علي رضي الله عنه حتى يريد قتل رجلين دخلا في الأمان؟ وما حاجتهما حينئذ إلى إجارة أم هانئ ماداما في الأمان العام؟ كما استدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم "أحلت ساعة من نهار". أما الشافعي فيستدل على أنها فتحت صلحا وأن تأمينها صدر من النبي صلى الله عليه وسلم لأبي سفيان والعباس وحكيم فعند موسى بن عقبة في المغازي "أن أبا سفيان وحكيم قالا: يا رسول الله ادع الناس بالأمان أرأيت إن اعتزلت قريش فكفت أيديها؟ أأمنون هم؟ قال: من كف يده وأغلق داره فهو آمن قالوا: فابعثنا نؤذن بذلك فيهم قال: انطلقوا فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل دار حكيم فهو آمن" ودار أبي سفيان بأعلى مكة ودار حكيم بأسفلها وفي ذلك تصريح بعموم التأمين فكان هذا أمانا منه لكل من لم يقاتل من أهل مكة فكانت مكة مأمونة ولم يكن فتحها عنوة والأمان كالصلح وأما الذين تعرضوا للقتال أو استثنوا من الأمان فلا يلزم منهم أنها فتحت عنوة فقد يكون التأمين مقيدا بترك المجاهرة بالقتال فلما تفرقوا إلى دورهم ورضوا بالتأمين المذكور كانوا آمنين ولا يضره أن أوباشهم لم يلتزموا كف أيديهم فقاتلوا خالد بن الوليد ومن معه فقاتلهم حتى قتلهم وهزمهم يؤيد ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه "ما هذا وقد نهيت عن القتال؟ فقالوا: نظن أن خالدا قوتل وبدئ بالقتال فلم يكن له بد من أن يقاتل ثم قال لخالد: لم قاتلت وقد نهيت عن القتال؟ فقال: هم بدءونا بالقتال: ووضعوا فينا السلاح وقد كففت يدي ما استطعت فقال صلى الله عليه وسلم: قضاء الله خير" وقد ذكر ابن سعد أن عدة من أصيب من الكفار أربعة وعشرون رجلا وقيل: مجموع من قتل منهم ثلاثة عشر رجلا. ويستدل الشافعي أيضا بأن دور مكة لم تقسم وأن الغانمين لم يملكوا دورها وإلا لجاز إخراج أهل الدور منها. وأجاب الجمهور عن هذا الدليل بأن تقسيم الدور غير لازم للفتح عنوة فقد تفتح البلد عنوة ويمن

على أهلها ويترك لهم دورهم وغنائمهم لأن قسمة الأرض المغنومة ليست متفقا عليها بل الخلاف ثابت عن الصحابة فمن بعدهم وقد فتحت أكثر البلاد عنوة فلم تقسم وذلك في زمن عمر وعثمان مع وجود أكثر الصحابة وقد زادت مكة عن ذلك بأمر يمكن أن يدعي اختصاصها به دون بقية البلاد وهي أنها دار النسك ومتعبد الخلق وقد جعلها الله حرما سواء العاكف فيه والباد. ويستدل الشافعي أيضا بما ثبت بلا خلاف من أنه لم يجر فيها غنيمة ولا سبي من أهلها ممن باشر القتال أحد فعند أبي داود عن جابر رضي الله عنه سئل: هل غنمتم يوم الفتح شيئا؟ قال: لا. وجنحت طائفة منهم الماوردي إلى أن بعضها فتح عنوة لما وقع من قصة خالد بن الوليد قال الحافظ ابن حجر: والحق أن صورة فتحها كان عنوة ومعاملة أهلها كانت معاملة من دخل في الأمان والله أعلم. ويجرنا الكلام عن دور مكة عن دار الرسول صلى الله عليه وسلم التي هاجر منها ولم لم ينزل فيها صلى الله عليه وسلم؟ وأجاب عن ذلك الخطابي فقال: إنما لم ينزل النبي صلى الله عليه وسلم فيها لأنها دور هجروها في الله تعالى بالهجرة فلم ير أن يرجع في شيء تركه لله تعالى وقد عقب عليه الحافظ ابن حجر: بأن الذي يختص بالترك إنما هو إقامة المهاجر في البلد التي هاجر منها لا مجرد نزوله في دار يملكها إذا أقام المدة المأذون له فيها وهي أيام النسك وثلاثة أيام بعده. وأجاب عن السؤال بأن أبا طالب ورثه عقيل وطالب ابناه ولم يرث جعفر ولا علي شيئا لأنهما كانا مسلمين وكان عقيل وطالب كافرين وكان أبو طالب قد وضع يده على ما خلفه عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان شقيقه وكان النبي صلى الله عليه وسلم عند أبي طالب بعد موت جده عبد المطلب فلما مات أبو طالب ثم وقعت الهجرة ولم يسلم طالب وتأخر إسلام عقيل استوليا على ما خلف أبو طالب ومات طالب قبل بدر وتأخر عقيل فلما تقرر حكم الإسلام بترك توريث المسلم من الكافر استمر ذلك بيد عقيل وكان عقيل قد باع تلك الدور كلها واختلف في تقرير النبي صلى الله عليه وسلم عقيلا على داره صلى الله عليه وسلم وعلى ما كان يملكه بمكة فقيل: ترك ذلك تفضلا عليه وقيل استمالة له وتأليفا وقيل: تصحيحا لتصرفات الجاهلية كما تصحح أنكحتهم. وقد روى البخاري في باب فتح مكة أحاديث لم يذكرها مسلم هنا منها: 1 - عن علي رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها قال: فانطلقنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة قلنا لها: أخرجي الكتاب قالت ما معي كتاب فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب قال: فأخرجته من عقاصها فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة -إلى ناس بمكة من المشركين- يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية أن لفظ الكتاب "أما بعد فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في الناس بالغزو ولا أراه يريد غيركم فانظروا لأنفسكم وقد أحببت أن يكون لي عندكم يد والسلام.

وعند بعض أهل المغازي أن لفظ الكتاب: "يا معشر قريش فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءكم بجيش كالليل يسير كالسيل فوالله لو جاءكم وحده لنصره الله وأنجز له وعده فانظروا لأنفسكم والسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حاطب. ما هذا؟ قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تعجل علي إني كنت امرأ ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسها وكان من معك من المهاجرين من لهم بها قرابات يحمون أهليهم وأموالهم فأحببت إذا فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون قرابتي ولم أفعله ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد صدقكم فقال عمر: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال: إنه شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدرا فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. 2 - عن هشام عن أبيه رضي الله عنه قال: "لما سار الرسول صلى الله عليه وسلم عام الفتح فبلغ ذلك قريشا خرج أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يلتمسون الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مر الظهران فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة فقال أبو سفيان: ما هذه؟ لكأنها نيران عرفة؟ فقال بديل بن ورقاء: نيران بني عمرو فقال أبو سفيان: عمرو أقل من ذلك. فرآهم ناس من حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بسد الطرق إلى مكة كيلا يصلهم خبر قدومه وبث أمام الجيش العيون والحراس) فأدركوهم فأخذوهم فأتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية "فلقيهم العباس فأجارهم وأدخلهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" وأسلم أبو سفيان -وأسلم بديل وحكيم -[فقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: لا آمن أن يرجع أبو سفيان فيكفر فاحبسه حتى تريه جنود الله للمشركين وما أعده الله للمشركين] فقال صلى الله عليه وسلم: احبسه عند خطم الجبل حتى ينظر إلى المسلمين [فأخذه العباس فحبسه فقال أبو سفيان: أغدرا يا بني هاشم؟ قال العباس: لا ولكن لي إليك حاجة فتصبح فتنظر جنود الله فأصبحوا] فجعلت القبائل تمر مع النبي صلى الله عليه وسلم تمر كتيبة كتيبة على أبي سفيان فمرت كتيبة فقال: يا عباس .. من هذه؟ فقال هذه غفار. قال: ما لي ولغفار ثم مرت جهينة قال مثل ذلك ثم مرت .. ثم مرت .. حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها قال: من هذه؟ قال: هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة معه الراية فقال سعد بن عبادة يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الكعبة فقال أبو سفيان: يا عباس -حبذا يوم الذمار- أي حماية الأهل والأعراض- ثم جاءت كتيبة وهي أقل الكتائب فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وراية النبي صلى الله عليه وسلم مع الزبير بن العوام فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان قال أبو سفيان: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة؟ قال: ما قال؟ قال كذا وكذا فقال: كذب سعد ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة ويوم تكسى فيه الكعبة قال: وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز رايته بالحجون. 3 - وعن ابن عباس رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة فأمر بها فأخرجت فأخرج صورة إبراهيم وإسماعيل في أيديهما من الأزلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قاتلهم الله. لقد علموا ما استقسموا بها قط ثم دخل البيت فكبر في نواحي البيت". 4 - عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل يوم الفتح من أعلى مكة على

راحلته مردفا أسامة بن زيد ومعه بلال ومعه عثمان بن طلحة من الحجبة حتى أناخ في المسجد فأمره أن يأتي بمفتاح البيت فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة فمكث فيه نهارا طويلا ثم خرج". 5 - عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يوما يصلي ركعتين" أي يقصر الصلاة. 6 - عن مجاهد "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يوم الفتح فقال: إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي ولم تحل لي قط إلا ساعة من الدهر لا ينفر صيدها ولا يعضد شجرها ولا يختلى خلاها ولا تحل لقطتها إلا لمنشد" فقال العباس بن عبد المطلب: إلا الإذخر يا رسول الله فإنه لا بد منه للقين والبيوت فسكت ثم قال: إلا الإذخر فإنه حلال. هذا وللحديث علاقة بأحاديث ذكرت في كتاب الحج فلتراجع. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - من قوله "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" أخذ الشافعي وموافقوه أن دور مكة مملوكة يصح بيعها وإجارتها لأن أصل الإضافة إلى الآدميين تقتضي الملك وما سوى ذلك مجاز. 2 - وفيه تأليف لأبي سفيان وإظهار لشرفه. 3 - من موقف الأنصار يتبين مدى حبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم. 4 - من إخباره صلى الله عليه وسلم الأنصار بما قالوا دون أن يبلغه أحد معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. 5 - في إقباله صلى الله عليه وسلم إلى الحجر ثم إلى الطواف الابتداء بالطواف في أول دخول مكة سواء كان محرما بحج أو بعمرة أو غير محرم وكان النبي صلى الله عليه وسلم دخلها في هذا اليوم وهو يوم الفتح غير محرم بإجماع المسلمين وكان على رأسه المغفر والأحاديث متظاهرة على ذلك. 6 - استدل به على أن من دخل مكة لحرب فله دخولها حلالا قال النووي: وأما قول القاضي عياض: [أجمع العلماء على تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ولم يختلفوا في أن من دخلها بعده لحرب أو بغي أنه لا يحل له دخولها حلال] فليس كما نقل بل مذهب الشافعي وأصحابه وآخرين أنه يجوز حلالا للمحارب بلا خلاف وكذا لمن خاف من ظالم لو ظهر للطواف وغيره وأما من لا عذر له أصلا فللشافعي فيه قولان مشهوران أصحهما أنه يجوز له دخولها بغير إحرام لكن يستحب له الإحرام والثاني لا يجوز. 7 - من قراءته صلى الله عليه وسلم للآيتين استحباب قراءتهما عند إزالة المنكر. 8 - من صنع بعضهم لبعض الطعام عن طريق النوبات دليل على استحباب اشتراك المسافرين في الأكل واستعمالهم مكارم الأخلاق وليس هذا من باب المعاوضة حتى

يشترط فيه المساواة في الطعام وأن لا يأكل بعضهم أكثر من بعض بل هو من باب المروءات ومكارم الأخلاق. 9 - من قوله "فجاءوا إلى المنزل ولم يدرك طعامنا .. إلخ" استحباب الاجتماع على الطعام. 10 - وجواز دعاء المدعوين إلى الطعام قبل إداركه. 11 - واستحباب حديثهم في حال الاجتماع بما فيه بيان أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وغزواتهم ونحوها مما تنشط النفوس لسماعه وكذلك غيرها من الحروب ونحوها مما لا إثم فيه ولا يتولد منه في العادة ضرر في دين ولا في دنيا ولا أذى لأحد لتسهل بذلك مدة الانتظار ولا يضجروا ولا ينشغل بعض مع بعض في غيبة أو نحوها من الكلام المذموم. 12 - أنه يستحب إذا كان في الجمع مشهور بالفضل أو بالصلاح أن يطلب منه الحديث فإن لم يطلبوا استحب له الابتداء بالحديث كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يبتديهم بالحديث من غير طلب منهم. 13 - استحباب الأسماء الحسنة وتغيير الأسماء غير الحسنة. والله أعلم.

(492) باب صلح الحديبية

(492) باب صلح الحديبية 4068 - عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كتب علي بن أبي طالب الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين يوم الحديبية فكتب "هذا ما كاتب عليه محمد رسول الله" فقالوا: لا تكتب رسول الله فلو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي "امحه" فقال: ما أنا بالذي أمحاه. فمحاه النبي صلى الله عليه وسلم بيده. قال: وكان فيما اشترطوا أن يدخلوا مكة فيقيموا بها ثلاثا ولا يدخلها بسلاح إلا جلبان السلاح؟ قلت لأبي إسحق: وما جلبان السلاح؟ قال: القراب وما فيه. 4069 - عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: لما صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية كتب علي كتابا بينهم. قال: فكتب "محمد رسول الله" ثم ذكر بنحو حديث معاذ غير أنه لم يذكر في الحديث "هذا ما كاتب عليه". 4070 - عن البراء رضي الله عنه قال: لما أحصر النبي صلى الله عليه وسلم عند البيت صالحه أهل مكة على أن يدخلها فيقيم بها ثلاثا ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح السيف وقرابه ولا يخرج بأحد معه من أهلها ولا يمنع أحدا يمكث بها ممن كان معه قال لعلي "اكتب الشرط بيننا بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله" فقال له المشركون: لو نعلم أنك رسول الله تابعناك ولكن اكتب محمد بن عبد الله فأمر عليا أن يمحاها فقال علي: لا والله لا أمحاها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أرني مكانها" فأراه مكانها فمحاها. وكتب "ابن عبد الله" فأقام بها ثلاثة أيام فلما أن كان يوم الثالث قالوا لعلي: هذا آخر يوم من شرط صاحبك فأمره فليخرج فأخبره بذلك فقال "نعم" فخرج وقال ابن جناب في روايته مكان تابعناك بايعناك. 4071 - عن أنس رضي الله عنه أن قريشا صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم فيهم سهيل بن عمرو فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي "اكتب بسم الله الرحمن الرحيم" قال سهيل: أما باسم الله فما ندري ما

بسم الله الرحمن الرحيم ولكن اكتب ما نعرف باسمك اللهم فقال اكتب "من محمد رسول الله" قالوا: لو علمنا أنك رسول الله لاتبعناك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك فقال النبي صلى الله عليه وسلم اكتب "من محمد بن عبد الله" فاشترطوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن من جاء منكم لم نرده عليكم ومن جاءكم منا رددتموه علينا. فقالوا: يا رسول الله أنكتب هذا؟ قال "نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا". 4072 - عن أبي وائل قال: قام سهل بن حنيف يوم صفين فقال: أيها الناس اتهموا أنفسكم لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ولو نرى قتالا لقاتلنا وذلك في الصلح الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين فجاء عمر بن الخطاب فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال "بلى" قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: "بلى" قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال "يا ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا" قال: فانطلق عمر فلم يصبر متغيظا فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال بلى قال أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال: يا ابن الخطاب إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا. قال: فنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفتح فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه فقال يا رسول الله أو فتح هو؟ قال "نعم" فطابت نفسه ورجع. 4073 - عن شقيق قال سمعت سهل بن حنيف يقول بصفين: أيها الناس اتهموا رأيكم والله لقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أني أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته والله ما وضعنا سيوفنا على عواتقنا إلى أمر قط إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه إلا أمركم هذا. لم يذكر ابن نمير إلى أمر قط. 4074 - -/- وفي رواية عن الأعمش بهذا الإسناد وفي حديثهما "إلى أمر يفظعنا". 4075 - عن أبي وائل قال: سمعت سهل بن حنيف بصفين يقول: اتهموا رأيكم

على دينكم فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فتحنا منه في خصم إلا انفجر علينا منه خصم. 4076 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما نزلت {إنا فتحنا لك فتحا* مبينا ليغفر لك الله} إلى قوله {فوزا عظيما} [الفتح الآيات 1 - 5] مرجعه من الحديبية وهم يخالطهم الحزن والكآبة وقد نحر الهدي بالحديبية فقال: لقد أنزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا جميعا. -[المعنى العام]- بعد حروب بين المسلمين وبين كفار قريش في بدر وأحد والخندق وبعد أن زاد مسلمو المدينة على ألف وخمسمائة مسلم رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه أنه والمسلمين يدخلون المسجد الحرام ويطوفون بالكعبة ويسعون بين الصفا والمروة ورؤيته صلى الله عليه وسلم حق وصدق أصبح فأخبر أصحابه ففرحوا وبخاصة المهاجرون الذين يحنون إلى وطنهم العزيز ونادى صلى الله عليه وسلم أنه سيخرج إلى العمرة فمن شاء وعنده هدى إلى الكعبة فليعده وفي مطلع ذي القعدة سنة ست من الهجرة ساق النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون هديهم وساروا نحو مكة وهم قريبون من ألف وأربعمائة مسلم ليس معهم سلاح المحارب بل سلاح المسافر فحسب فقد خرجوا يقصدون البيت الحرام لأداء النسك وقلدوا هديهم وأشعروه قلدوا الإبل والبقر والغنم بحبل مفتول من صوف مصبوغ وعلموا صفحة عنق الإبل والبقر بكية نار علامة على أنه هدى موهوب لأهل الحرم له حرمة وقدسية لا يعتدي عليه ولا يستغل في منافع الحرث والسقي وبعضهم كساه بالحبرة أو الحرير أو القباطي أو اللحف. ساروا متجهين إلى مكة بعد أن أحرموا للعمرة من ذي الحليفة ساروا يهللون ويكبرون ويلبون وقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عينا يسبق المسلمين يستطلع لهم سلامة الطريق وجاء النذير يخبر أن قريشا أرسلت كتيبة قوامها مائتا فارس بقيادة خالد بن الوليد ليصدوا المسلمين قبل وصولهم وقد جمعوا له الجموع من القبائل المحيطة بمكة ليمنعوه من دخولها فغير طريقه عن طريق خالد بن الوليد ووصل إلى الحديبية عند ما يعرف بالتنعيم ونزل المسلمون عند مائها وأرسلوا عثمان بن عفان يخبر قريشا أنهم ما جاءوا محاربين وإنما جاءوا معتمرين وأصرت قريش على منعهم من الوصول إلى المسجد الحرام

واحتجزوا عثمان رضي الله عنه وتراسلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يفاوضونه وفي هذه الأثناء أشيع أن الكفار قتلوا عثمان فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة بايع المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم على القتال وعدم الفرار حتى النصر أو الاستشهاد وفيهم نزل قوله تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا} [الفتح: 18] وبعد تعدد الوساطات وظهور كذب إشاعة مقتل عثمان انتهت المفاوضات إلى صلح الحديبية يمثل قريشا فيه سهيل بن عمرو ويمثل المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تعنت ممثل قريش في نصوص الصلح شكلا وموضوعا فمن حيث الشكل لم يقبل عبارة "محمد رسول الله" وأصر على ذكر الاسم واسم الأب فقط ولم يقبل بسم الله الرحمن الرحيم وأصر على ذكر باسمك اللهم ووافقه صلى الله عليه وسلم ومن حيث الموضوع كانت النصوص في ظاهرها إجحافا للمسلمين فكانت تنص على أن يرجع محمد وأصحابه دون الوصول إلى المسجد الحرام على أن يعودوا في العام القابل بدون سلاح فتترك لهم قريش مكة ثلاثة أيام يعتمرون فيها ويخرجون على أن لا يخرج معهم أحد من أهل مكة وإن كان مسلما ما لم يقدم معهم وأن من أراد ممن جاء معهم أن يبقى بمكة خلى بينه وبين البقاء ومن جاء إلى المسلمين مسلما من أهل مكة ردوه إلى أهله بمكة ومن جاء كفار مكة ممن كان قد أسلم لا يرده الكفار إلى المسلمين وأن توضع الحرب بين قريش وبين المسلمين سنوات فيأمن الناس على أموالهم ودمائهم لم يقبل المسلمون هذه النصوص وقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف يقبلون الضيم حسب مفهومهم ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين؟ شهد على الوثيقة أبو بكر وعمر وعثمان ولو استطاعوا أن يردوها لردوها شأن مشاعر جميع المسلمين. لقد أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إتمام الصلح أن يقوموا إلى الهدى فينحروه وإلى رأسهم فيحلقوها للتحلل من الإحصار في العمرة ليعودوا بعد ذلك إلى المدينة ولم يتحرك منهم أحد لتنفيذ الأمر فدخل صلى الله عليه وسلم مغضبا على زوجته أم سلمة يقول لها: كاد المسلمون يهلكون آمرهم بالأمر فلا يستجيبون؟ قالت: هون عليك يا رسول الله واقبل عذرهم فقد دخلهم من الهم والغم من هذا الصلح ما دخلهم ثم قالت: أو تحب أن يفعلوا ما أمرتهم؟ قال: نعم قالت: اخرج إليهم فلا تكلم أحدا منهم وانحر بدنك وادع حالقك يحلق شعرك فإنك إن تفعل يئسوا من نسخ الحكم ومن التغيير ولم يجدوا بدا من الامتثال فاقتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيها فقام بتنفيذه فنفذ المسلمون. وأذن فيهم بالرحيل إلى المدينة فرحلوا وفي نفوسهم انكسار وذلة وتحسر وهم وغم وأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم في الطريق {إنا فتحنا لك فتحا مبينا* ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما* وينصرك الله نصرا عزيزا* هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما* ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما} [الفتح: 1 - 5] وهنا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر وكبار أصحابه فقرأ الآيات عليهم فطابت نفوسهم رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.

-[المباحث العربية]- (الحديبية) قال النووي: فيها لغتان تخفيف الياء وهو الأفصح والتشديد اهـ. قال المحب الطبري: الحديبية قرية قريبة من مكة أكثرها في الحرم وقيل: هي بئر سمي المكان بها وقيل: شجرة حدباء صغرت وسمي المكان بها والمكان معروف وبه مسجد التنعيم. وكان خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة يوم الإثنين مستهل ذي القعدة سنة ست من الهجرة خرج يسوق الهدى قاصدا العمرة يريد زيارة البيت لا يريد قتالا ومعه ألف وأربعمائة من أصحابه فلما أتى ذا الحليفة [بيار علي] قلد الهدى وأشعره وأحرم منها بعمرة وبعث عينا من خزاعة يدعى "ناجية" وقيل: بسر يأتيه بخبر قريش وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغ غدير الأشطاط قريبا من عسفان فأتاه عينه فقال له: إن قريشا جمعوا جموعا وقد جمعوا لك الأحابيش وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ومانعوك فقال صلى الله عليه وسلم: أشيروا أيها الناس علي أترون أن أميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم -يقصد ذراري أهل غدير الأشطاط الذين تجمعوا مع قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم- والذين يريدون أن يصدونا عن البيت؟ فإن يأتونا كان الله عز وجل قد قطع عنقا من المشركين وإلا تركناهم محرومين؟ قال أبو بكر: يا رسول الله خرجت عامدا لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حرب أحد فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه قال: امضوا على اسم الله وسار صلى الله عليه وسلم حتى بلغ كراع الغميم -قريبا من رابغ والجحفة بين مكة والمدينة- فقال لأصحابه: إن خالد بن الوليد في مائتي فارس فيهم عكرمة بن أبي جهل يعسكرون قريبا منا كطليع لجيش قريش فمن الخبير بالطرق يخرجنا على طريق غير طريقهم؟ قال رجل من أسلم: أنا يا رسول الله ونزل عن دابته فسلك بهم طريقا وعرا أفضى بهم إلى أرض سهلة وما شعر بهم خالد حتى رأى غبارا من بعيد فانطلق يركض نذيرا لقريش وسار صلى الله عليه وسلم حتى وصل قريبا من الحديبية فبركت ناقته فقال الناس: تعبت القصواء أو غضبت من السير فقال النبي صلى الله عليه وسلم: واحرنت القصواء وما ذلك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل والذي نفسي بيده لا يسألونني -كفار قريش- خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ثم زجر الناقة فوثبت حتى نزل بأقصى الحديبية على ماء قليل وشكى العطش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزع سهما من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه في البئر فمازال يجيش لهم بالماء حتى ارتووا وفاض ماؤهم فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة وكانوا موضع نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا على مياه الحديبية ومعهم ذوات الألبان من الإبل ليتزودوا بلبنها وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لم نجيء لقتال أحد ولكنا جئنا معتمرين وإن قريشا أضعفتهم الحرب وأضرت بهم فإن شاءوا

جعلت بيني وبينهم مدة دون حرب ويخلوا بيني وبين الناس فإذا ظهرت فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد استجموا واستراحوا وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفصل رأسي عن جسدي ولينفذن الله أمره فقال بديل: سأبلغهم ما تقول قال: فانطلق حتى أتى قريشا قال: إنا جئناكم من هذا الرجل وسمعناه يقول قولا فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرونا عنه بشيء وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول قال: سمعته يقول كذا وكذا فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى قال أو لست بالولد؟ قالوا: بلى قال: فهل تتهموني؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ فلما تراجعوا وامتنعوا جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى قال فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد اقبلوها ودعوني آته قالوا: ائته فأتاه فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من قوله لبديل فقال عروة عند ذلك: أي محمد أرأيت إن استأصلت أمر قومك؟ هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى فإني والله لا أرى وجوها وإني لأرى أشوابا من الناس -أي أخلاطا شتى سيفرون ويدعوك وكأني بهم لوقد لقيت قريشا قد أسلموك فتؤخذ أسيرا فأي شيء أشد عليك من هذا؟ فقال له أبو بكر: امصص بظر اللات [اللات طاغية عروة التي كان يعبدها والبظر -بفتح الباء وسكون الظاء قطعة تبقى بعد الختان في فرج المرأة وكانت عادة العرب الشتم بهذا لكن بلفظ الأم بدل اللات] أنحن نفر عنه وندعه؟ فقال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك عليها لأجبتك قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فكلما تكلم كلمة أخذ بلحية النبي صلى الله عليه وسلم والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف والمغفر وقد لبس لأمته ليشتفي من عروة لأنه عمه فلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف وقال له: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع عروة رأسه فقال: من هذا؟ قال: المغيرة بن شعبة فقال: أي غدر ألست أسعى في غدرتك؟ وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم -فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما الإسلام فأقبل وأما المال فلست منه في شيء ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه فرأى أنهم يبتدرون أمره ويقتتلون على وضوئه وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده وما يرفعون فيه النظر إجلالا له وتعظيما فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي والله ما رأيت مليكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد [صلى الله عليه وسلم]: هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له [مقلدة مشعرة هديا لا للقتال] فبعثت له واستقبله المسلمون يلبون فلما رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت فما أرى أن يصدوا عن البيت فقام رجل منهم يقال له: مكرز بن حفص فقال: دعوني آته فقالوا: ائته فلما أشرف

عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا مكرز وهو رجل فاجر وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب أن يبعث إلى قريش رجلا يخبرهم بأنه إنما جاء معتمرا فبعث عثمان وأمره أن يبشر المستضعفين من المؤمنين بالفتح القريب فتوجه عثمان وأجاره أبان بن سعيد بن العاص وبعثت قريش سهيل بن عمرو ليعقد عنهم صلحا مع محمد صلى الله عليه وسلم -فجاء وكانت قصة الحديث الذي نحن بصدد شرحه. فلما انتهوا من كتابة الصلح بلغ المسلمين أن عثمان قتل فاحتفظوا بسهيل رهينة وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة على القتال وعلى أن لا يفروا فبلغهم بعد ذلك أن الخبر باطل ورجع عثمان. (كتب علي بن أبي طالب الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين يوم الحديبية فكتب) "كتب" الأولى فيها مجاز المشارفة ليصح ترتيب وتعقيب "كتب" الثانية عليها أي أشرف على الكتابة فكتب كما نقول: توضأ فغسل .. " وخطب فقال كذا وكذا ونحوه في الرواية الثانية "لما صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية -أي من المشركين- كتب علي كتابا" على أن الكتاب هو الصلح. وقد جاء عند عمر بن شيبة "أن كاتب الصلح هو محمد بن مسلمة قال الحافظ ابن حجر: ويجمع بأن أصل كتاب الصلح بخط علي كما هو في الصحيح ونسخ مثله محمد بن مسلمة لسهيل بن عمرو. (هذا ما كاتب عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم) الطرف الثاني للمكاتبة محذوف والتقدير: هذا ما كاتب عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين أو أهل مكة وفي الرواية الثالثة "هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله" أي أهل مكة قال النووي: قال العلماء: معنى "قاضى" هنا "فاصل وأمضى أمره" ومنه: قضى القاضي أي فصل الحكم وأمضاه ولهذا سميت تلك السنة عام المقاضاة وعمرة القضية وعمرة القضاء وكله من هذا وغلطوا من قال: إنها سميت عمرة القضاء لقضاء العمرة التي صد عنها لأنه لا يجب قضاء المصدود عنها إذا تحلل بالإحصار وقيل غير ذلك وسيأتي مزيد لهذا في فقه الحديث. (فقالوا: لا تكتب "رسول الله") القائل واحد وهو سهيل بن عمرو كما هو واضح من الرواية الرابعة فقد كان مبعوث قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعقد بينه وبينهم الصلح نائبا عنهم فنسب الصلح والقول إليهم لرضاهم به وتفويضهم إياه وفي الرواية الثالثة "صالحه أهل مكة" وفي الرواية الرابعة "أن قريشا صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم سهيل بن عمرو" وذكر ابن إسحق أن قريشا بعثت للصلح بديل بن ورقاء مع سهيل بن عمرو ولكن مضى قريبا نقلا عن رواية البخاري أن بديل بن ورقاء كان رسول قريش في نفر من خزاعة في المراسلات والمفاوضات السابقة على الصلح لكن يحتمل أنه عاد مرة ثانية مع سهيل

وعند البخاري "فقال النبي صلى الله عليه وسلم" والله إني لرسول الله وإن كذبتموني أكتب محمد بن عبد الله". وروايتنا الأولى لم تذكر الاعتراض الأول الذي ذكرته الرواية الرابعة وهو الاعتراض على "بسم الله الرحمن الرحيم" وقول سهيل "أما اسم الله فما ندري: ما بسم الله الرحمن الرحيم" وفي الكلام حذف حذف فيه جواب "أما" أي أما اسم الله فنعلمه ونسلم به وأما الرحمن الرحيم فما ندري ما معناهما. والظاهر أن عليا رضي الله عنه لم يكن كتب ابتداء "بسم الله الرحمن الرحيم" حتى يتعرض لمحوها كما في "رسول الله" فالاعتراض من سهيل صدر عند إشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابتها وقبل أن يكتب علي أما "رسول الله" فيبدو أن عليا رضي الله عنه أسرع بكتابتها قبل الاعتراض أو أنه لم يستمع ولم يقبل الاعتراض ابتداء فكتبها على الرغم من الاعتراض. (لو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك) في الرواية الثالثة "فلو نعلم أنك رسول الله تابعناك" وفي ملحقها "بايعناك" وفي رواية البخاري "ما صددناك عن البيت وما قاتلناك". (امحه. فقال: ما أنا بالذي أمحاه فمحاه النبي صلى الله عليه وسلم) وفي الرواية الثالثة "فأمر عليا أن يمحاها" قال النووي: هكذا هو في جميع النسخ "بالذي أمحاه" وهي لغة في "أمحوه" اهـ. وفي لسان العرب: محا الشيء يمحوه ويمحاه محوا ومحيا أذهب أثره وطيئ تقول: محيته محيا ومحوا. (فمحاه النبي صلى الله عليه وسلم بيده) في الرواية الثالثة "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرني مكانها فأراه مكانها فمحاها" والظاهر أن المحو لم يكن بممحاة مزيلة للأثر بل كان يطمس المكتوب بالمداد. (وكان فيما اشترطوا أن يدخلوا مكة فيقيموا بها ثلاثا) الظاهر أن ضمير "اشترطوا" لقريش أهل مكة والمعنى: كان فيما اشترط المشركون أن يدخل المسلمون مكة فيقيموا بها ثلاثا -أي ثلاث ليال بأيامها وهذا الشرط وإن كان للمسلمين لا عليهم فإن توابعه أو تضييقه بهذه المدة تجعله عليهم لا لهم. وضمير الإفراد في "ولا يدخلها بسلاح" مراد به هو ومن معه لأنهم أتباعه ومثله في الرواية الثالثة "أن يدخلها فيقيم بها ثلاثا" .. فأقام .. فليخرج .. فخرج". (ولا يدخلها بسلاح إلا جلبان السلاح) قال القاضي: ضبطناه بضم الجيم واللام وتشديد الباء قال: وكذا رواه الأكثرون وصوبه ابن قتيبة وغيره ورواه بعضهم بإسكان اللام وكذا ذكره الهروي وصوبه وهو ألطف من الجراب يكون من الجلد يوضع فيه السيف مغمدا ويطرح فيه الراكب سوطه وأداته ويعلقه في رحله اهـ وقد فسره الراوي أبو إسحاق في ملحق الرواية الأولى بالقراب وما فيه وفي الرواية الثانية "السيف وقرابه" أي في قرابه. (لما أحصر النبي صلى الله عليه وسلم عند البيت) العندية على التساهل والتسامح أو هي مقولة بالتشكيك

إذ هي أمر نسبي ففي المسافات البعيدة لها معنى غير المسافاة القريبة فقد يقال: بلد كذا عند بلد كذا وبينهما أميال والمراد هنا بالحديبية. وقال النووي: هكذا هو في جميع نسخ بلادنا "أحصر عند البيت" وكذا نقله القاضي عن رواية جميع الرواة سوى ابن الحذاء فإن في روايته "عن البيت" وهو الوجه. وعن كلمة الإحصار قال النخعي والكوفيون: الحصر: الكسر والمرض والخوف. وقال كثيرون من الصحابة وغيرهم: الإحصار كل حابس حبس الحاج من عدو ومرض وغير ذلك. وأخرج الشافعي عن ابن عباس: لا حصر إلا من حبسه عدو. والمشهور عن أكثر أهل اللغة: أن الإحصار إنما يكون بالمرض وأما بالعدو فهو الحصر وأثبت بعضهم أن أحصر وحصر بمعنى واحد يقال في جميع ما يمنع الإنسان من التصرف. (ولا يخرج بأحد معه من أهلها) أي إذا أراد مسلم بمكة أن يخرج مع محمد صلى الله عليه وسلم وهو خارج ولم يكن جاء معه فلا يجوز لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يخرج به ولا أن يدافع عن مصاحبته. بل في الرواية الرابعة "من جاءكم منا رددتموه علينا". (ولا يمنع أحدا يمكث بها ممن كان معه) أي لا يمنع مسلما أن يرتد عن الإسلام ويمكث بمكة ممن جاء معه بل في الرواية الرابعة "من جاء منكم لم نرده عليكم" وفي ذلك بسط لحماية الكفار لمن رغب في الكفر ومنع لحماية المسلمين لمن رغب في الإسلام. (فلما أن كان يوم الثالث) قال النووي: هكذا هو في النسخ كلها بإضافة "يوم" إلى "الثالث" وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة ومذهب الكوفيين جوازه ومذهب البصريين تقدير محذوف أي يوم الزمان الثالث. (فقالوا: يا رسول الله أنكتب هذا؟ قال: نعم) الظاهر أن هذا القول من المسلمين وقع بعد كتابة الصلح وأن هذا كان من الصحابة استغرابا وتعجبا وتبرما فبين الرسول صلى الله عليه وسلم حكمة موافقته على هذا الشرط فقال: (إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا) أي من ارتد عن الإسلام وذهب إليهم فهو شر أبعده الله عنا ومن جاءنا مسلما فرددناه لن يضره ردنا لأن الله سيجعل له فرجا ومخرجا وفي رواية البخاري "كان فيما اشترط سهيل بن عمرو على النبي صلى الله عليه وسلم: أن لا يأتيك منا أحد -وإن كان على دينك- إلا رددته إلينا وخليت بيننا وبينه فكره المؤمنون ذلك وامتعضوا منه وأبى سهيل إلا ذلك فكاتبه النبي صلى الله عليه وسلم" وفي رواية أخرى للبخاري "فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده" ويمشي مشيا بطيئا بسبب قيده وكان أبوه سهيل قد حبسه وأوثقه ومنعه من الهجرة وعذبه بسبب إسلامه فأفلت من سجنه

-وقد خرج من أسفل مكة وتنكب الطريق وركب الجبال حتى هبط على المسلمين ورمي بنفسه بين أظهر المسلمين ففرح به المسلمون وتلقوه وعند ابن إسحق "فقام سهيل بن عمرو إلى أبي جندل فضرب وجهه وأخذ يلببه" "فقال سهيل: هذا -يا محمد- أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنا لم نقض الكتاب بعد قال: فوالله إذن لم أصالحك على شيء أبدا قال النبي صلى الله عليه وسلم: فأجزه لي" أي امض لي فعلي فيه فلا أرده إليك واستثنه من العقد "قال: ما أنا بمجيزه لك. قال: بلى فافعل قال: ما أنا بفاعل قال أبو جندل: يا معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما؟ ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذب عذابا شديدا في الله"، زاد ابن إسحق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم" يا أبا جندل اصبر واحتسب فإنا لا نغدر وإن الله جاعل لك فرجا ومخرجا" وفي رواية "فوثب عمر مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول: اصبر فإنما هم مشركون وإنما دم أحدهم كدم كلب وأخذ يدني قائمة سيفه من أبي جندل يلوح له أن يأخذه يقول عمر: رجوت أن يأخذه مني فيضرب به أباه فضن الرجل بأبيه وأعيد أبو جندل في أسر أبيه وجاء إلى المدينة مسلم قريشي يدعى أبا بصير فأرسلوا في طلبه رجلين فقالا: العهد الذي جعلت لنا؟ فدفعه صلى الله عليه وسلم إلى الرجلين وقال له: إن هؤلاء القوم صالحونا على ما علمت وإنا لا نغدر فالحق بقومك فقال: يا رسول الله أتردني للمشركين يفتنونني عن ديني ويعذبونني؟ قال: اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك فرجا ومخرجا وفي رواية "فقال له عمر: أنت رجل وهو رجل ومعه السيف" يحرضه على قتلهما "فخرجا به حتى بلغ ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر معهم فقال أبو بصير لأحد الرجلين: إني لأرى سيفك جيدا أرني أنظر إليه فأمكنه منه فضربه به حتى قتله وفر الآخر حتى أتى المدينة وجاء أبو بصير إلى النبي صلى الله عليه وسلم فعرف أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر وانفلت من مشركي مكة أبو جندل فلحق بأبي بصير فكونا عصابة من مسلمي مكة المضطهدين قيل: بلغت ثلاثمائة رجل ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوا وأخذوا أموالهم فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم: نناشدك الله والرحم من خرج منا إليك فهو حلال لك فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بصير فقدم الكتاب وأبو بصير يموت فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده فدفنه أبو جندل مكانه وجعل عند قبره مسجدا وقدم أبو جندل وممن معه إلى المدينة. (فأراه مكانها فمحاها وكتب: ابن عبد الله فأقام بها ثلاثة أيام) هكذا في الرواية الثالثة وفيها طي واختصار والمقصود أن هذا الكلام لم يقع في عام صلح الحديبية وإنما وقع في السنة الثانية وهي عمرة القضاء وكانوا شارطوا النبي صلى الله عليه وسلم في عام الحديبية أن يرجعوا دون دخول الحرم وأن يجيئوا العام المقبل فتترك لهم قريش مكة فيعتمرون ولا يقيمون فيها أكثر من ثلاثة أيام فجاء في العام المقبل فأقام إلى أواخر اليوم الثالث فحذف واستغنى عن ذكره بكونه معلوما وقد جاء مبينا في روايات أخرى. (قام سهيل بن حنيف يوم صفين) أي يوم حرب صفين بين علي ومعاوية رضي الله عنهما وقال هذا القول حين ظهر من أصحاب علي رضي الله عنه كراهة التحكيم.

(فقال: يا أيها الناس اتهموا أنفسكم لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ولو نرى قتالا لقاتلنا) في الرواية السادسة "أيها الناس. اتهموا رأيكم على دينكم لقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته" يوم أبي جندل يوم الحديبية يوم الصلح وقد سبق بيانه قريبا وإنما نسبه إلى أبي جندل لأنه لم يكن في هذا اليوم على المسلمين أشد من قصته والمراد باتهام الرأي عدم الإسراع في اتخاذ القرار والتروي فيه والاتجاه به نحو الصلح بدلا من رفضه فالصلح خير ويرجى بعده الخير وإن كان ظاهره أحيانا تأنف منه النفوس الأبية كما حصل في صلح الحديبية فقد كانت نفوسنا تأباه وكان رأينا القتال. (والله ما وضعنا سيوفنا على عواتقنا إلى أمر قط إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه إلا أمركم هذا) وضع السيوف على العواتق كناية عن حملها وهي عادة تتدلى من علاقة معلقة بالكتف والمعنى ما حملنا سيوفنا لمعركة ما إلا كنا نعرف هدفنا ونتبين طريقنا إلا هذا الأمر الذي نحن فيه فقد عمى علينا الحق واختلط بالباطل فلم نعد ندري هل القتال حق أو لا؟ " أسهلن" بفتح الهمزة وسكون السين وفتح الهاء وسكون اللام ونون النسوة أي يسرن وكشفن وأدت بنا إلى أمر واضح فاالضمير للسيوف مجازا. وفي ملحق الرواية السادسة "ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم" بحذف جواب "لو" المذكور في أصل الرواية وحذف جواب "لو" للعلم به كثير ومنه قوله تعالى {ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت} [الأنعام: 93]. (ما فتحنا منه في خصم إلا انفجر علينا منه خصم) قال النووي: الضمير في "منه" عائد إلى قوله "اتهموا رأيكم" ومعناه ما أصلحنا من رأيكم وأمركم هذا ناحية إلا انفتحت أخرى ولا يصح عود الضمير إلى غير ما ذكرناه وأما قوله "ما فتحنا منه خصما" فكذا هو في مسلم قال القاضي وهو غلط أو تغيير وصوابه: ما سددنا منه خصما وكذا هو في رواية البخاري "ما سددنا" وبه يستقيم المعنى ويتقابل "سددنا" بقوله "إلا انفجر" وأما الخصم فبضم الخاء وخصم كل شيء طرفه وناحيته وشبهه بخصم الراوية وانفجار الماء من طرفها أو بخصم الغرارة والخرج وانصباب ما فيه بانفجاره. اهـ. وفي ملحق الرواية السادسة "إلى أمر يفظعنا" أي يشق علينا ونخافه". (ففيم نعطي الدنية في ديننا؟ ) "الدنية" بفتح الدال وكسر النون وتشديد الياء المفتوحة النقيصة والحالة الناقصة. (فنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفتح) أي بسورة الفتح أي صدرها. (فأقرأه إياه) يقال: أقرأ فلانا السورة أي جعله يقرؤها والمعنى قرأها عليه وسمعها منه والضمير في "إياه" للقرآن ويطلق على جزئه وكله. والمراد بالفتح في السورة صلح الحديبية.

(أو فتح هو؟ ) الهمزة للاستفهام والواو عاطفة على محذوف والتقدير: أنسعد بالصلح؟ وفتح هو؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم أي لما فيه من الفوائد التي سنتعرض لها. (وهم يخالطهم الحزم والكآبة وقد نحر الهدي بالحديبية) يقال: كئب كآبة تغيرت نفسه وانكسرت من شدة الهم والحزن وحديث البخاري يرسم هذه الصورة فيقول "قال عمر لأبي بكر: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى فأخبرك أنك تأتيه العام؟ قال: قلت: لا. قال: فإنك آتيه ومطوف به فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس". وفي رواية ابن إسحق "فقال لها: ألا ترين إلى الناس؟ إني آمرهم بالأمر فلا يفعلونه؟ هلك المسلمون أمرتهم أن يحلقوا وينحروا فلم يفعلوا" "فقالت: يا رسول الله إنهم قد دخلهم أمر عظيم مما أدخلت على نفسك من المشقة في أمر الصلح ورجوعهم بغير فتح" "ثم قالت: يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك. نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما" وعند ابن إسحق "ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلا حتى إذا كان بين مكة والمدينة نزلت سورة الفتح. -[فقه الحديث]- اشتملت رواياتنا على بندين فقط من بنود صلح الحديبية البند الأول أن يرجع المسلمون هذا العام بدون عمرة وأن يرخص لهم بالعمرة في العام القادم لمدة ثلاثة أيام بدون سلاح ونص هذا البند عن ابن إسحق: ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل مكة علينا وإنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك -أي خرجنا نحن من مكة إلى الجبال وتركناها لك- فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثا معك سلاح الراكب -أي المسافر وليس المحارب- السيوف في القرب. البند الثاني: من أوى إلى المسلمين من أهل مكة يرده المسلمون إلى الكفار ومن أوى إلى الكفار من المسلمين لا يرده الكفار للمسلمين وقريب منه ما جاء في روايتنا الثالثة بلفظ "ولا يخرج بأحد معه من أهلها ولا يمنع أحدا يمكث بها ممن كان معه" ولفظه عند البخاري "أن لا يأتيك منا أحد -وإن كان على دينك- إلا رددته إلينا وخليت بيننا وبينه" وفي لفظ للبخاري "وعلى أنه لا يأتيك منا رجل -وإن كان على دينك- إلا رددته إلينا" ولفظه عند ابن إسحق "أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم ومن جاء قريشا ممن يتبع محمدا لم يردوه عليه". واختلف العلماء: هل كان هذا البند يشمل النساء؟ أو لا يشمل النساء؟ فظاهر بعض الروايات يعم الرجال والنساء وبعضها خصه بالرجال.

وقد روى البخاري عن المسور بن مخرمة قال: "وجاءت المؤمنات مهاجرات" أي بعد الصلح "وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ -وهي عاتق- أي شابة لم تدرك وقيل شابة أدركت ولم تتزوج بعد -فجاء أهلها يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجعها إليهم فلم يرجعها إليهم لما أنزل الله فيهن {إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار} [الممتحنة: 10] فمن قال: إن البند لا يشمل النساء فالآية توضيح لنص الصلح وتحديد للمراد من النص العام "أحد" و"من" واعتماد لقيد "رجل" في بعض الروايات ومن قال إن النص يشمل النساء قال: إن الآية ناسخة لشق البند المذكور. واختلف العلماء كذلك هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلما ممن عندهم إلى بلاد المسلمين أم لا؟ فقيل: نعم على ما دلت عليه قصة أبي جندل وأبي بصير وقيل: لا وأن الذي وقع في القصة منسوخ وأن ناسخه حديث "أنا بريء من مسلم بين مشركين" وهو قول الحنفية وعند الشافعية تفصيل بين العاقل والمجنون والصبي فلا يردان وقال بعض الشافعية: ضابط جواز الرد أن يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب. وهناك بنود أخرى في الصلح لم تتناولها رواياتنا منها: 1 - ما جاء في رواية ابن إسحق من أن الصلح نص على أن توضع الحرب بينهما عشر سنين. وفي مغازي ابن عائذ أنه كان سنتين. قال الحافظ ابن حجر: ويجمع بينهما بأن الذي قاله ابن إسحق هي المدة التي وقع الصلح عليها والذي ذكره ابن عائذ وغيره هي المدة التي انتهى إليها أمر الصلح فيها حتى وقع نقضه على يد قريش ثم قال الحافظ ابن حجر: وأما الذي وقع في كامل ابن عدي ومستدرك الحاكم والأوسط للطبراني من حديث ابن عمر من أن مدة الصلح كانت أربع سنين فهو مع ضعف إسناده منكر مخالف للصحيح. قال: وقد اختلف العلماء في المدة التي تجوز المهادنة فيها مع المشركين فقيل: لا تجاوز أربع سنين وقيل: ثلاثا وقيل سنتين والأول هو الراجح. والله أعلم. 2 - وأن يأمن الناس بعضهم بعضا في نفوسهم وأموالهم سرا وجهرا وفي رواية ابن إسحق "وعلى أن بيننا عيبة مكفوفة" أي أمرا مطويا في صدور سليمة وهو إشارة إلى ترك المؤاخذة عما تقدم بينهم من أسباب الحرب وغيرها والمحافظة على العهد الذي وقع بينهم" وفي رواية ابن إسحق أيضا "وأنه لا إسلال ولا إغلال" أي لا سرقة ولا خيانة. 3 - وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد صلى الله عليه وسلم وعهده دخل فيه ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه. وكان هذا البند هو الذي نقضته قريش بمعاونتهم بني بكر الداخلين في عهدهم على خزاعة الذين دخلوا في عهد محمد صلى الله عليه وسلم وكان السبب المباشر لفتح مكة كما سبق في الباب الذي قبله.

موقف الصحابة من هذا الصلح: نكاد نقول: إنه لم يكن أحد من الصحابة يرضى بهذا الصلح والرواية السادسة توضح الموقف وتبرز مشاعر سهل بن حنيف رضي الله عنه بقوله "ولو أني أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته". وكان أبرزهم نفورا من الصلح عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد روى البخاري أن عمر رضي الله عنه أتى نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال له: ألست نبي الله حقا؟ قال: بلى قال: ألسنا على الحق؟ وعدونا على الباطل؟ قال: بلى قال: فلم نعطي الدنية في ديننا إذن؟ قال: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري قال: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى فأخبرتك أنا نأتيه العام؟ قال عمر: لا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنك آتيه ومطوف به وذهب إلى أبي بكر فقال له مثل ما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع منه مثل ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعند البزار قال عمر: "لقد رأيتني أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي وما ألوت عن الحق قال: فرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبيت حتى قال لي: يا عمر: تراني رضيت وتأبى؟ " ولم يكن موقف عمر شكا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حكمه وقراره بل طلبا لكشف ما خفي عليه وحثا على إذلال الكفار وظهور الإسلام كما عرف من خلقه رضي الله عنه وقوته في نصرة الدين وإذلال المبطلين وكان أكثرهم استسلاما للصلح -وليس رضى به- أبو بكر رضي الله عنه فمع قوة إيمانه وزيادة تصديقه وإذعانه لم ينفذ أمر الحلق والنحر. وسبب هذا الموقف من الصحابة ما قاله ابن إسحق بلفظ "كان الصحابة لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوا الصلح دخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون" وعند الواقدي "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان رأى في منامه أن يعتمر وأنه دخل هو أصحابه البيت فلما رأوا تأخير ذلك شق عليهم" ويقول الحافظ ابن حجر: وقد وقع التصريح في الحديث الصحيح بأن المسلمين استنكروا الصلح المذكور وكانوا على رأي عمر في ذلك والظاهر أن الصديق لم يكن في ذلك موافقا لهم بل كان قلبه على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم. اهـ. أما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان يتحرك في هذا الأمر بوحي الله يبدو هذا جليا من قوله لعمر رضي الله عنه: "إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري" فقبوله هذه النصوص عن أمر الله تعالى وليس عن اجتهاد أو مقدمات تسوق إلى نتائج فالمقدمات كلها لا تتفق مع هذا الصلح حتى الرجوع لا يتفق مع قوتهم وعزتهم وقد جاءوا معتمرين فكيف يقبلون الصد عن البيت الحرام؟ ثم النصوص غير متكافئة وتكاد كلها تنطق بعقد الإذعان نعم عدم كتابة "رسول الله" و"الرحمن الرحيم" كان لمصلحة إتمام الصلح وليس في تركها مفسدة أما البسملة وباسمك اللهم فمعناهما واحد وكذا قوله "محمد بن عبد الله" هو أيضا رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في ترك وصف الله سبحانه وتعالى في هذا الموضع بالرحمن الرحيم ما ينفي ذلك ولا في ترك وصفه أيضا صلى الله عليه وسلم هنا بالرسالة ما ينفيها فلا مفسدة فيما طلبوه وإنما كانت المفسدة تكون لو طلبوا أن يكتب مالا يحل من تعظيم آلهتهم ونحو ذلك وأما بقية الشروط ففيها من حيث الظاهر إجحاف بالمسلمين ومن الصعب على أصحاب العزة

والنفوس الأبية قبولها لهذا دخلهم من الهم والغم ما دخلهم أما عدم انصياعهم لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنحر والحلق فلم يكن ردا لأمره صلى الله عليه وسلم ولكنه كان توقفا على أمل أن ينزل وحي يغير الموقف وقد تكرر نحو هذا في قوله تعالى: {إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة} إذ نزل بعدها {أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} [المجادلة: 12، 13] قال الحافظ ابن حجر عند شرحه لجملة "فوالله ما قام منهم رجل" قيل: كأنهم توقفوا لاحتمال أن يكون الأمر بذلك للندب أو لرجاء نزول الوحي بإبطال الصلح المذكور أو تخصيصه بالإذن بدخولهم مكة ذلك العام لإتمام نسكهم وسوغ ذلك لهم أنه كان زمن وقوع النسخ ويحتمل أنهم انشغلوا بالفكر لما لحقهم من الذل عند أنفسهم مع ظهور قوتهم واقتدارهم في اعتقادهم على بلوغ غرضهم وقضاء نسكهم بالقهر والغلبة أو أخروا الامتثال لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور ويحتمل مجموع هذه الأمور لمجموعهم وليس فيه حجة لمن أثبت أن الأمر للفور ولا لمن نفاه ولا لمن قال: إن الأمر للوجوب لا للندب لما يتطرق القصة من الاحتمال. اهـ. نعم كان الغيب يحتفظ لهذه النصوص نتائج عظيمة فيها خير كبير للإسلام والمسلمين {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم} [البقرة: 216]. فشرط رد من جاء منهم وعدم رد من جاءهم -وإن شرح النبي صلى الله عليه وسلم وجهة نظره فيه بقوله "من ذهب منا إليهم فأبعده الله ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا" كانت نتيجته شوكة في ظهر مشركي مكة آلمتهم وأوجعتهم حتى أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنازلون عن هذا الشرط ويرجونه أن يضم إليه من آوى إليه من المسلمين أمثال أبي بصير وأبي جندل وأما شرط الرجوع دون نسك فقد عوض في العام القابل بضعف عدد ما كان في ذلك العام. قال النووي: قال العلماء والمصلحة المترتبة على هذا الصلح ظهرت من ثمراته الباهرة وفوائدة المتظاهرة التي كانت عاقبتها فتح مكة وإسلام أهلها كلهم ودخول الناس في دين الله أفواجا وذلك أنهم قبل الصلح لم يكونوا يختلطون بالمسلمين ولا تتظاهر عندهم أمور النبي صلى الله عليه وسلم كما هي ولا يلتقون بمن يعلمهم بها مفصلة فلما حصل صلح الحديبية اختلطوا بالمسلمين وجاءوا إلى المدينة وذهب المسلمون إلى مكة ونزلوا على أهلهم وأصدقائهم وغيرهم ممن يستنصحونهم وسمعوا منهم أحوال النبي صلى الله عليه وسلم مفصلة بجزئياتها ومعجزاته الظاهرة وأعلام ثبوته المتظاهرة وحسن سيرته وجميل طريقته وعاينوا بأنفسهم كثيرا من ذلك فبادر خلق كثير إلى الإسلام قبل فتح مكة -ولقد دخل الإسلام في هاتين السنتين أكثر ممن أسلم قبلهما وليس أدل على ذلك من أنهم كانوا في الحديبية ألفا وأربعمائة مسلم وكانوا في فتح مكة عشرة آلاف مسلم وازداد أهل مكة ميلا إلى الإسلام فلما كان يوم الفتح أسلموا كلهم لما كان قد تمهد لهم من الميل وكانت العرب من غير قريش في البوادي ينتظرون إسلام قريش ليسلموا فلما أسلمت قريش أسلمت العرب في البوادي قال تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح* ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا* فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا} ولذلك يقول الزهري فيما ذكره ابن إسحق: لم يكن في الإسلام فتح قبل فتح الحديبية أعظم منه وروى البخاري عن البراء

بن عازب رضي الله عنه قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة -وقد كان فتح مكة فتحا- ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية". ولم يختلف أحد في أن المراد بالفتح في قوله تعالى: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} هو الحديبية فقد نزلت هذه الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفه من الحديبية -كما هو صريح روايتنا السابعة فأرسل صلى الله عليه وسلم إلى عمر فقال له: لقد أنزلت على الليلة آيات هي خير من الدنيا وما فيها ثم أقرأه الآيات فقال: يا رسول الله أو فتح هو؟ قال: نعم فطابت نفسه رضي الله عنه. ومن الحكمة في قبول هذا الصلح أن الصحابة لو دخلوا مكة على هذه الصورة وصدهم قريش عن ذلك لوقع بينهم قتال يفضي إلى سفك الدماء ونهب الأموال وكان بمكة آنذاك جمع كثير مؤمنون مستضعفون من الرجال والنساء والولدان فلو طرق الصحابة مكة لما أمن أن يصاب ناس منهم بغير عمد وإلى هذا يشير القرآن الكريم بقوله: {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم} [الفتح: 24]. وبقوله: {هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما} [الفتح: 25]. -[ويؤخذ من أحاديثنا فوق ما تقدم]- 1 - قال القاضي عياض: احتج بعض الناس بقوله في الرواية الثالثة "أرني مكانها فأراه مكانها فمحاها وكتب: ابن عبد الله" على أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب ذلك بيده على ظاهر اللفظ وعلى ظاهر لفظ البخاري في رواية ففيها "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب فكتب" وفي رواية "ولا يحسن أن يكتب فكتب" قال أصحاب هذا المذهب: إن الله تعالى أجرى ذلك على يده إما بأن كتب القلم بيده ذلك وهو غير عالم بما يكتب أو أن الله تعالى علمه ذلك حينئذ حتى كتب وجعل هذا زيادة في معجزاته. وهذا لا يقدح في كونه أميا فقد علمه ما لم يكن يعلم من العلم وجعله يقرأ ما لم يكن يقرأ ويتلو ما لم يكن يتلو كذلك علمه أن يكتب ما لم يكن يكتب ويخط ما لم يكن يخط. واحتجوا بآثار جاءت في هذا المعنى عن الشعبي وبعض السلف وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى كتب قال القاضي: وإلى جواز هذا ذهب الباجي وحكاه عن السمعاني وأبي ذر وغيره. وذهب الأكثرون إلى منع هذا كله قالوا: وهذا الذي زعمه الذاهبون إلى القول الأول يبطله وصف الله تعالى إياه بالنبي الأمي صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك} [العنكبوت: 48] وقوله صلى الله عليه وسلم "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب" قالوا: وقوله في هذا الحديث "كتب" معناه أمر بالكتابة كما يقال: رجم ماعزا وقطع السارق وجلد الشارب أي أمر بذلك واحتجوا بالرواية

الرابعة وفيها "فقال لعلي رضي الله عنه اكتب من محمد بن عبد الله" قال القاضي: وأجاب الأولون عن قوله تعالى: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك} أي لم يتل ولم يخط أي من قبل تعليمه فكما جاز أن يتلو جاز أن يكتب ولا يقدح هذا في كونه أميا إذ ليست المعجزة مجرد كونه أميا فإن المعجزة حاصلة بكونه صلى الله عليه وسلم كان أولا كذلك ثم جاء بالقرآن وبعلوم لا يعلمها الأميون قال القاضي: وهذا الذي قالوه ظاهر. قال: وقوله في الرواية التي ذكرناها عن البخاري "ولا يحسن أن يكتب فكتب" كالنص أنه كتب بنفسه. قال: والعدول إلى غير ذلك مجاز ولا ضرورة إليه. قال: وقد طال كلام كل فرقة في هذه المسألة وشنعت كل فرقة على الأخرى في هذا. والله أعلم. 2 - عن قوله "هذا ما كاتب عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال النووي: فيه دليل على أنه يجوز أن يكتب في أول الوثائق وكتب الأملاك والصداق والعتق والوقف والوصية ونحوها: هذا ما اشترى فلان أو هذا ما أصدق أو وقف أو أعتق ونحوه. وهذا هو الصواب الذي عليه الجمهور من العلماء وعليه عمل المسلمين في جميع الأزمان والبلدان من غير إنكار. 3 - قال القاضي: وفيه دليل على أنه يكتفى في العقود بذكر الاسم واسم الأب بالنسبة للشخص المشهور -عن غير زيادة خلافا لمن قال: لا بد من أربعة أسماء المذكور وأبيه وجده ونسبه. 4 - وفي الأحاديث أن للإمام أن يعقد الصلح على ما رآه مصلحة للمسلمين وإن كان لا يظهر ذلك لبعض الناس في بادئ الرأي. قاله النووي وفيه نظر فما حصل من النبي صلى الله عليه وسلم كان بأمر ربه الذي يعلم الغيب ولذلك ضرب صفحا عن رأي الآخرين والاقتداء به في هذا يفسد الحكم ويضر الرعية. 5 - وفيها احتمال المفسدة اليسيرة لدفع أعظم منها أو لتحصيل مصلحة أعظم منها إذ لم يمكن ذلك إلا بذلك. 6 - جواز تجريد المسلم من سلاحه أو تخفيفه عند الأعداء للمصلحة قال النووي: وإنما شرط الكفار ذلك لوجهين الأول أن لا يظهر من دخول المسلمين مكة مسلحين أنهم دخلوها دخول الغالبين القاهرين الثاني أنه إن عرضت فتنة أو نحوها يكون في استخدام السلاح صعوبة. 7 - استدل بشرط الإقامة بمكة ثلاثا أن الثلاث ليس لها حكم الإقامة وأما ما فوقها فله حكم الإقامة قال النووي: وقد رتب الفقهاء على هذا قصر الصلاة فيمن نوى إقامة في بلد في طريقه وقاسوا على هذا الأصل مسائل كثيرة. 8 - وفي موقف أبي بكر ورده على عمر رضي الله عنهما دلائل ظاهرة على عظيم فضله وبارع علمه وزيادة عرفانه ورسوخه في كل ذلك وزيادته فيه كله على غيره رضي الله عنه.

9 - ومن إرسال النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمر وإقرائه ما نزل إعلام الإمام والعالم كبار أصحابه بما يقع له من الأمور المهمة والبعث إليهم لإعلامهم بذلك. 10 - وفي الأحاديث دليل على جواز مصالحة الكفار إذا كان فيها مصلحة وهو مجمع عليه عند الحاجة قال النووي: ومذهبنا أن مدتها لا تزيد على عشر سنين إذا لم يكن الإمام مستظهرا عليهم وإن كان مستظهرا لم يزد على أربعة أشهر وفي قول: يجوز دون سنة وقال مالك: لا حد لذلك بل يجوز ذلك قل أم كثر بحسب رأي الإمام. 11 - أدب علي رضي الله عنه في توقفه عن محو كلمة "رسول الله" وهو من الأدب المستحب لأنه لم يفهم من النبي صلى الله عليه وسلم تحتيم محو الكلمة بنفسه ولهذا لم ينكر عليه موقفه ولو حتم محوه بنفسه لم يجز لعلي تركه ولما أقره النبي صلى الله عليه وسلم. 12 - ومن مراجعة عمر رضي الله عنه جواز المراجعة في العلم والبحث فيه حتى يظهر المعنى. 13 - وأن الكلام يحمل على عمومه وإطلاقه حتى تظهر إرادة التخصيص والتقييد. 14 - ومن رد الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر على عمر بأنه صلى الله عليه وسلم لم يحدد عام دخول مكة أخذ بعضهم أن من حلف على فعل شيء ولم يذكر مدة معينة لم يحنث حتى تنقضي أيام حياته. 15 - وفي الأحاديث التزام الصحابة بالصلح وعدم رده ومدى ما كانوا عليه من تنفيذ أوامره صلى الله عليه وسلم وإن خفيت عليهم حكمة القرار. 16 - وفيه حكم الإحصار عن العمرة وأنه يتحلل بالحلق وينحر الهدي في مكانه وقد سبق شرحه في كتاب الحج. والله أعلم.

(493) باب الوفاء بالعهد

(493) باب الوفاء بالعهد 4077 - عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: ما منعني أن أشهد بدرا إلا أني خرجت أنا وأبي حسيل قال: فأخذنا كفار قريش. قالوا: إنكم تريدون محمدا. فقلنا: ما نريده ما نريد إلا المدينة. فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه. فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر. فقال "انصرفا نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم". -[المعنى العام]- من أسمى تعاليم الإسلام الحث على الصدق واجتناب الكذب فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة وإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار ومن أسمى تعاليم الإسلام الوفاء بالعهد حتى للمشركين الذين لا عهد لهم والذين إن يظهروا على المسلمين لا يرقبو إلا ولا ذمة وهذا الحديث صورة مشرقة على فم الزمان تشهد للإسلام بأنه دين الهدى والنور. في زمن غزوة بدر وقبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى بدر خرج حذيفة بن اليمان هو وأبوه من المدينة للزيارة أو للتجارة في الأرض التي يسيطر عليها كفار مكة وعند عودتهم إلى المدينة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد نزلوا بدرا وكان الكفار يجمعون أنفسهم لقتاله ووقع حذيفة وأبوه في أيدي الكفار قد يكونون يعلمون أنهما مسلمان ولأمر ما لم يأسروهما أو لم يقتلوهما وقد يكونون لا يعلمون أنهما مسلمان الذي حرصوا عليه أن لا يقاتلا مع محمد صلى الله عليه وسلم فأخذوا عليهما العهد والميثاق على ذلك وأطلقوهما وصلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ببدر وذكرا له صلى الله عليه وسلم القصة وهو في حاجة ماسة إلى مقاتل فالكفار يزيدون على الألف والمسلمون ثلاثمائة وبضعة عشر فهل يعامل المشركين الغادرين بعدم الوفاء لهم؟ أم يعلو الخلق الكريم ويأمر بالوفاء بالعهد؟ ويطلب العون من الله؟ لقد اختار الثانية وأمر حذيفة وأباه أن ينصرفا عن القتال إلى المدينة وفاء بعهدهما وقال: نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم صلى الله عليه وسلم. -[المباحث العربية]- (ما منعني أن أشهد بدرا إلا أني خرجت) الاستثناء من أعم الفاعلين و"أن" وما دخلت عليه في تأويل مصدر بدل من المستثنى منه المحذوف والتقدير ما منعني شيء إلا خروجي أي منعني خروجي.

(خرجت أنا وأبي حسيل) بضم الحاء وفتح السين ويقال له أيضا "حسل" بكسر الحاء وسكون السين وهو والد حذيفة فهو هنا بدل من "أبي" مرفوع وليس كنية وكأنه قال: خرجت أنا ووالدي حسيل واليمان لقب لحذيفة قال النووي: والمشهور في استعمال المحدثين أنه اليمان بالنون من غير ياء بعدها وهي لغة قليلة والصحيح اليماني بالياء وكذا عمرو بن العاصي والمشهور للمحدثين حذف الياء والصحيح إثباتها والمراد أنهما خرجا من المدينة إلى منطقة الكفار وأرادا العودة إلى المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر. (فأخذوا منا عهد الله وميثاقه) لفظ العهد مشترك لفظي بين معان كثيرة منها الزمان والمكان فيقال: قريب عهد بجاهلية وعهدي بهذا المكان كذا ومنها الذمة والصحة والميثاق والأيمان والنصيحة والوصية والمطر وقال الراغب: العهد حفظ الشيء ومراعاته ومن هنا قيل للوثيقة عهدة ويطلق عهد الله على ما فطر عليه عباده من الإيمان به عند أخذ الميثاق ويراد به أيضا ما أمر به في الكتاب والسنة مؤكدا وما التزمه المرء من قبل نفسه كالنذر. والمراد به هنا اليمين أو قولهم: على عهد الله أو الالتزام مؤكدا باليمين. (لننصرفن إلى المدينة) لا إلى بدر للقتال. (فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم) ببدر. (انصرفا) من ميدان القتال ببدر إلى المدينة. -[فقه الحديث]- في هذا الحديث نقطتان أساسيتان: الأولى الكذب في الحرب والثانية الوفاء للمشركين بالعهد. أما عن النقطة الأولى فقال النووي: في هذا الحديث جواز الكذب في الحرب وإذا أمكن التعريض فهو أولى ومع هذا يجوز الكذب في الحرب. اهـ. وأخرج الترمذي من حديث أسماء بنت يزيد مرفوعا "لا يحل الكذب إلا في ثلاث: يحدث الرجل امرأته ليرضيها والكذب في الحرب وفي الإصلاح بين الناس" وعند مسلم والنسائي "ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس: إنه كذب إلا في ثلاث .. " فذكرها. قال الطبري: ذهبت طائفة إلى أن الثلاث المذكورة كالمثال وقالوا: الكذب المذموم إنما هو فيما فيه مضرة أو ما ليس فيه مصلحة وقال آخرون: لا يجوز الكذب في شيء مطلقا وحملوا الكذب المراد في الحديث المرخص على التورية والتعريض قال ابن بطال: سألت بعض شيوخي عن معنى هذا الحديث فقالوا: الكذب المباح في الحرب ما يكون من المعاريض لا التصريح بالتأمين مثلا وقال المهلب: لا يجوز الكذب الحقيقي في شيء

من الدين أصلا ومحال أن يأمر بالكذب من يقول: "من كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار". وقال ابن العربي: الكذب في الحرب من المستثنى الجائز بالنص رفقا بالمسلمين لحاجتهم إليه وليس للعقل فيه مجال ولو كان تحريم الكذب بالعقل ما انقلب حلالا. قال الحافظ ابن حجر: والجواب المستقيم أن نقول: المنع مطلقا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم فلا يتعاطى شيئا من ذلك وإن كان مباحا لغيره. والتحقيق: أن الكذب لذاته لا يحل أصلا والترخيص به في مثل هذه المواطن من قبيل ارتكاب أخف المفسدتين أو الحصول على أعظم المنفعتين فالترخيص به لما يجره من منفعة أو لما يدفع به من مضرة مقابلا بإثمه كخبر غير مطابق للواقع. والله أعلم. وأما عن النقطة الثانية فقد قال النووي: اختلف العلماء في الأسير يعاهد الكفار ألا يهرب منهم فقال الشافعي وأبو حنيفة والكوفيون: لا يلزمه ذلك بل متى أمكنه الهرب هرب وقال مالك: يلزمه واتفقوا على أنه لو أكرهوه فحلف لا يهرب لا يمين عليه لأنه مكره وأما قضية حذيفة وأبيه فإن الكفار استحلفوهما لا يقاتلان مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر فأمرهما النبي صلى الله عليه وسلم بالوفاء وهذا ليس للإيجاب فإنه لا يجب الوفاء بترك الجهاد مع الإمام ونائبه ولكن أراد النبي صلى الله عليه وسلم ألا يشيع عن أصحابه نقض العهد وإن كان لا يلزمهم ذلك لأن المشيع عليهم لا يذكر تأويلا. اهـ. وترجم البخاري بباب: هل للأسير أن يقتل أو يخادع الذين أسروه حتى ينجو من الكفرة وأشار إلى قصة أبي بصير التي ذكرناها في صلح الحديبية قال الحافظ ابن حجر: قال الجمهور: إن ائتمنوه يف لهم بالعهد حتى قال مالك: لا يجوز أن يهرب منهم وخالفه أشهب فقال: لو خرج به الكافر ليفادي به فله أن يقتله وقال أبو حنيفة والطبري: إعطاؤه العهد على ذلك باطل ويجوز له أن لا يفي لهم به وقال الشافعية: يجوز أن يهرب من أيديهم ولا يجوز له أن يأخذ من أموالهم قالوا: وإن لم يكن بينهم عهد جاز له أن يتخلص منهم بكل طريق ولو بالقتل وأخذ المال وتحريق الدار وغير ذلك. والله أعلم.

(494) باب غزوة الأحزاب

(494) باب غزوة الأحزاب 4078 - عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: كنا عند حذيفة فقال رجل: لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلت معه وأبليت. فقال حذيفة: أنت كنت تفعل ذلك لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وأخذتنا ريح شديدة وقر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا رجل يأتيني بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة" فسكتنا فلم يجبه منا أحد ثم قال "ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة" فسكتنا فلم يجبه منا أحد. ثم قال "ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة" فسكتنا فلم يجبه منا أحد فقال "قم يا حذيفة فأتنا بخبر القوم" فلم أجد بدا إذ دعاني باسمي أن أقوم قال "اذهب فأتني بخبر القوم ولا تذعرهم علي" فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام حتى أتيتهم فرأيت أبا سفيان يصلي ظهره بالنار فوضعت سهما في كبد القوس فأردت أن أرميه فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "ولا تذعرهم علي" ولو رميته لأصبته. فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم وفرغت قررت فألبسني رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها فلم أزل نائما حتى أصبحت فلما أصبحت قال "قم يا نومان". -[المعنى العام]- حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا في غزوة بدر في السنة الثانية ونصره الله عليهم وحاربته قريش في غزوة أحد في السنة الثالثة ولم يكتب للمسلمين النصر عليهم وتوعدته قريش للعام القادم ولم تحاربه في السنة الرابعة وأخذت تعبئ لحربه قبائل العرب واليهود وتجمع الكفار وتحزب وتناسى الكل ما بينه وبين بعضه من عداوات وتناسى اليهود ما بينهم وبين محمد صلى الله عليه وسلم من عهود ومواثيق. وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا التحزب فاستشار أصحابه هل يخرج إليهم في العراء والمسلمون ثلاثة آلاف والأحزاب -كما بلغه- يزيدون على عشرة آلاف؟ أم يعسكر في المدينة فإذا جاءوا حاربوهم من حي إلى حي؟ ومن شارع إلى شارع؟ ومن بيت إلى بيت؟ وأشار عليه سلمان الفارسي بحفر خندق حول المدينة يحول بين المهاجمين وبين دخولهم المدينة خندق مكشوف أشبه بترعة لا ماء فيها عريض عميق لا يسهل على الخيل ولا على المشاة اختراقه وراقت الفكرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بحفره وحدد لكل

عشرة من المسلمين عشرة أذرع وشارك فيه بنفسه تارة بالمعول وتارة بحمل التراب على كتفه صلى الله عليه وسلم ونقله من العمق إلى الشاطئ. عشرون يوما وليلة قضاها المسلمون في عمل شاق مجهد وهم قليلو الزاد يشتد بهم الجوع ويربط الواحد منهم الحجر على بطنه لئلا يتقوس ظهره وليخفف ألم الجوع وعلى رأسهم مثلهم الأعلى في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وما إن فرغ المسلمون من حفر الخندق حتى جاء الأحزاب فعسكروا في جانب والمسلمون في الجانب الآخر وظهرهم إلى المدينة واشتد الحصار بالمسلمين وطال عشرون يوما أو تزيد لا يستطيعون مغادرة الموقع ولم يكونوا يملكون من المؤن وضرورات الحياة ما يكفي لطول حصار وتفلت المنافقون ومرضى القلوب من الميدان يستأذن فريق منهم النبي صلى الله عليه وسلم يقولون إن بيوتنا عورة ونخشى أن يهاجمها الكفار فاسمح لنا بحراستها والذهاب إلى المدينة ولم يكن بد من الإذن لهم فذهابهم وحالتهم هذه خير من بقائهم ولم يبق مع الرسول صلى الله عليه وسلم في الميدان سوى ثلاثمائة مسلم في مقابل عشرة آلاف زاغت أبصارهم وبلغت قلوبهم حناجرهم ولم يعد عندهم أمل في النصر أو السلامة إلا أن ينقذهم الله فلجئوا إليه بالدعاء فتدخلت عناية الله ففتح على الأحزاب فتحة من ريح وبرد لم تتجاوز خيامهم فقلعتها وألقتها بعيدا يمسكون بها فتجرهم وراءها وتفرقت خيلهم وإبلهم فلم يعودوا يسيطرون عليها وتناثرت قدورهم وأمتعتهم فانشغلوا بجمعها ولم يكن أمامهم إلا الرحيل. المسلمون في حاجة لمعرفة ما يجري في معسكر الأحزاب فمن الفدائي الذي يخاطر بنفسه؟ قال صلى الله عليه وسلم أمام أبطال المسلمين: من يتطوع ويتخفى ويصل إلى معسكر القوم فيأتينا بأخبارهم؟ وله أن يكون معي وفي صحبتي يوم القيامة؟ ولم يجب أحد فالمهمة خطيرة جدا أعادها صلى الله عليه وسلم فلم يجبه أحد أعادها الثالثة فلم يجبه أحد قال أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: حذيفة شجاع وذو حيلة فمر حذيفة فقال صلى الله عليه وسلم قم يا حذيفة فائتنا بخبر القوم واقترب منهم برفق واستعمل الخدعة والمسالمة ولا تهيجهم علينا ودعا له صلى الله عليه وسلم بأن يعينه الله على مهمته وأن يحفظه ويرجعه سالما كيف يخرج حذيفة من خيمته والليلة شاتية باردة تكاد الأطراف تتجمد من برودتها لكن الأمر قد صدر والاسم قد تعين ولا اعتذار فليستعن بالله عجبا لقد تحول عنه البرد إن جسمه يحس بالدفء إنه يمشي في جو دافئ كأنه يمشي في حمام ساخن لقد وصل إلى عسكرهم وها هو يرى أبا سفيان وقد أوقد نارا وعرض للنار ظهره يدفئه من شدة البرد إنه يستطيع أن يصوب سهما من كنانته إلى ظهر أبي سفيان فيرديه قتيلا فليخرج سهما من كنانته وليثبته في قوسه استعدادا لإطلاقه لكنه في تلك اللحظة تذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تهيجهم وأي تهييج أعظم من إصابة زعيمهم في ظهره؟ أعاد السهم إلى الكنانة وتلمس التعرف على أحوالهم إنهم يجمعون أمتعتهم ويحملونها على إبلهم ويحلون خيامهم إنهم يستعدون للرحيل بل قد رحل كثير منهم وعاد حذيفة وهو لا يحس بالبرد كأنما يمشي في جو يوم دافئ حتى وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بخبر القوم وانتهت المهمة التي وكلت إليه.

يا سبحان الله ما إن انتهى من الحديث حتى أحس بالبرد الذي يحس به كان أصحابه لقد ذهب الدفء الذي لازمه مدة البعثة إنه يرتعش ويرتجف وفي حاجة إلى غطاء ورآه رسول الله صلى الله عليه وسلم كعصفور ينتفض من البرد فضمه صلى الله عليه وسلم إليه وبسط طرف عباءة كانت عليه صلى الله عليه وسلم فغطى به حذيفة وحصلت بركة عباءة رسول الله صلى الله عليه وسلم لحذيفة فعاد إليه الدفء ونام. نام مستغرقا حتى أذن الفجر بل ظل مستغرقا حتى أيقظه رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة وداعبه عند إيقاظه بقوله: قم يا نومان قم يا كثير النوم فالوقت ليس وقت نوم بل وقت جهاد في سبيل الله. -[المباحث العربية]- (فقال رجل: لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلت معه وأبليت) يقال: أبلى في الأمر إذا اجتهد فيه وبالغ وعند البيهقي في الدلائل "أن رجلا قال لحذيفة: أدركتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ندركه. فقال حذيفة يا ابن أخي والله لا تدري لو أدركته كيف تكون؟ لقد رأيتنا .. إلخ قال النووي: فهم حذيفة من الرجل أنه لو أدرك النبي صلى الله عليه وسلم لبالغ في نصرته ولزاد على الصحابة رضي الله عنهم فأخبره بخبره في الأحزاب وقصد زجره عن ظنه أنه يفعل أكثر مما فعل الصحابة. (أنت كنت تفعل ذلك؟ ) استفهام إنكاري بمعنى النفي. أي ما كنت تفعل أكثر مما فعل الصحابة. (لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب) "رأيتنا" بضم التاء للمتكلم حذيفة و"نا" ضمير المتكلمين مفعول أي لقد رأيت نفسي وأصحابي المسلمين. "وليلة الأحزاب" أي ليلة غزوة الأحزاب وهي لم تكن ليلة بل كانت أكثر من عشرين ليلة ولكنه يقصد ليلة من لياليها وغزوة الأحزاب هي غزوة الخندق وسميت بالخندق لأجل الخندق الذي حفر حول المدينة وسميت الأحزاب لاجتماع طوائف من المشركين على حرب المسلمين وهم قريش وغطفان واليهود ومن تبعهم ونزل في هذه القصة صدر سورة الأحزاب والأحزاب جمع حزب وهو الطائفة. (وأخذتنا ريح شديدة وقر) الجملة حالية بتقدير "قد" عند من يشترطها و"قر" بضم القاف وتشديد الراء وهو البرد يقال: قر اليوم يقر -بكسر القاف وفتحها في المضارع قرا بفتحها برد والقر بالفتح اليوم البارد ويقال: قر الرجل بضم القاف أي أصابه القر وفي آخر الحديث "فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم وفرغت -أي من الإخبار- قررت" بضم القاف وكسر الراء أي بردت أي أنه أثناء المهمة لم يكن يحس بالبرد فلما انتهى منها أحس به وفي رواية البيهقي "في ليلة باردة مطيرة". (ألا رجل يأتيني بخبر القوم؟ ) طلب رقيق عن طريق العرض والتحضيض.

(جعله الله معي يوم القيامة) معية شرف وتنعم وصحبة وقد جاءت هذه العبارة هنا ثلاث مرات بنفسها وفي رواية البيهقي "جعله الله رفيق إبراهيم يوم القيامة" في المرة الأولى. (فقال: قم يا حذيفة) في رواية البيهقي "فقال أبو بكر: ابعث حذيفة فقال اذهب فقلت: أخشى أن أؤسر؟ قال: إنك لن تؤسر". (فلم أجد بدا -إذ دعاني باسمي- أن أقوم) أي لم أجد مندوحة ولا عوضا ولا مفرا من القيام وقت أن ناداني باسمي. (ولا تذعرهم علي) بفتح التاء وسكون الذال أي لا تفزعهم ولا تحركهم علي ولا تنفرهم ولا تثرهم على نفسك لأنهم إن أخذوك أو آذوك كان ذلك ضررا علي لأنك رسولي وصاحبي. (فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام) الحمام من الحميم وهو الماء الحار يقال: حم الماء حمما بفتح الميم سخن يعني أنه لم يجد البرد الذي يجده الناس ولم يجد من تلك الريح الشديدة شيئا بل عافاه الله منه ببركة إجابته للنبي صلى الله عليه وسلم وذهابه فيما وجهه له واستمر ذلك اللطف به حتى عاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقص ما حصل ثم عاد إليه البرد الذي يجده الناس وفي رواية الحاكم "فدعا لي فأذهب الله عني القر والفزع". (حتى أتيتهم) أي حتى أتيت منزل الكفار وفي رواية الحاكم "فدخلت عسكرهم فإذا الريح لا تجاوزه شبرا". (فرأيت أبا سفيان يصلي ظهره بالنار) "يصلي" بفتح الياء وسكون الصاد وكسر اللام أي يدفئ ظهره بتعريضه لحرارة النار وفي كتب اللغة: صلى الشيء -بفتح اللام مخففة- يصليه -بفتح الياء وسكون الصاد- صليا -بسكون اللام- ألقاه في النار وصلى النار وبها -بفتح الصاد وكسر اللام وفتح الياء- يصلى -بفتح الياء وسكون الصاد وفتح اللام- احترق وفي القرآن الكريم {لا يصلاها إلا الأشقى} [الليل: 15] وأصلاه النار وصلاه النار وبها وفيها وعليها شواه. (فوضعت سهما في كبد القوس) أريد أن أرميه بسهم وكبد كل شيء وسطه. (فأخبرته بخبر القوم) عددهم وأسلحتهم وطوائفهم وأمتعتهم إلخ. (فألبسني رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها) أي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنا فيه من البرد فغطاني بطرف عباءة كانت عليه. (فلما أصبحت) أي دخلت في الصباح بطلوع الفجر. (قم يا نومان) بفتح النون وسكون الواو وهو كثير النوم وأكثر ما يستعمل في النداء.

-[فقه الحديث]- ذكر البخاري تحت باب غزوة الخندق مجموعة من الأحاديث نذكر منها: 1 - عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق وهم يحفرون ونحن ننقل التراب على أكتافنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للمهاجرين والأنصار وهذا الحديث سيأتي في مسلم بعد باب قتل كعب بن الأشرف. 2 - عن أنس رضي الله عنه قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال: اللهم إن العيش عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة فقالوا مجيبين له: نحن الذين بايعوا محمدا ... على الإسلام ما بقينا أبدا قال: يقول النبي صلى الله عليه وسلم وهو يجيبهم: اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة فبارك في الأنصار والمهاجرة قال: يؤتون بملء كفي من الشعير -أي يؤتي جيش المسلمين بملء كف أنس من الشعير- فيصنع لهم الشعير ويطبخ بقليل من الدهن المتغير طعما ولونا ولها ريح منتن توضع بين يدي القوم والقوم جياع" وهذا الحديث سيأتي جزؤه في مسلم بعد باب قتل كعب بن الأشرف. 3 - عن جابر رضي الله عنه قال: "إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية شديدة -قطعة كبيرة صلبة من الحجر لم يستطعوا تفتيتها -فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق فقال: أنا نازل -إليها- ثم قام وبطنه معصوب بحجر ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول فضرب في الكدية فعاد كثيبا أهيل فقلت: يا رسول الله ائذن لي إلى البيت" أي فأذن لي فقلت لامرأتي: رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئا" أي جوعا جعله يشد الحجر على بطنه "ما كان في ذلك صبر فعندك شيء" من طعام "نطعم به النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: عندي شعير وعناق" في رواية "صاع من شعير" والعناق بفتح العين الأنثى من المعز "فذبحت العناق وطحنت امرأتي الشعير وجعلنا اللحم بالبرمة ثم جئت النبي صلى الله عليه وسلم والعجين قد انكسر" وقارب أن يختمر "والبرمة قد كادت أن تنضج" فقلت: يا رسول الله طعيم فقم أنت ونفر معك رجل أو رجلان فقال: كم هو؟ " ما مقدار الطعام فذكرت له" عنز صغير وصاع من شعير "فقال: كثير طيب. قال: قل لها: لا تنزع البرمة" عن النار "ولا الخبز من التنور حتى آتى فقال" لأصحابه "قوموا" فصاح النبي صلى الله عليه وسلم: يا أهل الخندق إن جابرا قد صنع لنا طعاما فأهلا بكم فقام المهاجرون والأنصار قال: فدخلت على امرأتي فقلت: ويحك جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار ومن معهم" جاءك بالخندق أجمعين نحو ألف رجل "قال: ولقيت من الحياء

مالا يعلمه إلا الله عز وجل قالت: هل سألك كم طعامك؟ فقلت: نعم فقالت: الله ورسوله أعلم ونحن قد أخبرناه بما عندنا فكشفت عني غما شديدا وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الناس فأخرجت له عجينا فباركه ثم عمد إلى برمتنا فباركها ثم قال: ادع خابزة فلتخبز وجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم ويخمر البرمة والتنور إذا أخذ منه ويقرب إلى أصحابه ثم ينزع حتى شبعوا وبقيت بقية قال: كلي هذا وأهدي. قال جابر: فأقسم بالله لقد أكلوا -وهم ألف- حتى تركوه وانحرفوا وإن برمتنا لتغط كما هي وإن عجيننا ليخبز كما هو". 4 - عن البراء رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى أغمر بطنه" وفي رواية "رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى عني التراب جلدة بطنه -وكان كثير الشعر- وكان يرتجز بكلمات ابن رواحة وهو ينقل من التراب يقول: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا إن الأولى قد بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا وهذا الحديث سيأتي في مسلم بعد باب قتل كعب بن الأشرف. 5 - عن أبي هريرة رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: لا إله إلا الله وحده أعز جنده ونصر عبده وغلب الأحزاب وحده فلا شيء بعده". تاريخ غزوة الخندق: قال موسى بن عقبة: كانت في شوال سنة أربع وتابعه على ذلك مالك وقال ابن إسحق: كانت في شوال سنة خمس قال الحافظ ابن حجر: ويؤيد قول ابن إسحق أن أبا سفيان قال للمسلمين لما رجع من أحد: موعدكم العام المقبل ببدر فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من السنة المقبلة إلى بدر فتأخر مجيء أبي سفيان تلك السنة للجدب الذي كان حينئذ وقال لقومه: إنما يصلح الغزو سنة الخصب فرجعوا بعد أن وصلوا إلى عسفان أو دونها ذكر ذلك ابن إسحق وغيره من أهل المغازي وقد بين البيهقي سبب هذا الاختلاف وهو أن جماعة من السلف كانوا يعدون التاريخ من المحرم الذي وقع بعد الهجرة ويلغون الأشهر التي قبل ذلك إلى ربيع الأول وعلى ذلك جرى يعقوب بن سفيان في تاريخه فذكر أن غزوة بدر الكبرى كانت في السنة الأولى وأن غزوة أحد كانت في السنة الثانية وأن الخندق كانت في الرابعة وهذا عمل صحيح على ذلك البناء لكنه بناء واه مخالف لما عليه الجمهور من جعل التاريخ من المحرم سنة الهجرة وعلى ذلك تكون بدر في الثانية وأحد في الثالثة والخندق في الخامسة وهو المعتمد. سبب الغزوة ووقائعها: ذكر موسى بن عقبة في المغازي قال: خرج حيي بن أخطب بعد قتل بني النضير إلى مكة يحرض قريشا على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق يسعى في بني غطفان ويحضهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لهم نصف تمر خيبر فأجابه عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري إلى ذلك وكتبوا إلى حلفائهم بني أسد فأقبل إليهم طلحة بن

خويلد فيمن أطاعه وخرج أبو سفيان بن حرب بقريش فأنزلوا بمر الظهران فجاءهم من أجابهم من بني سليم مددا لهم فصاروا في جمع عظيم فهم الذين سماهم الله تعالى الأحزاب. وذكر ابن إسحق أن عدتهم كانت عشرة آلاف وكان المسلمون ثلاثة آلاف. واستشار الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه هل يخرج إليهم في العراء وسيأتون من الشرق والغرب؟ أو يبقى هو والمسلمون بالمدينة؟ فإذا دخلوا عليهم حاربوهم في الدروب؟ قال سلمان الفارسي لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق حول المدينة وعمل فيه بنفسه ترغيبا للمسلمين في العمل فيه وخط صلى الله عليه وسلم لكل عشرة أناس عشرة أذرع وتسابق المسلمون في الحفر مستعجلين يبادرون قدوم العدو فأقاموا في عمله قريبا من عشرين ليلة وقيل: أربعا وعشرين ليلة وقيل: نحو شهر. وجاء الكفار نزلت قريش بمجتمع السيول -يقول ابن إسحق: في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم من بني كنانة وتهامة ونزل عيينة بن حصن في غطفان ومن معهم من أهل نجد إلى جانب أحد بباب نعمان وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف والخندق بينه وبين القوم وتوجه حيي بن أخطب إلى بني قريظة فلم يزل بهم حتى غدروا وبلغ المسلمين غدرهم فاشتد بهم البلاء فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطي عيينة بن حصن ومن معه ثلث ثمار المدينة على أن يرجعوا فمنعه من ذلك سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وقالا: كنا نحن وهم على الشرك لا يطمعون منا في شيء من ذلك فكيف نفعله بعد أن أكرمنا الله عز وجل بالإسلام وأعزنا بك؟ نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة ولا نعطيهم إلا السيف فاشتد بالمسلمين الحصار حتى حاول المنافقون التهرب من الميدان وفيهم يقول الله تعالى {وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا} [الأحزاب: 12] {وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا} [الأحزاب: 13] وفي هذا الموقف الصعب يقول جل شأنه {إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون* هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا} [الأحزاب: 10، 11] وكان الذين جاءوهم من فوقهم بني قريظة ومن أسفل منهم قريشا وغطفان. يقول ابن إسحق: إن نعيم بن مسعود الأشجعي أتى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعلم به قومه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: خذل عنا الكفار فمضى إلى بني قريظة -وكان نديما لهم- فقال: عرفتم محبتي لكم؟ قالوا: نعم فقال: إن قريشا وغطفان ليست هذه بلادهم وإنهم إن رأوا فرصة انتهزوها وإلا رجعوا إلى بلادهم وتركوكم في البلاء مع محمد ولا طاقة لكم به قالوا: فما ترى؟ قال: لا تقاتلوا معهم حتى تأخذوا رهنا منهم فقبلوا رأيه فتوجه إلى قريش فقال لهم: إن اليهود ندموا على الغدر بمحمد فراسلوه في الرجوع إليه فراسلهم بأنا لا نرضى حتى تبعثوا إلى قريش فتأخذوا منهم رهنا فتقتلوهم ثم جاء

غطفان بنحو ذلك فلما أصبح أبو سفيان بعث عكرمة بن أبي جهل إلى بني قريظة بأنا قد ضاق بنا المنزل ولم نجد مرعى فاخرجوا بنا حتى نناجز محمدا فأجابوهم: إن اليوم يوم السبت ولا نعمل فيه شيئا ولا بد لنا من الرهن منكم لئلا تغدروا بنا فقالت قريش لبعضها: هذا ما حذركم نعيم فراسلوهم ثانيا أن لا نعطيكم رهنا فإن شئتم أن تخرجوا فافعلوا فقالت قريظة: هذا ما أخبرنا نعيم. فكان ذلك من أسباب خذلانهم ورحيلهم. وأخرج الإمام أحمد من حديث أبي سعيد قال: "قلنا يوم الخندق: يا رسول الله هل من شيء نقوله؟ قد بلغت القلوب الحناجر. قال: نعم اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا قال: فضرب الله وجوه أعدائنا بالريح فهزمهم الله عز وجل بالريح" قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا} [الأحزاب: 9] قال مجاهد: سلط الله عليهم الريح فكفأت قدورهم ونزعت خيامهم حتى أظعنتهم وعند البيهقي في الدلائل "بعث الله عليهم الريح فما تركت لهم بناء إلا هدمته ولا إناء إلا أكفأته وحملت قريش أمتعتها وإن الريح لتغلبهم على بعض أمتعتهم. وكانت مدة الحصار عشرين يوما ولم يكن بينهم قتال إلا مراماة بالنبال والحجارة وأصيب منها سعد بن معاذ بسهم فكان سبب موته وقال ابن إسحق في رواية "لم يكن بينهم حرب إلا مراماة بالنبل لكن كان عمرو بن عبد ود العامري قد اقتحم الخندق هو ونفر معه بخيولهم من ناحية ضيقة حتى صاروا بالسبخة فبارزه على فقتله وبرز نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي فبارزه الزبير فقتله ويقال قتله علي ورجعت بقية الخيول منهزمة. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - منقبة لحذيفة وفضيلة له وتكريم النبي صلى الله عليه وسلم له حيث غطاه بطرف عباءته حتى دفئ هذا وقد روى البخاري عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: من يأتينا بخبر القوم؟ فقال الزبير: أنا ثم قال: من يأتينا بخبر القوم؟ فقال الزبير أنا ثم قال: من يأتينا بخبر القوم؟ فقال الزبير: أنا ثم قال: إن لكل نبي حواريا وإن حواريي الزبير". قال الحافظ ابن حجر: إن القصة التي ذهب الزبير لكشفها غير القصة التي ذهب حذيفة لكشفها فقصة الزبير كانت لكشف خبر بني قريظة هل نقضوا العهد بينهم وبين المسلمين؟ ووافقوا قريشا على محاربة المسلمين؟ وقصة حذيفة كانت لما اشتد الحصار على المسلمين بالخندق ووقع الاختلاف بين الأحزاب وأرسل الله تعالى عليهم الريح واشتد البرد تلك الليلة فانتدب النبي صلى الله عليه وسلم من يأتيه بخبر قريش فانتدب له حذيفة بعد تكراره طلب ذلك. 2 - وفيه أنه ينبغي للإمام وأمير الجيش بعث الجواسيس والطلائع لكشف خبر العدو. 3 - قال النووي: وفيه جواز الصلاة في الصوف وهو جائز بإجماع من يعتد به وسواء الصلاة عليه وفيه ولا كراهة في ذلك قال العبدري من أصحابنا: وقالت الشيعة: لا تجوز الصلاة على الصوف

وتجوز فيه وقال مالك: يكره كراهة تنزيه اهـ. وفي استدلال النووي على هذا الحكم بهذا الحديث نظر فإن قوله "من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها" ليس فيه أن العباءة كانت من صوف. 4 - أخذ من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لحذيفة وعدم شعوره بالبرد في ذهابه وإيابه للمهمة معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قاله النووي. 5 - تضحيات الصحابة وجهادهم في سبيل الله. 6 - جواز ذكر المرء لبطولاته أمام من يدعي البطولة ما لم يكن عن عجب وفخر. 7 - ومن قوله صلى الله عليه وسلم "جعله الله معي يوم القيامة" قرن الطلب بالترغيب الذي يشجع عليه وبخاصة إذا كان مهما وخطيرا. والله أعلم.

(495) باب غزوة أحد

(495) باب غزوة أحد 4079 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش فلما رهقوه قال "من يردهم عنا وله الجنة أو هو رفيقي في الجنة" فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل. ثم رهقوه أيضا فقال "من يردهم عنا وله الجنة أو هو رفيقي في الجنة" فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل. فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه "ما أنصفنا أصحابنا". 4080 - عن عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه أنه سمع سهل بن سعد يسأل عن جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد. فقال: جرح وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه فكانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسل الدم وكان علي بن أبي طالب يسكب عليها بالمجن فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة حصير فأحرقته حتى صار رمادا ثم ألصقته بالجرح فاستمسك الدم. 4081 - عن أبي حازم أنه سمع سهل بن سعد وهو يسأل عن جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أم والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان يسكب الماء وبماذا دووي جرحه. ثم ذكر نحو حديث عبد العزيز غير أنه زاد. وجرح وجهه وقال مكان هشمت كسرت. 4082 - وفي رواية عن سهل بن سعد بهذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن أبي هلال أصيب وجهه وفي حديث ابن مطرف جرح وجهه. 4083 - عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد وشج في رأسه فجعل يسلت الدم عنه ويقول "كيف يفلح قوم شجوا نبيهم

وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله؟ " فأنزل الله عز وجل {ليس لك من الأمر شيء} [آل عمران: 128]. 4084 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول "رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون". 4085 - -/- وفي رواية عن الأعمش بهذا الإسناد غير أنه قال فهو ينضح الدم عن جبينه. 4086 - عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اشتد غضب الله على قوم فعلوا هذا برسول الله صلى الله عليه وسلم" وهو حينئذ يشير إلى رباعيته وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله عز وجل". -[المعنى العام]- إن الهزيمة التي تعقب النصر وتكون نهاية المعركة أشد على النفس من هزيمة يعقبها انتصار وتنتهي معركتها بالانتصار من هنا كانت هزيمة أحد أصعب على المسلمين من هزيمة حنين وإن المعركة التي يتعالى فيها العدو ويزهو ويحرض فيها على التشفي وينال ما كان يتمنى ويبالغ في النكاية والإيلام أشد على الأعزة الأحرار من هزيمة لا تنضوي ملابساتها على ذلك. وإن هزيمة ينال فيها العدو من الرءوس والمثل والقيم والهامات أصعب من هزيمة لا ينال فيها العدو ذلك. من هنا كانت هزيمة المسلمين في أحد أقسى هزيمة في تاريخ الغزوات النبوية ومن هنا احتلت أحداثها قدرا كبيرا من آيات القرآن الكريم نقتطف منها قوله تعالى في سورة آل عمران {إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين* وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين* أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين* ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون* وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين* وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته

منها وسنجزي الشاكرين* وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين* وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين} [آل عمران: 140 - 147] {إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون* ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور* إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم} [آل عمران: 153 - 155 - ]. {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أني هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير* وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين* وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون* الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين* ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون* فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون* يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين} [آل عمران: 165 - 171]. لقد أرادت قريش أن تثأر لهزيمتها في بدر فجهزت جيوشها في عام وجمعت معها ما أمكنها جمعه من قبائل العرب وسار بهم أبو سفيان إلى المدينة يغزوها وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بجموعهم فاستشار أصحابه وعرض عليهم التحصن في المدينة فإذا دخل المشركون قاتلوهم في أزقتها ومن فوق بيوتها لكن بعض من فاتهم شرف بدر تحمسوا للقتال فتمسكوا بالخروج ونزل الرسول صلى الله عليه وسلم على رغبتهم رغم الرؤيا التي رآها في منامه وذكرها وأولها لهم بما يفيد التضحية الكبيرة للمسلمين ليقضي الله أمرا كان مفعولا. نزل الجيشان عند أحد على بعد أربعة أميال من المدينة وكان المسلمون ألفا وكان المشركون أربعة آلاف ورجع من جيش المسلمين عبد الله بن أبي في ثلاثمائة فبقي المسلمون سبعمائة في مقابل أربعة آلاف. شكل رسول الله صلى الله عليه وسلم فريق الرماة من خمسين راميا وأمرهم أن لا يتركوا مكانهم هزم المسلمون أم انتصروا وبدأ القتال وحمل المسلمون على المشركين فغلبوهم وأجلوهم عن مضاربهم وأثقالهم ودخل المسلمون عسكرهم يجمعون الغنائم وظن الرماة أن المعركة قد انتهت فنزلوا إلى معسكر المشركين يشاركون في جمع الغنيمة ورأى خالد بن الوليد قائد مائة فارس مشرك انكشاف المسلمين بترك الرماة مواقعهم فاستغل هذه الثغرة وصعد بفرسانه وحملوا على المسلمين

فمزقوهم وأصابوهم بالذعر والارتباك حتى قتل بعضهم بعضا لا يدري وفر كثير منهم نحو المدينة ودخل الكثيرون الشعاب مولين الأدبار ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا عدد قليل ما بين تسعة وبين ثلاثين وحاول بعض الكافرين الوصول إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدافع عنه من معه واستشهد بين يديه سبعة من تسعة على أصح الروايات وجرح وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وشفته السفلى وكسرت سن من أسنانه صلى الله عليه وسلم وجرحت رأسه بعد أن كسرت الخوذة الحديدية التي كان يلبسها وسال الدم على وجهه، وانشغل المشركون بقتلاهم وانشغلوا أكثر بقتلى المسلمين ينفثون فيهم حقدهم وغلهم فيقطعون الأنوف والآذان ويبقرون البطون ويمثلون وأخذوا يجمعون أمتعتهم للرحيل ونادى زعيمهم أبو سفيان: يوم بيوم بدر والحرب سجال ولنا عودة إليكم وعاد المسلمون يبحثون عن قتلاهم ويجمعونهم ويدفنونهم بثيابهم من غير غسل ولا صلاة وخرج النساء المسلمات من المدينة تبكي قتلاهن وخرجت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن خرجن فرأت أباها والدم يسيل على وجهه فاحتضنته وأخذت تغسل الدم بالماء الذي يصبه عليها زوجها علي رضي الله عنه فلما رأت أن الماء يزيد الدم سيلانا لجأت إلى قطعة من حصير قديم بجوارها فأحرقتها ثم أخذت رمادها فكتمت به منفذ الجروح فانقطع الدم. وعز على الرسول صلى الله عليه وسلم ما فعله به قومه فقال: إنهم لن يفلحوا ثم أدركه العفو والرفق فقال: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. -[المباحث العربية]- (أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش) "يوم أحد" أي يوم غزوة أحد ومعركتها و"أحد" بضم الهمزة والحاء جبل معروف بينه وبين المدينة أقل من فرسخ وهو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم "جبل يحبنا ونحبه" وكانت عنده الوقعة المشهورة. و"أفرد" بضم الهمزة مبني للمجهول أي تركه أصحابه مفردا في هذا العدد أما الرجلان من قريش من المهاجرين فهما طلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص وعند محمد بن سعد أنه ثبت معه صلى الله عليه وسلم سبعة من المهاجرين منهم أبو بكر فيحتمل أن الخمسة عادوا وثبتوا مع الرجلين فكل من الروايتين تتحدث عن لحظة. وأما السبعة من الأنصار فقد ذكر الواقدي في المغازي أنه ثبت يوم أحد من الأنصار: أبو دجانة والحباب بن المنذر وعاصم بن ثابت والحارث بن الصمة وسهل بن حنيف وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير وذكر في رواية سعد بن عبادة بدل سعد بن معاذ ومحمد بن مسلمة بدل أسيد بن حضير. وللنسائي والبيهقي في الدلائل عن جابر قال: "تفرق الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وبقى معه أحد عشر رجلا من الأنصار وطلحة" قال الحافظ: وإسناده جيد. قال: وهو كحديث أنس -روايتنا الأولى- إلا أن فيه زيادة أربعة فلعلهم جاءوا بعد ذلك. (فلما رهقوه) قال النووي بكسر الهاء أي غشوه وقاربوه يقال: رهقته وأرهقته أي أدركته وكل

شيء دنوت منه فقد رهقته. اهـ. وفي كتب اللغة: رهق فلان بكسر الهاء يرهق بفتحها ركب الشر والظلم وغشي المآثم وفي القرآن الكريم {فزادوهم رهقا} [الجن: 6] والمعنى: فلما دنا الكفار منه صلى الله عليه وسلم ورغب في أن يدافع عنه من معه خرج إليهم واحد فلما استشهد دنوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه: ما أنصفنا أصحابنا) المراد من "صاحبيه" القرشيان قال النووي: الرواية المشهورة فيه "ما أنصفنا" بإسكان الفاء و"أصحابنا" منصوب مفعول به هكذا ضبطه جماهير العلماء من المتقدمين والمتأخرين والمراد من "نحن" -الرسول صلى الله عليه وسلم وطلحة وسعد- أي لم ننصف الأنصار السبعة الذين ضحوا بأنفسهم واحدا بعد واحد حيث لم يخرج طلحة وسعد المهاجران ولم يبرزا للقتال وذكر القاضي وغيره: أن بعضهم رواه بفتح الفاء "أصحابنا" مرفوع فاعل والمراد على هذا أن أصحابنا الذين فروا لم ينصفونا لفرارهم وتركنا. (وكسرت رباعيته) بفتح الراء وفتح الباء مخففة وكسر العين وفتح الياء مخففة وهي السن التي تلي الثنية وللإنسان أربع ثنايا ثنتان من فوق وثنتان من تحت في وسط الفك من الأمام وله أربع رباعيات ثنتان من فوق يمين الثنيتين وشمالها وثنتان من تحت كذلك فالرباعية هي التي بين الناب والثنية ومعنى كسر الرباعية كسر جزء منها وسقوطه ولم تخلع كلها. (وهشمت البيضة على رأسه) "هشمت" بضم الهاء مبني للمجهول والهشم كسر الشيء اليابس والأجوف وبابه ضرب يضرب و"البيضة" والخوذة بضم الخاء عدة من عدد التسلح من حديد توضع على الرأس لحمايته وتربط بأسفل الذقن وهي تشبه نصف بيضة النعام. قال الحافظ ابن حجر: ومجموع ما ذكر في الأخبار مما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من الجراح يوم أحد أنه شج وجهه وكسرت رباعيته وجرحت وجنته وشفته السفلى من باطنها ووهى منكبه من ضربة ابن قمئة وجحشت ركبته أي خدشت صلى الله عليه وسلم وفي سيرة ابن هشام: أن عتبة بن أبي وقاص هو الذي كسر رباعية النبي صلى الله عليه وسلم السفلى وجرح شفته السفلى وأن عبد الله بن شهاب الزهري هو الذي شجه في جبهته وأن عبد الله بن قمئة جرحه في وجنته فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته صلى الله عليه وسلم. (فكانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسل الدم) في الرواية الثالثة "والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم "وفي الرواية الرابعة "كسرت رباعيته يوم أحد وشج في رأسه فجعل يسلت الدم منه" يقال: سلت الدم بفتح اللام يسلت بضمها وكسرها أي سله وسحبه ومسحه أي فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الدم الذي يسيل من رأسه وفي الرواية الخامسة "وهو يمسح الدم عن وجهه" وفي ملحقها: "فهو ينضح الدم عن جبينه" أي يدفع الدم عن جبينه وعند الطبراني: سبب مجيء فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولفظه "لما كان يوم أحد وانصرف المشركون خرج النساء إلى الصحابة يعينونهم فكانت

فاطمة فيمن خرج فلما رأت النبي صلى الله عليه وسلم اعتنقته وجعلت تغسل جراحاته بالماء فيزداد الدم .. الحديث بمثل روايتنا. (وكان علي بن أبي طالب يسكب عليها بالمجن) أي يسكب عليها الماء من المجن وهو الترس وهو لوح من الحديد مقوس يتوقى به في الحرب أي كان يملؤه بالماء ويصب عليها منه وهي تغسل الدم. (فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة) لأنه يمنع التجلط ويساعد الدم على الخروج من المنفذ. (أخذت قطعة حصير فأحرقته) الضمير للحصير وفي رواية "قطعة حصير خلق". (حتى صار رمادا ثم ألصقته بالجرح فاستمسك الدم) عند الطبراني "فأحرقته بالنار وكمدته به حتى لصق بالجرح فاستمسك الدم" وفي رواية له "فأحرقت حصيرا حتى صارت رمادا فأخذت من ذلك الرماد فوضعته فيه حتى رقأ الدم" وعن هذه المداواة قالت الرواية الثالثة "والله إني لأعرف .. بماذا دووى جرحه". (أم والله إني لأعرف) "أم" بفتح الهمزة وفتح الميم مخففة وأصلها "أما" بفتح الميم مع التخفيف حرف استفتاح بمنزلة "ألا" وتكثر قبل القسم وتحذف ألفها تخفيفا كما هنا. {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون} وقد ذكر في سبب نزول الآية سبب آخر فقد روى البخاري عن سالم عن أبيه "أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع من الركعة الآخرة من الفجر يقول: اللهم العن فلانا وفلانا وفلانا بعد ما يقول: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد فأنزل الله: {ليس لك من الأمر شيء ... } إلى قوله {فإنهم ظالمون} قال الحافظ ابن حجر: والثلاثة الذين دعا عليهم قد أسلموا يوم الفتح ولعل هذا هو السر في نزول قوله تعالى {ليس لك من الأمر شيء} والمعنى: {أو يتوب عليهم} فيسلموا {أو يعذبهم} إن ماتوا كفارا ويحتمل أن الآية نزلت للسببين جميعا. (يحكي نبيا من الأنبياء) أي يحكي عن نفسه ويقول "كيف يفلح قوم شجوا نبيهم .. إلخ" ويقول النووي: هذا النبي صلى الله عليه وسلم المشار إليه من المتقدمين وقد جرى لنبينا صلى الله عليه وسلم مثل هذا يوم أحد. (ويقول: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) في رواية "ثم قال يومئذ -أي حين وضع رماد الحصير على الجرح- "اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسوله ثم مكث ساعة ثم قال: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون". (اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله) زاد سعيد بن منصور في روايته "يقتله رسول الله بيده" ولعل هذا كان المانع من أن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده. اهـ.

-[فقه الحديث]- كانت وقعة أحد المشهورة في شوال سنة ثلاث باتفاق الجمهور وشذ من قال: سنة أربع وقال مالك: كانت بعد بدر بسنة وفيه تجوز لأن بدرا كانت في رمضان باتفاق فهي بعدها بسنة وشهر لم يكتمل. وكان السبب فيها ما ذكره ابن إسحق عن شيوخه وموسى بن عقبة قالوا: لما رجعت قريش مهزومين من غزوة بدر استجلبوا من استطاعوا من العرب في هذه السنة وسار بهم أبو سفيان حتى نزلوا ببطن الوادي من قبل أحد -يهددون المدينة انتقاما من المسلمين وأخذا بثأر يوم بدر- وكان رجال من المسلمين قد أسفوا على ما فاتهم من مشهد بدر وتمنوا لقاء العدو ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا فلما أصبح قال: رأيت البارحة في منامي بقرا تذبح والله خير وأبقى ورأيت سيفي ذا الغفار انقصم من عند ظبته -أو قال: به فلول- فكرهته وهما مصيبتان ورأيت أني في دروع حصينة وأني مردف كبشا قالوا: وما أولتها؟ قال: أولت البقر بقرا يكون فينا وأولت الكبش كبش الكتيبة وأولت الدرع الحصينة المدينة فامكثوا فإن دخل القوم الأزقة قاتلناهم ورموا من فوق البيوت فقال أولئك القوم: يا نبي الله كنا نتمنى هذا اليوم وأبى كثير من الناس إلا الخروج فلما صلى الجمعة وانصرف دعا باللأمة فلبسها ثم أذن في الناس بالخروج فندم ذوو الرأي منهم فقالوا: يا رسول الله امكث كما أمرتنا. فقال: ما ينبغي لنبي إذا أخذ لأمة الحرب أن يرجع حتى يقاتل فنزل فخرج بهم وهم ألف رجل وكان المشركون ثلاثة آلاف حتى نزل بأحد ورجع عنه عبد الله بن أبي بن سلول في ثلاثمائة فبقى في سبعمائة فلما رجع عبد الله سقط في أيدي طائفتين من المؤمنين وهما بنو حارثة وبنو سلمة. أحداث المعركة: صف المسلمون بأصل أحد وصف المشركون بالسبخة وتهيئوا للقتال وعلى خيل المشركين -وهي مائة فرس- خالد بن الوليد وليس مع المسلمين فرس وصاحب لواء المشركين طلحة بن عثمان وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جبير على الرماة وهم خمسون رجلا وعهد إليهم ألا يتركوا منازلهم وكان صاحب لواء المسلمين مصعب بن عمير فبارز طلحة بن عثمان فقتله وحمل المسلمون على المشركين حتى أبعدوهم عن أثقالهم وحملت خيل المشركين فنضحتهم الرماة بالنبل ثلاث مرات فدخل المسلمون عسكر المشركين فانتهبوهم فرأى ذلك الرماة فتركوا مكانهم ودخلوا العسكر فأبصر ذلك خالد بن الوليد ومن معه فعلا بخيل المشركين فوقهم فقتل من بقي من الرماة ومنهم أميرهم عبد الله بن جبير ولما رأى المشركون خيلهم ظاهرة تراجعوا فحملوا على المسلمين فمزقوهم وصرخ صارخ: قتل محمد فعطف المسلمون يقتل بعضهم بعضا وهم لا يشعرون وفر طائفة منهم إلى جهة المدينة وتفرق سائرهم في الشعاب وثبت نبي الله صلى الله عليه وسلم حين انكشفوا عنه وهو يدعوهم في أخراهم واستقبله المشركون فرموا وجهه فأدموه وكسروا رباعيته

وتوجه النبي صلى الله عليه وسلم يلتمس أصحابه وشغل المشركون بقتلى المسلمين يمثلون بهم يقطعون الآذان والأنوف والفروج ويبقرون البطون وهم يظنون أنهم أصابوا النبي صلى الله عليه وسلم وكبار أصحابه حتى اتخذت هند من أجزاء قتلى المسلمين حزما وقلائد وأعطت حزمها وقلائدها اللاتي كن عليها لوحشي جزاء له على قتل حمزة وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها وقال أبو سفيان يفتخر بآلهته: اعل هبل فناداه عمر: الله أعلى وأجل ورجع المشركون إلى أثقالهم فحملوها ورحلوا ورجع المسلمون إلى قتلاهم فدفنوهم في ثيابهم ولم يغسلوهم ولم يصلوا عليهم وبكى المسلمون على قتلاهم فسر المنافقون وظهر غش اليهود وفارت المدينة بالنفاق فقالت اليهود: لو كان نبيا ما ظهروا عليه وقال المنافقون: لو أطاعونا ما أصابهم هذا ما ماتوا وما قتلوا قال ابن إسحق: وأنزل الله في شأن أحد ستين آية من سورة آل عمران ذكرناها في المعنى العام. حصيلة المعركة: كان المسلمون في بدر قد أصابوا من المشركين أربعين ومائة سبعين قتيلا وسبعين أسيرا واستشهد من المسلمين يوم أحد سبعون شهيدا على أرجح الأقوال: أربعة من المهاجرين حمزة ومصعب بن عمير وعبد الله بن جحش وشماس بن عثمان والباقون من الأنصار وقد روى البخاري في غزوة أحد مجموعة من الأحاديث تلقي ضوءا على أحداث المعركة نذكر منها: 1 - عن البراء رضي الله عنه قال: "لقينا المشركين يومئذ وأجلس النبي صلى الله عليه وسلم جيشا من الرماة وقال: لا تبرحوا إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء" أي النساء المشركات وكانت قريش قد خرجوا معهم بالنساء لأجل الحفيظة والثبات وسمي منهن ابن إسحق: هند بنت عتبة وأم حكيم بنت الحارث بن هشام وفاطمة بنت الوليد بن المغيرة وبرزة بنت مسعود الثقفية وريطة بنت شيبة السهمية وسلافة بنت سعد وخناس بنت مالك والدة مصعب بن عمير وعمرة بنت علقمة بن كنانة وقيل خرجت إلى أحد خمس عشرة امرأة "يشتددن في الجبل رفعن عن سوقهن قد بدت خلاخلهن" وفي رواية عند ابن إسحق قال الزبير بن العوام: "والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عتبة وصواحباتها مشمرات هوارب ما دون إحداهن قليل ولا كثير" فقال الرماة من المسلمين: "الغنيمة الغنيمة. فقال عبد الله لأصحابه: عهد إلي النبي صلى الله عليه وسلم أن لا تبرحوا فأبوا فأصيب سبعون قتيلا وأشرف أبو سفيان فقال: أفي القوم محمد؟ فقال: لا تجيبوه فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ قال: لا تجيبوه فقال أفي القوم ابن الخطاب؟ .. فقال: إن هؤلاء قتلوا فلو كانوا أحياء لأجابوا فلم يملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدو الله أبقى الله عليك ما يخزيك. قال أبو سفيان: اعل هبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجيبوه. قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجيبوه قالوا: ما نقول؟ قال: قالوا: الله مولانا ولا مولى لكم. قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر والحرب سجال وتجدون مثلة لم آمر بها ولم تسئني" أي لم أكرهها وإن كان وقوعها بغير أمري. 2 - عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: "لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى غزوة أحد رجع ناس ممن خرج معه وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فرقتين فرقة تقول: نقاتلهم وفرقة تقول: لا نقاتلهم فنزلت {فما لكم في

المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا} [النساء: 88] وقال: إنها طيبة تنفي الذنوب كما تنفي النار خبث الفضة". 3 - عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: نزلت هذه الآية فينا (آل عمران 122) {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا} بني سلمة وبني حارثة وما أحب أنها لم تنزل والله يقول {والله وليهما} (والفشل الجبن وبنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة أقاربهم من الأوس). 4 - عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ومعه رجلان يقاتلان عنه عليهما ثياب بيض كأشد القتال ما رأيتهما قبل ولا بعد" قال الحافظ ابن حجر: هما جبريل وميكائيل كذا وقع في مسلم من طريق آخر. 5 - عن أنس رضي الله عنه قال: "لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم مجوب عليه بحجفة له" أي محصنه ومحيطه بترس له يقال: جوب عليه بترس أي وقاه به والحجفة الترس من جلد ونحوه "وكان أبو طلحة رجلا راميا شديد النزع" أي شديد رمي السهم "كسر يومئذ قوسين أو ثلاثا وكان الرجل يمر معه بجعبة من النبل فيقول: انثرها لأبي طلحة قال: ويشرف النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم فيقول أبو طلحة "للنبي صلى الله عليه وسلم" بأبي أنت وأمي. لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم نحرى دون نحرك ولقد وقع السيف من يدي أبي طلحة إما مرتين وإما ثلاثا" 6 - عن عثمان بن موهب قال: جاء رجل حج البيت فرأى قوما جلوسا فقال: من هؤلاء القعود؟ قالوا: هؤلاء قريش قال: من الشيخ؟ قالوا: ابن عمر فأتاه فقال: إني سائلك عن شيء أتحدثني؟ ثم قال: أنشدك بحرمة هذا البيت. أتعلم أن عثمان بن عفان فر يوم أحد؟ قال: نعم. قال: فتعلمه تغيب عن بدر؟ فلم يشهدها؟ قال: نعم. قال: فتعلم أنه تخلف عن بيعة الرضوان؟ فلم يشهدها؟ قال نعم قال فكبر. قال ابن عمر: تعال لأخبرك ولأبين لك عما سألتني عنه أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه" أي بقوله تعالى {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم} "وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فإنه لو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان بن عفان لبعثه مكانه فبعث عثمان وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة فقال النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: هذه يد عثمان فضرب بها على يده فقال: هذه لعثمان اذهب بها الآن معك". 7 - عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: جعل النبي صلى الله عليه وسلم على الرجالة يوم أحد عبد الله بن جبير وأقبلوا منهزمين فذاك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم" يشير بذلك إلى قوله تعالى {إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون} [آل عمران: 135]. الحكمة في الهزيمة: أفعال الله لا تخلو من الحكمة علمناها أو لم نعلمها ويحاول

العلماء في مثل هذه الظروف تلمس الحكم والعبر والمواعظ من المواقف الصعبة فيقول الحافظ ابن حجر: قال العلماء: وكان في قصة أحد وما أصيب به المسلمون من الفوائد والحكم الربانية أشياء عظيمة منها: أ- تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية وشؤم ارتكاب النهي لما وقع من ترك الرماة موقفهم الذي أمرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أن لا يبرحوا مواقعهم وأن هذا الشؤم يعم ضرره من لم يقع منه. ب- وتعريف المسلمين أن عادة الرسل أن تبتلى وتكون لها العاقبة كما تقدم في قصة هرقل مع أبي سفيان والحكمة في ذلك أنهم لو انتصروا دائما دخل في المؤمنين من ليس منهم ولم يتميز الصادق من غيره ولو انكسروا دائما لم يحصل المقصود من البعثة فاقتضت الحكمة الجمع بين الأمرين لتمييز الصادق من الكاذب وذلك أن نفاق المنافقين كان مخفيا عن المسلمين فلما جرت هذه القصة وأظهر أهل النفاق ما أظهروا من الفعل والقول عاد التلويح صريحا وعرف المسلمون أن لهم عدوا في دورهم فاستعدوا لهم وتحرزوا منهم. ج- ومنها أن في تأخير النصر في بعض المواطن هضما للنفس وكسرا لشماختها فلما ابتلي المؤمنون صبروا وجزع المنافقون. د- ومنها أن الله هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته لا تبلغها أعمالهم فقيض لهم أسباب الابتلاء والمحن ليصلوا إليها. هـ- ومنها أن الشهادة من أعلى مراتب الأولياء فساقها إليهم. و- ومنها أنه أراد إهلاك أعدائه فقيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها ذلك من كفرهم وبغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه فمحص بذلك ذنوب المؤمنين ومحق بذلك الكافرين. ز- وفي هذا وقوع الانتقام والابتلاء بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لينالوا جزيل الأجر قاله النووي وقال القاضي: وليعلم أنهم من البشر تصيبهم محن الدنيا ويطرأ على أجسامهم ما يطرأ على أجسام البشر ليتيقنوا أنهم مخلوقون مربوبون ولا يفتتن بما ظهر على أيديهم من المعجزات وتلبيس الشيطان من أمرهم ما لبسه على النصارى وغيرهم. اهـ. وليعظم لهم الأجر وتزداد درجاتهم رفعة وليتأسى بهم أتباعهم في الصبر على المكاره والعاقبة للمتقين. -[ويؤخذ من أحاديث الباب فوق ما تقدم]- 1 - من لبس رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضة على رأسه في الحرب استحباب لبسها هي والدروع وغيرها من أسباب التحصن والتوقي في الحرب وأن ذلك لا يقدح في التوكل. 2 - ومن موقف الأنصار السبعة واستشهادهم في الدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم مدى شجاعتهم وإيمانهم وتضحيتهم فداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم. 3 - في الأحاديث منقبة وفضيلة لطلحة وسعد لثباتهما وعدم فرارهما مع الشدة.

4 - في علاج فاطمة رضي الله عنها لجروح رسول الله صلى الله عليه وسلم جواز العلاج والمداواة وأنها لا تقدح في التوكل. 5 - قال المهلب: فيه أن قطع الدم بالرماد كان معلوما عندهم لا سيما إن كان الحصير من ديس السعد فهي معلومة بالقبض وطيب الرائحة فالقبض يسد أفواه الجرح وطيب الرائحة يذهب بزهم الدم وأما غسل الدم أولا فينبغي أن يكون إذا كان الجرح غير غائر أما لو كان غائرا فلا يؤمن معه ضرر الماء إذا صب فيه. اهـ. وقد ظن أبو الحسن القابسي أن هذه الخاصية لنوع معين من الحصير فقال: وددنا لو علمنا ذلك الحصير مم كان؟ لنتخذه دواء لقطع الدم وقال ابن بطال: زعم أهل الطب أن الحصير بأنواعه إذا أحرقت تبطل زيادة الدم بل الرماد كله كذلك لأن الرماد من شأنه القبض ولهذا ترجم الترمذي لهذا الحديث بعنوان (التداوي بالرماد). والظاهر أن كتم منافذ الدم بأي شيء يمنع تدفقه وشرطه أن يكون معقما غير ملوث قالوا: وأهم التعقيم ما كان بالنار فالتراب المتخلف عن النار في مثل هذه الحالة خير ما يسد منافذ الجروح وبعض الناس كانوا يستخدمون مسحوق البن الخاص بالقهوة المصرية بدلا من رماد الحصير وليس معنى ذلك أن هذه الوسيلة خير من الوسائل الطبية الحديثة ولكنها كانت أفضل الوسائل المتاحة في عصرها وظروفها. 6 - وفي الأحاديث أنه ينبغي للمرء أن يتذكر نعمة الله تعالى عليه وأن يعترف بالتقصير فإن النعم تظهر قيمتها عند فقدها وقديما قالوا: الصحة تاج على رءوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى. 7 - واستفيد من هذه الحادثة أخذ الصحابة حذرهم من العود لمثلها والمبالغة في الطاعة والتحرز من العدو المنافق بينهم وإلى ذلك أشار تعالى بقوله في سورة آل عمران {وتلك الأيام نداولها بين الناس .. } [آل عمران: 140] إلى أن قال: {وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين} وقال: {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب} [آل عمران: 179]. 8 - ومن الرواية الخامسة ما كان عليه الأنبياء من الحلم والصبر وعفوهم عن أعدائهم الذين آذوهم والدعاء لهم بالهداية والمغفرة فترتفع بذلك درجاتهم ويتأسى بهم أتباعهم. والله أعلم.

(496) باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين

(496) باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين 4087 - عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند البيت وأبو جهل وأصحاب له جلوس وقد نحرت جزور بالأمس فقال أبو جهل أيكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان فيأخذه فيضعه في كتفي محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فأخذه فلما سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه. قال: فاستضحكوا وجعل بعضهم يميل على بعض وأنا قائم أنظر لو كانت لي منعة طرحته عن ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم ساجد ما يرفع رأسه حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة فجاءت وهي جويرية فطرحته عنه ثم أقبلت عليهم تشتمهم فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته رفع صوته ثم دعا عليهم وكان إذا دعا دعا ثلاثا. وإذا سأل سأل ثلاثا. ثم قال "اللهم عليك بقريش" ثلاث مرات. فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك وخافوا دعوته. ثم قال "اللهم عليك بأبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عقبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط" (وذكر السابع ولم أحفظه). فوالذي بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق لقد رأيت الذين سمى صرعى يوم بدر ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر. قال أبو إسحق الوليد بن عقبة غلط في هذا الحديث. 4088 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد وحوله ناس من قريش إذ جاء عقبة بن أبي معيط بسلا جزور فقذفه على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرفع رأسه. فجاءت فاطمة فأخذته عن ظهره ودعت على من صنع ذلك فقال "اللهم عليك الملأ من قريش: أبا جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وعقبة بن أبي معيط وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلف أو أبي بن خلف (شعبة الشاك) " قال: فلقد رأيتهم قتلوا يوم بدر فأقلوا في بئر غير أن أمية أو أبيا تقطعت أوصاله فلم يلق في البئر. 4089 - وفي رواية عن أبي إسحق بهذا الإسناد نحوه وزاد وكان يستحب ثلاثا يقول "اللهم عليك بقريش اللهم عليك بقريش اللهم عليك بقريش" ثلاثا وذكر فيهم الوليد بن عتبة وأمية بن خلف ولم يشك قال أبو إسحق: ونسيت السابع.

4090 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت فدعا على ستة نفر من قريش فيهم أبو جهل وأمية بن خلف وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وعقبة بن أبي معيط. فأقسم بالله لقد رأيتهم صرعى على بدر قد غيرتهم الشمس وكان يوما حارًا. 4091 - عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال "لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت. فانطلقت وأنا مهموم على وجهي. فلم أستفق إلا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم قال: فناداني ملك الجبال وسلم علي ثم قال يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين" فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا". 4092 - عن جندب بن سفيان رضي الله عنه قال: دميت إصبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض تلك المشاهد فقال: 4 - هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت 4093 - وفي رواية عن الأسود بن قيس بهذا الإسناد وقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار فنكبت إصبعه. 4094 - عن جندب رضي الله عنه قال: أبطأ جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال المشركون: قد ودع محمد فأنزل الله عز وجل {والضحى* والليل إذا سجى* ما ودعك ربك وما قلى} [الضحى: 1 و 2 و 3].

4095 - عن جندب بن سفيان رضي الله عنه قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلتين أو ثلاثا فجاءته امرأة فقالت: يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث قال: فأنزل الله عز وجل {والضحى* والليل إذا سجى* ما ودعك ربك وما قلى} 4096 - عن عروة أن أسامة بن زيد رضي الله عنه أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب حمارا عليه إكاف تحته قطيفة فدكية وأردف وراءه أسامة وهو يعود سعد بن عباة في بني الحارث بن الخزرج وذاك قبل وقعة بدر حتى مر بمجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود فيهم عبد الله بن أبي وفي المجلس عبد الله بن رواحة فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه. ثم قال لا تغبروا علينا فسلم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن فقال عبد الله بن أبي: أيها المرء لا أحسن من هذا إن كان ما تقول حقا: فلا تؤذنا في مجالسنا وارجع إلى رحلك فمن جاءك منا فاقصص عليه. فقال عبد الله بن رواحة: اغشنا في مجالسنا فإنا نحب ذلك قال: فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى هموا أن يتواثبوا فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم ثم ركب دابته حتى دخل على سعد بن عبادة فقال "أي سعد ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب؟ (يريد عبد الله بن أبي) قال كذا وكذا" قال اعف عنه يا رسول الله واصفح فوالله لقد أعطاك الله الذي أعطاك ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق بذلك فذلك فعل به ما رأيت فعفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم. 4097 - -/- وفي رواية عن ابن شهاب في هذا الإسناد بمثله وزاد وذلك قبل أن يسلم عبد الله.

4098 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم لو أتيت عبد الله بن أبي قال فانطلق إليه وركب حمارا وانطلق المسلمون وهي أرض سبخة فلما آتاه النبي صلى الله عليه وسلم قال: إليك عني فوالله لقد آذاني نتن حمارك قال: فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك قال: فغضب لعبد الله رجل من قومه قال: فغضب لكل واحد منهما أصحابه قال: فكان بينهم ضرب بالجريد وبالأيدي وبالنعال. قال: فبلغنا أنها نزلت فيهم {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} [الحجرات: 9]. -[المعنى العام]- تحمل الأذى في سبيل الله والدعوة إليه شأن الرسل وأصحابهم منذ بعث الله الرسل إلى البشر وتكذيب الأمم لرسلهم وإيذاؤهم لهم قديم وأليم وصل إلى درجة قتل الأنبياء بغير حق ووصل إلى شق الأتباع بالمنشار لمجرد أنهم يقولون: ربنا الله ومن قبل قال فرعون لموسى عليه السلام: {قال لئن اتخذت إله غيري لأجعلنك من المسجونين} [الشعراء: 29] وقال لأتباع موسى عليه السلام: {لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين} [الأعراف: 124]. وما يعرض في هذا الباب من الأحاديث مثل لما لقي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين وليس شرطا أن يكون المثال أعلى الدرجات فقد يكون التمثيل بما هو أقل إشارة لما هو أكبر وأعظم ولقد وقف مشركو مكة من دعوة محمد صلى الله عليه وسلم موقف المعارضة والتسفيه منذ اللحظة الأولى ومنذ قال أبو لهب: تبا لك. ألهذا جمعتنا؟ ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعبد الله في المسجد الحرام عند الكعبة كما كانوا يسجدون لأصنامهم هناك ولم يكونوا يتعرضون له في عهد عمه أبي طالب الذي كان يحميه من أذاهم وكانوا يخشونه ويهابونه فلما مات أبو طالب بعد عشر سنوات من البعثة والحماية بدأ المشركون النيل والإيذاء المباشر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأكبر الإيذاء هو إيذاء السخرية والتنكيل والاستهزاء وقد لجأ إلى ذلك فريق من الجالسين في المسجد حول الكعبة بزعامة أبي جهل رأوه صلى الله عليه وسلم قد دخل فوقف فبدأ يصلي صلاتنا وهم يعلمون أنها ذات ركوع وسجود فقال أبو جهل: من منكم يذهب إلى بيت فلان وقد ولدت ناقته منذ قليل فيأتي لنا بكيس مولودها بقذارته فيضعه على رقبة محمد إذا سجد؟ فقال عقبة: أنا آتيك به فذهب فجاء به فوضعه على رقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد ولم يرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه خشية أن يصيب ثيابه وبدنه أوساخ هذا الفرث وتضاحك المشركون ولم يستطع أحد من ضعفاء المسلمين كابن مسعود أن يفعل شيئا وهو يشاهد هذا المنظر الأليم خوفا من هؤلاء الصناديد فأرسلوا إلى فاطمة رضي الله عنها سرا يخبرونها فجاءت والبيت قريب ورفعت الفرث

عن أبيها واتجهت إليهم تشتمهم وتسبهم فلم يردوا عليها فلما انتهى صلى الله عليه وسلم من صلاته توجه إلى الكعبة ورفع يديه ودعا على زعماء قريش الجالسين أصحاب هذا التخطيط والراضين عنه وكرر الدعاء ثلاثا وكتم المشركون أنفاسهم واستبد الخوف والرعب بهم يخافون على أنفسهم من دعائه صلى الله عليه وسلم ولم تمض بضع سنوات بل لم تمض أربع سنوات حتى صرعهم الله في غزوة بدر وألقيت جثثهم في بئر بعد أن صارت جيفة وتحقق فيهم ما دعا به صلى الله عليه وسلم. ولما ابتلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد وكسرت سنه وجرح وجهه وشجت رأسه وسال الدم منه على وجهه الشريف ورأت عائشة زوجه رضي الله عنها هذا المنظر الصعب واسته رضي الله عنها بقولها: هل رأيت شدة وأذى في حياتك يا رسول الله آلم من هذا الذي حدث لك؟ قال لها: إن الآلام الجسدية قد تهون ولكن الصعب الآلام النفسية ولقد رأيت من قريش من الآلام النفسية الشيء الكثير وأصعب ما رأيت منها يوم ذهبت إلى الطائف أستجير بزعيمها ابن عبد ياليل من إيذاء أهل مكة لي بعد موت أبي طالب طلبت منه أن يحميني من أذاهم -وكان من عادة العرب إذا أعلن كبير حماية أحد أو أنه في جواره لم يتعرض له ويصبح أذاه من أذاه واستمر في الإسلام أن يجير المسلمون من أجاره واحد منهم- وأقمت في الطائف عشر أيام أستعطفهم حمايتي وتمكيني من تبليغ دعوة ربي فسخروا مني وقالوا إن قومك الذين آذوك ويؤذونك أعلم بك منا ولولا أنك تستحق ما آذوك وأغروا بي سفهاءهم وصبيانهم يتبعونني بالشتم والاستهزاء وقذف الحجارة حتى أدموا قدمي وسرت لا أدري إلى أين أسير مهموما مهزوما مشغولا بما أنا فيه وقد كنت كالمستجير من الرمضاء بالنار ولم أنتبه لنفسي ولم أستفق من غشيتي إلا بعد عدة أميال في طريق وصلت فيه إلى ما يعرف بقرن الثعالب وقد رجع السفهاء والصبية فوقفت وأسندت ظهري إلى سور حديقة ورفعت رأسي إلى السماء أقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ثم أظلتني سحابة فرفعت رأسي إلى السماء فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني: يا محمد إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت في قومك فناداني الملك الموكل بالجبال: يا محمد إن الله عز وجل قد سمع ما رد به قومك عليك وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربك لأأتمر بأمرك إن شئت أطبقت عليهم الجبلين المحيطين بهم فبماذا تأمرني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل أعفو وأصفح وأسأل الله أن يهديهم إلى الإسلام فإن لم يسلموا فأرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا. فصدق الله العظيم إذ يقول {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128]. نعم لقد كانت يد الرحمن الرحيم تحنو على محمد صلى الله عليه وسلم كلما أوذي وتأسو جراحه كلما جرح فحينما فرح المشركون بتأخر نزول الوحي وأظهروا الشماتة وقالوا: ودع رب محمد محمدا وأبغضه وقلاه نزل قوله تعالى: {والضحى* والليل إذا سجى* ما ودعك ربك وما قلى} ولم يقتصر الأذى

الذي لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم على كفار قريش في مكة بل كان العدو الثاني له بالمدينة المنافقون الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر والذين ينتهزون الفرص لإبداء البغضاء من أفواههم فهذا عبد الله بن أبي رأس المنافقين قبل أن يظهر إسلامه كان يجمع علانية بعض المسلمين وبعض المشركين كزعيم لهم يجلس معهم مجلس رئيس القوم فقد كان أهل المدينة يعدون له التاج ليضعوه فوق رأسه علامة على رئاسته وملكه فلما أتى الله بمحمد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وتقلد أمور أصحابه وصار كحاكم عام للمدينة ضاع الملك على عبد الله بن أبي فحقد وحسد. وأصبح يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما سنحت له الفرصة وأشار بعض الصحابة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلتقي بعبد الله بن أبي وأن يعرض عليه الإسلام برفق لعله يرضي غروره ويستحي ويسلم فقال: حسنا سأفعل ذلك في طريقي لعيادة سعد بن عبادة فهو مريض وركب حمارا وسار ومعه بعض الصحابة حتى وصلوا مجلس عبد الله بن أبي في أرض ترابية سبخة ارتفع غبارها بإثارة القوم فوضع عبد الله بن أبي يده على أنفه يسدها من التراب وليظهر التأذي من رائحة حمار رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم ونزل عن حماره ودعاه إلى الإسلام فقال عبد الله بن أبي: أيها المرء. لقد آذيتنا بغبارك وآذيتنا بنتن حمارك فأمسك ما تقول واجلس في بيتك فمن أراد ما تقول ذهب إليك وثار الصحابي الجليل عبد الله بن رواحة وكان جالسا في مجلس عبد الله بن أبي فقال له: والله إن ريح حمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك وغضب مع ابن رواحة أناس وتشابكت أيدي الفريقين فهدأهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أكمل مسيره إلى عيادة سعد بن عبادة وشكا إليه ما قال ابن أبي فقال له سعد: اعف عنه يا رسول الله واعذره وقدر ظروفه فقد كان يعد نفسه ليكون ملكا على المدينة فلم يرد الله له ذلك فهو موتور فاعف عنه فعفا عنه ولم يجد ابن أبي مخرجا من الحلقة التي ضاقت عليه بإسلام من حوله واحدا بعد الآخر فلجأ إلى إعلان إسلامه وبقي رأس المنافقين. -[المباحث العربية]- (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند البيت) "البيت" علم بالغلبة على الكعبة وعند البخاري "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في ظل الكعبة". (وأبو جهل وأصحاب له جلوس) عند البيت أيضا وأصحابه هم السبعة المدعو عليهم بعد وفي الرواية الثانية "وحوله ناس من قريش". (وقد نحرت جزور بالأمس) الجزور من الإبل بفتح الجيم ما يجزر أي يقطع وفي كتب اللغة: الجزور ما يصلح لأن يذبح من الإبل ولفظه أنثى يقال للبعير: هذه جزور سمينة. (فقال أبو جهل) في رواية للبخاري "إذ قال بعضهم لبعض" فالمراد من البعض القائل أبو جهل.

(أيكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان فيأخذه فيضعه في كتفي محمد إذا سجد) في الكلام هنا حذف والأصل: فيأخذه فيجيء به فيضعه .. إلخ وعند البخاري "أيكم يجيء بسلا جزور بني فلان فيضعه على ظهر محمد إذا سجد"؟ والسلا مقصور بفتح السين وتخفيف اللام وهو اللفافة التي يكون فيها الولد في بطن الناقة وسائر الحيوان وهو غشاء رقيق ويسمى من الآدمية "المشيمة". (فانبعث أشقى القوم فأخذه فلما سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه) في الكلام حذف أي فذهب أشقى القوم فأخذه فجاء به فانتظر حتى سجد فلما سجد وضعه يقال: بعثه يبعثه بفتح العين أي أرسله وحده فانبعث وفي رواية "أشقى قوم" بالتنكير ففيه مبالغة أي أشقى الناس عموما لكن المقام يقتضي الأول لأن الشقاء هنا بالنسبة إلى هؤلاء القوم المعهودين والمراد من أشقى القوم هنا عقبة بن أبي معيط كما صرح به في الرواية الثانية وظاهر الرواية الثانية أن عقبة فعل ذلك ابتداء دون إرسال لكنه محمول على الرواية الأولى ففي الرواية الثانية اختصار. (فاستضحكوا وجعل بعضهم يميل على بعض) السين والتاء للصيرورة أو للطلب بأن طلب كل منهم من نفسه الضحك أو طلب بعضهم من بعض أن يضحك ويميل بعضهم على بعض من كثرة الضحك وفي رواية للبخاري "فجعلوا يضحكون ويحيل بعضهم على بعض" بالحاء بدل الميم قال الحافظ ابن حجر: من الإحالة والمراد أن بعضهم ينسب فعل ذلك إلى بعض بالإشارة تهكما ويحتمل أن يكون من حال يحيل -بالفتح- إذا وثب على ظهر دابته أي يثب بعضهم على بعض من المرح والبطر. (وأنا قائم أنظر) ما فعلوا لا أستطيع أن أتكلم أو أفعل شيئا وهذا كلام ابن مسعود. (لو كانت لي منعة طرحته عن ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم) المنعة بفتح النون القوة وحكي إسكان النون وهو ضعيف وجزم القرطبي بسكون النون قال: ويجوز الفتح على أنه جمع مانع ككاتب وكتبة وإنما قال ابن مسعود ذلك لأنه لم يكن له بمكة عشيرة لكونه هذليا حليفا وكان حلفاؤه إذ ذاك كفارا وجاء عند البزار "فأنا أرهب" أي أخاف منهم وفي رواية البخاري "لا أغني شيئا" وفي رواية "لا أغير شيئا" أي لا أغني في كف شرهم أو لا أغير شيئا من فعلهم. (ما يرفع رأسه) مخافة أن يلوث أكثر مما لوث وفي رواية "وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجدا". (حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة فجاءت وهي جويرية) في الرواية الثانية "فجاءت فاطمة" ففيها حذف وفي رواية "فأقبلت تسعى" وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت صغيرة والجارية الفتية الصغيرة قيل: لأنها تجري من مكان إلى مكان تلعب دون قيود الفتاة. (فطرحته عنه) في الرواية الثانية "فأخذته عن ظهره" أي وطرحته بعيدا عنه. (ثم أقبلت عليهم تشتمهم) يقال: شتمه بفتح التاء يشتمه بضمها وكسرها سبه

وذكره بقبيح الكلام وفي الرواية الثانية "ودعت على من صنع ذلك" زاد البزار "فلم يردوا عليها شيئا". (فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته رفع صوته ثم دعا عليهم) يحتمل أن المعنى رفع صوته بالدعاء عليهم لكن روايات أخرى تدل على أنه صلى الله عليه وسلم رفع صوته بكلام آخر قبل الدعاء عليهم فعند البزار "رفع رأسه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد. اللهم .. " قال الحافظ ابن حجر: والتعبير بثم يشعر بمهلة بين الرفع والدعاء وروايتنا صريحة في أن الكلام والدعاء عليهم كان خارج الصلاة لكنه رفع وهو مستقبل الكعبة كما ثبت في الرواية الثالثة. (ثم دعا عليهم ثم قال: اللهم عليك بقريش) العطف تفسيري فالدعاء عليهم هو قوله: اللهم عليك بقريش وفيها مضاف محذوف أي عليك بإهلاك قريش والمراد الكفار منهم أو من سمي منهم فهو عام أريد به الخصوص و"عليك" اسم فعل بمعنى التزم أو الزم. وفي الرواية الثانية "اللهم عليك الملأ من قريش" أي هذه الجماعة من قريش. (ثلاث مرات) في بعض روايات الصحيح "اللهم عليك بقريش اللهم عليك بقريش اللهم عليك بقريش" مكررة لفظا لا عددا وهو المراد الذي وقع. (فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك وخافوا دعوته) في رواية البخاري "فشق عليهم إذ دعا عليهم وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة" أي وكانوا يعتقدون أن الدعوة في مكة وفي الحرم مستجابة ويمكن أن يكون ذلك مما بقي عندهم من شريعة إبراهيم عليه السلام. (ثم قال: اللهم عليك بأبي جهل بن هشام) أي التزم بإهلاك أبي جهل وفي رواية "اللهم عليك بعمرو بن هشام وهو اسم أبي جهل فلعله سماه وكناه معا. (وعتبة بن ربيعة) في رواية البخاري "وعليك بعتبة بن ربيعة" (والوليد بن عقبة) هكذا الرواية هنا "عقبة" بالقاف وهي وهم قديم نبه عليه ابن سفيان الراوي عن مسلم قال أبو إسحق في آخر الرواية: الوليد بن عقبة غلط في هذا الحديث. ورواها البخاري على الصواب "بن عتبة" بالتاء وكذا في ملحق الرواية الثانية والوليد هذا هو ابن عتبة بن ربيعة المدعو عليه قال النووي: قال العلماء: الوليد بن عقبة بالقاف هو ابن أبي معيط ولم يكن ذلك الوقت موجودا أو كان طفلا صغيرا جدا فقد أتى به النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وهو قد ناهز الاحتلام ليمسح على رأسه. (وأمية بن خلف) كذا ذكر في الرواية الأولى والثالثة بدون شك وهو الصحيح وفي الرواية الثانية "أمية بن خلف أو أبي بن خلف" الشك من شعبة الراوي عن أبي إسحق الراوي عن عمرو بن ميمون الراوي عن عبد الله بن مسعود والصحيح أمية فقد أطبق

أصحاب السير والمغازي على أن المقتول ببدر أمية وعلى أن أخاه "أبيا" قتل بأحد (وعقبة بن أبي معيط) بضم الميم وفتح العين. (وذكر السابع ولم أحفظه) في ملحق الرواية الثانية "قال أبو إسحق: ونسيت السابع" فالذي ذكر السابع لأبي إسحق شيخه عمرو بن ميمون وفي رواية البخاري "وعد السابع فلم نحفظه" قال الكرماني: فاعل "عد" رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ابن مسعود وفاعل "فلم نحفظه" ابن مسعود أو عمرو بن ميمون. اهـ. وهو مستبعد مع صريح رواية مسلم "قال ابن إسحق: ونسيت السابع" قال الحافظ ابن حجر: على أن أبا إسحق قد تذكره مرة أخرى فسماه عمارة بن الوليد كذا أخرجه البخاري في الصلاة وعلى هذا ففاعل "ذكر" و"عد" عمرو بن ميمون قال: واستشكل بعضهم عد عمارة بن الوليد في المذكورين لأنه لم يقتل ببدر بل ذكر أصحاب المغازي أنه مات بأرض الحبشة والجواب أن كلام ابن مسعود في أنه رآهم صرعى في القليب محمول على الأكثر ويدل عليه أن عقبة بن أبي معيط لم يطرح في القليب وإنما حمل من بدر أسيرا وقيل صبرا بعد أن رحلوا عن بدر مرحلة. (فوالذي بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق) في الرواية الثالثة "فأقسم بالله" وفي رواية النسائي "والذي أنزل عليه الكتاب" وكأن ابن مسعود قال ذلك تأكيدا. (لقد رأيت الذين سمى صرعى يوم بدر ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر) مفعول "سمى" وهو عائد الصلة محذوف أي الذين سماهم والمراد أكثرهم كما سبق و"القليب" بفتح القاف هو البئر التي لم تطو أي المحفورة التي لم يتم بناؤها وقيل: العادية القديمة التي لا يعرف صاحبها و"قليب" من "قليب بدر" بالجر بدل من "القليب" وإنما أمر بإلقائهم في البئر تحقيرا لهم ولئلا يتأذى الناس بريحهم ففي الرواية الثالثة "قد غيرتهم الشمس" أي غيرت أجسادهم بالانتفاخ ورائحتهم بالنتن وألوانهم إلى السواد وقد بين سبب هذا التغيير السريع بقوله "وكان يوما حارا". وفي الرواية الثانية "فألقوا في بئر غير أن أمية -أو أبيا- تقطعت أوصاله فلم يلق في البئر" قال النووي: هكذا هو في بعض النسخ "فلم يلق" بالقاف فقط وفي أكثرها "فلم يلقى" بالألف وهو جائز على لغة والأوصال المفاصل. اهـ. زاد في رواية "تقطعت أوصاله لأنه كان بادنا" فمعنى "فلم يلق في البئر" أي لم يلق كاملا متماسكا وإنما ألقى قطعا ومن المعلوم أن قتلى بدر من الكفار كانوا نحو السبعين وكأن الذين طرحوا في القليب كانوا الرؤساء منهم وطرح باقي القتلى في أمكنة أخرى. (لقد لقيت من قومك) أي من قريش والمفعول محذوف للتهويل ولتذهب النفس فيه أي مذهب أي لقيت من قومك الكثير من الأذى والشدة. (وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة) العقبة في الأصل المرقى الصعب من الجبال والمراد هنا موضع معروف قريب من مكة وقعت عنده بيعة الأنصار الأولى والثانية.

(إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت) ذكر ابن إسحق وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بعد موت أبي طالب قد خرج إلى ثقيف بالطائف يدعوهم إلى نصره وكان ابن عبد ياليل من أكابر أهل الطائف من ثقيف قيل هو أحد المقصودين بقوله تعالى {على رجل من القريتين عظيم} [الزخرف: 31] وله أخوان فعمد إليهم يشكو إليهم ما أصابه من قومه رجاء أن يؤووه وكان ذلك في شوال سنة عشر من المبعث وكان بعد موت أبي طالب وخديجة فردوا عليه أقبح رد وقالوا له: قوم الرجل أعلم به وأغروا به سفهاءهم وصبيانهم يجرون خلفه يقذفونه بالحجارة حتى أدموا قدميه صلى الله عليه وسلم. ومعنى عرض نفسه أنه كان يسألهم أن يؤووه ويمنعوه يقول: أنما لا أكره أحدا على شيء بل أريد أن تمنعوا من يؤذيني حتى أبلغ رسالة ربي ويقول: هل من رجل يحملني إلى قومه؟ فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي؟ و"ابن عبد ياليل" بكسر اللام ابن عبد كلال بضم الكاف وتخفيف اللام واسمه كنانة وقد ذكر موسى بن عقبة وابن إسحق أن كنانة بن عبد ياليل وفد مع وفد الطائف سنة عشر فأسلموا وذكره ابن عبد البر في الصحابة لذلك لكن ذكر المديني أن الوفد أسلموا إلا كنانة فخرج إلى الروم ومات بها بعد ذلك. (فانطلقت وأنا مهموم على وجهي) أي على الجهة المواجهة لي أي أمشي إلى الأمام دون قصد جهة معينة من غير وعي لما حولي من كثرة انشغالي بهمومي. (فلم أستفق إلا بقرن الثعالب) أصل القرن كل جبل صغير منقطع من جبل كبير وقرن الثعالب ويقال له: قرن المنازل هو ميقات أهل نجد وهو على مرحلتين من مكة أي نحو مائة وثلاثين ميلا. حكى القاضي عياض أن بعض الرواة ذكره بفتح الراء قال: وهو غلط وحكى القابسي أن من سكن الراء أراد الجبل ومن حركها أراد الطريق التي يقرب منه. وأفاد ابن سعد أن مدة إقامته صلى الله عليه وسلم بالطائف كانت عشرة أيام. قال النووي: والمعنى لم أفطن لنفسي وأنتبه لحالي وللموضع الذي أنا ذاهب إليه وللطريق الذي أسير فيه إلا عند قرن الثعالب. (قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك) عائد الصلة محذوف تقديره: وما ردوا به عليك والمراد من قول قومه له: يحتمل أن يكون هو ردهم على عرضه فالعطف تفسيري ويحتمل أن يكون قولا آخر غير رد العرض فقد أقام بينهم عشرة أيام كما سبق. والمراد من الإخبار بالسمع لازمه وهو الاستجابة لما سمع والعمل على مقتضاه.

(وقد بعث إليك ملك الجبال) أي الملك الموكل بالجبال. (لتأمرني بأمرك) أي لتأمرني بالأمر الذي تريده فأنفذه وعند الطبراني "يا محمد إن الله بعثني إليك وأنا ملك الجبال لتأمرني بأمرك فيما شئت إن شئت" وفي روايتنا "فما شئت"؟ وفي رواية البخاري "فقال: ذلك فيما شئت إن شئت أن أطبق عليهم ... " إلخ فذلك خبر لمبتدأ محذوف تقديره الأمر ذلك الذي علمته أو الأمر ذلك الذي أخبرك به جبريل. (إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين) جزاء الشرط محذوف تقديره: فعلت والمراد من ضمير "عليهم" قومه الذين آذوه وفي مقدمتهم أهل مكة الذين ألجئوه إلى أهل الطائف والأخشبان هما جبلا مكة أبو قبيس والذي يقابله وهو جبل قيقعان وقال بعضهم: بل هو الجبل الأحمر الذي يشرف على قيقعان ووهم من قال: هو ثور وسميا بالأخشبين لصلابتهما وغلظ حجارتهما والخشب الصلب من النبات ويقال: خشب بكسر الشين يخشب بفتحها إذا غلظ وخشن. (بل أرجو) كذا في روايتنا وفي أكثر الروايات وفي بعضها "أنا أرجو" (دميت إصبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض تلك المشاهد) وفي ملحق الرواية "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار فنكبت إصبعه" قال النووي: كذا هو في الأصول "في غار" قال القاضي عياض: قال أبو الوليد الكناني: لعله "غازيا" فتصحف كما قال في الرواية "في بعض المشاهد" وكما جاء في رواية البخاري "بينما النبي صلى الله عليه وسلم يمشي إذ أصابه حجر فعثر فدميت إصبعه" قال القاضي: وقد يراد بالغار هنا الجيش لا الغار الذي هو الكهف فيوافق رواية "بعض المشاهد" اهـ. وفي رواية أحمد عن جندب رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار" وظاهر قوله في البخاري "أصابه حجر فعثر" أن الإصبع كانت من أصابع القدم لأن العثرة بالقدم لكن جاء عند الترمذي بلفظ "رمي صلى الله عليه وسلم بحجر في إصبعه" وهي تحتمل إصبع القدم وإصبع اليد. والله أعلم. ويمكن الجمع بين الروايات باحتمال أن يكون صلى الله عليه وسلم قد دخل مغارة في بعض الغزوات فخرج منها يمشي فاصطدمت قدمه بحجر فسال الدم من إصبع رجله .. إلخ قال: دمي الجرح بفتح الدال وكسر الميم وفتح الياء يدمى بفتح الميم أي خرج منه الدم ولم يسل ويقال: نكبت الحجارة رجله أي لثمتها وأدمتها ونكبت رجله بالبناء للمجهول أي أصيبت بحجر فدميت. هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت الاستفهام هنا إنكاري بمعنى النفي و"ما" اسم موصول أي الذي لقيته محسوب في سبيل الله قال النووي: والرواية المعروفة "دميت" و"لقيت" بكسر التاء وبعضهم أسكنها وزعم بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم تعمد إسكانها ليخرج عن الشعر قال الحافظ ابن حجر: وهو مردود فإنه يصير من ضرب إلى آخر من الشعر قال عياش: وقد غفل بعض الناس فروي "دميت" و"لقيت" بغير مد فخالف الرواية ليسلم من الإشكال فلم يصب وقد اختلف هل قاله النبي صلى الله عليه وسلم

متمثلا؟ أو قاله من قبل نفسه غير قاصد لإنشائه؟ فخرج موزونا؟ بالأول جزم الطبري وغيره. (أبطأ جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي أبطأ النزول عليه ومثل ذلك لا يعلم إلا عن طريقه صلى الله عليه وسلم فلعله استوحش فشكا فعلم بذلك المشركون والمرأة فقالوا ما قالوا وفي مدة الإبطاء وسببه اختلفت الأخبار فظاهر الرواية السابعة أنها كانت ليلتين أو ثلاثا وأخرج ابن أبي شيبة في مسنده والطبراني أنها كانت أربعة أيام وبسبب جرو ميت في بيته وجد تحت سريره صلى الله عليه وسلم وعن ابن جريج أنها كانت اثنى عشر يوما وعن الكلبي كانت خمسة عشر يوما وعن ابن عباس كانت خمسة وعشرين يوما وعن السدي ومقاتل كانت أربعين يوما قال المحققون: إن مثل هذا مما يتفاوت العلم بمبدئه ولا يكاد يعلم على التحقيق إلا منه صلى الله عليه وسلم ولم يثبت في ذلك حديث صحيح وقال جمع من المفسرين في سبب الإبطاء: إن اليهود سألوه عليه الصلاة والسلام عن أصحاب الكهف وعن الروح وعن قصة ذي القرنين فقال صلى الله عليه وسلم: سأخبركم غدا ولم يقل: إن شاء الله فاحتبس عنه الوحي. (فقال المشركون) في الرواية الثانية "فجاءت امرأة" وأخرج الحاكم عن زيد بن أرقم قال "لما نزلت {تبت يدا أبي لهب} قيل لامرأة أبي لهب: إن محمدا صلى الله عليه وسلم قد هجاك فأتته عليه الصلاة والسلام وهو جالس في الملأ فقالت: يا محمد علام تهجوني؟ قال: إني والله ما هجوتك ما هجاك إلا الله تعالى فقالت: هل رأيتني أحمل حطبا أو في جيدي حبلا من مسد؟ ثم انطلقت فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينزل عليه الوحي فأتته فقالت: ما أرى صاحبك إلا قد ودعك وقلاك فأنزل الله تعالى {والضحى* والليل إذا سجى} وربط الترمذي بين روايتنا الخامسة والسادسة في حديث واحد فبعد أن ذكر بيت الرجز قال: "فمكث ليلتين أو ثلاثا لا يقوم فقالت له امرأة: ما أرى شيطانك إلا قد تركك". وفي بعض الروايات ما يدل على أن قائل ذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم وأنه قال لخديجة يشكو إليها: إن ربي ودعني وقلاني فقالت: كلا والذي بعثك بالحق فنزلت وأخرج ابن جرير أن قائل ذلك خديجة وفيه "أبطأ" جبريل عن النبي صلى الله عليه وسلم فجزع جزعا شديدا فقالت خديجة: أرى ربك قد قلاك مما أرى من جزعك فنزلت {والضحى* والليل إذا سجى} والمعول عليه من هذه الأقوال ما عليه الجمهور وصحت به الأخبار أن قائل ذلك هم المشركون. (قد ودع محمد) بضم الواو وكسر الدال مشددة مبني للمجهول من التوديع وتوديع المسافر في الأصل من الدعة وهو أن تدعو للمسافر بأن يرفع الله عنه كآبة السفر وأن يبلغه الدعة وخفض العيش كما أن التسليم دعاء له بالسلامة ثم صار التوديع متعارفا في تشييع المسافر وتركه ثم استعمل في الترك مطلقا وفسر بهذا في الآية أي ما تركك ربك. وقد حمل كلام المشركين هذا على التهكم والسخرية والاستهزاء لأنهم لا يعتقدون ابتداء أن لمحمد منزلة من ربه.

وفي الرواية السابعة "إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث" قال النووي: "قربك" بكسر الراء والمضارع يقرب بفتحها. اهـ. هذا في المتعدي أما اللازم فهو قرب يقرب بضم الراء فيهما أي دنا. {والضحى* والليل إذا سجى* ما ودعك ربك وما قلى} أقسم سبحانه وتعالى بالضحى والمراد به هنا وقت ارتفاع الشمس الذي يلي وقت بروزها للناظرين وهو وقت شباب النهار -كما يقولون- والمراد من "الليل" جنس الليل {إذا سجى} أي إذا سكن أهله وسكن الناس والأصوات فيه وهذا في الغالب {ما ودعك ربك} بتشديد الدال على القراءة الصحيحة المشهورة التي قرأ بها القراء السبعة وقرئ في الشاذ بتخفيفها وخرجت على أن "ودع" مخفف "ودع" بالتشديد ومعناه معناه ويعكر عليه قول النحاة: أماتت العرب ماضي "يدع" و"يذر" ومصدرهما واسم فاعلهما واسم مفعولهما واستغنوا عن ذلك بـ"ترك" لكن بعض النحاة يثبتون "ودع" مخففا "وما قلى" أي وما أبغضك وحذف المفعول لئلا يواجه صلى الله عليه وسلم بنسبة القلى لطفا به وشفقة عليه كذا قال المفسرون. (ركب حمارا عليه إكاف) بكسر الهمزة وتخفيف الكاف وهو ما يوضع على الدابة مما يلي ظهرها كالبرذعة. (تحته قطيفة فدكية) الضمير في "تحته" للنبي صلى الله عليه وسلم وليس للإكاف لأن الإكاف يلي الحمار والقطيفة فوق الإكاف والراكب فوق القطيفة والقطيفة كساء غليظ له خمل وفي رواية البخاري "ركب على حمار على إكاف على قطيفة فدكية" قال الحافظ ابن حجر: "على" الثالثة بدل من الثانية وهي بدل من الأولى. اهـ. والبدل على نية تكرار العامل فيصبح المراد: ركب على حمار ركب على إكاف ركب على قطيفة فدكية بفتح الفاء والدال وكسر الكاف نسبة إلى فدك المشهور كأنها صنعت فيها وهي مدينة على مرحلتين من المدينة وحكى بعضهم أنه جاء في رواية "فركبه" بدل "فدكية" وهو تصحيف بين. (وهو يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج) أي في منازل بني الحارث وهم قوم سعد بن عبادة وفي الرواية التاسعة "قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: لو أتيت عبد الله بن أبي؟ قال: فانطلق إليه" فهل كان المقصود بالخروج سعدا؟ أو عبد الله بن أبي؟ أو هما؟ الظاهر أن المقصود الأول سعد ولقاء عبد الله باعتباره في الطريق قد قصد أيضا. (وذلك قبل وقعة بدر) في رواية "قبل وقيعة بدر" وفي ملحق الرواية الثامنة "قبل أن يسلم عبد الله" أي قبل أن يظهر الإسلام وإلا فقد كان كافرا منافقا ظاهر النفاق. (حتى مر بمجلس) "حتى غاية لمحذوف دل عليه المقام أي وسار حتى مر بمجلس.

(فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود) في رواية البخاري "فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود والمسلمين" بتكرار لفظ "المسلمين" والأولى حذف أحدهما. (فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه ثم قال: لا تغبروا علينا) "عجاجة الدابة" بفتح العين وفتح الجيم مخففة أي غبارها بسبب ما ارتفع من غبار حوافرها في أرض ترابية ففي الرواية التاسعة "وهي أرض سبخة" بفتح السين وكسر الباء وهي التي لا تنبت لملوحتها ونعومة ترابها ومعنى "خمر أنفه" أي غطاه ومعنى "لا تغبروا علينا" بضم التاء وفتح الغين وتشديد الباء المكسورة أي لا تثيروا الغبار علينا وهذا القول منه كان قبل وصول النبي صلى الله عليه وسلم وقبل أن يسلم عليهم. (فسلم عليهم) أي ألقى السلام عليهم وهو على الحمار. (فدعاهم إلى الله) أي إلى الإسلام. (أيها المرء لا أحسن من هذا؟ ) قال النووي: هكذا هو في جميع نسخ بلادنا بألف في "أحسن" أي ليس شيء أحسن من هذا؟ اهـ. والكلام على الاستفهام أي هل عندك شيء أحسن مما تقول؟ وفي رواية البخاري "إنه لا أحسن مما تقول" بنصب أحسن على أنه أفعل تفضيل اسم لا النافية للجنس والرفع على أنه خبر لا والاسم محذوف أي لا شيء أحسن مما تقول قال ذلك تهكما ووقع في رواية أخرى "لأحسن من هذا" بحذف الألف وفتح السين وضم النون على أنها لام القسم كأنه قال: لأحسن من هذا أن تقعد في بيتك وحكى ابن الجوزي تشديد السين بغير نون من الحس بمعنى لا أحس مما تقول شيئا أي لا أعلم ولا أفهم منه شيئا وفي رواية "أيها المرء الأحسن من هذا" أي اذكر الأحسن من هذا أو الأحسن من هذا أن تقعد في بيتك ولا تأتينا وفي الرواية التاسعة "إليك عني فوالله لقد آذاني نتن حمارك فقال رجل من الأنصار" الظاهر أنه عبد الله بن رواحة "والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك". (فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى هموا أن يتواثبوا) في الرواية التاسعة "فغضب لعبد الله رجل من قومه فغضب لكل واحد منهما أصحابه فكان بينهم ضرب بالجريد وبالأيدي وبالنعال" وفي رواية البخاري "حتى كادوا يتثاورون" أي يثب بعضهم على بعض أي بالسلاح والقتال فقد وثب بعضهم على بعض بغير السلاح كما ذكر. (فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم) أي يهدئهم وفي رواية البخاري "حتى سكنوا". (أي سعد) أي حرف نداء وفي رواية البخاري "أيا سعد". (ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب؟ ) بضم الحاء وتخفيف الباء والاستفهام تقريري أي قر

بأن تسمع أي اسمع أو إنكاري بمعنى النفي دخل على نفي ونفي النفي إثبات أي تسمع إلى ما قال أبو حباب. (ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة) "ولقد" بإثبات الواو في بعض الروايات وبحذفها في البعض الآخر ومعنى "اصطلحوا" اتفقوا و"البحيرة" بضم الباء على التصغير وفي رواية للبخاري "أهل هذه البحرة" بدون تصغير وهذا اللفظ يطلق على القرية وعلى البلد والمراد به هنا المدينة النبوية ونقل ياقوت الحموي أن البحرة من أسماء المدينة المنورة ومعنى "أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة أي ينصبوه ملكا عليهم يعني يرئسوه عليهم ويسودوه وسمي الرئيس معصبا لما يعصب برأسه من الأمور أو لأنهم يعصبون رءوسهم بعصابة لا تنبغي لغيرهم يمتازون بها وفي غير البخاري "فيعصبونه" والتقدير فهم يعصبونه والمراد هنا من التعصيب التتويج وصناعة تاج له فعند ابن إسحق "لقد جاءنا الله بك وإنا لننظم له الخرز لنتوجه". (فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق بذلك) "شرق بذلك" بفتح الشين وكسر الراء أي غص بذلك الحق وهو كناية عن الحسد والأصل يقال: شرق بالماء إذا اعترض شيء من الماء في الحلق فمنع الإساغة والمعنى فلما رد الله تنصيبه ملكا بسبب الحق الذي جئت به حسد. (فذلك فعل به ما رأيت) أي فذلك الحسد الداخلي دفعه إلى فعل ما فعل معك. (فعفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم) زاد البخاري "وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ويصطبرون على الأذى قال الله عز وجل {ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا} [آل عمران: 186] الآية وقال الله {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم} [البقرة: 109] وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتأول العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا فقتل الله به صناديد كفار قريش قال ابن أبي بن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان: هذا أمر قد توجه -أي ظهر وجهه- فبايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام فأسلموا". قال الحافظ ابن حجر عن هذه الزيادة: هذا حديث آخر أفرده ابن حاتم في التفسير عن الذي قبله وإن كان الإسناد متحدا وقد أخرج مسلم الحديث الأول مقتصرا عليه ولم يخرج شيئا من هذا الحديث الآخر. فبلغنا أنها نزلت فيهم {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} [الحجرات: 9] كذا ذكر المفسرون وقيل لنزولها سبب آخر بين الأوس والخزرج وقوله {من المؤمنين} مع بقية الآية يبعد أن يكون السبب حادثتنا وبخاصة أنه لم يكن فيها قتال بمعناه. -[فقه الحديث]- تعرضت أحاديث هذا الباب إلى أربع وقائع من وقائع أذى الرسول صلى الله عليه وسلم على يد قومه.

الواقعة الأولى: واقعة سلا الجزور وعنها تكلمت الرواية الأولى والثانية والثالثة. الواقعة الثانية: واقعة إيذاء أهل الطائف وعنها تكلمت الرواية الرابعة. الواقعة الثالثة: واقعة إبطاء الوحي وشماتة المشركين وأقوالهم وعنها تكلمت الرواية السادسة والسابعة. الواقعة الرابعة: واقعة إيذاء عبد الله بن أبي والمنافقين وعنها تكلمت الرواية الثامنة والتاسعة أما الرواية الخامسة فإن اعتبرنا لفظ الترمذي "رمى صلى الله عليه وسلم بحجر في إصبعه" ألحقت بالواقعة الثانية إيذاء أهل الطائف. والمحقق في هذه الوقائع وهذه الأحاديث يرى أنها أمثلة وليست حصرا لما أوذي به من قومه فهناك كثير من وقائع الإيذاء لم تذكر وقد تكون أكثر إيلاما مما ذكر فقد روى البخاري عن عروة بن الزبير قال: سألت ابن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟ . ومن ذلك حصارهم في شعب أبي طالب وما ناله من المقاطعة الاقتصادية والاجتماعية. ومن ذلك قول المنافقين {لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل} [المنافقون: 8]. ومن ذلك مجيئهم بالإفك واتهام عائشة رضي الله عنها. ومن ذلك إيذاء كعب بن الأشرف لرسول الله صلى الله عليه وسلم. والمحقق يرى بعض ما ذكر إيذاء جسديا ماديا وبعضه إيذاء نفسيا. والمحقق يرى بعض ما ذكر إيذاء بمكة قبل الهجرة وبعضه إيذاء بالمدينة ولذلك عدل الإمام النووي عن ترجمة البخاري لهذا الباب [بباب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة] إلى باب [ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين]. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - استدل بالرواية الأولى والثانية حيث استمر صلى الله عليه وسلم في الصلاة وعلى ظهره سلا جزور على طهارة فرث ما يؤكل لحمه ومذهب مالك ومن وافقه أن روث ما يؤكل لحمه طاهر ومذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد أنه نجس ويردون الاستدلال المذكور بأن الفرث هنا لم يفرد بل كان مع الدم والدم نجس اتفاقا وأجيب بأن الفرث والدم كانا داخل السلا وجلدة السلا الظاهرة طاهرة فكان كحمل القارورة بداخلها نجس ورد بأنها ذبيحة وثني فجميع أجزائها نجسة لأنها ميتة وأجيب بأن ذلك كان قبل التعبد بتحريم ذبائحهم وتعقب بأنه يحتاج إلى تاريخ ولا يكفي فيه الاحتمال وقال النووي: الجواب المرضي أنه صلى الله عليه وسلم لم يعلم ما وضع على ظهره فاستمر في سجوده استصحابا لأصل الطهارة وتعقب بأنه يشكل على قولنا

بوجوب الإعادة في مثل هذه الصورة وأجاب بأن الإعادة إنما تجب في الفريضة فإن ثبت أنها فريضة فالوقت موسع فلعله أعاد وتعقب بأنه لو أعاد لنقل إلينا ولم ينقل وبأن الله تعالى لا يقره على التمادي في صلاة فاسدة فقد ثبت أنه خلع نعليه وهو في الصلاة لأن جبريل أخبره أن فيها قذرا ويدل على أنه علم بما ألقى على ظهره أن فاطمة ذهبت به قبل أن يرفع رأسه وعقب هو صلاته بالدعاء عليهم. 2 - واستدل به على أن من حدث له في صلاته ما يمنع انعقادها ابتداء لا تبطل صلاته ولو تمادى وفيه نظر يفهم من المناقشة السابقة. 3 - واستدل به على أن إزالة النجاسة ليست بفرض وهو ضعيف. 4 - وفيه قوة نفس فاطمة الزهراء من صغرها لشرفها في قومها ونفسها لكونها صرخت بشتمهم وهم رءوس قريش فلم يردوا عليها. 5 - استدل بطرح فاطمة رضي الله عنها عن الرسول صلى الله عليه وسلم على أن التصاق المرأة بالرجل في الصلاة لا يبطلها. 6 - استدل بقوله "أشقى القوم" على أن المباشر للجريمة أكبر جرما من المتسبب فيها والمخطط لها والمعين عليها قال الحافظ ابن حجر: ولهذا قتلوا في الحرب وقتل عقبة صبرا. 7 - وفيه استحباب الدعاء ثلاثا. 8 - وفيه جواز الدعاء على الظالم لكن قال بعضهم: محله ما إذا كان كافرا فأما المسلم فيستحب الاستغفار له والدعاء بالتوبة ولو قيل: لا دلالة فيه على الدعاء على الكافر لما كان بعيدا لاحتمال أن يكون اطلع صلى الله عليه وسلم على أن المذكورين لا يؤمنون والأولى أن يدعي لكل حي بالهداية. 9 - وفيه تعظيم الدعاء بمكة قبل الإسلام وعند الكفار وما ازدادت عند المسلمين إلا تعظيما. 10 - وفيه معرفة الكفار لصدقه صلى الله عليه وسلم لخوفهم من دعائه ولكن حملهم الحسد على ترك الانقياد له. 11 - وفيه أن دعوته صلى الله عليه وسلم مجابة. 12 - وفيه دفع أذى الرائحة الكريهة فقد ألقيت جثث المشركين في البئر لئلا يتأذى الناس برائحتهم قال النووي: وليس هو دفنا لأن الحربي لا يجب دفنه قال الشافعية: بل يترك في الصحراء إلا أن يتأذى به. 13 - واستدل به على أن أجساد الكفار لا ثمن لها ولا يؤخذ لها ثمن إذ لو أن أهل قتلى بدر لو فهموا أنه يقبل فداء أجسادهم لبذلوا فيها ما شاء الله.

14 - ومن الرواية الرابعة مدى ما تحمل الرسول صلى الله عليه وسلم من الأذى في سبيل الدعوة. 15 - ومدى تكريم الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم. 16 - وحلمه صلى الله عليه وسلم وصبره على الأذى وعدم انتقامه من المسيئين. 17 - ومن الرواية الخامسة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجوز له أن يحكي الشعر عن ناظمه إذا قلنا أن هذا البيت من نظم عبد الله بن رواحة وقد مضى في غزوة حنين الكلام عن مثل هذا الشعر. 18 - وفي الرواية الثامنة والتاسعة إيذاء المنافقين لرسول الله صلى الله عليه وسلم. 19 - وأن ركوب الحمار ليس بنقص في حق الكبار. 20 - وجواز الإرداف على الحمار وغيره من الدواب إذا كان مطيعا. 21 - وفيه عيادة الكبير لبعض أتباعه في بيته. 22 - وجواز عيادة المريض راكبا. 23 - قال النووي: وفيه جواز الابتداء بالسلام على قوم فيهم مسلمون وكفار وهذا مجمع عليه وقال الحافظ ابن حجر: فيه جواز السلام على المسلمين إذا كان معهم كفار وينوي حينئذ بالسلام المسلمين ويحتمل أن يكون اللفظ الذي سلم به عليهم صيغة عموم فيها تخصيص كقوله: السلام على من اتبع الهدى. 24 - وفي صفحه عن عبد الله بن أبي ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الحلم وتأليف القلوب. والله أعلم.

(497) باب قتل أبي جهل

(497) باب قتل أبي جهل 4099 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من ينظر لنا ما صنع أبو جهل؟ " فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برك قال: فأخذ بلحيته فقال آنت أبو جهل؟ فقال: وهل فوق رجل قتلتموه (أو قال) قتله قومه؟ . قال: وقال أبو مجلز قال أبو جهل فلو غير أكار قتلني. 4100 - -/- وفي رواية عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من يعلم لي ما فعل أبو جهل؟ " بمثل حديث ابن علية وقول أبي مجلز كما ذكره إسمعيل. -[المعنى العام]- سبق موضوع قتل أبي جهل في كتاب الجهاد -باب استحقاق القاتل سلب القتيل بما يغني عن الإعادة. -[المباحث العربية]- (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ينظر لنا ما صنع أبو جهل؟ ) أي ما صنع بأبي جهل؟ ما مصيره؟ وكان هذا السؤال بعد انتهاء معركة بدر والعلم بمقتل صناديد قريش بصفة عامة وسبب السؤال عنه أن يعرف أنه مات ليستبشر المسلمون بذلك وبانتهاء شره عنهم وفي رواية "قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر: من يأتينا بخبر أبي جهل"؟ وفي ملحق روايتنا "من يعلم لي ما فعل أبو جهل"؟ . (فانطلق ابن مسعود) وعند ابن خزيمة "فقال ابن مسعود: أنا فانطلق". (فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد) سبقت قصتهما في باب استحقاق القاتل سلب القتيل و"برد" بالراء والدال أي حتى مات أي صار في حالة قريبة من حالة من مات ولم يبق فيه إلا حركة مذبوح فأطلق عليه "مات" باعتبار ما سيئول إليه وفي رواية "حتى برك" بالكاف بدل الدال أي سقط. (فأخذ بلحيته فقال: أنت أبو جهل؟ ) استفهام تبكيت وتشف فقد كان أبو جهل يؤذي ابن مسعود في مكة أشد الأذى وكذلك الأخذ بلحيته للتشفي وعند ابن إسحق

والحاكم "قال ابن مسعود: فوجدته بآخر رمق فوضعت رجلي على عنقه فقلت: أخزاك الله يا عدو الله. قال: وبم أخزاني"؟ وفي رواية قال له "لقد ارتقيت -يا رويع الغنم- أي يا راعي الغنم تحقيرا له -مرتقى صعبا". وفي رواية للبخاري "أنت أبا جهل" قال العلماء: هكذا نطق بها أنس عن ابن مسعود ووجهت الرواية بالحمل على لغة من يثبت الألف في الأسماء الخمسة في حالات الإعراب كلها كقوله: إن أباها وأبا أباها. وقيل: إن قوله: "آنت" مبتدأ حذف خبره و"أبا جهل" منادى والمعنى: أنت القتيل يا أبا جهل؟ والمراد أيضا التقريع والتشفي. (فقال: وهل فوق رجل قتلتموه؟ -أو قال: قتله قومه؟ ) هذا جواب عن قول ابن مسعود "أخزاك الله يا عدو الله" يريد: بم أخزاني؟ لقد قتلني قومي ولا خزي في ذلك أي لا عار علي في قتلكم إياي وليس فوق ذلك عذر مقبول. (فلو غير أكار قتلني) الأكار بتشديد الكاف الزراع وعني بذلك تنقيص من قتله وأنهما من الأنصار الفلاحين وفي رواية "قال لابن مسعود: لو غيرك كان قتلني" و"لو" هنا للتمني أو شرطية جوابها محذوف أي لكان خيرا وأفضل. وفي رواية "قال ابن مسعود: ثم احتززت رأسه فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: هذا رأس عدو الله أبي جهل. فقال: والله الذي لا إله إلا هو؟ فحلفت له". -[فقه الحديث]- سبق عند باب استحقاق القاتل سلب القتيل ما يغني عن الإعادة.

(498) باب قتل كعب بن الأشرف طاغوت اليهود

(498) باب قتل كعب بن الأشرف طاغوت اليهود 4101 - عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله" فقال محمد بن مسلمة: يا رسول الله أتحب أن أقتله؟ قال "نعم" قال: ائذن لي فلأقل قال "قل" فأتاه فقال له وذكر ما بينهما وقال إن هذا الرجل قد أراد صدقة وقد عنانا فلما سمعه قال وأيضا والله لتملنه. قال إنا قد اتبعناه الآن ونكره أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير أمره. قال: وقد أردت أن تسلفني سلفا قال: فما ترهنني؟ قال: ما تريد قال: ترهنني نساءكم قال: أنت أجمل العرب أنرهنك نساءنا؟ قال له: ترهنوني أولادكم قال: يسب ابن أحدنا فيقال رهن في وسقين من تمر ولكن نرهنك اللأمة (يعني السلاح) قال: فنعم وواعده أن يأتيه بالحارث وأبي عبس بن جبر وعباد بن بشر قال: فجاءوا فدعوه ليلا فنزل إليهم. قال سفيان: قال غير عمرو قالت له امرأته: إني لأسمع صوتا كأنه صوت دم قال: إنما هذا محمد بن مسلمة ورضيعه وأبو نائلة. إن الكريم لو دعي إلى طعنة ليلا لأجاب. قال محمد: إني إذا جاء فسوف أمد يدي إلى رأسه فإذا استمكنت منه فدونكم قال: فلما نزل نزل وهو متوشح. فقالوا: نجد منك ريح الطيب. قال: نعم تحتي فلانة هي أعطر نساء العرب قال: فتأذن لي أن أشم منه؟ قال: نعم فشم فتناول فشم ثم قال: أتأذن لي أن أعود؟ قال: فاستمكن من رأسه ثم قال دونكم قال: فقتلوه. -[المعنى العام]- لما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقف اليهود منه موقف العداء لكنهم من طبعهم الجبن والإيقاع والغدر عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبينهم عهد موادعه فخانوه وأخذوا في الدس سرا للإيقاع به وتحزيب الكفار ضده وإثارة قريش على حربه وكان من زعمائهم كعب بن الأشرف القرظي وكان بنو قريظة وبنو النضير يقيمون في قرى حول المدينة فلما انتصر المسلمون على قريش في بدر عز على اليهود ذلك فبدءوا ينفخون نار قريش لقتال محمد صلى الله عليه وسلم فذهب كعب بن الأشرف إلى مكة والتقى بزعمائها ووعدهم النصرة وأخذ يعيب محمدا صلى الله عليه وسلم والمسلمين ويهجوهم بشعره وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم شعره وهجاؤه وكان كعب قد حاول اغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم فحماه الله حينئذ ومعاملة بالمثل

طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه أن يتخلصوا من كعب بن الأشرف لكنه كالثعلب في جحره لا يستمكن منه إلا بالحيلة فتطوع لهذه المهمة محمد بن مسلمة صديق قديم لكعب وأخ له من الرضاع وهو يثق فيه وعرض على رضيعه الثاني أبي نائلة أن يشاركه المهمة فقبل ووافقهما على مشاركتهما ثلاثة من الصحابة استأذن محمد بن مسلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يتناوله بالعيب وأن يكذب للحيلة فأذن له ذهب هو وأبو نائلة وشكيا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه يكلف المسلمين صدقات لا يستطيعونها وأنه جعل العرب يعادونهم عن يمين وشمال ثم طلبا منه أن يسلفهما تمرا فطلب رهنا فواعده برهن أسلحتهما وتواعدا المساء على أن يكون معهما ثلاثة وافق عليهم فجاءوه ليلا ومعهم السلاح ونادوه فنزل إليهم من حصنه مصمخا بالطيب قالوا له: ما هذا الطيب الجميل؟ قال: طيب امرأتي فلانه أعطر نساء العرب فاستأذنوه أن يقربوا رأسه ليشموا شعره فأذن لهم فأمسك محمد بن مسلمه برأسه من ضفائره بقوة وقال لأصحابه: اقتلوا عدو الله فقتلوه بسيوفهم وقطعوا رأسه صرخ صرخة واحدة وصرخت امرأته: يا بني قريظة يا بني النضير وخرج اليهود واتخذوا طريقا غير طريقهم ووصلوا آمنين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وشكرهم وجاء اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون المسلمين أن قتلوا زعيمهم غيلة فذكر لهم عداءه للمسلمين وإيذاءه لهم فخافوا وجبنوا وسكتوا وهكذا تخلص المسلمون من شوكة يهودية كانت تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم. -[المباحث العربية]- (كعب بن الأشرف) اليهودي القرظي قال ابن إسحق وغيره: كان الأشرف عربيا من بني نبهان وهم بطن من طيئ وكان قد أصاب دما في الجاهلية فأتى المدينة فحالف بني النضير فشرف فيهم وتزوج عقيلة بنت أبي الحقيق فولدت له كعبا وكان طويلا جسيما ذا بطن وهامة. (من لكعب بن الأشرف) أي من الذي يقدر على قتله؟ فنفوضه له؟ ففي الكلام مضاف محذوف تقديره: من لقتل كعب بن الأشرف؟ (فإنه قد آذى الله ورسوله) إيذاء الله كناية عن مخالفة الله جل شأنه وإيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم معصية لله وإغضاب له ويحتمل أن "آذى الله" تمهيد والمقصود آذى رسول الله وفي رواية عند الحاكم في الإكليل "فقد آذانا بشعره وقوي المشركين" وعند ابن عائذ "أن كعب بن الأشرف قدم على مشركي قريش فحالفهم عند أستار الكعبة على قتال المسلمين" وفي رواية "أنه كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ويحرض قريشا عليهم وأنه لما قدم على قريش قالوا له: أديننا أهدي أم دين محمد؟ قال: دينكم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من لنا بابن الأشرف فإنه قد استعلن بعداوتنا وفي رواية مرسلة "أنه صنع طعاما وواطأ جماعة من اليهود على أن يدعو النبي صلى الله عليه وسلم إلى الوليمة فإذا حضر فتكوا به ثم دعاه فجاء ومعه بعض أصحابه فأعلمه جبريل بما أضمروه بعد أن جالسه فقام فخرج فلما فقدوه تفرقوا فقال صلى الله عليه وسلم حينئذ: من لكعب بن الأشرف؟

(فقال محمد بن مسلمة) بفتح الميم واللام ابن مسلمة بن خالد بن عدي بن مجدعة بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن أوس حليف لبني عبد الأشهل شهد بدرا والمشاهد كلها ومات بالمدينة سنة ثلاث وأربعين على أرجح الأقوال وصلى عليه مروان بن الحكم أمير المدينة آنذاك وكان من فضلاء الصحابة واعتزل الفتنة وأقام بالربذة. (أتحب أن أقتله)؟ الهمزة للاستفهام الحقيقي. (قال: نعم) في رواية "فقال: أنت له" وفي رواية "قال: فافعل إن قدرت على ذلك" وفي رواية "فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال محمد بن مسلمة: أقر صامت" قال الحافظ ابن حجر: فإن ثبتت هذه الرواية احتمل أن يكون سكت أولا ثم أذن له وفي رواية "قال له: إن كنت فاعلا فلا تعجل حتى تشاور سعد بن معاذ قال: فشاوره فقال له: توجه إليه واشك إليه الحاجة وسله أن يسلفكم طعاما". (قال: ائذن لي فلأقل. قال: قل) كأنه استأذنه أن يفتعل شيئا يحتال به عليه وقد بوب البخاري للحديث "باب الكذب في الحرب" وعند ابن سعد أنهم استأذنوا أن يشكوا منه ويعيبوا رأيه". وعند ابن إسحق "فقال: يا رسول الله لا بد لنا أن نقول؟ فقال: قولوا ما بدا لكم فأنت في حل من ذلك". وفي مرسل عكرمة "وائذن لنا أن نصيب منك فيطمئن إلينا قال: قولوا ما شئتم". (فأتاه) أي فأتى محمد بن مسلمة كعب بن الأشرف وظاهر الرواية أنه أتاه وحده لكن الروايات الأخرى تبين أن أبا نائلة وهو أخو كعب من الرضاع كان مع محمد بن مسلمة وكان نديمه في الجاهلية وكان يركن إليه ومحمد بن مسلمة ابن أخت أبي نائلة وهو أخو كعب من الرضاع أيضا فعند ابن إسحق أن الذي عرض التسليف أبو نائلة. قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون كل منهما كلمه في ذلك. (فقال له: وذكر ما بينهما) المقول محذوف أشار إليه بقوله: وذكر ما بينهما أي من المودة والحرص على مصالح بعضهما البعض ونحو ذلك مما يؤكد الثقة فيه وفي كلامه. (إن هذا الرجل قد أراد صدقة) يعني الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه طلب منهم التصدق من أموالهم وفي رواية البخاري "إن هذا الرجل قد سألنا صدقة" وفي رواية "سألنا الصدقة ونحن لا نجد ما نأكله". (وقد عنانا) بتشديد النون الأولى أي أتعبنا وكلفنا المشقة قال الجوهري: عني بكسر النون يعني بفتحها عناء أي تعب ونصب وعنيته بتشديد النون أتعبته. قال النووي: وهذا من التعريض الجائز بل المستحب لأن معناه في الباطن أنه أدبنا بآداب الشرع

التي فيها تعب لكنه تعب في مرضاة الله تعالى فهو محبوب لنا والذي فهم المخاطب منه العناء الذي ليس بمحبوب. (قال: وأيضا) أي قال كعب: وأيضا أي وزيادة على ذلك وقد فسره بعد ذلك بقوله: (والله لتملنه) بفتح التاء والميم وتشديد اللام من مل بمعنى ضجر والمعنى والله لتزيدن ملالتكم له أكثر من هذا. وعند الواقدي "أن كعبا قال لأبي نائلة: أخبرني ما في نفسك ما الذي تريدون في أمره؟ قال: خذلانه والتخلي عنه قال: سررتني". (قال: إنا قد اتبعناه الآن) أي وقعنا في إعلان الإسلام واتباعه. (ونكره أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير أمره) زاد ابن إسحق "قال محمد: كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء من البلاء عادتنا العرب ورمتنا عن قوس واحدة وقطعت عنا السبل حتى جاع العيال وجهدت الأنفس وأصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا فقال كعب بن الأشرف: أما والله لقد أخبرتكم أن الأمر يصير إلى هذا". (قال: وقد أردت أن تسلفني سلفا) وفي رواية "قال كعب: أما مالي فليس عندي اليوم ولكن عندي التمر" وفي رواية البخاري "وقد أردنا أن تسلفنا وسقا أو وسقين" وقوله "أو وسقين" شك من الراوي والوسق بفتح الواو وكسرها مكيلة معلومة للعرب سعتها ستون صاعا والصاع خمسة أرطال وثلث زاد في رواية "قال كعب: وأين ذهب طعامكم؟ قالوا: أنفقناه على هذا الرجل وعلى أصحابه قال: ألم يأن لكم أن تعرفوا ما أنتم عليه من الباطل؟ " (قال: فما ترهنني؟ ) بفتح التاء أي فماذا تضع عندي رهنا مقابل التمر؟ وفي رواية البخاري "فقال: نعم ارهنوني". (قال: ما تريد؟ ) في رواية البخاري "أي شيء تريد"؟ (قال: ترهنني نساءكم) في رواية البخاري "ارهنوني نساءكم". (قال: أنت أجمل العرب أنرهنك نساءنا؟ ) في رواية البخاري "كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟ " زاد ابن سعد "ولا نأمنك وأي امرأة تمنع منك؟ وفي رواية "وأنت رجل حسان -بضم الحاء وتشديد السين- تعجب النساء" ولعلهم قالوا ذلك تهكما أو خداعا وترضية وإثارة للعجب والزهو وكان فعلا جميلا. (قال: ترهنوني أولادكم قال: يسب ابن أحدنا فيقال: رهن في وسقين من تمر) في رواية البخاري "كيف نرهنك أبناءنا؟ فيسب أحدهم فيقال: رهن بوسق أو وسقين؟ هذا عار

علينا" "يسب" بضم الياء وفتح السين بالبناء للمجهول من السب وعند بعض رواة مسلم "يشب" بفتح الياء وكسر الشين من الشباب قال النووي: والصواب الأول. (ولكن نرهنك اللأمة) بتشديد اللام وسكون الهمزة وفسرها سفيان الراوي عن عمرو الراوي عن جابر بالسلاح قال النووي: وهو كما قال اهـ. وقال بعض أهل اللغة: اللأمة الدرع فعلى هذا إطلاق السلاح عليها من إطلاق اسم الكل على البعض وفي رواية "ولكنا نرهنك سلاحنا مع علمك بحاجتنا إليه قال: نعم" وفي رواية للواقدي "وإنما قالوا ذلك - وعرضوا عليه رهن السلاح- لئلا ينكر مجيئهم بالسلاح". (وواعده أن يأتيه بالحارث وأبي عبس بن جبر وعباد بن بشر) أي أخذ إذنه وموافقته على أن يستصحب معه في الليل هؤلاء الثلاثة وفي رواية البخاري "فجاءه ليلا ومعه أبو نائلة" فعلى هذا كانوا خمسة. أما الحارث فهو الحارث بن أوس بن أخي سعد بن عبادة وأما أبو عبس -بالباء- فاسمه عبد الرحمن وقيل: عبد الله والصحيح الأول وهو ابن جبر بإسكان الباء ويقال: ابن جابر وهو أنصاري من كبار الصحابة شهد بدرا وسائر المشاهد وكان اسمه في الجاهلية عبد العزى قال النووي: ووقع في بعض نسخ مسلم "وأبو عبس" بالواو وهو صحيح ويكون معطوفا على الضمير المستتر في "يأتيه". (فجاءوا فدعوه ليلا) وعند الخرساني في مرسل عكرمة "فلما كان في القائلة أتوه ومعهم السلاح" والصحيح أن إتيانهم كان ليلا والذي دعاه وناداه منهم أبو نائلة فعند ابن إسحق "فهتف به أبو نائلة". (فنزل إليهم) فيه مجاز المشارفة ليصح ترتيب الأحداث أي فأراد النزول إليهم فقالت له امرأته ... وعند ابن إسحق "لما انتهى هؤلاء إلى حصن كعب هتف به أبو نائلة -وكان حديث عهد بعرس فوثب في ملحفة له فأخذت امرأته بناحيتها وقالت: إلى أين في مثل هذه الساعة؟ أنت امرؤ محارب لا تنزل في هذه الساعة. (إني لأسمع صوتا كأنه صوت دم) كناية عن صوت طالب الشر وفي رواية البخاري "أسمع صوتا كأنه يقطر منه الدم" (قال: إنما هذا محمد بن مسلمة ورضيعه وأبو نائلة إن الكريم لو دعي إلى طعنة ليلا لأجاب) قال النووي: هكذا هو في جميع النسخ قال القاضي رحمه الله تعالى: قال لنا شيخنا القاضي الشهيد: صوابه أن يقال: إنما هو محمد ورضيعه أبو نائلة وكذا ذكر أهل السير أن أبا نائلة كان رضيعا لمحمد بن مسلمة ووقع في صحيح البخاري "ورضيعي أبو نائلة" اهـ. وعند ابن إسحق "إنه أبو نائلة لو وجدني نائما ما أيقظني -أي لحرصه على راحتي- فقالت: والله إني لأعرف من صوته الشر فقال لها: لو دعي الفتى إلى طعنة لأجاب".

(قال محمد) بن مسلمة لأصحابه في الفترة التي بين ندائهم له وبين نزوله. (إني إذا جاء فسوف أمد يدي إلى رأسه فإذا استمكنت منه فدونكم) في رواية البخاري "إني إذا ما جاء فإني قائل بشعره فأشمه فإذا رأيتموني استمكنت منه فدونكم فاضربوه" ومعنى "إني قائل بشعره" إني جاذب وممسك بشعره وقد استعملت العرب لفظ القول في موضع الفعل كقولهم: قال بيده هكذا وهكذا ومعنى "فدونكم" أي خذوه بأسيافكم. (لما نزل نزل وهو متوشح) أي متلبس بثوبه وسلاحه وفي رواية البخاري "فنزل إليهم متوشحا وهو ينفح منه ريح الطيب". (فقالوا: نجد منك ريح الطيب) وكانوا يضعونه في شعورهم وفي رواية الواقدي "وكان كعب يدهن بالمسك المفتت والعنبر حتى يتلبد الشعر في صدغيه" والمراد بهذا القول شغله عن التفكير في الأمر وفي رواية البخاري "فقال: ما رأيت كاليوم ريحا" أي قال محمد: ما أطيب هذه الريح. (قال: نعم تحتي فلانة هي أعطر نساء العرب) في رواية البخاري "عندي أعطر نساء العرب وأكمل العرب" وفي رواية "وأجمل العرب" وهذه الرواية أقرب إلى المراد من رواية "أكمل". (قال: فتأذن لي أن أشم منه؟ قال: نعم فشم) محمد بن مسلمة رأس كعب ثم قال: (أتأذن لي أن أعود) فأشم في الكلام طي صرحت به رواية البخاري ولفظها "أتأذن لي أن أشم رأسك؟ قال: نعم فشمه ثم أشم أصحابه" أي أعطاهم يشمون ثم قال: أتأذن لي أن أعود؟ فأمسك برأسك؟ فأشم ثانية؟ (قال: فقتلوه) في رواية ابن سعد أن محمد بن مسلمة لما أخذ بقرون شعره قال لأصحابه: اقتلوا عدو الله فضربوه بأسيافهم قال محمد: فذكرت معولا أي حديدة تشبه المعول في قبضة السيف كان في سيفي فوضعته في سرته ثم تحاملت عليه فغططته -أي كبسته وغطسته- حتى انتهى إلى عانته فصاح وصاحت امرأته: يا آل قريظة والنضير. مرتين. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث]- 1 - قال النووي: استدل بهذا الحديث بعضهم على جواز اغتيال من بلغته الدعوة من الكفار من غير دعاء إلى الإسلام أي جواز قتل المشرك بغير دعوة إذا كانت الدعوة العامة قد بلغته. 2 - قال: وفيه دليل على جواز التعريض وهو أن يأتي بكلام باطنه صحيح ويفهم منه المخاطب غير ذلك فهذا جائز في الحرب وغيرها ما لم يمنع به حقا شرعيا.

3 - وفيه جواز الكلام الذي يحتاج إليه في الحرب ولو لم يقصد قائله إلى حقيقته فهم لم يقصدوا تأمينه. وقد وضعه البخاري تحت باب الكذب في الحرب قال النووي: هذا ليس في الحرب وإنما في القتل على غرة ووجهه الحافظ ابن حجر بأن البخاري لم يرد الإذن بالكذب في الحرب بل معنى الترجمة باب الكذب في الحرب هل يسوغ مطلقا؟ أو يجوز منه الإيماء دون التصريح. لكن يستدل بإقراره وتصريحه صلى الله عليه وسلم لمحمد بن مسلمة حين قال: ائذن لي أن أقول قال: قل" على دخول الإذن في الكذب تصريحا وتلويحا وقد جاء التصريح بالكذب في الحرب فيما أخرجه الترمذي "لا يحل الكذب إلا في ثلاث: تحدث الرجل امرأته ليرضيها والكذب في الحرب وفي الإصلاح بين الناس" قال النووي: الظاهر إباحة حقيقة الكذب في الأمور الثلاثة لكن التعريض أولى وقال ابن العربي: الكذب في الحرب من المستثنى الجائز بالنص رفقا بالمسلمين لحاجتهم إليه. 4 - قال الحافظ ابن حجر: وفيه دلالة على قوة فطنة امرأته المذكورة وفي صحة حديثها وبلاغتها في إطلاقها أن الصوت يقطر منه الدم. اهـ. وفي إثبات قولها هذا نظر فمن الذي سمعه منها ونقله إلينا؟ إن كان كعبا فنقله غير معتبر وإن كانت هي ذكرته لآخرين فكذلك ولم يثبت شيء من ذلك في طريق صحيح. والله أعلم.

(499) باب غزوة خيبر

(499) باب غزوة خيبر 4102 - عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا خيبر قال: فصلينا عندها صلاة الغداة بغلس فركب نبي الله صلى الله عليه وسلم وركب أبو طلحة وأنا رديف أبي طلحة. فأجرى نبي الله صلى الله عليه وسلم في زقاق خيبر، وإن ركبتي لتمس فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم وانحسر الإزار عن فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم وإني لأرى بياض فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم فلما دخل القرية قال "الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم {فساء صباح المنذرين} قالها ثلاث مرار قال: وقد خرج القوم إلى أعمالهم، فقالوا: محمد قال عبد العزيز وقال بعض أصحابنا "والخميس" قال "وأصبناها عنوة". 4103 - عن أنس رضي الله عنه قال: كنت ردف أبي طلحة يوم خيبر، وقدمي تمس قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فأتيناهم حين بزغت الشمس، وقد أخرجوا مواشيهم، وخرجوا بفؤوسهم ومكاتلهم ومرورهم فقالوا: محمد والخميس قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم {فساء صباح المنذرين} قال: فهزمهم الله عز وجل. 4104 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، قال "إنا إذا نزلنا بساحة قوم {فساء صباح المنذرين} 4105 - عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فتسيرنا ليلا، فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع: ألا تسمعنا من هنيهاتك؟ وكان عامر رجلا شاعرا، فنزل يحدو بالقوم يقول: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فاغفر فداء لك ما اقتفينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا

وألقين سكينة علينا ... إنا إذا صيح بنا أتينا وبالصياح عولوا علينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من هذا السائق" قالوا عامر قال "يرحمه الله" فقال رجل من القوم وجبت يا رسول الله لولا أمتعتنا به قال: فأتينا خيبر فحاصرناهم حتى أصابتنا مخمصة شديدة ثم قال "إن الله فتحها عليكم" قال: فلما أمسى الناس مساء اليوم الذي فتحت عليهم أوقدوا نيرانا كثيرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما هذه النيران؟ على أي شيء توقدون؟ " فقالوا: على لحم. قال "أي لحم؟ " قالوا: لحم حمر الإنسية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أهريقوها واكسروها" فقال رجل: أو يهريقوها ويغسلوها؟ فقال "أو ذاك" قال: فلما تصاف القوم كان سيف عامر فيه قصر، فتناول به ساق يهودي ليضربه ويرجع ذباب سيفه، فأصاب ركبة عامر، فمات منه. قال: فلما قفلوا، قال سلمة: وهو آخذ بيدي، قال: فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم ساكتا، قال "ما لك؟ " قلت له: فداك أبي وأمي زعموا أن عامرا حبط عمله. قال "من قاله؟ " قلت: فلان وفلان وأسيد بن حضير الأنصاري. فقال "كذب من قاله إن له لأجرين" وجمع بين إصبعيه "إنه لجاهد مجاهد قل عربي مشى بها مثله" وخالف قتيبة محمدا في الحديث في حرفين. وفي رواية ابن عباد "وألق سكينة علينا". 4106 - عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: لما كان يوم خيبر، قاتل أخي قتالا شديدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتد عليه سيفه فقتله. فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك وشكوا فيه رجل مات في سلاحه، وشكوا في بعض أمره. قال سلمة: فقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، فقلت: يا رسول الله ائذن لي أن أرجز لك. فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عمر بن الخطاب أعلم ما تقول: قال: فقلت: والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صدقت". وأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا والمشركون قد بغوا علينا

قال: فلما قضيت رجزي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قال هذا؟ قلت: قاله أخي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يرحمه الله" قال: فقلت يا رسول الله إن ناسا ليهابون الصلاة عليه يقولون رجل مات بسلاحه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مات جاهدا مجاهدا" قال ابن شهاب: ثم سألت ابنا لسلمة بن الأكوع فحدثني عن أبيه مثل ذلك غير أنه قال (حين قلت: إن ناسا يهابون الصلاة عليه) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كذبوا. مات جاهدا مجاهدا فله أجره مرتين" وأشار بإصبعيه. -[المعنى العام]- كان بعض اليهود الذين أجلوا عن بني النضير قد ذهبوا إلى يهود خيبر، يتكتلون معهم، ويجمعون ما استطاعوا جمعه من العرب لمحاربة المسلمين، وقد أقاموا أحلافا مع بعض القبائل كغطفان، وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بما يكيدون، فقرر غزوهم، وقرروا حربه، واستعدوا للقائه هم وحلفاؤهم وفي المحرم سنة سبع من الهجرة سار جيش المسلمين نحو خيبر، المدينة الكبيرة، ذات المزارع والنخيل، وذات الحصون المنيعة، بلغهم مسير جيش المسلمين، فكانوا لا يخرجون إلى مزارعهم إلا مسلحين مستعدين، ولما طال بهم الانتظار خرجوا إلى مزارعهم بالفئوس والمكاتل وأدوات الزرع والحرث العادية في اليوم الذي وصل فيه المسلمون إلى مشارف مدينتهم وصل المسلمون إلى المشارف ليلا، فنزلوا، وضربوا عسكرهم، وناموا حتى أصبحوا، وظهر ضوء النهار، فصلوا الصبح، ورآهم الفلاحون الذاهبون إلى زراعتهم، فنادى بعضهم بعضا: محمد وجيشه محمد وجيشه، وجروا إلى طرقات وزقاق مدينتهم يتحصنون بحصونها، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ركوبته، وأردف خلفه أبا طلحة، وأردف عليها خلف أبي طلحة أنس بن مالك، واتجه يعدو نحو الحارات والزقاق الواقعة في ضواحي المدينة، ومن خلفه جنود المسلمين، ومع أن غطفان خذلوا أهل خيبر كان اليهود في خيبر قد أعدوا لهذا اليوم عدته فجمعوا في حصونهم أقواتهم وأسلحتهم، ودخلوا وتحصنوا فيها، وهي حصون منيعة، عالية الأسوار، قوية الأبواب، لم يجد المسلمون وسيلة لحربهم سوى الحصار، وكان اليهود يخرجون من الحصون وظهورهم محمية بها يقاتلون ويناوشون المسلمين كل يوم، مرة بالمبارزة، ومرة بالتشابك بالسيوف والنبال، وهم كثعلب في حجر، لا يبتعدون عن حصونهم فيقضي عليهم، ولا يكفون عن المناوشة والمشاكسة، وطال الحصار والقتال بضعة عشر يوما، ونفذت أزودة المسلمين، فلجئوا إلى المزارع يأكلون من ثومها وبصلها، ولم يكن أمامهم من الحيوانات الأليفة سوى الحمر الأهلية، فذبحوها، ووضعوا لحومها في القدور وأوقدوا عليها النار، يطبخونها، ليأكلوها، إنهم في مجاعة شديدة، فماذا أمامهم؟ ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المعسكر نيرانا كثيرة، فقال: ما هذه

النيران؟ قالوا: نيران تحت قدور تفور بلحوم الحمر الأهلية. قال: أكفئوا القدور، وأريقوها واكسروها فقد طبخ فيها النجس المحرم، قال أحدهم: نرجو الترخيص لنا بغسلها بعد إراقتها، والاحتفاظ بها لحاجتنا إليها، فرخص لهم صلى الله عليه وسلم بذلك. وأحاديثنا تتعرض لبطل من أبطال المسلمين، عامر بن الأكوع، عم سلمة بن الأكوع، وكان شاعرا، وكانت رفقته في السفر تطلب منه أن يقول شعرا، يحدو به للإبل، والإبل تحب الحداء، فكان هذا الشاعر يحدو لها ويقول: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فاغفر -فداء لك- ما اقتفينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا وألقين سكينة علينا ... إنا إذا صيح بنا أتينا وبالصياح عولوا علينا هذا البطل بارز مليك اليهود في خيبر، بعد أن أبلى في هذه الحرب وغيرها بلاء حسنا، لكنه في هذه المبارزة ارتد إليه سيفه، فأصاب شريان ركبته، فاستشهد، فقال بعض الصحابة: إنه قتل بسلاحه فأحبط عمله، وعز على ابن أخيه سلمة بن الأكوع أن يكون مصير عمه البطل هذا الذي يقولون، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه شهيد، وأن له أجرين، وأنه جاهد الكفار بكل جهد وعزيمة، وأنه لا يكاد يوجد عربي مثله، وتتعرض أحاديث البخاري لبطل آخر في هذه الغزوة، ذاك علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقد أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية بعد طول حصار فأصبح يحملها، فبارزه ملك اليهود، فضربه على رأسه فقتله، ثم فتح الله على يديه الحصون، واستسلم اليهود على أن يجلوا عن البلاد على أن يحملوا معهم ما يستطيعون، فشرط عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكشفوا له أماكن أموالهم فقبلوا، لكنهم كشأنهم دائما نكثوا العهد، وأخفوا كنزا أظهره الله للمسلمين، فطلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبقيهم في الأرض مزارعين لهم مقابل زراعتها نصف ثمارها، فأقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك وظلوا هكذا حتى أجلاهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه. -[المباحث العربية]- (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا خيبر) "خيبر" على وزن جعفر، مدينة كبيرة، ذات حصون ومزارع على نحو مائة وثلاثين ميلا من المدينة من جهة الشام، وكانت الغزوة في المحرم سنة سبع، ومعنى "غزا خيبر" بدأ السير لغزوها. (فصلينا عندها صلاة الغداة بغلس) في الرواية الرابعة "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، فتسيرنا ليلا" وفي رواية البخاري "فسرنا ليلا" وذكر ابن إسحق أنه صلى الله عليه وسلم نزل بواد، يقال له الرجيع، بينهم وبين غطفان، لئلا يمدوهم، وكانوا حلفاءهم، قال: فبلغني أن غطفان

تجهزوا، وقصدوا خيبر، فسمعوا أصواتا خلفهم، فظنوا أن المسلمين أغاروا على ذراريهم، فرجعوا فأقاموا، وخذلوا أهل خيبر. وفي الصحيح "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يغير على قوم حتى يصبح، وينظر، فإن سمع أذانا كف عنهم، وإلا أغار، فانتهى إلى خيبر ليلا، فلما أصبح ولم يسمع أذانا ركب" والغداة ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس، والمراد هنا من صلاة الغداة صلاة الصبح، والغلس ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح، أي أنهم قدموها ليلا، فناموا دونها، ثم أصبحوا فصلوا. (فركب نبي الله صلى الله عليه وسلم، وركب أبو طلحة، وأنا رديف أبي طلحة، فأجرى نبي الله صلى الله عليه وسلم في زقاق خيبر) أي سير رسول الله صلى الله عليه وسلم راحلته في زقاقها، أي في طرقها الضيقة. والمراد أنهم دخلوا البيوت المتطرفة عن المدينة وحصونها، فإن المسلمين حاصروا المدينة بضع عشرة ليلة إلى أن فتحها الله عليهم. (وانحسر الإزار عن فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم) قال النووي: أي انحسر بغير اختياره، لضرورة الإغارة والإجراء. (فلما دخل القرية) أي أطراف المدينة. (خربت خيبر) قال ذلك صلى الله عليه وسلم تفاؤلا، لأنه لما رأى آلات الهدم في أيديهم، أخذ منها أن مدينتهم ستخرب، وقيل: أخذه من اسمها، قال الحافظ: ويحتمل أن يكون قال ذلك بطريق الوحي، ويؤيده قوله "إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين" والساحة الفناء، وأصلها الفضاء بين المنازل. (وقد خرج القوم إلى أعمالهم) عند الواقدي أن أهل خيبر سمعوا بقصد محمد صلى الله عليه وسلم لهم قبل وصوله بأيام، فكانوا يخرجون في كل يوم متسلحين، مستعدين للقتال، فلا يرون أحدا، حتى إذا كانت الليلة التي قدم فيها المسلمون ناموا، فلم تتحرك لهم دابة، ولم يصح لهم ديك، وخرجوا مبكرين، طالبين مزارعهم، فوجدوا المسلمين. وفي الرواية الثانية "وقد أخرجوا مواشيهم، وخرجوا بفئوسهم ومكاتلهم ومرورهم" و"الفئوس" بالهمزة جمع فأس، كرأس ورءوس، وهي آلة معروفة، ذات يد ملساء من الخشب، وسن عريضة من الحديد، يحفر بها، ويعزق، والمكاتل جمع مكتل، بكسر الميم، وهو القفة التي يحول فيها التراب وغيره، والمرور جمع مر بفتح الميم، قيل: هي المساحي، فعند البخاري "خرجت اليهود بمساحيهم" والمساحي جمع مسحاة، وهي آلة الحرث، وقيل: هي حبالهم التي يصعدون بها إلى النخل، واحدها مروة. (فقالوا: محمد والخميس) قالوا ذلك حينما رأوا المسلمين في طريقهم إلى مزارعهم، "والخميس" الجيش، قال النووي: قالوا: سمي الجيش خميسا لأنه خمسة أقسام: ميمنة، وميسرة

ومقدمة، ومؤخرة وقلب، قال القاضي: رويناه برفع الخميس، عطفا على قوله "محمد" وبنصبها على أنه مفعول معه. والظاهر أنهم رجعوا إلى حصونهم، وتحصنوا بها، فحاصرهم المسلمون، وكانوا يخرجون لمناوشة وقتال المسلمين، ويعودون إلى حصونهم ليلا. (وأصبناها عنوة) بفتح العين، أي قهرا، لا صلحا. قال المازري: ظاهر هذا أنها كلها فتحت عنوة، وروى مالك عن ابن شهاب أن بعضها فتح عنوة، وبعضها صلحا. (فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع: ألا تسمعنا من هنيهاتك)؟ في بعض النسخ "هنياتك" والهنة يقع على كل شيء، أي أسمعنا من حاجاتك، والمراد هنا أراجيزك، والهنيهات جمع هنيهة، وهي تصغير هنة، كما قالوا في تصغير سنة سنيهة، والهنيات جمع هنية، كسنة وسنية، وفي رواية للبخاري "لو أسمعتنا من هناتك"؟ بغير تصغير، قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسم الرجل الذي قال لعامر، صريحا، وعند ابن إسحق من حديث نصر بن دهر الأسلمي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في مسيره إلى خيبر لعامر بن الأكوع، وهو عم سلمة بن الأكوع، واسم الأكوع سنان: "انزل يا ابن الأكوع، فاحد لنا من هنياتك" ففي هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمره بذلك. اهـ لكن هذا الاحتمال لا يتفق مع قول النبي صلى الله عليه وسلم في الرواية بعد "من هذا السائق"؟ فلعل ذلك في نزلة أخرى غير التي معنا. (فنزل يحدو بالقوم) من الحدو، وهو سوق الإبل والغناء لها، يقال: حدوت الإبل حدوا، وحداء، والإبل تحب الحداء، ولا يكون الحداء إلا شعرا أو رجزا، وأول من سن حداء الإبل مضر بن نزار، لما نزل عن بعيره، فكسرت يده، فبقي يقول: وايداه. وايداه. (اللهم لولا أنت ما اهتدينا) قال النووي: كذا الرواية، قالوا: وصوابه في الوزن: "لاهم"، أو "والله لولا أنت" كما في الحديث الآخر "والله لولا الله". (فاغفر فداء لك) بكسر الفاء وبالمد، وحكى ابن التين "فدى لك" بفتح الفاء وبالقصر، وزعم أنه هنا بكسر الفاء مع القصر، لضرورة الوزن، قال العيني: وليس كما قال، فإنه لا يتزن إلا بالمد على ما لا يخفى. قال النووي: قال المازري: هذه اللفظة مشكلة، فإنه لا يقال: فدى الباري سبحانه وتعالى، ولا يقال له سبحانه: فديتك، لأن ذلك إنما يستعمل في مكروه يتوقع حلوله بالشخص، فيختار شخص آخر أن يحل ذلك به ويفديه منه. قال: ولعل هذا وقع من غير قصد إلى حقيقة معناه كما يقال: قاتله الله ولا يراد بذلك حقيقة الدعاء عليه، وكقوله صلى الله عليه وسلم "تربت يداك" و"تربت يمينك" و"ويل أمه" وفيه كله ضرب من الاستعارة، لأن الفادي مبالغ في طلب رضى المفدي، حين بذل نفسه عن نفسه للمكروه، فكان مراد الشاعر أني أبذل نفسي في رضاك، وعلى كل حال فإن المعنى -وإن أمكن صرفه إلى جهة صحيحة، فإطلاق اللفظ واستعارته والتجوز به- يفتقر إلى ورود الشرع بالإذن فيه، قال: وقد يكون المراد بقوله "فدا لك" رجلا يخاطبه، وفصل بين الكلام، فكأنه قال: "فاغفر" ثم

دعا إلى رجل ينبهه، فقال" فدا لك" ثم دعا إلى تمام الكلام الأول، فقال "ما اقتفينا" قال: وهذا تأويل يصح معه اللفظ والمعنى، لولا أن فيه تعسفا، اضطررنا إليه لتصحيح الكلام، وقد يقع في كلام العرب من الفصل بين الجمل المتعلق بعضها ببعض ما يسهل هذا التأويل. انتهى كلام المازري. وفي توجيهه كما قال تعسف كبير، والأولى أن يقال: إن الرواية دخلها تصحيف، وأصلها "نداء لك" بالنون بدل الفاء، وفي الحداء قد يشتبه الحرف على السامع. والله أعلم. (فاغفر ... ما اقتفينا) بقاف ساكنة بعدها تاء مفتوحة، أي ما تبعنا من الخطايا، من قفوت الأثر، واقتفيته إذا تبعته. وهي أشهر الروايات، وروي "ما اتقينا" بتاء مشددة، بعدها قاف، وهي أكثر الروايات، ومعناها ما تركنا من الأوامر، وروي "ما أبقينا" أي ما أبقيناه وراءنا من الذنوب فلم نتب منه، وفي رواية "ما لقينا" بكسر القاف، أي ما وجدنا من المناهي. (وألقين سكينة علينا) في رواية "وألق السكينة علينا" بحذف النون وزيادة ألف ولام في السكينة وليس بموزون وفي ملحق الرواية الرابعة "وألق سكينة علينا". (إنا إذا صيح بنا أتينا) بألف وتاء، أي جئنا إذا دعينا إلى القتال أو إلى الحق، وروي "أبينا" بالباء بدل التاء، فإن ثبتت الرواية فمعناها إذا دعينا إلى غير الحق امتنعنا، ويحتمل أن يكون معناها أبينا الفرار والامتناع. (وبالصياح عولوا علينا) أي قصدونا واعتمدوا علينا إذا صاحوا واستغاثوا. تقول: عولت على فلان، وعولت بفلان بمعنى استغثت به، واعتمدت عليه، وقال الخطابي: المعنى جلبوا علينا بالصوت، من العويل، وتعقب بأنه لو كان من العويل لقال أعولوا. (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا السائق؟ قالوا: عامر. قال: يرحمه الله) وفي باب غزوة ذي قرد الآتي "من هذا؟ قال: أنا عامر. قال: غفر لك ربك". (فقال رجل من القوم: وجبت يا رسول الله) أي ثبتت له الشهادة، وسيأتي في باب غزوة ذي قرد وغيرها، في حديث سلمة بن الأكوع قوله "وما استغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان يخصه إلا استشهد" قال النووي: وكان معلوما عندهم أن من دعا له النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء في هذا الموطن استشهد. اهـ. (لولا أمتعتنا به؟ ) في حديث سلمة في باب غزوة ذي قرد "فنادى عمر بن الخطاب، وهو على جمل له: يا نبي الله، لولا ما متعتنا بعامر؟ " وعمر نفسه الذي قال: وجبت، أي ثبتت. فعند ابن إسحق "فقال عمر: وجبت يا رسول الله" ومعنى "لولا" هلا، و"أمتعتنا" أي متعتنا، أي أبقيته لنا لنتمتع به، أي بشجاعته وصحبته، والتمتع الترف إلى مدة، أي وددنا لو أنك أخرت الدعاء له بهذا إلى وقت آخر.

(فأتينا خيبر فحاصرناهم) أي فأتينا أهل خيبر فحاصرناهم، مدة طويلة، نفد فيها زادنا. (حتى أصابتنا مخمصة شديدة) أي مجاعة شديدة، يبين بذلك سبب لجوئهم إلى طبخ الحمر الإنسية الآتي، والمخمصة المجاعة. (ثم قال: إن الله فتحها عليكم) أي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك في نهاية مدة الحصار، وفي الليلة التي فتحت في صبيحتها، أي إن الله سيفتحها عليكم، وسيأتي في آخر الباب التالي، باب غزوة ذي قرد وغيرها قول سلمة: "ثم أرسلني إلى علي، وهو أرمد" وعند البخاري ومسلم "كان علي رضي الله عنه تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر، وكان رمدا -يقال رمد الإنسان بكسر الميم يرمد بفتحها، رمدا فهو رمد وأرمد، إذا هاجت عينه- فقال: أنا أتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ -لام نفسه على عدم مصاحبته جيش خيبر بسبب مرض عينيه- فلحق به، فلما بتنا الليلة التي فتحت- أي التي ستفتح في صبيحتها- قال -صلى الله عليه وسلم لأصحابه- لأعطين الراية غدا، أو ليأخذن الراية غدا رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يفتح عليه، أو يفتح الله على يديه، فبات الناس يفكرون ليلتهم، أيهم يعطاها؟ وعند مسلم أن عمر رضي الله عنه قال: ما أحببت الإمارة إلا يومئذ" وفي حديث بريدة "فما منا رجل له منزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو يرجو أن يكون ذلك الرجل حتى تطاولت أنا لها" قال: فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها، فقال صلى الله عليه وسلم: أين علي بن أبي طالب؟ فقيل: هو يا رسول الله يشتكي عينيه. قال: فأرسلوا إليه" هذا من البخاري. ونعود إلى مسلم، يقول سلمة: "فأتيت عليا، فجئت به أقوده، وهو أرمد، حتى أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبصق في عينيه، فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية" وعند الحاكم "قال علي: فوضع رأسي في حجره ثم بزق في إلية راحته فدلك بها عيني" وعند الطبراني "فما رمدت، ولا صدعت منذ دفع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الراية يوم خيبر" وفي رواية له "فما اشتكيتها حتى الساعة" وكانت راية النبي صلى الله عليه وسلم سوداء، مكتوب عليها: لا إله إلا الله محمد رسول الله. (فلما أمسى الناس مساء اليوم الذي فتحت عليهم أوقدوا نيرانا كثيرة) يطبخون عليها لحوم الحمر الإنسية. (لحم حمر الإنسية) قال النووي: هكذا هو بإضافة "حمر" وهو من إضافة الموصوف إلى صفته وهو على ظاهره عند الكوفيين، وتقديره عند البصريين: حمر الحيوانات الإنسية، قال: وأما الإنسية ففيها لغتان وروايتان حكاهما القاضي عياض وآخرون، أشهرهما كسر الهمزة وإسكان النون، قال القاضي: هذه رواية الأكثر، والثانية فتحهما جميعا، وهما جميعا نسبة إلى الإنس، وهم الناس، وسميت بذلك لاختلاطها بالناس، بخلاف حمر الوحش. (أهريقوها واكسروها) أي اهرقوا القدور، واكسروا القدور، وسيأتي هذا الموضوع في كتاب الصيد والذبائح.

(فلما تصاف القوم كان سيف عامر فيه قصر، فتناول به ساق يهودي ليضربه) ظاهر هذا أن مبارزة عامر لليهودي كانت بعد إعطاء الراية لعلي، وليس كذلك، بل هو وصف لمعركة في يوم سابق، وكان يهود خيبر طيلة مدة الحصار يخرجون فيقاتلون المسلمين، وظهورهم إلى حصونهم، فإذا جاء الليل دخلوا حصونهم، ورجع المسلمون إلى عسكرهم. وقد أوضحت رواية سلمة في آخر باب غزوة ذي قرد معركة عمه عامر، فقال سلمة: "خرج ملكهم مرحب" بفتح الميم وسكون الراء وفتح الحاء "يخطر بسيفه" بكسر الطاء، أي يرفعه مرة، ويضعه أخرى "ويقول: قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلهب أي تام السلاح، يقال: رجل شاكي السلاح، وشاك السلاح، وشاك في السلاح، من الشوكة، وهي القوة، والشوكة أيضا السلاح، ومنه قوله تعالى: {وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم} [الأنفال: 7] "بطل مجرب" أي مجرب بالشجاعة وقهر الفرسان، والبطل الشجاع، يقال: بطل الرجل، بضم الطاء يبطل بطالة وبطولة، أي صار شجاعا "إذا الحروب أقبلت تلهب" أي يتلهب، يقال: تلهبت النار اتقدت، أي يثور ويتحرق للنزال. قال سلمة "وبرز له عمي عامر فقال: قد علمت خيبر أني عامر ... شاكي السلاح بطل مغامر فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مرحب في ترس عامر" أي اشتبك في الترس، وتعلق به "وذهب عامر يسفل له" بفتح الياء، وإسكان السين وضم الفاء، أي يضربه من أسفله" وفي روايتنا "فتناول به ساق يهودي ليضربه". (ويرجع ذباب سيفه، فأصاب ركبة عامر) "يرجع" تعبير بالمضارع عن الماضي رجع، لاستحضار الصورة. وذباب السيف حد طرفه، وفي آخر غزوة ذي قرد "فرجع سيفه على نفسه، فقطع أكحله، فكانت فيها نفسه" أي فكان في هذه الرجعة خروج نفسه، بسكون الفاء، أي روحه، والأكحل وريد في وسط الذراع، أو الساق. والمراد هنا وريد الساق، وفي رواية البخاري "فأصاب عين ركبة عامر أي رأس ركبته" وفي آخر غزوة ذي قرد قال سلمة: "وخرج مرحب" أي في يوم الفتح " فقال: قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلهب فقال علي: أنا الذي سمتني أمي حيدرة ... كليث غابات كريه المنظرة

"أو فيهمو بالصاع كيل السندرة" و"حيدرة" اسم للأسد، وكان علي رضي الله عنه سمته أمه أسدا في أول ولادته، باسم جده لأمه أسد بن هشام بن عبد مناف، وكان أبو طالب غائبا، فلما قدم سماه عليا، وسمي الأسد حيدرة لغلظه، والحادر الغليظ القوي، ومراده أنا الأسد على جرأته وإقدامه وقوته، ومعنى "أوفيهمو بالصاع كيل السندرة" أقتل الأعداء قتلا واسعا ذريعا، والسندرة مكيال واسع، وقيل: هي العجلة، أي أقتلهم عاجلا، قال سلمة "فضرب" على "رأس مرحب فقتله ثم كان الفتح على يديه" قال النووي: هذا هو الأصح، أن عليا هو قاتل مرحب، وقيل: إن قاتل مرحب هو محمد بن مسلمة، قال ابن الأثير: الصحيح الذي عليه أكثر أهل الحديث وأهل السير أن عليا هو قاتله. (فلما قفلوا قال سلمة -وهو آخذ بيدي أي ورسول الله صلى الله عليه وسلم آخذ بيدي- قال: فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم ساكتا قال مالك؟ ) وفي رواية "رآني شاحبا" وعند البخاري "فلما قفلوا. قال سلمة: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو آخذ بيدي، قال مالك؟ " وفي الرواية الخامسة "قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، فقلت: يا رسول الله، ائذن لي أن أرجز لك؟ فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر بن الخطاب: أعلم ما تقول" أي لفراسه عمر استطاع أن يتنبأ بما سيقوله سلمة أخذا من حزنه على عمه "قال: فقلت: والله لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقت" أي فقلت: وأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا والمشركون قد بغوا علينا قال: فلما قضيت رجزي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قال هذا" أي ممن سمعت هذا؟ قال: قلت: أخي" قال النووي: قال عن عامر مرة عمي، ومرة أخي، فلعله كان أخاه من الرضاعة، وكان عمه من النسب "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحمه الله. قال: فقلت ... إلخ. وفي آخر غزوة ذي قرد قال سلمة: "فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقلت ... " إلخ. فهذه أحوال ثلاث لوضع سلمة حين شكواه للنبي صلى الله عليه وسلم من قول أصحابه، وحين سؤاله عن مصير عمه. ويمكن الجمع بينها بأنه صلى الله عليه وسلم رأه ساكتا، فسأله: مالك؟ فبكى، فقال يا رسول الله ائذن لي أن أرجز لك، فقال الرجز، ثم سأل عن عمه. (فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك) قولا، بينه في الروايات الأخرى، قالوا: رجل مات في سلاحه؟ بطل عمله؟ قتل نفسه؟ كيف نصلي عليه وندعو له؟ (وشكوا فيه) بتشديد الكاف، أي شكوا في مصيره، هل أحبط عمله؟ أولا؟

(قلت: فلان وفلان وأسيد بن حضير الأنصاري) "فلان وفلان" كناية عن اسمين من الصحابة، ذكرهما سلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. (كذب من قاله) أي لم يطابق قوله الواقع، وإن كان لم يتعمد ذلك، فهو مخطئ. (إن له لأجرين، وجمع بين إصبعيه) السبابة والوسطى، يؤكد القول بالإشارة والفعل. قال النووي: وفي معظم النسخ "إن له لأجران" بالألف، وهي صحيحة. لكن الأولى هو الأشهر الأفصح، والثاني لغة أربع قبائل من العرب، ومنها قوله تعالى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه: 63] لغة من يلزم المثنى الألف في أوجه الإعراب المختلفة. والأجران: أجر لأنه جاهد، وأجر لأنه مجاهد، كما سيأتي، وفي رواية "إنه لشهيد، وصلى عليه". (إنه لجاهد مجاهد) قال النووي: "جاهد" بكسر الهاء وتنوين الدال، و"مجاهد" بضم الميم وتنوين الدال أيضا، وفسروا "لجاهد" بالجاد في علمه وعمله، أي لجاد في طاعة الله، والمجاهد هو المجاهد في سبيل الله، وهو الغازي، اهـ واللام في "لجاهد" للتأكيد، وفي رواية بدونها. و"جاهد" اسم فاعل من جهد، و"مجاهد" اسم فاعل من جاهد، قال القاضي: وفيه وجه آخر، وهو أنه جمع اللفظين "جاهد مجاهد" توكيدا، والعرب إذا بالغت في تعظيم شيء اشتقت له من لفظه لفظا آخر، على غير بنائه، زيادة في التوكيد، وأعربوه بإعرابه، فيقولون: جاد مجد، وليل لائل، وشعر شاعر، ونحو ذلك. وفي رواية "إنه لجاهد وجاهد" بالواو العاطفة، بدل الميم، وبلفظ الفعل الماضي. قال القاضي: والأول هو الصواب. (قل عربي مشى بها مثله) "قل" بفتح القاف وتشديد اللام، فعل ماض، قال النووي: ضبطنا هذه اللفظة "مشى بها" هنا في مسلم بوجهين، وذكرهما القاضي أيضا، الصحيح المشهور الذي عليه جماهير رواة البخاري ومسلم "مشى بها" بفتح الميم، فعل ماض من المشي، و"بها" جار ومجرور، ومعناه مشى بالأرض، أو في الحرب، والثاني "مشابها" بضم الميم وتنوين الهاء، من المشابهة، أي مشابها لصفات الكمال في القتال أو غيره مثله، ويكون "مشابها" منصوبا بفعل محذوف، أي رأيته مشابها، ومعناه: قل عربي يشبهه في جميع صفات الكمال، وضبطه بعض رواة البخاري "نشأ بها" بالنون والهمزة، أي شب وكبر، والهاء عائدة إلى الحرب أو الأرض أو بلاد العرب أو المدينة أو الخصلة. -[فقه الحديث]- روى البخاري في غزوة خيبر هذه الأحاديث وغيرها، نذكر مما رواه:

1 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه جاء، فقال: أكلت الحمر، فسكت، ثم أتاه الثانية، فقال: أكلت الحمر، فسكت ثم أتاه الثالثة. فقال: أفنيت الحمر، فأمر مناديا، فنادى في الناس: إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية، فأكفئت القدور، وإنها لتفور باللحم" وسيأتي بنحوه في كتاب الصيد والذبائح، باب تحريم أكل لحوم الحمر الأهلية. 2 - ومن رواية عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر قتل المقاتلة، وسبي الذرية، وكان في السبي صفية، فصارت إلى دحية الكلبي، ثم صارت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل عتقها صداقها". 3 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر للفرس سهمين وللراجل سهما". 4 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أعطى النبي صلى الله عليه وسلم خيبر لليهود أن يعملوها ويزرعوها، ولهم شطر ما يخرج منها". هذا. وقد روى البيهقي بإسناد رجاله ثقات "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ترك من ترك من أهل خيبر، على أن لا يكتموه شيئا من أموالهم، فإن فعلوا فلاذمة لهم ولا عهد، قال: فغيبوا مسكا فيه مال وحلي لحيي بن أخطب، كان قد احتمله معه إلى خيبر، فسألهم عنه، فقالوا: أذهبته النفقات، فقال: العهد قريب، والمال أكثر من ذلك؟ فوجد بعد ذلك في خربة، وكان في ذلك نكث لعهدهم. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - عن قوله في الرواية الأولى "فصلينا عندها صلاة الغداة بغلس" قال النووي: فيه استحباب التبكير بالصلاة في أول وقتها. 2 - وأنه لا يكره تسمية صلاة الصبح غداة، فيكون ردا على من قال من الشافعية: إنه مكروه. 3 - ومن ركوب أبي طلحة وأنس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ جواز الإرداف على الدابة، إذا كانت مطيقة. 4 - وفي إجراء النبي صلى الله عليه وسلم في زقاق خيبر أن إجراء الفرس والإغارة ليس بنقص، ولا هادم للمروءة، بل هو سنة وفضيلة، وهو من مقاصد القتال. 5 - استدل أصحاب مالك ومن وافقهم بانحسار الإزار عن فخذ النبي صلى الله عليه وسلم على أن الفخذ ليست بعورة من الرجل، ومذهب الجمهور أنها عورة، قال النووي: وقد جاءت بكونها عورة أحاديث كثيرة مشهورة، وتأول الشافعية هذا الحديث على أنه انحسر بغير اختياره، لضرورة الإغارة والإجراء، وليس فيه استدامة كشف الفخذ مع إمكان الستر". 6 - كما استدلوا على أن الفخذ ليست بعورة بقول أنس "وإني لأرى بياض فخذه صلى الله عليه وسلم إذ لو كانت عورة ما نظر إليها، ويجيب الجمهور بأن ذلك محمول على أنه وقع بصره عليه فجأة، لا أنه تعمده، كما يستدل المالكية برواية البخاري "أن النبي صلى الله عليه وسلم حسر الإزار" ويجيب الجمهور

بأنها محمولة على أنه انحسر، كما في رواية مسلم. ويقول بعض المالكية: النبي صلى الله عليه وسلم أكرم على الله تعالى أن يبتليه بانكشاف عورته فلو كانت عورة ما انكشفت، ويجيب الشافعية بأنه إذا كان بغير اختيار الإنسان فلا نقص عليه فيه، ولا يمتنع مثله. 7 - من قوله "الله أكبر، خربت خيبر" استحباب التكبير عند اللقاء. 8 - من قوله "إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين" جواز الاستشهاد في مثل هذا السياق بالقرآن في الأمور المحققة، كما جاء في قوله {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا} [الإسراء: 81] لكن قال العلماء: يكره من ذلك ما كان على ضرب الأمثال في المحاورات والمزاح ولغو الحديث، تعظيما لكتاب الله تعالى. 9 - واستدل بعضهم بقوله "وأصبناها عنوة" على أن خيبر كلها فتحت عنوة لا صلحا، قال المازري: وقد يشكل على هذا ما روي في سنن أبي داود أنه قسمها نصفين، نصفا لنوائبه وحاجته، ونصفا للمسلمين. قال: وجوابه ما قال بعضهم: إنه كان حولها ضياع وقرى، أجلى عنها أهلها، فكانت خالصة للنبي صلى الله عليه وسلم، وما سواها للغانمين، فكان قدر الذين خلوا عنه النصف، فلهذا قسمها النبي صلى الله عليه وسلم نصفين، قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر أن الشبهة في ذلك قول ابن عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر، فغلب على النخل، وألجأهم إلى القصر، فصالحوه على أن يجلوا منها، وله الصفراء والبيضاء والحلقة، ولهم ما حملت ركابهم، على أن لا يكتموا ولا يغيبوا ... فسبى نساءهم وذراريهم وقسم أموالهم للنكث الذي نكثوا، وأراد أن يجليهم، فقالوا: دعنا في هذه الأرض نصلحها، فعلى هذا كان قد وقع الصلح، ثم حدث النقض منهم فزال أثر الصلح، ثم من عليهم بترك القتل، وإبقائهم عمالا بالأرض، ليس لهم فيها ملك، ولذا أجلاهم عمر رضي الله عنه، كما تقدم في المزارعة، فلو كانوا صولحوا على أرضهم لم يجلوا منها. 10 - قال القاضي: في هذا الحديث أن الإغارة على العدو يستحب كونها أول النهار عند الصبح، لأنه وقت غرتهم وغفلة أكثرهم، ثم يضيء لهم النهار لما يحتاج إليه، بخلاف ملاقاة الجيوش ومصاففتهم ومناصبة الحصون، فإن هذا يستحب كونه بعد الزوال، ليدوم النشاط ببرد الوقت بخلاف ضده. اهـ وأقول: هذا يخضع للظروف والملابسات والخطط الحربية. 11 - ومن قوله "ألا تسمعنا من هنيهاتك" جواز إنشاد الأراجيز وغيرها من الشعر وسماعها، ما لم يكن فيه مذموم، والشعر كلام، حسنه حسن، وقبيحه قبيح. 12 - ومن قوله "فنزل يحدو القوم" استحباب الحداء في الأسفار، لتنشط النفوس والدواب على قطع الطريق، واشتغالها بسماعه عن الإحساس بألم السير. 13 - استدل بقوله "أهريقوها واكسروها" على نجاسة لحوم الحمر الأهلية، قال النووي: وهو مذهبنا ومذهب الجمهور، إذ الأمر بإراقته سببه الصحيح أنها نجسة محرمة، وقيل: إن النهي عن لحوم

الحمر الأهلية للحاجة إليها، وقيل: لأنهم كانوا أخذوها قبل القسمة، قال: وهذان التأويلان هما لأصحاب مالك، القائلين بإباحة لحومها. 14 - ومن قول الرجل "أو يهرقوها ويغسلوها" وموافقة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد، وقيل: إنما وافق بوحي أوحي إليه. 15 - فيه فضيلة لعامر بن الأكوع. 16 - من المخمصة التي أصابتهم حتى أكلوا الثوم، وحاولوا أكل لحوم الحمر علامة ظاهرة على مالقي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في سبيل الله والدعوة إلى الله. والله وأعلم

(500) باب غزوة الأحزاب وهي الخندق

(500) باب غزوة الأحزاب وهي الخندق 4107 - عن البراء رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب ينقل معنا التراب. ولقد وارى التراب بياض بطنه، وهو يقول: 4 - والله لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا ... إن الألى قد أبوا علينا قال: وربما قال: إن الملا قد أبوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا ويرفع بها صوته. 4108 - -/- وفي رواية عن البراء فذكر مثله إلا أنه قال "إن الألى قد بغوا علينا". 4109 - عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نحفر الخندق وننقل التراب على أكتافنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للمهاجرين والأنصار". 4110 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "اللهم لا عيش إلا عيش الآخره فاغفر للأنصار والمهاجره". 4111 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول "اللهم إن العيش عيش الآخرة" قال شعبة: أو قال "اللهم لا عيش إلا عيش الآخره فأكرم الأنصار والمهاجره".

4112 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كانوا يرتجزون ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم وهم يقولون: اللهم لا خير إلا خير الآخره فانصر الأنصار والمهاجره وفي حديث شيبان (بدل فانصر) فاغفر. 4113 - عن أنس رضي الله عنه أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون يوم الخندق نحن الذين بايعوا محمدا على الإسلام ما بقينا أبدا أو قال على الجهاد. شك حماد. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول "اللهم إن الخير خير الآخره فاغفر للأنصار والمهاجره". -[المعنى العام]- هذه الأحاديث سبقت مع ما فيها من مباحث عربية وفقه الحديث وبالعنوان نفسه، قبل ستة أبواب بما يغني عن الإعادة.

(501) باب غزوة ذي قرد وغيرها

(501) باب غزوة ذي قرد وغيرها 4114 - عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: خرجت قبل أن يؤذن بالأولى. وكانت لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم ترعى بذي قرد. قال: فلقيني غلام لعبد الرحمن بن عوف فقال: أخذت لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: من أخذها؟ قال: غطفان. قال: فصرخت ثلاث صرخات. يا صباحاه. قال: فأسمعت ما بين لابتي المدينة. ثم اندفعت على وجهي حتى أدركتهم بذي قرد. وقد أخذوا يسقون من الماء. فجعلت أرميهم بنبلي. وكنت راميا. وأقول أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع. فأرتجز. حتى استنقذت اللقاح منهم. واستلبت منهم ثلاثين بردة. قال: وجاء النبي صلى الله عليه وسلم والناس. فقلت: يا نبي الله إني قد حميت القوم الماء. وهم عطاش. فابعث إليهم الساعة. فقال "يا ابن الأكوع، ملكت فأسجح" قال: ثم رجعنا ويردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته حتى دخلنا المدينة. 4115 - عن إياس بن سلمة حدثني أبي قال: قدمنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونحن أربع عشرة مائة، وعليها خمسون شاة لا ترويها. قال: فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبا الركية، فإما دعا، وإما بصق فيها. قال: فجاشت فسقينا واستقينا. قال: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعانا للبيعة في أصل الشجرة. قال: فبايعته أول الناس. ثم بايع وبايع حتى إذا كان في وسط من الناس. قال "بايع يا سلمة" قال: قلت: قد بايعتك يا رسول الله في أول الناس. قال: "وأيضا" قال ورآني رسول الله صلى الله عليه وسلم عزلا (يعني ليس معه سلاح) قال: فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم حجفة أو درقة. ثم بايع حتى إذا كان في آخر الناس. قال: "ألا تبايعني يا سلمة" قال: قلت: قد بايعتك يا رسول الله في أول الناس وفي أوسط الناس قال "وأيضا" قال: فبايعته الثالثة. ثم قال لي "يا سلمة أين حجفتك أو درقتك التي أعطيتك؟ " قال: قلت: يا رسول الله لقيني عمي عامر عزلا فأعطيته إياها. قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال "إنك كالذي قال الأول اللهم أبغني حبيبا هو أحب إلي من نفسي" ثم إن المشركين راسلونا الصلح حتى

مشى بعضنا في بعض واصطلحنا. قال: وكنت تبيعا لطلحة بن عبيد الله، أسقي فرسه وأحسه وأخدمه، وآكل من طعامه، وتركت أهلي ومالي مهاجرا إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. قال: فلما اصطلحنا نحن وأهل مكة واختلط بعضنا ببعض، أتيت شجرة فكسحت شوكها فاضطجعت في أصلها. قال: فأتاني أربعة من المشركين من أهل مكة، فجعلوا يقعون في رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبغضتهم. فتحولت إلى شجرة أخرى. وعلقوا سلاحهم واضطجعوا. فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من أسفل الوادي يا للمهاجرين، قتل ابن زنيم. قال: فاخترطت سيفي ثم شددت على أولئك الأربعة وهم رقود، فأخذت سلاحهم فجعلته ضغثا في يدي. قال: ثم قلت: والذي كرم وجه محمد لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه. قال: ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وجاء عمي عامر برجل من العبلات، يقال له مكرز يقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس مجفف في سبعين من المشركين. فنظر إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "دعوهم يكن لهم بدء الفجور وثناه" فعفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأنزل الله {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم} [الفتح: 24] الآية كلها. قال: ثم خرجنا راجعين إلى المدينة. فنزلنا منزلا بيننا وبين بني لحيان جبل وهم المشركون. فاستغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن رقي هذا الجبل الليلة، كأنه طليعة للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. قال سلمة: فرقيت تلك الليلة مرتين أو ثلاثا. ثم قدمنا المدينة. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهره مع رباح غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأنا معه. وخرجت معه بفرس طلحة أنديه مع الظهر. فلما أصبحنا إذا عبد الرحمن الفزاري قد أغار على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستاقه أجمع وقتل راعيه. قال: فقلت: يا رباح خذ هذا الفرس فأبلغه طلحة بن عبيد الله، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المشركين قد أغاروا على سرحه. قال: ثم قمت على أكمة فاستقبلت المدينة فناديت ثلاثا يا صباحاه. ثم خرجت في آثار القوم أرميهم بالنبل. وأرتجز. أقول: 4 أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع فألحق رجلا منهم فأصك سهما في رحله حتى خلص نصا السهم إلى كتفه. قال: قلت: خذها وأنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع قال: فوالله ما زلت أرميهم وأعقر بهم. فإذا رجع إلي فارس، أتيت شجرة، فجلست في أصلها، ثم رميته فعقرت به. حتى إذا تضايق الجبل فدخلوا في تضايقه، علوت الجبل، فجعلت أرديهم بالحجارة. قال: فمازلت كذلك أتبعهم حتى ما خلق الله من بعير من ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خلفته وراء ظهري. وخلوا بيني وبينه. ثم اتبعتهم أرميهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة، وثلاثين رمحا يستخفون، ولا يطرحون شيئا إلا جعلت عليه آراما من الحجارة

يعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. حتى أتوا متضايقا من ثنية، فإذا هم قد أتاهم فلان بن بدر الفزاري، فجلسوا يتضحون يعني يتغدون. وجلست على رأس قرن. قال: الفزاري ما هذا الذي أرى؟ قالوا: لقينا من هذا البرح والله ما فارقنا منذ غلس يرمينا حتى انتزع كل شيء في أيدينا. قال: فليقم إليه نفر منكم أربعة. قال: فصعد إلي منهم أربعة في الجبل. قال: فلما أمكنوني من الكلام. قال: قلت: هل تعرفوني؟ قالوا: لا. ومن أنت؟ قال: قلت: أنا سلمة بن الأكوع والذي كرم وجه محمد صلى الله عليه وسلم لا أطلب رجلا منكم إلا أدركته. ولا يطلبني رجل منكم فيدركني. قال أحدهم: أنا أظن. قال: فرجعوا. فما برحت مكاني حتى رأيت فوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخللون الشجر. قال: فإذا أولهم الأخرم الأسدي، على إثره أبو قتادة الأنصاري، وعلى إثره المقداد بن الأسود الكندي. قال: فأخذت بعنان الأخرم. قال: فولوا مدبرين. قلت: يا أخرم احذرهم لا يقتطعوك حتى يلحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. قال: يا سلمة إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر، وتعلم أن الجنة حق والنار حق، فلا تحل بيني وبين الشهادة. قال: فخليته. فالتقى هو وعبد الرحمن. قال: فعقر بعبد الرحمن فرسه وطعنه عبد الرحمن، فقتله، وتحول على فرسه. ولحق أبو قتادة فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبد الرحمن فطعنه، فقتله. فوالذي كرم وجه محمد صلى الله عليه وسلم لتبعتهم أعدو على رجلي حتى ما أرى ورائي من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولا غبارهم شيئا. حتى يعدلوا قبل غروب الشمس إلى شعب فيه ماء يقال له ذو قرد، ليشربوا منه، وهم عطاش. قال: فنظروا إلي أعدو وراءهم، فحليتهم عنه (يعني أجليتهم عنه) فما ذاقوا منه قطرة. قال: ويخرجون فيشتدون في ثنية. قال: فأعدو فألحق رجلا منهم فأصكه بسهم في نغض كتفه. قال: قلت: خذها وأنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع قال: يا ثكلته أمه أكوعه بكرة. قال: قلت: نعم يا عدو نفسه أكوعك بكرة. قال: وأردوا فرسين على ثنية. قال: فجئت بهما أسوقهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: ولحقني عامر بسطيحة فيها مذقة من لبن، وسطيحة فيها ماء، فتوضأت وشربت. ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الماء الذي حلأتهم عنه. فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ تلك الإبل، وكل شيء استنقذته من المشركين، وكل رمح وبردة. وإذا بلال نحر ناقة من الإبل الذي استنفذت من القوم، وإذا هو يشوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كبدها وسنامها. قال: قلت: يا رسول الله، خلني فأنتخب من القوم مائة رجل فأتبع القوم، فلا يبقى منهم مخبر إلا قتلته. قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه في ضوء النار. فقال: "يا سلمة أتراك كنت فاعلا" قلت: نعم والذي أكرمك. فقال "إنهم الآن ليقرون في أرض غطفان" قال: فجاء رجل من غطفان.

فقال: نحر لهم فلان جزورا فلما كشفوا جلدها رأوا غبارا. فقالوا: أتاكم القوم فخرجوا هاربين. فلما أصبحنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان خير فرساننا اليوم أبو قتادة وخير رجالتنا سلمة" قال: ثم أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمين سهم الفارس وسهم الراجل، فجمعهما لي جميعا. ثم أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم وراءه على العضباء راجعين إلى المدينة: قال: فبينما نحن نسير. قال: وكان رجل من الأنصار لا يسبق شدا. قال: فجعل يقول ألا مسابق إلى المدينة هل من مسابق، فجعل يعيد ذلك. قال: فلما سمعت كلامه، قلت: أما تكرم كريما ولا تهاب شريفا؟ قال: لا، إلا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال قلت: يا رسول الله بأبي وأمي ذرني فلأسابق الرجل. قال "إن شئت" قال: قلت: اذهب إليك وثنيت رجلي فطفرت فعدوت. قال: فربطت عليه شرفا أو شرفين، أستبقي نفسي. ثم عدوت في إثره، فربطت عليه شرفا أو شرفين. ثم إني رفعت حتى ألحقه. قال: فأصكه بين كتفيه. قال: قلت: قد سبقت والله. قال: أنا أظن قال: فسبقته إلى المدينة. قال: فوالله ما لبثنا إلا ثلاث ليال حتى خرجنا إلى خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فجعل عمي عامر يرتجز بالقوم: تالله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا ونحن عن فضلك ما استغنينا ... فثبت الأقدام إن لاقينا وأنزلن سكينة علينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من هذا" قال: أنا عامر. قال "غفر لك ربك" قال: وما استغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان يخصه إلا استشهد. قال: فنادى عمر بن الخطاب وهو على جمل له يا نبي الله لولا ما متعتنا بعامر. قال: فلما قدمنا خيبر، قال: خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه، ويقول: قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلهب قال: وبرز له عمي عامر، فقال: قد علمت خيبر أني عامر ... شاكي السلاح بطل مغامر قال: فاختلفا ضربتين فوقع سيف مرحب في ترس عامر. وذهب عامر يسفل له فرجع سيفه على نفسه فقطع أكحله، فكانت فيها نفسه. قال سلمة: فخرجت فإذا نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون بطل عمل عامر قتل نفسه. قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقلت: يا

رسول الله، بطل عمل عامر؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قال ذلك" قال: قلت: ناس من أصحابك. قال "كذب من قال ذلك بل له أجره مرتين" ثم أرسلني إلى علي وهو أرمد فقال "لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله أو يحبه الله ورسوله" قال: فأتيت عليا. فجئت به أقوده وهو أرمد، حتى أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبسق في عينيه فبرأ وأعطاه الراية وخرج مرحب فقال: قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلهب فقال علي: أنا الذي سمتني أمي حيدره ... كليث غابات كريه المنظره أوفيهم بالصاع كيل السندره قال: فضرب رأس مرحب فقتله. ثم كان الفتح على يديه. قال إبراهيم حدثنا محمد بن يحيى حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث عن عكرمة بن عمار بهذا الحديث بطوله -[المعنى العام]- سلمة بن الأكوع، الصحابي الجليل، الذي يمتاز بخفة الجسم، ورقة الساقين، وسرعة الجري، وحدة الذهن، وتعلم فوق ذلك صنعة الرمي، يعد ويبري نبله، كما يبري المعلم قلمه، ويختاره من فروع الأشجار الصلبة، بحيث ينفذ في جسم هدفه فيؤذيه ويختار قوسه ووتره بحيث يقوى على دفع نبله إلى أبعد مدى، وبعد هذا وذاك كان راميا، قوي البصر، دقيق تحديد الهدف يجيد الإصابة، لا يكاد يخطئ فهو بهذه الصفات يصيب غيره، ولا يصيبه غيره، إن طلب هدفا أو رجلا أدركه، وإن طلبه وقصد إيذاءه رجل لم يدركه. إنه بطل شجاع، مهاجم مغامر، جريء محاور، يرعب خصمه، ولا يرهب عدوا، وفوق كل هذا مؤمن بقضيته، يحارب من أجل عقيدته، يحب الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى لا يكاد يحلف بربه إلا بتكريم نبيه، فتراه يقول كثيرا: والذي كرم وجه محمد صلى الله عليه وسلم وتراه يحرص دائما على أن يكون الجندي الوفي الأول للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، فلا عجب أن يقول عنه صلى الله عليه وسلم "خير رجالتنا اليوم سلمة" أي خير الجنود المشاة على أرجلهم في هذه المعركة سلمة، ولا عجب أن يحكي هو بنفسه لنا عن بطولاته في ثلاث معارك، ليس ذلك من قبيل الفخر والخيلاء، وإنما من قبيل {وأما بنعمة ربك فحدث} [الضحى: 11] وفي ذلك حث وإثارة لغيره أن يقتدي به، ليس من قبيل الفخر والخيلاء، فهو المتواضع الذي لا يستحيي أن يقول عن نفسه: كنت

تابعا وخادما لطلحة بن عبيد الله أخدم فرسه وأسقيه وأرعاه وآكل من طعامه وأشرب من شرابه فقد تركت أهلي ومالي في مكة، وهاجرت خاليا في سبيل الله. يحكى لنا عن مواقفه البطولية المشرفة في معركة غزوة ذي قرد في الرواية الأولى، وعن مواقفه وشجاعته في غزوة الحديبية في الرواية الثانية، ويحكى لنا صورة الحب والوفاء لعمه عامر في غزوة خيبر في آخر الرواية الثانية. وقارئ هذه الأحاديث يدرك معناها ومغزاها، ولا يحتاج إلى المعنى العام، لكننا سنضع للقارئ علامات على الطريق، وأضواء ومصابيح على المنحنيات. فسبب غزوة ذي قرد أن المشركين من غطفان أغاروا على إبل الصدقة التي هي في حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم أغاروا عليها، وهي ترعى في الكلأ خارج المدينة، يرعاها ويشرف على رعيها غلام صغير، استاقوها وأخذوها كلها، وقتلوا راعيها، كان سلمة قريبا من مكان الجريمة معه فرس طلحة يرعى ويشرب، جاءه غلام يدعى رباح، فأخبره بالحادثة، وهنا تظهر بطولة سلمة وشهامته وذكاؤه، مجموعة من الرجال قد يصل عددهم إلى الثلاثين، ومعهم أسلحتهم، وهم كقطاع الطريق، نهبوا نهبا وساروا به نحو مضاربهم، وهي في ناحية، والمدينة في الناحية الأخرى. ماذا يفعل؟ أيذهب إلى المدينة يستصرخ الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، ليهبوا لإنقاذ إبلهم؟ إذن يكون المنتهبون قد فروا بنهبتهم، أم يجري وحده خلف اللصوص؟ وقد يضحي بنفسه ولا ينفذ شيئا؟ وماذا يفعل مع فرس طلحة وهو ليس بفارس؟ وكيف يعرضه للضياع وهو لا يملكه؟ إن الذكاء والحيلة وحسن التصرف في مثل هذه المواقف خير سلاح. قال للغلام: خذ هذه الفرس، فأبلغه إلى صاحبه طلحة، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الخبر، ثم صعد على جبل ووجهه إلى المدينة، وصرخ يا صباحاه، يا صباحاه. صوت معلوم عندهم للنجدة، سمعه النبي صلى الله عليه وسلم فعبأ أصحابه، وبلغهم الغلام الخبر، فهبوا. أما سلمة فتبع القوم، يرميهم بالنبال من بعيد، فيجرون، وتشرد منهم الإبل فيخليها خلفه، ويتخففون مما يحملون، فيلقون الأغطية والرماح فيستولى عليها سلمة ويضع عليها أحجارا بطريقة خاصة، يعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهي في الوقت نفسه علامات لهم على الطريق المسلوك ليتابعوه، منذ الصباح وحتى الليل وسلمة يتابع القوم، وهم يجرون أمامه، حتى وصلوا إلى ماء ذي قرد، وهم وما معهم من الإبل عطاش، فنزلوا يشربون، فأمطرهم سلمة بوابل من النبل فتركوا البئر وهم عطاش. ولحقه جيش الرسول صلى الله عليه وسلم، ونزلوا عند البئر، وقد استنقذت إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعها غنائم المشركين، ثم رجعوا إلى المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يردف سلمة خلفه على ناقته، وقد أعطاه من الغنيمة سهمين، بدلا من سهم واحد. أما موقفه في غزوة الحديبية فهو يحكي أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب منه أن يبايع بيعة الرضوان ثلاث مرات، في أول القوم، وفي أوسطهم، وفي آخرهم، ويحكي لنا معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم في امتلاء البئر بالماء بعد أن نضب، ويحكي لنا عن المشركين الأربعة الذي عابوا واغتابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسرهم، وأخذ سلاحهم، وسلمهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحكي لنا أنه -بناء على إشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم- قام بالصعود

على جبل بني لحيان، ليحرس الرسول صلى الله عليه وسلم وجنوده من غدر المشركين، في طريق عودتهم من الحديبية إلى المدينة. أما حديثه عن غزوة خيبر فيدور أكثره عن عمه عامر بن الأكوع، وكان بطلا شجاعا، حسن الصوت يحدو للقافلة، فسمعه الرسول صلى الله عليه وسلم في طريقهم إلى خيبر يغني شعرا، يقول: والله لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا ونحن عن فضلك ما استغنينا ... فثبت الأقدام إن لاقينا وأنزلن سكينة علينا قال: صلى الله عليه وسلم: من صاحب هذا الصوت؟ قالوا: عامر. قال: يغفر الله له، وتعود الصحابة من قبل على أن هذه الكلمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم تشير إلى أن المقولة عنه سيموت شهيدا وقريبا فأسفوا، وكانت حقا، فقد خرج ملك خيبر "مرحب" على المسلمين يختال، ويطلب النزال فخرج له عامر فبارزه، وكاد يقتله، لكن سيف عامر كان قصيرا، فارتد عليه، فقتل عامر بسيف نفسه، فقال الصحابة: لم يمت شهيدا، بل حبط عمله، لأنه مات بسلاحه، فساء هذا القول سلمة، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم كذب من قال ذلك، إن له أجرين، مات جاهدا مجاهدا. ويحكي لنا سلمة أنه كان الرسول الذي أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى علي رضي الله عنه ليحضره وهو مريض يشكو عينيه فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرأت عيناه في الحال، فسلمه راية الجيش، فبارز ملكهم "مرحب" فقتله، وفتح الله على يديه حصون خيبر، بعد حصار دام بضعة عشر يوما -رضي الله عن سلمة وعن الأصحاب أجمعين. -[المباحث العربية]- (غزوة ذي قرد وغيرها) ذكر مسلم في هذه الأحاديث غزوة ذي قرد في الرواية الأولى والثانية وغزوة الحديبية وخيبر في الرواية الثانية، وفي جميعها يتحدث سلمة بن الأكوع عن نفسه: والقرد -بفتح القاف والراء وحكي الضم فيها، وحكي ضم أوله وفتح ثانيه- في الأصل ما تساقط من الوبر والشعر، ويطلق أيضا على السعف سل خوصه، وهو هنا اسم ماء على عشرين ميلا من المدينة، مما يلي غطفان، بين المدينة وخيبر على طريق الشام. وقول سلمة في الرواية الثانية "فوالله ما لبثنا إلا ثلاث ليال حتى خرجنا إلى خيبر" صريح في أن غزوة ذي قرد كانت قبيل خيبر، لكن قال القرطبي في شرح مسلم: لا يختلف أهل السير في أن غزوة ذي قرد كانت قبل الحديبية، فيكون ما وقع في حديث سلمة من وهم بعض الرواة، قال: ويحتمل أن يجمع بأن يقال: يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أغزى سرية فيهم سلمة بن الأكوع إلى خيبر

قبل فتحها فأخبر سلمة من نفسه وعمن خرج معه يعني حيث قال "خرجنا إلى خيبر" قال: ويؤيده أن ابن إسحق ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أغزى إليها عبد الله بن رواحة مرتين قبل فتحها. اهـ قال الحافظ ابن حجر: وسياق الحديث يأبى ذلك الجمع، فإن فيه "خرجنا إلى خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل عمر يرتجز بالقول" وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم "من السائق"؟ وفيه مبارزة علي لمرحب، وقتل عامر وغير ذلك مما وقع في غزوة خيبر، فعلى هذا ما في الصحيح من التاريخ لغزوة ذي قرد أصح مما ذكره أهل السير، قال: ويحتمل في طريق الجمع أن تكون إغارة عيينة بن حصن على اللقاح وقعت مرتين. الأولى التي ذكرها ابن إسحق، وهي قبل الحديبية والثانية بعد الحديبية قبل الخروج إلى خيبر. (خرجت قبل أن يؤذن بالأولى) يعني صلاة الصبح، يعني خرجت من بيتي بالمدينة إلى خارجها، ففي رواية "خرجت من المدينة ذاهبا نحو الغابة". (وكانت لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم ترعى بذي قرد) "اللقاح" بكسر اللام وتخفيف القاف، ذوات الدر من الإبل، أي الناقة التي تدر اللبن بالفعل، جمع لقحة بالكسر وبالفتح أيضا، واللقوح الحلوب، وذكر ابن سعد أنها كانت عشرين لقحة، وكانت هذه اللقاح ملكا لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الخمس أو من الفيء، وكان ينفق منها في سبيل الله. (فلقيني غلام لعبد الرحمن بن عوف) يحتمل أن يكون هو رباح، لقول سلمة في وسط الرواية الثانية "فقلت: يا رباح خذ هذا الفرس" إلخ. قال الحافظ: وكأنه كان ملك رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخدم عبد الرحمن بن عوف، أو العكس، فنسب تارة "غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتارة غلام لعبد الرحمن بن عوف. (فقال: أخذت لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: من أخذها؟ قال: غطفان) وفي الرواية الثانية "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهره" -أي بإبله- "مع رباح، غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم" -أي للرعي- "وأنا معه، وخرجت معه بفرس طلحة" -أي لم يكن سلمة راعيا ولا مسئولا عن ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل خرج مع رباح بفرس طلحة، وقد كان سلمة تابعا وخادما لطلحة ففي الرواية الثانية "وكنت تبيعا لطلحة بن عبيد الله" أي خادما أتبعه "أسقي فرسه، وأحسه" أي أحك ظهره بالمحسة لأزيل عنه الغبار ونحوه "وأخدمه، وآكل من طعامه، وتركت أهلي ومالي، مهاجرا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنديه" بضم الهمزة وفتح النون وكسر الدال المشددة. قال النووي: هكذا ضبطناه ولم يذكر القاضي في الشرح عن أحد من رواة مسلم غير هذا، ونقله في المشارق عن جماهير الرواة، قال: ورواه بعضهم في مسلم "أبديه" بالباء بدل النون، أي أخرجه إلى البادية، وأبرزه إلى موضع الكلأ، وكل شيء أظهرته فقد أبديته. قال النووي: والصواب رواية الجمهور بالنون وهي رواية جميع المحدثين، ومعناها أن يورد الماشية الماء، فتسقي قليلا. ثم ترسل في المرعى، ثم ترد الماء قليلا، ثم ترد إلى المرعى. وفي هذه الرواية " أخذها غطفان" وفي الرواية الثانية "فلما أصبحنا إذا عبد الرحمن الفزاري قد أغار على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستاقه أجمع، وقتل راعيه، فقلت: يا رباح، خذ هذا الفرس، فأبلغه

طلحة بن عبيد الله" أي لألحق أنا بالقوم ماشيا وراميا "وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المشركين قد أغاروا على سرحه". و"غطفان بفتح الغين والطاء والفاء، هو ابن سعد بن قيس بن عيلان، و"فزارة" من غطفان، فلا تعارض بين قوله في الرواية الأولى "أخذها غطفان" وقوله في الرواية الثانية "عبد الرحمن الفزاري" بل عند أحمد وابن سعد "أخذها عبد الرحمن بن عيينه بن حصن الفزاري" وفي روايتنا الثانية "فإذا هم قد أتاهم فلان بن بدر الفزاري" وعند الطبراني "فإذا عيينة بن حصن قد أغار على لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم "قال الحافظ ابن حجر: ولا منافاة بين الروايات، فإن كلا من عيينة وعبد الرحمن بن عيينة كان في القوم، وعند موسى بن عقبة وابن إسحق أن مسعدة الفزاري كان أيضا رئيسا في فزارة في هذه الغزوة. (قال: فصرخت ثلاث صرخات: يا صباحاه، فأسمعت ما بين لابتي المدينة) في الرواية الثانية "ثم قمت على أكمة، فاستقبلت المدينة، فناديت ثلاثا: يا صباحاه" كلمة تقال عند الغارة وفي رواية "فصرخت بثلاث صرخات" بزيادة الباء، وهذا الصراخ للاستغاثة معروف، "ولا بتا المدينة" تثنية لابة، والمراد حرتاها، والحرة بفتح الحاء وتشديد الراء أرض بظاهر المدينة، فيها حجارة سود كثيرة. وعند الطبراني "فصعدت في سلع، ثم صحت: يا صباحاه، فانتهى صياحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنودي في الناس: الفزع. الفزع" قال الحافظ ابن حجر: فيه إشعار بأنه كان واسع الصوت جدا، ويحتمل أن يكون ذلك من خوارق العادات. (ثم اندفعت على وجهي) يعني لم ألتفت يمينا ولا شمالا، بل أسرعت الجري خلفهم، متبعا آثارهم، وفي الرواية الثانية "ثم خرجت في آثار القوم أرميهم بالنبل". (حتى أدركتهم بذي قرد، وقد أخذوا يسقون من الماء) في الكلام طي، وضحته الرواية الثانية، ففيها "ثم خرجت في آثار القوم أرميهم بالنبل، وأرتجز: أنا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرضع جمع راضع وهو اللئيم بضم الراء وتشديد الضاد. قال النووي: قالوا: معناه: اليوم يوم هلاك اللئام، وهم الرضع، من قولهم: لئيم راضع، أي رضع اللؤم في بطن أمه، وقيل: لأنه يمص حلمة الشاة والناقة بفمه، بدلا من حلبها وشرب لبنها، لئلا يسمع الفقراء والضيفان صوت الحلاب فيقصدوه، وقيل: لأنه يرضع طرف الخلال الذي يخلل به أسنان، ويمص ما يتعلق به، وقيل: معناه اليوم يعرف من أنجبته كريمة فرضعها، ومن أنجبته لئيمة فرضعها، وقيل: معناه اليوم يعرف من أرضعته الحرب من صغره، وتدرب عليها، ويعرف غيره. اهـ وقيل: كان يمص حلمة الشاة والناقة بفمه لئلا يتبدد من اللبن شيء إذا حلب في الإناء، أو لئلا يبقى في الإناء

شيء إذا شربه منه، فقيل في المثل: ألأم من راضع، وقيل: معناه: هذا يوم شديد عليكم، تفارق فيه المرضعة من أرضعته، فلا تجد من ترضعه. "قال: فألحق رجلا منهم، فأصك سهما في رحله، حتى خلص نصل السهل إلى كتفه" فيه التعبير عن الماضي بالمضارع، استحضارا للصورة، أي فلحقت رجلا منهم، فصككته سهما. قال النووي: هكذا هو في معظم الأصول المعتمدة "رحله" بالحاء، و"كتفه" بالتاء بعدها فاء، وفي بعضها "رجله" بالجيم، "وكعبة" بالعين ثم الباء، قال: والصحيح الأول، لقوله في الرواية نفسها عن رجل آخر بعد وروده ماء ذي قرد "فأصكه بسهم في نغض كتفه" بضم النون ثم غين ساكنة ثم ضاد، وهو العظم الرقيق على طرف الكتف، سمي بذلك لكثرة تحركه، وهو الناغض أيضا، ومعنى "أصك" أضرب. "قال: قلت: خذها وأنا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرضع قال: فوالله مازلت أرميهم وأعقر بهم" أي مازلت أرميهم بالنبل وأعقر خيلهم. قال القاضي: ورواه بعضهم "أرديهم" بالدال "فإذا رجع إلى فارس أتيت شجرة" أي أتيت شجرة حين فاجأني رجوع فارس منهم إلى "فجلست في أصلها" أي مختبئا عند جذعها، محتميا به "ثم رميته، فعقرت به" أي فعقرت فرسه به، ثم جعلت أرميهم "حتى إذا تضايق الجبل، فدخلوا في تضاييقه" أي وصعب على رميهم وإصابتهم بالنبل "علوت الجبل، فجعلت أرديهم بالحجارة" بضم الهمزة وفتح الراء وتشديد الدال المكسورة، أي أرميهم بالحجارة التي توقعهم وتسقطهم عن سفح الجبل "قال: فمازلت كذلك أتبعهم حتى ما خلق الله بعيرا من ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي حتى ما وجدت بعيرا مخلوقا لله هو من ظهر وسرح رسول الله صلى الله عليه وسلم "إلا خلفته وراء ظهري، وخلوا بيني وبينه، ثم اتبعتهم أرميهم، حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة، وثلاثين رمحا يستخفون" بكسر الخاء وتشديد الفاء المضمومة، أي يتخلصون منها ليكونوا خفافا، يسهل عليهم الجري والهرب من رمي سلمة "ولا يطرحون شيئا إلا" أخذته وخبأته "جعلت عليه آراما من الحجارة" جمع إرم كعنب وأعناب، أي علامات من الحجارة، تجمع وتنصب بطريقة خاصة في الصحراء "يعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حتى أتوا متضايقا من ثنية" أي من طريق في الجبل" فإذا هم قد أتاهم فلان بن بدر الفزاري" أحد كبرائهم ورؤسائهم، "فجلسوا" معه "يتضحون" أي يأكلون طعام الضحى، وفسره الراوي بقوله "يتغذون" أي يتناولون من الطعام ما به النماء "وجلست على رأس قرن" بفتح القاف وإسكان الراء، وهو كل جبل صغير منقطع عن الجبل الكبير "قال الفزاري" لأصحابه "ما هذا الذي أرى" من الرعب الذي بكم؟ ونقص أمتعتكم وغنيمتكم"؟ قالوا: لقينا من هذا البرح" بفتح الباء وإسكان الراء الشدة، أي لقينا من هذا المسلم الشدة والأذى الكثير، يقال: برح به الضرب أي اشتد، وضربه ضربا مبرحا، أي شديدا وشاقا، "والله ما فارقنا منذ غلس" أي منذ ظلمة الليل المختلطة بضوء النهار حتى الآن الضحى "يرمينا، حتى انتزع كل شيء في أيدينا، قال: فليقم إليه نفر منكم أربعة، قال: فصعد إلي منهم أربعة في الجبل، قال: فلما أمكنوني من الكلام" أي فلما قربوا مني، وأصبحوا مني بحيث يسمعون كلامي، وأسمع كلامهم "قلت: هل تعرفوني؟ قالوا: لا. ومن أنت؟ " استفهام سخرية

واحتقار "قال: قلت: أنا سلمة بن الأكوع، والذي كرم وجه محمد صلى الله عليه وسلم، لا أطلب رجلا منكم إلا أدركته، ولا يطلبني رجل منكم فيدركني" المراد من الإدراك الإصابة والقتل، ويحتمل الوصول إليه بالجري وراءه، وكان سلمة كذلك في الاحتمالين، فكان في العدو والجري لا يسبق، كما سيذكر عن نفسه في هذا الحديث، وكان راميا متمكنا، يجيد بري النبل واختيار مادته وحجمه، ويجيد إعداد القوس وقوته في الدفع، ويجيد إصابة الهدف "قال أحدهم: أنا أظن" الظن هنا مراد به الاعتقاد والمظنون محذوف للعلم به من المقام أي أنا أعتقد أن ما تقول حقا، وأنك تدركنا ولا ندركك، فخير لنا أن نخليك وشأنك ونرجع "فرجعوا. قال فما برحت مكاني حتى رأيت فوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي فلم ألبث طويلا حتى رأيت مقدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ركبانا، فوارسه على خيولهم "يتخللون الشجر" أي يدخلون بين الأشجار "قال: فإذا أولهم الأخرم الأسدي، على إثره أبو قتادة الأنصاري، وعلى إثره المقداد بن الأسود الكندي، قال: فأخذت بعنان الأخرم" أي بعنان فرس الأخرم، أحول بينه وبين الإسراع نحو القوم، خوفا عليه منهم، فقد أصبحوا موتورين، وهو كثرة، وهو منفرد "قال: فولوا مدبرين" فقد رأوا مقدمة المدد وجيش المسلمين. "قلت: يا أخرم، احذرهم" ولا تسرع إليهم "لا يقتطعوك" لا تمكنهم من أن ينفردوا بك "حتى يلحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه" بنا "قال: يا سلمة إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر، وتعلم أن الجنة حق، والنار حق، فلا تحل بيني وبين الشهادة، قال فخليته، قال: فالتقى هو وعبد الرحمن" الفزاري رئيس جماعة المشركين، فعقر بعبد الرحمن فرسه" أي عقر الأخرم فرس عبد الرحمن الفزاري وهو عليه، فنزل عبد الرحمن، وأمسك بالرمح، وسدده نحو الأخرم "وطعنه عبد الرحمن فقتله، وتحول" عبد الرحمن "على فرسه" أي على فرس الأخرم "ولحق أبو قتادة فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبد الرحمن، فطعنه، فقتله، فوالذي كرم وجه محمد صلى الله عليه وسلم لتبعتهم" أي لقد تبعتهم "أعدو على رجلي" وتقدمت على فوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعدت عنهم "حتى ما أرى ورائي من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم" أحدا ولا "أرى من "غبارهم شيئا، حتى يعدلوا" فيه التعبير عن الماضي بالمضارع استحضارا للصورة، أي حتى عدل المشركون "قبل غروب الشمس إلى شعب فيه ماء، يقال له ذو قرد" قال النووي: كذا في بعض النسخ، وهو الوجه، وفي أكثر النسخ "ذا قرد". اهـ كل تلك الأحداث مطوية في الرواية الأولى. (وقد أخذوا يسقون من الماء، فجعلت أرميهم بنبلي وكنت راميا وأقول: أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع، فأرتجز) في الرواية الثانية "يقال له: ذو قرد، ليشربوا منه، وهم عطاش، قال: فنظروا إلى أعدو وراءهم، فحليتهم عنه" قال النووي: هو بحاء ولام مشددة، أي طردتهم عنه، وقد فسره في الحديث بقوله "يعني أجليتهم عنه" بالجيم، قال القاضي: كذا روايتنا فيه هنا، غير مهموز، قال: وأصله الهمز، فسهله. اهـ. وفي كتب اللغة: حلأه عن الشيء بفتح الحاء وتشديد اللام وبالهمز، تحليئا وتحلئة منعه منه. "فما ذاقوا منه قطرة، قال: ويخرجون" من الشعب "فيشتدون" أي يسرعون بالجري "في ثنية" في طريق ضيق من الجبل "قال: فأعدو فألحق" أي فعدوت فلحقت "رجلا منهم، فأصكه بسهم" أي فصككته بسهم "في نغض كتفه، قال: قلت: . خذها

وأنا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرضع قال: يا ثكلته أمه. أكوعه بكرة؟ قلت: نعم" معنى "ثكلته أمه" فقدته، وقوله "أكوعه" هو برفع العين، أي أنت الأكوع الذي كنت بكرة هذا النهار ترمينا؟ أنت متابعنا بالرمي حتى الليل؟ ولهذا قال: نعم، و"بكرة" منصوب غير منون، قال النووي: قال أهل اللغة: يقال: أتيته بكرة، بالتنوين، إذا أردت أنك لقيته باكرا في يوم غير معين، قالوا: وإذا أردت بكرة يوم بعينه قلت: أتيته بكرة، غير مصروف، لأنها من الظروف غير المتمكنة. اهـ. "يا عدو نفسه، أكوعك بكرة، قال: وأردوا فرسين على ثنية" قال النووي: قال القاضي: رواية الجمهور بالدال -أي بفتح الهمزة وإسكان الراء وفتح الدال- ورواه بعضهم بالذال. قال: وكلاهما متقارب المعنى، فبالذال معناه خلفوهما، والرذي الضعيف من كل شيء -وفي كتب اللغة: أرذى ناقته هزلها وخلفها- وبالدال معناه أهلكوهما وأتعبوهما حتى أسقطوهما وتركوهما ومنه التردية "قال: فجئت بهما أسوقهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ولحقني عامر" عمه "بسطيحة" وهي إناء من جلد سطح بعضها على بعض "فيها مذقة من لبن" بفتح الميم وإسكان الذال، أي قليل من لبن "وسطيحة فيها ماء، فتوضأت "من الماء" وشربت" من اللبن، "ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على الماء الذي حليتهم عنه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ تلك الإبل، وكل شيء استنقذته من المشركين وكل رمح وبردة، وإذا بلال نحر ناقة من الإبل الذي استنقذت من القوم" قال النووي: كذا في أكثر النسخ "الذي" وفي بعضها "التي" وهو أوجه، لأن الإبل مؤنثة، وكذا أسماء الجموع من غير الآدميين، والأول صحيح أيضا، وأعاد الضمير إلى الشيء الذي غنمه، لا إلى لفظ الإبل "وإذا هو يشوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كبدها وسنامها. (فقلت: يا نبي الله، إني قد حميت القوم الماء، وهم عطاش) أي منعتهم إياه. (فابعث إليهم الساعة) أي وافرض عليهم شروطك، فهم اليوم ضعاف محتاجون. (يا ابن الأكوع. ملكت فأسجح) بهمزة قطع، بعدها سين، ثم جيم مكسورة، ثم حاء، ومعناه: فأحسن وارفق، والسجاحة السهولة، أي لا تأخذ بالشدة، بل ارفق، فقد حصلت النكاية في العدو، والحمد لله. وفي الرواية الثانية "قال: قلت: يا رسول الله، خلني" أي اتركني "فأنتخب" أي فأختار "من القوم" أي من الصحابة "مائة رجل، فأتبع القوم، فلا يبقى منهم مخبر" أي حي يستطيع أن يتكلم ويخبر "إلا قتلته، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى بدت نواجذه" أي فتبسم حتى بدت أنيابه "في ضوء النار، فقال: يا سلمة، أتراك كنت فاعلا؟ " أي أتظن أنك بالمائة رجل تستطيع أن تفعل ذلك؟ "قلت: نعم. والذي أكرمك، فقال": إنك لم تكن تستطيع، لأنهم الآن قد وصلوا إلى قبيلتهم ومقاتليهم، فأصبحوا في منعة، لا يواجهها إلا جيش كبير "إنهم الآن ليقرون في أرض غطفان" أي إنهم اليوم في ضيافة أهليهم في أراضيهم "فجاء رجل من غطفان" أي قادم من أرض غطفان "فقال: نحر لهم

فلان" الغطفاني "جزورا، فلما كشفوا جلدها" وسلخوها، ليشووا لحمها، ليأكلوا "رأوا غبارا" ظنوه المسلمين "فقالوا: أتاكم القوم، فخرجوا" من مضرب مضيفهم "هاربين" نحو مضاربهم مذعورين "فلما أصبحنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالتنا" بتشديد الجيم، جمع رجال بتشديد الجيم، أي المشاة على أرجلهم "سلمة، قال: ثم أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمين، سهم الفارس، وسهم الراجل، فجمعهما لي جميعا" قال النووي: هو محمول على أن الزائد على سهم الراجل كان نفلا، وهو جدير بالنفل ومستحق له رضي الله عنه، لبديع صنعه في هذه الغزوة. (ثم رجعنا) أي نحو المدينة، أي أردنا الرجوع، وقصدنا الرجوع، ففيه مجاز المشارفة. (ويردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته) فيه التعبير عن الماضي بالمضارع لاستحضار الصورة. وفي الرواية الثانية "ثم أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم وراءه على العضباء، راجعين إلى المدينة". (حتى دخلنا المدينة) وهنا أيضا طي لأحداث بينتها الرواية الثانية، ففيها "قال: فبينما نحن نسير -وكان رجل من الأنصار لا يسبق شدا" أي عدوا على رجليه "قال: فجعل يقول: ألا مسابق إلى المدينة؟ هل من مسابق؟ فجعل يعيد ذلك" متحديا "قال: فلما سمعت كلامه قلت" له: "أما تكرم كريما"؟ أي أما تحترم الناس، وتراعي مشاعر الكرماء منهم؟ "ولا تهاب شريفا"؟ أي أما تعمل حسابا لكبار القوم وأشرافهم؟ "قال: لا، إلا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قلت: يا رسول الله، بأبي وأمي، ذرني" أنزل عن ناقتك "فلأسابق الرجل. قال: إن شئت. قال: قلت" للرجل: "اذهب" أي ابدأ الجري والسباق "إليك" أي خذ البداية "وثنيت رجلي" أي بدأت الجري، والجري لا يكون إلا بثني الرجلين، واحدة بعد الأخرى "فطفرت" أي فقفزت ووثبت "فعدوت" أي فجريت، قال: فربطت عليه" نفسي، يقال: ربط نفسه عن كذا، أي منعها "شرفا أو شرفين" والشرف ما ارتفع من الأرض، والمعنى توقفت عن الجري حتى سبقني مرتفعا أو مرتفعين والأرض إلى المدينة ارتفاع وانخفاض "أستبقى نفسي" بإسكان الفاء، أي احفظها من أن يضربها استمرار الجري، "ثم عدوت في إثره" حتى قربت منه "فربطت نفسي شرفا أو شرفين، ثم إني رفعت" درجة العدو "حتى ألحقه" أي حتى لحقته "فأصكه" أي فصككته "بين كتفيه، قلت: قد سبقت والله" فيه التعبير عن المضارع بالماضي لتحقق الوقوع، والمراد ستسبق والله "قال: أنا أظن" ذلك، أي أعتقد أنني سأسبق، وأنت ستكون السابق. "قال: فسبقته إلى المدينة". فقوله في الرواية الأولى "ويردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته حتى دخلنا المدينة" فيه طي، و"حتى" ليست غاية للإرداف، بل هي غاية لمحذوف، كما وضح من الرواية الثانية. (قدمنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) قصة الحديبية قصة أخرى، لا علاقة لها بغزوة ذي قرد، ذكرها سلمة محدثا عن نفسه، وعن بطولته، كما كان أمره في غزوة ذي قرد، وغزوة الحديبية قد تقدمت. والمراد من الحديبية هنا بئرها، لقوله فيما بعد "وعليها خمسون شاة لا ترويها".

(ونحن أربع عشرة مائة) قال النووي: هذا هو الأشهر، وفي رواية "ثلاث عشرة مائة" وفي رواية "خمس عشرة مائة". وفي رواية البخاري "والحديبية بئر، فنزحناها، فلم نترك فيها قطرة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه أيضا "عطش الناس يوم الحديبية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة، فتوضأ منها، ثم أقبل الناس نحوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لكم؟ قالوا: يا رسول الله، ليس عندنا ماء نتوضأ به، ولا نشرب إلا ما في ركوتك". (فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبا الركية) الجبا بفتح الجيم وتخفيف الباء ما حول البئر، وفي كتب اللغة: ما حول الحوض والبئر من التراب، إذ هو مساعد على الجبو وجمع الماء، والركي بفتح الراء وكسر الكاف وتشديد الياء البئر، والمشهور "ركي" بغير هاء، ووقع هنا "الركية" بالهاء، وهي لغة حكاها الأصمعي وغيره، وفي رواية البخاري "فجلس على شفيرها" وفي رواية أخرى له "فأتى البئر، وقعد على شفيرها". (فإما دعا) ربه ليفيض عليهم الماء. (وإما بصق فيها) مع الدعاء أيضا، قال النووي: هكذا هو في النسخ "بسق" بالسين، وهي صحيحة، يقال: بزق، وبصق، وبسق، ثلاث لغات بمعنى، والسين قليلة الاستعمال. اهـ. وفي رواية للبخاري "ثم دعا بإناء من ماء، فتوضأ، ثم مضمض ودعا، ثم صبه فيها" وفي أخرى له "ثم قال: ائتوني بدلو من مائها، فأتي به، فبصق، فدعا، ثم قال: دعوها ساعة" وفي دلائل البيهقي "أنه أمر بسهم، فوضع في قعر البئر، فجاشت بالماء" وفي رواية له عن جابر "فقيل لجابر: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا". (فجاشت) أي ارتفع ماؤها وفاض، يقال: جاش الشيء يجيش جيشانا إذا ارتفع. (فسقينا واستقينا) أي فسقينا أنفسنا ودوابنا، وأخذنا من مائها في أوعيتنا، يقال: استقى من البئر إذا أخذ من مائها، ويقال: استقى المعارف والأخبار من كذا، أي استمدها وحصل عليها من كذا، وفي رواية للبخاري "فأرووا أنفسهم وركابهم حتى ارتحلوا" (ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعانا للبيعة في أصل الشجرة) بيعة الرضوان، وقد سبق الكلام عنها في غزوة الحديبية. (قال: وأيضا) أي وبايع في وسطهم أيضا، يقال: آض يئيض أيضا، أي عاد، وهو هنا مصدر منصوب بفعله المحذوف، والجملة معطوفة على محذوف معلوم، أي بايعت أول الناس، وتبايع في وسطهم عودا. (فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم حجفة أو درقة) الحجفة الترس من جلود بلا خشب ولا رباط من عصب، والدرقة شبيهة بها.

(التي أعطيتك) عائد الصلة محذوف، المفعول الثاني لأعطي، أي التي أعطيتكها. (لقيني عمي عامر عزلا) منصوب على الحال من الفاعل، قال النووي: ضبطوه بوجهين، أحدهما فتح العين مع كسر الزاي، والثاني ضمهما، وقد فسره بالذي لا سلاح معه، ويقال له أيضا: أعزل، وهو أشهر استعمالا. (إنك كالذي قال الأول: اللهم أبغني حبيبا هو أحب إلي من نفسي) أي إنك تشبه أول من قال: اللهم أعطني حبيبا هو أحب إلي من نفسي، فقد أعطيت عمك ما أنت أحوج إليه منه، فكأنه أحب إليك من نفسك. (ثم إن المشركين راسلونا الصلح) قال النووي: هكذا هو في أكثر النسخ "راسلونا" من المراسلة وفي بعضها "راسونا" بفتح الراء الممدودة وتشديد السين مضمومة وحكى القاضي فتحها أيضا وهما بمعنى راسلونا مأخوذ من قولهم: رس الحديث يرسه إذا ابتدأه وقيل: من رس بينهم إذا أصلح وقيل: معناه فاتحونا من قولهم: بلغني رس من الخبر أي أوله ووقع في بعض النسخ "واسونا" بفتح السين أي اتفقنا نحن وهم على الصلح والواو فيه بدل من الهمزة وهو من الأسوة. (أتيت شجرة فكسحت شوكها) الساقط منها على الأرض أي كنست ما تحتها من الشوك. (فاضطجعت في أصلها) أي بجوار جذعها وجذورها. (فأتاني أربعة من المشركين) أي فأتوا إلى شجرتي يستريحون تحتها. (فجعلوا يقعون في رسول الله صلى الله عليه وسلم) يقال: وقع فلان في فلان وقيعة ووقوعا سبه واغتابه وعابه. (قتل ابن زنيم) بضم الزاي وفتح النون. (فاخترطت سيفي) أي سللته من غمده. (ثم شددت على أولئك الأربعة) أي عدوت عليهم لأصحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهينة من أجل ابن زنيم. (فأخذت سلاحهم فجعلته ضغثا في يدي) أي حزمة في يدي. (إلا ضربت الذي فيه عيناه) أي إلا ضربت رأسه وقطعتها. (وجاء عمي عامر برجل من العبلات) بفتح العين والباء وهم أمية الصغرى من قريش والنسبة إليهم عبلى ترده إلى الواحد واسم أمهم عبلة قال القاضي: أمية الأصغر وأخواه نوفل وعبد الله بن عبد شمس بن عبد مناف نسبوا إلى أم لهم من بني تميم اسمها عبلة بنت عبيد.

(يقال له: مكرز) بكسر الميم وسكون الكاف وكسر الراء بعدها زاي. (يقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس مجفف في سبعين من المشركين) الفرس المجفف بفتح الجيم وفتح الفاء الأولى المشددة أي عليه تجفاف بكسر التاء وهو ثوب كالجل يلبسه الفرس ليقيه من السلاح وجمعه تجافيف. (دعوهم يكن لهم بدء الفجور وثناه) "بدء الفجور" بفتح الباء وسكون الدال ثم همز أي ابتداؤه قال النووي: وأما "ثناه" فوقع في أكثر النسخ هكذا بثاء مكسورة وفي بعضها "ثنياه" بضم الثاء وبالياء بعد النون قال القاضي: والأول هو الصواب أي عودة ثانية. اهـ. والمعنى دعوهم دون أذى فإن كانوا بدءوا الفجور بقتل زنيم فإننا نعفو عن الأولى وننتظر الثانية لنأخذهم بالفجورين. {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا} [الفتح: 24] أي وهو الذي كف أيدي كفار مكة والمراد ببطن مكة الحديبية وبعضها من حرم مكة {من بعد أن أظفركم عليهم} أي من بعد أن أظهركم وأقدركم عليهم وسيأتي سبب آخر لنزول هذه الآية سيأتي في الحديث التالي. (ثم خرجنا) من الحديبية. (فنزلنا منزلا بيننا وبين بني لحيان جبل وهم المشركون) "لحيان" بكسر اللام وفتحها لغتان وهم مشركون في ذلك الوقت وأل في "المشركون" للكمال في الصفة أي المشركون المتأصلون في الشرك الموغلون فيه المتعصبون له وقال النووي: "وهم المشركون" بضم الهاء على الابتداء والخبر هكذا ضبطت كما ضبطت بفتح الهاء وتشديد الميم أي هموا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وخافوا عائلتهم يقال: همني الأمر أذابني. (فاستغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن رقي هذا الجبل الليلة كأنه طليعة للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه) كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يكلف أحدا من أصحابه بمهمة خطيرة بل كان يعرض ويعرض الأمر عرضا رقيقا ليتطوع بها من يرى نفسه أهلا لها ومن عنده استعداد وطيب نفس وكأنه صلى الله عليه وسلم قال: اللهم اغفر لمن يصعد هذا الجبل ليطلع على تحركات المشركين فينذرنا إذا أرادونا بسوء. (فرقيت تلك الليلة مرتين أو ثلاثا) القاف مكسورة في "رقي" و"رقيت" رقي بكسر القاف وفتح الياء يرقى بفتح القاف رقيا بفتح الراء وسكون القاف ورقيا بضم الراء وإسكان القاف ورقية بفتح الراء وسكون القاف وفتح الياء أي صعد ومفعول "رقيت" محذوف أي رقيت الجبل أي علوته وصعدته أما "رقى" بفتح القاف يرقي بكسرها فمن الرقية. (فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهره) هذا ابتداء كلام عن غزوة ذي قرد وقد سبق القول عنها ثم

انتقل سلمة عن غزوة ذي قرد إلى علاقته بغزوة خيبر فقال: "فوالله ما لبثنا إلا ثلاث ليال حتى خرجنا إلى خيبر" وقد شرحنا بقية كلامه هناك في غزوة خيبر. -[فقه الحديث]- يتعرض هذا الحديث إلى ثلاث وقائع: الأولى: غزوة ذي قرد سببها أحداثها نتائجها دور سلمة بن الأكوع فيها. ويؤخذ منها 1 - منقبة لسلمة بن الأكوع. 2 - جواز الصياح العالي للإنذار بالعدو ونحوه. 3 - جواز تعريف الإنسان بنفسه في الحرب إذا كان شجاعا وقوله مثل قول سلمة: أنا ابن الأكوع ليرعب خصمه وليبعث في نفسه الإقدام. 4 - من قوله صلى الله عليه وسلم "كان خير فرساننا اليوم أبو قتادة وخير رجالتنا سلمة" استحباب الثناء على الشجعان وسائر أهل الفضل لا سيما عند صنيعهم الجميل لما فيه من الترغيب لهم ولغيرهم في الإكثار من ذلك الجميل وهذا كله في حق من يأمن الفتنة عليه بإعجاب ونحوه. 5 - وفيه منقبة لأبي قتادة. 6 - وفي إخباره صلى الله عليه وسلم بأنهم يقرون في غطفان معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. 7 - وجواز عقر خيل العدو في القتال حيث كان سلمة يعقر خيل المشركين. 8 - واستحباب الرجز في الحرب. 9 - ومن مناقشة الأخرم لسلمة ما كان عليه الصحابة من حب الشهادة والحرص عليها. 10 - وإلقاء النفس في غمرات القتال قال النووي: وقد اتفقوا على جواز التغرير بالنفس في الجهاد في المبارزة ونحوها. 11 - ومن أكل النبي صلى الله عليه وسلم من الناقة جواز الأكل من الغنيمة -قال النووي وفيه نظر إذ يحتمل أن الناقة التي نحرت كانت من سرح النبي صلى الله عليه وسلم الذي استنقذ من القوم. 12 - وفي صعود سلمة على جبل بني لحيان بناء على طلب النبي صلى الله عليه وسلم بعث الطلائع. 13 - وفي موافقة الرسول صلى الله عليه وسلم على موافقة سلمة للرجل جواز المسابقة على الأرجل بلا عوض ولا خلاف في جوازه أما بالعوض فالصحيح أنه لا يجوز. 14 - وفي إعطاء سلمة سهمين جواز التنفيل للمستحق.

15 - وفي ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم على أبي قتادة وسلمة مدح القوة والشجاعة في الحرب. 16 - وفي جري سلمة في مواقفه المختلفة جواز العدو الشديد في الغزو. 17 - وفي قوله صلى الله عليه وسلم "ملكت فأسجح" الحث على العفو عند المقدرة. 18 - وفيه الإرداف على الناقة بشرط إطاقتها. الواقعة الثانية أو الحدث الثاني الحديبية وبيعة الرضوان ويؤخذ من حديثها: 1 - منقبة لسلمة في مبايعته ثلاث مرات. 2 - ومعجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في زيادة ماء البئر. 3 - وتفقد القائد لأحوال جنده والعمل على مصالحهم ومساعدة المحتاج منهم للسلاح. 4 - ومن إعطاء سلمة الحجفة لعمه فضيلة الإيثار. 5 - وجواز إهداء هدية الغير. 6 - وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم "أنت كالذي قال الأول إلخ" ضرب المثل لتقريب المعنى. 7 - وفيه ضحك الرسول صلى الله عليه وسلم عند سماع ما سمع من سلمة وأن ضحكه تبسم. 8 - وجواز المصالحة مع العدو. الواقعة الثالثة واقعة غزوة خيبر ويؤخذ من حديثها: 1 - معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم في إبراء عين علي رضي الله عنه. 2 - ومعجزته صلى الله عليه وسلم في إخباره بالفتح وبأنه على يدي علي رضي الله عنه. 3 - ومنقبة ظاهرة لعلي رضي الله عنه. 4 - وأن من مات في حرب الكفار بسبب القتال يكون شهيدا سواء مات بسلاحهم أو سقط عن دابة أو غيرها أو عاد عليه سلاحه. 5 - وجواز المبارزة بغير إذن الإمام. 6 - وأن استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم لإنسان يخصه إيذان بأنه يموت شهيدا. 7 - ومن طلب عمر حب الصحابة رضي الله عنهم لعامر. 8 - ومن مبارزة علي رضي الله عنه لمرحب وقتله إياه شجاعة علي رضي الله عنه وقوته وبطولته. والله أعلم.

(502) باب قول الله تعالى: {وهو الذي كف أيديهم عنكم ... }

(502) باب قول الله تعالى: {وهو الذي كف أيديهم عنكم ... } 4116 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين. يريدون غرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فأخذهم سلما فاستحياهم. فأنزل الله عز وجل {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم} [الفتح: 24] -[المعنى العام]- كثيرا ما نكث المشركون عهدهم، وكثيرا ما نقضوا ميثاقهم، وهم يبدءون المسلمين بالغدر في كل مرة، وهذه حادثة من حوادث غدرهم، لقد عقد المسلمون وكفار مكة صلح الحديبية، على أن يعيش كل من الفريقين في أمن وأمان من الآخر، وأن يختلط بعضهم ببعض من غير غدر أو خيانة، لكن قبل أن يجف مداد هذا الصلح، وقبل أن يتحول المسلمون من أماكنهم، يحاول ثمانون رجلا شابا مسلحا أن يستغلوا غفلة المسلمين واعتمادهم على الصلح، وتركهم للسلاح، وعدم أخذهم حذرهم، يحاولون أن يستغلوا ذلك، فيهجموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقضوا عليه، وعلى من يتعرض لهم من أصحابه، وفعلا يهجمون، ويواجههم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجها لوجه، ومعه بعض أصحابه، وليس معهم من سلاح، فيلجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربه، يسأله الحماية، فيعمي الله أبصارهم، ويأخذ بأسماعهم، فيقفون كالمشلولين، فيمسك بهم الصحابة، ويجردونهم من أسلحتهم، فيعفو رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فينزل قوله تعالى: {وهو الذي كف أيديهم عنكم} فأعماهم وأصمهم وشل حركتهم {وأيديكم عنهم} فعفوتم عنهم {ببطن مكة} في الحديبية {من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا} [الفتح: 24] -[المباحث العربية]- {كف أيديهم عنكم} كناية عن عدم قتالهم لكم، أو وصول آذاهم إليكم. {ببطن مكة} بطن كل شيء جوفه، ففي الكلام مجاز المجاورة، أي بجوار بطن مكة: أي بالحديبية، وجزء منها في داخل الحرم، والقرب العام يكفي، ويكون التعبير ببطن مكة عن القريب منها مبالغة. {من بعد أن أظفركم عليهم} "أظفر" تتعدى بالباء، يقال: أظفره الله بعدوه مكنه منه، وعدى هنا بعلى بتضمين "أظفر" معنى "أعلى" أي من بعد أن أظهركم وأعلاكم عليهم.

(أن ثمانين رجلا من أهل مكة) عند أبي نعيم في الدلائل عن عبد الله بن معقل قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصل الشجرة التي قال الله تعالى في القرآن .... إلى أن قال: فبينما نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح، فثاروا في وجوهنا، فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الله بأسماعهم" -ولفظ الحاكم "بأبصارهم" وكونهم ثمانين أصح، كما في الصحيح. (هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين) جبل التنعيم جزء من الحديبية، وهو أول الحل. (يريدون غرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه) أي يريدون استغلال فرصة غفلته، أي يستغلون غفلته وغفلة أصحابه عن الحرب، اعتمادا على الصلح الذي تم، والغرة بكسر الغين الغفلة في اليقظة، أما الغرة بضم الغين من كل شيء أوله وأكرمه، وبياض في جبهة الفرس، ومن الهلال طلعته، ومن الأسنان بياضها وأولها، ومن الرجل وجهه، ومن القوم شريفهم وسيدهم. (فأخذهم سلما فاستحياهم) قال النووي: ضبطوه بوجهين أحدهما بفتح السين وفتح اللام، والثاني بكسر السين وفتحها مع إسكان اللام، قال الحميدي: ومعناه الصلح. قال القاضي في المشارق: هكذا ضبطه الأكثرون، والرواية الأولى أظهر، ومعناها أسرهم، والسلم الأسر، وجزم الخطابي بفتح اللام والسين، قال: والمراد به الاستسلام والإذعان، كقوله تعالى: {وألقوا إليكم السلم} [النساء: 90] أي الانقياد، وهو مصدر يقع على الواحد والاثنين والجمع. قال ابن الأثير: هذا هو الأشبه بالقصة، فإنهم لم يؤخذوا صلحا، وإنما أخذوا قهرا، وأسلموا أنفسهم عجزا. قال: وللقول الآخر وجه، وهو أنه لما لم يجر معهم قتال، بل عجزوا عن الدفاع والنجاة رضوا بالأسر، فكأنهم قد صولحوا على ذلك. اهـ. وقد أخرج أحمد والنسائي والحاكم وصححه كيفية أخذهم عن عبد الله بن معقل، إذ قال: فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الله تعالى بأسماعهم" وعند الحاكم "بأبصارهم" قال: "فقمنا إليهم، فأخذناهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل جئتم في عهد أحد؟ أو هل جعل لكم أحد أمانا؟ " فقالوا: لا. فخلى سبيلهم فأنزل الله تعالى: {وهو الذي كف أيديهم عنكم} ... إلخ ومعنى "فاستحياهم" أي أبقى على حياتهم. -[فقه الحديث]- في الباب السابق يقول سلمة: "لما اصطلحنا نحن وأهل مكة، واختلط بعضنا ببعض أتيت شجرة، فكسحت شوكها، فاضطجعت في أصلها، فأتاني أربعة من المشركين من أهل مكة، فجعلوا يقعون في رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبغضتهم، فتحولت إلى شجرة أخرى، وعلقوا سلاحهم واضطجعوا، فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من أسفل الوادي: يا للمهاجرين، قتل ابن زنيم. قال: فاخترطت سيفي، ثم شددت على أولئك الأربعة، وهو رقود، فأخذت سلاحهم، فجعلته ضغثا في يدي، ثم قلت: والذي كرم

وجه محمد لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه، ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وجاء عمي عامر برجل من العبلات -قبيلة قرشية- يقال له: مكرز، يقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على فرس مجفف، في سبعين من المشركين، فنظر إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دعوهم، يكن لهم بدء الفجور وثناه، فعفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله: {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم} الآية كلها. فهذا سبب آخر لنزول الآية، ويقول العلماء: قد تتعدد الأسباب لنزول آية واحدة، فلا تعارض بين السببين، ولا بين الحديثين، وهذا أولى من توحيد الحادثتين وحمل إحداهما على الأخرى، والتعسف في الجمع. والله أعلم.

(503) باب غزوة النساء مع الرجال، والرضخ لهن

(503) باب غزوة النساء مع الرجال، والرضخ لهن 4117 - عن أنس رضي الله عنه أن أم سليم اتخذت يوم حنين خنجرا فكان معها. فرآها أبو طلحة، فقال: يا رسول الله هذه أم سليم معها خنجر. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هذا الخنجر؟ " قالت: اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بقرت به بطنه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك. قالت: يا رسول الله اقتل من بعدنا من الطلقاء انهزموا بك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أم سليم إن الله قد كفى وأحسن". 4118 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار معه إذا غزا فيسقين الماء ويداوين الجرحى. 4119 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما كان يوم أحد انهزم ناس من الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم مجوب عليه بحجفة. قال: وكان أبو طلحة رجلا راميا شديد النزع، وكسر يومئذ قوسين أو ثلاثا. قال: فكان الرجل يمر معه الجعبة من النبل. فيقول انثرها لأبي طلحة. قال: ويشرف نبي الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم. فيقول أبو طلحة: يا نبي الله بأبي أنت وأمي لا تشرف لا يصبك سهم من سهام القوم. نحري دون نحرك. قال: ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم وإنهما لمشمرتان، أرى خدم سوقهما تنقلان القرب على متونهما، ثم تفرغانه في أفواههم، ثم ترجعان فتملآنها، ثم تجيئان تفرغانه في أفواه القوم. ولقد وقع السيف من يدي أبي طلحة إما مرتين وإما ثلاثا من النعاس. 4120 - عن يزيد بن هرمز أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله عن خمس خلال.

فقال ابن عباس: لولا أن أكتم علما ما كتبت إليه. كتب إليه نجدة. أما بعد، فأخبرني هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء؟ وهل كان يضرب لهم بسهم؟ وهل كان يقتل الصبيان؟ ومتى ينقضي يتم اليتيم؟ وعن الخمس لمن هو؟ فكتب إليه ابن عباس: كتبت تسألني هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء؟ وقد كان يغزو بهن؛ فيداوين الجرحى، ويحذين من الغنيمة. وأما بسهم فلم يضرب لهن. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يقتل الصبيان؛ فلا تقتل الصبيان. وكتبت تسألني متى ينقضي يتم اليتيم؟ فلعمري إن الرجل لتنبت لحيته وإنه لضعيف الأخذ لنفسه ضعيف العطاء منها، فإذا أخذ لنفسه من صالح ما يأخذ الناس فقد ذهب عنه اليتم. وكتبت تسألني عن الخمس لمن هو؟ وإنا كنا نقول هو لنا فأبى علينا قومنا ذاك. 4121 - عن يزيد بن هرمز، أن نجدة كتب إلى ابن عباس، يسأله عن خلال بمثل حديث سليمان بن بلال، غير أن في حديث حاتم: وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يقتل الصبيان فلا تقتل الصبيان، إلا أن تكون تعلم ما علم الخضر من الصبي الذي قتل. وزاد إسحق في حديثه عن حاتم: وتميز المؤمن فتقتل الكافر وتدع المؤمن. 4122 - عن يزيد بن هرمز قال: كتب نجدة بن عامر الحروري إلى ابن عباس يسأله عن العبد والمرأة يحضران المغنم، هل يقسم لهما؟ وعن قتل الولدان، وعن اليتيم. متى ينقطع عنه اليتم؟ وعن ذوي القربى من هم؟ فقال ليزيد: اكتب إليه فلولا أن يقع في أحموقة ما كتبت إليه. اكتب إنك كتبت تسألني عن المرأة والعبد يحضران المغنم هل يقسم لهما شيء؟ وإنه ليس لهما شيء إلا أن يحذيا. وكتبت تسألني عن قتل الولدان. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقتلهم. وأنت فلا تقتلهم إلا أن تعلم منهم ما علم صاحب موسى من الغلام الذي قتله. وكتبت تسألني عن اليتيم متى ينقطع عنه اسم اليتيم؟ وإنه لا ينقطع عنه اسم اليتم حتى يبلغ ويؤنس منه رشد. وكتبت تسألني عن ذوي القربى من هم؟ وإنا زعمنا أنا هم فأبى ذلك علينا قومنا.

4123 - عن يزيد بن هرمز قال: كتب نجدة بن عامر إلى ابن عباس. قال: فشهدت ابن عباس حين قرأ كتابه وحين كتب جوابه. وقال ابن عباس والله لولا أن أرده عن نتن يقع فيه ما كتبت إليه ولا نعمة عين. قال: فكتب إليه إنك سألت عن سهم ذي القربى الذي ذكر الله من هم؟ وإنا كنا نرى أن قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم نحن. فأبى ذلك علينا قومنا. وسألت عن اليتيم متى ينقضي يتمه؟ وإنه إذا بلغ النكاح وأونس منه رشد ودفع إليه ماله فقد انقضى يتمه. وسألت هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل من صبيان المشركين أحدا؟ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يقتل منهم أحدا. وأنت فلا تقتل منهم أحدا إلا أن تكون تعلم منهم ما علم الخضر من الغلام حين قتله. وسألت عن المرأة والعبد هل كان لهما سهم معلوم إذا حضروا البأس؟ فإنهم لم يكن لهم سهم معلوم إلا أن يحذيا من غنائم القوم. 4124 - وفي رواية عن يزيد بن هرمز قال: كتب نجدة إلى ابن عباس. فذكر بعض الحديث ولم يتم القصة كإتمام من ذكرنا حديثهم. 4125 - عن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها قالت: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات. أخلفهم في رحالهم، فأصنع لهم الطعام، وأداوي الجرحى، وأقوم على المرضى. -[المعنى العام]- كانت قريش -إذا خرجت للغزو- خرجوا بكثير من نسائهم معهم، يقيمونهن خلف الجيش، ليدفعن الرجال إلى الثبات، حيث يصبح المحارب مدافعا عن نفسه، وعن حريمه، فوجودهن يثير الحمية في الرجال، فضلا عن أن بعضهن كان يثير بكلماته، كما قيل إنهن في بعض الحروب كن يقلن للرجال: إن تقبلوا -أي إن تتقدموا وتهزموا العدو- نعانق ونفرش النمارق، وإن تدبروا نفارق، فراق غير وامق. كما كان الهدف عندهم من الخروج بنسائهم مساعدة الرجال في إعداد طعامهم وتحضير مائهم

ومساعدة جريحهم، وقد ثبت أن قريشا في غزوة أحد كان معهم الكثيرات من نسائهم، فقد خرجت هند بنت عتبة مع زوجها أبي سفيان، وأم حكيم بنت الحارث بن هشام مع زوجها عكرمة بن أبي جهل، وفاطمة بنت الوليد بن المغيرة مع زوجها الحارث بن هشام، وبرزة بنت مسعود الثقفية مع زوجها صفوان بن أمية، وريطة بنت شيبة السهمية مع زوجها عمرو بن العاصي، وسلافة بنت سعد مع زوجها طلحة بن أبي طلحة الحجبي، وخناس بنت مالك، والدة مصعب بن عميرة، وعمرة بنت علقمة بن كنانة، وغيرهن، حتى قيل: إن نساء المشركين في غزوة أحد كن خمس عشرة امرأة. واقتصر المسلمون في أول غزواتهم على الرجال، أما في غزوة أحد فقد خرجت على حسب العرف والعادة بعض النساء، منهن عائشة وأم سليم أم أنس، وارتفع عددهن في بعض الغزوات إلى خمس من النسوة، فاستغرب صلى الله عليه وسلم كثرتهن، فسألهن: ما الذي جاء بكن؟ فقلن: جئنا نساعد الجيش، نعد السويق ونسقيه، ونحضر الماء ونسقيه ونداوي الجرحى، جهادا في سبيل الله. وسكت صلى الله عليه وسلم سكوت عدم الرضا، فطلبت منه سادسة أن تخرج في غزوة، فقال: لا. قالت: إنك أذنت لفلانة وفلانة، وفلانة، فأذن لي. فقال: لا، أجل أن يقال: إن محمدا يغزو بالنساء. إن المرأة إذا خرجت إلى ميدان القتال كانت عرضة للسبي، والسبي مذلة وعار للمرأة ولأهلها، فالأكرم لها ولقومها أن لا تخرج إلى الميدان، وقد عوضها الله تعالى عن أجر المجاهد، ففي الصحيح "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: هل على النساء جهاد؟ فقال: جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة" ولما جاءت خطيبة النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: يا رسول الله، إن الله بعثك للرجال والنساء جميعا، فآمنا بك، واتبعناك، وقد فضل علينا الرجال بالجمعات والجنازة والجهاد، وإذا خرجوا إلى الجهاد حفظنا لهم أموالهم وأولادهم. فهل نشاركهم في الأجر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: اعلمي يا أسماء وأعلمي من وراءك من جماعة النساء أن حسن تبعل إحداكن لزوجها يعدل كل ذلك. إن الإسلام بعدم تشجيع النساء على الخروج إلى ميدان القتال يعتز بهن وبصيانتهن وبالحفاظ عليهن وعلى كرامتهن، فإن هي أصرت على أن تشارك الرجل ما لا تحتمله فلتجرب، وستكون كمن يلعب بالنار، ولتعلم أنها إن خرجت مع الرجل إلى الميدان، فلن يكون لها مثل أجره الدنيوي ولا مثل أجره الأخروي، فأحاديث عبد الله بن عمر تصرح بأنه لا يسهم لها كالرجال، وإنما تعطى قليلا من الغنيمة، وعند المالكية لا تعطى شيئا من الغنيمة، إن القتل والضرب بالسيف وإراقة الدماء كل ذلك يتنافى وطبيعة المرأة، فخروجها إلى ميدان القتال ضد طبيعتها التي خلقها الله عليها. وليس في خروج ست من النساء المسلمات في غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم دليل على شرف ذلك، والاقتداء به، فمن بعده صلى الله عليه وسلم، وعلى مر العصور والأجيال بدءا من الخلفاء الراشدين وإلى اليوم لا يستسيغ المسلمون خروج نسائهم في الحروب. هذا هو الموضوع الرئيسي في مجموعة أحاديث الباب، أما ما تعرضت له من قتل نساء المشركين وصبيانهم في الحرب بيننا وبينهم فقد بينت هذه الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم في حروبه مع الكفار لم يكن يقتل الصبيان ولا النساء، بل نهى قادته وجيوشه عن قتل الولدان والنساء، فكل مولود

يولد على الفطرة، والمسئولية على والديه، هما اللذين يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه وليس هو مسئولا عن ذلك حتى يبلغ، فقتله قتل بغير ذنب، ولا نحمله مسئولية مستقبلة ونقول إنه لو بلغ بلغ كافرا محاربا، فأمر المستقبل إلى الله، وإن كثيرا ممن أسلم وحسن إسلامهم كان أباؤهم مشركين، ولا نقول: إن الخضر عليه السلام قتل الغلام، لأن الخضر عليه السلام علم من الله تعالى أن هذا الغلام بالذات سيكون كذا بعد بلوغه، وما فعل ذلك عن أمر نفسه، نعم إن قاتل الصبيان المشركون قتلوا كالبالغين. وأما ما تعرضت له الأحاديث من أحكام اليتيم فقد أظهرت الروايات المذكورة أن آثار اليتيم لا تنتهي بالبلوغ، بل لا بد أن ينضم إلى البلوغ الرشد والصلاحية لإدارة الأموال حتى يدفع الولي إلى الصبي ماله، لأنه لو لم يكن رشيدا عرضنا أمواله إلى الفساد والضياع، ولو على يديه، ونحن مأمورون بالمحافظة الشديدة على أمواله، والقرآن الكريم يقول {فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء: 6] وأما ما تعرضت له من الخمس الذي كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الغنائم وأنه كان صلى الله عليه وسلم ينفقه على قرابته، بني هاشم وبني المطلب فإن ابن عباس في أحاديثه يرى بقاء هذا الخمس لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعد موته، ورأى العلماء والفقهاء والخلفاء الراشدون أن أمره يرجع إلى حاكم المسلمين، من رآه محتاجا من قرابته صلى الله عليه وسلم أعطاه، ومن رآه غنيا أعطى غيره من فقراء المسلمين. -[المباحث العربية]- (والرضخ لهن) يقال: رضخ له وأرضخ له من ماله، أي أعطاه قليلا من كثير، والمقصود هنا إعطاؤهن من الغنيمة شيئا يسيرا، لا يصل إلى السهم الذي يعطاه الغازي. وسيأتي الخلاف الفقهي. (أن أم سليم اتخذت يوم حنين خنجرا) "أم سليم" بضم السين وفتح اللام، وهي أم أنس بن مالك، وزوجة أبي طلحة، اشتهرت بكنيتها، واختلف في اسمها، فقيل: سهلة، وقيل: رملة، وقيل: مليكة، تزوجت مالك بن النضر في الجاهلية، فولدت أنسا في الجاهلية، وأسلمت مع السابقين إلى الإسلام من الأنصار، فغضب مالك، وخرج إلى الشام، ومات بها، فتزوجت بعده أبا طلحة. وروي أن أم سليم لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قالت: يا رسول الله، هذا أنس، يخدمك، وكان حينئذ ابن عشر سنين، فخدم النبي صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة، حتى مات، فاشتهر بخادم النبي صلى الله عليه وسلم. قال النووي: هكذا هو في النسخ المعتمدة "يوم حنين" بضم الحاء وفتح النون الأولى، وفي بعضها "يوم خيبر" بالخاء، والأول هو الصواب، والخنجر بكسر الخاء وفتحها، لغتان، وهي سكين كبيرة، ذات حدين. (ما هذا؟ ) السؤال ليس عن حقيقة ما معها، فالخنجر مشاهد، ونطق باسم الخنجر في السؤال، وإنما السؤال عن سبب حملها. ولذلك أجابت بالغرض من حملها.

(إن دنا مني أحد من المشركين بقرت به بطنه) أي شققت بطنه، يقال: بقر بطنه، بفتح القاف يبقرها بضم القاف، شقها. (فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك) لغرابة الأمر، فالمرأة عادة تخاف السلاح، ولا تقوى على استعماله، بل لا تقوى على رؤية الدم. (اقتل من بعدنا من الطلقاء) "من" الأولى بفتح الميم، اسم موصول و"من" الثانية حرف جر و"الطلقاء" بضم الطاء وفتح اللام، وهم الذين أسلموا من أهل مكة يوم الفتح، سموا بذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم من عليهم وأطلقهم، وكان في إسلامهم ضعف، فاعتقدت أم سليم أنهم منافقون وأنهم استحقوا القتل بانهزامهم، أو كانوا السبب في الهزيمة في حنين التي وقعت للمسلمين ابتداء، ومعنى "من بعدنا" أي من وراءنا، ومن سوى المسلمين الذين جاءوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم في الفتح، وهذه الكلمة أيضا من أم سليم غريبة على النساء. (انهزموا بك) جملة مستأنفة استئنافا تعليليا. في جواب سؤال مقدر، تقديره: لم أقتلهم؟ والباء في "بك" للمجاوزة، كعن، والمعنى انهزموا متجاوزينك. (إن الله قد كفى وأحسن) أي كفانا الشر، وحفظنا، وأحسن إلينا بالنصر بعد الهزيمة. (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم) الباء هنا للمصاحبة، أي مصاحبة له. (ونسوة من الأنصار معه إذا غزا) "نسوة" مبتدأ و"معه" متعلق بالخبر أي يصاحبنه إذا غزا، وقد بلغ عددهن فيما وصلت إليه في بعض الغزوات خمسا. (فيسقين الماء) أي يحملنه في القرب من البئر إلى مكان الجيش، أو يحملن الجرار الصغيرة والأكواب ويقدمنها للعطاش، كما في الرواية الثالثة تنقلان القرب على متونهما، ثم تفرغانه في أفواههم. (ويداوين الجرحى) ولأبي داود "أن النبي صلى الله عليه وسلم سألهن عن سبب خروجهن معه؟ فقلن: خرجنا نغزل الشعر، ونعين في سبيل الله، ونداوي الجرحى، ونناول السهام، ونسقي السويق" وعند البخاري عن الربيع بنت معوذ قالت: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نسقي ونداوي الجرحى، ونرد القتلى إلى المدينة" وفي رواية لها أيضا "فنسقي القوم ونخدمهم، ونرد الجرحى والقتلى إلى المدينة" زاد في رواية "ولا نقاتل". (لما كان يوم أحد انهزم ناس من الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم) "كان" تامة، بمعنى حصل، و"يوم" فاعل، وفي رواية البخاري "لما كان يوم أحد انهزم الناس" أي بعضهم، قال الحافظ ابن حجر: والواقع أنهم صاروا ثلاث فرق. فرقة استمروا في الهزيمة إلى قرب المدينة، فما رجعوا حتى انفض القتال، وهم قليل، وهم الذين نزل فيهم (آل عمران 155) {إن الذين تولوا منكم يوم التقى

الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا} وفرقة صاروا حيارى، لما سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل، فصار غاية الواحد منهم أن يذب عن نفسه، أو يستمر في القتال حتى يقتل، وهم أكثر الصحابة، وفرقة تثبتت مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تراجع إليه القسم الثاني شيئا فشيئا، لما عرفوا أنه حي. وبهذا يجمع بين الأخبار المختلفة في عدة من بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم. (وأبو طلحة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم) هو زيد بن سهل الأنصاري، زوج والدة أنس، وكان أنس قد حمل هذا الحديث عنه. (مجوب عليه بحجفة) "مجوب" بضم الميم وفتح الجيم وتشديد الواو المكسورة، أي مترس عليه بترس، ليقيه سلاح الكفار، وعند البخاري "مجوب عليه بحجفة له" والحجفة الترس ويقال للترس جوبة. (وكان أبو طلحة رجلا راميا شديد النزع) بفتح النون وسكون الزاي، أي شديد رمي السهم. (وكسر يومئذ قوسين أو ثلاثا) من شدة الرمي. (فكان الرجل يمر ومعه الجعبة من النبل، فيقول) صلى الله عليه وسلم للرجل: .... والجعبة بفتح الجيم، وضمها مع سكون العين، وهي الآلة التي يوضع فيها النبل. (انثرها لأبي طلحة) أي أعط ما معك من النبل لأبي طلحة ليرمي به. (ويشرف نبي الله صلى الله عليه وسلم) أي على القوم، يقال: أشرف على الشيء، أي اطلع عليه من فوق، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع رأسه إلى أعلى، ويتطاول ليرى الأعداء. (ينظر إلى القوم) المشركين. (فيقول أبو طلحة: يا نبي الله بأبي أنت وأمي) أي أفتديك أنت بأبي وأمي. (لا تشرف) أي لا ترفع رأسك إلى أعلى، بضم التاء وسكون الشين من الإشراف. (لا يصبك سهم من سهام القوم) بإسكان الباء، على أن "لا" ناهية، وفي رواية البخاري "لا تشرف يصبك" بالجزم في جواب النهي، كذا قال الحافظ ابن حجر وتبعه العيني، وجمهور النحاة يشترطون لصحة الجزم في جواب النهي أن يصح دخول "إن" قبل "لا" مع صحة المعنى، وهنا لا يصح أن يقال: إن لم تشرف يصبك سهم" وفي بعض الروايات" "يصيبك" بالرفع، قال الحافظ: وهو جائز على تقدير، كأنه قال مثلا: لا تشرف فإنه يصيبك. (نحري دون نحرك) أي أفديك بنفسي، وأصل النحر أعلى الصدر، أي رقبتي قبل رقبتك وفداء لرقبتك.

(وإنهما لمشمرتان) يقال: شمر ثوبه، رفعه عن ساعديه، أو عن ساقيه، والمراد هنا التشمير عن الساقين، بدليل "أرى خدم سوقهما". (أرى خدم سوقهما) "خدم" بفتح الخاء والدال جمع خدمة وهي الخلخال وقيل: الخدمة أصل الساق والسوق بضم السين جمع ساق. (تنقلان القرب على متونهما) "القرب" بكسر القاف وفتح الراء جمع قربة، والمتن الظهر ولهما متنان، لكنه جاز جمع المضاف مع المضاف إليه المثنى، كما في قوله تعالى: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} [التحريم: 4] وفي رواية البخاري "تنقزان القرب على متونهما" يقال: نقز وأنقز إذا وثب، وقال ابن الأثير: وفي نصب "القرب" بعد، لأن ينقز غير متعد. اهـ. وجعله بعضهم من قبيل حذف حرف الجر، وإيصال الفعل بالمجرور، وأصله تنقزان بالقرب، ورواه بعضهم بضم التاء، من أنقز، فعداه بالهمزة، والمعنى عليه، يحركان القرب على ظهورهما بحركتهما وشدة عدوهما ووثبهما، وقال الخطابي "تنقزان القرب" أي تحملانها. وفي رواية أخرى للبخاري عن أم سليط "وأنها كانت تزفر القرب يوم أحد" وفسر الراوي "تزفر" تخيط. قال الحافظ ابن حجر: "تزفر" أي تحمل، وزنا ومعنى. (ثم تفرغانه في أفواه القوم) كان الظاهر أن يقول: ثم تفرغانها، أي القرب، ولكنه ذكر الضمير على تقدير الشيء والماء. (ولقد وقع السيف من يدي أبي طلحة إما مرتين وإما ثلاثا من النعاس) في رواية "من يد أبي طلحة" بالإفراد، وقوله "من النعاس" إفادة بسبب وقوع السيف من يده، وعند البخاري عن أبي طلحة "كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد، حتى سقط سيفي من يدي مرارا، يسقط وأخذه، ويسقط فأخذه" وعند أحمد والحاكم عن أنس "رفعت رأسي يوم أحد، فجعلت أنظر، وما منهم من أحد إلا وهو يميل تحت جحفته من النعاس، وهو قوله تعالى: {إذ يغشيكم النعاس أمنة منه} [الأنفال: 11] قال ابن إسحق: أنزل الله النعاس أمنة لأهل اليقين، فهم نيام لا يخافون، والذين أهمتهم أنفسهم أهل النفاق في غاية الخوف والذعر. (أن نجدة كتب إلى ابن عباس) نجدة الحروري من الخوارج، وقد صرح في سنن أبي داود في رواية له بأن سؤال نجدة لابن عباس عن هذه المسائل كان في فتنة ابن الزبير، بعد بضع وستين سنة من الهجرة، والظاهر أن يزيد كان كاتبا لابن عباس، ففي الرواية الخامسة "فقال ليزيد: اكتب إليه .... " (يسأله عن خمس خلال) بكسر الخاء، جمع خلة بفتحها، وهي الخصلة، حسنة أو سيئة، أما

الخلة بضم الخاء فهي الصداقة والمحبة التي تخللت القلب، فصارت خلاله، أي في باطنه، وجمعها خلال بكسر الخاء، والمراد هنا خمس مسائل. (فقال ابن عباس: لولا أن أكتم علما ما كتبت إليه) كان ابن عباس يكره نجدة لبدعته، وهي كونه من الخوارج الذين يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، ولكن لما سأله عن العلم لم يمكنه كتمه، فاضطر إلى جوابه، وقال: لولا أن أكتم علما ما كتبت إليه، أي لولا أني إذا تركت الكتابة أصير كاتما للعلم، مستحقا لوعيد كاتمه لما كتبت إليه، وفي الرواية الخامسة "اكتب إليه، فلولا أن يقع في أحموقة ما كتبت إليه" والأحموقة بضم الهمزة والميم هي فعل الحمقى، ويقصد بها الوقوع في مخالفات شرعية كبيرة في هذه الأمور المسئول عنها، نتيجة لجهله بها، وفي الرواية السادسة "لولا أن أرده عن نتن يقع فيه ما كتبت إليه، ولا نعمة عين" و"النتن" بفتح النون وسكون التاء الشيء المنتن كريه الرائحة، والمراد به هنا الفعل القبيح، وكل مستقبح يقال له: النتن، والخبيث والرجس والقذر والقاذورة نتن، تشبيها للخبث المطلق بخبث الرائحة، أو مجاز مرسل بعلاقة الإطلاق بعد التقييد، والمعنى لولا أنني بكتابتي له أرده عن فعل أشياء قبيحة، يقع فيها إن لم أكتب ما كتبت إليه، أي لولا خوفي من وقوعه في أفعال قبيحة إن لم أكتب إليه ما كتبت إليه. وقوله "ولا نعمة عين" "النعمة" بضم النون وفتحها، مع سكون العين، هي المسرة، يقال: نعم الشيء، بفتح النون وكسر العين، ينعم بفتحها، نعما بفتحها، ونعمة بفتح النون وسكون العين، ونعامة ونعيما، نضر وطاب، ونعم باله، ونعمت عينه هدأ واستراح، والمعنى: لولا كذا ما كتبت إليه، ولا أقررت عينه، ولا أرحت باله. (هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء؟ ) الباء للمصاحبة، أي هل صحبه النساء في غزواته؟ وقد سقطت هذه الخصلة، فلم تذكر في الرواية الخامسة والسادسة، لا هي ولا جوابها، ويحتمل أنه اكتفى عنها بالسؤال عن الضرب لها بسهم، وجوابها "قد كان يغزو بهن، فيداوين الجرحى" لم يكتف بإثبات غزوه بهن، فذكر عملهن، لئلا يفهم أنهن قاتلن. (وهل كان يضرب لهن بسهم) كالرجال؟ وفي الرواية الخامسة "العبد والمرأة، يحضران المغنم -أي المعركة- هل يقسم لهما؟ " أي هل كان لهن سهم كالرجال، وفي الرواية السادسة "المرأة والعبد. هل كان لهما سهم معلوم إذا حضروا البأس"؟ والبأس بالباء المفتوحة والهمزة الساكنة هو الشدة، والمراد منه ههنا الحرب. (يحذين من الغنيمة، وأما بسهم فلم يضرب لهن) "يحذين" أي يعطين منحة، والجار والمجرور "بسهم" متعلق بمحذوف، تقديره: وأما الضرب لهن بسهم فلم يضرب لهن. وفي الرواية الخامسة "وإنه ليس لهما شيء إلا أن يحذيا" وفي الرواية السادسة "فإنهم لم يكن لهم سهم معلوم، إلا أن يحذيا من غنائم القوم" جمع الضمير تارة "فإنهم لم يكن لهم" باعتبار الأفراد، وهم أكثر من اثنين، وكان الضمير جمع مذكر تغليبا للعبيد على النساء، وثناه تارة أخرى باعتبار وصف الأنوثة والعبودية.

(وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يقتل الصبيان فلا تقتل الصبيان) المراد من الصبيان هنا من لم يبلغ الحلم من أبناء المشركين في الحرب بيننا وبين المشركين، ففي الرواية السادسة "وسألت هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل من صبيان المشركين أحدا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يقتل منهم أحدا" وفي الرواية الخامسة "وكتبت تسألني عن قتل الولدان؟ وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقتلهم" ولا تتعلل بأنهم إذا بلغوا تبعوا آباءهم في دينهم، فأنت لا تعلم الغيب ولا كيف يصيرون، فقد كان آباء الصحابة مشركين، ولا تتعلل بأن الخضر عليه السلام قتل الغلام، فإنه علم مصيره بإعلام ربه له، فإن كنت مثله تعلم الغيب فافعل على ضوء ما تعلم من الغيب، وفي الرواية الخامسة "فلا تقتلهم إلا أن تعلم منهم ما علم صاحب موسى من الغلام الذي قتله" وفي الرواية السادسة "فلا نقتل منهم أحدا إلا أن تكون نعلم منهم ما علم الخضر من الغلام حين قتله" وما قتله الخضر إلا بأمر الله تعالى له على التعيين، كما قال في آخر القصة "وما فعلته عن أمري" وأنى لك علم ذلك؟ (وتميز المؤمن فتقتل الكافر وتدع المؤمن) أي لا تقتل صبيان المشركين إلا في علمك بما سيصيرون إليه من الكفر أو الإيمان، وفي حالة تمييزك بين من سيصيرون مسلمين، ومن سيصيرون كفارا، فتقتل من سيكون كافرا، وتدع من سيكون مسلما، فقوله "وتميز" معطوف على "تعلم" أي إلا أن تكون تعلم، وإلا أن تكون تميز. وليس ذلك لك. (وكتبت تسألني: متى ينقضي يتم اليتيم؟ ) وفي الرواية الخامسة "متى ينقطع عنه اسم اليتم"؟ وفي الرواية السادسة "وسألت عن اليتيم متى ينقضي يتمه"؟ السؤال ليس في الهدف عن اسم اليتم، ولا عن حقيقته، وإنما عن الحكم المترتب على اليتم من حجر التصرف، كما وضح من الجواب، فنفس اليتم ينقضي بالبلوغ، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يتم بعد الحلم" أما متى يستقل اليتيم -أي من كان يتيما- بالتصرف في ماله؟ فهذا هو المراد من السؤال، وسيأتي الخلاف في ذلك في فقه الحديث. (فلعمري إن الرجل لتنبت لحيته وإنه لضعيف الأخذ لنفسه ضعيف العطاء منها، فإذا أخذ لنفسه من صالح ما يأخذ الناس فقد ذهب عنه اليتم) وفي الرواية الخامسة "وإنه لا ينقطع عنه اسم اليتم حتى يبلغ، ويؤنس منه رشد" وفي الرواية السادسة "وإنه إذا بلغ النكاح وأونس منه رشد، ودفع إليه ماله -أي فأحسن التصرف فيه- فقد انقضى يتمه" وظاهر هذا الجواب أن حكم اليتيم يتوقف على أمرين: البلوغ، والرشد، وفي ذلك يقول تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء: 6] و"العمر" بفتح العين وضمها مع سكون الميم مدة الحياة، ويقال في القسم "عمرك الله" و"لعمرك" و"لعمري" يرفعونه بالابتداء، ويحذفون الخبر وجوبا، أي لعمري قسمي، والتزموا في القسم فتح العين، للتخفيف، وإذا دخلته اللام التزم فيه الفتح، وحذف الخبر في القسم. (وكتبت تسألني عن الخمس لمن هو؟ وإنا كنا نقول هو لنا) المقصود خمس خمس

الغنيمة الذي جعله الله لذوي القربى، بقوله جل شأنه {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} [الأنفال: 41] وسيأتي في فقه الحديث اختلاف الفقهاء فيه. (فأبى علينا قومنا ذاك) قال النووي: أراد بقومه ولاة الأمر من بني أمية. قال الشافعي: أراد الذين هم بعد الصحابة، ويقصد ابن معاوية. -[فقه الحديث]- ترجم البخاري بباب غزو النساء، وقتالهن مع الرجال، قال الحافظ ابن حجر: ولم أر في شيء من الأحاديث التصريح بأنهن قاتلن، ولأجل ذلك قال ابن المنير: بوب على قتالهن، وليس قتالهن في الحديث، فإما أن يريد أن إعانتهن للغزاة غزو، وإما أن يريد أنهن ما ثبتن لسقي الجرحى ونحو ذلك إلا لأنهن بصدد أن يدافعن عن أنفسهن، ثم قال الحافظ: ويحتمل أن يكون غرض البخاري بالترجمة أن يبين أنهن لا يقاتلن، وإن خرجن في الغزو، فالتقدير بقوله: "وقتالهن مع الرجال" هل هو سائغ؟ أو إذا خرجن مع الرجال في الغزو يقتصرن على ما ذكر، من مداواة الجرحى ونحو ذلك، ثم قال: وفي الحديث جواز معالجة المرأة الأجنبية للرجل الأجنبي للضرورة. قال ابن بطال: ويختص ذلك بذوات المحارم، ثم بالمسنات منهن، لأن موضع الجرح لا يلتذ بلمسه، بل يقشعر منه الجلد، فإذا دعت الضرورة لغير المسنات فليكن بغير مباشرة ولا مس، ويدل على ذلك اتفاقهم على أن المرأة إذا ماتت، ولم توجد امرأة تغسلها أن الرجل لا يباشر غسلها بالمس، بل يغسلها من وراء حائل في قول بعضهم، وفي قول الأكثر تيمم، وقال الأوزاعي: تدفن كما هي. قال ابن المنير: الفرق بين حال المداواة وتغسيل الميت أن الغسل عبادة، والمداواة ضرورة، والضرورات تبيح المحظورات. ومن المسلمات أن الجهاد غير واجب على النساء، لكن هل يستحب لهن أن يتطوعن بالجهاد؟ أميل إلى أنه لا يستحب، بل يرخص به للحاجة، وبقدر الحاجة، وبما ورد من أعمال وما يشبهها، وذلك لأن المطلوب الشرعي من النساء الستر ومجانبة الرجال، وجهادهن مع الرجال يتعارض مع المطلوب منهن، وفي الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل: هل على النساء جهاد؟ فقال: جهادكن الحج والعمرة. أما المسألة الثانية المترتبة على المسألة الأولى فهي: إذا حضرت المعركة هي أو العبد، فهل يسهم لها وله، كما يسهم للرجال؟ قال النووي: قال مالك: لا رضخ للعبد ولا للمرأة، وقال الحسن وابن سيرين والنخعي والحكم: إن قاتل العبد أسهم له، وقال الأوزاعي: المرأة تستحق السهم إن كانت تقاتل، أو تداوي الجرحى، وقال الشافعي وأبو حنيفة وجمهور العلماء: العبد والمرأة يرضخ لهما، ولا يسهم لهما، وظاهر الحديث يشهد لهم، ففي الرواية الرابعة "ويحذين من الغنيمة" "وأما بسهم فلم يضرب لهن" وفي الرواية الخامسة "وأنهما ليس لهما شيء إلا أن يحذيا" وفي الرواية السادسة "وسألت عن المرأة والعبد، هل كان لهما سهم معلوم، إذا حضروا البأس؟ فإنهم لم يكن لهم سهم معلوم، إلا أن يحذيا من غنائم القوم.

-[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - شجاعة أم سليم وجهادها في سبيل الله، وغيرتها على الإسلام في طلبها قتل الطلقاء. 2 - رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم ورفقه، وتأليفه المؤلفة قلوبهم، برده على أم سليم. 3 - من الرواية الثالثة منقبة لأبي طلحة، ودفاعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفانيه في فدائه بنفسه، وحرصه على سلامته، وشهادة بشجاعته وقوته. 4 - في استشراف رسول الله صلى الله عليه وسلم للقوم حرص القائد على تسيير المعارك عن خبرة وعلم مهما تعرض للأخطار. 5 - من طلب الرسول صلى الله عليه وسلم نثر الجعبة لأبي طلحة وتوزيع القائد الأدوار المناسبة على الجند لمصلحة المعركة. 6 - من تشمير عائشة وأم سليم رضي الله عنهما كفاح النساء في الغزو، ومساعدتهن الرجال واستعانة الرجال بالنساء في الحروب في الأعمال المناسبة لهن. 7 - من كشف عائشة وأم سليم ورؤية أنس لخدم سوقهما لا يؤخذ منه جواز النظر ولا جواز الكشف، قال النووي: كان هذا يوم أحد، قبل أمر النساء بالحجاب، وقبل تحريم النظر إليهن، ولأنه لم يذكر هنا أنه تعمد النظر إلى نفس الساق، فهو محمول على أنه حصلت تلك النظرة فجأة بغير قصد ولم يستدمها. 8 - وفي هذا الحديث اختلاط النساء في الغزو برجالهن في حال القتال، لسقي الماء ونحوه. كذا قال النووي. لكن في قوله "برجالهن" وقصر ابن بطال مداواة النساء على الرجال المحارم فقط نظر، فإن ما في الحديث عام، لا يفرق بين المحارم وغيرهم، فالرأي تعميم الجواز على المحارم والأجانب للضرورة. 9 - ومن الروايات الرابعة والخامسة والسادسة تغليظ حرمة كتم العلم، ولو عن الأعداء والمبغضين. 10 - وفيه منقبة لابن عباس رضي الله عنهما، وأداؤه واجب الفتوى لمن يكرهه ويبغضه. 11 - وفيه النهي عن قتل صبيان المشركين. قال النووي: وهو حرام إن لم يقاتلوا، وكذا النساء فإن قاتلوا جاز قتلهم. 12 - وفيه دليل للشافعي ومالك وجماهير العلماء أن حكم اليتم لا ينقطع بمجرد البلوغ، ولا بعلو السن، بل لا بد أن يظهر منه الرشد في دينه وماله، وقال أبو حنيفة إذا بلغ خمسا وعشرين سنة زال عنه حكم الصبيان، وصار رشيدا يتصرف في ماله، ويجب تسليمه إليه، وإن كان غير ضابط له، وأما الكبير إذا طرأ تبذيره فمذهب مالك وجماهير العلماء وجوب الحجر عليه، وقال أبو حنيفة: لا يحجر. قال القصار وغيره: الصحيح الأول، وكأنه إجماع.

وفيه أن ابن عباس كان يرى أن خمس الخمس، الخاص بذي القربى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم هو لذي القربى ملكا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سبق في باب الخمس أن قلنا: إن عليا والعباس، وإن فاطمة قبلهما طلبوا من أبي بكر ذلك، فروى لهما حديث "نحن معاشر الأنبياء لا نورث" فغضبوا. واختلف العلماء في مصرف الفيء، فقال مالك الفيء والخمس سواء، يجعلان في بيت المال، ويعطي الإمام أقارب النبي صلى الله عليه وسلم بحسب اجتهاده، وقد سبقت المسألة مشروحة بمذاهبها المختلفة. والله أعلم.

(504) باب عدد غزوات النبي صلى الله عليه وسلم

(504) باب عدد غزوات النبي صلى الله عليه وسلم 4126 - عن أبي إسحق أن عبد الله بن يزيد خرج يستسقي بالناس، فصلى ركعتين. ثم استسقى. قال: فلقيت يومئذ زيد بن أرقم. وقال: ليس بيني وبينه غير رجل أو بيني وبينه رجل. قال: فقلت له: كم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: تسع عشرة. فقلت: كم غزوت أنت معه؟ قال: سبع عشرة غزوة. قال: فقلت فما أول غزوة غزاها؟ قال: ذات العسير أو العشير. 4127 - عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا تسع عشرة عزوة. وحج بعد ما هاجر حجة لم يحج غيرها، حجة الوداع. 4128 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة. قال جابر: لم أشهد بدرا ولا أحدا، منعني أبي. فلما قتل عبد الله يوم أحد لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة قط. 4129 - عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة. قاتل في ثمان منهن. ولم يقل أبو بكر منهن. وقال في حديثه حدثني عبد الله بن بريدة. 4130 - عن ابن بريدة عن أبيه رضي الله عنه أنه قال: غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ست عشرة غزوة. 4131 - عن سلمة رضي الله عنه قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، وخرجت فيما يبعث من البعوث تسع غزوات، مرة علينا أبو بكر، ومرة علينا أسامة بن زيد.

4132 - -/- وفي رواية عن حاتم بهذا الإسناد غير أنه قال في كلتيهما سبع غزوات. -[المعنى العام]- بعض الأنبياء والرسل أذن لهم بقتال أعدائهم، وبعضهم لم يتعرض لقتال، والقتال في الأصل وسيلة من وسائل الإخضاع والإلزام، بل التهديد به، وخوف الأعداء منه قد يكون وسيلة للالتزام والتسليم والدخول في طاعة القوي، كما حدث لملكة سبأ مع سليمان عليه السلام، وصدق الله العظيم إذ يقول: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز} [الحج: 40]. وهكذا أجرى الله تعالى العادة بذلك في الأمم الماضية، لينتظم به الأمر، وتقوم الشرائع، وتصان المتعبدات من الهدم، ولولا القتال، وتسليط الله المؤمنين على المشركين لهدمت متعبداتهم، ولذهبوا، ولم تنتشر الدعوة إلى الله، ولضاعت مهمة الرسل أمام كيد الكافرين. إن الإسلام بدأ غريبا وحورب قبل أن يحارب، وأوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وأوذي من أسلم ثلاث عشرة سنة، فر المسلمون بدينهم مرتين إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، وكان الواحد منهم يفر بنفسه، بثيابه التي عليه، مخلفا وراءه ماله للكافرين، أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، ولقد حوصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله في شعب أبي طالب حصارا اقتصاديا واجتماعيا رهيبا، ووصل الأمر بهم معه أن تآمروا على قتله، فأنزل الله تعالى قرآنا بما بيتوا، فقال: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} [الأنفال: 30]. وهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب البلاد إليه، وآواه الأنصار في المدينة وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه، وازداد المسلمون عددا وقوة، وتجمع مهاجروهم إلى الحبشة وغيرها في المدينة، وبدءوا يفكرون في نشر دعوتهم في مشارق الأرض ومغاربها، لكن كيف والمشركون يضعون العقبات، ويوحون إلى أوليائهم بمحاربة الإسلام وأهله، لقد استمرت الدعوة السلمية أكثر من ثلاثة عشر عاما، فهل يصرح لها بأن تشق طريقها إلى مسامع الناس ولو بالقوة والسيف؟ نعم، وأنزل الله تعالى هذا التصريح في قوله: {أذن للذين يقاتلون} بقتال أعدائهم {بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير* الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله} [الحج: 39، 40] وبدأ القرآن الكريم يحرض المسلمين على قتال الكفار {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم} [البقرة: 190] {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} [التوبة: 111] {قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة} [التوبة: 123] {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم} [الأنفال: 60] {إذا لقيتم الذين كفروا زحفا

فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير} [الأنفال: 16] {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق} [محمد: 4] {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم} [محمد: 31] {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم} [محمد: 35] {ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا} [الفتح: 22] {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله} [البقرة: 193] {فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون* وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين} [الأنفال: 57، 58] {يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال} [الأنفال: 65] {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم} [التوبة: 5] {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين* ويذهب غيظ قلوبهم} [التوبة: 14] ولم يكن قتال المسلمين لشهوة القتال وإراقة الدماء. وإنما كان للدعوة إلى الله، فمن آمن وأسلم عصم دمه وماله وعرضه، ومن استسلم ولم يقاتل، ودخل في حماية المسلمين وتحت ولايتهم، وأراد أن يبقى على دينه وله مالهم، وعليه ما عليهم، دفع الجزية، مقابل حمايته والدفاع عنه، فلا إكراه في الدين، وما أكذب الذين يدعون أن الإسلام نشر بالسيف. الحق أن الإسلام نشر بشريعته الحكيمة السمحة، وما دخل الناس في دين الله أفواجا إلا عن اقتناع وحب لتعاليمه، ويكفيه مثلا في العفو عن المسيئين، والتسامح مع المحاربين ما حصل منه يوم فتح مكة، وقوله لمن آذى وقاتل، وقتل من المسلمين من قتل، أن قال لهم: ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء. إن الإسلام دين اللين، لا دين القسوة، دين السلام لا دين الحرب {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله} [الأنفال: 61] دين حرية العقيدة، لا دين القهر والإرهاب، دين الرحمة بالضعفاء لا يقتل صبيا ولا امرأة ولا شيخا عجوزا من الأعداء. هكذا كانت تعاليمه عند القتال، بل حتى بعد القتال، وبعد النصر على الأعداء، وبعد أخذ الغنائم والسبي، إذا دخل من كانوا حاربوا في دين الله وأسلموا ردت إليهم أموالهم وسباياهم، وعاشوا أحرارا آمنين. لقد غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وعشرين غزوة في تسع سنين، وقاد جند الله في معاركه مع الكفر، وكان أشجع الناس، وأثبت الناس في الحرب، كما كان البلسم الشافي المداوي في السلم، جرح وكسرت سنه، وسال الدم على وجهه الشريف، فما وهن، وما ضعف، وما استكان، بل صبر وكافح، وجاهد في الله حق جهاده، حتى جاء نصر الله والفتح ورأى الناس يدخلون في دين الله أفواجا، فسبح بحمد ربه واستغفره، حتى أتاه اليقين. صلى الله وسلم عليك يا رسول الله، نشهد أنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وكشفت الغمة، فجزاك الله عن الأمة وعن الإسلام خير الجزاء. والحمد لله رب العالمين.

-[المباحث العربية]- (الغزوات) جمع غزوة وهي المرة الواحدة من الغزو، وهو السير إلى القتال مع العدو، تقول: غزا، يغزو، غزوا، ومغزي، ومغزاة، وقال الجوهري: غزوت العدو غزوا، والاسم الغزاة، ورجل غاز، والجمع غزاة -بضم الغين مثل قاض وقضاة. اهـ. والمغازي جمع مغزى يصلح مصدرا، ويصلح أن يكون موضع الغزو، وكونه مصدرا هنا أولى. (كم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ) أي كم غزوة اشترك فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه؟ قاتل فيها؟ أو لم يقاتل؟ (تسع عشرة غزوة) في الرواية الثالثة عن جابر رضي الله عنه قال: "غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة -قال جابر: لم أشهد بدرا ولا أحدا" فعدد الغزوات عند جابر إحدى وعشرون غزوة، قال الحافظ ابن حجر: فعلى هذا ففات زيد بن أرقم ذكر ثنتين منها، ولعلهما الأبواء، وبواط، وكأن ذلك خفي عليه لصغره، ويؤيد هذا ما وقع في روايتنا الأولى بلفظ "فما أول غزوة غزاها؟ قال: ذات العسير" و"العسير" ثالث غزوة كما سنبين بعد. وهذا التوجيه حسن، أما توجيه ابن التين، وحمله قول زيد بن أرقم على أن العسيرة أول ما غزا هو -أي زيد بن أرقم- والتقدير: فقلت: ما أول غزوة غزاها وأنت معه؟ قال: العسير، فهو محتمل، لكنه بعيد، لأنه لما سئل: كم غزوت أنت معه؟ قال: سبع عشرة، فسيرجع هذا التوجيه إلى أنه خفي عليه ثنتان مما عد بعد، أو عد غزوتين واحدة، لقربهما، فقد أهمل موسى بن عقبة غزوة بني قريظة، لأنه ضمها إلى الأحزاب، لكونها كانت في إثرها، وأفردها غيره، لوقوعها منفردة، بعد هزيمة الأحزاب، وأهمل غيره الطائف، وعدها مع حنين واحدة لتقاربهما، فيجتمع على هذا قول زيد بن أرقم وقول جابر. وقد توسع ابن سعد، فبلغ عدد المغازي التي خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه سبعا وعشرين، وتبع في ذلك الواقدي، وهو مطابق لما عده ابن إسحق، إلا أنه لم يفرد وادي القرى من خيبر، وكأن الستة الزائدة من هذا القبيل، وعلى هذا يحمل ما أخرجه عبد الرازق بسند صحيح عن سعيد بن المسيب قال: "غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعا وعشرين" فالاختلاف في العدد ناشئ عن إدماج بعض الرواة غزوة في غزوة، وعدم إدماج البعض لغزوتين في واحدة، أما الرواية الخامسة عن بريدة "وأنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ست عشرة غزوة" والرواية السادسة عن سلمة "وأنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات" فلا تعارض ما قدمنا، فكل منهما يتحدث عن مشاركته، وليس فيما ذكر حصر للعدد، ولا نفي للزيادة. أما الغزوات والسرايا التي عدها ابن سعد فهي على الترتيب الزمني: - أول لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم لحمزة بن عبد المطلب في رمضان على رأس سبعة أشهر، من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثين رجلا من المهاجرين، قالوا، ولم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا من الأنصار مبعثا حتى غزا بهم بدرا. خرج حمزة يعترض عير

قريش الآتية من الشام إلى مكة، وفيها أبو جهل بن هشام في ثلاثمائة رجل، فلم يحصل قتال، ورجع أبو جهل بالعير إلى مكة. وعلى رأس ثمانية أشهر من الهجرة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية عبيدة بن الحارث بن المطلب إلى بطن رابغ في ستين رجلا من المهاجرين، ليعترض قافلة المشركين، فلم يحصل قتال، وعادت القافلة. وعلى رأس تسعة أشهر من الهجرة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية سعد بن أبي وقاص إلى الخرار في عشرين رجلا من المهاجرين، ليعترض عيرا لقريش، فكانت العير قد سبقتهم قبل وصولهم ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأبواء على رأس اثني عشر شهرا من الهجرة، واستخلف على المدينة سعد بن عبادة، يريد عيرا لقريش، كما يريد بني ضمرة بن بكر بن عبد مناة من كنانة، والأبواء موضع معروف بين مكة والمدينة وهي إلى المدينة أقرب، فوادع بني ضمرة، وعقد معهم عهدا أن لا يغزوه، ولا يغزوهم ولا يكثروا عليه جمعا، ولا يعينوا عدوا، ولم يلق العير. فسار إلى "ودان" فتح الواو، وتشديد الدال، وهي قرية من أمهات القرى، بينها وبين الأبواء ستة أميال، ليعترض عيرا لقريش، فلم يلق العير، فرجع إلى المدينة بعد غياب خمس عشرة ليلة. وعلى رأس ثلاثة عشر شهرا من الهجرة غزا "بواط" بضم الباء وتخفيف الواو، وهو جبل من جبال جهينة، على نحو أربعين ميلا من المدينة من جهة الشام، واستخلف على المدينة سعد بن معاذ، يقصد اعتراض عير لقريش، فلم يلق كيدا، ورجع إلى المدينة. وعلى رأس ستة عشر شهرا كانت غزوة العشيرة. (فقلت: فما أول غزوة غزاها؟ قال: ذات العسير أو العشير) قال النووي: هكذا في جميع نسخ صحيح مسلم "العسير" أو "العشير"، العين مضمومة، والأول بالسين والثاني بالشين، وقال القاضي في المشارق: هي ذات العشيرة، بضم العين وفتح الشين، قال: وجاء في كتاب المغازي من صحيح البخاري "عسير" بفتح العين وكسر السين، قال: والمعروف فيها "العشيرة" مصغرا، وهي من أرض مدمج اهـ. قال ابن إسحق: هي بطن ينبع، خرج صلى الله عليه وسلم إليها يريد عيرا لقريش فوجد العير التي خرج لها قد مضت قبل وصوله بأيام. قال ابن سعد: وبلغ قريشا خبرها، فخرجوا يمنعونها، فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر، فواقعهم، وقتل منهم من قتل. قال ابن إسحق: ولما رجع إلى المدينة لم يقم إلا ليالي حتى أغار كرز بن جابر القهري على سرح المدينة فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في طلبه حتى بلغ سفران، بفتح السين، من ناحية بدر، ففاته كرز بن جابر، وهذه هي بدر الأولى. قال ابن سعد: وعلى رأس سبعة عشر شهرا من الهجرة كانت سرية عبد الله بن جحش إلى بطن

نخلة، قرب مكة، فاعترضوا عيرا لقريش، وشدوا عليهم، واستولوا على العير، وكان فيها خمر وأدم وزبيب وجاءوا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم كانت غزوة بدر الكبرى على رأس تسعة عشر شهرا من الهجرة. ثم كانت غزوة بني قينقاع على رأس عشرين شهرا من الهجرة، وكانوا قوما من يهود، حلفاء لعبد الله بن أبي بن سلول، وكانوا صاغة، وادعوا النبي صلى الله عليه وسلم فلما كانت وقعة بدر أظهروا البغي والحسد، ونبذوا العهد، فسار صلى الله عليه وسلم إليهم، فحاربوا، وتحصنوا في حصنهم، فحاصرهم صلى الله عليه وسلم أشد حصار، حتى قذف الله في قلوبهم الرعب، فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتشفع فيهم عبد الله بن أبي، أن لا يقتلوا، وأن يجلوا من المدينة، فلحقوا بأذرعات. وعلى رأس اثنين وعشرين شهرا من الهجرة أراد أبو سفيان أن يثأر من محمد صلى الله عليه وسلم في بدر فأخذ أربعين راكبا، فجاءوا بني النضير ليلا، ونزلوا على سلام بن مشكم، فلما كان السحر خرجوا، وعلى بعد ثلاثة أميال من المدينة قتلوا رجلا من الأنصار وأجيرا له، وحرقوا أبياتا هناك وتبنا، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم في مائتي رجل، فهرب أبو سفيان، ومن معه، وجعلوا يتخففون من السويق الذي معهم، يلقونه فيأخذه الصحابة، ولم يلحقوهم، فسميت هذه الغزوة بغزوة السويق. وعلى رأس ثلاثة وعشرين شهرا كانت غزوة قرقرة الكدر، ويقال: قرارة الكدر بضم الكاف، على بعد أكثر من مائة ميل من المدينة، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم بلغه أن جمعا من سليم وغطفان يتجمعون له، فسار إليهم فهربوا وتركوا إبلهم، فساقها المسلمون إلى المدينة وكانت خمسمائة بعير. وعلى رأس خمسة وعشرين شهرا كانت سرية قتل كعب بن الأشرف، وقد سبقت في باب مستقل ثم ذكر ابن سعد غزوة غطفان، وغزوة بني سليم، وفيهما لم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم فيهما كيدا، ورجع إلى المدينة. وعلى رأس ثمانية وعشرين شهرا كانت سرية زيد بن حارثة إلى القردة -بفتح القاف والراء والدال، من أرض نجد، كانت لاعتراض عير لقريش، وكانت في مائة راكب، فأصابوا العير، وأفلت أعيان القوم، وقدموا بالعير إلى المدينة، فبلغ الخمس: عشرين ألف درهم. وعلى رأس اثنين وثلاثين شهرا من الهجرة كانت غزوة أحد. ولما انصرف صلى الله عليه وسلم من أحد بات ليلة على بابه الأنصار، يداوون جراحهم، فلما صلى الصبح أمر بلالا أن ينادي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم بطلب عدوكم، ولا يخرج معنا إلا من شهد القتال بالأمس، فقال جابر بن عبد الله: إن أبي خلفني يوم أحد على أخوات لي، فلم أشهد الحرب، فأذن لي أن أسير معك، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يخرج معه أحد لم يشهد القتال غيره، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسه، وخرج الناس معه، فبعث بثلاثة نفر من أسلم طليعة، فقتل المشركون منهم اثنين بحمراء الأسد، وهي من المدينة على عشرة أميال، طريق العقيق على يسار ذي الحليفة، وفر

المشركون، وعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد ليالي، ثم عاد إلى المدينة، وقد غاب خمس ليال، وتعرف بغزوة حمراء الأسد. وعلى رأس خمسة وثلاثين شهرا من الهجرة كانت سرية أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي على قطن، وهو جبل بناحية فيد، به ماء لبني أسد بن خزيمة، إذ بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن طليحة وسلمة ابني خويلد قد سارا في قومهما ومن أطاعهما يدعوان إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعقد اللواء لأبي سلمة، وبعث معه مائة وخمسين رجلا فرجعوا سالمين غانمين إبلا وشاء، ولم يلقوا أحدا. وبعد أيام من سرية أبي سلمة كانت سرية عبد الله بن أنيس إلى عرنة وما والاها، وعلى رأس ستة وثلاثين شهرا كانت سرية المنذر بن عمرو إلى بئر معونة، وذلك أن رعلا وذكوان وعصية وبني لحيان أرسلوا وفودا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلبوا منه نفرا من أصحابه إلى قومهم، رجاء أن يسلموا، ويجيبوا دعوته، فبعث معهم بسبعين من القراء، فغدروا بهم وقتلوهم عند بئر معونة، فقنت صلى الله عليه وسلم شهرا يدعو على رعل وذكوان وعصية وبني لحيان. وعلى رأس ستة وثلاثين شهرا من الهجرة كانت سرية مرثد بن أبي مرثد إلى الرجيع، وذلك أن رهطا من عضل والقارة، جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إن فينا إسلاما، فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهونا ويقرئونا القرآن ويعلمونا شرائع الإسلام، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم عشرة، فخرجوا معهم، حتى إذا كانوا بالرجيع -وهو ماء لهذيل، على سبعة أميال من عسفان- غدروا بهم، واستصرخوا عليهم هذيلا، فخرج إليهم بنو لحيان، فقتلوا بعضهم وأسروا بعضهم، وباعوهم بمكة. وعلى رأس سبعة وثلاثين شهرا من الهجرة كانت غزوة بني النضير. وعلى رأس خمسة وأربعين شهرا من الهجرة كانت غزوة بدر الموعد، وهي غير بدر القتال، وذلك أن أبا سفيان لما انصرف من أحد نادى: الموعد بيننا وبينكم بدر الصفراء، رأس الحول، نلتقي بها فنقتتل، فلما دنا الموعد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف وخمسمائة حتى وصل بدرا، وخرج أبو سفيان في ألفين، حتى انتهوا إلى مر الظهران، ثم رجعوا. وهي غزوة بدر الصغرى. وعلى رأس سبعة وأربعين شهرا من الهجرة كانت غزوة ذات الرقاع، التي سنتحدث عنها في الباب التالي. وعلى رأس تسعة وأربعين شهرا من الهجرة كانت غزوة دومة الجندل إذ بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بدومة الجندل جمعا كبيرا من الكفار، وأنهم يظلمون من مر بهم، وأنهم يريدون أن يدنوا من المدينة -وهي طرف من أطراف الشام، بينها وبين المدينة خمس عشرة ليلة، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف من المسلمين، فلما دنا منهم هربوا. وفي هذه الغزوة وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن. وفي شعبان من السنة الخامسة من الهجرة كانت غزوة المريسيع، وذلك أن الحارث بن أبي ضرار سار في قومه ومن قدر عليه من العرب، فدعاهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه خلق كثير من المنافقين على رأسهم عبد الله بن أبي، وانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ماء

المريسيع، فتهيئوا للقتال، فحمل المسلمون عليهم، حملة رجل واحد، فما أفلت منهم رجل، قتل عشرة منهم، وأسر سائرهم وسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال والنساء والذرية والنعم والشاء، ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد. وكان السبي مائتي أهل بيت وفيهن جويرية بنت الحارث، والإبل ألفي بعير، والشاء خمسة آلاف شاة، وفي هذه الغزوة كان حديث الإفك. وفي ذي القعدة سنة خمس من الهجرة كانت غزوة الأحزاب، وهي الخندق. وفي الشهر نفسه كانت غزوة بني المصطلق. وعلى رأس تسعة وخمسين شهرا من الهجرة كانت سرية محمد بن مسلمة إلى القرطاء، وهم بطن من بني بكر من كلاب، على بعد سبع ليال من المدينة، بعثه في ثلاثين راكبا، فأغار عليهم، فقتل نفرا منهم، وهرب سائرهم، واستاق نعما وشاء، ولم يتعرض للطعن. وفي ربيع الأول سنة ست من الهجرة كانت غزوة بني لحيان، وكانوا بناحية عسفان، أسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مائتي رجل من أصحابه، حتى بلغ بطن غران -بينها وبين عسفان خمسة أميال- حيث كان مصاب أصحابه القراء السبعين، فترحم عليهم، فسمعت بنو لحيان بهم، فهربوا في رءوس الجبال، فلم يقدر منهم على أحد، فرجع إلى المدينة. وفي الشهر نفسه كانت غزوة الغابة، وهي غزوة ذي قرد التي تحدثنا عنها. وفي الشهر نفسه كانت سرية عكاشة بن محصن الأسدي إلى الغمر، وهو ماء لبني أسد، خرج في أربعين رجلا، فأغاروا عليهم، فهربوا، فاستاقوا إلى المدينة مائتي بعير. وفي ربيع الآخر سنة ست من الهجرة كانت سرية محمد بن مسلمة إلى القصة، إلى بني ثعلبة، بينهم وبين المدينة أربعة وعشرون ميلا طريق الربذة، في عشرة نفر، فحملت عليهم الأعراب، فقتلوهم، وحمل محمد بن مسلمة جريحا إلى المدينة. وفي الشهر نفسه كانت سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة، فهرب أهلها إلى الجبال، وعادوا بالنعم. وفي الشهر نفسه كانت سرية زيد بن حارثة إلى بني سليم بالجموم، ناحية بطن نخل، على نحو سبعين ميلا من المدينة، فعادوا بالنعم والشاء. وفي جمادى الأولى سنة ست من الهجرة كانت سرية زيد بن حارثة إلى العيص، وبينها وبين المدينة أربع ليال، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مائة وسبعين راكبا، ليعترضوا طريق قافلة لقريش، قادمة من الشام، فأخذوها وما فيها، وأسروا ناسا ممن كانوا في العير، منهم العاص بن الربيع، زوج زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم فأجارته زينب. وفي جمادى الآخرة كانت سرية زيد بن حارثة إلى الطرف، وهو ماء على ستة وثلاثين ميلا من المدينة، في خمسة عشر رجلا، فأصابوا نعما وشاء، وهربت الأعراب.

وفي الشهر نفسه كانت سرية زيد بن حارثة إلى حسمى، وهي وراء وادي القرى، في خمسمائة رجل، فأغاروا على القوم، واستاقوا ماشيتهم ونعمهم ونساءهم، فأخذوا من النعم ألف بعير، ومن الشاء خمسة آلاف شاة، ومن السبي مائة من النساء والصبيان، فأسلم القوم، فرد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما غنم منهم. وفي رجب سنة ست من الهجرة كانت سرية زيد بن حارثة إلى وادي القرى. وفي شعبان سنة ست من الهجرة كانت سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل، فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا. وفي شعبان سنة ست من الهجرة كانت سرية علي بن أبي طالب إلى بني سعد بن بكر بفدك حيث بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يريدون أن يمدوا يهود خيبر، فعادت السرية بخمسمائة بعير وألف شاة، وهربت بنو سعد. وفي رمضان سنة ست من الهجرة كانت سرية زيد بن حارثة إلى أم قرفة بوادي القرى على سبع ليال من المدينة. وفي الشهر نفسه كانت سرية عبد الله بن عتيك إلى أبي رافع سلام بن أبي الحقيق النضري بخيبر، فقتلوا أبا رافع، وعادوا إلى المدينة. وفي شوال سنة ست كانت سرية عبد الله بن رواحة إلى أسير بن زارم اليهودي، بخيبر، فإنه لما قتل أبو رافع أمرت يهود عليهم أسير بن زارم، فسار في غطفان وغيرهم يجمعهم لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجه إليه عبد الله بن رواحة في ثلاثين رجلا فقتلوه وقتلوا معه ثلاثين رجلا من يهود، ولم يصب أحد من المسلمين. وفي الشهر نفسه كانت سرية كرز بن جابر الفهري إلى العرنيين، فقد قدم نفر من عرينة، ثمانية على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا واستوبأوا المدينة، فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى لقاحه، وكانت ترعى بناحية قباء، على ستة أميال من المدينة، فكانوا فيها حتى صحوا وسمنوا، فغدوا على اللقاح فاستاقوها، وقطعوا يد الراعي يسار مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجله، وغرزوا الشوك في لسانه وعينيه حتى مات. وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث في إثرهم عشرين فارسا، فأحاطوا بهم، وأسروهم وربطوهم وأردفوهم على الخيل، حتى قدموا بهم المدينة، فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم فصلبوا، ونزل قوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا ... } [المائدة: 33] الآية. فلم يسمل بعد ذلك عينا. وفي القعدة سنة ست كانت غزوة الحديبية. وفي جمادى الأولى سنة سبع كانت غزوة خيبر. وفي شعبان سنة سبع من الهجرة كانت سرية أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى كلاب بنجد فقتلت

السرية من قتلت، وأسرت من أسرت، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة إحدى السبايا إلى مكة، ففدى بها أسرى من المسلمين كانوا في أيدي المشركين. وفي الشهر نفسه كانت سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى فدك. وفي شهر رمضان كانت سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى الميفعة، وهي وراء بطن نخل، بعثه في مائة وثلاثين رجلا، فقتلوا من أشرف لهم، واستاقوا نعما وشاء فجاءوا به المدينة. وفي شوال كانت سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى يمن وجبار حيث بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جمعا من غطفان بالجناب قد واعدهم عيينة بن حصن، ليكون معهم ليزحفوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث صلى الله عليه وسلم بشيرا في ثلاثمائة رجل، فهرب القوم وأصابت السرية نعما وأسيرين، وعادت إلى المدينة. وفي ذي القعدة سنة سبع كانت عمرة القضية. وفي ذي الحجة سنة سبع كانت سرية ابن أبي العوجاء السلمي إلى بني سليم في خمسين رجلا، فقتل عامتهم، إذ تكاثر عليهم القوم، وأحاطوا بهم. وفي صفر سنة ثمان من الهجرة كانت سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني الملوح بالكديد. وفي الشهر نفسه كانت سرية غالب بن عبد الله الليثي أيضا إلى مصاب في مائتي رجل، فأصابوا منهم قتلا ونعما. وفي ربيع الأول كانت سرية شجاع بن وهب الأسدي إلى بني عامر بالسبي في أربعة وعشرين رجلا، فأصابوا نعما كثيرا وشاة، وقدموا بها إلى المدينة. وفي الشهر نفسه كانت سرية كعب بن عمير الغفاري إلى ذات أطلاح، من وراء وادي القرى في خمسة عشر رجلا، فتكاثر عليهم القوم، فقتلوهم عدا رجل واحد، تحامل حتى وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي جمادى الأولى كانت سرية مؤتة، بأدنى البلقاء، دون دمشق، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها الحارث بن عمير الأزدي إلى ملك بصرى بكتاب، فلما نزل مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو الغساني فقتله، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، فأسرعوا فعسكروا في الجرف، وهم ثلاثة آلاف، وقال لهم: أميركم زيد بن حارثة، فإن قتل فجعفر بن أبي طالب، فإن قتل فعبد الله بن رواحة، فإن قتل فليرتض المسلمون بينهم رجلا فيجعلوه عليهم. فلما خرجوا من المدينة سمع العدو بمسيرتهم، فجمعوا لهم أكثر من مائة ألف والتقى الفريقان عند مؤتة، وقاتل المسلمون، وقتل القادة الثلاثة، فتول القيادة خالد بن الوليد، ففتح الله به، وهزم القوم أسوأ هزيمة. وفي جمادى الآخرة كانت سرية عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل، وراء وادي القرى، بينها وبين المدينة عشرة أيام، في ثلاثمائة رجل، ثم أمده رسول الله صلى الله عليه وسلم بمائتين فيهم أبو بكر وعمر، وأمر عليهم عبيدة بن الجراح، فنصرهم الله على عدوهم. وفي رجب كانت سرية الخبط، وأميرها أبو عبيدة بن الجراح في ثلاثمائة رجل إلى حي من

جهينة، على ساحل البحر، وبينها وبين المدينة خمس ليال، فأصابهم في الطريق جوع شديد، فأكلوا الخبط، وبه سميت السرية، فلما وصلوا لم يلقوا كيدا. وفي شعبان كانت سرية أبي قتادة بن ربعي الأنصاري إلى خضره، وهي أرض محارب بنجد، وكانت السرية خمسة عشر رجلا فقتلوا من قتلوا، واستاقوا مائتي بعير وألفي شاة، وسبوا سبيا كثيرا، وعادوا إلى المدينة. وفي أول رمضان كانت سرية أبي قتادة بن ربعي الأنصاري إلى بطن إضم، وذلك حين هم الرسول صلى الله عليه وسلم بغزو مكة بعث أبا قتادة في ثمانية نفر، وبينها وبين المدينة نحو خمسين ميلا، ليظن ظان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توجه إلى تلك الناحية، فتذهب بذلك الأخبار، فمضوا ولم يلحقوا جمعا، فبلغهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه إلى مكة، فاتجهوا نحوها. وفي رمضان سنة ثمان من الهجرة كانت غزوة الفتح. وفي آخر رمضان كانت سرية خالد بن الوليد إلى العزى ليهدمها، فخرج في ثلاثين فارسا، فانتهوا إليها فهدموها، وكانت بنخلة، وكانت لقريش وجميع بني كنانة، وكانت أعظم أصنامهم، وكان بنو شيبان، من بني سليم سدنتها. وفي الوقت نفسه كانت سرية عمرو بن العاص إلى سواع، صنم هذيل، ليهدمه. وفي الوقت نفسه كانت سرية سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة، وكانت بالمشلل، وكانت للأوس والخزرج وغسان، خرج في عشرين فارسا، فهدموها. وفي شوال كانت سرية خالد بن الوليد إلى بني جذيمة من كنانة، وكانوا بأسفل مكة، ناحية يلملم، فانتهى إليهم خالد في ثلاثمائة وخمسين رجلا، فأعلنوا إسلامهم، فلم يصدقهم خالد، فقتل منهم، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ما صنع خالد، فقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد" وبعث علي بن أبي طالب بالدية لقتلاهم. وفي الشهر نفسه كانت غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم هوازن، وحنين واد بينه وبين مكة ثلاث ليال، وقد سبق الحديث عن هذه الغزوة. وفي الشهر نفسه كانت سرية الطفيل بن عمرو الدوسي إلى ذي الكفين، صنم عمرو بن حممة الدوسي، وذلك حين أراد الرسول صلى الله عليه وسلم السير إلى الطائف، فهدم الصنم ولحق بالرسول صلى الله عليه وسلم. وفي الشهر نفسه خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين، يريد الطائف، وكانت غزوة الطائف. وفي المحرم سنة تسع كانت سرية عيينة بن حصن الفزاري إلى بني تميم في خمسين فارسا، فأسروا نساء وأطفالا، وجاء أشرافهم مسلمين ينادون بصوت مرتفع: يا محمد اخرج إلينا، فنزل فيهم {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات} [الحجرات: 4] فرد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسرى والسبي. ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق من خزاعة يأخذ منهم

الصدقة وكانوا قد أسلموا، وبنوا المساجد، فلما سمعوا بدنو الوليد خرج منهم عشرون رجلا يتلقونه بالجزور والغنم فرحا به، فلما رآهم ولى راجعا إلى المدينة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم تلقوه بالسلاح، يحولون بينه وبين الصدقة. فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليهم من يغزوهم، وبلغ ذلك القوم، فقدم عليه الركب الذين تلقوا الوليد، فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم الخبر على وجهه، ونزل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة} [الحجرات: 6]. وفي صفر سنة تسع كانت سرية قطبة بن عامر بن حديدة إلى خثعم، ناحية بيشة، قريبا من تربة في عشرين رجلا، فقتلوا من قتلوا، وعادوا بالنعم والشاء والنساء إلى المدينة. وفي ربيع الأول كانت سرية الضحاك بن سفيان الكلابي إلى بني كلاب. وفي ربيع الآخر كانت سرية علقمة بن مجزر المدلجي إلى الحبشة في ثلاثمائة. وفي الشهر نفسه كانت سرية علي بن أبي طالب إلى الفلس، صنم طيئ، ليهدمه في خمسين ومائة رجل، فهدموه. وفي الشهر نفسه كانت سرية عكاشة بن محصن الأسدي إلى الجناب، أرض عذرة وبلي. وفي رجب سنة تسع كانت غزوة تبوك، خرج إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثين ألفا، فأقام بها عشرين ليلة، ثم انصرف صلى الله عليه وسلم من تبوك، ولم يلق كيدا. وفي آخر شهر صفر سنة إحدى عشرة من الهجرة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس للتهيؤ لغزو الروم، ثم دعا أسامة بن زيد، فقال: سر إلى موضع مقتل أبيك، فأوطئهم الخيل، فقد وليتك هذا الجيش، فمرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ يغيب ويفيق فيقول: انفذوا بعث أسامة، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبويع لأبي بكر خرج أسامة بجيشه، عند هلال شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة من الهجرة. هذا ما قاله ابن سعد في الطبقات الكبرى بتصرف كبير. (ولم أشهد أحدا، ولا بدرا) قال النووي: قال القاضي: كذا في رواية مسلم أن جابرا لم يشهدهما، وقد ذكر أبو عبيد أنه شهد بدرا، وقال ابن عبد البر: الصحيح أنه لم يشهدهما، وقد ذكر ابن الكلبي أنه شهد أحدا. اهـ. وفيما سبق عن ابن سعد أنه لم يشهدها. (منعني أبي) سبق في روايات ابن سعد أن المنع كان لرعايته أخواته البنات اللائي لا عائل لهن غيره. (فلما قتل عبد الله) أي أبوه. (لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة قط) في الصحيح أنه كان قد تزوج بعد وفاة أبيه ثيبا كبيرة، ترعى أخواته في غيبته. و"قط" ظرف زمان، لاستغراق ما مضى، تقول: ما فعلته قط، بفتح القاف وتشديد الطاء مضمومة في أفصح اللغات، وتختص بالنفي، والعامة يقولون: لا أفعله

قط، وهو لحن، واشتقاقه من قططت الشيء إذا قطعته، فمعنى ما فعلته قط، ما فعلته فيما انقطع من عمري، لأن الماضي منقطع عن الحال والاستقبال، وبنيت على الضم لتضمنها معنى مذ، وإلى، وقد تكسر، على أصل التقاء الساكنين، وقد تتبع قافه طاءه في الضم، وقد تخفف طاؤه، مع ضمها أو إسكانها، قاله ابن هشام في مغني اللبيب. (قاتل في ثمان منهن) وهن: بدر، وأحد، والأحزاب، والمريسيع، وقديد، وخيبر، ومكة، وحنين. وقيل: قاتل في تسع، فزاد الطائف، وبعضهم لم يعد مكة، على أنها فتحت صلحا، كما سبق. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث]- 1 - مدى حرص الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- على حضور الغزوات. 2 - تفاخرهم بالاشتراك فيها. 3 - حفظهم لها واهتمامهم بها. 4 - من الرواية الأولى الحرص على أخذ العلم من أهله، وممن اشتهر به. 5 - حب القرب من العلماء، والاعتزاز به. 6 - ومن الرواية الثانية أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحج بعد ما هاجر إلا حجة واحدة، وهي حجة الوداع. 7 - ومن الرواية الثالثة، وتخلف جابر رضي الله عنه عن بدر وأحد، أن الأعذار عن الغزو كانت مقبولة. والله أعلم. (ملحوظة): ذكر الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- الغزوات غير مرتبة، لا ترتيبا زمنيا كما فعل البخاري، ولا ترتيب الأهم فالأهم، ولا ترتيب المتفق عليه ثم المختلف فيه، ولم أستطع الوصول إلى حكمة لهذا الترتيب، فقد ذكر غزوة حنين، فغزوة الطائف، فغزوة بدر، ففتح مكة، فصلح الحديبية، فغزوة الأحزاب، فغزوة أحد، فعود على أحداث غزوة بدر وقتل أبي جهل، فغزوة خيبر، فغزوة الأحزاب مرة أخرى، فغزوة ذي قرد. وأغرب من هذا أنه ذكر غزوة ذات الرقاع بعد أن ذكر عدد غزوات النبي صلى الله عليه وسلم ولعله -رحمه الله تعالى- لم يتسع زمنه لترتيب هذا الجزء من كتابه، أحسن الله إليه، وجزاه عن السنة خير الجزاء.

(505) باب غزوة ذات الرقاع

(505) باب غزوة ذات الرقاع 4133 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة، ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه. قال: فنقبت أقدامنا. فنقبت قدماي. وسقطت أظفاري. فكنا نلف على أرجلنا الخرق. فسميت غزوة ذات الرقاع لما كنا نعصب على أرجلنا من الخرق. قال أبو بردة: فحدث أبو موسى بهذا الحديث ثم كره ذلك. قال: كأنه كره أن يكون شيئا من عمله أفشاه. قال أبو أسامة: وزادني غير بريد والله يجزي به. -[المعنى العام]- وقعت الغزوات النبوية على مسافات بعيدة من المدينة، في الكثير منها، مع قلة في الظهر والركاب، ووعورة في الطريق، وتنكب الجبال والوديان، وضعف الحماية والوقاية من مشاق السفر. وهذا الحديث يصور لنا صورة من هول ما لاقي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا أبو موسى الأشعري اليمني المولد والموطن، جاء مع وفد من أهله من اليمن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفوا بالأشعريين، وكان في غزوة خيبر، فأعلنوا إسلامهم، وانضمامهم إلى جيوش المسلمين، ويحدثنا عن غزوة اشترك فيها، تعرف بغزوة ذات الرقاع، فيقول: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في نحو سبعمائة من أصحابه، قاصدين غطفان في نجد، وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم جمعوا جموعا لحربه، فقرر مبادرتهم قبل أن يبادروه، خرج أبو موسى يرافقه خمسة من الأشعريين الفقراء، لا يملكون إلا بعيرا واحدا، لا يعنيهم من يملكه منهم، فقد مدحهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالتعاون والتضامن والتكافل، فقال: "إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعامهم، جمعوا ما عندهم في إناء واحد، واقتسموه بالسوية، فهم مني، وأنا منهم". وظهرت هذه الصورة التضامنية في سفرهم هذه الغزوة، فهم يتعاقبون على جمل واحد، يركب هذا قليلا ثم ينزل، ليركب الآخر مثله، حتى يركب آخرهم، فينزل ليركب أولهم، لم يكن الجمل لهزاله يتحمل اثنين، لهذا لم يردف أحدهما صاحبه، وهم الذين رقت قلوبهم، ولانت أحساسيسهم، ونتيجة هذا التصرف أن يمشي الواحد منهم خمسة أسداس الطريق، ويركب سدسه، والرمال محماة من حرارة الشمس، والحجارة متشعبة، تغوص شعبها في الأقدام، ولا نعل يملكون ولا حذاء، ساروا في البداية حفاة ساروا يوما، فانتفخت أقدامهم بفقاقيع مائية، انتهت بانفجارها، وفي اليوم الثاني تقيحت، وفي اليوم الثالث أكلت ما حول أظافر القدمين من لحم، فسقطت الأظافر، فكانوا من هذا يسيرون لا

يتوقفون، ويحاولون التخفيف عن مضاعفات جروح أرجلهم بخرق يلفون بها أقدامهم، ويعصبونها على جروحهم، وكانت حالهم هذه حال كثير من الصحابة، فأطلقوا على غزوتهم هذه اسم غزوة ذات الرقاع، للرقع التي كانوا يلفون أقدامهم بها، فرضي الله عنهم، وجزاهم عن الإسلام خير الجزاء. -[المباحث العربية]- (غزوة ذات الرقاع) يقال: رقع الثوب بفتح القاف مخففة، يرقع بفتحها أيضا رقعا بسكونها، ورقعة بفتح الراء وسكون القاف، أصلحه بالرقعة بضم الراء وسكون القاف، وأرقع بالهمز، ورقع بالتضعيف بمعنى رقع بالتخفيف، والرقاع جمع رقعة. وفي سبب تسمية هذه الغزوة بهذا الاسم قال أبو موسى رضي الله عنه في الحديث: "فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت غزوة ذات الرقاع، لما كنا نعصب على أرجلنا من الخرق" قال النووي: هذا هو الصحيح في سبب تسميتها، وقيل: سميت بذلك بجبل هناك، فيه بياض وسواد وحمرة، وقيل: سميت باسم شجرة هناك، وقيل: لأنه كان في ألويتهم رقاع، ويحتمل أنها سميت بالمجموع. اهـ. وقيل: بشجر هناك يقال له: ذات الرقاع، وهذا هو مراد النووي بكلمة "شجرة" أي جنس شجرة، وقيل: بل الأرض التي نزلوا بها كانت ذات ألوان تشبه الرقاع، وقيل: لأن خيلهم كان بها سواد وبياض، قال الحافظ ابن حجر: يحتمل أن يكون لفظ "خيل" قد تصحف من لفظ "جبل". (ونحن ستة نفر) النفر من الثلاث إلى التسع، فالإضافة بيانية، والمعنى ستة أي نفر. وفي رواية البخاري "ونحن في ستة نفر" أي كان أبو موسى ضمن ستة من الأشعريين في جيش هذه الغزوة. (بيننا بعير نعتقبه) أي يركبه الواحد منا عقب الآخر، لكل واحد منهم نوبة، يركب هذا قليلا، ثم ينزل، فيركب الآخر، بالنوبة حتى يأتي سائرهم، والمقصود إظهار الشدة والمشقة الحاصلة لهم من طول المسافة، وشدة حرارة رمل الصحراء. (فنقبت أقدامنا، فنقبت قدماي) بفتح النون وكسر القاف، أي رق جلدها، وقرحت من الحفاء وطول السير عليها. يقال: نقب بكسر القاف ينقب بفتحها، أي تخرق، ونقب خف البعير أي رق، وقوله "فنقبت قدماي" بعد قوله "فنقبت أقدامنا" من ذكر الخاص بعد العام لمزيد عناية بهذا الخاص، ولرفع توهم أن النقب أصاب البعض، أو أصاب إحدى قدميه. (وسقطت أظفاري) أي أظفار أصابع قدمي. (فكنا نلف على أرجلنا الخرق) بكسر الخاء وفتح الراء، جمع خرقة، وهي القطعة من الثوب الممزق وذلك لاتقاء حرارة الرمال، ولوقاية جروح الأقدام من الاحتكاك بالحجارة.

(لما كنا نعصب على أرجلنا من الخرق) "نعصب" بضم النون وفتح العين وتشديد الصاد المكسورة، وبفتح النون وكسر الصاد، يقال: عصب الشيء وعصب على الشيء، عصبا بسكون الصاد، أي قبض وطوي ولوي وشد، واللام المكسورة في "لما كنا" للتعليل أي سميت ذات الرقاع من أجل عصبنا الرقع والخرق على أرجلنا. (قال أبو بردة) بن أبي موسى الراوي عن أبي موسى الأشعري. (فحدث أبو موسى بهذا الحديث ثم كره ذلك) التحديث، وندم أن حدث، وتمنى أن لو لم يكن تحدث به، لما خاف من تزكية نفسه. (كأنه كره أن يكون شيئا من عمله أفشاه) في رواية مسلم "شيئا" بالنصب خبر "يكون" أي كره أن يكون الحديث شيئا أفشاه من عمله، لا ينبغي إفشاؤه، وفي رواية البخاري "كأنه كره أن يكون شيء من عمله أفشاه" برفع "شيء" اسم "يكون" والخبر "أفشاه" زاد البخاري "قال: ما كنت أصنع بأن أذكره" أي ماذا استفدت بذكره؟ (والله يجزي به) أي قال أبو موسى: لماذا أفشيته والله هو الذي يجزي على المشقة في سبيله، لا الإنسان. -[فقه الحديث]- روى البخاري تحت باب غزوة ذات الرقاع مجموعة من الأحاديث والتعليقات، فقال: وهي غزوة محارب خصفة من بني ثعلبة من غطفان، وهي بعد خيبر، لأن أبا موسى جاء بعد خيبر. وأخرج من الأحاديث غير حديثنا: 1 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه في الخوف في غزوة السابعة، غزوة ذات الرقاع". 2 - عن جابر رضي الله عنه قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذات الرقاع من نخل، فلقي جمعا من غطفان، فلم يكن قتال، وأخاف الناس بعضهم بعضا، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم ركعتي الخوف. 3 - عمن شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف "أن طائفة صفت معه، وطائفة وجاه العدو، فصلى بالتي معه ركعة، ثم ثبت قائما، وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا، فصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى، فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسا، وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم". 4 - عن ابن عمر رضي الله عنهم قال: "غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد، فوازينا العدو، فصاففنا لهم".

5 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما "أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد، وفي رواية له "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع" فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم قفل معه، فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاة" -أي أدركهم وسط النهار في واد كثير شجر الشوك- "فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس في العضاة، يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سمرة" بفتح السين وضم الميم، أي شجرة كثيرة الورق، يستظل بها وفي رواية له "فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي صلى الله عليه وسلم" -"فعلق بها سيفه، قال جابر: فنمنا نومة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، فجئناه، فإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم، فاستيقظت، وهو في يده صلتا" بفتح الصاد وسكون اللام، أي مجردا عن غمده "فقال وفي رواية فقال" تخافني؟ فقال له: لا" "فقال: من يمنعك مني؟ قلت: الله. فها هو ذا جالس" وفي رواية ابن إسحق "فوقع السيف من يده، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: من يمنعك أنت مني؟ قال: لا أحد. أنت خير مني، ثم أسلم بعد". تاريخها: قال الحافظ ابن حجر: اختلف في هذه الغزوة. متى كانت؟ وقد جنح البخاري إلى أنها كانت بعد خيبر، ومع ذلك ذكرها قبل خيبر، وربما تعمد ذلك تسليما لأهل المغازي، أو أن ذلك من الرواة، أو إشارة إلى احتمال أن تكون ذات الرقاع اسما لغزوتين مختلفتين، كما أشار إلى ذلك البيهقي. وأصحاب المغازي يجزمون بأنها قبل خيبر، ويختلفون في تاريخها، فعند ابن إسحاق أنها بعد بني النضير، وقبل الخندق، في جمادى الأولى سنة أربع. وعند ابن سعد وابن حبان أنها كانت في المحرم سنة خمس. وجزم أبو معشر بأنها كانت بعد بني قريظة والخندق، وقريظة كانت في ذي القعدة سنة خمس، فتكون ذات الرقاع في آخر السنة، وأول التي تليها. وأما موسى بن عقبة فجزم بتقديم وقوع غزوة ذات الرقاع، لكن تردد في وقتها، فقال: لا ندري كانت قبل بدر؟ أو بعدها أو قبل أحد أو بعدها قال الحافظ: وهذا التردد لا حاصل له، بل الذي ينبغي الجزم به أنها بعد غزوة بني قريظة، لأن صلاة الخوف لم تكن شرعت في غزوة الخندق، وقد ثبت وقوع صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع. سببها وأحداثها: ذكر الواقدي أن سبب غزوة ذات الرقاع أن أعرابيا قدم بإبل ومتاع للتجارة على المدينة، فقال: إني رأيت ناسا من بني ثعلبة ومن بني أنمار قد جمعوا لكم جموعا، وأنتم في غفلة عنهم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في أربعمائة -ويقال سبعمائة- حتى وصل أرض غطفان، فلقي جمعا منهم، فاصطف الفريقان للقتال، وأخاف بعضهم بعضا، وكان المشركون بين المسلمين وبين القبلة، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بأصحابه، فانصرف المشركون دون قتال، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - جواز التناوب في ركوب الدابة، إذا لم يضر بها.

2 - قال النووي: فيه استحباب إخفاء الأعمال الصالحة، وما يكابده العبد من المشاق في طاعة الله تعالى، ولا يظهر شيئا من ذلك إلا لمصلحة، مثل بيان حكم ذلك الشيء، والتنبيه على الاقتداء به فيه، ونحو ذلك، وعلى هذا يحمل ما وجد للسلف من الأخبار بذلك. 3 - وفيه مدى ما لحق الصحابة من المشقة في سبيل الجهاد، ونشر راية الإسلام. والله أعلم.

(506) باب كراهة الاستعانة في الغزو بكافر

(506) باب كراهة الاستعانة في الغزو بكافر 4134 - عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها أنها قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بدر، فلما كان بحرة الوبرة أدركه رجل قد كان يذكر منه جرأة ونجدة؛ ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه. فلما أدركه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم جئت لأتبعك وأصيب معك. قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تؤمن بالله ورسوله". قال: لا. قال: "فارجع فلن أستعين بمشرك" قالت: ثم مضى حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل، فقال له كما قال أول مرة. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرة. قال "فارجع فلن أستعين بمشرك" قال: ثم رجع فأدركه بالبيداء، فقال له كما قال أول مرة "تؤمن بالله ورسوله" قال: نعم. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "فانطلق". -[المعنى العام]- يقول الله تعالى: {ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم} [آل عمران: 73] وكيف يأمن العاقل لعدوه؟ والكفر عدو للإيمان مهما اختلفت صوره ومذاهبه. إن التعامل مع الكفرة بيعا وشراء ورهنا مباح، لأن الخطر في هذه المعاملات خطر في المال، والمعاملات مكشوفة المكسب والخسارة، وأهل اختصاصها يعلمونها ويجيدون تحريكها، مسلمين وغير مسلمين، وأخذ الحذر في هذا ممكن وسهل، وعدم الاغترار بهم، والحيطة في معاملتهم يسيرة ممكنة. والتصدق على الكافرين والبر بهم مطلوب شرعا، أو مرخص به شرعا، لقوله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} [الممتحنة: 8]. وحب المؤمن للكافر -من حيث هو كافر- ممنوع شرعا، لقوله تعالى: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم .... } [المجادلة: 22] الآية. أما استعانة المسلمين بغير المسلمين في حربهم مع الكافرين ففيها خطورة شديدة، خطورة على المسلمين أنفسهم وخطورة على الإسلام، فالتخاذل في الحرب والفرار،

والجبن لو حصل من بعض الجيش أثار في الجيش مثله، ولذلك يقول تعالى عن المنافقين: {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة} [التوبة: 47]. وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم فقد تقدم إليه صلى الله عليه وسلم رجل مشرك معروف بالقوة والشهامة والشجاعة والجرأة، فارس لا يشق له غبار، رأى محمدا وأصحابه ينتصرون على أعدائهم، ويستولون على ثرواتهم، ويقسمونها غنائم على الجيوش، للراجل سهم وللفارس سهمان، فرغب في مشاركتهم في الحرب ضد المشركين، ليشاركهم في الغنائم، فعرض نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليخرج معه في غزوة، وهو في طريقه إلى الغزو، ففرح به الصحابة رضي الله عنهم، لما عرفوا فيه من القوة، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم هل آمنت بالله ورسوله؟ قال: لا. ولكني سأقاتل معك من أجل المال، كالجنود المرتزقة. قال صلى الله عليه وسلم: انصرف، فأنا لا أستعين بمشرك في قتالي للمشركين، وانصرف الرجل غير بعيد، ثم رجع يعيد مطالبه، وأعاد عليه صلى الله عليه وسلم الجواب نفسه، فانصرف، ثم عاد، فقال مقالته الأولى، وسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تؤمن بالله ورسوله؟ قال: نعم: فأذن له في الجهاد معه، وأبلى بلاء حسنا. وهكذا ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم للأمة مثلا أن يكون الجهاد جهادا لإعلاء كلمة الله، وليس للمغنم أو الشهرة أو أغراض الدنيا، فمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله. -[المباحث العربية]- (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بدر) أي خرج بأصحابه غازيا، قال النووي: هكذا ضبطناه "قبل" بكسر القاف وفتح الباء، أي جهة بدر، وكذا نقله القاضي عن جميع رواة مسلم. قال: وضبطه بعضهم بفتح القاف وسكون الباء، أي قبل المكان المعروف ببدر من جهة المدينة. (فلما كان بحرة الوبرة) الباء حرف جر، والحرة بفتح الحاء والراء المشددة في الأصل أرض ذات حجارة سود، كأنها أحرقت، والوبرة بفتح الواو والباء والراء، في الأصل واحدة الوبر بفتح الواو والباء، وهو صوف الإبل والأرانب، أما الوبر بفتح الواو وسكون الباء فهو حيوان في حجم الأرنب، والأنثى منه وبرة بإسكان الباء. والمراد هنا من حرة الوبرة مكان معروف على أربعة أميال من المدينة جهة بدر. (أدركه رجل) مشرك. (قد كان يذكر منه جرأة ونجدة) أي كان معروفا للصحابة بالجرأة والشجاعة والإقدام. (ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه) ظنوه جاء مسلما، ففرحوا بإسلامه، وانضمامه إلى الجيش، أو ظنوا أنه سيسمح له بالقتال في صفوفهم نجدة لهم وهو على شركه، ففرحوا بانضمام قوته إلى قوتهم. (جئت لأتبعك) بفتح الهمزة وسكون التاء، أي لأكون تابعا لك في قتال أعدائك.

(وأصيب معك) أي وأحصل على الغنيمة معك، والظاهر أن هذا كان الدافع للرجل. أي فأذن لي بالقتال معك ومشاركتكم في الغنيمة. (قال: فارجع. فلن أستعين بمشرك) على قتال مشرك، فإنه غير مأمون فشأنهم نكث العهود والغدر، فارجع من حيث أتيت، ولا تصحبنا). (قالت: ثم مضى) رسول الله صلى الله عليه وسلم واستمر في طريقه، أو ثم مضى الرجل ورجع. (حتى إذا كنا بالشجرة) مكان معروف، بعد حرة الوبرة. قال النووي: هكذا هو في النسخ "حتى إذا كنا" فيحتمل أن عائشة كانت مع المودعين، فرأت ذلك، ويحتمل أنها أرادت بقولها "كنا" كان المسلمون اهـ. والأول مستبعد، فلم تكن النساء تخرج المسافات الطويلة أكثر من أربعة أميال، للتوديع، ويحتمل أنها كانت -رضي الله عنها- قد خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة. (كما قال أول مرة. قال: فارجع. فلن أستعين بمشرك) الجملة الثانية تفسير للأولى. (ثم رجع) الرجل عن مصاحبة النبي صلى الله عليه وسلم بأن توقف، أو اتجه إلى طريق آخر. (فأدركه بالبيداء) فأدرك الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصحراء والأرض الخالية المنبسطة. (قال: فانطلق) أي معنا، وصاحبنا، وشاركنا في الغنيمة. -[فقه الحديث]- بوب النووي لهذا الحديث بباب كراهة الاستعانة في الغزو بكافر، إلا لحاجة، أو كونه حسن الرأي في المسلمين. فحمل امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن قبول الرجل المشرك والاستعانة به على سبيل الكراهة، والتحقيق أن الحكم يختلف باختلاف الأشخاص واختلاف الظروف، واختلاف المهمة التي يستعان به عليها، فقد يكون محرما أشد التحريم، وممنوعا كل المنع، وأميل إلى التحريم في مثل ظروف هذا الحديث. وقوله "في الغزو" احتراز عن الاستعانة بالكافر في الصناعة والزراعة والخدمة ونحو ذلك فهو ليس من هذا القبيل، لاختلاف درجة الخطر، وقد استعان صلى الله عليه وسلم بالكافر النجار لعمل المنبر. وقوله "بكافر" أعم من أن يكون مشركا أو صاحب كتاب أو عابد وثن، وهو كذلك، وإن كان الحديث مع مشرك. وقوله "إلا لحاجة" فيه نظر، فالاستعانة بالآخرين عادة لا تخلو من حاجة، وكان الأولى أن يقال: إلا لضرورة.

ثم قال النووي: وقد جاء في الحديث الآخر "أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بصفوان بن أمية قبل إسلامه، فأخذ طائفة من العلماء بالحديث الأول على إطلاقه، وقال الشافعي وآخرون: إن كان الكافر حسن الرأي في المسلمين، ودعت الحاجة إلى الاستعانة به استعين به، وإلا فيكره، وحمل الحديثين على هذين الحالين. اهـ. وقصة صفوان بن أمية التي أشار إليها النووي -كما ذكرت في الإصابة والاستيعاب وغيرهما- أنه قتل أبوه أمية بن خلف ببدر كافرا، وقتل عمه أبي بن خلف بأحد كافرا، وهرب صفوان يوم فتح مكة كافرا، وأسلمت امرأته، وحين هرب استأمن له عمير بن وهب بن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أشهر، واستعار منه رسول الله صلى الله عليه وسلم سلاحا، وخرج معه إلى حنين. قيل: والطائف، وأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغنائم، وأكثر له. ومن هنا يقول النووي: وإذا حضر الكافر بالإذن رضخ له، ولا يسهم له، هذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة والجمهور، وقال الزهري والأوزاعي: يسهم له. والله أعلم.

كتاب الإمارة

كتاب الإمارة

(507) باب الناس تبع لقريش، والخلافة في قريش

(507) باب الناس تبع لقريش، والخلافة في قريش 4135 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حديث زهير يبلغ عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال عمرو رواية "الناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم لمسلمهم وكافرهم لكافرهم". 4136 - عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم تبع لمسلمهم وكافرهم تبع لكافرهم". 4137 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "الناس تبع لقريش في الخير والشر". 4138 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان". 4139 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنهما قال: دخلت مع أبي على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول "إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة" قال: ثم تكلم بكلام خفي علي. قال: فقلت لأبي: ما قال؟ قال "كلهم من قريش". 4140 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا" ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة خفيت علي، فسألت أبي ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال "كلهم من قريش".

4141 - -/- وفي رواية عن جابر بن سمرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث، ولم يذكر "لا يزال أمر الناس ماضيا". 4142 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنهما يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة" ثم قال كلمة لم أفهمها، فقلت لأبي ما قال؟ فقال "كلهم من قريش". 4143 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "لا يزال هذا الأمر عزيزا إلى اثني عشر خليفة" قال: ثم تكلم بشيء لم أفهمه. فقلت لأبي ما قال؟ فقال "كلهم من قريش". 4144 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنهما قال: انطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعي أبي فسمعته يقول "لا يزال هذا الدين عزيزا منيعا إلى اثني عشر خليفة" فقال كلمة صمنيها الناس. فقلت لأبي ما قال؟ قال "كلهم من قريش". 4145 - عن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: كتبت إلى جابر بن سمرة مع غلامي نافع أن أخبرني بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فكتب إلي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جمعة عشية رجم الأسلمي يقول "لا يزال الدين قائما حتى تقوم الساعة، أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش" وسمعته يقول "عصيبة من المسلمين يفتتحون البيت الأبيض، بيت كسرى أو آل كسرى" وسمعته يقول "إن بين يدي الساعة كذابين فاحذروهم" وسمعته يقول "إذا أعطى الله أحدكم خيرا فليبدأ بنفسه وأهل بيته" وسمعته يقول "أنا الفرط على الحوض".

-[المعنى العام]- قضية مهمة في حياة البشر، قضية الإمارة والولاية الكبرى للمسلمين، وكان العرب قبل الإسلام يحكم كل قبيلة منهم شيخ القبيلة، فلما جاء الإسلام، واستقرت دولته بالمدينة حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم القبائل المختلفة بعد أن وحد بينهم بالإسلام، فصارت العصبية إسلامية، لا فضل لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، لكن الناس معادن، وبعض القبائل لها شرف على بعض بالحسب والنسب، وخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا وكانت العرب تعترف قبل الإسلام بفضيلة قريش، أصالة وكرما وشهامة ونجدة وعفة وقربا من الله لأنهم أهل حرم الله وحماته، ولما جاء الإسلام جاء نبيه صلى الله عليه وسلم من قريش، فزادهم فخرا وامتيازا، وإذا كان الإسلام قد حارب العصبية القبلية فإنه لم يلغ تفاضل القبائل في الشرف، فهو القائل "إن الله اصطفى من ولد إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم" والعرب وهم قريبو عهد بالجاهلية لا ينسون فضائل القبائل، ويدينون لفضلاها بالولاء والطاعة، والإمارة أحوج ما تكون إلى الولاء والطاعة. ومن هنا أشار صلى الله عليه وسلم إلى جعل الإمارة بعده في قريش، مع استيفاء مؤهلات الإمارة الأخرى، فكان هذا التخصيص في الحديث، وكان هذا الترغيب في جعل الخليفة قرشيا، وكان حثا للقرشيين أن يحافظوا على أن يكونوا أهلا للخلافة بعده، فقال: الناس في الجاهلية يتبعون قريشا، خيارهم يتبع خيار قريش، فمسلمهم يتبع محمدا صلى الله عليه وسلم وهو قرشي، وشرارهم يتبع شرار قريش، فكافرهم كان يتبع أبا سفيان وزعماء قريش في حربهم للإسلام، وستبقى تبعية الناس لقريش فترة من الزمان، وستكون الخلافة فيهم ما أقاموا شريعة الإسلام، سيمضي في الناس اثنا عشر خليفة بعدي كلهم من قريش، ثم تتغلب القبائل الأخرى، فتنحى القرشيين عن الخلافة، وتحتل مكانتهم ومنعتهم وسؤدهم. فحافظوا معشر قريش على سيادتكم، وحافظوا أيها المسلمون على ولائكم لقريش ما أقاموا الدين وأطاعوا الله فيكم، فإذا عصوه فلا طاعة لهم عليكم. -[المباحث العربية]- (كتاب الإمارة) المراد بها هنا الخلافة، والإمارة والولاية العظمى فـ"ال" في "الإمارة" للكمال. (الناس تبع لقريش في هذا الشأن) أي في الرئاسة، والمراد من الناس الجنس الصادق ببعض الأفراد، وليست للاستغراق فهناك كان الفرس والروم، وغيرهم. (مسلمهم لمسلمهم وكافرهم لكافرهم) في الرواية الثانية "مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم" وفي الرواية الثالثة "الناس تبع لقريش في الخير والشر" قال النووي: معناه في الإسلام والجاهلية، لأن قريشا كانوا في الجاهلية رؤساء العرب، وأصحاب حرم الله، وأهل حج بيت الله،

وكانت العرب تنظر إلى إسلامهم، فلما أسلموا، وفتحت مكة تبعهم الناس، وجاءت وفود العرب من كل جهة، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وكذلك في الإسلام، هم أصحاب الخلافة، والناس تبع لهم. اهـ. وفي هذا القول نظر، لأنه إن كان تعبيرا عن الواقع فالواقع لا يؤيده، فلم تكن القبائل العربية الأخرى تخضع لحكم قريش، وإن كانت تحترمها، فلم يكونوا تبعا لها في الجاهلية، وأما كونهم أصحاب الخلافة في الإسلام فلم يكن ذلك واقعا إلا في الصدر الأول، وإن كان تعبيرا عما ينبغي فهذا أمر آخر لكنه لا يتفق مع كلامه الآتي في فقه الحديث. (لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان) "ما" في "ما بقي" ظرفية مصدرية، أي مدة بقاء اثنين من الناس على قيد الحياة، فهو كناية عن التأبيد إلى قيام الساعة وليس المراد حقيقة العدد، وهل الجملة خبرية لفظا ومعنى؟ فهي إخبار عما سيقع؟ أو خبرية لفظا طلبية معنى، أي ينبغي أن يكون الأمر كذلك؟ التحقيق في فقه الحديث، قال ابن هبيرة: يحتمل أن يكون على ظاهره، وأنهم لا يبقى منهم في آخر الزمان إلا اثنان، أمير ومؤمر عليه، والناس لهم تبع، فحقيقة العدد مرادة. (إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة ... كلهم من قريش) معناه إن كون الخلافة في قريش بعدي سيبقى قائما متحققا حتى يتعاقب على الأمة الإسلامية اثنا عشر خليفة كلهم من قريش، ثم تخرج الخلافة من قريش، وفي الرواية السادسة "لا يزال أمر الناس ماضيا" ملتزمين جعل الخلافة في قريش "ما وليهم اثنا عشر رجلا" خليفة "كلهم من قريش" وفي الرواية السابعة "لا يزال الإسلام عزيزا" أي منيعا من التغيير، في هذه الجزئية، وهي كون الخلافة في قريش "إلى اثني عشر خليفة" أي لا يزال هذا الحكم ماضيا وقائما ونافذا إلى اثني عشر خليفة، وفي الرواية الثامنة "لا يزال هذا الأمر عزيزا إلي ... " وفي الرواية التاسعة "لا يزال هذا الدين عزيزا منيعا إلي .... " وفي الرواية العاشرة "لا يزال الدين قائما ... " وهذه الروايات من قبيل الرواية بالمعنى، لأن الراوي واحد، والمخرج واحد، والمقولة واحدة. قال النووي: قال القاضي: قد نوجه هنا سؤال، وهو أنه قد ولي أكثر من هذا العدد. قال: وهذا اعتراض باطل، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقل: لا يلي إلا اثنا عشر خليفة، وإنما قال: "يلي" وقد ولي هذا العدد، ولا يضر كونه وجد بعدهم غيرهم. هذا إن جعل المراد باللفظ "كل وال" ويحتمل أن يكون المراد مستحقي الخلافة العادلين، وقد مضى منهم من علم، ولا بد من تمام هذا العدد قبل قيام الساعة، قال: وقيل: إن معناه أنهم يكونون في عصر واحد، يتبع كل واحد منهم طائفة. قال القاضي: ولا يبعد أن يكون هذا قد وجد، إذا تتبعت التواريخ، فقد كان بالأندلس وحدها منهم في عصر واحد ثلاثة كلهم يدعيها، ويلقب بها وكان حينئذ في مصر آخر، وكان هناك خليفة الجماعة العباسية ببغداد، وكان هناك سوى ذلك من يدعي الخلافة في ذلك الوقت في أقطار الأرض. قال: ويعضد هذا التأويل قوله في كتاب مسلم بعد هذا: "ستكون خلفاء فيكثرون. قالوا: فما تأمرنا؟ قال: فوا بيعة الأول فالأول" قال: ويحتمل أن المراد من يعز الإسلام في زمنه، ويجتمع المسلمون عليه، كما جاء في سنن أبي داود

"كلهم تجتمع عليه الأمة" وهذا قد وجد قبل اضطراب أمر بني أمية، واختلافهم في زمن يزيد بن الوليد، وخرج عليه بنو العباس، قال: ويحتمل أوجها آخر، والله أعلم بمراد نبيه صلى الله عليه وسلم اهـ. وقد أطال الحافظ ابن حجر الكلام في هذه المسألة إطالة شعبتها من غير طائل ولا انضباط، وقال ابن الجوزي في كشف المشكل: قد أطلت البحث عن معنى هذا الحديث، وتطلبت مظانه، وسألت عنه، فلم أقع على المقصود به، لأن ألفاظه مختلفة، ولا أشك أن التخليط فيها من الرواة. والله أعلم. (ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة خفيت علي) لعدم سماعي لها جيدا، فلم أتبين ألفاظها، وفي الرواية السابعة "لم أفهمها" وفي الثامنة "بشيء لم أفهمه" أي لعدم سماعي لها، وفي التاسعة "فقال كلمة صمنيها الناس" بفتح الصاد وتشديد الميم المفتوحة، أي أصموني عنها، فلم أسمعها لكثرة الكلام، قال النووي: ووقع في بعض النسخ "صمتنيها الناس" أي أسكتوني عن السؤال عنها. (عصيبة من المسلمين يفتتحون البيت الأبيض، بيت كسرى -أو آل كسرى-) "عصيبة" بضم العين وفتح الصاد، تصغير "عصبة" وهي الجماعة. (إن بين يدي الساعة كذابين) يدعون النبوة، ففي البخاري "لا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون، قريب من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول الله. (أنا الفرط على الحوض) بفتح الفاء والراء، أي السابق إلى الحوض، والمنتظر لسقيكم منه، والفرط والفارط هو الذي يتقدم القوم إلى الماء، ليهيئ لهم ما يحتاجون إليه. -[فقه الحديث]- قال النووي: هذه الأحاديث وأشباهها دليل ظاهر على أن الخلافة مختصة بقريش، لا يجوز عقدها لأحد من غيرهم، وعلى هذا انعقد الإجماع في زمن الصحابة، فكذلك بعدهم، ومن خالف فيه من أهل البدع، أو عرض بخلاف من غيرهم، فهو محجوج بإجماع الصحابة والتابعين فمن بعدهم، وبالأحاديث الصحيحة. قال: قال القاضي: اشتراط كونه قرشيا هو مذهب العلماء كافة، قال: وقد احتج به أبو بكر وعمر رضي الله عنهما على الأنصار يوم السقيفة، فلم ينكره أحد، قال القاضي: وقد عدها العلماء في مسائل الإجماع، ولم ينقل عن أحد من السلف فيها قول ولا فعل يخالف ما ذكرنا، وكذلك من بعدهم في جميع الأعصار. قال: ولا اعتداد بقول النظام ومن وافقه من الخوارج وأهل البدع أنه يجوز كونه من غير قريش، ولا بسخافة ضرار بن عمرو في قوله: إن غير القرشي، من النبط وغيرهم يقدم على القرشي، لهوان خلعه إن عرض منه أمر، وهذا الذي قاله من باطل القول وزخرفه، مع ما هو عليه من مخالفة إجماع المسلمين. اهـ. وتفصيل الكلام في هذه المسألة في نقاط:

الأولى: احتمال أن الحديث إخبار عما سيقع، وخبر الصادق لا يتخلف، وفي هذا الاحتمال احتمالان: (أ) أنه إخبار عما سيقع فترة من الزمان، والمراد الخلافة الأولى، أو ثلاثون سنة، أو اثنا عشر خليفة يشير إلى هذا الاحتمال رواياتنا الخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة. قال القاضي: وجاء في الحديث "الخلافة بعدي ثلاثين سنة، ثم تكون ملكا" وجمع بينه وبين حديث اثني عشر خليفة بأن المراد في حديث "الخلافة ثلاثون سنة" خلافة النبوة، قال: وقد جاء مفسرا في بعض الروايات "خلافة النبوة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكا" ولم يشترط هذا في الاثنى عشر، أي لم يشترط خلافة النبوة. قال: والثلاثون سنة لم يكن فيها إلا الخلفاء الراشدون الأربعة، والأشهر التي بويع فيها الحسن بن علي. وهذا الفريق يؤول ما ورد من الأحاديث مما ظاهره التأبيد، فيقيد المطلق بهذه القيود، ويفسر روايتنا الرابعة "لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان" بأن المراد من "الناس" جيل الصحابة الذين كانوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، وهم المتكلم معهم بهذا الحديث، وكأنه يقول: ما بقي منكم اثنان، كحديث "أرأيتكم ليلتكم هذه؟ فإن رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد" يؤيد هذا التأويل أن كلمة الناس هنا لا يقصد بها جميع الخلق، فمن الضروري أن يراد منها جماعة بعينها، كقوله تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} [آل عمران: 173] والحديث على هذا تطرق إليه الاحتمال، فيسقط به الاستدلال على تأبيد الأمر في قريش. (ب) الاحتمال الثاني أن الحديث إخبار عما سيقع، مقيدا بما صح من قيود، ففي البخاري "إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله في النار على وجهه ما أقاموا الدين" فإن مفهومه فإذا لم يقيموا الدين لا يكون فيهم، وعند ابن إسحاق في قصة سقيفة بني ساعدة وبيعة أبي بكر، "فقال أبو بكر: وإن هذا الأمر في قريش ما أطاعوا الله، واستقاموا على أمره" وعند الطبراني والطيالسي والبزار والبخاري في التاريخ عن أنس "ألا إن الأمراء من قريش ما حكموا فعدلوا" وفيه "فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله" وعند أحمد "يا معشر قريش إنكم أهل هذا الأمر، ما لم تحدثوا، فإذا غيرتم بعث الله عليكم من يلحاكم كما يلحى القضيب" وعند الشافعي والبيهقي "أنه صلى الله عليه وسلم قال لقريش: "أنتم أولى الناس بهذا الأمر ما كنتم على الحق، إلا أن تعدلوا عنه فتلحون كما تلحى هذه الجريدة" وعند الطيالسي والطبراني "استقيموا لقريش ما استقاموا لكم، فإن لم يستقيموا فضعوا سيوفكم على عواتقكم، فأبيدوا خضراءهم". قال الحافظ ابن حجر: فمفهوم حديث "ما أقاموا الدين" أنهم إذا لم يقيموا الدين خرج الأمر عنهم، ويؤخذ من هذه الأحاديث [التي سقناها] أن خروجه عنهم إنما يقع بعد إيقاع ما هددوا به من اللعن أولا، وهو الخذلان وفساد التدبير، وقد وقع ذلك في صدر الدولة العباسية، بحيث صاروا مع مواليهم كالصبي المحجور عليه يقتنع بلذاته، ويباشر الأمور غيره، ثم اشتد الخطب، فغلب عليهم

الديلم، فضايقوهم في كل شي، حتى لم يبق للخليفة إلا الخطبة، واقتسم المتغلبون الممالك في جميع الأقاليم، ثم طرأ عليهم طائفة بعد طائفة حتى انتزع الأمر منهم في جميع الأقطار، ولم يبق للخليفة إلا مجرد الاسم في بعض الأمصار. اهـ. النقطة الثانية: احتمال أن الحديث طلب في المعنى، أي ينبغي أن يكون هذا الأمر في قريش، وليس على إطلاقه أيضا، بل مع ملاحظة القيود الواردة في الأحاديث "ما أقاموا الدين" مع مراعاة أهليتهم لهذا الأمر، فإن فقدوا أهلية الحكم لا يولون، ومعنى هذا أنهم لو تساووا مع غيرهم في الأهلية قدم القرشي. النقطة الثالثة: أن الإسلام لا يشجع العصبية القبلية، بل مبادئه ترفضها وتحاربها، فالقرآن الكريم يقول {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات: 13] ويقول صلى الله عليه وسلم: "لا فضل لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى" ويقول "اسمعوا وأطيعوا وإن ولي عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة" ويقول في خطبة الوداع "وإن استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله فاسمعوا وأطيعوا". ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حذر من تولية غير الأصلح، بقطع النظر عن قبيلته، فهو يقول "من ولي على عصابة رجلا، وهو يجد من هو أرضى لله منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين". ويروي الطبري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين طعن، وقيل له: يا أمير المؤمنين. لو استخلفت؟ قال: من أستخلف؟ لو كان أبو عبيدة بن الجراح حيا استخلفته، فإن سألني ربي؟ قلت: سمعت نبيك صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه أمين هذه الأمة" ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا استخلفته، فإن سألني ربي قلت: سمعت نبيك صلى الله عليه وسلم يقول: "إن سالما شديد الحب لله" وسالم مولى أبي حذيفة غير قرشي، وجاء في أحمد عن عمر قوله: إن أدركني أجلي وأبو عبيدة حي استخلفته، فإن أدركني أجلي وقد مات أبو عبيدة استخلفت معاذ بن جبل، ومعاذ بن جبل أنصاري لا نسب له في قريش. ثم إن الذين يذهبون إلى اشتراك القرشية نراهم أحيانا لا يعتبرون هذا الشرط واجبا في الحاكم لا يجوز تخلفه، فنراهم يشترطون الكفاءة بالدرجة الأولى، فهذا النووي يقول في روضة الطالبين: فإن لم يوجد قرشي مستجمع للشروط فكناني، فإن لم يوجد فرجل من ولد إسماعيل عليه السلام، فإن لم يوجد فيهم مستجمع للشروط فإنه يولي رجل من العجم. ويقول الجويني: إذا وجد قرشي ليس بذي دراية، وعاصره عالم تقي، يقدم العالم التقي، ومن لا كفاية فيه فلا احتفال به، ولا اعتداد بمكانه أصلا. النقطة الرابعة: أوضحنا شرط القرشية عند أهل السنة والفقهاء، وعقبنا على أقوالهم، وبقي أن نستعرض المذاهب الأخرى: 1 - فلم تكتف بعض الطوائف باشتراط القرشية، بل قيدت الشيعة القرشي بأن يكون من ولد علي رضي الله عنه، ثم اختلفوا اختلافا شديدا في تعيين بعض ذرية علي.

2 - وقيدت طائفة القرشي بأن يكون من ولد العباس، وهو قول أبي مسلم الخراساني وأتباعه. 3 - ونقل ابن حزم أن طائفة تقيد القرشي بأن يكون من ولد جعفر بن أبي طالب. 4 - وقالت طائفة: شرطه أن يكون من ولد عبد المطلب. 5 - وعن بعضهم: لا يجوز إلا في بني أمية. 6 - وعن بعضهم: لا يجوز إلا في ولد عمر. 7 - وقالت الخوارج وطائفة من المعتزلة. يجوز أن يكون الإمام غير قرشي، وإنما يستحق الإمامة من قام بالكتاب والسنة، سواء كان عربيا أم أعجميا، والذي نقل عن الجبائي زعيم المعتزلة قوله: إذا لم يوجد من قريش من يصلح للإمامة، فإنه يجب نصب واحد من غير قريش، ممن يصلح لهذا الأمر، وقد نقلنا عن النووي ما هو قريب من هذا. 8 - وبالغ ضرار بن عمرو فقال: تولية غير القرشي أولى من تولية القرشي، لأنه يكون أقل عشيرة، فإذا عصى سهل وأمكن خلعه. هذا وقد استدل بعض الشافعية بتقديم القرشي على غيره على رجحان مذهب الشافعي، وعارضه عياض، وعقب عليه النووي وغيره بأن في الأحاديث ما يدل على أن للقرشي مزية على غيره، فيصح الاستدلال به لترجيح الشافعي على غيره، وليس مراد المستدل أن الفضل لا يكون إلا للقرشي، بل المراد أن كونه قرشيا من أسباب الفضل والتقدم، كما أن من أسباب الفضل والتقدم الورع والفقه والقراءة والسن وغيرها، فالمستويان في جميع الخصال إذا اختص أحدهما بخصلة منها دون صاحبه ترجح عليه، فيصح الاستدلال على تقديم الشافعي على من ساواه في العلم والدين، من غير قريش، لأن الشافعي قرشي. اهـ. -[ويؤخذ من الرواية العاشرة فوق ما تقدم]- 1 - ضبط الصحابة لرواياتهم بذكر يوم السماع تحديدا من أيام الأسبوع، وإشارة بالأحداث المهمة، وذكر ذلك لزيادة التوثيق. 2 - وفي إخباره صلى الله عليه وسلم عن افتتاح المسلمين لبيت كسرى معجزة ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإخباره عما سيقع، وقد فتحوه بحمد الله في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. 3 - وفيه أن يبدأ الإنسان بنفسه وأهل بيته، كما في قوله صلى الله عليه وسلم "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول". 4 - وفيه إثبات الحوض، وتقدمه صلى الله عليه وسلم إليه. 5 - وفيه جمع الراوي لأحاديث متعددة ذكرت متفرقة في أزمنة مختلفة فيجمعها الراوي في حديث واحد، ولو كانت في مواضيع مختلفة. والله أعلم.

(508) باب الاستخلاف وتركه

(508) باب الاستخلاف وتركه 4146 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: حضرت أبي حين أصيب فأثنوا عليه، وقالوا جزاك الله خيرا. فقال: راغب وراهب. قالوا: استخلف. فقال: أتحمل أمركم حيا وميتا. لوددت أن حظي منها الكفاف لا علي ولا لي. فإن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني يعني أبا بكر. وإن أترككم فقد ترككم من هو خير مني، رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال عبد الله: فعرفت أنه حين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مستخلف. 4147 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: دخلت على حفصة، فقالت: أعلمت أن أباك غير مستخلف؟ قال: قلت ما كان ليفعل. قالت: إنه فاعل. قال: فحلفت أني أكلمه في ذلك. فسكت حتى غدوت ولم أكلمه. قال: فكنت كأنما أحمل بيميني جبلا حتى رجعت فدخلت عليه. فسألني عن حال الناس وأنا أخبره. قال: ثم قلت له إني سمعت الناس يقولون مقالة فآليت أن أقولها لك. زعموا أنك غير مستخلف. وإنه لو كان لك راعي إبل أو راعي غنم ثم جاءك وتركها رأيت أن قد ضيع فرعاية الناس أشد. قال: فوافقه قولي فوضع رأسه ساعة ثم رفعه إلي، فقال: إن الله عز وجل يحفظ دينه، وإني لئن لا أستخلف فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستخلف، وإن أستخلف فإن أبا بكر قد استخلف. قال: فوالله ما هو إلا أن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر، فعلمت أنه لم يكن ليعدل برسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا، وأنه غير مستخلف. -[المعنى العام]- كان عمر رضي الله عنه قبل أن يصلي بالناس إماما، وهو خليفة المسلمين يمر بين الصفين، ويقول: استووا، فإن رأى رجلا متقدما من الصف، أو متأخرا ضربه بالدرة، حتى إذا لم ير في الصفوف خللا تقدم فكبر، وفي يوم الحادثة، وفي صلاة الفجر تقدم، فكبر، فطعنه أبو لؤلؤة ثلاث طعنات، إحداهن تحت السرة، قد خرقت الصفاق، وكان أبو لؤلؤة -واسمه فيروز- عبدا للمغيرة بن شعبة، يجيد

الصناعة، حدادا، نقاشا، نجارا، فأطلقه المغيرة في المدينة يصنع لأهلها على أن يدفع للمغيرة كل شهر مائة درهم، وقبل الحادث بأيام دخل أبو لؤلؤة بيت عمر، ليصلح له ضبة، فشكا إليه شدة الخراج، وطلب منه أن يأمر المغيرة بأن يضع عنه شيئا من خراجه، فقال له عمر -وفي نيته أن يلقى المغيرة، فيكلمه، فيخفف عنه- اتق الله وأحسن إليه، إنك لتكسب كسبا كثيرا، ما خراجك بكثير في جنب ما تعمل، فاصبر، فانصرف العبد ساخطا على عمر، وقال لأصحابه: وسع الناس عدله غيري، وأضمر في نفسه قتله، فاشتمل على خنجر مسموم ذي رأسين، وكمن في الفجر في زاوية من زوايا المسجد في الغلس، فلما وقف عمر للصلاة دنا منه، فطعنه في كتفه، وفي خاصرته، وفي بطنه أسفل سرته، فسقط عمر ممسكا بثقب بطنه، وحاول الصحابة الإمساك بأبي لؤلؤة، لكنه طار فيهم بخنجره، لا يمر على أحد يمينا ولا شمالا إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلا، مات منهم سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنسا، فلما ظن أنه مأخوذ نحر نفسه، وأخذ عمر يد عبد الرحمن بن عوف، فقدمه يصلي بالناس، وكان أكثر من في المسجد لا يعلم شيئا، إلا الصف الأول، فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة، بأقصر سورتين في القرآن {إنا أعطيناك الكوثر} و {إذا جاء نصر الله والفتح} فلما انصرفوا من الصلاة قال: يا ابن عباس، انظر من قتلني؟ قال: الصانع أبو لؤلؤة، غلام المغيرة. قال: الحمد لله الذي لم يجعل ميتتي بيد رجل يدعي الإسلام، الحمد لله الذي لم يجعل قاتلي يحاجني عند الله بسجدة سجدها له، لا تعجلوا على الذي قتلني. فقيل له: إنه قتل نفسه، فاسترجع عمر، وظن عمر أن عليه ذنبا إلى الناس لا يعلمه، وأن جماعة وراء هذا الجاني، فقال: يا ابن عباس، اخرج فناد في الناس، هل منكم من أعان هذا؟ فخرج، لا يمر بملأ من الناس يسألهم إلا وهم يبكون، كأنما فقدوا أبكار أولادهم، يقولون: معاذ الله، ما علمنا ولا اطلعنا، ثم غلب عمر النزف، حتى غشي عليه، فاحتمله ابنه في رهط حتى أدخله بيته، فلم يزل في غشيته حتى أسفر الصبح، فنظر في وجوه القوم، فقال: أصلى الناس؟ قالوا: نعم، قال: لا إسلام لمن ترك الصلاة، ثم توضأ وصلى الصبح، وتساند إلى ابنه، وجرحه يثغب دما، وقال: إني لأضع إصبعي الوسطى فما تسد الجرح، أرسلوا إلى طبيب ينظر إلى جرحي، فأرسلوا إلى طبيب من العرب، فسقاه ماء تمر وزبيب، لينظر هل سيخرج الشراب من الجرح فتكون الطعنة قد وصلت المعدة؟ فخرج النبيذ من الجرح، لم يتبين الطبيب أنه صديد أو النبيذ، فسقاه لبنا، فخرج اللبن من الطعنة أبيض، فعرف أنه الموت، فقال: أوص يا أمير المؤمنين، فإني لا أظنك إلا ميتا من يومك أو من غد. فقال: الحمد لله. وتوافد الناس يبكون ويثنون، ويقولون: هنيئا لك الشهادة، هنيئا لك الجنة، كنت كذا وكذا وكذا، فقال: والله إن المغرور من تغرونه، إني لأرجو أن ألقى الله كفافا من الخلافة، لا لي ولا علي، يا عبد الله بن عمر انظر ما علي من الدين، فحسبوه، فوجدوه ستة وثمانين ألفا، فقال: يا عبد الله، أقسمت عليك بحق الله وحق عمر، إذا أنا مت فدفنتني أن لا تغسل رأسك حتى تبيع من أملاك آل عمر بثمانين ألفا، فتضعها في بيت مال المسلمين، وكان عمر قد استدان هذا المال فأنفقه في نوائب لبعض المسلمين. ثم قال: يا عبد الله بن عمر، انطلق إلى عائشة أم المؤمنين، فقل: يقرأ عليك عمر السلام -ولا تقل أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميرا- وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن

يدفن مع صاحبيه، فسلم واستأذن، ثم دخل عليها، فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه؟ فقالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرنه به اليوم على نفسي، فلما أقبل قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء. قال: ارفعوني، فأسنده رجل إليه، فقال: ما لديك يا عبد الله؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين، قد أذنت. قال: الحمد لله، ما كان من شيء أهم لي من ذلك، فإذا أنا قضيت فاحملوني، ثم سلم، فقل: يستأذن عمر بن الخطاب؟ فإن أذنت لي فأدخلوني، وإن ردتني فردوني إلى مقابر المسلمين. فقالوا: أوص يا أمير المؤمنين، استخلف. قال: أأحمل هم الخلافة حيا وميتا؟ وفهم ابن عمر من هذا ومن كلام أخته حفصة له: إن أباك لن يستخلف، فهم أنه يحب أن لا يستخلف. فقال له: يا أمير المؤمنين، لو كان لك راعي إبل، أو راعي غنم، ثم جاءك وتركها، دون أن يقيم عليها حارسا آخر، رأيت أنه قد تسبب في ضياعها، وأنه مسئول عما يحدث لها من أضرار، وأنت إذا لم تستخلف قد تتسبب في فرقة الأمة وضياعها؟ فأعجب هذا القول عمر، ثم قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم عزم على أن يستخلف، لكنه لم يستخلف، وإن أبا بكر اعتمد على عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستخلف، فإن لم أستخلف فقد اقتديت بالنبي صلى الله عليه وسلم وفعله، وإن أستخلف فقد اقتديت بعزم النبي صلى الله عليه وسلم وفعل أبي بكر، وسكت قليلا، ثم قال: ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، فسمى عليا وعثمان والزبير وطلحة وسعدا وعبد الرحمن. قال: ويشهدكم عبد الله بن عمر، وليس له من الأمر شيء، فلما فرغوا من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط، فبويع عثمان، رضي الله عن الصحابة أجمعين. -[المباحث العربية]- (الاستخلاف) أي تعيين الخليفة عند موته خليفة بعده، أو تعيينه جماعة، ليتخيروا منهم واحدا. (حضرت أبي حين أصيب) أي حين طعنه أبو لؤلؤة طعنة الموت، والمراد بعد أن أصيب، وليس لحظة الإصابة، فالرواية الثانية تصرح بأن هذا الحضور الذي حدث فيه هذا التقاول كان بعد يوم أو أكثر من الإصابة، وبعد أن سمع من أخته أن أباه غير مستخلف. (فأثنوا عليه، وقالوا: جزاك الله خيرا) كانت الطعنة نافذة قاضية، لم تترك مجالا عندهم لظن الحياة بعدها، بحكم خبرتهم، فقالوا ما قالوا، وقد جاء أن من أثنى عليه ابن عباس، وأنه قال: ألست قد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعز الله بك الدين والمسلمين، إذ يخافون بمكة؟ فلما أسلمت كان إسلامك عزا؟ وظهر بك الإسلام؟ وهاجرت فكانت هجرتك فتحا؟ ثم لم تغب عن مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتال المشركين؟ ثم قبض وهو عنك راض؟ ووازرت الخليفة بعده على منهاج النبي صلى الله عليه وسلم؟ فضربت من أدبر بمن أقبل؟ ثم قبض الخليفة وهو عنك راض؟ ثم وليت بخير ما ولي الناس؟ مصر الله بك الأمصار، وجبا بك الأموال؟ ونفى بك العدو؟ وأدخل بك على أهل بيت من سيوسعهم في دينهم وأرزاقهم؟ ثم ختم لك بالشهادة، فهنيئا لك. فقال: والله إن المغرور من تغرونه. أتشهد لي يا

عبد الله عند الله يوم القيامة؟ فقال: نعم. فقال: اللهم لك الحمد. وكان ممن أثنى أيضا عبد الرحمن بن عوف والمغيرة، وطوائف الداخلين عليه من الصحابة وأهل المدينة وأهل الشام وأهل العراق. (فقال راغب وراهب) "راغب وراهب" معمولهما محذوف، وهما خبر لمبتدأ محذوف، وقد ذهب العلماء مذاهب في تقدير هذا المحذوف، فقال ابن بطال: يحتمل أمرين: أحدهما: أنتم الذين أثنيتم علي راغب في حسن رأيي فيه، وتقربي له، وراهب من إظهار ما يضمره من كراهته، أو المعنى: راغب فيما عندي، وراهب مني -فالمبتدأ على المعنيين واحد، والاختلاف في معمول اسم الفاعل- أو المراد الناس راغب في الخلافة، وراهب منها، فإن وليت الراغب فيها خشيت أن لا يعان عليها، وإن وليت الراهب منها خشيت أن لا يقوم بها- فالمبتدأ على هذا غيره في المعنيين السابقين، والمعمول كذلك -وقال القاضي عياض: إنهما وصفان لعمر- أي المبتدأ ضمير المتكلم عمر، أي أنا راغب فيما عند الله، راهب من عقابه، فلا أعول على ثنائكم، وذلك يشغلني عن الاهتمام بالاستخلاف عليكم. (فقالوا: استخلف) أي عين الخليفة بعدك. (فقال: أتحمل أمركم حيا وميتا؟ ) استفهام إنكاري بمعنى النفي، حذف منه حرف الاستفهام، وعند البخاري "لا أتحملها حيا وميتا" أي لا أتحمل مسئولية الخلافة حيا وميتا. (لوددت أن حظي منها الكفاف) بفتح الكاف وتخفيف الفاء، أي مكفوفا عني شرها وخيرها، وقد فسرها بقوله "لا علي ولا لي" أي سواء بسواء، أي خيري منها يساوي إساءتي فيها. (فإن أستخلف ... إلخ) هذا القول سمعه ابن عمر في زيارة من زياراته لأبيه بعد إصابته، وبعد أن سمع من حفصة، وبعد ما ضرب له الغنم مثلا، كما سيأتي في الرواية الثانية. (فعرفت أنه -حين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم- غير مستخلف) أي غير معين لخليفة على التحديد، وعرف ذلك من المقارنة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر، ففي الرواية الثانية "فعلمت أنه لم يكن ليعدل برسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا، وأنه غير مستخلف". (دخلت على حفصة) بنت عمر، أخت عبد الله بن عمر، أي بعد طعنة أبيها، وطلب الناس منه أن يستخلف، وبعد أن قال لهم عمر ما سيقوله لابنه عبد الله، فالواضح أنه تكرر من الصحابة طلب الاستخلاف وتكرر من عمر هذا الجواب. (ما كان ليفعل) أي ما كان ليترك الاستخلاف، فالترك وهو كف النفس فعل. (فسكت حتى غدوت ولم أكلمه. قال: فكنت كأنما أحمل بيميني جبلا) كان ابن عمر يعود أباه بين الحين والحين، وكلما دخل يريد مكالمته في الخلافة لم يجد

المناسبة، حتى أصبح في اليوم الثاني مبكرا إليه، ليتخلص من هم ما يحمل من أمر المسلمين، وليبر في حلفه أن يكلمه في ذلك. (فسألني عن حال الناس وأنا أخبره) فيه التعبير عن الماضي بالمضارع لإفادة استحضار الصورة وتجديد الأخبار وتعددها. (فآليت أن أقولها لك) يقال: ألى إيلاء، أي أقسم. (رأيت أن قد ضيع) "أن" مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير محذوف و"قد ضيع" بفتح الضاد والياء المشددة، خبر "أن" أي قد أهمل، وتسبب في ضياعها. (فوافقه قولي) أي فرضي عنه، إذ وافق عنده قناعة وقبولا. (فوضع رأسه ساعة) أي فترة من الزمن، وليس المقصود ما هو معروف منها -ستين دقيقة- وكان عمر رضي الله عنه قد وضع خده ساعة على فخذ ابن عباس، فلما دخل ابن عمر قال له عمر: ألصق خدي بالأرض يا عبد الله بن عمر، فوضعه ابن عباس من فخذه على ساقه، فقال: ألصق خدي بالأرض فوضعه حتى ألصق خده ولحيته بالأرض. -[فقه الحديث]- يتعرض الحديث إلى نقاط: 1 - ماذا فعل صلى الله عليه وسلم بشأن الاستخلاف؟ 2 - وماذا فعل أبو بكر رضي الله عنه؟ . 3 - وماذا فعل عمر رضي الله عنه؟ 4 - وما حكم عقد الخلافة من الإمام المتولي لغيره بعده؟ . 5 - وما حكم نصب الخليفة بصفة عامة؟ النقطة الأولى: ماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم بشأن الاستخلاف: أما عن النقطة الأولى فيقول النووي: هذا الحديث دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينص على خليفة، وهو إجماع أهل السنة وغيرهم. قال القاضي: وخالف في ذلك بكر ابن أخت عبد الواحد، فزعم أنه نص على أبي بكر، وقال ابن راوندي: نص على العباس، وقالت الشيعة والرافضة: نص على علي. وهذه دعاوى باطلة، وجسارة على الافتراء، ووقاحة في مكابرة الحس، وذلك لأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على اختيار أبي بكر، وعلى تنفيذ عهده إلى عمر، وعلى تنفيذ عهد عمر بالشورى، ولم يخالف في شيء من هذا أحد، ولم يدع علي ولا العباس ولا أبو بكر وصية في وقت من الأوقات، وقد اتفق علي

والعباس على جميع هذا، من غير ضرورة مانعة من ذكر وصية لو كانت، فمن زعم أنه كان لأحد منهم وصية فقد نسب الأمة إلى اجتماعها على الخطأ، واستمرارها عليه، وكيف يحل لأحد من أهل القبلة أن ينسب الصحابة إلى المواطأة على الباطل في كل هذه الأحوال؟ ولو كان شيء لنقل، فإنه من الأمور المهمة. اهـ. وقد تابع الطبري بكر ابن أخت عبد الواحد، واحتج بما أخرجه بسند صحيح عن قيس بن أبي حازم، قال: "رأيت عمر يجلس الناس، ويقول: اسمعوا لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم" وتبعهما في ذلك ابن حزم. والحق أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستخلف أبا بكر بعده صراحة، لكن إشاراته إلى ذلك كثيرة، منها: 1 - روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر، ولكن أخي وصاحبي". 2 - وعن جبير بن مطعم قال: "أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه، قالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك؟ -كأنها تقول: الموت -قال صلى الله عليه وسلم: إن لم تجديني فأتي أبا بكر". 3 - وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة. فقال: من الرجال؟ قال: أبوها: قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر بن الخطاب". وفي مرض موته صلى الله عليه وسلم أنابه للصلاة بالناس. وهم أن يكتب وصاية له بالخلافة بعده، ولكنه رجع، وقال: "يأبى الله، ويدفع المؤمنون". وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: "ادعي لي أباك وأخاك، حتى أكتب كتابا". وفي آخره "ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر" وعند مسلم "ادعي لي أبا بكر، أكتب كتابا فإني أخاف أن يتمنى متمن، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر". وأفرط المهلب، فقال: فيه دليل قاطع في خلافة أبي بكر. لكن حديثنا يفيد جزما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعين صراحة من يكون خليفة بعده، ولعله قد أعلمه ربه أن الأمة ستجتمع على أبي بكر، فترك التعيين لتثاب الأمة على الاجتهاد والاختيار، وليشرع الشورى واختيار أهل الحل والعقد لخليفتهم. النقطة الثانية: ماذا فعل أبو بكر رضي الله عنه؟ أما أبو بكر رضي الله عنه فحين حضرته الوفاة كانت جيوش المسلمين في حرب طاحنة مع أعداء الإسلام، فخشي الفتنة، والظروف لا تسمح بالتفرق، وفهم من عزم النبي صلى الله عليه وسلم على الكتابة والاستخلاف جوازه، لأنه صلى الله عليه وسلم لا يعزم إلا على جائز، فعين عمر خليفة من بعده رضي الله عنهما واتفق الناس على قبول هذا التعيين.

النقطة الثالثة: ماذا فعل عمر رضي الله عنه؟ أما عمر رضي الله عنه فقد أشكل عليه الفعل والترك، فالفعل دليله عزم النبي صلى الله عليه وسلم وفعل أبي بكر، والترك دليله فعل النبي صلى الله عليه وسلم والذي يظهر من كلام عمر أنه رجح عنده الترك، لأنه الذي وقع من النبي صلى الله عليه وسلم لكنه رأى أن الاستخلاف أضبط لأمر المسلمين، فسلك في هذا الأمر مسلكا متوسطا، خشية الفتنة، فخص الأمر بستة من فضلاء الصحابة، وأمرهم أن يختاروا منهم واحدا، فجعل الأمر معقودا موقوفا على الستة، فأخذ من فعل النبي صلى الله عليه وسلم طرفا، وهو ترك التعيين، ومن فعل أبي بكر طرفا، وهو العقد لأحد الستة، وإن لم ينص عليه. وأما عن النقطة الرابعة والخامسة: فيقول النووي وغيره: أجمعوا على انعقاد الخلافة بالاستخلاف، وعلى انعقادها بعقد أهل الحل والعقد لإنسان، حيث لا يكون هناك استخلاف غيره، وعلى جواز جعل الخليفة الأمر شورى بين عدد محصور، أو غيره، وأجمعوا على أنه يجب نصب خليفة، وخالف في ذلك الأصم، فقال: لا يجب، واحتج ببقاء الصحابة بلا خليفة في مدة التشاور يوم السقيفة، وأيام الشورى بعد وفاة عمر رضي الله عنه، ولا حجة له في ذلك، لأن الصحابة في هاتين الفترتين لم يكونوا تاركين لنصب الخليفة، بل كانوا ساعين في النظر في أمر من يعقد له. قال النووي: وأجمعوا على أن وجوب نصب الخليفة بالشرع لا بالعقل، وخالف في ذلك بعض المعتزلة، فقالوا: وجوبه بالعقل، لا بالشرع، وفساد قولهم ظاهر، لأن العقل لا مدخل له في الإيجاب والتحريم، ولا التحسين والتقبيح، وإنما يقع ذلك بحسب العادة، لا بذاته. -[وفي الحديث]- 1 - فضيلة عمر رضي الله عنه، وحرصه على الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه. 2 - تواضعه رضي الله عنه وهضمه نفسه، وخشيته وخوفه من ربه عن فترة حكمه، وهو المشهور بالزهد وتحري العدالة. 3 - ذكاء عبد الله بن عمر في فهمه من عبارة أبيه ما فهم. 4 - عقلية ابن عمر وحكمته وقوة حجته في تمثيله بالغنم وراعيها. والله أعلم.

(509) باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها وكراهة الإمارة بغير ضرورة

(509) باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها وكراهة الإمارة بغير ضرورة 4148 - عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة. فإنك إن أعطيتها عن مسألة أكلت إليها. وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها". 4149 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عمي فقال أحد الرجلين: يا رسول الله أمرنا على بعض ما ولاك الله عز وجل. وقال الآخر مثل ذلك فقال "إنا والله لا نولي على هذا العمل أحدا سأله ولا أحدا حرص عليه". 4150 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال: أقبلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعي رجلان من الأشعريين أحدهما عن يميني والآخر عن يساري. فكلاهما سأل العمل. والنبي صلى الله عليه وسلم يستاك فقال "ما تقول يا أبا موسى أو يا عبد الله بن قيس؟ " قال: فقلت والذي بعثك بالحق ما أطلعاني على ما في أنفسهما وما شعرت أنهما يطلبان العمل. قال: وكأني أنظر إلى سواكه تحت شفته وقد قلصت. فقال "لن أو لا نستعمل على عملنا من أراده. ولكن اذهب أنت يا أبا موسى أو يا عبد الله بن قيس" فبعثه على اليمن. ثم أتبعه معاذ بن جبل، فلما قدم عليه قال: انزل. وألقى له وسادة. وإذا رجل عنده موثق. قال: ما هذا؟ قال: هذا كان يهوديا فأسلم ثم راجع دينه دين السوء فتهود. قال: لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله. فقال: اجلس نعم. قال: لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله. ثلاث مرات. فأمر به فقتل. ثم تذاكرا القيام من الليل. فقال أحدهما معاذ. أما أنا فأنام وأقوم وأرجو في نومتي ما أرجو في قومتي. 4151 - عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده

على منكبي، ثم قال "يا أبا ذر إنك ضعيف. وإنها أمانة. وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها". 4152 - عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "يا أبا ذر إني أراك ضعيفا. وإني أحب لك ما أحب لنفسي. لا تأمرن على اثنين. ولا تولين مال يتيم". -[المعنى العام]- يقول صلى الله عليه وسلم "إنكم ستحرصون على الإمارة" وستتكالبون وتتقاتلون عليها، ويرفع أحدكم السيف على أخيه من أجلها، وفي ذلك ضعفكم وهلاكم، إنكم لا تدركون مخاطرها، ولا تدرون عواقبها، إنكم ستكونون كالفراش يتهافت على الضوء، وفيه احتراقه، أو كالطفل يتعلق بعد الحولين بالرضاعة، ويصعب بعدهما فطامه، ونعمت المرضعة، وبئست الفاطمة، الولاية تبعات، وقل من يتحمل تبعاتها، إنها سلطة وشهوة، وقل من لا يصل إلى الطغيان والجبروت، إنها امتلاك لمصالح العباد ومنافعهم وأضرارهم، وقل من يعدل فيها، ويقيم القسط، ويعطي الحق، ويمنع ما ليس بحق ولو على نفسه، أو الوالدين والأقربين، إنها قوة وقدرة، وقل من يتحكم في قدرته، ويكبح شهوة انتقامه، متذكرا قدرة الله عليه، إنها عرض لا محالة زائل ومنتقل إلى الغير، وقل من يحسب حسابا لما بعدها دنيا وأخرى، إنها هالة من الأضواء، تعمي من بداخلها عن رؤية ما حولها، إنها دائرة محاطة ببطانة الخير وبطانة الشر، تمد كل منهما الأمير بما تريد، فيتحرك على ضوء معلوماتها وبحركتها لا بمعلوماته وحركته وحريته، إنها هدف لآمال قريبة وبعيدة، حقة وباطلة، ورضى الناس غاية لا تدرك، ولهذا جاء في الحديث "الإمارة أولها ملامة" يلومها من لم تتحق له آماله فيها "وثانيها ندامة" حيث يحس بالأخطار حوله "وثالثها عذاب يوم القيامة" حيث إن النجاة من أخطارها صعبة وعسيرة، والعادل فيها من يرجو أن يخرج منها كفافا، لا له ولا عليه، وفي رواية "أولها ندامة" حين يرى نفسه عاجزا عن تحقيق آمال الناس، وحين يرى ثقل حملها "وأوسطها غرامة" إذا أراد أن يؤدي الحقوق، ويتحمل التبعات "وآخرها عذاب يوم القيامة" حين تكون عليه حسرة، حيث لم يقم بحقها، وقل من يقوم بحقها، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "القضاة ثلاثة، قاضيان في النار، وقاض في الجنة" فالناجي من أخطارها واحد من ثلاثة. والكيس من حسب المكسب والخسارة حسابا صحيحا، فلم يحرص عليها، ولم يجر وراءها ولم يسألها، ولم يلح في طلبها، ولم يشترها بدينه، أو بماله، أو بعرضه، أو بكرامته، فإن هو عف عنها، وكان كفأ لها، جاءته وحدها وأعانه الله، وإن سألها، وكان ضعيفا عن أحمالها، فأعطيها، حجبت عنه إعانته عليها، وتركه الله في عثراتها، ومن هنا كانت وصيته صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن

سمرة: لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها" ووصيته لأبي ذر الغفاري، ضعيف البدن، ضعيف الخبرة "إني أراك ضعيفا، وأحب لك ما أحب لنفسي" من جلب الخير ودفع الشر فلا تحرص على الإمارة ولو على اثنين، ولا تكن وليا على مال يتيم. وكانت سياسته صلى الله عليه وسلم أن لا يولي من يسأل الإمارة، لأن سؤاله جهل بتبعاتها، واستهتار بمسئولياتها، ومثله لا يولى؛ ولأنه لن يعان عليها، ومن لا يعان من الله عليها لا يصلح لها، وطبق صلى الله عليه وسلم هذه السياسة على أبي موسى الأشعري وابني عمه، إذ جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فطلب كل من ابني عمه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوليه، فقال لهما: "إنا لا نولي من سأل، ولا من حرص، ثم قال: ما تقول يا أبا موسى. قال: والذي بعثك بالحق ما علمت أنهما سيطلبان الولاية، ولو علمت ما وافقت على صحبتهما إليك، فقال له: أنت الأهل بالولاية، والأحق بها منهما. اذهب إلى اليمن بلد قومك واليا عليهم، يقاسمك في ولايتها معاذ بن جبل، فبشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا. فسارا على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذا يتزاوران، ويقيمان حدود الله وشرائعه، ويعبدان الله في السر والعلن، يصومان النهار، ويقومان الليل، ويرطبان لسانهما في أغلب الأحيان بقراءة القرآن، صورة حية للوالي المسلم المطيع لربه، الدارج على نهج رسوله وتعاليمه، صلى الله عليك وسلم يا رسول الله، ورضي عن أصحابك أجمعين. -[المباحث العربية]- (والحرص عليها) أي والحرص على طلب تحصيلها. (لا تسأل الإمارة) هذا الذي في أكثر طرق الحديث، وفي رواية بلفظ "لا تتمنين" بصيغة النهي عن التمني، مؤكدا بالنون الثقيلة، والنهي عن التمني أبلغ من النهي عن الطلب، والإمارة تشمل الإمارة العظمى، وهي الخلافة والصغرى وهي الولاية على بعض البلاد، والمراد هنا الثاني. (فإنك إن أعطيتها عن مسألة) الفاء للتعليل، و"أعطيتها" بضم الهمزة، مبني للمجهول، و"عن مسألة" أي عن سؤال. (أكلت إليها) قال النووي: هكذا هو في كثير من النسخ، أو أكثرها "أكلت" بضم الهمزة، وفي بعضها "وكلت" بالواو المضمومة، قال القاضي: والصواب بالواو، أي أسلمت إليها، ولم يكن معك إعانة، بخلاف ما إذا حصلت بغير مسألة. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: "وكلت" بضم الواو، وكسر الكاف مخففا ومشددا، مع سكون اللام، ومعنى المخفف صرفت إليها، ومن وكل إلى نفسه هلك، ومنه في الدعاء "ولا تكلني إلى نفسي" ووكله بالتشديد استحفظه. (وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها) ومن المعلوم أن كل ولاية لا تخلو من مشقة،

فمن لم يكن له من الله عون تورط فيما دخل فيه، وخسر دنياه وعقباه، والأصل في ذلك، "من تواضع لله رفعه الله". (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عمي) من الأشعريين، وجلس بينهما، كما في الرواية الثالثة. (أمرنا على بعض ما ولاك الله) "أمرنا" بفتح الهمزة وتشديد الميم المسكورة، أي اجعلنا أمراء. (وقال الآخر مثل ذلك) في الرواية الثالثة "فكلاهما سأل العمل" وعند أحمد "جئناك لتستعين بنا على عملك". (فقال: ما تقول يا أبا موسى أو يا عبد الله بن قيس)؟ شك من الراوي بأيهما خاطبه صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن قيس اسم أبي موسى. (إنا لا نولي على هذا العمل أحدا سأله، ولا أحدا حرص عليه) يقال: حرص بفتح الراء وكسرها، والفتح أفصح، وبه جاء القرآن، قال تعالى: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} [يوسف: 103]. (فقلت: والذي بعثك بالحق ما أطلعاني على ما في أنفسهما وما شعرت أنهما يطلبان العمل) وفي رواية "فاعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مما قالوا، وقلت: لم أدر ما حاجتهم، فصدقني وعذرني" وفي رواية "لم أعلم لماذا جاءا" وفي رواية "إنهم قالوا لي: انطلق معنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لنا حاجة، فقمت معهم". (وكأني أنظر إلى سواكه تحت شفته وقد قلصت) يقال: قلصت الشفة، بفتح اللام تقلص بكسرها، إذا شمرت وارتفعت. وقصده من ذكر هذه العبارة التوثيق بتذكر الظروف المحيطة بالحديث. (لن -أو لا- نستعمل على عملنا من أراده) شك من الراوي، وفي الرواية الثانية "إنا لا نولي على هذا العمل أحدا سأله أو حرص عليه" وفي رواية "فقال: إن أخونكم عندنا من يطلبه، فلم يستعن بهما في شيء حتى مات". (ولكن اذهب أنت يا أبا موسى. فبعثه على اليمن، ثم أتبعه معاذ بن جبل) "معاذ بن جبل" بالنصب، أي بعثه بعده، وظاهره أنه ألحقه به بعد أن توجه، وفي الصحيح "بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى ومعاذا إلى اليمن، فقال: يسرا ولا تعسرا .... " الحديث، ويحمل على أنه أضاف معاذا إلى أبي موسى، بعد سبق ولايته، لكن قبل توجهه، فوصاهما عند التوجه بذلك، ويمكن أن يكون المراد أنه وصى كلا منهما، واحدا بعد الآخر، وفي الصحيح "أنه صلى الله عليه وسلم بعث كل واحد منهما على

مخلاف" أي على إقليم واليمن مخلافان، وكانت جهة معاذ العليا إلى صوب عدن، وكانت جهة أبي موسى السفلى. (فلما قدم عليه) في الكلام طي، والفاء عاطفة على محذوف، ففي الصحيح "فانطلق كل واحد منهما إلى عمله، وكان كل واحد منهما إذا سار في أرضه وكان قريبا من صاحبه أحدث به عهدا -أي جدد به العهد بزيارته، فجعلا يتزاوران، فزار معاذ أبا موسى، فلما قدم عليه .... إلخ. (قال: انزل. وألقى له وسادة) أي انزل عن دابتك، واجلس على الوسادة، ومعنى "ألقى له وسادة" فرشها له، ليجلس عليها، والوسادة ما يجعل تحت رأس النائم، وكانت عادتهم أن من أرادوا إكرامه وضعوا الوسادة تحته، مبالغة في إكرامه. (وإذا رجل عنده موثق) وعند الطبراني "فإذا عنده رجل موثق بالحديد". (قال: لا أجلس حتى يقتل) كأن معاذا نزل عن دابته، ووقف، ولم يجلس على الوسادة. (قضاء الله ورسوله) "قضاء" بالرفع خبر مبتدأ محذوف، ويجوز نصبه بفعل محذوف، أي الزم قضاء الله ورسوله. (فقال: اجلس نعم، قال: لا أجلس ... إلخ) أي نعم سنجيب طلبك فاجلس. قال: لا أجلس حتى يقتل. (ثلاث مرات) أي كررا هذا الكلام ثلاث مرات، أبو موسى يقول: اجلس، ومعاذ يقول: لا أجلس فقوله "ثلاث مرات" من كلام الراوي، لا تتمة كلام معاذ. (ثم تذاكرا القيام من الليل) في رواية "قال معاذ لأبي موسى: كيف تقرأ القرآن"؟ أي في صلاة الليل؟ وفي رواية "فقال أبو موسى: أقرؤه قائما وقاعدا وعلى راحلتي وأتفوقه" أي ألازم قراءته في جميع الأحوال، شيئا بعد شيء، وحينا بعد حين، مأخوذ من فواق الناقة، وهو أن تحلب، ثم تترك ساعة حتى تدر، ثم تحلب، "كيف تقرأ أنت يا معاذ"؟ (فقال أحدهما معاذ) "معاذ" بدل من "أحدهما". (أما أنا فأنام وأقوم) أي أجزئ الليل أجزاء، جزءا للنوم، وجزءا للقراءة والقيام. (وأرجو في نومتي ما أرجو في قومتي) معناه إني أنام بنية القوة، واستجماع النفس للعبادة، وتنشيطها للطاعة، فأرجو في ذلك الأجر، كما أرجو في قومتي، أي في صلاتي وقراءتي، وحاصله أنه يرجو الأجر في ترويح نفسه بالنوم، ليكون أنشط عند القيام، وفي رواية "فاحتسبت نومتي، كما احتسبت قومتي" فهو يطلب الثواب في الراحة، كما يطلبه في التعب. (ألا تستعملني؟ ) أي ألا تتخذني عاملا على ولاية؟ طلب برفق عن طريق العرض.

(فضرب بيده على منكبي) كأنه يربت على كتفه بيده، علامة على الرفق والحنو والعطف. (ثم قال: يا أبا ذر: إنك ضعيف) البدن، هزيل الجسم، لا تقوى على متاعب الولاية ومشاقها. (وإنها أمانة) شاقة التكاليف والتبعات. (وإنها يوم القيامة خزي وندامة) أي لمن لم يعمل فيها بما ينبغي. (لا تأمرن على اثنين) بفتح التاء والهمزة، وتشديد الميم المفتوحة وفتح الراء، وتشديد النون المفتوحة، وأصله لا تتأمرن، أي لا تكن أميرا على قوم وإن قلوا. (ولا تولين مال يتيم) أصله ولا تتولين مال يتيم، فتتحمل بذلك تبعات تعرضك لأثقال الذنوب. -[فقه الحديث]- في الحديث النهي عن سؤال الإمارة وطلبها، ومثل الإمارة القضاء والحسبة والوظائف العليا في الدولة، إذا كانت المهمة ولاية أمور المسلمين "لا تسأل الإمارة" وهذا النهي للكراهة، لا للتحريم، وقد علل الحديث هذا الحكم بأن من طلب الإمارة فأعطيها تركت إعانته عليها، من أجل حرصه، ومن المعلوم أن كل ولاية لا تخلو من مشقة، وكل وال معرض للخطأ واتباع الهوى، فمن تولى أمرا ولم يكن له من الله إعانة أساء التصرف، وقد وعد صلى الله عليه وسلم من أعطى الولاية من غير مسألة بالعون من الله عليها، وأوعد من طلبها بحجب الإعانة، وقد جاء تفسير الإعانة وعدمها في حديث أنس رفعه "من طلب القضاء، واستعان عليه" أي على الوصول له "بالشفعاء" والوسطاء "وكل إلى نفسه، ومن أكره عليه" أو أعطيه لكفاءته بدون مسألة "أنزل الله عليه ملكا يسدده" أخرجه الترمذي وأبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه، وفي معنى الإكراه عليه أن يدعي إليه، فيهابه، خوفا من الوقوع في المحذور، فإنه يعان عليه إذا دخل فيه، ويسدده الله. فمن كان ذا عقل لم يتعرض للطلب أصلا. أما الحكمة في عدم تولية من سأل الولاية أن سؤالها غالبا ينشأ عن الحرص على تحصيلها. وما ذلك إلا لمصلحة شخصية، كثيرا ما تكون على حساب المصلحة العامة، فهو بهذا الوضع متهم، وسؤاله شبهة عدم كفاءته، ولو كان واثقا من كفاءته لجاءته دون سؤال، ثم إن من سألها -كما قلنا- لا يعان عليها، ومن لا يعان عليها من الله لا يكون كفأ، ولا يولي غير الكفء. وهذا إذا كانت أمور الولايات تجري في مجراها الصحيح، وولي الأمر الأعلى يضع الرجل المناسب في المكان المناسب، أما إذا اختلت الموازين، وأبعد الأكفاء عن مواقعهم، وقدمت الأحساب والوسائط فللأكفاء أن يطلبوا، وأن يلحوا في الطلب، وأن يكافحوا من أجل وصولهم، فوصولهم حينئذ مصلحة عامة، قبل أن تكون خاصة.

ويمكن حمل حديث أبي داود عن أبي هريرة رفعه "من طلب قضاء المسلمين حتى يناله، ثم غلب عدله جوره فله الجنة، ومن غلب جوره عدله فله النار" يمكن حمل هذا الحديث على مثل هذه الحالة، وقال الحافظ ابن حجر في الجمع بين حديث أبي هريرة وبين حديث الباب: والجمع بينهما أنه لا يلزم من كونه لا يعان بسبب طلبه أن لا يحصل منه العدل إذا ولي. اهـ. فأطلق عدم العون لكل من سألها. وفي ذلك نظر، كما أوضحنا، ويميل ابن التين إلى هذا، فيقول عن حديث الباب: هو محمول على الغالب، وإلا فقد قال يوسف عليه السلام {اجعلني على خزائن الأرض} [يوسف: 55] اهـ. والرواية الرابعة "يا أبا ذر. إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها" تؤيد ما ذهبنا إليه، فقد مدحت من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها، والحقوق في مثل زماننا تؤخذ ولا تعطى، أما الضعيف غير الكفء فإن تعرضه لحمل ما يثقل عليه يؤدي به إلى الخزي والندامة، الخزي أمام الخلائق يوم القيامة، حيث يقف ذليلا بعد أن عرفوه عزيزا، والندامة على تفريطه في جنب الله. قال النووي: وهذا أصل عظيم في اجتناب الولاية، ولا سيما لمن كما فيه ضعف، وهو في حق من دخل فيها بغير أهلية، ولم يعدل، وأما من كان أهلا وعدل فيها فأجره عظيم، كما تظاهرت الأخبار، ولكن في الدخول فيها خطر عظيم، ولذلك امتنع الأكابر منها. اهـ. ومن الأخبار المتظاهرة التي أشار إليها النووي حديث "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إمام عادل ... " والحديث الآتي في الباب التالي "إن المقسطين عند الله على منابر من نور، عن يمين الرحمن عز وجل ... ". وفي إرسال أبي موسى إلى اليمن من غير أن يسأل دليل على كفاءته لمهام الأمور والولايات، وأنه كان عالما فطنا حاذقا، ولذلك اعتمد عليه عمر ثم عثمان ثم علي، وأما الخوارج والروافض فطعنوا فيه، ونسبوه إلى الغفلة وعدم الفطنة، لما صدر منه في التحكيم بصفين، قال ابن العربي وغيره: والحق أنه لم يصدر منه ما يقتضي وصفه بذلك، وغاية ما وقع منه أن اجتهاده أداه إلى أن يجعل الأمر شورى بين من بقي من أكابر الصحابة، من أهل بدر ونحوهم، لما شاهد من الاختلاف الشديد بين الطائفتين بصفين، وآل الأمر إلى ما آل إليه. اهـ. وفي إلقاء أبي موسى الوسادة لمعاذ ليجلس عليها تكريم العلماء، وإكرام الضيف بمثل هذا الاحتفاء. وفي الرواية الثالثة وجوب قتل المرتد، قال النووي: وقد أجمعوا على قتله، لكن اختلفوا في استتابته، هل يستتاب؟ أو لا؟ فقال مالك والشافعي وأحمد والجماهير من السلف والخلف: يستتاب، ونقل ابن القصار المالكي إجماع الصحابة عليه. وقال طاووس والحسن والماجشون وأبو يوسف وأهل الظاهر: لا يستتاب، ولو تاب نفعته توبته عند الله تعالى، ولا يسقط قتله، لقوله صلى الله عليه وسلم "من بدل دينه فاقتلوه" وقال عطاء: إن كان ولد مسلما لم يستتب، وإن كان كافرا فأسلم ثم ارتد يستتاب، وليس في حديث الباب حجة لمن قال: يقتل المرتد بلا استتابة، لأن عدم الذكر لا يقتضي

عدم الوقوع، حتى رواية "فلم ينزل حتى ضرب عنقه، وما استتابه" فهذه فضلا عن أنها معارضة برواية مثبوتة أن معاذا استتابه يحتمل أنه اكتفى بما تقدم من استتابة أبي موسى له، فقد جاء في بعض الروايات "أن أبا موسى دعاه إلى الإسلام، فأبى عشرين ليلة، أو قريبا منها"، واختلف القائلون بالاستتابة. هل هي واجبة؟ أم مستحبة؟ والأصح عند الشافعي وأصحابه أنها واجبة. كما اختلفوا في قدرها، والأصح عند الشافعي وأصحابه أنها في الحال فقط، وله قول أنها ثلاثة أيام، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق، وعن علي أنه يستتاب شهرا، واختلفوا في المرأة، وهل هي كالرجل في ذلك؟ أم لا؟ قال الجمهور: والمرأة كالرجل في أنها تقتل إذا لم تتب، ولا يجوز استرقاقها. هذا مذهب الشافعي ومالك والجماهير، وقال أبو حنيفة وطائفة: تسجن المرأة، ولا تقتل، وعن الحسن وقتادة أنها تسترق، وروي عن علي. قال القاضي عياض: وفي الحديث أن لأمراء الأمصار إقامة الحدود في القتل وغيره، وهو مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة والعلماء كافة، وقال الكوفيون: لا يقيمه إلا فقهاء الأمصار، ولا يقيمه عامل السواد. قال: واختلفوا في القضاة، إذا كانت ولا يتهم مطلقة، ليست مختصة بنوع من الأحكام، فقال جمهور العلماء: تقيم القضاة الحدود، وينظرون في جميع الأشياء إلا ما يختص بضبط البيضة من إعداد الجيوش وجباية الخراج، وقال أبو حنيفة: لا ولاية في إقامة الحدود. وفي بعث معاذ إلى اليمن مع أبي موسى جواز تولية أميرين على البلد الواحد، وقسمة البلدين بين أميرين. ومما حدث بينهما يستفاد استحباب التزاور بين الإخوان والأمراء والعلماء. ومن موقف معاذ، وعدم نزوله يستفاد استحباب المبادرة إلى إنكار المنكر. وإقامة الحدود على من وجبت عليه. ومن ابتغاء معاذ الأجر في نومه يستفاد أن المباحات يؤجر عليها بالنية، إذا صارت وسائل للمقاصد الواجبة أو المندوبة، أو تكميلا لشيء منهما. ويستفاد من الرواية الخامسة الحذر من أخطار الإمارة ولو على اثنين. والحذر من أخطار ولاية مال اليتيم. وعنون النووي لهذه الرواية الخامسة بباب كراهة الإمارة بغير ضرورة. والله أعلم.

(510) باب فضيلة الأمير العادل، وعقوبة الجائر والحث على الرفق بالرعية، والنهي عن إدخال المشقة عليهم

(510) باب فضيلة الأمير العادل، وعقوبة الجائر والحث على الرفق بالرعية، والنهي عن إدخال المشقة عليهم 4153 - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال ابن نمير وأبو بكر يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم وفي حديث زهير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل. وكلتا يديه يمين. الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا". 4154 - عن عبد الرحمن بن شماسة قال: أتيت عائشة أسألها عن شيء. فقالت: ممن أنت؟ فقلت: رجل من أهل مصر فقالت: كيف كان صاحبكم لكم في غزاتكم هذه؟ فقال: ما نقمنا منه شيئا، إن كان ليموت للرجل منا البعير، فيعطيه البعير والعبد فيعطيه العبد، ويحتاج إلى النفقة فيعطيه النفقة. فقالت: أما إنه لا يمنعني الذي فعل في محمد بن أبي بكر أخي، أن أخبرك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه. ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به". 4155 - عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته. فالأمير الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته. والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم. والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم. والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه. ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته".

4156 - وفي رواية عن سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بمعنى حديث نافع عن ابن عمر، وزاد في حديث الزهري قال: وحسبت أنه قد قال: "الرجل راع في مال أبيه ومسئول عن رعيته. 4157 - عن الحسن قال: عاد عبيد الله بن زياد معقل بن يسار المزني في مرضه الذي مات فيه، فقال معقل: إني محدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لو علمت أن لي حياة ما حدثتك. إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة". 4158 - -/- وفي رواية عن الحسن قال: دخل ابن زياد على معقل بن يسار وهو وجع بمثل حديث أبي الأشهب وزاد قال: ألا كنت حدثتني هذا قبل اليوم؟ قال: ما حدثتك أو لم أكن لأحدثك. 4159 - عن أبي المليح، أن عبيد الله بن زياد دخل على معقل بن يسار في مرضه، فقال له معقل: إني محدثك بحديث لولا أني في الموت لم أحدثك به، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "ما من أمير يلي أمر المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة". 4160 - -/- وفي رواية أن معقل بن يسار مرض فأتاه عبيد الله بن زياد يعوده نحو حديث الحسن عن معقل.

4161 - عن الحسن أن عائذ بن عمرو، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على عبيد الله بن زياد، فقال: أي بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن شر الرعاء الحطمة، فإياك أن تكون منهم" فقال له: اجلس فإنما أنت من نخالة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: وهل كانت لهم نخالة. إنما كانت النخالة بعدهم وفي غيرهم. -[المعنى العام]- يقول الله تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر} [آل عمران: 159] دستور إلهي للراعي مع الرعية، أساسه رفقه بهم، وعفوه عن مسيئهم، وإحسانه لمحسنهم، والسهر على رعاية مصالحهم. إن الحكم مسئولية، صغر أو كبر، وكل من له ولاية على غيره له حكم عليه، ولو كانت الولاية على واحد، فكلكم راع، وكل راع مسئول عن رعيته، فالحاكم الأعلى راع، وهو مسئول عن رعيته، مسئول في الدنيا من الرعية، تحاسبه بالمعروف، ويذكره العلماء بحقوق شعبه، وينصحونه بالرفق، والدين النصيحة، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله، ولخاصة المؤمنين وعامتهم، ومسئول في الآخرة عند ربه، وإن الله سائل كل راع عما استرعاه، حفظ أم ضيع، فإن كان قد أطاع الله في رعيته، وحكم فيهم بعدل الله، كرمه ربه أمام الخلائق، وأجلسه على منبر من نور على يمين الرحمن، وأظله الله في الموقف العظيم في ظله يوم لا ظل إلا ظله. والرجل في بيته راع وهو مسئول دنيا وأخرى عن زوجه وأولاده وأحفاده والأقربين، والمرأة في بيت زوجها راعية ومسئولة عن حقوق زوجها وأولادها، والخادم في بيت سيده راع ومسئول عن حقوق سيده، فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته. وقد شاءت حكمة الله تعالى أن تمنح بعض الجزاء عن الخير في الدنيا للمحسن، وما عند الله خير وأبقى، وأن تصيب العاصي المسيء بعض البلايا في الدنيا، وعذاب الآخرة أشد وأبقى، والجزاء من جنس العمل، فمن يسر على مسلم يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن أعان مسلما أعانه الله في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ولي من أمر الأمة شيئا فرفق بهم رفق الله به في الدنيا والآخرة، وفي المقابل من شاق على رعيته شاق الله عليه، ومن عسر أمور رعيته عسر الله أموره، وما من عبد يسترعيه الله رعية، فيهملها [كما يهمل راعي الغنم غنمه، لا يوردها طعامها وشرابها وصالحها] ويظلمها ويستولى على أموالها ومواردها ويستغلها لمصالحه، ولا يقيم حدود الله فيها، ولا يجتهد جهده في إدارة شئونها إلا جاء يوم القيامة، يريد دخول الجنة معها، فيمنع من دخولها بل يمنع عنها من بعيد حتى لا يجد ريحها الطيب ونسيمها العليل.

إن واجب الأمر بالمعروف في الدنيا على عامة الناس وخاصتهم، لكن واجب النصح للحكام على العلماء، فصلاح الحكام بصلاح العلماء، وإذا فسد العلماء فسد الحكام. ولقد كان الحكام في الصدر الأول يخافون العلماء ونقدهم، ويتأثرون بتوجيهاتهم، وكان العلماء يخشون ربهم، ويؤدون واجب النصيحة للحكام، وإن تعرضوا لبطشهم، وما أكثر من وقع منهم ضحية هذا الواجب، فسطر لهم التاريخ مواقفهم المجيدة بحروف من نور. وقرأ لهم الخلوف ما سطره التاريخ، فعاشوا في ضمير شعوبهم على مر الزمان. -[المباحث العربية]- (إن المقسطين) يقال: أقسط إقساطا فهو مقسط، إذا عدل، قال الله تعالى {وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} [الحجرات: 9] ويقال: قسط، بفتح القاف وكسر السين قسوطا وقسطا بفتح القاف، فهو قاسط، وهم قاسطون، إذا جاروا، قال الله تعالى {وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا} [الجن: 15] فالمقسطون هنا العادلون، وقد فسره في آخر الحديث بقوله "الذين يعدلون". (عند الله) أي في الآخرة، وشبه الجملة خبر، والعندية عندية مكانة، أي مقامهم ومكانتهم عند الله عظيمة. (على منابر من نور) جمع منبر، قيل: سمي منبرا لارتفاعه، قال القاضي: يحتمل أن يكونوا على منابر حقيقة، على ظاهر الحديث، ويحتمل أن يكون كناية عن المنازل الرفيعة، قال النووي: الظاهر الأول، ويكون متضمنا للمنازل الرفيعة، فهم على منابر حقيقة، ومنازلهم رفيعة. اهـ. وحمل اللفظ على معناه الحقيقي، حيث لا قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي أولى من المجاز، وشبه الجملة خبر بعد خبر. (عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين) قال النووي: هذا من أحاديث الصفات، وقد سبق في أول هذا الشرح بيان اختلاف العلماء فيها، وأن منهم من قال: نؤمن بها، ولا نتكلم في تأويله، ولا نعرف معناه، لكن نعتقد أن ظاهرها غير مراد، وأن لها معنى يليق بالله تعالى، وهذا مذهب جماهير السلف، وطوائف من المتكلمين، والثاني أنها تؤول على ما يليق بها، وهذا قول أكثر المتكلمين، وعلى هذا قال القاضي عياض: المراد بكونهم عن اليمين الحالة الحسنة، والمنزلة الرفيعة، قال: قال ابن عرفة: يقال: أتاه عن يمينه إذا جاءه من الجهة المحمودة، والعرب تنسب الفعل المحمود والإحسان إلى اليمين، وضده إلى اليسار، قالوا: اليمين مأخوذ من اليمين، وأما قوله صلى الله عليه وسلم "وكلتا يديه يمين" فتنبيه على أنه ليس المراد باليمين جارحة، تعالى الله عن ذلك، فإنها مستحيلة في حقه سبحانه وتعالى.

(الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا) بفتح الواو، وضم اللام مخففة، أي وما كان لهم عليه ولاية، أي يعدلون قولا وفعلا. (ممن أنت؟ ) أي من أهل أي البلاد أنت؟ (كيف كان صاحبكم لكم) أي كيف كانت معاملة أميركم لكم؟ (ما نقمنا منه شيئا) بفتح القاف وكسرها، أي ما كرهنا منه شيئا. (إن كان ليموت للرجل منا البعير فيعطيه البعير) "إن" بكسر الهمزة وسكون النون مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف ضمير الشأن والحال، واللام في "ليموت" الداخلة على الخبر، هي الفارقة بين المخففة والنافية، و"البعير" الأول مرفوع فاعل "يموت" والثاني منصوب، مفعول، أي كان يموت البعير للرجل منا فيعطيه بعيرا بدله. (والعبد فيعطيه العبد) "العبد" الأولى مرفوع، عطفا على البعير، والثانية مفعول. (ويحتاج إلى النفقة فيعطيه النفقة) فاعل يحتاج يعود إلى "الرجل منا". (إنه لا يمنعني الذي فعل في محمد بن أبي بكر أخي أن أخبرك) عائد الصلة محذوف، أي لا يمنعني ما فعله في أخي أن أشكر فعله الحسن ورفقه بكم. قال النووي: اختلفوا في صفة قتل محمد بن أبي بكر، فقيل: قتل في المعركة، وقيل: قتل أسيرا بعدها، وقيل: وجد بعدها في خربة، في جوف حمار ميت، فأحرقوه. (كلكم راع) قال العلماء: الراعي هنا هو الحافظ المؤتمن، الملتزم صلاح ما قام به، وما هو تحت نظره. (ألا فكلكم راع) "ألا" حرف استفتاح، والفاء فصيحة، في جواب شرط مقدر، أي إذا كان الأمر كذلك فكلكم راع. (عن الحسن) البصري. (عاد عبيد الله بن زياد معقل بن يسار المزني في مرضه الذي مات فيه) في ملحق الرواية "دخل ابن زياد على معقل بن يسار، وهو وجع" وفي الرواية السادسة أن عبيد الله بن زياد دخل على معقل بن يسار في مرضه" وعبيد الله بن زياد كان أميرا على البصرة من قبل معاوية بن أبي سفيان، ثم من قبل ابنه يزيد بن معاوية، وكانت هذه الزيارة في زمن يزيد، وقد أخرج الطبراني عن الحسن البصري قوله: لما قدم علينا عبيد الله بن زياد أميرا، أمره علينا معاوية، غلاما سفيها، يسفك الدماء سفكا شديدا .... " الحديث. ويبدو أن الحسن حضر هذه الزيارة لمعقل، وكانت وفاته بالبصرة ما بين الستين والسبعين من الهجرة، في خلافة يزيد، أسلم قبل الحديبية، وشهد بيعة

الرضوان، وهو الذي حفر نهر معقل بالبصرة، بأمر عمر، فنسب إليه، ونزل البصرة، وبنى بها دارا، ومات بها. وقد روى الطبراني عن الحسن أيضا أن واعظ عبيد الله بن زياد كان عبد الله بن مغفل المزني، ولفظه "لما قدم علينا عبيد الله بن زياد أميرا، وفينا عبد الله بن مغفل المزني، فدخل عليه ذات يوم، فقال له: انته عما أراك تصنع، فقال له: وما أنت وذاك؟ قال: ثم خرج إلى المسجد، فقلنا له: ما كنت تصنع بكلام هذا السفيه على رءوس الناس؟ فقال: إنه كان عندي علم، فأحببت أن لا أموت حتى أقول به على رءوس الناس، ثم قام، فما لبث أن مرض مرضه الذي توفي فيه، فأتاه عبيد الله بن زياد يعوده .... فذكر نحو الحديث السابق. قال الحافظ ابن حجر: فيحتمل أن تكون القصة وقعت للصحابيين. (إني محدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لو علمت أن لي حياة ما حدثتك) أي ما حدثتك به، وفي الرواية السادسة "لولا أني في الموت لم أحدثك به" قال العلماء: كأنه كان يخشى بطشه، فلما نزل به الموت أراد أن يكف بذلك بعض شره عن المسلمين، ورأى وجوب تبليغ العلم الذي عنده قبل موته، لئلا يكون مضيعا له، وقد أمرنا كلنا بالتبليغ. (وهو غاش لرعيته) يحصل غش الراعي لرعيته بظلمه لهم، بأخذ أموالهم، أو سفك دمائهم، أو انتهاك أعراضهم، أو حبس حقوقهم، أو ترك تعريفهم ما يجب عليهم في أمر دينهم ودنياهم، أو بإهمال إقامة الحدود فيهم، وعدم ردع المفسدين منهم، وترك حمايتهم ونحو ذلك، وفي الرواية السادسة "ما من أمير يلي أمر المسلمين، ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة" وفي رواية البخاري "ما من وال" وفيها "ثم لا يجد" بفتح الياء وكسر الجيم وتشديد الدال من الجد ضد الهزل، ومعنى "ثم لا يجهد لهم وينصح" أي ثم لا يبذل جهده في مصالحهم، ولا ينصحهم لما ينفعهم. (ألا كنت حدثتني هذا قبل اليوم؟ ) أي لو كنت فعلت لأخذت عقابك، فهو تهديد له ولغيره يثير الرعب في نفس من تسول له نفسه أن يرفع رأسه. (أن عائذ بن عمرو) بن هلال بن عبيد بن يزيد المزني، أبو هبيرة، كان ممن بايع تحت الشجرة، وسكن البصرة، ومات في إمارة ابن زياد، كان تقيا ورعا، روى البغوي أنه كان لا يخرج من داره ماء الغسل إلى الطريق، فسئل، فقال: لأن أصب طستي في حجرتي أحب إلي من أن أصبه في طريق المسلمين. (فقال: أي بني) "أي" حرف نداء، والتصغير هنا من عائذ للتصغير، فقد كان عبيد الله شابا، وكان عائذ كهلا. (إن شر الرعاء الحطمة) "الرعاء" بكسر الراء، كما في قراءة الجمهور في قوله تعالى {قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء} [القصص: 23] وقرئ "الرعاء" بضم الراء، والمعروف في صيغ الجمع فعال

بكسر الفاء فالضم على خلاف القياس، وهو جمع راع، و"الحطمة" الراعي العسوف العنيف في إبله وغنمه، لا يرفق بها في سوقها ومرعاها، بل يحطمها ويؤذيها في ذلك، وفي سقيها وغيره، ويزحم بعضها ببعض بحيث يؤذيها، يقال: حطم الشيء بفتح الطاء يحطم بكسرها إذا كسره، وحطم الناس بعضهم بعضا إذا تزاحموا حتى آذى بعضهم بعضا. وهذا المثل قصد به أن شر الولاة والأمراء من يشق على الرعية، ولا يرفق بهم. (فإنما أنت من نخالة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم) النخالة ما تبقى من المنخل من القشر، يعني لست من صفوتهم ولا من فضلائهم ولا من علمائهم، ولا من أهل المراتب منهم، بل من سقطهم، والنخالة هنا استعارة من نخالة الدقيق، وهي قشوره والنخالة والحقالة والحثالة بمعنى واحد. (وهل كانت لهم نخالة؟ إنما كانت النخالة بعدهم وفي غيرهم) قال النووي: هذا من جزل الكلام وفصيحه، وصدقه الذي ينقاد له كل مسلم، فإن الصحابة رضي الله عنهم هم صفوة الناس، وسادات الأمة، وأفضل ممن بعدهم، وكلهم عدول، قدوة، لا نخالة فيهم، وإنما جاء التخليط ممن بعدهم، وفي من بعدهم كانت النخالة. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الأحاديث]- 1 - فضيلة الأمير العادل. 2 - زجر الولاة عن المشقة على الرعية. 3 - من قول عائشة -رضي الله عنها- في الرواية الثانية أنه ينبغي أن يذكر فضل أهل الفضل، ولا يمتنع منه لسبب عداوة ونحوها. 4 - وجوب النصيحة على الوالي لرعيته، والاجتهاد في مصالحهم. 5 - وجوب تبليغ العلم. 6 - فيه منقبة وفضيلة لمعقل بن يسار، وجرأته في قول الحق عند سلطان جائر. 7 - فيه منقبة كذلك لعائذ بن عمرو رضي الله عنه. 8 - وفي قوله "يموت يوم يموت وهو غاش" دليل على أن التوبة قبل حالة الموت نافعة. 9 - تحريم الجنة على المستحل لغش الرعية، وتأخير دخولها لغير المستحل ممن يغش الرعية. وتفصيل هذا الحكم سبق في كتاب الإيمان. والله أعلم.

(511) باب غلظ تحريم الغلول

(511) باب غلظ تحريم الغلول 4162 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره، ثم قال "لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، يقول يا رسول الله أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة، فيقول يا رسول الله أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء، يقول: يا رسول الله أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح، يقول يا رسول الله أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق، فيقول يا رسول الله أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت، فيقول يا رسول الله أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك". 4163 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلول فعظمه. واقتص الحديث، قال حماد: ثم سمعت يحيى بعد ذلك يحدثه فحدثنا بنحو ما حدثنا عنه أيوب. -[المعنى العام]- يقول الله تعالى: {وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} [آل عمران: 161] والخيانة بصفة عامة ذميمة، وقد شرع قطع يد السارق إذا سرق من حرز مثله ما لا شبهة له فيه، أما السرقة من الغنيمة قبل القسمة، وهي المعروفة بالغلول، فللسارق فيها شبهة، إذ له حق فيها في الجملة، فهو مقاتل له في الغنيمة سهم، فلا قطع عليه، لكن عدم القطع ليس دليلا على ضعف الحرمة، فالغلول حرام ومن الكبائر، وبعض الكبائر من الموبقات، أي من أكبر الكبائر، ولا حد فيها، كعقوق الوالدين، فلا يستهين الغالون بالغل، فقد بين صلى الله عليه

وسلم في هذا الحديث عقوبتهم في الآخرة، وهي تتشعب إلى شعبتين، شعبة أدبية معنوية، وهي الفضيحة على رءوس الخلائق، جزاء من جنس العمل، أو بنقيض القصد، فقط كان يتخفى عن أعين الناس وسمعهم حين غل، فليأت يوم القيامة يحمل سرقته على كتفه، ليراه الخلائق، وليس الحمل في صمت، حتى لا يعلم من لا يرى، بل يكون للمسروق صوت يلفت به الأنظار، مبالغة في الفضيحة، حتى الثياب التي لا صوت لها في العادة، يبعث الله عليها ريحا لتخفق كالعلم في الهواء، يسمع قعقعتها من لا يراها. أما الشعبة الثانية فهي العذاب بالنار ففي الحديث أن الرجل الذي غل شملة من الغنيمة ستشتعل عليه الشملة نارا، وحتى الرجل الذي غل شراك نعل، أي خيط نعل سيربط في قدمه يوم القيامة ويشتعل نارا. وقد حذر صلى الله عليه وسلم وأنذر، فلا عذر لمعتذر، ولا قبول لاستغاثة مستغيث يوم القيامة، حتى الرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه ربه {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128] يوم يستغيث به الغال يقول له: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك وأنذرتك، {يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون} [الدخان: 41]. -[المباحث العربية]- (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي قام خطيبا وواعظا. (ذات يوم) "ذات" مؤنث "ذو" بمعنى صاحب، وتقحم في كلام العرب، فتضاف لما بعدها، وتأخذ حكمه، فيقال: لقيته ذات يوم، أي لقيته في يوم، ولقيته ذات مرة، أي لقيته مرة، وقلت ذات يده، أي قلت يده، أي ما ملكت يده، وأصلح ذات بينهم، أي أصلح بينهم، وجلس ذات اليمين، أي جلس يمينا. (فذكر الغلول) أصل الغلول الخيانة مطلقا، ثم غلب اختصاصه بالخيانة في الغنيمة، قال نفطويه: سمي بذلك لأن الأيدي مغلولة عنه، أي محبوسة عنه، وقال ابن قتيبة: سمي بذلك لأن صاحبه وآخذه يغله في متاعه، أي يخفيه فيه. (فعظمه، وعظم أمره) أي عظم فعله، وعظم عقوبته. (لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء) قال النووي: هكذا ضبطناه "لا ألفين" بضم الهمزة وسكون اللام وكسر الفاء، أي لا أجدن أحدكم على هذه الصفة، ومعناه لا تعملوا عملا أجدكم بسببه على هذه الصفة. قال القاضي: ووقع في رواية "لا ألقين" بفتح الهمزة والقاف، وله وجه، لكن المشهور الأول. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: والمراد بلفظ النفي النهي، وهو وإن كان من نهي المرء نفسه فليس المراد ظاهره، وإنما المراد نهي من يخاطبه عن ذلك. اهـ. تقول: لا أراك هنا، فلفظه نفي رؤيتي له، وظاهره

طلب عدم الرؤية طلبا موجها إلى نفس المتكلم، لكن المراد الطلب من المخاطب عدم الحضور هنا ليتحقق عدم رؤيتي له. والمعنى كما قال النووي: لا تعملوا عملا أجدكم بسببه على هذه الصفة. اهـ. يقال: ألفاه، أي وجده وصادفه، والمراد من الرقبة هنا الكتفان ليحيط المحمول بالرقبة و"الرغاء" بضم الراء وتخفيف الغين صوت البعير. (لا أملك لك شيئا) قال القاضي: معناه من المغفرة والشفاعة إلا بإذن الله، قال: ويكون ذلك أولا غضبا عليه لمخالفته، ثم يشفع في جميع الموحدين بعد ذلك. اهـ. ومعناه إضافة قيد، أي لا أملك لك شيئا من المساعدة الآن، وكأنه صلى الله عليه وسلم أبرز هذا الوعيد بدون القيد في مقام الزجر والتغليظ. (قد أبلغتك) في الدنيا عقوبة من فعل ذلك، فلا عذر لك. (على رقبته فرس له حمحمة) بحاءين مفتوحتين، بينهما ميم ساكنة، وهي صوت الفرس عند العلف، وهو دون الصهيل. (على رقبته شاة لها ثغاء) بضم الثاء وتخفيف الغين، وهو صوت الشاة. (على رقبته نفس لها صياح) كأنه أراد بالنفس ما يغله الغال من الرقيق من امرأة أو صبي. (على رقبته رقاع تخفق) المراد بالرقاع الثياب، ومعنى "تخفق" بفتح التاء وسكون الخاء وكسر الفاء، تتقعقع وتضطرب إذا حركتها الرياح، وقيل: معناه تلمع، والأول أنسب. (على رقبته صامت) الصامت الذهب والفضة، وقيل: ما لا روح فيه من أصناف المال، وليس الهدف من حمل هذا ثقله، وإنما الهدف الفضيحة، فلا فرق فيها بين الثقيل والخفيف. -[فقه الحديث]- ذكر الإمام مسلم هذا الحديث في كتاب الإمارة، ولعله لاحظ قوله تعالى: {وما كان لنبي أن يغل} وكأنه يشير إلى تحذير الأمراء والحكام من سرقة أموال الشعب، لكن وضع هذا الحديث في كتاب الجهاد والسير -كما فعل البخاري- أولى وأنسب. قال النووي: الحديث يصرح بعظم تغليظ الغلول، وقد أجمع المسلمون على تغليظ تحريم الغلول، وأنه من الكبائر، وأجمعوا على أن على الغال رد ما غله، [إذا كان قبل القسمة] فإن تفرق الجيش، وتعذر إيصال حق كل واحد إليه ففيه خلاف للعلماء، قال الشافعي وطائفة: يجب تسليمه إلى الإمام أو الحاكم، كسائر الأموال الضائعة، وقال ابن مسعود وابن عباس ومعاوية والحسن والزهري والأوزاعي ومالك والثوري والليث وأحمد والجمهور: يدفع خمسه إلى الإمام، ويتصدق بالباقي. واختلفوا في صفة عقوبة الغال، فقال جمهور العلماء وأئمة الأمصار: يعزر على حسب ما يراه

الإمام، ولا يحرق متاعه، وهذا قول مالك والشافعي وأبي حنيفة ومن لا يحصى من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وقال مكحول والحسن والأوزاعي: يحرق رحله ومتاعه كله، قال الأوزاعي: إلا سلاحه وثيابه التي عليه، وقال الحسن: إلا الحيوان والمصحف، واحتجوا بحديث عبد الله بن عمر في تحريق رحله. قال الجمهور: وهذا حديث ضعيف، لأنه مما انفرد به صالح بن محمد عن سالم، وهو ضعيف، قال الطحاوي: ولو صح يحمل على أنه كان إذ كانت العقوبة بالأموال، كأخذ شطر المال من مانع الزكاة، وضالة الإبل، وسارق التمر، وكل ذلك منسوخ. واستدل بعض العلماء بهذا الحديث على وجوب زكاة العروض والخيل، قال النووي: ولا دلالة فيه لواحد منهما، لأن هذا الحديث ورد في الغلول وأخذ الأموال غصبا، فلا تعلق له بالزكاة. قال المهلب: هذا الحديث وعيد لمن أنفذ الله عليه العقوبة من أهل المعاصي، ويحتمل أن يكون الحمل المذكور لا بد منه، عقوبة له بذلك، ليفتضح على رءوس الأشهاد، وأما بعد ذلك فإلى الله الأمر في تعذيبه أو العفو عنه، اهـ. وهذا الاحتمال بعيد، فحين يعفو الله تعالى يستر من عفا عنه وغفر له، فليس من الضروري أن يقع. والله أعلم.

(512) باب تحريم هدايا العمال

(512) باب تحريم هدايا العمال 4164 - عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الأسد، يقال له ابن اللتبية. قال عمرو وابن أبي عمر على الصدقة. فلما قدم قال: هذا لكم، وهذا لي، أهدي لي. قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وقال "ما بال عامل أبعثه فيقول هذا لكم وهذا أهدي لي؟ أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده لا ينال أحد منكم منها شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه، بعير له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر ". ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه. ثم قال: "اللهم هل بلغت؟ مرتين". 4165 - وفي رواية عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم ابن اللتبية رجلا من الأزد على الصدقة، فجاء بالمال فدفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال هذا مالكم. وهذه هدية أهديت لي. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أفلا قعدت في بيت أبيك وأمك فتنظر أيهدى إليك أم لا؟ " ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا. ثم ذكر نحو حديث سفيان. 4166 - عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد على صدقات بني سليم، يدعى ابن الأتبية، فلما جاء حاسبه، قال: هذا مالكم، وهذا هدية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقا؟ " ثم خطبنا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال "أما بعد فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله، فيأتي فيقول: هذا مالكم. وهذا هدية أهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقا؟ والله لا يأخذ أحد منكم منها شيئا بغير حقه، إلا لقي الله تعالى يحمله يوم القيامة. فلأعرفن أحدا منكم لقي الله يحمل بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر" ثم رفع يديه حتى رئي بياض إبطيه. ثم قال "اللهم هل بلغت؟ " بصر عيني وسمع أذني.

4167 - وفي رواية عن هشام بهذا الإسناد، وفي حديث عبدة وابن نمير فلما جاء حاسبه كما قال أبو أسامة. وفي حديث ابن نمير "تعلمن والله والذي نفسي بيده لا يأخذ أحدكم منها شيئا" وزاد في حديث سفيان قال بصر عيني وسمع أذناي. وسلوا زيد بن ثابت فإنه كان حاضرا معي. 4168 - عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على الصدقة. فجاء بسواد كثير. فجعل يقول: هذا لكم. وهذا أهدي إلي. فذكر نحوه. قال عروة: فقلت لأبي حميد الساعدي أسمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: من فيه إلى أذني. 4169 - عن عدي بن عميرة الكندي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من استعملناه منكم على عمل، فكتمنا مخيطا فما فوقه، كان غلولا يأتي به يوم القيامة" قال: فقام إليه رجل أسود من الأنصار. كأني أنظر إليه. فقال: يا رسول الله اقبل عني عملك قال "وما لك؟ " قال سمعتك تقول كذا وكذا. قال "وأنا أقوله الآن من استعملناه منكم على عمل فليجئ بقليله وكثيره. فما أوتي منه أخذ وما نهي عنه انتهى". -[المعنى العام]- عمال الخليفة وأمراؤه وقادته وكل من يوليه ولاية كبرت أو صغرت هم العمد والأسس التي تقوم عليها الدولة، بهم تثبت أركان العدالة من الرفق والتراحم والترابط والأمانة والقوة إن هم كانوا على الطريق الحق المستقيم، ونقيض ذلك إذا كانوا على النقيض. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يختار أعوانه ومن يوليه عملا من الأعمال العامة، لكن المسلمين كانوا يتكاثرون، وفيهم من يجهل حاله ممن بعدت دياره، فكان يوصيهم قبل أن يبعثهم، ويحاسبهم عن أعمالهم عند عودتهم. وكان يحمي عماله من الشبهات، ويحرص على أن يعودهم الابتعاد عنها فدع ما يريبك إلى ما لا

يريبك، فهم يعلمون علما لا ريب فيه تحريم الرشوة، وهم يبتعدون عنها، لكنهم قد يخفى عليهم أن من الهدايا ما له حكم الرشوة، وهدف الرشوة، فيحسنون الظن بأنفسهم ويقبلونها على أساس أنهم لن يتأثروا بها في إحقاق الحق وإبطال الباطل، لكن سد منافذ الحرام هدف من مقاصد الشريعة. هذا الصحابي ابن اللتبية يبعثه صلى الله عليه وسلم إلى قومه بني سليم، ليجمع منهم الزكاة، ويعود بها إلى بيت المال، فيرجع معه كثير من الإبل والبقر والغنم والحنطة والشعير والأموال، فيرسل إليه صلى الله عليه وسلم من يحاسبه، ويتسلم منه ما جاء به، ليوصله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقوم بتصريفه في مصارف الزكاة. إن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمون أن ابن اللتبية لم يكن قبل سفره يملك ناقة أو جملا أو شاة، فجميع ما في بيته جاء به من هناك، وما تاجر، وما تكسب، تصوروا أن ابن اللتبية سيسلمهم كل ما في الدار، فإذا به يوزع ما يرون، يقول: هذا البعير لكم، وهذا لي، وهذه الشياة لكم وهذه لي، وهذه الحبوب لكم، وهذه لي، فقالوا له: من أين لك هذا؟ وأنت لم تكن تملكه؟ ولم تتكسبه في سفرك، فقال لهم: هذه هدايا أهديت إلي، فجاؤوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذكروا له ما سمعوا، واستعادوا من ابن اللتبية ما قال، فأعاد، فقال له صلى الله عليه وسلم: هلا جلست في بيت أبيك وأمك لترى أيهدى إليك أم لا؟ إن هذه الهدايا من أجل ولايتك التي وليناك، فهي حق للمسلمين لا لك، وقام صلى الله عليه وسلم على المنبر يخطب في الناس يقول: لا يليق بالعامل الذي نبعثه أن يرجع فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إلي، فإنه لو جلس في بيت أبيه وأمه لم يكن ليهدى إليه ما أهدي إليه وهو عاملنا، إنه بذلك يمتلك ما هو محرم عليه، وسيجيء يوم القيامة حاملا على عنقه ما يدعي أنه هدية، سواء كانت ناقة أو بقرة أو شاة. احذروا معشر العمال الذين أوليهم ما يوليني الله أن تكتموا عني خيطا فما فوقه، من استعملناه على عمل فليجئ بقليله وكثيره، فما أعطيناه بطيب نفس بورك له فيه، وما لم نعطه لا يأخذه، فهو قطعة من النار، وبهذا أصبحت الولاية مسئولية ثقيلة خطيرة، يترفع عنها من يحرص على النجاة. -[المباحث العربية]- (استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الأسد) السين والتاء للصيرورة، أي صيره وجعله عاملا له على عمل من الأعمال العامة، وهو هنا جمع الصدقات من بني سليم وتسليمها لبيت المال، والأسد بإسكان السين، ويقال له: الأزد بالزاي بدل السين، وجاء في البخاري "رجلا من بني أسد" بسكون السين. قال الحافظ ابن حجر: كذا وقع هنا، وهو يوهم [قراءة] أنه بفتح السين، نسبة إلى بني أسد بن خزيمة، القبيلة المشهورة، أو إلى بني أسد بن عبد العزى، بطن من قريش، وليس كذلك، قال: وإنما قلت: إنه يوهمه لأن الأزدي تلازمه الألف واللام في الاستعمال، أسماء وأنسابا، بخلاف "بني أسد" فبغير ألف ولام في الاسم، ووقع في رواية الأصيلي هنا "من بني الأسد" بزيادة الألف واللام، ولا

إشكال فيها مع سكون السين، قال: ثم وجدت ما يزيل الإشكال إن ثبت، وذلك أن أصحاب الأنساب ذكروا أن في الأزد بطنا، يقال لهم "بنو أسد" بالتحريك، ينسبون إلى أسد بن شريك بن مالك بن عمرو بن مالك بن فهم، وبنو فهم بطن شهير من الأزد، فيحتمل أن ابن اللتبية كان منهم، فيصح أن يقال فيه: الأزدي بسكون الزاي والأسدي بسكون السين، وبفتحها في بني أسد وفي بني أزد. اهـ. (يقال له: ابن اللتبية على الصدقة) أي على جمع الزكاة، وفي الرواية الثالثة "على صدقات بني سليم" بضم السين، مصغرا، و"ابن اللتبية" بضم اللام وإسكان التاء وكسر الباء، وبعضهم يفتح التاء، ويقال بالهمزة بدل اللام "الأتبية" كما في روايتنا الثالثة، واسمه عبد الله، واللتبية أمه. قال النووي: نسبة إلى بنت لتب، قبيلة معروفة. (فلما قدم قال: هذا لكم، وهذا لي، أهدي لي) معطوف على مطوي، أي فذهب فجمع فقدم ... وفي الرواية الثانية "فجاء بالمال، فدفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا مالكم، وهذه هدية، أهديت لي" وفي الرواية الثالثة "فلما جاء حاسبه، قال: هذا مالكم، وهذا هدية" وفي ملحق الرواية الثالثة "فجاء بسواد كثير، فجعل يقول: هذا لكم، وهذا أهدي إلي" والمراد بالسواد الأشياء الكثيرة والأشخاص البارزة من حيوان وغيره، ولفظ السواد يطلق على كل شخص، وعند أبي نعيم في المستخرج "فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم من يتوفى منه، فجعل يقول: هذا لكم، وهذا لي، حتى ميزه، يقولون: من أين هذا لك؟ قال: أهدي لي، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بما أعطاهم". والظاهر أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل إليه من يحاسبه ويتسلم منه ما جمع، فقال الرجل ما قال، فأخذوا منه ما أعطاهم، وتركوا ما قال عنه هدية، وجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو معهم، فخاطبه صلى الله عليه وسلم بما جاء في الرواية الثانية والثالثة، ثم قام فخطب في الناس. فقوله في الرواية الثانية "فجاء بالمال، فدفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم" أي دفعه إلى مندوبيه، وقوله في الرواية الثالثة "فلما جاء حاسبه" أي أمر من يحاسبه، ويقبض منه. (فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر ... ) في رواية "فقام النبي صلى الله عليه وسلم عشية بعد الصلاة" وعند أبي نعيم "فصعد المنبر وهو مغضب". (ما بال عامل أبعثه؟ ) "ما" استفهامية، والبال الحال والشأن. (والذي نفس محمد بيده لا ينال أحد منكم منها شيئا إلا جاء به يوم القيامة) في الرواية الثالثة "والله لا يأخذ أحد منكم منها شيئا بغير حقه إلا لقي الله تعالى" أي لا يستولى أحد منكم على شيء من الصدقات التي جمعها، والمراد بغير حق، وبغير إعطاء ولي الأمر ورضاه، فإن الساعي على الزكاة له سهم في الزكاة، سهم العاملين عليها، ولذا جاء في الرواية الرابعة "ممن استعملناه منكم على عمل فليجئ بقليله وكثيره، فما أوتي منه أخذ، وما نهي عنه انتهى". (يحمله على عنقه) في رواية البخاري "يحمله على رقبته" والحمل على ما حول الرقبة من الكتفين.

(بعير له رغاء) "بعير" خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: المحمول بعير، و"له رغاء" خبر ومبتدأ صفة "بعير" وفي الرواية الثالثة "لقي الله يحمل بعيرا له رغاء" وعند البخاري "إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرا له رغاء" أي إن كان الذي يحمله بعيرا، أو إن كان الذي غله بعيرا، والرغاء بضم الراء وتخفيف الغين مع المد هو صوت البعير. (أو بقرة لها خوار) الخوار صوت البقر، وفي القرآن الكريم {عجلا جسدا له خوار} [الأعراف: 148]. (أو شاة تيعر) بفتح التاء وسكون الياء، بعدها عين مفتوحة، ويجوز كسرها، وفي رواية "أو شاة لها يعار" وهو صوت الشاة الشديد. (حتى رأينا عفرتي إبطيه) بضم العين وفتحها، مع سكون الفاء فيهما، والأشهر ضم العين، وعفرة الإبط هي البياض ليس بالناصع، بل فيه شيء كلون الأرض، قالوا: وهو مأخوذ من عفر الأرض، بفتح العين والفاء، وهو وجهها. (اللهم هل بلغت؟ مرتين) بتشديد اللام وعند البخاري "ألا" بالتخفيف "هل بلغت؟ ثلاثا" والمراد بلغت حكم الله إليكم؟ (أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقا؟ ) في أن ما ادعاه هدية هو هدية؟ فقد تكون من الصدقة وتوهمها هدية، وقد تكون هديته قد اختلطت بالصدقة، فتحدث الشبهة، وليس المراد بها اتهامه بالكذب، أو الشك في صدقه. (فلأعرفن أحدا منكم لقي الله يحمل بعيرا) قال النووي: هكذا هو ببعض النسخ "فلأعرفن" وفي بعضها "لا أعرفن" بالألف، على النفي، قال القاضي: هذا أشهر، قال: والأول هو رواية أكثر رواة صحيح مسلم. اهـ. فعلى الأول اللام في جواب القسم، أي والله لأعرفن ولأرين أحدكم يحمل على رقبته كذا يوم القيامة، وعلى الثاني هو من قبيل: لا أرينك ههنا، أي لا أحب أن أعرف أحدكم بهذه الصفة. (بصر عيني وسمع أذني) المراد: أعلم هذا الكلام يقينا، أبصرت عيني النبي صلى الله عليه وسلم حين تكلم به، وسمعته أذني، فلا شك في علمي به، ولا في إخباري به، وفي اللفظ روايات "بصر" بفتح الباء وضم الصاد، و"عيني" بالإفراد، و"سمع" بفتح السين وكسر الميم، على الفعل الماضي فيهما، و"أذني" بالإفراد، وفي ملحق الرواية الثالثة "بصر عيني" كما في صلب الرواية "وسمع أذناي" بالتثنية، والفعلان ماضيان، وروي "بصر عيني" بفتح الباء والصاد وضم الراء، مصدر، خبر مبتدأ محذوف، أي هذا بصر عيني، بالإفراد والتثنية، و"سمع أذني" على المصدرية أيضا، و"أذني" بالإفراد والتثنية، أما لفظ "وسمع أذناي" في ملحق الرواية الثالثة فيمكن إعرابها على لغة من يلزم المثنى الألف. (كتمنا مخيطا) بكسر الميم وإسكان الخاء، وهو الإبرة.

-[فقه الحديث]- قال النووي في سبب منعه هدايا العمل في هذا الحديث بيان أن هدايا العمال حرام وغلول، لأنه خان في ولايته وأمانته، ولهذا ذكر في الحديث في عقوبته، حمله ما أهدي إليه يوم القيامة، كما ذكر مثله في الغال، وقد بين صلى الله عليه وسلم في نفس الحديث السبب في تحريم الهدية عليه، وأنها بسبب الولاية. اهـ. وفي قوله: لأنه خان في ولايته وأمانته نظر، لأن ابن اللتبية لم يخن، وأدى الأمانة والصدقات التي قدمت صدقات، وكون العقاب مشابها لعقاب من خان وغل من بعض الوجوه لا يدل على أن الفعلين متماثلان. ويقول بعض العلماء: إن الحقوق التي عمل لأجلها هي السبب في الإهداء له، وأنه لو أقام في منزله لم يهد له شيء، فلا ينبغي أن يستحلها بمجرد كونها وصلت إليه على طريق الهدية، فإن ذاك إنما يكون حيث يتمحض الحق له. والتحقيق أن هدايا العمال تشبه الرشوة المحرمة، فالرشوة هي كل مال دفع ليبتاع به من ذي جاه عونا على ما لا يحل، ويخشى من هدايا العمال، ومن الهدايا إلى جامعي الصدقات أن تدفعهم هذه الهدايا إلى التغاضي والتساهل في حقوق الفقراء والمساكين، ومصارف الزكاة الأخرى، فهي قد تكون وسيلة إلى ما لا يحل، ووسيلة الحرام حرام، وهي وإن كانت وسيلة غير محققة الغاية، لكن سد باب الذرائع مطلوب، ولهذا لو تحققنا أن الهدية لن توصل إلى ما لا يحل، كأن تعطى بعد انتهاء مهمة العامل نهائيا، فلا شيء فيها. قال ابن العربي: الذي يهدي لا يخلو أن يقصد: (1) ود المهدي إليه، (2) أو عونه، (3) أو ماله، فأفضلها الأول، والثالث جائز، لأنه يتوقع بذلك أن يرد إليه بالزيادة على وجه جميل، وقد تستحب إن كان محتاجا، والمهدي لا يتكلف، وإلا فيكره [مثل هذا في عصرنا ما يجري في الأفراح والأعياد والمناسبات] وأما الثاني فإن كان لمعصية فلا يحل، وهو الرشوة، وإن كان لطاعة فيستحب، وإن كان لجائز فجائز، لكن هذا إن لم يكن المهدى له حاكما. اهـ. أي فإن الإهداء للحاكم لا يخلو من شبهة الوصول إلى ما لا يحل غالبا. ومن غير الغالب الهدايا التي كانت تهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد حكى ابن سعد من طريق فرات بن مسلم قال: اشتهى عمر بن العزيز التفاح، فلم يجد في بيته شيئا يشتري به، فركبنا معه، فتلقاه غلمان الدير بأطباق التفاح، فتناول واحدة، فشمها، ثم رد الأطباق، فقلت له في ذلك؟ فقال: لا حاجة لي فيه، فقلت: ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يقبلون الهدية؟ فقال: إنها لأولئك هدية [أي لأنهم كانوا مأمونين أن تؤدي بهم الهدايا إلى ما لا يحل] وهي للعمال بعدهم رشوة. أما كيف يبرأ العامل من إثم هدية وصلت إليه أثناء عمله، فيقول النووي: عليه أن يرد الهدية إلى مهديها، فإن تعذر فإلى بيت المال. اهـ. ومحل ذلك إذا لم يأذن له الإمام في ذلك، فقد أخرج الترمذي عن معاذ بن جبل قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فقال: لا تصيبن شيئا بغير إذني، فإنه غلول".

وقال المهلب: في حديثنا أن الهدية إذا أخذت تجعل في بيت المال، قال الحافظ ابن حجر: وهو مبني على أن ابن اللتبية قد أخذ منه ما قال عنه هدية، وهو ظاهر السياق، ولكن لم أر ذلك صريحا. اهـ. وقال ابن قدامة في المغني: عليه ردها لصاحبها، وتعقب بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر ابن اللتبية برد الهدية التي أهديت له لمن أهداها. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - إبطال كل طريق يتوصل بها إلى المحاباة. 2 - قال ابن المنير: يؤخذ من قوله "هلا جلس في بيت أبيه وأمه" جواز قبول الهدية ممن كان يهادي العامل قبل أن يكون عاملا. اهـ. ولا يخفى أن محل ذلك إذا لم يزد على العادة. 3 - وفيه أن من رأى متأولا أخطأ، في تأويل يضر، أن يشهر القول للناس، ويبين خطأه، ليحذر من الاغترار به. 4 - وفيه جواز توبيخ المخطئ. 5 - واستعمال المفضول في الإمامة والأمانة والسعاية مع وجود من هو أفضل منه. 6 - وفيه استشهاد الراوي والناقل بقول من يوافقه، ليكون أوقع في نفس السامع، وأبلغ في طمأنينته. 7 - وفيه محاسبة الإمام عماله. 8 - ومن قوله في ملحق الرواية الثالثة "والله، والذي نفسي بيده" توكيد اليمين بذكر اسمين أو أكثر من أسماء الله تعالى. 9 - وفيه أن الإمام يخطب في الأمور المهمة. 10 - واستعمال كلمة "أما بعد" في الخطبة. والله أعلم.

(513) باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية والإمام جنة

(513) باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية والإمام جنة 4170 - عن ابن جريج نزل {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء: 59] في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي السهمي. بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية. أخبرنيه يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. 4171 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من أطاعني فقد أطاع الله. ومن يعصني فقد عصى الله. ومن يطع الأمير فقد أطاعني. ومن يعص الأمير فقد عصاني". 4172 - -/- وفي رواية عن أبي الزناد بهذا الإسناد ولم يذكر "ومن يعص الأمير فقد عصاني". 4173 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "من أطاعني فقد أطاع الله. ومن عصاني فقد عصى الله. ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني". 4174 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. وقال "من أطاع الأمير" ولم يقل "أميري". وكذلك في حديث همام عن أبي هريرة. 4175 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك".

4176 - عن أبي ذر رضي الله عنه قال: إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع، وإن كان عبدا مجدع الأطراف. 4177 - -/- وفي رواية عن أبي عمران بهذا الإسناد، وقالا في الحديث "عبدا حبشيا مجدع الأطراف". 4178 - عن يحيى بن حصين قال: سمعت جدتي تحدث أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع، وهو يقول "ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله، فاسمعوا له وأطيعوا". 4179 - -/- وفي رواية عن شعبة بهذا الإسناد، وقال "عبدا حبشيا". 4180 - -/- وفي رواية عن شعبة بهذا الإسناد، وقال "عبدا حبشيا مجدعا". 4181 - -/- وفي رواية عن شعبة بهذا الإسناد، ولم يذكر "حبشيا مجدعا". وزاد "أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى أو بعرفات". 4182 - عن يحيى بن حصين، عن جدته أم الحصين، قال: سمعتها تقول: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع. قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا كثيرا، ثم سمعته يقول "إن أمر عليكم عبد مجدع (حسبتها قالت) أسود يقودكم بكتاب الله، فاسمعوا له وأطيعوا". 4183 - عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "على المرء

المسلم السمع والطاعة، فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية. فإن أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة". 4184 - عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشا وأمر عليهم رجلا، فأوقد نارا وقال: ادخلوها، فأراد ناس أن يدخلوها، وقال الآخرون إنا قد فررنا منها. فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للذين أرادوا أن يدخلوها "لو دخلتموها لم تزالوا فيها إلى يوم القيامة" وقال للآخرين قولا حسنا. وقال "لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف". 4185 - عن علي رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية. واستعمل عليهم رجلا من الأنصار. وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا. فأغضبوه في شيء، فقال اجمعوا لي حطبا فجمعوا له. ثم قال: أوقدوا نارا، فأوقدوا. ثم قال: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا: بلى. قال: فادخلوها. قال: فنظر بعضهم إلى بعض. فقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار. فكانوا كذلك. وسكن غضبه. وطفئت النار. فلما رجعوا، ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال "لو دخلوها ما خرجوا منها إنما الطاعة في المعروف". 4186 - عن عبادة بن الوليد بن عبادة عن أبيه عن جده، قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم. 4187 - عن جنادة بن أبي أمية، قال: دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض، فقلنا: حدثنا أصلحك الله بحديث ينفع الله به سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: دعانا

رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا، ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان". 4188 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إنما الإمام جنة، يقاتل من ورائه، ويتقى به، فإن أمر بتقوى الله عز وجل وعدل، كان له بذلك أجر، وإن يأمر بغيره كان عليه منه". -[المعنى العام]- لا بد لكل مجموعة من قيادة، حتى مجموعات الحيوانات، لو لم تتخذ لها قيادة منها تبعثرت، وضاعت، وسهل افتراسها، وإن الذئب يأكل من الغنم القاصية الشاردة عن جماعتها، ولذلك نجد الراعي يقود واحدة فينقاد غيرها تبعا لها، وملكة النحل تنفرد من بين النحل بالملك والحكم. والبشرية منذ فجر التاريخ تتخذ لمجموعاتها قادة، مهما صغرت المجموعات، فللطائرة قائد، وللباخرة قائد وللجيش قائد، ومهمة القادة إصدار الأوامر، وتحمل مسئوليتها، ومهمة الرعية الانقياد والسمع والطاعة، حتى البيت الصغير المكون من زوج وزوجة، جعل الله القوامة فيه للرجل، وأوجب الطاعة على المرأة، قانون سماوي في تشريعات الله، وأرضى في تشريعات البشر وسلوكهم، وبه وعليه تتآلف المجتمعات وتتعايش، لأن الأفهام تختلف، ووجهات النظر تتشعب وتتعارض، فكان لا بد من التسليم والانقياد للقيادة، لتسير القافلة. والقيادة في الشريعة الإسلامية مسئولية وتبعات وأحمال، وليست عزا وسلطانا وتجبرا وتسلطا، بل لها حقوق، وعليها واجبات، هذه المسئولية هي التي جعلت عمر يقول عن الخلافة: ليتني أخرج منها كفافا لا لي ولا علي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته". إن التعسف في استخدام الحق يسقط الحق، وإذا كانت الرعية قد أمرت بطاعة الراعي والسمع له، فإن الراعي قد طلب منه صيانة الرعية والنصح لهم والشفقة عليهم، وأن يشاورهم ويشركهم في الرأي، وأن لا يأمرهم بمعصية، فإن أمرهم بمعصية فليس له طاعة، قانون متوازن، حقوق وواجبات لكل من الحاكم والمحكوم، جعلت الخليفة الأول صلى الله عليه وسلم يقول يوم توليه الخلافة: أيها الناس، إني وليت عليكم، ولست بخيركم، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم. وهذا المبدأ الإلهي الذي بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم للأمة طبقه صلى الله عليه وسلم في حادثة يرويها الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيقول:

أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قطعة من الجيش أميرا، وأوصاه بالرفق بجنده، ووصى جنده بالسمع والطاعة له، وخرجت السرية، يأمرها الأمير فتطيع، لكن وقع من بعض أفرادها التوقف عن إطاعة أمر من الأمور، فغضب الأمير، وفكر في درس للجند يجعلهم ينفذون الأوامر، ولو كانوا كارهين، ولو كانوا لا يعرفون حكمتها ولا نتائجها، كشأن الأوامر العسكرية في هذه الأزمان، فقال لهم وقد نزلوا منزلا: اجمعوا لي حطبا، فجمعوا له حطبا، قال لهم: أوقدوا لي على هذا الحطب، فأوقدوا له الحطب، واشتعلت النار، فقال لهم: ألم يقل لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا: بلى قال: فإني أدعوكم وآمركم بعزم وتصميم أن تدخلوا هذه النار، ألقوا أنفسكم فيها، هذا أمري فأطيعوه، وإلا كنتم عاصين لأمره صلى الله عليه وسلم لكم بالسماع لي وطاعتي، ونظر بعضهم إلى بعض، يقول بعضهم: علينا تنفيذ الأوامر، وفي تنفيذها النجاة من نار جهنم، وفي تنفيذها النجاة في الدنيا، لن تحرقنا إذا كنا بدخولها نطيع الله، فقد كانت بردا وسلاما على إبراهيم، وقال الآخرون: لقد فررنا بديننا من أهلينا الكفار هروبا من نار جهنم، ودخولنا هذه النار معصية، والمعصية تؤدي إلى النار، فلن ندخلها، وهم بعض الفريق الأول أن يدخلوها، فحجزهم الأمير، وقال لهم: إنما كنت أمزح معكم، وأختبر مدى طاعتكم لي، ولم أكن أقصد دخولكم فيها. ورجعت السرية إلى المدينة، وأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بما وقع لها، فشكر الفريق الذي امتنع، وأثنى عليه ومدحه، وبين لهم أن الأمر بالطاعة ليس مطلقا، بل لا يدخل فيه الأمر بالمعصية، والأمر بدخول النار هنا معصية، لأنه أمر بإلقاء أنفسكم في التهلكة، وأمر بقتل النفس، وقتل النفس من أكبر الكبائر، وقال للذين هموا بدخول النار: لو دخلتموها ما خرجتم منها إلى موتى محروقين، عاصين، فكنتم مستحقين لنار الآخرة الدائمة، واعلموا أنه لا طاعة لأمير في معصية الله. -[المباحث العربية]- {يا أيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء: 59] قال العلماء: النكتة في إعادة العامل "أطيعوا" في الرسول دون أولي الأمر، مع أن المطاع في الحقيقة هو الله تعالى، كون الذي يعرف به ما يقع به التكليف هما القرآن والسنة، فكأن التقدير: أطيعوا الله فيما نص عليكم في القرآن، وأطيعوا الرسول فيما بين لكم من القرآن، وما ينصه عليكم من السنة، أو المعنى أطيعوا الله فيما يأمركم به من الوحي المتعبد بتلاوته، وأطيعوا الرسول فيما يأمركم به من الوحي الذي ليس بقرآن، وقال الطيبي: أعاد الفعل في قوله {وأطيعوا الرسول} إشارة إلى استقلال الرسول بالطاعة، ولم يعده في {وأولي الأمر منكم} إشارة إلى أنه يوجد فيهم من لا تجب طاعته. قال النووي: قال العلماء: المراد بأولي الأمر من أوجب الله طاعته من الولاة والأمراء، هذا قول جماهير السلف والخلف من المفسرين والفقهاء وغيرهم، وقيل: هم العلماء، وقيل: هم العلماء والأمراء، أما من قال: الصحابة خاصة فقط فقد أخطأ. اهـ. وذكر البخاري هذه الآية أول كتاب الأحكام إشارة

منه إلى ترجيح القول بأنها في طاعة الأمراء، ويؤيده في هذا الترجيح أن قبلها قوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} [النساء: 58]. (نزل في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي السهمي، بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية) وسرية عبد الله بن حذافة أرخها ابن سعد في ربيع الآخر لسنة تسع، وقد ذكر البخاري روايتنا التاسعة والعاشرة مع اختلاف يسير في بعض الألفاظ تحت باب سرية عبد الله بن حذافة فهو المراد من الأمير الذي أمر جنده بدخول النار، قال الحافظ ابن حجر: ويبعده وصف عبد الله بن حذافة السهمي القرشي المهاجري بكونه أنصاريا، إذ جاء في روايتنا العاشرة "واستعمل عليهم رجلا من الأنصار" ثم قال الحافظ: ويحتمل الحمل على المعنى الأعم، أي أنه نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجملة. اهـ. وهذا تعسف بعيد، وأما ابن الجوزي فقال: قوله "من الأنصار" وهم من بعض الرواة، وإنما هو سهمي، واستبعد بعضهم نزول هذه الآية بشأن قصة هذا الأمير، فإن الصواب فيها عدم الطاعة، ورد الحافظ ابن حجر بأن المقصود من الآية في قصة هذا الأمير قوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} لأنهم تنازعوا في امتثال ما أمرهم به، وسببه أن الذين هموا أن يطيعوه وقفوا عند امتثال الأمر بالطاعة، والذين امتنعوا عارضه عندهم الفرار من النار، فناسب أن ينزل في ذلك ما يرشدهم إلى ما يفعلونه عند التنازع، وهو الرد إلى الله وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم. (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن يعصني فقد عصى الله) في الرواية الثالثة "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله" أي لأني لا آمر إلا بما أمر الله به، فمن فعل ما آمره به فإنما أطاع من أمرني أن آمره، ويحتمل أن يكون المعنى: لأن الله أمر بطاعتي، فمن أطاعني فقد أطاع أمر الله له بطاعتي، وفي المعصية كذلك، والجملة الأولى منتزعة من قوله تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} [النساء: 80]. (ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني) في الرواية الثالثة "ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني" قال الحافظ ابن حجر: ويمكن رد اللفظين لمعنى واحد [وأن يراد مطلق أمير، أعم من أميره صلى الله عليه وسلم] فإن كل من يأمر بحق، وكان عادلا، فهو أمير الشارع، لأنه تولى بأمره وشريعته. (عليك السمع والطاعة) "عليك" اسم فعل أمر، أي الزم، و"السمع" مفعول به لاسم الفعل. (في عسرك ويسرك) أي فيما يشق عليك، وتكرهه نفسك، وفيما تحب وترضى، أي على كل حال. (ومنشطك ومكرهك) "منشط" بفتح الميم والشين، بينهما نون ساكنة، ومكره على وزنها، أي في حالة نشاطك، وفي الحالة التي تكون فيها عاجزا عن العمل بما تؤمر به، قال ابن التين: والظاهر أنه أراد وقت الكسل والمشقة في الخروج، ليطابق المنشط، ويؤيده ما جاء عند أحمد بلفظ "في النشاط والكسل" وفي رواية البخاري "فيما أحب وكره".

(وأثرة عليك) بفتح الهمزة والثاء، ويقال بضم الهمزة وإسكان الثاء، وبكسر الهمزة وإسكان الثاء، ثلاث لغات، أي الاستئثار بحظوظ الدنيا، والاختصاص بها دونك، وحرمانك من حقوقك. (إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع) المفعول محذوف، أي أسمع لأمرائي وأطيعهم. (وإن كان عبدا مجدع الأطراف) أي وإن كان من ولي علي عبدا مجدع الأطراف، بضم الميم وفتح الجيم وتشديد الدال، أي مقطوعها، والمراد أخس العبيد، أي أسمع وأطيع للأمير، وإن كان دنيء النسب، حتى لو كان عبدا أسود مقطوع الأطراف، فطاعته واجبة، وفي ملحق الرواية "عبدا حبشيا مجدع الأطراف" وفي الرواية السادسة "عبد يقودكم بكتاب الله، فاسمعوا له وأطيعوا" وفي الرواية السابعة "عبد مجدع -أسود" وعند البخاري "وإن استعمل عليكم عبد حبشي، كأن رأسه زبيبة" أي في تجمعها وصغرها، وسواد شعرها، وهو تمثيل في الحقارة، وبشاعة الصورة، وعدم الاعتداد بها، و"إن استعمل" بضم التاء وكسر الميم، أي جعل عاملا، بأن تأمر إمارة عامة على البلد مثلا، أو ولي فيها ولاية خاصة، كالإمامة في الصلاة، أو جباية الخراج، أو مباشرة الحرب. وسيأتي الكلام على ولاية العبد في فقه الحديث. (فأوقد نارا) أي فأمر بإيقاد نار، ففي الرواية العاشرة "فأغضبوه في شيء، فقال: اجمعوا لي حطبا، فجمعوا له، ثم قال: أوقدوا نارا، فأوقدوا .... " وفي ظنهم أنهم سيصنعون عليها صنيعا لهم، أو يصطلون. (وقال: ادخلوها) في الرواية العاشرة "ثم قال: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا: بلى. قال: فادخلوها" وفي رواية "قال: أليس عليكم السمع والطاعة؟ قالوا: بلى. قال: أعزم عليكم بحقي وطاعتي لما تواثبتم في هذه النار" وقد ذهب العلماء مذاهب شتى في حقيقة أمره لهم بدخولها، فقيل: إنه على الحقيقة، وإنه كان قاصدا تنفيذهم الأمر، لأنه كان مغضبا غضبا شديدا، أغلق عليه باب الحكمة، ففي الرواية العاشرة "فأغضبوه في شيء ... فسكن غضبه" وفي رواية البخاري "فغضب عليهم" وهذا القول بعيد، وقيل: إنه قال لهم ذلك هازلا، فقد روي أنه كانت به دعابة، وأنهم تحجزوا، حتى ظن أنهم سيثبون فيها قال لهم: احبسوا أنفسكم، فإنما كنت أضحك معكم". وقيل: إنه أراد أن يؤكد لهم أن طاعة الأمير واجبة، وأن من تركها دخل النار، فأوقد لهم النار، وأمرهم بدخولها، ليخافوا منها، ويستصعبوا دخولها، فيخافوا النار الكبرى، فيسمعوا ويطيعوا، وكأن قصده أنه لو رأى منهم الجد في دخولها لمنعهم، كما تقدم لطفلك قطعة من النار، وتطلب منه أن يلمسها، ليحذر النار الحقيقية، والمراد من غضبه على هذين القولين الغضب الخفيف، الناشئ عن شيء من المخالفة، الدافع إلى الزجر والتخويف، فلما رأى منهم ما رأى سكن غضبه، فقد تحقق له هدفه.

(فأراد ناس أن يدخلوها) رأوا أن الأمر بالطاعة مطلق، وأن هذه الحالة داخلة فيه، كما في الأوامر التي تصدر للصاعقة في الجيوش الحديثة، أو أنهم ظنوا أنهم إذا دخلوها لا تضرهم، لأن دخولهم بسبب طاعة أميرهم، لكن هذه الإرادة لم ينفذها أحد، وإن كانوا تكلموا بها، فعلمت إرادتهم. (وقال الآخرون: إنا قد فررنا منها) أي إنما أسلمنا فرارا من النار، فكيف ندخلها؟ ففي الرواية العاشرة "إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار، فكانوا كذلك" فريقا يقبل اقتحامها، وفريقا يرفض اقتحامها" وسكن غضبه، وطفئت النار" وحدها، وفي رواية البخاري "فبينما هم كذلك إذ خمدت النار" و"خمدت" بفتح الميم" وضبط في بعض الروايات بكسر الميم، ولا يعرف في اللغة، ومعنى "خمدت" سكن لهبها، وإن لم يطفأ جمرها، فإن طفئ قيل: همدت. (فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم) في الرواية العاشرة "فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم" وفي رواية البخاري "فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم". (فقال للذين أرادوا أن يدخلوها: لو دخلتموها لم تزالوا فيها إلى يوم القيامة) الضمير للنار التي أوقدت، وليس لنار جهنم، والمعنى: أنهم لو دخلوا فيها لاحترقوا، فماتوا، فلم يخرجوا إلى يوم القيامة، وفي الرواية العاشرة "لو دخلوها ما خرجوا منها" أي أحياء، وعند البخاري "ما خرجوا منها إلى يوم القيامة" وفي رواية "ما خرجوا منها أبدا". وكون الضمائر للنار التي أوقدت هو الظاهر، ويحتمل أن يكون الضمير في "لو دخلتموها" للنار التي أوقدوها، والضمير في "لم تزالوا فيها و"ما خرجوا منها" لنار الآخرة، ففي العبارة نوع من أنواع البديع، المعروف بالاستخدام، والمعنى لو دخلوا هذه النار كانوا عاصين، مستحقين دخول نار جهنم، لأنهم قتلوا أنفسهم، وما خرجوا من نار جهنم، وليس المراد أنهم يخلدون في نار جهنم، لأنه سيخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، وإنما المراد به الزجر والتخويف، وقيل: لو دخلوها مستحلين. (إنما الطاعة في المعروف) أي لا طاعة في معصية الله، ففي رواية "من أمركم منهم بمعصية فلا تطيعوه". (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم) بسكون العين، وفي الرواية الثانية عشرة "دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه" والمراد من المبايعة المعاهدة، وهي مأخوذة من البيع، لأن كل واحد من المتبايعين كان يمد يده إلى صاحبه، وكذا البيعة، كانت بأخذ الكف، وقيل: سميت مبايعة لما فيها من المفاوضة لما وعدهم الله تعالى من عظيم الأجر، في قوله تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} [التوبة: 111]. وعبادة بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث بيعات، الأولى من الأنصار ليلة العقبة، قبل الهجرة، فكان من الاثنى عشر الذين بايعوا في العقبة الأولى، وقد ذكر ابن إسحق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن حضر من الأنصار: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم، فبايعوه على ذلك، وأخرج أحمد

والطبراني عن عبادة "أنه جرت له قصة مع أبي هريرة عند معاوية بالشام، فقال: يا أبا هريرة، إنك لم تكن معنا إذ بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن نقول بالحق، ولا نخاف في الله لومة لائم، وعلى أن ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم علينا يثرب، فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا، ولنا الجنة، فهذه بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم بايعناه عليها". البيعة الثانية التي بايعها عبادة بيعة الحرب، وكانت بعد الهجرة، وكانت على عدم الفرار. والثالثة البيعة التي وقعت على نظير بيعة النساء، بعد فتح مكة. (وعلى أن لا ننازع الأمر أهله) أي أن لا ننازع أهل الأمر أمرهم، أي أن لا ننازع الملوك والأمراء ملكهم وإمارتهم، زاد أحمد "وإن رأيت أن لك" أي وإن اعتقدت أن لك "في الأمر حقا" أي فلا تعمل بذلك الظن، بل اسمع وأطع، إلى أن يصل إليك بغير خروج عن الطاعة. وزاد ابن حبان "وإن أكلوا مالك، وضربوا ظهرك". (وعلى أن نقول بالحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم) قال النووي: معناه نأمر بالمعروف وننهي عن المنكر في كل زمان ومكان، الكبار والصغار، لا نداهن فيه أحدا، ولا نخافه هو، ولا نلتفت إلى الأئمة. (حدثنا -أصلحك الله- بحديث ينفع الله به) "أصلحك الله" جملة خبرية لفظا، طلبية معنى، معترضة، وهي كلمة اعتادوها عند افتتاح الطلب، والظاهر أنهم أرادوا الدعاء له بالصلاح في جسمه، ليعافى من مرضه، أو أعم من ذلك. (فكان فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة ..... ) "أن بايعنا" هكذا الرواية بفتح العين، أي بايعنا هو على السمع والطاعة له، أي أخذ علينا مبايعته لنا على السمع والطاعة له، كذا وجهها الحافظ ابن حجر، والأولى أن تكون بسكون العين، أي أخذ علينا مبايعتنا له على السمع والطاعة له، لقوله قبل "فبايعناه" ولأنه أخذ عليهم مبايعتهم له، لا مبايعته لهم. والله أعلم. (إلا أن تروا كفرا بواحا) بباء مفتوحة، بعدها واو، أي ظاهرا باديا، يقال: باح بالشيء، يبوح به، بوحا، وبواحا، إذا أذاعه وأظهره، وأنكر بعضهم "بواحا" وقال: إنما يجوز "بوحا" بسكون الواو، و"بؤاحا" بضم أوله ثم همزة ممدودة، وروي بالراء بدل الواو "براحا" قال الخطابي: وهو قريب من هذا المعنى، وأصل البراح الأرض القفراء، التي لا أنيس فيها ولا بناء، وروي عند الطبراني "كفرا صراحا" بصاد مضمومة، بعدها راء، وفي رواية "إلا أن يكون معصية لله بواحا" وعند أحمد "ما لم يأمروك بإثم بواحا". وعند أحمد والطبراني والحاكم عن عبادة "سيلي أموركم من بعدي رجال، يعرفونكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون، فلا طاعة لمن عصى الله" وعند ابن أبي شيبة "سيكون عليكم أمراء، يأمرونكم بما لا تعرفون، ويفعلون ما تنكرون، فليس لأولئك عليكم طاعة".

(عندكم من الله فيه برهان) أي نص صريح من القرآن أو السنة، لا يحتمل التأويل، قال النووي: المراد بالكفر هنا المعصية، ومعنى الحديث: لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم، ولا تعترضوا عليهم، إلا أن تروا منهم منكرا محققا، تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكروا عليهم، وقولوا بالحق حيثما كنتم، وقال غيره: المراد من الكفر هنا معناه الشرعي، فلا يعترض على السلطان إلا إذا وقع في الكفر الظاهر، قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر حمل رواية الكفر على ما إذا كانت المنازعة في الولاية، فلا ينازع في الولاية إلا إذا ارتكب الكفر، وحمل رواية المعصية على ما إذا كانت المنازعة فيما عدا الولاية، وسيأتي مزيد لهذا في فقه الحديث. (إنما الإمام جنة) أي ستر ووقاية، لأنه يمنع العدو من أذى المسلمين، ويمنع الناس بعضهم من بعض، ويحمي بيضة الإسلام، ويتقيه الناس، ويخافون سطوته. (يقاتل من ورائه، ويتقى به) أي يقاتل معه الكفار والبغاة والخوارج وسائر أهل الفساد والظلم. -[فقه الحديث]- قال النووي: أجمع العلماء على وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وعلى تحريمها في المعصية، نقل الإجماع على هذا القاضي عياض وآخرون. ثم قال: وتجب طاعة ولاة الأمور فيما يشق وتكرهه النفوس مما ليس بمعصية، فإن كانت لمعصية فلا سمع ولا طاعة، كما صرح بذلك في الأحاديث، فتحمل الأحاديث الواردة بطاعة أولي الأمر مطلقا على الأحاديث المقيدة بأنه لا سمع ولا طاعة في المعصية. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: والحكمة في الأمر بطاعتهم المحافظة على اتفاق الكلمة، لما في الافتراق من الفساد. اهـ. فإن الخلاف سبب لفساد أحوال المسلمين في دينهم ودنياهم. والأحكام الشرعية خمسة: الحرام والمكروه معصية، فإذا أمر بمحرم حرم تنفيذ أمره، وكذلك إذا نهي عن واجب، فإذا أمر بفعل مكروه، أو نهي عن فعل مندوب كره تنفيذ أمره ونهيه، وشرط بعضهم في ذلك أن لا يتعرض المحكوم في ذلك إلى عنت الحاكم وقهره وجبروته ولا إلى ضرر أشد. بقي من الأحكام الشرعية ثلاثة المباح مستوي الطرفين، والمندوب، والواجب، وطاعته وتنفيذ أوامره فيها كلها واجبة بالإجماع، كما سبق. وفي هذا المقام مواضيع متداخلة، فوضع النووي -رحمه الله تعالى- لهذه الأحاديث: باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية، وبعد بابين قال: باب الأمر بالصبر عند ظلم الولاة واستئثارهم، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين، وتحريم الخروج من الطاعة ومفارقة الجماعة، باب حكم من فرق أمر المسلمين، باب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع، وترك قتالهم ما صلوا ... باب البيعة على السمع والطاعة فيما استطاع.

فاضطر في شرحه لأحاديث هذا الباب أن يتكلم عن ولاية العبد، لقوله في رواياتنا الخامسة والسادسة والسابعة "عبدا حبشيا" وأن يتكلم عن انعقاد الإمامة للكافر، وحكم من طرأ عليه الكفر، وخلع الإمام المبتدع والفاجر، لقوله في روايتنا الحادية عشرة والثانية عشرة "وأن لا ننازع الأمر أهله" وسنرجئ الكلام عن هذين الموضوعين للباب الآتي إن شاء الله، ونقتصر هنا على ما يتعلق بالطاعة في غير معصية. ويجب أن نفرق بين طاعة الأوامر والنواهي في المعاصي، وبين طاعة الأمير العاصي أو الفاسق، إذا لم يأمر بمعصية، بمعنى: هل نقوم بالعصيان المدني السلبي للحاكم الفاسق؟ فلا ننفذ أوامره؟ ولو كانت بغير معصية؟ أخرج ابن ماجه وأحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سيلي أموركم بعدي رجال يطفئون السنة، ويعملون بالبدعة، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها. فقلت: يا رسول الله، إن أدركتهم كيف أفعل؟ قال: تسألني يا ابن أم معبد؟ كيف تفعل؟ لا طاعة لمن عصى الله" فظاهر هذا الحديث أنهم لا يطاعون في أوامرهم، لكن روى مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا أبا ذر، كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يميتون الصلاة -أو قال: يؤخرون الصلاة؟ قلت: يا رسول الله، فما تأمرني؟ قال: صل الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصلها، فإنها لك نافلة" والحق أن طاعة هؤلاء في أوامرهم بغير المعصية واجبة، أما واجب أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر فهو باب آخر. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - من الرواية التاسعة والعاشرة أن الحكم في حال الغضب ينفذ منه ما لا يخالف الشرع. 2 - أن الغضب يغطي على ذوي العقول. 3 - أن الإيمان بالله ينجي من النار، لقولهم: إنما فررنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من النار، والفرار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرار إلى الله، والفرار إلى الله يطلق على الإيمان، قال تعالى: {ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين} [الذاريات: 50]. 4 - وفيه أن الأمر المطلق لا يعم الأحوال، لأنه صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يطيعوا الأمير، فحملوا ذلك على عموم الأحوال، حتى في حال الغضب، وفي حال الأمر بالمعصية، فبين لهم صلى الله عليه وسلم أن الأمر بطاعته مقصور على ما كان منه في غير معصية. 5 - واستنبط منه ابن أبي جمرة أن الجمع من هذه الأمة لا يجتمعون على خطأ، لانقسام السرية قسمين. 6 - وفيه أن من كان صادق النية لا يقع إلا في خير، ولو قصد الشر فإن الله يصرفه عنه، قال الحافظ ابن حجر: ولهذا قال بعض أهل المعرفة: من صدق مع الله وقاه الله، ومن توكل على الله كفاه الله.

7 - ومن الرواية الحادية عشرة من قوله "وعلى أن نقول بالحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم" وجوب القيام بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. قال النووي: أجمع العلماء على أنه فرض كفاية، فإن خاف من ذلك على نفسه أو ماله أو على غيره سقط الإنكار بيده ولسانه، ووجبت كراهته بقلبه. هذا مذهبنا ومذهب الجماهير، وحكى القاضي عياض عن بعضهم أنه ذهب إلى الإنكار مطلقا، في هذه الحالة وغيرها. والله أعلم.

(514) باب وجوب الوفاء ببيعة الخليفة الأول فالأول

(514) باب وجوب الوفاء ببيعة الخليفة الأول فالأول 4189 - عن أبي حازم قال: قاعدت أبا هريرة رضي الله عنه خمس سنين. فسمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء. كلما هلك نبي خلفه نبي. وإنه لا نبي بعدي. وستكون خلفاء تكثر" قالوا: فما تأمرنا؟ قال "فوا ببيعة الأول فالأول. وأعطوهم حقهم. فإن الله سائلهم عما استرعاهم". 4190 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها" قالوا: يا رسول الله كيف تأمر من أدرك منا ذلك؟ قال "تؤدون الحق الذي عليكم. وتسألون الله الذي لكم". 4191 - عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة قال: دخلت المسجد، فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة، والناس مجتمعون عليه. فأتيتهم فجلست إليه. فقال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا منزلا، فمنا من يصلح خباءه، ومنا من ينتضل، ومنا من هو في جشره. إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة جامعة. فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنه لم يكن نبي قبلي، إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم. وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها. وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها. وتجيء فتنة فيرقق بعضها بعضا. وتجيء الفتنة فيقول المؤمن هذه مهلكتي، ثم تنكشف. وتجيء الفتنة فيقول المؤمن هذه هذه. فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة، فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر. وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه. ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع. فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر". فدنوت منه فقلت له: أنشدك الله آنت سمعت هذا من

رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيديه، وقال: سمعته أذناي ووعاه قلبي. فقلت له: هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ونقتل أنفسنا. والله يقول {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} [النساء: 29] قال: فسكت ساعة، ثم قال: أطعه في طاعة الله واعصه في معصية الله. 4192 - وفي رواية عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة الصائدي، قال: رأيت جماعة عند الكعبة. فذكر نحو حديث الأعمش. -[المعنى العام]- لا بد للناس من إمام يجمعهم، ويراعي مصالحهم، وينصف المظلوم من الظالم، وللإمام حقوق على رعيته، وللرعية حقوق على إمامهم، وقد أجمعت النصوص على وجوب التزام الرعية بواجباتها نحو الإمام، سبق بعضها في الباب قبله، وفي هذا الباب، وسيأتي الكثير منها في الباب التالي. أما حقوقها على راعيها فتكاد النصوص تجمع على نصح الإمام، وطلب الحقوق منه بالحسنى، وعدم اللجوء معه إلى القوة، خوف الفتنة، إلا إذا رأى الرعية في راعيها كفرا صريحا واضحا لا يقبل التأويل. -[المباحث العربية]- (كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء) أي تتولى أمورهم الأنبياء، كما يتولى الحكام أمور الرعية، وقيل: المعنى أنهم كانوا إذا ظهر فيهم فساد بعث الله لهم نبيا يقيم لهم أمرهم بينهم ويزيل ما غيروا من أحكام التوراة، والأول أظهر في هذا المقام. يقال: ساس الناس يسوسهم سياسة: تولى رياستهم وقيادتهم. (وأنه لا نبي بعدي) أي فيفعل ما كان أولئك يفعلون. (وستكون خلفاء فتكثر) وفي رواية البخاري "وسيكون خلفاء" أي بعدي، وتذكير الفعل وتأنيثه جائزان مع الفاعل إذا كان جمع تكسير، قال النووي: قوله "فتكثر" بالثاء من الكثرة. هذا هو الصواب المعروف، قال القاضي: وضبطه بعضهم "فتكبر" بالباء، كأنه من إكبار قبيح أفعالهم، وهذا تصحيف اهـ. وفي رواية البخاري "فيكثرون" وضبط أيضا "فيكبرون" بالباء وهو تصحيف.

(قالوا: فما تأمرنا) أن نفعل إذا وقع ذلك؟ وفي الرواية الثانية "كيف تأمر من أدرك منا ذلك"؟ (قالوا: فوا ببيعة الأول فالأول) "فوا" فعل أمر بالوفاء، والمعنى أنه إذا بويع لخليفة بعد خليفة فبيعه الأول صحيحة، يجب الوفاء بها، وبيعة الثاني باطلة، وسيأتي تفصيل لذلك في فقه الحديث. (وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم) أي أطيعوهم، وعاشروهم بالسمع والطاعة، هذا حقهم عليكم، أما حقكم عليهم فمحاسبهم عليه هو الله تعالى، وهو سائل كل راع عما استرعاه. وفي الرواية الثانية "تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم" أي الحق الذي لكم عندهم. أي أدوا للأمراء الحق الذي وجب لهم عليكم، سواء ما يخصهم من السمع والطاعة لهم، أو ما يعمهم والرعية والإسلام من بذل المال الواجب في الزكاة وغيرها، وبذل النفس في الخروج إلى الجهاد المتعين ونحو ذلك، أما حقكم عليهم -إن حرمتموه- فسلوا الله تعالى بأن يلهمهم إنصافكم، أو يبدلكم خيرا منهم. وفي الرواية الثالثة "وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه" أي وليفعل مع الناس ما يحب أن يفعلوه معه، وقد جاء: عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، لا بما يعاملونك به. (عن عبد الله) بن مسعود رضي الله عنه. (دخلت المسجد) أي الحرام بمكة. (والناس مجتمعون عليه) يطلبون العلم منه. (فمنا من يصلح خباءه) الخباء بيت من وبر أو شعر أو صوف، يكون على عمودين أو ثلاثة، وجمعه أخبية، وأصله أخبئة، خففت الهمزة، والمقصود هنا من إصلاحه إقامته في المكان الذي نزلوا فيه. (ومنا من ينتضل) أي يرمي بالنشاب، ويتدرب على الرمي والإصابة، تمهيدا للمعركة، وهو من المناضلة، يقال: نضله بفتح الضاد، ينضله بضمها، إذا سبقه وغلبه في الرماية. (ومنا من هو في جشره) بفتح الجيم والشين، وهي الدواب التي ترعى وتبيت مكانها، يقال: جشر الدواب أخرجها للرعي قريبا من البيوت. (الصلاة جامعة) بنصب "الصلاة" على الإغراب، و"جامعة" على الحال. (وتجيء فتنة فيرقق بعضها بعضا) قال النووي: لفظة "فيرقق" رويت على أوجه، أحدها: "يرقق" بضم الياء، وفتح الراء، وبقافين، أولاهما مشددة مكسورة أي يصير بعضها بعضا رقيقا، أي

تأتي الفتنة، ثم الأعظم منها، فتصير كل واحدة ما قبلها رقيقة خفيفة بالنسبة لما بعدها، وقيل: يدور بعضها في بعض، ويذهب ويجيء، وقيل: يشبه بعضها بعضا، وقيل: معناه يسوق بعضها إلى بعض السوء والشر، والوجه الثاني الذي رويت به اللفظة "فيرفق" بفتح الياء، وإسكان الراء، بعدها فاء مضمومة، أي فيصاحب بعضها بعضا، فيصير رفيقا له. الوجه الثالث "فيدفق" بفتح الياء وإسكان الدال وكسر الفاء وضمها، والدفق الدفع والصب. (وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي) لشدة ما يرى من أهوالها، ثم تنكشف دون أن يهلك. (وتجيء الفتنة) أكبر وأشد من الأولى. (فيقول المؤمن: هذه هذه) الإشارة خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: المهلكة حقا هذه لا غيرها، والإشارة الثانية تأكيد للأولى. (فمن أحب أن يزحزح عن النار) ببناء الفعل "يزحزح" للمجهول وكذا "يدخل الجنة". (فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه) أي إن النجاة من الفتن إنما يكون بتحكيم الإيمان وشرائعه، وأن يضع الإنسان نفسه في مكان الآخرين، وأن يفعل معهم ما يحب أن يفعلوه معه. (ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع) كانت المبايعة بوضع اليد في اليد، ثم بذكر المبايع عليه، يقال: أعطاه صفقة يده، أي أعطاه عهده، ومعنى "فليطعه إن استطاع" أي ما وجد إلى طاعته قدرة وسبيلا. (فإن جاء آخر ينازعه) أي ينازع الإمام الذي أخذ البيعة. (فاضربوا عنق الآخر) أي ادفعوا الثاني، فإنه خارج على الإمام، فإن لم يندفع إلا بالحرب والقتال فقاتلوه، فإن دعت المقاتلة إلى قتله جاز قتله، ولا ضمان، لأنه ظالم متعد في قتاله. (هذا ابن عمك معاوية يأمرنا .... إلخ) المقصود بهذا الكلام أن هذا القائل لما سمع كلام عبد الله بن عمرو بن العاص في تحريم منازعة الخليفة الأول، وأن الثاني يقتل، اعتقد أن هذا الوصف في معاوية، لمنازعته عليا رضي الله عنهما وكانت قد سبقت بيعة علي، فرأى أن الأموال التي ينفقها معاوية على الجنود وغيرهم من الأتباع في حرب علي ومنازعته ومقاتلته إياه من قبيل أكل المال بالباطل، ورأى أن دفع معاوية جنوده لقتال جنود علي من قبيل قتل النفس، لأنه قتال بغير وجه حق، فكأنه يقول لعبد الله بن عمرو: أنت تأمر بشيء، وتحذر من شيء وابن عمك لا يعمل بما تأمر، ولا يحذر ما تحذر.

(فسكت ساعة) أي فترة من الزمن، يفكر بم يجيبه؟ والأمر يحتاج جوابا سياسيا يرضى الله ولا يعرض نفسه لسخط معاوية. (أطعه في طاعة الله واعصه في معصية الله) "أطعه" همزة قطع و"اعصه" همزة وصل، ولم يجب عبد الله رضي الله عنه عن الاعتراض، وإنما ترك تطبيق القاعدة الشرعية للرجل، إذ اعتراض الرجل أن ما يفعله معاوية فتنة ومعصية. (عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة الصائدي) قال النووي: هكذا هو في جميع النسخ بالصاد والدال، وكذا نقله القاضي عياض عن جميع النسخ، قال: وهو غلط، وصوابه "العائذي" بالعين والذال، قال ابن الحباب والنسابة. هذا كلام القاضي، وقد ذكره البخاري في تاريخه والسمعاني في الأنساب فقالا: هو "الصائدي" ولم يذكرا غير ذلك، فقد اجتمع مسلم والبخاري والسمعاني على "الصائدي" قال السمعاني: هو منسوب إلى صائد، بطن من همدان، قال: و"صائد" اسم كعب بن شرحبيل بن عمرو بن حشم بن حاسد بن حشيم بن حوان بن نوف .... إلخ. -[فقه الحديث]- بوب النووي لهذه الأحاديث بباب وجوب الوفاء ببيعة الخليفة الأول فالأول، أخذا من قوله في الرواية الأولى "فوا ببيعة الأول فالأول" اهـ. والأحاديث في هذه الأبواب -كما قلنا- متداخلة، والأمر بطاعة أولي الأمر قدر مشترك بين جميعها. لهذا سأجمع بعض الأبواب الآتية التي وضعها النووي، سأجمعها في باب واحد، فيما بعد هذا الباب إن شاء الله. ثم تعرض النووي إلى حكم مبايعة خليفة بعد خليفة، فقال: إذا بويع لخليفة بعد خليفة فبيعة الأول صحيحة، يجب الوفاء بها، وبيعة الثاني باطلة، يحرم الوفاء بها، ويحرم عليه طلبها، وسواء عقدوا للثاني عالمين بعقد الأول، أو جاهلين، وسواء كانا في بلدين أو بلد، أو أحدهما في بلد الإمام المنفصل والآخر في غيره، هذا هو الصواب الذي عليه أصحابنا وجماهير العلماء، وقيل: تكون لمن عقدت له في بلد الإمام، وقيل: يقرع بينهما، وهذان القولان فاسدان، قال: واتفق العلماء على أنه لا يجوز أن يعقد لخليفتين في عصر واحد، سواء اتسعت دار الإسلام أم لا، وقال إمام الحرمين في كتابه الإرشاد: قال أصحابنا: لا يجوز عقدها لاثنين. قال: وعندي أنه لا يجوز عقدها لاثنين في صقع واحد، وهذا مجمع عليه، قال: فإن بعدما بين الإمامين، وتخللت بينهما شسوع فللاحتمال فيه مجال، قال: وهو خارج من القواطع -أي الأدلة المقطوع بها- وحكى المازري هذا القول عن بعض المتأخرين من أهل الأصل، وأراد به إمام الحرمين، وهو قول فاسد، مخالف لما عليه السلف والخلف، ولظواهر إطلاق الأحاديث. اهـ.

وقال القرطبي: في هذا الحديث حكم بيعة الأول، وأنه يجب الوفاء بها، وسكت عن بيعة الثاني، مع أنه قد نص عليه في روايتنا الثالثة "فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر". -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - من قوله في الرواية الأولى "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء ... إلخ" إشارة إلى أنه لا بد للرعية من قائم بأمورها، يحملها على الطريق الحسنة، وينصف المظلوم من الظالم. 2 - ومن قوله "كلما هلك نبي" جواز قول: هلك فلان، إذا مات، وقد كثرت الأحاديث به، وجاء في القرآن الكريم {حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا} [غافر: 34]. 3 - من قوله "وستكون خلفاء فتكثر" معجزة ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. 4 - وكذا في قوله صلى الله عليه وسلم "ستكون بعد أثرة وأمور تنكرونها". 5 - قال الحافظ ابن حجر: في الحديث تقديم أمر الدين على أمر الدنيا، لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بتوفية حق السلطان، لما فيه من إعلاء كلمة الدين، وكف الفتنة والشر، وأخر أمر المطالبة بحق الفرد، وعدم المطالبة بالحق لا يسقطه، فقد وعد الله أنه يخلصه، ويوفيه إياه، ولو في الدار الآخرة. 6 - ومن قوله في نهاية الرواية الثالثة "أطعه في طاعة الله واعصه في معصية الله" دليل لوجوب طاعة المتولين للإمامة بالقهر من غير إجماع ولا عهد. والله أعلم.

(515) باب الأمر بالصبر عند ظلم الولاة واستئثارهم، ووجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال، وتحريم الخروج من الطاعة ومفارقة الجماعة، وحكم من فرق أمر المسلمين وهو مجتمع، والحكم إذا بويع لخليفتين، ووجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع

(515) باب الأمر بالصبر عند ظلم الولاة واستئثارهم، ووجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال، وتحريم الخروج من الطاعة ومفارقة الجماعة، وحكم من فرق أمر المسلمين وهو مجتمع، والحكم إذا بويع لخليفتين، ووجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع، وترك قتالهم ما صلوا. وخيار الأئمة وشرارهم 4193 - عن أسيد بن حضير أن رجلا من الأنصار خلا برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألا تستعملني كما استعملت فلانا؟ فقال "إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض". 4194 - -/- وفي رواية عن قتادة قال: سمعت أنسا يحدث عن أسيد بن حضير: أن رجلا من الأنصار خلا برسول الله صلى الله عليه وسلم بمثله. 4195 - -/- وفي رواية عن شعبة بهذا الإسناد ولم يقل: خلا برسول الله صلى الله عليه وسلم. 4196 - عن علقمة بن وائل الحضرمي، عن أبيه قال: سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم، ويمنعونا حقنا. فما تأمرنا؟ فأعرض عنه. ثم سأله فأعرض عنه. ثم سأله في الثانية أو في الثالثة. فجذبه الأشعث بن قيس وقال: "اسمعوا وأطيعوا. فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم". 4197 - وفي رواية عن سماك بهذا الإسناد مثله وقال: فجذبه الأشعث بن قيس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم".

4198 - عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير. وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني. فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير. فهل بعد هذا الخير شر؟ قال "نعم" فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال "نعم وفيه دخن" قلت: وما دخنه؟ قال "قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي. تعرف منهم وتنكر" فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال "نعم دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها" فقلت: يا رسول الله صفهم لنا. قال "نعم. قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا" قلت: يا رسول الله فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم" فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك". 4199 - عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله إنا كنا بشر، فجاء الله بخير فنحن فيه. فهل من وراء هذا الخير شر؟ قال: نعم. قلت: هل وراء ذلك الشر خير؟ قال: نعم. قلت: فهل وراء ذلك الخير شر؟ قال: نعم. قلت: كيف؟ قال: "يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي. وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس. قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: "تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع". 4200 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من خرج من الطاعة وفارق الجماعة، فمات، مات ميتة جاهلية. ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة، فقتل، فقتلة جاهلية. ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني ولست منه". 4201 - -/- وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو حديث جرير. وقال: "لا يتحاش من مؤمنها".

4202 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خرج من الطاعة وفارق الجماعة ثم مات، مات ميتة جاهلية. ومن قتل تحت راية عمية يغضب للعصبة ويقاتل للعصبة، فليس من أمتي. ومن خرج من أمتي على أمتي يضرب برها وفاجرها لا يتحاش من مؤمنها ولا يفي بذي عهدها فليس مني". 4203 - عن ابن عباس رضي الله عنهما يرويه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر. فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتة جاهلية". 4204 - عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كره من أميره شيئا فليصبر عليه، فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرا، فمات عليه، إلا مات ميتة جاهلية". 4205 - عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل تحت راية عمية يدعو عصبية أو ينصر عصبية، فقتلة جاهلية". 4206 - عن نافع قال: جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع، حين كان من أمر الحرة ما كان، زمن يزيد بن معاوية. فقال: اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة. فقال: إني لم آتك لأجلس. أتيتك لأحدثك حديثا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من خلع يدا من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له. ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية". 4207 - -/- وفي رواية عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه أتى ابن مطيع فذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.

4208 - عن عرفجة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان". 4209 - -/- وفي رواية عن عرفجة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله، غير أن في حديثهم جميعا: "فاقتلوه". 4210 - عن عرفجة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم، فاقتلوه". 4211 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا بويع لخليفتين، فاقتلوا الآخر منهما". 4212 - عن أم سلمة رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال ستكون أمراء، فتعرفون وتنكرون. فمن عرف، برئ. ومن أنكر، سلم. ولكن من رضي وتابع" قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: "لا ما صلوا". 4213 - عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنه يستعمل عليكم أمراء. فتعرفون وتنكرون. فمن كره، فقد برئ. ومن أنكر، فقد سلم. ولكن من رضي وتابع" قالوا: يا رسول الله ألا نقاتلهم؟ قال: "لا ما صلوا" أي من كره بقلبه وأنكر بقلبه. 4214 - وفي رواية عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك غير أنه قال: "فمن أنكر فقد برئ. ومن كره فقد سلم".

4215 - -/- وفي رواية عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر مثله إلا قوله: "ولكن من رضي وتابع" لم يذكره. 4216 - عن عوف بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم. وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم" قيل: يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: "لا ما أقاموا فيكم الصلاة. وإذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه، فاكرهوا عمله، ولا تنزعوا يدا من طاعة". 4217 - عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم" قالوا: قلنا: يا رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدا من طاعة" قال ابن جابر: فقلت: (يعني لرزيق) حين حدثني بهذا الحديث: آلله يا أبا المقدام لحدثك بهذا، أو سمعت هذا من مسلم بن قرظة يقول سمعت عوفا يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فجثا على ركبتيه واستقبل القبلة، فقال: إي والله الذي لا إله إلا هو، لسمعته من مسلم بن قرظة يقول: سمعت عوف بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. -[المعنى العام]- يقول الله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا} [آل عمران: 103]. نعمتان أنعم الله بهما على الأمة الإسلامية في فجر دينها، نعمة الأمن، ونعمة التآلف والتواد والتراحم، أما الأمن فقد أمن كل فرد فيها على نفسه وعلى ماله وعلى عرضه، فلم

يكن يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة، وأما المال فلم يعد مسلم يأكل مال أخيه بالباطل، بل لو اؤتمن أحدهم ضمن ووثق من رد أمانته كاملة غير منقوصة. وأما نعمة التآلف والتراحم فقد وصلت إلى درجة الإيثار على النفس ولو كان بها خصاصة، وأنصف الناس بعضهم بعضها، فاستراح القضاة والولاة، وتلاحم الراعي والرعية، وكانت الولاية حملا ثقيلا على صاحبها، يخشى عاقبتها مع أنه أعدل من حكم بعد محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه، ذلكم عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ قال وهو على فراش الموت: أرجو أن أخرج منها -أي من الخلافة- كفافا، لا لي ولا علي، ولم يكد ينتهي عهده حتى صارت الإمارة والولاية غنما وسلطة وسطوة، فقد تولى الإمارات كثير من أقارب عثمان رضي الله عنه، وأبعد عنها كبار الصحابة ومستحقوها من السابقين، وبدأ ظلم الرعية وقهرها، وانتهت هذه المقدمات إلى نتيجة مؤسفة، قتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان، وبويع علي رضي الله عنه بالخلافة، ولم يكن من السهل أن يستتب له الأمر، بعد أن تشعبت الأهواء وامتزجت الدنيا وزينتها بشغاف كثير من القلوب فقامت الحروب بين المسلمين معركتا الجمل وصفين استشهد فيهما كثير، بل آلاف من كبار الصحابة، وكانت النهاية استشهاد علي رضي الله عنه، وإمساك معاوية بن أبي سفيان بزمام أمور الدولة الإسلامية. ثم أخذ البيعة رغبة ورهبة لابنه يزيد، فلما مات يزيد دعا ابن الزبير إلى نفسه، وبايعه بالخلافة أهل الحرمين ومصر والعراق، وبايع له الضحاك بن قيس الفهري بالشام كلها إلا الأردن ومن بها من بني أمية ومن كان على هواهم، فبايعوا مروان فأجابه أهل الشام، فلما مات مروان قام عبد الملك، وقامت الحروب بين المسلمين، وقتل ابن الزبير واستخدم الحجاج أقسى أنواع القتل والتعذيب في المسلمين، حتى روى البخاري أن أبا برزة الأسلمي قال: إني أحتسب عند الله أني أصبحت ساخطا على أحياء قريش، إنكم يا معشر العرب كنتم على الحال الذي علمتم من الذلة والقلة والضلالة، وإن الله أنقذكم بالإسلام، وبمحمد صلى الله عليه وسلم حتى بلغ بكم ما ترون، وهذه الدنيا أفسدت بينكم، إن ذاك الذي بالشام والله ما يقاتل إلا على دنيا -يقصد عبد الملك بن مروان- وإن هؤلاء الذين بين أظهركم -كان بالبصرة، ويقصد الخوارج آنذاك- والله ما يقاتلون إلا على دنيا، وإن ذاك الذي بمكة -يقصد عبد الله بن الزبير- والله ما يقاتل إلا على الدنيا. هذه الحال التي آل إليها أمر المسلمين، حكاما ومحكومين حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: "لا ترجعوا بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض". "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" قيل: يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: "كان حريصا على قتل صاحبه". "ستكون خلفاء، فتكثر" قالوا: فما تأمرنا؟ قال: "فوا ببيعة الأول فالأول". "إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها" قالوا: يا رسول الله، كيف تأمر من أدرك منا ذلك؟ قال: "تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم". "من بايع إماما، فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه، فاضربوا عنق الآخر". "أوصاني خليلي أن أسمع وأطيع، وإن كان عبدا حبشيا مجدع الأطراف". "بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم من الله فيه برهان". "اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم

ما حملوا وعليكم ما حملتم". "تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك". "من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، ثم مات. مات ميتة جاهلية". "من خرج من أمتي على أمتي، يضرب برها وفاجرها، لا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي بذي عهدها، فليس مني". "من أراد أن يفرق أمر هذه الأمة، وهي جميع، فاضربوه بالسيف". تحذيرات كثيرة، وأوامر متعددة، ونواه ووعيد، لم تقف أمام الأهواء والمطامع البشرية فكانت النتيجة -نتيجة البعد عن تعاليم الرسول الحريص علينا- ما نحن فيه حتى اليوم من كثرة كثيرة، لكنها غثاء كغثاء السيل، فرق وشيع وأحزاب في كل دولة، وخصام وتقاطع واتجاهات متعارضة بين الدول الإسلامية. نشهد أن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وعبد ربه حتى أتاه اليقين، وهدى الله المسلمين إلى الصراط المستقيم. -[المباحث العربية]- (ألا تستعملني) السين والتاء للصيرورة، أي ألا تصيرني عاملا لك على الصدقات أو على القضاء، أو الولاية على منطقة؟ و"ألا" بفتح الهمزة ولا، للعرض والتحضيض، وهو الطلب برفق. (إنكم ستلقون بعدي أثرة) بفتح الهمزة والثاء، ويقال: بضم الهمزة وإسكان الثاء، وبكسر الهمزة وإسكان الثاء، ثلاث لغات، وهي الاستئثار والاختصاص بأمور الدنيا، أي اسمعوا وأطيعوا واصبروا، وإن اختص جماعة غيركم بالولايات والدنيا. والخطاب في "إنكم" للأنصاري، أي إنكم معشر الأنصار ستلقون من غيركم بعدي أثرة. قال الحافظ ابن حجر: لا يلزم من مخاطبة الأنصار بذلك أن يختص بهم، فإنه يختص بهم بالنسبة إلى المهاجرين، ويختص ببعض المهاجرين دون بعض، فالمستأثر من يلي الأمر، ومن عداه هو الذي يستأثر عليه، فخطاب الأنصار لوضع معين، وخوطب الجميع بالنسبة لمن يلي الأمر بعد ذلك، فقد ورد بالتعميم في نصوص كثيرة. (أرأيت إن قامت علينا أمراء) "أرأيت" بمعنى أخبرني، عن طريق مجازين، الأول في الاستفهام حيث أريد منه مطلق الطلب بعد أن كان لطلب الفهم، الثاني في الرؤية، حيث أريد منها ما يتسبب عنها غالبا من الإخبار، بعلاقة السببية، فآل الأمر إلى طلب الإخبار المدلول عليه بلفظ أخبرني، أي أخبرني ماذا نفعل إذا تولى علينا ولاة صفتهم كيت وكيت؟ . (يسألونا حقهم، ويمنعونا حقنا) كان حقه أن يقول "يسألوننا" و"يمنعوننا" لكنه حذف نون الأفعال الخمسة تخفيفا على لغة. (فأعرض عنه) أي عن جوابه، إما لأن الأمر لا يعنيه، لأنه لن يدركه، والسؤال عما لا يعني من الحكمة الإعراض عنه، وإما لأن الظروف غير مناسبة لمثل هذا السؤال.

(ثم سأله) تكراره السؤال مع الإعراض عن الجواب لعدم إدراكه للإعراض ظنا منه أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسمع. (ثم سأله في الثانية أو في الثالثة) أي ثم سأله السؤال نفسه في المرة الثانية أو في الثالثة، شك من الراوي في جذب الأشعث، وهل كان بعد مرتين من السؤال؟ أو ثلاثا؟ (فجذبه الأشعث بن قيس، وقال: اسمعوا وأطيعوا) الأشعث كان من ملوك كندة، وجذبه ليمنعه من تكرار السؤال مع الإعراض. والقائل: "اسمعوا وأطيعوا" رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد دفع ملحق الرواية هذا الإيهام، ولفظه "فجذبه الأشعث بن قيس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسمعوا وأطيعوا". (إنا كنا في جاهلية وشر) يشير إلى ما كان قبل الإسلام، من الكفر، وقتل بعضهم بعضا، ونهب بعضهم بعضا، وإتيان الفواحش، والتقاتل والتناحر، والبغضاء. (فجاءنا الله بهذا الخير) يعني الإيمان والأمن، وصلاح الحال واجتناب الفواحش، وفي الرواية الرابعة "فجاء الله بخير، فنحن فيه". (فهل بعد هذا الخير شر؟ ) في الرواية الرابعة "فهل من وراء هذا الخير شر"؟ المراد من الشر ما سيقع من الفتن، قال العلماء: يشير إلى ما وقع من بعد قتل عثمان، وهلم جرا، أو يريد ما يترتب على ذلك من آثام وعقوبات أخروية. (هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن) بفتح الدال والخاء، والمراد منه الحقد وفساد القلوب، يشير إلى أن الخير الذي يجيء بعد الشر لا يكون خيرا خالصا، بل فيه كدر، وقيل: المراد بالدخن الدخان، ويشير بذلك إلى كدر الحال، وقيل: المراد من الدخن كل أمر مكروه، وقال أبو عبيد: يفسر المراد بهذا الحديث حديث "لا ترجع قلوب قوم على ما كانت عليه" أي قلوبهم لا يصفو بعضها لبعض. قيل: يشير بذلك إلى أيام عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. وقد وضحت الرواية هذا الدخن، بقوله: (قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر) المراد مخالفتهم لمنهج الرسالة مخالفة غير كاملة، و"يهدون" بفتح الياء، أي يهدون أنفسهم وغيرهم ويدلونهم على غير هديي، والهدي الهيئة والسيرة والطريقة، وفي رواية "على غير هدي" بياء واحدة مع التنوين، وفي رواية "يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي، ومعنى "تعرف منهم وتنكر" أي تعرف من أعمالهم بعضا مطابقا للشريعة، وتنكر من أعمالهم أشياء لمخالفتها للشريعة، أي يخلطون عملا صالحا، وآخر سيئا، وفي الرواية الرابعة "يكون بعدي أئمة، لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي". (هل بعد ذلك الخير من شر؟ ) أكثر من حالة الدخن في الخير؟ وخليط الخير والشر؟ وأكثر شرا من الذين لا يهتدون بالهدي، ولا يستنون بالسنة؟ والذين نعرف منهم وننكر؟ .

(قال: نعم. دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها) قال النووي: قال العلماء: هؤلاء دعاة البدعة من الأمراء، أو ضلال آخرون، كالخوارج والقرامطة وأصحاب المحنة. اهـ. و"دعاة" بضم الدال، ووصفهم بكونهم على أبواب جهنم باعتبار ما يؤول إليه حالهم، كما يقال لمن يقرب من فعل محرم، وقف على شفير جهنم، ففيه مجاز مرسل بعلاقة الأيلولة، كقوله تعالى: {إني أراني أعصر خمرا} [يوسف: 36] أي أعصر عنبا يؤول إلى الخمر. (قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا) أي من قومنا العرب، ويؤيده قوله "ويتكلمون بألسنتنا" وقال الداودي: أي من بني آدم، وقال القابسي: معناه أنهم في الظاهر على ملتنا، وفي الباطن مخالفون [كما قال في الرواية الرابعة "قلوبهم قلوب الشياطين، في جثمان إنس" والجثمان بضم الجيم وسكون الثاء هو الجسد، ويطلق على الشخص] وجلدة الشيء بكسر الجيم ظاهره، وهي في الأصل غشاء البدن. والحديث يشير إلى الحالات التي مرت بالأمة الإسلامية بعد النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان الخير في عهده خالصا، ثم جاءت الفتنة الكبرى بمقتل عثمان، وقتال المسلمين في معركتي الجمل وصفين، فالظاهرة العامة حينئذ الشر، ثم كان الهدوء النسبي في عهد معاوية، ثم كثر شر حكام بني أمية، ثم جاء عدل عمر بن عبد العزيز، ثم طغى الشر، وتفرقت الأمة شيعا وأحزابا. (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم) بكسر الهمزة، أي أميرهم، وفي الرواية الرابعة "تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع وأطع" "ضرب" و"أخذ" بضم أوله على البناء للمجهول، وقال الطبري: اختلف في هذا الأمر، وفي الجماعة، فقال قوم: الأمر للوجوب، وجماعة المسلمين السواد الأعظم منهم، وقال قوم: المراد بالجماعة الصحابة، دون من بعدهم، وقال قوم: المراد بهم أهل العلم، لأن الله جعلهم حجة على الخلق، والناس تبع لهم في أمر الدين. قال الطبري: والصواب أن المراد لزوم الجماعة الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره، فمن نكث بيعته خرج على الجماعة. اهـ. والصواب أن المراد بالجماعة السواد الأعظم حول أمير ما، ولذلك كان السؤال فيما بعد "فإن لم تكن لهم جماعة؟ ولا إمام"؟ أي فإن لم تكن هناك كثرة وقلة؟ بل كانت الفرق متقاربة؟ والأئمة كثيرين؟ والأمور مختلطة؟ والرؤية غير واضحة؟ . (فاعتزل تلك الفرق كلها) أي إذا لم يكن للناس إمام، وافترقوا أحزابا، فلا تتبع أحدا من الفرق، واعتزل الجميع، إن استطعت ذلك، خشية من الوقوع في الشر. (ولو أن تعض على أصل شجرة، حتى يدركك الموت، وأنت على ذلك) معتزلا، عاضا على جذع شجرة. و"تعض" بفتح العين، ونصب الفعل عند الجميع، إلا الأشيري، فضبطه بالرفع، وتعقب بأن جواز

الرفع متوقف على أن تكون "أن" التي تقدمته مخففة من الثقيلة، وهنا لا يجوز ذلك، لأنها لا تلي "لو" وعند ابن ماجه "فلأن تموت وأنت عاض على جذل خير لك من أن تتبع أحدا منهم" والجذل بكسر الجيم وسكون الذال عود ينصب، لتحتك به الإبل، قال البيضاوي: المعنى إذا لم يكن في الأرض خليفة فعليك بالعزلة والصبر على تحمل شدة الزمان، وعض أصل الشجرة كناية عن مكابدة المشقة، كقولهم: فلان يعض الحجارة من شدة الألم، أو المراد اللزوم، كقوله في الحديث "عضوا عليها بالنواجذ". (مات ميتة جاهلية) "ميتة" بكسر الميم، اسم هيئة، أي مات على صفة موتهم، من حيث كانوا فوضى، لا إمام لهم، أي مات ميتة تشبه ميتة الجاهلية. (ومن قاتل تحت راية عمية) بضم العين وكسرها، مع تشديد الميم المكسورة، وتشديد الياء المفتوحة، أي تحت راية لا لون لها، ولا يستبين أمرها، ولا يرى وجهها، فكأن من تحتها أعمى، ونسب العمى إليها مجازا. (يغضب لعصبة، أو يدعو إلى عصبة، أو ينصر عصبة) أي يقاتل عصبية لقومه وهواه، قال النووي: هذه الألفاظ الثلاثة بالعين والصاد [وبفتح العين والصاد] هذا هو الصواب المعروف في نسخ بلادنا وغيرها، وحكى القاضي عن رواية بالغين والضاد في الألفاظ الثلاثة [بفتح الغين وسكون الضاد "غضبة"] ومعناها أنه يقاتل لشهوة نفسه، وغضبه لها. (فقتلة جاهلية) بكسر القاف، أي فقتلته كهيئة قتلة جاهلية. (ولا يتحاشى من مؤمنها) في بعض النسخ "يتحاشى" بإثبات حرف العلة على الأصل في الرفع، ومعناه لا يكترث بما يفعله فيها، ولا يخاف وباله وعقوبته. (ولا يفي لذي عهد عهده) المعنى ولا يفي العهد لصاحب العهد و"عهده" بسكون الهاء. وفي الرواية السادسة "ولا يفي بذي عهدها" وفي نسخة "ولا يفي لذي عهدها" باللام بدل الباء، وهي أوضح. (من فارق الجماعة شبرا) أي قدر شبر كناية عن الخروج على السلطان، ولو بأدنى نوع من أنواع الخروج، أو بأقل سبب من أسباب الفرقة، والشبر معروف، وهو المسافة بين طرفي الخنصر والإبهام عند امتدادهما. (لقي الله يوم القيامة لا حجة له) أي لا حجة له في فعله، ولا عذر له ينفعه، والجملة حال. (إنه ستكون هنات وهنات) الهن بفتح الهاء الشيء، وكثيرا ما يستعمل كناية عن الشيء الذي يستقبح ذكره، والهنة مؤنث الهن، وجمعها هنات وهنوات، والمراد هنا أشياء خطيرة، أي شرور وفساد.

(وهي جميع) أي وهي مجتمعة. (يريد أن يشق عصاكم) أي يفرق جماعتكم، كما تفرق العصاة المشقوقة، كناية عن اختلاف الكلمة وتنافر النفوس، ويقال: لين العصا، وضعيف العصا، أي رقيق لين، حسن السياسة، ويقال: هو صلب العصا، وشديد العصا، أي عنيف، ويقال: انشقت العصا، أي وقع الخلاف، ورفع عصاه، أي سار، وألقي عصاه استقر من الأسفار، وقرع له العصا، أي نبهه. (إذا بويع لخليفتين، فاقتلوا الآخر منهما) قال النووي: هذا محمول على ما إذا لم يندفع إلا بقتله. (ستكون أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع) قال النووي: معناه من كره ذلك المنكر فقد برئ من إثمه وعقوبته، وهذا في حق من لا يستطيع إنكاره بيده ولا لسانه، فيكرهه بقلبه، ويبرأ، وفي ملحق الرواية الخامسة عشرة "فمن أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم" والبراءة من الإثم، والسلامة من العقوبة بالإنكار، أو بالكراهة، حسب الاستطاعة، لكن جاء في الرواية الرابعة عشرة "فمن عرف برئ" وهي غير واضحة، وقد وضحها النووي بقوله: معناه -والله أعلم- فمن عرف المنكر، ولم يشتبه عليه، فقد صارت له طريق إلى البراءة من إثمه وعقوبته، بأن يغيره بيده أو بلسانه، فإن عجز فليكرهه بقلبه. اهـ. ومعنى قوله "ولكن من رضي وتابع" أي ولكن الإثم والعقوبة على من رضي وتابع. (ويصلون عليكم، وتصلون عليهم) المراد من الصلاة معناها اللغوي، وهو الدعاء. (أفلا ننابذهم بالسيف؟ ) يقال: نابذه الحرب، إذا جاهره بها، والهمزة للاستفهام، والفاء عاطفة على محذوف، هو مدخول همزة الاستفهام، والتقدير: أنظل على طاعتهم فلا ننابذهم بالسيف؟ قال: لا. أي لا تنابذوهم بالسيف. وفي الرواية الرابعة عشرة "أفلا نقاتلهم؟ وفي الرواية الخامسة عشرة "ألا نقاتلهم"؟ . (ما أقاموا فيكم الصلاة) "ما" ظرفية دوامية، أي مدة إقامتهم الصلاة. (لا ينزعن يدا من طاعة) كناية عن عدم الخروج على الإمام. (فجثى على ركبتيه) في أكثر النسخ "فجثي" بالياء، وفي بعضها "فجثا" بالألف، والوجهان صحيحان. قال النووي: هكذا هو في أكثر النسخ "فجثا" بالثاء، وفي بعضها "فجذا" بالذال، وكلاهما صحيح، فأما بالثاء فيقال منه: جثا على ركبتيه يجثو، وجثا يجثي، جثوا، وجثيا، فيهما، وأجثاه غيره، وتجاثوا على الركب، وأما "جذا" فهو الجلوس على أطراف أصابع الرجلين، ناصب القدمين، وهو الجاذي. قال الجمهور: الجاذي أشد استيفازا من الجاثي.

-[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الأحاديث]- 1 - من الروايتين الثانية والرابعة وجوب السمع والطاعة للأمراء، وقد سبق إيضاحها في الباب الماضي. 2 - ومنهما ومن الرواية السابعة وجوب الصبر على ظلم الولاة، واستئثارهم بالدنيا. 3 - من قوله في روايتنا الأولى "إنكم ستلقون بعدي أثرة" ومن قوله في الرواية الثانية "أرأيت إن قامت علينا أمراء .... إلخ" ومن قوله في الرواية الحادية عشرة من الباب قبل السابق، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية "وأن لا ننازع الأمر أهله" أن للحاكم شروطا تؤهله للولاية. قال النووي: قال القاضي عياض: أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر، وقال: ولا تنعقد لفاسق ابتداء. 4 - ومن قوله في الرواية السادسة "من خرج من الطاعة وفارق الجماعة ... " وفي السابعة "من فارق الجماعة شبرا ... " وفي العاشرة "من خلع يدا من طاعة .... " وفي الرابعة عشرة والخامسة عشرة "لا. ما صلوا" ومن قوله في باب وجوب طاعة الأمراء، في الرواية الثانية عشرة "وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم من الله فيه برهان" حالات الخروج على الإمام. قال القاضي: أجمع العلماء على أنه لو طرأ على الإمام الكفر انعزل، قال: وكذا لو ترك إقامة الصلوات والدعاء إليها. قال: وكذلك البدعة عند جمهورهم. قال: وقال بعض البصريين بالنسبة لصاحب البدعة: تنعقد له، وتستدام له، لأنه متأول. قال القاضي: فلو طرأ عليه كفر، وتغيير للشرع، أو بدعة، خرج عن حكم الولاية، وسقطت طاعته، ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه، ونصب إمام عادل، إن أمكنهم ذلك، فإن لم يقع ذلك إلا لطائفة وجب عليهم القيام بخلع الكافر، ولا يجب في المبتدع إلا إذا ظنوا القدرة عليه، فإن تحققوا العجز لم يجب القيام، وليهاجر المسلم عن أرضه إلى غيرها، ويفر بدينه. قال: وإذا طرأ على الخليفة فسق قال بعضهم: يجب خلعه، إلا أن تترتب عليه فتنة وحرب، وقال جماهير أهل السنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين: لا ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق، ولا يخلع، ولا يجوز الخروج عليه بذلك، بل يجب وعظه وتخويفه، للأحاديث الواردة في ذلك، قال القاضي: وقد ادعى أبو بكر بن مجاهد الإجماع في هذا، وقد رد عليه بعضهم بقيام الحسن وابن الزبير وأهل المدينة على بني أمية، وبقيام جماعة عظيمة من التابعين والصدر الأول على الحجاج، وتأول هذا القائل قوله "وأن لا ننازع الأمر أهله" في أئمة العدل، وحجة الجمهور أن قيامهم على الحجاج ليس لمجرد الفسق، بل لما غير من الشرع، وظاهر من الكفر. قال القاضي: وقيل: إن هذا الخلاف كان أولا، ثم حصل الإجماع على منع الخروج عليهم. اهـ. وقال الداودي: الذي عليه العلماء في أئمة الجور أنه إن قدر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وجب، وإلا فالواجب الصبر.

5 - ومن الروايات الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والعاشرة والثانية عشرة وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، وفي كل حال، وتحريم الخروج من الطاعة، ومفارقة الجماعة، قال ابن بطال: فيه حجة لجماعة الفقهاء في وجوب جماعة المسلمين، وترك الخروج على أئمة الجور، لأنه وصف الطائفة الأخيرة بأنهم دعاة على أبواب جهنم، ولم يقل فيهم "تعرف وتنكر" كما قال في الأولين، وهم لا يكونون كذلك إلا وهم على غير حق، وأمر مع ذلك بلزوم الجماعة. 6 - ومن الروايتين الحادية عشرة والثانية عشرة الأمر بقتال من خرج على الإمام، أو أراد تفريق كلمة المسلمين، ونحو ذلك، قال النووي: وينهى عن ذلك، فإن لم ينته قوتل، وإن لم يندفع شره إلا بقتله، فقتل كان هدرا. 7 - تحريم القتال عصبية وغضبا. 8 - ومن حديث حذيفة -روايتنا الرابعة- معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم. 9 - قال الطبري: في الحديث أنه متى لم يكن للناس إمام، فافترق الناس أحزابا، فلا يتبع أحدا في الفرقة، ويعتزل الجميع إن استطاع. اهـ. ففيه فضيلة العزلة عند الفتن. 10 - قال ابن أبي جمرة: في الحديث حكمة الله في عباده، كيف أقام كلا منهم فيما شاء، فحبب إلى أكثر الصحابة السؤال عن وجوه الخير، ليعملوا بها، ويبلغوها غيرهم، وحبب لحذيفة السؤال عن الشر، ليجتنبه، ويكون سببا في دفعه عمن أراد الله له النجاة. 11 - وفيه سعة صدر النبي صلى الله عليه وسلم. 12 - ومعرفته صلى الله عليه وسلم بوجوه الحكم كلها، حتى كان يجيب كل من سأله بما يناسبه. 13 - ويؤخذ منه أن كل من حبب إليه شيء فإنه يفوق فيه غيره، ومن هنا كان حذيفة صاحب السر، الذي لا يعلمه غيره، حتى خص بمعرفة أسماء المنافقين، وبكثير من الأمور الغيبية. 14 - وأن من أدب التعليم أن يعلم التلميذ أنواعا من العلوم المباحة التي يميل إليها. 15 - وفيه وجوب رد الباطل، وكل ما خالف الهدي النبوي، ولو قاله من قاله من رفيع أو وضيع. 16 - ومن الروايتين الرابعة عشرة والخامسة عشرة وجوب أمر الولاة بالمعروف، ونهيهم عن المنكر قدر الاستطاعة. 17 - وأن من عجز عن إزالة المنكر لا يأثم بمجرد السكوت، بل إنما يأثم بالرضا به، أو بألا يكرهه بقلبه، أو بالمتابعة عليه. 18 - ومن الرواية العاشرة فضيلة لعبد الله بن عمر، وإنكاره المنكر على الولاة، وقوته في الحق وعدم خوفه الله لومة لائم.

19 - ومن الروايتين السادسة عشرة والسابعة عشرة أن حب الرعية للراعي، وحب الراعي للرعية، ودعاء كل منهم للآخر دليل على حب الله ورضاه. 20 - وبالعكس بغض الرعية للراعي، وبغض الراعي للرعية، وعدم دعاء كل منهم للآخر دليل على بغض الله تعالى. 21 - وفي الرواية السابعة عشرة استيثاق الرواة بعضهم بعضا من الرواية. 22 - وفيها استقبال القبلة عند الحلف. 23 - قال الحافظ ابن حجر عن موقف الصحابة من الفتن ومن هذه الأحاديث: والحق حمل عمل كل واحد من الصحابة في الفتن على السداد، فمن لابس القتال اتضح له الدليل، لثبوت الأمر بقتال الفئة الباغية، وكانت له قدرة على ذلك، ومن قعد لم يتضح له أي الفئتين هي الباغية، أم لم يكن له قدرة على القتال، وقد وقع لخزيمة بن ثابت أنه كان مع علي، وكان مع ذلك لا يقاتل، فلما قتل عمار قاتل حينئذ، وحدث بحديث "يقتل عمارا الفئة الباغية". والله أعلم.

(516) باب استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال، وبيان بيعة الرضوان تحت الشجرة

(516) باب استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال، وبيان بيعة الرضوان تحت الشجرة 4218 - عن جابر رضي الله عنه قال: كنا يوم الحديبية ألفا وأربع مائة. فبايعناه. وعمر آخذ بيده تحت الشجرة، وهي سمرة. وقال: بايعناه على أن لا نفر ولم نبايعه على الموت. 4219 - عن جابر رضي الله عنه قال: لم نبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت إنما بايعناه على أن لا نفر. 4220 - عن جابر رضي الله عنه يسأل: كم كانوا يوم الحديبية؟ قال: كنا أربع عشرة مائة. فبايعناه. وعمر آخذ بيده تحت الشجرة، وهي سمرة. فبايعناه. غير جد بن قيس الأنصاري اختبأ تحت بطن بعيره. 4221 - عن جابر رضي الله عنه يسأل: هل بايع النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة؟ فقال: لا. ولكن صلى بها. ولم يبايع عند شجرة إلا الشجرة التي بالحديبية. قال ابن جريج: وأخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: دعا النبي صلى الله عليه وسلم على بئر الحديبية. 4222 - عن جابر رضي الله عنه قال: كنا يوم الحديبية ألفا وأربع مائة. فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: "أنتم اليوم خير أهل الأرض" وقال جابر: لو كنت أبصر، لأريتكم موضع الشجرة. 4223 - عن سالم بن أبي الجعد قال: سألت جابر بن عبد الله عن أصحاب الشجرة؟ فقال: لو كنا مائة ألف لكفانا. كنا ألفا وخمس مائة. 4224 - عن جابر رضي الله عنه قال: لو كنا مائة ألف لكفانا. كنا خمس عشرة مائة.

4225 - عن سالم بن أبي الجعد قال: قلت لجابر: كم كنتم يومئذ؟ قال: ألفا وأربع مائة. 4226 - عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: كان أصحاب الشجرة ألفا وثلاث مائة. وكانت أسلم ثمن المهاجرين. 4227 - عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: لقد رأيتني يوم الشجرة، والنبي صلى الله عليه وسلم يبايع الناس، وأنا رافع غصنا من أغصانها عن رأسه. ونحن أربع عشرة مائة. قال: لم نبايعه على الموت، ولكن بايعناه على أن لا نفر. 4228 - عن سعيد بن المسيب قال: كان أبي ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الشجرة. قال: فانطلقنا في قابل حاجين، فخفي علينا مكانها. فإن كانت تبينت لكم فأنتم أعلم. 4229 - عن سعيد بن المسيب، عن أبيه: أنهم كانوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الشجرة. قال: فنسوها من العام المقبل. 4230 - عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لقد رأيت الشجرة ثم أتيتها بعد فلم أعرفها. 4231 - عن يزيد بن أبي عبيد مولى سلمة بن الأكوع قال: قلت لسلمة: على أي شيء بايعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية؟ قال: على الموت.

4232 - عن عبد الله بن زيد قال: أتاه آت فقال: ها ذاك ابن حنظلة يبايع الناس. فقال: على ماذا؟ قال: على الموت. قال: لا أبايع على هذا أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. -[المعنى العام]- يقول جل شأنه: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا} [غافر: 51]. {وكان حقا علينا نصر المؤمنين} [الروم: 47] عهد من الله تعالى أن ينصر رسله، والله لا يخلف الميعاد، وللنصر أسباب بشرية، إذا هي عجزت، أو وقف في سبيل تأثيرها عائق تدخلت الإرادة الإلهية بمعجزة ظاهرة، فحين قال أصحاب موسى: {إنا لمدركون* قال كلا إن معي ربي سيهدين* فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم* وأزلفنا ثم الآخرين* وأنجينا موسى ومن معه أجمعين* ثم أغرقنا الآخرين} [الشعراء: 61 وما بعدها]. وهنا في غزوة الحديبية، وقد وصل المسلمون، ألفا وأربعمائة مقاتل، إلى بئر قليل الماء، وهم عطاش، ودوابهم عطش، لم يرو ماؤها غلة حتى نضب، فزعوا إلى قائدهم ونبيهم يشكون، عطاش يكاد العطش يهلكهم، ويهلك دوابهم، وهم في أرض الكفار، لا يسيطرون من مائها إلا على هذه البئر. وليس في رحال القوم سوى إناء بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم يتوضأ منه، لا يسع أكثر من لتر ماء. فما النجاة؟ وربما يطول بهم المقام في هذه المفازة أياما؟ ولم يجد صلى الله عليه وسلم من أسباب عادية يحاولها، فلجأ إلى الله، دعاه، وهو القائل {أمن يجيب المضطر إذا دعاه} [النمل: 62] دعاه ووضع يده في إناء الماء، ففار الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، فأخذه حتى وقف على شفير البئر، فمضمض منه، ودعا، وصبه في البئر، ودعا، وقال لأصحابه: اتركوها ساعة، فعادوا إليها بعد ساعة ليجدوها ملأى بالماء، فشربوا وسقوا دوابهم، وملئوا بالماء أوعيتهم، وما نقص ماؤها، وأقاموا عندها أياما يشربون ويسقون وماؤها ثابت لا ينقص، معجزة عينية مادية، آمن بها من شهدها، حتى قال قائلهم: كنا ألفا وأربعمائة، ولو كنا مائة ألف لكفانا ماؤها. ولقد أقاموا تحت أشجار الحديبية أياما، تمنعهم قريش من أداء عمرتهم، وهم ينتظرون قضاء الله وقدره، فقد أحرموا بالعمرة من ذي الحليفة، وساقوا معهم هديهم من المدينة، فكيف يصدون عن المسجد الحرام وهم قوة، غلبت كفار قريش في مواقع كثيرة؟ الحماس يملؤهم أن يهاجموا قريشا بمكة، وأن يعتمروا إن بالسلم وإن بالقوة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا يصدر إلا عن أمر ربه يهدئ من حماسهم، ويراسل قريشا ويراسلونه، وأشيع أن عثمان رضي الله عنه رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قريش قد قتل، فقال صلى الله عليه وسلم: لئن كانوا قد قتلوه لأقاتلنهم، وأمر مناديه أن ينادي الناس من تحت أشجارهم أن يأتوه، فيبايعوه تحت الشجرة التي ينزل عندها، فجاءوا يمدون أيديهم إلى يده، يبايعونه، وهم إنما يبايعون الله، يد الله فوق أيديهم، يبايعونه على الثبات أمام الكفار في حربهم، وعدم الفرار حتى النصر أو الموت، بيعة هم الكاسبون فيها، فهم

مؤمنون بقوله تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} [التوبة: 111] بيعة لا يتربصون بها إلا إحدى الحسنيين، النصر أو الشهادة بيعة لله وفي الله ومن أجل الدفاع عن شريعة الإسلام، فكان أن رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأنزل فيهم قوله: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا} [الفتح: 18] وأنزل الله الرعب في قلوب الذين كفروا، فأذعنوا إلى الصلح الذي كان أساسا لفتح مكة، وكانت نتيجته دخول الناس في دين الله أفواجا، واكتسبت هذه البيعة شهرة إسلامية لها ولأصحابها، وصار المبايعون تحت الشجرة يفخرون حياتهم بها، فقد كانت شهادة من الله لهم بما كانوا عليه من الإخلاص والسكينة، وكانت إعلانا عن مكافأة الله لهم بالرضا عنهم، بل اكتسبت الشجرة التي بايعوا تحتها شهرة لا تقل عن شهرة أصحابها. فعرفت بشجرة الرضوان، كما عرفت البيعة ببيعة الرضوان، وحرص الناس أن يتبركوا بها، أو بموضعها، فأخفى الله عليهم مكانها، حتى يكون توجههم إليه جل شأنه، لا إلى مخلوق من مخلوقاته، ومن تخيل مكانها، وأراد أن يتبرك به منعه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وزاد الخلف تعمية مكانها حتى اليوم، فصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. -[المباحث العربية]- (كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة) وكذا في الروايتين الخامسة والثامنة، وفي الرواية الثالثة "كنا أربع عشرة مائة" وفي الرواية العاشرة "ونحن أربع عشرة مائة" قال الحافظ ابن حجر: قيل: إنما عدل الصحابي عن قوله "ألف وأربعمائة" إلى قوله "أربع عشرة مائة" للإشارة إلى أن الجيش كان منقسما إلى المئات، وكانت كل مائة متميزة عن الأخرى، إما بالنسبة إلى القبائل، وإما بالنسبة إلى الصفات. وفي الرواية السادسة "كنا ألفا وخمسمائة" وفي السابعة "كنا خمس عشرة مائة" وفي الرواية التاسعة "كان أصحاب الشجرة ألفا وثلاثمائة" قال النووي: أكثر روايات البخاري ومسلم ألف وأربعمائة، وكذا ذكر البيهقي أن أكثر روايات هذا الحديث ألف وأربعمائة [وفي هذا ميل إلى ترجيح هذه الروايات على غيرها، والأخذ بها، وإهمال ما عداها، وإلى هذا جنح البيهقي، وقال: إن رواية من قال ألف وأربعمائة أصح] ثم قال النووي: ويمكن أن يجمع بينهما بأنهم كانوا ألفا وأربعمائة وكسرا، فمن قال: "أربعمائة" لم يعتبر الكسر، ومن قال "خمسمائة" جبر الكسر. اهـ. ويؤيد هذا الجمع ما جاء في رواية البراء بن عازب عند البخاري "كانوا ألفا أو أكثر" وما جاء في ابن سعد عن معقل بن يسار "زهاء ألف وأربعمائة" وجمع بعضهم بأن من ذكر "ألفا وأربعمائة" أراد من بايع فعلا، ومن ذكر الزيادة أرادهم مع الذين كانوا غائبين أثناء البيعة، كعثمان رضي الله عنه ومن كان معه، أو أرادهم مع توابع الجيش من النساء والصبيان والخدم، وجمع بعضهم بأن العدد الأقل: عدد من ابتدأ الخروج، والعدد الأكثر راعى من تلاحقوا بهم، وأما روايتنا التاسعة "كان أصحاب الشجرة ألفا وثلاثمائة" فقد قال عنها النووي: إن ابن أبي أوفى ترك بعضهم، لكونه لم يتقن العد، أو لغير ذلك. اهـ.

وهناك روايات ضعيفة لم يلتفت إليها المحققون، منها ما جزم به موسى بن عقبة بأنهم كانوا ألفا وستمائة، وما أخرجه ابن أبي شيبة عن سلمة بن الأكوع أنهم كانوا ألفا وسبعمائة، وما حكاه ابن سعد أنهم كانوا ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرين، وما ذكره ابن إسحق أنهم كانوا سبعمائة، وعزا ابن دحية سبب الاختلاف في عددهم أن الذين ذكروا عددهم لم يقصدوا التحديد، وإنما ذكروا ذلك على وجه التقريب، مع الحدس والتخمين، وهذا القول غير معقول. (وعمر آخذ بيده تحت الشجرة) في هذه الجملة دفع توهم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تأخر عن البيعة، أو لم يبايع إلا بعد أن بايع الناس، فقد روى البخاري أن عمر يوم الحديبية أرسل ابنه عبد الله ليحضر له فرسا له كان عند رجل من الأنصار، ليحارب قريشا عليه، ودخل فلبس لباس الحرب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع عند الشجرة، وعمر لا يدري بذلك، وجاء ابنه بالفرس، ونظر عمر فإذا الناس محدقون بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال عمر لابنه: انظر ما شأن الناس قد أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فذهب، فوجدهم يبايعون، فبايع، ثم رجع إلى أبيه، فأخبره، فخرج عمر رضي الله عنه فبايع. (وهي سمرة) بفتح السين وضم الميم وفتح الراء، أي شجرة عظيمة من شجر ترعاه الإبل، له شوك، صغر أو كبر. (بايعناه على ألا نفر، ولم نبايعه على الموت) في الرواية الثانية "لم نبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت، إنما بايعناه على ألا نفر" وفي الرواية الثالثة عشرة، سئل سلمة "على أي شيء بايعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية؟ قال: على الموت" وفي الرواية الرابعة عشرة إيماء بأن المبايعة تحت الشجرة كانت على الموت، ففيها "هذا ابن حنظلة يبايع الناس. فقال: على ماذا؟ قال: على الموت. قال: لا أبايع على هذا أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم" ففيه إشعار بأنه بايع النبي صلى الله عليه وسلم على الموت، ولا تنافي بين قولهم: بايعوه على الموت، وبين قولهم: بايعوه على عدم الفرار، لأن معنى المبايعة على الموت المبايعة على أن لا يفروا ولو ماتوا، وليس المراد أن يقع الموت ولا بد، وهذا معنى نفي جابر للمبايعة على الموت في الرواية الأولى والثانية، وحاصل الجمع أن من أطلق أن البيعة كانت على الموت أراد لازمها، لأنها إذا بويع على عدم الفرار لزم أن يثبت، والذي يثبت إما أن يغلب، وإما أن يؤسر، والذي يؤسر إما أن ينجو، وإما أن يموت، ولما كان الموت لا يؤمن في مثل ذلك أطلقه الراوي، وحاصله أن أحدهما حكى صورة البيعة، والآخر حكى ما تئول إليه. وجمع الترمذي بين النصين باحتمال أن البعض بايع على الموت، والبعض بايع على أن لا يفر. (دعا النبي صلى الله عليه وسلم على بئر الحديبية) روى البخاري عن البراء رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة، والحديبية بئر [كذا قيل: إن الحديبية اسم بئر، سميت المنطقة كلها باسمه] فنزحناها [في الشرب وسقي الدواب] فلم نترك فيها قطرة، فبلغ ذلك صلى الله عليه وسلم [وفي رواية جابر "عطش الناس يوم الحديبية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة -إناء صغير أو دلو صغير من جلد، يشرب منه- فتوضأ منها، ثم أقبل الناس نحوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لكم؟ قالوا: يا رسول الله، ليس عندنا

ماء نتوضأ به، ولا نشرب إلا ما في ركوتك، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده في الركوة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه، كأمثال العيون" وفي رواية البراء "فأتاها، فجلس على شفيرها، ثم دعا بإناء من ماء، فتوضأ، ثم مضمض، ودعا، ثم صبه فيها، ثم قال: دعوها ساعة. فشربوا وتوضئوا قيل لجابر: كم كنتم يومئذ؟ قال -كما في الرواية السادسة- "لو كنا مائة ألف لكفانا". فمعنى قوله "دعا على بئر الحديبية" أي دعا فيها بالبركة. (لو كنت أبصر لأريتكم موضع الشجرة) كان جابر رضي الله عنه قد عمي في آخر عمره. (وكانت أسلم ثمن المهاجرين) أي كانت قبيلة أسلم "ثمن" بضم الثاء وسكون الميم وضمها، قال الواقدي: كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية من أسلم مائة رجل، فعلى هذا كان المهاجرون ثمانمائة رجل. (وأنا رافع غصنا من أغصانها عن رأسه) قلنا: إن الشجرة كانت كبيرة من شجر الشوك، فكان غصن من أغصانها قريبا من النبي صلى الله عليه وسلم رفعه معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم. (فانطلقنا في قابل حاجين) أي في العام القابل "حاجين" جمع مذكر سالم، قال الحافظ ابن حجر: كذا أطلق، وهم كانوا معتمرين، لكن يطلق عليها الحج، كما يقال: العمرة الحج الأصغر. (فخفي علينا مكانها) في رواية البخاري "فعميت علينا" أي أبهمت، وفي رواية "فعمي علينا مكانها"، أي اشتبهت الشجرة المعينة المباركة بأشجار أخر، ولم يكن لها علامة مميزة فأصبح من المستحيل تعيينها ومعرفتها من بين مثيلاتها، وفي رواية للبخاري "ورجعنا من العام المقبل، فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها، كانت رحمة من الله" أي كان خفاؤها عليهم بعد ذلك رحمة من الله تعالى، أو المعنى كانت الشجرة موضع رحمة الله ورضوانه، لنزول الرضا عن المؤمنين عندها. (فإن كانت تبينت لكم فأنتم أعلم) في رواية للبخاري عن طارق بن عبد الرحمن قال: انطلقت حاجا فمررت بقوم يصلون، قلت: ما هذا المسجد؟ قالوا: هذه الشجرة، حيث بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان. قال: فأتيت سعيد بن المسيب، فأخبرته، فقال سعيد: حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، قال: فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها، فلم نقدر عليها، فقال سعيد: إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يعلموها؟ وعلمتموها أنتم؟ -جماعة التابعين أو أتباع التابعين- فأنتم أعلم؟ قال هذا الكلام منكرا، على سبيل التهكم. (هذا ابن حنظلة يبايع الناس) عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر، الذي يعرف أبوه بغسيل الملائكة. والسبب في تلقيبه بذلك أنه قتل بأحد وهو جنب، فغسلته الملائكة، وعلقت امرأته تلك الليلة بابنه عبد الله بن حنظلة، فمات النبي صلى الله عليه وسلم وله سبع سنين، وقد حفظ عنه.

وكان عبد الله بن حنظلة يأخذ بيعة الناس على الطاعة له، وخلع يزيد بن معاوية، وذلك أن يزيد بن معاوية كان قد عين على المدينة ابن عمه عثمان بن محمد بن أبي سفيان أميرا، فأوفد هذا الأمير إلى يزيد جماعة من أهل المدينة، منهم عبد الله بن حنظلة في آخرين، فأكرمهم يزيد، لكن لما رجعوا عابوه ونسبوه إلى شرب الخمر وغير ذلك، ثم وثبوا على الأمير عثمان فأخرجوه من المدينة، وخلعوا يزيد بن معاوية، وكان الأمير على الأنصار عبد الله بن حنظلة، وعلى قريش عبد الله بن مطيع، وعلى غيرهم من القبائل معقل بن يسار، فكان عبد الله بن حنظلة في هذا الوقت يأخذ البيعة لنفسه، ويستعد بأتباعه لحرب يزيد بن معاوية، ولما بلغ ذلك يزيد جهز إليهم جيشا بقيادة مسلم بن عقبة المري وأمره أن يدعوهم ثلاثا، فإن رجعوا، وإلا قاتلهم، فإن هزمهم استباح المدينة للجيش ثلاثا، ثم كف عنهم، فوصل إليهم، فحاربوه، فانهزموا، وقتل ابن حنظلة، وفر ابن مطيع، وأباح مسلم بن عقبة المدينة ثلاثا. -[فقه الحديث]- لهذه الأحاديث علاقة وثيقة بغزوة الحديبية، وقد تعرضنا لكثير من مسائلها هناك، وقد ذكر أهل المغازي السبب في بيعة الرضوان، فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل بالحديبية أحب أن يبعث إلى قريش رجلا يخبرهم بأنه إنما جاء معتمرا، فدعا عمر ليبعثه، فقال والله لا آمنهم على نفسي، فدعا عثمان، فأرسله، وأمره أن يبشر المستضعفين من المؤمنين بالفتح القريب، وأن الله سيظهر دينه، فتوجه عثمان، فوجد قريشا نازلين ببلدح، قد اتفقوا على أن يمنعوا النبي صلى الله عليه وسلم من دخول مكة، فأجاره أبان بن سعيد بن العاص، وبعثت قريش بديل بن ورقاء وسهيل بن عمرو إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد مضت القصة مطولة في غزوة الحديبية، وآمن الناس بعضهم بعضا، وبينما هم في انتظار الصلح، إذ رمى رجل من أحد الفريقين رجلا من الفريق الآخر، فقامت معركة، وتراموا بالنبال والحجارة، فارتهن كل فريق من عندهم، وأشيع أن عثمان قتل، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة، وهو نازل تحت الشجرة التي كان يستظل بها، فبايعوه على أن لا يفروا حتى النصر أو الموت، وألقى الله الرعب في قلوب الكفار، فأذعنوا إلى المصالحة. وفي فضل أصحاب الشجرة يقول الله تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا} [الفتح: 18]. وفي روايتنا الخامسة يقول صلى الله عليه وسلم لأهل الشجرة "أنتم اليوم خير أهل الأرض" وعند أحمد بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: "أوقدوا واصطنعوا، فإنه لا يدرك قوم بعدكم صاعكم ولا مدكم" وعند مسلم من حديث جابر مرفوعا "لا يدخل النار من شهد بدرا والحديبية" وعنده أيضا "لا يدخل النار أحد من أصحاب الشجرة". وتمسك به بعض الشيعة في تفضيل علي، على عثمان، لأن عليا كان من جملة من خوطب بذلك، وممن بايع تحت الشجرة، وكان عثمان حينئذ غائبا، وهذا التمسك باطل،

لأن النبي صلى الله عليه وسلم بايع عنه، فاستوى معهم عثمان في الخيرية المذكورة، ولم يقصد في الحديث تفضيل بعضهم على بعض. كما استدل به على أن الخضر ليس حيا، لأنه لو كان حيا، مع ثبوت كونه نبيا للزم تفضيل غير النبي على النبي، وهو باطل، فدل على أنه ليس بحي حينئذ، وأجاب بعضهم باحتمال أن يكون حينئذ حاضرا معهم، ولم يقصد إلى تفضيل بعضهم على بعض، أو لم يكن على وجه الأرض، بل كان في البحر، قال الحافظ ابن حجر: والثاني جواب ساقط، وعكس ابن التين فاستدل بالحديث على أن الخضر ليس بنبي، فبنى الأمر على أنه حي، وأنه دخل في عموم من فضل النبي صلى الله عليه وسلم أهل الشجرة عليهم، وأغرب ابن التين، فجزم أن إلياس ليس بنبي، وبناه على قول من زعم أنه أيضا حي، وكونه حيا ضعيف، أما كونه ليس بنبي فباطل، ففي القرآن الكريم: {وإن إلياس لمن المرسلين} [الصافات: 123] فكيف يكون أحد من بني آدم مرسلا وليس بنبي؟ . ويؤخذ من قول جابر رضي الله عنه، في ملحق الرواية الخامسة "لو كنت أبصر لأريتكم موضع الشجرة" أن بعض الصحابة كان يضبط مكانها على التعيين، بعلامات حفظها، كذا قال الحافظ ابن حجر، وقال: ثم وجدت عن ابن سعد بإسناد صحيح عن نافع أن عمر بلغه أن قوما يأتون الشجرة، فيصلون عندها، فتوعدهم، ثم أمر بقطعها، فقطعت. اهـ. وكأن ابن حجر يميل إلى أن الشجرة كانت معلومة، وأن مكانها كان معلوما إلى عهد عمر، ونحن نستبعد ذلك، فما كان يفعله الناس، وما فعله عمر ليس دليلا على أنها هي هي، فالناس توهموها في شجرة ما، فأخذوا يتبركون بها، كما تهكم سعيد بن المسيب على من ادعى معرفتها، وقطع عمر لشجرة يتوهمها الناس من باب سد الذرائع، وقطع الشبهات، وما قاله جابر رضي الله عنه يحمل على أن العلامات كانت في مخيلته قبل أن يصاب بالعمى، وقبل أن تغير هذه المعالم بقطعها أو قطع ما حولها من أشجار، وتكسير ما يقاربها من أحجار، وقد كان الزمن بين رؤيته لها في الحديبية وبين إخباره بهذا الخبر يزيد على الستين عاما، فقد توفي سنة أربع وسبعين من الهجرة، وهي كفيلة بتغيير كل المعالم بفعل الحطابين والرعاة، وكثيرا ما يخيل للمرء أنه يستطيع فعل شيء، ثم لا يستطيعه أمام الواقع، وأمام المستجدات التي لم يكن يقدرها، ويكفينا أن سعيد بن المسيب حاول التعرف عليها أو على مكانها بعد عام واحد فلم يستطع التعرف عليها، ولم يثبت من طريق صحيح أن أحدا ممن بايع تحتها تعرف عليها، بل قال ابن عمر -فيما رواه البخاري "رجعنا من العام المقبل، فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها" أي بذلت المحاولات لمعرفتها بعد عام فلم يتعرف عليها، وتلك إرادة الله، قال الحافظ ابن حجر: وبيان الحكمة في ذلك أن لا يحصل بها افتتان، لما وقع تحتها من الخير، فلو بقيت لما أمن تعظيم بعض الجهال لها، حتى ربما أفضى بهم إلى اعتقاد أن لها قوة نفع أو ضر، كما نراه الآن مشاهدا فيما هو دونها، وإلى ذلك أشار ابن عمر، بقوله "كانت رحمة من الله" أي كان خفاؤها عليهم بعد ذلك رحمة من الله تعالى. وفي الحديث معجزة ماء البئر للنبي صلى الله عليه وسلم.

وفيه المبايعة على الحرب. والصبر في قتال الكفار، لأن البيعة على ألا نفر معناه الصبر حتى نظفر بعدونا أو نقتل. قال النووي: وكان في أول الإسلام يجب على العشرة من المسلمين أن يصبروا لمائة من الكفار، ولا يفروا منهم، وعلى المائة الصبر لألف كافر، ثم نسخ ذلك، وصار الواجب مصابرة المثلين فقط. هذا مذهبنا ومذهب ابن عباس ومالك والجمهور، أن الآية منسوخة [وهي قوله تعالى في سورة الأنفال: {يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون} [الأنفال: 65] والناسخ لها قوله تعالى بعدها: {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين} [الأنفال: 66] وقال أبو حنيفة وطائفة: ليست بمنسوخة، واختلفوا في: هل المعتبر مجرد العدد، من غير مراعاة القوة والضعف؟ أم يراعى؟ والجمهور على أنه لا يراعى، لظاهر القرآن الكريم. والله أعلم.

(517) باب تحريم رجوع المهاجر إلى استيطان وطنه والمبايعة بعد الفتح على الإسلام والجهاد والخير

(517) باب تحريم رجوع المهاجر إلى استيطان وطنه والمبايعة بعد الفتح على الإسلام والجهاد والخير 4233 - عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أنه دخل على الحجاج فقال: يا ابن الأكوع ارتددت على عقبيك، تعربت. قال: لا ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لي في البدو. 4234 - عن مجاشع بن مسعود السلمي رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أبايعه على الهجرة. فقال: "إن الهجرة قد مضت لأهلها، ولكن على الإسلام والجهاد والخير". 4235 - عن مجاشع بن مسعود السلمي رضي الله عنه قال: جئت بأخي أبي معبد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح. فقلت: يا رسول الله بايعه على الهجرة. قال: "قد مضت الهجرة بأهلها" قلت: فبأي شيء تبايعه؟ قال: "على الإسلام والجهاد والخير". قال أبو عثمان: فلقيت أبا معبد فأخبرته بقول مجاشع. فقال: صدق. 4236 - -/- وفي رواية عن عاصم بهذا الإسناد، قال: فلقيت أخاه، فقال: صدق مجاشع. ولم يذكر أبا معبد. 4237 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فتح مكة: "لا هجرة ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا". 4238 - عن عائشة رضي الله عنها قالت سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الهجرة. فقال: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا". 4239 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن أعرابيا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الهجرة.

فقال: "ويحك إن شأن الهجرة لشديد. فهل لك من إبل؟ " قال: نعم. قال: "فهل تؤتي صدقتها" قال: نعم. قال: "فاعمل من وراء البحار فإن الله لن يترك من عملك شيئا". 4240 - -/- وفي رواية عن الأوزاعي بهذا الإسناد مثله، غير أنه قال: "إن الله لن يترك من عملك شيئا" وزاد في الحديث قال: "فهل تحلبها يوم وردها" قال: نعم. -[المعنى العام]- تحمل المسلمون الأولون الأذى من أهليهم الكافرين ليردوهم عن دينهم، فكان أن أذن لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى الحبشة مرتين، فرارا بدينهم، فلما فتحت دار الهجرة صدرها للإسلام، وتعهد الأنصار بحماية الرسول صلى الله عليه وسلم وحماية دعوته اقتضت الحكمة أن يتجمع المهاجرون في المدينة، يأخذون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ينزل عليه من التشريع أولا بأول، ولتتكتل القوة، وتنمو في مكان واحد، حتى يمكنها بعد ذلك الانطلاق من نقطة الارتكاز، ففرضت هجرة من أسلم من دار الكفر إلى المدينة، هجرة يتخلى بها عن أهله وداره وماله ابتغاء مرضاة الله، هجرة وصف فيها بالفقر وإن كان قبلها من الأثرياء، حتى قال الله فيهم: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون} [الحشر: 8] وكان لهذه الهجرة أجر عند الله عظيم، ولما كانت تبعاتها كبيرة وخطيرة، وكان بعض من هاجر يصعب عليه تحملها، وربما ضعفت نفسه أمام واجباتها، فرض على المهاجر أن لا يرجع لاستيطان وطنه الأول. ظل هذان المبدآن واجبين -الهجرة من دار الكفر، وعدم العودة إلى بلده للاستيطان- حتى فتحت مكة، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وأصبح الإسلام منتشرا في معظم مناطق الجزيرة العربية، ولم يعد في حاجة إلى نقطة تجمع وارتكاز، فانقطعت الهجرة بمعناها السابق، وتحولت مبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم لمن يريدون الدفاع عن الإسلام من مبايعة على الهجرة إلى مبايعة على الإسلام والجهاد والخير، وباب الجهاد مفتوح لكل المسلمين، وجهاد النفس والشيطان مفتوح لأهل البادية وأهل الحضر على السواء، ولن يضيع الله أجر من أحسن عملا. -[المباحث العربية]- (ارتدت على عقبيك؟ تعربت) العقب مؤخر القدم، يقال: ارتد على عقبه إذا رجع على الطريق الذي جاء منه سريعا، ويقال: تعرب أي أقام بالبادية بعد أن هجرها. وكان سلمة بن الأكوع قد تحول من المدينة إلى الربذة بعد قتل عثمان، وتزوج بها، وولد له، حتى كان قبل أن يموت بليال نزل إلى المدينة، فمات بها. مات سنة أربع وسبعين على الصحيح. قال النووي: ولعل سلمة رجع إلى غير وطنه، وسيأتي مزيد لحكم أمثاله في فقه الحديث.

(أذن لي في البدو) البدو البادية، أي أذن لي في الإقامة بالبادية. (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أبايعه على الهجرة) في الرواية الثالثة "جئت بأخي أبي معبد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح، فقلت: يا رسول الله، بايعه على الهجرة" والظاهر أنه جاء يطلب المبايعة على الهجرة له ولأخيه، في مجيء واحد. (إن الهجرة قد مضت لأهلها) في الرواية الثالثة "قد مضت الهجرة بأهلها" قال النووي: معناه أن الهجرة الممدوحة الفاضلة، التي لأصحابها المزية الطاهرة، قد مضت، وثبتت لأهلها، لأنها خصت بما وقع منها قبل الفتح. اهـ. (ولكن على الإسلام والجهاد والخير) في الرواية الثالثة "قلت: فبأي شيء تبايعه؟ قال: على الإسلام والجهاد والخير". (بعد الفتح) أل في الفتح للعهد، أي بعد فتح مكة، قالوا: المعنى لا هجرة من مكة بعد أن فتحت، لأنها صارت دار إسلام فلا تقصد منها الهجرة، وقال غيرهم: قال النووي: وهو الأصح: إن معناه أن الهجرة الفاضلة مضت لأهلها الذين هاجروا قبل فتح مكة، لأن الإسلام قوي وعز بعد فتح مكة عزا ظاهرا، بخلاف ما قبله. (ولكن جهاد ونية) قال الطيبي: هذا الاستدراك يقتضي مخالفة حكم ما بعده لما قبله، والمعنى أن الهجرة التي هي مفارقة الوطن، التي كانت مطلوبة على الأعيان إلى المدينة انقطعت، إلا أن المفارقة بسبب الجهاد باقية، وكذلك المفارقة بسبب نية صالحة، كالفرار من دار الكفر، وكالخروج في طلب العلم، وكالفرار بالدين من الفتن، والنية في جميع ذلك، فقوله "ولكن جهاد" معطوف على محل مدخول "لا هجرة" أي الهجرة من الوطن إما للفرار من الكفار، أو إلى الجهاد، أو إلى غير ذلك، كطلب العلم، فانقطعت الأولى، وبقي الأخريان، فاغتنموهما، ولا تقاعدوا عنهما، بل إذا استنفرتم فانفروا. (وإذا استنفرتم فانفروا) قال النووي: يريد أن الخير الذي انقطع بانقطاع الهجرة، يمكن تحصيله بالجهاد والنية الصالحة، وإذا أمركم الإمام بالخروج إلى الجهاد ونحوه من الأعمال الصالحة فاخرجوا إليه، وأصل النفير مفارقة مكان إلى مكان، لأمر حرك ذلك، والمراد منه هنا الخروج لمحاربة الكفار. (ويحك) "ويح" كلمة ترحم وتوجع، وقيل: هي بمعنى ويل لك. (إن شأن الهجرة لشديد) هذا الأعرابي جاء من البادية إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل الفتح، ويطلب البيعة على الهجرة، والبقاء في المدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم وترك أهله ووطنه، وكثير من الأعراب لا يتحملون ذلك، فقد بايع بعض الأعراب من قبل، ثم طلبوا الإقالة من البيعة، فخاف صلى الله عليه وسلم على

هذا الأعرابي أن يكون شأنه شأنهم، فنصحه بما يحقق له فضل الهجرة من غير الهجرة، أي إن شأنها ولازمها ومتطلباتها شديدة عليك، لا تحتملها. (فاعمل من وراء البحار) قال النووي: قال العلماء: المراد بالبحار هنا القرى، والعرب تسمى القرى البحار، والقرية البحيرة، اهـ. أي فاعمل بالشريعة الإسلامية في البادية، من وراء البلاد والقرى. (فإن الله لن يترك من عملك شيئا) أي فإن الله لن ينقصك من ثواب أعمالك شيئا، حيثما كنت. يقال: وتر فلانا حقه وماله، بفتح الواو والتاء، يتره بكسر التاء، إذا نقصه إياه، قال تعالى: {ولن يتركم أعمالكم} [محمد: 35]. (فهل تحلبها يوم وردها؟ ) "تحلب" بضم اللام وكسرها، والورد بكسر الواو وسكون الراء، الوصول والبلوغ لماء سقيها، وكان العرب إذا اجتمعوا عند الماء حلبوا مواشيهم، وسقوا المحتاجين المجتمعين هناك من لبنها. -[فقه الحديث]- قال النووي: قال القاضي عياض: أجمعت الأمة على تحريم ترك المهاجر هجرته، ورجوعه إلى وطنه، وعلى أن ارتداد المهاجر من الكبائر. واعتذر القاضي عن سلمة فقال: إن خروج سلمة إلى البادية إنما كان بإذن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ولعله رجع إلى غير وطنه، أو لأن الغرض في ملازمة المهاجر المدينة، وفرض ذلك عليه إنما كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لنصرته، وليكون معه. أو لأن منع المهاجر من الرجوع، والخروج من المدينة، واستيطان غيرها إنما كان قبل فتح مكة، فلما كان الفتح، وأظهر الله الإسلام على الدين كله، وأذل الكفر، وأعز المسلمين سقط فرض الهجرة. أما حكم الهجرة إلى المدينة قبل فتح مكة فقد قال القاضي عياض: لم يختلف العلماء في وجوب الهجرة على أهل مكة قبل الفتح، واختلف في غيرهم، فقيل: لم تكن واجبة على غيرهم، بل كانت ندبا. ذكره أبو عبيد في كتاب الأموال، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر الوفود التي وفدت عليه قبل الفتح بالهجرة، وقيل: إنما كانت واجبة على من يسلم، لئلا يبقى تحت حكم الكفار. قال الماوردي: إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر فقد صارت البلد به دار إسلام، فالإقامة فيها أفضل من الرحلة منها، لما يترجى من دخول غيره في الإسلام. وقال الخطابي: كانت الهجرة -أي إلى النبي صلى الله عليه وسلم- في أول الإسلام مطلوبة، ثم افترضت -لما هاجر إلى المدينة- إلى حضرته، للقتال معه، وتعلم شرائع الدين، وقد أكد الله ذلك في عدة آيات، حتى قطع الموالاة بين من هاجر ومن لم يهاجر، فقال تعالى: {والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من

ولا يتهم من شيء حتى يهاجروا} [الأنفال: 72] فلما فتحت مكة، ودخل الناس في الإسلام من جميع القبائل سقطت الهجرة الواجبة، وبقي الاستحباب. وأخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن الهجرة، فقالت: لا هجرة اليوم، كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله تعالى، وإلى رسوله، مخافة أن يفتن عليه، فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام، واليوم يعبد ربه حيث شاء، ولكن جهاد ونية" فأشارت رضي الله عنها إلى بيان حكمة مشروعية الهجرة، وأن سببها خوف الفتنة، والحكم يدور مع علته، فمقتضاه أن من قدر على عبادة الله في أي موضع، لم تجب عليه الهجرة منه، وإلا وجبت. وقال الحافظ ابن حجر: وكانت الحكمة أيضا في وجوب الهجرة على من أسلم أن يسلم من أذى ذويه من الكفار، فإنهم كانوا يعذبون من أسلم منهم، إلى أن يرجع عن دينه، وفيهم نزلت: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها} [النساء: 97]؟ الآية. قال: وهذه الهجرة باقية الحكم في حق من أسلم في دار الكفر، وقدر على الخروج منها. اهـ. ومن هنا جاء عن ابن عمر قوله "انقطعت الهجرة بعد الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار" أي مادام في الدنيا دار كفر. وعن حكم النفير والخروج للجهاد يقول النووي: في الحديث دليل على أن الجهاد ليس فرض عين، بل فرض كفاية إذا فعله من تحصل بهم الكفاية سقط الحرج عن الباقين، وإن تركوه كلهم أثموا كلهم، قال: قال أصحابنا: الجهاد اليوم فرض كفاية، إلا أن ينزل الكفار ببلد المسلمين، فيتعين عليهم الجهاد، فإن لم يكن في أهل ذلك البلد كفاية وجب على من يليهم تتميم الكفاية، وأما في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فالأصح عند أصحابنا أنه كان أيضا فرض كفاية، والقول الآخر عند أصحابنا أنه كان فرض عين، واحتج القائلون بأنه كان فرض كفاية بأنه كانت تغزو السرايا، وفيها بعض الصحابة دون بعض. اهـ. وقال الماوردي: كان فرض عين على المهاجرين، دون غيرهم، قال الحافظ: ويؤيده وجوب الهجرة قبل الفتح في حق كل من أسلم إلى المدينة، لنصرة الإسلام. وقال السهيلي: كان فرض عين على الأنصار، دون غيرهم، قال الحافظ: ويؤيده مبايعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة على أن يؤووه، وينصروه، فيخرج من قوليهما أنه كان عينا على الطائفتين، فرض كفاية في حق غيرهم، ومع ذلك فليس في حق الطائفتين على التعميم، بل في حق الأنصار إذا طرق المدينة طارق، وفي حق المهاجرين إذا أريد قتال أحد من الكفار ابتداء، قال: ويؤيد هذا ما وقع في قصة بدر، فيما ذكره ابن إسحق، فإنه كان كالصريح في ذلك. وقيل: كان فرض عين في الغزوة التي يخرج فيها النبي صلى الله عليه وسلم دون غيرها. قال الحافظ: والتحقيق أنه كان فرض عين على من عينه النبي صلى الله عليه وسلم.

أما بعده صلى الله عليه وسلم فهو فرض كفاية على المشهور، إلا أن تدعو الحاجة إليه، كأن يدهم العدو، ويتعين على من عينه الإمام، ويتأدى فرض الكفاية بفعله في السنة مرة عند الجمهور، ومن حجتهم أن الجزية تجب بدلا عنه، ولا تجب في السنة أكثر من مرة اتفاقا، فليكن بدلها كذلك، وقيل: يجب كلما أمكن، وهو قوي. والذي يظهر أنه استمر على ما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن تكاملت فتوح معظم البلاد، وانتشر الإسلام في أقطار الأرض. والتحقيق أيضا أن جنس جهاد الكفار متعين على كل مسلم، إما بيده، وإما بلسانه، وإما بماله، وإما بقلبه. والله أعلم.

(518) باب كيفية بيعة النساء

(518) باب كيفية بيعة النساء 4241 - عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها قالت: كانت المؤمنات إذا هاجرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتحن بقول الله عز وجل {يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين} [الممتحنة: 12] إلى آخر الآية. قالت عائشة: فمن أقر بهذا من المؤمنات، فقد أقر بالمحنة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقررن بذلك من قولهن قال لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم "انطلقن فقد بايعتكن". ولا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط غير أنه يبايعهن بالكلام. قالت عائشة: والله ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء قط إلا بما أمره الله تعالى. وما مست كف رسول الله صلى الله عليه وسلم كف امرأة قط. وكان يقول لهن إذا أخذ عليهن "قد بايعتكن" كلاما. 4242 - عن عروة أن عائشة رضي الله عنها أخبرته عن بيعة النساء، قالت: ما مس رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة قط، إلا أن يأخذ عليها، فإذا أخذ عليها فأعطته، قال "اذهبي فقد بايعتك". -[المعنى العام]- كان من شروط الصلح في الحديبية بين قريش والمسلمين أن من جاء من قريش إلى المسلمين يردونه إلى قريش، وعبارته عند ابن إسحق "من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم" وهذه العبارة تعم الرجال والنساء، وكذا عبارته عند البخاري "ولا يأتيك منا أحد" أما رواية البخاري في كتاب الشروط فكانت "على أنه لا يأتيك منا رجل -وإن كان على دينك- إلا رددته إلينا" وسواء كانت عبارة الشرط تشمل النساء ثم نسخ دخولهن فيه، أو كانت عامة فخصصت، أو لم تكن تشملهن ابتداء، فحكم الله تعالى يخرجهن من الشرط؛ إذ هاجرت بعد الصلح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، فخرج أخواها عمار والوليد، حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلماه في أمرها، ليردها عليه الصلاة والسلام إلى قريش، فنزل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن

حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم* وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون* يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم} [الممتحنة: 10، 11، 12]. فلما نزلت هذه الآية لم يردها صلى الله عليه وسلم، ثم أنكحها زيد بن حارثة صلى الله عليه وسلم. وهاجر نساء كثيرات من مكة، فكن يمتحن ويبايعن في المدينة، ويعاملن في ضوء هذه الآيات، فعند البزار عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: جاءت فاطمة بنت عقبة، تبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ عليها أن لا تزني، فوضعت يدها على رأسها حياء، فقالت لها عائشة: بايعي أيتها المرأة، فوالله ما بايعناه إلا على هذا. قالت: فنعم إذن". وأصبحت هذه الصيغة القرآنية صيغة المبايعة الشرعية، بل صيغة العهد الذي يؤخذ على النساء جميعا في الأوقات المختلفة، ولو على غير المهاجرات، فقد روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد خطبة يوم عيد أقبل على النساء، فقرأ عليهن: {يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم} ثم قال حين فرغ من الآية: أنتن على ذلك؟ قالت امرأة واحدة منهن: نعم. ولما فتحت مكة، وآمن الكثيرات من نسائها أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهن هذه البيعة وهذا الميثاق، وكان ممن بايعنه صلى الله عليه وسلم بمكة هند بنت عتبة، زوج أبي سفيان، فقرأ صلى الله عليه وسلم عليهن الآية، فلما قال: {على أن لا يشركن بالله شيئا} قالت: وكيف نطمع أن يقبل منا ما لم يقبله من الرجال؟ كأنها تقول: إن هذا واضح مسلم، فلما قال {ولا يسرقن} قالت: والله إني لأصيب الهنة من مال أبي سفيان لا يدري أيحل لي ذلك؟ فقال أبو سفيان: ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وعرفها، فقال لها: وإنك لهند بنت عتبة؟ قالت: نعم. فاعف عما سلف يا نبي الله، عفا الله عنك. فقال {ولا يزنين} فقالت: أو تزني الحرة؟ تريد أن الزنا في الإماء كما كان غالبا في الجاهلية. فقال: {ولا يقتلن أولادهن} فقالت: ربيناهم صغارا، وقتلتهم كبارا، تعني ما كان من أمر ابنها حنظلة بن أبي سفيان، فإنه قتل يوم بدر، فضحك عمر حتى استلقى، وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال {ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن} فقالت: والله إن البهتان لأمر قبيح، ولا يأمر الله تعالى إلا بالرشد ومكارم الأخلاق. فقال {ولا يعصينك في معروف} فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء. بل أصبحت هذه الصيغة يبايع ويعاهد عليها الرجال، فيقولون: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما بايع عليه النساء، وأصبحت تعرف ببيعة النساء، لما أنها نزلت بخصوص النساء، فقد روى البخاري عن

عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: "قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم -ونحن في مجلس- تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله فأمره إلى الله، إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه، فبايعناه على ذلك". وفي مبايعات الرجال كان صلى الله عليه وسلم يضع يده في أيدي المبايعين، ويد الله فوق أيديهم، أما في مبايعات الرسول صلى الله عليه وسلم للنساء فتؤكد عائشة -رضي الله عنها- أنه لم يكن يضع يده صلى الله عليه وسلم في يد امرأة قط، بل كان يأخذ البيعة عليهن كلاما فقط، فإذا أقررن وتعهدن بما طلب منهن قال لهن: قد بايعتكن على ذلك، ولكن على تنفيذ ذلك الجنة. -[المباحث العربية]- (يمتحن) أي يختبرن اختبارا، يغلب على الظن موافقة قلوبهن لألسنتهن في الإيمان، خشية أن تكون هجرتهن لأمر دنيوي، وليست لله ورسوله، وقد أخرج ابن المنذر والطبري في الكبير بسند حسن عن ابن عباس أنه قال في كيفية امتحانهن: كانت المرأة إذا جاءت مهاجرة حلفها عمر رضي الله عنه بالله ما خرجت رغبة بأرض عن أرض، وبالله ما خرجت من بغض زوج، وبالله ما خرجت التماس دنيا، وبالله ما خرجت إلا حبا لله ورسوله. (بقول الله عز وجل) أي الامتحان بسبب قوله عز وجل ... ، أي فإنها تأمر بامتحانهن، والآية التي ذكرتها عائشة تالية للآية الآمرة بالامتحان وهي قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن .... } وقد وضحنا ذلك بالمعنى العام. {يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات} بحسب الظاهر، أي مدعيات الإيمان. {يبايعنك} الجملة حالية، حال مقدرة، أي مقدرات وقاصدات للبيعة. {على ألا يشركن بالله شيئا} "شيئا" مفعول به، أي لا يشركن بالله شيئا من الأشياء أو صنما من الأصنام، أو صفة لمفعول مطلق، أي لا يشركن شيئا من الإشراك، ولا نوعا من الإشراك. (إلى آخر الآية) بقيتها {ولا يقتلن أولادهن} أريد به وأد البنات، وإن كان الأولاد أعم منهن، وجوز إبقاؤه على ظاهره {ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن} قال الفراء: كانت المرأة في الجاهلية تلتقط المولود من غيرها، فتقول لزوجها: هذا ولدي منك. فذلك البهتان المفترى بين أيديهن وأرجلهن، وذلك أن الولد إذا وضعته الأم سقط بين يديها ورجليها، {ولا يعصينك في معروف} أي فيما تأمرهن به من معروف، وتنهاهن عنه من منكر، وعند أحمد والترمذي وابن ماجه عن أم سلمة الأنصارية "قالت امرأة من هذه النسوة: ما هذا المعروف الذي لا ينبغي لنا أن نعصيك فيه؟ فقال

صلى الله عليه وسلم: لا تنحن وقيل: النوح وشق الجيوب ووشم الوجوه وغير ذلك. وقيل: لا يخلو رجل بامرأة، {فبايعهن} أي إذا أعطينك العهد بذلك فأعطهن العهد بضمان الثواب على الوفاء بهذه الأشياء {واستغفر لهن الله} زيادة على ما في ضمن المبايعة من الثواب {إن الله غفور رحيم} يغفر لهن ويرحمهن، إذا وفين بما بايعن. (فقد أقر بالمحنة) قال النووي: معناه فقد بايع البيعة الشرعية. اهـ. وفي رواية البخاري "فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد بايعتك". (ولا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط) المراد من اليد الكف، كما في الرواية. و"قط" لنفي الماضي، وفيه خمس لغات، فتح القاف وتشديد الطاء مضمومة ومكسورة، وبضمهما، والطاء مشددة، وفتح القاف مع تخفيف الطاء، ساكنة ومكسورة، والقسم لتأكيد الخبر. (غير أنه يبايعهن بالكلام) لا باللمس، ولا بأخذ الكف في الكف، كما في بيعة الرجال، وفي الرواية "يقول لهن إذا أخذ عليهن: قد بايعتكن. كلاما" أي يقول ذلك كلاما فقط. (ما مس رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة قط، إلا أن يأخذ عليها) هذا الاستثناء منقطع، وتقدير الكلام: ما مس امرأة قط، لكن يأخذ عليها البيعة بالكلام. -[فقه الحديث]- قال الحافظ ابن حجر: اختلف في استمرار حكم امتحان من هاجر من المؤمنات، فقيل: منسوخ، بل ادعى بعضهم الإجماع على نسخه. اهـ. وقال النووي: في الحديث أن بيعة النساء بالكلام، من غير أخذ كف. وفيه أن بيعة الرجال بأخذ الكف مع الكلام. وفيه أن كلام الأجنبية يباح سماعه عند الحاجة، وأن صوتها ليس بعورة. وفيه أن لا يلمس بشرة الأجنبية من غير ضرورة، كتطبب وفصد وحجامة وقلع ضرس وكحل عين ونحوها، فحيث لا توجد امرأة تفعله جاز للرجل الأجنبي فعله للضرورة. اهـ. وعائشة -رضي الله عنها- ترد على ما قيل من أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع النساء بيده، كما بايع الرجال، وقد يستدل لأصحاب هذا القول بما رواه البخاري عن أم عطية -رضي الله عنها- قالت: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ علينا "أن لا يشركن بالله شيئا" ونهانا عن النياحة، فقبضت امرأة يدها .... " الحديث. فقبض يدها يوهم أن يدها كانت في يده صلى الله عليه وسلم، لكنه احتمال لا يدفع النصوص ويحتمل أنها كانت ممسكة بثوب يمسك بطرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعند ابن سعد وسعيد بن منصور عن الشعبي قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بايع النساء وضع على يده ثوبا" وفي بعض الروايات

"أنه صلى الله عليه وسلم يبايعهن وبين يديه وأيديهن ثوب مطوي" ويحتمل أنهن كن يشرن بإيديهن عند المبايعة بلا مماسة. وأخرج ابن سعد وابن مردويه "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء، فغمس يده فيه، ثم يغمس أيديهن فيه" والله أعلم بصحة هذا الخبر. لكن الأشهر المعول عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصافح بيده امرأة قط، إلا امرأة يملكها، كما جاء في الصحيح، وعند أحمد والنسائي وابن ماجه والترمذي وصححه أنهن بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلن: "يا رسول الله. ألا تصافحنا؟ قال: إني لا أصافح النساء، إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة". وقد روى البخاري عن أم عطية -رضي الله عنها- قالت: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ علينا "أن لا يشركن بالله شيئا" ونهانا عن النياحة، فقبضت امرأة يدها، فقالت: أسعدتني فلانة، فأريد أن أجزيها" وللنسائي "فأذهب، فأسعدها، ثم أجيئك، فأبايعك، قال: فاذهبي، فأسعديها، قالت: فذهبت، فساعدتها، ثم جئت، فبايعت" قال النووي: هذا محمول على أن الترخيص لأم عطية في آل فلان خاصة، ولا تحل النياحة لها ولا لغيرها في غير آل فلان، كما هو ظاهر الحديث، وللشارع أن يخص من العموم من شاء بما شاء. اهـ. كذا قال. قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر، إلا إن ادعى أن الذين ساعدتهم لم يكونوا أسلموا، وفيه بعد، وإلا فليدع مشاركتهم لها في الخصوصية، وقد شذ من قال: إن النياحة ليست بحرام، إلا إن صاحبها شيء من أفعال الجاهلية، من شق جيب وخمش خد ونحو ذلك، والأحاديث الواردة في الوعيد الشديد على النياحة ترده، وتؤكد شدة التحريم، وهو مذهب العلماء كافة، لكن لا يمتنع أن يكون النهي أولا ورد بكراهة التنزيه، ثم لما تمت مبايعة النساء وقع التحريم، فيكون الإذن لمن ذكر وقع في الحالة الأولى لبيان الجواز، ثم وقع التحريم، فورد حينئذ الوعيد الشديد. اهـ. ومال الحافظ ابن حجر إلى هذا الاحتمال، واجتهد في رد الاحتمالات الأخرى. وعندي أن الخصوصية للتأليف في أول التشريع أقرب الاحتمالات، كما قال النووي، والاحتمال الذي مال إليه ابن حجر بعيد، إذ لو كان النهي للتنزيه ما دخل في البيعة التي اقتصرت على أهم الأمور. والله أعلم.

(519) باب البيعة على السمع والطاعة فيما استطاع وبيان سن البلوغ

(519) باب البيعة على السمع والطاعة فيما استطاع وبيان سن البلوغ 4243 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: كنا نبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة يقول "لنا فيما استطعت". 4244 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: عرضني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد في القتال وأنا ابن أربع عشرة سنة، فلم يجزني. وعرضني يوم الخندق، وأنا ابن خمس عشرة سنة، فأجازني. قال نافع: فقدمت على عمر بن عبد العزيز، وهو يومئذ خليفة. فحدثته هذا الحديث. فقال: إن هذا لحد بين الصغير والكبير. فكتب إلى عماله أن يفرضوا لمن كان ابن خمس عشرة سنة ومن كان دون ذلك فاجعلوه في العيال. 4245 - -/- وفي رواية عن عبيد الله بهذا الإسناد. غير أن في حديثهم: وأنا ابن أربع عشرة سنة فاستصغرني. -[المعنى العام]- البيعة عن السمع والطاعة سبقت قريبا، والزيادة في هذا الحديث تلقين عبارة "فيما استطعت" وقد روعيت عند الكلام عن السمع والطاعة في المنشط والمكره. ولما كان الحديث يرفع القلم والتكليف عن الصبي حتى يبلغ، وقتال الكفار تكليف وأي تكليف، جهاد وأي جهاد، لا يطلب من غير البالغ، لكن الصبية الغيورين في صدر الإسلام كان حماسهم يدفعهم إلى التقدم إلى الميدان قبل أن يبلغوا الحلم، وهو حماس محمود مشكور، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن أعمارهم فإذا علم أنها أقل من خمس عشرة سنة ردهم، وإن علم أنهم بلغوها قبلهم، وسمح لهم بالمشاركة كالرجال، تماما في الحقوق والواجبات، ومن المعلوم شرعا أن البلوغ يثبت بالإنزال للرجل والمرأة، وبالحيض للمرأة، فإن لم يوجد هذا الدليل قبل الخامسة عشرة اعتبر البلوغ عندها بلوغا بالسن والتاريخ.

-[المباحث العربية]- (يقول لنا: فيما استطعت) التاء مضمومة، تاء المتكلم، أي يقول لنا: قل: فيما استطعت. (عرضني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد في القتال) يقال: عرض الأمير الجند، أقرهم عليه واحدا واحدا، ليتعرف حالهم. (فلم يجزني) بضم الياء وكسر الجيم وسكون الزاي، أي فلم يقبلني محاربا. (فكتب لعماله أن يفرضوا لمن كان ابن خمس عشرة سنة) فأكثر، أي يفرضوا له سهما من الغنيمة. (ومن كان دون ذلك فاجعلوه في العيال) أي في الصبية المحتاجين إلى كافل ومنفق، غير مستقل. -[فقه الحديث]- قال النووي عن الحديث الأول: فيه كمال شفقته صلى الله عليه وسلم ورأفته بأمته، حيث يلقنهم أن يقولوا: فيما استطعت، لئلا يدخل في عموم بيعته ما لا يطيقه، وفيه أن الإنسان إذا رأى من يلتزم ما لا يطيقه ينبغي أن يقول له: لا تلتزم، لا تطيق، فيترك بعضه، وهو من نحو قوله صلى الله عليه وسلم "عليكم من الأعمال ما تطيقون". وقال عن الحديث الثاني: هذا دليل لتحديد البلوغ بخمس عشرة سنة، وهو مذهب الشافعي والأوزاعي وابن وهب وأحمد وغيرهم، قالوا: باستكمال خمس عشرة سنة يصير مكلفا، وإن لم يحتلم، فتجري عليه الأحكام من وجوب العبادة وغيره، ويستحق سهم الرجل من الغنيمة، ويقتل إن كان من أهل الحرب. وفيه دليل على أن الخندق كانت سنة أربع من الهجرة، وهو الصحيح، وقال جماعة من أهل السير والتواريخ: كانت سنة خمس، وهذا الحديث يرده، لأنهم أجمعوا على أن أحدا كانت سنة ثلاث، فيكون الخندق سنة أربع، لأنه جعلها في هذا الحديث بعده بسنة.

(520) باب النهي أن يسافر بالمصحف إلى أرض الكفار إذا خيف وقوعه في أيديهم

(520) باب النهي أن يسافر بالمصحف إلى أرض الكفار إذا خيف وقوعه في أيديهم 4246 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو. 4247 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان ينهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو. 4248 - عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسافروا بالقرآن، فإني لا آمن أن يناله العدو". قال أيوب: فقد ناله العدو وخاصموكم به. 4249 - -/- وفي رواية عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن علية والثقفي: "فإني أخاف". وفي حديث سفيان وحديث الضحاك بن عثمان: "مخافة أن يناله العدو". -[المعنى العام]- للقرآن الكريم قدسية، وللمصحف إجلال وصيانة عن الدنس، {في صحف مكرمة* مرفوعة مطهرة* بأيدي سفرة* كرام بررة} [عبس: 13 وما بعدها]. {إنه لقرآن كريم* في كتاب مكنون* لا يمسه إلا المطهرون* تنزيل من رب العالمين} [الواقعة: 77 وما بعدها]. وإذا كانت الشريعة الإسلامية قد منعت المسلم أن يمسه أو يحمله جنبا، بل محدثا، فكيف يعرضه ليد الكافر والمشرك؟ والقرآن الكريم يقول {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة: 28]؟ . إن السفر بالمصحف إلى أرض الكفار يعرضه لأن يقع في أيديهم، ووقوعه في أيديهم يعرضه للاستهانة به وازدرائه وإهانته، وقد قال العلماء: إن من قصد إهانة المصحف من المسلمين، فألقاه في مزبلة مثلا فقد كفر، فكيف نعرضه لمثل ذلك على أيدي الكافرين؟ من هنا نهى صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالمصحف إلى أرض الكفار، مخافة أن يقع في أيديهم.

-[المباحث العربية]- (كان ينهي) هذا التعبير يفيد تكرار النهي، لما فيه من الجمع بين الماضي المفيد لوقوع الحدث في الزمن الماضي، والمضارع المفيد لوقوع الحدث في الحال والاستقبال، وهي من الرواية بالمعنى، إذ اللفظ "لا تسافروا بالقرآن" كما في ملحق الرواية الثانية. (أن يسافر بالقرآن) بالبناء للمجهول، والمراد من القرآن المصحف كله، أو جزؤه، وليس المقصود القرآن المحفوظ، إذ لم يقل أحد: إن من يحسن القرآن وبحفظه لا يغزو العدو في دارهم. (إلى أرض العدو) أي الأرض التي هي تحت سيطرة العدو، وحكمه. (مخافة أن يناله العدو) هذه العبارة رواها مسلم والنسائي وابن ماجه مرفوعة، لكن أكثر رواة مالك جعلوها من كلام مالك، مدرجة، وهو غلط، وفي ملحق الرواية الثانية "فإني لا آمن أن يناله العدو" وفي الملحق الثاني "فإني أخاف". قال الحافظ ابن حجر: ولعل مالكا كان يجزم به، ثم صار يشك في رفعه، فجعله من تفسير نفسه. -[فقه الحديث]- قال ابن عبد البر: أجمع الفقهاء أن لا يسافر بالمصحف في السرايا والعسكر الصغير المخوف عليه، واختلفوا في الكبير المأمون عليه، فمنع مالك أيضا -وجعل النهي مطلقا، وتبعه بعض الشافعية- وفصل أبو حنيفة بين أن يدخل في جيش المسلمين الظاهرين على العدو، فلا كراهة، وبين السرايا المعرضة لقهر العدو، فيكره. وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة الجواز مطلقا، والصحيح عنه التفصيل، أما الشافعية فقد أداروا الحكم والكراهة مع الخوف وجودا وعدما، فإن أمنت هذه العلة فلا كراهة، وإلا كره. وعبارة الراوي "أيوب" في ملحق الرواية الثانية توهم أن الخوف من قراءتهم له، ومجادلتهم لنا به، وليس كذلك، فنحن نجادلهم به، ونسمعهم إياه، ولا نخاف أن يحفظوا، ولا أن يجادلوا. وإنما الخوف من إهانتهم للمصحف الشريف. نعم منع مالك من أن يتعلم الكافر القرآن، قليله وكثيره، وأجازه الحنفية مطلقا، وفصل بعض المالكية بين القليل والكثير، فأجازوا القليل لأن فيه قيام الحجة عليهم، ومنعوا الكثير، وللشافعية قولان. أما الكتابة إلى الكفار بآية أو آيات فقد نقل النووي الاتفاق على جوازها، قال: والحجة فيه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل. ثم قال: قال القاضي: وكره مالك وغيره معاملة الكفار بالدراهم والدنانير التي فيها اسم الله تعالى وذكره.

واستدل بعض المالكية بالحديث على منع بيع المصحف للكافر، وكذا إهداؤه له، لوجود العلة المذكورة، وهي خوف التمكن من الاستهانة به، قال الحافظ ابن حجر: ولا خلاف في تحريم ذلك، وإنما الاختلاف فيما إذا وقع وحصل الكافر على المصحف، هل البيع صحيح أو غير صحيح؟ وهل يؤمر بإزالة ملكه عنه أو لا؟ والله أعلم.

(521) باب الخيل: تضميرها، والمسابقة بينها وفضلها، وما يكره من صفاتها

(521) باب الخيل: تضميرها، والمسابقة بينها وفضلها، وما يكره من صفاتها 4250 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بالخيل التي قد أضمرت من الحفياء. وكان أمدها ثنية الوداع. وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق. وكان ابن عمر فيمن سباق بها. 4251 - -/- وفي رواية عن ابن عمر رضي الله عنهما، بمعنى حديث مالك عن نافع. وزاد في حديث أيوب من رواية حماد وابن علية. قال عبد الله: فجئت سابقا. فطفف بي الفرس المسجد. 4252 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة". 4253 - عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوي ناصية فرس بإصبعه وهو يقول: "الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة: الأجر والغنيمة". 4254 - عن عروة البارقي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة: الأجر والمغنم".

4255 - عن عروة البارقي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخير معقوص بنواصي الخيل" قال: فقيل له: يا رسول الله، بم ذاك؟ قال: "الأجر والمغنم إلى يوم القيامة". 4256 - -/- وفي رواية عن عروة البارقي، عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر الأجر والمغنم. وفي حديث سفيان، سمع عروة البارقي، سمع النبي صلى الله عليه وسلم. 4257 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البركة في نواصي الخيل". 4258 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره الشكال من الخيل. 4259 - وفي رواية عن سفيان بهذا الإسناد، مثله. وزاد في حديث عبد الرزاق: والشكال أن يكون الفرس في رجله اليمنى بياض وفي يده اليسرى. أو في يده اليمنى ورجله اليسرى. -[المعنى العام]- يقول الله تعالى {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون} [النحل: 8] يمتن الله تعالى على عباده بما أنعم عليهم، مما فيه صلاح معيشتهم، وفي هذه الآية الكريمة يمتن عليهم

بوسائل المواصلات المتاحة لهم في هذا العصر، وبوسائل الكر والفر والقتال مع الأعداء والدفاع عن الأنفس والأموال والأعراض، وعنى الإسلام بالخيل، كأرقى وسائل السفر وأهم عدد الحرب، إذ قال {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل} [الأنفال: 60] والخيل في السلم زينة ومظهر من مظاهر الغنى، وقد قسموا العرب من حيث طبقات الغنى إلى أهل الخيل، ثم أهل الإبل والبقر، ثم أهل الغنم، كما كانوا يعدون الخيل في المعارك، ويعتبرونها مقياس القوة، فيقولون: معهم مائة فرس، ومن يقابلهم معه بضع أفراس. والخيل ككل نعمة كبيرة، وكأي سلاح، إن استخدم في الخير كان خيرا، وإن استخدم في الشر كان شرا، ومن هنا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "الخيل لثلاثة" أي لثلاثة أصناف من الرجال، فهي "لرجل أجر، ولرجل ستر، ولرجل وزر، فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله، فأطال في مرجها وحبلها ليفسح لها في مرعاها، فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة، وما أكلت في حبلها الطويل من المرعى، كانت له حسنات، ولو أنها قطعت طيلها (وحبلها) فاستنت شرفا أو شرفين (أي فجرت جبلا أو جبلين) كانت أرواثها وآثارها حسنات له، ولو أنها مرت بنهر، فشربت منه، ولم يرد أن يسقيها (وبدون قصد منه شربت) كان ذلك حسنات له. فأما الذي هي عليه وزر فهو رجل ربطها فخرا ورئاء، ونواء لأهل الإسلام (ومناوأة ومحاربة للمسلمين) فهي عليه وزر. وأما التي هي عليه ستر فالرجل يتخذها تعففا وتكرما وتجملا، ولم ينس حق الله في رقابها، فهي له ستر". فأحاديث الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة مقصود بها الخيل المعدة لطاعة الله، والجهاد في سبيله، والدفاع عن دينه، وقد ربط الحديثان في رواية أحمد، وفيها "الخيل في نواصيها الخير معقود إلى يوم القيامة، فمن ربطها عدة في سبيل الله، وأنفق عليها احتسابا كان شبعها وجوعها وريها وظمؤها وأرواثها وأبوالها فلاحا في موازينه يوم القيامة". ويقابل هذه الأحاديث أحاديث "الشؤم في ثلاث، في الفرس والمرأة والدار" وهكذا الأمور المهمة في حياة الإنسان، إما أن تكون مصدر سعادة، وإما أن تكون مصدر شقاء، إما أن تكون مصدر خير وبركة، وإما أن تكون مصدر شر وعذاب، والنعمة في ذاتها صالحة للاستعمال في الخير، وصالحة للاستعمال في الشر، والإنسان هو الذي يسخرها لهذا الجانب أو لذاك، بل كل نعمة يستطيع الإنسان بما آتاه الله من علم وعقل أن يطور نفعها، ويزيد من كفاءتها، وينمي مؤهلاتها، فإذا طورها إلى جانب الخير ارتقى بها في درجات الثواب والجنة، ومن هنا كان التدريب والتمرين والتسابق نحو الخيرات، ومن هنا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث على المسابقات بالخيل، كما يحث على علفها وسقيها بطريقة خاصة تحول دون ثقلها وترهلها وضعف حركتها وعجزها عن الجري والكر والفر، كما كان يشجع الصحابة -رضي الله عنهم- على ركوب الخيل، والتسابق بها، ويكافئ من يسبق، ويحدد مسافات التسابق. إن الخيل مصدر رزق في الدنيا، ومصدر أجر يوم القيامة. وإذا حرم البعض من هذه النعمة فعنده من العوض كثير من النعم التي يمكن أن يكتسب بها من الحسنات أكثر من ميادين الخيل، فميادين الحسنات لا حصر لها، وسوقها مليء بأنواع الخير، ووجوه البر، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

-[المباحث العربية]- (سابق بالخيل التي قد أضمرت) بضم الهمزة وسكون الضاء وكسر الميم، وقوله "لم تضمر" بضم أوله وفتح ثالثه مبني للمجهول، والمراد به أن تعلف الخيل، حتى تسمن وتقوى، ثم يقلل علفها بقدر القوت، وتدخل بيتا، وتغطي فيه بالجلال، لتحمي فيه، فتعرق، فإذا جف عرقها جف لحمها، وقويت على الجري. وفي رواية "أجري" بدل "سابق" وهما بمعنى. (من الحفياء، وكان أمدها ثنية الوداع) أي كانت مسافة السباق تبدأ من الحفياء، وتنتهي عند ثنية الوداع، والحفياء بفتح الحاء وسكون الفاء، آخرها مد، ويجوز القصر، وحكى الحازمي تقديم الياء على الفاء، وحكى عياض ضم أوله، مكان خارج المدينة، أما ثنية الوداع فهي عند المدينة، سميت بذلك لأن الخارج من المدينة يمشي معه المودعون إليها، والثنية في الأصل الطريق في الجبل، وكانت المسافة من الحفياء إلى ثنية الوداع خمسة أميال، أو ستة، أو سبعة. (من الثنية إلى مسجد بني زريق) أي من ثنية الوداع، فهي كانت بداية هذا السباق، وكانت نهايته في السباق الأول، ومسجد بني زريق -بالزاي قبل الراء، مصغرا، والمسافة بينهما تقل عن مسافة الحفياء. (وكان ابن عمر فيمن سابق بها) أي في السباق الثاني من الثنية إلى مسجد بني زريق. (فجئت سابقا) على المتسابقين. (فطفف بي الفرس المسجد) أي وثب وعلا بي فرسي سور المسجد، وكان جداره قصيرا، وهذا بعد مجاوزته الغاية، لأن الغاية هي هذا المسجد، وهي مسجد بني زريق، يقال: طف الشيء، يطف بكسر الطاء، إذا طفا وعلا وارتفع، وطفف به الفرس بالتشديد، وثب. مبالغة في طف. (الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة) النواصي جمع ناصية، والمراد بها هنا الشعر المسترسل على الجبهة، قاله الخطابي وغيره، قالوا: ويحتمل أن يكون قد كنى بالناصية عن جميع ذات الفرس، كما يقال: فلان مبارك الناصية، ومبارك الغرة، أي مبارك الذات، ولا يصلح هذا الاحتمال في الرواية الرابعة، ولفظها "يلوي ناصية فرس بأصبعه" ويحتمل أن تكون الناصية قد خصت بالخير لكونها المقدم منها، إشارة إلى أن الفضل في الإقدام بها على العدو، دون المؤخر، لما فيه من الإشارة إلى الأدبار. و"ال" في "الخيل" للجنس الصادق ببعض أفراده، أي هذا الجنس بصدد أن يكون الخير فيه، فمن استخدمه في كذا كان كذا، ومن استخدمه في كذا كان كذا.

ولفظ "الخيل" و"الخير" فيهما جناس سهل غير تام، وهو نوع من البلاغة والعذوبة والبديع. وقد فسر "الخير" في الرواية الثالثة والرابعة بأنه الأجر والمغنم. وفي الرواية الخامسة "البركة في نواصي الخيل" والمعنى قريب من الخير. قال الحافظ ابن حجر: ولا بد فيه من شيء محذوف، يتعلق به المجرور، وأولى ما يقدر ما ثبت في رواية، بلفظ "البركة تنزل في نواصي الخيل". وفي الرواية الثالثة والرابعة "الخيل معقود بنواصيها الخير". "الخير معقود بنواصي الخيل" وفي رواية "الخير معقوص بنواصي الخيل" والمعقود والمعقوص بمعنى، ومعناه ملوي مضفور فيها. (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره الشكال من الخيل) "الشكال" بكسر الشين وتخفيف الكاف "بأن يكون في رجله اليمنى بياض وفي يده اليسرى، أو في يده اليمنى ورجله اليسرى" قال النووي: وهذا التفسير أحد الأقوال في الشكال، وقال أبو عبيد وجمهور أهل اللغة والغريب: هو أن يكون منه ثلاث قوائم محجلة، وواحدة مطلقة، تشبيها بالشكال الذي تشكل به الخيل، فإنه يكون في ثلاث قوائم غالبا، قال أبو عبيد: وقد يكون الشكال ثلاث قوائم مطلقة، وواحدة محجلة، قال: ولا تكون المطلقة من الأرجل، أو المحجلة إلا الرجل، وقال ابن دريد: الشكال أن يكون محجلا من شق واحد في يده ورجله، فإن كان مخالفا قيل: الشكال مخالف، وقيل: الشكال بياض الرجل اليمنى واليد اليمنى، وقيل: بياض الرجل اليسرى واليد اليسرى، وقيل: بياض اليدين، وقيل: بياض الرجلين، وقيل: بياض الرجلين ويد واحدة، وقيل: بياض اليدين ورجل واحدة. قال النووي: وقال العلماء: إنما كرهه لأنه على صورة المشكول -أي المقيد بالشكال، وهو القيد- وقيل: يحتمل أن يكون قد جرب ذلك الجنس، فلم يكن فيه نجابة. وقال بعض العلماء: إذا كان مع ذلك أغر -والغرة بياض في جبهة الفرس- زالت الكراهة. اهـ. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث]- 1 - مشروعية المسابقة، وأنها ليست من العبث، بل من الرياضة المحمودة الموصلة إلى تحصيل مقاصد شرعية، في الجهاد وغيره من مصالح العباد، قال النووي: واختلف العلماء في حكمها، مباحة؟ أم مستحبة؟ ومذهب أصحابنا أنها مستحبة، قال: وأجمع العلماء على جواز المسابقة بغير عوض، بين جميع أنواع الخيل، قويها مع ضعيفها، وسابقها مع غيره، سواء كان معها ثالث أم لا. وقال القرطبي: لا خلاف في جواز المسابقة على الخيل وغيرها من الدواب، وعلى الأقدام، وكذا الترامي بالسهام، واستعمال الأسلحة، لما في ذلك من التدريب على الحرب. اهـ.

وقصرها مالك والشافعي على الخف والحافر والنصل، وخصه بعض العلماء بالخيل، وأجازه عطاء في كل شيء. هذا عن المسابقة بدون عوض، أو بعوض فقال النووي: إنها جائزة بالإجماع، لكن يشترط أن يكون العوض من غير المتسابقين، أو يكون بينهما، ويكون معهما محلل، وهو ثالث على فرس مكافئ لفرسيهما، ولا يخرج المحلل من عنده شيئا، ليخرج هذا العقد عن صورة القمار، وليس في هذا الحديث ذكر عوض في المسابقة. قال الحافظ ابن حجر: وجوز الجمهور أن يكون العوض من أحد الجانبين المتسابقين، وكذا إذا كان معهما ثالث محلل، بشرط ألا يخرج من عنده شيئا، ومنهم من شرط في المحلل أن يكون لا يتحلل السبق في مجلس السبق. 2 - استدل بعضهم بدخول عبد الله بن عمر في السباق على شرط أن تكون الخيل مركوبة، لا مجرد إرسال الفرسين بغير راكب، وفي هذا الاستدلال نظر، لأن الذين لا يشترطون الركوب لا يمنعون صورة الركوب، وكل ما يدل عليه الحديث صحة الركوب. 3 - وفيه جواز إضمار الخيل، خلافا لمن منعه بحجة ما فيه من إيذاء للحيوان ومشقة وإضرار. 4 - قال الحافظ ابن حجر: ولا يخفي اختصاص استحباب ذلك بالخيل المعدة للغزو. 5 - وفيه مشروعية الإعلام بالابتداء والانتهاء عند المسابقة. 6 - وفيه نسبة الفعل إلى الأمر به، لأن قوله "سابق" أي أمر وأباح. 7 - وفيه جواز إضافة المسجد إلى قوم مخصوصين. 8 - وفيه جواز معاملة البهائم عند الحاجة بما يكون تعذيبا لها في غير الحاجة. 9 - وفيه استحباب رباط الخيل. 10 - واقتناؤها للغزو، وقتال أعداء الله. 11 - وأن فضل الخيل وغيرها مستمر، وإن تقدمت اختراعات الأسلحة وآلات الحرب. 12 - وأن الجهاد باق إلى يوم القيامة. 13 - ومن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ناصية فرسه استحباب خدمة الرجل فرسه المعدة للجهاد. 14 - أخذ منه بعضهم أن المشرك إذا حضر الوقعة وقاتل مع المسلمين يسهم له، وبه قال بعض التابعين كالشعبي. قال الحافظ: ولا حجة فيه، إذ لم يرد هنا صيغة عموم. 15 - استدل به على أن الجهاد ماض مع البر والفاجر، لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر بقاء الخير في نواصي الخيل إلى يوم القيامة، وفسره بالأجر والمغنم، والمغنم المقترن بالأجر إنما يكون من

الخيل بالجهاد، ولم يقيد ذلك بما إذا كان الإمام عادلا، فدل على أن لا فرق في حصول هذا الفضل بين أن يكون الغزو، مع الإمام العادل أو الجائر. 16 - وفيه الترغيب في الغزو على الخيل. 17 - وفيه أيضا بشرى ببقاء الإسلام وأهله إلى يوم القيامة، لأن من لازم بقاء الجهاد بقاء المجاهدين، وهم المسلمون، وهو مثل الحديث "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق" الحديث. 18 - وفيه أن المال الذي يكتسب باتخاذ الخيل من خير وجوه الأموال وأطيبها، والعرب تسمى المال خيرا، قال تعالى {إن ترك خيرا الوصية ... } [البقرة: 180]. 19 - قال ابن عبد البر: فيه إشارة إلى تفضيل الخيل على غيرها من الدواب، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأت عنه في شيء غيرها مثل هذا القول، وعند النسائي عن أنس بن مالك: لم يكن شيء أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخيل". 20 - وفي الحديث كراهة الشكال. والله أعلم.

(522) باب فضل الجهاد والخروج والرباط في سبيل الله، وفضل الشهادة، وفضل الغدوة والروحة في سبيل الله، وما أعده الله للمجاهد في الجنة

(522) باب فضل الجهاد والخروج والرباط في سبيل الله، وفضل الشهادة، وفضل الغدوة والروحة في سبيل الله، وما أعده الله للمجاهد في الجنة 4260 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تضمن الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا جهادا في سبيلي، وإيمانا بي، وتصديقا برسلي، فهو علي ضامن أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة، والذي نفس محمد بيده، ما من كلم يكلم في سبيل الله، إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم، لونه لون دم وريحه مسك، والذي نفس محمد بيده، لولا أن يشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة، ويشق عليهم أن يتخلفوا عني، والذي نفس محمد بيده، لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل". 4261 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا جهاد في سبيله وتصديق كلمته، بأن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه، مع ما نال من أجر أو غنيمة". 4262 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يكلم أحد في سبيل الله، والله أعلم بمن يكلم في سبيله، إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب، اللون لون دم والريح ريح مسك". 4263 - عن همام بن منبه، قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر أحاديث منها: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل كلم يكلمه المسلم في سبيل الله، ثم تكون يوم القيامة كهيئتها إذا طعنت، تفجر دما، اللون لون دم، والعرف عرف المسك".

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد في يده، لولا أن أشق على المؤمنين ما قعدت خلف سرية تغزو في سبيل الله، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة فيتبعوني، ولا تطيب أنفسهم أن يقعدوا بعدي". 4264 - -/- وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لولا أن أشق على المؤمنين ما قعدت خلاف سرية" بمثل حديثهم. وبهذا الإسناد "والذي نفسي بيده، لوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا". بمثل حديث أبي زرعة عن أبي هريرة. 4265 - -/- وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأحببت أن لا أتخلف خلف سرية". نحو حديثهم. 4266 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تضمن الله لمن خرج في سبيله." إلى قوله: "ما تخلفت خلاف سرية تغزو في سبيل الله تعالى". 4267 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من نفس تموت لها عند الله خير يسرها أنها ترجع إلى الدنيا، ولا أن لها الدنيا وما فيها، إلا الشهيد، فإنه يتمنى أن يرجع فيقتل في الدنيا لما يرى من فضل الشهادة". 4268 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا، وأن له ما على الأرض من شيء، غير الشهيد، فإنه يتمنى أن يرجع فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة". 4269 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما يعدل الجهاد في سبيل الله عز وجل؟ قال: "لا تستطيعونه" قال: فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثا. كل ذلك يقول: "لا

تستطيعونه" وقال في الثالثة: "مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله، لا يفتر من صيام ولا صلاة، حتى يرجع المجاهد في سبيل الله تعالى". 4270 - عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج. وقال آخر: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام. وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم. فزجرهم عمر، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو يوم الجمعة، ولكن إذا صليت الجمعة، دخلت، فاستفتيته فيما اختلفتم فيه. فأنزل الله عز وجل {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر} [التوبة: 19] الآية إلى آخرها. 4271 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها". 4272 - عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والغدوة يغدوها العبد في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها". 4273 - عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "غدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها". 4274 - 114 م عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن رجالا من أمتي" وساق الحديث، وقال: "فيه ولروحة في سبيل الله أو غدوة خير من الدنيا وما فيها".

4275 - عن أبي أيوب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غدوة في سبيل الله أو روحة خير مما طلعت عليه الشمس وغربت". 4276 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا أبا سعيد من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، وجبت له الجنة" فعجب لها أبو سعيد، فقال: أعدها علي يا رسول الله. ففعل. ثم قال: "وأخرى يرفع بها العبد مائة درجة في الجنة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض"؟ . قال: وما هي يا رسول الله؟ قال: "الجهاد في سبيل الله، الجهاد في سبيل الله". 4277 - عن أبي قتادة رضي الله عنه أنه سمعه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قام فيهم، فذكر لهم: "أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال" فقام رجل فقال: يا رسول الله، أرأيت إن قتلت في سبيل الله، تكفر عني خطاياي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم. إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف قلت؟ " قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم. وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر، إلا الدين فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك". 4278 - -/- وفي رواية عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أرأيت إن قتلت في سبيل الله. بمعنى حديث الليث.

4279 - عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم يزيد أحدهما على صاحبه: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر، فقال: أرأيت إن ضربت بسيفي. بمعنى حديث المقبري. 4280 - عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، أن رسول الله صلى اللهم عليه وسلم قال: "يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين". 4281 - عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "القتل في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدين". 4282 - عن مسروق قال: سألنا عبد الله عن هذه الآية {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون} [آل عمران: 169] قال: أما إنا قد سألنا عن ذلك. فقال: "أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل. فاطلع إليهم ربهم اطلاعة، فقال: هل تشتهون شيئا؟ قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا. ففعل ذلك بهم. ثلاث مرات. فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا، قالوا: يا رب، نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا؛ حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى. فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا". 4283 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أي الناس أفضل؟ فقال: "رجل يجاهد في سبيل الله بماله ونفسه" قال: ثم من؟ قال: "مؤمن في شعب من الشعاب يعبد الله ربه ويدع الناس من شره".

4284 - عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رجل: أي الناس أفضل يا رسول الله؟ قال: "مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله". قال: ثم من؟ قال: "ثم رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شره". 4285 - وفي رواية عن ابن شهاب بهذا الإسناد. فقال: "ورجل في شعب". ولم يقل ثم رجل. 4286 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من خير معاش الناس لهم رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه، كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه، يبتغي القتل والموت مظانه. أو رجل في غنيمة في رأس شعفة من هذه الشعف، أو بطن واد من هذه الأودية، يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين. ليس من الناس إلا في خير". 4287 - وفي رواية عن بعجة بن عبد الله بن بدر وقال: "في شعبة من هذه الشعاب". خلاف رواية يحيى. 4288 - وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمعنى حديث أبي حازم عن بعجة وقال: "في شعب من الشعاب". -[المعنى العام]- خلف الله بني آدم وفيهم نوازع الخير، ونوازع الشر. {ونفس وما سواها* فألهمها فجورها وتقواها} [الشمس: 7 - 8] وكلفه بمحاربة نوازع الشر، وتغليب نوازع الخير، ليكافح في دنياه، فيسعد في أخراه، وهذا هو الجهاد الأكبر، جهاد النفس، وجهاد الشيطان، {قد أفلح من زكاها* وقد خاب من دساها} [الشمس: 9 - 10] وعلى الرغم من هبة العقل، ومعرفته الخير والشر، فإن الله تعالى يرسل

رسلا بين الحين والحين، لتعيد للإنسانية شيئا من توازنها، بعد أن يتغلب عليها جهلها وشهواتها {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} [النساء: 165]، ويحدثنا القرآن الكريم أنه كلما جاء أمة رسولها كذبوه وحاربوه، فكان انتقام الله من المكذبين بالصيحة أو الصاعقة أو الطوفان أو الحجارة أو الخسف أو المسخ، وكانت وظيفة الرسل في الأعم الأغلب الدعوة إلى الله بالموعظة الحسنة، فإذا يئس من قومه بعد نفاد صبره دعا ربه، فتولى سبحانه وتعالى الانتقام من المكذبين، وكانت دعوات الرسل محلية، ووقتية، فلما أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا للعالمين في كل زمان ومكان أراد لدعوته أن تنتشر وأن تستمر عن طريق جهاد من آمن ضد من لم يؤمن. وكما هو الشأن مع الرسل السابقين قوبلت دعوة الإسلام بالتكذيب من أهلها وقومها الأولين، فكان نصيب محمد صلى الله عليه وسلم الإيذاء بشتى صنوف الإيذاء، وكان نصيب من آمن به التعذيب الذي يلجئه إلى ترك وطنه وأهله وماله وكل ما يملك فرارا بدينه إلى الحبشة مرتين ثم إلى المدينة، ولما وصلت المواجهة بين الرسالة وبين أعدائها إلى تبييت الأعداء لقتل الرسول صلى الله عليه وسلم فهاجر إلى المدينة، وفرضت هجرة من آمن إلى المدينة، حتى تم التجمع الإسلامي، والدولة الإسلامية في المجتمع الإسلامي، وأحس المهاجرون بقدرتهم على استرداد بعض أموالهم من مشركي مكة، أذن الله لهم بالقتال بقوله {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير* الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز} [الحج: 49، 40] فبدأت الحروب بين المسلمين والمشركين، وكان لا بد من تشجيع الجهاد والقتال، وكان حتما أن توضع قوانين الحروب وقواعدها، وأن تندفع جند الله نحو النصر بالإعداد المسلح والقوة النفسية، ونزل {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم} [الأنفال: 60]. {يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون* الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين} [الأنفال: 65، 66]. {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار} [الأنفال: 15]. {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق} [محمد: 4]. {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين} [التوبة: 14]. وجاءت الأحاديث بفضل الجهاد في سبيل الله، وأن الله قد ضمن للمجاهد دخول الجنة، مكفرا ذنوبه وسيئاته، كما وعده إن رجع سالما رجع بأجر عظيم، أو بأجر عظيم وغنيمة من أموال الكفار، حلال للمجاهدين، ورغب صلى الله عليه وسلم في الجهاد، فقال: "لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها" وبشر من يجرح في سبيل الله بجزاء أخروي كبير، وأنه سيكون صاحب علامة يعرفها أهل الجنة، حيث يأتي يوم القيامة، وجرحه كهيئته يوم جرح شكلا وصورة، جرحه يتفجر دما، اللون لون الدم، والريح ريح المسك، وقد وعد الله الشهداء بالجنة العالية، حيث قال {إن الله اشترى

من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم} [التوبة: 111] وأخبر جل شأنه عن الشهداء بقوله {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون* فرحين بما آتاهم الله من فضله} [آل عمران: 169 - 170] وقال صلى الله عليه وسلم "أرواحهم في جوف طير خضر، تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش" إن النعيم والجزاء الذي يراه الشهيد يعد خير ما يتمنى، حتى إذا سأله ربه: ماذا تتمنى أكثر مما عندك؟ يقول: لا أتمنى أكثر مما أكرمتني به، فإذا ما كرر عليه السؤال، ولم يجد بدا من أن يتمنى، قال: أتمنى أن أرجع إلى الدنيا لأقتل في سبيلك مرة ثانية وثالثة وعاشرة، حتى أحصل عن كل مرة مثل ما حصلت عليه. وهكذا نرى الجهاد أفضل الأعمال الصالحة، وأكثرها ثوابا، وأعلاها درجة عند الله. جمعنا الله بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا. -[المباحث العربية]- (تضمن الله لمن خرج في سبيله) في الرواية الثانية "تكفل الله لمن جاهد في سبيله" وعند البخاري "انتدب الله لمن خرج في سبيله" أي سارع بثوابه وحسن جزائه، وقيل: معناه أجاب إليه، وقيل: معناه تكفل بالمطلوب، وعند البخاري أيضا "توكل الله" والمعنى في الكل واحد، أي أوجب على نفسه والتزم له بالجنة، بفضله وكرمه سبحانه وتعالى، وهذا الضمان والكفالة موافق لقوله تعالى {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} (لا يخرجه إلا جهادا في سبيلي) قال النووي: هكذا هو في جميع النسخ "جهادا" بالنصب، وكذا قال بعده "وإيمانا بي، وتصديقا" وهو منصوب على أنه مفعول له، وتقديره: لا يخرجه مخرج ولا يحركه محرك إلا الجهاد لي، أي لا يخرجه إلا محض الإيمان والإخلاص لله تعالى. اهـ. وفي هذا التوجيه تعسف، أخف منه أن الخطأ من الناسخين، إذ جميع الروايات في الأصول الأخرى وفي البخاري بالرفع، وهو الموافق للقواعد النحوية، وفي الرواية الثانية "لا يخرجه من بيته إلا جهاد في سبيله، وتصديق بكلمته" وكذا في البخاري "لا يخرجه إلا إيمان بي، وتصديق برسلي" وفي رواية له "لا يخرجه إلا الجهاد في سبيله، وتصديق كلماته" فالاستثناء مفرغ، والكلام ناقص منفي، والمستثنى هنا فاعل "يخرج" مرفوع. وفي الرواية الأولى التفات، وانتقال من الغيبة إلى التكلم، والمراد من "تصديق كلمته" في الرواية الثانية كلمة الشهادتين، فالتصديق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم تصديق بما جاء به، ومنه الوعد بأجر المجاهد، وقيل: المراد به تصديق الأخبار التي جاءت بثواب المجاهد.

(فهو علي ضامن أن أدخله الجنة) قال النووي: ذكروا في "ضامن" هنا وجهين: أحدهما: أنه بمعنى مضمون كما في ماء دافق ومدفوق، والثاني أنه بمعنى ذو ضمان. اهـ. (أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة) ونحو هذا في الرواية الثانية، وعند البخاري "وتوكل الله للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة" أي بأن يدخله الجنة إن توفاه، وفي رواية الطبراني "إن توفاه" بإن الشرطية، وهو أوضح، وقد استشكل على هذا أن ظاهره أنه إذا غنم لا يحصل له أجر، ولا يصح ذلك. وفي توجيه: قولان: الأول: أن العبارة فيها حذف يفرضه المقام، والأصل أو غنيمة معها أجر، والمعنى أن يرجعه إلى مسكنه سالما مع أجر فقط؛ إن لم يغنم شيئا، أو مع غنيمة وأجر؛ إن رجع بغنيمة، وإنما سكت عن الأجر مع الغنيمة، لنقصه بالنسبة إلى الأجر الذي بدون غنيمة، لأن القواعد تقتضي أن الأجر عند عدم الغنيمة أفضل وأتم منه عند الغنيمة. فالحديث صريح في نفي الحرمان، وليس صريحا في نفي الجمع، ومع هذا القول الكرماني، إذ يقول: معنى الحديث أن المجاهد إما أن يستشهد، أو لا، والثاني لا ينفك من أجر أو غنيمة، مع إمكان اجتماعهما، فهي قضية مانعة الخلو، لا الجمع. الثاني: أن "أو" بمعنى الواو، وبه جزم ابن عبد البر والقرطبي، والتقدير: بأجر وغنيمة، وهي بالواو في رواية للنسائي ولأبي داود، ويعترض على هذا الرأي بأنه يلزمه أن يكون الضمان وقع بمجموع الأمرين لكل من رجع، وليس الواقع كذلك، فإن كثيرا من الغازين يرجع بدون غنيمة. وقد انتصر الحافظ ابن حجر للقول الأول، وأطنب في الترجيح، بما سنذكره في فقه الحديث. (والذي نفس محمد بيده) صيغة من الحلف الذي استعمله صلى الله عليه وسلم كثيرا، قال القاضي: واليد هنا بمعنى القدرة والملك. (ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم، لونه لون دم، وريحه مسك) "ما من كلم" بفتح الكاف وسكون اللام، وهو الجرح، و"يكلم" بضم الياء وفتح اللام بينهما كاف ساكنة، مبني للمجهول، و"حين كلم" بضم الكاف وكسر اللام، مبني للمجهول أيضا، و"إلا جاء يوم القيامة كهيئته" في الصورة، كشهادة على فضل صاحبه، وإعلان لكرامته، وأنه بذل نفسه في طاعة الله تعالى، قال العلماء: والظاهر أن المراد بهذا الجرح هو ما يموت صاحبه بسببه، قبل اندماله، لا ما يندمل في الدنيا، فإن أثر الجراحة وسيلان الدم يزول، ولا يمنع أن يكون للجرح المندمل في سبيل الله أجر وفضل في الجملة، لكن الذي يجيء يوم القيامة يتفجر دما من فارق الدنيا وجرحه كذلك، ويؤيده ما جاء عند ابن حبان بلفظ "عليه طابع الشهداء" ومعنى "كهيئته" أي في كمية الدم وسيلانه، فلا ينقص منه شيء بطول العهد، وفي قوله "وريحه مسك" على التشبيه، وفي

الرواية الثالثة "إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب" بفتح الياء والعين وإسكان الثاء، ومعناه يجري متفجرا، أي كثيرا، وفي الرواية الرابعة "كل كلم يكلمه المسلم في سبيل الله" في سبيل الله خبر المبتدأ، أي كل جرح يجرحه المسلم له به أجر، كقوله "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب -حتى الشوكة يشاكها إلا كان له به أجر" فيشمل جروح القتال في معارك الكفار، وغيرها من جروح الدنيا، أو خبر المبتدأ محذوف، تقديره: مأجور، وعند الترمذي وصححه وابن حبان والحاكم "من جرح جرحا في سبيل الله، أو نكب نكبة، فإنها تجيء يوم القيامة، كأغزر ما كانت، لونها لون الزعفران، وريحها ريح المسك" قال الحافظ ابن حجر "فعرف بهذه الزيادة "أو نكب نكبة" أن مجيئها يوم القيامة على الهيئة المذكورة لا يختص بالشهيد، بل هي حاصلة لكل من جرح. اهـ. "ثم تكون يوم القيامة كهيئتها" أي ثم تجيء هذه الجروح الدنيوية كهيئتها "إذا طعنت" أي كهيئتها وقت طعنها، قال النووي "إذا" بالألف بعد الذال -كذا في جميع النسخ. اهـ. أي واستعملت "إذا" التي هي ظرف للمستقبل، بدل "إذ" التي للماضي "تفجر دما" جملة حالية، و"تفجر" أصله تتفجر بتاءين، حذفت إحداهما تخفيفا. "اللون لون دم، والعرف عرف المسك" والعرف بفتح العين وسكون الراء بعدها فاء، الرائحة. (لولا أن يشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدا) السرية قطعة صغيرة من الجيش، وقد بعث صلى الله عليه وسلم كثيرا من السرايا، تعرضنا لها في عدد السرايا والبعوث والغزوات، وفي الرواية الرابعة "لولا أن أشق على المؤمنين ما قعدت خلف سرية تغزو في سبيل الله". (ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة، ويشق عليهم أن يتخلفوا عني) هذا تعليل وبيان لسبب أن يصيبه صلى الله عليه وسلم مشقة إذا خرج مع السرايا، وحاصل العذر أن المسلمين يحرصون على مصاحبته صلى الله عليه وسلم في حربه مع الكفار، لأمرين: الأول أنهم من داخل نفوسهم يحبونه حبا أعلى من حبهم لأنفسهم، ويفدونه بأرواحهم، فخوفهم عليه يجعلهم لا يتخلفون عنه، الأمر الثاني قوله تعالى {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين} [التوبة: 120]. مع هذا الحرص على الخروج معه صلى الله عليه وسلم كان الكثيرون منهم فقراء، لا يملكون ما ينفقون على أنفسهم في السفر، ولا يجدون دابة تحملهم إلى المسافات البعيدة، ولا يملك الرسول صلى الله عليه وسلم وأغنياء الصحابة ما يقوم بنفقاتهم ووسائل نقلهم، فيشق عليهم عدم الخروج معه صلى الله عليه وسلم، ويشق عليه صلى الله عليه وسلم مشقتهم، يقول جل شأنه {ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من

الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون} [التوبة: 91، 92] هذه هي الحالة المانعة من خروجه صلى الله عليه وسلم مع كل سرية أرسلها، وفي الرواية الرابعة "لولا أن أشق على المؤمنين، ما قعدت خلف سرية تغزو في سبيل الله" وفي ملحق الرواية الرابعة "لولا أن أشق على أمتي لأحببت ألا أتخلف خلف سرية .... ". وفي رواية البخاري "تغدو في سبيل الله" بالدال من الغدو، "ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة فيتبعوني، ولا تطيب أنفسهم أن يقعدوا بعدي". وفي رواية للبخاري "ولا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني" وفي الرواية الأولى "ويشق عليهم أن يتخلفوا عني" وفي رواية الطبراني "ولو خرجت ما بقي أحد فيه خير، إلا انطلق معي، وذلك يشق علي وعليهم" وفي رواية "ويشق علي أن يتخلفوا عني" فإن قيل: لقد خرج صلى الله عليه وسلم في الغزوات، وتخلف عنه هؤلاء الذين لا يجدون، ولم يمتنع من أجلهم؟ قلنا: إن ذلك من باب تقديم المصلحة الأهم، على المصلحة المهمة. (والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل) وفي ملحق الرواية الرابعة "والذي نفسي بيده لوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا" فقوله "لوددت" جواب القسم، وقوله في رواية البخاري "ولوددت أني أقتل" بحذف القسم، هو على قسم مقدر. وفائدة ذكر هذه الجملة بعد ما قبلها إرادة تسلية الخارجين في السرايا بدونه، فراعى خواطر الجميع، قال القاضي: واليد هنا بمعنى القدرة والملك. (ما من نفس تموت، لها عند الله خير، يسرها أنها ترجع إلى الدنيا، ولا أن لها الدنيا وما فيها، إلا الشهيد) معنى "لها عند الله خير" أي ثقلت موازينها، وزاد خيرها على شرها، وكانت من أهل الجنة، وذلك احتراز عن قول الكافر {رب ارجعون* لعلي أعمل صالحا} [المؤمنون: 99 - 100] ومعنى "ولا أن لها الدنيا وما فيها" أي لا يسرها أن لها الدنيا وما فيها، وفي الرواية السابعة "ما من أحد يدخل الجنة، يحب أن يرجع إلى الدنيا، وأن له ما على الأرض من شيء غير الشهيد". قال النووي: أما سبب تسمية الشهيد شهيدا فقال النضر بن شميل: لأنه حي، فإن أرواحهم شهدت وحضرت دار السلام، وأرواح غيرهم نشهدها يوم القيامة. اهـ. فهو شاهد مشاهد، فعيل بمعنى فاعل. وقال ابن الأنباري: إن الله تعالى وملائكته ونبيه عليه الصلاة والسلام يشهدون له بالجنة، ففعيل بمعنى مفعول، وقيل: لأنه عند خروج روحه يشهد ما أعده الله تعالى له، ففعيل بمعنى اسم الفاعل، وقيل: لأن ملائكة الرحمة يشهدونه، فيأخذون روحه، فهو مشهود، وقيل: لأنه يشهد له بالإيمان وخاتمة الخير، بظاهر حاله، فهو مشهود له، وقيل: لأن عليه شاهدا بكونه شهيدا، وهو الدم، وقيل: لأنه ممن يشهد على الأمم يوم القيامة بإبلاغ الرسل الرسالة إليهم، وعلى هذا القول الأخير يشارك الشهداء غيرهم في هذا الوصف. اهـ. (ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟ ) أي ماذا من الأعمال الفاضلة يساوي الجهاد في سبيل الله في الأجر والثواب؟

(لا تستطيعونه) أي هو موجود، لكنه غير مستطاع لكم، وفي بعض النسخ "لا تستطيعوه" بحذف النون، قال النووي: وهو صحيح أيضا على لغة فصيحة، تحذف النون من غير ناصب ولا جازم. اهـ. وفي رواية البخاري "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دلني على عمل يعدل الجهاد. قال: "لا أجده" أي لا أجده مستطاعا "قال: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك، فتقوم ولا تفتر؟ وتصوم ولا تفطر؟ " قال: ومن يستطيع ذلك؟ . (كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله، لا يفتر من صيام ولا صلاة، حتى يرجع المجاهد في سبيل الله) يقال: قنت بفتح النون، يقنت بضمها، قنوتا، أطاع الله، وخضع له، وأقر بالعبودية، وأطال الدعاء، زاد النسائي "الخاضع الراكع الساجد" وعند ابن حبان "كمثل الصائم القائم الدائم، الذي لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع" وعند أحمد والبزار "كمثل الصائم نهاره، القائم ليله" وشبه حال المجاهد في سبيل الله بحال الصائم القائم في نيل الثواب في كل حركة وسكون، لأن المراد من الصائم القائم من لا يفتر ساعة عن العبادة، فأجره مستمر، وكذلك المجاهد، لا تضيع ساعة من ساعاته بغير ثواب. (وهو يوم الجمعة) أي وهذا النقاش كان يوم الجمعة، وفي بعض النسخ "وذلك يوم الجمعة". {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن ءامن بالله واليوم الآخر} {وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله} وظاهر الآية تشبيه الفعل بالفاعل، السقاية والعمارة بمن آمن وجاهد، وذلك لا يحسن، فيقدر محذوف إما في جانب الصفة، أي أجعلتم أهل سقاية الحاج، وإما في جانب الذات، أي أجعلتم السقاية والعمارة كإيمان وجهاد من آمن وجاهد؟ والاستفهام للإنكار التوبيخي، أي لا ينبغي أن تجعلوهما كذلك، ثم صرح بعد الاستواء "لا يستوون عند الله" ولما كان الادعاء أن السقاية والعمارة أفضل، ونفيت المساواة نفيت الأفضلية المدعاة من باب أولى، ثم أثبت تعالى أفضلية الجهاد بقوله {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون} [التوبة: 20]. (لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها) اللام في جواب قسم محذوف، والغدوة بفتح الغين المرة الواحدة من الغدو، وهو الخروج في أي وقت كان من أول النهار إلى انتصافه، والروحة بفتح الراء المرة الواحدة من الرواح، وهو الخروج في أي وقت كان من زوال الشمس إلى غروبها. والمراد من سبيل الله الجهاد، و"أو" هنا للتقسيم، لا للشك، قال ابن دقيق العيد في "خير من الدنيا وما فيها" يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون من باب تنزيل المغيب منزلة المحسوس، تحقيقا له في النفس، لكون الدنيا محسوسة في النفس، مستعظمة في الطباع، فلذلك وقعت المفاضلة بها، وإلا فمن المعلوم أن جميع ما في الدنيا لا يساوي ذرة مما في الجنة، والثاني: أن المراد أن هذا القدر من الثواب خير من الثواب الذي يحصل لمن لو حصلت له الدنيا كلها لأنفقها في

طاعة الله. اهـ. وعند البخاري كما في الرواية الرابعة عشرة "خير مما طلعت عليه الشمس وغربت" وهي بمعنى "خير من الدنيا وما فيها". (ففعل، ثم قال: وأخرى يرفع بها العبد مائة درجة في الجنة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض) "ففعل" أي فأعاد "من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، وجبت له الجنة" ثم قال: وفضيلة أخرى لعمل آخر، صفتها كيت وكيت. قال القاضي عياض عن قوله "ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض": يحتمل أن هذا على ظاهره، وأن الدرجات هنا المنازل التي بعضها أرفع من بعض في الظاهر، وهذه صفة منازل الجنة، كما جاء في أهل الغرف، أنهم يتراءون كالكواكب الدرية، قال: ويحتمل أن المراد الرفعة في المعنى، من كثرة النعيم، وعظيم الإحسان، مما لم يخطر على قلب بشر، وأن أنواع ما ينعم الله عليه به، من البر والكرامة يتفاضل تفاضلا كثيرا، ويكون تباعده في الفضل كما بين السماء والأرض في البعد. قال: والاحتمال الأول أظهر. (وأنت صابر محتسب) المحتسب هو المخلص لله تعالى، يقال: احتسب الأجر على الله، أي حسبه وادخره عنده، قال النووي: فإن قاتل لعصبية أو لغنيمة أو لصيت أو نحو ذلك فليس له هذا الثواب ولا غيره. (مقبل غير مدبر) "غير مدبر" تأكيد لمقبل، وقال النووي: لعله احتراز ممن يقبل في وقت، ويدبر في وقت. (كيف قلت؟ ) طلب لإعادة السؤال بذاته وبهيئته وكيفيته إعجابا بالسؤال، وليعيد الجواب المهم. (سألنا عبد الله) قال النووي: قال المازري: كذا جاء "عبد الله" غير منسوب، قال أبو علي الغساني: ومن الناس من ينسبه، فيقول: عبد الله بن عمرو. وذكره أبو مسعود الدمشقي في مسند ابن مسعود، قال القاضي عياض: ووقع في بعض النسخ من صحيح مسلم "عبد الله بن مسعود" قال النووي: وكذا وقع في بعض نسخ بلادنا المعتمدة، ولكن لم يقع منسوبا في معظمها، وذكره خلف الواسطي والحميدي وغيرهما في مسند ابن مسعود. وهو الصواب. (أما إنا سألنا عن ذلك) رسول الله صلى الله عليه وسلم. (أرواحهم في جوف طير خضر) "طير" جمع، مثل طيور، كأنه قال: في أجواف طيور، ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادا، أي روح كل واحد منهم في جوف طائر أخضر. قال القاضي عياض: وقد اختلف الناس في الروح. ما هي؟ اختلافا لا يكاد يحصر، فقال كثير من أرباب المعاني وعلم الباطن المتكلمين: لا تعرف حقيقته، ولا يصح وصفه، وهو مما جهل العباد علمه، واستدلوا بقوله تعالى {قل الروح من أمر ربي} [الإسراء: 85] وغالت الفلاسفة، فقالت بعدم الروح

-أي فنائها- وقال جمهور الأطباء: هو البخار اللطيف الساري في البدن، وقال كثيرون من شيوخنا: هو الحياة، وقال آخرون: هي أجسام لطيفة مشابكة للجسم، يحيى لحياته، أجرى الله تعالى العادة بموت الجسم عند فراقه، وقيل: هو بعض الجسم، ولهذا وصف بالخروج والقبض وبلوغ الحلقوم، وهذه صفات الأجسام لا المعاني، وقال بعض متقدمي أئمتنا: هو جسم لطيف متصور على صورة الإنسان داخل الجسم، وقال بعض مشايخنا وغيرهم: إنه النفس الداخل والخارج، وقال آخرون: هو الدم. قال النووي: هذا ما نقله القاضي، والأصح عند أصحابنا أن الروح أجسام لطيفة متخللة في البدن، فإذا فارقته مات، قال القاضي: واختلفوا في النفس والروح، فقيل: هما بمعنى، وهما لفظان لمسمى واحد، وقيل: إن النفس هي النفس الداخل والخارج، وقيل: هي الدم، وقيل: هي الحياة. قال القاضي: وقال هنا "أرواح الشهداء" وقال في حديث مالك "إنما نسمة المؤمن" والنسمة تطلق على ذات الإنسان، جسما وروحا، وتطلق على الروح مفردة، وهو المراد بها في هذا التفسير في الحديث الآخر بالروح، ولعلمنا بأن الجسم يفنى، ويأكله التراب، ولقوله في الحديث "حتى يرجعه الله تعالى إلى جسده يوم القيامة". قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث "في جوف طير خضر" وفي غير مسلم "بطير خضري" وفي حديث آخر "بحواصل طير" وفي الموطأ "إنما نسمة المؤمن طير" وفي حديث آخر "في صورة طير أبيض" ثم قال: ولا فرق بين الأمرين، بل رواية طير أو جوف طير أصح معنى، وليس للأقبسة والعقول في هذا حكم، وكله من المجوزات، فإذا أراد الله أن يجعل هذه الروح إذا خرجت من المؤمن أو الشهيد في قناديل، أو في أجواف طير، أو حيث يشاء كان ذلك، ووقع، ولم يبعد، لا سيما مع القول بأن الأرواح أجسام. قال القاضي: وقيل: إن هذا المنعم أو المعذب من الأرواح جزء من الجسد، تبقى فيه الروح، وهو الذي يتألم ويعذب، ويلتذ وينعم، وهو الذي يقول "رب ارجعون" وهو الذي يسرح في شجر الجنة، فغير مستحيل أن يصور هذا الجزء طائرا، أو يجعل في جوف طائر، وفي قناديل تحت العرش، وغير ذلك مما يريد الله عز وجل. (لها قناديل معلقة بالعرش) اللام في "لها" لام الاختصاص، أو الملكية. والقناديل جمع قنديل بكسر القاف، وهو مصباح كالكوب، في وسطه فتيل، يملأ بالماء والزيت ويشعل. (ثم تأوي إلى تلك القناديل) كأنها المنازل التي تقيم فيها. (فاطلع إليهم ربهم اطلاعة) أي نظرة رحمة وعطف. (ففعل ذلك بهم ثلاث مرات) أي فقال لهم ذلك القول "هل تشتهون شيئا" ثلاث مرات، كل مرة يقول، ويجيبون بالجواب نفسه. (فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا) "يتركوا" مبني للمجهول، أي لن يتركهم الله من غير أن يطلبوا طلبا، طلبوا طلبا.

(فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا) "أن" مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، والجملة بعدها خبرها، و"تركوا" بالبناء للمجهول، أي تركهم الله تعالى، دون تحقيق مطلبهم لأنه مستحيل، إذ سبق القول عنده أن لا رجعة. (أي الناس أفضل) قال: رجل يجاهد ... إلخ. قال القاضي: هذا عام مخصوص، وتقديره هذا من أفضل الناس، وإلا فالعلماء أفضل، وكذلك الصديقون. (مؤمن في شعب من الشعاب) الشعب بكسر الشين انفراج بين جبلين، واختيار الشعب لأنه في الأغلب يكون خاليا من الناس، فالمقصود البعد عن الناس. (يعبد ربه، ويدع الناس من شره) في رواية البخاري "مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله، ويدع الناس من شره" وفي رواية "معتزل في شعب، يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويعتزل شرور الناس، وفي الرواية الثانية والعشرين "يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويعبد ربه، حتى يأتيه اليقين، ليس من الناس إلا في خير". (من خير معاش الناس لهم) المعاش هو العيش، وهو الحياة، والمعنى من خير أحوال عيشة الناس رجل (رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه) أي يسارع على ظهره. (كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه) أي كلما سمع صوتا ينذر بالعدو، والهيعة بفتح الهاء وإسكان الياء كل صوت يفزع، والفزعة بإسكان الزاي النهوض إلى العدو. (يبتغي القتل والموت مظانه) أي في مظانه ومواطنه التي يرجى فيها، لشدة رغبته في الشهادة. (أو رجل في غنيمة) بضم الغين وفتح النون، تصغير غنم، أي في مجموعة قليلة من الغنم. (على رأس شعفة من هذه الشعف) الشعفة بفتح الشين والعين والفاء أعلى الجبل، وجمعها شعف، بفتحات، وشعاف بكسر الشين، وشعوف بضم الشين. -[فقه الحديث]- يمكن حصر نقاط الباب في ثلاث نقاط: الأولى: فضل الجهاد [الخروج للغزو، والرباط في سبيل الله] وحكم الجهاد، وأجر المجاهد، والجمع بين أحاديث فضله، وأحاديث فضل غيره. الثانية: الشهادة، فضلها -وفضل الإصابة في القتال.

الثالثة: ما يؤخذ من الأحاديث. أولا: فضل الجهاد: أما عن فضل الجهاد ففي الرواية الأولى "تضمن الله لمن خرج في سبيله -لا يخرجه إلا جهادا في سبيله، وإيمانا بي، وتصديقا برسلي، فهو علي ضامن أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه، نائلا ما نال من أجر أو غنيمة .... والذي نفس محمد بيده. لولا أن يشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة، ويشق عليهم أن يتخلفوا عني" ونحوها في الرواية الثانية والرابعة والخامسة. وفي الرواية الثامنة "قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما يعدل الجهاد في سبيل الله عز وجل؟ قال: لا تستطيعونه، فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يقول: لا تستطيعونه، وقال في الثالثة: مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله، لا يفتر من صيام ولا صلاة، حتى يرجع المجاهد في سبيل الله "وفي الرواية التاسعة "أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله"؟ وفي الرواية العاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة والثالثة عشرة والرابعة عشرة "غدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها" "خير مما طلعت عليه الشمس وغربت". وفي الرواية الخامسة عشرة "وأخرى يرفع بها العبد مائة درجة في الجنة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض. قال: وما هي يا رسول الله؟ قال: الجهاد في سبيل الله". وفي الرواية السادسة عشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لهم "أن الجهاد في سبيل الله، والإيمان بالله، أفضل الأعمال". وفي الرواية المتممة للعشرين "أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أي الناس أفضل؟ قال: رجل يجاهد في سبيل الله بماله ونفسه" وفي الرواية الواحدة والعشرين "أي الناس أفضل يا رسول الله؟ قال: مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله". أما فضل الرباط في سبيل الله فعنه تقول الرواية الثانية والعشرين "من خير معاش الناس لهم رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه، كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه، يبتغي القتل والموت مظانه". قال النووي: في الحديث عظم فضل الجهاد، لأن الصلاة والصيام والقيام بآيات الله أفضل الأعمال، وقد جعل المجاهد مثل من لا يفتر عن ذلك في لحظة من اللحظات، ومعلوم أن هذا لا يتأتى لأحد، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "لا تستطيعونه". وقال النووي: والجهاد فرض كفاية، لا فرض عين. وقال الحافظ ابن حجر: للناس في الجهاد حالان. إحداهما في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والأخرى بعده، فأما الأولى فأول ما شرع الجهاد بعد الهجرة النبوية إلى المدينة اتفاقا، ثم بعد أن شرع. هل كان فرض عين؟ أو فرض كفاية؟ قولان مشهوران

للعلماء، وهما في مذهب الشافعي، وقال الماوردي: كان فرض عين على المهاجرين، دون غيرهم، ويؤيده وجوب الهجرة قبل الفتح، في حق كل من أسلم، إلى المدينة، لنصر الإسلام، وقال السهيلي: كان فرض عين على الأنصار، دون غيرهم، ويؤيده مبايعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، على أن يؤيدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصروه، فيخرج من قولهما أنه كان فرض عين على الطائفتين، فرض كفاية في حق غيرهم، ومع ذلك فليس في حق الطائفتين على التعميم، بل في حق الأنصار إذا طرق المدينة طارق، وفي حق المهاجرين إذا أريد قتال أحد من الكفار ابتداء، ويؤيد هذا ما وقع في قصة بدر، وقيل: كان فرض عين في الغزوة التي يخرج فيها النبي صلى الله عليه وسلم دون غيرها، والتحقيق أنه كان فرض عين على من عينه النبي صلى الله عليه وسلم ولو لم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم الحال الثاني بعده صلى الله عليه وسلم، فهو فرض كفاية على المشهور، إلا أن تدعو الحاجة إليه، كأن يدهم العدو، ويتعين على من عينه الإمام، ويتأدى فرض الكفاية بفعله في السنة مرة عند الجمهور، ومن حجتهم أن الجزية تجب بدلا عنه، ولا تجب في السنة أكثر من مرة اتفاقا، فليكن بدلها كذلك، وقيل: يجب كلما أمكن، وهو قوي. والذي يظهر أنه استمر على ما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن تكاملت فتوح معظم البلاد، وانتشر الإسلام في أقطار الأرض، ثم صار إلى ما تقدم ذكره، والتحقيق أيضا أن جنس جهاد الكفار متعين على كل مسلم، إما بيده، وإما بلسانه، وإما بماله، وإما بقلبه. اهـ. فظاهر هذه الأحاديث أن الجهاد أفضل الطاعات، لكن يشكل عليه ما رواه البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله، أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على ميقاتها، قلت: ثم أي؟ قال: "ثم بر الوالدين. قلت: ثم أي؟ قال الجهاد في سبيل الله. فسكت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني" مما يدل على أن الصلاة على مواقيتها وبر الوالدين أفضل من الجهاد؛ وما رواه البخاري من حديث ابن عباس مرفوعا "ما العمل في أيام، أفضل منه في هذه -يعني الأيام العشر- قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله، فلم يرجع بشيء" مما يدل على أن العمل في عشر ذي الحجة مقدم على الجهاد بالنفس فقط، أو المال فقط، أو بهما مع العودة، وما أخرجه الترمذي وأحمد وصححه والحاكم من حديث أبي الدرداء مرفوعا "ألا أنبئكم بخير أعمالكم؟ وأزكاها عند مليككم؟ وأرفعها في درجاتكم؟ وخير لكم من إنفاق الذهب والورق؟ وخير لكم من أن تلقوا عدوكم، فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى. قال: ذكر الله" مما يدل على أن الذكر بمجرده أفضل من أبلغ ما يقع للمجاهد، وأفضل من الإنفاق، مع ما في الجهاد والنفقة من النفع المتعدي. وأفضل جواب عن هذا الإشكال أن هذه الأعمال الفاضلة تختلف درجات كل منها باختلاف الظروف والأحوال، ففي زمن يحتاج المسلمون فيه إلى الجهاد يكون الجهاد أفضل، وفي وقت يكون للشخص والدان محتاجان للبر مع ضعف الحاجة إلى المجاهدين يكون البر أفضل، وفي وقت لا يحتاج إلى الجهاد ولا إلى البر تكون الصلاة في مواقيتها، وفي وقت المحافظة على الصلاة في مواقيتها يكون الذكر أفضل، ثم إن كل واحد من هذه الأعمال لا يكون أفضل بإطلاق، بل سيتأثر فضله بدرجة الإخلاص ودرجة الأداء ودرجة التضحية والمشقة، ونحو ذلك، فقد يسبق درهم ألف درهم، كما

في الحديث، فدرهم من لا يملك سوى درهمين أفضل من ألف درهم ممن يملك الملايين، فإن تساوت جهات الفضل فيها فأفضلها الجهاد لا ريب، ففيه تضحية بالنفس، وفيه النفع المتعدي إلى المسلمين جميعا وإلى الإسلام، وبخاصة إذا كان خالصا لله تعالى، وكان بالنفس والمال فلم يرجع بشيء. وقد اختلفوا في أجر المجاهد يرجع بغنيمة، أو يرجع بدون غنيمة، هل أجره واحد؟ أو مختلف؟ والقواعد الشرعية تقتضي أن أجره عند عدم الغنيمة أفضل وأتم منه مع الغنيمة، وقد روى مسلم من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا "ما من غازية تغزو في سبيل الله، فيصيبون الغنيمة، إلا تعجلوا ثلثي أجرهم، من الآخرة، ويبقى لهم الثلث، فإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم" وسيأتي هذا الحديث في باب خاص بعنوان: باب ثواب من غزا فغنم ومن غزا فلم يغنم. قال الحافظ ابن حجر: وهذا يؤيد أن الذي يغنم يرجع بأجر، لكنه أنقص من أجر من لم يغنم، فتكون الغنيمة في مقابلة جزء من أجر الغزو، وهذا موافق لقول خباب في الحديث الصحيح "فمنا من مات، ولم يأكل من أجره شيئا" قال الحافظ: وقد استشكل بعضهم نقص ثواب المجاهد بأخذه الغنيمة، وهو مخالف لما يدل عليه أكثر الأحاديث، وقد اشتهر تمدح النبي صلى الله عليه وسلم بحل الغنيمة، وجعلها من فضائل أمته، فلو كانت تنقص الأجر ما وقع التمدح بها، وأيضا فإن ذلك يستلزم أن يكون أجر أهل بدر -لأنهم غنموا الأسرى الذين أخذ منهم الفداء- أنقص من أجر أهل أحد مثلا، مع أن أهل بدر أفضل بالاتفاق، قال: ومن الناس من حمل نقص الأجر على غنيمة أخذت على غير وجهها، وفساد هذا الوجه ظاهر، إذ لو كان الأمر كذلك لم يبق لهم ثلث الأجر، ولا أقل منه، ومنهم من حمل نقص الأجر على من قصد الغنيمة في ابتداء جهاده، وحمل تمامه على من قصد الجهاد محضا، وفيه نظر، لأن صدر الحديث مصرح بأن المقسم راجع إلى من أخلص، لقوله في أوله "لا يخرجه إلا إيمان بي، وتصديق برسلي" واختار ابن عبد البر أن المراد بنقص أجر من غنم أن الذي لا يغنم يزداد أجره، لحزنه على ما فاته من الغنيمة، كما يؤجر من أصيب في ماله، فكان الأجر لما نقص عن المضاعفة بسبب الغنيمة عند ذلك كالنقص من أجل الأجر. وذكر بعض المتأخرين حكمة لطيفة بالغة للتعبير بثلثي الأجر في حديث عبد الله بن عمرو، وذلك أن الله أعد للمجاهدين ثلاث كرامات، دنيويتان وأخروية، فالدنيويتان السلامة والغنيمة، والأخروية دخول الجنة، فإذا رجع سالما غانما فقد حصل له ثلثا ما أعد الله له، وبقي له عند الله الثلث، وإن رجع بغير غنيمة عوضه الله عن ذلك ثوابا، في مقابلة ما فاته، وكأن معنى الحديث أنه يقال للمجاهد: إذا فات عليك شيء من أمر الدنيا عوضتك عنه ثوابا، وأما الثواب المختص بالجهاد فهو حاصل للفريقين معا. قال: وغاية ما فيه عد ما يتعلق بالنعمتين الدنيويتين أجرا، بطريق المجاز. وأجاب ابن دقيق العيد عن إشكال أهل بدر بأن التقابل ينبغي أن يكون بين كمال الأجر ونقصانه لمن يغزو بنفسه، إذا لم يغنم، أو يغزو فيغنم، فغايته أن حال أهل بدر مثلا عند عدم الغنيمة أفضل منه عند وجودها، ولا ينفي ذلك أن يكون حالهم أفضل من حال غيرهم من جهة أخرى، ولم يرد فيهم نص أنهم لو لم يغنموا كان أجرهم بحاله من غير زيادة.

ولا يلزم من كونهم مغفورا لهم، وأنهم أفضل المجاهدين ألا يكون وراءهم مرتبة أخرى، ودرجة أعلى من درجتهم. وأكد الحافظ ابن حجر هذا المعنى ووضحه، فقال: لا يلزم من كونهم مع أخذ الغنيمة أنقص أجرا مما لو لم يحصل لهم الغنيمة أن يكونوا في حال أخذ الغنيمة مفضولين بالنسبة إلى من بعدهم كما شهد أحدا، لكونهم لم يغنموا شيئا، بل أجر البدري في الأصل أضعاف أجر من بعده، وإنما امتاز أهل بدر بذلك لكونها أول غزوة شهدها النبي صلى الله عليه وسلم في قتال الكفار، وكانت مبدأ اشتهار الإسلام، وقوة أهله، فكان لمن شهدها مثل أجر من شهد المغازي التي بعدها جميعا، فصارت لا يوازيها شيء في الفضل، ولهذه النقطة مزيد إيضاح في باب يأتي، بعنوان: باب ثواب من غزا فغنم، ومن غزا فلم يغنم. والله أعلم. النقطة الثانية: الشهادة وفضلها وعن ذلك تقول الرواية السادسة "ما من نفس تموت، لها عند الله خير، يسرها أن ترجع إلى الدنيا، ولا أن لها الدنيا وما فيها، إلا الشهيد، فإنه يتمنى أن يرجع، فيقتل في الدنيا، لما يرى من فضل الشهادة". وتقول الرواية السابعة "ما من أحد يدخل الجنة، يحب أن يرجع إلى الدنيا، وأن له ما على الأرض من شيء، غير الشهيد، فإنه يتمنى أن يرجع، فيقتل عشر مرات، لما يرى من الكرامة". ويقول ملحق الرواية الرابعة "والذي نفسي بيده. لوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا". وتقول الرواية السادسة عشرة "أرأيت إن قتلت في سبيل الله، تكفر عني خطاياي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم ... وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر، إلا الدين، فإن جبريل قال لي ذلك" وتقول الرواية السابعة عشرة "يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين" ونحوها في الرواية الثامنة عشرة. وتقول الرواية التاسعة عشرة "سألنا عبد الله عن هذه الآية {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون} قال: أما إنا قد سألنا عن ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطلاعة، فقال: هل تشتهون شيئا؟ قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟ ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا، قالوا: يا رب، نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا، حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا" وعند النسائي والحاكم "يؤتى بالرجل من أهل الجنة، فيقول الله تعالى: يا ابن آدم، كيف وجدت منزلك؟ فيقول: أي رب، خير منزل، فيقول: سل وتمنه، فيقول: ما أسألك وأتمنى؟ أن تردني إلى الدنيا، فأقتل في سبيلك عشر مرات، لما رأى من فضل الشهادة" وعند الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه من حديث جابر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أخبرك ما قال الله لأبيك؟ قال: يا عبد الله، تمن علي أعطك. قال: يا رب، تحييني، فأقتل فيك ثانية، قال: إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون".

قال النووي: في هذه الأحاديث صرائح الأدلة في عظيم فضل الشهادة، وضمان الجنة للشهيد، قال القاضي: يحتمل أن يدخل عند موته الجنة، كما قال تعالى في الشهداء {أحياء عند ربهم يرزقون} وفي الحديث "أرواح الشهداء في الجنة" ويحتمل أن يكون المراد دخوله الجنة عند دخول السابقين والمقربين بلا حساب ولا عذاب ولا مؤاخذة بذنب، وتكون الشهادة مكفرة لذنبه، كما في رواياتنا السادسة عشرة والسابعة عشرة والثامنة عشرة. وقال ابن بطال عن حديث تمني الشهداء العودة إلى الدنيا والشهادة مرات: هذا أجل ما في فضل الشهادة، قال: وليس في أعمال البر ما تبذل فيه النفس غير الجهاد، فلذلك عظم فيه الثواب. وقال النووي عن أحاديث جرح الشهيد ودمه: فيه دليل على أن الشهيد لا يزول عنه الدم بغسل ولا غيره. والحكمة في مجيئه يوم القيامة على هيئته أن يكون معه شاهد فضيلته، وبذله نفسه في طاعة الله تعالى. قال الحافظ ابن حجر: وفي هذا المأخذ وهذه الحكمة نظر، لأنه لا يلزم من غسل الدم في الدنيا أن لا يبعث كذلك، ويغني عن الاستدلال لترك غسل الشهيد في هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد: زملوهم بدمائهم". وأما عن فضل الإصابة في القتال فتقول روايتنا الأولى "والذي نفس محمد بيده، ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم، لونه لون دم، وريحه مسك" وفي الرواية الثالثة "لا يكلم أحد في سبيل الله -والله أعلم بمن يكلم في سبيله- إلا جاء يوم القيامة، وجرحه يثعب، اللون لون دم، والريح ريح المسك" وفي الرواية الرابعة "كل كلم يكلمه المسلم في سبيل الله، ثم تكون يوم القيامة كهيئتها إذا طعنت، تفجر دما، اللون لون دم، والعرف عرف المسك" وقد مضى في المباحث العربية قول الحافظ ابن حجر في ذلك. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - من قوله في الرواية الأولى "لا يخرجه إلا جهادا في سبيلي، وإيمانا بي وتصديقا برسلي" ومن قوله في الرواية الثانية "لا يخرجه من بيته إلا جهاد في سبيله وتصديق كلمته" ومن قوله في الرواية الثالثة "والله أعلم بمن يكلم في سبيله" وجوب الإخلاص في الخروج للجهاد، وأن الثواب المذكور فيه إنما هو لمن أخلص فيه، وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا. 2 - وأن الأعمال بالنيات. 3 - ومن قوله في الرواية الأولى "والذي نفس محمد بيده. لولا أن يشق على المسلمين، ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدا" ومثله في الرواية الرابعة وملحقها. يؤخذ منه شفقة الرسول صلى الله عليه وسلم على المسلمين والرأفة بهم، والسعي في زوال المكروه عنهم. 4 - وأنه صلى الله عليه وسلم كان يترك الأفضل، مراعاة للرفق بأمته. 5 - وأنه إذا تعارضت المصالح بدأ بأهمها.

6 - وفيه دليل على جواز اليمين، وانعقادها بقوله "والذي نفسي بيده" ونحو هذه الصيغة من الحلف بما يدل على الذات، ولا خلاف في هذا. قال النووي: قال أصحابنا: اليمين تكون بأسماء الله تعالى وصفاته، أو ما دل على ذاته. 7 - أن الجهاد على الكفاية، إذ لو كان على الأعيان ما تخلف، وما تخلف أحد. 8 - ومن قوله "لوددت أني أغزو في سبيل الله، فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل" استحباب طلب القتل في سبيل الله. 9 - وجواز تمني ما يمتنع في العادة. 10 - ومن الرواية الثامنة فضيلة الصلاة والصيام والقنوت. 11 - أن الفضائل لا تدرك دائما بالقياس، بل هي بفضل الله تعالى. 12 - واستعمال التمثيل في الأحكام. 13 - وأن الأعمال الصالحة لا تستلزم الثواب لأعيانها. 14 - ومن الرواية التاسعة كراهة رفع الصوت في المساجد يوم الجمعة وغيره، قال النووي: ولا يرفع الصوت في المسجد بعلم ولا غيره عند اجتماع الناس للصلاة، لما فيه من التشويش عليهم. 15 - ومن الرواية السادسة عشرة أن الشهادة تكفر الخطايا. 16 - من استثناء الدين تنبيه على أن حقوق الآدميين لا يكفرها الجهاد ولا الشهادة ولا غيرهما من أعمال البر، وإنما تكفر حقوق الله تعالى. 17 - ومن الرواية التاسعة عشرة أن الجنة مخلوقة موجودة. قال النووي: وهو مذهب أهل السنة، وهي التي أهبط منها آدم، وهي التي ينعم فيها المؤمنون في الآخرة. هذا إجماع السنة وقالت المعتزلة وطائفة من المبتدعة أيضا وغيرهم: إنها ليست موجودة، وإنما توجد بعد البعث في القيامة. وقالوا: والجنة التي أخرج منها آدم غيرها، وظواهر القرآن والسنة تدل لمذهب أهل الحق. 18 - وإثبات مجازاة الأموات بالثواب والعقاب قبل القيامة، لقوله {أحياء عند ربهم يرزقون} [آل عمران: 169]. 19 - قال القاضي: وفيها أن الأرواح باقية، لا تفنى، فينعم المحسن، ويعذب المسيء، وقد جاء به القرآن والآثار، وهو مذهب أهل السنة، خلافا لطائفة من المبتدعة، قالت: تفنى. قال القاضي: وأما غير الشهداء فإنما يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي، وكما قال في آل فرعون {النار يعرضون عليها غدوا وعشيا} [غافر: 46] وقيل: بل المراد جميع المؤمنين الذين يدخلون الجنة بغير عذاب، فيدخلونها الآن، بدليل عموم الحديث، وقيل: بل أرواح المؤمنين على أفنية قبورهم، وقيل المنعم والمعذب قبل البعث جزء من

الجسد تبقى فيه الروح، وهو الذي يسرح في شجر الجنة، فغير مستحيل أن يصور هذا الجزء طائرا. 20 - قال القاضي: وقد تعلق بحديثنا هذا وشبهه بعض الملاحدة القائلين بالتناسخ، وانتقال الأرواح وتنعيمها في الصور الحسان المرفهة، وتعذيبها في الصور القبيحة المسخرة، وزعموا أن هذا هو الثواب والعقاب، وهذا ضلال بين، وإبطال لما جاءت به الشرائع من الحشر والنشر والجنة والنار. 21 - من الرواية المتممة للعشرين والواحدة والعشرين والثانية والعشرين قال النووي: فيه دليل لمن قال بتفضيل العزلة على الاختلاط، وفي ذلك خلاف مشهور، فمذهب الشافعي وأكثر العلماء أن الاختلاط أفضل، بشرط رجاء السلامة من الفتن، ومذهب طوائف أخرى أن الاعتزال أفضل، وأجاب الجمهور عن هذا الحديث بأنه محمول على الاعتزال في زمن الفتن والحروب، أو هو فيمن لا يسلم الناس منه، ولا يصبر عليهم، أو نحو ذلك من الخصوص، وقد كانت الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- وجماهير الصحابة والتابعين والعلماء والزهاد مختلطين، فيحصلون منافع الاختلاط -كشهود الجمعة والجماعة والجنازة وعيادة المرضى وحلقات الذكر وغير ذلك. والله أعلم.

(523) باب بيان الرجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة ولا يجتمع كافر وقاتله في النار

(523) باب بيان الرجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة ولا يجتمع كافر وقاتله في النار 4289 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يضحك الله إلى رجلين، يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخل الجنة. فقالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: يقاتل هذا في سبيل الله عز وجل، فيستشهد. ثم يتوب الله على القاتل، فيسلم. فيقاتل في سبيل الله عز وجل، فيستشهد". 4290 - عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكر أحاديث منها: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يضحك الله لرجلين، يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخل الجنة. قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: يقتل هذا فيلج الجنة. ثم يتوب الله على الآخر، فيهديه إلى الإسلام، ثم يجاهد في سبيل الله، فيستشهد". 4291 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجتمع كافر وقاتله في النار أبدا". 4292 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجتمعان في النار اجتماعا، يضر أحدهما الآخر. قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: مؤمن قتل كافرا ثم سدد". -[المعنى العام]- جعل الله تعالى الجنة دار نعيم مقيم، لمن رضي عنهم ورضوا عنه، لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين، لهم فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين {ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين} [الحجر: 47] أعداء الدنيا من المؤمنين يتصافون، ويتصالحون، أو يتقاصون، ينقون من الذنوب والأخطاء، ويتخلصون من حقوق بعضهم بعضا قبل أن يدخلوها، يتحمل الله تعالى

بفضله ورحمته بعض تبعاتهم، ويرضى المظلوم من فيضه إذا رضي عن الظالم بعفوه وكرمه، وهكذا، حتى يدخلوها متحابين. المقتول وقاتله قد يجتمعان فيها، فقد شفيت نفس المقتول، وطيب الله خاطره، الشهيد في معارك الإسلام بيد قاتل مشرك قد يتصادقان ويتحابان فيها، فقد سره أن قاتله أسلم في دنياه، وجاهد في سبيل الله، واستشهد في الدفاع عن الإسلام، وأفاض الله عليهما من منازل الجنة ما تقربه أعينهما، وما يتمنى به كل منهما أن يعود إلى الدنيا، فيقتل مرة ومرات، لما رأى من الكرامة والنعيم. قد يجتمعان في الجنة اجتماع حب وحنان، ويتلاقيان بالأحضان والقبلات، فيضحك الله، وتضحك ملائكته لهذا المنظر الجميل، ويرضى الله عنهما، ويشملهما معا بالعطف والتكريم. أما النار فقد جعلها الله تعالى دار عقاب وعذاب، قد يجتمع فيها أصدقاء الدنيا فيلعن بعضهم بعضا {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو} [الزخرف: 67] يبغض بعضهم بعضا، يتلاومون يوم لا ينفع اللوم والندم، فهي دار عداوة وشقاق، لهذا لا يجتمع فيها في درك واحد مؤمن وكافر، حتى لو كان المؤمن عاصيا، لئلا يتشفى الكافر في المؤمن، ويعيره بأنه لم ينفعه إيمانه. جمعنا الله في الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. -[المباحث العربية]- (يضحك الله إلى رجلين) قال القاضي: الضحك هنا استعارة في حق الله تعالى، لأنه لا يجوز عليه سبحانه الضحك المعروف في حقنا، لأنه إنما يصح من الأجسام، ومن يجوز عليه تغير الحالات، والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك، وإنما المراد به الرضا بفعلهما، والثواب عليه، وحمد فعلهما ومحبته، وتلقي رسل الله لهما بذلك، لأن الضحك من أحدنا إنما يكون عند موافقته ما يرضاه وسروره وبره لمن يلقاه. قال: ويحتمل أن يكون المراد هنا ضحك ملائكة الله تعالى، الذين يوجههم لقبض روحه، وإدخاله الجنة، كما يقال: قتل السلطان فلانا، أي أمر بقتله. وقال الخطابي: الضحك الذي يعتري البشر عندما يستخفهم الفرح أو الطرب غير جائز على الله تعالى، وإنما هذا مثل ضرب لهذا الصنيع الذي يحل محمل الإعجاب عند البشر، فإذا رأوه أضحكهم، ومعناه الإخبار عن رضا الله بفعل أحدهما وقبوله للآخر، ومجازاتهما على صنيعهما بالجنة، مع اختلاف حاليهما. قال: وقد تأول البخاري الضحك في موضع آخر على معنى الرحمة، وهو قريب، وتأويله على معنى الرضا أقرب، فإن الضحك يدل على الرضا والقبول، قال: والكرام يوصفون عندما يسألهم السائل بالبشر وحسن اللقاء، فيكون المعنى في قوله "يضحك الله" أي يجزل العطاء، قال: وقد يكون معنى ذلك أن يعجب الله ملائكته ويضحكهم من صنيعهما، وهذا يتخرج على المجاز، ومثله في الكلام يكثر. وقال ابن الجوزي: أكثر السلف يمتنعون من تأويل مثل هذا، ويمرونه، وينبغي أن يراعي في مثل هذا الإمرار اعتقاد أنه لا تشبه صفات الله صفات الخلق، ومعنى الإمرار عدم العلم بالمراد منه، مع اعتقاد التنزيه.

قال الحافظ ابن حجر: ويدل على أن المراد بالضحك الإقبال بالرضا تعديته بإلى، نقول: ضحك فلان إلى فلان إذا توجه إليه طلق الوجه، ومظهرا للرضا عنه. اهـ. وفي الرواية الثانية "يضحك الله لرجلين". (يقتل أحدهما الآخر) إلخ ظاهر الرواية الأولى والثانية أن القاتل كان حين القتل كافرا، وكان القتل في معركة بين المسلمين والكفار، لقوله في الرواية الأولى "يقاتل هذا في سبيل الله عز وجل فيستشهد، ثم يتوب الله على القاتل، فيسلم، فيقاتل في سبيل الله عز وجل، فيستشهد" وفي الرواية الثانية "يقتل هذا فيلج الجنة، ثم يتوب الله على الآخر، فيهديه إلى الإسلام، ثم يجاهد في سبيل الله، فيستشهد" وعند أحمد "قيل: كيف يا رسول الله؟ قال: يكون أحدهما كافرا، فيقتل الآخر، ثم يسلم، فيغزو، فيقتل" ففيها التصريح بأن القاتل للمسلم كان كافرا. قال الحافظ ابن حجر: ولكن لا مانع أن يكون القاتل الأول مسلما، لعموم قوله "ثم يتوب الله على القاتل" كما لو قتل مسلم مسلما عمدا، بلا شبهة، ثم تاب القاتل، واستشهد في سبيل الله، وإنما يمنع دخول مثل هذا من يذهب إلى أن قاتل المسلم عمدا لا تقبل له توبة. اهـ. وهذا الذي قاله الحافظ قد يقبل احتمالا في رواية البخاري، إذ ليس فيها ما في روايتي مسلم الصريحتين في أنه كان كافرا، واللفظ في الرواية الأولى "ثم يتوب الله على القاتل فيسلم" وفي الثانية "ثم يتوب الله على الآخر، فيهديه إلى الإسلام" نعم ظاهر الرواية الثانية أن المقتول الأول أعم من أن يكون شهيدا في معركة بين المسلمين والكفار، وأن يكون مقتولا بمفرده عمدا، لقوله "يقتل هذا فيلج الجنة". (لا يجتمع كافر وقاتله في النار أبدا) النار دركات، يحتل الكافر المقتول دركا منها، فأل في "النار" للعهد، فإن كان قاتله مؤمنا في معركة الإسلام فواضح أنه لا يجتمع معه في ناره، وإن كان قاتله مؤمنا في غير معركة الإسلام فناره -إن عوقب- غير نار الكافر المقتول، فلا يجتمع معه في ناره، وإن كان قاتله كافرا مات على كفره كانت له للقتل نار أخرى ودرك آخر، غير نار الكفر من غير قتل، فلا يجتمع كافر وقاتله في نار معينة أبدا. بخلاف اجتماع المقتول وقاتله في جنة واحدة. وشرحه القاضي عياض، فخصه بقاتل مؤمن، فقال: يحتمل أن هذا مختص بمن قتل كافرا في الجهاد، فيكون ذلك مكفرا لذنوبه، حتى لا يعاقب عليها، أو يكون -قتله- بنية مخصوصة، أو حالة مخصوصة -أي مرخص بها شرعا، مثاب عليها- قال: ويحتمل أن يكون عقابه -أي عقاب هذا المسلم القاتل للكافر إن عوقب، بغير النار، كالحبس في الأعراف عن دخول الجنة أولا، ولا يدخل النار، أو يكون إن عوقب بالنار عوقب بها في غير موضع عقاب الكفار، ولا يجتمعان في دركاتها. (لا يجتمعان في النار اجتماعا يضر أحدهما الآخر) المنفي اجتماع خاص، اجتماع يعير فيه المقتول الكافر قاتله المؤمن بأنه لم ينفعه إيمانه، إذ اجتمعا في النار، ولا يمنع هذا اجتماعهما في النار اجتماعا آخر، لا تعيير فيه. (قيل: من هم يا رسول الله؟ ) كان حقه أن يقول: من هما يا رسول الله؟ فيحتمل أنه جمع باعتبار تعدد صاحبي هذه الحالة.

(مؤمن قتل كافرا، ثم سدد) أي استقام على الطريقة الحميدة المثلى في دينه، بأن تاب توبة نصوحا وآمن وعمل عملا صالحا بقية حياته، قال القاضي عياض: وهو مشكل المعنى، لأن المؤمن إذا سدد لم يدخل النار أصلا، سواء قتل كافرا أو لم يقتله، وما استشكله القاضي غير مشكل، فإن المقيد بقيد قد يراد منه المقيد، من غير القيد، كقوله تعالى {ولا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة} [آل عمران: 130] فالمعنى لا يجتمع مؤمن قتل كافرا في النار، إذا سدد المؤمن بعد قتله، فلا يدخل النار، فلا يجتمعان فيها وقد يراد المقيد مع القيد على معنى: لا يجتمعان في النار هذا الاجتماع المخصوص، ويجتمعان اجتماعا آخر، هو اجتماع الورود، وتخاصمهم على جسر جهنم، ويرى بعضهم أن اللفظ تغير من بعض الرواة، وأن صوابه "مؤمن قتله كافر، ثم سدد". -[فقه الحديث]- يؤخذ من الحديث فضيلة الشهادة في سبيل الله، وأنها تكفر الذنوب، ولو كان منها قتل المؤمن، والدفاع عن الكفر والباطل. وأن المقتول قد ينزع من صدره الغل من قاتله، ويجتمع مع قاتله في الجنة في هناء وسرور. والله أعلم.

(524) باب فضل الصدقة في سبيل الله، وإعانة الغازي، وخلافة أهله بخير، وإثم من خانه فيهم

(524) باب فضل الصدقة في سبيل الله، وإعانة الغازي، وخلافة أهله بخير، وإثم من خانه فيهم 4293 - عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: جاء رجل بناقة مخطومة، فقال: هذه في سبيل الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لك بها يوم القيامة سبع مائة ناقة، كلها مخطومة". 4294 - عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أبدع بي فاحملني. فقال: "ما عندي" فقال رجل: يا رسول الله، أنا أدله على من يحمله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دل على خير فله مثل أجر فاعله". 4295 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن فتى من أسلم، قال: يا رسول الله إني أريد الغزو وليس معي ما أتجهز. قال: "ائت فلانا، فإنه قد كان تجهز، فمرض. فأتاه. فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئك السلام، ويقول: أعطني الذي تجهزت به. قال: يا فلانة أعطيه الذي تجهزت به، ولا تحبسي عنه شيئا. فوالله، لا تحبسي منه شيئا فيبارك لك فيه". 4296 - عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا. ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا".

4297 - عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "من جهز غازيا فقد غزا. ومن خلف غازيا في أهله فقد غزا". 4298 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثا إلى بني لحيان من هذيل. فقال: "لينبعث من كل رجلين أحدهما والأجر بينهما". 4299 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى بني لحيان: "ليخرج من كل رجلين رجل". ثم قال: "للقاعد أيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير كان له مثل نصف أجر الخارج". 4300 - عن سليمان بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم، وما من رجل من القاعدين يخلف رجلا من المجاهدين في أهله، فيخونه فيهم إلا وقف له يوم القيامة فيأخذ من عمله ما شاء. فما ظنكم؟ ". 4301 - وفي رواية عن علقمة بن مرثد بهذا الإسناد. فقال: "فخذ من حسناته ما شئت". فالتفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "فما ظنكم؟ ". -[المعنى العام]- إن الأولاد مجبنة مبخلة كما يقولون، وقد كان المخلفون من الأعراب يعتذرون بأن بيوتهم عورة،

في حاجة إلى من يحميها ويحرسها، كما كان المجاهدون يخشون أن يتركوا من خلفهم ذرية ضعافا ونساء ضعيفات، فكان لا بد من سد هذه الثغرة البشرية، وعلاج هذه الظاهرة الطبيعية، فعالجها الإسلام من شعبتين: الأولى: أنه أوصى القاعدين بأن يخلفوا المجاهدين في أهلهم ومالهم بخير، ولهم من الأجر مثل ما للمجاهدين، وجعل لنساء المجاهدين من الحرمة على القاعدين كحرمة أمهاتهم، فمن زنى من القاعدين بامرأة مجاهد كان كمن زنى بأمه، وجعل حق المجاهد عند هذا الخائن أعلى من أي حق من حقوق الآدميين، فكل حق من حقوق الآدميين له قدر ووزن معلوم، يستوفيه المظلوم من ظالمه يوم القيامة أما خيانة المجاهد في أهله فلا حدود لجزائها إذ يوقف الله تعالى هذا الخائن يوم القيامة ذليلا أمام المجاهد، وقد فتح كتاب حسنات هذا الخائن، ليقال للمجاهد: خذ من حسنات هذا الخائن ما شئت، فماذا نظن بالمجاهد؟ كم من الحسنات يأخذ؟ أخشي على جميع حسنات هذا الخائن إن فني ما قدم من حسنات، أخذ من سيئات المجاهد، فطرحت عليه، فطرح في النار. الشعبة الثانية مسارعة كبار الصحابة إلى أرملة الشهيد، يعرضون عليها الزواج لرعايتها ورعاية أولادها من بعد العائل الشهيد، كما حدث للسيدة أم سلمة، إذ تقدم لها عمر، ثم أبو بكر، ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما كان للجهاد عنصران أساسيان، لا يتم بنجاح إلا بهما: عنصر المقاتل الآدمي، وعنصر المال المادي لتجهيزه بما يحتاج من نفقة أو ركوبة أو سلاح، ولهذا يقول الله تعالى {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} [التوبة: 111] ويقول {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل} [الأنفال: 60]. ولما كان بعض المسلمين يملك القوة البشرية والمال، فجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، وكان بعضهم يملك نفسه والقوة البشرية، ولا يملك القوة المالية، فكانوا يذهبون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يقدمون أنفسهم للجهاد، ويطلبون منه أن يحملهم، فيقول لهم: {لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون} [التوبة: 92]. ولما كان بعض المسلمين يمنعه المرض والعذر عن الخروج، وعنده المال، كان من يجاهد بماله كمن يجاهد بنفسه ومن جهز غازيا فقد غزا، ومن قدم ناقة في سبيل الله ليغزو عليها مجاهد كان له بها يوم القيامة سبعون ناقة، كل ناقة لا تقل عن التي قدمها، والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم. -[المباحث العربية]- (جاء رجل بناقة مخطومة) أي فيها خطام، وهو حبل يلف حول أنف الناقة يشد على أعلى رأسها، لتقاد به، وهو قريب من الزمام، والمراد بهذا الوصف إفادة أنها ذلول صالحة للحمل والركوب.

(هذه في سبيل الله) أي أقدمها لمن يجاهد عليها. (لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة) قيل: يحتمل أن المراد لك أجر سبعمائة ناقة، ويحتمل أن يكون على ظاهره، ويكون له في الجنة بها سبعمائة ناقة، كل ناقة منهن مخطومة، يركبها حيث شاء، للتنزه، كما جاء في خيل الجنة. وهذا من قبيل تضعيف الحسنة بسبعمائة مثل، مصداقا لقوله تعالى {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم} [البقرة: 261]. (إني أبدع بي) قال النووي: هو بضم الهمزة، وفي بعض النسخ "بدع بي" بحذف الهمزة وتشديد الدال، ونقله القاضي عن جمهور رواة مسلم. قال: والأول هو الصواب، ومعروف في اللغة، وكذا رواه أبو داود وآخرون بالألف، ومعناه هلكت دابتي، وهي مركوبي. اهـ. وفي كتب اللغة: أبدعت راحلته بضم الهمزة، أي عطبت وكلت وأبدع به أي انقطع عن الرفقة. (ما عندي) أي ليس عندي ما أحملك عليه. (ولا تحبسي عنه شيئا) أي مما كنت قد تجهزت به. (من جهز غازيا في سبيل الله) أي من هيأ له أسباب سفره، وأسباب غزوه وقتاله، وهل المراد تمام التجهيز؟ أو بعضه؟ سيأتي إيضاحه في فقه الحديث. (فقد غزا) أي حصل له أجر من غزا، وسيأتي بحث ذلك في فقه الحديث. (ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا) بفتح الخاء وفتح اللام مخففة، أي خلفه في قضاء حوائج أهله، من الإنفاق عليهم، أو مساعدتهم في أمرهم، والقيام بشئونهم. (بعث بعثا إلى بني لحيان من هزيل) "بعثا" مفعول به، أي قطعة من الجيش، وبنو لحيان بكسر اللام وفتحها، والكسر أشهر، قال النووي: وقد اتفق العلماء على أن بني لحيان كانوا في ذلك الوقت كفارا، فبعث إليهم بعثا يغزونهم. (فقال: لينبعث من كل رجلين أحدهما) أي قال للمسلمين الحريصين على الخروج: ليخرج من كل قبيلة نصف عددها. (والأجر بينهما) أي إذا خلف المقيم الغازي في أهله بخير، بدليل ما جاء بعد. (ثم قال للقاعد: أيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير كان له مثل نصف أجر الخارج) قال القرطبي: لفظة "نصف" يشبه أن تكون مقحمة، أي مزيدة من بعض الرواة. قال

الحافظ ابن حجر: لا حاجة لدعوى زيادتها بعد ثبوتها في الصحيح، والذي يظهر في توجيهها أنها أطلقت بالنسبة إلى مجموع الثواب الحاصل للغازي والخالف له بخير، فإن الثواب إذا انقسم بينهما نصفين كان لكل منهما مثل ما للآخر. اهـ. أي ولكل منهما نصف الأجر المقرر. (حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم) أي كحرمة أمهات القاعدين، في تحريم التعرض لهن بريبة من نظر محرم، وخلوة وحديث محرم، وفي وجوب البر والإحسان إليهن، وقضاء حوائجهن، التي لا يترتب عليها مفسدة ولا ريبة. (إلا وقف له يوم القيامة) "وقف" بضم الواو، وكسر القاف، مبني للمجهول، أو وقفه الله، وجعله يقف له، يمنعه من المضي، حتى يستوفي منه حقه. (فيأخذ من عمله ما شاء) أي فيأخذ المجاهد من حسنات القاعد الخائن ما يشاء، وفي ملحق الرواية "فقال: خذ من حسناته ما شئت" أي قال الله للمجاهد بعد أن أوقفه للخائن: خذ ما شئت من حسناته. (فما ظنكم؟ ) أي فما ظنكم بفعل المجاهد؟ كيف ينتقم من الخائن؟ ما تظنون كم يأخذ من حسناته؟ ألا تظنون أنه يستكثر منها، حتى لا يبقى منها شيئا إن أمكنه؟ . -[فقه الحديث]- في الرواية الأولى والرابعة والخامسة فضل تجهيز الغازي، ففي الرواية الأولى أن النفقة على الغازي تضاعف يوم القيامة بسبعمائة ضعف، وفي الرواية الرابعة والخامسة أن المنفق على الغازي كالغازي، وفي الرواية السادسة أن أجر الغزو مشترك بين الغازي والمنفق، وفي تساويهما في الأجر، يقول ابن حبان: معناه المماثلة في الأجر، وأخرج حديث بسر بن سعيد بلفظ "كتب له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجره شيء" ولابن ماجه وابن حبان من حديث عمر نحوه بلفظ "من جهز غازيا حتى يستقل كان له مثل أجره، حتى يموت أو يرجع" وقد أفادت هذه الرواية أن الوعد المذكور مرتب على تمام التجهيز، وأنه يستوي معه في الأجر إلى أن تنقضي تلك الغزوة. ومن الواضح أن الغازي بنفسه إذا جهز نفسه كفايتها كان له أجر المباشرة بنفسه، وأجر التجهيز، فأجره على هذه الصورة مضاعف، فإذا جهزه غيره حصل للغازي أجر المباشرة، لا ينقص منه شيء من غير تضعيف، ولمن جهزه تجهيزا كاملا مثل أجره، فمجموع الأجر المضاعف بينهما مناصفة، وللمجهز نصف هذا الأجر المضعف، وهو مثل أجر الغازي المباشر للغزو، دون تجهيز. وفي الرواية الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة فضل من يخلف الغازي في أهله بخير، وأن له مثل أجر الغازي، وهذا هو المراد من قول النبي صلى الله عليه وسلم في الرواية السادسة لبعث بني لحيان: وللمقيمين الذين لم يصبهم البعث: لينبعث من كل رجلين أحدهما، والأجر بينهما" أي إذا خلف المقيم الغازي

في أهله بخير. ومعنى هذا أن الغازي لو كفى أهله مؤنتهم وكفل لهم راحتهم من بعده بحيث لا يحتاجون رعاية من غيره يحصل له تضعيف الأجر، كمن جهز نفسه، ويكون له ثلاثة أمثال إذا جهز نفسه، وكفل وكفى أهله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء وهو واسع الفضل والجود، والأمر نفسه، إذا جهز الغازي مجهز، وخلفه في أهله بخير خالف آخر، وهذا ظاهر من الرواية الخامسة، ولفظها "من جهز غازيا فقد غزا، ومن خلف غازيا في أهله فقد غزا". -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - من الرواية الثانية فضيلة الدلالة على الخير، لقوله صلى الله عليه وسلم "من دل على خير فله مثل أجر فاعله" وقد ذهب بعضهم إلى أن هذا الخبر ليس على إطلاقه لكل أحد، وبأي دلالة، لأن فاعل الخير يبذل جهدا ومشقة، بخلاف الدال، فعموم الحديث عند هؤلاء للترغيب في الدلالة على الخير. قال النووي: والمراد بمثل أجر فاعله أن له ثوابا بذلك الفعل، كما أن لفاعله ثوابا، ولا يلزم أن يكون قدر ثوابهما سواء، قال الحافظ ابن حجر: وصرف هذا الخبر عن ظاهره -أي كما يدعي ذاك الفريق- يحتاج إلى مستند. 2 - وفيه فضيلة التنبيه على الخير. 3 - وفضيلة المساعدة لفاعله. 4 - وفضيلة تعليم العلم. 5 - وتعليم وظائف العبادة، لا سيما لمن يعمل بها من المتعبدين وغيرهم. 6 - ومن الرواية الثالثة أن ما نوى الإنسان صرفه في جهة خير، فتعذرت عليه تلك الجهة، يستحب له بذله في جهة أخرى من البر، ولا يلزمه ذلك، ما لم يلتزمه بالنذر. 7 - من فضيلة خلف الغازي في أهله الحث على الإحسان إلى من فعل مصلحة للمسلمين، أو قام بأمر من مهماتهم. 8 - في الرواية الثامنة التحذير من خيانة المجاهد في أهله، فإن هذا الخائن مرتكب لكبائر، وليس لكبيرة واحدة. والله أعلم.

(525) باب سقوط فرض الجهاد عن المعذورين وثبوت الجنة للشهيد

(525) باب سقوط فرض الجهاد عن المعذورين وثبوت الجنة للشهيد 4302 - عن أبي إسحق أنه سمع البراء رضي الله عنه يقول في هذه الآية {لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله} [النساء: 95] فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا، فجاء بكتف يكتبها. فشكا إليه ابن أم مكتوم ضرارته، فنزلت {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر} 4303 - عن البراء رضي الله عنه قال: لما نزلت {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} كلمه ابن أم مكتوم فنزلت {غير أولي الضرر} 4304 - عن جابر رضي الله عنه قال: قال رجل: أين أنا يا رسول الله إن قتلت؟ قال: "في الجنة". فألقى تمرات كن في يده. ثم قاتل حتى قتل. وفي حديث سويد: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد. 4305 - عن البراء رضي الله عنه قال: جاء رجل من بني النبيت، قبيل من الأنصار، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك عبده ورسوله. ثم تقدم فقاتل حتى قتل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عمل هذا يسيرا وأجر كثيرا". 4306 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسيسة عينا، ينظر ما صنعت عير أبي سفيان. فجاء وما في البيت أحد غيري وغير رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا أدري ما استثنى بعض نسائه. قال: فحدثه الحديث. قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم، فقال: "إن

لنا طلبة، فمن كان ظهره حاضرا فليركب معنا". فجعل رجال يستأذنونه في ظهرانهم في علو المدينة. فقال: "لا إلا من كان ظهره حاضرا". فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر. وجاء المشركون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه". فدنا المشركون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض". قال يقول عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله، جنة عرضها السموات والأرض؟ قال: "نعم" قال: بخ بخ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يحملك على قولك بخ بخ؟ " قال: لا والله يا رسول الله، إلا رجاءة أن أكون من أهلها. قال: "فإنك من أهلها" فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن. ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة. قال: فرمى بما كان معه من التمر. ثم قاتلهم حتى قتل. 4307 - عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه، قال: سمعت أبي وهو بحضرة العدو يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف". فقام رجل رث الهيئة، فقال يا أبا موسى آنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا؟ قال: نعم. قال: فرجع إلى أصحابه، فقال أقرأ عليكم السلام، ثم كسر جفن سيفه فألقاه. ثم مشى بسيفه إلى العدو فضرب به حتى قتل. 4308 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أن ابعث معنا رجالا يعلمونا القرآن والسنة. فبعث إليهم سبعين رجلا من الأنصار، يقال لهم القراء، فيهم خالي حرام. يقرءون القرآن، ويتدارسون بالليل يتعلمون. وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد. ويحتطبون فيبيعونه، ويشترون به الطعام لأهل الصفة وللفقراء. فبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم. فعرضوا لهم فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان. فقالوا: اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا. قال: وأتى رجل حراما خال أنس من خلفه، فطعنه برمح حتى أنفذه. فقال حرام: فزت ورب الكعبة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "إن إخوانكم قد قتلوا. وإنهم قالوا: اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا".

4309 - عن ثابت قال: قال أنس: عمي الذي سميت به لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا. قال: فشق عليه. قال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غيبت عنه. وإن أراني الله مشهدا، فيما بعد، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليراني الله ما أصنع. قال: فهاب أن يقول غيرها. قال: فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد. قال: فاستقبل سعد بن معاذ. فقال له أنس: يا أبا عمرو، أين؟ فقال: واها لريح الجنة أجده دون أحد. قال: فقاتلهم حتى قتل. قال: فوجد في جسده بضع وثمانون من بين ضربة وطعنة ورمية. قال: فقالت أخته، عمتي الربيع بنت النضر: فما عرفت أخي إلا ببنانه. ونزلت هذه الآية {رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا} [الأحزاب: 23] قال: فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه. -[المعنى العام]- ليكون الإسلام خاتم الأديان، ولتكون رسالته عامة لأهل الكرة الأرضية، كان لا بد أن تنتشر دعوته، ليعلمه المكلفون، لئلا يكون للناس على الله حجة. وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن تكون وسيلة هذا التبليغ الجهاد في سبيل الله من عقيدة وإيمان ولا يتحقق الجهاد والنصر إلا بالعقيدة والدفاع عنها، ولا يضحي المرء بماله ونفسه إلا بإيمانه بالمقابل، وكان المقابل للتضحية بالمال والنفس الجنة، فالله تعالى يقول {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم} [التوبة: 111] ويقول {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون* فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [آل عمران: 169، 170]. ويقول صلى الله عليه وسلم "الجنة تحت ظلال السيوف" ويسأله أحد المجاهدين: أين أنا إذا قتلت في معارك المشركين يا رسول الله؟ فيقول: في الجنة، وحين يحثهم صلى الله عليه وسلم على الشجاعة والكفاح، ويأمرهم باقتحام المعركة يقول لهم: قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض، وحين يستشهد قريب العهد بالإسلام يقول عنه صلى الله عليه وسلم: هذا عمل يسيرا، وأجر كثيرا. أمام هذا المقابل العظيم كان الصحابة يتسابقون إلى الجهاد، ويتشوقون إلى الاستشهاد، حتى إن أصحاب الأعذار، من المرضى والمكفوفين وغير القادرين على الرحيل إلى المعارك يتحرقون أسى

وأسفا وحسرة، وأعينهم تفيض من الدمع حزنا، فهذا ابن أم مكتوم الأعمى، وقد سمع قوله تعالى {لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله} يتحسر ويقول: كيف بمن لا يستطيع لأنه أعمى؟ فنزل قوله تعالى {غير أولي الضرر} فرفع عنهم الحرج، وعن كل أصحاب الأعذار. وها هم القراء، وكانوا سبعين من خيرة علماء الأمة، بعثهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجد، ليعلموهم القرآن والشريعة، فيغدر بهم أهل البلاد، ويقتلونهم جميعا، فيستقبلون الموت بنفس مؤمنة مطمئنة، ويستعذبونه في سبيل الله، ويقولون: من يبلغ نبينا أننا لقينا ربنا؟ فرضي عنا؟ ورضينا عنه؟ فيبعث الله جبريل -عليه السلام- إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيبلغه الخبر، فيقول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: إن إخوانكم القراء استشهدوا جميعا، ولقوا ربهم، ورضي الله عنهم ورضوا عنه، وأخذ يدعو على القتلة أربعين يوما في القنوت في صلاة الصبح. وهذا أنس بن النضر، وقد غاب عن غزوة بدر لعذر، يتأسف على ما فاته من خير الجهاد، ويقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أعتذر إلى الله عن غيبتي يوم بدر، وأقسم أنني لن أغيب بعدها عن غزوة يغزوها رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيراني الله شجاعا مقداما عند لقاء الكفار، فيحضر غزوة أحد، ويرى المسلمين منهزمين، يفرون نحو الشعاب، فيتبرأ من المشركين، ويعتذر إلى الله عن الفارين، ويقدم بسيفه على المشركين، صارخا: إني أجد ريح الجنة في وديان جبل أحد، ويضرب في المشركين يمينا وشمالا، لا يحس جروحه التي أصابته، ولا توقفه ضربات السيف، ولا طعنات الرماح، ولا رميات السهام، ولا تمثيل الأعداء به، غيظا من نيله منهم، فيوجد في جسده بعد استشهاده بضعة وثمانون جرحا. رضي الله عنه وعن المجاهدين أجمعين. -[المباحث العربية]- (عن البراء قال: في هذه الآية {لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله} فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا، إلخ) أي قال البراء بخصوص هذه الآية: نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية كما هي، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا كاتبه، فأمره أن يكتبها. (فجاء بكتف يكتبها) أي فجاء زيد، ومعه دواة وقلم وكتف ليكتب فيه، والكتف بفتح الكاف وكسر التاء، وبكسر الكاف وسكون التاء، عظم عريض خلف المنكب، يستخدم من الحيوانات بعد نزع اللحم عنها لوحا يكتب عليه في الزمن الماضي. (فشكا إليه ابن أم مكتوم ضرارته) أي عماه، قال النووي: هكذا هو في جميع نسخ بلادنا "ضرارته" بالضاء، وحكى صاحب المشارق والمطالع عن بعض الرواة أنه ضبط "ضررا به" والصواب الأول. اهـ. وعند البخاري عن زيد بن ثابت "فجاء ابن أم مكتوم وهو يملها علي" -بضم الياء وكسر الميم وتشديد اللام، يقال: يملي، ويمل، ويملل بمعنى- "قال: يا رسول الله، والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت" وفي رواية أخرى له "وخلف النبي صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم" أي فانتقل من خلفه إلى أمامه

"فقال: يا رسول الله، أنا ضرير" وفي رواية "فقام حين سمعها ابن أم مكتوم -وكان أعمى- فقال: يا رسول الله، فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من هو أعمى؟ وأشباه ذلك"؟ وفي رواية "فقال: إني أحب الجهاد في سبيل الله ولكن بي من الزمانة ما ترى، ذهب بصري" وفي رواية "ما ذنبنا"؟ وابن أم مكتوم عبد الله، وقيل: عمرو، واسم أبيه زائدة، وأم مكتوم أمه، واسمها عاتكة. (فنزلت: لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر) قال ابن المنير: لم يقتصر الراوي على ذكر الكلمة الزائدة، وهي "غير أولي الضرر" فإن كان الوحي نزل بزيادة قوله "غير أولي الضرر" فقط، فكأن الراوي رأى إعادة الآية من أولها، حتى يتصل الاستثناء بالمستثنى منه، وإن كان الوحي نزل بإعادة الآية بزيادتها، بعد أن نزل بدون الزيادة فقد حكى الراوي صورة ما نزل، قال الحافظ ابن حجر: والأول أظهر، ففي روايتنا الثانية "فنزلت" غير أولي الضرر" وفي رواية لزيد "فأنزل الله عليه، فقلنا لابن أم مكتوم: إنه يوحى إليه، فخاف أن ينزل في أمره شيء، فجعل يقول: أتوب إلى الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للكاتب: اكتب {غير أولي الضرر} و"غير أولي الضرر" قرئ بنصب "غير" ورفعها، قراءتان مشهورتان في السبع، وقرئ في الشاذ بجرها، فمن نصب فعلى الاستثناء، ومن رفع فوصف "القاعدون" أو بدل منهم، ومن جر فوصف "المؤمنين" أو بدل منهم. (قال رجل: أين أنا يا رسول الله إن قتلت؟ ) قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمه، وزعم ابن بشكوال أنه عمير بن الحمام، وسبقه إلى ذلك الخطيب، واحتج بما أخرجه مسلم من حديث أنس -روايتنا الخامسة- "أن عمير بن الحمام أخرج تمرات، فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه، إنها لحياة طويلة، ثم قاتل حتى قتل" قال الحافظ ابن حجر: لكن وقع التصريح في حديث أنس أن ذلك كان يوم بدر [ففي روايتنا الخامسة "فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حتى سبقوا المشركين إلى بدر"] قال: والقصة التي معنا وقع التصريح في حديث جابر أنها كانت يوم أحد [ففي رواية البخاري "قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد: أرأيت إن قتلت فأين أنا؟ إلخ] وفي ملحق روايتنا الثالثة تصريح بذلك قال: فالذي يظهر أنهما قصتان وقعتا لرجلين. (جاء رجل من بني النبيت -قبيل من الأنصار) قال النووي: هو بنون مفتوحة، ثم باء مكسورة ثم ياء، ثم تاء، وهم قبيلة من الأنصار. اهـ. وقيل: إنه عمرو بن ثابت المعروف بأصرم بن عبد الأشهل. (عمل هذا يسيرا، وأجر كثيرا) رواية البخاري تبين سبب العمل اليسير، ففيها "أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل مقنع بالحديد، فقال: يا رسول الله، أقاتل أو أسلم؟ قال: أسلم ثم قاتل، فأسلم، ثم قاتل ... " قال محمود بن لبيد: كان يأبى الإسلام، فلما كان يوم أحد بدا له، فأخذ سيفه، حتى أتى القوم فدخل في عرض الناس، فقاتل حتى وقع جريحا، فوجده قومه في المعركة، فقالوا: ما جاء بك؟ أشفقة على قومك؟ أم رغبة في الإسلام؟ قال: بل رغبة في الإسلام، قال أبو هريرة: دخل الجنة وما صلى صلاة.

(بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسيسة عينا) قال النووي: هكذا هو في جميع النسخ "بسيسة" بباء مضمومة، وبسينين مفتوحتين، بينهما ياء ساكنة. قال القاضي: هكذا هو في جميع النسخ، قال: وكذا رواه أبو داود وأصحاب الحديث. قال: والمعروف في كتب السيرة "بسبس" بباءين مفتوحتين، بينهما سين ساكنة، وهو بسبس بن عمرو، ويقال: ابن بشر، من الأنصار، من الخزرج، ويقال: هو حليف لهم. وقال الحافظ: ويجوز أن يكون أحد اللفظين اسما له، والآخر لقبا، ومعنى "عينا" جاسوسا، أي متجسسا ورقيبا. (ينظر ما صنعت عير أبي سفيان) العير هي الدواب التي تحمل الطعام وغيره من الأمتعة، وقال في المشارق: العير هي الإبل والدواب، تحمل الطعام وغيره من التجارات، قال: ولا تسمى عيرا إلا إذا كانت كذلك، وقال الجوهري في الصحاح: العير الإبل تحمل الميرة، وجمعها عيرات بكسر العين وفتح الياء. اهـ. والمعنى ليحمل له خبر قافلة أبي سفيان الآتية من الشام إلى مكة. (قال: لا أدري ما استثنى بعض نسائه) أي قال ثابت الراوي عن أنس: لا أدري وقد استثنى أنس نفسه ورسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم لم يستثن إحدى نسائه صاحبة البيت؟ هل كان خاليا من إحدى أمهات المؤمنين؟ أو كانت إحداهن موجودة فيه في حجرة أخرى، فلم يعدها موجودة؟ (فحدثه الحديث) أل في "الحديث" للعهد، أي حديث غير أبي سفيان، وما وصلت إليه. (فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم) أي فخطب الصحابة. (فقال: إن لنا طلبة) الفاء تفسيرية، و"طلبة" بفتح الطاء وكسر اللام، أي شيئا نطلبه، أي إن لنا هدفا ومقصدا في خروجنا، يقصد العير أو الحرب، وقد وعده الله إحدى الطائفتين. (فمن كان ظهره حاضرا فليركب معنا) المراد بالظهر ما يركب من الدواب، إبل أو خيل أو حمير. (فجعل رجال يستأذنونه في ظهرانهم في علو المدينة، فقال: لا. إلا من كان ظهره حاضرا) قال النووي: "ظهرانهم" بضم الظاء، وإسكان الهاء، أي مركوباتهم، و"علو المدينة" بضم العين وكسرها. اهـ. أي ضاحية المدينة، والمعنى أن رجالا يسكنون أطراف المدينة، وفيها دوابهم، أخذوا يستأذنونه أن يؤخر الرحيل، حتى يذهبوا إلى بيوتهم، ويعدون رواحلهم، ويأتون بها، لكنه لعجلته صلى الله عليه وسلم قال لهم: لن ننتظر، سنخرج بمن هو جاهز. (لا يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه) "لا يقدمن" ضبطها في الأصول بضم الياء وفتح القاف وتشديد الدال المكسورة، مضارع قدم بتشديد الدال، وهو متعد بنفسه، والمعنى لا يقدمن أحد منكم نفسه إلى شيء حتى أكون أنا دونه وقبله وقدامه إلى ذلك الشيء، لئلا يفوت شيء من المصالح التي لا تعلمونها، فهو نهي عن التعجل

والتسرع، وإلزام بالمتابعة والطاعة، أي لا يتقدمن من أحد منكم إلى فعل شيء بدون أمري أو فعلي. (قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض) من إطلاق المسبب وإرادة السبب، أي قوموا إلى قتال أعدائكم، لتفوزوا بالجنة، فورا إن استشهدتم، وبعد طول أجل إن انتصرتم. (يقول عمير بن الحمام الأنصاري) "يقول" تعبير عن الماضي بالمضارع استحضارا للصورة، و"عمير" بضم العين وفتح الميم، والحمام بضم الحاء وتخفيف الميم. (يا رسول الله، جنة عرضها السموات والأرض؟ ) الكلام على الاستفهام التعجبي بحذف الأداة. (قال: بخ بخ) قال النووي "بخ" فيها لغتان: إسكان الخاء، وكسرها منونا، وهي كلمة تطلق لتفخيم الأمر وتعظيمه في الخير. اهـ. وتقال عند الرضا والإعجاب بالشيء، أو المدح، أو الفخر، وأكثر ما تستعمل مكررة. (ما يحملك على قولك: بخ بخ؟ ) لعل الرسول صلى الله عليه وسلم خشي أن يكون التعجب والتفخيم مشعرا بالاستبعاد والاستغراب، فسأله عن مقصوده. (قال: لا.) أي لا أستبعد ولا أستغرب. (والله يا رسول الله، إلا رجاءة أن أكون من أهلها) الاستثناء من عموم العلل، أي ما قلتها لعلة من العلل، ولا بدافع من الدوافع إلا بدافع الرجاء أن أكون من أهلها. قال النووي: هكذا هو في أكثر النسخ المعتمدة "رجاءة" بالمد، ونصب التاء، وفي بعضها "رجاء" بلا تنوين، وفي بعضها بالتنوين، وكله صحيح معروف في اللغة، ومعناه: والله ما فعلته لشيء إلا لرجاء أن أكون من أهلها. (قال: فإنك من أهلها) بشر بالشهادة، وبالجنة، وإخباره صلى الله عليه وسلم بذلك عن طريق الوحي. (فأخرج تمرات من قرنه) قال النووي: هو بقاف وراء مفتوحتين، ثم نون، أي جعبة النشاب، ووقع في بعض نسخ المغاربة فيه تصحيف. اهـ. (سمعت أبي -وهو بحضرة العدو- يقول) جملة "يقول" حال، وجملة "وهو بحضرة العدو" حال أيضا. قال النووي: "بحضرة" بفتح الحاء وضمها وكسرها، ثلاث لغات، ويقال أيضا: "بحضر" بفتح الحاء والضاد، محذوف الهاء. اهـ. وفي كتب اللغة: الحضرة الحضور، يقال: كلمته في حضرة فلان، أي في حضوره، ويقال: كنت بحضرة العدو، أي قريبا منه. (إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف) قال النووي: قال العلماء: معناه أن الجهاد،

وحضور معركة القتال طريق إلى الجنة، وسبب لدخولها. اهـ. وفي رواية البخاري "واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف" وترجم له البخاري بباب الجنة تحت بارقة السيوف، من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي السيوف البارقة اللامعة، كأنه أراد أن السيوف لما كانت لها بارقة كان لها أيضا ظل، وقال ابن الجوزي: المراد أن الجنة تحصل بالجهاد، والظلال جمع ظل، وإذا تدانى الخصمان صار كل منهما تحت ظل سيف صاحبه، لحرصه على رفعه عليه، ولا يكون ذلك إلا عند التحام القتال. وقال القرطبي: هذا من الكلام النفيس الجامع الموجز المشتمل على ضروب من البلاغة مع الوجازة وعذوبة اللفظ، فإنه أفاد الحض على الجهاد، والإخبار بالثواب عليه، والحض على مقاربة العدو، والاجتماع واستعمال السيوف حين الزحف، حتى تصير السيوف تظل المتقاتلين. (فرجع إلى أصحابه، فقال: أقرأ عليكم السلام) المعنى أن أبا موسى الأشعري عبد الله بن قيس قال لأصحابه يوما في معركة من المعارك، وربما كان قائدا لجيشه، قال لهم مثيرا غيرتهم وشجاعتهم، والعدو أمامهم، قال لهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف" وسمعه أحد جنوده، فاستوثق منه، فلما وثق عزم على الهجوم والاندفاع نحو العدو، متعجلا الفوز بالشهادة، فرجع إلى أصحابه الجنود، فودعهم الوداع الأخير، وأقرأهم السلام. (ثم كسر جفن سيفه، فألقاه) "جفن السيف" بفتح الجيم وكسرها وسكون الفاء هو غمده، وأصله غطاء العين من أعلاها وأسفلها، والمعنى أن الرجل نزع سيفه من غمده مقررا عدم عودة سيفه إلى غمده، فكسر الغمد، ورمى به. (ثم مشى بسيفه إلى العدو، فضرب به حتى قتل) راغبا في الجنة، حريصا عليها. (جاء ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أن ابعث معنا رجالا يعلمونا القرآن والسنة فبعث إليهم سبعين رجلا من الأنصار، يقال لهم: القراء) هؤلاء الناس من بني سليم، وجاء في البخاري "بعث النبي صلى الله عليه وسلم أقواما من بني سليم إلى بني عامر" قال الدمياطي: هو وهم، فإن بني سليم مبعوث إليهم. وحاول الحافظ ابن حجر توجيهه بما لا يخلو من تعسف، وظاهر هذه الرواية أن الناس كانوا مسلمين، وأن المبعوثين كانوا معلمين، هدفهم تعليم القرآن والسنة، لكن في رواية البخاري ما يشعر بأن المبعوثين كانوا من الفرسان، وكان هدفهم مددا للناس للمساعدة في قتال أعدائهم، ففيه "بعث النبي صلى الله عليه وسلم سبعين رجلا لحاجة، يقال لهم: القراء" فسر قتادة الحاجة بقوله: إن رعلا وغيرهم استمدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدو، فأمدهم بسبعين من الأنصار. وعند البخاري أيضا "إن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه رعل وذكوان وعصية فزعموا أنهم أسلموا، واستمدوا على قومهم" قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أنه لم يكن استمدادهم لهم لقتال عدو، وإنما هو للدعاء إلى الإسلام. وقد أوضح ذلك ابن إسحق، قال: قدم أبو براء، عامر بن مالك، المعروف بملاعب الأسنة، على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليه الإسلام، فلم يسلم ولم يبعد، وقال: يا محمد، لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد رجوت أن يستجيبوا لك، وأنا جار لهم، فبعث المنذر بن عمرو في أربعين رجلا، منهم الحارث بن الصمة، وحرام

بن ملحان ورافع بن بديل بن ورقاء وعروة بن أسماء وعامر بن فهيرة، وغيرهم من خيار المسلمين". قال الحافظ ابن حجر: ويمكن الجمع بينه وبين الذي في الصحيح بأن الأربعين كانوا رؤساء، وبقية العدد أتباعا. (فيهم خالي حرام) فحرام أخ لأم سليم، أم أنس. (يقرءون القرآن، ويتدارسون بالليل، يتعلمون ... إلخ) في رواية البخاري "كنا نسميهم القراء في زمانهم" وقد وصفوا في الحديث بأعمالهم، فهم كانوا بالنهار يجيئون بالماء، فيضعونه في المسجد، ليشرب المصلون، ويتوضئوا منه وكانوا يحتطبون، فيبيعون ما احتطبوا، ويشترون بثمنه الطعام لأهل الصفة وللفقراء، وأهل الصفة أي أصحابها، وهم جماعة من الفقراء الغرباء الذين كانوا يأوون إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فيقيمون في الصفة وهي مكان مظلل في زاوية المسجد. وكانوا يصلون بالليل، ويتدارسون القرآن والعلم، فهم كانوا يعلمون ويتعلمون. (فعرضوا لهم، فقتلوهم، قبل أن يبلغوا المكان) في رواية للبخاري "فعرض لهم حيان من بني سليم" تثنية حي أي جماعة من بني سليم، وفسرهما في الرواية بقوله "رعل وذكوان" بكسر الراء وسكون العين، و"ذكوان" بفتح الذال وسكون الكاف "عند بئر يقال لها: بئر معونة" بفتح الميم وضم العين، موضع من بلاد هذيل، بين مكة وعسفان، وهذه الوقعة تعرف بسرية القراء، وكانت في أوائل سنة أربع من الهجرة. (وأتى رجل حراما، خال أنس -من خلفه، فطعنه برمح، حتى أنفذه، فقال حرام: فزت. ورب الكعبة) أي فزت بالشهادة والجنة، وقد أوضحت الروايات ما وقع، فعند البخاري "فانطلق حرام أخو أم سليم، ورجل أعرج، ورجل من بني فلان، قال لهما: كونا قريبا حتى أتيهم، فإن آمنوني كنتم وإن قتلوني أتيتم أصحابكم. فقال: أتؤمنوني أبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فجعل يحدثهم، وأومأوا إلى رجل، فأتاه من خلفه فطعنه، حتى أنفذه بالرمح" "ثم مالوا على بقية أصحابه فقتلوهم إلا رجلا أعرج، صعد الجبل" وعند الطبراني "فخرج حرام، فقال: يا أهل بئر معونة. إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم، فآمنوا بالله ورسوله، فخرج رجل من كسر البيت برمح، فضربه في جنبه، حتى خرج من الشق الآخر". (فقالوا: اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك، فرضينا عنك، ورضيت عنا .... فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: إن إخوانكم قد قتلوا، وإنهم قالوا: اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك، فرضينا عنك، ورضيت عنا) في رواية البخاري "فأخبر جبريل -عليه السلام- النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد لقوا ربهم، فرضي عنهم وأرضاهم، قال أنس: فكنا نقرأ "أن بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا، فرضي عنا وأرضانا" ثم نسخ بعد، تلاوة، فلم يبق له حكم حرمة القرآن، كتحريمه على الجنب وغير ذلك. فدعا عليهم أربعين صباحا؛ على رعل وذكوان وبني عصية، الذين عصوا الله ورسوله" وفي رواية

للبخاري "قال أنس: فأنزل الله تعالى لنبيه في الذين قتلوا، أصحاب بئر معونة قرآنا قرأناه، حتى نسخ بعد: بلغوا قومنا، فقد لقينا ربنا، فرضي عنا، ورضينا عنه". (عمي الذي سميت به) أنس بن النضر. (لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا، فشق عليه) في رواية "فكبر عليه ذلك". (قال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غيبت عنه) الاستفهام إنكاري توبيخي، بمعنى ما كان ينبغي مهما كان عذري. قال ذلك أسفا. وقد أشار إلى الضرورة التي حالت بينه وبين المشهد بقوله "غيبت" بالبناء للمجهول، ولم يقل: غبت. (وإن أراني الله مشهدا فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليراني الله ما أصنع) في رواية للبخاري "لئن أشهدني الله مع النبي صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما يجد" وظاهر هاتين الروايتين أن هذا القول كان لأصحابه، ولم يكن في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم لكن عند البخاري "فقال: يا رسول الله، غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع" فيحتمل أنه قال هذا القول مرتين، والمراد من قوله "لئن أشهدني الله" و"إن أراني الله مشهدا" أي إن حضرت معركة مقاتلا، وقوله "ليراني الله ما أصنع" اللام في جواب قسم مقدر، و"ما أصنع" بدل من ضمير المتكلم في "يراني" وفي رواية للبخاري "ليرين الله ما أجد" بضم الهمزة وكسر الجيم وتشديد الدال، من الرباعي، يقال: أجد في الشيء يجد، إذا بالغ فيه، وقال ابن التين: صوابه بفتح الهمزة وضم الجيم، يقال: أجد -من الثلاثي- يجد إذا اجتهد في الأمر، أما أجد بتشديد الدال فإنما يقال لمن سار في أرض مستوية، ولا معنى لها هنا. قال: وضبطه بعضهم بفتح الهمزة وكسر الجيم وتخفيف الدال، من الوجدان، أي ما ألقي من الشدة في القتال. قال النووي "ليراني الله ما أصنع" هكذا هو في أكثر النسخ "ليراني" بالألف، وهو صحيح، ويكون "ما أصنع" بدلا من الضمير في "أراني" أي ليرى الله ما أصنع، ووقع في بعض النسخ "ليرين الله" بياء بعد الراء، ثم نون مشددة، وضبط بوجهين: أحدهما بفتح الياء والراء، أي يراه الله واقعا بارزا، والثاني بضم الياء وكسر الراء، ومعناه ليرين الله الناس ما أصنعه، وليبرزن الله كفاحي للناس. (فهاب أن يقول غيرها) أي خشي أن يقول أكثر من هذا، خشي أن يلتزم شيئا فيعجز عنه، أو تضعف بنيته عنه، أو نحو ذلك، وليكون إبراء له من الحول والقوة، فاكتفى بهذه اللفظة المبهمة "ليرين الله ما أجد". (فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فاستقبل سعد بن معاذ) في رواية للبخاري "فلما كان يوم أحد، وانكشف المسلمون. قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني أصحابه- وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء -يعني المشركين، ثم تقدم" -أي نحو المشركين- "فاستقبله سعد بن معاذ" وفي مسند الطيالسي "فاستقبله سعد بن معاذ منهزما".

(فقال له أنس: يا أبا عمرو، أين؟ ) أي إلى أين تمضي يا سعد وتفر؟ وكأن سعدا لم يجب، فأكمل أنس الكلام. (فقال: واها لريح الجنة! أجده دون أحد) "واها" كلمة تحنن وتلهف، أي أحن إلى ريح الجنة، وأتلهف عليها، وفي رواية البخاري "إني أجد ريح الجنة دون أحد" قال ابن بطال وغيره: يحتمل أن يكون على الحقيقة، وأنه وجد ريح الجنة حقيقة، أو وجد ريحا طيبة، ذكره طيبها بطيب ريح الجنة، ويجوز أن يكون أراد أنه استحضر الجنة التي أعدت للشهيد، فتصور أنها في ذلك الموضع، فاشتاق لها، أي إني لأعلم أن الجنة تكتسب في هذا الموضع، فاشتاق إليها. ومال النووي إلى القول الأول، فقال: وقد ثبتت الأحاديث أن ريحها توجد من مسيرة خمسمائة عام. اهـ. وفي رواية البخاري "الجنة ورب النضر" كأنه يريد والده، ويحتمل أنه يريد ابنه، فإنه كان له ابن يسمى النضر، وكان إذ ذاك صغيرا وفي رواية "فقال سعد: أنا معك". (فقاتلهم حتى قتل) وفي رواية البخاري "قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع" أي فما استطعت أن أصنع ما صنع من الإقدام والصبر على الأهوال. (فوجد في جسده بضع وثمانون، من بين ضربة وطعنة ورمية) في رواية "ضربة بالسيف، أو طعنة بالرمح، أو رمية بالسهم" و"أو" فيها ليست للشك، بل هي للتقسيم، وفي رواية "ووجدناه قد مثل به المشركون" من المثلة، وهي قطع الأعضاء من أنف وأذن ونحوها. (قال: فقالت أخته، عمتي الربيع بنت النضر) أي قال أنس بن مالك: فقالت أخت عمي أنس بن النضر وهي الربيع بنت النضر. (فما عرفت أخي إلا ببنانه) أي بطرف أصبعه، والظاهر أن طرف أصبع من أصابعه كان مقطوعا قطعا قديما، وفي رواية للبخاري "فما عرف حتى عرفته أخته بشامة، أو ببنانه، بالشك، والثاني هو المعروف. (ونزلت هذه الآية {رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا} قال: فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه) صدر الآية {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} من الثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنس بن النضر، وفي الكشاف: نذر رجال من الصحابة أنهم إذا لقوا حربا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا، أي نذروا الثبات التام والقتال الذي يفضي بحسب العادة إلى نيل الشهادة، وهم عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وحمزة، ومصعب بن عمير، وغيرهم {فمنهم من قضى نحبه} تفصيل لحال الصادقين، وتقسيم لهم إلى قسمين، والنحب النذر المحكوم بوجوبه، وشاع بمعنى الموت، والمعنيان هنا مستقيمان {ومنهم من ينتظر} يوما يجاهد فيه، ويكون فيه نحبه، ويوفي فيه بنذره وعهده {وما بدلوا تبديلا} أي وما بدلوا عهدهم، وما غيروه أصلا، ولا وصفا،

بل ثبتوا عليه، راغبين فيه، مراعين حقوقه على أحسن ما يكون، ولم يفعلوا مثل ما فعل المنافقون، الذين قد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار. -[فقه الحديث]- قال النووي عن الرواية: الأولى والثانية وقوله تعالى {غير أولي الضرر} فيه دليل لسقوط الجهاد عن المعذورين، ولكن لا يكون ثوابهم ثواب المجاهدين، بل لهم ثواب نياتهم، إن كان لهم نية صالحة، كما قال صلى الله عليه وسلم "ولكن جهاد ونية" اهـ. والمراد هنا بالعذر ما هو أعم من المرض، كعدم القدرة على السفر، لكن أحاديث أخرى تشير إلى مشاركة من حبسه العذر عن الغزو للمجاهدين في أجورهم، فوق النية التي أشار إليها النووي، فعند البخاري "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزاة، فقال: إن أقواما بالمدينة خلفنا، ما سلكنا شعبا ولا واديا إلا وهم معنا فيه، حبسهم العذر" وفي رواية "إلا شركوكم في الأجر" وسيأتي هذا الحديث في مسلم في باب ثواب من حبسه العذر عن الغزو وقد رواه أبو داود بلفظ "لقد تركتم بالمدينة أقواما، ما سرتم من مسير، ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم من واد، إلا وهم معكم فيه. قالوا: يا رسول الله، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: حبسهم العذر". فظاهر هذه النصوص أن من حبسه العذر له أجر فوق النية من جنس أجر العاملين، مشاركة للعاملين في أجر حركاتهم وجهادهم، بل كلام المهلب يميل إلى المساواة، حيث قال: قوله تعالى {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر} يفاضل بين المجاهدين والقاعدين، ثم يستثني أولي الضرر من القاعدين، فكأنه ألحقهم بالفاضلين. اهـ. والحافظ ابن حجر يقول: فيه أن المرء يبلغ بنيته أجر العامل، إذا منعه العذر، ويقول: وأصل تفسير ابن جريج أن المفضل عليه {غير أولي الضرر} وأما أولو الضرر فملحقون في الفضل بأهل الجهاد، إذا صدقت نياتهم، فقد استثنت الآية أولي الضرر من عدم الاستواء، فأفهمت إدخالهم في الاستواء، إذ لا واسطة بين الاستواء وعدمه، والمراد استواؤهم في أصل الثواب، لا في المضاعفة، لأنها تتعلق بالفعل، ونحن لا نقول بالمساواة، فالمساواة بين العاملين أنفسهم غير متحققة، بسبب اختلاف درجة الإخلاص، ودرجة الأداء ودرجة المشقة، ودرجة أثر كل منهم في تحقيق النتيجة، والذين حبسهم العذر تختلف درجاتهم أيضا بسبب درجة الحرص، ودرجة العذر، فليس من اقتنع وقنع بعدم القدرة، كالذين أتوه ليحملهم، فقال: {لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون} والحق أن المساواة في الأجر وعدمها ترجع إلى الله تعالى وفضله، ولا نملك أن نحكم بها، لكن للعاملين زيادة أجر متفق عليها، كأجرهم على الكلم في سبيل الله، وأجرهم العاجل بالغنيمة، وأجر الشهداء منهم، ومضاعفة الأجر على الفعل، بقوله تعالى {وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما* درجات منه ومغفرة ورحمة} [النساء: 96]. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - من قوله في الرواية الأولى "فجاء بكتف يكتبها" جواز كتابة القرآن في الألواح والأكتاف، وتقييد العلم بالكتابة.

2 - قال النووي: وفيه طهارة عظم المذكي. 3 - وجواز الانتفاع بعظم المذكي. 4 - وفيه جواز اتخاذ الكاتب. 5 - وتقريبه. 6 - قال النووي: وفيه أن الجهاد فرض كفاية، وليس بفرض عين. 7 - وفيه رد على من يقول: إنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فرض عين، وبعده كفاية، والصحيح أنه لم يزل فرض كفاية من حين شرع. 8 - وفي الرواية الثالثة ثبوت الجنة للشهيد. 9 - وفيه المبادرة بالخير، وأنه لا يشتغل عنه بحظوظ النفس. 10 - ومن الرواية الخامسة جواز بعث الجاسوس. 11 - والخطبة عند الشدائد، والأمور المهمة. 12 - وفي قوله "إن لنا طلبة" استحباب التورية في الحرب، وألا يبين الإمام جهة إغارته وإغارة سراياه، لئلا يشيع ذلك، فيحذرهم العدو. 13 - ومن رمي التمرات والدخول والهجوم على الكفار جواز الانغمار في الكفار، والتعرض للشهادة. قال النووي: وهو جائز بلا كراهة عند جماهير العلماء. 14 - ومن الرواية السادسة المخاطرة في الجهاد بكسر جفن السيف ونحوه. 15 - وتوديع الأصدقاء عند السفر والخطر. 16 - ومن الرواية السابعة جواز وضع الماء في المسجد، قال النووي: وقد كانوا يضعون أيضا أعذاق التمر في المسجد لمن أرادها، في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا خلاف في جواز هذا وفضله. 17 - وفيها فضيلة الصدقة. 18 - وفضيلة الاكتساب من الحلال لها. 19 - وجواز عمل الصفة في المسجد. 20 - وجواز المبيت فيه بلا كراهة. قال النووي: وهو مذهبنا ومذهب الجمهور. 21 - ومن لقاء القراء ربهم ورضاهم عنه ورضاه عنهم فضيلة عظمى للشهادة والشهداء. 22 - وثبوت الرضا منهم ولهم. 23 - وفي هذه الرواية مدى ما أصيب المسلمون في سبيل الدعوة إلى الله. 24 - وفي الرواية الثامنة فضيلة ظاهرة لأنس بن النضر، وشجاعته المفرطة. 25 - وجواز أخذ النفس بالشدة في الجهاد. 26 - وبذل النفس في طلب الشهادة، وفي الوفاء بالعهد. والله أعلم.

(526) باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ومن قاتل للرياء والسمعة استحق النار

(526) باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ومن قاتل للرياء والسمعة استحق النار 4310 - عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أن رجلا أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، الرجل يقاتل للمغنم. والرجل يقاتل ليذكر. والرجل يقاتل ليرى مكانه. فمن في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قاتل لتكون كلمة الله أعلى، فهو في سبيل الله". 4311 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله". 4312 - وفي رواية عن أبي موسى رضي الله عنه قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله الرجل يقاتل منا شجاعة. فذكر مثله. 4313 - عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال في سبيل الله عز وجل، فقال: الرجل يقاتل غضبا، ويقاتل حمية. قال: فرفع رأسه إليه -وما رفع رأسه إليه إلا أنه كان قائما- فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله". 4314 - تفرق الناس عن أبي هريرة رضي الله عنه فقال له ناتل أهل الشام: أيها الشيخ، حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه، رجل استشهد. فأتي به فعرفه نعمه فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت. ولكنك قاتلت لأن يقال جريء. فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ

القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن. قال كذبت. ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار". 4315 - -/- تفرق الناس عن أبي هريرة، فقال له ناتل الشامي: واقتص الحديث بمثل حديث خالد بن الحارث. -[المعنى العام]- يقول الله تعالى {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} [البينة: 5] وحذر الله وخوف المصلين المرائين بقوله {فويل للمصلين* الذين هم عن صلاتهم ساهون* الذين هم يراءون} [الماعون: 4، 5، 6] ويقول صلى الله عليه وسلم "من سمع سمع الله به، ومن يرائي يرائي الله به" والمعنى في ذلك أن من عمل عملا بغير إخلاص، يريد أن يراه الناس ويسمعوه جوزي على ذلك بأن يشهره الله ويفضحه، ويظهر ما كان يبطنه، يفضحه بأنه كان يريد من عمله المقابل من الناس، وقد حصل عليه منهم، فقالوا: على المنفق: كريم جواد، وقالوا على المقاتل: جريء شجاع، وقالوا على العالم القارئ: عالم كبير، فكان ذلك جزاءه، ولا جزاء له في الآخرة، ولا ثواب له، ويفضحه بما يكشف من خبايا نفسه وطويته. ولما كان القتال منشؤه القوة العقلية، والقوة العصبية، والقوة الشهوانية، دعا صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يكون دافهم إليه القوة العقلية فحسب، حيث سئل عن الدوافع البشرية التي يندفع بها الناس نحو القتال، فقيل له: يا رسول الله، الرجل منا يقاتل رغبة في الحصول على الغنيمة أحيانا، ويقاتل حماية لأهله وقبيلته وعصبته أحيانا، ويقاتل ليراه الناس شجاعا مقداما أحيانا، ويقاتل ليقول الناس عنه: كان بطلا جريئا غير هياب أحيانا، ويقاتل غضبا لدفع مضرة أو جلب مصلحة أحيانا، فهل يكون بهذه الدوافع مجاهدا في سبيل الله؟ وله أجر المجاهدين؟ وله ثواب الشهداء الهائل إن هو استشهد في معركة المشركين؟ فقال صلى الله عليه وسلم من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو الذي في سبيل الله، وإن هذا الأجر الموعود به إنما هو لمن خرج مخلصا يدافع عن دعوة الإسلام، وينشر دعوة الإسلام. أما الذين يريدون بقتالهم شيئا من الحياة الدنيا فقد عجلوا أجورهم، وحصلوا على ما قصدوا من المتاع العاجل الزائل، ويوم يطالبون يوم القيامة بأجر قتالهم يقال لهم: قاتلتم ليقال عنكم شجعان

وقد قيل فلا أجر لكم كالمنفق ماله رئاء الناس، ويوم يطلب أجرا على نفقته يقال له: أنفقت ليقال إنك كريم جواد فقد قيل، فلا أجر لك على نفقتك، ولن تكفر هذه النفقة شيئا من خطاياك، فاحمل خطاياك واذهب بها إلى النار، فاللهم ارزقنا الإخلاص في العمل، ابتغاء وجهك الكريم. -[المباحث العربية]- (أن رجلا أعرابيا) قال الحافظ ابن حجر: قوله "أعرابيا" يدل على وهم ما وقع عند الطبراني من وجه آخر، عن أبي موسى أنه قال: يا رسول الله فذكره، فإن أبا موسى وإن جاز أن يبهم نفسه لكن لا يصفها بكونه أعرابيا، وهذا الأعرابي يصلح أن يفسر بلاحق بن ضميرة، فقد جاء بإسناد ضعيف أنه سأل السؤال، وفي رواية بإسناد ضعيف عن معاذ بن جبل أنه سأل السؤال، ومعاذ أيضا لا يقال له أعرابي، فيحمل على التعدد. اهـ. ويبدو أن الحافظ ابن حجر لم يطلع على رواية مسلم، روايتنا الثالثة، ولفظها عن أبي موسى: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا .... " فيمكن حمل الحديث على أن الأعرابي وأبا موسى وغيرهما سأل واحد منهم ووافقه الآخرون، فنسب السؤال إلى كل منهم، بدون تعدد السؤال. (والرجل يقاتل ليذكر) بضم الياء وفتح الكاف، مبني للمجهول، أي ليذكره الناس بالشجاعة، ويشتهر عندهم بالجرأة والإقدام، ولفظ البخاري "والرجل يقاتل للذكر" بكسر الذال، وفي رواية أخرى للبخاري "ويقاتل شجاعة" كروايتنا الثانية والثالثة. (والرجل يقاتل ليرى مكانه) "يرى" بضم الياء، مبني للمجهول، أي ليراه الناس، أي رياء، كما هو لفظ روايتنا الثانية، فمرجع الذي قبله "للذكر" أي السمعة، ومرجع هذا إلى الرياء. (ويقاتل حمية) هذا لفظ الرواية الثانية والرابعة، أي أنفة وغيرة ومحاماة عن أهل أو عشيرة أو صاحب. (الرجل يقاتل غضبا) هذا لفظ الرواية الرابعة، أي لأجل حظ نفسه، قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يفسر القتال للحمية بدفع المضرة، والقتال غضبا بجلب المنفعة، فالحاصل من رواياتهم أن القتال يقع بسبب خمسة أشياء: المغنم، وإظهار الشجاعة، والرياء، والحمية، والغضب، وكل منها يتناوله المدح والذم، فلهذا لم يحصل الجواب بالإثبات ولا بالنفي. (فمن في سبيل الله؟ ) أي فمن من هؤلاء في سبيل الله؟ وفي الرواية الثانية "أي ذلك في سبيل الله"؟ (من قاتل لتكون كلمة الله أعلى فهو في سبيل الله) في الرواية الثانية والرابعة "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" و"هي العليا" أسلوب قصر، أي الأعلى، بحيث يعد علو غيرها ليس علوا. وهذا الجواب يتضمن نفي أن يكون المذكورون من قبل في سبيل الله، وكأنه قال: كل ذلك ليس في سبيل الله، حتى الممدوح منها الذي أشار إليه الحافظ ابن حجر، هو ليس في

سبيل الله، وإنما عدل صلى الله عليه وسلم عن النفي الصريح، ولم يقل: كل ذلك ليس في سبيل الله، لئلا يحتمل أن يكون ما عدا ذلك كله في سبيل الله، وليس كذلك، وليقطع الطريق على إيراد أحوال أخرى قد يذكرها السائلون. والمراد بكلمة الله دعوة الله إلى الإسلام، ويحتمل أن يكون المراد من العبارة أنه لا يكون في سبيل الله إلا من كان سبب قتاله طلب إعلاء كلمة الله فقط، بمعنى أنه لو أضاف إلى ذلك سببا آخر من الأسباب المذكورة أخل بذلك، ويحتمل أن لا يخل إذا حصل ضمنا، لا أصلا ومقصودا، وسيأتي توضيح المسألة في فقه الحديث. قال العلماء: وهذا الجواب من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، لأنه أجاب بلفظ جامع لمعنى السؤال مع الزيادة عليه. (تفرق الناس عن أبي هريرة) بعد أن حضروا عظته وذكره في المسجد، وفي ملحق الرواية "تفرج الناس عن أبي هريرة" وهي بمعنى تفرق. (فقال له ناتل أهل الشام) في ملحق الرواية "ناتل الشامي" وهو بالنون في أوله، وبعد الألف تاء، وهو ناتل بن قيس الحزامي الشامي، من أهل فلسطين، وهو تابعي، وكان أبوه صحابيا، وكان ناتل كبير قومه. (إن أول الناس يقضي -يوم القيامة- عليه) فصل بالظرف بين الفعل وبين نائب الفاعل، والأصل يقضي عليه يوم القيامة. (فعرفه نعمه فعرفها) أي ذكره الله تعالى بالنعم التي أنعم بها عليه، فتذكرها، والمراد بها في الشهيد نعمة الصحة والقوة والقدرة على الجهاد، والمراد بها في العالم القارئ نعمة العلم والقرآن تعلما وتعليما، والمراد بها في الرجل الثالث سعة المال بأصنافه المختلفة. (ما تركت في سبيل تحب أن ينفق فيها) أي ما تركت وجها من وجوه الخير. (إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت) التكذيب هنا للقيد، وهو كلمة "لك" كما أن التكذيب في الشهيد لقيد "فيك" من قوله "قاتلت فيك" والتكذيب في العالم القارئ لقيد "فيك" في قوله "تعلمت العلم، وعلمته وقرأت فيك القرآن" فهو قيد تنازعه تعلمت، وعلمت وقرأت، أي تعلمت العلم فيك، وعلمته فيك، وقرأت القرآن فيك. -[فقه الحديث]- موضوع هذه الأحاديث أن الأعمال إنما تحسب بالنيات الصالحة، وأن الفضل الذي ورد في المجاهدين في سبيل الله يختص بمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا.

قال الطبري: إذا كان أصل الباعث هو أن تكون كلمة الله هي العليا لا يضره ما عرض له بعد ذلك. وبذلك قال الجمهور، وعزاه ابن أبي جمرة للمحققين، فقال: ذهب المحققون إلى أنه إذا كان الباعث الأول قصد إعلاء كلمة الله لم يضره ما انضاف إليه. اهـ. أي حتى لو قصد شيئا من الدنيا تبعا لقصد إعلاء كلمة الله، واستدل له الحافظ ابن حجر بما رواه أبو داود بإسناد حسن عن عبد الله بن حوالة قال: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أقدامنا لنغنم، فرجعنا ولم نغنم شيئا، فقال: "اللهم لا تكلهم إلي" الحديث، فهذا يدل على أن المغنم كان مقصدا مشروعا. القول الثاني أن القتال في سبيل الله شرطه صفاء القصد وخلوصه لتكون كلمة الله هي العليا، بحيث لا يشوبه قصد دنيوي، ولو على سبيل الإضافة والضم، ولا يضر حصول الدنيا من غير قصد، واستدلوا بما رواه أبو داود والنسائي من حديث أبي أمامة بإسناد جيد قال: "جاء رجل" فقال: يا رسول الله أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر؟ ما له؟ قال: "لا شيء له، فأعادها ثلاثا، كل ذلك يقول: لا شيء له، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا، وابتغى به وجهه". وحمله أصحاب القول الأول على من قصد الأمرين معا على حد سواء، أو غلب الهدف الدنيوي. فالمراتب خمسة: أن يقصد الإعلاء صرفا، وهو المطلوب. الثاني: أن يقصد الإعلاء أصلا، والدنيا تبعا، وهو غير محظور عند الجمهور. الثالث: أن يقصدهما على حد سواء، وهو محظور. الرابع: أن يقصد الدنيا أصلا، والإعلاء تبعا، وهو محظور. الخامس: أن يقصد الدنيا صرفا، وهو أشدها حظرا ومنعا. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - الحث على وجوب الإخلاص في الأعمال، قال تعالى {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} [البينة: 5]. 2 - أن العموميات الواردة في فضل الجهاد إنما هي لمن أراد الله تعالى بذلك مخلصا. 3 - أن الثناء على العلماء وعلى المنفقين في وجوه الخيرات كله محمول على من فعل ذلك لله تعالى مخلصا. 4 - ذم الحرص على الدنيا. 5 - ذم القتال لحظ النفس. 6 - تغليظ تحريم الرياء والسمعة. 7 - استحباب إخفاء العمل الصالح، لكن قد يستحب إظهاره ممن يقتدي به، على إرادة الاقتداء به،

ويقدر ذلك بقدر الحاجة، قال الطبري: كان ابن عمر وابن مسعود وجماعة من السلف يتهجدون في مساجدهم، ويتظاهرون بمحاسن أعمالهم، ليقتدي بهم، قال: فمن كان إماما يستن بعمله، عالما بما لله عليه، قاهرا لشيطانه، استوى ما ظهر من عمله وما خفي، لصحة قصده، ومن كان بخلاف ذلك فالإخفاء في حقه أفضل، وعلى ذلك جرى عمل السف -رضي الله عنهم. 8 - وجواز السؤال عن العلة. 9 - وتقدم العلم على العمل. 10 - ومن الرواية الرابعة أنه لا بأس بقيام طالب الحاجة عند أمن الكبر والإعجاب، وأن يكون المستفتي واقفا، إذا كان هناك عذر، من ضيق مكان أو غيره، ولا يعد ذلك من باب: من أحب أن يتمثل له الرجال قياما. 11 - وفيه إقبال المتكلم على من يخاطبه. والله أعلم.

(527) باب ثواب من غزا فغنم، ومن لم يغنم

(527) باب ثواب من غزا فغنم، ومن لم يغنم 4316 - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة، إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة، ويبقى لهم الثلث. وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم". 4317 - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من غازية أو سرية تغزو فتغنم وتسلم، إلا كانوا قد تعجلوا ثلثي أجورهم. وما من غازية أو سرية تخفق وتصاب، إلا تم أجورهم". -[المعنى العام]- أحل الله الغنائم لمحمد صلى الله عليه وسلم ولأمته، تشجيعا للمجاهدين في سبيل الله، الداعين إلى الإسلام، البائعين لأنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، لتكون عاقبتهم إحدى الحسنيين، إما النصر والسلامة والغنيمة، وإما الشهادة، وتكفل الله للمجاهد في سبيله بإحدى هاتين الحسنيين، تكفل الله له أن يدخله الجنة إن توفاه، أو يرجعه سالما بأجر، أو أجر وغنيمة. ولما كانت النفوس البشرية بطبيعتها تحرص على المكاسب المادية، وتأسف إذا فاتها رزق وغنيمة بين لهم صلى الله عليه وسلم أن ما فاتهم من مال يدخر لهم بدله في الآخرة أجر كبير، وأن الغنيمة والمكاسب المالية تضيع ثلثي أجر الجهاد، وأنهم إذا لم يغنموا كان أجرهم يوم القيامة كاملا، فما عجل لهم خير، وما ادخر لهم خير، {لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم} [الحديد: 23]. -[المباحث العربية]- (ما من غازية) صفة لموصوف محذوف، أي ما من جماعة غازية. (وما من غازية أو سرية تخفق وتصاب إلا تم أجورهم) قال النووي: قال أهل اللغة: الإخفاق أن يغزوا فلا يغنموا شيئا، وكذلك كل طالب حاجة إذا لم تحصل فقد أخفق، ومنه أخفق الصائد إذا لم يقع له صيد.

-[فقه الحديث]- قال النووي: الصواب الذي لا يجوز غيره في معنى الحديث أن الغزاة إذا سلموا، أو غنموا، يكون أجرهم أقل من أجر من لم يسلم، أو سلم ولم يغنم، وأن الغنيمة هي في مقابلة جزء من أجر غزوهم، فإذا حصلت لهم فقد تعجلوا ثلثي أجرهم المترتب على الغزو، وتكون هذه الغنيمة من جملة الأجر، قال: وهذا موافق للأحاديث الصحيحة المشهورة عن الصحابة، كقوله "منا من مات ولم يأكل من أجره شيئا، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها" أي يجتنيها. فهذا الذي ذكرنا هو الصواب، وهو ظاهر الحديث، ولم يأت حديث صريح صحيح يخالف هذا، فتعين حمله على ما ذكرنا، وقد اختار القاضي عياض معنى هذا الذي ذكرناه، بعد حكايته في تفسيره أقوالا فاسدة، منها: قول من زعم أن هذا الحديث ليس بصحيح، ولا يجوز أن ينقص ثوابهم بالغنيمة، كما لم ينقص ثواب أهل بدر، وهم أفضل المجاهدين، وهي أفضل غنيمة، قال: وزعم بعض هؤلاء أن أبا هانئ حميد بن هانئ راو مجهول، ورجحوا الحديث السابق في أن المجاهد يرجع بما نال من أجر وغنيمة، فرجحوه على هذا الحديث لشهرته، وشهرة رجاله، ولأنه في الصحيحين، وهذا في مسلم خاصة، وهذا القول باطل من أوجه، فإنه لا تعارض بينه وبين هذا الحديث المذكور، فإن الذي في الحديث السابق رجوعه بما نال من أجر وغنيمة، ولم يقل: إن الغنيمة تنقص الأجر أم لا، ولا قال: أجره كأجر من لم يغنم، فهو مطلق، وهذا مقيد، فوجب حمله عليه. وأما قولهم: أبو هانئ مجهول فغلط فاحش، بل هو ثقة مشهور، روى عنه الليث بن سعد وحيوة وابن وهب وخلائق من الأئمة، ويكفي في توثيقه احتجاج مسلم به في صحيحه. وأما قولهم: ليس في الصحيحين فليس لازما في صحة الحديث كونه في الصحيحين، ولا في أحدهما. وأما قولهم في غنيمة بدر، فليس في غنيمة بدر نص أنهم لو لم يغنموا لكان أجرهم على قدر أجرهم بحاله من غير زيادة، وكونهم مغفورا لهم، مرضيا عنهم، ومن أهل الجنة لا يلزم منه ألا تكون وراء هذا مرتبة أخرى، هي أفضل منه، مع أنه شديد الفضل، عظيم القدر. ثم ذكر النووي قولين فاسدين سبق ذكرهما في باب فضل الجهاد عند شرح نقطة اختلاف العلماء في أجر المجاهد يرجع بغنيمة، أو يرجع بدون غنيمة، فلتراجع. والله أعلم.

(528) باب إنما الأعمال بالنية

(528) باب إنما الأعمال بالنية 4318 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنية. وإنما لامرئ ما نوى. فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله" فهجرته إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه". -[المعنى العام]- تطلق الأعمال على أعمال الجوارح والأعضاء الظاهرة، ومنها اللسان، وعلى أعمال القلوب، كالظن والحقد والحسد، والعزم والتصميم المقترن بالفعل، وهو المعروف بالنية، ولما كانت المسئولية البشرية تقع أولا وبالذات على الإرادة وتبييت النية، وسبق العزم والتصميم كان الحديث الشريف "إنما الأعمال بالنيات" أي كل عمل اختياري مرتبط بنية صاحبه. إن الإنسان يتميز عن الحيوان بالعقل والتفكير، والعقل مناط التكليف الشرعي، فإذا اختل العقل بالجنون مثلا اختلالا كاملا، أو اختل جزئيا بالنوم مثلا، أو بالإغماء رفع التكليف ففي الحديث "رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ". ومن هنا ارتبط العمل بالنية وبعمل العقل، فمن صلى لله تعالى ليس كمن صلى للناس، يرائيهم، فالله تعالى يقول {فويل للمصلين* الذين هم عن صلاتهم ساهون* الذين هم يراءون* ويمنعون الماعون} [الماعون: 4 وما بعدها] وليس الفرق بين المنافقين في عباداتهم، وبين المؤمنين المخلصين لله في عبادتهم إلا النية والقصد، فكان المنافقون في الدرك الأسفل من النار، وكان المخلصون في عليين، لأن {المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا} [النساء: 142]. ويظهر أثر النية في الأعمال في الجهاد بصفة أكبر، حيث يقول صلى الله عليه وسلم "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" أما الذين يقاتلون للمغنم فأجرهم المغنم ولا ثواب لهم، والذين يقاتلون ليقال شجعان فأجرهم دنيوي، فقد قيل، وفي هذه الحالات لا يكفر القتال ذنوبهم، ويؤخذون بها إلى النار.

-[المباحث العربية]- (إنما الأعمال بالنية) "إنما" أداة قصر، تفيد تقوية الحكم وتأكيده، وإثباته لمذكور، ونفيه عما عداه، و"الأعمال" عام، يشمل أعمال الإنسان، المكلف وغير المكلف، الدينية والدنيوية، لكن العموم هنا غير مراد، إذ المراد أعمال العبادة الصادرة من المكلفين. وقد وجه بعض العلماء جمع الأعمال وإفراد النية في هذه الرواية بأن الأعمال متعددة متنوعة، حسب جوارح الإنسان المختلفة، فتعدد اللفظ مراعاة لتعدد المحل، أما النية فمحلها القلب، فناسب إفرادها. وعند البخاري "إنما الأعمال بالنيات" بجمع الأعمال، وجمع النيات، ووجهه بعضهم بأن مقابلة الجمع بالجمع يقتضي القسمة آحادا، فكأنه قال: كل عمل بنية. وعند البخاري أيضا "العمل بالنية" بإفراد كل منهما. و"الأعمال" مبتدأ، و"بالنية" جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر، واختلف العلماء في تقدير هذا المحذوف، فمنهم من قدره "تعتبر" ومنهم من قدره "تكمل" ومنهم من قدره "تصح" ومنهم من قدره "تستقر" ومنهم من قدره "تتبع" وهو أقربها. والنية القصد. قال البيضاوي: النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا لغرض، من جلب نفع، أو دفع ضر، حالا أو مآلا، والشرع خصصها بالإرادة المتوجهة نحو الفعل، لابتغاء رضاء الله، وامتثال حكمه. قال الحافظ ابن حجر: والنية في الحديث محمولة على المعنى اللغوي -الشامل للأمور الأخروية والدنيوية- ليحسن تطبيقه على بقية الحديث، من تقسيم أحوال المهاجر، فإن فيه تفصيلا لما أجمل، وفيه نية المهاجر لأمر دنيوي. اهـ. واختلفوا في الأقوال، هل تدخل في الأعمال هنا؟ على أنها أعمال اللسان؟ أو لا تدخل؟ على أنها لا تسمى أعمالا في العرف، ولهذا تعطف كل واحدة على الأخرى، فيقال: الأقوال والأفعال، قال ابن دقيق العيد: وأخرج بعضهم الأقوال، وهو بعيد، ولا تردد عندي في أن الحديث يتناولها. اهـ. وأما عمل القلب، كالنية، فلا يتناوله الحديث، لئلا يلزم التسلسل، وكل نية تحتاج إلى نية، إلى ما لا نهاية. (وإنما لامرئ ما نوى) حركة الراء في "امرئ" تتبع حركة الإعراب، فتضم الراء في حالة الرفع، تبعا لحركة الهمزة، وتفتح في حالة النصب، وتكسر في حالة الجر. وفي بعض الروايات "ولكل امرئ ما نوى" بدون "إنما" وفي بعضها "وإنما لامرئ ما نوى" وفي بعضها "ولامرئ ما نوى" ومن المعلوم أن الألفاظ في الحديث الواحد قد تتغاير مع الاتفاق في

المعنى، أو التقارب فيه، وبما أن هذا الحديث في جميع رواياته مصدره المتلقي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو عمر رضي الله عنه فإن تعدد القضية وتعدد صدوره عن الرسول صلى الله عليه وسلم بعيد أو غير وارد، مما يدل على أن اختلاف ألفاظه من الرواة، ومن الرواية بالمعنى. (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله) لم تذكر هذه الجملة في رواية البخاري في كتاب بدء الوحي، وذكرها في أماكن أخرى، جريا على منهجه في الاقتصار على جزء الحديث في بعض الأماكن. والهجرة في اللغة الترك، والهجرة إلى الشيء الانتقال إليه عن غيره، وفي الشرع ترك ما نهى الله عنه، وقد وقعت في الإسلام على وجهين: الأول الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن، كما في هجرتي الحبشة، وكما في الهجرة إلى المدينة قبل هجرته صلى الله عليه وسلم، الثاني الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان، وذلك بعد أن استقر النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فهاجر إليه من تمكن من المسلمين، وكانت الهجرة إذ ذاك تختص بالانتقال إلى المدينة، إلى أن فتحت مكة، فانقطع الاختصاص، وبقي عموم الانتقال من دار الكفر لمن قدر عليه. وظاهر هذه الجملة اتحاد الشرط والجزاء "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله" والأصل تغايرهما، لكن هذا التغاير قد يكون في اللفظ والمعنى، وقد يكون في المعنى دون اللفظ، كما هو هنا، اعتمادا على المعهود المستقر في النفس، والمعنى من كانت هجرته إلى الله ورسوله أثابه الله على هذا القصد الأخروي. (ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها) في بعض روايات البخاري "إلى دنيا يصيبها" والدنيا بضم الدال، وحكي كسرها، من الدنو، وهي القرب، سميت بذلك لسبقها للآخرة، وقيل: سميت دنيا لدنوها إلى الزوال، والمراد بها ما على الأرض من هواء وجو ومخلوقات، مما قبل قيام الساعة، ومعنى "يصيبها" يحصلها، لأن تحصيلها كإصابة الصيد بالسهم. (أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه) هذا من ذكر الخاص بعد العام، فإنها من أمور الدنيا، فتخصيصها بالذكر لمزيد الاهتمام بهذا النوع، للتحذير منه، لأن الافتتان به أشد، وقيل: خصت بالذكر للإشارة إلى سبب ذكر هذا الحديث، مما يعرف بقصة مهاجر أم قيس، قال ابن دقيق العيد: نقلوا أن رجلا هاجر من مكة إلى المدينة، لا يريد بذلك فضيلة الهجرة، وإنما هاجر ليتزوج امرأة تسمى أم قيس، ورواها الطبراني بلفظ "كان فينا رجل خطب امرأة، يقال لها: أم قيس، فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر، فهاجر، فتزوجها، فكنا نسميه: مهاجر أم قيس". قال الحافظ ابن حجر: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، لكن ليس فيه أن حديث "إنما الأعمال بالنيات" سيق بسبب ذلك. اهـ. -[فقه الحديث]- يقول النووي: أجمع المسلمون على عظم موقع هذا الحديث، وكثرة فوائده، وصحته، قال الشافعي وآخرون: هو ثلث الإسلام، وقال الشافعي: يدخل في سبعين بابا من الفقه، وقال آخرون: هو ربع

الإسلام، وقال عبد الرحمن بن مهدي وغيره: ينبغي لمن صنف كتابا أن يبدأ فيه بهذا الحديث، تنبيها للطالب على تصحيح النية، ونقل الخطابي هذا عن الأئمة مطلقا، وقد فعل ذلك البخاري وغيره، فابتدءوا به قبل كل شيء، وذكره البخاري في سبعة مواضع من كتابه. قال: قال الحفاظ: لم يصح هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من رواية عمر بن الخطاب، ولا عن عمر إلا من رواية علقمة بن وقاص، ولا عن علقمة إلا من رواية محمد بن إبراهيم التيمي، ولا عن محمد إلا من رواية يحيى بن سعيد الأنصاري، وعن يحيى انتشر، فرواه عنه أكثر من مائتي إنسان، أكثرهم أئمة، ولهذا قال الأئمة: ليس هو متواترا، وإن كان مشهورا عند الخاصة والعامة، لأنه فقد شرط التواتر في أوله. قال: وفيه طرفة من طرف الإسناد، فإنه رواه ثلاثة تابعيون، بعضهم عن بعض، يحيى ومحمد وعلقمة. اهـ. وقد اختلف العلماء في اشتراط النية في بعض العبادات، فمن اشترطها قدر: إنما صحة الأعمال بالنيات، ومن لم يشترطها قدر: إنما كمال الأعمال بالنيات، ورجح الأول بأن الصحة أكثر لزوما للحقيقة من الكمال، فالحمل عليها أولى، ومن هنا قال النووي: فتقدير الحديث أن الأعمال تحسب بنية، ولا تحسب إذا كانت بلا نية. قال الحافظ ابن حجر: وليس الخلاف بينهم في مقاصد العبادات، كالصلاة، إذ لا خلاف بينهم في اشتراط النية لها، وإنما الخلاف في الوسائل كالوضوء والغسل والتيمم. اهـ. والمحقق في المسألة يرى أن العلماء لم يتفقوا على اشتراط النية كقاعدة في كل الأعمال، أو عدم اشتراطها. فهناك من القرب والطاعات ما لا يجب فيه نية، عند من يوجبها في وسائل العبادات، كالأذكار والأدعية والتلاوة، قالوا: لأنها تتميز بنفسها، وتختص بالطاعة، وهذا التوجيه معترض بالتيمم مثلا، فهو كذلك لا يتردد بين العبادة والعادة، نعم لو قصد بالذكر القربة واستحضرها كان أكثر ثوابا باتفاق، ومن هنا قال الغزالي: حركة اللسان بالذكر مع الغفلة عنه تحصل الثواب، لأنه خير من حركة اللسان بالغيبة، بل هو خير من السكوت المجرد عن التفكير، قال: وإنما هو ناقص بالنسبة إلى حركة اللسان مع القلب. اهـ. وعليه من لم تخطر المعصية بباله أصلا ليس في الثواب كمن خطرت فكف نفسه عنها خوفا من الله تعالى. وهناك أيضا من القرب والطاعات ما يحصل ثوابها بغير نية تبعا لنية أخرى، كمن دخل المسجد، فصلى الفرض قبل أن يقعد، فإنه يحصل له تحية المسجد، نواها أو لم ينوها. وهناك النكاح والطلاق والعتق هزلها كجدها بقطع النظر عن النية، ومن هنا قال النووي: وتدخل النية في الطلاق والعتق، ومعنى دخولها إذا قارنت كناية بالطلاق صارت كالصريح، وأنه إذا أتى بصريح الطلاق، ونوى طلقتين أو ثلاثا وقع ما نوى. اهـ. وهناك التروك لا تحتاج إلى نية، وذهب جمهور الشافعية إلى أن إزالة النجاسة من التروك، وهو

غير ظاهر، وإن كانت إزالة النجاسة لا تحتاج إلى نية، والتفريق بينها وبين غسل الجمعة وغسل الجنابة غير واضح. وقال جمهور العلماء: إن الأعمال التي لا يقصد بها العبادة، كالأكل والشرب والنوم لا تفيد ثوابا إلا إذا نوى بها فاعلها القربة، وعندي أنها مادامت على مقتضى الشرع، بعيدة عن المحرم والمكروه يثاب عليها، فترك الحرام له أجر إن شاء الله. ومناسبة هذا الحديث لكتاب الإمارة والجهاد والغزوات واضحة، فهو وإن كان عاما يشملها ويشمل غيرها لكنه في الغزوات خاصة واضح الأثر، فالحديث السابق "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله". والله أعلم.

(529) باب استحباب طلب الشهادة في سبيل الله

(529) باب استحباب طلب الشهادة في سبيل الله 4319 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من طلب الشهادة صادقا أعطيها ولو لم تصبه". 4320 - عن سهل بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه، عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه" ولم يذكر أبو الطاهر في حديثه: "بصدق". -[المعنى العام]- يرغب صلى الله عليه وسلم في نية الخير، وفي الرغبة في الجهاد، والحرص عليه، والتشوق له، ولو كان فيه التضحية بالنفس في سبيل الله، فما أحب البلاء المؤدي إلى النعيم المقيم، والدرجات العلى في الآخرة، فجعل لهذه الرغبة، والحرص على تنفيذها، بعزم وتصميم، وإيمان وإخلاص، فمنعه مانع من التنفيذ أجر من نفذ الجهاد، وأجر من مات في المعركة، وإن مات في بيته وعلى فراشه من غير جهاد، ولا ضرب بسيف، ولا طعن برمح، ولا رمي بنبل، وإنما لكل امرئ ما نوى. -[المباحث العربية]- (من طلب الشهادة صادقا) أي مخلصا في طلبها، أي مطابقا ما يقوله بلسانه ما هو في قلبه. (أعطيها ولو لم تصبه) ظاهر العبارة تعارض أولها لآخرها، فإعطاؤها إصابتها، لكن المعنى أعطى ثوابها، ولو لم يعطها وجودا وفعلا. -[فقه الحديث]- عنون البخاري للباب بباب تمني الشهادة، قال ابن المنير وغيره: الظاهر أن الدعاء بالشهادة يستلزم الدعاء بنصر الكافر على المسلم، وإعانة من يعص الله على من يطيعه -لأن الشهادات تقع

غالبا في المسلمين عند انتصار أعدائهم عليهم، ونيلهم منهم- لكن المقصود الأصلي إنما هو حصول الدرجة العليا المترتبة على حصول الشهادة، وليس نصر الكافر مقصودا لذاته، وإنما يقع من ضرورة الوجود، فاغتفر حصول المصلحة العظمى من دفع الكفار وإذلالهم وقهرهم بقصد قتلهم بحصول ما يقع في ضمن ذلك من قتل بعض المسلمين وجاز تمني الشهادة لما يدل عليه من صدق من وقعت له من إعلاء كلمة الله حتى بذل نفسه في تحصيل ذلك. اهـ. وحاصل هذا الجواب أنه لا تلازم بين طلب الشهادة وبين انتصار الكفار، فكثيرا ما ينتصر المسلمون ويقع إعلاء كلمة الله مع استشهاد بعض المسلمين، فطلب الشهادة، وطلب التضحية في سبيل نصر دين الله أمر مستحب في ذاته، إن وقع ثبت أجره، وإن تمناه متمن وطلبه طالب كان له أجره. وظاهر الرواية الثانية أن الداعي المتمني للشهادة بصدق يساوي من استشهد في الأجر، لكن قال النووي: معناه أن من سأل الشهادة بصدق أعطي من ثواب الشهداء، وإن كان على فراشه، اهـ. فهو يشير إلى أن المماثلة في نوعية الأجر، وليس في مقداره، وهذا التفسير أقرب إلى الحقيقة والعدالة. وللحديث علاقة بما مر في باب سقوط فرض الجهاد عن المعذورين، وفيما يأتي في باب ثواب من حبسه العذر عن الغزو. والله أعلم.

(530) باب ذم من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو

(530) باب ذم من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو 4321 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من نفاق" قال ابن سهم: قال عبد الله بن المبارك: فنرى أن ذلك كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. -[المعنى العام]- يقول الله تعالى {انفروا خفافا وثقالا} [التوبة: 41] ويقول {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل} [التوبة: 38] ويقول {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله} [النساء: 95] وهكذا أمر الله بالجهاد، وبين فضله، وتسارع الصحابة إليه، وما تقاعس عنه بدون عذر إلا المنافقون. وفي هذا الحديث يحذر صلى الله عليه وسلم من هذا التقاعس، وينذر صاحبه بعذاب يوم القيامة، بل يحذر القاعدين أصحاب الأعذار من عدم الحرص، ويدعوهم إلى الرغبة فيه، والتشوق إليه بقلوبهم، ليكونوا مع المجاهدين بأرواحهم، حيث لم يصاحبوهم بأبدانهم، فكل من لم يحدث نفسه، ويتمنى في نفسه الجهاد لم يكن غيورا على الإسلام، ولم يكن يحب الله ورسوله، وذلك شعبة من النفاق. -[المباحث العربية]- (من مات ولم يغز) بالفعل في غزوة من الغزوات، ولم يكن له عذر شرعي. (ولم يحدث به نفسه) أي من مات ولم يحدث نفسه بالغزو، أي لم يتمن، ولم يتشوف، ولم يرغب فيه. (مات على شعبة من نفاق) لأن الجهاد من الإيمان، وهو شعبة من شعبه، وخصلة من خصاله؛ لهذا ترجم البخاري: باب الجهاد من الإيمان. (فنرى أن ذلك كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال النووي "فنرى" بضم النون، أي نظن، قال: وهذا الذي قاله ابن المبارك محتمل، وقال غيره: إنه عام، والمراد: أن من فعل هذا فقد أشبه المنافقين المتخلفين عن الجهاد في هذا الوصف، فإن ترك الجهاد إحدى شعب النفاق.

-[فقه الحديث]- قال النووي: يؤخذ من هذا الحديث أن من نوى فعل عبادة، فمات قبل فعلها، لا يتوجه عليه الذم الذي يتوجه إلى من مات ولم ينوها. وقد اختلف الأصحاب فيمن تمكن من الصلاة في أول وقتها، فأخرها بنية أن يفعلها في أثنائه، فمات قبل فعلها، أو أخر الحج بعد التمكن إلى سنة أخرى، فمات قبل فعله، هل يأثم أم لا؟ والأصح عندهم أنه يأثم في الحج، دون الصلاة، لأن مدة الصلاة قريبة، فلا تنسب إلى تفريط بالتأخير، بخلاف الحج، وقيل: يأثم فيهما، وقيل: لا يأثم فيهما، وقيل: يأثم في الحج الشيخ دون الشاب. والله أعلم.

(531) باب ثواب من حبسه العذر عن الغزو

(531) باب ثواب من حبسه العذر عن الغزو 4322 - عن جابر رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة. فقال: "إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم المرض". 4323 - -/- وفي رواية عن الأعمش بهذا الإسناد غير أن في حديث وكيع: "إلا شركوكم في الأجر". -[المعنى العام]- مضى معنى هذا الحديث ومضمونه قريبا تحت باب سقوط فرض الجهاد عن المعذورين. -[المباحث العربية]- (إن بالمدينة لرجالا) أي وبغيرها من أماكن المسلمين الذين يعلمون بالغزوات ويحرصون عليها، وهم من أهلها. (ما سرتم مسيرا) أي ما خطوتم من خطوة. (ولا قطعتم واديا) من ذكر الخاص بعد العام. (إلا كانوا معكم) بالقوة لا بالفعل، وبالأجر لا بالأجسام. (حبسهم المرض) الجملة مستأنفة استئنافا تعليليا، في جواب سؤال، تقديره: لماذا؟ فقيل: لأنه حبسهم المرض، ولم يتخلفوا باختيارهم، بل بالمرض ونحوه من الأعذار الشرعية. (إلا شركوكم في الأجر) قال أهل اللغة: شركه بكسر الراء بمعنى شاركه، أي إلا شاركوكم في الأجر.

-[فقه الحديث]- قال النووي: في هذا الحديث فضيلة النية في الخير، وأن من نوى الغزو، وغيره من الطاعات فعرض له عذر منعه، حصل له ثواب نيته، وأنه كلما أكثر من التأسف على فوات ذلك وتمني كونه مع الغزاة ونحوهم كثر ثوابه. اهـ. وبقية مباحث الحديث سبقت عند باب سقوط الجهاد عن المعذورين. والله أعلم.

(532) باب فضل الغزو في البحر

(532) باب فضل الغزو في البحر 4324 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه. وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت. فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فأطعمته. ثم جلست تفلي رأسه. فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم استيقظ وهو يضحك. قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: "ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج هذا البحر، ملوكا على الأسرة" أو "مثل الملوك على الأسرة" يشك أيهما قال. قالت: فقلت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم. فدعا لها. ثم وضع رأسه فنام. ثم استيقظ وهو يضحك. قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: "ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله" كما قال في الأولى. قالت: فقلت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم. قال: "أنت من الأولين" فركبت أم حرام بنت ملحان البحر في زمن معاوية، فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت. 4325 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن أم حرام -وهي خالة أنس- قالت: أتانا النبي صلى الله عليه وسلم يوما، فقال عندنا. فاستيقظ وهو يضحك. فقلت: ما يضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي؟ قال: "أريت قوما من أمتي يركبون ظهر البحر كالملوك على الأسرة" فقلت: ادع الله أن يجعلني منهم. قال: "فإنك منهم" قالت: ثم نام، فاستيقظ أيضا وهو يضحك، فسألته، فقال: مثل مقالته. فقلت: ادع الله أن يجعلني منهم. قال: "أنت من الأولين" قال: فتزوجها عبادة بن الصامت بعد. فغزا في البحر، فحملها معه، فلما أن جاءت قربت لها بغلة. فركبتها، فصرعتها، فاندقت عنقها. 4326 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن خالته أم حرام بنت ملحان، أنها قالت: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما قريبا مني. ثم استيقظ يتبسم. قالت: فقلت: يا رسول الله ما أضحكك؟ قال: ناس من أمتي عرضوا علي يركبون ظهر هذا البحر الأخضر". ثم ذكر نحو حديث حماد بن زيد.

4327 - وفي رواية عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنة ملحان خالة أنس فوضع رأسه عندها. وساق الحديث بمعنى حديث إسحق بن أبي طلحة ومحمد بن يحيى بن حبان. -[المعنى العام]- كان للعرب في الجزيرة العربية رحلتان، رحلة الشتاء، ورحلة الصيف، إلى الشام، وإلى اليمن، وهما في البر، حتى حين يستخدمون طريق ساحل البحر الأحمر يخافون البحر، ينظرون إلى السفن الجاريات فيه نظرة خوف وخطر، فالقرآن الكريم يقول {إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور* أو يوبقهن بما كسبوا} [الشورى: 33، 34]. وما لهم ولهذا المجهول؛ إن عندهم سفينة الصحراء، الإبل، مأمونة الجانب، نادرة الخطر، ولم يكن صلى الله عليه وسلم من رواد البحار، بل روي أنه نهى عن ركوب البحر، ومنع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ركوب البحر، وحاول معاوية وهو أمير الشام من قبله أن يستأذنه في الغزو في البحر، فمنعه، فلما كان عثمان رضي الله عنه ألح عليه أن يأذن له، فأذن له بشرط أن لا يجبر أحدا على الخروج معه. مع هذه الصورة المخيفة عن البحر وأخطاره يخبر صلى الله عليه وسلم أن أمته ستغزو بلاد الكفر عن طريق البحر، ينام فيرى في منامه، ورؤياه حق أن جنودا من أمته سيركبون البحر غزاة، وهم أعزة كالملوك على الأسرة، فيستيقظ مبتسما مسرورا، فتسأله أم حرام خالته أو أمه من الرضاعة، وكان قد نام نوم الظهيرة في بيتها، تسأله: ما الذي يضحكك يا رسول الله؟ فيخبرها عما رأى، فتقول له: ادع الله أن يجعلني منهم، فيدعو الله لها أن تكون منهم، فيعلمه ربه أنه استجاب دعاءه، فيقول لها: أنت منهم، وبعد قليل ينام ثانية، فيرى فرقة أخرى متأخرة زمنا من أمته تغزو بلاد الكفر، وهم في حالة القوة والسيطرة والتمكن، كأنهم ملوك على الأسرة، فيستيقظ ضاحكا، فتقول له أم حرام: ما الذي أضحكك يا رسول الله؟ فيقص عليها الرؤيا الثانية، فتتمنى أن تكون مع الفرقتين، ليزداد رصيدها من أجر الغزو، فتقول: ادع الله لي يا رسول الله أن أكون منهم، فيقول لها: لا لست من الآخرين، أنت من الأولين، ويستبعد الحال الواقع أن تدخل أم حرام بحرا، ويشاء السميع العليم أن تتزوج عبادة بن الصامت، فيخرج في جيش معاوية إلى غزو قبرص عن طريق البحر، فيأخذها معه، فتفتح قبرص للمسلمين، ويعود المسلمون في البحر إلى الشام، وتخرج أم حرام من البحر على ساحل الشام لتركب بغلتها، فتقع تحت أقدام بغلتها، فتدق عنقها، وتموت، فتقبر في حمص، يتبرك بها -ويقال عنه: هذا قبر المرأة الصالحة- رضي الله عنها.

-[المباحث العربية]- (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخل على أم حرام بنت ملحان) "أم حرام" بفتح الحاء والراء، "بنت ملحان" بكسر الميم وسكون اللام، وهي خالة أنس -رضي الله عنهما- كما جاء في الرواية الثانية والثالثة والرابعة، ويقال لها: الرميصاء، ويقال لأم سليم الغميصاء، وقيل: بالعكس، والرمص والغمص متقاربان، وهو اجتماع القذى في مؤخر العين وفي هدبها، وقيل: استرخاؤها وانكسار الجفن. قال النووي: واتفق العلماء على أنها كانت محرما له صلى الله عليه وسلم، واختلفوا في كيفية ذلك، فقال ابن عبد البر: أظن أن أم حرام أرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أختها أم سليم، فصارت كل منهما أمه أو خالته من الرضاعة، فلذلك كان ينام عندها، وتنال منه ما يجوز للمحرم أن يناله من محارمه، وقال بعضهم: إنما كانت خالته لأبيه أو جده عبد المطلب، وقال ابن الجوزي: سمعت بعض الحفاظ يقول: كانت أم سليم أخت آمنة بنت وهب، أم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، قال ابن عبد البر: وأيهما كان فهي محرم له. وقال بعضهم: لم تكن أم حرام محرما له صلى الله عليه وسلم، ولكن من خصوصياته صلى الله عليه وسلم ذلك، لأنه كان يملك إربه عن زوجته، فكيف عن غيرها مما هو المنزه عنه، وهو المبرأ عن كل فعل قبيح، وعن قول الرفث، ورد القاضي عياض هذا القول بأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال، وثبوت العصمة مسلم، لكن الأصل عدم الخصوصية، وجواز الاقتداء به في أفعاله حتى يقوم على الخصوصية دليل، ومال الحافظ ابن حجر إلى هذا القول، فقال: وأحسن الأجوبة دعوى الخصوصية، ولا يردها كونها لا تثبت إلا بدليل، لأن الدليل على ذلك واضح، وبالغ الدمياطي في الرد على من ادعى المحرمية، فقال: ذهل كل من زعم أن أم حرام إحدى خالات النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة أو من النسب، وكل من أثبت لها خؤولة تقتضي المحرمية، لأن أمهاته صلى الله عليه وسلم من النسب، واللاتي أرضعنه معلومات، ليس فيهن أحد من الأنصار البتة، سوى أم عبد المطلب، ثم قال: وإذا تقرر هذا فقد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يدخل على أحد من النساء إلا على أزواجه، وإلا على أم سليم، فقيل له؟ فقال: أرحمها، قتل أخوها معي، يعني "حرام بن ملحان" وكان قد قتل يوم بئر معونة، وقد جمع الحافظ ابن حجر بين ما أفهمه هذا الحصر في الصحيح وبين ما دل عليه حديث الباب في أم حرام، فقال ما حاصله: إنهما أختان كانتا في دار واحدة، وكانت كل واحدة منهما في بيت من تلك الدار، وحرام بن ملحان أخوهما معا، فالعلة مشتركة فيهما، وقد انضم إلى العلة المذكورة -علة الرحمة- كون أنس خادم النبي صلى الله عليه وسلم وقد جرت العادة بمخالطة المخدوم خادمه وأهل خادمه، ورفع الحشمة التي تقع بين الأجانب عنهم. ثم قال الدمياطي: على أنه ليس في الحديث ما يدل على الخلوة بأم حرام، ولعل ذلك كان مع ولد أو خادم أو زوج أو تابع، قال الحافظ ابن حجر: وهو احتمال قوي، لكنه لا يدفع الإشكال من أصله، لبقاء الملامسة في تفلية الرأس وكذا النوم في الحجر. اهـ.

وقال ابن العربي: يحتمل أن ذلك كان قبل الحجاب، ورد بأن ذلك كان بعد الحجاب قطعا، فقد كان هذا بعد حجة الوداع، وكان الحجاب في زواجه صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش. فأسلم الأجوبة دعوى الخصوصية، كما قال ابن حجر. والله أعلم. (فتطعمه) أي فتقدم له الطعام، أي كان هذا شأنها، كلما دخل عندها. (وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت) ظاهر هذه الرواية أنها كانت زوجة لعبادة حال دخول النبي صلى الله عليه وسلم إليها، لكن الرواية الثانية صريحة في أنه إنما تزوجها بعد هذه الرؤيا والدعاء والتبشير، فلفظها "فتزوجها عبادة بن الصامت بعد" وحمل النووي الرواية الأولى على الثانية، فيكون أنس قد أخبر عما صار حالا لها بعد ذلك. قال الحافظ ابن حجر: هذا الذي اعتمده النووي وغيره تبعا لعياض، لكن وقع في ترجمة أم حرام من طبقات ابن سعد ما يفيد أنها كانت تحت عبادة قبل أحد، فيحتمل أنها كانت تحت عبادة أولا، ثم فارقها، فتزوجت عمرو بن قيس، فاستشهد في أحد، فرجعت إلى عبادة، ثم قال: والذي يظهر لي أن ما وقع في الطبقات غير سليم، وأن الأمر بعكس ما وقع فيها، وأن عمرو بن قيس تزوجها أولا، فولدت له، ثم استشهد هو وولده منها، وتزوجت بعده بعبادة. (فأطعمته، ثم جلست تفلي رأسه) في رواية البخاري "وجعلت تفلي رأسه" "تفلي" بفتح التاء وسكون الفاء وكسر اللام، أي تفتش، ولا يلزم من ذلك وجود الهوام، فكثيرا ما يكون ذلك لتخدير الجسم وارتخائه استجلابا للنوم. (فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم) في الرواية الثالثة "نام قريبا مني" وكذا عند البخاري، وفي رواية له "فاتكأ" وقد بينت الرواية الثانية وقت النوم، وأنه كان وقت القيلولة، ولفظها "فقال عندنا" وفي كتب اللغة: قال، يقيل، قيلا بفتح القاف: نام وسط النهار، فهو قائل، والجمع قيل بضم القاف والياء، وقيال بضم القاف وتشديد الياء. (ثم استيقظ وهو يضحك) فرحا وسرورا بكون أمته تبقى بعده متمسكة بأمور الإسلام، قائمة بالجهاد، حتى في البحر، قال النووي، وقال الحافظ ابن حجر: كان ضحكه إعجابا بهم، وفرحا، لما رأى لهم من المنزلة الرفيعة، وفي الرواية الثالثة "ثم استيقظ يبتسم" وكان ضحكه صلى الله عليه وسلم ابتساما، والجملة حالية. (فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ ) كان الظاهر أن يقول أنس: فقالت: ما يضحكك يا رسول الله؟ ولهذا اختلف فيه، هل هو من مسند أنس؟ أو من مسند أم حرام؟ قال الحافظ ابن حجر: والتحقيق أن أوله من مسند أنس، وقصة المنام من مسند أم حرام، فإن أنسا إنما حمل قصة المنام عنها. أما الرواية الثانية والثالثة فهما صراحة من مسند أم حرام، وظاهرهما أن أنسا لم يحضر هذه الواقعة، وهو المعتمد، وفي الرواية الثالثة "ما أضحكك"؟ زاد في الرواية الثانية "بأبي أنت وأمي"

ولأحمد "مم تضحك"؟ وفي رواية "ثم استيقظ وهو يضحك، وكانت تغسل رأسها، فقالت: يا رسول الله، أتضحك من رأسي؟ قال: لا". (ناس من أمتي عرضوا علي) أي في منامي، وفي الرواية الثانية "أريت قوما من أمتي" بضم الهمزة، أي أراني الله في منامي، وفي رواية "عجبت من قوم من أمتي". (غزاة في سبيل الله) حال. (يركبون ثبج هذا البحر) بفتح الثاء والباء، بعدها جيم، والثبج ظهر الشيء، وقال الأصمعي: ثبج كل شيء وسطه، وقيل: متن هذا البحر، وقيل: معظمه، وقيل: هوله، والراجح أن المراد هنا ظهره، قال الحافظ: ولما كان جري السفن غالبا إنما يكون في وسطه قيل: المراد وسطه، وإلا فلا اختصاص لوسطه بالركوب، وفي الرواية الثانية "يركبون ظهر البحر" وفي الرواية الثالثة "يركبون ظهر هذا البحر الأخضر" قال الكرماني "الأخضر" صفة لازمة للبحر، لا مخصصة [قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن تكون مخصصة، لأن البحر يطلق على الملح والعذب، فجاء لفظ "الأخضر" لتخصيص الملح بالمراد] قال: والماء في الأصل لا لون له، وإنما تنعكس الخضرة من انعكاس الهواء وسائر مقابلاته إليه، وقال غيره: إن الذي يقابله السماء، وقد أطلقوا عليها الخضراء، لحديث "ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء" والعرب تطلق الأخضر على كل لون ليس بأبيض ولا أحمر. (ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة) في الرواية الثانية "كالملوك على الأسرة" بدون شك، وعند أحمد "مثلهم كمثل الملوك على الأسرة" قال ابن عبد البر: أراد -والله أعلم- أنه رأى الغزاة في البحر من أمته ملوكا على الأسرة في الجنة، ورؤياه وحي، وقد قال الله تعالى في صفة أهل الجنة {على سرر متقابلين} [الحجر: 47] وقال {على الأرائك متكئون} [يس: 56] والأرائك السرر، وقال عياض: هذا محتمل، ويحتمل أيضا أن يكون خبرا عن حالهم في الغزو، من سعة أحوالهم، وقوام أمرهم، وكثرة عددهم، وجودة عددهم، فكأنهم الملوك على الأسرة، اهـ. أي أنه رأى ما يؤول إليه أمرهم في الدنيا أو في الآخرة، ويحتمل التشبيه أيضا، أي هم فيما سيكونون عليه في الآخرة من النعيم الذي أثيبوا عليه في غزاتهم وجهادهم مثل ملوك الدنيا على أسرتهم. (فقلت: ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها) في رواية "فقال: اللهم اجعلها منهم" وفي الرواية الثانية "قال: فإنك منهم" وفي رواية "فقلت: يا رسول الله، أنا منهم؟ قال: أنت منهم، ويجمع بأنه دعا لها، فأجيب، فأخبرها جازما بذلك. (ثم وضع رأسه فنام، ثم استيقظ ... قال: ناس من أمتي ... كما قال في الأولى) قال عياض والقرطبي: في السياق دليل على أن رؤياه الثانية غير رؤياه الأولى، وأن في كل نومة عرضت عليه طائفة من الغزاة" اهـ. وقد جاء في بعض الروايات أنه قال في الرؤيا الثانية "يغزون مدينة قيصر" لكن قولها "كما قال في الأولى" وقولها في الرواية الثانية "فقال مثل مقالته" أن الفرقة

الثانية يركبون البحر أيضا، مع أن غزو مدينة قيصر كان بالبر، فحملت المثلية في الخبر على معظم ما اشتركت فيه الطائفتان، لا خصوص ركوب البحر، ويحتمل أن يكون بعض العسكر الذين غزوا مدينة قيصر ركبوا البحر إليها، وقال القرطبي: الفرقة الأولى في أول من غزا البحر من الصحابة، والفرقة الثانية في أول من غزا البحر من التابعين. قال الحافظ ابن حجر: بل كان في كل منهما من الفريقين، لكن معظم الأولى من الصحابة، ومعظم الثانية من التابعين. (فقلت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم) قالت ذلك في الثانية لظنها أن الثانية تساوي الأولى في المرتبة، فسألت ثانيا ليتضاعف لها الأجر، لا أنها شكت في إجابة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لها في المرة الأولى، وفي جزمه بالإجابة، قال الحافظ ابن حجر: لما لم يقع لها التصريح بأنها تموت قبل زمان الغزوة الثانية، جوزت أنها تدركها، فتغزو معهم، ويحصل لها أجر الفريقين. (أنت من الأولين) في رواية "ولست من الآخرين" فأعلمها صلى الله عليه وسلم أنها لا تدرك زمان الغزوة الثانية. (فركبت أم حرام بنت ملحان البحر في زمن معاوية) في الرواية الثانية "فتزوجها عبادة بن الصامت بعد، فغزا في البحر، فحلمها معه" وفي رواية "فخرجت مع زوجها عبادة بن الصامت غازيا، أول ما ركب المسلمون البحر، مع معاوية" وفي رواية "فتزوج بها عبادة، فخرج بها إلى الغزو" وفي رواية "فتزوجت عبادة، فركبت البحر مع بنت قرظة" امرأة معاوية واسمها فاختة. وظاهر قولها "في زمن معاوية" يوهم أن ذلك كان في خلافته، وليس كذلك، بل كان في خلافة عثمان، ومعاوية يومئذ أمير الشام، سنة ثمان وعشرين، فقد نقل الطبري أن أول من غزا البحر معاوية في زمن عثمان، وكان قد استأذن عمر، فلم يأذن له، فلم يزل بعثمان حتى أذن له، وقال له: لا تنتخب أحدا -أي لا تلزم أحدا بالخروج معك- بل من اختار الغزو فيه طائعا فأعنه، ففعل، فغزا الروم، فصالح أهل قبرص. (فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت) في الرواية الثانية "فلما أن جاءت قربت لها بغلة، فركبتها، فصرعتها، فاندقت عنقها" وفي رواية "فلما انصرفوا من غزوهم، قافلين إلى الشام، قربت إليها دابة، لتركبها، فصرعت، فماتت" وفي رواية "فرفصتها بغلة لها شهباء، فوقعت، فماتت" والحاصل أن البغلة الشهباء قربت إليها لتركبها، فشرعت لتركب، فسقطت، فاندقت عنقها، فماتت، قيل: إن موتها كان بساحل الشام بعد العودة من الغزو، لما خرجت من البحر، وقبرها بساحل حمص، وجزم جماعة بأن قبرها بجزيرة قبرص، وأخرج الطبري أن معاوية صالح أهل قبرص بعد فتحها على سبعة آلاف دينار في كل سنة، فلما أرادوا الخروج منها قربت لأم حرام دابة لتركبها، فسقطت فماتت، فقبرها هنا يستسقون به، ويقولون: قبر المرأة الصالحة.

-[فقه الحديث]- قال النووي: في هذا الحديث جواز ركوب البحر، للرجال والنساء، وكذا قاله الجمهور، وكره مالك ركوبه للنساء، لأنه لا يمكنهن غالبا التستر فيه، ولا غض البصر عن المتصرفين فيه، ولا يؤمن انكشاف عوراتهن في تصرفهن، لا سيما ضرورتهم إلى قضاء الحاجة بحضرة الرجال [قلت: كانت هذه الموانع في الزمن الأول، وفي السفن الشراعية، أما السفن العملاقة في هذه الأيام فهي أكثر تسترا من شوارع المدينة، لكن لا ننسى أن المالكية يكرهون خروج الشابات إلى المساجد] ونقل ابن عبد البر أنه يحرم ركوبه عند ارتجاجه اتفاقا. اهـ. والأولى أن يقال: يحرم التعرض لأخطاره. قال القاضي: وروي عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز منع ركوبه، وقيل: إنما منعاه للتجارة وطلب الدنيا، لا للطاعات، وقد روي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن ركوب البحر إلا لحاج أو معتمر أو غاز، وضعف أبو داود هذا الحديث، وقال: رواته مجهولون. ثم قال النووي: واستدل بعض العلماء بهذا الحديث على أن المقتول في سبيل الله والميت فيه سواء في الأجر، بحجة أن أم حرام ماتت، ولم تقتل. قال النووي: ولا دلالة فيه لذلك، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقل: إنهم شهداء، إنما قال "يغزون في سبيل الله" لكن ذكر مسلم في باب بعد الباب التالي عن أبي هريرة "من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد" وهو موافق لقول الله تعالى {ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله} [النساء: 100] اهـ. وعبارة ابن عبد البر: في الحديث أن من يموت غازيا يلحق بمن يقتل في الغزو. اهـ. وهو ظاهر القصة، لكن لا يلزم من الاستواء في أصل الفضل الاستواء في الدرجات. -[ويؤخذ من الحديث غير ما تقدم]- 1 - الترغيب في الجهاد والحض عليه. 2 - وفضيلة المجاهدين في الجملة. 3 - وفضيلة تلك الجيوش التي فتحت تلك البلاد، وأنهم غزاة في سبيل الله. 4 - فضل من يصرع في سبيل الله. 5 - أن حكم الراجع من الغزو حكم الذاهب إليه في الثواب. 6 - جواز الخلوة بالمحرم -على اعتبار أن أم حرام كانت محرما، واختلى بها. 7 - وجواز ملامسة المحرم في الرأس وغيره، مما ليس بعورة. 8 - وجواز النوم عند المحرم. 9 - جواز فلي الرأس.

10 - قال النووي: فيه جواز قتل القمل منه ومن غيره، قال أصحابنا: قتل القمل وغيره من المؤذيات مستحب وفي استنباط جواز قتل القمل من الحديث بعد ونظر. 11 - جواز أكل الضيف عند المرأة المزوجة، مما تقدمه له، إلا أن يعلم أنه من مال الزوج ويعلم أنه يكره أكله من طعامه، فالأغلب أن الذي في بيت المرأة الزوجة هو من مال الزوج. 12 - وفيه أن الوكيل والمؤتمن إذا علم أنه يسر صاحبه ما يفعله من ذلك جاز له فعله، ولا شك أن عبادة بن الصامت كان يسره أكل النبي صلى الله عليه وسلم مما قدمته له امرأته، ولو كان بغير إذن خاص منه. 13 - جواز قائلة الضيف في غير بيته بشرطه، كالإذن وأمن الفتنة. 14 - جواز خدمة المرأة الأجنبية للضيف، بإطعامه والتمهيد له، ونحو ذلك. 15 - جواز تمني الشهادة. 16 - جواز الفرح بما يحدث من النعم. 17 - جواز الضحك عند حدوث ما يسر. 18 - وفي الحديث معجزات للنبي صلى الله عليه وسلم وإخباره بالمغيبات، منها: إعلامه ببقاء أمته بعده، وأن فيهم أصحاب قوة وشوكة ونكاية في العدو، وأنهم يتمكنون من البلاد حتى يغزوا البحار، وأن أم حرام تعيش إلى ذلك الزمان، وأنها تكون مع من يغزو البحر، وأنها لا تدرك زمان الغزوة الثانية، وقد كان ذلك بحمد الله تعالى. والله أعلم.

(533) باب فضل الرباط في سبيل الله

(533) باب فضل الرباط في سبيل الله 4328 - عن سلمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان". -[المعنى العام]- يقول الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون} [آل عمران: 200] والرباط وحراسة المسلمين من أعدائهم مهمة لا تقل عن الجهاد والقتال، بل إن النتيجة لها أعظم غالبا من الجهاد، فقد قيل: الوقاية خير من العلاج، ثم إن تعرض المرابط للخطر أشد من تعرضه للقتال، فكثيرا ما يكون المرابطون قلة عددا وعدة عن العدو، وهو هدف محصور في مواجهته، من هنا كان الترغيب فيه بثواب أعظم، فالمجاهد الغازي كالقائم الليل الصائم النهار من حين يخرج إلى حين يعود، فيومه بصيام يوم، وليلته بقيام ليلة، أما المرابط فيومه بصيام شهر، وليلته بقيام ليالي شهر، بل المرابط يضاف إلى عمله بعد موته استمرارية أجر المرابط ما شاء الله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. -[المباحث العربية]- (رباط يوم وليلة) أي في سبيل الله، كما جاء في بعض الروايات، والرباط بكسر الراء وتخفيف الباء ملازمة المكان الذي بين المسلمين والكفار، لحراسة المسلمين منهم، قال ابن التين: بشرط أن يكون في غير الوطن، قاله ابن حبيب عن مالك، ورده الحافظ ابن حجر، وقال: قد يكون في الوطن إذا نوى بالإقامة فيه دفع العدو، ومن ثم اختار كثير من السلف سكنى الثغور، فبين المرابطة والحراسة عموم وخصوص وجهي، يجتمعان فيمن يقف في الوطن على حدوده مثلا لدفع العدو، وينفرد الرباط فيمن أقام خارج وطنه لحراسة وطنه من العدو، وتنفرد الحراسة بالوقوف في الوطن للحراسة من الإخلال بالأمن من أهله. قال ابن قتيبة: وأصل الرباط أن يربط هؤلاء خيلهم، وهؤلاء خيلهم، استعدادا

للقتال، قال تعالى {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل} [الأنفال: 60] اهـ وذكر اليوم والليلة في الحديث يشعر بأن أقله ذلك شرعا. قاله العلماء. (وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله) أي استمر متجددا ثواب عمله الذي كان يعمله، كأنه يعمله فعلا، وفاعل "مات" ضمير يعود على المرابط، المفهوم من "رباط". (وأجري عليه رزقه) أي استمر رزقه بعد موته، وذلك من رزق الجنة. (وأمن الفتان) قال النووي: ضبطوا "أمن" بوجهين: أحدهما "أمن" بفتح الهمزة وكسر الميم، والثاني "أومن" بضم الهمزة وبعدها واو، وأما "الفتان" فقال القاضي: رواية الأكثرين بضم الفاء، جمع "فاتن" قال، ورواية الطبري بالفتح، وفي رواية أبي داود "أومن من فتاني القبر". -[فقه الحديث]- قال النووي: هذه فضيلة -ظاهرة للمرابط، وجريان عمله بعد موته فضيلة مختصة به، لا يشاركه فيها أحد، وقد جاء صريحا في غير مسلم "كل ميت يختم على عمله، إلا المرابط، فإنه ينمي له عمله إلى يوم القيامة" أما إجراء الرزق فهو موافق للشهداء، لقوله تعالى {أحياء عند ربهم يرزقون} [آل عمران: 169]. وعند البخاري "رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها" وعند أحمد والترمذي وابن ماجه "رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل" قال ابن بزيزة: ولا تعارض، لأنه يحمل على الإعلام بالزيادة في الثواب عن الأول، أو باختلاف العاملين. اهـ. ولا تعارض بين حديث البخاري وبين حديثنا، لأن صيام شهر وقيامه خير من الدنيا وما عليها.

(534) باب بيان الشهداء

(534) باب بيان الشهداء 4329 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق، فأخره فشكر الله له، فغفر له" وقال: "الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغرق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله عز وجل". 4330 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تعدون الشهيد فيكم" قالوا: يا رسول الله من قتل في سبيل الله فهو شهيد. قال: "إن شهداء أمتي إذا لقليل" قالوا: فمن هم يا رسول الله؟ قال: "من قتل في سبيل الله فهو شهيد. ومن مات في سبيل الله فهو شهيد. ومن مات في الطاعون فهو شهيد. ومن مات في البطن فهو شهيد". قال ابن مقسم: أشهد على أبيك في هذا الحديث أنه قال: "والغريق شهيد". 4331 - -/- وفي رواية قال عبيد الله بن مقسم: أشهد على أخيك أنه زاد في هذا الحديث: "ومن غرق فهو شهيد". 4332 - -/- ومثله في رواية عن أبي صالح وزاد فيه: "والغرق شهيد". 4333 - عن حفصة بنت سيرين، قالت: قال لي أنس بن مالك: بم مات يحيى بن أبي عمرة؟ قالت: قلت: بالطاعون. قالت: فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطاعون شهادة لكل مسلم". -[المعنى العام]- إن الشهيد الذي يقتل في معركة بين المسلمين والكافرين يموت فجأة دون مرض متقدم، والموت فجأة أشد فجيعة لأهله وأحبابه من الموت بعد مرض طويل، يتأهلون به للفراق، بل يصل بهم الأمر

أحيانا إلى تمني موته وراحته، ثم هو بالمرض يجد النذير ويجد الفرصة للخروج من تبعات وحقوق الناس، والتوبة والرجوع إلى الله، ثم إن المرض يكفر الذنوب، ويرفع الدرجات، ويمنح الحسنات، يحرم من كل هذا من مات فجأة، فاقتضت الحكمة الإلهية تعويض الميت فجأة عما يفوته بالمرض. تلك حالة من حالتين لمن يقتل في سبيل الله، لها أجرها، الحالة الثانية نيته وهدفه الذي ضحى بروحه من أجله، ولهذه النية ولهذا القصد أجره، فمن شارك الشهيد في سبيل الله في حالة من حالتيه شاركه في نوع الأجر، فإذا كان للشهيد باب يدخل منه خاص به كان المطعون والمبطون والغريق والميت تحت الأنقاض وكل من يموت فجأة مشاركا له في الدخول من هذا الباب، وكذلك الأمر لمن يشارك الشهيد في سبيل الله في حالته الثانية، فمن حبسه العذر من مرض أو شيء آخر عن الجهاد، فمات على فراشه حصل على قدر من أجر الشهيد، وشاركه في نوع أجره، كما جاء في حديث "إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم وإلا شركوكم في الأجر. قال المجاهدون: كيف ذلك يا رسول الله؟ قال: "حبسهم العذر". إن الشهداء عند الله أجرهم كبير، يبشرون بالجنة، ونحضرهم عند الموت ملائكة الرحمة، ويغفر لهم أكثر ذنوبهم، أرواحهم في الجنة، في جوف طير خضر، عند ربهم يرزقون، فرحين بما آناهم الله من فضله، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. يستبشرون بنعمة من الله وفضل، لهم قناديل معلقة بالعرش، نأوي إليها أرواحهم، يتمنون أن يرجعوا إلى الدنيا ليموتوا مرة ثانية هذه الميتة، ليحصلوا على أجرها مرة أخرى، بينما لا يتمنى أحد مات، له حسنات، أن يعود إلى الدنيا، وله ما على الأرض من نعيم. -[المباحث العربية]- (بينما رجل يمشي بطريق) "بينما" هي "بين" الظرفية، زيدت عليها "ما". (الشهداء خمسة) سبق أن ذكرنا أقوال العلماء في سبب تسمية الشهيد شهيدا في باب فضل الجهاد في المباحث العربية، عند فقرة "ما من نفس تموت، لها عند الله خير، يسرها أن ترجع إلى الدنيا، ولا أن لها الدنيا وما فيها، إلا الشهيد". وفي الموطأ "الشهداء سبعة" سوى القتل في سبيل الله، فزاد على حديثنا الحريق، وصاحب ذات الجنب، والمرأة تموت بجمع، واتفق مع حديثنا في المبطون، والمطعون، والغريق، وصاحب الهدم. أما المطعون، فهو الميت بالطاعون، يقال: طعن فهو مطعون وطعين، إذا أصابه الطاعون، وإذا أصابه الطعن بالرمح، والمراد هنا المرض المعروف، ففي الرواية الثالثة "الطاعون شهادة لكل مسلم" يموت به. والطاعون مرض وبائي، يعم الكثير من الناس في جهة من الجهات، بخلاف المعتاد من أمراض الناس، ويكون مرضهم واحدا، بخلاف بقية الأوقات، فتكون الأمراض مختلفة، واختلف العلماء في تشخيصه وأعراضه، فابن عبد البر

يقول: الطاعون غدة تخرج في المراق والآباط، وقد تخرج في الأيدي والأصابع، وحيث شاء الله، والنووي يقول في الروضة: قيل: الطاعون انصباب الدم إلى عضو، وقال آخرون: هو هيجان الدم وانتقاضه، وقال الغزالي: هو انتفاخ جميع البدن من الدم مع الحمى، أو انصباب الدم إلى بعض الأطراف، وقال المتولي: هو قريب من الجذام من أصابه تآكلت أعضاؤه، وتساقط لحمه، وقال ابن سينا وجماعة من الأطباء: الطاعون مادة سمية، تحدث ورما قتالا، يحدث في المواضع الرخوة والمغابن من البدن، وأغلب ما تكون تحت الإبط وخلف الأذن، أو عند الأرنبة. وأما المبطون: فهو الميت بسبب مرض البطن، قيل: هو الإسهال، وقيل: هو الاستسقاء وانتفاخ البطن. وأما الغرق بفتح الغين وكسر الراء فهو الذي يموت غريقا في الماء، وفي ملحق الرواية الثانية "والغريق شهيد". "ومن غرق فهو شهيد". وأما صاحب الهدم فهو الميت بسبب سقوط المباني عليه. وأما الحريق فهو الميت بسبب النار. وأما صاحب ذات الجنب فهو الذي يموت بسبب هذا المرض المعروف، ويقال له: الشوصة. قال النووي: وهي قرحة تكون في الجنب باطنا. اهـ. وقال الحافظ ابن حجر: هو ورم حاد، يعرض في الغشاء المستبطن للأضلاع، وقد يطلق على ما يعرض في نواحي الجنب من رياح غليظة، تحتقن بين الصفاقات والعضل التي في الصدر والأضلاع، فتحدث وجعا، ويقال لذات الجنب أيضا وجع الخاصرة، وكان العرب يعالجونه بالقسط، وهو العود الهندي، وعند أحمد "والمجنوب شهيد". وأما المرأة تموت بجمع: بضم الجيم وفتحا وكسرها، مع سكون الميم، فهي النفساء، وقيل: التي يموت ولدها في بطنها، ثم تموت بسبب ذلك، وقيل هي التي تموت عذراء، وقيل: التي تموت بمزدلفة، وهو خطأ ظاهر، إذ لا فرق في هذا المكان بين الرجل والمرأة، والأول أشهر، فعند أحمد "وفي النفساء يقتلها ولدها جمعا شهادة". وروى أصحاب السنن "من قتل دون ماله فهو شهيد". وعند النسائي "من قتل دون مظلمته فهو شهيد". وعند أبي داود "من وقصه فرسه أو بعيره في سبيل الله، أو لدغته هامة، أو مات على أي حتف شاء الله فهو شهيد". وروى الدارقطني وصححه "موت الغريب شهادة". وعند ابن حبان "من مات مرابطا مات شهيدا". وللطبراني "المرء يموت على فراشه في سبيل الله شهيد".

وقال ذلك أيضا في الشريق، أي الذي يموت بشرقة الماء وغيره. وقال ذلك أيضا في الذي يفترسه السبع. وعند أبي داود "المائد في البحر الذي يصيبه القيء له أجر شهيد". (قال سهيل: قال عبيد الله بن مقسم: أشهد على أخيك أنه زاد في هذا الحديث: ومن غرق فهو شهيد) قال النووي: هكذا وقع في أكثر نسخ بلادنا "على أخيك" وفي بعضها "على أبيك" وهذا هو الصواب. قال القاضي: وقع في رواية "على أبيك" وهو الصواب، ووقع في رواية "على أخيك" وهو خطأ، والصواب "على أبيك". -[فقه الحديث]- قال ابن التين: هذه كلها ميتات، فيها شدة، تفضل الله على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأن جعلها تمحيصا لذنوبهم، وزيادة في أجورهم، يبلغهم بها مراتب الشهداء. قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر أن المذكورين ليسوا في المرتبة سواء، ثم قال: ويتحصل مما ذكر في هذه الأحاديث أن الشهداء قسمان: شهيد الدنيا والآخرة، وهو من يقتل في حرب الكفار، مقبلا غير مدبر، مخلصا، وشهيد الآخرة، دون أحكام الدنيا، وهم هؤلاء المذكورون هنا، فيكون لهم في الآخرة أجر الشهداء، وأما في الدنيا فيغسلون ويكفنون، ويصلى عليهم، زاد النووي: وشهيد في الدنيا دون الآخرة، وهو من غل في الغنيمة، أو قتل مدبرا. وقد اختلفت الأحاديث في عدد الشهداء "خمسة" و"سبعة" وفي الجمع بينها قال الحافظ ابن حجر: إن العدد الوارد ليس على معنى التحديد، وقال بعض المتأخرين: يحتمل أن يكون رواة "خمسة" نسوا الباقي، قال الحافظ: وهو احتمال بعيد، قال: والذي يظهر أنه صلى الله عليه وسلم أعلم بالأقل، ثم أعلم زيادة على ذلك، فذكرها في وقت آخر، ولم يقصد الحصر في شيء من ذلك. اهـ. وإذا كان المقتولون في معركة الكافرين شهداء فهم بلا شك درجات من حيث النية والكفاح والأثر الناتج عن كل منهم، وإذا كان هؤلاء ليسوا في درجة واحدة، فمن باب أولى من ألحق بهم في الوصف، ليسوا في درجتهم، وليسوا فيما بين بعضهم في درجة واحدة، فالمقصود على هذا أن الاشتراك في وصف الشهادة إنما هو للاشتراك في نوع الجزاء، لا في كمه ومقداره. والله أعلم

(535) باب فضل الرمي، وذم من علمه ثم نسيه

(535) باب فضل الرمي، وذم من علمه ثم نسيه 4334 - عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} ألا إن القوة الرمي. ألا إن القوة الرمي. ألا إن القوة الرمي". 4335 - عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ستفتح عليكم أرضون. ويكفيكم الله. فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه". 4336 - عن عبد الرحمن بن شماسة أن فقيما اللخمي قال لعقبة بن عامر: تختلف بين هذين الغرضين، وأنت كبير يشق عليك. قال عقبة: لولا كلام سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أعانيه. قال الحارث: فقلت لابن شماسة: وما ذاك؟ قال: "إنه قال من علم الرمي ثم تركه فليس منا أو قد عصى". -[المعنى العام]- كل صاحب دعوة له أعداء، وقد يصل الأمر بالعداوة إلى الحرب، كما حدث بين المسلمين وأعدائهم، وعلى صاحب الحق أن يتسلح، ليتفوق على صاحب الباطل، وإلا كان مقصرا في الدفاع عن الحق، من هنا يقول الله تعالى {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم} [الأنفال: 60] والتدرب على الأسلحة أساس لفاعلية هذه الأسلحة، فلا قيمة لسلاح متطور بدون عالم بكيفية استخدامه، متدرب على نجاح نكايته بالعدو، لهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث على التدرب على السلاح، ويشجع عليه، ويحذر من إهماله ابتداء، أو إهماله بعد تعلمه، لتبقى العزة والقوة للمؤمنين، فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف.

-[المباحث العربية]- (فضل الرمي) أي الرمي بالسهام، والسهم العربي عود من الخشب يسوي، طرفه مدبب، يرمي به عن القوس، وهو النبل، بفتح النون، والقوس بفتح القاف آلة على هيئة هلال، ترمي بها السهام، والمراد فضل تعلم الرمي، لما له من أثر في الحروب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. (ألا إن القوة الرمي) تفسير من النبي صلى الله عليه وسلم للمراد من القوة، في قوله تعالى "وأعدوا لهم" أي لأعدائكم الكافرين {ما استطعتم من قوة} وهذا التفسير خاص بزمن النزول، والمناسب لجميع الأزمنة عموم وسائل القوة من دبابات وصواريخ ومدافع وطائرات قاذفة ونحو ذلك. (ستفتح عليكم أرضون) بفتح الراء على المشهور، وحكى الجوهري لغة شاذة بإسكانها، جمع أرض، ملحق بجمع المذكر السالم. (ويكفيكم الله) جملة خبرية لفظا ومعنى، أي وسيكفيكم الله شر أصحابها، وينصركم عليهم، أو دعائية معنى، أي وأسأل الله أن يكفيكم شرهم وينصركم عليهم، ولكن عليكم بالاستعداد واتخاذ الأسباب. (فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه) "يعجز" بكسر الجيم على المشهور، وبفتحها في لغة، و"لا" ناهية، والفعل مجزوم بها، أو نافية، والفعل مرفوع، والمراد من اللهو بالأسهم اللعب والتدرب على الرمي بالسهام، وإصابة المرمي. (أن فقيما اللخمي قال لعقبة بن عامر: تختلف بين هذين الغرضين؟ وأنت كبير يشق عليك؟ ) كان عقبة بن عامر يعاني ويتكلف التدريب على الرمي، وهو كبير السن، يشق عليه ممارسته، ومحاولة إصابة الهدف القريب والبعيد، والتحرك بين الهدفين، والغرض هو هدف الرامي الذي يحاول إصابته بسهامه، والاستفهام إنكاري توبيخي، أي ما ينبغي أن تفعل ذلك. (لولا كلام سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أعانه) يقال: عانى الشيء قاساه وكابده. قال النووي: هو في معظم النسخ "لم أعانيه" بالياء وفي بعضها "لم أعانه" بحذفها، وهو الفصيح، والأول لغة معروفة. (قال الحارث: فقلت لابن شماسة: وما ذاك؟ ) أصل الإسناد: حدثنا محمد بن رمح بن المهاجر، أخبرنا الليث عن الحارث بن يعقوب عن عبد الرحمن بن شماسة بضم الشين أن فقيما اللخمي قال لعقبة بن عامر. (من علم الرمي ثم تركه) "علم" بفتح العين وكسر اللام، أي من تعلمه وحصلت له معرفة بدقته، ثم ترك التدرب عليه فنسيه، إهمالا، لا لعذر.

(فليس منا) أي ليس على هدينا وسنتنا. -[فقه الحديث]- قال النووي: في الأحاديث فضيلة الرمي والمناضلة، والاعتناء بذلك بنية الجهاد في سبيل الله تعالى، وكذلك المشاجعة، وسائر أنواع استعمال السلاح، وكذلك المسابقة بالخيل وغيرها، والمراد بهذا كله التمرن على القتال والتدرب والتحذق فيه ورياضة الأعضاء بذلك. اهـ. وقد روى البخاري تحت باب التحريض على الرمي، وقول الله عز وجل {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم} عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال "مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفر من أسلم ينتضلون" أي يترامون للسبق وكان محجن بن الأدرع يرامي نضلة الأسلمي "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميا، ارموا وأنا مع بني فلان" بالتشجيع، وفي رواية "وأنا مع محجن بن الأدرع" "قال: فأمسك أحد الفريقين بأيديهم" أي توقفوا عن الرمي، والمراد بأحد الفريقين الفريق المقابل لمحجن "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لكم لا ترمون؟ قالوا: كيف نرمي وأنت معهم"؟ وفي رواية "فقال نضلة -وألقى قوسه من يده: والله لا أرمي وأنت معه" وفي رواية "فقالوا: من كنت معه فقد غلب" وفي رواية "لا نغلب من كنت معه" "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ارموا فأنا معكم كلكم". وقد روى أبو داود وابن حبان عن عقبة بن عامر رضي الله عنه رفعه "أن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة، صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، ومنبله، فارموا، واركبوا" أي تدربوا على سباق الخيل "وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا". قال القرطبي: إنما فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم القوة بالرمي -وإن كانت القوة تظهر بإعداد غيره من آلات الحرب لكون الرمي أشد نكاية في العدو، وأسهل مؤنة، لأنه قد يرمي رأس الكتيبة، فيصاب، فيهزم من خلفه. اهـ. والله أعلم

(536) باب "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق".

(536) باب "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق". 4337 - عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم: حتى يأتي أمر الله وهم كذلك" وليس في حديث قتيبة" وهم كذلك". 4338 - عن المغيرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لن يزال قوم من أمتي ظاهرين على الناس، حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون". 4339 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لن يبرح هذا الدين قائما، يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة". 4340 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة". 4341 - عن عمير بن هانئ قال: سمعت معاوية على المنبر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس". 4342 - عن يزيد بن الأصم قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان ذكر حديثا رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، لم أسمعه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم على منبره حديثا غيره. قال: قال رسول الله

صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين. ولا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة". 4343 - عن عبد الرحمن بن شماسة المهري قال: كنت عند مسلمة بن مخلد وعنده عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال عبد الله: لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق. هم شر من أهل الجاهلية. لا يدعون الله بشيء، إلا رده عليهم. فبينما هم على ذلك، أقبل عقبة بن عامر، فقال له مسلمة: يا عقبة اسمع ما يقول عبد الله. فقال عقبة: هو أعلم. وأما أنا فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم، لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك". فقال عبد الله: أجل. ثم يبعث الله ريحا كريح المسك، مسها مس الحرير فلا تترك نفسا في قلبه مثقال حبة من الإيمان إلا قبضته. ثم يبقى شرار الناس، عليهم تقوم الساعة. 4344 - عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة". -[المعنى العام]- الإسلام خاتم الأديان، وشريعته مفروضة إلى يوم القيامة، ومن مشيئة الله وحكمته أن الإيمان في الأمم يضعف بتطاول الزمان، ويبعده عن الرسول المبعوث، فنور الرسول ينتشر بين قومه، وتسري حرارة دعوته في دمائهم، ويمضي الرسول ويمضي عصره فيضعف النور، وتهدأ الحرارة، وتتزعزع التعاليم في النفوس، وكلما مضى عصر زاد الضعف، وكثر التهاون، فخير القرون قرن النبي، ثم الذين يلونهم، تلك سنة الله في خلقه، كلما بعد المؤثر قل الأثر، حتى يكاد ينمحي، ما لم يتعهد بالتغذية والتقوية، تماما كتيار مندفع من قوة، يقل اندفاعه كلما بعد عن مصدر الدفع، ما لم يساعد بين الحين والحين بقوة دافعة أخرى، وتلك القوة في الديانات السابقة كانت تتمثل في الأنبياء والحواريين، وفي ديننا الإسلامي تتمثل في العلماء والصالحين. لكن العلماء الصالحين أنفسهم يصيبهم أو يصيب أكثرهم بمرور الزمان الوهن، تارة بانشغالهم بالدنيا، وتارة بخوفهم من بطش الحكام، وتارة بالإحباط، وضعف الجدوى والتأثير من جهادهم لكثرة الخبث، حين يصبح القابض على دينه كالقابض على الجمر.

تلك الحقيقة للنهاية المظلمة أخبر بها صلى الله عليه وسلم أصحابه، فكان أن انزعجوا، قال لهم يوما: كيف بكم إذا لم تأمروا بالمعروف؟ ولم تنهوا عن المنكر؟ قالوا: أو كائن ذلك يا رسول الله؟ قال: نعم. وأشد منه سيكون. كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكرا؟ والمنكر معروفا؟ قالوا: أو كائن ذلك يا رسول الله؟ قال: نعم. وأشد منه سيكون، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر؟ ونهيتم عن المعروف؟ لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، لا تقوم الساعة على أحد يقول: الله. الله". إن هذا الانزعاج من آخر الزمان استلزم التخفيف والتهوين، وغرس الأمل في الخير، فقال لهم: اطمئنوا فلن يزال هذا الدين قائما، يدافع عنه جماعة من المسلمين حتى تقوم الساعة، أو حتى تقرب الساعة، ولن تزال طائفة من المسلمين إلى آخر الزمان متمسكين بدينهم، قائمين بشريعتهم، مدافعين عنها، لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله. يبعث الله في آخر الزمان بعد الدجال، وبعد نزول عيسى وقتله الدجال، وموت عيسى -عليه السلام- يبعث ريحا، وتهب ريح أطيب رائحة من المسك، وأرق لمسا من الحرير، فتقبض أرواح المؤمنين المخلصين، فلا يبقى على وجه الأرض إلا الحثالة وشرار الناس، ولا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال حبة من الإيمان، وعليهم تقوم الساعة. -[المباحث العربية]- (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق) الطائفة الجماعة والفرقة، يجمعهم مذهب أو رأي يمتازون به، وفي الرواية الثانية "لن يزال قوم من أمتي" والقوم الجماعة من الناس، تجمعهم جامعة يقومون لها، وفي الرواية الثالثة والسادسة والسابعة "عصابة" والعصابة الجماعة، وعند البخاري "لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله" والأمة الجماعة من الناس، تجمعهم مصالح وأماني واحدة، أو يجمعهم أمر واحد، من دين أو مكان أو زمان، والمراد من أمته صلى الله عليه وسلم أمة الإجابة، والمراد من ظهورهم على الحق علوهم عليه، وتمكنهم منه، يقال: ظهر على الشيء إذا علاه، وظهر على الأرض إذا اطلع عليها، وفي الرواية الرابعة "يقاتلون على الحق ظاهرين" أي يجادلون ويدافعون عن الحق متمكنين منه، واثقين به، فالمقاتلة المدافعة أعم من أن تكون بالسيف أو باللسان أو بالقلب، يقال: قاتل الشيطان، أي حاربه ودافعه، ففي الرواية الخامسة "لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله" ومن القيام بأمر الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بدرجاته الثلاث. وقيل: المراد من الظهور الغلبة، أي غالبين أعداءهم، وهم متمكنون من الحق، والمراد من غلبتهم أعداءهم عدم انصياعهم لهم، وعدم استجابتهم لضلالهم، فكل هم أعدائهم جرهم إلى ضلالاتهم، فتمسكهم بأمر ربهم غلبة لأعدائهم، وإن نال منهم الأعداء في أجسامهم وأموالهم وأولادهم، وهذا معنى قوله في الرواية الخامسة "لا يضرهم من خذلهم، أو خالفهم" وقوله في الرواية السادسة "ظاهرين على من ناوأهم" وقوله في الرواية السابعة "قاهرين لعدوهم، لا يضرهم من خالفهم" قال النووي: "ناوأهم" بهمزة بعد الواو، أي عاداهم، وهو مأخوذ من: نأى إليهم، ونأوا إليه أي نهضوا للقتال.

وقيل: المراد من الظهور البيان والبروز وعدم الاستتار، فهم ظاهرون في الناس، وعلى الناس، منكشفون في مواقفهم ومواقعهم، مجاهدون بإيمانهم ومبادئهم. ويمكن أن تتصف الطائفة الواحدة بهذه المعاني الثلاثة، بأن تكون متمكنة من الحق، متمسكة به، مدافعة عنه، غالبة أعداءهم، منكشفين للناس في مواقعهم ومواقفهم. وفي الرواية الثامنة "لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق" قال علي بن المديني: المراد بأهل الغرب العرب، والمراد بالغرب الدلو الكبير، لاختصاصهم بها غالبا، وقال آخرون: المراد به الغرب من الأرض، أي المغرب بالنسبة للحجاز، وهو إقليم الشام، كما جاء في حديث معاذ، وعند أحمد أنهم ببيت المقدس" وعند الطبراني "يقاتلون على أبواب دمشق، وما حولها" وقيل: المراد بالغرب القوة في الجهاد، ويمكن الجمع بأن المراد قوم شاميون أهل قوة يسقون بالدلو. (حتى يأتي أمر الله وهم كذلك) في الرواية الثانية "حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون" وفي الرواية الخامسة "وهم ظاهرون على الناس" والمراد بأمر الله هبوب الريح الواردة في الرواية السابعة، وهي من مقدمات يوم القيامة، فقوله في الرواية الرابعة والسادسة "إلى يوم القيامة" فيه مجاز المشارفة، أي إلى قرب يوم القيامة، وقوله في الرواية الثالثة "حتى تقوم الساعة" وفي السابعة "حتى تأتيهم الساعة" فيه مجاز المشارفة أيضا، أو المراد بالساعة ساعتهم. (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين) أي يفهمه في الدين، يقال: فقه بفتح الفاء وضم القاف إذا صار الفقه له سجية، وفقه بفتح الفاء والقاف إذا سبق غيره إلى الفهم، وفقه بفتح الفاء وكسر القاف إذا فهم، والتنكير في "خيرا" للتعظيم، لأن المقام يقتضيه. (مسلمة بن مخلد) "مسلمة" بفتح الميم واللام، بينهما سين ساكنة، و"مخلد" بضم الميم وفتح الخاء واللام المشددة. (كريح المسك) خبر لمبتدأ محذوف، أي ريحها كريح المسك. -[فقه الحديث]- أشار البخاري إلى هذه الطائفة بقوله: وهم أهل العلم. وعزا إلى علي بن المديني قوله: إنهم أصحاب الحديث. وأخرج الحاكم في علوم الحديث بسند صحيح عن أحمد قوله: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم؟ قال القاضي عياض: إنما أراد أحمد أهل السنة والجماعة ومن يعتقد مذهب أهل الحديث. وقال النووي: يجوز أن تكون الطائفة جماعة متعددة من أنواع المؤمنين، ما بين شجاع وخبير

بالحرب، وفقيه، ومحدث، ومفسر، وقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وزاهد، وعابد، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين في بلد واحد، بل يجوز اجتماعهم في قطر واحد، وافتراقهم في أقطار الأرض، ويجوز أن يجتمعوا في البلد الواحد، وأن يكونوا في بعض منه دون بعض، ويجوز إخلاء الأرض كلها من بعضهم، أولا فأولا، إلى أن لا يبقى إلا فرقة واحدة في بلد واحد، فإذا انقرضوا جاء أمر الله. قال الحافظ ابن حجر: ونظير ما نبه عليه ما حمل عليه بعض الأئمة حديث "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" أنه لا يلزم أن يكون في رأس كل مائة سنة واحد فقط، بل يكون الأمر فيه كما ذكر في الطائفة، وهو متجه، فإن اجتماع الصفات المحتاج إلى تجديدها لا ينحصر في نوع من أنواع الخير، ولا يلزم أن تجتمع خصال الخير كلها في شخص واحد، إلا أن يدعي ذلك في عمر بن عبد العزيز، فإنه كان القائم بالأمر على رأس المائة الأولى، باتصافه بجميع صفات الخير، وتقدمه فيها، ومن ثم أطلق أحمد أنهم كانوا يحملون الحديث عليه، وأما من جاء بعده فالشافعي وإن كان متصفا بالصفات الجميلة إلا أنه لم يكن القائم بأمر الجهاد والحكم بالعدل، فعلى هذا كل من كان متصفا بشيء من ذلك عند رأس المائة هو المراد، سواء تعدد أم لا. اهـ. قال النووي: وفي هذا الحديث معجزة ظاهرة، فإن هذا الوصف مازال -بحمد الله تعالى- من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى الآن، ولا يزال حتى يأتي أمر الله المذكور في الحديث. قال: وفيه دليل لكون الإجماع حجة، وهو أصح ما استدل به له من الحديث، وأما حديث "لا تجتمع أمتي على ضلالة" فضعيف. اهـ. وفي الرواية السادسة فضل التفقه في الدين، ومفهوم الحديث أن من لم يتفقه في الدين -أي يتعلم قواعد الإسلام وما يتصل بها من الفروع- فقد حرم الخير، وفي ذلك بيان لفضل العلماء على سائر الناس، ولفضل التفقه في الدين على سائر العلوم. والله أعلم.

(537) باب مراعاة مصلحة الدواب والسير

(537) باب مراعاة مصلحة الدواب والسير 4345 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سافرتم في الخصب، فأعطوا الإبل حظها من الأرض. وإذا سافرتم في السنة، فأسرعوا عليها السير. وإذا عرستم بالليل، فاجتنبوا الطريق، فإنها مأوى الهوام بالليل". 4346 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سافرتم في الخصب، فأعطوا الإبل حظها من الأرض. وإذا سافرتم في السنة، فبادروا بها نقيها. وإذا عرستم، فاجتنبوا الطريق، فإنها طرق الدواب ومأوى الهوام بالليل". 4347 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه. فإذا قضى أحدكم نهمته من وجهه، فليعجل إلى أهله". 4348 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يطرق أهله ليلا، وكان يأتيهم غدوة أو عشية. 4349 - -/- وفي رواية عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله. غير أنه قال: كان لا يدخل. 4350 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فلما قدمنا المدينة، ذهبنا لندخل. فقال: أمهلوا حتى ندخل ليلا (أي عشاء) كي تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة".

4351 - عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قدم أحدكم ليلا فلا يأتين أهله طروقا، حتى تستحد المغيبة وتمتشط الشعثة". 4352 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أطال الرجل الغيبة أن يأتي أهله طروقا. 4353 - عن جابر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرق الرجل أهله ليلا يتخونهم، أو يلتمس عثراتهم. 4354 - -/- وفي رواية عن سفيان بهذا الإسناد قال عبد الرحمن: قال سفيان: لا أدري هذا في الحديث أم لا. يعني أن يتخونهم أو يلتمس عثراتهم. 4355 - عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بكراهة الطروق، ولم يذكر: يتخونهم أو يلتمس عثراتهم. -[المعنى العام]- السفر قطعة من العذاب، ولون بل ألوان من الألم، يغير الإنسان فيه ما تعود عليه من ناعم الفراش، ومن السكن وقت السكن، والراحة وقت الراحة، يغير الإنسان فيه مطعمه ومشربه ونومه، يخلف فيه أهلا ومالا ووطنا وأصحابا ومن يعز عليه فراقه، يحمل فيه بين جوانحه هم ما يقصده من مجهول مكسب أو خسارة، وما قد يتعرض له في رحلته من أخطار، ومن نوائب الدهر، ومن مجهول الزمان والمكان والمتعاملين، فما أشق السفر على النفس وعلى البدن، وما أصعبه على المقيم الآمن القانع. رخص الله الفطر في رمضان للمسافر، ورخص له الجمع بين صلاتي الظهر والعصر، وبين صلاتي المغرب والعشاء، وقصر الصلاة الرباعية إلى ركعتين، ورسم للمسافر آدابا في ذهابه وغيابه وعودته، آدابا تراعي حقوقه، وحقوق المتعاملين معه، والمحيطين به، وتوابعه، حتى توابعه من الحيوان.

إن الله رفيق يحب الرفق، ويرضى به، ويعين عليه، فإذا ركبتم في سفركم دابة فارفقوا بها، طعاما وشرابا وراحة سير، فإذا كانت الأرض في طريقكم مخضرة وكلأ مباحا فأعطوا دوابكم حظها من الطعام والشراب، وقللوا بها السير لترعى، وإذا كانت الأرض جدباء فأسرعوا السير في حدود طاقة دوابكم، لتصلوا مقصدكم قبل أن ينهكها الجوع والعطش وطول السير. فإذا أردتم النزول ليلا للنوم والراحة فلا تضربوا منازلكم في طريق الناس، وانحرفوا عن الطريق إلى الأرض المجاورة الصالحة للنزول، فإن الطرق في أواخر الليل يسعى إليها الزواحف السامة المؤذية والسباع المتوحشة، لتلتقط منها ما عساه يتخلف عن المسافرين من مأكول، فالنوم في طريق الناس آخر الليل يضيق على الناس، ويعرضكم للأذى. وإذا قضى أحكم حاجته التي سافر من أجلها فليعجل العودة إلى أهله، ليتخلص من عذاب السفر، وليريح أهله ومن غاب عنهم من آلام غيبته. وإذا رجع مسافركم إلى بلد إقامته فلا يفاجئ أهله بالوصول بعد طول غيبة، بل يخطرهم بموعد وصوله قبل الوصول بزمن تستعد فيه الزوجة للقائه بما ينبغي له من النظافة والزينة، حتى لا يرى ما يكره، وحتى لا تنفر نفسه من أهله، ولئلا يرى شيئا يريب، والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فنعم الإسلام ونعم آداب الإسلام في الحل والترحال. -[المباحث العربية]- (إذا سافرتم في الخصب) بكسر الخاء وسكون الصاد، وهو كثرة العشب والمراعي، وهو ضد الجدب، يقال: خصب المكان، بكسر الصاد يخصب بفتحها، وأخصب المكان، وأخصب الله المكان، فالمكان خصب وخصيب، والمعنى إذا سافرتم بالإبل في أرض كثيرة المرعى. (فأعطوا الإبل حظها من الأرض) في رواية أبي داود "فأعطوا الإبل حقها" أي فقللوا السير واتركوا الإبل ترعى في بعض النهار، وأثناء السير، فتأخذ حظها من الأرض، بما ترعاه منها. (وإذا سافرتم في السنة فأسرعوا عليها السير) المراد بالسنة هنا القحط، وهي بفتح السين والنون، وجمعها سنون وسنوات، ومنه قوله تعالى {ولقد أخذنا ءال فرعون بالسنين} [الأعراف: 130] أي بالقحط، أي إذا سافرتم بالإبل في الجدب والقحط فعجلوا السير، وفي الرواية الثانية "وإذا سافرتم في السنة فبادروا بها نقيها" بكسر النون وسكون القاف، وهو المخ، مخ العظم، والنقو بكسر النون وفتحها كل عظم ذي مخ، والجمع أنقاء، أي إذا سافرتم بالإبل في أرض جدبة فأسرعوا السير، لتحتفظوا بمخ عظامها، وتصلوا إلى المقصد وفيها بقية من قوتها، فتقليل السير بها في الأرض الجدبة يلحقها الضرر، لأنها لا تجد ما ترعاه، ويطول بها الزمن، فتضعف، ويذهب نقيها ومخ عظامها، وربما كلت وتعبت وتوقفت، فعليكم بالرفق، وقد جاء صدر هذا الحديث عند مالك في الموطأ بلفظ "إن الله

تبارك وتعالى رفيق يحب الرفق ويرضى به، ويعين عليه ما لا يعين على العنف، فإذا ركبتم هذه الدواب العجم، فأنزلوها منازلها، فإن كانت الأرض جدبة فانجوا عليها ببقيها" أي اطلبوا السرعة من تلك الأرض بسرعة السير عليها مادامت الإبل بنقيها وشحمها. (وإذا عرستم بالليل فاجتنبوا الطريق) قال أهل اللغة: التعريس النزول في أواخر الليل للنوم والراحة، هذا قول الخليل والأكثرين، وقال بعضهم: هو النزول، أي وقت كان، من ليل أو نهار، ويقال: أعرس المسافرون، وعرسوا بتشديد الراء، إذا نزلوا للراحة آخر الليل، وهو المراد هنا. (فإنها مأوى الهوام بالليل) الهوام بتشديد الميم جمع هامة، وهي كل ذي سم يقتل سمه وتطلق على الدابة، أي لا تضربوا خيامكم في آخر الليل على الطريق، لأن الحشرات ودواب الأرض من ذوات السموم والسباع تمشي في الليل على الطرق، لسهولتها، ولتلتقط منها ما يسقط من المسافرين من مأكول ونحوه، وما تجد فيها من رمة وبقايا لحم، فإذا عرس الإنسان في الطريق ربما مر به منها ما يؤذيه، فينبغي أن يتباعد في نزوله عن الطريق، وفي رواية أبي داود "وإذا أردتم التعريس فتنكبوا عن الطريق" أي اجتنبوه، يقال: نكب عنه بفتح النون والكاف ينكب بضم الكاف نكبا بسكونها إذا مال عنه واعتزله، وتنكب فلان فلانا، إذا أعطاه منكبه وأعرض عنه. (السفر قطعة من العذاب) أي جزء منه، والمراد من العذاب الألم الناشئ عن المشقة. (يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه) أي يمنعه كما لها ولذيذها، لا أصلها، فعند الطبراني "لا يهنأ أحدكم بنومه ولا طعامه ولا شرابه" والجملة تعليل لما قبلها، أي استئناف تعليلي، كأنها جواب عن سؤال بلفظ "لم"؟ وقد جاء بصيغة التعليل في رواية سعيد المقبري، ولفظها "السفر قطعة من العذاب، لأن الرجل يشتغل فيه عن صلاته وصيامه" وعند ابن عدي "وأنه ليس له دواء إلا سرعة السير". وذلك لما في السفر من المشقة والتعب، ومقاساة الحر والبرد والسير بالليل، والخوف على الأموال والأهل، ومفارقة الوطن والأصحاب، ومألوف الراحة. (فإذا قضى أحدكم نهمته من وجهه، فليعجل إلى أهله) "نهمته" بفتح النون وسكون الهاء، أي حاجته "من وجهه" أي من مقصده، وعند ابن عدي "إذا قضى أحدكم وطره من سفره" وفي رواية "فإذا فرغ أحدكم من حاجته" وفي رواية "فليعجل الرجوع إلى أهله" وفي رواية "فليعجل الكرة إلى أهله" وفي رواية "فليعجل الرحلة إلى أهله، فإنه أعظم لأجره" والمقصود تعجيل الرجوع إلى الأهل بعد قضاء الشغل، ولا يتأخر بما ليس له بمهم. (كان لا يطرق أهله ليلا) أي في الليل. (وكان يأتيهم غدوة أو عشية) أي أول النهار، أو آخره، أوائل الليل، والعشى والعشية من الزوال إلى المغرب، أو من صلاة المغرب إلى العتمة، ولهذا فسر قوله في الرواية الخامسة "أمهلوا حتى ندخل ليلا" بقوله: أي عشاء. قال أهل اللغة: الطروق بضم الطاء المجيء بالليل من سفر أو غيره على

غفلة، ويقال لكل آت بالليل طارق، ولا يقال بالنهار إلا مجازا، وقال بعض أهل اللغة: أصل الطروق الدفع والضرب، وبذلك سميت الطريق، لأن المارة تدقها بأرجلها، وسمي الآتي بالليل طارقا، لأنه يحتاج غالبا إلى دق الباب، وقيل: أصل الطروق السكون، ومنه أطرق رأسه، فلما كان الليل يسكن فيه سمي الآتي فيه طارقا، وأيا كان أصل الطروق فالمراد به هنا الدخول على الأهل بغتة على غفلة بعد غيبة، ففي الرواية السابعة نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أطال الرجل الغيبة أن يأتي أهله طروقا" قال الحافظ ابن حجر: والتقييد بطول الغيبة يشير إلى علة النهي، والحكم يدور مع علته وجودا وعدما، فلما كان الذي يخرج لحاجته مثلا نهارا، ويرجع ليلا، لا يتأتى له ما يحذر، من الذي يطيل الغيبة، كان طول الغيبة مظنة الأمن من الهجوم، فيقع للذي يهجم بعد طول الغيبة غالبا ما يكره، إما أن يجد أهله على غير أهبه، من التنظف والتزين المطلوب من المرأة، فيكون ذلك سبب النفرة بينهما، وإما أن يجدها على حالة غير مرضية، والشرع يحرص على الستر، وإلى ذلك أشار بقوله "يتخونهم ويتطلب عثراتهم" فعلى هذا من أعلم أهله بوصوله، وأنه يقدم في وقت كذا، مثلا، لا يتناوله هذا النهي، وقد صرح بذلك ابن خزيمة في صحيحه، ثم ساق حديث ابن عمر، قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة، فقال: "لا تطرقوا النساء، وأرسل من يؤذن الناس أنهم قادمون". وضمير الجمع في "كان يأتيهم" للأهل، وكان حقه أن يقول "كان يأتيهن" ولعله غلب عليهن جماعة الذكور، كقوله تعالى {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} [الأحزاب: 33]. (كي تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة) يقال: مشط الشعر بفتح الشين، يمشط بضمها، إذا رجله، ويقال: مشطت الماشطة المرأة إذا سرحت شعرها بالمشط، وامتشطت المرأة، أي مشطت شعرها. و"الشعثة" بفتح الشين وكسر العين وفتح الثاء التي تغير شعرها واتسخ وتلبد، والاستحداد استفعال، من استعمال الحديدة، وهي الموسى، أي الحلق بآلة حادة، و"المغيبة" بضم الميم وكسر الغين التي غاب عنها زوجها، يقال: أغابت المرأة إذا غاب عنها زوجها، فهي مغيب ومغيبة، والمراد أن تزيل المرأة التي غاب عنها زوجها شعر سوأتيها بأية طريقة، استعدادا لزوجها. (يتخونهم أو يلتمس عثراتهم) أي يكتشف هل خانوا؟ أم لا؟ شكا فيهم، أو ظنا سيئا بهم، وفي رواية "أو يطلب عثراتهم" والعثرات بفتح العين والثاء جمع عثرة، وهي الزلة، وعند أحمد "لا تلجوا على المغيبات، فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم". وكان الظاهر أن يقول "يتخونهن، أو يلتمس عثراتهن" بضمير غيبة جماعة الإناث، لكن الوارد في الصحيح بضمير جمع الذكور الغائبين، وله توجيهه، لكن قال ابن التين: الصواب بالنون فيهما. وهذه الجملة مختلف في رفعها، قيل: مدرجة، وقيل مرفوعة، لذا شك سفيان في رفعها، كما جاء في ملحق الرواية الثامنة.

-[فقه الحديث]- في هذه الأحاديث جملة من آداب السفر، وهي: 1 - استحباب تعجيل الرجوع إلى الأهل، بعد قضاء المصلحة، فالسفر غالبا فيه مشقة وخشونة عيش، ومقاساة شدائد، وبعد عن الأهل والمال والأوطان. وقد ذكر البخاري حديث "السفر قطعة من العذاب" في أواخر أبواب الحج والعمرة، قال ابن المنير: أشار البخاري بذلك إلى أن الإقامة في الأهل أفضل من المجاهدة. قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر لا يخفى، لكن يحتمل أن يكون البخاري أشار بإيراده في الحج إلى حديث عائشة، بلفظ "إذا قضى أحدكم حجه فليعجل إلى أهله". قال الحافظ: وفي الحديث كراهة التغرب عن الأهل لغير حاجة، لما في الإقامة في الأهل من الراحة المعينة على صلاح الدين والدنيا، ولما في الإقامة من تحصيل الجماعات، والقوة على العبادة. قال ابن بطال: ولا تعارض بين هذا الحديث وحديث ابن عمر مرفوعا "سافروا تصحوا" فإنه لا يلزم من الصحة بالسفر لما فيه من الرياضة، أن لا يكون قطعة من العذاب، لما فيه من المشقة، فصار كالدواء المر، المعقب للصحة، وإن كان في تناوله الكراهة. واستنبط منه الخطابي تغريب الزاني، لأنه قد أمر بتعذيبه، والسفر من جملة العذاب، قال الحافظ ابن حجر: ولا يخفى ما فيه. 2 - وفي الرواية الأولى والثانية جملة من آداب السير والنزول، والحث على الرفق بالدواب، ومراعاة مصلحتها، وفي معنى ذلك السيارات ونحوها. 3 - وفي الرواية الرابعة وما بعدها أنه يكره لمن طال سفره أن يقدم على امرأته ليلا بغتة، لتتأهب له ولئلا يرى منها ما يكره، وفي ذلك الحث على التواد والتحاب، خصوصا بين الزوجين، لأن الشارع راعى ذلك بين الزوجين، مع اطلاع كل منهما على ما جرت العادة بستره، حتى إن كل واحد منهما لا يخفى عنه من عيوب الآخر شيء في الغالب، ومع ذلك نهي عن الطروق ليلا، لئلا يطلع على ما تنفر نفسه عنه، فيكون مراعاة ذلك في غير الزوجين بطريق الأولى. قال الحافظ: ويؤخذ منه أن الاستحداد ونحوه مما تتزين به المرأة ليس داخلا في النهي عن تغيير الخلقة. قال: وفيه التحريض على ترك التعرض لما يوجب ظن السوء بالمسلم. والله أعلم.

كتاب الصيد والذبائح

كتاب الصيد والذبائح

(538) باب الصيد بالكلاب المعلمة

(538) باب الصيد بالكلاب المعلمة 4356 - عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله إني أرسل الكلاب المعلمة، فيمسكن علي، وأذكر اسم الله عليه. فقال: "إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله عليه فكل". قلت: وإن قتلن؟ قال: "وإن قتلن، ما لم يشركها كلب ليس معها". قلت له: فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب. فقال: "إذا رميت بالمعراض فخزق فكله، وإن أصابه بعرضه فلا تأكله". 4357 - عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: إنا قوم نصيد بهذه الكلاب. فقال: "إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله عليها، فكل مما أمسكن عليك وإن قتلن، إلا أن يأكل الكلب، فإن أكل، فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه، وإن خالطها كلاب من غيرها، فلا تأكل". 4358 - عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المعراض؟ فقال: "إذا أصاب بحده فكل، وإذا أصاب بعرضه فقتل، فإنه وقيذ فلا تأكل" وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكلب؟ فقال: "إذا أرسلت كلبك، وذكرت اسم الله، فكل، فإن أكل منه، فلا تأكل، فإنه إنما أمسك على نفسه" قلت: فإن وجدت مع كلبي كلبا آخر، فلا أدري أيهما أخذه؟ قال: "فلا تأكل، فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره". 4359 - عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد المعراض؟ فقال ما أصاب بحده فكله، وما أصاب بعرضه فهو وقيذ"، وسألته عن صيد الكلب؟ فقال: ما أمسك عليك ولم يأكل منه، فكله، فإن ذكاته أخذه،

فإن وجدت عنده كلبا آخر، فخشيت أن يكون أخذه معه وقد قتله، فلا تأكل، إنما ذكرت اسم الله على كلبك، ولم تذكره على غيره". 4360 - عن الشعبي قال: سمعت عدي بن حاتم -وكان لنا جارا ودخيلا وربيطا بالنهرين- أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: أرسل كلبي فأجد مع كلبي كلبا قد أخذ، لا أدري أيهما أخذ، قال: "فلا تأكل، فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره". 4361 - عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أرسلت كلبك، فاذكر اسم الله، فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه، فكله، وإن وجدت مع كلبك كلبا غيره وقد قتل فلا تأكل، فإنك لا تدري أيهما قتله، وإن رميت سهمك، فاذكر اسم الله، فإن غاب عنك يوما فلم تجد فيه إلا أثر سهمك، فكل إن شئت، وإن وجدته غريقا في الماء، فلا تأكل". 4362 - عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصيد؟ قال: "إذا رميت سهمك، فاذكر اسم الله، فإن وجدته قد قتل، فكل، إلا أن تجده قد وقع في ماء، فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك". 4363 - عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إنا بأرض قوم من أهل الكتاب، نأكل في آنيتهم، وأرض صيد أصيد بقوسي، وأصيد بكلبي المعلم أو بكلبي الذي ليس بمعلم، فأخبرني ما الذي يحل لنا من ذلك، قال: "أما ما ذكرت أنكم بأرض قوم من أهل الكتاب تأكلون في آنيتهم، فإن وجدتم غير آنيتهم فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها ثم كلوا فيها، وأما ما ذكرت أنك بأرض صيد، فما أصبت بقوسك فاذكر اسم الله ثم كل، وما أصبت بكلبك المعلم فاذكر اسم الله ثم كل، وما أصبت بكلبك الذي ليس بمعلم فأدركت ذكاته فكل".

4364 - -/- وفي رواية عن حيوة بهذا الإسناد نحو حديث ابن المبارك، غير أن حديث ابن وهب لم يذكر فيه صيد القوس. 4365 - عن أبي ثعلبة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رميت بسهمك فغاب عنك فأدركته فكله ما لم ينتن". 4366 - عن أبي ثعلبة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يدرك صيده بعد ثلاث فكله ما لم ينتن. 4367 - وفي رواية عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه بمثل حديث العلاء، غير أنه لم يذكر نتونته، وقال في الكلب: كله بعد ثلاث إلا أن ينتن فدعه. -[المعنى العام]- يقول الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم} [المائدة: 1] وكانت للعرب مع الأنعام عادة وهمية خيالية، فكانوا يشقون أذن الناقة التي أبطنت خمسة أبطن، ويخلونها بلا راع، ويوهب لبنها للطواغيت، فلا يحتلبها أحد من الناس، ولا يركب ظهرها، ولا يجز وبرها، ويطلقون عليها بحيرة، وكانوا يسيبون الناقة المنذورة في الخلاء، ويسمونها سائبة، وكانوا يسيبون الفحل من الإبل في الصحراء، ويجعلون عليه ريش الطواويس، ويطلقون عليه الحامي، وكانوا يطلقون الشاة إذا ولدت سبعة أبطن، فلا تذبح، ويجعلون لحمها حراما على النساء، فأنزل الله تعالى {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون} [المائدة: 103] والأنعام الإبل والبقر والغنم الشاة والماعز، ومن كل ذكر وأنثى فهي ثمانية أزواج، وحرم الله على اليهود كل ذي ظفر، كالإبل والنعام والأوز والبط، أي ما ليس منفرج الأصابع، وحرم عليهم من البقر والغنم شحومهما، جزاء لبغيهم، وأحل الله للمسلمين الأنعام، واستثنى بعضها بقوله {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما

أهل لغير الله به والمنخنقة} أي التي تموت خنقا {والموقوذة} التي تموت بضرب مثقل كالحجر والعصا والحديد {والمتردية} التي تتردى من علو إلى أسفل فتموت {والنطيحة} التي تموت بنطح دون أن تذكى {وما أكل السبع} أي بقايا ما أكله الأسد والنمر والذئب وغيرها {إلا ما ذكيتم} أي إلا ما أدركتموه حيا، فذبحتموه {وما ذبح على النصب} [المائدة: 3] أي ما ذبح عند الأصنام، وأهل به لغير الله، وأنزل جل شأنه {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به} [الأنعام: 145] ولما كانت الحيوانات مستأنسة وغير مستأنسة، شرعت الذكاة والذبح للمستأنسة المقدور على ذبحها، وشرع الصيد لغير المستأنس، وأنزل الله تعالى {يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب} [المائدة: 4] وأخذ الصائدون يستفسرون عن حل ما يعملون، وعلى رأسهم عدي بن حاتم الطائي، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد الكلب، فأرشده إلى شرط أن يكون معلما وأن يرسله صاحبه ويسمي على الصيد، وأن لا يأكل الكلب من الصيد، فإن أكل منه لم يحل الصيد، فإن شارك كلبه كلب آخر لم يعرف أنه معلم وأنه مرسل من أهل الذكاة لم يحل الصيد إن قتله، فإن أدرك حيا وذكى حل، سأله عن صيد المعراض وهو خشبة مدبب طرفاها، غليظ وسطها تقذف على الصيد، فتصيبه، فتقتله، وأجيب بأن هذه الخشبة أو أصابت بالطرف المدبب ونفذ الطرف في جسم الصيد، فقتله، فهو حلال، فإن كان القتل بالعرض وبالجزء الغليظ فالقتل بمثقل لا يحل، سأله عن رمي القوس، وعن قتل السهم، فأجيب بأنه إذا ذكر اسم الله عند إطلاقه فهو حلال، فإن غاب الصيد بعد ضربه بالسهم، ووجده مقتولا بعد يوم أو يومين أو أكثر وفيه أثر سهمه حل، فإن وجده غريقا، ولم يعلم أقتل بالسهم أم بالغرق لم يحل، ويسأل الأسئلة نفسها أبو ثعلبة الخشني، ويجاب بالإجابة نفسها، ويزيد سؤالا عن استعمال المسلمين لأواني أهل الكتاب، ويجاب بأن لا يأكل فيها المسلم إذا وجد غيرها، فإن لم يجد غيرها غسلها وأكل فيها. -[المباحث العربية]- (الصيد والذبائح) الصيد مصدر صاد يصيد، فهو صائد، وذاك مصيد، وقد يطلق الصيد على المصيد، تسمية بالمصدر، ومنه قوله تعالى {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} [المائدة: 95] والذبائح جمع ذبيحة، بمعنى مذبوحة. (عدي بن حاتم) بن عبد الله بن سعد الطائي، الجواد ابن الجواد، أسلم سنة الفتح، وثبت هو وقومه على الإسلام، نزل الكوفة، وشهد الفتوح بالعراق، ثم كان مع علي بن أبي طالب، ومات بالكوفة سنة ثمان وستين، وهو ابن عشرين ومائة سنة.

(إني أرسل الكلاب المعلمة) أي أرسلها نحو الصيد، وأحرضها عليه، والمراد بالمعلمة التي إذا أغراها صاحبها على الصيد طلبته، وإذا زجرها انزجرت، وإذا أخذت الصيد حبسته على صاحبها، وفي هذا الوصف الثالث خلاف بين الفقهاء، واختلف متى يعلم ذلك منها، فقيل: أقله ثلاث مرات، وعن أبي حنيفة وأحمد يكفي مرتين، والجمهور على عدم تحديد المرات، لاختلاف العرف، واختلاف طباع الكلاب وذكائها. وفي الرواية الثانية "إنا قوم نصيد بهذه الكلاب" أي المعلمة. (وإن قتلن؟ قال: وإن قتلن) جواب الشرط فيهما محذوف للعلم به. (ما لم يشركها كلب ليس معها) قال النووي: المراد كلب آخر استرسل بنفسه، أو أرسله من ليس من أهل الذكاة، أو شككنا في ذلك. اهـ. وفي الرواية الثانية "وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل" لأنك لا تدري. أهي مرسلة من أهل الذكاة أم لا؟ وفي الرواية الثالثة "فإن وجدت مع كلبي كلبا آخر، فلا أدري أيهما أخذه؟ قال: فلا تأكل، فإنما سميت على كلبك" وأرسلته "ولم تسم على غيره" ولم ترسله، ولم تعلم حاله. وفي الرواية الرابعة "فإن وجدت عنده كلبا آخر، فخشيت أن يكون أخذه معه، وقد قتله، فلا تأكل". (فإني أرمي بالمعراض الصيد) "المعراض" بكسر الميم وسكون العين، قال النووي: هي خشبة ثقيلة، أو عصا في طرفها حديدة، وقد تكون بغير حديدة، هذا هو الصحيح في تفسيره، وقال الهروي: هو سهم لا ريش له ولا نصل، وقال ابن دريد: هو سهم طويل، له أربع قذذ رقاق -القذة بضم القاف وتشديد الذال ريش كريش الطائر يركب في السهم- فإذا رمي به اعترض، وقيل: هو عود رقيق الطرفين، غليظ الوسط، إذا رمي به ذهب مستويا. (إذا رميت بالمعراض فخزق فكله) "خزق" بفتح الخاء والزاي، بعدها قاف، ومعناه نفذ، وقد تبدل الزاي سينا، وقيل: معناه خدش، ولم يثبت في الصيد، أي إذا أصاب المعراض الصيد بحده حل. (وإن أصابه بعرضه فلا تأكله) "عرضه" بفتح العين وسكون الراء، أي وسطه غير الطرف المحدد، وفي الرواية الثالثة "إذا أصاب بحده" أي طرفه المدبب "فكل، وإذا أصاب بعرضه فقتل" المعراض الصيد "فإنه وقيذ، فلا تأكل" والوقيذ بمعنى موقوذ، وهو الذي يقتل بغير محدد، من عصا أو حجر أو غيرهما، وأصل الوقذ الكسر والرض، والتقييد في هذه الرواية بقوله "فقتل" احتراز من إدراكه حيا فيذكى. (فكل مما أمسكن عليك وإن قتلن، إلا أن يأكل الكلب، فإن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه) يقول الله تعالى {فكلوا مما أمسكن عليكم} أي وإن

كانت معلمة وفي الرواية الثالثة "فإن أكل منه فلا تأكل فإنه إنما أمسك على نفسه" وسيأتي الخلاف في ذلك في فقه الحديث. (فإن ذكاته أخذه) وفي رواية البخاري "فإن أخذ الكلب ذكاة" أي حكمه حكم التذكية، فيحل أكله، كما يحل أكل المذكاة. (وكان لنا جارا ودخيلا وربيطا بالنهرين) قال أهل اللغة: الدخيل والدخال الذي يداخل الإنسان ويخالطه في أموره، والربيط هنا بمعنى الرابط، وهو الملازم، والرباط هنا الملازمة، قالوا: والمراد هنا أنه ربط نفسه على العبادة، وعلى الزهد في الدنيا. (عن أبي ثعلبة الخشني) اختلف في اسمه، فقيل: جرثوم، وهو قول الأكثر، وقيل: جرهم، وقيل: جرثم، وقيل: جرثومة، وقيل: غرنوق، وقيل: ناشر، وقيل: لاثر، واختلف في اسم أبيه، فقيل: عمرو، وقيل: ناشب، وقيل: ناسب، وقيل: لاشن، وقيل: حمير، وتجمع من اسمه واسم أبيه بالتركيب أقوال كثيرة جدا، وكان إسلامه قبل خيبر، وشهد بيعة الرضوان وتوجه إلى قومه، فأسلموا. (إنا بأرض قوم من أهل الكتاب) يعني بالشام، وكان جماعة من قبائل العرب قد سكنوا الشام، وتنصروا، منهم آل غسان، وتنوخ، وبهز، وبطون من قضاعة، منهم بنو خشين، آل أبي ثعلبة. (نأكل في آنيتهم؟ ) بحذف همزة الاستفهام، وهي مذكورة في رواية البخاري، والآنية جمع إناء، والأواني جمع آنية، قال النووي: والمراد بالآنية في حديث أبي ثعلبة آنية من يطبخ فيها لحم الخنزير، ويشرب فيها الخمر، كما وقع التصريح به في رواية أبي داود "إنا نجاور أهل الكتاب، وهم يطبخون في قدورهم الخنزير، ويشربون في آنيتهم الخمر". (فكله ما لم ينتن) قال أهل اللغة: نتن بفتح النون والتاء، ينتن بكسر التاء، نتنا بسكونها، خبثت رائحته، فهو نتن بفتح النون وكسر التاء، ويقال: نتن بفتح النون وضم التاء، ينتن بضم التاء، نتنا بسكونها، ونتانة، ويقال: أنتن ينتن بمعنى نتن، فهو منتن وعليه روايتنا، ويقال: نتن بتشديد التاء بمعنى نتن، ويتعدى فيقال نتن الشيء جعله منتنا. -[فقه الحديث]- تنحصر نقاط الحديث في أربع: 1 - صيد الكلب، وما يلحق به من الجوارح. 2 - صيد المعراض والسهام، وما يلحق بها من البندقية ونحوها. 3 - آنية أهل الكتاب. 4 - مستخرجات على هذه النقاط.

وهذا هو التفصيل: 1 - أما صيد الكلب فيه مسائل الأولى: أن يكون معلما، فإن أرسل كلبا غير معلم لم يحل ما قتله. قال النووي: وهذا مجمع عليه، وذكر الكلب مطلقا يتناول أي لون كان، أبيض أو أسود أو أحمر، فيجوز بأي لون كان، ففيه حجة على أحمد وإسحق، حيث قالا: لا يحل الصيد بالكلب الأسود، لأنه شيطان. الثانية: أن يرسله من هو أهل للتذكية، قال النووي: لو استرسل المعلم بلا إرسال فلا يحل ما قتله عندنا وعند العلماء كافة، إلا ما حكي عن الأصم من إباحته، وإلا ما حكاه ابن المنذر عن عطاء والأوزاعي، أنه يحل إن كان صاحبه أخرجه للاصطياد. وظاهر قوله في الرواية الأولى "إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله عليه فكل" اشتراط تسمية المرسل على الصيد، وكذا في الروايات الأخرى "فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره" قال النووي: في هذا الأمر بالتسمية على إرسال الصيد، وقد أجمع المسلمون على التسمية عند الإرسال على الصيد، وعند الذبح والنحر، واختلفوا في أن ذلك واجب أم سنة؟ فمذهب الشافعي وطائفة أنها سنة، فلو تركها سهوا أو عمدا حل الصيد والذبيحة، وهي رواية عن مالك وأحمد، وقال أهل الظاهر: إن تركها عمدا أو سهوا لم يحل، وهو الصحيح عن أحمد في صيد الجوارح، وهو مروي عن ابن سيرين وأبي ثور، واستدلوا بجعلها شرطا في حديث عدي، ولإيقاف الإذن في الأكل عليها، في حديث أبي ثعلبة، والمعلق بالوصف ينتفي عند انتفائه عند من يقول بالمفهوم، ويتأكد القول بالوجوب بأن الأصل تحريم الميتة، وما أذن فيه منها تراعي صفته، فالمسمى عليها وافق الوصف، وغير المسمى عليها باق على التحريم، وقال أبو حنيفة ومالك والثوري وجماهير العلماء: إن تركها سهوا حلت الذبيحة والصيد، وإن تركها عمدا فلا، وعلى مذهب أصحابنا: يكره تركها، وقيل: لا كراهة، بل هو خلاف الأولى، والصحيح الكراهة. قال: واحتج من أوجبها بقوله تعالى {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق} [الأنعام: 121] وبهذه الأحاديث، واحتج أصحابنا بقوله تعالى {حرمت عليكم الميتة .... } إلى قوله {إلا ما ذكيتم} [المائدة: 3] فأباح بالتذكية من غير اشتراط التسمية ولا وجوبها، فإن قيل: التذكية لا تكون إلا بالتسمية، قلنا: هي في اللغة الشق والفتح. وبقوله تعالى {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} [المائدة: 5] وهم لا يسمون، وبحديث عائشة "أنهم قالوا: يا رسول الله، إن قوما حديث عهدهم بالجاهلية، يأتوننا بلحمان، لا ندري أذكروا اسم الله؟ أم لم يذكروا؟ أفنأكل منها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سموا وكلوا" رواه البخاري، فهذه التسمية هي المأمور بها عند أكل كل طعام، وشرب كل شراب، وأجابوا عن قوله تعالى {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} أن المراد ما ذبح للأصنام، كما قال تعالى في الآية الأخرى {وما ذبح على النصب} و {ما أهل به لغير الله} أي ما ذبح على اسم غير الله من صنم أو وثن أو طاغوت أو غير ذلك من سائر المخلوقات، ولأن الله تعالى قال {وإنه لفسق}

وقد أجمع المسلمون على أن من أكل متروك التسمية ليس بفاسق، فوجب حملها على ما ذكرناه، ليجمع بينها وبين الآيات السابقات وحديث عائشة، وحملها بعض أصحابنا على كراهة التنزيه، وأجابوا عن الأحاديث في التسمية أنها للاستحباب. الثالثة: إذا أكل الكلب من الصيد، قال النووي: اختلف العلماء فيه، فقال الشافعي في أصح قوليه: إن قتلته الجارحة المعلمة من الكلاب والسباع، وأكلت منه فهو حرام، وبه قال أكثر العلماء، منهم ابن عباس وأبو هريرة وعطاء وسعيد بن جبير والحسن والشعبي والنخعي وعكرمة وقتادة وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر وداود. اهـ. وقال سعد بن أبي وقاص وسلمان الفارسي وابن عمر ومالك: يحل، وهو قول ضعيف للشافعي، واحتج هؤلاء بحديث أبي ثعلبة الخشني عند أبي داود، ولفظه "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: كل وإن أكل منه" قال ابن حزم: هذا حديث لا يصح، وإن سلم به فهو لا يقاوم الذي في الصحيح، ولا يقاربه، وقيل: إن حديث أبي ثعلبة محمول على ما إذا أكل منه بعد أن قتله وخلاه وفارقه، ثم عاد فأكل منه، فهذا لا يضر، ومنهم من حمله على الجواز، وحديث عدي على التنزيه، لأنه كان موسعا عليه، فأفتاه بالكف تورعا وأبو ثعلبة كان محتاجا، فأفتاه بالجواز. واحتج الأولون بروايات عدي، وهي صريحة مقرونة بالتعليل، ففي الرواية الثانية "إلا أن يأكل الكلب، فإن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه" وفي الرواية الثالثة "فإن أكل منه فلا تأكل، فإنه إنما أمسك على نفسه". كما احتجوا بقوله تعالى {فكلوا مما أمسكن عليكم} ولو كان مجرد الإمساك كافيا لما احتيج إلى زيادة "عليكم" ويرد ابن القصار على هذا بأن مجرد إرسال الكلب إمساك علينا، لأن الكلب لا نية له، ولا يصح منه ميزها، فإذا كان الاعتبار بأن يمسك علينا أو على نفسه، واختلف الحكم في ذلك وجب أن يتميز ذلك بنية من له نية، وهو مرسله، فإذا أرسله فقد أمسك عليه، وإذا لم يرسله لم يمسك عليه، كذا قال، وهو بعيد، ومصادم لسياق الحديث الصحيح، وقد قال الجمهور: إن معنى قوله {أمسكن عليكم} صدق لكم، وقد جعل الشارع أكله منه علامة على أنه أمسك لنفسه، لا لصاحبه، فلا يعدل عن ذلك، فعند ابن أبي شيبة "إن شرب من دمه فلا تأكل، فإنه لم يعلم ما علمته" ففي هذا الحديث إشارة إلى أن الأكل دليل على أنه ليس بمعلم التعليم المشترط، ثم إن الأصل التحريم، وشرط الإباحة أن نعلم أنه أمسك علينا، قال النووي: وأما جوارح الطير إذا أكلت مما صادته فالأصح عند أصحابنا، والراجح من قول الشافعي تحريمه، وقال سائر العلماء بإباحته، لأنه لا يمكن تعليمها ذلك، بخلاف السباع. قال: وأصحابنا يمنعون هذا الدليل. الرابعة: إذا شارك الكلب المعلم المرسل كلب أو كلاب غير معلمة، أو معلمة غير مرسلة، أو مرسلة ممن ليس من أهل الذكاة، أو شككنا في شيء من ذلك فإنه لا يحل، أما إذا تحققنا أن الكلاب المشاركة معلمة مرسلة ممن هو أهل للذكاة فإنه يحل، ثم ينظر، فإن أرسلاهما معا فهو لهما، وإلا فللأول.

وهذا كله فيما إذا وجد الصيد مقتولا، أما إذا وجد به رمق، وبه حياة مستقرة، وأدرك ذكاته، لم يحل إلا بالتذكية، فلو لم يذبحه مع الإمكان حرم، سواء كان عدم الذبح اختيارا أو اضطرارا، كعدم وجود آلة الذبح. الخامسة: يلحق بالكلب فيما ذكر ما علم من الباز والصقور والعقاب والباشق والشاهين ونحوها من الطيور. قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم. والله أعلم. 2 - وأما صيد المعراض فقال النووي: مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد والجماهير أنه إذا اصطاد بالمعراض فقتل الصيد بحده حل، وإن قتله بعرضه لم يحل، لهذا الحديث، وقال مكحول والأوزاعي وغيرهما من فقهاء الشام: يحل مطلقا، وكذا قال هؤلاء وابن أبي ليلى: أنه يحل ما قتله بالبندقة، وحكي أيضا عن سعيد بن المسيب، وقال الجماهير: لا يحل صيد البندقة مطلقا، لحديث المعراض، لأنه كله رض ووقذ، وهو معنى قوله في الرواية الثالثة والرابعة "فإنه وقيذ" أي مقتول بغير محدد، والموقوذة المقتولة بالعصا ونحوها. اهـ. قال البخاري: وقال ابن عمر في المقتولة بالبندقة: تلك الموقوذة، وكرهه سالم والقاسم ومجاهد وإبراهيم وعطاء والحسن، وكره الحسن رمي البندقية في القرى والأمصار، ولا يرى به بأسا فيما سواه. اهـ. ولمالك في الموطأ أنه بلغه أن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق كان يكره ما قتل بالمعراض والبندقة. أما الحسن البصري فقال -فيما رواه ابن أبي شيبة- إذا رمى الرجل الصيد بالجلاهقة فلا تأكل، إلا أن تدرك ذكاته، والجلاهقة بضم الجيم وتشديد اللام وكسر الهاء، بعدها قاف، هي البندقة بالفارسية، والجمع جلاهق. وأما صيد القوس والسهام فعنه تقول الرواية السادسة "وإن رميت سهمك فاذكر اسم الله، فإن غاب عنك يوما، فلم تجد فيه إلا أثر سهمك، فكل إن شئت، وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل" وتقول الرواية السابعة "إذا رميت سهمك فاذكر اسم الله، فإن وجدته قد قتل، فكل، إلا أن تجده قد وقع في ماء، فإنك لا تدري الماء قتله؟ أم سهمك؟ " وتقول الرواية التاسعة "إذا رميت بسهمك فغاب عنك، فأدركته، فكله، ما لم ينتن؟ وقد تمسك بالرواية السادسة والسابعة من أوجب التسمية على الصيد وعلى الذبيحة، وقد مر البحث في ذلك قريبا. وعند أبي داود "وأفتني في قوس؟ قال: كل ما ردت عليك قوسك، ذكيا وغير ذكي، قال: وإن تغيب عني؟ قال: وإن تغيب عنك، ما لم يصل" بكسر الصاد وتشديد اللام، أي ينتن "أو تجد فيه أثرا غير سهمك". وعند البخاري عن عدي أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يرمي الصيد، فيفتقر أثره اليومين والثلاثة، ثم يجده ميتا، وفيه سهمه؟ قال: "يأكل إن شاء".

وعند الترمذي والنسائي "إذا وجدت سهمك فيه، ولم تجد به أثر سبع، وعلمت أن سهمك قتله، فكل منه" قال الرافعي: يؤخذ منه أنه لو جرحه، ثم غاب، ثم جاء، فوجده ميتا، أنه لا يحل، وهو ظاهر نص الشافعي في المختصر، قال النووي: الحل أصح دليلا. أما عدم الأكل مما وقع في الماء فقد بينت الرواية السابعة علة هذا الحكم، وهي التردد فيما قتل، أهو السهم؟ أم الغرق؟ قال النووي: إذا وجد الصيد غريقا في الماء حرم بالاتفاق، اهـ. فالحل بعد الغياب مبني على ما إذا علم أن سهمه هو الذي قتل. والرواية التاسعة والعاشرة تجعل الغاية أن ينتن الصيد، وليس الغياب يومين أو ثلاثة، فلو وجده مثلا بعد ثلاث ولم ينتن حل، وإن وجده قبل الثلاث وقد أنتن فلا، هذا ظاهر الحديث، وقد حرم المالكية أكل اللحم النتن مطلقا، وقال النووي: إن النهي عن أكل اللحم النتن للتنزيه، لا للتحريم، وكذا سائر الأطعمة المنتنة، يكره أكلها، ولا يحرم، إلا أن يخاف منها الضرر خوفا معتمدا. قال: وقال بعض أصحابنا: يحرم اللحم المنتن مطلقا، وهو ضعيف. 3 - أما آنية أهل الكتاب فظاهر الرواية الثامنة "فإن وجدتم غير آنيتهم فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها، وكلوا فيها" ظاهر هذا أن جواز استعمال آنية أهل الكتاب موقوف على شرطين، أن لا يجد غيرها، وأن يغسلها، فإن وجد غيرها لم يجز استعمالها ولو غسلها، وإن لم يجد غيرها لا يجوز استعمالها قبل غسلها، وبهذا الظاهر قال ابن حزم. والفقهاء يقولون: الأصل أن آنية أهل الكتاب وكذا المجوس طاهرة، حتى يثبت استعمالها في النجاسة، في الخمر والخنزير والذبائح المحرمة وغيرها، فإن سحبنا الحكم عليها جميعها مطلقا -كما قال بعض الفقهاء- فقد رجحنا الظن الغالب على الظن المستفاد من الأصل، وعليه فالمراد من آنية أهل الكتاب في الحديث جميعها، فمجهولة استعمالهم لها يكره استعمالها إذا وجد غيرها، ولا يرفع الكراهة غسلها، لا لأنها نجسة، ولكن لاستقذارها، وكونها معدة غالبا للنجاسات، كما يكره الأكل في المحجمة المغسولة، ورجح بعض العلماء الظن المستفاد من الأصل، فقالوا: إن الحكم للأصل، فهي طاهرة، حتى تتحقق النجاسة، وعليه فالمراد من آنية أهل الكتاب في الحديث آنيتهم التي كانوا يطبخون فيها لحم الخنزير، ويشربون فيها الخمر، كما صرح به في رواية أبي داود، وهذه الآنية يكره استعمالها إن وجد غيرها، ويجب غسلها، ولا تزول كراهة استعمالها بعد غسلها، لاستقذارها، وغسلها يطهرها، ويرى المالكية أن غسلها لا يطهرها، بل يتعين كسرها، كما جاء في كسر آنية الخمر على كل حال، والأمر بغسلها في الحديث لا لتطهيرها، بل رخصة للأكل فيها للضرورة، قالوا: لو كان الغسل مطهرا لها، لما كان للتفصيل في الحديث معنى، ورد هذا القول بأن التفصيل لا ينحصر في كون العين تصير نجسة، بحيث لا تطهر أبدا، بل يحتمل أن يكون التفصيل للأخذ بالأولى.

فإن الإناء الذي يطبخ فيه الخنزير يستقذر، ولو غسل، فالأمر بالغسل عند فقد غيرها دال على طهارتها بالغسل، والأمر باجتنابها عند وجود غيرها للمبالغة في التنفير عنها، كما في حديث "الأمر بكسر القدور التي طبخت فيها الميتة، فقال رجل: أو نغسلها؟ فقال: أو ذاك" فأمر بالكسر للمبالغة في التنفير عنها، ثم أذن في الغسل ترخيصا، فكذلك يتجه هذا هنا. والله أعلم. 4 - ويستخرج على هذه النصوص ما يلي أ- إباحة الاصطياد، قال النووي: وقد أجمع المسلمون عليه، وتظاهرت عليه دلائل الكتاب والسنة والإجماع، قال القاضي عياض: وهو مباح لمن اصطاد للاكتساب والحاجة، والانتفاع به بالأكل وثمنه، قال: واختلفوا فيمن اصطاد للهو، ولكن قصد تذكيته والانتفاع به، فكرهه مالك، وأجازه الليث وابن عبد الحكيم، فإن فعله بغير نية التذكية فهو حرام، لأنه فساد في الأرض وإتلاف نفس عبثا. اهـ. وقال ابن المنير: الاشتغال بالصيد لمن هو عيشه به مشروع، ولمن عرض له ذلك، وعيشه بغيره مباح، وأما التصيد لمجرد اللهو فهو محل الخلاف. وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن قتل الحيوان إلا لمأكلة، ونهى أيضا عن الإكثار من الصيد، فروى الترمذي من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعا "من سكن البادية فقد جفا، ومن اتبع الصيد فقد غفل، ومن لزم السلطان افتتن" وقال: حسن غريب، وأعله بعضهم بأحد رواته، لكن الإكثار من التصيد للهو كثيرا ما يشغل عن بعض الواجبات، وعن كثير من المندوبات. ب- جواز اقتناء الكلب المعلم للصيد، وقد روى البخاري "من اقتنى كلبا، إلا كلبا ضاريا لصيد، أو كلب ماشية، فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان" واختلفوا في سبب نقصان الأجر، باقتناء الكلب، فقيل: لامتناع الملائكة من دخول بيته، وقيل: لما يلحق المارين من الأذى، وقيل: لما يبتلى به من ولوغه في الإناء عند غفلة صاحبه. جـ- واستدل به على جواز بيع كلب الصيد، للإضافة في قوله "كلبك" وأجاب من منع بأنها إضافة اختصاص. د- واستدل به على طهارة سؤر كلب الصيد، دون غيره من الكلاب، للإذن في الأكل من الموضع الذي قبض منه، ولم يذكر الغسل، ولو كان واجبا لبينه، لأنه وقت الحاجة إلى البيان، وقال بعض العلماء: يعفي عن معض الكلب، ولو كان نجسا، لهذا الحديث، وأجاب من قال بنجاسته بأن وجوب الغسل كان قد اشتهر عندهم وعلم، فاستغنى عن ذكره، قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر، وقد يتقوى القول بالعفو، لأنه بشدة الجري يجف ريقه، فيؤمن معه ما يخشى من إصابة لعابه موضع العض. هـ- واستدل بقوله في الرواية الثانية "فكل مما أمسكن عليك" بأنه لو أرسل كلبه على صيد، فاصطاد غيره، حل للعموم الذي في قوله "ما أمسكن" وهذا قول الجمهور، وقال مالك: لا يحل، وهو رواية عن الشافعي.

و- يستخرج على قوله "كله" ما لو قطع من الصيد يد أو رجل، فماذا يؤكل؟ وماذا لا يؤكل؟ عند ابن أبي شيبة بسند صحيح عن الحسن قال في رجل ضرب صيدا، فأبان منه يدا أو رجلا، وهو حي، ثم مات، قال: لا تأكله، ولا تأكل ما بان منه، إلا أن تضربه، فتقطعه، فيموت من ساعته، فإذا كان كذلك فليأكله، وعند ابن أبي شيبة أيضا عن إبراهيم عن علقمة "إذا ضرب الرجل الصيد، فبان منه عضو، ترك ما سقط، وأكل ما بقي" قال ابن المنذر: اختلفوا في هذه المسألة، فقال ابن عباس وعطاء: لا تأكل العضو منه، وذك الصيد وكله. وقال عكرمة: إن عدا حيا بعد سقوط العضو منه فلا تأكل العضو، وذلك الصيد، وكله، وإن مات الصيد حين الضربة، فكله كله، وقال الشافعي: لا فرق أن ينقطع قطعتين أو أقل، إذا مات من تلك الضربة، وعن الثوري وأبي حنيفة: إن قطعه نصفين أكلا جميعا، وإن قطع الثلث مما يلي الرأس فكذلك، ومما يلي العجز أكل الثلثين مما يلي الرأس، ولا يأكل الثلث الذي يلي العجز. والله أعلم.

فتح المنعم شرح صحيح مسلم تابع كتاب الصيد والذبائح - كتاب الأضاحي - كتاب الأشربة - كتاب اللباس والزينة - كتاب الآداب - كتاب السلام - كتاب الطب والمرض الجزء الثامن الأستاذ الدكتور موسى شاهين لاشين دار الشروق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

فتح المنعم شرح صحيح مسلم 8 -

جميع حقوق النشر والطبع محفوظة الطبعة الأولى 1423 - هـ - 2002 م دار الشروق القاهرة: 8 شارع سيبويه المصري -رابعة العدوية- مدينة نصر ص. ب.: 33 البانوراما -تليفون: 4023399 - فاكس: 4037567 (202) e-mail: dar@ shorouk.com - www.shorouk.com بيروت: ص. ب.: 8064 - هاتف: 315859 - 817213 - فاكس: 315859 1 (961)

تابع كتاب الصيد والذبائح

(539) باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير

(539) باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير 4368 - عن أبي ثعلبة رضي الله عنه قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السبع. زاد إسحق وابن أبي عمر في حديثهما قال الزهري: ولم نسمع بهذا حتى قدمنا الشام. 4369 - عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع. قال ابن شهاب: ولم أسمع ذلك من علمائنا بالحجاز حتى حدثني أبو إدريس، وكان من فقهاء أهل الشام. 4370 - عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع. 4371 - وفي رواية عن الزهري بهذا الإسناد مثل حديث يونس وعمرو. كلهم ذكر الأكل إلا صالحاً ويوسف، فإن حديثهما نهى عن كل ذي ناب من السبع. 4372 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل ذي ناب من السباع فأكله حرام". 4373 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع، وعن كل ذي مخلب من الطير.

4374 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كل ذي ناب من السباع، وعن كل ذي مخلب من الطير. -[المعنى العام]- الطعام والشراب من الأمور العادية البشرية، يألف بعض الناس طعاماً لا يألفه آخرون، ويستقذر بعض الناس طعاماً يستلذه آخرون، فكان الفاصل فيما يحل أو يحرم هو النص الشرعي، وقد قال الله تعالى {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف: الآية 157]. فالله سبحانه وتعالى حرم أن يطعم المؤمن الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع، وما ذبح على النصب، وورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريم بعض اللحوم، وعافت نفسه بعض اللحوم ولم يحرمها. ولما كانت بعض هذه الأحاديث متعارضة مع قوله تعالى {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقاً أهل لغير الله به} [الأنعام: 145]. كان للمذاهب الفقهية مواقف مختلفة، وتوجيهات متقابلة في أكل كل ذي ناب من السباع، وأكل كل ذي مخلب من الطيور، ولما كان الامتناع عن أكل هذه الحيوانات إن لم ينفع لا يضر، وكان أكلها إن لم يضر ديناً لا ينفع، فإننا نميل -والله أعلم ... إلى عدم أكلها، سواء قلنا بتحريمها، أو قلنا بكراهتها. وعلى الله قصد السبيل. -[المباحث العربية]- (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السبع) الناب السن الذي يلي الرباعية، والسبع بضم الباء وسكونها كل ذي ناب يصطاد به، ويتقوى به ويعدو به على الناس وعلى الدواب فيفترسها، كالأسد والذئب والنمر والكلب وأمثالها، والجمع سباع بكسر السين، وأسبع بضم الباء، وسبوع بضم السين والباء.

(قال الزهري: ولم نسمع بهذا، حتى قدمنا الشام) في الرواية الثانية "قال الزهري: ولم أسمع ذلك من علمائنا بالحجاز، حتى حدثني أبو إدريس، وكان من فقهاء أهل الشام" وظاهر هذا أن الزهري كان يشك في هذا الحكم، فعلماء الحجاز آخر الناس عهداً وأعلمهم بأحكام الشريعة. (نهى عن كل ذي ناب من السبع) دون ذكر الأكل في الرواية، لكنه مراد من الروايات التي لم يذكر فيها، فيكون توجيهها على تقدير مضاف. (وعن كل ذي مخلب من الطير) المخلب بكسر الميم وفتح اللام، وهو للطير والسباع بمنزلة الظفر من الإنسان. -[فقه الحديث]- قال النووي: في هذه الأحاديث دلالة لمذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد وداود والجمهور أنه يحرم أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، وقال مالك: يكره، ولا يحرم، واحتج بقوله تعالى: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقاً أهل لغير الله به} واحتج أصحابنا بهذه الأحاديث، قالوا: والآية ليس فيها إلا الإخبار بأنه لم يجد في ذلك الوقت محرماً إلا المذكورات في الآية، ثم أوحي إليه بتحريم كل ذي ناب من السباع، فوجب قبوله والعمل به. اهـ ويحاول الجمهور أن يتخلصوا من ظاهر الآية، فيقول بعضهم -بالإضافة إلى قول النووي- إن الآية مكية، وحديث التحريم بعد الهجرة، فعند أبي داود عن ابن عباس "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن أكل كل ذي ناب من السباع وعن كل ذي مخلب من الطير" فالنص المحرم متأخر، فالأخذ به يكون أولى، ويقول بعضهم: إن آية الأنعام خاصة ببهيمة الأنعام، لأنه تقدم قبلها حكاية عن الجاهلية أنهم كانوا يحرمون أشياء من الأزواج الثمانية بآرائهم، فنزلت الآية {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرماً} أي من المذكورات -الإبل والبقر والغنم والماعز ذكوراً وإناثاً- إلا الميتة منها والدم المسفوح، ولا يرد كون لحم الخنزير ذكر معها، لأنها قرنت به علة تحريمه، وهي كونه رجساً، فالآية أريد بها خصوص السبب، وليس عموم اللفظ، ويقول بعضهم: بأن الآية، وإن دلت على الحصر، فإنا نخصصها بالأخبار الصحيحة، لأنه لا معنى للحصر فيها إلا أن الأربعة محرمة، وما عداها ليس بمحرم، وهذا عام، وإثبات محرم آخر تخصيص لهذا العام، وتخصيص العام بخبر الواحد جائز. وفي الجانب الآخر تمسك بظاهر الآية كثير من السلف، فأباحوا ما عدا المذكور فيها، حتى الحمر الأهلية، فقد أخرج البخاري عن عمرو بن دينار، قال: قلت لجابر بن عبد الله: إنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر، فقال: قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة، ولكن أبى ذلك البحر ابن عباس، وقرأ {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرماً .... } وسيأتي الكلام عن الحمر الإنسية قريباً من باب خاص.

وأخرج أبو داود عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه سئل عن أكل القنفذ، فقرأ الآية، وأخرج ابن أبي حاتم وغيره بسند صحيح عن عائشة -رضي الله عنها- أنها كانت إذا سئلت عن كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير قالت: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرماً ... } إلى آخر الآية. وأخرج أبو داود أيضاً عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: ليس من الدواب شيء محرم إلا ما حرم الله تعالى في كتابه {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرماً ... } ويقول بعضهم: إن الدليل قائم على الفرق بين تحريم كل ذي ناب، وتحريم الخنزير، ولذا اختلف الصحابة في كل ذي ناب، ولم يختلفوا في تحريم الخنزير، فدل ذلك على أن النهي عن أكل كل ذي ناب للكراهة، لا للتحريم، قالوا: وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أجاز أكل الضبع، وأخرجه الحاكم من حديث جابر، وقال صحيح الإسناد، وهو ذو ناب، فدل بهذا على أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد بالنهي عن كل ذي ناب من السباع الكراهة، وليس التحريم. ويقوي بعضهم هذا المذهب، ويقول: إن الحديث المحرم ليس من قبيل تخصيص الآية، كما زعموا، بل هو صريح النسخ، لأنها لما كان معناها: أن لا محرم سوى الأربعة، فإثبات محرم آخر قول بأن الأمر ليس كذلك، وهو رفع للحصر، ونسخ القرآن بخبر الواحد غير جائز. ويقول الإمام الرازي: إن كثيراً من الفقهاء خصوا عموم هذه الآية بما نقل أنه صلى الله عليه وسلم قال: ما استخبثته العرب فهو حرام" وقد علم أن الذي تستخبثه غير مضبوط، فسيد العرب، بل سيد العالمين عليه الصلاة والسلام، لما رآهم يأكلون الضب قال: "يعافه طبعي" ولم يكن ذلك سبباً لتحريمه، وأما سائر العرب ففيهم من لا يستقذر شيئاً، وقد يختلفون في بعض الأشياء، فيستقذرها قوم، ويستطيبها آخرون، فعلم أن أمر الاستقذار غير مضبوط، بل هو مختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، فكيف يجوز نسخ هذا النص القاطع بذلك الأمر الذي ليس له ضابط معين ولا قانون معلوم. ثم قال: فثبت بالتقرير الذي ذكرناه قوة هذا الكلام، وصحة هذا المذهب، وهو الذي يقول به مالك بن أنس. والله أعلم. (إضافة) اختلف الناس في حل أكل لحم الضبع، فروي عن سعد بن أبي وقاص أنه كان يأكل الضبع، وعن ابن عباس إباحة أكل الضبع، وكذا أباح عطاء والشافعي وأحمد وإسحق وأبو ثور أكل الضبع والثعلب، وقالوا: إن نابهما ضعيف، واستدلوا بما أخرجه النسائي وابن ماجه والترمذي وقال حسن صحيح عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضبع، فقال: هو صيد، ويجعل فيه كبش إذا صاده المحرم". فقد جعله صلى الله عليه وسلم صيداً، ورأى فيه الفداء، فأباح أكله كالظباء والحمر الوحشية وغيرها من أنواع صيد البر، فقوله "هو صيد" دليل على أن من السباع والوحش ما ليس بصيد، فلم يدخل تحت قوله {وحرم عليكم صيد البر} [المائدة: 96]. وكره أكله الثوري وأبو حنيفة وأصحابه ومالك، واحتجوا بأن الضبع سبع ذو ناب، وحديث النهي

عن أكل كل ذي ناب عام يشمله، قالوا: وحديث جابر ليس بمشهور، وهو محلل، والمحرم يقضي على المبيح احتياطاً، وقيل: حديث جابر انفرد به عبد الرحمن بن أبي عمار، وليس بمشهور بنقل العلم، ولا هو حجة إذا انفرد، فكيف إذا خالفه من هو أثبت منه. والله أعلم

(540) باب إباحة ميتات البحر

(540) باب إباحة ميتات البحر 4375 - عن جابر رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر علينا أبا عبيدة نتلقى عيراً لقريش، وزودنا جراباً من تمر لم يجد لنا غيره. فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة. قال: فقلت: كيف كنتم تصنعون بها؟ قال: نمصها كما يمص الصبي ثم نشرب عليها من الماء فتكفينا يومنا إلى الليل. وكنا نضرب بعصينا الخبط ثم نبله بالماء فنأكله. قال: وانطلقنا على ساحل البحر، فرفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم، فأتيناه، فإذا هي دابة تدعى العنبر. قال: قال أبو عبيدة: ميتة. ثم قال: لا بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله. وقد اضطررتم فكلوا. قال: فأقمنا عليه شهرا ونحن ثلاث مائة حتى سمنا. قال: ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينه بالقلال الدهن، ونقتطع منه الفدر كالثور. أو كقدر الثور فلقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلاً فأقعدهم في وقب عينه. وأخذ ضلعاً من أضلاعه فأقامها، ثم رحل أعظم بعير معنا فمر من تحتها. وتزودنا من لحمه وشائق. فلما قدمنا المدينة، أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له. فقال: "هو رزق أخرجه الله لكم. فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا؟ " قال: فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله. 4376 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن ثلاث مائة راكب، وأميرنا أبو عبيدة بن الجراح، نرصد عيراً لقريش. فأقمنا بالساحل نصف شهر، فأصابنا جوع شديد حتى أكلنا الخبط؛ فسمي جيش الخبط. فألقى لنا البحر دابة يقال لها العنبر، فأكلنا منها نصف شهر، وادهنا من ودكها حتى ثابت أجسامنا. قال: فأخذ أبو عبيدة ضلعاً من أضلاعه فنصبه، ثم نظر إلى أطول رجل في الجيش وأطول جمل فحمله عليه فمر تحته. قال: وجلس في حجاج عينه نفر. قال: وأخرجنا من وقب عينه كذا وكذا قلة ودك. قال: وكان معنا جراب من تمر، فكان أبو عبيدة يعطي كل رجل منا قبضة قبضة، ثم أعطانا تمرة تمرة، فلما فني وجدنا فقده.

4377 - عن جابر رضي الله عنه قال: في جيش الخبط إن رجلاً نحر ثلاث جزائر، ثم ثلاثاً، ثم نهاه أبو عبيدة. 4378 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: بعثنا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن ثلاث مائة نحمل أزوادنا على رقابنا. 4379 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية ثلاث مائة وأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح. ففني زادهم. فجمع أبو عبيدة زادهم في مزود. فكان يقوتنا حتى كان يصيبنا كل يوم تمرة. 4380 - وفي رواية عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، أنا فيهم إلى سيف البحر. وساقوا جميعاً بقية الحديث كنحو حديث عمرو بن دينار وأبي الزبير. غير أن في حديث وهب بن كيسان: فأكل منها الجيش ثماني عشرة ليلة. 4381 - وفي رواية عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً إلى أرض جهينة واستعمل عليهم رجلاً. وساق الحديث بنحو حديثهم. -[المعنى العام]- يمتن الله تعالى على عباده بالبحر وما خلق فيه من طعام، فيقول {وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً} [النحل: 14] ويقول {وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحماً طرياً} [فاطر: 12] وحين حرم على المحرم للحج أو العمرة صيد البر أباح له صيد البحر، فقال {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً} [المائدة: 96] وحين حرم أكل الميتة أباح ميتة السمك فقد سئل صلى الله عليه وسلم عن البحر، فقال: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته".

وهذه قصة تؤكد حل ميتة البحر. ففي السنة السادسة من الهجرة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية من الجيش، تبلغ ثلاثمائة رجل، وأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح المبشر بالجنة، بعثهم إلى ساحل البحر جهة قبيلة جهينة، على مسافة خمس ليال من المدينة، بعثهم ليعترضوا القوافل التجارية لقريش، التي تحمل تجارتهم من مكة إلى الشام، ومن الشام إلى مكة، وليستولوا على هذه الأموال عوضاً عن الأموال التي أخرجتهم منها قريش في مكة، بعثهم في أيام عصيبة على المسلمين، لا يجد الكثيرون منهم القوت الضروري، بل كان بيت المال خاوياً، لم يجد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعين به هذا الجيش سوى كيس واحد من التمر، فزودهم به، وحمل كل منهم ما يقدر عليه من التمر والماء، خمس ليال من السفر أكل كل منهم من زاده الذي يحمله، أو مما يمنحه به صديقه، حتى قل ما في أيديهم، فبدأ أبو عبيدة يصرف عليهم من كيس رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل رجل قبضة تمر في اليوم، يومين أو ثلاثة وقد كاد الكيس يفرغ، فأخذ يعطي الرجل تمرة واحدة في اليوم، يضعها الرجل في فمه، ويمصها، ويبلها كل حين بشيء من الماء، حتى يقضي يومه، وانتهى ما في الكيس من تمر، ولم يتبين للقوم عودة، فجمع أبو عبيدة ما مع القوم من تمر، ووضعه في كيس أخذ يعطي منه كل رجل تمرة في اليوم، ونفذ التمر الذي في الجيش، فخرجوا إلى الشجر، يضربون ورقه بعصيهم، ويأكلون ما يسقط من أوراق، واشتد بهم الجوع، لكن رحمة الله الواسعة أدركتهم، فقذف لهم البحر بدابة عظيمة، يزيد طولها على الأربعين متراً، أسرعوا إليها فإذا هي لا حراك بها، عزموا على الأكل منها، فقال لهم أبو عبيدة: إنها ميتة، وأكل الميتة حرام، قالوا: نحن مضطرون، ونحن نجاهد في سبيل الله؟ وخفي عليهم أن ميتة البحر حلال، فقطعوا منها قطعاً، كل قطعة في حجم الثور، وأخذوا يشوون على النار، ويأكلون، ويحملون الدهن من عين الدابة ويطبخون، أفرغوا عينا من عيونها، ما أوسعها؟ إنا أشبه بحجرة، هيا نتسلى وننظر سعتها، كم من الرجال الواقفين تتسع لهم؟ واتسعت لخمسة عشر رجلاً، قطعوا ضلعاً من أضلاعها، ما أكبره؟ وما أطوله؟ هيا نتسلى وننظر طوله، اغرسوه في الأرض وأوقفوه، واغرسوا واحداً آخر، واجعلوهما كقوس، وهاتوا أعلى جمل في الجيش، وأطول رجل في الجيش، وليركب الرجل الجمل، وليمر من تحت الضلعين، ففعل، ولم تمس رأسه الضلعين. أكلوا من الدابة خمسة عشر يوماً، وما نفذت، حملوا معهم ما بقي من لحمها إلى المدينة، وأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان من أمرهم، فحمد الله لهم، وقال: هذا رزق حلال ساقه الله لكم، إن ميتة البحر حلال، هل معكم شيء من لحمها؟ قالوا: نعم، فجاءوه بقطعة منها، فأكلها إعلاناً لهم بحلها لغير المضطر. فلله الحمد والمنة ولرسوله صلى الله عليه وسلم جزاء ما بلغ، ولأصحابه الرضوان أجمعين. -[المباحث العربية]- (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم -وأمر علينا أبا عبيدة- نتلقى عيراً لقريش) في الرواية الثانية بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن ثلاثمائة راكب، وأميرنا أبو عبيدة بن الجراح، نرصد عيراً لقريش" وفي الرواية الخامسة "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، ثلاثمائة، وأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح" وفي الرواية

الرابعة "بعثنا النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن ثلاثمائة، نحمل أزوادنا على رقابنا" وفي ملحق الرواية الخامسة عن جابر "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية -أنا فيهم- إلى سيف البحر" وفي ملحقها أيضاً "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً إلى أرض جهينة، واستعمل عليهم رجلاً" "السرية" قطعة من الجيش، تخرج منه، وتعود إليه، وهي من مائة إلى خمسمائة، وما افترق من السرية يسمى بعثاً، وقوله "بعثنا" لا يعطي معنى البعث، وإنما المراد منه أرسلنا كسرية، ومهمة هذه السرية كانت التعرض لعير قريش، تحمل تجارة بين الشام ومكة، للاستيلاء على العير وما تحمل، تعويضاً للمسلمين عما استولى عليه مشركو مكة من أموالهم، فمعنى "نتلقى" نعترض مسيرها، و"العير" بكسر العين الإبل التي تحمل الميرة، ومعنى "نرصد عيراً لقريش" بضم الصاد، أي نرقبها ونترقب وصولها، للاستيلاء عليها، يقال: رصده رصداً، إذا قعد له على الطريق يرقبه. ولا خلاف بين رواياتنا في عدد هذه السرية، لكن ظاهر قوله في الرواية الرابعة "نحمل أزوادنا على رقابنا" أنهم كانوا مشاة، وصريح قوله "ونحن ثلاثمائة راكب" أنهم كانوا ركباناً، فيحتمل أن بعضهم كان راكباً والبعض كان ماشياً، فغلب هؤلاء مرة، وهؤلاء مرة. وقد ترجم البخاري لهذه السرية بباب غزوة "سيف البحر" وسيف البحر بكسر السين وسكون الياء ساحله. قال الحافظ ابن حجر: ذكر ابن سعد وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثهم إلى حي من جهينة بالقبلية -بفتح القاف والباء- مما يلي ساحل البحر، بينهم وبين المدينة خمس ليال، وأنهم انصرفوا ولم يلقوا كيداً، وأن ذلك كان في رجب سنة ثمان، وهذا لا يغاير ظاهره ما في الصحيحين، لأنه يمكن الجمع بين كونهم يتلقون عيراً لقريش، ويقصدون حياً من جهينة، ويقوي هذا الجمع ما عند مسلم عن جابر [ملحق روايتنا الخامسة] قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً إلى أرض جهينة" فذكر هذه القصة، لكن تلقي العير ما يتصور أن يكون في الوقت الذي ذكره ابن سعد في رجب سنة ثمان، لأنهم كانوا حينئذ في الهدنة، بل مقتضى ما في الصحيح أن تكون هذه السرية في سنة ست، أو قبلها، قبل الهدنة، نعم يحتمل أن يكون تلقيهم للعير ليس لمحاربتهم، بل لحفظهم من جهينة، ولهذا لم يقع في شيء من طرق الخبر أنهم قاتلوا أحداً، بل فيه أنهم قاموا نصف شهر أو أكثر في مكان واحد. و"أبو عبيدة" عامر بن عبد الله الجراح، أحد العشرة المبشرين بالجنة. (وزودنا جراباً من تمر، لم يجد لنا غيره) في الرواية الثانية "وكان معنا جراب من تمر" لكن في الرواية الرابعة "نحمل أزوادنا على رقابنا" وفي الرواية الخامسة "ففني زادهم، فجمع أبو عبيدة زادهم في مزود، فكان يقوتنا" بضم الياء وفتح القاف وتشديد الواو المكسورة، من التقويت، أو بفتح الياء وضم القاف مخففة، يقال: قات الرجل الرجل، يقوته، قوتاً بفتح القاف، أطعمه ما يمسك الرمق، والمزود بكسر الميم وسكون الزاي، ما يجعل فيه الزاد. قال الحافظ ابن حجر: ويمكن الجمع بأن الزاد العام كان قدر جراب، فلما نفد جمع أبو عبيدة الزاد الخاص، واتفق أنه أيضاً كان قدر جراب، ويكون كل من الروايتين ذكر ما لم يذكره الآخر، وأما قول عياض: يحتمل أنه لم يكن في أزوادهم تمر غير الجراب المذكور فمردود، لأن حديث الباب صريح في أن الذي اجتمع من أزوادهم

كان مزود تمر [لفظ البخاري الذي أشار إليه "فخرجنا، وكنا ببعض الطريق فني الزاد، فأمر أبو عبيدة بأزواد الجيش، فجمع، فكان مزودي تمر، فكان يقوتنا كل يوم قلبلاً قليلاً، حتى فني، فلم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة"] فصح أن التمر كان معهم من غير الجراب، وأما تفرقة ذلك تمرة تمرة فكان في ثاني الحال، بعد أن فني زادهم، وطال لبثهم. قال النووي: والظاهر أن قوله "تمرة تمرة" إنما كان بعد أن قسم عليهم قبضة قبضة، فلما قل تمرهم قسمه عليهم تمرة تمرة، ثم فرغ وفقدوا التمرة، ووجدوا ألماً لفقدها، وأكلوا الخبط، إلى أن فتح الله عليهم بالعنبر. قال الحافظ ابن حجر: وأما قول بعضهم: يحتمل أن يكون تفرقته عليهم تمرة تمرة كان من الجراب النبوي، قصداً لبركته، وكان يفرق عليهم من الأزواد التي جمعت أكثر من ذلك، فبعيد من ظاهر السياق، بل في رواية [روايتنا الخامسة] "ففني زادهم، فجمع أبو عبيدة زادهم في مزود، فكان يقوتنا، حتى كان يصيبنا كل يوم تمرة". (نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليها من الماء، فتكفينا يومنا إلى الليل) "نمصها" بفتح الميم وضمها، والفتح أفصح وأشهر. (وكنا نضرب بعصينا الخبط، ثم نبله بالماء، فنأكله) "الخبط" بفتح الخاء والباء ما سقط من ورق الشجر بالخبط والنفض، أي كنا نضرب أوراق الشجر الجافة، فتسقط، فنبلها بالماء، فنأكلها من الجوع، وفي الرواية الثانية "حتى أكلنا الخبط، فسمي جيش الخبط". (وانطلقنا على ساحل البحر) نبحث عن طعام. (فرفع لنا على ساحل البحر) أي ظهر لنا شيء وجسم. (كهيئة الكثيب الضخم) "الكثيب" الرمل المستطيل المحدوب، وجمعه أكثبة وكثب وكثبان. (فأتيناه، فإذا هي دابة، تدعى العنبر) بفتح العين وسكون النون وفتح الباء، وهو حيوان ثديي بحري، من رتبة الحيتان، وفي رواية البخاري "وألقى البحر حوتاً يقال له: العنبر" وفي رواية له "فألقى البحر حوتاً ميتاً لم ير مثله، يقال له: العنبر" وفي رواية له "فإذا حوت مثل الظرب" بفتح الظاء وكسر الراء، وهو الجبل الصغير. قال الأزهري: العنبر: سمكة تكون بالبحر الأعظم، يبلغ طولها خمسين ذراعاً. (قال أبو عبيدة: ميتة) خبر مبتدأ محذوف، أي هذه ميتة، لأنها لا حراك بها، أي والميتة حرام، فلا يحل أكلها، قال ذلك ابتداء باجتهاده، ثم غير اجتهاده، فقال: (لا، بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله) أي ونحن في سبيل الله.

(وقد اضطررتم فكلوا) منها، فقد أباح الله تعالى الميتة لمن كان مضطراً غير باغ ولا عاد. (فأقمنا عليه شهراً) في الرواية الثانية "فأكلنا منها نصف شهر" وفي ملحق الرواية الخامسة "فأكل منها الجيش ثماني عشرة ليلة" قال الحافظ ابن حجر: ويجمع بين هذا الاختلاف بأن الذي قال "ثمان عشرة" ضبط ما لم يضبطه غيره، وأن من قال "نصف شهر" ألغى الكسر الزائد، وهو ثلاثة أيام، ومن قال "شهراً" جبر كسر الشهر، أو ضم بقية المدة التي كانت قبل وجدانهم الحوت إليها، وقال ابن التين: إحدى الروايتين وهم. اهـ وقال النووي: طريق الجمع بين الروايات أن من روي شهراً هو الأصل، ومعه زيادة علم، ومن روي دونه لم ينف الزيادة، ولو نفاها قدم المثبت، والمشهور الصحيح عند الأصوليين أن مفهوم العدد لا حكم له، فلا يلزم منه نفي الزيادة، لو لم يعارضه إثبات الزيادة، كيف وقد عارضه؟ فوجب قبول الزيادة، وجمع القاضي بينهما بأن من قال "نصف شهر" أراد المدة التي أكلوها منه طرياً، ومن قال شهراً أراد أنهم قددوه، فأكلوا منه بقية الشهر قديداً. اهـ أقول: ويمكن الجمع بأن من قال: "خمسة عشر يوماً" نظر إلى مدة إقامتهم على الساحل خارج المدينة كجيش، ولا يخفى أن بعضهم حمل منه ما طعمه في المدينة بعد وصوله أياماً. (حتى سمنا) أي كثر لحمنا وشحمنا، وفي الرواية الثانية "فأكلنا منها نصف شهر، وادهنا من ودكها" بفتح الواو والدال، أي شحمها، والمراد من "وادهنا" أكلنا دهناً "حتى ثابت أجسامنا" أي رجعت إلى لحمها وشحمها بعد الهزال الذي أصابها من الجوع. (ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينه بالقلال الدهن) "وقب عينه" بفتح الواو وسكون القاف، داخل العين ونقرتها التي تكون فيها الحدقة، والقلال بكسر القاف جمع قلة بضمها، وهي الجرة الكبيرة، التي يقلها الرجل بين يديه، أي يحملها، والمعنى كنا نغترف الدهن من حفرة عينه بالقلال، تصويراً لسعة حدقة العين وما فيها من دهن. وفي الرواية الثانية "وأخرجنا من وقب عينه كذا وكذا قلة ودك" بفتح الواو والدال، أي دهن وشحم. (ونقتطع منه الفدر كالثور، أو كقدر الثور) "الفدر" بكسر الفاء وفتح الدال، جمع فدرة بكسر فسكون، وهي القطعة، أي كنا نقتطع من جسمه قطعاً، كل قطعة في حجم الثور. قال النووي: "كقدر الثور" رويناه بوجهين مشهورين في نسخ بلادنا: أحدهما بقاف مفتوحة ثم دال ساكنة، أي مثل الثور، والثاني "كفدر" بفاء مكسورة، ثم دال مفتوحة، والأول أصح، وادعى القاضي أنه تصحيف، وأن الثاني هو الصواب، وليس كما قال. (فلقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلاً، فأقعدهم في وقب عينه) تصوير لسعة حدقة عينه، التي ملأوا منها القلال من الدهن، فصارت كحوض مفرغ، ولنا أن نتصور طول العنبر أربعين متراً في خمسة أمتار، فرأسه عشرة أمتار في خمسة، فعينه خمسة

أمتار مربعة على الأقل. وفي الرواية الثانية "وجلس في حجاج عينه نفر" بفتح الحاء وكسرها، بعدها جيم مفتوحة، ثم بعد الألف جيم، وهو بمعنى وقب عينه في الرواية الأولى، ولعل قعود النفر في جوف العين كان من باب التسلية والتعجب. (وأخذ ضلعاً من أضلاعه، فأقامها، ثم رحل أعظم بعير معنا، فمر من تحتها) تصوير آخر لضخامة العنبر، كشيء من التسلية والغرابة، وذلك بأن أخذ القائد ضلعاً من أضلاع العنبر، بعد أن جردوها من اللحم، فغرسوا جزءاً منها في الأرض، وأقاموها، طرفها المعوج أعلاها، فصارت مثل عمود النور، ثم جاء بأعلى جمل في الجيش، وجاء بأطول رجل في الجيش، فأجلسه أو أوقفه فوق ظهر الجمل، فمر الجمل والرجل من تحت قوس الضلع، دون أن يمسها، ولم يذكر الرجل فوق البعير في الرواية الأولى، وذكر في الثانية، زيادة ثقة، وهي مقبولة، ومعنى "رجل أعظم بعير معنا" بفتح الراء وفتح الحاء مخففة، أي جعل عليه رحلاً، والضلع يؤنث ويذكر. وعند ابن إسحق "ثم أمر بأجسم بعير معنا، فحمل عليه أجسم رجل منا، فخرج من تحتها، وما مست رأسه" قال الحافظ ابن حجر: وهذا الرجل لم أقف على اسمه، وأظنه قيس بن سعد بن عبادة، فإن له ذكرا في هذه الغزوة، وكان مشهوراً بالطول، وفي رواية للبخاري "ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه، فنصبا، ثم أمر براحلة فرحلت، ثم مرت تحتهما، فلم تصبها" فيحتمل أنه نصب ضلعين مرة، وضلعاً مرة. (وتزودنا من لحمه وشائق) بالشين والقاف، قال أبو عبيد: هو اللحم يؤخذ، فيغلي إغلاء، ولا ينضج، ويحمل في الأسفار، يقال: وشقت اللحم، فاتشق، والوشيقة الواحدة منه، والجمع وشائق، ووشق بضم الواو، وقيل: الوشيقة القديد، ومعنى "تزودنا من لحمه" اتخذنا وحملنا منه زاداً معنا إلى المدينة. (فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا) قصد بذلك المبالغة في تطييب نفوسهم في حله، أو أنه قصد التبرك، لكونه طعمة من الله تعالى، خارقة للعادة. وأكرمهم الله بها. (وكان معنا جراب من تمر، فكان أبو عبيدة يعطي كل رجل منا قبضة قبضة، ثم أعطى تمرة تمرة، فلما فني وجدنا فقده) هذا بيان للحالة السابقة على أكل الخبط السابق على وجود العنبر. (أن رجلاً نحر ثلاث جزائر، ثم ثلاثاً، ثم ثلاثاً، ثم نهاه أبو عبيدة) قال العيني قوله: "ثلاث جزائر" غريب لأن الجزائر جمع جزيرة، والقياس جزر، جمع الجزور. اهـ وفي كتب اللغة: الجزور ما يصلح لأن يذبح من الإبل، ولفظه أنثى، يقال للبعير: هذه جزور سمينة، وجمعه جزائر، وجزر. وهذا الرجل -كما عند الواقدي وغيره- هو قيس بن سعد بن عبادة، وكان في هذا الجيش، فلما أصاب الناس جوع شديد قال: من يشتري مني تمراً بالمدينة بجزور هنا، فقال له رجل من جهينة

-القبيلة التي هم عندها- من أنت؟ فانتسب له، فقال: عرفت نسبك، فابتاع منه خمس جزائر بخمسة أوسق، ثم ابتاع منه خمساً أخرى، فلما ذبح تسعاً، وأراد أن يشتري غيرها نهاه أبو عبيدة، لأنه كان يعرف أن التمر لأبيه، لا له، ويخشى أن لا يجيز بيعه، وماذا تفعل جزر تسع لثلاثمائة رجل، إن كفتهم يوماً لم تكفهم مستقبلاً غامضاً، فلما بلغ سعد ما فعل ابنه وهبه حديقة تعطي مائتي وسق في العام. -[فقه الحديث]- قال مالك والشافعي وابن أبي ليلى والأوزاعي، والثوري في رواية: يؤكل كل ما في البحر من السمك والدواب، وسائر ما في البحر من الحيوان، سواء اصطيد أو وجد ميتاً، واحتج مالك ومن تابعه بقوله صلى الله عليه وسلم في البحر "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته" قال القرطبي في تفسيره: وأصح ما في هذا الباب من جهة الإسناد حديث جابر في الحوت الذي يقال له: العنبر، وهو من أثبت الأحاديث خرجه الصحيحان. اهـ قال النووي: في هذا الحديث إباحة ميتات البحر كلها، سواء في ذلك ما مات بنفسه، أو باصطياد. اهـ والحجة في هذا الحديث ليست في أكل الجيش، فقد يحمل على المضطر، ولكنها في قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأولى "هو رزق، أخرجه الله لكم" وفي أكله منه صلى الله عليه وسلم في المدينة، وهو غير مضطر. واستثنى الشافعي من ذلك الضفدع، للحديث في النهي عن قتلها، قال النووي: وممن قال بإباحة جميع حيوانات البحر إلا الضفدع: أبو بكر الصديق وعمر وعثمان وابن عباس -رضي الله عنهم- وأباح مالك الضفدع والجميع. اهـ قال العيني: قال الجاحظ: الضفدع لا يصيح، ولا يمكنه الصياح حتى يدخل حنكه الأسفل في الماء، وهو من الحيوان الذي يعيش في الماء، ويبيض في الشط، مثل السلحفاة ونحوها، وهي لا عظام لها، والضفدع يصبر عن الماء أياماً، قال البخاري: قال الشعبي: لو أن أهلي أكلوا الضفدع لأطعمتهم، قالوا: ولم يبين الشعبي. هل تذكى الضفادع؟ أم لا؟ واختلف مذهب مالك في ذلك، فقال ابن القاسم في المدونة: عن مالك أكل الضفدع والسرطان والسلحفاة جائز من غير ذكاة، وروي عن ابن القاسم: ما كان مأواه الماء يؤكل من غير ذكاة وإن كان يرعى في البر، وما كان مأواه ومستقره البر لا يؤكل إلا بذكاة، وعن محمد بن إبراهيم: لا يؤكلان إلا بذكاة، وقال ابن التين: وهو قول أبي حنيفة والشافعي. ويجيب الشافعية عن قول الشعبي بحديث ابن عمر قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ضفدع، يجعله طبيب في دواء، فنهى صلى الله عليه وسلم عن قتله. رواه أحمد والطيالسي والحاكم، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، قال الحافظ المنذري: فيه دليل على تحريم أكل الضفدع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتله، والنهي عن قتل الحيوان إما لحرمته، كالآدمي، وإما لتحريم أكله كالضفدع، والضفدع ليس بمحترم، فكان النهي منصرفاً إلى الوجه الآخر. اهـ والأطباء يرون في أكل الضفدع ضرراً. أما السلحفاة فقد قال البخاري: ولم ير الحسن البصري بالسلحفاة بأساً، وعن عطاء: لا بأس

بأكلها، وزعم ابن حزم: أن أكلها لا يحل إلا بذكاة، وأكلها حلال، بريها وبحريها وأكل بيضها، وعن طاووس ومحمد بن علي وفقهاء المدينة إباحة أكلها، وكرهها بعضهم للاستخباث. وقال أبو حنيفة: لا يحل غير السمك، بل السمك الميت الطافي على الماء لا يحل، واستدل بعموم تحريم الميتة، وبحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ما ألقاه البحر، وجزر عنه فكلوه، وما مات فيه فطفا فلا تأكلوه". قال النووي: هذا حديث ضعيف باتفاق أئمة الحديث، لا يجوز الاحتجاج به، لو لم يعارضه شيء، كيف وهو معارض بحديث "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته" وهو حديث صحيح، أخرجه مالك وأصحاب السنن واختلف فيما له شبه في البر مما لا يؤكل، والقياس يقتضي حله، لأنه سمك، لو مات في البر لأكل بغير تذكية، ولو نصب عنه الماء، فمات لأكل، فكذلك إذا مات وهو في البحر، كالخنزير والكلب، كلب البحر، وفرس الماء، واختلف قول الشافعي فيه وفي كل ذي ناب، كالتمساح والقرش والدلفين [الدرفيل] فإنه قد تعارض فيه دليلان: دليل تحليل، ودليل تحريم، فيغلب دليل التحريم احتياطاً على الأصح. واختلف أيضاً فيما يعرف بالجري -بفتح الجيم، وقد سئل ابن عباس عن أكله، فقال: هو شيء كرهته اليهود، ونحن نأكله، ويقال له: الجريت، وهو ما لا قشر له، وهو نوع من السمك، يشبه الثعبان، عريض الوسط، دقيق الطرفين، قال الحافظ ابن حجر: والثعبان والعقرب والسرطان لا تؤكل، للاستخباث، والضرر اللاحق من السم. وقال ابن عباس: كل من صيد البحر، صيد نصراني أو يهودي أو مجوسي. اهـ وصيد النهر والقناة والحفرة والبركة والحوض ونحو ذلك حلال، فقد سئل عطاء عنها فقال: هي صيد بحر، ثم قرأ {هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحماً طرياً} [فاطر: 12]. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - أن الجيوش لا بد لها من أمير، يضبطها، وينقادون لأمره ونهيه. 2 - وأنه ينبغي أن يكون الأمير أفضلهم. قالوا: ويستحب للرفقة -وإن قلوا أن يؤمروا بعضهم عليهم، وينقادوا له. 3 - وجواز صد أهل الحرب، والخروج لأخذ مالهم واغتنامه. قاله النووي. 4 - ومن توزيع تمرة تمرة، وفقدان التمرة ما كان عليه الصحابة -رضي الله عنهم- من الزهد في الدنيا، والتقلل منها، والصبر على الجوع، وخشونة العيش، وإقدامهم على الغزو مع هذه الحال. 5 - ومن اجتهاد أبي عبيدة في أكل الميتة اجتهاد الصحابة في الأحكام في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كما يجوز بعده.

6 - وفي طلب النبي صلى الله عليه وسلم من لحمه، وأكله، ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من تطييب نفوس أصحابه. 7 - وفيه أنه يستحب للمفتي أن يتعاطى بعض المباحات التي يشك فيها المستفتي، إذا لم يكن فيه مشقة على المفتي. 8 - وفيه دليل على أنه لا بأس بسؤال الإنسان بعض مال صاحبه ومتاعه، إدلالاً عليه، وليس هو من السؤال المنهي عنه، إنما ذاك في حق الأجانب للتمول ونحوه، أما هذه فللمؤانسة والملاطفة. 9 - ومن جمع أبي عبيدة زادهم في مزود مشروعية المؤاساة بين الجيش عند وقوع المجاعة، كما اشتهر به الأشعريون. 10 - وأن الاجتماع على الطعام يستدعي البركة فيه. قاله الحافظ ابن حجر. 11 - ومن ذبح الرجل للجزر ما كان عليه الصحابة من الجود والكرم والسخاء، وبخاصة في سبيل الله. 12 - واستدل من أكلهم من العنبر نصف شهر جواز أكل اللحم ولو أنتن، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل منه بعد ذلك، واللحم لا يبقى غالباً بلا نتن في هذه المدة. نعم يحتمل أن يكونوا ملحوه وقددوه، فلم يدخله نتن، لكنه بعيد. والله أعلم

(541) باب تحريم أكل لحم الحمر الإنسية وإباحة أكل لحم الخيل

(541) باب تحريم أكل لحم الحمر الإنسية وإباحة أكل لحم الخيل 4382 - عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن لحوم الحمر الإنسية. 4383 - وفي رواية عن الزهري بهذا الإسناد وفي حديث يونس: وعن أكل لحوم الحمر الإنسية. 4384 - عن أبي ثعلبة رضي الله عنه قال حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الحمر الأهلية. 4385 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية. 4386 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الحمار الأهلي يوم خيبر. وكان الناس احتاجوا إليها. 4387 - عن الشيباني قال: سألت عبد الله بن أبي أوفى عن لحوم الحمر الأهلية. فقال: أصابتنا مجاعة يوم خيبر ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد أصبنا للقوم حمراً خارجة من المدينة فنحرناها. فإن قدورنا لتغلي، إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن اكفئوا القدور ولا تطعموا من لحوم الحمر شيئاً. فقلت حرمها تحريم ماذا؟ قال: تحدثنا بيننا، فقلنا: حرمها البتة. وحرمها من أجل أنها لم تخمس.

4388 - عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: أصابتنا مجاعة ليالي خيبر. فلما كان يوم خيبر وقعنا في الحمر الأهلية فانتحرناها. فلما غلت بها القدور، نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن اكفئوا القدور، ولا تأكلوا من لحوم الحمر شيئاً. قال: فقال ناس: إنما نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها لم تخمس. وقال آخرون: نهى عنها البتة. 4389 - عن البراء وعبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما قالا: أصبنا حمراً فطبخناها فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكفئوا القدور. 4390 - عن البراء رضي الله عنه قال: أصبنا يوم خيبر حمرا فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اكفئوا القدور. 4391 - عن البراء رضي الله عنه قال: نهينا عن لحوم الحمر الأهلية. 4392 - عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نلقي لحوم الحمر الأهلية نيئة ونضيجة. ثم لم يأمرنا بأكله. 4393 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا أدري إنما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أنه كان حمولة الناس، فكره أن تذهب حمولتهم، أو حرمه في يوم خيبر لحوم الحمر الأهلية. 4394 - عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر. ثم إن الله فتحها عليهم. فلما أمسى الناس اليوم الذي فتحت عليهم أوقدوا نيراناً كثيرة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هذه النيران على أي شيء توقدون؟ " قالوا: على لحم. قال: "على أي

لحم؟ " قالوا: على لحم حمر إنسية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أهريقوها واكسروها" فقال رجل: يا رسول الله أو نهريقها ونغسلها؟ قال: "أو ذاك". 4395 - عن أنس رضي الله عنه قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، أصبنا حمراً خارجاً من القرية. فطبخنا منها. فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن الله ورسوله ينهيانكم عنها، فإنها رجس من عمل الشيطان. فأكفئت القدور بما فيها وإنها لتفور بما فيها. 4396 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما كان يوم خيبر جاء جاء، فقال: يا رسول الله أكلت الحمر. ثم جاء آخر، فقال: يا رسول الله أفنيت الحمر. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا طلحة فنادى: إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر، فإنها رجس أو نجس. قال: فأكفئت القدور بما فيها. 4397 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية. وأذن في لحوم الخيل. 4398 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أكلنا زمن خيبر الخيل وحمر الوحش. ونهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمار الأهلي. 4399 - عن أسماء رضي الله عنها قالت: نحرنا فرساً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه. -[المعنى العام]- يكتفى بالمعنى العام المذكور تحت باب غزوة خيبر.

-[المباحث العربية]- (نهى عن متعة النساء) أي زواج المرأة لمدة محدودة، وقد سبق الموضوع كاملاً في أوائل كتاب النكاح، تحت باب نكاح المتعة. (يوم خيبر) أي كان النهي يوم غزوة خيبر، والمقصود يوم أن فتحها الله عليهم، كما سيأتي. (وعن لحوم الحمر الإنسية) أي وعن أكل لحوم الحمر الإنسية، بكسر الهمزة وسكون النون، منسوبة إلى الإنس، ويقال فيه: أنسية، بفتحتين، وزعم ابن الأثير أن في كلام أبي موسى المديني ما يقتضي أنها بالضم ثم السكون، لقوله: الأنسية هي التي تألف البيوت، والأنس ضد الوحشة، ولا حجة في ذلك، لأن أبا موسى إنما قاله بفتحتين، ولم يقع في شيء من روايات الحديث بضم ثم سكون، مع احتمال جوازه، نعم زيف أبو موسى الرواية بكسر أوله ثم السكون، فقال ابن الأثير: إن أراد من جهة الرواية فعسى، وإلا فهو ثابت في اللغة، ونسبتها إلى الإنس، وقد وقع في كثير من رواياتنا "الأهلية" بدل "الإنسية". وقال النووي عن رواية سبقت في غزوة خيبر بلفظ "لحم حمر الإنسية" قال: هكذا هو، بإضافة "حمر" وهو من إضافة الموصوف إلى صفته، وهو على ظاهره عند الكوفيين، وتقديره عند البصريين حمر الحيوانات الإنسية، قال: وأما الإنسية ففيها لغتان وروايتان، حكاهما القاضي عياض وآخرون، أشهرهما كسر الهمزة وإسكان النون، قال القاضي: هذه رواية الأكثر، والثانية فتحهما جميعاً، وهما جميعاً نسبة إلى الإنس، وهم الناس، وسميت بذلك لاختلاطها بالناس. بخلاف حمر الوحش. (وكان الناس احتاجوا إليها) في الرواية الخامسة "أصابتنا مجاعة يوم خيبر، ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أصبنا للقوم حمراً خارجة من القرية" وفي الرواية الثالثة عشرة "أصبنا حمراً خارجاً من المدينة" بتذكير صفة جمع التكسير، والنعت من حيث التذكير والتأنيث حكمه حكم الفعل، والفعل مع جمع التكسير يذكر ويؤنث، تقول: جاء الحمر، وجاءت الحمر، ومؤنث الحمار حمارة، وفي الرواية السادسة "وقعنا في الحمر الأهلية" أي أصبناها برفق. (فنحرناها) وفي الرواية السادسة "فانتحرناها" ونحر الإبل طعنها بالسكين في منحرها، والمنحر من المرأة موضع القلادة من الصدر، والمراد هنا طعنها بالسكين في أعلى الصدر عند اتصاله بالعنق، وأما الذبح في البقر والغنم والطيور ونحوها فهو بقطع الأوداج [جمع ودج بفتح الدال، وهو العرق الذي في جانب العنق، وفي العنق عرقان متقابلان، قيل: ليس لكل بهيمة غير ودجين فقط، وهما محيطان بالحلقوم، وقد تطلق الأوداج على الحلقوم والمريء بالإضافة إلى الودجين على سبيل التغليب، فيقال: للحيوان أربعة أوداج] فالذكاة عند الثوري قطع الودجين، ولو لم يقطع الحلقوم والمريء، وعن مالك والليث يشترط قطع الودجين والحلقوم فقط، واحتج لهما بحديث "ما أنهر

الدم ... " وإنهاره إجراؤه، ويجري الدم بقطع الأوداج، لأنها مجرى الدم، وأما المريء فهو مجرى الطعام، وليس به من الدم، ما يصل به إنهار، وقال أكثر الحنفية: إذا قطع من الأوداج الأربعة ثلاثة حصلت التذكية، وحكى ابن المنذر عن محمد بن الحسن: إذا قطع الحلقوم والمريء وأكثر من نصف الأوداج أجزأ، فإن قطع أقل فلا خير فيها، وسيأتي بعد أبواب الذبح بكل ما أنهر الدم. (فإن قدورنا لتغلي إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي إن قدورنا كانت تغلي وقت نداء منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الرواية السادسة "فلما غلت بها القدور نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم" وعند النسائي "فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف، فنادى: ألا إن لحوم الحمر الإنسية لا تحل" وفي الرواية الرابعة عشرة "فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا طلحة، فنادى: إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر، فإنها رجس -أو نجس" وفي بعض الروايات أن بلالاً نادى بذلك: قال الحافظ ابن حجر: ولعل عبد الرحمن نادى أولاً بالنهي مطلقاً، ثم نادى أبو طلحة وبلال بزيادة على ذلك، وهو قوله "فإنها رجس" ووقع في الشرح الكبير للرافعي أن المنادي بذلك خالد بن الوليد، وهو غلط، فإنه لم يشهد خيبر، وإنما أسلم بعد فتحها. اهـ ويحتمل تعدد المنادين بأمره صلى الله عليه وسلم، ليذهب كل واحد إلى قطعة من الجيش، فيبلغ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختلاف المنادى به لفظاً لا يضر، والهدف التحذير من أكل لحوم الحمر الأهلية. أما عن طريق علمه صلى الله عليه وسلم بأن أصحابه يطبخون لحوم حمر أهلية فتقول الرواية الثانية عشرة "فلما أمسى الناس اليوم الذي فتحت عليهم أوقدوا نيراناً كثيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذه النيران؟ على أي شيء توقدون؟ قالوا: على لحم، قال: على أي لحم؟ قالوا: على لحم حمر إنسية ... " وفي رواية للبخاري "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه جاء، فقال: أكلت الحمر، ثم جاءه جاء، فقال: أكلت الحمر، ثم جاءه جاء، فقال: أفنيت الحمر، فأمر منادياً فنادى في الناس ... " قال الحافظ ابن حجر: لم أعرف اسم هذا الرجل، ولا اللذين بعده، ويحتمل أن يكونوا واحداً؛ فإنه قال أولاً "أكلت" فإما لم يسمعه النبي صلى الله عليه وسلم، وإما لم يكن أمر فيها بشيء، وكذا في الثانية، فلما قال الثالثة "أفنيت الحمر" أي لكثرة ما ذبح منها لتطبخ، صادف نزول الأمر بتحريمها، ولعل هذا مستند من قال: إنما نهي عنها لكونها كانت حمولة الناس. اهـ ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم بعد أن سمع كلام الرجل أو الرجال خرج من خيمته إلى الجيش، فرأى النيران، فسأل، فأجيب، فأرسل مناديه. (أن اكفئوا القدور) أي أميلوها، ليراق ما فيها، قال النووي: قال القاضي: ضبطناه بألف الوصل وفتح الفاء من كفأت الثلاثي، ومعناه قلبت، قال: ويصح قطع الألف وكسر الفاء من أكفأت الرباعي، وهما لغتان بمعنى عند كثيرين من أهل اللغة، وقال الأصمعي: يقال: كفأت، ولا يقال: أكفأت. اهـ و"أن" في "أن اكفئوا" تفسيرية، وبيان للنداء، وفي الرواية السابعة "اكفئوا القدور" بدون "أن" والجملة تفسير وبيان للنداء.

والمقصود بكفء القدور طرح ما فيها من لحوم الحمر على الأرض، مبالغة في عدم تناول شيء منها، لذا أكد هذا المعنى ووضحه في الرواية الخامسة بقوله "ولا تطعموا من لحوم الحمر شيئاً" وفي الرواية السادسة "ولا تأكلوا من لحوم الحمر شيئاً" وفي الرواية العاشرة "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نلقي لحوم الحمر الأهلية، نيئة ونضيجة، ثم لم يأمرنا بأكله" أي لم يرخص لنا في أكل هذا الملقى، و"نيئة" بكسر النون وبالهمزة، أي غير مطبوخة، أو غير كاملة النضج والطبخ، وفي الرواية الثانية عشرة "أهريقوها واكسروها، فقال رجل: يا رسول الله، أو نهريقها ونغسلها؟ قال: أو ذاك" والأمر بالكسر مبالغة في التنفير والتحذير، وكانت آنيتهم من الفخار الذي يكسر إن ضرب بحجر أو بجسم صلب، "وأهريقوها" أي صبوها، أم من "يهريقون الماء" مبني على حذف النون، يقال: هرق الماء هرقاً، صبه، وأهرق الماء هرقة، وهراق الماء، يهريقه، أي صبه. (فقلت: حرمها تحريم ماذا؟ ) أي سأل الشيباني هذا السؤال لعبد الله بن أبي أوفى. أي ما نوع التحريم؟ أهو تحريم أبدي لذات الحمر الأهلية؟ أم تحريم مؤقت لظرف خاص؟ (تحدثنا بيننا، فقلنا: ) أي فقال بعضنا: (حرمها البتة، وحرمها من أجل أنها لم تخمس) أي قال بعضنا: حرمها تحريماً أبدياً لذاتها، لأنها رجس ونجس، وقال بعضنا: حرمها لظرف خاص، وهي أنها لم تكن دخلت في التخميس وقسمة الغنيمة، والأخذ من الغنيمة قبل قسمتها غلول حرام، وفي الرواية السادسة "فقال ناس: إنما نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي عن أكلها "لأنها لم تخمس، وقال آخرون: نهى عنها البتة" وهناك ناس قالوا قولاً ثالثاً: هو أن التحريم مؤقت: لظرف خاص بهذه الحالة، وهي خشية فناء الحمر، لكثرة ما ذبح منها، وضحت هذا القول الرواية الحادية عشرة، وفيها "إنما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أنه كان حمولة الناس" بفتح الحاء، أي الذي يحمل متاعهم "فكره أن تذهب حمولتهم" وتشير إلى أن هذا هو السبب الرواية الرابعة عشرة، وقوله "البتة" أي تحريماً قاطعاً لا رجعة فيه، يقال: بت الشيء بتوتاً انقطع، وبت الشيء يبته، بضم الباء، بتا، وبتة، وبتاتاً، قطعه مستأصلاً، ولا أفعله البتة، ولا أفعله بتة، والبتة بهمزة قطع، أي قطعاً لا رجعة فيه. (وأذن في لحوم الخيل) في الرواية السادسة عشرة "أكلنا زمن خيبر الخيل" والخيل جماعة الأفراس، لا واحد له من لفظه، وجمعه أخيال وخيول، وفي الرواية السابعة عشرة "نحرنا فرساً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكلناه" وفي رواية للدارقطني "فأكلناه نحن وأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم". -[فقه الحديث]- قال النووي: اختلف العلماء في إباحة أكل لحوم الخيل، فمذهب الشافعي والجمهور من السلف والخلف أنه مباح، لا كراهة فيه، وبه قال عبد الله بن الزبير وفضالة بن عبيد وأنس بن مالك وأسماء

بنت أبي بكر وسويد بن غفلة وعلقمة والأسود وعطاء وشريح وسعيد بن جبير والحسن البصري وإبراهيم النخعي وحماد بن سليمان وأحمد وإسحق وأبو ثور وأبو يوسف ومحمد وداود وجماهير المحدثين وغيرهم، وكرهها طائفة، منهم ابن عباس والحكم ومالك وأبو حنيفة. واحتجوا بقوله تعالى {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} [النحل: 8] ولم يذكر الأكل، وذكر الأكل من الأنعام في الآية التي قبلها، وبحديث صالح بن يحيى بن المقدم عن أبيه عن جده عن خالد بن الوليد "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الخيل والبغال والحمير وكل ذي ناب من السباع" رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من رواية بقية بن الوليد عن صالح بن يحيى. قال النووي: واتفق العلماء من أئمة الحديث وغيرهم على أنه حديث ضعيف، وقال بعضهم: هو منسوخ، قال البخاري: هذا الحديث فيه نظر، وقال البيهقي: هذا إسناد مضطرب، وقال الخطابي: في إسناده نظر، قال: وصالح بن يحيى عن أبيه عن جده لا يعرف سماع بعضهم من بعض، وقال أبو داود: هذا الحديث منسوخ، وقال النسائي: حديث الإباحة أصح. قال: ويشبه إن كان هذا صحيحاً أن يكون منسوخاً. واحتج الجمهور بأحاديث الإباحة التي ذكرها مسلم وغيره، وهي صحيحة صريحة، ولم يثبت في النهي حديث. أما الآية فأجابوا عنها بأن ذكر الركوب والزينة لا يدل على أن منفعتها مختصة بذلك، فإنما خص هذان بالذكر لأنهما معظم المقصود من الخيل، كقوله تعالى {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير} [المائدة: 3] فذكر اللحم لأنه أعظم المقصود، وقد أجمع المسلمون على تحريم شحمه ودمه وسائر أجزائه، قالوا: ولهذا سكت عن ذكر حمل الأثقال على الخيل، مع قوله تعالى في الأنعام {وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس} [النحل: 7] ولم يلزم من هذا تحريم حمل الأثقال على الخيل. اهـ ونضيف أن المانعين لأكل الخيل، أو الكارهين لأكلها كثيرون، فقد ذهب بعض الحنفية وبعض المالكية إلى تحريم أكلها، والصحيح عند المحققين منهم التحريم، والمشهور عند المالكية الكراهة، وقال أبو حنيفة في الجامع الصغير: أكره لحم الخيل، فحمله الرازي على التنزيه، وقال: لم يطلق أبو حنيفة فيه التحريم، وليس هو عنده كالحمار الأهلي، وصحح عنه أصحاب المحيط والهداية والذخيرة التحريم، وهو قول أكثرهم، وعن بعضهم: يأثم آكله، ولا يسمى حراماً. واستدل هذا الفريق بما ذكره النووي، وبالآتي: 1 - قال ابن المنير: الشبه الخلقي بين الخيل وبين البغال والحمير يؤكد القول بمنع أكلها، من هذا الشبه هيئتها، وزهومة لحمها، وصفة أرواثها، وأنها لا تجتر، قال: وإذا تأكد الشبه الخلقي التحق به نفي الشبه بالأنعام المتفق على أكلها. وأجاب المبيحون بأن الشبه الخلقي لا يلزم منه الاتفاق في الحكم، لأن الآثار إذا صحت عن

رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بالقبول من النظر والقياس، والأخبار في حل الخيل شبه متواترة، لا سيما وقد أخبر جابر [روايتنا الخامسة عشرة والسادسة عشرة] أنه صلى الله عليه وسلم أباح لهم لحوم الخيل في الوقت الذي منعهم فيه من لحوم الحمر، فدل ذلك على اختلاف حكمها، وقد نقل الحل بعض التابعين عن الصحابة، من غير استثناء أحد، فأخرج ابن أبي شيبة بإسناد صحيح على شرط الشيخين عن عطاء قال: لم يزل سلفك يأكلونه. قال ابن جريج: قلت له: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم. 2 - كما استدلوا بما أخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق عن ابن عباس بأنه كرهها. وأجاب المبيحون بأن ما روي عن ابن عباس بالكراهة جاء بسندين ضعيفين، بل أخرج الدارقطني بسند قوي عن ابن عباس مرفوعاً مثل حديث جابر، ولفظه "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية، وأمر بلحوم الخيل". ثم إن ابن عباس في روايتنا الحادية عشرة توقف في سبب المنع من أكل الحمر، هل كان تحريماً مؤبداً، أو بسبب كونها كانت حمولة الناس؟ وهذا يأتي مثله في الخيل أيضاً، فيبعد أن يثبت عنه القول بتحريم الخيل، والقول بالتوقف في تحريم الحمر الأهلية. 3 - قال الشيخ محمد بن أبي جمرة: سبب كراهة مالك لأكلها كونها تستعمل غالباً في الجهاد، فلو انتفت الكراهة كثر أكلها، فيفضي إلى فنائها، فيئول إلى النقص من إرهاب العدو الذي وقع الأمر به، في قوله تعالى {ومن رباط الخيل} [الأنفال: 60]. وأجاب المبيحون بأن الكراهة على هذا لسبب خارج، وليس البحث فيه، فإن الحيوان المتفق على إباحته، لو حدث أمر يقتضي أن لو ذبح لأفضى إلى ارتكاب محذور، لامتنع، ولا يلزم من ذلك القول بتحريمه، ولا يلزم من كون أصل الحيوان حلالاً أكله فناؤه بالأكل. 4 - استدلوا بأنه لو كان أكل الخيل حلالاً لجازت الأضحية بها. وأجاب المبيحون بأنه لا يلزم، فإن حيوان البر مأكول، ولم تشرع الأضحية به. 5 - قالوا: إن وقوع أكل الخيل في الزمن النبوي كان نادراً، مما يدل على أن أكله كان مكروهاً على الأقل. وأجاب المبيحون بمنع الملازمة، فقد يكون قلة أكلها لقلتها، أو لكثرة وشدة الحاجة إليها، أو أن الانتفاع بها كان أولى من أكلها. 6 - استدلوا بحديث خالد بن الوليد المخرج في السنن "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الخيل". ويجيب المبيحون بأنه شاذ منكر، لأن في سياقه أنه شهد خيبر، وهو خطأ، فإنه لم يسلم إلا بعدها على الصحيح، والذي جزم به الأكثر أن إسلامه كان سنة الفتح، وأعل أيضاً بأن في السند راوياً

مجهولاً، وادعى أبو داود أن حديث خالد بن الوليد منسوخ، ولم يبين ناسخه -وكذا قال النسائي: الأحاديث في الإباحة أصح، وهذا إن صح كان منسوخاً، وكأنه لما تعارض عنده الخبران، ورأى في حديث خالد "نهى" وفي حديث جابر "أذن" حمل الإذن على نسخ التحريم. قال الحافظ ابن حجر: وليس في لفظ "رخص" و"أذن" ما يتعين معه المصير إلى النسخ، بل الذي يظهر أن الحكم في الخيل والبغال والحمير كان على البراءة الأصلية، فلما نهاهم الشارع يوم خيبر عن الحمر والبغال، خشي أن يظنوا أن الخيل كذلك، لشبهها بها، فأذن في أكلها دون الحمير والبغال، والراجح أن الأشياء قبل بيان حكمها في الشرع لا توصف لا بحل ولا حرمة، فلا يثبت النسخ في هذا. قال: ونقل الحازمي أيضاً تقرير النسخ بطريق أخرى، فقال: إن النهي عن أكل الخيل والحمير كان عاماً، من أجل أخذهم لها قبل القسمة والتخميس، ثم بين بندائه بأن لحوم الحمر رجس أن تحريمها لذاتها، وأن النهي عن الخيل إنما كان بسبب ترك القسمة خاصة. قال الحافظ: ويعكر عليه أن الأمر بإكفاء القدور إنما كان بطبخهم فيها الحمر، لا الخيل، فلا يتم مراده. قال: والحق أن حديث خالد -ولو سلم أنه ثابت- لا ينهض معارضاً لحديث جابر الدال على الجواز، وقد وافقه حديث أسماء [روايتنا السابعة عشرة] وقد ضعف حديث خالد أحمد والبخاري وموسى بن هارون والدارقطني والخطابي وابن عبد البر وعبد الحق وآخرون، وجمع بعضهم بين حديث جابر وخالد بأن حديث جابر دال على الجواز في الجملة، وحديث خالد دال على المنع في حالة دون حالة، لأن الخيل في خيبر كانت عزيزة، وكانوا محتاجين إليها للجهاد، فلا يعارض النهي المذكور، ولا يلزمه وصف أكل الخيل بالكراهة المطلقة، فضلاً عن التحريم. 7 - ووجهوا الاستدلال بقوله تعالى {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} بأوجه: أ- أن اللام للتعليل، فدل على أنها لم تخلق لغير ذلك، لأن العلة المنصوصة تفيد الحصر، فإباحة أكلها تقتضي خلاف ظاهر الآية. ويجيب المبيحون بأننا لو سلمنا أن اللام للتعليل لم نسلم إفادة الحصر في الركوب والزينة، فإنه ينتفع بالخيل في غيرها، وفي غير الأكل اتفاقاً، وإنما ذكر الركوب والزينة لكونهما أغلب ما تطلب له الخيل. ب- عطف البغال والحمير على الخيل، فدل على اشتراكها معها في حكم التحريم، فيحتاج من أفرد حكمها عن حكم ما عطفت عليه إلى دليل. ويجيب المبيحون بأن دلالة العطف إنما هي دلالة اقتران، وهي ضعيفة. ج- أن الآية سيقت مساق الامتنان، فلو كانت ينتفع بها في الأكل، لكان الامتنان به أعظم، لأنه يتعلق به بقاء البنية بغير واسطة، والحكيم لا يمتن بأدنى النعم، ويترك أعلاها، ولا سيما وقد وقع الامتنان بالأكل في المذكورات قبلها. ويجيب المبيحون بأن الامتنان إنما قصد به غالباً ما كان يقع به انتفاعهم بالخيل، فخوطبوا بما

ألفوا وعرفوا، ولم يكونوا يعرفون أكل الخيل، لعزتها في بلادهم، بخلاف الأنعام، فإن أكثر انتفاعهم بها كان لحمل الأثقال وللأكل، فاقتصر في كل من الصنفين على الامتنان بأغلب ما ينتفع به، فلو لزم من ذلك الحصر في هذا الشق للزم مثله في الشق الآخر. 8 - أعل بعض الحنفية حديث جابر، بما نقله عن ابن إسحق أنه لم يشهد خيبر، وأجاب الحافظ ابن حجر بأن ذلك ليس بعلة، لأن غايته أن يكون مرسل صحابي. 9 - زعم بعضهم أن حديث أسماء [روايتنا السابعة عشرة] ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك. ويجيب المبيحون بأن لفظ رواية الدارقطني "فأكلناه نحن وأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم" مما يفيد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع أن ذلك لو لم يرد لم يظن بآل أبي بكر أنهم يقدمون على فعل شيء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا وعندهم العلم بجوازه، لشدة اختلاطهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، وعدم مفارقتهم له، هذا مع توفر داعية الصحابة إلى سؤاله عن الأحكام، ومن ثم كان الراجح أن الصحابي إذا قال: كنا نفعل كذا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان له حكم الرفع، لأن الظاهر اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وتقريره، وإذا كان ذلك في مطلق الصحابي، فكيف بآل أبي بكر الصديق؟ أما لحوم الحمر الأهلية فقال النووي: اختلف العلماء في المسألة، فقال الجماهير من الصحابة والتابعين ومن بعدهم بتحريم لحومها، لهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة، وقال ابن عباس: ليست بحرام، وعن مالك ثلاث روايات: أشهرها أنها مكروهة كراهية تنزيه شديدة، والثانية أنها حرام، والثالثة أنها مباحة، والصواب التحريم، كما قاله الجماهير، للأحاديث الصريحة. قال: وأما الحديث المذكور في سنن أبي داود عن غالب بن أبجر قال: أصابتنا سنة، فلم يكن في مالي شيء، أطعم أهلي، إلا شيء من حمر، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم لحوم الحمر الأهلية، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، أصابتنا السنة، فلم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر، وإنك حرمت لحوم الحمر الأهلية؟ فقال: أطعم أهلك من سمين حمرك، فإنما حرمتها من أجل جوال القرية" يعني بالجوال التي تأكل الجلة، وهي العذرة. قال النووي: فهذا الحديث مضطرب، مختلف الإسناد شديد الاختلاف، ولو صح حمل على الأكل منها في حال الاضطرار. وروى البخاري عن عمرو بن دينار قال: قلت لجابر بن زيد أبي الشعثاء: يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن حمر الأهلية؟ فقال: قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة، ولكن أبى ذلك البحر ابن عباس، وقرأ {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرماً .... } وفي رواية ابن مردويه وصححه الحاكم عن ابن عباس، قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء، ويتركون أشياء تقذراً، فبعث الله نبيه، وأنزل كتابه، وأحل حلاله، وحرم حرامه، فما أحل فيه فهو حلال، وما حرم فيه فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، وتلا هذه الآية {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرماً .... } إلى آخرها. قال الحافظ ابن حجر: والاستدلال بهذه الآية للحل إنما يتم فيما لم يأت فيه نص عن النبي صلى الله عليه وسلم

بتحريمه، وقد تواردت الأخبار بذلك، والتنصيص على التحريم مقدم على عموم التحليل، وعلى القياس، وقد ورد عن ابن عباس أنه توقف في النهي عن الحمر، هل كان لمعنى خاص؟ أو للتأبيد [روايتنا الحادية عشرة] وهذا التردد أصح من الخبر الذي جاء عنه بالجزم بالعلة المذكورة. وقال الحافظ ابن حجر: وقد أزال احتمالات كونها لم تخمس، أو كانت جلالة، أو مخافة قلة الظهر حديث أنس [روايتنا الثالثة عشرة والرابعة عشرة] حيث جاء فيه "فإنها رجس" وكذا الأمر بغسل الإناء في حديث سلمة [روايتنا الثانية عشرة] قال القرطبي: قوله "فإنها رجس" ظاهر في عود الضمير على الحمر، لأنها المتحدث عنها، المأمور بإكفائها من القدور وغسلها، وهذا حكم المتنجس، فيستفاد منه تحريم أكلها، وهو دال على تحريمها لعينها، لا لمعنى خارج، وقال ابن دقيق العيد: الأمر بإكفاء القدور ظاهر أنه سبب تحريم لحم الحمر، وقد وردت علل أخرى، إن صح رفع شيء منها وجب المصير إليه، لكن لا مانع أن يعلل الحكم بأكثر من علة، وحديث أبي ثعلبة [روايتنا الثانية] صريح في التحريم، فلا معدل عنه. وأما التعليل بخشية قلة الظهر فأجاب عنه الطحاوي بالمعارضة بالخيل، فإن في حديث جابر [روايتنا الخامسة عشرة والسادسة عشرة] النهي عن الحمر، والإذن في الخيل، مقروناً، فلو كانت العلة لأجل الحمولة لكانت الخيل أولى بالمنع، لقلتها عندهم، وعزتها، وشدة حاجتهم إليها. والجواب عن آية الأنعام {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرماً .... } أنها مكية، وخبر التحريم متأخر جداً، فهو مقدم. وأيضاً فنص الآية خبر عن الحكم الموجود عند نزولها، فإنه حينئذ لم يكن نزل في تحريم المأكول إلا ما ذكر فيها، وليس فيها ما يمنع أن ينزل بعد ذلك غير ما فيها، وقد نزل بعدها في المدينة أحكام بتحريم أشياء غير ما ذكر فيها، كالخمر، في آية المائدة، وفيها أيضاً تحريم ما أهل لغير الله به، والمنخنقة ... إلخ، وكتحريم السباع والحشرات، قال النووي: قال بتحريم الحمر الأهلية أكثر العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، ولم نجد عن أحد من الصحابة في ذلك خلافاً لهم إلا عن ابن عباس. قال الحافظ ابن حجر: وأما الحديث الذي أخرجه الطبراني عن أم نصر المحاربية "أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر الأهلية؟ فقال: أليس ترعى الكلأ؟ وتأكل الشجر؟ قال: نعم. قال: فأصب من لحومها" وأخرجه ابن أبي شيبة بسند آخر، لكن في السندين مقال، ولو ثبتا احتمل أن يكون قبل التحريم. والله أعلم. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - من الرواية الأولى تحريم نكاح المتعة، وقد سبق شرح أحاديثه وإيضاح أحكامه، في أوائل كتاب النكاح تحت باب نكاح المتعة. 2 - ومن الرواية الثانية عشرة وجوب غسل ما أصابته النجاسة.

3 - وأن الإناء المتنجس يطهر بغسله مرة واحدة، ولا يحتاج إلى سبع، إذا كانت غير نجاسة الكلب والخنزير وما تولد من أحدهما. قال النووي: وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور، وعند أحمد: يجب سبع في الجميع على أشهر الروايتين عنه، وموضع الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق الأمر بالغسل، ويصدق ذلك على مرة، ولو وجبت الزيادة لبينها، فإن في المخاطبين من هو قريب العهد بالإسلام، ومن هنا معناه لا يفهم من الأمر بالغسل إلا مقتضاه عند الإطلاق، وهو مرة. 4 - وأنه إذا غسل الإناء المتنجس فلا بأس باستعماله، وأما أمره صلى الله عليه وسلم أولا بكسر القدور فيحتمل أنه كان بوحي، أو باجتهاد، ثم نسخ، وتعين الغسل، قال النووي: ولا يجوز اليوم الكسر، لأنه إتلاف مال، وقد سبق قريباً توضيح حكم استعمال آنية الكفار في أول باب من كتاب الصيد. 5 - وفي الحديث أن الذكاة لا تطهر ما لا يحل أكله. 6 - وأن الأصل في الأشياء الإباحة، لكون الصحابة أقدموا على ذبحها وطبخها، كسائر الحيوان من قبل أن يستأمروا، مع توفر دواعيهم على السؤال عما يشكل. 7 - وأنه ينبغي لأمير الجيش تفقد أحوال رعيته، ومن رآه فعل ما لا يسوغ في الشرع أشاع منعه، إما بنفسه كأن يخاطبهم، وإما بغيره، بأن يأمر منادياً فينادي، لئلا يغتر به من رآه، فيظنه جائزاً. 8 - ومن الرواية السادسة عشرة أن حمر الوحش حلال لحمها. 9 - عن قوله في الرواية السابعة عشرة "نحرنا فرساً" مع رواية البخاري "ذبحنا فرساً" قال النووي: يجوز ذبح المنحور، ونحر المذبوح، وهو مجمع عليه، وإن كان فاعله مخالفاً الأفضل، قال: ويجمع بين الروايتين بأنهما قضيتان، فمرة نحروها، ومرة ذبحوها، ويجوز أن تكون قضية واحدة، ويكون أحد اللفظين مجازاً، والصحيح الأول، لأنه لا يصار إلى المجاز إلا إذا تعذرت الحقيقة، والحقيقة غير متعذرة، بل في الحمل على الحقيقة فائدة مهمة، كما سبق. والله أعلم

(542) باب إباحة الضب

(542) باب إباحة الضب 4400 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الضب. فقال: "لست بآكله ولا محرمه". 4401 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الضب. فقال: "لا آكله ولا أحرمه". 4402 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر عن أكل الضب. فقال: "لا آكله ولا أحرمه". 4403 - ، 5 عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم في الضب. بمعنى حديث الليث عن نافع. غير أن حديث أيوب: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بضب فلم يأكله ولم يحرمه. وفي حديث أسامة قال: قام رجل في المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر. 4404 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معه ناس من أصحابه، فيهم سعد، وأتوا بلحم ضب. فنادت امرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم إنه لحم ضب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلوا فإنه حلال، ولكنه ليس من طعامي".

4405 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: دخلت أنا وخالد بن الوليد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة. فأتي بضب محنوذ، فأهوى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده. فقال بعض النسوة اللاتي في بيت ميمونة: أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يريد أن يأكل. فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده. فقلت: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: "لا ولكنه لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه". قال خالد: فاجتررته فأكلته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر. 4406 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن خالد بن الوليد -الذي يقال له سيف الله- اخبره أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم -وهي خالته وخالة ابن عباس- فوجد عندها ضباً محنوذاً. قدمت به أختها حفيدة بنت الحارث من نجد. فقدمت الضب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان قلما يقدم إليه طعام حتى يحدث به ويسمى له. فأهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم يده إلى الضب. فقالت امرأة من النسوة الحضور: اخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قدمتن له. قلن: هو الضب يا رسول الله. فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده. فقال خالد بن الوليد: أحرام الضب يا رسول الله؟ قال: "لا ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه". قال خالد: فاجتررته فأكلته، ورسول الله ينظر فلم ينهني. 4407 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أخبره، أن خالد بن الوليد أخبره، أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ميمونة بنت الحارث -وهي خالته- فقدم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لحم ضب، جاءت به أم حفيد بنت الحارث من نجد. وكانت تحت رجل من بني جعفر. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأكل شيئاً حتى يعلم ما هو. ثم ذكر بمثل حديث يونس، وزاد في آخر الحديث: وحدثه ابن الأصم عن ميمونة، وكان في حجرها. 4408 - وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم ونحن في بيت ميمونة بضبين مشويين. بمثل حديثهم، ولم يذكر يزيد بن الأصم عن ميمونة.

4409 - وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت ميمونة، وعنده خالد بن الوليد بلحم ضب. فذكر بمعنى حديث الزهري. 4410 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أهدت خالتي أم حفيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سمناً وأقطاً وأضباً. فأكل من السمن والأقط. وترك الضب تقذراً. وأكل على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولو كان حراماً ما أكل على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم. 4411 - عن يزيد بن الأصم قال: دعانا عروس بالمدينة، فقرب إلينا ثلاثة عشر ضباً، فآكل وتارك. فلقيت ابن عباس من الغد، فأخبرته: فأكثر القوم حوله، حتى قال بعضهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا آكله ولا أنهى عنه ولا أحرمه". فقال ابن عباس: بئس ما قلتم. ما بعث نبي الله صلى الله عليه وسلم إلا محلاً ومحرماً. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو عند ميمونة، وعنده الفضل بن عباس، وخالد بن الوليد، وامرأة أخرى، إذ قرب إليهم خوان عليه لحم. فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يأكل، قالت له ميمونة: إنه لحم ضب. فكف يده، وقال: "هذا لحم لم آكله قط" وقال لهم: "كلوا" فأكل منه الفضل وخالد بن الوليد والمرأة. وقالت ميمونة: لا آكل من شيء إلا شيء يأكل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم. 4412 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بضب. فأبى أن يأكل منه، وقال: "لا أدري لعله من القرون التي مسخت". 4413 - عن أبي الزبير قال: سألت جابراً عن الضب. فقال: لا تطعموه وقذره. وقال: قال عمر بن الخطاب: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرمه. إن الله عز وجل ينفع به غير واحد. فإنما طعام عامة الرعاء منه. ولو كان عندي طعمته. 4414 - عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله، إنا بأرض مضبة، فما تأمرنا، أو فما تفتينا؟ قال: "ذكر لي أن أمة من بني إسرائيل مسخت" فلم يأمر ولم ينه. قال

أبو سعيد: فلما كان بعد ذلك، قال عمر: إن الله عز وجل لينفع به غير واحد، وإنه لطعام عامة هذه الرعاء، ولو كان عندي لطعمته، إنما عافه رسول الله صلى الله عليه وسلم. 4415 - عن أبي سعيد رضي الله عنه أن أعرابياً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني في غائط مضبة، وإنه عامة طعام أهلي. قال: فلم يجبه. فقلنا: عاوده. فعاوده. فلم يجبه، ثلاثاً. ثم ناداه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثالثة. فقال: "يا أعرابي، إن الله لعن أو غضب على سبط من بني إسرائيل، فمسخهم دواب يدبون في الأرض. فلا أدري لعل هذا منها. فلست آكلها ولا أنهى عنها". -[المعنى العام]- خلق الله الإنسان، وأسكنه الأرض، واستخلفه عليها، وسخر له ما فيها، سخر له ما فيها لينتفع به، أكلاً، أو شرباً، أو سكناً، أو لباساً، أو متعة بأنواع المتع المختلفة، وكما خلق الله الخير والشر في الكون، خلق بعض المخلوقات ليخوف بها عباده، وخلق بعض المأكولات الضارة، بجوار المأكولات النافعة، ليختبر البشر، بالإقبال على ما هو نافع، والابتعاد عما هو ضار، وكان من مهام الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم أن يحل للبشرية الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث. ولما كانت النفوس مختلفة من حيث الإقبال والنفور على المطعوم والمشروب، كان لكل مجموعة مطاعمها ومشاربها التي قد تنفر منها المجموعة الأخرى، وكان للإلف والعرف والعادة أثر كبير في القبول أو النفور، فبعض البلاد تعتز بالجراد، وتعتبره الأكلة المفضلة، وبعضها لا يتقبل رؤيته على المائدة، ولا دخل للحل والحرمة في مثل هذا فقد تتقزز نفس من حلال، ولا تتقزز منه نفس أخرى. ومن هذا القبيل -ما نحن فيه- الضب حيوان، أو دويبة من جنس الزواحف، قصير الأرجل جداً، حتى كأنه يزحف على بطنه، لا يزيد وزنه عن كيلو جرام واحد، يسكن الجبال غالباً في الجحور، وله شبيه في البيوت المهجورة والخربات ويزحف على الحوائط، وهو ما يعرف في مصر (بالبرص) أو (السحلية) وفي سواحل الشام (بالسفاية) غير أنه غليظ الجسم خشنه، حتى شبهه بعضهم بالفأر، لغلظ بطنه، له ذنب عريض حرش معقد، لحمه طري لزج، تعافه كثير من النفوس، وتأكله نفوس تعيش غالباً في البوادي والصحاري دون غضاضة أو نفور، وتعافه نفوس أهل الحضر، وسكان المدن. حفيدة أخت ميمونة زوج الرسول صلى الله عليه وسلم جاءت من صحراء نجد إلى المدينة، فأهدت أختها ميمونة عدداً من هذا الضب، فقامت ميمونة وأختها بشيه على النار، حتى نضج، وقدم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه من أصحابه عبد الله بن عباس والفضل بن عباس وخالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص وبجواره

شيء من اللبن والسمن، فأهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم يده إلى إناء الضب، على أنه لحم مما يقدم إليه عادة، وفاته أن يسأل عن نوع هذا اللحم، ولا عن مصدره، كما كان يسأل عادة، وكانت زوجه ميمونة تعلم أن هذا اللحم غير مألوف لسكان المدينة ولا مكة، وتوقعت أن نفس الرسول صلى الله عليه وسلم ستعافه، إذا علم حقيقته، فنادت من داخل البيت: أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قدم له من لحم، فلما لم تسمع من يخبره بذلك قالت: إنه الضب يا رسول الله، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، وأحجم عن أكله، قال له خالد بن الوليد: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: لا، ولكنه ليس مألوفاً لي، وليس بأرض قومي، فنفسي تعافه. كلوا. أنا لا أحرمه، لكنني لا آكله، فهجم عليه خالد بن الوليد، وأكل منه بشهوة، كما أكل معه الفضل وحفيدة، وامتنعت من أكله أم المؤمنين ميمونة، وقالت: أنا لا آكل من شيء لا يأكل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم. -[المباحث العربية]- (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الضب) أي عن أكل الضب، وفي الرواية الثانية "سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الضب" وفي الرواية الثالثة "سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو على المنبر- عن أكل الضب" وفي الرواية الخامسة "قام رجل في المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر" قال الحافظ ابن حجر: هذا السائل يحتمل أن يكون خزيمة بن جزء، فقد أخرج ابن ماجه من حديثه "قلت: يا رسول الله، ما تقول؟ فقال: لا آكله، ولا أحرمه. قال: قلت: فإني آكل ما لم تحرمه". أما الرجل المبهم في الرواية الرابعة عشرة والخامسة عشرة، فيمكن أن يفسر بثابت بن وديعة، فقد أخرج أبو داود والنسائي من حديثه، قال: "أصبت ضبابا، فشويت منها ضباً، فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن أمة من بني إسرائيل مسخت دواب ... ". و"الضب" دويبة تشبه الجرذون، قال الحافظ ابن حجر: لكنه أكبر من الجرذون، ويكنى أبا حل، بكسر الحاء وسكون اللام، ويقال للأنثى ضبة، وذكر ابن خالويه: أن الضب يعيش سبعمائة سنة، وأنه لا يشرب الماء، ويبول في كل أربعين يوماً قطرة، ولا يسقط له سن، ويقال: بل أسنانه قطعة واحدة، وحكي غيره أن أكل لحمه يذهب العطش، ومن الأمثال "لا أفعل كذا حتى يرد الضب" يقوله من أراد أن لا يفعل الشيء، لأن الضب لا يرد الماء، بل يكتفي بالنسيم وبرد الهواء، ولا يخرج من جحره في الشتاء. والجرذون، والجرذ بضم الجيم وفتح الراء الكبير من الفئران، وجمعه جرذان بضم الجيم وكسرها مع سكون الراء. وفي كتب اللغة: الضب حيوان من جنس الزواحف، من رتبة العظاء المعروفة في مصر بالسحلية، وفي سواحل الشام بالسافية، ومن أنواعها الضب، وسوام أبرص غليظ الجسم، خشنه، وله ذنب عريض حرش أعقد، يكثر في صحاري الأقطار العربية، وصورتها في كتب اللغة تشبه العظاءة، ولا تشبه الجرذون، كما قال الحافظ ابن حجر. (لست بآكله، ولا محرمه) بضم الميم وفتح الحاء وتشديد الراء المكسورة، معطوف على

"آكله" والباء زائدة، داخلة على خبر "ليس" لتأكيد النفي، وفي الرواية الثانية والثالثة "لا آكله" وفي الرواية الحادية عشرة "لا آكله، ولا أنهى عنه، ولا أحرمه". (أتي النبي صلى الله عليه وسلم بضب، فلم يأكله، ولم يحرمه) "أتي" بضم الهمزة وكسر التاء، مبني للمجهول، وهو إشارة إلى القصة الواردة في الروايات السادسة وما بعدها، وكذلك "أتي" في الرواية الثانية عشرة، وأما قوله فيها "لا أدري ... إلخ" فهو في مقام آخر، وقصة أخرى، جمعها الراوي، إذ لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم له الضب إلا مرة واحدة. نعم في ملحق الرواية التاسعة "أتي بضبين مشويين" والمقصود من الضب بالإفراد الجنس، فلا يتعارض مع التثنية، ولا مع الجمع "أضبا" بفتح الهمزة وضم الضاد، الوارد في الرواية العاشرة، وفي الرواية السابعة "فأتي بضب محنوذ" بسكون الحاء: أي مشوي، وقيل: نضج، وقيل: مشوي في الرضف، أي الحجارة المحماة، وقيل: الذي يقطر ماؤه بعد أن يشوى. (عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معه ناس من أصحابه، فيهم سعد) بن أبي وقاص، ولم يكن ابن عمر معهم، ولم يشهد الحادثة، فالظاهر أنه نقلها عن أحدهم، فهو مرسل صحابي، وكذا روايته الرابعة، وفي الرواية السابعة "عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: دخلت أنا وخالد بن الوليد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة" وهي ظاهرة في أنها من مسند ابن عباس، وكذا الرواية العاشرة، أما الرواية الثامنة والتاسعة، ولفظها "عن ابن عباس أن خالد بن الوليد أخبره أنه دخل .... إلخ" فظاهرها أنه من مسند خالد بن الوليد. قال الحافظ ابن حجر: والجمع بين هذه الروايات أن ابن عباس كان حاضراً للقصة في بيت خالته ميمونة، كما صرح به في إحدى الروايات [روايتنا السابعة] وكأنه استثبت خالد بن الوليد في شيء منه، لكونه الذي كان باشر السؤال عن حكم الضب، وباشر أكله أيضاً، فكان ابن عباس ربما رواه عنه. اهـ وفي الرواية الحادية عشرة "بينما هو عند ميمونة، وعنده الفضل بن عباس وخالد بن الوليد وامرأة أخرى" والظاهر أنها حفيدة بنت الحارث، بضم الحاء وفتح الفاء، ففي الرواية الثامنة "قدمت به أختها حفيدة بنت الحارث من نجد" وفي الرواية التاسعة "جاءت به أم حفيد بنت الحارث من نجد، وكانت تحت رجل من بني جعفر" وفي الرواية العاشرة "أهدت خالتي أم حفيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سمناً وأقطاً وأضباً" أي أهدت إليه في بيت ميمونة أختها، فقدم إليه، فظاهر هذه الروايات أن الذين حضروا الوليمة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد وعبد الله بن العباس والفضل بن العباس وسعد بن أبي وقاص وحفيدة وميمونة، فميمونة خالة عبد الله بن عباس وأخيه الفضل، وأمهما لبابة الكبرى بنت الحارث، وخالة خالد بن الوليد، وأمه لبابة الصغرى بنت الحارث، فالأربع أخوات، والدهن الحارث، قال النووي: في بعض النسخ "أم حفيدة" وفي بعضها "أم حميد" بالحاء، وفي بعضها "حميدة" وكله بضم الحاء مصغر، قال القاضي وغيره: والأصوب والأشهر "أم حفيد" بلا هاء، واسمها هزيلة، وكذا ذكرها ابن عبد البر وغيره في الصحابة.

(فنادت امرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم: إنه لحم ضب) في الرواية السابعة "فأهوى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فقال بعض النسوة اللائي في بيت ميمونة: أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يريد أن يأكل، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده" وفي الرواية الثامنة "وكان قلما يقدم إليه طعام حتى يحدث به، ويسمى له، فأهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم يده إلى الضب، فقالت امرأة من النسوة الحضور: أخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قدمتن له. قلن: هو الضب يا رسول الله، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده" والحضور جمع حاضر، ووصف النسوة بالحضور، وهو مذكر، لما سبق من أن جمع التكسير نعته من حيث التذكير والتأنيث حكمه حكم الفعل، أي يجوز تذكيره وتأنيثه، قال تعالى {وقال نسوة في المدينة} [يوسف: 30] قال النووي: كذا هو في جميع النسخ "الحضور" وقال الحافظ ابن حجر: كذا وقع بلفظ جمع المذكر، وكأنه باعتبار الأشخاص، وفي الرواية الحادية عشرة "إذ قرب إليهم خوان، عليه لحم، فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يأكل قالت له ميمونة: إنه لحم ضب، فكف يده" فكأن ميمونة أرادت أن غيرها يخبره صلى الله عليه وسلم، فلما لم يخبروه، ورأت يده تهوى إلى الضب، بادرت هي، فأخبرت. وأما أنه صلى الله عليه وسلم كان يسأل عما يقدم إليه ما لا يعلم حقيقته، لأن العرب كانت لا تعاف شيئاً من المآكل، لقلتها عندهم، وكان صلى الله عليه وسلم قد يعاف بعض الشيء، فلذلك كان يسأل، وقيل: يحتمل أن يكون سبب السؤال أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يكثر الإقامة في البادية، فلم يكن له خبرة بكثير من الحيوانات، أو لأن الشرع ورد بتحريم بعض الحيوانات، وإباحة بعضها، وكانوا لا يحرمون منها شيئاً، وربما أتوا به مشوياً أو مطبوخاً، فلا يتميز عن غيره إلا بالسؤال عنه، وكان أزواجه -رضي الله عنهن- يعلمن عنه ذلك، فلما لم يسأل، وأهوى يده إلى الضب أخبرته ميمونة، وهذه القضية من باب القليل، الذي فاته أن يسأل عنه، فالرواية التاسعة، ولفظها "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأكل شيئاً حتى يعلم ما هو؟ " معناها في الغالب الكثير، وهذا من القليل، أو هو لم يأكل صلى الله عليه وسلم، وإن هم بالأكل. (وحدثه ابن الأصم عن ميمونة، وكان في حجرها) يعني في بيتها وحمايتها. (سمناً وأقطاً وأضباً) "الأقط" بفتح الهمزة وكسر القاف، وقد تسكن، هو جبن اللبن المستخرج زبده، وقال ابن الأثير: الأقط لبن مجفف يابس مستحجر، يطبخ به، أي بعد أن يعركوه بالماء السخن في الأواني الخزف، حتى ينحل، ويصير كاللبن، ثم يطبخون به ما شاءوا من الأطعمة التي يطبخونها باللبن، والأضب بفتح الهمزة وضم الضاد جمع ضب. (فقلت: أحرام هو يا رسول الله؟ ) وفي الرواية الثامنة "أحرام الضب يا رسول الله"؟ (قال: لا. ولكنه لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه) "لا" أي ليس حراماً، قال الحافظ ابن حجر: قال ابن العربي: اعترض بعض الناس على هذه اللفظة "لم يكن بأرض قومي" بأن الضب كثير بأرض الحجاز. قال ابن العربي: فإن كان أراد تكذيب الخبر فقد كذب هو، فإنه ليس بأرض الحجاز منها شيء، أو ذكرت له بغير اسمها، أو حدثت بعد ذلك، وكذا أنكر ابن عبد البر ومن تبعه أن

يكون ببلاد الحجاز شيء من الضباب، قال الحافظ ابن حجر: ولا يحتاج إلى شيء من هذا، بل المراد بقوله صلى الله عليه وسلم "بأرض قومي" قريشاً فقط، فيختص النفي بمكة وما حولها، ولا يمنع ذلك أن تكون موجودة بسائر بلاد الحجاز، قال الحافظ: وقد وقع في رواية يزيد بن الأصم عند مسلم [روايتنا الحادية عشرة] "دعانا عروس بالمدينة، فقرب إلينا ثلاثة عشر ضباً، فآكل وتارك" الحديث، فهذا يدل على كثرة وجودها بتلك الديار. اهـ وفي كلام الحافظ هذا نظر، فوجود مائة من الضباب على مائدة بالمدينة لا يلزم منه وجود ضب واحد في جحور أراضيها، فقد يكون مجلوباً من نجد، كما قدمت به حفيدة، وأما قصره النفي على مكة وما حولها فمنتقض بأن النبي صلى الله عليه وسلم عاش زمناً طويلاً في المدينة، وتنقل في غزواته في الجزيرة العربية، فالأولى أن يقال: "إن المعنى: لم يكن مألوفاً أكله بأرض قومي، أو ليس كثيراً بأرض قومي، وليس بلازم أن يكون متعلق الجار والمجرور "بأرض قومي" كوناً عاماً. وفي الرواية السادسة "كلوا. فإنه حلال، ولكنه ليس من طعامي" وفي الرواية الحادية عشرة "هذا لحم لم آكله قط"، ومعنى "أعافه" أكره أكله، وفي رواية "فتركهن النبي صلى الله عليه وسلم كالمتقذر لهن" وفي روايتنا العاشرة "فأكل من السمن والأقط، وترك الضب تقذراً". (قال خالد: فاجتررته، فأكلته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر) يقال: اجتر الشيء إذا جذبه، أي فجذبته من الإناء، فأكلته، قال الحافظ ابن حجر: "فاجتررته" بجيم وراءين، هذا هو المعروف في كتب الحديث، وضبطه بعض شراح المهذب بزاي قبل الراء، وقد غلطه النووي. اهـ ويحتمل أنه غلطه رواية، فهو مقبول المعنى، يقال: جزر الشيء قطعه، أي فقطعته في الإناء، فأكلته. وفي الرواية الثامنة "ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر، فلم ينهني" ولا يلزم من هذا أن يكون خالد قد أكل كل الضباب المقدمة وحده، ففي الرواية الحادية عشرة "فأكل الفضل وخالد بن الوليد والمرأة، وقالت ميمونة: لا آكل من شيء إلا شيء يأكل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم" والمستثنى "إلا شيء" ضبطناه مجروراً، بدلاً من "شيء" المستثنى منه، ويجوز في غير الرواية نصبه على الاستثناء، فالكلام تام منفي. وواضح من الرواية من أكل من الحاضرين، ومفهومها أن عبد الله بن عباس وسعداً لم يأكلا أيضاً. (دعانا عروس بالمدينة) يعني رجلاً تزوج قريباً، والعروس يقع على المرأة والرجل، والمراد بالمدينة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم. (فآكل وتارك) أي فبعض المدعوين آكل من الضب، وبعضهم تارك أكله. (فأكثر القوم حوله) أي كثروا وتجمعوا حوله، أو أكثروا الخوض في حكم أكل الضب. (فقال ابن عباس: بئسما قلتم) قال ابن العربي: ظن ابن عباس أن الذي أخبر بقوله صلى الله عليه وسلم "لا آكله" أراد "لا أحله" فأنكر عليه، لأن خروجه من قسم الحلال والحرام محال، قال الحافظ ابن حجر: وتعقبه شيخنا في شرح الترمذي بأن الشيء إذا لم يتضح إلحاقه بالحلال أو الحرام يكون من الشبهات، فيكون من حكم الشيء قبل ورود الشرع، والأصح -كما قال النووي- أنه لا يحكم عليها بحل ولا حرمة.

قال الحافظ ابن حجر: ثم وجدت في الحديث زيادة لفظة سقطت من رواية مسلم، وبها يتجه إنكار ابن عباس، ويستغنى عن تأويل ابن العربي: "لا آكله" و"لا أحله" وذلك أن أبا بكر بن أبي شيبة وهو شيخ مسلم فيه، أخرجه في مسنده بالسند الذي ساق به عند مسلم، فقال في روايته "لا أكله، ولا أنهى عنه، ولا أحله، ولا أحرمه" ولعل مسلماً حذفها عمداً لشذوذها، لأن ذلك لم يقع في شيء من الطرق، لا في حديث ابن عباس ولا غيره، وأشهر من روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "لا آكله ولا أحرمه" رواية ابن عمر، وليس في حديثه "لا أحله" بل جاء التصريح عنه بأنه حلال، فلم تثبت هذه اللفظة، وهي قوله "لا أحله" لأنها وإن كانت من رواية يزيد بن الأصم، وهو ثقة، لكنه أخبر بها عن قوم، كانوا عند ابن عباس، فكانت رواية عن مجهول، ولم يقل يزيد بن الأصم: إنهم كانوا صحابة، حتى يغتفر عدم تسميتهم. (لا تطعموه، قذره) قول جابر: "لا تطعموه" ميل منه أن يعافه أصحابه، ولا يقصد بذلك التحريم أو الكراهة، بل لأنه قذر منظراً، وقوله "وقذره" الواو استئنافية، و"قذره" بفتح القاف وكسر الذال وفتح الراء، فعل ماض، يقال: قذر الشيء بكسر الذال يقذره، بفتح الذال، وجده قذراً، وكرهه لوسخه، ويقال: قذر الشيء بفتح الذال، يقذره بضمها، جعله قذراً، كقذره بتشديد الذال. (لعله من القرون التي مسخت) في الرواية الرابعة عشرة "ذكر لي أن أمة من بني إسرائيل مسخت" وفي الرواية الخامسة عشرة "إن الله لعن -أو غضب على سبط" أي قبيلة "من بني إسرائيل، فمسخهم دواب، يدبون في الأرض، فلا أدري، لعل هذا منها" قال النووي: أما "يدبون" فبكسر الدال، وأما "دواب" فكذا وقع في بعض النسخ، ووقع في أكثرها "دواباً" بالألف، والأول هو الجاري على المعروف المشهور في العربية. اهـ يقصد أنها صيغة منتهى الجموع "فواعل" ممنوع من الصرف. قال الطبري: ليس في الحديث الجزم بأن الضب مما مسخ، إنما خشي أن يكون منهم، فتوقف عنه، وإنما قال ذلك قبل أن يعلمه الله تعالى أن الممسوخ لا ينسل، وبهذا أجاب الطحاوي، ثم ساق حديث "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير: أهي مما مسخ؟ قال: إن الله لم يهلك قوماً -أو يمسخ قوماً- فيجعل لهم نسلاً ولا عاقبة". (فإنما طعام عامة الرعاء منه) "الرعاء" بكسر الراء، آخره همزة كالرعاة، آخره تاء، جمع راع، وهو من يحفظ الماشية ويرعاها. (إنا بأرض مضبة) قال النووي: فيها لغتان مشهورتان: إحداهما فتح الميم والضاد، والثانية ضم الميم وكسر الضاد، والأول أشهر وأفصح، أي يكثر فيها الضب. اهـ وفي الرواية الخامسة عشرة "إني في غائط مضبة" والغائط الأرض المطمئنة المنخفضة. (وإنه عامة طعام أهلي) أي وإن الضب أكثر طعام أولادي. فما حكم أكلنا الضب؟

فقه الحديث قال النووي: أجمع المسلمون على أن الضب حلال، ليس بمكروه، إلا ما حكي عن أصحاب أبي حنيفة من كراهته، وإلا ما حكى القاضي عياض عن قوم أنهم قالوا: هو حرام، وما أظنه يصح عن أحد، وإن صح عن أحد فمحجوج بالنصوص وإجماع من قبله. ثم قال "وفي الأحاديث تصريح بما اتفق عليه العلماء، من أن إقرار النبي صلى الله عليه وسلم الشيء وسكوته عليه إذا فعل بحضرته، يكون دليلاً لإباحته، ويكون بمعنى قوله: أذنت فيه، وأبحته، فإنه لا يسكت على باطل، ولا يقر منكراً". اهـ وقال الحافظ ابن حجر: المعروف عن أكثر الحنفية فيه كراهة التنزيه، وجنح بعضهم إلى كراهة التحريم، وقال الطحاوي في معاني الآثار، احتج محمد بن الحسن بحديث عائشة "أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم ضب، فلم يأكله، فقام عليهم سائل، فأرادت عائشة أن تعطيه، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتعطينه ما لا تأكلين"؟ قال محمد: دل ذلك على كراهته لنفسه ولغيره، ويفهم من هذا أن محمد بن الحسن مال إلى أن الكراهة للتحريم، وقال بعض أتباعه: اختلفت الأحاديث، وتعذرت معرفة المتقدم، فرجحنا جانب كراهة التحريم تقليلاً للنسخ، قال الحافظ ابن حجر: ودعوى التعذر ممنوعة. وتعقب الطحاوي الاستدلال بحديث عائشة على كراهة التحريم، فقال: ما في هذا دليل على الكراهة، لاحتمال أن تكون عافته، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يكون ما يتقرب به إلى الله إلا من خير الطعام، كما نهى أن يتصدق بالتمر الرديء. اهـ كما استدل له أيضاً بما أخرجه أبو داود من أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الضب، ورد بأنه ضعيف، قال الخطابي: ليس إسناده بذاك، وقال ابن حزم: فيه ضعفاء ومجهولون، وقال البيهقي: تفرد به إسماعيل بن عياش، وليس بحجة، وقال ابن الجوزي: لا يصح، كما استدل له أيضاً بأحاديث المسخ، روايتنا الرابعة عشرة والخامسة عشرة، وفي بعض رواياتها عند أبي داود "إن أمة من بني إسرائيل مسخت دواب من الأرض، فأخشى أن تكون هذه، فاكفئوها" وأخرجه أحمد وصححه ابن حبان والطحاوي، قال الطحاوي: ليس في الحديث الجزم بأن الضب مما مسخ، وإنما خشي أن يكون منهم، فتوقف عنه، وإنما قال ذلك قبل أن يعلم أن الممسوخ لا ينسل. قال الحافظ ابن حجر: وعلى تقدير ثبوت كون الضب ممسوخاً، فذلك لا يقتضي تحريم أكله لأن كونه آدمياً قد زال حكمه، ولم يبق له أثر أصلاً، وإنما كره صلى الله عليه وسلم الأكل منه، لما وقع عليه من سخط الله، كما كره الشرب من مياه ثمود. قال الحافظ ابن حجر: والأحاديث الماضية -يقصد أحاديث البخاري ومسلم- وإن دلت على الحل تصريحاً وتلويحاً، نصاً وتقريراً، فالجمع بينها وبين هذا، حمل النهي فيه على أول الحال، عند تجويز أن يكون مما نسخ، وحينئذ أمر بإكفاء القدور، ثم توقف، فلم يأمر به، ولم ينه عنه، وحمل الإذن فيه على ثاني الحال، لما علم أن الممسوخ لا عقب له، ثم بعد ذلك كان يستقذره، فلا يأكله ولا يحرمه، وأكل على مائدته، فدل على الإباحة، وتكون الكراهة للتنزيه، في حق من يتقذره، وتحمل أحاديث

الإباحة على من لا يتقذره، ولا يلزم من ذلك أنه يكره مطلقاً، وقد أفهم كلام ابن العربي أنه لا يحل في حق من يتقذره، لما يتوقع في أكله من الضرر، وهذا لا يختص بهذا. اهـ -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤاكل أصحابه. 2 - وأنه كان يأكل اللحم، حيث تيسر. 3 - وأنه كان لا يعلم من الغيب إلا ما علمه الله تعالى. 4 - وفيه الإعلام بما شك فيه، لإيضاح حكمه. 5 - وأن النفرة وعدم الاستطابة لا تستلزم التحريم. 6 - وأن الطباع تختلف في النفور عن بعض المأكولات. 7 - وأن المنقول عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يعيب الطعام الذي هو فيما صنعه الآدمي، لئلا ينكسر خاطره، وينسب إلى التقصير فيه، وأما الذي خلق كذلك، فليس نفور الطبع منه ممتنعاً. 8 - وأن وقوع مثل ذلك ليس بمعيب ممن يقع منه، خلافاً لبعض المتنطعة. قاله الحافظ. 9 - وفيه أن من خشي أن يتقذر شيئاً لا ينبغي أن يدلس له، لئلا يتضرر به، وقد شوهد ذلك من بعض الناس. 10 - قال الحافظ ابن حجر: وقد يستنبط منه أن اللحم إذا أنتن لم يحرم، لأن بعض الطباع لا تعافه. اهـ وهذا الاستنباط مستبعد. 11 - وفيه دخول أقارب الزوجة بيتها، إذا كان بإذن الزوج، أو رضاه. 12 - وفيه جواز الأكل من بيت القريب والصهر والصديق، قال الحافظ ابن حجر: وكأن خالداً ومن وافقه في الأكل أرادوا جبر قلب التي أهدته، أو لتحقق حكم الحل، أو لامتثال قوله صلى الله عليه وسلم "كلوا" وفهم من لم يأكل أن الأمر فيه للإباحة. 13 - ومن كون الضب محنوذاً مشوياً جواز أكل الشواء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أهوى بيده ليأكل، ثم لم يمتنع إلا لكونه ضباً، فلو كان غير ضب لأكل. أشار إلى ذلك ابن بطال. 14 - وفيه قبول الهدية. 15 - وفيه الاكتفاء بالرضا، وعدم ضرورة الإذن الصريح، لأن خالداً أخذ الضب، فأكله، من غير استئذان، قال النووي: خالد أكل هذا في بيت ميمونة، وبيت صديقه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يحتاج إلى استئذان، لا سيما والمهدية خالته. 16 - وفيه وفور عقل ميمونة أم المؤمنين، وعظيم نصيحتها للنبي صلى الله عليه وسلم، لأنها فهمت مظنة نفوره عن أكله، بما استقر عندها من تصرفاته، فخشيت أن يكون ذلك كذلك، فيتأذى بأكله، لاستقذاره له، فصدقت فراستها. والله أعلم

(543) باب إباحة أكل الجراد وأكل الأرنب

(543) باب إباحة أكل الجراد وأكل الأرنب 4416 - عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات. نأكل الجراد. 4417 - وفي رواية عن أبي يعفور بهذا الإسناد. قال أبو بكر في روايته: سبع غزوات. وقال إسحق. ست. وقال ابن أبي عمر: ست أو سبع. 4418 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مررنا فاستنفجنا أرنباً بمر الظهران، فسعوا عليه فلغبوا. قال: فسعيت حتى أدركتها. فأتيت بها أبا طلحة فذبحها، فبعث بوركها وفخذيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأتيت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله. 4419 - وفي رواية عن شعبة بهذا الإسناد. وفي حديث يحيى: بوركها أو فخذيها. -[المعنى العام]- واقع الشعوب يؤكد لنا الاختلاف بينها في تقبل بعض ما هو حلال، وفي النفور من بعض ما هو حلال أيضاً، ففي الجزيرة العربية والخليج العربي يأكلون الجراد، مسلوقاً، مضافاً إليه بعض "البوهارات" والأملاح، ومشوياً على النار، والجراد عندهم غالبا ما يكون دسماً كبيراً، وبأعداد تغطي عنان السماء، وفي مصر يعافون الجراد، ويتقززون من رؤيته، والأمر نفسه في الأرنب، بعض الشعوب، بل بعض الناس في الشعب الواحد يأكله ويحبه، كلحم مفيد خفيف، وبعضهم يعافه، ويشبهه بالقط، مع أن القط من أكلة اللحوم، والأرنب من أكلة النباتات. والشرع الحنيف أباح أكل هذا وذاك، الجراد والأرنب، وكان صلى الله عليه وسلم لا يعيب طعاماً قط، بل كان إذا اشتهاه أكله، وإذا عافه تركه، وأكل غيره مما يقدم إليه، تاركاً لأصحابه الذين يأكلون معه أن يأكلوا مما عافه هو، ولم يعافوه مما أحل الله.

-[المباحث العربية]- (سبع غزوات، نأكل الجراد) في ملحق الرواية "ست غزوات" وفي ملحقها الثاني "ست أو سبع" بالشك، فاختلفت ألفاظ الحديث في عدد الغزوات. وفي رواية البخاري "نأكل معه الجراد" وفي رواية "كلنا نأكل معه الجراد" والجراد معروف، ومفرده والواحدة منه جرادة، والذكر والأنثى سواء، كالحمامة والحمام، وقد وجه الحافظ ابن حجر لفظ المعية في رواية "نأكل معه" فقال: يحتمل أن يريد بالمعية مجرد الغزو، دون ما تبعه من أكل الجراد، ويحتمل أن يريد مع أكله، ويدل على الثاني أنه وقع في رواية أبي نعيم في الطب "ويأكل معنا". (مررنا، فاستنفجنا أرنباً بمر الظهران) في رواية للبخاري "أنفجنا أرنباً ونحن بمر الظهران" و"أنفجنا" بفاء مفتوحة، وجيم ساكنة، أي أثرنا وهيجنا، ورواية مسلم "استنفجنا" استفعال منه، يقال: نفج الأرنب إذا ثار وعداً، وانتفج كذلك، وأنفجته إذا أثرته من موضعه، ووقع في شرح مسلم للمازري "بعجنا" بالباء، وبعين مفتوحة، وفسره بالشق، من بعج بطنه إذا شقه، وتعقبه القاضي عياش بأنه تصحيف، وبأنه لا يصح معناه من سياق الخبر، لأن فيه أنهم سعوا في طلبها بعد ذلك، فلو كانوا شقوا بطنها كيف كانوا يحتاجون إلى السعي خلفها. اهـ ويحتمل أن الشق كان خفيفاً، لم يمنع الأرنب من السعي والجري. و"مر الظهران" بفتح الميم وتشديد الراء، و"الظهران" بفتح الظاء، على صورة المثنى لظهر، اسم موضع، واد معروف، على خمسة أميال من مكة، إلى جهة المدينة، وجزم البكري بأنه من مكة على ستة عشر ميلاً وهو المعتمد، وقيل: واحد وعشرين ميلاً. قال النووي: والأول غلط، وإنكار للمحسوس، و"مر" قرية ذات نخل وزرع ومياه، والظهران اسم الوادي، وقد يسمى بإحدى الكلمتين تخفيفاً، وهو المكان الذي تسميه عوام المصريين: بطن مرد، والصواب "مر" بتشديد الراء. وفي روايتنا تنازع عاملين لمعمول واحد، والأصل: مررنا بمر الظهران، فاستنفجنا أرنباً بمر الظهران. (فسعوا عليه) فيه التفات من التكلم إلى الغيبة، والأصل: فسعينا عليه، أي جرينا خلفه لصيده. (فلغبوا) بفتح الغين وكسرها، أي تعبوا، ووقع في رواية بلفظ "تعبوا" أي ولم يدركوها، فتوقفوا عن السعي وراءها. (قال: فسعيت، حتى أدركتها) في رواية أبي داود "وكنت غلاماً حزوراً" بحاء فزاي مضمومة، آخره راء، أي مراهقاً.

(فأتيت بها أبا طلحة) هو زوج أم أنس، واسمه زيد بن سهل الأنصاري. (فذبحها) في رواية الطيالسي "فذبحها بمروة" "المرو" حجارة بيض رقاق براقة. (فبعث بوركها وفخذيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) في ملحق الرواية "بوركها أو فخذيها" والفخذ بسكون الخاء وكسرها ما فوق الركبة إلى الورك، والورك بفتح الواو مع سكون الراء وكسرها، وبكسر الواو مع سكون الراء ما فوق الفخذ، والمراد من "وركها" جنس الورك، فيقصد الوركين معاً، ورواية "أو" بمعنى الواو، فالواقع أنه بعث الوركين والفخذين معاً، كل فخذ وورك متماسكان، والمعنى فبعثني. (فأتيت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله) أي فأتيت بهذه القطعة من الأرنب، أو أتيت بهذه الهدية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبل هذا الشيء المهدى، زاد في رواية البخاري "قلت" أي قال الراوي عن أنس لأنس: "وأكل منه؟ قال: وأكل منه. ثم قال بعد: قبله" قال الحافظ ابن حجر: شك في الأكل، ثم استيقن القبول، فجزم به آخراً. -[فقه الحديث]- في هذين الحديثين حكم أكل الجراد، وحكم أكل الأرنب. أما حكم أكل الجراد فقد قال النووي: أجمع المسلمون على إباحته، ثم قال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد والجماهير بحله، سواء مات بذكاة، أو باصطياد مسلم، أو باصطياد مجوسي، أو مات حتف أنفه، وسواء قطع بعضه، أو أحدث فيه سبب، وقال مالك في المشهور عنه، وأحمد في رواية: لا يحل إلا إذا مات بسبب، بأن يقطع بعضه، أو يسلق، أو يلقى في النار حياً، أو يشوى، فإن مات حتف أنفه، أو في وعاء لم يحل. اهـ وقد وردت أحاديث أخرى بحله وجواز أكله. منها ما أخرجه ابن ماجه عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أحلت لنا ميتتان: الحوت والجراد" كذا رواه في أبواب الصيد، ثم رواه في أبواب الأطعمة، وزاد فيه "ودمان: الكبد والطحال" لكن في إسناده عبد الرحمن بن أسلم، وهو ضعيف. ومنها ما أخرجه أحمد عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصبنا جراداً، فأكلناه" لكن في إسناده جابر الجعفي، وهو ضعيف. ومنها ما أخرجه ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حج أو عمرة، فاستقبلنا رجل من جراد" بكسر الراء وسكون الجيم، أي طائفة عظيمة منه "فجعلنا نضربهن بأسواطنا ونعالنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كلوه، فإنه من صيد البحر" وفي سنده أبو المهزم، وهو ضعيف.

ووردت أحاديث أخرى بمنع أكله، أو بالتوقف، منها: ما رواه الدارقطني عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زجر صبياننا عن الجراد، وكانوا يأكلونه". والصواب أن هذا الحديث موقوف. ومنها ما رواه أبو داود عن سليمان: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجراد، فقال: لا أحله، ولا أحرمه". وزعم الصيمري من الشافعية أن النبي صلى الله عليه وسلم عافه كما عاف الضب، ومستنده الحديث السابق والصواب أنه مرسل، وعند ابن عدي عن ابن عمر "أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الضب، فقال: لا آكله، ولا أحرمه، وسئل عن الجراد، فقال مثل ذلك" وفي إسناده ثابت بن زهير وهو ليس بثقة. فالأمر كما قال النووي إجماع على حل أكله. لكن فصل ابن العربي في شرح الترمذي بين جراد الحجاز، وجراد الأندلس، فقال في جراد الأندلس: لا يؤكل، لأنه ضرر محض، قال الحافظ ابن حجر: وهذا إن ثبت أنه يضر أكله، بأن يكون فيه سمية تخصه، دون غيره من جراد البلاد، تعين استثناؤه. والله أعلم وأما حكم أكل الأرنب فقد قال النووي: أكل الأرنب حلال عند مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد والعلماء كافة، إلا ما حكي عن عبد الله بن عمرو بن العاص وابن أبي ليلى أنهما كرهاها. دليل الجمهور هذا الحديث، مع أحاديث مثله، ولم يثبت في النهي عنها شيء. اهـ وحكى الرافعي عن أبي حنيفة أنه حرمها، وغلطه النووي في النقل عن أبي حنيفة. ومن الأحاديث التي أشار إليها النووي: ما أخرجه الدارقطني عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرنب، وأنا نائمة، فخبأ لي منها العجز، فلما قمت أطعمني" قال الحافظ ابن حجر: وهذا لو صح لأشعر بأنه أكل منها. لكن سنده ضعيف. وفي الهداية للحنفية أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من الأرنب حين أهدي إليه مشوياً، وأمر أصحابه بالأكل منه" قال الحافظ ابن حجر: وكأنه تلقاه من حديثين، فأوله من حديث الباب، وقد ظهر ما فيه، أي إن الثابت فيه أنه قبله، والآخر من حديث أخرجه النسائي، عن أبي هريرة قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأرنب قد شواها، فوضعها بين يديه، فأمسك، وأمر أصحابه أن يأكلوا" ورجاله ثقات. اهـ وهذا الحديث الثاني لا دلالة فيه على أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من الأرنب، بل هو صريح في أنه أمسك، ولم يأكل. واحتج من كرهه بحديث خزيمة بن جزء "قلت: يا رسول الله، ما تقول في الأرنب؟ قال: لا آكله، ولا أحرمه، قالت: فإني آكل ما لا تحرمه. ولم يا رسول الله؟ قال: نبئت أنها تدمي" أي تحيض. -[وفي الحديث الثاني غير ما تقدم]- 1 - جواز استثارة الصيد، والغدو في طلبه، وأما ما أخرجه أبو داود والنسائي من حديث ابن عباس

رفعه "من اتبع الصيد غفل" فهو محمول على من واظب على ذلك، حتى يشغله عن غيره من المصالح الدينية وغيرها. 2 - أن آخذ الصيد يملكه بأخذه، ولا يشاركه فيه من أثاره معه. 3 - وفيه هدية الصيد، وقبولها من الصائد. 4 - وإهداء الشيء اليسير لكبير القدر، إذا علم من حاله الرضا بذلك. 5 - وأن ولي الصبي يتصرف فيما يملكه الصبي بالمصلحة. 6 - وفيه قبوله هدية الصيد. والله أعلم

(544) باب ما يستعان به على الصيد. والأمر بإحسان الذبح والقتل. والنهي عن صبر البهائم

(544) باب ما يستعان به على الصيد. والأمر بإحسان الذبح والقتل. والنهي عن صبر البهائم 4420 - عن ابن بريدة قال: رأى عبد الله بن المغفل رجلاً من أصحابه يخذف. فقال له: لا تخذف، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره، أو قال: ينهى عن الخذف. فإنه لا يصطاد به الصيد ولا ينكأ به العدو، ولكنه يكسر السن ويفقأ العين. ثم رآه بعد ذلك يخذف. فقال له: أخبرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره أو ينهى عن الخذف، ثم أراك تخذف. لا أكلمك كلمة كذا وكذا. 4421 - عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخذف. قال ابن جعفر في حديثه. وقال: "إنه لا ينكأ العدو ولا يقتل الصيد، ولكنه يكسر السن ويفقأ العين". وقال ابن مهدي: إنها لا تنكأ العدو. ولم يذكر تفقأ العين. 4422 - عن سعيد بن جبير أن قريباً لعبد الله بن مغفل: خذف. قال: فنهاه. وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف. وقال: "إنها لا تصيد صيداً ولا تنكأ عدواً، ولكنها تكسر السن وتفقأ العين". قال: فعاد. فقال: أحدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه ثم تخذف، لا أكلمك أبداً. 4423 - عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء. فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة. وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح. وليحد أحدكم شفرته فليرح ذبيحته".

4424 - عن هشام بن زيد بن أنس بن مالك قال: دخلت مع جدي أنس بن مالك دار الحكم بن أيوب، فإذا قوم قد نصبوا دجاجة يرمونها. قال: فقال أنس: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصبر البهائم. 4425 - 58 م عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا شيئاً فيه الروح غرضاً". 4426 - عن سعيد بن جبير قال: مر ابن عمر بنفر قد نصبوا دجاجة يترامونها. فلما رأوا ابن عمر تفرقوا عنها. فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من فعل هذا. 4427 - عن سعيد بن جبير قال: مر ابن عمر بفتيان من قريش قد نصبوا طيراً وهم يرمونه، وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم. فلما رأوا ابن عمر تفرقوا. فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئاً فيه الروح غرضاً. 4428 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتل شيء من الدواب صبراً. -[المعنى العام]- إن الله كتب الإحسان في كل شيء، فرحمته وسعت كل شيء، وقد جعل الرحمة مائة جزء، فأنزل إلى الأرض جزءاً واحداً منها، وأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً، من هذا الجزء الذي وضع في الأرض كان على الخلائق أن تتراحم فيما بينها، إذ خلق في طباعها نوعاً من الرحمة والشفقة، حتى ترفع

الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه، وكم نرى في مشاهداتنا اليومية الأرنب تحمي أطفالها من البرد، بنتف جلد نفسها وشعرها، لتجعله مهاداً لجنينها قبل ولادته، وكم نرى في مشاهداتنا اليومية أمهات الحيوانات تدافع عن صغارها وتحميها من الأعداء. أما الإنسان فقد كلف بالرحمة والإحسان، رحمة تزيد على ما في الطباع، وتوجه إلى السمو والرفعة به إلى عالم الروحانيات، بأن تكون هذه الرحمة المبذولة خالية من هدف الانتفاع الدنيوي من ورائها، رحمة دافعها الاستجابة لأمر الله، والطمع في رحمة الله ورضوانه، قال تعالى {وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة} [البلد: 8] وقال {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن} [الإسراء: 53]. {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم* وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم} [فصلت: 34، 35]. {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} [العنكبوت: 46]. {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب} [الزمر: 18]. {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} [النحل: 90] {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [النحل: 128]. {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين} [آل عمران: 134] {ءاخذين ما ءاتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين} [الذاريات: 16] والإحسان في كل عمل هو مراعاة جانب الرفق والإتقان، جانب التضحية والإيثار، وقد ضرب المسلمون السابقون المثل الأعلى في التراحم والإحسان، حتى نزل فيهم {والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [الحشر: 9]. وقد تجاوزت الشريعة الإسلامية التراحم بين الناس إلى طلب التراحم بين البشر وبين ما حولهم من المخلوقات، فنهت عن تعذيب الحيوانات بأي نوع من أنواع التعذيب، فقد "دخلت امرأة النار في هرة حبستها حتى ماتت، لا هي أطعمتها وسقتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض" و"غفر الله لرجل سقى كلباً يلهث من شدة العطش" ونهى صلى الله عليه وسلم أن يوضع الحيوان أو الطير هدفاً وغرضاً، لتصوب إليه رميات من يتعلم الرمي، ونهى عند أن تحبس البهيمة حتى تموت وهي محبوسة، ونهى عن ذبح ما أحل ذبحه عن أن نسيء إليه قبل الذبح، وأمرنا بإحسان ذبحه، والرفق به عند قتله. صورة رائعة من تشريع الإحسان، تجعل من قلوب البشر رقة ورحمة وشفافية ونوراً وقرباً من الملائكة، تجعل منهم أبراراً، لا يضمرون الشر، ولا يؤذون الذر، {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} [الرحمن: 60] {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [يونس: 26]. {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين} [البقرة: 195]. -[المباحث العربية]- (رأى رجلاً من أصحابه يخذف) في الرواية الثالثة أن الرجل قريب لعبد الله بن مغفل، فهو

من أصحابه، وقريبه، والخذف الرمي بالحصاة أو النواة أو نحوهما، بين سبابتيه، أو بين الإبهام والسبابة، أو على ظاهر الوسطى وباطن الإبهام، وقال ابن فارس: خذفت الحصاة رميتها بين أصبعيك، وقيل في حصي الخذف: أن يجعل الحصاة بين السبابة من اليمنى والإبهام من اليسرى، ثم يقذفها بالسبابة من اليمين، وقال ابن سيده: خذف بالشيء يخذف، فارسي، وخص بعضهم به الحصى. قال: والمخذفة التي يوضع فيها الحجر، ويرمي بها الطير، ويطلق على المقلاع أيضاً. (كان يكره -أو كان ينهى عن الخذف) في الرواية الثانية والثالثة "نهي عن الخذف" ولم يشك. (فإنه لا يصطاد به الصيد) بالبناء للمجهول، في رواية البخاري "لا يصاد به صيد" وفي روايتنا الثالثة "إنها لا تصيد صيداً" أي إن الحصاة، أو إن الرمية بالحصاة لا تصيد، وفي ملحق الرواية الثانية "إنه" أي الخذف لا ينكأ العدو، ولا يقتل الصيد" قال المهلب: أباح الله الصيد على صفة، فقال {تناله أيديكم ورماحكم} [المائدة: 94] وليس الرمي بالبندقية ونحوها من ذلك، وإنما هو وقيذ، وأطلق الشارع أن الخذف لا يصاد به، لأنه ليس من المجهزات. اهـ قيل: لأنه يقتل الصيد بقوة راميه، لا بحده. اهـ وفيه نظر، فالمعراض أيضاً يقتل الصيد بقوة راميه، وهو في نفسه أحد من حد المعراض، وسيأتي الخلاف في حكم صيد البندقية في فقه الحديث. (ولا ينكأ به العدو) بالبناء للمجهول، وفي ملحق الرواية الثانية "إنه لا ينكأ العدو" وفي ملحقها الثاني "إنها لا تنكأ العدو" وفي الرواية الثالثة "لا تنكأ عدواً" قال القاضي عياض: الرواية بفتح الكاف، وبهمزة في آخره، وهي لغة، والأشهر بكسر الكاف، بغير همز، وقال في شرح مسلم: لا ينكأ بفتح الكاف مهموز، وروي "لا ينكي" بكسر الكاف وسكون الياء، وهو أوجه، لأن المهموز إنما هو من نكأت القرحة، وليس هذا موضعه، فإنه من النكاية، لكن قال في العين: نكأت لغة في نكيت، فعلى هذا تتوجه هذه الرواية، قال: ومعناه المبالغة في الأذى، وقال ابن سيده: نكأ العدو نكاية أصاب منه، ثم قال: نكأت العدو، أنكؤهم لغة في نكيتهم، قال الحافظ ابن حجر: فظهر أن الرواية صحيحة المعنى، ولا معنى لتخطئتها، قال: وأغرب ابن التين، فلم يعرج على الرواية التي بالهمز أصلاً، بل شرحه على التي بكسر الكاف بغير همز، ثم قال: ونكأت القرحة بالهمز. (ويفقأ العين) بالهمزة. (لا أكلمك كلمة كذا وكذا) "كلمة" بالنصب والتنوين، و"كذا وكذا" كناية عن زمن، وهو مبهم في الرواية، وفي الرواية الثالثة "لا أكلمك أبداً". (ولكنه يكسر السن) أي ولكن الخذف، وفي الرواية الثالثة "ولكنها" أي الرمية، وأطلق السن، فيشمل سن الرامي وغيره من آدمي وغيره، كذا قال الحافظ ابن حجر: وفي كسر الخذف لسن الرامي نظر، فهو مستبعد.

(فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة) بكسر القاف، اسم هيئة، وهو عام في كل قتيل، من الذبائح، والقتل حداً والقتل قصاصاً. (فأحسنوا الذبح) بفتح الذال، كذا وقع في كثير من النسخ أو أكثرها، وفي بعضها "الذبحة" بكسر الذال وبالهاء، كالقتلة. (وليحد أحدكم شفرته) و"ليحد" اللام لام الأمر، و"يحد" بضم الياء وكسر الحاء وتشديد الدال، يقال: أحد السكين وحددها واستحدها وحدها إذا شحذها، والشفرة بسكون الفاء، السكين. (فليرح ذبيحته) اللام لام الأمر، و"يرح" بضم الياء وكسر الراء، وإراحة الذبيحة بإحداد السكين، وتعجيل إمرارها، وغير ذلك. (دخلت مع جدي أنس بن مالك دار الحكم بن أيوب) بن أبي عقيل الثقفي، ابن عم الحجاج بن يوسف، ونائبه على البصرة، وزوج أخته زينب بنت يوسف، وكان يضاهي في الجور ابن عمه الحجاج، ووقع في رواية "خرجت مع أنس بن مالك من دار الحكم بن أيوب أمير البصرة" وهي أظهر في سياق القصة "فإذا قوم قد نصبوا دجاجة يرمونها" ويحتمل أنهم رأوا القوم في حرم الدار، وأنهم من أتباع الحكم بن أيوب، وفي رواية البخاري "فرأى غلماناً أو فتياناً .... ". (أن تصبر البهائم) قال النووي: قال العلماء: صبر البهائم أن تحبس، وهي حية، لتقتل بالرمي ونحوه، وهو معنى "لا تتخذوا شيئاً فيه الروح غرضاً" أي لا تتخذوا الحيوان الحي غرضاً، ترمون إليه، والغرض الهدف الذي يرمي إليه. (قد نصبوا طيراً) قال النووي: هكذا هو في النسخ "طيراً" والمراد به واحد، والمشهور في اللغة أن الواحد يقال له: طائر، والجمع طير، وفي لغة قليلة إطلاق الطير على الواحد، وهذا الحديث جاء على هذه اللغة، والمراد من الطير هنا الدجاجة المنصوص عليها في الرواية السابعة. (وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم) قال النووي: "خاطئة" هو بهمز لغة، والأفصح "مخطئة" يقال لمن قصد شيئاً، فأصاب غيره غلطاً: أخطأ، فهو مخطئ، وفي لغة قليلة: خطأ فهو خاطئ. والمعنى أنهم جعلوا السهم الذي لم يصب الدجاجة حقاً لصاحب الدجاجة، ويحتمل أن المعنى أنهم جعلوا السهم الذي لم يصب حقاً لصاحب السهم الذي أصاب. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من هذه الأحاديث]- 1 - النهي عن الخذف، قال النووي: لأنه لا مصلحة فيه، ويخاف مفسدته، ويلتحق به كل ما شاركه

في هذا، وقال الحافظ ابن حجر: قال المهلب: وقد اتفق العلماء -إلا من شذ منهم- على تحريم أكل ما قتلته البندقة والحجر، ثم قال الحافظ ابن حجر في علة منع الأكل: لأنه إذا نفى الشارع أنه لا يصيد، بقوله "لا يصطاد به الصيد" فلا معنى للرمي به، بل فيه تعريض للحيوان بالتلف لغير مالكه، وقد ورد النهي عن ذلك، نعم قد يدرك ما رمى بالبندقة حياً، فيذكى، فيحل أكله، ومن ثم اختلف في جواز الرمي بالبندقة، فصرح مجلي في الذخائر بمنعه، وبه أفتى ابن عبد السلام، وجزم النووي بحله، لأنه طريق إلى الاصطياد، والتحقيق التفصيل، فإن كان الأغلب من حال الرمي الوقوع في الأضرار المذكورة في الحديث امتنع، وإن كان عكسه جاز، ولا سيما إن كان المرمي مما لا يصل إليه الرمي إلا بذلك، ثم لا يقتله غالباً، وقد ذكر البخاري، في باب صيد المعراض، أن ابن عمر قال في المقتولة بالبندقة: تلك الموقوذة، وكرهه سالم والقاسم ومجاهد وإبراهيم وعطاء والحسن، وأخرج الحافظ ابن حجر هذه الآثار المروية عن هؤلاء الأئمة، فقال: أخرج ابن أبي شيبة عن ابن عمر أنه كان لا يأكل ما أصابت البندقة، وأما سالم بن عبد الله بن عمر، والقاسم وهو ابن محمد بن أبي بكر الصديق فقد أخرج ابن أبي شيبة أنهما كانا يكرهان البندقة، إلا ما أدركت ذكاته. وذكر مالك في الموطأ أنه "بلغه أن القاسم بن محمد كان يكره ما قتل بالمعراض والبندقة" وأما مجاهد فأخرج ابن أبي شيبة من وجهين أنه كرهه، زاد في أحدهما "لا تأكل إلا أن يذكى" وأما إبراهيم، وهو النخعي، فأخرج ابن أبي شيبة عنه "لا تأكل ما أصبت بالبندقة، إلا أن يذكى" وأما عطاء فقال عبد الرزاق عن ابن جريج "قال عطاء: إن رميت صيداً ببندقة فأدركت ذكاته فكله، وإلا فلا تأكله، وأما الحسن، وهو البصري، فقال ابن أبي شيبة: حدثنا عبد الأعلى عن هشام عن الحسن: "إذا رمى الرجل الصيد بالجلاهقة، فلا تأكل، إلا أن تدرك ذكاته" والجلاهقة بضم الجيم وتشديد اللام وكسر الهاء هي البندقة بالفارسية. اهـ وقال البخاري: وكره الحسن رمي البندقة في القرى والأمصار، ولا يرى به بأساً فيما سواه. قال الحافظ ابن حجر: ومفهومه أنه لا يكره في الفلاة، فجعل مدار النهي خشية إدخال الضرر على أحد من الناس. اهـ والتحقيق أن البندقة اليوم غيرها في تلك الأيام، فقد كانت تقتل الصيد كمثقل، أشبه بعرض المعراض، أما اليوم فتنهر الدم، وتفتت العروق، فهي تشبه حد المعراض، وتزيد كثيراً جداً عنه، فصيدها اليوم حلال بلا شبهة وليست من الخذف المنهي عنه، والله أعلم. 2 - ومن قول الصحابي لقريبه: "لا أكلمك أبداً" قال النووي: فيه هجران أهل البدع والفسوق، ومنابذي السنة مع العلم، وأنه يجوز هجرانه دائماً، والنهي عن الهجران فوق ثلاثة أيام إنما هو فيمن هاجر لحظ نفسه، ومعايش الدنيا، وأما أهل البدع ونحوهم فهجرانهم دائماً. 3 - وفيه قوة عبد الله بن المغفل في تغيير المنكر، والدفاع عن السنة. 4 - وفي الرواية الرابعة الإحسان في كل شيء، وبخاصة في الذبح والقتل.

5 - وعن السكين، وإمراره بسرعة، قال النووي: ويستحب ألا يحد السكين بحضرة الذبيحة، وألا يذبح واحدة بحضرة أخرى، ولا يجرها إلى مذبحها، اهـ ولا يقيدها كثيراً قبل الذبح، وأن يقدم لها قبل الذبح طعاماً وشراباً، ونحو ذلك من وجوه الإحسان. 6 - وتحريم تعذيب الحيوان الحي، بالضرب والجرح، والقسوة، وثقل الحمل، وإجهاد العمل. 7 - وتحريم تعذيب الآدمي لغير موجب من باب أولى. 8 - قال الحافظ ابن حجر: وفي الحديث -روايتنا الخامسة- قوة أنس على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع معرفته بشدة الأمير المذكور، لكن كان الخليفة عبد الملك بن مروان نهى الحجاج عن التعرض له، بعد أن كان صدر من الحجاج في حقه خشونة، فشكاه لعبد الملك، فأغلظ للحجاج، وأمره بإكرامه. 9 - ومن الرواية الخامسة وما بعدها تحريم صبر الحيوان وحبسه، وجعله غرضاً وهدفاً لتعلم الرمي، وقد أخرج العقيلي في الضعفاء عن سمرة قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تصبر البهيمة، وأن يؤكل لحمها إذا صبرت" قال العقيلي: جاء في النهي عن صبر البهيمة أحاديث جياد، وأما النهي عن أكلها فلا يعرف إلا في هذا. قال الحافظ: إن ثبت هذا فهو محمول على ما إذا ماتت بذلك من غير تذكية. 10 - قال ابن أبي جمرة: فيه رحمة الله لعباده، حتى في حال القتل. والله أعلم

كتاب الأضاحي

كتاب الأضاحي

(545) باب وقت الأضاحي، وسن الأضحية

(545) باب وقت الأضاحي، وسن الأضحية 4429 - عن جندب بن سفيان رضي الله عنه قال: شهدت الأضحى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلم يعد أن صلى وفرغ من صلاته، سلم. فإذا هو يرى لحم أضاحي قد ذبحت قبل أن يفرغ من صلاته. فقال: "من كان ذبح أضحيته قبل أن يصلي -أو نصلي- فليذبح مكانها أخرى. ومن كان لم يذبح، فليذبح باسم الله". 4430 - عن جندب بن سفيان رضي الله عنه قال: شهدت الأضحى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما قضى صلاته بالناس، نظر إلى غنم قد ذبحت. فقال: "من ذبح قبل الصلاة، فليذبح شاة مكانها. ومن لم يكن ذبح، فليذبح على اسم الله". 4431 - عن جندب البجلي رضي الله عنه قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى يوم أضحى. ثم خطب، فقال: "من كان ذبح قبل أن يصلي، فليعد مكانها. ومن لم يكن ذبح، فليذبح باسم الله". 4432 - عن البراء رضي الله عنه قال: ضحى خالي أبو بردة قبل الصلاة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تلك شاة لحم" فقال: يا رسول الله، إن عندي جذعة من المعز. فقال: "ضح بها ولا تصلح لغيرك" ثم قال: "من ضحى قبل الصلاة، فإنما ذبح لنفسه. ومن ذبح بعد الصلاة، فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين". 4433 - عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن خاله أبا بردة بن نيار ذبح قبل أن يذبح النبي صلى الله عليه وسلم. فقال يا رسول الله، إن هذا يوم اللحم فيه مكروه. وإني عجلت

نسيكتي لأطعم أهلي وجيراني وأهل داري. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعد نسكاً" فقال: يا رسول الله، إن عندي عناق لبن هي خير من شاتي لحم. فقال: "هي خير نسيكتيك ولا تجزي جذعة عن أحد بعدك". 4434 - عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر، فقال: "لا يذبحن أحد حتى يصلي" قال: فقال خالي: يا رسول الله، إن هذا يوم اللحم فيه مكروه. ثم ذكر بمعنى حديث هشيم. 4435 - عن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاتنا ووجه قبلتنا ونسك نسكنا فلا يذبح حتى يصلي" فقال خالي: يا رسول الله قد نسكت عن ابن لي. فقال: ذاك شيء عجلته لأهلك" فقال: إن عندي شاة خير من شاتين. قال: "ضح بها فإنها خير نسيكة". 4436 - عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا نصلي، ثم نرجع فننحر. فمن فعل ذلك، فقد أصاب سنتنا. ومن ذبح، فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء" وكان أبو بردة بن نيار قد ذبح، فقال: عندي جذعة خير من مسنة. فقال: "اذبحها ولن تجزي عن أحد بعدك". 4437 - وفي رواية عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر بعد الصلاة. ثم ذكر نحو حديثهم. 4438 - عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم نحر، فقال: "لا

يضحين أحد حتى يصلي" قال رجل: عندي عناق لبن هي خير من شاتي لحم. قال: فضح بها، ولا تجزي جذعة عن أحد بعدك". 4439 - عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: ذبح أبو بردة قبل الصلاة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أبدلها" فقال: يا رسول الله، ليس عندي إلا جذعة. قال شعبة: وأظنه قال: وهي خير من مسنة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اجعلها مكانها ولن تجزي عن أحد بعدك". 4440 - وفي رواية عن شعبة بهذا الإسناد، ولم يذكر الشك في قوله هي خير من مسنة. 4441 - عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم النحر: "من كان ذبح قبل الصلاة، فليعد" فقام رجل فقال: يا رسول الله، هذا يوم يشتهى فيه اللحم. وذكر هنة من جيرانه. كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقه. قال: وعندي جذعة هي أحب إلي من شاتي لحم. أفأذبحها؟ قال: فرخص له. فقال: لا أدري أبلغت رخصته من سواه أم لا؟ قال: وانكفأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كبشين فذبحهما. فقام الناس إلى غنيمة فتوزعوها. أو قال: فتجزعوها. 4442 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى. ثم خطب فأمر من كان ذبح قبل الصلاة أن يعيد ذبحاً، ثم ذكر. بمثل حديث ابن علية. 4443 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أضحى. قال: فوجد ريح لحم. فنهاهم أن يذبحوا. قال: "من كان ضحى، فليعد" ثم ذكر بمثل حديثهما. 4444 - عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تذبحوا إلا مسنة، إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن". 4445 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر

بالمدينة. فتقدم رجال فنحروا. وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نحر. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان نحر قبله، أن يعيد بنحر آخر. ولا ينحروا حتى ينحر النبي صلى الله عليه وسلم. 4446 - عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه غنماً يقسمها على أصحابه ضحايا. فبقي عتود. فذكره لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: "ضح به أنت" قال قتيبة: على صحابته. 4447 - عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا ضحايا، فأصابني جذع. فقلت: يا رسول الله، إنه أصابني جذع. فقال: "ضح به". -[المعنى العام]- شاءت حكمة الله أن ييسر على بعض خلقه، وأن يعسر على آخرين، وأن يطلب من الموسرين مساعدة المعسرين، ليبلو الفريقين، ليختبر الموسرين، أيشكرون أم يكفرون؟ أيحسنون، أم يبخلون؟ وليبلو المعسرين، أيصبرون أم يجزعون؟ ويشكرون المحسنين أم يكفرون؟ . وفي مواسم الخير خاصة تزداد أهمية هذا التشريع، فتجب زكاة الفطر عند عيد الفطر، وتشرع الأضحية في عيد الأضحى. ولله أوقات يتجلى فيها برحمته على عباده، تضاعف فيها الحسنات، ويتجاوز فيها عن السيئات، وله سبحانه وتعالى في تحديد أوقات خاصة للعبادات حكمة يعلمها، فقد حدد أوقات الصلوات، وأوقات الصيام، وأوقات الحج، ولهذا التحديد فائدة كبرى في نظام المجتمع، من حيث الالتزام الواحد، والأداء الواحد، والاتجاه الواحد، وإدخال السرور على النفوس في وقت واحد. وتحقيقاً لهذا الهدف السامي حددت الشريعة وقت ذبح الأضحية، وجعلته بعد صلاة العيد، وبعد سماع خطبتيه، ليتفرغ الذابح لذبحه، وتوزيعه، وليتفرغ الفقير الآخذ لطهيه والانتفاع به، وكان على المسلمين حين شرعت الأضحية أن يلتزموا بالتأسي بنبيهم صلى الله عليه وسلم، وأن لا يتعجلوا أمراً دعا إليه حتى يروا فعله مادام سيفعله، مهما كان هذا الفعل خيراً، ففي التأسي به صلى الله عليه وسلم أجر وثواب، وتعلم وتوجيه وإرشاد، وللأضحية مواصفات، وللذبح نفسه قواعد ومستحبات، ورسول الله صلى الله عليه وسلم سيذبح أضحيته في الصحراء، في ساحة الصلاة، بحيث يراه من يرغب في الاقتداء به، والتعلم على يديه، ومتابعته صلى الله عليه وسلم خير من سبقه على كل حال.

(كتاب الأضاحي) جمع أضحية، بضم الهمزة، وتشديد الياء، ويجوز كسر الهمزة، ويجوز حذفها، فتفتح الضاد، وقد تكسر، مع تشديد الياء، وجمع ضحية ضحايا، كعطية وعطايا، ويقال: أضحاة، وجمعها أضحى، بفتح الهمزة، كأرطاة وأرطى، كل ذلك للشاة التي تذبح ضحوة هذا اليوم، وكأن تسميتها اشتقت من اسم الوقت الذي تشرع فيه، وبه سمي يوم الأضحى، أي اليوم الذي تذبح فيه الشاة في الضحى، والضحى ضوء الشمس، وارتفاع النهار وامتداده، والضحاء والضحوة والضحو والضحية الضحى.

لم يكن يخفى كل هذا على الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- لكن بعضهم في أوائل تشريع الأضحية ظن أن الغرض منها التوسعة على الأهل والجيران والفقراء يوم العيد، فذبح قبل صلاة العيد، وقبل أن يذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعضهم ظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذبح، فذبح قبل أن يتبين أنه لم يذبح، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة العيد، فلما سلم شم رائحة لحم مذبوح، فنظر إلى ساحة الذبح، فرأى غنماً مذبوحة، كان يمكن أن يرشد من فعل هذا إلى ما كان ينبغي، ليلتزم العام القابل، ويتفادى خطأ ما فعل هذا العام، والذبيحة قد وقعت، وفائدتها قد حصلت، والإساءة في التعجيل قد تغتفر، لكن لما كان للحم شهوة، وللنفس فيه رغبة، قد تدفع إلى التهاون في الالتزام شيئاً فشيئاً، من حيث الوقت تارة، ومن حيث مواصفات الأضحية تارة أخرى، أراد المشرع أن يفطم النفوس عن التهاون، فأمر صلى الله عليه وسلم من ذبح قبل الصلاة أن يعيد ذبح أضحية أخرى، واعتبر الذبيحة التي سبقت صلاته وخطبته وذبحه لحماً كأي لحم يقدم للأهل، ليس من ثواب الأضحية في شيء، وليس من العبادة في شيء، لم يصب به صاحب السنة، ولم يقم بما شرعه الله له. أمر بذلك صلى الله عليه وسلم في خطبة العيد، عقب الصلاة، وكان بعض من ذبح أضحيته خطأ لا يملك ما يصلح لأضحية أخرى، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قائم يخطب. قال: يا رسول الله، ذبحت أضحيتي قبل أن أصلي معك، وتعجلت الخير لأهلي وجيراني والفقراء؟ قال صلى الله عليه وسلم: لحم قدمته لأهلك، أعد ذبحاً، اذبح مكان التي ذبحتها أضحية أخرى، اذبح أخرى، فلم تقع الأولى موقعها، لأنها سبقت وقتها. قال: يا رسول الله، ليس عندي شاة أخرى، وكل ما عندي عنز، ابنة سنة، لكنها سمينة، تعدل في نظري شاتين، وهي عندي أحب إلي من شاتين، وقد علمتنا أن مثلها لا يصلح أضحية، فهل أذبحها؟ قال: اذبحها، ولا يصلح مثلها أضحية لأحد غيرك، فقد قبل عذرك. وهكذا أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم على تشريع الأضحية، وقتاً، ووصفاً، وإلزاماً، حتى إنه صلى الله عليه وسلم كان يوزع من بيت مال المسلمين ضحايا حية على فقراء المسلمين. ليذبحوها في يوم العيد. -[المباحث العربية]- (كتاب الأضاحي) جمع أضحية، بضم الهمزة، وتشديد الياء، ويجوز كسر الهمزة، ويجوز حذفها، فتفتح الضاد، وقد تكسر، مع تشديد الياء، وجمع ضحية ضحايا، كعطية وعطايا، ويقال: أضحاة، وجمعها أضحى، بفتح الهمزة، كأرطاة وأرطى، كل ذلك للشاة التي تذبح ضحوة هذا اليوم، وكأن تسميتها اشتقت من اسم الوقت الذي تشرع فيه، وبه سمي يوم الأضحى، أي اليوم الذي تذبح فيه الشاة في الضحى، والضحى ضوء الشمس، وارتفاع النهار وامتداده، والضحاء والضحوة والضحو والضحية الضحى. يقال: ضحا يضحو ضحواً بفتح الضاء وسكون الحاء، وضحواً بضم الضاء وضم الحاء مخففة، وضحياً بضم الضاد وكسر الحاء وتشديد الياء، إذا برز للشمس، وضحاً يضحى بفتح الحاء، ضحوا بفتح الضاد وسكون الحاء، وضحوا بضم الضاد والحاء وتشديد الواو، وضحياً بضم الضاد وكسر الحاء،

أصابه حر الشمس، وضحى بفتح الضاد وكسر الحاء وفتح الياء، يضحى بفتح الحاء، ضحوا، وضحوا، وضحيا، كسابقه، أصابه حر الشمس، ومنه قوله تعالى {وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى} [طه: 119]. قال النووي: وفي "الأضحى" لغتان: التذكير لغة قيس، والتأنيث لغة تميم. (شهدت الأضحى) أي حضرت صلاة الأضحى، وفي الرواية الثالثة "شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أضحى" أي حضرت صلاته يوم الأضحى، والمراد صلاة العيد في يوم الأضحى. يقال: شهد الوقعة، وشهد اليوم، بكسر الهاء، إذا حضره، ومنه قوله تعالى {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة: 185] وشهد الشيء عاينه، ومنه قوله تعالى {ما شهدنا مهلك أهله} [النمل: 49]. (فلم يعد أن صلى، وفرغ من صلاته سلم، فإذا هو يرى لحم أضاحي، قد ذبحت قبل أن يفرغ من صلاته) وهذا لا يتنافى مع ما جاء في ملحق الرواية الثانية عشرة بلفظ "فوجد ريح لحم" فقد رأى وقد شم صلى الله عليه وسلم، "فلم يعد" بفتح الياء وسكون العين، أي فلم يجاوز صلاته، وهو كناية عن سرعة اتصال الشيء المتأخر بالمتقدم، وإلا فما رأى كان بعد انتهاء الصلاة والتسليم، أي فعند مجاوزته صلاته، وفراغه من صلاته مسلماً، فاجأه رؤيته للحم أضاحي، بكسر الحاء وتشديد الياء، "قد ذبحت قبل أن يفرغ من صلاته"، أي ذبحها أناس أثناء صلاته، فأدركوه في الصلاة، أو قبل أن يصلي، وكان الذبح في المصلى، فقد روى البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يذبح وينحر بالمصلى" قال مالك: إنما كان يفعل ذلك لئلا يذبح أحد قبله، زاد غيره: وليذبحوا بعده على يقين، وليتعلموا منه صفة الذبح. وفي الرواية الثانية "فلما قضى صلاته بالناس نظر إلى غنم قد ذبحت" والغنم يشمل الضأن والمعز. (فقال: من كان ذبح أضحيته قبل أن يصلي -أو نصلي- فليذبح مكانها أخرى) "يصلي أو نصلي" الأول بالياء، والثاني بالنون، والظاهر أنه شك من الراوي. وفي الرواية الثانية "من ذبح قبل الصلاة فليذبح شاة مكانها" وهذا القول كان في خطبته صلى الله عليه وسلم، ففي الرواية الثالثة "ثم خطب، فقال: من كان ذبح قبل أن يصلي، فليعد مكانها" وفي الرواية السادسة "لا يذبحن أحد حتى يصلي" وفي الرواية السابعة "من صلى صلاتنا، ووجه قبلتنا" أي واستقبل قبلتنا، والمراد بذلك من كان على دين الإسلام "ونسك نسكنا" أي وأراد أن ينسك نسكنا، ففيه مجاز المشارفة، والمراد من النسك هنا الذبيحة، يقال: نسك فلان، بفتح النون والسين، ينسك بضم السين، نسكاً بسكون السين مع ضم النون وفتحها وكسرها، ونسكة بفتح النون ومنسكاً بفتح السين وكسرها، إذا تزهد وتعبد، أو إذا ذبح ذبيحة يتقرب بها إلى الله، والمنسك طريقة الزهد والتعبد، وموضع ذبح النسيكة، ومناسك الحج عبادته "فلا يذبح حتى يصلي" صلاة العيد. وفي الرواية الثامنة "إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا نصلي" صلاة العيد، ونسمع خطبتها "ثم

نرجع" إلى مكان الذبح، "فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا" والمراد بالسنة هنا الطريقة، التي هي أعم من أن تكون للوجوب أو الندب، وليس المراد بها السنة في الاصطلاح الفقهي، التي تقابل الوجوب، وفي الرواية التاسعة "لا يضحين أحد حتى يصلي" وفي الرواية الحادية عشرة "من كان ذبح قبل الصلاة فليعد" وفي الثانية عشرة "فأمر من كان ذبح قبل الصلاة أن يعيد ذبحاً". قال النووي: اتفقوا على ضبط "ذبحاً" بكسر الذال، أي حيواناً يذبح، كقوله تعالى {وفديناه بذبح عظيم} [الصافات: 107] وأما قوله "أن يعبد" فكذا هو في بعض الأصول المعتمدة، بالياء، من الإعادة، وفي كثير منها "أن يعد" بحذف الياء، ولكن بتشديد الدال، من الإعداد، وهو التهيئة. اهـ وفي الرواية الرابعة عشرة "فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان نحر قبله أن يعيد بنحر آخر، ولا ينحروا حتى ينحر النبي صلى الله عليه وسلم" والظاهر أن كل هذا حصل في خطبته صلى الله عليه وسلم في واقعة واحدة، وأن سؤال أبي بردة كان في نفس الواقعة، وأثناء الخطبة، بعد طلبه صلى الله عليه وسلم أن يكون الذبح بعد الصلاة، لكن قال الحافظ ابن حجر: والذي في معظم الروايات أن هذا الكلام من النبي صلى الله عليه وسلم وقع في الخطبة بعد الصلاة، وأن خطاب أبي بردة بما وقع له كان قبل ذلك، وهو المعتمد. اهـ والظاهر أن العبارة وقع فيها خطأ من النساخ، وأن أصلها وصحتها "وأن خطاب أبي بردة بما وقع له كان بعد ذلك" أي في أثناء الخطبة، والأحاديث التي ساقها الحافظ ابن حجر كدليل على قوله تفيد البعدية، لا القبلية، ولفظها "يخطب فيقول كذا فقال أبو بردة ... " "خطبنا فقال كذا وكذا، فقال أبو بردة ... " الحديث. (ومن كان لم يذبح فليذبح باسم الله) في الرواية الثانية "ومن لم يكن ذبح فليذبح على اسم الله" قال النووي: هو بمعنى رواية "فليذبح باسم الله" أي قائلاً: باسم الله. هذا هو الصحيح في معناه، وقال القاضي: يحتمل أربعة أوجه: أحدها أن يكون معناه: فليذبح لله، والباء بمعنى اللام، والثاني معناه: فليذبح بسنة الله، والثالث: بتسمية الله على ذبيحته، إظهاراً للإسلام، ومخالفة لمن يذبح لغيره، وقمعاً للشيطان، والرابع: تبركاً باسمه، وتيمناً بذكره، كما يقال: سر على بركة الله، وسر باسم الله. وكره بعض العلماء أن يقال: فعل كذا على اسم الله، قال: لأن اسمه سبحانه على كل شيء. قال القاضي: وهذا ليس بشيء، قال: وهذا الحديث يرد على هذا القائل. وقال النووي: قال الكتاب من أهل العربية: إذا قيل: باسم الله، تعين كتبه بالألف، وإنما تحذف الألف إذا كتب: بسم الله الرحمن الرحيم. بكمالها. اهـ (ضحى خالي أبو بردة قبل الصلاة) أي صلاة العيد، وفي الرواية الخامسة، عن البراء أن خاله أبو بردة بن نيار ذبح قبل أن يذبح النبي صلى الله عليه وسلم و"أبو بردة" بضم الباء وسكون الراء، واسمه هانئ بن نيار، بكسر النون، وتخفيف الياء، البلوى بفتح الباء واللام، من حلفاء الأنصار، شهد العقبة وبدراً والمشاهد، وعاش إلى سنة خمس وأربعين. (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلك شاة لحم) معناه: ليست بضحية، بل هي لحم لك، تنتفع به، قال

الحافظ ابن حجر: وقد استشكلت الإضافة في "شاة لحم" وذلك أن الإضافة قسمان، معنوية ولفظية، فالمعنوية إما مقدرة بمن، كخاتم حديد، أو باللام، كغلام زيد، أو بفي، كضرب اليوم، معناه ضرب في اليوم، وأما اللفظية فهي صفة مضافة إلى معمولها كضارب زيد، وحسن الوجه، ولا يصح شيء من الأقسام الخمسة في "شاة لحم" قال الفاكهي: والذي يظهر لي أن أبا بردة لما اعتقد أن شاته شاة أضحية، أوقع صلى الله عليه وسلم في الجواب قوله "شاة لحم" موقع قوله "شاة غير أضحية" اهـ قال العيني: هذا جواب غير مقنع، لظهور الإشكال فيه، وبقائه أيضاً، ويمكن أن يقال: إن الإضافة فيه بمعنى اللام، والتقدير: شاة واقعة لأجل اللحم، لا لأجل أضحية، لوقوع ذبحها في غير وقتها، وفي الرواية الخامسة "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعد نسكاً" وفي الرواية السابعة "ذاك شيء عجلته لأهلك" وفي الرواية الرابعة "من ضحى قبل الصلاة: فإنما ذبح لنفسه" أي وليس أضحية، وفي الرواية الثامنة "فإنما هو لحم، قدمه لأهله: ليس من النسك في شيء". (فقال: يا رسول الله، إن هذا يوم، اللحم فيه مكروه) قال النووي: قال القاضي: كذا روينا في مسلم "مكروه" بالكاف والهاء، وكذا ذكره الترمذي، قال: ورويناه في مسلم من طريق العذري "مقروم" بالقاف والميم، قال: وصوب بعضهم هذه الرواية، وقال: معناه يشتهى فيه اللحم، يقال: قرمت إلى اللحم، وقرمت اللحم إذا اشتهيته، قال: وهي بمعنى قوله في غير مسلم "عرفت أنه يوم أكل وشرب، فتعجلت وأكلت، وأطعمت أهلي وجيراني" وكما جاء في الرواية الأخرى [روايتنا الحادية عشرة] "هذا يوم يشتهى فيه اللحم" وكذا رواه البخاري. قال القاضي: وأما رواية "مكروه" فقال بعض شيوخنا: الصواب "اللحم فيه مكروه" بفتح الحاء، أي ترك الذبح والتضحية وبقاء أهله فيه بلا لحم، حتى يشتهوه مكروه، واللحم بفتح الحاء اشتهاء اللحم. قال القاضي: وقال لي الأستاذ عبد الله بن سليمان: معناه: ذبح ما لا يجزئ في الأضحية مما هو لحم مكروه، لمخالفته السنة. هذا آخر ما ذكره القاضي، وقال الحافظ أبو موسى الأصبهاني: معناه هذا يوم طلب اللحم فيه مكروه شاق. وهذا حسن. اهـ قال الحافظ ابن حجر: وبالغ ابن العربي، فقال: الرواية بسكون الحاء هنا غلط، وإنما هو اللحم، بالتحريك، يقال: لحم الرجل، بكسر الحاء، يلحم بفتحها، إذا كان يشتهي اللحم، وأما القرطبي في المفهم فقال: تكلف بعضهم ما لا يصح رواية -أي اللحم بالتحريك- ولا معنى، وهو قول الآخر: معنى المكروه إنه مخالف للسنة، قال: وهو كلام من لم يتأمل سياق الحديث، فإن هذا التأويل لا يلائمه، إذ لا يستقيم أن يقول: إن هذا اليوم اللحم فيه مخالف للسنة، وإني عجلت لأطعم أهلي. قال: وأقرب ما يتكلف لهذه الرواية أن معناه: اللحم فيه مكروه التأخير، فحذف لفظ "التأخير" لدلالة قوله "عجلت". قال الحافظ ابن حجر: ووقع في رواية منصور عن الشعبي "وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب، فأحببت أن تكون شائي أول ما يذبح في بيتي" قال الحافظ: ويظهر لي أنه بهذه الرواية يحصل الجمع بين الروايتين المتقدمتين، وأن وصفه اللحم بكونه مشتهى، وبكونه مكروهاً لا تناقض فيه، وإنما هو باعتبارين، فمن حيث إن العادة جرت فيه بالذبح فالنفس تتشوق له يكون مشتهى -ومن

حيث توارد الجميع عليه، حتى يكثر، يصير مملولاً، فأطلقت عليه الكراهة لذلك، فحيث وصفه بكونه مشتهى أراد ابتداء حاله، وحيث وصفه بكونه مكروهاً أراد انتهاءه، ومن ثم استعجل بالذبح، ليفوز بتحصيل الصفة الأولى عند أهله وجيرانه. اهـ والتحقيق أن الذي صدر من أبي بردة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبارة واحدة، إما أنها "هذا يوم اللحم فيه مكروه" كما جاء في الرواية الخامسة والسادسة، وإما أنها "هذا يوم يشتهى فيه اللحم" كما جاء في الرواية العاشرة، والأخيرة هي التي تتفق مع السياق، فلا حرج من جعل الأولى غير صواب، ولا داعي للتعسفات في توجيهها، وبخاصة أن المسألة لا تتعلق بحكم شرعي تختلف فيه وجهات النظر. والله أعلم. (وإني عجلت نسيكتي) أي ذبيحتي. (لأطعم أهلي وجيراني وأهل داري) عند البخاري "وذكر جيرانه" والمراد من "أهل داري" ما عنده من خدم وعمال، وفي الرواية السابعة "قد نسكت عن ابن لي" قال الحافظ ابن حجر: ظهر لي أن مراده أنه ضحى لأجله، للمعنى الذي ذكره في أهله وجيرانه، فخص ولده بالذكر لأنه أخص بذلك عنده، حتى يستغني ولده بما عنده من التشوف إلى ما عند غيره. اهـ وحاصل كلامه أن "عن" للتعليل، والمعنى قد نسكت متعجلاً لأجل إطعام ابن لي، وفي الرواية الحادية عشرة "وذكر هنة من جيرانه" بفتح الهاء وفتح النون مخففة، أي حاجة جيرانه إلى اللحم وفقرهم "كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقه" بتشديد الدال، وفي رواية البخاري "فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عذره" بفتح الذال مخففة، أي قبل عذره. (فقال: يا رسول الله: إن عندي جذعة من المعز؟ فقال: ضح بها، ولا تصلح لغيرك) قال النووي: الجذع من الضأن ما له سنة تامة، هذا هو الأصح عند أصحابنا، وهو الأشهر عند أهل اللغة وغيرهم: وقيل: ما له ستة أشهر، وقيل: سبعة، وقيل: ثمانية، وقيل: عشرة. حكاه القاضي، وهو غريب، وقيل: إن كان متولداً من بين شابين فستة أشهر، وإن كان من هرمين فثمانية أشهر. اهـ وقال الحافظ ابن حجر: الجذعة بفتح الجيم والذال هو وصف لسن معينة، من بهيمة الأنعام، فمن الضأن ما أكمل السنة، وهو قول الجمهور، وأما الجذع من المعز فهو ما دخل في السنة الثانية، ومن البقر ما أكمل الثالثة، ومن الإبل ما دخل في الخامسة. وفي الرواية الخامسة والتاسعة "إن عندي عناق لبن" بفتح العين، وهي الأنثى من المعز، إذا قويت، ما لم تستكمل سنة، وجمعها أعنق وعنوق، ومعنى "عناق لبن" أي أنثى معز صغيرة قريبة من الرضاع، "هي خير من شاتي لحم" أي أطيب لحماً، وأنفع، لسمنها، ونفاستها، وفي الرواية السابعة "إن عندي شاة خير من شاتين"؟ فأطلق الشاة على العنز، وفي الرواية الثامنة "عندي جذعة خير من مسنة" أي جذعة من المعز، والمسنة هي الثنية، وهي أكبر من الجذعة بسنة، وفي الرواية العاشرة "ليس عندي إلا جذعة" أي من المعز، وهل معنى "ضح بها، ولا تصلح لغيرك" أنها رخصة عند الضرورة؟ أو خصوصية لأبي بردة؟ سيأتي التفصيل في فقه الحديث، وفي الرواية الخامسة "هي خير نسيكتيك، ولا تجزي جذعة عن أحد بعدك" قال النووي: "ولا تجزي" بفتح التاء، هكذا الرواية فيه في

جميع الطرق والكتب، ومعناه لا تكفي، من نحو قوله تعالى {واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده} [لقمان: 33] ومعنى "هي خير نسيكتيك" أنك ذبحت صورة نسيكتين، وهما هذه، والتي ذبحتها قبل الصلاة، وهذه أفضل، لأن هذه حصلت بها التضحية، والأولى وقعت شاة لحم، لكن لك فيها ثواب، لا بسبب التضحية، فإنها لم تقع أضحية، بل لكونك قصدت بها الخير، وأخرجتها في طاعة الله، فلهذا دخل أفضل التفضيل، فقال: هذه خير النسيكتين، فإن هذه الصيغة تتضمن أن في الأولى خيراً أيضاً. اهـ وفي الرواية التاسعة "فضح بها، ولا تجزي جذعة عن أحد بعدك". أي جذعة من المعز، وفي الرواية العاشرة "ولن تجزي عن أحد بعدك" وفي الرواية الحادية عشرة "أفأذبحها؟ قال: فرخص له، فقال: لا أدري؟ أبلغت رخصته من سواه؟ أم لا؟ " قال النووي: هذا الشك بالنسبة إلى علم أنس رضي الله عنه، وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم في حديث البراء بن عازب [الرواية الثامنة والتاسعة والعاشرة] بأنها لا تبلغ غيره، ولا تجزي أحداً بعده. اهـ قال الحافظ ابن حجر: كأن أنساً لم يسمع ذلك، ولعله استشكل الخصوصية بذلك، لما جاء من ثبوت ذلك لغير أبي بردة، فقد حصل لعقبة، كما في الرواية الخامسة عشرة. (وانكفأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كبشين، فذبحهما) أي مال وانعطف إلى كبشين، يقال: كفأت الإناء، إذا أملته، والمراد أنه رجع عن مكان الخطبة، إلى مكان الذبح، وستأتي صفة ذبحه صلى الله عليه وسلم وصفة الكبشين في الباب التالي. (فقام الناس إلى غنيمة، فتوزعوها، أو قال: فتجزعوها) "غنيمة" تصغير "غنم" ويشمل الضأن والمعز، والتصغير لتقليل العدد، لا لتقليل الوزن، و"فتوزعوها" من التوزيع، وهو التفرقة، أي فتفرقوها، وأما "فتجزعوها" من الجزع، وهو القطع، أي اقتسموها حصصاً، وليس المراد أنهم اقتسموها حصصاً بعد الذبح، فأخذ كل واحد قطعة من اللحم، وإنما المراد أخذ حصة من الغنم، واحدة أو اثنتين، والقطعة تطلق على الحصة من كل شيء، فبهذا التقرير يكون المعنى واحداً، بين "فتوزعوها" و"فتجزعوها" والشك من الراوي. (أعطاه غنماً يقسمها على أصحابه، ضحايا) كذا في الرواية الخامسة عشرة، وفي الرواية السادسة عشرة "قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا ضحايا" ففي الرواية الأولى أن الذي قسم هو عقبة بن عامر، وفي الثانية أن الذي قسم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما كان عقبة وكيلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في القسمة، أسندت القسمة مرة إلى الوكيل، ومرة إلى الموكل، ووضع البخاري هذا الحديث تحت باب وكالة الشريك للشريك في القسمة، وأشار إلى أن عقبة كان له في تلك الغنم نصيب، باعتبار أنها كانت من الغنائم، وكذا كان للنبي صلى الله عليه وسلم فيها نصيب، ومع هذا فوكله في قسمتها، لكن قوله "ضحايا" يشكل مع كونها غنائم، ووجهه ابن المنير بأنه يحتمل أن أطلق عليها ضحايا باعتبار ما يؤول إليه الأمر، ويحتمل أن يكون عينها للأضحية، ثم قسمها بينهم، ليحوز كل واحد نصيبه. والضمير في "على أصحابه" يحتمل أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون لعقبة، وعلى الأول

يحتمل أن تكون الغنم ملكاً للنبي صلى الله عليه وسلم، وأمر بقسمتها بينهم تبرعاً، ويحتمل أن تكون من الفيء، وإليه جنح القرطبي، حيث قال: في الحديث إن الإمام ينبغي له أن يفرق الضحايا على من لم يقدر عليها من بيت مال المسلمين، وقال ابن بطال: إن كان قسمها بين الأغنياء فهي من الفيء، وإن كان خص بها الفقراء فهي من الزكاة. (فبقي عتود) بفتح العين وضم التاء المخففة، وهو من أولاد المعز خاصة، وهو ما قوي ورعي، وأتى عليه حول، والجمع أعتدة، وعتدان، وتدغم التاء في الدال، فيقال: عدان. وقال ابن بطال: العتود الجذع من المعز، ابن خمسة أشهر، وهذا يبين المراد بقوله في الرواية السادسة عشرة "فأصابني جذع" وزعم ابن حزم أن العتود لا يقال إلا للجذع من المعز، وتعقبه بعض الشراح بما وقع في كلام صاحب المحكم أن العتود الجدي الذي استكرش، وعبارة الداودي أنه الجذع. (ضح به أنت) وفي الرواية السادسة عشرة "ضح به" ويروى "ضح أنت به" زاد في رواية البيهقي "ولا رخصة لأحد فيها بعدك". -[فقه الحديث]- تتلخص النقاط في أربع: 1 - وقت الأضحية. 2 - ما يجزي من الأضحية. 3 - حكم الأضحية. 4 - ما يؤخذ من الأحاديث. 1 - أما وقت الأضحية فقد قال النووي: ينبغي أن يذبحها بعد صلاته مع الإمام، وحينئذ تجزيه بالإجماع. قال ابن المنذر: وأجمعوا على أنها لا تجوز قبل طلوع الفجر يوم النحر، واختلفوا فيما بعد ذلك، فقال الشافعي وداود وابن المنذر وآخرون: يدخل وقتها إذا طلعت الشمس ومضى قدر صلاة العيد وخطبتين، فإن ذبح بعد هذا الوقت أجزأه، سواء صلى الإمام أم لا، وسواء كان من أهل الأمصار، أو من أهل القرى والبوادي والمسافرين، وسواء صلى الضحى أم لا، وسواء ذبح الإمام أضحيته أم لا [واستدلوا بأن روايات الحديث تربط أول وقت الأضحية بالصلاة، ولما كان بعض المسلمين لا صلاة عليه، وهو مخاطب بالأضحية حملوا الصلاة على وقتها، وإنما شرطوا فراغ الخطيب لأن الخطبتين مقصودتان مع الصلاة في هذه العبادة، فيعتبر مقدار الصلاة والخطبتين على أخف ما يجزي بعد طلوع الشمش]. وقال عطاء وأبو حنيفة: يدخل وقتها في حق أهل القرى والبوادي إذا طلع الفجر الثاني، لأنهم ليس عليهم صلاة عيد، ولا يدخل في حق أهل الأمصار حتى يصلي الإمام ويخطب بالفعل، فإن ذبح قبل ذلك لم يجزه.

واستدلوا بروايتنا الأولى، "قبل أن نصلي" بالنون، قالوا: فإن إطلاق لفظ الصلاة، وإرادة وقتها خلاف الظاهر، ويرد الشافعية أن الرواية "يصلي" بالياء، والشك من الراوي، وبأن شرط صلاة الإمام بالفعل تسقط الضحية إذا لم يصل الإمام. وقال مالك: لا يجوز ذبحها إلا بعد صلاة الإمام وخطبته وذبحه، واستدلوا بما استدل به الحنفية، وزادوا شرط ذبح الإمام استدلالاً بروايتنا الرابعة عشرة، وهي صريحة في التعليق على نحر الإمام، ورد بالروايات الأخرى، وفيها ربط الذبح بالصلاة، لا بنحر الإمام، وبأن ربط الذبح بنحر الإمام لا يتفق مع طلب النحر وعدم سقوطه عن الناس لو لم ينحر الإمام، أو نحر قبل أن يصلي، فلم يجزه نحره، فدل على أن وقت نحر المسلمين لا يرتبط بنحر الإمام. وقال أحمد: لا يجوز ذبحها قبل صلاة الإمام بالفعل، ويجوز بعدها، قبل ذبح الإمام، وسواء عنده أهل الأمصار والقرى، ونحوه عن الحسن والأوزاعي وإسحق بن راهويه. وقال النووي: يجوز بعد صلاة الإمام، قبل خطبته، وفي أثنائها. وقال ربيعة فيمن لا إمام له: إن ذبح قبل طلوع الشمس لا يجزيه، وبعد طلوعها يجزيه. أما آخر وقت التضحية فقال الشافعي: تجوز في يوم النحر، وأيام التشريق الثلاثة بعده. وممن قال بهذا علي بن أبي طالب وجبير بن مطعم وابن عباس وعطاء والحسن البصري وعمر بن عبد العزيز وسليمان بن موسى الأسدي فقيه أهل الشام ومكحول وداود الظاهري وغيرهم. وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: تختص بيوم النحر ويومين بعده، وروي هذا عن عمر بن الخطاب وعلي وابن عمر وأنس -رضي الله عنهم. وقال سعيد بن جبير: تجوز لأهل الأمصار يوم النحر خاصة، ولأهل القرى يوم النحر وأيام التشريق. وقال محمد بن سرين: لا يجوز لأحد إلا في يوم النحر خاصة. وحكى القاضي عياض عن بعض العلماء أنها تجوز في جميع ذي الحجة. واختلفوا في ذبح الأضحية ليلاً، في ليالي أيام الذبح، فقال الشافعي، تجوز ليلاً مع الكراهة، وبه قال أبو حنيفة وأحمد وإسحق وأبو ثور والجمهور. وقال مالك في المشهور عنه وعامة أصحابه ورواية عن أحمد: لا يجزيه في الليل، بل تكون شاة لحم. وليس في أحاديث الباب ما يشير إلى آخر وقت التضحية، ولا إلى ذبحها ليلاً. 2 - وأما ما يجزئ في الأضحية. فقد قال النووي: أجمع العلماء على أنه لا تجزئ التضحية بغير الإبل والبقر والغنم، إلا ما حكاه

ابن المنذر عن الحسن بن صالح أنه قال: تجوز التضحية ببقرة الوحش عن سبعة، وبالظبي عن واحد، وبه قال داود في بقرة الوحش. ثم قال: ومذهبنا ومذهب الجمهور أن أفضل الأنواع البدنة، ثم البقرة، ثم الضأن، ثم المعز، وقال مالك: الغنم أفضل، لأنها أطيب لحماً، وحجة الجمهور أن البدنة تجزئ عن سبعة، وكذا البقرة، وأما الشاة فلا تجزئ إلا عن واحد بالاتفاق، فدل ذلك على تفضيل البدنة والبقرة، واختلف أصحاب مالك فيما بعد الغنم؟ فقيل: الإبل أفضل من البقرة، وقيل: البقرة أفضل من الإبل، وهو الأشهر عندهم. وقال: أما الجذع من الضأن فمذهبنا ومذهب العلماء كافة أنه يجزئ سواء وجد غيره أم لا، وحكوا عن ابن عمر والزهري أنهما قالا: لا يجزئ، وقد يحتج لهما بظاهر روايتنا الثالثة عشرة "لا تذبحوا إلا مسنة، إلا أن يعسر عليكم، فتذبحوا جذعة من الضأن" قال: قال الجمهور: هذا الحديث محمول على الاستحباب والأفضل، وتقديره: يستحب لكم ألا تذبحوا إلا مسنة، فإن عجزتم فجذعة ضأن، وليس فيه تصريح بمنع جذعة الضأن، وأنها لا تجزئ بحال، وقد أجمعت الأمة على أنه ليس على ظاهره، لأن الجمهور يجوزون الجذع من الضأن مع وجود غيره، وعدمه، وابن عمر والزهري يمنعانه مع وجود غيره وعدمه، فتعين تأويل الحديث على ما ذكرنا من الاستحباب. اهـ قال الحافظ ابن حجر: ويدل للجمهور الأحاديث الماضية قريباً، وكذا حديث أم هلال بنت هلال عن أبيها رفعه "يجوز الجذع من الضأن أضحية" أخرجه ابن ماجه، وحديث مجاشع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن الجذع يوفي ما يوفي منه الثني" أخرجه أبو داود وابن ماجه وحديث عقبة بن عامر "ضحينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بجذع من الضأن" أخرجه النسائي بسند قوي، وحديث أبي هريرة رفعه "نعمت الأضحية الجذعة من الضأن" أخرجه الترمذي، وفي سنده ضعف، ثم قال الحافظ: واختلف القائلون بإجزاء الجذع من الضأن -وهم الجمهور- في سنه، على آراء: أحدها أنه ما أكمل سنة، ودخل في الثانية، وهو الأصح عند الشافعية، وهو الأشهر عند أهل اللغة، ثانيها نصف سنة، وهو قول الحنفية والحنابلة، ثالثها سبعة أشهر، وقد حكي عن الحنفية، رابعها ستة أو سبعة، حكي عن وكيع، خامسها التفرقة بين ما تولد بين شايين، فيكون له نصف سنة، أو بين هرمين، فيكون ابن ثمانية، وقال صاحب الهداية: إنه إذا كانت الجذعة عظيمة بحيث لو اختلطت بالثنيات اشتبهت على الناظر من بعيد أجزأت، وقال العبادي من الشافعية: لو أجذع قبل السنة، أي سقطت أسنانه أجزأ، كما لو تمت السنة قبل أن يجذع، ويكون ذلك كالبلوغ، إما بالسن، أو بالاحتلام. أما الجذعة من المعز، فإن الرواية الرابعة والخامسة تخصصان أبا بردة بإجزائها في الأضحية، وكذا عقبة بن عامر في الرواية الخامسة عشرة، وقد استشكل الحافظ ابن حجر وقوع الرخصة الثانية، باعتبار أن كلاً منهما صيغة عموم "ولا تصلح لأحد بعدك" فأيهما تقدم على الآخر اقتضى انتفاء الوقوع للثاني، قال: وأقرب ما يقال فيه: إن ذلك صدر لكل منهما في وقت واحد، أو تكون خصوصية الأول نسخت بثبوت الخصوصية للثاني، ولا مانع من ذلك، لأنه لم يقع في السياق استمرار المنع لغيره صريحاً، قال: وقد انفصل ابن التين -وتبعه القرطبي- عن هذا الإشكال باحتمال أن يكون

العتود كان كبير السن، بحيث يجزئ، لكنه قال ذلك بناء على أن الزيادة التي في آخره لم تقع له [يقصد قوله لعقبة: ولا رخصة فيها لأحد بعدك] ولا يتم مراده مع وجودها، مع مصادمته لقول أهل اللغة في العتود, وتمسك بعض المتأخرين بكلام ابن التين، فضعف الزيادة، وليس بجيد، فإنها خارجة من مخرج الصحيح. ثم قال: وقد وقع في كلام بعضهم أن الذين ثبتت لهم الرخصة أربعة أو خمسة، واستشكل الجمع، وليس بمشكل، فإن الأحاديث التي وردت في ذلك ليس فيها التصريح بالنفي، إلا في قصة أبي بردة في الصحيحين، وفي قصة عقبة بن عامر في البيهقي، وأما ما عدا ذلك فلا، فقد أخرج أحمد وأبو داود وصححه ابن حبان، من حديث زبير بن خالد "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه عتوداً جذعاً، فقال: ضح به، فقلت: إنه جذع أفأضحي به؟ قال: نعم. ضح به، فضحيت به". وفي الطبراني في الأوسط، من حديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى سعد بن أبي وقاص جذعاً من المعز، فأمره أن يضحي به". ولأبي يعلى والحاكم من حديث أبي هريرة "أن رجلاً قال: يا رسول الله، هذا جذع من الضأن مهزول، وهذا جذع من المعز سمين، وهو خيرهما، أفأضحي به؟ قال: ضح به، فإن لله الخير" قال الحافظ: وأما ما أخرجه ابن ماجه، من حديث أبي زيد الأنصاري "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل من الأنصار: اذبحها، ولن تجزي جذعة عن أحد بعدك" فهذا يحمل على أنه أبو بردة بن نيار، فإنه من الأنصار. ثم قال الحافظ ابن حجر: والحق أنه لا منافاة بين هذه الأحاديث، وبين حديثي أبي بردة وعقبة، لاحتمال أن يكون ذلك في ابتداء الأمر، ثم تقرر الشرع بأن الجذع من المعز لا يجزي، واختص أبو بردة وعقبة بالرخصة في ذلك. قال الفاكهي: ينبغي النظر في اختصاص أبي بردة بهذا الحكم، وكشف السر فيه، وأجيب بأن الماوردي قال: إن فيه وجهين: أحدهما أن ذلك كان قبل استقرار الشرع، فاستثنى، والثاني أنه علم من طاعته، وخلوص نيته ما ميزه عمن سواه. قال الحافظ: وفي الأول نظر، لأنه لو كان سابقاً لامتنع وقوع ذلك لغيره، بعد التصريح بعدم الإجزاء لغيره، والغرض ثبوت الأجزاء لعدد غيره، كما تقدم. قال النووي: وفي الحديث أن جذعة المعز لا تجزي في الأضحية، وهذا متفق عليه. اهـ قال الحافظ ابن حجر: في الحديث أن الجذع من المعز لا يجزي، وهو قول الجمهور، وعن عطاء وصاحبه الأوزاعي أنه يجوز مطلقاً، وهو وجه لبعض الشافعية، حكاه الرافعي، قال النووي: وهو شاذ أو غلط، وأغرب عياض، فحكي الإجماع على عدم الإجزاء، قيل: والإجزاء مصادر للنص، ولكن يحتمل أن يكون قائله قيد ذلك بمن لم يجد غيره، ويكون معنى نفي الإجزاء عن غير من أذن له في ذلك محمولاً على من وجد. اهـ

3 - وأما حكم الأضحية فقد قال النووي: اختلف العلماء في وجوب الأضحية على الموسر، فقال جمهورهم: هي سنة في حقه، إن تركها بلا عذر لم يأثم، ولم يلزمه القضاء، وممن قال بهذا أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وبلال وأبو مسعود البدري وسعيد بن المسيب وعلقمة والأسود وعطاء ومالك وأحمد وأبو يوسف وإسحاق وأبو ثور والمزني وابن المنذر وداود وغيرهم. وقال ربيعة والأوزاعي وأبو حنيفة والليث: هي واجبة على الموسر، وبه قال بعض المالكية، وقال بعضهم: تجب بشرائها بنية الأضحية، وبالتزام اللسان، وبنية الذبح. وقال النخعي: واجبة على الموسر، إلا الحاج بمنى. وقال محمد بن الحسن: واجبة على المقيم بالأمصار. والمشهور عن أبي حنيفة أنه إنما يوجبها على مقيم يملك نصاباً. اهـ قال ابن حزم: لا يصح عن أحد من الصحابة أنها واجبة، وصح أنها غير واجبة عند الجمهور، ولا خلاف في كونها من شرائع الدين. وهي عند الشافعية والجمهور سنة مؤكدة على الكفاية، وفي وجه للشافعية من فروض الكفاية. وقال أحمد: يكره تركها مع القدرة، وعنه وعن محمد بن الحسن: هي سنة، غير مرخص في تركها، قال الطحاوي: وبه نأخذ، وليس في الآثار ما يدل على وجوبها. قال الحافظ ابن حجر: وأقرب ما يتمسك به للوجوب حديث أبي هريرة، رفعه "من وجد سعة، فلم يضح، فلا يقربن مصلانا" أخرجه ابن ماجه وأحمد، ورجاله ثقات، لكن اختلف في رفعه ووقفه، والموقوف أشبه بالصواب، ومع ذلك فليس صريحاً في الإيجاب. ثم قال: وقد احتج من قال بالوجوب بما أخرجه أحمد والأربعة بسند قوي عن مخنف بن سليم، رفعه "على أهل كل بيت أضحية" ولا حجة فيه، لأن الصيغة ليست صريحة في الوجوب المطلق. واستدلوا بالأمر بالإعادة لمن ذبح قبل الصلاة، في رواياتنا، ورد بأنه لو كان الأمر بالإعادة للوجوب لتعرض إلى قيمة الأولى، ليلزم بمثلها، فلما لم يعتبر ذلك دل على أن الأمر بالإعادة كان على جهة الندب. ولا يقال: إن لفظ "مكانها" في روايتنا الأولى والثانية والثالثة، يشير إلى المماثلة، فإنه ليس نصاً في ذلك. وقد يستدل لهم بحرص الصحابة عليها، وحرص الشارع عليها، حتى وزعها عليهم، وأمرهم بذبحها، كما في روايتنا الخامسة عشرة، وأجيب بأن ذلك دليل على تأكدها، وندبهم إليها، وإلا فقد تركها كثير منهم، وقال ابن عمر: هي سنة ومعروف، وتعمد بعضهم تركها، وهو موسر، فقد روي عن أبي مسعود الأنصاري أنه قال: إني لأدع الأضحى، وأنا موسر، مخافة أن يرى جيراني أنه حتم علي، وروي عن علقمة أنه قال: لأن لا أضحي أحب أن أراه حتماً علي. قال ابن بطال: وهكذا ينبغي للعالم الذي

يقتدى به، إذا خشي من العامة أن يلتزموا السنن التزام الفرائض أن يتركها، لئلا يتأسى به، ولئلا يختلط على الناس أمر دينهم، فلا يفرقوا بين فرضهم ونفلهم. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - من قوله في الرواية الثالثة "صلى يوم أضحى، ثم خطب" أن الخطبة للعيد بعد الصلاة، قال النووي: وهو إجماع الناس اليوم. 2 - في قوله في الرواية الخامسة "عندي عناق لبن، هي خير من شاتي لحم" وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم له، بقوله "هي خير نسيكتيك" إشارة إلى أن المقصود في الضحايا طيب اللحم، لا كثرته، فشاة نفيسة أفضل من شاتين غير سمينتين، قال النووي: وأجمع العلماء على استحباب سمينها وطيبها. 3 - وفي الأحاديث أن المرجع في الأحكام إنما هو النبي صلى الله عليه وسلم. 4 - وأنه قد يخص بعض أمته بحكم، ويمنع غيره منه، ولو كان بغير عذر. 5 - وأن خطابه للواحد بعم جميع المكلفين، حتى يظهر دليل الخصوصية، قال الحافظ ابن حجر: لأن السياق يشعر بأن قوله لأبي بردة: "ضح به" أي بالجذع، ولو كان يفهم منه تخصيصه بذلك لما احتاج إلى أن يقول له: "ولن تجزي عن أحد بعدك" قال: ويحتمل أن تكون فائدة ذلك قطع إلحاق غيره به في الحكم المذكور، لا أن ذلك مأخوذ من مجرد اللفظ. 6 - وفيه أن الإمام يعلم الناس في خطبة العيد أحكام النحر. 7 - وفيه جواز الاكتفاء بالشاة الواحدة في الأضحية، عن الرجل وعن أهل بيته، وبه قال الجمهور، وعن أبي حنيفة والثوري: يكره، وقال الخطابي: لا يجوز أن يضحي بشاة واحدة عن اثنين، وادعى نسخ ما دل عليه الحديث. 8 - قال ابن أبي جمرة: وفيه أن العمل، وإن وافق نية حسنة لم يصح إلا إذا وقع على وفق الشرع. 9 - ومن قوله "إنما هو لحم قدمه لأهله" جواز أكل اللحم يوم العيد، من غير لحم الأضحية. 10 - وفيه كرم الرب سبحانه وتعالى، لكونه شرع لعبيده الأضحية، مع ما لهم فيها من الشهوة بالأكل والادخار، ومع ذلك فأثبت لهم الأجر في الذبح، ثم من تصدق أثيب، وإلا لم يأثم. 11 - وفي الرواية الحادية عشرة إجزاء الذكر في الأضحية، وهو مجمع عليه. 12 - وأن الأفضل أن يذبحها بنفسه، وهو مجمع عليه. 13 - وجواز التضحية بحيوانين. 14 - واستحباب التضحية بالأقرن. 15 - ومن الرواية الخامسة عشرة قسمة الإمام الأضاحي بين الناس، بنفسه، أو بأمره. والله أعلم

(546) باب استحباب ذبح الأضحية بنفسه والتسمية والتكبير عند الذبح، والذبح بكل ما أنهر الدم ليس السن والظفر

(546) باب استحباب ذبح الأضحية بنفسه والتسمية والتكبير عند الذبح، والذبح بكل ما أنهر الدم ليس السن والظفر 4448 - عن أنس رضي الله عنه قال: ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين. ذبحهما بيده. وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما. 4449 - عن أنس رضي الله عنه قال: ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين. قال: ورأيته يذبحهما بيده. ورأيته واضعاً قدمه على صفاحهما. قال: وسمى وكبر. 4450 - وفي رواية عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله، غير أنه قال: ويقول: "باسم الله والله أكبر". 4451 - عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن، يطأ في سواد، ويبرك في سواد، وينظر في سواد، فأتي به ليضحي به. فقال لها يا عائشة: "هلمي المدية" ثم قال "اشحذيها بحجر" ففعلت. ثم أخذها وأخذ الكبش، فأضجعه ثم ذبحه. ثم قال: "باسم الله. اللهم تقبل من محمد وآل محمد، ومن أمة محمد" ثم ضحى به. 4452 - عن رافع بن خديج رضي الله عنه قلت: يا رسول الله، إنا لاقو العدو غداً. وليست معنا مدى. قال صلى الله عليه وسلم: "أعجل أو أرني. ما أنهر الدم، وذكر اسم الله فكل. ليس السن والظفر. وسأحدثك. أما السن فعظم. وأما الظفر فمدى الحبشة" قال: وأصبنا نهب إبل وغنم. فند منها بعير فرماه رجل بسهم فحبسه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش. فإذا غلبكم منها شيء، فاصنعوا به هكذا".

4453 - عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة من تهامة. فأصبنا غنماً وإبلاً. فعجل القوم، فأغلوا بها القدور. فأمر بها فكفئت ثم عدل عشراً من الغنم بجزور. 4454 - عن عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج عن جده قال: قلنا: يا رسول الله إنا لاقو العدو غداً. وليس معنا مدى. فنذكي بالليط؟ وذكر الحديث بقصته. وقال: فند علينا بعير منها. فرميناه بالنبل حتى وهصناه. 4455 - وفي رواية عن سعيد بن مسروق بهذا الإسناد الحديث إلى آخره بتمامه. وقال فيه: وليست معنا مدى. أفنذبح بالقصب؟ . 4456 - عن رافع بن خديج رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، إنا لاقو العدو غداً. وليس معنا مدى. وساق الحديث. ولم يذكر فعجل القوم فأغلوا بها القدور فأمر بها فكفئت. وذكر سائر القصة. -[المعنى العام]- كان صلى الله عليه وسلم معلماً وهادياً، بالفعل والقول، كان بشراً، يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، كان في بيته في مهنة أهله، يقطع اللحم بنفسه، وبالاشتراك مع زوجه، كان يذبح ذبيحته بنفسه، وبخاصة إذا كانت هدياً، أو أضحية، فقد ذبح عدداً كبيراً من الإبل والبقر بيده الشريفة، من الهدي الذي ساقه إلى الحرم، في حجة الوداع، وهو صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث يباشر بنفسه ذبح الأضحية بكبشين، متكاملي الخلقة، أقرنين، أملحين، سمينين، حرص أن يكونا على أحسن حال الغنم، من حيث طيب اللحم وكثرته، ومن حيث جمال المنظر، عملاً بقوله تعالى {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92]. إن الأضحية -وإن كان المقصود منها بالدرجة الأولى التوسعة على الأهل في يوم العيد- هي

شعيرة من شعائر الإسلام، كهدي الحرم، الذي يقول الله فيه {والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون* لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين} [الحج: 36، 37]. كان من السهل أن يأمر صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه بأن يذبح له، وكم يكون مثل هذا الأمر حبيباً إلى نفوس أصحابه، كان من السهل أن يريح نفسه من جهد الذبح، وأن يحمي بدنه وثيابه من التعرض لدم الذبيحة، ولكنه صلى الله عليه وسلم يضرب المثل في التواضع، وفي مباشرة أموره بنفسه، وبخاصة إذا كان فيها جانب من جوانب الشرع، ليثاب على مباشرته، وليعلم أمته، لقد طلب المدية من عائشة -رضي الله عنها- لتشاركه في أجر الذبح، فلما جاءته بها قال لها: اشحذيها، وحدديها، وسنيها بحجر، لتقطع سريعاً، فتخفف على الذبيحة الذبح وآلامه، وجاء بالكبش، فأضجعه على جانبه الأيسر، ووضع قدمه على صفحة عنقه، وأمسك السكين بيمينه، ورأس الكبش بشماله، ثم سمى وكبر، وقال: اللهم تقبل مني، ثم ذبح. ولقد كانت المدية -أو السكين- آلة الذبح، وكانت معروفة شائعة، لكن القوم على سفر كثير، وعرضة لعدم تيسر السكين في أسفارهم وغزواتهم، كما هم عرضة لأن يغنموا إبلاً وغنماً، وتدفعهم الحاجة والجماعة إلى ذبحها، وما كانوا ليفعلوا شيئاً إلا بعد أن يتبينوا حكمه الشرعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسأل سائلهم: يا رسول الله، إنا سنخرج معك غداً للغزو، وقد لا تتيسر لنا المدى، فبماذا نذبح غداً إذا لم نجد السكين المعتاد؟ قال صلى الله عليه وسلم: اذبحوا بأي محدد، كل ما أنهر الدم، وجرح الذبيحة في حلقها، وقطع حلقومها ومريئها وأوداجها فهو يحل لحمها، حديداً كان كالسيف وسن الرمح، أو حجراً، أو خشباً، أو زجاجاً، أو قشر قصب، أو خزفاً، أو نحاساً، لكن لا تذبحوا بالسن، لأنه عظم، ولا تذبحوا بالظفر، لأن الحبشة الكافرين يخنقون بأظفارهم الحيوان. وخرج بهم صلى الله عليه وسلم في غزوة، وكان في آخر القوم، حماية لهم، وراعياً لضعيفهم، وطال بهم السفر، حتى نفد زادهم، وأصابتهم المجاعة، وغنمت مقدمة الجيش إبلاً وغنماً من الأعداء، فنزلوا منزلاً، وذبحوا منها، ووضعوها في قدرهم، وأوقدوا عليها نيرانهم، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم نيرانهم وقدورهم، فسألهم، فأخبروه، فغضب صلى الله عليه وسلم على فعلهم هذا، دون إذن منه، وهو معهم، فأمرهم بإكفاء القدور، وطرح ما فيها من المرق واللحم الذي لم ينضج بعد، فاستجابوا فوراً، وأكفئت القدور. وساروا بما غنموا من الإبل والغنم، فشرد بعير ونفر نفور الوحش، وجروا خلفه، فلم يدركوه، وكان الخيل معهم قليلاً، حتى يمكنهم الإحاطة به ومحاصرته، فأدركه فارس بفرسه، فأرسل عليه سهماً، جرحه، وأعجزه، وأوقعه على الأرض، يجري دمه، فمات، فقال صلى الله عليه وسلم: كلوه، فالحيوان المستأنس إذا توحش شأنه شأن المتوحش، يحل أكله بجرحه حيث قدر عليه، في أي مكان من جسمه، وإذا حصل لكم مثل هذا مستقبلاً، فافعلوا به مثل ما فعلتم اليوم، إن لهذه الإبل صدمات تصبح بها متوحشة كالوحش الأصلي، وإن المستأنس من الحيوان قد يصاب في مخه، فيبدو وحشاً، فعاملوها في هذه الحالة معاملة الوحوش، في صيدها، وحل لحمها.

-[المباحث العربية]- (ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين) أي ذبح أضحيتين في المدينة بكبشين، والكبش فحل الضأن في أي سن كان. (أملحين) قال ابن الأعرابي وغيره: الأملح هو الأبيض الخالص البياض، وقال الأصمعي: هو الأبيض، يشوبه شيء من السواد، وقال أبو حاتم: هو الذي يخالط بياضه حمرة، وقال بعضهم: هو الأسود، يعلوه حمرة، وقال الكسائي: هو الذي فيه بياض وسواد، والبياض أكثر، وقال الخطابي: وهو الأبيض الذي في خلل صوفه طبقات سود، وقال الداودي: هو المتغير الشعر بسواد وبياض، وفي كتب اللغة: ملح الشيء بضم اللام، ملاحة، وهو مليح بهج وحسن منظره، فهو مليح، والمقصود بالأملح هنا جميل الشعر حسنه، وأذواق الناس تختلف من حيث تناسق الألوان، وهذه التضحية غير التضحية الواردة في الرواية الثالثة، إذ فيها "أمر بكبش أقرن، يطأ في سواد، ويبرك في سواد، وينظر في سواد" قال النووي: معناه أن قوائمه، وبطنه، وما حول عينيه أسود. اهـ يقال: وطئ الشيء، بكسر الطاء، يطؤه بفتحها، وطئاً داسه برجله، فالمعنى يدوس الأرض بأرجل سوداء، ويقال: برك البعير، بفتح الراء، وقع على بركه، بسكون الراء، والبرك مقدم صدر البعير الذي يلي الأرض و"في" هنا مرادفة للباء، أي يطأ بسواد، ويبرك بسواد، وينظر بسواد. (أقرنين) أي لكل منهما قرنان معتدلان حسنان. (ذبحهما بيده) أي بنفسه، دون توكيل، بأن أخذ المدية في يده، ومررها، وفي الرواية الثانية "ورأيته يذبحهما بيده". (وسمى وكبر، ووضع رجله على صفاحهما) أي على صفاح كل منهما، عند ذبحه، والصفاح بكسر الصاد وتخفيف الفاء، الجوانب، جمع صفح بسكون الفاء والمراد أنه صلى الله عليه وسلم وضع رجله على صفحة العنق، ليكون أثبت له وأمكن، ولئلا تضطرب الذبيحة، فتمنعه من إكمال الذبح، أو تؤذيه، ولما كان صلى الله عليه وسلم قد وضع رجله على صفحة واحدة من كل من الكبشين كان الأصل أن يقول: ووضع رجله على صفحتيهما ليكون من إضافة المثنى إلى المثنى، المفيدة للتوزيع والقسمة الآحادية، كما في مقابلة الجمع بالجمع المقتضية للقسمة أحاداً، كقولنا: أعطيت الطلاب أقلاماً، لكنه جمع المضاف إلى المثنى لكراهتهم اجتماع تثنيتين عند ظهور المراد، كما في قوله تعالى {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} [التحريم: 4] والجمع في مثل هذا أكثر استعمالاً من التثنية، ومن الإفراد، بل منع أبو حيان الإفراد إلا في الشعر، كقوله: حمامة بطن الواديين ترنمي. ووجهه بعضهم على مذهب من قال: إن أقل الجمع اثنان، فجعله من مقابلة الجمع بالجمع، وهذا بعيد.

(هلمي المدية) أي أحضري المدية، و"هلم" اسم فعل أمر، لا يتصرف، ويلزم حالة واحدة للمفرد والمفردة والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث عند أهل الحجاز، وبنو تميم يلحقون به الضمائر، تأنيثاً، وتثنية وجمعاً، فهو هنا على لغة تميم. و"المدية" بضم الميم وسكون الدال السكين، وقد تكسر الميم، وقد تفتح. (اشحذيها بحجر) بفتح الحاء، بعدها ذال، أي حدديها. (ثم أخذها، وأخذ الكبش، فأضجعه، ثم ذبحه، ثم قال: باسم الله. اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد. ثم ضحى به) قال النووي: هذا الكلام فيه تقديم وتأخير، وتقديره: فأضجعه، وأخذ في ذبحه، قائلاً: باسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد وأمته، مضحياً به، قال: ولفظه "ثم" هنا متأولة على ما ذكرته بلا شك. اهـ والذي حمل النووي على هذا التأويل أن التسمية مشروعة عند بدء الذبح، وليست متراخية عنه، و"ثم" للترتيب والتراخي، فأشار إلى أن في قوله "ثم ذبحه" مجاز المشارفة، كما في قولنا: توضأ، فغسل وجهه، ويديه وشعره وقدميه، أي أشرف على الوضوء، وأراد الوضوء، فغسل إلخ. وهنا: أشرف على ذبحه وأراد ذبحه، ثم قال: باسم الله ... إلخ، وكذلك قوله "ثم ضحى به" فجعله حالاً، قيداً في العامل، وهو الأفعال السابقة، أي فعل كل ذلك على سبيل الأضحية، ويمكن أن تكون "ثم" للترتيب والتراخي في الذكر فقط، كقول الشاعر: أنا من ساد ثم ساد أبوه. وأما ما جاء في الرواية الأولى من عدم ترتيب الأفعال فلا يضر، لأن العطف فيه بالواو، وهي لا تقتضي ترتيباً ولا تعقيباً ولا تراخياً. (إنا لاقو العدو غداً وليست معنا مدى) اسم فاعل، من لقي بكسر القاف يلقى بفتحها، وهو من إضافة اسم الفاعل إلى مفعول، و"غداً" يراد به يوم بعد يومك، ليس شرطاً أن يكون التالي، ويحتمل أن يكون مراده أنهم إذا لقوا العدو صاروا بصدد أن يغنموا منهم ما يذبحونه، ويحتمل أن يكون مراده أنهم سيحتاجون إلى ذبح ما يأكلونه، ليتقووا به على العدو، إذا لقوه، وكرهوا أن يذبحوا بسيوفهم، لئلا يضر ذلك بحدها، فسأل عن الذي يجزئ في الذبح. (أعجل) بكسر الجيم وهمزة قطع، فعل أمر، أي أعجل ذبحها بكل ما ينهر الدم، لئلا تموت خنقاً، وعند البخاري "اعجل" بهمزة وصل وفتح الجيم. (أو أرني) شك من الراوي، هل قال: أعجل؟ أو قال "أرن". قال النووي: "أرن" بفتح الهمزة وكسر الراء، وإسكان النون، وروي بإسكان الراء، وكسر النون، وروي "أرني" بإسكان الراء، وزيادة ياء، وكذا وقع هنا في أكثر النسخ.

قال الخطابي: صوابه "أأرن" بهمزة مفتوحة بعدها همزة ساكنة مع كسر الراء، على وزن "أعجل" وهو بمعناه، وهو من النشاط والخفة، [لأن الذبح إذا كان بغير الحديد احتاج إلى خفة يد صاحبه، وسرعة إمرارها، قبل أن تهلك]، وقد يكون "أرن" على وزن "أطلع" أي أهلكها ذبحاً، من "أران القوم" إذا هلكت مواشيهم، قال: ويكون "أرن" على وزن "أعط" بمعنى أدم الحز والقطع، ولا تفتر، من قولهم: "رنوت" إذا أدمت النظر. قال القاضي عياض: وقد رد بعضهم على الخطابي قوله: من "أران القوم" إذا هلكت مواشيهم، لأن هذا لا يتعدى، والمذكور في الحديث متعد، على ما فسره، ورد عليه أيضاً قوله: إنه "أأرن" إذ لا نجتمع همزتان إحداهما ساكنة في كلمة واحدة، وإنما يقال في هذا "أيرن" قال القاضي: وقال بعضهم: معنى "أرني" بالياء سيلان الدم. اهـ (ما أنهر الدم، وذكر اسم الله، فكل) أي ما أسال الدم بكثرة، وجعله كالنهر يجري فكل، ورابط جملة الخبر بالمبتدأ محذوف، والتقدير "فكله" وفيه مضاف محذوف، أي فكل ذبيحته، و"ذكر اسم الله" بضم الذال، مبني للمجهول، والرابط محذوف أيضاً، أي وذكر اسم الله عليه، ورواية أبي داود "وذكر اسم الله عليه"، والجملة حال بتقدير "قد" عند من يشترطها، أي مذكوراً عليه اسم الله. قال القاضي: وذكر الخشبي في شرح هذا الحديث "ما أنهز" بالزاي، والنهز بمعنى الدفع. قال: وهذا غريب، والمشهور بالراء المهملة. كذا ذكره العلماء كافة. قال بعض العلماء: والحكمة في اشتراط الذبح، وإنهار الدم تمييز حلال اللحم والشحم من حرامهما، وتنبيه على أن تحريم الميتة لبقاء دمها. (ليس السن والظفر) أداة استثناء، و"السن" منصوب على الاستثناء مما أنهر الدم، كأنه قال: ما أنهر الدم إلا السن والظفر، أو خلا السن والظفر فكل ذبيحته، والسن والظفر مطلقان، فهل هما على إطلاقهما؟ وعلى عمومهما؟ يشملان سن وظفر الآدمي وغيره؟ الطاهر والنجس؟ المتصل والمنفصل؟ أو لا؟ وهل يلحق بهما سائر العظام؟ أم لا؟ خلاف فقهي سيأتي. (وسأحدثك) أي عن سبب استثناء السن والظفر. (أما السن فعظم) قال النووي: معناه فلا تذبحوا به، فإنه يتنجس بالدم، وقد نهيتم عن الاستنجاء بالعظام لئلا تتنجس، لكونها زاد إخوانكم من الجن. اهـ وفي هذا التوجيه نظر، فقد يمكن تطهيرها بعد الذبح بها، ولهذا قال ابن الصلاح: ولم أر بعد البحث من نقل للمنع من الذبح بالعظم معنى يعقل. اهـ (وأما الظفر فمدى الحبشة) قال: معناه أنهم كفار، وقد نهيتم عن التشبه بالكفار، وهذا شعار لهم. اهـ وفيه نظر أيضاً، لأنه لو كان كذلك لامتنع الذبح بالسكين وسائر ما يذبح به الكفار. (وأصبنا نهب إبل وغنم) يقال: نهب الشيء ينهبه، بفتح الهاء فيهما، أخذه قهراً، والنهب بسكون الهاء المنهوب، والمعنى أخذنا قهراً وغنيمة إبلاً وغنماً من أعدائنا في حرب وغارة عليهم، وفي رواية البخاري "وتقدم سرعان الناس فأصابوا من المغانم".

(فند منها بعير) بفتح النون وتشديد الدال، أي شرد وهرب وجرى على وجهه، نافراً، وفي الرواية السادسة "فند علينا بعير منها" فعلى بمعنى "عن" للمجاوزة (فرماه رجل بسهم فحبسه) أي أصابه، فأوقفه، وأوقعه على الأرض، وهل يحل البعير الناد، إذا رمي بسهم؟ وإن قدر على ذكاته بعد؟ خلاف فقهي سيأتي، وفي الرواية السادسة "فرميناه بالنبل، حتى وهصناه" بفتح الهاء وسكون الصاد، أي أسقطناه على الأرض، وفي غير مسلم "رهصناه" بالراء، أي حبسناه، وفي رواية البخاري "وكان في القوم خيل يسيرة" كاعتذار لعدم قدرتهم على البعير الناد بغير السهام. (إن لهذه الإبل أوابد، كأوابد الوحش) أي إن لهذه الإبل نفوراً وشروداً، كنفور الوحش وشروده، يقال: أبد، بفتح الهمزة والباء، يأبد، بضم الباء وكسرها، و"أبد" بكسر الباء، يأبد بفتحها، إذا نفر المستأنس والأوابد، بكسر الباء، جمع آبدة، بالمد وكسر الباء المخففة. (فإذا غلبكم منها شيء فاصنعوا به هكذا) أي إذا غلبكم بعير بنفوره وشروده، فارموه بالسهم. (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة من تهامة) قال النووي: قال العلماء: الحليفة هذه مكان من تهامة، بين حاذة وذات عرق بين الطائف ومكة، وليست بذي الحليفة، التي هي ميقات أهل المدينة، هكذا ذكره الحازمي في كتابه المؤتلف في أسماء الأماكن، لكنه قال: الحليفة، من غير لفظ "ذي" والذي في صحيح البخاري ومسلم "بذي الحليفة" فكأنه يقال بالوجهين، قال الحافظ ابن حجر: وكان ذلك عند رجوعهم من الطائف، سنة ثمان، وفي رواية البخاري "فما ند عليكم منها فاصنعوا به هكذا" وفي رواية "فما فعل منها هذا، فافعلوا مثل هذا" وفي رواية الطبراني "فاصنعوا به ذلك، وكلوه". (فعجل القوم، فأغلوا بها القدور) في رواية البخاري "فأصاب الناس جوع" يمهد الصحابي بذلك لعذرهم في ذبحهم الإبل والغنم التي أصابوا، زاد في رواية البخاري "وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أخريات الناس" وكان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك صوناً للعسكر وحفظاً، وفي رواية البخاري "فعجلوا، فنصبوا القدور" وفي رواية "فانطلق ناس من سرعان الناس، فذبحوا ونصبوا القدور قبل أن يقسم" ومعنى "فأغلوا القدور" أي أوقدوا النار تحتها، حتى غلت، وفي رواية "فانتهى النبي صلى الله عليه وسلم إليهم". (فأمر بها فكفئت) في رواية البخاري "فأمر بالقدور فأكفئت" أي قلبت، وأفرغ ما فيها، وهل أتلف ما فيها من المرق فقط؟ واستفيد باللحم؟ أم أتلف المرق واللحم؟ سيأتي تفصيل ذلك في فقه الحديث. (ثم عدل عشراً من الغنم بجزور) في رواية البخاري "ثم قسم، فعدل عشرة من الغنم ببعير" قالوا: وهو محمول على أن قيمة الغنم إذ ذاك كانت كذلك، أو أن الغنم كانت كثيرة، أو هزيلة، فلا يتعارض ذلك مع القاعدة في الأضاحي من أن البعير يجزي عن سبع شياه.

(فنذكي بالليط؟ ) الكلام على حذف أداة الاستفهام، و"الليط" بكسر اللام قشور القصب، وليط كل شيء قشوره، والواحدة ليطة، وهو معنى قوله في ملحق الرواية "أفنذبح بالقصب"؟ وفي رواية أبي داود وغيره "أفنذبح بالمروة"؟ وهي حجر أبيض، وقيل: الذي يقدح منه النار. وفي رواية الطبراني "أفنذبح بالقصب والمروة"؟ وفي رواية "أنذبح بالمروة وشقة العصا"؟ . -[فقه الحديث]- نقاط هذا الباب أربع: 1 - استحباب ذبح الأضحية بنفسه، دون توكيل. 2 - التسمية والتكبير عند الذبح. 3 - الآلة الصالحة للذبح. 4 - ما يؤخذ من الأحاديث. وهذا هو التفصيل. 1 - أما ذبح الأضحية. بنفسه فقد قال النووي: يستحب أن يتولى الإنسان ذبح أضحيته بنفسه، ولا يوكل في ذبحها إلا لعذر، وحين العذر يستحب أن يشهد ذبحها، وإن استناب فيها مسلماً جاز، بلا خلاف، وإن استناب كتابياً كره كراهية تنزيه، وأجزأه، ووقعت التضحية عن الموكل. قال: هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة، إلا مالكاً في إحدى الروايتين عنه، فإنه لم يجوزها. ويجوز أن يستنيب صبياً، أو امرأة حائضاً، لكن يكره توكيل الصبي، وفي كراهة توكيل الحائض وجهان، قال أصحابنا: الحائض أولى بالاستنابة من الصبي، والصبي أولى من الكتابي. قال أصحابنا: والأفضل لمن وكل أن يوكل مسلماً فقيهاً بباب الذبائح والضحايا، لأنه أعرف بشروطها وسننها. اهـ وجاءت رواية عن المالكية بعدم إجزاء الوكيل عند القدرة، وعند أكثرهم يكره. وقال الحافظ ابن حجر: وعن الشافعية الأولى للمرأة أن توكل في ذبح أضحيتها، ولا تباشر الذبح بنفسها. 2 - وأما التسمية عند الذبح: فقد سبق تفصيل حكمها في أول كتاب الصيد والذبائح، باب الصيد بالكلاب المعلمة، ونزيد هنا أن الحديث علق الإذن بمجموع الأمرين، وهما الإنهار والتسمية والمعلق على شيئين لا يكتفى فيه إلا باجتماعهما، وينتفى بانتفاء أحدهما، وأما التكبير ففي الحديث استحباب التكبير مع التسمية، فيقول: باسم الله، والله أكبر.

3 - الآلة الصالحة للذبح: وفي الرواية الرابعة وما بعدها تصريح بجواز الذبح بكل محدد يقطع، إلا السن والظفر. قال النووي: فيدخل في ذلك السيف والسكين والسنان والحجر والخشب والزجاج والقصب والخزف والنحاس وسائر الأشياء المحددة، فكلها تحصل بها الذكاة، إلا السن والظفر والعظام كلها، قال: قال أصحابنا: وفهمنا العظام من بيان النبي صلى الله عليه وسلم العلة، في قوله: "أما السن فعظم" أي نهيتكم عنه لكونه عظماً، فهذا تصريح بأن العلة كونه عظماً، فكل ما صدق عليه اسم العظم لا تجوز الذكاة به، وقد قال الشافعي وأصحابه بهذا الحديث في كل ما تضمنه، وبهذا قال النخعي والحسن بن صالح والليث وأحمد وإسحق وأبو ثور وداود وفقهاء الحديث وجمهور العلماء. وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يجوز بالسن والعظم المتصلين، ويجوز بالمنفصلين [أي لأن الذبح بالمتصلين يشبه الخنق، وبالمنفصلين يشبه الآلة المستقلة، من حجر وغيره]. وعن مالك روايات، أشهرها: جوازه بالعظم، دون السن، كيف كان العظم، وكيف كان السن، والثانية كمذهب الجمهور، والثالثة كأبي حنيفة، والرابعة حكاها عنه ابن المنذر: يجوز بكل شيء، حتى السن والظفر. وعن ابن جريج: جواز الذكاة بعظم الحمار، دون القرد. قال النووي: وهذا مع ما قبله باطلان، منابذان للسنة. اهـ أما ما يجب قطعه في الذبح فقد قال النووي: قال الشافعي وأصحابه وموافقوهم: لا تحصل الذكاة إلا بقطع الحلقوم والمريء بكمالهما، ويستحب قطع الودجين، ولا يشترط، وهذا أصح الروايتين عن أحمد. وقال ابن المنذر: أجمع العلماء على أنه إذا قطع الودجين والحلقوم والمريء، وأسال الدم، حصلت الذكاة، قال واختلفوا في قطع بعض هذا، فقال الشافعي: يشترط قطع الحلقوم والمريء، ويستحب الودجان، وقال الليث وأبو ثور وداود وابن المنذر: يشترط الجميع. وقال أبو حنيفة: إذا قطع ثلاثة من هذه الأربعة أجزأه. وقال مالك: يجب قطع الحلقوم والودجين، ولا يشترط المريء، وهذه رواية عن الليث أيضاً. وعن مالك رواية أنه يكفي قطع الودجين، وعنه اشتراط قطع الأربعة، كما قال الليث وأبو ثور. وعن أبي يوسف ثلاث روايات، إحداها كأبي حنيفة، والثانية إن قطع الحلقوم واثنين من الثلاثة الباقية حلت، وإلا فلا، والثالثة يشترط قطع الحلقوم والمريء، وأحد الودجين، وقال محمد بن الحسن: إن قطع من كل واحد من الأربعة أكثره حل، وإلا فلا. -[ويؤخذ من أحاديث الباب فوق ما تقدم]- 1 - جواز تضحية الإنسان بعدد من الحيوان.

2 - واستحباب الأقرن. قال النووي: وأجمع العلماء على جواز التضحية بالأجم، الذي لم يخلق له قرنان، واختلفوا في مكسور القرن، فجوزه الشافعي وأبو حنيفة والجمهور، سواء كان يدمي أم لا، وكرهه مالك إذا كان يدمي، وجعله عيباً. 3 - واستحباب استحسان الأضحية، واختيار أكملها، قال النووي: وأجمعوا على أن العيوب الأربعة المذكورة في حديث البراء -وهي: المرض والعجف [الهزال] والعور والعرج البين- لا تجزئ التضحية بها، وكذا ما كان في معناها، أو أقبح، كالعمى وقطع الرجل وشبهه. قال: وحديث البراء هذا لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، ولكنه صحيح، رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم من أصحاب السنن بأسانيد صحيحة وحسنة. قال أحمد بن حنبل: ما أحسنه من حديث، وقال الترمذي: حسن صحيح. اهـ ولفظ الحديث كما هو عند النسائي "أربعة لا يجزين في الأضاحي: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ظلعها -أي عرجها- والكسيرة التي لا تنقى" -أي التي لا مخ لها، لشدة عجفها، ومرضها، وفي رواية "لا يجوز من الضحايا العوراء البين عورها، والعرجاء البين عرجها. والمريضة البين مرضها، والعجفاء التي لا تنقى". 4 - وفي قوله "أملحين" استحباب استحسان لون الأضحية. قال النووي: وقد أجمعوا عليه، قال أصحابنا: أفضلها البيضاء، ثم الصفراء، ثم الغبراء -وهي التي لا يصفو بياضها -ثم البلقاء -وهي التي بعضها أبيض، وبعضها أسود- ثم السوداء. أما الموجوء -وهو منزوع الأنثيين، والوجاء -بكسر الواو- الخصاء، فقد كرهه بعض أهل العلم، لنقص العضو، مستأنساً بما جاء عند الترمذي بلفظ "ضحى بكبش فحل" أي كامل الخلقة، لم تقطع أنثياه، والجمهور على عدم كراهته، وأن ذلك ليس عيباً، لأن الخصاء يفيد اللحم طيباً، وينفي عنه الزهومة وسوء الرائحة. 5 - وفيه أن الذكر في الأضحية أفضل من الأنثى لأن لحمه أطيب وهو قول الجمهور، وقال ابن العربي: الأصح أفضلية الذكور على الإناث في الضحايا، وقيل: هما سواء. 6 - قال النووي: وفيه استحباب إضجاع الغنم في الذبح، وأنها لا تذبح قائمة، ولا باركة، بل مضطجعة، لأنه أرفق بها، وبهذا جاءت الأحاديث، وأجمع المسلمون عليه، واتفق العلماء وعمل المسلمين على أن إضجاعها يكون على جانبها الأيسر، لأنه أسهل على الذابح في أخذ السكين باليمين، وإمساك رأسها باليسار. 7 - واستحباب وضع الرجل على صفاحها. قال النووي: وهذا الحديث أصح من الحديث الذي جاء بالنهي عن هذا. 8 - ومن قوله في الرواية الثالثة "اشحذيها" استحباب إحسان القتلة والذبح، وإحداد الشفرة. 9 - ومن التسمية والتكبير والدعاء الوارد في الرواية استحباب قول المضحي حال الذبح: اللهم تقبل مني. قال الشافعية: ويستحب أن يقول: اللهم منك، وإليك. تقبل مني.

قال النووي: فهذا مستحب عندنا وعند الحسن وجماعة، وكرهه أبو حنيفة وكره مالك "اللهم منك وإليك" وقال: هي بدعة. 10 - واستدل بالحديث من جوز تضحية الرجل عن نفسه وعن أهل بيته، واشتراكهم معه في الثواب، قال النووي: وهو مذهبنا ومذهب الجمهور، وكرهه الثوري وأبو حنيفة وأصحابه، وزعم الطحاوي أن هذا الحديث منسوخ، أو مخصوص، وغلطه العلماء في ذلك، فإن النسخ والتخصيص لا يثبتان بمجرد الدعوى. 11 - ومن الرواية الرابعة وما بعدها، من قوله "ما أنهر الدم" تنبيه على أن تحريم الميتة إنما هو لبقاء دمها. 12 - وفيه أيضاً دليل على جواز ذبح المنحور، ونحر المذبوح، ما دام قد حصل إنهار الدم، وقد جوزه العلماء كافة، إلا داود فمنعهما، وكرهه مالك كراهة تنزيه، وفي رواية كراهة تحريم، وفي رواية عنه إباحة ذبح المنحور، دون نحر المذبوح. قال النووي: وأجمعوا أن السنة في الإبل النحر، وفي الغنم الذبح، والبقر كالغنم عندنا وعند الجمهور، وقيل: يتخير بين ذبحها ونحرها. 13 - وفي قصة البعير الناد دليل لإباحة عقر الحيوان الذي يند، ويعجز عن ذبحه ونحره، قال النووي: قال أصحابنا وغيرهم: الحيوان المأكول الذي لا تحل ميتته ضربان: مقدور على ذبحه، ومتوحش، فالمقدور عليه لا يحل إلا بالذبح في الحلق واللبة، وهذا مجمع عليه، وسواء في هذا الإنسي والوحشي، إذا قدر على ذبحه، بأن أمسك الصيد، أو كان متأنساً، فلا يحل إلا بالذبح في الحلق واللبة، وأما المتوحش كالصيد ففي جميع أجزائه يذبح، ما دام متوحشاً، فإذا رماه بسهم، أو أرسل عليه جارحة، فأصاب شيئاً منه، ومات به، حل بالإجماع، وأما إذا توحش إنسي، بأن ند بعير، أو بقرة، أو فرس، أو شردت شاة أو غيرها، فهو كالصيد، فيحل بالرمي إلى غير مذبحه، وبإرسال الكلب وغيره من الجوارح عليه، وكذا لو تردى بعير أو غيره في بئر، ولم يمكن قطع حلقومه ومريئه، فهو كالبعير الناد، في حله بالرمي، بلا خلاف عندنا، وفي حله بإرسال الكلب وجهان، أصحها لا يحل، قال أصحابنا: وليس المراد بالتوحش مجرد الإفلات، بل متى تيسر لحوقه بعد، ولو بالاستعانة بمن يمسكه ونحو ذلك، فليس متوحشاً، ولا يحل حينئذ إلا بالذبح في المذبح، وإن تحقق العجز في الحال جاز رميه، ولا يكلف الصبر إلى قدرة عليه، وسواء كانت الجراحة في فخذه أو خاصرته أو غيرهما من بدنه، فيحل. هذا تفصيل مذهبنا، وممن قال بإباحة عقر الناد -كما ذكرنا- علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وطاووس وعطاء والشعبي والحسن البصري والأسود بن يزيد والحكم وحماد والنخعي والثوري وأبو حنيفة وأحمد وإسحق وأبو ثور والمزني وداود والجمهور، ودليلهم حديث رافع هذا. وقال سعيد بن المسيب وربيعة والليث ومالك: لا يحل إلا بذكاة في حلقه، كغيره.

14 - ومن الأمر بإكفاء القدور تحريم التصرف في الأموال المشتركة من غير إذن، ولو قلت، ولو وقع الاحتياج إليها. 15 - وأنه لا يجوز الأكل من الغنائم قبل القسمة. قال النووي: إنهم كانوا قد انتهوا إلى دار الإسلام، وإلى المحل الذي لا يجوز فيه الأكل من مال الغنيمة المشتركة، فإن الأكل من الغنائم قبل القسمة إنما يباح في دار الحرب، وقال الإسماعيلي: إكفاء القدور يجوز أن يكون من أجل أنهم تعجلوا إلى الاختصاص بالشيء دون بقية من يستحقه، من قبل أن يقسم ويخرج منه الخمس، فمنعهم من تناول ما سبقوا إليه، زجراً لهم عن معاودة مثله. اهـ وأبعد المهلب، فقال: إنما عاقبهم لأنهم استعجلوا، وتركوه في آخر القوم، متعرضاً لمن يقصده من عدو ونحوه، وتعقب أنه صلى الله عليه وسلم كان مختاراً لذلك، ولا معنى للحمل على الظن، مع وجود النص بالسبب. 16 - وأن للإمام عقوبة الرعية، بما فيه إتلاف منفعة ونحوها، إذا غلبت المصلحة الشرعية، قال النووي: واعلم أن المأمور به من إراقة القدور إنما هو إتلاف لنفس المرق، عقوبة لهم، وأما نفس اللحم فلم يتلفوه، بل يحمل على أنه جمع، ورد إلى المغنم، ولا يظن أنه صلى الله عليه وسلم أمر بإتلافه، لأنه مال للغانمين، وقد نهي عن إضاعة المال، مع أن الجناية بطبخه لم تقع من جميع مستحقي الغنيمة، إذ من جملتهم أصحاب الخمس، ومن الغانمين من لم يطبخ، قال: فإن قيل: لم ينقل أنهم حملوا اللحم إلى المغنم؟ قلنا: ولم ينقل أيضاً أنهم أحرقوه وأتلفوه، وإذا لم يأت فيه نقل صريح وجب تأويله على وفق القواعد الشرعية، وهو ما ذكرناه، وهذا بخلاف إكفاء قدور الحمر الأهلية يوم خيبر. فإنه أتلف ما فيها من لحم ومرق، لأنها صارت نجسة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها "إنها رجس أو نجس" كما سبق في بابه، وأما هذه اللحوم فكانت طاهرة، منتفعاً بها، بلا شك، فلا يظن إتلافها. والله أعلم. اهـ قال الحافظ ابن حجر: يحتمل أن الشياه بدأ طبخها صحاحاً، فلما أريق مرقها ضمت إلى المغنم، لتقسم، ثم يطبخها من وقعت في سهمه. ورد على هذا بعضهم بما أخرجه أبو داود بإسناد جيد، عن رجل من الأنصار، قال: أصاب الناس مجاعة شديدة، فأصابوا غنماً، فانتهبوها، فإن قدورنا لتغلي بها إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرسه، فأكفأ قدورنا بقوسه، ثم جعل يرمل اللحم بالتراب، ثم قال: إن النهبة ليست بأحل من الميتة" ورد هذا الرد بأنه لا يلزم من تتريب اللحم إتلافه، لإمكان تداركه بالغسل، فإن قيل: إن السياق يشعر بأنه أريد المبالغة في الزجر عن ذلك الفعل، وبقاء اللحم صالحاً للانتفاع به، لا يجعل لإكفاء القدور كبير زجر؟ قلنا: إن الجناية ليست كبيرة، ولم يسبق التنبيه إلى مثلها، فتكفي العقوبة بالإكفاء، وتأخير الطعام، وهم في جماعة، وإتلاف اللحوم ليست عقوبة كبيرة للغانمين، لأن نصيب كل منهم منها سيكون يسيراً، فالعقوبة الحقيقية معاملتهم بنقيض قصدهم، وهو التعجل، وعقوبته التأخير. 17 - وبوب البخاري لهذا الحديث باب قسمة الغنم، أي بالعدد، لقوله "ثم عدل عشراً من الغنم بجزور".

18 - وبوب البخاري لهذا الحديث بباب ما يكره من ذبح الإبل والغنم، في المغانم؛ وذلك لأن الأمر بإكفاء القدور مشعر بكراهة ما صنعوا من الذبح بغير إذن. 19 - قال ابن المنير: قيل: إن الذبح إذا كان على طريق التعدي كان المذبوح ميتة. اهـ أخذ هذا القائل حكمه من الأمر بإكفاء القدور، وقد ذكرنا التوجيه الراجح بأن اللحوم لم تتلف، فلا دليل على ما قال. 20 - وفيه العقوبة بالمال، وإن كان ذلك المال لا يختص بأولئك الذين ذبحوا، لكن لما تعلق به طمعهم كانت النكاية حاصلة لهم، وإذا جوزنا هذا النوع من العقوبة كانت عقوبة صاحب المال في ماله أولى، ومن هنا قال مالك: يراق اللبن المغشوش، ولا يترك لصاحبه، لينتفع به بغير البيع، أدباً له. 21 - وفيه حل أكل ما رمي بالسهم. 22 - وفيه انقياد الصحابة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، حتى في ترك الشيء الذي تشتد حاجتهم إليه، فقد أكفئت القدور باللحوم، وهم في مجاعة شديدة. والله أعلم

(547) باب ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث وبيان نسخه

(547) باب ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث وبيان نسخه 4457 - عن أبي عبيد قال: شهدت العيد مع علي بن أبي طالب. فبدأ بالصلاة قبل الخطبة. وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن نأكل من لحوم نسكنا بعد ثلاث. 4458 - عن أبي عبيد مولى ابن أزهر؛ أنه شهد العيد مع عمر بن الخطاب. قال: ثم صليت مع علي بن أبي طالب. قال: فصلى لنا قبل الخطبة. ثم خطب الناس فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهاكم أن تأكلوا لحوم نسككم فوق ثلاث ليال. فلا تأكلوا. 4459 - عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: "لا يأكل أحد من لحم أضحيته فوق ثلاثة أيام". 4460 - عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تؤكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث. قال سالم: فكان ابن عمر لا يأكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث. وقال ابن أبي عمر: بعد ثلاث. 4461 - عن عبد الله بن واقد رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث. قال عبد الله بن أبي بكر: فذكرت ذلك لعمرة فقالت: صدق. سمعت عائشة تقول: دف أهل أبيات من أهل البادية حضرة الأضحى، زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادخروا ثلاثاً. ثم تصدقوا بما بقي" فلما كان بعد ذلك قالوا: يا رسول الله، إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم ويجملون منها الودك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"وما ذاك" قالوا: نهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث. فقال: "إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت. فكلوا وادخروا وتصدقوا". 4462 - عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه نهى عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث. ثم قال بعد: "كلوا وتزودوا وادخروا". 4463 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: كنا لا نأكل من لحوم بدننا فوق ثلاث منى. فأرخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "كلوا وتزودوا". قلت لعطاء: قال جابر: حتى جئنا المدينة؟ قال: نعم. 4464 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا لا نمسك لحوم الأضاحي فوق ثلاث. فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتزود منها، ونأكل منها. يعني فوق ثلاث. 4465 - عن جابر رضي الله عنه قال: كنا نتزودها إلى المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. 4466 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أهل المدينة لا تأكلوا لحوم الأضاحي فوق ثلاث" -وقال ابن المثنى: ثلاثة أيام- فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لهم عيالاً وحشماً وخدماً. فقال: "كلوا وأطعموا واحبسوا أو ادخروا". قال ابن المثنى شك عبد الأعلى. 4467 - عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ضحى منكم فلا يصبحن في بيته بعد ثالثة، شيئاً" فلما كان في العام المقبل قالوا: يا رسول الله، نفعل كما فعلنا عام أول؟ فقال: "لا. إن ذاك عام كان الناس فيه بجهد فأردت أن يفشو فيهم".

4468 - عن ثوبان رضي الله عنه قال: ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحيته ثم قال: يا ثوبان، أصلح لحم هذه" فلم أزل أطعمه منها حتى قدم المدينة. 4469 - عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع "أصلح هذا اللحم" قال فأصلحته. فلم يزل يأكل منه حتى بلغ المدينة. 4470 - وفي رواية عن يحيى بن حمزة بهذا الإسناد ولم يقل: في حجة الوداع. 4471 - عن عبد الله بن بريدة عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها. ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث، فأمسكوا ما بدا لكم. ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء، فاشربوا في الأسقية كلها. ولا تشربوا مسكراً". 4472 - وفي رواية عن ابن بريدة عن أبيه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كنت نهيتكم" فذكر بمعنى حديث أبي سنان. -[المعنى العام]- الإسلام دين التعاطف والمواساة، دين المودة والمحبة، دين الترابط بين الأغنياء والفقراء، دين التكافل الاجتماعي، دين تقع في مسئولية الجائعين على جيرانهم الأغنياء، فلا يدخل الجنة مع السابقين من بات شبعان، وجاره جائع، دين فرض للفقراء حقاً في مال الأغنياء، حيث يقول جل شأنه {والذين في أموالهم حق معلوم* للسائل والمحروم} [المعارج: 24، 25] وخصت الشريعة الإسلامية أيام العيد بمزيد من توصية القادرين بالضعفاء والمساكين، ففرضت في عيد الفطر زكاة الفطر، وشرعت الأضحية في عيد الأضحى، توسعة على الأهل، وعلى الفقراء والمحتاجين، وإذا كانت الشريعة الإسلامية لم تحدد قدراً معيناً من أضحية الغني، وتركت ذلك لأريحيته وسخاء نفسه،

ودرجة حرصه على ثواب الآخرة، لكنها أمرت برعاية الفقير بقوله تعالى {فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير} [الحج: 28] وكان هذا الأمر الإلهي مجالاً لاجتهاد الفقهاء في القدر المستحب إعطاؤه للفقير من الأضحية، فذهب بعضهم إلى أن المستحب أن يأكل صاحب الأضحية هو وأهله نصفها، ويتصدق بنصفها، وذهب بعضهم إلى أن المستحب أن يأكل الثلث، ويتصدق بالثلث، ويهدي الثلث، هذا هو المستحب الذي يثاب المسلم على مقداره، أما القدر الواجب فهو الصدقة بأي جزء، صغر أو كبر، على معنى أنه لو لم يعط الفقير منها أصلاً كان حراماً، وعوقب على ذلك يوم القيامة. وفي وقت من أوقات الشدة، والضيق الاقتصادي، وكثرة المحتاجين، وقسوة حاجتهم فرض الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم على الأغنياء المضحين أن يعطوا الفقراء، ما يزيد عن حاجتهم في ثلاثة أيام، فقال: "من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثالثة، وعنده منه شيء" كان المسلمون حينذاك يدخرون من الأضحية قوتهم لشهور، فأمروا في عام شدة أن لا يمسكوا منها، وأن لا يدخروا منها إلا ما يكفيهم ثلاثة أيام ثم يتصدقوا بالباقي، وامتثل المسلمون، فلما كان العام المقابل سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل نفعل في أضحيتنا كما فعلنا العام الماضي؟ لا نمسك منها شيئاً بعد ثلاث ليال؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا. كان العام الماضي عام شدة، فكان له حكمه، أردت فيه أن تعينوا الفقراء على شدتهم، وهذا العام عام رخاء، فكلوا منها، وادخروا منها بعد ثلاث، لكن لا تصدقوا منها بما ترجون عليه الأجر من الله تعالى. -[المباحث العربية]- (عن أبي عبيد) بضم العين وفتح الباء، واسمه سعد بن عبيد، مولى عبد الرحمن بن أزهر بن عوف، ابن أخي عبد الرحمن بن عوف، وينتسب أيضاً إلى عبد الرحمن بن عوف، مات سنة ثمان وتسعين. (شهدت العيد مع علي بن أبي طالب) في الرواية الثانية "أنه شهد العيد مع عمر بن الخطاب. قال: ثم صليت مع علي بن أبي طالب" وفي رواية البخاري "أنه شهد العيد يوم الأضحى مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فصلى قبل الخطبة، ثم خطب الناس، فقال: يا أيها الناس. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهاكم عن صيام هذين العيدين، أما أحدهما فيوم فطركم من صيامكم، وأما الآخر فيوم تأكلون نسككم. قال أبو عبيد: ثم شهدت مع عثمان بن عفان، فكان ذلك يوم الجمعة، فصلى قبل الخطبة، ثم خطب، فقال: يا أيها الناس، إن هذا يوم قد اجتمع لكم فيه عيدان، فمن أحب أن ينتظر الجمعة من أهل العوالي فلينتظر، ومن أحب أن يرجع فقد أذنت له، قال أبو عبيد: ثم شهدته مع علي بن أبي طالب، فصلى قبل الخطبة، ثم خطب الناس، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاكم أن تأكلوا لحوم نسككم فوق ثلاث". فالمراد من العيد في الرواية الأولى والثانية، عيد الأضحى، والمراد أنه شهد صلاة العيد وخطبته.

(فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، وقال: ... ) أي في خطبته، كما وضحته الرواية الثانية. (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن نأكل من لحوم نسكنا بعد ثلاث) ليال، ففي الرواية الثانية "قد نهاكم أن تأكلوا لحوم نسككم فوق ثلاث ليال" وفي الرواية العاشرة "فوق ثلاثة أيام" قال القاضي: يحتمل أن يكون ابتداء الثلاث من يوم ذبحها، ويحتمل من يوم النحر، وإن تأخر ذبحها إلى أيام التشريق، قال: وهذا أظهر. وقال القرطبي: اختلف في أول الثلاث، التي كان الادخار فيها جائزاً، فقيل: أولها يوم النحر، فمن ضحى في آخر أيام النحر، جاز له أن يمسك ثلاثاً بعدها، ويحتمل أن يؤخذ من قوله "فوق ثلاث" أن لا يحسب اليوم الذي يقع فيه النحر من الثلاث، وتعتبر الليلة التي تليه أول الثلاث، واليوم تابع لليلته، ويؤيد الأخير ما جاء في روايتنا السابعة "فوق ثلاث منى" فإنها تتناول يوماً بعد يوم النحر، لغير المستعجل. قال ابن حزم: إنما خطب علي رضي الله عنه بالمدينة في الوقت الذي كان عثمان رضي الله عنه محاصراً فيه، وكان أهل البوادي قد ألجأتهم الفتنة إلى المدينة، فأصابهم الجهد، كما وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك قال علي ما قال. (فقالت: صدق) فيما أخبر به من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، لكنه لم يعلم بما كان بعد هذا النهي. (دف أهل أبيات من أهل البادية حضرة الأضحى، زمن النبي صلى الله عليه وسلم) في كتب اللغة: دف يدف، بكسر الدال، دفاً، ودفيفاً، إذا سار سيراً ليناً، والدافة -بتشديد الدال- الجماعة من الناس، تقبل من بلد إلى بلد، وعن "حضرة الأضحى" قال النووي: هي بفتح الحاء وضمها وكسرها، والضاد ساكنة فيها كلها، وحكي فتحها، وهو ضعيف، وإنما نفتح إذا حذفت الهاء، فيقال: بحضر فلان. اهـ فالحضرة الحضور، والمعنى: قدم جماعة من أهل البادية إلى المدينة، يرجون مواساة أهل المدينة لهم، لفقرهم وحاجتهم، قدموا في حضور عيد الأضحى وقربه، في السنة التاسعة من الهجرة. (ادخروا ثلاثاً، ثم تصدقوا بما بقي) أي اجمعوا واحفظوا لحم الأضحية ثلاثاً، ثم تصدقوا بما عندكم من لحمها بعد الثلاث، أو ادخروا ما يكفيكم ثلاثاً، وتصدقوا بما يزيد عن هذا المقدار. (إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم) "الأسقية" جمع سقاء، وهو وعاء من جلد يكون للماء واللبن. (ويجملون منها الودك) "يجملون" بفتح الياء مع كسر الميم وضمها، ويقال: بضم الياء مع كسر الميم، يقال: جملت الدهن، أجمله بكسر الميم وضمها جملاً، وأجملته، أجمله إجمالاً، أي أذبته، والمعنى أنهم شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حرجهم، فهم يحتاجون من الأضاحي جلودها للأسقية التي لا غنى لهم عنها، ويحتاجون من الأضحية إذابة دهنها وخزنه، وإدخاره، لاستعماله في طعامهم زمناً طويلاً. (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ ) أي ومن الذي منعهم من ذلك؟

(إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت) أي إنما نهيتكم في العام الماضي لسبب خاص، وهو حضور البدو الفقراء يوم العيد، وحاجتهم إلى المواساة، فأردت أن تعينوهم. (كلوا، وتزودوا، وادخروا) "تزودوا" اتخذوا من ضحاياكم زاداً لكم في الحضر والسفر. (قال ابن جريج لعطاء: قال جابر: حتى جئنا المدينة؟ قال: نعم) أي سأل ابن جريج شيخه عطاء، الراوي عن جابر: هل قال جابر في روايته هذا الحديث "كلوا وتزودوا" من لحوم الأضاحي، فأكلنا وتزودنا بعد ثلاث، حتى قدمنا المدينة؟ وكان هذا الترخيص في حجة الوداع، وهذا معنى الرواية التاسعة "كنا نتزودها" -أي لحوم الأضحية في منى في الحج- "إلى" أن نصل إلى "المدينة". قال النووي: ووقع في البخاري "لا" بدل قوله هنا "نعم" فيحتمل أنه نسي في وقت، فقال: لا، وذكر في وقت، فقال: نعم. (فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لهم عيالاً وحشماً وخدماً) يحتاجون لحوم الأضاحي بعد ثلاث، والحشم بفتح الحاء والشين، هم اللائذون بالإنسان، يخدمونه، ويقومون بأموره، وقال الجوهري: هم خدم الرجل ومن يغضب له، سموا بذلك لأنهم يغضبون له، والحشمة الغضب، وتطلق على الاستحياء أيضاً، ومنه قولهم: فلان لا يحتشم، أي لا يستحي، وكأن الحشم أعم من الخدم، فلهذا جمع بينهما في هذا الحديث، فهو من باب ذكر الخاص بعد العام. (من ضحى منكم فلا يصبحن في بيته بعد ثالثة شيئاً) أي فلا يبقين شيئاً من الأضحية في بيته بعد ثالثة في رواية البخاري "فلا يصبحن بعد ثالثة وفي بيته منه شيء" أي بعد ليلة ثالثة من وقت الأضحية. (فلما كان في العام المقبل) اسم كان ضمير، تقديره: فلما كان العيد، أو وقت الأضحية، أو الحال والشأن، ورواية البخاري "فلما كان العام المقبل" فكان تامة، وفاعلها "العام المقبل" أي فلما جاء العام المقبل. (قالوا: نفعل كما فعلنا عام أول؟ ) في رواية البخاري "نفعل كما فعلنا العام الماضي"؟ أي في عدم بقاء شيء من أضحيتنا في بيوتنا بعد ثالثة؟ قال ابن المنير: سبب سؤالهم، مع أن النهي يقتضي الاستمرار، أنهم فهموا أن ذلك النهي ورد على سبب خاص، فلما احتمل عندهم عموم النهي أو خصوصه من أجل السبب سألوا. (فقال: لا. إن ذاك عام كان الناس فيه بجهد) ومشقة، يقال: جهد عيشهم، أي نكد واشتد، وبلغ غاية المشقة، وفي رواية البخاري "فإن ذلك العام كان بالناس جهد". (فأردت أن يفشو فيهم) أي فأردت أن يفشو لحم الأضحية في الناس المحتاجين، قال النووي: هكذا هو في جميع نسخ مسلم "يفشو" بالفاء والشين، أي يشيع لحم الأضاحي في الناس،

وينتفع به المحتاجون، ووقع في البخاري "يعينوا" بالعين، من الإعانة، قال القاضي في شرح مسلم: الذي في مسلم أشبه، وقال في المشارق: كلاهما صحيح، والذي في البخاري أوجه. اهـ قال الحافظ ابن حجر: مخرج الحديث واحد، ومداره على أبي عاصم، وأنه تارة قال هذا، وتارة قال هذا، والمعنى في كل صحيح، فلا وجه للترجيح. اهـ قال القاضي عياض: والضمير في رواية البخاري في "فأردت أن تعينوا فيها" للمشقة المفهومة من الجهد، أو من الشدة. (ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحيته) أي في حجة الوداع، كما صرح به في الرواية الثالثة عشرة، فالنهي عن إمساك لحوم الضحايا كان في السنة التاسعة. (أصلح هذا اللحم) أي قطعه، واغسله، وملحه، وقدده، واطبخه بما يصلحه لأيام. (ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء، فاشربوا في الأسقية كلها) في رواية للبخاري "لما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الأسقية، قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ليس كل الناس يجد سقاء، فرخص لهم في الجر المزفت" قال عياض: ذكر "الأسقية" وهم من الراوي، وإنما هو "عن الأوعية" لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينه قط عن الأسقية، إنما نهى عن الظروف، وأباح الانتباذ في الأسقية، فقيل له: ليس كل الناس يجد سقاء، فاستثنى ما يسكر، وقال الحميدي: لعله نقص من لفظ المئن، وكان في الأصل "لما نهى عن النبيذ إلا في الأسقية" اهـ والسقاء وعاء من جلد، إذا تخمر النبيذ فيه تشقق، بخلاف الخزف والجر ونحوها، فإنها تخفي تخمر النبيذ. (فاشربوا في الأسقية كلها) أي في الأوعية كلها، أي في الأوعية التي يستقى منها. -[فقه الحديث]- قال النووي: قال القاضي: اختلف العلماء في الأخذ بهذه الأحاديث، فقال قوم: يحرم إمساك لحوم الأضاحي، والأكل منها بعد ثلاث، وأن حكم التحريم باق. قاله علي وابن عمر. وقال جماهير العلماء: يباح الأكل والإمساك بعد الثلاث، والنهي منسوخ بهذه الأحاديث المصرحة بالنسخ [رواياتنا الخامسة وما بعدها] لاسيما حديث بريدة [روايتنا الرابعة عشرة] وهذا من نسخ السنة بالسنة، وقال بعضهم: ليس هو نسخاً، بل كان التحريم لعلة، فلما زالت زال، لحديث سلمة وعائشة [روايتنا الحادية عشرة والخامسة] وقيل: كان النهي الأول للكراهة، لا للتحريم، قال هؤلاء: والكراهة باقية إلى اليوم، ولكن لا يحرم، قالوا: ولو وقع مثل تلك العلة اليوم، فنزلت جماعة فقيرة على قوم قادرين شرعت مواساتهم، وحملوا على هذا مذهب علي وابن عمر، والصحيح نسخ النهي مطلقاً، وأنه لم يبق تحريم ولا كراهة، فيباح اليوم الادخار فوق ثلاث، والأكل إلى متى شاء، لصريح حديث بريدة وغيره. اهـ وحاصل ما ذكر في هذه المسألة ستة أقوال:

الأول: أن النهي عن إمساك لحوم الأضاحي بعد ثلاث للتحريم، والحكم باق لم ينسخ، فيحرم إلى يوم القيامة إمساك لحوم الأضاحي بعد ثلاث، وجدت مجاعة وفقر أم لا. ونسب هذا إلى علي وابن عمر -رضي الله عنهم- أما علي فتشير إلى رأيه الرواية الأولى والثانية، إذ طالب بتطبيق النهي أيام حصار عثمان، وأما ابن عمر فتشير إلى رأيه الرواية الثالثة والرابعة. وهذا القول شاذ بالنسبة لما هو مجمع عليه الآن، ويحاول بعض العلماء توجيه ما جاء عن علي وابن عمر ليبعد به عن هذا الحكم، كما سيأتي. الثاني: أن النهي عن إمساك لحوم الأضاحي بعد ثلاث للتحريم، والحكم مرتبط بسبب، باق إلى يوم القيامة، لم ينسخ، فحيثما وجد السبب في مكان أو زمان ثبت الحكم، قال الشافعي في الرسالة، في آخر باب العلل في الحديث ما نصه: فإذا دفت الدافة ثبت النهي عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاث، وإن لم تدف دافة فالرخصة ثابتة بالأكل والتزود والادخار والصدقة. اهـ وقال القرطبي: حديث سلمة وعائشة نص على أن المنع كان لعلة، فلما ارتفعت ارتفع، لارتفاع موجبه، وبعود العلة يعود الحكم، فلو قدم على أهل بلد ناس محتاجون في زمان الأضحى، ولم يكن عند أهل ذلك البلد سعة، يسدون بها فاقتهم إلا الضحايا، تعين عليهم ألا يدخروها فوق ثلاث. قال الحافظ ابن حجر: والتقييد بالثلاث واقعة حال، وإلا فلو لم تسد الخلة إلا بتفرقة جميع الأضحية لزم على هذا التقرير عدم إمساكها، ولو ليلة واحدة. اهـ وواضح من كلام القرطبي أن العلة مكونة من شقين: وجود المحتاج عند الأضحية، وعدم سد حاجته إلا بالأضحية، وهذه صورة قد تقع، وإن كانت نادرة، وعند وقوعها يحرم إمساك لحوم الأضحية. وبعض العلماء يحمل رأي علي رضي الله عنه، وخطبته على هذا القول. القول الثالث: أن النهي عن إمساك لحوم الأضاحي بعد ثلاث كان للتحريم، وكان لسبب، فلما زال السبب زال الحكم، لكن لا يلزم عود الحكم عند عود هذا السبب، لأن الشدة والحاجة يومئذ لم تكن تسد إلا بلحوم الأضحية غالباً، فأما الآن فإن الخلة تسد بغير لحم الأضحية، فلا يعود الحكم، حتى لو فرض أن الخلة لا تسد إلا بلحم الأضحية، لأن هذه الصورة في غاية الندور، أو هي فرضية، فلا يعتد بها، فإمساك الأضحية اليوم بعد ثلاث لا يحرم بأي حال. حكى الرافعي هذا القول عن بعض الشافعية. القول الرابع: أن النهي عن إمساك لحوم الأضاحي بعد ثلاث كان للتحريم، لحكمة، وليس لعلة، لكنه نسخ بالأحاديث، رواياتنا الخامسة وما بعدها، ولا يعود الحكم بعد نسخه، ولو عادت الظروف التي دفعت إليه، لأنه يلزم من القول بالتحريم -إذا دفت الدافة- إيجاب الإطعام، وقد قامت الأدلة عند الشافعية أنه لا يجب في المال حق سوى الزكاة، وبهذا القول أخذ المتأخرون من الشافعية، فقال الرافعي: الظاهر أنه لا يحرم اليوم بحال، وقال الشافعي: يحتمل أن يكون النهي عن إمساك لحوم الأضاحي بعد ثلاث منسوخاً، في كل حال. وبعضهم يعتذر عن خطبة علي رضي الله عنه بأنه لم يبلغه خبر النسخ، وهذا بعيد، إذ لو كان كذلك لأعلمه

الحاضرون من الصحابة بالنسخ، وقد جاء في مسند أحمد، عن طريق أم سليمان، قالت: دخلت على عائشة، فسألتها عن لحوم الأضاحي، فقالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها، ثم رخص فيها، فقدم علي، من السفر، فأتته فاطمة بلحم من ضحاياها، فقال: أو لم ننه عنه؟ قالت: إنه قد رخص فيها" فهذا علي، قد اطلع على الرخصة في أول عهد أبي بكر، ومع ذلك خطب في أواخر عهد عثمان بالمنع، فالمخرج أنه ربط الحكم بالعلة، ووجدت العلة سنة خطب ومنع، أما ابن عمر فيمكن حمل قوله وعمله على تحريه الأفضل، لا على الوجوب. القول الخامس: أن النهي عن إمساك لحوم الأضاحي بعد ثلاث كان للتنزيه، كالأمر في قوله تعالى {فكلوا منها وأطعموا القانع} [الحج: 36] حكاه البيهقي عن الشافعي، وحكاه الرافعي عن أبي علي الطبري احتمالاً، وقال المهلب: إنه الصحيح، لقول عائشة، فيما رواه البخاري "الضحية كنا نملح منه -أي نضع على لحمها الملح، ليعيش زمناً طويلاً- فنقدم به إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فقال: لا تأكلوا إلا ثلاثة أيام، وليست بعزيمة -أي ليس النهي وجوبياً، ولا ملزماً- ولكن أراد أن نطعم منه" وهذا الحديث نفسه عند أبي نعيم، بلفظ: "قلت لعائشة: أنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن نأكل من لحوم الأضاحي فوق ثلاث؟ قالت: ما فعله إلا في عام، جاع الناس فيه، فأراد أن يطعم الغني الفقير" ولفظه عند الطحاوي "أكان يحرم لحوم الأضاحي فوق ثلاث؟ قال: لا. ولكنه لم يكن يضحي منهم إلا القليل، ففعل، ليطعم من ضحى منهم من لم يضح؟ . القول السادس: أن النهي عن إمساك لحوم الأضاحي بعد ثلاث كان للكراهة لعلة، وهذه الكراهة باقية لم تنسخ، حتى اليوم، إذا وجدت العلة. قال النووي في آخر عرضه للأقوال كما سبق: والصحيح نسخ النهي مطلقاً، وأنه لم يبق تحريم ولا كراهة، فيباح اليوم الادخار فوق ثلاث، والأكل إلى متى شاء. اهـ -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - قال النووي: في الحديث تصريح بجواز ادخار لحم الأضحية فوق ثلاث. 2 - وجواز التزود منه للأسفار. أخذ ذلك من أحاديث ثوبان، روايتنا الثانية عشرة، والثالثة عشرة. 3 - وفيه أن الادخار، والتزود في الأسفار، لا يقدح في التوكل، ولا يخرج صاحبه عن التوكل، خلافاً لمن كرهه، وقد ورد فيه "كان صلى الله عليه وسلم يدخر لأهله قوت سنة؟ وفي رواية "كان لا يدخر لغد" والأول في الصحيحين والثاني في مسلم، والجمع بينهما أنه كان لا يدخر لنفسه، ويدخر لعياله. وقال ابن بطال: في الحديث رد على من زعم من الصوفية أنه لا يجوز ادخار طعام لغد، وأن اسم الولاية لا يستحق لمن ادخر شيئاً، ولو قل، وأن من ادخر أساء الظن بالله. 4 - وفيه أن الضحية مشروعة للمسافر، كما هي مشروعة للمقيم. قال: وهذا مذهبنا، وبه قال جماهير العلماء، وقال النخعي وأبو حنيفة: لا ضحية على المسافر، وروي هذا عن علي رضي الله عنه، وقال مالك وجماعة: لا تشرع للمسافر بمنى ومكة.

5 - وعن الرواية الرابعة عشرة قال: هذا الحديث مما صرح فيه بالناسخ والمنسوخ جميعاً، قال العلماء: يعرف نسخ الحديث تارة بنص كهذا، وتارة بإخبار الصحابي، كحديث "كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار" وتارة بالتاريخ، إذا تعذر الجمع، وتارة بالإجماع، كترك قتل شارب الخمر، في المرة الرابعة، قال: والإجماع لا ينسخ، ولكن يدل على وجود ناسخ. 6 - وفيه نسخ الأثقل بالأخف، لأن النهي عن ادخار لحم الأضحية بعد ثلاث مما يثقل على المضحين، والإذن في الادخار أخف منه، وفيه رد على من يقول: إن النسخ لا يكون إلا بالأثقل للأخف، وعكسه ابن العربي، فزعم أن الإذن في الادخار نسخ بالنهي، وتعقب بأن الادخار كان مباحاً بالبراءة الأصلية، فالنهي عنه ليس نسخاً، وعلى تقدير أن يكون نسخاً ففيه نسخ الكتاب بالسنة، لأن في الكتاب الإذن في أكلها، من غير تقييد، لقوله تعالى {فكلوا منها وأطعموا} ويمكن أن يقال: إنه تخصيص، لا نسخ، وهو الأظهر، قاله الحافظ ابن حجر. 7 - استدل بمفهوم قوله في الرواية الأولى "من لحوم نسكنا" وفي الرواية الثانية "لحوم نسككم" وفي الرواية الثالثة "لحم أضحيته" على أن النهي عن الأكل فوق ثلاث خاص بصاحب الأضحية، فأما من أهدي له، أو تصدق عليه فلا، وقد جاء في حديث الزبير بن العوام، عند أحمد وأبي يعلى "قلت: يا نبي الله، أرأيت قد نهي المسلمون أن يأكلوا من لحم نسكهم فوق ثلاث، فكيف نصنع بما أهدي لنا؟ قال: أما ما أهدي إليكم فشأنكم به" فهذا نص في الهدية، وأما الصدقة فإن الفقير لا حجر عليه في التصرف فيما يتصدق به عليه، لأن القصد أن تقع المواساة من الغني للفقير، وقد حصلت. 8 - ومن قوله في الرواية الخامسة "فكلوا، وادخروا، وتصدقوا الأمر بالصدقة والأمر بالأكل، قال النووي: فأما الصدقة منها، إذا كانت أضحية تطوع، فواجبة على الصحيح عند أصحابنا، بما يقع عليه الاسم منها، ويستحب أن يكون بمعظمها، قالوا: وأدنى الكمال أن يأكل الثلث، ويتصدق بالثلث، ويهدي الثلث، وفي قول: يأكل النصف، ويتصدق بالنصف، وهذا الخلاف في أدنى الكمال في الاستحباب، فأما الإجزاء، فيجزيه الصدقة بما يقع عليه الاسم، كما ذكرنا ولنا وجه أنه لا تجب الصدقة بشيء منها. وأما الأكل منها، فيستحب، ولا يجب. هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة، إلا ما حكي عن بعض السلف أنه أوجب الأكل منها، وهو قول أبي الطيب بن سلمة من أصحابنا، حكاه عنه الماوردي، لظاهر هذا الحديث في الأمر بالأكل، مع قوله تعالى {فكلوا منها} وحمل الجمهور هذا الأمر على الندب أو الإباحة، لا سيما وقد ورد بعد الحظر، كقوله {وإذا حللتم فاصطادوا} [المائدة: 2]. وقد اختلف الأصوليون والمتكلمون في الأمر الوارد بعد الحظر، فالجمهور من أصحابنا وغيرهم على أنه للوجوب، كما لو ورد ابتداء، وقال جماعة منهم من أصحابنا وغيرهم: إنه للإباحة. اهـ

9 - واستدل بالحديث على أن العام إذا ورد على سبب خاص، ضعفت دلالة العموم، حتى لا يبقى على أصالته، لكن لا يقتصر فيه على السبب. قاله الحافظ ابن حجر. 10 - ومن الرواية الرابعة عشرة استحباب زيارة القبور، وقد سبق بيانها في كتاب الجنائز. 11 - وجواز الانتباذ في الأسقية، وسبق الكلام عنه في حديث وفد عبد القيس، في كتاب الإيمان، وسيأتي بسطه في كتاب الأشربة. والله أعلم

(548) باب الفرع والعتيرة

(548) باب الفرع والعتيرة 4473 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا فرع ولا عتيرة". زاد ابن رافع في روايته: والفرع أول النتاج كان ينتج لهم فيذبحونه. -[المعنى العام]- كان العرب في الجاهلية تفعل بعض أفعال الخير، لكن بعقيدة خاطئة، فكانت مثلاً تذبح أول مولود للناقة أو البقرة، وهو رضيع لم يفطم، وتوزع لحمه على الفقراء والمساكين، تقرباً إلى الأصنام ورجاء أن يبارك لهم في أمهات هذه الذبائح، وتسمي هذا العمل بالفرع. كما كانت تذبح ناقة أو بقرة في شهر رجب إذا بلغ ما يملكه أحدهم خمسين، تقرباً إلى آلهتهم، ليبارك لهم في أنعامهم، ويوزعون اللحوم على الفقراء والمساكين، وتسمي هذا العمل بالعتيرة أو الرجبية. وجاء الإسلام، فحارب الشرك، وحارب الذبح للأصنام، لكنه لم يحارب تفرقة اللحوم على الفقراء والمساكين، فقال: لا فرع ولا عتيرة للأصنام، ولكن اذبحوا لله تعالى وحده، ولا تخصوا شهر رجب بالذبح، فلا فرع ولا عتيرة في رجب، ولكن اذبحوا في أي يوم كان. -[المباحث العربية]- (لا فرع، ولا عتيرة) قال أهل اللغة: الفرع والفارع بالفاء، والفرعة كلها بفتح الراء، هو أول نتاج البهيمة، كانوا يذبحونه، ولا يتملكونه، رجاء البركة في الأم، وكثرة نسلها، وقال كثيرون من أهل اللغة: هو أول النتاج، كانوا يذبحونه لآلهتهم، وهي طواغيتهم، وهذا ما جاء في تفسير الراوي للرواية، قال الخطابي: أحسب هذا التفسير من قول الزهري الراوي عن سعيد بن المسيب الراوي عن أبي هريرة. وقيل: هو أول النتاج لمن بلغت إبله مائة، يذبحونه، قال شمر: قال أبو مالك: كان الرجل إذا بلغت إبله مائة قدم بكراً، فنحره لصنمه، ويسمونه الفرع. أما العتيرة فهي ذبيحة كانوا يذبحونها في العشر الأول من رجب، ويسمونها الرجبية أيضاً، والنفي في "لا فرع، ولا عتيرة" ليس نفي الوقوع، بل المراد -كما قال الشافعي: لا فرع واجب، ولا عتيرة واجبة، وقيل لا فرع ولا عتيرة للأصنام، أي لا يصح.

-[فقه الحديث]- جاءت أحاديث أخرى في الفرع والعتيرة، نذكر منها: 1 - عند النسائي "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفرع والعتيرة". 2 - أخرج أبو داود والنسائي والحاكم "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفرع؟ قال: الفرع حق، وأن تتركه حتى يكون بنت مخاض أو ابن لبون، فتحمل عليه في سبيل الله، أو تعطيه أرملة خير من أن تذبحه، يلصق لحمه بوبره، وتوله ناقتك". 3 - والحاكم "الفرعة حق، ولا تذبحها وهي تلصق في يدك، ولكن أمكنها من اللبن، حتى إذا كانت من خيار المال فاذبحها". 4 - أخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه وصححه الحاكم وابن المنذر "نادى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا كنا نعتر عتيرة في الجاهلية، في رجب. فما تأمرنا؟ قال: اذبحوا لله، في أي شهر كان، قال: إنا كنا نفرع في الجاهلية؟ قال: في كل سائمة فرع، تغذوه ماشيتك، حتى إذا استحمل ذبحته، فتصدقت بلحمه، فإن ذلك خير". 5 - أخرج أبو داود وأصحاب السنن عن مخلف بن محمد بن سليم، قال: وكنا وقوفاً مع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة، فسمعته يقول: "يا أيها الناس، على كل أهل بيت، في كل عام أضحية وعتيرة، هل تدرون ما العتيرة؟ هي التي يسمونها الرجبية" حسنه الترمذي، وضعفه الخطابي. 6 - روى النسائي وصححه الحاكم من حديث الحارث بن عمرو أنه "لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فقال رجل: يا رسول الله، العتائر والفرائع؟ قال: من شاء عتر، ومن شاء لم يعتر، ومن شاء فرع، ومن شاء لم يفرع". 7 - أخرج أبو داود "أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العتيرة، فحسنها". 8 - أخرج أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان عن أبي رزين العقيلي، قال: قلت "يا رسول الله، إنا كنا نذبح ذبائح في رجب، فنأكل، ونطعم من جاءنا؟ فقال: لا بأس به، قال وكيع بن عديس- ابن أخي أبي رزين- فلا أدعه". 9 - أخرج أبو داود والحاكم والبيهقي بسند صحيح عن عائشة "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفرعة، في كل خمسين واحدة" وفي رواية "من كل خمسين شاة شاة". قال النووي: قال أبو عبيد في تفسير الحديث رقم (2) الفرع حق، ولكنهم كانوا يذبحونه حين يولد، ولا شبع فيه، ولهذا قال "تذبحه يلصق لحمه بوبره" وفيه أن ذهاب ولدها يدفع لبنها، ويفجعها بولدها، ولهذا قال "وتوله ناقتك" فأشار بتركه حتي يكون ابن مخاض -وهو ابن سنة- ثم يذبح وقد طاب لحمه، واستمتع بلبن أمه، ولا يشق عليها فراقه، وقال الشافعي: هذا الحديث أباح له الذبح،

واختار له أن يعطيه أرملة، أو يحمل عليه في سبيل الله. قال: وقوله صلى الله عليه وسلم في العتيرة، في الحديث رقم (4) "اذبحوا لله في أي شهر كان" أي اذبحوا إن شيء تم، واجعلوا الذبح لله، في أي شهر كان، لا أنها في رجب، دون غيره من الشهور، قال النووي: والصحيح عند أصحابنا -وهو نص الشافعي- استحباب الفرع والعتيرة، وأجابوا عن حديث "لا فرع ولا عتيرة" بثلاثة أوجه: أحدهما جواب الشافعي السابق، وأن المراد نفي الوجوب، والثاني أن المراد نفي ما كانوا يذبحونه لأصنامهم، أي لا فرع ولا عتيرة للطواغيت، والثالث أنهما ليستا كالأضحية في الاستحباب، أو في ثواب إراقة الدم، فأما تفرقة اللحم على المساكين فبر وصدقة، وقد نص الشافعي في سنن حرملة أنها إن تيسرت كل شهر كان حسناً. قال النووي: هذا تلخيص حكمها في مذهبنا، وادعى القاضي عياض أن جماهير العلماء على نسخ الأمر بالفرع والعتيرة. اهـ والله أعلم

(549) باب نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة وهو مريد التضحية أن يأخذ من شعره أو أظفاره شيئا

(549) باب نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة وهو مريد التضحية أن يأخذ من شعره أو أظفاره شيئاً 4474 - عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخلت العشر، وأراد أحدكم أن يضحي، فلا يمس من شعره وبشره شيئاً" قيل لسفيان: فإن بعضهم لا يرفعه. قال: لكني أرفعه. 4475 - عن أم سلمة رضي الله عنها ترفعه. قال: "إذا دخل العشر، وعنده أضحية، يريد أن يضحي، فلا يأخذن شعراً ولا يقلمن ظفراً". 4476 - عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتم هلال ذي الحجة، وأراد أحدكم أن يضحي، فليمسك عن شعره وأظفاره". 4477 - عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان له ذبح يذبحه، فإذا أهل هلال ذي الحجة، فلا يأخذن من شعره ولا من أظفاره شيئاً، حتى يضحي". 4478 - عن عمرو بن مسلم بن عمار الليثي قال: كنا في الحمام قبيل الأضحى. فاطلى فيه ناس. فقال بعض أهل الحمام: إن سعيد بن المسيب يكره هذا، أو ينهى عنه

فلقيت سعيد بن المسيب فذكرت ذلك له. فقال: يا ابن أخي، هذا حديث قد نسي وترك. حدثتني أم سلمة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. بمعنى حديث معاذ عن محمد بن عمرو. -[المعنى العام]- الأضحية من المسلم صدقة، وقرض لله، إن تمت على وفق الشرع ووفق أهدافه ضاعفها الله للمسلم وغفر له، مصداقاً لقوله تعالى {إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم} [التغابن: 17] وفي الآثار أنه يعتق بكل عضو منها عضو من المضحي، وعلى هذا كان على المضحي أن يحافظ على أعضائه كاملة، حتى على شعوره وأظافره، فلا يقطع، ولا يطرح شيئاً منها في العشر الأول من ذي الحجة وحتى يضحي، ليشمل العتق من النار هذه الأجزاء. ثم إن الله تعالى يحب أن يرى عباده الحجاج في حالة الشعث والتفث، لما في ذلك من مظاهر التضرع والتذلل إليه، في وقت العبادة الفريدة، التي تجب مرة واحدة في العمر، فليتشبه من حرم الأماكن المقدسة بمن سعد بها، وليتذلل وليتضرع إلى الله، وهو في وطنه وبين أهله، بأن يبقى في هذه الأيام العشر ممسكاً لشعره وظفره، فلا يأخذ في هذه الأيام من شعره، ولا من أظفاره شيئاً، فيستشعر بذلك ما هم عليه من حال، ويتذكر ما هم فيه من رحمة ورضوان، فيسأل الله من فضله، ويرجو رحمته، ويخشى عذابه. إن الأضحية تذكرنا بإسماعيل وأبيه إبراهيم -عليهما السلام- وما كان إسماعيل ليأخذ من شعره أو ظفره، وما كان أبوه ليأخذ شيئاً من شعره وظفره وزينته، وهو يصدق رؤياه، ويهم بذبح ابنه، حتى فداه الله بالذبح العظيم، إنها صور للذكرى والتذكر، وما يتذكر إلا أولو الألباب. -[المباحث العربية]- (إذا دخل العشر) أي العشر من ذي الحجة، وفي ملحق الرواية الثانية "إذا رأيتم هلال ذي الحجة" وفي الرواية الثالثة "إذا أهل هلال ذي الحجة". (وعنده أضحية) أي شاة أو نحوها، أعدها للذبح يوم الأضحى. (يريد أن يضحي) الجملة حال من الضمير في "عنده" أو صفة لأضحية، والرابط محذوف، أي يريد أن يضحي بها. (فلا يأخذن شعراً، ولا يقلمن ظفراً) "يقلمن" بفتح الياء، وسكون القاف وكسر اللام، قال العلماء: المراد النهي من إزالة الشعر بحلق أو تقصير أو نتف أو إحراق أو أخذه بنورة أو غير ذلك،

وسواء شعر الرأس والإبط والشارب والعانة وغير ذلك من شعور بدنه، تشبهاً بالمحرم بالحج والعمرة. وكذلك الظفر، يتوجه النهي إلى إزالة الظفر كله أو جزئه بقلم أو كسر أو غيره. وفي ملحق الرواية الثانية "فليمسك عن شعره وأظفاره" ولم تذكر الرواية الأولى نهاية النهي، وقد ذكرته الرواية الثالثة، ولفظها "فلا يأخذن من شعره، ولا من أظفاره شيئاً، حتى يضحي". (من كان له ذبح يذبحه) "ذبح" بكسر الذال، أي حيوان يريد ذبحه، فهو فعل بمعنى مفعول، كحمل بمعنى محمول. (عن عمر بن مسلم) قال النووي: كذا رواه مسلم "عمر" بضم العين، في كل هذه الطرق، إلا طريق حسن بن علي الحلواني، ففيها "عمرو" بفتح العين، وإلا طريق أحمد بن عبد الله بن الحكم، ففيها "عمرو أو عمر" قال العلماء: الوجهان منقولان في اسمه. (كنا في الحمام) بتشديد الميم، مذكر، مشتق من الحميم، وهو الماء الحار، والمراد المكان المعد للاغتسال فيه، وهو معروف. (فأطلى فيه ناس) معناه أزالوا شعر العانة بالنورة. قاله النووي. (إن سعيد بن المسيب يكره هذا) يعني يكره إزالة الشعر، في عشر ذي الحجة، لمن أراد أن يضحي، لا أنه يكره مجرد إزالة الشعر. (هذا حديث قد نسي وترك) أي ترك العمل به، وسيأتي أقوال العلماء فيه. -[فقه الحديث]- قال النووي: اختلف العلماء فيمن دخلت عليه عشر ذي الحجة، وأراد أن يضحي، فقال سعيد بن المسيب وربيعة وأحمد وإسحق وداود وبعض أصحاب الشافعي: يحرم عليه أخذ شيء من شعره وأظفاره حتى يضحي في وقت الأضحية. وقال الشافعي وأصحابه: هو مكروه كراهة تنزيه، وليس بحرام. وقال أبو حنيفة: لا يكره. وقال مالك في رواية: لا يكره، وفي رواية: يكره، وفي رواية: يحرم في التطوع، دون الواجب. واحتج من حرم بهذه الأحاديث. واحتج الشافعي والآخرون بحديث عائشة -رضي الله عنها- "كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يقلده، ويبعث به، ولا يحرم عليه شيء أحله الله، حتى ينحر هديه" رواه البخاري ومسلم. قال الشافعي: البعث بالهدي أكثر من إرادة التضحية، فدل على أنه لا يحرم ذلك، وحمل أحاديث النهي على كراهة التنزيه.

قال النووي: وفي حديث عائشة هذا أن من بعث هديه لا يصير محرماً، ولا يحرم عليه شيء مما يحرم على المحرم، وهذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة، إلا حكاية رويت عن ابن عباس وابن عمر وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير، وحكاها الخطابي عن أهل الرأي أيضاً، أنه إذا فعله لزمه اجتناب ما يجتنبه المحرم، ولا يصير محرماً من غير نية الإحرام، والصحيح ما قاله الجمهور. ثم قال النووي: والحكمة في النهي أن يقي كامل الأجزاء، ليعتق من النار، وقيل: التشبه بالمحرم، قال أصحابنا: هذا غلط، لأنه لا يعتزل النساء، ولا يترك الطيب واللباس، وغير ذلك مما يتركه المحرم. ثم قال النووي عن حديث سعيد بن المسيب: وقد نقل ابن عبد البر عن ابن المسيب جواز الإطلاء في العشر بالنورة، قال النووي: فإن صح هذا عنه فهو محمول على أنه أفتى به إنساناً لا يريد التضحية. اهـ أقول: ويحتمل أنه رأى جوازه بعد أن كان يرى كراهته، عن طريق النسخ، لقوله: هذا حديث قد نسي وترك. وأميل إلى التوقف عن رفع هذا الحديث، ففي الرواية الأولى: "قيل لسفيان: فإن بعضهم لا يرفعه؟ قال: لكني أرفعه" وأميل إلى عدم العمل بظاهره. والله أعلم

(550) باب تحريم الذبح لغير الله تعالى ولعن فاعله

(550) باب تحريم الذبح لغير الله تعالى ولعن فاعله 4479 - عن أبي الطفيل عامر بن واثلة قال: كنت عند علي بن أبي طالب. فأتاه رجل فقال ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسر إليك. قال: فغضب وقال: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسر إلي شيئاً يكتمه الناس، غير أنه قد حدثني بكلمات أربع. قال: فقال: ما هن يا أمير المؤمنين؟ قال: قال: "لعن الله من لعن والده. ولعن الله من ذبح لغير الله. ولعن الله من آوى محدثاً. ولعن الله من غير منار الأرض". 4480 - عن أبي الطفيل قال قلنا لعلي بن أبي طالب: أخبرنا بشيء أسره إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما أسر إلي شيئاً كتمه الناس. ولكني سمعته يقول: "لعن الله من ذبح لغير الله. ولعن الله من آوى محدثاً. ولعن الله من لعن والديه. ولعن الله من غير المنار". 4481 - عن أبي الطفيل قال: سئل علي أخصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ فقال: ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء لم يعم به الناس كافة، إلا ما كان في قراب سيفي هذا. قال: فأخرج صحيفة مكتوب فيها: "لعن الله من ذبح لغير الله. ولعن الله من سرق منار الأرض. ولعن الله من لعن والده. ولعن الله من آوى محدثاً". -[المعنى العام]- إن الذي خلق الأرواح، وأودعها في أجسامها، هو المستحق للعبادة والخضوع والتقرب إليه، وحين تعود الأرواح، وتفارق أجسادها تعود إليه وحده، إليه المرجع، وإليه المصير، وحين يفرق الإنسان بين روح مأكول اللحم وبين جسمه عملاً بشرع ربه، عليه أن يذبح للبارئ الخالق، المحيي والمميت، فيذبح وهو يقول: باسم الله والله أكبر. ولقد كانت الجاهلية تذبح بأسماء آلهتها، وتتقرب بذبيحتها إلى أصنامها، فنزل قوله تعالى {فاذكروا اسم الله عليها} [الحج: 36]. "ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه، ونزل تحريم المذبوح الذي يذكر عليه اسم آلهتهم، فقال تعالى {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم

الخنزير وما أهل لغير الله به} [المائدة: 3] وعضدت السنة القرآن، فقال صلى الله عليه وسلم "لعن الله من ذبح لغير الله". وأعجب علي رضي الله عنه بسماع هذا الحديث، فكتبه مع بعض الأحاديث الأخرى في صحيفة، طواها وأودعها قراب سيفه يحملها معه، كما يحمل السيف، يعتز بها كما يعتز بالسيف، ويدفع بها شبهات من زاغت قلوبهم، كما يدفع بالسيف كفر الكافرين. ولقد نصبت طائفة العداء لعلي رضي الله عنه، بعد قبوله التحكيم بينه وبين معاوية، واعتبروه كافراً، وتشيعت طائفة له، وبالغت في تقديسه، وتبرأ رضي الله عنه من هؤلاء وهؤلاء، لكن نار هاتين الفتنتين ظلت تشتعل هنا وهناك، حتى سأله الناس عما يشاع من أن النبي صلى الله عليه وسلم قد خصه بأسرار، لم يطلع عليها أحداً من الأمة، وأنه كان الوصي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى ادعوا أنه صلى الله عليه وسلم جعله واصياً على زوجاته أمهات المؤمنين -رضي الله عنهن- يطلق منهن من شاء من بعده، فطلق عائشة -رضي الله عنها- خرافات اختلقوها وأشاعوها. فكان أن سأله بعضهم: هل خصك رسول الله صلى الله عليه وسلم بسر، أسر به إليك، دون بقية الناس؟ فكان أن غضب لهذه الفرية، وقال: لا. والله ما خصني بسر من الأسرار، ولكن حدثني بأحاديث، كما حدث الناس، فاحتفظت بها في قراب سيفي، قالوا: فما فيه؟ فأخرجه، فإذا فيه: لعن الله من لعن والديه، لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من سرق حدود الأرض من جاره، لعن الله من حمى مجرماً ودافع عنه، وكان في الصحيفة غير ذلك كثير. -[المباحث العربية]- (عن أبي الطفيل .... كنت عند علي بن أبي طالب، فأتاه رجل) في الرواية الثانية "عن الطفيل. قال: قلنا لعلي .... " وفي الرواية الثالثة "سئل علي" وعند البخاري "عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي .... " قال الحافظ ابن حجر: وقد سأل علياً عن هذه المسألة أيضاً قيس بن عباد، والأشتر النخعي، وحديثهما في مسند النسائي. (ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسر إليك؟ ) "ما" استفهامية، أي ماذا كان يسر إليك به؟ وفي الرواية الثانية "أخبرنا بشيء أسره إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي الرواية الثالثة "أخصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء"؟ والخطاب في "أخصكم" لعلي -رضي الله عنه- والجمع للتعظيم، أوله ولبقية آل البيت، وعند النسائي "هل عهد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً لم يعهد إلى الناس عامة"؟ وعند البخاري في كتاب العلم "هل عندكم كتاب"؟ أي مكتوب أخذتموه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ مما أوحي إليه؟ وعند البخاري في الجهاد "هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله"؟ وعنده في الديات "هل عندكم شيء مما ليس في القرآن"؟ وفي مسند إسحق بن راهويه "هل علمت شيئاً من الوحي"؟ وسبب هذا السؤال أن جماعة من الشيعة كانوا يزعمون أن عند أهل البيت -لاسيما علياً- أشياء من الوحي، خصهم النبي صلى الله عليه وسلم بها، لم يطلع غيرهم عليها، وأخرج أحمد عن أبي حسان الأعرج

"أن علياً كان يأمر بالأمر، فيقال له: قد فعلناه، فيقول: صدق الله ورسوله. فقال له الأشتر: إن هذا الذي تقول. أهو شيء عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ". (فغضب، وقال: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسر إلي شيئاً يكتمه الناس) وفي الرواية الثانية "ما أسر إلي شيئاً كتمه الناس" وعند أحمد "ما عهد إلي شيئاً خاصة دون الناس" وإنما غضب لكثرة ما سئل هذا السؤال، نتيجة لإشاعات الشيعة، مما هو منه براء. (غير أنه قد حدثني بكلمات أربع) وفي الرواية الثانية "ولكني سمعته يقول .... " ومعنى هاتين الروايتين أن الحديث الآتي أخذه علي سماعاً، فقوله في الرواية الثالثة "إلا ما كان في قراب سيفي هذا" أي أنه كتبه بعد ما سمعه، وفي مسند أحمد "إلا شيئاً سمعته منه، فهو في صحيفة في قراب سيفي، فلم يزالوا به حتى أخرج الصحيفة ... " وعند أبي داود والنسائي "إلا ما في كتابي هذا. قال: وكتاب في قراب سيفه" وعند البخاري في كتاب العلم. "لا. إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة" وعند أحمد عن طريق طارق بن شهاب، قال: "شهدت علياً على المنبر، وهو يقول: والله ما عندنا كتاب نقرؤه عليكم إلا كتاب الله، وهذه الصحيفة" و"قراب السيف" بكسر القاف وعاء من جلد، ألطف من الجراب، يدخل فيه السيف بغمده، وما خف من الآلة. قاله النووي. (لعن الله من لعن والده) في الرواية الثانية "لعن الله من لعن والديه" ولعن الوالدين أعم من مباشرة اللعن، أو التسبب فيه "يلعن الرجل أبا الرجل، فيلعن والديه". (ولعن الله من ذبح لغير الله) المراد به أن يذبح باسم غير الله تعالى، كمن ذبح للصنم أو الصليب، أو لموسى أو لعيسى -عليهما السلام- أو للكعبة، ونحو ذلك. (ولعن الله من آوى محدثاً) بضم الميم وكسر الدال، أي من أوى مذنباً وحماه، وضمه إليه، ودفع عنه عقاب جريمته، و"أوى" بالقصر والمد، في الفعل اللازم والمتعدي جميعاً، لكن القصر في اللازم أشهر وأفصح، والمد في المتعدي -كما هنا- أشهر وأفصح. وجملة "لعن الله" خبرية لفظاً، فهل هي خبرية معنى؟ أو دعائية معنى؟ احتمالان. واللعن في اللغة هو الطرد، والإبعاد، والمراد باللعن هنا العذاب الذي يستحقه على ذنبه، والطرد عن الجنة عند دخول السابقين. (ولعن الله من غير منار الأرض) "منار الأرض" فتح الميم علامات حدودها بين المتجاورين في امتلاكها، وبتغييرها يحصل على جزء منها ليس له، وفي الرواية الثانية "لعن الله من غير المنار" أي علامة الحدود في الأرض وغيرها، وفي الرواية الثالثة: لعن الله من سرق منار الأرض" والروايتان الأوليان أعم، يشملان من غير سرقة، ومن غير عنوة ونهباً واغتصاباً. (لم يعم به الناس كافة) "كافة" حال، قال النووي: وأما ما يقع في كثير من كتب المصنفين

من استعمالها مضافة وبالتعريف، كقولهم: هذا قول كافة العلماء، وهذا مذهب الكافة، فهو خطأ، معدود في لحن العوام وتحريفهم. -[فقه الحديث]- قال النووي: أما الذبح لغير الله فالمراد به أن يذبح باسم غير الله تعالى، فهو حرام، ولا تحل هذه الذبيحة، سواء كان الذابح مسلماً أو نصرانياً أو يهودياً، نص عليه الشافعي، واتفق عليه أصحابنا، فإن قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له -غير الله تعالى، والعبادة له- كان ذلك كفراً، فإن كان الذابح مسلماً قبل ذلك صار بالذبح مرتداً، وذكر المروزي من أصحابنا: أن ما يذبح عند استقبال السلطان، تقرباً إليه، أفتى أهل بخارى بتحريمه، لأنه مما أهل به لغير الله تعالى، قال الرافعي: هذا إنما يذبحونه استبشاراً بقدومه، فهو كذبح العقيقة، لولادة المولود، ومثل هذا لا يوجب التحريم. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - فيه إبطال لما تزعمه الرافضة والشيعة والإمامية من الوصية إلى علي، وغير ذلك من اختراعاتهم من قولهم: إن علياً رضي الله عنه أوصى إليه النبي صلى الله عليه وسلم بأمور كثيرة من أسرار العلم، وقواعد الدين، وكنوز الشريعة، وأنه صلى الله عليه وسلم خص أهل البيت بما لم يطلع عليه غيرهم. وهذه دعاوى باطلة. 2 - وفيه الحرص على كتابة العلم. قال الحافظ ابن حجر: استقر الأمر، وانعقد الإجماع على جواز كتابة العلم، بل على استحبابه، بل لا يتعد وجوبه على من خشي النسيان، ممن يتعين عليه تبليغ العلم. 3 - وفيه جواز لعن أهل المعاصي والفساد، لكن لا دلالة فيه على لعن الفاسق المعين. (إضافة) جاء في روايات صحيحة أن الصحيفة كان فيها "المدينة حرم" وكان فيها "العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر" و"ذمة المسلمين واحدة، فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا يقبل منه صرف ولا عدل، ومن تولى قوماً بغير إذن مواليه، فعليه لعنة الله والناس أجمعين. لا يقبل منه صرف ولا عدل" وفيها "المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم". قال الحافظ ابن حجر: والجمع بين هذه الأخبار أن الصحيفة المذكورة كانت مشتملة على جميع ما ذكر، فنقل كل راو بعضها. والله أعلم

كتاب الأشربة

كتاب الأشربة

(551) باب الخمر وتحريمها

(551) باب الخمر وتحريمها 4482 - عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أصبت شارفاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مغنم يوم بدر. وأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم شارفاً أخرى. فأنختهما يوماً عند باب رجل من الأنصار، وأنا أريد أن أحمل عليهما إذخراً لأبيعه. ومعي صائغ من بني قينقاع، فأستعين به على وليمة فاطمة. وحمزة بن عبد المطلب يشرب في ذلك البيت. معه قينة تغنيه. فقالت: 4 ألا يا حمز للشرف النواء فثار إليهما حمزة بالسيف. فجب أسنمتهما وبقر خواصرهما. ثم أخذ من أكبادهما. قلت لابن شهاب: ومن السنام؟ قال: قد جب أسنمتهما فذهب بها. قال ابن شهاب: قال علي فنظرت إلى منظر أفظعني. فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم وعنده زيد بن حارثة. فأخبرته الخبر. فخرج ومعه زيد. وانطلقت معه. فدخل على حمزة فتغيظ عليه. فرفع حمزة بصره. فقال: هل أنتم إلا عبيد لآبائي؟ فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقهقر حتى خرج عنهم. 4483 - عن علي رضي الله عنه قال: كانت لي شارف من نصيبي من المغنم، يوم بدر. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني شارفاً من الخمس يومئذ. فلما أردت أن أبتني بفاطمة، بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعدت رجلاً صواغاً من بني قينقاع يرتحل معي. فنأتي بإذخر أردت أن أبيعه من الصواغين، فأستعين به في وليمة عرسي. فبينا أنا أجمع لشارفي متاعاً من الأقتاب والغرائر والحبال، وشارفاي مناخان إلى جنب حجرة رجل من الأنصار. وجمعت حين جمعت ما جمعت. فإذا شارفاي قد اجتبت أسنمتهما، وبقرت خواصرهما، وأخذ من أكبادهما. فلم أملك عيني حين رأيت ذلك المنظر منهما. قلت: من فعل هذا؟ قالوا: فعله حمزة بن عبد المطلب. وهو في هذا البيت في شرب من الأنصار. غنته قينة وأصحابه. فقالت في غنائها: ألا يا حمز للشرف النواء. فقام حمزة بالسيف فاجتب أسنمتهما، وبقر خواصرهما، فأخذ من أكبادهما. فقال علي: فانطلقت حتى أدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده زيد بن حارثة. قال: فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهي الذي لقيت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما لك؟ " قلت:

يا رسول الله، والله ما رأيت كاليوم قط. عدا حمزة على ناقتي فاجتب أسنمتهما، وبقر خواصرهما. وها هو ذا في بيت معه شرب. قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بردائه فارتداه. ثم انطلق يمشي. واتبعته أنا وزيد بن حارثة. حتى جاء الباب الذي فيه حمزة. فاستأذن فأذنوا له. فإذا هو شرب. فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوم حمزة فيما فعل. فإذا حمزة محمرة عيناه. فنظر حمزة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صعد النظر إلى ركبتيه. ثم صعد النظر، فنظر إلى سرته. ثم صعد النظر، فنظر إلى وجهه. فقال حمزة: وهل أنتم إلا عبيد لأبي؟ فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ثمل. فنكص رسول الله صلى الله عليه وسلم على عقبيه القهقرى. وخرج وخرجنا معه. 4484 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت ساقي القوم، يوم حرمت الخمر، في بيت أبي طلحة. وما شرابهم إلا الفضيخ: البسر والتمر. فإذا مناد ينادي. فقال: اخرج، فانظر. فخرجت، فإذا مناد ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت. قال: فجرت في سكك المدينة. فقال لي أبو طلحة: اخرج، فاهرقها. فهرقتها. فقالوا -أو قال بعضهم: - قتل فلان. قتل فلان وهي في بطونهم -قال: فلا أدري هو من حديث أنس- فأنزل الله عز وجل {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات} [المائدة/ 93]. 4485 - عن عبد العزيز بن صهيب قال: سألوا أنس بن مالك عن الفضيخ؟ فقال: ما كانت لنا خمر غير فضيخكم هذا، الذي تسمونه الفضيخ. إني لقائم أسقيها أبا طلحة وأبا أيوب ورجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتنا. إذ جاء رجل فقال: هل بلغكم الخبر؟ قلنا: لا. قال: فإن الخمر قد حرمت. فقال: يا أنس، أرق هذه القلال. قال: فما راجعوها ولا سألوا عنها بعد خبر الرجل. 4486 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إني لقائم على الحي، على عمومتي أسقيهم من فضيخ لهم. وأنا أصغرهم سناً. فجاء رجل فقال: إنها قد حرمت الخمر. فقالوا: اكفئها يا أنس. فكفأتها. قال: قلت لأنس: ما هو؟ قال: بسر ورطب. قال: فقال أبو بكر بن أنس: كانت خمرهم يومئذ. قال سليمان: وحدثني رجل عن أنس بن مالك أنه قال ذلك أيضاً.

4487 - عن أنس رضي الله عنه: كنت قائماً على الحي أسقيهم. بمثل حديث ابن علية، غير أنه قال: فقال أبو بكر بن أنس: كان خمرهم يومئذ. وأنس شاهد. فلم ينكر أنس ذاك. وقال ابن عبد الأعلى: حدثنا المعتمر عن أبيه، قال: حدثني بعض من كان معي، أنه سمع أنساً يقول: كان خمرهم يومئذ. 4488 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت أسقي أبا طلحة وأبا دجانة ومعاذ بن جبل، في رهط من الأنصار. فدخل علينا داخل فقال: حدث خبر. نزل تحريم الخمر. فأكفأناها يومئذ. وإنها لخليط البسر والتمر. قال قتادة: وقال أنس بن مالك: لقد حرمت الخمر. وكانت عامة خمورهم يومئذ خليط البسر والتمر. 4489 - وفي رواية عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إني لأسقي أبا طلحة وأبا دجانة وسهيل بن بيضاء من مزادة، فيها خليط بسر وتمر. بنحو حديث سعيد. 4490 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يخلط التمر والزهو ثم يشرب. وإن ذلك كان عامة خمورهم، يوم حرمت الخمر. 4491 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: كنت أسقي أبا عبيدة بن الجراح وأبا طلحة وأبي بن كعب شراباً من فضيخ وتمر. فأتاهم آت، فقال: إن الخمر قد حرمت. فقال أبو طلحة: يا أنس، قم إلى هذه الجرة فاكسرها. فقمت إلى مهراس لنا، فضربتها بأسفله، حتى تكسرت. 4492 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لقد أنزل الله الآية التي حرم الله فيها الخمر، وما بالمدينة شراب يشرب إلا من تمر. -[المعنى العام]- خلق الله الإنسان، وكرمه على كثير من مخلوقاته، وميزه بالعقل، ليكون خليفته في الأرض،

وجعلها له ذلولاً، وسخر له ما فيها، ليديرها، ويصرفها، وينتفع بما حوله مما خلق له، ذلك العقل وتلك الجوهرة، هو الفارق بين الإنسان والحيوان، هو الفارق بين السوي الحكيم وبين المجنون، هذا الجهاز الصغير الدقيق المعجز هو صندوق المعلومات وخازنها، منذ كان الإنسان في بطن أمه، وجعل له ربه السمع والبصر والحواس والفؤاد، هذا الجهاز هو قائد الجوارح كلها، وأمير الجسم والأعضاء، لا يتحرك جفن عين لعاقل إلا بإشارته، ولا يصدر عمل من الأعمال إلا عن أمره، إذا اختل ضاعت الحكمة، وإذا غشي وعمي عليه توقفت الأعضاء عن الحركة، بل عن الحس والشعور، ولقد خلق الله في الأرض ما ينفع الإنسان وما يضره، ليميز بعقله بين ما ينفع فيقبل عليه، ويفيد منه، وبين ما يضر، فيبتعد عنه، ويحذره، ويتحاشاه، نوع من أنواع الابتلاء والاختبار، ليميز الله الخبيث من الطيب، خلق الطعام والشراب اللذيذ النافع، وخلق السم القاتل، وكلما ارتقى الإنسان في الإنسانية بعد عما يضر، واستكثر مما ينفع، وفي الحياة الدنيا هموم ومشاكل وأحزان ومصائب، يقف العاقل حيالها موقف المعالج الخبير الصابر الحكيم، ويقف العاجز حيالها بالضعف والتخاذل ومحاولة الهروب منها، وكيف يهرب منها وهي في داخله؟ وفي سويداء عقله؟ إنه يحاول تغطية العقل، وتغطية الشعور، وتغطية الأحاسيس، بما عرفه من خمر أو حشيشة، وهو في ذلك لا يحل المشكلة، ولا يبعدها عن نفسه، ولا يخفف همومها، وآلامها، بل كل ما يفعله أنه يهرب من الإحساس بها بعض الوقت، ليضم إليها هموماً أخرى وأحزاناً أخرى بعد أن يفيق من السكر. فهذا حمزة بن عبد المطلب، عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كانت الخمرة مباحة، والسكر مباحاً، يجتمع مع بعض الشباب من أقرانه، في بيت من بيوت أحدهم، فيستأجرون مغنية تغنيهم، على شرابهم، وتأخذ الخمرة برءوسهم، فيتمايل بعضهم على بعض، ويصيح بعضهم ببعض، ويعبث بعضهم بوجوه بعض، وتثيره المغنية بأبيات من شعر، مضمونها: يا حمزة يا بطل الأبطال، يا من اشتهر بالكرم، يا ابن الأكرمين، بالباب ناقتان سمينتان، نشتهي أن نأكل -مع شرابنا- من سنامهما وأكبادهما، فأين سيفك؟ وأين شهامتك؟ وأين جودك؟ فيخرج بسيفه، فيجتز سنامي الناقتين، ويبقر بطنهما، ويرجع للقوم بأكبادهما وسناميهما، ويرجع صاحب الناقتين، علي بن أبي طالب، الذي لا يملك غيرهما، ويرجوهما عوناً له على رزقه، يحملان الحطب الذي يجمعه ليبيعه، ليستعين به على وليمة زواجه بفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، يرجع بعد أن جمع الحطب ليأخذ ناقتيه، لتحملاه، فيجد الدماء تملأ مربطهما، وتقع عيناه على منظرهما الفظيع وقد بقرت بطونهما، فلا يملك دمعه الذي سال على خديه، ويسأل من تجمع من الناس حولهما: من فعل هذا؟ فيحكون له ما حصل، فيجري نحو بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعاً، شاحب اللون، مرتعش البدن، فيقول له صلى الله عليه وسلم: ما لك؟ ماذا بك يا علي؟ فيقول حصل كذا وكذا. الناقة التي أصابتني من غنائم بدر، والناقة التي ساعدتني بها من الفيء والخمس، فعل بهما حمزة كذا وكذا. فقال صلى الله عليه وسلم: وأين حمزة الآن؟ قال في بيت يشرب الخمر مع الشاربين فأسرع صلى الله عليه وسلم إلى ردائه فلبسه، ثم خرج مع علي معهما زيد بن حارثة، حتى وصلوا إلى البيت الذي به حمزة، فاستأذن، فأذن له، فدخل متغيظاً يلوم حمزة ويعنفه، ظاناً أنه يعي، فيصلح ما أفسد، لكن حمزة كان بعيداً عن الوعي، التفت حمزة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم

يعرفه، لأنه نظر إلى ساقه، ثم صعد النظر إلى ركبتيه صلى الله عليه وسلم، وهو يهز رأسه، كأنه يقول: من هذا الذي يعنفني؟ ثم صعد النظر إلى سرته صلى الله عليه وسلم، ثم صعد النظر فنظر إلى وجهه صلى الله عليه وسلم، ولم يعرفه، ورأى حوله علياً وزيداً ولم يعرفهما، فأخذ يترنح وهو يقول: ما أنتم إلا عبيد لأبي -أبي عبد المطلب- وأنتم عبيد عبد المطلب. وذهل رسول الله صلى الله عليه وسلم من منظره، إنه غائب عن الوجود، إنه لا يدرك ما يقول، إنه لا يدرك ما يفعل، إنه قد يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه بسيفه، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهره مسرعاً. هذه الحادثة كانت وحدها كافية لنزول آية تحريم الخمر، لكن غيرها من أمثالها قد وقع كثيراً وكان القرآن الكريم قد هيأ الأمة لتلقي حكم التحريم، لأن الخمر كانت في دمها، والأمة العربية كانت مدمنة، لا يخلو شرابها على الطعام وفي السهرات من خمر، خمر عنب يستوردونه من خارج منطقتهم، لا يجيدون صناعته، وخمر تمر وبسر وزبيب وشعير وذرة وحنطة يجيدون صناعتها، كان القرآن قد نزل بقوله تعالى {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} [البقرة: 219] فخشي كرماء الناس إثمها، فامتنعوا عنها، أو قللوا من شربها. ثم نزل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} [النساء: 43] فامتنع المسلمون من شربها قريباً من أوقات الصلاة، وحصروا شربها في الأوقات التي تمكنهم من الإفاقة منها قبل وقت الصلاة. وأخيراً نزل القرار القاطع المحرم لقليلها وكثيرها، فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون* إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} [المائدة: 90، 91]؟ وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً ينادي في شوارع المدينة: أيها المسلمون، إن الخمر قد حرمها الله. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبلغكم أن الخمر منذ الآن حرام. وسمع المنادي الشاربون فأمسكوا عن الشرب، وراحوا يريقون ما عندهم منها على الأرض وفي شوارع المدينة، حتى جرت بها شوارع المدينة. وهكذا حفظ الله للمسلمين جوهرة عقولهم، وحماها من العبث والتغطية والفساد والإفساد، وصان إنسانيتهم من التدهور والهبوط إلى عالم الحيوانات. -[المباحث العربية]- (كتاب الأشربة) أي ما يحرم منها، وما يحل، وما يتعلق بالشرب من الآداب. (باب الخمر) ويقال لها الخمرة، بفتح الخاء، وهي تذكر وتؤنث، فيقال: هذا خمر، وهذه خمر، والخمر مأخوذة من التغطية والستر، يقال: خمر الإناء، بفتح الميم، يخمره بضمها، خمراً، أي ستره

وكتمه، قيل: سميت الخمر خمرة؛ لأنها تغطي العقل وتخالطه، أو لأنها هي تخمر، وتغطي، حتى تغلي، أو لأنها تختمر، أي تدرك الهدف الجديد منها، وتستر الهدف السابق منها، كما يقال للعجين: اختمر. أما المراد من الخمر شرعاً فسيأتي في فقه الحديث. (أصبت شارفاً) أي ناقة مسنة، وجمعها شرف بضم الراء وإسكانها، وفي الرواية الثانية "كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر". (وأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم شارفاً أخرى) في الرواية الثانية "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني شارفاً من الخمس يومئذ" وكان هذا الإعطاء مساعدة له، باعتباره على أبواب الزواج. (وأنا أريد أن أحمل عليهما إذخراً لأبيعه) أي أريد أن أجمع الإذخر من الصحراء، وأحمله عليهما إلى الأسواق، وأماكن بيعه، والإذخر، بكسر الهمزة وسكون الذال، نوع من الحشائش ذات السيقان الطويلة، كسيقان القمح، لكنها أدق، يستعمل وقوداً، ويخلط بالطين للبناء. (ومعي صائغ من بني قينقاع) بضم النون وكسرها وفتحها، وهم طائفة من يهود المدينة، فيجوز صرفه، على إرادة الحي، وترك صرفه، على إرادة القبيلة أو الطائفة، أي للعلمية والتأنيث، وفي الرواية الثانية "واعدت رجلاً صواغاً من بني قينقاع، يرتحل معي" أي لنجمع الإذخر "فنأتي بإذخر، أردت أن أبيعه من الصواغين" قال النووي: هكذا هو في جميع نسخ مسلم، وفي بعض الأبواب من البخاري "من الصواغين" ففيه دليل لصحة استعمال الفقهاء في قولهم: بعته منه ثوباً، -أي بعته، وزوجت منه -أي زوجته- ووهبت منه جارية -أي وهبته جارية، وشبه ذلك، والفصيح حذف "من" فإن الفعل متعد بنفسه، ولكن استعمال "من" في هذا صحيح، وقد كثر ذلك في كلام العرب، وتكون "من" زائدة على مذهب الأخفش ومن وافقه في زيادتها في الواجب غير النفي. والصواغون جمع صائغ، وهو من حرفته صناعة الحلي من ذهب وفضة وغيرهما. (فأستعين به على وليمة فاطمة) أي فأستعين بثمنه، وفي الرواية الثانية "فأستعين به في وليمة عرسي" أي بفاطمة. (فبينا أنا أجمع لشارفي متاعاً من الأقتاب والغرائر والحبال) "شارفي" بتشديد الياء، مثنى شارف، و"الأقتاب" جمع قتب، وهو الرحل الصغير على قدر سنام البعير، والغرائر جمع غرارة، وهي وعاء من الخيش ونحوه، يوضع فيه القمح ونحوه، أشبه بما يعرف عند العامة بالشوال بكسر الشين وضمها، وعربيته جوالق بكسر الجيم وضمها. (وشارفاي مناختان) قال النووي: في معظم النسخ "مناخان" وفي بعضها "مناختان" وكذلك اختلف فيه نسخ البخاري، وهما صحيحان، التأنيث باعتبار المعنى، والتذكير باعتبار اللفظ. (وجمعت حين جمعت ما جمعت) قال النووي: هكذا هو في بعض نسخ بلادنا، ونقله

القاضي عن أكثر نسخهم، وسقطت لفظة "وجمعت" الأولى من أكثر نسخ بلادنا، ووقع في بعض النسخ "حتى جمعت" مكان "حين جمعت". (فإذا شارفاي قد اجتبت أسنمتهما) قال النووي: هو في معظم النسخ "فإذا شارفي" وفي بعضها "فإذا شارفاي" وهذا هو الصواب، إلا أن يقرأ "فإذا شارفي" بتخفيف الياء، على لفظ الإفراد، ويكون المراد جنس الشارف، فيدخل فيه الشارفان. اهـ ومعنى "اجتبت" بضم التاء وتشديد الباء المفتوحة، مبني للمجهول، أي قطعت، والجب بفتح الجيم القطع، وفي الرواية الأولى "فثار إليهما حمزة بالسيف، فجب أسنمتهما" والمعنى: في الوقت الذي كنت أعد لشارفي الغرائر والرحال والحبال، وأجهز لهما عدة الحمل والعمل كان شارفاي قد قطعت أسنمتهما. وجمع "أسنمة" مع التثنية كثير، كقوله تعالى: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} [التحريم: 4]. (وبقر خواصرهما) يقال: بقر البطن بفتح الباء والقاف، يبقرها بضم القاف، أي شقها، والخواصر جمع خاصرة، والخصر من الإنسان والحيوان وسطه، وهو المستدق، فوق الوركين. (وأخذ من أكبادهما) "من" تبعيضية، أي أخذ بعض أكبادهما. (فلم أملك عيني حين رأيت ذلك المنظر منهما) قال النووي: سبب هذا البكاء والحزن ما خافه من تقصير في حق فاطمة -رضي الله عنها- وجهازها، والاهتمام بأمرها، وتقصيره أيضاً بذلك في حق النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن لمجرد الشارفين، من حيث هما من متاع الدنيا، بل لما قدمناه. اهـ أقول: كان علي رضي الله عنه يعلم يقيناً أنه سيعوض عن الشارفين، إما من الجاني، وإما من النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن يخاف من ضياعهما تقصيراً في حق فاطمة -رضي الله عنها- وإنما بكى، أو دمعت عينيه لفظاعة المنظر، وهوله، كما قال في الرواية الأولى "فنظرت إلى منظر أفظعني" فدموعه -رضي الله عنه- كانت شفقة ورقة قلب. (قلت: من فعل هذا؟ قالوا: فعله حمزة بن عبد المطلب، وهو في هذا البيت، في شرب من الأنصار) و"الشرب" بفتح الشين وسكون الراء الجماعة الشاربون. (غنته قينة وأصحابه) القينة الأمة، صانعة، أو غير صانعة، وغلب على المغنية، وهو المراد هنا. (فقالت في غنائها: ألا يا حمز للشرف النواء) "حمز" منادي مرخم، بني على الضم، على لغة من لا ينتظر، في محل نصب، و"الشرف" بضم الشين، وضم الراء أو سكونها، جمع شارف و"النواء" بكسر النون وتخفيف الواو، وبالمد أي السمان، قال النووي: هذا الذي ذكرناه في النواء، أنها بكسر النون، وبالمد، هو الصواب المشهور في الروايات في الصحيحين وغيرهما، ويقع في بعض النسخ "النوي" وهو تحريف وقال الخطابي: رواه ابن جرير "ذا الشرف النوي" بفتح الشين والراء،

وبفتح النون، مقصوراً، قال: وفسره بالبعد، وقال الخطابي: وكذا رواه أكثر المحققين، قال: وهو غلط في الرواية والتفسير، وقد جاء في غير مسلم تمام هذا الشعر: ألا يا حمز للشرف النواء ... وهن معقلات بالفناء ضع السكين في اللبات منها ... وضرجهن حمزة بالدماء وعجل من أطايبها لشرب ... قديداً من طبيخ أو شواء و"الفناء" الجانب، أي جانب الدار التي كانوا فيها، والقديد اللحم المطبوخ، والتضريج التلطيخ. وأريد بهذا الشعر إثارة همة حمزة، وتهييجه على نحر الناقتين، ليأكلوا من لحمها، وقد عرف عنه الكرم، فخرج على الفور، وفعل ما فعل، وهو مخمور. (ومن السنام؟ قال: قد جب أسنمتهما، فذهب بها) "ومن السنام"؟ معطوف على "ثم أخذ من أكبادهما" فكأن الراوي يسأل: أخذ بعض أكبادهما، وأخذ بعض أسنمتهما؟ فأجابه بأنه أخذ أسنمتهما كلها. (فانطلقت، حتى أدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم) الأصل أن يقول "حتى دخلت" ولكنه عبر عن الماضي بصيغة المضارع استحضاراً للصورة. (في وجهي الذي لقيت) أي دخلت عليه في وجه غاضب مفزع من هول ما رأيت، أي بنفس الوجه الذي رأيت فيه وبه شارفي. (فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بردائه، فارتداه) قال النووي: هكذا هو في النسخ كلها "فارتداه". (فدخل على حمزة، فتغيظ عليه) أي أظهر غيظه عليه، والغيظ تغير يلحق الإنسان من مكروه يصيبه وفي الرواية الثانية "فطفق رسول الله يلوم حمزة فيما فعل" أي جعل يلومه، و"طفق" بكسر الفاء وفتحها، والمشهور الكسر. (فرفع حمزة بصره) في الرواية الثانية "فإذا حمزة محمرة عيناه، فنظر حمزة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صعد النظر إلى ركبتيه، ثم صعد النظر، فنظر إلى سرته، ثم صعد النظر فنظر إلى وجهه" أي كان حمزة جالساً ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً فنظر حمزة في مستوى النظر إلى ساق الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم رفع بصره قليلاً فكان إلى ركبتيه، ثم صعد، ثم صعد، حتى نظر إلى وجهه صلى الله عليه وسلم. (فقال: هل أنتم إلا عبيد لآبائي؟ ) وفي الرواية الثانية "وهل أنتم إلا عبيد لأبي"؟ قيل: أراد أن أباه عبد المطلب جد للنبي صلى الله عليه وسلم ولعلي أيضاً، والجد يدعى سيداً، وحاصله أن حمزة أراد الافتخار عليهم بأنه أقرب إلى عبد المطلب منهم. (فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ثمل) بفتح الثاء، وكسر الميم، أي سكران.

(فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقهقر) في الرواية الثانية "فنكص رسول الله صلى الله عليه وسلم على عقبيه القهقري" قال جمهور أهل اللغة: القهقري الرجوع إلى وراء ووجهه إليك، إذا ذهب عنك، وقال أبو عمر: هو الإسراع في الرجوع، والأول هو المشهور المعروف. قال النووي: وإنما رجع القهقرى خوفاً من أن يبدو من حمزة رضي الله عنه أمر يكرهه، لو ولاه ظهره، لكونه مغلوباً بالسكر. (كنت ساقي القوم) ذكر من القوم أبو طلحة، زوج أم أنس، أم سليم، وهو زيد بن سهل، وفي الرواية الرابعة أبو أيوب، وفي الرواية السابعة أبو دجانة ومعاذ بن جبل، وفي ملحقها سهل بن بيضاء، وفي الرواية التاسعة أبو عبيدة بن الجراح، وأبي بن كعب، فهؤلاء سبعة، وقد وقع عند عبد الرزاق أن القوم كانوا أحد عشر رجلاً. قال الحافظ ابن حجر: ومن المستغربات ما أورده ابن مردويه في تفسيره، عن أنس أن أبا بكر وعمر كانا فيهم، قال: وهو منكر، مع نظافة سنده، وما أظنه إلا غلطاً، فعند أبي نعيم من حديث عائشة قالت: "حرم أبو بكر الخمر على نفسه، فلم يشربها في جاهلية ولا إسلام" قال: ويحتمل إن كان محفوظاً أن يكون أبو بكر وعمر زارا أبا طلحة في ذلك اليوم، ولم يشربا معهم. اهـ وكانت الحادثة في بيت أبي طلحة، بيت أنس بن مالك. وفي الرواية الخامسة "إني لقائم على الحي، على عمومتي" فأطلق عليهم "عمومتي" لأنهم كانوا أسن منه، ولأن أكثرهم كانوا من الأنصار. (يوم حرمت الخمر) قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر أن تحريمها كان عام الفتح، سنة ثمان، قبل الفتح، لما روى أحمد من طريق عبد الرحمن بن وعلة قال: سألت ابن عباس عن بيع الخمر؟ فقال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم صديق من ثقيف، فلقيه يوم الفتح براوية خمر، يهديها إليه، فقال: يا فلان. أما علمت أن الله حرمها؟ فأقبل الرجل على غلامه، فقال: بعها، فقال صلى الله عليه وسلم: إن الذي حرم شربها حرم بيعها" وقال الحافظ في مكان آخر: ثم رأيت الدمياطي في سيرته جزم بأن تحريم الخمر كان سنة الحديبية، والحديبية كانت سنة ست، وذكر ابن إسحاق أنه كان في واقعة بني النضير، وهي بعد وقعة أحد، وذلك سنة أربع على الراجح. قال الحافظ: وفيه نظر، لأن أنساً كما سيأتي كان الساقي يوم حرمت، وأنه لما سمع المنادي بتحريمها بادر فأراقها، فلو كان ذلك سنة أربع لكان أنس يصغر عن ذلك. اهـ وما استبعده الحافظ ليس ببعيد، بل هو أقرب الأقوال لواقع الروايتين الأولى والثانية فأنس رضي الله عنه سنة أربع كان ابن أربع عشرة، وهو سن يليق بذلك، ولا يصغر عن ذلك، وحادثة حمزة رضي الله عنه كانت عقب بدر، وقبل أحد بكل تأكيد، لأن حمزة استشهد بأحد، وقد سيقت الحادثة على أنها من مفاسد الخمر، ومن أسباب نزول آية تحريمها، ومن المستبعد أن تشيع هذه المفاسد وتبقى الخمر مباحة إلى سنة ثمان، وما استدل به من حديث أحمد لا يصلح دليلاً، فكون الرجل الثقفي لم يعلم بتحريم الخمر إلا عام الفتح لا يدل على أنها لم تحرم قبل عام الفتح. والله أعلم. وروى أصحاب السنن عن عمر رضي الله عنه أنه قال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت

الآية التي في البقرة {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} [البقرة: 219] فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت التي في المائدة {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه} [المائدة: 90] صححه الترمذي. وأخرج أحمد عن أبي هريرة نحوه، وقال عند نزول آية البقرة: فقال الناس: ما حرم علينا، فكانوا يشربون، حتى أم رجل أصحابه في المغرب، فخلط في قراءته، فنزلت الآية التي في النساء {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} [النساء: 43] فكانوا يشربون، ولا يقرب الرجل الصلاة حتى يفيق، ثم نزلت آية المائدة، فقالوا: يا رسول الله، ناس قتلوا في سبيل الله وناس ماتوا على فرشهم، وكانوا يشربونها -وفي رواية "ماتوا وهي في بطونهم"؟ فأنزل الله تعالى {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات} [المائدة: 93] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو حرم عليهم لتركوه. (وما شرابهم إلا الفضيخ -البسر والتمر) "الفضيخ" بفتح الفاء وكسر الضاد، آخرها خاء، على وزن عظيم، اسم للبسر إذا شدخ ونبذ، والبسر تمر الفسخ قبل أن يصير رطباً، قال إبراهيم الحربي: الفضيخ أن يفضخ البسر -أي يشق- ويصب عليه الماء، ويترك حتى يغلي. اهـ أي حتى يتخمر ويطفو زبده وقال أبو عبيد: هو ما فضخ من البسر، من غير أن تمسه النار، فإن كان معه تمر فهو خليط. وفي الرواية الخامسة "أسقيهم من فضيخ لهم. قلت لأنس: ما هو [الفضيخ أو الشراب]؟ قال: بسر ورطب" وفي الرواية السابعة "وإنها لخليط البسر والتمر" وفي ملحقها "وكانت عامة خمورهم يومئذ خليط البسر والتمر" وفي الملحق الآخر "من مزادة فيها خليط بسر وتمر" وفي الرواية الثامنة "نهي أن يخلط التمر والزهو، ثم يشرب" والزهو بفتح الزاي وسكون الهاء، بعدها واو، وهو البسر الذي يحمر أو يصفر قبل أن يترطب، وقد يطلق الفضيخ على خليط البسر والرطب، كما يطلق على خليط البسر والتمر، وكما يطلق على البسر وحده، وعلى التمر وحده، وعليه قوله في الرواية التاسعة "شراباً من فضيخ وتمر". (فإذا مناد ينادي، فقال: اخرج فانظر، فخرجت، فإذا مناد ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت. قال: فجرت في سكك المدينة، فقال لي أبو طلحة: اخرج فأهرقها) في الرواية الرابعة "إذ جاء رجل، فقال: هل بلغكم الخبر؟ قلنا: لا. قال: فإن الخمر حرمت، فقال: يا أنس، أرق هذه القلال" ونحو ذلك في الرواية الخامسة والسابعة والتاسعة. قال الحافظ ابن حجر: ظاهر هذه الأخبار التعارض، وقد نقل ابن التين عن الداودي أنه قال: لا اختلاف بين الروايتين، لأن الآتي أخبر أنساً، وأنس أخبر القوم، وتعقبه ابن التين بأن نص الرواية أن الآتي أخبر القوم مشافهة بذلك، قال الحافظ: فيمكن الجمع بوجه آخر، هو أن المنادي غير الذي أخبرهم، أو أن أنساً لما أخبرهم عن المنادي جاء المنادي أيضاً في إثره، فشافههم.

(فجرت في سكك المدينة) الظاهر أن هذه العبارة مقدمة من تأخير، وأنها بعد أن أهرقها أنس. وسكك المدينة طرقاتها، وفي ذلك إشارة إلى سرعة تنفيذ الصحابة للأمر، وإراقتهم لما كان عندهم منها. (فقالوا -أو قال بعضهم: قتل فلان. قتل فلان، وهي في بطونهم) وفي رواية البخاري "فقال بعض القوم: قتل قوم، وهي في بطونهم، فأنزل الله {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا} [المائدة: 93] قال الحافظ ابن حجر: وروى النسائي والبيهقي "فقال ناس من المتكلفين: هي رجس، وهي في بطن فلان، وقد قتل بأحد، فنزلت {ليس على الذين آمنوا ... } وروى البزار "أن الذين قالوا ذلك كانوا من اليهود". (قال: فلا أدري. هو من حديث أنس؟ ) أصل الإسناد: حدثنا حماد بن زيد. حدثنا ثابت عن أنس. فالقائل: لا أدري إلخ هو حماد، والعبارة المشكوك في رواية أنس لها هي "فقالوا، أو قال بعضهم ... إلى آخر الحديث، أي قال حماد: لا أدري هذه العبارة في حديث أنس؟ أو هي قول لثابت؟ فتكون مرسلة؟ . (فقمت إلى مهراس لنا، فضربتها بأسفله، حتى تكسرت) المهراس -بكسر الميم وسكون الهاء- حجر منقور، أو هو إناء يتخذ من صخر، وينقر، وقد يكون كبيراً كالحوض، وقد يكون صغيراً، كالهاون، بحيث يتأتى الكسر به. -[فقه الحديث]- ظاهر أحاديث الباب أن الخمر عند العرب وفي الإسلام كانت حلالاً، لا مؤاخذة ولا لوم على من يشربها، بل كانت شراباً محبباً شائعاً، يجتمعون على شربها، ويتحف صاحب البيت ضيفه بها، يشربها العظيم والحقير، ولا يتجنبها إلا من يخاف عواقبها، من ذوي المروءات العليا، لذا لم نجد لوماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم للشاربين الذين كانوا مع حمزة رضي الله عنه، وقول أنس في رواياته "يوم حرمت الخمر" صريح في أنها كانت جلالاً، وقد بينا في المباحث العربية أقوال العلماء في وقت التحريم. وظاهر الرواية الأولى والثانية أن حادثة حمزة كانت سبباً مقتضياً لتحريمها، فإنه ما فعل ما فعل إلا بتأثير الشرب، وقد روى النسائي والبيهقي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- بسند صحيح، قال: "نزل تحريم الخمر في ناس شربوا" وفي رواية "في قبيلتين من الأنصار شربوا، فلما ثمل القوم عبث بعضهم ببعض، فلما صحوا جعل الرجل يرى في وجهه ورأسه الأثر، فيقول: صنع هذا أخي فلان، وكانوا إخوة، ليس في قلوبهم ضغائن، فيقول: والله لو كان بي رحيماً ما صنع بي هذا، حتى وقعت في قلوبهم الضغائن، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر ... } إلى قوله {منتهون} وأخرج

أحمد ومسلم في سبب نزول آية تحريم الخمر، عن سعد بن أبي وقاص، قال "صنع رجل من الأنصار طعاماً، فدعانا، فشربنا الخمر، قبل أن تحرم، حتى سكرنا، فتفاخرنا، فنزلت {إنما الخمر والميسر .... } ومن المعلوم في "أسباب النزول" أن الأسباب قد تتعدد لنزول آية واحدة، فلا تعارض. وقد اختلف العلماء في مدلول لفظ الخمر، وفي المراد به في قوله تعالى: {إنما الخمر والميسر} (أ) قال ابن عبد البر: قال الكوفيون: إن الخمر من العنب لقوله تعالى: {إني أراني أعصر خمراً} [يوسف: 36] قال: فدل على أن الخمر هو ما يعتصر، لا ما ينتبذ. قال: ولا دليل فيه على الحصر. اهـ فكل ما يدل عليه أن ما يعصره يسمى خمراً، لا أن غيره لا يسمى خمراً. (ب) قالوا: واتفقت الأمة على أن عصير العنب إذا اشتد وغلى، وقذف بالزبد، فهو خمر، وأن مستحله كافر، ولم يكفروا مستحل نبيذ التمر، فثبت أنه لا يدخل في الخمر غير المتخذ من عصير العنب. ورد بأنه لا يلزم من اختلاف الحكم بين أمرين اختلافهما في اللفظ والاسم، فالزنا مثلاً يصدق على من وطئ أجنبية، وعلى من وطئ امرأة جاره، وعلى من وطئ محرماً له، وكلها مختلف في الحكم، واسم الزنا مع ذلك شامل للثلاثة. (ج) قالوا: أطبق أهل اللغة على تخصيص الخمر بالعنب، ولهذا اشتهر استعمالها فيه. ورد عليهم بأنه قد ثبت النقل عن بعض أهل اللغة بأن غير المتخذ من العنب يسمى خمراً، وقال الخطابي: زعم أن العرب لا تعرف الخمر إلا من العنب، فيقال لهم: إن الصحابة الذين سموا غير المتخذ من العنب خمراً عرب فصحاء، فلو لم يكن هذا الاسم صحيحاً لما أطلقوه، وقال ابن عبد البر: إن القرآن لما نزل بتحريم الخمر فهم الصحابة -وهم أهل اللسان- أن كل شيء يسمى خمراً يدخل في النهي، فأراقوا المتخذ من التمر والرطب، ولم يخصوا ذلك بالمتخذ من العنب. وقال القرطبي: الأحاديث الواردة عن أنس وغيره -على صحتها وكثرتها- تبطل مذهب الكوفيين القائلين بأن الخمر لا يكون إلا من العنب، وما كان من غيره لا يسمى خمراً، ولا يتناوله اسم الخمر، وهو قول مخالف للغة العرب، وللسنة الصحيحة وللصحابة، لأنهم لما نزل تحريم الخمر فهموا من الأمر باجتناب الخمر تحريم كل مسكر، ولم يفرقوا بين ما يتخذ من العنب وبين ما يتخذ من غيره، بل سووا بينهما، وحرموا كل ما يسكر نوعه، ولم يتوقفوا، ولم يستفصلوا، ولم يشكل عليهم شيء من ذلك، بل بادروا إلى إتلاف ما كان من غير عصير العنب، وهم أهل اللسان، وبلغتهم نزل القرآن، فلو كان عندهم فيه تردد لتوقفوا عن الإراقة، حتى يستكشفوا، ويستفصلوا، ويتحققوا التحريم، لما تقرر عندهم النهي عن إضاعة المال، فلما لم يفعلوا ذلك، وبادروا إلى الإتلاف علمنا أنهم فهموا التحريم نصاً، فصار القائل بالتفريق بين عصير العنب وغيره سالكاً غير سبيلهم. اهـ وذهب بعض الشافعية إلى موافقة الكوفيين في دعواهم: أن اسم الخمر خاص بما يتخذ من العنب، لكنهم يخالفونهم في الحكم، إذ لم يفرقوا بين عصير العنب وغيره، فقالوا بتحريم قليل ما أسكر كثيره من كل شراب.

قال الحافظ ابن حجر: ويمكن الجمع، بأن من أطلق على غير المتخذ من العنب حقيقة الخمر، أراد الحقيقة الشرعية، ومن نفى أراد الحقيقة اللغوية، قال ابن عبد البر: والحكم إنما يتعلق بالاسم الشرعي، دون اللغوي. ثم قال الحافظ: ويلزم من قال بقول أهل الكوفة: إن الخمر حقيقة في ماء العنب، مجاز في غيره، يلزمهم أن يقولوا بجواز إطلاق اللفظ الواحد على حقيقته ومجازه، لأن الصحابة لما بلغهم تحريم الخمر، أراقوا كل ما كان يطلق عليه لفظ الخمر حقيقة أو مجازاً، وإذا لم يجوزوا ذلك صح أن الكل خمر حقيقة، ولا انفكاك لهم عن ذلك. اهـ ونتيجة لوجهات النظر هذه نجمل الأحكام في نقاط: الأولى: أن عصير العنب النيئ، الذي لم يطبخ على النار، إذا غلي واشتد، وقذف بالزبد، وأسكر كثيره، حرم قليله وكثيره، وحد شاربه، باتفاق، أسكر فعلاً أو لم يسكر. ولا يعتد بما حكاه ابن قتيبة عن قوم من مجان أهل الكلام أن النهي عن هذا للكراهة. فهو قول مهجور، لا يلتفت إليه. الثانية: أن مطبوخ خمر العنب فيه خلاف، فقد كانوا يأتون إلى عصير العنب، إذا اشتد، وغلي، وأسكر، فيطبخونه على النار، حتى يذهب منه ثلثا حجمه، ويبقى الثلث، ويتمطط إذا وضع الإصبع فيه ورفع، كالعسل الغليظ، أو كالطلاء الذي كانت تطلى به الإبل، ويسمونه "الباذق" بفتح الذال وبكسرها، ويقال له: المثلث أيضاً: إشارة إلى أنه ذهب منه بالطبخ ثلثاه، كما يقال لنوع منه: المنصف، إشارة إلى أنه ذهب نصفه، ويسمونه الطلاء أيضاً، لشبهه بطلاء الإبل. هذا المشروب -أو المأكول- قال البخاري عنه: رأى عمر وأبو عبيدة ومعاذ جواز شرب الطلاء على الثلث، قال الحافظ ابن حجر: وقد وافق عمر ومن ذكر معه على الحكم المذكور أبو موسى وأبو الدرداء وعلي وأبو أمامة وخالد بن الوليد وغيرهم، ومن التابعين ابن المسيب والحسن وعكرمة، ومن الفقهاء الثوري والليث ومالك في رواية عنه وأحمد والجمهور، وشرط تناوله عندهم ما لم يسكر بالفعل، وكرهه طائفة من هؤلاء المجيزيين له، تورعاً. وقال أبو حنيفة: المطبوخ من عصير العنب، حتى يذهب ثلثاه، ويبقى ثلثه لا يمتنع مطلقاً، ولو قذف بالزبد وغلي بعد الطبخ. وقال مالك والشافعي والجمهور: يمتنع -إذا صار مسكراً- شرب قليله وكثيره، سواء غلي، أم لم يغل، لأنه يجوز أن يبلغ حد الإسكار بأن يغلي ثم يسكن غليانه بعد ذلك. وقال أبو الليث السمرقندي: شارب المطبوخ -إذا كان يسكر- أعظم ذنباً من شارب الخمر، لأن شارب الخمر يشربها وهو يعلم أنه عاص بشربها، وشارب المطبوخ يشرب المسكر ويراه حلالاً، أي فهو يستحل ما حرم الله. وقد روي عن ابن عباس: "إن النار لا تحل شيئاً ولا تحرمه".

وقال ابن حزم: إنه شاهد من العصير ما لو طبخ إلى الثلث ينعقد ولا يصير مسكراً أصلاً، ومنه ما لو طبخ إلى النصف لا يصير مسكراً كذلك، ومنه ما لو طبخ إلى الربع كذلك، ثم قال: غير أنه شاهد منه ما لا ينفك عن السكر ولو لم يبق منه إلا الربع. اهـ والتحقيق في هذه المسألة أن نطبق عليها قاعدة "ما أسكر كثيره حرم قليله وكثيره" مادام هذا العصير تختلف أحواله من حيث نوعه، ومن حيث درجة ونوع طبخه. والله أعلم. الثالثة: السكر الفعلي من غير عصير العنب حرام باتفاق، لكن حرمته كحرمة السكر من عصير العنب عند الجمهور، فيحد شاربه، وحرمته ليست كحرمة السكر من عصير العنب، فلا يحد شاربه عند الحنفية والكوفيين. الرابعة: عصير العنب، ومنقوع البسر والتمر والزبيب، إذا لم يغل، ولم يشتد، ولم يقذف بالزبد، ولم يسكر كثيره حلال باتفاق. ولكن إلى أي مدة يبقى نبيذاً حلالاً؟ وإلى أي طعم؟ وإلى أية درجة في تغير طعمه يبقى حلالاً؟ سيأتي في الباب رقم 557. وأما العقوبة الأخروية لشارب الخمر فستأتي في الباب رقم 556. وفي أي إناء ينبذ؟ وفي أي إناء لا ينبذ؟ سيأتي في الباب رقم 555. وهل خلط الأصناف المتعددة مما ينبذ حلال؟ سيأتي في الباب رقم 554. وهل الخمر إذا تخللت، وتحولت إلى خل لا يسكر، يحل شربها؟ أو لا؟ وهل يحل التداوي بالخمر؟ أو لا؟ سيأتي في الباب رقم 551. أما الباب رقم 552 فقد دخل معنا في هذا الباب. الخامسة: وهي صلب الموضوع ولبه، وموطن الصراع فيه، فهي حكم شرب القليل من غير عصير العنب، مما يسكر كثيره، إذا لم يسكر هذا القليل. فالكوفيون لم يحرموا سوى ماء العنب، أما غيره فلم يحرموا منه إلا القدر المسكر خاصة، إذا أسكر بالفعل فعن أبي حنيفة: الخمر -وهي عصير العنب خاصة- حرام، قليلها وكثيرها، والسكر من غيرها حرام. وعن أبي يوسف: لا بأس بالنقيع من كل شيء، وإن غلي، إلا الزبيب والتمر، وكذا حكاه محمد عن أبي حنيفة. وعن محمد: ما أسكر كثيره أي من غير عصير العنب -فأحب أن لا أشربه، ولا أحرمه. وقال الثوري: أكره نقيع التمر، ونقيع الزبيب إذا غلي، ونقيع العسل لا بأس به. أما الشافعية والمالكية والحنابلة والجماهير فقالوا: ما أسكر كثيره من أي شيء حرم قليله، وإن لم يسكر. ووجهة نظر الحنفية والكوفيين تتمثل فيما يأتي:

1 - حديث ابن عباس، رفعه "حرمت الخمر، قليلها وكثيرها، والسكر من كل شراب" قال الحافظ ابن حجر: وهو حديث أخرجه النسائي، ورجاله ثقات، إلا أنه اختلف في وصله وانقطاعه، وفي رفعه ووقفه، وعلى تقدير صحته فقد رجح الإمام أحمد وغيره أن الرواية فيه "والمسكر" بضم الميم وسكون السين، لا "السكر" بضم السين وسكون الكاف، أو أن الرواية فيه بفتح السين والكاف، وهو المسكر، ومنه قوله تعالى: {ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً} [النحل: 67] قال: وعلى تقدير ثبوتها فهو حديث فرد، ولفظه محتمل، فلا يعارض عموم الأحاديث الكثيرة الصحيحة. اهـ وسنورد هذه الأحاديث عند ذكر أدلة الجمهور. 2 - أخرج البيهقي عن سعيد بن ذي لعوة، أنه شرب من سطيحة لعمر -السطيحة مزادة من جلد- فسكر، فجلده عمر، فقال: إنما شربت من سطيحتك؟ قال: أضربك على السكر" ورد هذا بما قاله البخاري وغيره، عن سعيد هذا، بأنه لا يعرف. 3 - أخرج النسائي عن أبي مسعود قال: عطس النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يطوف، فأتى بنبيذ من السقاية، فقطب، فقيل: أهو حرام؟ قال: لا. علي بذنوب من ماء زمزم، فصب عليه، وشرب". ورد عليهم بضعف هذا الحديث، ذكر ذلك الحافظ ابن حجر، وعلى فرض صحته قال الأشرم: احتج به الكوفيون لمذهبهم، ولا حجة لهم فيه، لأنهم متفقون على أن النبيذ إذا اشتد وغلي أو زبد لا يحل شربه، فإن زعموا أن الذي شربه النبي صلى الله عليه وسلم كان من هذا القبيل، فقد نسبوا إليه أنه شرب المسكر، ومعاذ الله من ذلك، وإن زعموا أنه قطب من حموضته لم يكن لهم فيه حجة، لأن النقيع ما لم يشتد ويغلي فكثيره وقليله حلال بالاتفاق. وقال أبو المظفر السمعاني -وكان حنفياً فتحول شافعياً- من ظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب مسكراً، فقد دخل في أمر عظيم، وباء بإثم كبير، وإنما الذي شربه كان حلواً، ولم يكن مسكراً. 4 - أخرج البيهقي عن همام بن الحارث أن عمر كان في سفر، فأتي بنبيذ، فشرب منه، فقطب، ثم قال: إن نبيذ الطائف له عرام -بضم العين وتخفيف الراء، أي شدة -ثم دعا بماء، فصبه عليه، ثم شرب" قال الحافظ ابن حجر: وسنده قوي، وهو أصح شيء ورد في ذلك، لكنه ليس نصاً في أنه بلغ حد الإسكار، فلو كان بلغ حد الإسكار، لم يكن صب الماء عليه مزيلاً للتحريم، وقد اعترف الطحاوي -الحنفي- بذلك، فقال: لو كان بلغ التحريم لكان لا يحل، ولو ذهبت شدته بصب الماء عليه، فثبت أنه قبل أن يصب الماء عليه كان غير حرام، فدل على أن تقطيبه لأمر غير الإسكار. قال البيهقي: حمل هذه الأشربة على أنهم خشوا أن تتغير فتشتد، فجوزوا صب الماء فيها، ليمنع الاشتداد أولى من حملها على أنها كانت قد بلغت حد الإسكار، فكان صب الماء عليها لذلك، لأن مزجها بالماء لا يمنع إسكارها، إذا كانت قد بلغت حد الإسكار. وقال نافع: والله ما قطب عمر لأجل الإسكار، حين ذاقه، ولكنه كان تخلل -أي حمض- وعن عتبة بن فرقد: كان النبيذ الذي شربه عمر قد تخلل، وقيل: كسره بالماء لشدة حلاوته، قال الحافظ ابن حجر: ويمكن الجمع بحمل الأمرين على حالتين.

5 - أخرج ابن أبي شيبة من طريق أبي وائل، قال: "كنا ندخل على ابن مسعود، فيسقينا نبيذاً شديداً" ومن طريق علقمة "أكلت مع ابن مسعود، فأتانا بنبيذ شديد، نبذته سيرين، فشربوا منه" قال الحافظ ابن حجر: فالجواب عنه من ثلاثة أوجه: أحدها: لو حمل على ظاهره لم يكن معارضاً للأحاديث الثابتة في تحريم كل مسكر -أي لأنه لا نص فيه على أنه قد بلغ حد الإسكار- ثانيها أنه ثبت عن ابن مسعود تحريم المسكر، قليله وكثيره، فإذا اختلف النقل عنه كان قوله الموافق لقول إخوانه من الصحابة، مع موافقة الحديث المرفوع أولى. ثالثها: يحتمل أن يكون المراد بالشدة شدة الحلاوة، أو شدة الحموضة، فلا يكون فيه حجة أصلاً. 6 - قال الطحاوي: اختلف الصحابة في ذلك [يشير إلى الروايات التي عرضناها، والروايات التي سنعرضها أدلة للجمهور، وحديث عمر "الخمر من خمسة أشياء، وحديث أبي هريرة "الخمر من هاتين الشجرتين"، ووجدنا اتفاق الأمة على أن عصير العنب، إذا اشتد، وغلي، وقذف بالزبد، فهو حرام، وأن مستحله كافر، فدل ذلك على أنهم لم يعملوا بحديث أبي هريرة، إذ لو عملوا به لكفروا مستحل نبيذ التمر [حديث أبي هريرة "الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة" وسيأتي في الباب الثالث] فثبت أنه لم يدخل في الخمر غير المتخذ من عصير العنب. اهـ ورد هذا الاستدلال بأنه لا يلزم من أنهم لم يكفروا مستحل نبيذ التمر أن يمنعوا تسميته خمراً، فقد يشترك الشيئان في التسمية، ويفترقان في بعض الأوصاف، وفي الحكم والغلظ، كالزنا مثلاً، فإنه يصدق على من وطئ أجنبية، وعلى من وطئ امرأة جاره، والثاني أغلظ من الأول، وعلى من وطئ محرماً له، وهو أغلظ، واسم الزنا مع ذلك شامل للثلاثة، فلا يلزم من تكفير مستحل خمر العنب وعدم تكفير مستحل خمر التمر أن لا يشتركا في حرمة شرب القليل من كل منهما. 7 - حكى أبو جعفر النحاس عن قوم أن الحرام ما أجمعوا عليه، وما اختلفوا فيه ليس بحرام. قال الحافظ ابن حجر: وهذا عظيم من القول، يلزم منه القول بحل كل شيء اختلف في تحريمه، ولو كان مستند الخلاف واهياً. أما أدلة الجمهور فكثير من النصوص، ثم القياس الجلي، فمن النصوص: 1 - ما رواه البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: خطب عمر على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه قد نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة أشياء: العنب والتمر والحنطة والشعير والعسل، والخمر ما خامر العقل" وفي رواية له "الخمر تصنع من خمسة: من الزبيب والتمر والحنطة والشعير والعسل". فهذا الحديث له حكم الرفع، لأنه خبر صحابي، شهد التنزيل، أخبر عن سبب نزول آية تحريم الخمر، وقد خطب به عمر على المنبر، وهو ممن جعل الله الحق على لسانه وقلبه، وسمعه الصحابة وغيرهم، فلم ينقل عن أحد منهم إنكار ذلك، وإذا ثبت أن كل ذلك يسمى خمراً لزم تحريم قليله وكثيره. 2 - جاء هذا الذي قاله عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم صريحاً، فعند أصحاب السنن الأربعة أن النعمان بن

بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الخمر من العصير والزبيب والتمر والحنطة والشعير والذرة، وإني أنهاكم عن كل مسكر" وصححه ابن حبان. 3 - أخرج أبو داود عن النعمان بن بشير من وجه آخر بلفظ "إن من العنب خمراً، وإن من التمر خمراً، وإن من العسل خمراً، وإن من البر خمراً، وإن من الشعير خمراً". 4 - أخرج أحمد من حديث أنس، بسند صحيح عنه، قال: "الخمر من العنب والتمر والعسل". 5 - أخرج أبو يعلى عن أنس، بسند صحيح عنه، قال: "الخمر من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والذرة". 6 - روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الخمر من هاتين الشجرتين: الكرمة والنخلة" ففيه أن الخمر شرعاً لا تختص بالمتخذ من العنب، وليس المراد منه الحصر في هاتين الشجرتين، فقد ثبت أن الخمر تتخذ من غيرهما في حديث عمر وغيره. 7 - في الباب السادس الآتي، روى مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع، فقال: كل شراب أسكر فهو حرام" وفي رواية "كل شراب مسكر فهو حرام". 8 - وعن أبي موسى قال: قلت: يا رسول الله، أفتنا في شرابين، كنا نصنعهما باليمن، البتع وهو من العسل، ينبذ حتى يشتد، والمزر وهو من الذرة والشعير، ينبذ حتى يشتد؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنهي عن كل مسكر أسكر عن الصلاة" وفي رواية "كل مسكر حرام". 9 - وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام" وستأتي هذه الأحاديث في "باب بيان أن كل مسكر خمر". 10 - وفي البخاري عن ابن عمر قال: "نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة، ما فيها شراب العنب" قال الحافظ ابن حجر: وهو محمول على ما كان يصنع بها، لا ما كان يجلب إليها. 11 - وفي البخاري عن أنس قال: "حرمت علينا الخمر حين حرمت، وعامة خمرنا البسر والتمر". 12 - وعند أبي داود عن أبي موسى قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شراب من العسل؟ فقال: ذاك البتع. قلت: ومن الشعير والذرة؟ قال: ذاك المزر، ثم قال: أخبر قومك أن كل مسكر حرام. 13 - عند أبي داود والنسائي وصححه ابن حبان من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما أسكر كثيره فقليله حرام". 14 - وعن أبي داود عن عائشة مرفوعاً "كل مسكر حرام، وما أسكر منه الفرق -إناء يتوضأ منه- فملء الكف منه حرام". 15 - وعند ابن حبان والطحاوي "أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره".

وعن ابن أبي شيبة، عن طلق بن علي، بلفظ "يا أيها السائل عن المسكر. لا تشربه، ولا تسقه أحداً من المسلمين". وفي الباب أيضاً عن علي، عند الدارقطني، وعن خوات بن جبير عند الدارقطني والحاكم والطبراني، وعن زيد بن ثابت عند الطبراني. ولئن كان في بعض أسانيدها مقال، لكنها تزيد الأحاديث التي قبلها قوة وشهرة. قال أبو المظفر السمعاني بعد أن ساق كثيراً من هذه الأحاديث: والأخبار في ذلك كثيرة، ولا مساغ لأحد في العدول عنها، والقول بخلافها، فإنها حجج قواطع، قال: وقد زل الكوفيون في هذا الباب، وأوردوا أخباراً معلولة، لا تعارض هذه الأخبار بحال. وقال الإمام أحمد: إن أحاديث تحريم كل مسكر جاءت عن عشرين صحابياً، وأورد كثيراً منها في كتاب الأشربة المفرد، ذكر منها حديث علي بلفظ "اجتنبوا ما أسكر" وحديث ابن مسعود عند ابن ماجه بلفظ حديث عمر، وبلفظ حديث علي، وحديث أبي سعيد بلفظ عمر، وحديث ديلم الحميري عند أبي داود، وفيه "قال: هل يسكر؟ قال: نعم. قال: فاجتنبوه" وحديث ميمونة أخرجه أحمد بلفظ "وكل شراب أسكر فهو حرام" وحديث ابن عباس أخرجه أبو داود بلفظ عمر، وحديث معاوية أخرجه ابن ماجه بلفظ عمر، وحديث وائل بن حجر، أخرجه ابن أبي عاصم، وحديث قرة بن إياس المزني، أخرجه البزار، بلفظ عمر، وحديث عبد الله بن مغفل أخرجه أحمد، بلفظ "اجتنبوا المسكر" وعن زيد بن الخطاب، أخرجه الطبراني، بلفظ "اجتنبوا كل مسكر" وعن الرسيم، أخرجه أحمد، بلفظ "اشربوا فيما شئتم، ولا تشربوا مسكراً". قال الحافظ ابن حجر: فإذا انضمت هذه الأحاديث إلى أحاديث ابن عمر وعائشة وأبي موسى زادت على الثلاثين صحابياً، وأكثر الأحاديث عنهم جياد، ومضمونها أن المسكر لا يحل تناوله، بل يجب اجتنابه، وقد رد أنس كل احتمال، فيما رواه أحمد عن المختار بن فلفل، قال: سألت أنساً، فقال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزفت، وقال: كل مسكر حرام، قال: فقلت صدقت. المسكر حرام. فالشربة والشربتان على الطعام؟ فقال: ما أسكر كثيره، فقليله حرام" قال الحافظ ابن حجر: وهذا سند صحيح على شرط مسلم، والصحابي أعرف بالمراد وممن تأخر بعده. اهـ وأخيراً قال الشافعي: قال لي بعض الناس: الخمر حرام، والسكر من كل شراب حرام، ولا يحرم المسكر منه حتى يسكر، ولا يحد شاربها، فقلت: كيف خالفت ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ ثم عن عمر؟ ثم عن علي؟ ولم يقل أحد من الصحابة خلافه؟ . ويحاول الحنفية أن يوجهوا قوله "كل مسكر خمر" على معنى كل ما أسكر بالفعل كان كالخمر، فالتحريم خاص بوقوع الإسكار، لا بصلاحيته للإسكار، قالوا: فإن القاتل لا يسمى قاتلاً إلا إذا وقع منه الفعل، ولا يسمى قاتلاً لمجرد صلاحيته واستعداده للقتل، وهم في ذلك محجوجون بعصير العنب. وأقوى رد عليهم أن الصحابة في أحاديث أنس في بابنا، وفي غيرها، لما نزل تحريم الخمر فهموا

من الأمر باجتناب الخمر تحريم كل مسكر، ولم يفرقوا بين ما يتخذ من العنب، وبين ما يتخذ من غيره، بل سووا بينهما، وحرموا كل ما يسكر نوعه، ولم يتوقفوا، ولم يستفصلوا، ولم يشكل عليهم شيء من ذلك، وقول الحنفية: إنهم كانوا قد سكروا بالفعل، فحرم لسكرهم، هذا القول لا ينفعهم، لأنه لو كان الأمر كذلك ما أراقوه، بل احتفظوا به ليشربوا منه قليلاً قليلاً، لكنهم لما فهموا التحريم نصاً لقليله وكثيره، أسكر أم لم يسكر بادروا إلى إتلاف ما كان من غير عصير العنب، وهم أهل اللسان، وبلغتهم نزل القرآن، فلو كان عندهم أدنى تردد لتوقفوا عن الإراقة، حتى يستكشفوا، ويستفصلوا، ويتحققوا التحريم، لما كان مقرراً عندهم من النهي عن إضاعة المال، وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بإراقة خمورهم التي هي من غير عصير العنب، وجريانها في سكك المدينة فأقر ذلك، وأكد هذا المعنى بما ذكرنا من الأحاديث. ومن أقوى ما يرد على الحنفية القياس، وهم أهل القياس، والمكثرون من اعتماده، والقياس هنا من أرفع أنواع القياس -كما يقول القرطبي- لمساواة الفرع فيه للأصل في جميع أوصافه، هذا على التسليم جدلاً بأن المسكر من غير عصير العنب ليس خمراً حقيقة، ولا يدخل في آية التحريم نصاً وأصلاً، والقياس إلحاق فرع بأصل في حكم لعلة مشتركة بينهما. قال أبو المظفر السمعاني: قياس النبيذ على الخمر بعلة الإسكار والاضطراب من أجل الأقيسة وأوضحها، والمفاسد التي توجد في الخمر توجد في النبيذ، ومن ذلك أن علة الإسكار في الخمر لكون قليله يدعو إلى كثيره موجودة في النبيذ، لأن السكر مطلوب على العموم، والنبيذ عندهم عند عدم الخمر يقوم مقام الخمر، لأن حصول الفرح والطرب موجود في كل منهما، وإن كان في النبيذ غلظ وكدرة، وفي الخمر رقة وصفاء، لكن الطبع يحتمل ذلك في النبيذ، لحصول السكر، كما تحتمل المرارة في الخمر، لطلب السكر، قال: وعلى الجملة فالنصوص المصرحة بتحريم كل مسكر، قل أو كثر، مغنية عن القياس. اهـ وعلى الجملة فالنصوص أن علة التحريم الإسكار، فاقتضى ذلك أن كل شراب وجد فيه الإسكار حرم تناوله قليله وكثيره، وقال الحافظ ابن حجر: اتفق الإجماع على أن الخمر المتخذ من العنب يحرم قليله وكثيره، وعلى أن العلة في تحريم قليله كونه يدعو إلى تناول كثيره، لكن الحنفية فرقوا بينهما بدعوى المغايرة في الاسم، مع اتحاد العلة فيهما. اهـ أما بعد، فإن العمل بمذهب الجمهور فيه حيطة، وبعد عن الشبهات، إن لم يكن بعداً عن المحرمات، فالعمل به إن لم ينفع لا يضر، فكثيراً ما يجتنب المسلم مباحات، دون أن يلحقه ضرر، أما العمل بمذهب الحنفية فأقل ما فيه التعرض لاحتمال الخطر، واحتمال الخطأ، والوقوع فيما حرم الله، فهو إن لم يضر لا ينفع. والله أعلم. -[ويؤخذ من أحاديث الباب فوق ما تقدم: ]- 1 - من الرواية الأولى، ومن استعانة علي على وليمة فاطمة مشروعية اتخاذ الوليمة للعرس، سواء في ذلك من له مال كثير، ومن لا مال له.

2 - ومن استعانته بصائغ من بني قينقاع جواز الاستعانة باليهودي في الأعمال والاكتساب. 3 - وفي جمعه الإذخر لبيعه جواز الاحتشاش للتكسب، وأنه لا ينقص المروءة. 4 - وفيه جواز بيع الوقود للصواغين اليهود ومعاملتهم. 5 - ومن حال الشاربين مع حمزة، وعدم تعنيف النبي صلى الله عليه وسلم لهم أن أصل الشرب والسكر كان مباحاً لكن هل كان مباحاً بالأصل؟ أو بالشرع ثم نسخ؟ قولان للعلماء، والراجح الأول، قال النووي: وأما ما قد يقوله بعض من لا تحصيل له: أن السكر لم يزل محرماً، فباطل، لا أصل له، ولا يعرف أصلاً. 6 - واستدل بعدم تعنيف حمزة على ما فعله، وما قاله للنبي صلى الله عليه وسلم على أن حال عدم التكليف لا إثم فيها، فمن شرب دواء لحاجة فزال به عقله، أو شرب شيئاً يظنه خلا، فكان خمراً، أو أكره على شرب الخمر، فشربها، وسكر، فهو في حال السكر غير مكلف، ولا إثم عليه فيما يقع منه في تلك الحالة بلا خلاف. قاله النووي. 7 - فهم بعضهم من عدم ذكر إلزام حمزة بتعويض ما أتلفه أن ذلك لم يقع، ولكن عدم الذكر لا يدل على عدم الوقوع، فقد جاء في كتاب عمر بن شيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم غرم حمزة الناقتين. قال النووي: وقد أجمع العلماء أن ما أتلفه السكران من الأموال يلزم ضمانه، كالمجنون، فإن الضمان لا يشترط فيه التكليف، ولهذا أوجب الله تعالى في كتابه، في قتل الخطأ الدية والكفارة، فغرامة حمزة لما أتلفه تجب في ماله، فلعل علياً رضي الله عنه أبرأه من ذلك، بعد معرفته بقيمة ما أتلفه، أو أنه أداه إليه حمزة بعد ذلك، أو أن النبي صلى الله عليه وسلم أداه عنه، لحرمته عنده، وكمال حقه عليه، ومحبته إياه وقرابته منه. 8 - أثار قطع السنامين وأكلهما، وهما مقطوعتان من حي سؤالاً عن صحة أكلهما، فقال النووي: وأما هذا السنام المقطوع، فإن لم يكن تقدم نحر الناقتين فهو حرام بإجماع المسلمين، لأن ما أبين من حي فهو ميت، ويحتمل أنه ذكاهما، ويدل عليه الشعر الذي قدمناه، فإن كان ذكاهما فلحمهما حلال باتفاق العلماء، إلا ما حكي عن عكرمة وإسحق وداود أنه لا يحل ما ذبحه سارق أو غاصب أو متعد، والصواب الذي عليه الجمهور حله. وإن لم يكن ذكاهما، وثبت أنه أكل منهما فهو آكل في حالة السكر، ولا إثم عليه. اهـ أقول: ويحتمل أن الحادثة كانت قبل تشريع ما قطع من حي فهو ميت، فلا مؤاخذة على أكله دون ذكاة. 9 - ومن رجوع النبي صلى الله عليه وسلم بظهره (القهقرى) حرص المرء وحذره، وعدم التعرض للأمر المكروه المتوقع حصوله. 10 - وفي ارتدائه صلى الله عليه وسلم رداءه جواز لبس الرداء. 11 - وفيه أن الكبير إذا خرج من منزله تجمل بثيابه، ولا يقتصر على ما يكون عليه في خلوته، في بيته، وهذا من المروءات والآداب المحبوبة.

12 - وفي أحاديث أنس، وإراقتهم الخمر بسماع المنادي العمل بخبر الواحد، وأن هذا كان معروفاً عندهم. 13 - قال النووي عن كسر إناء الخمر: هذا الكسر محمول على أنهم ظنوا أنه يجب كسرها وإتلافها، كما يجب إتلاف الخمر، وإن لم يكن في نفس الأمر هذا واجباً، فلما ظنوه كسروها، ولهذا لم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، وعذرهم لعدم معرفتهم الحكم، وهو غسلها من غير كسر، وهكذا الحكم اليوم في أواني الخمر وجميع ظروفه، سواء الفخار والزجاج والنحاس والحديد والخشب والجلود، فكلها تطهر بالغسل، ولا يجوز كسرها. اهـ أقول: كان أنس آنذاك دون البلوغ، لم يكن مكلفاً، حتى يظن وجوب الكسر أو عدم وجوبه، والظاهر أن عامتهم لم يكسر آنية الخمر، بل أراقوا الخمر منها حتى جرى في سكك المدينة، وكان أمر أبي طلحة لأنس أن يريقها من الإناء، لا أن يكسر الإناء، وإنما كسره أنس حقداً عليها، وتشفياً فيها، وإظهاراً للشماتة فيها، وتعبيراً عن ذهاب دون إياب، ورحيل دون عودة. والله أعلم. 14 - قال الحافظ ابن حجر: واستدل بمطلق قوله "كل مسكر حرام" على تحريم ما يسكر، ولو لم يكن شراباً، فيدخل في ذلك الحشيشة وغيرها، وقد جزم النووي وغيره بأنها مسكرة، وجزم آخرون بأنها مخدرة، وهو مكابرة، لأنها تحدث -بالمشاهدة- ما يحدث الخمر من الطرب والنشوة والمداومة عليها والانهماك فيها، وعلى تقدير تسليم أنها ليست بمسكرة فقد ثبت في أبي داود "النهي عن كل مسكر ومفتر". والله أعلم

(552) باب تحريم تخليل الخمر والتداوي بها

(552) باب تحريم تخليل الخمر والتداوي بها 4493 - عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر تتخذ خلاً؟ فقال: "لا". 4494 - عن وائل الحضرمي أن طارق بن سويد الجعفي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر. فنهاه، أو كره أن يصنعها. فقال: إنما أصنعها للدواء. فقال: "إنه ليس بدواء ولكنه داء". -[المعنى العام]- أحل الله لنا الطيبات، وحرم علينا الخبائث، والخمر أم الخبائث، لما فيها من ضرر محقق على إنسانية الإنسان وعقله، من أجل هذا حكم بنجاستها، وحرم شربها، وحماية للحمى، وتحذيراً من القرب منه لعدم الوقوع فيه، نهى عن تناول قليلها، وإن تحققنا عدم إسكاره، بل نهى عن تحويلها إلى خل، لاستعمالها كخل، خشية أن يكون ظاهرها خلاً، وباطنها خمراً، ثم إن نجس العين لا يطهر بالتحول عند جمهور العلماء، وهي نجسة العين، ولما كان المعين على الشر شريكاً لفاعله، كان عاصر العنب للخمر فاعلاً لمحرم حين يعصر، وكان مخمرها فاعلاً لمحرم ولو لم يشرب، ولو كان مخمراً لها بقصد أن يتداوى بها، أو يداوي بها الآخرين، فالتداوي بالمحرم حرام، وما جعل الله شفاء الأمة في محرم، إذ يتنافى ذلك مع الحكمة. ويشبه أن يجمع بين المتناقضين، وكأنه يقول: اشرب. لا تشرب، فالتداوي مطلوب، وتناول المحرم ممنوع. -[المباحث العربية]- (سئل عن الخمر تتخذ خلاً) أي تحول إلى خل بصناعة معينة، دون إضافة مادة إليها، أو بطرح شيء فيها، والخل لا يسكر، وهي بهذه الصناعة يزول منها الإسكار، وحاصل السؤال: هل إذا تحولت الخمر إلى خل يجوز شربها، وكان الجواب: لا. ويمكن أن يكون حاصل السؤال: هل يجوز لي أن أحول الخمر إلى خل بصناعتي؟ لأبيعها؟ وأنتفع؟ وينتفع الناس بها؟ بدلاً من إراقتها؟ فكان الجواب: لا. (سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر) أي عن صناعة الخمر، لهدف آخر، غير الشرب، والسكر؟ كالتداوي مثلاً؟ .

-[فقه الحديث]- قال النووي عن الرواية الأولى: هذا دليل للشافعي والجمهور أنه لا يجوز تخليل الخمر، ولا تطهر بالتخليل، هذا إذا خللها بخبز أو بصل أو خميرة أو غير ذلك، مما يلقى فيها، فهي باقية على نجاستها، وينجس ما ألقى فيها، ولا يطهر هذا الخل بعده أبداً، لا بغسل، ولا بغيره، أما إذا نقلت من الشمس إلى الظل، أو من الظل إلى الشمس ففي طهارتها وجهان لأصحابنا، أصحهما تطهر، هذا مذهب الشافعي وأحمد والجمهور، وقال الأوزاعي والليث وأبو حنيفة: تطهر وإن خللت بإلقاء شيء فيها، وعن مالك ثلاث روايات: أصحها عنه: أن التخليل حرام، فلو خللها عصى، وطهرت، والثانية: حرام ولا تطهر، والثالثة: حلال وتطهر. وأجمعوا أنها إذا انقلبت بنفسها خلا طهرت، وقد حكي عن سحنون المالكي أنها لا تطهر، فإن صح عنه فهو محجوج بإجماع من فعله أما عن صناعة الخمر للتداوي بها فقال النووي عن الرواية الثانية: هذا دليل لتحريم اتخاذ الخمر وتخليلها، وفيه التصريح بأنها ليست بدواء، فيحرم التداوي بها، فكأنه يتناولها بلا سبب، وهذا هو الصحيح عند أصحابنا أنه يحرم التداوي بها، فعند أبي داود "إن الله جعل لكل داء دواء، فتداووا، ولا تداوا بمحرم"، وكذا يحرم شربها للعطش، وأما إذا غص بلقمة، ولم يجد ما يسيغها به إلا خمراً فيلزمه الإساغة بها، لأن حصول الشفاء بها حينئذ مقطوع به، بخلاف التداوي. والله أعلم

(553) باب بيان أن جميع ما ينبذ مما يتخذ من النخل والعنب يسمى خمرا

(553) باب بيان أن جميع ما ينبذ مما يتخذ من النخل والعنب يسمى خمراً 4495 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة، والعنبة". 4496 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة". 4497 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الخمر من هاتين الشجرتين: الكرمة والنخلة" وفي رواية أبي كريب "الكرم والنخل". -[المعنى العام]- يكتفى بالمعنى العام في الباب الأول. -[المباحث العربية]- (الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة) في ملحق الرواية الثانية "الكرمة والنخلة" وفي ملحقها الثاني "الكرم والنخل" وليس في الأسلوب قصر، فليس فيه تعريف الطرفين، وقد سبق أن الخمر من الذرة والشعير والحنطة والعسل. -[فقه الحديث]- في هذا الحديث -وإن ضعفه بعض العلماء- دليل على أن الخمر تكون من غير العنب، وعلى أن الأنبذة المتخذة من التمر والبسر تسمى خمراً، وأنها حرام إذا كانت مسكرة.

قال النووي: وفي هذا الحديث تسمية العنب كرماً، وثبت في الصحيح النهي عن تسمية العنب كرماً، فيحتمل أن هذا الاستعمال كان قبل النهي، ويحتمل أنه استعمله بياناً للجواز، وأن النهي عنه ليس للتحريم، بل لكراهة التنزيه، ويحتمل أنهم خوطبوا به للتعريف، لأنه المعروف في لسانهم، الغالب في استعمالهم. اهـ ولهذا الحديث علاقة بأحاديث الباب الأول، فلتراجع. والله أعلم

(554) باب كراهة انتباذ التمر والزبيب مخلوطين

(554) باب كراهة انتباذ التمر والزبيب مخلوطين 4498 - عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يخلط الزبيب والتمر، والبسر والتمر. 4499 - عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه نهى أن ينبذ التمر والزبيب جميعاً. ونهى أن ينبذ الرطب والبسر جميعاً. 4500 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تجمعوا بين الرطب والبسر. وبين الزبيب والتمر نبيذاً". 4501 - عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه نهى أن ينبذ الزبيب والتمر جميعاً. ونهى أن ينبذ البسر والرطب جميعاً. 4502 - عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التمر والزبيب أن يخلط بينهما. وعن التمر والبسر أن يخلط بينهما. 4503 - عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخلط بين الزبيب والتمر. وأن نخلط البسر والتمر. 4504 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من شرب النبيذ منكم فليشربه زبيباً فرداً، أو تمراً فرداً، أو بسراً فرداً".

4505 - عن إسمعيل بن مسلم العبدي بهذا الإسناد قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخلط بسراً بتمر، أو زبيباً بتمر، أو زبيباً ببسر. وقال: "من شربه منكم" فذكر بمثل حديث وكيع. 4506 - عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تنتبذوا الزهو والرطب جميعاً. ولا تنتبذوا الزبيب والتمر جميعاً. وانتبذوا كل واحد منهما على حدته". 4507 - عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تنتبذوا الزهو والرطب جميعاً. ولا تنتبذوا الرطب والزبيب جميعاً. ولكن انتبذوا كل واحد على حدته" وزعم يحيى أنه لقي عبد الله بن أبي قتادة فحدثه عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذا. 4508 - وفي رواية عن يحيى بن أبي كثير بهذين الإسنادين. غير أنه قال "الرطب والزهو والتمر والزبيب". 4509 - عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم نهى عن خليط التمر والبسر، وعن خليط الزبيب والتمر، وعن خليط الزهو والرطب، وقال "انتبذوا كل واحد على حدته". 4510 - 26 م عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الزبيب والتمر، والبسر والتمر وقال "ينبذ كل واحد منهما على حدته". 4511 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يخلط التمر

والزبيب جميعاً. وأن يخلط البسر والتمر جميعاً. وكتب إلى أهل جرش ينهاهم عن خليط التمر والزبيب. 4512 - وفي رواية عن الشيباني بهذا الإسناد في التمر والزبيب، ولم يذكر البسر والتمر. 4513 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول: قد نهي أن ينبذ البسر والرطب جميعاً. والتمر والزبيب جميعاً. 4514 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قد نهي أن ينبذ البسر والرطب جميعاً. والتمر والزبيب جميعاً. -[المعنى العام]- إن أم الخبائث تعشقها النفوس البشرية، وتدمنها الطبائع الضعيفة المهتزة، ومن هذا التعلق يصعب العلاج والإقلاع، ومن ذاك الإغواء يخشى من الوقوع في حبالها، لهذا حرصت الشريعة على الوقاية منها، والبعد عن كل ما يحر إليها، حرصت أن لا يقع فيها المسلم بغير قصد مرة، فينزلق إليها بعلم ورغبة بعد ذلك، فحذرت في هذه الأحاديث ألا يخلط المسلم في نبيذه بين نوعين من الثمرات التي يتحول نبيذها إلى خمر، لأن هذا الخلط يجعل كل صنف يشد الآخر إلى سرعة الإسكار، فيشتد العصير ويتخمر بدرجة أقوى وأسرع مما لو نبذ الصنف وحده، وحينئذ قد يقع المسلم في الخمر عاجلاً، وهو يظن أن تخمر ذاك النبيذ بعيد وآجل. لهذا تحذر الشريعة من خلط صنفين فأكثر، وانتباذهما، وبقائهما في النبيذ مدة يخشى منها أن يتحول العصير إلى نبيذ، ثم النبيذ إلى خمر. إغلاق لباب الشر، وابتعاد عن الحمى، فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه. -[المباحث العربية]- (نهى أن يخلط الزبيب والتمر، والبسر والتمر) أي نهى أن يخلطا في النبيذ، لا أن يخلطا دون انتباذ، ففي الرواية الثانية "نهى أن ينبذ التمر والزبيب جميعاً، ونهى أن ينبذ الرطب والبسر

جميعاً" وفي الرواية الثالثة "لا تجمعوا بين الرطب والبسر، وبين الزبيب والتمر نبيذاً" وفي الرواية الثامنة "لا تنبذوا الزهو والرطب جميعاً، ولا تنبذوا الزبيب والتمر جميعاً" وهل المراد النهي عن خلط حبات الزبيب مع حبات التمر عند النقع للانتباذ؟ أم النهي عن خلط نبيذ الزبيب مع نبيذ التمر عند الشرب؟ سيأتي في فقه الحديث. والزهو هو البلح الملون، الذي ظهرت فيه صفرة أو حمرة، والبلح تمر النخل مادام أخضر، واحدته بلحة، والبسر هو البلح الأصفر أو الأحمر قبل أن يرطب، والرطب هو نضيج البسر، قبل أن يصير تمراً، والتمر هو اليابس من ثمر النخل، فالزهو بفتح الزاء وضمها وسكون الهاء درجة من درجات تلون البلح، بداية البسر، أو نهايته، يقال: زهت النخلة تزهو زهواً، وأزهت تزهى، وأنكر الأصمعي "أزهت" بالألف، وأنكر غيره "زهت" بلا ألف، قال النووي: وأثبتهما الجمهور، ورجحوا "زهت" بحذف الألف، وقال ابن الأعرابي: زهت ظهرت، وأزهت احمرت أو اصفرت، والأكثرون على خلافه. والمقصود من الحديث أن لا يخلط صنفان -أي صنفين- في النبيذ، لأن الخلط أدعى إلى التغير، وأسرع للتخمر والجمع بين أكثر من صنفين من باب أولى، والمطلوب أن ينبذ كل صنف على حدة، كما صرح به الرواية السادسة، ولفظها "من شرب النبيذ منكم فليشربه زبيباً فرداً، أو تمراً فرداً، أو بسراً فرداً" وفي الرواية الثامنة والعاشرة والحادية عشرة "وانتبذوا كل واحد على حدته". و"النبيذ" شراب يتخذ من نقيع الزبيب أو التمر أو غيرهما، ينقع، ويترك، حتى يتخمر، وفي مدة تركه، ودرجة تخمره بحث يأتي في الباب رقم 557. (كتب إلى أهل جرش) بضم الجيم وفتح الراء، بلد باليمن. -[فقه الحديث]- قال النووي: قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: سبب الكراهة فيه أن الإسكار يسرع إليه بسبب الخلط، قبل أن يتغير طعمه، فيظن الشارب أنه ليس مسكراً، ويكون مسكراً، ومذهبنا ومذهب الجمهور أن هذا النهي لكراهة التنزيه، ولا يحرم ذلك، ما لم يصر مسكراً، وبهذا قال جماهير العلماء. وقال بعض المالكية: هو حرام. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف في رواية عنه: لا كراهة فيه، ولا بأس به، لأن ما حل مفرداً حل مخلوطاً، وأنكر عليه الجمهور، وقالوا: هذا القول منابذ لصاحب الشرع، فقد ثبتت الأحاديث الصحيحة الصريحة في النهي عنه، فإن لم يكن حراماً كان مكروهاً، قال القرطبي: وهذا أيضاً قياس مع وجود الفارق، إذ هو منتقض بجواز الزواج من كل واحدة من الأختين: منفردة، وتحريمهما مجتمعتين. واختلف أصحاب مالك في أن النهي يختص بالشرب؟ أم يعمه وغيره، والأصح التعميم، في الانتباذ، أما في غير الانتباذ، بل في معجون وغيره، فلا بأس به. اهـ

أقول: وكذا في نقيع يشرب طازجاً، فلا بأس به. قال الحافظ ابن حجر: واختلف في خلط نبيذ البسر الذي لم يشتد مع نبيذ التمر الذي لم يشتد عند الشرب، هل يمتنع؟ أو يختص النهي عن الخلط عند الانتباذ؟ قال الجمهور: لا فرق، وقال الليث: لا بأس بذلك عند الشرب، ولعل هذا الاختلاف مبني على علة النهي عن الخلط، أهي خوف إسراع الإسكار؟ أم هي الإسراف؟ كما سيأتي تفصيله، وكذلك الاختلاف الجاري في خليطين من غير ما ذكر من الأنبذة، كخلط اللبن مع الورد أو البرتقال، فمن قال: إن العلة خوف إسراع الإسكار أباحه، ومن قال: إن العلة الإسراف منعه. وقال ابن العربي المالكي: ثبت النهي عن الخليطين، فاختلف العلماء، فقال أحمد وإسحق وأكثر الشافعية بالتحريم، ولو لم يسكر، وقال الكوفيون بالحل -إن لم يسكر بالفعل- قال: واتفق علماؤنا على الكراهة، لكن اختلفوا. هل هي للتحريم أو للتنزيه. قال: واختلفوا في الخليطين لأجل التخليل، ثم قال: ويتحصل لنا أربع صور: أن يكون الخليطان منصوصين، فهو حرام، أو منصوص ومسكوت عنه، فإن كان كل منهما لو انفرد أسكر، فهو حرام، قياساً على المنصوص، أو مسكوت عنهما، وكل منهما لو انفرد لم يسكر، جاز، قال: وهنا مرتبة رابعة، وهي ما لو خلط شيئين، وأضاف إليهما دواء يمنع الإسكار، فيجوز في المسكوت عنه، ويكره في المنصوص، قال الشافعي: ثبت نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الخليطين، فلا يجوز بحال، وعن مالك قال: أدركت على ذلك أهل العلم ببلدنا، وقال الخطابي: ذهب إلى تحريم الخليطين -وإن لم يكن الشراب منهما مسكراً- جماعة عملاً بظاهر الحديث، وهو قول مالك وأحمد وإسحق وظاهر مذهب الشافعي، وقالوا: من شرب الخليطين أي قبل الشدة أثم من جهة واحدة، فإن كان بعد الشدة أثم من جهتين، وخص الليث النهي بما إذا نبذا معاً. اهـ وجرى ابن حزم على عادته في الجمود، فخص النهي عن الخليطين بخلط واحد من خمسة أشياء، وهي التمر والرطب والزهو والبسر والزبيب، في أحدها، أو في غيرها، فأما لو خلط واحداً من غيرها في واحد من غيرها لم يمتنع، كاللبن والعسل مثلاً، ويرد عليه ما أخرجه أحمد في الأشربة، عن أنس قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين شيئين نبيذاً، مما يبغي أحدهما على صاحبه". واختلف العلماء في علة المنع، فقال بعضهم: لأن أحدهما يشد الآخر، وقيل: لأن الإسكار يسرع إليهما، وقيل: إن النهي من أجل السرف، كما نهي عن قران التمر، و"أن لا يجعل إدامين في إدام" وقد حكى أبو بكر الأثرم عن قوم أنهم حملوا النهي عن الخليطين على علة الإسراف، إذ قالوا: فإذا ورد النهي عن القران بين التمرتين، وهما من نوع واحد، فكيف إذا وقع القران بين نوعين؟ وقد نصر الطحاوي من حمل النهي عن الخليطين على منع السرف، فقال: كان ذلك لما كانوا فيه من ضيق العيش، وساق حديث ابن عمر في النهي عن القران بين التمرتين، وتعقب بأن ابن عمر أحد من روى النهي عن الخليطين، وكان ينبذ البسر، فإذا نظر إلى بسرة في بعضها ترطيب قطه، كراهة أن يقع في النهي، وهذا على قاعدتهم يعتمد عليه، لأنه لو فهم أن النهي عن الخليطين كالنهي عن القران لما خالفه، فدل على أنه عنده لغير الإسراف، وحديث أنس فيه أنه سقاه خليط بسر وتمر، فدل على أن

المراد بالنهي عن الخليطين ما كانوا يصنعونه قبل ذلك من خلط البسر والتمر، ونحو ذلك، لأن ذلك عادة يقتضي إسراع الإسكار، بخلاف المنفردين، ولا يمكن حل حديث أنس هذا في الخليطين على ما ادعاه صاحب التأويل الأول، وحمل علة النهي لخوف الإسراع أظهر من حملها على الإسراف، لأنه لا فرق بين نصف رطل من تمر، ونصف رطل من بسر، إذا خلطا، مثلاً، وبين رطل من زبيب صرف، بل هو أولى، لقلة الزبيب عندهم إذ ذاك بالنسبة إلى التمر والرطب، وقد وقع الإذن بأن ينبذ كل واحد على حدة، ولم يفرق بين قليل وكثير، فلو كانت العلة الإسراف لما أطلق ذلك. والله أعلم

(555) باب النهي عن الانتباذ في المزفت والدباء والحتم والنقير

(555) باب النهي عن الانتباذ في المزفت والدباء والحتم والنقير 4515 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الدباء والمزفت أن ينبذ فيه. 4516 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الدباء والمزفت أن ينتبذ فيه. 4517 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تنتبذوا في الدباء ولا في المزفت" ثم يقول أبو هريرة "واجتنبوا الحناتم". 4518 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن المزفت والحنتم والنقير. قال: قيل لأبي هريرة: ما الحنتم؟ قال: الجرار الخضر. 4519 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لوفد عبد القيس "أنهاكم عن الدباء والحنتم والنقير والمقير والحنتم والمزادة المجبوبة. ولكن اشرب في سقائك وأوكه". 4520 - عن علي رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينتبذ في الدباء والمزفت. هذا حديث جرير. وفي حديث عبثر وشعبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الدباء والمزفت. 4521 - عن إبراهيم قال: قلت للأسود: هل سألت أم المؤمنين عما يكره أن ينتبذ فيه؟ قال نعم. قلت: يا أم المؤمنين أخبريني عما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينتبذ

فيه. قالت: نهانا أهل البيت أن ننتبذ في الدباء والمزفت. قال: قلت له: أما ذكرت الحنتم والجر؟ قال: إنما أحدثك بما سمعت. أؤحدثك ما لم أسمع؟ . 4522 - عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الدباء والمزفت. 4523 - عن ثمامة بن حزن القشيري قال: لقيت عائشة، فسألتها عن النبيذ. فحدثتني أن وفد عبد القيس قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن النبيذ. فنهاهم أن ينتبذوا في الدباء والنقير والمزفت والحنتم. 4524 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت. 4525 - وفي رواية عن إسحق بن سويد بهذا الإسناد. إلا أنه جعل مكان المزفت المقير. 4526 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أنهاكم عن الدباء والحنتم والنقير والمقير" وفي حديث حماد جعل مكان المقير المزفت. 4527 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدباء والحنتم والمزفت والنقير. 4528 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدباء والحنتم والمزفت والنقير. وأن يخلط البلح بالزهو.

4529 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدباء والنقير والمزفت. 4530 - عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الجر أن ينبذ فيه. 4531 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت. 4532 - وفي رواية عن قتادة بهذا الإسناد: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم نهى أن ينتبذ. فذكر مثله. 4533 - عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب في الحنتمة والدباء والنقير. 4534 - عن سعيد بن جبير قال: أشهد على ابن عمر وابن عباس أنهما شهدا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الدباء والحنتم والمزفت والنقير. 4535 - عن سعيد بن جبير قال: سألت ابن عمر عن نبيذ الجر. فقال: حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيذ الجر. فأتيت ابن عباس، فقلت: ألا تسمع ما يقول ابن عمر؟ قال: وما يقول؟ قلت: قال: حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيذ الجر. فقال: صدق ابن عمر. حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيذ الجر. فقلت: وأي شيء نبيذ الجر؟ فقال: كل شيء يصنع من المدر.

4536 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس في بعض مغازيه. قال ابن عمر: فأقبلت نحوه. فانصرف قبل أن أبلغه. فسألت: ماذا قال؟ قالوا: نهى أن ينتبذ في الدباء والمزفت. 4537 - عن ابن عمر رضي الله عنهما بمثل حديث مالك ولم يذكروا في بعض مغازيه إلا مالك وأسامة. 4538 - عن ثابت قال: قلت لابن عمر: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نبيذ؟ الجر قال: فقال: قد زعموا ذاك. قلت: أنهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: قد زعموا ذاك. 4539 - وفي رواية عن طاوس قال: قال رجل لابن عمر: أنهى نبي الله صلى الله عليه وسلم عن نبيذ الجر؟ قال: نعم. ثم قال طاوس: والله إني سمعته منه. 4540 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً جاءه فقال: أنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن ينبذ في الجر والدباء؟ قال: نعم. 4541 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الجر والدباء. 4542 - عن طاوس قال: كنت جالساً عند ابن عمر فجاءه رجل فقال: أنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نبيذ الجر والدباء والمزفت؟ قال: نعم.

4543 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحنتم والدباء والمزفت. قال: سمعته غير مرة. 4544 - وفي رواية عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله. قال: وأراه قال: والنقير. 4545 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجر والدباء والمزفت. وقال: انتبذوا في الأسقية. 4546 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحنتمة. فقلت: ما الحنتمة؟ قال: الجرة. 4547 - عن زاذان قال: قلت لابن عمر حدثني بما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من الأشربة بلغتك وفسره لي بلغتنا، فإن لكم لغة سوى لغتنا. فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحنتم وهي الجرة، وعن الدباء وهي القرعة، وعن المزفت وهو المقير، وعن النقير وهي النخلة تنسح نسحاً وتنقر نقراً. وأمر أن ينتبذ في الأسقية. 4548 - عن سعيد بن المسيب قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول -عند هذا المنبر وأشار إلى منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم- قدم وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عن الأشربة. فنهاهم عن الدباء والنقير والحنتم. فقلت له: يا أبا محمد، والمزفت. وظننا أنه نسيه. فقال: لم أسمعه يومئذ من عبد الله بن عمر. وقد كان يكره. 4549 - عن جابر وابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن النقير والمزفت والدباء.

4550 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن الجر والدباء والمزفت. 4551 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجر والمزفت والنقير. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لم يجد شيئاً ينتبذ له فيه، نبذ له في تور من حجارة. 4552 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينبذ له في تور من حجارة. 4553 - عن جابر رضي الله عنه قال: كان ينتبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سقاء. فإذا لم يجدوا سقاء، نبذ له في تور من حجارة. فقال بعض القوم: وأنا أسمع لأبي الزبير من برام. قال: من برام. 4554 - عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء، فاشربوا في الأسقية كلها، ولا تشربوا مسكراً". 4555 - عن ابن بريدة عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نهيتكم عن الظروف. وإن الظروف، أو ظرفاً لا يحل شيئاً ولا يحرمه. وكل مسكر حرام". 4556 - عن ابن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كنت نهيتكم عن الأشربة في ظروف الأدم، فاشربوا في كل وعاء، غير أن لا تشربوا مسكراً".

4557 - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: لما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النبيذ في الأوعية. قالوا: ليس كل الناس يجد. فأرخص لهم في الجر غير المزفت. -[المعنى العام]- إن التحذير من شرب الخمر في الشريعة الإسلامية له أهمية خاصة، وأساليب متعددة، ومر بنا في الباب رقم 552 التحذير من تخليلها، ومن تعاطيها كدواء، وفي الباب رقم 553 أن كل ما يخامر العقل من الأنبذة يسمى خمراً، ويأخذ حكمها، وفي الباب رقم 554 كراهية انتباذ خليطين، لئلا يسارع إلى الخليط التخمر، وفي هذا الباب حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبيذ في أوعية صماء كثيفة، تخفي التخمر، فيقع المسلم في شرب الخمر، وهو لا يدري أنها خمر. وهكذا نجد الشريعة الإسلامية تسد منافذ الخمر، ومنافذ القرب منها سداً محكماً منيعاً، ويروي البخاري بهذا الصدد قوله صلى الله عليه وسلم "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف" وعند أبي داود "ليشربن ناس الخمر، يسمونها بغير اسمها" وفي رواية "ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها". إن العرب كانوا يحبون النبيذ من التمر والزبيب والحنطة والشعير، ينقعونه في الماء، ويتركونه حتى يفرغ حلاوته في الماء، وحتى يتغير طعمه من حلو إلى لاذع، يستعذبون هذا الطعم الجديد، وقد أباح الشرع الحنيف هذا الشراب، لأنه لا يسكر، ولا يطغى على العقل، فجعل حده أن لا يشتد لذعه، وأن لا يرغي ويخرج زبداً على وجهه، ولما كان هذا الحد لا يتبين إذا نبذ النقيع في مسمط سميك، وخشي على الشارب أن يشربه بعد أن تخمر وأسكر، وهو لا يدري أنه يسكر نهي عن النبيذ في الجرار وفي جذع النخلة المنقور، وفي الأواني المطلية وفي الأواني المتخذة من القرع، وبعد أن أدرك الناس الحد الفاصل بين النبيذ غير المسكر والنبيذ المسكر، وأصبحوا يعرفون المسكر من غير المسكر وإن نبذ في هذه الأدعية الكثيفة أذن لهم في الانتباذ في أي إناء، ماداموا يميزون بين المسكر وغير المسكر. وأصبح النهي والمنع مرتبطاً بالمسكرات. -[المباحث العربية]- (نهى عن الدباء) بضم الدال وتشديد الباء، وفي الكلام مضاف محذوف، أي نهي عن الانتباذ في الدباء، وقد ظهر هذا المحذوف في الرواية الأولى نفسها، على هيئة البدل بلفظ "أن ينبذ فيه".

وفي الرواية الثالثة "لا تنبذوا في الدباء" وفي السادسة "نهى أن ينتبذ في الدباء" وفي السابعة "نهانا أن ننتبذ في الدباء" وفي التاسعة "فنهاهم أن ينتبذوا في الدباء" والدباء القرع، والمراد نوع منه يكون جوفه مفرغاً بعد أن يجف، يشبه القلة، غليظ من جهة ورفيع من الأخرى، يستخدم وعاء، وفي الرواية الثامنة والعشرين "نهى عن الدباء، وهي القرعة". (والمزفت) أي نهى عن الانتباذ في الإناء المزفت، بضم الميم وفتح الزاي وتشديد الفاء المفتوحة أي المطلي بالزفت من الداخل أو من الخارج أو منهما، والزفت هو القار، فهو المراد بقوله في الرواية الخامسة والحادية عشرة "والمقير" وفي الرواية الثامنة والعشرين "وعن المزفت، وهو المقير". (واجتنبوا الحناتم) ظاهر الرواية الثالثة أن هذه العبارة من أبي هريرة، ليست مرفوعة، ولكن صرح برفعها في الرواية التاسعة والعاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة والخامسة عشرة والسادسة عشرة والسابعة عشرة والخامسة والعشرين والسابعة والعشرين والتاسعة والعشرين والحنتم بفتح الحاء وسكون النون وفتح التاء، واحدته حنتمة، قيل: هو الجرار كلها، بجميع أنواعها، وقيل: جرار مقيرات الأجواف، وقيل: جرار أفواهها في جنوبها، يجلب فيها الخمر من الطائف، وكان الناس ينتبذون فيها، وقيل جرار كانت تعمل من طين وشعر ودم، قال النووي: وأصح الأقوال وأقواها أنها جرار خضر، وبه قال كثيرون من أهل اللغة وغريب الحديث والمحدثين والفقهاء. اهـ وقد فسرها أبو هريرة بالجرار الخضر في الرواية الرابعة، وأطلقت الرواية الرابعة عشرة والسابعة والعشرون والثامنة والعشرون لفظ "الجر" وفسرته الرواية الثامنة عشرة بكل إناء يصنع من المدر وهو التراب، وأشارت الرواية الثامنة والثلاثون إلى أنه يطلق على المزفت وغير المزفت، ولفظها "فأرخص لهم في الجر غير المزفت" وعلى هذا فعطف "الجر" على "المحنتم" في الرواية السابعة عطف تفسير، وفي رواية للبخاري "عن الشيباني قال: سمعت عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنهما- قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الجر الأخضر. قلت: أنشرب في الأبيض؟ قال: لا" قال الحافظ ابن حجر: يعني أن حكم الأبيض حكم الأخضر، فدل على أن الوصف بالخضرة لا مفهوم له، وكأن الجرار الخضر كانت حينئذ شائعة بينهم، فكأنه ذكر الأخضر لبيان الواقع، لا للاحتراز، وقد أخرج الشافعي عن ابن أبي أوفى "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نبيذ الجر الأخضر والأبيض والأحمر" وقد خص جماعة النهي عن الجر بالجرار الخضر، عملاً بروايتنا الرابعة. وفي ملحق الرواية الخامسة "والحنتم المزادة المجبوبة" قال النووي: هكذا هو في جميع النسخ ببلادنا، وكذا نقله القاضي عن جماهير رواة صحيح مسلم ومعظم النسخ، قال: وقع في بعض النسخ "والحنتم والمزادة المجبوبة" قال: وهذا هو الصواب، والأولى تغيير ووهم. قال: وكذا ذكره النسائي، ولفظه "وعن الحنتم، وعن المزادة المجبوبة" وفي سنن أبي داود "والحنتم والدباء والمزادة المجبوبة" قال: وضبطناه في جميع هذه الكتب "المجبوبة" بالجيم وبالباء، وقد رواه بعضهم "المخنوثة" بخاء ثم نون آخرها ثاء، كأنه أخذه من اختناث الأسقية، وهذه الرواية ليست بشيء، والصواب أنها بالجيم،

قيل: وهي التي قطع رأسها، فصارت كهيئة الدن، وأصل الجب القطع، وقيل: هي التي قطع رأسها، وليست لها عزلاء من أسفلها -أي ليس لها مصب من أسفلها- يتنفس بشراب منها، فيصير شرابها مسكراً، ولا يدري به، فهي نوع آخر، غير الحنتم. (والنقير) جاء تفسيره في الرواية الثامنة والعشرين، بلفظ "وهي النخلة تنسح نسحاً، وتنقر نقراً" قال النووي: هكذا هو في معظم الروايات، والنسح بسين وحاء، أي تقشر، ثم تنقر، فتصير نقيراً، ووقع لبعض الرواة في بعض النسخ "تنسج" بالجيم، قال القاضي وغيره: هو تصحيف" وادعى بعض المتأخرين أنه وقع في نسخ صحيح مسلم وفي الترمذي بالجيم، وليس كما قال، بل معظم نسخ مسلم بالحاء. اهـ وقد فسر "النقير" مرفوعاً في روايتين في مسلم في كتاب الإيمان -باب وفد عبد القيس، ولفظ الأولى "قالوا: يا نبي الله، ما علمك بالنقير؟ قال: بلى. جذع تنقرونه، فتقذفون فيه من القطيعاء -أو قال: من التمر- ثم تصبون فيه من الماء، حتى إذا سكن غليانه شربتموه، حتى إن أحدكم ليضرب ابن عمه بالسيف". ولفظ الثانية "لا تشربوا في النقير. قالوا: يا نبي الله، جعلنا الله فداءك. أو تدري ما النقير؟ قال: نعم. الجذع ينقر وسطه". (ولكن اشرب في سقائك وأوكه) اشتهر عرفاً اختصاص اسم الأسقية بما يتخذ من الجلد المدبوغ، وهو المعروف بالقربة، قال ابن السكيت: "السقاء" يكون للبن والماء، و"الوطب" يكون للبن خاصة، و"النحي" بكسر النون وسكون الحاء يكون للسمن. قال النووي: قال العلماء: إن السقاء إذا أوكي -أي إذا ربط ربطاً محكماً- أمنت مفسدة الإسكار، لأنه متى تغير نبيذه، واشتد، وصار مسكراً، شق الجلد الموكى، فما لم يشقه لا يكون مسكراً، بخلاف الدباء والحنتم والمزادة المجبوبة والمزفت وغيرها من الأوعية الكثيفة، فإنه قد يصير فيها مسكراً، ولا يعلم. (وأن يخلط البلح بالزهو) مضى الكلام عليه في الباب رقم 554. (قال: قد زعموا ذاك) هذا الأسلوب غالباً يكون ظاهره إنكار ما قيل، مع أن الروايات الآتية تنقل عن ابن عمر القول به، لا إنكاره، من هنا قال بعضهم: لعله كان قد نسي، ثم تذكر، ويحتمل أن كون هذا الأسلوب جاء على غير الغالب، فقد يستعمل للأمر المحقق، كما في حديث "زعم جبريل ... " وكأن المعنى: سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم، وسمعه الناس. (نبذ له في تور من حجارة) التور بفتح التاء، هو قدح كبير كالقدر، يتخذ تارة من الحجارة، وتارة من النحاس أو غيره، وتور الحجارة أشد كثافة من الدباء والحنتم. (نهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء، فاشربوا في الأسقية كلها) قال القاضي: في هذه

الرواية تغيير، وصوابها "فاشربوا في الأوعية كلها" لأن الأسقية وظروف الأدم، لم تزل مباحة، مأذوناً فيها، وإنما نهي عن غيرها من الأوعية. (كنت نهيتكم عن الأشربة في ظروف الأدم) قال القاضي: هذه الرواية فيها تغيير من بعض الرواة، وصوابه "كنت نهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأدم" فحذف لفظة "إلا" التي للاستثناء، ولا بد منها. (عن عبد الله بن عمرو) قال النووي: هكذا هو في النسخ المعتمدة ببلادنا ومعظم النسخ "عن عبد الله بن عمرو" بفتح العين، ووقع في بعضها "ابن عمر" بضم العين، قال علي الغساني: المحفوظ "ابن عمرو بن العاص" وكذا ذكره البخاري وأبو داود، وكذا ذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين، ونسبه إلى رواية البخاري ومسلم، وكذا ذكره جمهور المحدثين، وهو الصحيح. (لما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النبيذ في الأوعية) قال النووي: هذا هو الصواب، ووقع في غير مسلم "عن النبيذ في الأسقية" وكذا نقله الحميدي في الجمع بين الصحيحين. قال الحميدي: ولعله نقص منه، فيكون "عن النبيذ إلا في الأسقية". -[فقه الحديث]- قال النووي: كان الانتباذ في هذه الأوعية منهياً عنه في أول الإسلام، خوفاً من أن يصير مسكراً فيها، ولا نعلم بإسكاره لكثافتها، فتتلف ماليته، وربما شربه الإنسان ظاناً أنه لم يصر سكراً، فيصير شارباً للمسكر، وكان العهد قريباً بإباحة المسكر، فلما طال الزمان، واشتهر تحريم المسكر، وتقرر ذلك في نفوسهم نسخ ذلك، وأبيح لهم الانتباذ في كل وعاء، بشرط أن لا يشربوا مسكراً، وهذا صريح قوله في روايتنا الخامسة والثلاثين وما بعدها "كنت نهيتكم عن الانتباذ إلا في سقاء، فاشربوا في كل وعاء، غير ألا تشربوا مسكراً". اهـ وهذا توجيه الشافعية ومن وافقهم، وقال الخطابي: وذهب جماعة إلى أن النهي عن الانتباذ في هذه الأدعية باق، منهم ابن عمر وابن عباس، وبه قال مالك وأحمد وإسحق. اهـ وقال الحافظ ابن حجر: وقال الشافعي والثوري وابن حبيب من المالكية: يكره ذلك، ولا يحرم، وقال سائر الكوفيين: يباح، وعن أحمد روايتان، وقد أسند الطبري عن عمر ما يؤيد قول مالك، وهو قوله: "لأن أشرب من قمقم محمي، فيحرق ما أحرق، ويبقى ما أبقى، أحب إلي من أن أشرب نبيذ الجر" وعن ابن عباس "لا يشرب نبيذ الجر ولو كان أحلى من العسل" وأسند النهي إلى جماعة من الصحابة، وقال ابن بطال: النهي عن الأوعية إنما كان قطعاً للذريعة، فلما قالوا: لا نجد بداً من الانتباذ في الأوعية قال: انتبذوا، وكل مسكر حرام" وهكذا الحكم في كل شيء نهي عنه بمعنى النظر إلى غيره، فإنه يسقط للضرورة، كالنهي عن الجلوس في الطرقات، فلما قالوا: لا بد لنا منها، قال:

"فأعطوا الطريق حقها" قال الحافظ ابن حجر: وكأن من ذهب إلى استمرار النهي لم يبلغه الناسخ، وقال الحازمي: لمن نصر قول مالك أن يقول: ورد النهي عن الظروف كلها، ثم نسخ منها ظروف الأدم والجرار غير المزفتة، واستمر ما عداها على المنع، ثم تعقب ذلك بما ورد التصريح به في حديث بريدة، روايتنا الخامسة والثلاثين وما بعدها، قال: وطريق الجمع أن يقال: لما وقع النهي عاماً شكوا إليه الحاجة، فرخص لهم في ظروف الأدم، ثم شكوا إليه أن ليس كلهم يجد ذلك، فرخص لهم في الظروف كلها. والله أعلم

(556) باب بيان أن كل مسكر خمر، وأن كل خمر حرام والعقوبة الأخروية لشارب الخمر

(556) باب بيان أن كل مسكر خمر، وأن كل خمر حرام والعقوبة الأخروية لشارب الخمر 4558 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع. فقال "كل شراب أسكر فهو حرام". 4559 - عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أنه سمع عائشة رضي الله عنها تقول: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كل شراب أسكر فهو حرام". 4560 - وفي رواية عن الزهري بهذا الإسناد، وليس في حديث سفيان وصالح: سئل عن البتع. وهو في حديث معمر وفي حديث صالح: أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "كل شراب مسكر حرام". 4561 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم أنا ومعاذ بن جبل إلى اليمن. فقلت: يا رسول الله، إن شراباً يصنع بأرضنا يقال له المزر من الشعير، وشراب يقال له البتع من العسل؟ فقال "كل مسكر حرام". 4562 - وفي رواية عن عمرو سمعه من سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه ومعاذاً إلى اليمن. فقال لهما "بشرا ويسرا وعلما ولا تنفرا" وأراه قال: "وتطاوعا" قال فلما ولى رجع أبو موسى، فقال: يا رسول الله، إن لهم شراباً من العسل يطبخ حتى يعقد. والمزر يصنع من الشعير. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كل ما أسكر عن الصلاة فهو حرام".

4563 - عن أبي بردة عن أبيه رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاذاً إلى اليمن، فقال "ادعوا الناس. وبشرا ولا تنفرا. ويسرا ولا تعسرا" قال: فقلت: يا رسول الله، أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن: البتع وهو من العسل ينبذ حتى يشتد، والمزر وهو من الذرة والشعير ينبذ حتى يشتد؟ قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطي جوامع الكلم بخواتمه، فقال "أنهى عن كل مسكر أسكر عن الصلاة". 4564 - عن جابر رضي الله عنه أن رجلاً قدم من جيشان، وجيشان من اليمن، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له المزر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أو مسكر؟ " هو قال: نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كل مسكر حرام. إن على الله عز وجل عهداً لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال" قالوا: يا رسول الله وما طينة الخبال؟ قال "عرق أهل النار أو عصارة أهل النار". 4565 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كل مسكر خمر. وكل مسكر حرام. ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يدمنها لم يتب، لم يشربها في الآخرة". 4566 - عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "كل مسكر خمر. وكل مسكر حرام". 4567 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ولا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "كل مسكر خمر. وكل خمر حرام". 4568 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من شرب الخمر في الدنيا، حرمها في الآخرة".

4569 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال "من شرب الخمر في الدنيا فلم يتب منها، حرمها في الآخرة فلم يسقها" قيل لمالك: رفعه؟ قال: نعم. 4570 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من شرب الخمر في الدنيا، لم يشربها في الآخرة إلا أن يتوب". -[المعنى العام]- إن الله تعالى حد حدوداً، وشرع عقوبات دنيوية على بعض الكبائر، ومنها الخمر، وقد سبق حد شربها في كتاب الحدود -أربعين جلدة أو ثمانين- وإقامة هذا الحد على الشارب مكفر لذنب الشرب عند جمهور العلماء، على أساس أن الحدود جوابر، وأن الله تعالى أكرم من أن يعاقب على الذنب في الدنيا والآخرة. فإقامة الحد في حكم التوبة المقبولة إن شاء الله. أما الذي يشرب الخمر، ولا يحد، ويدمن شربها، ولا يقلع عنها حتى يموت، ولا يتوب من شربها توبة نصوحاً خالصة مقبولة فإن عقوبته في الآخرة مستحقة، وهي عقوبة من جنس المعصية، كما هو الشأن في عقوبات الآخرة، لقد تمتع شارب الخمر بخمرة في الدنيا، فعقوبته عدم التمتع بشربها في الآخرة، وفي الجنة أنهار من خمر لذة للشاربين، فمن تمتع بها في الدنيا بلذة عاجلة قصيرة سنوات مثلاً، فسوف يحرم من اللذة الكبيرة المستمرة أبداً، وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون، تمتع بها فأذهب عقله، وانحطت آدميته، وأتى مهازل وسقطات، وسخر منه من حوله، وسوف يحرم منها، وليس فيها غول، ولا ضعف عقل، ولا سقوط تصرف، بل قمة في التمتع والتلذذ، من غير أضرار أو أخطار. فالخاسر من باع آخرته بدنياه، واستبدل بالنعيم الحقيقي الدائم تنعم حقير عاجل سريع الزوال. -[المباحث العربية]- (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع) بكسر الباء وسكون التاء وقد تفتح، وهي لغة يمانية، وهو نبيذ العسل، كان أهل اليمن يشربونه، والظاهر أن السائل هو أبو موسى الأشعري، ففي الرواية الثالثة والرابعة والخامسة عن أبي موسى أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن

البتع، وفي الرواية الرابعة "إن لهم شراباً من العسل، يطبخ حتى يعقد" بفتح الياء وسكون العين وكسر القاف، يقال: عقد السائل بفتح العين والقاف، فعل لازم يعقد عقداً، إذا غلظ، وفي الرواية الخامسة "البتع، وهو من العسل، ينبذ حتى يشتد". (بعثني النبي صلى الله عليه وسلم أنا ومعاذ إلى اليمن) سبق بيان مهمتهما وزمنها في كتاب الإيمان في الجزء الأول. (والمزر يصنع من الشعير) بكسر الميم وسكون الزاي، بعدها راء، وفي الرواية الخامسة "والمزر، وهو من الذرة والشعير، ينبذ حتى يشتد" وفي الرواية السادسة "من الذرة" ولا تعارض، فهو يصنع من كل من الذرة والشعير والحنطة. (بشرا ويسرا، وعلما ولا تنفرا -وأراه قال: وتطاوعا) في الرواية الخامسة "بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا" وفيها الأمر بالشيء، والنهي عن نقيضه، للتأكيد والتقوية، والمفعول به محذوف، أي بشرا الناس وأملاهم في الخير، ولا تنفراهم ولا تخوفاهم بتوقع الشر، ويسرا عليهم أداء واجباتهم، ولا تعسرا عليهم في فرض ما تفرضون عليهم، وليطع كل منكما صاحبه، ولا تختلفا، ولا تتعارض أوامركما وحكمكما. (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطى جوامع الكلم بخواتمه) "جوامع الكلم" من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي الكلم الجوامع، أي اللفظ القليل، المفيد للمعاني الكثيرة جداً، وقوله "بخواتمه" بما يفيد آخر مراد المخاطب، ويستوفي مطالبه ومقاصده، فالباء للمصاحبة. (أنهى عن كل مسكر) أي كل ما من شأنه أن يسكر كثيره، وفي الرواية السادسة "كل مسكر حرام" أي كل ما من شأنه أن يسكر، وليس كل مسكر بالفعل، وإلا لقال: كل سكر حرام. (إن على الله عهداً لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال) ربط العقوبة بالشرب، ولم يربطها بالإسكار، و"طينة الخبال" اسم لعرق أهل النار، أو عصارة أهل النار، كما فسر في الحديث. (فلم يتب منها) أي لم يتب من شربها. -[فقه الحديث]- يتكون فقه الحديث من نقطتين أساسيتين: بيان أن كل مسكر خمر، وأن كل خمر حرام، وقد سبقت هذه النقطة وافية في الباب رقم 551. النقطة الثانية العقوبة الأخروية لشارب الخمر، والوعيد في الرواية السادسة أن يسقيه الله من عرق أهل النار، وهذه العقوبة لم يحدد فيها قدر، ولا زمن، فقد يكون جرعة في لحظة.

أما العقوبة في الرواية السابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة والحادية عشرة فهي الحرمان من شربها في الآخرة. قال الخطابي: معنى الحديث لا يدخل الجنة، لأن الخمر شراب أهل الجنة، فإذا حرم شربها دل على أنه لا يدخل الجنة. وقال ابن عبد البر: هذا وعيد شديد، يدل على حرمان دخول الجنة، لأن الله تعالى أخبر أن في الجنة أنهار الخمر لذة للشاربين، وأنهم لا يصدعون عنها، ولا ينزفون، فلو دخلها -وقد علم أن فيها خمراً، أو أنه حرمها عقوبة له -لزم وقوع الهم والحزن في الجنة، ولا هم فيها، ولا حزن، وإن لم يعلم بوجودها، ولا أنه حرمها عقوبة له، لم يكن عليه في فقدها ألم، فلهذا قال بعض من تقدم أنه لا يدخل الجنة أصلاً. قال: وهو مذهب غير مرضي، قال: ويحمل الحديث عند أهل السنة على أنه لا يدخلها، ولا يشرب الخمر فيها، إلا إن عفا الله عنه. كما في بقية الكبائر، وهو في المشيئة، فعلى هذا، فمعنى الحديث: جزاؤه في الآخرة أن يحرمها، لحرمانه دخول الجنة، إلا إن عفا الله عنه، قال: وجائز أن يدخل الجنة بالعفو، ثم لا يشرب فيها خمراً، ولا تشتهيها نفسه، وإن علم بوجودها فيها، ويؤيده حديث أبي سعيد، مرفوعاً "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة، ولم يلبسه هو" قال الحافظ: أخرجه الطيالسي وصححه ابن حبان. وقريب منه حديث عبد الله بن عمرو، رفعه "من مات من أمتي، وهو يشرب الخمر، حرم الله عليها شربها في الجنة" أخرجه أحمد بسند حسن، وقد لخص عياض كلام ابن عبد البر، وزاد احتمالاً آخر، وهو أن المراد بحرمانه شربها، أنه يحبس عن الجنة مدة، إذا أراد الله عقوبته، ومثله الحديث الآخر "لم يرح رائحة الجنة" قال: ومن قال: لا يشربها في الجنة، بأن ينساها، أو لا يشتهيها، يقول: ليس عليه في ذلك حسرة، ولا يكون ترك شهوته إياها عقوبة في حقه، بل هو نقص نعيم بالنسبة إلى من هو أتم نعيماً منه، كما تختلف درجاتهم، ولا يلحق من هو أنقص درجة حينئذ، بمن هو أعلى درجة منه، استغناء بما أعطي، واغتباطاً له. وقال ابن العربي: ظاهر الحديثين أنه لا يشرب الخمر في الجنة، ولا يلبس الحرير فيها، وذلك لأنه استعجل ما أمر بتأخيره، ووعد به، فحرمه عند ميقاته، كالوارث، فإنه إذا قتل مورثه فإنه يحرم ميراثه، لاستعجاله. وبهذا قال نفر من الصحابة والعلماء، وهو موضع احتمال، والله أعلم كيف يكون الحال. وفصل بعض المتأخرين بين من يشربها مستحلاً، فهو الذي لا يشربها أصلاً، لأنه لا يدخل الجنة أصلاً، وعدم الدخول يستلزم حرمانها، وبين من يشربها عالماً بتحريمها، فهو محل الخلاف. وفي الحديث أن التوبة تكفر المعاصي الكبائر، وهو في التوبة من الكفر قطعي، لقوله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال: 38] وفي غير الكفر من الذنوب خلاف بين أهل السنة، هل هو قطعي؟ أو ظني؟ قال النووي: الأقوى أنه ظني، وقال القرطبي: من استقرأ الشريعة علم أن الله يقبل توبة الصادقين قطعاً، وللتوبة الصادقة شروط.

ويمكن أن يستدل بحديث الباب على صحة التوبة من بعض الذنوب، دون بعض، وفيه أن الوعيد يتناول من شرب الخمر، وإن لم يحصل له السكر، لأنه رتب الوعيد في الحديث على مجرد الشرب، من غير قيد، قال الحافظ ابن حجر: وهو مجمع عليه في الخمر المتخذ من عصير العنب، أما ما لا يسكر من غيرها فالأمر فيه كذلك عند الجمهور. والله أعلم

(557) باب إباحة النبيذ الذي لم يشتد ولم يصر مسكرا

(557) باب إباحة النبيذ الذي لم يشتد ولم يصر مسكراً 4571 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتبذ له أول الليل. فيشربه إذا أصبح يومه ذلك، والليلة التي تجيء، والغد والليلة الأخرى، والغد إلى العصر. فإن بقي شيء سقاه الخادم، أو أمر به فصب. 4572 - عن يحيى البهراني قال: ذكروا النبيذ عند ابن عباس: فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتبذ له في سقاء. قال شعبة: من ليلة الاثنين فيشربه يوم الاثنين والثلاثاء إلى العصر. فإن فضل منه شيء، سقاه الخادم أو صبه. 4573 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقع له الزبيب، فيشربه اليوم والغد، وبعد الغد إلى مساء الثالثة. ثم يأمر به فيسقى أو يهراق. 4574 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبذ له الزبيب في السقاء، فيشربه يومه والغد وبعد الغد. فإذا كان مساء الثالثة شربه وسقاه. فإن فضل شيء أهراقه. 4575 - عن يحيى أبي عمر النخعي قال: سأل قوم ابن عباس عن بيع الخمر وشرائها والتجارة فيها. فقال: أمسلمون أنتم؟ قالوا: نعم. قال: فإنه لا يصلح بيعها ولا شراؤها ولا التجارة فيها. قال: فسألوه عن النبيذ. فقال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر. ثم رجع وقد نبذ ناس من أصحابه في حناتم ونقير ودباء، فأمر به فأهريق. ثم أمر بسقاء فجعل فيه زبيب وماء. فجعل من الليل، فأصبح فشرب منه يومه ذلك وليلته المستقبلة، ومن الغد حتى أمسى فشرب، وسقى. فلما أصبح أمر بما بقي منه فأهريق. 4576 - عن ثمامة (يعني ابن حزن القشيري) قال: لقيت عائشة فسألتها عن النبيذ.

فدعت عائشة جارية حبشية، فقالت: سل هذه، فإنها كانت تنبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت الحبشية: كنت أنبذ له في سقاء من الليل وأوكيه وأعلقه، فإذا أصبح شرب منه. 4577 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنا ننبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سقاء يوكى أعلاه وله عزلاء. ننبذه غدوة، فيشربه عشاء. وننبذه عشاء، فيشربه غدوة. 4578 - عن سهل بن سعد قال: دعا أبو أسيد الساعدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرسه، فكانت امرأته يومئذ خادمهم وهي العروس. قال سهل: تدرون ما سقت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أنقعت له تمرات من الليل في تور. فلما أكل، سقته إياه. 4579 - وفي رواية عن أبي حازم قال: سمعت سهلاً رضي الله عنه يقول: أتى أبو أسيد الساعدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم. بمثله. ولم يقل: فلما أكل سقته إياه. 4580 - عن سهل بن سعد رضي الله عنه بهذا الحديث. وقال: في تور من حجارة. فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطعام أماثته فسقته. تخصه بذلك. 4581 - عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من العرب. فأمر أبا أسيد أن يرسل إليها. فأرسل إليها. فقدمت. فنزلت في أجم بني ساعدة. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءها. فدخل عليها. فإذا امرأة منكسة رأسها. فلما كلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: أعوذ بالله منك. قال: "قد أعذتك مني" فقالوا لها: أتدرين من هذا؟ فقالت: لا. فقالوا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءك ليخطبك. قالت: أنا كنت أشقى من ذلك. قال سهل: فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ حتى جلس في سقيفة بني ساعدة هو وأصحابه. ثم قال: "اسقنا" لسهل. قال: فأخرجت لهم هذا القدح فأسقيتهم فيه. قال أبو حازم: فأخرج لنا سهل ذلك القدح فشربنا فيه. قال: ثم استوهبه، بعد ذلك، عمر بن عبد العزيز فوهبه له. وفي رواية أبي بكر بن إسحق قال: "اسقنا يا سهل".

4582 - عن أنس رضي الله عنه قال: لقد سقيت رسول الله بقدحي هذا، الشراب كله: العسل والنبيذ، والماء، واللبن. -[المعنى العام]- مراحل التخمر تبدأ بالنقيع، يوضع التمر أو الزبيب أو الذرة أو الشعير أو الحنطة في الماء، مع شيء من السكر أو بدونه، فيلين الجاف الجامد، فيؤكل ويشرب بعد ساعات من النقع. المرحلة الثانية مرحلة النبيذ، وهي أن يبقى هذا النقيع حتى يتغير طعمه من حلاوة إلى حموضة ولذع، تختلف درجاتها من ضعف إلى قوة، ونهاية هذه المرحلة أن يشتد هذا اللذع، وأن يرغي هذا النبيذ، ويقذف بالزبد، ويغلي وتتحرك فقاقيعه، وحتى يصل هذه الحالة لا يسكر قطعاً، ولا يحرم أكله ولا شربه، باتفاق العلماء، وقد يستغرق النقيع حتى يصل إلى هذه الحالة ثلاثة أيام، وقد يصل إليها بعد يومين، وقد يصل إليها بعد يوم، لأن هذه الحالة ترتبط بوسيلة التخمر، من نوع النقيع، ودرجة الحرارة، ومواد النقع، ونحو ذلك، لا بالزمن، ولهذا وجدنا في الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينبذ له النقيع من الليل، فيشربه إذا أصبح، وينبذ له أول النهار، فيشربه عشاء، وأقصى مدة ينبذ له النبيذ فيها ثلاثة أيام بثلاث ليال، فإن بقي في السقاء شيء بعد ذلك، ولم تظهر عليه أعراض التخمر، سقاه للخادم، ولم يشربه ورعاً وحيطة، وإن ظهرت عليه بعض أعراض التخمر طرحه وألقاه وصبه، لأنه لم يعد مالاً محترماً. واستقرت هذه القواعد عند الصحابة -رضي الله عنهم- وكان النبيذ عند العرب تحفة الضيف العزيز، كان نبيذ التمر أعز من الطعام والشراب، وأعز ما يقدم في الولائم، فهذا أبو أسيد الساعدي، يقيم وليمة عرسه، ويدعو إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبار صحابته، فيقدم لهم الطعام، وتقوم امرأته العروس بنفسها، تحمل سقاء صغيراً، قد نبذت فيه تمرات من الليل، فتسقي منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، تتحفه وتخصه بأعز ما لديها، وهو النبيذ، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ضايقه موقف امرأة عربية، عرض عليه الزواج منها، فجاءت إليه، فلم يسعدها قدرها بشرف الانتساب إليه، فاستعاذت، فأعاذها، وأعادها لأهلها، ضايقه هذا الظرف، فخرج من عندها إلى سقيفة بني ساعدة، فوجد بعض أصحابه يجلسون، ويشربون النبيذ، يقوم على سقايتهم صبي من بني سعد يسمى سهل بن سعد، فجلس معهم صلى الله عليه وسلم، وقال للصبي. اسقنا يا سهل، فسقاه من قدح، اعتز به بعد ذلك سهل، لأن القدح شرف بلقاء فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ الصحابة يتبركون بالشرب من هذا القدح، حتى كان عمر بن عبد العزيز أميراً على المدينة، وشاع في المدينة التبرك بالشرب من هذا القدح، فطلب عمر بن عبد العزيز من سهل بن سعد أن يهبه هذا القدح، فوهبه له، فاحتفظ به عمر بن عبد العزيز خيراً وبركة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

-[المباحث العربية]- (كان النبي صلى الله عليه وسلم ينتبذ له أول الليل، فيشربه إذا أصبح يومه ذلك، والليلة التي تجيء، والغد، والليلة الأخرى، والغد، إلى العصر) ظاهر هذه الرواية أن النبيذ شرب ثلاث ليال، ويومين كاملين، واليوم الثالث إلى العصر، وكذا الرواية الثالثة والرابعة، أما الرواية الثانية فتنقص يوماً وليلة عن السابقات، وأما حديث عائشة، وهو الرواية السادسة والسابعة فمدة النبيذ فيها يوم واحد، أو ليلة واحدة، وجمع بعضهم بأن شرب النقيع في يومه لا يمنع شرب النقيع في أكثر من يوم، أي إن حديث عائشة ليس فيه قصر الشرب على يوم واحد، فقول الحبشية في الرواية السادسة "فإذا أصبح شرب منه" لا يمنع أن يضاف إليه "وإذا أمسى شرب منه، وإذا أصبح في الغد شرب منه. إلخ" وقول عائشة "ننبذه غدوة فيشربه عشاء" لا يمنع أن يضاف إليه "وغدوة وعشاء" إلخ، لكن رواية أبي داود لهذا الحديث تمنع هذا الجمع، فلفظها "أنها كانت تنبذ للنبي صلى الله عليه وسلم غدوة، فإذا كان من العشي تعشى، فشرب على عشائه، فإن فضل شيء صبه، ثم تنبذ له بالليل، فإذا أصبح وتغدى شرب على غدائه. قالت: نغسل السقاء غدوة وعشية" كما أن حديث عبد الله بن الديلمي عن أبيه يمنع هذا الجمع، وقد رواه أبو داود والنسائي بلفظ "قلنا: يا رسول الله، ما نصنع بالزبيب؟ قال: انبذوه على عشائكم، واشربوه على غدائكم" فهذه الأحاديث تفيد التقييد باليوم والليلة، وجمع بعضهم بقوله: لعل حديث عائشة كان زمن الحر، وحيث يخشى فساده في الزيادة على يوم، وحديث ابن عباس في زمن يؤمن فيه التغير قبل الثلاث، وجمع بعضهم بحمل حديث عائشة على نبيذ قليل، يفرغ منه في يومه، وحديث ابن عباس في كثير لا يفرغ منه، فالاختلاف باختلاف الأحوال والأزمنة، ولا تعارض. (فإن بقي شيء سقاه الخادم، أو أمر به فصب) في الرواية الثانية "فإن فضل منه شيء سقاه الخادم، أو صبه" وفي الرواية الثالثة "ثم يأمر به فيسقى، أو يهراق" وفي الرواية الرابعة "فإن فضل شيء أهراقه" قال النووي: يقال: فضل بفتح الضاد وكسرها، وقال: معناه: تارة يسقيه الخادم، وتارة يصبه، وذلك لاختلاف حال النبيذ، فإن كان لم يظهر فيه تغير ونحوه، من مبادئ الإسكار سقاه الخادم، ولا يريقه، لأنه مال تحرم إضاعته، ويترك شربه تنزهاً، وإن كان قد ظهر فيه شيء من مبادئ الإسكار والتغير أراقه، لأنه إذا أسكر صار حراماً ونجساً، فيراق، ولا يسقيه الخادم، لأن المسكر لا يجوز سقيه الخادم، كما لا يجوز شربه، وأما شربه صلى الله عليه وسلم قبل الثلاث فكان حيث لا تغير، ولا مبادئ تغير، ولا شك أصلاً. اهـ (ينقع له الزبيب) يقال: نقع الزبيب، بفتح النون والقاف، ينقع بفتح القاف، إذا تركه في الماء حتى انتقع وانحل من طول مكثه في الماء، ويقال: أنقع الزبيب في الماء، بمعنى نقعه، وفي الرواية الرابعة "كان ينبذ له الزبيب" فالنبيذ يسمى نقيعاً، والنقيع يسمى نبيذا، فيحمل ما ورد في الأحاديث بلفظ النبيذ على النقيع، وعكسه.

(عن بيع الخمر، وشرائها، والتجارة فيها) التجارة ممارسة البيع والشراء، فهو من عطف العام على الخاص، أو المجمل على المفصل. (فسألوه عن النبيذ) أي عما يحل منه وما يحرم، بسبب وعاء الانتباذ، أو بسبب مدة الانتباذ. (فسألتها عن النبيذ) أي عن وعائه ومدته. (كنت أنبذ له في سقاء من الليل، وأوكيه) أي أشده بالوكاء، وهو الخيط الذي يشد به رأس القربة. (في سقاء يوكى أعلاه) قال النووي: "يوكى" غير مهموز الآخر، قال: ورأيته يكتب وضبط "يوكأ" بالهمز، وهو فاسد. (وله عزلاء) بفتح العين وإسكان الزاي وبالمد، وهو الثقب الذي يكون في أسفل المزادة والقربة. (دعا أبو أسيد الساعدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرسه) أي في عرس أبي أسيد، وأبو أسيد اسمه مالك بن ربيعة، مات سنة ستين، وهو ابن خمس وسبعين، وحاصله أنه ولد قبل الهجرة بخمس عشرة سنة، شهد بدراً وأحداً وما بعدها، وهو آخر البدريين موتاً، زاد في رواية "وأصحابه"، والعرس بضم العين وسكون الراء الزفاف والتزويج ووليمتهما، والدعوة هنا كانت للوليمة. (فكانت امرأته يومئذ خادمهم، وهي العروس) "العروس" يطلق على الرجل والمرأة ماداما في عرسهما، والعروسة الزوجة مادامت في عرسها، وهم عرس بضم العين والراء، وهن عرائس، والعريس محدثة والجمع عرسان وامرأة أبي أسيد اسمها سلامة بنت وهب، وهي ممن وافقت كنيتها كنية زوجها. وفي رواية البخاري "فما صنع لهم طعاماً ولا قربه إليهم إلا امرأته أم أسيد". (هل تدرون ما سقت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ) "ما سقت" بفتح السين والقاف وسكون التاء، والضمير لامرأة أبي أسيد، وفي رواية قالت: "وسقيت" بسكون الياء، والصحيح الأول". لأن الحديث من رواية سهل، وليس لأم أسيد فيه رواية. (أنقعت له تمرات من الليل في تور) في رواية "نقعت" وفي رواية "بلت" بتشديد اللام، والتور بفتح التاء، وهو إناء من نحاس أو حجارة، وقد صرح في الرواية العاشرة بأنه هنا كان من الحجارة. (فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطعام أماثته) قال النووي: هكذا ضبطناه، وكذا هو في الأصول ببلادنا "أماثته" بثاء ثم تاء، يقال: ماثه، وأماثه، لغتان مشهورتان، وقد غلط من أنكر

"أماثه" ومعناه عركته، واستخرجت قوته، وأذابته، ومنهم من يقول: "لينته" وهو محمول على معنى الأول، وحكى القاضي عياض أن بعضهم رواه "أماتته" بتكرير التاء، وهو بمعنى الأول. (فسقته، تخصه بذلك) في الرواية التاسعة "فلما أكل سقته إياه" قال النووي: وقوله "تخصه" كذا هو في صحيح مسلم، من التخصيص، وكذا روي في صحيح البخاري، ورواه بعض رواة البخاري "تتحفه" من الإتحاف، وهو بمعناه، يقال: أتحفته به، إذا خصصته وأطرفته. (ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من العرب) في رواية لابن سعد أن النعمان بن الجون الكندي أتى النبي صلى الله عليه وسلم مسلماً، فقال: ألا أزوجك أجمل أيم في العرب، كانت تحت ابن عم لها، فتوفي، وقد رغبت فيك؟ قال: نعم. قال: فابعث معي من يحملها إليك" وكان أمراء العرب وساداتهم يحرصون على شرف النسب برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يستجيب لرغباتهم تأليفاً لهم، وتوطيداً لعلاقتهم به وبالإسلام، ودفعاً لهم للتمسك بالإسلام والدفاع عنه، وكان ذلك في ربيع الأول سنة تسع من الهجرة. وفي اسم المستعيذة خلاف كثير، فعن عائشة عند البخاري أنها عمرة بنت الجون وفي نسخة "الكلبية" قال الحافظ ابن حجر: وهو بعيد، وقوله "الكلبية" غلط وإنما هي "الكندية" فالكلمة تصحفت قال: والصحيح أن اسمها أمية بنت النعمان بن شراحيل، كما في حديث أبي أسيد، وقيل: أمية بنت شراحيل، فنسبت لجدها، وقيل: اسمها أسماء، وقيل: اسمها فاطمة بنت الضحاك بن سفيان، وقيل: اسمها العالية بنت ظبيان بن عمرو، وحكى ابن سعد أن اسمها عمرة بنت يزيد بن عبيد، وقيل: بنت يزيد بن الجون، وقيل: سناً بنت سفيان بن عوف وأشار ابن سعد إلى أنها واحدة، فاختلف في اسمها، قال الحافظ: والصحيح أن التي استعاذت منه هي الجونية، وروى ابن سعد من طريق سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، قال: لم تستعذ منه امرأة غيرها. قال الحافظ: وهو الذي يغلب على الظن، لأن ذلك إنما وقع للمستعيذة بالخديعة المذكورة [قيل: كانت جميلة، فخاف نساؤه أن تغلبهن عليه، فقلن لها: إنه يعجبه أن يقال له: نعوذ بالله منك، ففعلت] فيبعد أن تخدع امرأة أخرى بعدها، بمثل ما خدعت به، بعد شيوع الخبر بذلك. قال ابن عبد البر، أجمعوا على أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج الجونية، واختلفوا في سبب فراقه لها. (فأمر أبا أسيد أن يرسل إليها، فأرسل إليها، فقدمت) في رواية لابن سعد، قال أبو أسيد: فأمرني أن آتيه بها، فأتيته بها" وفي رواية أخرى لابن سعد" كان النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا أسيد الساعدي، يخطب عليه امرأة من بني عامر، يقال لها عمرة بنت يزيد بن عبيد بن رؤاس بن كلاب بن ربيعة بن عامر" وفي رواية "فبعث معه أبا أسيد الساعدي، قال أبو أسيد: فأقمت ثلاثة أيام، ثم تحملت معي في محفة" بكسر الميم وهي هودج لاقبة له، تركب فيه المرأة "فأقبلت بها، حتى قدمت المدينة" فقوله في روايتنا "فأمر أبا أسيد أن يرسل إليها" بكسر السين، لعله كان أمراً خير بينه وبين أن يذهب بنفسه، فأخذ معه من يأتي بها، فأبو أسيد مرسل ومرسل، بكسر السين وفتحها.

(فنزلت في أجم بني ساعدة) "أجم" بضم الهمزة والجيم، كعنق، أي في حصن بني ساعدة والجمع آجام، كأعناق، وفي رواية لابن سعد "فأتيته بها، فأنزلتها بالشوط من وراء ذباب في أطم" وذباب بضم الذال جبل معروف بالمدينة، و"أطم" مثل أجم، لفظاً ومعنى، وفي رواية لابن سعد أيضاً "فأنزلتها في بني ساعدة" وفي رواية للبخاري "فأنزلت في بيت في نخل، في بيت أميمة بنت النعمان بن شراحيل، معها دايتها، حاضنة لها" الداية المرضع الأجنبية، والحاضنة، والقابلة. (فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى جاءها، فدخل عليها) في رواية للبخاري عن أبي أسيد رضي الله عنه قال: "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، حتى انطلقنا إلى حائط أي بستان "يقال له: الشوط" حتى انتهينا إلى حائطين، جلسنا بينهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اجلسوا ههنا، ودخل، وقد أتى بالجونية، فأنزلت في بيت، في نخل، في بيت أميمة بنت النعمان بن شراحيل" وفي رواية للبخاري عن عائشة "أن ابنة الجون لما أدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودنا منها قالت ... " ولا تعارض، فقد تكون قد أدخلت حجرة يدخل عليها فيها، فهي أدخلت عليه، أي على حجرته، فدخل عليها. (فإذا امرأة منكسة رأسها) حياء وخجلاً، وإن كانت أيماً مطلقة، يقال: نكس رأسه بالتخفيف والتشديد، فهو ناكس ومنكس، أي مطأطئ الرأس. (فلما كلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: أعوذ بالله منك) في رواية للبخاري "فلما دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم قال: هبي نفسك لي. قالت: وهل تهب الملكة نفسها للسوقة؟ فأهوى بيده يضع يده عليها لتسكن، فقالت: أعوذ بالله منك" والسوقة بضم السين يقال للواحد من الرعية والجمع، قيل لهم ذلك لأن الملك يسوقهم، فيساقون إليه، ويصرفهم على مراده، وأما أهل السوق فالواحد منهم سوقي. قال ابن المنير: هذا من بقية ما كان فيها من الجاهلية، والسوقة عندهم من ليس بملك، كائناً من كان، فكأنها استبعدت أن تهب الملكة نفسها لمن ليس بملك، ولم يؤاخذها النبي صلى الله عليه وسلم بكلامها، معذرة لها، لقرب عهدها بجاهليتها، وقال غيره: يحتمل أنها لم تعرفه صلى الله عليه وسلم، فخاطبته بذلك، وروايتنا تؤكد هذا، ففيها "فقالوا لها: أتدرين من هذا؟ فقالت: لا. فقالوا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءك ليخطبك. قالت: أنا كنت أشقى من ذلك" وأفعل التفضيل في "أشقى" ليس على ظاهره، حتى يكون زواجها برسول الله صلى الله عليه وسلم شقاء وفواته أكثر شقاء، بل مرادها إثبات الشقاء لها، لما فاتها من التزوج برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يضعف ما جاء عند ابن سعد من "أن عائشة وحفصة دخلتا عليها أول ما قدمت فمشطتاها، وخضبتاها، وقالت لها إحداهما. إنك من الملوك، فإن كنت تريدين أن تحظي عند النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا جاءك فاستعيذي منه" وفي رواية له "قالت لها إحداهما: إن النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه من المرأة إذا دخل عليها أن تقول: أعوذ بالله منك" وعند ابن سعد أيضاً "وذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم مكيدة عائشة وحفصة للمستعيذة، فقال: إنهن صواحب يوسف". نعم يبعد من أمهات المؤمنين مثل هذا الخداع والتغرير، كما يبعد أن يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بالخديعة، ويعاقب المخدوع، ولا يلوم من خدعه. (قال: قد أعذتك مني) في رواية للبخاري "لقد عذت بعظيم. الحقي بأهلك" وفي رواية أخرى

للبخاري "قد عذت بمعاذ" والمعاذ بفتح الميم الملجأ أي من يستعاذ به، يقال: عاذ به يعوذ عوذاً وعياذاً، إذا التجأ إليه، واعتصم به، وتقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أي أعتصم بالله منه، فمعنى "قد أعذتك مني" حصنتك بالله مني، قال النووي: معناه: تركتك، وتركه صلى الله عليه وسلم تزوجها لأنها لم تعجبه، إما لصورتها، وإما لخلقها، وإما لغير ذلك زاد في رواية للبخاري ثم خرج علينا، فقال: يا أبا أسيد، اكسها رازقيين، وألحقها بأهلها" والرازقية ثياب من كتان بيض طوال، وقيل: في داخل بياضها زرقة، والرازقي الصفيق، قال ابن التين: متعها صلى الله عليه وسلم، إما وجوباً، وإما تفضلاً. وفي رواية لابن سعد، قال أبو أسيد "فأمرني، فرددتها إلى قومها" وفي أخرى له "فلما وصلت بها تصايحوا، وقالوا: إنك لغير مباركة، فما دهاك؟ قالت: خدعت" وروي أنها كانت تلتقط البعر، وتقول: أنا الشقية، وروي "أنها تزوجت المهاجر بن أبي أمية، فأراد عمر معاقبتها، فقالت: ما ضرب على الحجاب، ولا سميت أم المؤمنين، فكف عنها" وتوفيت في خلافة عثمان. (فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، حتى جلس في سقيفة بني ساعدة هو وأصحابه) "سقيفة بني ساعدة" هي المكان الذي وقعت فيه البيعة لأبي بكر الصديق بالخلافة، والسقيفة العريش الذي يستظل به. (ثم قال: أسقنا. لسهل) في ملحق الرواية "قال: أسقنا يا سهل" "اسقنا" ضبط في نسخ البخاري بهمزة وصل، وفي نسخ مسلم بهمزة قطع، وفي كتب اللغة: سقى بفتح القاف، يسقى بكسرها يتعدى لمفعولين، يقال: سقاه عسلاً، ويقال: أسقاه عسلاً، رباعي، وفي التنزيل {وأسقيناكم ماء فراتاً} [المرسلات: 27]. وسهل بن سعد من بني عمومة أبي أسيد الساعدي، وكان إذ ذاك صبياً فقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس عشرة سنة، وتوفي سهل سنة ثمان وثمانين، ويقال: إنه آخر من بقي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة. قال الحافظ ابن حجر: ووقع عند أبي نعيم "فقال: اسقنا يا أبا سعد" قال: والذي أعرفه في كنية سهل بن سعد أبو العباس، فلعل له كنيتين، أو كان الأصل: يا ابن سعد، فتحرفت. اهـ (ثم استوهبه بعد ذلك عمر بن عبد العزيز، فوهبه له) كان عمر بن عبد العزيز حينئذ قد ولي إمرة المدينة. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من أحاديث الباب]- 1 - جواز الانتباذ ونقع الزبيب أو التمر ونحوهما.

2 - وجواز شرب النبيذ مادام حلواً، ومادام لم يتغير، ولم يغل. قال النووي: وهذا جائز بإجماع الأمة. اهـ فالعبرة بعدم التغير، وليس بالثلاث وما فوقها. 3 - يؤخذ من سقيه الخادم أو صبه بعد الثلاث التنزه عن الشبهات، لأن من حام حول الحمى يوشك أن يواقعه، والنبيذ بعد الثلاث لا يؤمن تغيره. 4 - ومن الرواية الخامسة حرمة بيع الخمر وشرائها والتجارة فيها. 5 - ومن الرواية الثامنة من كون العروس خادمة القوم جواز خدمة المرأة زوجها ومن يدعوه، قال العلماء: ولا يخفى أن محل ذلك عند أمن الفتنة، ومراعاة ما يجب عليها من الستر وغيره. وقال النووي: هذا محمول على أنه كان قبل الحجاب، ويبعد حمله على أنها كانت مستورة البشرة. 6 - وجواز استخدام الرجل امرأته في مثل ذلك. 7 - ومن قوله "تخصه بذلك" جواز تخصيص صاحب الطعام بعض الحاضرين بفاخر من الطعام والشراب، إذا لم يتأذ الباقون، لإيثارهم المخصص، لعلمه أو صلاحه أو شرفه أو غير ذلك، فقد كان الحاضرون هناك يؤثرون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسرون بإكرامه، ويفرحون بمثل ما جرى. 8 - إكرام الضيف لصاحب الدار بشرب ما يقدم إليه من شراب أو طعام، وإن كان إتحافاً، حيث لا مفسدة في ذلك، ففي ذلك جبر لخاطره، وفي الامتناع كسر قلبه. 9 - وفي الحديث حق إجابة الدعوة إلى الوليمة، قال الشافعي وأصحابه: تقع الوليمة على كل دعوة تتخذ لسرور حادث، من نكاح أو ختان أو غيرهما، لكن الأشهر استعمالها عند الإطلاق في النكاح، وتقيد في غيره، فيقال: وليمة الختان ونحو ذلك. وقد نقل ابن عبد البر ثم عياض ثم النووي الاتفاق على القول بوجوب الإجابة لوليمة العرس، قال الحافظ ابن حجر: نعم المشهور من أقوال العلماء الوجوب، وصرح جمهور الشافعية والحنابلة بأنها فرض عين، ونص عليه مالك، وعن بعض الشافعية والحنابلة أنها مستحبة، وعن بعض الشافعية والحنابلة هي فرض كفاية، وحكى ابن دقيق العيد أن محل ذلك إذا عمت الدعوة، أما لو خص كل واحد بالدعوة فإن الإجابة تتعين. وشرط وجوبها أن يكون الداعي مكلفاً حراً رشيداً، وأن لا يخص الأغنياء دون الفقراء، وأن لا يظهر قصد التودد لشخص بعينه لرغبة فيه، أو رهبة منه، وأن لا يكون هناك ما يتأذى بحضوره، من منكر وغيره، وأن لا يكون له عذر يرخص له في ترك الجماعة. 10 - وعن حديث المستعيذة -روايتنا الحادية عشرة- قال النووي: فيه دليل على جواز نظر الخاطب إلى من يريد نكاحها. اهـ وهذا المأخذ غير واضح من الرواية، فقد كانت منكسة رأسها. 11 - وبوب البخاري للحديث بباب من طلق، وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق؟ قال ابن بطال: ليس في هذا الحديث أنه واجهها بالطلاق، وتعقبه ابن المنير بأن ذلك ثبت في حديث عائشة

في البخاري وفيه "لقد عذت بعظيم، الحقي بأهلك" ولعل ابن بطال أراد أنه لم يواجهها بلفظ الطلاق، قال الحافظ: واعترض بعضهم بأنه لم يتزوجها، إذ لم يجر ذكر صورة العقد، وامتنعت أن تهب نفسها له، فكيف يطلقها؟ قال: والجواب أنه صلى الله عليه وسلم كان له أن يزوج نفسه بغير إذن المرأة، وبغير إذن وليها، فكان مجرد إرساله إليها وإحضارها، ورغبته فيها كافياً في ذلك، ويكون قوله "هبي لي نفسك" تطييباً لخاطرها، واستمالة لقلبها، ويؤيده قوله في رواية ابن سعد "إنه اتفق مع أبيها على مقدار صداقها، وأن أباها قال له: إنها رغبت فيك، وخطبت إليك. 12 - وفيه أثر الكلمة التي ترفع صاحبها وتسعده، والكلمة التي تتعس صاحبها وتشقيه. 13 - ومن الرواية الثالثة عشرة، من قوله "أسقنا يا سهل" مباسطة الأصدقاء والأحبة وملاطفتهم. 14 - واستدعاء ما عنده من مأكول ومشروب. 15 - ومن شربهم في القدح جواز الشرب في الأقداح -والقدح هو الكأس ذو القاعدة العريضة- قال الحافظ ابن حجر: والشرب في القدح من شعار الفسقة، لكن ذلك بالنظر إلى المشروب، وإلى الهيئة الخاصة بهم- أي كانوا يشربون فيه الخمر، ويجتمعون على الشرب بالفجور والصياح والعصيان- فيكره التشبه بهم، ولا يلزم من ذلك كراهة الشرب في القدح، إذا سلم من ذلك. 16 - ومن الحرص على الشرب من قدح شرب منه النبي صلى الله عليه وسلم التبرك بآثار الصالحين. قاله الحافظ ابن حجر، وقال النووي: فيه التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم، وما مسه أو لبسه، أو كان منه فيه سبب، وهذا نحو ما أجمعوا عليه، وأطبق السلف والخلف عليه من التبرك بالصلاة في مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الروضة الكريمة، ودخول الغار الذي دخله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك، ومن هذا إعطاؤه صلى الله عليه وسلم أبا طلحة شعره، ليقسمه بين الناس، وإعطاؤه صلى الله عليه وسلم حقوه، لتكفن فيه بنته رضي الله عنها، وجعله الجريدتين على القبرين، وجمعت بنت ملحان عرقه صلى الله عليه وسلم، وتمسحوا بوضوئه صلى الله عليه وسلم، وأشباه هذه كثيرة مشهورة في الصحيح، وكل ذلك واضح لا شك فيه. 17 - ومن استيهاب عمر بن عبد العزيز للقدح استيهاب الصديق ما لا يشق على صديقه هبته، قال الحافظ: ولعل سهلاً سمح بذلك لبدل كان عنده من ذلك الجنس، أو لأنه كان محتاجاً، فعوضه المستوهب ما يسد به حاجته. والله أعلم

(558) باب جواز شرب اللبن

(558) باب جواز شرب اللبن 4583 - عن البراء رضي الله عنه قال: قال أبو بكر الصديق: لما خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، مررنا براع، وقد عطش رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فحلبت له كثبة من لبن. فأتيته بها، فشرب حتى رضيت. 4584 - عن البراء رضي الله عنه قال: لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، فأتبعه سراقة بن مالك بن جعشم. قال: فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فساخت فرسه. فقال: ادع الله لي ولا أضرك. قال: فدعا الله. قال: فعطش رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمروا براعي غنم. قال أبو بكر الصديق: فأخذت قدحاً فحلبت فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم كثبة من لبن. فأتيته به، فشرب حتى رضيت. 4585 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي ليلة أسري به بإيلياء بقدحين من خمر ولبن. فنظر إليهما، فأخذ اللبن. فقال له جبريل عليه السلام: الحمد لله الذي هداك للفطرة. لو أخذت الخمر غوت أمتك. 4586 - وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم. بمثله، ولم يذكر: بإيلياء. -[المعنى العام]- يقول الله تعالى: {وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين} [النحل: 66] حقاً إنها لعبرة، وأي عبرة، لبن أبيض، يضرب به المثل في البياض والنقاء والطهارة يخرج وينفصل بقدرة الله تعالى وحده من بين الفرث، وهي الفضلات في كرش الحيوان ودم الحيوان، في ساعات يتحول غذاء البهيمة وعلفها في كرشها إلى عجين، كريه المنظر،

كريه الرائحة، ثم يتحول هذا العجين إلى دم نجس أحمر يجري في العروق، ولبن طاهر أبيض يجري في أنابيب خاصة إلى الضرع، ويبقى الفرث في الكرش، حتى يخرج فضلات تعرف بالزبل أو السرجين أو الجلة. سبحانك اللهم، ولك الحمد والمنة، أن خلقت ويسرت لنا ما نحتاجه في حياتنا. إن الغنم والبقر والإبل وسيلة الحياة، منذ هبط آدم إلى الأرض {والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون* ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون* وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم} [النحل: 5 - 7]. {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم} [النحل: 18]. لقد عرف العرب وغيرهم هذه النعم، وعبروا عن شكرهم لها بتيسيرها للقانع والمعتر، فجعلوا من حقها أن يحلبها المحتاج وهي في المرعى أو وهي تشرب، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر في الهجرة من مكة إلى المدينة، يعطش النبي صلى الله عليه وسلم، فيرى أبو بكر غنماً، فيأخذ إناء، ويذهب إلى الراعي، فيستأذنه في حلب شاة، فيأخذ اللبن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشرب حتى يروى. ومن قبل ذلك، في رحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربه بالإسراء، ثم المعراج، كانت تحية الله لنبيه صلى الله عليه وسلم اللبن، إذ جاءه جبريل بثلاثة أقداح أو أربعة. قدح فيه لبن، وقدح فيه خمر، وقدح فيه عسل، وقدح فيه ماء، فنظر صلى الله عليه وسلم إلى الأقداح وما فيها، فاختار منها -بهداية الله- قدح اللبن، فشرب فقال جبريل: هداك الله إلى رمز الإسلام، فالحمد لله رب العالمين. -[المباحث العربية]- (قال أبو بكر: لما خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة) هذه الرواية صريحة في أنها من مسند أبي بكر، والرواية الثانية من مسند البراء، إلى قوله "قال أبو بكر الصديق ... " وفي الرواية الثانية "لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة" والمراد لما بدأ الهجرة من مكة إلى المدينة. (مررنا براع) قال النووي: في بعض الأصول "براعي" بالياء، وهي لغة قليلة، والأشهر "براع" وفي الرواية الثانية "فمروا براعي غنم" وظاهر الرواية الثانية أن قصة الراعي واللبن كانت بعد قصة سراقة، وكذا ظاهر بعض الروايات، لكن في البخاري عن أبي بكر رضي الله عنه قال: ارتحلنا من مكة ليلتنا، ويومنا حتى أظهرنا، وقام قائم الظهيرة، فرميت ببصري، هل أرى من ظل؟ فآوى إليه؟ ، فإذا صخرة، أتيتها، فنظرت بقية ظل لها، فسويته، ثم فرشت للنبي صلى الله عليه وسلم فيه، ثم قلت له: اضطجع يا نبي الله. فاضطجع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم انطلقت أنظر ما حولي، هل أرى من الطلب أحداً، فإذا أنا براعي غنم يسوق غنمه إلى الصخرة، يريد منها الذي أردنا، فسألته، فقلت لمن أنت يا غلام؟ فقال: لرجل من قريش. سماه، فعرفته، فقلت هل في غنمك من لبن؟ قال: نعم. قلت: فهل أنت حالب لنا؟ قال: نعم. فأمرته، فاعتقل شاة من غنمه، ثم أمرته أن ينفض ضرعها من الغبار، ثم أمرته أن ينفض كفيه، فحلب لي

كثبة من لبن، وقد جعلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إداوة، على فمها خرقة، فصببت على اللبن [أي ماء من الإداوة] حتى برد أسفله، فانطلقت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوافقته قد استيقظ، فقلت: اشرب يا رسول الله. فشرب حتى رضيت، ثم قلت: قد آن الرحيل يا رسول الله؟ قال: بلى، فارتحلنا، والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا أحد منهم، غير سراقة بن مالك بن جعشم، على فرس له، فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله. فقال: لا تحزن. إن الله معنا" فظاهر هذه الرواية أن قصة الراعي واللبن كانت قبل قصة سراقة، ويؤكدها رواية أخرى للبخاري، وفيها بعد قصة اللبن "فارتحلنا بعد ما مالت الشمس، واتبعنا سراقة بن مالك ... " وهو الذي نميل إليه. (فحلبت له كثبة من لبن) "الكثبة" بضم الكاف وإسكان الثاء، وهي الشيء القليل، والمراد هنا قيل: قدر قدح، وقيل: حلبة خفيفة، وهي في الأصل تطلق على القليل من الماء واللبن، وعلى الجرعة تبقى في الإناء، وعلى القليل من الطعام والشراب وغيرهما من كل مجتمع. وظاهر الرواية أن أبا بكر باشر هنا الحلب بنفسه، لكن رواية البخاري السابقة تجعل الفعل هنا على المجاز، أي فأمرت أن يحلب له. (فشرب حتى رضيت) أي شرب حتى علمت أنه شرب حاجته وكفايته. (فاتبعه سراقة بن مالك بن جعشم) بضم الجيم وسكون العين، وكنيته أبو سفيان، ونسبه المدلجي، بضم الميم وسكون الدال، من بني مدلج بن مرة بن عبد مناة بن كنانة. وقد ذكرت روايات البخاري سبب اتباعه وتفصيله، وفيها "عن سراقة قال: جاءنا رسل كفار قريش، يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، دية كل واحد منهما، لمن قتله أو أسره [أي يجعلون لمن يقتل واحداً منهما أو يأسره دية رجل، وهي مائة ناقة] فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج، إذ أقبل رجل منهم، حتى قام علينا، ونحن جلوس، فقال: يا سراقة [وكان فارساً مشهوراً] إني قد رأيت آنفاً أسودة بالساحل [جمع سواد، أي أشخاصاً] أراها [أي أظنها] محمداً وأصحابه، قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلاناً وفلاناً، انطلقوا بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت، فدخلت، فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي من وراء أكمة، فتحبسها علي، وأخذت رمحي، فخرجت به من ظهر البيت، حتى أتيت فرسي، فركبتها، فأسرعت بها، حتى دنوت منهم، فعثرت بي فرسي، فخررت عنها، فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي، فاستخرجت منها الأزلام، فاستقسمت بها: أضرهم؟ أم لا؟ فخرج الذي أكره [أي لا تضرهم] فركبت فرسي، وعصيت الأزلام، حتى سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات، فساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها، فنهضت، فاستقسمت بالأزلام، فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان [في رواية ابن إسحق: فناديت القوم: أنا سراقة بن مالك بن جعشم. أنظروني أكلمكم، فوالله لا آتيكم ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه، وفي رواية "وأنا لكم نافع غير ضار، وإني لا أدري لعل الحي فزعوا لركوبي، وأنا راجع، ورادهم عنكم] فوقفوا، فركبت فرسي

حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيتهم، وحين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم، أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزآني [أي لم ينقصاني شيئاً مما معي] ولم يسألاني [في رواية "فقلت: هذه كنانتي، فخذ سهماً منها، فإنك تمر على إبلي وغنمي، بمكان كذا وكذا، فخذ منها حاجتك. فقال لي: لا حاجة لنا في إبلك وفي رواية "قلت: يا نبي الله، مرني بما شئت. قال: فقف مكانك، لا تتركن أحداً يلحق بنا"] فسألته أن يكتب لي كتاب أمن، فأمر عامر بن فهيرة، فكتب في رقعة من أدم. ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم". وفي رواية "فجعل لا يلقى أحداً إلا رده، وقال له: قد كفيتم ما ههنا" وفي رواية "فرجعت، فسئلت، فلم أذكر شيئاً مما كان، حتى إذا فرغ من حنين، بعد فتح مكة، خرجت لألقاه، ومعي الكتاب، فلقيته بالجعرانة، حتى دنوت منه، فرفعت يدي بالكتاب، فقلت: يا رسول الله، هذا كتابك. فقال: يوم وفاء وبر. ادن. فأسلمت. أما عامر بن فهيرة فقد كان مولداً من مولدي الأزد، أسود اللون، مملوكاً للطفيل بن عبد الله بن سخبرة، فأسلم وهو مملوك، فاشتراه أبو بكر وأعتقه، وكان حسن الإسلام، ودوره في الهجرة أنه كان يرعى الغنم، وهم في ثور، ويروح بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر في الغار، وانطلق معهما. شهد بدراً وأحداً، ثم قتل يوم بئر معونة، وهو ابن أربعين سنة. (فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فساخت فرسه) بالسين ثم خاء، أي نزلت في الأرض، وقبضتها الأرض، وكان في أرض يابسة، وفي رواية "فارتطمت به فرسه في الأرض إلى بطنها" وفي رواية "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اكفناه بما شئت" وفي رواية "فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اللهم اصرعه. فصرعه فرسه". (ادع الله لي، ولا أضرك) قال النووي: وقع في بعض الأصول "ادعوا الله" بلفظ التثنية، للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه، وفي بعضها "ادع" بلفظ الواحد، وكلاهما ظاهر. والمدعو به محذوف للعلم به من المقام، أي أن ينجيني وينقذني من هذا السقوط، وفي رواية للبخاري "فطلب إليه سراقة أن لا يدعو عليه وأن يرجع، ففعل النبي صلى الله عليه وسلم". (فدعا الله) له، زاد في رواية "فانطلق". (أتي ليلة أسري به بإيلياء بقدحين، من خمر ولبن) قوله "من خمر ولبن" على التوزيع، أي بقدح من خمر، وقدح من لبن، و"أتي" بضم الهمزة وكسر التاء مبني للمجهول، و"إيلياء" بالمد، ويقال بالقصر، ويقال: إلياء بحذف الياء الأولى، وهو بيت المقدس، وقوله "بإيلياء" متعلق بأتي، أي أتي وهو بإيلياء ليلة الإسراء بقدحين، وفي هذه الرواية محذوف، تقديره: أتي بقدحين، فقيل له: اختر أيهما شئت" كما جاء مصرحاً به في البخاري، وفي رواية لمسلم في باب الإسراء "فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر، وإناء من لبن وظاهر روايتنا أن الإتيان بالإناءين كان بإيلياء، وأصرح

منها في ذلك ما رواه مسلم بلفظ "ثم دخلت المسجد، فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت، فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر، وإناء من لبن" لكن في رواية للبخاري ومسلم أن الإتيان بالإناءين كان في المعراج في السماء، ولفظ البخاري "ثم رفع لي البيت المعمور، ثم أتيت بإناء من خمر، وإناء من لبن، وإناء من عسل". قال الحافظ ابن حجر: ويجمع بين الاختلاف إما بحمل "ثم" على غير بابها من الترتيب، وإنما هي بمعنى الواو هنا، وإما بوقوع عرض الآنية مرتين، مرة عند فراغه من الصلاة ببيت المقدس، وسببه ما وقع من العطش، ومرة عند وصوله إلى سدرة المنتهى. كما أن روايتنا تفيد أن الذي عرض عليه إناءان. إناء من لبن، وإناء من خمر، وفي بعض روايات الصحيح ثلاثة بإضافة إناء من عسل، وفي حديث أبي سعيد عند ابن إسحق "فصلى بهم -يعني بالأنبياء- ثم أتي بثلاثة آنية، إناء فيه لبن، وإناء فيه خمر، وإناء فيه ماء، فأخذت اللبن". قال الحافظ ابن حجر: وأما الاختلاف في عدد الآنية وما فيها، فيحمل على أن بعض الرواة ذكر ما لم يذكر الآخر، والزيادة من الثقة مقبولة، وذكر الاثنين لا ينافي الثلاثة، وذكر الثلاثة لا ينافي الأربعة، ومجموعها أربعة آنية، وفيها أربعة أشياء، من الأنهار الأربعة التي رآها تخرج من سدرة المنتهى، فعند الطبري، لما ذكر سدرة المنتهى يخرج من بينها أنهار من ماء غير آسن ومن لبن لم يتغير طعمه ومن خمر لذة للشاربين ومن عسل مصفى فلعله عرض عليه من كل نهر إناء، وفي حديث أبي هريرة عن ابن عائذ، بعد ذكر إبراهيم، قال: "ثم انطلقنا فإذا نحن بثلاثة آنية مغطاة، فقال جبريل: يا محمد، ألا تشرب مما سقاك ربك؟ فتناولت أحدها، فإذا هو عسل، فشربت منه قليلاً ثم تناولت الآخر، فإذا هو لبن، فشربت منه حتى رويت، فقال: ألا تشرب من الثالث؟ قلت: قد رويت. قال: وفقك الله". (فنظر إليهما، فأخذ اللبن) قال النووي: ألهمه الله تعالى اختيار اللبن، لما أراده سبحانه وتعالى من توفيق هذه الأمة واللطف بها. اهـ قال ابن المنير: لم يذكر السر في عدوله عن العسل إلى اللبن، كما ذكر السر في عدوله عن الخمر، ولعل السر في ذلك كون اللبن أنفع، وبه يشتد العظم، وينبت اللحم، وهو بمجرده قوت، ولا يدخل في السرف بوجه، وهو أقرب إلى الزهد، ولا منافاة بينه وبين الورع بوجه، والعسل وإن كان حلالاً، لكنه من المستلذات التي قد يخشى على صاحبها أن يندرج في قوله تعالى: {أذهبتم طيباتكم} [الأحقاف: 20] قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون السر في ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان قد عطش، فآثر اللبن لما فيه من حصول حاجته، دون الخمر والعسل، فهذا هو السبب الأصلي في إيثار اللبن، وصادف مع ذلك رجحانه عليهما من عدة جهات. اهـ (الحمد لله الذي هداك للفطرة) قال النووي: المراد بالفطرة هنا الإسلام والاستقامة، وجعل اللبن علامة على ذلك لكونه سهلاً طيباً، طاهراً سائغاً للشاربين، سليم العاقبة، وأما الخمر فإنها أم الخبائث، وجالبة لأنواع من الشر في الحال والمآل. اهـ

وقال القرطبي: يحتمل أن يكون سبب تسمية اللبن فطرة أنه أول شيء يدخل بطن المولود، ويشق أمعاءه، والسر في ميل النبي صلى الله عليه وسلم إليه، دون غيره، لكونه كان مألوفاً له، ولأنه لا ينشأ عن جنسه مفسدة. اهـ وفي رواية للبخاري أن جبريل عليه السلام قال له: "أصبت الفطرة أنت وأمتك". (لو أخذت الخمر غوت أمتك) أي ضلت، وانهمكت في الشر. -[فقه الحديث]- ترجم النووي لهذه الأحاديث بباب جواز شرب اللبن، وترجم البخاري بباب شرب اللبن، وقول الله عز وجل {يخرج من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين} قال الحافظ ابن حجر: وقع بلفظ "يخرج" في أوله، في معظم النسخ، والذي في القرآن {نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم} [النحل: 66] وأما لفظ "يخرج" فهو في الآية الأخرى من السورة {يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه} [النحل: 69] ووقع حذف "يخرج" من أول الآية وأول الباب في بعض النسخ، فكأن زيادة لفظ "يخرج" ممن دون البخاري. ثم قال: وهذه الآية صريحة في إحلال شرب لبن الأنعام، بجميع أنواعه، لوقوع الامتنان به، فيعم جميع ألبان الأنعام، في حال حياتها. وقد زعم بعضهم أن اللبن إذا طال العهد به وتغير صار يسكر، قال الحافظ: وهذا ربما يقع نادراً، إن ثبت وقوعه، ولا يلزم منه تأثيم شاربه، إلا إن علم أن عقله يذهب به، فشربه لذلك، نعم يقع السكر باللبن إذا جعل فيه ما يصير باختلاطه معه مسكراً، فيحرم. اهـ وقد بوب البخاري في الطهارة بباب هل يمضمض من اللبن؟ وساق "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب لبناً فمضمض، وقال: إن له دسماً" قال الحافظ ابن حجر: فيه بيان العلة للمضمضة من اللبن، فيدل على استحبابها من كل شيء دسم. هذا، والمشكل في هذه الأحاديث شرب رسول الله صلى الله عليه وسلم من لبن غنم لم يأذن صاحبها في حلبها؟ قال المهلب: إنما شرب النبي صلى الله عليه وسلم من لبن تلك الغنم لأنه كان حينئذ في زمن المكارمة، أي جرياً على العادة المألوفة للعرب في إباحة ذلك، والإذن بالحلب للمار ولابن السبيل، فكان كل راع مأذوناً له في ذلك، وقال ابن العربي: كانت عادة أهل الحجاز والشام وغيرهم من المسامحة في ذلك، بخلاف بلدنا. اهـ لكن روى البخاري "لا يحلبن أحد ماشية امرئ بغير إذنه، أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته؟ فتكسر خزانته؟ فينتقل طعامه؟ فإنما تخزن لهم ضروع ماشيتهم أطعماتهم، فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه" قال ابن عبد البر: في الحديث النهي عن أن يأخذ المسلم من المسلم شيئاً إلا بإذنه، وإنما خص اللبن بالذكر لتساهل الناس فيه، فنبه به على ما هو أولى منه، وبهذا أخذ الجمهور، إلا إن كان بإذن خاص، أو إذن عام، واستثنى كثير من السلف ما إذا علم طيب نفس صاحبه، وإن لم يقع

منه إذن خاص ولا عام، وقد شرب صلى الله عليه وسلم لأنه علم أن صاحب اللبن لا يكره شربه صلى الله عليه وسلم منه. وذهب كثير منهم إلى الجواز مطلقاً في الأكل والشرب، سواء علم بطيب نفسه، أو لم يعلم، والحجة لهم ما أخرجه أبو داود والترمذي وصححه مرفوعاً "إذا أتى أحدكم على ماشية، فإن لم يكن صاحبها فيها فليصوت ثلاثاً، فإن أجاب فليستأذنه، فإن أذن له، وإلا فليحلب، وليشرب، ولا يحمل" وله شاهد عند ابن ماجه، بلفظ "إذا أتيت على راع، فناده ثلاثاً، فإن أجابك، وإلا فاشرب، من غير أن تفسد" وعند الترمذي عن ابن عمر مرفوعاً "إذا مر أحدكم بحائط فليأكل، ولا يتخذ خبيئة" لكن الترمذي استغربه، وقال البيهقي: لم يصح، وجاء من أوجه أخر غير قوية، قال الحافظ ابن حجر: والحق أن مجموعها لا يقصر عن درجة الصحيح، وقد احتجوا في كثير من الأحكام بما هو دونها. اهـ وقد أشار الحافظ بذلك إلى ما أخرجه ابن ماجه والطحاوي وصححه ابن حبان والحاكم بلفظ "وإذا أتيت على حائط بستان فناد ثلاثاً، فإن أجابك، وإلا فاطعم من غير أن تفسد". وللعلماء أمام أحاديث النهي وأحاديث الإذن مذاهب: منهم من رجح أحاديث النهي، وأخذ بها، وترك أحاديث الإذن، بدعوى أن حديث النهي أصح، فهو أولى أن يعمل به، ولأن أحاديث الإذن تعارض القواعد القطعية في تحريم مال المسلم بغير إذنه. ومن العلماء من جمع بين أحاديث النهي وأحاديث الإذن. فقال بعضهم: تحمل أحاديث الإذن على ما إذا علم طيب نفس صاحبه، وأحاديث النهي على ما إذا لم يعلم. وقال بعضهم: تخصص أحاديث الإذن بابن السبيل، أو بالمضطر، أو بحال المجاعة مطلقاً. وقال بعضهم: تخصص أحاديث الإذن ببيئة يغلب عليها التسامح والمواساة، كما كان الحال في زمنه صلى الله عليه وسلم، دون ما كان بعد زمنه صلى الله عليه وسلم من التشاح، فكأنه صلى الله عليه وسلم أشار بأحاديث النهي إلى ما سيكون بعده. وقال بعضهم: تحمل أحاديث النهي على ما إذا كان المالك أحوج من المار، لحديث أبي هريرة "بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر إذ رأينا إبلاً مصرورة، فثبنا إليها، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذه الإبل لأهل بيت من المسلمين، هو قوتهم، أيسركم لو رجعتم إلى مزاودكم، فوجدتم ما فيها قد ذهب؟ قلنا: لا. قال: فإن ذلك كذلك" أخرجه أحمد وابن ماجه، واللفظ لابن ماجه، وفي لفظ أحمد "فابتدرها القوم ليحلبوها" قالوا: فيحمل حديث الإذن على ما إذا لم يكن المالك محتاجاً، وحديث النهي على ما إذا كان محتاجاً. وقال بعضهم: يحمل الإذن على ما إذا كانت غير مصرورة، ويحمل النهي على ما إذا كانت مصرورة، لهذا الحديث. لكن وقع عند أحمد في آخره "فإن كنتم لا بد فاعلين فاشربوا، ولا تحملوا" فدل على عموم الإذن في المصرور وغيره، لكن بقيد عدم الحمل، ولا بد منه.

وقال بعضهم: يقصر الإذن على المحتاج من المسافرين في الغزو. وقال بعضهم: يقصر الإذن على ما كان لأهل الذمة، والنهي على ما كان للمسلمين، واستؤنس له بما شرطه الصحابة على أهل الذمة من ضيافة المسلمين، وصح ذلك عن عمر رضي الله عنه. وقيد ذلك بعضهم بالزمن الماضي، فقد ذكر ابن وهب عن مالك في المسافر، ينزل بالذمي؟ قال: لا يأخذ منه شيئاً إلا بإذنه، قيل له: فالضيافة التي جعلت عليهم؟ قال: كانوا يومئذ يخفف عنهم بسببها، وأما الآن فلا. وجنح بعضهم إلى نسخ الإذن، وحملوه على أنه كان قبل إيجاب الزكاة، قالوا: وكانت الضيافة حينئذ واجبة، ثم نسخ ذلك بفرض الزكاة. قال الطحاوي: وكان ذلك حين كانت الضيافة واجبة، ثم نسخت، فنسخ ذلك الحكم. وأمام هذه التوجيهات اختلف العلماء الفقهاء فيمن مر ببستان أو زرع أو ماشية. قال الجمهور والشافعية لا يجوز أن يأخذ منه شيئاً، إلا في حال الضرورة، فيأخذ، ويغرم: وقال بعض السلف: لا يلزمه شيء. وقال أحمد: إذا لم يكن على البستان حائط جاز له الأكل من الفاكهة الرطبة، في أصح الروايتين، ولو لم يحتج لذلك. وفي الرواية الأخرى: إذا احتاج، ولا ضمان عليه في الحالين. هذا. وقد أغرب من قال: إنما استجازه صلى الله عليه وسلم لأنه مال حربي، فيجوز الاستيلاء عليه، وهذا بعيد، لأن القتال لم يكن فرض بعد، ولا أبيحت الغنائم. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - في الأحاديث فضيلة لأبي بكر رضي الله عنه. 2 - وخدمة التابع الحر للمتبوع في يقظته. 3 - والاجتهاد في مصالحه في نومه. 4 - وشدة محبة أبي بكر للرسول صلى الله عليه وسلم. 5 - وأدبه معه. 6 - وإيثاره له على نفسه. 7 - واستصحاب آلة السفر، كالقدح ونحوه، ولا يقدح ذلك في التوكل. 8 - استدل به بعضهم على طهارة المني بقياسه على اللبن في طهارته، مع خروجه من بين فرث ودم. وفي هذا الاستدلال بعد. 9 - استدل به بعضهم على أن الشيء المستهلك يغتفر التقاطه، لأن المبيح للبن هنا أنه في حكم

الضائع، إذ ليس مع الغنم في الصحراء سوى راع واحد، فالفاضل عن شربه مستهلك، وأعلى أحواله أن يكون كالشاة الملتقطة في الضيعة، وقد قال فيها "هي لك أو لأخيك، أو للذئب" وهو استدلال بعيد. 10 - وفي قصة سراقة معجزة ظاهرة للرسول صلى الله عليه وسلم. 11 - وفي حمد جبريل عليه السلام استحباب الحمد عند تجدد النعم، وحصول ما كان الإنسان يتوقع حصوله، واندفاع ما كان يخاف وقوعه. 12 - وفي اختيار اللبن توفيق الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، وتوفيق هذه الأمة، واللطف بها. 13 - ومن قوله "لو أخذت الخمر غوت أمتك" أن الخمر ينشأ عنها الغي، ولا يختص ذلك بقدر معين. 14 - قال الحافظ ابن حجر: ومن عرض الآنية عليه صلى الله عليه وسلم إرادة إظهار التيسير عليه، وإشارة إلى تفويض الأمور إليه. والله أعلم

(559) باب تخمير الإناء، وإيكاء السقاء وإغلاق الأبواب وإطفاء السراج والنار وكف الصبيان ليلا

(559) باب تخمير الإناء، وإيكاء السقاء وإغلاق الأبواب وإطفاء السراج والنار وكف الصبيان ليلاً 4587 - عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بقدح لبن من النقيع ليس مخمراً. فقال: "ألا خمرته ولو تعرض عليه عوداً" قال أبو حميد: إنما أمر بالأسقية أن توكأ ليلاً، وبالأبواب أن تغلق ليلاً. 4588 - وفي رواية عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بقدح لبن. بمثله. قال: ولم يذكر زكرياء قول أبي حميد بالليل. 4589 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستسقى. فقال رجل: يا رسول الله ألا نسقيك نبيذا؟ فقال: "بلى" قال: فخرج الرجل يسعى، فجاء بقدح فيه نبيذ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا خمرته ولو تعرض عليه عوداً" قال: فشرب. 4590 - عن جابر رضي الله عنه قال: جاء رجل يقال له أبو حميد بقدح من لبن من النقيع. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا خمرته ولو تعرض عليه عوداً". 4591 - عن جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "غطوا الإناء. وأوكوا السقاء. وأغلقوا الباب. وأطفئوا السراج. فإن الشيطان لا يحل سقاء، ولا يفتح باباً، ولا يكشف إناء. فإن لم يجد أحدكم إلا أن يعرض على إنائه عوداً، ويذكر اسم الله، فليفعل. فإن الفويسقة تضرم على أهل البيت بيتهم" ولم يذكر قتيبة في حديثه: وأغلقوا الباب. 4592 - وفي رواية عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث، غير أنه قال: "وأكفئوا الإناء، أو خمروا الإناء" ولم يذكر تعريض العود على الإناء.

4593 - وفي رواية عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أغلقوا الباب" فذكر بمثل حديث الليث، غير أنه قال: "وخمروا الآنية" وقال "تضرم على أهل البيت ثيابهم". 4594 - وفي رواية عن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم. بمثل حديثهم وقال "والفويسقة تضرم البيت على أهله". 4595 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا كان جنح الليل أو أمسيتم، فكفوا صبيانكم، فإن الشيطان ينتشر حينئذ. فإذا ذهب ساعة من الليل. فخلوهم. وأغلقوا الأبواب، واذكروا اسم الله فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً. وأوكوا قربكم واذكروا اسم الله. وخمروا آنيتكم واذكروا اسم الله، ولو أن تعرضوا عليها شيئاً. وأطفئوا مصابيحكم". 4596 - وفي رواية عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: نحواً مما أخبر عطاء إلا أنه لا يقول: "اذكروا اسم الله عز وجل". 4597 - عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا ترسلوا فواشيكم وصبيانكم إذا غابت الشمس، حتى تذهب فحمة العشاء، فإن الشياطين تنبعث إذا غابت الشمس، حتى تذهب فحمة العشاء". 4598 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "غطوا الإناء. وأوكوا السقاء. فإن في السنة ليلة ينزل فيها وباء، لا يمر بإناء ليس عليه غطاء، أو سقاء ليس عليه وكاء إلا نزل فيه من ذلك الوباء".

4599 - وفي رواية عن ليث بن سعد بهذا الإسناد بمثله. غير أنه قال "فإن في السنة يوماً ينزل فيه وباء" وزاد في آخر الحديث: قال الليث: فالأعاجم عندنا يتقون ذلك في كانون الأول. 4600 - عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون". 4601 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال: احترق بيت على أهله بالمدينة من الليل. فلما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بشأنهم، قال "إن هذه النار إنما هي عدو لكم؛ فإذا نمتم، فأطفئوها عنكم". -[المعنى العام]- آية من آيات الله على أن الإسلام دين جاء لخير الإنسانية في الدنيا والآخرة، جاء لعمارة الأرض، وحماية الإنسان من الأضرار التي قد تصيبه من مخلوقات محيطة به، جاء ليحفظ النفس، ويحذرها من أن تلقي بيدها إلى ما يؤذيها، جاء يرشد ابن آدم إلى ما ينفعه، ويحذره مما يضره، فليس الإسلام دين صلاة وصيام وحج وزكاة فحسب، بل هناك من الأعمال الدنيوية ما هو طاعة يثاب عليها، فحماية النفس، وحماية البيئة، وحماية الأموال مطلب شرعي، ونفع مادي، وها هي الأوامر والإرشادات في هذه الأحاديث تؤكد أن الإسلام للدنيا والدين. خمروا وغطوا أوانيكم بما فيها من طعام أو شراب، تحفظونها وتحفظون ما فيها من التراب والأذى والهوام الزاحفة والطائرة، واربطوا فم القربة التي تحفظ لكم الماء واللبن، لئلا يدخلها ما تكرهونه، وتحقق ما خافه صلى الله عليه وسلم في حينه، إذ أصبح أحد الصحابة فوجد في قربته التي تركها دون أن يشد حبلاً على فمها، وجد ثعباناً بها، إن تغطية الآنية وقاية وحماية حتى من الأوبئة. والميكروبات التي تنتشر في الجو في كل حين دون أن نراها بأبصارنا، والخبراء يقولون: إن هناك في بعض مواسم العام يكثر انتشار الميكروبات المعينة في الجو، فلا يوجد إناء مكشوف به طعام أو شراب في هذا الموقع إلا دخلته، ولوثت الطعام والشراب، وعرضت آكله أو شاربه إلى الأمراض، وقد سبق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الخبراء بأربعة عشر قرناً حيث قال: "إن في السنة

ليلة، ينزل فيها وباء، لا يمر بإناء ليس عليه غطاء، أو سقاء ليس عليه وكاء، إلا نزل فيه من ذلك الوباء" صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغ عن الله تعالى. خمروا آنيتكم، واربطوا فم قربتكم، وغطوا أواني شرابكم، واذكروا الله عليها يحفظها الله، ويحفظكم من أضرارها، وأغلقوا أبوابكم في الليل وعند النوم، فالباب المغلق يعرقل الشرور، يعطل اللص، ويمنع الأذى، ويستر العورات، ويهب النائم الأمن والاطمئنان فإن شياطين الإنس والجن والمؤذيات من المفترسات والهوام لا تفتح بسهولة باباً مغلقاً، واذكروا اسم الله عند إغلاق الأبواب، تتدخل العناية الإلهية مع الأخذ بالأسباب. وأطفئوا السراج عند النوم، وأطفئوا النيران عند النوم، فإن النار من أخطر أعدائكم يخشى عليكم أن تشتعل فتحرق البيت وتحرقكم وأنتم غارقون في نومكم، فإن الفأرة قد تجر النار من أماكنها إلى الفراش، وقد فعلت مثل ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وامنعوا صبيانكم ومواشيكم وما تخافون عليه من متحركات أموالكم من الخروج في مدخل الليل، فإن الأخطار في هذا الوقت أكثر وقوعاً منها في غيره، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا كان جنح الليل فاحبسوا أولادكم، فإن الله يبث من خلقه باليل، ما لا يبثه بالنهار، وإن للشياطين انتشاراً أو خطفة" وإن الصبيان لا يملكون الدفاع عن النفس، فليسوا كالكبار. -[المباحث العربية]- (بقدح لبن) الإضافة على معنى "من" وقد صرح بها في الرواية الثالثة، وفي الرواية الثانية "فجاء بقدح فيه نبيذ" فهو نبيذ من لبن. (من النقيع) قال النووي: روي بالنون، وبالباء، حكاهما القاضي عياض، والصحيح الأشهر الذي قاله الخطابي والأكثرون بالنون، وهو موضع بوادي العقيق، وهو الذي حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم لرعي النعم، اهـ وقال ابن التين: رواه بعضهم بالباء، وهو تصحيف، فإن البقيع مقبرة المدينة، وقال القرطبي: الأكثرون على النون، وهو من ناحية العقيق على عشرين فرسخاً من المدينة. وكان وادياً يجتمع فيه الماء، والماء الناقع هو المجتمع، وعن الخليل: النقيع الوادي الذي يكون فيه الشجر. وفي الرواية الثانية "قال جابر: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستسقى، فقال رجل: يا رسول الله، ألا نسقيك نبيذا؟ فقال: بلى. قال: فخرج يسعى، فجاء بقدح، فيه نبيذ" وفي الرواية الثالثة "جاء رجل يقال له: أبو حميد، بقدح من لبن من النقيع" فالنبيذ من لبن، تغير، ولم يشتد، ولم يصر مسكراً وظاهر هذه الروايات أن سبب الإتيان بقدح اللبن هو عطش الرسول صلى الله عليه وسلم، وطلبه أن يسقى، وأن الرجل المبهم في الرواية الثانية هو أبو حميد الساعدي، وأن جابرا حضرها، فرواها، عن مشاهدته، كما هو ظاهر

الرواية الثانية والثالثة، فأبهم الرجل في الثانية، وصرح به في الثالثة، لكن ظاهر الرواية الأولى أن جابراً حمل القصة ورواها عن أبي حميد، ولا مانع من اجتماع الروايتين لجابر عن قصة واحدة، وهو ما نميل إليه، لكن الحافظ ابن حجر يميل إلى أنهما قصتان، إذ قال: والذي يظهر أن قصة اللبن كانت لأبي حميد، وأن جابراً حضرها، وأن قصة النبيذ حملها جابر عن أبي حميد. (ليس مخمراً، فقال: ألا خمرته؟ ) أي ليس القدح أو اللبن أو النبيذ مغطى، والتخمير التغطية، ومنه الخمر، لأنه يغطي العقل، وخمار المرأة غطاء رأسها، "ألا" بفتح الهمزة والتشديد، بمعنى "هلا" وهي حرف تحضيض، إذا دخلت على المضارع أفادت الطلب بحث، وإذا دخلت على الماضي أفادت اللوم والتوبيخ، كما هو هنا، وأما "ألا" في قوله في الرواية الثانية فهي بتخفيف اللام، ومعناها العرض، وهو الطلب برفق ولين. (ولو تعرض عليه عوداً) قال النووي: المشهور في ضبطه "تعرض" بفتح التاء وضم الراء، وهكذا قاله الأصمعي والجمهور، ورواه أبو عبيد بكسر الراء، والصحيح الأول، ومعناه تمده عليه عرضاً، أي خلاف الطول. اهـ والمعنى إن لم تتيسر التغطية بكمالها فلا أقل من وضع عود على عرض الإناء، وجواب "لو" محذوف، أي لكان كافياً. (إنما أمر بالأسقية أن توكى ليلاً) "أمر" بضم الهمزة، مبني للمجهول، أي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، و"توكى" بضم التاء وفتح الكاف مبني للمجهول، يقال: وكى السقاء والصرة، يكيها وكياً، وأوكى السقاء والصرة إذا شدها بالوكاء، وهو الخيط الذي تشد به القربة أو الكيس أو الصرة ونحوها والمصدر في "أن توكى" بدل من "الأسقية" أي أمر بوكي الأسقية، والسقاء إناء الماء، والفرق بينه وبين القربة أن القربة للماء غالباً، والسقاء للماء واللبن غالباً، والمراد هنا ما يعم إناء الماء واللبن وكل سائل. وفي الأصول التي تحت يدي "أن توكأ" بالهمزة، وتوجيهه بعيد، لأن معنى "وكأ" توكأ على الشيء، واعتمد عليه، ومنه المتكأ، وتوكأ على عصاه. (غطوا الإناء) الإناء وعاء الطعام والشراب، فهو أعم من السقاء، وقد تخص الأسقية بظروف الماء واللبن، ذات الفم الضيق الذي يربط، والآنية بالطروف ذات الفم الواسع الذي يغطي. وفي الرواية الخامسة "وخمروا آنيتكم" وفي ملحق الرواية الرابعة "وأكفئوا الإناء، أو خمروا الإناء" بالشك، يقال: كفأ الإناء وأكفأه قلبه. (وأوكوا السقاء) في رواية للبخاري "وأوكئوا السقاء" بالهمزة، والصحيح ما في روايتنا، لما سبق في معنى "وكى" و"وكأ" والمقصود تغطية الإناء الذي به الطعام أو الشراب، وليس الإناء الفارغ، إذ الهدف حماية الطعام والشراب، لا حماية الإناء، وإن كانت حماية الإناء مطلوبة بوجه ما، وكذا يقال في وكي السقاء، وفي رواية للبخاري "وخمروا الطعام والشراب".

(وأغلقوا الباب) "ال" في "الباب" للجنس الصادق على كثيرين، وفي الرواية الخامسة "وأغلقوا الأبواب" وفيها مقابلة الجمع بالجمع المقتضي للقسمة آحاداً، أي ليغلق كل واحد منكم بابه. و"أغلقوا" بهمزة قطع من الرباعي، ولا يقال بهمزة وصل من الثلاثي، لأن الثلاثي لا يتعدى بنفسه، إلا في لغة نادرة، فالثلاثي يقال فيه: غلق الباب، بكسر اللام، ورفع الباب على الفاعلية، يغلق بفتح اللام، غلقاً بفتح اللام، إذا عسر فتحه، أما أغلق الباب فمعناه أوثقه بالغلق، بفتح اللام، وفي رواية للبخاري "وغلقوا الأبواب" بتشديد اللام، وفي رواية له "وأجيفوا الأبواب" أي أغلقوها. (وأطفئوا السراج) في الرواية الخامسة "وأطفئوا مصابيحكم" وفي الرواية الثامنة "لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون" وفي الرواية التاسعة "إن هذه النار إنما هي عدو لكم، فإذا نمتم فأطفئوها عنكم". قال النووي: هذا عام تدخل فيه نار السراج وغيرها، أما القناديل المعلقة في المساجد وغيرها، فإن خيف حريق بسببها دخلت في الأمر بالإطفاء، وإن أمن ذلك، كما هو الغالب، فالظاهر أنه لا بأس بها، لانتفاء العلة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل الأمر بالإطفاء في الحديث السابق، بأن الفويسقة تضرم النار على أهل البيت، فإذا انتفت العلة زال المنع. اهـ أقول: إن العلة لم تنحصر في النار، فالأولى أن يقال: إذا أمن الضرر والخطر من جميع الوجوه زال المنع، والأمان الحقيقي في اتباع هذه الإرشادات. (فإن الفويسقة تضرم على أهل البيت بيتهم) في ملحق الرواية الرابعة "تضرم على أهل البيت ثيابهم" وفي ملحقها الثاني "والفويسقة تضرم البيت على أهله" والمراد بالفويسقة الفأرة، وتطلق الفأرة على الواحد من الفيران ذكراً أو أنثى، وقيل: يطلق الفأر على المذكر، والفأرة على المؤنث، والفأر يطلق على الكبير والصغير، وتخفف الهمزة، فيقال: فار، والجمع فئران وفيران وفئرة. وأصل الفسق في اللغة الخروج، ومنه: فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها، وقوله تعالى: {ففسق عن أمر ربه} [الكهف: 50] أي خرج، وسمي الفاسق فاسقاً لخروجه عن طاعة ربه، والفأرة فاسقة لخروجها عن حكم غيرها بالإيذاء والإفساد وعدم الانتفاع، والتصغير فيها للتحقير، لا لتقليل فسقها، وعند ابن ماجه: قيل لأبي سعيد: لم قيل للفأرة فويسقة؟ فقال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ لها، وقد أخذت الفتيلة لتحرق بها البيت". و"تضرم" بضم التاء مع إسكان الضاد، أي تحرق سريعاً، يقال: ضرمت النار، بكسر الراء تضرم بفتحها من الثلاثي اللازم، أي اتقدت، وأضرم النار أوقدها وأشعلها. والفاء في "فإن الفويسقة" فاء التعليل، والجملة مرتبطة بإغلاق الباب وإطفاء السراج، كتعليل آخر، مع تعليل الشيطان. فإغلاق الباب يمنع الفويسقة من الدخول، وإطفاء السراج وكل نار يحول دون الإحراق في الليل، وإذا كانت الأحاديث قد أشارت إلى أن خطر الفويسقة الإحراق فليس فيها ما يقصر خطرها على ذلك، فمن أخطارها قرض الثياب والأمتعة وأكل الطعام ونقل الأوبئة والأمراض، وإثارة الذعر والفزع والتقزز عند كثير من الناس.

(فإن الشيطان لا يحل سقاء، ولا يفتح باباً، ولا يكشف إناء) المراد من الشيطان هنا الهوام والحشرات الخبيثة والمؤذيات، فإن الشيطان هو الروح الخبيثة، وكل متمرد مفسد. (إذا كان جنح الليل) بضم الجيم وكسرها، لغتان مشهورتان، أي إذا أقبل ظلام الليل واختلاطه وأصل الجنوح الميل، وجنح الليل مال إلى ذهاب أو مجيء، وهو هنا ميل إلى المجيء، و"كان" تامة، وجنح الليل فاعل، وفي رواية البخاري "إذا استجنح الليل" وفي رواية "إذا استنجع الليل" وهي تصحيف، وفي رواية "إذا كان أول الليل". (فكفوا صبيانكم، فإن الشيطان ينتشر حينئذ) أي امنعوهم من الخروج إلى طرقات الصحاري والجبال، وفي الرواية السادسة "لا ترسلوا فواشيكم وصبيانكم إذا غابت الشمس، حتى تذهب فحمة العشاء، فإن الشياطين تنبعث إذا غابت الشمس، حتى تذهب فحمة العشاء" والفواشي كل ما ينتشر من المال، كالإبل والغنم وسائر البهائم وغيرها، وهي جمع فاشية، لأنها تفشو، أي تنتشر في الأرض، و"فحمة العشاء" ظلمتها وسوادها، وفسرها بعضهم هنا بإقباله، وأول ظلامه، ويقال للظلمة التي بين صلاتي المغرب والعشاء: الفحمة، والتي بين العشاء والفجر: العسعسة. قال النووي: المراد جنس الشيطان، ومعناه أنه يخاف على الصبيان ذلك الوقت من إيذاء الشياطين، لكثرتهم حينئذ، وقال الحافظ ابن حجر: قال ابن الجوزي: إنما خيف على الصبيان في تلك الساعة، لأن النجاسة التي تلوذ بها الشياطين موجودة معهم غالباً، والذكر الذي يحرز منهم مفقود من الصبيان غالباً، والشياطين عند انتشارهم يتعلقون بما يمكنهم التعلق به، والحكمة في انتشارهم حينئذ أن حركتهم في الليل أمكن منها في النهار لهم. اهـ وتميل هذه الأقوال إلى حمل "الشياطين" على شياطين الجن، وأميل إلى أن المراد من الشياطين في الحديث كل متمرد مؤذ من شياطين الجن وشياطين الإنس كاللصوص والفسقة والفجرة وشياطين المخلوقات الأخرى كالأفاعي والوحوش والهوام، والفواشي من الإبل والغنم وسائر البهائم ونحوها لا تحمي نفسها، والصبيان أقل الإنس دفاعاً عن النفس، ووقاية من الأخطار. والله أعلم. (فإن في السنة ليلة، ينزل فيها وباء) في ملحق الرواية "إن في السنة يوماً" ولا تعارض، فقد ينزل هذا الوباء في يوم وليلة، أي في 24 ساعة وليس في ذكر أحدهما نفي للآخر، وقد ينزل في سنة يوماً، وفي سنة ليلة، والوباء بالمد، ويقصر، لغتان، حكاهما الجوهري، وغيره، والقصر أشهر، قال الجوهري: جمع المقصور أوباء، وجمع الممدود أوبية، قالوا: والوباء مرض عام يفضي إلى الموت غالباً. ولعل هذا الوباء من نوع خاص، فإن الأوبئة بصفة عامة كثيرة، وتنزل في كل يوم وليلة في مناطق مختلفة. (فالأعاجم -عندنا- يتقون ذلك في كانون الأول) يقال: اتقى الشيء إذا خافه، وجعل

بينه وبينه وقاية، وحذره وتجنبه، فالمعنى كانوا يخافون وقوع ذلك الوباء، ويحذرونه، ويبالغون في تغطية طعامهم وشرابهم في شهر كانون الأول، وهو الشهر المعروف، ويعرف بشهر ديسمبر و"كانون" ممنوع من الصرف، للعلمية والعجمة. (إن هذه النار إنما هي عدو لكم) هكذا جاء بصيغة الحصر، مبالغة وتأكيد، وإلا ففيها مصالح العباد ومنافع لهم، قال ابن العربي: معنى كون النار عدواً لنا أنها تنافي أبداننا وأموالنا منافاة العدو، وإن كانت لنا بها منفعة، فأطلق أنها عدو لنا لوجود معنى العداوة فيها. -[فقه الحديث]- تتعرض هذه الأحاديث إلى إرشادات لحماية الإنسان والبيئة من الأضرار هي: 1 - تغطية إناء الطعام والشراب. 2 - إغلاق الأبواب ليلاً. 3 - إطفاء السراج عند النوم. 4 - إطفاء النار عند النوم. 5 - كف الصبيان والدواب من الانتشار ليلاً. 6 - ذكر الله تعالى عند كل ذلك. 1 - أما تغطية إناء الطعام والشراب حتى ساعة الأكل والشرب فالمقصود منه أولاً -وبالذات- حماية ما في الإناء من الطعام والشراب من التلوث والأضرار الصحية التي تنتشر في الجو، والتي تحملها الحشرات الطائرة والزاحفة من الذباب والناموس والنمل والصراصير وغيرها، ومن "الميكروبات والفيروسات" الدقيقة التي لا ترى بالعين المجردة، والتي عبرت عنها الرواية السابعة بالوباء ينزل على الإناء غير المغطى، ومن الروائح الكريهة والمغيرة للطعام والشراب التي تنتشر في الأجواء المحيطة بالطعام والشراب. هذا هدف أول من تغطية الإناء، الهدف الثاني حفظ الإناء نفسه نظيفاً من الداخل، حتى يحين وضع الطعام فيه، وإلى ذلك أشار ملحق الرواية الرابعة، إذ جاء بلفظ "وأكفئوا الإناء" ويتمثل هذا الإرشاد في الغطاء المحكم المعد لذلك في هذه الأيام للأواني ذات الفوهة الواسعة، وللأواني وأسقية الشراب من المعادن أو الزجاج أو البلاستيك ذات الفوهة الضيقة، كما كانت تتمثل قديماً في ربط فم القربة بخيط يسد فتحتها. لكن الروايات الأولى والثانية والثالثة والخامسة أمرت أن يخمر ولو بعود يوضع على عرض الإناء، إن لم يجد غطاء، وهذا الأمر مشكل، إذ العود لا يحقق الهدف المنشود من التغطية، وللعلماء في توجيه هذا التعبير اتجاهان.

الأول: أنه من قبيل المبالغة في الطلب، غير مقصود لفظه، كحديث "اتقوا النار ولو بشق تمرة" وحديث "من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة" على أن ما لا يدرك كله لا يترك كله. الاتجاه الثاني الأخذ في الاعتبار بالقيد الذي صرحت به الرواية الرابعة من ذكر الله عند عرض العود، ومن هنا يقول الحافظ ابن حجر: وأظن السر في الاكتفاء بعرض العود أن تعاطي التغطية أو العرض يقترن بالتسمية، فيكون العرض علامة على التسمية، فتمتنع الشياطين من الدنو منه، ويقول: فذكر اسم الله يحول بينه وبين فعل هذه الأشياء، ومقتضاه أنه يتمكن من كل ذلك إذا لم يذكر اسم الله وسيأتي قريباً مزيد لهذه المسألة. ويقول ابن بطال: أخبر صلى الله عليه وسلم أن الشيطان لم يعط قوة على شيء من ذلك، وإن كان أعطي ما هو أعظم منه، وهو دخوله في الأماكن التي لا يقدر الآدمي أن يدخل فيها. 2 - وأما إغلاق الأبواب ليلاً فقد قال ابن دقيق العيد: فيه من المصالح الدينية والدنيوية حراسة الأنفس والأموال من أهل العبث والفساد، ولا سيما الشياطين، وأما قوله "فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً" فإشارة إلى أن الأمر بالإغلاق لمصلحة إبعاد الشيطان عن الاختلاط بالإنسان، وخصه بالتعليل تنبيهاً على ما يخفى، مما لا يطلع عليه إلا من جانب النبوة، قال: والحديث يدل على منع دخول الشيطان الخارج، فأما الشيطان الذي كان داخلاً فلا يدل الخبر على خروجه، قال: فيكون ذلك لتخفيف المفسدة، لا رفعها، ويحتمل أن تكون التسمية عند الإغلاق تقتضي طرد من في البيت من الشياطين، وعلى هذا فينبغي أن تكون التسمية من ابتداء الإغلاق إلى تمامه. اهـ أي ليخرج من في الداخل أثناء الإغلاق. 3 - وأما إطفاء السراج فقد قال ابن دقيق العيد: إذا كانت العلة في إطفاء السراج الحذر من جر الفويسقة الفتيلة فمقتضاه أن السراج إذا كان على هيئة لا تصل إليه الفأرة [أو المكان لا تصل إليه فأرة] لا يمنع إيقاده، كما لو كان على منارة من نحاس أملس، لا يمكن الفأرة الصعود إليه، أو يكون مكانه بعيداً عن موضع يمكنها أن تثب منه إلى السراج. اهـ فإذا استوثق، بحيث يؤمن معه الإحراق زال الحكم بزوال علته، وقد صرح النووي بذلك في القنديل مثلاً، لأنه يؤمن معه الضرر الذي لا يؤمن مثله في السراج. 4 - وأما إطفاء النار عند النوم فقد قال القرطبي: إن الواحد إذا بات ببيت ليس فيه غيره، وفيه نار، فعليه أن يطفئها قبل نومه، أو يفعل بها ما يؤمن معه الاحتراق، وكذا إن كان في البيت جماعة، فإنه يتعين على بعضهم، وأحقهم بذلك آخرهم نوماً، فمن فرط في ذلك كان للسنة مخالفاً ولأدائها تاركاً. 5 - وأما كف الصبيان والدواب من الانتشار ليلاً، فقد مضى عنها في المباحث العربية ما فيه الكفاية. 6 - وأما ذكر الله فإنه يحول بين المخلوقات المؤذية وبين وقوع الأذى، وهو وقاية من كل سوء،

وقد أخرج مسلم والأربعة عن جابر رضي الله عنه رفعه "إذا دخل الرجل بيته، فذكر الله عند دخوله، وعند طعامه، قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله قال الشيطان: أدركتم" وكذلك إذا قال الرجل عند جماع أهله: اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا. كان سبب سلامة المولود من ضرر الشيطان، ولو بوجه ما، ففي الحديث الحث على ذكر الله تعالى على كل أمر ذي بال، وكذلك حمد الله تعالى في نهاية كل أمر ذي بال، وقد جعل الله تعالى هذه الأسباب أسباباً للسلامة من الإيذاء. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - قال النووي تعليقاً على ما جاء في الرواية الأولى من قوله "قال أبو حميد: إنما أمر بالأسقية أن توكى ليلاً، وبالأبواب أن تغلق ليلاً" قال النووي: هذا الذي قاله أبو حميد من تخصيصهما بالليل ليس في اللفظ ما يدل عليه، والمختار عند الأكثرين من الأصوليين، وهو مذهب الشافعي وغيره -رضي الله عنهم- أن تفسير الصحابي، إذا كان خلاف ظاهر اللفظ ليس بحجة، ولا يلزم غيره من المجتهدين موافقته على تفسيره، وأما إذا لم يكن في ظاهر الحديث ما يخالفه، بأن كان مجملاً، فيرجع إلى تأويله، ويجب الحمل عليه، لأنه إذا كان مجملاً لا يحل له حمله على شيء إلا بتوقيف، وكذا لا يجوز تخصيص العموم بمذهب الراوي، عند الشافعي والأكثرين، والأمر بتغطية الإناء عام، فلا يقبل تخصيصه بمذهب الراوي، بل يتمسك بالعموم. والله أعلم. 2 - قال القرطبي: الأمر والنهي في هذا الحديث للإرشاد، قال: وقد يكون للندب، وجزم النووي بأنه للإرشاد، لكونه لمصلحة دنيوية، وتعقب بأنه قد يفضي إلى مصلحة دينية، وهي حفظ النفس المحرم قتلها، والمال المحرم تبذيره، وقال ابن دقيق العيد: هذه الأوامر لم يحملها الأكثرون على الوجوب، ويلزم أهل الظاهر حملها على الوجوب، قال: وهذا لا يختص بالظاهري، بل الحمل على الظاهر إلا لمعارض ظاهر، يقول به أهل القياس، وإن كان أهل الظاهر أولى بالالتزام به، لكونهم لا يلتفتون إلى المفهومات والمناسبات. قال: وهذه الأوامر تتنوع بحسب مقاصدها، فمنها ما يحمل على الندب، وهو التسمية على كل حال، ومنها ما يحمل على الندب والإرشاد معاً، كإغلاق الأبواب، من أجل التعليل بأن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً، لأن الاحتراز من مخالطة الشيطان مندوب إليه، وإن كان تحته مصالح دنيوية، كالحراسة، وكذا إيكاء السقاء، وتخمير الإناء. 3 - استنبط بعضهم من الأمر بإغلاق الأبواب مشروعية إغلاق الفم عند التثاؤب، لدخوله في عموم الأبواب مجازاً. 4 - في ذكر الأسباب عند الأوامر، استحباب تعليل الأمر، وذكر حكمته، ليكون أدخل في الاعتبار، وأسرع إلى الإجابة. 5 - أخذ بعضهم من هذه الأوامر أن التعرض للفتن مما لا ينبغي، وأن الاحتراس منها أحزم، وإن كان الله بالغاً أمره، قد جعل لكل شيء قدراً. والله أعلم

(560) باب آداب الطعام والشراب

(560) باب آداب الطعام والشراب 4602 - عن حذيفة رضي الله عنه قال: كنا إذا حضرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم طعاماً لم نضع أيديناً، حتى يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيضع يده. وإنا حضرنا معه مرة طعاماً. فجاءت جارية كأنها تدفع. فذهبت لتضع يدها في الطعام. فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها. ثم جاء أعرابي كأنما يدفع. فأخذ بيده. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الشيطان يستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله عليه. وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها؛ فأخذت بيدها. فجاء بهذا الأعرابي ليستحل به؛ فأخذت بيده. والذي نفسي بيده إن يده في يدي مع يدها". 4603 - وفي رواية عن حذيفة بن اليمان قال: كنا إذا دعينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طعام. فذكر بمعنى حديث أبي معاوية وقال: كأنما يطرد وفي الجارية كأنما تطرد. وقدم مجيء الأعرابي في حديثه قبل مجيء الجارية. وزاد في آخر الحديث: ثم ذكر اسم الله وأكل. 4604 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول "إذا دخل الرجل بيته، فذكر الله عند دخوله وعند طعامه؛ قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء. وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله؛ قال الشيطان: أدركتم المبيت. وإذا لم يذكر الله عند طعامه؛ قال أدركتم المبيت والعشاء". 4605 - وفي رواية عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: إنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: بمثل حديث أبي عاصم، إلا أنه قال: "وإن لم يذكر اسم الله عند طعامه. وإن لم يذكر اسم الله عند دخوله". 4606 - عن جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تأكلوا بالشمال؛ فإن الشيطان يأكل بالشمال".

4607 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه. وإذا شرب فليشرب بيمينه. فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله". 4608 - عن سالم عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا يأكلن أحد منكم بشماله ولا يشربن بها؛ فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بها" قال: وكان نافع يزيد فيها ولا يأخذ بها ولا يعطي بها" وفي رواية أبي الطاهر "لا يأكلن أحدكم". 4609 - عن إياس بن سلمة بن الأكوع أن أباه حدثه: أن رجلاً أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله؛ فقال "كل بيمينك" قال: لا أستطيع. قال "لا استطعت. ما منعه إلا الكبر" قال: فما رفعها إلى فيه. 4610 - عن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما قال: كنت في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي "يا غلام، سم الله. وكان بيمينك. وكل مما يليك". 4611 - عن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما أنه قال: أكلت يوماً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلت آخذ من لحم حول الصحفة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كل مما يليك". 4612 - عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اختناث الأسقية. 4613 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اختناث الأسقية أن يشرب من أفواهها.

4614 - وفي رواية عن الزهري بهذا الإسناد مثله، غير أنه قال: واختناثها أن يقلب رأسها، ثم يشرب منه. 4615 - عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر عن الشرب قائماً. 4616 - عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يشرب الرجل قائماً. قال قتادة: فقلنا: فالأكل؟ فقال: ذاك أشر أو أخبث. 4617 - وفي رواية عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله، ولم يذكر قول قتادة. 4618 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر عن الشرب قائماً. 4619 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب قائماً. 4620 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يشربن أحد منكم قائماً. فمن نسي؛ فليستقئ"؟ 4621 - 117 عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمزم، فشرب وهو قائم. 4622 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من زمزم من دلو منها وهو قائم. 4623 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب من زمزم وهو قائم.

4624 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمزم فشرب قائماً واستسقى وهو عند البيت. 4625 - وفي رواية عن شعبة بهذا الإسناد وفي حديثهما فأتيته بدلو. 4626 - عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتنفس في الإناء. 4627 - عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتنفس في الإناء ثلاثاً. 4628 - عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنفس في الشراب ثلاثاً. ويقول: "إنه أروى وأبرأ وأمرأ" قال أنس: فأنا أتنفس في الشراب ثلاثاً. 4629 - وفي رواية عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله. وقال: في الإناء. 4630 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بلبن قد شيب بماء، وعن يمينه أعرابي وعن يساره أبو بكر. فشرب. ثم أعطى الأعرابي. وقال "الأيمن فالأيمن". 4631 - عن أنس رضي الله عنه قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وأنا ابن عشر. ومات وأنا ابن عشرين. وكن أمهاتي يحثثنني على خدمته. فدخل علينا دارنا. فحلبنا له من شاة داجن، وشيب له من بئر في الدار. فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له: عمر -وأبو بكر عن شماله- يا رسول الله، أعط أبا بكر. فأعطاه أعرابياً عن يمينه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الأيمن فالأيمن".

4632 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في دارنا. فاستسقى؛ فحلبنا له شاة، ثم شبته من ماء بئري هذه. قال: فأعطيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأبو بكر عن يساره. وعمر وجاهه. وأعرابي عن يمينه. فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من شربه. قال: عمر هذا أبو بكر يا رسول الله. يريه إياه. فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعرابي وترك أبا بكر وعمر. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الأيمنون الأيمنون الأيمنون" قال أنس: فهي سنة فهي سنة فهي سنة. 4633 - عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بشراب، فشرب منه، وعن يمينه غلام، وعن يساره أشياخ. فقال للغلام "أتأذن لي أن أعطي هؤلاء" فقال الغلام: لا والله لا أوثر بنصيبي منك أحداً. قال: فتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده. 4634 - عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. بمثله، ولم يقولا: فتله. ولكن في رواية يعقوب قال: فأعطاه إياه. -[المعنى العام]- جاء الإسلام لخير الإنسان في دنياه وأخراه، فهو منهج حياة، كما هو منهج عبادة الله، ويخطئ من يظن أن الإسلام عبادات فقط، من صلاة وصيام وزكاة وحج، فتلك العبادات لا تمثل من تعاليم الإسلام إلا الجزء القليل، بل هي في أهدافها قد تكون وسائل لمنهج الحياة، فمن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 54] "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" وليس الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث. يخطئ من يظن أن أحكام المعاملات في الإسلام وليدة بيئة، يحق مخالفتها في بيئة أخرى أو زمن آخر، فالإسلام آخر الأديان، صالح لكل زمان ومكان، على مر العصور، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

ويخطئ من يظن أن أحاديث الأكل والشرب واللباس والنوم، مما هو من الأعمال العادية البشرية لا تخضع للثواب والعقاب، وليست من التشريع في شيء. وقد قمت بالرد على هذه الشبهات في بحث بعنوان: السنة كلها تشريع، حققت فيه أن هذه الأمور منها الواجب الذي يثاب على فعله ويعاقب على تركه، والمحرم الذي يثاب على تركه ويعاقب على فعله، من ذلك أكل الميتة وشرب الخمر وأكل الشره، ولبس الرجال للحرير والذهب، وستر العورة ونوم الصبي والصبية في لحاف واحد، ونحو ذلك. كيف لا تكون الأحاديث في ذلك تشريعاً؟ . وحققت فيه أن هذه الأمور منها المندوب الذي يثاب على فعله، ولا يعاقب على تركه والمكروه الذي يثاب على تركه، ولا يعاقب على فعله. بل حققت أن المباح في الأكل والشرب واللباس والنوم ونحوها مما هو عادة في الأصل يثاب عليه، لأن التزامه بعد عن الحرام، والحرام يثاب على تركه. وهذه الأحاديث التي سنتعرض لها في هذا الباب وما بعده، فيها صلاح الدنيا والدين، صلاح الدنيا لأنها إرشادات تحفظ على المسلم صحته وأمنه، ليحيا حياة طيبة، وصلاح الدين، لأن التزامها، والعمل بها، اتباع لأوامر الدين، وهي بهذه الصفة عبادة وطاعة لله ورسوله. ومن المعلوم أن المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن، أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته، ومن المعلوم أن جبريل -عليه السلام- كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي بين الحين والحين، ومن المستحيل عقلاً وديناً أن ينزل الوحي الأمين، فيسكت على حكم لا يرضاه الله، أخبر به صلى الله عليه وسلم، وطلبه من أمته، والنتيجة الحتمية أن كل أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته هي تشريع من الله، بعد أن ينزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم، فيقر ما قرره صلى الله عليه وسلم. إن التعاليم التي سنعرض لها في هذا الباب منها ما هو أفضل وأولى، ومنها المندوب والمستحب، ومنها الواجب، وكلها يثاب على التزامها. فتقديم الكبير عند الطعام والشراب اعتراف بفضله ومقامه، وتأدب من أصحابه معه، وانتفاع بخير ما عنده وما يتقدم به من سلوك، ونظام اجتماعي رفيع المستوى، لا يختلف عليه اثنان، يعبر عنه حذيفة رضي الله عنه بقوله: "كنا إذا حضرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم طعاماً لم نضع أيدينا، حتى يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيضع يده". أدب إسلامي، ومن قبل كان أدباً عربياً، إذ يقول الشاعر: وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل وذكر الله تعالى عند بداية الطعام، والاستعاذة من الشيطان الرجيم، وتسمية الله الرحمن الرحيم، استصحاب للعبادة في أشد أوقات شهوة البطن، مما يدل على أن المسلم لا يشغله شيء، عن عبادة الله، ويحصل له البركة في طعامه وشرابه، فيطيب به بدنه، وتهنأ به نفسه، وينطرد عنه الشيطان بوساوسه وكيده.

والأكل باليمين أدب إسلامي جليل، وصيانة الأكل والشرب عن الأقذار واجب إنساني صحي، واليد آلة الأكل والشرب، وفي تخصيص إحدى اليدين لمحاسن الأعمال وفضائلها وشريفها ونظيفها تكريم لما تتناوله هذه اليد، وحماية له من التلوث، وحماية للنفس من التقزز، أما اليد التي تخصص للاستنجاء، وتتعرض للقاذورات -مهما غسلت- فيصاحبها -ولو نفسياً- ما لابسها ولابسته من القاذورات، ولك أن تتخيل كوباً تستعمله في الأوساخ، وكوباً آخر من نفس النوع تستعمله في العصائر ولذيذ المشروبات، من أيهما تحب أن تشرب؟ . من هنا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالأكل باليمين والشرب باليمين والإعطاء باليمين، والأخذ باليمين، والمصافحة باليمين، وتناول كل عمل شريف باليمين، والشمال في نقيض ذلك، وقد جعل الله أصحاب السعادة أصحاب اليمين، وأصحاب الشقاء أصحاب الشمال، واليمين في اللغة خير، والشمال شؤم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيامن في كل شيء في سواكه ونعله ولباسه وشأنه كله. والأكل مما يلي الآكل، في إناء يشترك فيه مع آخرين أدب اجتماعي، يحفظ لصاحبه أمامهم القناعة والوقار والخلق الجميل، ويحميه من صورة الشره والطمع والأنانية وفرط الحرص، ويحميهم من التقزز والإيذاء. والشرب قاعداً وكذا الأكل قاعداً خير وأولى منه واقفاً، وإن كان شرب الواقف وأكله خيراً منه ماشياً أو مضجعاً. والشرب من فم الإناء الكبير مذموم شرعاً، منهي عنه، لما يخلف توارد الأفواه عليه من رائحة كريهة، واشمئزاز الشاربين. والتنفس في الإناء كذلك مذموم، وإذا اجتمع قوم على طعام أو شراب قدم الأيمن فالأيمن، آداب سامية، وأحاسيس اجتماعية مرهفة، سبقت عصور التقدم والمدنية، آية على أن الإسلام دين الله الخالد، المناسب لكل زمان ومكان إلى قيام الساعة. -[المباحث العربية]- (لم نضع أيدينا) في الطعام، وفي الكلام مقابلة الجمع بالجمع، المقتضية للقسمة آحاداً، كأنه قال: لم يضع أحد منا يده في الطعام. (حتى يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيضع يده) الفاء تفسيرية، وما بعدها تفسير للبدء، والمعنى حتى يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع الأيدي في الطعام، فيضع يده فيه، ومن باب أولى لم نأكل ولم نبدأ طعمه حتى يبدأ. (وإنا حضرنا معه مرة طعاماً) يقصد حذيفة بالجمع في ضمير المتكلم نفسه ومن حضر معه من الصحابة، وليس الجمع لتعظيم نفسه.

(فجاءت جارية كأنها تدفع) بضم التاء وسكون الدال وفتح الفاء، مبني للمجهول، والمراد من المجيء التحرك والإنشاء، وليس الانتقال من مكان إلى مكان الطعام، والمراد من الجارية هنا الصبية الحرة، وفي ملحق الرواية "كأنما تطرد" بضم التاء، أي كأنما يطردها ويدفعها من الخلف إلى الأمام قوة خارجية، والمعنى ذهبت جارية مندفعة مسرعة نحو الطعام، فمدت يدها نحوه بسرعة. (فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها) أي فأمسك بيدها، ومنعها من الوصول إلى الطعام، وكفها عنه، يقال: أخذ كذا حصله وحازه، وأخذ بكذا، أي أمسك به، ومنه قوله تعالى {وأخذ برأس أخيه يجره إليه} [الأعراف: 150]. (ثم جاء أعرابي كأنما يدفع، فأخذ بيده) في الكلام طي، معلوم مما قبله، أي جاء أعرابي كأنما يدفعه دافع خارجي إلى الأمام، فذهب ليضع يده في الطعام، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وذكر الصبية والأعرابي بهذا الوصف اعتذار عنهما، وإشارة إلى سر مخالفتهما هذا الأدب، وفي ملحق الرواية تقدم الأعرابي على الجارية، قال النووي: ووجه الجمع بينهما أن المراد بقوله في الثانية "قدم مجيء الأعرابي" أنه قدمه في اللفظ، بغير قصد ترتيب، فذكره بالواو، فقال: جاء أعرابي وجاءت جارية، والواو لا تقتضي ترتيباً، وأما الرواية الأولى فصريحة في الترتيب، وتقديم الجارية، لأنه قال: "ثم جاء أعرابي" و"ثم" للترتيب، فيتعين حمل الثانية على الأولى، ويبعد حمله على واقعتين. اهـ أقول: نعم يبعد حمله على واقعتين، لكن التوجيه الذي ذكره النووي -رحمه الله- لا يستقيم مع رواية أبي داود، ولفظها عن حذيفة "وإنا حضرنا معه طعاماً، فجاء أعرابي، كأنما يدفع، فذهب ليضع يده في الطعام، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، ثم جاءت جارية، كأنما تدفع، فذهبت لتضع يدها في الطعام، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها ... " فاللفظ بحرف الترتيب "ثم" ومن المعلوم أن الترتيب قد يكون زمنياً، وقد يكون رتبياً، وقد يكون لفظياً، أي لمجرد الذكر واللفظ، ولا يقصد المتكلم ترتيباً زمنياً ولا رتبياً، ومنه قول الشاعر: أنا من ساد، ثم ساد أبوه فسيادة الأب لم تكن مرتبة على سيادة الابن، لا زمناً، ولا رتبة، ويمكن حمل الروايتين هنا على هذا، ويكون هدف الراوي الإشعار بتسابق وتسرع المخالفين، حتى كأن هذا يسبق ذاك، وذاك يسبق هذا. ولعل هذا هو السر في أن المخالف الثاني لم يستفد ولم يتعظ برد الأول ومنعه. (إن الشيطان يستحل الطعام ألا يذكر اسم الله عليه) "ألا" بفتح الهمزة وتشديد اللام، وهي "أن" المصدرية، و"لا" النافية، أي يستحل الطعام غير المذكور اسم الله عليه، والمراد من "يستحل" يتمكن، يقال: حل المكان، وحل بالمكان يحل ويحل بكسر الحاء وضمها إذا نزل به، ومنه قوله تعالى: {أو تحل قريبا من دارهم} [الرعد: 31] والسين والتاء للصيرورة، أو للتكلف، فالمعنى إن الشيطان يصير متمكناً من الطعام الذي لم يذكر اسم الله عليه، وأكثر العلماء على أن المراد من الشيطان شيطان الجن، وأن المراد من تمكنه من الطعام تناوله وأكله، وقال بعضهم: تمكنه من

الطعام تحسينه في نظر الآكلين، وغرس الشره فيهم، ورفع البركة منه، وهذا ما أميل إليه، لأن التخويف بأكله من الطعام لا يخيف، لقلة ما يأكل، ولأنه متمكن من ذلك الطعام منذ إعداده وغرفه. (وأنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها، فأخذت بيدها) أي أوحي إليها، ووسوس لها، ودفعها إلى أن تمد يدها إلى الطعام، دون تسمية الله، ليتمكن منه عن طريق افتتاحها له دون تسمية، ولعل الله أراد وشاء ألا يمكن الشيطان من نزع البركة من الطعام، إلا إذا افتتح دون تسمية الله. وظاهر هذا أن أخذه صلى الله عليه وسلم بيدها كان لعدم تسميتها، لا لأن يدها سبقت يده، صلى الله عليه وسلم، كما هو المقصود من صدر الحديث، ويمكن أن يجاب بأنه صلى الله عليه وسلم بهذا نبه على أدبين، أدب أن لا يبدأ الصغير قبل الكبير، وذلك بإمساك يدها ومنعها من البدء والتقدم، وهذا واضح الارتباط بصدر الحديث، وزاد الأدب الثاني وهو التسمية على الطعام، ولا شك أنها حتى لو قالت بسم الله الرحمن الرحيم لا تكون تسميتها في بركة تسمية الكبير، فضلاً عن تسمية رسول الله صلى الله عليه وسلم. (والذي نفسي بيده، إن يده في يدي مع يدها) أي إن يد الشيطان كانت في يدي حين أمسكت يدها، قال النووي: هكذا هو في معظم الأصول "يده في يدي مع يدها" وفي بعضها "يده في يدي مع يدهما" بالتثنية، وهي تعود إلى الجارية والأعرابي، ورواية الإفراد أيضاً مستقيمة، فإن إثبات يدها لا ينفي يد الأعرابي، وإذا صحت الرواية بالإفراد وجب قبولها، وتأويلها على ما ذكرناه. اهـ وهل المراد من هذا التعبير حقيقته؟ أو هو كناية عن التلازم والتعاون؟ كما يقول أحد المتعاونين على حل مشكلة فكرية: يدي في يدك؟ احتمالان. (ثم ذكر اسم الله وأكل) أي بعد أن قال عن الجارية والأعرابي ما قال، بدأ صلى الله عليه وسلم يمد يده إلى الطعام وبدأ الأكل، فبدأنا بعده. (إذا دخل الرجل بيته، فذكر الله عند دخوله وعند طعامه) ذكر "الرجل" ليس للاحتراز، فكذلك المرأة، وإضافة "بيته" للملك أو الاختصاص، والمراد من ذكر الله التسمية وفي الكلام طي، وفيه أيضاً مجاز المشارفة، والتقدير: إذا أشرف الرجل على دخول بيته، فسمى الله تعالى عند دخوله، وإذا أشرف على طعامه فسمى الله تعالى عند مد يده إليه. (قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء) بفتح العين، طعام الليل، أي قال لأصحابه وأعوانه من الشياطين، وهذا القول حقيقة؟ أو كناية عن إعلان التمكن؟ احتمالان، والتفصيل في "وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله، قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه، قال: أدركتم المبيت والعشاء" يدل على أن ذكر الله عند الدخول يمنع الشيطان من الدخول، فيمنعه من المبيت في البيت من باب أولى، ويمنعه من الاشتراك في الطعام في داخل البيت من باب أولى، وعدم التسمية عند الدخول، مع عدم التسمية عند الطعام تشرك الشيطان صاحب البيت في المبيت

والطعام، وعدم التسمية عند الدخول مع التسمية عند الطعام تمكن الشيطان من المبيت ولا تمكنه من الطعام، فإذا قيل: ما فائدة التسمية عند الطعام لمن سمى عند الدخول؟ قلنا: إنها لمنع الشياطين الموجودين في البيت قبل الدخول، وإذا قيل: ما فائدة التسمية عند الدخول مادام البيت قبله مشتملاً على شياطين؟ قلنا: إنه من قبيل تضييق دائرة الفساد والإفساد. والله أعلم. (لا تأكلوا بالشمال) أي باليد الشمال. (فإن الشيطان يأكل بالشمال) في الرواية الرابعة "إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله" أي بشمال نفسه ففيه أن من فعل ذلك تشبه بالشيطان، وأبعد وتعسف من أعاد الضمير في "شماله" على الآكل، وفي الرواية الخامسة "لا يأكلن أحد منكم بشماله، ولا يشربن بها، فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بها". وقد نقل الطيبي أن معنى قوله "إن الشيطان يأكل بشماله" أي يحمل أولياءه من الإنس على ذلك. قال الحافظ ابن حجر: وفي هذا المعنى عدول عن الظاهر، والأولى عمل الخبر على ظاهره، وأن الشيطان يأكل حقيقة، لأن العقل لا يحيل ذلك، وقد ثبت الخبر به، فلا يحتاج إلى تأويله، وحكى القرطبي في ذلك الاحتمالين، ثم قال: والقدرة صالحة. (أن رجلاً أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله) قال النووي: هذا الرجل هو بسر، بضم الباء وسكون السين، ابن راعي العير، بفتح العين، الأشجعي، وهو صحابي مشهور. (لا أستطيع) مفعوله محذوف، أي لا أستطيع الأكل باليمين. (قال: لا استطعت) دعاء عليه بأن لا يستطيع الأكل باليمين حقيقة، حيث ادعى عدم الاستطاعة كذباً. (ما منعه إلا الكبر) أي ما منعه من الأكل باليمين ابتداء إلا الكبر، ليس المانع عذراً شرعياً. (فما رفعها إلى فيه) أي فأجيب الدعاء عليه، فلم يستطع بعد الدعاء عليه أن يرفعها إلى فمه بطعام أو شراب. (عن عمر بن أبي سلمة) رضي الله عنه، ابن عبد الأسد بن هلال المخزومي، واسم أبي سلمة عبد الله، وأمه أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، لذا يوصف بأنه ربيب النبي صلى الله عليه وسلم. (كنت في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم) بفتح الحاء وسكون الجيم، أي في تربيته، وتحت نظره، وأنه يربيه في حضنه تربية الولد، قال عياض: الحجر يطلق على الحضن، وعلى الثوب، فيجوز فيه الفتح والكسر، وإذا أريد به معنى الحضانة فالفتح لا غير، فإن أريد به المنع من التصرف فبالفتح في المصدر، وبالكسر في الاسم، لا غير.

(وكانت يدي تطيش في الصحفة) أي عند أكلي معه صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام، ومعنى "تطيش" تتحرك وتميل إلى نواحي القصعة، ولا تقتصر على موضع واحد، قال الطيبي: والأصل أطيش بيدي، فأسند الطيش إلى اليد مبالغة، وقال غيره: معنى "تطيش" تخف وتسرع، وفي الرواية الثامنة "فجعلت آخذ من لحم حول الصحفة" أي من جوانبها، وعند البخاري "أكلت مع النبي صلى الله عليه وسلم طعاماً، فجعلت آكل من نواحي الصحفة". والصحفة إناء يشبع الخمسة، وقيل: الصحفة كالقصعة، وجمعها صحاف، وعند الترمذي، عن عمر بن أبي سلمة، "أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده طعام، فقال: ادن يا بني .... " وعند البخاري "أتي النبي صلى الله عليه وسلم بطعام، وعنده ربيبه" ويجمع بينهما أن مجيء الطعام وافق دخوله. (فقال لي: يا غلام) يقال للصبي من حين يولد إلى أن يبلغ الحلم غلام، وقد ذكر ابن عبد البر أن عمر رضي الله عنه ولد في السنة الثانية من الهجرة، ولد بأرض الحبشة، قال الحافظ ابن حجر: والصواب أنه ولد قبل ذلك: فقد صح في حديث عبد الله بن الزبير أنه قال "كنت أنا وعمر بن أبي سلمة مع النسوة يوم الخندق، وكان أكبر مني بسنتين، ومولد ابن الزبير في السنة الأولى على الصحيح، فيكون مولد عمر قبل الهجرة بسنتين. (سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك) الأمر بالشيء إنما يصدر عند من لا يلتزمه غالباً، فالأمر بالأكل مما يلي واضح، أما الأمر بالتسمية، وبالأكل باليمين، فليس في الحديث إشارة إلى أن عمر رضي الله عنه كان مقصراً فيهما، فيتحمل أن الأمر بهما إرشاد عام، ويحتمل أنه كان مقصراً فيهما أيضاً، ولم يذكرهما في التقصير اكتفاء بذكر التقصير الأكبر، وقد جاء عند البخاري زيادة قول عمر: "فما زالت تلك طعمتي بعد" بكسر الطاء وسكون العين، أي فما زالت تلك الأوامر ملتزمة في صفة أكلي بعد ذلك، وصارت عادة لي. (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اختناث الأسقية) فسره في الرواية العاشرة بقوله "أن يُشرب من أفواهها" وفسره في ملحقها بقوله "واختناثها أن يقلب رأسها، ثم يشرب منه" وفسره في رواية البخاري بقوله "يعني أن تكسر أفواهها، فيشرب منها" وهذا التفسير مدرج، ويحمل التفسير المطلق، وهو الشرب من أفواهها، على المقيد بكسر فمها، أو قلب رأسها. والاختناث في الأصل التكسر والانطواء، ومنه سمي الرجل المتشبه بالنساء في طبعه وكلامه وحركاته مخنثاً، والأفواه جمع فم، وهو على سبيل الرد إلى الأصل في الفم، وأنه فوه، بضم الفاء، ومنه فاه بالقول، وتفوه به، نقصت منه الهاء، لاستثقال هاءين عند الضمير، لو قيل: فوهه، فلما لم يحتمل حرف الواو بعد حذف الهاء، الإعراب، لسكونها، عوضت ميماً، فقيل: فم، وهذا إذا أفرد، ويجوز أن يقتصر على الفاء إذا أضيف، لكن تزاد حركة مشبعة، يختلف إعرابها بالحروف. (زجر عن الشرب قائماً) في الرواية الثانية عشرة "نهى أن يشرب الرجل قائماً" وذكر الرجل ليس للاحتراز، بل كذلك المرأة.

(قال قتادة: فقلنا: فالأكل؟ فقال: ذاك أشر أو أخبث) "فالأكل" الفاء فصيحة، وما بعدها جواب شرط محذوف، والأكل خبر لمبتدأ محذوف، أي إذا كان الشرب قائماً منهياً عنه فما حكم الأكل قائماً؟ . قال النووي: هكذا وقع في الأصول "أشر" بالألف، والمعروف في العربية "شر" بغير ألف، وكذلك خير، قال تعالى: {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً} [الفرقان: 24] وقال تعالى: {فسيعلمون من هو شر مكاناً} [مريم: 75] ولكن هذه اللفظة "أشر أو أخبث" وقعت هنا على الشك، فشك قتادة في أن أنساً قال: "أشر" أو قال "أخبث" فلا يثبت عن أنس بهذه الرواية "أشر" فإن جاءت هذه اللفظة من غير شك، وثبتت عن أنس، فهي لغة وإن كانت قليلة الاستعمال، لأنه عربي فصيح، ولهذا نظائر مما لا يكون معروفاً عن النحويين، ومما لا يكون جارياً على قواعدهم، وقد صحت به الأحاديث، فلا ينبغي رده إذا ثبت، بل يقال: هذه لغة قليلة الاستعمال، ونحو هذا من العبارات، وسببه أن النحويين لم يحيطوا إحاطة كاملة قطعية بجميع كلام العرب، ولهذا يمنع بعضهم ما ينقله غيره عن العرب، كما هو معروف. اهـ (سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمزم، فشرب وهو قائم) في الرواية السابعة عشرة "شرب من زمزم من دلو منها وهو قائم" وفي الرواية التاسعة عشرة "سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمزم، فشرب قائماً، واستسقى وهو عند البيت أي طلب أن يشرب، وهو عند الكعبة، وفي ملحقها "فأتيته بدلو". وعند البخاري وابن ماجه عن عاصم عن الشعبي أن ابن عباس -رضي الله عنهما- حدثه، قال: سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمزم، فشرب وهو قائم. قال عاصم: فذكرت ذلك لعكرمة، فحلف بالله ما فعل -أي ما شرب قائماً- ما كان يومئذ إلا على بعير" قال ابن العربي: لا حجة في هذا على الشرب قائماً، لأن الراكب على البعير قاعد، غير قائم، وقيل: إن عكرمة قال: إن مراد ابن عباس بقوله: إنه شرب قائماً، إنما أراد به وهو راكب، والراكب يشبه القائم من حيث كونه سائراً، ويشبه القاعد، من حيث كونه مستقراً على الدابة، قال الحافظ ابن حجر: لكن عند أبي داود عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم أناخ، فصلى ركعتين، فلعل شربه من زمزم كان بعد ذلك، ولعل عكرمة إنما أنكر شربه قائماً لنهيه عنه. اهـ (نهى أن يتنفس في الإناء) في الرواية الواحدة والعشرين "كان يتنفس في الإناء ثلاثاً" وفي الرواية الثانية والعشرين "كان يتنفس في الشرب ثلاثاً" والرواية المتممة للعشرين صريحة في النهي عن التنفس في الإناء، والرواية الواحدة والعشرون صريحة في التنفس في الإناء، فبين ظاهرها التعارض، فحملهما العلماء على حالتين: حالة التنفس بالفعل على من تنفس خارج الإناء، وحالة النهي عن التنفس داخل الإناء، قال الإسماعيلي: المعنى أنه كان يتنفس: أي على الشراب، لا فيه داخل الإناء. قال: وإن لم يحمل على هذا صار الحديثان مختلفين، وكان أحدهما منسوخاً لا محالة، والأصل عدم النسخ، والجمع مهما أمكن أولى، ثم أشار إلى حديث أبي سعيد عن الترمذي وصححه الحاكم "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النفخ في الشراب، فقال رجل: القذاة أراها في الإناء؟ قال: أهرقها.

قال: فإني لا أروى من نفس واحد؟ قال: فأبن القدح إذن عن فيك" وعند ابن ماجه "إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء، فإذا أراد أن يعود فلينح الإناء، ثم ليعد، إن كان يريد" وسيأتي مزيد للمسألة في فقه الحديث. (إنه أروى، وأبرأ، وأمرأ) "إنه" أي إن التنفس في الشرب ثلاثاً أكثر رياً، يقال: روى من الماء ونحوه، بفتح الراء وكسر الواو وفتح الياء، يروى بفتح الواو، رياً بفتح الراء وكسرها، وروي بفتح الواو مقصوراً، إذا شرب وشبع، فهو ريان، وهي رياً، وريانة، والمعنى أن قليل الماء مع تجزئته في الشرب على نفسين أو ثلاثة يشعر الشارب بالشبع، وهو أيضاً "أبرأ" يقال: برئ المريض، بكسر الراء، يبرأ بفتحها، برءاً، بفتح فسكون، وبرءاً، بضم فسكون، شفي، وتخلص مما به، فالمعنى أن التنفس عند الشرب أكثر تخلصاً من ألم العطش، وقيل: أكثر وقاية من الأمراض، أو أكثر وقاية من الأذى الذي يحصل بسبب الشرب في نفس واحد، وهو أيضاً "أمرأ" أي أكثر انسياباً وانسياغاً في المريء، الذي هو مجرى الطعام والشراب من الحلقوم إلى المعدة، أي فهو أهنأ، حميد العاقبة، قال تعالى: {فكلوه هنيئاً مريئاً} [النساء: 4]. (أتي بلبن قد شيب بماء) يقال: شاب الشيء بالشيء، يشوبه، شوباً بفتح الشين، إذا خلطه به، وفي القرآن الكريم {ثم إن لهم عليها لشوباً من حميم} [الصافات: 67] وفي الرواية الرابعة والعشرين يقول أنس "فدخل علينا دارناً، فحلبنا له من شاة داجن -أي أليفة، أغلب تربيتها وعلفها في البيت، قليلة الخروج للرعي، وهذا الوصف يشير إلى حسن مرعاها، وطيب لبنها -وشيب له من بئر في الدار" أي وخلط لبنها بماء من بئر في دارنا، وتبين الرواية الخامسة والعشرون شخص الذي شاب اللبن، وأنه أنس، ففيها "أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في دارنا، فاستسقى -أي عطش، فطلب الشرب- فحلبنا له شاة، ثم شبته -بضم الشين، والضمير يرجع إلى اللبن، المفهوم من الحلب- من ماء بئري هذه" وتبين رواية البخاري أن أنساً هو الذي باشر حلب الشاة، ولفظها "فحلبت شاة". (وعن يمينه أعرابي، وعن يساره أبو بكر) في الرواية الخامسة والعشرين "وأبو بكر عن يساره، وعمر وجاهه، وأعرابي عن يمينه" يقال: وجاهه، بكسر الواو وضمها لغتان ويقال تجاهه، أي تلقاء وجهه. (فشرب، ثم أعطى الأعرابي) في الرواية الرابعة والعشرين "فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له عمر: يا رسول الله، أبا بكر -أي أعط أبا بكر- فأعطاه أعرابياً عن يمينه" وفي الرواية الخامسة والعشرين" فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من شربه، قال عمر: هذا أبو بكر يا رسول الله -يريد إياه- أي يريد أن يعطي القدح إياه- فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعرابي، وترك أبا بكر وعمر" وفي رواية للبخاري فقال عمر -وخاف أن يعطيه الأعرابي- أعط أبا بكر" فإشارة عمر بناها على مشاهدته ميل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقدح نحو الأعرابي، وقصد بها التذكير، لا التعديل خوفاً من النسيان، وإعلاماً للأعرابي وغيره بجلالة أبي بكر، وفي رواية البخاري "فأعطى الأعرابي فضله" أي اللبن الذي فضل منه بعد شربه، وحكى

ابن التين أن الأعرابي خالد بن الوليد، وتعقب بأن مثله لا يقال له: أعرابي قال الحافظ ابن حجر: وكأن الحامل لصاحب هذا القول على ذلك أنه رأى في حديث ابن عباس الآتي قريباً ذكر خالد، فظن أن القصة واحدة، وليس كذلك، فإن قصة ابن عباس في بيت ميمونة، وقصة أنس في دار أنس، فافترقا. (وكن أمهاتي يحثثنني على خدمته) هذا على لغة: أكلوني البراغيث، أي الجمع بين الضمير الفاعل والاسم الظاهر، والأصل وكانت أمهاتي، يقصد أمه -أم سليم وخالته أم حرام وغيرهما من محارمه، وأطلق لفظ الأم عليهن من قبيل استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، وهذا على مذهب يجيزه، كالشافعي والباقلاني وغيرهما. والحث على خدمة النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أنس كان تمهيداً لتعيينه خادماً له صلى الله عليه وسلم. (الأيمنون. الأيمنون. الأيمنون) بالرفع، خبر مبتدأ محذوف، أي الأحق الأيمنون، أو مبتدأ، خبره محذوف، وفي الرواية الرابعة والعشرين "الأيمن فالأيمن" وقد ضبط بالنصب والرفع، وهما صحيحان فالنصب على أنه مفعول لفعل محذوف، أي أعطوا -أو قدموا- الأيمن فالأيمن، والرفع كما سبق، وعند البخاري "الأيمن والأيمن" بالواو، وفي رواية له "ألا فيمنوا". (وعن يمينه غلام، وعن يساره أشياخ) في رواية للبخاري وعن يمينه غلام هو أحدث القوم" وفي رواية له "هو أصغر القوم" وقد حكى ابن بطال أن الغلام كان الفضل بن عباس، وحكى ابن التين أنه أخوه عبد الله، قال الحافظ ابن حجر: وهو الصواب، وقد روى ابن أبي حازم عن أبيه في حديث سهل بن سعد ذكر أبي بكر الصديق، فيمن كان عن يساره صلى الله عليه وسلم، ذكره ابن عبد البر، وخطأه، وقد أخرج الترمذي عن ابن عباس قال: "دخلت أنا وخالد بن الوليد على ميمونة، فجاءتنا بإناء من لبن، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا على يمينه، وخالد على شماله، فقال لي: الشربة لك، فإن شئت آثرت بها خالداً؟ فقلت: ما كنت أوثر على سؤرك أحداً" فصح أن يعد خالد من الأشياخ، وليس في حديث ابن عباس ما يمنع أن يكون مع خالد في بيت ميمونة غيره. (فقال للغلام: أتأذن لي أن أعطي هؤلاء) الأشياخ؟ قال ابن الجوزي: إنما استأذن الغلام، ولم يستأذن الأعرابي -في روايتنا الثالثة والعشرين والرابعة والعشرين والخامسة والعشرين- لأن الأعرابي لم يكن له علم بالشريعة، فاستألفه، بترك استئذانه، بخلاف الغلام، وقال النووي: السبب فيه أن الغلام كان ابن عمه، فكان له عليه إدلال، وكان من على اليسار أقارب الغلام أيضاً، وطيب نفسه مع ذلك بالاستئذان لبيان الحكم، وأن السنة تقديم الأيمن ولو كان مفضولاً بالنسبة إلى من على اليسار، وجاء في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم تلطف به، حيث قال له: "الشربة لك، وإن شئت آثرت بها خالداً"؟ وفي لفظ لأحمد "وإن شئت آثرت بها عمك" وإنما أطلق عليه عمه لكونه أسن منه، ولعل سنة كان قريباً من سن العباس، وإن كان من جهة أخرى من أقرانه، لكونه ابن خالته، وكان خالد مع رياسته في الجاهلية وشرف في قومه قد تأخر إسلامه، فلذلك استأذن له، بخلاف أبي بكر، فإن

رسوخ قدمه في الإسلام وسبقه يقتضي طمأنينته بجميع ما يقع من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يتأثر لشيء من ذلك، ولهذا لم يستأذن الأعرابي له، ولعله خشي من استئذانه أن يتوهم إرادة صرفه إلى بقية الحاضرين بعد أبي بكر، دونه، فربما سبق إلى قلبه، من أجل قرب عهده بالإسلام شيء، فجرى صلى الله عليه وسلم على عادته في تأليف من هذا سبيله، وليس ببعيد أنه كان من كبراء قومه، ولهذا جلس عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم، وأقره على ذلك. اهـ (فتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده) "تله" بفتح التاء وتشديد اللام المفتوحة، أي وضعه، وفي ملحق الرواية "فأعطاه إياه" وقال الخطابي: تله وضعه بعنف؛ وأصله من الرمي على التل، وهو المكان العالي المرتفع، ثم استعمل في كل شيء يرمى به وفي كل إلقاء، وقيل: هو من التلتل، بلام ساكنة بين التاءين المفتوحتين، وهو العنق، ومنه قوله تعالى: {وتله للجبين} [الصافات: 103] أي صرعه، والتفسير الأول أليق بمعنى الحديث. -[فقه الحديث]- ثمانية من آداب الطعام والشراب تتعرض لها هذه الأحاديث: تقديم الكبير، والتسمية، والأكل والشرب باليمين، والأكل مما يلي الآكل، وعدم اختناث الأسقية، وعدم الشرب قائماً، وعدم التنفس في الإناء، وإدارة الشراب على يمين المبتدئ. وإليك تفصيل الأحكام: 1 - أما تقديم الكبير في الطعام والشراب ليبدأ قبل أن يبدأ الآخرون، فيقول عنه حذيفة رضي الله عنه في الرواية الأولى "كنا إذا حضرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم طعاماً لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيضع يده" ثم يحكي قصة الجارية التي حاولت أن تضع يدها في الطعام متسرعة قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها، ومنعها، وقصة الأعرابي الذي حاول أن يضع يده في الطعام قبل كبار الحاضرين، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، ومنعه، وسيأتي تفصيل القول إذا تعارض تقديم الكبير مع التقديم لأسباب أخرى، كالأيمن، سيأتي هذا التفصيل في أدب إدارة الشراب على يمين المبتدئ. 2 - الأدب الثاني التسمية عند بدء الطعام والشراب، وعند الدخول، وعند البدء في أي أمر مهم، وفي ذلك تقول الرواية الأولى "إن الشيطان يستحل الطعام، أن لا يذكر اسم الله عليه" وتقول الرواية الثانية "إذا دخل الرجل بيته، فذكر الله عند دخوله، وعند طعامه، قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله، قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه قال: أدركتم المبيت والعشاء" وأخرج أبو داود والترمذي "إذا أكل أحدكم طعاماً فليقل: بسم الله، فإن نسي في أوله فليقل: بسم الله في أوله وآخره". قال النووي: في هذا الحديث استحباب التسمية في ابتداء الطعام، وهذا مجمع عليه، قال الحافظ ابن حجر: وفي نقل الإجماع على الاستحباب نظر، إلا إن أريد بالاستحباب رجحان الفعل،

وإلا فقد ذهب جماعة إلى وجوب ذلك. ثم قال النووي: وكذا يستحب حمد الله في آخره، وكذا تستحب التسمية في أول الشراب، بل في أول كل أمر ذي بال، قال العلماء: ويستحب أن يجهر بالتسمية، ليسمع غيره، وينبهه عليها، ولو ترك التسمية في أول الطعام، عامداً أو ناسياً أو جاهلاً أو مكرهاً أو عاجزاً أو لعارض آخر، ثم تمكن منها في أثناء أكله، يستحب أن يسمي، ويقول: بسم الله أوله وآخره. ثم قال: والتسمية في شرب الماء واللبن والعسل والمرق والدواء وسائر المشروبات كالتسمية على الطعام في كل ما ذكرناه. وتحصل التسمية بقول: بسم الله، فإن قال: بسم الله الرحمن الرحيم كان حسناً. وسواء في استحباب التسمية الجنب والحائض وغيرهما. وينبغي أن يسمي كل واحد من الآكلين، فإن سمى واحد منهم حصل أصل السنة، نص عليه الشافعي رضي الله عنه، ويستدل له بأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الشيطان إنما يتمكن من الطعام إذا لم يذكر اسم الله عليه، ولأن المقصود يحصل بواحد، ويؤيده أيضاً حديث الذكر عند دخول البيت. ثم قال: والصواب الذي عليه جماهير العلماء من السلف والخلف، من المحدثين والفقهاء والمتكلمين أن هذا الحديث وشبهه، من الأحاديث الواردة في أكل الشيطان محمولة على ظاهرها، وإن الشيطان يأكل حقيقة، إذ العقل لا يحيله، والشرع لم ينكره، بل أثبته، فوجب قبوله واعتقاده. اهـ قال الحافظ ابن حجر: وأما قول النووي في أدب الأكل والشرب، من "الأذكار": والأفضل أن يقول بسم الله الرحمن الرحيم، فإن قال: بسم الله كفاه، وحصلت السنة فلم أر لما ادعاه من الأفضلية دليلاً خاصاً. اهـ ولكن الدليل العام بأفضلية بسم الله الرحمن الرحيم بجعل الحق مع النووي رحمه الله. ثم قال الحافظ ابن حجر: وأما ما ذكره الغزالي في آداب الأكل، من "الإحياء" أنه لو قال في كل لقمة: بسم الله. كان حسناً، وأنه يستحب أن يقول مع الأولى: بسم الله، ومع الثانية بسم الله الرحمن، ومع الثالثة، بسم الله الرحمن الرحيم. فلم أر لاستحباب ذلك دليلاً، والتكرار قد بين هو وجهه، بقوله: حتى لا يشغله الأكل عن ذكر الله. اهـ 3 - وأما الأكل والشرب باليمين فعنه تقول الرواية الثالثة "لا تأكلوا بالشمال، فإن الشيطان يأكل بالشمال" وتقول الرواية الرابعة "إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله" وتقول الرواية الخامسة "لا يأكلن أحدكم بشماله، ولا يشربن بها" وفي ملحقها "ولا يأخذ بها، ولا يعطي بها" وفي الرواية السادسة "أن رجلاً أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله، فقال: كل بيمينك، قال: لا أستطيع. قال: لا استطعت -ما منعه إلا الكبر- قال: فما رفعها إلى فيه" وفي الرواية السابعة والثامنة في قصة عمر بن أبي سلمة "كل بيمينك". قال النووي: في هذه الأحاديث استحباب الأكل والشرب باليمين، وكراهة ذلك بالشمال، وكذلك كل أخذ وعطاء، وهذا إذا لم يكن عذر، من مرض أو جراحة، فإن كان فلا كراهة. اهـ

وقال القرطبي: هذا الأمر على جهة الندب، لأنه من باب تشريف اليمين على الشمال، لأنها أقوى في الغالب، وأسبق للأعمال، وأمكن في الأشغال، وهي مشتقة من اليمن، وقد شرف الله أصحاب الجنة، إذ نسبهم إلى اليمين، وعكسه في أصحاب الشمال، قال: وعلى الجملة فاليمين وما نسب إليها وما اشتق منها محمود لغة وشرعاً وديناً، والشمال على نقيض ذلك، وإذا تقرر ذلك فمن الآداب المناسبة لمكارم الأخلاق والسيرة الحسنة عند الفضلاء اختصاص اليمين بالأعمال الشريفة والأحوال النظيفة، وقال أيضاً: كل هذه الأوامر من المحاسن المكملة، والمكارم المستحسنة، والأصل فيما كان من هذا الترغيب والندب. اهـ وذهب جماعة من العلماء أن الأكل باليمين واجب، نص الشافعي عليه في الرسالة وفي الأم، قال الحافظ ابن حجر: ويدل على وجوب الأكل باليمين ورود الوعيد في الأكل بالشمال، واستدل بالرجل الذي دعا عليه صلى الله عليه وسلم، روايتنا السادسة، ولا يدعى على من ترك مندوباً قال: وثبت النهي عن الأكل بالشمال، وأنه من عمل الشيطان، من حديث ابن عمر ومن حديث جابر عند مسلم -روايتنا الخامسة والرابعة والثالثة- وقد صرح ابن العربي بإثم من أكل بشماله، واحتج بأن كل فعل ينسب إلى الشيطان حرام، ويؤيد القول بالوجوب قوله في الرواية السادسة "ما منعه إلا الكبر" والكبر معصية. 4 - وأما الأكل مما يلي فقد أمر به في روايتنا السابعة والثامنة، قال النووي: لأن الأكل من موضع يد صاحبه سوء عشرة، وترك مروءة، فقد يتقذره صاحبه، لاسيما في الأمراق وشبهها. اهـ وقد ترجم البخاري بباب من تتبع حوالي القصعة مع صاحبه إذا لم يعرف منه كراهية، فذكر حديث أنس "أن خياطاً دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه، قال أنس: فذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته يتبع الدباء من حوالي القصعة" وسيأتي في مسلم هذا الحديث بعد أبواب، تحت باب جواز أكل المرق، واستحباب أكل اليقطين، وإيثار أهل المائدة بعضهم بعضاً، وإن كانوا ضيفاناً، إذا لم يكره ذلك صاحب الطعام. ومن هنا حمل بعضهم حديث الأمر بالأكل مما يلي على ما إذا لم يعلم رضا صاحبه بتحرك يده، وأجاز بحديث الخياط إذا علم رضا من يأكل معه. قال النووي: والذي ينبغي تعميم النهي، حملاً للنهي على عمومه، حتى يثبت دليل مخصص، ومال إلى حمل حديث الخياط على الخصوصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنما نهي عن ذلك لئلا يتقذره جليسه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتقذره أحد، بل يتبركون بآثاره صلى الله عليه وسلم، مما هو معروف من عظيم اعتنائهم بآثاره صلى الله عليه وسلم، التي يخالفه فيها غيره. اهـ ومال مالك إلى ما ذهب إليه البخاري فقد نقل ابن بطال عنه قوله: إن المؤاكل لأهله وخدمه يباح له أن يتتبع شهوته حيث رآها، إذا علم أن ذلك لا يكره منه، فإذا علم كراهتهم لذلك لم يأكل إلا مما يليه، وقال أيضاً: إنما جالت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطعام لأنه علم أن من معه لا يتكره ذلك منه، ولا يتقذره، بل كانوا يتبركون بريقه ومماسة يده، فكذلك من لم يتقذر من مؤاكلته، يجوز له أن تجول يده في الصحفة. اهـ والنووي يحكي اختلاف العلماء في جواز تحريك الأيدي، وبعدها عما يلي إذا

كان على المائدة أصناف متعددة، فيقول: فإن كان تمراً أو أجناساً فقد نقلوا إباحة اختلاف الأيدي في الطبق ونحوه، لكنه يميل إلى التعميم فيقول: والذي ينبغي تعميم النهي حملاً للنهي على عمومه، حتى يثبت دليل مخصص. اهـ والذين يخصصون يستندون إلى ما رواه الترمذي عن عكراش رضي الله عنه قال "بعثني بنو مرة بصدقات أموالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدمت المدينة، فوجدته جالساً بين المهاجرين والأنصار، قال: ثم أخذ بيدي، فانطلق بي إلى بيت أم سلمة، فقال: هل من طعام؟ فأتتنا بجفنه كثيرة الثريد والودك -الدسم- فأقبلنا نأكل منها، فخبطت بيدي في نواحيها، وأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين يديه، فقبض بيده اليسرى على يدي اليمين، ثم قال: يا عكراش، كل من موضع واحد، ثم أتتنا بطبق فيه ألوان التمر، فجعلت آكل من بين يدي، وجالت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطبق، قال: يا عكراش، كل من حيث شئت، فإنه غير لون واحد" والذي ترتاح إليه النفس أن يقال: إن كان الطعام الجاف أنواعاً متعددة، سواء أكانت في إناء واحد، أو في أوان متعددة جاز التنقل، وإن كان الأولى تركه، لأن الأدب يتطلب عدم مد الأيدي إلى البعيد، لما في ذلك من مظاهر الشره والحرص والأنانية، وإن كان نوعاً واحداً فلا يجوز، أما حديث الترمذي فهو محمول على ما إذا علم رضا من يأكل معه، على أنه ضعيف، قال الترمذي عنه: هذا حديث غريب، وقال ابن حبان في راويه: منكر الحديث، وقال أبو حاتم: مجهول. نعم الكراهة في الأطعمة السائلة أشد منها في الأطعمة الجافة، للفرق بين التقزز في كل. والله أعلم. 5 - وأما النهي عن اختناث الأسقية فقد قال عنه النووي: اتفقوا على أن النهي عن اختناث الأسقية نهي تنزيه، لا تحريم، ويؤيده أحاديث الرخصة في ذلك، ومنها ما رواه الترمذي وغيره عن كبشة بنت ثابت، أخت حسان بن ثابت -رضي الله عنهما- قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشرب من قربة معلقة قائماً، فقمت إلى فيها، فقطعته، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقطعها لفم القربة فعلته لوجهين، أحدهما: أن تصون موضعاً أصابه فم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يبتذل، ويمسه كل أحد، والثاني أن تحفظه للتبرك به والاستسقاء، قال النووي: فهذا الحديث يدل على أن النهي ليس للتحريم. اهـ وقد ورد لعلة النهي أمور منها: (أ) أنه لا يؤمن دخول شيء من الهوام مع الماء في جوف السقاء، فيدخل فم الشارب، وهو لا يشعر، فعند ابن ماجه "أن رجلاً قام من الليل بعد النهي إلى سقاء، فاختنثه، فخرجت عليه منه حية". قال الحافظ ابن حجر: وهذا يقتضي أنه لو ملأ السقاء، وهو يشاهد الماء يدخل فيه، ثم ربطه ربطاً محكماً، ثم أراد أن يشرب حله، فشرب منه، لا يتناوله النهي. (ب) ومنها ما أخرجه الحاكم من حديث عائشة بسند قوي، بلفظ "نهى أن يشرب من

في السقاء، لأن ذلك ينتنه" قال الحافظ ابن حجر: وهذا يقتضي أن يكون النهي خاصاً بمن يشرب، فيتنفس داخل الإناء، أو باشر بفمه باطن السقاء، أما من صب من القربة داخل فمه، من غير مماسة، فلا. (ج) ومنها أن الذي يشرب من فم السقاء قد يغلبه الماء، فينصب منه أكثر من حاجته، فلا يأمن أن يشرق به، أو تبتل ثيابه. قال ابن العربي: واحدة من الثلاثة تكفي في ثبوت الكراهة، وبمجموعها تقوى الكراهة جداً، وقال ابن أبي جمرة: اختلف في علة النهي، فقيل: يخشى أن يكون في الوعاء حيوان، أو ينصب بقوة، فيشرق به، وقيل: لما قد يعلق بفم السقاء، من بخار النفس، أو بما يخالط الماء من ريق الشارب، فيتقذره غيره، أو لأن الوعاء يفسد بذلك في العادة، فيكون من إضاعة المال، قال: والذي يقتضيه الفقه أنه لا يبعد أن يكون النهي لمجموع هذه الأمور، وفيها ما يقتضي الكراهة، وفيها ما يقتضي التحريم، والقاعدة في مثل ذلك ترجيح القول بالتحريم. وقد جزم ابن حزم بالتحريم، لثبوت النهي، وحمل أحاديث الرخصة على أصل الإباحة، وأطلق أبو بكر الأثرم، صاحب أحمد، أن أحاديث النهي ناسخة للإباحة، لأنهم كانوا يفعلون ذلك، حتى وقع دخول الحية في بطن الذي شرب من فم السقاء، فنسخ الجواز. وجمع الحافظ ابن حجر بين أحاديث النهي وأحاديث الرخصة بقوله: لم أر في شيء من الأحاديث المرفوعة ما يدل على الجواز، إلا من فعله صلى الله عليه وسلم، وأحاديث النهي كلها من قوله، فهي أرجح، إذا نظرنا إلى علة النهي عن ذلك، فإن جميع ما ذكره العلماء في علة النهي يقتضي أنه صلى الله عليه وسلم مأمون منها: أما أولاً فلعصمته، ولطيب نكهته، وأما ثانياً فلرفقه في صب الماء. وقال شارح الترمذي: لو فرق بين ما يكون لعذر، كأن تكون القربة معلقة، ولم يجد المحتاج إلى الشرب إناء متيسراً، ولم يتمكن من التناول بكفه، فلا كراهة حينئذ، وعلى ذلك تحمل أحاديث الرخصة، وبين ما يكون لغير عذر، فتحمل عليه أحاديث النهي. قال الحافظ ابن حجر: ويؤيد هذا الجمع أن أحاديث الجواز كلها، فيها أن القربة كانت معلقة، والشرب من القربة المعلقة أخص من الشرب من مطلق القربة، ولا دلالة في أخبار الجواز على الرخصة مطلقاً، بل على تلك الصورة وحدها، وحملها على حال الضرورة، جمعاً بين الخبرين أولى من حملها على النسخ، وقد سبق ابن العربي بهذا التوجيه، فقال: يحتمل أن يكون شربه صلى الله عليه وسلم في حال ضرورة، إما عند الحرب، وإما عند عدم الإناء، أو مع وجوده لكن لم يتمكن من التفريغ من السقاء في الإناء، لشغله. هذا. وقد نقل ابن التين وغيره عن مالك أنه أجاز الشرب من أفواه القرب، وقال: لم يبلغني فيه نهي، وبالغ ابن بطال في رد هذا القول، والحجة قائمة على من بلغه النهي. والله أعلم. 6 - الأدب السادس عدم الشرب قائماً، وعنه تقول الرواية الحادية عشرة والثالثة عشرة أن النبي

صلى الله عليه وسلم زجر عن الشرب قائماً" وتقول الرواية الثانية عشرة "نهى أن يشرب الرجل قائماً" وقال أنس عن الأكل: "ذاك أشر أو أخبث" وتقول الرواية الخامسة عشرة "لا يشربن أحد منكم قائماً، فمن نسي فليستقئ" وتثبت الروايات السادسة عشرة والسابعة عشرة والثامنة عشرة والتاسعة عشرة أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب قائماً، وفي البخاري "أتى علي رضي الله عنه على باب الرحبة بماء، فشرب قائماً، فقال: إن ناساً يكره أحدهم أن يشرب وهو قائم، وإني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فعل كما رأيتموني فعلت" وفي رواية أخرى له "عن علي رضي الله عنه أنه صلى الظهر، ثم قعد في حوائج الناس في رحبة الكوفة، حتى حضرت صلاة العصر، ثم أتي بماء، فشرب، وغسل وجهه ويديه، وذكر رأسه ورجليه، ثم قام، فشرب فضله، وهو قائم، ثم قال: إن ناساً يكرهون الشرب قائماً، وإن النبي صلى الله عليه وسلم صنع مثل ما صنعت" وقد ترجم البخاري لهذه الأحاديث بباب الشرب قائماً، ولم يخرج أحاديث النهي عن الشرب قائماً، وكأنه أشار بذلك إلى أنه لم يصح عنده الأحاديث الواردة في كراهة الشرب قائماً، كذا قال ابن بطال، وتعقبه الحافظ ابن حجر، فقال: وليس بجيد، بل الذي يشبه صنيعه أنه إذا تعارضت عنده الأحاديث لا يثبت الحكم. اهـ والجيد كلام ابن بطال، وكلام الحافظ ابن حجر، وإنما يتوجه لو أن البخاري ذكر أحاديث النهي وأحاديث الإثبات وترجم بدون إثبات الحكم لتعارض الأحاديث عنده، أما أنه لم يخرج أحاديث النهي فالوجه ما قاله ابن بطال. وأخرج أحمد عن علي رضي الله عنه أنه شرب قائماً، فرأى الناس كأنهم أنكروه، فقال: ما تنظرون أن أشرب قائماً؟ فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب قائماً، وإن شربت قاعداً فقد رأيته يشرب قاعداً" وصحح الترمذي من حديث ابن عمر "كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نمشي، ونشرب، ونحن قيام" وفي الموطأ "أن عمر وعثمان وعلياً كانوا يشربون قياماً، وكان سعد وعائشة لا يرون بذلك بأساً". أمام هذا سلك العلماء مسالك: المسلك الأول: مسلك الترجيح، واعتماد أحاديث الجواز، وتضعيف أحاديث النهي، وهذه طريقة أبي بكر الأثرم، فقال: حديث أنس -يعني في النهي- روايتنا الحادية عشرة والثانية عشرة- جيد الإسناد، ولكن قد جاء عنه خلافه، يعني في الجواز، قال: ولا يلزم من كون الطريق إليه في النهي أثبت من الطريق إليه في الجواز، أن لا يكون الذي يقابله أقوى، ثم أسند أنس عن أبي هريرة قال: "لا بأس بالشرب قائماً" قال الأثرم: فدل على أن الرواية عنه في النهي ليست ثابتة، وإلا لما قال: لا بأس به، قال: ويدل على وهاء أحاديث النهي أيضاً اتفاق العلماء على أنه ليس على أحد شرب قائماً أن يستقئ. اهـ وقال عياض: لم يخرج مالك ولا البخاري أحاديث النهي، وأخرجها مسلم من رواية قتادة عن أنس، ومن روايته عن أبي عيسى عن أبي سعيد، وهو معنعن، وكان شعبة يتقي من حديث قتادة ما لا يصرح فيه بالتحديث، وأبو عيسى غير مشهور، واضطراب قتادة فيه مما يعله، مع مخالفة الأحاديث الأخرى والأئمة له، وأما حديث أبي هريرة ففي سنده عمر بن حمزة، ولا يحتمل منه مثل هذا لمخالفة

غيره له، والصحيح أنه موقوف، وأكد القاضي عياض تضعيف أحاديث النهي بقوله: ولا خلاف بين أهل العلم في أن من شرب قائماً، ليس عليه أن يتقيأ. اهـ وقد حمل النووي على هذا القول وعلى قائليه حملة عنيفة، لكنه لم يتشاغل بالجواب عن وجهات النظر، وتعرض لها الحافظ ابن حجر، فقال: إن الإشارة إلى تضعيف حديث أنس بكون قتادة مدلساً، وقد عنعنه، فيجاب عنه بأنه خرج في نفس السند بما يقتضي سماعه له من أنس، فإن فيه "قلنا لأنس: فالأكل .... " [انظر روايتنا الثانية عشرة] وأما تضعيفه حديث أبي سعيد بأن أبا عيسى غير مشهور فهو قول سبق إليه ابن المديني، لأنه لم يرو عنه إلا قتادة، لكن وثقه الطبري وابن حبان، ومثل هذا يخرج في الشواهد، ودعواه اضطرابه مردودة، لأن لقتادة فيه إسنادين، وهو حافظ، وأما تضعيفه لحديث أبي هريرة بعمر بن حمزة فهو مختلف في توثيقه، ومثله يخرج له مسلم في المتابعات، وقد تابعه الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، كما أشرت إليه عند أحمد وابن حبان، فالحديث بجميع طرقه صحيح. اهـ ومن الواضح أن دفاع الحافظ ابن حجر في حاجة إلى دفاع. والله أعلم. المسلك الثاني: دعوى النسخ، وإليها جنح الأثرم وابن شاهين، فقررا أن أحاديث النهي -على تقدير ثبوتها- منسوخة بأحاديث الجواز، بقرينة عمل الخلفاء الراشدين ومعظم الصحابة والتابعين بالجواز، وقد عكس ذلك ابن حزم، فادعى نسخ أحاديث الجواز بأحاديث النهي، متمسكاً بأن الجواز على وفق الأصل، وأحاديث النهي مقررة لحكم الشرع، فمن ادعى الجواز بعد النهي فعليه البيان، فإن النسخ لا يثبت بالاحتمال، وأجاب بعضهم عن إشكال ابن حزم بأن أحاديث الجواز متأخرة، لما وقع منه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع [انظر روايتنا السادسة عشرة والسابعة عشرة والثامنة عشرة والتاسعة عشرة] وإذا كان ذلك الأخير من فعله صلى الله عليه وسلم دل على الجواز، ويتأيد بفعل الخلفاء الراشدين بعده. وقد حمل النووي على هذا القول مع سابقه، فقال: اعلم أن هذه الأحاديث أشكل معناها على بعض العلماء، حتى قال فيها أقوالاً باطلة، وزاد حتى تجاسر، ورام أن يضعف بعضها، وادعى فيها دعاوي باطلة، لا غرض لنا في ذكرها، وليس في الأحاديث إشكال، ولا فيها ضعيف، بل الصواب أن النهي فيها محمول على التنزيه، وشربه قائماً لبيان الجواز، وأما من زعم نسخاً أو غيره فقد غلط، فإن النسخ لا يصار إليه مع إمكان الجمع لو ثبت التاريخ، وأما قول عياض: لا خلاف بين أهل العلم في أن من شرب قائماً ليس عليه أن يتقيأ، وأشار به إلى تضعيف الحديث، فلا يلتفت إلى إشارته، وكون أهل العلم لم يوجبوا الاستقاءة لا يمنع من استحبابه، فمن ادعى منع الاستحباب بالإجماع فهو مجازف، وكيف تترك السنة الصحيحة بالتوهمات والدعاوي والترهات؟ . المسلك الثالث: الجمع بين الخبرين بضرب من التأويل: (أ) قال أبو الفرج الثقفي: المراد بالقيام في أحاديث النهي المشي، يقال: قام في

الأمر إذا مشي فيه، وقمت في حاجتي إذا سعيت فيها وقضيتها، ومنه قوله تعالى: {إلا ما دمت عليه قائماً} [آل عمران: 75] أي مواظباً بالمشي. (ب) وجنح الطحاوي إلى تأويل آخر، وهو حمل النهي على من لم يسم عند شربه، وهذا إن سلم له في بعض ألفاظ الحديث لم يسلم له في بقيتها. (ج) وسلك آخرون في الجمع مسلكاً جيداً، بحمل أحاديث النهي على كراهة التنزيه، وأحاديث الجواز على بيانه، وهي طريقة الخطابي وابن بطال والنووي وآخرين، وهذا أحسن المسالك، وأسلمها، وأبعدها من الاعتراض، وقد أشار الأثرم أخيراً إلى ذلك، فقال: إن ثبتت الكراهة حملت على الإرشاد والتأديب، لا على التحريم، وبذلك جزم الطبري، وأيده بأنه لو كان جائزاً ثم حرمه، أو كان حراماً ثم جوزه لبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بياناً واضحاً، فلما تعارضت الأخبار بذلك جمعنا بينها بهذا. والله أعلم. الأدب السابع: عدم التنفس في إناء الشراب، والكلام فيه على حالتين: الحالة الأولى عدم إخراج الشارب نفسه في داخل الإناء، لأنه ربما حصل للإناء، أو للسائل فيه تغير من ريح النفس، إما لكون المتنفس متغير الفم بمأكول ونحوه، أو لبعد عهده بالسواك والمضمضة، أو لأن النفس يصعد ببخار المعدة وريحها، والنفخ في هذه الأحوال كلها أشد من التنفس، فالنهي عنه آكد من باب أولى، فقد يزيد النفخ خروج رذاذ من الريق، مما يتقذر غالباً، وقد ورد النهي عن النفخ في الطعام والشراب في أحاديث كثيرة، فعند أبي داود والترمذي "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتنفس في الإناء، وأن ينفخ فيه" قال المهلب: النهي عن التنفس في الشرب كالنهي عن النفخ في الطعام والشراب، من أجل أنه قد يقع فيه شيء من الريق، فيعافه الشارب ويتقذره، إذا كان التقذر في مثل ذلك عادة غالبة على طباع أكثر الناس، ومحل هذا إذا أكل أو شرب مع غيره، وأما لو أكل وحده أو مع أهله، أو مع من يعلم أنه لا يتقذر فلا بأس. قال الحافظ ابن حجر: والأولى تعميم المنع، لأنه لا يؤمن مع ذلك أن تفضل فضلة، أو يحصل التقذر من الإناء، أو نحو ذلك، قال ابن العربي: قال علماؤنا: هو من مكارم الأخلاق. الحالة الثانية: التنفس خارج الإناء، أثناء الشرب، بأن يشرب على نفسين أو ثلاثة أو أكثر، وروايتنا الواحدة والعشرون والثانية والعشرون تصرحان بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتنفس في الشرب ثلاثاً، وعند البخاري "كان أنس يتنفس في الإناء مرتين أو ثلاثاً". وجواز الشرب بنفس واحد ورد به الأمر عند الحاكم، وهو محمول على الجواز، وأخرج الترمذي بسند ضعيف عن ابن عباس رفعه "لا تشربوا واحدة، كما يشرب البعير، ولكن اشربوا مثنى وثلاث" قال الحافظ ابن حجر: فالنهي عن الشرب في نفس واحد للتنزيه. الأدب الثامن: إدارة الشراب على يمين المبتدئ، وفي روايتنا الثالثة والعشرين والرابعة والعشرين والخامسة والعشرين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى الأعرابي الذي على يمينه قبل أبي بكر وعمر، وقال: الأيمن فالأيمن، وفي الرواية السادسة والعشرين استأذن الغلام الذي عن يمينه ليعطي الأشياخ الذين هم عن شماله، فلما لم يتنازل الغلام لهم أعطاه.

قال الخطابي: كانت العادة جارية لملوك الجاهلية ورؤسائهم بتقديم الأيمن في الشرب، حتى قال عمرو بن كلثوم، في قصيدة له: وكان الكأس مجراها اليمينا. فبين النبي صلى الله عليه وسلم بفعله أن تلك العادة لم تغيرها السنة، وأنها مستمرة، وأن الأيمن يقدم على الأفضل في ذلك، ولا يلزم من ذلك حط رتبة الأفضل، وكان ذلك لفضل اليمين على اليسار، وقال الحافظ ابن حجر: إن تقديم الذي على اليمين ليس لمعنى فيه، بل لمعنى في جهة اليمين، وهو فضلها على جهة اليسار، فيؤخذ منه أن ذلك ليس ترجيحاً لمن هو على اليمين، بل هو ترجيح لجهته. وقد يتعارض ظاهر هذا مع الأمر بتقديم الأفضل، وهو المسألة الأولى التي تعرضنا لها في أول فقه الحديث، فعند البخاري في القسامة حين تكلم الصغير بحضور الكبير قال له صلى الله عليه وسلم "الكبر الكبر" وفي رواية "كبر. كبر" وفي رواية "يبدأ الأكبر" وفي الطهارة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمناولة السواك الأكبر، وأخرج أبو يعلى بسند قوي، عن ابن عباس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سقى قال: ابدءوا بالكبير" ويجمع بأنه محمول على الحالة التي يجلسون فيها متساويين، إما بين يدي الكبير، أو عن يساره كلهم، أو خلفه، فتخص هذه الصورة من عموم الأيمن، أو يحمل على أن الابتداء يكون بالأكبر، كرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحاديث الأيمن في إدارة الشراب بعد الأكبر. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - من الرواية الأولى، من قوله "والذي نفسي بيده" جواز الحلف من غير استحلاف. 2 - من قوله "إن يده في يدي مع يدها" ومن قوله في الرواية الثالثة "فإن الشيطان يأكل بالشمال" أن للشيطان يدين. 3 - وأنه ينبغي اجتناب الأفعال التي تشبه أفعال الشياطين والكفار. 4 - وأن الشيطان يأكل ويشرب. 5 - ومن الرواية السادسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل حال، حتى في حال الأكل. 6 - جواز الدعاء على من خالف الحكم الشرعي بلا عذر. 7 - ذم الكبر، وما يترتب عليه. 8 - استحباب تعليم الآكل آداب الأكل، إذا خالفها. 9 - ومن الرواية السابعة والثامنة تدريب الصبيان وتعليمهم آداب الطعام. 10 - وفيها منقبة لعمر بن أبي سلمة، وحرصه على اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما ورد عند البخاري، من قوله "فما زالت تلك طعمتي بعد". 11 - استنبط بعضهم من قوله "الأيمن فالأيمن" في الرواية الثالثة والعشرين أن السنة إعطاء من على اليمين، ثم الذي يليه، وهلم جرا.

12 - ومن الرواية الثالثة والعشرين وما بعدها أن من سبق إلى مجلس علم، أو مجلس رئيس لا ينحى منه لمن هو أولى منه بالجلوس في الموضع المذكور، بل يجلس الآتي حيث انتهى به المجلس، لكن إن آثره السابق جاز. 13 - وأن من استحق شيئاً لم يدفع عنه إلا بإذنه، كبيراً كان أو صغيراً، إذا كان ممن يجوز إذنه. 14 - وأنه إذا تعارضت فضيلة شخص مع فضيلة وظيفة آخر قدمت فضيلة الوظيفة، فيقدم رئيس العمل على من هو أفضل منه من العاملين معه لوظيفته، كما قدم الأعرابي لوظيفة اليمين على أبي بكر مع سابق وآكد فضله. 15 - وأن الجلساء شركاء فيما يقرب إليهم، على سبيل الفضل، لا اللزوم، للإجماع على أن المطالبة بذلك لا تجب، قاله ابن عبد البر. قال الحافظ ابن حجر: ومحله إذا لم يكن فيهم الإمام أو من يقوم مقامه، فإن كان فالتصرف في ذلك له. 16 - ومن الرواية الرابعة والعشرين والخامسة والعشرين دخول الكبير بيت خادمه وصاحبه، ولو كان صغير السن. 17 - وتناوله مما عنده من طعام وشراب، من غير بحث، بل وطلبه منه طعاماً أو شراباً. 18 - وجواز شرب اللبن مشوباً بالماء، قال ابن المنير: وذلك لا يدخل في النهي عن الخليطين، فإنه مقيد بالمسكر، أي إنما ينهى عن الخليطين إذا كان كل واحد منهما من جنس ما يسكر، وإنما كانوا يمزجون اللبن بالماء لأن اللبن عند الحلب يكون حاراً، وتلك البلاد في الغالب حارة، فكانوا يكسرون حر اللبن بالماء البارد. 19 - ومن الرواية السادسة والعشرين، استنبط بعضهم جواز استئذان صاحب الحق في أن يتنازل عن حقه. 20 - وأنه يجوز إعطاء ما ليس بحق إذا أذن صاحب الحق، فمن الواضح أنه لو أذن الغلام لأعطي الأشياخ. 21 - وأنه يجوز الإيثار في مثل ذلك، إذ لو لم يجز لم يستأذن، قال الحافظ ابن حجر: وهو مشكل على ما اشتهر من أنه لا إيثار بالقرب، وعبارة إمام الحرمين في هذا: لا يجوز التبرع في العبادات، ويجوز في غيرها، وقد يقال: إن القرب أعم من العبادة، وقد أورد على هذه القاعدة تجويز جذب واحد من الصف الأول، ليصلي معه، ليخرج الجاذب عن أن يكون مصليا خلف الصف وحده، لثبوت الزجر عن ذلك، ففي مساعدة المجذوب للجاذب إيثار بقربة كانت له، وهي تحصيل فضيلة الصف الأول، ليحصل فضيلة تحصل للجاذب، وهي الخروج من الخلاف في بطلان صلاته، قال: ويمكن الجواب بأنه لا إيثار، إذ حقيقة الإيثار إعطاء ما استحقه لغيره، وهذا لم يعط الجاذب شيئاً، وإنما رجح مصلحته على مصلحته، لأن مساعدة الجاذب على تحصيل مقصوده ليس فيه إعطاؤه ما كان يحصل للمجذوب لو لم يوافقه. اهـ وتفسير الحافظ -رحمه الله- للإيثار

بما فسره اصطلاح مضيق، إذ تقديم مصلحة الغير على مصلحة نفسه إيثار، والقاعدة التي ذكرها غير متفق عليها، فقد أجازوا تنازل الأحق بالإمامة لمن هو دونه في الأحقية، وهو إيثار بالقرب. والله أعلم. 22 - واستدل بالحديث على جواز هبة الواحد للجماعة شيئاً على سبيل المشاع. 23 - قال بعضهم: وفي الحديث أنه يجوز هبة الشيء المملوك مشاعاً لجماعة، وهو قول الجمهور، خلافاً لأبي حنيفة في هبة ما يقبل القسمة، قال: والحديث ظاهر في ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الغلام أن يهب نصيبه للأشياخ، وكان نصيبه منه مشاعاً غير متميز، فدل على صحة هبة المشاع. كذا قال الحافظ ابن حجر، مؤيداً بذلك ابن بطال، والتحقيق أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل الغلام هبة نصيبه من اللبن، فنصيبه من اللبن مشاعاً باق له، وإنما سأله التنازل عن حق الترتيب، وعن حق اتصال شربه بسؤر النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك كان اعتذاره رفض التنازل عن هذا الحق "لا أوثر بنصيبي منك أحداً" فليس في الحديث هبة المملوك مشاعاً لآخرين، لكن فيه هبة المملوك على التعيين، نعم فيه هبة صاحب اللبن لبنه لجماعة على سبيل المشاع. والله أعلم

(561) باب لعق الأصابع والإناء بعد الأكل والأكل بثلاث أصابع والتقاط اللقمة الساقطة

(561) باب لعق الأصابع والإناء بعد الأكل والأكل بثلاث أصابع والتقاط اللقمة الساقطة 4635 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أكل أحدكم طعاماً، فلا يمسح يده حتى يلعقها، أو يُلعقها". 4636 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أكل أحدكم من الطعام فلا يمسح يده حتى يلعقها أو يُلعقها". 4637 - عن ابن كعب بن مالك عن أبيه رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يلعق أصابعه الثلاث من الطعام. ولم يذكر ابن حاتم الثلاث. وقال ابن أبي شيبة: في روايته عن عبد الرحمن بن كعب عن أبيه. 4638 - وفي رواية عن ابن كعب بن مالك، عن أبيه رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل بثلاث أصابع، ويلعق يده قبل أن يمسحها. 4639 - عن كعب بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل بثلاث أصابع، فإذا فرغ لعقها. 4640 - عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلعق الأصابع والصحفة، وقال "إنكم لا تدرون في أيه البركة".

4641 - عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا وقعت لقمة أحدكم، فليأخذها، فليمط ما كان بها من أذى، وليأكلها، ولا يدعها للشيطان. ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه؛ فإنه لا يدري في أي طعامه البركة". 4642 - وفي رواية عن سفيان بهذا الإسناد. مثله. وفي حديثهما "ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعقها أو يُلعقها" وما بعده. 4643 - عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه، حتى يحضره عند طعامه. فإذا سقطت من أحدكم اللقمة، فليمط ما كان بها من أذى؛ ثم ليأكلها، ولا يدعها للشيطان. فإذا فرغ، فليلعق أصابعه؛ فإنه لا يدري في أي طعامه تكون البركة". 4644 - وفي رواية عن الأعمش بهذا الإسناد "إذا سقطت لقمة أحدكم" إلى آخر الحديث ولم يذكر أول الحديث "إن الشيطان يحضر أحدكم". 4645 - عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل طعاماً لعق أصابعه الثلاث. قال: وقال "إذا سقطت لقمة أحدكم، فليمط عنها الأذى وليأكلها، ولا يدعها للشيطان" وأمرنا أن نسلت القصعة. قال "فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة". 4646 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا أكل أحدكم، فليلعق أصابعه؛ فإنه لا يدري في أيتهن البركة". 4647 - وفي رواية عن حماد بهذا الإسناد. غير أنه قال "وليسلت أحدكم الصحفة" وقال "في أي طعامكم البركة، أو يبارك لكم".

-[المعنى العام]- إن الحكم الشرعي يرتبط بظروفه وملابساته ارتباطاً كاملاً، يرتبط بالزمان والمكان والأشخاص والإمكانات والأحوال، وكأنه يقول: هذا الحكم لهذه الحادثة وما شابهها في جميع ملابساتها، وهذا معنى قولهم: إن الخطاب الشرعي للحاضرين وقت الخطاب، ويكلف به من يأتي بعدهم عن طريق القياس، فإذا قال الله تعالى: {إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم} [النور: 11] فالخطاب للصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، ونحن في القرن العشرين مكلفون بهذا عن طريق القياس، فإذا وقع إفك مشابه، وخاض فيه بعضنا وجب علينا أن لا نحسبه شراً لنا، وأن نؤمن بأنه خير لنا، وعلينا إذا سمعناه قلنا: {ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم} [النور: 16]. وهذا معنى أن الإسلام وشرائعه صالح لكل زمان ومكان، أي إذا وقعت واقعة مشابهة من جميع الوجوه لواقعة صدر فيها حكم شرعي أمام نزول الوحي، نقل إلى الأخيرة حكم الأولى. خذ مثلاً حديث "من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثالثة وعنده منه شيء" هذا الحكم العام فهم منه الصحابة أنه مرتبط بظروفه، وأنه صدر في عام مجاعة، فلما كان العام المقبل سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: نفعل في أضحيتنا ما فعلنا في العام الماضي؟ قال: لا. كلوا وأطعموا، وادخروا، فإن ذاك العام كان بالناس جهد، فأردت أن تعينوا فيه. وعلى هذا فنحن مطالبون شرعاً في أضحيتنا بما طولب به الصحابة في أضحيتهم إذا وقعت الظروف المشابهة وقد ربطت بعض الأحكام الشرعية بظروفها صراحة، كما في الحديث السابق، وكما في قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} [النساء: 43] فقد بين في الآية أن التيمم وجوازه مرتبط بعدم وجود الماء فعلاً أو حكماً، كالمريض. لكن الكثير من الأحكام الشرعية ارتبط بظروفه قطعاً دون تصريح بهذا الارتباط. خذ مثلاً حديث "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد -أي بحفنة واحدة من الماء- ويغتسل بالصاع" -أي بأربع حفنات، أي كان يغتسل بأقل من لتر، ويتوضأ بأقل من ربع لتر، وكان يغتسل هو وعائشة من إناء صغير، يغترفان منه سوياً، حتى تقول له: دع لي. دع لي. فهل نغتسل مثل هذا الاغتسال وصنابير المياه "والدش" تملأ البيوت؟ والماء كثير يفيض عن الحاجات؟ اللهم. لا، لكن إن وقعنا في ظروف اغتسال الرسول صلى الله عليه وسلم اغتسلنا مثل اغتساله، وتوضأنا مثل وضوئه. هذه الظروف نفسها هي التي جعلت الاستجمار بالأحجار -أي مسح أثار البول والغائط، بالأحجار، بعد التبرز، مغنياً عن غسل تلك الآثار بالماء، مع أن الآثار يقيناً تبقى بعد المسح بالأحجار، مهما تصورنا حصول النقاء. فهل نفعل اليوم مع وجود الماء وتيسر استعماله كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته؟ عند ندرة الماء وقلته؟ اللهم. لا. لكن إن وقعنا في ظروف استجمار الرسول صلى الله عليه وسلم

وصحابته استجمرنا مثل استجمارهم، وفي هذه الحالة نكون قد التزمنا بأكبر قدر ممكن من النظافة، حسب الظروف المتاحة، و {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة: 286]. وآداب الأكل التي معنا في هذا الباب من هذا القبيل، لعق الأصابع التي يؤكل بها، ولعق القصعة بعد الأكل، والأكل بثلاث أصابع، وأكل اللقمة الساقطة. يروي البخاري وغيره أن بعض الصحابة كانوا يحملون معهم النوى، يمصونه عند الجوع، ويشربون عليه جرعة من ماء، فلما قيل لهم: وما كان يغني عنكم النوى؟ قالوا: عرفنا قيمته حين فقدناه. ويروي البخاري وغيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن خياطاً دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه، فذهب أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم معه، فماذا كانت الوليمة المعدة للقائد والحاكم الأعلى للدولة؟ كانت طبقاً صغيراً فيه ماء، تسبح فيه قطع قليلة من القرع، ولم يأكل معهما الخياط لقلة الطعام فكانت أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم تتبع قطعة القرع في الإناء، وكان أنس يجمع قطع القرع، ويدنيها من أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم. تلك كانت حياتهم وطعامهم وشرابهم، فما هي أرقى صورة حضارية في مثل هذه الظروف؟ لا ملاعق، ولا شوك، ولا سكاكين، ولا ماء للغسل، ولا مناديل ورقية للمسح، كيف يعمل المسلم ليكون في أعلى درجات النظافة الممكنة؟ والإمكانات المتاحة؟ . الأكل بثلاث أصابع، الإبهام والسبابة والوسطى، فيها يحصل أقل درجات التمكن من الأكل، ولا يأكل بأربع أو بخمس أو بالكف، لتقل درجة التلوث بالطعام قدر الإمكان. ثم لعق الأصابع الثلاث بعد الأكل، ولا يمسها بثيابه، ولا يلمس بها نظيفاً بجواره، ولا غضاضة في هذا اللعق، فما عليها من طعام هو نفسه من جنس ما ابتلعه منه، ولم يختلط بقذر، والريق الذي سيختلط به باللعق قد اختلط بما ابتلعه من قبل من الطعام، فماذا في ذلك؟ . العرف في هذه الأيام، في بيئة حضارية يستقبح هذا المنظر وينفر منه في حين يلعق الملعقة التي دخلت فم آخرين، واختلطت بلعاب الآخرين، والعرف كثيراً ما يستقبح الحسن، ويستحسن القبيح، وإذا تعارض العرف والشرع قدم الشرع على العرف، لكنه في مثل هذه المسألة يمكن لعق الأصابع لمن أكل بها، وأصابتها زهومة الطعام، ثم يغسلها الآكل بما شاء، وكيف شاء، فهو خير من أن يغسلها ملوثة بالدهون، عملاً بالحديث الذي رواه أبو داود بسند صحيح، بلفظ "من بات وفي يده غمر" -أي من بات وعلى يده رائحة طعام- "ولم يغسله، فأصابه شيء، فلا يلومن إلا نفسه". -[المباحث العربية]- (إذا أكل أحدكم طعاماً) وفي الرواية الثانية "إذا أكل أحدكم من الطعام" والطعام في

الأصل كل ما يؤكل، وكل ما به قوام البدن، والمراد منه هنا ما يبقى أثره على اليد من الأطعمة، كالدهون والحموضة والملوحة والروائح غير المحبوبة. (فلا يمسح يده حتى يلعقها أو يلعقها) "يلعقها" الأولى بفتح التاء، والثانية بضم الياء وكسر العين، بينهما لام ساكنة، قال النووي: معناه -والله أعلم- لا يمسح يده حتى يلعقها، فإن لم يفعل فحتى يلعقها غيره ممن لا يتقذر ذلك، كزوجة وجارية وولد وخادم يحبونه، ويلتذون بذلك، ولا يتقذرون، وكذا من كان في معناهم، كتلميذ يعتقد بركته، ويود التبرك بلعقها، وكذا لو ألعقها شاة ونحوها. اهـ واليد في الأصل من الإنسان من المنكب إلى أطراف الأصابع، والمراد هنا جزؤها الذي يلامس الطعام من الكف والأصابع، ففي الرواية الخامسة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل بثلاث أصابع، فإذا فرغ -من الأكل- لعقها" وفي الرواية السادسة "أمر بلعق الأصابع" وفي الرواية العاشرة "إذا أكل أحدكم فليلعق أصابعه" وفي الرواية التاسعة "كان إذا أكل طعاماً لعق أصابعه الثلاث" وفي الرواية الرابعة "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل بثلاث أصابع، ويلعق يده -أي أصابعه- قبل أن يمسحها". والمراد من الأصابع الثلاث الإبهام، والتي تليها، والوسطى، فعند الطبراني في الأوسط، عن كعب بن عجرة، قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل بأصابعه الثلاث، بالإبهام والتي تليها والوسطى، ثم رأيته يلعق أصابعه الثلاث قبل أن يمسحها، الوسطى، ثم التي تليها، ثم الإبهام" قال في شرح الترمذي: كأن السر فيه أن الوسطى أكثر تلويثاً، لأنها أطول، فيبقى فيها من الطعام أكثر من غيرها، ولأنها لطولها أول ما تنزل في الطعام، والمراد بلعق الأصابع لحسها باللسان، ومصها بالشفتين، والمراد بمسحها بعد اللعق إمرارها على قطعة من القماش ونحوها كالمنديل، أو إمرار القماش عليها، لإزالة ما بقي عليها، وذلك حيث لم يكن ماء ولا صابون للغسل. (عن ابن كعب بن مالك) هكذا في الرواية الخامسة، وفي ملحقها "عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك أو عبد الله بن كعب بن مالك" بأو وفي ملحقها الآخر "عن عبد الرحمن بن كعب وعبد الله بن كعب" بالواو، "أو أحدهما" قال النووي: ولا يضر الشك في الراوي إذا كان الشك بين ثقتين، لأن ابني كعب هذين ثقتان. (إنكم لا تدرون في أيه البركة) الجملة مستأنفة استئنافاً تعليلياً، أي لأنكم لا تدرون والضمير في "أيه" للطعام المفهوم من الكلام السابق، و"أي" تضاف إلى متعدد، والمراد في أي أجزائه البركة، فربما كانت بركة الطعام كله في جزئه الذي على الأصابع، فيحرمها من لم يلعق أصابعه، وفي الرواية السابعة "فإنه لا يدري في أي طعامه البركة" وفي الرواية الثامنة "فإنه لا يدري في أي طعامه تكون البركة" وفي الرواية التاسعة "فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة" وفي الرواية العاشرة "فإنه لا يدري في أيتهن البركة" قال النووي: هكذا هو في معظم الأصول، وفي بعضها "لا يدري أيتهما" وكلاهما صحيح، أما رواية "في أيتهن" فظاهره -أي في أية جزئية من جزئيات

الأطعمة- وأما رواية "لا يدري أيتهن البركة" فمعناه أيتهن صاحبة البركة، فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، وقال: أصل البركة الزيادة وثبوت الخير والإمتاع به، والمراد هنا -والله أعلم- ما يحصل به التغذية، وتسلم عاقبته من أذى، ويقوى على طاعة الله تعالى، وغير ذلك. وقد جاء الحديث الصحيح بهذا التعليل، فلا يعدل عنه، لكن ذكر علة لا يمنع من أن تكون هناك علة أخرى، فقد يكون للحكم علتان فأكثر، والتنصيص على واحدة لا ينفي غيرها، وقد أشارت الرواية السابعة والثامنة إلى علة أخرى، وأن الشيطان يحضر الطعام، فإذا سقطت لقمة -أو تركت بقايا الأطعمة على الأيدي أو في القصعة، سهلت للشيطان طعامه وشرابه وإقامته، وقد أضاف القاضي عياض علة أخرى، فقال: إنما أمر بذلك لئلا يتهاون بقليل الطعام. (إذا وقعت لقمة أحدكم) من يده على الأرض، فأصابها أذى. (فليمط ما كان بها من أذى) "يمط" بضم الياء، أي يزيل وينحي، وحكى بعضهم: ماطه وأماطه، فيصح في المضارع فتح الياء، وقال الأصمعي: أماطه لا غير، ومنه إماطة الأذى، والثلاثي لازم، يقال: مطت أنا عنه، أي تنحيت، والمراد بالأذى هنا المستقذر، من غبار وتراب وقذى ونحو ذلك. (ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه) مما علق بها من طعام، ليقلل من تدنيس المنديل، والمنديل معروف، وهو بكسر الميم، قال أهل اللغة: لعله مأخوذ من الندل، وهو النقل، وقيل: مأخوذ من الندل وهو الوسخ، لأنه يندل به، يقال: تندلت بالمنديل، وتمندلت به، وأنكر الكسائي تمندلت. وذكر القفال في محاسن الشريعة أن المراد بالمنديل هنا المنديل المعد لإزالة الزهومة، لا المنديل المعد للمسح بعد الغسل. (وأمرنا أن نسلت القصعة) أي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، و"نسلت" بفتح النون، وضم اللام، ومعناه نمسحها ونتتبع ما بقي فيها من الطعام، ومنه سلت الدم عن جبهته، إذا مسحه. (وقال: في أي طعامكم البركة، أو يبارك لكم) أي قال: فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة، أو قال: فإنكم لا تدرون في أي طعامكم يبارك لكم. شك من الراوي في أي اللفظين سمع. -[فقه الحديث]- قال النووي: في هذه الأحاديث أنواع من سنن الأكل، منها: 1 - استحباب لعق اليد محافظة على بركة الطعام، وتنظيفاً لها. 2 - واستحباب الأكل بثلاث أصابع، ولا يضم إليها الرابعة والخامسة إلا لعذر.

3 - واستحباب لعق القصعة ونحوها. 4 - واستحباب أكل اللقمة الساقطة، بعد مسح الأذى الذي يصيبها، هذا إذا لم تقع على موضع نجس، فإن وقعت على موضع نجس تنجست، ولا بد من غسلها إن أمكن، فإن تعذر أطعمها حيواناً، ولا يتركها. 5 - ومنها إثبات الشياطين، وأنهم يأكلون، والتحذير منهم. 6 - ومنها جواز مسح اليد بالمنديل، لكن السنة أن يكون بعد لعقها، واستشكل هذا بحديث جابر في البخاري، وفيه "أنهم زمان النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن لهم مناديل" فيحمل حديث النهي على من وجد، فلا يمسح بالمنديل حتى يلعقها، ولا مفهوم له، بل حكمه أيضاً حكم من وجد، يندب له لعق أصابعه. 7 - قال الحافظ ابن حجر: يشمل حكم اللعق من أكل بكفه كلها، أو بأصابعه الخمسة، أو ببعضها، وقال ابن العربي في شرح الترمذي: في قوله "فلا يمسح يده" دليل على جواز الأكل بالكف كلها، ويدل عليه أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعرق العظم، وينهش اللحم، ولا يمكن ذلك عادة إلا بالكف كلها. اهـ وفيه نظر، لأن ذلك ممكن بالثلاث، سلمنا أنه لا يمكن بالثلاث، لكن هو في هذه الحالة ممسك بكفه كلها، لا آكل بها، سلمنا أنه آكل بها لكنه محل ضرورة، ومحل الضرورة لا يدل على عموم الأحوال. قال القاضي عياض: والأكل بأكثر من الثلاث فيه شره وسوء أدب، إذا لم يكن مضطراً إلى ذلك، فإن اضطر إلى ذلك أدعم الثلاثة بالرابعة أو الخامسة، وعند سعيد بن منصور من مرسل ابن شهاب "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل أكل بخمس" فيجمع بينه وبين حديث كعب باختلاف الحال. والله أعلم

(562) باب الضيف يتبعه غير من دعي وتكثير الطعام ببركة دعائه صلى الله عليه وسلم

(562) باب الضيف يتبعه غير من دعي وتكثير الطعام ببركة دعائه صلى الله عليه وسلم 4648 - عن أبي مسعود الأنصاري قال: كان رجل من الأنصار، يقال له: أبو شعيب. وكان له غلام لحام. فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف في وجهه الجوع. فقال لغلامه: ويحك اصنع لنا طعاماً لخمسة نفر؛ فإني أريد أن أدعو النبي صلى الله عليه وسلم خامس خمسة. قال: فصنع ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فدعاه خامس خمسة. واتبعهم رجل، فلما بلغ الباب، قال النبي صلى الله عليه وسلم "إن هذا اتبعنا. فإن شئت أن تأذن له وإن شئت رجع" قال: لا بل آذن له يا رسول الله. 4649 - عن أنس رضي الله عنه أن جاراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فارسياً كان طيب المرق، فصنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاء يدعوه. فقال "وهذه لعائشة" فقال: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا" فعاد يدعوه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وهذه" قال: لا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا" ثم عاد يدعوه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وهذه" قال: نعم. في الثالثة. فقاما يتدافعان حتى أتيا منزله. 4650 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة، فإذا هو بأبي بكر وعمر. فقال "ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟ " قالا: الجوع يا رسول الله. قال: "وأنا والذي نفسي بيده، لأخرجني الذي أخرجكما، قوموا" فقاموا معه. فأتى رجلاً من الأنصار. فإذا هو ليس في بيته. فلما رأته المرأة قالت: مرحباً وأهلا. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم "أين فلان؟ " قالت: ذهب يستعذب لنا من الماء. إذ جاء الأنصاري. فنظر إلى

رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه. ثم قال: الحمد لله. ما أحد اليوم أكرم أضيافاً مني. قال: فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب. فقال: كلوا من هذه وأخذ المدية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "إياك والحلوب" فذبح لهم. فأكلوا من الشاة، ومن ذلك العذق، وشربوا. فلما أن شبعوا ورووا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر "والذي نفسي بيده، لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة. أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم". 4651 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينا أبو بكر قاعد وعمر معه، إذ أتاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "ما أقعدكما ها هنا؟ " قالا: أخرجنا الجوع من بيوتنا، والذي بعثك بالحق. ثم ذكر نحو حديث خلف بن خليفة. 4652 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لما حفر الخندق رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم خمصاً. فانكفأت إلى امرأتي فقلت لها: هل عندك شيء فإني رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم خمصاً شديداً؟ فأخرجت لي جراباً فيه صاع من شعير. ولنا بهيمة داجن. قال: فذبحتها. وطحنت ففرغت إلى فراغي. فقطعتها في برمتها. ثم وليت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه. قال: فجئته فساررته، فقلت: يا رسول الله، إنا قد ذبحنا بهيمة لنا، وطحنت صاعاً من شعير كان عندنا. فتعال أنت في نفر معك. فصاح رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال "يا أهل الخندق، إن جابراً قد صنع لكم سوراً. فحي هلا بكم" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تنزلن برمتكم، ولا تخبزن عجينتكم حتى أجيء" فجئت. وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الناس. حتى جئت امرأتي. فقالت: بك وبك. فقلت: قد فعلت الذي قلت لي. فأخرجت له عجينتنا، فبصق فيها وبارك. ثم عمد إلى برمتنا. فبصق فيها وبارك. ثم قال "ادعي خابزة فلتخبز معك. واقدحي من برمتكم ولا تنزلوها" وهم ألف. فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه. وانحرفوا وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجينتنا، -أو كما قال الضحاك- لتخبز كما هو. 4653 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال أبو طلحة لأم سليم: قد سمعت صوت

رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفاً أعرف فيه الجوع. فهل عندك من شيء؟ فقالت: نعم. فأخرجت أقراصاً من شعير. ثم أخذت خماراً لها، فلفت الخبز ببعضه. ثم دسته تحت ثوبي وردتني ببعضه. ثم أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فذهبت به فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في المسجد ومعه الناس. فقمت عليهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أرسلك أبو طلحة" قال: فقلت: نعم. فقال "ألطعام؟ " فقلت: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن معه "قوموا" قال: فانطلق، وانطلقت بين أيديهم، حتى جئت أبا طلحة، فأخبرته. فقال أبو طلحة: يا أم سليم، قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، وليس عندنا ما نطعمهم. فقالت: الله ورسوله أعلم. قال: فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم معه حتى دخلا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هلمي ما عندك يا أم سليم" فأتت بذلك الخبز. فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ففت، وعصرت عليه أم سليم عكة لها فأدمته. ثم قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقول. ثم قال: "ائذن لعشرة" فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا. ثم قال "ائذن لعشرة" فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا. ثم قال "ائذن لعشرة" حتى أكل القوم كلهم وشبعوا. والقوم سبعون رجلاً أو ثمانون. 4654 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بعثني أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأدعوه، وقد جعل طعاماً. قال: فأقبلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع الناس. فنظر إلي فاستحييت فقلت: أجب أبا طلحة. فقال للناس "قوموا" فقال أبو طلحة: يا رسول الله، إنما صنعت لك شيئاً. قال: فمسها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا فيها بالبركة. ثم قال: "أدخل نفراً من أصحابي عشرة" وقال "كلوا" وأخرج لهم شيئاً من بين أصابعه. فأكلوا حتى شبعوا. فخرجوا. فقال "أدخل عشرة" فأكلوا حتى شبعوا. فما زال يدخل عشرة ويخرج عشرة حتى لم يبق منهم أحد إلا دخل، فأكل حتى شبع ثم هيأها فإذا هي مثلها حين أكلوا منها. 4655 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بعثني أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وساق الحديث بنحو حديث ابن نمير، غير أنه قال في آخره: ثم أخذ ما بقي فجمعه، ثم دعا فيه بالبركة. قال: فعاد كما كان. فقال "دونكم هذا".

4656 - وفي رواية عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أمر أبو طلحة أم سليم أن تصنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعاماً لنفسه خاصة. ثم أرسلني إليه. وساق الحديث. وقال فيه: فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده وسمى عليه. ثم قال "ائذن لعشرة" فأذن لهم فدخلوا. فقال "كلوا وسموا الله" فأكلوا. حتى فعل ذلك بثمانين رجلاً. ثم أكل النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك وأهل البيت وتركوا سؤراً. 4657 - وفي رواية عن أنس بن مالك رضي الله عنه، بهذه القصة، في طعام أبي طلحة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال فيه: فقام أبو طلحة على الباب حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا رسول الله، إنما كان شيء يسير. قال "هلمه فإن الله سيجعل فيه البركة". 4658 - وفي رواية عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بهذا الحديث. وقال فيه: ثم أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكل أهل البيت وأفضلوا ما أبلغوا جيرانهم. 4659 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: رأى أبو طلحة رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعاً في المسجد. يتقلب ظهراً لبطن. فأتى أم سليم فقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعاً في المسجد يتقلب ظهراً لبطن وأظنه جائعاً. وساق الحديث. وقال فيه: ثم أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة وأم سليم وأنس بن مالك. وفضلت فضلة، فأهديناه لجيراننا. 4660 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فوجدته جالساً مع أصحابه يحدثهم، وقد عصب بطنه بعصابة -قال أسامة وأنا أشك- على حجر. فقلت لبعض أصحابه: لم عصب رسول الله صلى الله عليه وسلم بطنه؟ فقالوا: من الجوع فذهبت إلى أبي طلحة، وهو زوج أم سليم بنت ملحان. فقلت: يا أبتاه، قد رأيت رسول الله عصب بطنه بعصابة. فسألت بعض أصحابه فقالوا: من الجوع. فدخل أبو طلحة على أمي. فقال: هل من شيء؟

فقالت: نعم. عندي كسر من خبز وتمرات فإن جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده أشبعناه. وإن جاء آخر معه قل عنهم. ثم ذكر سائر الحديث بقصته. 4661 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن خياطاً دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه. قال أنس بن مالك: فذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الطعام. فقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خبزاً من شعير. ومرقاً فيه دباء وقديد. قال أنس: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء من حوالي الصحفة. قال: فلم أزل أحب الدباء منذ يومئذ. 4662 - عن أنس رضي الله عنه قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل. فانطلقت معه. فجيء بمرقة فيها دباء. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل من ذلك الدباء ويعجبه. قال: فلما رأيت ذلك جعلت ألقيه إليه ولا أطعمه. قال فقال أنس: فما زلت، بعد، يعجبني الدباء. 4663 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً خياطاً دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وزاد: قال ثابت: فسمعت أنساً يقول: فما صنع لي طعام، بعد، أقدر على أن يصنع فيه دباء إلا صنع. -[المعنى العام]- الأمور الجبلية من طعام وشراب ولباس ونوم، يدخل فيها كسب الإنسان واختياره، ويلحقها المدح أو الذم باتفاق جميع العقلاء، وإلا لم يكن هناك فرق بين أكل الإنسان وأكل الحيوان، ومن هذا المنطلق كانت الأمور الجبلية الاختيارية داخلة في التشريع الإسلامي، وكان فعل الرسول صلى الله عليه وسلم أو قوله أو تقريره بخصوصها تشريعاً، على سبيل الوجوب أو الندب أو الأولى أو الإباحة. وإذا كنا مؤمنين بأن محمداً صلى الله عليه وسلم نبي ورسول، وأن الوحي كان ينزل عليه صباح مساء بحكم الله، كان من غير المعقول أن يفعل صلى الله عليه وسلم فعلاً، ليس من مراد الله تشريعه، ويستمر دون تعديل من الله طيلة حياته صلى الله عليه وسلم. وإذا كان الوحي قد جاء بالاعتراض على عبوس وتقطيب وجهه صلى الله عليه وسلم أمام أعمى لا يراه، فنزل بقوله تعالى: {عبس وتولى* أن جاءه الأعمى* وما يدريك لعله يزكى* أو يذكر فتنفعه الذكرى} [عبس: 1 - 4].

وإذا كان الوحي قد جاء بالاعتراض على امتناعه من أكل شيء حلال، إرضاء لأزواجه، فنزل بقوله تعالى: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك} [التحريم: 1]. وإذا كان الوحي قد جاء بالاعتراض على خلجات قلبه صلى الله عليه وسلم، فنزل قوله تعالى: {وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} [الأحزاب: 37]. إذا كان الله يعدل سلوك نبيه صلى الله عليه وسلم إلى أرقى أنواع السلوك، ليكون قدوة وأسوة لأمته، حيث أمرت بالاقتداء به: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [الأحزاب: 21] كان كل ما أقره الوحي تشريعاً من الله تعالى لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، مع مراعاة أن الظروف المحيطة بالتشريع جزء من هذا التشريع، كما سبقت الإشارة إليها في معنى الباب السابق. وكانت محاولة البعض إخراج بعض الأمور الجبلية الاختيارية كالأكل والشرب من التشريع، محاولة تمرد على السنة النبوية، والرسالة المحمدية. وهذه الأحاديث التي نحن بصددها أنموذج موضح لطرف من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مطعمه ومشربه. كان يجوع أحياناً، فلا يجد في بيته ما يقيم به صلبه، فيربط الحجر على بطنه، ويشد العصابة على جوفه، ويتلوى على الأرض من عض الجوع، وما كان ذلك هواناً من الله، فهو صاحب الوسيلة والفضيلة والشفاعة والمقام المحمود والمنزلة الرفيعة في الجنة، ولكنه كان نبراساً لفقراء الأمة المستقيمين على الشريعة الحقة، أن فقرهم لا ينقصهم عند ربهم، وأنه رب أشعث أغبر، حافي القدمين، لو أقسم على الله لأبره، ورب فقير لا يؤبه له، خير من ملء الأرض من الأغنياء الذين يرهبون وكان بعض أصحابه المقربون إليه، وزيراه اللذين كانا خليفتيه، أبو بكر وعمر، يجوعان، فيخرجهما الجوع من بيوتهما، يلتمسان سد الجوعة بطريق حلال. وكان بعض من آتاه الله من فضله يعرف ذلك، ويسارع في إكرامهم واستضافتهم، تارة يدعوهم إلى بيته وطعامه، كما فعل الأنصاري، صاحب الغلام اللحام في الحديث الأول، وكما فعل الفارسي في الحديث الثاني، وكما فعل جابر في الحديث الخامس، وكما فعل أبو طلحة، زوج أم أنس، كما هو ظاهر في بعض الأحاديث، وكما فعل الخياط في الحديث الثاني عشر وما بعده. وتارة يبعث الهدية والطعام، كما هو ظاهر في بعض أحاديث أنس رضي الله عنه. وتارة كان صلى الله عليه وسلم يلجأ إلى بعض أصحابه، فيزورهم هو ومن معه، ابتغاء أن يطعموهم ويتحفوهم كأضياف، كما في الحديث الثالث. وفي كل هذه الأحوال تدخل التشريعات الإلهية الفرعية، الضيف المدعو يتبعه ضيف لم يدع، ما موقف الضيف المدعو؟ وما موقف المضيف الداعي؟ وماذا عن المتطفل؟ الداعي يدعو واحداً، فيتمسك المدعو بأن يدعو الداعي مدعواً آخر، ما موقف الداعي؟ وما موقف المدعو من إجابة الدعوة؟

المرأة في بيتها، ما موقفها من ضيوف زوجها؟ وماذا عن كلامهم معها؟ ومراجعتها لهم؟ الفقير يدعو الكبير الشريف إلى طعام بمنزله، الحرف الوضيعة وموقف الإسلام من أصحابها، السيد يأكل مع خادمه، مناولة الأضياف بعضهم بعضاً. وعلى رأس هذه المباحث الفقير والغني، وما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من التقلل من الدنيا، وما كان عليه الصحابة من الزهد أو التنعم، وأيهما أفضل؟ الغني الشاكر؟ أم الفقير الصابر؟ . وأبرز النقاط معجزة تكثير الطعام والشراب ببركة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه المعجزة الحسية المادية التي شهدها آلاف البشر، رأوها رؤيا العين، وأحسوها إحساس الأكل والشرب وتناقلها من الرواة ما يثبتها بالتواتر المعنوي، لكنها كانت في عصر العقل والروح، وأمام معجزة القرآن الكريم لا تكاد تذكر، لذا قد ينكرها بعض الناس. ولم ينكرونها وقد آمنوا بالمائدة تنزل من السماء بدعوة عيسى -عليه السلام؟ وبإنزال المن والسلوى على بني إسرائيل؟ وبناقة صالح التي كان لها شرب؟ ولهم شرب يوم معلوم؟ . فاللهم آمنا بك وبرسولك، وبالكتاب الذي نزل على رسولك، وبالمعجزات التي أظهرتها على يد رسولك صلى الله عليه وسلم. -[المباحث العربية]- (كان رجل من الأنصار يقال له: أبو شعيب) قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمه. (وكان له غلام لحام) بتشديد الحاء، أي يبيع اللحم، أي جزار، وفي رواية للبخاري "فقال لغلام له قصاب" بفتح القاف وتشديد الصاد. (فعرف في وجهه الجوع) بقرينة الحال التي كانوا فيها. (ويحك) كلمة ترحم وتوجع، وقيل: هي بمعنى ويل، يقال: ويح له، ويحاً له، وويحه. (اصنع لنا طعاماً لخمسة نفر) الإضافة بيانية، أي لخمسة هم نفر. (خامس خمسة) يقال: خامس أربعة، وخامس خمسة بمعنى، قال تعالى: {ثاني اثنين} [التوبة: 40] ومعنى خامس أربعة أي زائد عليهم، ومصير الأربعة خمسة، ومعنى خامس خمسة أي أحدهم، والأجود نصب "خامس" على الحال، ويجوز الرفع، بتقدير مبتدأ محذوف، أي وهو خامس خمسة، والجملة حينئذ حالية. (فدعاه خامس خمسة) في رواية "فدعاه وجلساءه الذين معه" وكأنهم كانوا أربعة، وهو خامسهم.

(واتبعهم رجل) بتشديد التاء، وفي رواية للبخاري "فتبعهم رجل" وهما بمعنى، وذكرها الداودي بهمزة قطع، وتكلف ابن التين في توجيهها، وفي رواية "فجاء معهم رجل". (فلما بلغ الباب) أي باب دار الأنصاري، وفاعل "بلغ" ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم. (إن هذا اتبعنا) في رواية للبخاري "إنك دعوتنا خامس خمسة، وهذا رجل قد تبعنا" وفي رواية "وهذا رجل لم يكن معنا حين دعوتنا". (فإن شئت أن تأذن له، وإن شئت رجع) في رواية للبخاري "فإن شئت أذنت له، وإن شئت تركته" وفي رواية "وإن شئت أن يرجع رجع" وفي رواية "فإن أذنت له دخل". (قال: لا. بل آذن له يا رسول الله) "لا" أي لا يرجع، وفي رواية "لا. فقد أذنا له، فليدخل". (أن جاراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فارسياً كان طيب المرق) أي يجيد طعم مرق اللحوم، بما يختار من نوعها، وما يضيفه من أملاح وتوابل وبهار. (فصنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم) المفعول محذوف، أي صنع مرقاً، أي ولحم. (فقال: وهذه؟ لعائشة -فقال: لا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا) "وهذه" الواو عاطفة على جملة محذوفة، و"هذه" مبتدأ محذوف الخبر، والكلام على الاستفهام، والتقدير: هل أنا مدعو؟ وهذه مدعوة معي؟ فقال: لا. أي ليست مدعوة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، أي لست قابلاً للدعوة، ولست مجيباً لها. والطاهر أن رفض الرجل لدعوة عائشة سببه أن الطعام كان قليلاً، لا يكفي إلا واحداً، فخشي إن أذن لعائشة أن لا يكفي النبي صلى الله عليه وسلم، والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم علم حاجة عائشة لذلك الطعام بعينه، أو أحب أن تأكل معه منه، لأنه كان موصوفاً بالجودة، فأراد أن تتعلمه لتصنعه، أو للإشارة إلى أنه ينبغي للداعي أن يدعو خواص المدعو معه، وبخاصة من حضر منهم الدعوة. (فقاما يتدافعان، حتى أتيا منزله) أي أخذا يمشيان ويسرعان، يمشي كل واحد منهما في إثر صاحبه، يسابقه المشي، كأنه يدفعه إلى الوراء بتقدمه عليه. (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة فإذا هو بأبي بكر وعمر) أي خرج من بيته، على غير جهة، والفاء زائدة، و"إذا" للمفاجأة، ظرف زمان أو ظرف مكان، وتدخل على جملة اسمية، وعاملها عند الجمهور الخبر، أي استقر عنده أبو بكر وعمر وقت أو مكان خروجه. وقيل: عاملها معنى المفاجأة، أي فاجأه أبو بكر وعمر وقت أو مكان خروجه. وفي الرواية الرابعة "بينا أبو بكر قاعد، وعمر معه إذ أتاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم" فإذا للمفاجأة، أي فاجأهما إتيانه صلى الله عليه وسلم بين أوقات قعودهما.

(ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟ ) "بيوتكما" قال النووي: بضم الباء وكسرها، لغتان، قرئ بهما في السبع، وجمع "بيوت" جائز، كالتثنية والإفراد. (الجوع) بالرفع، فاعل لفعل محذوف، أي أخرجنا الجوع، قال النووي: معناه أنهما لما كانا عليه من مراقبة الله تعالى، ولزوم طاعته، والاشتغال به، فعرض لهما هذا الجوع الذي يزعجهما ويقلقهما، ويمنعهما من كمال النشاط للعبادة، وتمام التلذذ بها، سعياً في إزالته بالخروج في طلب سبب مباح، يدفعانه به، وهذا من أكمل الطاعات، وأبلغ أنواع المراقبات، وقد نهي عن الصلاة مع مدافعة الأخبثين، وبحضرة طعام تتوق النفس إليه. اهـ (قال: وأنا) قال النووي: هكذا هو في بعض النسخ "وأنا" بالواو، وفي بعضها "فأنا" بالفاء. (قوموا. فقاموا معه) قال النووي: هكذا هو في الأصول بضمير الجمع، وهو جائز بلا خلاف -على اعتبار أن الجمع ما فوق الواحد -لكن الجمهور يقولون: إطلاقه على الاثنين مجاز، وآخرون يقولون: حقيقة. (فأتى رجلاً من الأنصار) هو أبو الهيثم -مالك بن التيهان- بفتح التاء وتشديد الياء. (مرحباً وأهلاً) كلمتان معروفتان للعرب، أي صادفت رحباً وسعة، وأهلاً تأنس بهم، مفعولان لفعلين محذوفين. (أين فلان؟ ) اللفظ الذي نطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم هو اسم الرجل، أبو الهيثم مالك، وفلان تعبير من الراوي، كناية عن الاسم. (ذهب يستعذب لنا من الماء) أي ذهب يطلب لنا العذب الطيب من الماء، ليحضره لنا. (إذ جاء الأنصاري) "إذ" ظرف لقالت، وجملة "جاء الأنصاري" مضاف لإذ، أي قالت كذا وقت مجيء الأنصاري. (فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه) نظرة فرح وسرور وترحيب. (ما أحد اليوم أكرم أضيافاً مني) المقصود من النفي نفي الانبغاء، أي ما ينبغي وما يصح أن يكون أحد أكرم أضيافاً مني اليوم، و"أكرم" خبر "ما" منصوب عند الحجازيين، لأنهم يعملونها عمل ليس، و"أضيافاً" معمول لأكرم. (فجاءهم بعذق، فيه بسر وتمر ورطب) العذق بكسر العين وسكون الذال، وهو غصن النخل ذو الفروع الحاملة للثمرة، والبسر ثمر النخل قبل أن يرطب، والعذق يذكر ويؤنث، وعليه قال "كلوا من هذه" وإنما أتى بهذا العذق الملون ليكون أطرف، وليجمعوا بين أكل الأنواع، فقد يطيب لبعضهم هذا، ولبعضهم هذا، أما العذق بفتح العين فهو النخلة، كلها، وليس مراداً هنا.

(وأخذ المدية) بضم الميم وكسرها، وهي السكين، والظاهر أن سكين الذبح كانت مميزة عندهم عن السكين التي تستعمل في أغراض أخرى، حتى فهموا من أخذها أنه يقصد الذبح. (إياك والحلوب) أي ذات اللبن، فعول بمعنى مفعول، أي أحذرك من ذبح الحلوب، للانتفاع بلبنها، فإياك مفعول به لفعل محذوف. (فلما أن شبعوا ورووا) بضم الواو، يقال: روي -بكسر الواو وفتح الياء- من الماء ونحوه، يروى بفتح الواو، رياً، بكسر الراء وفتحها مع تشديد الياء، وروي بكسر الراء وفتح الواو، مقصور، إذا شرب وشبع. (لتسألن عن هذا النعيم) سؤال امتنان، فيقال لكم مثلاً، ألم أطعمكم من جوع؟ . (لما حفر الخندق) أي لما بدئ بحفر الخندق، وأثناء حفره. (رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم خمصاً) بفتح الخاء وفتح الميم، أي ضموراً في البطن من الجوع، يقال: خمص البطن، بفتح الميم، يخمص بضمها، خمصاً بسكونها، وخموصاً، ومخمصة، خلا وضمر، وخمص الجوع فلاناً، أضعفه، وأدخل بطنه في جوفه، فهو خميص، والجمع خماص بكسر الخاء، وهي خميصة، والجمع خماص وخمائص، وخمص بطنه، بكسر الميم، يخمص بفتحها، خمصاً بفتح الخاء والميم، كخمص بفتح الخاء والميم، فهو خمصان بفتح الخاء وسكون الميم، وهي خمصانة، ويقال خمص البطن بضم الميم، يخمص بضمها، خمصاً بضم الخاء وسكون الميم. (فانكفأت إلى امرأتي، فقلت لها ... ) أي انقلبت ورجعت، قال النووي: ووقع في نسخ "فانكفيت" وهو خلاف المعروف في اللغة، بل الصواب: انكفأت. بالهمز. (فأخرجت لي جراباً) بكسر الجيم وفتحها والكسر أشهر، وهو وعاء من جلد معروف. (ولنا بهيمة داجن) بضم الباء، تصغير بهيمة، وتطلق على الذكر والأنثى، والمراد هنا صغيرة من أولاد الضأن شاة، أو سلخة بنت المعز، والداجن ما ألف البيوت، وكان أغلب أكله وتربيته في البيوت، وليس في المراعي. (وطحنت) بفتح النون، والفاعل ضمير يعود على امرأته. (ففرغت إلى فراغي) أي ضمت فراغها إلى فراغي، أي لتساعدني فيما أعمل لنفرغ. (فقطعتها في برمتها) بتشديد الطاء، والضمير يعود على البهيمة الداجن، بمعونة المقام، و"في برمتها" متعلق بمحذوف حال، أي قطعتها واضعاً قطعها في برمتها، والبرمة القدر من الحجارة.

(ثم وليت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت .... ) في "وليت" مجاز المشارفة، أي ثم قصدت الذهاب، وأشرفت عليه، ولبست ثيابي له، فقالت. (لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه) أي أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحقيقة طعامنا ومقداره، حتى لا نفضح بحضور من لا يجد طعاماً عندنا. (فجئته، فساررته، فقلت .. ) الفاء في "فقلت" تفسيرية، فالقول هو المسارة. (وطحنت صاعاً من شعير) بفتح النون، والضمير لامرأته، بدلالة المقام. (فتعال أنت في نفر معك) التنوين في "نفر" للتقليل، والنفر من الثلاثة إلى العشر من الرجال. (إن جابراً قد صنع لكم سوراً) بضم السين وسكون الواو غير مهموز، وهو الطعام الذي يدعى إليه، وقيل: هو الطعام سلقاً، وهي لفظة فارسية. (فحيهلا بكم) قال النووي: "حي هلا" بتنوين "هلا" وقيل: بلا تنوين، على وزن علا، ويقال: حي هلا، ومعناه عليك بكذا، وقيل: معناه أعجل به، وقيل: معناه هات وعجل به. اهـ وللعرب كلمات، نحتوها من جمل، كالبسملة من بسم الله الرحمن الرحيم، من الحمد لله، والحيعلة من حي على الصلاة وحي على الفلاح، والحيهلة، والمعنى أقبلوا وأهلاً بكم. (لا تنزلن برمتكم) عن النار، حين ترجع إليها، وعبر بنون التوكيد الثقيلة للالتزام والاهتمام، والتاء في "تنزلن" مضمومة. (ولا تخبزن عجينتكم حتى أجيء) "تخبزن" بفتح التاء وسكون الخاء وكسر الباء وضم الزاي بعدها نون التوكيد، والخطاب لجابر وأهله، و"حتى أجيء" يحتمل أن تكون غاية لعدم إنزال البرمة وعدم الخبز، ويحتمل أن تكون غاية لعدم الخبز فقط، وهو الأولى، لأن الخبز بدأ بعد مجيئه، أما عدم إنزال البرمة فاستمر بعد مجيئه. (فجئت، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الناس، حتى جئت امرأتي فقالت: بك، وبك) في الكلام تقديم وتأخير، والمراد من "جئت" الأولى رجعت، أن بدأت الرجوع والمراد من "جئت" الثانية الوصول ونهاية الرجوع، وأصل الترتيب فبدأت الرجوع من عند النبي صلى الله عليه وسلم من الخندق، سابقاً على مجيء النبي صلى الله عليه وسلم، حتى وصلت إلى امرأتي، فأخبرتها بما حصل من النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الخندق، فقالت: بك، وبك -أي بك تلحق الفضيحة، وبك يتعلق الذم، وقيل: بك أي برأيك وقع ما وقع، وبسوء نظرك وتصرفك حصل ما حصل، ويحتمل أنه دعاء عليه بأن يقع به سوء ويقع به آخر، غير قاصدة وقوع المدعو به، كما يحصل عند الغضب والفزع، وبعد ذلك جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم قومه.

(فقلت: قد فعلت الذي قلت لي) أطلق الفعل على القول، أي قلت الذي قلت لي، أو فعلت الإسرار بالذي قلت لي، وأخبرته صلى الله عليه وسلم بالذي عندنا. (فأخرجت له عجينتنا) تاء الفاعل لجابر، أي أخرجها من حجرتها إليه صلى الله عليه وسلم، أو كشف غطاءها عنها، بعد أن جاء يحملها، فهي قدر صاع. (فبصق فيها، وبارك) قال النووي: هكذا هو في أكثر الأصول "فبصق" وفي بعضها "فبسق" وهي لغة قليلة، والمشهور بصق وبزق. اهـ (ثم عمد إلى برمتنا، فبصق فيها وبارك) "عمد" بفتح الميم، أي قصد واتجه نحو البرمة، وهي على النار. (ثم قال) لامرأتي. (ادعي خابزة فلتخبز معك) قال النووي: "ادعي" هذه اللفظة وقعت في بعض الأصول هكذا، بعين ثم ياء، وهو الصحيح الظاهر، لأنه خطاب للمرأة، ولهذا قال: "فلتخبز معك" وفي بعضها "ادعوني" بواو ونون، وفي بعضها "ادعني" وهما أيضاً صحيحان، وتقديره: اطلبوا واطلب لي خابزة. اهـ (واقدحي من برمتكم، ولا تنزلوها، أي واغرفي من برمتكم، ولا تنزليها أنت ولا أحد من الموجودين) يقال: قدحت المرق أقدحه، بفتح الدال، أي غرفته. (وهم ألف) جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً، أو حالية من فاعل "لأكلوا" داخلة في جواب القسم. (حتى تركوه، وانحرفوا) أي حتى تركوا الطعام شبعا، وانصرفوا عنه عدم رغبة فيه. (وإن برمتنا لتغط كما هي) الجملة حالية، و"تغط" بكسر الغين، وتشديد الطاء، أي تغلي، ويسمع غليانها، ومنه غطيط النائم، وهو صوت نفسه حين يتردد في خياشيمه، والمعنى أن البرمة كانت تغلي بما فيها، كما كانت قبل الغرف منها. (وإن عجينتنا لتخبز كما هو) كان الأصل أن يقول: كما هي، ليعود الضمير على العجينة باعتبار لفظها، ولكنه أعاد الضمير عليها مذكراً باعتبارها عجيناً. (عن أنس بن مالك قال: قال أبو طلحة لأم سليم) أبو طلحة هو زيد بن سهل الأنصاري، وأم سليم من السابقين إلى الإسلام من الأنصار، وكانت زوجة لمالك بن النضر في الجاهلية، وولدت له أنساً قبل أن تسلم، ولما أسلمت غضب زوجها مالك، فخرج إلى الشام، ومات بها، فخطبها أبو طلحة، فقالت له: ما مثلك يرد يا أبا طلحة، ولكنك امرؤ كافر، وأنا مسلمة، لا تحل لي، فإن تسلم فذلك

مهري، فأسلم، فكان ذلك مهرها، وكان أبو طلحة يرمي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، ويقول له: نحري دون نحرك يا رسول الله، وتوفي سنة أربع وثلاثين. وكانت أم سليم تغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان صلى الله عليه وسلم يزورها، فتتحفه بالشيء تصنعه له، وكان أنس ابنها ربيب أبي طلحة خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم لعشر سنين، طلبت أمه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، فدعا له بالزيادة في ماله وولده، فيروى عنه أنه كان يقول: دفنت من صلبي مائة وخمسة وعشرين، وإن أرضي لتثمر في السنة مرتين، أقام بعد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وشهد الفتوح، وقطن البصرة، ومات بها سنة تسعين، وهو آخر الصحابة موتاً -رضي الله عنهم أجمعين. قال الحافظ ابن حجر: وقد اتفقت الطرق على أن الحديث المذكور من مسند أنس، وقد وافقه على ذلك أخوه لأمه عبد الله بن أبي طلحة، فرواه مطولاً عن أبيه، أخرجه أبو يعلى بإسناد حسن، وأوله "عن أبي طلحة، قال: دخلت المسجد، فعرفت في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع ... " الحديث. (قد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفاً، أعرف فيه الجوع) هكذا في الرواية السادسة، وبقيتها فهل عندك من شيء؟ فقالت: نعم، فأخرجت أقراصاً من شعير، ثم أخذت خماراً لها -أي الطرحة التي كانت تغطي وجهها وصدرها بها -فلفت الخبز ببعضه- أي ولفته بالخمار - ثم دسته تحت ثوبي، وردتني ببعضه -أي وردت ثوبي علي- وعند البخاري "ولاثتني ببعضه" أي لفتني به، أي لفت بعضه على رأسه، وبعضه على إبطه، يقال: لاث العمامة على رأسه، أي عصبها. ثم أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فذهبت به، فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في المسجد، ومعه الناس، فقمت عليهم -أي وقفت أمامهم- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسلك أبو طلحة؟ قال: فقلت: نعم. فقال: ألطعام؟ فقلت: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن معه: قوموا .... ". وفي الرواية السابعة عن أنس قال: بعثني أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأدعوه، وقد جعل طعاماً، قال: فأقبلت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع الناس، فنظر إلي، فاستحييت، فقلت: أجب أبا طلحة. فقال للناس: قوموا ... ". وفي الرواية الثامنة "أمر أبو طلحة أم سليم أن تصنع للنبي صلى الله عليه وسلم، طعاماً لنفسه خاصة، ثم أرسلني إليه ... الحديث كالسابق. وفي الرواية العاشرة "عن أنس قال: رأى أبو طلحة رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعاً في المسجد، يتقلب ظهراً لبطن، فأتى أم سليم، فقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعاً في المسجد، يتقلب ظهراً لبطن، وأظنه جائعاً ... الحديث كالسابق. وفي الرواية الحادية عشرة "عن أنس بن مالك قال: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فوجدته جالساً مع أصحابه، يحدثهم، وقد عصب بطنه بعصابة على حجر .... فذهبت إلى أبي طلحة، فقلت: يا أبتاه ... فدخل أبو طلحة على أمي، فقال: هل عندك شيء؟ فقالت: نعم. عندي كسر من خبز، وتمرات .... ". قال الإمام النووي: اعلم أن أنساً رضي الله عنه روى هنا حديثين: الأول من طريق، والثاني من طريق، وهما

قضيتان، جرت فيهما هاتان المعجزتان -تكثير الطعام القليل، وعلمه صلى الله عليه وسلم بأن الطعام القليل سيكثر -ففي الحديث الأول أن أبا طلحة وأم سليم -رضي الله عنهما- أرسلا أنساً رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأقراص شعير .... إلى آخر ما ذكر في الرواية السادسة، وأما الحديث الآخر ففيه أن أنساً قال: بعثني أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأدعوه ... " ثم ساق روايتنا السابعة. ثم قال: وهذا الحديث قضية أخرى بلا شك، وفيها ما سبق في الحديث الأول وزيادة. اهـ وكذلك يميل الحافظ ابن حجر: إلى تعدد القصة، فيقول بعد أن ذكر روايات مسلم، وزاد عليها رواية أحمد "إن أبا طلحة رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم طاوياً" ورواية أبي يعلى "إن أبا طلحة بلغه أنه ليس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم طعام، فذهب، فأجر نفسه بصاع من شعير، ثم جاء به" ورواية أبي نعيم "جاء أبو طلحة إلى أم سليم، فقال: أعندك شيء، فإني مررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقرئ أصحاب الصفة سورة النساء، وقد ربط على بطنه حجراً من الجوع" يقول: ولا منافاة بين ذلك، لاحتمال أن تكون القصة تعددت، ويدل على التعدد ما بين العصيدة [الواردة في البخاري، بلفظ "أن أم سليم عمدت إلى مد من شعير، جشته -أي جعلته جشيشاً، دقيقاً غير ناعم- وجعلت منه خطيفة -وهي العصيدة، وزناً ومعنى- وعصرت عكة عندها .... الحديث] والخبز المفتوت، الملتوت بالسمن، من المغايرة. اهـ وفي النفس من تعدد القصة شيء، فالمسجد الوارد في الرواية السادسة وفي الرواية العاشرة المراد به الموضع الذي أعده النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه، حين محاصرة الأحزاب للمدينة في غزوة الخندق، كما يقول الحافظ ابن حجر. وكون القوم ثمانين، ودخلوا عشرة عشرة، دون اختلاف في ملابسات وصولهم يبعد التعدد. ثم إن الجمع ممكن وسهل، فكون الرائي لأعراض الجوع أبا طلحة أو أنساً لا يلزمه التنافي، فقد يكون كل منهما قد رأى، وكل منهما قد أخبر. وكون أنس ذهب بكسر الخبز، وعاد به لا ينافي ما حصل بعد وصول النبي صلى الله عليه وسلم من فته، ولته بالسمن. وكون أم سليم قدمت خبزاً مفتوتاً، أو عصيدة، فيمكن أن تكون قد جمعت بينهما، وأن الخبز الكسر المرسل مع أنس هو الذي فت، وأنها لما رأت الناس طحنت الدشيش وطبخته عصيدة. والتشابه في الأحداث يرجح عدم التعدد. والله أعلم. (فقمت عليهم) سياق الكلام أن أبا طلحة وأم سليم أرسلا الخبز مع أنس، ليأخذه النبي صلى الله عليه وسلم، فيأكله، فلما وصل أنس، ورأى كثرة الناس حول النبي صلى الله عليه وسلم استحيا، وظهر له أن يدعو النبي صلى الله عليه وسلم، ليقوم معه وحده إلى المنزل، فيحصل مقصودهم من إطعامه، ويحتمل أن يكون ذلك تخطيطاً ممن أرسله، وأنهما قالا له: إن رأيت كثرة الناس فادع النبي صلى الله عليه وسلم وحده، خشية أن لا يكفيهم الخبز الذي يحمله، وقد عرفوا إيثار النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يأكل وحده، فلما رأى كثرة الناس دعاه.

(آرسلك أبو طلحة؟ ) بهمزة ممدودة للاستفهام. (فانطلق، وانطلقت بين أيديهم، حتى جئت أبا طلحة، فأخبرته) في رواية "فقال للقوم: انطلقوا. فانطلقوا، وهم ثمانون رجلاً" وفي أخرى "فلما قلت له: إن أبي يدعوك، قال لأصحابه: يا هؤلاء. تعالوا، ثم أخذ يدي، فشدها، ثم أقبل بأصحابه، حتى إذا دنوا -أي من منزل أبي طلحة- أرسل يدي، فدخلت، وأنا حزين، لكثرة من جاء معه". (فقالت: الله ورسوله أعلم) كأنها عرفت أنه فعل ذلك عمداً، ليظهر الكرامة في تكثير ذلك الطعام، أي إنه عرف الطعام ومقداره، فهو أعلم بالمصلحة، فلو لم يعلمها في مجيء الجمع العظيم لم يفعلها فلا تحزن يا أبا طلحة. (فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي فانطلق إلى خارج الدار، ليتلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه، وفي رواية "فاستقبله أبو طلحة، فقال: يا رسول الله، ما عندنا إلا قرص، عملته أم سليم" وفي رواية "إنما صنعت لك شيئاً" وفي روايتنا التاسعة "يا رسول الله إنما كان شيء يسير" وفي رواية "فقال أبو طلحة: يا رسول الله، إنما أرسلت أنساً يدعوك وحدك، ولم يكن عندنا ما يشبع من أرى. يا رسول الله. إنما هو قرص؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادخل، فإن الله سيبارك فيما عندك". (هلمي ما عندك يا أم سليم) في بعض الروايات "هلم" وهو في لغة الحجاز لا يؤنث، ولا يثنى، ولا يجمع، أي هات ما عندك. (وعصرت عليه أم سليم عكة لها) "العكة" بضم العين وتشديد الكاف، إناء من جلد، مستدير، يجعل فيه السمن غالباً، وفي رواية "فقال: هل من سمن؟ فقال أبو طلحة: قد كان في العكة سمن، فجاء بها، فجعلا يعصرانها، حتى خرج، ثم مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم به سبابته، ثم مسح القرص، فانتفخ. (فأدمته) بمد الهمزة وقصرها، لغتان، وضمير الفاعل لأم سليم، أي جعلت فيه إداماً. (ثم قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقول) في الرواية السابعة "فمسها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا فيها بالبركة" وفي رواية "ثم قال: بسم الله. اللهم أعظم فيها البركة". (ثم قال: ائذن لعشرة) ظاهره أنه صلى الله عليه وسلم دخل منزل أبي طلحة وحده، وهو كذلك، وقد صرح به في رواية، ولفظها "فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الباب قال لهم: اقعدوا، ودخل". (وإنما أذن لعشرة عشرة فقط) لأن لا يتصور أن يتحلق حول القصعة أكثر من هذا العدد، فكان بهذا أرفق بهم، لئلا يبعد بعضهم عن القصعة. (ثم هيأها، فإذا هي مثلها حين أكلوا منها) أي حين بدءوا الأكل منها، ومعنى "هيأها"

أي هيأ القصعة، وجمع ما على جدرانها من طعام، وفي ملحق الرواية السابعة "ثم أخذ ما بقي، فجمعه، ثم دعا فيه بالبركة، فعاد كما كان، فقال -لأبي طلحة وأم سليم وأنس- دونكم هذا" أي خذوا هذا، فكلوا. (ثم أكل النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك وأهل البيت وتركوا سؤراً) أي بقية، وفي ملحق الرواية التاسعة "ثم أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكل أهل البيت، وأفضلوا ما أبلغوا جيرانهم" وفي الرواية العاشرة "ثم أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة وأم سليم وأنس بن مالك، وفضلت فضلة، فأهديناه لجيراننا". (إن خياطاً) في رواية أنه كان غلام النبي صلى الله عليه وسلم، ولفظها عن أنس "إن مولى لي خياطاً دعاه". (دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه) فكان الطعام -كما في الرواية- خبزاً من شعير، ومرقاً فيه دباء وقديد" والدباء بضم الدال وتشديد الباء ممدودة، ويجوز القصر وأنكره القرطبي، وهو القرع -وقيل: خاص بالمستدير منه، وهو اليقطين أيضاً، واحده دباة ودبة ودباءة. (فذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الطعام) عند ابن ماجه بسند صحيح عن أنس رضي الله عنه قال: "بعثت معي أم سليم بمكتل، فيه رطب، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم أجده، وخرج قريباً إلى مولى له دعاه، فصنع له طعاماً، فأتيته وهو يأكل، فدعاني، فأكلت معه، قال: وصنع له ثريدة بلحم وقرع، فإذا هو يعجبه القرع، فجعلت أجمعه، فأدنيه منه" قال الحافظ ابن حجر: ويجمع بين قوله في هذه الرواية "فلم أجده" وبين حديث الباب "ذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم" بأنه أطلق المعية باعتبار ما آل إليه الحال، ويحتمل تعدد القصة على بعد. (فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبع الدباء من حوالي الصحفة) "حوالي" بفتح اللام وسكون الياء، أي جوانب، يقال: رأيت الناس حوله وحوليه وحواليه، واللام مفتوحة في الجميع، ولا يجوز كسرها. -[فقه الحديث]- يمكن حصر فقه الحديث في هذا الباب في أربع نقاط: 1 - الضيف يتبعه شخص لم يدع، ماذا على الضيف؟ وماذا على الداعي؟ صاحب الطعام؟ . 2 - ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم من ضيق الحال، والكرم. 3 - تكثير الطعام، كمعجزة حسية لرسول الله صلى الله عليه وسلم. 4 - ما يؤخذ من الأحاديث من الأحكام والحكم. وهذا هو التفصيل:

1 - أما النقطة الأولى فقال النووي: إن المدعو إذا تبعه رجل، بغير استدعاء، ينبغي له أن لا يأذن له، وينهاه، وإذا بلغ باب دار صاحب الطعام أعلمه به، ليأذن له، أو يمنعه، وأن صاحب الطعام يستحب له أن يأذن له، إن لم يترتب على حضوره مفسدة، بأن يؤذي الحاضرين، أو يشيع عنهم ما يكرهونه، أو يكون جلوسه معهم مزرياً بهم، فإن خيف من حضوره شيء من هذا لم يأذن له، وينبغي أن يتلطف في رده، ولو أعطاه شيئاً من الطعام كان حسناً، إن كان يليق به، ليكون رداً جميلاً. اهـ وهذه قضية الرواية الأولى، وقد أخذ منها الحافظ ابن حجر: أن من تطفل في الدعوة كان لصاحب الدعوة الاختيار في حرمانه، فإن دخل بغير إذنه كان له إخراجه. كما أخذ منها أن من قصد التطفيل لم يمنع ابتداء، لأن الرجل تبع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرده، لاحتمال أن تطيب نفس صاحب الدعوة بالإذن له. قال: وينبغي أن يكون هذا الحديث أصلاً في جواز التطفيل، لكن يقيد بمن احتاج إليه، وقد جمع الخطيب في أخبار الطفيليين جزءاً، فيه عدة فوائد، منها أن الطفيلي منسوب إلى رجل يقال له: طفل، من بني عبد الله بن غطفان، كثر منه الإتيان إلى الولائم بغير دعوة، فسمي طفيل العرائس، فسمي من اتصف بعد بصفته طفيلياً. ثم قال الحافظ: واستدل به على منع استتباع المدعو غيره -أي عدم دعوة المدعو لغيره ليصحبه- إلا إذا علم من الداعي الرضا بذلك. اهـ وهذا المأخذ غير واضح من الحديث، فإن الرواية الأولى ليس فيها استتباع، ولا منع استتباع، ولا يؤخذ من عدم الفعل المنع لكن قد يؤخذ من الرواية الثانية إذ منع صلى الله عليه وسلم من الاستتباع، فأقره والتزم به، على أن قصة جابر وأبي طلحة والخياط لا تؤيد هذا المأخذ، إلا أن يقال: إن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لغيره في هذه الأحاديث كانت دعوة لما صار حقاً له، واستدل به على أن الطفيلي يأكل حراماً، وقد روي عن ابن عمر مرفوعاً "من دخل بغير دعوة دخل سارقاً، وخرج مغيراً" وهو حديث ضعيف، رواه أبو داود، وقال الشافعية: لا يجوز التطفيل، إلا لمن كان بينه وبين صاحب الدار انبساط. اهـ وينبغي أن يقيد بما إذا قبله صاحب الدار بقبول حسن. أما الرواية الثانية ففيها أن الداعي لم يأذن لمن أراد المدعو استصحابه، وهذا حقه فقد لا يكفي طعامه غير المدعو، فيحرج، وقد يتكره صاحب الدار دخوله، استثقالاً له، أو لأمر ما، ولم يستخدم جابر وطلحة هذا الحق، إما لأنهما علما بركة النبي صلى الله عليه وسلم ورجواها، وإما لأن بينهما وبين النبي صلى الله عليه وسلم من المودة والإجلال له ما يمنعهما من ذلك، لكن هل من حق المدعو لوليمة أن يمتنع من الإجابة، إذا امتنع الداعي من الإذن لمن أراده المدعو؟ ظاهر الحديث أن له ذلك، لكن الحافظ ابن حجر يقول: ليس له أن يمتنع، ويجيب عن هذه الرواية بأن الدعوة لم تكن لوليمة، وإنما صنع الفارسي طعاماً، قال: ويستحب للداعي أن يدعو خواص المدعو، كما في قصة اللحام، بخلاف الفارسي، فلذلك امتنع من الإجابة إلا أن يدعوها. 2 - أما عن النقطة الثانية -ما كان عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الضيق في الرزق-

فإن الرواية الثالثة ظاهرة في ذلك، وأنهم ابتلوا بالجوع وضيق العيش في أوقات، قال النووي: وقد زعم بعض الناس أن هذا كان قبل فتح الفتوح والقرى عليهم، وهذا زعم باطل، فإن راوي الحديث أبو هريرة، ومعلوم أنه أسلم بعد فتح خيبر. فإن قيل: لا يلزم من كونه رواه أن يكون أدرك القضية، فلعله سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره؟ فالجواب أن هذا خلاف الظاهر، ولا ضرورة إليه، بل الصواب خلافه، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يتقلب في اليسار والقلة حتى توفي صلى الله عليه وسلم، فتارة يوسر، وتارة ينفد ما عنده، كما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا، ولم يشبع من خبز الشعير" وعن عائشة "ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من طعام ثلاث ليال تباعاً، حتى قبض "و" توفي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة على شعير، استدانه لأهله" وغير ذلك مما هو معروف، فكان النبي صلى الله عليه وسلم في وقت يوسر، ثم بعد قليل ينفد ما عنده، لإخراجه في طاعة الله من وجوه البر، وإيثار المحتاجين، وضيافة الطارقين، وتجهيز السرايا، وغير ذلك. وهكذا كان خلق صاحبيه -رضي الله عنهما- بل أكثر أصحابه، وكان أهل اليسار من المهاجرين والأنصار -رضي الله عنهم- مع برهم له صلى الله عليه وسلم، وإكرامهم إياه، وإتحافهم له بالطرف وغيرها، ربما لم يعرفوا حاجته في بعض الأحيان، لكونهم لا يعرفون فراغ ما كان عنده من القوت، بإيثاره به غيره، ومن علم ذلك منهم ربما كان ضيق الحال مثله، في ذلك الوقت، كما جرى لصاحبيه، ولا يعلم أحد من الصحابة، علم حاجة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو متمكن من إزالتها إلا بادر إلى إزالتها، لكن كان صلى الله عليه وسلم يكتمها عنهم، إيثاراً لتحمل المشاق، وحملا عنهم، وأشباه هذا كثير في الصحيح مشهور. اهـ ومن هذا الصحيح المشهور "كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدم -جلد مدبوغ- حشوه ليف" وروايتنا الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والعاشرة والحادية عشرة، وعند البخاري عن أنس "لم يأكل النبي صلى الله عليه وسلم على خوان حتى مات، وما أكل خبزاً مرققاً حتى مات" وعند البيهقي "ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام متوالية، ولو شئنا لشبعنا، ولكنه كان يؤثر على نفسه". وادعى ابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يجوع، واحتج بحديث "أبيت يطعمني ربي ويسقيني" وتعقب بالحمل على تعدد الحال، فكان يجوع أحياناً، ليتأسى به أصحابه، ولاسيما من لا يجد مدداً، ويتألم ويصبر، ويحتسب، فيضاعف له الأجر. والحق أن هذا الزهد من النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان لدفع طيبات الدنيا اختياراً لطيبات الحياة الدائمة، قال ابن بطال: المال يرغب فيه للاستعانة به على الآخرة، فلم يحتج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المال من هذا الوجه، فزهده صلى الله عليه وسلم لا يدل على تفضيل الفقر على الغنى، بل يدل على فضل القناعة والكفاف وعدم التبسط في ملاذ الدنيا. اهـ نعم جاء في الصحيحين "أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا جاءه ما فتح الله به عليه من خيبر وغيرها، من تمر وغيره، يدخر قوت أهله سنة، ثم يجعل ما بقي عنده عدة في سبيل الله تعالى" ثم كان مع ذلك يطرأ عليه الطارئ، فربما أدى ذلك إلى نفاد ما عند أهله.

وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم آل بيته وأزواجه بهذه السياسة، فعند البخاري عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما في رفي من شيء يأكله ذو كبد -أي حيوان- إلا شطر شعير، في رف لي، فأكلت منه، حتى طال علي، فكلته، ففني". وعنها رضي الله عنها "كان يأتي علينا الشهر، ما نوقد فيه ناراً، إنما هو التمر والماء، إلا أن نؤتى باللحيم" وفي رواية لها "إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار، كان لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبياتهم، فيسقيناه". أما أصحابه رضي الله عنهم فقد سمعوا منه قوله تعالى: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} [التغابن: 15] أي تشغل البال عن الطاعة والقيام بحق الله، وقوله تعالى: {ومنهم من عاهد الله لئن ءاتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين* فلما ءاتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون* فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون} [التوبة: 75 وما بعدها] وقوله تعالى {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب} [آل عمران: 14] وقوله تعالى {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون} [هود: 15] وقوله تعالى {ألهاكم التكاثر* حتى زرتم المقابر} [التكاثر: 1، 2] وقوله تعالى: {كلا إن الإنسان ليطغى* أن رآه استغنى} [العلق: 6 - 7] وقوله تعالى {أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين* نسارع لهم في الخيرات} [المؤمنون: 55، 56] أي أيظنون أن المال الذي نرزقهم إياه، لكرامتهم علينا، إن ظنوا ذلك أخطئوا، بل هو استدراج {ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً} [آل عمران: 178] وسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله "تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض" يدعو صلى الله عليه وسلم على الجامع للمال، القائم على حفظه، المتكالب على الاستيلاء عليه من حله ومن غير حله، المستميت في السعي وراءه، الخادم له، كأنه عنده، يدعو صلى الله عليه وسلم على من هذه حاله بالتعاسة، نقيضاً لقصده، وقوله صلى الله عليه وسلم "إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال" وقوله صلى الله عليه وسلم "إن الأكثرين هم المقلون يوم القيامة، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا، عن يمينه وعن شماله ومن خلفه، وقليل ما هم" وقوله صلى الله عليه وسلم "ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس" وقوله لأبي ذر: يا أبا ذر، أترى كثرة المال هو الغنى؟ قلت: نعم. قال: وترى قلة المال هو الفقر؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب: أي ليس الغنى حقيقة كثرة المال، لأن كثيراً ممن وسع الله عليهم في المال لا يقنعون بما أوتوا، فهم يجتهدون في الاستزادة، ولا يبالون من أين يأتيهم، فكأنهم فقراء، لشدة حرصهم، وإنما حقيقة الغنى غنى النفس، وهو الذي استغنى بما أوتي، وهو الذي قنع ورضي، ولم يلح في الطلب، فكأنه غني، وإن الغنى النافع العظيم الممدوح هو غنى النفس، فإن الإنسان إذا

استغنت نفسه عظم في داخله أكثر من الغني الذي هو فقير النفس، فإن فقر نفسه يورطه في كثير من رذائل الأمور، يبيع آخرته بدنياه، بل بدنيا غيره، فيكثر من يذمه من الناس، ويصغر قدره عندهم، فيكون أحقر من كل حقير، وهو يملك المال، وأذل من كل ذليل وإن امتلأت خزائنه. ومن ينفق الساعات في جمع ماله ... مخافة الفقر فالذي فعل الفقر أي الذي فعله هو الفقر. وسمعوا قوله صلى الله عليه وسلم "اطلعت في الجنة، فرأيت أكثر أهلها الفقراء؟ وذلك لأن كثيراً. من الأغنياء يصابون بالشح، فيمسكون عن الإنفاق في وجوه البر، ويخافون الفقر، فيكثرون من المال، ويقلون من ثواب الآخرة، فكان أغنياء الدنيا قلة في الجنة. سمع الصحابة كل هذه النصوص، ففهمها بعضهم على أنها ذم للمال وللغنى، وأنها إنذار بخطر التكالب على الدنيا وزينتها، فآثر الزهد والتقشف وشظف العيش، من هؤلاء مصعب بن عمير، استشهد يوم أحد، ولم يكن له إلا نمرة مرقعة، إذا غطوا بها رأسه بدت رجلاه، وإذا غطوا بها رجليه بدت رأسه، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يغطوا بها رأسه، وأن يجعلوا على رجليه الإذخر، هذا الفتى كان من أنعم فتيان مكة، غنى ونعومة ومتعة وهناء، آثر الإسلام وترك كل هذا النعيم، يقول علي رضي الله عنه: بينما نحن في المسجد إذ دخل علينا مصعب بن عمير، وما عليه إلا بردة له، مرقوعة بفروة، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رآه، للذي كان فيه من النعيم، والذي هو فيه اليوم" أخرجه الترمذي. وربما كان كثير من الصحابة زاهدين بالضرورة وواقع الأمر قبل الفتوح، فقراء لا عن قدرة على الغنى، لكن بعضهم بعد الفتوح، وبعد اتساع الأرزاق وسهولتها آثر الزهد على الغنى، طواعية، وأعرض عن المال وادخاره، وإن جاءه أنفقه في وجوه الخير من أمامه وعن يمينه وشماله ومن خلفه، فهذه عائشة -رضي الله عنها- جاءها عطاء عمر رضي الله عنه في غرارة، عشرة آلاف، فقالت ما هذا؟ قالوا: عطاؤك، بعث لك به عمر، قالت: نقود في غرارة كالتمر؟ قالوا: نعم. قالت لجاريتها: صبيه على الأرض، وأخذت تقبض بيدها القبضة وتبعث بها إلى آل فلان، والقبضة إلى فلانة، حتى لم يبق منه شيء، فقالت لها جاريتها: ما أبقيت لنا ما نفطر به ونحن صائمتان؟ قالت: لو ذكرتني لفعلت. ومن هؤلاء الزاهدين اختيار عمر رضي الله عنه، وزهده وهو خليفة المسلمين يضرب به المثل، وأبو ذر رضي الله عنه ورأيه في كنز المال مشهور، وقصته مع معاوية معروفة، ومن هؤلاء أيضاً كثير من أهل الصفة. الفريق الثاني من الصحابة فهم من هذه النصوص التحذير من خطر جمع المال من غير حله، والتحذير من خطر إنفاقه في غير وجهه، واستشعر قوله تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} [الأعراف: 32]؟ فتبسط في بعض المباحات، من كثرة النساء والسراري والخدم والملابس والمساكن والأطعمة والضياع، مع القيام بحق الله تعالى فيها، وعدم التغالي في الانشغال بها، كابن عمر رضي الله عنه، ومنهم من استكثر من المال

بالتجارة وغيرها، مع القيام بالحقوق الواجبة والمندوبة كعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص -رضي الله عنهم. أمام هذه النصوص، وأمام اختلاف وجهات النظر في فهمها، وأمام سلوكيات الصحابة والتابعين والسلف الصالح بخصوصها عقد العلماء -وعلى رأسهم البخاري- بابا في الفقر والغنى، أيهما أفضل؟ وأطالوا القول بما لا يتسع له المقام. والخلاصة في نقاط: الأولى: أن نعيم الدنيا محسوب يوم القيامة، فالله تعالى يقول للكافرين آنذاك {أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها} [الأحقاف: 20] وفي البخاري "عن خباب رضي الله عنه قال: هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فوقع أجرنا على الله تعالى، فمنا من مضى -أي مات قبل الفتوح- لم يأخذ من أجره شيئاً، ومنا من أينعت له ثمرته، فهو يهدبها" أي ومنا من عاش حتى ظهر الغنى وقطفه، أي فالأولون أجرهم كله مدخر لهم يوم القيامة، والآخرون أخذوا من أجورهم الأخروية بقدر ما تنعموا في الدنيا، وأصرح من هذا في المسألة ما رواه مسلم "ما من غازية تغزو، فتغنم وتسلم إلا تعجلوا ثلثي أجرهم" وقد سبق شرح هذا الحديث في الجهاد، وعند ابن أبي الدنيا، بسند جيد "لا يصيب عبد من الدنيا شيئاً إلا نقص من درجاته، وإن كان عند الله كريماً". الثانية: أن نعيم الدنيا مسئول عنه يوم القيامة، مصداقاً لقوله تعالى: {ثم لتسألن يومئذ عن النعيم} [التكاثر: 8] وقوله صلى الله عليه وسلم في روايتنا الثالثة "والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم" وحديث "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن ماله، من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه" فصاحب الدرهم أخف حساباً ومساءلة يوم القيامة من صاحب الدرهمين. الثالثة: أن الحرص على الدنيا، والانشغال بها، والتكالب على جمعها، بما يقلل من الاهتمام بالآخرة، أو بما يضحي بعزة المؤمن وكرامته في سبيلها، ففي الحديث "اطلبوا الرزق بعزة النفس، فإن الأمور تجري بالمقادير" أو بما يدفع إلى التقصير في إنفاقها من الشح والبخل والظلم، أو بما يدفع إلى الطغيان والكبر والخيلاء والغرور. كل ذلك مذموم، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت" ورحم الله الشاعر إذ يقول: نصيبك مما تجمع الدهر كله رداءان تطوى فيهما وحنوط الرابعة: أن السعي في الرزق، والعمل باليد، وعمارة الأرض إلى أقصى حدود العمارة والحضارة مطلوب شرعاً بدرجة الوجوب، بشرط التوقي من الأخطار المشار إليها سابقاً، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ من الفقر والدين وغلبة الرجال والعجز والكسل، وعمر رضي الله عنه كان يقول: اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينته لنا، اللهم قنا شره، وارزقنا أن ننفقه في حقك، وقال الفقراء لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله، ذهب المكثرون بالأجر، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل أموال يتصدقون به، فيؤجرون، ولا نتصدق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا أدلكم على شيء، إذا فعلتموه لم

يسبقكم إلا من فعل فعلكم؟ تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، فذهبوا، ففعلوا، فرجعوا، فقالوا: يا رسول الله. سمع إخواننا الأغنياء بما أمرتنا، ففعلوا مثل ما فعلنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء". الثالثة: من نقاط فقه الحديث تكثير الطعام والشراب، كمعجزة حسية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعنها يقول النووي: في الحديث الدليل الظاهر، والعلم الباهر من أعلام نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تظاهرت أحاديث آحاد بمثل هذا، حتى زاد مجموعها على التواتر، وحصل العلم القطعي بالمعنى الذي اشتركت فيه هذه الآحاد، وهو انخراق العادة بما أتى به صلى الله عليه وسلم من تكثير الطعام القليل، الكثرة الظاهرة، ونبع الماء، وتكثيره، وتسبيح الطعام، وحنين الجذع، وغير ذلك مما هو معروف، وقد جمع ذلك العلماء في كتب دلائل النبوة، كالدلائل للقفال الشاشي وصاحبه أبي عبد الله الحليمي، وأبي بكر البيهقي الإمام الحافظ، وغيرهم بما هو مشهور، وأحسنها كتاب البيهقي. الرابعة: -[ما يؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - من الرواية الأولى، من قوله "وكان له غلام لحام جواز الاكتساب بمهنة الجزارة" وأن تعاطي مثل تلك الحرفة لا يضع قدر من يتوقى فيها ما يكره، ولا تسقط بمجرد تعاطيها شهادته. قاله الحافظ ابن حجر، وهذا مسلم، لكن في أخذه من الحديث نظر، فإن كونه عبداً وخادماً لا يفيد أن مثل تلك الحرفة لا تضع قدر من يمتهنها. 2 - واستعمال العبد فيما يطيق من الصنائع. 3 - وانتفاع السيد بكسب عبده من تلك الصنائع. 4 - وأكل الإمام والشريف والكبير من طعام الحرفة غير الرفيعة. 5 - ومن قوله "فعرف في وجهه الجوع" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجوع أحياناً. 6 - وفيه الحكم بالقرينة. 7 - وأن الصحابة كانوا يديمون النظر إلى وجهه، تبركاً به، وكان منهم من لا يطيل النظر في وجهه حياء منه صلى الله عليه وسلم. 8 - وفي دعوة الأنصاري أن من صنع طعاماً لغيره فهو بالخيار بين أن يرسله إليه، أو يدعوه إلى منزله، قاله الحافظ ابن حجر، وفي أخذه من هذا الحديث نظر، نعم فيه صنع الطعام للغير، ودعوته إليه في منزله، أما ما ذكره الحافظ فيمكن أخذه من الرواية السادسة. 9 - وفي إجابته صلى الله عليه وسلم دعوة الأنصاري إجابة الإمام والشريف والكبير دعوة من دونهم. 10 - وفي فعل الأنصاري وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم أن من دعا عدداً معيناً أعد ما يكفيهم، ولا يستند إلى حديث "طعام الواحد يكفي الاثنين" فقد أعد الأنصاري ما يكفي الخمسة وزيادة.

11 - ومن استئذان الرسول صلى الله عليه وسلم للتابع أن من دعا قوماً متصفين بصفة، ثم طرأ عليهم من لم يكن معهم حينئذ، أنه لا يدخل في عموم الدعوة، وإن قال قوم: إنه يدخل في الهدية، على أساس أن جلساء المرء شركاء له فيما يهدى إليه بصفة، إذا كانوا متصفين بهذه الصفة. 12 - ومن قوله "إن هذا اتبعنا" وفي رواية "لم يكن معنا حين دعوتنا" أنه لو كان معهم حالة الدعوة لم يحتج إلى الاستئذان عليه، فيؤخذ منه أن الداعي لو قال لرسوله: ادع فلاناً وجلساءه، جاز لكل من كان جليساً له أن يحضر معه، وإن كان ذلك لا يستحب، أو لا يجب. 13 - استدل القاضي عياض بإذن الأنصاري للتابع بالدخول معهم على أنه لا ينبغي أن يظهر الداعي الإجابة، وفي نفسه الكراهة لئلا يطعم من تكرهه نفسه، ولئلا يجمع بين الرياء والبخل وصفة ذي الوجهين. [ظن القاضي عياض أن الأنصاري كان محباً لدخول التابع، ولم يكن إذنه له عن حرج] وتعقب بأنه ليس في الحديث ما يدل على ذلك، بل فيه مطلق الاستئذان والإذن، ولم يكلف أن يطلع على رضاه بقلبه، قال في شرح الترمذي: وعلى تقدير أن يكون الداعي يكره ذلك، في نفسه، فينبغي له مجاهدة نفسه على دفع تلك الكراهة. 14 - وفي قوله "إن هذا اتبعنا" بتعيينه بالإشارة، مع إبهام اسمه نوع من الرفق به، لأن تعيينه قد يكسر خاطره. 15 - وأن المدعو لا يمتنع من الإجابة إذا امتنع الداعي من الإذن لبعض من صحبه. 16 - استنبط بعضهم من الحديث أن القوم الذين على مائدة لا يجوز لهم أن يناولوا من مائدة إلى مائدة أخرى، ولكن يناول بعضهم بعضاً في تلك المائدة، أو يتركوا المناولة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم استأذن الداعي في الرجل الطارئ، وأن الذين دعوا صار لهم بالدعوة عموم إذن بالتصرف في الطعام المدعو إليه، بخلاف من لم يدع، فيتنزل من وضع بين يديه الشيء منزلة من دعي له، أو ينزل الشيء الذي وضع بين يدي غيره منزلة من لم يدع إليه. 17 - وفي الحديث مشروعية الضيافة، وتأكد استحبابها لمن غلبت حاجته لذلك. 18 - وفيه ما كان عليه الصحابة -رضي الله عنهم- من الاعتناء بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم. 19 - ومن الرواية الثانية، من قوله "كان طيب المرق" جواز أكل المرق. 20 - ومن عدم إذن الفارسي أنه يجوز للداعي أن يرفض دعوة بعض أصحاب المدعو. 21 - وأن المدعو حينئذ له أن يمتنع عن إجابة الدعوة، إذا كان في دعوة بعض أصحابه مصلحة. 22 - وأنه يستحب للداعي أن يدعو بعض خواص المدعو معه، كما فعل الأنصاري، سيد اللحام. 23 - وفي تمسك الرسول صلى الله عليه وسلم بدعوة عائشة حسن عشرة، وإظهار مودة. 24 - ومراجعة الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثاً، وكان لا يراجع بعد ثلاث.

25 - ومن الرواية الثالثة من خروجهم بسبب الجوع ابتلاء الأنبياء وكبار الصحابة، واختبارهم بالجوع وغيره من المشاق، ليصبروا، فيعظم أجرهم، وترتفع منازلهم. 26 - ومنه أيضاً الخروج في طلب سبب مباح لدفع الجوع، قال النووي: وهذا من أكمل الطاعات، وأبلغ أنواع المراقبات. 27 - استنبط منها القاضي عياض النهي عن القضاء في حالة الغضب والجوع والهم وشدة الفرح وغير ذلك مما يشغل القلب، ويمنع كمال الفكر. 28 - ومن قوله "وأنا والذي نفسي بيده" جواز ذكر الإنسان ما يناله من ألم ونحوه، لا على سبيل التشكي وعدم الرضا، بل للتسلية والتصبر، أو التماس دعاء أو مساعدة على إزالة ذلك العارض، فهذا كله ليس بمذموم، وإنما يذم ما كان تشكياً وتسخطاً وتجزعاً. 29 - وفيه جواز الحلف من غير استحلاف. 30 - وفي إتيانهم رجلاً من الأنصار جواز الإدلال على الصاحب الذي يوثق به. 31 - واستتباع جماعة إلى بيته. 32 - وفيه منقبة للأنصاري، أبي الهيثم، إذ جعله النبي صلى الله عليه وسلم أهلاً لذلك، وكفى بذلك شرفاً. 33 - ومن قول الزوجة: مرحباً وأهلاً. استحباب إكرام الضيف بهذا القول وشبهه، وإظهار السرور بقدومه. 34 - ومن سؤالها عن زوجها وإجابتها، جواز سماع كلام الأجنبية، ومراجعتها الكلام للحاجة. 35 - وفيه جواز إذن المرأة في دخول منزل زوجها، لمن علمت علماً محققاً أنه لا يكرهه، بشرط أن لا يخلو بها الخلوة المحرمة. 36 - ومن قولها "ذهب يستعذب لنا من الماء" جواز استطابة الماء بالتبريد ونحوه. 37 - ومن قول الأنصاري "الحمد لله. ما أحد اليوم أكرم أضيافاً مني" استحباب حمد الله تعالى عند حصول نعمة ظاهرة، وكذا يستحب عند اندفاع نقمة متوقعة، وفي غير ذلك من الأحوال. 38 - واستحباب إظهار البشر والفرح بالضيف والثناء عليه في وجهه، وهو يسمع، إن لم يخف عليه فتنة، فإن خاف لم يثن عليه في وجهه، وهذا طريق الجمع بين الأحاديث الواردة في منع الثناء في المواجهة والأحاديث الواردة في جواز ذلك. 39 - وفيه دليل على كمال فضل هذا الأنصاري، وبلاغته، وعظيم معرفته، لأنه أتى بكلام مختصر، بديع في الحسن في هذا الموطن رضي الله عنه. 40 - ومن تقديم العزق استحباب تقديم الفاكهة على الخبز واللحم وغيرهما، كذا قال النووي، لكنها واقعة حال، وتقديم الفاكهة هنا حتى يتيسر اللحم والخبز.

41 - وفيه استحباب الإسراع بتقديم ما تيسر للجائع حتى يعد الطعام المناسب. 42 - ومن ذبحه لهم استحباب إكرام الضيف بأشهى الطعام، وقد كره جماعة من السلف التكلف للضيف، وهو محمول على ما يشق على صاحب البيت مشقة ظاهرة، لأن ذلك يمنعه من الإخلاص وكمال السرور بالضيف، وربما ظهر عليه شيء من ذلك، فيتأذى به الضيف، وقد يحضر شيئاً يعرف الضيف من حاله أنه يشق عليه، وأنه يتكلفه له، فيتأذى الضيف، لشفقته عليه، وكل هذا مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه" لأن أكمل إكرامه إراحة خاطره، وإظهار السرور به، وأما فعل الأنصاري، وذبحه الشاة فليس مما يشق عليه، بل لو ذبح أغناماً وإبلاً وأنفق أموالاً في ضيافة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه -رضي الله عنهما- كان مسروراً بذلك، مغبوطاً فيه وسيأتي باب خاص لإكرام الضيف في آخر كتاب الأطعمة والأشربة. 43 - ومن النهي عن ذبح الحلوب كراهة ذبحها، إذا وجد غيرها، ولم تكن هناك حاجة لها، لأن في ذبحها حرماناً لأهل البيت من رزق اللبن. 44 - ومن قوله "فلما أن شبعوا" جواز الشبع، وأما ما جاء في كراهة الشبع فمحمول على المداومة عليه، لأنه يقسي القلب، وينسي أمر المحتاجين، قال القرطبي: وما جاء من النهي عن الشبع محمول على الشبع الذي يثقل المعدة، ويثبط صاحبه عن القيام للعبادة، ويفضي إلى البطر والأشر والنوم والكسل، وقد تنتهي كراهته إلى التحريم، بحسب ما يترتب عليه من المفسدة وذكر الكرماني تبعاً لابن المنير أن الشبع المذكور محمول على شبعهم المعتاد منهم، وهو أن الثلث للطعام، والثلث للشراب، والثلث للنفس. قال الحافظ: ويحتاج في دعوى أن تلك كانت عادتهم إلى نقل خاص، وإنما ذلك ورد في حديث حسن، أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه، وصححه الحاكم من حديث المقدام بن معد يكرب، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه، حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن غلب الآدمي نفسه فثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس" قال الحافظ ابن حجر: وهل المراد بالثلث التساوي على ظاهر الخبر؟ أو التقسيم إلى ثلاثة أقسام متقاربة؟ محل احتمال. قال الغزالي في الإحياء، واختلف في حد الجوع على رأيين. أحدهما أن يشتهي الخبز وحده، فمتى طلب الأدم فليس بجائع، ثانيهما أنه إذا وقع ريقه على الأرض لم يقع عليه الذباب، وذكر أن مراتب الشبع تنحصر في سبعة: الأول ما تقوم به الحياة، الثاني أن يزيد حتى يصوم ويصلي عن قيام، وهذان واجبان، الثالث أن يزيد حتى يقوى على أداء النوافل، الرابع أن يزيد حتى يقدر على التكسب، وهذان مندوبان، الخامس أن يملأ الثلث، وهذا جائز، السادس أن يزيد على ذلك، وبه يثقل البدن، ويكثر النوم، وهذا مكروه، السابع أن يزيد حتى يتضرر، وهي البطنة المنهي عنها، وهذا حرام. اهـ 45 - ومن قوله "لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة" قال القاضي عياض: المراد السؤال عن القيام بحق شكره، قال النووي: والذي نعتقده أن السؤال هنا سؤال تعداد النعم، وإعلام

الامتنان بها، وإظهار الكرامة بإسباغها، لا سؤال توبيخ وتقريع ومحاسبة. اهـ ولا منافاة بين القولين. 46 - ومن الرواية الخامسة انخراق العادة وتكثير الطعام القليل. 47 - ومن قوله "فجئته فساررته" جواز المساررة بالحاجة بحضرة الجماعة، قال النووي: وإنما نهي أن يتناجى اثنان دون الثالث خشية أن يحزن الثالث، ويظن سوءاً. 48 - ومن دعائه صلى الله عليه وسلم أهل الخندق علمه صلى الله عليه وسلم بأن هذا الطعام القليل، الذي يكفي في العادة خمسة أنفس أو نحوهم سيكثر، فيكفي ألفاً وزيادة، فدعا له الألف قبل أن يصل إليه، وقد علم أنه صاع شعير وبهيمة. 49 - ومن قوله "وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الناس" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحياناً يتقدم الناس وأحياناً يمشي آخرهم، وأحياناً يتوسطهم، لأهداف ومصالح، قال النووي: إنما فعل هذا هنا لأنه صلى الله عليه وسلم دعاهم، فجاءوا تبعاً له، كصاحب الطعام، إذا دعا طائفة يمشي قدامهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير هذا الحال لا يتقدمهم، ولا يمكنهم من وطء عقبيه، وفعله هنا لهذه المصلحة. اهـ لكن قوله "لا يمكنهم من وطء قدميه" غير مسلم، فليس هذا هدفاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت من الأوقات. 50 - وفي قول امرأة جابر له "بك وبك" ما كانت عليه المرأة الأنصارية من الجرأة على زوجها. 51 - وفي قول جابر "قد فعلت الذي قلت: "ما كان عليه جابر من الحلم وحسن معاملة النساء. 52 - وفي أحاديث أنس وأبي طلحة وأم أنس -روايتنا السادسة والسابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة والحادية عشرة تكثير الطعام. 53 - وعلمه صلى الله عليه وسلم بأن هذا القليل سيكثره الله تعالى، فيكفي الخلق الكثير. 54 - وفي قوله صلى الله عليه وسلم لأنس: أرسلك أبو طلحة؟ ... ألطعام؟ علم من أعلام النبوة. 55 - وفي الحديث استحباب بعث الهدية، وإن كانت قليلة بالنسبة إلى مرتبة المبعوث إليه، لأنها وإن قلت خير من العدم. 56 - ومن الرواية السادسة، واستنباط أبي طلحة من ضعف صوت النبي صلى الله عليه وسلم أنه جائع يؤخذ العمل بالقرائن. 57 - ومن وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في المسجد ومعه الناس جلوس العالم لأصحابه، يفيدهم ويؤدبهم. 58 - واستحباب ذلك في المسجد. 59 - وفيه منقبة لأم سليم، رضي الله عنها، ودلالة على عظيم فقهها، ورجحان عقلها، لقولها "الله

ورسوله أعلم" إذ معناه أنه قد عرف الطعام، فهو أعلم بالمصلحة، فلو لم يعلمها في مجيء الجمع العظيم لم يفعلها. 60 - وما كان عليه الصحابة -رضي الله عنهم- من الاعتناء بأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم. 61 - ومن انطلاق أبي طلحة لتلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم خروج صاحب البيت لتلقي الضيفان. 62 - ومن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بفت الخبز استحباب فت الطعام، واختيار الثريد على الغمس باللقم. كذا قال النووي، لكنها واقعة حال، لا يستدل منها على ما ذكر، ثم إن الفت هنا كان الهدف التكثير، وليس لفضل الثريد على الغمس. 63 - ومن الإذن لعشرة عشرة استحباب الاجتماع على الطعام. 64 - ومن قوله في الرواية السابعة "وأخرج لهم شيئاً من بين أصابعه" علم من أعلام النبوة. 65 - وفي أكله صلى الله عليه وسلم وآل البيت بعد الناس أنه يستحب لصاحب الطعام وأهله أن يكون أكلهم بعد فراغ الضيفان. كذا قال النووي. لكن ينبغي أن يقيد بحالة قلة الطعام. 66 - ومن روايتنا الثانية عشرة إجابة الدعوة. 67 - وإباحة كسب الخياط. 68 - وإباحة المرق. 69 - وفضيلة أكل الدباء. كذا قال النووي، وهو غير واضح، ولو قال: حب الرسول صلى الله عليه وسلم لأكل الدباء لكان خيراً. 70 - وأنه يستحب أن يحب الدباء، وكذلك كل شيء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه، وأنه يحرص على تحصيل ذلك. كذا قال النووي، وليس بمسلم. 71 - ومن فعل أنس أنه يستحب لأهل المائدة إيثار بعضهم بعضاً، إذا لم يكرهه صاحب الطعام، قال النووي: وأما تتبع الدباء من حوالي الصحفة فيحتمل وجهين: أحدهما من حوالي جانبه وناحيته من الصحفة، لا من حوالي جميع جوانبها، فقد أمر بالأكل مما يلي الإنسان، والثاني أن يكون من جميع جوانبها، وإنما نهي عن ذلك لئلا يتقذره جليسه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتقذره أحد، بل كانوا يتبركون بآثاره. 72 - وجواز أكل الشريف طعام من دونه، من محترف وغيره. 73 - وإجابة دعوته. 74 - ومؤاكلة الخادم. 75 - وبيان ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من التواضع واللطف بأصحابه، وتعاهدهم بالمجيء إلى منازلهم. 76 - وفيه الإجابة إلى الطعام، ولو كان قليلاً.

77 - ومناولة الضيفان بعضهم بعضاً مما وضع بين أيديهم، على المائدة، لقوله في الرواية الثالثة عشرة "جعلت ألقيه إليه ولا أطعمه" قال الحافظ ابن حجر: فإنه لا فرق بين أن يناوله من إناء، أو يضم ذلك إليه في نفس الإناء الذي يأكل منه، وقال ابن بطال: إنما جاز أن يناول بعضهم بعضاً في مائدة واحدة، لأن ذلك الطعام قدم لهم بأعيانهم، فلهم أن يأكلوه كله، وهم فيه شركاء، وقد تقدم الأمر بأكل كل واحد مما يليه، فمن ناول صاحبه مما بين يديه فكأنه آثره بنصيبه، مع ما له فيه معه من المشاركة، وهذا بخلاف من كان على مائدة أخرى، فإنه وإن كان للمناول حق فيما بين يديه، لكن لا حق للآخر في تناوله منه، إذ لا شركة له فيه، وتعقب هذا المأخذ من قصة الخياط، لأنه طعام اتخذ للنبي صلى الله عليه وسلم، وقصد به صلى الله عليه وسلم والذي جمع له الدباء خادمه، فلا يحتج بذلك على جواز مناولة الضيفان بعضهم بعضاً مطلقاً. 78 - وفيه جواز ترك المضيف الأكل مع الضيف، ويحتمل أن الطعام كان قليلاً، فآثرهم به، ويحتمل أنه كان شبعان، أو كان صائماً. 79 - ومن قول أنس "فلم أزل أحب الدباء منذ يومئذ" الحرص على التشبه بأهل الخير، والاقتداء بهم في المطاعم وغيرها. 80 - وفيه فضيلة ظاهرة لأنس رضي الله عنه لاقتفائه أثر النبي صلى الله عليه وسلم، حتى في الأشياء الجبلية. والله أعلم

(563) باب أكل التمر والرطب والقثاء والكمأة والكباث والثوم وتواضع الآكل وصفة قعوده

(563) باب أكل التمر والرطب والقثاء والكمأة والكباث والثوم وتواضع الآكل وصفة قعوده 4664 - عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي. قال: فقربنا إليه طعاماً ووطبة. فأكل منها. ثم أتي بتمر. فكان يأكله ويلقي النوى بين إصبعيه ويجمع السبابة والوسطى (قال شعبة: هو ظني وهو فيه إن شاء الله، إلقاء النوى بين الإصبعين) ثم أتي بشراب فشربه. ثم ناوله الذي عن يمينه. قال: فقال أبي، وأخذ بلجام دابته. ادع الله لنا. فقال: "اللهم بارك لهم في ما رزقتهم واغفر لهم وارحمهم". 4665 - وفي رواية عن شعبة بهذا الإسناد. ولم يشكا في إلقاء النوى بين الإصبعين. 4666 - عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل القثاء بالرطب. 4667 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مقعياً يأكل تمراً. 4668 - عن أنس رضي الله عنه قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمر، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقسمه، وهو محتفز، يأكل منه أكلاً ذريعاً. وفي رواية زهير: أكلاً حثيثاً. 4669 - عن جبلة بن سحيم قال: كان ابن الزبير يرزقنا التمر. قال: وقد كان أصاب الناس يومئذ جهد. وكنا نأكل، فيمر علينا ابن عمر ونحن نأكل. فيقول: لا تقارنوا؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الإقران، إلا أن يستأذن الرجل أخاه. قال شعبة: لا أرى هذه الكلمة إلا من كلمة ابن عمر يعني الاستئذان.

4670 - وفي رواية عن شعبة بهذا الإسناد، وليس في حديثهما قول شعبة ولا قوله: وقد كان أصاب الناس يومئذ جهد. 4671 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرن الرجل بين التمرتين حتى يستأذن أصحابه. 4672 - عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يجوع أهل بيت عندهم التمر". 4673 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا عائشة، بيت لا تمر فيه جياع أهله. يا عائشة، بيت لا تمر فيه جياع أهله أو جاع أهله" قالها مرتين أو ثلاثاً. 4674 - عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أكل سبع تمرات مما بين لابتيها حين يصبح، لم يضره سم حتى يمسي". 4675 - عن سعد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من تصبح بسبع تمرات عجوة، لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر". 4676 - عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن في عجوة العالية شفاء، أو إنها ترياق، أول البكرة".

4677 - عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول الكمأة من المن؛ وماؤها شفاء للعين". 4678 - عن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين". 4679 - عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكمأة من المن، الذي أنزل الله تبارك وتعالى على بني إسرائيل، وماؤها شفاء للعين". 4680 - عن سعيد بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الكمأة من المن، الذي أنزل الله على موسى، وماؤها شفاء للعين". 4681 - عن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكمأة من المن، الذي أنزل الله عز وجل على بني إسرائيل، وماؤها شفاء للعين". 4682 - عن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين". 4683 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بمر الظهران، ونحن نجني الكباث. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "عليكم بالأسود منه" قال: فقلنا: يا رسول الله، كأنك رعيت الغنم. قال: "نعم. وهل من نبي إلا وقد رعاها" أو نحو هذا من القول.

4684 - عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "نعم الأدم -أو الإدام- الخل" وحدثناه موسى بن قريش بن نافع التميمي. 4685 - وفي رواية عن سليمان بن بلال بهذا الإسناد وقال "نعم الأدم" ولم يشك. 4686 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أهله الأدم. فقالوا: ما عندنا إلا خل. فدعا به. فجعل يأكل به ويقول: "نعم الأدم الخل. نعم الأدم الخل". 4687 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ذات يوم إلى منزله. فأخرج إليه فلقاً من خبز. فقال "ما من أدم؟ " فقالوا: لا. إلا شيء من خل. قال "فإن الخل نعم الأدم" قال جابر: فما زلت أحب الخل منذ سمعتها من نبي الله صلى الله عليه وسلم. وقال طلحة: مازلت أحب الخل منذ سمعتها من جابر. 4688 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده إلى منزله. بمثل حديث ابن علية إلى قوله "فنعم الأدم الخل" ولم يذكر ما بعده. 4689 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال كنت جالساً في داري. فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إلي، فقمت إليه. فأخذ بيدي، فانطلقنا، حتى أتى بعض حجر نسائه. فدخل ثم أذن لي؛ فدخلت الحجاب عليها. فقال: "هل من غداء؟ " فقالوا: نعم فأتي بثلاثة أقرصة، فوضعن على نبي. فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرصاً فوضعه بين يديه. وأخذ قرصاً آخر فوضعه بين يدي. ثم أخذ الثالث، فكسره باثنين، فجعل نصفه بين يديه، ونصفه بين يدي. ثم قال: "هل من أدم؟ " قالوا: لا، إلا شيء من خل. قال "هاتوه فنعم الأدم هو".

4690 - عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بطعام أكل منه وبعث بفضله إلي. وإنه بعث إلي يوماً بفضلة لم يأكل منها؛ لأن فيها ثوماً. فسألته أحرام هو؟ قال: لا "ولكني أكرهه من أجل ريحه" قال: فإني أكره ما كرهت. 4691 - عن أبي أيوب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل عليه. فنزل النبي صلى الله عليه وسلم في السفل، وأبو أيوب في العلو. قال: فانتبه أبو أيوب ليلة. فقال نمشي فوق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فتنحوا فباتوا في جانب. ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "السفل أرفق" فقال: لا أعلو سقيفة أنت تحتها. فتحول النبي صلى الله عليه وسلم في العلو، وأبو أيوب في السفل. فكان يصنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعاماً، فإذا جيء به إليه سأل عن موضع أصابعه. فيتتبع موضع أصابعه. فصنع له طعاماً فيه ثوم. فلما رد إليه، سأل عن موضع أصابع النبي صلى الله عليه وسلم. فقيل له: لم يأكل. ففزع وصعد إليه. فقال: أحرام هو؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لا ولكني أكرهه" قال: فإني أكره ما تكره، أو ما كرهت. قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤتى. -[المعنى العام]- خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وأدبه في حياته بآداب يفضل بها عن الحيوان، أدبه بآداب في سلوكه وتصرفاته يرتفع بها عن البدائية والحقارة والهبوط بالعقل والكرامة، قال تعالى: {ولقد كرمنا بني ءادم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً} [الإسراء: 70] أدبه بآداب في لباسه، وفي مشيه، وفي جلوسه، وفي نومه، وفي إتيانه شهوته، وفي أكله وشربه، قد يظن الجاهلون أن الذي يحكم في هذه الأمور العرف والعادات، وتلك نظرة سطحية، مجانبة للحق، بعيدة عن التحقيق، العرف قد يبيح لباس المتكبرين المتجبرين ومشيتهم، والقرآن الكريم يقول {ولا تمش في الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا* كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها} [الإسراء: 37، 38] ويقول {ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور* واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير} [لقمان: 18، 19]. وفي هذه الأحاديث مجموعة من آداب الأكل والشرب حين يجتمع الآكلون والشاربون، كيف

يجلس الآكل حين الأكل؟ وكيف يدار الطعام والشراب على الآكلين؟ وكيف لو يجمع الآكل بين تمرتين أو لقمتين في دفعة واحدة؟ وكيف يرضى بالقليل ويحمد عليه، تمر، أو كسر من الخبز، أو خل، وكيف يحرص على التجمع على الطعام، ويدعو إليه، ويشرك غيره في طعامه ولو كان قليلاً؟ وكيف ينزل الناس منازلهم، ويكرم كرماءهم؟ وكيف يتحاشى في طعامه أطعمة كريهة الرائحة، أو ذات أثر كريه، كالثوم والبصل والكرات إذا كان سيجتمع بالناس، لمناسبة من المناسبات. وهكذا نجد الإسلام يرسم الطريق الصحيح لبناء مجتمع متكامل، يسوده التواد والمحبة والتلاقي والقبول وعدم الاشمئزاز والنفور. يربي أبناءه على القناعة وعدم الشره، والإيثار وعدم الأثره، ليدوم التآلف والوئام بين المسلمين. -[المباحث العربية]- (عبد الله بن بسر) بضم الباء وسكون السين، السلمي، صحب النبي صلى الله عليه وسلم، هو وابناه وابنته، نزل النبي صلى الله عليه وسلم عنده، فقدم له طعاماً. (فقدمنا إليه طعاماً ووطبة) قال النووي: هكذا رواية الأكثرين "وطبة" بفتح الواو، وسكون الطاء، بعدها باء، وهكذا رواه النضر بن شميل، راوي هذا الحديث عن شعبة، والنضر إمام من أئمة اللغة، وفسره النضر، فقال: والوطبة الحيس، يجمع التمر البرني والأقط المدقوق والسمن، وكذا ضبطه أبو مسعود الدمشقي البرقاني وآخرون، وهكذا هو عندنا في معظم النسخ، وفي بعضها "رطبة" بالراء المضمومة وفتح الطاء، وكذا ذكره الحميدي وقال: هكذا جاء فيما رأيناه من نسخ مسلم "رطبة" بالراء، قال: وهو تصحيف من الراوي، وإنما هو بالواو. قال النووي: وهذا الذي ادعاه على نسخ مسلم هو فيما رآه هو، وإلا فأكثرها بالواو، وكذا نقله الأكثرون عن نسخ مسلم، ونقل القاضي عياض عن رواية بعضهم في مسلم "وطئة" بفتح الواو، وكسر الطاء، بعدها همزة، وادعى أنه الصواب، وهكذا ادعاه آخرون، والوطئة بالهمز عند أهل اللغة طعام يتخذ من التمر، كالحيس. قال النووي: هذا ما ذكروه، ولا منافاة بين هذا كله، فيقبل ما صحت به الروايات وهو صحيح في اللغة. اهـ والظاهر أن الواو في "ووطبة" لعطف التفسير، والمعنى: قدمنا إليه طعاماً أي وطبة، ويحتمل أنه من عطف الخاص على العام، إذا كان قد قدم له مع الوطبة خبز ولحم وغيرهما. (ثم أتي بتمر، فكان يأكله، ويلقي النوى بين إصبعيه، ويجمع السبابة والوسطى) الصورة المتبادرة أنه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ التمرة من الإناء بأصابعه الثلاث، الإبهام والسبابة والوسطى، كما سبق توضيحه، فيقضم التمرة، ويأكلها، ويخرج نواتها، ممسكاً بالنواة بين إصبعيه السبابة والوسطى، فيلقي بها خارج الإناء، ولا يلقيها في إناء التمر لئلا تختلط بالتمر، أما قول النووي: وقيل: كان يجمعه على ظهر الإصبعين، ثم يرمي به، فهو قول بعيد، لصعوبة الجمع على ظهر الإصبعين.

(قال شعبة: هو ظني، وهو فيه إن شاء الله "إلقاء النوى بين الإصبعين") أي قال شعبة عبارة "إلقاء النوى بين إصبعين" أشك في كونها مروية في الحديث، أو هي من استنباطي وفهمي، وأرجح أنها منه إن شاء الله، فهو متردد شاك، وفي الطريق الثاني، ملحق الرواية الأولى جزم بإثبات هذا القول في الحديث، ولم يشك، قال النووي: فهو ثابت بهذه الرواية، وأما رواية الشك فلا تضر، سواء تقدمت على هذه، أو تأخرت، لأنه تيقن في وقت، وشك في وقت، فاليقين ثابت، ولا يمنعه النسيان في وقت آخر. (فقال أبي -وأخذ بلجام دابته- ادع الله لنا) جملة "وأخذ بلجام دابته" معترضة بين القول والمقول، وقد جاء أن دابة الرسول في ذاك الوقت كانت بغلة يسمونها حمارة شامية. (يأكل القثاء بالرطب) "القثاء" بكسر القاف، هذا المشهور، وفيه لغة بضمها، ولغة بفتحها، مع تشديد الثاء في كل، وهي نبات معروف، يشبه الخيار، لكنه أطول، أي يقطع بأسنانه قطعة من القثاء، ويلحقها في فمه برطبة، أي ثمرة نخل نضجت قبل أن تصير تمراً، وروي أنه كان يقول: يكسر حر هذا برد هذا. (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مقعياً يأكل تمراً) أي جالساً على إليتيه، ناصباً ساقيه وفخذيه. (فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقسمه) أي يفرقه على من يراه أهلاً لذلك، قال النووي: وهذا التمر كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبرع بتفريقه صلى الله عليه وسلم، فلهذا كان يأكل منه. (وهو محتفز) أي مستعجل، يقال: حفزه إلى الأمر إذا حثه عليه، وتحفز في جلسته انتصب فيها غير مطمئن، واحتفز أي تحفز، قال النووي: وهو بمعنى قوله "متعباً" وهو أيضاً معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر، في صحيح البخاري وغيره "لا آكل متكئاً" على ما فسره الإمام الخطابي، فإنه قال: المتكئ هنا المتمكن في جلوسه، من التربع وشبهه، المعتمد على الوطاء تحته، قال: وكل من استوى قاعداً على وطاء فهو متكئ، ومعناه: لا آكل أكل من يريد الاستكثار من الطعام، ويقعد له متمكناً، بل أقعد مستوفزاً، وآكل قليلاً. (يأكل منه أكلاً ذريعاً) في ملحق الرواية "أكلا حثيثاً" وهما بمعنى، وفي كتب اللغة: الذروع والذريع الخفيف السير، واسع الخطو من الإبل والخيل، والحثوث والحثيث السريع الجاد في أمره، وفي القرآن الكريم {يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً} [الأعراف: 54] ويقال: ولى حثيثاً، أي مسرعاً حريصاً، وإنما كان صلى الله عليه وسلم مستعجلاً لانشغاله بأمور أخرى، فأسرع في الأكل، ليقضي حاجته منه، ويرد جوعته، فيذهب إلى ذلك الشغل. (وقد كان أصاب الناس يومئذ جهد) بفتح الجيم المشقة، وبضمها الوسع والطاقة، فالفتح أولى.

(لا تقارنوا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الإقران إلا أن يستأذن الرجل أخاه) في الرواية السادسة "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرن الرجل بين التمرتين" يقال: قرن البسر جمع بين الإرطاب والإبسار وقرن الشيء بالشيء قرناً وقراناً جمع بينهما، وأقرن فلان جمع بين شيئين، والمراد هنا النهي عن جمع تمرتين عند إدخالهما الفم، وهو مظهر من مظاهر الجشع، والمراد بالأخ الرفيق الذي اشترك معه في ذلك التمر، وفي الرواية السادسة "حتى يستأذن أصحابه" أي الذين يشاركونه ذلك الطعام. (قال شعبة: لا أرى هذه الكلمة إلا من كلمة ابن عمر -يعني الاستئذان) "لا أرى" بضم الهمزة، أي لا أظن، ولفظ "كلمة" يطلق على الكلمة الواحدة، وعلى الكلام الكثير، فيقال: ألقى فلان كلمة، ويراد خطبة، فالمعنى شك شعبة في جملة "إلا أن يستأذن الرجل أخاه" هل هي من قول الرسول صلى الله عليه وسلم، فهي مرفوعة؟ أو هي من كلام ابن عمر فهي موقوفة؟ قال النووي: وهذا الذي قاله شعبة لا يؤثر في رفع الاستئذان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه نفاه بظن وحسبان، وقد أثبته سفيان في الرواية الثانية فثبت، أي في الرواية السادسة، فسندها عن سفيان عن جبلة بن سحيم قال: سمعت ابن عمر يقول: إلخ. (لا يجوع أهل بيت عندهم التمر) النفي نفي انبغاء، أي لا ينبغي أن يجوعوا، فعندهم زادهم، ولا يعتبرون جياعاً، وإن جاعوا، فسبب الجوع غالباً فقدان الطعام، وهم غير فاقدين، وفي الرواية الثامنة "بيت لا تمر فيه جياع أهله" وهو من قبيل الادعاء والمبالغة، أي إن التمر هو القوت، وكأن غيره من الأقوات لا يعتد به، فالقوت موجود ما وجد التمر، والقوت منعدم ما انعدم التمر. (من أكل سبع تمرات مما بين لابتيها حين يصبح) الضمير للمدينة، واللابة الحرة من الأرض، وهي الأرض ذات الحجارة السود، وللمدينة لابتان، والمقصود مما بين حدودها من جميع الجهات، من تمر نخلها. (لم يضره سم حتى يمسي) السم معروف، وهو بفتح السين وضمها وكسرها، والفتح أفصح. (إن في عجوة العالية شفاء، أو إنها ترياق، أول البكرة) "العالية" ما كان من الحدائق والزروع والبيوت والقرى من جهة المدينة العليا، مما يلي نجد، والسافلة من الجهة الأخرى، مما يلي تهامة، قال القاضي: وأدنى العالية ثلاثة أميال، وأبعدها ثمانية أميال. اهـ وهذا التقدير على أساس المدينة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد دخلت العالية والسافلة اليوم في صلب مباني المدينة. والترياق بكسر التاء وضمها، لغتان، ويقال: درياق، وطرياق أيضاً، وكله فصيح. وهو ما يمنع المعدة والأمعاء من امتصاص السم والتأثر به، و"أول البكرة" بنصب "أول" على

الظرفية، والبكرة بضم الباء، أول النهار إلى طلوع الشمس وهو المراد من قوله في الرواية العاشرة "من تصبح" وفي التاسعة "حين يصبح"، والعامة يسمون يوم الغد كله بكرة. (الكمأة من المن) في الرواية الثالثة عشرة "من المن الذي أنزل الله تبارك وتعالى على بني إسرائيل" وفي الرواية الرابعة عشرة "من المن الذي أنزل الله على موسى" و"الكمأة" بفتح الكاف وسكون الميم بعدها همزة مفتوحة، قال الخطابي: والعامة لا يهمزونه. اهـ وجمعها كم، بفتح الكاف وتشديد الميم، مثل تمرة وتمر، وعكس ابن الأعرابي، فقال: الكمأة جمع الكم، الواحد على غير قياس، قال: ولم يقع في كلامهم نظير هذا سوى خبأة وخب، وقيل: الكمأة قد تطلق على الواحدة وعلى الجمع، وقد جمعوها على أكمؤ، وهي نبات لا ورق لها ولا ساق، أرضية، تؤكل مطبوخة، ويختلف حجمها، تشبه البطاطس، أو هي البطاطس، وبعض العرب يسميها جدري الأرض، ونبات الرعد، وهي كثيرة بأرض العرب، وتوجد بالشام ومصر، وأجودها ما كانت أرضه رملة قليلة الماء، ومنها صنف قتال، بضرب لونه إلى الحمرة، وعند الطبري "كثرت الكمأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فامتنع قوم من أكلها، وقالوا: هي جدري الأرض، فبلغه ذلك، فقال: إن الكمأة ليست من جدري الأرض، ألا إن الكمأة من المن". "والمن" هنا لبس مصدر من، وإنما هو بمعنى اسم المفعول، أي ممنون به، ونعم الله تعالى كلها ممنون بها من الله عليهم، لكن بعض النعم لا صنع لبني آدم فيها، فغلب اسم المن عليها، لأنها من محض، والكمأة في أرض العرب وفي زمن الرسول صلى الله عليه وسلم كانت توجد في الأرض من غير أن تزرع، ومن غير كلفة ولا علاج ولا سقي ولا غيره، والمن الذي أنزله الله تعالى على بني إسرائيل كان أنواعاً، بعضه نبات يوجد عفواً دون جهد ولا مشقة، كالكمأة، وهي تقوم مقام الخبز، وبعضه طير يسقط عليهم دون صيد، طير سمين مثل الحمام يشبه السمان، أو هو السمان، وهو السلوى، في قوله تعالى: {وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى} [البقرة: 57] فعطفه على المن من قبيل عطف الخاص على العام، فكان يمثل عندهم في التيه الأدم، ويقوم مقام اللحم، وبعضه طل يسقط على الشجر كالصمغ، أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وهو المعروف بالترنجبين، فاكتمل لهم بالتيه عفواً خبزهم وأدمهم وحلواهم، فما يقوم مقام الخبز، وهو الكمأة نوع من أنواع المن الذي أنزل على بني إسرائيل، وهذا معنى قوله "الكمأة من المن" فهي منه حقيقة، وقيل: إن المراد بالمن الذي أنزل على بني إسرائيل الصمغ الحلو الذي كان ينزل على الشجر، ومعنى "الكمأة من المن" على هذا أنها تشبهه، في كون كل منهما يحصل بلا مشقة ولا مكلفة، أي الكمأة تشبه ما كان من المن، قال الخطابي: ليس المراد أنها نوع من المن الذي أنزل على بني إسرائيل، فإن الذي أنزل على بني إسرائيل كان كالترنجبين الذي يسقط على الشجر، وإنما المعنى أن الكمأة شيء ينبت من غير تكلف، فهو من قبيل المن الذي كان ينزل على بني إسرائيل، فيقع على الشجر، فيتناولونه. (وماؤها شفاء للعين) كذا عند مسلم وعند الأكثر، وفي رواية "شفاء من العين" أي شفاء من داء العين.

وفي المراد بكون مائها شفاء للعين أقوال: الأول: أن ماءها صرفاً، دون خلط، إذا عصرت وجعل الماء في العين، فإنها تبرأ بإذن الله. قال النووي: وقد رأيت أنا وغيري في زماننا من كان أعمى وذهب بصره حقيقة، فكحل عينه بماء الكمأة مجرداً، فشفي، وعاد إليه بصره، فالصواب أن ماءها شفاء للعين مطلقاً. اهـ وقد أخرج الترمذي في جامعه، بسند صحيح إلى قتادة، قال: حدثت أن أبا هريرة قال: أخذت ثلاثة أكمؤ، أو خمساً أو سبعاً، فعصرتهن، فجعلت ماءهن في قارورة، فكحلت به جارية لي، فبرئت. الثاني: كالأول مع التقييد بقوة الاعتقاد في هذا الحديث، والعمل به، ومن أشار إليه النووي كان صاحب صلاح ورواية للحديث، وكان استعماله لماء الكمأة اعتقاداً في الحديث، وتبركاً به، فنفعه الله به. الثالث: أن ماءها صرفاً، دون خلط، يضر ولا يشفي، وقد حكى إبراهيم الحربي عن صالح وعبد الله ابني أحمد بن حنبل أنهما اشتكت أعينهما، فأخذا كمأة، وعصراها، واكتحلا بمائها، فهاجت أعينها ورمداً، وقال ابن الجوزي: حكى شيخنا أبو بكر بن عبد الباقي أن بعض الناس عصر ماء كمأة، فاكتحل به، فذهبت عينه. الرابع: أن ماءها بارداً يابساً لا يفيد، وإنما تؤخذ، فتشق، وتوضع على الجمر، حتى يغلي ماؤها، ثم يكتحل بمائها، وهو فاتر، فيشفى بإذن الله. الخامس: أن يخلط ماؤها في الأدوية التي نكتحل بها، فيفيد بإذن الله، وقد حكى أبو عبيد أن بعض الأطباء قالوا: أكل الكمأة يجلو البصر. السادس: أن المراد من ماء الكمأة ماؤها الذي نبت به، فإنه أول مطر يقع في الأرض، حكاه ابن الجوزي. قال ابن القيم: وهذا أضعف الوجوه. قال الحافظ ابن حجر: والذي يزيل الإشكال عن هذا الاختلاف أن الكمأة وغيرها من المخلوقات خلقت في الأصل سليمة من المضار، ثم عرضت لها الآفات بأمور أخرى، من مجاورة أو امتزاج أو غير ذلك من الأسباب التي أرادها الله تعالى، فالكمأة في الأصل نافعة، لما اختصت به من وصفها بأنها من الله، وإنما عرضت لها المضار بالمجاورة، واستعمال كل ما وردت به السنة بصدق ينتفع به من يستعمله، ويدفع الله عنه الضرر بنيته، والعكس بالعكس. اهـ وقال الخطابي: إنما اختصت الكمأة بهذه الفضيلة لأنها الحلال المحض يجلو البصر، والعكس بالعكس. اهـ والحق أن كلام الحافظ ابن حجر والخطابي لا يقبل أخذهما على إطلاقهما، فماء المطر من الحلال المحض، الذي ليس في اكتسابه شبهة، وكثير من الحشائش من الله، والأولى أن نقول: إن بعض الأعشاب لها خصائص الشفاء، وترتبط هذه الخصائص بالتربة والنوع والكمية، وقد تشفي عين شخص، ولا تشفي عين آخر، وقد تشفي مرض عين، ولا تشفي مرضاً آخر، وقد تتغير خصائصها من وقت لآخر، فتشفى في زمن ولا تشفي في آخر، فحاصل معنى الحديث: ماء كمأتكم في هذا الزمن شفاء لبعض أمراض عيونكم. والله أعلم.

(كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بمر الظهران) "مر الظهران" بفتح الميم وتشديد الراء، و"الظهران" على نسق تثنية "ظهر" مكان معروف، على مرحلة من مكة. (ونحن نجني الكباث) بفتح الكاف، وتخفيف الباء، آخرها ثاء، وهو ثمر شجر الأراك، ويسمى البرير، على وزن الحرير، قبل أن يسود، فإذا اسود فهو الكباث، وعكس ابن بطال، فقال: الكباث ثمر الأراك الغصن منه، والبرير ثمره الرطب واليابس، والذي في اللغة أنه ثمر الأراك، وقيل: هو نضيجه، فإذا كان طرياً فهو موز، وقيل عكس ذلك، وأن الكباث الطري، وقال أبو زياد: يشبه التين، يأكله الناس والإبل والغنم، وقال أبو عمرو: هو حار، كأن فيه ملحاً، ومعنى "نجني" نقتطف. (كأنك رعيت الغنم) في الكلام اختصار، والتقدير: كأنك رعيت الغنم، حتى عرفت أطيب الكباث، لأن راعي الغنم يكثر تردده تحت الأشجار، لطلب المرعى منها، والاستظلال تحتها. (نعم الأدم -أو الإدام- الخل) "الأدم" بضم الهمزة والدال، ويجوز إسكانها، جمع إدام، وقيل: الأدم بضم الهمزة وإسكان الدال المفرد، كالإدام وبضم الدال الجمع، والإدام بكسر الهمزة ما يؤتدم به، أي ما يستمرأ ويستساغ به الخبز، أي الغموس من أي صنف. (عن جابر قال النبي صلى الله عليه وسلم سأل أهله الأدم، فقالوا: ما عندنا إلا خل، فدعا به، فجعل يأكل به) أي يغمس ويأتدم به، ويقول إلخ، وتمام الصورة في الروايتين الثامنة عشرة والتاسعة عشرة، إذ كان جابر جالساً في داره، وكانت الدور لا باب لها، أو كان فناؤها يراه المار، فمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأنه كان يعلم حاجة جابر إلى الطعام، فأشار إليه، أن أقبل، فأقبل إليه، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد جابر، وسار به، حتى أتى به بيت إحدى أمهات المؤمنين، ولعلها عائشة، فهي الراوية للرواية السادسة عشرة، فدخل صلى الله عليه وسلم، وترك جابراً على الباب، وكان الحجاب قد فرض على أمهات المؤمنين، ثم خرج فأذن لجابر بالدخول، قال جابر: فدخلت الحجاب عليها، قال النووي: معناه دخلت الحجاب، إلى الموضع الذي فيه المرأة، وليس فيه أنه رأى بشرتها. اهـ وكان الحجاب ستراً يسدل بين الداخل وبين أم المؤمنين، فإذا كانت هي في داخل حجرتها محجبة مغطاة تغطية كاملة صح دخول الأجنبي إلى حجرتها، متخطياً الحجاب المسدل، فهذا معنى قول جابر: فدخلت الحجاب عليها، فقال صلى الله عليه وسلم لزوجه: هل من غذاء؟ قالت: نعم. "فأخرج إليه فلقاً من خبز" قال النووي: هكذا هو في الأصول "فأخرج إليه فلقاً" وهو صحيح، ومعناه أخرج الخادم ونحوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقاً -جمع فلقة، وهي الكسرة. اهـ فالضمير فاعل "أخرج" يعود على الخادم ونحوه مما هو غير مذكور، اعتماداً على المقام، ويحتمل أن يعود الضمير على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمعنى أنه أخرج من بيت زوجه إلى جابر فلقاً من خبز وهذا ظاهر ملحق الرواية الثامنة عشرة فلفظها "عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده إلى منزله، فأخرج إليه فلقاً من خبز .. " إلخ وهذه الفلق هي التي عبر عنها في الرواية التاسعة عشرة بقوله "فأتى بثلاثة أقرصة، فوضعن على نبي" قال النووي: هكذا هو في أكثر الأصول "على نبي" بنون مفتوحة، ثم باء موحدة مكسورة، ثم ياء مثناة تحت مشددة، وفسروه

بمائدة من خوص، ونقل القاضي عياض عن كثير من الرواة أنه "بتى" بباء موحدة مفتوحة، ثم مثناة فوق مكسورة مشددة، ثم ياء مثناة من تحت مشددة، والبت كساء من وبر أو صوف، فلعله منديل وضع عليه الطعام، قال: ورواه بعضهم بضم الباء، وبعدها نون مكسورة مشددة، وهو طبق من خوص. (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بطعام أكل منه، وبعث بفضله إلي) حكاية لما كان في فترة إقامته صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب عقب وصوله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجراً، ومعنى "بعث بفضله علي" أي رد باقي الطعام الذي صنعه أبو أيوب وأرسله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، رده إلى أبي أيوب بعد أن يأكل منه ما يأكل، وقد فصلت الرواية الواحدة والعشرون نزول النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب، وذكر ابن سعد أن إقامته صلى الله عليه وسلم ببيت أبي أيوب كانت سبعة أشهر، حتى بنى بيوته صلى الله عليه وسلم. (وإنه بعث إلي يوماً بفضلة) أي ببقية، والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم أكل من بعض الطعام، ولم يأكل ما فيه ثوم، فكان فضلة بالنسبة لمجموع الطعام. (لم يأكل منها لأن فيها ثوماً) بضم الثاء، والعامة تفتحها. (نزل صلى الله عليه وسلم في السفل، وأبو أيوب في العلو) "العلو" بضم العين وكسرها مع سكون اللام، من كل شيء أرفعه، أما العلو بضم العين واللام مع تشديد الواو فهو العظمة والتبختر. (فانتبه أبو أيوب ليلة) أي انتبه من غفلة، وليس من النوم. (نمشي فوق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ) الكلام على الاستفهام الإنكاري التوبيخي، وهو نفي الانبغاء، أي ما كان ينبغي، أو ما ينبغي. (فتنحوا، فباتوا في جانب) أي تنحوا عن سقف يقيم صلى الله عليه وسلم تحته، إلى جانب آخر من البيت لا يقيم تحته. (لا أعلو سقيفة أنت تحتها) السقيفة الظلة. (فتحول النبي صلى الله عليه وسلم في العلو، وأبو أيوب في السفل) "السفل" و"العلو" بضم أولهما وكسره مع سكون ثانيهما، لغتان. (إني أكره ما تكره) هذا من أوصاف المحق الصادق، أن يحب ما يحب محبوبه، ويكره ما يكره. (فيتتبع موضع أصابعه) أي يبحث عن موضع أصابعه صلى الله عليه وسلم، فيأكل من مواضعها تبركاً. (فقيل له: لم يأكل، ففزع) لخوفه أن يكون حدث منه أمر أوجب الامتناع من طعامه.

(وكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤتى) بضم الياء وسكون الهمزة وفتح الياء، أي يأتيه الوحي، فلا يناجي الوحي إلا بريح طيب. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من هذه الأحاديث: ]- 1 - من الرواية الأولى من قول شعبة، ما كان عليه الرواة من الدقة في الرواية. 2 - وأن الشراب ونحوه يدار على اليمين. 3 - واستحباب طلب الدعاء من الفاضل. 4 - ودعاء الضيف للمضيف بتوسعة الرزق والمغفرة والرحمة، وقد جمع صلى الله عليه وسلم في دعائه خيرات الدنيا والآخرة. 5 - ومن الرواية الثانية جواز أكل القثاء بالرطب. 6 - وجواز أكل طعامين معاً. 7 - قال القرطبي: يؤخذ منه جواز مراعاة صفات الأطعمة وطبائعها، واستعمالها على الوجه اللائق بها، على قاعدة الطب. 8 - وفيه التوسع في الأطعمة، قال النووي: ولا خلاف بين العلماء في جواز هذا، وما نقل عن بعض السلف من خلاف هذا فمحمول على كراهة اعتياد التوسع والترفه والإكثار منه لغير مصلحة دينية. اهـ وقال الحافظ ابن حجر: وأما ما ورد عن عمر وغيره من السلف من إيثار أكل غير اللحم على اللحم فإما لقمع النفس عن تعاطي الشهوات، والإدمان عليها، وإما لكراهة الإسراف، والإسراع في تبذير المال، لقلة الشيء عندهم إذ ذاك. والحق أن التوسع في الطعام أمر نسبي، لا يلحقه لوم أو كراهة إلا إذا زاد عن الحد والمستوى، ودخل في دائرة الإسراف أو التبذير، يؤكد ذلك قوله تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} [الأعراف: 32]؟ وحديث "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده". 9 - وعن الرواية الثالثة والرابعة جواز الأكل مقعياً محتفزاً، وقد روى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إني لا آكل متكئاً" واختلف في صفة الاتكاء، فقيل: أن يتمكن في الجلوس للأكل على أي صفة كان، وجزم ابن الجوزي في تفسير الاتكاء بأنه الميل على أحد الشقين، ويتعلل هذا التفسير -على مذهب الطب- بأنه لا ينحدر الطعام في مجاريه سهلاً، ولا يساغ هنيئاً، وربما تأذى به.

قال الخطابي: تحسب العامة أن المتكئ هو الآكل على أحد شقيه، وليس كذلك، بل هو المعتمد على الوطاء الذي تحته، قال: ومعنى الحديث: إني لا أقعد متكئاً على الوطاء عند الأكل، فعل من يستكثر من الطعام، فإني لا آكل إلا البلغة من الزاد، فلذلك أقعد مستوفزاً. اهـ وأخرج ابن عدي بسند ضعيف "زجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتمد الرجل على يده اليسرى عند الأكل" وأخرج ابن أبي شيبة من طريق إبراهيم النخعي، قال: كانوا يكرهون أن يأكلوا اتكاءة، مخافة أن تعظم بطونهم. وقال البيهقي: إن الأكل متكئاً من فعل المتعظمين، وأصله مأخوذ من ملوك العجم اهـ ويرشح هذا القول ما رواه ابن ماجه والطبراني بإسناد حسن، عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: "أهديت النبي صلى الله عليه وسلم شاة، فجثا على ركبتيه يأكل، فقال له أعرابي: ما هذه الجلسة؟ فقال: إن الله جعلني عبداً كريماً، ولم يجعلني جباراً عنيداً" قال ابن بطال: إنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك تواضعاً لله، ثم ذكر حديثاً مرسلاً أو معضلاً عن الزهري، وصل النسائي نحوه، ولفظه "أتى النبي صلى الله عليه وسلم ملك، لم يأته قبلها، فقال: إن ربك يخيرك بين أن تكون عبداً نبياً، أو ملكاً نبياً، قال: فنظر إلى جبريل، كالمستشير له، فأومأ إليه أن تواضع، فقال: بل عبداً نبياً، قال: فما أكل متكئاً". وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس وخالد بن الوليد وعبيدة السلماني ومحمد بن سيرين وعطاء بن يسار والزهري جواز الأكل متكئاً مطلقاً. قال الحافظ ابن حجر: وإذا ثبت كونه مكروهاً، أو خلاف الأولى فالمستحب في صفة الجلوس للآكل أن يكون جاثياً على ركبتيه وظهور قدميه، أو ينصب الرجل اليمنى، ويجلس على اليسرى. اهـ وأميل إلى أن الآكل لا يتقيد بهيئة خاصة، بل يجلس أو يقف كيفما تيسر له، وكيفما يختار العرف، ما لم يكن في هيئته ضرر صحي يقره الأطباء العدول، وما لم يكن في مظهره كبر يحكم به العرف، وما لم يكن في هيئته سوء أدب أو أذى للغير. والله أعلم. 10 - ومن قوله في الرواية الرابعة "أكلاً حثيثاً" أنه يجوز أن يسرع الإنسان في الأكل، ليلحق بشغل آخر، على أن لا يكون في ذلك إيذاء لمن معه، وأن يكون لغرض يقره الشرع. 11 - ومن الرواية الخامسة النهي عن قرن تمرتين عند الأكل، وكذا الرطب والزبيب والعنب ونحوها، ومثله جمع لقمتين، أو تكبير اللقمة، وذلك لأنه من مظاهر الشره وفيه إيذاء للشركاء في الأكل، قال النووي: واختلفوا في أن هذا النهي على التحريم، أو الكراهة والأدب، فنقل القاضي عياض عن أهل الظاهر أنه للتحريم، وعن غيرهم أنه للكراهة والأدب، والصواب التفصيل، فإن كان الطعام مشتركاً بينهم فالقران حرام إلا برضاهم، ويحصل الرضا بتصريحهم به، أو بما يقوم مقام التصريح، من قرينة حال، أو إدلال عليهم كلهم: بحيث يعلم يقيناً أو ظناً قوياً أنهم يرضون به، ومتى شك في رضاهم فهو حرام، وإن كان الطعام لغيرهم، أو لأحدهم اشترط رضاه وحده، فإن قرن بغير رضاه فحرام، ويستحب أن يستأذن الآكلين معه، ولا يجب، وإن كان الطعام لنفسه، وقد ضيفهم به، فلا يحرم عليه القران، ثم إن كان في الطعام قلة فحسن ألا يقرن، لتساويهم، وإن كان

كثيراً بحيث يفضل عنهم فلا بأس بقرانه، لكن الأدب مطلقاً التأني في الأكل، وترك الشره، إلا أن يكون مستعجلاً -استعجالاً مشروعاً- قال: وقال الخطابي: إنما كان هذا في زمنهم، وحين كان الطعام ضيقاً، فأما اليوم -مع اتساع الحال- فلا حاجة إلى الإذن، وليس كما قال، بل الصواب ما ذكرنا من التفصيل، فإن الاعتبار بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، لو ثبت السبب، كيف وهو غير ثابت. اهـ وظاهر كلام النووي وكلام الخطابي أن الهدف من هذا النهي رفع الغبن عن الشركاء في الأكل، ومفهومه أنه لو أكل وحده من ملكه لا يدخل في هذا النهي، وسياق روايتنا الخامسة يوحي بهذا الهدف، وعلل هذا بأنهم في ملكهم لهذا الطعام سواء، ولا يجوز أن يستأثر أحد بمال غيره إلا بإذنه، وإنما تقع المكارمة في ذلك إذا قامت قرينة الرضا، وقال مالك: ليس بجميل أن يأكل أكثر من رفقته وهو متعقب بأن الناس يختلفون في مقدار الأكل، وفي الاحتياج إلى التناول من الشيء، ولو حمل الأمر على التساوي لضاق، ولما ساغ لمن لا يكفيه اليسير أن يتناول أكثر من نصيب من يشبعه اليسير، والعرف في هذا مبني على المسامحة، لا على المشاحة، ومن العلماء من قرر أن الهدف من هذا النهي البعد عن مظاهر الشره، قال ابن الأثير في النهاية: إنما وقع النهي عن القران لأن فيه شرهاً، وذلك يزري بصاحبه، وذكر أبو موسى المديني عن عائشة وجابر استقباح القران، لما فيه من الشره والطمع المزري بصاحبه. ونميل إلى أنهما علتان للنهي، كل منهما كافية للمنع. والله أعلم. 12 - ومن الرواية السابعة والثامنة فضيلة التمر. 13 - وجواز الادخار للعيال، والحث عليه. 14 - ومن الرواية التاسعة والعاشرة والحادية عشرة: فضيلة تمر المدينة وعجوتها، قال الخطابي: كون العجوة تنفع من السم والسحر إنما هو ببركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لتمر المدينة، لا لخاصية في التمر، وقال ابن التين: يحتمل أن يكون المراد نخلاً خاصاً بالمدينة، لا يعرف الآن، ويحتمل أن يكون ذلك خاصاً بزمانه صلى الله عليه وسلم، أو خاصاً بأغلب أهل زمانه. وقال القرطبي ظاهر الأحاديث خصوصية عجوة المدينة بدفع السم وإبطال السحر، وهو من باب الخواص التي لا تدرك بقياس ظني. 15 - وفضيلة التصبح بسبع تمرات. قال النووي: وعدد السبع من الأمور التي علمها الشارع، ولا نعلم نحن حكمتها، فيجب الإيمان بها، واعتقاد فضلها، والحكمة فيها، وهذا كأعداد الصلوات، ونصب الزكاة وغيرها. فهذا هو الصواب في هذا الحديث، وأما ما ذكره المازري والقاضي عياض فيه، فكلام باطل، فلا تلتفت إليه، ولا تعرج عليه، وقصدت بهذا التنبيه التحذير من الاغترار به. اهـ والنووي يشير إلى قول المازري عن سبع تمرات المدينة: هذا مما لا يعقل معناه في طريقة علم الطب، ولو صح أن يخرج لمنفعة التمر

في السم وجه من جهة الطب لم يقدر على إظهار وجه الاقتصار على هذا العدد الذي هو السبع، ولا على الاقتصار على هذا الجنس الذي هو العجوة، ولعل ذلك كان لأهل زمانه صلى الله عليه وسلم خاصة، أو لأكثرهم، إذا لم يثبت وقوع الشفاء في زماننا غالباً، وإن وجد ذلك في الأكثر حمل على أنه أراد وصف غالب الحال. اهـ والتحقيق أن هذا القول لا يخرج عما ذكره النووي، وليس فيه ما يستدعي الإبطال، وأما ما يشير إليه من كلام القاضي عياض فهو قوله: تخصيصه ذلك بعجوة المدينة والعالية يرفع الإشكال، ويكون خصوصاً لها، كما وجد الشفاء لبعض الأدواء في الأدوية التي تكون في بعض تلك البلاد، دون ذلك الجنس في غيره، لتأثير يكون في ذلك من الأرض أو الهواء، وأما تخصيص هذا العدد فلجمعه بين الإفراد والإشفاع، لأنه زاد على نصف العشرة، وفيه إشفاع ثلاثة [وهي اثنان وأربعة وستة] وإيتار أربعة [وهي واحد وثلاثة وخمسة وسبعة] وهي من نمط غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعاً، وقوله تعالى: {سبع سنابل} [البقرة: 261] وكما أن السبعين مبالغة في كثرة العشرات، والسبعمائة مبالغة في كثرة المئين. اهـ 16 - ومن الرواية الثانية عشرة والثالثة عشرة والرابعة عشرة فضيلة الكمأة. 17 - ومن الرواية الخامسة عشرة فضيلة رعاية الغنم. قال النووي: قالوا: والحكمة في رعاية الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- لها، ليأخذوا أنفسهم بالتواضع، وتصفى قلوبهم بالخلوة، ويترقوا من سياستها بالنصيحة إلى سياسة أممهم بالهداية والشفقة. 18 - وفيها إباحة أكل تمر الشجر الذي لا يملك، قال ابن بطال: كان هذا في أوائل الإسلام، عند عدم الأقوات، فإذ قد أغنى الله عباده بالحنطة والحبوب الكثيرة وسعة الرزق فلا حاجة بهم إلى تمر الأراك. قال الحافظ ابن حجر: إن أراد بهذا الكلام الإشارة إلى كراهة تناوله فليس بمسلم، ولا يلزم من وجود ما ذكر منع ما أبيح بغير ثمن، بل كثير من أهل الورع لهم رغبة في مثل هذه المباحات، أكثر من تناول ما يشترى. 19 - ومن الرواية السادسة عشرة والسابعة عشرة والثامنة عشرة والتاسعة عشرة فضيلة الخل. 20 - وأنه يسمى إداماً، وأنه أدم فاضل. 21 - واستحباب الحديث على الأكل، تأنيساً للآكلين. 22 - قال الخطابي والقاضي عياض: فيه مدح الاقتصار في المأكل، ومنع النفس، من ملاذ الأطعمة، إذ المعنى: ائتدموا بالخل، وما في معناه، مما يخف مؤنته، ولا يعز وجوده، ولا تتأنقوا في الشهوات فإنها مفسدة للدين، مسقمة للبدن. قال النووي: والصواب الذي ينبغي أن يجزم به أنه مدح للخل نفسه، وأما الاقتصار في المطعم، وترك الشهوات فمعلوم من قواعد أخرى. والله أعلم. 23 - ومن الرواية الثامنة عشرة والتاسعة عشرة جواز أخذ الإنسان بيد صاحبه في تماشيهما. 24 - ومنقبة لجابر (رضي الله عنه).

25 - واستحباب مواساة الحاضرين على الطعام، وأنه يستحب أن يجعل الخبز ونحوه بين أيديهم بالسوية. 26 - وأنه لا بأس بوضع الأرغفة والأقراص صحاحاً، غير مكسورة. 27 - ومن حديث أبي أيوب روايتنا المتمة للعشرين والواحدة والعشرين إشارة إلى حكم أكل الثوم، وقد روى البخاري ومسلم "من أكل من هذه الشجرة -يعني الثوم- فلا يأتين المساجد" أو "فلا يقربن مسجدنا" أو "فلا يغشانا في مساجدنا" أو "فلا يقربنا" أو "فلا يصلين معنا" وزاد في رواية "حتى يذهب ريحها" والكلام في هذه المسألة يتشعب إلى شعب: (أ) حكم أكل الثوم ونحوه، وعلاقته بصلاة الجماعة. (ب) علاقته بالمساجد ونحوها. (ج) النيئ والمطبوخ وملحقات الثوم في الحكم. (د) حكم أكله بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم. (هـ) حكمة هذا التشريع، أو علته. (أ) أما عن الشعبة الأولى فيقول النووي: هذا النهي إنما هو عن حضور المسجد، لا عن أكل الثوم والبصل ونحوهما، فهذه البقول حلال بإجماع من يعتد به، وحكى القاضي عياض عن أهل الظاهر تحريمها، لأنها تمنع حضور الجماعة، وحضور الجماعة عندهم فرض عين، وحجة الجمهور قوله صلى الله عليه وسلم في روايتنا المتتمة للعشرين والواحدة والعشرين "أحرام هو؟ قال: لا" وفي بعض روايات البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي أيوب: "كل فإني أناجي من لا تناجي" اهـ وقال ابن دقيق العيد: اللازم أحد أمرين: إما أن يكون أكل هذه الأمور مباحاً، فتكون صلاة الجماعة ليست فرض عين، أو يكون أكلها حراماً، فتكون صلاة الجماعة فرضاً، وجمهور الأمة على إباحة أكلها، فيلزم أن لا تكون الجماعة فرض عين، وتقديره أن يقال أكل هذه الأمور جائز، ومن لوازمه ترك صلاة الجماعة، وترك الجماعة في حق آكلها جائز، ولازم الجائز جائز، وذلك ينافي الوجوب. وأهل الظاهر يقولون: صلاة الجماعة فرض عين، ولا تتم إلا بترك أكل هذه الأمور، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فترك أكلها واجب، فيكون حراماً. لكن ابن حزم -وهو من أئمة الظاهرية- صرح بأن أكلها حلال، مع قوله بأن الجماعة فرض عين، وتخلص عن اللزوم المذكور بأن المنع من أكلها مختص بمن علم بخروج الوقت قبل زوال الرائحة، ونظيره أن صلاة الجمعة فرض عين بشروطها، ومع ذلك تسقط بالسفر، وهو في أصله مباح، لكن يحرم على من أنشأه بعد سماع النداء. وقال الخطابي: توهم بعضهم أن أكل الثوم عذر في التخلف عن الجماعة، وإنما هو عقوبة لآكله على فعله، إذ حرم فضل الجماعة. (ب) ومن الروايات التي ذكرناها يبدو ارتباط أكل الثوم بالمسجد، قال النووي: وهذا

تصريح بنهي من أكل الثوم ونحوه عن دخول كل مسجد، وهذا مذهب العلماء كافة، إلا ما حكاه القاضي عياض عن بعض العلماء أن النهي خاص بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم، لقوله صلى الله عليه وسلم في بعض روايات مسلم "فلا يقربن مسجدنا" وحجة الجمهور رواية "فلا يقربن المساجد" ويوجه الجمهور رواية "مسجدنا" بأنه صلى الله عليه وسلم كان يقصد المكان الذي أعد ليصلي فيه مدة إقامته، عند توجهه إلى خيبر، أو عند عودته منها إلى المدينة وقتما قال هذا القول، أو المراد بالمسجد الجنس، والإضافة إلى المسلمين، أي فلا يقربن مسجد المسلمين. وقد روى البخاري "من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا" قال الحافظ ابن حجر: ليس في هذا تقييد النهي بالمسجد، فيستدل بعمومه على إلحاق المجامع بالمساجد، كمصلى العيد، والجنازة، ومكان الوليمة، وقد ألحقها بعضهم بالقياس، لكن التمسك بهذا العموم أولى، ويؤكده قوله في بعض الروايات "وليقعد في بيته". (ج) وقد روى البخاري أن الراوي قيد النهي عن أكل الثوم بالنيئ منه، غير المطبوخ، وقد روى مسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب في أواخر أيامه، فقال: "ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين، لا أراهما إلا خبيثتين، هذا البصل والثوم، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع، فمن أكلهما فليمتهما طبخاً أي فليمت رائحتهما بالطبخ، ليكسر قوتهما وحدتهما. وقد يطلق النيئ على ما هو أعم من ذلك، وهو ما لم ينضج، فيدخل فيه ما طبخ قليلاً، ولم يبلغ النضج، لكن ظاهر حديث أبي أيوب أن الثوم كان مطبوخا، وامتنع منه صلى الله عليه وسلم، فقيل: إنه لم يكن تام النضج، ظاهر الرائحة، ورد هذا بأنه صلى الله عليه وسلم قال لغيره: كل. فلو كان نيئاً لم يأمر بأكله من سيحضر الجماعات. قال الحافظ ابن حجر: ولا تعارض بين امتناعه صلى الله عليه وسلم من أكل الثوم وغيره مطبوخاً، وبين إذنه لهم في أكل ذلك مطبوخاً، فقد علل ذلك بقوله "إني لست كأحد منكم" وترجم ابن خزيمة على حديث أبي أيوب: ذكر ما خص الله نبيه به، من ترك أكل الثوم ونحوه مطبوخاً. ويلحق بالثوم في حكم النهي عن أكله البصلة والكراث، فعند مسلم عن جابر رضي الله عنه قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل البصل والكرات" وفي الطبراني الصغير التنصيص على ذكر الفجل في الحديث، وعن مالك: الفجل إن كان يظهر ريحه فهو كالثوم، وقيده القاضي عياض بالجشاء. وألحق بعضهم بذلك من بفيه بخر، أو به جرح له رائحة، وألحق بعض الشافعية المجذوم بآكل الثوم في المنع من المسجد، وزاد بعضهم فألحق أصحاب الصنائع ذات الروائح الكريهة كالسماك وأصحاب العاهات، ومن يؤذي الناس بلسانه أو بحركاته، وأشار ابن دقيق العيد إلى أن ذلك كله توسع غير مرض. (د) وأما عن الشعبة الرابعة فيقول النووي: وقد اختلف أصحابنا في الثوم. هل كان حراماً على

رسول الله صلى الله عليه وسلم أم كان يتركه تنزهاً؟ . اهـ احتج القائلون بالتحريم بقوله صلى الله عليه وسلم "فإني أناجي من لا تناجي" فالعلة في المنع ملازمة الملك له صلى الله عليه وسلم، وما من ساعة إلا وملك يمكن أن يلقاه فيها، واحتج القائلون بالكراهة -وهو الأصح- بقوله صلى الله عليه وسلم -فيما رواه مسلم- "أيها الناس، إنه ليس لي تحريم ما أحل الله لي، ولكنها شجرة أكره ريحها؟ وبقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي أيوب، روايتنا الواحدة والعشرين، حين قال له أبو أيوب: أحرام هو؟ قال "لا. ولكني أكرهه" ومن قال بالتحريم يقول: المراد ليس لي أن أحرم على أمتي ما أحل الله لها، ويقول: أحرام هو علينا؟ قال: لا، أي ليس حراماً عليكم. وهو تأويل بعيد. (هـ) والحكمة في النهي عن الثوم ونحوه عند الجماعات حماية الجماعة من التأذي بالرائحة الكريهة، وهذا ظاهر من قوله "فيعتزلنا" و"فلا يقربن مسجدنا" و"ليقعد في بيته" وقيل: كراهة تأذي الملائكة، فقد روى مسلم "من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم". والتعليل الأول أصح، فإن بعض الملائكة يلازم ابن آدم حين يأكل الثوم، وحين يعده للطهي. والله أعلم. 28 - ويؤخذ أيضاً من حديث أبي أيوب من قوله "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتي بطعام أكل منه، وبعث بفضله إلي" أنه يستحب للآكل والشارب أن يفضل مما يأكل ويشرب، فضلة يواسي بها من بعده، لاسيما إن كان ممن يتبرك بفضلته، وكذا إذا كان في الطعام قلة، ولهم إليه حاجة، ويتأكد هذا في حق الضيف، لاسيما إذا كانت عادة أهل الطعام أن يخرجوا كل ما عندهم، وتنتظر عيالهم الفضلة، كما يفعله كثير من الناس، ونقلوا أن السلف كانوا يستحبون إفضال هذه الفضلة المذكورة. قاله النووي. 29 - وفيه منقبة عظيمة لأبي أيوب الأنصاري، حيث نزل صلى الله عليه وسلم عنده. 30 - وأدب أبي أيوب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث نزل إلى السفل، ووافق رسول الله صلى الله عليه وسلم في ترك أكل الثوم. 31 - وفيه إجلال أهل الفضل، والمبالغة في الأدب معهم. 32 - وفيه التبرك بآثار أهل الخير في الطعام وغيره. والله أعلم

(564) باب إكرام الضيف وإيثاره، وطعام الاثنين كافي الثلاثة والمؤمن يأكل في معي واحد، وكراهة عيب الطعام

(564) باب إكرام الضيف وإيثاره، وطعام الاثنين كافي الثلاثة والمؤمن يأكل في معي واحد، وكراهة عيب الطعام 4692 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني مجهود. فأرسل إلى بعض نسائه فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء. ثم أرسل إلى أخرى فقالت: مثل ذلك. حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء. فقال: "من يضيف هذا الليلة رحمه الله" فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله. فانطلق به إلى رحله. فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: لا. إلا قوت صبياني. قال: فعلليهم بشيء، فإذا دخل ضيفنا، فأطفئ السراج، وأريه أنا نأكل. فإذا أهوى ليأكل، فقومي إلى السراج حتى تطفئيه. قال: فقعدوا، وأكل الضيف. فلما أصبح، غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال "قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة". 4693 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً من الأنصار بات به ضيف. فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه. فقال لامرأته: نومي الصبية. وأطفئ السراج. وقربي للضيف ما عندك. قال: فنزلت هذه الآية {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} [الحشر/ 9]. 4694 - وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضيفه. فلم يكن عنده ما يضيفه. فقال "ألا رجل يضيف هذا رحمه الله" فقام رجل من الأنصار، يقال له أبو طلحة فانطلق به إلى رحله. وساق الحديث بنحو حديث جرير. وذكر فيه نزول الآية كما ذكره وكيع. 4695 - عن المقداد رضي الله عنه قال: أقبلت أنا وصاحبان لي. وقد ذهبت أسماعنا وأبصارنا من الجهد. فجعلنا نعرض أنفسنا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فليس أحد منهم يقبلنا. فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم. فانطلق بنا إلى أهله، فإذا ثلاثة أعنز. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "احتلبوا هذا اللبن بيننا" قال: فكنا نحتلب فيشرب كل إنسان منا نصيبه، ونرفع للنبي صلى الله عليه وسلم نصيبه. قال: فيجيء من الليل فيسلم تسليماً لا يوقظ نائماً، ويسمع اليقظان. قال: ثم يأتي المسجد فيصلي. ثم يأتي شرابه فيشرب. فأتاني الشيطان ذات ليلة وقد شربت نصيبي. فقال: محمد يأتي الأنصار فيتحفونه ويصيب عندهم. ما به حاجة إلى هذه الجرعة. فأتيتها فشربتها. فلما أن وغلت في بطني، وعلمت أنه ليس إليها سبيل. قال: ندمني الشيطان فقال: ويحك ما صنعت؟ أشربت شراب محمد، فيجيء فلا يجده؛ فيدعو عليك؛ فتهلك، فتذهب دنياك وآخرتك. وعلي شملة إذا وضعتها على قدمي خرج رأسي، وإذا وضعتها على رأسي خرج قدماي. وجعل لا يجيئني النوم. وأما صاحباي فناما ولم يصنعا ما صنعت. قال: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فسلم كما كان يسلم. ثم أتى المسجد فصلى. ثم أتى شرابه فكشف عنه، فلم يجد فيه شيئاً فرفع رأسه إلى السماء. فقلت: الآن يدعو علي فأهلك. فقال "اللهم أطعم من أطعمني، وأسق من أسقاني، قال: فعمدت إلى الشملة فشددتها علي، وأخذت الشفرة فانطلقت إلى الأعنز، أيها أسمن فأذبحها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هي حافلة، وإذا هن حفل كلهن. فعمدت إلى إناء لآل محمد صلى الله عليه وسلم، ما كانوا يطمعون أن يحتلبوا فيه. قال: فحلبت فيه حتى علته رغوة. فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أشربتم شرابكم الليلة؟ " قال: قلت: يا رسول الله، اشرب. فشرب. ثم ناولني. فقلت: يا رسول الله اشرب. فشرب. ثم ناولني. فلما عرفت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد روي، وأصبت دعوته، ضحكت حتى ألقيت إلى الأرض. قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إحدى سوآتك يا مقداد" فقلت: يا رسول الله، كان من أمري كذا وكذا، وفعلت كذا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "ما هذه إلا رحمة من الله. أفلا كنت آذنتني فنوقظ صاحبينا فيصيبان منها؟ " قال: فقلت: والذي بعثك بالحق ما أبالي إذا أصبتها وأصبتها معك من أصابها من الناس. 4696 - عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثين ومائة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "هل مع أحد منكم طعام؟ " فإذا مع رجل صاع من طعام أو

نحوه فعجن. ثم جاء رجل مشرك مشعان طويل بغنم يسوقها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أبيع أم عطية -أو قال- أم هبة؟ " فقال: لا بل بيع. فاشترى منه شاة. فصنعت. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسواد البطن أن يشوى. قال: وايم الله، ما من الثلاثين ومائة إلا حز له رسول الله صلى الله عليه وسلم حزة حزة من سواد بطنها. إن كان شاهداً أعطاه، وإن كان غائباً خبأ له. قال: وجعل قصعتين فأكلنا منهما أجمعون وشبعنا. وفضل في القصعتين، فحملته على البعير. أو كما قال. 4697 - عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما أن أصحاب الصفة كانوا ناساً فقراء. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مرة "من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثلاثة. ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس بسادس" أو كما قال: وإن أبا بكر جاء بثلاثة. وانطلق نبي الله صلى الله عليه وسلم بعشرة. وأبو بكر بثلاثة. قال: فهو وأنا وأبي وأمي. ولا أدري هل قال: وامرأتي وخادم بين بيتنا وبيت أبي بكر. قال: وإن أبا بكر تعشى عند النبي صلى الله عليه وسلم. ثم لبث حتى صليت العشاء. ثم رجع فلبث حتى نعس رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاء بعدما مضى من الليل ما شاء الله. قالت له امرأته: ما حبسك عن أضيافك -أو قالت ضيفك؟ قال: أو ما عشيتهم؟ قالت: أبوا حتى تجيء. قد عرضوا عليهم فغلبوهم. قال: فذهبت أنا فاختبأت. وقال: يا غنثر، فجدع وسب. وقال: كلوا. لا هنيئاً. وقال: والله، لا أطعمه أبداً. قال: فايم الله، ما كنا نأخذ من لقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها. قال: حتى شبعنا وصارت أكثر مما كانت قبل ذلك. فنظر إليها أبو بكر فإذا هي كما هي أو أكثر. قال لامرأته: يا أخت بني فراس، ما هذا؟ قالت: لا. وقرة عيني، لهي الآن أكثر منها قبل ذلك بثلاث مرار. قال: فأكل منها أبو بكر وقال: إنما كان ذلك من الشيطان. يعني يمينه. ثم أكل منها لقمة. ثم حملها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصبحت عنده. قال: وكان بيننا وبين قوم عقد فمضى الأجل فعرفنا اثنا عشر رجلاً. مع كل رجل منهم أناس الله. أعلم كم مع كل رجل. إلا أنه بعث معهم فأكلوا منها أجمعون. أو كما قال. 4698 - عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما قال: نزل علينا أضياف لنا. قال: وكان أبي يتحدث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل. قال: فانطلق وقال: يا عبد الرحمن، افرغ من أضيافك. قال: فلما أمسيت جئنا بقراهم. قال: فأبوا. فقالوا: حتى يجيء

أبو منزلنا فيطعم معنا. قال: فقلت لهم: إنه رجل حديد. وإنكم إن لم تفعلوا خفت أن يصيبني منه أذى. قال: فأبوا فلما جاء لم يبدأ بشيء أول منهم. فقال: أفرغتم من أضيافكم؟ قال: قالوا: لا. والله، ما فرغنا. قال: ألم آمر عبد الرحمن؟ قال: وتنحيت عنه. فقال: يا عبد الرحمن. قال: فتنحيت. قال: فقال: يا غنثر، أقسمت عليك إن كنت تسمع صوتي إلا جئت. قال: فجئت فقلت: والله، ما لي ذنب. هؤلاء أضيافك فسلهم قد أتيتهم بقراهم فأبوا أن يطعموا حتى تجيء. قال: فقال: ما لكم أن لا تقبلوا عنا قراكم. قال: فقال أبو بكر: فوالله لا أطعمه الليلة. قال: فقالوا: فوالله، لا نطعمه حتى تطعمه. قال: فما رأيت كالشر كالليلة قط. ويلكم ما لكم أن لا تقبلوا عنا قراكم. قال: ثم قال: أما الأولى فمن الشيطان. هلموا قراكم. قال: فجيء بالطعام فسمى فأكل وأكلوا. قال: فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، بروا وحنثت. قال: فأخبره فقال: "بل أنت أبرهم وأخيرهم" قال: ولم تبلغني كفارة. 4699 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طعام الاثنين كافي الثلاثة. وطعام الثلاثة كافي الأربعة". 4700 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "طعام الواحد يكفي الاثنين وطعام الاثنين يكفي الأربعة وطعام الأربعة يكفي الثمانية" وفي رواية إسحق: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. لم يذكر: سمعت. 4701 - عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طعام الواحد يكفي الاثنين. وطعام الاثنين يكفي الأربعة". 4702 - عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "طعام الرجل يكفي رجلين. وطعام رجلين يكفي أربعة. وطعام أربعة يكفي ثمانية".

4703 - عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "طعام الرجل يكفي رجلين. وطعام رجلين يكفي أربعة. وطعام أربعة يكفي ثمانية". 4704 - عن نافع قال: رأى ابن عمر مسكيناً، فجعل يضع بين يديه، ويضع بين يديه. قال: فجعل يأكل أكلاً كثيراً. قال: فقال: لا يدخلن هذا علي؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الكافر يأكل في سبعة أمعاء". 4705 - عن جابر وابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن يأكل في معي واحد. والكافر يأكل في سبعة أمعاء". 4706 - عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن يأكل في معي واحد. والكافر يأكل في سبعة أمعاء". 4707 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضافه ضيف، وهو كافر، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة فحلبت. فشرب حلابها. ثم أخرى فشربه. ثم أخرى فشربه. حتى شرب حلاب سبع شياه. ثم إنه أصبح فأسلم. فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة. فشرب حلابها. ثم أمر بأخرى. فلم يستتمها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن يشرب في معي واحد. والكافر يشرب في سبعة أمعاء". 4708 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً قط. كان إذا اشتهى شيئاً أكله. وإن كرهه تركه.

4709 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عاب طعاماً قط. كان إذا اشتهاه أكله. وإن لم يشتهه سكت. -[المعنى العام]- جاء الإسلام والعرب يكرمون الضيف، ويحتفلون به، بل ويعلنون عن أنفسهم لاستضافة من يرغب في الضيافة، ويعدون إكرام الضيف من مفاخرهم، ومن أمهات مكارم أخلاقهم، والرسالات السابقة وفي مقدمتها شريعة إبراهيم -عليه السلام- اهتمت بالضيف، وحثت على الإحسان إليه، وامتدحت من يكرمه، فهذا القرآن الكريم يقول: {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين* إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال سلام قوم منكرون* فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين* فقربه إليهم} [الذاريات: 24 - 27] وجاء الإسلام فأكد هذه الشريعة، وجعلها من الإيمان، فيقول صلى الله عليه وسلم "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه" ولم يكتف بهذا، بل جعل الضيافة حقاً واجباً للضيف على من ينزل به، فقد روى البخاري عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه قال: قلنا يا رسول الله، إنك تبعثنا فننزل بقوم، فلا يقروننا. فما ترى؟ فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فأقبلوا، فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم" بل قعد للضيافة قواعد وقوانين، ففي الصحيح "جائزة الضيف يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام، فما زاد بعد ذلك فهو صدقة، ولا يحل له أن يثوى عنده حتى يحرجه" أي إكرامه حق يوماً وليلة، فيتحفه صاحب البيت، ويتكلف له في اليوم الأول، ويقدم له طعام البيت العادي وما حضر يومين، فإذا قضى الثلاث فقد قضى حقه، فما زاد وعليها مما يقدمه له يكون صدقة، وإذا كان هذا واجب صاحب البيت فواجب الضيف أن يكون خفيف الظل، لا يقيم فوق الحاجة، ولا يتطلع إلى زيادة الإتحاف، ولا إلى عورات البيت الذي يؤويه، وقد سبقت بعض آداب الضيافة في الباب الماضي، وفي هذا الباب حقوق أخرى. فعلى الرغم من ضيق حال المسلمين في أوائل الإسلام كانوا يؤثرون الضيف على أنفسهم وعلى صغارهم، فهذا الأنصاري، قد علم أن ضيفاً حاول الرسول صلى الله عليه وسلم استضافته، فلم يجد في بيت من بيوت أمهات المؤمنين سوى الماء، فتقدم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يعرض استضافته، وينطلق به إلى رحله وبيته، فيسأل زوجته: ماذا عندك من طعام لضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فتجيبه: ليس عندنا سوى ما يكفينا وصبيتنا مع التضييق علينا وعليهم، ولو قدمناه للضيف وحده ما كفاه، وكيف نفعل مع أولادنا الصغار الجياع؟ فقال لها زوجها: عللي الأطفال ومنيهم بالطعام، وضعي ماء على النار، توهمينهم أنه طعام ينضج، حتى يناموا بدون الطعام، وأوقدي المصباح، لنستقبل الضيف في نور لا يحس معه ضيق

الحال، فإذا دخل مكان الطعام فأطفئي المصباح، كأن الهواء أطفأه، ثم أوقديه، ثم أطفئيه، فأقول لك: لا داعي للمصباح مادام الهواء لا يبقيه، ثم ضعي الطعام في الظلام بين يدي الضيف، ولنقعد مع الضيف أنا وأنت نمثل من يأكل ولا نأكل، حتى يشبع الضيف، وتم للأنصاري ما أراد، ونام هو وزوجته وأطفاله من غير عشاء، فلما أصبح ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان الوحي قد نزل بأن الله قد عجب لحيلة الأنصاري مع ضيفه في هذه الليلة، وأنزل الله تعالى فيه: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} [الحشر: 9]. وحادثة أخرى يحكيها المقداد بن الأسود، لقد ضاق به وبقومه الحال، حتى عاشوا يومين بل ثلاثة دون طعام، فآووا إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو واثنان من أصحابه، يختلون بواحد واحد من المصلين، يشكون له جوعهم، ويطلبون منه الطعام، فقد ضاعت أسماعهم وضعفت أبصارهم من الجوع، لكن فاقد الشيء لا يعطيه، كان كل واحد ممن عرضوا أنفسهم عليهم لا يملك الطعام لنفسه، فضلاً عن ضيفه، فلجئوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذهم إلى بيت من بيوت أمهات المؤمنين، وفيه ثلاثة أعنز، كان أحد الأنصار الأغنياء قد منحه إياها، ليحلب لبنها ويشربه أياماً، ثم يعيدها، فقال لهم: احتلبوا لبن هذه الأعنز كل ليلة، وقسموه بيني وبينكم، لكل ربعه، فكانوا يحلبون ويشرب كل منهم نصيبه ويحتفظون للنبي صلى الله عليه وسلم بنصيبه، حتى يعود بعد صلاة العشاء فيشربه، ووسوس الشيطان ذات ليلة للمقداد، وقد شرب نصيبه فلم يشبع، وطمع في شرب نصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت له نفسه وشيطانه: محمد صلى الله عليه وسلم يعتز به الأنصار، ويتبركون باستضافته، ويتقربون بإكرامه، فلن يجوع إذا شربت نصيبه، فشرب نصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما استقر اللبن في بطنه، وقضى الأمر، أخذ الشيطان يلومه، ويخوفه من فعلته، لا ليستغفر منها، ويندم عليها، ولكن ليوقعه في معصية أخرى، فزين له أن يعالج الخطأ بخطأ أكبر، يعالج ضياع جرعة اللبن التي فقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بذبح العنز الذي تسقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله كل يوم، ثم هي ليست ملكاً له، ولا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هي أمانة ومنيحة "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى مالك العنز عن ذبح الحلوب، فكيف بمن لا يملكها؟ كيف يذبحها؟ لكن للشيطان أساليبه، لقد غرر به أن ذبح العنز إنما هو من أجل إطعام الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد سمعه يقول: اللهم أطعم من أطعمني" لكن العناية الإلهية ردت كيد الشيطان، لقد ذهب يتحسس في الظلام أي الأعنز أسمن ليذبحها، وفي يده السكين، لكنه فوجئ بيده تلمس ضرعاً مليئاً باللبن، وتحسس العنز الأخرى فإذا ضرعها يكاد ينفجر من انتفاخه باللبن، ثم الثالثة كذلك. ضرع الأعنز مليء باللبن، ولم يمض على حلبها ساعات؟ إنها لأمر خارق للعادة، فليبحث عن إناء كبير يحلب فيه، ووجده وحلب حتى ملأه، ووصل زبد اللبن إلى حافته، وذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشرب، صلى الله عليه وسلم، ثم ناوله الإناء فشرب، ثم شرب، حتى أتى على اللبن كله، ثم استلقى على الأرض ضاحكاً، وفهم صلى الله عليه وسلم أن في الأمر سراً، فقال: إنك يا مقداد -لا محالة- فعلت فعلة فما هي؟ فقص عليه غواية الشيطان، فقال صلى الله عليه وسلم: إنها رحمة الله. أدركتك، وأدركتني، وقد كان عليك أن تخبرني قبل أن ينفد اللبن لنوقظ صاحبينا، فيشاركانا شربه. قال: يا رسول الله، لا يهمني أصحابي، بل لا تهمني الدنيا بعد أن حصلت على دعوتك، فأطعمتك وسقيتك.

قصة ثالثة تؤكد عناية الإسلام بالضيافة، وتكافل المسلمين، ومسارعتهم لاستضافة المحتاجين، كانت الصفة، المكان المظلل، خلف مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مأوى الفقراء والمحتاجين والأضياف الغرباء الذين لا يعرفون أحداً من أهل المدينة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعرضهم بعد صلاة المغرب، فيطلب من المصلين القادرين أن يصحب كل واحد منهم واحداً من أهل الصفة يستضيفه، وكان يقول: من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، فطعام الاثنين يكفي ثلاثة مع البركة والقناعة، ومن كان عنده طعام ثلاثة فليذهب برابع، فطعام الثلاثة كافي الأربعة، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس، فطعام الأربعة يكفي خمسة، ومن كان عنده طعام خمسة فليذهب بسادس، فطعام الخمسة يكفي ستة. وفي ليلة من ليالي الجدب والقحط كثر أهل الصفة، حتى فاض العدد عن المصلين، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة، وأخذ أبو بكر ثلاثة، أوصلهم إلى بيته، وقال لابنه عبد الرحمن وامرأته أم رومان: قوموا بواجب الضيافة والإكرام وأتحفوهم حتى أعود، فإن معي شغلاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام عبد الرحمن وأمه وزوجته وخادمتهم بإعداد الطعام، ثم قدموه إلى الأضياف، فقال الأضياف: أين صاحب البيت؟ أين الرجل الكبير ليأكل معنا؟ إننا ما فرحنا بهذه الضيافة إلا لنتبرك بالأكل مع أبي بكر، والله لا نأكل حتى يحضر ويأكل معنا. قال لهم عبد الرحمن: أرجوكم وأتوسل إليكم أن تأكلوا طعامكم، فإن صاحب البيت رجل شديد في واجبات الضيوف، وأخشى أن يصيبني منه ما أكره إن لم تأكلوا، إنه سيظن بي تقصيراً في إكرامكم، فلم يسمعوا توسلاته، ولم يأكلوا. وجاء أبو بكر بعد ما مضى كثير من الليل، فكان أول شيء تكلم به أن سأل عن ضيوفه، قال لامرأته: هل عشيتم الضيوف؟ قالت له: ما أخرك عن ضيوفك؟ قال: أقول: هل عشيتموهم؟ قالت: أبوا وحاولنا معهم، فغلبونا، وأصروا على عدم الأكل حتى تأكل معهم، أما عبد الرحمن فقد اختبأ من أبيه، يخشى غضبه، نادى أبوه: يا عبد الرحمن. فلم يرد. يا عبد الرحمن. فلم يرد. يا عبد الرحمن. أقسمت عليك إلا جئت إن كنت تسمع ندائي، وجاء يرتجف، يقول: والله ما لي ذنب، هؤلاء ضيوفك فسلهم، قد قدمنا لهم الطعام، فأبوا أن يأكلوا حتى تأكل معهم، توجه إليهم أبو بكر يقول: ما لكم لم تقبلوا طعامنا؟ ما لكم لم تأكلوا؟ قالوا: لن نأكل حتى تأكل معنا. قال أبو بكر -وقد اشتد به الغضب- فوالله لن آكل هذا الطعام الليلة، قال الأضياف: ونحن والله لن نذوقه حتى تأكل معنا. وسكت أبو بكر يكظم غيظه، ويهدئ غضبه، ويستعيذ من الشيطان الرجيم، وفضل أن يتراجع، وأن يكفر عن يمينه، فدعا بالطعام، وجلس يأكل معهم، ونزلت البركة من الله في الطعام كرامة لأبي بكر، فأكلوا حتى شبعوا والقصعات كما هي، كلما رفعت منها لقمة زادت القصعة مثلها، قال أبو بكر لامرأته: يا أم رومان. ماذا أرى؟ هل ترين ما أرى؟ قالت: نعم القصعتان كما هما، بل أكثر مما كانا. أصبح أبو بكر يحمل القصعتين وخبرهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان جيش المسلمين يستعد لغزوة مجتمعا يقوده اثنا عشر قائداً، فوضعت القصعتان بين يدي الجنود فأكلوا منها جميعاً حتى شبعوا، وكانت بركة النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزة من معجزاته المشهورة في تكثير الطعام. وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمن

عامة على القناعة وعدم الشره في الطعام، فأشار إلى أن المؤمن يأكل بقناعة، ويبارك له في أكله، أما الكافر فيأكل بشره كالأنعام، حتى يملأ بطنه، فقال: "المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء". وإذا كان الشرع قد عني بالضيف وحقه لدى المضيف فقد حث الضيف على أن يرضى بما يقدم إليه، ولا يعيبه، فما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً قط، كان إذا قدم إليه طعام، إن اشتهاه وقبلته نفسه أكله، وإن لم يشتهه، ولم تقبل عليه نفسه سكت وتركه، ولم يعبه، فما لا تشتهيه نفسك قد تشتهيه نفس غيرك. فما أجمل آداب الإسلام، وما أعظم المسلمين الأولين. -[المباحث العربية]- (فقال: إني مجهود) أي أصابني الجهد، بفتح الجيم وسكون الهاء، وهو المشقة والجوع، يقال: جهد فلان يجهد، بفتح الهاء فيهما، جهداً بفتح الجيم إذا بلغ المشقة، وجهد الناس، بضم الجيم وكسر الهاء، أجدبوا، فهم مجهودون، ويقال جهد العيش بفتح الجيم وكسر الهاء يجهد بفتح الهاء، جهداً بفتح الهاء، أي ضاق واشتد، والجهد بضم الجيم وسكون الهاء الوسع والطاقة. (فأرسل إلى بعض نسائه) أي إلى إحدى نسائه، والمرسل من أجله محذوف للعلم به من المقام، أي أرسل إليها، يسألها عما عندها من طعام أو شراب. (حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا. والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء) "لا" والذي بعثك بالحق ... " إلى أخره تفسير لقوله "مثل ذلك" فهو بدل. (من يضيف هذا الليلة رحمه الله) "يضيف" بضم الياء، من الرباعي، يقال: ضاف فلاناً، يضيفه، بفتح الياء، إذا نزل عنده ضيفاً، وأضاف فلاناً إذا أنزله ضيفاً عنده، فالمعنى من ينزل هذا عنده الليلة ضيفاً؟ وجملة "رحمه الله" خبرية لفظاً، دعائية معنى، أي أسأل الله له الرحمة، ويجوز أن تكون "من" موصولة، مبتدأ، وجملة "رحمه الله" خبر، وسواء كانت خبرية لفظاً ومعنى، أو دعائية معنى، ولفظ "ضيف" يكون واحداً وجمعاً، وجمع الكثرة ضيوف وضيفان. (فقال رجل من الأنصار) قال الحافظ ابن حجر: زعم ابن التين أنه ثابت بن قيس بن شماس، ولكن سياق قصة قيس يشعر بأنها قصة أخرى، لأن لفظها "أن رجلاً من الأنصار مر عليه ثلاثة أيام، لا يجد ما يفطر عليه، ويصبح صائماً، حتى فطن له رجل من الأنصار، يقال له ثابت بن قيس .... القصة. وهذا لا يمنع من التعدد في الصنيع مع الضيف، وفي نزول الآية، وقيل: هو عبد الله بن رواحة. قال: والصواب الذي يتعين الجزم به في حديث أبي هريرة ما وقع عند مسلم [روايتنا الثالثة] بلفظ "فقام

رجل من الأنصار، يقال له: أبو طلحة ... " وبذلك جزم الخطيب، لكنه قال: أظنه غير أبي طلحة زيد بن سهل المشهور، وكأنه استبعد ذلك من وجهين: أحدهما أن أبا طلحة زيد بن سهل مشهور، لا يحسن أن يقال فيه "فقام رجل يقال له أبو طلحة" والثاني أن سياق القصة يشعر بأنه لم يكن عنده ما يتعشى به هو وأهله، حتى احتاج إلى إطفاء السراج، وأبو طلحة زيد بن سهل كان أكثر أنصار المدينة مالاً، فيبعد أن يكون بتلك الصفة من التقلل، ويمكن الجواب عن الاستبعادين. اهـ ويمكن الجواب عن الاستبعاد الأول باحتمال كون الرجل المشهور عند الناس غير مشهور عند أبي هريرة، وأبو هريرة في ذلك الوقت كان جديداً على أهل المدينة، وعن الاستبعاد الثاني باحتمال أن يكون بيت الغني خالياً في ليلة لأمر ما. والله أعلم. (فانطلق به إلى رحله) أي إلى منزله، ورحل الإنسان هو منزله الذي يرحل إليه بعد السعي والتنقل، سواء كان من حجر أو مدر أو شعر أو وبر، وفي كتب اللغة: الرحل مسكن الإنسان. (إلا قوت صبياني) لم تذكر نفسها وزوجها، ربما لأنهما كانا قد تعشيا، وكان صبيانهما حين عشائهما في شغلهم أو نياماً، فأخرا لهم ما يكفيهم، ويحتمل أنها نسبت العشاء إلى الصبية لأنهم أشد طلباً إليه، قال الحافظ: وهذا هو المعتمد، لقوله في رواية "ونطوي بطوننا الليلة" وفي آخر هذه الرواية "فأصبحا طاويين" وعند مسلم -روايتنا الثانية "فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه". (قال: فعلليهم بشيء) في الرواية الثانية "نومي الصبية" يقال علله بشيء إذا شغله به وألهاه. والمعنى اشغليهم عن طلب الطعام حتى يناموا. (فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج، وأريه أنا نأكل، فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج، حتى تطفئيه) في الرواية الثانية "نومي الصبية، وأطفئي السراج، وقربي للضيف ما عندك" وفي رواية البخاري "هيئي طعامك، وأصبحي سراجك، أي أوقديه -ونومي صبيانك إذا أرادوا عشاء، فهيأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان" والحاصل أنها أوقدت السراج، ليدخل الضيف في النور، وقدمت الطعام بين يديه، ثم قامت إلى السراج كأنها تصلحه فأطفأته، ثم تظاهرت بأنها تحاول إصلاحه فلا يصلح، فيقول لها زوجها: دعيه وتعالي نأكل، فيتظاهران بالأكل في الظلام ولا يأكلان. (فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم) أي أصبح إليه، وبكر للقائه. (قد عجب الله من صنيعكما -الليلة) في رواية "بصنيعكما" فالباء للسببية، وفي رواية للبخاري "ضحك الله الليلة -أو عجب من فعالكما" قال الحافظ ابن حجر: نسبة الضحك والتعجب إلى الله مجازية، والمراد بهما الرضا بصنيعهما. اهـ وقال القاضي عياض: المراد بالعجب من الله الرضا، وقد يكون المراد: عجبت ملائكة الله، وأضافه إليه سبحانه وتعالى تشريفاً، ويقول السلف: ضحك تعالى وعجب ضحكاً وعجباً يليق بجلاله عز

وجل، والكلام في الصفات كالكلام في الذات، إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11]. فنزلت هذه الآية {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} هذا هو الأصح في سبب نزول الآية، وعند ابن مردويه عن ابن عمر "أهدي لرجل رأس شاة، فقال: إن أخي وعياله أحوج منا إلى هذا، فبعث به إليه، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر، حتى رجعت إلى الأول بعد سبعة، فنزلت" ويحتمل أن يتعدد السبب لنازل واحد. (أقبلت أنا وصاحبان لي) أي من محل إقامتنا إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ويبدو أن هذا القدوم كان في وقت مجاعة، فإن المقداد بن الأسود كان فارساً يوم بدر، حتى لم يثبت أن أحداً كان على فرس يوم بدر غيره. (فجعلنا نعرض أنفسنا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) "جعل" هنا من أفعال الشروع، أي أخذنا وشرعنا نعرض أنفسنا جياعا، نطلب أن يضيفنا أحد منهم. (فليس أحد منهم يقبلنا) لعدم امتلاكه قراناً وطعامنا، وهذا محمول على أن الذين عرضوا أنفسهم عليهم كانوا مقلين ليس عندهم شيء يواسون به. (فانطلق بنا إلى أهله) أي إلى بيت إحدى أمهات المؤمنين، والجملة معطوفة على محذوف، أي فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرناه بحالنا، فانطلق بنا. (فإذا ثلاثة أعنز) جمع عنز، أي فاجأنا في بيته ثلاثة من العنز. (احتلبوا هذا اللبن بيننا) الإشارة إلى اللبن في ضرع الأعنز، أي احتلبوه، واجعلوه بيننا، أنا وأنتم الثلاثة، كل واحد منا له شرب، والظاهر أنه لم يشرك في هذا اللبن زوجه صاحبة البيت، ويبدو أنهم أقاموا في جانب من هذا البيت، يشربون من ألبان الأعنز ليالي وأياماً. (ونرفع للنبي صلى الله عليه وسلم نصيبه) أي ونحتفظ له بنصيبه حتى يعود ليلاً. (فيجيء من الليل، فيسلم تسليماً لا يوقظ نائماً ويسمع اليقطان، ثم يأتي المسجد، فيصلي، ثم يأتي شرابه) الظاهر أن المجيء الأول كان في أول الليل من شغله صلى الله عليه وسلم إلى بيته قبل صلاة العشاء، وكان يؤخرها أحياناً، فينام بعض الناس. (فأتاني الشيطان ذات ليلة) أي وسوس لي، وفي القرآن الكريم على لسان إبليس {ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم} [الأعراف: 17]. (فقال) أي فقال الشيطان في وسوسته لي:

(محمد يأتي الأنصار) أي كرماء الأنصار وأغنياءهم، زائراً، أو مدعوا، أو لمصلحة. (فيتحفونه) أي يكرمونه، ويقدمون له أعز ما عندهم من طعام وشراب، حباً وتقديراً وتبركاً. (فيصيب عندهم) المفعول محذوف، أي فيصيب طعاماً وشراباً عندهم. (ما به حاجة إلى هذه الجرعة) من اللبن، والجرعة بضم الجيم وفتحها مع سكون الراء حكاهما ابن السكيت وغيره، وهي حثوة قدر ما يملأ الفم، والفعل منه جرع يجرع من باب فتح، وجرع يجرع من باب علم. (فلما أن وغلت في بطني، وعلمت أنه ليس إليها سبيل) يقال: وغل في الشيء بفتح الغين يغل بكسرها وغولاً أمعن فيه، ودخل فيه وتوارى وتمكن، والمعنى: فلما دخلت الجرعة بطني وتمكنت، ولم يعد لي عليها سبيل، وقضي الأمر، ولا أستطيع الرجوع فيها. (ندمني الشيطان) بتشديد الدال، أي أخذ يثير الندم في نفسي، ويؤنبني، ويتخلى عني، وهكذا هو، يقول تعالى: {وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي} [إبراهيم: 22]-أي ما أنا بمغيثكم وما أنتم بمغيثي". (وعلى شملة إذا وضعتها على قدمي خرج رأسي، وإذا وضعتها على رأسي خرج قدماي، وجعل لا يجيئني النوم) "جعل" هنا للصيرورة، و"النوم" اسمها مؤخر، و"لا يجيئني" خبرها مقدم، أي وصار النوم لا يجيئني، بسبب قلقي وخوفي وتفكيري، وبسبب غطائي القاصر، والشملة كساء من صوف أو شعر، يتغطى به، ويتلفف به. (وأما صاحباي فناما، ولم يصنعا ما صنعت) حتى يصيبهما القلق مثلي. (ثم أتى شرابه) أي إناء شرابه. (اللهم أطعم من أطعمني، وأسق من أسقاني) التعبير بالماضي بدل المضارع، والمراد: اللهم أطعم من يطعمني، واسق من يسقيني، و"سقى" الثلاثي لازم ومتعد، أما "أسقى" الرباعي فهو متعد. (فعمدت إلى الشملة، فشددتها علي) معطوف على محذوف، أي فقمت ووقفت وقصدت الشملة فالتففت بها. (فانطلقت إلى الأعنز. أيها أسمن فأذبحها) أي قاصداً معرفة الأسمن منها فأذبحها. أو قائلاً في نفسي: أيها أسمن؟ .

(فإذا هي حافلة، وإذا هن حفل كلهن) "هي" ضمير العنز الأسمن وضمير "هن" للأعنز و"حفل" بضم الحاء وتشديد الفاء المفتوحة، والعنز الحافلة باللبن هي التي اجتمع اللبن الكثير في ضرعها. (ما كانوا يطمعون أن يحتلبوا فيه) أي ما كانوا يحلبون فيه، لأنه كبير الحجم واللبن الذي يحلب من الأعنز قليل بالنسبة له. (فحلبت فيه، حتى علته رغوة) بفتح الراء وضمها وكسرها، ثلاث لغات مشهورات، ويقال: رغاوة بكسر الراء، وحكي ضمها، ويقال: رغاية بالضم، وحكي الكسر، وهي زبد اللبن الذي يعلوه. (فلما عرفت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد روى، وأصبت دعوته ضحكت، حتى ألقيت إلى الأرض) "روي" بفتح الراء وكسر الواو وفتح الياء، يروى بفتح الواو، رياً بكسر الراء وفتحها مع تشديد الياء، وروى بكسر الراء وفتح الواو مقصور، شرب حتى شبع، وهو ريان، وهي ريانة ورياً بفتح الراء فيهما. والمراد من دعوته صلى الله عليه وسلم هنا قوله "اللهم أطعم من أطعمني، وأسق من أسقاني" والمعنى أنه كان حزيناً حزناً شديداً بعد ما شرب جرعة اللبن، خوفاً من أن يدعو عليه صلى الله عليه وسلم، فلما علم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد روي وأجيبت دعوته، وأدركها وحصل عليها المقداد، فرح وضحك حتى سقط على الأرض من كثرة ضحكه، لذهاب ما كان به من الحزن، وانقلابه سروراً، ولتعجبه من قبح فعله أولاً، وحسنه آخراً، ومعنى "حتى ألقيت إلى الأرض" بضم الهمزة، مبني للمجهول، أي حتى ألقاني الضحك على الأرض. (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إحدى سوءاتك يا مقداد) أي لا بد أنك فعلت سوءة من سوآتك يا مقداد. فما الأمر؟ . (ما هذه إلا رحمة من الله) الإشارة إلى إحداث اللبن في الأعنز في غير وقته، وعلى غير عادته، والمراد رحمة عظيمة ظاهرة، وإلا فجميع الأمور والنعم بفضل الله ورحمته. (أفلا كنت آذنتني؟ فنوقظ صاحبينا، فيصيبان منها؟ ) الاستفهام إنكاري توبيخي، بمعنى نفي الانبغاء، دخل على نفي، ونفي النفي إثبات، أي كان ينبغي أن تعلمني بالأمر في حينه، قبل أن أشرب، لأدعو بالبركة عليه، فيكفينا وصاحبينا؟ والضمير المؤنث في "منها" يعود إلى الرحمة. (ما أبالي إذا أصبتها وأصبتها معك من أصابها من الناس) أي لا يهمني ولا أعبأ بمن تصيب هذه الرحمة مادمت أنت قد أصبتها، ومادمت أنا قد أصبتها. (ثم جاء رجل مشرك) قال الحافظ ابن حجر: كان هذا الأعرابي وثنياً. (مشعان طويل) بضم الميم وسكون الشين وتشديد النون، قيل: هو الطويل، فيحتمل أن يكون

لفظ "طويل" تفسيراً لمشعان، وقيل: هو الطويل جداً، فوق الطول المعروف، وقيل: هو الطويل شعث الرأس، وقيل: هو الجافي الثائر الرأس. (أبيع؟ أم عطية) المراد من العطية الهبة، كما جاء في شك الراوي. (قال: لا. بل بيع) لا. أي ليس عطية. (فاشترى منه شاة) في رواية "فاشترى منها شاة" أي من الغنم. (فصنعت) أي فذبحت وسلخت، وأخرج كرشها وصنف. (وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسواد البطن أن يشوى) "سواد البطن" هو الكبد، أو كل ما في البطن من كبد ورئتين وقلب وكليتين وغير ذلك. (ما من الثلاثين ومائة إلا حز له رسول الله صلى الله عليه وسلم حزة حزة من سواد بطنها) الحزة بضم الحاء القطعة من اللحم وغيره، يقال: حزه، يحزه حزاً قطعه ولم يفصله. (إن كان شاهداً أعطاه) المفعول الثاني محذوف أي إن كان حاضراً القطع أعطاه قطعة، وفي رواية للبخاري "إن كان شاهداً أعطاها إياه" قال الحافظ ابن حجر: وهو من القلب، أي جعل المفعول الثاني أولاً، والأول ثانياً، وأصله أعطاه إياها. (فأكلنا منهما أجمعون) يحتمل أن يكونوا اجتمعوا على القصعتين، فيكون فيه معجزة أخرى، لكونهما وسعتا أيدي القوم، ويحتمل أن يريد أنهم أكلوا كلهم من القصعتين في الجملة، أعم من الاجتماع والافتراق. (وفضل في القصعتين، فحملته على البعير) أي وفضل في القصعتين طعام، فحمله في القصعتين، وفي رواية للبخاري "ففضلت القصعتان فحملناه" ومعناها: وفضلت القصعتان فيهما طعام، فالضمير أيضاً للطعام الباقي فيهما، ولو أراد القصعتين لقال: حملناهما. (أو كما قال) شك من الراوي في بعض الألفاظ، أهي بلفظها أم بمعناها؟ (إن أصحاب الصفة كانوا ناساً فقراء) الصفة مكان كان في مؤخر المسجد النبوي، مظلل، أعد لنزول الغرباء فيه، ممن لا مأوى له ولا أهل، وكانوا يكثرون فيه ويقلون، بحسب من يتزوج منهم أو يموت أو يسافر، وقد سرد أسماءهم أبو نعيم في الحلية، فزادوا على المائة، وكان منهم أبو هريرة، كان الرجل إذا قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وكان له بالمدينة عريف نزل عليه، فإذا لم يكن له عريف نزل مع أصحاب الصفة، يقول أبو هريرة، وكنا إذا أمسينا حضرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأمر كل رجل، فينصرف برجل أو أكثر، فيبقى من يبقى، عشرة أو أقل أو أكثر، فيأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعشائه، فنتعشى معه، قال: فإذا فرغنا قال: ناموا في المسجد.

(من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثلاثة) أي من أهل الصفة المذكورين. وهكذا هي في رواية مسلم "فليذهب بثلاثة" قال عياض: وهو غلط، والصواب رواية البخاري، "فليذهب بثالث" لموافقتها لسياق باقي الحديث، وقال القرطبي: إن حمل على ظاهره فسد المعنى، لأن الذي عنده طعام اثنين -أي عنده ما يكفي اثنين، وعنده في بيته اثنان- إذا ذهب معه بثلاثة لزم أن يأكله خمسة، وحينئذ لا يكفيهم، ولا يسد رمقهم، بخلاف ما إذا ذهب بواحد، فإنه يأكله ثلاثة، ويؤيده قوله في الحديث الآخر -روايتنا الثامنة-" طعام الاثنين كافي الثلاثة، طعام الثلاثة كافي الأربعة" أي القدر الذي يشبع الاثنين يسد رمق ثلاثة، أو أربعة، ووجه النووي رواية مسلم بأن التقدير: فليذهب بمن يتم من عنده ثلاثة، أو فليذهب بتمام ثلاثة. (ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس. بسادس) أي فليذهب بخامس إن لم يكن عنده ما يقتضي أكثر من ذلك، وإلا فليذهب بسادس مع الخامس إن كان عنده أكثر من ذلك، والحكمة في كونه يزيد كل أحد واحداً فقط أن عيشهم في ذلك الوقت لم يكن متسعاً، فمن كانت عنده مثلاً ثلاثة أنفس لا يضيق عليه أن يطعم الرابع من قوتهم، وكذلك الأربعة فما فوقها، بخلاف ما لو زيدت الأضياف بعدد العيال فإنما يصلح الاكتفاء به عند اتساع الحال، وفي رواية "فليذهب بخامس أو سادس" و"أو" فيها للتنويع، أو للتخيير، ويحتمل أن يكون معنى "أو سادس" أي وإن كان عنده طعام خمس فليذهب بسادس، فيكون من عطف الجملة على الجملة. وفي الرواية التاسعة والعاشرة "طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي ثمانية" فزيدت الكفاية إلى الضعف، ولعل الأمر يختلف باختلاف الإيثار والزهد والقناعة والبركة. والله أعلم. (وإن أبا بكر جاء بثلاثة، وانطلق نبي الله صلى الله عليه وسلم بعشرة) يحكى عن مرة من مرات توزيع أهل الصفة قال الحافظ ابن حجر: عبر عن أبي بكر بلفظ المجيء لبعد منزله من المسجد، وعن النبي صلى الله عليه وسلم بالانطلاق لقربه. اهـ وليس بظاهر، والأولى أن يقال: عبر عن أبي بكر بلفظ المجيء لأنه وصل بالأضياف إلى المتكلم عبد الرحمن، وكأنه قال: جاءنا، وعن النبي صلى الله عليه وسلم بالانطلاق لبعده عن المتكلم. (وأبو بكر بثلاثة) معطوف على قوله "وانطلق النبي صلى الله عليه وسلم بعشرة" وليس مكرراً مع قوله "وإن أبا بكر جاء بثلاثة" فالانطلاق تعبير عن أول الخروج والذهاب، والمجيء تعبير عن الوصول، وفي رواية للبخاري "وأبو بكر ثلاثة" قال الحافظ ابن حجر: بنصب "ثلاثة". (فهو وأنا وأبي وأمي) رواية البخاري "فهو أنا وأبي وأمي" بدون عطف "أنا" على "فهو" وهي الصواب، و"هو" هنا ضمير الحال والشأن، و"أنا" وما بعدها مبتدأ، خبره محذوف، يدل عليه السياق، وتقديره: في الدار، والجملة خبر ضمير الشأن. (ولا أدري. هل قال: وامرأتي وخادم بين بيتنا وبيت أبي بكر؟ ) في رواية

للبخاري "وخادمي" بدل "خادم" والقائل "هل قال" هو أبو عثمان الراوي عن عبد الرحمن، كأنه شك في ذلك، وقوله "بين بيتنا" ظرف متعلق بمحذوف صفة "خادم" أي خدمتها مشتركة بين بيتنا وبيت أبي بكر، وأم عبد الرحمن هي أم رومان، مشهورة بكنيتها، واسمها زينب وقيل: وعلة، بنت عامر بن عويمر، من ذرية الحارث بن غنم بن مالك بن كنانة، كانت قبل أبي بكر عند الحارث بن سخبرة الأزدي، فقدم مكة، فمات، وخلف منها ابنه الطفيل، فتزوجها أبو بكر، فولدت له عبد الرحمن وعائشة، وأسلمت أم رومان قديماً وهاجرت ومعها عائشة، وأما عبد الرحمن فتأخر إسلامه وهجرته إلى هدنة الحديبية. (وإن أبا بكر تعشى عند النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لبث حتى صليت العشاء، ثم رجع، فلبث حتى نعس رسول الله، فجاء بعد ما مضى من الليل ما شاء الله) في الرواية السابعة قال عبد الرحمن: "نزل علينا أضياف لنا، وكان أبي يتحدث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق، وقال: يا عبد الرحمن. افرغ من أضيافك" وعند أبي داود عن عبد الرحمن بن أبي بكر، قال: "نزل بنا أضياف، وكان أبو بكر يتحدث عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لا أرجع إليك حتى تفرغ من ضيافة هؤلاء" وفي رواية "إن أبا بكر تضيف رهطاً، فقال لعبد الرحمن: دونك أضيافك، فإني منطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فافرغ من قراهم قبل أن أجيء" فهذا يدل على أن أبا بكر أحضرهم إلى منزله، وأمر أهله أن يضيفوهم، ورجع هو إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ ابن حجر: والحاصل أن أبا بكر تأخر عند النبي صلى الله عليه وسلم، حتى صلى العشاء، ثم تأخر حتى نعس النبي صلى الله عليه وسلم وقام لينام، فرجع أبو بكر حينئذ إلى بيته. اهـ وعلى هذا فمعنى "إن أبا بكر تعشى عند النبي صلى الله عليه وسلم" أي قضى العشية، وليس من أكل الليل. (قالت له امرأته: ما حبسك عن أضيافك؟ أو قالت: ضيفك؟ ) سبق القول بأن "ضيف" يطلق على المفرد والجمع، والمراد هنا الجمع، وهذا القول منها مشعر بأنهم لم يقروا بعد، لذا قال: (أو ما عشيتهم؟ ) الهمزة للاستفهام، والواو للعطف على مقدر بعد الهمزة، والتقدير: أقصرت في إكرامهم؟ وما عشيتهم؟ وفي رواية "عشيتيهم" بإشباع الكسرة. (قالت: أبوا حتى تجيء، قد عرضوا عليهم، فغلبوهم) في الرواية السابعة "قال عبد الرحمن: فلما أمسيت جئنا بقراهم، قال: فأبوا، فقالوا: حتى يجيء أبو منزلنا -أي صاحبه- فيطعم معنا، قال: فقلت لهم: إنه رجل حديد -أي فيه قوة وصلابة، ويغضب لانتهاك الحرمات، والتقصير في حق ضيفه- وإنكم إن لم تفعلوا خفت أن يصيبني منه أذى". وفي رواية "فانطلق عبد الرحمن، فأتاهم بما عنده، فقال: اطعموا. قالوا: أين رب منزلنا؟ قال: اطعموا. قالوا: ما نحن بآكلين حتى يجيء، قال: اقبلوا عنا قراكم، فإنه إن جاء ولم تطعموا لنلقين منه -أي شراً- فأبوا"، وإنما امتنعوا من الأكل حتى يحضر أبو بكر أدباً في ظنهم، لأنهم ظنوا أنه لن يبقى له عشاء إذا هم أكلوا، ومعنى "عرضوا عليهم فغلبوهم" أي عرض الخدم أو الأهل على الأضياف

العشاء، فأبى الأضياف، فحاولوا معهم، وجادلوهم، فامتنعوا حتى غلبوهم، ففي رواية "قد عرضنا عليهم، فامتنعوا". (فذهبت أنا فاختبأت) خوفاً من خصام أبي بكر وتعنيفه وتغليظه علي، وفي الرواية السابعة "فلما جاء لم يبدأ بشيء أول منهم -أي قبل السؤال عنهم- فقال: أفرغتم من أضيافكم؟ قال: قالوا: لا. والله ما فرغنا. قال: ألم آمر عبد الرحمن؟ قال: وتنحيت عنه، فقال: يا عبد الرحمن: قال: فتنحيت .... " وفي رواية "فعرفت أنه يجد علي -أي يغضب- فلما جاء تغيبت عنه، فقال -أي نادي- يا عبد الرحمن. فسكت، ثم قال: يا عبد الرحمن. فسكت". (وقال: يا غنثر، فجدع، وسب) "غنثر" بضم الغين وسكون النون وفتح الثاء. هذه هي الرواية المشهورة، وحكي ضم الثاء، وحكى القاضي عياض عن بعض شيوخه فتح الغين مع فتح الثاء، وحكاه الخطابي بلفظ "عنتر" بلفظ اسم الشاعر المشهور، وغنثر قيل: معناه الذباب، سمي بذلك لصوته، فشبهه به، حيث أراد تحقيره وتصغيره، وقيل: معناه الثقيل الوخم، وقيل: الجاهل، وقيل: السفيه، وقيل: اللئيم، ومعنى "جدع" بفتح الجيم وتشديد الدال المفتوحة، أي دعا بجدع الأنف وغيره من الأعضاء، والسب الشتم. وفي الرواية السابعة "فقال: يا غنثر. أقسمت عليك، إن كنت تسمع صوتي إلا جئت، قال: فجئت، فقلت: والله ما لي ذنب. هؤلاء أضيافك، فسلهم، قد أتيتهم بقراهم، فأبوا أن يطعموا حتى تجيء". (وقال: كلوا. لا هنيئاً) أي لا أكلتم هنيئاً، وهو دعاء عليهم لما حصل له من الحرج والغيظ، وقيل: خبر، أي لم تهنئوا به أول نضجه، وقيل: إنما خاطب بذلك أهله، لا الأضياف. (وقال: والله لا أطعمه أبداً) في الرواية السابعة "فقال: ما لكم ألا تقبلون عنا قراكم؟ قال: فقال أبو بكر: فوالله لا أطعمه الليلة. قال: فقالوا: فوالله لا نطعمه، قال: فما رأيت كالشر كالليلة قط إذ قال لهم مغضباً: ويلكم ما لكم أن لا تقبلوا عنا قراكم، قال: فجيء بالطعام، فسمى، فأكل وأكلوا". (قال: فايم الله. ما كنا نأخذ من لقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها) "إلا ربا" أي إلا زاد، وقوله "من أسفلها" أي من أسفل الموضع الذي أخذت منه، وقوله "أكثر منها" ضبطوه الثاء والباء، و"ايم الله" همزته همزة وصل عند الجمهور، وقيل: يجوز القطع، وهو مبتدأ، خبر محذوف، أي أيم الله قسمي، وأصله "أيمن الله" فالهمزة حينئذ همزة قطع، لكنها لكثرة الاستعمال خففت فوصلت، وحكي فيها لغات: أيمن الله. مثلثة النون. رفعاً ونصباً وجراً، حسب العامل، و"من الله" مختصرة من الأولى، مثلثة النون أيضاً، "وايم الله" كذلك، و"م الله" كذلك، وبكسر الهمزة أيضاً، و"أم الله" قال ابن مالك: وليست "أيمن" جمع "يمين" خلافاً للكوفيين. (وصارت أكثر مما كانت قبل ذلك) الضمير في "صارت" للجفنة، أي ما فيها، أو للبقية.

(فإذا هي كما هي أو أكثر) أي فإذا الجفنة كما كانت أولاً أو أكثر، وفي رواية للبخاري "فإذا شيء أو أكثر" أي فإذا هي الشيء السابق أو أكثر. (يا أخت بني فراس. ما هذا؟ ) انظري ما هذا الذي أرى؟ هل ترين الجفنة تنقض؟ يخاطب أبو بكر امرأته، متعجباً، يكاد لا يصدق عينيه، وبنو فراس، بكسر الفاء وتخفيف الراء، ابن غنم بن مالك بن كنانة، والعرب تطلق على من كان منتسباً إلى قبيلة أنه أخوهم، وقد تقدم أن أم رومان من ذرية الحارث بن غنم، وهو أخو فراس بن غنم، فلعل أبا بكر نسبها إلى بني فراس لكونهم أشهر من بني الحارث، ويقع في النسب كثير من ذلك، وقال النووي: التقدير: يا من هي من بني فراس، وفيه نظر، لأنها -كما تقدم ليست من بني فراس، وقيل: المعنى يا أخت القوم المنتسبين إلى بني فراس، ولا شك أن الحارث أخو فراس، فأولاد كل منهما إخوة للآخرين، لكونهم في درجتهم. قال الحافظ ابن حجر: وحكى عياض أنه قيل في أم رومان: إنها من بني فراس بن غنم، لا من بني الحارث، وعلى هذا فلا حاجة إلى هذا التأويل. ولم أر في كتاب ابن سعد لها نسباً إلا إلى بني الحارث بن غنم، مع أنه ساق لها نسبين مختلفين. (قالت: لا. وقرة عيني، لهي الآن أكثر منها قبل ذلك بثلاث مرار) في رواية البخاري "لهي الآن أكثر مما قبل بثلاث مرار". قال النووي: قال أهل اللغة: قرة العين يعبر بها عن المسرة، ورؤية ما يحبه الإنسان ويوافقه قيل: إنما قيل ذلك لأن عينه تقر، لبلوغه أمنيته، فلا يستشرف لشيء، فيكون مأخوذ من القرار، وقيل: مأخوذاً من القر، بالضم، وهو البرد، أي عينه باردة لسرورها، وعدم مقلقها، قال الأصمعي وغيره: أقر الله عينه، أي أبرد دمعته، لأن دمعة الفرح باردة، ودمعة الحزن حارة، ولهذا يقال في ضده: أسخن الله عينه. قال الداودي: أرادت بقرة عينها النبي صلى الله عليه وسلم، فأقسمت به، ولفظة "لا" في قولها "لا. وقرة عيني" زائدة، ولها نظائر مشهورة، ويحتمل أنها نافية، وفيه محذوف، أي لا شيء غير ما أقول، وهو "وقرة عيني لهي أكثر منها". (فأكل منها أبو بكر، وقال: إنما كان ذلك من الشيطان -يعني يمينه) أي إنما كان الشيطان الحامل لي على أن أحلف، وأبعد من قال: إن الإشارة للقمة التي أكلها، أي هذه اللقمة آكلها لقمع الشيطان وإرغامه، لأنه قصد بتزيينه لي اليمين إيقاع الوحشة بيني وبين أضيافي، فأخزاه أبو بكر بالحنث الذي هو خير، ومعنى هذا أن "من" في "من الشيطان" للتعليل، فسبب أكله على هذا إرغام الشيطان، وقيل: إن سبب أكله ما رآه من البركة في الطعام، وهو بعيد أيضاً، إذ البركة ظهرت بالأكل، لا قبله، على أن البخاري أخرج في الأدب "فحلفت المرأة لا تطعمه حتى تطعموه، فقال أبو بكر: كأن هذه من الشيطان، فدعا بالطعام، فأكل، وأكلوا، فجعلوا لا يرفعون اللقمة إلا ربا من أسفلها" قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون أبو بكر أكل لأجل تحليل يمينهم شيئاً، ثم لما رأى البركة الظاهرة عاد، فأكل منها، لتحصل له. اهـ فمفعول "أكل منها أبو بكر" محذوف، أي لقمة، وبهذا

يجمع بين قوله "فأكل منها أبو بكر، وقال: إنما كان ذلك من الشيطان" وبين قوله بعد "ثم أكل منها لقمة" والظاهر الراجح أن سبب أكله لجاج الأضياف، وحلفهم أنهم لا يطعمون إلا إذا طعم، مستعملاً مكارم الأخلاق في إكرام ضيفانه، ولكونه أقدر منهم على الكفارة إذا حنث نفسه. (ثم حملها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصبحت عنده) أي حمل الجفنة بما فيها من طعام بعد أكلهم، وفي الرواية السابعة "فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم". (وكنا بيننا وبين قوم عقد ... إلخ) مقصوده الدخول على أكل الجيش من الجفنة المباركة. (فعرفنا اثنا عشر رجلاً، مع كل رجل منهم أناس، الله أعلم كم مع كل رجل؟ إلا أنه بعث معهم) قال النووي: هكذا هو في معظم النسخ "فعرفنا" بالعين وتشديد الراء، أي جعلنا عرفاء للعساكر، وفي كثير من النسخ "ففرقنا" بالفاء المكررة في أوله، وبقاف، من التفريق، أي جعلنا مع كل رجل من الاثنى عشر فرقة، وقوله "اثنا عشر" مفعول "عرفنا" أو "فرقنا" وهكذا هو في معظم الأصول، وفي نادر منها "اثنى عشر" قال النووي: وكلاهما صحيح، والأول جار على لغة من جعل المثنى بالألف في الرفع والنصب والجر، وهي لغة أربع قبائل من العرب. قال شاعرهم: إن أباها وأبا أباها قد بلغا في المجد غايتاها وقوله "الله أعلم كم مع كل رجل" يعني أنه تحقق أنه جعل عليهم اثنا عشر عريفاً، لكنه لا يدري كم كان تحت يد كل عريف منهم، لكنه يجزم بأنه بعث ناس مع كل عريف. (فأكلوا منها أجمعون) أي أكل جميع الجيش من تلك الجفنة، التي أرسل بها أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وظهر بذلك أن تمام البركة في الطعام المذكور كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم لأن الذي وقع فيها في بيت أبي بكر ظهور أول البركة فيها، وأما انتهاؤها إلى أن تكفي الجيش كلهم فما كان إلا بعد أن صارت عند النبي صلى الله عليه وسلم. وقد روى أحمد والترمذي والنسائي عن سمرة قال: "أتي النبي صلى الله عليه وسلم بقصعة فيها ثريد، فأكل وأكل القوم، فما زالوا يتداولونها إلى قريب من الظهر، يأكل قوم، ثم يقومون، ويجيء قوم، فيتعاقبونهم، فقال رجل: هل كانت تمد بطعام؟ قال: أما من الأرض فلا، إلا أن تكون كانت تمد من السماء" قال بعض العلماء: يحتمل أن تكون هذه القصعة هي التي وقع فيها في بيت أبي بكر ما وقع. (بروا، وحنثت) أي بروا في يمينهم ألا يطعموا إلا أن أطعم معهم، وحنثت في يميني أن لا أطعم. (بل أنت أبرهم وأخيرهم) أي أكثرهم طاعة، وخير منهم، لأنك حنثت في يمينك حنثاً مندوباً إليه مرغوباً فيه، فأنت أفضل منهم. قال النووي: وأخيرهم" هكذا هو في جميع النسخ، بالألف، وهي لغة.

(الكافر يأكل في سبعة أمعاء، والمؤمن يأكل في معي واحد) "المعي" بكسر الميم، مقصور، وفي لغة بسكون العين بعدها ياء، والجمع أمعاء، ممدود، وهي المصارين، قال أبو حاتم السجستاني المعي مذكر، ولم أسمع من أثق به يؤنثه، فيقول: معي واحدة، لكن قد رواه من لا يوثق به. وفي الرواية الرابعة عشرة "المؤمن يشرب في معي واحد، والكافر يشرب في سبعة أمعاء" وفي رواية للبخاري "يأكل المسلم في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء" وفيه أيضاً شك الراوي فيما سمع، هل قال: "الكافر"؟ أو قال "المنافق". قال الحافظ ابن حجر: واختلف في معنى الحديث، فقيل: ليس المراد به ظاهره، وإنما هو مثل، ضرب للمؤمن وزهده في الدنيا، والكافر وحرصه عليها، فكأن المؤمن لتقلله من الدنيا يأكل في معي واحد، والكافر لشدة رغبته فيها واستكثاره منها يأكل في سبعة أمعاء، فليس المراد حقيقة الأمعاء، ولا خصوص الأكل، وإنما المراد التقلل من الدنيا، والاستكثار منها، فكأنه عبر عن تناول الدنيا بالأكل، وعن أسباب ذلك بالأمعاء، ووجه العلاقة ظاهر [وكأنه من قبيل الكناية، التي هي لفظ أطلق، وأريد منه لازم معناه، لا معناه الحقيقي]. وقيل: المعنى أن المؤمن يأكل الحلال، والكافر يأكل الحرام، والحلال أقل من الحرام في الوجود، نقله ابن التين. وقيل: المراد حض المؤمن على قلة الأكل، إذا علم أن كثرة الأكل صفة الكافر، فإن نفس المؤمن تنفر من الاتصاف بصفة الكافر، ويدل على أن كثرة الأكل من صفة الكفار قوله تعالى: {والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام} [محمد: 12]. وقيل: بل هو على ظاهره، ثم اختلفوا في ذلك على أقوال: (أ) أحدها أنه ورد في شخص بعينه، واللام عهدية، لا جنسية، جزم بذلك ابن عبد البر، فقال: لا سبيل إلى حمله على العموم، لأن المشاهدة ترفعه، فكم من كافر يكون أقل أكلاً من مؤمن، وعكسه، وكم من كافر أسلم، فلم يتغير مقدار أكله، قال: وحديث أبي هريرة [روايتنا الرابعة عشرة] يدل على أنه ورد في رجل بعينه، فكأنه قيل: هذا إذ كان كافراً كان يأكل في سبعة أمعاء، فلما أسلم عوفي وبورك له في نفسه، فكفاه جزء من سبعة أجزاء، مما كان يكفيه وهو كافر، وقد سبقه إلى ذلك الطحاوي في مشكل الآثار، فقال: قيل: إن هذا الحديث كان في كافر مخصوص، وهو الذي شرب حلاب السبع شياه. قال الحافظ ابن حجر: وقد تعقب هذا الحمل بأن ابن عمر، راوي الحديث [روايتنا الحادية عشرة والثانية عشرة والثالثة عشرة] فهم منه العموم، فلذلك منع الذي رآه يأكل كثيراً من الدخول عليه، واحتج بالحديث، ثم كيف يتأتى حمله على شخص بعينه مع ما ترجح من تعدد الواقعة، وإيراد الحديث المذكور عقب كل واحدة منها؟ . (ب) القول الثاني أن الحديث خرج مخرج الغالب، وليست حقيقة العدد مرادة، وتخصيص

السبعة للمبالغة في التكثير، كما في قوله تعالى: {والبحر يمده من بعده سبعة أبحر} [لقمان: 27] والمعنى أن من شأن المؤمن التقلل من الدنيا ومن الأكل، لاشتغاله بأسباب العبادة، ولعلمه بأن مقصود الشرع من الأكل ما يسد الجوع، ويمسك الرمق، ويعين على العبادة، ولخشيته أيضاً من حساب ما زاد على ذلك، والكافر بخلاف ذلك كله، فإنه لا يقف عند مقصود الشرع، بل هو تابع لشهوة نفسه، مسترسل فيها، غير خائف من تبعات الحرام، فصار أكل المؤمن -لما ذكر- إذا نسب إلى أكل الكافر كأنه بقدر السبع منه، ولا يلزم من هذا اطراده في حق كل مؤمن وكافر، فقد يكون في المؤمنين من يأكل كثيراً إما بحسب العادة، وإما لعارض يعرض له، من مرض أو غيره، ويكون في الكفار من يأكل قليلاً، إما لمراعاة الصحة على رأي الأطباء، وإما للرياضة على رأي الرجحان، وإما لعارض، كضعف المعدة. (ج) القول الثالث: أن المراد بالمؤمن في هذا الحديث التام الإيمان، لأن من حسن إسلامه، وكمل إيمانه اشتغل فكره فيما يصير إليه من الموت وما بعده، فيمنعه شدة الخوف وكثرة الفكر والإشفاق على نفسه من استيفاء شهوتها، وقد ورد في الحديث "من كثر تفكره قل طعمه، ومن قل تفكره كثر طعمه وقسا قلبه" فدل على أن المراد بالمؤمن من يقتصد في مطعمه، وأما الكافر فمن شأنه الشره، فيأكل بالنهم، كما تأكل البهيمة. وقد رده الخطابي، فقال: قد جاء عن غير واحد من أفاضل السلف الأكل الكثير، فلم يكن ذلك نقصاً في إيمانهم. (د) الرابع أن المراد أن المؤمن يسمي الله تعالى عند طعامه وشرابه، فلا يشركه الشيطان، فيكفيه القليل، والكافر لا يسمي، فيشركه الشيطان. (هـ) الخامس أن المؤمن يقل حرصه على الطعام، فيبارك له فيه، فيشبع من القليل، والكافر طامح البصر إلى المأكل، كالأنعام، فلا يشبعه القليل. وهذا يمكن ضمه إلى الذي قبله، ويجعلان جواباً واحداً مركباً. (و) السادس: قال النووي: المختار أن المراد أن أكثر المؤمنين يأكل في معي واحد، وأن أكثر الكفار يأكلون في سبعة أمعاء، ولا يلزم أن يكون كل واحد من السبعة مثل معي المؤمن. اهـ قال الحافظ ابن حجر: ويدل على تفاوت الأمعاء ما ذكره القاضي عياض عن أهل التشريح أن أمعاء الإنسان سبعة: المعدة، ثم ثلاثة أمعاء بعدها، متصلة بها، البواب، ثم الصائم، ثم الرقيق والثلاث رقاق، ثم الأعور، والقولون، والمستقيم، وكلها غلاظ، فيكون المعنى أن الكافر لكونه يأكل بشراهة لا يشبعه إلا ملء أمعائه السبعة، والمؤمن يشبعه ملء معي واحد. (ز) السابع: قال النووي: يحتمل أن يريد بالسبعة في الكافر صفات، هي: الحرص والشره وطول الأمل والطمع وسوء الطبع والحسد وحب السمن، والواحد في المؤمن سد خلة. (ح) الثامن: قال القرطبي: شهوات الطعام سبع: شهوة الطبع، وشهوة النفس، وشهوة العين،

وشهوة الفم، وشهوة الأذن، وشهوة الأنف، وشهوة الجوع، وهي الضرورية التي يأكل بها المؤمن، وأما الكافر فيأكل بالجميع. قال ابن التين: قيل: إن الناس في الأكل على ثلاث طبقات: طائفة تأكل كل مطعوم من حاجة وغير حاجة، وهذا فعل أهل الجهل، وطائفة تأكل عند الجوع بقدر ما يسد الجوع، فحسب، وطائفة يجوعون أنفسهم، يقصدون بذلك قمع شهوة النفس، وإذا أكلوا أكلوا ما يسد الرمق. قال الحافظ ابن حجر: وهو صحيح، لكنه لم يتعرض لتنزيل الحديث عليه، وهو لائق بالقول الثاني. (رأى ابن عمر مسكيناً، فجعل يضع بين يديه، ويضع بين يديه، فجعل يأكل أكلاً كثيراً) في رواية للبخاري "عن نافع قال: كان ابن عمر لا يأكل حتى يؤتى بمسكين، يأكل معه، فأدخلت رجلاً يأكل معه، فأكل كثيراً، فقال: يا نافع: لا تدخل هذا علي .... " الحديث وفي رواية له "كان أبو نهيك -بفتح النون وكسر الهاء- رجلاً أكولاً، فقال له ابن عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الكافر يأكل في سبعة أمعاء، فقال: فأنا أومن بالله ورسوله" وعند الحميدي "قيل لابن عمر: إن أبا نهيك رجل من أهل مكة، يأكل أكلاً كثيراً" فالظاهر من الروايات أن ابن عمر لما سمع بأبي نهيك أراد أن يرى، فدعاه ليأكل معه، فلما رأى منه ما رأى قال لنافع: لا تدخل هذا علي مرة أخرى، وأسمع أبا نهيك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضافه ضيف، وهو كافر) قال الحافظ ابن حجر: هذا الرجل يشبه أن يكون جهجاه الغفاري، فقد أخرج ابن شيبة وأبو يعلى والبزار والطبراني من طريق جهجاه "أنه قدم في نفر من قومه، يريدون الإسلام، فحضروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب، فلما سلم قال: ليأخذ كل رجل بيد جليسه، فلم يبق غيري، فكنت رجلاً عظيماً طويلاً، لا يقدم علي أحد، فذهب بي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله، فحلب لي عنزاً، فأتيت عليه، ثم حلب لي آخر، حتى حلب سبعة أعنز، فأتيت عليها، ثم أتيت بصنيع برمة، فأتيت عليها، فقالت أم أيمن: أجاع الله من أجاع رسول الله، فقال: مه يا أم أيمن، أكل رزقه، ورزقنا على الله، فلما كانت الليلة الثانية، وصلينا المغرب، صنع ما صنع في الليلة التي قبلها، فحلب لي عنزاً، ورويت، وشبعت، فقالت أم أيمن: أليس هذا ضيفنا؟ قال: إنه أكل في معي واحد الليلة، وهو مؤمن، وأكل قبل ذلك في سبعة أمعاء، الكافر يأكل في سبعة أمعاء، والمؤمن يأكل في معي واحد". وأخرج الطبراني بسند جيد عن عبد الله بن عمر، قال "جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم سبعة رجال، فأخذ كل رجل من الصحابة رجلاً، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً، فقال له: ما اسمك؟ قال: أبو غزوان. قال: فحلب له سبع شياه، فشرب لبنها كله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل لك يا أبا غزوان أن تسلم؟ قال: نعم. فأسلم، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره، فلما أصبح حلب له شاة واحدة، فلم يتم لبنها. فقال: مالك يا أبا غزوان؟ قال: والذي بعثك نبياً لقد رويت. قال: إنك أمس كان لك سبعة أمعاء، وليس لك اليوم إلا معي واحد". وذكر ابن إسحاق في السيرة من حديث أبي هريرة في قصة ثمامة بن أثال، أنه لما أسر، ثم أسلم وقعت له قصة شبيهة، ولا مانع من التعدد.

(ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً) أي مباحاً، أما الحرام فكان يعيبه ويذمه، وينهى عنه، وفي الرواية السادسة عشرة "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عاب طعاماً قط" ونفي العلم أدق من نفي الوقوع. (قط) بفتح القاف وتشديد الطاء، ظرف زمان، لاستغراق ما مضى، وتختص بالنفي في الماضي، واشتقاقه من قططت الشيء، أي قطعته، والعامة يقولون: لا أفعله قط، وهو لحن. وهي مبنية على الضم في أفصح اللغات وقد تكسر، وقد تتبع قافه طاءه، في الضم، وقد تخفف طاؤه مع ضمها أو إسكانها. (كان إذا اشتهى شيئاً أكله) أي إن اشتهي شيئاً قدم إليه، وفي الرواية السادسة عشرة "كان إذا اشتهاه أكله" أي أكل منه. (وإن كرهه تركه) وفي الرواية السادسة عشرة "وإن لم يشتهه سكت" أي سكت عن عيبه. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الأحاديث]- 1 - من الرواية الأولى، من قول أمهات المؤمنين جميعهن "والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء" ما كان عليه صلى الله عليه وسلم وأهل بيته من الزهد في الدنيا، والصبر على الجوع وضيق الحال. 2 - ومن سؤاله صلى الله عليه وسلم أزواجه عن طعام للضيف، ثم عرضه على أصحابه، أنه ينبغي لكبير القوم أن يبدأ في مواساة الضيف بنفسه، فيواسيه من ماله أولاً إن تيسر، فإن لم يتيسر له طلب له من أصحابه المواساة، على سبيل التعاون على البر والتقوى. 3 - ومشروعية المواساة في حال الشدائد، وهو مأخذ مشترك بين الرواية الأولى وأغلب الروايات. 4 - ومن فعل الأنصاري بضيفه إكرام الضيف وإيثاره. 5 - ومن رضي الله عنه وعن امرأته منقبة عظيمة لهما. 6 - والاحتيال في إكرام الضيف، لقوله "أطفئي السراج، وأريه أنا نأكل" وذلك عند الحاجة إلى الاحتيال، فإن الضيف ربما امتنع عن الأكل، رفقاً بأهل المنزل، إذا علم قلة الطعام. 7 - ومشروعية إيثار الضيف على الصغار ومن يعولهم المسلم، قال النووي: وهذا محمول على أن الصبيان لم يكونوا محتاجين إلى الأكل، وإنما تطلبه أنفسهم على عادة الصبيان، من غير جوع يضرهم، فإنهم لو كانوا على حاجة، بحيث يضرهم ترك الأكل لكان إطعامهم واجباً، ويجب تقديمه على الضيافة، وقد أثنى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على هذا الرجل وامرأته، فدل على أنهما لم يتركا واجباً، بل أحسنا وأجملا رضي الله عنهما، وأما الرجل وامرأته فآثراه على أنفسهما، برضاهما، مع حاجتهما وخصاصتهما، فمدحهما الله تعالى، وأنزل فيهما {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} [الحشر: 9].

ثم قال النووي: وقد أجمع العلماء على فضيلة الإيثار بالطعام ونحوه من أمور الدنيا وحظوظ النفوس، أما القربات فالأفضل ألا يؤثر بها، لأن الحق فيها لله تعالى. 8 - وفي الحديث دليل على نفوذ فعل الأب في الابن الصغير، وإن كان مطوياً على ضرر خفيف، إذا كان في ذلك مصلحة دينية أو دنيوية، وهو محمول على ما إذا عرف بالعادة من الصغير الصبر على مثل ذلك. 9 - ومن حال المقداد وصاحبه في الرواية الرابعة، وموقف الصحابة منهم ما كان عليه الصحابة من ضيق الحال، والصبر على الشدائد. 10 - ومن عدم قبول الصحابة للمقداد وصاحبيه وإقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، أن المقل لا تلزمه المواساة، قال النووي: عدم قبولهم محمول على أنهم كانوا مقلين، ليس عندهم شيء يواسون به. 11 - ومن تسليمه صلى الله عليه وسلم أدب الإسلام في التسليم على قوم فيهم نيام، وأنه يكون سلاماً متوسطاً بين الرفع والمخافتة، بحيث يسمع الأيقاظ، ولا يهوش على غيرهم. 12 - ومن موقف الشيطان من الرجل أسلوبه في الإغواء، وفي السخرية بعد الوقوع، ليزيد الوقوع في الآثام. 13 - ومن موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من شرب الصحابي لنصيبه من اللبن ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الحلم والأخلاق العالية وكرم النفس والصبر والإغضاء عن حقوقه، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يسأل عن نصيبه من اللبن. 14 - ومن دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم "اللهم أطعم من أطعمني" استحباب الدعاء للمحسن والخادم ولمن سيفعل خيراً. 15 - ومن إحداث اللبن في الأعنز في غير وقته معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. 16 - ومن تكثير سواد البطن حتى وسع هذا العدد معجزة أخرى. 17 - ومن تكثير الصاع، ولحم الشاة؛ حتى شبع الجميع وفضلت منه فضلة، معجزة ثالثة. 18 - وفي قصة شراء الشاة من المشعان مواساة الرفقة فيما يعرض لهم. 19 - ومن تخبئة نصيب الغائب مشروعية واستحباب ذلك. 20 - قال الحافظ ابن حجر: في هذا الحديث قبول هدية المشرك، لأنه سأله: هل يبيع أو يهدي؟ وكذا استدل البخاري بالحديث، ووضعه تحت: باب قبول الهدية من المشركين، وكأنه أشار إلى ضعف الحديث الوارد في رد هدية المشرك، فقد أخرج موسى بن عقبة في المغازي أن عامر بن مالك الذي يدعى ملاعب الأسنة، قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشرك، فأهدى له، فقال: إني لا أقبل هدية مشرك" قال الحافظ ابن حجر: الحديث رجاله ثقات، إلا أنه مرسل، وقد وصله

بعضهم على الزهري، ولا يصح. قال: وفي الباب حديث عياض بن حماد أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما، عن عياض قال: "أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم ناقة، فقال: أسلمت؟ قلت: لا. قال: إني نهيت عن زبد المشركين" والزبد بفتح الزاي وسكون الباء الرفد، صححه الترمذي وابن خزيمة. وجمع الطبري بأن الامتناع فيما أهدى له خاصة، والقبول فيما أهدى للمسلمين، وقيل: يحمل القبول على من كان من أهل الكتاب، والرد على من كان من أهل الأوثان، ورد هذا بأن هذا الأعرابي كان وثنياً، وقيل: إن القبول من خصائصه صلى الله عليه وسلم، ويمتنع ذلك لغيره من الأمراء، وقيل: إن أحاديث القبول نسخت المنع، وقيل: إن أحاديث المنع نسخت أحاديث القبول، وأقوى أوجه الجمع أن الامتناع في حق من يريد بهديته التودد والموالاة، والقبول في حق من يرجى بذلك تأنيسه وتأليفه على الإسلام. 21 - وفي الحديث ظهور البركة في الاجتماع على الطعام. 22 - وفيه القسم لتأكيد الخبر، وإن كان المخبر صادقاً، وذلك إذا كان الخبر غريباً. 23 - ومن قوله "فأكلنا منهما أجمعون وشبعنا" جواز الشبع، وقد مر الكلام على الشبع وحدوده وحكمه في المأخذ رقم [43] في باب: الضيف يتبعه غير من دعي وتكثير الطعام ببركة النبي صلى الله عليه وسلم. 24 - ومن الرواية السادسة والسابعة، حديث، ضيف أبي بكر أنه إذا حضر ضيفان كثيرون فينبغي للجماعة أن يتوزعوهم، ويأخذ كل واحد منهم من يحتمله. 25 - وأنه ينبغي لكبير القوم أن يأمر أصحابه بذلك. 26 - وأن كبير القوم يأخذ من يمكنه منهم. 27 - وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ بأفضل الأمور، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يسبق إلى السخاء والجود، فإن عيال النبي صلى الله عليه وسلم كانوا قريباً من عدد ضيفانه هذه الليلة، فأتى بنصف طعامه أو نحوه، وأتى أبو بكر رضي الله عنه بثلث طعامه أو أكثر، وأتى الباقون بدون ذلك. 28 - وفي إرسال أبي بكر للأضياف، وذهابه للنبي صلى الله عليه وسلم جواز ذهاب من عنده ضيفان إلى أشغاله ومصالحه، إذا كان له من يقوم بأمورهم، ويسد مسده. 29 - وفيه ما كان عليه أبو بكر رضي الله عنه من الحب للنبي صلى الله عليه وسلم، والانقطاع إليه، وإيثاره في ليله ونهاره على الأهل والأولاد والضيفان وغيرهم. 30 - وفيه جواز امتناع الضيف عن الطعام حتى يشاركه فيه صاحب البيت، قال النووي: قال العلماء: الصواب للضيف ألا يمتنع مما أراده المضيف من تعجيل طعام وتكثيره وغير ذلك من أموره، إلا أن يعلم أنه يتكلف ما يشق، حياء منه، فيمنعه برفق، ومتى شك لم يعترض عليه، ولم يمتنع، فقد يكون للمضيف عذر أو غرض في ذلك لا يمكنه إظهاره، فتلحقه المشقة بمخالفة الأضياف. 31 - وفي سب أبي بكر ابنه جواز ذلك إذا وقع من الابن ما لا يرضاه أبوه، وذلك على وجه التأديب والتمرين على أعمال الخير وتعاطيه.

32 - ومن قوله "كلوا لا هنيئاً" جواز الدعاء على من لم يحصل منه الإنصاف، ولاسيما عند الحرج والتغيظ، وذلك أنهم تحكموا على رب المنزل بالحضور معهم، ولم يكتفوا بولده، مع إذنه لهم في ذلك، وكأن الذي حملهم على ذلك رغبتهم في التبرك بمؤاكلته. 33 - ومن أهل الصفة جواز التجاء الفقراء إلى المساجد، عند الاحتياج إلى المواساة، إذا لم يكن في ذلك إلحاح، ولا إلحاف، ولا تشويش على المصلين. 34 - واستحباب مواساتهم عند اجتماع هذه الشروط. 35 - وفي موقف أم رومان في هذه القصة تصرف المرأة فيما تقدم للضيف، والإطعام بغير إذن خاص من الرجل. 36 - وفيه جواز الحلف على ترك المباح. 37 - قال الحافظ ابن حجر: وفيه جواز الحنث بعد عقد اليمين. 38 - وفيه أن من حلف على يمين، فرأى غيرها خيراً منها فعل ذلك، وكفر عن يمينه، قال النووي: كما جاءت به الأحاديث الصحيحة. اهـ وسيأتي قريباً مزيد لهذه المسألة. 39 - قال الحافظ ابن حجر: استدل بقوله "ولم تبلغني كفارة" على أنه لا تجب كفارة في يمين اللجاج والغضب، ولا حجة فيه، لأنه لا يلزم من عدم الذكر عدم الوجود، فلمن أثبت الكفارة أن يتمسك بعموم قوله تعالى: {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين ... } [المائدة: 89] قال: ويحتمل أن يكون ذلك وقع قبل مشروعية الكفارة في الأيمان، لكن يعكر عليه حديث عائشة "أن أبا بكر لم يكن يحنث في يمين، حتى نزلت الكفارة" وقال النووي: قوله "ولم تبلغني كفارة" يعني أنه لم يكفر قبل الحنث، فأما وجوب الكفارة فلا خلاف فيه. كذا قال، وقال غيره: يحتمل أن يكون أبو بكر لما حلف أن لا يطعمه أضمر وقتاً معيناً، أو صفة مخصوصة، أي لا أطعمه الآن، أو لا أطعمه عند الغضب، وهو مبني على أن اليمين تقبل التقييد في النفس، وفي ذلك خلاف، على أن قول أبي بكر "والله لا أطعمه أبداً" يمين مؤكدة، ولا تحتمل أن تكون من لغو الكلام، ولا من سبق اللسان، ولا الاستثناء النفسي. 40 - وفي الحديث التبرك بطعام الأولياء والصلحاء. 41 - وفيه عرض الطعام الذي تظهر فيه البركة على الكبار، وقبولهم ذلك. 42 - قال الحافظ ابن حجر: وفيه العمل بالظن الغالب، لأن أبا بكر ظن أن عبد الرحمن فرط في أمر الأضياف، فبادر إلى سبه، وقوى القرينة عنده اختباؤه منه. 43 - وفيه وقوع لطف الله بأوليائه، وذلك أن خاطر أبي بكر تشوش، وكذلك ولده وأهله وأضيافه، بسبب امتناع الأضياف من الأكل، وتكدر خاطر أبي بكر من ذلك، فتدارك الله ذلك، ورفعه عنه بالكرامة التي أبداها له، فانقلب ذلك الكدر صفاء، والنكد سروراً.

44 - وفيه حمل المشقة لإكرام الضيف، وإذا تعارض حنثه وحنثهم حنث نفسه، لأن حقهم عليه آكد. 45 - وفيه كرامة ظاهرة لأبي بكر رضي الله عنه. 46 - وفيه إثبات كرامات الأولياء، وهو مذهب أهل السنة، خلافاً للمعتزلة. 47 - قال النووي: وفي هذا الحديث دليل لجواز تفريق العرفاء على العساكر ونحوها، لما فيه من مصلحة الناس، ولتيسر ضبط الجيوش ونحوها على الإمام باتخاذ العرفاء، وفي سنن أبي داود "العرافة حق" وأما حديث "العرفاء في النار" فمحمول على العرفاء المقصرين في ولايتهم، المرتكبين فيها ما لا يجوز، كما هو معتاد لكثير منهم. 48 - ومن قوله "فلبث حتى نعس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء بعد ما مضي من الليل ما شاء الله إلخ" ترجم البخاري في أبواب الصلاة: باب السمر مع الضيف والأهل" وأخذه من كون أبي بكر رجع إلى أهله وضيفانه بعد أن صلى العشاء مع النبي صلى الله عليه وسلم، فدار بينهم وبينه ما ذكر في الحديث. 49 - وضع البخاري هذا الحديث تحت باب: ما يكره من الغضب والجزع عند الضيف، واستنبطه من غضب أبي بكر عند أضيافه، ثم تحنيثه نفسه، والعودة إلى إرضائهم، وقوله "إنما كان ذلك من الشيطان". 50 - كما وضعه تحت باب: قول الضيف لصاحبه: والله لا آكل حتى يأكل. 51 - ومن الرواية الثامنة والتاسعة والعاشرة أن الطعام القليل يكفي الكثير. 52 - والحض على مكارم الأخلاق، والتقنع بالكفاية والمواساة. 53 - وأن الكفاية تنشأ عن بركة الاجتماع، وأن الجمع كلما كثر ازدادت البركة. 54 - وفيه أنه لا ينبغي للمرء أن يستحقر ما عنده، فيمتنع من تقديمه، فإن القليل قد يحصل به الاكتفاء، بمعنى حصول سد الرمق وقيام البنية، لا حقيقة الشبع. 55 - قال ابن المنذر: يؤخذ من حديث أبي هريرة -روايتنا الثامنة- استحباب الاجتماع على الطعام، وأن لا يأكل المرء وحده. 56 - ومن الرواية الخامسة عشرة والسادسة عشرة قال النووي: ومن آداب الطعام المتأكدة أن لا يعاب، كقوله: مالح أو حامض، أو غليظ، أو رقيق، أو غير ناضج، ونحو ذلك. وقال الحافظ ابن حجر: وذهب بعضهم إلى أن العيب إن كان من جهة الخلقة كره، وإن كان من جهة الصفة لم يكره، لأن صنعة الله لا تعاب، وصنعة الآدميين تعاب، والذي يظهر التعميم، فإن في عيب الصفة كسر قلب الصانع. 57 - من قوله "وإن كرهه تركه" قال ابن بطال: هذا من حسن الأدب، لأن المرء قد لا يشتهي الشيء، ويشتهيه غيره، وكل مأذون في أكله من قبل الشرع ليس فيه عيب. والله أعلم

كتاب اللباس والزينة

كتاب اللباس والزينة

(565) باب تحريم استعمال أواني الذهب والفضة على الرجال والنساء، وتحريم لبس الذهب والحرير على الرجال.

(565) باب تحريم استعمال أواني الذهب والفضة على الرجال والنساء، وتحريم لبس الذهب والحرير على الرجال. 4710 - عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الذي يشرب في آنية الفضة، إنما يجرجر في بطنه نار جهنم". 4711 - وفي رواية عن نافع بمثل حديث مالك بن أنس، بإسناده عن نافع وزاد في حديث علي بن مسهر عن عبيد الله "أن الذي يأكل أو يشرب في آنية الفضة والذهب" وليس في حديث أحد منهم ذكر الأكل والذهب، إلا في حديث ابن مسهر. 4712 - عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من شرب في إناء من ذهب أو فضة، فإنما يجرجر في بطنه ناراً من جهنم". 4713 - عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع. ونهانا عن سبع. أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنازة، وتشميت العاطس، وإبرار القسم، أو المقسم، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام. ونهانا عن خواتيم، أو عن تختم بالذهب، وعن شرب بالفضة، وعن المياثر، وعن القسي، وعن لبس الحرير والإستبرق والديباج. 4714 - وفي رواية عن أشعث بن سليم، بهذا الإسناد، مثله. إلا قوله: وإبرار القسم أو المقسم. فإنه لم يذكر هذا الحرف في الحديث. وجعل مكانه: وإنشاد الضال. 4715 - وفي رواية عن أشعث بن أبي الشعثاء، بهذا الإسناد. مثل حديث زهير، وقال:

إبرار القسم. من غير شك. وزاد في الحديث: وعن الشرب في الفضة. فإنه من شرب فيها في الدنيا، لم يشرب فيها في الآخرة. 4716 - وفي رواية عن أشعث بن سليم. بإسنادهم، ومعنى حديثهم، إلا قوله: وإفشاء السلام. فإنه قال بدلها: ورد السلام، وقال نهانا. عن خاتم الذهب أو حلقة الذهب. 4717 - وفي رواية عن أشعث بن أبي الشعثاء، بإسنادهم. وقال: وإفشاء السلام، وخاتم الذهب. من غير شك. 4718 - عن عبد الله بن عكيم قال: كنا مع حذيفة بالمدائن. فاستسقى حذيفة. فجاءه دهقان بشراب في إناء من فضة. فرماه به. وقال إني أخبركم أني قد أمرته أن لا يسقيني فيه. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تشربوا في إناء الذهب والفضة. ولا تلبسوا الديباج والحرير. فإنه لهم في الدنيا، وهو لكم في الآخرة يوم القيامة". 4719 - وفي رواية عن عبد الله بن عكيم قال: كنا عند حذيفة بالمدائن. فذكر نحوه. ولم يذكر في الحديث "يوم القيامة". 4720 - وفي رواية من ابن عكيم قال: كنا مع حذيفة بالمدائن. فذكر نحوه. ولم يقل: يوم القيامة. 4721 - وفي رواية عن عبد الرحمن (يعني ابن أبي ليلى) قال: شهدت

حذيفة استسقى بالمدائن. فأتاه إنسان بإناء من فضة. فذكره بمعنى حديث ابن عكيم، عن حذيفة. 4722 - وفي رواية عن شعبة، بمثل حديث معاذ وإسناده. ولم يذكر أحد منهم في الحديث شهدت حذيفة، غير معاذ وحده إنما قالوا: إن حذيفة استسقى. 4723 - عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: استسقى حذيفة. فسقاه مجوسي في إناء من فضة. فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا تلبسوا الحرير ولا الديباج. ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة. ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا". 4724 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب رأى حلة سيراء عند باب المسجد فقال: يا رسول الله، لو اشتريت هذه فلبستها للناس يوم الجمعة، وللوفد إذا قدموا عليك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة" ثم جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حلل. فأعطى عمر منها حلة. فقال عمر: يا رسول الله، كسوتنيها. وقد قلت في حلة عطارد ما قلت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني لم أكسكها لتلبسها" فكساها عمر أخا له مشركاً بمكة. 4725 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأى عمر عطارداً التميمي يقيم بالسوق حلة سيراء. وكان رجلاً يغشى الملوك ويصيب منهم. فقال عمر: يا رسول الله، إني رأيت عطارداً يقيم في السوق حلة سيراء. فلو اشتريتها فلبستها لوفود العرب إذا قدموا عليك. وأظنه قال: ولبستها يوم الجمعة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة" فلما كان بعد ذلك أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلل سيراء. فبعث إلى عمر بحلة. وبعث إلى أسامة بن زيد بحلة. وأعطى علي بن أبي طالب حلة. وقال "شققها خمراً بين نسائك" قال: فجاء عمر بحلته يحملها، فقال: يا رسول الله، بعثت إلي بهذه. وقد قلت

بالأمس في حلة عطارد ما قلت. فقال "إني لم أبعث بها إليك لتلبسها. ولكني بعثت بها إليك لتصيب بها" وأما أسامة فراح في حلته. فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم نظراً عرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنكر ما صنع. فقال: يا رسول الله، ما تنظر إلي؟ فأنت بعثت إلي بها. فقال "إني لم أبعث إليك لتلبسها، ولكني بعثت بها إليك لتشققها خمراً بين نسائك". 4726 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: وجد عمر بن الخطاب حلة من إستبرق تباع بالسوق. فأخذها فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ابتع هذه فتجمل بها للعيد وللوفد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما هذه لباس من لا خلاق له" قال: فلبث عمر ما شاء الله. ثم أرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بجبة ديباج. فأقبل بها عمر حتى أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله قلت إنما هذه لباس من لا خلاق له أو إنما يلبس هذه من لا خلاق له ثم أرسلت إلي بهذه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "تبيعها وتصيب بها حاجتك". 4727 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر رأى على رجل من آل عطارد قباء من ديباج أو حرير فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو اشتريته. فقال "إنما يلبس هذا من لا خلاق له" فأهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حلة سيراء. فأرسل بها إلي. قال: قلت: أرسلت بها إلي، وقد سمعتك قلت فيها ما قلت. قال: إنما بعثت بها إليك لتستمتع بها". 4728 - وفي رواية عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب رأى على رجل من آل عطارد. بمثل حديث يحيى بن سعيد، غير أنه قال "إنما بعثت بها إليك لتنتفع بها، ولم أبعث بها إليك لتلبسها". 4729 - عن يحيى بن أبي إسحق قال: قال لي سالم بن عبد الله في الإستبرق. قال قلت: ما غلظ من الديباج وخشن منه. فقال سمعت عبد الله بن عمر يقول: رأى عمر على رجل حلة من إستبرق. فأتى بها النبي صلى الله عليه وسلم. فذكر نحو حديثهم، غير أنه قال: فقال: "إنما بعثت بها إليك لتصيب بها مالاً".

4730 - عن عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، وكان خال ولد عطاء. قال: أرسلتني أسماء إلى عبد الله بن عمر، فقالت: بلغني أنك تحرم أشياء ثلاثة: العلم في الثوب، وميثرة الأرجوان، وصوم رجب كله. فقال لي عبد الله: أما ما ذكرت من رجب، فكيف بمن يصوم الأبد. وأما ما ذكرت من العلم في الثوب، فإني سمعت عمر بن الخطاب يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إنما يلبس الحرير من لا خلاق له". فخفت أن يكون العلم منه. وأما ميثرة الأرجوان. فهذه ميثرة عبد الله. فإذا هي أرجوان. فرجعت إلى أسماء فخبرتها. فقالت: هذه جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأخرجت إلي جبة طيالسة كسروانية، لها لبنة ديباج، وفرجيها مكفوفين بالديباج. فقالت: هذه كانت عند عائشة حتى قبضت. فلما قبضت. قبضتها. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبسها. فنحن نغسلها للمرضى يستشفى بها. 4731 - عن خليفة بن كعب أبي ذبيان قال: سمعت عبد الله بن الزبير يخطب يقول: ألا لا تلبسوا نساءكم الحرير؛ فإني سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تلبسوا الحرير؛ فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة". 4732 - عن أبي عثمان قال: كتب إلينا عمر ونحن بأذربيجان: يا عتبة بن فرقد، إنه ليس من كدك ولا من كد أبيك ولا من كد أمك. فأشبع المسلمين في رحالهم، مما تشبع منه في رحلك، وإياكم والتنعم، وزي أهل الشرك، ولبوس الحرير. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبوس الحرير. قال إلا هكذا. ورفع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إصبعيه الوسطى والسبابة وضمهما. قال زهير: قال عاصم: هذا في الكتاب. قال ورفع زهير إصبعيه. 4733 - وفي رواية بمثله. 4734 - عن أبي عثمان قال: كنا مع عتبة بن فرقد. فجاءنا كتاب عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يلبس الحرير إلا من ليس له منه شيء في الآخرة إلا

هكذا" وقال أبو عثمان: بإصبعيه اللتين تليان الإبهام، فرئيتهما أزرار الطيالسة، حين رأيت الطيالسة. 4735 - عن أبي عثمان النهدي قال: جاءنا كتاب عمر ونحن بأذربيجان مع عتبة بن فرقد أو بالشام: أما بعد، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحرير إلا هكذا إصبعين. قال أبو عثمان: فما عتمنا أنه يعني الأعلام. 4736 - 15 عن سويد بن غفلة أن عمر بن الخطاب خطب بالجابية، فقال: نهى نبي الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير، إلا موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع. 4737 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لبس النبي صلى الله عليه وسلم يوماً قباء من ديباج أهدي له، ثم أوشك أن نزعه. فأرسل به إلى عمر بن الخطاب. فقيل له: قد أوشك ما نزعته، يا رسول الله، فقال "نهاني عنه جبريل" فجاءه عمر يبكي، فقال: يا رسول الله، كرهت أمراً وأعطيتنيه، فما لي؟ قال "إني لم أعطكه لتلبسه، إنما أعطيتكه تبيعه" فباعه بألفي درهم. 4738 - عن علي رضي الله عنه قال: أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلة سيراء فبعث بها إلي. فلبستها. فعرفت الغضب في وجهه فقال "إني لم أبعث بها إليك لتلبسها. إنما بعثت بها إليك لتشققها خمراً بين النساء". 4739 - وفي رواية عن أبي عون، بهذا الإسناد في حديث معاذ فأمرني فأطرتها بين نسائي. وفي حديث محمد بن جعفر: فأطرتها بين نسائي. ولم يذكر: فأمرني.

4740 - عن علي رضي الله عنه أن أكيدر دومة أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثوب حرير. فأعطاه علياً، فقال: "شققه خمراً بين الفواطم" وقال أبو بكر وأبو كريب: بين النسوة. 4741 - عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم حلة سيراء. فخرجت فيها. فرأيت الغضب في وجهه. قال: فشققتها بين نسائي. 4742 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمر بجبة سندس. فقال عمر: بعثت بها إلي وقد قلت فيها ما قلت. قال: إني لم أبعث بها إليك لتلبسها. وإنما بعثت بها إليك لتنتفع بثمنها". 4743 - عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من لبس الحرير في الدنيا، لم يلبسه في الآخرة". 4744 - عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من لبس الحرير في الدنيا، لم يلبسه في الآخرة". 4745 - عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه قال: أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فروج حرير فلبسه. ثم صلى فيه. ثم انصرف فنزعه نزعاً شديداً، كالكاره له. ثم قال "لا ينبغي هذا للمتقين". 4746 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام في القمص الحرير في السفر، من حكة كانت بهما، أو وجع كان بهما. 4747 - وفي رواية عن سعيد، بهذا الإسناد، ولم يذكر في السفر.

4748 - عن أنس رضي الله عنه قال: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم أو رخص للزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف في لبس الحرير؛ لحكة كانت بهما. 4749 - عن أنس رضي الله عنه أن عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم القمل. فرخص لهما في قمص الحرير في غزاة لهما. -[المعنى العام]- خلق آدم -عليه السلام- من الأرض، وأدخله الجنة، لا يجوع فيها ولا يعرى، ولا يظمأ فيها ولا يتعب، نعيم من غير كد، وراحة من غير شقاء، وكان من أمره ما كان، فهبط إلى الأرض، ليقضي فيها مدة تشبه مدة العقوبة، ومن بعده ذريته، يقضون على الأرض عمراً قد يمتد، وقد يقصر، وصل بنوح -عليه السلام- ألف سنة، ومات كثير من الأطفال عقب الولادة، مشيئة الله أن تولد ذرية آدم على الأرض، مخلوقة من عناصر الأرض، وتعيش عمرها في الدنيا على الأرض، تأكل من نبات الأرض، وتسعى وتكد لإعمار الأرض، وتموت فتدفن في تراب الأرض، ثم تبعث يوم القيامة من الأرض، إما إلى جنة، وإما إلى نار، نتيجة لأعمالها في دنياها، قال تعالى: {وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} [البقرة: 36] وكان العمر لذرية آدم فترة اختبار وامتحان {قلنا اهبطوا منها جميعاً فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون* والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [البقرة: 38، 39] لم تكن الدنيا دار نعيم، وما عاش الإنسان عليها ليتنعم، بل إن نعيمه فيها محسوب عليه، مخصوم من نعيمه الدائم في الآخرة، من هنا كان فقراء الدنيا، الذين عاشوا عابدين طائعين متقين مستقيمين على صراط الله أكثر أهل الجنة، وكان أغنياء الدنيا قليلين في الجنة، لأنهم شغلتهم أموالهم وأهلوهم عن الصراط المستقيم، ومن هنا كانت دعوة الإسلام إلى الكفاح، ومجاهدة النفس، ومجاهدة الشهوات، والتقلل من التنعم والطيبات أكثر من دعوته إلى الغنى والتنعم، وها هي الأحاديث تحرم الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة، لما في ذلك من الإسراف المحرم، فالطعام والشراب في آنية الذهب والفضة لا يزيد حلاوة عنه في إناء من الفخار، وكل ما يفيده الزهو والفخر والخيلاء والإعجاب النفسي، والتباهي البشري، وينسى ابن آدم المسكين أصله، وأنه نطفة مذرة، وحاله الآن، إذ هو يحمل العذرة، ومآله بعد الموت، حيث يكون جيفة قذرة. وتحرم على الرجال لبس خواتيم الذهب، والتحلي بالذهب بأي نوع من أنواع الحلية، بل واستعمال الذهب على أي حال.

وتحرم على الرجال لبس الحرير بأنواعه، فيقول صلى الله عليه وسلم "لا تشربوا في إناء الذهب والفضة ولا تلبسوا الديباج والحرير، فإنه لهم في الدنيا، وهو لكم في الآخرة" وقال عن جبة الحرير "إنما هذه لباس من لا خلاق له" وقال "لا يلبس الحرير إلا من ليس له منه شيء في الآخرة" و"من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة" وقال "الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم". إن الإسلام لا يدعو إلى الفقر، بل يدعو إلى العمل والكفاح، والعمل والكفاح لا يتفق مع التنعم والتخنث، بل يحتاج الخشونة والرجولة والشهامة والقوة، إن الخدور للنساء، والنعومة للنساء، والتزين والتجمل شأن النساء، ولعن الله الرجال المشبهين بالنساء. كيف يعمل في المصانع والمزارع من يلبس الحرير؟ وكيف يضرب بسواعده من يحليها بالذهب؟ وكيف يتحمل مشاق السفر والجهاد من اعتاد أن يأكل في أواني الذهب أو الفضة؟ . إن الإسلام عز، وعلا، وارتقى، وانتشر، وساد، وحكم، حينما كان أبناؤه رجالاً، شجعاناً أبطالاً، فلما تنعم أبناؤه، وأصيبوا بالترف والرفاهية، ونعمت جلودهم كالنساء، ولانت أظافرهم كالأطفال، وخلدوا إلى الراحة والبطالة، واستبدلوا بالنشاط والحركة الخمول والكسل تأخر المسلمون، وتقدم غيرهم من العاملين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. -[المباحث العربية]- (الذي يشرب في آنية الفضة) في ملحق الرواية "أن الذي يأكل أو يشرب في آنية الفضة والذهب" والواو فيها بمعنى "أو" ففي الرواية الثانية "من شرب في إناء من ذهب أو فضة" وفي الرواية الثالثة "نهانا عن شرب بالفضة" وفي الرواية الرابعة "لا تشربوا في إناء الذهب والفضة" وفي الرواية الخامسة "لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها" والصحاف جمع صحفة، وهي دون القصعة، قال الجوهري: قال الكسائي: أعظم القصاع الجفنة، ثم القصعة تليها، تشبع العشرة ثم الصحفة، تشبع الخمسة، ثم المكيلة، تشبع الرجلين والثلاثة، ثم الصحيفة، تشبع الرجل. اهـ والمراد هنا أي إناء، صغر أو كبر. (إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) قال النووي: اتفق العلماء من أهل الحديث واللغة والغريب وغيرهم على كسر الجيم الثانية من "يجرجر" واختلفوا في حركة راء "نار" فنقلوا فيها النصب والرفع، وهما مشهوران في الرواية وفي كتب الشارحين وأهل الغريب واللغة، والنصب هو الصحيح المشهور الذي جزم به الأزهري وآخرون من المحققين، ورجحه الزجاج والخطابي والأكثرون، ويؤيده الرواية الثانية "يجرجر في بطنه ناراً من جهنم" وفي مسند أبي عوانة والجعديات "إنما يجرجر في جوفه ناراً" من غير ذكر جهنم. اهـ والجرجرة الصب، أو التجرع، أو التصويت، فالنصب على المفعولية، والفاعل ضمير الشارب، على معنى: يصب أو يتجرع ناراً، والرفع على أن النار هي التي

تصوت، قيل: إن الكلام على مجاز التشبيه، فإن النار لا صوت لها، وقيل: يخلق الله لها صوتاً، و"إنما" كافة ومكفوفة، أي إن "ما" كفت ومنعت "إن" عن العمل، كما في قوله تعالى {إنما صنعوا كيد ساحر} [طه: 69] وسمي المشروب ناراً لأنه يئول إليها، كما في قوله تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً} [النساء: 10] أي إن الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب أو الفضة إنما يأكل أو يشرب شيئاً يئول إلى نار، يأكله أو يشربه يوم القيامة، ولفظ "جهنم" عجمي لا ينصرف، للعلمية والعجمة، سميت بذلك لبعد قعرها، يقال: بئر جهنام إذا كانت عميقة القعر، وقال بعض اللغويين: مشتقة من الجهومة، وهي الغلظ، وسميت بذلك لغلظ أمرها في العذاب. وفي ملحق الرواية الثالثة "من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة" وفي الرواية الرابعة "لا تشربوا في إناء الذهب والفضة ... فإنه لهم في الدنيا، وهو لكم في الآخرة يوم القيامة" وفي الرواية الخامسة "فإنها لهم في الدنيا" وفي رواية للبخاري "نهانا عن الحرير والديباج والشرب في آنية الذهب والفضة وقال: هن لهم في الدنيا، وهن لكم في الآخرة" بلفظ "هن" ضمير جمع النسوة، وفي رواية أبي داود "هي" فمعنى "هو" أو "هي" أي جميع ما ذكر، وليس معنى "لهم في الدنيا" إباحة استعمالهم إياه، وإنما المعنى أنهم هم الذين يستعملونه، مخالفين المسلمين، ويمنعونه في الآخرة، جزاء لهم على معصيتهم باستعماله، وعند النسائي بسند قوي "من شرب في آنية الفضة والذهب في الدنيا لم يشرب فيهما في الآخرة، وآنية أهل الجنة الذهب والفضة" فهل الوعيد بعدم دخول الجنة؟ أم بعدم الشرب في آنية الذهب والفضة في الجنة إن دخلها، الظاهر الأول، للأحاديث السابقة "يجرجر في بطنه نار جهنم" أي لمدة معينة. (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع) أي بسبع خصال، أو سبع فضائل، والأمر بسبع في مجلس لا ينافي الأمر بغيرها في مجلس آخر، فالعدد لا مفهوم له، ولا يفيد تحديد المأمورات. (أمرنا بعيادة المريض) سميت زيارة المريض عيادة، لأن شأنها العود والتكرار. (واتباع الجنازة) بفتح الجيم وكسرها، اسم للميت في النعش، مأخوذة من جنزه يجنزه إذا ستره، ويطلق على الخشبة التي يحمل عليها الميت لفظ سرير، أو نعش، واتباع الجنائز الاتصال بها، أعم من الصلاة عليها، أو تشييعها، أو دفنها. (وتشميت العاطس) التشميث بالشين المعجمة مصدر شمت بتشديد الميم، ويقال: سمت بالسين المهملة، بدل الشين. قال ابن الأنباري: كل داع بالخير مشمت بالشين المعجمة، والسين المهملة، والعرب تجعل الشين والسين في اللفظ الواحد بمعنى. اهـ وهذا ليس مطرداً، بل هو في مواضع معدودة، وقال أبو عبيد: التشميت بالمعجمة أعلى وأكثر، وقال عياض: هو كذلك للأكثر من أهل العربية، وفي الرواية، وقال ثعلب: الاختيار أنه بالمهملة، لأنه مأخوذ من السمت، وهو القصد والطريق القويم، وأشار ابن دقيق العيد إلى ترجيحه، وقال القزاز: التشميت التبرك، والعرب تقول: شمته، إذا دعا له بالبركة، وشمت عليه، إذا برك عليه، وقال ابن التين عن أبي عبد الملك قال:

التشميت بالمهملة أفصح، وهو من سمت الإبل في المرعى، إذا جمعها، فمعناه على هذا، جمع الله شملك، وتعقب بأن شمت الإبل إنما هو بالمعجمة، وكذا نقله غير واحد أنه بالمعجمة، فيكون معنى شمته دعا له بأن يجمع الله شمله، وقيل: هو بالمعجمة من الشماتة، وهي فرح الشخص بما يسوء عدوه، وكأنه دعا له أن لا يكون في حال من يشمت به، أو أنه إذا حمد الله أدخل على الشيطان ما يسوؤه، فشمت هو بالشيطان، وقيل: هو من الشوامت، جمع شامته، وهي القائمة، يقال: لا ترك الله له شامته، أي قائمة، وقال ابن العربي في شرح الترمذي: المعنى في اللفظين بديع، وذلك أن العاطس ينحل كل عضو في رأسه، وما يتصل به من العنق ونحوه، فكأنه إذا قيل له: رحمك الله. كان معناه أعطاك الله رحمة، يرجع بها كل عضو إلى سمته الذي كان عليه، وإن كان بالمعجمة فمعناه: صان الله شوامتك، أي قوائمك التي بها قوام بدنك عن خروجها عن الاعتدال، قال: وشوامت كل شيء قوائمه التي بها قوامه، فقوام الدابة بسلامة قوائمها، التي ينتفع بها إذا سلمت، وقوام الآدمي بسلامة قوائمه، التي بها قوامه، وهي رأسه، وما يتصل به من عنق وصدر. اهـ ملخصاً، كذا نقله الحافظ ابن حجر. و"العاطس" من عطس بفتح الطاء، يعطس بكسر الطاء وضمها، والعطاس معروف، وينشأ من خفة البدن، وانفتاح المسام، وعدم الغاية في الشبع، فالعطاس يدفع الأذى من الذي فيه قوة الفكر، ومنه منشأ الأعصاب التي هي معدن الحس، وبسلامته تسلم الأعضاء، فهو نعمة جليلة. (وإبرار القسم، أو المقسم) بر القسم صدقه، وتحقيقه، وعدم الحنث فيه، وإبراره جعله باراً، فالمراد تصديق الحالف في حلفه، أو إجابة ما يحلف عليه، أي فعل ما أراده الحالف، ليصير بذلك باراً، قال الحافظ ابن حجر: واختلف في ضبط سين "المقسم" والمشهور أنها بالكسر وضم أوله، على أنه اسم فاعل، وقيل بفتحها مع ضم أوله. (وإفشاء السلام) أي إشاعته وإكثاره، وبذله لكل مسلم، وفي ملحق الرواية "ورد السلام" بدل "وإفشاء السلام". (وعن المياثر) جمع مئثرة بكسر الميم وسكون الهمزة، وهي وطاء كانت النساء يضعنه لأزواجهن على السروج، وكانت من مراكب العجم، وتكون من الحرير، كما تكون من الصوف وغيره، وقيل: أغشية من الحرير للسروج، وقيل: هي سروج من الديباج، وقيل: هي كالفراش الصغير، تتخذ من حرير، وتحشى بقطن أو صوف، يجعلها الراكب على البعير تحته، فوق الرحل، والمئثرة مهموزة، وقد تكون بالياء، وهي مفعلة بكسر الميم، من الوثارة، يقال: وثر -بضم الثاء- وثارة بفتح الواو، فهو وثير، أي وطيء لين، وأصلها موثرة بكسر الميم، فقلبت الواو ياء، لكسر ما قبلها، كما في ميزان وميقات وميعاد، من الوزن والوقت والوعد، وأصلها موزان وموقات وموعاد. وفي رواية للبخاري "نهى عن المياثر الحمر" وفي روايتنا الحادية عشرة "وميثرة الأرجوان" وعند أبي داود "نهى عن المياثر الأرجوان" بضم الهمزة والجيم بينهما راء ساكنة ثم واو خفيفة، وحكى

القاضي عياض ثم القرطبي فتح الهمزة، وأنكره النووي، وصوب أن الضم هو المعروف في كتب الحديث واللغة والغريب، واختلفوا في المراد به، فقيل: هو صبغ أحمر، شديد الحمرة، وهو نور شجر من أحسن الألوان، وقيل: الصوف الأحمر، وقيل: كل شيء أحمر فهو أرجوان، واختلفوا هل هذه الكلمة عربية؟ أو معربة؟ قولان. والنهي عن المياثر نهي عن الركوب والجلوس عليها. (وعن القسي) بفتح القاف وكسر السين المشددة. هذا هو المعتمد الصحيح المشهور، وبعض أهل الحديث يكسر القاف، قال أبو عبيد: أهل الحديث يكسرونها، وأهل مصر يفتحونها. قال النووي: واختلفوا في تفسيره، والصواب ما ذكره مسلم -في روايتنا العاشرة- عن يحيى بن أبي إسحق قال: "قال لي سالم بن عبد الله في الإستبرق" وعند البخاري "قال لي سالم: ما الإستبرق؟ " قلت: ما غلظ من الديباج وخشن منه" وقيل: القسي ثياب مضلعة، يؤتى بها من مصر والشام، قال أهل اللغة وغريب الحديث: هي ثياب مضلعة بالحرير، تعمل بالقس، بفتح القاف، وهو موضع من بلاد مصر، وهو قرية على ساحل البحر، قريبة من تنيس، وقيل: هي ثياب كتان مخلوط بحرير، وقيل: هي ثياب من القز. (وعن لبس الحرير) الحرير معروف، وهو عربي، سمي به لخلوصه، يقال: لكل خالص محرر، وحررت الشيء خلصته من الاختلاط بغيره، وقيل: هو فارسي معرب. (والإستبرق) وهو غليظ الديباج. (والديباج) بفتح الدال وكسرها، وجمعه دبابيج، عجمي معرب. (وإنشاد الضال) أي التعريف عن الضائع والملتقط. (كنا مع حذيفة بالمدائن) "المدائن" على هيئة جمع لفظ مدينة، وهو بلد عظيم على دجلة، بينها وبين بغداد سبعة فراسخ، كانت مسكن ملوك الفرس، وبها إيوان كسرى المشهور، وكان فتحها على يد سعد بن أبي وقاص، في خلافة عمر، سنة ست عشرة، و"حذيفة" بن اليمان كان من كبار الصحابة، وهو الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، ينظر إلى قريش، فجاءه بخبر رحيلهم، شهد أحداً والخندق وفتوح العراق، وكان فتح همدان والري والدينور على يديه، وكانت فتوحاته سنة ثنتين وعشرين، واستعمله عمر على المدائن، فلم يزل بها حتى مات، بعد قتل عثمان، وبعد بيعة علي بأربعين يوماً على أرجح الأقوال، وكان يعرف بصاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه خص بأحاديث الفتن. (فاستسقى حذيفة) أي طلب أن يشرب، وفي رواية للبخاري "فاستقى". (فجاءه دهقان بشراب، في إناء من فضة) الدهقان بكسر الدال على المشهور، وحكي ضمها، ووقع في بعض نسخ صحاح الجوهري مفتوحاً، قال النووي: وهذا غريب، والدهقان زعيم

فلاحي العجم، وقيل: زعيم القرية ورئيسها، وهو عجمي معرب، وقيل: النون فيه أصلية، مأخوذ من الدهقنة، وهي الرياسة، فينون، ولا يمنع من الصرف، وقيل: النون زائدة، من الدهق، وهو الامتلاء، فيمنع من الصرف، قال القاضي: يحتمل أنه سمي به من جمع المال، وملأ الأوعية منه، قالوا: ويحتمل أن يكون من الدهقنة والدهمة، وهي لين الطعام، لأنهم يلبنون طعامهم وعيشهم لسعة أيديهم وأحوالهم، وقيل: لحذقه ودهائه، والظاهر أن هذا الدهقان كان ساقي الأمير، لتكرر قيامه بسقي حذيفة، ولا مانع من أن يتقرب زعيم القرية بسقي الأمير بنفسه المرة بعد المرة، وفي ملحق الرواية "فأتاه إنسان بإناء من فضة" أي بشراب في إناء من فضة، وفي الرواية الخامسة "فسقاه مجوسي في إناء من فضة" وفي هذه الرواية مجاز المشارفة، أي فأراد مجوسي سقيه في إناء من فضة، وفي رواية للبخاري "فأتاه دهقان بقدح من فضة" أي بشراب في قدح، والشراب كان ماء، ففي رواية للبخاري "بماء في إناء". (فرماه به) أي فرمى الدهقان بالإناء، وفي رواية "فرمى به في وجهه" وفي رواية "فحذفه به" وفي رواية "فرماه به فكسره" وفي رواية "ما يألو أن يصيب به وجهه". (وقال: إني أخبركم أني قد أمرته ألا يسقيني فيه) في رواية للبخاري "فقال: إني لم أرمه إلا أني نهيته فلم ينته" وفي رواية له "لم أكسره إلا أني نهيته، فلم يقبل" وفي رواية "ثم أقبل على القوم، فاعتذر" وفي رواية "لولا أني تقدمت إليه مرة أو مرتين، لم أفعل به هذا" وفي رواية "فرمى به في وجهه، قال: فقلنا: اسكتوا، فإنا إن سألناه لم يحدثنا، قال: فسكتنا، فلما كان بعد ذلك قال: أتدرون لم رميت بهذا في وجهه؟ قلنا: لا. قال: ذلك أني كنت نهيته ... ". (عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن عمر بن الخطاب) هكذا رواه أكثر أصحاب نافع، فهو من مسند ابن عمر، وكذا هو في روايتنا السابعة والثامنة والتاسعة، لكن النسائي أخرجه "عن عمر أنه رأى حلة" فجعله في مسند عمر، قال الدارقطني: المحفوظ أنه من مسند ابن عمر. (رأى حلة سيراء) قال أبو عبيد: الحلل برود اليمن، والحلة إزار ورداء، زاد ابن الأثير: إذا كانا من جنس واحد، وحكى القاضي عياض أن أصل تسمية الثوبين حلة، أنهما يكونان جديدين، قد حل طيهما، وقيل: لا يكون الثوبان حلة، حتى يلبس أحدهما فوق الآخر، فإذا كان فوقه فقد حل عليه، والأول أشهر، والسيراء بكسر السين وفتح الياء والراء والمد، هي برود يخالطها حرير، قال مالك: هو الوشى من الحرير، والوشى بفتح الواو وسكون الشين بعدها ياء، وقال الأصمعي، ثياب فيها خطوط من حرير أو قز، وإنما قيل لها "سيراء" لتسيير الخطوط فيها، وقال الخليل: ثوب مضلع بالحرير، وقيل: مختلف الألوان، فيه خطوط ممتدة، كأنها السيور. قال الخليل: ليس في الكلام فعلاء، بكسر الفاء مع المد سوى سيراء، وحولاء، وهو الماء الذي يخرج على رأس الولد، وعنباء، لغة في العنب، ونقل عياض عن سيبويه، قال: لم يأت فعلاء صفة، لكن اسماً، وهو الحرير الصافي.

واختلف في قوله "حلة سيراء" هل هو بالإضافة من إضافة الشيء لصفته و"حلة" بغير تنوين؟ أو هو عطف بيان أو وصف، و"حلة" بالتنوين. قال النووي: هما وجهان مشهوران، والمحققون ومتقنو العربية يختارون الإضافة، وأكثر المحدثين ينونون، وجزم القرطبي بأنه الرواية. وفي الرواية الثامنة "حلة من إستبرق" وفي الرواية التاسعة "قباء من ديباج أو حرير" وفي رواية "حلة سندس" قال النووي: فهذه الألفاظ تبين أن الحلة كانت حريراً محضاً، وهو الصحيح الذي يتعين القول به في هذا الحديث جمعاً بين الروايات. (عند باب المسجد) النبوي، وفي رواية ابن إسحق "أن عمر كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في السوق، فرأى حلة" قال الحافظ ابن حجر: ولا تخالف بين الروايتين، لأن طرف السوق كان يصل إلى قرب باب المسجد. اهـ فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك عمر عند بداية السوق، قبل أن يرى عمر الحلة، ودخل المسجد أو بيته، ودخل عمر السوق. وفي الرواية السابعة "رأى عمر عطارداً التميمي يقيم بالسوق حلة سيراء -أي يعرضها للبيع- وكان رجلاً يغشى الملوك، ويصيب منهم" وأخرج الطبراني عن حفصة بنت عمر "أن عطارد بن حاجب جاء بثوب من ديباج، كساه إياه كسرى" وفي الرواية التاسعة "أن عمر رأى على رجل من آل عطارد قباء من ديباج أو حرير" والظاهر أن عطارد كان يلبس الحلة في السوق تارة، ويلبسها أحد أقاربه تارة أخرى، وعطارد هذا بضم العين وكسر الراء، هو ابن حاجب بن زرارة بن عدس الدارمي، يكنى أبا عكرشة، وكان من جملة وفد بني تميم، أصحاب الحجرات وقد أسلم، وحسن إسلامه، واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على صدقات قومه، لكنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتد فيمن ارتد من بني تميم، وتبع سجاح، ثم عاد إلى الإسلام، وهو الذي قال في سجاح: أضحت نبيتنا أنثى نطيف بها وأضحت أنبياء الناس ذكرانا فلعنة الله رب الناس كلهم على سجاح ومن بالكفر أغوانا وكان أبوه من رؤساء بني تميم في الجاهلية، وكان يقال له: ذو القوس، لأنه لما قحط مضر، بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم رحل إلى بلاد كسرى، وسأله أن يأذن له بالإقامة حول بلاده، فقال له: إنكم أهل غدر، فمن يضمن لي أن تفي؟ قال: أرهنك قوسي، وهو أغلى سلاحي، ومات حاجب، ورجع عطارد إلى بلاده، بلاد بني تميم، ثم رجل إلى كسرى يطلب قوس أبيه، فردها عليه، وكساه حلة غالبة، فعرضها للبيع. (فقال: يا رسول الله، لو اشتريت هذه ... ) وفي الرواية السابعة "فقال عمر: يا رسول الله إني رأيت عطارداً يقيم في السوق حلة سيراء، فلو اشتريتها ... " وفي الرواية الثامنة وجد عمر بن الخطاب حلة من إستبرق، تباع بالسوق، فأخذها، فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ... " وفي الرواية العاشرة "فأتى بها النبي صلى الله عليه وسلم ... ". والظاهر أن عمر أخذ الحلة من عطارد ليعرضها على الرسول صلى الله عليه وسلم ليشتريها، فلما رفض شراءها أعادها إلى عطارد.

ونقل الحافظ ابن حجر عن الطبراني عن عطارد نفسه أنه أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثوب ديباج، كساه إياه كسرى، قال الحافظ: والجمع بين هذا وبين حديث رفض الشراء أن عطارداً لما أقامه في السوق ليباع، لم يتفق له بيعه، فأهداه للنبي صلى الله عليه وسلم. اهـ وهذا الجمع بعيد، لأن ما يرفض شراءه صلى الله عليه وسلم يرفض قبول هديته في ذات الوقت، وروايتنا السادسة تقول "ثم جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حلل" وروايتنا السابعة تقول "فلما كان بعد ذلك أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلل سيراء" وروايتنا الثامنة تقول "فلبث عمر ما شاء الله، ثم أرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بجبة ديباج ... " وتقول روايتنا السابعة عشرة "لبس النبي صلى الله عليه وسلم يوماً قباء من ديباج، أهدي له، ثم أوشك أن نزعه، فأرسل به إلى عمر بن الخطاب، فقيل له: قد أوشك ما نزعت يا رسول الله؟ فقال: نهاني عنه جبريل، فجاء عمر يبكي .. " وتقول روايتنا الثامنة عشرة "عن علي رضي الله عنه قال: أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلة سبراء، فبعث بها إلي، فلبستها، فعرفت الغضب في وجهه، فقال: إني لم أبعث بها إليك لتلبسها ... ". وطريق الجمع بين هذه الأحاديث سهل، فقد كانت حلة عطارد من الحرير الخالص الواضح لخبراء الحرير وغير خبراء الحرير، وكان الهدف شراءها ولبسها، فرفض الشراء واللباس، ومنع على من له خلاق إسلامي، ثم أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلة، ثم حلل أخرى، غير حلة عطارد قد تكون إحداها من عطارد، أهداها إليه كسرى، لأنه كان يتردد عليه، ويصيب منه، وأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلل من الفيء ونحوه، فكان أن أرسل إحداها إلى عمر، وأخرى إلى علي، وكانت القاعدة أن يلبسها النساء، لا الرجال، أما أن الرسول صلى الله عليه وسلم لبس حلة، ثم نزعها فتلك حلة اختلط حريرها بغيره، وظنها صلى الله عليه وسلم من غير الممنوعات، فأوحي إليه بنزعها، وتطبيق القاعدة عليها. و"لو" في قوله "لو اشتريت هذه؟ فلبستها" للتمني، أو للشرط، وجوابها محذوف، أي لكان حسناً. (فلبستها للناس يوم الجمعة؟ وللوفد إذا قدموا عليك) وفي الرواية السابعة "فلو اشتريتها، فلبستها لوفود العرب، إذا قدموا عليك؟ ولبستها يوم الجمعة" قال الحافظ ابن حجر: وكأنه خصه بالعرب لأنهم كانوا إذ ذاك الوفود في الغالب، لأن مكة لما فتحت بادر العرب بإسلامهم، فكان كل قبيلة ترسل كبراءها ليسلموا، ويرجعوا إلى قومهم فيعلموهم، وفي الرواية الثامنة "يا رسول الله، ابتع هذه، فتجمل بها للعيد وللوفد" فبعض الروايات ذكر العيد، وبعضها ذكر الجمعة، ويجمع بالأخذ بالروايتين، وعند النسائي "فتجمل بها لوفود العرب إذا أتوك، وإذا خطبت الناس في يوم عيد وغيره". (إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة) في الرواية السابعة "إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة" وفي الرواية الثامنة "إنما هذه لباس من لا خلاق له" وفي الرواية التاسعة "إنما يلبس هذا من لا خلاق له" والخلاق النصيب، وقيل: الحظ، وهو المراد هنا أي من لا حظ له ولا نصيب، ويطلق أيضاً على الحرمة، وعلى الدين، أي من لا حرمة له، أو من لا دين له. (فقال عمر: يا رسول الله، كسوتنيها) قال ذلك باعتبار ما فهم هو، وإلا فقد ظهر من بقية

الحديث أنه لم يبعث بها إليه ليلبسها، ويحتمل أن المراد من كسوتنيها أعطيتني ما يصلح أن يكون كسوة، والأول أوجه. وفي الرواية الثامنة "فأقبل بها عمر، حتى أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله. قلت: إنما هذه لباس من لا خلاق له -أو إنما يلبس هذه من لا خلاق له، ثم أرسلت إلي بهذه"؟ وفي الرواية السابعة عشرة "فجاء عمر يبكي، فقال: يا رسول الله. كرهت أمراً، وأعطيتنيه؟ فما لي"؟ وفي رواية "فجاء عمر بحلته يحملها، فقال: بعثت إلي بهذه، وقد قلت بالأمس -أي في زمن مضى- في حلة عطارد ما قلت .... " وفي رواية عن عمر قال: "فخرجت فزعاً، فقلت: يا رسول الله، ترسل بها إلي؟ وقد قلت فيها ما قلت"؟ . (إني لم أكسكها لتلبسها) "لم أكسكها" من قبيل المشاكلة لقوله "كسوتنيها" والمراد لم أعطكها لتلبسها، ففي الرواية السابعة "لم أبعث بها إليك لتلبسها، ولكني بعثت بها إليك لتصيب بها" لتصيب بسببها نفعاً لك بأن تلبسها زوجاتك، أو تهبها لمن يلبسها، أو تبيعها فتصيب بها مالاً، وفي الرواية الثامنة "تبيعها، وتصيب بها حاجتك" وفي الرواية التاسعة "إنما بعثت بها إليك لتستمتع بها" وفي ملحقها "إنما بعثت بها إليك لتنتفع بها" وفي الرواية السابعة عشرة "إنما أعطيتكه تبيعه" وفي الرواية الواحدة والعشرين "إنما بعثت بها إليك لتنتفع بثمنها"، وقد أجاب صلى الله عليه وسلم أسامة في الرواية السابعة بقوله "إني لم أبعث إليك لتلبسها، ولكني بعثت بها إليك لتشققها خمراً بين نسائك" أي لتقطعها قطعاً، فتفرقها على نسائك خمراً، والخمر بضم الخاء والميم جمع خمار، بكسر الخاء وفتح الميم مخففة، وهو ما تغطي به المرأة رأسها. وأجاب صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه بقوله في الرواية الثامنة عشرة "إني لم أبعث بها إليك لتلبسها، إنما بعثت بها إليك لتشققها خمراً بين النساء" وفي الرواية التاسعة عشرة "شققه خمراً بين الفواطم" وفي ملحقها "بين النسوة" وفي الرواية المتممة للعشرين قال علي: "فشققتها بين نسائي"، وفي الرواية الثامنة عشرة "فأطرتها بين نسائي" أي قسمتها بين نسائي، يقال: أطار لي في القسم كذا، أي صار لي كذا، وقد روى الطحاوي عن علي رضي الله عنه في هذه القصة، قال: فشققت منها أربعة أخمرة، خماراً لفاطمة بنت أسد بن هاشم، أم علي، وخماراً لفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وخماراً لفاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب، وخماراً لفاطمة أخرى لم يذكر الراوي اسمها، قال عياض: لعلها فاطمة، امرأة عقيل بن أبي طالب، لاختصاصها بعلي رضي الله عنه بالمصاهرة، وقربها إليه بالمناسبة، وهي بنت شيبة بن ربيعة، وقيل: بنت عتبة بن ربيعة، وقيل: بنت الوليد بن عتبة، وهي من المبايعات، وشهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة حنين. (فكساها عمر أخاً له مشركاً بمكة) في الرواية السابعة عشرة "فباعه -أي عمر- بألفي درهم" وفي رواية عند النسائي "أخاً له من أمه" وفي رواية للبخاري "فأرسل بها عمر إلى أخ له من أهل مكة قبل أن يسلم" قال النووي: وهذا يشعر بأنه أسلم بعد ذلك، وقال الحافظ ابن حجر: نقل عن ابن الحذاء في رجال الموطأ أن اسمه عثمان بن حكيم. وقال الدمياطي: هو السلمي أخو خولة بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقصي، قال: وهو أخو زيد بن الخطاب لأمه، فمن أطلق عليه أنه أخو

عمر لأمه لم يصب، قال الحافظ ابن حجر: بل له وجه بطريق المجاز، ويحتمل أن يكون عمر ارتضع من أم أخيه زيد، فيكون عثمان بن حكيم أخا عمر لأمه من الرضاع، وأخا زيد لأمه من النسب، قال الحافظ: ولم أقف على اسمه في الصحابة، فإن كان قد أسلم فقد فاتهم، فليستدرك، وإن كان مات كافراً، كان قوله "قبل أن يسلم" لا مفهوم له، بل المراد أن البعث إليه كان في حال كفره، مع قطع النظر عما وراء ذلك. اهـ وقد جمع الحافظ ابن حجر بين رواية بيع عمر له بألفي درهم، ورواية إرساله لأخيه المشرك بمكة بقوله: إن كان حديث البيع محفوظاً أمكن أن يكون عمر باعه بإذن أخيه، بعد أن أهداه له. اهـ (قال لي سالم بن عبد الله في الإستبرق) في رواية البخاري والنسائي "قال لي سالم: ما الإستبرق؟ قال: قلت: ما غلظ من الديباج" وهذا معنى رواية مسلم التي معنا، لكنها هنا مختصرة، ومعناها: قال لي سالم في الإستبرق: ما هو؟ فقلت: ما غلظ إلخ. قال النووي: فرواية مسلم صحيحة، لا قدح فيها، وقد أشار القاضي عياض إلى تغليطها، وأن الصواب رواية البخاري، وليست بغلط، بل صحيحة، كما أوضحناه. اهـ (العلم في الثوب) بفتح العين واللام، وهو ما يكون في الثوب من تطريف أو تطريز ونحوهما بالحرير. (أما ما ذكرت من رجب، فكيف بمن يصوم الأبد؟ ) هذا الجواب إنكار منه لما بلغها عنه من تحريمه، وإخبار بأنه يصوم رجب كله، وأنه يصوم الأبد، والمراد بالأبد ما سوى العيدين والتشريق. (وأما ما ذكرت من العلم في الثوب، فإني سمعت عمر بن الخطاب يقول ... إنما يلبس الحرير من لا خلاق له، فخفت أن يكون العلم منه) هذا الجواب ليس اعترافاً منه بأنه كان يحرمه، بل إخباراً بأنه تورع عنه، خوفاً من دخوله في عموم النهي عن الحرير. (وأما مئثرة الأرجوان فهذه مئثرة عبد الله، فإذا هي أرجوان) هذا الجواب إنكار لما بلغها عنه فيها، قال النووي: والمراد أنها حمراء، وليست من حرير، بل من صوف أو غيره، وقد تكون من الحرير، وقد تكون من الصوف، وأن الأحاديث الواردة في النهي عنها مخصوصة بالتي هي من الحرير. (فأخرجت إلى جبة طيالسة كسروانية، لها لبنة ديباج) الطيالسة جمع طيلسان، بفتح اللام على المشهور، وذكر القاضي أن الطيلسان يقال بفتح اللام وضمها وكسرها. قال النووي: وهذا غريب ضعيف، والطيلسان الثوب الذي له علم، وقد يكون كساء "وجبة طيالسة" بإضافة "جبة" إلى "طيالسة" والكسروانية بكسر الكاف وفتحها، والسين ساكنة، والراء مفتوحة، ونقل القاضي أن جمهور الرواة رووه بكسر الكاف، وهو نسبة إلى

كسرى، ملك الفرس، وفيه كسر الكاف وفتحها، قال القاضي: ورواه الهروي في مسلم فقال "خسروانية" واللبنة بكسر اللام وسكون الباء رقعة في جيب القميص. (وفرجيها مكفوفين بالديباج) قال النووي: هكذا وقع في جميع النسخ "وفرجيها مكفوفين" وهما منصوبان بفعل محذوف، أي ورأيت فرجيها مكفوفين، ومعنى المكفوف أنه جعل لها كفة -بضم الكاف- وهو ما يكف به جوانبها، ويعطف عليها، ويكون ذلك في الذيل وفي الفرجين وفي الكمين. اهـ والمراد هنا من الفرجين بفتح الفاء وسكون الراء الفتحتان الجانبيتان اللتان تخرج اليدان منهما. (نغسلها للمرضى، يستشفى بها) أي يتبرك بماء غسيلها المريض، فيشفيه الله. (لا تلبسوا الحرير، فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة) قيل: فإنه لا يدخل الجنة، لأن لباسهم فيها حرير، وقيل: قد يدخل الجنة ولا يشتهيه ولا يلبسه. وفي الرواية الرابعة "وهو لكم في الآخرة يوم القيامة" قال النووي: جمع بين "الآخرة" و"يوم القيامة" لأنه قد يظن أنه بمجرد موته صار في حكم الآخرة في هذا الإكرام، فبين أنه إنما هو في يوم القيامة، وبعده في الجنة أبداً، ويحتمل أن المراد أنه لكم في الآخرة من حين الموت، ويستمر في الجنة أبداً. اهـ وفي الرواية الرابعة عشرة "لا يلبس الحرير إلا من ليس له منه شيء في الآخرة". (عن زهير عن عاصم الأحول عن أبي عثمان قال: كتب إلينا عمر) أبو عثمان كان واحداً من جند تحت إمرة عتبة بن فرقد، والكتاب موجه إلى القائد، فقول أبي عثمان "كتب إلينا" أي لأجلنا، أي كتب إلى القائد ليقرأه علينا، فقرأه علينا، وفي الرواية الرابعة عشرة عن أبي عثمان "كنا مع عتبة بن فرقد، فجاءنا كتاب عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ... " قال النووي: هذا الحديث مما استدركه الدارقطني على البخاري ومسلم، وقال: هذا الحديث لم يسمعه أبو عثمان من عمر، بل أخبر عن كتاب عمر، وهذا الاستدراك باطل، فإن الصحيح الذي عليه جماهير المحدثين ومحققو الفقهاء والأصوليين جواز العمل بالكتاب، وروايته عن الكاتب، سواء قال في الكتاب: أذنت لك في رواية هذا عني، أو أجزتك روايته عني، أو لم يقل شيئاً، وقد أكثر البخاري ومسلم وسائر المحدثين والمصنفين في تصانيفهم من الاحتجاج بالمكاتبة، فيقول الراوي: كتب إلي فلان كذا، أو كتب إلي فلان قال: حدثنا فلان، أو أخبرني فلان مكاتبة، ومنه هذا الذي نحن فيه، وذلك معمول به عندهم، معدود في المتصل، لإشعاره بمعنى الإجازة، وزاد السمعاني، فقال: المكاتبة أقوى من الإجازة، ودليلهم في المسألة الأحاديث الصحيحة المشهورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكتب إلى عماله ونوابه وامرائه، ويفعلون ما فيها، وكذلك الخلفاء، ومن ذلك كتاب عمر هذا رضي الله عنه، فإنه كتبه إلى جيشه، وفيه خلائق من الصحابة، فدل على حصول الاتفاق منه وممن عنده في المدينة، ومن في الجيش على العمل بالكتاب، ثم قال: وينبغي للراوي بالمكاتبة أن يقول: كتب إلي فلان قال: حدثنا فلان، أو أخبرنا فلان مكاتبة، أو في كتابه، أو فيما كتب به إلي، ونحو ذلك، ولا يجوز أن يطلق قوله: حدثنا ولا أخبرنا. هذا هو الصحيح، وجوزه طائفة من متقدمي أهل الحديث وكبارهم.

(ونحن بأذربيجان) دولة معروفة وراء العراق، وفي ضبط اللفظ وجهان مشهوران: أفصحهما وقول الأكثرين بفتح الهمزة بغير مد، وإسكان الذال وفتح الراء وكسر الباء، وهذا هو الأشهر، والثاني مد الهمزة وفتح الذال وفتح الراء وكسر الباء. (يا عتبة بن فرقد، إنه ليس من كدك، ولا من كد أبيك، ولا من كد أمك، فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في رحلك) الضمير في "إنه" للمال الذي يتمتع به عتبة، كقائد، والكد التعب والمشقة، والمراد من الرحال المنازل، والمعنى: إن هذا المال الذي عندك، والذي تتمتع به فوق تمتع من معك من الجند، ليس هو من كسبك، وليس هو مما تعبت أنت فيه، وبذلت لتحصيله المشقة والعناء، وليس من كد أبيك وأمك، فورثته منهما، بل هو مال المسلمين، فأنت وهم فيه شركاء، فلا تختص عنهم بشيء، بل أشبعهم منه، وهم في منازلهم، كما تشبع نفسك وأهلك، جنساً وقدراً وصفة، ولا تحوجهم إلى المطالبة بأرزاقهم، بل أوصلها إليهم، وهم في منازلهم بلا طلب. والسبب في هذا الكتاب العنيف ما رواه أبو عوانة في صحيحه "أن عتبة بن فرقد بعث إلى عمر، مع غلام له، بسلال" -بضم السين وتخفيف اللام، جمع سل بفتح السين وكسرها مع تشديد اللام، وسلة بفتح السين واللام المشددة، وهي وعاء من شقاق القصب ونحوه، تحمل فيه الفاكهة ونحوها -"فيها خبيص" أي حلواء مخلوطة بالتمر والسمن- "عليها اللبود" -ضرب من البسط، وما يوضع تحت السرج- "فلما رآه عمر قال: أيشبع المسلمون في رحالهم من هذا؟ قيل له: لا. فقال عمر: لا أريده، وكتب إلى عتبة بهذا الكتاب. (وإياكم والتنعم، وزي أهل الشرك، ولبوس الحرير) زاد في رواية علي بن الجعد "فاتزروا، وارتدوا، وانتعلوا، وألقوا الخفاف والسراويلات، وعليكم بلباس أبيكم إسماعيل، واخشوشنوا، واخلولقوا" ومقصود عمر رضي الله عنه حثهم على خشونة العين، وصلابتهم، لما سيلقونه من شدائد و"الزي" بكسر الزاي وتشديد الياء الهيئة والمنظر، واللباس، فالنهي عن التشبه بأهل الشرك فيما لا يوافق الشرع، و"لبوس الحرير" بفتح اللام، وتخفيف الباء ما يلبس، أي إياكم وملبوس الحرير، قال تعالى: {وعلمناه صنعة لبوس لكم} [الأنبياء: 80] أي ملبوس لكم. (نهى عن لبوس الحرير -قال: إلا هكذا- ورفع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إصبعيه، الوسطى والسبابة، وضمهما) في هذه الرواية أن الذي رفع إصبعيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفسير الإصبعين لعمر على ما هو الظاهر، وفي آخر الرواية "ورفع زهير إصبعيه" وفي الرواية الرابعة عشرة "وقال أبو عثمان بإصبعيه اللتين تليان الإبهام" وعند البخاري "وأشار أبو عثمان بإصبعين، المسبحة والوسطى" ولا تخالف، فيحمل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار أولاً، ثم نقله عنه عمر، فبين بعد ذلك بعض رواية صفة الإشارة، وأشار بعضهم نفس الإشارة. (هذا في الكتاب) الإشارة إلى رفع الإصبعين، والمراد من الكتاب كتاب عمر، أي ليست إشارة أبي عثمان من إنشائه، بل هي في كتاب عمر.

(فرئيتهما أزرار الطيالسة حين رأيت الطيالسة) أي فرئيت مقدار الإصبعين قال القرطبي: الأزرار جمع زر، وهو ما يزرر به الثوب، بعضه على بعض، والمراد به هنا أطراف الطيالسة، وكان للطيالسة التي رآها أعلام حرير في أطرافها. اهـ قال النووي: "فرئيتهما" بضم الراء وكسر الهمزة، وضبطه بعضهم بفتح الراء. اهـ وفي رواية "فرأيناها أزرار الطيالسة حين رأينا الطيالسة". (فما عتمنا أنه يعني الأعلام) قال النووي: هكذا ضبطناه "عتمنا" بعين مفتوحة، ثم تاء مشددة مفتوحة، ثم ميم ساكنة، ثم نون، ومعناه ما أبطأنا في معرفة أنه أراد الأعلام، يقال: عتم الشيء إذا أبطأ وتأخر، وعتمته إذا أخرته، فهذا الذي ذكرناه من ضبط اللفظة وشرحها هو الصواب المعروف الذي صرح به جمهور الشارحين وأهل غريب الحديث، وذكر القاضي فيه عن بعضهم تغييراً واعتراضاً، لا حاجة إلى ذكره. اهـ (أن عمر بن الخطاب خطب بالجابية) مدينة بالشام. (لبس النبي صلى الله عليه وسلم يوماً قباء من ديباج أهدي له) في الرواية الرابعة والعشرين "أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فروج حرير "القباء" بفتح القاف وبالباء، ممدود، فارسي معرب، وقيل، عربي، واشتقاقه من القبو، وهو الضم، وترجم البخاري: باب القباء وفروج حرير، وهو القباء، ويقال: هو الذي له شق من خلفه. اهـ وقال ابن فارس: هو قميص الصبي الصغير، وقال القرطبي: القباء والفروج كلاهما ثوب ضيق الكمين والوسط، مشقوق من خلف، يلبس في السفر والحرب، لأنه أعون على الحركة. اهـ و"فروج حرير" يجوز فيه الإضافة، ويجوز فيه التنوين، كثوب خز، و"فروج" يحتمل ضم الفاء وفتحها رواية، والفتح أوجه، وقال القرطبي، حكي الضم والفتح، والضم هو المعروف، ويحتمل تشديد الراء وتخفيفها، حكاه عياض ومن تبعه، ويحتمل بجيم في آخره، أو بخاء في آخره، حكاه عياض أيضاً، وفي رواية أحمد "فروج من حرير". وفي الرواية الرابعة والعشرين "فلبسه، ثم صلى فيه، ثم انصرف" وعند أحمد "ثم صلى فيه المغرب" وفي رواية ابن إسحق "فلما قضى صلاته" وفي رواية "فلما سلم من صلاته، وهو المراد من الانصراف في رواية مسلم. (ثم أوشك أن نزعه) في الرواية الرابعة والعشرين "فنزعه نزعاً شديداً، كالكاره له" زاد أحمد "عنيفاً" أي بقوة ومبادرة لذلك، على خلاف عادته في الرفق والتأني، وعند أحمد "ثم ألقاه، فقلنا: يا رسول الله، قد لبسته، وصليت فيه"؟ وفي روايتنا السابعة عشرة "فقيل له: قد أوشك ما نزعته يا رسول الله؟ فقال: نهاني عنه جبريل" قال النووي: فيكون هذا أول التحريم، وفي الرواية الرابعة والعشرين "ثم قال: لا ينبغي هذا للمتقين" قال القرطبي: المراد بالمتقين المؤمنون، لأنهم الذين خافوا الله تعالى واتقوه بقوة إيمانهم وطاعتهم له، وقال غيره: لعل هذا من باب التهييج للمكلف على الأخذ بذلك، لأن من سمع أن من فعل ذلك كان غير متق، فهم منه أنه لا يفعله إلا المستخف، فيأنف من فعل ذلك، لئلا يوصف بأنه غير متق.

(أن أكيدر دومة أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثوب حرير) قال النووي: "أكيدر دومة" بضم الدال وفتحها لغتان مشهورتان، وزعم ابن وريد أنه لا يجوز إلا الضم، وأن المحدثين يفتحونها، وأنهم غالطون في ذلك. وليس كما قال، بل هما لغتان مشهورتان، قال الجوهري: أهل الحديث يقولونها بالضم، وأهل اللغة يفتحونها، ويقال لها أيضاً "دوماً" وهي مدينة، لها حصن عادي، وهي في برية، في أرض نخل وزرع، يسقون بالنواضح، وحولها عيون قليلة، وغالب زرعهم الشعير، وهي تبعد عن المدينة على نحو ثلاث عشرة مرحلة، وعن دمشق على نحو عشر مراحل، وعن الكوفة على قدر عشر مراحل أيضاً. قال: وأما "أكيدر" فهو بضم الهمزة وفتح الكاف وهو أكيدر بن عبد الملك الكندي، كان نصرانياً، ثم أسلم، وقيل: مات نصرانياً، وقال ابن منده وأبو نعيم الأصبهاني في كتابيهما في معرفة الصحابة: إن أكيدرا هذا أسلم، وأهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حلة سيراء، قال ابن الأثير: أما الهدية والمصالحة فصحيحان، وأما الإسلام فغلط، قال: لأنه لم يسلم بلا خلاف بين أهل السير، ومن قال: أسلم فقد أخطأ خطأ فاحشاً، قال: وكان أكيدر نصرانياً، فلما صالحه النبي صلى الله عليه وسلم عاد إلى حصنه، وبقي فيه، ثم حاصره خالد بن الوليد في زمان أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقتله مشركاً نصرانياً، يعني لنقضه العهد، وذكر البلاذري أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاد إلى دومة فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتد أكيدر، فلما سار خالد من العراق إلى الشام قتله، وعلى هذا القول لا ينبغي عده في الصحابة. هذا كلام ابن الأثير. والله أعلم. (رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام في القمص الحرير، في السفر، من حكة كانت بهما، أو وجع كان بهما) وفي الرواية السادسة والعشرين "في لبس الحرير" وفي السابعة والعشرين "شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم القمل، فرخص لهما في قمص الحرير، في غزاة لهما" "الحكة" بكسر الحاء وتشديد الكاف، نوع من الجرب، وذكر الحكة مثالاً، لا قيداً، وترجم له البخاري في كتاب الجهاد بباب الحرير في الحرب، لقوله "في غزاة لهما" وترجم له في اللباس بباب ما يرخص للرجال من الحرير للحكة، ولم يقيده بالحرب، فزعم بعضهم أن "الحرب" في الترجمة بالجيم وفتح الراء، وليس كما زعم، لأنها لا يبقى لها في أبواب الجهاد مناسبة، ويلزم منه إعادة الترجمة في اللباس، إذ الحكة والجرب متقاربان. -[فقه الحديث]- هذه الأحاديث في موضوعين مختلفين: موضوع استعمال أواني الذهب والفضة في الطعام والشراب، وتتعرض له الروايات الخمس الأولى، وكان حقها أن تلحق بكتاب الأطعمة والأشربة، وإن كان بعضها قد تعرض لخواتيم الذهب ولبس الحرير، وقد ترجم النووي للرواية الأولى والثانية بباب تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الشرب وغيره على الرجال والنساء، وذلك تحت كتاب اللباس والزينة، ولعله لاحظ أن الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة من قبيل الزينة. والموضوع الثاني لبس الحرير واستعماله، وقد ترجم النووي للروايات من الثالثة حتى الرابعة

والعشرين بباب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء، وخاتم الذهب والحرير على الرجال، وإباحته للنساء، وإباحة العلم ونحوه للرجل ما لم يزد على أربع أصابع. فأعاد عنوان الباب السابق، من أجل الرواية الثالثة والرابعة والخامسة، أما الروايات من السادسة حتى السابعة والعشرين فلا تتعرض لآنية الذهب والفضة، كما ترجم للروايات الخامسة والعشرين والسادسة والعشرين والسابعة والعشرين بباب إباحة لبس الحرير للرجل، إذا كان به حكة ونحوهما. ونحن نحصر الكلام في موضوعين أساسيين، أو في ثلاث نقاط: استعمال أواني الذهب والفضة في الطعام والشراب وغيرهما، ولبس الحرير واستعماله، وما يؤخذ من الأحاديث من الأحكام الإضافية. أما الموضوع الأول: أو النقطة الأولى، فقد قال النووي: أجمع المسلمون على تحريم الأكل والشرب في إناء الذهب وإناء الفضة، على الرجل وعلى المرأة، ولم يخالف في ذلك أحد من العلماء، إلا ما حُكي عن داود وقول الشافعي في القديم، فهما مردودان بالنصوص والإجماع، وهذا إنما يحتاج إليه على قول من يعتد بقول داود في الإجماع والخلاف، وإلا فالمحققون يقولون: لا يعتد به، لإخلاله بالقياس، وهو أحد شروط المجتهد الذي يعتد به، ثم قال: وأما قول الشافعي القديم [وظاهره أن النهي عن الشرب في آنية الذهب والفضة للتنزيه، لأن علته ما فيه من التشبه بالأعاجم] فقال صاحب التقريب: إن سياق كلام الشافعي في القديم يدل على أنه أراد أن نفس الذهب والفضة الذي اتخذ منه الإناء ليس حراماً، ولهذا لم يحرم الحلي على المرأة. هذا كلام صاحب التقريب، وهو من متقدمي أصحابنا، وهو أتقنهم لنقل نصوص الشافعي، ولأن الشافعي رجع عن هذا القديم، والصحيح عند أصحابنا وغيرهم من الأصوليين أن المجتهد إذا قال قولاً، ثم رجع عنه، لا يبقى قولاً له، ولا ينسب إليه، قالوا: وإنما يذكر القديم، وينسب إلى الشافعي مجازاً، وباسم ما كان عليه، لا أنه قول له الآن، فحصل مما ذكرناه أن الإجماع منعقد على تحريم استعمال إناء الذهب وإناء الفضة في الأكل والشرب والطهارة، والأكل بملعقة من أحدهما، والتجمر بمجمرة منهما، والبول في إناء منهما، وجميع وجوه الاستعمال، ومنها المكحلة والميل وظرف الغالية -أو وعاء الطيب- وغير ذلك، سواء الإناء الصغير والكبير، ويستوي في التحريم الرجل والمرأة بلا خلاف، وإنما فرق بين الرجل والمرأة في التحلي لما يقصد منها من التزين للزوج والسيد، قال أصحابنا: ويحرم استعمال ماء الورد، والأدهان من قارورة الذهب والفضة، قالوا: فإن ابتلي بطعام في إناء ذهب أو فضة فليخرج الطعام إلى إناء آخر من غيرهما، ويأكل منه، فإن لم يكن إناء آخر فليجعله على رغيف إن أمكن، وإن ابتلي بالدهن في قارورة فضة فليصبه في يده اليسرى، ثم يصبه من اليسرى في اليمنى، ويستعمله. قال أصحابنا: ويحرم تزيين الحوانيت والبيوت والمجالس بأواني الفضة والذهب هذا هو الصواب، وجوزه بعض أصحابنا، قال: وهو غلط. قال الشافعي والأصحاب: لو توضأ أو اغتسل من إناء الذهب أو الفضة عصى بالفعل، وصح وضوؤه وغسله، هذا مذهبنا، وبه قال مالك وأبو حنيفة والعلماء كافة، إلا داود، فقال: لا

يصح، والصواب الصحة، وكذا لو أكل منه أو شرب عصى بالفعل، ولا يكون المأكول والمشروب حراماً، هذا كله في حال الاختيار، أما إذا اضطر إلى استعمال إناء، فلم يجد إلا ذهباً أو فضة، فله استعماله في حال الضرورة بلا خلاف، صرح به أصحابنا، قالوا: كما تباح الميتة في حال الضرورة، قال أصحابنا: ولو باع هذا الإناء صح بيعه، لأنه عين طاهرة، يمكن الانتفاع بها بأن تسبك، وأما اتخاذ هذه الأواني من غير استعمال فللشافعي والأصحاب فيه خلاف، والأصح تحريمه، والثاني كراهته، فإن كرهناه استحق صانعه الأجرة، ووجب على كاسره أرش النقص، وإلا فلا. وأما إناء الزجاج النفيس فلا يحرم بالإجماع، وأما إناء الياقوت والزمرد والفيروز ونحوها فالأصح عند أصحابنا جواز استعمالها، ومنهم من حرمها. هذا آخر كلام النووي -وقال الحافظ ابن حجر- وهو شافعي كالنووي-: والأكل في جميع الآنية مباح إلا إناء الذهب وإناء الفضة، واختلف في الإناء الذي فيه شيء من ذلك، إما بالتضبيب، وإما بالخلط، وإما بالطلاء، قال: وحديث حذيفة [روايتنا الرابعة] فيه النهي عن الشرب في آنية الذهب والفضة، ويؤخذ منع الأكل بطريق الإلحاق، لكن [روايتنا الخامسة] فيها ذكر الأكل، فيكون المنع منه بالنص أيضاً، وهذا ظاهر في الذي جميعه ذهب أو فضة، أما المخلوط أو المضبب أو المموه، وهو المطلي فورد فيه حديث، أخرجه الدارقطني والبيهقي عن ابن عمر، رفعه "من شرب في آنية الذهب والفضة، أو إناء فيه شيء من ذلك، فإنما يجرجر في جوفه نار جهنم" قال البيهقي: المشهور عن ابن عمر موقوف عليه، وعند الطبراني في الأوسط، من حديث أم عطية "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفضيض الأقداح، ثم رخص فيه للنساء". ونقل ابن المنذر الإجماع على تحريم الشرب في آنية الذهب والفضة، إلا عن معاوية بن قرة، أحد التابعين، فكأنه لم يبلغه النهي. وقال القرطبي وغيره: في الحديث تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الأكل والشرب، ويلحق بهما ما في معناهما، مثل التطيب والتكحل وسائر وجوه الاستعمالات، وبهذا قال الجمهور، وأغربت طائفة شذت، فأباحت ذلك مطلقاً، ومنهم من قصر التحريم على الأكل والشرب، ومنهم من قصره على الشرب، لأنه لم يقف على الزيادة في الأكل. قال: واختلف في علة المنع، فقيل: إن ذلك يرجع إلى عينهما، ويؤيده قوله "هي لهم" وقيل: لكونهما الأثمان، وقيم المتلفات، فلو أبيح استعمالهما لجاز اتخاذ الآلات منهما، فيفضي إلى قلتهما بأيدي الناس، فيجحف بهم، ومثله الغزالي بالحكام، الذين وظيفتهم التصرف لإظهار العدل بين الناس، فلو منعوا التصرف لأخل ذلك بالعدل، فكذا في اتخاذ الأواني من النقدين حبس لهما عن التصرف الذي ينتفع به الناس، ويرد على هذا جواز الحلي للنساء من النقدين، وهذه العلة هي الراجحة عند الشافعية. وقيل: علة التحريم السرف ويرد عليه جواز الحلي للنساء منهما، وجواز استعمال الأواني من الجواهر النفيسة، وغالبها أنفس وأكثر قيمة من الذهب والفضة، ولم يمنعها إلا من شذ، بل نقل بعضهم الإجماع على الجواز.

وقيل: علة التحريم الخيلاء وكسر قلوب الفقراء، ويرد عليه ما ورد في سابقه، إلا أن يقال: إن غالبية الفقراء لا يعرفون قيمة هذه الجواهر، فهي والزجاج عندهم سواء، فلا تنكسر قلوبهم، بخلاف الذهب والفضة. وقيل: علة التحريم التشبه بالأعاجم، وفي ذلك نظر، لثبوت الوعيد لفاعله، ومجرد التشبه لا يصل إلى ذلك. والأمر -عندي- يشبه أن تكون الحكمة في التحريم مجموع هذه الأمور، وكل منها جزء علة، ولا يضر وجود جزء العلة مع تخلف الحكم. والله أعلم. ثم قال الحافظ ابن حجر: واختلف في اتخاذ الأواني، دون استعمالها، والأشهر المنع، وهو قول الجمهور، ورخصت فيه طائفة، وهو مبني على العلة في منع الاستعمال. والله أعلم. الموضوع الثاني: لبس الحرير واستعماله، وعنه يقول النووي: لبس الحرير والإستبرق والديباج والقسي، كله حرام على الرجال، سواء لبسه للخيلاء أو غيرها، إلا أن يلبسه للحكة، فيجوز في السفر والحضر، وأما النساء فيباح لهن لبس الحرير بجميع أنواعه، وخواتيم الذهب وسائر الحلي منه ومن الفضة، سواء المزوجة وغيرها، والشابة والعجوز، والغنية والفقيرة. وقال: هذا الذي ذكرناه من تحريم الحرير على الرجال، وإباحته للنساء هو مذهبنا ومذهب الجماهير، وحكى القاضي عن قوم إباحته للرجال والنساء، وعن ابن الزبير: تحريمه عليهما، ثم انعقد الإجماع على إباحته للنساء، وتحريمه على الرجال، ويدل عليه الأحاديث المصرحة بالتحريم، مع الأحاديث التي ذكرها مسلم في تشقيق علي رضي الله عنه الحرير بين نسائه، وبين الفواطم خمراً لهن، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بذلك، كما صرح به في الحديث [روايتنا الثامنة عشرة والتاسعة عشرة والمتممة للعشرين]. قال: وأما الصبيان فقال أصحابنا: يجوز إلباسهم الحلي والحرير في يوم العيد، لأنه لا تكليف عليهم، وفي جواز إلباسهم ذلك في باقي السنة ثلاثة أوجه: أصحها جوازه، والثاني تحريمه، والثالث يحرم بعد سن التمييز. ثم قال النووي عن روايتنا الثانية عشرة، وخطبة ابن الزبير، وقوله "لا تلبسوا نساءكم الحرير، فإني سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تلبسوا الحرير، فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة" قال النووي: هذا الحديث الذي احتج به إنما ورد في لبس الرجال لوجهين: أحدهما أنه خطاب ذكور، ومذهبنا ومذهب محققي الأصوليين أن النساء لا يدخلن في خطاب الرجال عند الإطلاق، والثاني أن الأحاديث الصحيحة التي ذكرها مسلم صريحة في إباحته للنساء، وأمره صلى الله عليه وسلم علياً وأسامة بأن يكسواه نساءهما مع الحديث المشهور أنه صلى الله عليه وسلم قال في الحرير والذهب: إن هذين حرام على ذكور أمتي حل لإناثها. اهـ أخرجه أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن حبان والحاكم.

ثم قال النووي عن روايتنا الثالثة عشرة والرابعة عشرة والخامسة عشرة والسادسة عشرة: في هذه الروايات إباحة العلم من الحرير في الثوب، إذا لم يزد على أربع أصابع، وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور، وعن مالك رواية بمنعه، وعن بعض أصحابه رواية بإباحة العلم، بلا تقدير بأربع أصابع، بل قال: يجوز وإن عظم العلم، وهذان القولان مردودان بهذا الحديث الصريح. اهـ وقال الحافظ ابن حجر: قال ابن بطال: اختلف في الحرير، فقال قوم: يحرم لبسه في كل الأحوال، حتى على النساء، نقل ذلك عن علي وابن عمر وحذيفة وأبي موسى وابن الزبير، ومن التابعين عن الحسن وابن سيرين. وقال قوم: يجوز لبسه مطلقاً، وحملوا الأحاديث الواردة في النهي عن لبسه على من لبسه خيلاء، أو على التنزيه. قال الحافظ: وهذا الثاني ساقط، لثبوت الوعيد على لبسه، ثم قال: واختلف في علة تحريم الحرير على رأيين مشهورين: أحدهما الفخر والخيلاء، والثاني لكونه ثوب رفاهية وزينة، فيليق بزي النساء، دون شهامة الرجال، ويحتمل علة ثالثة، وهي التشبه بالمشركين. أما مس الحرير من غير لبس فهو مباح، فقد روى البخاري عن البراء رضي الله عنه: "أُهدي للنبي صلى الله عليه وسلم ثوب حرير، فجعلنا نلمسه، ونتعجب منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتعجبون من هذا؟ قلنا: نعم. قال: مناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذا" قال ابن بطال: النهي عن لبس الحرير ليس من أجل نجاسة عينه، بل من أجل أنه ليس من لباس المتقين، وعينه مع ذلك طاهرة، فيجوز مسه وبيعه والانتفاع بثمنه. وقال البخاري: قال عبيدة: افتراش الحرير كلبسه، وساق البخاري عن حذيفة رضي الله عنه قال: "نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة، وأن نأكل فيها، وعن لبس الحرير والديباج، وأن نجلس عليه" قال الحافظ ابن حجر: وهذه الرواية حجة قوية، لمن قال بمنع الجلوس على الحرير، وهو قول الجمهور، خلافاً لابن الماجشون والكوفيين وبعض الشافعية، وأجاب بعض الحنفية بأن لفظ "ونهى" ليس صريحاً في التحريم، وأجاب بعضهم باحتمال أن يكون النهي ورد عن مجموع اللبس والجلوس، لا عن الجلوس بمفرده، وقد يرد على ابن بطال دعواه أن الحديث نص في تحريم الجلوس على الحرير، فإنه ليس بنص، بل هو ظاهر، وقد أخرج ابن وهب في جامعه حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: "لأن أقعد على جمر الغضى -وهو شجر من الأثل، خشبه من أصلب الخشب، وجمره يبقى زماناً طويلاً لا ينطفئ، واحدته غضاة -أحب إلي من أن أقعد على مجلس من حرير"، وأدار بعض الحنفية الجواز والمنع على اللبس، لصحة الأخبار فيه، قالوا: والجلوس ليس بلبس، واحتج الجمهور بحديث أنس "فقمت إلى حصير لنا قد أسود من طول ما لبس" ولأن لبس كل شيء بحسبه، واستدل به من منع النساء من افتراش الحرير، وهو ضعيف لأن خطاب الذكور لا يتناول المؤنث على الراجح، ولعل الذي قال بالمنع تمسك فيه بالقياس على منع استعمالهن آنية الذهب، مع جواز لبسهن الحلي منه، فكذلك يجوز لبسهن الحرير، ويمنعن من استعماله، وهذا الوجه صححه الرافعي، وصحح النووي الجواز، واستدل به على منع افتراش الرجل الحرير مع امرأته في فراشها، ووجهه المجيز لذلك من المالكية بأن المرأة فراش الرجل، فكما جاز له أن يفترشها وعليها الحلي من الذهب والحرير، فكذلك يجوز له أن يجلس وينام معها على فراشها المباح لها.

مع ملاحظة أن الذي يمنع من الجلوس عليه هو ما منع من لبسه، وهو ما صنع من حرير صرف، أو كان الحرير فيه أزيد من غيره، كما سبق تقريره. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - من الرواية الأولى والثانية الوعيد الشديد لمن شرب أو أكل في أواني الذهب أو الفضة. قال القاضي عياض: واختلفوا في المراد، فقيل: هو إخبار عن الكفار من ملوك العجم وغيرهم، الذين عادتهم فعل ذلك، كما قال في الحديث [روايتنا الرابعة] "فإنه لهم في الدنيا، وهو لكم في الآخرة يوم القيامة" أي هم المستعملون لها في الدنيا، وقيل: المراد نهي المسلمين عن ذلك، وأن من ارتكب هذا النهي استوجب هذا الوعيد، وقد يعفو الله عنه. هذا كلام القاضي، ووجهة نظره أن الوعيد شديد، وغير محدد المدة، وهو لا يتناسب مع رأي أهل السنة والجماعة في مرتكب الكبيرة، فهو أولى بالكافرين، وقال النووي تعقيباً على كلام القاضي: والصواب أن النهي يتناول جميع من يستعمل إناء الذهب أو الفضة من المسلمين والكفار، لأن الصحيح أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة. اهـ وكلام النووي أن النهي [في روايتنا الثالثة والرابعة والخامسة] يتناول المسلمين والكافرين مسلم، لكن الوعيد الشديد الوارد في الروايتين الأولى والثانية "يجرجر في بطنه نار جهنم" لا يستقيم مع المذهب الصحيح. 2 - وكذا الوعيد الوارد في الرواية الثالثة "من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة" وفي الرواية الثانية عشرة والثانية والعشرين والثالثة والعشرين "فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة" فقد قال الحافظ ابن حجر: زاد النسائي "ومن لم يلبسه في الآخرة لم يدخل الجنة، قال تعالى {ولباسهم فيها حرير} [الحج: 23] قال: وهذه الزيادة مدرجة في الحديث، وهي موقوفة على ابن الزبير، قالها ابن الزبير من رأيه، وقد جاء مثل ذلك عن ابن عمر، وأخرج أحمد والنسائي وصححه الحاكم مثل حديث ابن الزبير عن أبي سعيد وزاد فيه "وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة، ولم يلبسه هو" وهذا يحتمل أن يكون أيضاً مدرجاً. ثم قال الحافظ: وأعدل الأقوال أن الفعل المذكور مقتض للعقوبة المذكورة، وقد يتخلف ذلك لمانع: كالتوبة، والحسنات التي توازن، والمصائب التي تكفر، وكدعاء الولد بشرائط، وكذا شفاعة من يؤذن له في الشفاعة، وأعم من ذلك كله عفو أرحم الراحمين. 3 - من الرواية الثالثة استحباب عيادة المريض، قال النووي: وهي سنة بالإجماع، وسواء فيه من يعرفه ومن لا يعرفه، والقريب والأجنبي، واختلف العلماء في الأوكد منهما والأفضل منهما. 4 - واستحباب اتباع الجنازة، وهي سنة بالإجماع أيضاً، وقد سبق إيضاحه. 5 - وتشميت العاطس، وقد سبق. 6 - وإبرار القسم، وقد سبق أيضاً.

7 - ونصر المظلوم، وهي من فروض الكفاية، وهو من جملة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 8 - وإجابة الداعي. 9 - وإفشاء السلام، وقد سبق بيانه في كتاب الإيمان، ويأتي في كتاب الاستئذان والسلام. 10 - وإنشاد الضالة، وسبق تفصيله في كتاب اللقطة. 11 - والنهي عن خواتيم الذهب، قال النووي: وأما خاتم الذهب فهو حرام على الرجل بالإجماع، وكذا لو كان بعضه ذهباً وبعضه فضة، حتى قال أصحابنا: لو كانت سن الخاتم ذهباً، أو كان مموهاً بذهب يسير فهو حرام. 12 - ويؤخذ من أحاديث حذيفة، روايتنا الرابعة والخامسة، من رمى حذيفة بالإناء في وجه الدهقان تعزير من ارتكب معصية، لا سيما إن كان قد سبق نهيه عنها. 13 - وأنه لا بأس أن يعزر الأمير بنفسه بعض مستحقي التعزير. 14 - وأن الأمير أو الكبير إذا فعل شيئاً صحيحاً في نفس الأمر، غير ظاهر الوجه والعلة فينبغي أن يوضحه، وينبه على دليله، وسبب فعله ذلك. 15 - ومن الرواية السادسة حتى العاشرة روايات عرض عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم شراء الحلة، من قوله "عند باب المسجد" جواز البيع والشراء على باب المسجد. 16 - ومن محاولة عرض عمر الشراء مباشرة الصالحين والفضلاء البيع والشراء. 17 - وفيه عرض المفضول على الفاضل، والتابع على المتبوع ما يحتاج إليه من مصالحه، مما يظن أنه لم يطلع عليه. 18 - وفيه حرص عمر رضي الله عنه على ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم بمظهر الرؤساء والكبراء. 19 - واستحباب لباس أنفس الثياب يوم الجمعة والعيدين، وعند لقاء الوفود ونحوهم. 20 - قال ابن بطال: فيه ترك النبي صلى الله عليه وسلم لباس الحرير، وهذا في الدنيا، وإرادة تأخير الطيبات إلى الآخرة، التي لا انقضاء لها، إذ تعجل الطيبات في الدنيا ليس من الحزم، فزهد في الدنيا للآخرة، وأمر بذلك، ونهي عن كل إسراف وحرمه. وتعقبه ابن المنير بأن تركه صلى الله عليه وسلم لبس الحرير إنما هو لاجتناب المعصية [ففي الرواية السابعة عشرة "نهاني عنه جبريل"] وأما الزهد فإنما هو في خالص الحلال، فالتقلل منه وتركه مع الإمكان، هو الذي تتفاضل فيه درجات الزهاد. 21 - وجواز لبس الحرير للنساء. 22 - ومن قوله في الرواية السادسة "إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة" إباحة الطعن لمن يستحقه.

23 - ومن كسوة عمر الحلة لأخيه المشرك جواز صلة القريب الكافر، والإحسان إليه بالهدية. 24 - قال ابن عبد البر: فيه جواز الهدية للكافر، ولو كان حربياً. 25 - واستدل به على أن الكافر ليس مخاطباً بفروع الشريعة، لأن عمر لما منع من لبس الحلة أهداها لأخيه المشرك، ولم ينكر عليه، وتعقب بأنه لم يأمر أخاه بلبسها، فيحتمل أن يكون وقع الحكم في حقه كما وقع في حق عمر، فينتفع بها بالبيع أو كسوة النساء، ولا يلبس هو، وأجيب بأن المسلم عنده من الوازع الشرعي ما يحمله بعد العلم بالنهي عن الكف بخلاف الكافر، فإن كفره يحمله على عدم الكف عن تعاطي المحرم، فلولا أنه مباح له لبسه لما أهدي له، لما في تمكينه منه من الإعانة على المعصية، ومن ثم يحرم بيع العصير ممن جرت عادته أن يتخذه خمراً، وإن احتمل أنه قد يشربه عصيراً. 26 - ومن قوله "تبيعها وتصيب بها حاجتك" في الرواية الثامنة، ومن قوله "لتصيب بها مالاً" في الرواية العاشرة، ومن قوله "فباعه بألفي درهم" في الرواية السابعة عشرة، جواز بيع الرجال الثياب الحرير، وتصرفهم فيها بالهبة والهدية، وإباحة ثمنه لا اللبس. 27 - ومن إهداء الرسول صلى الله عليه وسلم الحلل لعمر وأسامة وعلى جواز إهداء ثياب الحرير إلى الرجال، لأنها لا تتعين للبسهم. 28 - ومن الرواية الحادية عشرة بخصوص صوم رجب كله قال النووي: هذا من ابن عمر إخبار منه بأنه يصوم رجب كله، وأنه يصوم الأبد، وهذا مذهبه، ومذهب أبيه عمر بن الخطاب، وعائشة وأبي طلحة وغيرهم من سلف الأمة؛ ومذهب الشافعي وغيره من العلماء أنه لا يكره صوم الدهر. 29 - ومن قولها "فنحن نغسلها للمرضى، يستشفى بها" دليل على استحباب التبرك بآثار الصالحين وثيابهم. 30 - وفيه أن النهي عن الحرير المراد به الثوب المتمحض من الحرير، أو ما أكثره حرير، وأنه ليس المراد تحريم كل جزء منه، بخلاف الخمر والذهب، فإنه يحرم كل جزء منهما. قاله النووي. 31 - ومن إخراج أسماء جبة النبي صلى الله عليه وسلم بيان أن مثل هذا ليس محرماً. قال النووي: وهكذا الحكم عند الشافعي وغيره أن الثوب والجبة والعمامة ونحوها إذا كان مكفوف الطرف بالحرير جاز، ما لم يزد على أربع أصابع، فإن زاد فهو حرام، لحديث عمر رضي الله عنه المذكور بعد هذا. 32 - وجواز لبس الجبة وما له فرجان، وأنه لا كراهة فيه. 33 - ومن الرواية الثالثة عشرة، وكتاب عمر، وعملهم بما فيه الاحتجاج بالمكاتبة في الرواية. 34 - ومن الرواية التاسعة عشرة من إهداء أكيدر جواز قبول هدية الكافر. والله أعلم

(566) باب النهي عن لبس الثوب المعصفر

(566) باب النهي عن لبس الثوب المعصفر 4750 - عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم علي ثوبين معصفرين، فقال: "إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها". 4751 - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال رأى النبي صلى الله عليه وسلم علي ثوبين معصفرين فقال: "أأمك أمرتك بهذا؟ " قلت: أغسلهما؟ قال: "بل أحرقهما". 4752 - عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس القسي والمعصفر. وعن تختم الذهب. وعن قراءة القرآن في الركوع. 4753 - عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: نهاني النبي صلى الله عليه وسلم عن القراءة وأنا راكع. وعن لبس الذهب والمعصفر. 4754 - عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التختم بالذهب. وعن لباس القسي. وعن القراءة في الركوع والسجود. وعن لباس المعصفر. -[المعنى العام]- كان العرب يستوردون كثيراً من ثيابهم من الفرس والروم، وكان غزلهم ونسيجهم للثياب لا يكفيهم، أو لا يناسب تقدمهم الحضاري بعد الإسلام، وكان ضيق عيشهم يضطرهم أحياناً إلى أن يصبغوا ثيابهم القديمة بالعصفر أو الزعفران، يجددونها، وكانوا -بحكم العادة- يخصون نساءهم بالألوان الفاقعة، حمرة أو صفرة، كمظهر من مظاهر التجمل والزينة.

وعلى الرغم من أن الإسلام لا يحدد لأبنائه لوناً معيناً في ثيابهم، بل يبيح لهم ما اتفق لهم من الألوان فقد جاءت أحاديث تنهى عن لون معين، أو ترغب في لون معين، رغبت في الثوب الأبيض، وهنا في هذا الباب تنهى عن اللون الأحمر الفاقع، عللت الرواية الأولى النهي بأنها من ثياب الكفار، والإسلام لا يحب التشبه بزي الكفار، وأشارت الرواية الثانية إلى أن العلة التشبه بالنساء، وقال بعض العلماء: إن العلة ما فيه من الزهو والخيلاء. والحق أن لكل زمان لبوساً، ولكن بيئة لبوسها وزيها، مع اختلاف في هيئته ولونه وصنفه اختلافاً ينتقده أهل زمان على أهل زمان، وأهل مكان على أهل مكان، ومادام نوع اللباس حلالاً، لا إثم فيه، فالأمر على الاتساع الشرعي، لكن مروءة المسلم تلزمه بمراعاة مشاعر بيئته، فإن خرج عما يألفه الناس خرمت مروءته، وردت روايته وشهادته. والله الهادي سواء السبيل. -[المباحث العربية]- (ثوبين معصفرين) أي أزاراً ورداء، والعصفر بضم العين والفاء، بينهما صاد ساكنة، نبات صيفي، له زهر يعلو أنبوباً، يستعمل زهره من التوابل، ويستخرج منه صبغة حمراء، شديدة الحمرة، يصبغ بها الحرير ونحوه، فالمعنى: ثوبين مصبوغين بالعصفر. أما الزعفران -وسيأتي حديثه بعد أبواب- فهو نبات بصلي، معمر، منه نوع صبغي مشهور، يصبغ به الحرير ونحوه، ولونه أصفر، شديد الصفرة. (أأمك أمرتك بهذا؟ ) معناه أن هذا من لباس النساء وزيهن، وأخلاقهن. -[فقه الحديث]- قال النووي: اختلف العلماء في الثياب المعصفرة، وهي المصبوغة بعصفر، فأباحها جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك، لكنه قال: غيرها أفضل منها، وفي رواية عنه أنه أجاز لبسها في البيوت وأفنية الدور، وكرهه في المحافل والأسواق ونحوها. ويميل البيهقي -وهو شافعي- إلى كراهته، ويعتذر عن الشافعي، فيقول: نهى الشافعي الرجل عن المزعفر، فقال: أنهي الرجل الحلال بكل حال أن يتزعفر، قال: وآمره إذا تزعفر أن يغسله، وأباح المعصفر، وقال: إنما رخصت في المعصفر، لأني لم أجد أحداً يحكي عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عنه، إلا ما قال علي رضي الله عنه: "نهاني، ولا أقول: نهاكم". قال البيهقي: وقد جاءت أحاديث تدل على النهي عن العموم، ثم ذكر حديث عبد الله بن عمرو [روايتنا الأولى والثانية] ثم أحاديث أخر، ثم قال: ولو بلغت هذه الأحاديث الشافعي لقال بها إن شاء

الله، ثم ذكر بإسناده ما صح عن الشافعي أنه قال: إذا كان حديث النبي صلى الله عليه وسلم خلاف قولي، فاعملوا بالحديث، ودعوا قولي، وفي رواية "فهو مذهبي" قال البيهقي: فتبع السنة في المزعفر فمتابعتها في المعصفر أولى، قال: وقد كره المعصفر بعض السلف، وبه قال أبو عبد الله الحليمي من أصحابنا، ورخص فيه جماعة، والسنة أولى بالاتباع. أمام الأحاديث التي تدل على النهي عن لبس المعصفر، وما ثبت من أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس حلة حمراء، وما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة" أمام هذا حمل جماعة النهي على كراهة التنزيه، وقال الخطابي: النهي منصرف إلى ما صبغ من الثياب بعد النسج، فأما ما صبغ غزله، ثم نسج، فليس بداخل في النهي، وحمل بعض العلماء النهي هنا على المحرم بالحج أو العمرة، ليكون موافقاً لحديث ابن عمر "نهي المحرم أن يلبس ثوباً مسه ورس أو زعفران" وسيأتي الكلام عن ثوب الزعفران بعد أبواب. قال الحافظ ابن حجر: وقد تلخص لنا من أقوال السلف في لبس الثوب الأحمر -ويشمل المعصفر- سبعة أقوال: الأول الجواز مطلقاً، جاء ذلك عن علي وطلحة وعبد الله بن جعفر والبراء وغير واحد من الصحابة، وعن سعيد بن المسيب والنخعي والشعبي وأبي قلابة وأبي وائل وطائفة من التابعين. القول الثاني المنع مطلقاً، لحديث عبد الله بن عمرو، وما نقله البيهقي، وعند الطبراني "أن عمر كان إذا رأى على الرجال ثوباً معصفراً جذبه، وقال: دعوا هذا للنساء" وعند أبي شيبة "الحمرة من زينة الشيطان، والشيطان يحب الحمرة" وعن عبد الله بن عمرو قال: "مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل، وعليه ثوبان أحمران، فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم" أخرجه أبو داود، والترمذي وحسنه، والبراز. القول الثالث: يكره لبس الثوب المشبع بالحمرة، دون ما كان صبغه خفيفاً، جاء ذلك عن عطاء وطاوس ومجاهد، وكأن الحجة فيه حديث ابن عمر "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المفدم" بفاء ثم دال مشددة، وهو المشب بالعصفر، أخرجه ابن ماجه. القول الرابع: يكره لبس الأحمر مطلقاً، لقصد الزينة والشهرة، ويجوز في البيوت والمهنة، جاء ذلك عن ابن عباس. القول الخامس: يجوز لبس ما كان صبغ غزله ثم نسج، ويمنع ما صبغ بعد النسج، جنح إلى ذلك الخطابي، واحتج بأن الحلة الواردة في الأخبار، الواردة في لبسه صلى الله عليه وسلم الحلة الحمراء، إحدى حلل اليمن، وكذلك البرد الأحمر، وبرود اليمن يصبغ غزلها، ثم ينسج. القول السادس: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بما يصبغ بالمعصفر، لورود النهي عنه، ولا يمنع ما صبغ بغيره من الأصباغ. القول السابع: تخصيص المنع بالثوب الذي يصبغ كله، وأما ما فيه لون آخر غير الأحمر، من بياض وسواد وغيرها فلا، وعلى ذلك تحمل الأحاديث الواردة في الحلة الحمراء، فإن الحلل اليمانية

غالباً تكون ذات خطوط حمر وغيرها. قال ابن القيم: كان بعض العلماء بلبس ثوباً مشبعاً بالحمرة، يزعم أنه يتبع السنة، وهو غلط، فإن الحلة الحمراء من برود اليمن، وبرود اليمن لا تصبغ أحمر صرفاً. قال الطبري بعد أن ذكر غالب هذه الأقوال: الذي أراه جواز لبس الثياب المصبغة بكل لون، إلا أني لا أحب لبس ما كان مشبعاً بالحمرة، ولا لبس الأحمر مطلقاً، ظاهراً فوق الثياب، لكونه ليس من لباس أهل المروءة في زماننا، فإن مراعاة زي الزمان من المروءة، ما لم يكن إثماً، وفي مخالفة الزي ضرب من الشهرة. قال الحافظ ابن حجر: والتحقيق في هذا المقام أن النهي عن لبس الأحمر إن كان من أجل أنه لبس الكفار، فالقول فيه كالقول في الميثرة الحمراء، وإن كان من أجل أنه زي النساء، فهو راجع إلى الزجر عن التشبه بالنساء، فيكون النهي عنه لا لذاته، وإن كان من أجل الشهرة أو خرم المروءة، فيمنع حيث يقع ذلك، وإلا فيقوى ما ذهب إليه مالك من التفرقة بين المحافل والبيوت. اهـ أي إن قلنا: إنه كان من أجل أنه لباس الأعاجم الكفرة فهو لمصلحة دينية، لكن كان ذلك شعارهم حينئذ وهم كفار، ثم لما لم يصر الآن يختص بهم زال ذلك المعنى، فتزول الكراهة. بقي الأمر بإحراقهما في روايتنا الثانية، وعنه يقول النووي: قيل: هو عقوبة وتغليظ، لزجره وزجر غيره عن مثل هذا الفعل، وهذا نظير أمر تلك المرأة التي لعنت الناقة بإرسالها، وأمر أصحاب بريرة بيعها، وأنكر عليهم اشتراط الولاء. والله أعلم

(567) باب لباس الحبرة، والتواضع في اللباس وجواز اتخاذ الأنماط، وكراهة ما زاد على الحاجة من الفراش واللباس

(567) باب لباس الحبرة، والتواضع في اللباس وجواز اتخاذ الأنماط، وكراهة ما زاد على الحاجة من الفراش واللباس 4755 - عن قتادة قال: قلنا لأنس بن مالك أي اللباس كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أعجب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: الحبرة. 4756 - عن أنس رضي الله عنه قال: كان أحب الثياب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحبرة. 4757 - عن أبي بردة قال: دخلت على عائشة فأخرجت إلينا إزاراً غليظاً مما يصنع باليمن، وكساء من التي يسمونها الملبدة. قال: فأقسمت بالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض في هذين الثوبين. 4758 - عن أبي بردة قال: أخرجت إلينا عائشة إزاراً وكساء ملبداً. فقالت: في هذا قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن حاتم في حديثه: إزاراً غليظاً. 4759 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود. 4760 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان وسادة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي يتكئ عليها، من أدم حشوها ليف. 4761 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: إنما كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي ينام عليه، أدماً حشوه ليف.

4762 - وفي رواية عن هشام بن عروة، بهذا الإسناد. وقالا: ضجاع رسول الله صلى الله عليه وسلم. في حديث أبي معاوية ينام عليه. 4763 - عن جابر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما تزوجت "أتخذت أنماطاً؟ " قلت: وأنى لنا أنماط؟ قال "أما إنها ستكون". 4764 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لما تزوجت. قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أتخذت أنماطاً؟ " قلت: وأنى لنا أنماط؟ قال "أما إنها ستكون" قال جابر: وعند امرأتي نمط. فأنا أقول: نحيه عني. وتقول: قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنها ستكون". 4765 - وفي رواية عن سفيان، بهذا الإسناد، وزاد: فأدعها. 4766 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "فراش للرجل. وفراش لامرأته. والثالث للضيف. والرابع للشيطان". -[المعنى العام]- كان العرب لا يجيدون الغزل والنسيج، اللهم إلا صوف غنمهم، ووبر إبلهم، ومغزلهم البدائي، ونسيجهم بالشوكة البدائية، وكان من حولهم الفرس والروم قد تقدموا في غزل ونسج الأطيان والأتيال والكتان والحرير، بالإضافة إلى الأصواف والأوبار على طريقة راقية من الرقة والدقة والألوان، فضلاً عن ملابس جاهزة، واختلط العرب بجيرانهم عن طريق الغزو والرحلات التجارية، فأخذوا منهم وعنهم منسوجات وملبوسات، وكان صلى الله عليه وسلم يلبس منها ما تيسر له، راسماً لنفسه ولأهل بيته سياسة الزهد والتقشف والبساطة لا يحرص، بل لا يتجه نحو النفيس الغالي، وفي الوقت نفسه لا يضيق على أصحابه، ولا يلزمهم بنوع أو لون، ولا ينهاهم بحزم عن نوع أو لون، اللهم إلا منع الحرير عن الرجال، وفيما وراء ذلك كان قانون شرعه {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين ءامنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة} [الأعراف: 32] ومن المعلوم أن الشريعة في أقواله وأفعاله وتقريراته صلى الله عليه وسلم، فمن لبس وفرش ما أقره صلى الله عليه

وسلم فحسن، ومن لبس وفرش ما فعله صلى الله عليه وسلم فخير، كان فراشه الذي يجلس عليه وينام عليه أحياناً حصيراً يؤثر في جنبه، وكان فراش بعض أصحابه وثيراً ناعماً طرياً، دخلت امرأة على عائشة -رضي الله عنها- فرأت فراش النبي صلى الله عليه وسلم عباءة من صوف مثنية، فبعثت إلى عائشة بفراش حشوه صوف منفوش، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم، فرآه، فقال: رديه يا عائشة، والله لو شئت أجرى الله معي جبال الذهب والفضة، ورآه بعض أصحابه وقد أثر الحصير في جنبه، فقال: ألا نأتيك بشيء يقيك منه؟ فقال: ما لي وللدنيا. وكان بساط سريره ليفاً مضفوراً مجدولاً، ويوم لان وضع عليه جلد مدبوغ حشوه ليف، وكانت وسادته التي يتكئ عليها، أو يضع رأسه عليها عند النوم من جلد حشوها ليف، في حين كانت مراتب ووسائد أصحابه من أنعم وأرقى ما وصل إليه عصرهم، ولم يكن ينهي المتنعم عن النعيم: اللهم إلا إذا خشي على بعضهم من الفخر والخيلاء، أو من المغالاة التي تلهي عن العمل الصالح، وتنسي الآخرة، وفيما وراء سياسة التقشف كان صلى الله عليه وسلم يلبس ما يتفق له، لبس الحبرة، وهي ثياب خضراء مخططة، كملحفة يلتحف بها، أو كثوب وقميص، وكانت من أحب الثياب إليه، لبس الحلة المكونة من إزار ورداء، لبس جبة شامية بألوان مختلفة، وكانت أحياناً ضيقة الكمين، فكان يخرج يديه للوضوء من تحت بدنه، لبس القباء، وهو المشقوق من الخلف، كقميص الصبي الصغير، لبس السراويل، وإن كان غالب لبسه الإزار، لبس البرود، وهي كساء أسود مربع فيه صور، لبس الشملة، وهي ما يلتحف به من الأنسجة، لبس النمرة -بفتح النون وكسر الميم، وهي الشملة التي فيها خطوط ملونة، كأنها جلد النمر، لبس بردين أخضرين، لبس الثياب البيض، ورغب في لبسها، لبس الحلة الحمراء، لبس الملابس الخفيفة في الصيف، والملابس الثقيلة والثخينة في الشتاء، لكنه حرص على أن لا يتشبه في اللباس بالكفار، ولا بالنساء، وأن يبتعد المسلمون بلباسهم عن الكبر والخيلاء، وأن لا تصل المغالاة في الثياب إلى التبذير والإسراف. -[المباحث العربية]- (الحبرة) بكسر الحاء وفتح الباء، وهي ثياب من كتان أو قطن، محبرة، أي مزينة، والتحبير التزيين والتحسين، ويقال: ثوب حبرة، بتنوين "ثوب" على الوصف، وثوب حبرة، على الإضافة، وهو أكثر استعمالاً، والحبرة مفرد، والجمع حبر وحبرات، كعنبة وعنب وعنبات، ويقال: ثوب حبير، على الوصف. وقال الجوهري: الحبرة بوزن عنبة برد يمان، وقال الهروي: موشية مخططة، وقال الداودي: لونها أخضر، وحبه صلى الله عليه وسلم لها لأنها لباس أهل الجنة، وقال ابن بطال: هي برود اليمن، تصنع من قطن، وكانت أشرف الثياب عندهم. (إزاراً غليظاً مما يصنع باليمن، وكساء من التي يسمونها الملبدة) في الرواية الرابعة "إزاراً وكساءً ملبداً" وفي ملحق الرواية "إزاراً غليظاً" قال العلماء: اللبد بفتح الباء، يقال: لبد الشيء بالشيء، بفتح الباء وكسرها، أي لزق والتصق، وألبد الشيء بالشيء ألصقه، ولبد الشيء بالشيء،

بتشديد الباء ألصقه به إلصاقاً شديداً، فالملبدة الثخينة التي التصق أجزاؤها بعضها فوق بعض، وقيل: هو الذي ثخن وسطه، حتى صار كاللبد. (خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات غداة) أي صباح يوم. (وعليه مرط) بكسر الميم وسكون الراء، وهو كساء من خز أو صوف أو كتان، يؤتزر به، وتتلفع به المرأة، قال الخطابي: هو كساء يؤتزر به، وقال النضر: لا يكون المرط إلا درعاً، ولا يلبسه إلا النساء، ولا يكون إلا أخضر. قال النووي: وهذا الحديث يرد عليه. اهـ والظاهر أنه شريط طويل من قماش غير مخيط، بعرض الثوب، يختلف لبسه باختلاف البيئات والبلاد، فتارة يستعمله الرجال إزاراً، وتارة تتلفع به النساء، كالشال. (مرحل من شعر أسود) "مرحل" بفتح الراء وتشديد الحاء المفتوحة، أي عليه صور رحال الإبل، وقال الخطابي: المرحل الذي فيه خطوط. قال النووي: هذا هو الصواب الذي رواه الجمهور وضبطه المتقنون، وحكى القاضي عياض: أن بعضهم رواه بالجيم، أي عليه صور الرجال. اهـ وقوله "من شعر أسود" صفة لمرط، أو صفة لمرحل. (كانت وسادة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي يتكئ عليها من أدم حشوها ليف) في الرواية السابعة "إنما كان فراش النبي صلى الله عليه وسلم الذي ينام عليه أدماً حشوه ليف" وفي ملحقها وعند ابن ماجه "كان ضجاع رسول الله صلى الله عليه وسلم أدماً حشوه ليف" وعند البخاري في حديث المرأتين اللتين تظاهرتا "فإذا النبي صلى الله عليه وسلم على حصير قد أثر في جنبه، وتحت رأسه مرفقة من أدم حشوها ليف" والمرفقة بكسر الميم وسكون الراء وفتح الفاء بعدها قاف، ما يرتفق به، أي ما يتكأ عليه بالمرفق، والوسادة قد يتكأ عليها، كما توضع تحت الرأس عند النوم، والأدم بفتح الهمزة والدال الجلد المدبوغ، والضجاع، بكسر الضاد بعدها جيما ما يضجع ويرقد عليه. (أتخذت أنماطاً؟ ) "الأنماط" جمع نمط بفتح النون والميم، وهي ظهارة الفراش، وقيل: ظهر الفراش، ويطلق أيضاً على بساط لطيف له خمل، يجعل على الهودج، وقد يجعل ستراً، قال النووي: والمراد هنا الأول. اهـ (وأنى لنا أنماط؟ ) "أنى" بفتح الهمزة وتشديد النون المفتوحة، أي ومن أين لنا الأنماط، فنحن فقراء، لا نستطيع شراءها. (أما إنها ستكون) "أما" بتخفيف الميم حرف استفتاح، مثل "ألا" أي إنك ستقدر على شرائها وتصير غنياً، وتشتريها، وقد كان. (قال جابر وعند امرأتي نمط) أي وتحقق وعد النبي صلى الله عليه وسلم واشترت زوجتي نمطاً، وصار عندنا نمط.

(فأنا أقول: نحيه عني) أي أخرجيه من بيتي -كأنه كرهه، لأنه من زينة الدنيا وملهياتها التي انصرف عنها. (وتقول: قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها ستكون) أي لا أنحيه، فقد بشر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما لنا لا نقبل البشرى إذا تحققت؟ . (والرابع للشيطان) قال النووي: قال العلماء: معناه ما زاد على الحاجة فاتخاذه إنما هو للمباهاة والاختيال والالتهاء بزينة الدنيا، وما كان بهذه الصفة فهو مذموم، وكل مذموم يضاف إلى الشيطان، لأنه يرتضيه، ويوسوس به، ويحسنه، ويساعد عليه -أي الكلام كناية عن ذمه، والترغيب في البعد عنه- وقيل: إنه على ظاهره، وأنه إذا كان لغير حاجة كان للشيطان عليه مبيت ومقيل، كما أنه يحصل له المبيت بالبيت الذي لا يذكر الله تعالى صاحبه عند دخوله عشاء. اهـ فالمراد عليه أيضاً التنفير. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الأحاديث]- 1 - من الرواية الأولى دليل على استحباب لباس الحبرة، وجواز لباس المخطط، وهو مجمع عليه. كذا قال النووي، وقد سبق توجيهه في المعنى العام. 2 - ومن الرواية الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الزهادة في الدنيا، والإعراض عن متاعها، وملاذها، وشهواتها، وفاخر لباسها، واجتزائه بما يحصل به أدنى التجزية في ذلك كله. 3 - وفيه الندب للاقتداء به صلى الله عليه وسلم في هذا وغيره. كذا قال النووي. وفيه نظر لا يخفى. 4 - ومن الرواية الخامسة قال النووي: لا بأس بهذه الصور، وإنما يحرم تصوير الحيوان. اهـ وسيأتي الكلام عنه بعد أبواب في باب خاص. 5 - ومن الرواية السادسة والسابعة جواز اتخاذ الفرش والوسائد. 6 - والنوم عليها، والارتفاق بها. 7 - وجواز المحشو. 8 - وجواز اتخاذ ذلك من الجلود. 9 - ومن الرواية الثامنة والتاسعة جواز اتخاذ الأنماط، إذا لم تكن من الحرير. 10 - وفيها معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم، إذ أخبر بما سيأتي، وقد حصل.

11 - وعن الرواية العاشرة قال النووي: تعديد الفراش للزوج والزوجة لا بأس به، لأنه قد يحتاج كل منهما إلى فراش، عند المرض ونحوه. 12 - واستدل بعضهم بهذا على أنه لا يلزم الرجل النوم مع امرأته، وأن له الانفراد عنها بفراش، قال النووي: والاستدلال به على هذا ضعيف، لأن المراد بهذا وقت الحاجة كالمرض وغيره، وإن كان النوم مع الزوجة في فراش واحد ليس واجباً، لكنه بدليل آخر، والصواب في النوم مع الزوجة أنه إذا لم يكن لواحد منهما عذر في الانفراد فاجتماعهما في فراش واحد أفضل، وهو ظاهر فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي واظب عليه، مع مواظبته صلى الله عليه وسلم على قيام الليل، فينام معها، فإذا أراد القيام للصلاة قام وتركها، فيجمع بين قيام الليل وقضاء حقها المندوب، وعشرتها بالمعروف، لاسيما إن عرف من حالها حرصها على هذا، ثم إنه لا يلزمه من النوم معها الجماع. والله أعلم

(568) باب تحريم جر الثوب خيلاء وتحريم التبختر والإعجاب بالثياب

(568) باب تحريم جر الثوب خيلاء وتحريم التبختر والإعجاب بالثياب 4767 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء". 4768 - وفي رواية عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. بمثل حديث مالك. وزادوا فيه: يوم القيامة. 4769 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الذي يجر ثيابة من الخيلاء، لا ينظر الله إليه يوم القيامة". 4770 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جر ثوبه من الخيلاء، لم ينظر الله إليه يوم القيامة". 4771 - وفي رواية عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول مثله. غير أنه قال: ثيابه. 4772 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه رأى رجلاً يجر إزاره فقال "ممن أنت؟ " فانتسب له. فإذا رجل من بني ليث. فعرفه ابن عمر. قال سمعت

رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأذني هاتين، يقول: "من جر إزاره، لا يريد بذلك إلا المخيلة، فإن الله لا ينظر إليه يوم القيامة". 4773 - وفي رواية عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. بمثله. غير أن في حديث أبي يونس، عن مسلم أبي الحسن. وفي روايتهم جميعاً "من جر إزاره" ولم يقولوا: ثوبه. 4774 - عن محمد بن عباد بن جعفر قال: أمرت مسلم بن يسار، مولى نافع بن عبد الحارث أن يسأل ابن عمر. قال وأنا جالس بينهما: أسمعت من النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يجر إزاره من الخيلاء شيئاً؟ قال: سمعته يقول "لا ينظر الله إليه يوم القيامة". 4775 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: مررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي إزاري استرخاء. فقال "يا عبد الله، ارفع إزارك" فرفعته. ثم قال "زد" فزدت. فما زلت أتحراها بعد. فقال بعض القوم: إلى أين؟ فقال: أنصاف الساقين. 4776 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، ورأى رجلاً يجر إزاره، فجعل يضرب الأرض برجله، وهو أمير على البحرين، وهو يقول: جاء الأمير. جاء الأمير. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله لا ينظر إلى من يجر إزاره بطراً". 4777 - وفي رواية عن شعبة، بهذا الإسناد. وفي حديث ابن جعفر: كان مروان يستخلف أبا هريرة. وفي حديث ابن المثنى: كان أبو هريرة يستخلف على المدينة. 4778 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينما رجل يمشي، قد أعجبته جمته وبرداه، إذ خسف به الأرض، فهو يتجلجل في الأرض حتى تقوم الساعة". 4779 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "بينما رجل يتبختر،

يمشي في برديه، قد أعجبته نفسه، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة". 4780 - وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكر أحاديث منها: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بينما رجل يتبختر في بردين". ثم ذكر بمثله. 4781 - عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن رجلاً ممن كان قبلكم يتبختر في حلة" ثم ذكر مثل حديثهم. -[المعنى العام]- يقول الله تعالى: {ولا تمش في الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا} [الإسراء: 37] مسكين ابن آدم، كرمه الله فاغتر، وظن نفسه فوق المخلوقات، أعطاه قطرة من بحار العلم فظن نفسه فوق العالمين، مع أنه يقرأ كل يوم قوله {وفوق كل ذي علم عليم} [يوسف: 76] وقوله {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} [الإسراء: 85] وقوله {وقل رب زدني علماً} [طه: 114] وما علم موسى عليه السلام بشيء أمام علم عبد من عباده آتاه رحمة من عنده، وعلمه من لدنه علما، وما علم موسى وعلم العبد الصالح وعلم جميع البشر أمام علم الله إلا كقطرة أخذها العصفور بمنقاره من بحر يمده من بعده سبعة أبحر. أعطاه ذرة من القوة الجسمية فظن نفسه قاهر الملكوت، ونسي أنه من أضعف المخلوقات، نسي الأسد وغيره من السباع التي يخافها، بل نسي الميكروب والفيروس الذي لا يرى بالعين المجردة كيف يفترسه ويعجزه ويقعده، بل ويميته دون حول له ولا قوة. أعطاه حكماً وسلطاناً على بعض خلقه، فبغى وطغى وتجبر وتكبر عليهم، حتى قال لهم: أنا ربكم الأعلى، ليس لكم إله غيري، ونسي مالك الملك الذي يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير، إنه على كل شيء قدير. نسي أن البشر جميعهم لا يشغلون من سطح الأرض أكثر من عشرها وأن في الجبال أمماً أمثالنا، وفي البحار أمماً أكثر منا، وفي الفضاء المحيط بالأرض أمما أعجب من أممنا، بل نسي أن الأرض كلها في الكواكب والأجرام لا تمثل ذرة رمل في صحراء، لكن من جهله وغروره يضرب الأرض برجله إذا مشي، كأنه سيخرق الأرض بقدمه، ويرفع رأسه شامخاً متعالياً، كأنه يبلغ الجبال طولاً. من هنا كانت الحكمة الأولية، وأول درس يلقى على الإنسان في كلمة واحدة، هي: اعرف نفسك.

لو عرف الإنسان نفسه، بداية ومصيراً وما بينهما ما جر ثوبه خيلاء، وما أطال ثوبه كبراً أو بطراً وعلواً، إن الله تعالى حكيم، ومن حكمته أن يعاقب في الدنيا والآخرة بنقيض القصد، ونقيض المتعة غير المشروعة، فمن تعالى على الناس أذله الله، وجعله عبرة لأمثاله في الدنيا والآخرة، ولنا في قارون عبرة دنيوية، فقد كان من قوم موسى، فبغى عليهم، وآتاه الله من الكنوز ما يعجز الخيل عن حمل مفاتيح خزائنه. نسي الله المنعم، وقال: {قال إنما أوتيته على علم عندي أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعاً ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون* فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا ياليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم* وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن ءامن وعمل صالحاً ولا يلقاها إلا الصابرون* فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين* وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون* تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين} [القصص: 78 - 83]. لنا في قارون هذه العبرة الدنيوية، أما في الآخرة فعقابه أشد، يحتقره الله ويهمله، ويغضب عليه، ولا ينظر إليه، ولا يكلمه، ولا يطهره من ذنوبه، وله عذاب أليم. ومن تواضع لله رفعه، ومن تكبر مقته وأذله في الدنيا والآخرة، وعلى المؤمن أن يتواضع في غير ذلة، ويترفع في غير كبر، وتكفينا وصية لقمان لابنه {ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور* واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير} [لقمان: 18، 19]. -[المباحث العربية]- (لا ينظر الله) أي لا يرحمه، فالنظر إذا أضيف إلى الله تعالى كان مجازاً، وإذا أضيف إلى المخلوق كان كناية -أي لفظ أطلق، وأريد منه لازم معناه، مع صحة إرادة المعنى الأصلي- قال بعض العلماء: عبر عن المعنى الحاصل عند النظر بالنظر، لأن من نظر إلى متواضع رحمه، ومن نظر إلى متكبر مقته، فالرحمة والمقت متسببان عن النظر، فالنظر في جانب الله مجاز مرسل مراد به الرحمة، من إطلاق السبب وإرادة المسبب، والقرينة المانعة من إرادة المعنى الأصلي أن النظر في الأصل تقليب الحدقة، والله منزه عن ذلك، ويحتمل أن يراد به نظر رحمة، من باب تقييد المطلق، مجازاً مرسلاً أيضاً، ويحتمل -كما يقول السلف- أن يكون على الحقيقة، نظراً يليق بجلاله من غير تجسيم ولا تشبيه، والمراد لازمه أيضاً من الإهمال والمقت، فقد أخرج الطبراني "إن رجلاً ممن كان قبلكم لبس بردة، فتبختر فيها، فنظر الله إليه، فمقته، فأمر الأرض فأخذته". (إلى من جر ثوبه خيلاء) في الرواية الثانية "إن الذي يجر ثيابه من الخيلاء" وفي الرواية

الثالثة "من جر ثوبه من الخيلاء" وفي الرواية الرابعة "من جر إزاره، لا يريد بذلك إلا المخيلة" وفي الرواية السابعة "إلى من يجر إزاره بطراً" وأكثر الطرق جاءت بلفظ الإزار، قال الطبري: إنما ورد الخبر بلفظ الإزار لأن أكثر الناس في عهده صلى الله عليه وسلم كانوا يلبسون الإزار والرداء، فلما لبس الناس القميص وغيره كان حكمها حكم الإزار. اهـ قال ابن بطال: هذا قياس صحيح، لو لم يأت النص بالثوب، فإنه يشمل جميع ذلك. اهـ ولا قياس مع النص، وروايتنا الأولى والثانية والثالثة تنص على الثوب والثياب، ولابس الإزار والثوب حامله، وما زاد على المحمول يعتبر مجروراً، فجر الشيء جذبه وسحبه، وأما الإسبال فهو الإرخاء، يقال: أسبل الشيء، وأسبل الثوب، أرسله وأرخاه، وهل المراد هنا مجرد الإسبال؟ أو الجر على الأرض؟ سيأتي في بيان القدر المطلوب، والخيلاء بالمد، والمخيلة والبطر والكبر والزهو والتبختر كلها بمعنى واحد، كذا قال النووي، وقال الحافظ ابن حجر: أصل البطر الطغيان عند النعمة، واستعمل بمعنى التكبر، وقال الراغب: أصل البطر دهش يعتري المرء عند هجوم النعمة، يحول بينه وبين القيام بحقها، و"بطراً" في روايتنا السابعة رويت بفتح الطاء على المصدر، وبكسرها على الحال من فاعل "يجر" أي يجره تكبراً وطغياناً، و"من" في قوله "من الخيلاء" في روايتنا الثانية والثالثة سببية، أي بسبب الخيلاء، وهل هذا التقييد للاحتراز؟ أو لا؟ سيأتي تفصيله والخلاف فيه، في فقه الحديث. (يوم القيامة) التقييد بيوم القيامة للإشارة إلى أنه محل الرحمة المستمرة الدائمة، بخلاف رحمة الدنيا، فإنها قد تنقطع بما يحدث من الحوادث، فالتخويف بفقدها أعظم. (وفي إزاري استرخاء) أي طول نحو الأرض، ناشئ من عدم شده في الوسط. (ثم قال: زد، فزدت) مفعولاً "زد" محذوفان للعلم بهما، أي زد إزارك رفعاً، فزدته رفعاً. (فمازلت أتحراها بعد) أي فمازلت منذ سمعته أتحرى الحالة التي رفعت إليها إزاري كلما لبسته. (إلى أين؟ ) أي إلى أين رفعت إزارك؟ (أنصاف الساقين) "أنصاف" بالجر، بحرف جر محذوف، متعلق بمحذوف، أي رفعته إلى أنصاف الساقين. (فجعل يضرب الأرض برجله، وهو أمير على البحرين، وهو يقول: جاء الأمير. جاء الأمير) في ملحق الرواية "كان مروان يستخلف أبا هريرة" و"كان أبو هريرة يستخلف على المدينة" وعند أحمد "كان مروان يستعمل أبا هريرة على المدينة، فكان إذا رأى إنساناً يجر إزاره ضرب برجله، ثم يقول: قد جاء الأمير. قد جاء الأمير، ثم يقول: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم "إن الله لا ينظر إلى من يجر إزاره بطراً" وعند أحمد أيضاً "كان مروان يستخلف أبا هريرة على المدينة، فيضرب برجله، فيقول: خلو الطريق خلوا الطريق، قد جاء الأمير. قد جاء الأمير".

وكان عمر قد استعمله على البحرين، فقدم بعشرة آلاف، فحاسبه عمر عليها ثم عزله، ثم دعاه ليستعمله، فأبى، ثم أراد علي رضي الله عنه أن يستعمله، فأبى عليه، ولم يزل يسكن المدينة حتى مات بها سنة تسع وخمسين على أرجح الأقوال. فقوله في روايتنا "وهو أمير على البحرين" معناه: وقد كان قبل ذلك أميراً على البحرين، وأما قوله "خلوا الطريق" أو قوله "قد جاء الأمير" أو ضربه الأرض برجله فقد كان منه من قبيل التهيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لبعث الرهبة في نفوس المأمورين، للسمع والطاعة، ولم يكن للفخر والخيلاء والتعالي، فأبو هريرة معروف من هو. (بينما رجل يمشي، قد أعجبته جمته وبرداه، إذ خسف به الأرض) الجمة بضم الجيم وتشديد الميم المفتوحة، هي مجتمع الشعر المتدلي من الرأس إلى المنكبين، وإلى أكثر من ذلك، وفي رواية للبخاري "مرجل جمته" بضم الميم وفتح الراء وتشديد الجيم، وترجيل الشعر تسريحه ودهنه، و"برداه" ثوباه، وفي الرواية التاسعة "يتبختر، يمشي في برديه، قد أعجبته نفسه" وفي ملحقها "يتبختر في بردين" وفي ملحقها الآخر "يتبختر في حلة" وقد سبق أن الحلة إنما تكون من ثوبين. قال النووي: قيل: يحتمل أن هذا الرجل من هذه الأمة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن هذا سيقع، وقيل: بل هو إخبار عمن قبل هذه الأمة، وهذا هو الصحيح، وهو معنى إدخال البخاري للحديث في باب ذكر بني إسرائيل. اهـ وفي ملحق الرواية التاسعة "إن رجلاً ممن كان قبلكم" وكذا أخرجه أحمد وأبو يعلى من حديث أنس، قال الحافظ ابن حجر: وأما ما أخرجه أبو يعلى من طريق كريب، قال: "كنت أقود ابن عباس، فقال: حدثني العباس قال: بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أقبل رجل يتبختر في ثوبين ... " فهو ظاهر في أنه وقع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فسنده ضعيف، والأول صحيح، ويحتمل التعدد، أو الجمع بأن المراد من كل قبل المخاطبين بذلك، كأبي هريرة، فقد أخرج أبو بكر بن أبي شيبة وأبو يعلى، وأصله عند أحمد ومسلم "أن رجلاً من قريش أتى أبا هريرة في حلة يتبختر فيها، فقال: يا أبا هريرة، إنك تكثر الحديث، فهل سمعته يقول في حلتي هذه شيئاً؟ فقال: والله إنكم لتؤذوننا، ولولا ما أخذ الله على أهل الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ما حدثتكم بشيء، سمعت ... " الحديث، وقال في آخره: فوالله ما أروي؟ لعله كان من قومك". وقد أخرج الطبري في التاريخ أن هذا الرجل هو قارون، لأنه لبس حلة، فاختال فيها، فخسف به الأرض، وروى الطبري عن قتادة قال: ذكر لنا أنه خسف بقارون كل يوم قامة، وأنه يتجلجل فيها، لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة. والمراد من إعجابه بنفسه هو ملاحظته لها بعين الكمال، مع نسيان نعمة الله، فإن احتقر غيره مع ذلك فهو الكبر المذموم. (فهو يتجلجل في الأرض، حتى تقوم الساعة) في الرواية التاسعة "فهو يتجلجل فيها إلى

يوم القيامة" والتجلجل بجيمين التحرك، وقيل: الجلجلة الحركة مع صوت، وقال ابن فارس: التجلجل أن يسوخ في الأرض مع اضطراب شديد، ويندفع من شق إلى شق. وحكى عياض أنه روى "يتجلل" بجيم واحدة ولام ثقيلة، وهو بمعنى يتغطى، أي تغطيه الأرض، وحكي عن بعض الروايات أيضاً "يتخلخل" بخاءين، واستبعدها، إلا أن يكون من قولهم: خلخلت العظم، إذا أخذت ما عليه من اللحم، وجاء في غير الصحيحين "يتحلحل" بحاءين. قال الحافظ ابن حجر: والكل تصحيف، إلا الأول. -[فقه الحديث]- سبق الكلام عن هذا الموضوع في كتاب الإيمان، عند شرح حديث "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم. المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب" وكان فيما قلناه. المسبل إزاره، المرضى له، إما أن يكون إسباله لمجرد العرف والعادة، وإما أن يكون لستر عيب، وإما أن يكون لغير قصد، وإما أن يكون بدافع الكبر والخيلاء. ولا شك أن المقصود في الحديث هو الأخير، يدل على ذلك التقييد في روايتنا الأولى والثانية والثالثة والخامسة بالخيلاء، وفي الرابعة "لا يريد بذلك إلا المخيلة"، وفي السابعة وعند البخاري التقييد بقوله "بطراً" وفي رواية البخاري "فقال: أبو بكر: يا رسول الله، إن أحد شقي إزاري يسترخي، إلا أن أتعاهد ذلك منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لست ممن يصنعه خيلاء" وكان أبو بكر رجلاً نحيفاً، لا يكاد يمسك إزاره بوسطه. ففي هذه الأحاديث دلالة على أن التحريم لإسبال الثوب قاصر على ما إذا كان على وجه التكبر والخيلاء، أما الإسبال لغير خيلاء فظاهر الروايات المطلقة أنه حرام أيضاً، لكن التقييد فيما ذكرنا من الأحاديث الصحيحة يدل على أن الإطلاق في الزجر الوارد في ذم الإسبال محمول على المقيد، فلا يحرم الجر والإسبال إذا سلم من الخيلاء. وقد نص الشافعي على الفرق بين الجر للخيلاء ولغير الخيلاء، وقال: والمستحب أن يكون الإزار إلى نصف الساق، والجائز بلا كراهة ما تحت نصف الساق إلى الكعبين، وما نزل عن الكعبين ممنوع منع تحريم إن كان للخيلاء، وإلا فمنع تنزيه، لأن الأحاديث المطلقة الواردة في الزجر عن الإسبال يجب تقييدها بالإسبال للخيلاء. اهـ وفي حديث صلاة الكسوف عند البخاري "فقام يجر ثوبه مستعجلاً فإن فيه أن الجر إذا كان بسبب الإسراع لا يدخل في النهي، فيشعر بأن النهي يختص بما كان للخيلاء. أما من كره الإسبال والجر مطلقاً فإنه يرى أن فيه إسرافاً، وتشبهاً بالنساء، وتعريضاً للنجاسة، كما أن فيه مظنة الخيلاء.

ولا يخفى أن جر الثوب خيلاء ما هو إلا مظهر من مظاهر الكبر المذموم، وقد عقد له باب خاص في كتاب الإيمان، وشرحنا فيه حديث "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسنة، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق -أي إبطال الحق والبعد عنه ترفعاً وتجبراً، قيل: الكبر العظمة، يقال: تكبر بمعنى تعاظم، وقيل: الكبر غير العظمة، إذ الكبر يقتضي متكبراً عليه، والعظمة لا تقتضي متعاظماً عليه، فقد يتعاظم الإنسان في نفسه. فالتقييد بجر الثياب خرج مخرج الغالب في مظاهر الكبر، لكن الذم موجه في الحقيقة إلى البطر والتبختر، ولو لمن شمر ثوبه. أما الإعجاب بالثياب الذي تشير إليه الرواية الثامنة والتاسعة فالمقصود به الإعجاب الذي يصاحبه الكبر والخيلاء، وليس من قبيل الكبر لبس الجميل من الثياب، وتحسين الهيئة والصورة، ما لم يصحبه عجب في النفس، وخيلاء في الإحساس والشعور، وفي ذلك يقول الله تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} [الأعراف: 32] ويقول {يا بني ءادم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا} [الأعراف: 31] ويقول صلى الله عليه وسلم -فيما رواه البخاري "كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة" ويقول ابن عباس "كل ما شئت والبس ما شئت، ما أخطأتك اثنتان: سرف ومخيلة". قال الحافظ ابن حجر: والذي يجتمع من الأدلة أن من قصد بالملبوس الحسن إظهار نعمة الله عليه، مستحضراً لها، شاكراً عليها، غير محتقر لمن ليس له مثله، لا يضره ما لبس من المباحات، ولو كان في غاية النفاسة، فقد أخرج الترمذي "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده" أما من أحب ذلك ليتعاظم به على الآخرين فهو المذموم، وقد أخرج الطبري من حديث علي رضي الله عنه "إن الرجل يعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك صاحبه، فيدخل في قوله تعالى {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً} [القصص: 83]. فمدار الذم الكبر والعجب والخيلاء، لا جمال الثوب أو نفاسته، بل إن التجمل والتطيب، ولبس أحسن ما عند المرء من الثياب من مقاصد الشرع الحنيف عند المجتمعات، كالجمع والأعياد ولقاء الوفود والكبراء، ففي الحديث "ما على أحدكم لو اتخذ ثوبين لجمعته، سوى ثوبي مهنته" إذ بذلك تقبل النفوس، وتجتمع القلوب، وتتآلف الناس، ويترابط المجتمع، وليست مجالسة نافخ الكير كمجالسة حامل المسك، فقد أخرج النسائي وأبو داود عن عوف بن مالك عن أبيه "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له -ورآه رث الثياب- إذا آتاك الله مالاً فلير أثره عليك". فالسنة أن يلبس المرء ثياباً تليق بحاله من النفاسة والنظافة، ليعرفه المحتاجون للطلب منه، مع مراعاة القصد، وترك الإسراف، اللهم إلا إذا أثار هذا اللباس في الناس مظنة الكبر والخيلاء عند صاحبه، فيحسن التخلي عنه، لرفع الاتهام.

وليست مظاهر الكبر وبواعثه محصورة في الثياب وحسن الهيئة، فقد يغتر، ويزهو العالم بعلمه، والغني بغناه، وذو الجاه بجاهه، والقوي بسواعده وعضلاته، فالشعور النفسي بالخيلاء والزهو حرام على كل حال. هذا، والرواية السادسة تبين حدود الإسبال، وقد أخرج أبو داود والنسائي وصححه الحاكم "ارفع إزارك إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين" وفي رواية "الإزار إلى أنصاف الساقين، فإن أبيت فأسفل، فإن أبيت فمن وراء الساقين، ولا حق للكعبين في الإزار". وعند البخاري "ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار؟ " قال الخطابي: يريد أن الموضع الذي يناله الإزار من أسفل الكعبين في النار، فكني بالثوب عن بدن لابسه، ومعناه أن الذي دون الكعبين من القدم يعذب عقوبة. اهـ ويستثنى من ذلك الوعيد النساء، وقد نقل القاضي عياض الإجماع على أن المنع في حق الرجال، دون النساء، وقد ظنت أم سلمة -رضي الله عنها- أن "من" في قوله "من جر ثوباً خيلاء" تشمل الرجال والنساء، فقالت: فكيف تصنع النساء بذيولهن؟ فقال: يرخين شبراً، فقالت: إذن تنكشف أقدامهن؟ قال: فيرخينه ذراعاً، لا يزدن عليه. أخرجه النسائي وصححه الترمذي. والله أعلم

(569) باب تحريم خاتم الذهب على الرجال

(569) باب تحريم خاتم الذهب على الرجال 4782 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن خاتم الذهب. 4783 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتماً من ذهب في يد رجل. فنزعه، فطرحه. وقال: "يعمد أحدكم إلى جمرة من نار، فيجعلها في يده" فقيل للرجل بعد ما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ خاتمك انتفع به. قال: لا والله، لا آخذه أبداً، وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم. 4784 - عن عبد الله رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اصطنع خاتماً من ذهب. فكان يجعل فصه في باطن كفه إذا لبسه. فصنع الناس. ثم إنه جلس على المنبر فنزعه. فقال: "إني كنت ألبس هذا الخاتم وأجعل فصه من داخل" فرمى به. ثم قال: "والله، لا ألبسه أبداً" فنبذ الناس خواتيمهم. ولفظ الحديث ليحيى. 4785 - وفي رواية عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم. بهذا الحديث، في خاتم الذهب. وزاد في حديث عقبة بن خالد: وجعله في يده اليمنى. 4786 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من ورق. فكان في يده. ثم كان في يد أبي بكر. ثم كان في يد عمر. ثم كان في يد عثمان، حتى وقع منه في بئر أريس. نقشه محمد رسول الله. قال ابن نمير: حتى وقع في بئر. ولم يقل: منه.

4787 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتماً من ذهب. ثم ألقاه. ثم اتخذ خاتماً من ورق. ونقش فيه محمد رسول الله. وقال: "لا ينقش أحد على نقش خاتمي هذا" وكان إذا لبسه جعل فصه مما يلي بطن كفه. وهو الذي سقط من معيقيب، في بئر أريس. 4788 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من فضة. ونقش فيه محمد رسول الله. وقال للناس "إني اتخذت خاتماً من فضة. ونقشت فيه محمد رسول الله. فلا ينقش أحد على نقشه". 4789 - وفي رواية عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا، ولم يذكر في الحديث: محمد رسول الله. 4790 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى الروم. قال: قالوا: إنهم لا يقرءون كتاباً إلا مختوماً. قال: فاتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من فضة. كأني أنظر إلى بياضه في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم. نقشه محمد رسول الله. 4791 - عن أنس رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان أراد أن يكتب إلى العجم. فقيل له: إن العجم لا يقبلون إلا كتاباً عليه خاتم. فاصطنع خاتماً من فضة. قال: كأني أنظر إلى بياضه في يده. 4792 - عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب إلى كسرى وقيصر والنجاشي. فقيل: إنهم لا يقبلون كتاباً إلا بخاتم. فصاغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً. حلقته فضة. ونقش فيه. محمد رسول الله.

4793 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أنه أبصر في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من ورق يوماً واحداً. قال فصنع الناس الخواتم من ورق فلبسوه. فطرح النبي صلى الله عليه وسلم خاتمه. فطرح الناس خواتمهم. 4794 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أنه رأى في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من ورق يوماً واحداً. ثم إن الناس اضطربوا الخواتم من ورق فلبسوها. فطرح النبي صلى الله عليه وسلم خاتمه. فطرح الناس خواتمهم. 4795 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورق. وكان فصه حبشياً. 4796 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس خاتم فضة في يمينه، فيه فص حبشي. كان يجعل فصه مما يلي كفه. 4797 - عن أنس رضي الله عنه قال: كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم في هذه، وأشار إلى الخنصر من يده اليسرى. 4798 - عن علي رضي الله عنه قال: نهاني يعني النبي صلى الله عليه وسلم أن أجعل خاتمي في هذه أو التي تليها. لم يدر عاصم في أي الثنتين. ونهاني عن لبس القسي، وعن جلوس على المياثر. قال: فأما القسي: فثياب مضلعة يؤتى بها من مصر والشام،

فيها شبه كذا. وأما المياثر، فشيء كانت تجعله النساء لبعولتهن على الرحل، كالقطائف الأرجوان. 4799 - عن أبي بردة قال: قال علي رضي الله عنه: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتختم في إصبعي هذه، أو هذه. قال: فأومأ إلى الوسطى والتي تليها. -[المعنى العام]- كان الرجال والنساء من الفرس والروم يتحلون بالذهب، وكان الأكاسرة والقياصرة وذوو الجاه والأموال يلبسون الأساور الذهبية العريضة التي تملأ الساعد، ويتخذون القلائد والتيجان والسلاسل الذهبية كمظهر من مظاهر الزينة والفخر والخيلاء والكبر والعلو في الأرض، وكما سبق كانوا يأكلون ويشربون في أواني الذهب والفضة، ومثل ذلك وأكثر كان الفراعنة في مصر يفعلون، وما الآثار الذهبية لتوت عنخ آمون إلا رمز لهذه المظاهر، أما العرب فكانوا يعيشون في البوادي، وحضرهم أقرب إلى البادية منها إلى قصور الفرس والروم، كانوا يسمعون عن حلي الذهب أو يرون ولا يملكون، ويوم أن لمسوا ثوباً من الحرير تعجبوا لحسنه انبهاجاً وانبهاراً، حتى قال لهم صلى الله عليه وسلم: لا تعجبوا فمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذا، وقد وعدهم الله هذه الحلي في الجنة، فقال {يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً} [الحج: 23] وفطمهم صلى الله عليه وسلم عن التطلع إليها في الدنيا، فقال: "هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة" وكان صلى الله عليه وسلم يعلم بما أوحى الله إليه أن العرب سيملكون ملك كسرى وقيصر، وأن الدنيا ستفتح عليهم وأن الذهب سيفيض بين أيديهم، وخشي صلى الله عليه وسلم على رجال أمته أن ينعموا وينصرفوا إلى زينة النساء، فيضعفوا ويخضعوا، ويذلوا، فاتجه إلى أقل وأحقر شيء في لبس الذهب، وهو الخاتم، الخاتم الذي يوضع في إصبع من أصابع اليد، ولا يكاد يرى فحرمه، حرمه عملاً وقولاً، لبس خاتم الذهب ثلاثة أيام، فبادر المسلمون واتخذوا مثله خواتم من ذهب، فصعد المنبر، وخطبهم، ورفع يده أمامهم وخلع الخاتم من إصبعه، ورماه، وأسمع من لم ير، فقال: إني كنت قد لبست خاتماً من ذهب في يميني، فوالله لا ألبسه أبداً، إن من يلبس في إصبعه خاتماً من ذهب فكأنه يضع جمرة من النار في يده، فنزع المسلمون خواتمهم الذهبية من أيديهم، ومضت أيام وشهور، وعقدت هدنة الحديبية، وأمن المسلمون كفار قريش، فاتجه صلى الله عليه وسلم إلى دعوة الملوك، كسرى وقيصر والنجاشي، وقرر إرسال كتب إليهم، فقيل له: إنهم لا يعتمدون كتاباً غير مختوم بخاتم مرسله، فصنع له خاتم من فضة، نقش عليه: محمد رسول الله، وفي يوم وليلة انتشر في أيدي الصحابة خواتم، منقوش عليها محمد رسول الله؛ تبركاً وإعلاناً وتشرفاً، وكان في هذا تضييعاً للهدف من النقش، وأنه للختم به على الرسائل، فغضب صلى الله عليه وسلم، ورمى بخاتمه، وقال لهم: لا ينقش أحد منكم على خاتمه مثل نقشي، فرمى

الصحابة بخواتيمهم المنقوشة باسمه، فسكن غضبه، وعاد إلى خاتمه المنقوش باسمه، يلبسه تارة، ويختم به تارة، ويحفظه عند أمين تارة. أما الصحابة فقد اتخذوا خواتيم أخرى من فضة، بعضهم لم ينقش عليها، وبعضهم نقش عليها اسمه، أو ذكر الله تعالى. رضي الله عنهم أجمعين. -[المباحث العربية]- (نهى عن خاتم الذهب) في الكلام مضاف محذوف، وهناك قيد ملاحظ من أدلة أخرى، في الكلام مضاف محذوف، والتقدير: نهى عن لبس خاتم الذهب للرجال، والإضافة بمعنى "من" أي خاتم من الذهب. (فنزعه، فطرحه) أي أخرجه من إصبع يد الرجل، فرماه. (يعمد أحدكم إلى جمرة من نار، فيجعلها في يده) في الكلام مجاز مرسل من إطلاق المسبب وإرادة السبب، أو استعارة تصريحية، بتشبيه الخاتم بجمرة من النار، بجامع إيذاء كل. (خذ خاتمك، انتفع به) بالبيع أو الهبة، أو إعطائه إحدى نسائك. (والله لا آخذه أبداً، وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم) جملة "وقد طرحه" حالية. (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اصطنع خاتماً من ذهب) أي جعل صانعاً يصنعه له، وفي الخاتم ثمان لغات: فتح التاء وكسرها وبتقديم التاء على الألف مع كسر الخاء "ختام" و"خيتوم" و"ختم" بفتح الخاء وسكون التاء، و"خاتام" بألف بعد الخاء، وألف بعد التاء، و"خاتيام" بزيادة ياء عما قبلها، وبحذف الألف الأولى "خيتام". قال الحافظ ابن حجر: والحق أن الختم والختام مختص بما يختم به، وأما ما يتزين به فليس فيه إلا ستة. و"خاتم" يجمع على "خواتم" و"خواتيم" وعلى "خياتيم" و"خياتم". (فكان يجعل فصه في باطن كفه إذا لبسه) "الفص" بفتح الفاء، وحكي كسرها وضمها. والمعنى كان يجعل فصه في جهة باطن كفه، وهذا هو المراد من قوله في الرواية نفسها "وأجعل فصه من داخل" وفي الرواية الخامسة "وكان إذا لبسه جعل فصه مما يلي بطن كفه" وفي الرواية الثالثة عشرة "كان يجعل فصه مما يلي كفه" وذلك ليكون أبعد من التزين. (فصنع الناس) المفعول محذوف، أو فصنع الناس خواتم مثله، من ذهب، ولبسوها. (ثم إنه جلس على المنبر، فنزعه، فقال .... ) جلوسه على المنبر وقوله وفعله صلى الله عليه وسلم لظهور مقارنة القول للفعل، للأهمية.

(فنبذ الناس خواتيمهم) أي نزعوها، وألقوها بعيدة عن أصابع أيديهم. (اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من ورق) في الرواية الخامسة "اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتماً من ذهب، ثم ألقاه، ثم اتخذ خاتماً من ورق "وفي الرواية السادسة والسابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة "اتخذ خاتماً من فضة" أي بعد أن ألقى خاتم الذهب، و"الورق" بفتح الواو، وكسر الراء ويجوز إسكانها بعدها قاف وحكي كسر أوله مع السكون الفضة، وقيل: يختص بالمصكوك من الفضة، وفي الرواية التاسعة "خاتماً حلقة فضة" قال النووي: "الحلقة" ساكنة اللام، على المشهور، وفتحها لغة شاذة ضعيفة، وقال: هكذا هو في جميع الأصول "حلقة فضة" بنصب "حلقة" على البدل من "خاتم" وليس فيها هاء ضمير. اهـ قيل: إنه لا يسمى خاتماً إلا إذا كان له فص، فإن كان بلا فص فهو حلقة، وقيل: لا يقال له خاتم إلا إذا كان له فص من غيره، أما إن كان فصه منه فهو حلقة أيضاً وفي الرواية العاشرة "عن أنس بن مالك أنه أبصر في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من ورق، يوماً واحداً، قال: فصنع الناس الخواتم من ورق، فلبسوه، فطرح النبي صلى الله عليه وسلم خاتمه، فطرح الناس خواتمهم" فهذه الرواية وما بعدها تفيد طرح خاتم الفضة. قال النووي: قال القاضي: قال جميع أهل الحديث: هذا وهم من ابن شهاب -الراوي عن أنس- والمعروف من روايات أنس، من غير طريق ابن شهاب اتخاذه صلى الله عليه وسلم خاتم فضة، ولم يطرحه، وإنما طرح خاتم الذهب، كما ذكره مسلم في باقي الأحاديث، قال: ومنهم من تأول حديث ابن شهاب، وجمع بينه وبين الروايات، فقال: لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم تحريم خاتم الذهب اتخذ خاتم فضة، فلما لبس خاتم فضة أراه الناس في ذلك اليوم، ليعلمهم إباحته، ثم طرح خاتم الذهب، وأعلمهم تحريمه، فطرح الناس خواتيمهم من الذهب، فيكون قوله "فطرح الناس خواتمهم" أي خواتم الذهب. قال النووي: وهذا التأويل هو الصحيح، وليس في الحديث ما يمنعه. قال: وأما قوله "فصنع الناس الخواتم من الورق فلبسوه" ثم قال "فطرح خاتمه فطرحوا خواتمهم" فيحتمل أنهم لما علموا أنه صلى الله عليه وسلم يصطنع لنفسه خاتم فضة اصطنعوا لأنفسهم خواتيم فضة، وبقيت معهم خواتيم الذهب، كما بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم، إلى أن طرح خاتم الذهب، واستبدل به الفضة. اهـ وقال الإسماعيلي: إن كان الخبر عن ابن شهاب محفوظاً فينبغي أن يكون تأويله أنه اتخذ خاتماً من ورق على لون من الألوان، وكره أن يتخذ غيره مثله، فلما اتخذوه رمى به، حتى رموا به، ثم اتخذ بعد ذلك ما اتخذه، ونقش عليه نقش، ليختم به، ثم أشار الإسماعيلي إلى تأويل آخر، وأنه اتخذه للزينة، فلما تبعه الناس فيه رمى به، فلما احتاج إلى الختم اتخذه ليختم به، قال المحب الطبري: وهذا متكلف، وقيل: يخدشه أنه يستلزم اتخاذ خاتم الورق مرتين. وقال ابن بطال: خالف ابن شهاب رواية قتادة وثابت وعبد العزيز بن صهيب، في كون الخاتم الفضة، فوجب الحكم للجماعة، واعتبار الزهري واهماً فيه، وقال المهلب: قد يمكن أن يتأول لابن شهاب ما ينفي عنه الوهم، وإن كان الوهم أظهر.

أما قول أنس في الرواية العاشرة "أنه أبصر في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من ورق، يوماً واحداً "فيحمل على أنه رآه كذلك في يوم، واستمر في يده صلى الله عليه وسلم أكثر من اليوم، فقوله "يوماً واحداً" ظرف لرؤية أنس، لا لمدة اللبس، وما عند النسائي عن ابن عمر "اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتماً من ذهب، فلبسه ثلاثة أيام" ظرف لمدة اللبس، وإن قلنا: إن رواية ابن شهاب لا وهم فيها، وجمعنا بما تقدم، فمدة لبس خاتم الذهب ثلاثة أيام، كما في حديث ابن عمر هذا، ومدة لبس خاتم الورق الأول كانت يوماً واحداً، كما في حديث أنس، ثم لما رمى الناس الخواتيم التي نقشوها على نقشه، عاد فلبس خاتم الفضة، واستمر إلى أن مات. (ونقش فيه: محمد رسول الله) في الكلام مجاز مرسل، أي أمر الصانع أن ينقش فيه، وفيه مضاف محذوف، أي في فصه، وقد روى البخاري عن أنس "أن أبا بكر رضي الله عنه لما استخلف كتب له، وكان نقش الخاتم ثلاثة أسطر: محمد سطر، رسول سطر، والله سطر" قال ابن بطال: ليس كون نقش الخاتم ثلاثة أسطر أو سطرين أفضل من كونه سطراً واحداً، قال الحافظ ابن حجر: قد يظهر أثر الخلاف في أنه إذا كان سطراً واحداً يكون الفص مستطيلاً، فإذا تعددت الأسطر أمكن كونه مربعاً أو مستديراً، وكل منهما أولى من المستطيل. اهـ ورواية البخاري السابقة صريحة في أن النقش ثلاثة أسطر، ولما كانت الأسطر تقرأ عادة من الأعلى، ثم السطر الذي أسفله وهكذا، كان ظاهر الرواية أن لفظ "محمد" كان في أعلى الأسطر، ولفظ الجلالة في ثالث الأسطر، هكذا (محمد رسول الله) ** وظاهر رواية الإسماعيلي تفيد ذلك، ففيها "محمد سطر، والسطر الثاني رسول، والسطر الثالث الله" قال الحافظ ابن حجر: وأما قول بعض الشيوخ: إن كتابته كانت من أسفل السطور إلى فوق، يعني لفظ الجلالة في أعلى الأسطر الثلاثة، ومحمد في أسفلها هكذا (محمد رسول الله) ** فلم أر التصريح بذلك في شيء من الأحاديث. اهـ وعلى هذا القول الأخير لا يليق أن تقرأ الكلمات من السطر الأعلى إلى الأسفل [الله. رسول. محمد] بل القراءة حينئذ تكون من الأسفل إلى الأعلى، ولك أن تقرأ "رسول" بالتنوين وعدمه، و"الله" بالرفع وبالجر، لكن الجر أولى. ولا يخفى أن الختم بهذه الكلمات يقتضي أن تكتب الأحرف المنقوشة مقلوبة، ليخرج الختم على هيئة القراءة السليمة. هذا هو التحقيق في نقش خاتمه صلى الله عليه وسلم، أما ما جاء عند أبي الشيخ في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم "عن أنس قال: كان فص خاتم النبي صلى الله عليه وسلم حبشياً، مكتوباً عليه: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فهو ضعيف، وهذه الزيادة شاذة، وكذا ما ذكره ابن سعد من مرسل ابن سيرين من أن الخاتم كان عليه: "بسم الله محمد رسول الله" فإنه لم يتابع على هذه الزيادة، وكذلك ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن محمد بن عقيل أنه أخرج لهم خاتماً، فزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلبسه، فيه تمثال أسد" ففيه مع إرساله ضعف.

(وقال: لا ينقش أحد على نقش خاتمي هذا) وفي الرواية السادسة "اتخذ خاتماً من فضة ونقش فيه: محمد رسول الله. وقال للناس: إني اتخذت خاتماً من فضة، ونقشت فيه: محمد رسول الله، فلا ينقش أحد على نقشه" والظاهر أن الصحابة كانوا قد بادروا بنقش "محمد رسول الله" على خواتيمهم اعتزازاً بالشهادة، فلما قرر أن يختم به لزم أن لا يشركه أحد على نقشه، فرمى به، ليرموا بخواتيمهم المنقوشة على اسمه، ونهى الناس أن ينقشوا نقشه، فلما عدمت خواتيمهم برميها رجع إلى خاتمه الخاص به، فصار يختم به. أما الصحابة فقد نقش بعضهم نقوشاً أخرى، وبعضهم لم ينقش شيئاً، فعند ابن أبي شيبة أن ابن عمر نقش على خاتمه: عبد الله بن عمر، وكذا القاسم بن محمد، ونقش كل من حذيفة وأبي عبيدة "الحمد لله" ونقش علي "والله الملك" ونقش بعضهم "بالله" وبعضهم "بسم الله" وبعضهم "العزة لله" وكان مالك يقول: من شأن الخلفاء والقضاة نقش أسمائهم في خواتمهم. (فكان في يده، ثم كان في يد أبي بكر، ثم كان في يد عمر، ثم كان في يد عثمان) أي في حيازة كل منهم في إصبع يدهم، أو في ملكهم وتصرفهم، وفي رواية ابن سعد عن الأنصاري "معيقيب" "ثم كان في يد عثمان ست سنين، فلما كان في الست الباقية كنا معه على بئر أريس .. ". (حتى وقع منه في بئر أريس) بفتح الهمزة وكسر الراء، على وزن عظيم، وهي في حديقة بالقرب من مسجد قباء، وظاهر هذه الرواية أن الخاتم وقع في البئر من عثمان رضي الله عنه، وفي ملحق الرواية الرابعة "حتى وقع في بئر أريس" ولم تذكر "منه" وفي الرواية الخامسة "وهو الذي سقط من معيقيب في بئر أريس" وفي رواية للبخاري "حتى وقع من عثمان في بئر أريس" وفي رواية للبخاري "فلما كان عثمان جلس على بئر أريس، فأخرج الخاتم، فجعل يعبث به، فسقط، قال أنس: فاختلفنا ثلاثة أيام مع عثمان، فننزح البئر، فلم نجده". وفي رواية ابن سعد "فجعل يحوله في يده ... فطلبناه مع عثمان ثلاثة أيام، فلم نقدر عليه" وعند أبي داود والنسائي "فاتخذ عثمان خاتماً، ونقش فيه: محمد رسول الله، فكان يختم به" قال الحافظ ابن حجر يحتمل أن نسبة سقوطه إلى عثمان نسبة مجازية، أو بالعكس، يحتمل أن عثمان طلبه من معيقيب، فختم به شيئاً، واستمر في يده، وهو يفكر في شيء، يعبث به، فسقط في البئر، ويحتمل أنه رده إلى معيقيب فسقط منه، والأول هو الموافق لحديث أنس. اهـ وهو الظاهر، لأنه لم يرد في الروايات تأنيباً أو لوما لمعيقيب، ولو كان هو المقصر لوجدنا لوماً وتعنيفاً. ومعيقيب مولى سعيد بن أبي العاص، وعند أبي داود والنسائي "كان معيقيب على خاتم النبي صلى الله عليه وسلم" يعني كان أميناً عليه، واتخذه عثمان أميناً وكاتباً لما كثرت الأعمال، فكان الخاتم أحياناً عنده، يختم به أوامر الخليفة، كما يحتفظ اليوم بخاتم الدولة في الإدارات الحكومية عند الكاتب الأول. (لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى الروم) في الرواية الثامنة "كان إذا أراد أن يكتب

إلى العجم" وفي الرواية التاسعة "أراد أن يكتب إلى كسرى وقيصر والنجاشي" وفي رواية للبخاري "أراد أن يكتب إلى رهط -أو أناس- من الأعاجم" وقد جزم أبو الفتح اليعمري أن اتخاذ الخاتم كان في السنة السابعة، وجزم غيره بأنه كان في السادسة ويجمع بأنه كان في أواخر السادسة وأوائل السابعة لأنه إنما اتخذه عند إرادته مكاتبة الملوك، وكان إرساله إلى الملوك في مدة الهدنة، وكانت في ذي القعدة سنة ست، ورجع إلى المدينة في ذي الحجة، ووجه الرسل في المحرم من السابعة، وكان اتخاذه الخاتم قبل إرساله الرسل إلى الملوك. (قالوا: إنهم لا يقرءون كتاباً إلا مختوماً) في الرواية الثامنة "فقيل له: إن العجم لا يقبلون إلا كتاباً عليه خاتم" وفي الرواية التاسعة "فقيل: إنهم لا يقبلون كتاباً إلا بخاتم" وعند ابن سعد أن قريشاً هم الذين قالوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد اتصلوا بهؤلاء الملوك أثناء رحلتي الشتاء والصيف. (كأني أنظر إلى بياضه في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم) في رواية البخاري "فكأني أنظر إلى وبيص خاتمه" والوبيص هو البريق وزناً ومعنى. (فصنع الناس الخواتم من ورق فلبسوه) أي فلبسوا هذا المصنوع، وفي روايتنا الحادية عشرة ورواية البخاري "فلبسوها". (ثم إن الناس اضطربوا الخواتم من ورق) أي حركوا خواتم الفضة في أيديهم على غير نظام. (وكان فصه حبشياً) في الرواية الثالثة عشرة "فيه فص حبشي" وفي رواية للبخاري "كان خاتمه من فضة، وكان فصه منه" وعند أبي داود "من فضة كله" قال الحافظ ابن حجر: لا يعارضه ما أخرجه مسلم وأصحاب السنن عن أنس "كان فصه حبشياً" لأنه إما أن يحمل على التعدد -على معنى تعدد الخاتم، فكان خاتم فصه منه، وكان الآخر فصه حبشي" وحينئذ فمعنى قوله "حبشي" أي كان حجراً من بلاد الحبشة، أو لونه لون الحبشة، أو كان جزعاً أو عقيقاً، لأن ذلك قد يؤتى به من بلاد الحبشة، ويحتمل أن يكون هو الذي فصه منه، ونسب إلى الحبشة لصفة فيه، إما الصياغة، وإما النقش. -[فقه الحديث]- قال النووي: أجمع المسلمون على إباحة خاتم الذهب للنساء، وأجمعوا على تحريمه على الرجال، إلا ما حكي عن أبي بكر بن محمد بن عمر بن محمد بن حزم أنه أباحه، وعن بعض أنه مكروه، لا حرام، وهذان النقلان باطلان، فقائلهما محجوج بهذه الأحاديث التي ذكرها مسلم، مع إجماع من قبله على تحريمه، مع قوله صلى الله عليه وسلم في الذهب والحرير "إن هذين حرام على ذكور أمتي، حل لإناثها" قال أصحابنا: ويحرم سن الخاتم إذا كان ذهباً وإن كان باقيه فضة، وكذا لو موه خاتم الفضة بالذهب، فهو حرام. اهـ

وقال ابن دقيق العيد: ظاهر النهي التحريم، وهو قول الأئمة، واستقر الأمر عليه، وما نقل عن أبي بكر بن محمد بن حزم من تختمه بالذهب فشذوذ، والأشبه أنه لم تبلغه السنة فيه، فالناس بعده مجمعون على خلافه، وكذا ما روي فيه عن خباب، وقد قال له ابن مسعود: "أما آن لهذا الخاتم أن يلقى؟ فقال: إنك لن تراه على بعد اليوم" فكأنه ما كان بلغه النهي، فلما بلغه رجع. قال: وقد ذهب بعضهم إلى أن لبسه للرجال مكروه كراهة تنزيه، لا تحريم، كما قال مثل ذلك في الحرير. قال ابن دقيق العيد: هذا يقتضي إثبات الخلاف في التحريم، وهو يناقض القول بالإجماع على التحريم، ولا بد من اعتبار وصف كونه خاتماً. قال الحافظ ابن حجر: والتوفيق بين الكلامين ممكن، بأن يكون القائل بكراهة التنزيه انقرض، واستقر الإجماع بعده على التحريم، وقد جاء عن جماعة من الصحابة لبس خاتم الذهب، ومن ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق محمد بن إسماعيل أنه رأى ذلك على سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله وصهيب، وذكر ستة أو سبعة، وأخرج ابن أبي شيبة أيضاً عن حذيفة وعن جابر بن سمرة وعبد الله بن يزيد الخطمي نحوه، ومن طريق حمزة بن أبي أسيد "نزعنا من يدي أبي أسيد خاتماً من ذهب" وأغرب ما ورد من ذلك ما جاء عن البراء الذي روى النهي. فأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن أبي السفر، قال: "رأيت على البراء خاتماً من ذهب" وأخرج أحمد من طريق محمد بن مالك قال: "رأيت على البراء خاتماً من ذهب، فقال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً، فألبسنيه، فقال: البس ما كساك الله ورسوله" قال الحازمي: إسناده ليس بذاك، ولو صح فهو منسوخ، قال الحافظ ابن حجر: لو ثبت النسخ عند البراء ما لبسه بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روي حديث النهي المتفق على صحته عنه، فالجمع بين روايته وفعله إما أن يكون حمله على التنزيه، أو فهم الخصوصية له من قوله "البس ما كساك الله ورسوله"، وهذا أولى من قول الحازمي: لعل البراء لم يبلغه النهي، ويؤيد أنه فهم الخصوصية ما جاء عند أحمد "كان الناس يقولون للبراء: لم تتختم بالذهب؟ وقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيذكر لهم هذا الحديث، ثم يقول: كيف تأمرونني أن أضع ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: البس ما كساك الله ورسوله؟ " اهـ. هذا وأحاديث الباب -وبخاصة روايتنا الثانية- تؤكد تحريم خاتم الذهب على الرجال، أما إباحته للنساء فبالإجماع، وقد أخرج ابن أبي شيبة من حديث عائشة "أن النجاشي أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم حلية، فيها خاتم من الذهب، فأخذه، وإنه لمعرض عنه، ثم دعا أمامة، بنت ابنته، فقال: تحلى به". -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - استدل به على تحريم الذهب على الرجال، قليله وكثيره، للنهي عن التختم، وهو قليل، وتعقبه ابن دقيق العيد بأن التحريم يتناول ما هو في قدر الخاتم وما فوقه، فأما ما هو دونه فلا دلالة من الحديث عليه. 2 - تناول النهي عن لبس الخاتم جميع الأحوال، فلا تستثنى حالة الحرب أو الحكة، كما استثنيت في الحرير، لأنه لا علاقة له بالحرب، بخلاف ما على السيف أو الترس أو المنطقة، من حلية الذهب، فإنه لو فجأه الحرب جاز له الضرب بذلك السيف، فإذا انقضت الحرب لم يستعمله، لأنه والحالة هذه من متعلقات الحرب، بخلاف الخاتم.

3 - ومن الرواية الثانية المبالغة في امتثال أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، واجتناب نهيه، فإن الرجل ترك الخاتم لمن يأخذه من الفقراء أو غيرهم، وكان يمكنه أخذه والتصرف فيه بالبيع وغيره، لكنه تورع عن أخذه، مبالغة في امتثال الأمر. 4 - ومن نزع الرسول صلى الله عليه وسلم الخاتم من يد الرجل إزالة المنكر باليد، لمن قدر عليها. 5 - ومن ترك الرجل للخاتم -وقد أخذه بعض الحاضرين أو تصدق به- جواز التصرف في مال الغير إذا تبين إعراضه عنه، وإباحته للغير. 6 - ومن نبذ الناس خواتمهم، حين نزع النبي صلى الله عليه وسلم خاتمه ما كانت عليه الصحابة -رضي الله عنهم- من المبادرة إلى امتثال أمره ونهيه صلى الله عليه وسلم، والاقتداء به في أفعاله. 7 - ومن اتخاذه واتخاذ أصحابه خاتم الفضة جوازه، قال النووي: أجمع المسلمون على جواز خاتم الفضة للرجال، وكره بعض علماء الشام المتقدمين لبسه لغير ذي سلطان، ورووا فيه أثراً، وهذا شاذ مردود. اهـ والأثر الذي أشار إليه النووي أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي عن أبي ريحانة قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الخاتم إلا لذي سلطان" وأحاديثنا ترد عليه، فقد جاء أن جماعة من الصحابة والتابعين كانوا يلبسون الخواتم، وهم ليس لهم سلطان، قال الحافظ ابن حجر والذي يظهر أن لبسه لغير ذي سلطان خلاف الأولى، لأنه ضرب من التزين، واللائق بالرجال خلافه، وقد سئل مالك عن حديث أبي ريحانة فضعفه. قال الخطابي: ويكره للنساء خاتم الفضة، لأنه من شعار الرجال، قال: فإن لم تجد خاتم ذهب فلتصفره بزعفران وشبهه. قال النووي: وهذا الذي قاله ضعيف أو باطل لا أصل له، والصواب أنه لا كراهة في لبسها خاتم الفضة. 8 - ومن الرواية الرابعة التبرك بآثار الصالحين، ولبس لباسهم. 9 - وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يورث، إذ لو ورث لدفع الخاتم إلى ورثته، بل كان الخاتم والقدح والسلاح ونحوها من آثاره الضرورية صدقة للمسلمين، يصرفها ولي الأمر حيث رأى من المصالح، فجعل القدح عند أنس، إكراماً له لخدمته، ومن أراد التبرك به لم يمنعه، وجعل باقي الأثاث عند ناس معروفين، واتخذ الخاتم عنده للحاجة التي اتخذه النبي صلى الله عليه وسلم لها، فإنها موجودة في الخليفة بعده، ثم الخليفة الثاني، ثم الثالث. كذا قال النووي، وتعقب باحتمال أن الخاتم كان من بيت مال المسلمين، فيئول للحاكم بعده، ولا دخل له بالميراث. 10 - قال بعض العلماء: كان في خاتمه صلى الله عليه وسلم من السر شيء مما كان في خاتم سليمان -عليه السلام- لأن سليمان لما فقد خاتمه ذهب ملكه، وعثمان لما فقد خاتم النبي صلى الله عليه وسلم انتقض عليه الأمر، وخرج عليه الخارجون، وكان ذلك مبدأ الفتنة التي أفضت إلى قتله، واتصلت إلى آخر الزمان. كذا قيل، وقد بينا قبل ذلك أن عثمان رضي الله عنه حكم بعد ضياع الخاتم ست سنين.

11 - ومن الروايات الأخرى لضياع الخاتم قال ابن بطال: يؤخذ أن يسير المال إذا ضاع يجب البحث في طلبه، والاجتهاد في تفتيشه، قال الحافظ ابن حجر وفيه نظر، لأن الذي يظهر أنه إنما بالغ في التفتيش عليه لكونه أثر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد لبسه، واستعمله، وختم به، ومثل ذلك يساوي في العادة قدراً عظيماً من المال، وإلا لو كان غير خاتم النبي صلى الله عليه وسلم لاكتفى بطلبه بدون ذلك، وبالضرورة يعلم قدر المئونة التي حصلت في الأيام الثلاثة، وأنها تزيد على قيمة الخاتم، لكن اقتضت صفته عظم قدره، فلا يقاس عليه كل ما ضاع من يسير المال. 12 - قال ابن بطال: وفيه أن من فعل الصالحين العبث بخواتيمهم وما يكون بأيديهم، وليس ذلك بعائب لهم. قال الحافظ: وإنما كان كذلك لأن ذلك من مثلهم إنما ينشأ عن فكر، وفكرهم إنما هو في الخير. 13 - قال ابن بطال: وفيه أن من طلب شيئاً، ولم ينجح فيه بعد ثلاثة أيام، له أن يتركه، ولا يكون بعد الثلاث مضيعاً، وأن الثلاث حد يقع بها العذر في تعذر المطلوبات. 14 - ومن قوله "خاتم فضة في يمينه" في الرواية الثالثة عشرة، وقوله "وأشار إلى الخنصر من يده اليسرى" في الرواية الرابعة عشرة، وضع الخاتم في إحدى اليدين، ووضعه في إحدى الأصابع. قال النووي: أما التختم في اليد اليمنى أو اليسرى فقد جاء فيه هذان الحديثان، وهما صحيحان، وقال الدارقطني: لم يتابع سليمان على زيادة "في يمينه" قال: وخالفه الحفاظ عن يونس، مع أنه لم يذكرها أحد من أصحاب الزهري. قال النووي: لم ينفرد بهذه الزيادة سليمان بن بلال، فقد اتفق طلحة وسليمان عليها، وكون الأكثرين لم يذكروها لا يمنع صحتها، فإن زيادة الثقة مقبولة. أما حكم المسألة عند الفقهاء فأجمعوا على جواز التختم في اليمين، وعلى جوازه في اليسار، ولا كراهة في واحد منهما، واختلفوا أيتهما أفضل؟ فتختم كثيرون من السلف في اليمين، وكثيرون في اليسار، واستحب مالك اليسار، وكره اليمين، وفي مذهبنا وجهان لأصحابنا، الصحيح أن اليمين أفضل، لأنه زينة، واليمين أشرف وأحق بالزينة والإكرام. اهـ واستعرض الحافظ ابن حجر كثيراً من أحاديث وضع الخاتم في اليمين، وكثيراً من أحاديث وضع الخاتم في اليسار، فذكر: روايتنا الثالثة عشرة، وما أخرجه الترمذي وابن سعد "صنع النبي صلى الله عليه وسلم خاتماً من ذهب، فتختم به في يمينه، ثم جلس على المنبر، فقال: إني كنت اتخذت هذا الخاتم في يميني، ثم نبذه"، وعند الطبراني في الأوسط عن ابن عمر "كان النبي صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه" ونحوه عند أبي الشيخ في كتاب أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، وعند أبي داود من طريق ابن إسحاق قال "رأيت على الصلت بن عبد الله خاتماً في خنصره اليمين، فسألته، فقال: رأيت ابن عباس يلبس خاتمه هكذا، وجعل فصه على ظهرها، ولا إخال ابن عباس إلا ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم" وعند الترمذي "رأيت ابن عباس يتختم في يمينه، ولا إخاله إلا قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه" وأخرج أبو داود والنسائي عن علي "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يمينه" وفي الباب عن جابر وعائشة وأبي أمامة وأبي هريرة.

قال الحافظ: وورد في التختم في اليسار حديث ابن عمر، وحديث أنس، روايتنا الرابعة عشرة، وعند أبي الشيخ من حديث أبي سعيد "كان يلبس خاتمه في يساره" وعند البيهقي في الأدب "كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعلي والحسن والحسين يتختمون في اليسار". قال الحافظ ابن حجر: وأما دعوى الداودي أن العمل على التختم في اليسار، فكأنه توهمه من استحباب مالك للتختم في اليسار، وهو يرجح عمل أهل المدينة، وفيه نظر، لأنه ظن أن ذلك عمل كل أهل المدينة، فقد جاء عن أبي بكر وعمر وجمع جم من الصحابة والتابعين بعدهم من أهل المدينة وغيرهم التختم في اليمين، قال البيهقي في الأدب: يجمع بين هذه الأحاديث بأن الذي لبسه في يمينه هو خاتم الذهب، والذي لبسه في يساره هو خاتم الفضة، وجمع غيره بأن لبس الخاتم أولاً في يمينه ثم حوله إلى يساره، فقد أخرج أبو الشيخ وابن عدي عن ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم تختم في يمينه، ثم إنه حوله في يساره" فلو صح هذا لكان قاطعاً للنزاع، ولكن سنده ضعيف. وأخرج ابن سعد "طرح رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمة الذهب، ثم تختم خاتماً من ورق، فجعله في يساره" وهذا مرسل أو معضل، وقد جمع البغوي في شرح السنة بذلك، وأنه تختم أولاً في يمينه، ثم تختم في يساره، وكان ذلك آخر الأمرين. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عن اختلاف الأحاديث في ذلك، فقال: لا يثبت هذا ولا ذاك، ولكن في يمينه أكثر. قال الحافظ ابن حجر: يظهر لي أن ذلك يختلف باختلاف القصد، فإن كان اللبس للتزين به فاليمين أفضل، وإن كان للتختم به فاليسار أولى، لأنه كالمودع فيها، ويحصل تناوله منها باليمين، ويترجح التختم باليمين مطلقاً، لأن اليسار آلة الاستنجاء، فيصان الخاتم إذا كان في اليمين عن أن تصيبه النجاسة، ويترجح التختم في اليسار بما أشرت إليه من التناول، وجنحت طائفة إلى استواء الأمرين، وجمعوا بذلك بين مختلف الأحاديث. والله أعلم. أما في أي الأصابع يكون الخاتم فيقول النووي: وأجمع المسلمون على أن السنة جعل خاتم الرجل في الخنصر، أما المرأة فتتخذ خواتيم في أصابع، قالوا: والحكمة في كونه في الخنصر أنه أبعد من الامتهان فيما يتعاطى باليد، لكونه طرفاً، ولأنه لا يشغل اليد عما تتناوله من أشغالها، بخلاف غير الخنصر، قال: ويكره للرجل جعله في الوسطى والتي تليها أي السبابة للحديث روايتنا السادسة عشرة -وهي كراهة تنزيه. اهـ 15 - وفي الأحاديث جواز نقش الخاتم، فعن الحسن والحسين: لا بأس بنقش ذكر الله على الخاتم قال النووي: وهو قول الجمهور، ونقل عن ابن سيرين وبعض أهل العلم كراهته، وقد أخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن ابن سيرين أنه لم يكن يرى بأساً أن يكتب الرجل في خاتمه: حسبي الله، ونحوها، فهذا يدل على أن الكراهة عنه لم تثبت، ويمكن الجمع بأن الكراهة حيث يخاف عليه حمله للجنب والحائض والاستنجاء بالكف التي هو فيها، والجواز حيث حصل الأمن من ذلك، فلا تكون الكراهة لذلك، بل من جهة ما يعرض لذلك. والله أعلم

(570) باب لبس النعال واشتمال الصماء، والاحتباء في ثوب واحد

(570) باب لبس النعال واشتمال الصماء، والاحتباء في ثوب واحد 4800 - عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في غزوة غزوناها "استكثروا من النعال، فإن الرجل لا يزال راكباً ما انتعل". 4801 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا انتعل أحدكم، فليبدأ باليُمنى. وإذا خلع، فليبدأ بالشمال. وليُنعلهما جميعاً، أو ليخلعهما جميعاً". 4802 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمش أحدكم في نعل واحدة. لينعلهما جميعاً، أو ليخلعهما جميعاً". 4803 - عن أبي رزين قال. خرج إلينا أبو هريرة. فضرب بيده على جبهته، فقال: ألا إنكم تحدثون أني أكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لتهتدوا وأضل. ألا وإني أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا انقطع شسع أحدكم، فلا يمش في الأخرى حتى يصلحها". 4804 - عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يأكل الرجل بشماله. أو يمشي في نعل واحدة. وأن يشتمل الصماء. وأن يحتبي في ثوب واحد كاشفاً عن فرجه. 4805 - عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا انقطع شسع أحدكم أو من انقطع شسع نعله، فلا يمش في نعل واحدة حتى يصلح شسعه. ولا يمش في خف واحد. ولا يأكل بشماله. ولا يحتبي بالثوب الواحد. ولا يلتحف الصماء".

4806 - عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن اشتمال الصماء، والاحتباء في ثوب واحد، وأن يرفع الرجل إحدى رجليه على الأخرى وهو مستلق على ظهره. 4807 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تمش في نعل واحد. ولا تحتب في إزار واحد. ولا تأكل بشمالك. ولا تشتمل الصماء. ولا تضع إحدى رجليك على الأخرى إذا استلقيت". 4808 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يستلقين أحدكم ثم يضع إحدى رجليه على الأخرى". 4809 - عن عباد بن تميم عن عمه، أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستلقياً في المسجد واضعاً إحدى رجليه على الأخرى. 4810 - بهذا الإسناد مثله. -[المعنى العام]- جملة من آداب اللباس، هي من مروءات المسلم، يرشد إليها صلى الله عليه وسلم، ليكون المؤمن في هيئة جميلة سليمة يقبلها العرف والمجتمع، ليتم الترابط والتواد بين أفراده. أن يلبس الرجل النعال ولا يمشي حافياً، فإن في ذلك وقاية لرجله، وتكريماً لنفسه. وأن يبدأ لبس نعله برجله اليمنى لأن الإسلام يحب التيامن في كل أمر حسن، وأن يبدأ خلع نعله اليسرى قبل اليمنى، لتظل الرجل اليمنى الحميدة بنعلها إلى آخر لحظة، وفي الأمور غير الحميدة يبدأ باليسرى، ليصون اليمنى أكبر وقت ممكن، تكريماً لها. ولا يمش المؤمن في نعل واحدة، ففي ذلك استهزاء له، وسخرية منه، حتى إذا انقطع إحدى نعليه لا يمشي بالأخرى، وإنما يخلع الأخرى، فيلبسهما جميعاً، أو يخلعهما جميعاً.

ولا يلتحف ويلتف بثوب ضيق يحيط بجسمه حتى يقيد حركته، وأن لا يقعد على أليتيه وينصب ساقيه ويلفهما بتوب، ليس عليه غيره، فقد ينكشف من هذه القعدة جزء من عورته. وأن لا يستلقي على ظهره أمام الناس ويضع رجلاً مرفوعة على رجل أخرى، مما يعرض عورته للكشف المحرم. فنعمت هذه الآداب الكريمة، للمحافظة على كرامة المسلم ودينه ومروءته وحب الناس له. -[المباحث العربية]- (استكثروا من النعال) جمع "نعل" وهي مؤنثة، تقول: هذه نعل للفردة وللزوج منها، وهذه نعلة للفردة من الزوج، وكانت النعال هي الشائعة عند العرب لوقاية القدم من الأرض، وكانت عبارة عن قطعة من الجلد التخين على قدر باطن القدم، على طرفها سير من الجلد كالحلقة، يدخل فيها إبهام القدم، وتسمى شسع النعل، بكسر الشين وسكون السين، وفوق القاعدة سير أو سيور تحيط بالقدم من أعلى لتربطه بالقاعدة، وهذا السير يسمى شراك النعل، بكسر الشين وفتح الراء مخففة، والنعل بهذا الوصف موجودة مستعملة، ومازالت شائعة في كثير من البلاد العربية، وكثيراً ما ينقطع شسع النعل، أو شراكه، فيختل أو يستحيل أو يصعب المشي فيه، وفي الرواية الرابعة "إذا انقطع شسع أحدكم -أي شسع نعل أحدكم، فعجز عن أن يمشي في تلك النعل- فلا يمش في الأخرى" أي في الفردة السليمة "حتى يصلحها" أي حتى يصلح النعل التي انقطع شسعها، وفي الرواية السادسة "إذا انقطع شسع أحدكم -أي من انقطع شسع نعله- فلا يمش في نعل واحدة، حتى يصلح شسعه" والغاية هنا ليست داخلة في المغيا، إذ المعنى: حتى يصلح شسعه فيمشي في نعلين، وعند أحمد" إذا انقطع شسع أحدكم أو شراكه فلا يمش في إحداهما بنعل، والأخرى حافية" وقد تطلق النعل على الجلدة التي بين القدم والأرض فقط، فيقال: نعل الحذاء، وليس مراداً هنا، وقد يطلق النعل على كل ما يقي القدم من الأرض عند المشي، فتطلق على الحذاء وعلى الخف، وإن عرف الحذاء بالجلد المدبوغ الناعم المغطي للقدم، وعرف الخف بالحذاء الخفيف. ومعنى أمر الغزاة بالاستكثار من النعال أمرهم بأن ينتعل كثير منهم، أو القادرون منهم، لا أن يكون عند كل منهم كثرة من النعال. (فإن الرجل لا يزال راكباً ما انتعل) في لفظ "راكباً" استعارة تصريحية تبعية، بتشبيه المنتعل بالراكب بجامع خفة المشقة عليه، وقلة تعبه، وسلامة رجله مما يعرض له في الطريق من خشونة وشوك وأذى ونحو ذلك، بسبب اعتماده على غيره في مشيه، و"ما" في "ما انتعل" ظرفية دوامية، أي مدة انتعاله، أو مادام منتعلاً، ومعنى "انتعل" لبس نعلاً. (إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمنى، وإذا خلع فليبدأ بالشمال) في الكلام مجاز المشارفة، أي إذا أشرف على الانتعال وأراد أن يلبس النعل، وإذا أراد أن يخلع النعل، وفي رواية البخاري "إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين، وإذا انتزع فليبدأ بالشمال، لتكن اليمنى أولهما تنعل، وآخرهما تنزع".

(ولينعلهما جميعاً، أو ليخلعهما جميعاً) هاتان الجملتان معطوفتان على محذوف مرتبطتان به، ظهر في الرواية الثالثة بلفظ "لا يمش أحدكم في نعل واحدة، لينعلهما جميعاً، أو ليخلعهما جميعاً" وضبط النووي "ينعلهما" بضم الياء من الرباعي، وتعقب بأن أهل اللغة قالوا: نعل -بفتح العين، وحكي كسرها- وانتعل، أي لبس النعل، فهو بفتح الياء من الثلاثي، قال الحافظ: لكن قد قال أهل اللغة أيضاً: أنعل رجله، ألبسها نعلاً، ونعل دابته جعل لها نعلاً، وقال صاحب المحكم: أنعل الدابة والبعير، ونعلهما بالتشديد. قال ابن عبد البر: ضمير المفعول في "لينعلهما للقدمين، وإن لم يجر لهما ذكر، وهذا مشهور في لغة العرب، وورد في القرآن الإتيان بضمير لم يتقدم له ذكر، لدلالة السياق عليه. اهـ والحاصل أن الثلاثي متعد ولازم، والرباعي متعد، والفعل هنا متعد، فيجوز فتح أوله وضمه. قال النووي وليخلعهما هكذا هو في جميع نسخ مسلم، بالخاء واللام والعين، وفي صحيح البخاري "فيحفهما" بالحاء والفاء، من الحفاء، وكلاهما صحيح، ورواية البخاري أحسن. اهـ وفي الرواية الرابعة "إذا انقطع شسع أحدكم فلا يمش في الأخرى، حتى يصلحها" أي حتى يصلح شسعها فيمشي فيها، وفي الرواية السادسة "إذا انقطع شسع أحدكم -أو من انقطع شسع نعله- فلا يمش في نعل واحدة، حتى يصلح شسعه" وشرط انقطاع الشسع تصوير خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له، حتى يدل على الإذن في غير هذه الصورة، بل المراد أنه لا يمشي بنعل واحدة، انقطع شسعه أو لم ينقطع، وقد أطلقت الرواية الثالثة، فقالت "لا يمش في خف واحد". ويمكن أن يكون هذا القيد من مفهوم الموافقة، والتنبيه بالأدنى على الأعلى، لأنه إذا منع مع الاحتياج، فمع عدم الاحتياج أولى. (فضرب بيده على جبهته، فقال: ألا إنكم تحدثون) بفتح التاء حذف إحدى التاءين وأصله تتحدثون. (أني أكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتهتدوا وأضل) أي لتكون النتيجة إذا صح ما تتحدثون به أن تكونوا من المهتدين، وأكون أنا من الضالين. (أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ... ) أي أشهد بالله، أي أحلف بالله، واللام في "لسمعت" في جواب القسم. وقد روى الترمذي عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "ربما انقطع شسع نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمشي في النعل الواحدة، حتى يصلحها" والظاهر أن عائشة قالت هذا الحديث عندما بلغها ما قاله أبو هريرة في حكم المشي بالنعل الواحدة، تريد أن تعلن خلافها لما يقول، فعند الترمذي بسند صحيح عن عائشة "أنها كانت تقول" لأخالفن أبا هريرة، فيمشي في نعل واحدة" قال الحافظ ابن حجر: يمكن أن يكون بلغها أن أبا هريرة حلف على كراهية ذلك، فأرادت المبالغة في مخالفته.

(وأن يشتمل الصماء) بتشديد الميم، وفي الرواية السادسة "ولا يلتحف الصماء" قال الأصمعي: هو أن يشتمل بالثوب، حتى يجلل به جسده، لا يرفع منه جانباً، فلا يبقى ما يخرج منه يده. قال ابن قتيبة: سميت صماء لأنه سد المنافذ كلها، كالصخرة الصماء، التي ليس فيها خرق ولا صدع. قال أبو عبيد: وأما الفقهاء فيقولون: هو أن يشتمل بثوب، ليس عليه غيره، ثم يرفعه من أحد جانبيه، فيضعه على أحد منكبيه، قال العلماء: فعلى تفسير أهل اللغة يكره الاشتمال المذكور، لئلا تعرض له حاجة، من دفع بعض الهوام ونحوها أو غير ذلك، فيعسر عليه، أو يتعذر، فيلحقه الضرر، وعلى تفسير الفقهاء، يحرم الاشتمال المذكور، إن انكشف به بعض العورة، وإلا فيكره. (وأن يحتبي في ثوب واحد، كاشفاً عن فرجه) قال النووي: الاحتباء بالمد هو أن يقعد الإنسان على أليتيه، وينصب ساقيه، ويحتوي عليهما بثوب أو نحوه أو بيده، وهذه القعدة يقال لها الحبوة بضم الحاء وكسرها، وكان هذا الاحتباء عادة للعرب في مجالسهم. اهـ وفي كتب اللغة: الحبوة بتثليث الحاء الاحتباء، يقال: حل فلان حبوته، والحبوة ما يحتبي به من ثوب أو غيره، واحتبى جلس على أليتيه، وضم فخذيه وساقيه إلى بطنه بذراعيه، ليستند، ويقال: احتبى الثوب وبالثوب وفي الثوب، أي أداره على ساقيه وظهره، وهو جالس، على النحو السابق، ليستند. وفي الرواية السادسة "ولا يحتبي الثوب الواحد" و"لا" على هذه الرواية نافية، لا جازمة، وفي الرواية الثامنة "ولا تحتب في إزار واحد" فلا ناهية. (وأن يرفع الرجل إحدى رجليه على الأخرى، وهو مستلق على ظهره) المقصود أن يثني رجلاً، ويضع الأخرى على ركبتها، فتنكشف عورته، وهذا هو المراد من قوله في الرواية الثامنة "ولا تضع إحدى رجليك على الأخرى إذا استلقيت" أما وضع إحدى الرجلين على الأخرى بدون رفع فليس منهيا عنه، إذ لا محذور فيه. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من هذه الأحاديث]- 1 - من الرواية الأولى قال النووي: فيه استحباب الاستظهار في السفر -أي اتخاذ ظهر- بالنعال وغيرها، مما يحتاج إليه المسافر. 2 - واستحباب وصية الأمير أصحابه بذلك، وإرشادهم إلى ما فيه مصلحتهم. 3 - ومن الرواية الثانية استحباب البداءة باليمنى عند لبس النعل، قال النووي: وفي كل ما كان من باب التكريم والزينة والنظافة نحو ذلك، كحلق الرأس وترجيله وقص الشارب ونتف الإبط والسواك والاكتحال وتقليم الأظفار والوضوء والغسل والتيمم ودخول المسجد والخروج من الخلاء، ودفع الصدقة وغيرها من أنواع الدفع الحسنة، وتناول الأشياء الحسنة، ونحو ذلك. اهـ قال ابن

العربي: البداءة باليمين مشروعة في جميع الأعمال الصالحة، لفضل اليمين حساً في القوة، وشرعاً في الندب إلى تقديمها، وقال ابن عبد البر: من بدأ بالانتعال في اليسرى أساء، لمخالفة السنة، لكن لا يحرم عليه لبس نعله، وقال غيره: ينبغي أن ينزع النعل من اليسرى، ثم يبدأ باليمنى، أما من لبسهما واليسرى أولاً فلا يشرع له أن ينزعهما، ثم يلبسهما على الترتيب المأمور به، إذ قد فات محله. هذا وقد نقل القاضي عياض الإجماع على أن الأمر فيه للاستحباب. 4 - واستحباب البداءة باليسار، في كل ما هو ضد السابق، فمن ذلك خلع النعل والخف والمداس والسراويل والخروج من المسجد ودخول الخلاء والاستنجاء وتناول أحجار الاستجمار والامتخاط والاستنثار وتعاطي المستقذرات وأشباهها وقال الحليمي: وجه الابتداء بالشمال عند الخلع أن اللبس كرامة، لأنه وقاية للبدن، فلما كانت اليمنى أكرم من اليسرى بدئ بها اللبس، وأخرت في الخلع لتكون الكرامة لها أدوم، وحظها منها أكثر. 5 - وكراهة المشي في نعل واحد، أو خف واحد، أو مداس واحد، إلا لعذر، قال النووي: قال العلماء إن سببه أن ذلك تشويه ومثلة، ومخالف للوقار، ولأن الرجل المنتعلة تصير أرفع من الأخرى، فيعسر مشيه، وربما كان سبباً للعثار، قال: وإذا انقطع شسعه ونحوه فليخلعهما، ولا يمش في الأخرى وحدها، حتى يصلحها وينعلها، كما هو نص في الحديث. اهـ وقال بعض العلماء: الحكمة في النهي أن النعل شرعت لوقاية الرجل عما يكون في الأرض من شوك أو نحوه، فإذا انفردت إحدى الرجلين احتاج الماشي أن يتوقى لإحدى رجليه ما لا يتوقى للأخرى، فيخرج بذلك عن سجية مشيه، ولا يأمن في ذلك من العثار، وقيل: لأنه لن يعدل بين جوارحه، وربما نسب فاعل ذلك إلى اختلال الرأي أو ضعفه، وقال ابن العربي: قيل: العلة فيها أنها مشية الشيطان، وقال البيهقي: الكراهة فيه للشهرة، فتمتد الأبصار لمن نرى منه ذلك، وقد ورد النهي عن الشهرة في اللباس، فكل شيء صير صاحبه شهرة فحقه أن يجتنب. قال الحافظ ابن حجر: وهذا الحديث [روايتنا الرابعة] دال على ضعف ما أخرجه الترمذي عن عائشة قالت "ربما انقطع شسع نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمشي في النعل الواحدة، حتى يصلحها" وقد رجح البخاري وغير واحد وقفه على عائشة، وكان أبو هريرة يعلم أن من الناس من ينكر عليه هذا الحكم، وقد وافق أبا هريرة في رفع هذا الحديث جابر [روايتنا الخامسة والسادسة] قال ابن عبد البر: لم يأخذ أهل العلم برأي عائشة في ذلك، وقد ورد عن علي وابن عمر أيضاً أنهما فعلا ذلك. قال الحافظ: وهو إما أن يكون بلغهما النهي، فحملاه على التنزيه، أو كان زمن فعلهما يسيراً، بحيث يؤمن معه المحذور، أو لم يبلغهما النهي، أشار إلى ذلك ابن عبد البر، وقال القاضي عياض: روي عن بعض السلف في المشي في نعل واحدة، أو خف واحد أثر لم يصح، أو له تأويل في المشي اليسير، بقدر ما يصلح الأخرى. 6 - أخذ بعضهم من قوله "لا يمش" في الرواية الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والثامنة أنه يجوز الوقوف بنعل واحدة، إذا عرض للنعل ما يحتاج إلى إصلاحها، وقد اختلف في ذلك، فنقل عياض

عن مالك أنه قال: يخلع الأخرى ويقف، إذا كان في أرض حارة أو نحوها، مما يضر المشي فيه، حتى يصلحها، أو يمشي حافياً، إن لم يكن ذلك، قال ابن عبد البر: هذا هو الصحيح في الفتوى وفي الأثر وعليه العلماء، ولم يتعرض لصورة الجلوس، لابساً في إحدى الرجلين دون الأخرى، قال الحافظ: والذي يظهر جوازها، بناء على أن العلة في النهي ما تقدم ذكره، إلا ما ذكر من إرادة العدل بين الجوارح، فإنه يتناول هذه الصورة أيضاً. 7 - ألحق بعضهم إخراج اليد الواحدة من الكم وترك الأخرى بلبس النعل الواحدة، والخف الواحد، وهذا الإلحاق بعيد، إلا إذا أخذ في الاعتبار الأمر بالعدل بين الجوارح وترك الشهرة. 8 - ومن الرواية السابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة جواز الاتكاء في المسجد، والاضطجاع، وأنواع الاستراحة. 9 - والاستلقاء فيه. قال النووي: قال العلماء: أحاديث النهي عن الاستلقاء، رافعاً إحدى رجليه على الأخرى محمولة على حالة تظهر فيها العورة أو شيء منها، وأما فعله صلى الله عليه وسلم فكان على وجه لا يظهر منها شيء، وهذا لا بأس به، ولا كراهة فيه على هذه الصفة، وقال القاضي عياض: لعله صلى الله عليه وسلم فعل هذا لضرورة أو حاجة، من تعب أو طلب راحة، أو نحو ذلك، قال: وإلا فقد علم أن جلوسه صلى الله عليه وسلم في المجامع على خلاف هذا، بل كان يجلس متربعاً أو متحبياً وهو أكثر جلوسه، أو القرفصاء، أو مقعياً، وشبهها من جلسات الوقار والتواضع. قال النووي: ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم فعله لبيان الجواز، وأنكم إذا أردتم الاستلقاء فليكن هكذا، وأن النهي الذي نهيتكم عن الاستلقاء ليس هو على الإطلاق، بل المراد به من ينكشف شيء من عورته، أو يقارب انكشافها. اهـ وقال الخطابي: فيه أن النهي الوارد عن الاستلقاء في المسجد منسوخ، أو يحمل النهي حيث يخشى أن تبدو العورة، والجواز حيث يؤمن ذلك. وجزم ابن بطال ومن تبعه بأنه منسوخ، قال الحافظ ابن حجر: وادعاء النسخ لا يثبت بالاحتمال، وجزم البيهقي والبغوي وغيرهما من المحدثين بالتوجيه الثاني، وقال المازري: النهي عن أن يضع إحدى رجليه على الأخرى عام، لأنه قول يتناول الجميع، واستلقاؤه صلى الله عليه وسلم في المسجد فعل، قد يدعي قصره عليه، فلا يؤخذ منه الجواز، لكن لما صح أن عمر وعثمان كانا يفعلان ذلك دل على أنه ليس خاصاً به صلى الله عليه وسلم، بل هو جائز مطلقاً، فإذا تقرر هذا صار بين الحديثين تعارض، فيجمع بينهما بما ذكره الخطابي. 10 - قال الداودي: وفيه أن الأجر الوارد للابث في المسجد، لا يختص بالجالس، بل يحصل للمستلقي أيضاً. والله أعلم

(571) باب نهي الرجل عن التزعفر

(571) باب نهي الرجل عن التزعفر 4811 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التزعفر قال قتيبة: قال حماد: يعني للرجال. 4812 - وفي رواية عن أنس رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزعفر الرجل. -[المعنى العام]- سبق قبل ثلاثة أبواب عند باب النهي عن لبس الثوب المعصفر. -[المباحث العربية]- تراجع عند باب النهي عن لبس الثوب المعصفر. -[فقه الحديث]- قال النووي: في الحديث دليل لمذهب الشافعي وموافقيه في تحريم لبس الثوب المزعفر على الرجل. اهـ قال الحافظ ابن حجر: واختلف في النهي عن التزعفر. هل هو لرائحته، لكونه من طيب النساء؟ ولهذا جاء الزجر عنه كخلاق؟ أو للونه؟ فيلتحق به كل صفرة؟ وقد نقل البيهقي عن الشافعي أنه قال: أنهى الرجل الحلال بكل حال أن يتزعفر، وآمره إذا تزعفر أن يغسله ورخص مالك في العصفر والمزعفر في البيوت. قال الحافظ ابن حجر: والكراهة لمن تزعفر في بدنه أشد من الكراهة لمن تزعفر في ثوبه، وقد أخرج أبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي في الكبرى عن أنس "دخل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه أثر صفرة، فكره ذلك، وقلما كان يواجه أحداً بشيء يكرهه، فلما قام قال: لو أمرتم هذا أن يترك هذه الصفرة. قال ابن بطال: أجاز مالك وجماعة لبس الثوب المزعفر للحلال، وقالوا: إنما وقع النهي عنه

للمحرم خاصة، وحمله الشافعي والكوفيون على المحرم وغير المحرم، أما حديث "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبغ بالصفرة" وحديث الحاكم عن عبد الله بن جعفر قال "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ثوبان مصبوغان بالزعفران" وحديث الطبراني من حديث أم سلمة "أن رسول الله صبغ إزاره ورداءه بزعفران" فهي أحاديث ضعيفة. والله أعلم

(572) باب خضاب الشعر

(572) باب خضاب الشعر 4813 - عن جابر رضي الله عنه قال: أتي بأبي قحافة -أو جاء عام الفتح أو يوم الفتح -ورأسه ولحيته مثل الثغام أو الثغامة. فأمر أو فأمر به إلى نسائه قال: "غيروا هذا بشيء". 4814 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أتي بأبي قحافة يوم فتح مكة، ورأسه ولحيته كالثغامة بياضاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد". 4815 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم". -[المعنى العام]- جاء الإسلام والناس لا يصبغون شعورهم عند الشيب، لا شعر الرأس، ولا شعر اللحية، ربما كانت النساء تصبغ شعر رأسها عند المشيب بالحنا والعصفر والزعفران والكتم، الأصباغ المتاحة في كل بيئة، لكن الرجال يهوداً ونصارى ومشركين وأعاجم لم يكونوا يصبغون، وكانت شعور رءوسهم وفيرة، تتدلى، وتسدل، وتفرق، وتضفر، وتنقص، وتطول، كما هو حال النساء اليوم في بلادنا، وكانوا يطيلون لحاهم وشواربهم، أعراف وعادات في الصورة والمظهر، كأعراف اللباس وعاداته، ولما قامت الحروب بين المسلمين والكفار، وكان الرجل يسلم فيخرج في جيش المسلمين، وكانت الجيوش تتداخل حين القتال، فلا يكاد يعرف المسلم من غير المسلم، فربما ضرب المسلم أخاه، ولا تكفي العلامات التي قد تقلد خداعاً، هنا احتاج الإسلام إلى علامة مميزة للمسلم، مما لا يقبل غيره أن يقلدها، فأمر بإحفاء الشارب، كما سبق حديثه في كتاب الطهارة، باب الفطرة، وبني هذا الأمر على مخالفة اليهود والنصارى والمشركين، وهم يعتزون بشواربهم اعتزازهم برجولتهم. وفي هذه الأحاديث يوصي رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بعلامة أخرى، لا يقبلها، ولا يقلدها أعداؤهم، لأنها -من وجهة نظرهم- من عادات النساء، فيقول لهم: إن اليهود والنصارى والكافرين والأعاجم لا يصبغون شعر رأسهم ولا شعر لحاهم، فخالفوهم واصبغوا، واستجاب الصحابة للأمر، فلما لم تعد حاجة إلى هذه العلامة كان من شاء منهم صبغ، ومن شاء لم يصبغ، من شاء تمسك بظاهر الأمر، ومن شاء عمل بالحكمة والهدف، فرضي الله عنهم أجمعين.

-[المباحث العربية]- (أتي بأبي قحافة -أو جاء- عام الفتح -أو يوم الفتح) أبو قحافة، بضم القاف، وتخفيف الحاء، والد أبي بكر، واسمه عثمان، أسلم يوم فتح مكة، وعند أحمد "جاء أبو بكر بأبيه أبي قحافة، يوم فتح مكة، يحمله، حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم ... " وروى ابن إسحق في المغازي بإسناد صحيح، عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: لما كان عام الفتح، ونزل النبي صلى الله عليه وسلم ذا طوى، قال أبو قحافة لابنة له، كانت من أصغر ولده: أي بنية. أشرفي بي على أبي القبيس، وكان قد كف بصره، فأشرفت به عليه ... فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، خرج أبو بكر، حتى جاء بأبيه، يقوده، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هلا تركت الشيخ في بيته؟ حتى آتيه؟ فقال: يمشي هو إليك يا رسول الله، أحق من أن تمشي إليه، وأحله بين يديه، ثم مسح على صدره، فقال: أسلم تسلم ... " مات أبو قحافة سنة أربع عشرة، وله سبع وتسعون سنة. (ورأسه ولحيته مثل الثغام أو الثغامة) بالثاء المفتوحة، بعدها غين مخففة، وهو نبت، زهره وثمره أبيض، ولكثرته يظن الرائي أن الشجرة كلها بيضاء، قال ابن الأعرابي: الثغامة شجرة تبيض، كأنها الملح. اهـ شبه شيب الرأس بهذا النبت لشدة البياض، مع التناثر وعدم الترجيل. (فأمر -أو فأمر- به إلى نسائه، قال: غيروا هذا بشيء) أي أمر أبا بكر بمصاحبته إلى نسائه -نساء أبي قحافة، فقال: خذوه فغيروا هذا البياض بشيء من الأصباغ، وفي الرواية الثانية "واجتنبوا السواد" زاد الطبري "فذهبوا به فحمروه". (إن اليهود والنصارى لا يصبغون، فخالفوهم) أي واصبغوا، والمفعول محذوف، أي شعر الرأس واللحية، يقال: صبغ بفتح الباء يصبغ بضمها وفتحها، إذا غير اللون بصابغ، وخضب بفتح الضاد، يخضب بكسرها، خضباً بسكونها وخضوباً، إذا لون. وعند أحمد "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على مشيخة من الأنصار، بيض لحاهم، فقال: يا معشر الأنصار. حمروا، وصفروا، وخالفوا أهل الكتاب" وفي الكبير للطبراني "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتغيير الشعر مخالفة للأعاجم" وفي رواية لمسلم "غيروا الشيب، ولا تشبهوا باليهود" وعند الترمذي وصححه "إن خير ما غيرتم به الشيب الحناء والكتم". -[فقه الحديث]- قال النووي: مذهبنا استحباب خضاب الشيب للرجل والمرأة، بصفرة أو حمرة، ويحرم خضابه بالسواد على الأصح، وقيل: يكره كراهة تنزيه، والمختار التحريم، لقوله صلى الله عليه وسلم -في روايتنا الثانية "واجتنبوا السواد" هذا مذهبنا، وقال القاضي: اختلف السلف من الصحابة والتابعين في الخضاب وفي جنسه، فقال بعضهم: ترك الخضاب أفضل، ورووا حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي

عن تغيير الشيب [أورد الطبري حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، رفعه، بلفظ "من شاب شيبة فهي له نور، إلى أن ينتفها أو يخضبها" وحديث ابن مسعود "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره خصالاً" [فذكر منها تغير الشيب] ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يغير شيبه، وروي هذا عن عمر وعلي وأبي وآخرين -رضي الله عنهم- وقال آخرون: الخضاب أفضل، وخضب جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، للأحاديث التي ذكرها مسلم وغيره، ثم اختلف هؤلاء، فكان أكثرهم يخضب بالصفرة، منهم ابن عمر وأبو هريرة وآخرون، وروي ذلك عن علي، وخضب جماعة منهم بالحناء والكتم [بفتح الكاف والتاء، نبات باليمن والمناطق الجبلية بإفريقية والبلاد الحارة والمعتدلة، ثمرتها تشبه الفلفل، وبها بذرة واحدة، وتسمى فلفل القرود، وكانت تستعمل قديماً في الخضاب وصنع المداد، ولونها أسود يميل إلى الحمرة، وصبغ الحناء أحمر، فخلطهما والصبغ بهما معاً يخرج بين السواد والحمرة] وبعضهم بالزعفران، وخضب جماعة بالسواد، روي ذلك عن عثمان والحسن والحسين ابني علي، وعقبة بن عامر وابن سيرين وابن أبي بردة وآخرين. قال القاضي: قال الطبراني: الصواب أن الآثار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم بتغيير الشيب وبالنهي عنه كلها صحيحة، وليس فيها تناقض، بل الأمر بالتغيير لمن شيبه كشيب أبي قحافة، والنهي لمن له شمط فقط [الشمط اختلاط بياض الشعر بسواده] قال: واختلاف السلف في فعل الأمرين بحسب اختلاف أحوالهم في ذلك، مع أن الأمر والنهي في ذلك ليس للوجوب بالإجماع، ولهذا لم ينكر بعضهم على بعض خلافه في ذلك. قال: ولا يجوز أن يقال فيهما: ناسخ ومنسوخ. قال القاضي: وقال غير الطبراني: هو على حالين: فمن كان في موضع عادة أهله الصبغ، أو تركه فخروجه عن العادة شهرة ومكروه، والثاني أنه يختلف باختلاف نظافة الشيب، فمن كانت شيبته بدون صبغ أحسن منها مصبوغة، فالترك أولى، ومن كانت شيبته تستبشع، فالصبغ أولى. قال النووي: هذا ما نقله القاضي، والأصح الأوفق للسنة ما قدمناه عن مذهبنا. اهـ وقد روى البخاري أن أنساً رضي الله عنه "سئل عن خضاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنه لم يبلغ ما يخضب -أي الحالة التي تحتاج إلى خضاب- لم يبلغ الشيب إلا قليلاً" "لو شئت أن أعد شمطاته في لحيته" كما روي عن قتادة، قال: سألت أنساً: هل خضب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا. إنما كان شيء في صدغيه" وعن أنس "وقبض وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء. قال ربيعة الراوي عن أنس في رواية أخرى "فرأيت شعراً من شعره فإذا هو أحمر، فسألت. فقيل: أحمر من الطيب" كما روي عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: "دخلت على أم سلمة، فأخرجت إلينا شعراً من شعر النبي صلى الله عليه وسلم مخضوباً" زاد أحمد "بالحناء والكتم" وفي رواية أخرى للبخاري عن ابن موهب "أن أم سلمة أرته شعر النبي صلى الله عليه وسلم أحمر" وفي رواية الإسماعيلي عن حريز بن عثمان قال: "رأيت عبد الله بن بسر، صاحب النبي صلى الله عليه وسلم بحمص، والناس يسألونه، فدنوت منه، وأنا غلام، فقلت: أنت رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قلت: شيخ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أم شاب؟ قال: فتبسم" وفي رواية له "فقلت له: أكان النبي صلى الله عليه وسلم صبغ؟ قال: يابن أخي، لم يبلغ ذلك" وفي رواية "كان في عنفقته شعرات بيض". قال الحافظ ابن حجر: قال الإسماعيلي: ليس في الحديث بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي خضب، بل يحتمل أن يكون احمر بعده، لما خالطه من طيب فيه صفرة، فغلبت به الصفرة. قال: فإن كان كذلك،

وإلا فحديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخضب" أصح. قال الحافظ: كذا قال، والذي أبداه احتمالاً قد تقدم معناه موصولاً إلى أنس، وأنه جزم بأنه إنما احمر من الطيب، وجمع الطبري بقوله: من جزم بأنه خضب، كما في ظاهر حديث أم سلمة حكى ما شاهده، وكان ذلك في بعض الأحيان، ومن نفى ذلك كأنس فهو محمول على الأكثر الأغلب من حاله. والله أعلم. وقد نقل عن أحمد: أن الخضب واجب، وعنه أنه يجب ولو مرة في العمر، وعنه: لا أحب لأحد ترك الخضب، ويتشبه بأهل الكتاب. وفي الرواية الثانية أمر باجتناب السواد، ولهذا جنح النووي إلى أنه مكروه كراهة تحريم، وهو رأي لبعض العلماء، وقول لأحمد، وقد يستند لهم بما أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان من حديث ابن عباس مرفوعاً "يكون قوم في آخر الزمان، يخضبون بالسواد، لا يجدون ريح الجنة" وإسناده قوي، إلا أنه اختلف في رفعه ووقفه، وعلى تقدير ترجيح وقفه، فمثله لا يقال بالرأي، فحكمه حكم الرفع، كما يستند لهم بما أخرجه الطبراني وابن أبي عاصم، من حديث أبي الدرداء، رفعه "من خضب بالسواد سود الله وجهه يوم القيامة". ومن العلماء، من رخص في الخضاب بالسواد مطلقاً، ومن السلف سعد بن أبي وقاص وعقبة بن عامر والحسن والحسين وجرير وغيرهم، واختاره ابن أبي عاصم في "كتاب الخضاب" وأجاب عن حديث جابر -روايتنا الثانية- بأنه في حق من صار شيب رأسه مستبشعاً، ولا يطرد في حق كل أحد، وأجاب عن حديث ابن عباس السابق، بأنه لا دلالة فيه على كراهة الخضاب بالسواد، بل فيه الإخبار عن قوم، هذه صفتهم، وحديث أبي الدرداء إسناده لين عند المحدثين، ويشهد لقول ابن أبي عاصم ما أخرجه هو عن ابن شهاب قال: "كنا نخضب بالسواد إذا كان الوجه جديداً، فلما نغض الوجه والأسنان تركناه". ومن العلماء من رخص فيه في الجهاد، ومنهم من رخص فيه للمرأة، دون الرجل، ومنهم من منعه إذا قصد به التدليس. والذي أميل إليه، بعد هذه الجولة أن صبغة الشعر للرأس واللحية تخضع للعرف والعادة، وطلب مخالفة اليهود والنصارى دليل على أن الباعث على الأمر بها كان للعادة، وتكوين شخصية إسلامية، في وقت خاص، وقد كان صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه، وفي وقت، ثم صار يحب مخالفتهم، حتى في الصورة في وقت آخر، ولهذا رأينا بعض الصحابة يستحبها، وبعضهم يكرهها، ولا يعيب هذا على ذاك، أما خضب اليدين والرجلين، فلا يجوز للرجال إلا للتداوي. والله أعلم

(573) باب التصوير واتخاذ الصورة والكلب

(573) باب التصوير واتخاذ الصورة والكلب 4816 - عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام في ساعة يأتيه فيها. فجاءت تلك الساعة ولم يأته. وفي يده عصا فألقاها من يده، وقال "ما يخلف الله وعده ولا رسله" ثم التفت، فإذا جرو كلب تحت سريره. فقال "يا عائشة متى دخل هذا الكلب ها هنا؟ " فقالت: والله، ما دريت. فأمر به فأخرج. فجاء جبريل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "واعدتني فجلست لك فلم تأت" فقال: منعني الكلب الذي كان في بيتك. إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة. 4817 - عن أبي حازم بهذا الإسناد: أن جبريل وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيه. فذكر الحديث، ولم يطوله كتطويل ابن أبي حازم. 4818 - عن ميمونة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبح يوماً واجماً. فقالت ميمونة: يا رسول الله، لقد استنكرت هيئتك منذ اليوم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن جبريل كان وعدني أن يلقاني الليلة، فلم يلقني. أم والله ما أخلفني". قال: فظل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومه ذلك. على ذلك ثم وقع في نفسه جرو كلب تحت فسطاط لنا. فأمر به فأخرج. ثم أخذ بيده ماء فنضح مكانه. فلما أمسى لقيه جبريل. فقال له "قد كنت وعدتني أن تلقاني البارحة" قال: أجل. ولكنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة. فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، فأمر بقتل الكلاب، حتى إنه يأمر بقتل كلب الحائط الصغير، ويترك كلب الحائط الكبير. 4819 - عن أبي طلحة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة".

4820 - عن أبي طلحة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة". 4821 - عن أبي طلحة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة" قال بسر: ثم اشتكى زيد بعد. فعدناه. فإذا على بابه ستر فيه صورة. قال: فقلت لعبيد الله الخولاني، ربيب ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: ألم يخبرنا زيد عن الصور يوم الأول؟ فقال عبيد الله. ألم تسمعه حين قال إلا رقماً في ثوب؟ . 4822 - عن بسر بن سعيد أن زيد بن خالد الجهني حدثه، ومع بسر عبيد الله الخولاني، أن أبا طلحة حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة" قال بسر: فمرض زيد بن خالد فعدناه. فإذا نحن في بيته بستر فيه تصاوير. فقلت لعبيد الله الخولاني: ألم يحدثنا في التصاوير؟ قال: إنه قال إلا رقماً في ثوب. ألم تسمعه؟ قلت: لا. قال: بلى، قد ذكر ذلك. 4823 - عن أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا تماثيل" قال: فأتيت عائشة. فقلت: إن هذا يخبرني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا تماثيل" فهل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك؟ فقالت: لا، ولكن سأحدثكم ما رأيته فعل. رأيته خرج في غزاته، فأخذت نمطاً فسترته على الباب. فلما قدم فرأى النمط. عرفت الكراهية في وجهه. فجذبه حتى هتكه أو قطعه. وقال "إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين" قالت: فقطعنا منه وسادتين وحشوتهما ليفاً. فلم يعب ذلك علي.

4824 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان لنا ستر فيه تمثال طائر. وكان الداخل إذا دخل استقبله. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "حولي هذا. فإني كلما دخلت فرأيته ذكرت الدنيا" قالت: وكانت لنا قطيفة، كنا نقول علمها حرير، فكنا نلبسها. 4825 - وفي رواية عن ابن المثنى وزاد فيه يريد عبد الأعلى: فلم يأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطعه. 4826 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر، وقد سترت على بابي درنوكاً فيه الخيل ذوات الأجنحة. فأمرني. فنزعته. 4827 - وفي رواية عن وكيع بهذا الإسناد. وليس في حديث عبدة: قدم من سفر. 4828 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا متسترة بقرام فيه صورة. فتلون وجهه. ثم تناول الستر فهتكه. ثم قال "إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله". 4829 - وفي رواية عن القاسم بن محمد، أن عائشة حدثته، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها. بمثل حديث إبراهيم بن سعد، غير أنه قال: ثم أهوى إلى القرام فهتكه بيده. 4830 - وفي رواية عن الزهري. بهذا الإسناد وفي حديثهما "إن أشد الناس عذاباً" لم يذكرا من. 4831 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل. فلما رآه هتكه وتلون وجهه. وقال "يا عائشة،

أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله" قالت عائشة: فقطعناه. فجعلنا منه وسادة أو وسادتين. 4832 - عن عائشة رضي الله عنها أنه كان لها ثوب فيه تصاوير ممدود إلى سهوة. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إليه. فقال "أخريه عني" قالت: فأخرته. فجعلته وسائد. 4833 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل النبي صلى الله عليه وسلم علي. وقد سترت نمطاً فيه تصاوير. فنحاه. فاتخذت منه وسادتين. 4834 - عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها أنها نصبت ستراً فيه تصاوير. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزعه. قالت: فقطعته وسادتين. فقال رجل في المجلس حينئذ، يقال له ربيعة بن عطاء، مولى بني زهرة: أفما سمعت أبا محمد يذكر أن عائشة قالت فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتفق عليهما؟ قال ابن القاسم: لا. قال: لكني قد سمعته. يريد القاسم بن محمد. 4835 - عن عائشة رضي الله عنها أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير. فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الباب، فلم يدخل. فعرفت أو فعرفت في وجهه الكراهية. فقالت: يا رسول الله، أتوب إلى الله وإلى رسوله. فماذا أذنبت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما بال هذه النمرقة" فقالت: اشتريتها لك تقعد عليها، وتوسدها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أصحاب هذه الصور يعذبون. ويقال لهم أحيوا ما خلقتم" ثم قال "إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة". 4836 - وفي رواية عن عائشة رضي الله عنها. بهذا الحديث. وبعضهم أتم حديثاً له

من بعض. وزاد في حديث ابن أخي الماجشون. قالت: فأخذته فجعلته مرفقتين، فكان يرتفق بهما في البيت. 4837 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الذين يصنعون الصور يعذبون يوم القيامة. يقال لهم أحيوا ما خلقتم". 4838 - عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون" ولم يذكر الأشج: إن. 4839 - وفي رواية عن أبي معاوية "إن من أشد أهل النار يوم القيامة عذاباً المصورون" وحديث سفيان كحديث وكيع. 4840 - عن مسلم بن صبيح قال: كنت مع مسروق في بيت فيه تماثيل مريم. فقال مسروق هذا تماثيل كسرى. فقلت: لا، هذا تماثيل مريم. فقال مسروق: أما إني سمعت عبد الله بن مسعود يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون". 4841 - عن سعيد بن أبي الحسن قال: جاء رجل إلى ابن عباس، فقال: إني رجل أصور هذه الصور. فأفتني فيها. فقال له: ادن مني. فدنا منه. ثم قال: ادن مني. فدنا. حتى وضع يده على رأسه. قال: أنبئك بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "كل مصور في النار. يجعل له بكل صورة صورها نفساً فتعذبه في جهنم" وقال: إن كنت لا بد فاعلاً. فاصنع الشجر وما لا نفس له. فأقر به نصر بن علي.

4842 - عن النضر بن أنس بن مالك قال: كنت جالساً عند ابن عباس. فجعل يفتي ولا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. حتى سأله رجل. فقال: إني رجل أصور هذه الصور. فقال له ابن عباس: ادنه. فدنا الرجل. فقال ابن عباس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة. وليس بنافخ". 4843 - عن أبي زرعة قال: دخلت مع أبي هريرة في دار مروان، فرأى فيها تصاوير. فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال: "الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقاً كخلقي فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة". 4844 - وفي رواية عن أبي زرعة قال: دخلت أنا وأبو هريرة داراً تبنى بالمدينة لسعيد أو لمروان. قال: فرأى مصوراً يصور في الدار. فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. بمثله. ولم يذكر: أو ليخلقوا شعيرة. 4845 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تدخل الملائكة بيتاً فيه تماثيل أو تصاوير". 4846 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب ولا جرس".

4847 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الجرس مزامير الشيطان". -[المعنى العام]- جاء الإسلام والأصنام تعبد، إشراكاً لله، يقولون: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3] ولم يكن العرب في جاهليتهم وقبيل الإسلام هم الذين اخترعوا الأصنام وعبدوها، فقوم نوح -عليه السلام- كانوا يصنعونها، ويعبدونها، ولما دعاهم نوح -عليه السلام- إلى تركها، وعبادة الله وحده عصوه، وقال بعضهم لبعض {لا تذرن ءالهتكم ولا تذرن وداً} [نوح: 23]، وكان تمثالاً على صورة رجل {ولا سواعاً} وكان صنماً على صورة امرأة {ولا يغوث} وكان صنماً على صورة أسد {ويعوق} وكان صنماً على صورة فرس {ونسراً} وكان صنماً على صورة نسر، ويقال: إن هذه الأسماء كانت أسماء لخمسة من أبناء آدم، كانوا يحبونهم كثيراً، فلما مات أولهم حزنوا عليه حزناً شديداً، فجاءهم الشيطان، فوسوس لهم أن يصوروا مثله في قبلتهم، إذا نظروا إليه في صلاتهم ذكروه، ففعلوا، حتى مات خمستهم، فصوروا صورهم في مسجدهم، ثم وسوس لهم فصنعوا صوراً أخرى لناديهم، ثم وسوس لهم فجعل كل منهم صوراً له في بيته، بل كان يحملها معه إلى عمله أو في سفره، وكانت التماثيل من نحاس أو رصاص أو صلصال، حتى وصل ببعض العرب أن صنع إلهه من عجوة فلما جاع أكله. بدأ الاهتمام بالصور والتماثيل كتذكار لعابد صالح، يعتزون به، ويقدسونه لصلاحه، ويتذكونه ليقتفوا أثره، فلما ماتت أجيالهم، ودرس العلم بحقيقتهم، عبدتهم الأجيال اللاحقة، ومن بعد نوح ظلت الأصنام تعبد، فهذا هود -عليه السلام- يقول لقومه عاد: {قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون} [هود: 50] ويجيبه قومه {يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي ءالهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين} [هود: 53] وهذا صالح -عليه السلام- يقول لقومه ثمود {قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه} [هود: 61] من عبادة الأصنام {إن ربي قريب مجيب* قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجواً قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد ءاباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب} [هود: 61، 62] وهذا إبراهيم -عليه السلام- يقول لقومه {ماذا تعبدون* أئفكاً ءالهة دون الله تريدون* فما ظنكم برب العالمين} [الصافات: 85 - 87]. وقال لأبيه وقومه {ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون* قالوا وجدنا ءاباءنا لها عابدين* قال لقد كنتم أنتم وءاباؤكم في ضلال مبين* قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين* قال بل ربكم رب

السموات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين* وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين} [الأنبياء: 52 - 57]. {فتولوا عنه مدبرين* فراغ إلى ءالهتهم} [الصافات: 90، 91] وقد وضع القوم موائد الطعام بين أيديهم، تقرباً إليهم {فقال ألا تأكلون* ما لكم لا تنطقون* فراغ عليهم ضرباً باليمين} [الصافات: 91 - 93]. وانتقلت الأصنام وعبادتها إلى العرب، واتخذوا تماثيل سموها بأسماء أصنام قوم نوح، فكان "ود" لكلب بدومة الجندل، وكان "سواع" لهذيل، وكان "يغوث" لمراد، وبني غطيف عند سبأ، وكان "يعوق" لهمدان، وكان "نسر" لحمير، بالإضافة إلى أصنام أخرى كثيرة سموها بأسماء، ونصبوها في الكعبة وحولها حتى حطمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأراد قطع هذه الفتنة الشيطانية من جذورها، فكانت هذه الأحاديث بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم بالتحذير من مهنة التصوير، وبالوعيد الشديد للمصورين "إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله". الذين يضاهون بخلق الله". "إن أصحاب هذه الصور يعذبون". "يقال لهم يوم القيامة: أحيوا ما خلقتم" إن كنتم تستطيعون، ولن تستطيعوا، يكلفون أن ينفخوا الروح في مثل ما صوروا، وليسوا بنافخين، سيصور لهم بكل صورة صوروها تمثال من نار، يعذبون به في جهنم، إنهم في الدنيا ضلوا، وأضلوا كثيراً، إنهم ألبسوا على الناس المخلوق والخالق، فجعلوهم يشركون بالله ما لا ينفع ولا يضر، ولا يسمع ولا يبصر، لقد أوهموا الناس بالباطل، فهم حقيقة لا يستطيعون في دنياهم أن يخلقوا من الجمادات ذرة رمل، فضلاً عن أن يخلقوا حبة قمح أو حبة شعير. هكذا بدأت الشريعة الإسلامية حربها للأصنام، ولما يعبد من دون الله، فقد كانت البداية التصوير، وإذا منعت البداية منع ما يترتب عليها من أخطار، لكن المصورين -مسلمين أو غير مسلمين- قد لا يمتنعون عن التصوير، فهو مهنة وسبيل كسب للعيش، فكان أن حذر المسلمون من استعمال الصورة واقتنائها، فقال صلى الله عليه وسلم "لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة أو كلب" وفهم المسلمون الهدف، واستقر عندهم عدم الإشراك بالله شيئاً، لكنهم وجدوا أنفسهم في حاجة إلى الصور في حياتهم، إنهم يلبسون الملابس المستوردة من الفرس والروم، وهي لا تخلو من الرسوم والصور، فرخص لهم باستعمالها فيما يمتهن، حيث يؤمن على الجاهل تعظيم ما يمتهن وعبادته، ثم أذن لهم باستعمال ما كان رقماً في ثوب، ورسماً صغيراً في مساحة كبيرة، ثم رخص لهم في المصور بالشجر والجمادات، وبقي المنع في تماثيل الإنسان والحيوان، اللهم إلا تماثيل اللعب للبنات الصغيرات. وكل ذلك لحماية الإنسانية من العودة لتقديس التماثيل وعبادة الأصنام. ولا يتوهم متوهم أن الإنسانية قد ارتقت، وبلغت من النضوج العقلي والعلمي ما يستحيل معه أن تعبد الأحجار والماديات، لا يتوهم متوهم هذا، فإن الإنسانية تمر بأطوار التخلف بعد التقدم، والجهل بعد العلم وتلك حقيقة أرادها الله للإنسان، والوقاية خير من العلاج، وسد الذرائع خير من حسن القصد والنية، والله الهادي سواء السبيل.

-[المباحث العربية]- (واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام) "رسول" مفعول مقدم، و"جبريل" فاعل، و"واعد" بمعنى وعد، فليس المقصود مفاعلة من الجانبين، وفي الرواية الثانية "أن جبريل وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي الرواية الثالثة "إن جبريل كان قد وعدني أن يلقاني" والموعود به في الرواية الأولى والثانية إتيانه، وفي الثالثة لقاؤه، وفي رواية البخاري محذوف، لفظها "وعد جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، فراث عليه" أي أبطأ عليه. وفي الرواية الأولى "فجاءت تلك الساعة، ولم يأته" وفي الرواية الثالثة "فلم يلقني" أي في الموعد الذي حدده. (وفي يده عصا، فألقاها من يده، وقال: ما يخلف الله وعده، ولا رسله) "ولا رسله" بالرفع، عطفاً على لفظ الجلالة، أي ما يخلف الله وعده، ولا يخلف رسله وعدهم، والمقصود من الرسل هنا جبريل وأمثاله من الملائكة. وإلقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم العصا من يده، مظهر من مظاهر الضيق، والظاهر أن الوعد كان ساعة في ليلة، فلما مضى الليل أصبح حزيناً مهموماً، فأمسك بعصا، جعل يضرب أو يخطط بها على رمال الأرض من همه وانشغال فكره، ثم ألقى العصا ضيقاً، كان ذلك صبيحة الليلة الموعودة، وظل يومه دون لقاء، حتى الليل، ففي الرواية الثالثة "أصبح يوماً واجماً" أي منقبضاً "فقالت ميمونة: يا رسول الله، لقد استنكرت هيئتك منذ اليوم" أي منذ صباح اليوم؟ "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن جبريل كان وعدني أن يلقاني الليلة" أي الماضية "فلم يلقني، أم والله ما أخلفني" وعده من قبل ذلك، و"أم" بفتح الهمزة والميم، أصلها "أما" بفتح الميم مخففة، حرف استفتاح، بمنزلة "ألا" وتكثر قبل القسم، وقد تبدل همزتها هاء، أو عيناً قبل القسم، وكلاهما مع ثبوت الألف، وحذفها، أو تحذف الألف مع ترك الإبدال، كما هنا. (ثم التفت، فإذا جرو كلب تحت سريره، فقال: يا عائشة، متى دخل هذا الكلب ههنا؟ فقالت: والله ما دريت به، ولا بدخوله، ولا أدري متى دخل؟ "فأمر به، فأخرج") أي فأمر بإخراجه، فأخرج، وكان علمه بالكلب وإخراجه آخر النهار، ففي الرواية الثالثة "فظل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومه ذلك على ذلك" الحال "ثم وقع في نفسه" عن طريق سماع حركة أو صوت "جرو كلب، تحت فسطاط لنا، فأمر به، فأخرج، ثم أخذ بيده ماء، فنضح مكانه، فما أمسى لقيه جبريل" قال النووي: الجرو بكسر الجيم وضمها وفتحها، ثلاث لغات مشهورات، وهو الصغير من أولاد الكلب وسائر السباع، والجمع أجر وجراء، وجمع الجراء أجرية. اهـ وإضافة "جرو كلب" من إضافة الصفة إلى الموصوف، كأنه قال: صغير كلب، وأما الفسطاط ففيه ست لغات: فسطاط بطاءين مع ضم الفاء وكسرها، وفستاط بتاء وطاء، مع ضم الفاء وكسرها، وفساط بضم الفاء وتشديد السين، وكسر الفاء مع تشديد السين، والفسطاط قريب من الخباء، وأصله عمود الأخبية، التي يقام عليه الخباء، والمراد منه هنا بعض متاع البيت، وهو السرير، كما في حديث عائشة، وكان السرير في بيت عائشة، فقول ميمونة "لنا" أي معشر نساء النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد لإحدانا.

(واعدتني، فجلست لك، فلم تأت) أي فجلست لك أنتظرك حسب الموعد، فلم تأت في الموعد، والكلام على الاستفهام، أي فلماذا لم تأت في الموعد؟ وفي رواية البخاري "فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيه، فشكا إليه ما وجد" أي ما شق عليه من إبطائه، وفي الرواية الثالثة "فلما أمسى لقيه جبريل، فقال له: قد كنت وعدتني أن تلقاني البارحة" أي فلماذا لم تلقني؟ . (منعني الكلب الذي كان في بيتك) أي منعني من الدخول إليك للقائك، ولا يقال: كان يمكن أن يناديه من الخارج، ولا يسمع غيره صوته، أو كان يمكن أن يظهر له، فيخرج له، أو كان يمكن أن يلقاه في المسجد، أو في طريقه إليه، عند كل صلاة، إن لم يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض شئونه في هذا اليوم وليلته، لا يقال شيء من أمثال هذه الإمكانات، فهي إرادة الله وحكمته، لا يعلمها إلا هو، وربما كان هذا التأخير لإيلامه صلى الله عليه وسلم، ليحرص على إبعاد الكلاب عن بيوته المطهرة، والتعبير بالكلب بدل الجرو للإشارة إلى أنه لا يستهان به ككلب صغير، فهو والكبير سواء في النجاسة. (إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة) المراد من البيت المكان الذي يستقر فيه الشخص، سواء كان بناء أم خيمة أم غير ذلك، والضمير في "إنا" يحتمل أنه للمتكلم المعظم نفسه، وهو بعيد جداً، ويحتمل أن يراد به جبريل وأمثاله من رسل الملائكة، ويحتمل أن يراد به ملائكة الرحمة. فـ"ال" في الملائكة في الرواية الرابعة والخامسة والسادسة والثامنة والثالثة والعشرين والرابعة والعشرين، للعهد الذهني، ويحتمل عموم الملائكة، بما في ذلك الحفظة، الكاتبون فقد يكتبون ما يجري وهم خارجون، كما قيل عنهم عند التواجد في الخلاء، ويحتمل التخصيص في صفة الدخول، أي لا ندخل دخول انشراح وسرور، وإن دخلنا البيت الذي فيه الكلب بغير هذه الصفة، احتمالات، يأتي الكلام عنها في فقه الحديث، أما العموم في "كلب" فقيل: هو على عمومه، لأنه نكرة في سياق النفي، فيشمل كلاب الصيد والماشية والزرع وغيرها، وقيل: خصص، واستثنى منه الكلاب التي أذن في تربيتها، ذهب الخطابي وطائفة إلى الثاني، وجنح القرطبي والنووي وغيرهم إلى ترجيح العموم، واستدلوا بأن الجرو أحيط به عدم العلم، وهو عذر، وامتنع جبريل من الدخول مع ظهور العذر فيه، فإذا كان العذر لم يسمح لهم بالدخول، فكذلك الإذن في اتخاذه لا يسمح لهم بالدخول، وتعقب بأنه لا يلزم من التسوية بين ما علم به، وما لم يعلم به، التسوية بين ما أذن باتخاذه، وما لم يؤمر باتخاذه. وفائدة إعادة حرف النفي في "ولا صورة" الاحتراز من توهم قصر عدم الدخول على اجتماع الصنفين، فلا يمتنع الدخول مع وجود أحدهما، فلما أعيد حرف النفي صار التقدير: ولا ندخل بيتاً فيه صورة، وهل العموم في "صورة" باق؟ أو خصص؟ قولان، كما قيل في "كلب" وفي الرواية الثالثة والعشرين "لا تدخل الملائكة بيتاً، فيه تماثيل أو تصاوير" والجمع فيه ليس للاحتراز، فمعظم الروايات بالإفراد، والتماثيل جمع تمثال، قال الحافظ ابن حجر: وهو الشيء المصور، أعم من أن يكون شاخصاً، أو يكون نقشاً، دهاناً، أو نسجاً في ثوب. اهـ فعطف "التصاوير" على التماثيل تفسيري.

(حتى إنه يأمر بقتل كلب الحائط الصغير، ويترك كلب الحائط الكبير) "الصغير" و"الكبير" صفة للحائط، والمراد به البستان، والمراد من الغاية أن الأمر بقتل الكلاب وصل إلى كلاب الزرع، واستثنى البستان الكبير لأن الحاجة تدعو إلى حفظ جوانبه، ولا يتمكن الحارس من المحافظة عليه وحده، بخلاف الصغير. (ثم اشتكى زيد بعد) أي مرض زيد بن خالد الجهني. (إلا رقماً في ثوب) أي إلا أن يكون علامة في ثوب، وقد مر في باب لبس الحرير. (ومع بسر عبيد الله الخولاني) أي معه حين سمعا الحديث من زيد بن خالد، فإن عبيد الله لم يدرك أبا طلحة. قاله ابن عبد البر. (ولكن سأحدثكم ما رأيته فعل) أي ما رأيته وسمعته صلى الله عليه وسلم فعل وقال في هذا الموضوع. (رأيته خرج في غزاته) في رواية البيهقي أنها غزوة تبوك، وفي رواية لأبي داود والنسائي "غزوة تبوك أو خيبر" على الشك. (فأخذت نمطاً فسترته على الباب) النمط بفتح النون والميم واحد الأنماط، قال النووي: بساط لطيف، له خمل، وقد يجعل ستراً، كما هنا. اهـ أي جعله ستارة على باب حجرتها، وهذه الحادثة هي عينها المقصودة في الرواية العاشرة بلفظ "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر، وقد سترت على بابي درنوكاً، فيه الخيل، ذوات الأجنحة" أي فيه صور خيل ذوات أجنحة، والدرنوك بضم الدال وسكون الراء، بعدها نون مضمومة، ثم كاف، ويقال له: درموك بالميم بدل النون، وهو ثوب غليظ له خمل، إذا فرش فهو بساط، وإذا علق فهو ستر. وهي عينها المقصودة في الرواية الحادية عشرة، بلفظ "دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي دخل بيتي قادماً من سفر "وأنا متسترة بقرام" قال النووي: هكذا هو في معظم النسخ "متسترة" بتاءين، بينهما سين، وفي بعضها "مستترة" بتاءين بعد السين، أي متخذة ستارة من قرام، بكسر القاف، وتخفيف الراء، وهو ستر، فيه رقم ونقش، "فيه صورة" أي صورة خيل ذوات أجنحة. وهي عينها المقصودة في الرواية الثانية عشرة، بلفظ "دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سترت سهوة لي بقرام، فيه تماثيل" والسهوة بفتح السين وسكون الهاء، قيل: هي الصفة -أي ما يشبه المصطبة في جانب البيت، وقيل: هي الكوة كالنافذة، وقيل: الرف، وقيل: أربع أعواد أو ثلاثة، يعارض بعضها ببعض، يوضع عليها شيء من الأمتعة، وقيل: هي أن يبني من حائط البيت حائط صغير، كحجرة داخل حجرة، ويجعل السقف على الجميع، فما كان وسط البيت فهو السهوة، وما كان داخله فهو المخدع، وقيل: هي دخلة في ناحية البيت، وقيل: بيت صغير، يشبه المخدع.

وهي عينها المقصودة في الرواية الرابعة عشرة، بلفظ "دخل النبي صلى الله عليه وسلم علي، وقد سترت نمطاً" أي نشرته، وجعلته ساتراً "فيه تصاوير". وهي عينها المقصودة في الرواية الخامسة عشرة، بلفظ "عن عائشة أنها نصبت ستراً، فيه تصاوير ... " وكان موقف الرسول صلى الله عليه وسلم، من عمل عائشة هذا: (أ) أن أظهر الكراهية، ففي الرواية الثامنة "عرفت الكراهية في وجهه" وفي الرواية الحادية عشرة "فتلون وجهه" وفي الرواية الثانية عشرة "وتلون وجهه". (ب) أن شد الستر بقوة، فشقه، ونحاه من مكانه، ففي الرواية الثامنة "فجذبه حتى هتكه" أي قطعه، وفي الرواية الحادية عشرة "ثم تناول الستر، فهتكه" وفي ملحقها "ثم أهوى إلى القرام فهتكه بيده" وفي الرواية الثانية عشرة "فلما رآه هتكه" وفي الرواية الرابعة عشرة "فنحاه" وفي الرواية الخامسة عشرة "فنزعه" ولعله أمر عائشة -رضي الله عنها- أن تكمل نزعه وتنحيته، ففي الرواية العاشرة "فأمرني فنزعته". (جـ) أن قال: "يا عائشة، أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله" كذا في الرواية الثانية عشرة "إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين" كذا في الرواية الثامنة. "إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله" كذا في الرواية الحادية عشرة. (د) كان مآل الستر أن قطع إلى وسادتين، حشتهما عائشة ليفاً، ولم يعب ذلك عليها، صلى الله عليه وسلم، صريح الرواية الثامنة، والثانية عشرة والرابعة عشرة والخامسة عشرة، وكان صلى الله عليه وسلم يرتفق على الوسادتين المذكورتين، وفيهما الصور، أي يتكئ عليها على مرفق يده. أما الرواية التاسعة فالظاهر أنها عن قصة أخرى، سابقة على تلك القصة، فصورتها تمثال طائر، وليس خيلاً، وكان الداخل يستقبلها إذا دخل، وكان موقف الرسول صلى الله عليه وسلم أن أمر بتحويلها عن مكانها، وعلل هذا الأمر بأنها تذكره بزهرة الدنيا وفتنتها، لا بمنع الصور، وتهديد المصورين، قال النووي: هذا محمول على أنه كان قبل تحريم اتخاذ ما فيه صورة، فلهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل، ويراه، ولا ينكره قبل هذه المرة الأخيرة. اهـ وهذه القصة عينها هي المقصودة بالرواية الثالثة عشرة، وإن عبر فيها بثوب بدل الستر، فالثوب وإن غلب على ما يلبس، لكنه يطلق على اللفة الكاملة من القماش، مختلفة المقدار، فيتخذ ستراً، وعبر فيها بقوله "فيه تصاوير" بدل "فيه تمثال طائر" وبينت مكانه، فقالت "ممدود إلى سهوة" وزادت توضيح مآله، وأنها جعلته وسائد، فالقصة واحدة، ولا تعارض بين ألفاظها. وأما الرواية السادسة عشرة فالظاهر أنها في قصة ثالثة، كانت الصورة فيها في نمرقة، لا في ستر، والنمرقة بفتح النون وسكون الميم وضم الراء، كذا ضبطها القزاز وغيره، وضبطها ابن السكيت بضم النون أيضاً، وبكسرها وكسر الراء، وقيل في النون الحركات الثلاث والراء مضمومة جزماً، والجمع نمارق وهي الوسائد التي يصف بعضها إلى بعض، وقيل النمرقة الوسادة التي يجلس عليها،

وقيل: هي المرفقة، ولعل عائشة رضي الله عنها بعد أن حولت الستر إلى وسادتين، أو مرفقتين، ولم يعب الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك عليها، اشترت النمرقة، ليقعد عليها صلى الله عليه وسلم، أو يتوسدها، أو يرتفقها، تكريماً له، وحباً في راحته، فكان ما كان، ولعل الله أراد لبيت النبوة التدرج في هذا، بأن ينحي الستر المصور عن الصدارة، ثم لا تتخذ الأستار المصورة مطلقاً، في الصدارة أو في غيرها، مع الترخيص باتخاذ الصور فيما يمتهن، كالوسائد والنمارق، ثم منع ما فيه صورة مطلقاً، في موضع تكريم أو موضع امتهان. (يريد القاسم بن محمد) أحد فقهاء المدينة، قال الحافظ ابن حجر: وكان من أفضل أهل زمانه. (يقال لهم: أحيوا ما خلقتم) أي اجعلوه حيواناً ذا روح، كما ضاهيتم، وهو أمر تعجيز، والقصد منه إظهار العجز، مبالغة في التوبيخ، وبيان قبح فعله. وفي الرواية الواحدة والعشرين "من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة، وليس نافخ" وفي رواية "فإن الله يعذبه، حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ فيها أبداً" فهذا من قبيل قوله تعالى {حتى يلج الجمل في سم الخياط} [الأعراف: 40] وكذا قولهم: لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب. (إن من أشد أهل النار يوم القيامة عذاباً المصورون) كذا وقع في الملحق الثاني للرواية الثامنة عشرة، وأصل الرواية لا إشكال فيه، فاسم "إن" "أشد الناس" بالنصب، و"المصورون" خبر "إن" وملحقها الأول لا إشكال فيه، حيث لم يذكر "إن" ولكن الإشكال في الملحق الثاني، إذ كان حقه أن يكون "المصورين" اسم "إن" و"من أشد" خبرها، قال الحافظ ابن حجر: واختلفت نسخ مسلم، ففي بعضها "المصورين" وهي للأكثر -ولا إشكال فيها- وفي بعضها "المصورون، ووجهت بأن "من" زائدة، واسم "إن" "أشد" ووجهها ابن مالك على حذف ضمير الشأن، والتقدير: إن الحال والشأن من أشد أهل النار يوم القيامة عذاباً المصورون. (كنت مع مسروق، في بيت فيه تماثيل مريم) في رواية البخاري "كنا مع مسروق في دار يسار بن نمير، فرأى في صفته تماثيل" و"يسار" مدني، سكن الكوفة، وكان مولى عمر وخازنه. (فقال مسروق: هذا تماثيل كسرى، فقلت: لا. هذا تماثيل مريم) -إشارة المذكر هنا على تقدير هذا الذي تراه تماثيل كسرى، ونقلها الحافظ ابن حجر بلفظ "فقال لي مسروق هذه تماثيل كسرى فقلت لا هذه تماثيل مريم. قال: كأن مسروقاً ظن أن التصوير كان من مجوسي، وكانوا يصورون صور ملوكهم، فظهر أن التصوير كان من نصراني، لأنهم يصورون صورة مريم والمسيح وغيرهما، ويعبدونها. (فقال له: ادن مني ... ) كان ابن عباس قد كف بصره، فأراد أن يستوثق من إسماع الرجل

بطلب دنوه منه، فلما لم يحس بقربه منه طلب زيادة الدنو، حتى التصق به، وحتى وضع ابن عباس يده على رأس الرجل. (يجعل له بكل صورة صورها نفساً، فتعذبه في جهنم) قال النووي: "يجعل" بفتح الياء، من جعل، والفاعل هو الله تعالى، أضمر للعلم به، قال القاضي: تحتمل أن معناها أن الصورة التي صورها هي تعذبه، بعد أن يجعل فيها الروح، وتكون الباء في "بكل" بمعنى "في" قال: ويحتمل أن يجعل له بعدد كل صورة، ومكانها، شخص يعذبه، وتكون الباء بمعنى لام السبب. (ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقاً كخلقي؟ ) الاستفهام إنكاري، بمعنى النفي، أي لا أحد أظلم ... و"ذهب" بمعنى قصد، والتشبيه في "كخلقي" في فعل الصورة وحدها، لا من كل الوجوه، فإن الذي خلقه سبحانه وتعالى واخترعه ليس صورة في حائط، بل هو خلق تام. (فليخلقوا ذرة) بفتح الذال وتشديد الراء، والمراد إيجاد الذرة -أي النملة- حقيقة، لا تصويرها. (أو ليخلقوا حبة) المراد من الحبة هنا حبة القمح، بقرينة ذكر "الشعيرة" بعدها، أو الحبة أعم من حبة القمح، والغرض تعجيزهم، تارة بتكليفهم خلق حيوان "ذرة" وهو أشد، وأخرى بتكليفهم خلق جماد، وهو أهون، ومع ذلك لا قدرة لهم على ذلك. (دخلت أنا وأبو هريرة داراً تبنى بالمدينة، لسعيد أو لمروان) بالشك، وفي الرواية الثانية والعشرين "في دار مروان" بدون شك، وهي أولى، وسعيد هو ابن العاص بن سعيد الأموي، وكان هو ومروان بن الحكم يتعاقبان إمرة المدينة لمعاوية. (لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب ولا جرس) الرفقة بضم الراء وكسرها، والجرس بفتح الراء معروف، وهكذا ضبطه الجمهور، ونقل القاضي أن هذه رواية الأكثرين، قال: وضبطناه عن أبي بحر بإسكانها، وهو اسم للصوت، فأصل الجرس بإسكان الراء الصوت الخفي. -[فقه الحديث]- تتعلق هذه الأحاديث بأربع نقاط أساسية: 1 - حكم اتخاذ الصور بأنواعها في البيوت وغيرها. 2 - الملائكة ودخولهم البيوت، وعدم دخولهم، واستصحابهم الرفقة، وعدم استصحابهم. 3 - حكم صنعة التصوير، والعذاب المتوعد به. 4 - ما يؤخذ من الأحاديث من الأحكام. 1 - أما حكم اتخاذ الصور فنعرض أنواعها، ثم نتكلم عن المذاهب في حكمها. فمن أنواعها:

أ- صور لها ظل، وهي التماثيل ذات الأجرام التي تقوم بنفسها والتي تصنع من صلصال أو نحاس أو زجاج أو ذهب أو فضة أو بلاستك أو شمع أو حجر أو خشب أو ورق، أو أي مادة من المواد، وهي لإنسان أو حيوان بمعنى أنها تجسيد لما يشبه الجسم النامي الحساس المتحرك بالإرادة. ب- صور كالسابقة، إلا أنها ليست لحيوان، فيه الحياة المعروفة، بل هي لشجر أو بيت أو هودج أو ورد أو صحراء أو جبال أو أنهار أو شمس أو قمر أو نحو ذلك. ج- صور لا ظل لها، صنعت على حائط أو على ثوب أو على خشب أو على لوحات، وهي لإنسان أو حيوان، مرسومة باليد، أو مصورة بالآلة "فوتوغرافيا". د- صور لا ظل لها، كالسابقة، إلا أنها ليست لحيوان، بل لأمثال المذكور في النوع (ب). وعلى كل من النوعين الأخيرين إما أن تشغل وتملأ المساحة كلها، وإما أن تكون صغيرة تغطي جزءاً قليلاً من المساحة، يعبر عنها برقم في ثوب، أي علامة صغيرة في مساحة كبيرة. وعلى كل من النوعين الأخيرين أيضاً إما أن توضع في مكان محترم، كأن تعلق على حائط أو مكتب أو سقف أو مرتفع، أو في ثوب، وإما أن توضع في مكان ممتهن، كبساط يداس، أو مخدة، أو مرفقة يتكأ عليها، ونحو ذلك. وفي حكم هذه الصور بأنواعها يعرض النووي مذهب الشافعية، فيقول: اتخاذ المصور فيه صورة حيوان فإن كان معلقاً على حائط، أو كان في ثوب ملبوس أو عمامة، ونحو ذلك مما لا يعد ممتهناً، فهو حرام، وإن كان في بساط يداس ومخدة ووسادة، ونحوها مما يمتهن، فليس بحرام، ولكن هل يمنع دخول ملائكة الرحمة ذلك البيت؟ فيه كلام، ولا فرق في هذا كله بين ما له ظل، وما لا ظل له، هذا تلخيص مذهبنا في المسألة، وبمعناه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وهو مذهب الثوري ومالك وأبي حنيفة وغيرهم. وقال بعض السلف: إنما ينهى عما كان له ظل، ولا بأس بالصور التي ليس لها ظل، قال: وهذا مذهب باطل، فإن الستر الذي أنكر النبي صلى الله عليه وسلم الصورة فيه، لا يشك أحد أنه مذموم، وليس لصورته ظل، مع باقي الأحاديث المطلقة في كل صورة، قال: وقال الزهري: النهي في الصورة على العموم، وكذلك استعمال ما هي فيه، ودخول البيت الذي هي فيه، سواء كانت رقماً في ثوب، أو غير رقم، وسواء كانت في حائط أو ثوب أو بساط، ممتهن، أو غير ممتهن، عملاً بظاهر الأحاديث، لاسيما حديث النمرقة الذي ذكره مسلم [روايتنا السادسة عشرة] قال النووي: وهذا مذهب قوي، ثم قال: وقال آخرون: يجوز منها ما كان رقماً في ثوب، سواء امتهن أم لا، وسواء علق في حائط أم لا، وكرهوا ما كان له ظل، أو كان مصوراً في الحيطان وشبهها، سواء كان رقماً أو غير رقم، واحتجوا بقوله في بعض أحاديث الباب "إلا ما كان رقماً في ثوب" [روايتنا السادسة والسابعة] قال: وهذا مذهب القاسم بن محمد. قال: وأجمعوا على منع ما كان له ظل، ووجوب تغييره، قال القاضي: إلا ما ورد في اللعب بالبنات لصغار البنات، والرخصة في ذلك، لكن كره مالك شراء الرجل ذلك لابنته، وادعى بعضهم أن إباحة اللعب لهن بالبنات منسوخ بهذه الأحاديث. هذا ما قاله النووي.

وتعقبه الحافظ ابن حجر، فقال: فيما نقله النووي مؤاخذات. منها أن ابن العربي من المالكية نقل أن الصورة إذا كان لها ظل حرم بالإجماع سواء كانت مما يمتهن أو لا، وحكى القرطبي في المفهم في الصور التي لا تتخذ للإبقاء -كالفخار- قولين: أظهرهما المنع. قال الحافظ ابن حجر: وهل يلتحق بالفخار ما يصنع من الحلوى؟ محل نأمل، وصحح ابن العربي أن الصورة التي لا ظل لها إذا بقيت على هيئتها حرمت، سواء كانت مما يمتهن أم لا، وإن قطع رأسها، أو فرقت هيئتها جاز، قال: وهذا مذهب منقول عن الزهري، وقواه النووي، ومنها أن إمام الحرمين نقل وجهاً أن الذي يرخص فيه مما لا ظل له ما كان على ستر أو وسادة، وأما ما كان على الجدار والسقف فيمنع، والمعنى فيه أنه بذلك يصير مرتفعاً، فيخرج عن هيئة الامتهان، بخلاف الثوب، فإنه بصدد أن يمتهن، ونقل الرافعي عن الجمهور أن الصورة إذا قطع رأسها ارتفع المانع، وقال المتولي في التتمة: لا فرق. ومنها أن مذهب الحنابلة جواز الصورة في الثوب، ولو كان معلقاً، لكن إن ستر به الجدار منع عندهم. ثم دافع الحافظ ابن حجر عن القاسم بن محمد، فقال: في إطلاق النووي على مذهب القاسم أنه باطل نظر، إذ يحتمل أنه تمسك في ذلك بعموم قوله "إلا رقماً في ثوب" فإنه أعم من أن يكون معلقاً أو مفروشاً، وكأنه جعل إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة تعليق الستر المذكور مركباً من كونه مصوراً، ومن كونه ساتراً للجدار، فقوله "إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين" يدل على أنه كره ستر الجدار بالثوب المصور، فلا يساويه الثوب الممتهن ولو كانت فيه صورة، وكذلك الثوب الذي لا يستر به الجدار، والقاسم بن محمد أحد فقهاء المدينة، وكان من أفضل أهل زمانه، وهو الذي روى حديث النمرقة، فلولا أنه فهم الرخصة في مثل الحجلة ما استجاز استعمالها. لكن الجمع بين الأحاديث الواردة في ذلك يدل على أنه مذهب مرجوح، وأن الذي رخص فيه من ذلك ما يمتهن، لا ما كان منصوباً. اهـ وحاصل الأقوال في هذه المسألة: 1 - أن النهي في الصورة على العموم، واستعمال ما فيه صورة أيا كان ممنوع، سواء كانت رقماً في ثوب أو غير رقم، وسواء كانت في ثوب أو بساط، ممتهن أو غير ممتهن، حتى تماثيل لعب البنات حرام، ودخول البيت الذي فيه الصور بجميع أنواعها حرام، حالة واحدة مستثناة، هي إذا فرقت الصورة، فلم تكن على هيئة يصح بها الحياة، كأن قطعت رأسها، أو فرقت أجزاؤها، وهذا مذهب منقول عن الزهري، وصححه ابن العربي، وقواه النووي. 2 - التفريق بين ما له ظل، كالتماثيل المجسمة، وما ليس له ظل، فما كان له ظل حرام بدون استثناء، ولا بأس بالصور التي لا ظل لها، بدون استثناء. 3 - كالسابق، لكن يستثنى مما له ظل لعب البنات. 4 - كالسابق، لكن يستثنى مما له ظل ما لا يتخذ للإبقاء، كالمصنوع من الفخار، يلحق به المصنوع من الحلوى.

5 - كالسابق في رقم 2 لكن يستثنى مما لا ظل له ما كان على الجدار والسقف، فيمنع لارتفاعه أما ما كان على ثوب أو ستر أو مخدة أو نحوها فلا يمنع. 6 - كالسابق في رقم 2 لكن يستثنى مما لا ظل له الصورة في الستر على الجدار، فيمنع، وتجوز في الثوب، ولو كان معلقاً، لكن إن ستر به الجدار منع. 7 - كالسابق في رقم 2 لكن يستثنى مما لا ظل له ما شغل المكان فيمنع، وأما ما كان رقماً في ثوب فلا. 8 - يكره اتخاذ ما كان له ظل، أو كان مصوراً في الحيطان وشبهها. 9 - التفريق بين ما كان في وضع ممتهن، فيجوز، وما كان في وضع غير ممتهن، فلا يجوز، سواء كان له ظل، أو لا ظل له، قال النووي: وهو مذهب الشافعية وجماهير العلماء. 10 - التفريق بين المنسوج والمنقور فيجوز، لأنه غير مصور، وبين المدهون فلا يجوز. وهكذا نجد أقوالاً مختلفة، منشؤها اختلاف وجهات النظر في الدليل. فأحاديث عدم دخول الملائكة بيتاً فيه صورة لا يلزم منه تحريم اتخاذ الصورة، كما سيأتي، فقد اشتركت الصورة مع اتخاذ الكلب، ولا يحرم اتخاذ الكلب على الإطلاق، وعدم صحبتها لرفقة فيها جرس لا يحرم اتخاذ الجرس، وروايتنا الثامنة وما بعدها، وكراهته صلى الله عليه وسلم النمط المصور، والستر المصور، والدرنوك المصور، والقرام المصور، والثوب المصور، والستارة المصورة، والنمرقة المصورة، لا توجب الحرمة باستعمال الصور والمصورات، فالرواية الثامنة والثانية عشرة والثالثة عشرة والرابعة عشرة والخامسة عشرة والسادسة عشرة تفيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر الصور في الوسائد والمرافق، بل ارتفق بها، وتنزه عن استعمال الستر المصور، وعلل هذا التنزه في الرواية الثامنة بعدم الرغبة في ستر الحجارة والطين، وعلله في الرواية التاسعة بالزهد في الدنيا وفي مباهجها، وعلله في الرواية الثالثة عشرة بأن الصور تشغله عن الاستغراق في العبادة، وغضبه صلى الله عليه وسلم وتلون وجهه عند رؤية الصور ونزعها بشدة أحياناً، قد يكون لتكرار رؤيته الصورة، بعد منعها، أو إعلان عدم رضاه عنها، ثم معاودة استعمالها، وقد يكون خصوصية لبيته صلى الله عليه وسلم، فهو يناجي من لا نناجي، ويرى من لا نرى، ويكلم من لا نكلم، ويستقبل من ملائكة الله ما لا نستقبل، وكل هذه احتمالات تتطرق إلى الدليل فتسمح بعدم الأخذ به. وأقوى ما يستدل به على تحريم اتخاذ الصور الوعيد الوارد للمصوريين، في روايتنا الحادية عشرة، والثانية عشرة، والسادسة عشرة والسابعة عشرة والثامنة عشرة، وما بعدها، لأن الوعيد إذا حصل لصانعها، فهو حاصل لمستعملها، لأنها لا تصنع إلا لتستعمل، فالصانع متسبب، والمستعمل مباشر، فيكون أولى بالوعيد. كذا قال الحافظ ابن حجر، وفيه نظر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم استعمله في المرفقتين، بعد تهديده المصوريين ووعيدهم، كما هو صريح في الرواية الثامنة وزيادتها. والله أعلم.

2 - النقطة الثانية: في المراد بالملائكة الذين يدخلون البيوت، والذين يمتنعون، وفيها يقول النووي: وأما هؤلاء الملائكة الذين لا يدخلون بيتاً فيه كلب أو صورة، فهم ملائكة يطوفون بالرحمة والتبريك والاستغفار، وأما الحفظة فيدخلون كل بيت، ولا يفارقون بني آدم في كل حال، لأنهم مأمورون بإحصاء أعمالهم وكتابتها، وقال القرطبي: كذا قال بعض علمائنا، والظاهر العموم، والدال على كون الحفظة لا يدخلون ليس نصاً، قال الحافظ ابن حجر: ويؤيده أنه من الجائز أن يطلعهم الله تعالى على عمل العبد، ويسمعهم قوله، وهم بباب الدار، التي هو فيها مثلاً. وقيل: المراد بالملائكة ملائكة الوحي، جبريل عليه السلام خاصة، نقل هذا عن ابن وضاح والداودي وغيرهما، ويلزم منه اختصاص النهي بعهد النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الوحي انقطع بعده، وبانقطاعه انقطع نزولهم، ومن هنا ادعى ابن حبان أن هذا الحكم خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال: وهو نظير حديث "لا تصحب الملائكة رفقة فيها جرس" قال: فإنه محمول على رفقة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ محال أن يخرج الحاج والمعتمر لقصد بيت الله عز وجل، على رواحل، لا تصحبها الملائكة، وهم وفد الله. اهـ وبعضهم يخصص عموم الملائكة بالصفة، أي لا يدخله الملائكة دخولاً كريماً، كدخولهم بيتاً لا كلب فيه ولا صورة. والتحقيق أن الملائكة لا تؤخذ على عمومها قطعاً، فهناك ملائكة لا يتوقع دخولها أصلاً، فلا ينفي دخولها وهناك الحفظة الذين يستبعد جداً أن لا يصاحبوا رفقة فيها كلب أو جرس، وإذا كان لا بد من التخصيص فالأولى أن يراد بهم ملائكة رحمة، وأن يخصص البيت بالمكان الذي تكون فيه الصورة أو الكلب من حجرة أو مكتب ونحو ذلك. ثم إن عدم دخولهم مكاناً ما، وعدم وقوع الرحمة فيه عن طريق دعائهم لا يمنع من إلحاق دعائهم بالرحمة للعبد وهم بعيدون أو وهو في طريقه أو في عمله، فعدم دخولهم البيت لا يلزمه أن السبب محرم، فهم لا يدخلون والمرء يتبرز أو يجامع حلالاً. والله أعلم. 3 - النقطة الثالثة: حكم صنعة التصوير، وعنها يقول النووي: قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: تصوير صورة الحيوان حرام، شديد التحريم، وهو من الكبائر، لأنه متوعد عليه الوعيد الشديد المذكور في الأحاديث، سواء صنعه بما يمتهن، أو بغيره، فصنعته حرام بكل حال، لأن فيه مضاهاة لخلق الله تعالى، وسواء ما كان في ثوب أو بساط أو درهم أو دينار أو فلس أو إناء أو حائط أو غيرها، وأما تصوير صورة الشجر ورحال الإبل، وغير ذلك مما ليس فيه صورة حيوان، فليس بحرام، ثم قال: وهذه الأحاديث [يشير إلى الرواية الحادية عشرة وما بعدها] صريحة في تحريم صور الحيوان، وأنه غليظ التحريم، وأما الشجر ونحوه مما لا روح فيه، لا تحرم صنعته، ولا التكسب به، وسواء الشجر المثمر وغيره، وهذا مذهب العلماء كافة إلا مجاهداً، فإنه جعل الشجر المثمر من المكروه. قال القاضي: لم يقله أحد غير مجاهد، واحتج مجاهد بقوله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقاً كخلقي. واحتج الجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم "ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم" أي اجعلوه حيواناً ذا روح، كما ضاهيتم، ويؤيده حديث ابن عباس [روايتنا المتممة للعشرين] وفيها "إن كنت لا بد فاعلاً فاصنع الشجر وما لا نفس له".

قال الحافظ ابن حجر: واستشكل كون المصور أشد الناس عذاباً مع قوله تعالى: {أدخلوا ءال فرعون أشد العذاب} [غافر: 46] فإنه يقتضي أن يكون المصور أشد عذاباً من آل فرعون، قال: وأجاب الطبري بأن المراد هنا من يصور ما يعبد من دون الله، وهو عارف بذلك، قاصداً له، فإنه يكفر بذلك، فلا يبعد أن يدخل مدخل آل فرعون، وأما من لا يقصد ذلك فإنه يكون عاصياً بتصويره فقط، وأجاب غيره بأن الرواية بإثبات "من" ثابتة وبحذفها محمولة على إثباتها، وإذا كان من يفعل التصوير من أشد الناس عذاباً كان مشتركاً مع غيره، وليس في الآية ما يقتضي اختصاص آل فرعون بأشد العذاب، بل هم في العذاب الأشد، فكذلك غيرهم يجوز أن يكون في العذاب الأشد، وقوى الطحاوي ذلك بما أخرجه عن ابن مسعود، رفعه "إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل قتل نبياً، أو قتله نبي، وإمام ضلالة، وممثل من الممثلين" وبما أخرجه من حديث عائشة، مرفوعاً "أشد الناس عذاباً يوم القيامة، رجل هجا رجلاً، فهجا القبيلة بأسرها" قال الطحاوي: فكل واحد من هؤلاء يشترك مع الآخر في شدة العذاب، وقيل: إن الوعيد بهذه الصيغة، إن ورد في حق كافر فلا إشكال فيه، لأنه يكون مشتركاً في ذلك من آل فرعون، ويكون فيه دلالة على عظم كفر المذكور، وإن ورد في حق عاص، فيكون أشد عذاباً من غيره من العصاة، ويكون ذلك دالاً على عظم العصية المذكورة، وأجاب القرطبي بأن الناس الذين أضيف إليهم "أشد" لا يراد بهم كل الناس، بل بعضهم، وهم من يشارك في المعنى المتوعد عليه بالعذاب، ففرعون أشد الناس الذين ادعوا الإلهية عذاباً، ومن يقتدي به في ضلالة أشد عذاباً ممن يقتدي به في ضلاله وفسقه، ومن صور صورة ذات روح للعبادة أشد عذاباً ممن يصورها لا للعبادة. والله أعلم. -[4 - ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - من قوله "إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب" في الرواية الأولى وغيرها، كراهة تربية الكلاب، قال النووي: سبب امتناعهم من بيت فيه كلب، كثرة أكله النجاسات، وقيل: لكونها نجسة العين، وقيل: لأن بعضها يسمى شيطاناً، كما جاء به الحديث، والملائكة ضد الشياطين، وقيل: لرائحته الخبيثة، والملائكة تكره الرائحة القبيحة، وقيل: لأنها منهي عن اتخاذها، فعوقب متخذها بحرمانه من دخول الملائكة بيته، وصلاتهم فيه، واستغفارهم له، وتبريكهم عليه، وفي بيته، ودفعهم أذى الشيطان. 2 - من قوله في الرواية الثالثة "ثم أخذ بيده ماء فنضح مكانه" استدل بعضهم على نجاسة الكلب، قالوا: والمراد بالنضح الغسل، وتأولته المالكية على أنه غسله لخوف حصول بوله أو روثه، فنضح موضعه احتياطاً، لأن النضح مشروع لتطهير المشكوك فيه. 3 - من سؤال ميمونة -رضي الله عنها- حين رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم واجماً، في الرواية الثالثة، أنه يستحب للإنسان إذا رأى صاحبه، ومن له حق عليه واجماً، أن يسأله عن سببه، فيساعده فيما يمكن مساعدته، أو يتحزن معه، أو يذكره بشيء يزول به ذلك العارض.

4 - وفيه التنبيه على الوثوق بوعد الله ورسله، إذ قال صلى الله عليه وسلم في الرواية الأولى "ما يخلف الله وعده ورسله" لكن قد يكون للشيء شرط، فيتوقف على حصوله، أو يتخيل توقيته بوقت، ويكون غير موقت به، ونحو ذلك. 5 - وفيه أنه إذا تكدر وقت الإنسان، أو تنكدت وظيفته، ونحو ذلك، فينبغي أن يفكر في السبب، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم هنا، حتى استخرج الكلب، قال النووي: وهو من نحو قوله تعالى {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} [الأعراف: 201]. 6 - قد يستدل بقوله في الرواية الثالثة "فأمر بقتل الكلاب" على مشروعية قتل الكلاب، لكن قال النووي: والأمر بقتل الكلاب منسوخ. 7 - ومن قوله في الرواية الثامنة "فجذبه حتى هتكه" وفي الحادية عشرة "ثم تناول الستر فهتكه" تغيير المنكر باليد، وهتك الصور المحرمة. 8 - ومن غضبه صلى الله عليه وسلم وتغير لونه الغضب عند رؤية المنكر. 9 - ومن قطع النمط إلى وسادتين جواز اتخاذ الوسائد. 10 - استدل بقوله "إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين" في الرواية الثامنة على أنه يمنع ستر الحيطان وتنجيد البيوت بالثياب، قال النووي: وهو منع كراهة تنزيه، لا تحريم، هذا هو الصحيح، وقال الشيخ أبو الفتح نصر المقدسي من أصحابنا: هو حرام، وليس في الحديث ما يقتضي تحريمه، لأن حقيقة اللفظ أن الله تعالى لم يأمرنا بذلك، وهذا يقتضي أنه ليس بواجب ولا مندوب، ولا يقتضي التحريم. 11 - ومن الرواية الرابعة والعشرين كراهة استصحاب الكلب والجرس في الأسفار. 12 - وأن الملائكة لا تصحب رفقة فيها أحدهما، قال النووي: قيل: سبب منافرة الملائكة للجرس أنه شبيه بالنواقيس، أو لأنه من المعاليق المنهي عنها، وقيل: سببه كراهة صوتها، ويؤيده الرواية الخامسة والعشرون "مزامير الشيطان" قال: وهذا الذي ذكرناه من كراهة الجرس على الإطلاق هو مذهبنا ومذهب مالك وآخرين، وهي كراهة تنزيه، وقال جماعة من متقدمي علماء الشام: يكره الجرس الكبير دون الصغير. 13 - استدل أبو علي الفارسي في التذكرة بقوله "أشد الناس عذاباً المصورون" على تكفير المشبهة، أي الذين يعتقدون أن لله صورة، وحمل الحديث عليهم، وتعقب ببعد هذا الحمل، فالروايات تؤكد أن المراد الذين يصنعون الصور، والرواية السابعة عشرة وغيرها واضحة في ذلك. 14 - ومن قول عائشة "أتوب إلى الله، وإلى رسوله" في الرواية السادسة عشرة جواز التوبة من الذنوب كلها إجمالاً، وإن لم يستحضر التائب خصوص الذنب الذي حصلت به المؤاخذة.

15 - استدل بقوله في الرواية السادسة والسابعة "إلا رقماً في ثوب" على جواز النقوش والكتابة، لكن قال الطحاوي يحتمل أنه أراد رقماً يوطأ ويمتهن، كما في البسط والوسائد، وقال عكرمة: فيما يوطأ من الصور هوان لها. 16 - ومن الرواية الثالثة عشرة، وقوله صلى الله عليه وسلم "أخريه عني" كراهة كل ما يشغل القلب بما لا يعني، في الصلاة وغيرها. 17 - وفيه أن ما يعرض للشخص في صلاته من التفكر في أمور الدنيا لا يبطل الصلاة. والله أعلم

(574) باب قلادة البعير، ووسم الحيوان، وضربه

(574) باب قلادة البعير، ووسم الحيوان، وضربه 4848 - عن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره. قال: فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولاً. قال عبد الله بن أبي بكر. حسبت أنه قال: والناس في مبيتهم "لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت" قال مالك: أرى ذلك من العين. 4849 - عن جابر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضرب في الوجه وعن الوسم في الوجه. بمثله. 4850 - عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه حمار قد وسم في وجهه. فقال "لعن الله الذي وسمه". 4851 - عن ابن عباس رضي الله عنه قال: ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حماراً موسوم الوجه. فأنكر ذلك. قال: فوالله، لا أسمه إلا في أقصى شيء من الوجه. فأمر بحمار له فكوي في جاعرتيه. فهو أول من كوى الجاعرتين. 4852 - عن أنس رضي الله عنه قال: لما ولدت أم سليم. قالت لي يا أنس: انظر هذا الغلام، فلا يصيبن شيئاً، حتى تغدو به إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحنكه. قال: فغدوت. فإذا هو في الحائط وعليه خميصة حويتية، وهو يسم الظهر الذي قدم عليه في الفتح. 4853 - عن أنس رضي الله عنه أن أمه حين ولدت، انطلقوا بالصبي إلى النبي

صلى الله عليه وسلم يحنكه. قال: فإذا النبي صلى الله عليه وسلم في مربد يسم غنماً. قال شعبة: وأكثر علمي أنه قال في آذانها. 4854 - عن أنس رضي الله عنه قال: دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مربداً وهو يسم غنماً. قال: أحسبه قال في آذانها. 4855 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: رأيت في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم الميسم وهو يسم إبل الصدقة. -[المعنى العام]- الرفق شريعة الإسلام، وهو ما دخل شيئاً إلا زانه، وما حرم من شيء إلا شانه، حتى عند الضرورات للقسوة نجده مطلوباً بالقدر الممكن "إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته" والمثلة بالحيوان من أعظم الذنوب، وتعذيب الحيوان من الكبائر، وإيلامه مع عدم الحاجة إلى هذا الإيلام إثم كبير، لقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حماراً معلماً في وجهه بالكي بالنار، فغضب، وقال: لا تفعلوا مثل هذا، لعن الله من فعل هذا. ولكن ما حيلة العرب في صدر الإسلام؟ إن إبلهم وبقرهم وغنمهم وبغالهم وحميرهم، تخرج للرعي بدون راع، في الكلأ المباح، تختلط إبل هذا بإبل ذاك، وبقر هذا ببقر الآخرين، وتختلط الأغنام بالأغنام، في صحراء واسعة، فيسهل الضياع قصداً وبغير قصد، ولا وسيلة لهم لتفادي هذا الخطر، إلا أن يعلموا مواشيهم بعلامة لا تمحى، ولا وسيلة لهذه العلامة إلا الكي بالنار، والحيوان عادة -لسمك جلده- لا يتألم من هذا الكي كثيراً، فماذا يفعلون؟ إن الله تعالى خلق الوجه مجمعاً لمحاسن مخلوقه، جعل فيه العينين والأنف والجبهة والفم والذقن، تصوير يتميز به جنس المخلوقات وأفرادها بعضها عن بعض، وجعل جلده في درجة من النعومة والحس أعلى من درجة كثير من الأجزاء الأخرى، فكانت الشريعة السمحة، أن أذنت بالكي في غير الوجه، وأمر صلى الله عليه وسلم أن يجتنب الوجه عند الكي وأن يكوى في مناطق أخرى، احتمالاً لأخف الضررين. وسري هذا القانون بين الصحابة، فكان لزاماً، وكان بعضهم يكوى كياً خفيفاً في الرقبة، وبعضهم يكوى كياً خفيفاً في صفحة العنق، وبعضهم يكوى في الكتف، وبعضهم يكوى في الأذن، وبعضهم يكوى في الورك، وبعضهم يكوى في الساق.

وكوى رسول الله صلى الله عليه وسلم غنم الصدقة، وإبل الصدقة، بنفسه، ليرفع الحرج عن المسلمين، وليثبت عملياً أن مباشرة المرء لعمله بنفسه، لا يخل بمروءته، مهما كان العمل في نظر الآخرين دنيئاً، كما كان صلى الله عليه وسلم يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويقم بيته، ويكون في مهنة أهله. صلى الله عليه وسلم. -[المباحث العربية]- (عبد الله بن أبي بكر) بن محمد بن عمرو بن حزم. تابعي مدني، أنصاري. (عن عباد بن تميم) المازني، تابعي، أنصاري، مدني. (أبي بشير الأنصاري) بفتح الباء. (فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولاً) أي ينادي في الناس، وفي رواية "أرسل مولاه زيداً" أي زيد بن حارثة. (حسبت أنه قال: والناس في بيتهم) أي نازلين في مضاربهم للمبيت، وكأنه شك في هذه الجملة، قيلت أم لا؟ . (لا يبقين في رقبة بعير) بفتح الياء ونون التوكيد الثقيلة، أي لا تبقوا. (قلادة من وتر أو قلادة) القلادة ما يجعل في العنق من جواهر أو خلافه "الوتر" في الأصل مجرى السهم من القوس العربية، وهو سير من جلد، وهنا من وتر، بفتح الواو، والتاء، بعدها راء، قال الحافظ ابن حجر: وفي المراد به ثلاثة أقوال، أحدها أنهم كانوا يقلدون الإبل أوتار القسي [بفتح القاف وكسرها، وتشديد السين، نوع من الحرير] لئلا تصيبها العين، بزعمهم، فأمروا بقطعها، إعلاماً بأن الأوتار لا ترد من أمر الله شيئاً، وهذا قول مالك، ففي آخر الرواية الأولى "قال مالك: أرى ذلك من العين" و"أرى" بضم الهمزة، أي أظن أن ذلك الفعل كان من أجل الوقاية من العين. ثانيها أن النهي عن الأوتار لئلا تختنق الدابة بها عند شدة الركض ثم إن الدواب تتأذى بها، ويضيق عليها نفسها، ويشق عليها رعيها، وربما تعلقت بشجرة فاختنقت، أو تعوقت عن السير، ثالثها أنهم كانوا يعلقون فيها الأجراس، فعند الدارقطني فلا تبقين قلادة من وتر ولا جرس في عنق بعير إلا قطع". وقوله "من وتر" في جميع الروايات، قال ابن الجوزي: ربما صحف من لا علم له بالحديث، فقال "وبر" بالباء بدل التاء، يقصد ما ينتزع عن الجمال مما يشبه الصوف. وقوله "أو قلادة" قيل "أو" للشك في أي اللفظين قيل: قلادة من وبر؟ أو قلادة مطلقة؟ وقيل: للتنويع، كأنه قيل: قلادة من وبر أو قلادة من أي نوع كان، ويؤيده رواية لأبي داود "ولا قلادة".

(إلا قطعت) استثناء من عموم الأحوال، لا تبقوا قلادة في عنق البعير على حال من الأحوال إلا مقطوعة مفصولة عن عنقه. (نهى عن الضرب في الوجه، وعن الوسم في الوجه) قال أهل اللغة: الوسم أثر كية، يقال: بعير موسوم، وقد وسمه، يسمه، وسماً وسمة، والميسم الشيء الذي يوسم به، وهو بكسر الميم وفتح السين، وجمعه مياسم ومواسم، وأصله كله من السمة، وهي العلامة، ومنه موسم الحج، أي معلم جمع الناس، وفلان موسم بالخير، وعليه سمة الخير، أي علامته، وتوسمت فيه كذا، أي رأيت فيه علامته، والمراد بالوسم هنا أن يعلم الشيء بشيء يؤثر فيه تأثيراً بالغاً، وأصله أن يجعل في البهيمة علامة تميزها عن غيرها. قال النووي: الوسم بالسين المهملة. هذا هو الصحيح المعروف في الروايات وكتب الحديث. قال القاضي: ضبطناه بالمهملة. قال: وبعضهم يقوله بالمهملة وبالمعجمة -أي بالسين والشين- وبعضهم فرق، فقال بالمهملة في الوجه، والمعجمة في سائر الجسد. (قال: فوالله ما أسمه إلا في أقصى شيء من الوجه) ظاهر هذه الرواية أن القائل هو ابن عباس، لكن صرح في سنن أبي داود وفي رواية للبخاري في تاريخه أن القائل هو العباس بن عبد المطلب، قال النووي: وحينئذ يجوز أن تكون القضية جرت للعباس، ولابنه. قال القاضي عياض: ورواية مسلم توهم أنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم، ورد عليه النووي بأن رواية مسلم لا توهم ذلك. (فأمر بحمار له، فكوى في جاعرتيه) الجاعرتان هما حرفا الورك، المشرفان مما يلي الوبر، فقوله "أقصى شيء من الوجه" ليس معناه أقصى جزء من أجزاء الوجه، بل معناه أبعد جزء عن الوجه من جسم الدابة، والورك بعيد عن الوجه، فهذا أمام، وذاك خلف. (عن أنس. لما ولدت أم سليم) وهي أم أنس، وفي الرواية السادسة عن أنس "أن أمه حين ولدت" وكانت أم سليم قد تزوجت في الجاهلية مالك بن النضر، فولدت أنساً في الجاهلية، وأسلمت مع السابقين إلى الإسلام من الأنصار، فغضب زوجها مالك لإسلامها، وخرج إلى الشام، ومات هناك، فتزوجت أبا طلحة، وعن أنس أن أبا طلحة خطب أم سليم قبل أن يسلم، فقالت: يا أبا طلحة، ألست تعلم أن إلهك الذي تعبده، نبت من الأرض؟ قال: بلى. قالت: أفلا تستحي أن تعبد شجرة؟ إني قد آمنت بهذا الرجل، وشهدت بأنه رسول الله، فإن تابعتني تزوجتك، فإني لا أريد منك صداقاً غير أن تسلم، قال: حتى أنظر في أمري، فذهب، ثم جاء، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. فقالت يا أنس، زوج أمك أبا طلحة، فزوجها، كان ذلك قبيل الهجرة، ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، قالت: يا رسول الله، هذا أنس يخدمك، وكان حينئذ ابن عشر سنين، فخدم النبي صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة حتى مات، فاشتهر بخادم النبي صلى الله عليه وسلم. وأم سليم صاحبة القصة المشهورة المخرجة في الصحيح، وأنها ولدت ولداً لأبي طلحة، فمرض الولد، فمات، فقالت لمن معها في البيت: لا يذكر أحد لأبي طلحة حين يعود أن ابنه مات، فلما جاء،

وسأل عن ولده، قالت: هو أسكن ما كان، فظن بذلك أنه قد عوفي، وقام، وأكل، ثم تزينت له، وتطيبت، فنام معها، وأصاب منها، فلما أصبح قالت له: احتسب ولدك، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: بارك الله لكما في ليلتكما، فجاءت بولد، وهو عبد الله بن أبي طلحة وهو صاحب القصة في حديثنا -وقد ولد عام الفتح- عاش وولد له أولاد، قرأ القرآن منهم عشرة كمالاً. (انظر هذا الغلام، فلا يصيبن شيئاً) من الطعام، أي من اللبن. (حتى تغدو به إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحنكه) أي حتى تذهب به أول النهار، وفي الرواية السادسة "أن أمه حين ولدت انطلقوا بالصبي" أي انطلقت القابلة، أو بعض النساء القريبات مع أنس والتحنيك هنا تدليك حنك الطفل بتمرة لينة، ممتزجة بريق النبي صلى الله عليه وسلم. (فإذا هو في الحائط) أي البستان والحديقة، وفي الرواية السادسة "فإذا النبي صلى الله عليه وسلم في مربد" والمربد، بكسر الميم وسكون الراء وفتح الباء مكان حبس الإبل، ولعل الغنم دخلت المربد مع الإبل، وكان المربد في داخل الحائط، ويحتمل أن المراد بالمربد حظيرة الغنم، فأطلق عليها اسم المربد مجازاً، لمقاربتها. (وعليه خميصة جونية) الخميصة ثياب خز أو صوف معلمة، أو كساء مربع له أعلام، وقيل: كساء رقيق من أي لون كان، وقيل: لا تكون خميصة حتى تكون سوداء معلمة. قال النووي: وأما قوله "جونية" بفتح الجيم وإسكان الواو، بعدها نون، كذا ضبطها بعض رواة مسلم، والأشهر أنه "حويتية" بالحاء المضمومة، ثم واو مفتوحة، ثم ياء ساكنة، ثم تاء مكسورة، ثم ياء مشددة، وضبطها بعضهم "حوتنية" بإسكان الواو، بعدها تاء مفتوحة، ثم نون مكسورة، وضبطها بعضهم "حونية" بإسكان الواو، بعدها نون مكسورة، وضبطها بعضهم "حريثية" بحاء مضمومة، وراء مفتوحة، ثم ياء ساكنة، ثم ثاء مكسورة، منسوبة إلى بني حريث، وكذا وقع في رواية البخاري لجمهور رواة صحيحه، وعند بعضهم "حونبية" بفتح الحاء وإسكان الواو، ثم نون مفتوحة، ثم باء، ذكره القاضي، وعند بعضهم "خويثية" بضم الخاء وفتح الواو، وإسكان الياء، بعدها ثاء، حكاه القاضي، وفي بعضها "جوينية" تصغير القول الأول، قال القاضي: ووقع لبعض رواة البخاري "خيبرية" منسوبة إلى خيبر، ووقع في الصحيحين "حوتكية" بفتح الحاء وبالكاف، أي صغيرة. قال القاضي في المشارق: هذه الروايات كلها تصحيف، إلا روايتي "جونية" و"حريثية، فأما "الجونية" فمنسوبة إلى بني الجون، قبيلة من الأزد، أو إلى لونها، من السواد أو البياض أو الحمرة، لأن العرب تسمي كل لون من هذه "جونا". هذا كلام القاضي، وقال ابن الأثير في نهاية الغريب، بعد أن ذكر رواية "حويتية" هذا وقع في بعض نسخ مسلم، ثم قال: والمحفوظ "جونية" أي سوداء، قال: وأما "الحويتية" فلا أعرفها، وطالما بحثت عنها، فلم أقف لها على معنى، وقال صاحب التحرير في شرح مسلم: هي منسوبة إلى الحويت، وهو قبيلة أو موضع، والله أعلم. (وهو يسم الظهر الذي قدم عليه في الفتح) المراد بالظهر الإبل، سميت بذلك، لأنها تحمل

الأثقال على ظهورها، والمعنى: قدم عليه هو وأصحابه، وفي الرواية الثامنة "وهو يسم إبل الصدقة" وفي الرواية السادسة "يسم غنماً" وعند البخاري "وهو يسم شاة" وفي رواية له "شاء" جمع شاة، وكأنه كان يسم الإبل والغنم، فصادف أول دخول أنس وهو يسم شاة، ثم رآه يسم غير ذلك. (قال شعبة: أحسبه قال: في آذانها) الضمير في "أحسبه" لهشام بن زيد، وفي الرواية السادسة "قال شعبة: وأكثر علمي أنه قال: في آذانها" وفي كون الوسم في الآذان عدول عن الوسم في الوجه، قال النووي: "وأكثر علمي" روي بالثاء وبالباء، وهما صحيحان. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من أحاديث الباب]- 1 - من الرواية الأولى أخذ محمد بن الحسن، صاحب أبي حنيفة من النهي عن قلادة الوتر في رقبة البعير النهي عن كل ما يعرض الدابة للاختناق، أو يعوقها عن السير، أو تتأذى به. 2 - أخذ منه الخطابي النهي عن تعليق الجرس في رقبة الحيوان، فقد سبق قريباً حديث "لا تصحب الملائكة رفقة فيها جرس" وعند الدارقطني "لا تبقين قلادة من وتر، ولا جرس في عنق بعير إلا قطع". 3 - حمل النضر بن شميل المراد من الأوتار في هذا الحديث على الثأر، فقال: معناه: لا تطلبوا بها دخول الجاهلية، ونحا نحوه وكيع، فقال: المعنى: لا تركبوا الخيل في الفتن، فإن من ركبها لم يسلم أن يتعلق به وتر يطلب به. وهو تأويل بعيد وفاسد. 4 - قال مالك ما حاصله أظن أن النهي مختص بمن فعل ذلك بسبب رفع ضرر العين، وأما من فعل ذلك من زينة أو غيرها فلا بأس، ما لم يصل إلى الإسراف والخيلاء. وكانوا يقلدون الإبل الأوتار، لئلا تصيبها العين بزعمهم، فأمروا بقطعها، إعلاماً بأن الأوتار لا ترد من أمر الله شيئاً، ويؤيده ما أخرجه أبو داود "من علق تميمة فلا أتم الله له". قال ابن عبد البر: إذا اعتقد الذي قلدها أنها ترد العين، فقد ظن أنها ترد القدر، وذلك لا يجوز. اهـ وفيه نظر، إذ شأنها شأن الدعاء والصدقة التي تطفئ غضب الرب، ولعل مراده إذا اعتقد أنها ترد العين بذاتها وحدها، بدون التفويض إلى مشيئة الله. وقال النووي: قال القاضي: الظاهر من مذهب مالك أن النهي مختص بالوتر، دون غيره من القلائد، قال: وقد اختلف الناس في تقليد البعير وغيره [من الإنسان وسائر الحيوان] ما ليس بتعاويذ، مخافة العين، فمنهم من منعه قبل الحاجة إليه -أي قبل إصابة العين، أي للوقاية -وأجازه عند الحاجة إليه -أي بعد وقوع الضرر- لدفع ما أصابه من ضرر العين ونحوه، ومنهم من أجازه قبل الحاجة وبعدها، كما يجوز الاستظهار والتداوي قبل المرض -أي كالتطعيم عند الأوبئة- هذا كلام القاضي، اهـ وقال الحافظ ابن حجر: هذا كله في تعليق التمائم وغيرها، مما

ليس فيه قرآن ونحوه، فأما ما فيه ذكر الله فلا نهي فيه، فإنه إنما يجعل للتبرك به، والتعوذ بأسمائه وذكره. 5 - ومن الرواية الثانية النهي عن الضرب في الوجه، في كل الحيوان المحترم، كالحمير والخيل والإبل والبغال والغنم وغيرها، وفي وجه الآدمي أشد، لأن الوجه مجمع المحاسن، وبشرته لطيفة رقيقة، يظهر فيها أثر الضرب غالباً، وربما عابه. 6 - ومن الروايات الثانية والثالثة والرابعة النهي عن الوسم في الوجه بالإجماع، قال النووي: أما الآدمي فوسمه حرام، لكرامته، ولأنه لا حاجة إليه، فلا يجوز تعذيبه بدون مصلحة، وأما غير الآدمي فقال جماعة من أصحابنا: يكره، وقال البغوي من أصحابنا: لا يجوز، فأشار بذلك إلى تحريمه، وهو الأظهر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن فاعله [في روايتنا الثالثة] واللعن يقتضي التحريم. قال: وأما الوسم في غير الوجه من غير الآدمي فجائز عندنا بلا خلاف، لكن يستحب في نعم الزكاة والجزية -لكثرتها وخشية اختلاطها وضياعها- ولا يستحب في غيرها، ولا ينهي عنه. اهـ ثم قال: وإذا وسم غير الآدمي فيستحب أن يسم الغنم في آذانها، والإبل والبقر في أصول أفخاذها، لأنه موضع صلب، فيقل الألم فيه، ويخف شعره، ويظهر الوسم. قال: وفائدة الوسم تمييز الحيوان بعضه عن بعض، قال الشافعي وأصحابه: يستحب كون الميسم للغنم ألطف من ميسم البقر وميسم البقر ألطف من ميسم الإبل. ثم قال: وهذا الذي قلناه مذهبنا ومذهب الجماهير، وقال أبو حنيفة: هو مكروه، لأنه تعذيب ومثله، وقد نهى عن المثلة، وحجة الجمهور هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة التي ذكرها مسلم، وآثار كثيرة عن عمر وغيره من الصحابة -رضي الله عنهم- ولأنها ربما شردت، فيعرفها واجدها بعلامتها، فيردها، والجواب عن النهي عن المثلة والتعذيب أنه عام، وحديث الوسم خاص، فوجب تقديمه. اهـ 7 - ومن الوسم في الآذان، مع النهي عن الوسم في الوجه، أن الآذن ليست من الوجه. 8 - وفي الأحاديث جواز وسم البهائم بالكي، وخالف الحنفية، تمسكاً بعموم النهي عن التعذيب بالنار. 9 - وأنه ليس في فعله دناءة، ولا ترك مروءة، فقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم. 10 - وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من التواضع، وفعل الأشغال بيده. 11 - ونظره في مصالح المسلمين، والاحتياط في حفظ مواشيهم بالوسم وغيره. 12 - واستحباب تحنيك المولود. 13 - وحمل المولود عند ولادته إلى واحد من أهل الصلاح والفضل، يحنكه بتمرة، ليكون أول ما يدخل في جوفه ريق الصالحين، فيتبرك به. والله أعلم

(575) باب النهي عن القزع

(575) باب النهي عن القزع 4856 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن القزع. قال: قلت لنافع: وما القزع؟ قال: يحلق بعض رأس الصبي ويترك بعض. -[المعنى العام]- وفر الله شعر الرأس لبني آدم، كما خفف الشعر في بقية بدنه، ربما لأن فروة الرأس في حاجة إلى وقاية وغطاء كثيف، لتقي المخ من أضرار شدة الحر وشدة البرد، ثم كان هذا الشعر مظهراً من مظاهر الجمال والزينة للإنسان، وشرع الإسلام إكرام هذا الشعر، وكره الأشعث الأغبر، وحث على غسل هذا الشعر، ودهنه، وترجيله، والحفاظ على جماله، وقد سبق لنا دعوة الإسلام لصبغه عند الشيب. ولما كان شعر الرأس إذا ترك، دون قص، أو حلق يطول ويطول، شرع الحلق أو التقصير عند الخروج من شعائر الحج أو العمرة، ولما كان هذا الشعر من محاسن المرأة اعتبره الشرع جزءاً من عورتها، لا تحل رؤيته إلا لمن أحلها الله له. واختلفت الأعراف والعادات بين بني البشر، في طول شعر الرأس أو تقصيره أو حلقه، ربما للاختلاف في الحرارة والبرودة، وربما لمجرد التقاليد، والتقاليد في جهة كثيراً ما تكون غير مرضية في جهة أخرى، وقد يأنف قوم من هيئة شعر قوم آخرين. بل قد تتغير عادة شعب من الشعوب في زمن عنها في زمن آخر، فتكون "الموضة" في عصر تقصير شعر النساء، وتطويل شعر الرجال، بعد أن كان العكس، وقد تكون "الموضة" في عدم التفرقة بين شعر الرجال وشعر النساء في التقصير. والمتتبع لشعور الرجال والنساء عند العرب قبل وفي صدر الإسلام يجد المرأة العربية تشتهر وتفخر بطول شعرها، وتعني به كل عناية، تجدله وتضفره ضفائر رقيقة، أو ضفيرتين غليظتين، أو ترسله على ظهرها، أو تربطه، أو تجعله هرماً فوق رأسها، ومازال الكثيرات من نساء المسلمين تتفنن في تشكيل شعرهن الجميل.

أما صبيان العرب قبل البلوغ، فكان الآباء يحلقون لأبنائهم على رغبات مختلفة، حلق الجميع، أو ترك الجميع، أو عمل القصة، أو عمل الذؤابة، أو حلق جزء وبقاء جزء، ولعل هذا النوع الأخير كان عرضة لتجمع الأوساخ في الجزء الطويل، لإهماله بسبب ما حوله من شعر قصير، فنهي عنه على أنه القزع، ولعل البعض كان يغرب في التشكيل، حتى تمجه العادة، فتسقط به المروءة فنهي عنه. أما رجال العرب فكان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم، وكان المشركون يفرقون، وكان صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، فسدل النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كان يحب مخالفة أهل الكتاب، ففرق شعره، وكان شعره صلى الله عليه وسلم رجلاً، ليس بالسبط الناعم، ولا الجعد، وكان طويلاً وفيراً يصل أحياناً إلى كتفيه، وكان يقصه أحياناً، فلا يجاوز الأذنين. أما الصحابة فمنهم من كان يفرق شعره فرقتين، يضفر ويجدل كل واحدة منهما، أو يسدلها، ومنهم من كان يسدل من غير فرق، ولم يعب أحد منهم على الآخر. وهكذا كان شعر الرأس ومازال أمراً ميسوراً، لا يخضع إلا لقواعد عدم الوصل، وعدم الخداع، وعدم المبالغة، وعدم مخالفة العرف مخالفة جارحة للمروءة. والله أعلم. -[المباحث العربية]- (نهى عن القزع) بفتح القاف والزاي، جمع قزعة، وهي القطعة من السحاب، وسمي شعر الرأس إذا حلق بعضه وترك بعضه قزعاً تشبيهاً بالسحاب المتفرق. وفي كتب اللغة: قزع الكبش ونحوه -بفتح القاف وكسر الزاي- يقزع بفتح الزاي، قزعاً- سقط بعض صوفه، وبقي بعضه، متفرقاً، وقزع الصبي إذا حلق رأسه، وترك بعض الشعر متفرقاً في مواضع منه، فهو أقزع، وهي قزعاء، والقزعة بفتح القاف وتشديد الزاي المفتوحة خصل من الشعر، تترك على رأس الصبي، كالذوائب، متفرقة في نواحي الرأس، وتطلق على القليل من الشعر في وسط الرأس. وقد فسره الراوي في روايتنا بأنه حلق بعض رأس الصبي، وترك بعضه مطلقاً، قال النووي: ومنهم من قال: هو حلق مواضع متفرقة منه. قال: والصحيح الأول، لأنه تفسير الراوي، وهو غير مخالف للظاهر، فوجب العمل به. اهـ وقد روى البخاري "قال عبيد الله: قلت: وما القزع؟ فأشار لنا عبيد الله، قال: إذا حلق الصبي وترك ههنا شعرة، وههنا، وههنا، فأشار لنا عبيد الله إلى ناصيته، وجانبي رأسه" فهذا تفسير آخر للراوي، وهو مقيد، وما رجحه النووي مطلق، فينبغي حمل المطلق على المقيد، بل لقد حدد الراوي في رواية البخاري ما أشار إليه بههنا وههنا وههنا بقوله "ولكن القزع أن يترك بناصيته شعر -وليس في رأسه غيره- وكذلك شق رأسه هذا وهذا" فهو بهذا حلق مواضع معينة من الرأس، وترك مواضع معينة متفرقة منه، وقد جاء تفسير ثالث للقزع عند أبي داود عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القزع، وهو أن يحلق رأس الصبي ويتخذ له ذؤابة".

(قال: قلت لنافع: وما القزع؟ قال ... ) أي قال نافع، فتفسير القزع على هذا لنافع، والسائل له عبيد الله، وفي الرواية الأخرى جعل تفسير القزع من قول عبد الله، ناقلاً عن شيخه عمر بن نافع، مشيراً إلى أماكنه. قال الكرماني: حاصله أن عبيد الله قال: قلت لشيخي عمر بن نافع: ما معنى القزع؟ فقال: إنه إذا حلق رأس الصبي يترك ههنا شعر، وههنا شعر، فأشار عبيد الله إلى ناصيته، وطرفي رأسه، يعني فسر "ههنا" الأول بالناصية، والثانية والثالثة بجانبي الرأس. و"عبيد الله" هو عبيد الله بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، وهو وتلميذه في هذا الحديث ابن جريج وشيخه عمر بن نافع أقران متقاربون في السن واللقاء والوفاة، واشترك الثلاثة في الرواية عن نافع. (وفي رواية إلحاق تفسير القزع في الحديث) يعني إدراجه، ولم يسق مسلم لفظه، وقد أخرجه أحمد، ولفظه "نهى عن القزع، والقزع أن يحلق .... " فذكر التفسير مدرجاً. -[فقه الحديث]- قال النووي: أجمع العلماء على كراهة القزع، إذا كان في مواضع متفرقة، إلا أن يكون لمداواة ونحوها، قال: وهي كراهة تنزيه، وكرهه مالك في الجارية والغلام مطلقاً، وقال بعض أصحابه: لا بأس به في القصة والقفا للغلام، قال: ومذهبنا كراهته مطلقاً للرجل والمرأة، لعموم الحديث. اهـ ومع أن النووي -رحمه الله- قد أوضح الحكم عند الشافعية بأنه كراهة تنزيه إلا أن تعميم هذه الكراهة لكل من حلق بعض رأسه، وترك بعضاً من غلام وجارية ورجل وامرأة، تعميم لا تظهر حجته، فالراوي الذي فسره بحلق البعض وترك البعض مطلقاً قال "رأس الصبي" فما الذي أطلقه، حتى شمل الجارية والرجل والمرأة؟ بل يؤكد هذا القيد ما أخرجه أبو داود والنسائي "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى صبياً قد حلق بعض رأسه، وترك بعضه، فنهاهم عن ذلك". بل رواية البخاري لحديثنا تؤكد أن قيد "الصبي" له مدخل، ففيها "قال عبيد الله: إذا حلق الصبي وترك ههنا شعرة، وههنا، وههنا -فأشار لنا عبيد الله إلى ناصيته وجانبي رأسه. قيل لعبيد الله: فالجارية والغلام"؟ يعني قيل لعبيد الله: فالجارية والغلام في ذلك سواء؟ "قال: لا أدري، هكذا قال: الصبي" يعني لكن الذي قاله هو لفظ "الصبي" قال الكرماني: ولا شك أنه ظاهر في الغلام. كما أن التعميم لجميع أجزاء الرأس الذي بناه على تفسير الراوي للقزع قابله تفسير آخر للراوي عمر بن نافع فعند البخاري في الحديث نفسه "قال عبيد الله: وعاودته" أي عاودت عمر بن نافع "فقال: أما القصة" والمراد بها شعر الصدغين "والقفا" أي وشعر القفا "للغلام فلا بأس بهما" أي لا بأس بحلقهما "ولكن القزع أن يترك بناصيته شعر، وليس في رأسه غيره، وكذلك شق رأسه، هذا وهذا" فهذا التفسير للقزع لا يعممه في أجزاء الرأس المختلفة، بل يحدد مواضع الحلق والترك.

على أن الذؤابة -وهي خصلة من شعر، تترك دون حلق، مع حلق ما حولها -كانت شائعة كثيرة، أقرها صلى الله عليه وسلم، فعند البخاري "عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: بت ليلة عند ميمونة بنت الحارث، خالتي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها في ليلتها، قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل، فقمت عن يساره، قال: فأخذ بذؤابتي، فجعلني عن يمينه" وأخرج أبو داود من حديث أنس "كانت لي ذؤابة، فقالت أمي: لا أجزها، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمدها ويأخذ بها" وأخرج النسائي بسند صحيح، عن زياد بن حصين عن أبيه "أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فوضع يده على ذؤابته، وسمت عليه، ودعا له" ومن حديث ابن مسعود -وأصله في الصحيحين- قال "قرأت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة، وإن زيد بن ثابت لمع الغلمان، له ذؤابتان". على أن علة النهي عن القزع قد اختلفوا فيها، وكلها تمس ولا تدعك، فقد قيل: إنها التشويه للخلقة، وقيل: لأن القزع زي الشيطان، وقيل: لأنه زي اليهود، وقيل: لأنه زي أهل الشر والدعارة. والذي أميل إليه أن النهي عن القزع كان لمنظر خاص من شعر صبي -ربما غير المألوف- أما ما يجرى هذه الأيام من حلق القفا، وتخفيف العارضين وحول الأذنين، فلا بأس به، ولا يدخل في النهي عن القزع، بقي حلق جميع الرأس، وترك شعر جميع الرأس، وقد ادعى ابن عبد البر الإجماع على إباحة حلق الجميع، وهو رواية عن أحمد، وروي عنه أنه مكروه، لما روي عنه أنه من وصف الخوارج، وقال الغزالي في الإحياء: لا بأس بحلق جميع الرأس، لمن أراد التنظيف، ولا بأس بتركه، لمن أراد أن يدهن ويترجل. والله أعلم

(576) باب النهي عن الجلوس في الطرقات

(576) باب النهي عن الجلوس في الطرقات 4857 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والجلوس في الطرقات" قالوا: يا رسول الله، ما لنا بد من مجالسنا. نتحدث فيها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا أبيتم إلا المجلس، فأعطوا الطريق حقه" قالوا: وما حقه؟ قال: "غض البصر. وكف الأذى. ورد السلام. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". -[المعنى العام]- كانت بيوت العرب واسعة، لها أفنية على الطرقات، وكثيراً لا تكون لها أبواب، وكثيراً ما يكون لها مصاطب على الطريق، وهم قوم يقل انشغال أوقاتهم بالرزق، فمجال الكسب محدود، فكانوا يشغلون أوقات الفراغ الكثيرة بالتجمع جماعات جماعات على صعدات [بضم الصاد والعين جمع صعيد، وهو المكان المتسع] على الطريق، وفي هذا الوضع إيذاء للمارة في الطريق، وطرقهم التي تنقلهم إلى أعمالهم وإلى قضاء مصالحهم محدودة، ليس من السهل استخدام بديل لأماكن الجالسين، وكيف والجلوس في الطرقات يعمها في الغالب الكثير؟ . إذن اتقاء الضرر إنما يكون بمنع الجلوس على الطرقات، لا بمنع المرور فيها، فكان الأمر الحكيم: إياكم والجلوس على الطرقات، والحكيم عليم بأن هذا الأمر صعب التنفيذ، لكنه أصدره ليطلبوا التخفيف، فتظهر منة الشارع في الرأفة بهم، ولينصاعوا للأمر الآخر المترتب على التخفيف انصياع من خفف عنه، ومنح التيسير قالوا: ما لنا مفر من الجلوس على الطرقات، إنها المكان الوحيد الذي نتحدث فيه في مصالحنا وأمورنا، إنها مكان التجمع الميسور البعيد عن حرج النساء في البيوت. فقال صلى الله عليه وسلم: إذا أبيتم إلا الجلوس على الطرقات، فاحذروا إيذاء المارة بالنظر والغمز واللمز والغيبة والنميمة وكشف العورات وسوء الظن والتضييق عليهم ومعاكستهم، بل ليكن وجودكم على طريقهم إحساناً منكم لهم، تردون سلامهم، وتشمتون من يعطس ويحمد منهم، وترشدون ضالهم، وتنقذون مكروبهم، وتنصفون مظلومهم، وتردون ظالمهم، وتغيثون مستغيثهم وملهوفهم، وتساعدون محتاجهم، وتأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر. -[المباحث العربية]- (إياكم والجلوس في الطرقات) أسلوب تحذير: وأصله: أحذركم الخطأ، وأحذركم الجلوس

في الطرقات، أضمر الفعل وجوباً، لكثرة الاستعمال، فانفصل ضمير المفعول، فصار إياكم، وحذف المفعول الثاني "الخطأ" وبقي المعطوف "والجلوس" وعبر بفي، والأصل "على الطرقات" لإفادة القرب والظرفية، وفي رواية "على الطرقات" وفي رواية "بالطرقات" والطرقات بضم الطاء والراء جمع طرق، بضمها أيضاً، وطرق جمع طريق. (فقالوا: يا رسول الله، ما لنا بد من مجالسنا) "بد" بضم الباء وتشديد الدال، العوض، أي ما لنا عوض عنها، فهي مجالسنا، ومن معانيه الفرار، يقال: لا بد منه، أي لا مفر، والمعنى عليه: لا مفر لنا من مجالسنا" أي لا مفر لنا من الجلوس في الطرقات، ولا غنى عنها، لأنها مجالسنا. (نتحدث فيها) حديثاً مشروعاً، جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً، كأن سائلاً سأل: ماذا تفعلون فيها؟ فقيل: نتحدث الأحاديث المشروعة، وفي حديث أبي طلحة "فقالوا: إنما قعدنا لغير ما بأس، قعدنا نتحدث ونتذاكر". (فإذا أبيتم إلا المجلس) كذا الرواية "إلا المجلس" بكسر اللام، أي إلا جعلها مكاناً للجلوس، ورواها بعضهم بفتح اللام، مصدر ميمي، أي الجلوس، وفي رواية "فإذا أتيتم إلى المجالس" من الإتيان، وفي رواية "فإن أبيتم إلا أن تفعلوا" وفي حديث "إما لا" بكسر الهمزة، و"لا" نافية، ومعناه: إلا تتركوا ذلك فافعلوا كذا. (فأعطوا الطرق حقه) في رواية "حقها" والطريق يذكر ويؤنث، وفي رواية أحمد "فمن جلس منكم على الصعيد فليعطه حقه". (وما حقه؟ ) في رواية "وما حق الطريق"؟ . (غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) زاد في رواية "وحسن الكلام" وفي رواية "وإرشاد ابن السبيل، وتشميت العاطس إذا حمد" وفي رواية "وتغيثوا الملهوف، وتهدوا الضال" وفي رواية "وإرشاد الضال" وعند أحمد والترمذي "اهدوا السبيل، وأعينوا المظلوم، وأفشوا السلام"، وعند البزار: "وأعينوا على الحمولة"، وعند الطبراني: "ذكر الله كثيراً" وعنده أيضاً "واهدوا الأغبياء، وأعينوا المظلوم". -[فقه الحديث]- قال النووي: هذا من الأحاديث الجامعة، وأحكامه ظاهرة، وينبغي أن يجتنب الجلوس في الطرقات، لهذا الحديث، ويدخل في كف الأذى اجتناب الغيبة، وظن السوء، واحتقار بعض المارة، وتضييق الطريق، وكذا إذا كان القاعدون ممن يهابهم المارون، أو يخافون منهم، ويمتنعون من المرور لأشغالهم بسبب ذلك، لكونهم لا يجدون طريقاً إلا ذلك الموضع. اهـ ومثل الجلوس في الطرقات الجلوس في أفنية البيوت المفتوحة على الطرقات،

والوقوف في نوافذ البيوت على الطرقات والجلوس في "البلكون" ومثل الجلوس الوقوف، والمشي في الطريق لغير حاجة. والحكمة في كل ذلك سد الذرائع، لأن التعرض للمحرمات يوقع فيها، فندبهم الشارع إلى ترك الجلوس حسماً للمادة. ولم يكن جوابهم اعتراضاً على الحكم، بل كان التماساً للتخفيف، وتقدير الحاجة والضرورة، قال القاضي عياض: فيه دليل على أن أمره لهم لم يكن للوجوب، وإنما كان على طريق الترغيب والأولى، إذ لو فهموا الوجوب لم يراجعوه هذه المراجعة، وقد يحتج به من لا يرى الأوامر على الوجوب. اهـ قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكونوا رجوا وقوع النسخ، تخفيفاً لما شكوا من الحاجة إلى ذلك، ويؤيده أن في مرسل يحيى بن يعمر "فظن القوم أنها عزمة". اهـ والله أعلم

(577) باب الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله والمتشبع بما لم يعط

(577) باب الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله والمتشبع بما لم يعط 4858 - عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إن لي ابنة عريساً، أصابتها حصبة، فتمرق شعرها. أفأصله؟ فقال: "لعن الله الواصلة والمستوصلة". 4859 - وفي رواية عن هشام بن عروة. بهذا الإسناد. نحو حديث أبي معاوية، غير أن وكيعاً وشعبة في حديثهما: فتمرط شعرها. 4860 - عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إني زوجت ابنتي، فتمرق شعر رأسها. وزوجها يستحسنها. أفأصل يا رسول الله؟ فنهاها. 4861 - عن عائشة رضي الله عنها أن جارية من الأنصار تزوجت. وأنها مرضت فتمرط شعرها. فأرادوا أن يصلوه. فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. فلعن الواصلة والمستوصلة. 4862 - عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة من الأنصار زوجت ابنة لها. فاشتكت فتساقط شعرها. فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن زوجها يريدها. أفأصل شعرها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لعن الواصلات".

4863 - وفي رواية عن إبراهيم بن نافع، بهذا الإسناد وقال: لُعن الموصلات. 4864 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "لعن الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة". 4865 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله. قال: فبلغ ذلك امرأة من بني أسد، يقال لها أم يعقوب، وكانت تقرأ القرآن. فأتته فقالت: ما حديث بلغني عنك، أنك لعنت الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله؟ فقال عبد الله: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في كتاب الله. فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته. فقال: لئن كنت قرأتيه، لقد وجدتيه. قال الله عز وجل {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر/ 7]. فقالت المرأة: فإني أرى شيئاً من هذا على امرأتك الآن. قال: اذهبي فانظري. قال: فدخلت على امرأة عبد الله. فلم تر شيئاً فجاءت إليه. فقالت: ما رأيت شيئاً. فقال: أما لو كان ذلك لم نجامعها. 4866 - وفي رواية عن منصور، في هذا الإسناد بمعنى حديث جرير، غير أن في حديث سفيان: الواشمات والمستوشمات. وفي حديث مفضل: الواشمات والموشومات. 4867 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: زجر النبي صلى الله عليه وسلم أن تصل المرأة برأسها شيئاً.

4868 - عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، أنه سمع معاوية بن أبي سفيان عام حج وهو على المنبر، وتناول قصة من شعر -كانت في يد حرسي- يقول يا أهل المدينة، أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذه. ويقول: "إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم". 4869 - وفي رواية عن الزهري، بمثل حديث مالك، غير أن في حديث معمر "إنما عذب بنو إسرائيل". 4870 - عن سعيد بن المسيب قال: قدم معاوية المدينة، فخطبنا، وأخرج كبة من شعر فقال: ما كنت أرى أن أحداً يفعله إلا اليهود. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه فسماه الزور. 4871 - عن سعيد بن المسيب، أن معاوية قال: ذات يوم إنكم قد أحدثتم زي سوء. وإن نبي الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الزور. قال: وجاء رجل بعصا على رأسها خرقة. قال معاوية: ألا وهذا الزور. قال قتادة: يعني ما يكثر به النساء أشعارهن من الخرق. 4872 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صنفان من أهل النار لم أرهما. قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس. ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة. لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها. وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا". 4873 - عن عائشة رضي الله عنها، أن امرأة قالت: يا رسول الله، أقول إن زوجي أعطاني ما لم يعطني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور".

4874 - عن أسماء رضي الله عنها جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن لي ضرة، فهل علي جناح أن أتشبع من مال زوجي بما لم يعطني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور". -[المعنى العام]- كانت النساء عند العرب قبل الإسلام على ثلاث طوائف: الجواري وتباع وتشترى، وتمتهن، وتؤجر كبغايا، وفيهن نزل قوله تعالى: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا} [النور: 33] وكن يخرجن شبه عاريات، فعورتهن ما بين السرة والركبة، وكن يوصلن شعورهن ويستوشمن ويتنمصن ويتفلجن، ويبالغن في التجمل للسيد ولغيره. الطائفة الثانية السواقط والفواجر من غير الجواري، وكن كثيرات، تقول عائشة -كما في البخاري- "إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فنكاح منها نكاح الناس اليوم، يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته، فيصدقها ثم ينكحها. ونكاح آخر: كان الرجل يقول لامرأته، إذا طهرت من طمثها: أرسلي إلى فلان، فاستبضعي منه، ويعتزلها زوجها، ولا يمسها أبداً، حتى يتبين حملها من ذلك الرجل، الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع، ونكاح آخر يجتمع الرهط، ما دون العشرة، فيدخلون على المرأة، كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت، ومر ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع أحد منهم أن يمتنع، حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت، فهو ابنك يا فلان، تسمي من أحبت باسمه، فيلحق به ولدها، لا يستطيع أن يمتنع به الرجل، ونكاح الرابع يجتمع الناس الكثير، فيدخلون على المرأة، لا تمنع من جاءها، وهن البغايا، كن ينصبن على أبوابهن رايات، تكون علماً، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن، ووضعت حملها جمعوا لها، ودعوا لهم القافة، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم بالحق، هدم نكاح الجاهلية كله، إلا نكاح الناس اليوم". وكانت الحرائر العفيفات، ذوات الحسب، يعتبرن ما عدا نكاح الإسلام زنا يستقبحنه ويمقتنه، وبهذا جاءت شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فكان فيما جاء في بيعة النساء "ولا يزنين" فقالت هند امرأة أبي سفيان بتعجب: وهل تزني الحرة؟ أي لا تزني العفيفة المحصنة الأصيلة، بل كان هذا الصنف لا ينكشفن أمام الرجال الأجانب، بل لا يخرجن لحاجتهن إلا بليل، بخلاف الفواجر، ذوات الأنكحة

الثلاثة الأخيرة، فقد كن يتعرضن للرجال بكل أنواع الزينة من وصل الشعر، والوشم، والنمص، وتفلج الأسنان، وتغيير خلقتهن بشتى أنواع الزينة والتجمل والتبرج، وفي هذا يقول القرآن الكريم {ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} [الأحزاب: 33]. كان لا بد أن يدعو الإسلام للفضيلة، وأن يحارب الرذيلة بأسبابها ومظاهرها، فنهى أن تصل المرأة بشعر رأسها شيئاً، تتجمل به لغير الزوج، أو تغش وتخدع به الزوج، فلعن الواصلة ولعن من تعينها وتساعدها على الوصل. ولعن الواشمة، التي تصنع الوشم في وجهها، تجمل بها نفسها لغير زوجها، ولعن من تعينها على ذلك، ومن يصنع لها ذلك. ولعن النامصة، التي ترقق حواجبها، بنتف شعرات منها، وتزجج عيونها، وتزيل شعر وجهها للحسن والتجميل لغير الزوج، ولعن من تعينها، وتساعدها على ذلك. ولعن التي تفلج أسنانها بالمبرد ونحوه، تسويها، وتفرق بينها، طلباً للحسن والجمال، لغير الزوج، ولعن المغيرات لخلقتهن التي خلقها الله طلباً للحسن والجمال غير المشروع. إن الله جميل يحب الجمال، وإن الإسلام نظيف، يدعو إلى النظافة بشتى أنواعها، وقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وفي أجمل صورة بالنسبة للحيوان مثلاً، لكنه خلق فيه بعض الأشياء التى طلب منه أن يغيرها بنفسه، ويهذبها بيده، لينال بذلك أجر العمل بشرعه، طلب منه أن يقص أظافره، وأن ينتف شعر الإبط، وأن يحلق شعر العانة، وجعل ذلك من الفطرة الإسلامية، بل طلب منه أن يزيل الأذى عن نفسه، وأن يأخذ زينته عند كل مسجد، وأن تتزين المرأة لزوجها بكل ما تملك من زينة، وأن يتزين الرجل لزوجته، بإزالة الروائح الكريهة وبالاغتسال وجميل الثياب، وبالطيب وبحلاقة ما يستكره من شعر، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم "من كان له شعر فليكرمه" وأن يكون مع زوجته بالحالة التي يحب أن تكون هي عليها، فهي تحب منه ما يحب منها، وليس في شيء من ذلك تغيير لخلق الله تغييراً منهياً عنه، أو تغييراً يعاقب عليه. لكن إذا تحول هذا التغيير إلى أن يكون وسيلة لحرام منع، لا لذاته، ولكن لما يجره من محرم، فالوسيلة تأخذ حكم الغاية. وعلى ضوء هذا نفهم أحاديثنا، من لعن الواصلات والمستوصلات والطالبات للحسن لغير الزوج والواشمات والمستوشمات الطالبات للحسن لغير الزوج. والنامصات والمتنمصات الطالبات للحسن لغير الزوج. والمتلفجات للحسن لغير الزوج. وأمثالهن من واضعات المساحيق للحسن لغير الزوج. وواضعات الطيب للتبرج وجذب انتباه غير الزوج.

ولابسات الشفاف والضيق لغير الزوج. والضاربات بالأرجل ورفع الأصوات الناعمة والضحكات الرقيقة لغير الزوج. فكل ذلك شباك صيد، إن وجهت إلى الحلال، وأنتجت حلالاً فهي حلال. وإن وجهت إلى الحرام، وأنتجت حراماً فهي حرام. والله الهادي سواء السبيل. -[المباحث العربية]- (إن لي ابنة عريساً) بضم العين وفتح الراء وتشديد الياء المكسورة، تصغير عروس، والعروس يقع على المرأة والرجل عند الدخول بها، والمراد هنا أنها عقد عليها، ولما تدخل، وفي الرواية الثانية "فقالت: إني زوجت ابنتي" أي عقد قرانها، وفي الرواية الثالثة "أن جارية من الأنصار تزوجت" أي عقد عليها. (أصابتها حصبة) بفتح الحاء وسكون الصاد، ويجوز فتحها وكسرها، والإسكان أشهر، وهي بثرات حمر، تخرج في الجلد متفرقة وهي نوع من الجدري، وفي رواية "أصابها" بالتذكير، على إرادة "حب الحصبة"، وفي الرواية الثالثة "وأنها مرضت" وفي الرواية الرابعة "فاشتكت". (فتمرق شعرها) أي شعر رأسها، كما في الرواية الثانية، قال النووي: أما تمرق فبالراء المهملة، وهو بمعنى تساقط -كما في الرواية الرابعة- وفي ملحق الرواية الأولى "فتمرط" وكذا في الرواية الثالثة- قال: ولم يذكر القاضي في الشرح إلا الراء المهملة، كما ذكرنا، وحكاه في المشارق عن جمهور الرواة، ثم حكي عن جماعة من رواة صحيح مسلم أنه بالزاي المعجمة -روايتنا الثانية- قال: وهذا وإن كان قريباً من معنى الأول، ولكنه لا يستعمل في الشعر في حال المرض. (أفأصله؟ ) الاستفهام حقيقي، والفاء عاطفة على محذوف، أي أيحل وصل الشعر؟ فأصله؟ وفي الرواية الثانية "أفأصل"؟ وفي الرواية الثالثة "فأرادوا أن يصلوه، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك" أي أرادت أمها وقريباتها وصديقاتها أن يصلوه، والسائلة أمها، ونسب السؤال لجماعتهن "فسألوا" على أساس أن الراضي شريك في الفعل، كقوله {فعقروا الناقة} [الأعراف: 77] ففي الرواية الرابعة "فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن زوجها يريدها" تبين سبب الحاجة إلى الوصل، والعذر فيه، وفي الرواية الثانية "وزوجها يستحسنها" قال النووي: هكذا وقع في جماعة من النسخ، بإسكان الحاء، بعدها سين مكسورة، بعدها نون، من الاستحسان، أي يستحسنها، فلا يصبر على بعدها، ويطلب تعجيلها إليه -أي وهو لا يعلم ما أصابها- ووقع في كثير من النسخ "يستحثنيها" بكسر الحاء، بعدها ثاء، ثم نون، ثم ياء، من الحث، وهو سرعة الشيء -أي يستحثني الإسراع بالدخول- وفي بعض النسخ "يستحثها" أي يطلب حثها على الإسراع بالدخول.

(لعن الله الواصلة والمستوصلة) الجملة خبرية لفظاً ومعنى، وهو صريح في حكاية ذلك عن الله تعالى، وتحمل عليه الروايات الأخرى، ويستغنى بذلك عن استنباط ابن مسعود في الرواية السادسة، أو خبرية لفظاً دعائية معنى، والأول أولى، واللعن الطرد من رحمة الله، أو الإبعاد من الخير، أو العذاب، والمراد من الواصلة هنا، التي تصل شعر الرأس، سواء كان لنفسها أو لغيرها، والمستوصلة التي تطلب فعل ذلك لنفسها، ويفعل بها، فالسين والتاء للطلب، وفي رواية النسائي "والموتصلة" وفي رواية "والموصولة" وفي الرواية السابعة "زجر النبي صلى الله عليه وسلم أن تصل المرأة برأسها -أي بشعر رأسها شيئاً". (والواشمة والمستوشمة) المراد من الواشمة التي تفعل الوشم، سواء كان لنفسها أم لغيرها، والمستوشمة التي تطلب فعل ذلك لنفسها، ويفعل بها، وفي الرواية السادسة "الواشمات والمستوشمات" بالجمع، وفي ملحقها "الواشمات والموشمات" والوشم بفتح الواو، وسكون الشين أن يغرز في العضو إبرة أو نحوها، حتى يسيل الدم، ثم يحشى بنورة أو غيرها، فيخضر، وقال أبو داود في السنن: الواشمة التي تجعل الخيلان في وجهها بكحل أو مداد. اهـ قال الحافظ ابن حجر: وذكر الوجه للغالب، وليس قيداً، وأكثر ما يكون في الشفة، وقد يكون في اللثة، أي اللحم الذي فوق الأسنان، وقد يكون في اليد أو غيرها من الجسد، وقد يكون نقشاً، وقد يجعل دوائر، وقد يكتب اسم المحبوب، أو اسم الشخص نفسه، أو صوراً ورموزاً. (والنامصات والمتنمصات) النامصة هي التي تزيل الشعر من الوجه، لنفسها، أو لغيرها، والمتنمصة هي التي تطلب ذلك لنفسها، ويفعل بها، أو التي تتكلف ذلك، وحكى ابن الجوزي "متمنصة" بتقديم الميم على النون، والنماص إزالة شعر الوجه بالمنقاش -الملقاط- ويقال: إن النماص يختص بإزالة شعر الحاجبين، لترقيقهما، أو تسويتهما، قال أبو داود في السنن: النامصة التي تنقص الحاجب حتى ترقه. (والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله) "المتفلجات" جمع متفلجة، وهي التي تطلب الفلج لنفسها، ويفعل بها، أو تصنعه لنفسها، وتتكلفه، والفلج انفراج ما بين الثنيتين، والتفلج أن يفرد بين المتلاصقين بالمبرد ونحوه، وهو مختص عادة بالثنايا، والرباعيات، ويستحسن من المرأة تصنعه من تكون أسنانها متلاصقة لتكون مفلجة حسنة، وقد تفعله كبيرة السن، لتبدو صغيرة، لأن الصغيرة غالباً تكون مفلجة، جديدة السن، ويذهب ذلك في الكبر، وتحديد الأسنان، وتسويتها من أعلى يسمى الوشر، وقد ثبت النهي عنه أيضاً. واللام في "للحسن" للتعليل، أي لأجل الحسن والتجمل، وهل يتعلق ذلك بالواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات، على سبيل التنازع؟ أو يتعلق بالمتفلجات؟ احتمالان، ويفهم منه أن الذم خاص بمن فعل ذلك للحسن، دون من احتاجت إلى ذلك لسبب آخر. وسيأتي توضيح ذلك في فقه الحديث.

و"المغيرات خلق الله" قال الحافظ ابن حجر: صفة لازمة لمن يصنع الوشم والنمص والفلج، وكذا الوصل على إحدى الروايات. اهـ أي في كل ذلك تغيير لخلق الله، فهي صفة كاشفة، وليست مقيدة، كما في "للحسن". (وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ) الاستفهام إنكاري، بمعنى النفي، دخل على نفي، ونفي النفي إثبات، أي حق لي أن ألعن من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. (لقد قرأت ما بين لوحي المصحف، فما وجدته) في رواية "لقد قرأت ما بين اللوحين، فما وجدته" والمراد من اللوحين ما يجعل المصحف فيه، وكانوا يكتبون المصحف في الرق، ويجعلون له دفتين من خشب، ويراد به اليوم الجلد والغلاف، أي قرأت المصحف كله من أوله إلى آخره، فما وجدت هذا اللعن. (لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه) كذا بإثبات الياء في "قرأتيه" و"وجدتيه" وهي لغة، والأفصح حذفها في خطاب المؤنث في الماضي. (فإني أرى شيئاً من هذا على امرأتك الآن) "أرى" بمعنى أظن وأعتقد، ومرادها من الإشارة شيئاً من النمص، لأنه الذي قد يظهر، وقد يختفي، وقد يظن لعدم كثرة الشعر. (قال: اذهبي، فانظري) أي اذهبي إليها، وانظريها، وارجعي إلي، وأخبريني، زاد الطبراني "فقال عبد الله: ما حفظت وصية شعيب إذا" يعني قوله تعالى، حكاية عن شعيب -عليه السلام- {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} [هود: 88] أي لئن صح قولك لكنت قد خالفتكم إلى ما أنهاكم عنه. (فلم تر شيئاً) أي من ذلك الذي ظنته. (أما لو كان ذلك لم نجامعها) "أما" حرف استفتاح، قال النووي: قال جماهير العلماء: معناه: لم نصاحبها ولم نجتمع نحن وهي، بل كنا نطلقها ونفارقها، وجمع الضمير لتعظيم نفسه، لأنه يملك ذلك، قال القاضي: ويحتمل أن معناه: لم أطأها، وهذا ضعيف، والصحيح ما سبق. (سمع معاوية بن أبي سفيان، عام حج، وهو على المنبر) في الرواية التاسعة "قدم معاوية المدينة، فخطبنا" وفي رواية للبخاري "قدم معاوية المدينة آخر قدمة قدمها" قال الحافظ ابن حجر: كان ذلك سنة إحدى وخمسين، وهي آخر حجة حجها في خلافته. (وتناول قصة من شعر، كانت في يد حرسي) "قصة" بضم القاف وتشديد الصاد، وهي شعر الناصية، قال الأصمعي وغيره: هي شعر مقدم الرأس، المقبل على الجبهة، وقيل: الخصلة من الشعر مطلقاً، وهو الأقرب للمراد هنا، وفي الرواية التاسعة "وأخرج كبة من شعر" والكبة بضم الكاف وتشديد الباء، شعر مكفوف، بعضه على بعض، و"حرسي" بفتح الحاء والراء وكسر السين وتشديد

الياء، أي جندي وشرطي، مفرد حرس، بدون الياء، قال الجوهري: هم الذين يحرسون السلطان، والواحد حرسي، لأنه قد صار اسم جنس، فنسب إليه. زاد الطبراني "قال: أي الحرس -وجدت هذه عند أهلي، وزعموا أن النساء يزدنه في شعورهم". (يا أهل المدينة، أين علماؤكم؟ ) يحتمل أن يكون استفهاماً عن وجود ذواتهم في المدينة، إشارة إلى قلة العلماء يومئذ بالمدينة، على أساس أن غالب الصحابة كانوا يومئذ قد ماتوا، قاله الحافظ ابن حجر، واعترض عليه العيني بأن فيه بعداً، إذ كانت المدينة آنذاك دار العلم، ومعدن الشريعة، وإليها يهرع الناس في أمر دينهم، ويحتمل أن يكون استفهاماً عن عملهم بعلمهم، إذ عد من لا يعمل بعلمه في حكم العدم، والأصل أين علم علمائكم؟ ولماذا لم يأمروا بالمعروف؟ وينهوا عن المنكر؟ . واعتذر الحافظ ابن حجر عنهم، باحتمال أن يكونوا قد تركوا الإنكار، إما لاعتقاد عدم التحريم ممن بلغه الخبر، فحمله عن كراهة التنزيه، أو كان يخشى من سطوة الأمراء في ذلك الزمان على من يستبد بالإنكار، لئلا ينسب إلى الاعتراض على أولي الأمر، أو كانوا ممن لم يبلغهم الخبر أصلاً، أو بلغ بعضهم، لكن لم يتذكروه، حتى ذكرهم به معاوية. قال: فكل هذه أعذار ممكنة لمن كان موجوداً إذ ذاك من العلماء، قال: وأما من حضر خطبة معاوية، وخاطبهم بقوله: أين علماؤكم؟ فلعل ذلك كان في خطبة غير الجمعة، ولم يتفق أن يحضره إلا من ليس من أهل العلم، فقال: أين علماؤكم؟ لأن الخطاب بالإنكار لا يتوجه إلا على من علم الحكم وأقره، فيحتمل أن يكون أراد بذلك إحضارهم، ليستعين بهم على ما أراد من إنكار ذلك، أو لينكر عليهم سكوتهم عن إنكارهم هذا الفعل قبل ذلك. واعتذر العيني عنهم باعتذار آخر، فقال: فإن قلت: إذا كان الأمر كذلك. كيف لم يغير أهلها هذا المنكر؟ قلت: لا يخلو زمان من ارتكاب المعاصي، وقد كان في وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم من شرب الخمر، وسرق، وزنى، إلا أنه كان شاذاً، نادراً، فلا يحل لمسلم أن يقول: إنه صلى الله عليه وسلم لم يغير المنكر، فكذلك أمر القصة بالمدينة، كان شاذاً، ولا يجوز أن يقال: إن أهلها جهلوا النهي عنها، لأن حديث لعن الواصلة حديث مدني، معروف عندهم مستفيض. (إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم) وفي ملحق الرواية "إنما عذب بنو إسرائيل .. " وفي الرواية التاسعة "ما كنت أرى أن أحداً يفعله إلا اليهود" أي فلما فعلوه كان سبباً لهلاكهم، أي مع ما انضم إلى ذلك من ارتكابهم ما ارتكبوه من المناهي. (إنكم قد أحدثتم زي سوء) من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي زياً سيئاً، والزي الهيئة والمنظر، و"سوء" بفتح السين وسكون الواو، وبضم السين، كل قبيح، والخطاب وإن كان للرجال الحاضرين ظاهراً، لكن المراد بعض نسائهم. (وإن نبي الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الزور) قال ابن الأثير: الزور الكذب والباطل والتهمة، وسمى النبي صلى الله عليه وسلم الوصل زوراً، لأنه كذب، وتغيير لخلق الله.

(يعني ما يكثر به النساء أشعارهن من الخرق) أي يعني معاوية بالزور ما يكثر به النساء شعورهن، من الخرق، حيث جاء الرجل بعصا على رأسها خرقة، و"أشعار" جمع شعر، كشعور. (صنفان من أهل النار، لم أرهما) أي لم أرهما فيما أريت من أهل النار، لكنهما من أهل النار، فالرؤية بصرية، ويحتمل أن تكون بمعنى الظن، أي لم أكن أظنهما من أهل النار، والأظهر أن المعنى لم أرهما في حياتي، لعدم وجودهما، لكنهما سيظهران في آخر الزمان، وسيراهما الناس، وقد كان ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، وإلى هذا الأخير نحا النووي، لكن الصنفين كانا قد سبق وجودهما في وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالراجح الأول. (قوم معهم سياط كأذناب البقر، يضربون بها الناس) أي حكام طغاة ومستبدون وظلمة، وتشبيه السياط بأذناب البقر في طولها وغلظها وشدتها، والمعنى يضربون بها الناس الأبرياء المظلومين. (ونساء كاسيات عاريات) قيل: معناه كاسيات من نعمة الله، عاريات من شكرها، وفيه نظر، فليس ذلك خاصاً بالنساء، وقيل: معناه تستر بعض بدنها، وتكشف بعضه، أو تلبس ثوباً شفافاً رقيقاً، يبين عن مفاتنها، وهو المناسب هنا، ومفعول "كاسيات" محذوف، أي كاسيات بعض أجسامهن. (مميلات مائلات) قيل: معناه "مائلات" عن طاعة الله "مميلات" أي يعلمن غيرهن الفساد، أي ضالات مضلات، وفيه نظر، كسابقه، وقيل: مائلات في مشيهن، متبخترات، تهز أكتافهن ذات اليمين وذات الشمال "مميلات" غيرهن إلى مشيتهن، أو مميلات مفاتنهن، يحركنها هنا وهناك. (رءوسهن كأسنمة البخت المائلة) "البخت" بضم الباء وسكون الخاء، ضرب من الإبل، عظام الأسنمة، والأسنمة جمع سنام، وهو أعلى ما في ظهر الجمل، ووصفها بالميل، لأنها إذا عظمت أخذت تميل وتتحرك بحركة الجمل، شبه رءوسهن بعد أن يكبرنها بضفائر مستعارة، ويعظمنها "بالباروكة" ونحوها، تزيناً وتصنعاً بالأسنمة، بجامع العلو والكبر. (وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا) "كذا وكذا" هنا كناية عن المسافة البعيدة، وفي الموطأ "وريحها يوجد من مسيرة خمسمائة سنة" وفي بعض الروايات "من مسيرة أربعين عاماً" وربما يختلف إدراك ريحها باختلاف الأعمال الصالحة. (أن امرأة قالت: يا رسول الله، أقول .. ) أي لضرتي ولغيرها، مفتخرة بما لم يقع، وفي الرواية الثالثة عشرة "إن لي ضرة، فهل علي جناح أن أتشبع من مال زوجي، بما لم يعطني"؟ . (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور) "المتشبع" متكلف الشبع المتظاهر به وهو غير شبعان. والمعنى المراد هذا المتكثر بما ليس عنده، بأن يظهر أن عنده ما ليس عنده، افتخاراً وتعالياً،

فهو يتزين بالباطل، كما يتزين من لا يملك ثياباً بثوبين يستعيرهما، مظهراً امتلاكهما، فهو تزوير مضاعف، وقال أبو عبيد وآخرون: هو الذي يلبس ثياب أهل الزهد والعبادة والورع، ومقصوده أن يظهر للناس أنه متصف بتلك الصفة، ويظهر من التخشع والزهد أكثر مما في قلبه، فهذه ثياب زور ورياء، ومثل هذا يقال في العالم والصانع والزارع، وقيل: هو كمن يلبس ثوبين لغيره، موهماً أنهما له، وقيل: هو من يلبس قميصاً واحداً، ويصل بكميه كمين آخرين، ليظهر أن عليه قميصين. وحكى الخطابي أن المراد هنا بالثوب المذهب والحالة، والعرب تكني بالثوب عن حال لابسه، ومعناه أنه كالكاذب القائل ما لم يكن، أو أن المراد الرجل الذي تطلب منه شهادة زور، فيلبس ثوبين، يتجمل بهما، فلا ترد شهادته، لحسن هيئته. اهـ وكل هذه الأقوال من قبيل التمثيل، ومراد الحديث أن المتشبع بما لم يعط مزور تزويراً مضاعفاً. -[فقه الحديث]- نقاط هذه الأحاديث ست نقاط: 1 - الواصلة والمستوصلة. 2 - الواشمة والمستوشمة. 3 - النامصة والمتنمصة. 4 - المتفلجة للحسن. 5 - المتشبعة بما لم تعط. 6 - ما يؤخذ من الأحاديث فوق ما ذكر. 1 - أما عن وصل المرأة شعر رأسها فقد قال النووي: هذه الأحاديث صريحة في تحريم الوصل، ولعن الواصلة والمستوصلة مطلقاً، وهذا هو الظاهر المختار، وقد فصله أصحابنا، فقالوا: إن وصلت شعرها بشعر آدمي فهو حرام، بلا خلاف -أي عند الشافعية- سواء كان شعر رجل أو امرأة، وسواء شعر المحرم والزوج وغيرهما، بلا خلاف -عند الشافعية- لعموم الأحاديث، ولأنه يحرم الانتفاع بشعر الآدمي وسائر أجزائه، لكرامته، بل يدفن شعره وظفره وسائر أجزائه، وإن وصلته بشعر غير آدمي، فإن كان شعراً نجساً، وهو شعر الميتة، وشعر ما لا يؤكل لحمه إذا انفصل في حياته، فهو حرام أيضاً، للحديث، ولأنه حمل نجاسة في صلاته وغيرها عمداً، وسواء في هذين النوعين الزوجة وغيرها من النساء والرجال. قال: وأما الشعر الطاهر من غير الآدمي، فإن لم يكن لها زوج ولا سيد فهو حرام، وإن كان فثلاثة أوجه: أحدها لا يجوز، لظاهر الأحاديث، والثاني لا يحرم، وأصحهما عندهم، إن فعلته بإذن الزوج أو السيد جاز، وإلا فهو حرام. هذا تلخيص كلام أصحابنا في المسألة.

وقال القاضي عياض: اختلف العلماء في المسألة، فقال مالك والطبري وكثيرون: الوصل ممنوع بكل شيء، سواء وصلته بشعر أو صوف أو خرق، واحتجوا بحديث جابر -روايتنا السابعة- وقال الليث بن سعد: النهي مختص بالوصل بالشعر، ولا بأس بوصله بصوف وخرق وغيرها، وقال بعضهم: يجوز جميع ذلك، وهو مروي عن عائشة، ولا يصح عنها، بل الصحيح عنها كقول الجمهور، قال القاضي فأما ربط خيوط الحرير الملونة ونحوها، ومما لا يشبه الشعر، فليس بمنهي عنه، لأنه ليس وصل، ولا هو في معنى مقصود الوصل، وإنما هو للتجمل والتحسين. اهـ وأخرج أبو داود بسند صحيح عن سعيد بن جبير قال: لا بأس بالقرامل، وبه قال أحمد، والمراد بالقرامل خيوط من حرير أو صوف، تعمل ضفائر، تصل به المرأة شعرها. قال الحافظ ابن حجر: وفصل بعضهم بين ما كان ظاهر الوصل، أو غير ظاهر، فمنع غير الظاهر، لما فيه من التدليس. قال: وهو قوي. قال: ومنهم من أجاز الوصل مطلقاً، سواء كان بشعر آخر، أو بغير شعر، إذا كان بعلم الزوج، وبإذنه. اهـ وقال قوم: لا يجوز الوصل مطلقاً، ولكن لا بأس أن تضع المرأة الشعر وغيره على رأسها وضعاً، ما لم تصله، روي ذلك عن إبراهيم. والتحقيق -بعد استعراض الآراء الفقهية المختلفة- نقول: أولاً: الروايات الأربع الأولى ظاهرة في أن إرادة وصل شعر الزوجة كان لستر أمر رأسها على زوجها، وهو ممنوع قطعاً، لما فيه من الغش والخداع. ثانياً: قصة معاوية، وروايتنا الثامنة والتاسعة والعاشرة صريحة في النهي عن الزور، أي عندما يكون الوصل تزويراً وخداعاً. ثالثاً: الروايات المطلقة، كالرواية الخامسة "لعن الله الواصلة والمستوصلة" والسابعة "زجر النبي صلى الله عليه وسلم أن تصل المرأة برأسها شيئاً" ندر من الفقهاء من أبقاها على إطلاقها وعمومها. فالشافعية قيدوه كما سبق، بشعر الآدمي، أو بشعر نجس، أو بشعر طاهر بغير إذن الزوج، والليث بن سعد وأحمد، ومن قبلهما سعيد بن جبير وابن عباس وأم سلمة وعائشة قيدوا المنع بالوصل بالشعر مطلقاً، ورخصوا في الخيوط والصوف والخرق. وهذه التقييدات الفقهية لا سند لها في الأحاديث، وإنما استندت إلى ما يظن علة في المنع، وهي غير مسلمة، فتحريم الانتفاع بشعر الآدمي وسائر أجزائه غير متفق عليه، فقد وزع رسول الله صلى الله عليه وسلم شعره على أصحابه واحتفظوا به تبركاً، واحتفظت عائشة ببعض شعره وانتقل منها إلى أختها أسماء، والحلق والتقصير في الحج لم يؤثر أنهم دفنوا الشعور، وماتزال شعور المسلمين تترك عند الحلاقين منذ العصور الأولى وحتى اليوم، والانتفاع به أكرم من إلقائها في المهملات المستقذرات. والتعليل بحمل النجاسة في الصلاة تعليل بعيد عن الدعوى، فقد تصله في غير الصلاة، وتعزله في الصلاة، والكلام في الوصل وعدمه.

بقي التعليل بالغش والخداع والتزوير على من هو صاحب الحق، من زوج وخاطب وقاض ونحوهم، ونحن مع منع الوصل في تلك الحالات، أما حين يعلم الشعر الموصول من غير الموصول لدى عامة الناس سواء كان الوصل بشعر آدمي أو شعر غيره، أو شعر صناعي، فقد بعد عن التزوير والغش، ودخل في دائرة التجميل والتزين، ومثل ذلك "الباروكة" وحمل الشعر بدون وصل. والله أعلم. قال الحافظ ابن حجر: "كما يحرم على المرأة الزيادة في شعر رأسها، يحرم عليها حلق شعر رأسها بغير ضرورة، وقد أخرج الطبري عن ابن عباس قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تحلق المرأة رأسها" وعند أبي داود "ليس على النساء حلق، إنما على النساء التقصير". اهـ وما حكم به الحافظ غير مسلم، ففي الحج، الحلق للرجال أفضل، والتقصير للنساء أفضل، وحديث أبي داود يرفع وجوب الحلق واستحبابه، ويبقى جوازه، وحديث الطبري ضعيف، فالقول بتحريم حلق المرأة شعرها قول لا يستند إلى دليل، بقي أن نقول: إن المراد بالحلق إزالة الشعر من فروة الرأس وجلدها، أما ما نراه في هذه الأيام عند بعض النساء فهو من قبيل التقصير، ولا بأس به. 2 - النقطة الثانية الواشمة والمستوشمة. قال النووي: الوشم حرام على الفاعلة والمفعول بها باختيارها، والطالبة له لنفسها، وقد يفعل بالبنت وهي طفلة، فتأثم الفاعلة، ولا تأثم البنت، لعدم تكليفها حينئذ، قال أصحابنا: هذا الموضع الذي وشم يصير نجساً [لأن الدم انحبس فيه] فإن أمكن إزالته بالعلاج وجبت إزالته، وإن لم يمكن إلا بالجرح، فإن خاف منه التلف أو فوات عضو، أو منفعة عضو، أو شيئاً فاحشاً في عضو ظاهر، لم تجب إزالته، فإذا بان لم يبق عليه إثم، وإن لم يخف شيئاً من ذلك ونحوه لزمه إزالته، ويعصى بتأخيره، وسواء في هذا كله الرجل والمرأة. اهـ والقول بنجاسة موضع الوشم، لانحباس الدم فيه غير مسلم، فما أكثر الجراحات التي تحشى ويكتم الدم فيها، ولا يقال عن موضعها نجس، وربما كانت علة النهي أنه نوع من الزينة الظاهرة المتخذة لغير الزوج. 3 - أما النامصة والمتنمصة فقد قال النووي: النمص حرام، إلا إذا نبتت للمرأة لحية أو شوارب، فلا تحرم إزالتها، بل يستحب عندنا، وقال ابن جرير الطبري: لا يجوز حلق لحيتها، ولا عنفقتها ولا شاربها، ولا تغيير شيء من خلقتها بزيادة ولا نقص، التماس الحسن، لا لزوج ولا لغيره، كمن تكون مقرونة الحاجبين، فتزيل ما بينهما، توهم البلج أو عكسه، فكل ذلك داخل في النهي، وهو من تغيير خلق الله تعالى، قال: ويستثنى من ذلك ما يحصل به الضرر والأذية. اهـ وقال بعض الحنابلة: إن كان النمص قد أصبح شعاراً للفواجر منع، وإلا فيكون تنزيهاً، وفي رواية: يجوز بإذن الزوج، لأنه من الزينة، وقد أخرج الطبري من طريق أبي إسحق، عن امرأته: أنها دخلت على عائشة -وكانت شابة يعجبها الجمال، فقالت: المرأة تحف جبينها لزوجها؟ فقالت: أميطي عنك الأذى ما استطعت. اهـ وهذا مذهب قوي، نفتي به إن شاء الله. 4 - وأما المتفلجات فيقول النووي: هذا الفعل حرام على الفاعلة والمفعول بها، لهذه الأحاديث، ولأنه تغيير لخلق الله تعالى، ولأنه تزوير، ولأنه تدليس.

وقال النووي: وأما قوله "للحسن" فمعناه يفعلن ذلك طلباً للحسن، وفيه إشارة إلى أن الحرام هو المفعول لطلب الحسن، أما لو احتاجت إليه لعلاج أو عيب في السن ونحوه فلا بأس. 5 - وأما المتشبع بما لم يعط فقد سبق المراد به في المباحث العربية. -[6 - ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - قال النووي: وأما تحمير الوجه، والخضاب بالسواد ونحوه، وتطريف الأصابع، فإن لم يكن لها زوج، أو كان، وفعلته بغير إذنه فحرام، وإن أذن جاز على الصحيح. 2 - وأن المعين على الحرام يشارك فاعله في الإثم، كما أن المعين في الطاعة يشارك في ثوابها. 3 - ومن الرواية السادسة من قوله "لم نجامعها" أن من عنده امرأة مرتكبة معصية، كالمغتابة والنمامة وتاركة الصلاة ينبغي له أن يطلقها، أو يعتزلها. 4 - ومن خطبة معاوية اعتناء الخلفاء وسائر ولاة الأمور بإنكار المنكر، وإشاعة إزالته، وتوبيخ من أهمل إنكاره، ممن توجه ذلك عليه. 5 - يؤخذ من هلاك بني إسرائيل بسبب وصل النساء شعورهن أنه كان محرماً عليهن، فعوقبوا باستعماله، وهلكوا بسببه، ويحتمل أن الهلاك كان به وبغيره، مما ارتكبوا من المعاصي، فعند ظهور ذلك فيهم هلكوا. 6 - وفيه معاقبة العامة بظهور المنكر. 7 - وفيه إنذار من عمل المعصية بوقوع الهلاك، كما وقع لمن قبله. 8 - وجواز تناول الشيء في الخطبة، ليراه الناس الذين لم يكونوا رأوه، للمصلحة الدينية. 9 - وفيه إباحة الحديث عن بني إسرائيل، وكذا غيرهم، للتحذير مما عصوا فيه. 10 - ومن حمله قصة الشعر، طهارة شعر الآدمي، لعدم الاستفصال. 11 - وإيقاع المنع على فعل الوصل، لا عن كون الشعر نجساً. 12 - وفيه جواز إبقاء الشعر، وعدم وجوب دفنه. 13 - قال الحافظ ابن حجر: وفي حديث -روايتنا الثالثة والرابعة- وفيهما لعن الواصلة والمستوصلة دلالة على بطلان ما روي عنها، من أنها رخصت في وصل الشعر بالشعر، وقد رد ذلك الطبري، وأبطله بما جاء عن عائشة في قصة المرأة المذكورة في الباب. اهـ والحديث الذي أشار إليه الطبري "سأل ابن أشوع عائشة: ألعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواصلة؟ قالت: يا سبحان الله؟ وما بأس بالمرأة الزعراء أن تأخذ شيئاً من صوف، فتصل به شعرها، فتتزين به عند زوجها، إنما لعن المرأة الشابة، تبغى في شبيبتها. وفي رواية "تفجر في شبابها" قالوا: هذا الحديث باطل، ورواته لا يعرفون، وابن أشوع لم يدرك عائشة.

14 - ومن استدلال ابن مسعود بقوله تعالى: {وما ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر: 7] في روايتنا السادسة، على لعن من فعل ذلك، ونسبة ذلك إلى كتاب الله، وفهم أم يعقوب منه أنه أراد بكتاب الله القرآن، وتقريره لها على هذا الفهم، ومعارضتها له بأنه ليس في القرآن، وجوابه بما أجاب، دلالة على جواز نسبة ما يدل عليه الاستنباط، إلى كتاب الله تعالى، وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم نسبة قوله، فكما جاز نسبة لعن الواشمة إلى كونه في القرآن، لعموم قوله تعالى: {وما ءاتاكم الرسول فخذوه} مع ثبوت لعنه صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك، يجوز نسبة من فعل أمراً يندرج في عموم خبر نبوي ما يدل على منعه، إلى القرآن، فيقول القائل مثلاً: لعن الله من غير منار الأرض، في القرآن، ويستند في ذلك إلى أنه صلى الله عليه وسلم لعن من فعل ذلك. قاله الحافظ ابن حجر. 15 - وعن الرواية الحادية عشرة قال النووي: هذا الحديث من معجزات النبوة، فقد وقع هذان الصنفان، وهما موجودان. 16 - وفيه ذم هذين الصنفين. والله أعلم

كتاب الآداب

كتاب الآداب

(578) باب النهي عن التكني بأبي القاسم، وبيان ما يستحب من الأسماء وكراهة التسمية بالأسماء القبيحة والموهمة، وتغيير الاسم القبيح إلى حسن.

(578) باب النهي عن التكني بأبي القاسم، وبيان ما يستحب من الأسماء وكراهة التسمية بالأسماء القبيحة والموهمة، وتغيير الاسم القبيح إلى حسن. 4875 - عن أنس رضي الله عنه قال: نادى رجل رجلاً بالبقيع يا أبا القاسم. فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال يا رسول الله إني لم أعنك. إنما دعوت فلاناً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي". 4876 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أحب أسمائكم إلى الله عبد الله وعبد الرحمن". 4877 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ولد لرجل منا غلام، فسماه محمداً. فقال له قومه: لا ندعك تسمي باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فانطلق بابنه حامله على ظهره، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: يا رسول الله، ولد لي غلام فسميته محمداً. فقال لي قومي: لا ندعك تسمي باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تسموا باسمي. ولا تكتنوا بكنيتي. فإنما أنا قاسم أقسم بينكم". 4878 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ولد لرجل منا غلام، فسماه محمداً، فقلنا لا نكنك برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تستأمره. قال: فأتاه. فقال: إنه ولد لي غلام فسميته برسول الله، وإن قومي أبوا أن يكنوني به حتى تستأذن النبي صلى الله عليه وسلم. فقال "سموا باسمي. ولا تكنوا بكنيتي. فإنما بعثت قاسماً أقسم بينكم". 4879 - وفي رواية عن حصين، بهذا الإسناد، ولم يذكر: "فإنما بعثت قاسماً أقسم بينكم".

4880 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تسموا باسمي. ولا تكنوا بكنيتي. فإني أنا أبو القاسم، أقسم بينكم" وفي رواية أبي "بكر ولا تكتنوا". 4881 - وفي رواية عن الأعمش، بهذا الإسناد. وقال: "إنما جعلت قاسماً أقسم بينكم". 4882 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رجلاً من الأنصار ولد له غلام. فأراد أن يسميه محمداً. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله. فقال: "أحسنت الأنصار. سموا باسمي. ولا تكتنوا بكنيتي". 4883 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم. بنحو حديث من ذكرنا حديثهم من قبل. وفي حديث النضر. عن شعبة، قال: وزاد فيه حصين وسليمان. قال حصين: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما بعثت قاسماً أقسم بينكم" وقال سليمان: "فإنما أنا قاسم أقسم بينكم". 4884 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ولد لرجل منا غلام، فسماه القاسم. فقلنا: لا نكنيك أبا القاسم. ولا ننعمك عيناً. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم. فذكر ذلك له. فقال: أسم ابنك عبد الرحمن". 4885 - وفي رواية عن جابر، بمثل حديث ابن عيينة، غير أنه لم يذكر: ولا ننعمك عيناً.

4886 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "تسموا باسمي. ولا تكنوا بكنيتي" قال عمرو: عن أبي هريرة. ولم يقل: سمعت. 4887 - عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: لما قدمت نجران، سألوني. فقالوا: إنكم تقرءون يا أخت هارون. وموسى قبل عيسى بكذا وكذا. فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، سألته عن ذلك. فقال: "إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم". 4888 - عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نسمي رقيقنا بأربعة أسماء: أفلح، ورباح، ويسار، ونافع. 4889 - عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تسم غلامك رباحاً، ولا يساراً، ولا أفلح، ولا نافعاً". 4890 - عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، لا يضرك بأيهن بدأت. ولا تسمين غلامك يساراً، ولا رباحاً، ولا نجيحاً، ولا أفلح. فإنك تقول: أثم هو؟ فلا يكون فيقول: لا" إنما هن أربع فلا تزيدن علي. 4891 - حديث شعبة، فليس فيه إلا ذكر تسمية الغلام. ولم يذكر الكلام الأربع. 4892 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينهى عن أن يسمى بيعلى وببركة وبأفلح وبيسار وبنافع وبنحو ذلك. ثم رأيته

سكت بعد عنها، فلم يقل شيئاً. ثم قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينه عن ذلك. ثم أراد عمر أن ينهى عن ذلك. ثم تركه. 4893 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير اسم عاصية. وقال "أنت جميلة" قال أحمد -مكان أخبرني- عن. 4894 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن ابنة لعمر كانت يقال لها عاصية. فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جميلة. 4895 - 16 عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت جويرية اسمها برة. فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمها جويرية. وكان يكره أن يقال: خرج من عند برة. وفي حديث ابن أبي عمر عن كريب قال: سمعت ابن عباس. 4896 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن زينب كان اسمها برة. فقيل: تزكي نفسها. فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب. ولفظ الحديث لهؤلاء دون ابن بشار. وقال ابن أبي شيبة: حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة. 4897 - حدثتني زينب بنت أم سلمة رضي الله عنهما قالت: كان اسمي برة. فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب. قالت: ودخلت عليه زينب بنت جحش، واسمها برة، فسماها زينب. 4898 - عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: سميت ابنتي برة. فقالت لي: زينب

بنت أبي سلمة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم. وسميت برة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم" فقالوا: بم نسميها؟ قال: "سموها زينب". 4899 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك" زاد ابن أبي شيبة في روايته "لا مالك إلا الله عز وجل" قال الأشعثي. قال سفيان: مثل شاهان شاه. وقال أحمد بن حنبل: سألت أبا عمرو عن أخنع. فقال: أوضع. 4900 - عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكر أحاديث منها: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أغيظ رجل على الله يوم القيامة، وأخبثه وأغيظه عليه، رجل كان يسمى ملك الأملاك. لا ملك إلا الله". -[المعنى العام]- الأسماء والأعلام بها تتمايز الأشياء، وبها تعرف الأفراد، وقد تتشابه الأسماء، فتعرف بإضافة اسم الأب، وقد تتشابه أسماء الأفراد مع آبائهم، فتعرف بإضافة اسم الجد، ثم الجد الأعلى، ثم لقب الأسرة، وهكذا حتى يتم رفع التشابه. وقد شاعت الكنية عند العرب، وهي علم صدر بلفظ أب أو أم، كأبي بكر وأبي هريرة، وأم سلمة وأم حبيبة، ومنهم من اشتهر باسمه، ومنهم من اشتهر بكنيته، ومنهم من اشتهر بهما معاً، كما شاعت الألقاب بينهم، وهو علم أشعر بالمدح أو الذم. وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أسماء، أشهرها محمد ثم أحمد، وكان له كنيتان، أشهرهما أبو القاسم، ثم أبو إبراهيم، وكانت له ألقاب، أشهرها رسول الله، ثم نبي الله، ومع أن الله تعالى نادى رسله بأسمائهم، فقال: يا موسى. يا عيسى. يا نوح. يا إبراهيم. يا زكريا. يا داود. يا آدم. إلخ، ولم يناد محمداً صلى الله عليه وسلم باسمه، بل ناداه بقوله {يا أيها الرسول} [المائدة: 41]. {يا أيها النبي} [الأنفال: 64] ولما تجرأ الأعراب، ونادوه من خارج بيته: يا محمد. يا محمد. يا محمد. اخرج إلينا، نزل فيهم قرآن كريم، يعنفهم، ويعلمهم {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون} [الحجرات: 4]. {يا أيها الذين ءامنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} [الحجرات: 2]. {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً} [النور: 62] كان لا بد -مع خشونة الأعراب وغلظتهم وجفوتهم بحكم الطبيعة أن يعلموا معنى التجلة

والاحترام والتقديس لأفضل خلق الله صلى الله عليه وسلم، وكان من الطبيعي أن يحرص الصحابة على إبراز حبهم له بتسمية أبنائهم باسمه صلى الله عليه وسلم، أو التكنية بكنيته، فكان في ذلك تلبيس إذا نادى أحدهم صاحبه الذي تسمى باسمه، أو تكنى بكنيته، وقد حصل فعلاً، إذ كان صلى الله عليه وسلم في سوق البقيع، فسمع رجلاً ينادي: يا أبا القاسم. فالتفت صلى الله عليه وسلم نحو الرجل، وكأنه يقول له: ماذا تريد مني؟ فتأسف الرجل واعتذر، وقال: لم أقصدك يا رسول الله، وإنما قصدت فلاناً، المكنى بأبي القاسم، فقال صلى الله عليه وسلم: تسموا باسمي، ولا تتكنوا بكنيتي، إذ ليس من المعتاد، ولا من اللائق أن يناديني أحد باسمي، فلا خطورة، ولا حرج من تسمية أبنائكم بمحمد، لكن لا يكني أحد منكم بأبي القاسم، ولا يسمي ابنه بالقاسم، لئلا يكنى بأبي القاسم، وكانت خطورة أخرى، سموا أولادهم بمحمد، ولما أخطأ الأطفال شتموهم، فكان شتماً لاسم الرسول في شخص الطفل، فقال صلى الله عليه وسلم "تسمونهم محمداً، ثم تلعنونهم: ؟ فكف الصحابة عن لعن وسب من اسمه محمد. ولما زال الالتباس، بوفاته صلى الله عليه وسلم سمى الناس القاسم، وكنوا أنفسهم بأبي القاسم، وتحاشوا سبهم أو ألفاظ تحقيرهم، كما سموا أولادهم بأسماء أنبياء الله السابقين، تيمناً وتبركاً بهم. ولما كان صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن، ويدعو إليه، ويكره التشاؤم وينهى عنه، ويحذر منه، دعا إلى التسمية بالأسماء الحسنة، والتي توحي بالفأل الحسن، ونهى عن التسمية بالأسماء القبيحة، والتي توحي بالتشاؤم، ولم يكتف بهذه الدعوة، بل كان إذا جاءه صاحب اسم مكروه غيره إلى محبوب، وإذا جاءه صاحب اسم قبيح حوله إلى حسن، فحول "حباباً" إلى "عبد الله" وحول اسم "حرب" إلى "الحسن" وحول اسم "غراب" إلى "مسلم" وحول اسم "عاصية" إلى "جميلة" وحول اسم "العاص" إلى "مطيع" كما حذر من التسمية بالأسماء المختصة بالله تعالى وعظمته، فلا يسمى بملك الملوك، ولا بسلطان السلاطين، ولا بالرحمن، ولا بالقدوس، ولا بالمهيمن. وهكذا علم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة الأدب في كل شيء، حتى في تسمية الآباء أبناءهم وبناتهم. فصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين. -[المباحث العربية]- (نادى رجل رجلاً بالبقيع: يا أبا القاسم) البقيع مدافن أهل المدينة، والظاهر أن هذا النداء كان عند دفن ميت، وقد حضر التشييع رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمع من الصحابة، وجملة "يا أبا القاسم" بيان للنداء، وهي كنية رسول الله صلى الله عليه وسلم، كني بولده القاسم، وكان أكبر أولاده، واختلف. هل مات قبل البعثة أو بعدها، وقد ولد له إبراهيم في المدينة، من مارية القبطية، وروي أن جبريل -عليه السلام- قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "السلام عليك يا أبا إبراهيم" لكن لم يشتهر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بكنية أبي القاسم. (فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم) ظناً أنه يناديه، على الرغم من أن الصحابة لم يكونوا ينادونه

إلا: يا رسول الله، يا نبي الله، ولكن لعلاقة الكنية به التفت إليه لا شعورياً، ربما وقع في نفسه أن المنادي أعرابي قريب العهد بالإسلام وبالحضارة. (يا رسول الله، إني لم أعنك) يقال: عني بالقول كذا، بفتح العين والنون، يعنيه، عيناً وعناية، أراده وقصده، أي لم أقصدك يا رسول الله. (تسموا باسمي) "تسموا" بفتح الميم المشددة، وفي الرواية الرابعة والسادسة "سموا" بتشديد الميم المضمومة، وفي الرواية السابعة "أسم ابنك عبد الرحمن" بفتح همزة القطع وسكون السين، أمر من أسمي، يقال: أسمي الشيء كذا، وأسمي الشيء بكذا، جعله له اسماً. (ولا تكنوا بكنيتي) "تكنوا" بفتح التاء والكاف وتشديد النون المفتوحة، وأصله تتكنوا، فحذفت إحدى التاءين للتخفيف، وفي الرواية الثالثة والسادسة وملحق الخامسة "ولا تكتنوا بكنيتي" يقال: كنى عن كذا بفتح الكاف وفتح النون مخففة، يكني بفتح الياء وسكون الكاف وكسر النون، كناية، تكلم بما يستدل عليه، ولم يصرح، وفي رواية "ولا تكنوا" بفتح التاء وسكون الكاف وضم النون "بكنوتي" بالواو بدل الياء قال الحافظ ابن حجر: وهي بمعناها، كنونة وكنية بمعنى. اهـ ويقال: كنى عن كذا بكذا، فهو كان، إذا ذكر شيئاً بغير ما يستدل به عليه صريحاً، ويقال: أكناه، بالهمزة، وكناه بتشديد النون، بمعنى كناه بتخفيفها، ويقال: تكنى بكذا، بفتح التاء والكاف وتشديد النون، أي تسمى به، والعلم يأتي اسماً وكنية ولقباً، فاللقب ما أشعر بمدح أو ذم، والكنية ما صدرت بأب أو أم. وهذا هو المشهور، وقد تكون مصدرة بابن أو بنت، أو أخ أو أخت، أو عم أو عمة، أو خال أو خالة، وما عداهما يقال له: الاسم، ونستعمل الكنية مع الاسم واللقب، أو بدونهما، تفخيماً لشأن صاحبها أن يذكر اسمه مجرداً، وتكون لأشراف الناس، وربما كني الطفل والصبي تفاؤلاً، وقد اشتهرت الكنى عند العرب، وقد يكون للواحد كنية واحدة، وقد يكون له أكثر من كنية، وقد يشتهر باسمه وكنيته جميعاً، وقد يشتهر بأحدهما. (ولد لرجل منا غلام) أي "منا" معشر الأنصار، ففي الرواية السادسة "أن رجلاً من الأنصار، ولد له غلام ... " وفيها "فقال صلى الله عليه وسلم: أحسنت الأنصار" ويحتمل "منا" من قومنا وقبيلتنا وأسرتنا، لقوله "فقال له قومه" أي أقاربه الذين يجتمعون عنده، في مثل هذه المناسبة، قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسم الرجل المذكور. (فسماه محمداً) في الرواية السادسة "فأراد أن يسميه محمداً" وفي الرواية السابعة "فسماه القاسم" وفي رواية "فأراد أن يسميه القاسم" ورجحها الحافظ ابن حجر لقوله في الرواية السابعة "لا نكنيك أبا القاسم، ولا ننعمك عيناً" ورجح غيره الرواية الأولى، لقوله في الرواية الثالثة "لا ندعك تسمى باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم" ويحتمل أنه أراد أن يسميه واحداً من الاسمين، فذكر بعضهم هذا وذكر بعضهم ذاك، وكان رد بعضهم على الاقتراح الأول "لا ندعك تسمي باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم" لا نكنيك برسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نقول لك: "يا أبا محمد، وكان رد

بعضهم على الاقتراح الثاني: "لا نكنيك أبا القاسم، ولا ننعمك عيناً" من الإنعام، أي لا ننعم عليك بذلك، فتقر عينك به. (فإنما أنا قاسم أقسم بينكم) في الرواية الرابعة "فإنما بعثت قاسماً، أقسم بينكم" وعند الترمذي "أنا أبو القاسم، الله يعطي، وأنا أقسم" أي أنا لي من كنيتي نصيب، ووصف صحيح، وليس لكم من هذا الوصف شيء، فلا تكنوا به. (لما قدمت نجران سألوني) "نجران" بفتح النون وسكون الجيم، بلد كبير، على سبع مراحل من مكة، إلى جهة اليمن، يشتمل على ثلاث وسبعين قرية، وكان أهلها مسيحيين نصارى، وجاء رؤساؤهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الوفود، فبعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمين هذه الأمة، أبا عبيدة بن الجراح، ليعلمهم، ويأتيه بصدقاتهم، ثم بعث إليهم بعد ذلك علي بن أبي طالب، ولعل المغبرة ذهب إلى نجران في صحبة أحدهما، أو للتجارة. (إنكم تقرءون {يا أخت هارون} وموسى قبل عيسى بكذا وكذا؟ ) يعترض النصارى على القرآن، وأنه ينطق بما يخالف حقائق التاريخ، يقصدون الآية (28) من سورة مريم، نصها مع ما قبلها {فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فرياً* يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغياً} وحاصل الاعتراض أن الأخ يعاصر أخاه، فكيف تكون مريم أختاً لهارون أخي موسى، وبين موسى ومريم من الأزمان ما يستحيل معه أن تكون مريم وهارون من أب واحد، أو أم واحدة؟ إذ بينهما أكثر من ستمائة سنة، وقيل أكثر من ألف عام، وفي رواية أن النصارى قالوا للمغيرة: إن صاحبك يزعم أن مريم هي أخت هارون، وبينهما في المدة ستمائة سنة؟ قال المغيرة: فلم أدر ما أقول، وكان جواب الرسول صلى الله عليه وسلم. (إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم) وحاصل الجواب أن هارون هداً ليس هو أخا موسى، وإنما هو أخ لها من أبيها يسمى هارون، لأن هذا الاسم في بني إسرائيل كان كثيراً، تبركاً باسم هارون أخي موسى، وكان أمثل رجل في بني إسرائيل، وقال قتادة: كان في ذلك الزمان في بني إسرائيل عابد منقطع إلى الله تعالى، يسمى هارون، فنسبوها إلى أخوته، من حيث كانت على طريقته قبل، إذ كانت موقوفة على خدمة البيع، أي يا هذه المرأة الصالحة ما كنت أهلاً لذلك، وفي التفاسير أقوال أخرى، من أرادها فليرجع إليها. (فلا تزيدن علي) بضم الدال، أي الذي سمعتموه أربع كلمات، فلا تزيدوا علي في الرواية، ولا تنقلوا عني غير الأربع. (أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينهى عن أن يسمى بيعلى) قال النووي: هكذا وقع هذا اللفظ في معظم نسخ صحيح مسلم التي ببلادنا "أن يسمى بيعلى" وفي بعضها "بمقبل" بدل "يعلى" وذكر القاضي أنه في أكثر النسخ "بمقبل" وفي بعضها "يعلى" قال: والأشبه أنه تصحيف، قال: والمعروف

"بمقبل" قال النووي: وهذا الذي أنكره القاضي ليس بمنكر، بل هو المشهور، وهو صحيح في الرواية وفي المعنى. (كانت جويرية اسمها برة) جويرية بنت الحارث، زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، إحدى أمهات المؤمنين. و"برة" بفتح الباء وتشديد الراء، مشتقة من البر، بكسر الباء، والله أعلم بأهل البر، ففي هذا الاسم تزكية للنفس، وكما وقع لجويرية وقع لزينب بنت جحش، كما في الرواية الثامنة عشرة، ولزينب بنت أم سلمة، كما في الرواية الثامنة عشرة والتاسعة عشرة. (إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك) فسرت "أخنع" لأحمد بن حنبل بأوضع، أي أذل، قال عياض: معناه أشد الأسماء صغاراً، والخانع الذليل، وخنع الرجل ذل، قال ابن بطال، وإذا كان الاسم أذل الأسماء كان من تسمى به أشد ذلاً. اهـ وفيه نظر، فتسميته ليست من فعله، وقد لا يملك التغيير، وفسر الخليل "أخنع" بأفجر، فقال: الخنع الفجور، يقال: أخنع الرجل إلى المرأة إذا دعاها للفجور، وقيل: أخبث، وقيل: أقبح، ووقع في رواية البخاري "أخنى الأسماء" من الخنا بفتح الخاء وتخفيف النون، وهو الفحش، وقد يكون بمعنى أهلك الأسماء لصاحبه، والخنى الهلاك، يقال: أخنى عليه الدهر، أي أهلكه، وقال أبو عبيد: روي "أنخع" أي أقتل، والنخع القتل الشديد، و"ملك" بكسر اللام، و"الأملاك" جمع "ملك" بفتح الميم وكسر اللام، ومثله "ملوك" جمع مليك. (شاهان شاه) بسكون النون، وبهاء في آخره، وليست هاء تأنيث، فلا تقال بالتاء أصلاً، قال الحافظ ابن حجر: وقد تعجب بعض الشراح من تفسير سفيان بن عيينة اللفظة العربية باللفظة العجمية، وأنكر ذلك آخرون، وهو غفلة منهم عن مراده، وذلك أن لفظ "شاهان شاه" كان قد كثر التسمية به في ذلك العصر، فنبه سفيان على أن الاسم الذي ورد الخبر بذمه لا ينحصر في "ملك الأملاك" بل كل ما أدى معناه، بأي لسان كان، فهو مراد بالذم. قال: وقوله "شاهان شاه" هو المشهور في روايات هذا الحديث، وحكى عياض عن بعض الروايات "شاه شاه" بتنوين الأول، وزعم بعضهم أن الصواب "شاه شاهان" وليس كذلك، لأن قاعدة العجم تقديم المضاف إليه على المضاف، فإذا أرادوا "قاضي القضاة" بلسانهم، قالوا: موبذان موبذ، فموبذ هو القاضي، وموبذان جمعه، فكذا "شاه" هو الملك، و"شاهان" هو الملوك. (أغيظ رجل على الله يوم القيامة، وأخبثه، وأغيظه عليه، رجل .... ) قال النووي: هكذا وقع في جميع النسخ، بتكرير "أغيظ" قال القاضي: ليس تكريره صحيح الكلام، بل فيه وهم من بعض الرواة، بتكريره أو تغييره، قال: وقال بعض الشيوخ: لعل أحدهما "أغنط" بالنون والطاء، أي أشده عليه، والغنط شدة الكرب. اهـ وإطلاق "أغيظ" ونسبة الغيظ إلى الله تعالى مؤول بالغضب، قاله الماوردي.

-[فقه الحديث]- يمكن حصر فقه الحديث في أربع نقاط: التكني بكنية النبي صلى الله عليه وسلم، والتسمية باسمه، والتسمية بما يوهم، وما يؤخذ من الحديث: 1 - أما التكنية بكنيته، فقد ورد النهي عنها، ولا تكنوا بكنيتي" في الرواية الأولى والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والثامنة قال النووي: اختلف العلماء في هذه المسألة على مذاهب كثيرة، جمعها القاضي وغيره: أحدها: مذهب الشافعي وأهل الظاهر أنه لا يحل التكني بأبي القاسم لأحد أصلاً، سواء كان اسمه محمداً، أو أحمد، أم لم يكن، لظاهر هذا الحديث "لا تكنوا بكنيتي". والثاني: أن هذا النهي منسوخ، فإن هذا الحكم كان في أول الأمر، للمعنى المذكور في الحديث، ثم نسخ [أي كان النهي خاصاً بحياته صلى الله عليه وسلم خوف التباس نداء غيره بندائه، وقد زال هذا الالتباس بعده صلى الله عليه وسلم] قالوا: فيباح التكني اليوم بأبي القاسم، لكل أحد، سواء من اسمه محمد وأحمد وغيره، وهذا مذهب مالك، قال القاضي: وبه قال جمهور السلف وفقهاء الأمصار وجمهور العلماء، قالوا: وقد اشتهر أن جماعة تكنوا بأبي القاسم في العصر الأول وفيما بعد ذلك إلى اليوم، مع كثرة فاعل ذلك، وعدم الإنكار. الثالث: أن النهي ليس بمنسوخ، ولكنه للتنزيه والأدب، لا للتحريم، وهو مذهب ابن جرير الطبري. الرابع: أن النهي عن التكني بأبي القاسم مختص بمن اسمه محمد أو أحمد، ولا بأس بالكنية وحدها لمن لا يسمي بواحد من الاسمين، وهذا قول جماعة من السلف، وجاء فيه حديث مرفوع عن جابر. الخامس: أنه ينهى عن التكني بأبي القاسم مطلقاً، وينهى عن التسمية بالقاسم، لئلا يكنى أبوه بأبي القاسم، [وهو مذهب بعض الظاهرية] وقد غير مروان بن الحكم اسم ابنه عبد الملك، حين بلغه هذا الحديث، فسماه عبد الملك، وكان سماه أولاً القاسم، وفعله بعض الأنصار أيضاً. ثم قال: وأما غير أبي القاسم من الكنى، فأجمع المسلمون على جوازه، سواء كان له ابن أو بنت، فكني بها، أو لم يكن له ولد، أو كان صغيراً، أو كني بغير ولده، ويجوز أن يكنى الرجل بأبي فلان أو بأبي فلانة، وأن تكنى المرأة بأم فلان وبأم فلانة، وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكني صبياً صغيراً، هو أخو أنس، كان يقول له: يا أبا عمير. ما فعل النغير؟ اهـ. والحديث الذي أشار إليه النووي في المذهب الرابع أخرجه أحمد وأبو داود وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان عن جابر رضي الله عنه رفعه "من تسمى باسمي فلا يكتني بكنيتي، ومن اكتنى بكنيتي فلا يتسمى باسمي" وفي لفظ "إذا سميتم بي فلا تكنوا بي، وإذا كنيتم بي فلا تسموا بي"، وفي لفظ للبخاري في الأدب المفرد "لا تجمعوا بين اسمي وكنيتي" وفي لفظ عند أبي يعلى "من تسمى باسمي فلا يكتني بكنيتي".

أما ما أخرجه أبو داود وابن ماجه وصححه الحاكم من حديث علي رضي الله عنه قال: "قلت: يا رسول الله إن ولد لي من بعدك ولد. أسميه باسمك؟ وأكنيه بكنيتك؟ قال: نعم" فكان رخصة من النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب، قال الطبري: في إباحة ذلك لعلي، ثم تكنية علي ولده أبا القاسم، إشارة إلى أن النهي عن ذلك كان على الكراهة، لا على التحريم، قال: ويؤيد ذلك أنه لو كان على التحريم لأنكره الصحابة، ولما مكنوه من أن يكني ولده أبا القاسم أصلاً، فدل على أنهم إنما فهموا من النهي التنزيه، وتعقب بأنهم ربما علموا الرخصة له، دون غيره، كما في بعض طرقه، أو فهموا تخصيص النهي بزمانه صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ ابن حجر: وهذا أقوى، لأن بعض الصحابة سمى ابنه محمداً وكناه أبا القاسم، وكذا كني بأبي القاسم محمد بن أبي بكر، وابن سعد، وابن جعفر بن أبي طالب، وابن عبد الرحمن بن عوف، وابن حاطب بن أبي بلتعة، وابن الأشعث بن قيس. وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة -بعد أن أشار إلى ترجيح المذهب الرابع من حيث الجواز- قال: الأولى الأخذ بالمذهب الأول، فإنه أبرأ للذمة، وأعظم للحرمة. 2 - وأما التسمي باسمه صلى الله عليه وسلم فقد حكى الطبري مذهبنا بمنعه مطلقاً، ثم ساق "كتب عمر: لا تسموا أحداً باسم نبي" واحتج بعضهم لصاحب هذا القول بما أخرجه البزار وأبو يعلى عن أنس رضي الله عنه رفعه "يسمونهم محمداً، ثم يلعنونهم" وسنده لين، وعلى تقدير ثبوته فلا حجة فيه للمنع، بل فيه النهي عن لعن من يسمى محمداً، قال عياض: والأشبه أن عمر إنما فعل ذلك إعظاماً لاسم النبي صلى الله عليه وسلم، لئلا ينتهك، وقد كان سمع رجلاً يقول لمحمد بن زيد بن الخطاب: يا محمد، فعل الله بك وفعل. فدعاه، وقال: لا أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسب بك، فغير اسمه، فسماه عبد الرحمن، وأرسل إلى بني طلحة، وكانوا سبعة ليغير أسماءهم من محمد، فقال له كبيرهم: والله لقد سماني النبي صلى الله عليه وسلم محمداً؟ فقال: قوموا، فلا سبيل لكم" فهذا يدل على رجوعه عن ذلك. والجمهور على جواز التسمية باسم محمد، بل واستحبه بعضهم. 3 - وأما التسمية بنافع ويسار وأفلح ورباح، فقد ورد النهي عنها في الرواية العاشرة والحادية عشرة، وذكرت الرواية الثانية عشرة "نجيحاً" بدل "نافع" وذكرت الرواية الثالثة عشرة "يعلى" و"بركة" بدل "رباح" قال النووي: قال أصحابنا: يكره التسمية بهذه الأسماء المذكورة في الحديث، وما في معناها، ولا تختص الكراهة بها وحدها، وهي كراهة تنزيه، لا تحريم، قال النووي: فمعنى قوله "أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينهي عن هذه الأسماء" وفي الرواية الثالثة عشرة "أراد أن ينهي عنها نهي تحريم، فلم ينه، والعلة في الكراهة ما بينه صلى الله عليه وسلم في قوله [في الرواية الثانية عشرة] "فإنك تقول: أثم هو؟ أي أهنا هو؟ فلا يكون [موجوداً] فيقول: لا" أي فيقول المجيب: ليس هنا نافع، وليس هنا يسار، ليس هنا أفلح، ليس هنا رباح، ليس هنا بركة، وهذه الجمل كلها غير مستحبة، لما توهمه من نفي هذه الصفات، وإن كان المقصود نفي وجود هذه الأسماء. ومثل ذلك اسم "برة" لما فيه من وصف صاحبه بالبر، والله أعلم بأهل البر، ولما فيه من تزكية نفس صاحبه، والله يقول: {فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى} [النجم: 32] ولما فيه من الإيهام السابق، إذا قيل: خرج من

عند برة، أي خرج من البر والصلاح، وربما أوقع الجواب بعض الناس في شيء من التشاؤم، قال النووي: وليس في قوله "فلا تزيدن علي" منع القياس على الأربع. -[4 - ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - صيانة كنيته صلى الله عليه وسلم عن الامتهان، واستجابة لأمر الله، إذ يقول {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً} [النور: 63]. 2 - من قوله صلى الله عليه وسلم "فإنما أنا قاسم" في الرواية الثالثة والرابعة والخامسة وملحق السادسة قال القاضي عياض: هذا يشعر بأن الكنية إنما تكون بسبب وصف صحيح في المكنى، أو لسبب اسم ابنه. 3 - من منع الصحابة والد الغلام من التسمية والتكني، مدى التزام الصحابة بأمور الدين، وحرصهم على التحقق من صحة أعمالهم، بالرجوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. 4 - ومدى تقديسهم لذات الرسول صلى الله عليه وسلم وصفاته، قال الحافظ ابن حجر: والظاهر أنهم منعوا الرجل أولاً، منعاً مطلقاً، ثم استدركوا، فقالوا: حتى نسأل ... ". 5 - ومن الرواية الثانية، ومن قوله في الرواية السابعة "أسم ابنك عبد الرحمن" استحباب التسمية بهذين الاسمين، وتفضيلهما على سائر ما يسمى به، ويلتحق بهما ما كان مثلهما، كعبد الرحيم، وعبد الملك، وعبد الصمد، وإنما كانت أحب إلى الله لأنها تضمنت ما هو وصف واجب لله، وما هو وصف للإنسان، وواجب له، وهو العبودية، ثم أضيف العبد إلى الرب، إضافة حقيقية، فصدقت أفراد هذه الأسماء، وشرفت بهذا التركيب، فحصلت لها هذه الفضيلة. قاله القرطبي: وقال غيره: الحكمة في الاقتصار على الاسمين، أنه لم يقع في القرآن إضافة "عبد" إلى اسم من أسماء الله تعالى غير لفظ الجلالة والرحمن، قال تعالى: {وأنه لما قام عبد الله يدعوه} [الجن: 19] وقال {وعباد الرحمن} [الفرقان: 63] وقال بعض الشراح: لله الأسماء الحسنى، وفيها أصول وفروع من حيث الاشتقاق، وللأصول أصول من حيث المعنى، فأصول الأصول اسمان، الله والرحمن، لأن كلا منهما مشتمل على الأسماء كلها، قال تعالى {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن} [الإسراء: 110] ولذلك لم يتسم بهما أحد، وإذا تقرر ذلك كانت إضافة العبودية إلى كل منهما حقيقة محضة، ويلي هذين الاسمين بقية ما عبد، وما حمد. وقد أخرج الطبراني "إذا سميتم فعبدوا" وأخرج "أحب الأسماء إلى الله ما تعبد به" وفي إسناد كل منهما ضعف. 6 - واستدل بالرواية التاسعة بعضهم على جواز التسمية بأسماء الأنبياء -عليهم السلام- وأجمع عليه العلماء، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم ابنه إبراهيم، وكان في أصحابه جمع سموا بأسماء الأنبياء، وقد أراد عمر أن يغير أسماء أولاد طلحة، وكان سماهم بأسماء الأنبياء، ثم تراجع، وأخرج البخاري في الأدب المفرد حديث يوسف بن عبد الله بن سلام، قال "سماني النبي صلى الله عليه وسلم يوسف" وسنده

صحيح، وأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح "أحب الأسماء إليه أسماء الأنبياء" ثم ذكر فيه أحد عشر حديثاً، موصولة، ومعلقة. قال القاضي: وقد كره بعض العلماء التسمي بأسماء الملائكة، وهو قول الحارث بن مسكين، قال: وكره مالك التسمي بجبريل ويس، وقال ابن بطال -بعد أن ذكر أحاديث إبراهيم ابن النبي -عليه الصلاة والسلام- وغيرها -في هذه الأحاديث جواز التسمية بأسماء الأنبياء، وإنما كره عمر ذلك، لئلا يسب أحد المسمى بذلك، فأراد تعظيم الاسم، لئلا يبتذل في ذلك، وهو قصد حسن، وقال الطبري: يقال إن طلحة قال للزبير: أسماء أبنائي أسماء الأنبياء، وأسماء أبنائك أسماء الشهداء. فقال الزبير: أنا أرجو أن يكون أبنائي شهداء، وأنت لا ترجو أن يكون أبناؤك أنبياء، فأشار إلى أن الذي فعله أولى من الذي فعله طلحة. 7 - ومن الرواية الرابعة عشرة، وتغييره صلى الله عليه وسلم اسم "عاصية" إلى "جميلة" استحباب تحويل الاسم المكروه والقبيح إلى حسن، وقد أخرج ابن أبي شيبة "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع الاسم القبيح حوله إلى ما هو أحسن منه" وحول صلى الله عليه وسلم اسم "العاصي" بن الأسود العدوي، إلى "مطيع" وحول اسم "شهاب" بن عامر الأنصاري إلى "هشام" وحول اسم "حرب" بن علي إلى "الحسن"، وحول اسم "حباب" بن عبد الله بن أبي، إلى "عبد الله" وحول اسم "عتلة" بن عبد السلمي، إلى "عتبة" وحول اسم "غراب" أبو زيطة إلى "مسلم" وغير هؤلاء كثير. قال ابن جرير الطبري: وليس ما غير رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك على وجه المنع من التسمي بها، بل على وجه الاختيار، ويدل عليه أنه صلى الله عليه وسلم لم يلزم "حزناً" لما امتنع من تحويل اسمه إلى "سهل" بذلك، ولو كان ذلك لازماً لما أقره على قوله "لا أغير اسماً سمانيه أبي". اهـ وحديث "حزن" الذي يشير إليه الطبري أخرجه البخاري، "عن سعيد بن المسيب قال: إن جده "حزناً" قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما اسمك؟ قال: اسمي حزن. قال: بل أنت سهل، قال: ما أنا بمغير اسماً سمانيه أبي. قال ابن المسيب: فمازالت فينا الحزونة بعد" والحزن ما غلظ من الأرض، ضد السهل، وفي الخلق الغلظة والقساوة. 8 - ويؤخذ منه استحباب الأسماء الحسنة عند التسمية، وقد ورد الأمر بتحسين الأسماء، فيما أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان، من حديث أبي الدرداء، رفعه "إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم، فأحسنوا أسماءكم" ورجاله ثقات، إلا أن في سنده انقطاعاً. قال الطبري: لا تنبغي التسمية باسم قبيح المعنى، ولا باسم نقيض التزكية له، ولا باسم معناه السب، ولو كانت الأسماء -إنما هي أعلام للأشخاص- لا يقصد بها حقيقة الصفة، لكن وجه الكراهة أن يسمع سامع بالاسم، فيظن أنه صفة للمسمى، وعدم الانبغاء على الاستحسان، فقد أجاز المسلمون أن يسمى الرجل القبيح باسم "حسن" ويسمى الرجل الفاسد باسم "صالح". 9 - وعن الرواية المتممة للعشرين والواحدة والعشرين قال النووي: اعلم أن التسمي بهذا الاسم حرام، وكذلك التسمي بأسماء الله تعالى، المختصة به، كالرحمن، والقدوس، والمهيمن، وخالق الخلق، ونحوها.

10 - ألحق بعضهم بملك الأملاك في التحريم سلطان السلاطين وأمير الأمراء. 11 - ألحق به الزمخشري قاضي القضاة، وحاكم الحكام، على أساس أنه كذب وتزوير، قال: ورب غريق في الجهل والجور، من مقلدي زماننا احتل لقب أقضى القضاة، ومعناه أحكم الحاكمين. وتعقبه ابن المنير بحديث "أقضاكم علي" قال: فيستفاد منه أنه لا حرج على من أطلق على قاض، يكون أعدل القضاة أو أعلمهم في زمانه: أقضى القضاة، أو يريد إقليمه، أو بلده، وقد تعقب العرابي كلام ابن المنير، فصوب ما ذكره الزمخشري من المنع، ورد ما احتج به من قضية علي، بأن التفضيل في ذلك وقع في حق من خوطب به، ومن يلتحق بهم، فليس مساوياً لإطلاق التفضيل بالألف واللام "قاضي القضاة" قال: ولا يخفى ما في إطلاق ذلك من الجراءة وسوء الأدب، ولا عبرة بقول من ولي القضاء فنعت بذلك، فلذ في سمعه، فاحتال في الجواز فإن الحق أحق أن يتبع. اهـ ومال الحافظ ابن حجر إلى الجواز، فقال: إن التسمية بقاضي القضاة وجدت في العصر القديم، من عهد أبي يوسف، صاحب أبي حنيفة، وقد منع الماوردي من جواز تلقيب الملك، الذي كان في عصره، بملك الملوك، مع أن الماوردي كان يقال له: "أقضى القضاة" وكأن وجه التفرقة بين ملك الملوك وقاضي القضاة الوقوف مع الخبر، وظهور إرادة العهد الزماني في القضاة. وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: يلتحق بملك الأملاك قاضي القضاة، وإن كان اشتهر في بلاد الشرق من قديم الزمان إطلاق ذلك على كبير القضاة، وقد سلم أهل المغرب من ذلك، فاسم كبير القضاة عندهم قاضي الجماعة. 12 - وألحق بعضهم بملك الأملاك في المنع التسمية بخالد ومالك، واستدل له بحديث "وأكذب الأسماء خالد ومالك" وتعقب بأن الحديث ضعيف، وبأن في القرآن تسمية خازن النار "مالكاً" وبأن في الصحابة من سمي بخالد، ومنهم من سمي بمالك، وبأن العباد وإن كانوا يموتون، فإن الأرواح لا تفنى، فلا بأس من التسمية بمالك أو خالد، ورد هذا التعقيب بأن اسم "مالك" قد يكون لمن لا يملك، فيكون كذباً وموهماً، وأن الخلد البقاء الدائم بغير موت، فلا يقال لصاحب الروح التي لا تفنى "خالد" قال تعالى {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد} [الأنبياء: 34]. 13 - ولما كانت الكنية تكريماً أخذ بعضهم من الحديث منع تكنية المشرك، فقال النووي في الأذكار: لا تجوز تكنية الكافر إلا بشرطين: أن لا يعرف إلا بكنيته، أو خيف من ذكر اسمه فتنة، قال: وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، فسماه باسمه، ولم يكنه، ولم يلقبه بلقبه، وهو قيصر، قال: وقد أمرنا بالإغلاظ عليهم، فلا نكنيهم، ولا نلين لهم قولاً، ولا نظهر لهم وداً، وقال ابن بطال: يجوز تكنية المشركين على وجه التألف، إما رجاء إسلامهم، أو لتحصيل منفعة منهم. اهـ وقيل: تمنع تكنيتهم إذا كانت على وجه التكريم، وتجوز في غير ذلك، كأبي لهب.

وأطال الحافظ ابن حجر في عرض الأقوال وتوجيهاتها، بما لا يسمح به المقام هنا، فمن أراده فليراجع. 14 - قال الحافظ ابن حجر: وفي الحديث مشروعية الأدب في كل شيء، لأن الزجر عن ملك الأملاك، والوعيد عليه يقتضي المنع منه مطلقاً، سواء أراد من تسمى بذلك أنه ملك على ملوك الأرض، أم على بعضها، سواء كان محقاً في ذلك أم مبطلاً، مع أنه لا يخفى الفرق بين من قصد ذلك، وكان فيه صادقاً، ومن قصده، وكان فيه كاذباً. والله أعلم

(579) باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته، وتسميته، وتكنية الصغير واستحباب قوله لغير ابنه: يا بني، للملاطفة

(579) باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته، وتسميته، وتكنية الصغير واستحباب قوله لغير ابنه: يا بني، للملاطفة 4901 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ذهبت بعبد الله بن أبي طلحة الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولد. ورسول الله صلى الله عليه وسلم في عباءة يهنأ بعيراً له. فقال: "هل معك تمر" فقلت: نعم. فناولته تمرات. فألقاهن في فيه، فلاكهن، ثم فغر فا الصبي، فمجه في فيه، فجعل الصبي بتلمظه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم. حب الأنصار التمر" وسماه عبد الله. 4902 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان ابن لأبي طلحة يشتكي. فخرج أبو طلحة. فقبض الصبي. فلما رجع أبو طلحة، قال: ما فعل ابني؟ قالت أم سليم: هو أسكن مما كان. فقربت إليه العشاء. فتعشى. ثم أصاب منها. فلما فرغ، قالت: واروا الصبي. فلما أصبح أبو طلحة، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره. فقال "أعرستم الليلة" قال: نعم. قال "اللهم بارك لهما" فولدت غلاماً. فقال لي أبو طلحة: احمله حتى تأتي به النبي صلى الله عليه وسلم. فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم. وبعثت معه بتمرات. فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فقال "أمعه شيء؟ " قالوا: نعم. تمرات. فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم فمضغها. ثم أخذها من فيه فجعلها في في الصبي. ثم حنكه. وسماه عبد الله. 4903 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال: ولد لي غلام. فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فسماه إبراهيم وحنكه بتمرة. 4904 - عن عروة بن الزبير، وفاطمة بنت المنذر بن الزبير، أنهما قالا: خرجت أسماء بنت أبي بكر حين هاجرت، وهي حبلى بعبد الله بن الزبير، فقدمت قباء. فنفست بعبد الله بقباء، ثم خرجت حين نفست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحنكه. فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم منها فوضعه في حجره. ثم دعا بتمرة. قال: قالت عائشة: فمكثنا ساعة نلتمسها قبل أن نجدها. فمضغها ثم بصقها في فيه. فإن أول شيء دخل بطنه لريق رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قالت

أسماء: ثم مسحه وصلى عليه. وسماه عبد الله. ثم جاء وهو ابن سبع سنين أو ثمان، ليبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأمره بذلك الزبير. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه مقبلاً إليه. ثم بايعه. 4905 - عن أسماء رضي الله عنها أنها حملت بعبد الله بن الزبير بمكة. قالت: فخرجت وأنا متم فأتيت المدينة. فنزلت بقباء، فولدته بقباء. ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه في حجره. ثم دعا بتمرة فمضغها ثم تفل في فيه، فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم حنكه بالتمرة، ثم دعا له وبرك عليه. وكان أول مولود ولد في الإسلام. 4906 - وفي رواية عن أسماء بنت أبي بكر أنها هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي حبلى بعبد الله بن الزبير. فذكر نحو حديث أبي أسامة. 4907 - عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالصبيان فيبرك عليهم ويحنكهم. 4908 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: جئنا بعبد الله بن الزبير إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحنكه. فطلبنا تمرة، فعز علينا طلبها. 4909 - عن سهل بن سعد قال: أتي بالمنذر بن أبي أسيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولد. فوضعه النبي صلى الله عليه وسلم على فخذه، وأبو أسيد جالس، فلهي النبي صلى الله عليه وسلم بشيء بين يديه. فأمر أبو أسيد بابنه، فاحتمل من على فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأقلبوه. فاستفاق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "أين الصبي" فقال أبو أسيد: أقلبناه يا رسول الله. فقال: "ما اسمه" قال: فلان يا رسول الله. قال: "لا. ولكن اسمه المنذر" فسماه يومئذ المنذر. 4910 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً. وكان

لي أخ يقال له: أبو عمير. قال: أحسبه قال: كان فطيماً. قال: فكان إذا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه قال "أبا عمير، ما فعل النغير" قال: فكان يلعب به. 4911 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا بني". 4912 - عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: ما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد عن الدجال أكثر مما سألته عنه. فقال لي "أي بني وما ينصبك منه؟ إنه لن يضرك" قال: قلت: إنهم يزعمون أن معه أنهار الماء وجبال الخبز. قال "هو أهون على الله من ذلك". 4913 - وفي رواية عن إسمعيل، بهذا الإسناد. وليس في حديث أحد منهم قول النبي صلى الله عليه وسلم للمغيرة "أي بني" إلا في حديث يزيد وحده. -[المعنى العام]- كان العرب وغيرهم من الأمم يهتمون بمولودهم الذكر، يفرحون بقدومه، ويتسابقون إلى تسميته بأعز ما يحبون من الأسماء، ويختارون له المرضعة والحاضنة، بل والبيئة التي يعيش فيها فترة رضاعته، ليترعرع نجيباً شجاعاً وعلى أحسن ما يطمحون من صفات عالية، وأخلاق راقية، وكانوا يذبحون عند ولادته وينحرون، ويقيمون الولائم، ويكرمون المبشرين به. أما الأنثى عند العرب فلم يكن لها شيء من هذا التكريم، بل كان يصاحب قدومها العبوس والانقباض، حتى قالت أمها يوم ولادتها: ما لأبي حمزة لا يأتينا ... يظل في البيت الذي يلينا غضبان أن لا نلد البنينا ... والله ما ذلك في أيدينا ونحن كالأرض لزارعينا وحتى وصل بعض العرب إلى وأد البنت، ودفنها حية، مخافة العار والحاجة. وجاء الإسلام، فلم ينتزع منهم حبهم للذكر، ولا الاحتفاء بقدومه، فكل ما كانوا يفعلونه

من أجله فضيلة والفضائل من شعائر الإسلام، ولو كانت جاهلية، أما الرذائل التي كانت توجه للطفلة البريئة فقد حاربها الإسلام بقوة، ويكفي في ذلك قوله تعالى: {وإذا الموءودة سئلت* بأي ذنب قتلت} [التكوير: 8، 9]؟ وقوله تعالى {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهم كظيم* يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون} [النحل: 58، 59]. ولم يقف الإسلام عند رفع المذلة والإهانة عن الطفلة البريئة والصبية والمرأة، بل أعطاها حقوقاً كثيرة كريمة، فعن الطفلة اختار لها الأسماء الحسنة، كما يختار للذكر، وقد مر بنا أن النبي صلى الله عليه وسلم غير اسم ابنة لعمر رضي الله عنه من اسم "عاصية" إلى اسم "جميلة". وشرع العقيقة والذبيحة للبنت عند قدومها، فقد أخرج أصحاب السنن من حديث أم كرز "أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن العقيقة؟ فقال: عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة" وروى البزار عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن اليهود كانت تعق عن الغلام كبشاً، ولا تعق عن الجارية، فعقوا عن الغلام كبشين، وعن الجارية كبشاً" وعند أحمد "العقيقة حق، عن الغلام شاتان متكافئتان، وعن الجارية شاة" بل ذهب الإمام مالك إلى أن عقيقة الأنثى كعقيقة الذكر، فيعق عن كل منهما شاة. نعم. أبقى الإسلام ميزات الطفل الذكر وحب الناس له، بل زادها بتبريكه عند الرجل الصالح، وليس هناك من هو أصلح، وترجى بركته من النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان صلى الله عليه وسلم يؤتى بالصبيان، فيدعو لهم بالبركة ويمضغ تمرة بفمه، ثم ينقلها إلى فم الطفل، ليكون ريقه صلى الله عليه وسلم من أول الأشياء التي تدخل جوف الصبي، فتحل فيه بركته صلى الله عليه وسلم، وتسابقت الوالدات في الحصول على هذه البركة لأطفالهن، وها هي أم سليم، زوج أبي طلحة الأنصاري، أم أنس رضي الله عنه تلد غلاماً. فتقول لابنها أنس: احمل هذا الطفل، واذهب به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وخذ معك تمرات، ليمضغها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيلقيها في فمه، حتى يكون أول شيء يدخل جوف الصبي ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففعل أنس، وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، مضغ التمرات، وفتح فم الصبي، فوضعها في فمه، فأخذ الطفل يلعب بلسانه، لتدخل جوفه، ثم أدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم إصبعه في فم الصبي، وأخذ يديره في حلقه مع عجينة التمر، يحنكه بها، وهو يدعو له بالبركة، وسماه عبد الله، فكان أن ولد لعبد الله هذا عشرة ذكور، كلهم يحفظون القرآن. وهذه أسماء بنت أبي بكر زوج الزبير بن العوام، تهاجر إلى المدينة مع أختها عائشة، ومع فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، تهاجر وهي حامل في شهرها الأخير، فتلد في قباء، فتحمل ابنها إلى المدينة، وإلى بيت أبيها أبي بكر، وتبحث عائشة في البيت عن تمرة، فلا تجد تمرة في البيت إلا بعد جهد جهيد، فتأخذ الطفل والتمرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيمضغ التمرة، ويحنك بها الطفل، ويدعو له، ويباركه، ويسميه عبد الله، وكان عبد الله هذا أول مولود يولد للمهاجرين بالمدينة، فقد مكثوا شهوراً دون أن يولد لهم، حتى قيل: إن اليهود سحرتهم، فلا يولد لهم، فلما علم المسلمون بمولد عبد الله بن الزبير، فرحوا وكبروا تكبيرة ارتجت لها المدينة.

وهذا أبو أسيد، تلد زوجته، فيحمل الطفل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليباركه، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنذر. فما أعظم أخلاقه صلى الله عليه وسلم، وما أشد تواضعه، يحمل الأطفال، ويضعها في حجره، ويحنكها ويباركها، ويدعو لها، أما الأطفال الذين هم فوق سن الرضاعة فكان يمازحهم، ويتبسط معهم ويكنيهم، ويداعبهم، ويدعوهم بقوله: يا بني. فصلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين. -[المباحث العربية]- (تحنيك المولود) أي مضغ الشيء ووضعه في فم الطفل، ودلك حنكه به، يضع ذلك بالصبي ليتمرن على الأكل، ويقوى عليه. (ذهبت بعبد الله بن أبي طلحة الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولد) في الرواية الثانية عن أنس قال: إن أم سليم ولدت غلاماً، "فقال لي أبو طلحة: احمله، حتى تأتي به النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم، وبعثت معه بتمرات" ليحنكه بها، وكانت تعلم استحباب التحنيك، وفي الكلام التفات من المتكلم إلى الغيبة، وكان الأصل أن يقول: فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم، وبعثت معي بتمرات، وفي رواية البخاري "فولدت غلاماً، فقال لي أبو طلحة: احفظه حتى تأتي به النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم، وأرسلت معه بتمرات" فالآمر لأنس زوج أمه، أبو طلحة، وقد سبق في باب "وسم الحيوان" قال أنس: لما ولدت أم سليم قالت لي: يا أنس، انظر هذا الغلام، فلا يصيبن شيئاً حتى تغدون به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يحنكه، قال: فغدوت ... " فالآمر لأنس أمه، أم سليم. ولا تعارض حيث يمكن أن يكون الأمر منهما معاً، أو أنه من أحدهما، ونسب إلى الآخر لموافقته. (ورسول الله صلى الله عليه وسلم في عباءة) قال النووي: العباءة معروفة، ويقال فيها "عباية" بالياء، وجمع العباءة العباء. اهـ وعند مسلم في باب "وسم الحيوان" فغدوت فإذا هو في الحائط، وعليه خميصة جونية". (يهنأ بعيراً له) أي يطليه بالقطران، والمصدر الهناء، بكسر الهاء، يقال: هنأت البعير، أهنأه، وعند مسلم في باب وسم الحيوان "وهو يسم الظهر الذي قدم عليه في الفتح" وفي رواية أخرى لمسلم "وهو يسم غنماً" ولعله كان في المربد يفعل الأمور الثلاثة. (فقال: هل معك تمر؟ فقلت: نعم، فناولته تمرات) في الرواية الثانية "فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أمعه شيء" حلو أحنكه به؟ "قالوا" أي قال أنس ومن معه من أهله "نعم. تمرات" مبتدأ، والخبر محذوف، أي معه تمرات "فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم".

(فألقاهن في فيه) أي ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم التمرات في فم نفسه. (فلاكهن) أي مضغهن، وفي الرواية الثانية "فمضغها" قال أهل اللغة: اللوك مختص بمضغ الشيء الصلب. (ثم فغر فا الصبي، فمجه في فيه) أي مج الممضوغ، و"فغر" بفتح الفاء والغين، أي فتح فم الصبي وطرح فيه ما مضغه، وفي الرواية الثانية فمضغها ثم أخذها من فيه أي بيده فجعلها في في الصبي. (فجعل الصبي يتلمظه) أي يتلمظ هذا الممضوغ، أي يحرك لسانه، ليتتبع ما في فمه من آثار التمر، والتلمظ واللمظ فعل ذلك باللسان، يقصد به فاعله تنقية الفم من بقايا الطعام، وكذلك ما على الشفتين، وأكثر ما يفعل ذلك في شيء يستطيبه، ويقال: تلمظ يتلمظ تلمظاً، ولمظ يلمظ، بضم الميم، لمظاً، بإسكانها، ويقال لذلك الشيء الباقي في الفم: لماظة، بضم اللام، زاد في الرواية الثانية "ثم حنكه" أي دلك حنكه بإصبعه. (حب الأنصار التمر) قال النووي: روي بضم الحاء وكسرها، فالكسر بمعنى المحبوب، كالذبح بمعنى المذبوح، مبتدأ وخبر، أي محبوب الأنصار التمر، قال: وأما من ضم الحاء فهو مصدر، منصوب على الأشهر، مفعول لفعل محذوف، و"التمر" منصوب، مفعول "حب" والتقدير: انظروا حب الأنصار التمر، وقد يكون مرفوعاً، "والتمر" منصوب أيضاً، فيكون مبتدأ خبره محذوف، أي حب الأنصار التمر لازم ومشهور. (وسماه عبد الله) فعبد الله هذا هو خلف الصبي الذي مات، وذكرت قصته الرواية الثانية، وقد صرحت روايات بأن الصبي الذي مات هو أبو عمير، المذكور في الرواية التاسعة. (هو أسكن مما كان) أسلوب تورية، وهو اختيار كلام له معنيان، قريب، وبعيد، يراد من المتكلم المعنى البعيد، ويفهم منه المخاطب المعنى القريب، فقولها: هو أسكن مما كان فهمه الزوج أن مرضه قد هان وسهل، وهو حي تحسنت حاله، وهي تريد أن سكن سكوناً لا حركة بعده. (ثم أصاب منها) أي عشته وتعشت، ثم تصنعت له وتجملت، وتعرضت له، ليجامعها، فجامعها. (فلما فرغ قالت: واروا الصبي) أي فلما فرغ من جماعها، قالت له: واروا الصبي، أي ادفنوه، فقد مات، وقيل: إنها أخفت موته في أول الليل، ولم تخبر زوجها إلا في آخر الليل، ليبيت مستريحاً بلا حزن. (أعرستم الليلة) قال النووي: هو بإسكان العين، وهو كناية عن الجماع، قال الأصمعي والجمهور: يقال: أعرس الرجل، إذا دخل بامرأته، قالوا: ولا يقال فيه: عرس، بالتشديد، قال صاحب

التحرير: روي أيضاً "أعرستم" بفتح العين وتشديد الراء، قال: وهي لغة، يقال: عرس بمعنى أعرس، قال: لكن قال أهل اللغة: "أعرس" أفصح من "عرس" في هذا. قال النووي: وهذا السؤال للتعجب من صنيعها، وصبرها، وسروراً بحسن رضاها بقضاء الله تعالى، ثم دعا صلى الله عليه وسلم لهما بالبركة في ليلتها، فاستجاب الله تعالى ذلك الدعاء، وحملت بعبد الله بن أبي طلحة، وجاء من أولاد عبد الله إسحق وإخوته التسعة صالحين علماء. (خرجت أسماء بنت أبي بكر، حين هاجرت، وهي حبلى بعبد الله بن الزبير) أخت عائشة لأبيها، وأمها قتيلة بنت عبد العزى، قرشية من بني عامر بن لؤي، ولدت قبل الهجرة بسبع وعشرين سنة، أسلمت قديماً، قيل: بعد سبعة عشر، وتزوجها الزبير بن العوام، وهي المعروفة بذات النطاقين، وفي الصحيح عنها، قالت: "تزوجني الزبير، وما له في الأرض مال، ولا مملوك، ولا شيء غير فرسه، فكنت أعلف فرسه، وأكفيه مؤنته، وأسومه، وأدق النوى لناضحه، وكنت أنقل النوى على رأسي من أرض الزبير .... " خرج الزبير إلى الشام قبيل هجرتها، وهي حبلى بعبد الله بن الزبير، تقول في الرواية الخامسة "حملت بعبد الله بن الزبير بمكة، فخرجت وأنا متم" أي وأنا متممة فترة الحمل، تسعة أشهر، وكانت هجرتها في السنة الأولى. (فقدمت قباء، فنفست بعبد الله بقباء) في الرواية الخامسة "فأتيت المدينة، فنزلت بقباء" أي فقاربت المدينة، وأشرفت عليها، و"نفست" بضم النون وكسر الفاء وسكون السين، أي أصابني النفاس والوضع. (ثم خرجت حين نفست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليحنكه) في ملحق الرواية الخامسة "أنها هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي حبلى بعبد الله بن الزبير" أي بدأت الهجرة من مكة، وهي حبلى، ووضعت في قباء، وتوجهت إلى المدينة، فنزلت هي وأختها عائشة وغيرهما ممن هاجر معهما من آل الصديق، فقد ذكر ابن إسحق أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة بعث زيد بن حارثة، فأحضر زوجته سودة بنت زمعة وبنته فاطمة وأم كلثوم وأم أيمن، زوج زيد بن حارثة، وابنها أسامة وخرج معهم عبد الله بن أبي بكر، ومعه أمه أم رومان، وأختاه عائشة وأسماء، فقدموا والنبي صلى الله عليه وسلم يبني مسجده على أبيها أبي بكر، والظاهر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي انتقل إلى بيت أبي بكر، فالمراد من خروجها إليه خروجها من حجرتها إلى حجرته، لأن البحث عن تمرة كان في بيت أبي بكر، لأن عائشة لم تكن تزوجت بعد وما كان لها أن تبحث عن تمرة في بيت سودة وفي رواية البخاري "فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم، فوضعته في حجره" وفي رواية أخرى له "أتوا به النبي صلى الله عليه وسلم" فيحتمل أن يكون مع أمه آخرون. (ثم دعا بتمرة، قالت عائشة: فمكثنا ساعة نلتمسها قبل أن نجدها) أي لعدم وجود التمر، بسبب شدة الحاجة. (فمضغها، ثم بصقها في فيه) في الرواية الخامسة "فمضغها، ثم تفل في فيه" أي تفل وبصق على إصبعه بالتمرة، ثم أدخلها في فم الطفل، ويحتمل أنه وضع فمه صلى الله عليه وسلم على فم الطفل، ثم دفع التمرة الممضوغة.

(ثم مسحه، وصلى عليه) أي مسح بيده على جسم الطفل، ودعا له، وفي الرواية الخامسة "ثم دعا له، وبرك عليه" بفتح الباء وتشديد الراء المفتوحة، أي قال: بارك الله فيه. (وكان أول مولود ولد في الإسلام) قال النووي: يعني أول من ولد في الإسلام بالمدينة، من أولاد المهاجرين. اهـ ولا بد من هذه القيود، فقد ولد قبله في غير المدينة للمهاجرين عبد الله بن جعفر، ولد في الحبشة، وولد بالمدينة للأنصار قبله بعد الهجرة النعمان بن بشير، روي أن المهاجرين فرحوا بمولده فرحاً شديداً، لأن اليهود كانوا يقولون: سحرناهم، حتى لا يولد لهم، روى ابن سعد "لما قدم المهاجرون المدينة أقاموا لا يولد لهم فقالوا: سحرتنا اليهود، حتى كثرت في ذلك القالة، فلما ولد عبد الله بن الزبير كبروا تكبيرة واحدة، حتى ارتجت المدينة تكبيراً". (ثم جاء وهو ابن سبع سنين أو ثمان، ليبايع النبي صلى الله عليه وسلم) قال النووي: هذه بيعة تبريك وتشريف، لا بيعة تكليف. اهـ (فلهي النبي صلى الله عليه وسلم بشيء بين يديه) قال النووي: هذه اللفظة رويت على وجهين: أحدهما: فلها، بفتح الفاء واللام والهاء، والثانية "فلهي" بكسر الهاء والياء، والأولى لغة طي، والثانية لغة الأكثرين، ومعناه اشتغل بشيء بين يديه، وأما "لها" من اللهو فبفتح الهاء لا غير، ومضارعها يلهو، والأشهر في الرواية هنا كسر الهاء، وهي لغة أكثر العرب، واتفق أهل الغريب والشراح على أن معناه اشتغل. (فأمر أبو أسيد بابنه) قال النووي: المشهور في أبي أسيد ضم الهمزة وفتح السين، ولم يذكر الجماهير غيره، قال القاضي: وحكي أنه بفتح الهمزة، قال أحمد بن حنبل: وبالضم قال عبد الرزاق ووكيع، وهو الصواب، واسمه مالك بن أبي ربيعة. (فأقلبوه) أي ردوه وصرفوه، قال النووي: في جميع نسخ صحيح مسلم "فأقلبوه" بالألف، وأنكره جمهور أهل اللغة والغريب وشراح الحديث، وقالوا: صوابه "قلبوه" بحذف الألف، قالوا: يقال: قلبت الصبي والشيء، أي صرفته ورددته، ولا يقال: أقلبته، وذكر صاحب التحرير أن "أقلبوه" بالألف لغة قليلة، فأثبتها لغة. (فاستفاق رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي انتبه من شغله وفكره الذي كان فيه. (فسماه يومئذ المنذر) قال النووي: قالوا: وسبب تسمية النبي صلى الله عليه وسلم هذا المولود "المنذر" لأن ابن عم أبيه، المنذر بن عمرو كان قد استشهد ببئر معونة، وكان أميرهم، فأراد التفاؤل بأن يكون خلفاً له. (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً) قاله أنس توطئة لما يريد أن يذكره من قصة الصبي، وفي رواية "إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليخالطنا" وعند أحمد "كان النبي صلى الله عليه وسلم يزور أم سليم" وفي رواية

قال أنس "كان النبي صلى الله عليه وسلم قد اختلط بنا أهل البيت" يعني بيت أبي طلحة وأم سليم، وعند أبي يعلى "كان النبي صلى الله عليه وسلم يغشانا ويخالطنا" وعند النسائي عن أنس "كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي أبا طلحة كثيراً" وعند أبي يعلى عن أنس قال: "كان يأتي أم سليم، وينام على فراشها" ولابن سعد "كان يزور أم سليم، فتتحفه بالشيء، تصنعه له". (وكان لي أخ يقال له: أبو عمير) بالتصغير، وعند أحمد "أخ صغير" وهو أخو أنس بن مالك من أمه، وعند أحمد "وكان لها من أبي طلحة ابن يكنى أبا عمير". (قال: أحسبه قال: كان فطيماً) عند البخاري "قال: أحسبه فطيماً" قال الحافظ ابن حجر: في بعض النسخ "فطيم" بغير ألف، وهو محمول على طريقة من يكتب المنصوب المنون بلا ألف، والأصل "فطيم" بالرفع، لأنه صفة أخ، وهو مرفوع، لكن تخلل بين الصفة والموصوف "أحسبه" والفطيم بمعنى مفطوم، أي انتهى إرضاعه. (فكان إذا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرآه قال: أبا عمير، ما فعل النغير؟ ) في رواية "فكان إذا جاء لأم سليم يمازحه" وعند أحمد "يضاحكه" وفي رواية "يهازله" وعند أبي عوانة "يفاكهه" زاد في رواية "فجاء يوماً وقد مات نغيره، الذي كان يلعب به" زاد في رواية "فوجده حزيناً" وفي رواية "فسأل عنه، فأخبرته" وفي رواية "فقال: ما شأن أبي عمير حزيناً" وفي رواية "فقالت أم سليم: ماتت صعوته التي كان يلعب بها، فقال: أي أبا عمير. مات النغير؟ " وفي رواية "فجعل يمسح رأسه ويقول: أبا عمير. ما فعل النغير" و"النغير" مصغر، وهو طير صغير معروف، يشبه العصفور، له منقار أحمر، واحده "نغرة" وجمعه "نغران". (وما ينصبك منه؟ ) أي ماذا يتعبك منه؟ والرواية هنا بضم الياء، مضارع أنصب بمعنى نصب يقال: نصب الشيء فلاناً بفتح الصاد، ينصبه بكسرها نصباً بسكونها، ونصب الأمر فلاناً، بكسر الصاد، ينصبه بفتحها، نصباً بفتحها، أتعبه وأعياه. (هو أهون على الله من ذلك) أي من أن يجري على يديه مثل هذه العجائب والخوارق تكريماً، ولكن يقع ذلك على طريق الابتلاء والاختبار، مع الهوان له، فهو من قبيل: لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء، ومن قبيل {ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون} [الزخرف: 33] وحمله السنوسي على أن هذا القول صدر منه قبل أن يوحي إليه بما في أحاديث خوارق الدجال. -[فقه الحديث]- قال النووي: اتفق العلماء على استحباب تحنيك المولود عند ولادته بتمر، فإن تعذر فما في معناه، وقريب منه، كالرطب، وإلا فشيء حلو، وعسل النحل أولى من غيره، ما لم تمسه

النار، فيمضغ المحنك التمرة، حتى تصير مائعة، بحيث تبتلع، ثم يفتح فم المولود، ويضعها فيه، ليدخل شيء منها جوفه. ويستحب أن يكون المحنك من الصالحين، وممن يتبرك به، رجلاً كان أو امرأة، فإن لم يكن حاضراً عند المولود حمل المولود إليه. -[ويؤخذ من الأحاديث]- 1 - من الرواية الأولى جواز لبس العباءة. 2 - التبرك بآثار الصالحين وريقهم، وكل شيء منهم. قاله النووي. 3 - تواضع الرسول صلى الله عليه وسلم، وتعاطيه أشغاله. 4 - وأن ذلك لا ينقص الكبير، ولا يخل من مروءته. 5 - واستحباب التسمية بعبد الله. 6 - واستحباب تفويض تسمية المولود إلى صالح، فيختار له اسماً يرتضيه. 7 - وجواز التسمية يوم ولادة الطفل، وأن التسمية لا تختص بالسابع. 8 - ومن الرواية الثانية مناقب لأم سليم -رضي الله عنها- من عظيم صبرها، وحسن رضاها بقضاء الله تعالى، وجزالة عقلها في إخفائها موت الطفل على أبيه. 9 - وفيه استعمال المعاريض عند الحاجة. قال النووي: وشرط المعاريض المباحة أن لا يضيع بها حق أحد. 10 - ومن الرواية الثالثة جواز التسمية بأسماء الأنبياء -عليهم السلام. 11 - ومن الرواية الرابعة استحباب مسح المولود باليد. 12 - والدعاء له، والتبريك، وأن البيعة قد تكون للتبريك، لا للتكليف. 13 - وفيه منقبة لعبد الله بن الزبير، إذ كان أول شيء دخل جوفه ريقه صلى الله عليه وسلم، وأنه أول من ولد للمهاجرين بالمدينة. 14 - ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة في أول الأمر، من ضيق الحال، حيث لم يجدوا في البيت تمرة واحدة، وطعامهم التمر. 15 - وتسمية المولود، ولو لم يعق عنه، والأولى لمن أراد أن يعق أن يؤخر التسمية إلى اليوم السابع. 16 - ومن الرواية الثامنة أن قوله صلى الله عليه وسلم "أحب الأسماء إلى الله تعالى عبد الله وعبد الرحمن" لا يمنع من التسمية بغيرهما، فقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أبي أسيد بالمنذر.

17 - ومن الرواية التاسعة [حديث أنس عن أبي عمير] الكنية للصبي، ومن لم يولد له، قال العلماء: كانوا يكنون الصبي تفاؤلاً بأنه سيعيش، حتى يولد له، وللأمن من التقليب، لأن الغالب أن من يذكر شخصاً فيعظمه أن لا يذكر باسمه الخاص به، فإذا كانت له كنية أمن من تلقيبه، قاله الحافظ ابن حجر: ثم قال: ولهذا قال قائلهم: بادروا أبناءكم بالكنى، قبل أن تغلب عليها الألقاب، وقالوا: الكنية للعرب كاللقب للعجم، ومن ثم كره للشخص أن يكني نفسه، إلا إن قصد التعريف. 18 - وجواز زيارة الرجل للمرأة الأجنبية، إذا لم تكن شابة، وأمنت الفتنة. 19 - وتخصيص الإمام بعض الرعية بالزيارة، ومخالطة بعض الرعية دون بعض. 20 - ومشي الحاكم وحده. 21 - وأن كثرة الزيارة قد لا تنقص المودة، وأن قوله "زر غباً تزدد حباً" مخصوص بمن يزور للطمع، وأن النهي عن كثرة مخالطة الناس مخصوص بمن يخشى الفتنة أو الضرر. 22 - وفيه جواز الممازحة، وتكرير المزح، وأن ممازحة الصبي الذي لم يميز جائزة. 23 - وفيه الحكم على ما يظهر من الأمارات في الوجه، من الحزن وغيره، والاستدلال بالعين على حال صاحبها، إذ استدل صلى الله عليه وسلم بالحزن الظاهر على الحزن الكامن، حتى حكم بأنه حزين، فسأل أمه عن حزنه. 24 - وفيه التلطف بالصغير، والسؤال عن حاله. 25 - وجواز لعب الصغير بالطير، وجواز ترك الأبوين ولدهما الصغير يلعب بما أبيح اللعب به. 26 - وجواز إنفاق المال فيما يتلهى الصغير به من المباحات. 27 - وجواز إمساك الطير في القفص ونحوه، وقص جناح الطير، إذ لا يخلو حال طير أبي عمير من واحد منهما، وأيهما كان الواقع التحق به الآخر في الحكم. 28 - وفيه جواز تصغير الاسم، ولو كان لحيوان. 29 - وجواز مخاطبة الصغير بما لا يفهم، خلافاً لمن قال: الحكيم لا يواجه بالخطاب إلا من يعقل ويفهم، والصواب الجواز، حيث لا يكون هناك طلب جواب، ولهذا لم يخاطبه بالسؤال عن حال، بل سأل أمه. 30 - واستدل به بعض المالكية والخطابي من الشافعية على أن صيد المدينة لا يحرم، وتعقب باحتمال أنه صيد في الحل، ثم أدخل الحرم. 31 - وفيه جواز السجع في الكلام، إذا لم يكن متكلفاً. 32 - وفيه جواز سؤال العالم بما يسأل عنه، لقوله "ما فعل النغير"؟ بعد علمه بأنه مات.

33 - ومن الرواية العاشرة جواز قول الإنسان لغير ابنه، ممن هو أصغر سناً منه: يا ابني، ويا بني -مصغراً- ويا ولدي، ومعناه تلطف، وإنك عندي بمنزلة ولدي في الشفقة، وكذا يقال له ولمن هو في مثل سن المتكلم: يا أخي. للمعنى الذي ذكرناه، وإذا قصد التلطف كان مستحباً، كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم. 34 - ومن الإخبار بأن الدجال لن يضر المغيرة معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. (إضافة) يستحب التأذين في أذن الطفل، فقد روى أبو داود والترمذي عن أبي رافع رضي الله عنه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في أذن الحسن بن علي، حين ولدته فاطمة، بالصلاة" قال الترمذي: حديث حسن صحيح. والله أعلم

(580) باب الاستئذان، وتحريم النظر في بيت الغير

(580) باب الاستئذان، وتحريم النظر في بيت الغير 4914 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنت جالساً بالمدينة في مجلس الأنصار. فأتانا أبو موسى فزعاً أو مذعوراً. قلنا: ما شأنك؟ قال: إن عمر أرسل إلي أن آتيه. فأتيت بابه. فسلمت ثلاثاً. فلم يرد علي. فرجعت. فقال: ما منعك أن تأتينا؟ فقلت: إني أتيتك فسلمت على بابك ثلاثاً، فلم يردوا علي فرجعت. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا استأذن أحدكم ثلاثاً، فلم يؤذن له فليرجع" فقال عمر: أقم عليه البينة وإلا أوجعتك. فقال أبي بن كعب: لا يقوم معه إلا أصغر القوم. قال أبو سعيد قلت: أنا أصغر القوم. قال: فاذهب به. 4915 - وفي رواية عن يزيد بن خصيفة، بهذا الإسناد، وزاد ابن أبي عمر في حديثه: قال أبو سعيد: فقمت معه فذهبت إلى عمر فشهدت. 4916 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا في مجلس عند أبي بن كعب. فأتى أبو موسى الأشعري مغضباً حتى وقف. فقال: أنشدكم الله هل سمع أحد منكم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الاستئذان ثلاث، فإن أذن لك وإلا فارجع"؟ قال أبي: وما ذاك؟ قال: استأذنت على عمر بن الخطاب أمس ثلاث مرات، فلم يؤذن لي، فرجعت. ثم جئته اليوم، فدخلت عليه، فأخبرته أني جئت أمس، فسلمت ثلاثاً، ثم انصرفت. قال: قد سمعناك، ونحن حينئذ على شغل. فلو ما استأذنت حتى يؤذن لك؟ قال: استأذنت كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فوالله لأوجعن ظهرك وبطنك، أو لتأتين بمن يشهد لك على هذا. فقال أبي بن كعب: فوالله، لا يقوم معك إلا أحدثنا سناً. قم يا أبا سعيد. فقمت، حتى أتيت عمر. فقلت: قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا.

4917 - عن أبي سعيد رضي الله عنه أن أبا موسى أتى باب عمر، فاستأذن. فقال عمر: واحدة. ثم استأذن الثانية. فقال عمر: ثنتان. ثم استأذن الثالثة. فقال عمر: ثلاث. ثم انصرف. فأتبعه، فرده. فقال: إن كان هذا شيئاً حفظته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فها، وإلا فلأجعلنك عظة. قال أبو سعيد: فأتانا. فقال: ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الاستئذان ثلاث"؟ قال: فجعلوا يضحكون. قال: فقلت: أتاكم أخوكم المسلم قد أفزع تضحكون. انطلق فأنا شريكك في هذه العقوبة. فأتاه فقال: هذا أبو سعيد. 4918 - عن عبيد بن عمير أن أبا موسى استأذن على عمر ثلاثاً. فكأنه وجده مشغولاً. فرجع. فقال عمر: ألم تسمع صوت عبد الله بن قيس. ائذنوا له. فدعي له. فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: إنا كنا نؤمر بهذا. قال: لتقيمن على هذا بينة، أو لأفعلن. فخرج، فانطلق إلى مجلس من الأنصار. فقالوا: لا يشهد لك على هذا إلا أصغرنا. فقام أبو سعيد فقال: كنا نؤمر بهذا. فقال عمر: خفي علي هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ألهاني عنه الصفق بالأسواق. 4919 - وفي رواية عن ابن جريج، بهذا الإسناد نحوه، ولم يذكر في حديث النضر: ألهاني عنه الصفق بالأسواق. 4920 - عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: جاء أبو موسى إلى عمر بن الخطاب، فقال السلام عليكم. هذا عبد الله بن قيس. فلم يأذن له. فقال: السلام عليكم. هذا أبو موسى. السلام عليكم. هذا الأشعري. ثم انصرف. فقال: ردوا علي. ردوا علي. فجاء. فقال: يا أبا موسى، ما ردك؟ كنا في شغل. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقول الاستئذان ثلاث. فإن أذن لك، وإلا فارجع" قال: لتأتيني على هذا ببينة وإلا فعلت وفعلت. فذهب أبو موسى. قال عمر: إن وجد بينة تجدوه عند المنبر عشية. وإن لم يجد بينة فلم تجدوه. فلما أن جاء بالعشي وجدوه. قال: يا أبا موسى، ما تقول؟ أقد وجدت؟ قال: نعم. أبي بن كعب.

قال: عدل. قال: يا أبا الطفيل، ما يقول هذا؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك يا ابن الخطاب، فلا تكونن عذاباً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: سبحان الله إنما سمعت شيئاً، فأحببت أن أتثبت. 4921 - وفي رواية عن طلحة بن يحيى، بهذا الإسناد، غير أنه قال: فقال: يا أبا المنذر، آنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم. فلا تكن يا ابن الخطاب عذاباً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يذكر من قول عمر: سبحان الله، وما بعده. 4922 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فدعوت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "من هذا؟ " قلت: أنا. قال: فخرج وهو يقول "أنا أنا! ! ". 4923 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: استأذنت على النبي صلى الله عليه وسلم. فقال "من هذا؟ " فقلت: أنا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا أنا! ! ". 4924 - وفي رواية عن شعبة، بهذا الإسناد، وفي حديثهم: كأنه كره ذلك. 4925 - عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رجلاً اطلع في جحر في باب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم مدرى يحك به رأسه. فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "لو أعلم أنك تنتظرني لطعنت به في عينك" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما جعل الإذن من أجل البصر". 4926 - عن سهل بن سعد الأنصاري رضي الله عنه أن رجلاً اطلع من جحر في باب رسول

الله صلى الله عليه وسلم. ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم مدرى يرجل به رأسه. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "لو أعلم أنك تنظر، طعنت به في عينك. إنما جعل الله الإذن من أجل البصر". 4927 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً اطلع من بعض حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فقام إليه بمشقص أو مشاقص. فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يختله ليطعنه. 4928 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم، فقد حل لهم أن يفقئوا عينه". 4929 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن رجلاً اطلع عليك بغير إذن، فخذفته بحصاة، ففقأت عينه، ما كان عليك من جناح". 4930 - عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجاءة. فأمرني أن أصرف بصري. -[المعنى العام]- ما أروع آداب الإسلام، وما أروع حمايته لأحاسيس الفرد والمجتمع، ووقايته لحرمات البيوت، وحصانته لحرماتها، وتأمينه لساكنيها، يتمثل ذلك في قوله تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها} [النور: 27] وقوله صلى الله عليه وسلم "إنما جعل الله الإذن من أجل البصر" وقوله صلى الله عليه وسلم "من اطلع في بيت قوم، بغير إذنهم، فقد حل لهم أن يفقؤوا عينه" وقوله صلى الله عليه وسلم "إذا استأذن أحدكم ثلاثاً، فلم يؤذن له، فليرجع". وقد تجلت روعة هذه الآداب في التزام الصحابة بها -رضوان الله عليهم- أجمعين، ولا تظهر روعة القوانين إلا بتطبيقها، والسير على دربها، ودقة تنفيذها، والحق يقال: كان الصحابة في سلوكهم إسلاماً بشرائعه، يمشي على الأرض، علماً وعملاً، نظراً وسلوكاً. هذا عبد الله بن قيس، أبو موسى الأشعري، الرجل اليمني، الذي هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مخلصاً

يعرف عمر رضي الله عنه فضله وقدره، فيوليه الكوفة، ولصلاحه ودقته كان بطيء الإنجاز لقضايا الناس، فكانوا يقفون كثيراً على بابه، ينتظرون دورهم، فدعاه عمر، فجاء إلى بابه، فطرقه ونادى: السلام عليكم. هذا عبد الله بن قيس يستأذن، وسمعه عمر وهو مشغول بأمر مهم من أمور الدولة، من الخطر أن يقطعه، فقال في نفسه: هذا استئذان أول، فليستأذن كثيراً، حتى أفرغ من القضية التي أبحثها مع خاصتي، قال في نفسه: فليقف على بابي قليلاً، حتى يحس بالذين يقفون على بابه كثيراً، وبعد لحظة طرق الباب ثانية، ونادى: السلام عليكم. هذا أبو موسى يستأذن. قال عمر في نفسه: هذا هو الاستئذان الثاني، فلندعه حتى يكثر، وبعد لحظة طرق الباب ثالثة، ونادى: السلام عليكم. هذا الأشعري يستأذن. قال عمر في نفسه: وهذا هو الاستئذان الثالث، فماذا سيكون بعده؟ وانتظر عمر لحظات، فلم يسمع طرقاً أو نداء، فقال لمن معه: ألم نسمع صوت عبد الله بن قيس؟ افتحوا له وائذنوا له بالدخول، فتحوا الباب، فلم يجدوه، قالوا: إنه رجع وانصرف. قال: أدركوه، وردوه إلي، فاتبعوه، فلم يحصلوا عليه، وفي اليوم الثاني ذهب أبو موسى إلى عمر، فطرق الباب واستأذن، فأذن له، فدخل، قال له: ما حملك على ما صنعت أمس؟ طلبتك فلم أجدك؟ قال: جئت بالأمس، فاستأذنت ثلاثاً، فلم يؤذن لي، فانصرفت ورجعت، قال: لماذا لم تكرر الاستئذان حتى يؤذن لك؟ يا أبا موسى. اشتد عليك أن تحتبس على بابي؟ وأنا أعلم أن الناس يحتبسون على بابك؟ قال أبو موسى: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فعلت، وقال "إذا استأذن أحدكم ثلاثاً، فلم يؤذن له، فليرجع" وكان هذا الحديث قد غاب عن عمر، وخفي عليه، فخشي أن يكون الموقف الخطير قد ألجأ أبا موسى بالتخلص، أو خشي أن تتخذ الأحاديث وسيلة للتخلص من المضايق، فيلجأ ضعاف الإيمان والمنافقون لوضعها في المناسبات، فأراد حسم هذا الأسلوب، وإغلاق الباب على وضعة الحديث، فقال: يا أبا موسى. هات شاهداً يشهد بأنه سمع مثلك هذا الحديث، وإلا ضربتك على جنبك وبطنك وظهرك ضرباً موجعاً. فخرج وهو يرتجف، فدخل على مجلس من مجالس الأنصار، فزعاً مذعوراً، قالوا له: ما لك؟ فقال: هل منكم من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إذا استأذن أحدكم ثلاثاً، فلم يؤذن له فليرجع"؟ قالوا: وأي شيء في هذا؟ قال: حصل بيني وبين عمر كذا وكذا، فأخذ بعضهم ينظر إلى بعض ويضحكون، ومن أجل هذا تفزع؟ لا تخف فلن يمسك سوء. إن هذا حديث مشهور، سمعناه كلنا، قال أبي بن كعب -وهو صاحب الدار: وما كان لعمر أن يشك فيه، وينذرك هذا الإنذار، لن يشهد لك إلا أصغرنا. قم يا أبا سعيد، فاشهد لأبي موسى عند عمر. فذهب معه أبو سعيد، فشهد أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: أستغفر الله، لقد ضاعت مني أحاديث بسبب التجارة والضرب في الأسواق، والتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقابله أبي بن كعب، فقال له: يا ابن الخطاب. لا تشتد ولا تكن عذاباً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تشك فيهم وفي صدقهم، ولا تتوعدهم بمثل هذا الوعيد، قال له عمر: يا سبحان الله! ! ما أخطأت. سمعت شيئاً لم أحفظه، فأردت أن أتثبت. ماذا حصل؟ أنا لم أتهم أبا موسى بالكذب، والله إن أبا موسى لأمين على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني أردت أن لا يتجرأ الناس على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتهت القضية بالحفاظ على أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم علماً وعملاً.

-[المباحث العربية]- (كنت جالساً بالمدينة، في مجلس الأنصار) أي في مجلس جماعة من الأنصار، ففي الرواية الرابعة "إلى مجلس من الأنصار" والظاهر أنهم كانوا في بيت أبي بن كعب، وفي رواية الحميدي "إني لفي حلقة، فيها أبي بن كعب". (فأتانا أبو موسى فزعاً أو مذعوراً. قلنا: ما شأنك؟ قال ... ) في الرواية الثانية "فأتى أبو موسى الأشعري مغضباً، حتى وقف، فقال ... " وفي رواية البخاري "فجاء أبو موسى، كأنه مذعور، فقال ... ". (إن عمر أرسل إلي أن آتيه، فأتيت بابه، فسلمت ثلاثاً، فلم يرد علي، فرجعت) في رواية "فلم ترد" بضم التاء، بالبناء للمجهول، أي فلم ترد كلماتي، أي لم يردوا علي، وفي الرواية الثانية "استأذنت على عمر بن الخطاب، أمس ثلاث مرات، فلم يؤذن لي، فرجعت" وهل استأذن أبو موسى، كما في الرواية الثانية؟ أو سلم، كما في الرواية الأولى؟ أو جمع بينهما، كما في الرواية الخامسة؟ الظاهر الأخير. (فقال: ما منعك أن تأتينا؟ فقلت: إني أتيتك، فسلمت على بابك ثلاثاً، فلم يردوا علي، فرجعت، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا استأذن أحدكم ثلاثاً، فلم يؤذن له، فليرجع) وفي الرواية الثانية "استأذنت على عمر بن الخطاب أمس ثلاث مرات، فلم يؤذن لي، فرجعت، ثم جئته اليوم، فدخلت عليه، فأخبرته أني جئت أمس، فسلمت ثلاثاً، ثم انصرفت، قال: قد سمعناك، ونحن حينئذ على شغل، فلو ما استأذنت حتى يؤذن لك؟ قال: استأذنت كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم "لوما" بمنزلة "لولا" وهي هنا للتوبيخ والتنديم، أي هلا كررت الاستئذان، فوق الثلاث، حتى يؤذن لك؟ كان ينبغي أن تفعل ذلك، وفي الرواية الثالثة "أن أبا موسى أتى عمر، فاستأذن، فقال عمر: واحدة، ثم استأذن الثانية، فقال عمر: ثنتان، ثم استأذن الثالثة، فقال عمر: ثلاث، ثم انصرف، فأتبعه" أي أرسل خلفه "فرده" وفي الرواية الرابعة "أن أبا موسى استأذن على عمر ثلاثاً، فكأنه وجده مشغولاً، فرجع، فقال عمر: ألم تسمع صوت عبد الله بن قيس"؟ أي قال لمن معه: لقد سمعنا صوت أبي موسى، فالاستفهام إنكاري بمعنى النفي، دخل على نفي، ونفي النفي إثبات "ائذنوا له. فدعى له، فقال: ما حملك على ما صنعت، قال: إنا كنا نؤمر بهذا" وفي الرواية الخامسة "جاء أبو موسى إلى عمر بن الخطاب، فقال: السلام عليكم، هذا عبد الله بن قيس، فلم يأذن له، فقال: السلام عليكم، هذا أبو موسى. السلام عليكم، هذا الأشعري، ثم انصرف، فقال: ردوا علي، ردوا علي، فجاء، فقال: يا أبا موسى. ما ردك؟ كنا في شغل: قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ..... " فذهب أبو موسى، قال عمر: إن وجد بينة تجدوه عند المنبر عشية، وإن لم يجد بينة فلم تجدوه. فلما أن جاء بالعشي وجدوه" وفي رواية للبخاري "أن أبا موسى الأشعري، استأذن على عمر بن الخطاب، فلم يؤذن له، وكأنه كان مشغولاً، فرجع أبو موسى، ففزع عمر، فقال: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس؟ ائذنوا له، قيل: إنه رجع".

وفي ظاهر هذه الروايات تغاير، فبعضها يقتضي أنه لم يرجع إلى عمر إلا في اليوم الثاني، وبعضها يفيد أنه أرسل إليه في الحال، قال الحافظ ابن حجر: ويجمع بينها بأن عمر، لما فرغ من الشغل الذي كان فيه تذكره، فسأل عنه، فأخبر برجوعه، فأرسل إليه يرده، فلم يجده الرسول في ذلك الوقت، وجاء هو إلى عمر في اليوم التالي. اهـ والتحقيق أن التغاير في هذا الحديث متعدد، ففي الرواية الأولى ما يوحي بأن عمر لم يشعر باستئذان أبي موسى حيث قال "ما منعك أن تأتينا" وفي الرواية الثانية والثالثة تصريح بأنه سمعه "قال: قد سمعناك ونحن حينئذ على شغل، فلو ما استأذنت حتى يؤذن لك"؟ وفي الروايات أن الذي شهد له أبو سعيد، وفي الرواية الخامسة أن الذي شهد له عند عمر أبي بن كعب، وأجاب الحافظ ابن حجر باحتمال أن يكون أبي بن كعب جاء بعد أن شهد أبو سعيد، فشهد، اهـ ويبعد هذا الجمع أن أبا موسى في الرواية الخامسة حينما سئل عن شاهده أجاب بأبي بن كعب، ولم يتعرض لأبي سعيد، مع أنه في الرواية الثالثة يقول: "هذا أبو سعيد" وعند البخاري في الأدب المفرد أن الذي شهد لأبي موسى عند عمر أبو سعيد الخدري أو أبو مسعود، بالشك، وفي الروايات أن أبا سعيد حدث بهذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الرواية الثانية قال أبو سعيد: "قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا" وفي الرابعة يقول أبو سعيد "كنا نؤمر بهذا" وقال الداودي: روى أبو سعيد حديث الاستئذان عن أبي موسى، وهو يشهد له عند عمر، فأدى إلى عمر ما قال أهل المجلس، قال: وكأنه نسي أسماءهم بعد ذلك، فحدث به عن أبي موسى وحده، لكونه صاحب القصة، وتعقبه ابن التين بأنه مخالف لما في رواية الصحيح، لأنه قال "فأخبرت عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله" واشتد إنكار ابن عبد البر على من زعم أن هذا الحديث إنما رواه أبو سعيد عن أبي موسى، وقال: إن الذي وقع في الموطأ وهم من النقلة، لاختلاط الحديث عليهم. فالأولى أن يقال: إن هذا التغير سببه اختلاط القصة على الرواة، ويرجح بينها برواية الأوثق. والله أعلم. (فقال عمر: أقم عليه البينة، وإلا أوجعتك) أي هات شاهداً يشهد معك على صدور هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا ضربتك ضرباً موجعاً، وفي الرواية الثانية "فوالله لأوجعن ظهرك وبطنك، أو لتأتين بمن يشهد لك على هذا" وفي الرواية الثالثة "إن كان هذا شيئاً حفظته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فها، وإلا فلأجعلنك عظة" أي فهات من يشهد لك، وفي الرواية الرابعة "لتقيمن على هذا بينة، أو لأفعلن" وفي الرواية الخامسة "لتأتيني على هذا ببينة، وإلا فعلت وفعلت"، وفي رواية "فلأجعلنك نكالاً" أي لأفعلن بك هذا الوعيد، إن تبين لي أنك كاذب متعمد. (فقال أبي بن كعب: لا يقوم معه إلا أصغر القوم) في الرواية الثانية "فقال أبي بن كعب: فوالله لا يقوم معك إلا أحدثنا سناً. قم يا أبا سعيد" وفي الرواية الرابعة "لا يشهد لك على هذا إلا أصغرنا" قال ذلك أبي بن كعب إنكاراً لموقف عمر من معاملته لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يريد أن هذا الحديث مشهور بيننا، معروف لكبارنا وصغارنا، حتى إن أصغرنا يحفظه، وسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(ألهاني عنه الصفق بالأسواق) أي التجارة والمعاملة في الأسواق، وأصل الصفق الضرب باليد ضرباً يسمع له صوت، والصفقة ضرب اليد عند البيع علامة على إنفاذه، وتطلق على البيعة، فيقال: صفقة رابحة أو خاسرة، وفي الرواية الخامسة "سبحان الله إنما سمعت شيئاً، فأحببت أن أتثبت" وفي بعض الطرق أن عمر قال لأبي موسى: "أما إني لم أتهمك، ولكني أردت أن لا يتجرأ الناس على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية قال عمر لأبي موسى: "والله إن كنت لأميناً على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أحببت أن أتثبت" قال ابن عبد البر: يحتمل أن يكون حضر عنده من قرب عهده بالإسلام، فخشي أن أحدهم يختلق الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الرغبة والرهبة طلباً للمخرج مما يدخل فيه، فأراد أن يعلمهم أن من فعل شيئاً من ذلك، ينكر عليه حتى يأتي بالمخرج. اهـ فهو من قبيل: إياك أعني واسمعي يا جارة. (فجعلوا يضحكون) قال النووي: سبب ضحكهم التعجب من فزع أبي موسى وذعره وخوفه من العقوبة، مع أنهم قد أمنوا أن يناله عقوبة أو غيرها، لقوة حجته، وسماعهم ما أنكر عليه. (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فدعوت) أي استأذنت وناديت، وفي رواية البخاري "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في دين كان على أبي، فدققت الباب" وفي رواية "فضربت الباب"، وفي الرواية السابعة "استأذنت على النبي صلى الله عليه وسلم". (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من هذا؟ قلت: أنا، فخرج وهو يقول: أنا أنا! ! ) في ملحق الرواية السابقة "كأنه كره ذلك" قال المهلب: إنما كره قول: أنا، لأنه ليس فيه بيان، إلا إن كان المستأذن ممن يعرف المستأذن عليه بصوته، ولا يلتبس بغيره، والغالب الالتباس، وقيل: إنما كره ذلك لأن جابراً لم يستأذن بلفظ السلام، وفيه نظر، لأنه ليس في سياق حديث جابر أنه طلب الدخول، وإنما جاء في حاجته، فدق الباب، ليعلم النبي صلى الله عليه وسلم بمجيئه، فلذلك خرج له، وقال الداودي: إنما كرهه لأنه أجابه بغير ما سأله عنه، لأنه لما ضرب الباب عرف أن هناك ضارباً، فلما قال: "أنا" كأنه أعلمه أن هناك ضارباً، فلم يزده على ما عرف من ضرب الباب، قال الخطابي: وكان حق الجواب أن يقال: أنا جابر، ليقع تعريف الاسم الذي وقعت المسألة عنه، وذكر ابن الجوزي أن السبب في كراهة قول "أنا" أن فيها نوعاً من الكبر، كأن قائلها يقول: أنا الذي لا أحتاج أن أذكر اسمي ولا نسبي، وتعقب بأن هذا لا يتأتى في حق جابر، في مثل هذا المقام، وبأنه لو كان ذلك كذلك لعلمه، لئلا يستمر عليه ويعتاده. (أن رجلاً اطلع في جحر، في باب رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي الرواية العاشرة "أن رجلاً اطلع من بعض جحر النبي صلى الله عليه وسلم" "جحر" بضم الجيم وسكون الحاء، وهو كل ثقب مستدير، في أرض أو حائط، و"حجر" بضم الحاء وفتح الجيم، جمع حجرة، وهي ناحية البيت، ووقع في رواية "من جحر في حجرة النبي صلى الله عليه وسلم" بالإفراد. (ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم مدرى، يحك به رأسه) "المدرى" بكسر الميم وسكون الدال وفتح الراء، مقصور، حديدة يسوي بها شعر الرأس، وقيل: هو شبه المشط، وقيل: أعواد تحدد، تجعل شبه المشط، وقيل: هو عود تسوي به المرأة شعرها، وجمعه "مدارى" ويقال في الواحد "مدراة" أيضاً، و"مدراية" أيضاً، يقال: تدريت بالمدرى، والمدرى تذكر وتؤنث، وفي رواية للبخاري "يحك بها رأسه" وفي

روايتنا التاسعة "يرجل به رأسه" وهذا يؤيد من قال: إنه مشط، أو يشبه المشط، ولا منافاة بين "يحك" و"يرجل" إذ كان يحك ويرجل. (لو أعلم أنك تنظرني لطعنت به في عينك) وفي الرواية التاسعة "لو أعلم أنك تنظر طعنت به في عينك" قال النووي: هكذا في بعض النسخ "تنظرني" وفي أكثر النسخ "تنتظرني" قال القاضي: "تنتظرني" رواية الجمهور، والصواب "تنظرني" ويحمل الأول عليه. (إنما جعل الإذن من أجل البصر) في الرواية التاسعة "إنما جعل الله الإذن من أجل البصر" معناه أن الاستئذان مشروع ومأمور به، لئلا يقع البصر على الحرام، فلا يحل لأحد أن ينظر في ثقب باب ولا غيره، مما يعرض البصر للوقوع على محرم، وفي رواية "إنما جعل الإذن من قبل البصر" بكسر القاف وفتح الباء، أي من جهة البصر. (فقام إليه بمشقص أو مشاقص) المشقص بكسر الميم وسكون الشين وفتح القاف نصل السيف، إذا كان طويلاً غير عريض، وقيل: هو نصل عريض للسهم، والشك من الراوي، هل قال شيخه، بالإفراد أو بالجمع. (فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يختله، ليطعنه) "يختله" بفتح الياء وسكون الخاء وكسر التاء، أي يراوغه ويستغفله ليطعنه، وطعن يطعن من باب فتح، وكتب، قال النووي: وضم العين في المضارع أشهر، وفي رواية البخاري "فكأني أنظر إليه، يختل الرجل ليطعنه". (لو أن رجلاً اطلع عليك بغير إذن فخذفته بحصاة، ففقأت عينه، ما كان عليك من جناح) "فخذفته" بالخاء والذال، يقال: خذفه بالحصاة، أي رماه بها، بأن جعل الحصاة بين إصبعيه ورمى بها، وحذفه بالحاء رماه وضربه، والجناح هنا الحرج، وعند أبي عاصم "ما كان عليك من حرج" وفي رواية له "ما كان عليك من ذلك شيء" وحمل بعضهم الجناح هنا على الإثم، ليرتب عليه وجوب الدية، إذ لا يلزم من رفع الإثم رفع الدية، وسيأتي تفصيل المسألة في فقه الحديث. (عن نظر الفجاءة) بضم الفاء وفتح الجيم وبالمد، ويقال بفتح الفاء وإسكان الجيم والقصر، لغتان، وهي البغتة، ومعنى نظر الفجأة أن يقع بصره على الأجنبية من غير قصد. (فأمرني أن أصرف بصري) أي لا أديم نظرة الفجاءة لحظة أخرى. -[فقه الحديث]- قال النووي: أجمع العلماء على أن الاستئذان مشروع، وتظاهرت به دلائل القرآن والسنة وإجماع الأمة. قال: والسنة أن يسلم ويستأذن ثلاثاً، فيجمع بين السلام والاستئذان، كما صرح به في القرآن. اهـ فقد قال تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها} [النور: 27] أي حتى تستأذنوا وتسلموا، فجمعت الآية بينهما، والمراد من الاستئذان ما يدل على

طلب الإذن صريحاً والمشهور في ذلك لفظ "أأدخل"؟ وجوز أن يكون بما يفهم منه ذلك مطلقاً، وجعلوا منه التسبيح والتكبير ونحوهما، مما يحصل به إيذان أهل البيت، فقد روي عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه قال: قلنا: يا رسول الله، ما الاستئناس؟ فقال: "يتكلم الرجل بالتسبيحة والتكبيرة والتحميدة، يتنحنح، يؤذن أهل البيت" ثم قال النووي: واختلفوا في أنه هل يستحب تقديم السلام على الاستئذان؟ أو تقديم الاستئذان على السلام؟ والصحيح الذي جاءت به السنة، وقاله المحققون أنه يقدم السلام، فيقول: السلام عليكم، أأدخل؟ . والقول الثاني: يقدم الاستئذان، والثالث، وهو اختيار الماوردي من أصحابنا، التفصيل: إن وقعت عين المستأذن على صاحب المنزل قبل دخوله، قدم السلام، وإلا قدم الاستئذان، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان، في تقديم السلام. اهـ بل أكثر من حديثين فقد أخرج الترمذي عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "السلام قبل الكلام" وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري في الأدب المفرد، عن أبي هريرة، فيمن يستأذن قبل أن يسلم، قال: "لا يؤذن له حتى يسلم" وأخرج ابن أبي شيبة، وابن وهب في كتاب المجالس، عن زيد بن أسلم قال: أرسلني أبي إلى ابن عمر -رضي الله عنهما- فجئته، فقلت: أألج؟ فقال: ادخل، فلما دخلت قال: مرحباً يا ابن أخي. لا تقل: أألج؟ ولكن قل: السلام عليكم، فإذا قيل: وعليك، فقل: أأدخل؟ فإذا قالوا: ادخل فادخل" وأخرج قاسم بن أصبغ وابن عبد البر في التمهيد, عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "استأذن عمر على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: السلام على رسول الله. السلام عليكم. أيدخل عمر"؟ . والحكمة في الاستئذان أن المستأذن لو دخل بغير إذن لرأى بعض ما يكره، واطلع على ما لم يحب صاحب البيت الاطلاع عليه، قال الحافظ ابن حجر: وقد ورد التصريح بذلك فيما أخرجه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وحسنه من حديث ثوبان، رفعه "لا يحل لامرئ مسلم أن ينظر إلى جوف بيت حتى يستأذن، فإن فعل فقد دخل" أي صار في حكم الداخل. اهـ وروايتانا الثامنة والتاسعة توضحان الحكمة صراحة، وفيهما "إنما جعل الإذن من أجل البصر" وأخرج الطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال "من كان يشهد أني رسول الله فلا يدخل على أهل بيت، حتى يستأذن ويسلم، فإذا نظر في قعر البيت، فقد دخل". وفي الكشاف: إنما شرع الاستئذان لئلا يقف على الأحوال التي يطويها الناس في العادة عن غيرهم، ويتحفظون من اطلاع أحد عليها، ولم يشرع لئلا يطلع الداخل على العورة فقط، ولا إلى ما لا يحل النظر إليه فقط، وعليه فقوله صلى الله عليه وسلم "إنما جعل الاستئذان من أجل النظر" خارج مخرج الغالب، فعلى الأعمى أن يستأذن، كراهة اطلاعه -بواسطة السمع أو غيره على ما لا يحب أهل البيت أن يطلع عليه. وظاهر الآية مشروعية الاستئذان إذا أريد الدخول على المحارم، وقد أخرج مالك في الموطأ، عن عطاء بن يسار "أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أأستأذن على أمي؟ قال: نعم. قال: ليس لها خادم غيري؟ أأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال: أتحب أن تراها عريانة؟ قال الرجل: لا قال: فاستأذن عليها".

وسأل رجل حذيفة "أستأذن على أمي؟ قال: إن لم تستأذن عليها رأيت ما تكره" والاستئذان أيضاً مشروع للنساء، إذا أردن الدخول على نساء، والحكمة حماية أسرار أهل البيت من أن يطلع عليها من لا يحبن الاطلاع عليها. وهل يحتاجه المرء في دخوله منزله الذي لا يسكنه غيره؟ قيل: لا، لفقد العلة التي من أجلها شرع الاستئذان، وقيل: إن احتمل أن يتجدد فيه ما يحتاج معه إلى الإذن شرع له. والحكمة في كون الاستئذان ثلاثاً جاءت في حديث أخرجه البيهقي في الشعب وابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال: "كان يقال: الاستئذان ثلاث، أما الأولى فليسمع أهل البيت، وأما الثانية فليأخذوا حذرهم ويستعدوا، وأما الثالثة فإن شاءوا أذنوا، وإن شاءوا لم يأذنوا". واختلف العلماء في الزيادة على الثلاث، قال ابن عبد البر: فذهب أكثر أهل العلم إلى أنه لا تجوز الزيادة على الثلاث، وقال بعضهم: إذا لم يسمع فلا بأس أن يزيد، وروي عن مالك لا أحب أن يزيد على الثلاث إلا من علم أنه لم يسمع، قال الحافظ ابن حجر: وهو الأصح عند الشافعية. قال ابن عبد البر: وقيل: تجوز الزيادة مطلقاً، بناء على أن الأمر بالرجوع بعد الثلاث للإباحة والتخفيف عن المستأذن، فمن استأذن أكثر فلا حرج عليه، قال النووي: إذا استأذن ثلاثاً، فلم يؤذن له، وظن أنه لم يسمعه، ففيه ثلاثة مذاهب: أشهرها أنه ينصرف، ولا يعيد الاستئذان، والثاني يزيد فيه، والثالث إن كان بلفظ الاستئذان المتقدم لم يعده، وإن كان بغيره أعاده، فمن قال بالأظهر، فحجته قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث "فلم يؤذن له فليرجع" ومن قال بالثاني حمله على من علم، أو ظن أنه سمعه، فلم يأذن. -[ويؤخذ من أحاديث الباب فوق ما تقدم]- 1 - من أحاديث أبي موسى وعمر -رضي الله عنهما- أخذ بعضهم أنه لا يحتج بخبر الواحد، وزعم أن عمر رضي الله عنه رد حديث أبي موسى هذا، لكونه خبر واحد. قال النووي: وهذا مذهب باطل، وقد أجمع من يعتد به على الاحتجاج بخبر الواحد، ووجوب العمل به، ودلائله من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين وسائر الصحابة ومن بعدهم أكثر من أن تحصر. قال: وأما قول عمر لأبي موسى: أقم عليه البينة، فليس معناه رد خبر الواحد، من حيث هو خبر الواحد، ولكن خاف عمر مسارعة الناس إلى القول على النبي صلى الله عليه وسلم، حتى يتقول عليه بعض المبتدعين أو الكاذبين أو المنافقين ونحوهم ما لم يقل، وأن كل من وقعت له قضية وضع فيها حديثاً على النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد سد الباب، خوفاً من غير أبي موسى، لا شكاً في رواية أبي موسى، فإنه عند عمر أجل من أن يظن به أن يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقل، بل أراد زجر غيره بطريقه، فإن من دون أبي موسى، إذا رأى هذه القضية، أو بلغته، وكان في قلبه مرض، أو أراد وضع حديث، خاف من مثل قضية أبي موسى، فامتنع من وضع الحديث والمسارعة إلى الرواية بغير يقين، ومما يدل على أن عمر لم يرد رد خبر أبي موسى لكونه خبر واحد أنه طلب منه إخبار رجل آخر، حتى يعمل بالحديث، ومعلوم أن خبر الاثنين خير من خبر واحد، وكذا ما زاد، حتى يبلغ التواتر، فما لم يبلغ التواتر فهو خبر واحد، ومما يؤيده أيضاً ما ذكره مسلم في الرواية الخامسة

"أن أبيا رضي الله عنه قال: يا ابن الخطاب فلا تكونن عذاباً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: سبحان الله! ! إنما سمعت شيئاً، فأحببت أن أتثبت". اهـ وقال الحافظ ابن حجر: وقد استشكل ابن العربي إنكار عمر على أبي موسى حديثه المذكور، مع كونه وقع له مثل ذلك، مع النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك في حديث ابن عباس الطويل، في هجر النبي صلى الله عليه وسلم نساءه في المشربة، فإن فيه أن عمر استأذن مرة بعد مرة، فلما لم يؤذن له في الثالثة رجع، حتى جاءه الإذن، قال: والجواب عن ذلك أنه لم يقض فيه بعلمه، أو لعله نسي ما كان وقع له، ويؤيده قوله "شغلني الصفق بالأسواق" قال الحافظ ابن حجر: والصورة التي وقعت لعمر ليست مطابقة لما رواه أبو موسى، بل استأذن في كل مرة، فلم يؤذن له، فرجع، فلما رجع في الثالثة استدعى، فأذن له. 2 - واستدل به من ادعى أن خبر العدل بمفرده لا يقبل، حتى ينضم إليه غيره، كما في الشهادة، قال ابن بطال: وهو خطأ من قائله، وجهل بمذهب عمر، فقد جاء في بعض طرقه أن عمر قال لأبي موسى: أما إني لم أتهمك، ولكن أردت أن لا يتجرأ أحد على الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. 3 - أخذ منه الجمهور التثبت من خبر الواحد، لما يجوز عليه من السهو وغيره. 4 - ويؤخذ منه أن لصاحب البيت -إذا سمع الاستئذان- أن لا يأذن، سواء سلم مرة أو مرتين أو ثلاثاً، إذا كان في شغل له، ديني أو دنيوي، أو كان له مقصد صحيح في عدم الإذن، فقد قيل: إن عمر رضي الله عنه تعمد أن يقف أبو موسى على بابه طويلاً، إيلاماً له، وتأديباً، لما بلغه أن أبا موسى يحبس الناس على بابه، في حال إمرته، وقد كان عمر استخلفه على الكوفة، فعند البخاري في الأدب المفرد "فقال عمر: يا عبد الله اشتد عليك أن تحتبس على بابي؟ اعلم أن الناس كذلك، يشتد عليهم أن يحتبسوا على بابك". 5 - وفيه أن العالم المتبحر، قد يخفى عليه من العلم ما يعلمه من هو دونه، ولا يقدح ذلك في وصفه بالعلم والتبحر فيه. 6 - ومن ضحكهم في الرواية الثالثة أن من تحقق من براءة الشخص مما يخشى منه، وأنه لا يناله بسبب ذلك مكروه، له أن يمازحه، ولو كان قبل إعلامه بما يطمئن به خاطره مما هو فيه، لكن بشرط أن لا يطول الفصل، لئلا يكون سبباً في طول تأذي الغير. 7 - ومن إنكار أبي سعيد لضحكهم المبادرة إلى إزالة ما يقع من الهم بالممازحة. 8 - استدل بالرواية الرابعة، بعبارة "إنا كنا نؤمر بهذا" أن قول الصحابي مثل ذلك يحمل على الرفع، ويقوي ذلك إذا ساقه مساق الاستدلال. 9 - ومن قول عمر "ألهاني عنه الصفق بالأسواق" في الرواية الرابعة إطلاق اللهو على الاشتغال بالتجارة، لأنها ألهته عن طول ملازمته النبي صلى الله عليه وسلم، حتى سمع غيره منه ما لم يسمعه، وأصل اللهو في اللغة ما يلهي، سواء كان حراماً أو حلالاً، وفي الشرع ما يحرم فقط. 10 - ومن حالة أبي موسى بعد إنذاره من عمر رهبة الصحابة من عمر -رضي الله عنهم- أجمعين.

11 - ومن قول أبي بن كعب لعمر: "فلا تكونن عذاباً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" في الرواية الخامسة قوة الصحابة في الحق، ولو في نصح عمر -رضي الله عنهم أجمعين. 12 - ومن الرواية السادسة والسابعة كراهة قول "أنا" في جواب "من"؟ قال النووي: الكراهة لهذا الحديث ولأنه لا يحصل بقوله "أنا" فائدة. بل ينبغي أن يقول: فلان، باسمه، ولا بأس أن يقول: أنا أبو فلان، أو أنا القاضي فلان، أو أنا الشيخ فلان، إذا لم يحصل التعريف بالاسم المجرد، قال: والأحسن أن يقول: أنا فلان، المعروف بكذا. 13 - ومن الرواية الثامنة والتاسعة استحباب الترجيل قال النووي: قال العلماء: فالترجيل مستحب للنساء مطلقاً، وللرجل بشرط ألا يفعله كل يوم، أو كل يومين، ونحو ذلك. اهـ وهو غير مسلم، ولا دليل له. 14 - وجواز استعمال المدرى. 15 - وإبقاء شعر الرأس وتربيته، واتخاذ آلة يزيل بها عنه الهوام، ويحك بها لدفع الوسخ. 16 - ومشروعية الاستئذان على من يكون في بيت مغلق الباب. 17 - ومنع التطلع عليه من خلل الباب. 18 - قال الحافظ ابن حجر: وفيه دليل على جواز رمي من يتجسس، ولو لم يندفع بالشيء الخفيف جاز بالثقيل، وأنه إن أصيب نفسه أو بعضه فهو هدر، وذهب المالكية إلى القصاص وأنه لا يجوز قصد العين ولا غيرها، واعتلوا بأن المعصية لا تدفع بالمعصية، وأجاب الجمهور بأن المأذون فيه -إذا ثبت الإذن- لا يسمى معصية، وإن كان الفعل لو تجرد عن هذا السبب يعد معصية، وقد اتفقوا على جواز دفع الصائل، ولو أتى على نفس المدفوع، وهو بغير السبب المذكور معصية، فهذا ملحق به، مع ثبوت النص فيه. وأجابوا عن الحديث بأنه ورد على سبيل التغليظ والإرهاب، قال بعضهم: لعل مالكاً لم يبلغه الحديث. ثم قال: وهل يشترط الإنذار قبل الرمي؟ وجهان، وأصحهما لا، لقوله في الرواية العاشرة "يختله" وقال: وفي حكم المتطلع من خلل الباب الناظر من فتحة في الدار، وكذا من وقف في الشارع، فنظر إلى حريم غيره، أو إلى شيء في دار غيره، وقيل: المنع مختص بمن كان في ملك المنظور إليه. ثم قال: وهل يلتحق الاستماع بالنظر؟ وجهان، الأصح لا، لأن النظر إلى العورة أشد من استماع ذكرها، وشرط القياس المساواة، أو أولوية المقيس، وهنا بالعكس. 19 - قال الحافظ ابن حجر: واستدل به على اعتبار قدر ما يرمى به بحصي الخذف، المقدم بيانها في كتاب الحج، لقوله في حديث الباب "فخذفته" فلو رماه بحجر يقتل، أو سهم، تعلق به القصاص، وفي وجه: لا ضمان مطلقاً، ولو لم يندفع إلا بذلك جاز.

ثم قال: ولو قصر صاحب الدار، بأن ترك الباب مفتوحاً، وكان الناظر مجتازاً، فنظر غير قاصد، لم يجز رميه، فإن تعمد النظر فوجهان، أصحهما لا. قال: ويلتحق بهذا من نظر من سطح بيته، ففيه الخلاف. 20 - واستدل بقوله "إنما جعل الإذن من أجل البصر" في الروايتين الثامنة والتاسعة على مشروعية القياس والعلل، فإنه دل على أن التحريم والتحليل يتعلق بأشياء، متى وجدت في شيء وجب الحكم عليه. 21 - ومن الرواية الثالثة عشرة أن من وقع منه النظر من غير قصد لا حرج عليه، وأن النهي إنما هو عن النظر المتعمد، وعن إطالة النظر الذي كان من غير قصد، فقد قال صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه "لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى، وليست لك الثانية". 22 - قال القاضي: وفي هذا الحديث حجة أنه لا يجب على المرأة أن تستر وجهها في طريقها، وإنما ذلك سنة مستحبة لها، ويجب على الرجال غض البصر عنها في جميع الأحوال، إلا لغرض صحيح شرعي، كما في حالة الشهادة والمداواة وإرادة الخطبة أو المعاملة بالبيع والشراء ونحو ذلك، وإنما يباح في جميع هذا قدر الحاجة، دون ما زاد. والله أعلم

كتاب السلام

كتاب السلام

(581) باب يسلم الراكب على الماشي والقليل على الكثير

(581) باب يسلم الراكب على الماشي والقليل على الكثير 4932 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير". -[المعنى العام]- شرع الله السلام بين عباده ليستأنسوا، فلا يستوحش مسلم من مسلم، ولينمو الود، وتزداد المحبة والتآلف، وقد بين صلى الله عليه وسلم المطالب بالبدء بالسلام، لئلا يكون للناس حجة، ولئلا يلقي بعضهم التبعة على بعض، ولئلا يتكاسل البعض في انتظار ابتداء البعض، فقال: ليبدأ الصغير سناً بالسلام على الكبير، والمار ماشياً أو راكباً على القاعد والمضطجع، والقليل عدداً على الكثير. وكانوا يقولون في الجاهلية: أنعم صباحاً، وأنعم مساء، فلما جاء الإسلام نهوا عن ذلك، وأبدلهم الله السلام تحية بينهم، والسلام تحية الملائكة، قال تعالى: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب* سلام عليكم} [الرعد: 24] وهو تحية الله لأنبيائه، قال تعالى {سلام على نوح في العالمين} [الصافات: 79] وهو تحية أهل الجنة بعضهم لبعض قال تعالى {وتحيتهم فيها سلام} [يونس: 10]. -[المباحث العربية]- (يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير) وفي رواية للبخاري "يسلم الصغير على الكبير، والمار على القاعد" والمار أعم من أن يكون راكباً، أو ماشياً، وعند الترمذي وصححه، والنسائي وصحيح ابن حبان "يسلم الفارس على الماشي، والماشي على القائم" والقائم هذا أعم من أن يكون جالساً أو واقفاً أو متكئاً أو مضطجعاً، وسيأتي تفصيل الصور والأحكام في فقه الحديث. -[فقه الحديث]- يمكن حصر نقاط الحديث في خمس نقاط: 1 - حكم إلقاء السلام، والرد عليه. 2 - لفظهما المطلوب شرعاً، وحكم ألفاظ التحيات الجارية.

3 - المواطن التي لا يشرع فيها السلام، بدءاً، ورداً. 4 - المطالبون بالبدء بالسلام، وحكمة مطالبتهم بالبدء. 5 - متفرقات. 1 - فحكم إلقاء السلام وإفشائه سنة عينية للواحد، سنة كفائية للجماعة، على من يعرف، وعلى من لا يعرف، وقد سبق في كتاب الإيمان، في باب إطعام الطعام وإفشاء السلام "وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف". نعم ذكر الماوردي: أن من مشي في الشوارع المطروقة والسوق، لا يطلب منه أن يسلم إلا على بعض من لقي، لأنه لو سلم على الكل لتشاغل عن المهم الذي خرج من أجله، ولشغل الناس عن مصالحهم، ولخرج بذلك عن العرف والمألوف، قال الحافظ ابن حجر: ولا يعكر على هذا ما أخرجه البخاري في الأدب المفرد عن الطفيل بن أبي بن كعب، قال: "كنت أغدو مع ابن عمر إلى السوق، فلا يمر على بياع، ولا على أحد، إلا سلم عليه، فقلت: ما تصنع بالسوق؟ وأنت لا تقف على البيع؟ ولا تسأل عن السلع؟ قال: إنما نغدو من أجل السلام على من لقينا" لأن مراد الماوردي من خرج في حاجة له، فتشاغل عنها بما ذكر، والأثر المذكور ظاهر في أنه خرج لقصد تحصيل ثواب السلام. اهـ وربما كانت هذه الحالة خاصة بابن عمر وأمثاله، ممن يتبرك بهم وبالسلام عليهم وبرؤيتهم والقرب منهم، ويحتمل أنهم -أو أكثرهم- كانوا ممن يعرفونه ويعرفهم، ويعتزون به، ويعتز بهم، وكلام الماوردي عن الطرق العامة في المدن الكبرى، وفي الأسواق الكبيرة الجامعة، فحالة ابن عمر تصلح في شوارع القرية الصغيرة، وفي سوقها المتواضع، دون المدن والأسواق الكبيرة. وكذلك الأمر إذا دخل الشخص مجلساً، فيه جمع كبير، مئات أو آلاف، لا يطلب منه أن يسلم عليهم واحداً واحداً، بل إن كان الجمع قليلاً، يعمهم سلام واحد، فسلم، كفاه، ولو كان الجمع كثيراً، لا يعمهم سلام واحد، سلم عند دخوله على من شاهدهم، وهل يستحب أن يسلم على من جلس عندهم، ممن لم يسمعه؟ وجهان. ويدخل في عموم إفشاء السلام، السلام على النفس لمن دخل مكاناً ليس فيه أحد، لقوله تعالى: {فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم} [النور: 61] ولأن المكان لا يخلو من مخلوقات الله، من ملائكة وجن وغير ذلك، وقد أخرج البخاري في الأدب المفرد وابن أبي شيبة بسند حسن، عن ابن عمر "فيستحب إذا لم يكن أحد في البيت أن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين". ويدخل في عموم إفشاء السلام أيضاً من مر على من ظن أنه إذا سلم عليه لا يرد عليه، فإنه يشرع له السلام، ولا يتركه لهذا الظن، لأنه قد يخطئ، قال النووي: وأما قول من لا تحقيق عنده أن ذلك يكون سبباً لتأثيم الآخر، فهو غباوة، لأن المأمورات الشرعية لا تترك بمثل هذا، ولو أعلمنا هذا لبطل إنكار كثير من المنكرات، ورجح ابن دقيق العيد في شرح الإلمام المقالة التي زيفها النووي، وقال: إن توريط المسلم في المعصية أشد من ترك مصلحة السلام عليه، ولا سيما وامتثال إفشاء السلام قد حصل مع غيره. ويدخل في عموم إفشاء السلام أيضاً عدم تخصيص أحد الحاضرين بالسلام، ففي التخصيص ما يوقع الغير في الاستيحاش، وقد أورد الطحاوي في مشكل الآثار حديث أبي ذر، في قصة إسلامه،

وفيه "فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم -وقد صلى هو وصاحبه- فكنت أول من حياه بتحية الإسلام" قال الطحاوي: وهذا لا ينافي حديث ابن مسعود في ذم السلام للمعرفة، لاحتمال أن يكون أبو ذر سلم على أبي بكر قبل ذلك، أو لأن حاجته كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم، دون أبي بكر، قال الحافظ ابن حجر: والاحتمال الثاني لا يكفي في تخصيص السلام، وأقرب منه أن يكون ذلك قبل تقرير الشرع بتعميم السلام، ويحتمل أن يكون أبو بكر توجه بعد الصلاة إلى منزله، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم منزله، فدخل عليه أبو ذر، وهو وحده، ويؤيده ما أخرجه مسلم والبخاري في قصة إسلام أبي ذر "أنه قام يلتمس النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعرفه، ويكره أن يسأل عنه، فرآه علي، فعرف أنه غريب، فاستتبعه -أي عرف حاجته، فطلب منه أن يتبعه إليه- حتى دخل به على النبي صلى الله عليه وسلم، فأسلم". ويدخل في عموم إفشاء السلام أيضاً سلام الرجال على النساء، وسلام النساء على الرجال، والجمهور على جوازه، عند أمن الفتنة، فعند البخاري عن سهل رضي الله عنه، قال: "كنا نفرح يوم الجمعة، قيل لسهيل: ولم؟ قال: كانت لنا عجوز، تأخذ من أصول السلق، فتطرحه في قدر، وتكركر حبات من شعير، فإذا صلينا الجمعة انصرفنا، ونسلم عليها، فتقدمه إلينا، فنفرح من أجله" وعنده أيضا "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا عائشة، هذا جبريل يقرأ عليك السلام. قالت: وعليه السلام ورحمة الله. ترى ما لا نرى". وجبريل -عليه السلام- كان يأتي في صورة رجل، وفي مسلم حديث أم هانئ "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يغتسل، فسلمت عليه" وعند الترمذي وحسنه حديث أسماء بنت يزيد "مر علينا النبي صلى الله عليه وسلم في نسوة، فسلم علينا" قال الحليمي: كان النبي صلى الله عليه وسلم للعصمة مأموناً من الفتنة، فمن وثق من نفسه بالسلامة فليسلم، وإلا فالصمت أسلم. وفرق المالكية بين الشابة والعجوز، فأجازوا السلام على العجوز، ومنعوا السلام على الشابة، سداً للذرائع، وحجتهم حديث سهل الماضي قريباً، فإنها كانت عجوزاً. ومنع ربيعة سلام الرجال على النساء، وسلام النساء على الرجال مطلقاً، ويستند إلى ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير "بلغني أنه يكره أن يسلم الرجال على النساء، والنساء على الرجال" قال الحافظ ابن حجر: وهو مقطوع أو معضل. وقال الكوفيون: لا يشرع للنساء ابتداء السلام على الرجال، لأنهن منعن من الأذان والإقامة والجهر بالقراءة، قالوا: ويستثنى المحرم، فيجوز لها السلام على محارمها، وتعقب بأن الرجال الذين كانوا يزورون المرأة بعد الجمعة وتطعمهم في حديث سهل، لم يكونوا من محارمها. وقال المتولي: السلام على الأجنبية، إن كانت جميلة، يخاف الافتتان بها لم يشرع السلام، لا ابتداء، ولا جواباً، ولو ابتدأ أحدهما كره للآخر الرد، وإن كانت عجوزاً، لا يفتتن بها جاز. ولو اجتمع في المجلس رجال ونساء جاز السلام من الجانبين عند أمن الفتنة. وهذا كله عن السلام مشافهة، دون مصافحة، وسيأتي الكلام عنها. ويدخل في عموم إفشاء السلام أيضاً السلام على الصبيان، وسيأتي في مسلم عما قريب عن أنس رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على غلمان، فسلم" قال النووي: فيه استحباب السلام على الصبيان

المميزين، وقد اتفق العلماء على استحباب السلام على الصبيان، ولو سلم على رجال وصبيان، فرد السلام صبي منهم، هل يسقط فرض الرد عن الرجال؟ فيه وجهان لأصحابنا، أصحهما يسقط، ومثله الخلاف في صلاة الجنازة، هل يسقط فرضها بصلاة الصبي؟ الأصح سقوطه، ونص عليه الشافعي، ولو سلم الصبي على رجل لزم الرجل رد السلام، وهذا هو الصواب الذي أطبق عليه الجمهور، وقال بعض أصحابنا: لا يجب، وهو ضعيف أو غلط. وهل يدخل في عموم إفشاء السلام السلام على الكافرين؟ ذهبت طائفة إلى جواز بدئهم بالسلام، فأخرج الطبري من طريق ابن عيينة، قال: يجوز ابتداء الكافر بالسلام، لقوله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} [الممتحنة: 8] وقول إبراهيم لأبيه {سلام عليك} [مريم: 47] وأخرج ابن أبي شيبة عن عون بن عبد الله عن محمد بن كعب، أنه سأل عمر بن عبد العزيز عن ابتداء أهل الذمة بالسلام، فقال: نرد عليهم ولا نبدؤهم. قال عون لمحمد بن كعب: فكيف تقول أنت؟ قال: ما أرى بأساً أن نبدأهم. قلت: لم؟ قال؟ لقوله تعالى: {فاصفح عنهم وقل سلام} [الزخرف: 89] وقال البيهقي: عن أبي أمامة أنه كان يسلم على كل من لقيه، فسئل عن ذلك، فقال: إن الله جعل السلام تحية لأمتنا، وأماناً لأهل ذمتنا. وقال النووي: روي جواز ابتدائنا لهم بالسلام عن ابن عباس وأبي أمامة وابن أبي محيريز، وهو وجه لبعض أصحابنا، حكاه الماوردي، لكنه قال: يقول: السلام عليك، ولا يقول: عليكم بالجمع، واحتج هؤلاء بعموم الأحاديث، وبإفشاء السلام، وهي حجة باطلة، لأنه عام مخصوص، بحديث "لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه" أخرجه مسلم وسيأتي قريباً، وأخرجه البخاري في الأدب المفرد، وأخرج النسائي "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إني راكب غداً إلى اليهود، فلا تبدءوهم بالسلام" ثم قال النووي: وقال بعض أصحابنا: يكره ابتداؤهم بالسلام، ولا يحرم، وهذا ضعيف أيضاً، لأن النهي للتحريم، فالصواب تحريم ابتدائهم. اهـ ويجيب المانعون على أدلة المجوزين بأن العموم في الأحاديث مخصوص، وأن قوله تعالى {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم} ليس صريحاً في رخصة السلام، وأن قول إبراهيم لأبيه ليس القصد منه سلام التحية، بل القصد منه المتاركة والمباعدة، وصرح بعض السلف بأن قوله تعالى {فاصفح عنهم وقل سلام} نسخت بآية القتال، وللطبري رأي يحاول به الجمع والتوسط بين الرأيين، فيقول: لا مخالفة بين حديث أسامة في سلام النبي صلى الله عليه وسلم على الكفار، حيث كانوا مع المسلمين، وبين حديث أبي هريرة "لا تبدءوا اليهود ولا النصارى" في النهي عن السلام على الكفار، لأن حديث أبي هريرة عام، وحديث أسامة خاص، فيختص حديث أبي هريرة بما إذا كان الابتداء لغير سبب ولا حاجة، من حق الصحبة أو حق المجاورة، أو حق المكافأة، أو نحو ذلك، قال النووي: وحكى القاضي عن جماعة أنه يجوز ابتداؤهم بالسلام لضرورة أو حاجة أو سبب، وهو قول علقمة والنخعي. اهـ وقيل في المراد من حديث أبي هريرة منع ابتدائهم بالسلام المشروع، فأما لو سلم عليهم بلفظ يقتضي خروجهم عنه، كأن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فهو جائز، كما كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل وغيره "سلام على من اتبع الهدى" وأخرج عبد الرزاق عن قتادة قال: السلام على

أهل الكتاب إذا دخلت عليهم بيوتهم: السلام على من اتبع الهدى. وأخرج ابن أبي شيبة عن محمد بن سيرين "إذا سلمت على المشركين فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فيحسبون أنك سلمت عليهم، وقد صرفت السلام عنهم" والتحقيق أن السلام له معان متعددة، وجملة السلام عليكم يمكن أن تكون خبرية لفظاً ومعنى، وأن تكون إنشائية دعائية، فالسلام بمعنى أمان الله في الدنيا والآخرة لا يقال لهم ابتداء ولا جواباً، إن كانت الجملة خبرية فهو كذب، وإن كانت دعائية فلا يجوز الدعاء لهم بذلك، ولكن يدعى لهم بالهداية والإسلام، وهذه وجهة نظر من يمنع أن يقال لهم "ورحمة الله وبركاته" والسلام على أنه اسم الله تعالى يراد مع حذف مضاف تقديره "أمان الله، أو رحمة الله، أو إحسان الله، أو جنة الله، ونحو ذلك، وهو في المنع كسابقه. والسلام بمعنى الأمان من المتكلم للمخاطب، وتأمين المسلم المسلم عليه من أذاه جائز أن يقال لهم على أنه خبر، أي أنت في أمان من أذاي، فأعطني الأمان من أذاك، وعلى هذا ينبغي للمسلم أن يقصد هذا المعنى، ولا غضاضة في ذلك، فالإسلام دين الأمان والمسالمة، وإن لم يقصده وقصد التحية العادية فلا بأس، وبخاصة أن الحاجة في مجتمعنا إلى الترابط ونبذ الطائفية شديدة، والمسلمون ضعاف في أوطانهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ويعجبني قول الأوزاعي: إن سلمت فقد سلم الصالحون، وإن تركت فقد ترك الصالحون أما السلام على جمع فيه مسلمون وكفار، أو مسلم وكافر، فيجوز ابتداؤهم بالسلام، ويقصد المسلمين، فقد سلم صلى الله عليه وسلم على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين. وهل يدخل في عموم إفشاء السلام أيضاً السلام على الفساق وأهل المعاصي؟ الجمهور على أنه لا يسلم على الفاسق، ولا على المبتدع، قال عبد الله بن عمرو "لا تسلموا على شربة الخمر" وأخرج سعيد بن منصور بسند ضعيف وابن عدي بسند أضعف عن ابن عمر "لا تسلموا على من شرب الخمر، ولا تعودوهم إذا مرضوا، ولا تصلوا عليهم إذا ماتوا" قال النووي: المبتدع ومن اقترف ذنباً عظيماً، ولم يتب منه، لا يسلم عليهم، ولا يرد عليهم السلام، وقال مالك: لا يسلم على أهل الأهواء، وقال المهلب: ترك السلام على أهل المعاصي سنة ماضية. قال النووي: فإن اضطر إلى السلام، بأن خاف ترتيب مفسدة في دين، أو دنيا، إن لم يسلم، سلم، زاد ابن العربي: وينوي أن السلام اسم من أسماء الله تعالى، فكأنه قال: الله رقيب عليكم. اهـ وقصة كعب بن مالك، حين تخلف عن غزوة تبوك، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة عن كلامه، عمدة في هذه المسألة. أما رد السلام فقد قال النووي: إنه واجب، فإن كانوا جماعة كان الرد فرض كفاية في حقهم، فإذا رد واحد منهم سقط الحرج عن الباقين، والأفضل أن يرد الجميع، وعن أبي يوسف أنه لا بد أن يرد الجميع. اهـ واتفقوا على أن من سلم على جماعة، فرد عليه واحد من غيرهم، لا يجزئ عنهم، واختلفوا في حكم الرد على من سلم عند قيامه من المجلس، إذا كان قد سلم حين دخل، فقال القاضي حسين: لا يجب الرد، ووافقه المتولي، وخالفه المستظهري، فقال: السلام سنة عند الانصراف، فيكون الجواب واجباً. قال النووي: هذا هو الصواب. ونقل ابن عبد البر وغيره إجماع المسلمين على أن ابتداء السلام سنة، وأن رده فرض، وقال

الحليمي: إنما كان الرد واجباً لأن السلام معناه الأمان، فإذا ابتدأ به المسلم أخاه، فلم يجبه، فإنه يتوهم منه الشر، فيجب عليه دفع ذلك التوهم عنه. اهـ ولا يكفي السلام سراً، بل يشترط الجهر، وأقله أن يسمع، في الابتداء وفي الجواب، ومن كان بعيداً، بحيث لا يسمع التسليم يجوز السلام عليه إشارة، ويتلفظ مع ذلك بالسلام، ويشترط كون الرد على الفور، ولو أتاه سلام من غائب في ورقة وجب الرد على الفور. قاله النووي. وإرسال السلام مع آخر مشروع، ويجب على الرسول تبليغه، لأنه أمانة، أو وديعة، فإن التزمه الرسول أشبه الأمانة، والأمانة واجبة الأداء، وإن لم يلتزمه أشبه الوديعة، والودائع إذا لم تقبل لم يلزمه شيء، لكن يستحب تبليغها وإذا أتاه شخص بسلام من شخص استحب أن يرد على المرسل والمبلغ، فيقول: وعليك وعليه السلام. 2 - أما لفظهما المطلوب شرعاً فيقول النووي: أقل السلام أن يقول: السلام عليكم، فإن كان المسلم عليه واحداً فأقله: السلام عليك، والأفضل أن يقول: السلام عليكم، ليتناوله وملكيه، وأكمل منه أن يزيد "ورحمة الله" وأيضاً "وبركاته" ولو قال: سلام عليكم أجزأه. قال: واستدل العلماء لزيادة "ورحمة الله وبركاته" بقوله تعالى، إخباراً عن سلام الملائكة، بعد ذكر السلام {رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت} [هود: 73] وبقول المسلمين كلهم في التشهد: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. قال: ويكره أن يقول المبتدئ: عليكم السلام، فإن قاله استحق الجواب على الصحيح المشهور، وقيل: لا يستحقه وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقل: عليك السلام، فإن عليك السلام تحية الموتى". قال: وأما صفة الرد، فالأفضل والأكمل أن يقول: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فيأتي بالواو "وعليكم" فلو حذفها جاز، وكان تاركاً للأفضل، ولو اقتصر على "وعليكم السلام" أو على "عليكم السلام" أجزأه، ولو اقتصر على "عليكم" لم يجزه بلا خلاف، ولو قال: "وعليكم" بالواو، ففي إجزائه وجهان لأصحابنا. قال: وإذا قال المبتدئ: سلام عليكم، أو السلام عليكم، فقال المجيب مثله، سلام عليكم، أو السلام عليكم كان جواباً وأجزأه، قال تعالى {قالوا سلاماً قال سلام} [هود: 69] ولكن بالألف واللام أفضل. اهـ وقد روى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خلق الله آدم على صورته، طوله ستون ذراعاً، فلما خلقه قال: اذهب، فسلم على أولئك، نفر من الملائكة جلوس، فاستمع ما يحيونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك، فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه "ورحمة الله" وفي هذا الحديث تأييد لمن قال: لا يقدم على لفظ السلام شيء، بل يقول في الابتداء والرد: السلام عليك، وتأييد للاقتصار على الإفراد، وتأييد لمن قالها في الرد بدون الواو. ولو قال المبتدئ: السلام عليكم، بالجمع، فقال المجيب: وعليك السلام، فغير محسن، لأنه لم يرد التحية بمثلها فضلاً عن أحسن منها، ولو زاد المبتدئ "ورحمة الله" زاد المجيب حتى يرد بمثلها أو أحسن منها.

قالوا: ولو زاد المبتدئ "ورحمة الله وبركاته" أو زاد عليها "ومغفرته" فهل تشرع الزيادة في الرد على ما زاد؟ أخرج مالك في الموطأ عن ابن عباس قال: انتهى السلام إلى البركة، وأخرج البيهقي في الشعب "جاء رجل إلى ابن عمر، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته، فقال: حسبك إلى "وبركاته" انتهى إلى "وبركاته". وجاء عن ابن عمر الجواز، فعند مالك في الموطأ عنه أنه زاد في الجواب "والغاديات والرائحات" وأخرج البخاري في الأدب المفرد عن سالم مولى ابن عمر قال: كان ابن عمر يزيد إذا رد السلام، فأتيته مرة، فقلت: السلام عليكم، فقال: السلام عليكم ورحمة الله، ثم أتيته، فزدت "وبركاته" فرده وزاد "وطيب صلواته" ونقل ابن دقيق العيد عن أبي الوليد بن رشد أنه يؤخذ من قوله تعالى {فحيوا بأحسن منها} [النساء: 86] جواز الزيادة على البركة، إذا انتهى إليها المبتدئ. وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي بسند قوي، عن عمران بن حصين قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليكم، فرد عليه، وقال: عشر" -أي عشر حسنات، كما صرح بها في رواية البخاري في الأدب المفرد وصححه ابن حبان- "ثم جاء آخر، فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرد عليه، وقال: عشرون، ثم جاء آخر، فزاد: وبركاته، فرد عليه، وقال: ثلاثون" وأخرج الطبراني بسند ضعيف "من قال: السلام عليكم كتب له عشر حسنات، ومن زاد: ورحمة الله كتب له عشرون حسنة، ومن زاد: وبركاته كتب له ثلاثون حسنة" قال الحافظ ابن حجر: "وهذه الأحاديث الضعيفة إذا انضمت، قوي ما اجتمعت عليه من مشروعية الزيادة على "وبركاته" واتفقوا على أن من سلم، بقوله: السلام عليكم لم يجزئ في جوابه إلا السلام، ولا يجزئ في جوابه: صبحك الله بالخير، أو صبحك الله بالسعادة ونحو ذلك. واختلف فيمن أتى في التحية بغير لفظ السلام، كأن قال: مساء الخير مثلاً، هل يجب جوابه، بمثل تحيته؟ فيقول: ومساكم الله بالخير؟ أو بأحسن منها؟ فيقول: عليكم السلام ورحمة الله وبركاته؟ فيكون في ذلك تعليماً له لما كان ينبغي؟ أو يجمع بينهما؟ وهو الأفضل، فيقول: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ومساكم الله بالخير؟ وقال ابن دقيق العيد: الذي يظهر أن التحية بغير لفظ السلام من باب ترك المستحب، وليس بمكروه، إلا إن قصد به العدول عن السلام، إلى ما هو أظهر في التعظيم من أجل أكابر أهل الدنيا. ولو أتى بالسلام بغير اللفظ العربي، هل يستحق الجواب؟ ثلاثة أقوال للعلماء: يجب، لا يجب، يجب الرد على من لا يحسن العربية، لعذره، ولا يجب الرد على من يحسن العربية لتقصيره، وحين الرد يكون باللغة الأجنبية، بمثل المبتدئ لمن يقدر عليها. 3 - أما المواطن التي لا يشرع فيها السلام فقد قال النووي: يستثنى من العموم بابتداء السلام من كان مشتغلاً بأكل أو شرب أو جماع، أو كان في الخلاء، أو الحمام، أو نائماً، أو ناعساً، أو مصلياً، أو مؤذناً مادام متلبساً بشيء مما ذكر، فلو لم تكن اللقمة في فم الآكل مثلاً شرع السلام عليه، ويشرع في حق المتبايعين، وسائر المعاملات، واحتج له ابن دقيق العيد، بأن الناس غالباً يكونون في

اشتغالهم، فلو روعي لم يحصل امتثال الإفشاء، وقال ابن دقيق العيد: احتج من منع السلام على من في الحمام بأنه بيت الشيطان، وليس موضع التحية، لاشتغال من فيه بالتنظيف، قال: وليس هذا المعنى بالقوي في الكراهة، بل يدل على عدم الاستحباب. قال الحافظ ابن حجر: وقد ثبت في صحيح مسلم عن أم هانئ "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يغتسل، وفاطمة تستره، فسلمت عليه". قال النووي: وأما السلام حال الخطبة في الجمعة فيكره، للأمر بالإنصات، ولو سلم لم يجب الرد، عند من قال: الإنصات واجب، ويجب عند من قال: إنه سنة، وعلى الوجهين لا ينبغي أن يرد أكثر من واحد، وأما المشتغل بقراءة القرآن، فقال الواحدي: الأولى ترك السلام عليه، فلو سلم عليه كفاه الرد بالإشارة، وإن رد لفظاً استأنف الاستعاذة وقرأ، وقال النووي: وفيه نظر، والظاهر أنه يشرع السلام عليه، ويجب عليه الرد. ولو سلم على المصلي جاز أن يرد السلام بالإشارة، فقد وردت أحاديث جيدة أنه صلى الله عليه وسلم رد السلام وهو يصلي، إشارة، منها حديث أبي سعيد "أن رجلاً سلم على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي، فرد عليه، إشارة". قال النووي: وأما من كان مشتغلاً بالدعاء، مستغرقاً فيه، مستجمع القلب، فيحتمل أن يقال: هو كالقارئ، والأظهر عندي أنه يكره السلام عليه، لأنه يتنكد به، ويشق عليه أكثر من مشقة الأكل، وأما الملبي في الإحرام، فيكره أن يسلم عليه، لأن قطعه التلبية مكروه، ويجب عليه الرد مع ذلك لفظاً أن لو سلم عليه، قال: ولو تبرع واحد من هؤلاء برد السلام، إن كان مشتغلاً بالبول ونحوه فيكره، وإن كان آكلاً، ونحوه فيستحب في الموضع الذي لا يجب فيه، وإن كان مصلياً لم يجز أن يقول بلفظ المخاطبة، كعليك السلام، أو عليك فقط، فلو فعل بطلت، إن علم التحريم، لا إن جهل في الأصح، فلو أتى بضمير الغيبة لم تبطل، ويستحب أن يرد بالإشارة، وإن رد بعد فراغ الصلاة لفظاً فهو أحب، وإن كان مؤذناً أو ملبياً لم يكره له الرد لفظاً، لأنه قدر يسير، لا يبطل الموالاة. اهـ وتعقب بأن التعليل الذي ذكره في تنكد الداعي يأتي مثله في القارئ، وما ذكره في بطلان الصلاة إذا رد السلام بالخطاب، ليس متفقاً عليه، فعن الشافعي نص في أنه لا تبطل، لأنه لا يرد حقيقة الخطاب بل الدعاء، وإذا عذرنا الداعي والقارئ بعدم الرد، فرد بعد الفراغ، كان مستحباً. وذكر بعض الحنفية أن من جلس في المسجد للقراءة، أو للتسبيح، أو لانتظاره الصلاة، لا يشرع السلام عليهم، وإن سلم عليهم لم يجب الجواب، قال: وكذا الخصم إذا سلم على القاضي لا يجب عليه الرد، وكذلك الأستاذ إذا سلم عليه تلميذه لا يجب الرد عليه. كذا قال، وهذا الأخير لا يوافق عليه. ولا يسلم على مكشوف العورة، ولا على درس العلم، ولا على رجل معه امرأة شابة، ولو سلم على هؤلاء لم يجب الرد. والله أعلم. 4 - وحديث الباب يحدد المطالبين بالبدء بالسلام "يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير" وعند البخاري "يسلم الصغير على الكبير، والمار على القاعد".

وقد تكلم العلماء على الحكمة فيمن شرع لهم الابتداء، فقال المهلب: تسليم الصغير لأجل حق الكبير، لأنه أمر بتوقيره، والتواضع له، وتسليم القليل لأجل حق الكثير، لأن حقهم أعظم، وتسليم المار -راكباً أو ماشياً- لشبهه بالداخل على أهل المنزل، وتسليم الراكب لئلا يتكبر بركوبه، فيرجع إلى التواضع، وقال ابن العربي: حاصل ما في هذا الحديث أن المفضول بنوع ما يبدأ الفاضل. اهـ ولا يتأتى هذا في الراكب والماشي. وقال المازري: أما أمر الراكب، فلأنه له مزية على الماشي، بأن يبدأه الراكب بالسلام، احتياطاً على الراكب من الزهو، أن لو حاز الفضيلتين، وأما الماشي فلما يتوقع القاعد منه من الشر، ولا سيما إذا كان راكباً، فإذا ابتدأه بالسلام أمن منه ذلك، وأنس إليه، أو لأن في التصرف في الحاجات امتهاناً، فصار للقاعد مزية، فأمر بالابتداء، أو لأن القاعد يشق عليه مراعاة المارين، مع كثرتهم، فسقطت البداءة عنه للمشقة، بخلاف المار، فلا مشقة عليه، وأما القليل فلفضيلة الجماعة، أو لأن الجماعة لو ابتدءوا لخيف على الواحد الزهو، فاحتيط له. قال المازري وغيره: هذه المناسبات لا يعترض عليها بجزئيات تخالفها، لأنها لم تنصب نصب العلل الواجبة الاعتبار، حتى لا يجوز أن يعدل عنها، حتى لو ابتدأ الماشي، فسلم على الراكب لم يمتنع، لأنه ممتثل للأمر بإفشاء السلام وإظهاره، غير أن مراعاة ما ثبت في الحديث أولى، ويستحب ولا يلزم من ترك المستحب الكراهة، بل يكون خلاف الأولى، فلو ترك المأمور بالابتداء، فبدأه الآخر، كان المأمور تاركاً للمستحب، والآخر فاعلاً للسنة، إلا إن بادر، فيكون تاركاً للمستحب أيضاً، وقال المتولي: لو خالف الراكب، أو الماشي ما دل عليه الخبر كره، قال: والوراء يبدأ بكل حال، وقال الكرماني: لو جاء في الحديث أن الكبير يبدأ الصغير، والكثير يبدأ القليل لكان مناسباً، لأن الغالب أن الصغير يخاف من الكبير، والقليل يخاف من الكثير، فإذا بدأ الكبير أمن الصغير، وإذا بدأ الكثير أمن القليل، لكن لما كان من شأن المسلمين أن يأمن بعضهم بعضاً اعتبر جانب التواضع. اهـ وخلاصة القول إن الحكمة في هذا الترتيب متلمسة، ولغير هذا الترتيب حكم تتلمس، وللمشرع حكمته التي قد لا نعلمها، فالاتباع أولى. وهناك صور لم يتعرض لها المشرع، منها: (أ) إذا تلاقى ماران، راكبان، أو ماشيان؟ قال المازري: يبدأ الأدنى منهما الأعلى قدراً في الدين، إجلالاً لفضله، لأن فضيلة الدين مرغب فيها في الشرع، وعلى هذا لو التقى راكبان، ومركوب أحدهما أعلى من مركوب الآخر، كالجمل والفرس، فيبدأ راكب الفرس؟ أو ينظر إلى أعلاهما قدراً في الدين، فيبدؤه الذي هو دونه؟ هذا الثاني أظهر، لكن لا نظر إلى من يكون أعلاهما قدراً من جهة الدنيا، كموظف ومديره، إلا أن يكون سلطاناً أو نحوه يخشى بأسه. (ب) إذا تعارضت جهات طلب البدء، كأن يكون المشاة كثيرا، والقعود قليلا؟ قيل: يرجح جانب المشاة، وقيل: إذا تعارضا تساقطا، ويقدر أنهم في حكم اثنين متساويين التقيا. (جـ) إذا تعارض الصغر المعنوي بالصغر الحسي، كأن يكون الأصغر سناً أعلم، أو أتقى،

أو أحكم، قال الحافظ ابن حجر: الذي يظهر اعتبار السن، لأنه الظاهر، من قبيل تقديم الحقيقة على المجاز. اهـ (د) ومثل ذلك إذا كان الكبير راكباً، والصغير ماشياً؟ قال ابن دقيق العيد: يبدأ الراكب، لأن محل بدء الصغير السلام على الكبير إذا التقيا، راكبين، أو ماشيين. (هـ) إذا تساوى المتلاقيان من كل جهة فكل منهما مأمور بالابتداء، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام، كما في المتهاجرين، وقد أخرج البخاري في الأدب المفرد، بسند صحيح، من حديث جابر، قال: "الماشيان إذا اجتمعا فأيهما بدأ بالسلام فهو أفضل" وأخرج الطبراني من حديث أبي الدرداء "قلنا: يا رسول الله، إنا نلتقي، فأينا يبدأ بالسلام؟ قال: أطوعكم لله". 5 - أما المتفرقات فمنها: (أ) من سمع سلاماً في المذياع الصوتي أو المرئي أو قرأ سلاماً في خطاب، هل يجب عليه الرد؟ الظاهر وجوب الرد، لأن السلام -على المشهور- دعاء بالأمن والرحمة، فإذا حيا المذيع السامعين، أو حيا المرسل المرسل إليه، بهذه التحية، لزمهم أن يحيوه بمثلها، أو بأحسن منها، وأن يدعوا له بمثلها أو أحسن منها، أما اشتراط إسماع الرد فهو حيث أمكن، لما في ذلك من تطييب الخاطر، وشرح الصدر، ومقابلة الإحسان بالإحسان، أما إذا لم يمكن الإسماع فالخير الدعاء بظهر الغيب. (ب) المصافحة وأخذ اليد في اليد حين السلام، أخرج البخاري. قال ابن مسعود: "علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد، وكفي بين كفيه" وقال كعب بن مالك: "دخلت المسجد، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام إلى طلحة بن عبيد الله يهرول، حتى صافحني، وهنأني" وعن قتادة: قلت لأنس: أكانت المصافحة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم" وأخرج الترمذي بإسناد حسن، عن أنس رضي الله عنه، قال: "قيل: يا رسول الله، الرجل يلقى أخاه، أينحني له؟ قال: لا. قال: فيأخذ بيده، ويصافحه؟ قال: نعم" قال ابن بطال: المصافحة حسنة عند عامة العلماء، وقد استحبها مالك، بعد كراهته. وقال النووي المصافحة سنة مجمع عليها عند التلاقي، وقد أخرج أحمد وأبو داود والترمذي، عن البراء، رفعه "ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان، إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا". قال النووي: وأما تخصيص المصافحة بما بعد صلاتي الصبح والعصر فقد مثل بها ابن عبد السلام البدعة المباحة، قال النووي: وأصل المصافحة سنة، وكونهم حافظوا عليها في بعض الأحوال، لا يخرج ذلك عن أصل السنة. قال الحافظ ابن حجر: ويستثنى من عموم الأمر بالمصافحة المرأة الأجنبية. (جـ) تقبيل اليد، وأجازه جمهور العلماء، واحتجوا بما روي عن عمر، أنهم "لما رجعوا من الغزو -حيث فروا- قالوا: نحن الفرارون، فقال: بل أنتم العكارون -أي الكرارون الراجعون- إنا فئة المؤمنين، قال: فقبلنا يده" "وقيل أبو لبابة وكعب بن مالك وصاحباه يد النبي صلى الله عليه وسلم، حين تاب الله عليهم" أخرجه ابن المقري والبيهقي في الدلائل، وذكره

الأبهري، "وقبل أبو عبيدة يد عمر، حين قدم" أخرجه سفيان في جامعه، "وقبل زيد بن ثابت يد ابن عباس، حين أخذ ابن عباس بركابه" أخرجه الطبري وابن المقري، وذكر الترمذي من حديث صفوان بن عسال "أن يهوديين أتيا النبي صلى الله عليه وسلم، فسألاه عن تسع آيات .... الحديث، وفي آخره "فقبلا يده ورجله" قال الترمذي: حسن صحيح وأخرجه أيضاً للنسائي وابن ماجه وصححه الحاكم، وأخرج أبو داود حديث الزارع العبدي، وكان في وفد عبد القيس قال "فجعلنا نتبادر من رواحلنا، فنقبل يد النبي صلى الله عليه وسلم، فقبلنا يده" قال الحافظ ابن حجر: وسنده قوي، وأخرج أيضاً من حديث بريدة، في قصة الأعرابي والشجرة، فقال: يا رسول الله، ائذن لي أن أقبل رأسك ورجليك، فأذن له" وأخرج البخاري في الأدب المفرد، من رواية عبد الرحمن بن رزين قال: "أخرج لنا سلمة بن الأكوع كفاً له ضخمة، كأنها كف بعير، فقمنا إليها، فقبلناها" وعن ثابت "أنه قبل يد أنس" وأخرج أيضاً "أن علياً قبل يد العباس ورجله" وأخرج ابن المقري من طريق أبي مالك الأشجعي، "قال: قلت لابن أبي أوفى: ناولني يدك التي بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فناولنيها، فقبلتها". قال النووي: تقبيل يد الرجل لزهده وصلاحه، أو علمه، أو شرفه، أو صيانته، أو نحو ذلك، من الأمور الدينية، لا يكره، بل يستحب، فإن كان لغناه، أو شوكته، أو جاهه عند أهل الدنيا، فمكروه شديد الكراهة. اهـ وكرهها مالك، وأنكر ما ورد فيه. قال الأبهري: وإنما كرهها مالك إذا كانت على وجه التكبر والتعظم، وأما إذا كانت على وجه القربة إلى الله، لدينه، أو لعلمه، أو لشرفه، فإن ذلك جائز. (د) والمعانقة والتقبيل، وعند أحمد من حديث أبي ذر، "قال رجل لأبي ذر: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصافحكم إذا لقيتموه؟ قال: ما لقيته قط إلا صافحني، وبعث إلي ذات يوم، فلم أكن في أهلي، فلما جئت أخبرت أنه أرسل إلي، فأتيته، وهو على سريره، فالتزمني، فكان أجود وأجود" قال الحافظ ابن حجر: ورجاله ثقات، وأخرج الطبراني في الأوسط، من حديث أنس "كانوا إذا تلاقوا تصافحوا، وإذا قدموا من سفر تعانقوا". قال ابن بطال: اختلف الناس في المعانقة، فكرهها مالك، وأجازها ابن عيينة. وأخرج الترمذي عن عائشة، قالت: قدم زيد بن حارثة المدينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، فقرع الباب، فقام إليه النبي صلى الله عليه وسلم، يجر ثوبه، فاعتنقه وقبله "قال الترمذي: حديث حسن. (هـ) والقيام للقادم على وجه البر والإكرام جائز، بل مستحب، فقد أخرج البخاري عن أبي سعيد رضي الله عنه قال "إن أهل قريظة نزلوا على حكم سعد، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليه، فجاء، فقال: قوموا إلى سيدكم -أو قال: خيركم- فقعد عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هؤلاء نزلوا على حكمك، قال: فإني أحكم أن نقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، فقال: لقد حكمت بما حكم به الملك". قال ابن بطال: في هذا الحديث أمر الإمام الأعظم بإكرام الكبير من المسلمين، ومشروعية إكرام

أهل الفضل في مجلس الإمام الأعظم، والقيام فيه لغيره من أصحابه، واحتج ابن بطال لجواز القيام للقادم، تكريماً له بما أخرجه النسائي، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا رأى فاطمة بنته قد أقبلت رحب بها، ثم قام، فقبلها، ثم أخذ بيدها، حتى يجلسها في مكانه" وأخرجه أيضاً أبو داود والترمذي وحسنه، وصححه ابن حبان والحاكم، وترجم له أبو داود بباب القيام، وكذلك صنع البخاري في الأدب المفرد، وزاد حديث كعب بن مالك في قصة توبته، وفيه "فقام إلى طلحة بن عبيد الله يهرول". وذهب آخرون إلى منع القيام، وأجابوا عند هذه الأدلة، واستدلوا بأدلة أخرى كثيرة، وقد بسطها الحافظ ابن حجر، ولا يسمح به مقام شرح حديثنا. وخير ما قيل في ذلك ما قاله الغزالي: القيام على سبيل الإعظام مكروه، وعلى سبيل الإكرام لا يكره. قال الحافظ ابن حجر: وهو تفصيل حسن. والله أعلم

(582) باب حق الجلوس على الطريق وحق المسلم على المسلم

(582) باب حق الجلوس على الطريق وحق المسلم على المسلم 4932 - عن أبي طلحة رضي الله عنه قال: كنا قعوداً بالأفنية نتحدث. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام علينا، فقال "ما لكم ولمجالس الصعدات. اجتنبوا مجالس الصعدات" فقلنا: إنما قعدنا لغير ما باس. قعدنا نتذاكر ونتحدث. قال "إما لا فأدوا حقها: غض البصر، ورد السلام، وحسن الكلام". 4933 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إياكم والجلوس بالطرقات" قالوا: يا رسول الله، ما لنا بد من مجالسنا نتحدث فيها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أبيتم إلا المجلس، فأعطوا الطريق حقه" قالوا: وما حقه؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". 4934 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "حق المسلم على المسلم خمس". وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خمس تجب للمسلم على أخيه: رد السلام، وتشميت العاطس، وإجابة الدعوة، وعيادة المريض، واتباع الجنائز" قال عبد الرزاق: كان معمر يرسل هذا الحديث، عن الزهري. وأسنده مرة عن ابن المسيب، عن أبي هريرة. 4935 - عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "حق المسلم على المسلم ست" قيل ما هن يا رسول الله؟ قال: "إذا لقيته فسلم عليه. وإذا دعاك فأجبه. وإذا استنصحك فانصح له. وإذا عطس فحمد الله، فسمته. وإذا مرض فعده. وإذا مات فاتبعه".

-[المعنى العام]- طريق الناس وظلهم بيئة عامة، ينتفع بها الغني والفقير، والعظيم والحقير، والكبير والصغير، فمن أفسد فيه مفسدة فقد أفسد على الناس، ومن وضع فيه عائقاً، فقد حال بين الناس وبين الانتفاع به، ومن هنا نهى الشارع عن التبول والتبرز في طريق الناس وظلهم، بل حرض المسلمين على إزالة الأذى عنه، وتهيئته للمارة، فرجل أزال غصن شوك من الطريق، غفر الله له وأدخله الجنة. وحرص الشارع على كل ما يضمن للمارة الراحة والوسع وحرية الذهاب والمجيء، وكان من المضايقات جلوس الناس أفراداً وجماعات على قارعة الطريق، إنهم يؤذون المارة بأبصارهم، فيفتنونهم، أو يفتتنون بهم، ويكتشفون ما يخفونه من أمور حياتهم، ومستور عوراتهم، يتغامزون عليهم، ويسخرون منهم، ويعيبونهم، ويغتابونهم، كان هذا الجلوس على الطريق في صدر الإسلام، نهاراً أو ليلاً عادة منتشرة، سهلها وأعان عليها فراغ كبير، وقلة عمل، وضعف مجالات السعي، فإبلهم وأبقارهم وغنمهم تسرح قطعاناً وحدها، أو مع صبي صغير، تخرج خماصاً صباحاً وتعود بطاناً عند الغروب من كلأ مباح، وتجارتهم المتواضعة في أيدي نفر قليل منهم، يسعى بها لنفسه، ولملأ من قومه، فجلوسهم بكثرة على المساطب أمام ساحات البيوت الواسعة، والأفنية الكبيرة، أمر دفعت إليه البيئة، واحتاجها المجتمع، لم تكن هناك المقاهي والنوادي والمسارح الموجودة اليوم للعاطلين، وإيذاء المارة على هذه الحالة أمر لازم، فكيف يعالج المشرع هذه المشكلة؟ ليس من السهل أن يصدر أمراً بمنع الجلوس على الطرقات، فهو يعلم علم اليقين أن في ذلك مشقة عليهم، والدين يسر، فليكن الأمر بذلك وسيلة للشكوى منهم، فتستجاب الشكوى، وتوضع الضوابط المطلوبة والآداب الوافية، فيكونون بين أمرين، لا ثالث لهما، مر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم جلوس على قارعة طريق، فوقف، فقال: ما لكم وللجلوس على الطريق؟ اجتنبوا الجلوس على الطريق، إياكم والجلوس على الطريق. فزعوا من الأمر، وانزعجوا من هذا النهي، وقال قائلهم: يا رسول الله، هذه مجالسنا التي لا غنى لنا عنها، نتحدث فيها، ونتذاكر فيها ما جرى ويجري لنا، فقال المشرع الحكيم: إما أن تجتنبوا الجلوس فيها، وإما أن تؤدوا حقها. قالوا: مستعدون أن نؤدي حقها، فما حقها؟ وما الواجب لها؟ قال: غض البصر عن الحرمات، وعدم إيذاء المارة بألسنتكم وإشاراتكم ورد السلام على من سلم عليكم منهم، وإرشاد ضالهم، وإجابة سائلهم، وإعانة مظلومهم ومحتاجهم، وإغاثة ملهوفهم، وأمرهم بالمعروف إذا تركوه، ونهيهم عن منكر فعلوه، وذكر الله كثيراً. قالوا: سمعنا وأطعنا. -[المباحث العربية]- (كنا قعوداً بالأفنية) "قعود" بضم القاف، جمع قاعد، والأفنية جمع فناء بكسر الفاء، وبالمد، وقد تقصر، وهو المكان المتسع أمام الدار، ويتبع الدار، كحرم لها، وتبنى عليه المساطب، والمعنى: كنا جلوساً بفناء من الأفنية، والمتكلم أبو طلحة، يقصد نفسه وأصدقاءه. (نتحدث) جملة مستأنفة استئنافاً تعليلياً، في جواب سؤال مقدر، أي لم كنتم تجلسون؟ أو استئنافاً بيانياً، كأن سائلاً سأل: ماذا كنتم تفعلون؟ .

(فقام علينا) أي وقف عندنا، وثبت. (ما لكم ولمجالس الصعدات؟ اجتنبوا مجالس الصعدات) بضم الصاد والعين، جمع صعيد، وهو المكان الواسع، وقيل: جمع صعيد، كطريق وطرقات، وزناً ومعنى، والمراد به ما يراد من الفناء، قال الحافظ ابن حجر: وزعم ثعلب أن المراد بالصعدات وجه الأرض، والاستفهام إنكاري توبيخي، أي ما كان ينبغي لكم هذه المجالس، وفي الرواية الثانية "إياكم والجلوس بالطرقات" بأسلوب التحذير، و"الجلوس" بالنصب، أي احذروا الجلوس بالطرقات. (فقلنا: إنما قعدنا لغير ما بأس، قعدنا نتذاكر ونتحدث) القائل أبو طلحة، ونسب القول للمجموع لرضاهم به، وموافقتهم عليه، كقوله تعالى: {فعقروا الناقة} [الأعراف: 77] و"ما" زائدة، أي لغير ضرر، ولغير إساءة، أي وإذا كان هذا حالنا، فلم نمنع؟ كأنهم فهموا أن الأمر للإرشاد، فراجعوا، أو فهموا أن الشكوى وبيان العذر قد يؤدي إلى النسخ، وفي الرواية الثانية "ما لنا بد من مجالسنا، نتحدث فيها" أي ما لنا غنى عن مجالسنا هذه، والبد بضم الباء العوض. (قال: إما لا. فأدوا الطريق حقها) "إما" بكسر الهمزة وهي "إن" الشرطية، زيدت عليها "ما" وهي ممالة في الرواية، ويجوز تركها، وأصل الكلام: إما أن تجتنبوا الجلوس بالطرقات فتسلموا، وإما لا تجتنبوا الجلوس بالطرقات فأعطوا الطريق حقها، حذفت "إما" الأولى وجملتها، اعتماداً على المقام، وأصبح المعنى إن لم تجتنبوا ... فأعطوا. وفي الرواية الثانية "إذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه" وفي رواية "فإن أبيتم إلا أن تفعلوا" وفي رواية "فإن كنتم لا بد فاعلين" وفي رواية للبخاري "فإذا أتيتم إلى المجالس" والمجلس والمجالس بمعنى الجلوس، وفي رواية البخاري "فأعطوا الطريق حقها"، والطريق تذكر وتؤنث. (غض البصر) عن محرمات الطريق. (وكف الأذى) عن المارة، ولو عن طريق التسمع والتجسس والاحتقار والاستهزاء والسخرية والغيبة وغير ذلك. (خمس تجب للمسلم على أخيه) "تجب" أي تستحق، بما يشمل الاستحباب، والمراد من الأخ. الأخوة في الإسلام، ففي الرواية الرابعة "حق المسلم على المسلم ست" والعدد لا مفهوم له، فلا يفيد تحديد المأمورات، وفي حديث سبق "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع"، والأمر بعدد لا ينافي الأمر بعدد آخر، في وقت آخر، وتمييز العدد محذوف، أي خمس خصال، أو خمس فضائل، والأخ يشمل الأخت. (رد السلام) سبق في الباب قبله، وفي الرواية الرابعة "إذا لقيته فسلم عليه". (وتشميت العاطس) سبق في كتاب اللباس والزينة، باب تحريم استعمال أواني الذهب والفضة. (واتباع الجنائز) في الرواية الرابعة "وإذا مات فاتبعه" أي فاتبع جنازته، حتى يصلى عليه، أو حتى يدفن.

(وإذا استنصحك فانصح له) السين والتاء للطلب، أي إذا طلب منك النصيحة فعليك أن تنصحه، ولا تداهنه، ولا تغش، ولا تمسك عن بيان النصيحة. -[فقه الحديث]- قال القاضي عياض: في الحديث دليل على أن أمره صلى الله عليه وسلم لهم لم يكن للوجوب، وإنما كان على طريق الترغيب والأولى، إذ لو فهموا الوجوب لم يراجعوه هذه المراجعة، قال: وقد يحتج به من لا يرى الأوامر على الوجوب. قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكونوا رجوا وقوع النسخ، تخفيفاً، لما شكوا من الحاجة إلى ذلك، ويؤيده أن في مرسل يحيى بن يعمر "فظن القوم أنها عزمة" أي واجبة. وقد اشتملت الرواية الأولى على ثلاث خصال: غض البصر، ورد السلام، وحسن الكلام، وزادت الرواية الثانية: كف الأذى، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وفي حديث لأبي هريرة: زاد: إرشاد السبيل، وتشميت العاطس إذا حمد، وفي حديث عمر عند أبي داود "وتغيثوا الملهوف"، وعند أحمد والترمذي "وأعينوا المظلوم" وعند البزار "وأعينوا على الحمولة" وعند الطبراني "ذكر الله كثيراً" و"واهدوا الأغبياء" قال الحافظ ابن حجر: وقد اشتملت هذه الآداب على معنى علة النهي عن الجلوس في الطرق، من التعرض للفتن، بمرور النساء وخوف ما يلحق من النظر إليهن من ذلك، إذ لا يمنع النساء من المرور في الشوارع، لقضاء حوائجهن، ومن التعرض لحقوق الله والمسلمين، مما لا يلزم الإنسان إذا كان في بيته، ومن رؤية المنكر، وتعطيل المعروف، فيجب على المسلم الأمر والنهي عند ذلك، فإن ترك ذلك فقد تعرض للمعصية، وكذا يتعرض لمن يمر عليه، ويسلم عليه، فإنه ربما كثر ذلك، فيعجز عن الرد على كل مار، ورده فرض، فيأثم، والمرء مأمور بأن لا يتعرض للفتن، وإلزام نفسه ما لعله لا يقوى عليه، فندبهم الشارع إلى ترك الجلوس، حسماً للمادة، فلما ذكروا ضرورتهم إلى ذلك، لما فيه من المصالح، من تعاهد بعضهم بعضاً، ومذاكرتهم في أمور الدين ومصالح الدنيا، وترويح النفوس بالمحادثة في المباح، دلهم على ما يزيل المفسدة، من الأمور المذكورة. قال: ولكل من الآداب المذكورة شواهد في أحاديث أخرى -فإفشاء السلام ورده سبق في الباب قبله- وأما إحسان الكلام فقال القاضي عياض: فيه ندب إلى حسن معاملة المسلمين، بعضهم لبعض، فإن الجالس على الطريق يمر به العدد الكثير من الناس، فربما سألوه عن بعض شأنهم، ووجهة طريقهم، فيجب أن يتلقاهم بالجميل من الكلام، ولا يتلقاهم بالضجر وخشونة اللفظ، وهو من جملة كف الأذى. قال الحافظ ابن حجر: وله شواهد من حديث أبي شرح هانئ، رفعه "من موجبات الجنة إطعام الطعام، وإفشاء السلام، وحسن الكلام"، ومن حديث أبي مالك الأشعري، رفعه "في الجنة غرف لمن أطاب الكلام" وفي الصحيحين من حديث عدي بن حاتم، رفعه "اتقوا النار، ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة" وأما تشميت العاطس فمضى مبسوطاً، وأما المعاونة على الحمل، فله شاهد في الصحيحين من حديث أبي هريرة رفعه "كل سلامي من الناس عليه صدقة" الحديث، وفيه "ويعين

الرجل على دابته، فيحمله عليها، ويرفع له عليها متاعه صدقة" وأما إعانة المظلوم، فله شاهد تقدم في كتاب المظالم، وأما إغاثة الملهوف، فله شاهد في الصحيحين، من حديث أبي موسى، وفيه "ويعين ذا الحاجة الملهوف" وفي حديث أبي ذر عند ابن حبان "وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث" وأما إرشاد السبيل، فروى الترمذي، وصححه ابن حبان من حديث أبي ذر مرفوعاً "وإرشادك الرجل في أرض الضلال صدقة" وأما كف الأذى، فالمراد به كف الأذى عن المارة، بأن لا يجلس حيث يضيق عليهم الطريق، أو على باب منزل من يتأذى بجلوسه عليه، أو حيث ينكشف عياله، أو ينكشف ما يريد ستره من حاله، قاله القاضي عياض، ويحتمل أن يكون المراد كف أذى الناس، بعضهم عن بعض. والله أعلم. قال الحافظ ابن حجر: وفي الحديث حجة لمن يقول بأن سد الذرائع بطريق الأولى، لا على الحتم، لأنه نهاهم أولاً عن الجلوس، حسماً للمادة، فلما قالوا: "ما لنا منها بد" ذكر لهم المقاصد الأصلية للمنع، فعرف أن النهي الأول للإرشاد إلى الأصلح، ويؤخذ منه أن دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة، لندبه أولاً إلى ترك الجلوس، مع ما فيه من الأجر لمن عمل بحق الطريق، وذلك أن الاحتياط لطلب السلامة آكد من الطمع في الزيادة. وقد عقب البخاري على هذا الحديث بباب الآبار التي على الطريق، إذا لم يتأذ بها، وساق حديث البئر الذي شرب منه العطشان، ثم سقى منه الكلب الذي كان يلهث من شدة العطش، ثم بباب إماطة الأذى، وساق حديث "يميط الأذى عن الطريق صدقة" لأنها تسبب سلامة من يمر به من الأذى، فكأنه تصدق عليه بذلك، فحصل له أجر الصدقة، ثم عقبه بباب الغرفة المشرفة وغير المشرفة في السطوح وغيرها. قال العلماء: حكم الغرف على السطوح المشرفة على الطرقات -أي والبلكونات- الجواز، إذا أمن من الإشراف على عورات الناس والمنازل، فإن لم يؤمن لم يجبر على سده، بل يؤمر بعدم الإشراف، ولمن هو أسفل منه أن يتحفظ، ثم عقبه بباب "من عقل بعيره على باب المسجد" -ومثل ذلك السيارات- وحكمة الجواز إذا لم يحصل به ضرر. والله أعلم

(583) باب السلام على أهل الكتاب والرد عليهم

(583) باب السلام على أهل الكتاب والرد عليهم 4936 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا سلم عليكم أهل الكتاب، فقولوا: وعليكم". 4937 - عن أنس رضي الله عنه، أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن أهل الكتاب يسلمون علينا، فكيف نرد عليهم؟ قال: "قولوا وعليكم". 4938 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن اليهود إذا سلموا عليكم، يقول أحدهم السام عليكم، فقل عليك". 4939 - عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم. بمثله. غير أنه قال "فقولوا: وعليك". 4940 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: استأذن رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالوا: السام عليكم. فقالت عائشة: بل، عليكم السام واللعنة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله" قالت: ألم تسمع ما قالوا؟ قال "قد قلت وعليكم". 4941 - وفي رواية عن الزهري. بهذا الإسناد. وفي حديثهما جميعاً: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قد قلت: عليكم" ولم يذكروا الواو. 4942 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: أتى النبي صلى الله عليه وسلم أناس من اليهود. فقالوا

السام عليك يا أبا القاسم. قال "وعليكم" قالت عائشة: قلت بل عليكم السام والذام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا عائشة لا تكوني فاحشة" فقالت: ما سمعت ما قالوا؟ فقال: أوليس قد رددت عليهم الذي قالوا. قلت: وعليكم". 4943 - وفي رواية عن الأعمش. بهذا الإسناد. غير أنه قال: ففطنت بهم عائشة، فسبتهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مه يا عائشة. فإن الله لا يحب الفحش والتفحش" وزاد فأنزل الله عز وجل {وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله} [المجادلة/ 8] إلى آخر الآية. 4944 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سلم ناس من يهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم. فقال "وعليكم" فقالت عائشة، وغضبت: ألم تسمع ما قالوا؟ قال "بلى قد سمعت، فرددت عليهم. وإنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا". 4945 - عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام. فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه". 4946 - وفي رواية عن سهيل. بهذا الإسناد. وفي حديث وكيع "إذا لقيتم اليهود" وفي حديث ابن جعفر؛ عن شعبة قال: في أهل الكتاب. وفي حديث جرير: إذا لقيتموهم. ولم يسم أحداً من المشركين. -[المعنى العام]- كان اليهود يسكنون قرى حول المدينة، وعلى أطرافها، ويجوبون الديار والشوارع والمحلات خلالها، يتعاملون بالبيع والشراء وتبادل المنافع مع أهلها، وقد جاءها الإسلام، وكفروا به ظلماً وعلواً، وقوي فيها الإسلام، وشبت دولته، وهم ضعفاء، لكنهم أعداء، يتربصون بالإسلام الدوائر، ويتعاطفون مع المشركين تارة، ويتحزبون معهم أخرى، ويكيدون

للمسلمين ثالثة، لكنهم جبناء، في الظاهر مسالمون، وفي الباطن محاربون {قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر} [آل عمران: 118] كانت التحية عندهم: أنعم صباحاً، وأنعم مساء، وأبدل الله المسلمين بها تحية الإسلام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصارت هذه التحية شعار المسلمين إذا التقوا، لكن اليهود لم يظهروا محاربتهم لهذه التحية، بل حاولوا أن يظهروا استحسانهم لها وقبولها، فكانوا إذا لقوا المسلمين قالوا لهم: السام عليكم، بدون اللام، والسام الموت، يوهمونهم أنهم يقولون: السلام عليكم، وهم يدعون على المسلمين بالموت، وفطن المسلمون لهذا، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. كيف نرد عليهم يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: قولوا: وعليكم، وتجاوز الأمر الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه، دخل عليه جماعة منهم، وهو في بيت عائشة -رضي الله عنها- فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم. وسمعتهم عائشة، وفطنت لقولهم، فغضبت، وثارت، وقالت لهم: وعليكم السام والموت الذؤام ولعنة الله والناس أجمعين، فأشار إليها صلى الله عليه وسلم أن تمسك وأن تهدأ، فلما انصرفوا قال لها: يا عائشة، ما لهذا الفحش والسب والدعاء؟ إن الله لا يحب الفحش، ولا تكلفه ومعالجته وارتكابه، قالت: أو ما سمعت؟ إنهم يقولون: السام عليك. قال: قد سمعت وفطنت، كما سمعت أنت وفطنت، أو لم تسمعي ما رددت به عليهم؟ لقد قلت: وعليكم. أنا لم أبعث فاحشاً ولا متفحشاً، دعونا عليهم بما دعوا به علينا، ولا يجاب لهم، ويجيب الله دعاءنا، ونزل قوله تعالى: {وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم} [المجادلة: 8]. ثم صدرت التعليمات الإلهية: لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام، ولا تشرفوهم بهذا الشرف، ولا تكرموهم بهذا التكريم، فإذا لقيتموهم في الطريق فلا تفسحوه لهم، ولا تتركوا لهم وسطه، بل اشغلوا أنتم وسطه، فأنتم الأعزة، {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} [المنافقون: 8] واضطروهم إلى حافة الطريق وهامشه، فهم قوم غضب الله عليهم ولعنهم بظلمهم لأنفسهم وأنبيائهم، وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين. -[المباحث العربية]- (إذا سلم عليكم أهل الكتاب) الكتاب في الأصل كل مكتوب، ثم غلب على الكتاب المنزل، وعلى القرآن والتوراة والإنجيل، وخص أهل الكتاب في عرف الشرع باليهود والنصارى، وفي الرواية الثالثة "إن اليهود إذا سلموا عليكم" وفي الرواية السابعة "لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام" وفي ملحقها "إذا لقيتم اليهود" وفي ملحقها "إذا لقيتم أهل الكتاب" وفي ملحقها "إذا لقيتموهم" "ولم يسم أحداً من المشركين"، أي لم يذكر اليهود أو النصارى. (فقالوا: وعليكم) قال النووي: جاءت الأحاديث التي ذكرها مسلم "عليكم" و"وعليكم" بإثبات الواو، وحذفها، وأكثر الروايات بإثباتها، وعلى هذا في معناه وجهان: أحدهما أنه على ظاهره، قالوا: عليكم الموت، وأجيبوا: وعليكم أيضاً، أي نحن وأنتم فيه سواء، وكلنا نموت، والثاني: أن الواو، هنا

للاستئناف، لا للعطف والتشريك، وتقديره: وعليكم ما تستحقونه من الذم، وأما حذف الواو فتقديره: بل عليكم السام، قال القاضي: اختار بعض العلماء -منهم ابن حبيب المالكي- حذف الواو، لئلا يقتضي التشريك، وقال غيره: بإثباتها، كما هو في أكثر الروايات. قال: وقال بعضهم: يقول: عليكم السلام، بكسر السين، أي الحجارة، وهذا ضعيف، وقال الخطابي، عامة المحدثين يروون هذا الحرف "وعليكم" بالواو، وكان ابن عيينة يرويه بغير الواو، قال الخطابي: وهذا هو الصواب، لأنه إذا حذف "الواو" صار كلامهم بعينه مردوداً عليهم خاصة، وإذا ثبت "الواو" اقتضى المشاركة معهم فيما قالوه. هذا كلام الخطابي، قال النووي: والصواب أن إثبات الواو، وحذفها جائزان، كما صحت به الروايات، وأن الواو أجود، كما هو في أكثر الروايات، ولا مفسدة فيه، لأن السام الموت، وهو علينا وعليهم، ولا ضرر في قوله بالواو. (إن اليهود إذا سلموا يقول أحدهم: السام عليكم) كذا في الأصول، بألف ساكنة، والسام الموت، وقيل: الموت العاجل، وفي الحديث "ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، إلا السام"، وذكر ابن عبد البر عن ابن طاوس قال: يقول: علاكم السام. أي ارتفع فوقكم، وتعقبه جماعة من السلف، وقد تفسر السام بالسآمة، وأصلها السأم عليكم، خفف الهمزة. (استأذن رهط من اليهود) الرهط من ثلاثة إلى تسعة، قال الحافظ ابن حجر: لم أعرف أسماءهم، لكن أخرج الطبراني بسند ضعيف، عن زيد بن أرقم، قال: "بينما أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذا أقبل رجل من اليهود، يقال له: ثعلبة بن الحارث، فقال: السام عليك يا محمد. فقال: وعليكم" فإن كان محفوظاً احتمل أن يكون أحد الرهط المدكورين، وكان هو الذي باشر الكلام عنه، ونسب القول إلى جماعتهم لرضاهم به، وفي الرواية الخامسة "أتى النبي صلى الله عليه وسلم أناس من اليهود" وفي الرواية السادسة "سلم ناس من يهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم". (فقالت عائشة: بل عليكم السام واللعنة) في الرواية الخامسة "بل عليكم السام والذام" بالذال والألف وتخفيف الميم، وهو الذي بدون ألف مع تشديد الميم، قال النووي: ويقال: الذأم بالهمزة أيضاً، والأشهر ترك الهمزة، قال: والذام والذيم والذم العيب، وروي "الدام" بالدال، ومعناه الدائم، رواه كذلك ابن الأثير، ونقل القاضي عياض الاتفاق على أنها بالذال، قال: ولو روي بالدال لكان له وجه. اهـ لكنه في الرواية يحتاج إلى حذف الواو، ليكون الدام وصفاً للسام، وفي ملحق الرواية "ففطنت بهم عائشة، فسبتهم" قال النووي: هكذا في جميع النسخ، من الفطنة وكذا نقله القاضي عن الجمهور، قال: ورواه بعضهم "فقطبت" بالقاف وتشديد الطاء، بعدها باء وقد تخفف الطاء في هذا اللفظ، وهو بمعنى "غضبت" ولكن الصحيح الأول، وفي الرواية السادسة "فقالت عائشة -وغضبت- ألم تسمع؟ " وفي رواية البخاري عن عائشة "فقالت: عليكم، ولعنكم الله، وغضب عليكم" وفي رواية له عن عائشة "ففهمتها، فقلت: عليكم السام واللعنة" ولعل عائشة -رضي الله عنها- فهمت كلامهم بفطنتها، فأنكرت عليهم، وظنت أن النبي صلى الله عليه وسلم ظن أنهم تلفظوا بلفظ السلام، فبالغت في الإنكار عليهم. (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة، إن الله يحب الرفق في الأمر كله) أل في "الأمر" للجنس، أي في الأمور كلها، والرفق بكسر الراء وسكون الفاء هو لين الجانب بالقول والفعل، والأخذ

بالأسهل، وهو ضد العنف، وفي الرواية الخامسة "يا عائشة، لا تكوني فاحشة" وفي ملحقها "مه يا عائشة، فإن الله لا يحب الفحش والتفحش" و"مه" اسم فعل للزجر عن الشيء بمعنى اكففي، والفحش كل ما خرج عن الحدود، ولو لم يكن عيباً شرعياً، ويدخل في القول والفعل والصفة، يقال: طول فاحش، إذا أفرط في الطول، لكن استعماله في القول أكثر، وقيل: الفحش القبح والمتفحش بتشديد الحاء وكسرها الذي يتعمد ذلك، ويكثر منه ويتكلفه، وأغرب الداودي، فقال: الفاحش الذي يقول الفحش، والمتفحش الذي يستعمل الفحش، ليضحك الناس. قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن لا يتعود لسانها بالفحش، أو أنكر عليها الإفراط في السب. اهـ أي فقال لها ما قال بعد أن خرجوا. -[فقه الحديث]- ما يتعلق ببدء أهل الكتاب بالسلام والرد عليهم سبق في الباب قبله، وما يتعلق بكيفية الرد عليهم سبق في المباحث العربية -[وبقي بعض ما يؤخذ من الأحاديث. فيؤخذ منها: ]- 1 - ما كان عليه اليهود من الخداع والتربص بالمسلمين. 2 - ظهور الكبير بمظهر المنخدع، لمصلحة التآلف، قال النووي: في هذا الحديث استحباب تغافل أهل الفضل عن سفه المبطلين، إذا لم يترتب عليه مفسدة، قال الشافعي: الكيس العاقل هو الفطن المتغافل. 3 - استدل بالروايات الثلاث الأول على أن الرد بقوله "عليكم" أو "وعليكم" خاص بالكفار، فلا يجزئ في الرد على المسلم، وقيل: إن أجاب بالواو أجزأ. 4 - استدل بلعن عائشة لليهود المعينين على جواز لعن الكافر المعين، ولا سيما إذا صدر منه ما يقتضي التأديب، ويحتمل أنها -رضي الله عنها- تقدم لها علم بأن المذكورين يموتون على الكفر، فأطلقت اللعن، ولم تقيده بالموت. وسيأتي الكلام على جواز لعن المشرك المعين الحي. 5 - لما كان اليهود أهل ذمة، وطلب الرد عليهم بعبارة خاصة أخذ بعضهم جواز الرد على أهل الذمة، ومنع الرد على أهل الحرب. 6 - الحث على الرفق في الأمور كلها. 7 - من قوله في الرواية السادسة "نجاب عليهم ولا يجابون علينا" أن دعوة الكافر والفاسق الظالمة على المسلم لا تجاب، وتجاب دعوة المسلم على الكافر. 8 - ما كانت عليه عائشة -رضي الله عنها- من الفطنة، والغيرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجرأة في الحق، والانتصار لأهل الفضل ممن يؤذيهم. والله أعلم

(584) باب استحباب السلام على الصبيان

(584) باب استحباب السلام على الصبيان 4947 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على غلمان، فسلم عليهم. 4948 - عن سيار قال: كنت أمشي مع ثابت البناني، فمر بصبيان، فسلم عليهم. وحدث ثابت: أنه كان يمشي مع أنس، فمر بصبيان، فسلم عليهم. وحدث أنس: أنه كان يمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمر بصبيان، فسلم عليهم. -[المعنى العام]- إن تدريب الصبيان على التشريعات الإسلامية مقصد مهم من مقاصد الدين، يعلمون الصلاة لسبع، ويضربون على إهمالها عند العشر، ويصطحبون إلى المساجد، ليتعودوا احترامها، والسكينة عندها، ويعلمون آداب الشريعة، من صدق وأمانة، ووفاء بالعهد، وصيانة اللسان من فحش القول، وصيانة الجوارح من المعصية، وإن كانوا غير مكلفين، حتى يبلغوا. ومن التدريب على هذه الآداب إلقاء السلام عليهم إذا مررنا بهم، ففي هذا تكريم لهم، وغرس للمودة بين الكبار وبينهم، وإشعارهم بتواضع كبيرهم، وشفقته عليهم، وحرصه على صالحهم. وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا مر بصبيان مميزين سلم عليهم. -[المباحث العربية]- (مر على غلمان) في الرواية الثانية "مر على صبيان" في كتب اللغة: الغلام الطار الشارب، والصبي من حين يولد إلى أن يشب، والجمع غلمان وغلمة، بكسر الغين فيهما، والصبي الصغير، من حين الولادة إلى البلوغ. -[فقه الحديث]- سبق توضيحه في الباب قبل السابق، باب يسلم الراكب على الماشي.

(585) باب جواز جعل الإذن رفع حجاب أو غيره من العلامات

(585) باب جواز جعل الإذن رفع حجاب أو غيره من العلامات 4948 - عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذنك علي أن يرفع الحجاب، وأن تستمع سوادي، حتى أنهاك". -[المعنى العام]- سبق قريباً، قبل أبواب الكلام عن الاستئذان، وحكمة مشروعيته، وكيفيته، وأحكامه. وهذا الباب جزئية تابعة له. وحاصلها: هل يشترط في الإذن أن يكون صريحاً بالقول؟ أو تكفي الإشارة؟ أو الحركة المفهمة؟ وخلاصة القول إن العرف هو الفيصل في اعتماد الإشارة أو عدم اعتمادها. فهناك من يستخدم التكنولوجيا الحديثة، فيرى وهو في جوف حجرته زائراً على الباب، وقبل أن يدق الجرس يضغط صاحب البيت على زر صغير بجواره، فينفتح الباب السفلي، فإذا وصل إلى الباب الداخلي انفتح الباب وحده بمجرد مشيه على الأرض قبل الباب بنحو متراً، وهذا إذن عرف صحيح ولا شك. وهناك الكبير يجلس في مجلسه في جوف بيته، ويفتح الباب العام على مصراعيه، ليدخل من يريده، ففتح الباب الكبير مع هذا يعتبر إذناً، يسمح لمن أراد أن يدخل، حتى يصل إلى المجلس، فيسلم، فيؤذن له بالجلوس. وهناك من يفتح الباب بنفسه، ويسمح للطارق بالدخول بالإشارة أو بالفعل، فيعتبر تلاقي الشخصين وتقارب الجسمين إذناً لا يلغيه إلا أن يقول صاحب البيت: لا تدخل. يحكي ابن مسعود هذه الصورة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: حينما تأتيني، وترغب الدخول علي، وتستأذن، فتراني فتحت الباب، ورفعت الحجاب، وترى شخصي وقد قارب شخصك، فاعتبر هذا إذناً مني لك بالدخول، إلا إذا نهيتك عن الدخول. -[المباحث العربية]- (إذنك علي أن يرفع الحجاب) "إذنك" مصدر مضاف إلى المفعول، وهناك مضاف

محذوف، أي علامة إذني لك بالدخول علي، أن أرفع الحجاب الذي يحجبك عني، ويحجبني عنك، ففعل "يرفع" بالبناء للمجهول، فاعله المراد صاحب البيت أو من ينيبه، وليس الطارق. (وأن تستمع سوادي) قال النووي: السواد بكسر السين وبالدال، قال: واتفق العلماء على أن المراد به (السرار) بكسر السين، وبالراء المكررة، وهو السر، يقال: ساورت الرجل مساورة، إذا ساررته، قالوا: وهو مأخوذ من إدناء سوارك من سواره عند المساررة، أي قرب شخصك من شخصه، والسواد اسم لكل شخص. اهـ وفي كتب اللغة: السواد بفتح السين ضد البياض من الألوان، والشخص، يقال: لا يفارق سوادي سواده، أي لا تفارق عيني شخصه، ولا يزايل سوادي بياضك، أي لا يفارق شخصي شخصك. والسواد بكسر السين أو ضمها المسارة. وقد اعتمد النووي الرواية بكسر السين ففسرها التفسير السابق، دعاه إلى ذلك لفظ "تستمع" ولو فسرنا "تستمع" بلفظ "تحس" مجازاً مرسلاً، بعلاقة الإطلاق بعد التقييد صح التفسير الثاني. -[فقه الحديث]- قال النووي: فيه دليل جواز اعتماد العلامة في الإذن في الدخول، فإذا جعل الأمير والقاضي ونحوهما وغيرهم رفع الستر الذي على بابه علامة في الإذن في الدخول عليه للناس عامة، أو لطائفة خاصة، أو لشخص خاص، أو جعل علامة غير ذلك، جاز اعتمادها والدخول -إذا وجدت- بغير استئذان، وكذا إذا جعل الرجل ذلك علامة بينه وبين خدمه وكبار أولاده وأهله، فمتى أرخى حجابه فلا دخول إلا باستئذان، فإذا رفعه جاز بلا استئذان. والله أعلم

(586) باب خروج النساء لقضاء حاجة الإنسان

(586) باب خروج النساء لقضاء حاجة الإنسان 4949 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجت سودة بعد ما ضرب عليها الحجاب لتقضي حاجتها، وكانت امرأة جسيمة تفرع النساء جسماً لا تخفى على من يعرفها. فرآها عمر بن الخطاب فقال: يا سودة، والله ما تخفين علينا، فانظري كيف تخرجين. قالت: فانكفأت راجعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، وإنه ليتعشى وفي يده عرق. فدخلت، فقالت: يا رسول الله، إني خرجت فقال لي عمر كذا وكذا. قالت: فأوحي إليه، ثم رفع عنه، وإن العرق في يده ما وضعه. فقال: إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن. وفي رواية أبي بكر: يفرع النساء جسمها. زاد أبو بكر في حديثه، فقال هشام: يعني البراز. 4950 - وفي رواية عن هشام بهذا الإسناد، وقال: وكانت امرأة يفرع الناس جسمها. قال: وإنه ليتعشى. 4951 - عن عائشة رضي الله عنها، أن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع، وهو صعيد أفيح. وكان عمر بن الخطاب يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: احجب نساءك. فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل. فخرجت سودة بنت زمعة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ليلة من الليالي عشاء، وكانت امرأة طويلة. فناداها عمر: ألا قد عرفناك يا سودة. حرصاً على أن ينزل الحجاب. قالت عائشة: فأنزل الله عز وجل الحجاب. -[المعنى العام]- لم يكن عند العرب، ولا عند أهل المدينة زمن الهجرة كنف في بيوتهم، يقضون فيها حاجتهم البشرية، بل كانوا يستنكفون أن يقع شيء من ذلك في بيوتهم، فكانوا يقضون حاجتهم في الصحراء، خارج المدينة، وكان النساء الحرائر العفيفات لا يخرجن لذلك إلا في الليل، وكانت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر كغيرهن من النساء.

كما كانت المرأة العربية تختلط بالرجال الأجانب، ولا تحتجب عنهم، وتتعامل معهم، وتجلس معهم، وتحادثهم، وتأكل معهم، ويأكلون معها، وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشرع أمراً حتى يأتيه الوحي بذلك، حدث ذات يوم أن كان صلى الله عليه وسلم يأكل مع عائشة. فمر بهما عمر رضي الله عنه فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليأكل معهما من إناء واحد، فجلس، فأصابت إصبعه إصبع عائشة رضي الله عنها، فقال: أوه. لو أطاع فيكن ما رأتكن عين، ثم قال: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب؟ وكرر عمر هذا الرجاء، ولم يكن رسول الله ليفعل من عنده شيئاً لم ينزل به الوحي، حتى كانت ليلة زواجه صلى الله عليه وسلم بأم المؤمنين زينب بنت جحش، بنت عمته صلى الله عليه وسلم، وكانت تحت زيد بن حارثة، الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نبناه، فكان يدعى زيد بن محمد، فلما أبطل الله التبني، وقال {ادعوهم لآبائهم} [الأحزاب: 5] أصبح يدعى زيد بن حارثة، وزوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنة عمته زينب بنت جحش، وأراد الله تعالى أن يؤكد بطلان التبني، وأن التبني لا يترتب عليه بنوة شرعية، فقضى جل جلاله أن يتزوج محمد صلى الله عليه وسلم بنت عمته، زينب بنت جحش، بعد أن طلقها زيد بن حارثة، في الوقت الذي لا يحل لرجل أن يتزوج امرأة كانت زوجة لابنه الحقيقي في حال من الأحوال، وتأكيداً لهذا المعنى أقام صلى الله عليه وسلم الولائم في ليلة زواجه بزينب، إقامة لم يسبق له أن أقامها في أية زوجة من قبل، أولم باللحم والخبز والفتيت، ودعا من يعرف ومن لا يعرف، يجيء قوم فيأكلون ويخرجون، ثم يجيء قوم، فيأكلون ويخرجون، حتى زاد عددهم على الثلاثمائة آكل، وحتى قال الداعي إلى الطعام، وهو أنس رضي الله عنه: دعوت حتى ما أجد أحداً. خرج الآكلون إلا جماعة منهم، جلسوا بعد الأكل يتحدثون، وقد رفعت الموائد، وزينب العروس جالسة في جانب من جوانب البيت، وفي زاوية من زواياه، وكانت امرأة قد أعطيت جمالاً، فتهيأ صلى الله عليه وسلم للقيام، كأنه يريد القيام، واستحيا صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم بالخروج، واكتفى بالإشارة هذه ليفطنوا لمراده فيقوموا بقيامه، فلم يفطنوا، فقام، فخرج، فخرجوا بخروجه إلا ثلاثة، ألهاهم الحديث، فاستمروا بعد خروجه من البيت جالسين. مر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض بيوت أزواجه، مر ببيت عائشة، فسلم عليها، وسلمت عليه، وهنأته بزوجته الجديدة، ثم رجع إلى البيت، فوجدهم، يريد أن يقوموا من غير أن يواجههم الأمر بخروجهم، فأفاق واحد منهم من غفلة، فخرج، وبقي اثنان، فخرج صلى الله عليه وسلم ثانية إلى بيوت أزواجه سودة، وحفصة، وأم سلمة، يسلم عليهن، ويسلمن عليه، ويهنئنه، ووصل صلى الله عليه وسلم إلى منزله، فوجد الرجلين مازالا جالسين، فرجع، فلما رأياه رجع خرجا، ولم يعلم بخروجهما، حتى لحقه أنس رضي الله عنه، فأخبره أنهما خرجا. في تلك اللحظات نزلت آية الثقلاء، أو آية الحجاب {يا أيها الذين ءامنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه} [الأحزاب: 53] أي غير منتظرين نضجه {ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن} [الأحزاب: 53] فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته، وهو يتلو هذه الآية، وأنس يمشي من ورائه، فلما دخل صلى الله عليه وسلم أرخى ستراً على أم المؤمنين زينب، فلم يدخل عليها أنس، كما كان يدخل من قبل، ومن هذه الساعة حرم على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يكشفن شيئاً من أجسامهن، حتى الوجه

والكفين، أمام الرجال الأجانب، لكن ماذا يفعلن عند الخروج، وهو ضرورة؟ لقد تلففت سودة رضي الله عنها في ثيابها تلففاً كاملاً، لا يبدو منها شيء، وخرجت لقضاء حاجتها ليلاً بعد العشاء، خرجت إلى مكان قضاء الحاجة، وكانت طويلة جسيمة لا تختلط بغيرها من النساء عند من يعرفها، ورآها عمر وهي في طريقها، فناداها: يا سودة، قد عرفناك، فلا ينبغي أن تخرجي، يرجو عمر بذلك أن ترجع، وأن يفرض عليها وعلى أمهات المؤمنين الحجاب الكامل، فلا يخرجن أبداً، يرجو بذلك أن ترجع وتشكو لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما حصل، فينزل الوحي ثانية بمنع خروجهن، بعد أن نزل بستر أجسامهن، أو لعله فهم من آية الحجاب {وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب} [الأحزاب: 53] أنها تلزمهن بستر شخوصهن، فلا يخرجن إلا في صندوق أو هودج مثلاً، فأراد أن يؤكد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الفهم، ورجعت سودة تحكي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما حصل، تعلم أنه صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة، لكن الأمر لا يقبل الانتظار، كيف تقضي حاجتها إذن لو منعت من الخروج؟ ودخلت عليه في بيت عائشة، وكان يتعشى، ممسكاً في يده قطعة عظم، عليها بقايا لحم، ينهش منه، تكلمت، وتوقف صلى الله عليه وسلم عن الأكل، وفي الحال بدا عليه أعراض نزول الوحي، ولم يلبث إلا قليلاً حتى سري عنه، ومازالت العظمة بلحمها في يده، فقال لسودة والكلام لأزواجه صلى الله عليه وسلم جميعهن قال: أذن الله لكن أن تخرجن لقضاء حاجتكن، كما خرجت سودة، ولا حرج عليها، ولا يحل لعمر ولا لغيره أن يعترض عليكن إذا خرجتن. وهكذا قرر الإسلام حماية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حماية لا حرج فيها ولا مشقة، وحال بينهن وبين المغالاة التي كان يطلبها عمر رضي الله عنه وعن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين. -[المباحث العربية]- (خرجت سودة بعد ما ضرب عليها الحجاب) في الرواية الثانية "فخرجت سودة بنت زمعة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ليلة من الليالي عشاء" أي بعد ما ضرب الحجاب على أمهات المؤمنين سنة خمس من الهجرة على أصح الأقوال، ليلة زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم المؤمنين زينب بنت جحش وأم المؤمنين سودة بنت زمعة، كانت زوجة لابن عم لها، اسمه السكران بن عمرو فتوفي عنها، وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة، وبعد موت خديجة، وأسنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووهبت ليلتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة، تبتغي بذلك مرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفيت في آخر زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه. (لتقضي حاجتها) التي يقضيها الناس، وهي التبرز والتغوط، ولم يكن لهم كنف يقضون فيها حاجتهم، بل كان النساء الحرائر يخرجن ليلاً إلى الصحراء، فيقضين حاجتهن، ويرجعن، وفي الرواية الثانية "أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يخرجن بالليل إذا تبرزن" -أي إذا أردن التبرز، ففيه مجاز المشارفة- "إلى المناصع" أي يخرجن إلى المناصع، كغيرهن من النساء، والمناصع بفتح الميم والصاد المكسورة، جمع منصع، والمناصع مواضع خارج المدينة، وصف المنصع في الرواية بأنه "صعيد أفيح" أي أرض متسعة ومكان واسع،

ويقال له: البراز، بفتح الباء، أي المكان البارز الظاهر الخالي من المباني والشجر، أما البراز بكسر الباء فهو الغائط، أي المواد المطرودة من الأمعاء عند التبرز. (وكانت امرأة جسيمة تفرع النساء جسماً) "جسيمة" عظيمة الجسم، وفي الرواية الثانية "وكانت امرأة طويلة" أي وعريضة، و"تفرع" بفتح التاء والراء، بينهما فاء ساكنة، أي تطول النساء فتكون أطول منهن، والفارع المرتفع العالي، وفي ملحق الرواية "يفرع النساء جسمها" وفي الملحق الثاني "وكانت امرأة يفرع الناس جسمها". (لا تخفى على من يعرفها) يعني لا تخفى إذا كانت متلففة في ثيابها ومرطها، في ظلمة الليل ونحوها، لا تخفى على من سبقت له معرفة طولها، لانفرادها بذلك. (فرآها عمر بن الخطاب، فقال: يا سودة والله ما تخفين علينا) في الرواية الثانية "كان عمر بن الخطاب يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: احجب نساءك، فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل، فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي عشاء، وكانت امرأة طويلة، فناداها عمر: ألا قد عرفناك يا سودة، حرصاً على أن ينزل الحجاب. قالت عائشة: فأنزل الله آية الحجاب". حاصل القصة أن عمر رضي الله عنه كان حريصاً على أن يحجب النبي صلى الله عليه وسلم نساءه، فقد كن يخرجن لابسات كالنساء، ويقابلن الرجال كغيرهن من النساء، بل وأكلت عائشة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فمر عليهما عمر، فدعاه صلى الله عليه وسلم ليأكل معهما من إناء واحد، فلمست إصبعه إصبعها، فقال: أوه. لو أطاع فيكن ما رأتكن عين، وأخذ يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: احجب نساءك، حتى نزلت آية الحجاب {وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب} [الأحزاب: 53] فكن إذا خرجن تلففن، بحيث لا يرى من أجسامهن شيء، وخرجت سودة، فأراد عمر إحراجها، لئلا تخرج ثانية، وكان حريصاً على حجاب كامل، يمنع خروج أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من بيوتهن، فناداها، فرجعت، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل الوحي، يبيح لهن الخروج لحاجتهن، ففي الرواية الثانية تقديم وتأخير، وترتيبها: أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع، وهو صعيد أفيح، وكان عمر بن الخطاب يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: احجب نساءك، فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليفعل [أمراً كهذا بدون الوحي] فأنزل الله عز وجل آية الحجاب [فاحتجبن عن الرجال بحيث لا ترى أجسادهن، لا في بيوتهن، ولا إذا خرجن لقضاء حاجتهن] فخرجت سودة بنت زمعة ليلة من الليالي عشاء [لقضاء حاجتها، متلففة لا يرى منها شيء] وكانت امرأة طويلة [لا تختلط بغيرها من النساء] فناداها عمر: ألا قد عرفناك يا سودة [قال ذلك] حرصاً على أن ينزل الحجاب [الكامل المانع من خروجهن] وتكملة القصة في الرواية الأولى. (فانظري كيف تخرجين؟ ) الاستفهام إنكاري توبيخي، كيف تخرجين؟ أي لا ينبغي أن تخرجي، ولو كنت متلففة. (قالت) عائشة. (فانكفأت) بضمير الغائبة، أي فرجعت سودة إلى البيت، ولم تقض حاجتها، فقوله "راجعة" حال مؤكدة.

(ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي) أي في بيت عائشة، وكانت سودة تعلم أنه في بيت عائشة، فذهبت إليه هناك. (وإنه ليتعشى، وفي يده عرق) بفتح العين وسكون الراء، وهو العظم عليه لحم، تقول: تعرقت العظم، وأعرقته إذا تتبعت ما عليه من لحم، والغرض من ذكره وقولها فيما بعد "وإن العرق في يده، ما وضعه" الإشارة إلى سرعة نزول الوحي بحكم الواقعة. (أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن) في رواية البخاري "أن تخرجن لحوائجكن" قال الداودي: في صيغة هذا الجمع نظر، لأن جمع الحاجة حاجات، ولا يقال: حوائج، وتعقبه ابن التين فأجاد، وقال: الحوائج جمع حاجة أيضاً. -[فقه الحديث]- أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس رضي الله عنه قال: "لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش، دعا القوم، فطعموا، ثم جلسوا يتحدثون، وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام، فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام، فلما قام قام من قام، وقعد ثلاثة نفر، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل، فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا، فانطلقت، فجئت، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا، فجاء حتى دخل، فألقى الحجاب بيني وبينه، فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه} أي غير منتظرين نضجه {ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا} أي فإذا أكلتم الطعام فتفرقوا، ولا تلبثوا {ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب} [الأحزاب: 53] أي إذا سألتم نساء النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، أو أردتم أن تكلموهن، فكلموهن من وراء ساتر بينكم وبينهن، وتسمى هذه الآية عند المفسرين بآية الثقلاء، والحديث واضح في سبب النزول، وأخرج البخاري في الأدب المفرد والنسائي من حديث عائشة رضي الله عنها أنها كانت تأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يأكل معهما بعض أصحابه، فأصابت يد رجل يدها، فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فنزلت. ولا مانع من تعدد أسباب نزول الآية الواحدة. ونزلت آية الحجاب في السنة الخامسة من الهجرة على الصحيح، قال القاضي عياض: فرض الحجاب مما اختص به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك لشهادة ولا غيرها، ولا يجوز لهن إظهار شخوصهن، وإن كن مستترات، إلا ما دعت إليه الضرورة، من الخروج للبراز، قال الله تعالى {وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب} [الأحزاب: 53] وقد كن إذا قعدن للناس جلسن من وراء حجاب، وإذا خرجن حجبن، وسترن أشخاصهن -في هودج ونحوه- كما جاء في حديث حفصة يوم وفاة عمر -إذ طلبت رضي الله عنها من النساء أن يسترنها عن أن يرى شخصها، أخرجه مالك في الموطأ، وأن زينب بنت جحش رضي الله عنها لما ماتت جعل لها قبة فوق نعشها، ليستر شخصها. اهـ

قال الحافظ ابن حجر: وليس فيما ذكره دليل على ما ادعاه، من فرض ذلك عليهن، وقد كن بعد النبي صلى الله عليه وسلم يحججن ويطفن، وكان الصحابة ومن بعدهم يسمعون منهن الحديث، وهن مستترات الأبدان، لا الأشخاص. اهـ وحديث الباب يؤيد ما قاله الحافظ ابن حجر، فخروج سودة رضي الله عنها، بعد الحجاب، وكانت ساترة لجميع بدنها، غير حاجبة لشخصها، وكان حرص عمر رضي الله عنه على أن لا يبدين شخوصهن أصلاً، ولو كن مستترات، فبالغ في ذلك، فمنع منه، وأذن لهن في الخروج لحاجتهن، دفعاً للمشقة، ورفعاً للحرج. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - منقبة ظاهرة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وشدة حرصه على الرسول صلى الله عليه وسلم، وغيرته على أمهات المؤمنين، وهذه إحدى موافقاته المشهورة. وعد الشيعة ما وقع منه رضي الله عنه من المثالب والنقائص، قالوا: لما فيه من سوء الأدب، وتخجيل سودة، حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإيذائها بذلك، وأجاب أهل السنة بأنه رضي الله عنه رأى أن لا بأس بذلك، لما غلب على ظنه من ترتب الخير العظيم عليه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان أعلم منه وأغير لم يفعل ذلك، انتظاراً للوحي، وهو اللائق بكمال شأنه مع ربه عز وجل، ولو كان في فعل عمر رضي الله عنه ما يؤاخذ عليه، لوجهه وأرشده رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ينبغي. 2 - وفيه تنبيه أهل الفضل والكبار على مصالحهم، ونصيحتهم، وتكرار ذلك عليهم. 3 - وجواز تعرق العرق والعظم. 4 - وجواز خروج المرأة من بيت زوجها، لقضاء حاجة الإنسان [التبرز ونحوه] إلى الموضع المعتاد لذلك بغير استئذان الزوج، لأنه مما لا يستغني عنه الإنسان، وقد أذن فيه الشرع. 5 - أن كثيراً من القرآن الكريم كان ينزل جواباً عن أسئلة، أو حكماً لمسألة، أو حلا لمشكلة، وقد اختلف العلماء. متى نزلت آية الحجاب، فقيل: إنها نزلت حال قيام الثقلاء، أي أنزلها الله وقد قاموا، وفي رواية "فرجع، فدخل البيت، وأرخى الستر، وإني لفي الحجرة، وهو يقول {يا أيها الذين ءامنوا لا تدخلوا بيوت النبي .. } إلى قوله {والله لا يستحيي من الحق} [الأحزاب: 53]. والله أعلم

(587) باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها ودفع ظن السوء إذا خلا بامرأة حلال

(587) باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها ودفع ظن السوء إذا خلا بامرأة حلال 4952 - عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا لا يبيتن رجل عند امرأة ثيب إلا أن يكون ناكحاً أو ذا محرم". 4953 - عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والدخول على النساء" فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيت الحمو" قال: "الحمو الموت". 4954 - عن الليث بن سعد قال: الحمو أخ الزوج وما أشبهه من أقارب الزوج ابن العم ونحوه. 4955 - عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما؛ أن نفراً من بني هاشم دخلوا على أسماء بنت عميس. فدخل أبو بكر الصديق، وهي تحته يومئذ، فرآهم، فكره ذلك. فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لم أر إلا خيراً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد برأها من ذلك" ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال: "لا يدخلن رجل بعد يومي هذا على مغيبة إلا ومعه رجل أو اثنان". 4956 - عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مع إحدى نسائه، فمر به رجل فدعاه فجاء، فقال: "يا فلان هذه زوجتي فلانة" فقال يا رسول الله، من كنت أظن به فلم أكن أظن بك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم".

4957 - عن صفية بنت حيي رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفاً، فأتيته أزوره ليلاً فحدثته، ثم قمت لأنقلب فقام معي ليقلبني، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد. فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "على رسلكما إنها صفية بنت حيي" فقالا: سبحان الله يا رسول الله. قال: "إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شراً أو قال شيئاً". 4958 - عن صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها؛ أنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثت عنده ساعة، ثم قامت تنقلب وقام النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها. ثم ذكر بمعنى حديث معمر، غير أنه قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم" ولم يقل: يجري. -[المعنى العام]- كانت المرأة قبل الإسلام عند العرب تخالط الرجال الأجانب، وتجالسهم، ويدخلون عليها بيتها، في حضرة زوجها، أو أهلها، أو بدون حضورهم، ولم تكن ملزمة بالتحشم في اللباس، ولا في القول، فكان يطمع فيها من في قلبه مرض، ويقع الفسق والفجور بسهولة، وبدون غيرة ولا أنفة عند الكثيرين، حتى كان هناك البغايا المعلنات، وهناك نكاح الاستبضاع، وهو نوع من الزنا، وهناك المرأة تتخذ الأخلاء، فتحمل، فتلحق ولدها من تشاء منهم، كما تصور ذلك السيدة عائشة رضي الله عنها في حديث البخاري. جاء الإسلام فعظم من جريمة الزنا، وعنف في عقابها إلى حد القتل بالرجم وكان لا بد -والحالة هذه- من سد المنافذ المؤدية إليه، وإغلاق الطرق الموصلة للوقوع فيه، فنهى القرآن الكريم عن المقدمات بقوله {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا} [الإسراء: 32] نعم نهي عن القرب منه، وليس عن الوقوع فيه فحسب، فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ونص على كثير من هذه المقدمات، يغلق بابها، وفي سورة النور وسورة الأحزاب كثير، نقرأ منها قوله تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون* وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو ءابائهن أو ءاباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي

الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن} [النور: 30، 31]. {يا أيها الذين ءامنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم} [النور: 58]. {وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا} [النور: 59]. {والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن} [النور: 60]. {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين} [الأحزاب: 59]. {لا جناح عليهن في ءابائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن ولا ما ملكت أيمانهن واتقين الله إن الله كان على كل شيء شهيدا} [الأحزاب: 55]. ومن المعلوم أن الوقاية خير من العلاج، وليس في اتخاذ الحيطة والحذر اتهام أو إساءة للرجال أو النساء فحماية المرأة من الأخطار لا ينقصها بل يرفع من شأنها وقيمتها، فالجوهرة الثمينة هي التي يحافظ عليها، وتتخذ الوسائل لوقايتها، حتى من أعين الناظرين، والمهملات هي التي لا يهتم بها وتلقى في السلة وفي الطرقات، ولذلك وصف الله نساء الجنة والحور بأنهن مقصورات في الخيام، كأمثال اللؤلؤ المكنون. ولما كان دخول الرجال على النساء من أخطر مقدمات الزنا، ومن بواعثه، ومن فرصه المهيأة والوسيلة الأولى ليمارس الشيطان بها غوايته وتزيينه، فما اجتمع رجل وامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما، رسوله إليها، ورسولها إليه، لما كان ذلك كذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دخول الرجال الأجانب على النساء في غيبة أزواجهن، فقال بأسلوب الحزم والتحذير: إياكم والدخول على النساء، فقال أحد السامعين: يا رسول الله، أقارب الزوج، وأقارب الزوجة؟ لا يدخلون؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم الخطر الأكبر، الشر من جانبهم أكثر من الشر من الأجانب، لأن تمكنهم من الإقامة دون إنكار من المجتمع يهيئ لهم فرصة الغواية أكثر من غيرهم، فهم كالموت، الذي هو خطر لا بد منه. إن النساء حبائل الشيطان، يستخدمهن كشباك لصيده، بل يستخدمهن للوسوسة في صدور الرجال، ولإيقاع ظن السوء في قلوب البعض عن البعض، فإذا رأى رجلاً وامرأة حدث من رآهم، ليظنوا بهم سوءاً، ولو كانا أخوين أو زوجين، حتى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رؤي مع زوجته السيدة صفية ليلة من ليالي رمضان، خرج من المسجد من معتكفه ليوصلها إلى بيتها، رآه رجلان، فسلما، وأسرعا في المشي، فناداهما: يا فلان ويا فلان، تعاليا، فجاءا، فقال لهما: هذه التي معي زوجتي صفية بنت حيي، قالا: يا رسول الله، وهل نظن بك إلا خيراً؟ قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما وسوسة وشيئاً من ظن السوء. عصم الله الرجال والنساء من السوء والفحشاء، وصرف عنهم جميعاً مكايد الشيطان. -[المباحث العربية]- (ألا لا يبيتن رجل) "ألا" أداة استفتاح تفيد تأكيد الجملة، وزيادة الاهتمام بمضمونها، والنهي

عن المبيت ليس مقصوداً، لذاته، بل المقصود الدخول والخلوة، نهاراً أو بياتاً ففي الرواية الثانية "إياكم والدخول على النساء" وفي الرواية الثالثة "لا يدخلن رجل على مغيبة". (عند امرأة ثيب) خص الثيب بالذكر، لأنها التي يدخل إليها غالباً، وأما البكر فمصونة في العادة، مجانبة للرجال كثيراً فلم يحتج إلى ذكرها، وهو من باب التنبيه، لأنه إذا نهي عن الدخول على الثيب، التي يتساهل الناس في الدخول عليها في العادة، فالبكر أولى. (إلا أن يكون ناكحاً أو ذا محرم) قال النووي: "يكون" بالياء، أي إلا أن يكون الداخل زوجاً أو ذا محرم، قال: وذكره القاضي بالتاء "إلا أن تكون ناكحاً أو ذات محرم" قال: والمراد بالناكح المرأة المزوجة وزوجها حاضر، فيكون مبيت الغريب في بيتها بحضرة زوجها. اهـ أي إلا أن تكون الثيب زوجة وزوجها موجود، أو أن تكون المرأة ذات محرم للداخل. قال النووي: وهذه الرواية التي اقتصر عليها، والتفسير الذي فسره بها غريبان مردودان، والصواب الرواية الأولى التي ذكرتها عن نسخ بلادنا، ومعناه: لا يبيتن رجل عند امرأة إلا زوجها أو محرم لها، وعند البخاري "لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم" و"ذا" في "ذا محرم" زائدة، أي إلا أن يكون زوجاً أو محرماً، قال النووي: والمحرم كل من حرم عليه نكاحها على التأبيد لسبب مباح لحرمتها، فقولنا: "على التأبيد" احتراز من أخت امرأته وعمتها وخالتها ونحوهن، وقولنا: لسبب مباح احتراز من أم الموطوءة بشبهة وبنتها، فإنه حرام على التأبيد، لكن لا لسبب مباح، فإن وطء الشبهة لا يوصف بأنه مباح، وقولنا: لحرمتها احتراز من الملاعنة، فهي حرام على التأبيد، لا لحرمتها، بل تغليظاً عليها. (إياكم والدخول على النساء) الأجنبيات، أسلوب تحذير، و"الدخول" منصوب على التحذير، والتحذير تنبيه المخاطب على محذور ليحترز منه ويجتنبه، وأصل التقدير: أحذركم الدخول على النساء، فحذف الفعل والفاعل فانفصل ضمير المفعول، فقيل: إياكم الدخول، بدون الواو، كقولنا إياكم الأسد، وبالواو، كقولنا: إياك والأسد، وفي رواية "لا تدخلوا على النساء" وتضمن منع الدخول منع الخلوة بطريق الأولى. (أفرأيت الحمو قال: الحمو الموت) بفتح الحاء وسكون الميم، وفي الرواية الثانية تفسير الليث بن سعد "الحمو" بأنه أخ الزوج وما أشبهه من أقارب الزوج، ابن العم ونحوه، وفسره المازري بأن المراد من الحمو أب الزوج، وقال: إذا نهي عن أبي الزوج، وهو محرم، فكيف بالقريب؟ اهـ قال النووي: اتفق أهل اللغة على أن الأحماء أقارب زوج المرأة، كأبيه وعمه وأخيه وابن أخيه وابن عمه ونحوهم، و"الأختان" بفتح الهمزة وسكون الخاء، جمع ختن، أقارب زوجة الرجل، والأصهار جمع صهر يقع على النوعين، ثم قال: وأما قوله "الحمو الموت" فمعناه أن الخوف منه أكثر من غيره، والشر يتوقع منه أكثر، لتمكنه من الوصول إلى المرأة، والخلوة من غير أن ينكر عليه، بخلاف الأجنبي، ثم قال: والمراد بالحمو هنا أقارب الزوج، غير آبائه وأبنائه، فأما الآباء والأبناء فمحارم لزوجته، تجوز لهم الخلوة بها، ولا يوصفون بالموت، وإنما المراد الأخ وابن الأخ والعم وابنه ونحوهم، ممن ليس بمحرم، وعادة الناس المساهلة فيه، ويخلو بامرأة أخيه، فهذا هو الموت، وهو أولى بالمنع من الأجنبي، لما ذكرناه، فهذا الذي ذكرته هو صواب معنى الحديث.

قال: وأما ما ذكره المازري وحكاه أن المراد بالحمو أبو الزوج فهو كلام فاسد مردود، ولا يجوز حمل الحديث عليه، وكذا ما نقله القاضي عن أبي عبيد: أن معنى "الحمو الموت" أي فليمت ولا يفعل، هذا هو أيضاً كلام فاسد، والصواب ما قدمناه، وقال ابن الأعرابي: هي كلمة تقولها العرب، كما يقال: الأسد الموت، والحرب الموت، أي: لقاؤه مثل الموت. اهـ والمعنى احذروه كما تحذرون الموت. وقيل: معناه أن الخلوة بالحمو قد تؤدي إلى هلاك الدين، إن وقعت المعصية، أو إلى الموت إن وجب الرجم، أو إلى هلاك المرأة بفراق زوجها، إذا حملته الغيرة على تطليقها، أشار إلى ذلك كله القرطبي، وقال صاحب مجمع الغرائب: يحتمل أن يكون المراد أن المرأة إذا خلت فهي محل الآفة، ولا يؤمن عليها أحد، فليكن حموها الموت، أي الحقيقي، أي لا يجوز لأحد أن يخلو بها إلا الموت، كما قيل: نعم الصهر القدر، وهذا لائق بكمال الغيرة والحمية، وقال عياض: معناه أن الخلوة بالأحماء مؤدية إلى الفتنة والهلاك في الدين، فجعله كهلاك الموت، والكلام ورد مورد التغليظ، وقال القرطبي في المفهم: المعنى أن دخول قريب الزوج على امرأة الزوج يشبه الموت في الاستقباح والمفسدة، أي فهو محرم معلوم التحريم، وإنما بالغ في الزجر عنه، وشبهه بالموت لتسامح الناس به من جهة الزوج والزوجة، لإلفهم بذلك، حتى كأنه ليس بأجنبي من المرأة، فخرج هذا مخرج قول العرب: الحرب الموت، أي لقاؤها يفضي إلى الموت، وكذا دخوله على المرأة قد يفضي إلى موت الدين، وقال ابن الأثير في النهاية: المعنى أن خلوة المحرم بها أشد من خلوة غيره من الأجانب، لأنه ربما حسن لها أشياء، وحملها على أمور، تثقل على الزوج، من التماس ما ليس في وسعه، فتسوء العشرة بين الزوجين بذلك، ولأن الزوج قد لا يؤثر أن يطلع والد زوجته أو أخوها على باطن حاله. اهـ فكأنه قال: الحمو الموت، أي لا بد منه، ولا يمكن حجبه عنها، كما أنه لا بد من الموت. قال النووي: وفي الحم أربع لغات: إحداها: هذا حموك بالواو في الرفع، ورأيت حماك، بالألف في النصب، ومررت بحميك، بالياء في الجر. والثانية: هذا حمؤك بإسكان الميم، وهمزة مرفوعة، ورأيت حمأك، ومررت بحمئك. والثالث: هذا حماك، ورأيت حماك، ومررت بحماك، كما تقول في: قفاك. الرابعة: "حم" كأب، وأصله حمو، بفتح الحاء والميم، وحماة المرأة أم زوجها لا يقال فيها غير هذا. اهـ ومعنى "أفرأيت" أخبرني، بمجاز مرسل في همزة الاستفهام، بإرادة مطلق الطلب من طلب الفهم، أي بعلاقة الإطلاق بعد التقييد، ومجاز مرسل في الرؤية، بإرادة الإخبار المسبب عن الرؤية غالباً، أي بإطلاق السبب وإرادة المسبب، فآل الأمر إلى طلب الإخبار، المدلول عليه بلفظ أخبرني. أي أخبرني عن دخول الحمو على المرأة. (لم أر إلا خيراً) أي لا أتهمها، ولا أتهمهم، فما رأيت منها، ولا منهم في هذا اللقاء إلا خيراً، لكنني كرهت هذا اللقاء. (إن الله قد برأها من ذلك) أي من الشر والفساد، أي بسبب شهادتك وانطباعك، أو قال ذلك بوحي نزل عليه.

(لا يدخلن رجل -بعد يومي هذا- على مغيبة، إلا ومعه رجل أو اثنان) "بعد يومي هذا" أي بعد لحظتي هذه، وليس المراد إباحة الدخول بقية اليوم. والمغيبة بضم الميم وكسر الغين وإسكان الياء، من غاب زوجها عنها، يقال: أغابت المرأة، أي قام بها غياب زوجها، فهو اسم فاعل من "أغاب" قال النووي: والمراد غاب زوجها عن منزلها، سواء غاب عن البلد، بأن سافر، أو غاب عن المنزل، وإن كان في البلد، هكذا ذكره القاضي وغيره، وهذا ظاهر متعين، قال القاضي: ودليله هذا الحديث، وأن القصة التي قيل بسببها كان أبو بكر رضي الله عنه غائباً عن منزله، لا عن البلد. ثم قال النووي: وظاهر هذا الحديث جواز خلوة الرجلين أو الثلاثة بالأجنبية، والمشهور عند أصحابنا تحريمه، فيتأول الحديث على جماعة يبعد وقوع المواطأة منهم على الفاحشة، لصلاحهم أو مروءتهم أو غير ذلك. اهـ أي هناك وصف ملاحظ، والمعنى إلا ومعه رجل ثقة أو اثنان ثقتان. (كان مع إحدى نسائه) هي صفية، رضي الله عنها، كما سيأتي، ففي الرواية الخامسة عنها رضي الله عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفاً، فأتيته أزوره ليلاً، فحدثته، ثم قمت لأنقلب" أي لأرجع إلى بيتي" "فقام معي ليقلبني" بفتح الياء وسكون القاف، أي ليردني ويوصلني إلى بيتي، وفي رواية للبخاري "حتى إذا بلغت باب المسجد، عند باب أم سلمة، مر رجلان من الأنصار .... " وفي الرواية السادسة "أنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تزوره في اعتكافه في المسجد، في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثت عنده ساعة" أي وقتاً من الزمن "ثم قامت تنقلب، وقام النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها" وعند عبد الرزاق "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معتكفاً في المسجد، فاجتمع إليه نساؤه، ثم تفرقن، فقال لصفية: أقلبك إلى بيتك، فذهب معها، حتى أدخلها بيتها" وفي رواية "كان النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، وعنده أزواجه، فرحن، وقال لصفية: لا تعجلي حتى أنصرف معك" قال الحافظ ابن حجر: والظاهر أن اختصاص صفية بذلك، لكون مجيئها تأخر عن رفقتها، فأمرها بتأخير التوجه، ليحصل لها التساوي في مدة جلوسهن عنده، أو أن بيوت رفقتها كانت أقرب من منزلها، فخشي النبي صلى الله عليه وسلم عليها، أو كان مشغولاً، فأمرها بالتأخر، ليفرغ من شغله، ويشيعها، وكانت بيوت أزواجه صلى الله عليه وسلم حوالي أبواب المسجد. (فمر به رجل، فدعاه. فقال: يا فلان، هذه زوجتي فلانة) في الرواية الخامسة "فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على رسلكما" بكسر الراء، ويجوز فتحها، والرسل الهينة والتؤدة وترك العجلة، أي امشيا على هينتكما، فليس هنا شيء تكرهانه، وفي رواية فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: "تعاليا" وفي رواية "فلما أبصره دعاه، فقال: تعال" وفي رواية للبخاري "فسلما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نفذا، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: على رسلكما" وفي رواية "فنظرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أجازا" أي مضيا، يقال: جاز، وأجاز بمعنى، ويقال: جاز الموضع إذا سار فيه، وأجازه إذا قطعه وخلفه، وعند ابن حبان "فلما رأياه استحييا فرجعا" قال الحافظ ابن حجر: فأفاد سبب رجوعهما، وكأنهما لو استمرا ذاهبين إلى مقصدهما ما ردهما، بل لما رأى أنهما تركا مقصدهما ورجعا ردهما. وقد رد ابن التين رواية "رجل" وقال: إنها وهم، والصحيح رجلان، ثم قال: يحتمل تعدد القصة، وتعقبه الحافظ ابن حجر فقال: الأصل عدم التعدد وعدم الوهم، بل هو محمول على أن أحدهما كان

تبعاً للآخر، أو خص أحدهما بخطاب المشافهة، دون الآخر، ويحتمل أن الراوي كان يشك فيه، فيقول مرة "رجل" ومرة "رجلان" فحيث أفرد ذكر الأصل، وحيث ثنى ذكر الصورة. (وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد) في رواية "وكان بيتها في دار أسامة بن زيد" أي الدار التي صارت بعد ذلك لأسامة بن زيد، لأن أسامة إذ ذاك لم يكن له دار مستقلة، بحيث تسكن فيها صفية. قاله الحافظ ابن حجر. (هذه زوجتي فلانة) قال النووي: هكذا في جميع النسخ، بالتاء قبل الياء "زوجتي" وهي لغة صحيحة، وإن كان الأشهر حذف التاء، وبالحذف جاءت آيات القرآن. اهـ وفي الرواية الخامسة "إنها صفية بنت حيي" وفي رواية "هذه صفية بنت حيي" وفي رواية "إنما هي صفية بنت حيي" و"حيي" بضم الحاء وفتح الياء الأولى -مصغراً، ابن أخطب، كان أبوها رئيس خيبر، وكانت صفية في السبي، فجاء دحية إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أعطني يا رسول الله جارية من السبي، فقال له: اذهب فخذ جارية، فأخذ صفية. فجاء رجل، فقال: يا نبي الله، أعطيت دحية صفية؟ سيدة قريظة والنضير؟ لا تصلح إلا لك. قال: ادعوه بها، فجاء بها. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: خذ جارية من السبي غيرها، وأعتقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتزوجها. (فقال: يا رسول الله، من كنت أظن به؟ فلم أكن أظن بك) الاستفهام إنكاري، بمعنى النفي، أي لم أكن أظن بأحد سوءاً، فمن باب أولى لم أكن أظن بك سوءاً، وفي الرواية الخامسة "فقالا: سبحان الله يا رسول الله! " تنزيه الله عن النقائص، كلمة تقال عند التعجب، زاد في رواية البخاري "وكبر عليهما" زاد في الأدب المفرد "وكبر عليهما ما قال" وفي رواية "يا رسول الله، هل نظن بك إلا خيراً"؟ . (إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم) وفي ملحق الرواية السادسة "إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم" وفي رواية "ما أقول لكما هذا أن تكونا تظنان شراً، لكن قد علمت أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم" والمراد من ابن آدم جنس أولاد آدم، فيدخل فيه الرجال والنساء. وجريان الشيطان من ابن آدم مجرى الدم، قيل: هو على ظاهره، وأن الله تعالى أقدره على ذلك وجعل له قوة على التوصل إلى باطن الإنسان، وقيل: هو على سبيل الاستعارة، من كثرة إغوائه، وكأنه لا يفارق كالدم، فاشتركا في شدة الاتصال وعدم المفارقة، أي إن وسوسته تصل في مسام البدن سريان الدم في البدن. (وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شراً -أو قال: شيئاً) وفي رواية "إني خفت أن يدخل عليكما شيئاً" قال الحافظ ابن حجر: والمحصل من هذه الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينسبهما إلى أنهما يظنان به سوءاً، لما تقرر عنده من صدق إيمانهما، ولكن خشي عليهما أن يوسوس لهما الشيطان ذلك، لأنهما غير معصومين، فقد يفضي بهما ذلك إلى الهلاك، فبادر إلى إعلامهما، حسماً للمادة، وتعليماً لمن بعدهما، إذا وقع له مثل ذلك، وقد روى الحاكم أن الشافعي كان في مجلس ابن عيينة، فسأله عن هذا الحديث؟ فقال

الشافعي: إنما قال لهما ذلك، لأنه خاف عليهما الكفر، إن ظنا به التهمة، فبادر إلى إعلامهما، نصيحة لهما، قبل أن يقذف الشيطان في نفوسهما شيئاً، يهلكان به. ثم قال: وغفل البزار، فطعن في حديث صفية هذا، واستبعد وقوعه، ولم يأت بطائل، والله أعلم. وجمع القلوب مع المثنى جائز، كقوله تعالى {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} [التحريم: 4] والله أعلم. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الأحاديث]- 1 - من الرواية الأولى والثانية والثالثة تحريم الخلوة بالأجنبية. 2 - وإباحة الخلوة بمحارمها. قال النووي: وهذان الأمران مجمع عليهما. 3 - من الرواية الثانية التحذير من خلوة الحمو بقريبته. 4 - ومن الرواية الرابعة والخامسة والسادسة جواز اشتغال المعتكف بالأمور المباحة، من تشييع زائره، والقيام معه، والحديث مع غيره، والمشي القليل خارج المسجد. 5 - وإباحة خلوة المعتكف بزوجته، لكن يكره الإكثار من مجالستها، والاستلذاذ بحديثها، لئلا يكون ذريعة إلى الوقاع أو إلى القبلة، أو نحوها، مما يفسد الاعتكاف. قاله النووي. 6 - وزيارة المرأة لزوجها أو محرمها المعتكف. 7 - وبيان شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته، وإرشادهم إلى ما يدفع عنهم الإثم. 8 - والتحرز من التعرض لسوء الظن. 9 - والتحفظ من كيد الشيطان، قال ابن دقيق العيد: وهذا متأكد في حق العلماء ومن يقتدى به، فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلاً يوجب سوء الظن بهم، وإن كان لهم فيه مخلص، لأن ذلك سبب إلى إبطال الانتفاع بعلمهم، ومن ثم قال بعض العلماء: ينبغي للحاكم أن يبين للمحكوم عليه وجه الحكم، إذا كان خافياً، نفياً للتهمة، ومن هنا يظهر خطأ من يتظاهر بمظاهر السوء ويعتذر بأنه يجرب بذلك على نفسه. 10 - وفيه أدب القوم مع الكبير، ونفي الشبهة عنه، والاعتذار إليه بالأعذار الصحيحة، وقول: سبحان الله عند التعجب. 11 - وفيه جواز خروج المرأة ليلاً. 12 - وفيه إضافة بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إليهن، قال ابن المنير: وهذه النسبة تحقق دوام استحقاقهن للبيوت ما بقين، لأن نفقتهن وسكناهن من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، والسر فيه حبسهن عليه، لا يتزوجن غيره. 13 - استدل به على موعظة الإمام للخصوم، وعدم حكمه بمقتضى علمه، فإنه صلى الله عليه وسلم كره أن يقع في قلب الأنصاريين وسوسة الشيطان، فمراعاة نفي التهمة عنه مع عصمته تقتضي مراعاة نفي التهمة عمن هو دونه. قاله الحافظ ابن حجر. والله أعلم.

(588) باب من أتى مجلسا فوجد فرجة جلس فيها وتحريم إقامة الإنسان من موضعه، وإذا قام ثم عاد فهو أحق به

(588) باب من أتى مجلساً فوجد فرجة جلس فيها وتحريم إقامة الإنسان من موضعه، وإذا قام ثم عاد فهو أحق به 4959 - عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد والناس معه، إذ أقبل نفر ثلاثة. فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذهب واحد. قال: فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها. وأما الآخر فجلس خلفهم. وأما الثالث فأدبر ذاهباً. فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه". 4960 - عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقيمن أحدكم الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه". 4961 - عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقيم الرجل الرجل من مقعده ثم يجلس فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا". 4962 - وفي رواية عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث الليث، ولم يذكروا في الحديث: "ولكن تفسحوا وتوسعوا" وزاد في حديث ابن جريج: قلت: في يوم الجمعة. قال: في يوم الجمعة وغيرها. 4963 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقيمن

أحدكم أخاه ثم يجلس في مجلسه" وكان ابن عمر إذا قام له رجل عن مجلسه لم يجلس فيه. 4964 - عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ثم ليخالف إلى مقعده فيقعد فيه ولكن يقول افسحوا". 4965 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قام أحدكم" وفي حديث أبي عوانة: "من قام من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به". -[المعنى العام]- للمجالس حرمة، وللجلوس فيها آداب، وللمرور عليها حقوق، وإذا كان الحديث قد تعرض سابقاً لحق الطريق فهو هنا، وفي هذا الباب يتعرض لحقوق المجالس. كان المسجد النبوي بالمدينة المدرسة الأولى في الإسلام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس فيه في أوقات فراغه، يجتمع بأصحابه، يقرأ عليهم من القرآن، ويعلمهم أمور دينهم، ويتخولهم بين الحين والحين بالموعظة والرقائق والآداب. وكان المسجد مطروقاً بين طريقين، ويصل بين جهتين بدون أبواب، فكان بعض الناس يمر به، إذا انتقل من الجهة إلى الأخرى، وبينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه بالمسجد، دخل ثلاثة من الرجال، دخلوا للمرور في طريقهم إلى الجهة الأخرى، فلما وصلوا عند الحلقة رغب أحدهم في الجلوس، فوجد في الحلقة مكاناً خالياً يكفيه، فجلس فيه، وتردد الثاني في الجلوس، إن له مصلحة خرج يقضيها، أيذهب إليها؟ ويستمر في مشيه؟ أم يجلس كما جلس صاحبه؟ وبعد خطوات تجاوز بها الحلقة استحيا من نفسه، واستحيا أن يعاب من صاحبه ومن الجالسين، فعاد، فجلس خلف الحلقة، حيث لم يجد فرجة، كما وجد الأول، وأما الثالث فلم يتردد في الانصراف إلى مصلحته، والإعراض عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النفر الثلاثة، فلما انتهى من الموضوع الذي يتكلم فيه، قال لأصحابه: أخبركم عن النفر الثلاثة الذين رأيتموهم، أما الأول فقد لجأ إلى الله، وإلى العلم، فاحتضنه الله برعايته ورضوانه، وأما الثاني فقد غلبه الحياء، فنال رحمة الله وعفوه، وأما الثالث فاستغنى عن العلم فاستغنى الله عنه، ومن يستغن الله عنه ويهمله، فقد حرم الخير كله، وكان من المغضوب عليهم والضالين المطرودين. فمجالس العلم والذكر، لها حقوق على من يتمكن من الانتفاع بها، وكل جالس فيها له حقوق على الداخل عليهم، وله حق في المكان الذي جلس فيه، لا يقيمه أحد منه مهما كان قدر الداخل عليه، فهو أحق به من غيره، مادام قد سبق وجلس فيه، نعم لو قام باختياره ورضاه تكريماً لقادم، ليجلسه في

مكانه كان تنازلاً وإيثاراً مقبولاً منه، مشكوراً عليه، وإن كان الأولى للداخل أن لا يجلس في المكان الذي أوثر به، هضماً للنفس، وبعداً عن الريب والشبهات، وقد كان ابن عمر رضي الله عنهما يفعل ذلك، إذا قام له أحد عن مجلسه شكره، ولم يجلس فيه، فالناس في الأماكن العامة شركاء، وفي المجالس والمساجد الخاصة سواسية، من سبق إلى مكان كان أحق به حيازة وانتفاعاً، لا يحق لآخر أن يحوله عنه، لا في اجتماعات الجمعة للصلاة، ولا لغيرها، حتى الباعة الذين يضعون أمتعتهم على جانب الطريق العام، أو في متسعات الأماكن، من وضع أمتعته في مكان حاز الانتفاع به، لا يزاحمه زميل له، نعم يجب على من شغل مكاناً أن لا يفرش نفسه على قدر لا ضرورة له، فإن فعل، وجاء محتاج إلى مكان كان عليه أن ينضم ويفسح لأخيه المسلم، فالله تعالى يقول: {يا أيها الذين ءامنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم} [المجادلة: 11]. وحتى إذا اضطر من شغل مكاناً وسبق إليه، أن يقوم عنه لفترة قصيرة، كقضاء حاجة أو وضوء أو إحضار كتاب أو مصحف، ثم عاد فهو أحق بمكانه، وعلى من شغله أن يخليه له. تلك حقوق وواجبات حرص الشارع على بيانها، حفاظاً على المودة بين المسلمين، وتفادياً لبواعث الشقاق والخلاف والبغضاء. -[المباحث العربية]- (بينما هو جالس في المسجد، والناس معه، إذا أقبل نفر ثلاثة) "بينما" أصله "بين" الظرفية الزمانية، زيدت عليها "ما" وقد تزاد الألف فقط، فيقال "بينا" وهو ملازم للإضافة إلى جملة، ويحتاج إلى جواب، هو العامل فيه، إذا لم يكن في الجملة لفظ المفاجأة، فإن وجد -كما هنا- فالعامل معنى المفاجأة، وكان جلوسه صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت لوعظ الناس وتعليمهم الشريعة، وجملة "والناس معه" حالية، والمراد من الناس بعض الصحابة، و"إذ" للمفاجأة، والنفر بفتح النون والفاء اسم جمع، ويطلق على جماعة من الرجال، ليس فيهم امرأة، ويقع على العدد، من ثلاثة إلى عشرة، و"ثلاثة" بدل من "نفر" وفي رواية البخاري "ثلاثة نفر" بإضافة "نفر" إلى "ثلاثة" والإضافة بيانية، كقوله تعالى: {تسعة رهط} [النمل: 48] وكان إقبالهم من باب المسجد، مارين بمجلس الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان للمسجد فتحتان متقابلتان، كالبابين، يمر منهما الناس، ويطرقونه كالشارع. (فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) هذا إقبال آخر غير الأول، وفي الكلام مضاف محذوف، أي أقبل اثنان من طريق مرورهما إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي حديث أنس "فإذا ثلاثة نفر يمرون، فلما رأوا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم أقبل إليه اثنان منهم، واستمر الثالث ذاهباً". (فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم) "على" بمعنى "عند" أو في الكلام مضاف محذوف، تقديره: على مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم. (فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة، فجلس فيها) "أما" حرف تفصيل، تجب الفاء

في تلو تاليه "فرأى" والفرجة بضم الفاء وفتحها، هي الخلل بين الشيئين، ويقال لها أيضاً: فرج بفتح الفاء وسكون الراء، وجمعه فروج وهي الشق بين الشيئين، ومنه قوله تعالى: {وما لها من فروج} [ق: 6] وأما الفرجة بمعنى الخلاص من الغم فذكر الأزهري فيها فتح الفاء وضمها وكسرها، يقال: فرج بين الشيئين، وفرج له في الحلقة والصف، بفتح الفاء والراء، يفرج بكسر الراء وضمها، فرجا بسكونها، أي شق، وفرج الشيء، بتشديد الراء وسعه، وأفرج الغبار انكشف، وأفرج عن السجين أطلقه، وانفرج الشيء اتسع، وانفرج ما بين الشيئين، وانفرج الغم، وأما الحلقة بإسكان اللام، وحكي فتحها، والجمع حلق بفتحتين. (وأما الآخر فجلس خلفهم) الآخر أي الثاني، وفيه رد على من زعم أنه يختص بالأخير. (وأما الثالث فأدبر ذاهباً) إن أريد من الإدبار الذهاب كان "ذاهباً" حالاً مؤكدة، وإن أريد من الإدبار الإعراض كانت حالاً مؤسسة، وقيل، معنى "ذاهباً" مستمراً في ذهابه، فتكون حالاً مؤسسة أيضاً. (فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم) من عظته ودرسه. (ألا أخبركم عن النفر الثلاثة) "ألا" هي همزة الاستفهام الإنكاري، بمعنى النفي، دخلت على "لا" النافية، ونفي النفي إثبات، فالمعنى أخبركم عن النفر الثلاثة، وفائدتها على هذا التنبيه إلى أهمية ما بعدها، وفي الكلام مضاف محذوف، أي عن أحوال النفر الثلاثة. (أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله) قال القرطبي: الرواية الصحيحة بقصر الأول، ومد الثاني، وهو المشهور في اللغة، قال النووي: وهي اللغة الفصيحة، وبها جاء القرآن، أي إذا كان لازماً كان مقصوراً، وإذا كان متعدياً كان ممدوداً، قال تعالى: {أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة} [الكهف: 63] وقال تعالى: {إذ أوى الفتية إلى الكهف} [الكهف: 10] وقال في المتعدي {وءاويناهما إلى ربوة} [المؤمنون: 50] وقال {ألم يجدك يتيماً فآوى} [الضحى: 6] قال القاضي: وحكى بعض أهل اللغة فيهما جميعاً لغتين، القصر والمد، فيقال: أويت إلى الرجل، بالقصر والمد، وآويت الرجل بالمد والقصر، والمشهور التفرقة كما سبق. قال العلماء: معنى "أوى إلى الله" لجأ إلى الله، قيل: في الكلام مضافان محذوفان، أي لجأ وانضم إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنى "فآواه الله" أي جازاه بنظير فعله، بأن ضمه إلى رحمته ورضوانه. (وأما الآخر فاستحيا، فاستحيا الله منه) أي ترك المزاحمة، كما فعل رفيقه الذي جلس في الفرجة، حياء من الله تعالى، ومن النبي صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه، أو استحيا من الذهاب عن المجلس، كما فعل رفيقه الذي مضى ذاهباً، ويرجحه رواية أنس، ولفظها عند الحاكم "ومضى الثاني قليلاً، ثم جاء، فجلس" ومعنى "فاستحيا الله منه" أي رحمه، ولم يعذبه، بل غفر ذنوبه، وقيل: جازاه بالثواب، قالوا: ولم يلحقه بدرجة صاحبه الأول في الفضيلة، الذي آواه، وبسط له اللطف، وقربه. (وأما الآخر فأعرض، فأعرض الله عنه) أعرض عن مجلس العلم، وانصرف عنه، فعامله الله

تعالى وجزاه على إساءته، إعراضاً عنه، وصرفاً لرحمته ورضوانه عنه، والإعراض في الأصل انصراف النفس عن الشيء، وعدم التوجه إليه، ففي الكلام مشاكلة ومقابلة، كقوله تعالى {ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} [الأنفال: 30] وفي الحديث "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم" وهذا هو المراد من الإعراض، الإهمال وعدم الإحسان. وقوله "فأعرض الله عنه" يحتمل أن يكون خبراً، ويحتمل أن يكون دعاء، وسيأتي مزيد لهذا في فقه الحديث. (لا يقيمن أحدكم الرجل من مجلسه، ثم يجلس فيه) "لا يقيمن" بالنهي المؤكد وفي الرواية الثالثة "لا يقيم الرجل الرجل من مقعده، ثم يجلس فيه" بلفظ الخبر "لا يقيم" مضارع مرفوع، وهو خبر بمعنى النهي، وفي بعض الروايات "لا يقم" بالنهي من غير توكيد. وفي الرواية الرابعة "لا يقيمن أحدكم أخاه، ثم يجلس في مجلسه" وذكر الأخ لا مفهوم له، بل ذكر لمزيد التنفير عن ذلك لقبحه، لأنه إن فعله من جهة الكبر كان قبيحاً، وإن فعله من جهة الأثرة كان أقبح، وفي الرواية الخامسة "لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة -أي في اجتماع الصلاة- ثم ليخالف إلى مقعده، فيقعد فيه" يقال: خالف إلى الشيء، وخالف في الشيء، إذا أتاه من خلفه، أو قصده بعد ما أبعده عنه، قال تعالى {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} [هود: 88] وعند البخاري عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يقام الرجل من مجلسه، ويجلس فيه آخر" و"يجلس" هنا ضبطت بضم الياء وفتح اللام، وبفتح الياء وكسر اللام، وفي الملحق الثاني للرواية الثالثة "قلت: في يوم الجمعة؟ قال: في يوم الجمعة وغيرها" السائل ابن جريج الراوي عن نافع عن ابن عمر، والمجيب نافع، رحمهم الله تعالى. وسبب سؤال ابن جريج علمه بالرواية الخامسة التي ذكر فيها "يوم الجمعة" وجعل نافع النهي عاماً، وسيأتي التفصيل في فقه الحديث. (ولكن تفسحوا وتوسعوا) وفي الرواية الخامسة "ولكن يقول: افسحوا" والتفسح التوسع، فعطف "توسعوا" على "تفسحوا" عطف تفسيري. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الأحاديث]- 1 - عن الرواية الأولى قيل: إنها لم تتعرض إلى تسليم اللذين جلسا في مجلس العلم، هل سلما؟ فرد عليهما السلام؟ أو لم يسلما؟ وهل صليا تحية المسجد؟ أو لم يصليا؟ وقد تناول العلماء هاتين النقطتين بالتوجيه، فقيل: لعلهما سلما، ورد الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة السلام، أو أنهما سلما، ولم يرد عليهما أحد، لأن المشتغل بالعلم، المستغرق في العبادة، لا يجب عليه الرد، ولم ينقل إلينا هذا أو ذاك، لشهرته، وعدم الحاجة إلى الإخبار به، وقيل: لعلهما لم يسلما، اعتماداً على عدم مشروعية السلام على المشتغل بالعلم، وعلى كلا الجوابين لا مؤاخذة عليهما، إذ لو أتيا ما يلامان عليه لنبههما صلى الله عليه وسلم، وعلمهما، فلا وجه لهذا الإشكال أساساً. أما الإشكال الثاني فقد قيل: لعلهما كانا على غير وضوء، ورد بأنه لو كان كذلك لنبههما صلى الله عليه وسلم، فاعتذرا، ولم ينقل إلينا شيء من ذلك، وقيل: لعلهما دخلا في وقت الكراهة، ويرد

الشافعية بأن تحية المسجد لا تكره في أي وقت، وقيل: لعلهما صليا، ولم ينقل إلينا، لاهتمام الرواة بغير ذلك من القصة، وعلى كل لم يثبت أنهما أتيا ما يلامان عليه، فليس في الحديث دليل على إثبات حكم، أو نفيه، لأن ما سكت عنه الراوي لا يستدل به على نفي أو إثبات. 2 - ويؤخذ أيضاً من الرواية الأولى اتخاذ المساجد مكاناً لدراسة العلم والوعظ، وجلوس العالم فيها لذلك. 3 - واستحباب التحليق في دروس العلم ومجالس الذكر، لأن ذلك أدعى إلى القرب من المعلم والقائد. 4 - واستحباب دخولها، ومجالسة أهلها. 5 - وأن من سبق إلى مكان في الحلقة، أو في المسجد كان أحق به. 6 - واستحباب القرب من العالم للتبرك، وللمناقشة، وللتمكن من السماع. 7 - سد الخلل والفرجة في حلقة العلم، كما ورد الترغيب في سد الخلل في صفوف الصلاة. 8 - جواز التخطي لسد الخلل، ما لم يؤذ، فإن خشي الإيذاء استحب الجلوس حيث ينتهي، كما فعل الثاني قاله الحافظ ابن حجر: والتحقيق أن الحديث ليس فيه دليل على هذا المأخذ، وإن كان الحكم صحيحاً، فقد تكون الفرجة في الحلقة الخارجية، إن كانت هناك حلقات، على أن ظاهر الحديث أنها كانت حلقة واحدة، وإلا لقال: فرأى فرجة في إحدى الحلقات. 9 - وفيه الثناء على من زاحم في طلب الخير، قاله الحافظ ابن حجر أيضاً، لكن هذا المأخذ من هذا الحديث بعيد، فليس فيه إشارة إلى المزاحمة. 10 - فيه فضيلة الاستحياء من الانصراف عن باب الخير ودروس العلم، أو من المزاحمة في الحلقات. 11 - واستحباب الجلوس حيث ينتهي المجلس، إذا لم تكن هناك فرجة. 12 - وفيه الأدب في مجالس العلم. 13 - وفيه الثناء -ولو في المواجهة- على من فعل الخير، أو فعلاً جميلاً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثنى على الاثنين. 14 - وذم من سنحت له فرصة الخير والعلم، فانصرف عنها، وهو محمول على من فعل ذلك بدون عذر. 15 - وجواز الدعاء على المذنب بسخط الله، وهذا على أن قوله "فأعرض الله عنه" دعاء عليه بالإعراض، وعلى أنه كان مسلماً، معرضاً بغير عذر، وقيل: لعله كان منافقاً، أو أطلع الله نبيه على أمره، أما المسلم فلا يدعى عليه بذلك. 16 - وجواز الإخبار عن أهل المعاصي وأحوالهم، للزجر عنها، وأن ذلك لا يعد من الغيبة المحرمة. 17 - وابتداء العالم جلساءه بما يزيل عنهم الشبهات، ويوضح لهم أسرار الوقائع. 18 - ومن الرواية الثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة قال النووي: هذا النهي للتحريم، فمن

سبق إلى موضع مباح في المسجد وغيره، يوم الجمعة أو غيره، لصلاة أو غيرها، فهو أحق به، ويحرم على غيره إقامته، لهذا الحديث، إلا أن أصحابنا -يقصد الشافعية- استثنوا منه ما إذا ألف من المسجد موضعاً، يفتي فيه، أو يقرأ قرآناً وغيره من العلوم الشرعية، فهو أحق به، وإذا حضر لم يكن لغيره أن يقعد فيه، وفي معناه من سبق إلى موضع من الشوارع ومقاعد للأسواق. اهـ وقال ابن أبي جمرة: هذا اللفظ عام في المجالس، ولكنه مخصوص بالمجالس المباحة، إما على العموم، كالمساجد ومجالس الحكام والعلم، وإما على الخصوص، كمن يدعو قوماً بأعيانهم إلى منزله، لوليمة ونحوها، وأما المجالس التي ليس للشخص فيها ملك ولا إذن له فيها، فإنه يقام، ويخرج منها، ثم هو في المجالس العامة ليس عاماً في الناس، بل هو خاص بغير المجانين، ومن يحصل منه الأذى، كآكل الثوم النيء إذا دخل المسجد، والسفيه إذا دخل مجلس العلم أو مجلس الحكم. قال: والحكمة في هذا النهي منع استنقاص حق المسلم، المقتضي للضغائن، والحث على التواضع المقتضي للمواددة، وأيضاً فالناس في المباح كلهم سواء، فمن سبق إلى شيء استحقه، ومن استحق شيئاً فأخذ منه بغير حق فهو غصب، والغصب حرام، فعلى هذا قد يكون بعض ذلك على سبيل الكراهة، وبعضه على سبيل التحريم. اهـ وقال ابن بطال: اختلف في النهي، فقيل: للأدب، وقيل: هو على ظاهره، ولا يجوز لمن سبق إلى مجلس مباح أن يقام منه، واحتج هؤلاء بالحديث الذي أخرجه مسلم -روايتنا السادسة- "إذا قام أحدكم من مجلسه، ثم رجع إليه، فهو أحق به" قالوا: فلما كان أحق به بعد رجوعه، ثبت أنه حقه قبل أن يقوم، وأجاب من حمله على الأدب أن الموضع في الأصل ليس ملكه، قبل الجلوس، ولا بعد المفارقة، فدل على أن المراد بالحقية في حالة الجلوس الأولوية، فيكون من قام تاركاً له قد سقط حقه جملة، ومن قام ليرجع يكون أولى، وقد سئل مالك عن حديث أبي هريرة -روايتنا السادسة- فقال: ما سمعت به، وإنه لحسن إذا كانت أوبته قريبة، وإن بعد فلا أرى ذلك له، ولكنه من محاسن الأخلاق. وقال القرطبي في المفهم: هذا الحديث يدل على صحة القول بوجوب، اختصاص الجالس بموضعه، إلى أن يقوم منه، وما احتج به من حمله على الأدب، لكونه ليس ملكاً له، لا قبل ولا بعد، ليس بحجة، لأنا نسلم أنه غير ملك له، لكن يختص به، إلى أن يفرغ غرضه، فصار كأنه ملك منفعته، فلا يزاحمه غيره عليه، وقال النووي: قال أصحابنا: هذا في حق من جلس في موضع من المسجد أو غيره لصلاة مثلاً، ثم فارقه ليعود إليه، كإرادة الوضوء مثلاً، أو لشغل يسير، ثم يعود، لا يبطل اختصاصه به، وله أن يقيم من خالفه وقعد فيه، وعلى القاعد أن يطيعه. واختلف. هل يجب عليه؟ على وجهين، أصحهما الوجوب، وقيل: يستحب، وهو مذهب مالك، قال أصحابنا: وإنما يكون أحق به في تلك الصلاة، دون غيرها، قال: ولا فرق بين أن يقوم منه ويترك له فيه سجادة ونحوها أم لا. وقال عياض: اختلف العلماء فيمن اعتاد بموضع من المسجد للتدريس والفتوى، فحكي عن مالك أنه أحق به إذا عرف به، قال: والذي عليه الجمهور أن هذا استحسان، وليس بحق واجب، ولعله

مراد مالك، وكذا قالوا في مقاعد الباعة من الأفنية والطرق التي هي غير متملكة، قالوا: ومن اعتاد بالجلوس في شيء منها، فهو أحق به، حتى يتم غرضه، قال: وحكاه الماوردي عن مالك قطعاً للنزاع، وقال القرطبي: الذي عليه الجمهور أنه ليس بواجب. والله أعلم. أما قوله تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشُزوا فانشُزوا} [المجادلة: 11] أي إذا قيل: قوموا فقوموا، وظاهره أن يقام الرجل من مجلسه، مما يتعارض والحديث، فقد قال ابن بطال: قال بعضهم: هو مجلس النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، قال قتادة: كانوا يتنافسون في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، إذا رأوه مقبلاً ضيقوا مجلسهم، فأمرهم الله تعالى أن يوسع بعضهم لبعض، قال الحافظ ابن حجر: لا يلزم من كون الآية نزلت في ذلك، الاختصاص. اهـ وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل، قال: نزلت يوم الجمعة، أقبل جماعة من المهاجرين والأنصار، من أهل بدر، فلم يجدوا مكاناً، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم ناساً، ممن تأخر إسلامهم، فأجلسهم في أماكنهم، فشق ذلك عليهم، وتكلم المنافقون في ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية، ومعنى هذا أن الأمر بالقيام وتنفيذه خاص بهذه الواقعة، وبأمثالها، وعن الحسن البصري: أن المراد بذلك مجلس القتال، قال: ومعنى قوله {انشُزوا} انهضوا للقتال. 19 - ومن الرواية الرابعة قال النووي: هذا ورع من ابن عمر، وليس قعوده فيه حراماً، إذا قام برضاه، لكنه تورع عنه لوجهين: أحدهما: أنه ربما استحى منه إنسان، فقام له من مجلسه من غير طيب قلبه، فسد ابن عمر الباب، ليسلم من هذا. الثاني: أن الإيثار بالقرب مكروه، أو خلاف الأولى، فكان ابن عمر يمتنع من ذلك لئلا يرتكب أحد بسببه مكروهاً أو خلاف الأولى، بأن يتأخر عن موضعه في الصف الأول، ويؤثره به، وشبه ذلك، قال أصحابنا: وإنما يحمد الإيثار بحظوظ النفس وأمور الدنيا، دون القرب. والله أعلم

(589) باب منع المخنث من الدخول على النساء الأجانب

(589) باب منع المخنث من الدخول على النساء الأجانب 4966 - عن أم سلمة رضي الله عنها أن مخنثاً كان عندها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت، فقال لأخي أم سلمة: يا عبد الله بن أبي أمية، إن فتح الله عليكم الطائف غداً فإني أدلك على بنت غيلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان. قال: فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "لا يدخل هؤلاء عليكم". 4967 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مخنث، فكانوا يعدونه من غير أولي الإربة. قال: فدخل النبي صلى الله عليه وسلم يوماً، وهو عند بعض نسائه، وهو ينعت امرأة، قال: إذا أقبلت أقبلت بأربع وإذا أدبرت أدبرت بثمان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أرى هذا يعرف ما ها هنا لا يدخلن عليكن" قالت: فحجبوه. -[المعنى العام]- يقول الله تعالى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءابَائِهِنَّ أَوْ ءابَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء} [النور: 31]. فألحق الله تعالى العبيد، والتابعين الذين لا رغبة لهم في النساء، بالمحارم، الذين يجوز لهم الخلوة بمحارمهم، والنظر إليهن فيما عدا ما بين السرة والركبة. وتساهلت نساء في هذا الزمان في تعاملهن مع الخدم الأحرار، فانكشفن أمامهم، واختلون بهم، فلا يتحشمن منهم، لأنهم -كما يقولون- خدم، وهذا خطأ شرعي كبير، ترتب عليه في بعض البلاد الإسلامية خطر وفساد عظيم، تماماً كما حصل من تساهل الرجال، في تعاملهم مع الخادمات الحرائر. إن خطر هذا الصنف لا ينحصر في احتمال الفاحشة، بل وفي نشر أسرار البيوت، وفي وصف نسائها لرجال أجانب آخرين.

ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي توجيهه وتشريعه أسوة حسنة، فقد كان في عهده صلى الله عليه وسلم مخنث شبه معتوه، يدخل البيوت، يستطعم منها الطعام، ويتكفف قوته بالطواف عليها، لا يتحشم منه نساء، ولا يغار منه رجال، فهو في نظرهم من غير أولي الإربة من الرجال. فدخل هذا المخنث بيت أم المؤمنين أم سلمة، وعندها أخوها عبد الله بن أبي أمية، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلم عليهم، ثم انتحى ناحية بعيدة عنهم، كان ذلك في زمن حصار المسلمين لأهل الطائف، وقد طال الحصار، اختلى المخنث بأخي أم سلمة، ثم قال له إسراراً، يا عبد الله، يا ابن أبي أمية: إذا فتحتم الطائف غداً، فعليك بابنة غيلان. اسأل عنها، فإذا وقعت في السبي فلا تفلت منك، احرص على أن تكون من نصيبك، فإنها من أجمل نساء الطائف، لقد رأيتها، وجلست معها في طوافي بالبيوت، إنها جميلة الوجه، فمها وثغرها الأحمر كالفراولة، وجسمها المملوء لحماً يجذب الرجال، وبطنها يتثنى وينطوي على أربع طيات، تبهر الرجل إذا نظر إليها من الأمام، فإذا نظر إليها من الخلف رأى طرف الطيات الأربع من جهة، وطرفها الآخر من الجهة الأخرى فرآها تقبل بأربع، وتدبر بثمان إن قعدت تثنت، وظهر كل فخذ على حدة، وإن تكلمت تغنت بأحلى غناء، وأرق صوت، وبين رجليها جزء مثل الإناء المقلوب، وسمعه الرسول صلى الله عليه وسلم يصف ابنة غيلان وصفاً لا يصفه إلا دهاة الرجال وأهل الغزل منهم، فقال في نفسه: سبحان الله! كنا نظنه لا يدرك مفاتن النساء، وليس له فيهن رغبة، ولا يفطن لمحاسنهن، ثم قال له: يا عدو الله، غلغلت النظر إليها؟ قاتلك الله. كنت أحسبك لا تدرك شيئاً من ذلك. لا تدخل من اليوم على النساء، واخرج من المدينة إلى الحمى والصحراء، وقال لأمهات المؤمنين: لا تدخلن مثل هذا عليكن أبداً. -[المباحث العربية]- (عن أم سلمة أن مخنثاً كان عندها) قال أهل اللغة: المخنث بكسر النون وفتحها، وهو الذي يشبه النساء في أخلاقه وكلامه وحركاته، وقال ابن حبيب: المخنث هو المؤنث من الرجال، وإن لم تعرف منه الفاحشة، مأخوذ من التكسر في المشي وغيره. اهـ يقال: خنث الرجل، بكسر النون، يخنث بفتحها، خنثاً بفتحها، إذا فعل فعل المخنث وتثنى وتكسر، والخنثى في الحيوان فرد تتكون فيه أمشاج الذكر وأمشاج الأنثى، قال العلماء: المخنث ضربان: أحدهما من خلق كذلك، ولم يتكلف التخلق بأخلاق النساء وزيهن وكلامهن وحركاتهن، بل هو خلقة، خلقه الله عليها، الضرب الثاني من المخنث هو من لم يكن له ذلك خلقة، بل يتكلف أخلاق النساء وحركاتهن وهيئاتهن وكلامهن، ويتزيا بزيهن، وسيأتي حكم كل منهما في فقه الحديث. قال النووي: واختلف في اسم هذا المخنث، قال القاضي: الأشهر أن اسمه "هيت" بكسر الهاء بعدها ياء ثم تاء، وقيل: "هنب" بالنون والباء، قاله ابن درستويه، وقال: إنما سواه تصحيف، قال: والهنب الأحمق، وقيل: "ماتع" بالتاء، مولى فاختة المخزومية، وجاء هذا في حديث آخر، ذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم غرب -ونفى- "ماتعاً" هذا، و"هيتا" إلى الحمى، ذكره الواقدي، وذكر أبو منصور الباوردي نحو الحكاية عن مخنث، كان بالمدينة، يقال له "إنه" وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم نفاه إلى حمراء الأسد،

والمحفوظ أنه "هيت" قال الحافظ ابن حجر: والراجح أن اسم المذكور في حديث الباب "هيت" ولا مانع أن يتواردوا في الوصف المذكور "مخنث". (ورسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت) أي في بيت أم سلمة، وفي الرواية الثانية "فدخل النبي صلى الله عليه وسلم يوماً، وهو عند بعض نسائه، وهو ينعت امرأة" أي والمخنث عند أم سلمة. (فقال لأخي أم سلمة: يا عبد الله بن أبي أمية) عبد الله بن أبي أمية هو أخو أم سلمة، وكان إسلامه مع أبي سفيان بن الحارث في غزوة الفتح، واستشهد عبد الله في الطائف، أصابه سهم فقتله، ووقع في مرسل ابن المنكدر أنه قال ذلك لعبد الرحمن بن أبي بكر، فيحتمل على تعدد القول منه لكل منهما، لأخي عائشة، ولأخي أم سلمة، قال الحافظ ابن حجر: والعجب أنه لم يقدر أن المرأة الموصوفة حصلت لواحد منهما، لأن الطائف لم يفتح حينئذ، وقتل عبد الله بن أبي أمية في حال الحصار، ولما أسلم غيلان بن سلمة وأسلمت بنته "بادية" تزوجها عبد الرحمن بن عوف، ووقع حديث في سعد بن أبي وقاص أنه خطب امرأة بمكة، فقال: من يخبرني عنها؟ فقال مخنث، يقال له هيت: أنا أصفها لك. فهذه قصص وقعت لهيت. (إن فتح الله عليكم الطائف غداً) كان هذا القول أثناء حصار المسلمين للطائف الذي استمر عشرين يوماً في شوال سنة ثمان من الهجرة، واستعصى على المسلمين فتحه، لأنهم كانوا قد أعدوا لأنفسهم في الداخل قوت سنة، وكانوا رماة، أخذوا يرمون المسلمين بالنبل وقطع الحديد المحماة من فوق سور حصنهم، فنالوا منهم، وأصابوا كثيرين، ولم تصل نبال المسلمين إليهم، فرحل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، ودعا الله لهم بالهداية، فهداهم الله تعالى، فأسلموا. (فإني أدلك على بنت غيلان) بفتح الغين، وهو ابن سلمة بن معتب بن مالك الثقفي، أسلم وتحته عشر نسوة، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يختار أربعاً، وكان من رؤساء ثقيف، وعاش إلى أوائل خلافة عمر رضي الله عنه. (فإنها تقبل بأربع، وتدبر بثمان) قال النووي: قالوا: معناه أن لها أربع عكن تقبل بهن، من كل ناحية ثنتان [والعنكة بضم العين وسكون الكاف ما انطوى وتثنى من لحم البطن سمناً، يقال: عكنت الجارية، بتشديد الكاف، أي صارت ذات عكن، بضم العين وفتح الكاف] قال الخطابي: يريد أن لها في بطنها أربع عكن -أربع طيات- فإذا أقبلت رؤيت مواضعها بارزة، متكسراً بعضها على بعض، وإذا أدبرت كانت أطراف هذه العكن الأربع عند منقطع جنبيها ثمانية -أربعاً في كل جانب، قال: وحاصله أنه وصفها بأنها مملوءة البدن، بحيث يكون لبطنها عكن، وذلك لا يكون إلا للسمينة من النساء، وجرت عادة الرجال غالباً في الرغبة فيمن تكون بتلك الصفة، وفي حديث سعد "إن أقبلت قلت: تمشي بست، وإن أدبرت قلت: تمشي بأربع" كأنه يعني يديها ورجليها وثدييها، وإذا أدبرت ينقص الثديان، فهما يحتجبان، زاد في رواية "بثغر كالأقحوان" أي كالفراولة "إن قعدت تثنت، وإن تكلمت تغنت" أي صوتها كالموسيقى "وبين رجليها مثل الإناء المكفوء" وفي رواية "أسفلها كثيب" الكثيب كومة الرمل المستطيل المحدوب "وأعلاها عسيب" يقال: رأس عسيب، أي بعد عهده بالترجيل والتسريح، وهو أحياناً من أوصاف المدح، فيقال: شعر غجري منفوش.

(فكانوا يعدونه من غير أولي الإربة) بكسر الهمزة البغية، والأرب بفتح الهمزة والراء الحاجة. (لا يدخل هؤلاء عليكم) كذا الرواية "عليكم" بصيغة جمع المذكر، ويوجه بأنه جمع مع النساء المخاطبات من يلوذ بهن، من صبي ووصيف من الذكور، فجاء التغليب، أما عن الإشارة فقد قال النووي: الإشارة إلى جميع المخنثين، المتكلم وأمثاله، وفي الرواية الثانية: "ألا أرى هذا يعرف ما ههنا، لا يدخلن عليكن" وصورة النهي هنا للغائب، والمقصود المخاطبات، أي لا تدخلنه عليكن. أي أرى هذا يعرف ما خفي من مفاتن النساء، ويدركها، ويتلذذ بها، زاد ابن الكلبي في حديثه "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: غلغلت النظر إليها يا عدو الله" وفي رواية "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مالك؟ قاتلك الله، إن كنت لأحسبك من غير أولي الإربة من الرجال" وعند البخاري "لا يدخلن هؤلاء عليكن" ولفظ "لا يدخلن" روي بضم الياء وفتح الخاء واللام وتشديد النون، وبفتح الياء وضم الخاء واللام. (قالت فحجبوه) عن النساء، ومنعوه من الدخول على النساء، أي فصدر الحكم الشرعي بهذا المنع، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم نفاه ومخنثاً آخر إلى الحمى. -[فقه الحديث]- ترجم البخاري لهذا الحديث بباب ما ينهى من دخول المتشبهين بالنساء على المرأة، أي بغير إذن زوجها، وحين تكون مسافرة مثلاً. قال النووي: المخنث بالخلقة لا ذم عليه ولا عتب، ولا إثم ولا عقوبة، لأنه معذور، لا صنع له في ذلك، ولهذا لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم أولاً دخوله على النساء، ولم ينكر خلقه الذي هو عليه، حين كان من أصل خلقته، وإنما أنكر عليه بعد ذلك معرفته لأوصاف النساء، ولم ينكر صفته وكونه مخنثاً. اهـ وهذا مسلم إذا فسرنا المخنث بالأبله والمعتوه، كما جاء في تفسير ابن جبير لغير ذي الإربة من الرجال، أما على تفسير النووي بأنه المتخلق بأخلاق النساء وكلامهن وحركاتهن، فإنه وإن لم ينكر عليه صفاته، ينكر عليه دخوله على النساء، ويطلب منه أن يحاول تغيير ما هو عليه، لأن النعومة والتكسر والتثني أمور يمكن تقويمها، كما أنه كعاقل مكلف يحرم عليه الاختلاط بالنساء، واكتشافه لمفاتنهن، ولقد فسر المفسرون {التابعين غير أولي الإربة من الرجال} [النور: 31] بأنهم الذين يتبعون، ليصيبوا من فضل الطعام، غير أصحاب الحاجة إلى النساء، وهم الشيوخ الطاعنون في السن، الذين فنيت شهواتهم واختلفوا في الممسوح والمعتوهين الذين لا شهوة عندهم والمجبوب، مقطوع الذكر والخصية، والاختيار أنهما في حرمة النظر كغيرهما من الأجانب. إن منع هذا المخنث في الحديث لم يكن سببه أنه تبين أنه غير مجبوب أو غير ممسوح، وإنما لأنه تبين أنه له إربة ورغبة في النساء، وأنه يدرك مفاتن المرأة، ويملأ عينه منها، ويمكنه وصفها، فكيف لا يعاب على تصرفاته؟ ولا يحاسب عليها؟ لقد حاسبه صلى الله عليه وسلم بالنفي والإبعاد إلى البيداء، فكان يدخل المدينة كل جمعة يستطعم، إذن لم تكن العلة في إباحة دخوله التخنث، بل

كانت الظن بأنه من غير أولي الإربة، ومن غير الذين يدركون مفاتن المرأة، خطران محتملان في دخوله، خطر الرغبة في النساء مع التثني والتكسر، وخطر إدراك المفاتن ونعتها ووصفها للرجال الأجانب، كما فعل هذا المخنث، يؤكد الخطر الثاني قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الثانية "أرى هذا يعرف ما ههنا" وكل من الخطرين يمنع دخوله على النساء. ولهذا يقول النووي في مكان آخر: وأما دخول هذا المخنث أولاً على أمهات المؤمنين فقد بين سببه في هذا الحديث بأنهم كانوا يعتقدونه من غير أولي الإربة، وأنه مباح دخوله عليهن، فلما سمع منه هذا الكلام علم أنه من أولي الإربة، فمنعه صلى الله عليه وسلم الدخول، ففيه منع المخنث من الدخول على النساء، ومنعهن من الظهور عليه، وبيان أن له حكم الرجال الفحول الراغبين في النساء، في هذا المعنى، وكذا حكم الخصي والمجبوب. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - منع الرجال من التشبه بالنساء، ومنع النساء من التشبه بالرجال، قال الحافظ ابن حجر: وهو حرام اتفاقاً، وفي البخاري "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال" قال الطبري: والمعنى: لا يجوز للرجال التشبه بالنساء في اللباس والزينة، التي تختص بالنساء ولا العكس. قال الحافظ ابن حجر: وكذا في الكلام والمشي، فأما هيئة اللباس فتختلف باختلاف عادة كل بلد، فرب قوم لا يفترق زي نسائهم من رجالهم في اللبس، لكن يمتاز النساء بالاحتجاب والاستتار، أما ذم التشبه بالكلام والمشي فيختص بمن تعمد ذلك، وأما من كان ذلك من أصل خلقته، فإنما يؤمر بتكلف تركه، والإدمان على ذلك بالتدريج، فإن لم يفعل وتمادى دخله الذم، ولا سيما إن بدا منه ما يدل على الرضا به. قال: وأما إطلاق من أطلق -كالنووي- وأن المخنث الخلقي لا يتجه عليه اللوم، فمحمول على ما إذا لم يقدر على ترك التثني والتكسر في المشي والكلام، بعد تعاطيه المعالجة لترك ذلك، وإلا متى كان ترك ذلك ممكناً -ولو بالتدريج- فتركه بغير عذر لحقه اللوم. وقال ابن أبي جمرة: ظاهر اللفظ الزجر عن التشبه في كل شيء، لكن عرف من الأدلة الأخرى أن المراد التشبه في الزي وبعض الصفات والحركات ونحوها، لا التشبه في أمور الخير. اهـ واستدل به على أنه يحرم على الرجل لبس الثوب المطلل باللؤلؤ، قال الحافظ ابن حجر: وأما قول الشافعي: ولا أكره للرجل لبس اللؤلؤ، إلا لأنه من زي النساء، فليس مخالفاً لذلك، لأن مراده أنه لم يرد في النهي عنه بخصوصه شيء. وفي البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما "لعن النبي صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء، وقال: أخرجوهم من بيوتكم" قال: فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلاناً، وأخرج عمر فلانة. ففيه مشروعية إخراج كل من يحصل به التأذي للناس عن مكانه، إلى أن يرجع عن ذلك ويتوب.

2 - وفيه حجب النساء عمن يفطن لمحاسنهن. 3 - قال الحافظ ابن حجر: هذا الحديث أصل في إبعاد من يستراب به، في أمر من الأمور. اهـ فيبعد عن المجلس مثلاً الجاسوس والنمام ونحوهما. 4 - قال المهلب: وفيه حجة لمن أجاز بيع العين الموصوفة، بدون الرؤية، لقيام الصفة مقام الرؤية، في هذا الحديث، وتعقبه ابن المنير بأن من اقتصر في بيع الجارية على ما وقع في الحديث من الصفة لم يكف اتفاقاً في صحة البيع، فلا دلالة فيه، قال الحافظ ابن حجر: إنما أراد المهلب أنه يستفاد منه أن الوصف يقوم مقام الرؤية، فإذا استوعب الوصف، حتى قام مقام الرؤية المعتبرة أجزأ، هذا مراده، وانتزاعه من الحديث ظاهر. 5 - قال الحافظ ابن حجر: وفي الحديث أيضاً تعزير من تشبه بالنساء، بالإخراج والنفي، إذا تعين ذلك طريقاً لردعه. والله أعلم

(590) باب جواز إرداف المرأة الأجنبية

(590) باب جواز إرداف المرأة الأجنبية 4968 - عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: تزوجني الزبير وما له في الأرض من مال ولا مملوك ولا شيء غير فرسه. قالت: فكنت أعلف فرسه وأكفيه مئونته وأسوسه وأدق النوى لناضحه وأعلفه، وأستقي الماء وأخرز غربه وأعجن، ولم أكن أحسن أخبز، وكان يخبز لي جارات من الأنصار، وكن نسوة صدق. قالت: وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي، وهي على ثلثي فرسخ. قالت: فجئت يوماً والنوى على رأسي، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من أصحابه، فدعاني ثم قال: "إخ إخ" ليحملني خلفه. قالت: فاستحييت وعرفت غيرتك. فقال: والله لحملك النوى على رأسك أشد من ركوبك معه. قالت: حتى أرسل إلي أبو بكر بعد ذلك بخادم فكفتني سياسة الفرس، فكأنما أعتقتني. 4969 - عن أسماء رضي الله عنها قالت: كنت أخدم الزبير خدمة البيت، وكان له فرس وكنت أسوسه، فلم يكن من الخدمة شيء أشد علي من سياسة الفرس، كنت أحتش له وأقوم عليه وأسوسه. قال: ثم إنها أصابت خادماً، جاء النبي صلى الله عليه وسلم سبي فأعطاها خادماً. قالت: كفتني سياسة الفرس فألقت عني مئونته. فجاءني رجل فقال: يا أم عبد الله، إني رجل فقير أردت أن أبيع في ظل دارك. قالت: إني إن رخصت لك أبي ذاك الزبير، فتعال فاطلب إلي والزبير شاهد. فجاء، فقال: يا أم عبد الله، إني رجل فقير أردت أن أبيع في ظل دارك. فقالت: ما لك بالمدينة إلا داري؟ فقال لها الزبير: ما لك أن تمنعي رجلاً فقيراً يبيع. فكان يبيع إلى أن كسب فبعته الجارية. فدخل علي الزبير وثمنها في حجري، فقال: هبيها لي. قالت: إني قد تصدقت بها. -[المعنى العام]- خلق الله تعالى حواء من آدم، ولآدم، تعينه وتساعده على الحياة الشاقة في الدنيا، التي كتبت عليه في الأزل، هبطت معه من الجنة، بعد أن بدت لهما سوآتهما في الجنة، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة معاً، وناداهما ربهما نداءً واحداً، وحاسبهما على معصيتهما معاً، وحكم عليهما معاً:

اهبطا إلى الأرض معاً، فيها تحيون، وفيها تموتون، ومنها تخرجون. ومنذ اللحظة الأولى على الأرض تساعد حواء آدم على المعيشة، يتحمل هو الأعمال الشاقة، وتتحمل هي ما تطيق، وكانت مهمتها الأساسية -لضعفها- أمور البيت، وتوالت العصور، وجاءت الرسالات وحاجات البيت من مهام حواء، حتى الإسلام بشريعته السمحة، وبإنصافه للمرأة، بل وبمحاباته لها، أقر عملها بالمنزل، تخبز، وتطبخ، وتغسل للزوج ولأطفالها، فها هي فاطمة بنت سيد الخلق صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها تعمل في بيت زوجها علي، وتطحن الحب على الرحى، لتصنعه خبزاً، حتى مجلت يدها من الرحى، ذهبت تشكو إلى أبيها متاعبها، وتكشف له يدها، فلا يرفع عنها عملها، ولا يوصي علياً أن يعفيها، بل يطلب منها مواصلة العمل، والصبر، وذكر الله، وهذه أسماء بنت أبي بكر، وأخت عائشة، وقد تزوجت الزبير بن العوام بمكة، وأسلمت مثله في أوائل المسلمين تعين زوجها على الحياة بكل ما تستطيع، هاجرت إلى المدينة، وهاجر، وكان له فرس وجمل، لم تكتف بالطبخ في البيت والكنس والغسل وإعداد الطعام وتربية الأطفال، بل خرجت إلى المزارع، تحش الحشيش، وتجمع النوى من الأرض، وتحمله فوق رأسها إلى البيت، ثلاثة كيلو مترات ونصفاً، وهي ابنة من؟ ابنة الوزير الأول في الدولة، وعلى مسمع ومرأى من رئيس الدولة، لقد رآها صلى الله عليه وسلم يوماً، وعلى رأسها مكتل النوى، تئن بحمله، وتلهث من ثقله، وكان على ناقته ومعه بعض أصحابه، فأشار عليهم أن يتقدموا، وأناخ ناقته، وناداها، وطلب منها أن تركب خلفه بما تحمل، وغمرها الحياء، فاعتذرت في أدب، إن باعث النداء عليها الشفقة والرحمة، وهي أخت زوجته، محرمة عليه تحريماً مؤقتاً، ثم هو الرسول صلى الله عليه وسلم، مأمون الفتنة، لكنها امرأة، وليست كأية امرأة إنها ابنة أبي بكر، وزوجة رجل من أغير الناس على زوجته، فاعتذرت في حياء ورقة، إنه صلى الله عليه وسلم الذي قال عنه ربه {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128] وهي التي تحترم زوجها في غيبته، وتحفظ مشاعره وهو بعيد عنها، فاعتذرت شاكرة مقدرة، إنه مع ركب من أصحابه، إن سار وسارت معهم ربما ظهر منهم أو منها ما يحرجها، وإن تخلف عنهم من أجلها ربما قذف الشيطان شيئاً في قلوبهم، كل هذا خطر في نفسها في لحظات، فاعتذرت، وهي مازالت تحمل المكتل بالنوى، ولم يكن بد من أن يقدر صلى الله عليه وسلم موقفها، ويعذرها، ويركب ناقته، ويدرك أصحابه، أما هي فاستعانت بالله على حملها، حتى وصلت متثاقلة به، ككل يوم، وجاء زوجها من سفره، فأخبرته بما جرى، فتقطع قلبه شفقة عليها، وكاد يذرف الدمع رحمة بها، وتحشرجت في صدره كلمات العطف والحنان: إن حملك النوى يا أسماء أصعب وأشق على نفسي من الركوب معه صلى الله عليه وسلم. هكذا ربى الإسلام التعاون والتعاطف بين الزوجين، شركة لا تهتم بالحقوق والواجبات، ولا محاسبة بين طرفيها عن هذا لك، وهذا لي، شركة يبذل كل من طرفيها ما يقدر عليه، لإقامة حياة مستقرة، شركة ينتج منها ومن دم طرفيها أولاد، يصبحون أغلى نتائجها، ويرثون جهادها وكفاحها. لا تقل: هل عمل الزوجة في بيت زوجها واجب عليها؟ أو كرم أخلاق منها؟ إن هذا السؤال من أحد طرفيها يفسدها، وإن التدخل الخارجي بالقوانين والمحاسبات هو الشرارة التي تحرقها، وإن حرص كل منهما على أن يأخذ من الآخر يزعزعها، بل يدمرها، وقانون هذه الشركة في السماء قوله

تعالى: {ومن ءاياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} [الروم: 21]. -[المباحث العربية]- (عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: تزوجني الزبير) بن العوام بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب القرشي، أبو عبد الله، ابن عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمه صفية بنت عبد المطلب، أسلم وهو ابن اثنتي عشرة سنة، وهاجر الهجرتين ولم يتخلف عن غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة الذين جعل عمر الخلافة فيهم من بعده، كان تاجراً، بارك الله له في أمواله في أواخر حياته، كان في جيش عائشة وانسحب من القتال، فاغتاله رجل وهو في طريقه عائداً، وتوفي وسنه ست وستون. أما أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- فهي أخت عائشة لأبيها، وأمها قتيلة بنت عبد العزى، أسلمت قديماً بمكة، بعد سبعة عشر نفساً، وتزوجها الزبير بن العوام، وهاجرت وهي حامل منه، بولده عبد الله، وعاشت إلى أن ولي ابنها الخلافة، ثم إلى أن قتل، وماتت بعده بقليل، وكانت تلقب بذات النطاقين، لدورها في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم. (وما له في الأرض من مال ولا مملوك ولا شيء غير فرسه) "في الأرض" أي على ظهر الأرض، أي في الدنيا، و"من مال" "من" زائدة، و"مال" اسم "ما" بمعنى "ليس" و"المملوك" الرقيق من العبيد والإماء، وهو هنا من عطف الخاص على العام، وقال الحافظ ابن حجر: المراد بالمال هنا الإبل، أو الأراضي التي تزرع، وهو استعمال معروف للعرب، يطلقون المال على كل من ذلك. اهـ فهو من عطف المغاير، وقولها بعد ذلك "ولا شيء" من عطف العام على الخاص، يشمل كل ما يتملك، أو يتمول، لكن الظاهر أنها لم ترد ما لا بد منه في المعيشة، من مسكن وملبس ومطعم، ورأس مال تجارة، وهي هنا لم تستثن الناضح -وهو الجمل الذي يستقى عليه، مع أنها تقول في الرواية نفسها "وأدق النوى لناضحه"، ووقع استثناؤه في رواية البخاري، ولفظها "ولا شيء غير ناضح، وغير فرسه" وقولها "تزوجني الزبير وما له في الأرض ... غير كذا" يفيد أنه لم يكن يملك حين زواجه بها سوى هذا، فالجملة حال مقارنة، واستشكل الدودي على هذا، فقال: لم يكن له بمكة فرس ولا ناضح، ففي استثنائها لهما نظر، وأجاب الحافظ ابن حجر بأنه لا مانع من أن يكون الفرس والجمل كانا له بمكة، قبل أن يهاجر، فقد ثبت أنه يوم بدر كان على فرس، ولم يكن قبل بدر غزوة يحصل من غنيمتها على فرس، والجمل يحتمل أن يكون كان له بمكة، ولما قدم به المدينة، وأقطع الأرض، أعده لسقيها، وكان ينتفع به قبل ذلك في غير السقي، فلا إشكال. (فكنت أعلف فرسه، وأكفيه مؤنته، وأسوسه) يقال: ساس الدواب، يسوسها، إذا راضها وأدبها، والمراد من كفاية مؤنة الفرس أنها كانت تقوم بحش الحشائش له، وجمع النوى المتساقط على الأرض من آكلي التمر والبلح، وتحمله فوق رأسها من الأرض المزروعة إلى البيت، وتدق النوى، وتقدمه علفاً للفرس والناضح، وتحمل الماء من البئر من خارج الدار، فتسقي الفرس والناضح، ومن في

البيت، وفي الرواية الثانية "وكان له فرس، وكنت أسوسه، فلم يكن من الخدمة شيء أشد علي من سياسة الفرس، كنت أحتش له، وأقوم عليه وأسوسه". (وأدق النوى) أي أكسره بالدق، عن طرق حجر أو نحوه، على حجر منقور أو نحوه، كالذي يعرف بالهاون وقد يكون عن طريق الرحى، وإن غلب على عملها الطحن. (وأخرز غربه) "أخرز" بخاء بعدها راء ثم زاي، يقال: خرز الجلد ونحوه، خاطه، والغرب بفتح الغين وسكون الراء بعدها باء الدلو الكبير. (وأعجن) الدقيق للخبز. (ولم أكن أحسن أخبز) يقال: خبز بفتح الباء، يخبز بكسرها، خبزاً بسكونها، إذا صنعه، بأن أخذ قطعة العجين وبسطها، ورققها، وأدخلها الفرن أو النار، حتى تنضج، وفعل "أخبز" مسبوك بمصدر من غير سابك، مفعول "أحسن" أي لم أكن أحسن وأتقن صنعة خبز الخبز. (وكان يخبز لي جارات من الأنصار) هذا محمول على أن في كلامها شيئاً محذوفاً مطويا، تقديره: تزوجني الزبير بمكة، وهو بالصفة المذكورة، واستمر على ذلك حتى قدمنا المدينة، وفيها كنت أصنع كذا وكذا، لأن النسوة من الأنصار، إنما جاورنها بعد قدومها المدينة، وكذا ما سيأتي من نقل النوى من أرض الزبير. (وكن نسوة صدق) الوصف بالمصدر وإضافة الصفة إلى الموصوف يفيد المبالغة، والمراد من الصدق هنا حسن العشرة والإخلاص في المودة. (وكنت أنقل النوى من أرض الزبير، التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، على رأسي) على رأس ستة أشهر من غزوة بدر حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير، فكان جلاؤهم إلى الشام، وتركوا أرضهم، فكانت فيئاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم للأنصار: إن شئتم قسمت بينكم ما أفاء الله علي، وبقي المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في منازلكم ومشاركتكم أموالكم، وإن شئتم أعطيتهم، وخرجوا عنكم، فاختاروا الثاني، فأقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين بعض الأرض، فكان للزبير بن العوام منها نصيب. (وهي على ثلثي فرسخ) وفي رواية البخاري "وهي مني على ثلثي فرسخ" أي تبعد عن مكان سكني بثلثي فرسخ والفرسخ ثلاثة أميال، فهي على مسافة ميلين من مسكنها، أي نحو ثلاثة كيلو مترات، ونصف الكيلو متر. (فدعاني، ثم قال: إخ. إخ) أي قال لناقته: إخ. إخ. بكسر الهمزة وسكون الخاء، كلمة تقال للبعير، لمن أراد أن ينيخه. (ليحملني خلفه) كأنها فهمت ذلك من قرينة الحال، وإلا فيحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم قد أراد أن يركبها وما معها على ناقته، ويركب هو شيئاً آخر. (قالت: فاستحييت، وعرفت غيرتك) فهي قد قالت ذلك لزوجها الزبير بعد ما

وصلت، ولم تركب، ففي رواية البخاري "فاستحييت أن أسير مع الرجال، وذكرت -أي تذكرت- الزبير وغيرته، وكان أغير الناس، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أني قد استحييت، فمضى، فجئت الزبير، فقلت: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى رأسي النوى، ومعه نفر من أصحابه، فأناخ لأركب، فاستحييت منه، وعرفت غيرتك". (والله لحملك النوى على رأسك أشد من ركوبك معه) سقطت من هذه الرواية لفظ "علي" وهي في رواية البخاري "أشد علي" ووجه المفاضلة التي أشار إليها الزبير أن ركوبها مع النبي صلى الله عليه وسلم لا ينشأ عنه كبير أمر من الغيرة لأنها أخت امرأته، فهي في تلك الحالة لا تحل له أن يتزوجها لو كانت خلية من الزوج، أما أنها كانت تخشى أن ينكشف منها حالة السير ما لا تريد انكشافه، أو أن يقع لها من الرجال مزاحمة بغير قصد، فهذا كله أخف مما تحقق من تبذلها، بحمل النوى على رأسها من مكان بعيد، لأنه قد يوهم خسة النفس، ودناءة الهمة، ولكن كان السبب الحامل على ذلك شغل زوجها وأبيها بالجهاد وغيره، وكانوا لا يتفرغون للقيام بأمور البيت، بأن يتعاطوا ذلك بأنفسهم، ولضيق ما بأيديهم على استخدام من يقوم بذلك عنهم فانحصر الأمر في نسائهم، فكن يكفينهم مؤنة المنزل ومن فيه، ليتوافروا هم على ما هم فيه، من نصر الإسلام مع ما ينضم إلى ذلك من العادة المانعة من تسمية ذلك عاراً محضاً. ذكره الحافظ ابن حجر. (حتى أرسل إلي أبو بكر بخادم) الخادم يطلق على الذكر والأنثى، والمراد هنا أنثى، وفي الرواية الثانية "جاء النبي صلى الله عليه وسلم سبي، فأعطاها خادماً" قال الحافظ ابن حجر: ويجمع بين الروايتين بأن السبي لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أبا بكر منه خادما، ليرسله إلى ابنته أسماء، فصدق أن النبي صلى الله عليه وسلم هو المعطي، ولكن وصل ذلك إليها بواسطة. (إني إن رخصت لك، أبى ذلك الزبير) أي إني إن رخصت لك قبل استشارة الزبير وموافقته رفض الزبير موافقتي. (ما لك بالمدينة إلا داري؟ ) الاستفهام إنكاري توبيخي، أي ما ينبغي أن تلجأ إلى داري وفي المدينة دور كثيرات، فالجأ لغير داري. قالت ذلك تتظاهر بعدم الموافقة لتكون الموافقة من الزبير. (مالك أن تمنعي رجلاً فقيراً يبيع) أي ما ينبغي لك أن تمنعي (فكان يبيع إلى أن كسب) أي إلى أن كان غير فقير، لدرجة قدرته على شراء الإماء والخدم. (فبعته الجارية) وهو محمول على أنها استغنت عنها بغيرها. (فقال: هبيها لي) الظاهر أنه لم يكن يعلم أنها باعتها. (قالت: إني قد تصدقت بها) أي إني بعتها، وهذا ثمنها، وسأتصدق به. -[فقه الحديث]- المسألة الفقهية الأساسية في هذا الحديث هي عمل المرأة في بيت زوجها، وظاهر الحديث يدل

على أن على المرأة القيام بجميع ما يحتاج إليه زوجها من الخدمة، وإليه ذهب أبو ثور، ويؤيده حديث فاطمة رضي الله عنها، حين شكت ما تلقى يداها من الرحى، وسألت أباها خادماً، فدلها على خير من ذلك، وهو ذكر الله تعالى. وقال النووي: ما قامت به أسماء -رضي الله عنها- كله من المعروف والمروءات، التي أطبق عليها الناس، وهو أن المرأة تخدم زوجها هذه الأمور المذكورة ونحوها، من الخبز والطبخ وغسل الثياب وغير ذلك، وكله تبرع من المرأة، وإحسان منها إلى زوجها، وحسن معاشرة، وفعل معروف معه، ولا يجب عليها شيء من ذلك، بل لو امتنعت من جميع هذا لم تأثم، ويلزمه هو تحصيل هذه الأمور لها، ولا يحل له إلزامها بشيء من هذا، وإنما تفعله المرأة تبرعاً، وهي عادة جميلة استمر عليها النساء، من الزمن الأول، إلى الآن، وإنما الواجب على المرأة شيئان، تمكينها زوجها من نفسها، وملازمة بيته. اهـ قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر أن هذه الواقعة وأمثالها كانت في حال ضرورة، فلا يطرد الحكم في غيرها، مما لم يكن في مثل حالهم، والذي يترجح حمل الأمر في ذلك على عوائد البلاد، فإنها مختلفة في هذا الباب. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - جواز الإرداف على الدابة، إذا كانت مطيقة. 2 - وجواز إرداف المرأة التي ليست محرماً، إذا وجدت في طريق وقد أعيت، ولا سيما مع جماعة رجال صالحين. ولا شك في جواز مثل هذا. كذا قال النووي، وقال القاضي عياض: هذا خاص للنبي صلى الله عليه وسلم، بخلاف غيره، فقد أمرنا بالمباعدة بين أنفاس الرجال والنساء، وكانت عادته صلى الله عليه وسلم مباعدتهن، لتقتدي به أمته، قال: وإنما كانت هذه الخصوصية له لكونها بنت أبي بكر، وأخت عائشة، وامرأة للزبير، فكانت كإحدى أهله ونسائه، مع ما خص به صلى الله عليه وسلم من أنه أملك لإربه، وأما إرداف المحارم فجائز بلا خلاف، بكل حال. 3 - وما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الشفقة على المؤمنين والمؤمنات، ورحمتهم ومواساتهم فيما أمكنه. 4 - ومن التقاطها النوى قال القاضي عياض: فيه جواز التقاط المطروحات رغبة عنها، كالنوى والسنابل وخرق المزابل وسقاطتها، وما يطرحه الناس من رديء المتاع ورديء الخضر وغيرها، مما يعرف أنهم تركوه، رغبة عنه، فكل هذا يحل التقاطه، ويملكه الملتقط، وقد لقطه الصالحون وأهل الورع، ورأوه من الحلال المحض، وارتضوه لأكلهم ولباسهم. 5 - ومن إقطاع النبي صلى الله عليه وسلم الأرض للزبير جواز إقطاع الإمام، قال النووي: فأما الأرض المملوكة لبيت المال فلا يملكها أحد إلا بإقطاع الإمام، ثم تارة يقطع رقبتها، ويملكها الإنسان، حيث يرى في ذلك مصلحة، فيجوز، ويملكها كما يملك ما يعطيه من الدراهم والدنانير وغيرها، وتارة يقطعه منفعتها، فيستحق الانتفاع بها مدة الإقطاع.

وأما الموات فيجوز لكل أحد إحياؤه، ولا يفتقر إلى إذن الإمام، هذا مذهب مالك والشافعي والجمهور، وقال أبو حنيفة: لا يملك الموات بالإحياء إلا بإذن الإمام. 6 - ومن قصة الفقير الذي استأذنها أن يبيع في ظل دارها، وذكرها الحيلة في استرضاء الزبير، حسن الملاطفة في تحصيل المصالح، ومداراة أخلاق الناس في تتميم ذلك. 7 - وفي الحديث مدح الغيرة على الزوجة. 8 - ومنقبة للزبير بن العوام. 9 - ومنقبة لأسماء بنت أبي بكر. 10 - وما كان عليه نساء الأنصار من التعاون والتواد وحسن العشرة. 11 - وما كان عليه الصحابة من ضيق العيش وقلة ذات اليد. 12 - قال المهلب: وفيه أن المرأة الشريفة إذا تطوعت بخدمة زوجها بشيء لا يلزمها لم ينكر عليها ذلك أب ولا سلطان، قال الحافظ ابن حجر: وتعقب بأنه بناه على أصله، من أن ذلك كان تطوعاً، ولخصمه أن يعكس، فيقول: لو لم يكن لازماً ما سكت أبوها مثلاً على ذلك، مع ما فيه من المشقة عليه وعليها. 13 - أخذ منه بعضهم أن الحجاب إنما هو في حق أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فليس في الحديث أنها استترت، ولا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بذلك. وتعقب بأن ذلك كان قبل نزول الحجاب. 14 - قال المهلب: وفيه غيرة الرجل عند ابتذال أهله، فيما يشق من الخدمة، وأنفة نفسه من ذلك، لا سيما إذا كانت ذات حسب. 15 - ومن بيعها الجارية بدون علمه دليل على أن للزوجة أن تتصرف في مالها وأملاكها، دون علم زوجها، وقد يقال: إنها كانت مأذوناً لها إذناً عاماً. 16 - وعن استئذان الرجل الفقير قال السنوسي: هذا يدل على أن أصحاب الأفنية أحق بها، فلا يقعد فيها للبيع إلا بإذن، وبشرط أن لا يضيق على الماريين. والله أعلم

(591) باب تحريم مناجاة الاثنين دون الثالث

(591) باب تحريم مناجاة الاثنين دون الثالث 4970 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون واحد". 4971 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس؛ من أجل أن يحزنه". 4972 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه". -[المعنى العام]- إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وهو حريص على أن يوقع العداوة والبغضاء في نفوس الناس، ليفرقهم ويشغلهم بالشحناء والتدابر والتقاطع، ويلهيهم عن العبادة وعن ذكر الله، لا يجد لذلك وسيلة إلا اتبعها، وأهم وسائله ظن السوء، فكان على المؤمنين أن يغلقوا في وجهه الأبواب التي يتسرب منها إلى غرس ظن السوء في القلوب، وكان الحديث الشريف "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان، دون الثالث" فإن ذلك يوقع في نفسه الوحشة والخوف والحقد والحزن. وقال القرآن الكريم {إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين ءامنوا وليس بضارهم شيئاً إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون} [المجادلة: 10] نزلت هذه الآية في المنافقين واليهود، كانوا إذا خرج المسلمون للغزو، أو سافروا لمهام أمورهم، جلس كل اثنين منهم بجوار مسلمين، وأسر أحدهما للآخر، وتكلفا المناجاة، ينظران إلى من بجوارهما من المؤمنين، ويتغامزون بأعينهم، عليهم،

يوهمونهم عن أقاربهم المسافرين، أنهم أصابهم شر، فيخاف المؤمنون ويحزنوا، ويعيشون في نكد حتى يقدم أقاربهم سالمين. تكرر منهم ذلك وكثر، فشكا المؤمنون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى هذه الآية لئلا يكترث المؤمنون بتناجي المنافقين وأعدائهم، ولا يحزنوا، ونصح صلى الله عليه وسلم المؤمنين بذلك، ونصح المنافقين واليهود بعدم استخدام هذا الأسلوب الحقير، فلم يستجيبوا، وعادوا، وكرروا، وأكثروا، فنزل قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير} [المجادلة: 8]. إن القرآن الكريم في هذه الآيات، وإن عني بموضوع النجوى، لكنه يهتم أولاً وبالذات بالأثر المترتب عليها، وهو حزن الذي يراها، وخوفه منها، وتوقعه شرها، هذا ما يقع في نفسه، وإن كان موضوعها لا يتعلق به، ولا يتصل به من قريب أو بعيد، وأقل أثر يقع في نفسه أن المتناجيين بينهما من الود ما ليس عنده، وبينهما من السر ما لا يصح له أن يعلمه، وأنهما أقرب لبعضهما منه، فيقع في نفسه من البغض والحقد عن كليهما ما لم يكن، وإن كثيراً من الناس يتعمدون صورة المناجاة بدون مطلب لها، وبدون حاجة إليها، ليغيظوا بهذا المظهر بعض الجالسين، فكان التوجيه القرآني عاماً، للمنافقين والكافرين والمؤمنين {إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين ءامنوا} وكان نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عنها بصفة عامة "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث، من أجل أن ذلك يحزنه". -[المباحث العربية]- (إذا كان ثلاثة) بالرفع فاعل "كان" التامة، أي إذا اجتمع ثلاثة، وفي الرواية الثانية والثالثة "إذا كنتم ثلاثة" وفي رواية للبخاري "إذا كانوا ثلاثة" وكلها بنصب "ثلاثة" خبر "كان". (فلا يتناجى اثنان دون واحد) وفي الرواية الثانية "فلا يتناجى اثنان دون الآخر" وفي الرواية الثالثة "فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما" وفي رواية للبخاري "فلا يتناجى اثنان دون الثالث" وفي رواية أخرى له "لا يتناجى رجلان دون الآخر" وكلها بألف مقصورة "لا يتناجى" ثابتة في الخط ياء صورة، وتسقط في اللفظ، لالتقاء الساكنين، وهو بلفظ الخبر، ومعناه النهي، وفي بعض نسخ البخاري "فلا يتناج" بجيم فقط، فتكون طلبية لفظاً ومعنى، والمناجاة قيل: المسارة، يقال: انتجى القوم، وتناجوا، أي سار بعضهم بعضاً، وقيل: إن المسارة يعتبر فيها من يلقي السر ومن يلقى إليه، والمناجاة وقوع الكلام سراً من الجانبين. (من أجل أن يحزنه) بضم الياء من "أحزن" قال النووي: قال أهل اللغة: يقال: حزنه وأحزنه وقرئ بهما في السبع، أي لا يتناجى اثنان دون الثالث من أجل أن ذلك التناجي يحزن الثالث، لأنه قد يتوهم أن نجواهما إنما هي لسوء رأيهما فيه، أو لدسيسة غائلة له، وفي الرواية الثالثة "فإن ذلك يحزنه" وفي رواية للبخاري "أجل أن ذلك يحزنه" بإسقاط "من".

-[فقه الحديث]- قال النووي: النهي نهي تحريم، فيحرم على الجماعة المناجاة دون واحد منهم، إلا أن يأذن، ومذهب ابن عمر رضي الله عنهما ومالك وأصحابنا وجماهير العلماء أن النهي عام في كل الأزمان، وفي الحضر والسفر، وقال بعض العلماء: إنما المنهي عنه المناجاة في السفر، دون الحضر، لأن السفر مظنة الخوف حكاه القاضي عياض بلفظ: قيل: إن المراد بهذا الحديث السر والمواضع التي لا يأمن فيها الرجل رفيقه، أو لا يعرفه، أو لا يثق به، ويخشى منه، قال: وقد روي في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ولا يحل لثلاثة نفر، يكونون بأرض فلان أن يتناجى اثنان، دون صاحبهما" قال ابن العربي: الخبر عام، اللفظ والمعنى، والعلة الحزن، وهي موجودة في السفر والحضر، فوجب أن يعمهما النهي جميعاً، وادعى بعضهم أن هذا الحديث منسوخ، وأن هذا كان في أول الإسلام، فلما فشا الإسلام، وأمن الناس، سقط النهي، وكان المنافقون يفعلون ذلك بحضرة المؤمنين ليحزنوهم، وتعقبه القرطبي بأن هذا تحكم وتخصيص، لا دليل عليه. ثم قال: أما إذا كانوا أربعة، فتناجى اثنان، دون اثنين فلا بأس، بالإجماع. اهـ قال الحافظ ابن حجر: إذا كانوا أربعة لم يمتنع تناجي اثنين، لإمكان أن يتناجى الاثنان الآخران، وقد ورد ذلك صريحاً فيما أخرجه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود وصححه ابن حبان عن ابن عمر، رفعه "قلت: فإن كانوا أربعة؟ قال: لا يضره" وفي رواية مالك عن عبد الله بن دينار "كان ابن عمر إذا أراد أن يسارر رجلاً، وكانوا ثلاثة، دعا رابعاً، ثم قال للاثنين: استريحا شيئاً، فإني سمعت ... " فذكر الحديث، وفي رواية أخرى "فكان ابن عمر إذا أراد أن يناجي رجلاً دعا آخر، ثم ناجى الذي أراد. قال الحافظ ابن حجر: وقوله "حتى تختلطوا بالناس" يؤخذ منه أن الزائد على الثلاثة يستوي أن يكون قد جاء اتفاقاً، أو جاء عن طلب، كما كان يفعل ابن عمر. ثم قال: ويؤخذ من التعليل "أجل أن ذلك يحزنه" استثناء صورة مما تقدم عن ابن عمر، من إطلاق الجواز إذا كانوا أربعة، وهي ما لو كان بين الواحد وبين الاثنين مقاطعة، بسبب يعذران به، أو أحدهما، فإنه يصير في معنى المنفرد، وأرشد هذا التعليل إلى أن المناجي إذا كان ممن إذا خص أحداً بمناجاته أحزن الباقين امتنع ذلك، إلا أن يكون في أمر مهم لا يقدح في الدين. وقد نقل ابن بطال عن أشهب عن مالك قال: لا يتناجى ثلاثة دون واحد، ولا عشرة دون واحد، لأنه قد نهي أن يترك واحداً، قال: وهذا من حسن الأدب، لئلا يتباغضوا ويتقاطعوا، وقال المازري ومن تبعه: لا فرق في المعنى بين الاثنين والجماعة، لوجود المعنى في حق الواحد، زاد القرطبي، بل وجوده في العدد الكثير أمكن وأشد، فليكن المنع أولى؟ . واختلف فيما إذا انفرد جماعة بالتناجي، دون جماعة. قال ابن التين: وحديث عائشة في قصة فاطمة دال على الجواز -وحديث عائشة الذي أشار إليه ابن التين رواه البخاري، ولفظه "عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: إنا كنا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عنده جميعاً، لم تغادر منا واحدة، فأقبلت فاطمة عليها

السلام تمشي، ولا والله ما تخفى مشيتها من مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآها رحب. قال: مرحباً يا بنتي، ثم أجلسها عن يمينه -أو عن شماله- ثم سارها، فبكت بكاء شديداً، فلما رأى حزنها سارها الثانية، فإذا هي تضحك. فقلت لها: أنا من بين نسائه -خصك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسر من بيننا، ثم أنت تبكين، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتها عما سارك؟ قالت: ما كنت لأفشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم سره، فلما توفي قلت لها: عزمت عليك -بما لي عليك من الحق- لما أخبرتني. قالت: أما الآن فنعم. فأخبرتني، قالت: أما حين سارني في الأمر الأول، فإنه أخبرني أن جبريل كان يعارضه بالقرآن كل سنة مرة، وإنه قد عارضه به العام مرتين، ولا أرى الأجل إلا قد اقترب، فاتقي الله واصبري، فإني نعم السلف أنا لك، قالت: فبكيت بكائي الذي رأيت، فلما رأى جزعي سارني الثانية، قال: يا فاطمة، ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين؟ أو سيدة نساء هذه الأمة؟ ". وكذلك يدل على الجواز حديث ابن مسعود أخرجه البخاري، قال: "قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً قسمة، فقال رجل من الأنصار: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله، قلت: أما والله لآتين النبي صلى الله عليه وسلم، فأتيته، وهو في ملأ، فساررته، فغضب حتى احمر وجهه، ثم قال: رحمة الله على موسى، أوذي بأكثر من هذا فصبر". قال ابن التين: فإن في ذلك دلالة على أن المنع يرتفع إذا بقي جماعة لا يتأذون بالسرار، ويستثنى من أصل الحكم ما إذا أذن من يبقى -سواء كان واحداً أم أكثر- للاثنين في التناجي دونه أو دونهم، فإن المنع يرتفع، لكونه حق من يبقى. وأما إذا انتجى اثنان ابتداء، وثم ثالث، كان بحيث لا يسمع كلامهما، لو تكلما جهرا، فأتى ليستمع عليهما، فلا يجوز، كما لو لم يكن حاضراً أصلاً معهما، وقد أخرج البخاري في كتاب الأدب المفرد، عن سعيد المقبري، قال: "مررت على ابن عمر، ومعه رجل يتحدث، فقمت إليهما، فلطم صدري، وقال: إذا وجدت اثنين يتحدثان، فلا تقم معهما، حتى تستأذنها" زاد أحمد في رواية "وقال: أما سمعت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا تناجى اثنان فلا يدخل معهما غيرهما، حتى يستأذنهما"؟ . قال ابن عبد البر: لا يجوز لأحد أن يدخل على المتناجيين في حال تناجيهما، قال الحافظ ابن حجر: ولا ينبغي لداخل القعود عندهما، ولو تباعد عنهما، إلا بإذنهما، فقد افتتحا حديثهما سراً، وليس عندهم أحد، فدل على أن مرادهما ألا يطلع أحد على كلامهما، ويتأكد ذلك إذا كان صوت أحدهما جهورياً، لا يتأتى له إخفاء كلامه ممن حضره، وقد يكون لبعض الناس قوة فهم، بحيث إذا سمع بعض الكلام استدل به على باقيه، فالمحافظة على ترك ما يؤذي المؤمن مطلوبة، وإن تفاوتت المراتب. والله أعلم

كتاب الطب والمرض

كتاب الطب والمرض

(592) باب العين والحسد والرقى

(592) باب العين والحسد والرقى 4973 - عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها أنها قالت: كان إذا اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم رقاه جبريل، قال باسم الله يبريك، ومن كل داء يشفيك، ومن شر حاسد إذا حسد، وشر كل ذي عين. 4974 - عن أبي سعيد أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، اشتكيت؟ فقال: "نعم" قال: باسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد، الله يشفيك، باسم الله أرقيك. 4975 - عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العين حق". 4976 - عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العين حق، ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا". -[المعنى العام]- لله في خلقه شئون، وقد شاءت حكمته أن يؤدع الأسباب صلاحية إيجاد المسببات، والسبب والمسبب من خلقه جميعاً، لا شريك له، فهو الفاعل الحقيقي، وهو المدبر الوحيد للكائنات، في كل لحظة من اللحظات، وتأثير الأسباب في مسبباتها قانون خلق الله، مرتبط بإرادة الله ومشيئته، خلق الحرارة والإحراق في النار، تفعل فعلها بإرادته وقدرته وإذنه لها، فإن شاء أن تكون برداً وسلاماً كانت بأمر كن فيكون. وفي إطار قانون الأسباب والمسببات خلق نفوساً من ذرية آدم، تنفث سماً، كما تنفث الحيات، قلوبها مملوءة بالحقد على عباد الله، وتتمنى زوال النعمة عمن أنعم الله عليه، قلوب تكاد تتميز من

الغيظ، حين ترى نعمة في يد آخرين، تتمنى لنفسها الحصول عليها وإن كان عندها مثلها، أو تتمنى زوالها عن صاحبها وإن لم تقبلها لنفسها، أو تتمنى بقاء المحروم محروماً لا ينعم عليه بشيء، نار في تلك القلوب تتأجج كلما رأت نعمة عند الغير، لا يطفئها إلا زوال هذه النعمة، وقديماً قيل: كل الأعداء أستطيع إرضاءهم إلا الحاسد، فإنه لا يرضيه إلا زوال نعمتي. نعم أودع الله نفوساً هذا الشر، وجعل لهذا التوجه منها أثراً يصيب المحسود بالأذى، امتحاناً للحاسد، وقد أعطاه الله سلاحاً للشر، وطلب منه عدم استعماله، وامتحاناً للمحسود، وقد أمر باللجوء إلى الله ودعائه، ليثاب بعبادة الدعاء، وليشعر بالفضل حين رفع البلاء، فيشكر على السراء، بعد أن صبر على الضراء، قال تعالى {قل أعوذ برب الفلق* من شر ما خلق* ومن شر غاسق إذا وقب* ومن النفاثات في العقد* ومن شر حاسد إذا حسد} و {وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين* وأعوذ بك رب أن يحضرون} [المؤمنون: 97، 98] وكما أودع في بعض النفوس هذه القوة المعنوية من الشر، أودع في عيون بعض الناس سهاماً شريرة تصل إلى النعم فتهلكها، أو إلى الأشخاص فتقتلها، حتى قال فيها صلى الله عليه وسلم "علام يقتل أحدكم أخاه"؟ و"العين حق". "ولو كان شيء يسبق القدر في إنجاز الشر لكانت العين". "وأكثر من يموت، بعد قضاء الله وقدره، بالنفس" أي بإصابة العين، والعين تدخل الجمل القدر، والرجل القبر. وعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعية وتعاويذ، نحصن بها أنفسنا من الحسد والعين، وأدعية وتعاويذ تشفي من آثار الحسد والعين، وعلمنا أن اللجوء إلى الله عند الأمراض هو أساس الشفاء، ولا شافي إلا هو، ولا شفاء إلا شفاؤه. وقد كانت الرقى والتعاويذ معروفة عند العرب وغيرهم قبل الإسلام، لكنها كانت بطلاسم وبعبارات كفر وبالتجاء إلى غير ملجأ، فقال صلى الله عليه وسلم: اعرضوا على رقاكم، فعرضوها، فأقر ما ليس بشرك ونهي عما فيه شرك. وعرف المسلمون الرقى الجائزة شرعا فرقوا أنفسهم وغيرهم بها، وعرفوا الرقى الممنوعة شرعاً فاجتنبوها، وخير الرقى ما كان بكتاب الله، وبما ورد في الحديث الصحيح من ذكر الله. وها هو أبو سعيد الخدري رضي الله عنه يرقي لديغاً من حية أو عقرب بقراءته فاتحة الكتاب على مكان اللدغ مرات، فيبرأ المريض، ويشفى من سم العقرب بإذن الله. ولله أسرار في كلامه، ولله أسرار في خلقه، ولله أسرار في الأمراض، ولله أسرار في الشفاء، وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، {وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير} [الأنعام: 18]. -[المباحث العربية]- (العين والحسد والرقى) المراد من العين هنا النظر باستحسان شديد، إلى النعمة، مع الانبهار والشهوة، والتوجه إليها بمشاعر الإعجاب، وقد يحصل من الأعمى، بتوجه نفسه هذا التوجه، وإنما نسب إلى العين لأن أغلب هذا يكون بها، يقال: عان الحاسد فلاناً،

أصابه بعين، فالمصيب عائن، ويقال له: معيان، للمبالغة، والمصاب معين بفتح الميم ومعيون، والمضارع يعين والمصدر عيناً. أما الحسد فهو تمني زوال نعمة الغير، سواء تمناها أن تعود إليه هو، أو تمني زوالها من عند صاحبها فقط، فقد يحسد الأمير الخفير على عشته، فيتمنى زوالها، فالعين والحسد يجتمعان، إذا نظر العائن الحسود إلى النعمة بانبهار وشهوة، وتمني زوالها، وقد يوجد الحسد، دون العين، إذا لم ينبهر بالنعمة، وتمني زوالها، حقداً على صاحبها، وقد توجد العين وحدها، إذا انبهر بها، وإن لم يتمن زوالها، فقد يصيب الإنسان ماله أو ولده بعينه، كصاحب الجنتين حيث دخل جنته وهو ظالم لنفسه: فيقولون: لا يحسد المال إلا صاحبه، والعامة يطلقون العين على الحسد، والحسد على العين تساهلاً، واللغة والحديث قد يذكرانهما، ويراد كل منهما، في مفهومه الخاص، كما في الرواية الأولى "ومن شر حاسد إذا حسد، وشر كل ذي عين" وقد يذكر أحدهما، ويراد هو وحده، كالرواية الرابعة، وقد يذكران ويراد حالة اجتماعهما، كالرواية الثانية "من شر عين حاسد". و"الرقى" بضم الراء وفتح القاف مقصور، جمع رقية، بضم الراء وسكون القاف، يقال: رقى المريض بفتح القاف في الماضي، يرقيه بكسرها رقياً بفتح الراء وسكون القاف، ورقياً بضم الراء وكسر القاف وتشديد الياء، ورقية بضم الراء وفتحها، مع سكون القاف، إذا عوذه، ويقال: "باسم الله أرقيك" كما في الرواية الثانية، ورقيت فلاناً بفتح القاف، واسترقيت، أي طلبت الرقية، واسترقوا من العين، أي اطلبوا أو تكلفوا الرقية منها. أما رقى بفتح الراء وكسر القاف وفتح الياء، يرقى بفتح القاف مقصوراً فمعناه صعد. (كان إذا اشتكى) أي إذا تألم من المرض، وفي الرواية الثانية "أشتكيت" بهمزة الاستفهام. (قال: بسم الله يبريك) بضم الياء، يقال: أبرأ الله المريض، أي شفاه، وأصله هنا "يبرئك" وسهلت الهمزة للتخفيف والسجع، والتقدير يبرئك الله باسمه، أو "باسم الله" جملة تقديرها باسم الله أرقيك، كما في الرواية الثانية، و"يبرئك" جملة مستأنفة استئنافاً تعليلياً، وجملة "قال: بسم الله يبريك" بيان لقوله "رقاه جبريل". (ومن كل داء يشفيك) بفتح الياء، والجار والمجرور متعلق بالفعل المعطوف على "يبريك" أي يبرئك، ويشفيك من كل داء، فهو من عطف التفسير. (ومن شر حاسد إذا حسد) معطوف على "من كل داء" أي يبرئك ويشفيك من كل داء، ومن شر الحسد، فهو من عطف الخاص على العام، وقوله "إذا حسد" مضاهاة لما في القرآن الكريم، ومعناه إذا أظهر ما في نفسه من الحسد، وعمل بمقتضاه، بترتيب مقدمات الشر، ومبادئ الإضرار بالمحسود قولاً وعملاً، كتوجيه النفس الخبيثة نحوه على وجه تمني إزالة النعمة. (وشر كل ذي عين) أي كل عائن يصيب بعينه النعمة، فيؤثر فيها هلاكاً. (بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد، الله يشفيك، باسم الله أرقيك)

ذكر "بسم الله أرقيك" في الأول وتكرارها في الآخر، يعرف في البديع بالاحتباك، وهو عود العجز على الصدر، وجملة "يؤذيك" صفة الشيء، والجار والمجرور "من كل شيء". "من شر نفس" يصح أن يتعلق بيشفيك، أو بأرقيك. وقوله "من شر كل نفس أو عين حاسد" قال النووي: قيل: يحتمل أن المراد بالنفس نفس الآدمي، وقيل: يحتمل أن المراد بها العين، فإن النفس تطلق على العين، يقال: رجل نفوس، إذا كان يصيب الناس بعينه، كما قال في الرواية الأخرى "من شر كل ذي عين" ويكون قوله "أو عين حاسد" من باب التوكيد بلفظ مختلف، أو شكا من الراوي في لفظه. (العين حق) أي الإصابة بالعين شيء ثابت موجود، وهو من جملة ما تحقق كونه، زاد أحمد "ويحضرها الشيطان، وحسد ابن آدم" وسيأتي في فقه الحديث تفصيل الكلام في كيفية إصابتها. (ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين) هذا تأكيد وتنبيه على سرعة نفوذها وتأثيره في الشيء، قال القرطبي: حاصله لو فرض أن شيئاً له قوة، بحيث يسبق القدر، لكان العين، لكنها لا تسبق، فكيف غيرها؟ . (وإذا استغسلتم فاغسلوا) "استغسلتم" بضم التاء، مبني للمجهول، أي إذا طلب من العائن أن يغتسل، ليصيب المعيون من ماء غسله، رجاء الشفاء، فلا يمتنع، وسيأتي مزيد لهذه المسألة في فقه الحديث. -[فقه الحديث]- (ملحوظة) ساق الإمام مسلم -رحمه الله- بعد هذه الأحاديث الأربعة، والأحاديث الخاصة بالسحر، وعقبها بالحديث الخاص بالسم، ثم عاد إلى أحاديث رقية المريض من رقم إلى رقم، وللترابط سنتكلم عن فقه حديثها هنا، أما مباحثها العربية فستكون في موضعها. ويمكن حصر شتات مسائل الموضوع في سبع نقاط: 1 - العين والحسد، وتأثيرهما، والوقاية منهما، وعلاجهما. 2 - حكم الرقية بالآيات القرآنية، وبالأحاديث النبوية، والأذكار، وغيرها. 3 - الجمع بين الأحاديث المرخصة بالرقية، والناهية عنها. 4 - المواضع المرخص فيها بالرقى عند من يقول بشرعيتها. 5 - ألفاظ الرقى الواردة، وكيفية استعمالها. 6 - أخذ الأجرة على الرقية. 7 - ما يؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم.

وهذا هو التفصيل: 1 - في الرواية الأولى "من شر حاسد إذا حسد، وشر كل ذي عين" وفي الرواية الثانية "من شر كل نفس، أو عين حاسد" وفي الرواية الثالثة "العين حق" وفي الرواية الرابعة "العين حق، ولو كان شيء سابق القدر، سبقته العين" وفي الرواية، "كان يأمرها أن تسترقي من العين" وفي الرواية "رخص في الرقية من العين" وفي الرواية "ولكن العين تسرع إليهم" وعند البزار بإسناد حسن "أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء الله وقدره بالأنفس" قال الراوي: يعني بالعين، وأحاديث إثبات العين وتأثيرها كثيرة مشهورة، لا تجحد ومحاولة تأويلها وإخراجها عن مفهومها الظاهر فاسد وغير مقبول، لأن كل معنى ليس مخالفاً للمعقول ولا يؤدي إلى قلب الحقيقة، ولا يؤدي إلى معارضة دليل ثابت، كل معنى هذا شأنه فهو من مجوزات العقول، وكل معنى هذا شأنه إذا أخبر الشرع بوقوعه وجب اعتقاده، ولا يجوز تكذيبه، فإنكار بعض الطبائعيين لتأثير العين وادعاؤهم أنه لا شيء إلا ما تدرك الحواس، وما عدا ذلك لا حقيقة له، إنكار لكثير من الواقع، كما سنبين بعد. قال الإمام المازري: أخذ جماهير العلماء بظاهر هذه الأحاديث، وقالوا: العين حق، وأنكره طوائف من المبتدعة، وهو قول فاسد، وليس من فرق بين تكذيبهم بهذه الأحاديث وبالعين وتأثيرها، وبين تكذيبهم بما يخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمور الآخرة. ونحن إلى اليوم ندرك أثر العين ولا ندرك -على الحقيقة القاطعة- كيفية تأثير العائن في المصاب، ولا كيف تعمل العين من بعد، حتى يحصل الضرر للمعيون، وقد ذهب بعض المسلمين من أصحاب الطبائع إلى أن العين قد ترسل جواهر لطيفة، غير مرئية، تنبعث من العائن، فتتصل بالمعيون، وتتخلل مسام جسمه فيخلق البارئ الهلاك عندها، كما يخلق سبحانه وتعالى الهلاك عند شرب السموم، وقال بعضهم: إنما هو سم في عين العائن، يصيب بلفحه، عند التحديق إليه، كما يصيب لفح سم الأفعى من يتصل به من غير تلامس، فهناك جنس من الأفاعي، اشتهر بأنها إذا وقع بصرها على الإنسان هلك، فكذلك العائن يرسل من عينه أشعة جوهرية، غير مرئية، فتنتقل في الهواء، إلى بدن المعيون، وقد نقل عن بعض من كان معياناً، أنه قال: إذا رأيت شيئاً يعجبني وجدت حرارة تخرج من عيني. وقد حاول المازري أن يرد هذا الاتجاه، فقال: هذا غير مسلم، لأننا بينا في كتاب علم الكلام أنه لا فاعل إلا الله تعالى، وبينا فساد القول بالطبائع، وبينا أن المحدث لا يفعل في غيره شيئاً، وإذا تقرر هذا بطل ما قالوه، ثم نقول: هذا المنبعث من العين، إما جوهر، وإما عرض، فباطل أن يكون عرضاً، لأنه لا يقبل الانتقال، وباطل أن يكون جوهراً، لأن الجواهر متجانسة، فليس بعضها بأن يكون مفسداً لبعضها، بأولى من عكسه، فبطل ما قالوه. اهـ قال النووي: ومذهب أهل السنة أن العين إنما تفسد وتهلك عند نظر العائن بفعل الله تعالى، أجرى الله سبحانه وتعالى العادة أن يخلق الضرر عند مقابلة هذا الشخص لشخص آخر، وهل هناك جواهر خفية؟ أم لا؟ هذا مما تجوزه العقول، ولا يقطع فيه بواحد من الأمرين، وإنما يقطع بنفي

الفعل عنها، وبإضافته إلى الله تعالى، فمن قطع من أمة الإسلام بانبعاث الجواهر فقد أخطأ في قطعه، وإنما هو من الجائزات. اهـ وهكذا نجد النووي ينفي الفعل والتأثير عن الأسباب عامة -كما هو مذهب أهل السنة- ويجعل الفاعل الحقيقي هو الله وحده لجميع الأفعال الاختيارية، وليس للمخلوقات إلا مقارنة قدرة المخلوق للفعل، دون أي تأثير، حتى النار، إذا حرقت فالحارق هو الله تعالى وحده عند ملامستها، ولذلك كانت برداً وسلاماً على إبراهيم عليه السلام، أما كون الأسباب مؤثرة بذاتها، بقدرة وصلاحية وقوانين أودعها الله فيها، وبإرادة الله تعالى، فهذا رأي آخر، ليس فقط في العين والحسد، ولكن في عموم المخلوقات والأسباب. قال الحافظ ابن حجر: وقد أجرى الله تعالى العادة بوجود كثير من القوى والخواص في الأجسام والأرواح، كما يحدث لمن ينظر إليه من يحتشمه من الخجل، فيرى في وجهه حمرة شديدة، لم تكن قبل ذلك، وكذا الاصفرار عند رؤية من يخافه، وكثير من الناس يسقم، وتضعف قواه، بمجرد النظر إليه، وكل ذلك بواسطة ما خلق الله تعالى في الأرواح من التأثيرات، ولشدة ارتباطها بالعين نسب الفعل إلى العين، وليست هي المؤثرة، وإنما التأثير للروح، والأرواح مختلفة في طبائعها وقواها وكيفياتها وخواصها، فمنها ما يؤثر في البدن، بمجرد الرؤية، من غير اتصال به، لشدة خبث تلك الروح وكيفيتها الخبيئة، والحاصل أن التأثير بإرادة الله تعالى وخلقه ليس مقصوراً على الاتصال الجسماني، بل يكون تارة به، وتارة بالمقابلة، وأخرى بمجرد الرؤية، وأخرى بتوجه الروح، كالذي يحدث من الأدعية والرقى واللجوء إلى الله، وتارة يقع ذلك بالتوهم والتخيل، فالذي يخرج من عين العائن سهم معنوي (غير مسلم) إن صادف البدن، حيث لا وقاية له، أثر فيه، وإلا لم ينفذ السهم، بل ربما رد على صاحبه، كالسهم الحسي سواء بسواء. اهـ وما يقال في تأثير العين، يقال في تأثير الحسد بكل حال. أقول: وقد وصل العلم الحديث إلى اختراع آلة (ريموت كنترول) صغيرة، تحرك بها سيارة من بعد، وتسير بها طائرة وأنت على الأرض، بل تصلح بمثلها خللاً وعطباً حصل في سفينة الفضاء، وأنت لا ترى جوهراً ولا عرضاً بين الآلة وبين المتأثر بها، هذا في الخلق، فكيف يستبعد في صنعه الخالق؟ فتبارك الله أحسن الخالقين. 2 - النقطة الثانية من فقه الحديث حكم الرقية، وعنها يقول النووي: وقد نقلوا الإجماع على جواز الرقى بالآيات وأذكار الله تعالى. اهـ والرواية الأولى "كان إذا اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم رقاه جبريل" والرواية "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى منا إنسان، مسحه بيمينه، ثم قال: أذهب الباس، رب الناس" والرواية وخمس بعدها بنحو ذلك والرواية، "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر عائشة أن تسترقي" وفي الرواية أمر بالرقية. وبقية الروايات ترخص أو تأمر بالرقية، مما يؤكد نقل الإجماع بجوازها. لكن ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الرقى، والرواية تشير إلى ذلك، وروى البخاري "أن سبعين ألفاً من أمة الإسلام يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، كانوا لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا

يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون" وأخرج أبو داود وابن ماجه وصححه الحاكم "إن الرقى والتمائم والتولة شرك" فهذه الأحاديث يتعارض ظاهرها مع جواز الرقية، وقد أجاب العلماء بأجوبة، منها: أ- قال النووي: المدح في ترك الرقى، المراد به الرقى التي هي كلام الكفار، والرقى المجهولة، والرقى بغير العربية، والرقى بما لا يعرف معناه، فهذه مذمومة، لاحتمال أن يكون معناها كفراً، أو قريباً من الكفر، أو مكروهاً. اهـ وحاصل الجواب تخصيص لفظ "الرقى" بالمذكورات، أي نهي عن الرقية التي صفتها كذا وكذا، والذين لا يسترقون بالرقى الممنوعة، وإن الرقى بكذا وكذا شرك. ب- أن النهي لقوم يعتقدون منفعتها وتأثيرها بطبعها، كما كانت الجاهلية تزعمه في أشياء كثيرة، قاله الطبري والمازري وطائفة، وحاصل الجواب تقييد لفظ "الرقى" أيضاً، أي نهي عن الرقية المعتقد فيها أنها تنفع بذاتها، وأجاز الرقى التي يعتمد فيها على الله تعالى، والذين لا يسترقون معتقدين نفعها لذاتها. ج- قال الداودي وابن قتيبة وطائفة: واختاره ابن عبد البر، المنهي عنه الرقى في الصحة، خشية وقوع الداء، والمرخص به الرقى بعد وقوع الداء، وهو معترض بثبوت الاستعاذة في حديث البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه، تفل في كفه، ويقرأ: قل هو الله أحد والمعوذتين، ثم يمسح بهما وجهه، وما بلغت يده من جسده" وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة. د- قال النووي: كان النهي أولاً، ثم نسخ ذلك، وأذن فيها، وفعلها، واستقر الشرع على الإذن. هـ- أن المدح في ترك الرقى للأفضلية، وبيان التوكل، والإذن فيها لبيان الجواز، مع أن تركها أفضل، فالأفضل الاعتماد على الله في دفع الداء، والرضا بقدره، لا القدح في جواز ذلك، لثبوت وقوعه في الأحاديث الصحيحة، وثبوته عن السلف الصالح، لكن مقام الرضا والتسليم أعلى من تعاطي الأسباب، وإلى هذا نحا الخطابي ومن تبعه، قال ابن الأثير: هذا من صفة الأولياء المعرضين عن الدنيا وأسبابها وعلاقتها، وهؤلاء هم خواص الأولياء، ولا يرد على هذا وقوع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، فعلاً وأمراً، لأنه كان في أعلى مقامات العرفان، وأعلى درجات التوكل، فكان ذلك منه للتشريع وبيان الجواز، ومع ذلك فلا ينقص ذلك من توكله، لأنه كان كامل التوكل يقيناً، فلا يؤثر فيه تعاطي الأسباب شيئاً، بخلاف غيره، ولو كان كثير التوكل، لكن من ترك الأسباب، وفوض وأخلص في ذلك كان أرفع مقاماً، قال الطبري: قيل: لا يستحق التوكل إلا من لم يخالط قلبه خوف من شيء ألبتة، حتى السبع الضاري والعدو العادي. قال الحافظ ابن حجر: والحق أن من وثق بالله، وأيقن أن قضاءه عليه ماض، لم يقدح في توكله تعاطي الأسباب، اتباعاً لسنته وسنة رسوله، فقد ظاهر صلى الله عليه وسلم في الحرب بين درعين، ولبس على رأسه المغفر، وأقعد الرماة على فم الشعب، وخندق حول المدينة، وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة، وهاجر هو، وتعاطى أسباب الأكل والشرب، وادخر لأهله قوتهم، ولم ينتظر أن

ينزل عليه من السماء، وكان هو أحق الخلق أن يحصل له ذلك، وقال للذي سأله: أعقل ناقتي؟ أو أدعها؟ قال: "اعقلها وتوكل" فأشار إلى أن الاحتراز لا يدفع التوكل. والله أعلم. 4 - وقد ذكرت الأحاديث حالات الرقى، ومواضع رخص فيها بالرقى، ففي الرواية، "رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل بيت من الأنصار في الرقية من كل ذي حمة" أي ذات سم، وفي الرواية "أو كانت به قرحة أو جرح" وفي الرواية، "رخص في الحمة والنملة والعين" من هنا قال بعض العلماء: لا تجوز الرقية إلا من العين واللدغة، أخذاً من حديث البخاري "لا رقية إلا من عين أو حمة" وأجيب بأن معنى الحصر فيه أنهما أصل كل ما يحتاج إلى الرقية، فيلتحق بالعين جواز رقية من به خبل، أو مرض نفسي أو عصبي، ويلتحق بالسم كل ما عرض للبدن، من قرح وغيره، وقيل: المراد بالحصر معنى الأفضل، أي لا رقية أنفع من الرقية في كذا وكذا، وقال النووي: الاقتصار في الأحاديث على أمور في مواضع الرقية ليس معناه تخصيص جوازها بهذه الأمور، وإنما معناه أنه سئل عن هذه الثلاثة فأذن فيها ولو سئل عن غيرها لأذن فيه، وقد رقى صلى الله عليه وسلم في غير هذه الأمور. اهـ والتحقيق أن الرقبة التجاء إلى الله تعالى، وهو مطلوب عند كل نازلة، وأعظم النوازل المرض، ولا شافي في الحقيقة إلا الله، كما قال على لسان إبراهيم عليه السلام {وإذا مرضت فهو يشفين} [الشعراء: 80] أي هو لا غيره، وفي الرقى "اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك" ولا يقتصر في اللجوء إلى الله على حالة دون حالة، وفي أحاديث الباب كثير من العموم، فالرواية الأولى "كان إذا اشتكى" والشكوى أعم من الحالات المذكورة، وفي الرواية "كان إذا اشتكى منا إنسان" وفي الرواية "كان إذا عاد مريضاً" وفي الرواية "كان إذا مرض أحد من أهله" ففي كل ذلك دليل على أن الرقية لا تختص بمرض، دون مرض، وعلى الله قصد السبيل. 5 - أما ألفاظ الرقى الواردة في الأحاديث، ففي الرواية الأولى "باسم الله يبريك، ومن كل داء يشفيك، ومن شر حاسد إذا حسد، وشر كل ذي عين" وفي الرواية الثانية "باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر نفس أو عين حاسد الله يشفيك، باسم الله أرقيك" وفي الرواية "أذهب الباس، رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً" وفي الرواية "بيدك الشفاء، لا كاشف له إلا أنت" وفي الرواية، المعوذات، وفي الرواية "باسم الله. تربة أرضنا، بريقة بعضنا، ليشفي سقيمنا، بإذن ربنا" وفي الرواية الرابعة والعشرين والخامسة والعشرين فاتحة الكتاب، وفي الرواية "باسم الله ثلاثاً، أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر. سبعاً". أمام هذا ذهب بعض العلماء إلى كراهة الرقية بغير المعوذات -سورة الفلق وسورة الناس، وما في القرآن الكريم من التعوذ، كقوله تعالى {وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين* وأعوذ بك رب أن يحضرون} [المؤمنون: 97، 98] و {فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل: 98] واستدل هذا الفريق بما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم من رواية عبد الرحمن بن

حرملة عن ابن مسعود "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره عشرة خصال ... " فذكر منها "الرقى إلا بالمعوذات" قال البخاري: عبد الرحمن بن حرملة لا يصح حديثه، وقال الطبري: لا يحتج بهذا الخبر، لجهالة راويه، وعلى تقدير صحته فهو منسوخ بالإذن في الرقية بفاتحة الكتاب، ودافع المهلب عن هذا القول، فقال: إن في الفاتحة معنى الاستعاذة، وهو الاستعانة، فعلى هذا يختص الجواز، بما يشتمل على هذا المعنى، وقد أخرج الترمذي وحسنه النسائي، من حديث أبي سعيد "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجان وعين الإنسان، حتى نزلت المعوذات فأخذ بها، وترك ما سواها" قال الحافظ ابن حجر: وهذا لا يدل على المنع من التعوذ بغير هاتين السورتين بل يدل على الأولوية، ولا سيما مع ثبوت التعوذ بغيرهما، وإنما اكتفى بهما لما اشتملتا عليه من جوامع الاستعاذة من كل مكروه، جملة وتفصيلاً. وذهب بعض العلماء إلى قصر الرقية على ما جاءت به الأحاديث. وذهب فريق من العلماء إلى كراهة الرقى، ما لم تكن بذكر الله وأسمائه خاصة، وباللسان العربي، وبالذي يعرف معناه، ليكون بريئاً من الشرك، قال الحافظ ابن حجر: وعلى كراهة الرقى بغير كتاب الله علماء الأمة. اهـ وقال الربيع: سألت الشافعي عن الرقية؟ فقال: لا بأس أن يرقى بكتاب الله، وما يعرف من ذكر الله. وذهب فريق من العلماء إلى جواز عموم الرقى ما لم يكن فيها شرك، وأجازوا كل رقية جربت منفعتها، ولو لم يعقل معناها، واستدلوا بقوله في الرواية، "اعرضوا على رقاكم، فعرضوها عليه، فقال: لا بأس بالرقى، ما لم يكن فيه شرك". قال الحافظ ابن حجر: وقد أجمع العلماء على جواز الرقى عند تحقق ثلاثة شروط: أن يكون بكلام الله تعالى، أو بأسمائه وصفاته، وباللسان العربي، أو بما يعرف معناه من غيره، وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها، بل بذات الله تعالى. وقال القرطبي: الرقى ثلاثة أقسام: أحدها ما كان يرقى به في الجاهلية، مما لا يعقل معناه، فيجب اجتنابه، لئلا يكون فيه شرك، أو يؤدي إلى الشرك، الثاني ما كان بكلام الله أو بأسمائه فيجوز، فإن كان مأثوراً فيستحب، الثالث ما كان بأسماء غير الله، من ملك أو صالح، أو معظم من المخلوقات كالعرش والكعبة، قال: فهذا ليس من الواجب اجتنابه، ولا من المشروع الذي يتضمن الالتجاء إلى الله والتبرك به، فيكون تركه أولى، إلا أن يتضمن تعظيم المرقى به، فينبغي أن يجتنب كالحلف بغير الله. أما رقية أهل الكتاب للمسلمين فقد قال عنها المازري: اختلف في استرقاء أهل الكتاب، فأجازها قوم، وكرهها مالك، لئلا يكون مما بدلوه، وأجاب من أجاز، بأن مثل هذا يبعد أن يقولوه، لأنه كالطب فغير الحاذق لا يحسن أن يقول، والحاذق يأنف أن يبدل، حرصاً على استمرار وصفه بالحذق، لترويج صناعته. اهـ، وفي الموطأ أن أبا بكر قال لليهودية، التي كانت ترقي عائشة: ارقيها بكتاب الله.

وسأل الربيع الشافعي: أيرقي أهل الكتاب المسلمين؟ قال: نعم إذا رقوا بما يعرف من كتاب الله، وبذكر الله. أما ما يعرف عند أهل التعزيم بالنشرة، وهي تعاويذ وأدعية مخصوصة، وأفعال تشبه أفعال السحرة والعقد، فقد قال النووي: وسميت بذلك لأنها تنشر عن صاحبها، أي تخلي عنه، وقال جاء حديثها في غير مسلم، وقد أضافها صلى الله عليه وسلم إلى الشيطان حين سئل عنها، وقال الحسن: هي من السحر، قال القاضي: وهذا محمول على أنها أشياء خارجة عن كتاب الله تعالى وأذكاره، وعن المداواة المعروفة التي هي من جنس المبرح، وقد اختار بعض المتقدمين هذا، فكره حل المعقود عن امرأته، وقد حكى البخاري في صحيحه عن سعيد بن المسيب عن رجل به طب -أي ضرب من الجنون، أو رجل يؤخذ عن امرأته، أيخلى عنه؟ أو ينشر؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الصلاح، فلم ينه عما ينفع، وممن أجاز النشرة الطبري، وهو الصحيح، اهـ وسيأتي مزيد عنها في باب السحر. أما الحروف المقطعة فقد قال عنها ابن عبد السلام: يمنع منها ما لا يعرف، لئلا يكون فيها كفر. والله أعلم. وأما كيفية استعمال هذه الرقى فالرواية صورت بعض الصور، ووضحناها في المباحث العربية، وفي الرواية يمسح الراقي المريض بيده، أو بيمينه، وفي الرواية، ينفث الراقي على المريض، ويمسحه بيده، وفي الرواية يضع الراقي يده على مكان الألم من الجسد، وفي الرواية تفل المستعيذ على يساره ثلاثاً، وكل هذه صور جائزة أو مستحبة، قال النووي: أجمعوا على جواز النفث في الرقية، واستحبه الجمهور من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم، قال القاضي: وفائدة التفل أو النفث التبرك بتلك الرطوبة، والهواء والنفس، كما يتبرك بغسالة ما يكتب من الذكر والأسماء الحسنى. اهـ وكره الأسود بن زيد، أحد التابعين، النفث مطلقاً، تمسكاً بقوله تعالى {ومن شر النفاثات في العقد} وكره إبراهيم النخعي النفث عند قراءة القرآن خاصة، ورد الجمهور على الأسود بأنه لا حجة له في الآية لأن المذموم ما كان من نفث السحرة وأهل الباطل، ولا يلزم منه ذم النفث مطلقاً، ولا سيما بعد ثبوته في الأحاديث الصحيحة، ورد الجمهور على النخعي بما جاء في ملحق الرواية، ولفظه "فجعل الرجل يقرأ أم القرآن، ويجمع بزاقة، ويتفل" وقد قصوا على النبي صلى الله عليه وسلم القصة، ولم ينكر ذلك صلى الله عليه وسلم، فكان ذلك حجة. أما الرقية بالبخور والفسوخة والشبة وخرز الورقة بالإبرة والنار والملح، وعقد العقد، وكتابة خاتم سليمان وأمثال ذلك مما يفعله العامة، فمكروه أشد الكراهية. بقي ما أشارت إليه الرواية الرابعة بلفظ "وإذا استغسلتم فاغسلوا" وقد أفاض في وصف غسل العائن، أو وضوئه، أو غسل بعض أعضائه، وإلقاء الغسالة على المصاب بالعين مع الرقية، فقال النووي والحافظ ابن حجر وغيرهما في صفة وضوء العائن: أن يؤتى بقدح ماء، ولا يوضع القدح في الأرض، فيأخذ منه غرفة، فيتمضمض بها، ثم يمجها في القدح، ثم يأخذ منه ما يغسل به وجهه، ثم

يأخذ بشماله ماء، يغسل به كفه اليمنى، ثم بيمينه ماء، يغسل به مرفقه الأيسر، ولا يغسل ما بين المرفقين والكفين، ثم يغسل قدمه اليمنى، ثم اليسرى على الصفة المتقدمة، وكل ذلك في القدح، ثم داخلة إزاره، وهو الطرف المتدلي منه، فإذا استكمل هذا صبه من خلفه على رأسه، وذكروا صوراً أخرى لوضوئه أو لغسله، نسب بعضها إلى الزهري، وبعضها إلى غيره من العلماء، لا أجد طائلاً من ذكرها، فهي تأليفات وتوليفات أشبه ما تكون بعمل السحرة والمشعوذين، بل إن العلماء الذين يعتقدونها ويسوقونها يحسون -بينهم وبين أنفسهم- بعدها وعدم قبولها، فهذا النووي بعد أن ساقها يقول: وهذا المعنى لا يمكن تعليله، ومعرفة وجهه، وليس في قوة العقل الاطلاع على أسرار جميع المعلومات، فلا يدفع هذا بأن لا يعقل معناه. اهـ أقول: بل يدفع غير المعقول ما لم يرد عن المعصوم بطريق قطعي، ومثل هذا لا أصل له في حديث صحيح، والحديث الذي اعتمدوا عليه حديث سهل بن حنيف، أخرجه مالك في الموطأ، بلفظ: عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن ضيف، أنه سمع أباه يقول: اغتسل أبي سهل بن حنيف بالخرار، فنزع جبة كانت عليه، وعامر بن ربيعة ينظر، قال: وكان سهل رجلاً أبيض، حسن الجلد، قال: فقال له عامر: ما رأيت كاليوم، ولا جلد عذراء، قال: فوعك سهل مكانه واشتد وعكه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبر سهل بالذي كان من شأن عامر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "علام يقتل أحدكم أخاه؟ ألا بركت؟ إن العين حق، توضأ له، فتوضأ له عامر، فراح سهل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس به بأس. وفي رواية "ألا بركت؟ اغتسل له، فغسل عامر وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره -وهي الطرف المتدلي الذي يضعه المؤتزر أولاً على حقوه الأيمن- في قدح، ثم صب عليه، فراح سهل مع الناس، ليس به بأس. وظاهر هذا الإسناد أنه منقطع، فأبو أمامة لم يحضر الواقعة، ولم يذكر عمن أخذ الحديث، وعلى فرض اتصاله وصحته فهي واقعة عين، لا يثبت بها حكم، ويحتمل أن تكون خصوصية له صلى الله عليه وسلم، كما كان يجمع قليل الماء، فيدعو بالبركة، فيسقي القوم. أما حديث عائشة عند أبي داود "كان يؤمر العائن، فيتوضأ ثم يغتسل منه المعين" فلم ينص فيه عن الآمر، وعائشة عاشت أكثر من أربعين سنة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إن الاتفاق على أن الوضوء أو الغسل المطلوب من العائن ليس وضوءاً ولا غسلاً شرعياً، ولا بد من التأويل البتة، ومثل هذا لا يثبت به غير المعقول، وما لا يمكن تعليله، وكم أصابت العين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وقد رتب القائلون بهذا الوضوء أموراً عليه، فقال النووي: وقد اختلف العلماء في العائن، هل يجبر على الوضوء للمعين؟ أم لا.؟ واحتج من أوجبه بقوله صلى الله عليه وسلم "وإذا استغسلتم فاغسلوا" وبرواية الموطأ التي ذكرناها، أنه صلى الله عليه وسلم أمره بالوضوء، والأمر للوجوب، قال المازري: والصحيح عندي الوجوب، ويبعد الخلاف فيه إذا خشي على المعين الهلاك إلا بوضوء العائن، فإنه يصير من باب من تعين عليه إحياء نفس مشرفة على الهلاك، وقد تقرر أنه يجبر على بذل الطعام للمضطر، فهذا أولى. اهـ وهكذا بنى المازري حكمه وتقديره على مقدمات لم تثبت، ومن المستبعد أن تثبت. والله أعلم.

6 - واستدل الجمهور بالرواية، من قوله صلى الله عليه وسلم "خذوا منهم، واضربوا لي بسهم معكم" على جواز أخذ الأجرة على الرقى، وعلى تعليم القرآن، وخالف الحنفية، فمنعوه في التعليم وأجازوه في الرقى، كالدواء، قالوا: لأن تعليم القرآن عبادة، والأجر فيه على الله، وهو القياس في الرقى، إلا أنهم أجازوه فيها لهذا الحديث، وحمل بعضهم الأجر في هذا الحديث على الثواب، وسياق القصة، التي في هذا الحديث يأبى ذلك التأويل، وادعى بعضهم نسخه بالأحاديث الواردة في الوعيد على أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وقد رواها أبو داود وغيره، وتعقب بأن إثبات النسخ بالاحتمال مردود، وبأن الأحاديث ليس فيها تصريح بالمنع على الإطلاق، بل هي وقائع أحوال محتملة التأويل، لتوافق الأحاديث الصحيحة التي في الباب، قال البخاري: وقال ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم "أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله" وقال الحكم: لم أسمع أحداً كره أجر المعلم. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - أن للرقى سراً، يعلمه الله، ولها آثار عجيبة، تتقاعس عنها العقول، ولما كان الله هو الشافي، وقد أودع سبحانه وتعالى آثار قدرته، في مباشرة أسباب معينة كالقرآن والأذكار والأدوية. 2 - من الرواية الثانية، وتكرير "بسم الله أرقيك" توكيد الرقية وتكريرها، وتكرير الدعاء. 3 - ومن الرواية الرابعة إثبات القدر، قال النووي: وهو حق بالنصوص وإجماع أهل السنة، ومعناه أن الأشياء كلها بقدر الله تعالى، ولا تقع إلا على حسب ما قدرها الله تعالى، وسبق بها علمه، فلا يقع ضرر العين، ولا غيره من الخير والشر، إلا بقدر الله تعالى. 4 - ومن إثبات العين وأثرها وأضرارها استحباب الابتعاد عمن عرف بذلك، قال القاضي عياض: قال بعض العلماء: ينبغي إذا عرف أحد بالإصابة بالعين أن يجتنب، ويتحرز منه، وينبغي للإمام منعه من مداخلة الناس، ويأمره بلزوم بيته، فإن كان فقيراً أجرى عليه من الرزق ما يكفيه، ويكف أذاه عن الناس، فضرره أشد من ضرر آكل الثوم والبصل، الذي منعه النبي صلى الله عليه وسلم دخول المسجد، لئلا يؤذي المسلمين، ومن ضرر المجذوم الذي منعه عمر رضي الله عنه والعلماء بعده الاختلاط بالناس، ومن ضرر المؤذيات من المواشي التي يؤمر بتغريبها، إلى حيث لا يتأذى بها أحد. اهـ وعلى العائن أن يقاوم من نفسه الشره والإعجاب الزائد بالنعمة، وأن يبرك، فعند النسائي "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأى أحدكم من نفسه أو ماله أو أخيه شيئاً يعجبه، فليدع بالبركة، فإن العين حق" فواجب على كل من أعجبه شيء أن يبرك، فإنه إذا دعا بالبركة صرف المحذور، إن شاء الله. والتبريك أن يقول: تبارك الله أحسن الخالقين. اللهم بارك فيه، ومن التبريك أن يقول: باسم الله ما شاء الله. لا قوة إلا بالله. وعلى المسلم إذا لاقى عائناً، أو خاف عيناً، أو حسداً، أن يحصن نفسه، بقراءة المعوذتين والفاتحة، وبعض الأدعية، ومنها: حصنت نفسي بالحي القيوم الذي لا يموت أبداً، ودفعت عنها السوء بلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق وأحاذر.

5 - ومن الرواية وما بعدها استحباب مسح المريض باليمين والدعاء له. 6 - ومن قوله "أنت الشافي" في الرواية وما بعدها جواز تسمية الله تعالى بما ليس في القرآن إذا كان له أصل فيه، وأن لا يكون في ذلك ما يوهم نقصاً. 7 - ومن الرواية، جواز رقية المرأة للرجل. 8 - ومن الرواية، مشروعية الضيافة على أهل البوادي. 9 - والنزول على مياه العرب، وطلب ما عندهم على سبيل القرى أو الشراء. 10 - وإمضاء ما يلزمه المرء على نفسه، لأن أبا سعيد التزم أن يرقى، وأن يكون الجعل له ولأصحابه، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالوفاء بذلك. 11 - والاشتراك في الموهوب إذا كان أصله معلوماً. 12 - وطلب الهدية ممن يعلم رغبته في ذلك، وإجابته إليه. 13 - وفي قوله "اقسموا واضربوا لي معكم بسهم" قسمة التبرعات. 14 - ومواساة الأصحاب والرفاق، لأن جميع الشباه كانت ملكاً للراقي، مختصة به، لاحق للباقين فيها عند التنازع، فقاسمهم تبرعاً وجوداً ومروءة. 15 - وتطييب النبي صلى الله عليه وسلم لقلوب أصحابه. 16 - وتعليمه لهم بالحلال بالفعل بعد القول. 17 - وجواز قبض الشيء الذي ظاهره الحل، وترك التصرف فيه إذا عرضت فيه الشبهة. 18 - وفيه الاجتهاد عند فقد النص. 19 - وعظمة القرآن في صدور الصحابة، خصوصاً الفاتحة، قال ابن القيم: إذا ثبت أن لبعض الكلام خواص ومنافع، فما ظنك بكلام رب العالمين، ثم بالفاتحة التي لم ينزل في القرآن ولا غيره من الكتب مثلها، لتضمنها جميع معاني الكتاب، فقد اشتملت على ذكر أصول أسماء الله، ومجامعها وإثبات المعاد، وذكر التوحيد، والافتقار إلى الرب في طلب الإعانة به، والهداية منه، وذكر أفضل الدعاء، وهو طلب الهداية إلى الصراط المستقيم، المتضمن كمال معرفته وتوحيده وعبادته بفعل ما أمر به، واجتناب ما نهي عنه، والاستقامة عليه، ولتضمنها ذكر أصناف الخلائق، وقسمتهم إلى منعم عليه، لمعرفته الحق والعمل به، ومغضوب عليه، لعدوله عن الحق بعد معرفته، وضال لعدم معرفته له، مع ما تضمنته من إثبات القدر والشرع والأسماء والمعاد والتوبة وتزكية النفس، وإصلاح القلب، والرد على جميع أهل البدع، وحقيق بسورة هذا بعض شأنها أن يستشفى بها من كل داء. 20 - وفيه أن الرزق المقسوم، لا يستطيع من هو في يده، منعه ممن قسم له، لأن أولئك منعوا الضيافة،

وكان الله قد قسم للصحابة في مالهم نصيباً، فمنعوهم، فسبب لهم لدغ العقرب، حتى سيق لهم ما قسم لهم. 21 - وفيه الحكمة البالغة، حيث اختص بالعقاب من كان رأساً في المنع، ولأن من عادة الناس الائتمار بأمر كبيرهم، فلما كان رأسهم في المنع، اختص بالعقوبة دونهم، جزاء وفاقا، وكأن الحكمة فيه أيضاً إرادة الإجابة إلى ما يلتمسه المطلوب منه الشفاء، ولو كثر، لأن الملدوغ لو كان من آحاد الناس، لعله لم يكن يقدر على القدر المطلوب منهم. 22 - ومن الرواية استحباب وضع اليد على مكان الألم عند الدعاء بالشفاء. 23 - ومن الرواية استحباب التعوذ من الشيطان الرجيم عند الوسوسة. 24 - والتفل عن اليسار ثلاثاً، كمظهر من مظاهر إرغام الشيطان. والله أعلم

(593) باب السحر

(593) باب السحر 4977 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي من يهود بني زريق، يقال له لبيد بن الأعصم. قالت: حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله، حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دعا ثم دعا، ثم قال: "يا عائشة، أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه. جاءني رجلان، فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، فقال الذي عند رأسي للذي عند رجلي، أو الذي عند رجلي للذي عند رأسي: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب. قال: من طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم. قال: في أي شيء؟ قال: في مشط ومشاطة. قال: وجف طلعة ذكر. قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذي أروان" قالت: فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه، ثم قال: "يا عائشة والله لكأن ماءها نقاعة الحناء، ولكأن نخلها رءوس الشياطين" قالت: فقلت: يا رسول الله، أفلا أحرقته؟ قال: "لا، أما أنا فقد عافاني الله وكرهت أن أثير على الناس شراً فأمرت بها فدفنت". 4978 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وساق أبو كريب الحديث بقصته، نحو حديث ابن نمير، وقال فيه: فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البئر فنظر إليها وعليها نخل. وقالت: قلت: يا رسول الله فأخرجه. ولم يقل: أفلا أحرقته. ولم يذكر: فأمرت بها فدفنت. -[المعنى العام]- كان السحر علماً يعلم منذ قدماء المصريين، وقد برعوا فيه، حتى جاءت معجزة موسى عليه السلام بإبطاله، وإظهار زيفه، وأبان للمشاهدين أن حبال السحرة وعصيهم لم تنقلب إلى حيات، وأنها مازالت حبالاً وعصياً، وكان السحر يعتمد على أحد أمور: الأمر الأول: التعمق في العلم وأسرار

الأشياء وخواصها، بدرجة ينفرد بها الساحر عمن عداه، فيستغل هذه الظواهر أمام من لا يعلمها، على أنها خرق للعادة، وتحويل للمادة، وتغيير لحقائق الأشياء، وهذا ما حصل من سحرة فرعون، فقد قال المفسرون: أنهم ملئوا حبالهم وعصيهم بمادة الزئبق الذي يتمدد بسرعة وبدرجة عالية بالحرارة، وألقوا حبالهم وعصيهم على أرض ساخنة، فتمدد الزئبق، وتحركت الحبال والعصى كأنها حيات تسعى، ولو أن رجلاً في عصرنا استخدم ما يعرف "بالريموت كنترول" في قرى الريف أو في مجاهل أفريقيا، فحرك السيارة من بعد، أو شغل التليفزيون وأطفأه من بعد، أو فجر قنبلة من بعد، لآمن المشاهدون بأنه ساحر عظيم. الأمر الثاني: تعلم خفة اليد، وشغل المشاهدين بأشياء جانبية وتحويل انتباههم عن خديعته، وإيهامهم والإيحاء إليهم بغير الحقيقة، والسيطرة عليهم بقوة شخصيته وخفة حركاته، فيخرج لهم حمامة من علبة مفرغة مفتوحة من الجانبين، يمرر فيها يده على أنها خالية، والحقيقة أن الحمامة في جانب منها، أو ينام صبي فوق لوح ممدداً، فيغطيه، فينكمش الصبي في جانب، فيضرب الرجل اللوح بالسيف، فيقطعه نصفين، ويتوهم المشاهد أن الصبي قطع نصفين، فيقوم الصبي واقفاً، فيصفق المشاهدون إعجاباً بالسحر والساحر، الأمر الثالث: استغلال صاحب الشخصية القوية موهبته في السيطرة على صاحب الشخصية الضعيفة عن طريق الإيهام والإيحاء الخارجي، فيتأثر الموحى إليه بما يريده الموحي، ويخيل إليه ما ليس بحق حقاً، وما ليس بواقع واقعاً، ونشاهد في حاضرنا سليماً يذهب إلى الطبيب، فيقول له الطبيب: ما لك أصفر اللون، خائر الأعصاب، لا تكاد تقف على رجليك، فيخرج من كان سليماً من عند الطبيب يتساند على مرافقيه، ويكثر هذا الأسلوب في التأثير على الزوج مع زوجته، بما يعرف بالربط والحل، ومن المعروف أن النشاط الشهواني يرتبط إلى حد كبير بالعوامل النفسية. وهذه الأمور الثلاثة لها أصولها وقواعدها التي تعلم لتؤثر، وما أنزل على الملكين، هاروت وماروت، بمدينة بابل، لم يكن يخرج عنها، يعلمان الناس ما يفرقون به بين المرء وزوجه. فإذا أضفنا إلى ذلك كيد الشيطان ووسوسته، واستغلاله لهذه الحيل الشيطانية ليفسد في الأرض استطعنا فهم هذه الظاهرة، ظاهرة السحر وتأثيره، وبخاصة في البيئات البدائية واستطعنا فهم حديث سحر الرسول صلى الله عليه وسلم فهماً صحيحاً. لقد حاول اليهود والمشركون أن يسحروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ليوقفوا دعوته النورانية الزاحفة على ظلماتهم، ففشلوا، فذهبوا إلى لبيد بن الأعصم، أشهرهم في السحر، وأقدرهم على استخدام طقوسه، فطلبوا منه أن يقوم بهذه المهمة، وله ثلاثة دنانير، وهو مبلغ كبير، له قيمته في ذلك الزمان، يشتري به ما لا يقل عن ستين شاة، وحصلوا بأسلوبهم على شعر من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى مشطه الذي يسرح به شعره، وضفر الشعر والمشط في حبل من تيل، وخرز في إبراً، وعقد الحبل عقداً، وقرأ عليه من الطلاسم ما قرأ، ووضعه في قالب، من قوالب طلع النخل الذكر، وأودعه تحت صخرة في قاع بئر مهجور، ولا نستبعد أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد أحس بهذه العمليات، ولو عن طريق الوسوسة الشيطانية، وأعوان لبيد الساحر، فأخذ عن إتيان النساء بقدرة الله تعالى.

-[المباحث العربية]- (سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي) "سحر" بفتح السين والحاء، ولفظ "رسول الله" منصوب، ولفظ "يهودي" بالرفع فاعل، وفي الرواية الثانية "سحر" بالبناء للمجهول، وفي رواية للبخاري "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر". (من بني زريق) بزاي قبل الراء، مصغر. (يقال له: لبيد بن الأعصم) "لبيد" بفتح اللام وكسر الباء، و"الأعصم" بفتح الهمزة وسكون العين وفتح الصاد، وفي رواية للبخاري "لبيد بن أعصم، رجل من بني زريق، حليف ليهود، وكان منافقاً" ويجمع بينهما بأن من أطلق أنه يهودي نظر إلى ما في نفس الأمر، فهو في الباطن يهودي، ومن أطلق عليه منافقاً نظر إلى ظاهر أمره، فقد كان أسلم ظاهراً، قال ابن الجوزي: هذا يدل على أنه كان أسلم نفاقاً، ويحتمل أنه قيل له: يهودي، لكونه كان من حلفائهم، لا أنه كان على دينهم، وبنو زريق بطن من الأنصار، مشهور، من الخزرج، وكان بين كثير من الأنصار، وبين كثير من اليهود قبل الإسلام حلف وإخاء وود، فلما جاء الإسلام، ودخل الأنصار فيه، تبرءوا منهم. وذكر الواقدي أن هذا السحر وقع بعد أن رجع صلى الله عليه وسلم من الحديبية، في آخر ذي الحجة وأوائل المحرم سنة سبع، وقال: جاءت رؤساء اليهود إلى لبيد بن الأعصم، وكان حليفاً في بني زريق، وكان ساحراً، فقالوا له: يا أبا الأعصم. أنت أسحرنا، وقد سحرنا محمداً، فلم نصنع شيئاً، ونحن نجعل لك جعلاً -أي أجراً كبيراً- على أن تسحره لنا، سحراً ينكؤه، فجعلوا له ثلاثة دنانير. وعن مدة السحر جاء في رواية "أربعين ليلة" وفي رواية عند أحمد "ستة أشهر" قال الحافظ ابن حجر: ويمكن الجمع بأن تكون الستة أشهر من ابتداء تغير مزاجه، والأربعين يوماً من استحكامه. (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه يفعل الشيء، وما يفعله) وفي رواية للبخاري "يخيل إليه أنه كان يفعل الشيء، وما فعله" قال بعضهم: معناه أنه كان يخيل إليه أنه وطئ زوجاته، ولم يكن وطأهن، وفي رواية للبخاري "حتى كان يرى -أي يظن- أنه يأتي النساء، ولا يأتيهن" وفي رواية الحميدي "أنه يأتي أهله، ولا يأتيهم" وفي رواية لعبد الرزاق "حتى أنكر بصره" أي حتى أنكر ما رأى ببصره، وعند ابن سعد "فقالت أخت لبيد بن الأعصم: إن كان نبياً فسيخبر، وإلا فسيذهله هذا السحر، حتى يذهب عقله" وقولها "يخيل إليه أنه يفعل الشيء، وما يفعله" يحتمل معنين، الأول: يخيل إليه ما لم يحصل أنه حصل، الثاني: يخيل إليه أنه يستطيع فعل الشيء، ويحاول فلا يستطيع، قال عياض: يحتمل أن يكون المراد بالتخيل المذكور أنه يظهر له من نشاطه، ما ألفه من سابق عادته، من الاقتدار على الوطء، فإذا دنا من المرأة فترعن ذلك، كما هو شأن المعقود، وسيأتي في فقه الحديث مزيد لهذه المسألة. (حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة) شك من الراوي، وذات بالنصب على الظرفية، ويجوز الرفع على الفاعلية، ولفظ "ذات" هنا قيل: مقحم، وقيل: من إضافة الشيء لنفسه على رأي من يجيزه، وفي رواية للبخاري زيادة "وهو عندي".

(دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعا، ثم دعا) على ما هو المعهود منه، أنه كان يكرر الدعاء ثلاثاً. (ثم قال: يا عائشة، أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه) أي إنه صلى الله عليه وسلم بعد طول معاناة وتحمل التجأ إلى الله بالدعاء، فاستجاب الله دعاءه، وأرسل له الملكين، فأخبراه، فأخبر عائشة بالخبر. قال الحافظ ابن حجر: سلك النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة مسلكي التفويض وتعاطي الأسباب ففي أول الأمر فوض وسلم لأمر ربه، فاحتسب الأجر في صبره على بلائه، ثم لما تمادى ذلك، وخشي من تماديه أن يضعفه عن فنون عبادته، جنح إلى التداوي، ثم إلى الدعاء. وقوله "أشعرت" من الشعور، أي "أعلمت" كما جاء في رواية للبخاري، والاستفهام إنكاري بمعنى النفي، أي لم تعلمي، فاعلمي، والمراد من الإفتاء الإجابة على الدعوة، فأطلق على الدعاء استفتاء، لأن الداعي طالب، والمجيب مفت، والمعنى أجابني بما سألته عنه، لأن دعاءه كان أن يطلعه الله على حقيقة ما هو فيه، لما اشتبه عليه الأمر، وفي رواية "أن الله أنبأني بمرضي" زاد في رواية "قلت: وما ذاك؟ قال: ". (جاءني رجلان) في رواية للبخاري "أتاني رجلان" وعند أحمد والطبراني "أتاني ملكان" وسماهما ابن سعد بجبريل وميكائيل. (فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي) بفتح اللام على التثنية، والظاهر أن جبريل -لشرفه هو الذي كان عند الرأس. (فقال الذي عند رأسي للذي عند رجلي، أو الذي عند رجلي للذي عند رأسي: ما وجع الرجل؟ ) في رواية للبخاري "فقال أحدهما لصاحبه" وفي رواية له "فقال الذي عند رأسي للآخر" وفي رواية الحميدي "فقال الذي عند رجلي للذي عند رأسي" قال الحافظ: وكأنها الصواب، فمجموع الطرق يدل على أن المسئول هو جبريل، والسائل ميكائيل، وعند النسائي وابن سعد وصححه الحاكم "سحر النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود، فاشتكى لذلك أياماً، فأتاه جبريل، فقال: إن رجلاً من اليهود سحرك، عقد لك عقداً في بئر كذا" وفي رواية للبخاري "ما بال الرجل"؟ وهل كان ذلك في المنام؟ أو في اليقظة؟ الظاهر أنه كان مناماً، إذ لو كان في اليقظة لخاطباه، وسألاه، وفي رواية "فانتبه من نومه ذات يوم". (قال: مطبوب) أي مسحور، يقال: طب الرجل، بضم الطاء، مبني للمجهول، أي سحر، ويقال: كنوا عن السحر بالطب تفاؤلاً، كما قالوا للديغ سليم، وقال القرطبي: إنما قيل للسحر: طب، لأن أصل الطب الحذق بالشيء، والتفطن له، فلما كان كل من علاج المرض والسحر إنما يتأتى عن فطنة وحذق أطلق على كل منهما هذا الاسم. (في أي شيء؟ ) هذا السحر؟ أو المعمول للسحر؟ . (في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر) "المشط" بضم الميم وسكون الشين، وأثبت أبو عبيد كسر الميم، وأنكره بعضهم، وبسكون الشين فيهما، وقد يضم الشين مع ضم الميم فقط، وهو الآلة

المعروفة التي يسرح بها شعر الرأس، هذا هو المشهور، وقد يطلق على العظم العريض، وسلاميات ظهر القدم، والمراد هنا الأول، ففي رواية "فإذا فيها مشط رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن مراطة رأسه" وفي رواية "من شعر رأسه، من أسنان مشطه" وفي رواية "فمد إلى مشط، وما مشط من الرأس، من شعر، فعقد بذلك عقداً" و"جف الطلع" قال النووي: في أكثر نسخ بلادنا بالباء، أي في أكثر نسخ مسلم "جب طلعة ذكر" وفي بعضها بالفاء، وهما بمعنى واحد، وهو الغشاء الذي يكون على الطلع، ويطلق على الذكر والأنثى، فلهذا قيده بالذكر، في قوله "طلعة ذكر" وهو بالإضافة، اهـ وفي رواية للبخاري "وجف طلع نخلة ذكر" ولفظ "ذكر" صفة لجف، زاد البخاري "تحت رعوفة" وفي رواية "تحت راعوفة" وفي رواية "تحت أرعوفة" وفي رواية "تحت زاعوبة" والمراد تحت صخرة كبيرة في أسفل البئر. (في بئر ذي أروان) في رواية البخاري "في بئر ذروان" بفتح الذال وسكون الراء، وفي نسخة "في ذروان" بغير بئر، وذروان بئر في بني زريق، فقوله "بئر ذروان" من إضافة الشيء لنفسه، قيل: إن الأصل: بئر ذي أروان، ثم لكثرة الاستعمال سهلت الهمزة، فصارت ذروان. (فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه) عند ابن سعد "فدعا جبير بن إياس الزرقي -وهو ممن شهد بدراً- فدله على موضعه، في بئر ذروان، فاستخرجه" ويقال: إن الذي استخرجه قبس بن محصن الزرقي، ويجمع بينهما بأنه أعان جبيراً على ذلك، وباشره بنفسه، فنسب إليه وعند ابن سعد "أن الحارث بن قيس قال: يا رسول الله، ألا يهور البئر؟ ويجمع بين هذه الروايات وبين روايتنا بأن النبي صلى الله عليه وسلم بعثهم أولاً، ثم توجه مع بعض أصحابه، فشاهدها بنفسه، وفي الرواية الثانية "فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البئر، فنظر إليها، وعليها نخل ... " أي وحولها نخل، زاد البخاري "فقال: هذه البئر التي أريتها" وفي رواية "وجد في الطلعة تمثالاً من شمع، تمثال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذ فيه إبر مغروزة، وإذا وتر فيه إحدى عشرة عقدة، فنزل جبريل بالمعوذتين، فكلما قرأ آية انحلت عقدة" وفي رواية "فاستخرج". (ثم قال: يا عائشة) في رواية للبخاري "ثم رجع إلى عائشة، فقال .... " وفي رواية له "فجاء، فقال ... ؟ . (والله لكأن ماءها نقاعة الحناء) بضم النون وتخفيف القاف، والحناء معروف، أي إن لون ماء البئر لون الماء الذي ينقع فيه الحناء، قال ابن التين: يعني أحمر، وقال الداودي: المراد الماء الذي يكون من غسالة الإناء الذي تعجن فيه الحناء، وعند ابن سعد وصححه الحاكم "فوجد الماء وقد اخضر" قال القرطبي: كأن ماء البئر قد تغير، إما لرداءته بطول إقامته، وإما لما خالطه من الأشياء التي ألقيت في البئر. (ولكأن نخلها رءوس الشياطين) وفي رواية للبخاري "وكأن رءوس نخلها رءوس الشياطين" والتشبيه على كلا الروايتين إنما وقع على رءوس النخل، وفي رواية "فإذا نخلها الذي يشرب من مائها قد التوى سعفه، كأنه رءوس الشياطين" ووقع في القرآن الكريم تشبيه طلع شجرة الزقوم برءوس الشياطين، قال الفراء وغيره: يحتمل أن يكون شبه الطلع في قبحه برءوس الشياطين، لأنها موصوفة بالقبح، وقد تقرر في اللسان العربي أن من قال:

فلان شيطان أراد أنه خبيث أو قبيح، ويحتمل أن يكون المراد بالشياطين الحيات، والعرب تسمي بعض الحيات شيطاناً، وهو ثعبان قبيح الوجه. (قالت: فقلت: يا رسول الله، أفلا أحرقته؟ قال: لا) في رواية للبخاري: "أفلا استخرجته؟ فقال: لا" وفي رواية "قلت: يا رسول الله، فأخرجه للناس" وفي رواية "أفلا أخرجته؟ قال: لا" وقد سبق أنه روي في الصحيح أنه أخرجه، فالمراد من الإخراج المثبت إخراج الجف، والمنفي استخراج ما حواه، ففي رواية "فأخرجوه فرموا به" ويحتمل أن مرادها من طلب إخراجه نشره بين الناس، وبقاؤه حتى يروه، وفي رواية للبخاري "أفلا؟ -أي تنشرت"؟ فيحتمل أن يكون من النشر، بمعنى الإخراج والإظهار، فيوافق رواية "أخرجته" وروايتنا "أفلا أحرقته"؟ قال النووي: كل من الروايتين صحيح، كأنها طلبت أن يخرجه ثم يحرقه. اهـ وأغرب القرطبي، فجعل الضمير في "أحرقته" للبيد بن الأعصم، قال: واستفهمته عائشة من ذلك، عقوبة له على ما صنع من السحر، فأجابها بالامتناع، ونبه على سببه، وهو خوف وقوع شر بينهم وبين اليهود، لأجل العهد، فلو قتله لثارت فتنة. كذا قال. قال الحافظ ابن حجر: ولا أدري ما وجه تعيين قتله بالإحراق؟ لو سلم أن الرواية ثابتة، وأن الضمير له؟ . (أما أنا فقد عافاني الله، وكرهت أن أثير على الناس شراً، فأمرت بها فدفنت) في رواية للبخاري: "أما والله فقد شفاني، وأكره أن أثير على أحد من الناس شراً" وفي رواية "سوءاً" وفي رواية "فكرهت أن أثير على الناس فيه شراً" والمراد من الناس عموم الموجودين آنذاك، قال النووي: خشي من إخراجه وإشاعته ضرراً على المسلمين من تذكر السحر وتعلمه ونحو ذلك، وهو من باب ترك المصلحة خوفاً من المفسدة، وفي رواية "على أمتي" وقيل: المراد بالناس هنا لبيد بن الأعصم، لأنه كان منافقاً، فأراد صلى الله عليه وسلم أن لا يثير عليه شراً، لأنه كان يؤثر الإغضاء عمن يظهر الإسلام، ولو صدر منه ما صدر، وفي بعض الروايات "فقيل: يا رسول الله، لو قتلته؟ قال: ما وراءه من عذاب الله أشد" وفي رواية "فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فاعترف، فعفا عنه" وفي رواية "فما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك اليهودي شيئاً مما صنع به، ولا رآه في وجهه" وفي رواية "فقال له: ما حملك على هذا؟ قال: حب الدنانير" قال الزهري: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتله، ونقل عن الواقدي أن ذلك أصح من رواية من قال: إنه قتله، والضمير في قوله "فأمرت بها فدفنت" للبئر، وقد تقدم أن الحارث بن قيس هورها ودفنها. -[فقه الحديث]- قال الحافظ ابن حجر: قال الراغب وغيره: السحر يطلق على معان: أحدها ما لطف ودق، ومنه سحرت الصبي خادعته واستملته، وكل من استمال شيئاً فقد سحره، ومنه قولهم: الطبيعة ساحرة، ومنه حديث "إن من البيان لسحرا" الثاني: ما يقع بخداع وتخييلات لا حقيقة لها، نحو ما يفعله المشعوذ من صرف الأبصار عما يتعاطاه بخفة يده، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى {يخيل إليه من

سحرهم أنها تسعى} [طه: 66] وقوله تعالى {سحروا أعين الناس واسترهبوهم} [الأعراف: 116] ومن هناك سموا موسى ساحراً، وقد يستعان في ذلك بما يكون فيه خاصية، كالحجر الذي يجذب الحديد، ويسمى المغنطيس، الثالث: ما يحصل بمعاونة الشياطين، بضرب من التقرب إليهم، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى {ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر} [البقرة: 102] الرابع: ما يحصل بمخاطبة الكواكب، واستنزال روحانياتها بزعمهم، قال ابن حزم: ومنه ما يوجد من الطلسمات، كالطابع المنقوش فيه صورة عقرب، في وقت كون القمر في العقرب، فينفع إمساكه من لدغة العقرب. وكالمشاهد ببعض بلاد المغرب، وهي -سرقسطة- فإنها لا يدخلها ثعبان قط، إلا إن كان بغير إرادته، وقد يجمع بين الأمرين الأخيرين، كالاستعانة بالشياطين ومخاطبة الكواكب، فيكون ذلك أقوى بزعمهم، قال أبو بكر الرازي في الأحكام له: كان أهل بابل قوماً صابئين، يعبدون الكواكب السبعة، ويسمونها آلهة، ويعتقدون أنها الفعالة لكل ما في العالم، وعملوا أوثاناً على أسمائها، ولكل واحد هيكل، فيه صفحة، يتقرب إليه بما يوافقه -بزعمهم- من أدعية وبخور، وهم الذين بعث إليهم إبراهيم عليه السلام، وكانت علومهم أحكام النجوم، ومع ذلك فكان السحرة منهم يستعملون سائر وجوه السحر، وينسبونها إلى فعل الكواكب، لئلا يبحث عنها، وينكشف تمويههم. اهـ قال الحافظ ابن حجر: واختلف في السحر، فقيل: هو تخييل فقط، ولا حقيقة له. قال النووي: والصحيح أن له حقيقة، وبه قطع جمهور العلماء، ويدل عليه الكتاب والسنة الصحيحة المشهورة. قال الحافظ: لكن محل النزاع. هل يقع بالسحر انقلاب عين؟ أو لا؟ فمن قال: إنه تخييل فقط منع ذلك، ومن قال: إن له حقيقة اختلفوا. هل له تأثير فقط، بحيث يغير المزاج، فيكون نوعاً من الأمراض، أو ينتهي إلى الإحالة بحيث يصير الجماد حيواناً مثلاً وعكسه؟ فالذي عليه الجمهور هو الأول، وذهبت طائفة قليلة إلى الثاني، فإن كان بالنظر إلى القدرة الإلهية فمسلم -كما في عصا موسى عليه السلام- وإن كان بالنظر إلى الواقع فهو محل الخلاف، فإن كثيراً من يدعي ذلك لا يستطيع إقامة البرهان عليه، ونقل الخطابي أن قوماً أنكروا السحر مطلقاً، وكأنه عنى القائلين بأنه تخييل فقط، وذهب بعضهم إلى أن تأثير السحر لا يزيد على ما ذكر الله تعالى في قوله {فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه} [البقرة: 102] (أي بالبغض والكره، عن طريق الوسوسة، وشياطين الإنس والجن بالوشاية ونحوها) لكون المقام مقام تهويل، فلو جاز أن يقع به أكثر من ذلك لذكره، قال المازري: والصحيح من جهة العقل أنه يجوز أن يقع به أكثر من ذلك، قال: والآية ليست نصاً في منع الزيادة، ولو قلنا إنها ظاهرة في ذلك، ثم قال: والفرق بين السحر والمعجزة، والكرامة أن السحر يكون بمعاناة أقوال وأفعال، حتى يتم للساحر ما يريد، والكرامة لا تحتاج إلى ذلك، بل إنما تقع غالباً اتفاقاً، وأما المعجزة فتمتاز عن الكرامة بالتحدي، ونقل إمام الحرمين الإجماع على أن السحر لا يظهر إلا من فاسق، وقال القرطبي: السحر حيل صناعية يتوصل إليها بالتعلم والاكتساب، غير أنها لدقتها لا يتوصل إليها إلا آحاد الناس، وأكثرها تخييلات بغير حقيقة، وإيهامات بغير ثبوت، فيعظم عند من لا يعرف ذلك. قال النووي: عمل السحر حرام، وهو من الكبائر بالإجماع، وقد عده النبي صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات، ومنه ما يكون كفراً، ومنه ما لا يكون كفراً، بل معصية كبيرة، فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر،

فهو كفر، وإلا فلا، وأما تعلمه وتعليمه فحرام، فإن كان فيه ما يقتضي الكفر كفر، واستتيب منه، ولا يقتل، فإن تاب قبلت توبته، وإن لم يكن فيه ما يقتضي الكفر عزر، وعن مالك: الساحر كافر، يقتل بالسحر، ولا يستتاب، بل يتحتم قتله، كالزنديق. قال عياض: وبقول مالك قال: أحمد وجماعة من الصحابة والتابعين. اهـ وقد أجاز بعض العلماء تعلم السحر لأحد أمرين، إما لتمييز ما فيه كفر عن غيره، وإما لإزالته عمن وقع فيه، فأما الأول فلا محذور فيه، إلا من جهة الاعتقاد، فإذا سلم الاعتقاد فمعرفة الشيء بمجرده لا تستلزم منعاً، كمن يعرف كيفية عبادة أهل الأوثان للأوثان، لأن كيفية ما يعمله الساحر إنما هي حكاية قول أو فعل، بخلاف تعاطيه والعمل به، وأما الثاني: فإن كان لا يتم -كما زعم بعضهم- إلا بنوع من أنواع الكفر أو الفسق فلا يحل أصلاً، وإلا جاز للمعنى المذكور. وذهب بعض العلماء إلى كفر تعلم السحر، فالعمل به كفر من باب أولى، مستدلين بقوله تعالى {وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر} [البقرة: 102] وجملة {يعلمون الناس السحر} تعليلية، أي لأنهم يعلمون الناس السحر، ولا يكفر بتعليم الشيء إلا وذلك الشيء كفر، كما استدلوا بقوله تعالى على لسان الملكين {إنما نحن فتنة فلا تكفر} [البقرة: 102] فإن فيه إشارة إلى أن تعلم السحر كفر، فيكون العمل به كفراً، كما استدلوا بقوله تعالى {ولا يفلح الساحر حيث أتى} [طه: 69] ففيه نفي الفلاح عن الساحر، ونفي الفلاح وإن لم يكن نصاً في الكفر، لكنه كثر في القرآن إثبات الفلاح للمؤمن، ونفيه عن الكافر، فهو قرينة على كفر الساحر، وإذا كان السحر كفراً كان تعلمه كذلك. والتحقيق أن السحر خداع، وغش، وغرس أوهام وأمراض نفسية، فتعلمه حرام والعمل به حرام ومن الكبائر، بل من أكبر الكبائر، لا خلاف في ذلك، ولكن الحكم بالكفر إذا لم تكن وسيلته كفراً في النفس منه شيء والله أعلم. وأختم هذه الجولة بقول ابن القيم: من أنفع الأدوية، وأقوى مقاومة للسحر -الذي هو من تأثيرات الأرواح الخبيثة- الأدوية الإلهية- من الذكر والدعاء والقراءة، فالقلب إذا كان ممتلئاً من الله، معموراً بذكره كان ذلك من أعظم الأسباب المانعة من إصابة السحر له، قال: وسلطان السحر هو في القلوب الضعيفة، ولهذا غالب ما يؤثر، في النساء والصبيان والجهال. اهـ والله أعلم. قال الحافظ ابن حجر: وقصة هاروت وماروت جاءت بسند حسن، من حديث ابن عمر، في مسند أحمد، وأطنب الطبري في إيراد طرقها؛ بحيث يقضي بمجموعها على أن للقصة أصلاً، خلافاً لمن زعم بطلانها، كالقاضي عياض، ومن تبعه، ومحصلها أن الله ركب الشهوة في ملكين من الملائكة، اختباراً لهما، وأمرهما أن يحكما في الأرض فنزلا على صورة البشر، وحكما بالعدل مرة، ثم افتتنا بامرأة جميلة، فعوقبا بسبب ذلك، بأن حبسا في بئر ببابل، منكسين، وابتليا بالنطق بعلم السحر، فصار يقصدهما من يطلب ذلك، فلا ينطقان بحضرة أحد حتى يحذراه وينهياه، فإذا أصر تكلما بذلك، ليتعلم منهما ذلك، وهما قد عرفا ذلك، فيتعلم منهما ما قص الله عنهما. اهـ وموضوع حديث الباب السحر الذي وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحصر الكلام في نقطتين أساسيتين:

النقطة الأولى: ما فعله لبيد بن الأعصم والنقطة الثانية: أثر هذا الفعل على رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما ما فعل لبيد من المشط والمشاطة وجف نخل ذكر وتمثال وأبر وخلافه فهذا شأنه، ومثله يقع من كثير من المشعوذين والدجالين، وكذا إخراجه من البئر، فهذا أمر عادي، ولا يحتاج إلى نفي أو تحقق أو تأويل أو توجيه، ولا ينبت بوقوعه حكم أو خلاف في الرأي والفقه. والمشكلة الرئيسية في أثر هذا الفعل في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وللعلماء في ذلك توجهان: التوجه الأول: رد الحديث أو التوقف بشأنه، لأنه بظاهره يتعارض مع مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم يعبر المازري: عن هذا التوجه بقوله: أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث، وزعموا أنه يحط منصب النبوة، ويشكك فيها، وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل، وزعموا أن تجويز ذلك يعدم الثقة بما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم من الشرائع، إذ يحتمل على هذا أن يخيل إليه أنه يرى جبريل، وليس هو ثم، وأنه يوحي إليه بشيء، ولم يوح إليه بشيء. التوجه الثاني: عدم رد الحديث، وفهمه على وجه لا يؤدي إلى المحذور السابق، وهذه الوجوه: أ- قبول ظاهر الحديث، ونفي الاحتمال الذي زعموه، لأنه احتمال قام الدليل على خلافه، يقول المازري: الدليل قد قام على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن الله تعالى، وعلى عصمته في التبليغ، والمعجزات شاهدات بتصديقه، فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل. ب- قبول ظاهر الحديث، واستبعاد الاحتمال الذي زعموه، لأن قضية الحديث أمر دنيوي، والاحتمال الذي ذكروه أمر ديني، ولا يقاس الأمر الديني على الأمر الدنيوي، يقول المازري: ما يتعلق ببعض أمور الدنيا، التي لم يبعث لأجلها، ولا كانت الرسالة من أجلها، فهو في ذلك عرضة لما يعترض البشر، كالأمراض، فغير بعيد أن يخيل إليه في أمر من أمور الدنيا، ما لا حقيقة له، مع عصمته عن مثل ذلك في أمور الدين. اهـ ويحسن بنا هنا أن نستعرض ما قيل من احتمالات، في فهم أثر سحر لبيد في رسول الله صلى الله عليه وسلم الوارد في عبارات الحديث، ففي روايتنا الأولى "يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله" في رواية للبخاري "يخيل إليه أنه صنع شيئاً، ولم يصنعه" وفي رواية أخرى له "يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله" وفي ثالثة له "يخيل إليه أنه فعل الشيء وما فعله" وفي رواية رابعة له "حتى كان يرى أنه يأتي النساء، ولا يأتيهن". ويوضح المازري الوجه السابق ذكره، فيقول: قال بعض الناس: إن المراد بالحديث أنه كان صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه وطئ زوجاته، ولم يكن وطأهن، وهذا كثيراً ما يقع تخيله للإنسان في المنام، فلا يبعد أن يخيل إليه في اليقظة. ج- قبول ظاهر الحديث، لكن هناك فرق بين تخيل ما ليس في الواقع واقعاً، وبين اعتقاد ما ليس في الواقع واقعاً، ولا يلزم من أنه كان يتخيل أنه فعل الشيء، ولم يكن فعله، أن يجزم بأنه فعله، وإنما يكون ذلك من جنس الخاطر، يخطر، ولا يثبت، ولا يرد على هذا الاحتمال الذي ذكروه، فالخواطر على قسمين: خواطر لا تستقر، وهي التي يطلق عليها الوسوسة، وهي المرادة بالتخيل هنا، وخواطر

مستقرة، تصل إلى الظن والاعتقاد، وهي غير مرادة هنا، فقول عائشة في رواية عبد الرزاق "حتى كاد ينكر بصره" معناه أنه صار كالذي أنكر بصره، بحيث إنه إذا رأى الشيء يخيل إليه أنه على غير صفته، فإذا تأمله عرف حقيقته، ويؤكد هذا المراد أنه لم ينقل عنه في خبر من الأخبار أنه قال قولاً، فكان بخلاف ما أخبر به. د- قال القاضي عياض: إن السحر إنما تسلط على جسده وظواهر جوارحه، لا على تمييزه وقلبه ومعتقده، وكل ما جاء في الروايات، من أنه يخيل إليه فعل شيء لم يفعله، ونحوه، فمحمول على التخيل بالبصر، لا لخلل تطرق إلى العقل، وليس في ذلك ما يدخل لبساً على الرسالة، ولا طعناً لأهل الضلالة. اهـ وقال المهلب: ما ناله من ضرر السحر لا يدخل نقصاً على ما يتعلق بالتبليغ، بل هو من جنس ما كان يناله من ضرر سائر الأمراض، من ضعف عن الكلام، أو عجز عن بعض الفعل، واستدل ابن القصار على أن الذي أصابه كان من جنس المرض بقوله في آخر الحديث "أما أنا فقد عافاني الله" وفي رواية للبخاري "فقد شفاني الله" وعن عائشة عند البيهقي في الدلائل "فكان يدور، ولا يدري ما وجعه" وفي حديث ابن عباس عند ابن سعد "مرض النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ عن النساء والطعام والشراب، فهبط عليه ملكان". هـ- وقال القاضي عياض: يحتمل أن يكون المراد بالتخيل المذكور أنه يظهر له من نشاطه ما ألفه من سابق عادته، من الاقتدار على الوطء، فإذا دنا من المرأة فتر عن ذلك، كما هو شأن المعقود. وهذا فهم قريب من سابقه، باعتباره عجزاً جسدياً، ناشئاً من تغير المزاج فهو نوع من الأمراض، ومن المعروف عند أهل السنة أن الله تعالى خالق الأسباب والمسببات جميعاً، وقد شاءت إرادته أن يربط المسببات بأسبابها، وأن يخلق المرض في السليم إذا لاقى مريضاً، قال النووي: فلا يستنكر في العقل أن الله سبحانه وتعالى يخرق العادة، عند النطق بكلام ملفق، أو تركيب أجسام، أو المزج بين قوي، على ترتيب لا يعرفه إلا الساحر. اهـ المناقشة والتحقيق: أولاً: جميع روايات هذا الحديث عن عائشة -رضي الله عنها-، فيما عدا رواية ابن عباس عند ابن سعد وهي ضعيفة جداً من حيث الإسناد، فضلاً عن أن مثل هذا الأمر لا يعلمه ابن عباس إلا من طريق مخبر له، إما عائشة وإما إحدى الزوجات وإما الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يسند إلى أي منهم، وكونه في هذه الرواية ممن ذهب لإخراج السحر في روايته لا يعطي شيئاً عن حال مرضه صلى الله عليه وسلم مع أزواجه. وقد نتساءل: إذا كان التأثير في إتيان النساء، وعائشة رضي الله عنها حينئذ واحدة من سبع، لها ليلة من كل أسبوع، وقد استمرت الحالة أربعين يوماً أو ستة أشهر، فماذا كان الحال عند غيرها من نسائه صلى الله عليه وسلم؟ هل تخيل عندهن كما تخيل عندها؟ أم كان الحال خاصاً بها؟ وإذا كان الأول فلماذا لم يرد عن إحداهن مثل ما ورد عنها؟ وإذا كان الثاني احتمل أن يكون لحالة نفسية وتغير مزاجه منها لأمر من أمور الحياة، فهو انصراف يحدث كثيراً، ولا يرد عليه أي اعتراض بالتقصير في التبليغ، وكذا لو كان انصرافاً عاماً عن جميع نسائه، وتخيلاً خاصاً بالعلاقة الزوجية، فلا

يرد هذا الاعتراض، ويرد هذا الاعتراض من أساسه أنه لم يؤثر عن أحد من الصحابة، ولا عن أحد من أعدائه أنه رآه وقد خيل إليه في هذه المدة الطويلة أنه فعل الشيء ولم يفعله، ومثل هذا أمر لا يخفى ولا يكتم ممن يتلمسون له الهفوات، وحيث كان هذا التأثير مكنياً عنه في الحديث، بقولها "يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله" وليس محدداً مصرحاً بالأثر جاز أنها تقصد أمراً لا يضر، وأنه أمر عادي في تغير المزاج، ولهذا اختلف العلماء في تفسيره، سواء كان ناشئاً من تأثير السحر، أو كان مصادفة واتفاقاً مع وقت عمل لبيد ما عمل، فإنه لا يؤثر في الرسالة ولا في التبليغ. ثانياً: هذا الحديث مضطرب في أحداثه اضطراباً يجعل الجمع بينها عسيراً أو تمحلاً، ففي بعض روايته أنه صلى الله عليه وسلم أرسل إلى البئر من يخرج آلة السحر، وفي بعضها أنه صلى الله عليه وسلم أتاها بنفسه ومعه بعض أصحابه، وفي بعضها أن الذي استخرجه جبير بن إياس، وفي بعضها أن الذي استخرجه قيس بن محصن الزرقي، وفي بعض الروايات أن الملكين أتياه في اليقظة، وفي بعضها في المنام، وفي بعضها بين اليقظة والمنام، وفي بعض الروايات قالت عائشة بعد أن استخرج السحر "أفلا استخرجته؟ قال: لا" وفي بعضها "أفلا أحرقته"؟ قال: "لا" أي إنه لم يخرج ولم يحرق. ثم ماذا حصل مع لبيد بن الأعصم؟ أقتل؟ أم عفي عنه؟ في رواية "فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم، فاعترف، فعفا عنه"، وفي رواية "فما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك اليهودي شيئاً مما صنع، ولا رآه في وجهه" وفي رواية "فقال له: ما حملك على هذا؟ قال: حب الدنانير" وفي رواية "فقتله" روايات ضعيفة، لا تمثل حقيقة مع أن القتل أو عدم القتل، في مثل هذه الحالة لا يخفى ولا يكتم. هذا الاضطراب يجعل الاستدلال بعبارة من عباراته محل نظر. ثالثاً: موضوع السحر، وسحر رسول الله صلى الله عليه وسلم موضوع عقيدة، وليس موضوع حكم فرعي وليس موضوع وعظ وترغيب وترهيب، وأحاديث الآحاد لا يجب العمل بها في العقائد حتى ولو لم تكن مضطربة. رابعاً: الاحتمالات الكثيرة في هذا الحديث تجعله غير صالح للاستدلال على تأثير السحر، عملاً بقاعدة: الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال. والذي أميل إليه، وأدين الله عليه التوقف بشأن هذا الحديث، أو رده لما ذكرنا من المحاذير. والله أعلم. -[ويؤخذ من الحديث: ]- 1 - من قوله "دعا .. ثم دعا، ثم دعا" استحباب الدعاء عند حصول الأمور المكروهة. 2 - وتكرير الدعاء. 3 - وحسن الالتجاء إلى الله تعالى. 4 - ومن كراهته صلى الله عليه وسلم شراً، ترك المصلحة لخوف مفسدة أعظم منها.

5 - ومن استخراجه السحر من البئر جواز استخراج السحر. 6 - وجواز ذهاب المسحور إلى الساحر، ليفك عنه السحر كذا قيل. وقد ذكر البخاري: قال قتادة قلت لسعيد بن المسيب: رجل به طب -أو يؤخذ عن امرأته- أيحل عنه؟ أو ينشر؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه. اهـ أي كان سعيد بن المسيب لا يرى بأساً، إذا كان بالرجل سحر، أن يمشي إلى من يطلق عنه، وكان يرى أن ذلك صلاح، ومثل ذلك عن أحمد، فقد سئل عمن يطلق السحر عن المسحور؟ فقال: لا بأس به. وكان الحسن البصري يكره ذلك، ويقول: لا يعلم ذلك إلا ساحر، ولا يجوز إتيان الساحر، لحديث "من مشي إلى ساحر أو كاهن، فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" وقال الطبري: نهيه صلى الله عليه وسلم عن إتيان الساحر، إنما هو على التصديق له فيما يقول، فأما إذا أتاه لغير ذلك، وهو عالم به، وبحاله، فليس من المنهي عنه، ولا عن إتيانه. اهـ وفي هذا القول نظر، لأن هذا القول يصح فيمن أتاه لزراعة أو لبيع أو شراء أو غير ذلك، مما لا علاقة له بالسحر، أما من أتاه ليحل سحراً، فقد أتاه مصدقاً أنه ساحر، وأنه قادر على حل السحر، فهو مصدق له في قوله هذا وفي فعله. 7 - وجواز النشرة، والنشرة ذكر وأدعية وطلاسم وأفعال، يقصد بها حل السحر عن المسحور وفي وصفها صور، أنقل منها عن الحافظ ابن حجر، قال: أخرج عبد الرزاق من طريق الشعبي، قال: "لا بأس بالنشرة العربية، التي إذا وطئت لا تضره، وهي أن يخرج الإنسان في موضع عضاه -العضاه بالهاء في آخره مع كسر العين، كل شجر له شوك، صغر أو كبر -فيأخذ عن يمينه، وعن شماله، من كل -أي من كل شجرة فرعاً أو ورقاً- ثم يدقه، ويقرأ فيه، ثم يغتسل به" وذكر ابن بطال أن في كتب وهب بن منبه "أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر، فيدقه بين حجرين، ثم يضربه بالماء، ويقرأ فيه آية الكرسي، ثم يحسو منه ثلاث حسوات، ثم يغتسل به، فإنه يذهب عنه كل ما به". وفي كتاب الطب النبوي للمستغفري. قال حماد بن شاكر: إن المبتلى بعدم القدرة على مجامعة أهله يأخذ حزمة قضبان، وفأساً ذا قطارين، ويضعه في وسط تلك الحزمة، ثم يؤجج ناراً في تلك الحزمة، حتى إذا حمي الفأس استخرجه من النار، وبال عليه، فإنه يبرأ وتحل عقده، وأما النشرة فإنه يجمع أيام الربيع ما قدر عليه من ورد المفازة، وورد البساتين، ثم يلقيها في إناء نظيف، ويجعل فيها ماء عذباً، ثم يغلي ذلك الورد في الماء غلياً يسيراً، ثم يمهل، حتى إذا فتر الماء، أفاضه عليه، فإنه يبرأ بإذن الله. اهـ وفي اعتقادي أن هذه أمور شعوذة لا أصل لها، تستساغ عند البسطاء والجهلاء، وقد يقع لهم الشفاء بالإيحاء، والله أعلم. 8 - وقد فرع العلماء على السحر وتأثيره خلافاً حول حد الساحر، وقد استدل بحديث الباب من يقول: إن الساحر لا يقتل حداً، إذا كان له عهد، قال ابن بطال: لا يقتل ساحر أهل الكتاب عند مالك والزهري، إلا أن يقتل بسحره، فيقتل، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وعن مالك: إن أدخل بسحره ضرراً على مسلم لم يعاهد عليه، نقض العهد بذلك، فيحل

قتله، وإنما لم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم لبيد بن الأعصم، لأنه كان لا ينتقم لنفسه، ولأنه خشي إذا قتله أن تثور بذلك فتنة بين المسلمين وبين حلفائه من الأنصار، وهو من نمط ما راعاه من ترك قتل المنافقين، سواء كان لبيد يهودياً أو منافقاً على ما مضى من الاختلاف فيه، قال ابن بطال: وعند مالك أن حكم الساحر -أي المسلم- حكم الزنديق، أي فهو بسحره كافر، فلا تقبل توبته، ويقتل حداً، إذا ثبت عليه ذلك -أي بالإقرار أو بالبينة- وبه قال أحمد، وقال الشافعي: لا يقتل إلا إن اعترف أنه قتل بسحره، فيقتل به، فإن اعترف أن سحره قد يقتل، وقد لا يقتل، وأنه سحره، وأنه مات، لم يجب عليه القصاص، ووجبت الدية في ماله، لا على عاقلته، ولا يتصور القتل بالسحر بالبينة، وادعى أبو بكر الرازي في "الأحكام" أن الشافعي تفرد بقوله: إن الساحر يقتل قصاصاً إذا اعترف أنه قتله بسحره. والله أعلم. 9 - وقد ترجم البخاري لهذا الحديث بباب: هل يعفى عن الذمي إذا سحر؟ وقد احتج الزهري بهذا الحديث على أنه يعفى عنه، وقال ابن بطال: لا حجة للزهري فيه، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن ينتقم لنفسه، ولأن السحر لم يضره في شيء من أمور الوحي ولا في بدنه، وإنما كان اعتراه شيء من التخيل. والله أعلم

(594) باب السم

(594) باب السم 4979 - عن أنس رضي الله عنه؛ أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة، فأكل منها. فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألها عن ذلك. فقالت: أردت لأقتلك. قال: "ما كان الله ليسلطك على ذاك" قال: أو قال: "علي" قال: قالوا: ألا نقتلها؟ قال: "لا" قال: فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم. 4980 - عن أنس بن مالك؛ أن يهودية جعلت سماً في لحم، ثم أتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم. بنحو حديث خالد. -[المعنى العام]- في المحرم سنة سبع من الهجرة خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، لغزوها، فأقام يحاصرها بضع عشرة ليلة، إلى أن فتحها في صفر، بعد قتال شديد في شوارعها وبيوتها، قتل فيه كثير من اليهود، ولما استسلموا أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم أرض خيبر، أن يعملوا فيها ويزرعوها، ولهم شطر ما يخرج منها، وبينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يجمعون أمورهم للعودة إلى المدينة، وهم مازالوا في منازل جيوشهم إذ أرسلت امرأة يهودية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مشوية، دست فيها سماً قاتلاً، وزادت من كمية السم في الكتف والذراع، بعد أن علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم يحب الكتف والذراع، ووضعت المائدة بالشاة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن قرب منه من صحابته، وما كانوا يمدون أيديهم إلى طعام قبل أن يمد يده إليه صلى الله عليه وسلم، فأمسك صلى الله عليه وسلم بالذراع، ونهش منها نهشة بأسنانه، ونهش بشر بن البراء نهشة من قطعة لحم، وأسرع في مضغها وبلعها، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن مضغها مضغة وقبل ابتلاعها نطقت الذراع في يده، تقول: أنا مسمومة فألقى ما في فمه، فقال لأصحابه: أمسكوا. لا تأكلوا. الشاة مسمومة لكن بشر بن البراء كان قد ابتلع القطعة فاصفر لونه في الحال، فحاولوا إنقاذه وإسعافه. وجمع الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود، فقال لهم: إني سائلكم عن شيء، فهل أنتم صادقون عنه؟ قالوا: نعم يا أبا القاسم. فقال: هل جعلتم في هذه الشاة سماً؟ فقالوا: نعم. فقال: ما حملكم على ذلك؟ فقالوا أردنا إن كنت كاذباً نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضرك، قال: من التي باشرت وضع السم؟ قالوا:

زينب بنت الحارث، فجيء بها، فقيل لها: لم فعلت ما فعلت؟ قالت: أردت أن أقتلك، قتلت أبي وعمي وزوجي وأخي، ونلت من قومي ما نلت، قال: إن الله تعالى لم يكن ليمكنك من قتلي. قالت: قلت: إن كان نبياً فسيخبره الذراع، وإن كان ملكاً استرحنا منه، وقد استبان لي الآن أنك صادق، وأنا أشهد: وأشهد الحاضرين أني على دينك. أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. قال الصحابة: اقتلها يا رسول الله. قال: لا. ما قتلت، وأسلمت، وأنا لا أنتقم لنفسي، وكوى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه، على عرق يعرف العرب أنه يقي من السم يعرف بالأبهر، ليبطل مفعول ما عساه دخل إلى الجسم بواسطة اللعاب، وجاءه الخبر أن بشر بن البراء مات من السم، فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة إلى أولياء بشر، ليقتلوها قصاصاً فقتلوها، وظل صلى الله عليه وسلم بعد هذه الحادثة ثلاث سنين، كلما جاء موعدها من كل سنة، وجد ألماً حتى كان مرض موته صلى الله عليه وسلم، فأحس الألم، واستمر معه حتى مات صلى الله عليه وسلم. -[المباحث العربية]- (أن امرأة يهودية) واسمها زينب بنت الحارث، وزوجها سلام بن مشكم، وعمها يسار، وأخوها زبير. قتلوا جميعاً في غزوة خيبر. (أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة) ظاهره أنها هي التي قدمت الشاة بنفسها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الروايات الأخرى تفيد أنها المهدية الفاعلة المرسلة، فعند ابن إسحاق "لما اطمأن النبي صلى الله عليه وسلم، بعد فتح خيبر، أهدت له زينب بنت الحارث، امرأة سلام بن مشكم شاة مشوية، وكانت سألت: أي عضو من الشاة أحب إليه؟ قيل لها: الكتف والذراع، فأكثرت فيهما من السم" وعند البخاري "لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم". وفي رواية للبخاري "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع ما بقي في خيبر من يهود، فقال لهم: إني سائلكم عن شيء، فهل أنتم صادقوني عنه؟ فقالوا: نعم يا أبا القاسم، فقال هل جعلتم في هذه الشاة سماً؟ فقالوا: نعم. فقال: ما حملكم على ذلك؟ فقالوا: أردنا إن كنت كاذباً نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضرك" فقد نسب إليهم وضع السم في الشاة لرضاهم به، والأمر به وطلبه، والفاعلة المرأة، كما نسب إليها الإتيان بالشاة، مع أن الآتي بها غيرها، ففي الكلام مجاز مرسل، والسم بفتح السين وضمها وكسرها، مثلثة السين، قال النووي: والفتح أشهر. (فأكل منها) في رواية "فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتف، فنهش منها، فلما ازدرد لقمته قال: إن الشاة تخبرني" يعني أنها مسمومة، وعند ابن إسحاق "فلما تناول الذراع لاك منها مضغة، ولم يسغها، وأكل معه بشر بن البراء بن معرور، فأساغ لقمته" وعند البيهقي "فقال لأصحابه: أمسكوا، فإنها مسمومة". (فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) معطوف على محذوف، أي فسأل عن الطاهية الفاعلة الحقيقية، فأخبر أنها امرأة، واسمها كذا، فطلب حضورها، فجيء بها إليه.

(فسألها عن ذلك) الفعل، وعن الدافع له، وفي رواية ابن إسحاق "وقال لها: ما حملك على ذلك؟ " وعند الواقدي "قال لها: من حملك على ما فعلت"؟ . (فقالت: أردت لأقتلك) وعند ابن سعد عن الواقدي "قالت: قتلت أبي وزوجي وعمي وأخي، ونلت من قومي ما نلت، فقلت: إن كان نبياً فسيخبره الذراع، وإن كان ملكاً استرحنا منه" وفي رواية "فقالت: أردت أن أعلم. إن كنت نبياً فسيطلعك الله عليه، وإن كنت كاذباً فأريح الناس منك" زاد في رواية "وقد استبان لي الآن أنك صادق، وأنا أشهدك ومن حضر أني على دينك، وأن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، قال: فانصرف عنها حين أسلمت". (قال: ما كان الله ليسلطك على ذاك) أي على قتلي. وفي رواية "ما كان الله ليسلطك علي" أي على قتلي. (قالوا: ألا نقتلها)؟ قال الصحابة: ألا نقتلها عقاباً لها على جريمتها؟ قال النووي "نقتلها" بالنون في أكثر النسخ وفي بعضها بالتاء. (قال: لا) أي لا تقتلوها، فإنها لم تقتل، وأنا لا أنتقم لنفسي، فلما مات بشر بن البراء بسمها، وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك دفعها لأوليائه، فقتلوها قصاصاً. (فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم) يقول أنس: فما زلت أعرف وأرى أثر المضغة المسمومة في سقف حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن مات، كأنه بقي للسم علامة وأثر في حلقه صلى الله عليه وسلم من سواد أو نتوء أو حفر أو نحو ذلك، ويحتمل أنه أراد أنه يعرف أثرها في مرضه الذي كان يعتريه كل عام، فعزوه إليها، فيكون موافقاً لقوله في حديث عائشة "ما أزال أجد ألم الطعام" وفي رواية "مازلت أجد من الأكلة التي أكلت بخيبر عداداً -بكسر العين وتخفيف الدال، وهو ما يعتاد، أي مازلت أجد ألماً اعتاد الظهور كل سنة في نفس الموعد- حتى كان هذا أوان انقطاع أبهري" قال العلماء: الأبهر، بسكون الباء وفتح الهاء، عرق مستبطن بالظهر، وكان صلى الله عليه وسلم قد كوي على هذا العرق للوقاية من أثر السم، وفي رواية للبخاري "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه: يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر -أي أحس في جوفي ألماً بسبب الطعام الذي أكلته بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم" أي فهذا أوان إحساسي بألم الكي على أبهري، وقد عاش صلى الله عليه وسلم بعد حادثة السم ثلاث سنين. واللهوات بفتح الهاء جمع لهاة، وهي سقف الفم، أو اللحمة المشرفة على الحلق، وقيل: هي أقصى الحلق، وقيل: ما يبدو من الفم عند التبسم. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث]- 1 - إخباره صلى الله عليه وسلم عن الغبب.

2 - وتكليم الجماد له، أخذاً من رواية أن الشاة أخبرته. 3 - ومن قوله "ما كان الله ليسلطك علي" بيان عصمته صلى الله عليه وسلم من الناس كلهم، كما قال الله تعالى {والله يعصمك من الناس} [المائدة: 67] والمراد العصمة من الهلاك، لا من بعض الإصابات. 4 - وقبول هدية أهل الكتاب. 5 - والأكل من طعام أهل الكتاب. 6 - ومعاندة اليهود وغدرهم. 7 - وفيه قتل من قتل بالسم قصاصاً، أي إن ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قتل اليهودية ببشر بن البراء، وعن الحنفية: إنما تجب فيه الدية، قال الحافظ ابن حجر: ومحل ذلك إذا استكرهه عليه إنفاقاً، وأما إذا دس عليه ففيه اختلاف للعلماء. وروايتنا صريحة في أنه صلى الله عليه وسلم لم يقتلها، وعن جابر في رواية أنه قتلها، وفي رواية ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم رفعها إلى أولياء بشر بن البراء فقتلوها، وقال ابن سحنون: أجمع أهل الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلها. قال القاضي عياض: وجه الجمع بين هذه الروايات والأقاويل أنه لم يقتلها أولاً، حين اطلع على سمها وقيل له: اقتلها، فقال: لا. فلما مات بشر بن البراء، سلمها لأوليائه، فقتلوها قصاصاً، فيصبح قولهم: لم يقتلها، أي في الحال، ويصح قولهم: قتلها، أي بعد ذلك. والله أعلم

(595) باب عود إلى الرقى

(595) باب عود إلى الرقى 4981 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى منا إنسان مسحه بيمينه ثم قال: "أذهب الباس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً". فلما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وثقل، أخذت بيده لأصنع به نحو ما كان يصنع، فانتزع يده من يدي ثم قال: "اللهم اغفر لي، واجعلني مع الرفيق الأعلى" قالت: فذهبت أنظر فإذا هو قد قضى. 4982 - عن الأعمش بإسناد جرير في حديث هشيم وشعبة. مسحه بيده. قال وفي حديث الثوري: مسحه بيمينه. وقال: في عقب حديث يحيى عن سفيان عن الأعمش قال: فحدثت به منصوراً فحدثني عن إبراهيم عن مسروق عن عائشة بنحوه. 4983 - عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا عاد مريضاً يقول: "أذهب الباس رب الناس، اشفه أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقماً". 4984 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى المريض يدعو له قال: أذهب الباس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً" وفي رواية أبي بكر فدعا له وقال: "وأنت الشافي". 4985 - عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرقي بهذه الرقية: "أذهب الباس رب الناس، بيدك الشفاء، لا كاشف له إلا أنت".

4986 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات، فلما مرض مرضه الذي مات فيه، جعلت أنفث عليه وأمسحه بيد نفسه؛ لأنها كانت أعظم بركة من يدي. وفي رواية يحيى بن أيوب: بمعوذات. 4987 - عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح عنه بيده رجاء بركتها. 4988 - وفي رواية عن ابن شهاب بإسناد مالك نحو حديثه وليس في حديث أحد منهم: رجاء بركتها. إلا في حديث مالك وفي حديث يونس وزياد: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات ومسح عنه بيده. 4989 - عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال: سألت عائشة عن الرقية. فقالت: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل بيت من الأنصار في الرقية من كل ذي حمة. 4990 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل بيت من الأنصار في الرقية من الحمة. 4991 - عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى الإنسان الشيء منه أو كانت به قرحة أو جرح، قال النبي صلى الله عليه وسلم بإصبعه هكذا -ووضع سفيان سبابته بالأرض ثم رفعها - "باسم الله تربة أرضنا بريقة بعضنا ليشفى به سقيمنا بإذن ربنا" قال ابن أبي شيبة: يشفى. وقال زهير: ليشفى سقيمنا. 4992 - عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرها أن تسترقي من العين.

4993 - عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني أن أسترقي من العين. 4994 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه في الرقى، قال: رخص في الحمة والنملة والعين. 4995 - عن أنس رضي الله عنه قال: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقية من العين والحمة والنملة. وفي حديث سفيان يوسف بن عبد الله بن الحارث. 4996 - عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجارية في بيت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، رأى بوجهها سفعة فقال: "بها نظرة فاسترقوا لها" يعني بوجهها صفرة. 4997 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: رخص النبي صلى الله عليه وسلم لآل حزم في رقية الحية. وقال لأسماء بنت عميس: "ما لي أرى أجسام بني أخي ضارعة تصيبهم الحاجة؟ " قالت: لا، ولكن العين تسرع إليهم. قال: "ارقيهم" قالت: فعرضت عليه. فقال: "ارقيهم". 4998 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أرخص النبي صلى الله عليه وسلم في رقية الحية لبني عمرو. قال أبو الزبير وسمعت جابر بن عبد الله يقول: لدغت رجلاً منا عقرب ونحن جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رجل: يا رسول الله، أرقي؟ قال: "من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل". 4999 - وفي رواية عن ابن جريج بهذا الإسناد مثله؛ غير أنه قال: فقال رجل من القوم: أرقيه يا رسول الله؟ ولم يقل: أرقي.

5000 - عن جابر رضي الله عنه قال: كان لي خال يرقي من العقرب. فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقى. قال: فأتاه فقال: يا رسول الله، إنك نهيت عن الرقى، وأنا أرقي من العقرب. فقال: "من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل". 5001 - عن جابر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقى. فجاء آل عمرو بن حزم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إنه كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب، وإنك نهيت عن الرقى. قال: فعرضوها عليه. فقال: "ما أرى بأساً من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه". 5002 - عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: كنا نرقي في الجاهلية فقلنا: يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟ فقال: "اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك". 5003 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وفي رواية أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا في سفر، فمروا بحي من أحياء العرب، فاستضافوهم، فلم يضيفوهم. فقالوا: لهم هل فيكم راق؟ فإن سيد الحي لديغ أو مصاب. فقال رجل منهم: نعم: فأتاه فرقاه بفاتحة الكتاب، فبرأ الرجل. فأعطي قطيعاً من غنم، فأبى أن يقبلها، وقال: حتى أذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له. فقال: يا رسول الله، والله ما رقيت إلا بفاتحة الكتاب. فتبسم وقال: "وما أدراك أنها رقية؟ ثم قال: "خذوا منهم واضربوا لي بسهم معكم". 5004 - وفي رواية عن أبي بشر بهذا الإسناد، وقال في الحديث: فجعل يقرأ أم القرآن، ويجمع بزاقه ويتفل، فبرأ الرجل. 5005 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: نزلنا منزلاً، فأتتنا امرأة فقالت: إن سيد

الحي سليم لدغ، فهل فيكم من راق؟ فقام معها رجل منا، ما كنا نظنه يحسن رقية، فرقاه بفاتحة الكتاب، فبرأ فأعطوه غنماً وسقونا لبناً. فقلنا: أكنت تحسن رقية؟ فقال: ما رقيته إلا بفاتحة الكتاب. قال: فقلت: لا تحركوها حتى نأتي النبي صلى الله عليه وسلم. فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له. فقال: ما كان يدريه أنها رقية؟ اقسموا واضربوا لي بسهم معكم". 5006 - وفي رواية عن هشام بهذا الإسناد نحوه، غير أنه قال: فقام معها رجل منا، ما كنا نأبنه برقية. 5007 - عن عثمان بن أبي العاص الثقفي رضي الله عنه أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعاً يجده في جسده منذ أسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل باسم الله ثلاثاً وقل سبع مرات أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر". 5008 - عن أبي العلاء؛ أن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي، يلبسها علي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذاك شيطان يقال له خنزب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل على يسارك ثلاثاً" قال: ففعلت ذلك، فأذهبه الله عني. 5009 - وفي رواية عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه، أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم. فذكر بمثله ولم يذكر في حديث سالم بن نوح: ثلاثاً. -[المعنى العام]- سبق بما فيه الكفاية في باب العين والحسد والرقى.

-[المباحث العربية]- (إذا اشتكى منا إنسان) أي إذا مرض منا نحن آل البيت رجل أو امرأة، وتألم من مرضه، ففي الرواية الخامسة "إذا مرض أحد من أهله" ويحتمل أن يراد إذا مرض منا معشر المسلمين، ففي الرواية الثانية "إذا عاد مريضاً" وفي الرواية الثالثة "إذا أتى المريض" وفي الرواية التاسعة "كان إذا اشتكى الإنسان الشيء -منه- أو كانت به قرحة أو جرح". (مسحه بيمينه) أي مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم بيمينه المريض في مكان وجعه غالباً، وفي ملحق الرواية "مسحه بيده" أي اليمنى، وفي الرواية التاسعة "قال بإصبعه هكذا، أي وضع سبابته على الأرض، ثم رفعها، ثم وضعها على مكان المرض، ولا تعارض، فأحياناً يفعل هذا، وأحياناً يفعل ذاك. (ثم قال: أذهب الباس) أصله البأس، وهو الشدة، خففت الهمزة للسجع وللمؤاخاة للناس. وفي رواية للبخاري "اللهم رب الناس، مذهب الباس". (واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً) أي شفاء كاملاً، لا يترك مرضاً، والسقم بفتح السين والقاف، وبضم السين وسكون القاف، لغتان، و"أنت الشافي" قصر، طريقه تعريف الطرفين، أي أنت لا غيرك الشافي، فقوله "لا شفاء إلا شفاؤك" تأكيد لمضمون القصر. وفي الرواية الثانية "اشفه" والهاء للعليل، أو هي هاء السكت، وفي الرواية الرابعة "بيدك الشفاء، لا كاشف له إلا أنت" أي لا مظهر للشفاء إلا أنت. (فلما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثقل) أي مرضه الأخير، وثقل جسمه، فضعفت حركته، وفي الرواية الخامسة "فلما مرض مرضه الذي مات فيه". (أخذت بيده، لأصنع به نحو ما كان يصنع، فانتزع يده من يدي) كان هذا في آخر لحظات حياته صلى الله عليه وسلم، كما صرحت به، بقولها "فذهبت أنظر" -أي إليه- "فإذا هو قد قضى" بفتح القاف والضاد، يقال: قضى المريض أجله وقضى نحبه، أي بلغ الأجل الذي حدد له، وقضى المريض، أي مات، وفي الرواية الخامسة والسادسة لم ينزع صلى الله عليه وسلم يده من يدها، ولا منافاة، فقد كان هذا في أول المرض، وذاك في آخره. (نفث عليه بالمعوذات) أي نفث على المريض، وفي الرواية "جعلت أنفث عليه" وفي الرواية السادسة "يقرأ على نفسه بالمعوذات، وينفث" وفي ملحقها "نفث على نفسه بالمعوذات، ومسح عنه بيده". وفي رواية للبخاري عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة "كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذات، فلما ثقل، كنت أنفث عليه بهن، وأمسح بيد نفسه لبركتها" قال عروة: فسألت الزهري، كيف ينفث؟ قال: كان ينفث في يديه، ثم يمسح بهما وجهه. والمعوذات بكسر الواو المشددة: قيل: هي سورة الإخلاص والفلق والناس، والمراد الفلق والناس

فيكون من قبيل التغليب، وقيل: المعوذات الفلق والناس وكل ما ورد فيه التعويذ في القرآن الكريم، كقوله تعالى {وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين} [المؤمنون: 97] و {فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل: 98] وغير ذلك، وفي ملحق الرواية العشرين "ويجمع بزاقة ويتفل" قال النووي: النفث بفتح النون وسكون الفاء نفخ لطيف بلا ريق، وقيل: إن النفث معه ريق، قال القاضي: وقد اختلف في النفث والتفل، فقيل: هما بمعنى، ولا يكونان إلا بريق، قال أبو عبيد: يشترط في التفل ريق يسير، ولا يكون في النفث، قال: وسئلت عائشة عن نفث النبي صلى الله عليه وسلم في الرقية؟ فقالت: كما ينفث آكل الزبيب، لا ريق معه. (رخص لأهل بيت من الأنصار في الرقية من كل ذي حمة) بضم الحاء وفتح الميم مخففة، وهي السم، وفي الرواية الثامنة "في الرقية من الحمة" وفي الرواية الثانية عشرة "رخص في الحمة والنملة والعين" وفي الرواية الثالثة عشرة "رخص النبي صلى الله عليه وسلم في الرقية من العين والحمة والنملة" والنملة بفتح النون وسكون الميم قروح تخرج من الجنب وغيره من الجسد، والمراد بهذا البيت من الأنصار ما جاء في الرواية الخامسة عشرة والسادسة عشرة والسابعة عشرة والثامنة عشرة، ببيت بني عمرو، أو آل عمرو بن حزم، آل خال جابر. (باسم الله) أي أرقي، أو أدعو بالشفاء. (تربة أرضنا) خبر مبتدأ محذوف، أي هذه تربة أرضنا، والمراد بأرضنا جملة الأرض، وقيل: أرض المدينة خاصة، لبركتها، قال النووي: معنى الحديث أنه أخذ من ريق نفسه على إصبعه السبابة، ثم وضعها على التراب، فعلق به شيء منها ثم مسح به الموضع العليل أو الجرح، قائلاً الكلام المذكور في حالة المسح. (بريقة بعضنا، ليشفى به سقيمنا) الريقة أقل من الريق، والجار والمجرور متعلق بمحذوف، أي نتبرك بريقة بعضنا، ليشفى بهذا الريق مريضنا، وليشفى بضم الياء، مبني للمجهول، وفي ملحق الرواية "يشفى" بدون اللام، فالجار والمجرور يتعلق به. (رأى بوجهها سفعة) بفتح السين وسكون الفاء وفتح العين، وفسرها الراوي في الحديث بالصفرة، وقيل: سواد، وقال ابن قتيبة: هي لون يخالف لون الوجه. (بها نظرة) المراد بالنظرة العين، أي بها إصابة عين. (ما لي أرى أجسام بني أخي ضارعة؟ ) أي نحيفة؟ والمراد أولاد جعفر بن أبي طالب، فأطلق على ابن عمه أخاه، وكان أكبر من علي -رضي الله عنهما- بعشر سنين، وكان أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم خلقاً وخلقاً، وكان صلى الله عليه وسلم يحبه، حتى عدل قدومه من الحبشة بفتح خيبر، فقال صلى الله عليه وسلم "ما أدري بأيهما أنا أشد فرحاً؟ بقدوم جعفر؟ أم بفتح خيبر؟ " وكان قدوم جعفر وأصحابه من أرض الحبشة في السنة السابعة من الهجرة عند فتح خيبر. قاد جيوش المسلمين في غزوة مؤتة، فاستشهد بها، ووجد في جسده نحو تسعين جراحة، ما بين ضربة بالسيف، وطعنة بالرمح، نعاه جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن تأتيه أخبار المعركة، ونعاه صلى الله عليه

وسلم إلى زوجه أسماء بنت عميس، وبكى عليه آل البيت بكاء لا مثيل له، ولما أراد بعض الصحابة أن يوقف بكاء النساء قال له صلى الله عليه وسلم: دعهن. على مثل جعفر تبكي البواكي، وكان صلى الله عليه وسلم يزور أولاده ويتعهدهم. (تصيبهم الحاجة)؟ الكلام على الاستفهام، أي هل ضعفهم ونحافتهم بسبب الضيق والحاجة والشدة؟ (قالت: فعرضت عليه) ألفاظ رقيتي. (فقال: ارقيهم) بها. (فقال رجل: يا رسول الله، أرقي) هذا الملدوغ من العقرب؟ وفي ملحق الرواية "فقال رجل من القوم: أرقيه يا رسول الله؟ " وهذا الرجل خال جابر، ففي الرواية السابعة عشرة "عن جابر قال: كان لي خال، يرقي من العقرب، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقى" أي وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عن الرقى، فلدغت رجلاً منا عقرب ونحن جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستدعى القوم خالي قال: فأتاه، فقال: لرسول الله: إنك نهيت عن الرقى، وأنا أرقي من العقرب"؟ وفي الرواية الثامنة عشرة "قال: يا رسول الله، إنه كانت عندنا رقية، نرقي بها من العقرب؟ وإنك نهيت عن الرقى؟ قال" -اعرضوها علي- "فعرضوها عليه، فقال: ما أرى بأساً بها"، وفي الرواية التاسعة عشرة "اعرضوا على رقاكم" فعرضوها "فقال: لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه" أي في لفظها "شرك". (فقال: من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه) المراد من الأخ الأخوة في الإسلام، والمنتفع به محذوف، أي من استطاع أن ينفع بأي نفع مشروع فلينفع. (أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا في سفر) قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسم أحد منهم سوى أبي سعيد، وليس في سياق هذه الطريق ما يشعر بأن السفر كان في جهاد، لكن في رواية الأعمش "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثهم" وفي رواية سليمان بن قتة عند أحمد "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً" زاد الدارقطني فيه "بعث سرية عليها أبو سعيد" قال الحافظ: ولم أقف على تعيين هذه السرية في شيء من كتب المغازي، بل لم يتعرض لذكرها أحد منهم. اهـ وفي رواية للبخاري "انطلق نفر" وفي رواية "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثين رجلاً، فنزلنا بقوم ليلاً، فسألناهم القرى". (فاستضافوهم، فلم يضيفوهم) بضم الياء، أي طلبوا منهم الضيافة والقرى، أو أن ينزلوا عندهم ضيوفاً، فلم يقدموا لهم طعاماً ولا شراباً، ولم يقبلوا نزولهم، بل رفضوا لفظاً وصراحة، ففي رواية البخاري "فأبوا أن يضيفوهم" يقال: ضاف فلاناً، يضيفه، إذا أنزله عنده ضيفاً، وأضاف فلاناً، أي أنزله ضيفاً عنده، واستضافه، أي سأله الضيافة. (فقالوا لهم: هل فيكم راق؟ فإن سيد الحي لديغ أو مصاب فقال رجل منهم: نعم.) "فقالوا" معطوف على محذوف، وفي الكلام طي، ففي الرواية الواحدة والعشرين "نزلنا منزلاً" أي لم يضيفونا، فنزلنا في الخلاء "فأتتنا امرأة، فقالت: إن سيد الحي سليم لدغ، فهل فيكم من راق"؟ . وعند البخاري "فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء، لا ينفعه

شيء" أي حاولوا علاجه بما جرت به عادتهم في علاج العقرب، فلم ينفعه علاجهم، وفي رواية "فشفوا" أي طلبوا له الشفاء، فلم يجدوا "فقال بعضهم: لو أتيتم هذا الرهط، الذين نزلوا، لعله أن يكون عند بعضهم شيء؟ فأتوهم، فقالوا: يا أيها الرهط، إن سيدنا لدغ، وسعينا له بكل شيء، لا ينفعه، فهل عند أحد منكم شيء" أي ينفعنا؟ وكان فيمن أتى جارية، وهي التي تكلمت "فقال بعضهم: نعم. والله إني لأرقي، ولكن والله لقد استضفناكم، فلم تضيفونا، فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلاً، فصالحوهم على قطيع من الغنم" والقطيع الطائفة من الغنم وسائر النعم والغالب استعماله فيما بين العشرة والأربعين. وفي بعض الروايات "إنا نعطيكم ثلاثين شاة" و"لديغ" فعيل بمعنى مفعول، واللدغ بالدال اللسع لفظاً ومعنى، قال الحافظ ابن حجر: واستعمال اللدغ في ضرب العقرب، مجاز، والأصل أنه الذي يضرب بفمه، أما الذي يضرب بمؤخره، فضربه اللسع، وقد يستعمل هذا مكان هذا تجوزاً، وفي الرواية الواحدة والعشرين "فإن سيد الحي سليم لدغ" والسليم هو اللديغ، سمي بذلك تفاؤلاً، من السلامة، وقيل: سليم بمعنى مستسلم لما به من الآلام. (فقال رجل منهم: نعم. فأتاه) في الرواية الواحدة والعشرين "فقام معها رجل منا، ما كنا نظنه يحسن رقية" وفي رواية أن الذي قال ذلك هو أبو سعيد، راوي الحديث، ولفظه "قلت: نعم. أنا، ولكن لا أرقيه حتى تعطونا غنماً" قال الحافظ ابن حجر: وقد استشكل كون الراقي هو أبو سعيد، مع رواية "فقام معها رجل ما كنا نظنه يحسن رقية" وفيه "فلما رجع قلنا: أكنت تحسن رقية؟ " ففي ذلك إشعار بأنه غيره، والجواب أنه لا مانع من أن يكني الرجل عن نفسه، فلعل أبا سعيد صرح تارة، وكنى أخرى، قال: وأما حمل بعض الشارحين ذلك على تعدد القصة، وأن أبا سعيد روى قصتين، كان في إحداهما راقياً، وفي الأخرى كان الراقي غيره، فبعيد جداً، ولا سيما مع اتحاد المخرج والسياق والسبب، والأصل عدم التعدد، ولا حامل عليه، فإن الجمع بين الروايتين ممكن بدونه. اهـ أقول: قول أبي سعيد: "فقام معها رجل" كثير في اللغة، فقد يجرد المتكلم من نفسه شخصاً يتحدث عنه، وأما قوله "ما كنا نظنه يحسن الرقية" ليس مستبعداً من القوم، ولا من أبي سعيد نفسه، فهو في نفسه يعتقد أنه لا يحسن رقية، وإنما ذهب معها محاولاً قراءة قرآن، واختار الفاتحة، وهو لا يدري أنها رقية، يؤكد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ما أدراك أنها رقية"؟ "ما كان يدريه أنها رقية"؟ وقول أبي سعيد نفسه، حيثما قيل له: أكنت تحسن رقية؟ قال: ما رقيته إلا بفاتحة الكتاب" أي وما كنت أظن أنها رقية، وما كنت أحسن رقية، وفي ملحق الرواية الواحدة والعشرين "ما كنا نأبنه برقية" "نأبنه" بكسر الباء وضمها، أي نظنه متلبساً برقية. (إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي، وقراءتي يلبسها علي) أي حال بيني وبين التلذذ بالمناجاة في صلاتي، فشغلني عن الخشوع والاستغراق فيه، بالتفكير في أمور الدنيا، ويحتمل أن المراد حال بيني وبين إدراكها، فشككني في عدد ركعاتها، وفي قراءتي فيها، وخلطها علي، فلا أدري كم صليت؟ ولا كيف قرأت الفاتحة وغيرها، كل ذلك بالوسوسة. (ذاك شيطان يقال له: خنزب) قال النووي: بكسر الخاء وسكون النون وكسر الزاي وفتحها،

ويقال: أيضاً: بفتح الخاء والزاي، وبضم الخاء وفتح الزاي، اهـ والظاهر أن هذا الاسم خاص بعثمان، ويحتمل أنه المتخصص في هذه المهمة لعامة المصلين. علم اسم هذا صلى الله عليه وسلم بطريق الوحي. والله أعلم. -[فقه الحديث]- سبق بما فيه الكفاية في باب العين والحسد والرقى.

(596) باب لكل داء دواء واستحباب التداوي

(596) باب لكل داء دواء واستحباب التداوي 5010 - عن جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله عز وجل". 5011 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عاد المقنع ثم قال: لا أبرح حتى تحتجم فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن فيه شفاء". 5012 - عن عاصم بن عمر بن قتادة قال: جاءنا جابر بن عبد الله في أهلنا ورجل يشتكي خراجاً به أو جراحاً، فقال: ما تشتكي؟ قال: خراج بي قد شق علي. فقال: يا غلام، ائتني بحجام. فقال له: ما تصنع بالحجام يا أبا عبد الله؟ قال: أريد أن أعلق فيه محجماً. قال: والله إن الذباب ليصيبني أو يصيبني الثوب فيؤذيني ويشق علي. فلما رأى تبرمه من ذلك، قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن كان في شيء من أدويتكم خير ففي شرطة محجم أو شربة من عسل أو لذعة بنار" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وما أحب أن أكتوي". قال فجاء بحجام فشرطه فذهب عنه ما يجد. 5013 - عن جابر رضي الله عنه أن أم سلمة استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجامة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا طيبة أن يحجمها. قال: حسبت أنه قال: كان أخاها من الرضاعة أو غلاماً لم يحتلم. 5014 - عن جابر رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بن كعب طبيباً، فقطع منه عرقاً ثم كواه عليه. 5015 - وفي رواية عن الأعمش بهذا الإسناد، ولم يذكرا فقطع منه عرقا.

5016 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: رمي أبي يوم الأحزاب على أكحله، فكواه رسول الله صلى الله عليه وسلم. 5017 - عن جابر رضي الله عنه قال: رمي سعد بن معاذ في أكحله. قال: فحسمه النبي صلى الله عليه وسلم بيده بمشقص ثم ورمت فحسمه الثانية. 5018 - عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام أجره واستعط. 5019 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان لا يظلم أحداً أجره. 5020 - عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الحمى من فيح جهنم فابردوها بالماء". 5021 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن شدة الحمى من فيح جهنم فابردوها بالماء". 5022 - عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الحمى من فيح جهنم فأطفئوها بالماء".

5023 - عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الحمى من فيح جهنم فأطفئوها بالماء". 5024 - عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الحمى من فيح جهنم فابردوها بالماء" وحدثنا إسحق بن إبراهيم أخبرنا خالد بن الحارث وعبدة بن سليمان جميعاً عن هشام بهذا الإسناد مثله. 5025 - عن أسماء رضي الله عنها أنها كانت تؤتى بالمرأة الموعوكة، فتدعو بالماء فتصبه في جيبها، وتقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ابردوها بالماء" وقال: "إنها من فيح جهنم". 5026 - وفي رواية ابن نمير: صبت الماء بينها وبين جيبها. ولم يذكر في حديث أبي أسامة: أنها من فيح جهنم. قال أبو أحمد: قال إبراهيم: حدثنا الحسن بن بشر حدثنا أبو أسامة بهذا الإسناد. 5029 - 83 عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الحمى فور من جهنم فابردوها بالماء". 5030 - عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الحمى من فور جهنم فابردوها عنكم بالماء". ولم يذكر أبو بكر. عنكم. وقال: قال أخبرني رافع بن خديج. 5031 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: لددنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه، فأشار

أن لا تلدوني. فقلنا: كراهية المريض للدواء. فلما أفاق قال: "لا يبقى أحد منكم إلا لد غير العباس فإنه لم يشهدكم". 5032 - عن أم قيس بنت محصن أخت عكاشة بن محصن رضي الله عنها، قالت: دخلت بابن لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأكل الطعام، فبال عليه، فدعا بماء فرشه. قالت: ودخلت عليه بابن لي قد أعلقت عليه من العذرة. فقال: "علامه تدغرن أولادكن بهذا العلاق؟ عليكن بهذا العود الهندي فإن فيه سبعة أشفية، منها ذات الجنب يسعط من العذرة، ويلد من ذات الجنب". 5033 - عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن أم قيس بنت محصن، وكانت من المهاجرات الأول اللاتي بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أخت عكاشة بن محصن، أحد بني أسد بن خزيمة، قال: أخبرتني أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن لها لم يبلغ أن يأكل الطعام، وقد أعلقت عليه من العذرة. قال يونس: أعلقت غمزت، فهي تخاف أن يكون به عذرة. قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "علامه تدغرن أولادكن بهذا الإعلاق؟ عليكم بهذا العود الهندي" يعني به الكست "فإن فيه سبعة أشفية منها ذات الجنب". قال عبيد الله: وأخبرتني أن ابنها ذاك بال في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فنضحه على بوله ولم يغسله غسلاً. 5034 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن في الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام". والسام الموت والحبة السوداء الشونيز. 5035 - وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمثل حديث عقيل، وفي حديث سفيان ويونس: الحبة السوداء ولم يقل الشونيز.

5036 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من داء إلا في الحبة السوداء منه شفاء إلا السام". 5037 - عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها، أنها كانت إذا مات الميت من أهلها فاجتمع لذلك النساء، ثم تفرقن إلا أهلها وخاصتها، أمرت ببرمة من تلبينة فطبخت، ثم صنع ثريد فصبت التلبينة عليها، ثم قالت: كلن منها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "التلبينة مجمة لفؤاد المريض تذهب بعض الحزن". 5038 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي استطلق بطنه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسقه عسلاً" فسقاه ثم جاءه فقال: إني سقيته عسلاً فلم يزده إلا استطلاقاً. فقال له: ثلاث مرات. ثم جاء الرابعة فقال: "اسقه عسلاً" فقال: لقد سقيته فلم يزده إلا استطلاقاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق الله وكذب بطن أخيك" فسقاه فبرأ. 5039 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي عرب بطنه. فقال له: "اسقه عسلاً" بمعنى حديث شعبة. -[المعنى العام]- الإنسان ابن البيئة التي يعيش فيها، بل المخلوقات عامة تتأثر بالبيئة، وتطبع بطابع خاص بها، فذباب المناطق الحارة غيره في المناطق الباردة، وطيور المناطق الحارة غير طيور المناطق الباردة، وحيوانات المناطق الاستوائية غير حيوانات المناطق القطبية، وكذلك النباتات وكذلك الأمراض، فالميكروب والفيروس ابن بيئته أيضاً، والإنسان يتأقلم ويتكيف ويتفاعل مع مخلوقات بيئته، فهو يعيش أحياناً يحمل ميكروباً لا يمرض به بينما يموت غيره بهذا الميكروب في بيئة أخرى. نزل آدم وحواء من الجنة إلى الأرض، فأخذا يغطيان عورتيهما بورق الشجر، وجاعا فأكلا من نبات الأرض حولهما، ثم من لحوم طير أو حيوان تيسر لهما، ألهم الله آدم طريقة الحياة كما علمه من

قبل الأسماء كلها، فجاع وشبع، وعطش وشرب، وطهى طعامه على النار، والتقط فواكه من ثمار الشجر، ومرض فعالج نفسه بما تيسر له، وما ألهمه من نبات الأرض، وتبعه أبناؤه، يعتمدون على التجارب كثيراً، ويلهمون سبل الحياة أحياناً، وتتعلم الأجيال اللاحقة من الأجيال السابقة، ويترقى كل جيل على من سبقه بالعلم والخبرة، ويبني حضارة فوق حضارة، ويتغلب على مصاعب الحياة بأسلوب بعد أسلوب، حتى يصل إلى درجة عليا من العلم والطب والفن في بعض المناطق، كالفراعنة في مصر، والحضارات القديمة في الصين والهند ومأرب وغيرها. لكن إرادة الله شاءت لأهل الأرض أطواراً، كحياة الإنسان نفسه، ضعف، ثم من بعد ضعف قوة، ثم من بعد قوة ضعفاً وشيبة، قامت الحضارات ثم ضعفت، ثم اندثرت، وجاء الإسلام في بيئة لم تشهد الحضارة منذ زمن بعيد، فكان طعام وشراب ولباس ومسكن وأمراض وأدوية هذه البيئة في صورة بدائية، بدوية، كانت الأمراض المعهودة ضغط الدم وفورانه، فعالجوه بشرطة محجم، تشق الجلد، فيسيل بعض الدم، في أي جزء من أجزاء الجسم، أو بفصد عرق لينزل منه قدر من الدم، ثم يحبس بتراب حصير محروق، أو بطحين بن محروق أو بتسخين حديدة على النار، ثم يكوى بها مكان القطع، فيتوقف الدم. وكان من الأمراض المنتشرة الإسهال وآلام البطن، وعسر الهضم، فعالجوه بشرب العسل، وكان منها ذات الجنب والمغص الناشئ عن تجميع الغازات وعدم انصرافها، فعالجوه بالحبة السوداء أو الكمون أو الينسون، يغلي فيشرب ماؤه المنقوع، وكانت الجروح نتيجة المعارك وغيرها، تورم وتفسد، والدمل يخرج في الجسم ويتكاثر، فعالجوها بالرقى وبعض العقاقير وبالماء، وكان المريض كأي مريض يكره الدواء، ولا يستسيغه، كان يلد، يفتح فمه، على الرغم منه، ثم يصب الدواء المر أو الحامض في جانب من حلقه، ثم يدفع إلى الداخل بالملعقة أو الإصبع، فيبتلعه رغم أنفه، وكان مرضى التهاب الحلق واللوز، المعروف باسم الإنفلونزا، تتورم اللهاة، وتتقيح الغدة، وتلتهب وتحتقن فتحة الحلق، وتسد مداخل الأنف بالبلغم، فعالجوه بالسعوط، وإدخال الدواء من فتحتي الأنف إلى الحلق، وكانت العين والحسد والسموم والسحر، وعولجت بالرقى وغيرها، وسبقت في الباب السابق، وكانت الطيرة والطاعون والكهانة والعدوى والجذام، وسيأتي الكلام عنها في الأبواب اللاحقة. أمراض في بيئة، علاجها المتوارث من البيئة، فما نصيب الرسالة المحمدية في هذه التركة؟ إن محمداً صلى الله عليه وسلم هو المستشار الوحيد فيما وما يجد، وقوله فصل لا مرد له، حتى في أمورهم الخاصة، عملاً بقوله تعالى {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} [النساء: 65] إن رؤياه وحي، وإلهامه وحي، وجبريل ينزل بين الحين والحين، وقد أوحي إليه أن الشاة التي مد يده إليها مسمومة، فرفع يده عنها، وأمر أصحابه بعدم تناولها، فهل يتصور أن يصف لمريض دواء يضره فلا يوحى إليه بدفع الضرر عن الناس الذين أشار عليهم به؟ لقد قال لهم: "إن الله أنزل لكل داء دواء، فتداووا، أيها الناس، ولا تتداووا بمحرم" وقال لهم: "إن كان في أدويتكم خير -وشفاء- ففي شرطة محجم أو شربة عسل، أو لذعة بنار" وأمر الحجام أن يحجم زوجته أم سلمة رضي الله عنها، وأمر أحد أصحابه أن يكوي جريحاً، وقام بنفسه بكي أحد الصحابة، وقال "الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء" وقال: "عليكم بالعود الهندي، فإن

فيه سبعة أشفية، منها ذات الجنب، ويسعط به من العذرة، ويلد من ذات الجنب" وقال: "ما من داء إلا في الحبة السوداء منه شفاء" وقال لأخي الرجل المبطون: اسقه عسلاً، ثلاث مرات، ثم قال له "صدق الله وكذب بطن أخيك". لا يشك مؤمن في صدقه صلى الله عليه وسلم فيما قال، ولا يتصور مسلم أن يأمر صلى الله عليه وسلم بأمر به ضرر للأمة، ولا يتصور مسلم أن ينزل جبريل، فيقر خطأ محمد صلى الله عليه وسلم فيما أمر به الناس، ولكنها الأدوية المتاحة للأمراض الحاصلة، وما كان لينتظر بالمرض حتى تتطور العقاقير وأساليب العلاج، والرقى بالعمليات الجراحية، وإن ظروف الحكم وملابساته جزء من الحكم، لا تفترق عنه، ولو أننا اليوم -ومع هذا التطور- لو حكمت علينا الظروف بما حكمت على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه لتداوينا بمثل دوائهم، ولا تقاس ظروف يسيرة على ظروف عسيرة، ولا يطعن اليوم على دواء كان هو المتاح بالأمس بحجة أنه لا يصلح اليوم، وإنما يسأل: هل كان هناك بالأمس أصلح مما وصف فلم يوصف؟ وهل حصل مما وصف ضرر كان بالإمكان تجنبه؟ نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهو الصادق الأمين. -[المباحث العربية]- (لكل داء دواء) الدواء بفتح الدال ممدود، وحكى جماعة فيه لغة بكسر الدال، قال القاضي: هي لغة الكلاميين، وهي شاذة. والداء خروج الجسم عن المجرى الطبيعي، والمداواة رده إليه، وحفظ الصحة بقاؤه عليه، بإصلاح الأغذية والبعد عن أسباب المرض، ورده يكون بالموافق من الأدوية. وهذا التعميم في "لكل داء دواء" باق على عمومه، ولا يقال: نجد كثيرين من المرضى يداوون، فلا يبرءون، فإنما ذلك لفقد العلم بحقيقة المداواة، لا لفقد الدواء، فدواء كل مرض موجود، لكنه قد يدق، ويخفى على الأطباء. (فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله) أي إذا أصاب الدواء الداء نوعاً وكيفية وكمية وزماناً برأ الداء، ويحتمل برأ المريض، وهو وإن لم يسبق له ذكر، لكن دل عليه الداء والدواء، وفاعل الإصابة هو الله تعالى أي إذا جعل الله الدواء مصيباً الداء برأ بإذن الله وإرادته وتقديره، وما الدواء إلا سبب. وفي البخاري "ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء" والمراد إنزال علم الشفاء للبشرية في الأرض، لكن يعلمه من يعلمه، ويجهله من يجهله، فعند النسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم "ما أنزل الله داء، إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله" وفي رواية زاد في أوله "يا أيها الناس تداووا" وعند أحمد "إن الله حيث خلق الداء خلق الدواء فتداووا" وعنده أيضاً "تداووا يا عباد الله، فإن الله لم يضع داء، إلا وضع له شفاء، إلا داء واحداً الهرم" أي ضعف الشيخوخة، نقص الصحة، فإن ذلك يقرب من الموت، ويفضي إليه، وفي رواية "إلا السام" والسام بتخفيف الميم

الموت، أي المرض الذي قدر لصاحبه الموت منه، فلا دواء له، وفي رواية "إن الله جعل لكل داء دواء، فتداووا، ولا تداووا بحرام". (أنه عاد المقنع) بفتح القاف، وتشديد النون المفتوحة، وهو ابن سنان، تابعي، وفي الرواية الثالثة "جاءنا جابر بن عبد الله في أهلنا" أي في بيتنا، يعود مريضاً "ورجل" من أهلنا "يشتكي خراجاً به، أو جراحاً" الخراج بضم الخاء وفتح الراء مخففة معروف "فقال له: ما تشتكي؟ قال: خراج بي، قد شق علي" أي صعب على تحمل ألمه "فقال: يا غلام" نادى خادم المقنع، وقال له "ائتني بحجام، فقال له" المقنع "ما تصنع بالحجام يا أبا عبد الله؟ قال: أريد أن أعلق فيه محجماً" بكسر الميم وسكون الحاء وفتح الجيم، وهو الآلة التي تجرح أو التي تمص الدم، والإناء الذي يجمع فيه دم الحجامة، وضمير "فيه" للخراج. (قال: والله إن الذباب ليصيبني، أو يصيبني الثوب، فيؤذيني، ويشق علي)؟ أي فكيف أتحمل حجامة في هذا المكان؟ (ثم قال: لا أبرح حتى تحتجم، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن فيه شفاء) أي في الحجم شفاء، والحجم والحجامة بمعنى، وأصل الحجم المص، والمراد هنا شق الجلد، واستخراج الدم بالمص، أما الفصد فهو قطع العرق، وقطع وريد ليسيل منه الدم، وفي الرواية الثالثة "فلما رأى تبرمه من ذلك" أي تضجره وعدم رغبته في الحجامة "قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ". (إن كان في شيء من أدويتكم خير) أي شفاء. (ففي شرطة محجم) بكسر الميم وفتح الجيم، أي شرطة آلة الحجامة، وهذا قياس استثنائي متصل، حذفت منه الصغرى الاستثنائية، ومن المعلوم أن إثبات المقدم يلزمه إثبات التالي، وصورته: إن كان في شيء من أدويتكم شفاء ففي شرطة محجم شفاء، لكن في بعض أدويتكم شفاء إذن في شرطة محجم شفاء. (أو شربة عسل) نحل، و"شربة" بفتح الشين اسم مرة. (أو لذعة بنار) أي كي، واللذع بالذال والعين الخفيف من حرق النار، أما اللدغ بالدال والغين، فهو الضرب أو العض من ذات السم، والكي بالأشعة في أيامنا يقوم مقام الحديدة المحمية في النار، آلة الكي آنذاك. (وما أحب أن أكتوي) لما في الكي من الألم الشديد، فيؤخر العلاج به، لذا قيل: آخر الدواء الكي. (فأمر أبا طيبة أن يحجمها) بفتح الطاء وسكون الياء.

(قال: حسبت أنه قال: كان أخاها من الرضاعة، أو غلاماً لم يحتلم) أي يقول أبو الزبير الراوي عن جابر، أظن أن جابراً علل كشف الحجام لها بأنه كان أخاها من الرضاع، أو كان صغيراً لم يحتلم، ويحتمل أن ذلك كان قبل نزول الحجاب. (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بن كعب طبيباً، فقطع منه عرقاً، ثم كواه عليه) في الرواية السادسة "رمي أبي يوم الأحزاب على أكحله، فكواه رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي أمر الطبيب بكيه، والمراد من الطبيب الحاذق في أمور العلاج، حسب فهمهم وقدراتهم. و"أبي" في الرواية السادسة بضم الهمزة وفتح الباء وتشديد الياء، قال النووي: وهكذا صوابه، وكذا هو في الروايات والنسخ، وهو أبي بن كعب، المذكور في الرواية التي قبل هذه، وصحفه بعضهم فقال: بفتح الهمزة وكسر الباء وتخفيف الياء، وهو غلط فاحش، لأن أبا جابر استشهد يوم أحد، قبل الأحزاب بأكثر من سنة، قال: وأما الأكحل فهو عرق معروف، قال الخليل: هو عرق الحياة، ويقال: هو نهر الحياة، ففي كل عضو منه شعبة، وله فيها اسم منفرد، فإذا قطع في اليد لم يرقأ الدم، وقال غيره: هو عرق واحد، يقال له في اليد: الأكحل، وفي الفخذ النسا، وفي الظهر الأبهر. اهـ وفي المعجم الوسيط: الأكحل وريد في وسط الذراع، يفصد أو يحقن. اهـ والمعنى أن أبي بن كعب أصابته رماية بسهم من المشركين في وريد يده، فكتم الدم من غير نظافة، فذهب إلى الطبيب ففصد العرق من جديد، ونظف الجرح وكواه، والكي يقطع سيلان الدم. (رمى سعد بن معاذ في أكحله) يوم الخندق، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضرب له فسطاط في المسجد، وكان يعوده في كل يوم، ومات من جرحه بعد شهر من الخندق، وبعد يوم واحد من بني قريظة، فقال صلى الله عليه وسلم "اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ". يقال: "رمي على أكحله" كما في الرواية السادسة، أي استعلى السهم وتمكن من العرق، ورمي في أكحله إذا قصد دخول السهم في العرق. (فحسمه النبي صلى الله عليه وسلم بيده) أي فكواه، ليقطع دمه، والحسم في الأصل القطع. (بمشقص) أي بسهم ذي نصل عريض، حماه في النار، ثم كواه به. (ثم ورمت) أي الجراحة. (فحسمه الثانية) أي فكواه المرة الثانية، وخرج صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة، وفي رواية "فانتفخت يده، ونزفه الدم، فلما رأى ذلك قال: اللهم لا تخرج نفسي، حتى تقر عيني في بني قريظة، فاستمسك عرقه، فما قطرت قطرة، حتى نزل بنو قريظة على حكمه. (واستعط) بسكون السين وفتح التاء والعين، أي استعمل السعوط، قال الحافظ ابن حجر: وهو أن يستلقي على ظهره، ويجعل بين كتفيه ما يرفعهما، لينحدر رأسه، ويقطر في أنفه ماء، أو دهن فيه دواء مفرد أو مركب، ليتمكن بذلك من الوصول إلى دماغه، لاستخراج ما فيه من الداء بالعطاس. اهـ أقول: وليست هذه الكيفية بمتعينة، فقد رأينا أناساً يأخذون السعوط بين السبابة والإبهام،

فيسدون بهما فتحتي الأنف، ويستنشقون بقوة، والسعوط قد يكون دواء، يدخل في الأنف، وقد يكون طحين التبغ، يوضع في الأنف، وهو المعروف بالنشوق، وسيأتي في الرواية التاسعة عشرة أنه كان يسعط بالعود الهندي من العذرة. (الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء) "فيح جهنم" بفتح الفاء وسكون الياء، وفي رواية "من فوح جهنم" بالواو، وفي روايتنا السادسة عشرة والسابعة عشرة "من فور جهنم" وكلها بمعنى واحد، والمراد سطوع حرها ووهجه، واختلف في نسبتها إلى جهنم، فقيل: حقيقة، واللهب والحرارة الحاصلة في جسم المحموم قطعة من جهنم، وقدر الله ظهورها بأسباب تقتضيها، ليعتبر العباد بذلك، كما أن أنواع الفرح واللذة من نعيم الجنة، أظهرها في هذه الدار عبرة ودلالة، وفي رواية "الحمى حظ المؤمن من النار" قال الحافظ ابن حجر: وهذا كما تقدم في حديث الأمر، بالإبراد بصلاة الظهر، من أن شدة الحر من فيح جهنم، وأن الله أذن لها بنفسين. وقيل: الحديث هنا ورد مورد التشبيه، والمعنى أن حرارة الحمى شبيهة بحرارة جهنم، تنبيهاً للنفوس على شدة حر جهنم. اهـ قال النووي: وأما "ابردوها"، في "فابردوها بالماء" فبهمزة وصل، وبضم الراء، يقال: بردت الحمى، أبردها، برداً، على وزن قتلتها أقتلها قتلاً، أي أسكنت حرارتها، كما قال في الرواية الأخرى "فأطفئوها بالماء" قال: وهذا الذي ذكرناه، من كونه بهمزة وصل وضم الراء، هو الصحيح الفصيح المشهور في الروايات وكتب اللغة وغيرها، وحكى القاضي عياض في المشارق: أنه يقال بهمزة قطع وكسر الراء في لغة قد حكاها الجوهري، قال: وهي لغة رديئة. اهـ وفي رواية عند ابن ماجه "بالماء البارد" وفي رواية "بماء زمزم". (كانت تؤتى بالمرأة الموعوكة) أي المحمومة، والوعكة المرضة، ووعكة الحمى، يقال: وعك المرض فلاناً، أذاه وأوجعه، ووعكته الحمى، آلمته. (فتدعو بالماء، فتصبه في جيبها) جيب القميص والجلباب الفتحة التي يدخل منه الرأس عند لبسه، والجمع جيوب وأجياب، وفي القرآن الكريم (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) [النور: 31] فالمعنى فتصب الماء من فتحة قميصها على صدرها، وفي ملحق الرواية "صبت الماء بينها وبين جيبها" أي بين جسد الموعوكة وبين فتحة قميصها، ولا يعرف لهذا الوضع من حكمة، ولعله من قبيل النشرة، التي سبق الكلام عنها قريباً. (لددنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه) الذي مات فيه، واللدود بفتح اللام هو الدواء الذي يصب في أحد جانبي فم المريض بغير اختياره، واللدود بالضم الفعل، أي صب الدواء في جانب فم المريض، أو إدخال إصبع في فمه لدفع الدواء، يقال: لددت المريض، وألده، وحكى الجوهري، أيضاً ألددته، رباعياً. ووقع عند الطبراني "أنهم أذابوا قسطاً بزيت، فلدوه به" والقسط العود الهندي وسيأتي قريباً.

(فأشار أن لا تلدوني) "أن لا تلدوني" تفسير للإشارة، وعند البخاري "فجعل يشير إلينا أن لا تلدوني". (فقلنا: كراهية المريض للدواء) قال عياض: ضبطناه بالرفع، أي هذا منه كراهية، وقال أبو البقاء: هو خبر مبتدأ محذوف، أي هذا الامتناع كراهية، ويحتمل النصب على أنه مفعول له، أي نهانا لكراهية الدواء، ويحتمل أن يكون مصدراً، أي كرهه كراهية الدواء، قال عياض: والرفع أوجه من النصب على المصدر. (فلما أفاق) من شدة الألم، ومن غيبوبته التي أعقبت اللدود. (لا يبقى أحد منكم إلا لد) خبر في معنى الأمر، أي لدوا أنفسكم جميعاً، وفي رواية البخاري "لا يبقى أحد في البيت إلا لد وأنا أنظر" أراد بذلك تأديبهم، لئلا يعودوا، وقد جاءت روايات تعين بعض من كن في البيت، فعند ابن سعد "كانت تأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخاصرة فاشتدت به، فأغمي عليه، فلددناه، فلما أفاق قال: هذا من فعل نساء جئن من هنا -وأشار إلى الحبشة .... والله لا يبقى أحد في البيت إلا لد، ولددنا ميمونة، وهي صائمة، وفي رواية "أن أم سلمة وأسماء بنت عميس أشارتا بأن يلدده". (غير العباس، فإنه لم يشهدكم) أي فكان العباس حاضراً ساعة أن أمر صلى الله عليه وسلم باللدود ولم يكن موجوداً ساعة اللدود. (دخلت بابن لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأكل الطعام .... قالت: ودخلت عليه بابن لي، قد أعلقت عليه من العذرة) هو ابن واحد، ودخول واحد، والعبارة توهم أنهما ابنان، وكان حقها أن تقول: دخلت عليه به وقد أعلقت عليه من العذرة، والعذرة بضم العين وسكون الذال هو وجع الحلق، وهو الذي يسمى سقوط اللهاة، وقيل: هو اسم اللهاة، والمراد وجعها، سمي باسمها، وقيل: العذرة موضع قريب من اللهاة، واللهاة بفتح اللام اللحمة البارزة التي في أقصى الحلق، وقد يلتهب هذا المكان ويحتقن بالدم، أو تخرج به قرحة عند الصبيان غالباً، وعادة النساء في معالجة العذرة أن تأخذ المرأة خرقة فتفتلها فتلاً شديداً، وندخلها في أنف الصبي، وتطعن ذلك الموضع، فينفجر منه دم أسود، وذلك الطعن يسمى دغراً، بفتح الدال وسكون الغين، وغدراً، وغمزاً. قال النووي: وأما قولها "أعلقت عليه من العذرة" هكذا هو في جميع نسخ مسلم "عليه" ووقع في صحيح البخاري "فأعلقت عليه" كما هنا، وفي رواية له "أعلقت عنه" بالنون، وهذا هو المعروف عند أهل اللغة، قال الخطابي: المحدثون يروونه "أعلقت عليه" والصواب "عنه" وكذا قاله غيره، وحكاهما بعضهم لغتين، أعلقت عنه وعليه، ومعناه عالجت وجع لهاته بإصبعي. (علام تدغرون أولادكن بهذا العلاق) بفتح التاء والغين، بينهما دال ساكنة، والراء ساكنة، والخطاب للنسوة، قال النووي: "العلاق" بفتح العين، وفي الرواية العشرين، "بهذا الإعلاق" وهو

الأشهر عند أهل اللغة، حتى زعم بعضهم أنه الصواب، وأن العلاق لا يجوز، قالوا: والإعلاق مصدر أعلقت عنه، ومعناه أزلت عنه العلوق، وهي الآفة والداهية، والأعلاق هو معالجة عذرة الصبي، قال ابن الأثير: ويجوز أن يكون العلاق هو الاسم منه. اهـ والمعنى لماذا تغمزن حلق الصبي؟ وتفجرن دم لهاته؟ وفي الرواية العشرين "علامه" قال النووي: هكذا هو في جميع النسخ "علامه" وهي هاء السكت، ثبتت هنا في الدرج. (عليكن بهذا العود الهندي) في الرواية العشرين "عليكم" والعود الهندي يقال له: القسط والكست، أي بالقاف المضمومة والطاء، أو بالكاف المضمومة والتاء، لقرب كل من المخرجين بالآخر، والعرب تقول: كافور وقافور، وكشط وقشط، وعند أحمد وأصحاب السنن "أيما امرأة أصابت ولدها عذرة، أو وجع في رأسه، فلتأخذ قسطاً هندياً، فتحكمه بماء، ثم تسعطه إياه" وعند البخاري "إن أمثل ما تداويتم به الحجامة والقسط البحري، وقال: لا تعذبوا صبيانكم بالغمز من العذرة، وعليكم بالقسط" والقسط صنفان، بحري وهندي، والبحري هو القسط الأبيض، وهو أكثر من صنفين، ونص بعضهم أن البحري أفضل من الهندي، وهو أقل حرارة منه، وقيل هما حاران يابسان في الدرجة الثالثة، والهندي أشد حراً في الجزء الثالث من الحرارة. وهو معروف عند العطارين. (فإن فيه سبعة أشفية) السبعة كناية عن الكثرة في الآحاد، وحاول النووي: أن يجمعها من كتب الطب، فذكر أنه يدر الطمث والبول، وينفع من السموم، ويحرك شهوة الجماع، ويقتل الدود وحب القرع في الأمعاء، إذا شرب بعسل، ويذهب الكلف إذا طلي عليه، وينفع من برد المعدة والكبد، وغير ذلك، وقال: اتفق العلماء على هذه المنافع التي ذكرناها في القسط، فصار ممدوحاً شرعاً وطباً. (منها ذات الجنب) ذات الجنب تطلق بإزاء مرضين، أحدهما ورم حار، يعرض في الغشاء المستبطن، ويحتمل أنه المعروف بالزائدة -والآخر ريح محتقن بين الأضلاع، وبين الصفافات والعضل، فتحدث ألماً ووجعاً، ويحدث بسببه خمسة أعراض: الحمى والسعال والنخس وضيق النفس والنبض المنشاري ويقال لذات الجنب أيضاً وجع الخاصرة، والقسط وهو العود الهندي هو الذي تداوى به الريح الغليظة، وقد أشارت الرواية في آخرها إلى طريقة استعماله، بقولها، "ويلد من ذات الجنب" أي يلد به، ويصب في جانب الحلق للمريض بذات الجنب، كما بينت طريقة استعماله في علاج العذرة بأنه يسعط. (إن في الحبة السوداء شفاء من كل داء، إلا السام) وفي الرواية الثانية والعشرين "ما من داء إلا في الحبة السوداء منه شفاء، إلا السام" وقد فسر الراوي "السام" بالموت، فالموت داء، والشاعر يقول: وداء الموت ليس له دواء، والداء الذي يقع به الموت، أي مرض الموت، والعموم في قوله "من كل داء" مراد به الخصوص، لأنه ليس في طبع شيء من النباتات ما يجمع جميع الأمور، التي تقابل الطبائع المختلفة، فالمراد أنها شفاء من كل داء يحدث من الرطوبة، قال أبو بكر بن العربي: العسل عند الأطباء أقرب إلى أن يكون دواء من كل داء، من الحبة السوداء، ومع ذلك فإن من الأمراض ما لو شرب العسل لتأذى به، فإن كان المراد من قوله في العسل "فيه شفاء للناس" الأكثر والأغلب، فحمل الحبة السوداء على ذلك أولى، وقال غيره: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصف الدواء بحسب ما

يشاهده من حال المريض، فلعل قوله في الحبة السوداء وافق مرض من مزاجه بارد، فيكون معنى قوله "شفاء من كل داء" أي من هذا الجنس الذي وقع القول فيه، والتخصيص بالحيثية كثير شائع. اهـ ومال الحافظ ابن حجر إلى إبقاء العموم، على أن يلاحظ اختلاف الأفراد والأزمنة والكميات والتركيبات، قال: ولا محذور في ذلك، ولا خروج عن ظاهر الحديث. وقد فسر الراوي "الحبة السوداء" بالشونيز، قال النووي: وهذا هو الصواب المشهور الذي ذكره الجمهور. اهـ قال الحافظ ابن حجر: والشونيز بضم الشين وسكون الواو، وكسر النون وسكون الياء، وقال القرطبي: قيد بعض مشايخنا الشين بالفتح، وحكى القاضي عياض عن ابن الأعرابي أنه كسرها، فأبدل الواو ياء، فقال: الشينيز، وتفسير الحبة السوداء بالشونيز لشهرة الشونيز عندهم إذ ذاك، وأما الآن فالأمر بالعكس، والحبة السوداء أشهر عند أهل هذا العصر من الشونيز بكثير، والشونيز هو الكمون الأسود، ويقال له أيضاً: الكمون الهندي، ونقل عن الحسن البصري أنها الخردل، وقيل: هي الحبة الخضراء، وهي البطم، والعرب تسمي الأخضر أسود، والأسود أخضر، وقال الجوهري: هو صمغ شجرة تدعى الكمكام، تجلب من اليمن، ورائحتها طيبة، وتستعمل في البخور، قال الحافظ: وليس هذا مراداً هنا جزماً، وقال القرطبي تفسيرها بالشونيز أولى من وجهين: أحدهما أنه قول الأكثر، والثاني كثرة منافعها، بخلاف الخردل وغيره. (التلبينة مجمة لفؤاد المريض) "التلبينة" بفتح التاء وسكون اللام وكسر الباء، وسكون الياء، بعدها نون ثم هاء، وقد يقال بدون هاء، قال الأصمعي: هي حساء يعمل من دقيق، أو نخالة، ويجعل فيه عسل، قال غيره: أو لبن، سميت تلبينة تشبيهاً لها باللبن في بياضها ورقتها، أو لمخالطة اللبن لها، وقيل: هي دقيق بحت، وقيل: بل فيه شحم، وقيل: حساء في قوام اللبن، يعمل من الدقيق النضيج المحمر، لا النيئ ولعل صناعتها تختلف باختلاف البلاد والعادات، و"مجمة" بفتح الميم والجيم وتشديد الميم الثانية، هذا هو المشهور، وروي بضم أوله وكسر ثانيه، وهما بمعنى، يقال: جم وأجم، والمعنى أنها تريح فؤاده، وتزيل عنه الهم، وتنشطه، والجام بتشديد الميم المستريح، والمصدر الجمام والإجمام، وحكى ابن بطال أنه روي "تخم فؤاد المريض" بالخاء، قال: والمخمة المكنسة. (إن أخي استطلق بطنه) "بطنه" بالرفع فاعل "استطلق" بفتح التاء وسكون الطاء، أي انطلق بطنه، فكثر خروج ما فيه، يريد الإسهال، وضبطه الحافظ ابن حجر بضم التاء، وسكون الطاء وكسر اللام، مبني للمجهول، فبطنه نائب فاعل، أي جعل الله بطنه تنطلق، أو جعل المرض بطنه تنطلق بالإسهال، وفي ملحق الرواية "إن أخي عرب بطنه" بفتح العين وكسر الراء، أي فسد هضمه، لاعتلال المعدة، ومثله ذرب، بالذال بدل العين وزناً ومعنى. (اسقه عسلاً) في رواية "اسقه العسل" والمراد عسل النحل، وهو مشهور عندهم، وظاهره الأمر بسقيه العسل صرفاً، ويحتمل أن يكون ممزوجاً بغيره. (صدق الله وكذب بطن أخيك) قال النووي: والمراد قوله تعالى (يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس) [النحل: 69] وهو العسل، وهذا تصريح منه صلى الله عليه وسلم بأن

الضمير في قوله (فيه شفاء) يعود إلى الشراب الذي هو العسل، وهو الصحيح وهو قول ابن مسعود وابن عباس والحسن وقتادة وغيرهم، وقال مجاهد: الضمير عائد إلى القرآن، وهذا ضعيف، مخالف لظاهر القرآن، ولصريح هذا الحديث الصحيح، قال بعض العلماء: الآية على الخصوص، أي شفاء من بعض الأدواء، ولبعض الناس، وكان داء هذا المبطون مما يشفى بالعسل، وليس في الآية تصريح بأنه شفاء من كل داء، ولكن علم النبي صلى الله عليه وسلم أن داء هذا الرجل مما يشفى بالعسل. والله أعلم. -[فقه الحديث]- يؤخذ من أحاديث الباب، من الرواية الأولى وما بعدها 1 - مشروعية التداوي، قال النووي: فيه استحباب الدواء، وهو مذهب أصحابنا وجمهور السلف وعامة الخلف، وفيه رد على من أنكر التداوي من غلاة الصوفية، وقال: كل شيء بقضاء وقدر، فلا حاجة إلى التداوي، قال: وحجة العلماء هذه الأحاديث، ويعتقدون أن الله تعالى هو الفاعل، وأن التداوي هو أيضاً من قدر الله، وهذا كالأمر بالدعاء، وكالأمر بقتال الكفار، وبالتحصن، ومجانبة الإلقاء باليد إلى التهلكة، مع أن الأجل لا يتغير، والمقادير لا تتأخر ولا تتقدم عن أوقاتها، ولا بد من وقوع المقدرات. اهـ ويقول الحافظ ابن حجر: في قوله صلى الله عليه وسلم -في الرواية الأولى- "فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله عز وجل" الإشارة إلى أن الشفاء متوقف على الإصابة بإذن الله، وذلك أن الدواء قد يحصل معه مجاوزة الحد في الكيفية، فلا ينجع، بل ربما أحدث داء آخر، وفيها كلها إثبات الأسباب، وأن ذلك لا ينافي التوكل على الله، لمن اعتقد أنها بإذن الله، وبتقديره، وأنها لا تنجع بذواتها، بل بما قدره الله تعالى فيها، وأن الدواء قد ينقلب داء إذا قدر الله ذلك، فالمدار كله على تقدير الله وإرادته، والتداوي لا ينافي التوكل، كما لا ينافي دفع الجوع والعطش بالأكل والشرب، وقد يقع لبعض المرضى أنه يتداوى من داء بدواء، فيبرأ، ثم يعتريه ذاك الداء بعينه، فيتداوى بذلك الدواء بعينه، فلا ينجع، والسبب في ذلك الجهل بصفة من صفات الدواء، فرب مرضين تشابها، ويكون أحدهما مركباً، لا ينجع فيه ما ينجع في الذي ليس مركباً، فيقع الخطأ من هنا، وقد يكون متحداً، لكن يريد الله أن لا ينجع فلا ينجع، من هنا قال: قلت: يا رسول الله، أرأيت رقى نسترقيها، ودواء نتداوى به، هل يرد من قدر الله شيئاً؟ قال: "هي من قدر الله تعالى". 2 - ومن الرواية الثانية والثالثة استحباب عيادة المريض. 3 - وسؤاله عن مرضه، واقتراح ما يراه من علاج، والتمسك بالتنفيذ إذا كان أهلاً لذلك. 4 - وأن شكوى المريض من مرضه، وآلامه لا يعد اعتراضاً على القدر. 5 - ورجوع الصحابة لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتزامهم به، وإن شق عليهم أمره.

6 - واستحباب التداوي بالحجامة، وتكون في أجزاء مختلفة من الجسم، تكون في الرأس، وفي وسطه، وعلى الكاهل والخدين وتحت الذقن، وعلى ظهر القدم، وأسفل الصدر، قال الحافظ ابن حجر: ومحل ذلك كله إذا كان عن دم هائج، وصادف وقت الاحتياج إليه، وقد ترجم البخاري بباب الحجامة من الشقيقة والصداع، والشقيقة وجع في أحد جانبي الرأس أو في مقدمه. 7 - واستحباب التداوي بشربة العسل، قال المازري: اعترض بعض الأطباء، فقال: الأطباء مجمعون على أن العسل مسهل، فكيف يوصف لمن به الإسهال؟ -يقصد روايتنا الرابعة والعشرين- قال المازري: هذا الذي قاله المعترض جهالة بينة، وهو فيها كما قال الله تعالى (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه) [يونس: 39]. وقال النووي: إن علم الطب من أكثر العلوم احتياجاً إلى التفصيل، حتى إن المريض يكون الشيء دواءه في ساعة، ثم يصير داء له في الساعة التي تليها بعارض يعرض، من غضب يحمي مزاجه، فيغير علاجه، أو هواء يتغير، أو غير ذلك مما لا تحصى كثرته، فإذا وجد الشفاء بشيء في حالة بالشخص لم يلزم منه الشفاء به في سائر الأحوال، وجميع الأشخاص والأطباء مجمعون على أن المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف السن والزمان والعادة والغداء والتدبير المألوف وقوة الطباع، ثم قال: فإذا عرفت ما ذكرناه فاعلم أن الإسهال يحصل من أنواع كثيرة، منها الإسهال الحادث من التخم، وقد أجمع الأطباء في مثل هذا على أن علاجه بأن يترك الطبيعة وفعلها، وإن احتاجت إلى معين على الإسهال أعينت، مادامت القوة باقية، فأما حبسها فضرر عندهم، فيحتمل أن يكون هذا الإسهال للشخص المذكور في الحديث أصابه من امتلاء، فدواؤه ترك إسهاله على ما هو، أو تقويته، فأمره صلى الله عليه وسلم بشرب العسل فرآه إسهالاً، فزاده عسلاً، إلى أن فنيت المادة، فوقف الإسهال. اهـ وقد ذكر الموفق البغدادي وغيره كثيراً من منافع العسل، منها أنه يجلو الأوساخ التي في العروق والأمعاء، ويدفع الفضلات، ويسخن المعدة تسخيناً معتدلاً، ويفتح أفواه العروق، ويشد المعدة والكبد والكلى والمثانة، وتنقية الكبد والصدر، وإدرار البول والطمث، وينفع من السعال الكائن من البلغم، وإذا أضيف إليه الخل نفع أصحاب الصفراء، وإذا شرب وحده بماء نفع من عضة الكلب، وإذا جعل فيه اللحم الطري حفظ طراوته ثلاثة أشهر، وكذلك الخيار والقرع والليمون ونحو ذلك، ويطول الشعر ويحسنه وينعمه، وإن استن به صقل الأسنان وحفظ صحتها، وهو عجيب في حفظ جثث الموتى، فلا يسرع إليها البلى، ولم يكن يعول قدماء الأطباء في الأدوية المركبة إلا عليه. والله أعلم. 8 - استحباب التداوي بالكي في بعض الأمراض، كعلاج أخير، قال العلماء: وإنما نهي عنه، مع إثباته الشفاء فيه، إما لكونهم كانوا يرون أنه يحسم المادة بطبعه، فكرهه لذلك، وإما لأنهم كانوا يبادرون إليه قبل العلاج بالأدوية، ظناً منهم أنه يحسم الداء، فيتعجل الذي يكتوي التعذيب بالنار، لأمر مظنون، قالوا: ويؤخذ من الجمع بين كراهته صلى الله عليه وسلم للكي، وبين استعماله له، أنه لا يترك مطلقاً، بل يستعمل عند تعينه طريقاً إلى الشفاء، مع مصاحبة اعتقاد

أن الشفاء بإذن الله تعالى، وعلى هذا التفسير يحمل حديث المغيرة، رفعه "من اكتوى أو استرقى فقد برئ من التوكل" أخرجه الترمذي والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم. 9 - ومن الرواية الثامنة والتاسعة الرخصة في مهنة الحجامة، وأن أجرها حلال، وقد سبقت المسألة في الإجارة. 10 - ومن الرواية العاشرة إلى السابعة عشرة علاج الحمى، وإطفاء حرها بالماء، قال الخطابي ومن تبعه: اعترض بعض سخفاء الأطباء على هذا الحديث، فقال: اغتسال المحموم بالماء خطر، يقربه من الهلاك، لأنه يجمع المسام، ويحقن البخار، ويعكس الحرارة إلى داخل الجسم، فيكون ذلك سبباً للتلف، والجواب أن هذا الإشكال صدر عن صدر مرتاب في صدق الخبر، فيقال له أولاً: من أين حملت الأمر على الاغتسال؟ وليس في الحديث الصحيح بيان الكيفية، فضلاً عن اختصاصها بالغسل؟ وإنما في الحديث الإرشاد إلى تبريد الحمى بالماء، واستعمال الماء على وجه ينفع، وأولى ما يحمل عليه كيفية تبريد الحمى ما صنعته أسماء بنت الصديق، فإنها كانت ترش على بدن المحموم شيئاً من الماء، بين يديه وثوبه، فيكون ذلك من باب النشرة المأذون فيها -أي كالرقى- والصحابي- ولا سيما مثل أسماء، التي هي ممن كان يلازم بيت النبي صلى الله عليه وسلم -أعلم بالمراد من غيره. اهـ وقد سبق كلام المازري في العسل، وهو سائغ هنا، وفيما ذكر من الأدوية في هذا الباب، وقد نقل الخطابي عن ابن الأنباري أنه قال: المراد بقوله "فأبردوها بالماء" الصدقة به، قال ابن القيم: أظن الذي حمل قائل هذا أنه أشكل عليه استعمال الماء في الحمى، فعدل إلى هذا، وله وجه حسن، لأن الجزاء من جنس العمل، فكأنه لما أخمد لهيب العطشان بالماء أخمد الله لهيب الحمى عنه، قال: لكن هذا يؤخذ من فقه الحديث وإشارته، وأما المراد به بالأصل فهو استعماله في البدن حقيقة. والله أعلم. 11 - ومن الرواية قبل السادسة عشرة أن جهنم مخلوقة، قال النووي: فيه دليل لأهل السنة أن جهنم مخلوقة الآن، وموجودة. 12 - ومن الرواية السابعة عشرة، من إشارته صلى الله عليه وسلم أن لا يلدوه، أن الإشارة المفهمة تقوم مقام صريح العبارة. 13 - وفي الأمر باللدود لمن في البيت تعزير المعتدي بنحو من فعله الذي تعدى به، وقال بعضهم: فيه مشروعية القصاص في جميع ما يصاب به الإنسان عمداً، قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر، لأن الجميع لم يتعاطوا ذلك، وإنما فعل بهم ذلك عقوبة لهم، لتركهم امتثال نهيه عن ذلك، أما من باشره فظاهر، وأما من لم يباشره فلكونهم تركوا نهيهم عما نهاهم هو عنه. 14 - قال بعضهم: ويستفاد منه أن التأويل البعيد لا يعذر به صاحبه. قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر أيضاً، لأن الذي وقع كان في معارضة النهي، قال ابن العربي: أراد أن لا يأتوا يوم القيامة وعليهم حقه، فيقعوا في خطب عظيم، وتعقب بأنه كان يمكن أن يعفو، لأنه كان لا ينتقم لنفسه، قال: والذي يظهر أن ذلك لقصد تأديبهم، لئلا يعودوا، فكان ذلك تأديباً، لا قصاصاً، ولا انتقاماً.

15 - ومن الرواية التاسعة عشرة أن بول الصبي الذي لم يبلغ الطعام لا يجب غسله، ويكفي الرش ونضح الماء عليه. 16 - وتواضعه صلى الله عليه وسلم ورفقه ورأفته. 17 - واستحباب استعمال العود الهندي. 18 - ومن الرواية الواحدة والعشرين والثانية والعشرين فضيلة الحبة السوداء في التداوي بها، وقد ذكر الأطباء استعمالها في علاج الزكام، العارض معه عطاس كثير، وقالوا: تقلى الحبة السوداء ثم تدق ناعماً، ثم تنقع في زيت، ثم يقطر منه في الأنف ثلاث قطرات، وربما استعملت مفردة، وربما استعملت مركبة، وربما استعملت مسحوقة وغير مسحوقة، وربما استعملت أكلاً وشرباً وسعوطاً وضماداً وغير ذلك، وقال أهل العلم بالطب: إن طبع الحبة السوداء حار يابس، وهي مذهبة للنفخ، نافعة للبلغم، مفتحة للسدد والريح، وإذا دقت وعجنت بالعسل وشبت بالماء الحار أذابت الحصاة، وأدرت البول والطمث إلى غير ذلك من الفوائد الكثيرة. والله أعلم

(597) باب الطاعون

(597) باب الطاعون 5038 - عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أنه سمعه يسأل أسامة بن زيد، ماذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطاعون؟ فقال أسامة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطاعون رجز أو عذاب أرسل على بني إسرائيل أو على من كان قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه" وقال أبو النضر. لا يخرجكم إلا فرار منه. 5039 - عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطاعون آية الرجز ابتلى الله عز وجل به ناساً من عباده، فإذا سمعتم به فلا تدخلوا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تفروا منه" هذا حديث القعنبي وقتيبة نحوه. 5040 - عن أسامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الطاعون رجز سلط على من كان قبلكم أو على بني إسرائيل، فإذا كان بأرض فلا تخرجوا منها فراراً منه، وإذا كان بأرض فلا تدخلوها". 5041 - عن عامر بن سعد أن رجلاً سأل سعد بن أبي وقاص عن الطاعون. فقال أسامة بن زيد: أنا أخبرك عنه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هو عذاب أو رجز أرسله الله على طائفة من بني إسرائيل أو ناس كانوا قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوها عليه، وإذا دخلها عليكم فلا تخرجوا منها فراراً". 5042 - عن أسامة بن زيد رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنه قال إن هذا الوجع أو السقم رجز عذب به بعض الأمم قبلكم، ثم بقي بعد بالأرض فيذهب

المرة ويأتي الأخرى، فمن سمع به بأرض فلا يقدمن عليه، ومن وقع بأرض وهو بها فلا يخرجنه الفرار منه". 5043 - عن حبيب قال: كنا بالمدينة فبلغني أن الطاعون قد وقع بالكوفة. فقال لي عطاء بن يسار وغيره: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كنت بأرض فوقع بها فلا تخرج منها، وإذا بلغك أنه بأرض فلا تدخلها" قال: قلت: عمن؟ قالوا: عن عامر بن سعد يحدث به. قال: فأتيته. فقالوا: غائب. قال: فلقيت أخاه إبراهيم بن سعد، فسألته. فقال: شهدت أسامة يحدث سعداً قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن هذا الوجع رجز أو عذاب أو بقية عذاب عذب به أناس من قبلكم، فإذا كان بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها، وإذا بلغكم أنه بأرض فلا تدخلوها". -قال حبيب فقلت: لإبراهيم آنت سمعت أسامة يحدث سعداً وهو لا ينكر؟ قال: نعم. 5044 - وفي رواية عن شعبة بهذا الإسناد، غير أنه لم يذكر قصة عطاء بن يسار في أول الحديث. 5045 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام، حتى إذا كان بسرغ لقيه أهل الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام. قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين. فدعوتهم. فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا. فقال بعضهم: قد خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه. وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء. فقال: ارتفعوا عني. ثم قال: ادع لي الأنصار. فدعوتهم له، فاستشارهم. فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم. فقال: ارتفعوا عني. ثم قال: ادع لي من كان ها هنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح. فدعوتهم فلم يختلف عليه

رجلان. فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء. فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه. فقال أبو عبيدة بن الجراح: أفراراً من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة -وكان عمر يكره خلافه- نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله: أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت وادياً له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة أليس أن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة، رعيتها بقدر الله؟ . قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف، وكان متغيباً في بعض حاجته، فقال: إن عندي من هذا علماً، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه". قال: فحمد الله عمر بن الخطاب ثم انصرف. 5046 - عن معمر قال: وقال له أيضاً: أرأيت أنه لو رعى الجدبة وترك الخصبة أكنت معجزه؟ قال: نعم. قال: فسر إذا. قال: فسار حتى أتى المدينة. فقال: هذا المحل، أو قال: هذا المنزل إن شاء الله. 5047 - عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أن عمر خرج إلى الشام، فلما جاء سرغ بلغه أن الوباء قد وقع بالشام. فأخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه" فرجع عمر بن الخطاب من سرغ. وعن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله؛ أن عمر إنما انصرف بالناس من حديث عبد الرحمن بن عوف. -[المعنى العام]- من المعلوم أن الأمراض ابتلاء من الله تعالى لمخلوقاته، واختبار لهم أيصبرون؟ أم يتبرمون؟ أيشكرون على الضراء؟ أم يسخطون، أيذكرون فضل نعمة الصحة؟ أم يتناسون وينسون؟ أيلجئون إلى الله تعالى؟ فيطلبون منه رفع البلاء؟ أم يلجئون إلى معلوماتهم البسيطة وأعشابهم وأطبائهم؟ أيلجئون إلى الأسباب العادية وحدها؟ أم يلجئون إلى مسبب الأسباب، ورب السبب والمسبب جميعاً؟

إن العرب قبل الإسلام كانوا إذا مسهم الضر في البحر، ضل من يدعون إلا إياه، فلما ينجيهم إلى البر يكفرون، وإن فرعون وقومه لما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك، لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل، فلما كشف عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون. جاء الإسلام حريصاً على أن يربط العبد بربه في السراء والضراء، وأن يؤكد له أن المرض والشفاء بيد الله، وأن الأسباب إنما هي من الله، ونتائجها بقدر الله، فلا يعتمدوا الأسباب وحدها، ولا يتواكلوا ويبعدوا عن اتخاذها بل عليهم أن يتداووا، ثم يتوكلوا على الله ويدعوه، كما جاء في حديث "اعقلها وتوكل" عليهم أن لا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة، وأن يحذروا مواطن الضرر، وأن يفوضوا مع ذلك نتائج الأمور كلها إلى الله. كانت الجرعة التي سقاهم إياها الإسلام، ليسندوا الأشياء إلى الله كبيرة "لا عدوى ولا طيرة، ولا هامة ولا صفر" "من أعدى الأول"؟ "يدخل الجنة سبعون ألف بغير حساب، لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون" فغلب كثير من السابقين جانب التوكل، والتفويض إلى قدر الله، على جانب الحذر والحيطة والأخذ بالأسباب، وغلب الآخرون الجانب الآخر. ظهر هذان الاتجاهان حين خرج أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشام لزيارتها، بعد أن فتحها جند الإسلام، وقسمت إمارات: الأردن وحمص، ودمشق، وفلسطين، وإجنادين، وأمر عليها أبا عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة. خرج الأمراء ووجهاء البلاد لاستقبال أمير المؤمنين خارج البلاد، في مدينة تسمى "سرغ" وكان وباء الطاعون قد انتشر كالنار في الهشيم، بين الناس في الشام، فأخبر أمراء الشام أمير المؤمنين بذلك، ونصحه بعضهم بالعودة إلى المدينة وعدم دخول الشام، هو ومن معه من صفوة الصحابة وسابقيهم من مهاجرين وأنصار، خوفاً عليهم من العدوى، وحذراً من الإلقاء بهم إلى التهلكة، وأشار عليه آخرون بالدخول، وإنجاز ما قدم لأجله، والتوكل على الله فكل شيء بأمره وقدره. وضرب عمر المثل في الشورى، فلم يقطع برأي، ونادى عبد الله بن عباس، وأمره أن يدعو إليه المهاجرين الأولين، فدعاهم إليه، فاستشارهم في الأمر، فأشار بعضهم بعدم الدخول، وأشار بعضهم بالدخول، فأغضب عمر اختلافهم، فصرفهم، وأمر ابن عباس أن يدعو إليه الأنصار، فدعاهم إليه، فاستشارهم، فاختلفوا كما اختلف المهاجرون، قال بعضهم: قد جئت لأمر، فلا ترجع عنه وامض لما جئت به، وادخل، وتوكل على الله، وقال بعضهم: إن معك خيرة الصحابة وكبارهم، فلا تعرضهم للوباء، ولا تدخل بهم عليه، فازداد عمر غضباً لاختلافهم، فصرفهم، وأمر ابن عباس أن يدعو إليه كبار قريش الذين أسلموا حديثاً، عند فتح مكة، فدعاهم إليه، فاستشارهم، فأجمعوا جميعاً على الرجوع، لم يشذ منهم أحد، فقرر عمر رضي الله عنه الرجوع بمن جاء معه، وأمر المنادي أن ينادي في الناس: إن أمير المؤمنين قد عزم على العودة إلى المدينة في الصباح، فاستعدوا للسفر، وكان أبو عبيدة قد رجح عنده أن الدخول أفضل، فقال لعمر: أترجع خوفاً من الوباء؟ وفراراً من قدر الله؟ وكان عمر قوياً في الحق، حازماً في اتخاذ القرار، لا يحب أن يخالفه أحد، فأجاب بشدة: لو غيرك قال هذا يا أبا عبيدة لأدبته،

كيف يخفى عليك وأنت من أنت أمر الحيطة والحذر وعدم إلقاء النفس إلى التهلكة، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، فإن دخلنا فبقدر الله، وإن رجعنا فبقدر الله، أخبرني يا أبا عبيدة: لو نزلت بإبلك في أرض، يمينها خصبة، وشمالها جدبة، إن وجهت إبلك إلى الخصبة رعيت بقدر الله، وإن وجهتها إلى الجدبة لم ترع، وبقدر الله، ولم يكن أحد يحفظ الحديث الذي يقطع النزاع، والذي جاء به عبد الرحمن بن عوف في الليل، وكان حين المنازعة غائباً، فلما جاء في الليل قال لعمر وصحابته: إن عندي علماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يفصل في القضية: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الطاعون عذاب بعثه الله على من كان قبلكم، فإذا انتشر بأرض فلا يخرج منها من كان فيها، ولا يدخلها من كان خارجها. ورجع أبو عبيدة وأصحابه إلى بلادهم بلاد الوباء، ورجع عمر بأصحابه إلى المدينة، وكان قدر الله، توفي في هذا الطاعون طاعون عمواس أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وامرأته وابنه، وخمسة وعشرون ألفاً، وفيهم من الصحابة كثيرون. رضي الله عنهم أجمعين. -[المباحث العربية]- (عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أنه سمعه يسأل أسامة بن زيد) ظاهر هذه الرواية أن سعد بن أبي وقاص هو الذي سأل أسامة عما سمع، وفي الرواية الرابعة "أن رجلاً سأل سعد بن أبي وقاص عن الطاعون؟ فأجاب أسامة الرجل، وفي الرواية السادسة "أن أسامة حدث سعداً" وفي ملحقها "أن أسامة وسعداً تحدثا" ولا تعارض، فالرجل سأل سعداً، يظنه العليم بالخبر، فتطوع أسامة بالجواب للرجل ولسعد، ووافق سعد أسامة وصدقه، فنسب إلى كل منهما الجواب، ونسب إلى سعد وإلى الرجل السؤال. (ماذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطاعون)؟ أي في الدخول والخروج إلى ومن بلد الطاعون؟ والطاعون فاعول من الطعن، يقال: طعن فهو مطعون وطعين، أي أصابه الطاعون. والطاعون وباء معين، لأن الوباء هو المرض الذي يعم الكثيرين من الناس في جهة من الجهات، مغاير للمعتاد، فالمعتاد أمراض مختلفة، أما الوباء فهو مرض واحد ينتشر بكثرة بشكل واحد، وأعراض واحدة، وقد كثر إطلاق الوباء على الطاعون، كأنهما مترادفان، حتى كانت عبارة اللغويين توهم ذلك. قال الخليل: الطاعون الوباء، والصحيح أن الوباء يعم أمراضاً، إن سميت طاعوناً فمن حيث شبهها به في الهلاك، فكل طاعون وباء، وليس كل وباء طاعوناً، وهذا التشابه في الإطلاق هو الذي جعل العلماء يطلقون الطاعون على أمراض ذات أعراض مختلفة، فصاحب النهاية يقول: الطاعون المرض العام، الذي ينسد له الهواء، وتفسد به الأمزجة والأبدان. وأبو بكر بن العربي يقول: الطاعون الوجع الغالب، الذي يطفئ الروح، كالذبيحة، سمي بذلك لعموم مصابه، وسرعة قتله، والداودي يقول: الطاعون حبة تخرج من الأرقاع، وفي كل طي من الجسد. والقاضي عياض يقول: الطاعون في الأصل القروح الخارجة في الجسد. وابن عبد البر يقول: الطاعون غدة، تخرج في المراق -أي في الأجزاء الرقيقة اللينة الجلد- والآباط، وقد تخرج في الأيدي، والأصابع وحيث شاء الله.

والنووي في الروضة يقول: قيل: الطاعون انصباب الدم إلى عضو، وقال آخرون: هو هيجان الدم وانتفاخه. والمتولي يقول: هو قريب من الجذام، من أصابه تآكلت أعضاؤه، وتساقط لحمه. والغزالي يقول: هو انتفاخ في جميع البدن من الدم مع الحمى، أو انصباب الدم إلى بعض الأطراف، فينتفخ ويحمر، وقد يذهب ذلك العضو، والنووي يقول في التهذيب: هو بثر وورم مؤلم جداً، يخرج مع لهب، ويسود ما حواليه، أو يخضرن أو يحمر حمرة شديدة بنفسجية كدرة، ويحصل معه خفقان وقيء، ويخرج غالباً في المراق والآباط، وقد يخرج في الأيدي والأصابع وسائر الجسد، وقال جماعة من الأطباء، منهم أبو علي بن سينا: الطاعون مادة سمية تحدث ورما قتالاً، يحدث في المواضع الرخوة والمغابن من البدن، وأغلب ما تكون تحت الإبط، أو خلف الأذن، أو عند الأرنبة، قال: وسببه دم رديء، مائل إلى العفونة والفساد، يستحيل إلى جوهر سمي، يفسد العضو، ويغير ما يليه، ويؤدي إلى القلب كيفية رديئة، فيحدث القيء والغثيان والغشي والخفقان، وهو لرداءته لا يقبل من الأعضاء إلا ما كان أضعف بالطبع، وأردؤه ما يقع في الأعضاء الرئيسية، والأسود منه قل من يسلم منه، وأسلمه الأحمر، ثم الأصفر. اهـ قال الحافظ ابن حجر: هذا ما بلغنا من كلام أهل اللغة وأهل الفقه والأطباء في تعريفه، والحاصل أن حقيقته ورم ينشأ عن هيجان الدم، أو انصباب الدم إلى عضو فيفسده، وإن غير ذلك من الأمراض العامة الناشئة عن فساد الهواء، يسمى طاعوناً بطريق المجاز، لاشتراكهما في عموم المرض، أو كثرة الموت. اهـ ثم حاول الحافظ ابن حجر أن يوفق بين ما قاله عن حقيقة الطاعون ومنشئه وبين حديث "فناء أمتي بالطعن والطاعون. قيل: يا رسول الله، هذا الطعن قد عرفناه، فما الطاعون؟ قال: وخز أعدائكم من الجن" أخرجه أحمد، والحاكم وابن خزيمة وصححاه والطبراني، ودافع عن صحة الحديث بما لا يسلم له، وقال: كون الطاعون من طعن الجن لا يخالف ما قال الأطباء، من كونه ينشأ عن هيجان الدم أو انصبابه، لأنه يجوز أن يكون ذلك يحدث عن الطعنة الباطنة، فتحدث منها المادة السمية، ويهيج الدم بسببها أو ينصب وإنما لم يتعرض الأطباء لكونه من طعن الجن لأنه أمر لا يدرك بالعقل، وإنما يعرف من الشارع، فتكلموا في ذلك على ما اقتضته قواعدهم. قال الكلاباذي في معاني الأخبار: يحتمل أن يكون الطاعون على قسمين، قسم يحصل من غلبة بعض الأخلاط، من دم أو صفراء محترقة، أو غير ذلك وقسم يكون من وخز الجني، كما تقع الجراحات من القروح التي تخرج في البدن من غلبة بعض الأخلاط، وإن لم يكن هناك طعن، وتقع الجراحات أيضاً من طعن الإنس. اهـ قال: ومما يؤيد أن الطاعون إنما يكون من طعن الجن وقوعه غالباً في أعدل الفصول، وفي أصح البلاد هواء، وأطيبها ماء، ولأنه لو كان بسبب فساد الهواء لدام في الأرض، لأن الهواء يفسد تارة ويصح أخرى، وهذا يذهب أحياناً، ويجيء أحياناً، ويجيء أحياناً على غير قياس ولا تجربه، فربما جاء سنة على سنة، وربما أبطأ سنين، وبأنه لو كان كذلك لعم الناس والحيوان والموجود بالمشاهدة أنه يصيب الكثير، ولا يصيب من هم بجانبهم ممن هو في مثل مزاجهم، ولو كان كذلك لعم جميع البدن، وهذا يختص بموضع من الجسد، ولا يتجاوزه، ولأن فساد الهواء يقتضي تغير الأخلاط، وكثرة الأسقام، وهذا في الغالب يقتل بلا مرض، فدل على أنه من طعن الجن. اهـ

وهذا الذي قاله الحافظ ابن حجر -رحمه الله- غير مقبول، وما استدل به مردود معارض، والجن المشهور اصطلاحاً بأنه خلق من خلق الله، وجنس من مخلوقاته كالإنس، وأنه يرانا من حيث لا نراه، وأنه يعيش معنا، وعلى أرضنا، لا سلطان له علينا إلا بالوسوسة، وصدق الله العظيم إذ يقول {وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم} [إبراهيم: 22] ولو أن للجن أن يطعن الإنس بغير سلاح لكتموا أنفاس بني آدم جميعاً في لحظات، ولو أن للجن قدرة على طعن الإنس لطعن في أصعب الفصول كأعدلها، وفي أفسد البلاد هواء كأصحها، وفي أخبث الماء كأطيبه، إذ لا فرق عنده، ولدام في الأرض بدوام عبث الجن وإفساده، ولعم الناس والحيوان، لأن الجن إذا قدروا على طعن الإنسان قدروا على طعن الحيوان، وعلى طعن الإنسان في كل مكان لا مكان دون مكان، فكل ما قاله الحافظ كدليل، لا ينتج الدعوى، ولا يفيد في الاستدلال، ولو أنه حين ردد أسباباً للمرض غير معقولة، وغير منتجة رد ذلك كله إلى قدرة الله تعالى لكان خيراً. ثم إن الحديث الذي حاول الحافظ تصحيحه غير صحيح ولا يعمل بمثله في العقائد، وعلى فرض صحته فالجن في اللغة كل ما استتر، والميكروب أو الفيروس مخلوقات خفية، لا ترى بالعين المجردة، وهي في الطب والعقل والإدراك هي سبب الآلام والوخز، وكون الوباء ينتشر في الكثيرين له أسبابه المعروفة بالعدوى، وكونه يصيب شخصاً ولا يصيب من بجواره له تعليله الطبي والعقلي وسيأتي مزيد لهذه المسألة عند الكلام على أنه عذاب من عند الله، وأنه لا يدخل إليه خارج عنه، ولا يخرج عنه من هو داخل فيه. (الطاعون رجز -أو عذاب- أرسل على بني إسرائيل -أو على من كان قبلكم) الرجز، ووقع "رجس" بالسين، وبالزاي هو المعروف، وهو العذاب، وبالسين هو الخبيث أو النجس أو القذر، وجزم الفارابي والجوهري بأنه بالسين يطلق على العذاب أيضاً، ومنه قوله تعالى {كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون} [الأنعام: 125] وحكاه الراغب أيضاً، والرواية هنا على الشك من الراوي فيما سمع، هل سمع لفظ "رجز" أو لفظ "عذاب" وفي الرواية الثالثة "إن هذا الطاعون رجز" بدون شك، وفي الرواية الثانية "الطاعون آية الرجز" أي علامة العذاب، على معنى أن آلامه والموت به عذاب على العاصين، والمرض نفسه علامة على هذا الألم، ففي الرواية الخامسة "إن هذا الوجع أو السقم رجز". والرواية هنا "أرسل على بني إسرائيل، أو على من كان قبلكم" بالشك من الراوي، وبنو إسرائيل كانوا قبلنا، لكنهم بعض من كان قبلنا، فالتنصيص على بني إسرائيل أخص، والمراد أيضاً بعض بني إسرائيل، لا كلهم، ففي الرواية الرابعة "أرسله الله على طائفة من بني إسرائيل" وفي الرواية الخامسة "عذب به بعض الأمم قبلكم" أي بعض أمة من الأمم قبلكم "ثم بقي بعد" أي بعد هذا الابتلاء، أي بقي ميكروبه غير مصيب ومؤثر على أحد، أو بقي أمره والابتلاء به متوقعاً بأهل الأرض "فيذهب" كوباء من الأرض "المرة، ويأتي" كوباء "الأخرى" والظاهر أن المراد بقاء ميكروبه، ففي الرواية السادسة "إن هذا الوجع رجز، أو عذاب، أو بقية عذاب، عذب به أناس من قبلكم" ويرى بعض العلماء أن الإشارة إلى من قبلنا من غير بني إسرائيل إشارة إلى ما وقع في قوم فرعون، أيام موسى

عليه السلام، إذ أخرج الطبري وابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير قال "أمر موسى بني إسرائيل أن يذبح كل رجل منهم كبشاً، ثم ليخضب كفه في دمه، ثم ليضرب به على بابه، ففعلوا، فسألهم القبط عن ذلك؟ فقالوا: إن الله سيبعث عليكم عذاباً، وإنما ننجو منه بهذه العلامة، فأصبحوا وقد مات من قوم فرعون سبعون ألفاً، فقال فرعون عند ذلك لموسى {ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك} [الأعراف: 134] الآية فدعا، فكشفه الله عنهم "قال الحافظ ابن حجر: وهذا الخبر مرسل جيد الإسناد، وأخرج عبد الرزاق في تفسيره، والطبري من طريق الحسن، في قوله تعالى {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت} قال: فروا من الطاعون {فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم} [البقرة: 243] ليكملوا بقية آجالهم". والإشارة إلى بني إسرائيل إشارة إلى ما جاء في قصة بلعام، اعتماداً على ما أخرج الطبري، من طريق سليمان التيمي أحد صغار التابعين، عن سيار: أن رجلاً كان يقال له بلعام، كان مجاب الدعوة، وأن موسى أقبل في بني إسرائيل، يريد الأرض التي فيها بلعام، فأتاه قومه، فقالوا له: ادع الله عليهم. فقال: حتى أؤامر ربي، فمنع، فأتوه بهدية فقبلها، وسألوه ثانياً، فقال: حتى أؤامر ربي، فلم يرجع إليه بشيء، فقالوا: لو كره لنهاك، ادع عليهم، فدعا عليهم، فصار يجري على لسانه ما يدعو به على بني إسرائيل فينقلب على قومه، فلاموه على ذلك، فقال: سأدلكم على ما فيه هلاكهم، أرسلوا النساء، في عسكرهم، ومروهن أن لا يمتنعن من أحد، فعسى أن يزنوا فيهلكوا، ففعلوا، فوقع الطاعون في بني إسرائيل، فمات منهم سبعون ألفاً في يوم، والمقلل يقول: عشرون ألفاً. وذكر ابن إسحق أن الله أوحى إلى داود عليه السلام، أن بني إسرائيل كثر عصيانهم، فخيرهم بين ثلاث: إما أن يبتليهم بالقحط، أو بالعدو، أو بالطاعون ثلاثة أيام، فأخبرهم، فقالوا: اختر لنا، فاختار الطاعون، فمات منهم -إلى أن زالت الشمس- سبعون ألفاً، وقيل: مائة ألف، فتضرع داود إلى الله تعالى، فرفعه. فيحتمل أن تكون "أو" بمعنى الواو، من قبيل عطف المغاير، ويراد بمن قبلنا، من غير بني إسرائيل ويكون المعنى: أرسل على بني إسرائيل، وعلى أقوام غيرهم ممن كان قبلنا. (فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه) الصحيح أن علة النهي عن القدوم عليه التحرز من العدوى. فإن السليم إذا دخل أرض وباء معد، لعرض نفسه للعدوى والإصابة، والنهي عن خروج من وقع الطاعون بأرض هو بها، عدم نقل العدوى من مكان الوباء إلى غيره، ومنع انتشاره، وهذا هو المعروف في عرف الطب في أرقى العصور بالعزل الصحي، أو الحجر الصحي، أي محاصرة المرض المعدي في أضيق حدوده، وهذا لا يتعارض مع الإيمان بالقضاء والقدر، ولا مع أن العدوى لا تؤثر بنفسها، بل بإرادة الله تعالى، وسيأتي مزيد لهذه المسألة. وقيل: إن حكمة النهي عن القدوم عليه أن لا يندم من قدم عليه فأصيب بتقدير الله تعالى، فيقول: لولا أني قدمت هذه الأرض لما أصابني، يا ليتني لم أقدم إليها، مع أنه ربما لو أقام في الموضع الذي كان فيه لأصابه، فأمر أن لا يقدم عليه حسماً لهذا الندم، لا للوقاية الفعلية، ونهي من وقع وهو بها أن

يخرج من الأرض التي نزل بها الطاعون، لئلا يقول إذا خرج ونجا: لو أقمت بها لأصابني ما أصاب أهلها، مع أنه لو أقام بها ربما لم يصبه المرض، فالمنع من الخروج لئلا ينجرف إلى اعتماد الأسباب العادية، وينسى أو يقلل من تقدير الله، ويؤيد هذا التعليل ما أخرجه الهيثم بن كليب والطحاوي والبيهقي بسند حسن، عن أبي موسى أنه قال: "إن هذا الطاعون قد وقع، فمن أراد أن يتنزه عنه فليفعل، واحذروا اثنتين: أن يقول قائل: خرج خارج فسلم، وجلس جالس فأصيب، فلو كنت خرجت لسلمت، كما سلم فلان، أو لو كنت جلست لأصبت، كما أصيب فلان". والنهي عن القدوم على الطاعون في بلده مطلق، سواء كان له بهذه البلد حاجة، أو لم يكن، لذا سنجد عمر رضي الله عنه يمتنع عن الدخول، مع أن له به حاجة، أما النهي عن الخروج فقيد بأن يكون السبب والدافع للخروج الفرار من الوباء، فإن كانت هناك حاجة إلى الخروج غير الفرار فلا يدخل في النهي، فالصور ثلاث: الخروج قصد الفرار محضاً، فهذا يتناوله النهي لا محالة، والخروج للحاجة محضاً لا يشوبها قصد فرار، والخروج للحاجة والفرار. وسيأتي الكلام عن ذلك في فقه الحديث. ووقع في آخر الرواية الأولى "وقال أبو النضر: لا يخرجكم إلا فرار منه" فالرواية الأولى رواية محمد بن المنكدر، ولا إشكال فيها، والرواية الثانية رواية أبي النضر، وقد رويت برفع "فرار" ونصبها في روايات البخاري قال النووي: وقع في بعض النسخ -نسخ مسلم- "فرار" بالرفع وفي بعضها "فراراً" بالنصب، وكلاهما مشكل من حيث العربية والمعنى، وقال ابن عبد البر: أهل العربية يقولون: دخول "إلا" هنا، بعد النفي لإيجاب بعض ما نفي قبل من الخروج، فإنه نهي عن الخروج إلا للفرار خاصة، وهو ضد المقصود، فإن المنهي عنه إنما هو الخروج للفرار خاصة، لا لغيره، وقال الكرماني: الجمع بين قول ابن المنكدر "لا تخرجوا فراراً منه" وبين قول أبي النضر "لا يخرجكم إلا فراراً منه" مشكل، فإن ظاهره التناقض، وقد حاول الجمع بما لا يسلم، كما حاول غيره، بأن جعل "إلا" حالاً من الاستثناء، أي لا تخرجوا إذا لم يكن خروجكم إلا للفرار، وكما حاول القاضي عياض، باللجوء إلى رواية الموطأ "لا يخرجكم إلا فراراً" بأداة التعريف، وبعدها "إفرار" بكسر الهمزة، قال: وهو وهم ولحن، وحاول تبرير رواية الموطأ في مكان آخر، فقال: يجوز أن تكون الهمزة للتعدية، يقال: أفره كذا من كذا، أي لا يخرجكم إفراره إياكم. قال القرطبي في المفهم: هذه الرواية غلط، لأنه لا يقال: أفر، وإنما يقال: فرر. اهـ والذي نستريح إليه ما قاله جماعة من العلماء، من أن إدخال "إلا" في هذه الرواية غلط، أو ما قاله بعضهم من أن "إلا" زائدة، عند من يجيز زيادتها. والله أعلم. (كنا بالمدينة، فبلغني أن الطاعون قد وقع بالكوفة) سيأتي قريباً استعراض ما قيل في الطواعين التي وقعت في صدر الإسلام، قال النووي: وكان بالكوفة طاعون سنة خمسين، وهو الذي مات فيه المغيرة بن شعبة. (أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام) سنة ثماني عشرة، وقيل سبع عشرة. (حتى إذا كان بسرغ) بفتح السين، وسكون الراء بعدها غين، وحكى القاضي وغيره أيضاً فتح

الراء، والمشهور إسكانها، ويجوز صرفه، وترك صرفه، وهي قرية في طرف الشام، مما يلي الحجاز، افتتحها أبو عبيدة، وهي واليرموك والجابية متصلات، وبينها وبين المدينة ثلاث عشرة مرحلة. (لقيه أهل الأجناد، أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه) وهم خالد بن الوليد، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وعمرو بن العاص، وكان أبو بكر قد قسم البلاد بينهم، وجعل أمر القتال إلى خالد، ثم رده عمر إلى أبي عبيدة، وكان عمر قد قسم الشام أجناداً، جمع جند، بضم الجيم وسكون النون، أي مناطق جنود، الأردن جند، وحمص جند، ودمشق جند، وفلسطين جند، وقنسرين جند، وجعل على كل جند أميراً، وفي رواية "لقيه أمراء الأجناد" أي استقبلوه خارج بلادهم استقبال ترحيب وتشريف. (فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام) في رواية للبخاري "أن الطاعون قد وقع بأرض الشام" ولا مخالفة، فكل طاعون وباء، كما سبق، وفي رواية "أن الوجع قد وقع بالشام" وكل طاعون وجع. من غير عكس. (قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين) أي قال عمر لابن عباس: ادع لي المهاجرين الأولين، قال القاضي: المراد بهم من صلى إلى القبلتين، فأما من أسلم بعد تحويل القبلة فلا يعد فيهم، وفي رواية "اجمع لي المهاجرين الأولين". (فقال بعضهم: قد خرجت لأمر، ولا نرى أن ترجع عنه) أي خرجت لدخول الشام، ونرى أن تدخل. (وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء) والمراد من "بقية الناس" الصحابة، أطلق عليهم ذلك تعظيماً لهم، أي ادعاء أن ليس الناس إلا هم، فعطف "أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" عليهم عطف تفسير، ويحتمل أن يكون المراد ببقية الناس، أي الذين أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم عموماً، والمراد بالصحابة الذين لازموه وقاتلوه معه. (فقال: ارتفعوا عني) أي قوموا، فاخرجوا، فانصرفوا عني، وفي رواية "فأمرهم، فخرجوا عنه". (ادع لي من كان ههنا من مشيخة قريش، من مهاجرة الفتح) "مشيخة" بفتح الميم والياء بينهما شين ساكنة وبفتح الميم وكسر الشين وسكون الياء، جمع شيخ، ويجمع أيضاً على شيوخ بالضم والكسر، وأشياخ وشيخة بكسر الشين وفتح الياء، وشيخان بكسر الشين، وسكون الياء، ومشايخ، ومشيخاء بفتح الميم وسكون الشين وضم الياء وفتح الخاء ومدها، وقد تشبع الضمة، حتى تصير واواً. والمراد من "مهاجرة الفتح" الذين هاجروا إلى المدينة عام الفتح وقبل الفتح، أو الذين تحولوا إلى المدينة بعد فتح مكة، أطلق عليهم مهاجرة صورة، لأن الهجرة بعد الفتح قد ارتفعت حكماً وفضيلة، لقوله صلى الله عليه وسلم "لا هجرة بعد الفتح" وذلك لأن مكة بعد الفتح صارت دار إسلام،

فالذي يهاجر منها للمدينة إنما يهاجر لطلب العلم أو الجهاد أو نحو ذلك، لا للفرار بدينه، بخلاف ما قبل الفتح، وكأنه احترز بذلك عن غيرهم من مشيخة قريش، ممن أقام بمكة، ولم يهاجر أصلاً أو أراد من مهاجرة الفتح مسلمة الفتح. قال النووي: إنا رتبهم هكذا على حسب فضائلهم. اهـ أي ترتيباً تنازلياً، الأفضل أولاً، ثم الأقل منه فضلاً، ثم الأقل منه فضلاً، فليس إجماع مسلمة الفتح على الرجوع أساس اتخاذه القرار، فقد أشار به بعض كل من الفريقين الأولين، وبالمجموع تكون الأكثرية في جانب الرجوع، على أن مثل عمر يتخذ الاستشارة لإضاءة الطريق، واستطهار الأمر، لا للمشاركة في اتخاذ القرار، وهذا هو ظاهر قوله تعالى {وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله} [آل عمران: 159] وقوله تعالى {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله} [الأنعام: 116] فعمر كان مقتنعاً منذ اللحظة الأولى بالرجوع، لكنه أراد أن لا ينفرد ظاهراً بالقرار، لترتاح نفوس الناس، ولذا كان نقاشه الآتي مع أبي عبيدة إنما يستند إلى العقل والحكمة والدليل، لا على كثرة الموافقين على الرجوع، فلسنا مع القاضي عياض، إذ يقول: وكان رجوع عمر رضي الله عنه لرجحان طرف الرجوع، لكثرة القائلين به، وأنه أحوط، ولم يكن مجرد تقليد لمسلمة الفتح، لأن بعض المهاجرين الأولين وبعض الأنصار أشاروا بالرجوع، وبعضهم بالقدوم عليه، وانضم إلى المشيرين بالرجوع رأي مشيخة قريش، فكثروا القائلين به، مع ما لهم من السن، والخبرة، وكثرة التجارب، وسداد الرأي. اهـ ولسنا مع الرأي الذي حكاه القاضي عياض: إذ يقول: وقيل: إنما رجع عمر لحديث عبد الرحمن بن عوف، لما في الرواية الثامنة، قالوا ولأن عمر لم يكن ليرجع لرأي دون رأي. اهـ وهذا الرأي فاسد من وجوه: الأول: أن قرار العودة ونداء عمر في الناس: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه، كان سابقاً على مجيء عبد الرحمن بن عوف إذ بات ليلة، وهو على ذلك، وقولهم: إن المراد من نداء عمر إني مصبح مسافر إلى الشام وإلى الوجهة التي خرجت من المدينة نحوها، وهذا القول تأويل فاسد، ومذهب ضعيف، كما قال النووي. الثاني: أن المناقشة مع أبي عبيدة كانت بعد القرار، ولو كان حديث عبد الرحمن بن عوف سابقاً عليها لما كانت المناقشة، وحسم الحديث الموقف. الثالث: أن وقع الحديث على عمر هو أن حمد الله أن اتفق الحديث مع القرار، وشكر الله على موافقة اجتهاده، واجتهاد معظم الصحابة لنص رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال النووي: وأما قول سالم بن عبد الله: "إن عمر إنما انصرف من حديث عبد الرحمن بن عوف" فيحتمل أن سالماً لم يبلغه ما كان عمر عزم عليه من الرجوع قبل حديث عبد الرحمن له، ويحتمل أنه أراد أنه لم يرجع إلا بعد حديث عبد الرحمن. والله أعلم. اهـ ويرى الحافظ ابن حجر أن حصر سالم لسبب رجوع عمر في الحديث، لم يرد به نفي السبب الأول، وهو اجتهاد عمر، وإنما مراده أنه لما سمع الخبر رجح عنده ما كان عزم عليه،

فحصر سالم سبب الرجوع في الحديث لأنه السبب الأقوى، وكأنه يقول: لولا وجود النص لأمكن إذا أصبح أن يتردد في ذلك، أو يرجع عن رأيه، فلما سمع الخبر استمر على عزمه الأول، ولولا الخبر لما استمر. اهـ ولسنا معه في هذا، لما عرفناه عن عمر ومضاء عزمه وقوة إرادته، وحجته على أبي عبيدة، التي لا تقبل التردد. (إني مصبح على ظهر، فأصبحوا عليه) قال النووي، هو بإسكان الصاد فيهما، أي مسافر راكب على ظهر الراحلة، راجع إلى وطني، فأصبحوا على ظهركم، وتأهبوا له. اهـ وفي رواية "إني ماض لما أرى، فانظروا ما آمركم به، فامضوا له، قال: فأصبح على ظهر". (فقال أبو عبيدة بن الجراح) وهو إذ ذاك أمير الشام، وفي رواية "وقالت طائفة، منهم أبو عبيدة". (أفرارا من قدر الله)؟ "فراراً" منصوب على المفعول له، أي أترجع يا عمر بمن معك فراراً؟ أو على المصدر، أي أتفرون فراراً؟ . (لو غيرك قالها يا أبا عبيدة) "لو" شرطية، وجوابها محذوف، أي لعاقبته، أو لكان أولى منك بذلك الفهم، أو لم أتعجب منه ولكني أتعجب منك، مع علمك وفضلك، كيف تقول هذا؟ ويحتمل أن يكون الجواب: لأدبته، ويحتمل أن تكون "لو" هنا للتمني، فلا تحتاج إلى جواب، أي كنت أتمنى أن يقولها غيرك ممن لا فهم له، فأعذره. (وكان عمر يكره خلافه) أي يكره أن يخالفه أو يناقشه في قراره أحد، فكره أن يناقشه أبو عبيدة، فلامه أو عنفه بهذا الأسلوب. (نعم. نفر من قدر الله إلى قدر الله) أطلق عليه الفرار لشبهه به في الصورة، وإن كان ليس فراراً شرعياً، أراد أنه لم يفر من قدر الله حقيقة، وذلك لأن الأمر الذي فر منه، أمر خاف على نفسه منه، فلم يهجم عليه، والذي فر إليه، أمر لا يخاف على نفسه منه، إلا الأمر الذي لا بد من وقوعه، سواء كان مسافراً أو مقيماً، وفي رواية "إن تقدمنا فبقدر الله، وإن تأخرنا فبقدر الله". (أرأيت لو كانت لك إبل، فهبطت وادياً له عدوتان، إحداهما خصبة، والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله؟ وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ ) "العدوتان" بضم العين وكسرها مع سكون الدال، تثنية عدوة، وهي المكان المرتفع من الوادي، أو شاطئ الوادي وفي رواية للبخاري "إحداهما خصيبة" على وزن عظيمة، ورواية مسلم "خصبة" بسكون الصاد بغير ياء و"جدبة" بفتح الجيم وسكون الدال، ضد الخصبة، وقال صاحب التحرير، الجدبة هنا بسكون الدال وكسرها، قال: والخصبة كذلك، و"هبطت" بفتح الطاء، والضمير للإبل.

وهذا الدليل من القياس الواضح الجلي، الذي لا شك في صحته، ولا ينازع فيه أحد، مع مساواته لمسألة النزاع، أي إن الله تعالى أمر بالاحتياط والحزم ومجانبة أسباب الهلاك، كما أمر سبحانه وتعالى بالتحصن من سلاح العدو، وتجنب المهالك، وإن كان كل واقع بقضاء الله وقدره، السابق في علمه. وفي ملحق الرواية "أرأيت أنه لو رعى الجدبة، وترك الخصبة، أكنت معجزه؟ بضم الميم وفتح العين وتشديد الجيم المكسورة، أي أكنت تتهمه بالعجز؟ "قال: نعم" اتهمه بالعجز وسوء التصرف، "قال: فسر إذا" أنت يا أبا عبيدة إلى البلد التي خرجت منها بالشام، وسأسير أنا إلى البلد التي خرجت منها، وهي المدينة. ومقصود عمر رضي الله عنه أن الناس رعية لي، استرعانيها الله تعالى، فيجب على الاحتياط لها، فإن تركت الاحتياط نسبت إلى العجز والتقصير، واستوجبت العقوبة. (فسار حتى أتى المدينة، فقال: هذا المحل، أو قال: هذا المنزل، إن شاء الله) هما بمعنى، والمحل بفتح الحاء وكسرها، والفتح أقيس. (إضافة) قال النووي: قال أبو الحسن المدائبني: كانت الطواعين المشهورة العظام في الإسلام خمسة: طاعون شيرويه بالمدائن، على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، في سنة ست من الهجرة، ثم طاعون عمواس -بفتح العين، وبفتح الميم وتسكينها، قيل سمي بذلك لأنه عم، وواسى، وهي قرية معروفة بالشام، في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان بالشام، مات فيه خمسة وعشرون ألفاً، مات فيه لأنس بن مالك رضي الله عنه ثلاثة وثمانون ابناً، ويقال: ثلاثة وسبعون ابناً، ومات لعبد الرحمن بن أبي بكرة أربعون ابناً، ثم طاعون الفتيات في شوال سنة سبع وثمانين. وذكر ابن قتيبة عن الأصمعي: أن أول طاعون كان في الإسلام طاعون عمواس بالشام في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فيه توفي أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، ومعاذ بن جبل وامرأتاه وابنه، رضي الله عنهم، ثم الطاعون الجارف في زمن ابن الزبير سنة سبع وستين، ثم طاعون الفتيات، لأنه بدأ في العذارى والجواري بالبصرة، وبواسط وبالشام والكوفة، وكان الحجاج يومئذ بواسط، في ولاية عبد الملك بن مروان، وكان يقال له: طاعون الأشراف، لما مات فيه من الأشراف، ثم طاعون عدي بن أرطاة، سنة مائة، ثم طاعون غراب سنة سبع وعشرين ومائة، ثم طاعون مسلم بن قتيبة، سنة إحدى وثلاثين ومائة، ولم يقع بالمدينة ولا بمكة طاعون. اهـ قال النووي: وكان طاعون عمواس -موضوع حديثنا- سنة ثماني عشرة، وعمواس قرية بين الرملة وبيت المقدس، نسب الطاعون إليها، لكونه بدأ فيها. والله أعلم.

-[فقه الحديث]- قال النووي: في هذه الأحاديث منع القدوم على بلد الطاعون، ومنع الخروج منه فراراً من ذلك، أما الخروج لعارض فلا بأس به. قال: وهذا الذي ذكرناه هو مذهبنا ومذهب الجمهور، قال القاضي: وهو قول الأكثرين، قال: حتى قالت عائشة: الفرار منه كالفرار من الزحف، قال: ومنهم من جوز القدوم عليه، والخروج منه فراراً. قال: وروي هذا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأنه ندم على رجوعه من سرغ وعن أبي موسى الأشعري ومسروق والأسود بن هلال أنهم فروا من الطاعون، وقال عمرو بن العاص: فروا عن هذا الرجز في الشعاب والأودية ورءوس الجبال، فقال معاذ: بل هو شهادة ورحمة. قال: ويتأول هؤلاء النهي على أنه لم ينه عن الدخول عليه والخروج منه مخافة أن يصيبه غير المقدر، لكن مخافة الفتنة على الناس، لئلا يظنوا أن هلاك القادم إنما حصل بقدومه، وسلامة الفار، إنما كانت بفراره، قالوا: وهو من نحو النهي عن الطيرة والقرب من المجذوم. قال: وقد جاء عن ابن مسعود أنه قال: الطاعون فتنة على المقيم والفار، أما الفار فيقول: فررت فنجوت، وأما المقيم فيقول: أقمت فمت، وإنما فر من لم يأت أجله، وأقام من حضر أجله. قال النووي: والصحيح ما قدمناه من النهي عن القدوم عليه، والفرار منه، لظاهر الأحاديث الصحيحة. قال العلماء: وهو قريب المعنى من قوله صلى الله عليه وسلم "لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا". اهـ وحكى البغوي في شرح السنة عن قوم أنهم حملوا النهي على التنزيه، فهو مكروه، والقدوم جائز لمن غلب عليه التوكل، والانصراف عنه رخصة، وتمسكوا بما جاء عن عمر أنه ندم على رجوعه من سرغ، كما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عمر بأنه سمع عمر منفرداً يقول: اللهم اغفر لي رجوعي من سرغ" قال القرطبي في المفهم: لا يصح هذا عن عمر، قال: وكيف يندم على فعل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم؟ ويرجع عنه؟ ويستغفر منه؟ . ومال الحافظ ابن حجر إلى صحة الحديث، ووجهه بأنه يحتمل أن يكون سبب ندمه أنه خرج لأمر مهم من أمور المسلمين، فلما وصل إلى قرب البلد المقصود رجع، مع أنه كان يمكنه أن يقيم بالقرب من البلد المقصود، إلى أن يرتفع الطاعون، فيدخل إليها ويقضي حاجة المسلمين، قال: ويؤيد ذلك أن الطاعون ارتفع عنها عن قرب، فلعله كان بلغه ذلك، فندم على رجوعه إلى المدينة. ثم قال الحافظ ابن حجر: الخروج من بلد الطاعون بقصد الفرار المحض يتناوله النهي لا محالة، ومن خرج لحاجة متمحضة، لا لقصد الفرار أصلاً فلا يدخل في النهي، ويتصور ذلك فيمن تهيأ للرحيل من بلد كان بها، إلى بلد إقامته مثلاً، ولم يكن الطاعون وقع، فاتفق وقوعه أثناء تجهيزه، وأما الخروج لمن عرضت له حاجة، ثم ضم إليها الفرار، فهو محل النزاع.

وقد ذكر العلماء عللاً وحكماً للنهي عن الخروج من بلد الطاعون، منها أن الطاعون في الغالب يكون عاماً في البلد الذي يقع به، فإذا وقع فالظاهر مداخلة سببه لمن بها، فلا يفيده الفرار، لأن المفسدة إذا تعينت -بحيث لا يقع الانفكاك عنها- كان الفرار عبثاً، فلا يليق بالعاقل، أقول: وهذه العلة غير مسلمة، فلا أحد يقطع بإمكان الانفكاك أو عدم إمكانه. ومنها أن الناس لو تواردوا على الخروج لصار من عجز عنه -بالمرض المذكور أو بغيره- ضائع المصلحة، لفقد من يتعهده حياً وميتاً. أقول: وهذه العلة غير مسلمة، إذا واجب القادرين على الخروج أن يساعدوا العاجزين ليخرجوهم معهم، كما لو قام حريق في بيت، فالواجب على القادرين أن يحملوا معهم العاجزين ويفروا، ولا يطلب من القادرين البقاء تضامناً مع العاجزين. ومنها: أنه لو شرع الخروج، فخرج الأقوياء، لكان في ذلك كسر قلوب الضعفاء، وقد قالوا: إن حكمة الوعيد في الفرار من الزحف، لما فيه من كسر قلب من لم يفر، وإدخال الرعب عليه بخذلانه. أقول: وقياس الفرار من الطاعون على الفرار من الزحف غير سليم، فإن من لم يفر من الزحف سيقاتل الأعداء، وقد يغلبهم وينتصر عليهم، فالفرار يضيع هذه الفائدة المرجوة، بخلاف الطاعون. ومنها: ما ذكره بعض الأطباء أن المكان الذي يقع به الوباء تتكيف أمزجة أهله بهواء تلك البقعة، وتألفها، وتصير لهم كالأهوية الصحيحة لغيرهم، فلو انتقلوا إلى الأماكن الصحيحة لم يوافقهم، فمنعوا من الخروج لهذا. أقول: وهذا تعليل لا يقبله العقل، ويستلزم أن المريض في بيئة لا يخرج إلى بيئة أخرى أنظف وأنقى من التي هو بها. وكأن هذه التعليلات كلها محاولة من جانب أصحابها لأن يستبعدوا أن النهي عن الخروج إنما هو لحماية من هم خارجون عن بلده، من انتقال العدوى إليهم، وأن النهي لمحاصرة الوباء في أضيق حدوده، مع أن هذا هو المعروف في الطب بالحجر الصحي. ولعلهم يخافون اعتقاد تأثير العدوى بنفسها، مع أنها سبب مؤثر ككل الأسباب المؤثرة بقدرة الله تعالى. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - قال النووي: ما جاء في هذه الأحاديث من أنه أرسل على بني إسرائيل أو من كان قبلكم عذاباً لهم، يدل هذا الوصف (كونه عذاباً) على أنه مختص بمن كان قبلنا، وأما هذه الأمة فهو لها رحمة وشهادة، ففي الصحيحين "المطعون شهيد" وفي البخاري "أن الطاعون كان عذاباً يبعثه الله على من يشاء، فجعله رحمة للمؤمنين، فليس من عبد يقع الطاعون، فيمكث في بلده صابراً، يعلم أن لن يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر شهيد" وفي حديث آخر "الطاعون شهادة لكل مسلم" وإنما يكون شهادة لمن صبر، كما بينه في الحديث المذكور. اهـ وعند أحمد "الطاعون شهادة للمؤمنين، ورحمة لهم، ورجس على الكافر". وتعقب هذا بأن الطاعون قد يكون عذاباً للعصاة من المؤمنين، ففي حديث ابن عمر عند ابن ماجه والبيهقي "لم تظهر الفاحشة في قوم قط، حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم" وفي الموطأ بلفظ "ولا فشا الزنا في قوم قط إلا كثر فيهم

الموت" وعند الحاكم "إذا ظهر الزنا والربا في قرية، فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله" وعند الطبراني "ما من قوم يظهر فيهم الزنا إلا أخذوا بالفناء" وعند الحاكم "ولا ظهرت الفاحشة في قوم إلا سلط الله عليهم الموت" وعند أحمد "لاتزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنا، فإذا فشا فيهم ولد الزنا أوشك أن يعمهم الله بعقاب" ففي هذه الأحاديث -على ما في بعضها من ضعف- أن الطاعون قد يقع عقوبة بسبب المعصية، فكيف يكون شهادة؟ . قال الحافظ ابن حجر: يحتمل أن يقال: بل تحصل له درجة الشهادة، لعموم الأخبار الواردة، ولا سيما حديث أنس "الطاعون شهادة لكل مسلم" ولا يلزم من حصول درجة الشهادة لمن اجترح السيئات، مساواته بالمؤمن الكامل في المنزلة، لأن درجات الشهداء متفاوتة، كنظيره من العصاة إذا قتل مجاهداً في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا، مقبلاً غير مدبر، ومن رحمة الله بهذه الأمة أن يعجل لهم العقوبة في الدنيا، ولا ينافي ذلك أن يحصل لمن وقع به الطاعون أجر الشهادة، ولا سيما وأكثرهم لم يباشر تلك الفاحشة، وإنما عمهم -والله أعلم- لتقاعدهم عن إنكار المنكر. وقد أخرج أحمد وصححه ابن حبان "القتل ثلاثة. رجل جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقى العدو قاتلهم حتى يقتل، فذاك الشهيد المفتخر، في خيمة الله، تحت عرشه، لا يفضله النبيون إلا بدرجة النبوة، ورجل مؤمن قرف على نفسه من الذنوب والخطايا، جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقى العدو قاتلهم حتى يقتل، فانمحت خطاياه -إن السيف محاء للخطايا- ورجل منافق، جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقى العدو قاتله حتى يقتل، فهو في النار، إن السيف لا يمحو النفاق" ثم قال الحافظ ابن حجر: وأما الحديث الآخر الصحيح "إن الشهيد يغفر له كل شيء إلا الدين" فإنه يستفاد منه أن الشهادة لا تكفر التبعات، وحصول التبعات لا يمنع حصول درجة الشهادة، وليس للشهادة معنى إلا أن الله يثيب من حصلت له ثواباً مخصوصا، ويكرمه كرامة زائدة. بل جاء في بعض الأحاديث استواء شهيد الطاعون وشهيد المعركة، فأخرج أحمد بسند حسن "يأتي الشهداء والمتوفون بالطاعون، فيقول أصحاب الطاعون: نحن شهداء، فيقال: انظروا فإن كان جراحهم كجراح الشهداء، تسيل دماً، وريحها كريح المسك، فهم شهداء، فيجدونهم كذلك" وعند أحمد أيضاً والنسائي بسند حسن "يختصم الشهداء والمتوفون على فرشهم إلى ربنا عز وجل في الذين ماتوا بالطاعون، فيقول الشهداء: إخواننا (الذين ماتوا بالطاعون) قتلوا كما قتلنا (أي فهم مثلنا شهداء) ويقول الذين ماتوا على فرشهم: إخواننا ماتوا على فرشهم، كما متنا، فيقول الله عز وجل: انظروا إلى جراحهم، فإن أشبهت جراح المقتولين فإنهم منهم، فإذا جراحهم أشبهت جراحهم" وفي رواية زيادة "فيلحقون بهم". والتحقيق أن الطاعون وإن كان عذاباً لعصاة المؤمنين فهو رحمة بهم من عذاب الآخرة. والله أعلم. 2 - وفي قصة عمر رضي الله عنه، الرواية الثامنة وما بعدها الاحتراز من المكاره وأسبابها. 3 - والتسليم لقضاء الله عند حلول الآفات، وعدم القدرة على دفعها. قال النووي: وهذان المأخذان

واضحان من موقفي الصحابة من المشاورة، وهما مستمدان من أصلين في الشرع، أحدهما التوكل والتسليم للقضاء، والثاني الاحتباط والحذر، ومجانبة أسباب الإلقاء باليد إلى التهلكة. 4 - وفي الحديث خروج الإمام بنفسه إلى ولاياته في بعض الأوقات، ليشاهد أحوال رعيته، ويزيل ظلم المظلوم، ويكشف كرب المكروب، ويسد خلة المحتاج، ويقمع أهل الفساد، ويخافه أهل البطالة، والأذى والولاة، ويحذروا تجسسه عليهم، واطلاعه على أحوالهم وقبائحهم، فينكفوا، ويقيم في رعيته شعائر الإسلام، ولغير ذلك من المصالح. ذكره النووي. 5 - تلقى الأمراء ووجوه الناس الإمام عند قدومه، وإعلامهم إياه بما حدث في بلادهم من خير أو شر أو وباء، أو رخص أو غلاء وغير ذلك. 6 - واستحباب مشاورة الإمام أهل العلم والرأي في الأمور الحادثة، وتقديم أهل السابقة في ذلك. 7 - تنزيل الناس منازلهم، وتقديم أهل الفضل على غيرهم. 8 - جواز الاجتهاد في الحروب ونحوها، كما يجوز في الأحكام. 9 - قبول خبر الواحد، فإنهم قبلوا خبر عبد الرحمن بن عوف. 10 - صحة القياس، وجواز العمل به. 11 - ابتداء العالم بما عنده من العلم قبل أن يسأله، كما فعل عبد الرحمن بن عوف. 12 - مشروعية المناظرة. 13 - الرجوع إلى النص عند الاختلاف، وأن النص يسمى علماً. 14 - وأن الاختلاف لا يوجب حكماً، إنما الاتفاق هو الذي يوجبه. 15 - وأن العالم قد يكون عنده ما لا يكون عند غيره ممن هو أعلم منه. والله أعلم ملحوظة: لهذا الباب صلة وثيقة بالباب الآتي.

(598) باب العدوى والطيرة والكهانة والهامة وصفر

(598) باب العدوى والطيرة والكهانة والهامة وصفر 5048 - عن أبي هريرة رضي الله عنه حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى ولا صفر ولا هامة" فقال أعرابي يا رسول الله، فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء، فيجيء البعير الأجرب فيدخل فيها فيجربها كلها؟ قال: "فمن أعدى الأول". 5049 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى ولا طيرة ولا صفر ولا هامة" فقال أعرابي: يا رسول الله. بمثل حديث يونس. 5050 - عن السائب بن يزيد بن أخت نمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى ولا صفر ولا هامة". 5051 - عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى" ويحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يورد ممرض على مصح" قال أبو سلمة: كان أبو هريرة يحدثهما كلتيهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم صمت أبو هريرة بعد ذلك عن قوله لا عدوى وأقام على أن لا يورد ممرض على مصح. قال: فقال الحارث بن أبي ذباب -وهو ابن عم أبي هريرة- قد كنت أسمعك يا أبا هريرة تحدثنا مع هذا الحديث حديثاً آخر قد سكت عنه، كنت تقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى" فأبى أبو هريرة أن يعرف ذلك. وقال: {لا يورد ممرض على مصح.} فما رآه الحارث في ذلك حتى غضب أبو هريرة فرطن بالحبشية. فقال للحارث: أتدري ماذا قلت؟ قال: لا. قال أبو هريرة: قلت: أبيت. قال أبو سلمة: ولعمري لقد كان أبو هريرة يحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى" فلا أدري أنسي أبو هريرة أو نسخ أحد القولين الآخر.

5052 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى". -ويحدث مع ذلك: لا يورد الممرض على المصح بمثل حديث يونس. 5053 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى ولا هامة ولا نوء ولا صفر". 5054 - عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى ولا طيرة ولا غول". 5055 - عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى ولا غول ولا صفر". 5056 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا عدوى ولا صفر ولا غول" وسمعت أبا الزبير يذكر أن جابراً فسر لهم قوله: ولا صفر. فقال أبو الزبير: الصفر: البطن. فقيل لجابر: كيف؟ قال: كان يقال دواب البطن. -قال: ولم يفسر الغول. قال أبو الزبير: هذه الغول التي تغول. 5057 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا طيرة وخيرها الفأل" قيل يا رسول الله، وما الفأل؟ قال: "الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم". 5058 - عن أنس رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل الكلمة الحسنة الكلمة الطيبة".

5059 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل" قال: قيل: وما الفأل؟ قال: "الكلمة الطيبة". 5060 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى ولا طيرة وأحب الفأل الصالح". 5061 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى ولا هامة ولا طيرة وأحب الفأل الصالح". 5062 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الشؤم في الدار والمرأة والفرس". 5063 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى ولا طيرة وإنما الشؤم في ثلاثة المرأة والفرس والدار". 5064 - عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن يكن من الشؤم شيء حق ففي الفرس والمرأة والدار". -وفي رواية عن شعبة بهذا الإسناد مثله ولم يقل: حق.

5065 - عن حمزة بن عبد الله بن عمر، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن كان الشؤم في شيء ففي الفرس والمسكن والمرأة". 5066 - عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن كان ففي المرأة والفرس والمسكن" -يعني الشؤم- 5067 - عن جابر رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن كان في شيء ففي الربع والخادم والفرس". 5068 - عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أموراً كنا نصنعها في الجاهلية، كنا نأتي الكهان؟ قال: "فلا تأتوا الكهان" قال: قلت: كنا نتطير. قال: "ذاك شيء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدنكم". 5069 - ومثله في رواية عن معاوية وزاد في حديث يحيى بن أبي كثير قال: قلت: ومنا رجال يخطون؟ قال: كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك". 5070 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، إن الكهان كانوا يحدثوننا بالشيء فنجده حقاً؟ قال: "تلك الكلمة الحق يخطفها الجني فيقذفها في أذن وليه، ويزيد فيها مائة كذبة".

5071 - عن عائشة رضي الله عنها سأل أناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان. فقال: "لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسوا بشيء" قالوا: يا رسول الله، فإنهم يحدثون أحياناً الشيء يكون حقاً؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تلك الكلمة من الجن يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة فيخلطون، فيها أكثر من مائة كذبة". 5072 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: أخبرني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار، أنهم بينما هم جلوس ليلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، رمي بنجم فاستنار. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ماذا كنتم تقولون في الجاهلية إذا رمي بمثل هذا؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، كنا نقول ولد الليلة رجل عظيم، ومات رجل عظيم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا تبارك وتعالى اسمه إذا قضى أمراً، سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء الدنيا، ثم قال الذين يلون حملة العرش لحملة العرش ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم ماذا قال. قال فيستخبر بعض أهل السماوات بعضاً حتى يبلغ الخبر هذه السماء الدنيا. فتخطف الجن السمع فيقذفون إلى أوليائهم، ويرمون به، فما جاءوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يقرفون فيه ويزيدون". 5073 - وفي رواية عن عبد الله بن عباس أخبرني رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار وفي حديث الأوزاعي: ولكن يقرفون فيه ويزيدون. 5074 - وفي حديث يونس: ولكنهم يرقون فيه ويزيدون. وزاد في حديث يونس: وقال الله {حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق} وفي حديث معقل كما قال الأوزاعي: ولكنهم يقرفون فيه ويزيدون.

5075 - عن صفية رضي الله عنها، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة". 5076 - عن عمرو بن الشريد، عن أبيه، قال: كان في وفد ثقيف رجل مجذوم فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم: "إنا قد بايعناك فارجع". -[المعنى العام]- من الثابت الذي لا يقبل الشك، أن بعض الأمراض تنتقل من جسم المريض إلى جسم السليم، بسبب المخالطة بينهما، عن طريق جراثيم "ميكروبات" وهي كائنات حية صغيرة، لا ترى بالعين المجردة، ولكل مرض "ميكروب" خاص به، وطريقة ينتقل بها من المريض إلى السليم، بعضها ينتقل عن طريق الهواء بدون ملامسة، كما ينتقل تلقيح الأنثى من طلع النخل بطلع الذكر القريب، وقد يكثر المرض والميكروب، فيفسد الهواء في منطقة واسعة، فيصيب العامة، مما يعرف بالوباء، وبعضها ينتقل بملامسة السليم للمريض، وبعضها ينتقل باستعمال أدوات المريض، وبعضها ينتقل عن طريق اتصال دم المريض بدم السليم، أو اتصال مخاطه، أو اتصال ماء شهوته. ومن الثابت أيضاً أن في جسم الإنسان وفي دمه كرات بيضاء، تقف بالمرصاد للميكروبات المعادية الوافدة، فتلتهمها وتقضي عليها، هذا إن كان العدو الوافد أضعف من قوة الدفاع، كماً أو كيفاً، فالميكروب له أطوار يقوى فيها، وأطوار يضعف فيها، وله درجة قوة وتمكن من مريض إلى مريض، وقوة الدفاع تختلف من جسم إلى جسم، وتعرف بجهاز المناعة، وقد تتقوى هذه القوة عن طريق التطعيم الصحي، عند حصول الوباء، أو توقعه وكل هذه أمور يديرها الله تعالى في جسم الإنسان، فقد يهاجم ميكروب المريض سليماً، فيهزمه جيش دفاعه، فلا تظهر عليه عوارض المرض، وينجو بتقدير الله تعالى، وكم من حذر وقع في شرك هذه الأمراض؟ وكم من مخالط لهذه الأمراض نجا من خطرها، وذلك لنعلم أن أهم شروط العدوى وتأثيرها إرادة الله تعالى. هذه الحقيقة كانت غائبة عن أهل الجاهلية، وكما بعث صلى الله عليه وسلم لإنقاذ البشرية من الشرك، بعث لتوجيهها إلى الواحد القهار، فقال لهم: "لا عدوى" لا تعتقدوا في العدوى ما تعتقدون، ولا تعتقدوا أنها تمرض السليم بنفسها، آمنوا بالذي خلق المرض، وخلق انتقاله، وهيأ الظروف لتأثير هذه العدوى. عجب القوم من هذا الخبر، إنهم يشاهدون آثارها وانتقال المرض من المريض إلى السليم بمجرد المخالطة، فقال قائلهم: يا رسول الله، إن إبلي تسرح وتمرح، نشطة، نظيفة، سليمة الجلد، حسنته، كأنها الظباء، فيدخل عليها البعير الأجرب، فيصيبها بالجرب، وينتقل الجرب، من بعير إلى بعير حتى تكون جرباء كلها، فكيف تقول: لا عدوى؟ كيف نلغي المشاهدة؟ وغاب عن الأعرابي أن الذي

يشاهدونه هو الأثر، وليس المؤثر، وأن المؤثر والفاعل الحقيقي هو الله تعالى، وهو الذي جعل العدوى سبباً، وأنها قد تؤثر، وقد لا تؤثر، وأنه قد يبعث المرض المعدي نفسه بدون العدوى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعرابي: فمن أعدى الأول؟ من الذي أجرب البعير الذي مرض بالجرب أولاً؟ الجواب: أجربه الله تعالى، وإذن الذي يمرض حقيقة هو الله تعالى، وخشي صلى الله عليه وسلم أن تتحول العقيدة عن اعتبار الأسباب، وأن تهمل الأسباب بالكلية، فقال لهم: لا يوردن صاحب إبل جرباء، إبله على إبل سليمة. وكانوا في الجاهلية يتطيرون ويتشاءمون، ويعتقدون في المتشاءم منه أنه يوجد الشر والضرر، فإذا رأى أحدهم في طريقه لمشروع مهم غراباً أسود رجع، وترك مشروعه، وإذا سمع أحدهم صوت بومة وهو على أهبة سفر رجع عن السفر، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا طيرة" ولا أثر لما تتشاءموا منه، فلا تتشاءموا، وإذا وقع في نفسكم شيء من هذا فقولوا: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك، ولا يعلم الغيب إلا أنت، وامضوا لأعمالكم، ولا ترجعوا. وكانوا يعتقدون أن روح القتيل تظهر ليلاً في صورة طائر، ينادي: اسقوني من دم قاتلي، تظل كذلك حتى يؤخذ بثأره، ويسمونها الهامة، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا هامة" وإنما هي أوهام وخيالات لا أصل لها، ولا وجود. وكانوا يعتقدون أن في بطن الإنسان حية كبيرة، تتلوى إذا جاع، تطلب الطعام، ويسمونها "صفر" فقال لهم: "ولا صفر" وكانوا يعتقدون أن الأمطار تنزل بفعل نجم خاص يظهر في السماء يسمونه، ويقولون: مطرنا بنوء كذا، فقال لهم: إن النجوم لا تنزل مطراً، وإنما هو الله مرسل الرياح، ومسخر السحاب، والمنزل وحده للغيث، وكانوا يعتقدون أن في الصحراء والخلاء المهجور تظهر حيوانات غريبة المنظر، وغيلان مخيفة، تتراءى في الليل، وعند الانفراد والوحدة، فقيل لهم: "ولا غلول". يحارب صلى الله عليه وسلم العقائد الفاسدة، ويغرس في النفوس الأفكار السليمة الصحيحة، التي يحافظ الإنسان بها على نفسه في دينه ودنياه، ولا يخاف الشر والضرر، إلا مما فيه الضرر بيقين، وأن يعتمد على الله ويتوكل عليه {ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً} [الطلاق: 3]. -[المباحث العربية]- (لا عدوى) "لا" نافية للجنس، تعمل عمل "إن" واسمها يبنى على ما ينصب به، فعدوى اسم "لا" مبني على فتح مقدر على الألف في محل نصب، وخبرها محذوف، تقديره: تؤثر، أو تنتقل بنفسها، والعدوى انتقال المرض من المصاب به إلى السليم بسبب المخالطة، وكانت العرب تعتقد أن هذه المخالطة هي العامل الوحيد فيها، ونسوا أن الله تعالى هو الفاعل الحقيقي الفعال لما يريد. (ولا صفر) بفتح الصاد والفاء، وفسره البخاري بقوله: وهو داء يأخذ البطن، وقيل: هو حبة تكون في البطن، تصيب الماشية والناس، وهي أعدى من الجرب في اعتقاد العرب، وقد جاء هذا التفسير عن جابر رضي الله عنه في روايتنا التاسعة، وقيل: هو دود يكون في الجوف، فربما عض، فقتل، فالمراد بالنفي

نفي ما كانوا يعتقدون من دواب قاتلة، تكون في البطن، فكأنه قال: لا حقيقة لما تعتقدون من ذلك، وإنما الموت بفعل الله تعالى إذا فرغ الأجل. وكانوا يعتقدون أن هذا الجوع ينتقل من المريض إلى السليم بالمخالطة، لذا قرن بنفي العدوى، وقيل، إن المراد بصفر المنفي شهر صفر، وذلك أن العرب كانت تحرم صفر، وتستحل المحرم، كما تقدم في كتاب الحج، عند حديث "كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، ويجعلون المحرم صفراً" قال ابن بطال: وهذا القول مروي عن مالك. اهـ أي لا صفر يسبق المحرم، كما تفعلون، ولا مانع من أن يراد بصفر المنفي الأمران جميعاً. وقيل: الصفر وجع في البطن، ينشأ من الجوع، أو من اجتماع الماء في البطن، الاستسقاء، ومن الأول حديث "صفرة في سبيل الله خير من حمر النعم" أي جوعة في سبيل الله، ومنه أيضاً قولهم: صفر الإناء، إذا خلا عن الطعام، ومن الثاني حديث "أن رجلاً أصابه الصفر، فنعت له السكر" أي حصل له الاستسقاء، فوصف له النبيذ. (ولا هامة) بتخفيف الميم على المشهور، ولم يذكر الجمهور غيره، وحكي بتشديدها، قال الحافظ ابن حجر: وكأن من شددها ذهب إلى أنها واحدة الهوام، أي ذوات السموم، وقيل: إحدى دواب الأرض التي تهم بأذى الناس، قال النووي: فيه تأويلان: أحدهما أن العرب كانت تتشاءم بالهامة، وهي الطائر المعروف من طير الليل، قيل هي البومة، قالوا: كانت إذا سقطت على دار أحدهم رآها ناعية له نفسه، أو بعض أهله، وهذا تفسير مالك بن أنس، (وعلى هذا فالمعنى: لا شؤم بالبومة ونحوها) والثاني أن العرب كانت تعتقد أن عظام الميت -وقيل: روحه- تنقلب هامة، تطير، هذا تفسير أكثر العلماء، وهو المشهور، (وعلى هذا فالمعنى: لا حياة لهامة الميت) ويجوز أن يكون المراد النوعين، فإنهما جميعاً باطلان، فبين النبي صلى الله عليه وسلم إبطال ذلك، وضلالة الجاهلية، فيما تعتقده من ذلك. اهـ وقال المناوي: الهامة دابة تخرج من رأس القتيل، أو تتولد من دمه، فلا تزال تصيح، حتى يؤخذ بثأره، هكذا زعمه العرب، فكدبهم الشرع. وذكر الزبير بن بكار أن العرب كانت في الجاهلية تقول: إذا قتل الرجل، ولم يؤخذ بثأره، خرجت من رأسه هامة، تدور حول قبره، فتقول: اسقوني من دم قاتلي، فإذا أدرك بثأره ذهبت، وإلا بقيت، قال: وكانت اليهود تزعم أنها تدور حول قبره سبعة أيام، ثم تذهب. (ولا طيرة) كذا في الرواية الثانية والسابعة والعاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة، والثالثة عشرة والرابعة عشرة، والسادسة عشرة، والطيرة بكسر الطاء وفتح الياء وقد تسكن، فعلة من طار يطير، وأصلها منسوب إلى الطير، فقد كان العرب تتفاءل بتيامن الطير، وتتشاءم باتجاهه شمالاً، من أراد منهم البدء في عمل هام، أو مشروع كبير أو سفر، استوثق أولاً من نجاحه، بأن يزجر الطير الذي يلاقيه، فإن انصرف إلى جهة اليمين تفاءل وشرع في عمله، وإن انصرف إلى غير جهة اليمين تشاءم ورجع عن مشروعه، فنفى صلى الله عليه وسلم شرعة التطير، ليعلم أنه ليس لذلك العمل تأثير في جلب نفع،

أو دفع ضر، ومثل الطير كل ما يتشاءم منه، فقد كان بعضهم يتشاءم بصوت الغراب، وكان بعضهم إذا رأى الجمل شديد الحمل تشاءم، فإن رآه واضعاً حمله تيامن فنسب التشاؤم بأي شيء إلى الطير، أخذاً من الأصل. وصور الحافظ ابن حجر كيفية تيامنهم وتشاؤمهم بالطير بقوله: وما ولاك ميامنه، بأن يمر عن يسارك إلى يمينك فهو السانح، بالنون يتيمنون به، وما ولاك العكس، بأن يمر عن يمينك إلى يسارك فهو البارح، بالباء، يتشاءمون به. فالطيرة في الأصل تشمل التفاؤل والتشاؤم، إلا أنه لما رخص الشرع في التفاؤل، لأنه لا يعطل المصالح انصرف لفظ "الطيرة" المنهي عنه إلى التشاؤم، فالتطير والتشاؤم بمعنى واحد شرعاً. نعم ظاهر بعض الأحاديث أن الفأل نوع من الطيرة، ففي الرواية العاشرة "لا طيرة، وخيرها الفأل" قال الكرماني وغيره: فهذه الإضافة تشعر بأن الفأل من جملة الطيرة. اهـ وهذا محمول على أصل استعمال الطيرة، وقال النووي: الفأل يستعمل فيما يسوء، وفيما يسر، وأكثره في السرور، والطيرة لا تكون إلا في الشؤم، وقد تستعمل مجازاً في السرور. اهـ قال الحافظ ابن حجر: كأن ذلك بحسب الواقع، وأما الشرع فخص الطيرة بما يسوء، والفأل بما يسر، ومن شرطه أن لا يقصد إليه، فيصير من الطيرة. وظاهر قوله في الرواية العاشرة "وخيرها الفأل" يوحي بأن في الطيرة خيراً، لأن أفعل التفضيل تفيد أن الأمرين اشتركا في صفة، وزاد أحدهما على الآخر في هذه الصفة، مع أن التشاؤم لا خير فيه، ووجهه العلماء بتوجيهين: الأول: أنه من قبيل إرخاء العنان للخصم، بأن يجري الكلام على زعم الخصم، حتى لا يشمئز عن التفكر فيه، فإذا تفكر فأنصف من نفسه قبل الحق، فقوله "خيرها الفأل" إطماع للسامع في الاستماع والقبول، لا أن في الطيرة خيراً حقيقة. التوجيه الثاني: أن أفعل التفضيل ليس على بابه، بل المراد به مجرد إثبات وصف الخيرية لأحد المتشاركين في وجه ما، فالطيرة والفأل مشتركان في التأثير، أي تأثير كل منها فيما هو فيه، والخبرية في الفأل وحده، كذا قيل في قوله تعالى {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً} [الفرقان: 24] وقولهم: العسل أحلى من الخل. وفي الرواية الواحدة والعشرين "كنا نتطير؟ قال: ذاك شيء يجده أحدكم في نفسه، فلا يصدنكم "ومعناه أن كراهة ذلك تقع في نفوسكم في العادة، ولكن لا تلتفتوا إليه ولا ترجعوا عما كنتم عزمتم عليه قبل هذا. وسيأتي قريباً الكلام في شؤم الفرس والمرأة والمسكن. (ولا نوء) بفتح النون وسكون الواو كذا في الرواية السادسة، أي لا تقولوا: مطرنا بنوء كذا، ولا تعتقدوه، قال النووي: قال ابن الصلاح: النوء في أصله ليس هو نفس الكوكب، فإنه مصدر ناء النجم، ينوء نواء، أي سقط وغاب، وقيل: أي نهض وطلع، وبيان ذلك أن ثمانية وعشرين نجماً، معروفة

المطالع في أزمنة السنة كلها، وهي المعروفة بمنازل القمر الثمانية والعشرين، يسقط في كل ثلاث عشرة ليلة منها نجم في المغرب، مع طلوع الفجر، ويطلع آخر، يقابله في المشرق، عن ساعته، وكان أهل الجاهلية، إذا كان عند ذلك مطر ينسبونه إلى الساقط الغارب منهما، يقولون: مطرنا بنوء كذا، فقيل لهم: لا نوء أي لا أثر لنجم في نزول المطر، وإنما المطر من الله تعالى. (ولا غلول) بضم الغين، كذا في الرواية السابعة والثامنة والتاسعة، وفي آخرها "قال أبو الزبير: هذه الغول التي تغول" أي تتغول، قال النووي: قال جمهور العلماء: كانت العرب تزعم أن الغيلان في الفلوات، وهي من جنس الشياطين، تتراءى للناس، وتتغول تغولاً، أي تتلون تلوناً، وتتشكل تشكلاً، فتضلهم عن الطريق، فتهلكهم، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وقال آخرون: ليس المراد من الحديث نفي وجود الغيلان، وإنما معناه إبطال ما تزعمه العرب من تلون الغول بالصور المختلفة واغتيالها، قالوا: ومعنى "لا غول" أي لا تستطيع أن تضل أحداً، ويشهد له حديث آخر "لا غول ولكن السعالى" قال العلماء: السعالى بالسين المفتوحة والعين، هم سحرة الجن، أي ولكن في الجن سحرة، لهم تلبيس وتخييل، وفي الحديث الآخر "إذا تغولت الغيلان فنادوا بالأذان" أي ارفعوا شرها بذكر الله تعالى قال: وهذا دليل على أنه ليس المراد نفي أصل وجودها. اهـ والتحقيق أنه لا وجود للغول، وأن شأنها شأن الهامة، من معتقدات الجاهلية الفاسدة، والحديثان اللذان ذكرهما النووي لا يثبتان، وعلى فرض صحتهما، فالأول ينفي الغول، ويفسر العلماء السعالى بسحرة الجن، فلا حجة فيه على وجود للغول، وأما الثاني -وقد أخرجه أحمد- فمعناه -إذا توهمتم تشكل الغيلان، فنادوا بالأذان، وانشغلوا بذكر الله يذهب خوفكم ووهمكم. زاد النسائي "ولا تولة" بكسر التاء وضمها وفتح الواو واللام، وهي ما كان يزعمه العرب فيما يشبه السحر مما يحبب المرأة إلى زوجها، ومن ذلك ما يعلق في صدر الجارية والغلام للحفظ من العين والحسد، وما تحمله المرأة من الخرزة ونحوها لتجلب محبة زوجها. قال الطيبي: دخلت "لا" التي لنفي الجنس، على المذكورات، فنفت ذواتها، وهي -في الكثير منها- غير منفية، فيتوجه النفي إلى أوصافها وأحوالها، فالمنفي ما زعمت الجاهلية إثباته، مما يخالف الشرع، ونفي الذوات لإرادة نفي الصفات كثير وهو أبلغ، لأنه من باب الكناية. (ما بال الإبل) أي ما شأن الإبل؟ (تكون في الرمل كأنها الظباء) جمع ظبي، شبهها بها في النشاط والقوة وجمال الجلد، وسلامته من الداء. (فيجيء البعير الأجرب؟ فيدخل فيها؟ فيجربها؟ ) بضم الياء وسكون الجيم وكسر الراء. قال الحافظ ابن حجر: وهو بناء على ما كانوا يعتقدون من أن المريض إذا دخل في الأصحاء أمرضهم، فنفى الشارع ذلك، وأبطله، فلما أورد الأعرابي الشبهة رد عليه النبي صلى الله عليه وسلم. (قال: فمن أعدى الأول)؟ أي إذا كان البعير الأجرب الذي دخل في الإبل هو الذي أجربها، بطبع الجرب، فمن أين جاء الجرب الذي أعدى الأول؟ فإن قيل: من بعير آخر أجرب، قلنا: فمن

أعدى الأسبق؟ فإن تكرر إلى ما لا نهاية لزم التسلسل، وهو باطل، وإن وصلنا إلى بعير أصابه الجرب بدون عدوى، ووصلنا إلى أن الله تعالى هو الذي أجربه. قلنا الذي فعله في الأول هو الذي فعله في الثاني، فالذي فعل الجرب بالجميع هو ذلك الخالق القادر على كل شيء. (لا يورد ممرض على مصح) الممرض بضم الميم الأولى وسكون الثانية وكسر الراء هو الذي له إبل مرضى، والمصح بضم الميم وكسر الصاد، من له إبل صحاح، ومفعول "يورد" محذوف، أي لا يورد صاحب الإبل المراض، إبله على إبل صاحب الإبل الصحاح، ولفظ "لا يورد" خبر بمعنى النهي، بدليل رواية البخاري "لا يوردن ممرض على مصح" بلفظ النهي المؤكد بنون التوكيد الثقيلة. (قال أبو سلمة: كان أبو هريرة يحدثهما كلتيهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال النووي: كذا هو في جميع النسخ "كلتيهما" بالتاء والياء، مجموعتين، والضمير عائد إلى الكلمتين أو القصتين أو المسألتين، ونحو ذلك. اهـ أي كان الظاهر أن يقول "كليهما" ليعود الضمير على الحديثين، حديث "لا عدوى" وحديث "لا يورد ممرض على مصح". (ثم صمت أبو هريرة بعد ذلك عن قوله "لا عدوى" وأقام على "ألا يورد ممرض على مصح) أي سكت أبو هريرة عن التحديث بحديث "لا عدوى" فلم يعد يرويه، وبقي يروي الحديث الثاني، قال الحارث لأبي هريرة: قد كنت أسمعك تحدثنا مع هذا الحديث حديثاً آخر، قد سكت عنه، كنت تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا عدوى"؟ (فأبى أبو هريرة أن يعرف ذلك) أي أبى أن يعترف أنه حدث بذلك الحديث "لا عدوى" وفي رواية البخاري "وأنكر أبو هريرة حديث الأول" أي أنكر أنه رواه، أو حدث به. (فماراه الحارث في ذلك) من المماراة، أي ناقشه وجادله في أنه حدث به، وفي بعض النسخ "فما رآه الحارث في ذلك" بالهمزة، أي فما رآه مصيباً في ذلك الإنكار، فأخذ يؤكد له أنه حدث به. (حتى غضب أبو هريرة، فرطن بالحبشية) يقال: رطن بالأعجمي بفتح الطاء، يرطن بضمها، رطانة، أي تكلم بلغته، ورطن فلان تكلم بالأعجمية، أو تكلم بكلام لا يفهمه السامع. (فقال للحارث) أي بعد أن رطن وهدأ من غضبه. (أتدري ماذا قلت) في رطانتي؟ (قلت: أبيت) أي أرفض الاعتراف به، وامتنع عن الإقرار بحصوله. (فلا أدري أنسي أبو هريرة) أنه حدث بحديث "لا عدوى"؟ (أو نسخ أحد القولين الآخر)؟ معناه أو نسخ الحديث الذي أقام على التحديث به الحديث الذي سكت عنه؟ وهذا الشك والترديد الذي ردده أبو سلمة، قد قطعه في رواية البخاري، حيث قال فيها "فما رأيته نسي حديثاً غيره" وفي رواية "فما رأيناه نسي حديثاً غيره" قال النووي: ولا يؤثر نسيان أبي هريرة لحديث "لا عدوى" لوجهين: أحدهما أن نسيان الراوي للحديث الذي رواه لا يقدح

في صحته عند جماهير العلماء، بل يجب العمل به، والثاني أن هذا اللفظ ثابت من رواية غير أبي هريرة، فقد ذكر مسلم هذا من رواية السائب بن يزيد -روايتنا الثالثة- وجابر بن عبد الله -روايتنا السابعة والثامنة والتاسعة -وأنس بن مالك -روايتنا الحادية عشرة والثانية عشرة -وعبد الله بن عمر -روايتنا السادسة عشرة- عن النبي صلى الله عليه وسلم اهـ قال ابن التين: لعل أبا هريرة كان يسمع هذا الحديث، قبل أن يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم "من بسط رداءه ثم ضمه إليه لم ينس شيئاً سمعه من مقالتي" وقد قيل في الحديث المذكور: إن المراد أنه لا ينسى تلك المقالة، التي قالها ذلك اليوم، لا أنه ينتفي عنه النسيان أصلاً. اهـ وقيل: إن ما فعله أبو هريرة من سكوته عن الحديث الأول لم يكن من نسيان، بل كان الحديث الثاني ناسخاً للأول، فسكت عن المنسوخ، قال الحافظ ابن حجر: دعوى النسخ مردودة، لأن النسخ لا يصار إليه بالاحتمال، ولا سيما مع إمكان الجمع. ويحتمل أيضاً أنهما لما كانا خبرين متغايرين، عن حكمين مختلفين، لا ملازمة بينهما، جاز عنده أن يحدث بأحدهما، ويسكت عن الآخر، حسبما تدعو إليه الحاجة، قاله القرطبي في المفهم، قال: ويحتمل أن يكون خاف اعتقاد جاهل، يظنهما متناقضين، فسكت عن أحدهما، وكان إذا أمن ذلك حدث بهما جميعاً. (قيل: وما الفأل؟ قال: الكلمة الصالحة، يسمعها أحدكم) في الرواية الحادية عشرة "ويعجبني الفأل، الكلمة الحسنة. الكلمة الطيبة" وفي الرواية الثالثة عشرة والرابعة عشرة "وأحب الفأل الصالح". قال النووي: الفأل مهموز، ويجوز ترك همزه، وجمعه فؤول، كفلس، وفلوس، وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بالكلمة الصالحة والحسنة والطيبة، يقال: تفاءلت بكذا، بالألف والتخفيف، وتفألت بكذا بالتشديد، وهو الأصل، قال العلماء: وإنما أحب الفأل، لأن الإنسان إذا أمل فائدة الله تعالى وفضله عند أي سبب، قوي أو ضعيف، فهو على خير في الحال، وأما إذا قطع رجاءه وأمله من الله تعالى، فإن ذلك شر له، والطيرة فيها سوء ظن، وتوقع بلاء، قال: ومن أمثال التفاؤل أن يكون له مريض، فيتفاءل بما يسمعه، فيسمع من يقول: يا سالم، أو يكون له طلب حاجة، فيسمع من يقول: يا واجد، فيقع في قلبه رجاء البرء، أو الوجدان. اهـ وقال ابن بطال: جعل الله من فطر الناس محبة الكلمة الطيبة، والأنس بها، كما جعل فيهم الارتياح بالمنظر الأنيق، والماء الصافي، وإن كان لا يملكه، ولا يشربه، وقد أخرج الترمذي وصححه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج لحاجته، يعجبه أن يسمع: يا نجيح. يا راشد". وقال الحليمي: وإنما كان صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل، لأن التشاؤم سوء ظن بالله تعالى، بغير سبب محقق، والتفاؤل حسن ظن به، والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حال. (الشؤم في الدار والمرأة والفرس) المراد من "الدار" المسكن، ولو حجرة، أو خيمة، أو عشة،

والمراد من "المرأة" الزوجة، والمراد من "الفرس" المركب ووسيلة الانتقال، ولو سيارة، أو باخرة، أو طائرة، أو قطار. وفي الرواية الثامنة عشرة "ففي الفرس والمسكن والمرأة" وفي الرواية المتممة للعشرين "ففي الربع" بفتح الراء وسكون الباء الموضع الذي ينزل فيه، والدار وما حولها "والخادم والفرس". وفي الرواية السادسة عشرة "إنما الشؤم في ثلاثة" أي كائن في ثلاثة، والحصر فيها بالنسبة إلى العادة، لا بالنسبة إلى الحقيقة والخلقة، فالناس يتشاءمون عادة في غيرها كذلك، وإنما خصت هذه الثلاثة بالذكر لطول ملازمتها، قال ابن قتيبة: ووجهه أن أهل الجاهلية كانوا يتطيرون بكثير من الأمور، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأعلمهم أن لا طيرة، فلما أبوا أن ينتهوا بقيت الطيرة في هذه الأشياء الثلاثة". اهـ فابن قتيبة يعني أن هذه الأشياء أكثر ما يتطير به الناس، وأنها بقيت في عاداتهم، بعد أن تخلوا عن كثير غيرها، فكأن الحديث يقول: الشؤم والتشاؤم الباقي المستقر عند بعض الناس في المرأة والدار والفرس، فهو إخبار عن واقع، وليس معنى ذلك إقراره والسماح به، يؤيد هذا الوجه ما رواه الطيالسي في مسنده "قيل لعائشة: إن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الشؤم في ثلاثة؟ فقالت: لم يحفظ، إنه دخل، وهو يقول: قاتل الله اليهود، يقولون: الشؤم في ثلاثة، فسمع آخر الحديث، ولم يسمع أوله" وما رواه أحمد وابن خزيمة والحاكم من "أن رجلين من بني عامر دخلا على عائشة، فقالا، إن أبا هريرة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الطيرة في الفرس والمرأة والدار فغضبت غضباً شديداً، وقالت: ما قاله، وإنما قال: إن أهل الجاهلية كانوا يتطيرون من ذلك". فمعنى الرواية السادسة عشرة على هذا التوجيه: إنما الشؤم الباقي بقدر كبير في نفوس الناس وعاداتهم، في ثلاثة ... والمعنى عليه في الرواية السابعة عشرة، والثامنة عشرة والتاسعة عشرة والمتممة للعشرين: إن يكن الشؤم في شيء ثابتاً وباقياً في عادات الناس ونفوسهم ففي الفرس .. إلخ، فالحديث سيق لبيان اعتقاد الناس في ذلك، وليس إخباراً من النبي صلى الله عليه وسلم بثبوت ذلك، ولا إقراراً منه له. وهاجم ابن العربي بشدة هذا التوجيه، فقال: هذا جواب ساقط، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يبعث ليخبر الناس عن معتقداتهم الماضية والحاصلة، وإنما بعث ليعلمهم ما يلزمهم أن يعتقدوه. اهـ والتحقيق أن هذه المهاجمة العنيفة لا مبرر لها، فقد يخبر صلى الله عليه وسلم بواقع يريد تغييره، ولو أن ابن العربي ضم إلى هذا التوجيه "لا طيرة" كما في الرواية السادسة عشرة ما صح هجومه، يشير إلى هذا التحقيق المهلب إذ يقول: إن المخاطب بقوله "الشؤم في ثلاثة" من التزم التطير، ولم يستطع صرفه عن نفسه، فقال لهم: إنما يقع ذلك في هذه الأشياء التي تلازم في غالب الأحوال، فإذا كان كذلك فاتركوها عنكم، ولا تعذبوا أنفسكم بها، ويدل على ذلك تصدير الحديث بنفي الطيرة، واستدل لذلك بما أخرجه ابن حبان عن أنس، رفعه "لا طيرة، والطيرة على من تطير، وإن تكن في شيء ففي المرأة ... " الحديث. ويدافع الحافظ ابن حجر عن أبي هريرة في هذا فيقول: ولا معنى لإنكار ذلك على أبي هريرة، مع موافقة آخرين من الصحابة له في ذلك، فالحديث مروي عن ابن عمر، في روايتنا

الخامسة عشرة، وما بعدها، وعن سهل بن سعد في روايتنا التاسعة عشرة، وعن جابر في روايتنا المتممة للعشرين. التوجيه الثاني للحديث: أن الحديث على ظاهره، ويثبت الشؤم في هذه الثلاثة -والشؤم كما نعلم هو توقع أو الخوف من حصول مكروه في المستقبل، نتيجة لرؤية شيء أو سماع شيء، أو نحو ذلك -وهذه الثلاثة تورث ذلك، والحديث يرخص ويبيح أن يقع في النفس هذا الخوف وهذا التوقع، في هذه الثلاثة، دون غيرها، مع اعتقاد أن الفاعل الحقيقي هو الله تعالى، وأن المدبر لأمور المستقبل هو الله تعالى، ويبيح لمن وقع في نفسه ذلك من شيء من الثلاثة أن يتركه، ويستبدل به غيره، وذلك إذا كان أحد هذه الثلاثة كثير الشر والأذى في واقعه وحاله، فيتوقع منه ويخاف منه في المستقبل مثل ذلك، ويتشاءم من رؤيته، أو من وجوده في حوزته، قالوا: فشؤم المرأة في سلاطة لسانها، أو عقمها، أو تعرضها للريب، أو حنانها إلى أجنبي غير بعلها، وشؤم الدار ضيقها، وفساد هوائها بضيق فتحاتها، أو قذارة ما حولها، وسوء جوارها، قيل: وبعدها عن المساجد، وقربها من الموبقات، وشؤم الفرس عدم استعمالها في سبيل الله، وحرانها، وغلاء ثمنها، وفي السيارة مثلاً كثرة اختلالها وعطلها ونفقاتها وأخطارها، وشؤم الخادم سوء خلقه وقلة تعهده لما فوض إليه، وضعف أمانته، وشؤم السيف، الذي جاء في رواية عند ابن إسحق، كثرة أو تأكد ضرره وتخويفه. وقد أسند هذا التوجيه إلى مالك، فقد روى أبو داود في الطب عن مالك أنه سئل عنه؟ فقال: كم من دار سكنها ناس فهلكوا. قال المازري: فمالك يحمل الحديث على ظاهره، والمعنى أن قدر الله ربما اتفق وقوع ما يكره، عند سكنى الدار، فتصير في ذلك كالسبب، فتسومح في إضافة الشيء إلى الدار اتساعاً، وقال ابن العربي: لم يرد مالك إضافة الشؤم إلى الدار، وإنما هو عبارة عن جري العادة فيها، فأشار إلى أنه ينبغي للمرء الخروج عنها، صيانة لاعتقاده عن التعلق بالباطل. اهـ فالمازري وابن العربي يحاولان ربط ما يحدث من مكاره حين التشاؤم بأنه بقدر الله تعالى، وأن ارتباطه بالتشاؤم سبب عادي قد يتخلف، كغير التشاؤم من الأسباب، لذلك نجد الحافظ ابن حجر يقول: وما أشار إليه ابن العربي في تأويل كلام مالك نظير الأمر بالفرار من المجذوم، مع صحة نفي العدوى، والمراد بذلك حسم المادة، وسد الذريعة لئلا يوافق شيء من ذلك القدر، فيعتقد من وقع له، أن ذلك من العدوى، أو من الطيرة، فيقع في اعتقاده ما نهي عن اعتقاده -أي اعتقاد أن هذه الأمور مؤثرة بذاتها وطبيعتها -فأشير إلى اجتناب مثل ذلك، والطريق فيمن وقع له ذلك في الدار مثلاً أن يبادر إلى التحول منها، لأنه متى استمر فيها ربما حمله ذلك على اعتقاد صحة التطير والتشاؤم. اهـ ويؤيد هذا التوجيه ما أخرجه أبو داود وصححه الحاكم عن أنس "قال رجل: يا رسول الله، إنا كنا في دار، كثير فيها عددنا وأموالنا، فتحولنا إلى أخرى، فقل فيها ذلك؟ فقال: ذروها. ذميمة". قال ابن العربي: وإنما أمرهم بالخروج منها، لاعتقادهم أن ذلك منها، وليس كما ظنوا، لكن الخالق جل وعلا جعل ذلك وفقاً لظهور قضائه، وأمرهم بالخروج منها، لئلا يقع لهم بعد ذلك شيء، فيستمر اعتقادهم، ووصفها بأنها "ذميمة" وذكرها بقبيح ما وقع فيها سائغ من غير أن يعتقد أن ذلك

كان منها، ولا يمتنع ذم محل المكروه، وإن كان ليس منه شرعاً، كما يذم العاصي على معصيته، وإن كان ذلك بقضاء الله تعالى. اهـ وقال ابن بطال: معناه إبطال مذهب الجاهلية في التطير -أي اعتقاد أن الدار تضر وتنفع بذاتها- فكأنه قال: إن كانت لأحدكم دار يكره سكناها، أو امرأة يكره صحبتها أو فرس يكره سيره، فليفارقه. التوجيه الثالث للحديث اعتماد رواية التقييد بالشرط، روايتنا السابعة عشرة "إن يكن من الشؤم شيء حق ففي الفرس والمرأة والدار" وروايتنا الثامنة عشرة "إن كان الشؤم في شيء ففي الفرس والمسكن والمرأة" والتاسعة عشرة "إن كان ففي المرأة والفرس والمسكن" والمتممة للعشرين "إن كان في شيء ففي الربع والخادم والفرس" ويكون من قبيل التعليق على المستحيل، فيكون جواب الشرط مستحيلاً، كقوله {فإن استقر مكانه فسوف تراني} [الأعراف: 143]، أي لكنه لن يستقر مكانه، فلن تراني. والمعنى هنا: إن كان في شيء ففي المرأة والفرس والدار، لكن الشؤم ليس في شيء، عملاً بحديث "لا طيرة" فهو ليس في المرأة ولا الفرس ولا الدار، ويكون هذا النفي تصحيحاً لما كانوا يعتقدون، وتحمل الروايات المطلقة كالخامسة عشرة والسادسة عشرة على المقيدة. التوجيه الرابع: أن المراد بالشؤم هنا النكد والشقاء والمتاعب والتعاسة، وهذه الثلاثة أو الخمسة على بعض الروايات -أكبر مصادر الشقاء في حياة الإنسان، لملازمتها له أكثر من غيرها، وهذا يختص في كل نوع ببعضه، لا بجميعه، فمصدر شقاء بعض الناس زوجته، ومصدر شقاء بعض الناس مسكنه، ومصدر شقاء بعض الناس مركبه وسيارته. التوجيه الخامس كالرابع: إلا أن في الكلام اكتفاء بذكر أحد الطرفين وإرادة الطرفين معاً، كقوله تعالى {سرابيل تقيكم الحر} [النحل: 81] أي والبرد، فحذف البرد اكتفاء بذكر الحر، والمراد الحر والبرد، وهنا المراد: مصدر الشقاء والسعادة المرأة والدار والفرس، فهو كحديث سعد بن أبي وقاص، رفعه "من سعادة المرء المرأة الصالحة، والمسكن الصالح، والمركب الهنيء، ومن شقاوة المرء المرأة السوء، والمسكن السوء والمركب السوء" أخرجه أحمد. (تكميل) قال الحافظ ابن حجر: اتقفت الطرق كلها على الاقتصار على الثلاثة المذكورة (المرأة والدار والفرس) وعند عبد الرزاق "قالت أم سلمة: والسيف" اهـ والظاهر أن الحافظ ابن حجر: -رحمه الله- يتنبه إلى روايتنا المتممة للعشرين، وفيها "الخادم". (أموراً كنا نصنعها في الجاهلية) "أموراً" بالنصب على الاشتغال، أي بفعل محذوف وجوباً، وليس مفعولاً للفعل المذكور، لانشغاله عن العمل فيه بالعمل في ضميره، والتقدير: كنا نصنع أموراً، كنا نصنعها في الجاهلية، والمراد بالجاهلية ما قبل الإسلام. (كنا نأتي الكهان) الجملة بيان للجملة السابقة، كأنها في جواب سؤال نشأ عن الأولى، كأن سائلاً سأل: ما هي؟ .

قال النووي: قال القاضي عياض: كانت الكهانة في العرب ثلاثة أضرب: أحدها: يكون للإنسان ولي من الجن، يخبره بما يسترقه من السمع من السماء، وهذا القسم بطل، حيث بعث الله نبينا صلى الله عليه وسلم. الثاني: أن يخبر الجن وليه، بما يطرأ -مما هو موجود- أو يكون في أقطار الأرض، ويخبره بما خفي عنه، مما قرب أو بعد، وهذا لا يبعد وجوده. اهـ أقول: بل يبعد وجوده، بل يستحيل، وإلا ما حفظ سر لإنسان، أو للدولة، أو أسئلة الامتحانات، مثلاً، ويكفي لإبطاله أن الجن لم يعرفوا موت سليمان، وهو ميت واقف، يقول تعالى {ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين} [سبأ: 14]. ثم قال القاضي: ونفت المعتزلة وبعض المتكلمين هذين الضربين، وأحالوهما، ولا استحالة في ذلك، ولا بعد في وجوده، لكنهم يصدقون ويكذبون، والنهي عن تصديقهم، والسماع منهم عام. الثالث: المنجمون، وهذا الضرب يخلق الله تعالى فيه، لبعض الناس قوة ما، لكن الكذب فيه أغلب، ومن هذا الفن العرافة، وصاحبها عراف، وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات، يدعي معرفته بها، وقد يعتضد بعض هذا الفن ببعض في ذلك، كالطرق والنجوم، وأسباب معتادة. وهذه الأضرب كلها تسمى كهانة، وقد أكذبهم كلهم الشرع، ونهي عن تصديقهم، وإتيانهم. اهـ والكهانة بفتح الكاف، ويجوز كسرها، ادعاء علم الغيب، والكاهن يطلق على العراف، والذي يضرب الحصى، والمنجم، وقد كثرت الكهانة في العرب، لعدم الرسل. (فلا تأتوا الكهان) لأنهم يتكلمون في مغيبات، فقد يصادف بعضها الإصابة، فيخاف الفتنة على الإنسان بسبب ذلك. (وكنا نتطير؟ قال: ذاك شيء يجده أحدكم في نفسه، فلا يصدنكم) معناه أن التطير شيء يقع في أنفسكم، ولا عتب عليكم في ذلك، فإنه غير مكتسب لكم، فلا تكليف به، ولكن لا تمتنعوا بسببه من التصرف في أموركم، فهذا هو الذي تقدرون عليه، وهو مكتسب لكم، فيقع به التكليف. (ومنا رجال يخطون) أي يخطون في الرمل، ويخبرون ببعض الغيب. (كان نبي من الأنبياء يخط، فمن وافق خطه فذاك) "خطه" بالرفع على الفاعلية والمفعول محذوف، أي من وافق خطه خط النبي، وبالنصب على المفعول، أي من وافق هو في خطه خط النبي. واختلف العلماء في معنى هذه القضية، قال النووي: والصحيح أن المعنى: من وافق خطه خط النبي صلى الله عليه وسلم فهو مباح له، ولكن لا طريق لنا إلى العلم اليقيني بالموافقة، فلا يباح، والمقصود أنه حرام، لأنه لا يباح إلا بيقين الموافقة، وليس لنا يقين بها، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ولم يقل: هو حرام، بغير تعليق على الموافقة، لئلا يتوهم أن هذا النهي يدخل فيه ذلك النبي الذي كان يخط، فحافظ النبي صلى الله عليه وسلم

على حرمة ذاك النبي، مع بيان الحكم في حقنا، فالمعنى أن ذاك النبي لا مانع في حقه، وكذا لو علمتم موافقته، ولكن لا علم لكم بها. وقال الخطابي: هذا الحديث يحتمل النهي عن هذا الخط، إذ كان علماً لنبوة ذاك النبي، وقد انقطعت النبوة، فنهينا عن تعاطي ذلك. وقال القاضي عياض: المختار أن معناه أن من وافق خطه خط النبي، فذاك الذي يجدون إصابته فيما يقول، لا أنه أباح ذلك لفاعله (أي ليس معنى "فذاك" فذاك الخط يباح، وإنما معناه فمن وافق خطه خط النبي، فصدق قوله -والكثير لا يصدق- فذاك الذي يصدقونه) قال: ويحتمل أن هذا النسخ في شرعنا. قال النووي: فحصل من مجموع كلام العلماء فيه الاتفاق على النهي عنه الآن. (قالت: إن الكهان كانوا يحدثوننا بالشيء فيكون حقاً) في الرواية الثالثة والعشرين "قالت: سأل أناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليسوا بشيء" أي ليس قولهم بشيء يعتمد عليه، والعرب تقول لمن عمل شيئاً غير محكم: ما عمل شيئاً "قالوا: يا رسول الله، فإنهم يحدثون أحياناً الشيء يكون حقاً"؟ حمل الحافظ ابن حجر هذه الرواية على أنها تشير إلى الرواية الواحدة والعشرين، فقال: وقد سمي من سأل عن ذلك معاوية بن الحكم السلمي، وقد أورد السؤال إشكالاً على عموم قوله "ليسوا بشيء" لأنه فهم منه أنهم لا يصدقون أصلاً، فأجابه صلى الله عليه وسلم عن سبب ذلك الصدق، وأنه إذا اتفق أن يصدق، لم يكن صدقه خالصاً، بل مشوياً بالكذب. اهـ ولعل السؤال والجواب تكررا، ولا يقال: كيف وعائشة نفسها هي التي روت سؤال السائلين والجواب؟ فكيف تسأل نفس السؤال؟ لتسمع نفس الجواب؟ إذ يحتمل أنها سألت أولاً، وأجيبت، وجاء معاوية بن الحكم السلمي ومن معه، فسألوا، وعائشة تسمع، فأجيبوا، فروت سؤالهم والجواب. (تلك الكلمة الحق يخطفها الجني، فيقذفها في أذن وليه، ويزيد فيها مائة كذبة) بفتح الكاف وكسرها، والذال ساكنة فيهما، قال القاضي: وأنكر بعضهم الكسر، إلا إذا أراد الحالة والهيئة، وفي الرواية الثالثة والعشرين "أكثر من مائة كذبة" مما يدل على أن ذكر المائة للمبالغة، لا لتعيين العدد، وفي هذه الرواية "تلك الكلمة الحق" وفي الرواية الثالثة والعشرين "تلك الكلمة من الحن" وقال عنها النووي: في جميع نسخ بلادنا "تلك الكلمة من الجن" بالجيم والنون، أي الكلمة المسموعة من الجن، أو التي تصح مما نقلته الجن، وذكر القاضي في المشارق أنه روي هكذا، وروي أيضاً "من الحق" بالحاء والقاف. اهـ وقوله "يخطفها الجني" كذا للأكثر، وفي رواية "يخطفها من الجني" أي يخطفها الكاهن من الجني، أو الجني الذي يلقي إلى الكاهن يخطفها من جني آخر فوقه، و"يخطفها" بفتح الطاء، وقد تكسر، والخطف الأخذ بسرعة، وفي رواية "يحفظها" بالفاء بعدها ظاء، والأول هو المعروف. وقوله "فيقذفها في أذن وليه" أي يلقيها في أذن الكاهن، ويزيد الجني عليها مائة كذبة، أو ويزيد الكاهن عليها مائة كذبة، وفي الرواية الثالثة والعشرين "فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة، فيخلطون

فيها أكثر من مائة كذبة" قال النووي: "فيقرها" بفتح الياء وضم القاف وتشديد الراء و"قر الدجاجة" بفتح القاف، والدجاجة بفتح الدال الدجاجة المعروفة، قال أهل اللغة والغريب: القر ترديدك الكلام في أذن المخاطب، حتى يفهمه، يقول: قررته فيه أقره قراً، وقر الدجاجة صوتها إذا قطعته، فإن رددته قلت: قرقرت قرقرة، قال الخطابي وغيره: معناه أن الجني يقذف الكلمة إلى وليه الكاهن، فتسمعها الشياطين، كما تؤذن الدجاجة بصوتها صواحبها، فتتجاوب، قال: وفيه وجه آخر، وهي أن تكون الرواية "كقر الدجاجة" بالزاي، تدل عليه رواية البخاري "فيقرها في أذنه، كما تقر القارورة" قال: فذكر القارورة في هذه الرواية يدل على ثبوت الرواية بالزجاجة، قال القاضي: أما مسلم فلم تختلف الرواية فيه أنه "الدجاجة" بالدال، لكن رواية "القارورة" تصحح الزجاجة، قال القاضي: معناه: يكون لما يلقيه إلى وليه حسن كحسن القارورة عند تحريكها مع اليد أو على حجر. وقد بينت الرواية الرابعة والعشرون كيفية الخطف والقذف، فقالت: "ربنا -تبارك وتعالى اسمه-إذا قضى أمراً" أي إذا أمر ملائكته بأمر "سبح حملة العرش" ونزهوه خضوعاً وقبولاً وطاعة "ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم" أي ثم أهل السماء الذين يلونهم وهكذا "حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء الدنيا" ثم قال الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم؟ " أي يسأل الذين يلون حملة العرش حملة العرش شفاها عما أمر الله "فيخبرونهم ماذا قال، فيستخبر بعض أهل السموات بعضاً، حتى يبلغ الخبر أهل هذه السماء الدنيا، فتخطف الجن السمع" أي المسموع، لأنهم كانوا يسترقون السمع، ويقعدون في السماء الدنيا مقاعد للسمع "فيقذفون إلى أوليائهم، ويرمون به" أي إلى أوليائهم الكهان في الأرض "فما جاءوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يقرفون فيه، ويزيدون" قال النووي: هذه اللفظة "يقرفون فيه" ضبطوها على وجهين، أحدهما بالراء، والثاني بالذال، ومعناها يخلطون فيه الكذب، وفي رواية "يرقون" بضم الياء وفتح الراء وتشديد القاف، وصوبها بعضهم بفتح الياء، وإسكان الراء وفتح القاف، ومعناه يزيدون، يقال: رقي فلان إلى الباطل، بكسر القاف، أي رفعه، وأصله من الصعود، أي يدعون فيها فوق ما سمعوا. اهـ وفي ملحق الرواية زيادة الآية الكريمة {حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق} [سبأ: 23] والآية في نظم القرآن في الشفاعة، وسؤال من المشفوع لهم، وجواب من الشفعاء، وصدرها قوله تعالى {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} وكأنه جيء بها هنا استشهاداً على ما نحن بصدده، ومعناها على هذا: إذا تكلم الله بالوحي، في أي أمر من الأمور سمع حملة العرش، وملائكة كل سماء صوت العظمة والكبرياء، فيأخذهم انقباض وخوف، ويقعون مسبحين مصعوقين، كأنهم مغشي عليهم، فيفيق من له الأمر -جبريل أو ميكائيل أو عزرائيل أو غيرهم، فيتلقى أمر الله في كونه، ويفزغ عن قلوب حملة العرش ومن يليهم، أي يزول الفزع عن قلوبهم، فيسأل حملة العرش الموحى إليه عما أوحي إليه: ماذا قال ربكم؟ ويجيب الموحى إليهم: قال ربنا القول الحق -قال كذا وكذا مما سيقع حسب حكمته، ويسأل من يلي حملة العرش من الملائكة حملة العرش السؤال نفسه، فيجيبون الجواب نفسه، وهكذا حتى يصل السؤال والجواب بين الملائكة ملائكة السماء الدنيا، وحولهم جن يسترقون السمع. قال الألوسي: قال الطيبي: روينا عن البخاري والترمذي وابن ماجه، عن أبي هريرة أن رسول الله

صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قضى الله تعالى الأمر في السماء، ضربت الملائكة أجنحتها خضعاناً لقوله تعالى، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الذي قال: الحق، وهو العلي الكبير" وعند أبي داود عن ابن مسعود قال: إذا تكلم الله تعالى بالوحي، سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا، فيصعقون، فلا يزالون كذلك، حتى يأتيهم جبريل، فإذا أتاهم فزع عن قلوبهم، فيقولون: يا جبريل ماذا قال ربكم؟ فيقول: الحق. الحق". (من أتى عرافاً) عند أبي يعلى بسند جيد "من أتى عرافاً أو ساحرا أو كاهناً" والعراف بفتح العين وتشديد الراء من يستخرج الوقوف على المغيبات بضرب من فعل أو قول، فيدعي مثلاً علمه بالسارق ومكان المسروق، ويدعي معرفة الريبة، وأطرافها فيمن وقعت بها ريبة ونحو ذلك. (فسأله عن شيء، لم تقبل له صلاة أربعين ليلة) وعند أصحاب السنن وصححه الحاكم "من أتى كاهناً أو عرافاً، فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد" وعند الطبراني "من أتى كاهناً، فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد، ومن أتاه غير مصدق له، لم تقبل صلاته أربعين يوماً". واعتمد العلماء غير رواية الطبراني لصحتها وكثرتها، فالعبرة بتصديقه، لا بمجرد إتيانه، فقد يأتيه لمصلحة أخرى غير الكهانة، ولا بمجرد سؤاله عن شيء، فقد يسأله عن شيء ليكشف كذبه ودجله، وقد جاء الوعيد تارة بعدم قبول الصلاة، وتارة بالتكفير، فيحمل على حالين، إن كان الآتي معتقداً بأنه يصدق مرة ويكذب أخرى، فأتاه فصدقه تصديقاً غير جازم ناسبه الوعيد بعدم قبول الصلاة، وإن أتاه معتقداً علمه بالغيب علماً لا يخطئ، فصدقه تصديقاً جازماً، ناسبه الوعيد بالكفر. والله أعلم. (كان في وفد ثقيف رجل مجذوم) الجذام بضم الجيم وتخفيف الذال، قال الحافظ ابن حجر: هو علة رديئة، تحدث من انتشار المرة السوداء في البدن كله، فتفسد مزاج الأعضاء، وربما أفسد في آخره إيصالها، حتى يتآكل، قال ابن سيده: سمي بذلك لتجذم الأصابع وتقطعها. (إنا قد بايعناك فارجع) أي فلا تأتنا للبيعة، وابق مكانك، وارجع عن عزمك الحضور إلينا، فلا ضرورة لوضع يدك في يدي. -[فقه الحديث]- المسألة الرئيسية في هذا الباب العدوى، وتأثيرها، والجمع بين نفيها في قوله "لا عدوى" وبين ما يفيد إثباتها، في روايتنا الرابعة والخامسة والسادسة والعشرين ورواية البخاري "لا عدوى ولا طيرة، ولا هامة ولا صفر، وفر من المجذوم، كما تفر من الأسد" وعند ابن خزيمة "لا عدوى، إذا رأيت المجذوم ففر منه، كما تفر من الأسد" وأخرج ابن ماجه "لا تديموا النظر إلى المجذومين" وأخرج أبو نعيم "كلم المجذوم وبينك وبينه قيد رمحين" وأخرج الطبري "أن عمر قال لمعيقيب: اجلس مني قيد رمح" وقد سلك العلماء في هذه المسألة مسالك مختلفة نجملها فيما يلي:

1 - ذهب فريق منهم إلى الأخذ بحديث "لا عدوى" وتزييف الأخبار الدالة على عكس ذلك، وردها، فأعلوا حديث البخاري "وفر من المجذوم فرارك من الأسد" بالشذوذ، واستدلوا بأن عائشة أنكرت ذلك، فأخرج الطبري عنها أن امرأة سألتها عنه؟ فقالت: ما قال ذلك، ولكنه قال: لا عدوى، وقال: فمن أعدى الأول؟ قالت: وكان لي مولى به هذا الداء (الجذام) فكان يأكل في صحافي، ويشرب في أقداحي، وينام على فراشي" وبأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد مجذوم، فوضعها في القصعة وقال: كل ثقة بالله وتوكلا عليه". وبأن أبا هريرة تردد في هذا الحكم روايتنا الرابعة، فقوله "لا يورد ممرض على مصح" لا يؤخذ به، ويؤخذ الحكم من رواية غيره، وبأن الأخبار الواردة من رواية غيره في نفي العدوى كثيرة شهيرة، بخلاف أخبار المجذوم السابقة، فقد أخرج أحدها ابن ماجه، بسند ضعيف، وأخرج الثاني أبو نعيم بسند واه، وأخرج الثالث الطبري بسند منقطع، وأما حديث مسلم، روايتنا السادسة والعشرون، فليس صريحاً في أن ذلك بسبب الجذام. قال الحافظ ابن حجر: والجواب عن ذلك أن طريق الترجيح، لا يصار إليه إلا إذا تعذر الجمع، وهو ممكن. 2 - وذهب الفريق الثاني إلى مثل ما ذهب إليه الفريق الأول، لكنه قال: إن الأمر باجتناب المجذوم منسوخ، وممن قال بذلك عيسى بن دينار من المالكية، وجماعة من السلف. ويرد هذا بأن النسخ لا يصار إليه بالاحتمال، ولا بد فيه من معرفة المتأخر، وبأنه لا يصار إليه مع إمكان الجمع، وهو ممكن. 3 - وذهب الفريق الثالث إلى عكس الفريقين السابقين، فردوا حديث "لا عدوى" بأن أبا هريرة رجع عنه، في روايتنا الرابعة، إما لشكه فيه، وإما لثبوت عكسه عنده، قالوا: والأخبار الدالة على الاجتناب أكثر مخارج، وأكثر طرقاً، فالمصير إليها أولى، فهناك عدوى ويجب الفرار منها، قالوا: وأما حديث جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد مجذوم فوضعها في القصعة .. إلخ ففيه نظر، وقد أخرجه الترمذي وبين الاختلاف فيه على راويه، ورجح وقفه على عمر، وعلى تقدير ثبوته فليس فيه أنه صلى الله عليه وسلم أكل معه، وإنما فيه أنه وضع يده في القصعة، وعلى فرض أنه أكل معه، فيحتمل أن جذام هذا المجذوم كان يسيراً، لا يعدي مثله في العادة، إذ ليس الجذمي كلهم سواء، ولا يحصل العدوى من جميعهم، ويحتمل أن هذا المجذوم كان جذامه قد توقف عن أن يعدي بقية جسمه، فلا يعدي غيره. ويقول الطبائعيون بتأثير الأشياء بعضها في بعض، وإيجادها إياها، فالبعير الأجرب يؤثر في السليم، وينقل الجرب إليه، ويوجد الجرب في السليم، وسموا المؤثر طبيعة. ويقول المعتزلة: إن الله خلق الأسباب والمسببات، وربطها ببعضها، فالأسباب توجد المسببات، وتؤثر فيها بذاتها، بل يعبرون عن هذا التأثير بالخلق، فيقولون: إن البعير الأجرب خلق الجرب واخترعه في البعير الصحيح. ويقول أهل السنة المثبتون للعدوى: إن الله تعالى شاءت حكمته أن يخلق مرضاً في البعير السليم مشبهاً مرض المريض عند مخالطة الأجرب للصحيح، من غير تأثير لهذه المخالطة، فالفاعل المؤثر في الكون كله هو الله تعالى وحده.

واستند الطبائعيون والمعتزلة إلى المشاهدة الحسية، ونسبوا من أنكر ذلك إلى إنكار البديهة. ويرد أهل السنة على هاتين الطائفتين، بأنهما التبس عليهما إدراك الحس بإدراك العقل، فإن المشاهد إنما هو تأثر شيء عند شيء آخر، وهذا حظ الحس، فأما تأثيره فيه، فهو حظ العقل؛ فالحس أدرك وجود شيء عند وجود شيء، وارتفاعه عند ارتفاعه، أما إيجاده به فليس للحس فيه مدخل، ولو كان التأثير لطبيعة المخالطة لم يتخلف عند وجودها، لكن كثيراً ما تقع المخالطة ولا يقع التأثير، ولا ينتقل المرض من الأجرب للسليم. 4 - وذهب الفريق الرابع إلى تصحيح الحديثين معاً، والأخذ بهما، والجمع بينهما، فقالوا: إثبات العدوى في الجذام ونحوه مخصوص من عموم نفي العدوى، فيكون معنى قوله "لا عدوى" أي إلا من الجذام والبرص والجرب مثلاً، فكأنه قال: لا يعدي شيء شيئاً إلا ما بينت أن فيه العدوى حكاه ابن بطال، وذكره القاضي أبو بكر الباقلاني. 5 - وذهب الفريق الخامس إلى ما ذهب إليه الفريق الرابع، من تصحيح الحديثين معاً، والأخذ بهما، والجمع بينهما، لكنهم قالوا في الجمع: العمل بنفي العدوى أصلاً ورأساً، والأمر بالمجانبة، وعدم ورود الممرض على المصح، والفرار من المجذوم إنما هو حماية للصحيح، وليس من العدوى، وإنما أمر به حسماً للمادة، وسداً للذريعة، لئلا يحدث للمخالط شيء من ذلك، بتقدير الله وإرادته صرفاً، فيظن أنه بسبب المخالطة، فيثبت العدوى التي نفاها الشارع، وإلى هذا القول ذهب أبو عبيد، وتبعه جماعة، فقال أبو عبيد: ليس في قوله "لا يورد ممرض على مصح" إثبات العدوى، بل لأن الصحاح لو مرضت بتقدير الله تعالى، ربما وقع في نفس صاحبها أن ذلك من العدوى، فيفتتن، ويتشكك في ذلك، فأمر بالاجتناب، وأطنب ابن خزيمة في هذا في كتاب التوكل، وعرض أحاديث نفي العدوى، وأحاديث الاجتناب، ثم قال: إنما أمرهم صلى الله عليه وسلم بالفرار من المجذوم، ونهاهم أن يورد الممرض على المصح، شفقة عليهم، وخشية أن يصيب بعض من يخالطه المجذوم الجذام، وأن يصيب الصحيح من الماشية الجرب، فسبق إلى نفس المسلم أن ذلك من العدوى، فيثبت العدوى التي نفاها صلى الله عليه وسلم، فأمرهم بتجنب ذلك، شفقة منه ورحمة، ليسلموا من التصديق بإثبات العدوى، وبين لهم أنه لا يعدي شيء شيئاً، قال: ويؤيد هذا أكله صلى الله عليه وسلم مع المجذوم، ثقة بالله، وتوكلاً عليه وقال الطبري: الصواب عندنا القول بما صح به الخبر، وأن لا عدوى، وأنه لا يصيب نفساً إلا ما كتب عليها، وأما دنو عليل من صحيح فغير موجب لانتقال العلة من المريض إلى الصحيح، إلا أنه لا ينبغي لذي صحة، الدنو من صاحب العاهة، التي يكرهها الناس، لا لتحريم ذلك، بل لخشية أن يظن الصحيح -إذا نزل به ذلك الداء- أنه من جهة دنوه من العليل، فيقع فيما أبطله النبي صلى الله عليه وسلم من العدوى، قال: وليس في أمره صلى الله عليه وسلم بالفرار من المجذوم معارضة لأكله معه، لأنه كان يأمر بالأمر على سبيل الإرشاد أحياناً، وعلى سبيل الإباحة أخرى، وإن كان أكثر الأوامر على الإلزام، وإنما كان يفعل ما نهي عنه أحياناً لبيان أن ذلك ليس حراماً. وقد سلك الطحاوي في معاني الآثار مسلك ابن خزيمة، فيما ذكره، فأورد حديث "لا يورد ممرض على مصح" ثم قال: معناه أن المصح قد يصيبه ذلك المرض، فيقول: لولا أن خالطني المريض ما

مرضت، والواقع أنه لو لم يورد عليه الممرض، لأصابه، لكون الله تعالى قدره، فنهي عن إيراده لهذه العلة التي لا يؤمن غالباً من وقوعها في قلب المرء. 6 - وذهب الفريق السادس إلى ما ذهب إليه الفريق الخامس، من تصحيح الحديثين معاً، والأخذ بهما، والجمع بينهما، ونفي العدوى أصلاً ورأساً، أما الأمر بمجانبة المريض، والفرار من المجذوم، والنهي عن إيراد الممرض على المصح، فليس خوفاً من العدوى، وإنما هو حماية للمصح من التقزر والتأذي من المريض ورائحته وقبح منظره، قال القرطبي في المفهم: إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إيراد الممرض على المصح، وأمر بالفرار من المجذوم، مخافة تشويش النفوس، وتأثير الأوهام، وإن كنا نعتقد أن الجذام لا يعدي، لكنا نجد في أنفسنا نفرة وكراهية لمخالطته، حتى لو أكره إنسان نفسه على القرب منه، وعلى مجالسته، لتأذت نفسه بذلك، حينئذ فالأولى للمؤمن أن لا يتعرض إلى ما يحتاج فيه إلى مجاهدة، فيتجنب طرق الأوهام، ويبتعد عن أسباب الآلام، مع أنه يعتقد أنه لا ينجي حذر من قدر. اهـ وقال البيهقي: الجذام والبرص ونحوهما داء مانع للجماع، لا تكاد نفس أحد تطيب بمجامعة من هو به، ولا نفس امرأة أن يجامعها من هو به. اهـ وقال ابن قتيبة: المجذوم تشتد رائحته، حتى يسقم من أطال مجالسته ومحادثته ومضاجعته. 7 - وذهب الفريق السابع إلى ما ذهب إليه الفريق السادس، لكنه قال: إن الأمر بالفرار من المجذوم، والنهي عن إيراد الممرض على المصح ليس خوفاً من العدوى، وإنما هو حماية للممرض من أن يتأذى بالمصح، فتزداد حسرته ويتعظم مصيبته، حينما يرى النعمة المفقودة عنده موجودة عند غيره، بل إن كثيراً من المرضى يكرهون أن يرى الأصحاء مرضهم، فيتضايقون إذا رأوهم وتزيد حسرتهم على أمراضهم. وهذا المسلك بعيد، لأنه لو كان مراداً لأمر الأصحاء بعدم القدوم على المرضى حفاظاً على مشاعر المرضى، ولأمر المرضى بالفرار من الأصحاء والبعد عنهم، حماية لأنفسهم. 8 - وذهب الفريق الثامن إلى حمل الخطاب بالنفي والإثبات على حالتين مختلفتين، فالمخاطب بقوله "لا عدوى" من قوي يقينه، وعظم توكله، بحيث لا يستطيع أن يدفع عن نفسه اعتقاد العدوى كما يستطيع أن يدفع التطير الذي يقع في نفس كل أحد، لكن القوي اليقين لا يتأثر به، فيجزم يقينه الداخلي بأنه لا عدوى، ولا قيمة للأسباب. فالله وحده الفعال لما يريد، أما المخاطب بقوله "وفر من المجذوم" فهو من ضعف يقينه، ولم يتمكن من تمام التوكل، فهناك مقامان: شديدو التوكل قيل لهم: لا عدوى، وضعافه قيل لهم: فروا. فكأنه قال: أيها المتوكلون ازدادوا توكلاً، فلا عدوى، ويا أيها الضعاف فروا، لئلا تزدادوا ضعفاً في التوكل، فتعتقدوا في العدوى. قال ابن أبي جمرة: ويمكن الجمع بين فعله (بالأكل مع المجذوم) وقوله "فر من المجذوم" بأن القول هو المشروع من أجل ضعف المخاطبين، وفعله حقيقة الإيمان، فمن فر من المجذوم أصاب السنة، وآثر الحكمة، ومن أكل مع المجذوم وخالطه كان أقوى يقيناً، لأن الأشياء كلها، لا تأثير لها، إلا بمقتضى إرادة الله تعالى وتقديره، كما قال تعالى (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله) [البقرة: 102] فمن كان قوي اليقين فله أن يتابعه

صلى الله عليه وسلم في فعله، ولا يضره شيء، ومن وجد في نفسه ضعفاً، فليتبع أمره بالفرار، لئلا يدخل بفعله في إلقاء نفسه إلى التهلكة. والحاصل أن الأمور التي يتوقع فيها الضرر -وقد أباحت الحكمة الربانية الحذر منها- لا ينبغي للضعفاء أن يقربوها، وأما أصحاب الصدق واليقين فهم في ذلك بالخيار. اهـ وللصوفية قصص في لقاء الأسود، ومعاشرة السباع، يؤكدون بها هذا المعنى. 9 - المذهب التاسع -وهو ما نميل إليه- أن الجاهلية كانوا يعتقدون أن الأمراض تعدي بطبعها، من غير أن يسندوا شيئاً منها إلى الله تعالى، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم اعتقادهم ذلك بقوله "لا عدوى" أي لا عدوى تؤثر بذاتها بل تأثيرها بإرادة الله تعالى، ولا شيء يعدي بطبعه، وأكل من المجذوم ليبين لهم أن الله هو الذي يمرض ويشفي، ونهاهم عن الدنو من المجذوم، ليبين لهم أن هذا من الأسباب التي أجرى الله العادة بأنها تفضي إلى مسبباتها، ففي نهيه إثبات الأسباب، وفي فعله إشارة إلى أنها لا تستقل، بل الله تعالى هو الذي إن شاء سلبها قواها، فلا تؤثر شيئاً، وإن شاء أبقاها، فأثرت. والله أعلم. ملحوظة: هذه المسألة لها علاقة وثيقة بأحاديث الباب الذي قبل هذا الباب، فلتراجع. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم: ]- 1 - قال العلماء: الجامع لهذه المسائل ارتباطها بالضرر، توقعه، وحصوله، وعدم حصوله، فما لا يقع به الضرر أصلاً، ولا يطرد بصفة عامة، ولا خاصة، مثل له بالطيرة وإتيان الكهان، ودعا الشارع إلى عدم الالتفات إليه؛ وما يقع عنده الضرر، لكنه نادر كالعدوى والوباء فلا يقدم عليه، وما يقع منه الضرر، لكنه خاص، وهو متاعب المرأة والفرس والدار، وهذا يباح الفرار منه. 2 - ومن الرواية الأولى نفي العدوى، وقد فصلنا القول فيه في المباحث العربية. 3 - جواز مناقشة الطالب أستاذه إذا وقعت له شبهة. 4 - قال القرطبي: في جواب النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي جواز مشافهة من وقعت له شبهة في اعتقاده، بذكر البرهان العقلي، إذا كان السائل أهلاً لفهمه، وأما من كان قاصراً فيخاطب بما يحتمله عقله من الإقناعات. 5 - ومن تشبيه الإبل بالظباء، وقوع تشبيه الشيء بالشيء، إذا جمعهما وصف خاص، ولو تبايناً في الصورة. 6 - وفيه نفي ما كانت الجاهلية تعتقده في "صفر" سواء في حية البطن، أو في نقل شهر مكان شهر آخر، كما سبق في المباحث العربية. 7 - وفيه نفي ما كانت الجاهلية تعتقده في الهامة. 8 - وفي الرواية الرابعة، في تفسير أبي هريرة للحارث، ما رطن به بالحبشية، شدة ورع أبي هريرة،

لأنه مع كون الحارث أغضبه، خشي أن يظن الحارث أنه قال فيه شيئاً يكرهه ففسر له في الحال ما قال. 9 - ومن الرواية السادسة نفي تأثير النجوم في المطر. 10 - ومن الرواية السابعة والثامنة والتاسعة نفي ما كانت الجاهلية تعتقده في وجود الغيلان. 11 - ومن الرواية العاشرة والروايات الأربع بعدها جواز التفاؤل واستحبابه. 12 - ونفي الطيرة والتشاؤم وكراهيتها، وقد أخرج الطبري عن عكرمة، قال: كنت عند ابن عباس، فمر طائر، فصاح، فقال رجل: خير. خير، فقال ابن عباس: ما عند هذا لا خير ولا شر. وفي الحديث "من تكهن، أو رده عن سفر تطير فليس منا" وعند ابن حبان "لا طيرة، والطيرة على من تطير" وعند ابن عدي "إذا تطيرتم فامضوا، وعلى الله فتوكلوا" وعند الطبراني "لن ينال الدرجات العلا من تكهن أو استقسم أو رجع من سفر تطيراً" وعند أبي داود والترمذي وصححه هو وابن حبان عن ابن مسعود رفعه "الطيرة شرك (قال ابن مسعود: ) وما منا إلا تطير -ولكن الله يذهبه بالتوكل" وعند عبد الرزاق "ثلاثة لا يسلم منهن أحد، الطيرة والظن والحسد، فإذا تطيرت فلا ترجع، وإذا حسدت فلا نبغ، وإذا ظننت فلا تحقق" قال العلماء: إذا اعتقد أن الذي يشاهده من حال الطير أو غيره موجباً ما ظنه ولم يضف التدبير إلى الله تعالى، كان ذلك شركاً، أو قريباً من الشرك، فأما إن علم أن الله هو المدبر، ولكنه أشفق من الشر، لأن التجارب قضت بأن صوتاً من أصواتها معلوماً، أو حالاً من أحوالها معلومة، يعقبها مكروه، فإن وطن نفسه على ذلك أساء، وإن سأل الله الخير، واستعاذ من الشر، ومضى متوكلاً لم يضره ما وجده في نفسه من ذلك، وإلا فيؤخذ به، وربما وقع به ذلك المكروه بعينه، الذي اعتقده، عقوبة له، كما كان يقع كثيراً لأهل الجاهلية. وعلى المسلم، إذا دخل نفسه شيء من التطير أن يقول: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك. 13 - ومن الرواية الواحدة والعشرين النهي عن إتيان الكهان. 14 - والنهي عن التكهن، قال القرطبي: كانوا في الجاهلية يترافعون إلى الكهان في الوقائع والأحكام، ويرجعون إلى أقوالهم، وقد انقطعت الكهانة بالبعثة المحمدية، لكن بقي في الوجود من يتشبه بهم، وثبت النهي عن إتيانهم، فلا يحل إتيانهم ولا تصديقهم. 15 - ومن الرواية الثانية والعشرين كيف يتلقى الملائكة الوحي والأمر. 16 - وكيف يحدث بعضهم بعضاً. 17 - وكيف كان الجن يسترقون السمع. 18 - وكيف كان الكهنة يعلمون شيئاً من الغيب. 19 - عدم قبول صلاة من أتى العراف، قال النووي: وأما عدم قبول صلاته فمعناه أنه لا ثواب له فيها، وإن كانت مجزئة في سقوط الفرض عنه، ولا يحتاج معها إلى إعادة، ونظير هذه الصلاة في

الأرض المغصوبة، مجزئة، مسقطة للقضاء، ولكن لا ثواب فيها، كذا قال جمهور أصحابنا، قالوا: فصلاة الفرض وغيرها من الواجبات، إذا أتى بها على وجهها الكامل، ترتب عليها شيئان، سقوط الفرض عنه، وحصول الثواب، فإذا أداها في أرض مغصوبة حصل الأول، دون الثاني. قال: ولا بد من هذا التأويل في هذا الحديث، فإن العلماء متفقون على أنه لا يلزم من أتى العراف إعادة صلوات أربعين ليلة، فوجب تأويله. 20 - وتفريعاً على الرواية السادسة والعشرين قال القاضي عياض: قال بعض العلماء: في هذا الحديث وما في معناه دليل على أنه يثبت للمرأة الخيار، في فسخ النكاح، إذا وجدت زوجها مجذوماً، أو حدث به جذام، قال: قالوا ويمنع من المسجد، والاختلاط بالناس، قال: وكذلك اختلفوا فيما إذا كثر المجذومون، هل يؤمرون أن يتخذوا لأنفسهم موضعاً منفرداً، خارجاً عن الناس؟ أم لا يلزمهم التنحي؟ وهل يمنعون من التصرف في منافعهم؟ الأكثرون على أنهم لا يمنعون، قال: ولم يختلفوا في القليل منهم أنهم لا يمنعون من صلاة الجمعة مع الناس، ويمنعون من غيرها، قال: ولو استضر أهل قرية -فيها جذمى- بمخالطتهم الماء، فإن قدروا على استنباط ماء بلا ضرر أمروا به، وإلا استنبط لهم الآخرون، أو أقاموا من يستقي لهم، وإلا فلا يمنعون. والله أعلم

فتح المنعم شرح صحيح مسلم تابع كتاب الطب والمرض - كتاب الأدب من الألفاظ وغيرها - كتاب الشعر - كتاب الرؤيا - كتاب الفضائل - كتاب البر والصلة والآداب الجزء التاسع الأستاذ الدكتور موسى شاهين لاشين دار الشروق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

فتح المنعم شرح صحيح مسلم 9 -

جميع حقوق النشر والطبع محفوظة الطبعة الأولى 1423 - هـ - 2002 م دار الشروق القاهرة: 8 شارع سيبويه المصري -رابعة العدوية- مدينة نصر ص. ب.: 33 البانوراما -تليفون: 4023399 - فاكس: 4037567 (202) e-mail: dar@ shorouk.com - www.shorouk.com بيروت: ص. ب.: 8064 - هاتف: 315859 - 817213 - فاكس: 315859 1 (961)

تابع كتاب الطب والمرض

(599) باب قتل الحيات والأبتر والوزغ والهرة وسقي البهائم

(599) باب قتل الحيات والأبتر والوزغ والهرة وسقي البهائم 5077 - عن عائشة رضي الله عنها. قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل ذي الطفيتين؛ فإنه يلتمس البصر ويصيب الحبل. 5078 - وفي رواية عن هشام بهذا الإسناد، وقال: الأبتر وذو الطفيتين. 5079 - عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "اقتلوا الحيات وذا الطفيتين والأبتر، فإنهما يستسقطان الحبل ويلتمسان البصر" قال: فكان ابن عمر يقتل كل حية وجدها، فأبصره أبو لبابة بن عبد المنذر أو زيد بن الخطاب وهو يطارد حية، فقال: إنه قد نهي عن ذوات البيوت. 5080 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بقتل الكلاب يقول: "اقتلوا الحيات والكلاب، واقتلوا ذا الطفيتين والأبتر؛ فإنهما يلتمسان البصر ويستسقطان الحبالى" قال الزهري: ونرى ذلك من سميهما والله أعلم. قال سالم: قال عبد الله بن عمر: فلبثت لا أترك حية أراها إلا قتلتها، فبينا أنا أطارد حية يوما من ذوات البيوت، مر بي زيد بن الخطاب أو أبو لبابة وأنا أطاردها، فقال: مهلا يا عبد الله. فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتلهن. قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عن ذوات البيوت. 5081 - وعن الزهري بهذا الإسناد، غير أن صالحا قال: حتى رآني أبو لبابة بن عبد المنذر وزيد بن الخطاب، فقالا: إنه قد نهى عن ذوات البيوت. وفي حديث يونس: "اقتلوا الحيات ولم يقل ذا الطفيتين والأبتر". 5082 - عن نافع أن أبا لبابة كلم ابن عمر ليفتح له بابا في داره يستقرب به إلى

المسجد، فوجد الغلمة جلد جان، فقال عبد الله: التمسوه فاقتلوه. فقال أبو لبابة: لا تقتلوه؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الجنان التي في البيوت. 5083 - عن نافع قال: كان ابن عمر يقتل الحيات كلهن، حتى حدثنا أبو لبابة بن عبد المنذر البدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل جنان البيوت فأمسك. 5084 - عن نافع أنه سمع أبا لبابة يخبر ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الجنان. 5085 - عن أبي لبابة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ح وحدثني عبد الله بن محمد بن أسماء الضبعي، حدثنا جويرية، عن نافع، عن عبد الله؛ أن أبا لبابة أخبره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الجنان التي في البيوت. 5086 - عن نافع أن أبا لبابة بن عبد المنذر الأنصاري، وكان مسكنه بقباء، فانتقل إلى المدينة، فبينما عبد الله بن عمر جالسا معه يفتح خوخة له إذا هم بحية من عوامر البيوت، فأرادوا قتلها. فقال أبو لبابة: إنه قد نهي عنهن، يريد عوامر البيوت، وأمر بقتل الأبتر وذي الطفيتين. وقيل: هما اللذان يلتمعان البصر ويطرحان أولاد النساء. 5087 - عن عمر بن نافع، عن أبيه قال: كان عبد الله بن عمر يوما عند هدم له فرأى وبيص جان، فقال: اتبعوا هذا الجان فاقتلوه. قال أبو لبابة الأنصاري: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الجنان التي تكون في البيوت إلا الأبتر وذا الطفيتين، فإنهما اللذان يخطفان البصر ويتتبعان ما في بطون النساء. 5088 - وفي رواية عن نافع، أن أبا لبابة مر بابن عمر وهو عند الأطم الذي عند دار عمر بن الخطاب يرصد حية. بنحو حديث الليث بن سعد.

5089 - عن عبد الله قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار، وقد أنزلت عليه والمرسلات عرفا، فنحن نأخذها من فيه رطبة، إذ خرجت علينا حية، فقال: "اقتلوها" فابتدرناها لنقتلها، فسبقتنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وقاها الله شركم كما وقاكم شرها". 5090 - عن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر محرما بقتل حية بمنى. 5091 - وفي رواية عن عبد الله قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار. بمثل حديث جرير وأبي معاوية. 5092 - عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة أنه دخل على أبي سعيد الخدري في بيته قال: فوجدته يصلي، فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته، فسمعت تحريكا في عراجين في ناحية البيت، فالتفت فإذا حية، فوثبت لأقتلها، فأشار إلي أن اجلس، فجلست، فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار، فقال: أترى هذا البيت؟ فقلت: نعم. قال: كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس. قال: فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار فيرجع إلى أهله فاستأذنه يوما، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذ عليك سلاحك، فإني أخشى عليك قريظة" فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع، فإذا امرأته بين البابين قائمة، فأهوى إليها الرمح ليطعنها به، وأصابته غيرة. فقالت له: اكفف عليك رمحك وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني. فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به ثم خرج فركزه في الدار، فاضطربت عليه فما يدرى أيهما كان أسرع موتا الحية أم الفتى. قال: فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له، وقلنا ادع الله يحييه لنا. فقال: "استغفروا لصاحبكم" ثم قال: "إن بالمدينة جنا قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان".

5093 - عن أبي السائب قال: دخلنا على أبي سعيد الخدري، فبينما نحن جلوس إذ سمعنا تحت سريره حركة، فنظرنا فإذا حية. وساق الحديث بقصته نحو حديث مالك عن صيفي وقال فيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لهذه البيوت عوامر، فإذا رأيتم شيئا منها فحرجوا عليها ثلاثا، فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر" وقال: "لهم اذهبوا فادفنوا صاحبكم". 5094 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعته قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بالمدينة نفرا من الجن قد أسلموا، فمن رأى شيئا من هذه العوامر فليؤذنه ثلاثا، فإن بدا له بعد فليقتله فإنه شيطان". 5095 - عن أم شريك رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بقتل الأوزاغ. وفي حديث ابن أبي شيبة: أمر. 5096 - عن أم شريك رضي الله عنها أنها استأمرت النبي صلى الله عليه وسلم في قتل الوزغان، فأمر بقتلها. وأم شريك إحدى نساء بني عامر بن لؤي. اتفق لفظ حديث ابن أبي خلف وعبد بن حميد وحديث ابن وهب قريب منه. 5097 - عن عامر بن سعد، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ وسماه فويسقا. 5098 - عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "للوزغ الفويسق" زاد حرملة قالت ولم أسمعه أمر بقتله. 5099 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل وزغة في أول

ضربة فله كذا وكذا حسنة، ومن قتلها في الضربة الثانية فله كذا وكذا حسنة لدون الأولى، وإن قتلها في الضربة الثالثة فله كذا وكذا حسنة لدون الثانية". 5100 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى حديث خالد عن سهيل إلا جريرا وحده فإن في حديثه: "من قتل وزغا في أول ضربة كتبت له مائة حسنة وفي الثانية دون ذلك وفي الثالثة دون ذلك". 5101 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "في أول ضربة سبعين حسنة". 5102 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن نملة قرصت نبيا من الأنبياء، فأمر بقرية النمل فأحرقت، فأوحى الله إليه أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح". 5103 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نزل نبي من الأنبياء تحت شجرة فلدغته نملة، فأمر بجهازه فأخرج من تحتها ثم أمر بها فأحرقت، فأوحى الله إليه فهلا نملة واحدة". 5104 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نزل نبي من الأنبياء تحت شجرة فلدغته نملة، فأمر بجهازه فأخرج من تحتها، وأمر بها فأحرقت في النار قال فأوحى الله إليه فهلا نملة واحدة". 5105 - عن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عذبت امرأة في هرة سجنتها

حتى ماتت فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض". 5106 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عذبت امرأة في هرة، لم تطعمها ولم تسقها، ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض". 5107 - وفي رواية عن هشام بهذا الإسناد، وفي حديثهما: ربطتها. وفي حديث أبي معاوية "حشرات الأرض". 5108 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرا فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر فملا خفه ماء، ثم أمسكه بفيه حتى رقي فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له. قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في هذه البهائم لأجرا؟ فقال: "في كل كبد رطبة أجر". 5109 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن امرأة بغيا رأت كلبا في يوم حار يطيف ببئر قد أدلع لسانه من العطش، فنزعت له بموقها، فغفر لها". 5110 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "بينما كلب يطيف بركية قد كاد يقتله العطش، إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل، فنزعت موقها، فاستقت له، به فسقته إياه، فغفر لها به". -[المعنى العام]- منذ هبط آدم من الجنة إلى الأرض كان لا بد أن يتعامل مع ما حوله من المخلوقات، ليتواءم ويعيش، ذلل الله تعالى له ولبنيه بعض مخلوقاته، فاستخدمها وانتفع بها من أحياء البحر واليابسة،

ولم يذلل له بعضا آخر، علمه كيف يتعامل معها، وكيف يتقي شرها، ويأخذ حذره منها، أو كيف يقضي عليها، ويتخلص منها، ليكون له في هذا الكفاح والشقاء أجر وثواب. من هذه المخلوقات الشريرة المؤذية لبني آدم الأفاعي والحيات والثعابين والعقارب، وشر هذا النوع ما يعرف بالأبتر، وهو ثعبان قصير الذيل، يسحب بصر الإنسان إذا وقع بصره على بصره، وما يعرف بذي الطفيتين، أي صاحب الخطين الممتدين على ظهره، وهو ثعبان إذا نظرت إليه الحامل سقط حملها، حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتل الأفاعي عامة، ووصى بقتل الأبتر وذات الطفيتين منها بصفة خاصة. ومن هذه المخلوقات الضارة المؤذية الوزغ أو الأبرص، فأمر صلى الله عليه وسلم بقتله، وسماه فويسقا، وقال عنه إنه خارج عن طبيعة المخلوقات المسالمات إلى طبيعة الحشرات المؤذيات، واستنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم همم المسلمين لقتله، فوعد من قتله بضربة واحدة بالأجر الكبير، ودونه من قتله بضربتين، ودونه من قتله بثلاث ضربات أو ما بعدها. أما النمل فبعضه يؤذي وبعضه لا يؤذي، فرخص الشارع قتل المؤذي في حدود دفع الأذى. ثم أوصى الشارع بالحيوانات الأليفة خيرا، أوصى بالإحسان إليها، وإطعامها وسقيها، وعدم إيذائها، فقد حبست امرأة هرة، فلا هي أطعمتها وسقتها، ولا هي تركتها بدون حبس، لتبحث لها عن حشرة تأكلها، وتجد لها ماء تشربه، لكنها حبستها، حتى ماتت جوعا، وعطشا، هذه المرأة أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أنها ستعذب بالنار يوم القيامة. وهذا رجل يمشي في صحراء، يشتد عليه العطش، حتى كاد يهلكه، أخذ يبحث عن ماء، فوجد بئرا، نزل فشرب، فلما خرج من البئر وجد كلبا يلهث، ويخرج لسانه جافا من شدة العطش يلعق بلسانه التراب، لعله يجد فيه رطوبة تخفف عنه جفاف اللسان والعطش، فقال الرجل: لقد بلغ العطش بهذا الكلب مثل ما بلغ بي، فنزل البئر ثانية، فلم يجد ما يرفع به الماء للكلب سوى خفه، فملأ واحدا من خفيه، وأمسكه بفمه، ليتمكن من الصعود من البئر بيديه، حتى خرج من البئر، فسقى الكلب حتى روي، فشكر الله لهذا الرجل إحسانه إلى الكلب، فغفر له ذنوبه. وهذه امرأة بغي، زانية، ترى كلبا يلهث من العطش، فتأخذها الشفقة على الكلب فتخلع حذاءها، وتملؤه ماء، وتسقي به الكلب، فيشكر الله لها، فيغفر لها زناها. وقع ذلك في الأمم السابقة، ويحكيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه، مرغبا في الإحسان إلى الحيوان، فيقول الصحابة: إذن لنا أجر في سقينا دوابنا؟ فيقول صلى الله عليه وسلم: نعم إن في إروائكم لأي حيوان أجرا وثوابا. -[المباحث العربية]- (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل ذي الطفيتين) أي صاحب الطفيتين، والطفيتان تثنية طفية، بضم الطاء وسكون الفاء وفتح الياء، وهي خوصة شجر المقل، بضم الميم وسكون القاف، وهو شجر

الدوم، بفتح الدال، وهو يشبه النخل، وتطلق الطفية على الخط الأبيض، أو الأسود، أو الأصفر على ظهر الحية، وتطلق عبارة "ذات الطفيتين على حية لينة خبيثة، على ظهرها خطان، وكأنهما مشبهان بخوصتي المقل، وكان حقه أن يقول: ذات الطفيتين، فهي حية، ولكنه أريد النوع، فكأنه قال: اقتلوا هذا النوع. وفي ملحق الرواية "الأبتر وذو الطفيتين" وفي الرواية الثانية "اقتلوا الحيات، وذا الطفيتين والأبتر" فعطفهما على الحيات من عطف الخاص على العام، وفي الرواية الثالثة "اقتلوا الحيات والكلاب، واقتلوا ذا الطفيتين والأبتر" والأبتر نوع من الحيات، مقطوع الذنب، وقيل: الأبتر الحية القصيرة الذنب، وقال الداودي: هي الأفعى التي تكون قدر شبر أو أكبر قليلا، وعطف الأبتر على ذي الطفيتين يقتضي أنهما متغايران، لكن جاء في رواية "لا تقتلوا الحيات، إلا كل أبتر ذي طفيتين". فظاهر هذه الرواية أنهما متحدان، قال الحافظ ابن حجر: لكن لا ينفى المغايرة. اهـ. فقد تكون ذات الطفيتين طويلة الذنب، وقد تكون قصيرة الذنب، فأمر بقتل النوعين في رواية، وأمر بقتل نوع في رواية. والثعبان ذكر الحيات، وقيل: الكبير من الحيات، ذكرا كان أو أنثى، والأفاعي جمع أفعى، وهي الأنثى من الحيات، والذكر منها "أفعوان" بضم الهمزة والعين، بينهما فاء ساكنة، وكنية الأفعوان أبو حيان، وأبو يحيى، لأنه يعيش ألف سنة، وهو الشجاع الأسود، الذي يواثب الإنسان، قالوا: ومن صفة الأفعى أنها إذا قفئت عينها عادت، ولا تغمض حدقتها أبدا، والأساود جمع أسود، قال أبو عبيد: هي حية فيها سواد، وهي أخبث الحيات، ويقال له: أسود سالخ، لأنه يسلخ جلده كل عام، وفي سنن أبي داود والنسائي "أعوذ بالله من أسد وأسود" وقيل: هي حية رقيقة رقشاء، دقيقة العنق، عريضة الرأس، وربما كانت ذات قرنين، والهاء في الحية للوحدة، كدجاجة. (فإنه يلتمس البصر، ويصيب الحبل) والضمير لذي الطفيتين، وفي الرواية الثانية "فإنهما يستسقطان الحبل، ويلتمسان البصر" والضمير لذي الطفيتين والأبتر، وإسناد الفعل لهما لا يتعارض مع إسناده لأي منهما، والحبل بفتح الحاء والباء حمل المرأة، "ويستسقطان" أي يصيران الحمل سقطا، ومعنى "يلتمسان البصر" أي يقصدانه، فيذهبان، وفي الرواية الثالثة "ويستسقطان الحبالى" وفي الرواية التاسعة "فإنهما اللذان يخطفان البصر، ويتتبعان ما في بطون النساء" أي يسقطانه، مجاز بذكر السبب، وإرادة المسبب. وفي الرواية الثامنة "هما اللذان يلتمعان البصر، ويطرحان أولاد النساء" وفي رواية البخاري "فإنهما يطمسان البصر" أي يمحوان نوره، وفي رواية "ويذهب البصر" وفي رواية "فإنه يسقط الولد" وفي رواية "ويذهب الحبل" وكلها بمعنى. قال نضر بن شميل: الأبتر صنف من الحيات أزرق، مقطوع الذنب، لا تنظر إليه حامل إلا ألقت ما في بطنها. قال النووي: معنى "يستسقطان الحبل" أن المرأة الحامل إذا نظرت إليهما، وخافت، أسقطت الحمل غالبا، وقد ذكر مسلم في روايتنا الثالثة قول الزهري "ونرى ذلك من سميهما" بضم نون "نرى" أي نظن، قال: وأما "يلتمسان البصر" ففيه تأويلان، ذكرهما الخطابي وآخرون، أحدهما: معناه يخطفان البصر ويطمسانه، بمجرد نظرهما إليه، لخاصة جعلها الله تعالى في بصريهما، إذا

وقع على بصر الإنسان، ويؤيد هذا التأويل الرواية الثامنة "يلتمعان البصر" والتاسعة "يخطفان البصر" والتأويل الثاني أنهما يقصدان البصر باللسع والنهش، والأول أصح وأشهر، قال العلماء: وفي الحيات نوع يسمى الناظر، إذا وقع نظره على عين إنسان مات من ساعته. (فكان ابن عمر يقتل كل حية وجدها) سواء كانت من ذوات البيوت أو في الصحراء، أي يقتلها إذا قدر عليها، وفي الرواية الثالثة: "قال ابن عمر: فلبثت لا أترك حية أراها إلا قتلتها" أي إن قدرت عليها، وفي رواية البخاري "أن ابن عمر كان يقتل الحيات، ثم نهي، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم هدم حائطا له، فوجد فيه سلخ حية، أي جلدها الذي غيرته - فقال: انظروا أين هو؟ فنظروا فقال: اقتلوه، قال ابن عمر: فكنت أقتلها لذلك". (فأبصره أبو لبابة بن عبد المنذر أو زيد بن الخطاب، وهو يطارد حية) "أبو لبابة" بضم اللام، صحابي مشهور، وهو أوسي من بني أمية بن زيد، ليس له في الصحيح إلا هذا الحديث، وكان أحد النقباء، وشهد أحدا، ويقال: شهد بدرا، واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة، وكانت معه راية قومه عند الفتح، ومات في أول خلافة عثمان، وزيد بن الخطاب أخو عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، ليس له في الصحيح إلا هذا الموضع، وفي الرواية الثانية والثالثة "أبو لبابة أو زيد بن الخطاب" بالشك، وفي الرواية الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتاسعة. "أبو لبابة" من غير شك، والظاهر أنهما كانا معا، ونسب القول لهما، في ملحق الرواية الثالثة على أساس أن القائل أحدهما، وموافقة الآخر في حكم قوله أيضا، ومعنى "يطارد حية" أي يطلبها ويتبعها ليقتلها. (فقال: إنه قد نهي عن ذوات البيوت) في الكلام مضاف محذوف، أي نهي عن قتل ذوات البيوت أي اللاتي يوجدن في البيوت، وظاهره التعميم في جميع البيوت، وعن مالك تخصيصه ببيوت المدينة، وقيل يختص ببيوت المدن، دون غيرها، وفي الرواية الرابعة والخامسة والتاسعة "نهى عن قتل الجنان التي في البيوت" و"الجنان" بجيم مكسورة، ونون مفتوحة مشددة، جمع جان، وهي الحية الصغيرة، قيل: الرقيقة الخفيفة، وقيل: الرقيقة البيضاء، وفي الرواية الثامنة "إذا هم بحية من عوامر البيوت" وفي رواية للبخاري "إنه نهي بعد ذلك عن ذوات البيوت، وهي العوامر" قال الحافظ ابن حجر: "وهي العوامر" من كلام الزهري، أدرج في الحديث، قال أهل اللغة: عمار البيوت سكانها من الجن، وتسميتهن عوامر، لطول لبثهن في البيوت، مأخوذ من العمر، وهو طول البقاء، وفي روايتنا الثالثة عشرة "إن لهذه البيوت عوامر، فإذا رأيتم شيئا منها، فحرجوا عليها ثلاثا" أي ثلاث مرات، وقيل: ثلاث ليال، ومعنى "حرجوا عليهن" بفتح الحاء وكسر الراء المشددة بعدها جيم، أي قولوا لهن: أنتن في ضيق وحرج، إن لبثت عندنا، أو ظهرت لنا، أو عدت إلينا، قتلناك. (يفتح خوخة له) بفتح الخاء، وإسكان الواو، وهي كوة بين دارين أو بيتين، يدخل منها، وقد تكون في حائط منفرد. والكوة النافذة الصغيرة، وفي الرواية التاسعة "كان عبد الله بن عمر يوما عند هدم له" وفي الرواية الرابعة "أن أبا لبابة كلم ابن عمر ليفتح له بابا في داره، يستقرب به إلى المسجد" أي ليصير به قريبا من المسجد - "فوجد الغلمة" - بكسر الغين وسكون اللام جمع غلام - "جلد جان، فقال عبد الله: التمسوه" أي ابحثوا عن الثعبان "فاقتلوه" وفي الرواية الثامنة "فبينما

عبد الله بن عمر - جالسا معه - يفتح خوخه له، إذا هم بحية" وفي ملحق الرواية التاسعة "أن أبا لبابة مر بابن عمر، وهو عند الأطم" بضم الهمزة والطاء، وهو القصر، وجمعه أطام، كعنق وأعناق "الذي عند دار عمر بن الخطاب، يرصد حية" أي يرقبها ويبحث عنها، بواسطة الغلمة، ليقتلها. (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار، وقد أنزلت عليه "والمرسلات عرفا") في رواية البخاري "بينما نحن مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار بمنى، إذ نزل عليه "والمرسلات" وفي رواية "كان ذلك ليلة عرفة، قال الحافظ ابن حجر "بمنى" أصح مما أخرجه الطبراني في الأوسط "على حراء". وقوله تعالى {والمرسلات عرفا} قيل في تفسيره أن الله تعالى يقسم بمن اختاره من الملائكة عليهم السلام، يقسم بطوائف الملائكة، التي يرسلها إلى الخلق للأمر بالمعروف وتحويلهم من الظلمات إلى النور، وجواب القسم {إنما توعدون لواقع} (فنحن نأخذها من فيه رطبة) أي لم يجف ريقه منها وفي رواية للبخاري "فتلقيناها من فيه، وإن فاه لرطب بها" وفي رواية له "وإنا لنتلقاها من فيه" وفي رواية أخرى له "وإنه ليتلوها، وإني لأتلقاها من فيه". (إذ خرجت علينا حية) في رواية للبخاري "إذ وثبت علينا حية". (فابتدرناها لنقتلها، فسبقتنا) أي تسابقنا أينا يدركها؟ فسبقتنا كلنا، وفي رواية للبخاري "فابتدرناها فذهبت". (وقاها الله شركم، كما وقاكم شرها) أي إن الله سلمها منكم، كما سلمكم منها. (أمر محرما بقتل حية بمنى) هذا مأخوذ من الرواية العاشرة، فقد كانوا محرمين بالحج، وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلها. (فسمعت تحريكا في عراجين) بفتح العين، جمع عرجون بضمها، وهو الفروع التي تحمل تمر النخل. (فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار) أي فلما انصرف وانتهى من الصلاة، والبيت في الأصل ما يبيت فيه الآدمي، والدار تجمع المباني والساحة، وكأن دارهم كانت فسيحة، تتكون من بيوت لأفراد الأسرة. (فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق) أي إلى حفر الخندق. (فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار) "أنصاف النهار" بفتح الهمزة منتصفه، وكأنه وقت لآخر النصف الأول وأول النصف الثاني، فجمعه لذلك، ويحتمل أن يكون جمعه لتعدده بحسب تعدد الأيام. (فيرجع إلى أهله) أي إلى زوجته، ليطالع حالها، ويقضي حاجتها، ويؤنسها في وحشتها فقد كانت عروسا. (خذ عليك سلاحك، فإني أخشى عليك قريظة، فأخذ الرجل سلاحه، ثم رجع) كانت

بنو قريظة قد عاهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تعين عليه من يحاربه، فنكثت العهد، وأعانت قريشا على حربه في غزوة الخندق، فكان صلى الله عليه وسلم يخشى على أصحابه من غدر اليهود، أن ينفردوا بأحد المسلمين في المدينة، فأوصى هذا الفتى بالحذر منهم، وذكر الراوي هذه القضية ليبين كيف أن الفتى كاد يستخدم سلاحه ضد زوجته. (فإذا امرأته بين البابين قائمة) كانت غيرة العرب على نسائهم، وبخاصة حديثة العرس، تمنع الزوجة من البروز في فناء الدار وتحدد إقامتها في دائرة الحريم. حجرة النوم وما حولها من حجرات، فوجد الفتى امرأته قد خرجت من الدائرة المحددة لها، ووقفت في فناء الدار بين باب الحريم والباب العام للبيت. (فأهوى إليها الرمح) أي رفع رمحه، وصوبه نحوها، يريد طعنها به. (اكفف عليك رمحك) أي اضمم إليك رمحك، يقال: كف الشيء يكفه بضم الفاء، إذا ضم بعضه إلى بعض. (فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش) أي ملتف بعضها حول بعض، فوق فراش زوجته. (فأهوى إليها بالرمح، فانتظمها به) أي طعنها به وضم بعضها إلى بعض، أي فصارت كومة فظنها قد ماتت، ولم تكن ماتت. (ثم خرج فركزه في الدار) مطمئنا، فلا حاجة له به. (فاضطربت عليه) أي تحركت على غير نظام، وهاجمته، وأصابته بسمها، ثم وقعت ميتة ووقع الفتى ميتا. (فما يدرى. أيهما كان أسرع موتا؟ الحية؟ أم الفتى؟ ) "فما يدرى" بضم الياء، مبني للمجهول، أي فما يدري أحد، أيهما كان أسبق موتا؟ لسرعة موتهما. (ادع الله يحييه لنا) لمحبتنا له، واعتزازنا به، و"يحييه" مؤول بمصدر من غير سابك، مجرور بحرف جر، والتقدير: ادع الله بإحيائه لنا. (إن بالمدينة جنا، قد أسلموا) وأنهم يتشكلون بالأفاعي والحيات. (فإذا رأيتم منهم شيئا) على هيئة حية. (فآذنوه ثلاثة أيام) أي آذنوه وأعلموه وأنذروه أن لا يعود للظهور، وأعطوه مهلة ثلاثة أيام، وفي الرواية الثالثة عشرة "حرجوا عليها ثلاثا" بفتح الحاء وتشديد الراء المكسورة، أي ضيقوا عليها بإنذارها. (فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه، فإنما هو شيطان) أي متمرد، وفي الرواية الثالثة عشرة "فإن ذهب، وإلا فاقتلوه، فإنه كافر" جواب الشرط الأول، وفعل الشرط الثاني محذوفان، والتقدير: فإن ذهب ولم يرجع سلم منكم وسلمتم منه، وإن لم يذهب ورجع إليكم فاقتلوه. قال النووي: قال العلماء: معناه إذا لم يذهب بالإنذار، علمتم أنه ليس من عوامر

البيوت، ولا ممن أسلم من الجن، بل هو شيطان، فلا حرمة عليكم فاقتلوه، ولن يجعل الله له سبيلا للانتصار عليكم بثأره، بخلاف العوامر ومن أسلم. (اذهبوا، فادفنوا صاحبكم) رد على قولهم ادع الله يحييه لنا. (أمرها بقتل الأوزاغ) جمع وزغ بفتح الواو والزاي، ووزغة، أو الوزغة الأنثى والوزغ الذكر سام أبرص، جلده يشبه البرص - بفتح الراء المرض المعروف - ويعرف "بالبرص" بضم الباء وسكون الراء، قال النووي: واتفقوا على أن الوزغ من الحشرات المؤذيات، وفي الرواية السادسة عشرة "أنها استأمرت النبي صلى الله عليه وسلم في قتل الوزغان" بكسر الواو وسكون الزاي "فأمر بقتلها" وفي الرواية السابعة عشرة "أمر بقتل الوزغ، وسماه فويسقا" وفي الرواية الثامنة عشرة "قال للوزغ: الفويسق" واللام في "للوزغ بمعنى "عن" والمعنى أنه سماه "فويسقا" وهو تصغير تحقير، مبالغة والفسق الخروج عن الحد بالأذى، والرواية التاسعة عشرة والمتممة للعشرين، والواحدة والعشرون، قصد بها تكثير الثواب في قتله بأول ضربة، ثم ما يليها فالمقصود الحث على المبادرة بقتله، والاعتناء به، وتحريض قاتله على أن يقتله بأول ضربة، فإنه إذا أراد أن يضربه ضربات، ربما انفلت، وفات قتله. قال النووي: وأما تقييد الحسنات في الضربة الأولى بمائة، وفي الرواية الأخرى بسبعين فجوابه أن هذا مفهوم العدد، ولا يعمل به عند الأصوليين وغيرهم، فذكر سبعين لا يمنع المائة، فلا معارضة بينهما، أو لعله صلى الله عليه وسلم أخبرنا أولا بسبعين، ثم تصدق الله تعالى بالزيادة، فأعلم بها النبي صلى الله عليه وسلم، حين أوحى إليه بعد ذلك ويحتمل أن ذلك يختلف باختلاف قاتلي الوزغ، بحسب نياتهم، وإخلاصهم، وكمال أحوالهم ونقصها، فتكون المائة للكامل منهم، والسبعون لغيره، والله أعلم. (أن نملة قرصت نبيا من الأنبياء) قيل: هو العزير، وروى الحكيم الترمذي في النوادر أنه موسى عليه السلام، وبذلك جزم الكلاباذي في معاني الأخبار، والقرطبي في التفسير، وفي الرواية الثالثة والعشرين والرابعة والعشرين "نزل نبي من الأنبياء تحت شجرة، فلدغته نملة" أي قرصته، هو بالدال والغين، وليس بالذال والعين فإن معناه الإحراق، ولا يصح هنا. (فأمر بقرية النمل فأحرقت) المراد من قرية النمل مساكنها وموضع اجتماعها، قال الحافظ ابن حجر: والعرب تفرق في الأوطان، فيقولون لمسكن الإنسان وطن، ولمسكن الإبل عطن ولمسكن الأسد عرين وغابة ولمسكن الظبي كناس، ولمسكن الضب وجار، ولمسكن الطائر عش، ولمسكن الزنبور كور، ولمسكن اليربوع نافق ولمسكن النمل قرية وفي رواية للبخاري "ثم أمر ببيتها فأحرق". وفي الرواية الثالثة والعشرين والرابعة والعشرين "فأمر بجهازه فأخرج من تحتها، ثم أمر بها فأحرقت" ففي الكلام مضاف محذوف، تقديره: ثم أمر بقريتها، بدلالة الرواية الأخرى، وبدلالة مؤاخذة الله تعالى له والجهاز بفتح الجيم وكسرها هو المتاع وإخراجه من تحتها يدل على أن قرية النمل كانت فوق الشجرة، أو الضمير في "تحتها" للشجرة، وكانت قرية النمل تحتها أيضا. (فأوحى الله إليه: أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح) "أن" وما دخلت عليه في تأويل مصدر، مجرور بفي، متعلق بأهلكت، وجملة "أهلكت" مفعول به لفعل "أوحى" "وفي" للسببية كقوله "دخلت امرأة النار في هرة"

والتقدير: أوحى الله إليه هذه الجملة: أهلكت أمة بسبب قرص نملة لك؟ والكلام على الاستفهام الإنكاري التوبيخي، أي ما كان ينبغي ذلك وجملة "تسبح" صفة ثانية لأمة أي أهلكت أمة من الأمم مسبحة، إشارة إلى قوله تعالى {وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} [الإسراء: 44] وفي وصف الأمة بالتسبيح زيادة توبيخ، وفي الرواية الثالثة والعشرين والرابعة والعشرين "فأوحى الله إليه: فهلا نملة واحدة؟ "فهلا" للتوبيخ والتنديم، وتختص بالدخول على الفعل الماضي، والفعل هنا مقدر، و"نملة" بالنصب مفعوله، والتقدير: هلا عاقبت نملة واحدة، فقد قرصتك نملة واحدة، و"هلا" إذا دخلت على المضارع تكون للعرض أو التحضيض، ولا يصح هنا، والنملة واحدة النمل، وجمع الجمع نمال والنمل أعظم الحيوانات حيلة في طلب الرزق، ومن عجيب أمره أنه إذا وجد شيئا ولو قل أنذر الباقين، ويحتكر في زمن الصيف للشتاء وإذا خاف العفن على الحب أخرجه إلى ظاهر الأرض، وإذا حفر مكانه اتخذه تعاريج لئلا يجري إليه ماء المطر، وليس في الحيوان ما يحمل أثقل منه غيره. (عذبت امرأة في هرة) الفعل الماضي مراد به الاستقبال، أي ستعذب وعبر بالماضي لتحقيق الوقوع، و"في" للسببية، وفي الكلام مضاف محذوف، أي بسبب إيذاء أو قتل هرة، وفي رواية البخاري "دخلت امرأة النار في هرة" وجاء في رواية أن المرأة كانت حميرية، وفي أخرى أنها كانت من بني إسرائيل، قال الحافظ ابن حجر: ولا تضاد بينهما، لأن طائفة من حمير كانوا قد دخلوا في اليهودية فنسبت إلى دينها تارة، وإلى قبيلتها أخرى، اهـ وفي رواية "من جرا هرة" و"جرا" بفتح الجيم وتشديد الراء مقصور، ويجوز فيه المد، والهرة أنثى السنور والهر الذكر ويجمع "الهر" على "هررة" كقرد وقردة، وتجمع "الهرة" على "هرر" كقربة وقرب. (سجنتها حتى ماتت) في ملحق الرواية السادسة والعشرين "ربطتها" (لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها) وفي الرواية السادسة والعشرين "لم تطعمها ولم تسقها". (ولا هي تركتها، تأكل من خشاش الأرض) وفي ملحق الرواية السادسة والعشرين "ولم تتركها تأكل من حشرات الأرض" و"خشاش الأرض" بالخاء المفتوحة والمكسورة والمضمومة، والفتح أشهر، وروي بالحاء المهملة والصواب الأول، وهي هوام الأرض وحشراتها، وقيل: المراد به نبات الأرض قال النووي: وهو ضعيف أو غلط. اهـ. وفي رواية للبخاري "دنت مني النار، حتى قلت، أي رب، وأنا معهم؟ فإذا امرأة تخدشها هرة، قال: ما شأن هذه؟ قالوا: حبستها حتى ماتت جوعا". (بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش) في رواية "بينما رجل يمشي بفلاة" وفي رواية "يمشي بطريق مكة" ويجمع بينهما بأنه كان يمشي بفلاة بطريق مكة، وفي رواية البخاري "فاشتد عليه العطش، بالفاء الواقعة موقع "إذ" وسقطت هذه الفاء من رواية مسلم، ووقع في رواية "فاشتد عليه العطاش" قال ابن التين: العطاش داء يصيب الغنم، فلا تروى، وهو غير مناسب هنا.

(فإذا كلب يلهث) بفتح الهاء وكسرها، واللهث المصدر بإسكانها، والاسم اللهث بفتحها، وهو ارتفاع النفس من الإعياء، وقال ابن التين: لهث الكلب، أخرج لسانه من العطش، ولهث الرجل إذا أعيا، ورجل لهثان، وامرأة لهثى كعطشان وعطشى. (يأكل الثرى من العطش) أي يكدم بفمه الأرض الندية، والجملة صفة كلب، أو حال من ضميره في "يلهث" (لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني) "مثل" بالفتح، أي بلغ مبلغا مثل الذي بلغ بي، وضبطه بعضهم بالرفع على أنه فاعل "بلغ" والإشارة مفعول. (فنزل البئر، فملأ خفه ماء) في رواية ابن حبان "فنزع أحد خفيه" (ثم أمسكه بفيه) احتاج إلى ذلك ليعالج بيديه الصعود من البئر. (حتى رقي) بفتح الراء وكسر القاف، كصعد وزنا ومعنى، وفي لغة طيئ يفتحون عين الفعل المعتل اللام، والأول أفصح. (فسقى الكلب) زاد في رواية "حتى أرواه" أي جعله ريانا. (فشكر الله له، فغفر له) أي أثنى عليه، أو قبل عمله، أو جازاه بفعله قال القرطبي: معنى قوله "فشكر الله له" أي أظهر ما جازاه به عند ملائكته، فالفاء في "فغفر له" تفسيرية، أو من عطف الخاص على العام. (قالوا ... ) سمي من هؤلاء السائلين سراقة بن مالك، رواه أحمد وابن ماجه. (وإن لنا في هذه البهائم لأجرا)؟ معطوف على محذوف، تقديره: الأمر كما ذكرت، وإن لنا، وفي الكلام مضاف محذوف، أي في سقي هذه البهائم أو في الإحسان إلى هذه البهائم. (في كل كبد رطبة أجر) "رطبة" أي حية، فالمراد رطوبة الحياة أو لأن الرطوبة لازمة للحياة، فهو كناية، والمعنى أجر ثابت في إرواء كل كبد حية والكبد يذكر ويؤنث، والعموم في "كل كبد" قيل مخصوص ببعض البهائم، مما لا ضرر فيه وسيأتي التفصيل في فقه الحديث. (أن امرأة بغيا) بفتح الباء وكسر الغين، وهي الزانية، قال الحافظ ابن حجر: وتطلق على الأمة مطلقا، وفي روايتنا التاسعة والعشرين "بغي من بغايا بني إسرائيل". (رأت كلبا في يوم حار، يطيف ببئر) "يطيف" بضم أوله، من أطاف، يقال: أطفت بالشيء إذا أدامت المرور حوله، وفي الرواية التاسعة والعشرين "يطيف بركية" بفتح الراء وكسر الكاف وتشديد الياء، وهي البئر مطوية أو غير مطوية، وغير المطوية يقال لها: جب وقليب، ولا يقال لها بئر، حتى تطوى، وقيل: الركي البئر قبل أن تطوى، فإذا طويت فهي الطوى يقال: طوى البئر بالحجارة، أي بناها أو عرشها. (قد أدلع لسانه من العطش) يقال: أدلع لسانه، ودلع لسانه، لغتان، أي أخرجه لشدة العطش، وخرج من الفم واسترخى من ظمأ أو تعب.

(فنزعت له بموقها) "الموق" بضم الميم هو الخف، فارسي معرب، ومعنى "نزعت له بموقها" أي استقت له بخفها يقال: نزعت بالدلو، إذا استقيت به من البئر. -[فقه الحديث]- قال النووي: قال المازري: لا تقتل حيات مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بإنذارها [كما جاء في الرواية الثانية عشرة "فإذا رأيتم شيئا منها فحرجوا عليها ثلاثا" قيل: ثلاثة أيام، وقيل ثلاث مرات، "فإن ذهب، وإلا فاقتلوه، فإنه كافر" فإن أنذرها، ولم تنصرف قتلها. قال: وأما حيات غير المدينة، في جميع الأرض والبيوت والدور، فيندب قتلها من غير إنذار، لعموم الأحاديث الصحيحة في الأمر بقتلها، ففي الرواية الثانية "اقتلوا الحيات" وفي الرواية الثالثة "اقتلوا الحيات والكلاب" وفي الرواية العاشرة "إذ خرجت علينا حية، فقال: اقتلوها" ولم يذكر إنذارا، ولا نقل أنهم أنذروها، قال: فأخذ العلماء بهذه الأحاديث في استحباب قتل الحيات مطلقا، وخصت المدينة بالإنذار الوارد فيها، وسببه صرح به في الحديث - روايتنا الثانية عشرة - أنه أسلم طائفة من الجن بها. وذهبت طائفة من العلماء إلى عموم النهي في حيات البيوت بكل بلد حتى تنذر، وأما ما ليس في البيوت فيقتل من غير إنذار، وقال مالك: يقتل ما وجد منها في المساجد. قال القاضي: وقال بعض العلماء: الأمر بقتل الحيات مطلقا مخصوص بالنهي عن جنان البيوت، إلا الأبتر وذا الطفيتين، فإنه يقتل على كل حال (فكأنه قال: اقتلوا الحيات إلا حيات البيوت، فلا تقتلوها، إلا بعد الإنذار، وإلا الأبتر وذا الطفيتين، فاقتلوهما، وإن كانا في البيوت بدون إنذار) وإلا ما ظهر منها بعد الإنذار. وأما صفة الإنذار فقال القاضي: روى ابن حبيب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقول: أنشدكن بالعهد الذي أخذه عليكم سليمان بن داود، ألا تؤذونا، ولا تظهرن لنا. وقال مالك: يكفي أن يقول: أحرج عليك بالله واليوم الآخر أن لا تبدو لنا، ولا تؤذينا. اهـ. والذي أميل إليه جواز قتل جميع الحيات في أي مكان بدون إنذار، لحديث البخاري "خمس من الدواب لا حرج على من قتلهن" وفي رواية "كلهن فاسق، يقتلن في الحرم" وذكر منها العقرب في رواية و"الحية" في رواية أخرى، وإذا رفع الإثم في قتلها على المحرم، وفي الحرم رفع عن الحلال من باب أولى، ثم كيف نأمن الثعبان على أطفالنا مع الإنذار؟ أعتقد أن طلب الإنذار كان لنوعية خاصة، ومكان خاص وزمن خاص، لا يقاس عليه، وكذا ما ورد عن أبي لبابة وزيد بن الخطاب. والله أعلم. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - من قوله في الرواية الأولى والثانية "فإنه يلتمس البصر، ويصيب الحبل" أن هناك تأثيرا بدون ملامسة، كالأشعة غير المرئية، ويحمل على مثلها إصابة العين.

2 - وأن هناك من المخلوقات ما لا نعرف فائدة في خلقه، وأنه مؤذ دائما، اللهم إلا أن يقال: إن من الحكمة في خلقه تخويف العباد، والحث على توقي الشر. والله أعلم. 3 - ومن قتل ابن عمر لكل حية، تنفيذا لما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك إمساكه بناء على سماع أبي لبابة، مدى ما كان عليه من دقة الاستجابة لأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم. 4 - ومن عمل أبي لبابة وزيد بن الخطاب حرص الصحابة على التبليغ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولو من غير الأعلم للأعلم. 5 - من تعليله صلى الله عليه وسلم لقتل الأبتر وذي الطفيتين ما ينبغي للعالم إذا أفتى أن يسوق الدليل والتعليل لفتواه. 6 - ومن الرواية الثالثة، قتل الكلاب، وفيه تفصيل سبق. 7 - ومن الرواية العاشرة والحادية عشرة جواز قتل المحرم للفواسق الواردة. 8 - ومن قوله في الرواية العاشرة "وقاها الله شركم، ووقاكم شرها". أن الشر والخير نسبي، فقتلكم إياها شر بالنسبة لها، وإن كان خيرا بالنسبة إليكم. 9 - وفي الحديث جواز قتل الحية في الحرم. 10 - وجواز قتلها في جحرها. 11 - ومن الرواية الخامسة عشرة والسادسة عشرة والسابعة عشرة استحباب قتل الوزغ والحث عليه والترغيب فيه، لكونه من المؤذيات. 12 - والحث على المبادرة بقتله، والاعتناء به، وكثرة الثواب على قتله. 13 - ومن الرواية الثانية والعشرين والثالثة والعشرين والرابعة والعشرين جواز إحراق الحيوان المؤذي بالنار، على أساس أن شرع من قبلنا شرع لنا، إذا لم يأت في شرعنا ما يرفعه، ولا سيما إذا ورد على لسان الشارع ما يشعر باستحسان ذلك، لكن ورد في شرعنا النهي عن التعذيب بالنار، قال النووي: هذا الحديث محمول على أنه كان جائزا في شرع ذلك النبي قتل النمل، وجواز التعذيب بالنار، فإنه لم يقع عليه العتب في أصل القتل، ولا في الإحراق، بل في الزيادة على النملة الواحدة، وأما في شرعنا فلا يجوز إحراق الحيوان بالنار، إلا إذا أحرق إنسان إنسانا، فمات بالإحراق، فلوليه القصاص بإحراق الجاني، للحديث المشهور "لا يعذب بالنار إلا الله". ثم قال: وأما قتل النمل فمذهبنا أنه لا يجوز، واحتج أصحابنا فيه بحديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل أربع من الدواب، النملة والنحلة والهدهد، والصرد" (بضم الصاد وفتح الراء، طائر أكبر من العصفور، ضخم الرأس والمنقار يصيد صغار الحشرات) رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم اهـ. أما الخطابي وغيره فقد قيدوا النهي عن قتل النمل بالنمل السليماني، وقال البغوي: النمل الصغير الذي يقال له الذر، يجوز قتله، وبه جزم الخطابي.

14 - قال عياض: في هذا الحديث جواز قتل كل مؤذ. 15 - قال القرطبي: ظاهر هذا الحديث أن هذا النبي إنما عاتبه الله حيث انتقم لنفسه، بإهلاك جمع، أذاه منه واحد، وكان الأولى به الصبر والصفح، وكأنه وقع له - أي ظن - أن هذا النوع مؤذ لبني آدم، وحرمة بني آدم أعظم من حرمة الحيوان، فلو انفرد هذا النظر - وهذا الظن - ولم ينضم إليه التشفي لم يعاتب، قال: والذي يؤيد هذا التمسك بأصل عصمة الأنبياء، وأنهم أعلم بالله وبأحكامه من غيرهم، وأشد له خشية. اهـ وعلى هذا يؤخذ من الحديث قتل ما عساه يؤذي الغير، ولو لم يقع منه إيذاء للغير، لا على العقوبة، ولكن للحماية. 16 - واستدل بقوله في الرواية الثانية والعشرين "أهلكت أمة من الأمم تسبح" أن الحيوان يسبح الله تعالى حقيقة، وتعقب بأن ذلك لا يمنع الحمل على المجاز، بأن يكون سببا للتسبيح. 17 - ومن الرواية الخامسة والعشرين والسادسة والعشرين أن المسلم قد يعذب بأمور يراها صغيرة {وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم} [النور: 15] وقيل: إن المراد من "عذبت امرأة" في روايتنا الخامسة والعشرين والسادسة والعشرين العذاب بالحساب، لأن من نوقش الحساب عذب، لكن يرد هذا القول رواية البخاري بلفظ "دخلت امرأة النار في هرة .. " قال النووي "الذي يظهر أن المرأة كانت مسلمة، وإنما دخلت النار بهذه المعصية، وهذه المعصية ليست صغيرة، بل صارت بإصرارها كبيرة، وقال القاضي عياض: يحتمل أن تكون المرأة كافرة، فعذبت بالنار حقيقة. اهـ أي عذابا فوق عذاب الكفر، قال الحافظ ابن حجر: ويؤيد كونها كافرة، ما أخرجه البيهقي في البعث والنشور. 18 - وفي الحديث جواز اتخاذ الهرة، وربطها، إذا لم يهمل إطعامها وسقيها، ويلتحق بذلك غير الهرة مما في معناها. وتحريم قتل الهرة. 19 - وأن الهر لا يملك، وإنما يجب إطعامه على من حبسه، كذا قال القرطبي، واستبعد الحافظ ابن حجر دلالة الحديث على ذلك. 20 - وفيه وجوب نفقة الحيوان على مالكه، كذا قال النووي، واستبعد الحافظ ابن حجر هذا المأخذ، وقال: ليس في الخبر أنها كانت في ملكها، لكن في قوله "هرة لها" كما هي في رواية ما يقرب من ذلك. اهـ والحق مع النووي، حيث إن نفقة المحبوس على حابسه واضحة في الحديث، فمن باب أولى المملوك. 21 - ومن الرواية السابعة والعشرين الحث على الإحسان إلى الناس، لأنه إذا حصلت المغفرة بسبب سقي الكلب، فسقي المسلم أعظم أجرا. 22 - واستدل به على جواز صدقة التطوع للمشركين، حيث لا يكون هناك مسلم، قال الحافظ ابن حجر: وكذا إذا دار الأمر بين البهيمة، والآدمي المحترم، واستويا في الحاجة، فالآدمي أحق. 23 - وفيه جواز السفر منفردا، وبغير زاد، ومحل ذلك في شرعنا ما إذا لم يخف على نفسه الهلاك. 24 - استدل بقوله "في كل كبد رطبة أجر" على عموم الإحسان للحيوان، قال النووي: إن عمومه

مخصوص بالحيوان المحترم، وهو ما لم يؤمر بقتله، فيحصل الثواب بسقيه، ويلتحق به إطعامه وغيره من وجوه الإحسان، أما هذا الحديث، فقد كان في بني إسرائيل، وقال ابن التين، لا يمتنع إجراؤه على عمومه، يعني فيسقى، ثم يقتل، لأنا أمرنا بأن نحسن القتلة، ونهينا عن المثلة. 25 - واستدل به على طهارة سؤر الكلب، وتعقب بأنه شرع من قبلنا، على أنه فعل بعض الناس، ولا يدرى هل هو كان ممن يقتدى به أم لا. 26 - ومن الرواية الثامنة والعشرين والتاسعة والعشرين، أن سقي الماء يكفر الكبائر. والله أعلم

كتاب الأدب من الألفاظ وغيرها

كتاب الأدب من الألفاظ وغيرها

(600) باب سب الدهر - تسمية العنب كرما - قول: عبدي وأمتي - استعمال المسك.

(600) باب سب الدهر - تسمية العنب كرما - قول: عبدي وأمتي - استعمال المسك. 5111 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله عز وجل: يسب ابن آدم الدهر، وأنا الدهر، بيدي الليل والنهار". 5112 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار". 5113 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله عز وجل يؤذيني ابن آدم يقول يا خيبة الدهر، فلا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر، فإني أنا الدهر أقلب ليله ونهاره، فإذا شئت قبضتهما". 5114 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر، فإن الله هو الدهر" 5115 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر". 5116 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يسب أحدكم الدهر، فإن الله هو الدهر. ولا يقولن أحدكم للعنب الكرم، فإن الكرم الرجل المسلم". 5117 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقولوا كرم، فإن الكرم قلب المؤمن".

5118 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسموا العنب الكرم، فإن الكرم الرجل المسلم". 5119 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقولن أحدكم الكرم، فإنما الكرم قلب المؤمن". 5120 - عن أبو هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقولن أحدكم للعنب الكرم، إنما الكرم الرجل المسلم". 5121 - عن علقمة بن وائل عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقولوا الكرم، ولكن قولوا الحبلة يعني العنب". 5122 - عن علقمة بن وائل، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقولوا الكرم، ولكن قولوا العنب والحبلة". 5123 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي، كلكم عبيد الله، وكل نسائكم إماء الله، ولكن ليقل غلامي وجاريتي وفتاي وفتاتي". 5124 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقولن أحدكم عبدي، فكلكم عبيد الله، ولكن ليقل فتاي، ولا يقل العبد ربي، ولكن ليقل سيدي". 5125 - وفي رواية عن الأعمش بهذا الإسناد وفي حديثهما: "ولا يقل العبد لسيده مولاي" وزاد في حديث أبي معاوية: "فإن مولاكم الله عز وجل".

5126 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقل أحدكم اسق، ربك أطعم ربك، وضئ ربك، ولا يقل أحدكم ربي، وليقل سيدي مولاي، ولا يقل أحدكم عبدي أمتي، وليقل فتاي فتاتي غلامي". 5127 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقولن أحدكم خبثت نفسي، ولكن ليقل لقست نفسي" هذا حديث أبي كريب، وقال أبو بكر، عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر: لكن. 5128 - عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقل أحدكم خبثت نفسي، وليقل لقست نفسي". 5129 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كانت امرأة من بني إسرائيل قصيرة تمشي مع امرأتين طويلتين، فاتخذت رجلين من خشب وخاتما من ذهب مغلق مطبق، ثم حشته مسكا وهو أطيب الطيب، فمرت بين المرأتين فلم يعرفوها، فقالت بيدها هكذا" ونفض شعبة يده. 5130 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذكر "امرأة من بني إسرائيل حشت خاتمها مسكا والمسك أطيب الطيب". 5131 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عرض عليه ريحان فلا يرده، فإنه خفيف المحمل طيب الريح".

5132 - عن نافع قال: كان ابن عمر إذا استجمر استجمر بالألوة غير مطراة وبكافور يطرحه مع الألوة. ثم قال: هكذا كان يستجمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. -[المعنى العام]- خمسة آداب تشملها أحاديث الباب، والأدب الشرعي قد يكون واجبا، أو مندوبا، وقد يكون إرشادا إلى الأولى والأفضل، وقد جمع هذه الآداب كل هذه الأنواع. فالتحرز من سب الدهر والزمان واجب، لأن الزمان مخلوق لله، وذم الصنعة تسيء إلى الصانع، وسب الصنعة - وهي لا ذنب لها - سب لصانعها، والظرف نعمة، خلقه الله وعاء للأعمال الصالحات فتضييعها، فضلا عن سبها سفه حرام، وإيذاء صانعها، وخالقها بسبها حرام يشبه الكفران. الأدب الثاني: البعد عن تكريم ما حرم الله، فلا يقال للخمر كرم، ولا يقال للعنب كرم، بل الأولى أن يقال له: عنب. الأدب الثالث: يستحب أن لا يقول السيد: عبدي وأمتي، لأننا جميعا عبيد الله، ونساؤنا إماء لله، ولا يتطاول القوي على الضعيف، ويستحب أن لا يقول العبد عن سيده: ربي، ولا يقول أحد للعبد: أطعم ربك، أو اسق ربك، أو وضئ ربك، لأن الرب على الحقيقة هو الله تعالى. الأدب الرابع: يسن أن يبتعد المسلم عن وصف نفسه بالخبيث أو بالصفات الأخرى القبيحة. الأدب الخامس: يستحب للمسلم استعمال الطيب في كل مناسبة اجتماع مع الآخرين. -[المباحث العربية]- (يسب ابن آدم الدهر) السب الشتم، والمراد وصف الزمان بالشر والقبح، ففي الرواية الثالثة يقول "يا خيبة الدهر، فلا يقولن أحدكم: يا خيبة الدهر" وفي رواية "وا خيبة الدهر" بالنصب على الندبة، كأنه فقد الدهر، لما يصدر عنه مما يكرهه، فندبه متفجعا عليه، أو متوجعا منه، وفي رواية "وا دهره وا دهره" والخيبة الخسران، فاتهام الزمان بالخسران والفساد، وشتمه بذلك أو الدعاء عليه بالخيبة والخسران والحرمان من الخير خطأ وسفه، يؤدي إلى شتم الله تعالى، فالزمان مخلوق، وهو وعاء وظرف لأعمال الإنسان، ولا تأثير له على الأعمال، ولا يوصف بالسوء، والمظروف الذي هو العمل، هو الذي يسيئه أو يحسنه، والدهر في اللغة مدة الحياة كلها، أو الزمن الطويل، أو ألف سنة، أو مائة سنة أو الزمان قل أو كثر، وهو المراد هنا.

(وأنا الدهر، بيدي الليل والنهار) في الرواية الثانية "وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار" وفي الرواية الثالثة "فإني أنا الدهر، أقلب ليله ونهاره فإذا شئت قبضتهما". قال الخطابي: معناه أنا صاحب الدهر، ومدبر الأمور التي ينسبونها إلى الدهر، فمن سب الدهر من أجل أنه فاعل هذه الأمور عاد سبه إلى ربه، الذي هو فاعلها، وإنما الدهر زمان، جعل ظرفا لمواقع الأمور، وكانت عادتهم إذا أصابهم مكروه، أضافوه إلى الدهر، فقالوا: بؤسا للدهر، وتبا للدهر. وقال النووي: قوله "أنا الدهر" بالرفع، وهو مجاز، وذلك أن العرب كانوا يسبون الدهر عند الحوادث، فقال: لا تسبوه، فإن فاعلها هو الله، فكأنه قال: لا تسبوا الفاعل فإنكم إذا سببتموه سببتموني، أو الدهر هنا بمعنى "الداهر" فقد حكى الراغب أن الدهر في قوله "إن الله هو الدهر" (في روايتنا الرابعة) غير "الدهر" في قوله "يسب الدهر" قال: والدهر الأول الزمان، والثاني المدبر المصرف لما يحدث، ثم استضعف الراغب هذا القول لعدم الدليل عليه، ثم قال: لو كان كذلك لعد الدهر من أسماء الله تعالى. اهـ. فالحاصل أن المراد بقوله "إن الله هو الدهر" أو "أنا الدهر" أي المدبر للأمور، أو الكلام على حذف مضاف، أي أنا صاحب الدهر، أو التقدير: أنا مقلب الدهر، ولذلك عقب بقوله في الرواية الثانية "أقلب الليل والنهار" وفي الرواية الثالثة "أقلب ليله ونهاره، فإذا شئت قبضتهما" وعند أحمد "بيدي الليل والنهار، أجدده وأبليه، وأذهب بالملوك" (يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر) قال القرطبي: معناه يخاطبني من القول بما يتأذى به من يجوز في حقه التأذي، والله منزه عن أن يصل إليه الأذى، وإنما هذا على التوسع في الكلام، والمراد أن من وقع ذلك منه تعرض لسخط الله تعالى، وقال النووي: معناه يعاملني معاملة توجب الأذى في حقكم. (ولا يقولن أحدكم للعنب: الكرم، فإن الكرم الرجل المسلم) وفي الرواية السابعة: "لا تقولوا: كرم، فإن الكرم قلب المؤمن" وفي الرواية الحادية عشرة "لا تقولوا: الكرم، ولكن قولوا: الحبلة، يعني العنب" وفي الرواية الثانية عشرة "ولكن قولوا: العنب والحبلة" وفي الرواية الثامنة "لا تسموا العنب الكرم" وعند الطبراني والبزار "إن اسم الرجل المؤمن في الكتب الكرم، من أجل ما أكرمه الله على الخليقة وإنكم تدعون الحائط من العنب الكرم" وقد حكى ابن بطال عن ابن الأنباري أنهم سموا العنب كرما، لأن الخمر المتخذة منه تحث على السخاء، وتأمر بمكارم الأخلاق، حتى قال شاعرهم: والخمر مشتقة المعنى من الكرم فلذلك نهي عن تسمية العنب بالكرم، حتى لا يسموا أصل الخمر باسم مأخوذ من الكرم وجعل المؤمن، الذي يتقي شربها، ويرى الكرم في تركها أحق بهذا الاسم، وقال الخطابي ما ملخصه إن المراد بالنهي تأكيد تحريم الخمر، بمحو اسمها، لأن في تبقية هذا الاسم لها تقرير لما كانوا يتوهمونه من تكرم شاربها، فنهى عن تسميتها كرما، وقال "إنما الكرم قلب المؤمن" لما فيه من نور الإيمان،

وهدي الإسلام، وحكى القرطبي عن المازري أن السبب في النهي أنه لما حرمت عليهم الخمر، وكانت طباعهم تحثهم على الكرم، كره صلى الله عليه وسلم أن يسمى هذا المحرم باسم يهيج طباعهم إليه عند ذكره، فيكون ذلك كالمحرك لهم، قال الحافظ ابن حجر: والذي قاله المازري ورد النهي تارة عن العنب وتارة عن شجرة العنب، فيكون التنفير بطريق الفحوى، لأنه إذا نهى عن تسمية ما هو حلال في الحال، بالاسم الحسن لما يحصل منه بالقوة مما ينهى عنه، فلأن ينهى عن تسمية ما ينهى عنه بالاسم الحسن أحرى. وقال ابن أبي جمرة: لما كان اشتقاق الكرم - بسكون الراء - من الكرم - بفتحها، والأرض الكريمة هي أحسن الأرض، فلا يليق أن يعبر بهذه الصفة، إلا عن قلب المؤمن، الذي هو خير الأشياء، لأن المؤمن خير الحيوان، وخير ما فيه قلبه. اهـ. أما "الحبلة" فهي بفتح الحاء والباء، وحكي ضم الحاء مع سكون الباء وفتحها، هي شجرة العنب، وقيل: أصل الشجرة، وقيل: فرعها. (لا يقولن أحدكم: عبدي وأمتي، كلكم عبيد لله، وكل نسائكم إماء الله، ولكن ليقل: غلامي، وجاريتي، وفتاي وفتاتي) في الرواية الخامسة عشرة "وليقل: فتاي. فتاتي. غلامي" قال النووي: يكره للسيد أن يقول لمملوكة: عبدي وأمتي، لأن حقيقة العبودية إنما يستحقها الله تعالى، ولأن فيها تعظيما بما لا يليق بالمخلوق استعماله لنفسه، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم العلة في ذلك، فقال: "كلكم عبيد لله" فنهى عن التطاول في اللفظ، كما نهى عن التطاول في الفعل، في إسبال الإزار أو غيره، قال: والظاهر أن المراد بالنهي استعماله على جهة التعاظم، لا الوصف والتعريف. (ولا يقل العبد: ربي، ولكن ليقل: سيدي) وفي ملحق الرواية "ولا يقل العبد لسيده: مولاي، فإن مولاكم الله عز وجل" وفي الرواية الخامسة عشرة "لا يقل أحدكم: اسق ربك. أطعم ربك. وضئ ربك. ولا يقل أحدكم: ربي، وليقل: سيدي. مولاي" قال النووي: قال العلماء: مقصود الأحاديث نهي المملوك أن يقول لسيده: ربي، لأن الربوبية إنما حقيقتها لله تعالى، لأن الرب هو المالك، أو القائم بالشيء، ولا يوجد حقيقة هذا إلا في الله تعالى فإن قيل: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في أشراط الساعة "أن تلد الأمة ربتها أو ربها"؟ فالجواب من وجهين. أحدهما: أن الحديث الثاني لبيان الجواز، وأن النهي في الأول للأدب، وكراهة التنزيه، لا التحريم، والثاني: أن المراد النهي عن الإكثار من استعمال هذه اللفظة واتخاذها عادة شائعة، ولم ينه عن إطلاقها في نادر الأحوال. واختار القاضي هذا الجواب، قال النووي: ولا نهي في قول المملوك: سيدي لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليقل: سيدي" لأن لفظة السيد غير مختصة بالله تعالى اختصاص الرب، ولا مستعملة فيه كاستعمالها، حتى نقل القاضي عن مالك، أنه كره دعاء الله بسيدي، ولم تأت تسمية الله تعالى بالسيد في القرآن ولا في حديث متواتر وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن ابني هذا سيد" و"قوموا إلى سيدكم" يعني سعد بن معاذ، وفي الحديث الآخر "اسمعوا ما يقول سيدكم" يعني سعد بن عبادة، فليس في قول العبد: سيدي، إشكال ولا لبس، لأنه يستعمله غير العبد والأمة، قال: ولا بأس أيضا بقول العبد لسيده: مولاي، فإن المولى وقع على ستة عشر معنى، منها: الناصر والمالك. قال القاضي: وأما رواية "ولا يقل العبد لسيده: مولاي" ملحق روايتنا الرابعة عشرة، فقد اختلف الرواة في ذكر هذه اللفظة، وحذفها أصح. اهـ.

وأما قوله في الرواية الخامسة عشرة "اسق ربك. أطعم ربك. وضئ ربك" فهي أمثلة، ذكرت دون غيرها لغلبة استعمالها في المخاطبات، والألف في لفظ "اسق" يجوز فيه الوصل والقطع. (لا يقولن أحدكم: خبثت نفسي، ولكن ليقل: لقست نفسي) "خبثت" بفتح الخاء وضم الباء، ويقال بفتح الباء، ولكن الضم أصوب قال الراغب: الخبث يطلق على الباطل في الاعتقاد والكذب في المقال، والقبيح في الفعال وقال النووي: قال أبو عبيد وجميع أهل اللغة وغريب الحديث وغيرهم: "لقست" و"خبثت" بمعنى واحد، وإنما كره لفظ الخبث لبشاعة الاسم، وتعليمهم الأدب في الألفاظ، واستعمال حسنها، وهجران خبيثها، قالوا: ومعنى "لقست" غثت، وقال ابن الأعرابي: معناه ضاقت، فإن قيل: فقد قال صلى الله عليه وسلم في الذي ينام عن الصلاة "فأصبح خبيث النفس كسلان"؟ قال القاضي وغيره: جوابه أن النبي صلى الله عليه وسلم، مخبر هناك عن صفة غيره، وعن شخص مبهم مذموم الحال، لا يمتنع إطلاق هذا اللفظ عليه. (فاتخذت رجلين من خشب) أي جعلت حذاءها طويلا، يرفعها. (وخاتما من ذهب، مغلق، مطبق، ثم حشته مسكا، وهو أطيب الطيب) هكذا الرواية برفع "مغلق مطبق" خبر مبتدأ محذوف، صفة لخاتم على القطع، أي جعلت للمسك في الخاتم غلقا، يطبق على المسك، فيغلقه حيث تشاء، وتفتحه فيفوح حيث تشاء، وعند أحمد "فكانت تسير بين امرأتين قصيرتين" وكأنها كانت تسير بين طويلتين تارة، وبين قصيرتين تارة أخرى "واتخذت خاتما من ذهب، وحشت تحت فصه أطيب الطيب، المسك، فكانت إذا مرت بالمجلس حركته" بتحريك يدها "فينفح ريحه" وفي رواية أخرى لأحمد "ذكر نسوة ثلاثا من بني إسرائيل، امرأتين طويلتين تعرفان، وامرأة قصيرة لا تعرف، فاتخذت رجلين من خشب، وصاغت خاتما، فحشته من أطيب الطيب، المسك، وجعلت له غلقا، فإذا مرت بالملأ أو بالمجلس، قالت به" أي فتحت غلقه "ففاح ريحه". (فمرت بين المرأتين فلم يعرفوها) أي مرت على الناس بين المرأتين الطويلتين، فلم يعرفها الناس، ولم يميزوها عنهما. (ونفض شعبة يده) هذا كلام أبي أسامة الراوي عن شعبة الراوي عن خليد بن جعفر عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري، يصف شعبة تحريكها يدها، ليفوح المسك، يصفه عمليا بيده، فينفضها ويحركها حركات سريعة. (من عرض عليه ريحان فلا يرده) أي من عرض عليه ريحان هدية، والريحان بفتح الراء قال النووي: قال أهل اللغة وغريب الحديث في تفسير هذا الحديث، هو كل نبت مشموم، طيب الريح، قال القاضي: ويحتمل عندي أن يكون المراد به في هذا الحديث الطيب كله، فعند أبي داود "من عرض عليه طيب" وفي صحيح البخاري "كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرد الطيب". وقوله "فلا يرده" بفتح الدال، قال النووي: قال القاضي عياض: وأنكره محققو شيوخنا من أهل العربية، وقالوا: هذا غلط من الرواة، وصوابه ضم الدال، قال: ووجدته بخط بعض الأشياخ بضم الدال،

وهو الصواب عندهم على مذهب سيبويه، في هذا، من المضاعف إذا دخلت عليها الهاء، أن يضم ما قبلها، في الأمر، ونحوه المجزوم، مراعاة للواو التي توجبها ضمة الهاء بعدها، لخفاء الهاء، فكأن ما قبلها ولي الواو، ولا يكون ما قبل الواو إلا مضموما، هذا في المذكر، وأما المؤنث مثل: ردها، ففتحة الهاء لازمة بالاتفاق. قال النووي: وأما رده ونحوه للمذكر، ففيه ثلاثة أوجه. أفصحها وجوب الضم، كما ذكره القاضي، والثاني الكسر وهو ضعيف، والثالث الفتح، وهو أضعف منه. (فإنه خفيف المحمل، طيب الريح) "المحمل" هنا بفتح الأولى وكسر الثانية، كالمجلس، والمراد به الحمل، بفتح الحاء، أي خفيف الحمل، ليس بثقيل. (كان ابن عمر إذا استجمر استجمر بالألوة، غير مطراة، وبكافور يطرحه مع الألوة) الاستجمار هنا: استعمال الطيب، والتبخر به، مأخوذ من المجمر، بكسر الميم الأولى وفتح الثانية، و"الألوة" بفتح الهمزة وضمها وبضم اللام وحكي كسرها وهي عود يتبخر به فارسي معرب، وحكي "ألية" بتشديد الياء وتخفيفها، وتكسر الهمزة وتضم، وقيل: لية ولوة، وقوله "غير مطراة" بضم الميم وفتح الطاء، وتشديد الراء، أي غير مخلوطة بغيرها من الطيب، يقال: طرى الطيب، بفتح الطاء وتشديد الراء المفتوحة، أي خلطه بالأخلاط، و"الكافور" شجر معروف، يتخذ منه مادة شفافة بلورية الشكل، يميل لونها إلى البياض، رائحتها عطرية، وهو أصناف كثيرة. -[فقه الحديث]- تتعرض أحاديث الباب إلى خمسة آداب: الأول: منع سب الدهر، وسب الزمان، والروايات الست الأولى تنهي عن سبه، قال القاضي عياض: زعم بعض من لا تحقيق له، أن الدهر من أسماء الله، وهو غلط، وقد تمسك الجهلة من الدهرية والمعطلة بظاهر هذا الحديث، واحتجوا به على من لا رسوخ له في العلم، لأن الدهر عندهم حركات الفلك، وأمد العالم، ولا شيء عندهم، ولا صانع سواه، قال: وكفى في الرد عليهم قوله في بقية الحديث "أنا الدهر، أنا أقلب ليله ونهاره" فكيف يقلب الشيء نفسه؟ تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا. وقال الشيخ محمد بن أبي جمرة: لا يخفى أن من سب الصنعة، فقد سب صانعها، فمن سب نفس الليل والنهار، أقدم على أمر عظيم، بغير معنى، ومن سب ما يجري فيهما من الحوادث - وذلك هو أغلب ما يقع من الناس - وهو الذي يعطيه سياق الحديث، حيث نفى عنها التأثير، فكأنه قال: لا ذنب لهما في ذلك وأما الحوادث فمنها ما يجري بوساطة العاقل المكلف فهذا يضاف شرعا ولغة إلى الذي جرى على يديه ويضاف إلى الله تعالى لكونه بتقديره، فأفعال العباد من اكتسابهم ولهذا ترتبت عليها الأحكام وهي في الابتداء خلق الله، ومنها ما يجري بغير وساطة فهو منسوب إلى قدرة القادر، وليس لليل والنهار فعل ولا تأثير، لا لغة، ولا عقلا ولا شرعا وهو المراد في هذا الحديث، ويلتحق بذلك ما يجري من الحيوان غير العاقل، ثم أشار ابن أبي جمرة إلى أن النهي عن سب الدهر تنبيه بالأعلى، على الأدنى، وأن فيه إشارة إلى ترك سب كل شيء مطلقا، إلا ما أذن الشرع فيه، لأن العلة واحدة. اهـ.

وقال المحققون من العلماء: من نسب شيئا من الأفعال إلى الدهر حقيقة كفر، ومن جرى هذا اللفظ على لسانه، غير معتقد لذلك فليس بكافر، لكنه يكره له ذلك، لشبهه بأهل الكفر في الإطلاق، وهذا التفصيل يشبه التفصيل الذي قالوه، في قولهم: مطرنا بنوء كذا، والله أعلم. الأدب الثاني: كراهة تسمية العنب كرما، قال النووي: في هذه الأحاديث كراهة تسمية العنب كرما، بل يقال: عنب، أو حبلة، قال العلماء: سبب كراهة ذلك أن لفظة "الكرم" كانت العرب تطلقها على شجر العنب، وعلى العنب، وعلى الخمر المتخذة من العنب، سموها كرما لكونها متخذة منه، فكره الشرع إطلاق هذا اللفظة على العنب وشجره، لأنهم إذا سمعوا اللفظة، ربما تذكروا بها الخمر، وهيجت نفوسهم إليها، فوقعوا فيها، أو قاربوا ذلك. اهـ والتحقيق أن هذه الكراهة على التنزيه. الأدب الثالث: كراهة قول السيد لمملوكه: عبدي وأمتي، وترجم له البخاري بباب كراهية التطاول على الرقيق، وقال العلماء بكراهية ذلك من غير تحريم، ويشهد للجواز قوله تعالى {والصالحين من عبادكم وإمائكم} [النور: 32] {ضرب الله مثلا عبدا مملوكا} [النحل: 75] واتفقوا على أن النهي الوارد في ذلك للتنزيه، حتى أهل الظاهر، وأما قول العبد: سيدي، أو ربي، أو مولاي فقد مضى في المباحث العربية كثير مما يتعلق به، ونضيف: قال الحافظ ابن حجر: والذي يختص بالله تعالى إطلاق الرب بلا إضافة، أما مع الإضافة فيجوز إطلاقه، كما في قوله تعالى، حكاية عن يوسف عليه السلام {اذكرني عند ربك} [يوسف: 42] {ارجع إلى ربك} [يوسف: 50] فدل على أن النهي في ذلك محمول على الإطلاق، ويحتمل أن يكون النهي للتنزيه، وما ورد من ذلك فلبيان الجواز، وقيل: هو مخصوص بغير النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يرد ما في القرآن، أو المراد النهي عن الإكثار من ذلك واتخاذ استعمال هذه اللفظة عادة، وليس المراد النهي عنها في الجملة. الأدب الرابع: النهي عن قول: خبثت نفسي. قال ابن بطال هو على معنى الأدب، وليس على سبيل الإيجاب، وقال ابن أبي جمرة: النهي عن ذلك للندب، والأمر بقوله "لقست" للندب أيضا، فإن عبر بما يؤدي معناه كفى، ولكن ترك الأولى، ويؤخذ من الحديث استحباب مجانبة الألفاظ القبيحة، والأسماء والعدول إلى ما لا قبح فيه، وفيه أن المرء يطلب الخير حتى بالفأل الحسن، ويضيف الخير إلى نفسه، ولو بنسبة ما، ويدفع الشر عن نفسه مهما أمكن، ويقطع الوصلة بينه وبين أهل الشر، حتى في الألفاظ المشتركة. قال: ويلتحق بهذا أن الضعيف إذا سئل عن حاله، لا يقول: لست بطيب، بل يقول: ضعيف ولا يخرج نفسه من الطيبين، فيلحقها بالخبيثين. الأدب الخامس: الطيب واستعماله، وهو مستحب بلا خلاف، والمسك أطيب الطيب وأفضله، وهو طاهر يجوز استعماله في البدن والثوب، ويجوز بيعه، قال النووي: وهذا كله مجمع عليه. اهـ. قال الجاحظ: المسك من دويبة تكون في الصين، تصاد لنوافجها وسررها، فإذا صيدت شدت بعصائب، وهي مدلية، يجتمع فيها دمها، فإذا ذبحت قورت السرة التي عصبت، ودفنت في الشعر، حتى يستحيل ذلك الدم المختنق الجامد مسكا ذكيا، بعد أن كان لا يرام من النتن ومن ثم قال القفال: إنها تندبغ بما فيها من المسك، فتطهر، كما يطهر غيرها من المدبوغات، والمشهور أن غزال المسك كالظبي، لكن لونه أسود، وله نابان لطيفان أبيضان في فكه الأسفل، وإن المسك دم، يجتمع

في سرته، في وقت معلوم من السنة، فإذا اجتمع ورم الموضع، فمرض الغزال، إلى أن يسقط منه، ويقال: إن أهل تلك البلاد يجعلون لها أوتادا في البرية، تحتك بها ليسقط، وعن علي بن مهدي الطبري: أنها تلقيها من جوفها، كما تلقي الدجاجة البيضة. قال النووي: وهو مستثني من قاعدة: ما أبين من حي فهو ميت اهـ. وحكى ابن التين عن ابن شعبان من المالكية: أن فأرة المسك إنما تؤخذ في حال الحياة، أو بذكاة من لا تصح ذكاته من الكفرة، وهي مع ذلك محكوم بطهارتها، لأنها تستحيل عن كونها دما، حتى تصير مسكا، كما يستحيل الدم إلى اللحم، فيطهر، ويحل أكله، وليست بحيوان، حتى يقال: نجست بالموت، وإنما هي شيء يحدث بالحيوان، كالبيض، وقد أجمع المسلمون على طهارة المسك إلا ما حكي عن عمر من كراهته. وفي الرواية العشرين النهي عن رد الطيب إذا أهدي، وفي البخاري "كان أنس رضي الله عنه لا يرد الطيب، وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرد الطيب" وعند البخاري "ما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم طيب قط فرده". قال ابن العربي: إنما كان لا يرد الطيب لمحبته فيه، ولحاجته إليه أكثر من غيره، لأنه يناجي من لا نناجي. اهـ. وفي الرواية الواحدة والعشرين استحباب الاستجمار بالبخور، واستحباب الطيب للرجال، كما هو مستحب للنساء، قال النووي: لكن يستحب للرجال من الطيب ما ظهر ريحه وخفي لونه، أما المرأة فإذا أرادت الخروج إلى المسجد أو غيره كره لها كل طيب له ريح، ويتأكد استحبابه للرجال يوم الجمعة، والعيد، وعند حضور مجامع المسلمين، ومجالس الذكر والعلم، وعند إرادته معاشرة زوجته ونحو ذلك. اهـ. وفي الرواية الثامنة عشرة جواز ستر المرأة عيوب جسمها بما هو مشروع، قال النووي: وأما اتخاذ المرأة القصيرة رجلين من خشب، حتى مشت بين الطويلتين فلم تعرف، فحكمه في شرعنا أنها إن قصدت به مقصودا صحيحا شرعيا، بأن قصدت ستر نفسها، لئلا تعرف، فتؤذى أو نحو ذلك فلا بأس، أما إن قصدت التعاظم، أو التشبه بالكاملات، تزويرا على الرجال وغيرهم، فهو حرام. والله أعلم

كتاب الشعر

كتاب الشعر

(601) باب الشعر واللعب بالنرد

(601) باب الشعر واللعب بالنرد 5133 - عن عمرو بن الشريد، عن أبيه قال: ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: "هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟ " قلت: نعم. قال: "هيه" فأنشدته بيتا. فقال "هيه" ثم أنشدته بيتا فقال هيه حتى أنشدته مائة بيت. 5134 - عن الشريد قال: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه. فذكر بمثله. 5135 - عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال: استنشدني رسول الله صلى الله عليه وسلم. بمثل حديث إبراهيم بن ميسرة وزاد قال: "إن كاد ليسلم" وفي حديث ابن مهدي قال: "فلقد كاد يسلم في شعره". 5136 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أشعر كلمة تكلمت بها العرب: كلمة لبيد. 4 - ألا كل شيء ما خلا الله باطل. 5137 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد 4 ألا كل شيء ما خلا الله باطل. وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم. 5138 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أصدق بيت قاله الشاعر 4 ألا كل شيء ما خلا الله باطل. وكاد ابن أبي الصلت أن يسلم. 5139 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أصدق بيت قالته الشعراء 4 ألا كل شيء ما خلا الله باطل

5140 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد 4 ألا كل شيء ما خلا الله باطل ما زاد على ذلك. 5141 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن يمتلئ جوف الرجل قيحا يريه، خير من أن يمتلئ شعرا" قال أبو بكر: إلا أن حفصا لم يقل: يريه. 5142 - عن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا يريه، خير من أن يمتلئ شعرا". 5143 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينا نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج، إذ عرض شاعر ينشد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا الشيطان أو أمسكوا الشيطان، لأن يمتلئ جوف رجل قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا". 5144 - عن سليمان بن بريدة، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه". -[المعنى العام]- الشعر كلام موزون مقفى، له قواعده وبحوره، اهتم به العرب وأدباؤهم، واستعملوه في أغراض كثيرة، منها الفاحش كالهجاء والغزل والتشبيب بالنساء، ومنها الحسن كالمدح المقبول والوصف السليم والدعوة للجهاد، والدفاع عن الحق وعن الإسلام، والحداء للإبل وغير ذلك واشتغلت به العرب، وجعلت له ميادين وأسواقا، ينشده الشعراء، ويطلب إنشاده المحبون له، ويتغنى به المغنون، ويحفظه ويردده الكثيرون، ويسير به الركبان. وجاء الإسلام بالقرآن وبعلومه الشرعية، فكان لا بد من صرف الهمم إلى الشريعة على حساب

الشعر، وبخاصة الفاحش منه فكانت هذه الأحاديث التي تمتدح الحسن منه وتنفر من القبيح وتنفر من تضييع الوقت فيما يضر وفيما لا فائدة فيه. -[المباحث العربية]- (عن عمرو بن الشريد) بفتح الشين وكسر الراء مخففة، وهو الشريد بن سويد الثقفي. (ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما) أي ركبت خلفه، يقال: ردفه بكسر الدال، يردفه بفتحها ردفا بفتح الراء وسكون الدال، وردفه بفتح الراء والدال يردفه بضم الدال، ردفا بفتح فسكون، وفي ملحق الرواية "أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه" أي أركبني خلفه. (هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء)؟ قال النووي: وقع في معظم النسخ "شيئا" بالنصب، وعليها يقدر فيه محذوف، أي هل معك من شيء، فتنشدني شيئا؟ واسم أبي الصلت ربيعة بن عوف الثقفي، كان ممن طلب الدين، ونظر في الكتب، ويقال: إنه ممن دخل في النصرانية، وأكثر في شعره من ذكر التوحيد، والبعث ويوم القيامة، وزعم الكلاباذي أنه كان يهوديا، وروى الطبراني عن أبي سفيان أنه سافر مع أمية، فذكر قصته، وأنه سأله عن عتبة بن ربيعة، وعن سنه ورياسته، فأعلمه أنه متصف بذلك، فقال: أزري به ذلك. فغضب أبو سفيان، فأخبره أمية أنه نظر في الكتب أن نبيا يبعث من العرب، أظل زمانه، قال: فرجوت أن أكونه، قال: ثم نظرت، فإذا هو من بني عبد مناف، فنظرت فيهم، فلم أر مثل عتبة، فلما قلت لي: إنه رئيس، وإنه جاوز الأربعين، عرفت أنه ليس هو، قال أبو سفيان: فما مضت الأيام حتى ظهر محمد صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمية، قال: نعم، إنه لهو، قلت: أفلا نتبعه؟ قال: أستحي من ثقيف، إني كنت أقول لهم: إنني أنا هو، ثم أصير تابعا لغلام من بني عبد مناف؟ وذكر أبو الفرج الأصبهاني: أنه قال عند موته: أنا أعلم أن الحنفية حق، ولكن الشك يداخلني في محمد. وعاش أمية حتى أدرك وقعة بدر، ورثى من قتل بها من الكفار، ومات أمية بعد ذلك سنة تسع، وقيل: مات في حصار الطائف سنة ثمان. (قال: هيه) بكسر الهاء، وإسكان الهاء الثانية، قالوا: والهاء الأولى بدل من الهمزة، وأصله "إيه" وهي كلمة للاستزادة من الحديث المعهود، قال ابن السكيت: هي للاستزادة من حديث أو عمل معهودين، قالوا: وهي اسم فعل أمر، مبني على الكسر، فإن وصلتها نونتها، فقلت إيه حدثنا، أي زدنا من هذا الحديث، فإن أردت الاستزادة من غير معهود نونت، فقلت: إيه، لأن التنوين للتنكير، وأما "إيها" بالنصب، فمعناه الكف، والأمر بالسكوت، ومقصود الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم استحسن شعر أمية، واستزاد من إنشاده، لما فيه من الإقرار بالوحدانية والبعث، وفي ملحق الرواية "استنشدني رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي طلب مني أن أنشده شعرا. (أشعر كلمة تكلمت بها العرب) وفي الرواية الثالثة والسادسة "أصدق كلمة" وفي الرواية الرابعة والخامسة "أصدق بيت" فيحتمل أن يراد بالكلمة البيت الذي ذكر شطره، ويحتمل أن يريد

القصيدة كلها، ورواية "أشعر" لا اعتراض عليها، ولكن اعترض على رواية "أصدق" إذ كيف يوصف كل شيء - ما خلا الله - بالبطلان؟ مع اندراج الطاعات والعبادات في ذلك، وهي حق، لا باطل، ويكون الكلام صادقا؟ وأجيب بأن المراد من "ما خلا الله" ما عداه وعدا صفاته الذاتية والفعلية، من رحمته وعذابه وغير ذلك، ثم إن الشطر الثاني عليه اعتراض أيضا، فقد ذكر ابن إسحاق عن عثمان بن مظعون أنه لما رجع من الهجرة الأولى إلى الحبشة، ودخل مكة في جوار الوليد بن المغيرة، ورأى المشركين يؤذون المسلمين، وهو آمن، رد على الوليد جواره، فبينما هو جالس في مجلس لقريش وفد عليهم لبيد بن ربيعة - قبل أن يسلم - فقعد ينشدهم من شعره، فقال لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل فقال عثمان بن مظعون: صدقت، فقال لبيد: وكل نعيم لا محالة زائل. فقال عثمان كذبت. نعيم الجنة لا يزول اهـ. فكيف يوصف قول لبيد بالصدق؟ وبالأصدق؟ وقد يجاب بأن مراد الرسول صلى الله عليه وسلم بوصف الصدق الشطر الأول الذي ذكره، أو أن المراد من "ما خلا الله" أي ما عداه وعدا صفاته الذاتية والفعلية من رحمته وعذابه، بما في ذلك الجنة والنار. أسلم لبيد بعد ذلك، وسكن الكوفة، ومات بها في خلافة عثمان، وعاش مائة وخمسين سنة. وذكره البخاري في الصحابة، قال القسطلاني: وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة وفد قومه، بنو جعفر، فأسلم، وحسن إسلامه. اهـ. وقيل: إن عمر سأله عما قاله من الشعر في الإسلام، فقال: قد أبدلني بالشعر سورة البقرة، ولم يقل شعرا منذ أسلم. (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا يريه خير من أن يمتلئ شعرا) قال النووي: قال أهل اللغة والغريب "يريه" بفتح الياء وكسر الراء، من الورى، وهو داء يفسد الجوف، ومعناه قيحا يأكل جوفه، ويفسده. (من لعب بالنردشير) هو النرد، عجمي معرب، و"شير" معناه حلو، وهي لعبة معروفة باسم الطاولة صندوق وحجارة، و (زهر) -[فقه الحديث]- قال النووي عن الشعر، نظمه، واستنشاده، وإنشاده: فيه جواز إنشاد الشعر الذي لا فحش فيه، وسماعه، سواء شعر الجاهلية وغيرهم، وأما المذموم من الشعر الذي لا فحش فيه، إنما هو الإكثار منه، وكونه غالبا على الإنسان، فأما يسيره، فلا بأس بإنشاده وسماعه وحفظه. أما عن الرواية السابعة وما بعدها، فيقول: قال أبو عبيد: قال بعضهم: المراد بهذا الشعر شعر هجي به النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو عبيد والعلماء كافة: هذا تفسير فاسد، لأنه يقتضي أن المذموم من الهجاء أن يمتلئ منه، دون قليله، وقد أجمع المسلمون على أن الكلمة الواحدة من هجاء النبي صلى الله عليه وسلم موجبة للكفر. قالوا: بل الصواب أن المراد أن يكون الشعر غالبا عليه، مستوليا عليه، بحيث يشغله عن القرآن

وغيره من العلوم الشرعية، وعن ذكر الله تعالى، وهذا مذموم من أي شعر كان، فأما إذا كان القرآن والحديث وغيرهما من العلوم الشرعية هو الغالب عليه، فلا يضر حفظ اليسير من الشعر مع هذا، لأن جوفه ليس ممتلئا شعرا. ثم قال: واستدل بعض العلماء بهذا الحديث على كراهة الشعر مطلقا، قليله وكثيره، وإن كان لا فحش فيه، وتعلق بقوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا الشيطان" وقال العلماء كافة: هو مباح ما لم يكن فيه فحش ونحوه، قالوا: وهو كلام، حسنه حسن، وقبيحه قبيح، وهذا هو الصواب، فقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم الشعر، واستنشده، وأمر به حسان في هجائه المشركين، وأنشده أصحابه بحضرته، في الأسفار وغيرها، وأنشده الخلفاء وأئمة الصحابة وفضلاء السلف، ولم ينكره أحد منهم على إطلاقه، وإنما أنكروا المذموم منه، وهو الفحش، ونحوه، قال: وأما تسمية هذا الرجل - الذي سمعه ينشد - شيطانا، فلعله كان كافرا، أو كان الشعر هو الغالب عليه، أو كان شعره هذا من المذموم، وبالجملة فتسميته شيطانا قضية عين، تتطرق إليها الاحتمالات المذكورة وغيرها، ولا عموم لها، فلا يحتج بها. وفي الحديث منقبة للبيد الصحابي الجليل والله أعلم. النقطة الثانية في هذا الباب: البعد عن لعب النرد ونحوه، قال النووي: وهذا الحديث حجة للشافعي والجمهور في تحريم اللعب بالنرد، وقال أبو إسحاق المروزي، من أصحابنا: يكره، ولا يحرم، وأما الشطرنج فمذهبنا أنه مكروه، ليس بحرام، وهو مروي عن جماعة من التابعين، وقال مالك وأحمد: حرام، قال مالك: هو شر من النرد، وألهى عن الخير وقاسوه على النرد، وأصحابنا يمنعون القياس، ويقولون: هو دونه. نعم التشبيه في قوله "فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه" ينفر منه، ويفر به من الحرمة، لذا أضاف النووي إلى النص عبارة "في حال أكله منهما" وكأن التشبيه بالأكل من لحم الخنزير ودمه، وهو حرام باتفاق، وتشبيه الشيء بالمحرم القطعي دليل التحريم، قال بعضهم: لأن غمس اليد في اللحم يكون غالبا في حالة الأكل. والتحقيق أن التشبيه ليس بالأكل، وإلا لقال: فكأنما أكل لحم خنزير، وإنما هو تشبيه حركات اللاعب، وتناوله لآلات اللعب، ونقله للحجارة "القشاط" تبعا لأرقام الزهر، بغمس اليد في النجاسة، وغمس اليد في النجاسة مستقذر، ليس بمحرم فيكون التشبيه للتنفير. والبحث الدقيق يكون في الحكمة والعلة، أهي ما في الألعاب من التغرير والحظ؟ فالمنع للطاولة ونحوها مما يعتمد على الحظ، دون الشطرنج والورق (الكوتشينة) والحجارة في التراب (السيجة) و (الضمنة) والكرة بأنواعها والرمي، وسباق الجري، ونحو ذلك، أم هي اللهو وضياع الوقت، بقدر زائد على الترويح؟ فيشمل جميع الألعاب، إذا زادت عن قدر الحاجة النافعة؟ أم هي ما تحدثه بين المتلاعبين من الحقد والغل والغضب والإثارة؟ فتمنع إذا أحدثت ذلك، أو حين توقعه؟ أم هي ما يحدث غالبا من غرامة تلحق المغلوب للغالب؟ فتمنع إن كانت كذلك.

إن اللعب في حد ذاته ليس حراما، فقد قال الغزالي ومن بعده الزبيدي بعد أن ساق حديث لعب السودان بالدرق والحراب: فيه نص صريح على أن اللعب ليس بحرام، ولا يخفى عادة الحبشة في الرقص واللعب، كما استدل بحديث الصحيحين "دونكم يا بني أرفدة" وقال: هذا أمر باللعب، والتماس له، فكيف يقدر كونه حراما؟ ثم ختم الباب بقوله: فاللهو من حيث هو ليس بحرام، كيف وقد كانت الأنصار يحبون اللهو ولم يمتنعوا من محبته؟ بل أقروا عليه في قوله صلى الله عليه وسلم "أما علمت أن الأنصار يعجبهم اللهو"؟ وقال: وأما حديث "كل شيء يلهو به الرجل باطل" فالباطل ما لا فائدة فيه، وغالب المباحات لا فائدة فيها. قال الغزالي: على أني أقول: اللهو مروح للقلب، ومخفف عنه أعباء الفكر، والعطلة معينة على العمل، واللهو معين على الجد، ولا يصبر على الجد المحض، والحق المر، إلا نفوس الأنبياء، عليهم السلام، فاللهو دواء للقلب من داء الإعياء والملال، فينبغي أن يكون مباحا، ولكن لا ينبغي أن يستكثر منه، كما لا يستكثر من الدواء. انتهى بتصرف، وهو كلام حسن، إذا أضيف إليه خلو اللهو من الإثارة الضارة غير الشرعية، من الحظ، والتغرير، والخداع، والحقد واللهو عن واجب ديني أو دنيوي، وتضييع الوقت مع الحاجة إليه. والله أعلم.

كتاب الرؤيا

كتاب الرؤيا

(602) باب الرؤية والحلم، وتأويل الرؤيا

(602) باب الرؤية والحلم، وتأويل الرؤيا 5145 - عن أبي سلمة رضي الله عنه قال: كنت أرى الرؤيا أعرى منها غير أني لا أزمل حتى لقيت أبا قتادة، فذكرت ذلك له، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الرؤيا من الله والحلم من الشيطان، فإذا حلم أحدكم حلما يكرهه فلينفث عن يساره ثلاثا، وليتعوذ بالله من شرها فإنها لن تضره". 5146 - عن أبي قتادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله، ولم يذكر في حديثهم قول أبي سلمة كنت أرى الرؤيا أعرى منها غير أني لا أزمل. - وزاد في حديث يونس: فليبصق على يساره حين يهب من نومه ثلاث مرات. 5147 - عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الرؤيا من الله والحلم من الشيطان، فإذا رأى أحدكم شيئا يكرهه فلينفث عن يساره ثلاث مرات وليتعوذ بالله من شرها فإنها لن تضره" فقال: إن كنت لأرى الرؤيا أثقل علي من جبل فما هو إلا أن سمعت بهذا الحديث فما أباليها. 5148 - وفي رواية: قال أبو سلمة: فإن كنت لأرى الرؤيا: "وليس في حديث الليث وابن نمير قول أبي سلمة إلى آخر الحديث. وزاد ابن رمح في رواية هذا الحديث: "وليتحول عن جنبه الذي كان عليه".

5149 - عن أبي قتادة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الرؤيا الصالحة من الله والرؤيا السوء من الشيطان، فمن رأى رؤيا فكره منها شيئا فلينفث عن يساره وليتعوذ بالله من الشيطان، لا تضره، ولا يخبر بها أحدا، فإن رأى رؤيا حسنة فليبشر ولا يخبر إلا من يحب". 5150 - عن أبي سلمة رضي الله عنه قال: إن كنت لأرى الرؤيا تمرضني. قال: فلقيت أبا قتادة فقال: وأنا كنت لأرى الرؤيا فتمرضني، حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الرؤيا الصالحة من الله، فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث بها إلا من يحب. وإن رأى ما يكره فليتفل عن يساره ثلاثا، وليتعوذ بالله من شر الشيطان وشرها، ولا يحدث بها أحدا فإنها لن تضره". 5151 - عن جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثا، وليستعذ بالله من الشيطان ثلاثا، وليتحول عن جنبه الذي كان عليه". 5152 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب. وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا. ورؤيا المسلم جزء من خمس وأربعين جزءا من النبوة. والرؤيا ثلاثة: فرؤيا الصالحة بشرى من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدث المرء نفسه. فإن رأى أحدكم ما يكره، فليقم فليصل ولا يحدث بها الناس" قال: "وأحب القيد وأكره الغل. والقيد ثبات في الدين" فلا أدري هو في الحديث أم قاله ابن سيرين. 5153 - قال أبو هريرة رضي الله عنه فيعجبني القيد وأكره الغل. والقيد ثبات في الدين. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة".

5154 - وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إذا اقترب الزمان. وساق الحديث، ولم يذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم. وحدثناه إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا معاذ بن هشام، حدثنا أبي عن قتادة عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: وأدرج في الحديث قوله: وأكره الغل. إلى تمام الكلام، ولم يذكر "الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة". 5155 - عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة". 5156 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة". 5157 - وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رؤيا المسلم يراها أو ترى له" وفي حديث ابن مسهر "الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة". 5158 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رؤيا الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة". عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. بمثل حديث عبد الله بن يحيى بن أبي كثير عن أبيه.

5159 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزءا من النبوة". 5160 - وفي رواية، قال نافع: حسبت أن ابن عمر قال: "جزء من سبعين جزءا من النبوة". 5161 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي". 5162 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، أو لكأنما رآني في اليقظة، لا يتمثل الشيطان بي". وقال فقال أبو سلمة: قال أبو قتادة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رآني فقد رأى الحق". 5163 - عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من رآني في النوم فقد رآني. إنه لا ينبغي للشيطان أن يتمثل في صورتي" وقال: "إذا حلم أحدكم فلا يخبر أحدا بتلعب الشيطان به في المنام". 5164 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رآني في النوم فقد رآني. فإنه لا ينبغي للشيطان أن يتشبه بي".

5165 - عن جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأعرابي جاءه فقال: إني حلمت أن رأسي قطع، فأنا أتبعه. فزجره النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "لا تخبر بتلعب الشيطان بك في المنام". 5166 - عن جابر رضي الله عنه قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، رأيت في المنام كأن رأسي ضرب فتدحرج فاشتددت على أثره. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعرابي: "لا تحدث الناس بتلعب الشيطان بك في منامك" وقال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بعد يخطب فقال: "لا يحدثن أحدكم بتلعب الشيطان به في منامه". 5167 - عن جابر رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، رأيت في المنام كأن رأسي قطع. قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "إذا لعب الشيطان بأحدكم في منامه فلا يحدث به الناس" وفي رواية أبي بكر "إذا لعب بأحدكم ولم يذكر الشيطان". 5168 - عن ابن عباس أو أبي هريرة رضي الله عنهما أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية: أن ابن عباس كان يحدث: أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني أرى الليلة في المنام ظلة تنطف السمن والعسل، فأرى الناس يتكففون منها بأيديهم، فالمستكثر والمستقل. وأرى سببا واصلا من السماء إلى الأرض، فأراك أخذت به فعلوت، ثم أخذ به رجل من بعدك فعلا، ثم أخذ به رجل آخر فعلا، ثم أخذ به رجل آخر فانقطع به، ثم وصل له فعلا. قال أبو بكر: يا رسول الله، بأبي أنت، والله، لتدعني فلأعبرنها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اعبرها" قال أبو بكر: أما الظلة فظلة الإسلام. وأما الذي ينطف من السمن والعسل فالقرآن، حلاوته ولينه. وأما ما يتكفف الناس من ذلك فالمستكثر من القرآن والمستقل. وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض، فالحق الذي أنت عليه تأخذ به، فيعليك الله به، ثم يأخذ به رجل من بعدك فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو به

ثم يأخذ به رجل آخر فينقطع به ثم يوصل له فيعلو به. فأخبرني يا رسول الله، بأبي أنت، أصبت أم أخطأت؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أصبت بعضا وأخطأت بعضا" قال: فوالله، يا رسول الله، لتحدثني ما الذي أخطأت؟ قال: "لا تقسم". 5169 - وفي رواية، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل النبي صلى الله عليه وسلم منصرفه من أحد. فقال: يا رسول الله، إني رأيت هذه الليلة في المنام ظلة تنطف السمن والعسل. بمعنى حديث يونس. 5170 - وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال عبد الرزاق: كان معمر أحيانا يقول: عن ابن عباس. وأحيانا يقول: عن أبي هريرة، أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أرى الليلة ظلة. بمعنى حديثه، رأيت ظلة. بنحو حديثهم. 5171 - وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مما يقول لأصحابه: "من رأى منكم رؤيا فليقصها أعبرها له" قال: فجاء رجل فقال: يا رسول الله رأيت ظلة بنحو حديثهم. 5172 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت ذات ليلة فيما يرى النائم، كأنا في دار عقبة بن رافع، فأتينا برطب من رطب ابن طاب. فأولت الرفعة لنا في الدنيا والعاقبة في الآخرة، وأن ديننا قد طاب". 5173 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أراني في المنام أتسوك بسواك. فجذبني رجلان، أحدهما أكبر من الآخر، فناولت السواك الأصغر منهما فقيل لي: كبر. فدفعته إلى الأكبر".

5174 - عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر. فإذا هي المدينة يثرب. ورأيت في رؤياي هذه أني هززت سيفا، فانقطع صدره، فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد. ثم هززته أخرى فعاد أحسن ما كان، فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين. ورأيت فيها أيضا بقرا، والله خير، فإذا هم النفر من المؤمنين يوم أحد، وإذا الخير ما جاء الله به من الخير، بعد وثواب الصدق الذي آتانا الله بعد يوم بدر". 5175 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم مسيلمة الكذاب على عهد النبي صلى الله عليه وسلم المدينة. فجعل يقول: إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته. فقدمها في بشر كثير من قومه. فأقبل إليه النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ثابت بن قيس بن شماس وفي يد النبي صلى الله عليه وسلم قطعة جريدة. حتى وقف على مسيلمة في أصحابه. قال: "لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها. ولن أتعدى أمر الله فيك ولئن أدبرت ليعقرنك الله. وإني لأراك الذي أريت فيك ما أريت. وهذا ثابت يجيبك عني" ثم انصرف عنه. فقال ابن عباس: فسألت عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنك أرى الذي أريت فيك ما أريت" فأخبرني أبو هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينا أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب. فأهمني شأنهما. فأوحي إلي في المنام أن انفخهما فنفختهما فطارا. فأولتهما كذابين يخرجان من بعدي، فكان أحدهما العنسي، صاحب صنعاء. والآخر مسيلمة، صاحب اليمامة". 5176 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينا أنا نائم أتيت خزائن الأرض. فوضع في يدي أسوارين من ذهب، فكبرا علي وأهماني. فأوحي إلي أن انفخهما فنفختهما فذهبا. فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما، صاحب صنعاء، وصاحب اليمامة".

5177 - عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح أقبل عليهم بوجهه فقال: "هل رأى أحد منكم البارحة رؤيا". -[المعنى العام]- {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى} [الزمر: 42] والنفس سر من أسرار الله تعالى {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي} [الإسراء: 85] وتوفيها كليا أو جزئيا سر من أسراره تعالى، فلا تعلم نفس أين تذهب الروح أثناء النوم؟ ولا تعلم مدى اتصالها بجسد النائم، ولا تعلم ما يجري منها، وما يجري لها في موتتها الصغرى، التي تتكرر كل يوم. ومما هو معلوم أن الوحي الإلهي للأنبياء، منه الإلهام، ومنه المنام، فحديث الرسول صلى الله عليه وسلم "إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس قبل أن تستوفي رزقها وأجلها" مثل للإلهام، ومثله الإيحاء إلى أم موسى أن أرضعيه، ورؤيا إبراهيم عليه السلام، أنه يذبح ولده، ورؤيا يوسف عليه السلام أحد عشر كوكبا والشمس والقمر ساجدين له، ورؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم دخول المسلمين المسجد الحرام آمنين، أمثلة للمنام. فالرؤيا الصادقة، يراها المؤمن أو ترى له، إنما تكون إفاضة وكرما من الله تعالى، ليستبشر، أو ليأخذ حذره، فهي مبشرات ومنذرات، وهي جزء من النبوة، ولمحة من لمحاتها، حتى وإن رآها كافر، فهي نعمة، والمنعم ينعم على الكافر، لعله يعتبر ويؤمن، كما ينعم على المؤمن ليزداد إيمانا وشكرا. وقد حكى لنا القرآن الكريم رؤيا فرعون مصر سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، وسبع سنبلات خضر، وأخر يابسات، وكيف تحقق تأويل يوسف عليه السلام لها؟ كما حكى رؤيا صاحبي السجن، وكيف تحققت؟ حقائق لا يسهل إنكارها، لكنها نوع مما يراه النائم، لا يحكم به على كل رؤيا يراها، بل قد يرى في منامه تحقيق رغبات مكبوتة عنده أثناء يقظته، وقد يرى خليطا من مشكلات تشغله في حياته، وقد يرى ما يوسوس به الشيطان له من أحزان ومخاوف، ومن هنا كانت النصائح النبوية: 1 - إذا حلم أحدكم حلما يكرهه، فلينفت عن يساره، وليتحول عن جنبه، وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم ومن شرها، وأن يكتمها، ولا يحدث بها إلا حبيبا لبيبا، فإنها لا تضره. 2 - وإذا رأى ما يحب فليستبشر، ويحكيها لحبيب لبيب، ليعبرها له. 3 - وإذا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، فرؤياه خير وصادقة، فإن الشيطان لا يتمثل به. 4 - وعلى المؤمن أن يحرص على الصدق في معاملاته، لتصدق رؤياه، فأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا.

5 - وعلى من يعبر الرؤيا أن يحسن الظن، وأن يتجه بتأويله إلى خير الاحتمالات، وأن يكون خبيرا ذكيا لبيبا، فهي - غالبا - تعتمد على الإشارات. وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤى، وفسرها، وقصها على أصحابه، ورأى أصحابه رؤى وفسرها لهم، وفسرها بعضهم لبعض، وشجعهم وحثهم على تعبير الرؤيا، فإنها من الله تعالى، وإنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة. -[المباحث العربية]- (كنت أرى الرؤيا) "الرؤيا" ما يراه الشخص في منامه، وهي على وزن فعلى، وقد تسهل الهمزة، وقال الواحدي: هي في الأصل مصدر، كاليسرى، فلما جعلت اسما لما يتخيله النائم، أجريت مجرى الأسماء، قال الراغب: والرؤية، بالهاء، إدراك المرء بحاسة البصر، وتطلق على ما يدرك بالتخيل، نحو: أرى أن زيدا مسافر، وعلى التفكر النظري، نحو {إني أرى ما لا ترون} [الأنفال: 48] وعلى الرأي، وهو اعتقاد أحد النقيضين حسب غلبة الظن. اهـ. وقال القرطبي في المفهم: قال بعض العلماء: قد تجيء الرؤية بمعنى الرؤيا، كقوله تعالى {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس} [الإسراء: 60] فزعم أن المراد بها ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم، ليلة الإسراء من العجائب، وكان الإسراء جميعه في اليقظة. قال الحافظ ابن حجر: وعكسه بعضهم، فزعم أنه حجة لمن قال: إن الإسراء كان مناما، والأول المعتمد، قال ابن عباس: إنها رؤيا عين، قال الحافظ: ويحتمل أن تكون الحكمة في تسمية ذلك رؤيا كون أمور الغيب مخالفة لرؤيا الشهادة، فأشبهت ما في المنام. اهـ. وسيأتي الكلام عن حقيقة الرؤيا في فقه الحديث، وفي ملحق الرواية الثانية "فإن كنت لأرى الرؤيا" فإن مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، أي فإن القصة كنت لأرى الرؤيا. (أعرى منها) بضم الهمزة، وسكون العين وفتح الراء، أي أحم، لخوفي من ظاهرها في ظني، يقال: عري بضم العين وكسر الراء مخففا، يعرى بضم الياء وفتح الراء، إذا أصابه عراء، بضم العين وبالمد، وهو نفض الحمى، وفي الرواية الرابعة "قال أبو سلمة لأبي قتادة: إن كنت لأرى الرؤيا تمرضني؟ فقال له أبو قتادة: وأنا كنت لأرى الرؤيا فتمرضني" بزيادة اللام في "لأرى" والأولى بدون اللام. (غير أني لا أزمل) بضم الهمزة وفتح الزاي وتشديد الميم المفتوحة، أي لا أغطى ولا ألف، كما يفعل بالمحموم، وفي الرواية الثانية "إن كنت لأرى الرؤيا أثقل علي من جبل" وعند عبد الرزاق "كنت أرى الرؤيا ألقى فيها شدة". (حتى لقيت أبا قتادة فذكرت ذلك له، فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول) في الرواية الثانية "سمعت أبا قتادة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول .. " (الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان) في الرواية الثالثة "الرؤيا الصالحة من الله، والرؤيا السوء من الشيطان" بفتح السين وسكون الواو، أي القبيحة، والحلم بضم الحاء

وسكون اللام، وقد تضم ما يراه النائم، ولم يحك النووي غير السكون، يقال: حلم بفتح اللام، يحلم بضمها، وأما الحلم بكسر الحاء وسكون اللام فهو من حلم يحلم، بضم اللام فيهما، وجمع الحلم والحلم بضم الحاء وكسرها أحلام. قال النووي: قال المازري: معناه: يخلق الله ما يسر بغير حضرة الشيطان، ويخلق ما علم أنه يضر بحضرة الشيطان، فينسب إلى الشيطان مجازا، لحضوره عندها، وإن كان لا فعل له حقيقة، وليس معناه أن الشيطان يفعل شيئا، فالرؤيا اسم للمحبوب، والحلم اسم للمكروه، وقال غيره: أضاف الرؤيا المحبوبة إلى الله، إضافة تشريف، بخلاف المكروهة وإن كانتا جميعا من خلق الله تعالى وتدبيره وبإرادته، ولا فعل للشيطان فيهما، لكنه يحضر المكروهة ويرتضيها، ويسر بها. اهـ. كما أن الجميع عباد الله، ولو كانوا عصاة، وهو تصرف شرعي، وإلا فالكل يسمى رؤيا وحلما لغة. وفي رواية "الصادقة" بدل "الصالحة" قال الحافظ ابن حجر: وهما بمعنى واحد، بالنسبة إلى أمور الآخرة، في حق الأنبياء، وأما بالنسبة إلى أمور الدنيا فالصالحة في الأصل أخص، فرؤيا النبي كلها صادقة، وقد تكون صالحة، وهي الأكثر، وغير صالحة بالنسبة للدنيا، كما وقع في رؤيا يوم أحد "بقر يذبح" وأما رؤيا غير الأنبياء فبينهما عموم وخصوص وجهي، يجتمعان في مادة وينفرد كل منهما في مادة أخرى، إن فسرنا الصادقة بأنها التي لا تحتاج إلى تعبير، فيجتمعان في رؤيا سارة لا تحتاج إلى تعبير، وتنفرد الصالحة في السارة التي تحتاج إلى تعبير فهي صالحة غير صادقة بنفسها، وتنفرد الصادقة برؤيا سوء لا تحتاج إلى تعبير، فهي صادقة، غير صالحة، وأما إن فسرنا الصادقة بأنها غير الأضغاث، فالصالحة أخص مطلقا، أي فبينهما عموم وخصوص مطلق، يجتمعان في مادة، وينفرد الأعم في مادة أخرى فتجتمع الصادقة والصالحة في غير الأضغاث السارة، وتنفرد الصادقة في غير الأضغاث السيئة. وقال الإمام نصر بن يعقوب الدينوري: الرؤيا الصادقة ما يقع بعينه أو ما يعبر في المنام، أو يخبر به من لا يكذب، والصالحة ما يسر. اهـ. (فإذا حلم أحدكم حلما يكرهه) في الرواية الثانية "فإذا رأى أحدكم شيئا يكرهه" وفي الرواية الثالثة "فمن رأى رؤيا فكره منها شيئا" وفي الرواية الخامسة "إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها" فالكراهة قد تكون لكل ما جاء في الحلم، أو لبعض ما جاء في الرؤيا. (فلينفث عن يساره ثلاثا، وليتعوذ بالله من شرها، فإنها لا تضره) وفي ملحق الرواية الثانية "وليتحول عن جنبه الذي كان عليه" وفي الرواية الثالثة "ولا يخبر بها أحدا" وفي الرواية الرابعة "وليتعوذ بالله من شر الشيطان وشرها" وفي الرواية الخامسة "وليستعذ بالله من الشيطان ثلاثا" وفي الرواية الثالثة عشرة "إذا حلم أحدكم فلا يخبر أحدا بتلعب الشيطان به في المنام" وفي الرواية الخامسة عشرة "لا تخبر بتلعب الشيطان بك في المنام" وفي الرواية السادسة عشرة "لا تحدث الناس بتلعب الشيطان بك في منامك" وفيها "لا يحدثن أحدكم بتلعب الشيطان به في منامه" وفي الرواية السابعة عشرة "إذا لعب الشيطان بأحدكم في منامه فلا يحدث به الناس". فمجموع الآداب المطلوبة خمسة: 1 - النفث: واختلف فيه والتفل، فقيل: هما بمعنى، ولا يكونان إلا بريق، وقال أبو عبيد: يشترط في

التفل ريق يسير، ولا يكون في النفث، وقيل عكسه، وسئلت عائشة في النفث، فقالت: كما ينفث آكل الزبيب، لا ريق معه، قال: ولا اعتبار بما يخرج معه من بلة بغير قصد، وقال النووي: أكثر الروايات في الرؤيا "فلينفث" وهو نفخ لطيف، بلا ريق، فيكون التفل والبصق محمولين عليه مجازا، قال الحافظ ابن حجر: لكن المطلوب في الرقية التبرك برطوبة الذكر، والمطلوب هنا طرد الشيطان، وإظهار احتقاره واستقذاره. 2 - الاستعاذة بالله من شر الشيطان. 3 - الاستعاذة بالله من شرها. 4 - التحول عن جنبه الذي كان عليه. 5 - كتمها وعدم التحديث بها، زاد البخاري سادسا، وهو الصلاة. ولفظه "فمن رأى شيئا يكرهه فلا يقصه على أحد، وليقم فليصل" وكذا في روايتنا السادسة وزاد في بعض الشروح سابعا وهو قراءة آية الكرسي، ولم يذكر مستندا. قال النووي: وينبغي أن يجمع بين هذه الروايات للحديث، قال الحافظ ابن حجر: ولم أر في شيء من الأحاديث الاقتصار على واحدة، نعم أشار المهلب إلى أن الاستعاذة كافية في دفع شرها، وكأنه أخذه من قوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم * إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون} [النحل: 98، 99] فيحتاج مع الاستعاذة إلى صحة التوجه، ولا يكفي إمرار الاستعاذة باللسان، وقال القرطبي في المفهم: الصلاة تجمع كل ذلك، لأنه إذا قام فصلى، تحول عن جنبه، وبصق ونفث عند المضمضة في الوضوء، واستعاذ قبل القراءة، ثم دعا الله في أقرب الأحوال إليه، فيكفيه الله شرها بمنه وكرمه. اهـ. وفي ملحق الرواية الأولى "فليبصق عن يساره، حين يهب من نومه" أي حين يستقيظ، ومعنى قوله "فإنها لن تضره" أن الله تعالى جعل هذا سببا لسلامته من مكروه يترتب عليها، كما جعل الصدقة وقاية للمال، وسببا لدفع البلاء، وقوله في الرواية الثالثة "فإن رأى رؤيا حسنة فليبشر" بضم الياء وسكون الباء، من الإبشار والبشرى، قال النووي: وفي بعض الأصول بفتح الياء والنون من النشر، وهو الإشاعة، قال القاضي: وهو تصحيف، وفي بعض الأصول "فليستر" بسين، من الستر. (إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب) قيل: المراد إذا قارب الزمان أن يعتدل ليله ونهاره أي تصدق الرؤيا كثيرا في هذا الوقت من السنة، وقيل: المراد إذا قارب القيامة، والأول أشهر عند أهل عبر الرؤيا، لأن صدق الحديث يقل في آخر الزمان، قال الخطابي: وقت الربيع وقت اعتدال الطبائع غالبا، قال: ويبعده التقييد بالمؤمن، أو المسلم - فإن الوقت الذي تعتدل فيه الطبائع لا يختص به، وجزم ابن بطال بأن قرب القيامة هو الصواب، قال: فالمعنى إذا اقتربت الساعة وقبض أكثر العلم، ودرست معالم الديانة بالهرج والفتنة، فكان الناس على مثل الفترة، محتاجين إلى مذكر ومجدد لما درس من الدين، كما كانت الأمم تذكر بالأنبياء، لكن لما كان نبينا خاتم الأنبياء، وصار الزمان المذكور يشبه زمان الفترة عوضوا بما منعوا من النبوة بعده بالرؤيا الصادقة التي هي جزء

من النبوة بالتبشير والإنذار. اهـ. ويؤيد أن المراد اقتراب الساعة الحديث الصحيح "يتقارب الزمان ويرفع العلم" فإن المراد به اقتراب الساعة قطعا، قال الداودي: المراد بتقارب الزمان نقص الساعات والأيام والليالي اهـ. والمراد بنقصها ضياع بركتها، والإحساس بسرعة مرورها، وذلك قرب يوم القيامة، كما ثبت في الصحيح "يتقارب الزمان حتى تكون السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كالساعة والساعة كاحتراق السعفة" رواه مسلم، وقيل: إن المراد بالزمان المذكور زمان المهدي، عند بسط العدل، وكثرة الأمن، وبسط الخير والرزق، فإن ذلك الزمان يستقصر لاستلذاذه فتتقارب أطرافه، وفي قوله "لم تكد" إشارة إلى غلبة الصدق على الرؤيا، وإن أمكن أن شيئا منها لا يصدق، قال الحافظ ابن حجر: والراجح أن المراد نفي الكذب عنها أصلا، لأن حرف النفي الداخل على "كاد" ينفي قرب حصوله، والنافي لقرب حصول الشيء أدل على نفيه نفسه. ذكره الطيبي. وقال القرطبي في المفهم: المراد - والله أعلم - بآخر الزمان المذكور في هذا الحديث (المذكور في الحديث اقتراب الزمان، وليس آخر الزمان) زمان الطائفة الباقية مع عيسى ابن مريم، بعد قتله الدجال، فكأن أهل هذا الزمان أحسن هذه الأمة حالا، بعد الصدر الأول، وأصدقهم أقوالا، فكانت رؤياهم لا تكذب، وقال ابن أبي جمرة: معنى كون الرؤيا في آخر الزمان لا تكاد تكذب أنها تقع غالبا على الوجه الذي لا يحتاج إلى تعبير، فلا يدخلها الكذب، بخلاف ما قبل ذلك، فإنها قد يخفى تأويلها، فيعبرها العابر، فلا تقع كما قال، فيصدق دخول الكذب فيها بهذا الاعتبار، قال: والحكمة في اختصاص ذلك بآخر الزمان أن المؤمن في ذلك الوقت يكون غريبا، فيقل أنيس المؤمن ومعينه في ذلك الوقت، فيكرم بالرؤيا الصادقة. قال الحافظ ابن حجر: وحاصل ما اجتمع من كلامهم في معنى قوله "إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب" إذا كان المراد آخر الزمان، ثلاثة أقوال: أحدهما أن العلم بأمور الديانة يذهب، فعوضوا بالرؤيا الصادقة، الثاني: أن المؤمنين يقل عددهم، فيؤنس المؤمن ويعان بالرؤيا الصادقة، إكراما له، وتسلية، وعلى هذين القولين لا يختص ذلك بزمان معين، بل كلما قرب فراغ الدنيا تكون رؤيا المؤمن الصادق أصدق، الثالث أن ذلك خاص بزمان عيسى ابن مريم. قال: وأولها أولاها اهـ. (وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا) لأن من كثر صدقه تنور قلبه، وقوي إدراكه، فانتقشت فيه المعاني على وجه الصحة، وكذلك من كان غالب حاله الصدق في يقظته استصحب ذلك في نومه، فلا يرى إلا صدقا بخلاف الكاذب والمخلط، فإنه يفسد قلبه ويظلم، فلا يرى إلا تخليطا وأضغاثا، وقد يندر العكس أحيانا، فيرى الصادق ما لا يصح، ويرى الكاذب ما يصح ولكن الأغلب الأكثر ما تقدم. قاله القرطبي. (ورؤيا المسلم جزء من خمس وأربعين جزءا من النبوة) كذا في كثير من الأصول "خمس" وفي بعضها "خمسة" وهو الصواب، وفي الرواية السابعة والثامنة والتاسعة "جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة" وفي الرواية العاشرة "جزء من سبعين جزءا من النبوة" قال النووي: فحصل ثلاث روايات، المشهور "ستة وأربعين" والثانية "خمسة وأربعين" والثالثة "سبعين" وفي

غير مسلم "من أربعين جزءا" وفي رواية "من تسعة وأربعين" وفي رواية "من خمسين" وفي رواية "من ستة وعشرين" وفي رواية "من أربعة وأربعين" قال القاضي: أشار الطبري إلى أن هذا الاختلاف راجع إلى اختلاف حال الرائي، فالمؤمن الصالح تكون رؤياه جزءا من ستة وأربعين جزءا، والفاسق جزءا من سبعين جزءا، وقيل: المراد أن الخفي منها جزء من سبعين والجلي جزء من ستة وأربعين. اهـ. وقد استشكل كون الرؤيا جزء من النبوة، مع أن النبوة انقطعت بموت النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقيل في الجواب: إن وقعت الرؤيا من النبي صلى الله عليه وسلم فهي جزء من أجزاء النبوة حقيقة، وإن وقعت من غير النبي فهي جزء من أجزاء النبوة على سبيل المجاز، وقال الخطابي: قيل: معناه أن الرؤيا تجيء على موافقة النبوة، لا أنها جزء باق من النبوة، وقيل: المعنى أنها جزء من علم النبوة، لأن النبوة وإن انقطعت، فعلمها باق، وتعقب بقول مالك، فيما حكاه ابن عبد البر، أنه سئل: أيعبر الرؤيا كل أحد؟ فقال: أبالنبوة يلعب؟ ثم قال: الرؤيا جزء من النبوة، فلا يلعب بالنبوة، والجواب أنه لم يرد أنها نبوة باقية، وإنما أراد أنها لما أشبهت النبوة من جهة الاطلاع على بعض الغيب، لا ينبغي أن يتكلم فيها بغير علم، وقال ابن بطال: كون الرؤيا جزءا من أجزاء النبوة مما يستعظم، ولو كانت جزءا من ألف جزء، فيمكن أن يقال: إن لفظ النبوة مأخوذ من الإنباء، وهو الإعلام لغة، فالمعنى - على هذا - أن الرؤيا خبر صادق من الله، لا كذب فيه، كما أن معنى النبوة بنبأ صادق من الله، لا يجوز عليه الكذب، فشابهت الرؤيا النبوة في صدق الخبر، اهـ. ففي الكلام تشبيه، والتقدير: الرؤيا كجزء من النبوة في صدق الخبر. وقال المازري: يحتمل أن يراد بالنبوة في هذا الحديث، الخبر بالغيب لا غير، وإن كان يتبع ذاك إنذار أو تبشير، فالخبر بالغيب أحد ثمرات النبوة، وهو غير مقصود لذاته، لأنه يصح أن يبعث نبي يقرر الشرع، ويبين الأحكام، وإن لم يخبر في طول عمره بغيب، ولا يكون إلا صادقا ولا يقع إلا حقا، وأما خصوص العدد فهو مما أطلع الله عليه نبيه، لأنه يعلم من حقائق النبوة ما لم يعلمه غيره، وقال القاضي أبو بكر بن العربي: أجزاء النبوة لا يعلم حقيقتها إلا ملك أو نبي، وإنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين أن الرؤيا جزء من أجزاء النبوة في الجملة، لأن فيها اطلاعا على الغيب من وجه ما، وأما تفصيل النسبة فيختص بمعرفته درجة النبوة. وقال المازري: لا يلزم العالم أن يعرف كل شيء جملة وتفصيلا، فقد جعل الله للعالم حدا، يقف عنده، فمنه ما يعلم المراد منه جملة وتفصيلا ومنه ما يعلمه جملة لا تفصيلا، وهذا من هذا القبيل. وقد حاول بعض أهل العلم أن يتلمس مناسبة للرواية المشهورة "جزء من ستة وأربعين جزءا" فقال: إن الله أوحى إلى نبيه في المنام ستة أشهر، ثم أوحى إليه بعد ذلك في اليقظة بقية مدة حياته، ونسبتها من الوحي في المنام جزء من ستة وأربعين جزءا، لأنه عاش بعد النبوة ثلاثا وعشرين سنة على الصحيح. قال ابن بطال: هذا التأويل يفسد من وجهين: أحدهما أنه قد اختلف في قدر المدة التي عاشها بعد البعثة إلى موته، والثاني أن يبقى حديث السبعين جزءا بغير معنى. قال الحافظ ابن حجر:

ويضاف إليه بقية الأعداد الواردة، وأطال الحافظ ابن حجر في توجيه المناسبات بين الأعداد الواردة وبين الواقع، مما لا يتسع له هذا المقام. (والرؤيا ثلاثة) ظاهره أنه مرفوع، وكذا أخرجه الترمذي والنسائي من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن ابن سيرين عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الرؤيا ثلاث فرؤيا حق، ورؤيا يحدث بها الرجل نفسه، ورؤيا تحزين من الشيطان" لكن جاء في البخاري عن عوف قال: حدثنا محمد بن سيرين أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة، وما كان من النبوة فإنه لا يكذب"- قال محمد: وأنا أقول: هذه - قال: وكان يقال: (الرؤيا ثلاث، حديث النفس، وتخويف الشيطان، وبشرى من الله .. ) مما يوهم أنه مدرج، والصحيح أنه مرفوع. (فرؤيا الصالحة بشرى من الله) كذا في الأصول "فرؤيا الصالحة" من إضافة الموصوف إلى صفته، كقولهم: مسجد الجامع، أي فالرؤيا الصالحة بشرى من الله. (ورؤيا تحزين من الشيطان) وعند ابن ماجه "أهاويل من الشيطان ليحزن ابن آدم" وعند البخاري "وتخويف الشيطان". (ورؤيا مما يحدث المرء نفسه) وعند البخاري "حديث النفس" وعند ابن ماجه "ومنها ما يهم به الرجل في يقظته، فيراه في منامه" قال الحافظ ابن حجر: وليس الحصر مرادا من قوله "ثلاث" لثبوت نوع رابع، وهو تلاعب الشيطان، ونوع خامس، وهو رؤيا ما يعتاده الرائي في اليقظة، كمن كانت عادته أن يأكل في وقت، فنام فيه، فرأى أنه يأكل، وبينه وبين حديث النفس عموم وخصوص، وسابع، وهو الأضغاث، انتهى ويمكن إدراج ما ذكره الحافظ في الأنواع الثلاثة، بشيء من التوسع. (قال: وأحب القيد، وأكره الغل والقيد ثبات في الدين) في ملحق الرواية قال أبو هريرة: "فيعجبني القيد، وأكره الغل" القيد بفتح القاف حبل ونحوه يجعل في الرجل، والغل بضم الغين وتشديد اللام طوق من حديد أو جلد، يجعل في عنق الأسير أو المجرم، أو في أيديهما، جمعه أغلال، وفي رواية البخاري "قال: وكان يكره الغل في النوم، وكان يعجبهم القيد، ويقال: القيد ثبات في الدين" قال الكرماني: اختلف فيه. هل هو مرفوع؟ أو لا؟ فقال: بعضهم: مرفوع، وقال بعضهم: هو كلام ابن سيرين، وفاعل "كان يكره" أبو هريرة، وقال الطيبي: يحتمل أن يكون مقولا للراوي عن ابن سيرين، فيكون اسم "كان" ضميرا لابن سيرين، وأن يكون مقولا لابن سيرين، واسم "كان" ضمير أبي هريرة، أو النبي صلى الله عليه وسلم اهـ. وفي نهاية الرواية عند مسلم "فلا أدري. هو في الحديث؟ أم قاله ابن سيرين؟ وأخرجه الترمذي وأحمد والحاكم، وفي نهايته" قال أبو هريرة: "يعجبني القيد .. إلخ" وقال الخطيب: المتن كله مرفوع إلا ذكر القيد، والغل، فإنه قول أبي هريرة، أدرج في الخبر، وقال أبو عوانة عن قصة القيد: الأصح أن هذا من قول ابن سيرين، وقال القرطبي: هذا الحديث وإن اختلف في رفعه ووقفه فإن معناه صحيح، لأن القيد في الرجلين تثبيت للمقيد في مكانه فإذا رآه من هو على حالة كان ذلك دليلا على ثبوته على تلك الحالة، وأما كراهة الغل فلأن محله الأعناق نكالا وعقوبة وقهرا، وإذلالا، وقد

يسحب على وجهه، ويخر على قفاه، فهو مذموم شرعا وعادة فرؤيته في العنق دليل على وقوع حال سيئة للرائي تلازمه ولا ينفك عنها، وقد يكون ذلك في دينه كواجبات فرط فيها، أو معاص ارتكبها، أو حقوق لازمة له لم يوفها أهلها مع قدرته، وقد تكون في دنياه، كشدة تعتريه أو تلازمه. وقال المهلب: الغل يعبر بالمكروه، لأن الله أخبر في كتابه أنه من صفات أهل النار بقوله تعالى {إذ الأغلال في أعناقهم} [غافر: 71] وقد يدل على الكفر، وقد يعبر بامرأة تؤذى. وقال ابن العربي: إنما أحبوا القيد لذكر النبي صلى الله عليه وسلم له في قسم المحمود، فقال: "قيد الإيمان الفتك" وأما الغل فقد كره شرعا في المفهوم، كقوله {خذوه فغلوه} [الحاقة: 30] وقوله {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك} [الإسراء: 29] وقوله {غلت أيديهم} [المائدة: 64] وإنما جعل القيد ثباتا في الدين، لأن المقيد لا يستطيع المشي فضرب مثلا للإيمان، الذي يمنع عن المشي إلى الباطل. وقال النووي: قال العلماء: إنما أحب القيد لأن محله الرجل، وهو كف عن المعاصي والشر والباطل، وأما الغل فموضعه العنق، وهو صفة أهل النار. (من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي) في الرواية الثانية عشرة "من رآني في المنام فسيراني في اليقظة - أو لكأنما رآني في اليقظة، لا يتمثل الشيطان بي" وفيها "ومن رآني فقد رأى الحق" وفي الرواية الثالثة عشرة "من رآني في النوم فقد رآني، إنه لا ينبغي للشيطان أن يتمثل في صورتي". قال النووي: اختلف العلماء في معنى قوله صلى الله عليه وسلم "فقد رآني" فقال الباقلاني: معناه أن رؤياه صحيحة، ليست بأضغاث، ولا من تشبيهات الشيطان، ويؤيده "فقد رأى الحق" أي الرؤية الصحيحة، قال المازري: وقال آخرون: بل الحديث على ظاهره، والمراد أن من رآه فقد أدركه - أي أدرك وتصور حقيقة ذاته وصفته - قالوا ولا مانع يمنع من ذلك والعقل لا يحيله، حتى يضطر إلى صرفه عن ظاهره، وتعقب بأن قد يرى خلاف صفته المعروفة، كمن يراه أبيض اللحية، وقد يراه شخصان في زمن واحد، أحدهما في المشرق والآخر في المغرب ويراه كل منهما في مكانه، فلا يكون إدراكا وتصورا حقيقيا، وأجيب بأن معنى "من رآني في المنام" أي على صورتي وهيئتي وصفاتي الحقيقية، فقد أدرك صورتي، والإدراك لا يشترط فيه تحديق الأبصار، ولا قرب المسافة ولا كون المرئي ظاهرا على الأرض، لا مدفونا فيها، وإنما يشترط كونه موجودا، ولم يقم دليل على فناء جسمه صلى الله عليه وسلم بل جاء في الأحاديث ما يقتضي بقاءه، أما من رآه على غير صورته وعلى خلاف ما كان عليه صلى الله عليه وسلم، فهو تخيل له على غير وجهه، أو هو تخيل للصفات المخالفة، وليس إدراكا، وقد يظن الظان بعض الخيالات مرئيا مدركا، لكون ما يتخيله مرتبطا بما يرى في العادة، فيكون ذاته صلى الله عليه وسلم مرئية، وصفاته متخيلة غير مرئية، فحاصل هذا الجواب أن من رآه بصفته فقد أدركه وتصوره، فإن الشيطان لا يتشبه به، ومن رآه على خلاف صفته الحقيقية فقد أدرك ذاته وتصورها، وتخيل صفات غير صحيحة. وقيل في الجواب: من رآه على صفته المعروفة له في حياته فقد رآه وأدرك صفته، ومن رآه على خلاف صفته كانت رؤيا تأويل، لا رؤيا حقيقية، ولم يرتض النووي هذين الجوابين، وقال: بل الصحيح

أن من رآه في المنام فقد رآه حقيقة، سواء كان على صفته المعروفة أو غيرها، وقال: قال القاضي: قال بعض العلماء: خص الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم بأن رؤية الناس إياه صحيحة، وكلها صدق ومنع الشيطان أن يتصور في خلقته لئلا يكذب على لسانه في النوم، كما استحال أن يتصور الشيطان في صورته في اليقظة، ولو وقع لاشتبه الحق بالباطل، ولم يوثق بما جاء به، مخافة من هذا التصور، فحماه الله تعالى من الشيطان ونزغه ووسوسته وإلقائه وكيده، قال: وكذا حمى رؤيتهم أنفسهم. اهـ. وهذا القول مسلم في اليقظة أما في النوم فالتشبه به لا يخل بالثقة فيه، فما أكثر الباطل في المنام. وما ضعفه النووي من الجوابين خلاف ما عليه كثير من العلماء، فقد علق البخاري على ابن سيرين قوله "إذا رآه في صورته" و"كان ابن سيرين، إذا قص عليه رجل أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم قال: صف لي الذي رأيته، فإن وصف له صفة لا يعرفها، قال: لم تره" قال الحافظ ابن حجر: وسنده صحيح، وقال أبو بكر بن العربي: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بصفته المعلومة إدراك على الحقيقة، ورؤيته على غير صفته إدراك للمثال فإن الصواب أن الأنبياء لا تغيرهم الأرض، ويكون إدراك الذات الكريمة حقيقة، وإدراك الصفات إدراك المثل. وقيل: الكلام على التشبيه، أي من رآني في المنام - بصفتي الحقيقية، أو بخلاف صفتي - فهو يشبه من رآني، في الثقة بي وبديني وما يجب لي عليه، وليس يدخل في ذلك قطعا ثبوت الصحبة له، حتى ولو كان معاصرا لحياته صلى الله عليه وسلم ويؤيد هذا المعنى روايتنا الثانية عشرة ولفظها "أو لكأنما رآني في اليقظة". هذا عن رواية "فقد رآني" أما عن رواية "من رآني في المنام فسيراني في اليقظة" روايتنا الثانية عشرة، فقد قيل في معناها: فسيرى تفسير ما رأى، لأنه حق وغيب، ألقي فيه، وقيل: معناه: فسيراني يوم القيامة، وتعقب بأنه لا فائدة من هذا التخصيص، فكل المؤمنين يرونه يوم القيامة في اليقظة، وقال ابن التين: المراد من آمن به في حياته، ولم يره، لكونه حينئذ غائبا عنه، فيكون بهذا مبشرا لكل من آمن به، ولم يره، أنه لا بد أن يراه في اليقظة قبل موته. قاله القزاز، وقال المازري: إن كان المحفوظ "فكأنما رآني في اليقظة" فمعناه ظاهر، وإن كان المحفوظ "فسيراني في اليقظة" احتمل أن يكون أراد أهل عصره، ممن يهاجر إليه، فإنه إذا رآه في المنام جعل ذلك علامة على أنه يراه بعد ذلك في اليقظة، وأوحى الله بذلك إليه صلى الله عليه وسلم. أما قوله "فإن الشيطان لا يتمثل بي" ففي الرواية الثالثة عشرة "إنه لا ينبغي للشيطان أن يتمثل في صورتي" وعند الترمذي "إن الشيطان لا يستطيع أن يصير مرئيا بصورتي" وفي رواية "فإن الشيطان لا يتزايا بصورتي" وعند البخاري "فإن الشيطان لا يتكونني" أي لا يتكون كوني في صورتي، والمعنى أن الله تعالى وإن منح الشيطان القدرة على التصور في أي صورة أراد، فإنه لم يمكنه من التصور في صورة النبي صلى الله عليه وسلم، ومحل ذلك إذا رآه على صورته التي كان عليها، في أي وقت من أوقات حياته صلى الله عليه وسلم ومن العلماء من ضيق الحالة، فخصها بالحالة التي قبض عليها حتى يعتبر عدد الشعرات البيض التي لم تبلغ عشرين شعرة، قال الحافظ ابن حجر: والصواب

التعميم في جميع حالاته صلى الله عليه وسلم، بشرط أن تكون صورته الحقيقية في وقت ما، سواء كان في شبابه أو رجولته أو كهولته أو آخر عمره. (عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، أو أبي هريرة) كذا بالترديد بين ابن عباس، وأبي هريرة، في روايتنا الثامنة عشرة، وعن ابن عباس بدون ترديد، في ملحقيها، وفي الملحق الثاني يذكر عبد الرزاق أن التردد كان من معمر شيخه، وليس من الزهري شيخ شيخه، وعند عبد الرزاق: عن ابن عباس قال: كان أبو هريرة يحدث، قال البزار: لا نعلم أحدا قال: عن عبيد الله عن ابن عباس عن أبي هريرة إلا عبد الرزاق عن معمر، ورواه غير واحد، فلم يذكروا أبا هريرة. اهـ. وذكر الحميدي أن سفيان بن عيينة كان لا يذكر فيه ابن عباس، قال: فلما كان صحيحه آخر زمانه أثبت فيه ابن عباس أخرجه أبو عوانة في صحيحه من طريق الحميدي، والتحقيق أنه من مسند ابن عباس فقد أخرجه البخاري في صحيحه بلفظ "وقال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: لا تقسم ... " فجزم بأنه عن ابن عباس. (أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله) في ملحق الرواية "جاء رجل النبي صلى الله عليه وسلم منصرفة من أحد فقال .. " فبينت زمن الرؤيا. (إني أرى الليلة في المنام) فيه التعبير عن الماضي بالمضارع استحضارا للصورة، تأكيدا لتذكرها وضبطها، كأنها حاضرة أمامه وقت التكلم والأصل: إني رأيت الليلة في المنام، كما جاء في الملحق الأول. (ظلة، تنطف السمن والعسل) "ظلة" بضم الظاء، أي سحابة لها ظل، والأصل كل ما أظل، من ثقيفة ونحوها، زاد في رواية "ظلة بين السماء والأرض" ومعنى "تنطف" بكسر الطاء، ويجوز ضمها، أي تقطر قليلا قليلا. (فأرى الناس يتكففون منها بأيديهم) أي يأخذون بأكفهم، قال الخليل: تكفف بسط كفه ليأخذ، وقال القرطبي: يحتمل أن يكون معنى "يتكففون" يأخذون كفايتهم وهو أليق بقوله بعد ذلك: "فالمستكثر والمستقل" واعترض عليه الحافظ ابن حجر بأن الكفاية من كفى، والتكفف من كفف، فلا يتلاقيان اهـ. وكلام القرطبي وجيه فالكفاف من الكف والتكفف مقدار الحاجة من غير زيادة ولا نقصان، فالقرطبي أخذ المعنى من الكف، لا من الكفاية. (فالمستكثر والمستقل) أي الآخذ كثيرا، والآخذ قليلا، وفي رواية "فمستكثر ومستقل" بدون الألف واللام، وفي رواية "فمن بين مستكثر ومستقل وبين ذلك". (وأرى سببا واصلا من السماء إلى الأرض) السبب الحبل. (فأراك أخذت به، فعلوت) أي فرأيتك أمسكت به، فصعدت إلى أعلى وفي رواية "فأعلاك الله". (ثم أخذ به رجل من بعدك) في رواية "ثم أخذه رجل من بعد"

(ثم أخذ به رجل آخر فانقطع به) في رواية "فانقطع" وفي رواية "ثم جاء رجل من بعدكم فأخذ به، فقطع به". (ثم وصل له، فعلا) في رواية "ثم وصل له فاتصل". (بأبي أنت) زاد في رواية "وأمي". (والله لتدعني) بتشديد النون، وفتح العين، مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد، وفي رواية "ائذن لي" (فلأعبرنها) بالتأكيد باللام والنون، وفي رواية البخاري "فأعبرها" يقال: عبر الرؤيا بفتح الباء مخففة ويعبرها بضم الباء عبرا بفتح العين وسكون الباء وعبارة إذا فسرها وأخبر بما يئول إليه أمرها، وعبرها بتشديد الباء للمبالغة في ذلك والتعبير خاص بتفسير الرؤيا وهو العبور من ظاهرها إلى باطنها وقيل: النظر في الشيء فيعتبر بعضه ببعض حتى يحصل على فهمه، وأصله من العبر بفتح العين وسكون الباء، وهو التجاوز من حال إلى حال، وخصوا تجاوز الماء بسباحة أو بسفينة أو غيرها بلفظ العبور بضم العين والباء، والاعتبار والعبرة الحالة التي يتوصل بها من معرفة المشاهد إلى ما ليس بمشاهد. (اعبرها) بضم الباء، فعل أمر من الثلاثي وعند ابن ماجه "عبرها" بتشديد الباء المكسورة، وفي رواية "فأذن له" زاد في رواية "وكان من أعبر الناس للرؤيا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم" (أما الظلة فظلة الإسلام) في رواية للبخاري "أما الظلة فالإسلام". (وأما الذي ينطف من السمن والعسل فالقرآن، حلاوته ولينه) وفي رواية للبخاري "فالقرآن، حلاوته تنطف" وفي رواية "وأما العسل والسمن فالقرآن، في حلاوة العسل ولين السمن". (وأما ما يتكفف الناس من ذلك، فالمستكثر من القرآن والمستقل) وفي رواية "فالآخذ من القرآن كثيرا وقليلا" وفي رواية "فهم حملة القرآن". (ثم يأخذ به رجل من بعدك فيعلو به) زاد في رواية "رجل من بعدك على مناهجك" (أصبت؟ أم أخطأت؟ ) في رواية "هل أصبت يا رسول الله؟ أو أخطأت؟ . (أصبت بعضا، وأخطأت بعضا) في رواية "أصبت وأخطأت". (فوالله - يا رسول الله - لتحدثني: ما الذي أخطأت؟ قال: لا تقسم) عائد الصلة محذوف، أي ما الذي أخطأت فيه؟ وفي رواية "ما الذي أصبت؟ وما الذي أخطأت؟ فأبى أن يخبره" وفي رواية "لتحدثني بالذي أخطأت" وفي رواية "لتخبرني بالذي أصبت من الذي أخطأت" قال الداودي: قوله "لا تقسم" أي لا تكرر يمينك، فإني لا أخبرك اهـ. وقد أطنب العلماء في تعيين ما أصاب فيه، وما أخطأ فيه، وسنعرض أقوالهم في فقه الحديث. (من رأى منكم رؤيا، فليقصها، أعبرها له) "فليقصها" الفعل مجزوم بلام الأمر وحرك بالفتح لالتقاء الساكنين، وفعل "أعبرها" بضم الباء، وسكون الراء مجزوم في جواب الأمر.

(فأتينا برطب من رطب ابن طاب) قال النووي: نوع من الرطب معروف، يقال له: رطب ابن طاب وتمر ابن طاب، وعذق ابن طاب، وعرجون ابن طاب وهو مضاف إلى ابن طاب رجل من أهل المدينة. (فأولت الرفعة لنا في الدنيا، والعاقبة في الآخرة) مفعول "أولت" بتشديد الواو المفتوحة محذوف أي أولت الرؤيا وعبرتها بالرفعة للمسلمين في الدنيا. (وأن ديننا قد طاب) أي كمل، واستقرت أحكامه، وتمهدت قواعده. (أراني في المنام) بفتح الهمزة من الرؤيا، أي رأيت نفسي في المنام وفي رواية البخاري "أراني أتسوك بسواك، فجاءني رجلان" وعند أبي داود عن عائشة رضي الله عنها "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستن وعنده رجلان، فأوحي إليه أن أعط السواك الأكبر" وهذا يقتضي أن تكون القضية وقعت في اليقظة، وجمع العلماء بين روايتنا ورواية أبي داود باحتمال أن القضية وقعت في المنام، ووقعت في اليقظة، ولما وقعت في اليقظة أخبرهم صلى الله عليه وسلم بما رآه في النوم، تنبيها على أن أمره بذلك وحي متقدم. (فجذبني رجلان أحدهما أكبر من الآخر، فناولت السواك الأصغر منهما) أي جذب انتباهي، ورغبتي في إعطاء السواك أحدهما أولا، كل منهما له وجه في استحقاق التقديم، ولعل الأصغر سنا كان أعلم من الأكبر، أو أفضل في التقوى وكانا في المواجهة مثلا أما لو كان أحدهما على اليمين والآخر على الشمال فقد قال المهلب: السنة حينئذ تقديم الأيمن. (فقيل لي: كبر. فدفعته إلى الأكبر) في رواية لأحمد أن القائل له جبريل عليه السلام، ولفظها "إن جبريل أمرني أن أكبر" ولفظ الطبراني "أمرني جبريل أن أكبر" فمعنى "فناولت السواك الأصغر منهما" أي مددت يدي بالسواك ولم يتسلمه المعطى، ففيه مجاز المشارفة، أي قاربت مناولته ومعنى "كبر" بفتح الكاف وتشديد الباء المكسورة، أي اقصد الكبير سنا وقدمه. (فذهب وهلى) قال ابن التين: رويناه بفتح الهاء، والذي ذكره أهل اللغة بسكونها، وقال النووي: يقال: وهل بفتح الهاء، يهل بكسرها، وهلا بسكونها، مثل ضرب يضرب ضربا، أي غلط وذهب وهمه إلى خلاف الصواب، وأما وهلت بكسرها، أوهل بسكون الواو وفتح الهاء، وهلا بالتحريك كحذرت أحذر حذرا، فمعناه فزعت، والمعنى هنا ذهبت وهمي وظني واعتقادي. (إلى أنها اليمامة أو هجر) في رواية للبخاري "أو الهجر" واليمامة مدينة كبيرة بين مكة والمدينة، و"هجر" بلد كبير معروف في البحرين وهي من مساكن عبد القيس وقد سبقوا غيرهم من القرى إلى الإسلام وقيل: هجر قرية صغيرة كانت قرب المدينة ورد بأن المناسب أن يهاجر إليه لا بد وأن يكون بلدا كبيرا كثير الأهل. (فإذا هي المدينة "يثرب") قال الحافظ ابن حجر: كان ذلك قبل أن يسميها صلى الله عليه وسلم طيبة. (أني هززت سيفا فانقطع صدره، فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد) وفي

رواية للبخاري "هززت سيفي" وفي رواية عند ابن إسحاق "ورأيت سيفي ذي الفقار انقصم من عند ظبته - أو قال: به فلول، فكرهته" وفي أخرى عند ابن إسحاق "ورأيت في ذباب سيفي ثلما" وصدر كل شيء مقدمه، وظبة السيف بضم الظاء وتشديد الباء، حده وذبابه حد طرفيه، والثلم الشق وكسر الحرف، قال المهلب: هذه الرؤيا من ضرب المثل، ولما كان صلى الله عليه وسلم يصول بالصحابة عبر عن السيف بهم، وبهزه عن أمره لهم بالحرب، وعن القطع فيه بالقتل فيهم. اهـ. وقيل: كان الذي رآه بسيفه ما أصاب وجهه الكريم، والثلم في السيف رجل من أهل بيته يقتل، ويبعده صريح روايتنا، وأن ما رآه بسيفه هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد. (ثم هزرته أخرى، فعاد أحسن ما كان، فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين) فعودة السيف إلى حالته الحسنة تعبر بفتح مكة ونصر الله واجتماع الناس على الإسلام. (ورأيت فيها أيضا) أي في الرؤيا نفسها. (بقرا) بفتح الباء والقاف، جمع بقرة، وفي رواية "بقرا تذبح" وفي رواية "بقرا تنحر" وعند أحمد والنسائي وابن سعد "ورأيت بقرا منحرة" قال النووي: وبهذه الزيادة "تذبح" "تنحر" "منحرة" يتم تأويل الرؤيا بما ذكر فنحر البقر هو قتل الصحابة رضي الله عنهم الذين قتلوا بأحد. (والله خير) مبتدأ وخبر، قال القاضي: ضبطناه عن جميع الرواة برفع الهاء والراء وهو من جملة ما حكي من الرؤيا، فهي كلمة ألقيت إليه وسمعها في الرؤيا، عند رؤيا البقر، بدليل تأويلها بعد، وفيه مضاف محذوف أي وصنع الله وفعله خير على كل حال، فصنعه بالمقتولين خير لهم من بقائهم في الدنيا، وقيل: معناه: والله عنده خير وعند ابن إسحاق "وإني رأيت والله خيرا رأيت بقرا" وهي أوضح، والواو للقسم، "والله" بالجر مقسم به "وخيرا" مفعول "رأيت" وفي رواية "تأولت البقر الذي رأيت بقرا يكون فينا، قال: فكان ذلك من أصيب من المسلمين" فقوله "بقرا" بفتح الباء وسكون القاف، وهو شق البطن. (وإذا الخير ما جاء الله به من الخير بعد، وثواب الصدق الذي آتانا الله بعد يوم بدر) قال القاضي عياض: ضبطنا "بعد يوم بدر" بضم الدال ونصب "يوم" قال: وروي بنصب الدال، قالوا: ومعناه ما جاء الله به بعد بدر الثانية من تثبيت قلوب المؤمنين، لأن الناس جمعوا لهم وخوفوهم فزادهم ذلك إيمانا، وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء، وتفرق العدو عنهم، هيبة لهم، اهـ يشير القاضي إلى أن المراد بالخير في الحديث إلقاء الرعب في قلب مشركي مكة، وعدم خروجهم في العام القابل بعد بدر، كما هددوا وتوعدوا في بدر، وتثبيت قلوب المؤمنين، وعودتهم من الغزوة لم يمسسهم سوء، وتفسير الآية بهذا شذ به مجاهد وعكرمة رحمهما الله تعالى: إذ قالا: إنما الآية نزلت في خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر الصغرى، وذلك أنه خرج لميعاد أبي سفيان، إذ قال: - بعد هزيمته في بدر الكبرى - موعدنا بدر من العام المقبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قولوا: نعم فلما جاء الموعد خرج صلى الله عليه وسلم قبل بدر، وجاءهم من يقول: إن قريشا قد اجتمعت لحربهم، فأشفق المسلمون من ذلك، لكنهم قالوا حسبنا الله ونعم الوكيل، فصمموا حتى أتوا بدرا، فلم يجدوا أحدا فاشتروا من سوقها تجارة ونعما.

وجمهور المفسرين على أن الآية تشير إلى غزوة حمراء الأسد، وذلك أنه عقب انتهاء غزوة أحد، وفي اليوم الثاني منها نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس باتباع المشركين، ليعلموا أن بالمسلمين قوة، وقال: لا يخرج معنا إلا من شهدها بالأمس، فنهض معه مائتا رجل من المؤمنين، ربما كان فيهم المثقل بالجراح لا يستطيع المشي ولا يجد مركوبا فربما حمل على الأعناق، فلما وصلوا حمراء الأسد بلغهم أن كفار قريش قد أجمعوا أمرهم على أن يأتوا المدينة، فيستأصلوا أهلها، فقالوا: لم يخبرنا الله بشأنهم، حسبنا الله ونعم الوكيل، وشاء الله أن يذهب إلى كفار قريش من يثقون فيه وليس منهم، فيخبرهم - خداعا - أن محمدا وأصحابه بحمراء الأسد في جيش عظيم، سيكر عليهم، فخاف أبو سفيان ومن معه، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فأسرعوا إلى مكة، ورجع الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة. وهذا التفسير أولى في مقامنا، لأن الخير الذي فسر في الرؤيا كان بعد ذبح البقر، ولا يتأتى هذا على التفسير الأول، وقوله في حديثنا "بعد يوم بدر" لا يتعارض مع ما ذهبنا إليه، فما بعد أحد هو بعد بدر. والحاصل أن رؤياه صلى الله عليه وسلم اشتملت على قصتين، قصة هز السيف وما وقع به من فلول وكسور، وفسرت بابتلاء المسلمين في أحد، وعودة السيف سليما مشهورا بنصر الإسلام وعزته فيما بعد أحد، وعلى رأس هذا النصر فتح مكة، ودخول الناس في دين الله أفواجا، القصة الثانية البقر الذي يذبح، وفسر بشهداء المسلمين في أحد، والخير الذي يعقبه، وفسر باستعادة الثقة والأمن بعد أحد، ابتداء من غزوة حمراء الأسد. (قدم مسيلمة الكذاب - على عهد النبي صلى الله عليه وسلم - المدينة) "مسيلمة" بكسر اللام، مصغر، وهو ابن ثمامة بن كبير بن حبيب بن الحارث، من بني حنيفة، وادعى بعضهم أن مسيلمة لقب، واسمه ثمامة، فإن صح كان ممن وافقت كنيته اسمه، فقد كانت كنيته أبا ثمامة، وقد ذكر ابن إسحاق أن مسيلمة قدم مع وفد قومه، وأنهم تركوه في رحالهم يحفظها لهم، وذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذوا منه جائزته. اهـ. فهذا القدوم - إن صحت روايته، وهي ضعيفة - غير القدوم الذي في روايتنا، فالقدوم الأول كان تابعا، وكان رئيس بني حنيفة رجلا غيره، ولهذا أقام في رحالة الوفد يحفظها لهم، وأسلم مع وفد قومه - وكانوا يسكنون اليمامة، بين مكة واليمن، أما القدوم الذي في روايتنا فالمراد به قدوم وقع بعد ردته وكذبه وادعائه النبوة فبين القدومين أكثر من عام، عظم فيه قدره في بني حنيفة، بعد أن تزوج "سجاح" وهي امرأة من بني تميم ادعت النبوة أيضا وتبعها كثيرون من قومها، فخادعها مسيلمة إلى أن تزوجها، فدان له أتباعها من قومها واجتمعوا على طاعته حتى كان يقال له رحمان اليمامة، فادعى شركة محمد صلى الله عليه وسلم في النبوة، وكتب إليه "أما بعد" فإن الأرض بيني وبينك نصفين، لي نصفها، ولك نصفها، فكتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم "أما بعد" فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، فعدل من دعواه الشركة إلى الدعوة إلى أن يكون الخليفة من بعده صلى الله عليه وسلم وجاء المدينة، لعله يحظى بالموافقة. وفي رواية للبخاري "أن مسيلمة الكذاب قدم المدينة، فنزل في دار بنت الحارث - وكانت تحته بنت الحارث بن كريز، وهي أم عبد الله بن عامر فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ثابت بن قيس .. ".

قال الحافظ ابن حجر: الصواب: وهي أم أولاد عبد الله بن عامر، لأنها زوجته، لا أمه، نعم كان لعبد الله بن عامر ولد، يدعى عبد الله، فهي أم عبد الله بن عامر، وكانت كيسة بنت الحارث قبل عبد الله بن عامر تحت مسيلمة الكذاب، فلعله نزل دارها لكونها كانت امرأته، وقيل نزل دارها، لأن دارها كانت قد أعدت لنزول الوفود. (فجعل يقول: إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته) أي رجعت إلى متابعته، والمراد من الأمر الخلافة والقيام بمهام الرسالة. (فقدمها في بشر كثير من قومه) قيل كانوا سبعة عشر رجلا. (فأقبل إليه النبي صلى الله عليه وسلم) يعامله معاملة الكرم، على عادته صلى الله عليه وسلم في الاستئلاف وتوجه إليه بنفسه ليقيم عليه الحجة، ويرفع عذره بإنذاره. (ومعه ثابت بن قيس بن شماس) لأنه كان خطيب الأنصار، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أعطي جوامع الكلم، فإذا دعت الضرورة الشرح والإطالة ترك ثابتا يشرح. (وفي يد النبي صلى الله عليه وسلم قطعة جريد) كعصاة صغيرة، ولعله أخذها متعمدا ليقول عنها ما قال. (حتى وقف على مسيلمة في أصحابه) أي في أصحاب مسيلمة، يقال: وقف على الشيء إذا حضره وعاينه. (قال: لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها) قال هذا جوابا على سؤال مسيلمة أن يجعل له الأمر من بعده، والمعنى لو طلبت مني هذه القطعة الصغيرة التافهة من جريد النخيل، مقابل أن تتبعني ما أعطيتكها، ففي رواية البخاري "فوقف عليه، فكلمه، فقال له مسيلمة: إن شئت خلينا بينك وبين الأمر، ثم جعلته لنا من بعدك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو سألتني هذا القضيب ما أعطيتكه". (ولن أتعدى أمر الله فيك) قال النووي: كذا وقع في جميع نسخ مسلم، ووقع في البخاري "ولن تعدو أمر الله فيك" قال القاضي: هما صحيحان، فمعنى الأول: لن أعدو أنا أمر الله فيك، بل إني لا أجيبك إلى ما طلبته، مما لا ينبغي لك، من الاستخلاف أو المشاركة، ومن أني أبلغ ما أنزل إلي، وأدفع أمرك بالتي هي أحسن، ومعنى الثاني: ولن تعدو أنت أمر الله في خيبتك فيما أملته من النبوة، وهلاكك دون ذلك، أو فيما سبق من قضاء الله تعالى، وقدره في شقاوتك، قال الحافظ ابن حجر: وفي رواية "ولن تعد" بالجزم، وهو لغة، أي الجزم بلن. (ولئن أدبرت ليعقرنك الله) أي إن أدبرت عن طاعتي وأعرضت عن ديني، ليقتلنك الله، والعقر القتل، و {فعقروا الناقة} [الأعراف: 77] قتلوها. وقد قتله الله يوم اليمامة. (وإني لأراك الذي أريت فيك ما أريت) "لأراك" بضم الهمزة، أي لأظنك، و"أريت فيك ما أريت" بضم الهمزة أيضا، مبني للمجهول، من رؤيا المنام والمعنى وإني لأظن أنه سيقع بك الهلاك الهائل العظيم الذي أرانيه الله تعالى عنك في المنام و"ما" في قوله "ما أريت" للتهويل والتفخيم، كما في قوله تعالى {فغشيهم من اليم ما غشيهم} [طه: 78].

(وهذا ثابت يجيبك عني) إن أردت الجدل والنقاش فهو خطيبي الذي أفوضه في إجابة الوفود عن خطبهم وتشدقهم. (بينا أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب) في الرواية الثالثة والعشرين "فوضع في يدي إسوارين من ذهب" والسوار بكسر السين، ويجوز ضمها، حلقة تلبس في المعصم للحلية، وجمعه أسورة، وجمع الجمع أساور، وأساورة، بفتح الهمزة وكسر الواو، والإسوار بكسر الهمزة وسكون السين لغة في السوار، وفي الرواية الثالثة والعشرين "فوضع في يدي إسواران" قال عنها النووي: وقع في جميع النسخ "فوضع في يدي إسوارين" فيكون "وضع" بفتح الواو والضاد، وفيه ضمير الفاعل، أي وضع الآتي بخزائن الأرض في يدي إسوارين، فهذا هو الصواب، وضبطه بعضهم "فوضع" بضم الواو، وهو ضعيف، لنصب "إسوارين" وإن كان يتخرج على وجه ضعيف، وقوله "يدي" هو بتشديد الياء على التثنية، وفي الرواية الثالثة والعشرين "بينا أنا نائم أتيت خزائن الأرض" قال النووي: وفي بعض النسخ "أتيت بخزائن الأرض" وفي غير مسلم "مفاتيح خزائن الأرض" قال العلماء: هذا محمول على سلطانها وملكها وفتح بلادها، وأخذ خزائن أموالها، وقد وقع ذلك كله ولله الحمد. (فأهمني شأنهما) وفي الرواية الثالثة والعشرين "فكبرا علي، وأهماني" وفي رواية للبخاري "فكبر علي" أي عظم أمرهما ووضعهما في يدي، وأدخلا في نفسي حزنا وهما، لكون الذهب من حلية النساء ومن حلي ملوك الكفار. (فأوحي إلي في المنام أن انفخهما، فنفختهما فطارا) قال النووي: والنفخ بالخاء، ونفخه صلى الله عليه وسلم إياهما فطارا، دليل لانمحاقهما، واضمحلال أمرهما، اهـ وفي رواية "فذهبا" زاد في رواية "فوقع واحد باليمامة، والآخر باليمن" وفي نفخهما إشارة إلى حقارة أمرهما، لأن شأن الذي ينفخ فيذهب بالنفخ أن يكون في غاية الحقارة، نعم كان أمرهما وحربهما في غاية الشدة لكن الحقارة المعنوية قائمة بهما. قال العلماء: والوحي إليه صلى الله عليه وسلم بنفخهما يحتمل أن يكون من وحي الإلهام أو على لسان الملك والله أعلم. (فأولتهما كذابين يخرجان من بعدي) قال القاضي عياض: لما كان رؤيا السوارين في اليدين جميعا من الجهتين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ بينهما، أول السوارين عليهما، لوضعهما في غير موضعهما، لأنه ليس من حلية الرجال، وكذلك الكذاب يضع الخبر في غير موضعه. اهـ. وقال القرطبي: مناسبة هذا التأويل لهذه الرؤيا أن أهل صنعاء وأهل اليمامة كانوا أسلموا فكانوا كالساعدين للإسلام فلما ظهر فيهما الكذابان وبهرجا على أهلهما بزخرف أقوالهما ودعواهما الباطلة انخدع أكثرهم بذلك فكان اليدان بمنزلة البلدين، والسوارن بمنزلة الكذابين. اهـ. فالأسواد العنسي ظهر في صنعاء، وادعى النبوة، وعظمت شوكته، وحارب المسلمين، وفتك بهم، وغلب على البلد، وآل أمره إلى أن قتل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ومسيلمة ادعى النبوة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم تعظم شوكته، ولم تقع محاربته إلا في عهد أبي بكر، وأجيب عن هذا الإشكال بجوابين: الأول

أن المراد بخروجهما من بعده قوة شوكتهما وظهورهما وخروجهما ومحاربتهما للمسلمين، وقد حصل هذا من بعده لمسيلمة، وأضيف لهما على سبيل التغليب، والثاني أن في الكلام مضافا محذوفا، والأصل بعد نبوتي، والأول أقرب، وفي الرواية الثالثة والعشرين "الكذابين اللذين أنا بينهما" مما يفيد أنهما حين قص الرؤيا كانا موجودين، وهو كذلك. قال ابن العربي: يحتمل أن يكون ما تأوله النبي صلى الله عليه وسلم في السوارين بوحي، ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم قد تفاءل بذلك دفعا لحالهما، فأخرج المنام المذكور عليهما، لأن الرؤيا إذ عبرت وقعت كما عبرت غالبا. والله أعلم. (فكان أحدهما العنسي، صاحب صنعاء) "العنسي" بسكون النون، وحكى ابن التين جواز فتحها، والأسود العنسي اسمه عبهلة بن كعب، وكان يقال له: ذو الخمار، بالخاء، لأنه كان يخمر وجهه، وقيل: هو اسم شيطانه، وقيل: كان يقال له: ذو الحمار بالحاء، لأنه كان له حمار، علمه أن يسجد له، وكان يصحبه كمظهر من مظاهر معجزته، وكان الأسود خرج بصنعاء وادعى النبوة، وغلب على عامل صنعاء، المهاجر بن أمية، وروى البيهقي في الدلائل "كان باذان عامل النبي صلى الله عليه وسلم بصنعاء، فمات، فخرج الأسود في قومه، حتى ملك صنعاء، وتزوج المرزبانة، زوجة باذان، فواعدت فيروز وأصحابه، حتى دخلوا على الأسود ليلا، وقد سقته المرزبانة الخمر صرفا، حتى سكر، وكان على بابه ألف حارس، فنقب فيروز ومن معه الجدار، حتى وصلوا إليه فقتله فيروز، واحتز رأسه، وأخرجوا المرأة وما أحبوا من متاع البيت، وأرسلوا الخبر إلى المدينة، وكان ذلك عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، قيل: كان قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بيوم وليلة، فأتاه الوحي، فأخبره، ثم جاء الخبر إلى أبي بكر رضي الله عنه، وقيل: وصل الخبر بذلك صبيحة دفن النبي صلى الله عليه وسلم. (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح أقبل علينا بوجهه) أي بعد انصرافه من الصلاة بالسلام، وبعد التسبيح والتحميد والتكبير، وهذا الأسلوب يفيد العادة والاستمرار، لأن "إذا" لما يستقبل من الزمان، والجمع بين الماضي والاستقبال يفيد العادة والكثرة، ومنه قولهم: كان يفعل كذا، وفي رواية للبخاري "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني مما يكثر أن يقول لأصحابه". (هل رأى أحد منكم البارحة رؤيا) "البارحة" صفة لموصوف محذوف، تقديره: الليلة البارحة أي الماضية، وإن كان قبل الزوال، وقال ثعلب وغيره: لا يقال "البارحة" إلا بعد الزوال، وهذا الحديث يرده لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "البارحة" إذا صلى الصبح، أي قبل الزوال قال النووي: ويحتمل أنهم أرادوا أن هذا حقيقته، ويطلق قبل الزوال مجازا زاد البخاري في رواية "قال: فيقص عليه ما شاء الله أن يقص" بضم الياء وفتح القاف. -[فقه الحديث]- في حقيقة الرؤيا أقوال للعلماء منها: قال القاضي أبو بكر بن العربي: الرؤيا إدراكات، علقها الله تعالى في قلب العبد على يدي ملك

أو شيطان إما بأسمائها أي حقيقتها - وإما بكناها - أي بتعبيرها، وإما تخليط، ونظيرها في اليقظة الخواطر، فإنها قد تأتي على نسق في قصة، وقد تأتي مسترسلة، غير محصلة. وذهب القاضي أبو بكر بن الطيب إلى أنها اعتقادات، واحتج بأن الرائي قد يرى نفسه بهيمة أو طائرا مثلا، وليس هذا إدراكا، فوجب أن يكون اعتقادا لأن الاعتقاد قد يكون على خلاف المعتقد قال ابن العربي: والأول أولى، والذي يكون من قبيل ما ذكره ابن الطيب من قبيل المثل، فالإدراك إنما يتعلق به، لا بأصل الذات. وقال المازري: كثر كلام الناس في حقيقة الرؤيا، وقال فيها غير الإسلاميين أقاويل كثيرة منكرة، لأنهم حاولوا الوقوف على حقائق لا تدرك بالعقل، ولا يقوم عليها برهان، وهم لا يصدقون بالسمع، فاضطربت أقوالهم، فمن ينتمي إلى الطب ينسب جميع الرؤيا إلى الأخلاط، فيقول: من غلب عليه البلغم رأى أنه يسبح في الماء ونحو ذلك، لمناسبة الماء طبيعة البلغم، ومن غلبت عليه الصفراء رأى النيران والصعود في الجو، وهكذا إلى آخره. وهذا وإن جوزه العقل، وجاز أن يجري الله به العادة لكنه لم يقم عليه دليل، ولا اطردت به عادة، والقطع في موضوع التجويز غلط (أي هذا إن صح في بعض الرؤيا فلا يجوز تعميمه على كل رؤيا) ومن ينتمي إلى الفلسفة يقول: إن صور ما يجري على الأرض هي في العالم العلوي، كالنقوش، فما حاذى بعض النقوش منها انتقش فيها، قال: وهذا أشد فسادا من الأول، لكونه تحكما لا برهان عليه، والانتقاش من صفات الأجسام، وأكثر ما يجري في العالم العلوي الأعراض، والأعراض لا ينتقش فيها. قال: والصحيح ما عليه أهل السنة أن الله يخلق في قلب النائم اعتقادات، كما يخلقها في قلب اليقظان، فإذا خلقها فكأنه جعلها علما على أمور أخرى، يخلقها في ثاني الحال (أي مستقبلا) ومهما وقع منها على خلاف المعتقد، فهو كما يقع لليقظان، ونظيره أن الله تعالى خلق الغيم علامة على المطر وقد يتخلف، وتلك الاعتقادات تقع تارة بحضرة الملك، فيقع بعدها ما يسر، أو بحضرة الشيطان، فيقع بعدها ما يضر، والعلم عند الله تعالى، اهـ. وهذا الذي عليه أهل السنة ليس عاما، ينطبق على جميع الرؤيا، وإنما هو لنوع منها. وقال القرطبي: سبب تخليط غير الشرعيين إعراضهم عما جاءت به الأنبياء من الطريق المستقيم، وبيان ذلك أن الرؤيا إنما هي من إدراكات النفس، وقد غيب عنها علم حقيقتها، أي النفس، وإذا كان كذلك فالأولى أن لا تعلم علم إدراكاتها، بل كثير مما انكشف لنا من إدراكات السمع والبصر، إنما نعلم منه أمورا جملية، لا تفصيلية. ونقل القرطبي في المفهم عن بعض أهل العلم أن لله تعالى ملكا، يعرض المرئيات على المحل المدرك من النائم فيمثل له صورة محسوسة، فتكون تارة أمثلة موافقة لما يقع في الوجود، وتارة تكون أمثلة لمعان معقولة وتكون في الحالين مبشرة ومنذرة. قال: ويحتاج فيما نقله عن الملك إلى توقيف من الشرع، وإلا فجائز أن يخلق الله تعالى تلك المثالات من غير ملك. قال: وقيل: إن الرؤيا إدراك أمثلة، منضبطة في التخيل، جعلها الله أعلاما على ما كان أو يكون.

وقال القاضي عياض: اختلف في النائم المستغرق، فقيل: لا تصح رؤياه ولا ضرب المثل له، لأن هذا لا يدرك شيئا، مع استغراق أجزاء قلبه، لأن النوم يخرج الحي عن صفات التمييز والظن والتخيل، كما يخرجه عن صفة العلم، وقال آخرون: بل يصح للنائم مع استغراق أجزاء قلبه بالنوم أن يكون ظانا ومتخيلا وأما العلم فلا لأن النوم آفة تمنع حصول الاعتقادات الصحيحة نعم إن كان بعض أجزاء قلبه لم يحل فيه النوم فيصح، وبه يضرب المثل وبه يرى ما يتخيله ولا تكليف عليه حينئذ لأن رؤياه ليست على حقيقة وجود العلم ولا صحة المميز وإنما بقيت فيه بقية، يدرك بها ضرب المثل وأيده القرطبي بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينام عينه، ولا ينام قلبه ومن هنا احترز القائل بقوله "إدراك أمثلة منضبطة في التخيل" لأن الرائي لا يرى في منامه إلا من نوع ما يدركه في اليقظة بحسه، إلا أن التخيلات قد تركب له تركيبا يحصل به صورة لا عهد له بها، يكون علما على أمر نادر، كمن رأى رأس إنسان على جسد فرس، له جناحان مثلا، وأشار بقوله: "أعلاما" إلى الرؤيا الصحيحة المنتظمة الواقعة على شروطها قال الحافظ ابن حجر: وأما الحديث الذي أخرجه الحاكم عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "لقي عمر عليا، فقال: يا أبا الحسن. الرجل يرى الرؤيا فمنها ما يصدق، ومنها ما يكذب؟ قال نعم. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد ولا أمة، ينام فيمتلئ نوما إلا تخرج بروحه إلى العرش فالذي لا يستيقظ دون العرش فتلك الرؤيا التي تصدق والذي يستيقظ دون العرش، فتلك الرؤيا التي تكذب" قال الذهبي في تلخيصه: هذا حديث منكر. بعد هذه الجولة في أقوال العلماء في حقيقة الرؤيا نخلص إلى أن الرؤيا كصورة ذات ألوان مختلفة، أو ذات جوانب مختلفة كل يرى لونا من ألوانها وينظر من زاوية من زواياها، وكل قول مما عرضنا يعبر عن بعض أنواع الرؤيا والبحث في كيفية حصولها بجميع أحوالها بحث في بحر لا ساحل له فهي سر يجري في النوم، والنوم نفسه سر لأنه نوع من الوفاة التي هي سر الأسرار كما يقول تعالى {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها} [الزمر: 42]، وإذا أحلنا بعض ما يراه النائم إلى أسباب، كزيادة الأكل، وقربه من النوم، أو ضغط الرغبات، أو عظم الانشغال أو الخوف أو القلق فإننا لا نعمم بالحكم كل الرؤى، والذي لا شك فيه أن بعض ما يراه النائم جزء من النبوة، إعلام مسبق من الله إنذار أو تبشير وقد فسر بعض العلماء قوله تعالى {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب} [الشورى: 51] فسره بالرؤيا في المنام ومنكر هذا منكر للبداهة والواقع. قالوا: ورؤيا الأنبياء وحي والوحي لا يدخله خلل لأنه محروس لكنها قد لا تحتاج إلى تأويل، فتقع كما رؤيت في النوم كما في قوله تعالى {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون} [الفتح: 27] وقد تحتاج إلى تأويل كما في قول يوسف عليه السلام {إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين} [يوسف: 4] وقوله {يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا} [يوسف: 100] وكرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم انكسار سيفه والبقر تنحر في رواياتنا.

أما رؤيا غير الأنبياء فهي على قسمين: صادقة وهي التي تقع في اليقظة على وفق ما وقعت في النوم، وهي كثيرة من الصالحين، قليلة أو نادرة من غيرهم، سواء احتاجت إلى تأويل، أم لم تحتج إلى تأويل ورؤيا ملك مصر للبقرات ورؤيا صاحبي السجن، وهم من عبدة آلهة متفرقين خير دليل. القسم الثاني الأضغاث، وهي التي لا تنذر ولا تبشر بشيء، أي لا توحي بالوقوع في اليقظة وهي أنواع: الأول: تلاعب الشيطان، ليحزن الرائي، أو يخيفه، أو يشغله، كأن يرى أنه قطع رأسه وهو يتبعه وكأن يرى أنه واقع في هول ولا يجد من ينقذه ونحو ذلك. الثاني: أن يرى أمرا محالا عقلا أو شرعا كمن يرى ملكا يأمره بالزنا. الثالث: أن يرى ما تتحدث به نفسه في اليقظة أو يتمناه من الرغبات المكبوتة. الرابع: أن يرى ما جرت به عادته في اليقظة، أو ما يغلب على مزاجه فالجزار يرى الحيوانات واللحوم والقطع والوزن والبيع والشراء والطبيب يرى الأمراض والمرض والشفاء والفلاح يرى الحرث والزرع والحصاد. وهكذا. على أن بعض ما يظن أنه أضغاث أحلام قد يئول، ويكون من الرؤيا الصادقة، فقد قال النووي: العابرون يتكلمون في كتبهم على قطع الرأس ويجعلونه دلالة على مفارقة الرائي ما هو فيه من النعم، أو مفارقة من فوقه، أو يزول سلطانه، أو يتغير حاله في جميع أموره، إلا أن يكون عبدا فيدل على عتقه، أو مريضا فيدل على شفائه، أو مديونا فيدل على قضاء دينه، أو من لم يحج فيدل على أنه يحج، أو مغموما فيدل على الفرج، أو خائفا فيدل على أمنه، اهـ. ومن هذا نرى أن الرؤيا الواحدة يختلف تأويلها من شخص إلى شخص، ومن حال إلى حال وأكثر التأويل يعتمد على الربط بين الرؤيا وتعبيرها بنوع رباط، فهو يعتمد على أنها إشارة إلى شيء من صفات المرئي ومتعلقاته وارجع إلى ما فسرنا به القيد والغل، والسمن والعسل والظلة والسوارين ونفخهما وطيرانهما وغير ذلك في المباحث العربية، ليظهر لك ما نقول. ثم إن تعبير الرؤيا يعتمد على كثير من ذكاء المئول وعلمه وخبرته وحبه للرائي، كما سيأتي. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - من الروايات الخمس الأولى نسبة أمور الشر إلى الشيطان. 2 - إذا رأى ما يكره نفث عن يساره ثلاثا. 3 - واستعاذ من الشيطان الرجيم، ومن شرها. 4 - وتحول من جنبه إلى جنبه الآخر. 5 - وصلى ركعتين ففي كل ذلك طرد للشيطان وتحقير له، وتغيير من حال إلى حال وتوكل على الله، فإنه بذلك يسلم من شرها بإذن الله، وقد جعل الله ذلك سببا لسلامته منها، كما جعل الصدقة

وقاية للمال وسببا لدفع البلاء قال النووي: وإن اقتصر على بعضها أجزأه في دفع الضرر بإذن الله تعالى كما صرحت به الأحاديث. 6 - ولم يحدث بها أحدا لأنه ربما فسرها له تفسيرا مكروها، على ظاهر صورتها، فتقع كذلك بتقدير الله، أو يدخل في نفسه هما وغما، وهي ليست كذلك، أو يتعجل الرائي باشتغال سره بمكروه تفسيرها، لأنها قد تبطئ فإذا لم يخبر بها زال تعجيل روعها وتخويفها، ويبقى إذا لم يعبرها له أحد بين الطمع في أن لها تفسيرا حسنا، أو الرجاء في أنها من الأضغاث، فيكون ذلك أسكن لنفسه. 7 - واستدل بهذا على أن للوهم تأثيرا في النفوس، لأن التفل وما ذكره معه يدفع الوهم الذي يقع في النفس من الرؤيا فلو لم يكن للوهم تأثير لما أرشد إلى ما يدفعه. 8 - إذا رأى ما يحب استبشر، ولا يخبر بها إلا من يحبه، لأنه إذا أخبر بها من لا يحبه، ربما حمله البغض أو الحسد على تفسيرها بمكروه، فقد يقع على تلك الصفة، وإن لم يقع على تلك الصفة حصل له في الحال حزن ونكد من سوء تفسيرها. 9 - ومن الرواية السادسة أن الرؤيا أنواع، كما ذكرنا قريبا. 10 - وحب القيد وكراهة الغل لا يلزم منه تأويلهما بمحبوب ومكروه فأهل التعبير - كما يقول النووي - ينزلون هاتين اللفظتين منازل، قالوا: إذا رأى القيد في رجليه، وهو في مسجد، أو مشهد خير، أو على حالة حسنة، فهو دليل على ثباته في ذلك، وكذا لو رآه صاحب ولاية كان دليلا لثباته فيها، ولو رآه مريض أو مسجون أو مسافر أو مكروب كان دليلا لثباته فيه، قالوا: ولو قارنه مكروه بأن يكون مع القيد غل، غلب المكروه، لأنه صفة المعذبين. قال النووي: وأما الغل فهو مذموم إذا كان في العنق وقد يدل للولايات، إذا كان معه قرائن، كما أن كل وال يحشر مغلولا، حتى يطلقه عدله، فأما إن كان مغلول اليدين، دون العنق فهو حسن، لأنه دليل لكفهما عن الشر، وقد يدل على منع ما نواه من الأفعال. 11 - استطرد العلماء من النص على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام إلى رؤية الله تعالى في المنام، قال القاضي عياض: واتفق العلماء على جواز رؤية الله تعالى في المنام، وصحتها، وإن رآه الإنسان على صفة لا تليق بحاله من صفات الأجسام، لأن ذلك المرئي غير ذات الله تعالى، إذ لا يجوز عليه سبحانه تعالى التجسم، ولا اختلاف الأحوال. وقال ابن الباقلاني: رؤية الله تعالى في المنام خواطر في القلب، وهي دلالات للرائي على أمور مما كان أو يكون، كسائر المرئيات. وقال بعضهم: لما كان الوقوف على حقيقة ذاته تعالى ممتنعا، وجميع من يعبر به يجوز عليهم الصدق والكذب، كانت رؤياه تحتاج إلى تعبير دائما. وقال الغزالي: من يرى الله سبحانه وتعالى في المنام فليس المراد أنه رأى ذاته، فإن ذاته منزهة عن الشكل والصورة، ولكن تنتهي تعريفاته إلى العبد، بواسطة مثال محسوس، من نور أو غيره،

ويكون ذلك المثال حقا في كونه واسطة في التعريف، فقول الرائي: رأيت الله تعالى في المنام لا يعني أنه رأى ذات الله تعالى، كما يقول في حق غيره. وقال أبو قاسم القشيري ما حاصله: إن رؤياه على غير صفته لا تستلزم إلا أن يكون هو: فإنه لو رأى الله على وصف يتعالى عنه، وهو يعتقد أنه منزه عن ذلك لا يقدح في رؤيته، بل يكون لتلك الرؤيا ضرب من التأويل، كما قال الواسطي: من رأى ربه على صورة شيخ، كان إشارة إلى وقار الرائي، وغير ذلك. 12 - ومن الرواية الثامنة عشرة، من سؤال أبي بكر أن يعبر الرؤيا، وموافقة الرسول صلى الله عليه وسلم جواز إظهار العالم ما يحسن من العلم، إذا خلصت نيته، وأمن العجب. 13 - وجواز كلام العالم بالعلم بحضرة من هو أعلم منه، إذا أذن له في ذلك صريحا، أو ما قام مقام الصريح. 14 - ويؤخذ منه جواز مثله في الإفتاء والحكم. 15 - وأن للتلميذ أن يقسم على معلمه. 16 - ومن قوله "لا تقسم" وعدم إجابة أبي بكر ببيان ما أخطأ فيه، أنه لا يستحب إبرار القسم، إذا كان فيه مفسدة أو مشقة ظاهرة، قال النووي: هذا الحديث دليل لما قاله العلماء، أن إبرار القسم المأمور به في الأحاديث الصحيحة، إنما هو إذا لم تكن في الإبرار مفسدة ولا مشقة ظاهرة، فإن كان لم يؤمر بالإبرار، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبر قسم أبي بكر، لما رأى في إبراره من المفسدة، ولعل المفسدة ما علمه من سبب انقطاع السبب مع عثمان رضي الله عنه، وهو قتله، وتلك الحروب والفتن المترتبة عليه، فكره ذلك مخافة من شيوعها، أو أن المفسدة إنكاره عليه مبادرته، وتوبيخه بين الناس. 17 - قال القاضي: وفيه أن من قال: أقسم، لا كفارة عليه، لأن أبا بكر لم يزد على قوله: أقسم. قال النووي: وهذا الذي قاله القاضي عجب، فإن الذي في جميع نسخ صحيح مسلم أنه قال: "فوالله يا رسول الله لتحدثني. ما الذي أخطأت" وهذا صريح يمين. 18 - وفيه الحث على تعليم علم الرؤيا. 19 - وعلى تعبيرها، وفضيلتها، لما تشتمل عليه من الاطلاع على بعض الغيب وأسرار الكائنات. 20 - قال أبو هبيرة: وفي السؤال من أبي بكر، أولا وآخرا، وجواب النبي صلى الله عليه وسلم دلالة على انبساط أبي بكر معه، وإدلاله عليه. 21 - وفيه أنه لا يعبر الرؤيا إلا عالم ناصح أمين حبيب. 22 - وفيه أن للعالم بالتعبير أن يسكت عن تعبير الرؤيا، أو بعضها، عند رجحان الكتمان على الذكر. 23 - وفيه أن العابر قد يخطئ وقد يصيب.

24 - وأن الرؤيا ليست لأول عابر على الإطلاق وإنما ذلك إذا أصاب وجهها قال الحافظ ابن حجر: وحديث "والرؤيا لأول عابر" ضعيف لكن له شاهد عند أبي داود والترمذي وابن ماجه بسند حسن، وصححه الحاكم، عن أبي رزين، رفعه "الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر، فإذا عبرت وقعت" لفظ أبي داود، ولفظ الترمذي "سقطت" وعند عبد الرزاق "الرؤيا تقع على ما يعبر، مثل ذلك، مثل رجل رفع رجله، فهو ينتظر متى يضعها" وعند سعيد بن منصور بسند صحيح عن عطاء "كان يقال: الرؤيا على ما أولت" وعند الدارمي بسند حسن عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كانت امرأة من أهل المدينة لها زوج تاجر، يختلف - أي يسافر في التجارة- فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن زوجي غائب وتركني حاملا فرأيت في المنام أن سارية ببيتي انكسرت وأني ولدت غلاما أعور فقال: خير يرجع زوجك - إن شاء الله - صالحا، وتلدين غلاما بارا فذكرت ذلك ثلاثا. فجاءت ورسول صلى الله عليه وسلم غائب، فسألتها، فأخبرتني بالمنام فقلت: لئن صدقت رؤياك ليموتن زوجك، وتلدين غلاما فاجرا فقعدت تبكي فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مه يا عائشة. إذا عبرتم للمسلم الرؤيا فأعبروها على خير فإن الرؤيا تكون على ما يعبرها صاحبها" وفي رواية "فرجع زوجها سالما". قال العلماء: فمعنى "الرؤيا لأول عابر" أي إذا كان العابر الأول عالما، فعبر، فأصاب وجه التعبير، وإلا فهي لمن أصاب بعده، إذ ليس المدار إلا على إصابة الصواب في تعبير المنام، ليتوصل بذلك إلى مراد الله فيما ضربه به من المثل، فإذا أصاب الأول فلا ينبغي أن يسأل غيره، وإن لم يصب فليسأل الثاني، وعلى الثاني أن يخبر بما عنده، ويبين ما جهل الأول، ولعل حديث وقوع الرؤيا بأول عابر أريد به أن يتحرى الرائي اختيار من يعبر له رؤياه، ولا يكثر من التردد على المعبرين. 25 - أن العالم مهما وصل علمه قد يخطئ، فأبو بكر من أعلم الصحابة بتأويل الرؤيا، ومع ذلك أخطأ في تأويل بعض وقائعها، بصريح كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد اختلف العلماء في تحديد موطن خطئه اختلافا متشعبا، لا يسلم أكثره من التعقيب. فقال ابن المهلب: كان ينبغي لأبي بكر أن يقف حيث وقفت الرؤيا ولا يذكر الموصول له، فإن المعنى أن عثمان انقطع به الحبل، ثم وصل لغيره، أي وصلت الخلافة لغيره. اهـ. يقصد أن الرؤيا في رواية للبخاري قالت عن الرجل الثالث "ثم أخذ به رجل آخر، فانقطع، ثم وصل" مما قد يحمل على أنه يوصل لغيره، لا له، وتفسير أبي بكر ذكر أن الموصول له هو نفسه الذي انقطع به، حيث قال في التعبير "ثم يأخذ به رجل آخر، فينقطع به، ثم يوصل له، فيعلو به" فكأن أبا بكر أخطأ، فزاد في التعبير ما ليس في الرؤيا ينقطع به الحبل ثم يوصل له نفسه، ولفظها "فانقطع به، ثم وصل له، فعلا" فالمعنى على هذا أن عثمان كاد ينقطع عن اللحاق بصاحبيه بسبب ما وقع له من تلك القضايا التي أنكروها عليه، فعبر عنها بانقطاع الحبل، ثم وقعت له الشهادة، فاتصل بهما، فعبر عنه بالحبل، وصل له، فاتصل، فالتحق بهما، وليس في ذلك خطأ في التعبير، كما توهم ابن المهلب. وقال ابن قتيبة ووافقه جماعة على قوله: إن الرجل لما قص على النبي صلى الله عليه وسلم رؤياه كان يرجو أن

يعبرها له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بتعبيرها من غيره، فلما طلب أبو بكر تعبيرها كان ذلك خطأ، فقال له: "أخطأت بعضها" لهذا المعنى، فقد أخطأ في مبادرته بتفسيرها قبل أن يأمره به، وتعقبه النووي، فقال: هذا فاسد لأنه صلى الله عليه وسلم قد أذن له في ذلك وقال: اعبرها وحاول الحافظ ابن حجر أن يدافع عن ابن قتيبة، فقال: مراد ابن قتيبة أنه لم يأذن له ابتداء بل بادر هو، فسأل أن يأذن له في تعبيرها فأذن له، فكأنه قال: أخطأت في مبادرتك للسؤال أن تتولى تعبيرها لا أنه أراد: أخطأت في تعبيرك لكن في إطلاق الخطأ على ذلك نظر، لأنه خلاف ما يتبادر للسمع من جواب قوله: هل أصبت؟ فإن الظاهر أنه أراد الخطأ في التعبير والإصابة فيه، لا لكونه التمس التعبير، ومن هنا قال ابن التين وغيره الأشبه بظاهر الحديث أن الخطأ في تأويل الرؤيا، أي أخطأت في بعض تأويلك. قال الحافظ ابن حجر: ويؤيده تبويب البخاري للحديث بقوله: باب من لم ير الرؤيا لأول عابر، إذا لم يصب. ومثل هذا التعقيب يصلح تعقيبا لقول ابن هبيرة: إنما كان الخطأ لكونه أقسم ليعبرنها بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم قال: ولو كان الخطأ في التعبير لم يقره عليه، وترد الفقرة الأخيرة بأنه صلى الله عليه وسلم لم يفصح عن الخطأ لمصلحة أهم، أو لدرء المفسدة، والمفسدة في ذلك ما علمه صلى الله عليه وسلم من سبب انقطاع الحبل بعثمان، وهو قتله، وتلك الحروب والفتن المترتبة عليه، فكره ذكرها خوف شيوعها. وقيل: أخطأ لكون المذكور في الرؤيا شيئين: السمن والعسل، ففسرهما بشيء واحد، وكان ينبغي أن يفسرهما بالقرآن والسنة، ذكر ذلك ابن التين عن الطحاوي، وحكاه الخطيب عن أهل العلم بالتعبير وجزم به ابن العربي. وقد اختلف في المراد بالقطع والوصل، فقيل: القطع قتل عثمان والوصل بولاية علي، ورد بأن عمر قتل، ولم يكن قطعا، وولي عثمان وليس وصلا، وقيل: ما اتهم به عثمان وقيل عنه ومحاولة خلعه، والوصل شهادته. ويعجبني قول الحافظ ابن حجر: وجميع ما تقدم من لفظ الخطأ والتوهم والتأديب وغيرها، إنما أحكيه عن قائله، ولست راضيا عنه، ولا بإطلاقه في حق الصديق. اهـ. واعتذر الكرماني عن هذا البحث، فقال: إنما أقدموا على تبين موطن خطأ أبي بكر مع كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يبينه، لأنه كان يلزم من تبيينه مفسدة إذ ذاك، فزالت بعده، مع أن جميع ما ذكره، إنما هو بطريق الاحتمال، ولا جزم في شيء من ذلك. 26 - ومن ملحق الرواية الثامنة عشرة الحث على علم الرؤيا. 27 - والسؤال عنها. قال النووي: قال العلماء: وسؤالهم محمول على أنه صلى الله عليه وسلم يعلمهم تأويلها، وفضيلتها، واشتمالها على ما شاء الله تعالى من الغيب. 28 - ومن الرواية العشرين قال ابن بطال: فيه تقديم ذي السن في السواك، ويلتحق به الطعام والشراب والمشي والكلام، قال المهلب: هذا ما لم يترتب القوم في الجلوس فإذا ترتبوا فالسنة حينئذ تقديم الأيمن.

29 - وفيه أن استعمال سواك الغير ليس بمكروه، إلا أن المستحب أن يغسله، ثم يستعمله، قال الحافظ ابن حجر: وفيه حديث عن عائشة في سنن أبي داود، قالت "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني السواك، لأغسله، فأبدأ به، فأستاك، ثم أغسله ثم أدفعه إليه"، وهذا دال على عظيم أدبها، وكبير فطنتها، لأنها لم تغسله ابتداء حتى لا يفوتها الاستشفاء بريقه صلى الله عليه وسلم، ثم غسلته تأدبا وامتثالا، ويحتمل أن يكون المراد بأمرها بغسله تطييبه وتليينه بالماء قبل أن يستعمله. وعندي أن استعمال سواك الغير مكروه، خوف انتقال الأمراض عن طريقه، ولا يقاس على سواك الرسول صلى الله عليه وسلم. 30 - ومن الرواية الواحدة والعشرين تسمية المدينة "يثرب" وهو اسمها في الجاهلية، وسماها الله تعالى المدينة، وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم: طيبة وطابة، وقد جاء في حديث النهي عن تسميتها "يثرب" لكراهة لفظ التثريب، ولأنه من تسمية الجاهلية وتسميتها في هذا الحديث "يثرب" قيل: يحتمل أن هذا كان قبل النهي، وقيل: لبيان الجواز، وأن النهي للتنزيه، وليس للتحريم، وقيل: خوطب به من يعرفها به، ولهذا جمع بينه وبين اسمها الشرعي، فقال "المدينة يثرب". 31 - وأن كسر السيف في المنام قد يكون شرا، وإنذارا بشر. قال النووي: لأن سيف الرجل أنصاره، الذين يصول بهم، كما يصول بسيفه، وقد يفسر السيف في غير هذا بالولد، والوالد، والعم والأخ أو الزوجة، وقد يدل على الولاية، أو الوديعة، وعلى لسان الرجل وحجته، وقد يدل على سلطان جائر، وكل ذلك بحسب قرائن تنضم لتشهد لأحد هذه المعاني، في الرائي أو في الرؤية. 32 - ومن قوله صلى الله عليه وسلم "ولئن أدبرت ليعقرنك الله" علم من أعلام النبوة، فقد كان مصير مسيلمة الكذاب العقر والقتل، إذ تولى وكفر. 33 - ومن قوله "وهذا ثابت يجيبك" استعانة الإمام بأهل البلاغة، في جواب أهل العناد ونحو ذلك. 34 - وأن السوار وسائر أنواع الحلي اللائقة بالنساء، تعبر للرجال بما يسوؤهم ولا يسرهم. 35 - وأن النفخ لما لا يليق تغلب عليه، وانتصار على الأعداء قال ابن بطال: يعبر بإزالة الشيء المنفوخ بغير تكلف شديد لسهولة النفخ على النافخ، ويعبر بالكلام. 36 - وفي ذهاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة توجه الإمام بنفسه إلى من يريد استئلافه وإقامة الحجة عليه، وإنذاره، إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين. 37 - ومن التمثيل بالعصا، وقطعة الجريد، ضرب المثل بالتافه، على المستحيل. 38 - وفي الحديث منقبة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم تولى نفخ السوارين بنفسه، حتى طارا، فأما الأسود فقتل في زمنه وأما مسيلمة فقد قتله أبو بكر الصديق، فقام مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. 39 - ومن الرواية الواحدة والعشرين والثالثة والعشرين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجيد تعبير الرؤيا، لأن الإكثار من هذا القول لا يصدر إلا ممن تدرب فيه، ووثق بإصابته.

40 - وفيها استحباب إقبال الإمام المصلي بعد سلامه على أصحابه. 41 - وجواز استدبار القبلة في جلوس العالم للعلم. 42 - واستحباب السؤال عن الرؤيا. 43 - والمبادرة إلى تأويلها. 44 - وتعجيلها في أول النهار، لقرب عهد الرائي بها، قبل أن يطرأ على ما يشوش الرؤيا عليه، ولأنه قد يكون فيها ما يستحب تعجيله كالحث على خير، أو ما ينبغي أن يأخذ الأهبة له. 45 - وإباحة الكلام في العلم وتفسير الرؤيا ونحوهما بعد صلاة الصبح قال الحافظ ابن حجر: وفيه إشارة إلى ضعف ما أخرجه عبد الرزاق بلفظ "لا تقصص رؤيا على امرأة، ولا تخبر بها حتى تطلع الشمس". 46 - وفيه إشارة إلى الرد على من قال من أهل التعبير: إن المستحب أن يكون تعبير الرؤيا بعد طلوع الشمس، ومن العصر إلى قبل المغرب. والله أعلم.

كتاب الفضائل

كتاب الفضائل

(603) باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم وتسليم الحجر عليه قبل النبوة وتفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق

(603) باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم وتسليم الحجر عليه قبل النبوة وتفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق 5178 - عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم". 5179 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن". 5180 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع". -[المعنى العام]- كان العرب في الجاهلية يتفاخرون بالأنساب بالدرجة الأولى، ثم تأتي الفضائل في الدرجة الثانية، فلما جاء الإسلام كانت الفضيلة الأولى، التي يفاخر بها هي الإسلام والتقوى، ونحيت الأنساب عن التفاخر، واعتبرت وسيلة لا غاية، وتابعة لا أصلية، فقال تعالى {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير} [الحجرات: 13] وأكد هذا المعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين خطب يوم فتح مكة، فقال: "يا أيها الناس، إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وفخرها، يا أيها الناس، الناس رجلان مؤمن تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله" وحين مر عليه ومعه أصحابه رجل غني ذو حسب، قال لهم: ما تقولون في هذا الرجل؟ قالوا: جدير إن خطب بنت أحدنا أن ينكح ويقبل ولا يرد، وجدير إن شفع وتوسط في أمر من الأمور أن يشفع، ولا يرفض له طلب، وجدير إن تكلم وسط جماعة أن يسكتوا حتى يتكلم وأن يستمع لكلامه فسكت صلى الله عليه وسلم فمر بهم رجل فقير، غير ذي حسب لكنه مسلم تقي، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: ما تقولون في هذا الرجل؟ قالوا: جدير إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يستمع. فقال لهم صلى الله عليه وسلم هذا الفقير خير من ملء الأرض من ذلك الغني.

نعم. حول الإسلام مقاييس الناس، لكنه لم يغفل الحسب في الموازين، وإنما جعله مكملا مجملا لفضيلة الإسلام. فقال صلى الله عليه وسلم "تجدون الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا" ولما كان الزواج من أهم الأحداث التي يطلب فيها ميزان الرجال والنساء، قال صلى الله عليه وسلم "تنكح المرأة لأربع: لمالها، وجمالها، وحسبها، ودينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك". ولما استقر مبدأ التفاضل بالدين، وأمن من عدم مزاحمة الأنساب له، أعطيت قدرها، وظهرت في ساحة التفاخر، فالناس معادن، شعوب لها أصالة ومكارم متوارثة من جيل إلى جيل تفضل شعوبا، ومن داخل كل شعب قبائل أو بطون، لها أخلاق وعادات حميدة متوارثة من جيل إلى جيل تفضل قبائل أو بطونا، فقال صلى الله عليه وسلم "الناس تبع لقريش، كافرهم تبع لكافرهم، ومسلمهم تبع لمسلمهم" وقال "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم" وقال: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع" فضله الله تعالى بالرسالة كما فضله بالنسب، فهو أفضل بني آدم وسيدهم، وهو أفضل المرسلين وخاتمهم، أكرمه الله تعالى قبل البعثة بتسليم الجماد عليه، وأكرمه بعد البعثة بمعجزات كثيرة، نتعرض لها في الباب القادم. يقول صلى الله عليه وسلم "إني لأعرف حجرا بمكة، كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن". -[المباحث العربية]- (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل) "كنانة" بن خزيمة بن مدركة (واسمه عمرو) ابن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. قال الحافظ ابن حجر: والمشهور أن بين عدنان وبين إسماعيل أربعة آباء أو خمسة، وقيل: أربعين أبا، وقد وقع في ذلك اضطراب شديد، واختلاف متفاوت حتى أعرض الأكثر عن سياق النسب بين عدنان وإسماعيل. (واصطفى قريشا من كنانة) "قريش" ولد النضر بن كنانة، وقيل: هم ولد فهر بن مالك بن النضر، قال الحافظ ابن حجر: وهذا قول الأكثر، وبه جزم مصعب قال: ومن لم يلده فهر فليس قرشيا، بل كناني وقيل: أول من نسب إلى قريش قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر، روى ابن سعد أن عبد الملك بن مروان سأل محمد بن جبير: متى سميت قريش قريشا؟ قال: حين اجتمعت إلى الحرم بعد تفرقها، فقال: ما سمعت بهذا، ولكن سمعت أن قصيا كان يقال له: القرش، ولم يسم أحد قريشا قبله، وروى ابن سعد، من طريق المقداد "لما فرغ قصي من نفي خزاعة من الحرم، تجمعت إليه قريش، فسميت يومئذ قريشا، لحال تجمعها، والتقرش التجمع، وقيل: لتلبسهم بالتجارة، وقيل: من التقرش، وهو أخذ الشيء أولا فأولا، وقيل: سميت قريش قريشا بدابة في البحر، هي سيدة الدواب البحرية، وكذلك قريش سادة الناس ولعله مصغر حوت القرش المعروف وقيل: سموا بذلك لمعرفتهم بالطعان، والتقريش وقع الأسنة، وقيل: التقرش التنزه عن رذائل الأمور وقيل غير ذلك وقد أكثر ابن دحية من نقل الخلاف في سبب تسمية قريش قريشا وأول من تسمى به قال الحافظ ابن حجر: وإلى النضر تنتهي أنساب قريش، وإلى كنانة تنتهي أنساب أهل الحجاز.

(واصطفى من قريش بني هاشم) واسمه عمرو بن عبد مناف (واسمه المغيرة) بن قصي (واسمه زيد) بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر، وعند ابن سعد "ثم اختار بني هاشم من قريش، ثم اختار بني عبد المطلب من بني هاشم". (واصطفاني من بني هاشم) قال الحافظ ابن حجر: ونسب النبي صلى الله عليه وسلم إلى عدنان متفق عليه، وهو: من محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. (إني لأعرف حجرا بمكة، كان يسلم علي قبل أن أبعث) قال النووي: في هذا إثبات التمييز في بعض الجمادات، وهو موافق لقوله تعالى في الحجارة {وإن منها لما يهبط من خشية الله} [البقرة: 74] وقوله تعالى {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} [الإسراء: 44] وفي هذه الآية خلاف مشهور، والصحيح أنه يسبح حقيقة، ويجعل الله تعالى فيه تمييزا بحسبه، ومنه الحجر الذي فر بثوب موسى عليه الصلاة والسلام. (إني لأعرفه الآن) من بين أحجار مكة، أي أعرف مكانه وصفاته. (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة) قال الهروي: السيد هو الذي يفوق قومه في الخير، وقال غيره: هو الذي يفزع إليه في النوائب والشدائد، فيقوم بأمرهم، ويتحمل منهم مكارههم. قال النووي: وأما قوله "يوم القيامة" مع أنه سيدهم في الدنيا والآخرة، فسبب التقييد أنه في يوم القيامة يظهر سؤدده لكل أحد ولا يبقى معاند، بخلاف الدنيا، فقد نازعه ذلك فيها ملوك الكفار، وزعماء المشركين. قال: وهذا التقييد قريب من معنى قوله تعالى {لمن الملك اليوم لله الواحد القهار} [غافر: 16] مع أن الملك له سبحانه قبل ذلك، لكن كان في الدنيا من يدعي الملك، أو من يضاف إليه مجازا، فانقطع كل ذلك في الآخرة. (وأول شافع، وأول مشفع) لم يكتف بالجملة الأولى عن الثانية، لأنه قد يشفع اثنان، فيشفع الثاني منهما قبل الأول، قاله النووي: أي لا يشفع ولا يؤذن بالشفاعة لأحد قبله ولا معه، ولا يقوم بالشفاعة قبله ولا معه أحد. -[فقه الحديث]- قال النووي: عن الرواية الأولى: استدل بهذا الحديث أصحابنا على أن غير قريش من العرب ليس بكفء لهم، ولا أحد من غير بني هاشم كفء لهم، إلا بني المطلب، فإنهم هم وبنو هاشم شيء واحد، كما صرح به في الحديث الصحيح. اهـ.

والحديث الذي أشار إليه النووي أخرجه البخاري عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: "مشيت أنا وعثمان بن عفان، فقال: يا رسول الله، أعطيت بني المطلب، وتركتنا؟ وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد" أي نحن في درجة بني المطلب، فعثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس القرشي وجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف القرشي، فهما من حيث الآباء، والأجداد في درجة واحدة، لكنهما ليسا من بني هاشم ولا من بني عبد المطلب. وقال الحافظ ابن حجر: قال عياض: استدل الشافعية بحديث البخاري "الناس تبع لقريش" على إمامة الشافعي، وتقديمه على غيره، ولا حجة فيه، لأن المراد به هنا الخلفاء، وقال القرطبي: صحبت المستدل بهذا غفلة مقارنة لصميم التقليد، وتعقب بأن مراد المستدل أن القرشية من أسباب الفضل والتقدم، كما أن من أسباب التقدم الورع مثلا، فالمستويان في خصال الفضل إذا تميز أحدهما بالورع مثلا كان مقدما على رفيقه، فكذلك القرشية، فثبت الاستدلال بها على تقدم الشافعي وميزته على من ساواه في العلم والدين، لمشاركته في الصفتين، وتميزه بالقرشية، وهذا واضح، ولعل الغفلة والعصبية صحبت القرطبي فلله الأمر. وأما قوله صلى الله عليه وسلم "أنا سيد ولد آدم" في روايتنا الثالثة فليس من قبيل الفخر المنهي عنه، بل صرح صلى الله عليه وسلم بنفس الفخر في غير مسلم في الحديث المشهور "أنا سيد ولد آدم ولا فخر" قال النووي: وإنما قاله لوجهين: أحدهما: امتثال قوله تعالى {وأما بنعمة ربك فحدث} [الضحى: 11]. والثاني: أنه من البيان الذي يجب عليه تبليغه إلى أمته ليعرفوه ويعتقدوه، ويعملوا بمقتضاه، ويوقروه صلى الله عليه وسلم بما تقتضي مرتبته، كما أمرهم الله تعالى. قال: وهذا الحديث دليل على تفضيله صلى الله عليه وسلم على الخلق كلهم، لأن مذهب أهل السنة أن الآدميين أفضل من الملائكة (أي المؤمنين المتقين منهم) وهو صلى الله عليه وسلم أفضل الآدميين وغيرهم. قال: وأما الحديث الآخر "لا تفضلوا بين الأنبياء" (وسيأتي في ملحق الرواية 160) فجوابه من خمسة أوجه: أحدها: أنه صلى الله عليه وسلم قاله قبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم، فلما علم أخبر به. والثاني: قاله تأدبا وتواضعا. والثالث: أن النهي إنما هو عن تفضيل يؤدي إلى نقص المفضول. والرابع: إنما نهى عن تفضيل يؤدي إلى الخصومة والفتنة، كما هو المشهور في سبب الحديث. والخامس: أن النهي مختص بالتفضيل في نفس النبوة، فلا تفاضل فيها، وإنما التفاضل

بالخصائص وفضائل أخرى، ولا بد من اعتقاد التفضيل، فقد قال الله تعالى {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} [البقرة: 253] وعند الترمذي وحسنه "إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين وخطيبهم، وصاحب شفاعتهم، غير فخر" وعنده أيضا "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، ما من نبي يومئذ - آدم فمن سواه - إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر" قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وعنده أيضا "إن بمكة حجرا، كان يسلم علي ليالي بعثت، إني لأعرفه الآن". والله أعلم.

(604) باب في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم

(604) باب في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم 5181 - عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بماء، فأتي بقدح رحراح، فجعل القوم يتوضئون، فحزرت ما بين الستين إلى الثمانين. قال: فجعلت أنظر إلى الماء ينبع من بين أصابعه. 5182 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحانت صلاة العصر، فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوه. فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الإناء يده، وأمر الناس أن يتوضئوا منه. قال: فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه، فتوضأ الناس حتى توضئوا من عند آخرهم. 5183 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالزوراء (قال: والزوراء بالمدينة عند السوق والمسجد فيما ثمه) دعا بقدح فيه ماء، فوضع كفه فيه، فجعل ينبع من بين أصابعه، فتوضأ جميع أصحابه. قال: قلت: كم كانوا يا أبا حمزة؟ قال: كانوا زهاء الثلاثمائة. 5184 - عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بالزوراء، فأتي بإناء ماء لا يغمر أصابعه أو قدر ما يواري أصابعه. ثم ذكر نحو حديث هشام. 5185 - عن أم مالك رضي الله عنها كانت تهدي للنبي صلى الله عليه وسلم في عكة لها سمنا. فيأتيها بنوها فيسألون الأدم، وليس عندهم شيء، فتعمد إلى الذي كانت تهدي فيه للنبي صلى الله عليه وسلم فتجد فيه سمنا فما زال يقيم لها أدم بيتها حتى عصرته. فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "عصرتيها؟ " قالت: نعم. قال: لو تركتيها ما زال قائما".

5186 - عن جابر رضي الله عنه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستطعمه. فأطعمه شطر وسق شعير فما زال الرجل يأكل منه وامرأته وضيفهما، حتى كاله. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لو لم تكله لأكلتم منه، ولقام لكم". 5187 - عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك. فكان يجمع الصلاة فصلى الظهر والعصر جميعا، والمغرب والعشاء جميعا. حتى إذا كان يوما أخر الصلاة، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا. ثم دخل ثم خرج بعد ذلك، فصلى المغرب والعشاء جميعا. ثم قال: "إنكم ستأتون غدا إن شاء الله عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يضحي النهار. فمن جاءها منكم فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي" فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان. والعين مثل الشراك تبض بشيء من ماء. قال: فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل مسستما من مائها شيئا؟ " قالا: نعم. فسبهما النبي صلى الله عليه وسلم وقال لهما ما شاء الله أن يقول. قال: ثم غرفوا بأيديهم من العين قليلا قليلا حتى اجتمع في شيء. قال وغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يديه ووجهه، ثم أعاده فيها فجرت العين بماء منهمر. أو قال غزير - شك أبو علي أيهما قال - حتى استقى الناس. ثم قال: "يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة، أن ترى ما ها هنا قد ملئ جنانا". 5188 - عن أبي حميد رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك فأتينا وادي القرى على حديقة لامرأة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اخرصوها" فخرصناها. وخرصها رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أوسق. وقال: أحصيها حتى نرجع إليك إن شاء الله" وانطلقنا حتى قدمنا تبوك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ستهب عليكم الليلة ريح شديدة. فلا يقم فيها أحد منكم. فمن كان له بعير فليشد عقاله" فهبت ريح شديدة. فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبلي طيئ. وجاء رسول ابن العلماء صاحب أيلة. إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب، وأهدى له بغلة بيضاء. فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهدى له بردا. ثم أقبلنا حتى قدمنا وادي القرى. فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة عن حديقتها: "كم بلغ ثمرها؟ " فقالت: عشرة أوسق. فقال

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني مسرع. فمن شاء منكم فليسرع معي، ومن شاء فليمكث" فخرجنا حتى أشرفنا على المدينة، فقال: هذه طابة. وهذا أحد. وهو جبل يحبنا ونحبه" ثم قال: إن خير دور الأنصار دار بني النجار، ثم دار بني عبد الأشهل، ثم دار بني عبد الحارث بن الخزرج، ثم دار بني ساعدة، وفي كل دور الأنصار خير" فلحقنا سعد بن عبادة. فقال أبو أسيد: ألم تر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير دور الأنصار فجعلنا آخرا، فأدرك سعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، خيرت دور الأنصار فجعلتنا آخرا. فقال: "أوليس بحسبكم أن تكونوا من الخيار". 5189 - وفي رواية عن عمرو بن يحيى بهذا الإسناد، إلى قوله "وفي كل دور الأنصار خير" ولم يذكر ما بعده من قصة سعد بن عبادة. وزاد في حديث وهيب: فكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم ببحرهم. ولم يذكر في حديث وهيب: فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. -[المعنى العام]- المعجزة أمر خارق للعادة، تظهر على يد من يدعي النبوة والرسالة، تأييدا له. وفي بداية البشرية، حيث كانت العقول ضيقة المعلومات، قليلة الثقافة، قريبة العهد بالفطرة والبداهة، بعيدة عن عمق الفكر، وعن غور البحث والنظر كانت معجزات الرسل مادية حسية، في ميدان ما برع فيه أقوامهم فعهد موسى كان السحر، فكانت معجزته اليد والعصا، ثم فرق البحر. ومعجزة عيسى في عهد الطب كانت إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله. ومعجزة إبراهيم أن كانت النار بردا وسلاما عليه، ومعجزة صالح ناقة تسقي الناس جميعهم من لبن لا ينضب، لهم يوم تروي القوم كلهم، ولها يوم تشرب هي فيه. وكان عصر الرسول محمد صلى الله عليه وسلم عصر الرقي العقلي والبلاغي، فكانت معجزته الكبرى القرآن الكريم الذي تحدى به فحول البلاغة أن يأتوا بمثل سورة منه، وهو الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب فعجزوا. نعم كان فريق كبير من العرب أميين، فكانت حاجتهم شديدة إلى المعجزة الحسية المادية، يوثقون بها إيمانهم، ويزيدون عن طريقها يقينهم، فأجرى الله تعالى على يدي محمد صلى الله عليه وسلم مجموعة من المعجزات الحسية، بل أجرى له بعض الخوارق قبل بعثته صلى الله عليه وسلم، إعدادا وتمهيدا للنبوة، فجعل حجرا من حجارة مكة يسلم عليه كلما مر صلى الله عليه وسلم به، حتى أصبح صلى الله عليه وسلم يميزه من بين الأحجار، ويعرفه حق المعرفة، معرفة ظلت تلازمه بعد الهجرة وحتى لقاء

ربه، ومن تلك المعجزات الحسية حنين الجذع الذي كان يخطب عليه، وتسبيح الحصى في يده، وتكليم الذراع المسمومة في غزوة خيبر، وتكثير الطعام ببركة دعائه صلى الله عليه وسلم، وقد تعرضنا لهذه المعجزة في كتاب الأطعمة والأشربة، باب الضيف يستتبعه غيره واستحباب الاجتماع على الطعام، كما تعرضنا لفوران عين الحديبية بعد أن نضب ماؤها. وهذا باب يتعرض لنبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم وفوران عين تبوك لسد حاجة المسلمين، ومعجزات مادية أخرى، صلى الله عليه وسلم. -[المباحث العربية]- (أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بماء) بينت الرواية الثانية سبب الحاجة إلى الماء، في هذه الحادثة، ففيها "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحانت صلاة العصر، فالتمس الناس الوضوء (بفتح الواو الماء الذي يتوضأ به) فلم يجدوه، وبينت الرواية الثالثة مكان هذه الحادثة، وفيها "أن نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالزوراء) قال الراوي: والزوراء بالمدينة عند السوق والمسجد فيما ثمه. قال النووي: هكذا هو في جميع النسخ "ثمة" قال أهل اللغة "ثم" بفتح الثاء، و"ثمة" بالهاء بمعنى هناك، وهنا، فثم للبعيد، وثمة للقريب، اهـ. والزوراء مكان معروف بالمدينة، عند السوق. (فأتي بقدح رحراح) "أتي" بضم الهمزة، مبني للمجهول والرحراح بفتح الراء، وإسكان الحاء، ويقال له: رحرح، بحذف الألف، وهو الواسع القصير الجدار، وفي الرواية الثانية "فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء (بفتح الواو، أي بماء) وفي ملحق الرواية الثالثة "فأتي بإناء ماء، لا يغمر أصابعه، أو قدر ما يواري أصابعه" وعند أبي نعيم عن أنس أنه هو الذي أحضر الماء، وأنه أحضره إلى النبي صلى الله عليه وسلم من بيت أم سلمة، وأنه رده بعد فراغهم إلى أم سلمة، وفيه قدر ما كان فيه أولا. (فجعل القوم يتوضئون) في الكلام طي، والفاء عاطفة على محذوف، بينته الرواية الثانية، وفيها "فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الإناء يده، وأمر الناس أن يتوضئوا منه". (فحرزت ما بين الستين إلى الثمانين) أي فقدرت العدد ما بين الستين إلى الثمانين، وفي الرواية الثالثة "فتوضأ جميع أصحابه، قال: قلت: كم كانوا يا أبا حمزة؟ قال: كانوا زهاء الثلاثمائة" قال النووي: قال العلماء: هما قضيتان، جرتا في وقتين، ورواهما أنس، اهـ. ويحتمل أن تكون قضية واحدة، وأنه أخذ يعد حتى وصل إلى الثمانين، وترك العد منشغلا بالنظر إلى الماء ينبع من بين أصابعه، فلما سئل عن عدد القوم قدرهم بثلاثمائة "وزهاء" بضم الزاي، وبالمد، أي قدر ثلثمائة، مأخوذ من زهوت الشيء إذا حصرته، وهي تفيد تقريب العدد، لا تحديده، وفي رواية بالتحديد، "قال: ثلاثمائة" بدون "زهاء" قال النووي: "الثلاثمائة" بالألف واللام. هكذا هو في جميع النسخ وهو صحيح. (فجعلت أنظر إلى الماء ينبع من بين أصابعه) "ينبع" بضم الباء وفتحها وكسرها،

ثلاث لغات، قال النووي: وفي كيفية هذا النبع قولان: أحدهما: أن الماء كان يخرج من نفس أصابعه صلى الله عليه وسلم وينبع من ذاتها ويؤيد هذا رواية "فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه". والثاني: يحتمل أن الله كثر الماء في ذاته، فصار يفور من بين أصابعه، لا من نفسها، فهو يفور من بين أصابعه بالنسبة إلى رؤية الرائي، وهو في نفس الأمر للبركة الحاصلة فيه يفور ويكثر، وكفه صلى الله عليه وسلم في الماء فرآه الرائي نابعا من أصابعه، وكلاهما معجزة، والأول أبلغ في المعجزة، وليس في الأخبار ما يرده، قال الحافظ ابن حجر: وهو أولى. وفي الرواية الثانية "فتوضأ الناس حتى توضئوا من عند آخرهم" قال النووي: هكذا هو في الصحيحين، وهو صحيح، و"من" هنا بمعنى "إلى" وهي لغة. اهـ. وهي بمعنى ما جاء في الرواية الثالثة بلفظ "فتوضأ جميع أصحابه". (أن أم مالك) الأنصارية، وعند ابن أبي عاصم "أن أم مالك الأنصارية جاءت بعكة سمن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بلالا بعصرها، ثم دفعها إليها، فإذا هي مملوءة، فجاءت، فقالت: أنزل في شيء، قال: وما ذاك؟ قالت: رددت علي هديتي. فدعا بلالا، فسأله، فقال: والذي بعثك بالحق. لقد عصرتها، حتى استحييت، فقال: هنيئا لك هذه البركة يا أم مالك. هذه بركة عجل الله لك ثوابها". (كانت تهدي للنبي صلى الله عليه وسلم - في عكة لها - سمنا) أي فيأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السمن، ولا يستأصلها، بل يبقى في العكة بقايا، لا يغسلها ولا يمسحها، ثم يعيدها. والعكة بتشديد الكاف وبضم العين، وتفتح، وعاء صغير من جلد، يجز شعره ولا ينتف، يحفظ فيه السمن والشراب. (فتعمد إلى الذي كانت تهدي فيه للنبي صلى الله عليه وسلم) أي فتذهب إلى الإناء الراجع من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فتمد يدها فيه، فتجد فيه سمنا، فتأخذ منه أدما لأولادها. (حتى عصرته) يقال عصر الشيء، بفتح الصاد، يعصره بكسرها، إذا استخرج ما فيه من دهن أو ماء، ونحوه. (فأتت النبي صلى الله عليه وسلم) أي فأخبرته بما حصل. (لو تركتيها ما زال قائما) أي لو تركت العكة بدون عصر لظل السمن فيها باقيا موجودا حاضرا. (يستطعمه، فأطعمه شطر وسق شعير) أي يطلب منه طعاما له ولأهله، فأعطاه شعيرا، قدر كيلة، جزءا من وسق. والوسق بفتح الواو وكسرها وسكون السين، ستون صاعا. (حتى كاله) أي كال ما بقي منه ليعرف مقدراه، فذهبت البركة بالكيل. (لو لم تكله لأكلتم منه، ولقام لكم) أي لأكلتم منه زمنا طويلا، ولقام عندكم طعاما لكم. (عام غزوة تبوك) وهي غزوة العسرة، وكانت في شهر رجب، سنة تسع من الهجرة، قبل حجة الوداع.

وتبوك مكان معروف، في نصف المسافة بين المدينة ودمشق، واللفظ ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث على المشهور به. (حتى إذا كان يوما، أخر الصلاة) أي جمع جمع تقديم في يوم، وجمع جمع تأخير في اليوم الثاني. (وإنكم لن تأتوها حتى يضحي النهار) حدد لهم ساعة الوصول، وأنها بعد الضحى. (فمن جاءها منكم فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي) النهي عن المس نهي عن الشرب منها أو لمس مائها عموما. (والعين مثل الشراك، تبض بشيء من ماء) "الشراك" بكسر الشين سير النعل، ويضرب به المثل في القلة، أي ماؤها قليل جدا، وقال النووي "تبض" هكذا ضبطناه هنا بفتح التاء وكسر الباء، وتشديد الضاد ومعناه تسيل. قال: ونقل القاضي اتفاق الرواة هنا على أنه بالضاد واختلفوا في ضبطه هناك، فضبطه بعضهم بالضاد، وبعضهم بالصاد المهملة، أي تبرق وتلمع، قال الحافظ ابن حجر: وهذا المعنى مستبعد، فإن في نفس الحديث "تكاد تبض من الملء" بكسر الميم وسكون اللام بعدها همزة، فكونها تكاد تسيل من الملء ظاهر، وأما كونها تلمع من الملء فبعيد. (فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم) معطوف على مطوي محذوف تقديره: وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم فجيء بهما، فسألهما. (هل مسستما من مائها شيئا؟ قالا: نعم) يحتمل أنهما فهما النهي عن التنزيه، وكانا في حاجة شديدة للماء، والظاهر أنه لم يكن ثمة عذر يعتذران به، فيقبل، لهذا سبهما صلى الله عليه وسلم. (وقال لهما ما شاء الله أن يقول) من ألفاظ اللوم والتعنيف. (ثم غرفوا بأيديهم من العين، قليلا قليلا) بناء على أمره صلى الله عليه وسلم. (حتى اجتمع في شيء) أي حتى تجمع هذا القليل في الإناء. (ثم أعاده فيها) أي ثم أعاد الماء الذي غسل به وجهه ويديه مع ما بقي في الإناء إلى البئر. (فجرت العين بماء منهمر - أو قال غزير - شك أبو علي. أيهما قال) أصل السند: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي حدثنا أبو علي الحنفي حدثنا مالك عن أبي الزبير أن أبا الطفيل أخبره أن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال ... الحديث. فالقائل: شك أبو علي، هو عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي. والمنهمر كثير الصب والرفع. (يوشك يا معاذ - إن طالت بك حياة - أن ترى ما ها هنا قد ملئ جنانا) أي بساتين وعمرانا جمع جنة.

(فأتينا وادي القرى) بضم القاف مدينة قديمة، بين المدينة والشام. (على حديقة لامرأة) كانت حديقة من نخل، وفي رواية البخاري "إذا امرأة في حديقة لها" (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخرصوها) بضم الراء وكسرها، والضم أشهر أي اخرصوا بالحديقة، أي قدروا ثمرها وخمنوا كم وسقا يكون؟ وذلك امتحان لهم، وتمرين وتعليم. (فخرصناها، وخرصها صلى الله عليه وسلم عشرة أوسق) والظاهر أن خرصهم وافق خرص رسول الله صلى الله عليه وسلم. (وقال: أحصيها حتى نرجع إليك) أي قال للمرأة صاحبة الحديقة: أحصي وعدي كيلها واجمعي ما تأكلينه وما تهدينه وما تبيعينه حتى نرجع إليك، لنعرف صحة خرصنا وتقديرنا، فلما رجعوا، وسألها تبين صحة خرصهم. (فمن كان له بعير فليشد عقاله) لئلا ينفلت، فيحتاج صاحبه إلى القيام في طلبه، فيلحقه ضرر الريح، وفي رواية البخاري "ومن كان معه بعير فليعقله". (فقام رجل) مخالفا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية ابن إسحاق "ففعل الناس ما أمرهم، إلا رجلين من بني ساعدة، خرج أحدهما لحاجته، وخرج آخر في طلب بعير له، فأما الذي ذهب لحاجته فإنه خنق على مذهبه، أي خنقه الريح في طريقه، وأما الذي ذهب في طلب بعيره فاحتملته الريح حتى ألقته بجبل طيئ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألم أنهكم أن يخرج رجل إلا وصاحب له معه"؟ ثم دعا للذي أصيب على مذهبه، فشفي، ولعل قيامه كان لضرورة قضاء الحاجة، أو غير ذلك، وأما الآخر فإنه وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم من تبوك. (فحملته الريح) أي دفعته دفعا لا يستطيع مقاومته. (حتى ألقته بجبلي طيئ) جبلان مشهوران، يقال لأحدهما أجاء بفتح الهمزة والجيم به وبالهمز، والآخر سلمى بفتح السين، وطيئ بياء مشددة بعدها همزة، على وزن سيد، وهو أبو قبيلة من اليمن، وهو طيئ بن أدر بن زيد بن كهلان بن سبأ وقال صاحب التحرير: "طيئ" يهمز ولا يهمز، لغتان. (وجاء رسول ابن العلماء، صاحب أيلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب) "العلماء" بفتح العين وإسكان اللام وبالمد، و"أيلة" بفتح الهمزة واللام، بلدة قديمة بساحل البحر، وفي رواية البخاري "وأهدى ملك أيلة". (وأهدى له بغلة بيضاء) قال النووي: هذه البغلة هي "دلدل" بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن ظاهر لفظه هنا أنه أهداها للنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وقد كانت غزوة تبوك سنة تسع من الهجرة وقد كانت

هذه البغلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، وحضر عليها غزوة حنين، كما هو مشهور في الأحاديث الصحيحة، وكانت حنين عقب فتح مكة، سنة ثمان، قال القاضي: ولم يرو أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة غيرها، قال: فيحمل قوله على أنه أهداها له قبل ذلك، وقد عطف الإهداء على المجيء بالواو، وهي لا تقتضي الترتيب، اهـ فالمعنى: وكان ابن العلماء قد أهدى له بغلة بيضاء. (فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم) ردا على كتابه وسلمه رسوله، وفي ملحق الرواية "فكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم ببحرهم" أي ببلدهم أي بأهل بحرهم، أي أنه أقره عليهم بما التزموه من الجزية. (وأهدى إليه بردا) ظاهره أنه في مقابل إهداء البغلة، مما يبعد كلام القاضي السابق، ولا مانع من أن يكون أهدى إليه ابن العلماء بغلة بيضاء في تبوك، فأهداها النبي صلى الله عليه وسلم في الحال لأحد أصحابه، وعدم رواية ذلك لا يدل على عدم وقوعه. (إني مسرع، فمن شاء منكم فليسرع معي، ومن شاء فليمكث) في رواية البخاري "إني متعجل إلى المدينة، فمن أراد منكم أن يتعجل معي فليتعجل" أي إني سالك الطريق القريبة، الشاقة، فمن أراد فليأت معي، يعني ممن له اقتدار على ذلك دون بقية الجيش. (إن خير دور الأنصار دار بني النجار) قال القاضي: المراد أهل الدور، والمراد القبائل، وإنما فضل بني النجار لسبقهم في الإسلام، وآثارهم الجميلة في الدين. ومناسبة هذه المفاضلة عودته صلى الله عليه وسلم من سفر، وغربة عن المدينة، فحين أشرف عليها ذكرها، وذكر جبلها، وحبه لها وله، فناسب ذكر محبته لأهلها، ومحبة أهلها له وجهادهم في سبيل الإسلام. والمراد من المفاضلة بين الدور المفاضلة بين أهل الدور، ففي رواية للبخاري "خير الأنصار بنو النجار" وبنو النجار هم الخزرج، قيل سمي الجد بالنجار لأنه ضرب رجلا، فنجره، وهو ابن ثعلبة بن عمرو. وبنو النجار هم أخوال جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن والدة عبد المطلب منهم، وعليهم نزل لما قدم المدينة، فلهم مزية على غيرهم. (ثم دار بني عبد الأشهل) في رواية للبخاري "ثم بنو عبد الأشهل" وهم من الأوس، وهو عبد الأشهل من جشم بن الحارث بن الخزرج الأصفر بن عمود بن مالك بن الأوس بن حارثة، وهم رهط سعد بن معاذ، وجاء في رواية تقديم بني عبد الأشهل على بني النجار قال الحافظ ابن حجر: رواية أنس في تقديم بني النجار لم يختلف عليه فيها، وكان أنس منهم، فله مزية عناية بحفظ فضائلهم. (ثم دار بني عبد الحارث) قال النووي: هكذا هو في النسخ "بني عبد الحارث" وكذا نقله القاضي قال: وهو خطأ من الرواة، وصوابه "بني الحارث" بحذف لفظة "عبد". (ثم دار بني ساعدة) ساعدة بن كعب بن الخزرج الأكبر، وسعد بن عبادة من بني ساعدة، وكان كبيرهم يومئذ. (وفي كل دور الأنصار خير) "خير" الأولى أفعل تفضيل، والثانية اسم، أي الفضل حاصل في جميع الأنصار وإن تفاوتت مراتبه.

(فقال أبو أسيد) لسعد بن عبادة، وهما من بني ساعدة. (ألم تر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير دور الأنصار) أي فاضل بينها. (فجعلنا آخرا) في رواية البخاري "أخيرا" في رواية "فوجد سعد بن عبادة في نفسه، فقال: خلفنا، فكنا آخر الأربعة". (فأدرك سعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، خيرت دور الأنصار، فجعلتنا آخرا؟ ) في رواية "وجد في نفسه، وأراد كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقال له ابن أخيه سهل: أتذهب لترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره؟ ورسول الله أعلم؟ أوليس حسبك أن تكون رابع أربعة؟ فرجع" قال الحافظ ابن حجر: ويمكن الجمع بأنه رجع حينئذ عند قصده رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك خاصة، ثم إنه لما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت آخر ذكر له ذلك أو الذي رجع عنه أنه أراد أن يورده مورد الإنكار، والذي صدر منه ورد مورد المعاتبة المتلطفة. (أوليس بحسبكم أن تكونوا من الخيار؟ ) أي من الأفاضل؟ لأنهم بالنسبة إلى من دونهم أفضل، وكأن المفاضلة وقعت بينهم بحسب السبق إلى الإسلام، وبحسب مساعيهم في إعلاء كلمة الله، ونحو ذلك، قاله الحافظ ابن حجر. -[فقه الحديث]- ترجم الإمام النووي لهذا الحديث بقوله: باب في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، وترجم الإمام البخاري له بقوله: باب علامات النبوة في الإسلام، وقال الحافظ ابن حجر: العلامات جمع علامة، وعبر بها المصنف لكون ما يورده من ذلك أعم من المعجزة، بما يشمل الكرامة، والفرق بينهما أن المعجزة أخص، لأنه يشترط فيها أن يتحدى النبي صلى الله عليه وسلم من يكذبه، بأن يقول: إن فعلت كذلك أتصدق بأني صادق؟ أو يقول من يتحداه: لا أصدقك حتى تفعل كذا، ويشترط أن يكون المتحدي به مما يعجز عنه البشر في العادة المستمرة، وقد وقع النوعان للنبي صلى الله عليه وسلم في عدة مواطن، وسميت المعجزة معجزة لعجز من يقع عندهم ذلك عن معارضتها ثم قال: وما عدا القرآن، من نبع الماء من بين أصابعه، وتكثير الطعام، وانشقاق القمر، ونطق الجماد، فمنه ما وقع التحدي به ومنه ما وقع دالا على صدقه من غير سبق تحد، قال: ومجموع ذلك يفيد القطع بأنه ظهر على يده صلى الله عليه وسلم من خوارق العادات شيء كثير، كما يقطع بجود حاتم، وشجاعة علي، وإن كانت أفراد ذلك ظنية، وردت مورد الآحاد مع أن كثيرا من المعجزات النبوية قد اشتهر وانتشر، ورواه العدد الكثير والجم الغفير، وأفاد الكثير منه القطع عند أهل العلم بالآثار، والعناية بالسير والأخبار، وإن لم يصل عند غيرهم إلى هذه الرتبة، لعدم عنايتهم بذلك، بل لو ادعى مدع أن غالب هذه الوقائع مفيدة للقطع بطريق نظري، لما كان مستبعدا، وهو أنه لا مرية أن رواة الأخبار في كل طبقة قد حدثوا بهذه الأخبار في الجملة، ولا يحفظ عن أحد من الصحابة ولا من بعدهم مخالفة الراوي، فيما حكاه من ذلك، والإنكار عليه فيما هنالك، فيكون الساكت منهم كالناطق،

لأن مجموعهم محفوظ من الإغضاء على الباطل، وعلى تقدير أن يوجد من بعضهم إنكار، أو طعن على بعض من روى شيئا من ذلك فإنما هو من جهة توقف في صدق الراوي، أو تهمته بكذب، أو توقف في ضبطه، ونسبته إلى سوء الحفظ أو جواز الغلط، ولا يوجد من أحد منهم طعن في المروي. وذكر النووي في مقدمة شرح مسلم أن معجزات النبي صلى الله عليه وسلم تزيد على ألف ومائتين، وقال البيهقي في المدخل: بلغت ألفا، وقال الزاهري من الحنفية: ظهر على يديه ألف معجزة، وقيل: ثلاثة آلاف، وقد اعتنى بجمع ما وقع من ذلك قبل البعثة، بل قبل المولد الحاكم في الإكليل، والنيسابوري في شرف المصطفى، وأبو نعيم، والبيهقي في دلائل النبوة، وغيرهم قال القرطبي: ونبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم معجزة لم يسمع بمثلها من غير نبينا صلى الله عليه وسلم، حيث نبع الماء من بين عظمه ولحمه وعصبه ودمه. وقد نقل ابن عبد البر عن المزني أنه قال: نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم أبلغ في المعجزة من نبع الماء من الحجر، حيث ضربه موسى بالعصا، فتفجرت منه اثنتا عشرة عينا، لأن خروج الماء من الحجارة معهود، بخلاف خروج الماء من بين اللحم والدم. وبالإضافة إلى روايتنا في نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم ذكر البخاري روايات أخرى فعن أنس رضي الله عنه قال: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم في بعض مخارجه، ومعه ناس من أصحابه، فانطلقوا يسيرون، فحضرت الصلاة، فلم يجدوا ماء يتوضئون، فانطلق رجل من القوم، فجاء بقدح من ماء يسير، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم، فتوضأ، ثم مد أصابعه الأربع - أي ما عدا الإبهام - على القدح، ثم قال: قوموا فتوضئوا، فتوضأ القوم، حتى بلغوا ما يريدون من الوضوء، وكانوا سبعين أو نحوه". وعن أنس رضي الله عنه قال: "حضرت الصلاة، فقام من كان قريب الدار من المسجد يتوضأ، وبقي قوم، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بمخضب من حجارة، فيه ماء، فوضع كفه، فصغر المخضب أن يبسط فيه كفه، فضم أصابعه، فوضعها في المخضب، فتوضأ القوم كلهم أجمعون". وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "كنا نعد الآيات بركة، وأنتم تعدونها تخويفا، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فقل الماء فقال: اطلبوا فضلة من ماء، فجاءوا بإناء، فيه ماء قليل، فأدخل يده في الإناء ثم قال: حي على الطهور المبارك والبركة من الله، فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل". قال القرطبي: قضية نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم تكررت منه في عدة مواطن، في مشاهد عظيمة، ووردت من طرق كثيرة يفيد مجموعها العلم القطعي، المستفاد من التواتر المعنوي. قال الحافظ ابن حجر: وحديث نبع الماء من بين أصابعه جاء من رواية أنس عند الشيخين وأحمد وغيرهم من خمسة طرق، وعن ابن مسعود عند البخاري والترمذي، وعن ابن عباس عند أحمد والطبراني، وعن ابن أبي ليلى عند الطبراني وفي ذلك رد على ابن بطال، حيث قال هذا الحديث شهده جماعة كثيرة من الصحابة، إلا أنه لم يرو إلا من طريق أنس ثم قال الحافظ ابن حجر: وأما

تكثير الماء، بأن يلمسه بيده، ويتفل فيه، أو يأمر بوضع شيء فيه، كسهم من كنانته فجاء في حديث عمران بن حصين في الصحيحين، وعن البراء بن عازب عند البخاري وأحمد من طريقين، وعن أبي قتادة عند مسلم، وعن أنس عند البيهقي في الدلائل، فالطرق كثيرة من حيث الراوي الأعلى، وأما من رواها من أهل القرن الثاني فهم أكثر عددا. ثم ساق الحافظ ابن حجر حديث جابر عند أحمد، ولفظه "سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحضرت الصلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما في القوم من طهور؟ فجاء رجل بفضلة في إداوة، فصبه في قدح، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إن القوم أتوا ببقية الطهور، فقالوا: تمسحوا. تمسحوا. فسمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: على رسلكم، فضرب بيده في القدح، في جوف الماء، ثم قال: أسبغوا الطهور. قال جابر: فوالذي أذهب بصري، لقد رأيت الماء يخرج من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى توضئوا أجمعون. قال: حسبته قال: كنا مائتين وزيادة" وجاء عن جابر قصة أخرى، أخرجها مسلم، من وجه آخر عنه في أواخر الكتاب، في حديث طويل، فيه "أن الماء الذي أحضروه له، كان قطرة في إناء من جلد، لو أفرغها لشربها يابس الإناء - أي لشربها سطح الإناء الجاف - وأنه لم يجد في الركب قطرة ماء غيرها، قال: فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم، فتكلم، وغمز بيده، ثم قال: ناد بجفنة الركب، فجيء بها، فقال بيده في الجفنة، فبسطها، ثم فرق أصابعه، ووضع تلك القطرة في قعر الجفنة، فقال: خذ يا جابر، فصب علي، وقل: بسم الله. ففعلت، قال: فرأيت الماء يفور من بين أصابعه، ثم فارت الجفنة، ودارت حتى امتلأت، فأتى الناس، فاستقوا، حتى رووا، فرفع يده من الجفنة وهي ملأى". قال الحافظ ابن حجر: وهذه القصة أبلغ من جميع ما تقدم، لاشتمالها على قلة الماء، وعلى كثرة من استسقى منه. اهـ. -[ويؤخذ من أحاديث الباب فوق ما تقدم]- 1 - ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته من قلة الماء 2 - وأنهم كانوا يقدمون الوضوء بما تيسر لهم منه على بقية حاجاتهم إليه. 3 - ومن الرواية الرابعة "المرأة التي عصرت العكة" والخامسة "الرجل الذي كال الشعير" قال النووي: ومثله حديث عائشة، حين كالت الشعير ففني، قال العلماء: الحكمة في ذلك أن عصرها وكيله مضاد للتسليم والتوكل على رزق الله تعالى، ويتضمن التدبير والأخذ بالحول والقوة. وتكلف الإحاطة بأسرار حكم الله تعالى وفضله، فعوقب فاعله بزواله. 4 - وفيهما بركة النبي صلى الله عليه وسلم فيما يعطي، وبركة فضلته. 5 - ومن الرواية السادسة، من قوله "فكان يجمع الصلاة .. " الجمع بين الصلاتين في السفر. 6 - ومن الإخبار عن موعد وصولهم تبوك قبل حصوله معجزة. 7 - ومن الإخبار عن مائها وحاله قبل وصولهم إليها معجزة. 8 - ومن سبه الرجلين تأنيبه صلى الله عليه وسلم للمخطئ، وبخاصة إذا فعل ما يضر المجتمع، ويخالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

9 - ومن الإخبار عن تحول تلك الصحراء إلى جنات، وقد حصل معجزة. 10 - ومن الرواية السابعة، من طلبه صلى الله عليه وسلم أن يخرص أصحابه ثمر نخل الحديقة استحباب امتحان العالم أصحابه بمثل هذا التمرين. 11 - ومن خرصه صلى الله عليه وسلم وصحته ودقته ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من العلم وبعد النظر. 12 - ومن إخباره بالريح قبل هبوبها معجزة. 13 - وفيه خوف المؤمن من هبوب الريح، وما تحدث من ضرر. 14 - وما كان عليه صلى الله عليه وسلم من شفقته على أمته، والرحمة لهم، والاعتناء بمصالحهم، وتحذيرهم مما يضرهم في دين أو دنيا. 15 - ومن قبول البغلة جواز قبول هدية الكافر. 16 - ومن إهدائه صلى الله عليه وسلم البرد مكافأة الهدية. 17 - وميزة جبل أحد، وفضيلة المدينة. 18 - وتفاضل قبائل الأنصار، ومناقبهم. 19 - ومن سؤال سعد تنافسهم في الخير. 20 - قال الحافظ ابن حجر: ولا يعد هذا التفاضل من قبيل الغيبة أصلا، إلا إن أخذ من أن المفضل عليهم يكرهون ذلك، فيستثنى ذلك من عموم قوله "ذكرك أخاك بما يكره" ويكون محل الزجر إذا لم يترتب عليه حكم شرعي، فأما ما يترتب عليه حكم شرعي فلا يدخل في الغيبة، وإن كرهه المحدث عنه، ويدخل في ذلك ما يذكر بقصد النصيحة، من بيان غلط من يخشى أن يقلد، أو يغتر به في أمر ما، فلا يدخل ذكره بما يكره من ذلك في الغيبة المحرمة. 21 - قال ابن التين: وفي الحديث دليل على جواز المفاضلة بين الناس، لمن يكون عالما بأحوالهم لينبه على فضل الفاضل، ومن لا يلحق بدرجته في الفضل، فيتمثل أمره صلى الله عليه وسلم بتنزيل الناس منازلهم. 22 - وترجم البخاري للرواية السابعة بباب خرص التمر، قال الحافظ ابن حجر: أي مشروعيته، وحكى الترمذي عن بعض أهل العلم أن تفسير الخرص أن الثمار إذا أدركت من الرطب والعنب، مما تجب فيه الزكاة بعث السلطان خارصا، ينظر، فيقول: يخرج من هذا كذا وكذا زبيبا، وكذا وكذا تمرا، فيحصيه، وينظر مبلغ العشر، فيثبته عليهم ويخلي بينهم وبين الثمار، فإذا جاء وقت الجذاذ أخذ منهم العشر. اهـ. وفائدة الخرص التوسعة على أرباب الثمار، في التناول منها، والبيع من زهوها، وإيثار الأهل والجيران والفقراء، لأن في منعهم منها تضييقا لا يخفى.

وقال الخطابي: أنكر أصحاب الرأي الخرص، وقال بعضهم: إنما كان يفعل تخوينا للمزارعين، لئلا يخونوا، لا ليلزم به الحكم، لأنه تخمين وغرور، أو كان يجوز قبل تحريم الربا والقمار، وتعقبه الخطابي بأن تحريم الربا، والميسر متقدم، والخرص عمل به في حياة النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات، ثم أبو بكر وعمر ومن بعدهم ولم ينقل عن أحد منهم ولا من التابعين تركه، إلا عن الشعبي، قال: وأما قولهم: إنه تخمين وغرور، فليس كذلك، بل هو اجتهاد في معرفة مقدار التمر، وإدراكه بالخرص الذي هو نوع من المقادير. وحكى أبو عبيد عن قوم منهم أن الخرص كان خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم، لأنه كان يوفق من الصواب ما لا يوفق له غيره، وتعقبه بأنه لا يلزم من كون غيره لا يسدد لما كان يسدد له سواء، أن تثبت بذلك الخصوصية، ولو كان المرء لا يجب عليه الإتباع إلا فيما يعلم أنه يسدد فيه، كتسديد الأنبياء لسقط الإتباع وترد هذه الحجة أيضا بإرسال النبي صلى الله عليه وسلم الخراص في زمانه. واعتل الطحاوي بأنه يجوز أن يحصل للثمرة آفة، فتتلفها، فيكون ما يؤخذ من صاحبها مأخوذا بدلا مما لم يسلم له، وأجيب بأن القائلين به لا يضمنون أرباب الأموال ما تلف بعد الخرص، قال ابن المنذر: أجمع من يحفظ عنه العلم أن المخروص إذا أصابته جائحة قبل الجذاذ فلا ضمان. وذكر الحافظ ابن حجر تعريفات الفقهاء في مسألة الخرص لا يتسع لها المقام، فمن أرادها فليرجع إليها. والله أعلم

(605) باب توكله صلى الله عليه وسلم على الله تعالى وعصمة الله تعالى له من الناس

(605) باب توكله صلى الله عليه وسلم على الله تعالى وعصمة الله تعالى له من الناس 5190 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة قبل نجد. فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في واد كثير العضاه. فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة، فعلق سيفه بغصن من أغصانها. قال: وتفرق الناس في الوادي يستظلون بالشجر. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن رجلا أتاني وأنا نائم فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي، فلم أشعر إلا والسيف صلتا في يده. فقال لي: من يمنعك مني؟ قال قلت: الله. ثم قال في الثانية: من يمنعك مني؟ قال قلت: الله. قال: فشام السيف. فها هو ذا جالس" ثم لم يعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم. 5191 - عن جابر بن عبد الله الأنصاري وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة قبل نجد. فلما قفل النبي صلى الله عليه وسلم قفل معه. فأدركتهم القائلة يوما. ثم ذكر نحو حديث إبراهيم بن سعد ومعمر. 5192 - عن جابر رضي الله عنه قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بذات الرقاع بمعنى حديث الزهري ولم يذكر: ثم لم يعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم. -[المعنى العام]- صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ يقول "احفظ الله يحفظك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء ما ضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك" وصدق الله العظيم، إذ يقول: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا، ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا} [الطلاق: 2, 3]. وأخشى بني آدم لله، وأتقاهم له محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فكافأه ربه بقوله {والله يعصمك من

الناس} [المائدة: 67] عصمة هلاك واستئصال، لا عصمة إيذاء وبلاء، فكم أوذي من الكفار، وكم تحمل من جهل الجاهلين، وكذلك الأنبياء، يبتلون فيصبرون، وإذا كان بعض الأنبياء قد قتلوا فإن محمدا صلى الله عليه وسلم عصم من الناس بوعد الله، وظهر هذا اليقين بهذا الوعد في هذه القصة. كانت الجولات الحربية بين الإسلام والكفر على أشدها، وما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة إلا وري بغيرها، ليبقى المسلمون على استعداد دائم، وكان الكفار متربصين بالمسلمين وبرسول الإسلام، لا يدعون فرصة للنيل منهم إلا ويقتنصونها. وسنحت لهم فرصة العمر في ظن أحدهم، حيث تعقب جيش المسلمين العائد من غزوة ذات الرقاع، لعله ينفرد بأحدهم، فيغتاله، ورأى من بعيد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في نحر الظهيرة، وفي شدة الحر ينزلون للقيلولة، في واد كثير الشجر، كثير الظل، ينزلون للراحة، ويتفرقون تحت الشجر، ورأى من بعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد انفرد بشجرة مظلة، علق على غصن من أغصانها سلاحه وسيفه، ثم افترش الأرض، فنام، وتسلل الأعرابي في غفلة من الصحابة لنومهم واستراحتهم، حتى وصل إلى شجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسحب سيفه، وأخرجه من غمده، وأشهره، وقال: يا محمد، من يمنعك مني الآن؟ من يحول بيني وبين قتلك بسيفك؟ فقال صلى الله عليه وسلم بهدوء الواثق الشجاع: الله يمنعني. ونزلت الكلمة على قلب الأعرابي كالصاعقة، أعاد التهديد مرة أخرى، وأعاد الرسول صلى الله عليه وسلم لفظ الله مرة أخرى، وزاد الرعب في قلب الأعرابي فكرر التهديد للمرة الثالثة وكرر رسول الله صلى الله عليه وسلم الجواب، وارتجف الأعرابي، وسقط السيف من يده، وتناوله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسمر الأعرابي في مكانه لا يتحرك، لا يفكر في الجري والفرار، وأصابه ذهول الموقف وغطاه الخوف. قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجلس، فجثا خاضعا على ركبتيه، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم من يمنعك أنت مني الآن؟ قال: لا أحد. فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، فجاءوا، فقص عليهم ما جرى، فحاولوا قتل الرجل، فمنعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال للرجل: اذهب إلى حال سبيلك. قال الرجل: أنت خير مني، أعاهدك أن لا أقاتلك، ولا أعين عليك من يقاتلك، فلما ولى دخل الإسلام قلبه، فرجع إلى قومه، فقال لهم: جئتكم من عند خير الناس، وقص عليهم القصة، فآمن بإيمانه خلق كثير، وهكذا أسلم الكافرون، لأن رسول الإسلام كان قدوة، كان رحمة للعالمين. -[المباحث العربية]- (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة قبل نجد) الضمير في "غزونا" لجابر ومن كان معه من الصحابة، و"قبل نجد" بكسر القاف وفتح الباء، أي جهتها، وقد وقع القصد إلى جهة نجد في عدة غزوات وفي رواية البخاري تحديد الغزوة، ولفظها "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع ... " وذكر القصة. وكذا في الملحق الثاني لروايتنا، ولفظه "حتى إذا كنا بذات الرقاع" وعند ابن إسحق "أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد غزوة بني النضير شهر ربيع وبعض جمادى - يعني من سنته - وغزا نجدا، يريد بني محارب وبني ثعلبة من غطفان، حتى نزل نخلا، وهي غزوة ذات الرقاع، وقد سبق الكلام عنها في الغزوات.

(فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم) بفتح الكاف، و"رسول الله" فاعل، وكان صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يكون في مؤخرة الجيش العائد، تواضعا، وحراسة، وكانت القصة في العودة من الغزوة، ففي رواية البخاري "أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم قفل معه، فأدركتهم القائلة .... " الحديث، وكذا في الملحق الأول لروايتنا. (في واد كثير العضاه) بكسر العين وفتح الضاد، آخره هاء، وهي كل شجرة ذات شوك، وقيل هو العظيم من السمر مطلقا، والسمرة الشجرة الكثيرة الورق. (فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة) زاد في رواية "فاستظل بها" أي من حر الشمس في القائلة، وفي رواية "فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي صلى الله عليه وسلم". (فعلق سيفه بغصن من أغصانها) وفرش فراشه، ونام تحتها، من التعب. (وتفرق الناس في الوادي يستظلون بالشجر) المراد من الناس الجيش. (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن رجلا أتاني وأنا نائم، فأخذ السيف، فاستيقظت، وهو قائم على رأسي، فلم أشعر إلا والسيف صلتا في يده) "صلتا" بفتح الصاد وضمها وسكون اللام، أي مجردا من غمده، أي مسلولا، وهو منصوب على الحال، و"السيف" مبتدأ، و"في يده" خبر، وفي رواية للبخاري "فجاء رجل من المشركين، وسيف النبي صلى الله عليه وسلم معلق بالشجرة، فاخترطه" أي استله من غمده، وفي رواية "فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، فجئناه فإذا عنده أعرابي جالس" وفي رواية "فإذا أعرابي قاعد بين يديه" وفي رواية "قال جابر: فنمنا نومة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، فجئناه" فهذا القدر من الرواية لم يحضره الصحابة، وإنما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم، بعد أن دعاهم واستيقظوا. وهذا الرجل اسمه غورث على وزن جعفر، وقيل: بضم الغين، من الغرث، وهو الجوع، ووقع عند الخطيب "غورك" بالكاف بدل الثاء، وحكى الخطابي غويرث بالتصغير، وهو غورث بن الحارث، قال القاضي: وقد جاء حديث آخر مثل هذا الخبر، وسمي الرجل فيه "دعثورا". (فقال لي: من يمنعك مني؟ قال: قلت: الله. ثم قال في الثانية: من يمنعك مني؟ قال: قلت الله) في رواية "فقال: تخافني؟ قال: لا" وفي رواية كرر "من يمنعك مني" ثلاث مرات، وهو استفهام إنكاري بمعنى النفي، أي لا يمنعك مني أحد، لأن الأعرابي كان قائما، والسيف في يده، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، لا سيف معه، ولفظ "الله" خبر لمبتدأ محذوف أي مانعي منك الله. (فشام السيف) أي أعاده في غمده، وألقاه، وهذه الكلمة تستعمل في الأضداد، يقال: شامه إذا استله، وشامه إذا أغمده، وعند ابن إسحاق "فدفع جبريل في صدره، فوقع السيف من يده، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: من يمنعك أنت مني؟ قال: لا أحد، قال: قم، فاذهب لشأنك، فلما ولى قال: أنت خير مني". (فها هو ذا جالس. ثم لم يعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم) في رواية البخاري "لم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم "فيجمع بين هذا، وبين رواية ابن إسحاق السابقة، بأن قوله "فاذهب" كان بعد أن أخبر الصحابة بقصته، فمن عليه، لشدة رغبة النبي صلى الله عليه وسلم في استئلاف الكفار، ليدخلوا في الإسلام، وقد ذكر

الواقدي أنه أسلم، وأنه رجع إلى قومه، فاهتدى به خلق كثير، وفي رواية للبخاري "فتهدده أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم" أي فمنعهم صلى الله عليه وسلم. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث]- 1 - جواز تفرق العسكر في نزولهم ونومهم، ومحله إذا لم يكن هناك من يخافون منه. 2 - جواز الاستظلال بأشجار البوادي. 3 - وتعليق السلاح وغيره فيها. 4 - وجواز المن على الكافر الحربي، وإطلاقه. 5 - وفرط شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم. 6 - وقوة يقينه. 7 - وصبره على الأذى. 8 - وحلمه وعفوه عن الجهال. 9 - ومقابلة السيئة بالحسنة. 10 - وفيه الحث على مراقبة الله تعالى، وحفظه في الرخاء ليحفظ في الشدة. 11 - وفيه عصمته سبحانه وتعالى لرسوله من القتل. والله أعلم

(606) باب بيان مثل ما بعث به صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم

(606) باب بيان مثل ما بعث به صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم 5193 - عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن مثل ما بعثني الله به عز وجل من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا. فكانت منها طائفة طيبة، قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير. وكان منها أجادب، أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا ورعوا. وأصاب طائفة منها أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه بما بعثني الله به، فعلم وعلم. ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به". -[المعنى العام]- البشرية منذ خلق الله آدم وحواء وأنزلهما إلى الأرض، يتبعها إبليس، ومنذ كثرت ذرية آدم، في حاجة بين الحين لتذكيرها بربها، لتتحقق الحكمة الإلهية التي نوه عنها جل شأنه بقوله {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]. وتلك حكمة إرسال الرسل عليهم السلام، وإنزال الكتب والشرائع، وكلما تقدمت البشرية نحو الحضارة، وكلما كثر عددها على وجه البسيطة، وكلما اتسعت آفاقها وآفاق علمها، كلما كان التذكير والتوجيه والتشريع في دائرة أوسع، وكلما كانت حاجتها إلى التفصيل أشد وأعظم، فإذا ما أضيف إلى ذلك أن كل رسول، كان يبعث إلى قومه خاصة، وإلى فترة زمنية مؤقتة كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم العامة الخاتمة، الصالحة لكل زمان ومكان إلى يوم القيامة، أكثر الرسالات شمولا للأحكام، وأوسعها في التعاليم والتشريعات، وقد جاءت في فترة زمنية وصلت البشرية فيها إلى انحدار وانحطاط، فكانت غيثا مغيثا، وعلاجا لأمراض انتشرت وتنوعت، وكانت كالنور في حالك الظلام، كانت كصيب من السماء، فيه غيث ونفع للأرض الطيبة الصالحة للزراعة، النقية من الحشائش والحجارة، ينبت به الزرع والنخيل والأعناب، ومن كل الثمرات والكلأ والأعشاب ويسقط على حجارة ملساء، أو أرض سبخة لا تنبت، فلا ينتفع به، وكذلك الناس بالنسبة لدعوة الإسلام، منهم من يسمع فيستجيب، ويتعلم فيتفقه، ويتعمق في العمل، ويعمل بما يعلم ثم يعلم غيره ما علم، فينفع نفسه، وينفع غيره، ومنهم من يسمع فيحفظ، ولا يعمل لكنه يعلم غيره فهو كالأرض المنخفضة، كالوديان، تحفظ الغيث

والمطر، حتى يأخذه من ينتفع به ومنهم من يسمع فيعرض، فلا يحفظ ولا يعمل ولا يعلم غيره، فيكون كالأرض الملساء الجرداء، لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ. فالعاقل من انتفع ونفع، والويل لمن أعرض، ولم يرفع بذلك رأسا. ومن عمل صالحا فلنفسه، ومن أساء فعليها. -[المباحث العربية]- (إن مثل ما بعثني الله به عز وجل من الهدى والعلم) "مثل" بفتح الميم والثاء، والمراد به الصفة العجيبة الشأن، وليس القول السائر، والمراد من "الهدى" الدلالة الموصلة إلى المطلوب، أي وسيلة الهداية، من الدعوة إلى الله بالحجة، والموعظة الحسنة، والمراد من العلم حصول المعلومات عنده صلى الله عليه وسلم وإيصالها للأمة، ولذا ترجم البخاري للحديث بباب فضل من علم وعلم، "علم" الأولى بكسر اللام والثانية بفتحها وتشديدها. (كمثل غيث أصاب أرضا) المراد من الغيث المطر، وتنكير "أرضا" لتنوعها، كما سيأتي. (فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء) قال النووي: هكذا هو في جميع نسخ مسلم "طائفة طيبة" ووقع في البخاري "فكان منه نقية قبلت الماء" بنون مفتوحة، ثم قاف مكسورة، ثم ياء مشددة، وهو بمعنى طيبة، هذا هو المشهور في روايات البخاري، ورواه الخطابي وغيره "ثغبة" بالثاء والغين والباء، قال الخطابي: هو مستنقع الماء في الجبال والصخور. قال القاضي وصاحب المطالع: هذه الرواية غلط من الناقلين، وتصحيف، وإحالة للمعنى، لأنه إنما جعلت هذه الطائفة الأولى مثلا لما ينبت، والثغبة لا تنبت، اهـ. وروي "بقعة" وهي بمعنى "طائفة" وروي "بقية" بالباء بدل النون، والمراد القطعة الطيبة، كما يقال: فلان بقية الناس، ومنه قوله تعالى {فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية} [هود: 116] والمراد من قبول الماء قبوله سقيا لزرع بقدر الحاجة. قال إسحاق بن راهويه، حين روي هذا الحديث "قيلت الماء" بفتح القاف وتشديد الياء المفتوحة، قيل: وهو تصحيف، من إسحق، وقيل: بل صواب، ومعناه شربت، والقيل شرب نصف النهار. (فأنبتت الكلأ والعشب الكثير) قال النووي: "الكلأ" بالهمز يقع على اليابس والرطب، وقال الخطابي وابن فارس: الكلأ يقع على اليابس، وهذا شاذ ضعيف، قال: والعشب والكلأ، مقصورا غير مهموز، مختصان بالرطب. اهـ. وقال الحافظ ابن حجر: "العشب" هنا من ذكر الخاص بعد العام، لأن الكلأ يطلق على النبت الرطب واليابس معا، و"العشب" للرطب فقط. اهـ. والمقصود- على أي حال - أنبتت الزرع النافع على الأمد القريب والبعيد. (وكان منها أجادب أمسكت الماء) قال النووي: بالجيم والدال، وهو الأرض التي تنبت كلأ، وقال الخطابي: هي الأرض التي تمسك الماء، فلا يسرع إليه النضوب، قال ابن بطال وصاحب المطالع وآخرون: هو جمع جدب على غير قياس: كما قالوا في حسن: جمعه محاسن، والقياس أن

محاسن جمع محسن، وكذا قالوا: مشابه جمع شبه، وقياسه أن يكون جمع مشبه. قال الخطابي: وقال بعضهم: "أحادب" بالحاء والدال. قال: وليس بشيء. قال: وقال بعضهم "أجارد" بالجيم والراء والدال، قال: وهو صحيح المعنى، إن ساعدته الرواية، قال الأصمعي: الأجارد من الأرض ما لا ينبت الكلأ، معناه أنها جرداء هزرة، لا يسترها النبات، قال: وقال بعضهم: إنما هي "أخاذات" بالخاء والذال وبالألف، وهو جمع "أخاذة" وهي الغدير الذي يمسك الماء، وذكر صاحب المطالع هذه الأوجه الذي ذكرها الخطابي، فجعلها روايات منقولة، وقال القاضي في الشرح: لم يرد هذا الحرف في مسلم ولا في غيره إلا بالدال المهملة، من الجدب، الذي هو ضد الخصب، قال: وعليه شرح الشارحون. (فنفع الله بها الناس، فشربوا منها، وسقوا، ورعوا) "سقوا" قال النووي: قال أهل اللغة: سقى وأسقى بمعنى، لغتان، وقيل: سقاه ناوله ليشرب، وأسقاه جعل له سقيا، وأما "رعوا" فهو بالراء من الرعي، كذا هو في جميع نسخ مسلم، ووقع في البخاري "وزرعوا" وكلاهما صحيح. (وأصاب طائفة منها أخرى، إنما هي قيعان، لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ) "قيعان" بكسر القاف، جمع قاع، وهو الأرض المستوية التي لا تنبت، والتي إذا أصابها الماء لا يستقر فيها، وجمع في المثل بين الطائفتين الأوليين المحمودتين، لاشتراكهما في الانتفاع بهما، وأفرد الطائفة الثالثة، المذمومة- بقوله "وأصاب طائفة منها أخرى" لعدم النفع بها. (فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه بما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به) "من فقه" بضم القاف، أي صار فقيها، وقال ابن التين: رويناه بكسرها، والضم أشبه. قال القرطبي وغيره: ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء به من الدين مثلا، بالغيث العام، الذي يأتي الناس في حال حاجتهم إليه، وكذا حال الناس قبل مبعثه، فكما أن الغيث يحيي البلد الميت، فكذا علوم الدين، تحيي القلب الميت، فتعاليم الإسلام، وما جاء به صلى الله عليه وسلم مشبه، والغيث مشبه به. ثم شبه السامعين لتعاليم الدين بالأرض المختلفة التي ينزل بها الغيث، فمنهم: العالم العامل المعلم غيره: فهو بمنزلة الأرض الطيبة، شربت فانتفعت في نفسها، وأنبتت، فنفعت غيرها، انتفعت في نفسها بالحياة بعد أن كانت ميتة، وكذلك علم العالم يحيي قلبه، وعمله بعلمه يبرزه بمظهر الجمال والزينة، وينفعه كالنبات للأرض، وينفع الناس بالقدوة، كما ينفعهم وينفعه تعليمه لهم. ومنهم الجامع للعلم: الذي يشغل زمانه فيه، المعلم لغيره، لكنه لم يعمل بعلمه، فهو جمع العلم، وأداه لغيره، فهو بمنزلة الأرض التي يستقر فيها الماء وتمسكه، ولا تنتفع به، فينتفع به الناس، فهي لم تشرب الماء، فتنتفع بشربها، وإن انتفعت بسقي الماء لغيرها. وجعل النووي هذا التمثيل لناس لهم قلوب حافظة، لكن ليست لهم أفهام ثاقبة، ولا رسوخ لهم في العقل، ليستنبطوا به المعاني والأحكام، فهم يحفظونه، حتى يأتي طالب محتاج، متعطش لما عندهم من العلم، أهل للنفع والانتفاع، فيأخذه منهم، فينتفع به، اهـ. ويمكن أن يشار إلى هذا النوع بحديث

"نضر الله امرأ سمع مقالتي، فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع" ويمكن أن يراد الأمران: عدم العمل بالعلم، وعدم العمل في العلم. والصنف الثالث: من يسمع العلم فلا يحفظه، ولا يعمل به، ولا ينقله لغيره، فهو بمنزلة الأرض السبخة أو الملساء التي لا تقبل الماء، أو تفسده على غيرها، فمعنى "من لم يرفع بذلك رأسا" أي أعرض عن العلم، فلم ينتفع به، ولم ينفع به، ومعنى "ولم يقبل هدى الله الذي جئت به" أي بلغه وكفر به. قال الطيبي: بقي من أقسام الناس قسمان: أحدهما الذي انتفع بالعلم في نفسه، ولم يعلمه غيره، والثاني من لم ينتفع به في نفسه، وعلمه غيره، قال الحافظ ابن حجر: الأول داخل في الأول، لأن النفع حصل في الجملة، وإن تفاوتت مراتبه، وكذلك ما تنبته الأرض، فمنه ما ينتفع به الناس، ومنه ما يصير هشيما. اهـ. قلت: والثاني داخل في الثاني، كما أوضحنا. -[فقه الحديث]- -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - ضرب المثل تقريبا للمعقول وتشبيهه بالمحسوس. 2 - فضل العلم والتعليم. 3 - شدة الحث عليهما. 4 - ذم الإعراض عن العلم. والله أعلم

(607) باب شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ومبالغته في تحذيرهم مما يضرهم وإذا أراد الله رحمة أمة قبض نبيها قبلها

(607) باب شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ومبالغته في تحذيرهم مما يضرهم وإذا أراد الله رحمة أمة قبض نبيها قبلها 5194 - عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه، فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنجاء. فأطاعه طائفة من قومه، فأدلجوا فانطلقوا على مهلتهم. وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم. فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به. ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق". 5195 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارا. فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه. فأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقحمون فيه" وحدثناه عمرو الناقد وابن أبي عمر قالا حدثنا سفيان عن أبي الزناد بهذا الإسناد، نحوه. 5196 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكر أحاديث منها. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلي كمثل رجل استوقد نارا. فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي في النار يقعن فيها. وجعل يحجزهن ويغلبنه فيتقحمن فيها. قال فذلكم مثلي ومثلكم. أنا آخذ بحجزكم عن النار. هلم عن النار. هلم عن النار. فتغلبوني تقحمون فيها". 5197 - عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها. وهو يذبهن عنها. وأنا آخذ بحجزكم عن النار. وأنتم تفلتون من يدي". 5198 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل

بنى بنيانا فأحسنه وأجمله. فجعل الناس يطيفون به، يقولون ما رأينا بنيانا أحسن من هذا، إلا هذه اللبنة. فكنت أنا تلك اللبنة". 5199 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكر أحاديث منها: وقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل ابتنى بيوتا فأحسنها وأجملها وأكملها، إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها. فجعل الناس يطوفون ويعجبهم البنيان فيقولون: ألا وضعت ها هنا لبنة! فيتم بنيانك" فقال محمد صلى الله عليه وسلم "فكنت أنا اللبنة". 5200 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه. فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة! قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين". 5201 - وفي رواية عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثل النبيين" فذكر نحوه. 5202 - عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثلي ومثل الأنبياء، كمثل رجل بنى دارا فأتمها وأكملها إلا موضع لبنة. فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون منها، ويقولون: لولا موضع اللبنة! " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأنا موضع اللبنة جئت فختمت الأنبياء". 5203 - وفي رواية بهذا الإسناد مثله وقال: بدل أتمها أحسنها. 5204 - عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل إذا أراد رحمة أمة من عباده، قبض نبيها قبلها، فجعله لها فرطا وسلفا بين يديها. وإذا أراد هلكة أمة، عذبها، ونبيها حي، فأهلكها وهو ينظر، فأقر عينه بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره".

-[المعنى العام]- صدق الله العظيم، إذ يقول {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128]. نعم كل نبي يحرص على إجابة قومه لدعوته لمصلحتهم، ويبذل في سبيل ذلك جهده، ويتحمل من مكذبيهم وسفهائهم قدر الطاقة، لكن من الرسل من ضاق ذرعه بعصيانهم، ومنهم أولوا العزم الذين طال صبرهم، وعظم بلاؤهم، وعلى رأسهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. قد ينفد الصبر، فيدعو الرسول على العاصين، وقد يتمكن من أعدائه فينتقم منهم، بحكم الطبيعة البشرية، أما أن يقابل السيئة بالحسنة في عامة أحواله فهذه هي الخصوصية. يذهب إلى الطائف، يدعو أهله، لصالحهم، ليخرجهم من الظلمات إلى النور، فيسخرون منه، ويهزءون به، ويغرون به سفهاءهم وصبيانهم يجرون خلفه، يسبونه ويقذفونه بالحجارة، حتى أدموا قدميه، ولما تعبوا رجعوا، فاستند إلى سور حديقة مجهدا متعبا مغتاظا، فينزل عليه ملك الجبال يعرض عليه أن يطبق عليهم الجبال، فيقول: لا. اللهم اهد قومي، فإنهم لا يعلمون. يغتال وحشي الكافر أعز أعمامه، أسد الله حمزة بن عبد المطلب، وتبقر هند زوجة أبي سفيان بطنه، وتخرج كبده، تلوكها في فمها، فيقدر عليهما، فيعفو عنهما. يفتح مكة، فيمكنه الله ممن آذوه وآذوا أصحابه، وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم، فيقول لهم: ما تظنون أني فاعل بكم؟ فيقولون أخ كريم وابن أخ كريم، فيقول لهم: لا أقول لكم إلا كما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم. اذهبوا فأنتم الطلقاء. يذهب إليه أعرابي، يطلب إحسانه من بيت المال، فيمسك بخناق ثوبه، ويجذبه منه حتى يؤثر الثوب في رقبته، وهو يقول: يا محمد، أعطني من مال الله الذي عندك، فإنه ليس من مالك ولا من مال أبيك، ويثور عمر، فيجرد سيفه، ويقول لرسول صلى الله عليه وسلم: دعني أدق عنق هذا المنافق، فيمنعه صلى الله عليه وسلم، ويدخل إلى بيت المال، فيخرج له ما شاء الله، ثم يقول له: أأحسنت؟ فيقول الأعرابي: ما أحسنت وما أجزلت. فيثور عمر ثانية، فيمنعه صلى الله عليه وسلم، ويدخل، فيزيد الرجل، ثم يقول له: أأحسنت؟ فيقول له: لا، ما أحسنت وما أجزلت، ويثور عمر حتى لا يكاد يملك نفسه فيمنعه صلى الله عليه وسلم، ويدخل، فيزيد الرجل، ويقول صلى الله عليه وسلم: إن مثلي ومثلكم ومثل هذا كرجل شردت ناقته، فجرى الناس خلفها، يمسكونها، فكلما رأتهم يطاردونها زادت شرودا، فقال لهم صاحبها: خلوا بيني وبين ناقتي، ثم أخذ في يده شيئا من حشيش الأرض، وتقرب به إليها، فجاءت وبركت واستناخت. صلى الله عليه وسلم {بالمؤمنين رءوف رحيم} منع العصاة أن يقعوا في النار، يبذل جهده الخارق في الحيلولة بينهم وبين المعاصي، لكن كثيرا منهم، تغلبهم شهوتهم ونفسهم الأمارة بالسوء، فينهمكون في الشهوات، فيقعون في نار الآخرة، كالفراش الجاهل الذي يحارب النار بالوقوع فيها، ولقد كانت رسالته صلى الله عليه وسلم خاتمة الرسالات، وقمتها، فكل نبي جاء بشرع، أصلح الإنسانية بعض الإصلاح، فكان الأنبياء السابقون كمن يبني جزءا من بيت، حتى كاد يكتمل

البناء، إلا زاوية من زواياه، لو بنيت لاكتمل، فكان صلى الله عليه وسلم ممثلا في البناء هذه الزاوية، محققا تمام البناء، واكتمال الشرائع، ووصول البشرية إلى أرقى عباداتها وصلاحها، بما جاء به من شرع حكيم، صالح لكل زمان ومكان إلى يوم الدين. -[المباحث العربية]- (إن مثلي ومثل ما بعثني الله به) بفتح الميم والثاء، والمثل الصفة العجيبة الشأن، يوردها البليغ، على سبيل التشبيه، لإرادة التقريب والتفهيم. (كمثل رجل أتى قومه) في رواية للبخاري "أتى قوما" والتنكير فيه للشيوع، وروايتنا أوضح، لأن قومه هم الأولى بقبول خبره، ولأنهم الذين يحرص عليهم بالدرجة الأولى. (إني رأيت الجيش بعيني) تثنية عين، وذكر هذا اللفظ لزيادة التأكيد، فالرؤية إنما تكون بالعينين، أي تحقق عنده جميع ما أخبر عنه، تحقق من رأى شيئا بعينيه، لا يعتريه وهم، ولا يخالطه شك، وفي رواية "بعيني" بالإفراد، و"ال" في "الجيش" للعهد، أي جيش عدوكم. (وإني أنا النذير العريان) مثل يضرب للناصح الأمين الحريص على مصلحة قومه، الخائف المشفق عليهم، والجملة من كلام الرجل، داخلة في المشبه به، وأكدها بإن واسمية الجملة، وإعادة الضمير "أنا" قال العلماء: وأصل المثل أن رجلا من خثعم حمل عليه رجل يوم ذي الخلصة، فقطع يده ويد امرأته، فانصرف إلى قومه، فحذرهم من العدو، مقدما لهم نفسه وامرأته كدليل على تحقق الخبر، واستبعد أن يكون ذلك أصل المثل، لعدم اشتماله على العري، وقيل أصل المثل أن رجلا لقي جيشا، فسلبوه، وأسروه، فانفلت إلى قومه، فقال: إني رأيت الجيش، فسلبوني فرأوه عريانا، فتحققوا صدقه، لأنهم كانوا يعرفونه ولا يتهمونه في النصيحة، ولا جرت عادته بالتعري، فقطعوا بصدقه لهذه القرائن. وقال النووي: قال العلماء: أصله أن الرجل إذا أراد إنذار قومه، وإعلامهم بما يوجب المخافة، نزع ثوبه، وأشار به إليهم، إذا كان بعيدا منهم، ليخبرهم بما دهمهم، وأكثر ما يفعل هذا طليعتهم ورقيبهم وعينهم، قالوا: وإنما يفعل ذلك، لأنه أبين للناظر، وأغرب، وأشنع منظرا، فهو أبلغ في استحثاثهم على التأهب للعدو، وقيل: معناه أنا النذير الذي أدركني جيش العدو، فأخذ ثيابي فأنا أنذركم عريانا. اهـ. أما المشبه، فقد ضرب صلى الله عليه وسلم لنفسه ولما جاء به مثلا بذلك، لما أبداه من الخوارق والمعجزات الدالة على صدقه، تقريبا لأفهام المخاطبين بما يألفونه ويعرفونه، وعند أحمد بسند جيد "خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فنادى ثلاث مرات: أيها الناس. مثلي ومثلكم مثل قوم خافوا عدوا أن يأتيهم، فبعثوا رجلا يترايا لهم، فبينما هم كذلك إذ أبصر العدو، فأقبل لينذر قومه، فخشي أن يدركه العدو، قبل أن ينذر قومه، فأهوى بثوبه: أيها الناس، أتيتم. أتيتم. أتيتم." فالعريان على ما سبق من العري والتعري، وهو المعروف في

الرواية، وحكى الخطابي أن بعضهم رواه بالباء الموحدة، فإن كان محفوظا فمعناه الفصيح بالإنذار، لا يكنى ولا يورى، بل يعرب ويبين، يقال: رجل عربان، أي فصيح اللسان. (فالنجاء) بالمد مفعول مطلق، أو مفعول به لفعل محذوف، تقديره: انجوا، أو الزموا واطلبوا، قال القاضي عياض: المعروف في النجاء، إذا أفرد، المد وحكى أبو زيد فيه القصر أيضا فإذا ما كرروه، فقالوا: النجاء. النجاء ففيه المد والقصر معا، وروايتنا بالإفراد، ورواية البخاري بالتكرار، قال الحافظ ابن حجر: بالمد فيهما، وبمد الأولى وقصر الثانية، وبالقصر فيهما تخفيفا، وفيه إشارة إلى أنهم لا يطيقون مقاومة ذلك الجيش. (فأطاعه طائفة من قومه) في طلبه الفرار من وجه العدو، أي صدقوه، فأطاعوه، والتذكير في "فأطاعه" مع أن الفاعل مؤنث "طائفة" على تقدير بعض القوم، وفي رواية "فأطاعته" بالتأنيث. (فأدلجوا) بهمزة قطع فسكون، أي ساروا أول الليل، أو ساروا الليل كله، على الاختلاف في مدلول هذه اللفظة، قال الحافظ ابن حجر: وأما بالوصل والتشديد، على أن المراد به سير آخر الليل، فلا يناسب هذا المقام. (فانطلقوا على مهلتهم) قال النووي: هكذا هو في جميع نسخ مسلم "مهلتهم" بضم الميم وإسكان الهاء وبتاء بعد اللام وفي الجمع بين الصحيحين "على مهلهم" بفتح الميم والهاء الأولى، وبحذف التاء، قال: وهما صحيحان، اهـ. والمعنى انطلقوا وساروا على هينة وراحة، ونجوا من عدوهم. (وكذبت طائفة منهم) أي كذبت النذير في خبره عن جيش العدو، أي فلم يطيعوه، ولم يأخذوا حذرهم، ولم يهربوا من بطشه، وعبر عن الطائفة الأولى بالطاعة لأنها مسبوقة بالتصديق، مستلزمة له، فإثباتها إثبات له، وفي الثانية بالتكذيب، لأنه الأساس في عدم الطاعة، فاستتبع العصيان، والمراد الأمران في كل منهما، تصديق وطاعة في جانب، وتكذيب وعصيان في جانب، فحذف من كل لازمه. (فأصبحوا مكانهم) تصريح بما دل عليه اللازم. (فصبحهم الجيش فأهلكهم، واجتاحهم) معنى "صبحهم" أتاهم صباحا مبكرا وهم نائمون، ثم كثر استعماله، حتى استعمل فيمن طرق بغتة، في أي وقت كان، ومعنى "اجتاحهم" استأصلهم، من جحت الشيء، أجحته، إذا استأصله، والاسم الجائحة، وهي الهلاك، وأطلقت على الآفة، لأنها مهلكة، وذكر الاجتياح بعد الإهلاك لتأكيده وقوته. قال الطيبي: شبه صلى الله عليه وسلم نفسه بالرجل، وشبه ما جاء به من الوعد والوعيد بإنذار الرجل قومه بالجيش، وشبه من أطاعه من أمته بمن أطاع الرجل وصدقه، وشبه من عصاه من أمته بمن كذب الرجل في إنذاره، والنتيجة شبيهة بالنتيجة. (إنما مثلي ومثل أمتي) من حيث موقف الأمة مما جاء به صلى الله عليه وسلم، والقصر بإنما قصر إضافي، لأن مثله صلى الله عليه وسلم مع أمته ليس مقصورا على هذا، فقد سبق مثل، وسيأتي غيره.

(كمثل رجل استوقد نارا) أي أوقد نارا، واستوقد أبلغ من أوقد، فزيادة المبني تفيد زيادة المعنى، زاد في الرواية الثالثة "فلما أضاءت ما حولها" والإضاءة فرط الإنارة، والمراد بذلك ظهور الحق ووضوحه، مما يرفع عذر المعتذر. (فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه) أي في هذا الشيء الموقد، وفي الرواية الثالثة والرابعة "يقعن فيها" والدواب كل ما يدب على الأرض ولو لحظة، فيشمل الطير ويكون ذكر الفراش وغيره بعده من ذكر الخاص بعد العام، ويحتمل أن يراد بالدابة ما من شأنه يمشي على الأرض، فيكون عطف الطير عليه من العطف المغاير، وعلى كل فالمراد من الدواب التي تسقط في النار بعضها مما من شأنه أن يجري نحو النار يجهل عاقبتها، فيسقط فيها، كالخنافس والصرار وبعض الحشرات، أما الفراش فالمراد منه النوع المعروف من الطير، ذو الأجنحة التي هي أكبر كثيرا من جثته، وأنواعه مختلفة في الكبر والصغر، وكذا أجنحته، وأغرب ابن قتيبة فقال: المراد من الفراش ما يتهافت في النار من البعوض، وقال الخليل: الفراش كالبعوض، يلقي بنفسه في النار. وقال بعضهم: الفراش ما تراه كصغار البق، يتهافت في النار، وقال المازري: المراد من الفراش الجنادب. اهـ. ربما لأنه ورد في الرواية الرابعة، ولفظها "فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها" فجعله من عطف التفسير، وتعقب بأن الجنادب جمع جندب، وفيها ثلاث لغات، ضم الجيم مع ضم الدال وفتحها، وكسر الجيم مع فتح الدال، وهو الصرار الذي يشبه الجراد، وقال أبو حاتم: الجندب على خلقة الجراد، له أربعة أجنحة، كالجرادة وأصغر منها، يطير ويصر بالليل صرا شديدا. وفي الرواية الثالثة "جعل الفراش، وهذه الدواب التي في النار، يقعن فيها" ومعنى الموصول وصلته التي من شأنها الدخول في النار. (وجعل يحجزهن، ويغلبنه، فيتقحمن فيها) "جعل" هنا للصيرورة، والحجز المنع، والتقحم أصله القحم والإقدام والوقوع في الأمور الشاقة من غير تثبت، ويطلق على رمي الشيء بغتة، ومثله الاقتحام، يقال: اقتحم الدار هجم عليها، وفي الرواية الثانية "فأنا آخذ بحجزكم، وأنت تقحمون فيه" بفتح التاء والقاف، وتشديد الحاء، وحذف إحدى التاءين، أي تتقحمون، قال النووي: "آخذ" روي بوجهين، أحدهما اسم فاعل، بكسر الخاء، وتنوين الذال، والثاني فعل مضارع بضم الخاء والذال، وهما صحيحان، والأول أشهر. اهـ. "وحجزكم" بضم الحاء وفتح الجيم وضمها جمع حجزة بضم الحاء وسكون الجيم، وهي معقد الإزرار من وسط الإنسان، ومن السراويل موضع التكة، وفي الرواية الرابعة "فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها، وهو يذبهن عنها- أي يدفعهن ويبعدهن عنها- وأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تفلتون من يدي" قال النووي: روي بوجهين: أحدهما فتح التاء والفاء واللام المشددة، وأصله تتفلتون، حذفت إحدى التاءين، والثاني ضم التاء، وإسكان الفاء وكسر اللام، وكلاهما صحيح، يقال: أفلت مني، وتفلت مني، إذا نازعك الغلبة، والهرب، ثم غلب وهرب وفي الرواية الثالثة "أنا آخذ بحجزكم عن النار. هلم عن النار. هلم عن النار. هلم عن النار. فتغلبوني، تقتحمون فيها" و"هلم" اسم فعل أمر،

تفرد على كل حال، تقول: هلم يا رجلان وهلم يا رجال وقد تلحقها علامات التثنية والجمع، والمعنى هنا تعالوا عن النار، أي تعالوا إلي، وابتعدوا عن النار. ومقصود الحديث أنه صلى الله عليه وسلم شبه تساقط الجاهلين والمخالفين بمعاصيهم وشهواتهم في نار الآخرة، وحرصهم على الوقوع في ذلك، مع منعه إياهم، وقبضه على مواضع المنع منهم، بتساقط الفراش في نار الدنيا لهواه وضعف تمييزه، وكلاهما حريص على هلاك نفسه، ساع في ذلك لجهله. (مثلي ومثل الأنبياء) في الرواية السادسة والسابعة "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي". (كمثل رجل بنى بنيانا، فأحسنه وأجمله) قيل: المشبه به واحد والمشبه جماعة، فكيف صح التشبيه؟ وأجيب بأنه جعل الأنبياء كرجل واحد، لأنه لا يتم ما أراد من التشبيه إلا باعتبار الكل، وكذلك الدار، لا تتم إلا باجتماع البنيان- أي فهو من تشبيه مفرد بمفرد، وقيل: هو من تشبيه التمثيل، بأن نجعل أوصاف المشبه به في حكم مفردات، يشبه بها أجزاء وأوصاف المشبه. فكأنه شبه الأنبياء وما بعثوا به من إرشاد الناس، ببيت أسست قواعده، ورفع بنيانه، وبقي منه موضع، به يتم صلاح ذلك البيت، وفي الرواية السادسة "كمثل رجل ابتنى بيوتا، فأحسنها وأجملها وأكملها". (فجعل الناس يطيفون به، يقولون: ما رأينا بنيانا أحسن من هذا. إلا هذه اللبنة، فكنت أنا اللبنة) يقال: طاف حوله، وبه، وعليه، وفيه، يطوف، طوفا، بفتح الطاء وسكون الواو، وطوفانا، بفتح الواو، دار وحام، وأطاف به، وعليه، طاف، فيطيفون من أطاف، وفي الرواية السادسة والسابعة "يطوفون" من طاف. وفي الرواية السادسة "فجعل الناس يطوفون ويعجبهم البنيان، فيقولون: ألا وضعت ها هنا لبنة؟ فيتم بنيانك؟ " "فألا" بتشديد اللام للتحضيض، و"وضعت" بفتح الواو، والضاد وسكون العين وتاء المخاطب. وفي الرواية السابعة "ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة"؟ فهلا بتشديد اللام للتحضيض أيضا والتاء للمخاطب، واللبنة بفتح اللام وكسر الباء، بعدها نون، وبكسر اللام، وسكون الباء، هي القطعة من الطين، تعد للبناء، ويقال لها ذلك ما لم تحرق، فإذا أحرقت فهي آجرة، وفي الرواية الثامنة، كما في البخاري "لولا موضع اللبنة" قال الحافظ ابن حجر: "موضع" بالرفع على أنه مبتدأ، وخبره محذوف، أي لولا موضع اللبنة، يوهم النقص لكان بناء الدار كاملا، ويحتمل أن تكون "لولا" تحضيضية، وفعلها محذوف، تقديره لولا أكمل موضع اللبنة؟ . وزعم ابن العربي أن اللبنة المشار إليها كانت في رأس الدار المذكورة، وأنها لولا وضعها لانقضت تلك الدار. قال: وبهذا يتم المراد من التشبيه المذكور، قال الحافظ ابن حجر: وهذا إن كان منقولا فهو حسن، وإلا فليس بلازم (ففي روايتنا السادسة والسابعة "إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها") نعم ظاهر السياق أن تكون اللبنة في مكان يظهر عدم الكمال في الدار بفقدها. (فجعله لها فرطا وسلفا بين يديها) الفرط بفتح الفاء والراء، والفارط، هو الذي يتقدم الوارد، ليصلح له الحياض، والدلاء ونحوها من أمور الاستسقاء.

-[فقه الحديث]- -[ويؤخذ من أحاديث الباب]- 1 - ترجم البخاري للروايات الأربع بباب الانتهاء عن المعاصي، أي تركها أصلا ورأسا والإعراض عنها بعد الوقوع فيها. 2 - وفيها إشارة إلى أن الإنسان في حاجة شديدة إلى النذير. 3 - وفيها ما كان فيه صلى الله عليه وسلم من الرأفة والرحمة والحرص على نجاة الأمة، كما قال تعالى: {حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128]. 4 - وفيها مبالغة الرسول صلى الله عليه وسلم في تحذير الأمة مما يضرهم. 5 - ومن الرواية الخامسة والسادسة فضيلته صلى الله عليه وسلم. 6 - ومن الرواية السابعة والثامنة أنه خاتم النبيين. 7 - ومن مجموع الروايات جواز ضرب الأمثال في العلم وغيره. 8 - أن إهلاك الأمم واستئصال مكذبيها إنما يكون في حياة نبيهم. 9 - تبشير الأمم التي يموت نبيها قبلها بشفاعته لأمته ووساطته لهم عند ربهم. 10 - وفي ذلك تبشير بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم لأمة الإسلام. والله أعلم

(608) باب إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم وصفاته

(608) باب إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم وصفاته 5205 - عن جندب رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أنا فرطكم على الحوض". 5206 - عن سهل رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أنا فرطكم على الحوض. من ورد شرب. ومن شرب لم يظمأ أبدا. وليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني. ثم يحال بيني وبينهم" قال أبو حازم فسمع النعمان بن أبي عياش وأنا أحدثهم هذا الحديث. فقال: هكذا سمعت سهلا يقول؟ قال فقلت: نعم. قال: وأنا أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته يزيد فيقول "إنهم مني. فيقال: إنك لا تدري ما عملوا بعدك. فأقول: سحقا سحقا لمن بدل بعدي". 5207 - عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حوضي مسيرة شهر. وزواياه سواء. وماؤه أبيض من الورق. وريحه أطيب من المسك. وكيزانه كنجوم السماء. فمن شرب منه فلا يظمأ بعده أبدا". 5208 - وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني على الحوض حتى أنظر من يرد علي منكم. وسيؤخذ أناس دوني. فأقول: يا رب! مني ومن أمتي. فيقال: أما شعرت ما عملوا بعدك؟ والله ما برحوا بعدك يرجعون على أعقابهم" قال: فكان ابن أبي مليكة يقول: اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو أن نفتن عن ديننا.

5209 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، وهو بين ظهراني أصحابه "إني على الحوض، أنتظر من يرد علي منكم. فوالله! ليقتطعن دوني رجال، فلأقولن: أي رب! مني ومن أمتي. فيقول: إنك لا تدري ما عملوا بعدك. ما زالوا يرجعون على أعقابهم". 5210 - عن أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: كنت أسمع الناس يذكرون الحوض. ولم أسمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما كان يوما من ذلك، والجارية تمشطني، فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أيها الناس" فقلت للجارية: استأخري عني. قالت: إنما دعا الرجال ولم يدع النساء. فقلت: إني من الناس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لكم فرط على الحوض. فإياي! لا يأتين أحدكم فيذب عني كما يذب البعير الضال. فأقول: فيم هذا؟ فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول: سحقا". 5211 - وفي رواية عن أم سلمة رضي الله عنها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول، على المنبر، وهي تمتشط "أيها الناس" فقالت لماشطتها: كفي رأسي. بنحو حديث بكير عن القاسم بن عباس. 5212 - عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت. ثم انصرف إلى المنبر. فقال "إني فرط لكم. وأنا شهيد عليكم. وإني، والله! لأنظر إلى حوضي الآن. وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض. وإني. والله! ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي. ولكن أخاف عليكم أن تتنافسوا فيها". 5213 - عن عقبة بن عامر قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد. ثم صعد المنبر كالمودع للأحياء والأموات. فقال: "إني فرطكم على الحوض. وإن عرضه كما بين

أيلة إلى الجحفة. إني لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي. ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها، وتقتتلوا، فتهلكوا، كما هلك من كان قبلكم" قال عقبة: فكانت آخر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر. 5214 - عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنا فرطكم على الحوض. ولأنازعن أقواما ثم لأغلبن عليهم، فأقول: يا رب! أصحابي، أصحابي. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك". عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. نحو حديث الأعمش ومغيرة. 5215 - عن حارثة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حوضه ما بين صنعاء والمدينة" فقال له المستورد: ألم تسمعه قال "الأواني"؟ قال: لا. فقال المستورد "ترى فيه الآنية مثل الكواكب". 5216 - وفي رواية عن حارثة بن وهب الخزاعي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: وذكر الحوض. بمثله. ولم يذكر قول المستورد وقوله. 5217 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أمامكم حوضا ما بين ناحيتيه كما بين جربا وأذرح". 5218 - عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أمامكم حوضا كما بين جرباء وأذرح" وفي رواية ابن المثنى "حوضي" وحدثنا ابن نمير.

5219 - وفي رواية عن عبيد الله، بهذا الإسناد، مثله. وزاد: قال عبيد الله: فسألته فقال: قريتين بالشأم. بينهما مسيرة ثلاث ليال. وفي حديث ابن بشر: ثلاثة أيام. 5220 - عن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أمامكم حوضا كما بين جرباء وأذرح. فيه أباريق كنجوم السماء. من ورده فشرب منه، لم يظمأ بعدها أبدا". 5221 - عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، ما آنية الحوض؟ قال: "والذي نفس محمد بيده! لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء وكواكبها ألا في الليلة المظلمة المصحية. آنية الجنة، من شرب منها لم يظمأ آخر ما عليه. يشخب فيه ميزابان من الجنة. من شرب منه لم يظمأ. عرضه مثل طوله. ما بين عمان إلى أيلة. ماؤه أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل". 5222 - عن ثوبان رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني لبعقر حوضي، أذود الناس لأهل اليمن، أضرب بعصاي حتى يرفض عليهم" فسئل عن عرضه فقال: "من مقامي إلى عمان" وسئل عن شرابه فقال: "أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل. يغت فيه ميزابان يمدانه من الجنة. أحدهما من ذهب، والآخر من ورق" وحدثنيه زهير بن حرب. حدثنا الحسن بن موسى. حدثنا شيبان عن قتادة. بإسناد هشام. بمثل حديثه. غير أنه قال: "أنا يوم القيامة، عند عقر الحوض". 5223 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لأذودن عن حوضي رجالا كما تذاد الغريبة من الإبل".

5224 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قدر حوضي كما بين أيلة وصنعاء من اليمن. وإن فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء". 5225 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليردن علي الحوض رجال ممن صاحبني. حتى إذا رأيتهم ورفعوا إلي، اختلجوا دوني. فلأقولن: أي رب! أصيحابي، أصيحابي. فليقالن لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك". 5226 - وفي رواية عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: بهذا المعنى. وزاد "آنيته عدد النجوم". 5227 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما بين ناحيتي حوضي كما بين صنعاء والمدينة". 5228 - عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. بمثله. غير أنهما شكا فقالا: أو مثل ما بين المدينة وعمان. وفي حديث أبي عوانة "ما بين لابتي حوضي". 5229 - عن قتادة قال: قال أنس: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "ترى فيه أباريق الذهب والفضة كعدد نجوم السماء". 5230 - وفي رواية عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال مثله، وزاد "أو أكثر من عدد نجوم السماء". 5231 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إني فرط لكم على الحوض. وإن بعد ما بين طرفيه كما بين صنعاء وأيلة. كأن الأباريق فيه النجوم".

5232 - عن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: كتبت إلى جابر بن سمرة مع غلامي نافع: أخبرني بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال فكتب إلي: إني سمعته يقول "أنا الفرط على الحوض". -[المعنى العام]- إن أفضل ما يقدم إلى العطشان الظمآن جرعة ماء، فإذا كان الظمأ شديدا لم يسبق له مثيل، وإذا كانت الشربة بما هو أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، وأطيب رائحة من المسك، في أباريق من ذهب وفضة، صافية لامعة كالنجوم في الليل، وإذا كان الساقي هو أحب حبيب كان في الدنيا، وإذا كان الشراب يروي ريا، لا يظمأ شاربه بعده أبدا، إذا كان الأمر كذلك كانت المنة أعظم منه، والفضل خير الفضل، والإحسان أفضل إحسان. في الموقف العظيم يوم القيامة يشتد الحر، وتدنو الشمس من الرءوس، فيعرق الناس، فمنهم من يبلغ عرقه عقبه، ومنهم من يبلغ عرقه نصف ساقه، ومنهم من يبلغ ركبته، ومنهم من يبلغ فخذه، ومنهم من يبلغ خاصرته، ومنهم من يبلغ منكبه، ومنهم من يبلغ فاه، ومنهم من يغطيه عرقه، حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعا، تعطي الشمس يوم القيامة حر عشر سنين، ثم تدنو من جماجم البشر، حتى تكون قاب قوسين، فيعرقون، حتى يرشح العرق في الأرض قامة، ومن هذا الظمأ الشديد يتفرق الناس إلى الصراط، فيجد المؤمنون في طريقهم حوضا من شراب، مربع المساحة، طوله كعرضه، ضلعه مئات الأميال، يتسع لكل الواردين عليه، دون زحام، عليه أباريق وكيزان، كعدد النجوم في السماء الصافية التي لا غيم فيها ولا قمر، إذا مد المؤمن يده إلى الإبريق، أسرع الإبريق مملوءا إلى يده ثم إلى فمه، لا عناء، ولا مشقة، إذا نظر إلى مائه وجده أشد بياضا من اللبن، وإذا وصلت رائحة الشراب إلى أنفه أحس أنه أطيب من المسك، وإذا تذوقه وجده أحلى من العسل، وأبرد من الثلج، متعة لم تخطر على قلب بشر، بعد حرمان وحاجة إليها لم تخطر على قلب بشر، ولمن هذا الحوض؟ ومن أين شرابه، إنه لمحمد صلى الله عليه وسلم، أكرمه ربه به، ليكرم به أمته، إن صاحبه الرءوف الرحيم واقف، يرحب بالواردين، وملائكة الله تحيط بهم في بهجة وسرور، تقول لهم: اشربوا هنيئا بما كنتم تعملون، محمد صلى الله عليه وسلم يقف بجوار الحوض، وعلى قمته، وفي يده عصا صغيرة، أعظم من عصا موسى، بإشارتها يبتعد عن الحوض من لا يستحق الشرب، ويقرب من الحوض من هو أهل له، وبإشارتها يقدم إلى الحوض أناس على أناس، على أساس صالح أعمالهم وجهادهم في الدنيا، ينظمهم وينظم ورودهم بإشارة عصاه، وهو فرح بهم، مسرور بكثرتهم، لكن في غمرة هذا السرور يفاجأ بمنظر رهيب، جماعة ممن كانوا أصحابه، يعرفهم ويعرفونه، يردون نحو الحوض، ينادون: أنقذنا يا محمد. عطاشى يا محمد. ويتجه الرسول صلى الله عليه وسلم نحوهم ليساعدهم، فتحول الملائكة بينه وبينهم، فيقول للملائكة: هؤلاء

أصحابي. هؤلاء أصحابي. هم مني ومن أمتي، إنني أعرفهم ويعرفونني؟ إلى أين تذهبون بهم، فتقول الملائكة: إلى النار، فيقول: ولماذا؟ فيقولون: إنك لا تدري ماذا أحدثوا في دينهم بعد موتك، إنهم بدلوا، وغيروا، وكفروا، وارتدوا، فيقول: سبحانك {وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد} [المائدة: 117]. ونرجع إلى المنظر البديع، منظر الحوض والشاربين، إن ماءه لا يغيض، ولا يفيض، لا يرتفع ولا يزيد ولا ينخفض عن مستواه، ولا ينقص رغم شرب الملايين وملايين الملايين، إن مدده من نهر الكوثر الذي يجري في الجنة، يصب فيه، فإذا رفعت بصرك إلى أعلى رأيت عجبا، ميزابين في الفضاء، أحدهما من ذهب، والآخر من فضة، يمسكهما الله، ما يمسكهما من أحد من بعده، إنهما يمتدان في السماء إلى الجنة، فيلقيان من شرابها في هذا الحوض قطعا قطعا، لا تسأل: كيف؟ ولا تعجب، فإنها أحوال الآخرة، فإنها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، سقانا الله من حوضه صلى الله عليه وسلم، شربة لا نظمأ بعدها أبدا. -[المباحث العربية]- (أنا فرطكم على الحوض) الفرط بفتح الفاء والراء، والفارط هو الذي يتقدم الوارد، ليصلح له الحياض، والدلاء، ونحوها من أمور الاستسقاء، فمعنى: "أنا فرطكم على الحوض"، أي سابقكم لأهيئ وأعد لكم حوضي للشرب منه. و"الحوض" "ال" فيه للعهد، أي حوض النبي صلى الله عليه وسلم، وجمع الحوض حياض وأحواض، وهو مجمع الماء، وهل للنبي صلى الله عليه وسلم حوض واحد؟ أو أكثر؟ وهل للأنبياء أحواض؟ وأين مكان الحوض من أحداث يوم القيامة قبل الصراط؟ أو بعده؟ سيأتي تفصيل ذلك في فقه الحديث. وقد تكلمت الروايات عن مساحته، وعن مائه، وعن أكوابه، وعمن يرده، وعمن يحال بينهم وبينه، فعن مساحته: تقول الرواية الثالثة "حوضي مسيرة شهر، وزواياه سواء" وتقول الرواية الثامنة "إن عرضه كما بين أيلة إلى الجحفة" و"أيلة" بفتح الهمزة وسكون الياء. مدينة، كانت عامرة، بطرف بحر القلزم، من طرف الشام، قال الحافظ ابن حجر: وهي الآن خراب، يمر بها الحاج من مصر، فتكون شماليهم، ويمر بها الحاج من غزة وغيرها، فتكون أمامهم، وإليها تنسب العقبة المشهورة عند المصريين، وبينها وبين المدينة النبوية نحو الشهر، بسير الأثقال، إن اقتصروا كل يوم على مرحلة. وهي من مصر على أكثر من النصف من ذلك، وهي دون الثلث بين مصر ومكة، وهي أقرب لمصر. وقد مر قريبا أن صاحب أيلة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصالحه، وقال النووي: بينها وبين المدينة نحو خمس عشرة مرحلة، وبينها وبين دمشق نحو اثنتي عشرة مرحلة، وبينها وبين مصر نحو ثمان مراحل، فهي متوسطة بين المدينة، ودمشق ومصر. أما الجحفة فهي على نحو سبع مراحل من المدينة، في الطريق إلى مكة، أو ثلاث مراحل من مكة، والمسافة بالمراحل لم تكن محددة، لأن المقصود بها كان المسافة التي تتعب عندها الإبل في

مسيرها، فينزل الركب ليستريح ويريح الرواحل، فبعضهم يقدرها بأربعة برد، وبعضهم يقدرها ببريدين، وحتى البريد بعضهم يقدره بفرسخين، وبعضهم يقدره بأربعة فراسخ، وحتى الفرسخ بعضهم يقدره بثلاثة أميال، وبعضهم يقدره بستة أميال، فما بين أيلة والجحفة يزيد على ثنتين وعشرين مرحلة، ولو قدرنا المرحلة بأربعة برد، والبريد بأربعة فراسخ، والفرسخ بثلاثة أميال، تصبح المسافة بين أيلة والجحفة ستة وخمسين ميلا وألف ميل، وإذا كان هذا عرض حوضه صلى الله عليه وسلم، وزواياه سواء، أي مربع الشكل كانت مساحته نحو مليون ومائة وخمسة عشر ألف ومائة وستة وثلاثين ميلا. وفي الرواية الحادية عشرة "إن أمامكم حوضا، ما بين ناحيتيه، كما بين جربا وأذرح" وجرباء بفتح الجيم وسكون الراء، تأنيث أجرب، جاءت في البخاري ممدودة، وقال النووي: الصواب أنها مقصورة، قال: والمد خطأ، وأثبت صاحب التحرير المد، وجوز القصر، وأما "أذرح" فبهمزة مفتوحة، ثم ذال ساكنة، ثم راء مضمومة، بعدها حاء، قال النووي: هذا هو الصواب المشهور، ورواه بعضهم بالجيم، وهو تصحيف، وهي مدينة في طرف الشام، في قبلة الشوبك، بينها وبينه نحو نصف يوم، وهي في طرف الشراط - بفتح الشين - في طرفها الشمالي، و"تبوك" في قبلة "أذرح" بينهما نحو أربع مراحل، وبين "تبوك" ومدينة النبي صلى الله عليه وسلم نحو أربع عشرة مرحلة. يقول الراوي عن هاتين المدينتين (جربا وأذرح) "قريتين بالشام، بينهما مسيرة ثلاث ليال" وقد غلطه الحافظ صلاح الدين العلائي، وقال: ليس كما قال، بينهما غلوة سهم، وهما معروفتان بين القدس والكرك، قال: وقد ثبت القدر المحذوف عند الدارقطني وغيره، بلفظ "ما بين المدينة، وجرباء وأذرح"، اهـ. فالمسافة نحو أربع عشرة مرحلة. وفي الرواية الثالثة عشرة "عرضه مثل طوله، ما بين عمان إلى أيلة" قال النووي: وأما عمان فبفتح العين وتشديد الميم، وهي بلدة بالبلقاء من الشام، والمعروف في روايات الحديث وغيرها ترك صرفها. وتنسب إلى البلقاء لقربها منها، والبلقاء بلدة معروفة في فلسطين، والظاهر أن فيه مقدرا محذوفا، كسابقه أي ما بينهما وبين المدينة، ففي الرواية المتممة للعشرين "مثل ما بين المدينة وعمان"، وفي الرواية السادسة عشرة "قدر حوضي كما بين أيلة وصنعاء من اليمن" وكذا في الرواية الثانية والعشرين، وقوله "من اليمن" احتراز من صنعاء التي بالشام، وفي رواية "مثل عدن وأيلة" وفي أخرى "أبعد من أيلة إلى عدن" وفي رواية "ما بين عمان إلى أيلة" و"عمان" هذه بضم العين وفتح الميم مخففة، بلد معروف على ساحل البحر من جهة البحرين، وفي رواية كما بين صنعاء إلى المدينة وفي رواية ما بين بصرى إلى صنعاء أو ما بين أيلة إلى مكة وبصرة بضم الباء وسكون الصاد بلد معروف بطرف الشام من جهة الحجاز وفي رواية ما بين "مكة وعمان" وفي رواية "ما بين صنعاء ومكة" وفي رواية "كما بين البيضاء إلى بصرى" والبيضاء بالقرب من الربذة، البلد المعروف بين مكة والمدينة. قال الحافظ ابن حجر: وهذه المسافات متقاربة، وكلها ترجع إلى نحو نصف شهر، أو تزيد قليلا

أو تنقص، وقد جمع العلماء بين هذا الاختلاف، فقال عياض: هذا من اختلاف التقدير، لأن ذلك لم يقع في حديث واحد، حتى يعد اضطرابا من الرواة، وإنما جاء في أحاديث مختلفة، عن غير واحد من الصحابة، سمعوه في مواطن مختلفة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يضرب في كل منها مثلا لبعد أقطار الحوض وسعته، بما يسنح له من العبارة، ويقرب ذلك، للعلم ببعد بين البلاد النائية، بعضها عن بعض، لا على إرادة المسافة المحققة. قال: فبهذا يجمع بين الألفاظ المختلفة من جهة المعنى، وتعقبه الحافظ ابن حجر، من جهة أن ضرب المثل والتقدير إنما يكون فيما يتقارب، وأما هذا الاختلاف المتباعد، الذي يزيد تارة على ثلاثين يوما، وينقص إلى ثلاثة أيام، فلا. وقال القرطبي: ظن بعض الجاهلين أن الاختلاف في قدر الحوض اضطراب، وليس كذلك، ثم نقل كلام القاضي عياض، وزاد: وليس اختلافا، بل كلها تفيد أنه كبير، متسع، متباعد الجوانب، ثم قال: ولعل ذكره للجهات المختلفة بحسب من حضره، ممن يعرف تلك الجهة، فيخاطب كل قوم بالجهة التي يعرفونها. وأجاب النووي بأنه ليس في ذكر المسافة القليلة ما يدفع المسافة الكبيرة، والأكثر ثباتا بالحديث الصحيح، فلا معارضة، قال الحافظ ابن حجر: وحاصله أنه يشير إلى أنه أخبر أولا بالمسافة اليسيرة، ثم أعلم بالمسافة الطويلة، فأخبر بها، كأن الله تفضل عليه باتساعه، شيئا بعد شيء، فيكون الاعتماد على ما يدل على أطولها مسافة، والله أعلم. وعن مائه وأكوابه تقول الرواية الثالثة "ماؤه أبيض من الورق، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء" قال النووي: هكذا هو في جميع النسخ "الورق" بكسر الراء، وهو الفضة، قال: والنحويون يقولون: إن فعل التعجب الذي يقال فيه: هو أفعل من كذا (يقصد أفعل التفضيل فهو هنا أفعل تفضيل، وليس أفعل تعجب، وإن كان هذا الشرط واحدا فيهما) إنما يكون فيما كان ماضيه على ثلاثة أحرف، فإن زاد لم يتعجب من فاعله - أي ولم يصغ منه أفعل التفضيل إلا بواسطة - وإنما يتعجب من مصدره، فلا يقال: ما أبيض زيدا، ولا زيد أبيض من عمر، وإنما يقال: ما أشد بياضه، وهو أشد بياضا من كذا، وقد جاء في الشعر أشياء من هذا الذي أنكروه، فعدوه شاذا، لا يقاس عليه، وهذا الحديث يدل على صحته، وهي لغة، وإن كانت قليلة الاستعمال، ومنها قول عمر: ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع. وفي الرواية الثانية عشرة "فيه أباريق كنجوم السماء" وفي الرواية الثالثة عشرة "لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء وكواكبها، ألا في الليلة المظلمة المصحية، ماؤه أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل" وفي الرواية الرابعة عشرة "وسئل عن شرابه فقال: أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، يغت فيه ميزابان، يمدانه من الجنة، أحدهما من ذهب، والآخر من الورق" وفي الرواية السادسة عشرة "وإن فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء" وفي الرواية الواحدة والعشرين "ترى فيه أباريق الذهب والفضة كعدد نجوم السماء" زاد في ملحق الرواية "أو أكثر من عدد نجوم السماء" وفي الرواية الثانية والعشرين "كأن الأباريق فيه النجوم".

فتحصل لنا من أوصاف أوانيه: من حيث العدد: هي أكثر من عدد نجوم السماء، زاد في الرواية الثالثة عشرة "ألا في الليلة المظلمة المصحية" و"ألا" للتنبيه والتأكيد، ورؤية النجوم في الليلة المظلمة التي لا قمر فيها أكثر وضوحا ولمعانا، وأكثر عددا. قال النووي: المختار والصواب أن هذا العدد للآنية على ظاهره، وأنها أكثر عددا من نجوم السماء، ولا مانع عقلي ولا شرعي يمنع من ذلك، بل ورد الشرع به مؤكدا، كما قال صلى الله عليه وسلم "والذي نفس محمد بيده لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء" كذا في الرواية الثالثة عشرة - وقال القاضي عياض: هذا إشارة إلى كثرة العدد، وغايته الكثرة، من باب قوله صلى الله عليه وسلم "لا يضع العصا عن عاتقه" - كناية عن كثرة السفر - وهو من باب المبالغة، معروف في الشرع واللغة، ولا يعد كذبا إذا كان المخبر عنه في حيز الكثرة والعظم ومبلغ الغاية في بابه، بخلاف ما إذا لم يكن كذلك، قال: ومثله "كلمته ألف مرة" و"لقيته مائة كرة" فهذا جائز إذا كان كثيرا، وإلا فلا، قال النووي: هذا كلام القاضي، الصواب الأول. من حيث الجنس: الذهب والفضة. من حيث النوع والشكل: آنية. إبريق. كوز، وكلها إناء له عروة، وكأن اختياره هنا لأن الشارب سيغمسه في الحوض بيده، فناسبه ما له عروة، بخلاف الشراب في الجنة، فإنه في كأس أو كوب، يملأ من غيب إلى عبد. من حيث اللون: أشد بياضا من اللبن، وأبيض من الفضة اللامعة. من حيث الطعم: أحلى من العسل. من حيث الرائحة: أطيب من المسك. من حيث البرودة: عند أحمد "أبرد من الثلج" وعند البزار، والترمذي "وماؤه أشد بردا من الثلج". من حيث الليونة: عند ابن أبي عاصم وابن أبي الدنيا "وألين من الزبد". من حيث مصدر مائه: في روايتنا الرابعة عشرة "يغت فيه ميزابان، يمدانه من الجنة، أحدهما ذهب، والآخر من الورق" ومعنى "يغت" بفتح الياء وضم الغين وكسرها، وتشديد التاء، أي يدفقان فيه من أعلى، وقيل: يصبان فيه دائما صبا شديدا، ووقع في بعض النسخ "يعب" بضم العين، بعدها باء والعب الشرب بسرعة في نفس واحد، ووقع في رواية "يثعب" بثاء وعين وباء، أي ينفجر. و"ميزابان" تثنية ميزاب، وأصله "مئزاب" بهمز، فخففت إلى ياء، وهو أنبوب أو قناة يصرف بها الماء من سطح بناء إلى وضع عال، وفي الرواية الثالثة عشرة "آخر ما عليه، يشخب فيه ميزابان من الجنة" يشخب بضم الخاء وفتحها، والشخب السيلان وأصله ما خرج من تحت يد الحالب عند كل غمرة، وعصرة لضرع الشاة. وقال الحافظ ابن حجر: الكوثر نهر داخل الجنة، ماؤه يصب في الحوض، ويطلق على الحوض كوثر، لأنه يمد منه، فهو مادة الحوض، كما جاء صريحا في حديث البخاري "بينما أن أسير في

الجنة، إذا أنا بنهر، حافتاه قباب الدر المجوف، قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر، الذي أعطاك ربك، فإذا طيبه - أو طينه - مسك أزفر". وأما عمن يرده، ويشرب منه، ومن يحال بينهم وبينه: فتقول الرواية الثانية "من شرب لم يظمأ أبدا، وليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم، فأقول: إنهم مني؟ فيقال: إنك لا تدري ما عملوا بعدك، فأقول: سحقا. سحقا لمن بدل بعدي" وتقول الرواية الرابعة "إني على الحوض، حتى أنظر من يرد علي منكم، وسيؤخذ أناس دوني، فأقول: يا رب. مني ومن أمتي؟ فيقال: أما شعرت ما عملوا بعدك؟ والله ما برحوا بعدك يرجعون على أعقابهم" وفي الرواية الخامسة "إني على الحوض أنتظر من يرد علي منكم، فوالله، ليتقطعن دوني رجال فلأقولن: أي رب مني ومن أمتي؟ فيقول: إنك لا تدري ما عملوا بعدك، مازالوا يرجعون على أعقابهم" وفي الرواية السادسة "إني لكم فرط على الحوض، فإياي، لا يأتين أحدكم فيذب عني، كما يذب البعير الضال، فأقول: فيم هذا؟ فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول سحقا" وفي الرواية التاسعة "أنا فرطكم على الحوض، ولأنازعن أقواما، ثم لأغلبن عليهم، فأقول: يا رب. أصحابي؟ أصحابي؟ فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك" وفي الرواية الرابعة عشرة "إني لبعقر حوضي" أي لواقف في قاعدته "أذود الناس لأهل اليمين" أي أدفع الناس، لأوسع لأهل اليمين أن يشربوا "أضرب بعصاي حتى يرفض عليهم" بفتح الياء وسكون الراء وفتح الفاء وتشديد الدال، أي حتى يتفرقوا عنهم، ويخلص لهم، وفي الرواية الخامسة عشرة "لأذودن عن حوضي رجالا، كما تذاد الغريبة من الإبل" وفي الرواية السابعة عشرة "ليردن علي الحوض رجال، ممن صاحبني، حتى إذا رأيتهم، ورفعوا إلي، اختلجوا دوني" بضم التاء وكسر اللام وضم الجيم، أي جذبوا وانتزعوا بعيدا عني "فلأقولن: أي رب. أصيحابي؟ أصيحابي؟ ، فليقالن لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك" وفي رواية للبخاري "إني فرطكم على الحوض، من مر علي شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدا، ليردن علي أقوام، أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم" وفي رواية له "يرد علي يوم القيامة رهط من أصحابي، فيجلون عن الحوض" بضم الياء وسكون الجيم وفتح اللام، أي يطردون ويبعدون وفي رواية "فيحلئون عنه" بضم الياء وفتح الحاء، وتشديد اللام المفتوحة، بعدها همزة مضمومة، أي يطردون "فأقول: يا رب أصحابي؟ فيقول: إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى" وفي رواية له "بينا أنا قائم، فإذا زمرة، حتى إذا عرفتهم، خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلم. فقلت: أين؟ قال: إلى النار. والله. قلت: وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، ثم إذا زمرة، حتى إذا عرفتهم، خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلم، قلت: أين؟ قال: إلى النار، والله، قلت: ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل الغنم" أي لا يخلص من هؤلاء الذين وفدوا من الحوض، وكادوا يردونه فصدوا عنه، والهمل بفتحتين الإبل بلا راع أو الضالة، أي لا يرد منها إلا القليل، لأن الهمل في الإبل قليل بالنسبة لغيره. من هذه الروايات يتبين: - أن من شرب من الحوض لا يظمأ أبدا. قال القاضي: ظاهره أن الشرب منه يكون بعد الحساب والنجاة من النار، فهذا هو الذي لا يظمأ بعده، قال: وقيل: لا يشرب منه إلا من قدر له السلامة من

النار، قال: ويحتمل أن من شرب منه من هذه الأمة، وقدر عليه دخول النار، لا يعذب فيها بالظمأ، بل يكون عذابه بغير ذلك، لأن ظاهر هذا الحديث أن جميع الأمة يشرب منه، إلا من ارتد، وصار كافرا، وسيأتي مزيد لهذه المسألة في فقه الحديث. (من ورد شرب) أي من ورد حوضي، وفي الكلام قيد ملاحظ، أي من ورد الحوض ومكن من الشرب، ففي الأحاديث السابقة أن قوما يردون، فيذادون، فلا يشربون، ففي الرواية السابعة عشرة "ليردن علي الحوض رجال" وفي روايتنا الثانية عشرة "من ورد فشرب منه لم يظمأ بعدها أبدا" أو المراد من الورود الورود المفضي إلى الشرب الموصل إليه فعلا، والمراد من الورود مع الذود، والطرد، القرب والدنو منه. (ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني) بعلامات، وليست المعاصرة والرؤية الدنيوية شرطا للمعرفة، ففي الرواية الرابعة والخامسة "مني ومن أمتي" لكن في الرواية السابعة عشرة "ليردن علي الحوض رجال ممن صاحبني" وفي الرواية التاسعة "فأقول: يا رب، أصحابي، أصحابي؟ فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك" فالظاهر أن المراد المعرفة بالرؤية والصحبة الشرعية، ويكونون ممن قتلوا في حروب الردة مثلا. (ثم يحال بيني وبينهم) بينت رواية البخاري السابقة أحداث هذه الحيلولة، وإلى أين يذهبون، وفي الرواية التاسعة "ولأنازعن أقواما، ثم لأغلبن عليهم". (إنك لا تدري ما عملوا بعدك) في الرواية الرابعة "أما شعرت ما عملوا بعدك؟ والله ما برحوا بعدك يرجعون على أعقابهم" كناية عن الردة والرجوع عن الإسلام، وفي الرواية السادسة والتاسعة "إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك". (فأقول: سحقا. سحقا. لمن بدل بعدي) "سحقا" بسكون الحاء، ويجوز ضمها، ومعناه بعدا، بعدا، ونصب بتقدير فعل، أي ألزمهم الله سحقا، يقال: سحقه الله وأسحقه، أي أبعده، وسحقته الريح، أي طردته، وأبعدته، والجملة خبرية. (فقالت لماشطتها: كفي رأسي) بضم الكاف وتشديد الفاء، أي اجمعي شعري وضميه بعضه إلى بعض، لأغطيه، وأخرج. (صلى على أهل أحد صلاته على الميت) قال النووي: أي دعا لهم بدعاء صلاة الميت. (وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض) قال النووي: هكذا هو في جميع النسخ "مفاتيح" في اللفظين، بالياء، قال القاضي: وروي "مفاتح" بحذف الياء، فمن أثبتها فهو جمع مفتاح، ومن حذفها فهو جمع مفتح، وهما لغتان فيه. وفي الرواية الثامنة "ثم صعد المنبر، كالمودع للأحياء والأموات" أي خرج إلى قتلى أحد، ودعا لهم، دعاء مودع، ثم دخل المدينة، فصعد المنبر، فكانت خطبته هذه آخر ما خطب، خطبة مودع، حتى قال النواس بن سمعان: قلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع. وتوديع الأحياء ظاهر، لأن سياقه يشعر بأن ذلك كان في آخر حياته صلى الله عليه وسلم، وأما

توديع الأموات، فيحتمل أن يكون الصحابي أراد بذلك انقطاع زيارته الأموات بجسده، لأنه بعد موته - وإن كان حيا - فهي حياة أخروية، لا تشبه الحياة الدنيا، ويحتمل أن يكون المراد بتوديع الأموات، استغفاره لهم. (فكانت آخر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر) أي فكانت هذه الخطبة آخر خطبه صلى الله عليه وسلم على المنبر، واكتفى بنفي الرؤية ليكون صادقا، إذ يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم لم يره. (فقال له المستورد: ألم تسمعه قال: الأواني؟ قال: لا) أي قال المستورد لشيخه: ألم تسمع شيخك يذكر في الحديث وصف أواني الحوض؟ قال الشيخ: لا. لم أسمع. (فقال المستورد: ترى فيه الآنية مثل الكواكب) "ترى" بضم التاء، مبني للمجهول، بمعنى "تظن" و"الآنية" نائب فاعل، وهي للجنس، فما صدقها متعدد، و"مثل" مفعول منصوب، والمعنى تظن الأواني في الحوض مثل الكواكب، يخيل لرائيها أنها كواكب في الكثرة والصفاء واللمعان. (إن أمامكم حوضا) بفتح الهمزة، أي قدامكم زمنا، وفي رواية "حوضي". (والذي نفسي بيده، لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء وكواكبها، ألا في الليلة المظلمة المصحية، آنية الجنة، من شرب منها لم يظمأ آخر ما عليه) أي آخر حياته، أي أبدا، قال النووي: وأما قوله صلى الله عليه وسلم "آنية الجنة" فضبطه بعضهم برفع "آنية" وبعضهم بنصبها، وهما صحيحان فمن رفع فخبر مبتدأ محذوف، أي هي آنية الجنة، ومن نصب فبإضمار "أعني" أو نحوه. (إني لبعقر حوضي) العقر بضم العين وفتحها، مع سكون القاف، وهو أصل كل شيء، وعقر الدار وسطها. (أذود الناس لأهل اليمن) أي أدفعهم بعيدا، لأخلي الحوض أو أوسع لشرب أهل اليمن، لسبقهم إلى الإسلام، وتمسكهم به، وإخلاصهم له، ورقة قلوبهم فيه. (أضرب بعصاي، حتى يرفض عليهم) أي حتى يسيل عليهم، ويتمكنوا منه، قال القاضي: وعصاه المذكورة في هذا الحديث هي المكنى عنها بالهراوة في وصفه صلى الله عليه وسلم في كتب الأوائل بصاحب الهراوة، قال أهل اللغة: الهراوة بكسر الهاء العصا، قال: ولم يأت لمعناها في صنعه صلى الله عليه وسلم تفسير إلا ما يظهر في هذا الحديث، قال النووي: وهذا الذي قال في تفسير الهراوة بهذه العصا بعيد أو باطل، لأن المراد بوصفه بالهراوة تعريفه بصفته، يراها الناس معه، فيستدلون بها على صدقه، وأنه المبشر به، المذكور في الكتب السابقة، فلا يصح تفسيرها بعصا تكون في الآخرة، والصواب في تفسير صاحب الهراوة ما قاله الأئمة المحققون أنه صلى الله عليه وسلم كان يمسك القضيب بيده كثيرا، وقيل: لأنه كان يمشي والعصا بين يديه، وتغرز له، فيصلي إليها، وهذا مشهور في الصحيح.

(لأذودن عن حوضي رجالا، كما تذاد الغريبة من الإبل) قال النووي: معناه كما يذود الساقي الناقة الغريبة عن إبله، إذا أرادت الشرب مع إبله. اهـ. والحكمة في الذود المذكور، أنه صلى الله عليه وسلم يريد أن يرشد كل أحد إلى حوض نبيه، على ما تقدم أن لكل نبي حوضا، وبأنهم يتباهون بكثرة من يتبعهم، فيكون ذلك من جملة إنصافه، ورعاية إخوانه من النبيين، لا أنه يطردهم بخلا عليهم بالماء، ويحتمل أنه يطرد من لا يستحق الشرب من الحوض. كذا قال الحافظ ابن حجر، وفيه نظر، فليس في الحديث إشارة إلى الدلالة على حوض آخر، وكل ما فيه الإبعاد عن حوضه، والاحتمال الثاني صحيح، ولا شيء فيه، والظاهر أن هؤلاء الرجال من أمم أخرى غير الإسلام، لتشبيههم بالإبل الغريبة. (حتى إذا رأيتهم، ورفعوا إلي اختلجوا دوني) "ورفعوا إلي" بالبناء للمجهول، أي أظهرهم الله حتى أعرفهم اقتطعوا وانتزعوا بعيدا عني. (ما بين لابتي حوضي) أي ما بين ناحيتي حوضي، كما جاء في الرواية الثامنة عشرة، وأصلها الأرض ذات الحجارة السود، فأطلقت على مطلق شاطئ الحوض. -[فقه الحديث]- قال النووي: قال القاضي عياض رحمه الله: أحاديث الحوض صحيحة، والإيمان به فرض، والتصديق به من الإيمان، وهو على ظاهره عند أهل السنة والجماعة، لا يتأول، ولا يختلف فيه، قال القاضي: وحديثه متواتر النقل، رواه خلائق من الصحابة، فذكره مسلم من رواية ابن عمرو بن العاص وعائشة وأم سلمة، وعقبة بن عامر وابن مسعود وحذيفة وحارثة بن وهب، والمستورد وأبي ذر، وثوبان وأنس وجابر بن سمرة، ورواه غير مسلم من رواية أبي بكر الصديق وزيد بن أرقم وأبي أمامة وعبد الله بن زيد، وأبي برزة وسويد بن جبلة، وعبد الله بن الصنابحي والبراء بن عازب وأسماء بنت أبي بكر وخولة بنت قيس وغيرهم، قال النووي: ورواه البخاري ومسلم أيضا من رواية أبي هريرة، ورواه غيرهما من رواية عمر بن الخطاب وعائذ بن عمر وآخرين، وقد جمع ذلك كله الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه البعث والنشور، بأسانيده وطرقه المتكاثرات، قال القاضي: وفي بعض هذا ما يقتضي كون الحديث متواترا، اهـ وزاد الحافظ ابن حجر طرقا أخرى، ثم قال: فجميع من ذكرهم عياض خمسة وعشرون نفسا، وزاد عليه النووي ثلاثة، وزدت عليهم أجمعين قدر ما ذكروه، فزادت العدة على الخمسين، ولكثير من هؤلاء الصحابة زيادة على الحديث الواحد، كأبي هريرة وأنس وابن عباس وأبي سعيد وعبد الله بن عمرو، وأحاديثهم بعضها في مطلق ذكر الحوض، وفي صفته قال: وبلغني أن بعض المتأخرين وصلها إلى رواية ثمانين صحابيا. وقال القرطبي في المفهم: مما يجب على كل مكلف أن يعلمه، ويصدق به أن الله تعالى قد خص نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالحوض المصرح باسمه وصفته وشرابه في الأحاديث الصحيحة الشهيرة التي يحصل بمجموعها العلم القطعي، وقد أجمع على إثباته السلف وأهل السنة من الخلف، وأنكرت ذلك طائفة من المبتدعة، وأحلوه عن ظاهره، وغالوا في تأويله من غير استحالة عقلية ولا عادية، تلزم من

حمله على ظاهره وحقيقته، ولا حاجة تدعو إلى تأويله، فخرق من حرفه إجماع السلف، وفارق مذهب أئمة الخلف، قال الحافظ ابن حجر: أنكره الخوارج وبعض المعتزلة. وقد اختلف العلماء في موقع الحوض والشرب منه من أحداث الآخرة، فبعضهم يرى أنه بعد الصراط، وبعضهم يرى أنه قبل الصراط، وبعضهم يرى أن للنبي صلى الله عليه وسلم حوضين أحدهما قبل الصراط والآخر بعد الصراط في الجنة. قال الحافظ ابن حجر: وإيراد البخاري لأحاديث الحوض بعد أحاديث الشفاعة، وبعد نصب الصراط إشارة منه إلى أن الورود على الحوض يكون بعد نصب الصراط، والمرور عليه، وقد أخرج أحمد والترمذي عن أنس قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي، فقال: أنا فاعل، فقلت: أين أطلبك؟ قال: اطلبني أول ما تطلبني على الصراط، قلت: فإن لم ألقك؟ قال: أنا عند الميزان، قلت فإن لم ألقك؟ قال: أنا عند الحوض". وقد استشكل كون الحوض بعد الصراط، بما جاء في بعض أحاديث الباب من أن جماعة يدفعون عن الحوض، بعد أن يكادوا يردون، ويذهب بهم إلى النار، ووجه الإشكال أن الذي يمر على الصراط إلى أن يصل إلى الحوض، يكون قد نجا من النار، فكيف يرد إليها؟ قال الحافظ: ويمكن أن يحمل على أنهم يقربون من الحوض، بحيث يرونه ويرون النار، فيدفعون إلى النار، قبل أن يخلصوا من بقية الصراط، اهـ. وهذا احتمال بعيد مستبعد. وذهب القرطبي إلى أن الحوض يكون قبل الصراط، فإن الناس يردون الموقف عطاشى، فيرد المؤمنون الحوض، وتتساقط الكفار في النار، بعد أن يقولوا: ربنا عطشنا؟ فترفع لهم جهنم، كأنها سراب، فيقال: ألا ترون؟ فيظنونها ماء، فيتساقطون فيها، وقد رد عليه الحافظ ابن حجر بأن الصراط جسر جهنم، وأنه بين الموقف والجنة، وأن المؤمنين يمرون عليه، لدخول الجنة، فلو كان الحوض دونه لحالت النار بينه وبين الماء الذي يصب من الكوثر في الحوض، وظاهر الحديث أن الحوض بجانب الجنة، لينصب فيه الماء من النهر الذي داخلها. قال القرطبي: والصحيح أن للنبي صلى الله عليه وسلم حوضين، أحدهما في الموقف، قبل الصراط، والآخر داخل الجنة، وكل منهما يسمى كوثرا. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - من قوله في الرواية السابعة "وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن" قال النووي: هذا تصريح بأن الحوض حوض حقيقي، على ظاهره، وأنه مخلوق موجود الآن. 2 - وفيه جواز الحلف من غير استحلاف، لتفخيم الشيء وتوكيده. 3 - ومن قوله "أعطيت مفاتيح خزائن الأرض" معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن معناه الإخبار بأن أمته تملك خزائن الأرض، وقد وقع ذلك والحمد لله. 4 - ومن قوله "وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي" أن الأمة لا ترتد جملة، وقد عصمها الله تعالى من ذلك.

5 - ومن قوله "ولكن أخاف عليكم أن تتنافسوا فيها" أن الأمة ستتنافس في الدنيا، وقد وقع ذلك أيضا. 6 - وأنها ستتقاتل من أجل الدنيا، ويهلك بعضها بعضها، وقد وقع. 7 - ومن قوله في الرواية السابعة أيضا "وأنا شهيد عليكم" أن الرسول صلى الله عليه وسلم شهيد على أمته. 8 - ومن حديث أم سلمة، روايتنا السادسة، من قولها "إني من الناس" دليل لدخول النساء في خطاب الناس، وهذا متفق عليه، وإنما اختلفوا في دخولهن في خطاب الذكور، قال النووي: ومذهبنا أنهن لا يدخلن فيه. 9 - وفيه إثبات القول بالعموم. 10 - قال الحافظ ابن حجر: وقد اشتهر اختصاص نبينا صلى الله عليه وسلم بالحوض، لكن أخرج الترمذي من حديث سمرة، رفعه "إن لكل نبي حوضا" وقد أشار الترمذي إلى أنه اختلف في وصله وإرساله، وأن المرسل أصح، قال الحافظ ابن حجر: والمرسل أخرجه ابن أبي الدنيا بسند صحيح عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن لكل نبي حوضا، وهو قائم على حوضه، بيده عصا، يدعو من عرف من أمته، إلا أنهم يتباهون أيهم أكثر تبعا، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم تبعا" وعند ابن أبي الدنيا، من حديث أبي سعيد، رفعه "وكل نبي يدعو أمته، ولكل نبي حوض، فمنهم من يأتيه الفئام" - الجماعة الكثيرة فوق الأربعين - "ومنهم من يأتيه العصبة" - من العشرة إلى الأربعين - "ومنهم من يأتيه الواحد، ومنهم من يأتيه الاثنان، ومنهم من لا يأتيه أحد، وإني لأكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة" قال الحافظ ابن حجر: فإن ثبت فالمختص بنبينا صلى الله عليه وسلم الكوثر، الذي يصب من مائه في حوضه، فإنه لم ينقل نظيره لغيره، ووقع الامتنان عليه به في السورة المذكورة. 11 - ومن الرواية الرابعة عشرة كرامة لأهل اليمن، في تقديمهم للشرب منه. 12 - ومن قوله "أصحابي؟ أصحابي؟ " في الرواية التاسعة، وقوله في الرواية الثانية "أعرفهم ويعرفوني" دليل لصحة تأويل من تأول أنهم أهل الردة، ولهذا قال فيهم: "سحقا. سحقا" ولا يقول ذلك في مذنبي الأمة بل يشفع لهم، ويهتم لأمرهم. 13 - ومن حديث أم سلمة، روايتنا السادسة الخطبة عند الأمر الهام. والله أعلم

(609) باب إكرامه صلى الله عليه وسلم بقتال الملائكة معه

(609) باب إكرامه صلى الله عليه وسلم بقتال الملائكة معه 5233 - عن سعد رضي الله عنه قال: رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله، يوم أحد، رجلين عليهما ثياب بياض. ما رأيتهما قبل ولا بعد. يعني جبريل وميكائيل عليهما السلام. 5234 - عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: لقد رأيت يوم أحد، عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن يساره، رجلين عليهما ثياب بيض. يقاتلان عنه كأشد القتال. ما رأيتهما قبل ولا بعد. -[المعنى العام]- يقول الله تعالى {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون * إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين * بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين * وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم * ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين} [آل عمران: 123 - 127] إن كفار قريش في غزوة بدر لم يكونوا يتجاوزون الألف، ولم تكن هزيمتهم في حاجة إلى مثل هذا العدد من الآدميين، فضلا عن الملائكة، ولكنه التكريم، وزف البشرى للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وزيادة اطمئنان لهم بالنصر منذ الضربة الأولى، وليعلم المؤمنون أن النصر من عند الله. لكن تكريما آخر من نوع جديد، ليس له مثيل في تاريخ البشرية، ينهزم جيش المسلمين في أحد، ويولون الأدبار، وقد أعلن أعداء الإسلام أن محمدا قتل، فر بعضهم حتى وصل إلى المدينة، وفر بعضهم في شعاب الجبال، لينجو بنفسه، ويقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس معه، أو حوله سوى سبعة من الأنصار، وسبعة من قريش، أربعة عشر أمام جيش الكفر، كل أمنيتهم أن يقتلوا محمدا، كيف لم يصلوا إليه؟ كيف لم يقتلوه؟ أين رماتهم؟ ونبالهم؟ وسيوفهم؟ ورماحهم؟ لقد روى عبد الرزاق أنهم ضربوا وجه النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ بالسيف سبعين ضربة" كيف طاشت هذه الضربات؟ أو من الذي حماه منها؟ جواب كل ذلك في هذا الحديث. يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لقد رأيت يوم أحد، عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن يساره

رجلين، عليهما ثياب بيض، يقاتلان عنه، كأشد القتال، ما رأيتهما قبل هذا اليوم، وما رأيتهما بعد انتهاء المعركة. إنهما جنديان من جنود الله {وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر} [المدثر: 31] وأي تكريم لمحمد صلى الله عليه وسلم يفوق هذا التكريم؟ وأي حماية تعلو هذه الحماية؟ وصدق الله العظيم إذ يقول {والله يعصمك من الناس} [المائدة: 67] صلى الله وسلم وبارك عليه. -[المباحث العربية]- (رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن شماله يوم أحد رجلين) الكلام على التوزيع، أي عن يمينه رجل، أي ملك في صورة رجل، وعن شماله رجل، أو كانا يتبادلان المواقع، فكل منهما عن يمينه وشماله والظاهر الأول. (ما رأيتهما قبل ولا بعد) كناية عن كونهما غريبين، وجبريل وميكائيل بالنسبة له كذلك. (يقاتلان عنه، كأشد قتال) فرق بين "يقاتلان عنه" أي يدافعان عنه، ويصدان ضربات الكفار الموجهة إليه، ويحميانه ويعصمانه، وبين يقاتلان معه، أي يضربان الكفار، ويحاربونهم معه ومع أصحابه، وقوله "كأشد قتال" صفة لمصدر محذوف، أي قتالا مشبها أشد القتال. -[فقه الحديث]- ترجم النووي - رحمه الله - لهذا الحديث بباب إكرامه صلى الله عليه وسلم بقتال الملائكة معه صلى الله عليه وسلم، ولا يؤخذ هذا من الحديث، إذ لفظه "يقاتلان عنه" وفرق بين اللفظين، كما ذكرنا في المباحث العربية. وقتال الملائكة أو نزول الملائكة في المعارك ثابت بنص القرآن الكريم، إذ يقول {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون * إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين * بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين * وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم * ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين} [آل عمران: 123 - 127] قال الحافظ ابن حجر: اختلف أهل التأويل في متعلق قوله {إذ تقول للمؤمنين} فمنهم من قال: هي متعلقة بقوله {ولقد نصركم الله ببدر} فهي في قصة بدر، وعليه عمل البخاري، وهو في قول الأكثر، وبه جزم الداودي، وقيل: هي متعلق بقوله: {وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال} [آل عمران: 121] فعلى هذا هي متعلقة بغزوة أحد، وهو قول عكرمة وطائفة. اهـ. وعلى كل. هل قاتلت الملائكة؟ أو نزلت للتثبيت والمدد وتكثير العدد؟ فقيل: إنها لم تقاتل أصلا، إذ لو قاتلت ما كانت هناك موازنة بين جيش المسلمين والكفار، ولما حصلت الهزيمة في أحد، ولما

كان للمجاهدين فضل، بل كان يكفي قتال ملك واحد، فجبريل عليه السلام قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه، وقيل: "قاتلت قتالا يحفظ التوازن في الصورة، ليكون الفعل في الظاهر للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقيل: قاتلت في بدر، وكانت مددا في أحد، وقد روى البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما قال: "قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد: هذا جبريل آخذ برأس فرسه، عليه أداة الحرب" قال الحافظ ابن حجر: هذا الحديث وهم من وجهين، أحدهما أن هذا الحديث تقدم بسنده ومتنه في باب شهود الملائكة بدرا، ولهذا لم يذكره هنا أبو ذر ولا غيره من متقني رواة البخاري، ولا استخرجه الإسماعيلي ولا أبو نعيم، ثانيهما أن المعروف في هذا المتن "يوم بدر" لا يوم أحد. قال القرطبي في تفسيره: فإن قيل: قد ثبت عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: "رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، رجلين عليهما ثياب بيض، يقاتلان عنه أشد القتال، ما رأيتهما من قبل ولا بعد" قيل: لعل هذا مختص بالنبي صلى الله عليه وسلم، وخصه بملكين يقاتلان عنه، لا يقاتلان عن الصحابة، اهـ. وقيل: إن في حديث سعد بن أبي وقاص وهما، ففي بعض النسخ "يوم بدر" لا يوم أحد، على أن الغرض من نزول هذين الملكين في "أحد" حماية الرسول صلى الله عليه وسلم من الكفار، كما أوضحنا، والله أعلم. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - فضيلة الثياب البيض. 2 - وأن رؤية الملائكة لا تختص بالأنبياء. 3 - ومنقبة لسعد بن أبي وقاص، الذي رأى الملائكة. 4 - وفيه كرامة للنبي صلى الله عليه وسلم على الله تعالى، وإكرامه إياه بإنزال الملائكة تقاتل عنه. 5 - وبيان أن الملائكة تقاتل. 6 - وأن الملائكة تنزل في صورة الرجال. والله أعلم

(610) باب من شجاعته صلى الله عليه وسلم

(610) باب من شجاعته صلى الله عليه وسلم 5235 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس. وكان أجود الناس. وكان أشجع الناس. ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق ناس قبل الصوت. فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا، وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة عري، في عنقه السيف، وهو يقول: "لم تراعوا، لم تراعوا" قال: "وجدناه بحرا. أو إنه لبحر" قال وكان فرسا يبطأ. 5236 - عن أنس رضي الله عنه قال: كان بالمدينة فزع. فاستعار النبي صلى الله عليه وسلم فرسا لأبي طلحة يقال له مندوب. فركبه فقال "ما رأينا من فزع. وإن وجدناه لبحرا". 5237 - وفي رواية عن شعبة، بهذا الإسناد. وفي حديث ابن جعفر قال: فرسا لنا. ولم يقل: لأبي طلحة. وفي حديث خالد: عن قتادة، سمعت أنسا. -[المعنى العام]- الشجاعة صفة محمودة، ما لم تصل إلى حد التهور، والإقدام بدون حكمة، والجبن صفة مذمومة كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم إني أعوذ بك من الجبن. وللرسول صلى الله عليه وسلم مواقف تشهد له بالشجاعة، بل مواقف شجاعة انفرد بها من بين أصحابه، وهذا الحديث صورة من صور شجاعته صلى الله عليه وسلم، يسمع ويسمع أصحابه أصواتا خارج المدينة، وهم يتوقعون أن يهاجمهم الأعداء في أي لحظة، فيظنون الأصوات هجوما، فيبادر صلى الله عليه وسلم بسيفه نحو مصدر الصوت، ويسبق إليه جميع الصحابة، حتى إنه ليكتشف الأمر ثم يعود، قبل أن يصل إليه السابقون من الصحابة، فيقابلهم، هو في طريق العودة، وهم في طريق الذهاب، برغم أن الفرس الذي ركبه لهذه المهمة كان مستعارا مشهورا بالبطء في سيره، لكن الله أكرمه، فحول الفرس من بطء إلى سرعة وجودة سير. ومواقف شجاعته صلى الله عليه وسلم لا تحصى، ويكفينا مثلا عليها ما رواه البخاري في غزوة

حنين، فقد ولى المسلمون وفروا حين رشقتهم هوازن بالنبال، عشرة الآف أو يزيدون، يفرون ويقف صلى الله عليه وسلم وحده على بغلته البيضاء، وهو يقول: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، ويضرب بالسيف، ويبعث من ينادي على الفارين، فيعودون، ويقاتلون، فينتصرون. لقد سأل رجل البراء بن عازب سؤالا خبيثا، فقال له: يا أبا عامر، أوليتم مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ فقال: لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر، لقد كانت هوازن رماة، وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا، فأكببنا على الغنائم، فاستقبلنا بالسهام، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء، وهو يقول أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب صلى الله عليه وسلم. -[المباحث العربية]- (أحسن الناس) خلقا وخلقا. (وأشجع الناس) الشجاعة وسط بين التهور والجبن، بضم الجيم وسكون الباء. (ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة) الفزع الخوف الشديد المفاجئ، وكان خوفهم من إغارة أعدائهم الكفار من حولهم، الذين يتربصون بهم، وكان فزعهم لسماعهم أصواتا خارج المدينة، ظنوها جيش أعداء، وفي الرواية الثانية "كان بالمدينة فزع" أي وجد بالمدينة فزع. (فانطلق ناس قبل الصوت) بكسر القاف وفتح الباء، أي جهة الصوت، لاستطلاع الخبر، ولرد الاعتداء. (فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا، وقد سبقهم إلى الصوت) إلى مكان مصدر الصوت، فلم يجد ما يخيف، فرجع إلى المدينة سريعا، ليطمئنهم، فالتقى في طريق عودته بالناس المنطلقين نحوه. (وهو على فرس لأبي طلحة عري) بضم العين وسكون الراء، أي ليس عليه سراج ولا أداة، قالوا: ولا يقال في الآدميين: رجل عري إنما يقال: عريان، قال الحافظ ابن حجر: وحكى ابن التين أنه ضبط في الحديث بكسر الراء وتشديد الياء، وليس في كتب اللغة ما يساعده، اهـ. وفي رواية "استقبلهم على فرس عري، ما عليه سرج" بضم السين والراء، وأبو طلحة هو أبو زيد بن سهل، زوج أم سليم، أم أنس، وفي الرواية الثانية "فاستعار النبي صلى الله عليه وسلم فرسا لأبي طلحة، يقال له: مندوب، فركبه" وفي ملحق الرواية الثانية يقول أنس "استعار فرسا لنا" وهو كذلك، فأبو طلحة زوج أمه. والظاهر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن عنده فرس ولا بغلة حينئذ، وهو في حاجة إلى الإسراع. قال النووي: وقع في هذا الحديث تسمية هذا الفرس مندوبا، قال القاضي: وقد كان في أفراس النبي صلى الله عليه وسلم "مندوب" فلعله صار إليه، بعد أبي طلحة. هذا كلام القاضي، قلت: ويحتمل أنهما فرسان، اتفقا في الاسم

(في عنقه السيف) تعليق السيف في العنق يحتاجه الفارس كثيرا، ليكون أعون له على مهامه الأخرى، وهو يشير إلى أنه لم يخرج أعزل مخاطرا، بل مسلحا مقداما. (وهو يقول: لم تراعوا. لم تراعوا) مرتين، وفي رواية مرة واحدة، و"تراعوا" بضم التاء، مبني للمجهول، مجزوم بحذف النون، يقال: راع، يروع، روعا بفتح الراء، فزع، وراع الأمر فلانا أفزعه، ثلاثي، وأراعه أفزعه أيضا من الرباعي. والمعنى لم يخفكم أحد، وليس في الأمر شيء يفزعكم، وفي الرواية الثانية "ما رأينا من فزع" أي من شيء يفزع، قال النووي: "لم تراعوا" أي روعا مستقرا، أو روعا يضركم. اهـ يجيب بذلك عما قد يقال: كيف، ينفى عنهم الروع، وقد حصل لهم الروع؟ وقد أجبنا بأن النفي موجه إلى سبب الروع، لا إلى الروع نفسه، حتى يجيب بما أجاب، وجوابنا أقرب إلى المراد. (قال: وجدناه بحرا - أو إنه لبحر - قال: وكان فرسا يبطأ) أي كان فرس أبي طلحة فرسا يتهم بالبطء، ويوصف بسوء السير، وفي الكلام تقديم وتأخير، والأصل: وكان فرس أبي طلحة فرسا يبطأ - بضم الياء وفتح الباء، وجدناه بعد أن ركبه النبي صلى الله عليه وسلم بحرا، أي واسع الخطو، سريع الجري، قال الأصمعي: يقال للفرس: بحر، إذا كان واسع الجري، أو لأن جريه لا ينفد، كما لا ينفد البحر، أي التشبيه بالبحر إما في السعة، وإما في الكثرة وعدم الانقطاع. وفي الرواية الثانية "وإن وجدنا لبحرا" قال الخطابي: "إن" هي النافية، واللام في "لبحرا" بمعنى "إلا" أي ما وجدناه إلا بحرا، قال ابن التين: هذا مذهب الكوفيين، وعند البصريين "إن" مخففة من الثقيلة، واللام زائدة. وهذه الجملة من مقوله صلى الله عليه وسلم، ثناء على الفرس الذي كانوا يتندرون ببطئه، وفي رواية البخاري "فلما رجع قال: ما رأينا من شيء، وإن وجدناه لبحرا" وفي روايتنا الثانية "ما رأينا من فزع، وإن وجدناه لبحرا". -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث]- 1 - من شدة عجلته صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى العدو، قبل الناس كلهم، وتعريض نفسه لمواجهة العدو بمفرده، شجاعته صلى الله عليه وسلم. 2 - وفيه جواز سبق الإنسان وحده في الكشف عن أخبار العدو، ما لم يتحقق الهلاك. 3 - واستحباب تقلد السيف في العنق. 4 - واستحباب تبشير الناس بعدم الخوف، وبث الاطمئنان فيهم إذا ذهب ما يخيف. 5 - وفيه عظيم بركته صلى الله عليه وسلم ومعجزته في انقلاب الفرس سريعا، بعد أن كان يبطأ. 6 - وفيه جواز ركوب الفرس العري. 7 - وتواضعه صلى الله عليه وسلم.

8 - وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الفروسية البالغة، فإن الركوب المذكور، لا يفعله إلا من أحكم الركوب، وأدمن على الفروسية. 9 - وأنه ينبغي للفارس أن يتعاهد الفروسية، ويروض طباعه عليها، لئلا يفجأه شدة، فيكون قد استعد لها. قاله الحافظ ابن حجر. 10 - وجواز استعارة الفرس ونحوه، والعارية بتشديد الياء ويجوز تخفيفها هي هبة المنافع، دون الرقبة، قال الحافظ ابن حجر: ويجوز توقيتها، وإذا تلفت في يد المستعير ضمنها، إلا فيما إذا كان ذلك من الوجه المأذون فيه. والله أعلم

(611) باب جوده صلى الله عليه وسلم

(611) باب جوده صلى الله عليه وسلم 5238 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير. وكان أجود ما يكون في شهر رمضان. إن جبريل عليه السلام كان يلقاه، في كل سنة في رمضان حتى ينسلخ. فيعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن. فإذا لقيه جبريل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة. -[المعنى العام]- يراجع المعنى العام لأحاديث باب في سخائه صلى الله عليه وسلم الآتي بعد باب واحد. -[المباحث العربية]- (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير) "أجود" بالنصب، خبر "كان" والمعنى كان أكثر الناس جودا، والجود الكرم، وهو من الصفات المحمودة، وقدم ابن عباس هذه الجملة على ما بعدها على سبيل الاحتراس من مفهوم ما بعدها، لئلا يتخيل من قوله "وكان أجود ما يكون في شهر رمضان" أن الأجودية منه خاصة برمضان، فأثبت له الأجودية المطلقة أولا، ثم عطف عليها زيادة ذلك في رمضان، وقوله "بالخير" أعم من الصدقة ومن المال، إذ الجود في الشرع إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي، وعند الترمذي عن أنس، رفعه "أنا أجود ولد آدم، وأجودهم بعدي رجل علم علما، فنشر علمه، ورجل جاد بنفسه في سبيل الله". (وكان أجود ما يكون في شهر رمضان) برفع "أجود" في أكثر الروايات، على أنه اسم "كان" وخبره محذوف، وهو نحو أخطب ما يكون الأمير في يوم الجمعة، أو هو مرفوع على أنه مبتدأ، مضاف إلى المصدر، وهو "ما يكون" فما مصدرية، وخبره "في شهر رمضان" والتقدير: أجود أكوان رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان. وفي رواية "أجود" بالنصب، على أنه خبر "كان" وتعقب بأنه يلزم منه أن يكون خبرها اسمها، وأجيب بجعل اسم "كان" ضمير النبي صلى الله عليه وسلم، و"أجود" خبرها، والتقدير: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة كونه

في رمضان أجود منه في غيره. قال النووي: الرفع أشهر، والنصب جائز، قال الحافظ ابن حجر: ويرجح الرفع وروده بدون "كان" عند البخاري في الصوم. (إن جبريل عليه السلام كان يلقاه) الجملة مستأنفة استئنافا تعليليا، لبيان سبب الأجودية المذكورة، ففي رواية للبخاري "لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان" وفي رواية أخرى له "وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل" وفي آخر روايتنا "فإذا لقيه جبريل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة". (في كل سنة في رمضان، حتى ينسلخ) أي شهر رمضان، أي حتى ينقضي، قال النووي: هكذا في جميع النسخ "في كل سنة" ونقله القاضي عن عامة الروايات والنسخ، قال: وفي بعضها "كل ليلة" بدل "كل سنة" قال: وهو المحفوظ، لكنه بمعنى الأول، لأن قوله "حتى ينسلخ" بمعنى كل ليلة اهـ. فالمراد من الروايتين: في كل سنة في كل ليلة من رمضان، أي بالإضافة إلى لقاءات أخرى في السنة، لأسباب أخرى. (فيعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن) أي ما نزل منه، وفي هذه الرواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي كان يعرض، وفي رواية للبخاري "كان جبريل يعرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم" والمعنى يستعرضه ما أقرأه إياه، فيحمل الأمر على أن كلا منهما كان يعرض على الآخر، ويؤيده رواية للبخاري "فيدارسه القرآن". (فإذا لقيه جبريل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) مبالغة في التشبيه، وذلك أنه أثبت له أولا وصف الأجودية، ثم أراد أن يصفه بأزيد من ذلك، فشبه جوده بالريح المرسلة، بل جعله أبلغ في ذلك منها، لأن الريح قد تسكن، ووصفها بالمرسلة المبشرة بالخير، المطلقة ليحترس بذلك عن الريح العقيم الضارة، والمرسلة يستمر إرسالها مدة إرسالها، وكذا كان عمله صلى الله عليه وسلم في رمضان، ديمة لا ينقطع، فشبهه بريح الرحمة التي يرسلها الله تعالى، لإنزال الغيث العام، الذي يكون سببا لإصابة الميتة وغير الميتة، أي فيعم خيره وبره من هو بصفة الفقر والحاجة، ومن هو بصفة الغنى والكفاية، عموما أكثر من عموم الغيث الناشئ عن الريح المرسلة. واستعمل أفعل التفضيل في الإسناد الحقيقي والمجازي، لأن الجود من النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة، والجود من الريح مجاز، فكأنه استعار للريح جودا، باعتبار مجيئها بالخير، فأنزلها منزلة من جاد، وفي تقديم معمول "أجود" وهو "بالخير" على المفضل عليه نكتة لطيفة، وهي أنه لو أخره، لظن تعلقه بالمرسلة، وهذا وإن كان صحيح المعنى، إلا أنه تفوت به المبالغة، لأن المراد وصفه بزيادة الأجودية على الريح المرسلة مطلقا. قاله الحافظ ابن حجر. -[فقه الحديث]- -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - استحباب زيارة الصلحاء وأهل الخير في رمضان.

2 - وتكرار ذلك إذا كان المزور لا يكرهه. 3 - واستحباب الإكثار من القراءة في رمضان، لأن رمضان موسم الخيرات، ونعم الله على عباده زائدة فيه، وفيه تضاعف الحسنات. 4 - وأن قراءة القرآن أفضل من سائر الأذكار، إذ لو كان الذكر أفضل أو مساويا، لفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبريل عليه السلام، فاجتمع بذلك أفضلية النازل، وأفضلية المنزول عليه، والمنزول به، والوقت. 5 - قال الحافظ ابن حجر: وفيه إشارة إلى أن ابتداء نزول القرآن كان في شهر رمضان، لأن نزوله إلى السماء الدنيا جملة واحدة كان في رمضان، كما ثبت من حديث ابن عباس، فكان جبريل يتعاهده في كل سنة، فيعارضه بما نزل عليه، من رمضان إلى رمضان، فلما كان العام الذي توفي فيه عارضه به مرتين، كما ثبت في الصحيح. 6 - وفيه أن القرآن يطلق على بعضه، وعلى معظمه، كما يطلق على كلمه، لأن أول رمضان من البعثة لم يكن نزل من القرآن إلا بعضه، ثم كذلك كل رمضان بعده إلى رمضان الأخير، فكان قد نزل كله، إلا ما تأخر نزوله بعد رمضان المذكور، وكان في سنة عشر، إلى أن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول سنة إحدى عشرة، ومما نزل في تلك المدة قوله تعالى {اليوم أكملت لكم دينكم} [المائدة: 3] فإنها نزلت يوم عرفة، والنبي صلى الله عليه وسلم في عرفة، بالاتفاق، وكأن الذي نزل في تلك الأيام لما كان قليلا بالنسبة لما تقدم اغتفر أمر معارضته، قال الحافظ ابن حجر: فيستفاد من هذا أن القرآن يطلق على البعض مجازا، ومن ثم لا يحنث من حلف: ليقرأن القرآن، فقرأ بعضه، إلا إن قصد الجميع، قال: ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان يقسم ما نزل من القرآن في كل سنة على ليالي رمضان أجزاء، فيقرأ كل ليلة جزءا في جزء من الليلة، ثم يشتغل في ليلة بسوى ذلك من تهجد بالصلاة ومن راحة بدن، ومن تعاهد أهل، ولعله كان يعيد الجزء مرارا، وبتعدد الحروف المأذون في قراءتها، لتستوعب بركة القرآن جميع الشهر، ولولا التصريح بأنه كان يعرضه مرة واحدة، وفي السنة الأخيرة عرضه مرتين، لجاز أنه كان يعرض جميع ما نزل عليه كل ليلة، ثم يعيده في بقية الليالي، وفي هذه المعارضة يحكم الله ما يشاء، وينسخ ما يشاء. 7 - وفيه أن مداومة تلاوة القرآن توجب زيادة الخير. 8 - وفيه المذاكرة مع الفاضل في القرآن والعلم، وإن كان الفاضل لا يخفى عليه ما يذاكره للعبادة، وزيادة الاتعاظ. 9 - وفيه أن فضل الزمان إنما يحصل بزيادة العبادة فيه. 10 - وأن ليل رمضان أفضل من نهاره. 11 - وأن المقصود من التلاوة الحضور والفهم، لأن الليل مظنة ذلك، لما في النهار من الشواغل والعوارض الدنيوية والدينية.

12 - وفيه جواز قول "رمضان" من غير "شهر". 13 - وفيه الحث على الجود في كل وقت. 14 - واستحباب زيادة الجود في رمضان، وعند الاجتماع بأهل الصلاح. 15 - وفيه تشبيه المعقول بالمحسوس، لتقريبه إلى الأذهان. 16 - وفيه جوده صلى الله عليه وسلم. 17 - وفيه استحباب تكثير العبادة في آخر العمر. وسيأتي بعد باب واحد أمثلة ووقائع من جوده صلى الله عليه وسلم

(612) باب حسن خلقه صلى الله عليه وسلم

(612) باب حسن خلقه صلى الله عليه وسلم 5239 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين. والله! ما قال لي: أفا قط. ولا قال لي لشيء: لم فعلت كذا؟ وهلا فعلت كذا؟ زاد أبو الربيع ليس مما يصنعه الخادم ولم يذكر قوله والله. 5240 - عن أنس رضي الله عنه قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أخذ أبو طلحة بيدي فانطلق بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أنسا غلام كيس فليخدمك قال: فخدمته في السفر والحضر. والله! ما قال لي لشيء صنعته: لم صنعت هذا هكذا؟ ولا لشيء لم أصنعه: لم لم تصنع هذا هكذا؟ . 5241 - عن أنس رضي الله عنه قال: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين. فما أعلمه قال لي قط: لم فعلت كذا؟ وكذا ولا عاب علي شيئا قط. 5242 - عن أنس رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقا. فأرسلني يوما لحاجة فقلت: والله! لا أذهب. وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله صلى الله عليه وسلم فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من ورائي قال: فنظرت إليه وهو يضحك: فقال "يا أنيس أذهبت حيث أمرتك؟ " قال: قلت: نعم. أنا أذهب يا رسول الله. - قال أنس: والله! لقد خدمته تسع سنين ما علمته قال لشيء صنعته: لم فعلت كذا وكذا؟ أو لشيء تركته: هلا فعلت كذا وكذا. 5243 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا.

-[المعنى العام]- يقول صلى الله عليه وسلم "خير ما أعطي الناس خلق حسن" ويقول "إن أفضل شيء في الميزان الخلق الحسن" ويقول "إن لكل دين خلقا وخلق الإسلام الحياء" ويقول "إن خياركم أحسنكم خلقا" ويقول "إن أحبكم إلي، وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا الموطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون" ويقول "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". وكان صلى الله عليه وسلم على قمة مكارم الأخلاق حتى قال عنه ربه عز وجل {وإنك لعلى خلق عظيم} [القلم: 4] وأبرز المواطن التي تظهر فيها الأخلاق المحمودة والمذمومة مواطن التعامل مع الخلق وأبرز هذه المواطن معاملة السيد للخادم. ومن هنا ساق العلماء - دليلا على حسن خلقه صلى الله عليه وسلم - أحاديث معاملته صلى الله عليه وسلم لخادمه أنس، فقد هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولا خادم له، وأسلمت أم سليم أم أنس وهو ابن عشر سنين ومن حبها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورغبة منها في توثيق العلاقة والصلة به قدمت ابنها هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم خادما فكان نعم الخادم عند خير مخدوم خدم عشر سنين فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يضرب بيده الكريمة امرأة ولا خادما قط بل كان عف اللسان ليس فاحشا ولا متفحشا ولا سبابا ولا لعانا حتى عند الغضب وعند وقوع ما يستحق اللوم والعقاب وعند رؤيته ما يكره لدرجة أنه ما عاب طعاما قط بل كان إذا اشتهاه أكله وإن عافه تركه وما أنب خادمه يوما وما زجره أو عنفه بل ما قال له يوما عن شيء فعله وهو غير مرضي: لم فعلت كذا؟ وما قال له يوما عن شيء لم يفعله وهو مطلوب: لم لم تفعل كذا؟ بل كان يبتسم ويوجه ويألف ويؤلف ويحلم ويتواضع ويعفو ويحسن صلى الله عليه وسلم. -[المباحث العربية]- (خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين) في الرواية الثالثة وملحق الرابعة "خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين" ولا تعارض لأن ابتداء خدمته له صلى الله عليه وسلم كان بعد قدومه المدينة وبعد تزويج أم سليم بأبي طلحة أي بعد قدومه صلى الله عليه وسلم ببضعة أشهر فرواية العشر جبرت الكسر ورواية "التسع" ألغت الكسر، والحقيقة تسع سنين وبضعة أشهر. وفي الرواية الثانية "لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أخذ أبو طلحة بيدي فانطلق بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أنسا غلام كيس" - بفتح الكاف وتشديد الياء المكسورة أو المخففة الساكنة بعدها سين أي عاقل فطن متوقد الذكاء ضد الأحمق - "فليخدمك، قال: فخدمته في السفر والحضر" وأشار بالسفر إلى ما حصل من أنه خرج معه صلى الله عليه وسلم إلى خيبر يخدمه، ففي البخاري "أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من أبي طلحة - لما أراد الخروج إلى خيبر - من يخدمه فأحضر له أنسا" أي طلب من أبي طلحة من يكون أسن من أنس وأقوى على الخدمة في السفر وكان أنس إذ ذاك ابن ست عشرة سنة فعرف أبو طلحة من أنس القوة على ذلك فأحضره له فخرج معه فلهذا

قال: خدمته في الحضر والسفر، وفي رواية للبخاري أيضا عن أنس "كنت ابن عشر سنين، مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فكان أمهاتي - يقصد أمه وخالته ومن في معناهما - يواظبنني - أي يرغبنني ويحثثنني - على خدمة النبي صلى الله عليه وسلم، فقدمته أمه، أم سليم للنبي صلى الله عليه وسلم. (والله ما قال لي: أفا قط) قال الراغب: أصل الأف كل مستقذر من وسخ، كقلامة الظفر وما يجري مجراها، ويقال ذلك لكل مستخف به، ويقال أيضا عند تكره الشيء، وعند التضجر من الشيء، واستعملوا منها الفعل، يقولون: أففت بفلان. وفي "أف" عدة لغات: الحركات الثلاث للهمزة مع تشديد الفاء، بغير تنوين، وبالتنوين، وهي في روايتنا "أفا" بالنصب والتنوين على المصدرية، وهي موافقة لبعض القراءات الشاذة، وهي هنا مع ضم الهمزة والتشديد، وعلى ذلك اقتصر بعض الشراح، وذكر أبو الحسن الرماني فيها لغات كثيرة، بلغها تسعا وثلاثين، ونقلها ابن عطية، وزاد واحدة، أكملها أربعين، ومنها الستة المتقدمة، وبتخفيف الفاء كذلك ستة أخرى، وبالسكون مشددا ومخففا، وبزيادة هاء ساكنة في آخره مشددا ومخففا، و"أفي" بالإمالة، وبين بين، وبلا إمالة ... إلخ. وساقها الحافظ ابن حجر، فمن أرادها فليطلبها. وأما "قط" ففيها لغات: بفتح القاف وضمها، مع تشديد الطاء المضمومة، وبفتح القاف وكسر الطاء المشددة، وبفتح القاف وإسكان الطاء، وبفتح القاف وكسر الطاء المخففة، وهي لتوكيد نفي الماضي. (ولا قال لي لشيء: لم فعلت كذا؟ وهلا فعلت كذا؟ ليس مما يصنعه الخادم) أي هذا الذي صنعت ليس مما يقبل من الخادم وفي الرواية الثانية "والله ما قال لي لشيء صنعته: لم صنعت هذا هكذا؟ ولا لشيء لم أصنعه: لم لم تصنع هذا هكذا؟ وفي الرواية التالية "فما أعلمه قال لي قط: لم فعلت كذا وكذا؟ ولا عاب علي شيئا قط" وفي الرواية الرابعة "فما أعلمه قال لي قط: لم فعلت كذا وكذا؟ ولا عاب علي شيئا قط" وأما قوله في الرواية الثالثة "أذهبت حيث أمرتك"؟ فليس من قبيل ما نفاه، لأن الاستفهام هنا، وإن كان إنكاريا توبيخيا، ومعناه ما كان ينبغي أن لا تذهب، لكنه ظاهر في العتب برفق، ويحتمل أن المراد ما قال لي كذا وكذا بغضب. بخلاف ما في الرواية الثالثة، فقد قال وهو يضحك، فالمنفي اللوم والتأنيب كما يفعل مع الخادم، والمثبت الحض والعرض والتوجيه، كما يفعل مع الأبناء والأحبة. (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقا) بضم الخاء واللام، ويجوز إسكان اللام، قال الراغب: الخلق بفتح الخاء، والخلق بضمها، في الأصل بمعنى واحد، كالشرب والشرب، لكن خص الخلق بالفتح، بالهيئات والصور المدركة بالبصر، وخص الخلق بالضم، بالقوى والسجايا، المدركة بالبصيرة اهـ. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي" وقال القرطبي في المفهم: الأخلاق أوصاف الإنسان التي يعامل بها غيره، وهي محمودة ومذمومة، فالمحمودة على

الإجمال أن تكون مع غيرك على نفسك فتنصف منها ولا تنصف لها، وعلى التفصيل العفو والحلم والجود والصبر وتحمل الأذى والرحمة والشفقة وقضاء الحوائج والتوادد ولين الجانب، ونحو ذلك، والمذموم منها ضد ذلك. (فأرسلني يوما لحاجة) أي لأقضي حاجة له. (فقلت: والله لا أذهب) الآن عاجلا، أي قلت في نفسي ذلك، رغبة مني في اللعب قليلا، فقد كان فوق العاشرة بقليل. (وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله صلى الله عليه وسلم) أي لم يكن موقفي عصيان الأمر، وعدم تنفيذه، بل تأجيله قليلا وتأخيره، مع عزمي أن أنفذه. (فخرجت حتى أمر على صبيان، وهم يلعبون في السوق) أي فلعبت معهم، وانشغلت بلعبهم، وفي قوله "حتى أمر" تعبير عن الماضي بالمضارع، استحضارا للصورة، والأصل: حتى مررت وفي ذلك إشارة إلى أنه لم يقصد اللعب ابتداء، بل وقع ذلك مصادفة في مروره بهم، وهو في طريقه لقضاء الحاجة. (يا أنيس: أذهبت حيث أمرتك؟ قال: قلت: نعم. أنا أذهب يا رسول الله) الآن، فذهب و"أنيس" بضم الهمزة وفتح النون، تصغير "أنس" والجواب نعم تصديق للمخبر بنفي أو إيجاب، والاستفهام التقريري خبر موجب، والمعنى هنا: أقر بأنك لم تذهب، فيكون الجواب نعم، أقر أنني لم أذهب، وسأذهب الآن، "وحيث" هنا ظرف مكان، مبني على الضم في محل نصب، كما في قوله تعالى {الله أعلم حيث يجعل رسالته} [الأنعام: 124]. -[فقه الحديث]- اختلف العلماء في: هل حسن الخلق غريزة؟ أو مكتسب؟ فذهب جماعة إلى أنه غريزة، واستدلوا بحديث ابن مسعود "إن الله قسم أخلاقكم، كما قسم أرزاقكم" رواه البخاري، في الأدب المفرد، وقال القرطبي في المفهم: الخلق جبلة في نوع الإنسان، وهم في ذلك متفاوتون، فمن غلب عليه شيء منها، إن كان محمودا فحسن، وإلا فهو مأمور بالمجاهدة فيه، حتى يصير محمودا، وكذا إن كان ضعيفا، فيرتاض صاحبه، حتى يقوى. اهـ. وذهب جماعة إلى أن الخلق مكتسب، لأنه يقوم، وهو بالسلوك والتعود يصبح سجية وذهب المحققون إلى أن منه ما هو غريزة، ومنه ما هو مكتسب، ويؤيدهم ما رواه أحمد والنسائي والبخاري في الأدب المفرد وصححه ابن حبان "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأشج عبد القيس: إن فيك لخصلتين، يحبهما الله. الحلم والأناة، قال: يا رسول الله، قديما كانا في؟ أو حديثا؟ فقال: قديما، قال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما" فترديده السؤال، وتقريره عليه، يشعر بأن في الخلق ما هو جبلي، وما هو مكتسب.

-[ويؤخذ من الحديث]- 1 - بيان كمال خلقه صلى الله عليه وسلم. وحسن عشرته، وحلمه وصفحه. 2 - وترك العقاب على ما فات، لأن هناك مندوحة عنه باستئناف الأمر به، إذا احتيج إليه. 3 - وتنزيه اللسان عن الزجر واللوم والذم. 4 - واستئلاف خاطر الخادم. قال الحافظ ابن حجر: وكل ذلك في الأمور التي تتعلق بحظ الإنسان، وأما الأمور اللازمة شرعا، فلا يتسامح فيها، لأنها من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والله أعلم

(613) باب في سخائه صلى الله عليه وسلم

(613) باب في سخائه صلى الله عليه وسلم 5244 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط، فقال: لا. 5245 - عن موسى بن أنس رضي الله عنه عن أبيه قال: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئا إلا أعطاه. قال: فجاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين. فرجع إلى قومه، فقال: يا قوم، أسلموا. فإن محمدا يعطي عطاء لا يخشى الفاقة. 5246 - عن أنس رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم غنما بين جبلين. فأعطاه إياه. فأتى قومه فقال: أي قوم، أسلموا. فوالله! إن محمدا ليعطي عطاء ما يخاف الفقر. فقال أنس: إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا. فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها. 5247 - عن ابن شهاب قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح، فتح مكة. ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من المسلمين. فاقتتلوا بحنين. فنصر الله دينه والمسلمين. وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ صفوان بن أمية مائة من النعم، ثم مائة، ثم مائة. قال ابن شهاب: حدثني سعيد بن المسيب، أن صفوان قال: والله! لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني، وإنه لأبغض الناس إلي. فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي. 5248 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وزاد أحدهما على الآخر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو قد جاءنا مال البحرين لقد أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا" وقال بيديه جميعا. فقبض النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يجيء مال البحرين. فقدم على أبي بكر بعده. فأمر مناديا

فنادى: من كانت له على النبي صلى الله عليه وسلم عدة أو دين فليأت. فقمت فقلت: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو قد جاءنا مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا" فحثى أبو بكر مرة. ثم قال لي: عدها. فعددتها فإذا هي خمسمائة. فقال: خذ مثليها. 5249 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لما مات النبي صلى الله عليه وسلم جاء أبا بكر مال من قبل العلاء بن الحضرمي: فقال أبو بكر: من كان له على النبي صلى الله عليه وسلم دين، أو كانت له قبله عدة، فليأتنا. بنحو حديث ابن عيينة. -[المعنى العام]- الجود والكرم والسخاء، خلق أصيل من أخلاق العرب قبل الإسلام، كانوا يتفاخرون به، ويتنافسون فيه، حتى قال شاعرهم: أوقد فإن الليل ليل قر ... والريح يا غلام ريح صر لعل أن يبصرها المعتر ... إن جلبت ضيفا فأنت حر لكنهم كانوا يتخلقون بهذا الخلق للرياء والسمعة والفخر والثناء الجميل، لا بقصد الثواب الأخروي، ولا بقصد رفعة الإسلام، لذلك يقول الطائي. أماوي إن المال غاد ورائح ... ويبقى من المال الأحاديث والذكر أماوي إني لا أقول لسائل ... إذا جاء يوما حل في مالي الدهر وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في السخاء والعطاء، يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، لأنه معتمد متوكل على ربه، يجيئه الكثير، فلا يبقي منه شيئا بل يخاف أن يبيت عنده ثلاثة دنانير للغد، تنتظر الإنفاق فيخشى أن يموت في ليلة وهي في بيته، فينصرف من صلاة العشاء، فزعا لينفقها على الفقراء، كان معطاء للمستحقين من الأمة، حاشا أهله الذين كانوا يمر عليهم الشهر والشهران، ثلاثة أهلة في شهرين، وما توقد في بيت من بيوته نار، لعدم وجود ما يطهى بالنار، بينما يعطي بالمائة بعير، والمائتي بعير، وبالثلاثمائة بعير، هل رأيتم من يستدين ليتصدق ويعطي؟ كان محمد صلى الله عليه وسلم يستدين ليتصدق ويعطي، هل رأيتم من يخنقه السائل ليعطيه ويأمره بغلظة وجفاء وقلة أدب، فيبتسم للسائل ويعطيه؟ كان محمد صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، يروي البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: "كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه جذبة شديدة، حتى نظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم، قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته، ثم قال: مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم، فضحك، ثم أمر له بعطاء".

ويروي البخاري أيضا عن جبير بن مطعم أنه بينما هو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه الناس، مقبلا من حنين، تعلقت الأعراب برسول الله صلى الله عليه وسلم، يسألونه أن يعطيهم، حتى اضطروه إلى أن يحتمي بشجرة، فخطفوا رداءه، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أعطوني ردائي، فلو كان عندي عدد هذه الأشجار إبلا لقسمته بينكم، ثم لا تجدونني بخيلا، ولا كذوبا، ولا جبانا". ويروي البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ببردة، فقالت: يا رسول الله، أكسوك هذه، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم، محتاجا إليها، فلبسها، فرآها عليه رجل من الصحابة، فقال: يا رسول الله، ما أحسن هذه. فاكسنيها. فقال نعم، فأعطاها له، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم لامه أصحابه، فقالوا ما أحسنت حين رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أخذها محتاجا إليها، ثم سألته إياها، وقد عرفت أنه لا يسأل شيئا فيمنعه، فقال: رجوت بركتها حين لبسها النبي صلى الله عليه وسلم، لعلي أكفن فيها" صلى الله وسلم وبارك على هذا الجواد الكريم. -[المباحث العربية]- (سخاؤه صلى الله عليه وسلم) قال أهل اللغة: السخاوة والسخاء والجود، والسخي الجواد، يقال: سخا يسخو، وسخي بكسر الخاء وفتح الياء، يسخى بفتح الخاء، وسخو الرجل بضم الخاء وفتح الواو يسخو سخاء. وعلى هذا فذكر باب سخائه صلى الله عليه وسلم بعد باب جوده تفنن، وكأنه ذكر في الباب الأول إثبات صفة الجود، وفي الباب الآخر أمثلة لهذا الجود، وقال الحافظ ابن حجر: والسخاء بمعنى الجود، وهو بذل ما يقتنى بغير عوض، وضده البخل، وهو منع ما يطلب مما يقتنى، وشره ما كان طالبه مستحقا، ولا سيما إن كان من غير مال المسئول. (ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط فقال: لا) في رواية للبخاري "ما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قط فقال: لا" قال الكرماني: معناه ما طلب منه شيء من أمر الدنيا، فمنعه، قال الحافظ ابن حجر: وليس المراد أنه يعطي ما يطلب منه جزما، بل المراد أنه لا ينطق بالرد، بل إن كان عنده أعطاه، إن كان الإعطاء سائغا، وإلا سكت، فعند ابن سعد "إذا سئل فأراد أن يفعل قال: نعم، وإذا لم يرد أن يفعل سكت" وهو قريب من حديث أبي هريرة، الماضي في الأطعمة "ما عاب طعاما قط إن اشتهاه أكله، وإلا تركه". وقال العز بن عبد السلام: معناه لم يقل: لا، منعا للعطاء، ولا يلزم من ذلك أن لا يقولها اعتذارا كما في قوله تعالى قلت {لا أجد ما أحملكم عليه} [التوبة: 92] ولا يخفى الفرق بين قوله {لا أجد ما أحملكم عليه} وبين لا أحملكم. اهـ. وقول الفرزدق: ما قال: لا. قط إلا في تشهده - أي في قوله: أشهد أن لا إله إلا الله - من مبالغات للشعراء. قال الحافظ ابن حجر: وفهم بعضهم من لازم عدم قول "لا" إثبات "نعم" وليس كذلك، وسيأتي مزيد لهذه المسألة في فقه الحديث، عند الكلام على حكم البخل.

(ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئا إلا أعطاه) أي ما سئل في مقابل الإسلام مالا إلا أعطاه، تأليفا لقلوب الضعفاء، الذين يهمهم المال فوق أي شيء، وقد كان يعلم - بعلم من الله - أن هذا الذي يعطى من أجل أن يسلم سيشرح الله صدره للإسلام بعد أن يسلم، وهذا معنى قول أنس في الرواية الثالثة "إن كان الرجل ليسلم، ما يريد إلا الدنيا، فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها" أي فما يلبث بعد إسلامه إلا يسيرا، حتى يكون الإسلام أحب إليه، والمراد أنه يظهر الإسلام أولا للدنيا، لا بقصد صحيح بقلبه، ثم من بركة النبي صلى الله عليه وسلم، ونور الإسلام، لا يلبث إلا قليلا، وينشرح صدره بحقيقة الإيمان، ويتمكن من قلبه، فيكون حينئذ أحب إليه من الدنيا وما فيها. قال النووي: هكذا هو في معظم النسخ "فما يسلم" وفي بعضها "فما يمسي" وكلاهما صحيح. اهـ. وتصديقا لهذا يصرح صفوان - في الرواية الرابعة - بأن إعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له، بدأ ومحمد أبغض الناس إليه، ولم ينته حتى كان محمد أحب الناس إليه. (فجاءه رجل، فأعطاه غنما بين جبلين) أي فجاءه رجل ليسلم في مقابل غنم، فأعطاه غنما كثيرا، تشغل وتملأ ما بين جبلين، فالكلام كناية عن الكثرة، وفي الرواية الثالثة "أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم غنما بين جبلين، فأعطاه إياه" كان الظاهر أن يقول "إياها" لأن الغنم اسم مؤنث، موضوع للجنس يقع على الذكور، وعلى الإناث، وعليهما جميعا، فإذا صغرتها أدخلت الهاء، فقلت: غنيمة، لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها، إذا كانت لغير الآدميين، فالتأنيث لها لازم، يقال: له خمس من الغنم ذكور، فيؤنث العدد، وإن قصدت الكباش، إذا كان يليه "من الغنم" لأن العدد يجري في تذكيره وتأنيثه على اللفظ، لا على المعنى، والإبل كالغنم في جميع ما ذكر، كذا في لسان العرب، فتذكير الضمير في الحديث باعتباره قطيعا، فالغنم القطيع من العنز والضأن. (فرجع إلى قومه، فقال: يا قوم، أسلموا، فإن محمدا يعطي عطاء، لا يخشى الفاقة) في الرواية الثالثة "فأتى قومه، فقال: أي قوم، أسلموا، فوالله. إن محمدا ليعطي عطاء، ما يخاف الفقر". (وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ صفوان بن أمية .... ) كانت غنيمة حنين أربعة وعشرين ألفا من الإبل، وأربعين ألفا من الغنم، وكان صفوان بن أمية ممن خرج إلى حنين وهو لم يسلم بعد، وأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفيء تأليفا لقلبه، ليسلم، كما أعطى بعض كبراء قريش، قريبي عهد بكفر، فأعطى أبا سفيان بن حرب مائة، وأعطى عيينة بن حصن مائة، وأعطى مالك بن عوف مائة، وأعطى الأقرع بن حابس مائة، وأعطى علقمة بن علاثة مائة وأعطى العباس بن مرداس مائة. وصفوان بن أمية بن خلف. قتل أبوه يوم بدر كافرا، قالوا: إنه هرب يوم فتح مكة، وأسلمت امرأته، فأخذ له ابن عمه أمانا من النبي صلى الله عليه وسلم، فحضر، وحضر وقعة حنين قبل أن يسلم، قال يوم حنين: لأن يريني رجل من قريش أحب إلي من أن يريني رجل من هوازن، وكان صفوان أحد العشرة الذين انتهى إليهم شرف الجاهلية، ووصله لهم الإسلام من عشر بطون، ونزل صفوان - بعد حنين - على العباس بالمدينة، ثم أذن له النبي صلى الله عليه وسلم في الرجوع إلى مكة، فأقام بها، حتى مات بها، مقتل عثمان رضي الله عنه.

(لو قد جاءنا مال البحرين لقد أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا، وقال بيديه جميعا) أي وأشار بكفيه، وهو يقول: هكذا، والمقصود من مال البحرين مال الجزية، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صالح أهل البحرين، وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي، وكان من أهل حضرموت، وكان ذلك سنة الوفود، سنة تسع، وبعث صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح، فأتى بمال الجزية، فوزعه صلى الله عليه وسلم، ثم وعد جابرا أن يعطيه من جزية العام القابل. (فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يجيء مال البحرين) الموعود به. (فقدم على أبي بكر بعده) أي فقدم مال البحرين على أبي بكر، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أميرها العلاء بن الحضرمي. (فأمر مناديا فنادى: من كانت له على النبي صلى الله عليه وسلم عدة أو دين فليأت) العدة الوعد، وفي الرواية السادسة "من كان له على النبي صلى الله عليه وسلم دين، أو كانت له قبله" بكسر القاف وفتح الباء، أي جهته "عدة فليأتنا". (فقمت فقلت ... إلخ) أي قال جابر: فذهبت إلى أبي بكر، فقلت له كذا وكذا. (فحثى أبو بكر مرة) أي حثوه، يقال: حثا التراب يحثوه، حثوا، وحثى التراب يحثيه حثيا، والحثوة والحثية الغرفة والحفنة. (خذ مثليها) عدا، لا حفنا وحثيا، فيكون مجموع ما أعطى جابر ألف وخمسمائة، وفي رواية للبخاري "قال جابر: فعد في يدي خمسمائة، ثم خمسمائة، ثم خمسمائة". -[فقه الحديث]- -[ويؤخذ من أحاديث الباب]- 1 - جود النبي صلى الله عليه وسلم وسخاؤه، وعدم رده للسائل، قال الحافظ ابن حجر: لكن يشكل عليه أن في حديث الأشعري، لما سأل الأشعريون الحملان، قال النبي صلى الله عليه وسلم "والله لا أحملكم" قال: فيمكن أن يخص من عموم حديث جابر، بما إذا سئل ما ليس عنده، والسائل يتحقق أنه ليس عنده ذلك أو حيث كان المقام لا يقتضي الاقتصار على السكوت، من الحالة الواقعة، أو من حال السائل، كأن يكون لم يعرف العادة، فلو اقتصر في جوابه على السكوت، مع حاجة السائل، لتمادى على السؤال مثلا، ويكون القسم على ذلك تأكيدا لقطع طمع السائل. 2 - استنبط بعضهم من الحديث تحريم البخل، لأنه من لازم عدم قول لا: إثبات نعم، ومن القواعد أنه صلى الله عليه وسلم إذا واظب على شيء، أن ذلك علامة وجوبه، فواظب على قول نعم، أو على عدم "لا" فالبخل حرام، لكن هذا الاستنباط لا يتم، لأن الذي يحرم من البخل ما يمنع الواجب، ولو سلمنا أنه يدل على الوجوب، فلنا أن نقول: إنه يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم، والتحقيق أن من البخل ما يحرم، ومنه ما يكره، ومنه ما يباح بل منه ما يستحب، بل ما قد يجب. والله أعلم.

3 - ومن الرواية الثانية والثالثة والرابعة إعطاء المؤلفة قلوبهم، وقد سبق، قال النووي: ولا خلاف في إعطاء مؤلفة المسلمين، لكن هل يعطون من الزكاة؟ فيه خلاف، والأصح عندنا أنهم يعطون من الزكاة، ومن بيت المال، والثاني: لا يعطون من الزكاة، بل من بيت المال خاصة، أما مؤلفة الكفار فلا يعطون من الزكاة، وفي إعطائهم من غيره خلاف، الأصح عندنا لا يعطون، لأن الله تعالى قد أعز الإسلام عن التألف، بخلاف أول الأمر، ووقت قلة المسلمين. 4 - ومن الرواية الخامسة أخذ البخاري أن من تكفل عن ميت دينا، فليس له أن يرجع عن الكفالة، وقد استقر الحق في ذمته، وذلك أن أبا بكر لما قام مقام النبي صلى الله عليه وسلم تكفل لما كان عليه، من واجب أو تطوع، فلما التزم ذلك لزمه أن يوفي جميع ما عليه من دين أو عدة، وكان صلى الله عليه وسلم يحب الوفاء بالوعد، فنفذ أبو بكر ذلك. وقد وعد بعض الشافعية من خصائصه صلى الله عليه وسلم وجوب الوفاء بالوعد، أخذا من هذا الحديث، قال المهلب: إنجاز الوعد مأمور به، مندوب إليه عند الجميع، وليس بفرض. وقال ابن عبد البر: أجل من قال بوجوبه عمر بن عبد العزيز، وعن بعض المالكية إن ارتبط الوعد بسبب، وجب الوفاء به، وإلا فلا. فمن قال لآخر: تزوج ولك كذا. فتزوج لذلك وجب الوفاء به، وخرج بعضهم الخلاف على أن الهبة هل تملك، بالقبض، أو قبله؟ 6 - وفيه قبول خبر الواحد المعدل من الصحابة، ولو جر ذلك نفعا لنفسه، لأن أبا بكر لم يطلب من جابر شاهدا على صحة دعواه. 7 - قد يستدل به على جواز حكم الحاكم بعلمه، على احتمال أن أبا بكر كان يعلم هذه العدة، فحكم بعلمه. 8 - وفيه فضيلة عظمى لأبي بكر، لتحمله ما تحمل صلى الله عليه وسلم، ووفائه بالوعد الذي وعده صلى الله عليه وسلم. والله أعلم

(614) باب رحمته صلى الله عليه وسلم الصبيان والعيال، وتواضعه وفضل ذلك

(614) باب رحمته صلى الله عليه وسلم الصبيان والعيال، وتواضعه وفضل ذلك 5250 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم ثم دفعه إلى أم سيف امرأة قين يقال له أبو سيف فانطلق يأتيه واتبعته فانتهينا إلى أبي سيف وهو ينفخ بكيره قد امتلأ البيت دخانا فأسرعت المشي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا أبا سيف أمسك جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمسك فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بالصبي فضمه إليه وقال ما شاء الله أن يقول فقال أنس لقد رأيته وهو يكيد بنفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضى ربنا والله يا إبراهيم إنا بك لمحزونون. 5251 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ما رأيت أحدا كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كان إبراهيم مسترضعا له في عوالي المدينة فكان ينطلق ونحن معه فيدخل البيت وإنه ليدخن وكان ظئره قينا فيأخذه فيقبله ثم يرجع قال عمرو فلما توفي إبراهيم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن إبراهيم ابني وإنه مات في الثدي وإن له لظئرين تكملان رضاعه في الجنة. 5252 - عن عائشة رضي الله عنها قالت قدم ناس من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا أتقبلون صبيانكم فقالوا نعم فقالوا لكنا والله ما نقبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأملك إن كان الله نزع منكم الرحمة وقال ابن نمير من قلبك الرحمة. 5253 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الأقرع بن حابس أبصر النبي صلى الله عليه وسلم يقبل

الحسن فقال إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحدا منهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه من لا يرحم لا يرحم. 5254 - عن جرير بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لا يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل. -[المعنى العام]- أنجب صلى الله عليه وسلم من خديجة رضي الله عنها سبعة، ثلاثة ذكور، وأربع إناث، أما الذكور فهم القاسم، وبه كان يكنى، والطاهر والطيب، وقيل: إن الطاهر هو الطيب، وأما الإناث فهن فاطمة وزينب ورقية وأم كلثوم، وقد مات الذكور صغارا بمكة في عهد أمهم، ومات الإناث كلهن قبله، إلا فاطمة، التي عاشت بعده ستة أشهر، ولما أهديت إليه مارية القبطية أسكنها عوالي المدينة وضواحيها بعيدة عن نسائه، ولم يقسم لها، بل كان يأتيها بدون قسم، فهي مملوكة، وشاء الله أن لا تلد له امرأة من التسع، مع أن بعضهن كانت ولودا عند غيره، وشاء الله أن تلد الأمة ولدا، قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بعامين، وكأي بشر كبير السن، ليس له ولد حي، فرح بالولد الجديد، فرحا كفرح زكريا بيحيى، أو كفرح إبراهيم بإسماعيل، وفي أول ليلة بشر به سماه إبراهيم، واختار له مرضعة بجوار سكن أمه، وكانت المرضعة زوجة حداد، يملأ بيته دائما بالدخان، ونفخ الكير، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يزور ابنه هذا بين الحين والحين، فيأخذه، فيشمه ويضمه ويقبله، ثم يسلمه لمرضعته، ويعود إلى المدينة، وكثيرا ما كان يأخذ معه أنس بن مالك خادمه، أو بعض الصحابة كعبد الرحمن بن عوف. وشاء القدر أن لا تطول فرحة الأب بابنه، فقد مرض الطفل وعمره ثمانية عشر شهرا، وشق على الوالد مرض ولده، فذهب إليه وهو يحتضر، فأخذه وضمه وشمه وقبله، ونفسه في حشرجة الموت، يعلو في صدره وينخفض، إن قلب الأب يتقطع، فهو بشر، ولا يملك لفلذة كبده شيئا، وهو أرحم الناس بالناس، فكيف بابنه الوليد، لقد سقطت دمعتان من عينيه أمام أصحابه، وكان عبد الرحمن بن عوف قد سمعه ينهى عن البكاء عند الميت، فقال له: رسول الله. ما هذا الذي أرى؟ أنت تبكي؟ وكنت تنهى عن البكاء؟ فأتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم الدمعتين بدمعتين أخريين، وقال: إنما هذه رحمة، وشفقة، لا سخط ولا اعتراض على قدر، لكنه حزن الإنسان، الذي لا يملك دفعه أو كتمانه، وحزني على موت

إبراهيم شديد، وعاش صلى الله عليه وسلم بعده ثلاثة أشهر، وكان صلى الله عليه وسلم عطوفا رحيما بالأطفال، لدرجة تلفت النظر، في البيئة العربية، يصحب معه في المسجد أمامة بنت أبي العاص، ابنة ابنته زينب، تقام الصلاة، فيحملها ويقف، ويقرأ فإذا ركع وضعها على أرض المسجد، يخشى عليها أن تقع منه عند الركوع، ويسجد بجوارها، فإذا قام للركعة الثانية حملها، وهكذا حتى يكمل صلاته، وابنة ابنته على كتفه وصدره، وأمام الوفود، وأكابر القوم يقبل الحسن والحسين، ابني فاطمة، فيعجب الكبراء ويقولون: أهكذا تقبلون أطفالكم؟ فيقول: نعم, فيقول أحدهم: إن لي عشرة من الأبناء، ما قبلت واحدا منهم، فيقول صلى الله عليه وسلم: وماذا أفعل؟ وما ذنبي، إذا كان الله قد نزع من قلوبكم الرحمة؟ أما نحن فقد غرس الله الرحمة في قلوبنا. صلى الله عليه وسلم. -[المباحث العربية]- (ولد لي الليلة غلام، فسميته باسم أبي إبراهيم) وكان إبراهيم من مارية القبطية، قال الحافظ ابن حجر: على أنه ولد في ذي الحجة، سنة ثمان. (ثم دفعه إلى أم سيف امرأة قين، يقال له: أبو سيف) في الكلام مجاز المشارفة أي أراد أن يدفعه إلى مرضعة، تسمى أم سيف، وزوجها يقال له: أبو سيف، وكان حدادا، ينفخ للحديد في كير، والقين بفتح القاف، وسكون الياء بعدها نون، هو الحداد، ويطلق على كل صانع، ولكن المراد هنا الحداد، وأم سيف اسمها أم بردة خولة بنت المنذر، من بني عدي بن النجار، وعند ابن سعد في الطبقات "لما ولد إبراهيم للنبي صلى الله عليه وسلم تنفاست فيه نساء الأنصار، أيتهن ترضعه؟ فدفعه صلى الله عليه وسلم إلى أم بردة". (فانطلق يأتيه، واتبعته) الظاهر أن جارية حملته، وسارت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعهما أنس بن مالك. (فانتهيا إلى أبي سيف) أي قربنا من بيت أبي سيف. (وهو ينفخ بكيره، قد امتلأ البيت دخانا) هكذا رأوه قبل أن يدخلوا. (فأسرعت المشي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم) لأوقف أبا سيف عن العمل، ليخف الدخان، حتى يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم. (فقلت: يا أبا سيف، أمسك) عن نفخ الكير، وإثارة الدخان. (فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بالصبي) من حاملته. (فضمه إليه) أي سلمه لأبي سفيان، لترضعه أم سيف، وليبقى في بيتها مدة إرضاعه. وفي الرواية الثانية "كان إبراهيم مسترضعا له في عوالي المدينة" وهي قرى على مشارف المدينة، وكانت مارية تسكنها "فكان ينطلق" صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى هذه العوالي بين الحين والحين، ليرى ابنه "ونحن معه، فيدخل البيت، وإنه ليدخن، وكان ظئره قينا" أي وكان زوج

المرأة التي ترضعه حدادا، والظئر بكسر الظاء وسكون الهمزة بعدها راء هو المرضع، وأطلق عليه ذلك لأنه كان زوج المرضعة، وأصل الظئر من ظأرت الناقة، إذا عطفت على غير ولدها، فقيل ذلك للتي ترضع غير ولدها، وأطلق ذلك على زوجها، لأنه يشاركها في تربيته غالبا، فلفظة "الظئر" تطلق على الأنثى والذكر "فيأخذه، فيقبله، ثم يرجع" إلى المدينة. (قال أنس: لقد رأيته - أي رأيت إبراهيم - وهو يكيد بنفسه، بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم) في رواية للبخاري "قال أنس: ثم دخلنا عليه بعد ذلك، وإبراهيم يجود بنفسه" أي يموت، أي يخرج نفسه، ويدفعها، كما يدفع الإنسان ماله، ومعنى "وهو يكيد بنفسه" أي يسوقها. (فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم) في رواية للبخاري "فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان" أي يجري دمعهما، وعند البخاري "فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله؟ "أي الناس لا يصبرون على المصيبة، وأنت تفعل كفعلهم؟ كأنه تعجب من ذلك، مع عهده منه أنه يحث على الصبر، وينهى عن الجزع. (فقال: تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا والله - يا إبراهيم - إنا بك لمحزونون) "ما يرضى" بفتح الياء وسكون الراء وفتح الضاد، و"ما" موصولة، والعائد مفعول "يرضى" محذوف، أي ما يرضاه ربنا وفي رواية للبخاري "فقال يا ابن عوف، إنها رحمة - أي الحالة التي شاهدتها مني هي رقة القلب على الولد، لا ما توهمته من الجزع - "أي أتبع الدمعة الأولى بدمعة أخرى" وقيل: أتبع الكلمة الأولى المجملة، وهي قوله "إنها رحمة" بكلمة أخرى مفصلة، وهي قوله "إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون" وفي رواية "قال عبد الرحمن بن عوف: تبكي يا رسول الله؟ أولم تنه عن البكاء؟ وزاد فيها" قال صلى الله عليه وسلم: إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين. صوت عند نغمة لهو، ولعب ومزامير الشيطان، وصوت عند مصيبة، خمشة وجوه، وشق جيبوب، ورنة شيطان" قال: إنما هذا رحمة، ومن لا يرحم لا يرحم" وفي رواية "إنما أنا بشر" وفي رواية "أنهى الناس عن النياحة، أن يندب الرجل بما ليس فيه" وفي رواية "ولا نقول ما يسخط الرب" في رواية "لولا أنه أمر حق، ووعد صدق، وسبيل نأتيه، وإن آخرنا سيلحق بأولنا، لحزنا عليك حزنا هو أشد من هذا". (فيدخل البيت وإنه ليدخن) بضم الياء وتشديد الدال المفتوحة وفتح الخاء، يقال: ادخنت النار البيت، بهمزة وصل وتشديد الدال المفتوحة وفتح الخاء والنون أي ملأته دخانا. (إن إبراهيم ابني، وإنه مات في الثدي، وإن له لظئرين، تكملان رضاعه في الجنة) مات إبراهيم وهو ابن ثمانية عشر شهرا، وجزم الواقدي بأنه مات يوم الثلاثاء لعشر ليال خلون من شهر ربيع الأول سنة عشر، وقال ابن حزم: مات قبل النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر، ومعنى "وإنه مات في الثدي" أي في سن رضاع الثدي، أو في حال تغذيه بلبن الثدي، ومعنى "وإن له لظئرين تكملان رضاعه في الجنة" أي إن له مرضعتين تتمان رضاعه سنتين، فإنه تمام الرضاعة بنص القرآن، قال صاحب التحرير: وهذا الإتمام لإرضاع إبراهيم رضي الله عنه يكون عقب موته، فيدخل الجنة، متصلا بموته، فيتم رضاعه، كرامة له ولأبيه صلى الله عليه وسلم.

(قدم ناس من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أتقبلون صبيانكم؟ فقالوا: نعم، فقالوا: لكنا - والله - ما نقبل) وفي الرواية الرابعة "أن الأقرع بن حابس أبصر النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الحسن. فقال: إن لي عشرة من الولد، ما قبلت واحدا منهم" وعند البخاري "قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي، وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسا، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد، ما قبلت منهم واحدا" وفي رواية للبخاري "جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: تقبلون الصبيان؟ فما نقبلهم" قال الحافظ ابن حجر: يحتمل أن يكون المراد بالأعرابي الأقرع المذكور في الحديث الذي قبله، ويحتمل أن يكون المراد به قيس ابن عاصم التميمي السعدي، فقد أخرج أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني ما يشعر بذلك، ووقع نحو ذلك لعيينه بن حصن بن حذيفة الفزاري، أخرجه أبو يعلى في مسنده بسند رجاله ثقات، ويحتمل أن يكون قد وقع ذلك لجميعهم - فرادى أو مجتمعين - فقد روى مسلم "قدم ناس من الأعراب، فقالوا ... " (وأملك؟ إن كان الله نزع منكم الرحمة) الكلام على الاستفهام الإنكاري، بمعنى النفي، وحذفت أداة الاستفهام، وأصلها: أو أملك؟ بفتح الواو والهمزة الأولى، كما هي في رواية البخاري، أي ماذا أملك لك؟ أي لا أملك لك شيئا، وقد نزع الله الرحمة من قلبك، أي لا أقدر أن أجعل الرحمة تملأ قلبك، بعد أن نزعها الله منه، وفي رواية "وما أملك"؟ وفي رواية "ما ذنبي إن كان .. "؟ وفي روايتنا "إن كان الله نزع منكم الرحمة" بكسر همزة "إن" وهي أداة شرط، وما بعدها فعل الشرط، وجوابه محذوف، دل عليه ما قبله، أي إن كان الله قد نزع منكم الرحمة فلا أملك لكم شيئا. وفي رواية للبخاري "أن نزع الله من قلبك الرحمة" بفتح همزة "أن" مصدرية، والمصدر مفعول "أملك". (من لا يرحم لا يرحم) وفي الرواية الخامسة "من لا يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل" قال القاضي عياض: هو للأكثر بالرفع فيهما على الخبر، فمن موصولة، وقال أبو البقاء: يجوز أن تكون شرطية، فيقرأ بالجزم فيهما، قال السهيلي: جعله على الخبر أشبه بسياق الكلام، لأنه سيق للرد على من قال: إن لي عشرة من الولد ... إلخ" أي الذي يفعل هذا لا يرحم، ولو كانت شرطية لكان في الكلام بعض انقطاع، لأن الشرط وجوابه كلام مستأنف، قال الحافظ ابن حجر: لكن الشرط أولى من جهة أخرى، لأنه يصير من نوع ضرب المثل، ورجح بعضهم كونها موصولة، لكون الشرط إذا أعقبه نفي ينفى غالبا بلم، قال الحافظ: وهذا لا يقتضي ترجيحا إذا كان المقام لائقا لكونها شرطية. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من أحاديث الباب]- 1 - من الرواية الأولى جواز تسمية المولود يوم ولادته. 2 - وجواز التسمية بأسماء الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام. 3 - ومن الأولى والثانية استتباع العالم الكبير بعض أصحابه، إذا ذهب إلى منزل قوم ونحوه.

4 - من قول أنس "واتبعته" الأدب مع الكبار. 5 - ومن قوله في الرواية الثانية "فيأخذه فيقبله" مشروعية تقبيل الأطفال الرضع. 6 - ومن الروايتين مشروعية الرضاع بغير الأم. 7 - وعيادة الصغير. 8 - والحضور عند المحتضر. 9 - والرحمة بالعيال. 10 - قال ابن بطال وغيره: هذا الحديث يفسر البكاء المباح، والحزن الجائز، وهو أبين شيء وقع في هذا المعنى. 11 - وفيه جواز الإخبار عن الحزن، وإن كان الكتمان أولى. 12 - ومن مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم ولده، مع أنه في تلك الحالة لم يكن ممن يفهم الخطاب، لصغره واحتضاره مخاطبة الإنسان وإرادة غيره بذلك الخطاب. 13 - قال بعضهم: فيه دليل على تقبيل الميت، ورده ابن التين بأن القصة إنما وقعت قبل الموت. 14 - وفيه فضيلة وخاصة لإبراهيم رضي الله عنه، لتكملة إرضاعه في الجنة بمرضعتين. 15 - ومن الرواية الثالثة وما بعدها جواز تقبيل الولد الصغير في كل عضو منه، قال ابن بطال: كذا الكبير عند أكثر العلماء، ما لم يكن عورة، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل فاطمة، وكذا كان أبو بكر يقبل عائشة رضي الله عنهم. 16 - قال الحافظ ابن حجر: وفي جواب النبي صلى الله عليه وسلم للأقرع إشارة إلى أن تقبيل الولد وغيره من الأهل والمحارم وغيرهم من الأجانب إنما يكون للشفقة والرحمة، لا للذة والشهوة، وكذا الضم والشمة والمعانقة اهـ. أي إن كان للشفقة والرحمة جاز، وإلا منع. والله أعلم

(615) باب حيائه صلى الله عليه وسلم

(615) باب حيائه صلى الله عليه وسلم 5255 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها وكان إذا كره شيئا عرفناه في وجهه. 5256 - عن مسروق قال دخلنا على عبد الله بن عمرو حين قدم معاوية إلى الكوفة فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لم يكن فاحشا ولا متفحشا وقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من خياركم أحاسنكم أخلاقا قال عثمان حين قدم مع معاوية إلى الكوفة. -[المعنى العام]- يراجع المعنى العام لأبواب الحياء في كتاب الإيمان. -[المباحث العربية]- (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها) العذراء البكر، وجمعه عذارى بفتح الراء، وعذار، ويقال: درة عذراء، أي لم تثقب، ورملة عذراء، أي لم توطأ، والعذرة بضم العين وسكون الذال البكارة، وعذر الطبيب الغلام والجارية عذرا بفتح العين وسكون الذال ختنها، والخدر بكسر الخاء، وسكون الدال الستر يجعل للبكر جنب البيت، وقوله "في خدرها" من باب التتميم لما قبلها، لأن العذراء في الخلوة يشتد حياؤها، أكثر مما تكون خارجة عنه، لكون الخلوة مظنة وقوع الفعل بها، فالظاهر أن المراد تقييده بما إذا دخل عليها في خدرها، لا حيث تكون منفردة فيه. (وكان إذا كره شيئا عرفناه في وجهه) أي لا يتكلم به لحيائه، بل يتغير وجهه، فنفهم نحن كراهيته. وقد ساق البخاري هذه الجملة كحديث مستقل، وهي إشارة إلى تصحيح أنه لم يكن يواجه أحدا بما يكرهه، بل يتغير وجهه، وعند أبي داود "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن الرجل الشيء، لم يقل: ما بال فلان يقول؟ ولكن يقول: ما بال أقوام يقولونه؟ "

هذا وللحياء باب، بل أبواب مضت في كتاب الإيمان. (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشا، ولا متفحشا) أي ناطقا بالفحش، وهو الزيادة على الحد في الكلام السيئ، والمتفحش المتكلف لذلك، أي لم يكن الفحش له خلقا، ولا مكتسبا، وعند الترمذي "سئلت عائشة عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: لم يكن فاحشا، ولا متفحشا، ولا سخابا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح" وللبخاري في الأدب المفرد "لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبابا، ولا فحاشا، ولا لعانا". (إن من خياركم أحاسنكم أخلاقا) في رواية البخاري "أحسنكم أخلاقا" وحسن الخلق اختيار الفضائل، وترك الرذائل، وقد سبق قبل ثلاثة أبواب باب حسن خلقه صلى الله عليه وسلم. -[فقه الحديث]- سبق في كتاب الإيمان شرح الحياء اللغوي والشرعي والممدوح منه والمذموم بما يغني عن الشرح والإعادة. والله أعلم

(616) باب تبسمه صلى الله عليه وسلم وحسن عشرته

(616) باب تبسمه صلى الله عليه وسلم وحسن عشرته 5257 - عن سماك بن حرب قال قلت لجابر بن سمرة أكنت تجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم كثيرا كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح حتى تطلع الشمس فإذا طلعت قام وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم صلى الله عليه وسلم. -[المعنى العام]- يقول الله تعالى {وأنه هو أضحك وأبكى} [النجم: 43] أي خلق في الإنسان الضحك والبكاء، فالضحك خاصة من خواص الإنسان، قد يشاركه فيه بقدر ضعيف بعض الحيوانات، وهو تعبير عن وجدان داخلي بالسرور أو الإعجاب أو الدهشة أو الرضا. وكلما كان تعبيرا دقيقا عن درجة هذا الوجدان، وكلما كان صادقا مطابقا لهذا الشعور الداخلي كان مقبولا شرعا وعرفا فإن زاد، أو انحرف، بأن تكرر من غير سبب، كان علامة على قلة الأدب وإن كثر وزاد - ولو بسبب - أمات القلب، وصار عادة تغلب صاحبها عند عدم السبب. وللضحك والابتسامة آداب وحدود، يحكم بها العرف والشرع، فالضحك استهزاء وسخرية ذميم، وضحك المرأة وابتسامتها للأجنبي مطمع فيها، والضحك في وقت الجد وأمام الكبراء غير حميد، والضحك في مواقف الحزن كريه ومعيب وزيادة الضحك عن حدودها، برفع الصوت واستمرار القهقهة كما يفعل الحشاشون والسكارى أمر مشين. وما أحسن ما كان عليه صلى الله عليه وسلم، إذ كان يضحك في المناسبة وبقدر الحاجة، ولا يزيد على التبسم. -[المباحث العربية]- (قال: نعم. كثيرا) صفة لمفعول مطلق محذوف، والتقدير: كنت أجالسه جلوسا كثيرا. (وكانوا يتحدثون، فيأخذون في أمر الجاهلية) الضمير للصحابة الجالسين معه بعد الصلاة، والمراد بأمر الجاهلية أخبارها وأحوالها التي يمجها العقل، كمن صنع إلها له من عجوة فلما جاع أكله.

(فيضحكون، ويبتسم صلى الله عليه وسلم) قال أهل اللغة: التبسم مبادئ الضحك، والضحك انبساط الوجه، وانفراج الفم حتى تظهر الأسنان، فإن كان بصوت بحيث يسمع من بعد فهو القهقهة، وإلا فهو الضحك، وإن كان بلا صوت فهو التبسم، وتسمى الأسنان في مقدم الفم الضواحك، وهي الثنايا والأنياب وما يليها، وتسمى النواجذ جمع ناجذة، وهي الأضراس. فالضحك يطلق على مراحل إظهار السرور في الوجه، وتبدأ بانبساط الأسارير، وانبساط الشفتين دون فتحهما، وبدون صوت يسمعه من بجوارك، المرحلة الثانية تزيد على الأولى انفتاح الشفتين دون ظهور الأسنان، المرحلة الثالثة كالثانية مع ظهور الرباعيات، أي الأسنان الأربع الأمامية علويا وسفليا، المرحلة الرابعة ظهور الأنياب، المرحلة الخامسة ظهور الأضراس، المرحلة السادسة ظهور اللهوات، جمع لهاة، وهي اللحمة المشرفة على الحلق، وتطلق على الجزء الأخير من سقف الحلق، المطبق على الفك الأسفل، وكل هذه المراحل الست تدخل في التبسم، ما دامت بلا صوت يسمع، فإن صاحبها صوت ضحك فهي القهقهة، ولو كانت بدون فتح الشفتين، فكل ابتسامة ضحك، وليس كل ضحك ابتساما. وكل ما حصل منه صلى الله عليه وسلم ابتسام بمراحله الست، كما سنوضح ذلك في فقه الحديث، ولم يحصل منه قهقهة أصلا، ففي البخاري "وما يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم على التبسم". -[فقه الحديث]- كان الأغلب في أحواله صلى الله عليه وسلم التبسم بالمراحل الثلاث الأوليات، وقلما استعمل المرحلة الرابعة والخامسة وندر استعماله للمرحلة السادسة، ويحمل وصفه صلى الله عليه وسلم بالضحك أو التبسم على المرحلة الأولى والثانية والثالثة، كل حسب المقام، كما في حديث الأعرابي الذي جذبه من ثوبه، حتى أثر الجذب في صفحة عنقه صلى الله عليه وسلم، وقال له: أعطني من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم، فضحك، ثم أمر له بعطاء" وكما في حديثنا، وحين المبالغة في التبسم تذكر المرحلة، وينص عليها غالبا، ففي حديث الرجل الذي جامع في رمضان، حين قال: والله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر منا، "ضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه" وفي رواية "حتى بدت أنيابه" نعم في حديث لعائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيه صلى الله عليه وسلم مستجمعا قط ضاحكا، حتى أرى منه لهواته" فنفت عنه المرحلة السادسة، لكن قال ابن بطال: المثبت مقدم على النافي. قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر من مجموع الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم كان في معظم أحواله لا يزيد على التبسم - أي في مراحله الثلاث الأخيرة - قال: والمكروه من ذلك إنما هو الإكثار منه، أو الإفراط فيه، لأنه يذهب الوقار، قال ابن بطال: والذي ينبغي أن يقتدى به من فعله، ما واظب عليه من ذلك، فقد روى البخاري في الأدب المفرد وابن ماجه من وجهين عن أبي هريرة، رفعه "لا تكثر الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب"

-[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - استحباب الذكر بعد صلاة الصبح. 2 - وملازمة مجلس صلاة الصبح ما لم يكن عذر، قال القاضي: هذه سنة، كان السلف وأهل العلم يفعلونها، ويقتصرون في ذلك الوقت على الذكر والدعاء، حتى تطلع الشمس. 3 - جواز الحديث بأخبار الجاهلية وغيرها من الأمم. 4 - وجواز الضحك المحدود، فقد أقر صلى الله عليه وسلم صحابته على ضحكهم، والمكروه إكثاره، وهو في أهل المراتب والعلم أقبح. 5 - حسن عشرته صلى الله عليه وسلم. والله أعلم

(617) باب رحمته صلى الله عليه وسلم بالنساء، والرفق بهن

(617) باب رحمته صلى الله عليه وسلم بالنساء، والرفق بهن 5258 - عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، وغلام أسود يقال له: أنجشة يحدو، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أنجشة، رويدك، سوقا بالقوارير". 5259 - عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى على أزواجه، وسواق يسوق بهن يقال له: أنجشة. فقال: "ويحك يا أنجشة! رويدا سوقك بالقوارير" قال: قال أبو قلابة: تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلمة لو تكلم بها بعضكم لعبتموها عليه. 5260 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كانت أم سليم مع نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وهن يسوق بهن سواق. فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "أي أنجشة! رويدا سوقك بالقوارير". 5261 - عن أنس رضي الله عنه قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حاد حسن الصوت. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رويدا يا أنجشة! لا تكسر القوارير! يعني ضعفة النساء". 5262 - عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولم يذكر: حاد حسن الصوت. -[المعنى العام]- يقول صلى الله عليه وسلم "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي" ويقول "اتقوا الله في النساء، فإنهن خلقن من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرا". ومن مسلمات الحياة أن المرأة ضعيفة البنية، ناعمة الصوت والملمس، رقيقة الحس، مرهفة العواطف، كالزجاجة الرقيقة، بل كزجاجة المصباح، فائدتها في شفافيتها وصفائها، وفي وقايتها والحفاظ عليها، وفي صيانتها وحمايتها من أدناس البيئة وعواصف الأهواء، ولذا شبهوها بالزجاجة

والقارورة، يقول صلى الله عليه وسلم في الوصاية بها "رفقا بالقوارير" والقوارير يضرب بها المثل في سرعة الكسر، وعدم قبول الإصلاح والجبر، يقول الشاعر: ارفق بعمرو إذا حركت نسبته ... فإنه عربي من قوارير والإسلام يعتز بالمرأة، ويصونها، ويعتبر حصانتها أساس حياتها، من هنا أحاطها بسياج من وسائل الحفظ والتكريم، حتى في الجنة، وصفها القرآن الكريم بقوله {حور مقصورات في الخيام} [الرحمن: 72]، {وعندهم قاصرات الطرف عين* كأنهن بيض مكنون} [الصافات: 48 - 49]، {وحور عين* كأمثال اللؤلؤ المكنون} [الواقعة: 22 - 23] حرص الإسلام على راحتها إن هي أقامت، فأوجب لها على الرجل السكنى والنفقة والكسوة والمعاشرة بالمعروف وإن هي سافرت، حتى لا تسافر مسافة قصر بدون زوج أو محرم، نركب ويمشي الرجل، وعليه أن يهيئ لها في مركبها ما يريحها من هودج وفراش وثير، ومشي وئيد، بل وأن يحدو لها الحادي، ويغني لها لينعشها في سفرها، كالطفل تغني له أمه، وتحننه، وتهدهده، وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يسافر ببعض نسائه، فيهيئ لهن الركائب، ويعد لهن الهوادج، ويخصص لهن عبدا خادما، يقودهن، ويراعي مصالحهن، ويحدو لهن، ولا يكتفي صلى الله عليه وسلم بذلك، بل يرعى بنفسه شئونهن، ويتعهد أحوالهن، فيذهب إلى رحلهن بنفسه، يطمئن عليهن، ويوصي بهن وبراحتهن، فيقول للخادم: يا أنجشة، ارفق بهن في سوقك، وارفق بهن في حدوك وغنائك، فإنهن كالقوارير، فهل رأيت حنانا ورقة وعطفا على النساء مثل هذا؟ صلى الله عليه وسلم. -[المباحث العربية]- (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، وغلام أسود، يقال له: أنجشة، يحدو) في الرواية الثانية "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى على أزواجه، وسواق يسوق بهن، يقال له: أنجشة" وفي الرواية الثالثة "كانت أم سليم مع نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وهن يسوق بهن سواق" وفي الرواية الرابعة "كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حاد حسن الصوت" وفي رواية البخاري "أتى النبي صلى الله عليه وسلم على بعض نسائه" وفي رواية "وكان معهم سائق وحاد" وفي أخرى "كان أنجشة يحدو بالنساء، وكان البراء يحدو بالرجال" وفي رواية "وأنجشة غلام النبي صلى الله عليه وسلم يسوق بهن" وفي رواية "وكان يحدو بأمهات المؤمنين ونسائهم" أي نساء المؤمنين. فمن هذه الروايات يتبين أن الرحلة كانت رحلة سفر، وفيها رجال ونساء، من غير اختلاط، فللرجال حاد، وللنساء حاد، وكان في ركب النساء بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، كل واحدة في هودج على بعير، وأن أنجشة كان سائق ركب النساء وحاديه، وكان غلاما أسود، حبشيا حسن الصوت، قيل: كان يكنى أبا مارية، وأنه كان ممن نفاهم النبي صلى الله عليه وسلم من المخنثين. وأن أم سليم، أم أنس، كانت مع نساء النبي صلى الله عليه وسلم وأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يطمئن على ركب النساء، فأتى عليهن، والظاهر أنه أحس بركبهن ما يشغله عليهن، ففي رواية "فاشتد عليهن السياق" أي أسرع بركبهن بسبب انسجام الإبل بالحداء، وفي رواية "فإذا أعنقت الإبل" أي أسرعت.

(فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أنجشة. رويدك، سوقا بالقوارير) في الرواية الثانية "فقال: ويحك يا أنجشة، رويدا، سوقك بالقوارير" وفي الرواية الثالثة "أي أنجشة: رويدا، سوقك بالقوارير" وفي الرواية الرابعة "رويدا يا أنجشة، لا تكسر القوارير" يعني ضعفة النساء. وفي رواية " يا أنجش" على الترخيم، وفي رواية "ارفق" وفي رواية "رويدك ارفق" وفي رواية "كذلك سوقك" أي كفاك سوقك، وفي رواية "رويدك سوقك، ولا تكسر القوارير" والقوارير جمع قارورة، وهي الزجاجة، قيل: سميت بذلك لاستقرار الشراب فيها، كنى عن النساء بالقوارير، لرقتهم وضعفهن عن الحركة، والنساء يشبهن بالقوارير في الرقة واللطافة وضعف البنية، والكناية لفظ أطلق، وأريد منه لازم معناه، فكأنه قال: رفقا بالضعيفات المحمولات على الإبل، وقيل: شبهن بالقوارير لسرعة انقلابهن عن الرضا، وقلة دوامهن على الوفاء، كالقوارير، يسرع إليها الكسر ولا تقبل الجبر، والأول أولى في هذا المقام، وقيل: أراد بالقوارير الإبل، وكان في سوق أنجشة لها عنف، فأمر أن يرفق بالمطايا، وهذا أبعد من سابقه، والهدف من الأمر بالرفق أحد احتمالين أو هما معا، الأول أن الحداء دفع الإبل إلى الإسراع، أو أن سوقه العنيف دفع الإبل إلى الإسراع، مما يقلق الراكبات، ويزعزعهن، ويحول دون راحتهن، فأمر بالعمل على راحة الراكبات، والرفق بهن، والثاني أن أنجشة كان حسن الصوت، وأكثر من الحداء، وحسن صوته يحرك نفوس النساء، ويضعف عزائمهن، فخشي من سماعهن النشيد أن يقع بقلوبهن منه شيء، فأمر بالكف عن الحداء. قال عياض: وقوله "رويدا" منصوب على أنه صفة لمحذوف، دل عليه اللفظ السابق، أي سق سوقا رويدا، أو احد حدوا رويدا، أو منصوب على المصدر، أي أورد رويدا، مثل ارفق رفقا، أو على الحال، أي سر رويدا، و"رويدك" منصوب على الإغراء، أو مفعول بفعل مضمر، أي الزم رفقك، وقيل: "رويدك" إما مصدر، والكاف في محل خفض، وإما اسم فعل والكاف حرف خطاب، وقال الراغب: يقال: أورد، يورد كأمهل يمهل لفظا ومعنى، وهو من الرود بفتح الراء، وسكون الواو، وهو التردد في طلب الشيء برفق ويقال: راد، وارتاد، والرائد طالب الكلأ، ورادت المرأة، ترود إذا مشت على هنيتها، وقال الرامهرمزي: رويدا تصغير رود، وهو مصدر فعل الرائد، وهو المبعوث في طلب الشيء، ولم يستعمل في طلب المهلة، إلا مصغرا، وقال السهيلي: قوله "رويدا" أي أرفق، جاء بلفظ التصغير لأن المراد التقليل، أي ارفق قليلا. و"سوقك" منصوب على نزع الخافض، أي ارفق في سوقك، أو سقهن كسوقك، وقال القرطبي في المفهم: "سوقك" مفعول به، وفي الرواية الأولى "سوقا" وهو منصوب على الإغراء، أو على المصدر. وجاء في الرواية الثانية "ويحك يا أنجشة، رويدا سوقك بالقوارير" قال النووي: هكذا وقع في مسلم "ويحك" ووقع في غيره "ويلك" قال سيبويه "ويل" كلمة تقال لمن وقع في هلكة، و"ويح" زجر لمن أشرف على الوقوع في هلكة، وقال الفراء: ويح، وويك، وويس بمعنى، وقيل: "ويح" كلمة لمن وقع في هلكة لا يستحقها، أي فيرثى له، ويترحم عليه، و"ويل" ضده، قال القاضي: قال بعض أهل اللغة" لا يراد بهذه الألفاظ حقيقة الدعاء، وإنما يراد بها المدح والتعجب، اهـ. ولا يصلح هذا القول في هذا المقام.

(قال أبو قلابة: تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلمة، لو تكلم بها بعضكم لعبتموها عليه) كذا ورد في الرواية الثانية، وأبو قلابة الراوي عن أنس، وأراد بالكلمة، قوله صلى الله عليه وسلم "بالقوارير" وهي كلمة تشبه النساء بالقوارير، وقد يفهم منها الغزل والهزل، وقد تعاب على قائلها عند المتنطعين، وكان أهل العراق كذلك في زمن أبي قلابة، يميلون إلى التكلف وكثرة الجدل والمراء ومعارضة الحق بالباطل، فلو قال كبير مثلها لعابوها عليه، وقيل: مراد أبي قلابة أن هذه الكلمة غير واضحة الدلالة على المراد، لأن وجه الشبه بين القارورة والمرأة ليس جليا، فلو قالها أحد من أهل العراق، لعابها العراقيون، معترضين عليها من حيث البلاغة، وقيل: إن مراد أبي قلابة أن هذا التعبير مثل في البلاغة، ومن أرقى أساليبها التي لا يمسها أهل العراق، ولا يفهمونها، فيدفعهم جهلهم إلى عيبها، لو صدرت من أحدهم. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث]- 1 - جواز الحداء، والحداء شعر، يجري عليه من الأحكام ما يجري على الشعر، وقد بوب البخاري لهذا الحديث بباب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء، والشعر في الأصل اسم لما دق، واستعمل في الكلام المقفي الموزون قصدا، والرجز بفتح الراء والجيم نوع من الشعر عند الأكثر، والحداء بضم الحاء، وتخفيف الدال، يمد، ويقصر، سوق الإبل بضرب مخصوص من الغناء، ويكون في الغالب بالرجز، وقد يكون بغيره من الشعر، وقد جرت عادة الإبل أنها تسرع السير، إذا حدي بها. ونقل ابن عبد البر الاتفاق على إباحة الحداء، وفي كلام بعض الحنابلة إشعار بنقل خلاف فيه، قال الحافظ ابن حجر: ومانعه محجوج بالأحاديث الصحيحة، ويلتحق بالحداء هنا الحجيج المشتمل على التشوق إلى الحج بذكر الكعبة وغيرها من المشاهد، ونظيره ما يحرض أهل الجهاد على القتال، ومنه غناء المرأة لتسكين الولد في المهد، أقول: ومثله غناء عمال البناء وملاحي السفن الشراعية وغيرهم، وأخرج الطبري من طريق ابن جريج، قال: سألت عطاء عن الحداء والشعر والغناء؟ فقال: لا بأس به ما لم يكن فاحشا. 2 - وفيه جواز السفر بالنساء. 3 - واستعمال المجاز. 4 - وفيه مباعدة النساء من الرجال، قال النووي: ومن سماع كلامهم إلا الوعظ ونحوه. 5 - ذكر البخاري هذا الحديث تحت باب: المعاريض مندوحة عن الكذب، والمعاريض جمع معراض من التعريض بالقول، وهو خلاف التصريح، وهو التورية بالشيء عن الشيء، قال الراغب: التعريض كلام له وجهان في صدق وكذب، أو باطن وظاهر، قال الحافظ ابن حجر: والأولى أن يقال: كلام له وجهان، يطلق أحدهما ويراد لازمه، والمراد هنا قوله "رفقا بالقوارير" فإنه كنى بذلك عن النساء. والله أعلم

(618) باب قربه صلى الله عليه وسلم من الناس، وتبركهم به، وتواضعه لهم

(618) باب قربه صلى الله عليه وسلم من الناس، وتبركهم به، وتواضعه لهم 5263 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء، فما يؤتى بإناء إلا غمس يده فيها. فربما جاءوه في الغداة الباردة فيغمس يده فيها. 5264 - عن أنس رضي الله عنه قال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحلاق يحلقه. وأطاف به أصحابه. فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل. 5265 - عن أنس رضي الله عنه، أن امرأة كان في عقلها شيء. فقالت: يا رسول الله! إن لي إليك حاجة. فقال: "يا أم فلان، انظري أي السكك شئت. حتى أقضي لك حاجتك" فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها. -[المعنى العام]- كان صلى الله عليه وسلم متواضعا، قريبا من الناس، يمشي بين أصحابه كواحد منهم، ويجلس بينهم لا يكاد يعرف عنهم، يدخل الداخل الغريب فيقول: أيكم محمد؟ يضع يده في يد رفيقه في الطريق، ويردف على ناقته هذا تارة، وهذا تارة، يأكل معهم من إناء واحد، ويشرب معهم من كوب واحد، بل كان يشرب بعد أن يشرب الناس، إذا صافح مسلما لم ينزع يده من يده حتى ينزع صاحبه، إذا طلب منه شيء أجاب، ولم يقل: لا، مهما شق عليه المطلب، لقد كان الصحابة يتبركون بالماء الذي يلامس أصابعه صلى الله عليه وسلم، فكانوا في الفجر يبعثون بمائهم في أوانيهم مع خدمهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليضع يده في مائهم، فما تذمر، ولا تكبر على الخدم، ولا رفض لهم مطلبهم، بل لم يتأفف، ولم يتضجر من برد الماء في شدة الشتاء. ولقد كانوا يتبركون بالاحتفاظ بشعره صلى الله عليه وسلم، فإذا جاءه الحلاق أسرعوا إليه، يحيطون به، يتلقفون شعره قبل أن يسقط على الأرض، ويحتفظون بما يلتقطون من شعره تبركا به في بيوتهم.

والعجب أن توقفه امرأة في الطريق تسأله، فيقف دون مصاحبيه ويناديها بكنيتها، ويستمع لها، فتطلب منه أن تختلي به بعيدا عن مسامع أصحابه، لتسر إليه بمسألتها، فلا يختار المكان، بل يطلب إليها أن تختار هي المكان الذي تحبه، فيذهب معها إليه، ويقف معها طويلا، لا يمل، ولا يتضجر، وهو يعلم أن في عقلها ضعفا، ومع ذلك يظل يتكلم معها في حاجتها حتى تكتفي هي، وتنصرف راضية شاكرة، وصدق الله العظيم إذ يقول فيه: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128]. -[المباحث العربية]- (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة) أي إذا صلى الفجر، وهذا الأسلوب يفيد التكرار والاستمرار والشأن والعادة والغالب. (جاء خدم المدينة بآنيتهم) في الكلام حذف مضافين، والأصل: خدم أهل المدينة، بآنية أسيادهم، والمراد من الآنية الجنس، الصادق بالجمع، فالمراد بأوانيهم، فيتقابل الجمع بالجمع، فيقتضي القسمة أحادا، فيئول المعنى إلى: جاء خدم المدينة كل واحد بإناء سيده، والمراد المجموع والكثيرون، وليس كل خادم. (فيها الماء) جملة حالية. (فما يؤتى بإناء إلا غمس يده فيها) أعاد الضمير مؤثنا باعتبار أن الإناء والآنية شيء واحد، و"يؤتى" بضم الياء، بالبناء للمجهول، والمعنى فما يطلب منه وضع يده في إناء به ماء تبركا بيده، إلا وأجاب. (فربما جاءوه في الغداة الباردة، فيغمس يده فيها) أي في الأواني، وهذه الجملة تصوير للمبالغة في الإجابة، أي حتى ولو صاحبت الإجابة مشقة شديدة، والغداة الباردة وقت الفجر والصبح في الشتاء. (وأطاف به أصحابه) يقال: طاف به، وأطاف به أصحابه، أي أحاطوا به، والجملة حال بتقدير "قد" عند من يشترطها. (فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل) أي فيسارعون إلى التقاط شعره صلى الله عليه وسلم الذي يتساقط من الحلاق، قبل أن يصل إلى الأرض، ونفى الإرادة، ولم ينف وقوع شعرة إلى الأرض، لأن الموجود الكائن فعلا الحرص، وقد يفلت من حرصهم شعرات، تقع فيرفعونها. (أن امرأة كان في عقلها شيء) من الخفة والضعف، يقصد بذلك بيان عذرها في مطلبها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. (فقالت: يا رسول الله، إن لي إليك حاجة) أي أريدك في خلوة، بعيدا عن الناس وعن أصحابك الذين هم معك الآن.

(فقال: يا أم فلان) منطوقه صلى الله عليه وسلم كنيتها الحقيقية، وهو ظاهر في أنه كان يعرفها جيدا. (انظري أي السكك شئت) أي اختاري مكانا في أي طريق من الطرق. (حتى أقضي لك حاجتك) أي حتى أجيبك إلى طلبك بعيدا عن سماع الناس. (فخلا معها في بعض الطرق، حتى فرغت من حاجتها) معطوف على محذوف، أي فاختارت مكانا، فوافقها عليه، فخلا معها، والتعبير بـ "معها" فيه إشارة أنه لم يقصد الخلوة بها. -[فقه الحديث]- قال النووي في هذه الأحاديث 1 - بيان بروزه صلى الله عليه وسلم للناس، وقربه منهم، ليصل إليه أهل الحقوق، ويرشد مسترشدهم، وليشاهدوا أفعاله وحركاته، فيقتدى بها، وهكذا ينبغي لولاة الأمور. 2 - وفيها صبره صلى الله عليه وسلم على المشقة في نفسه لمصلحة المسلمين، وإجابته من سأله حاجة، أو تبريكا بمس يده، وإدخالها في الماء. 3 - وفيه التبرك بآثار الصالحين. 4 - وبيان ما كانت الصحابة عليه من التبرك بآثاره صلى الله عليه وسلم. 5 - وتبركهم بإدخال يده الكريمة في أوانيهم. 6 - وتبركهم بشعره الكريم. 7 - وإكرامهم إياه أن يقع شيء منه إلا في يد رجل منهم. 8 - وبيان تواضعه صلى الله عليه وسلم، بوقوفه مع المرأة الضعيفة، ليقضي لها حاجتها، قال: ولم يكن ذلك من الخلوة بالأجنبية، فإن هذا كان في ممر الناس ومشاهدتهم إياه وإياها، لكن لا يسمعون كلامها، لأن مسألتها كانت مما لا تظهرها الناس. هذا، ومن التبرك بآثاره حديث أبي أيوب الأنصاري (رقم/ 21) في باب أكل التمر والثوم. ومن التبرك بشعره صلى الله عليه وسلم حديث حلقه صلى الله عليه وسلم في الحج وتوزيع شعره على الصحابة وقد سبق في كتاب الحج. والله أعلم

(619) باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام، واختياره من المباح أسهله، وانتقامه لله تعالى عند انتهاك حرماته.

(619) باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام، واختياره من المباح أسهله، وانتقامه لله تعالى عند انتهاك حرماته. 5266 - عن عائشة رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أنها قالت: ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما. فإن كان إثما كان أبعد الناس منه. وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه، إلا أن تنتهك حرمة الله عز وجل. 5267 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين، أحدهما أيسر من الآخر إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما. فإن كان إثما كان أبعد الناس منه. 5268 - عن هشام بهذا الإسناد، إلى قوله: أيسرهما. ولم يذكرا ما بعده. 5269 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط بيده. ولا امرأة ولا خادما. إلا أن يجاهد في سبيل الله. وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه، إلا أن ينتهك شيء من محارم الله، فينتقم لله عز وجل. -[المعنى العام]- نعم، دين الإسلام يسر، قال تعالى {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78] ويقول صلى الله عليه وسلم "يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا" وقال لمعاذ رضي الله عنه لما أطال القراءة في الصلاة، وهو إمام: قال له: أفتان أنت يا معاذ؟ من أم الناس فليخفف، فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة،

ولما أراد جماعة التشديد على أنفسهم في العبادة وقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا، وقال الآخر: وأما أنا فأصوم الدهر أبدا، وقال الثالث: وأما أنا فسأتبتل، وأعتزل النساء غضب صلى الله عليه وسلم، وخطب في الناس، وقال: ما بال أقوام يقولون كذا وكذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني. ومن هذا المنطلق كان صلى الله عليه وسلم في عباداته ومعاملاته يميل إلى اليسر، ويتباعد عن العسر، ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن هذا الأيسر إثما، أو يؤدي إلى الإثم، فإن كان إثما أو يؤدي إلى الإثم بعد عنه، بل كان أبعد الناس عنه، وعمل بغير اليسر مهما كان صعبا وشاقا. وكان صلى الله عليه وسلم - من باب التخفيف على الأمة، والتسامح معها- يعفو عمن ظلمه، ولا ينتقم ممن أذاه حين القدرة عليه، ولقد قال لأهل مكة بعد أن فتحها ونصره الله عليهم: ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم. قال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء. فما انتقم لنفسه صلى الله عليه وسلم ممن آذاه، وما ضرب بيده الكريمة امرأة ولا خادما قط، وما آذى إلا لله، وإلا ما انتهكت حرمات الله، صلى الله عليه وسلم. -[المباحث العربية]- (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين) "خير" بضم الخاء وكسر الياء المشددة، مبني للمجهول، وأبهم الفاعل، ليعم ما كان من قبل الله، وما كان من قبل المخلوقين، والأمران إما أن يكونا من أمور الدنيا، وإما أن يكونا من أمور الآخرة، وإما أن يكون أحدهما من أمور الدنيا، والثاني من أمور الآخرة. (إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثما) أي ما لم يكن الأيسر إثما. (فإن كان إثما كان أبعد الناس منه) أي فإن كان الأيسر إثما تركه وبعد عنه، وأخذ الأصعب الذي لا إثم فيه، وعند الطبراني في الأوسط "إلا اختار أيسرهما ما لم يكن لله فيه سخط". قال العلماء: وقوع التمييز بين ما فيه إثم، وبين ما لا إثم فيه من العباد واضح وواقع كثيرا، وخصوصا إذا وقع من الكفار، كما وقع في الحديبية، بين أن يرجع من عام، ثم يعود العام القابل معتمرا، وبين القتال، فاختار الأول، وبين أن يمحو من الوثيقة كلمة "رسول الله" وبين أن يرفض الصلح، فاختار الأول. أما وقوع التمييز من الله فلا يكون بين ما فيه إثم، وما لا إثم فيه، وإنما يكون التمييز منه تعالى بين جائزين، ويصير المعنى ما خيره الله بين أمرين جائزين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فالمستثنى ليس من جنس المستثنى منه، فالاستثناء منقطع، ومثل له بعضهم بالفطر للصائم المسافر، وصلاة الفرض قاعدا للعاجز الذي يشق عليه القيام، وبول الأعرابي في المسجد، صب ذنوب

من ماء، أو إزالة التراب المتنجس، لكن إذا حملناه على ما يفضي إلى الإثم، أمكن أن يخير الشارع بين ما لا يفضي إلى الإثم وبين ما يفضي إلى الإثم غالبا، ومثلوا له بأن يخير بين أن يفتح عليه من كنوز الأرض، وما يخشى من الاشتغال به عن العبادة مثلا، وبين أن لا يؤتيه من الدنيا إلا الكفاف، فيختار الكفاف، وإن كانت السعة أسهل منه، والإثم على هذا أمر نسبي، لا يراد منه معنى الخطيئة، لثبوت العصمة له صلى الله عليه وسلم، بل هو من قبيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين، ويكون المراد ما لم يكن إثما أو يخشى منه أن يفضي إلى خلاف الأولى، فيختار الأشق حينئذ، ويترك الأيسر، والاستثناء على هذا متصل، فالمستثنى من جنس المستثنى منه. وقال ابن التين: المراد التمييز بين أمرين من أمور الدنيا، وأما أمر الآخرة، فكلما صعب كان أكثر ثوابا، كذا قال، وفيه نظر، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم ويفطر ويصلي ويرقد، ويتزوج النساء. (ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه) في بعض الروايات "ما نيل منه شيء قط، فينتقم من صاحبه" و"نيل" بكسر النون، مبني للمجهول، أي ما أصيب بأذى من قول أو فعل، وقد استشكل عليه أمره بقتل عقبة بن أبي معيط وعبد الله بن خطل، وغيرهما ممن كان يؤذيه، ولتفادي هذا الإشكال وضع بعضهم قيدا، فقال: وما انتقم لنفسه خاصة، أما هؤلاء فقد كانوا ينتهكون محارم الله مع إيذائه، أو أن إيذاءه كان من حيث هو رسول الله، فهو انتهاك لمحارم الله، لذا لم ينتقم لنفسه من الأعرابي الذي جفا في رفع صوته عليه، ولا من الذي جذبه بردائه، حتى أثر في كتفه. وحمل الداودي عدم الانتقام على ما يختص بالمال، قال: وأما العرض فقد اقتص ممن نال منه، قال: واقتص ممن لده في مرضه، بعد نهيه عن ذلك، حيث أمر بلدهم، مع أنهم كانوا في ذلك متأولين، بأنه إنما نهاهم بسبب كراهة النفس للدواء، بحكم العادة البشرية. كذا قال: وفيه نظر. -[فقه الحديث]- -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - الحث على ترك الأخذ بالعسير من الأمور. 2 - والاقتناع باليسير. 3 - وترك الإلحاح فيما لا يضطر إليه. 4 - والندب إلى الأخذ بالرخص، ما لم يظهر الخطأ. 5 - والحث على العفو، إلا في حقوق الله تعالى. 6 - والندب إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال الحافظ ابن حجر: ومحل ذلك ما لم يفض إلى ما هو أشد منه.

7 - وفيه ترك الحكم للنفس، وإن كان الحاكم متمكنا من ذلك، بحيث يؤمن منه الحيف على المحكوم عليه، لكن لحسم المادة. 8 - وفيه الحث على الحلم واحتمال الأذى. 9 - والانتصار لدين الله تعالى ممن فعل محرما أو نحوه. 10 - ومن الرواية الثالثة أن ضرب الزوجة والخادم والدابة وإن كان مباحا للأدب، فتركه أفضل. والله أعلم

(620) باب طيب رائحته صلى الله عليه وسلم، ولين مسه وطيب عرقه، والتبرك به

(620) باب طيب رائحته صلى الله عليه وسلم، ولين مسه وطيب عرقه، والتبرك به 5270 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الأولى. ثم خرج إلى أهله وخرجت معه. فاستقبله ولدان. فجعل يمسح خدي أحدهم واحدا واحدا. قال: وأما أنا فمسح خدي. قال: فوجدت ليده بردا أو ريحا كأنما أخرجها من جؤنة عطار. 5271 - عن أنس رضي الله عنه قال: ما شممت عنبرا قط ولا مسكا ولا شيئا أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا مسست شيئا قط ديباجا ولا حريرا ألين مسا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. 5272 - عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهر اللون. كأن عرقه اللؤلؤ. إذا مشى، تكفأ. ولا مسست ديباجة ولا حريرة ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا شممت مسكة ولا عنبرة أطيب من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم. 5273 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم فقال عندنا. فعرق وجاءت أمي بقارورة، فجعلت تسلت العرق فيها. فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أم سليم! ما هذا الذي تصنعين؟ " قالت: هذا عرقك نجعله في طيبنا وهو من أطيب الطيب. 5274 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل بيت أم سليم، فينام على فراشها، وليست فيه. قال: فجاء ذات يوم، فنام على فراشها، فأتيت فقيل لها: هذا النبي صلى الله عليه وسلم نام في بيتك، على فراشك. قال: فجاءت وقد عرق، واستنقع عرقه على قطعة أديم، على الفراش. ففتحت عتيدتها فجعلت تنشف ذلك العرق فتعصره في قواريرها. ففزع النبي صلى الله عليه وسلم: "فقال ما تصنعين يا أم سليم؟ " فقالت: يا رسول الله! نرجو بركته لصبياننا. قال: "أصبت".

5275 - عن أم سليم رضي الله عنها؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتيها، فيقيل عندها، فتبسط له نطعا، فيقيل عليه. وكان كثير العرق. فكانت تجمع عرقه، فتجعله في الطيب والقوارير. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أم سليم! ما هذا؟ " قالت: عرقك أدوف به طيبي. 5276 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن كان لينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغداة الباردة، ثم تفيض جبهته عرقا. 5277 - عن عائشة رضي الله عنها، أن الحارث بن هشام سأل النبي صلى الله عليه وسلم: كيف يأتيك الوحي؟ فقال: "أحيانا يأتيني في مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي. ثم يفصم عني وقد وعيته. وأحيانا ملك في مثل صورة الرجل. فأعي ما يقول". 5278 - عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي، كرب لذلك، وتربد وجهه. 5279 - عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي نكس رأسه، ونكس أصحابه رءوسهم. فلما أتلي عنه، رفع رأسه. -[المعنى العام]- مجموعة من صفاته الخلقية والخلقية صلى الله عليه وسلم، فقد كان لون بشرته أبيض بياضا مشوبا بحمرة أو سمرة، وخاصة الوجه واليدين والقدمين، بسبب المهنة والتعرض للشمس والهواء، وكان جلده ناعم الملمس كالحرير، وكان طيب الرائحة من غير طيب، وكان عرقه أبيض صافيا كاللؤلؤ، وأطيب ريحا من المسك، حتى كانت أم سليم تجمعه وتتطيب به، وكانت مشيته موجهة إلى الجهة التي يقصدها، لا يتوجه ولا يتلفت يمينا ولا شمالا، وكان ينام على فراش غيره، من غير أنفة أو غضاضة، وكان رحيما بالصبيان، يمسح خدودهم بيده الكريمة، إذا تعرضوا له في الطريق، يطلبون بركة يده وملامسته.

وكان جميل الوجه، منفرج الأسارير، لكن إذا أتاه الوحي ثقل عليه، فتغير وجهه، وتصبب العرق من جبينه، وأخذه غطيط كغطيط النائم، فإذا ذهب الوحي عاد كما كان. صلى الله عليه وسلم. -[المباحث العربية]- (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الأولى) قال النووي: يعني صلاة الظهر. اهـ. وهو من إضافة الموصوف إلى صفته وقد أجازه النحويون الكوفيون وتأوله البصريون، على أن فيه محذوفا، تقديره: صلاة الساعات الأولى. (ثم خرج إلى أهله) أي خرج من المسجد نحو بيوت أزواجه. (فاستقبله ولدان) بكسر الواو، وسكون اللام، وتنوين النون، جمع وليد، بفتح الواو، وكسر اللام، وهو المولود حين يولد، والمراد هنا وصف الصبية بالصغر، والتعبير باستقبله يشعر بأنهم تعمدوا استقباله، ليمسح عليهم تبركا، وصاهم بذلك آباؤهم. (فجعل يمسح خدي أحدهم واحدا واحدا) "خدي" بفتح الخاء والدال المشددة، مثنى خد، وكأنه صلى الله عليه وسلم كان يمسح الخدين بكفيه، أو كان يمسح الخدين باليمنى، وواحدا واحدا يشعر بأنه كان يستوعبهم جميعا. (وأما أنا فمسح خدي) بالإفراد، وكان جابر إذ ذاك صبيا، ومات سنة ست وستين. (فوجدت ليده بردا أو ريحا) "بردا" بفتح الباء وسكون الراء، ضد الحر، والظاهر أن هذا المسح كان في الصيف، وفي شدة الحر، وقد يراد من البرد الراحة والسكون، والمراد من الريح هنا الطيب و"أو" بمعنى الواو. (كأنما أخرجها من جؤنة عطار) قال النووي: هي بضم الجيم والهمزة بعدها، ويجوز ترك الهمزة، بقلبها واوا، كما في نظائرها، وقد ذكرها كثيرون أو الأكثرون في الواو، قال القاضي: هي مهموزة، وقد يترك همزها، وقال الجوهري: هي بالواو، وقد تهمز، وهي السفط الذي فيه متاع العطار، هكذا فسره الجمهور، وقال صاحب العين: هي سليلة مستديرة، مغشاة أدما. أي جلدا، والمراد هنا إناء الطيب. (ما شممت عنبرا قط، ولا مسكا، ولا شيئا أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم) "شممت" بكسر الميم الأولى، وفتحها لغة، حكاها الفراء، ويقال في مضارعه أشمه بالفتح على الأفصح، وبالضم على اللغة المذكورة. والعنبر طيب معروف، وكذا المسك "وشيئا" أي من الطيب، من ذكر العام بعد الخاص، وفي رواية للبخاري "ولا شممت ريحا قط - أو عرفا قط - أطيب من ريح - أو عرف النبي صلى الله عليه وسلم" وفي رواية له "مسكة ولا عنبرة أطيب رائحة من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال الحافظ ابن حجر: وقوله "عنبرة" ضبط بوجهين، أحدهما بسكون النون، بعدها باء، والآخر "عبيرا" بكسر الباء بعدها ياء، والأول معروف،

والثاني طيب معمول من أخلاط، يجمعها الزعفران، وقيل: هو الزعفران نفسه، وعند البيهقي "ولا شممت مسكا، ولا عنبرا، ولا عبيرا" ذكرهما جميعا، والعرف بفتح العين وسكون الراء، الريح الطيب، ووقع في بعض الروايات "عرقا" بفتح العين والراء والقاف، و"أو" في روايات "أو" للتنويع. (ولا مسست شيئا قط، ديباجا، ولا حريرا، ألين مسا من رسول الله صلى الله عليه وسلم) في الرواية الثالثة "ولا مسست ديباجة، ولا حريرة ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم" "مسست" السين الأولى مكسورة، ويجوز فتحها، والثانية ساكنة، وقد استشكل هذا بما جاء في البخاري "إنه كان ضخم اليدين" وفي رواية "والقدمين" وفي رواية "شئن القدمين والكفين" فسره الأصمعي بغليظهما في خشونة، قال الحافظ ابن حجر: والجمع بينهما أن المراد اللين في الجلد، والغلظ في العظام، فيجتمع له نعومة البدن، وقوته، أو حيث وصف باللين واللطافة، أريد حيث لا يعمل بهما شيئا، أو بالنسبة إلى أصل الخلقة، وحيث وصف بالغلظ والخشونة فهو بالنسبة إلى امتهانهما بالعمل، فإنه كان يتعاطى كثيرا من أموره بنفسه صلى الله عليه وسلم. اهـ. ولم يوافق كثير من اللغويين الأصمعي على تفسير "شئن" بالخشونة، وفسروه بالغلظ فقط، وقال ابن بطال: كانت كفه صلى الله عليه وسلم ممتلئة لحما، غير أنها مع خضامتها كانت لينة، اهـ. وقد نقل ابن خالويه أن الأصمعي لما فسر الشئن بما مضى، قيل له: إنه ورد في صفة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فآلى على نفسه أنه لا يفسر شيئا في الحديث. اهـ. وعندي أن حديث أنس يصف كفه صلى الله عليه وسلم باللين والنعومة، وهذا الوصف أمر نسبي، يرتبط بكف من يمس كفه صلى الله عليه وسلم، فإن كان خشنا أحس في المقابل بنعومة ولين، كما يرتبط بالأكف التي يمسها أنس، فإن كانت خشنة - كما هي العادة في العرب الأوائل - أحس بنعومة كفه صلى الله عليه وسلم - والظاهر أن كفه صلى الله عليه وسلم كانت بين النعومة والخشونة، فالنعومة واللين بإطلاق وصف حسن في النساء، والخشونة بإطلاق وصف امتهان، والممدوح في الرجال الوسطية بين النعومة والخشونة. والله أعلم. والديباج نوع من الحرير، فعطف الحرير عليه هنا من عطف العام على الخاص. وفي رواية للبخاري "حريرا ولا ديباجا". (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهر اللون) أي أبيض مشربا بحمرة، فعند الترمذي والحاكم "كان أبيض، مشربا بياضه بحمرة" وعند البيهقي في الدلائل "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض، بياضه إلى السمرة" وعند أحمد والبزار بإسناد صحيح "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان أسمر" وفي الروايات الصحيحة إطلاق كونه أبيض، فعند البزار بإسناد قوي "كان شديد البياض" وعند الطبراني "ما أنسى شدة بياض وجهه، مع شدة سواد شعره" وفي شعر أبي طالب: وأبيض يستسقي الغمام بوجهه. وعند أحمد "فنظرت إلى ظهره، كأنه سبيكة فضة" قال الحافظ ابن حجر: وتبين من مجموع الروايات أن المراد بالسمرة الحمرة التي تخالط البياض، وأن المراد بالبياض المثبت ما يخالطه الحمرة. وجمع البيهقي بأن المشرب بحمرة وسمرة من جلده صلى الله عليه وسلم ما تعرض للشمس، وأما تحت الثياب فهو أبيض أزهر. اهـ. يريد أبيض خالصا، غير مشرب بسمرة، فمن معاني الأزهر الأبيض الصافي المشرق.

(كأن عرقه اللؤلؤ) في الصفاء والبياض، و"اللؤلؤ" بهمزتين، وقد يترك همزه. (إذا مشى تكفأ) أي مال يمينا وشمالا، كما تكفأ السفينة، قال الأزهري: هذا خطأ، لأن هذا صفة المختال: وإنما معناه أن يميل إلى سمته وقصد مشيه، وقال القاضي محبذا التفسير الأول: ولا يعد اختيالا إذا كان خلقة وجبلة، والمذموم منه ما كان مستعملا مقصودا، قلت: وإن صح ما يقوله القاضي، لكن خلقة رسول الله صلى الله عليه وسلم خالية من السوء، ومما يوهم السوء، فقول الأزهري أسلم. (دخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عندنا) أي فنام نومة القيلولة، ففي الرواية الخامسة "كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل بيت أم سليم، فينام على فراشها، وليست فيه، فجاء ذات يوم، فنام على فراشها" فجاءت، وقبل أن تدخل عليه "فأتيت" بضم الهمزة وكسر التاء وفتح الياء، مبني للمجهول، أي أتاها آت من داخل البيت "فقيل لها: هذا النبي صلى الله عليه وسلم نام في بيتك، على فراشك" والظاهر أن هذه القيلولة لم تكن الأولى ففي الرواية السادسة "عن أم سليم رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتيها، فيقيل عندها" بفتح الياء وكسر القاف "فتبسط له نطعا" بكسر النون وسكون الطاء، وكسرها وفتحها، بساط من جلد مدبوغ، والمراد هنا الفروة "فيقيل عليه" أي فجاء ذات يوم، فنام على فراشها الذي كانت تفرشه له، فجاءت فقيل لها، فدخلت عليه، وقد عرق "وكان كثير العرق" واستنقع عرقه على قطعة أديم، على الفراش، ففتحت عتيدتها" بفتح العين، وكسر التاء بعدها ياء فدال، وهي كالصندوق الصغير، تجعل المرأة فيها ما يعز من متاعها، وكان فيه قوارير طيبها، فأخرجت منه قارورة "فجعلت تنشف ذلك العرق" بخرقة أو نحوها "فتعصره في قواريرها" "فتجعله في الطيب والقوارير". وفي رواية البخاري "أخذت من عرقه وشعره، فجعلته في قارورة" وفي ذكر الشعر في هذه الرواية غرابة، وقد حمله بعضهم على ما ينتشر من شعره صلى الله عليه وسلم عند الترجل، وحمله بعضهم على أنها كانت قد أخذت من شعره سابقا، فوضعته في القارورة، فعند ابن سعد بسند صحيح عن أنس رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حلق شعره بمنى، أخذ أبو طلحة، زوج أم سليم، أم أنس، أخذ شعره، فأتى به أم سليم، فجعلته في سكها" والسك بضم السين وتشديد الكاف طيب مركب، فيستفاد من هذه الرواية أنها لما أخذت العرق وقت قيلولته أضافته إلى الشعر الذي عندها، لا أنها أخذت من شعره لما نام، ويستفاد منها أيضا أن القصة المذكورة كانت بعد حجة الوداع، لأنه صلى الله عليه وسلم إنما حلق رأسه بمنى فيها. (ففزع النبي صلى الله عليه وسلم) حين أحس بحركة يدها تحته وهو نائم، فاستيقظ، فرأى ما تصنع. (فقال: ما تصنعين يا أم سليم)؟ في الرواية السادسة "يا أم سليم، ما هذا؟ " (فقالت: يا رسول الله. نرجو بركته لصبياننا. قال: أصبت) في الرواية السادسة "قالت: عرقك، أدوف به طيبي" قال النووي "أدوف" بالدال وبالذال، ومعناه: أخلط به طيبي. ولا معارضة بين قولها للبركة، وبين أنها كانت تجمعه لطيبها، فإنها تفعل ذلك للأمرين معا. (عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن كان لينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغداة الباردة، ثم تفيض جبهته عرقا) هذا الحديث وصله البخاري بالرواية الثامنة، وقد أخرجه

الدارقطني مفصولا، كمسلم، والغداة الصباح و"إن" مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، و"ينزل" بضم الياء وسكون النون وفتح الزاي، مبني للمجهول. وفي رواية البخاري "ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا". (كيف يأتيك الوحي)؟ يحتمل أن يكون المسئول عنه، صفة الوحي نفسه، أي صفة الإيحاء ويحتمل أن يكون صفة حاملة، ويحتمل أن يكون المسئول عنه الأمرين معا. (فقال: أحيانا يأتيني في مثل صلصلة الجرس) "أحيانا" جمع "حين" ويطلق على كثير الوقت وقليله، والمراد به هنا مجرد الوقت، فكأنه قال: أوقاتا يأتيني، وهو منصوب على الظرفية، وعامله "يأتيني" مؤخر عنه، و"صلصلة الجرس" في الأصل صوت وقوع الحديد بعضه على بعض، ثم أطلق على كل صوت له طنين، والمراد من الجرس هنا الجلجل الذي يعلق في رءوس الدواب. (وهو أشده علي) أي أشد حالاته. (ثم يفصم عني وقد وعيته) "يفصم" بفتح الياء وسكون الفاء وكسر الصاد، أي يقلع، وينجلي ما يغشاني، ويروى بضم الياء وكسر الصاد، من الرباعي، ويروى بضم الياء وفتح الصاد، مبني للمجهول، وأصل الفصم القطع. (وأحيانا ملك في مثل صورة الرجل) في رواية للبخاري "وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا" والمراد من الملك جبريل، وقد صرح به في رواية ابن سعد، والحق أن تمثل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لمن يخاطبه. (فأعي ما يقول) زاد في رواية "وهو أهونه علي" (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي نكس رأسه، ونكس أصحابه رءوسهم) أي خفض رأسه من شدة الوحي، وخفضوا رءوسهم خشوعا ورهبة، وفي الرواية التاسعة "كرب لذلك، وتربد وجهه" "كرب" بضم الكاف وكسر الراء، أي أصابه الكرب والشدة و"تربد" بفتح التاء والراء وتشديد الباء المفتوحة، أي تغير، وصار كلون الرماد، ولا يتعارض هذا مع ما روي من "أن يعلى بن أمية نظر إليه حال نزول الوحي، وهو محمر الوجه" لأن المراد منه أنه حمرة كدرة، وهذا معنى التربد، ويحتمل أنه يتربد في أول الوحي، ثم يحمر، أو بالعكس. (فلما أتلي عنه رفع رأسه) قال النووي: هكذا هو في معظم نسخ بلادنا "أتلي" بضم الهمزة وسكون التاء وكسر اللام، بعدها ياء، ومعناه ارتفع عنه الوحي، هكذا فسره صاحب التحرير وغيره. ووقع في بعض النسخ "أجلي" بالجيم، وفي رواية البخاري "انجلى" ومعناهما أزيل عنه، وزال عنه. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من أحاديث الباب]- 1 - من الرواية الأولى عطفه صلى الله عليه وسلم على الصبيان ولطفه بهم، وصبره عليهم، ورحمته بهم.

2 - تبرك الصبية بمصافحته صلى الله عليه وسلم، بتوجيه من آبائهم، ومسحه صلى الله عليه وسلم خدودهم. 3 - تبريكه صلى الله عليه وسلم جابر بن سمرة رضي الله عنه ومسحه خده. 4 - طيب ريحه صلى الله عليه وسلم - ومع أنه صلى الله عليه وسلم كان يستعمل الطيب، لكن ريحه صلى الله عليه وسلم من غير تطيب كان طيبا، كما سيأتي عن عرقه، وقد روى أبو يعلى والبزار بإسناد صحيح عن أنس رضي الله عنه "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر في طريق من طرق المدينة، وجد منه رائحة المسك، فيقال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم "وعند أحمد " أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بدلو من ماء، فشرب منه، ثم مج في الدار ثم في البئر، ففاح منه مثل ريح المسك". 5 - ومن الرواية الثالثة لين كفه، ونعومة ملمسه صلى الله عليه وسلم. 6 - وبياض وصفاء عرقه صلى الله عليه وسلم. 7 - ومن الرواية الرابعة والخامسة والسادسة طيب عرقه صلى الله عليه وسلم، وأنه أطيب الطيب وأخرج أبو يعلى الطبراني من حديث أبي هريرة، في قصة الذي استعان به صلى الله عليه وسلم على تجهيز ابنته "فلم يكن عنده شيء، فاستدعى بقارورة، فسلت له فيها من عرقه، وقال له: مرها فلتطيب به، فكانت إذا تطيبت به شم أهل المدينة رائحة ذلك الطيب، فسموا بيت المطيبين. 8 - قال المهلب: وفيها طهارة شعر الآدمي وعرقه، وقال بعضهم: لا دلالة فيه، لأنه من خصائصه صلى الله عليه وسلم، ودليل ذلك متمكن في القوة، ولا سيما إن ثبت الدليل على طهارة كل منهما. 9 - وفيها جواز نوم الرجل الأجنبي على فراش المرأة الأجنبية، وفيه نظر، لما سيأتي في علاقته صلى الله عليه وسلم بأم سليم. 10 - قال المهلب: وفيه مشروعية القائلة للكبير في بيوت معارفه، لما في ذلك من ثبوت المودة، وتأكد المحبة. اهـ. وقال بعضهم: بشرط الإذن، وأمن الفتنة. 11 - وفيها خدمة المرأة الأجنبية للضيف، وتمهيدها لفراشه. 12 - وفيها إباحة ما قدمته المرأة للضيف من مال زوجها، لأن الأغلب أن الذي في بيت المرأة هو من مال الرجل كذا قال ابن بطال. 13 - وفيها أن الوكيل والمؤتمن، إذا علم أنه يسر صاحبه ما يفعله من ذلك جاز له فعله، ولا شك أن زوج أم سليم كان يسره ذلك. وقد أثار هذا التصرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أم سليم، ومع أختها أم حرام بنت ملحان، فقد ثبت أنه كان ينام في حجرها، وأنها كانت تفلي شعر رأسه، أثار هذا للعلماء توجيهات: - فقال ابن عبد البر: أظن أن أم حرام أرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أختها أم سليم، فصارت كل منهما أمه أو خالته من الرضاعة، فلذلك كان ينام عندها، وتنال منه ما يجوز للمحرم أن يناله من محارمه.

- ونقل ابن عبد البر عن بعضهم أن أم حرام كانت منه ذات محرم، من قبل خالاته، لأن أم عبد المطلب جده كانت من بني النجار، قال ابن وهب: قال بعضهم: إنما كانت خالة لأبيه أو جده عبد المطلب. - وقال ابن الجوزي: سمعت بعض الحفاظ يقول: كانت أم سليم أخت آمنة بنت وهب، أم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة. اهـ. وبالغ الدمياطي في الرد على من ادعى المحرمية. - وقال بعضهم: بل كان النبي صلى الله عليه وسلم معصوما، يملك أربه عن زوجته، فكيف عن غيرها، مما هو المنزه عنه، وهو المبرأ عن كل فعل قبيح، فيكون ذلك من خصائصه، ورده القاضي عياض بأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال، وثبوت العصمة مسلم، لكن الأصل عدم الخصوصية، وجواز الاقتداء به في أفعاله، حتى يقوم على الخصوصية دليل. - وقال بعضهم: ثبت في الصحيح "أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يدخل على أحد من النساء، إلا على أزواجه، وإلا على أم سليم، فقيل له ... ، فقال: أرحمها، قتل أخوها معي يعني حرام بن ملحان، وكان قتل يوم بئر معونة" وأم حرام وأم سليم أختان، كانتا في دار واحدة، كل واحدة منهما في بيت من تلك الدار، وحرام بن ملحان أخوهما معا، فالعلة مشتركة فيهما، وتعقب بأن الشهداء كثيرون، ولم يثبت أنه فعل مع أخت أحدهم ما فعله مع أم سليم وأختها، وقد أضاف بعضهم إلى العلة المذكورة أن أنسا ابن أم سليم كان خادم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جرت العادة بمخالطة المخدوم خادمه وأهل خادمه، ورفع الحشمة التي تقع بين الأجانب عنهم. قلت: جريان العادة لا يغير حكم الشرع، ولا يرخص فيه. - وقال بعضهم: يحتمل أن يكون ذلك قبل الحجاب، ورد بأن ذلك كان بعد الحجاب قطعا، فقد مضى أنه كان بعد حجة الوداع. - وقال بعضهم: ليس في الحديث ما يدل على الخلوة بأم أنس أو أم حرام، ولعل ذلك كان مع وجود ولد أو خادم أو زوج أو تابع، قال الحافظ ابن حجر: وهو احتمال قوي، لكنه لا يدفع الإشكال من أصله، لبقاء الملامسة في تفلية الرأس، وكذا النوم في الحجر. قال: وأحسن الأجوبة دعوى الخصوصية، ولا يردها كونها لا تثبت إلا بدليل، لأن الدليل على ذلك واضح، اهـ. قلت: ليس بأحسن الأجوبة، لأنها لو كانت خصوصية له صلى الله عليه وسلم لاستخدمها مع غيرهما، أما الاقتصار عليهما فالأشبه أنها خصوصية لهما، ولأمر خاص بهما، فأحسن الأجوبة القول بالمحرمية. 14 - يؤخذ من الرواية الثامنة أن مثل صلصلة الجرس كانت علامة على قدوم الوحي، إشعارا للرسول صلى الله عليه وسلم، ليتفرغ له، ويستعد للقائه ويتهيأ لاستقباله، وقد استشكل هذا بأن الجرس مذموم، لصحة النهي عنه، والتنفير من مرافقة ما هو معلق فيه، والإعلام بأنه لا تصحبهم الملائكة، كما سبق في الأحاديث، فكيف يشبه ما فعله الملك بأمر تنفر منه الملائكة؟ والجواب أن الصوت الذي يصاحب الملك ليس صوت جرس، حتى ينفر منه، إنما هو شبيه به، في وجه ما، فذكر ما ألفه السامعون سماعه تقريبا للأفهام، ولا يشترط في التشبيه تساوي المشبه والمشبه به في الصفات كلها، بل ولا في أخص وصف له، بل يكفي اشتراكهما في صفة ما.

وأما مصدر هذا الصوت فقيل: هو صوت الملك بالوحي، أي صوت متدارك بسمعه، ولا يتبين حروفه، حتى يصل، وقيل: بل هو صوت حفيف أجنحة الملك. والله أعلم. 15 - وفيها أن الوحي كله شديد، لقوله "وهو أشده علي" قالوا: لأن الفهم من كلام مثل الصلصلة أصعب من الفهم من كلام الرجل للرجل بالتخاطب المعهود، قالوا: والحكمة فيه أن العادة جرت بوجود مناسبة بين القائل والسامع، وهي هنا إما باتصاف السامع بوصف القائل، بغلبة الروحانية، وهو النوع الأشد، وإما باتصاف القائل بوصف السامع، وهو البشرية، وهو النوع الثاني، وليس بالأشد. 16 - ومن الرواية السابعة والتاسعة والعاشرة صفات النبي صلى الله عليه وسلم الجسمية في غير حالة نزول الوحي، وفي حالة نزول الوحي. والله أعلم

(621) باب في صفاته الخلقية، وصفة شعره وشيبته

(621) باب في صفاته الخلقية، وصفة شعره وشيبته 5280 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم. وكان المشركون يفرقون رءوسهم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر به، فسدل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناصيته. ثم فرق بعد. 5281 - عن البراء رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا مربوعا. بعيد ما بين المنكبين. عظيم الجمة إلى شحمة أذنيه. عليه حلة حمراء. ما رأيت شيئا قط أحسن منه صلى الله عليه وسلم. 5282 - عن البراء رضي الله عنه قال: ما رأيت من ذي لمة أحسن في حلة حمراء من رسول الله صلى الله عليه وسلم شعره يضرب منكبيه. بعيد ما بين المنكبين. ليس بالطويل ولا بالقصير. قال أبو كريب: له شعر. 5283 - عن البراء رضي الله عنه يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجها. وأحسنه خلقا. ليس بالطويل الذاهب ولا بالقصير. 5284 - عن قتادة رضي الله عنه قال: قلت لأنس بن مالك: كيف كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: كان شعرا رجلا. ليس بالجعد ولا السبط، بين أذنيه وعاتقه. 5285 - عن أنس رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يضرب شعره منكبيه. 5286 - عن أنس رضي الله عنه قال: كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أنصاف أذنيه.

5287 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضليع الفم. أشكل العين. منهوس العقبين. قال: قلت لسماك: ما ضليع الفم؟ قال: عظيم الفم. قال: قلت: ما أشكل العين؟ قال: طويل شق العين. قال: قلت: ما منهوس العقب؟ قال قليل لحم العقب. 5288 - عن أبي الطفيل رضي الله عنه قال: قلت له: أرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. كان أبيض. مليح الوجه. رضي اللهم تعالى عنها. مات أبو الطفيل سنة مائة. وكان آخر من مات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. 5289 - عن أبي الطفيل رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما على وجه الأرض رجل رآه غيري. قال: فقلت له: فكيف رأيته؟ قال: كان أبيض مليحا مقصدا. 5290 - عن ابن سيرين قال: سئل أنس بن مالك: هل خضب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: إنه لم يكن رأى من الشيب إلا. قال ابن إدريس: كأنه يقلله. وقد خضب أبو بكر وعمر بالحناء والكتم. 5291 - عن ابن سيرين قال: سألت أنس بن مالك: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خضب؟ فقال: لم يبلغ الخضاب. كان في لحيته شعرات بيض. قال: قلت له: أكان أبو بكر يخضب؟ قال: فقال: نعم. بالحناء والكتم. 5292 - عن محمد بن سيرين قال: سألت أنس بن مالك: أخضب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال إنه لم ير من الشيب إلا قليلا. 5293 - عن ثابت قال: سئل أنس بن مالك: عن خضاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لو

شئت أن أعد شمطات كن في رأسه فعلت. وقال: لم يختضب. وقد اختضب أبو بكر بالحناء والكتم. واختضب عمر بالحناء بحتا. 5294 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: يكره أن ينتف الرجل الشعرة البيضاء من رأسه ولحيته. قال: ولم يختضب رسول الله صلى الله عليه وسلم. إنما كان البياض في عنفقته، وفي الصدغين، وفي الرأس نبذ. 5295 - 105 عن أنس رضي الله عنه، أنه سئل عن شيب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ما شانه الله ببيضاء. 5296 - عن أبي جحيفة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه منه بيضاء. ووضع زهير بعض أصابعه على عنفقته. قيل له: مثل من أنت يومئذ؟ فقال: أبري النبل وأريشها. 5297 - عن أبي جحيفة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض قد شاب. كان الحسن بن علي يشبهه. 5298 - وفي رواية عن أبي جحيفة بهذا. ولم يقولوا: أبيض قد شاب. 5299 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه سئل عن شيب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كان إذا دهن رأسه لم ير منه شيء. وإذا لم يدهن رئي منه. -[المعنى العام]- صان الله تعالى رسله من الصفات الذميمة والمنفرة في الخلقة، لأن رسالتهم تستدعي رغبة الناس فيهم، وعدم نفورهم منهم، وليس في صفات أجسامهم تشريع يمكن أن يعمل به ويقتدى، وإنما التشريع في ذلك هو الحكم بحسن ما كانوا عليه من صفات، وعدم ذم مثيلاتها عند البشر.

فالطول البائن والقصر البائن ليسا هو الوضع الأحسن في الخلقة، بل الأحسن الوسطية المائلة قليلا نحو الطول. والنحافة وغلظ الجسم ليسا من الوضع الأحسن، اللهم إلا نحافة العقبين، لما في ذلك من يسر المشي والجري. والشيب علامة على ظهور الضعف بعد القوة، وعدمه هو الأحسن. والشعر للإنسان من سمات الجمال، وقد كان صلى الله عليه وسلم يحافظ على نظافته ودهنه وتطييبه، وتسريحه، وفرقه، بعد أن كان يسدله. وللعرف والعادة والبيئة دخل كثير في الصورة التي تنبغي للمسلم بالنسبة إلى شعره، فقد تحبذ بيئة طول شعر الرجل، وتستنكر حلقه، وقد تحبذ بيئة أخرى حلق شعر الرجل وتستنكر طوله. كذلك خضاب الشعر بالسواد أو بالصفرة، أو بالحمرة، للبيئة أثر كبير في قبوله أو رفضه. وقد تتأثر البيئة بتقليد الكافرين، فتحب ما هم عليه، وفي هذه الحالة لا تجيز الشريعة التشبه بهم، واستصحاب قصد ذلك يسيء إلى إسلام المسلم. فلله العزة ولرسوله وللمؤمنين، ومن العزة استقلال الشخصية حتى في المظهر واللباس. والله الهادي سواء السبيل. (ملحوظة) سبق في كتاب اللباس ما له صلة بهذا الباب فمن شاء فليراجعه. -[المباحث العربية]- (كان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم) أي يرسلون شعر رءوسهم على جباههم، قال النووي: قال العلماء: المراد هنا إرساله على الجبين، واتخاذه كالقصة، بضم القاف وتشديد الصاد المفتوحة، و"يسدلون" بفتح الياء، يقال: سدل بفتح الدال يسدل بضمها وكسرها، أي أرسل، وسدل شعره وثوبه إذا أرسله ولم يضم جوانبه، قال القاضي: والمراد به هنا إرساله على الجبين. "وأشعار" بفتح الهمزة جمع شعر بفتح الشين مع سكون العين وفتحها، مذكران، وهو ما ينبت على الجسم مما ليس بصوف ولا وبر، للإنسان وغيره، ويجمع أيضا على شعور، والواحدة من الشعر شعرة، بفتح الشين وسكون العين. (وكان المشركون يفرقون رءوسهم) "يفرقون" بفتح الياء وضم الراء وكسرها، وفرق رأسه وشعره بفتح الفاء والراء، أي ألقى شعره إلى جانبي رأسه، فلم يترك منه شيئا على جبهته، وفي الكلام مضاف محذوف، أي يفرقون شعر رءوسهم. (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر به) لصلتهم بالشرائع والكتب، وهل الحب كان بوحي أو من نفسه؟ وهل كان ذلك على الوجوب أو الندب؟ سيأتي تفصيله في فقه الحديث.

(فسدل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناصيته) أي شعر ناصيته. (ثم فرق بعد) أي فرق شعر رأسه بعد أن كان يسدل. (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا مربوعا) وعند البخاري "كان ربعة" بفتح الراء وسكون الباء، أي مربوعا، والتأنيث باعتبار النفس، يقال: رجل ربعة، وامرأة ربعة، وقد فسر في الحديث بأنه ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير والمراد بالطويل البائن المفرط في الطول، مع اضطراب القامة، وفي رواية "كان ربعة، وهو إلى الطول أقرب" وفي رواية "رجل بين رجلين" وعند ابن أبي خيثمة "لم يكن أحد يماشيه من الناس ينسب إلى الطول إلا طاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولربما اكتنفه الرجلان الطويلان، فيطولهما، فإذا فارقاه نسبا إلى الطول، ونسب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الربعة" وفي الرواية الرابعة "ليس بالطويل الذاهب، ولا بالقصير". (بعيد ما بين المنكبين) أي عريض الظهر. (عظيم الجمة، إلى شحمة أذنيه) "الجمة" بضم الجيم وتشديد الميم المفتوحة الشعر الذي نزل إلى المنكبين، وفي رواية "كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق الوفرة، ودون الجمة" "الوفرة" أقل من الجمة وهي الشعر النازل إلى شحمة الأذنين، و"اللحمة" التي ألمت بالمنكبين، و"شحمة الأذن" الجزء اللين في أسفلها، وهو معلق القرط منها، وفي الرواية الثالثة "شعره يضرب منكبيه" وفي الرواية الخامسة "كان شعرا رجلا" بفتح الراء وكسر الجيم وقد تسكن، "أي سلسا متسرحا بين الجعودة والسبوطة "ليس بالجعد ولا السبط" والجعودة في الشعر أن لا يتكسر ولا يسترسل، والسبوطة ضده، في رواية للبخاري "ليس بجعد قطط ولا بسط". "بين أذنيه وعاتقه" وفي الرواية السابعة "كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أنصاف أذنيه" قال القاضي والجمع بين هذه الروايات أن ما يلي الأذن هو الذي يبلغ شحمة أذنيه وهو الذي بين أذنيه وعاتقه، وما خلفه هو الذي يضرب منكبيه، قال: وقيل: ذلك لاختلاف الأوقات، فإذا غفل عن تقصيرها بلغت المنكب، وإذا قصرها كانت إلى أنصاف الأذنين، فكان الشعر يقصر ويطول بحسب ذلك، والعاتق ما بين المنكبين والعنق. (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجها، وأحسنه خلقا) بفتح الخاء، قال النووي: قال أبو حاتم وغيره: هكذا تقول العرب "وأحسنه" - أي كان الظاهر أن يقول: وأحسنهم - يريدون: وأحسنهم، ولكن لا يتكلمون به، وإنما يقولون: أجمل الناس وأحسنه، ومنه الحديث "خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، وأشفقه على ولد، وأعطفه على زوج" وحديث أبي سفيان "عندي أحسن نساء العرب وأجمله" أي وأجمل هذا الجنس. (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضليع الفم) فسره الراوي في الحديث بعظيم الفم، قال النووي: كذا قاله الأكثرون، وهو الأظهر، قالوا: والعرب تمدح ذلك الرجل، وتذم فيه صغر الفم، وهو معنى قول ثعلب: واسع الفم، وقال شمر: عظيم الأسنان.

(أشكل العين) بسكون الشين وفتح الكاف، وفسره الراوي في الحديث بطول شق العين، قال القاضي: وهذا من الراوي باتفاق العلماء، غلط ظاهر، وصوابه، ما اتفق عليه العلماء أن الشكلة حمرة في بياض العينين، وهو محمود، والشهلة بالهاء حمرة في سواد العين. (منهوس العقبين) فسره الراوي بقليل لحم العقبين، و"منهوس" بالسين عند الجمهور، وروي بالشين، وهما متقاربان. (كان أبيض مليح الوجه) في الرواية العاشرة "كان أبيض مليحا مقصدا" بفتح القاف والصاد المشددة، وهو الذي ليس بجسيم ولا نحيف، ولا طويل ولا قصير. (هل خضب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ) "خضب" بفتحات يخضب بكسر الضاد خضبا وخضبة، يقال: خضب الشيء غير لونه بحمرة أو صفرة أو غيرهما، ويقال: اختضب الرجل واختضبت المرأة، من غير ذكر الشعر، والمراد هنا تغيير لون شعر الرأس واللحية بالحناء والأصابغ الأخرى. (إنه لم يكن رأى من الشيب إلا ... ) وكأنه أشار بأصابعه إلى قلة الشيب، ليستغني بالإشارة عن العبارة، وفي الرواية الثانية عشرة "لم يبلغ الخضاب" أي لم يبلغ شيبه ما يحتاج إلى الخضاب. (كان في لحيته شعرات بيض) وفي الرواية الثالثة عشرة "إنه لم ير من الشيب إلا قليلا" وفي الرواية الرابعة عشرة "لو شئت أن أعد شمطات كن في رأسه فعلت. لم يختضب" يقال: شمط بفتح الشين وكسر الميم وأشمط، أي صار سواد شعره، مخالطا لبياضه، والمراد هنا الشعرات البيضاء، والمراد من الرأس هنا جزؤها، وحددته الرواية الثانية عشرة باللحية، وحددته الرواية الخامسة عشرة بالعنفقة وبالصدغين، وقالت: "وفي الرأس نبذ" أي شعرات منبوذة نادرة شاذة، وحددته الرواية السابعة عشرة بالعنفقة إشارة، وفي الرواية التاسعة عشرة "كان إذا دهن رأسه لم ير منه شيء" أي شيب "وإذا لم يدهن رئي منه" قال النووي: اختلاف الروايات في قدر شيبه صلى الله عليه وسلم ويجمع بينها بأنه كان شيئا يسيرا، فمن أثبت شيبه، أخبر عن ذلك اليسير، ومن نفاه أراد أنه لم يكثر فيه. (وقد خضب أبو بكر وعمر بالحناء والكتم) بفتح الكاف والتاء المخففة، قال النووي: هذا هو المشهور، وقال أبو عبيده: هو بتشديد التاء وهو نبات يصبغ به الشعر، يحول بياضه أو حمرته إلى الدهمة، وقوله "بالحناء والكتم" أي مخلوطين، وقوله "واختضب عمر بالحناء بحتا" أي منفردا، غير مخلوط بالكتم أو غيره. (ما شانه الله ببيضاء) "ما شانه" بدون همز، أي ما شانه الله بشعرات بيضاء كثيرة. (كنت أبري النبل وأريشها) "أبري" بفتح الهمزة وسكون الباء، كبري القلم ليدخل النبل في جسم المرمي، و"أريشها" بفتح الهمزة وكسر الراء وإسكان الياء، أي أجعل للنبل ريشا. والريش السن والنصل المدبب الذي يركب في طرف النبل والسهم.

-[فقه الحديث]- -[يؤخذ من أحاديث الباب]- 1 - من الرواية الأولى مشروعية فرق الشعر، قال النووي: قال العلماء: والفرق سنة، لأنه الذي رجع إليه النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: فالظاهر أنه رجع إليه بوحي، لقوله "إنه كان يوافق أهل الكتاب فيما لم يؤمر به" أي إنه لم يعدل عن موافقتهم إلا بأمر، قال القاضي: حتى قال بعضهم: نسخ السدل، فلا يجوز فعله، ولا اتخاذ الناصية والجمة. قال: ويحتمل أن المراد جواز الفرق، لا وجوبه، أي ولا استحبابه، قال: ويحتمل أن الفرق كان باجتهاد في مخالفة أهل الكتاب، لا بوحي، ويكون الفرق مستحبا، ولهذا اختلف السلف فيه، ففرق شعره جماعة منهم، واتخذ الجمة آخرون، قال: وقد جاء في الحديث "أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم لمة، فإن انفرقت فرقها، وإلا تركها" قال مالك: فرق الرجل أحب إلي. هذا كلام القاضي عياض: قال النووي: والحاصل أن الصحيح المختار جواز السدل والفرق، وأن الفرق أفضل. 2 - استحباب مخالفة أهل الكتاب فيما لم يرد عنه شيء في شرعنا، قال القاضي: واختلف العلماء في تأويل موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه شيء، فقيل: فعله استئلافا لهم في أول الإسلام، وموافقة لهم على مخالفة عبدة الأوثان، فلما أغنى الله تعالى عن استئلافهم، وأظهر الإسلام على الدين كله، صرح بمخالفتهم في غير شيء، منها صبغ الشيب، وقال آخرون: يحتمل أنه أمر باتباع شرائعهم فيما لم يوح إليه شيء، وإنما كان هذا فيما علم أنهم لم يبدلوه، إذ كانوا في زمانه متمسكين ببقايا من شرائع الرسل، فكانت موافقتهم أحب إليه من موافقة عبدة الأوثان، فلما أسلم غالب عباد الأوثان أحب صلى الله عليه وسلم حينئذ مخالفة أهل الكتاب. 3 - استدل بعضهم بالحديث على أن شرع من قبلنا شرع لنا، ما لم يرد شرعنا بخلافه، وقال آخرون: بل هذا دليل على أنه ليس بشرع لنا، لأنه قال: يحب موافقتهم، فأشار إلى خيريته، ولو كان شرعا لنا لتحتم اتباعه، وعلى التسليم ففي نفس الحديث أنه رجع عن ذلك آخرا. 4 - ومن الرواية الثانية والثالثة والرابعة أن جسمه صلى الله عليه وسلم لم يكن بالطويل المفرط، ولا بالقصير الظاهر، بل كان وسطا، يميل إلى الطول. 5 - ومن الرواية الثانية والثالثة أنه صلى الله عليه وسلم كان عريض الظهر، بعيد ما بين المنكبين. 6 - ومن الرواية الثانية والثالثة والخامسة والسادسة والسابعة أنه صلى الله عليه وسلم كان طويل الشعر، يصل شعره أحيانا منكبيه. 7 - ومن الرواية الخامسة أن شعره صلى الله عليه وسلم كان سلسا، ليس جعدا ولا بسطة. 8 - ومن الرواية الحادية عشرة والثانية عشرة والثالثة عشرة والرابعة عشرة أن الشيب في شعره كان قليلا، وفي رواية لأنس "توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء". 9 - وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخضب الشيب.

10 - وأن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما خضبا بالحناء والكتم. 11 - ومن الرواية الثامنة أنه كان أشكل العين، أي في بياضها حمرة. 12 - وأنه كان عظيم الفم والأسنان. 13 - وأنه كان قليل لحم العقب. 14 - ومن الرواية التاسعة والعاشرة أنه كان أبيض مليح الوجه، وفي الباب السابق تفصيل للون بشرته صلى الله عليه وسلم. 15 - ومن الرواية الخامسة عشرة كراهة أن ينتف الرجل الشعرة البيضاء من رأسه ولحيته، قال النووي: وهذا متفق عليه، قال أصحابنا وأصحاب مالك: يكره ولا يحرم. 16 - ومن الرواية السادسة عشرة أن الشيب ليس ممدوحا، وليس من الجمال. 17 - ومن الرواية السابعة عشرة أن الشعرات البيضاء كانت على عنفقته صلى الله عليه وسلم. 18 - ومن الرواية الثامنة عشرة أن الحسن بن علي رضي الله عنهما كان يشبهه صلى الله عليه وسلم في الخلقة. 19 - ومن الرواية التاسعة عشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدهن شعره. والله أعلم

(622) باب إثبات خاتم النبوة، وصفته، ومحله من جسده صلى الله عليه وسلم

(622) باب إثبات خاتم النبوة، وصفته، ومحله من جسده صلى الله عليه وسلم 5300 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شمط مقدم رأسه ولحيته. وكان إذا ادهن لم يتبين. وإذا شعث رأسه تبين. وكان كثير شعر اللحية. فقال رجل: وجهه مثل السيف؟ قال: لا. بل كان مثل الشمس والقمر. وكان مستديرا. ورأيت الخاتم عند كتفه مثل بيضة الحمامة يشبه جسده. 5301 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: رأيت خاتما في ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنه بيضة حمام. 5302 - عن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: ذهبت بي خالتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن ابن أختي وجع. فمسح رأسي ودعا لي بالبركة. ثم توضأ. فشربت من وضوئه. ثم قمت خلف ظهره، فنظرت إلى خاتمه بين كتفيه مثل زر الحجلة. 5303 - عن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم. وأكلت معه خبزا ولحما. أو قال: ثريدا. قال: فقلت له: أستغفر لك النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. ولك. ثم تلا هذه الآية {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} قال: ثم درت خلفه، فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه، عند ناغض كتفه اليسرى. جمعا. عليه خيلان كأمثال الثآليل. -[المعنى العام]- كثير من العلماء يرون أن خاتم النبوة من صنع الملكين، وهو قطعة لحم مستديرة بارزة في ظهره صلى الله عليه وسلم، بين كتفيه، أقرب ما تكون إلى الكتف الأيسر في حجم بيضة الحمامة، وأنه علامة من علامات نبوته.

ونحن نؤمن ببروز هذه المضغة من اللحم بين كتفيه في صدره صلى الله عليه وسلم لثبوت رؤية الصحابة لها في الأحاديث الصحيحة، ولكن لم يثبت في حديث صحيح أنها علامة النبوة، نعم في بعض الأحاديث أن بعض اليهود كشفوا عن كتفيه صلى الله عليه وسلم، فلما رأوها عرفوا رسالته لكن في هذه الروايات مقال. وعلى الرغم من أن البخاري وغيره ذكر أحاديث الخاتم في علامات النبوة، وفي مناقب الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى الرغم من روايات ضعيفة ذكرها علماء السير في وصف الخاتم، فقد قال الحافظ ابن حجر: ما ورد في أنها كأثر محجم، أو كالشامة السوداء، أو الخضراء، أو مكتوب عليها "محمد رسول الله" أو "سر، فأنت المنصور" أو نحو ذلك، فلم يثبت منها شيء، وقد أطنب الحافظ قطب الدين استيعابها، في شرح السيرة، وتبعه مغلطاي في الزهر الباسم، ولم يبين شيئا من حالها، والحق ما ذكرته ولا تغتر بما وقع منها في صحيح ابن حبان، فإنه غفل، حيث صحح ذلك. والله أعلم -[المباحث العربية]- (فقال رجل: وجهه مثل السيف. قال جابر: لا. بل كان مثل الشمس والقمر، وكان مستديرا) في رواية للبخاري "سئل البراء: أكان وجه النبي صلى الله عليه وسلم مثل السيف؟ قال: لا بل مثل القمر" كأن السائل أراد أنه مثل السيف في الطول، فرد عليه البراء، فقال: بل مثل القمر في التدوير، ويحتمل أن يكون أراد مثل السيف في اللمعان والصقال؟ فقال: بل فوق ذلك، وعدل إلى القمر لجمعه الصفتين، من التدوير واللمعان، وفي رواية "أكان وجه النبي صلى الله عليه وسلم حديدا مثل السيف؟ والسؤال في رواية البخاري وجه إلى البراء بن عازب رضي الله عنه، وهو الذي أجاب، وفي روايتنا وجه السؤال إلى جابر بن سمرة رضي الله عنه، وهو الذي أجاب، ولا مانع من تعدد القصة، ولا من أن يكون السائل واحدا، وتعدد المسئولون، وقد زاد جابر في التشبيه عن البراء "مثل الشمس" وقد جرى التعارف في أن التشبيه بالشمس إنما يراد به غالبا الإشراق، والتشبيه بالقمر إنما يراد به الملاحة، دون غيرها، ولهذا جاء في الجواب "وكان مستديرا، للتنبيه على أنه جمع الصفتين معا، الحسن والاستدارة، وعند أحمد وابن سعد وابن حبان عن أبي هريرة "ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأن الشمس تجري في جبهته" قال الطيبي: شبه جريان الشمس في فلكها بجريان الحسن في وجهه صلى الله عليه وسلم وهو من التشبيه المقلوب، وعند الطبراني والدارمي عن الربيع بنت معوذ "لو رأيته لرأيت الشمس طالعة". (ورأيت الخاتم عند كتفه مثل بيضة الحمامة، يشبه جسده) في الرواية الثانية "كأنه بيضة حمام" لكن وقع عند ابن حبان "كبيضة نعامة" ونبه على أنها غلط، وعند ابن حبان من حديث ابن عمر "مثل البندقة من اللحم" وعند الترمذي "كبضعة ناشزة من اللحم" وفي رواية للبخاري "كانت بضعة ناشزة" أي مرتفعة على جسده، ومعنى "يشبه جسده" في روايتنا أي في اللون، قال الحافظ ابن حجر: وأما ما ورد من أنها كانت كأثر محجم، وكالشامة السوداء أو الخضراء، أو مكتوب عليها "محمد رسول الله" أو "سر، فأنت المنصور" أو نحو ذلك، فلم يثبت منها شيء. اهـ.

ولا تنافي بين قوله "عند كتفه" وقوله في الرواية الثانية "في ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله في الرواية الثالثة والرابعة "بين كتفيه" فقد كان في ظهره وبين كتفيه، عند كتفه الأيسر، قال القرطبي: اتفقت الأحاديث الثابتة على أن خاتم النبوة كان شيئا بارزا أحمر، عند كتفه الأيسر قدره إذا قل بيضة الحمامة، وإذا كبر جمع اليد. (عن السائب بن يزيد) في البخاري عن الجعيد بن عبد الرحمن. قال: رأيت السائب بن يزيد ابن أربع وتسعين، جلدا معتدلا، فقال: قد علمت ما متعت به، سمعي وبصري، إلا بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إن خالتي ذهبت بي إليه .... ولد سنة أربع من الهجرة. (ذهبت بي خالتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إن ابن أختي وجع) بفتح الواو، وكسر الجيم وتنوين العين، وفي رواية للبخاري "وقع" بوزن "وجع" وبمعناها، وجاء بلفظ الفعل الماضي المبني للمعلوم، والمراد أنه كان يشتكي رجله، كما ثبت في بعض الطرق. (فمسح رأسي، ودعا لي بالبركة) أي فهذا سر طول عمري، وتمتعي بسمعي وبصري. (ثم توضأ فشربت من وضوئه) بفتح الواو، أي من الماء الذي تجمع بعد أن تساقط من وضوئه. (ثم قمت خلف ظهره) أي وقفت خلف ظهره حين قام إلى الصلاة بعد الوضوء. (فنظرت إلى خاتمه، بين كتفيه، مثل زر الحجلة) "زر" بكسر الزاي وتشديد الراء، و"الحجلة" بفتح الحاء والجيم، واحدة الحجال، وهي بيوت تزين بالثياب، فيكون لها عرى وأزرار كبار، وتستعمل كذلك في دوائر الأسرة وتعرف بالكلة، وفي الستائر، وزرها في حجم بيضة الحمامة غالبا، هذا هو الصواب المشهور الذي قاله الجمهور، وقال بعضهم: المراد بالحجلة الطائر المعروف، وزرها بيضتها، وقيل: من حجل الفرس، وهو البياض بين عينيه، ورد بأن التحجيل إنما يكون في القوائم، وأما الذي في الوجه فهو الغرة، وأجيب بأنه قد يطلق على ذلك مجازا، واعترض بأن الغرة لا زر لها، وكون هذه الكلمة مقحمة تكلف دون موجب، وجزم الترمذي بأن المراد بالحجلة الطير المعروف، وأن المراد بزرها بيضها، ويقال لهذا الطير اليعقوب، ويقال للأنثى منه حجلة. وجاء في رواية "رز" بتقديم الراء على الزاي، وهو مأخوذ من ارتز الشيء إذا دخل في الأرض، والمراد بها هنا البيضة، يقال: ارتزت الجرادة، إذا أدخلت ذنبها في الأرض لتبيض، وعلى هذا فالمراد بالحجلة الطير المعروف أيضا. (أستغفر لك النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. ولك) يا عاصم، وهو الراوي عن عبد الله بن سرجس، ويقصد بالاستغفار لهما دخولهما في عموم المؤمنين والمؤمنات في الآية. (فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه، عند ناغض كتفه اليسرى جمعا) "ناغض"

بكسر الغين، بعدها ضاد، قال الجمهور: النغض بسكون الغين وفتحها والناغض أعلى الكتف، وقيل: هو العظم الرقيق الذي على طرفه، وقيل: ما يظهر منه عند التحرك. وأما قوله "جمعا" فبضم الجيم، وسكون الميم، ومعناه أنه كجمع الكف، وهو صورته بعد أن تجمع الأصابع وتضمها. (عليه خيلان، كأمثال الثآليل) "خيلان" بكسر الخاء جمع "خال" وهو الشامة في الجسد، أي على الخاتم، أو حوله خيلان، كأمثال الثآليل، والثآليل، بفتح الثاء ممدودة جمع ثؤلول بضم الثاء، وهو خراج أو الحبة تظهر في الجلد كالحمصة فما دونها، ويطلق على حلمة الثدي، وهو المناسب هنا. -[فقه الحديث]- قال الحافظ ابن حجر: كان الخاتم الذي بين كتفي النبي صلى الله عليه وسلم علامة من علامات النبوة، التي كان أهل الكتاب يعرفونه بها، قال: وادعى عياض هنا أن الخاتم هو أثر شق الملكين لما بين كتفيه، وتعقبه النووي: فقال: هذا باطل، لأن الشق إنما كان في صدره وبطنه، وأثره إنما كان خطا واضحا من صدره إلى مراق بطنه، كما في الصحيحين، قال: ولم يثبت قط أنه بلغ بالشق، حتى نفذ من وراء ظهره، ولو ثبت للزم عليه أن يكون مستطيلا من بين كتفيه إلى قطنته، لأنه الذي يحاذي الصدر، من سرته إلى مراق بطنه، قال: فهذه غفلة من هذا الإمام، ولعل هذا وقع من بعض نساخ كتابه، فإنه لم يسمع عليه، فيما علمت. ودافع الحافظ ابن حجر عن القاضي عياض، وقال: وقد وقفت على مستند القاضي، وهو حديث عتبة بن عبد السلمي، أخرجه أحمد والطبراني، وغيرهما عنه، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف كان بدء أمرك؟ فذكر القصة في ارتضاعه في بني سعد، وفيه أن الملكين لما شقا صدره قال أحدهما للآخر: خطه، فخاطه، وختم عليه بخاتم النبوة، اهـ. قال: فلما ثبت أن خاتم النبوة كان بين كتفيه حمل ذلك عياض على أن الشق لما وقع في صدره، ثم خيط، حتى التأم كما كان، ووقع الختم بين كتفيه كان ذلك أثر الشق، وفهم النووي وغيره منه، أن قوله "بين كتفيه" متعلق بالشق، وليس كذلك، بل هو متعلق بأثر الختم، ثم ساق الحافظ ابن حجر أحاديث ضعيفة لا يحتج بها، دفاعا عن القاضي عياض، ولسنا معه، والقول هنا قول النووي. وقد ذكر البخاري حديث السائب بن يزيد، وروايتنا الثالثة في باب استعمال فضل وضوء الناس من كتاب الطهارة، مستدلا بشرب السائب من ماء وضوئه صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ ابن حجر: أراد البخاري الاستدلال بهذا الحديث على رد قول من قال بنجاسة الماء المستعمل وهو قول أبي يوسف، وعن أبي حنيفة ثلاث روايات: الأولى طاهر، لا طهور، وهو قول الشافعي في الجديد، وهو المفتى به عند الحنفية، الثاني نجس نجاسة خفيفة، الثالثة نجس نجاسة غليظة، وهذه الأحاديث ترد عليه، لأن النجس لا يتبرك به.

قال ابن المنذر: وفي إجماع أهل العلم على أن البلل الباقي على أعضاء المتوضئ، وما قطر منه على ثيابه طاهر، دليل قوي على طهارة الماء المستعمل. كما ذكر البخاري هذا الحديث تحت باب المسح على رأس المريض، والدعاء له بالبركة في كتاب الدعوات. وذكره أيضا تحت باب من ذهب بالصبي المريض ليدعي له، في كتاب المرضى. كما ذكره تحت باب خاتم النبوة، من كتاب المناقب. والله أعلم

(623) باب قدر عمره صلى الله عليه وسلم، وإقامته بمكة والمدينة

(623) باب قدر عمره صلى الله عليه وسلم، وإقامته بمكة والمدينة 5304 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بالطويل البائن ولا بالقصير. وليس بالأبيض الأمهق ولا بالآدم. ولا بالجعد القطط ولا بالسبط. بعثه الله على رأس أربعين سنة. فأقام بمكة عشر سنين، وبالمدينة عشر سنين، وتوفاه الله على رأس ستين سنة. وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء. 5305 - وفي رواية عن أنس بن مالك رضي الله عنه، بمثل حديث مالك بن أنس، وزاد في حديثهما: كان أزهر. 5306 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين. وأبو بكر وهو ابن ثلاث وستين. وعمر وهو ابن ثلاث وستين. 5307 - عن عائشة رضي الله عنها؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وهو ابن ثلاث وستين سنة. وقال ابن شهاب: أخبرني سعيد بن المسيب. بمثل ذلك. 5308 - عن عمرو قال قلت لعروة كم كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة؟ قال: عشرا. قال: قلت: فإن ابن عباس يقول: ثلاث عشرة. 5309 - عن عمرو قال: قلت لعروة: كم لبث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة؟ قال: عشرا. قلت: فإن ابن عباس يقول: بضع عشرة. قال: فغفره، وقال: إنما أخذه من قول الشاعر.

5310 - عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث بمكة ثلاث عشرة. وتوفي وهو ابن ثلاث وستين. 5311 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه. وبالمدينة عشرا. ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة. 5312 - عن أبي إسحق قال: كنت جالسا مع عبد الله بن عتبة. فذكروا سني رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال بعض القوم: كان أبو بكر أكبر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عبد الله: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين. ومات أبو بكر وهو ابن ثلاث وستين. وقتل عمر وهو ابن ثلاث وستين. قال: فقال رجل من القوم، يقال له عامر بن سعد: حدثنا جرير قال: كنا قعودا عند معاوية. فذكروا سني رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال معاوية: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين سنة. ومات أبو بكر وهو ابن ثلاث وستين. وقتل عمر وهو ابن ثلاث وستين. 5313 - عن جرير أنه سمع معاوية يخطب فقال: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين. وأبو بكر وعمر. وأنا ابن ثلاث وستين. 5314 - عن عمار مولى بني هاشم قال: سألت ابن عباس: كم أتى لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات؟ فقال ما كنت أحسب مثلك من قومه يخفى عليه ذاك. قال: قلت: إني قد سألت الناس فاختلفوا علي. فأحببت أن أعلم قولك فيه. قال: أتحسب؟ قال: قلت: نعم. قال: أمسك أربعين بعث لها. خمس عشرة بمكة. يأمن ويخاف. وعشر من مهاجره إلى المدينة.

5315 - عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وهو ابن خمس وستين. 5316 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة خمس عشرة سنة. يسمع الصوت، ويرى الضوء، سبع سنين، ولا يرى شيئا. وثمان سنين يوحى إليه. وأقام بالمدينة عشرا. -[المعنى العام]- يشتهر العرب بالمعمرين الذين يبلغون ما فوق السبعين، ربما لبيئة الصحراء، قليلة الأمراض، نقية الهواء، وربما لقلة مشاغلهم ومشاكلهم. والأعمار الحقيقية لا تقاس بالسنين، فالأزمنة ظروف لما يحدث فيها، وقيمتها بقيمة ما يشغلها. فلو أن عملا ما تم في شهر مع إنسان، وتم هو نفسه مع إنسان آخر في عام كانت قيمة العام عند هذا مساوية لقيمة الشهر عند ذاك. ومن هنا نعجب كل العجب لما أحدثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإنسانية من نهضة وتطور في زمن يقل عن ثلاثة وعشرين عاما، فقد أوحي إليه صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين، وتوفي وهو ابن ثلاث وستين. كانت ساعاته بأيام عند غيره، وما رجع من غزوة إلا وري بأخرى، وما جلس في المسجد إلا دعا ونصح وبلغ، يلقى جبريل، ويلقى أصحابه، ويلقى أعداءه، ويدير مملكة يحاربها خصوم ألداء من جهات متعددة، ويطبق شريعة الله، ويقضي بين الناس، وهو القائد في الحرب، الوالد في السلم، ولقد عظمت المسئولية لعظمة المسئول. حقا. إن المرء ليعجب، ولا يعجب من سؤال الصحابة بعضهم بعضا عن عمره صلى الله عليه وسلم، ما قضاه منه في مكة بعد البعثة وقبل الهجرة، وما قضاه صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد الهجرة. صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

-[المباحث العربية]- (بعثه الله على رأس أربعين سنة) أي أوحى إليه عند تمامه أربعين سنة. (فأقام بمكة عشر سنين) أي بعد بدء الوحي. (وبالمدينة عشر سنين) ابتداء من الهجرة، حتى الوفاة. (وتوفاه الله على رأس ستين سنة) من تاريخ ولادته. (كم كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة؟ ) أي كم سنة أقام بمكة بعد أن بعث؟ وفي ملحق الرواية الرابعة "كم لبث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة"؟ (فإن ابن عباس يقول: بضع عشرة) فسر البضع في الرواية السادسة بثلاث ولفظها "مكث بمكة ثلاث عشرة" أي بعد أن بعث. (قال: فغفره) بفتح الغين، وتشديد الفاء المفتوحة، أي دعا عروة لابن عباس بالمغفرة، قال النووي: هكذا هو في جميع نسخ بلادنا "فغفره" أي قال: غفر الله له، وهذه اللفظة يقولونها غالبا لمن غلط في شيء. فكأنه قال: أخطأ غفر الله له. قال القاضي: وفي رواية ابن ماهان "فصغره" بصاد ثم غين، أي استصغره عن معرفة هذا، وعن إدراكه وضبطه. (وقال: إنما أخذه من قول الشاعر) أي استمد ابن عباس هذا القول من قول الشاعر، وليس له علم بذلك، والشاعر المقصود هنا هو أبو قيس، صرمة بن أبي أنس، حيث يقول: ثوى في قريش بضع عشرة حجة يذكر، لو يلقى خليلا مواتيا أي يتمنى أن يلقى صاحبا يسلم ويتبعه، قال القاضي: وقد وقع هذا البيت في بضع نسخ صحيح مسلم، وليس هو في عامتها. قال النووي: وأبو قيس هذا أنصاري من بني النجار، كما قال ابن إسحق، قال: كان قد ترهب في الجاهلية، ولبس المسوح، وفارق الأوثان، واغتسل من الجنابة، واتخذ بيتا له مسجدا، لا يدخل عليه حائض ولا جنب، وقال: أعبد رب إبراهيم، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أسلم، فحسن إسلامه، وهو شيخ كبير، وكان قوالا بالحق، وكان معظما لله تعالى في الجاهلية يقول الشعر في تعظيمه سبحانه وتعالى. اهـ. (فذكروا سني رسول الله صلى الله عليه وسلم) بكسر السين وكسر النون مخففة، وأصلها "سنين" حذفت النون للإضافة، لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، أي تذاكروا عمر النبي صلى الله عليه وسلم، وعدد السنين التي عاشها. (كان أبو بكر أكبر من رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهذا خطأ باتفاق الجمهور. (مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين، وأبو بكر وعمر) الخبر محذوف للعلم به من المقام، أي وأبو بكر وعمر ماتا وكل منهما ابن ثلاث وستين.

(وأنا ابن ثلاث وستين) يقول معاوية: وأنا الآن ابن ثلاث وستين. والجملة مستأنفة، يقصد وأنا أتوقع موافقتهم، فأموت في سنتي هذه، قيل: عاش سبعا وسبعين سنة. (عن عمار، مولى بني هاشم، قال: سألت ابن عباس: كم أتى لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات؟ ) أي كم من الدهر والسنين أتى على حياته صلى الله عليه وسلم يوم مات؟ (ما كنت أحسب مثلك من قومه يخفى عليه ذاك) ظن ابن عباس أن عمارا يسأل لخفاء الأمر عليه، ليعلم، والحقيقة أن عمارا كان يسأل للتقرير، وليتأكد من الخبر الشائع عن شذوذ ابن عباس بقوله. ولذلك كان جوابه: إني قد سألت الناس - أي الصحابة - فاختلفوا علي، فأحببت أن أعلم قولك في هذا الأمر. (قال: أتحسب) بضم السين، من الحساب، أي أتعرف الجمع؟ (أربعين بعث لها) أي بعث عندها. أضف إليها. (خمس عشرة بمكة، يأمن ويخاف) أي بعد أن أوحي إليه أقام بمكة خمس عشرة سنة، يسر بالدعوة ويجهر بها. (وعشر من مهاجرة إلى المدينة) "عشر" غير منون، على نية الإضافة، أي وعشر سنين، مبتدئة من تاريخ هجرته إلى وفاته. (أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة خمس عشرة سنة، يسمع الصوت، ويرى الضوء سبع سنين، ولا يرى شيئا، وثمان سنين يوحى إليه) قال القاضي: أي يسمع صوت الهاتف به من الملائكة، ويرى نور الملائكة، أو نور آيات الله، حتى رأى الملك بعينيه، وشافهه بوحي الله تعالى. -[فقه الحديث]- يحسن بنا أن نسرد الأقوال منضبطة، ثم نرجح أو نجمع بينها، أو نختار. فعن تاريخ ميلاده صلى الله عليه وسلم يقول النووي: ولد عام الفيل على الصحيح المشهور، وقيل: بعد الفيل بثلاث سنين، وقيل: بأربع سنين، وادعى القاضي عياض الإجماع على عام الفيل، وليس كما ادعى. واتفقوا على أنه ولد يوم الإثنين في شهر ربيع الأول، واختلفوا: هل هو ثاني الشهر؟ أم ثامنه؟ أم عاشره؟ اهـ. وهذه الأقوال غير منسجمة، فإذا كان هناك اتفاق على يوم الإثنين أمكن تحديد وضعه من الشهر هكذا. ثانيه أو تاسعه؟ أو سادس عشره؟ . أما أن يكون الإثنين ثانيا أو ثامنا أو عاشرا أو ثاني عشره فغير معقول. وسبب هذا الاختلاف أن العرب لم يكونوا يكتبون، ولا يقيدون المواليد، والإنسان يحتاج تاريخ الميلاد غالبا عندما يصبح مهما، أي بعد ميلاده بفترة، تنسى تاريخ الميلاد غالبا.

أما تاريخ وفاته صلى الله عليه وسلم فقد اتفقوا على أنه توفي يوم الإثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول، ضحى. وأما متى بعث؟ وعند أي سنة من عمره أوحي إليه، فالصواب المشهور أنه صلى الله عليه وسلم بعث على رأس أربعين من عمره، وحكى القاضي عياض عن ابن عباس وسعيد بن المسيب رواية شاذة "أنه صلى الله عليه وسلم بعث على رأس ثلاث وأربعين سنة. ولعل هذه الرواية حسبت البعثة من تاريخ عودة الوحي بعد أن فتر. واتفقوا على أنه صلى الله عليه وسلم أقام بالمدينة بعد الهجرة عشر سنين. والخلاف الواضح في الروايات إنما هو في المدة التي أقامها بمكة بعد البعثة، مما ترتب على هذا الخلاف خلاف في عمره صلى الله عليه وسلم ككل. فالرواية الأولى تصرح بأنه صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بعد البعثة عشر سنين، وبعث على رأس الأربعين، وأقام بالمدينة عشر سنين، فتوفي على رأس الستين، وهي مروية عن أنس رضي الله عنه. وفي البخاري عن عائشة وابن عباس. والرواية الرابعة وملحقها تنسب لعروة أنه صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بعد البعثة عشر سنين وأن عروة أنكر على ابن عباس قوله "ثلاث عشرة" وعليه فعروة يعتبر عمره صلى الله عليه وسلم حين وفاته ستين سنة، على خلاف ما عليه الجمهور، وما نسب إلى ابن عباس في الرواية الرابعة والخامسة والسادسة يتفق مع قول الجمهور، وقد روي أيضا في البخاري عن عائشة رضي الله عنها. أما الرواية التاسعة فتنسب لابن عباس أن الإقامة بمكة بعد البعثة خمس عشرة سنة، والبعثة على رأس الأربعين، فيكون عمره صلى الله عليه وسلم حين الوفاة خمسا وستين، وقد صرحت بذلك الرواية العاشرة، فيكون هذا رأيا لابن عباس مخالفا للجمهور. فتحصل من هذا: قول بأنه صلى الله عليه وسلم توفي وهو ابن ستين سنة. وقول بأنه صلى الله عليه وسلم توفي وهو ابن خمس وستين سنة. وقول بأنه صلى الله عليه وسلم توفي وهو ابن ثلاث وستين سنة. قال النووي: وهو أصح الأقوال وأشهرها، رواه مسلم هنا من رواية عائشة وأنس وابن عباس، رضي الله عنهم. وتأول الجمهور الروايات الأخرى، تأول رواية الستين بأنه اقتصر فيها على العقود، وترك الكسر، وتأول روايات الخمس والستين بالجبر إلى نصف العقد، أو أن هذه الروايات حصل فيها اشتباه، فلصاحبها روايات بخلافها.

قال الحافظ ابن حجر: والحاصل أن كل من روى عنه من الصحابة ما يخالف المشهور - وهو ثلاث وستون - جاء عنه المشهور، وهم ابن عباس وعائشة وأنس. ثم قال: ومن الشذوذ ما رواه عمر بن شبة أنه عاش إحدى أو اثنتين وستين، ولم يبلغ ثلاثا وستين وكذا رواه ابن عساكر من وجه آخر أنه عاش اثنتين وستين ونصفا، وهذا يصح على قول من قال: ولد في رمضان، وهو قول شاذ. والله أعلم

(624) باب في أسمائه صلى الله عليه وسلم

(624) باب في أسمائه صلى الله عليه وسلم 5317 - عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا محمد. وأنا أحمد. وأنا الماحي الذي يمحى بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على عقبي. وأنا العاقب". والعاقب الذي ليس بعده نبي. 5318 - عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن لي أسماء. أنا محمد. وأنا أحمد. وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر. وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي. وأنا العاقب الذي ليس بعده أحد". وقد سماه الله رءوفا رحيما. 5319 - وفي حديث شعيب ومعمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي حديث عقيل: قال: قلت: للزهري: وما العاقب؟ قال: الذي ليس بعده نبي. وفي حديث معمر وعقيل: الكفرة. وفي حديث شعيب: الكفر. 5320 - عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمي لنا نفسه أسماء. فقال: "أنا محمد، وأحمد، والمقفي، والحاشر، ونبي التوبة، ونبي الرحمة". -[المعنى العام]- كثير من الأسماء يلحظ واضعوها مشتقها ومعناها، تيمنا وتفاؤلا ورغبة في أن يكون المسمى له نصيب من اسمه، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يغير الأسماء القبيحة أو التي تبعث الشؤم في نفس السامع إلى أسماء حسنة مبشرة. لقد توفي عبد الله والد محمد صلى الله عليه وسلم ومحمد في بطن أمه، فلما ولد سماه جده عبد المطلب محمدا، رجاء أن يحمد في السموات وفي الأرض، وكان الرهبان يبشرون الناس بأن نبيا في ذاك الزمان

سيبعث، واسمه محمد، فبدأ الآباء يسمون أبناءهم محمدا، أملا في أن يكون هو النبي صلى الله عليه وسلم المنتظر، حتى بلغ اسم محمد في تلك الآونة خمسة عشر، بعد أن لم يكن معروفا عند العرب، وكانت توراة عيسى بشرت بهذا النبي صلى الله عليه وسلم وسمته "أحمد" قال عيسى عليه السلام {ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} [الصف: 6]. وقد جرت العادة بأن يسمى العظماء أسماء مشتقة من مجال عظمتهم، تسجيلا لهذه الأعمال مرتبطة بأصحابها في سجل التاريخ، فسمي عمر رضي الله عنه بالفاروق، وسمي أبو بكر رضي الله عنه بالصديق، وهكذا كان من أسمائه صلى الله عليه وسلم "الماحي" لأنه يمحو ظلام الكفر عن رقعة كبرى من الأرض، و"الحاشر" الذي سيقود العالم في الحشر يوم القيامة، و"العاقب" الذي كان بعد الأنبياء ولا نبي بعده و"المقفي" أي التابع للرسل السابقين، والمتبوع من أمته، و"نبي التوبة" و"نبي الرحمة" لما تفضل الله به على أمته من قبول توبتهم إذا عصوا فتابوا رحمة بهم. وهو المبشر المنذر الداعي إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة. ولو ذهبنا نسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم بما وصفه الله به من صفات المجد والشرف لبلغنا بأسمائه ألفا أو يزيد، صلى الله وسلم وبارك عليه. -[المباحث العربية]- (أنا محمد) قال أهل اللغة: يقال: رجل محمد، ومحمود، إذا كثرت خصاله المحمودة، فهذا منقول من صفة الحمد، من باب التفعيل، يقال: حمد بتشديد الميم المكسورة وضم الحاء، وهو بمعنى محمود، وفيه معنى المبالغة، أي الذي حمد مرة بعد مرة، أو الذي تكاملت فيه الخصال المحمودة. قال القاضي عياض: لم يكن العرب يسمون محمدا، إلا قرب ميلاده صلى الله عليه وسلم، لما سمعوا من الكهان والأحبار، أن نبيا سيبعث في ذلك الزمان، يسمى محمدا، فرجوا أن يكون في أبنائهم، فسموا أبناءهم بذلك، قال: وهم ستة لا سابع لهم، ورد الحافظ ابن حجر هذا الحصر، وأوصلهم خمسة عشر نفسا، وسردهم في فتح الباري، وقد تكرر اسم محمد في القرآن الكريم. (وأنا أحمد) وذكر هذا الاسم في القرآن، حكاية عن قول عيسى عليه السلام {ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} وهو أفعل تفضيل في الأصل، ثم صار علما منقولا من صفة، ومعناه أحمد الحامدين، قالوا: وسبب ذلك ما ثبت في الصحيح أنه يفتح عليه في المقام بمحامد لم يفتح بها على أحد قبله، وقيل: الأنبياء حمادون، وهو أحمدهم، أي أكثرهم حمدا، أو أعظمهم في صفة الحمد. قال القاضي عياض: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم "أحمد" قبل أن يكون "محمدا" كما وقع في الوجود، لأن تسميته "أحمد" وقعت في الكتب السالفة، وتسميته "محمدا" وقعت في القرآن العظيم، وذلك أنه حمد ربه قبل أن يحمده الناس، وكذلك في الآخرة، يحمد ربه، فيشفعه، فيحمده الناس، وقد خص بسورة الحمد، وبلواء الحمد، وبالمقام المحمود، وشرع له الحمد بعد الأكل والشرب، وبعد الدعاء، وبعد القدوم من السفر، وسميت أمته الحمادين، فجمعت له معاني الحمد وأنواعه، صلى الله عليه وسلم.

(وأنا الماحي الذي يمحى بي الكفر) في الرواية الثانية "وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر" قيل: المراد إزالة الكفر من جزيرة العرب، فـ "ال" في "الكفر" عهدية، أي كفر أهل الجزيرة، والتقييد بذلك لأن الكفر لم ينمح به من جميع البلاد، وقيل: إنه محمول على الأغلب، أي ينمحي به أغلب الكفر، وفي رواية "يمحو الله به الكفرة" والمراد كفر الكفرة، ففي الكلام مضاف محذوف، وقيل المراد من المحو المحو العام، بمعنى الظهور بالحجة والغلبة، كما قال الله تعالى {ليظهره على الدين كله} [الصف: 9] وجاء في حديث آخر تفسير الماحي بأنه الذي محيت به سيئات من اتبعه، ففي الكلام مضاف محذوف أيضا، أي محيت به سيئات الكفر السابقة على الإيمان، فهو كقوله تعالى {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال: 38] والحديث الصحيح "الإسلام يهدم ما قبله". (وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على عقبي) وفي الرواية الثانية "على قدمي" قال النووي: اتفقت النسخ على أنها "على قدمي" لكن ضبطوه بتخفيف الياء على الإفراد، وتشديدها على التثنية، وأما الرواية الأولى فهي في معظم النسخ، وفي بعضها "قدمي" كالثانية، قال العلماء: معناهما يحشرون على أثري، وزمان نبوتي ورسالتي، ولبس بعدي نبي، وقيل: يتبعوني، وقيل: معناه إنه أول من يحشر، كما جاء في الحديث الآخر "أنا أول من تنشق عنه الأرض"، وفي رواية "وأنا حاشر، بعثت مع الساعة" وهي تؤيد الرأي الأول. (وأنا العاقب الذي ليس بعده أحد) من الأنبياء، ففي الرواية الأولى يفسرها الراوي بقوله "والعاقب الذي ليس بعده نبي" وفي ملحق الرواية الثانية "قال عقيل: قلت للزهري: وما العاقب؟ قال: الذي ليس بعده نبي" فهذا التفسير ظاهره الإدراج. بخلاف ما في الرواية الأولى، ويؤيدها رواية الترمذي، ولفظها "الذي ليس بعدي نبي". (وقد سماه الله رءوفا رحيما) قال البيهقي في الدلائل: هذه العبارة مدرجة من قول الزهري. (والمقفي) بكسر الفاء المشددة، قال شمر: هو بمعنى العاقب، وقال ابن الأعرابي: هو المتبع للأنبياء، يقال: قفوته، أقفوه، وقفيته بتشديد الفاء المفتوحة، أقفيه، إذا اتبعته، وقافية كل شيء آخره. (ونبي التوبة، ونبي الرحمة) أي النبي الذي جاء بالتوبة لأمته، وبالتراحم أكثر من أي نبي آخر، قال تعالى {رحماء بينهم} [الفتح: 29] وقال {وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة} [البلد: 17]. -[فقه الحديث]- ذكر أبو بكر بن العربي في كتابه: الأحوذي في شرح الترمذي عن بعضهم أن لله تعالى ألف اسم، وللنبي صلى الله عليه وسلم ألف اسم، ثم ذكر منها على التفصيل بضعة وستين، وفي رواية للبخاري "لي خمسة أسماء" وذكر الخمسة التي في الرواية الأولى، وزاد عند ابن سعد "الخاتم" لكن فسر عند البيهقي

"العاقب" بالخاتم، وزعم بعضهم أن حصر العدد ليس من قوله صلى الله عليه وسلم، وإنما ذكره الراوي بالمعنى، قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر، لتصريحه في الحديث بقوله "إن لي خمسة أسماء" والذي يظهر أنه أراد أن لي خمسة أسماء أختص بها، لم يسم بها أحد قبلي، أو خمسة أسماء معظمة أو مشهورة في الأمم الماضية، لا أنه أراد الحصر فيها. قال: ومما وقع من أسمائه في القرآن بالاتفاق: الشاهد، والمبشر والنذير، والمبين، والداعي إلى الله، والسراج المنير، وفيه أيضا: المذكر والرحمة، والنعمة، والهادي، والشهيد، والأمين، والمزمل، والمدثر، وله في الأحاديث: المتوكل، قال: ومن أسمائه المشهورة: المختار، والمصطفى، والشفيع، والمشفع، والصادق، والمصدوق. قال: وغالب الأسماء التي ذكرها المصنفون وصف بها صلى الله عليه وسلم، ولم يرد الكثير منها على سبيل التسمية، مثل "اللبنة" لحديث "فكنت أنا اللبنة" وفي بعض الأحاديث "نبي الملحمة" و"نبي الجهاد". والله أعلم

(625) باب علمه صلى الله عليه وسلم بالله، وشدة خشيته له

(625) باب علمه صلى الله عليه وسلم بالله، وشدة خشيته له 5321 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرا فترخص فيه. فبلغ ذلك ناسا من أصحابه، فكأنهم كرهوه وتنزهوا عنه. فبلغه ذلك. فقام خطيبا فقال: "ما بال رجال بلغهم عني أمر ترخصت فيه. فكرهوه وتنزهوا عنه. فوالله! لأنا أعلمهم بالله وأشدهم له خشية". 5322 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر، فتنزه عنه ناس من الناس. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فغضب حتى بان الغضب في وجهه، ثم قال: "ما بال أقوام يرغبون عما رخص لي فيه. فوالله! لأنا أعلمهم بالله وأشدهم له خشية". -[المعنى العام]- يقول الله تعالى {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56] أي إلا ليعبدوه لمصلحتهم هم، فيثابون، وينعمون، فالله سبحانه وتعالى لا تنفعه طاعة المطيعين، ولا تضره معصية العاصين، ولو أن أهل السموات والأرض كانوا على أتقى قلب رجل واحد، ما زاد ذلك في ملكه شيئا، ولو أن أهل السموات والأرض كانوا على أفجر قلب رجل واحد، ما نقص ذلك من ملكه شيئا، {إن الله لغني عن العالمين} [العنكبوت: 6] {ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وءامنتم وكان الله شاكرا عليما} [النساء: 147] {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} [المائدة: 6]. فعبادة العابدين علامة على السمع والطاعة والاعتراف بالعبودية والخضوع، وظاهرة من ظواهر شكر المنعم على ما أنعم، وهي من هذه الحيثية لا تتأثر بالزيادة والمبالغة والغلو، بل ترتبط ارتباطا وثيقا بالعلم القلبي، والتصديق القلبي، فقد سبق درهم ألف درهم عند الله، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومهما بالغ الإنسان في العبادة فلن يبلغ عشر معشار من عبادة الملائكة الذين منهم الراكع أبدا، ومنهم الساجد أبدا، ومنهم الذاكر أبدا، {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} [التحريم: 6]. وللإنسان طاقة، إذا استنفدها - ولو في العبادة - وفي وقت قصير، خلت بقية الأوقات، وإن خير الأعمال ما داوم عليها فاعلها، وإن قلت، فالمداومة وحدها ارتباط متصل بين

العبد وربه، وقد قيل: قليل دائم، خير من كثير ينقطع، والمبالغة، والغلو يعقبهما - غالبا - الملل، والملل من العبادة معصية، قد تأتي على ثواب ما قبلها، وفي الحديث "أوغل في الدين برفق، فإن المنبت لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى" {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78] {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185]. من هنا كان صلى الله عليه وسلم حريصا على عدم مغالاة أصحابه في دين الله، بل كان يريد عبادة ربه بشيء، فيتركه، مخافة أن يقتدي به أصحابه، فيشق عليهم، كما فعل صلى الله عليه وسلم في قيام رمضان، وكان إذا رأى تعمقا أو رغبة في التعمق من أصحابه غضب، ولجأ إلى المنبر ينبه الجميع إلى الترفق بأنفسهم، ويدعو إلى الترخص برخص الله، اقتداء به صلى الله عليه وسلم، فهو أعلم الناس بالله، وهو أتقاهم، وأخشاهم لله، ولكنه صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، كان يصوم ويفطر مع أنه قادر على الصوم أبدا، إذ يطعمه ربه ويسقيه، ويقوم وينام، ويتمتع بالنساء كما يتمتع بالصلاة، فهو رسول الله وسط لدين وسط، لأمة وسط. صلى الله عليه وسلم ورضي عن آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. -[المباحث العربية]- (صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرا، فترخص فيه) أي فاختار الرخصة واليسر، وقد أومأ ابن بطال إلى أن الذي صنعه صلى الله عليه وسلم وتنزهوا عنه هو القبلة للصائم، وقال غيره: لعله الفطر في السفر. (فبلغ ذلك ناسا من أصحابه، فكأنهم كرهوه، وتنزهوا عنه) في الرواية الثانية بدون تشبيه، بل بالجزم، ولفظها "فتنزه عنه ناس من الناس" أي جماعة من الصحابة، بحجة أنه صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فإذا ترخص في شيء لم يكن غيره مثله، ممن لم يغفر له ذلك، إذ يحتاج الذي لم يغفر له إلى الأخذ بالعزيمة، والشدة لينجو. (ما بال رجال بلغهم عني أمر، ترخصت فيه، فكرهوه وتنزهوا عنه؟ ) البال هو الحال، والاستفهام إنكاري توبيخي، أي ما كان ينبغي أي يكون حالهم كذلك، وفي الرواية الثانية "فغضب، حتى بان الغضب في وجهه، ثم قال: ما بال أقوام يرغبون عما رخص لي فيه"؟ (فوالله لأنا أعلمهم بالله، وأشدهم له خشية) معناه: أنهم يتوهمون أن تنزههم عما فعلت أقرب لهم عند الله، وإن فعلت خلاف ذلك، وليس كما توهموا، بل أنا أعلمهم بالله، وأشدهم له خشية وإنما يكون القرب إليه سبحانه وتعالى، والخشية له على حسب ما أمر، لا بمخيلات النفوس، وتكلف أعمال لم يأمر بها، قاله النووي. وجمع بين العلم بالله، وشدة الخشية له، ليجمع بين القوة العلمية، والقوة العملية.

-[فقه الحديث]- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما بأمته، يعز عليه عنتهم ومشقتهم، فكان يباعد بينهم وبين المغالاة في الدين، كما كان يخفف عنهم العقاب، إذا فعلوا ما يجوز لهم من الأخذ بالشدة، فلا يواجه المتعمق، ولا يحرجه، حياء منه صلى الله عليه وسلم، وسترا عليه، فلا يعين الشخص عند العتاب، كأن يقول له: ما بالك يا فلان فعلت كذا؟ أو ما بال فلان يفعل كذا؟ فهو في هذه الحالة التي يستخدمها صلى الله عليه وسلم كأنه لم يواجه المخطئ وإن كان موجودا في جملة المخاطبين. وقد أخرج مسلم في كتاب الصيام عن عائشة رضي الله عنها "أن رجلا قال: يا رسول الله، إني أصبح جنبا، وأنا أريد الصيام، فأغتسل وأصوم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا تدركني الصلاة، وأنا جنب، فأصوم، فقال يا رسول الله، إنك لست مثلنا؟ قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: إني أرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتقي" ونحو هذا في حديث أنس المذكور في كتاب النكاح. "أن ثلاثة رهط سألوا عن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في السر" الحديث. وفيه قولهم "وأين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر" وفيه قوله لهم "والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء". -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - الحث على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في أفعاله وأقواله. والأصل فيه قوله تعالى {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [الأحزاب: 21] وقد ذهب جمع إلى وجوبه، لدخوله في عموم الأمر، بقوله تعالى {وما ءاتاكم الرسول فخذوه} [الحشر: 7] وبقوله {فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران: 31] وبقوله تعالى {فاتبعوه} [الأنعام: 153، 155] فيجب اتباعه في فعله، كما يجب اتباعه في قوله، حتى يقوم دليل على الندب أو الخصوصية، وقال آخرون: يحتمل الوجوب والندب والإباحة، فيحتاج إلى القرينة، والجمهور للندب، إذا ظهر وجه القربة، وقيل: ولو لم يظهر، ومنهم من فصل بين التكرار وعدمه، وقال آخرون: ما يفعله صلى الله عليه وسلم، إن كان بيانا لمجمل، فحكمه حكم ذلك المجمل، وجوبا أو ندبا أو إباحة، فإن ظهر وجه القربة فللندب، وما لم يظهر فيه وجه التقرب فللإباحة. وأما تقريره صلى الله عليه وسلم على ما يفعل بحضرته فيدل على الجواز، وإذا تعارض فعله وقوله. قيل: يقدم القول، لأن له صيغة، تتضمن المعاني، بخلاف الفعل، وقيل: يقدم الفعل، لأنه لا يطرقه من الاحتمال ما يطرق القول، ثالث الأقوال: يلجأ إلى الترجيح، وكل ذلك ما لم تقم قرينة تدل على الخصوصية. وذهب الجمهور إلى القول الأول والحجة له أن القول يعبر عنه عن المحسوس والمعقول، بخلاف الفعل، فيختص بالمحسوس، فكان القول أتم، وبأن القول متفق على أنه دليل، بخلاف الفعل، ولأن القول يدل بنفسه، بخلاف الفعل، فيحتاج إلى واسطة، وبأن تقديم

الفعل يقضي إلى ترك العمل بالقول، والعمل بالقول يمكن معه العمل بما دل عليه الفعل، فكان القول أرجح بهذه الاعتبارات. قال ابن بطال - بعد أن حكى الاختلاف في أفعاله صلى الله عليه وسلم - محتجا لمن قال بالوجوب بحديث الخاتم، فقد خلع خاتمه، فخلعوا خواتيمهم، ونزع نعله في الصلاة، فنزعوا، ولما أمرهم في الحديبية بالتحلل، وتأخروا عن المبادرة، رجاء أن يؤذن لهم في القتال، وأن ينصرفوا فيكملوا عمرتهم، قالت له أم سلمة: اخرج إليهم، واحلق واذبح، ففعل، فتابعوه مسرعين فدل ذلك على أن الفعل أبلغ من القول، ولما نهاهم عن الوصال، قالوا: إنك تواصل، فقال: إني أطعم وأسقى، فلولا أن لهم الاقتداء به لقال: وما في مواصلتي ما يبيح لكم الوصال، لكنه عدل عن ذلك، وبين لهم وجه اختصاصه بالمواصلة. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: وليس في جميع ما ذكره ابن بطال ما يدل على المدعي، من الوجوب بل على مطلق التأسي به صلى الله عليه وسلم. 2 - وذم التعمق، والمغالاة في الدين، لقوله تعالى {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم} [النساء: 171] والغلو هو المبالغة في الشيء، والتشديد فيه، بتجاوز الحد، وعند النسائي وابن ماجه وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من قبلكم الغلو في الدين" 3 - وأن الخير في الاتباع، سواء كان ذلك في العزيمة، أو الرخصة. 4 - وأن استعمال الرخصة، بقصد الاتباع، في المحل الذي وردت فيه، أولى من استعمال العزيمة، بل ربما كان استعمال العزيمة حينئذ مرجوحا، كما في إتمام الصلاة في السفر، وربما كان مذموما، إذا كان رغبة عن السنة. ونقل ابن التين عن الداودي أن التنزه عما ترخص فيه صلى الله عليه وسلم من أعظم الذنوب، لأنه يرى نفسه أتقى لله من رسوله، وهذا إلحاد. قال الحافظ ابن حجر: لا شك في إلحاد من اعتقد ذلك، ولكن الذي اعتل به من أشير إليهم في الحديث أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فلا يكون إلحادا. 5 - وفي الحديث الغضب عند انتهاك حرمات الشرع، وإن كان المنتهك متأولا تأويلا باطلا. 6 - وفيه حسن المعاشرة، بإرسال التعزير، والإنكار في الجمع، من غير تعيين الفاعل. 7 - وأن القرب إلى الله تعالى سبب لزيادة العلم به، وشدة خشيته. ولهذا الباب علاقة بالباب بعده والله أعلم

(626) باب وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم، وتوقيره، وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه

(626) باب وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم، وتوقيره، وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه 5323 - عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه حدثه؛ أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، في شراج الحرة التي يسقون بها النخل. فقال الأنصاري: سرح الماء يمر فأبى عليهم. فاختصموا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير "اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك" فغضب الأنصاري. فقال: يا رسول الله! أن كان ابن عمتك! فتلون وجه نبي الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال: "يا زبير، اسق، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر" فقال الزبير: والله! إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا} 5324 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه. وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم. فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم". 5325 - عن أبي هريرة رضي الله عنه. كلهم قال: عن النبي صلى الله عليه وسلم: " ذروني ما تركتكم" وفي حديث همام "ما تركتم. فإنما هلك من كان قبلكم". 5326 - عن عامر بن سعد عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أعظم

المسلمين في المسلمين جرما، من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين، فحرم عليهم من أجل مسألته". 5327 - عن عامر بن سعد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعظم المسلمين في المسلمين جرما، من سأل عن أمر لم يحرم، فحرم على الناس من أجل مسألته". - وزاد في حديث معمر: "رجل سأل عن شيء ونقر عنه" وقال: في حديث يونس عامر بن سعد، أنه سمع سعدا. 5328 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحابه شيء فخطب فقال: "عرضت علي الجنة والنار. فلم أر كاليوم في الخير والشر، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا" قال: فما أتى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أشد منه. قال: غطوا رءوسهم ولهم خنين. قال: فقام عمر فقال: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا. قال: فقام ذاك الرجل فقال: من أبي؟ قال: أبوك فلان" فنزلت {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} 5329 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله! من أبي؟ قال: "أبوك فلان" ونزلت {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} تمام الآية. 5330 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حين زاغت الشمس. فصلى لهم صلاة الظهر. فلما سلم قام على المنبر. فذكر الساعة. وذكر أن قبلها أمورا

عظاما. ثم قال: "من أحب أن يسألني عن شيء فليسألني عنه. فوالله! لا تسألونني عن شيء إلا أخبرتكم به، ما دمت في مقامي هذا" قال أنس بن مالك: فأكثر الناس البكاء حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول "سلوني" فقام عبد الله بن حذافة فقال: من أبي؟ يا رسول الله! قال: "أبوك حذافة" فلما أكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يقول "سلوني" برك عمر فقال: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا. قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عمر ذلك. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أولى. والذي نفس محمد بيده! لقد عرضت علي الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط. فلم أر كاليوم في الخير والشر" قال ابن شهاب: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: قالت أم عبد الله بن حذافة لعبد الله بن حذافة: ما سمعت بابن قط أعق منك؟ أأمنت أن تكون أمك قد قارفت بعض ما تقارف نساء أهل الجاهلية، فتفضحها على أعين الناس؟ قال عبد الله بن حذافة: والله! لو ألحقني بعبد أسود، للحقته. بمثل حديث يونس. 5331 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن الناس سألوا نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة. فخرج ذات يوم فصعد المنبر، فقال: "سلوني، لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم" فلما سمع ذلك القوم أرموا ورهبوا أن يكون بين يدي أمر قد حضر. قال أنس: فجعلت ألتفت يمينا وشمالا فإذا كل رجل لاف رأسه في ثوبه يبكي. فأنشأ رجل من المسجد، كان يلاحى فيدعى لغير أبيه. فقال: يا نبي الله! من أبي؟ قال: "أبوك حذافة" ثم أنشأ عمر بن الخطاب رضي اللهم عنهم فقال: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا، عائذا بالله من سوء الفتن. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم أر كاليوم قط في الخير والشر. إني صورت لي الجنة والنار، فرأيتهما دون هذا الحائط".

عن أنس بهذه القصة. 5332 - عن أبي موسى قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء كرهها. فلما أكثر عليه. غضب. ثم قال للناس: "سلوني عم شئتم" فقال رجل: من أبي؟ قال: "أبوك حذافة" فقام آخر فقال: من أبي؟ يا رسول الله! قال: "أبوك سالم مولى شيبة" فلما رأى عمر ما في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغضب قال: يا رسول الله! إنا نتوب إلى الله. وفي رواية أبي كريب: قال: من أبي؟ يا رسول الله! قال: "أبوك سالم، مولى شيبة". -[المعنى العام]- إن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، يستلزم الإجابة لما جاء به، وقبول أوامره ونواهيه، وامتثال قراراته وأحكامه، وفي ذلك يقول جل شأنه {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} [النساء: 65]. لقد طبع العرب على العصبية القبلية، ونصر القريب والدفاع عنه، والحكم له، وإن كان ظالما، ومن الصعب انتزاع العادات والطبائع في زمن يسير، وقد لاقى رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الطبيعة ما لاقى، وتحمل في سبيل تقويمها ما تحمل. فهذا رجل من الأنصار، تجاور أرضه ونخيله أرض ونخيل الزبير بن العوام، ابنة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومياه سقيه لا بد لها أن تمر في أرض الزبير، والمياه، كما يقول العامة: لا تمر على العطشان، فلا يشرب، لكن قانون القوة، وقانون العصبية لا يلتزم الحقوق، لقد حاول الأنصاري أن تمر المياه في أرض الزبير، دون أن يسقى نخيله، فمنعه من فتح القناة في أرضه، وطلب منه أن يترك القناة مغلقة الجوانب حتى يصل الماء أرضه فيروي أولا، ورفعا الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان حكم الله أن يسقى الأعلى الأقرب إلى مصدر المياه أولا حتى يكتفي، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغب في أن يتنازل الزبير عن بعض حقه، وأن يسقى الضروري فقط، وأن يسمح للماء بالمرور إلى أرض الأنصاري قبل أن يشبع الزبير أرضه، فقال: اسق يا زبير قدر الضرورة وأرسل الماء لجارك، وكان الأنصاري مشبعا بالعادة، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألأنه ابن عمتك حكمت لمصلحته؟ وغضب صلى الله عليه وسلم، وبان الغضب في وجهه، فأعطى الزبير حقه، وقال: اسق يا زبير حتى يشبع بالماء نخلك، ثم اترك الماء، ونزلت الآية الكريمة، تدعو الأمة إلى قبول حكمه صلى الله عليه وسلم، والتسليم به. وكان لا بد من توقيره صلى الله عليه وسلم، وتهيب الأمة لمقامه، وإن تواضع، لكن الطبيعة العربية

الخشنة جعلتهم يعاملونه بما لا يليق بمقامه، ينادونه باسمه، ويطلبون منه ما يطلبون من سوقة الناس، فيقولون: يا محمد، اخرج إلينا، فينزل الله تعالى {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا} [النور: 63]. يكثرون أسئلته بما لا ينفع، وبما لا يعنى، وبتوافه الأمور، حتى من ضاعت ناقته يسأل: أين ناقتي؟ وحتى يسأل من يشك في نسب نفسه: من أبي؟ فيتأذى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، وينزل قوله تعالى {لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} [المائدة: 101]. إن الرسالة تكريم وتشريف وتفضيل للرسل، وطاعتهم طاعة الله، من يطع الرسول فقد أطاع الله، وتكريمهم والتسلم لهم تكريم لأوامر الله، وتسليم لأحكام الله. -[المباحث العربية]- (أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير عند رسول الله صلى الله عليه وسلم) في رواية "خاصم الزبير رجلا" والمخاصمة مفاعلة من الجانبين، فكل منهما مخاصم للآخر، كذا قال الحافظ ابن حجر: قلت: لكن جعل أحدهما فاعلا، والآخر مفعولا يشير إلى أن الفاعل هو الشاكي والمدعي، وهو هنا كذلك وأن الأنصاري هو الشاكي. وفي رواية "أن رجلا من الأنصار قد شهد بدرا" وفي رواية "أنه كان من بني أمية بن زيد، وهم بطن من الأوس، وحكى ابن بشكوال عن شيخه أبي الحسن بن مغيث أنه ثابت بن قيس بن شماس، ولم يأت على ذلك بشاهد، قال الحافظ ابن حجر: وليس ثابت بدريا، وحكى الواحدي أنه ثعلبة بن حاطب الأنصاري، الذي نزل فيه قوله تعالى {ومنهم من عاهد الله} [التوبة: 75] ولم يذكر مستنده، ولم يكن بدريا أيضا، وحكى الواحدي أيضا أنه حاطب بن أبي بلتعة، وتعقب بأن حاطبا وإن كان بدريا لكنه من المهاجرين، ومال الحافظ ابن حجر إلى ترجيح هذا الرأي، فقال: لكن يؤيد هذا ما أخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب، في قوله تعالى {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} [النساء: 65] قال: نزلت في الزبير بن العوام وحاطب بن أبي بلتعة، اختصما في ماء" الحديث. وإسناده قوي مع إرساله. وعلى هذا فيئول قوله "من الأنصار" على إرادة المعنى الأعم، كما وقع ذلك في حق غير واحد، كعبد الله بن حذافة، وأما قول الكرماني بأن حاطبا كان حليفا للأنصار ففيه نظر، وأما قوله من "بني أمية بن زيد، فلعله كان مسكنه هناك، كعمر، قال: وذكر الثعلبي بغير سند أن الزبير وحاطبا لما خرجا، مرا بالمقداد، قال: لمن القضاء؟ فقال: حاطب: قضى لابن عمته، ولوى شدقه، ففطن له يهودي، فقال: قاتل الله هؤلاء، يشهدون أنه رسول الله ويتهمونه. قال الحافظ: وفي صحة هذا نظر، قال: ويترشح بأن حاطبا كان حليفا لآل الزبير بن العوام، من بني أسد، وكأنه كان مجاورا للزبير، أي في الحائط والزراعة. وأما قول الداودي وغيره: إن خصم الزبير كان منافقا - للكلمة التي قالها - فقد وجهه القرطبي بأن قول من قال إنه كان من الأنصار، يعني نسبا، لا دينا، قال: وهذا هو الظاهر من حاله، ويحتمل أنه لم يكن منافقا، ولكن صدر منه ذلك ببادرة النفس، كما وقع لغيره ممن صحت توبته، وقوى هذا

شارح المصابيح التوربشتي، ووهى ما عداه، وقال: لم تجر عادة السلف بوصف المنافقين بصفة النصر - قولهم: من الأنصار - التي هي المدح، ولو شاركهم في النسب، قال: بل هي زلة من الشيطان، تمكن به منها عند الغضب، وليس ذلك بمستنكر من غير المعصوم في تلك الحالة. اهـ. وقال الداودي - بعد جزمه بأنه كان منافقا - وقيل: كان بدريا، فإن صح فقد وقع ذلك منه قبل شهودها، لانتفاء النفاق عمن شهدها. وقال ابن التين: إن كان بدريا فمعنى قوله {فلا وربك لا يؤمنون} لا يستكملون الإيمان. (في شراج الحرة التي يسقون بها النخل) "شراج" بكسر الشين وفتح الراء مع المد، بعدها جيم، جمع شرج، بسكون الراء، مثل بحر وبحار، ويجمع أيضا على شروج، وحكى ابن دريد "شرج" بفتح الراء، وحكى القرطبي "شرجة" والمراد بها هنا مسيل الماء، أي مجراه، والحرة بفتح الحاء وتشديد الراء موضع معروف في المدينة، وهو في الأصل الأرض الملساء، فيها حجارة سود، قال أبو عبيد: كان بالمدينة واديان يسيلان بماء المطر فيتنافس الناس فيه. وأضيف "شراج" إلى الحرة لأنه فيها، والمعنى اختصما بشأن الماء الجاري في مسيل الحرة. وقوله "التي يسقون بها النخل" أي توصل الماء إلى نخيلهم، وفي رواية "كانا يسقيان بها كلاهما" أي كان هذا المجرى يسقي لهما، لكن أرض الزبير أعلى من أرض الرجل، أي أقرب إلى مصدر الماء، ولا يصل الماء للرجل إلا بعد أن يمر في أرض الزبير. (فقال الأنصاري: سرح الماء يمر) "سرح" فعل أمر من التسريح، أي قال الرجل للزبير: أطلق الماء يمر، وفي الكلام طي، أي فحبس الزبير الماء في أرضه، حتى يسقي، فقال الأنصاري لا تحبس الماء عني، وأطلقه يمر من أرضك إلى أرضي، لنسقي سويا، وفي رواية في آخرها "وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أشار على الزبير برأي فيه سعة له وللأنصاري" والحقيقة أن الرأي كان فيه سعة للرجل. (فأبى عليهم) أي امتنع الزبير من إجابة مطلب الرجل، والجمع باعتبار أهله معه. (فاختصموا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم) أعاد الجملة لطول الفصل عن الأولى، والجمع في "اختصموا" باعتبار أفراد وأهل كل منهما، كقوله تعالى {هذان خصمان اختصموا في ربهم} [الحج: 19]. (اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك) أي اسق شيئا يسيرا، دون قدر حقك، ثم أرسله إلى جارك. (أن كان ابن عمتك؟ ) الزبير بن العوام، أمه صفية بنت عبد المطلب، عمة النبي صلى الله عليه وسلم، وأصل الكلام: ألأنه كان ابن عمتك حكمت له؟ فحذف الاستفهام وحرف الجر لام التعليل قبل "أن" وهو كثير، وحذف الضمير، اسم "أن" و"ابن" بالنصب، خبر "كان" كما في قوله تعالى {أن كان ذا مال وبنين} [القلم: 14] أي ألأنه كان ذا مال وبنين كذب؟ وحكى القرطبي تبعا لعياض أن همزة "أن" ممدودة، قال: لأنه استفهام على جهة الإنكار، قال الحافظ ابن حجر: ولم يقع لنا في الرواية مد، لكن يجوز حذف همزة الاستفهام، وحكى الكرماني "إن كان" بكسر الهمزة على أنها شرطية، والجواب

محذوف، أي وإن كان ابن عمتك فاعدل، وقريب من هذا رواية "فقال: يا رسول الله، اعدل وإن كان ابن عمتك" وفي رواية للبخاري "إنه ابن عمتك" قال ابن مالك: يجوز في "إنه" فتح الهمزة وكسرها، لأنها وقعت بعد كلام تام، معلل بمضمون ما صدر بها، فإذا كسرت قدر ما قبلها بالفاء، وإذا فتحت قدر قبلها اللام. (فتلون وجه نبي الله صلى الله عليه وسلم) أي تغير، وهو كناية عن الغضب، وفي رواية "حتى عرفنا أن قد ساءه ما قال". (ثم قال: يا زبير، اسق، ثم احبس الماء، حتى يرجع إلى الجدر) أي حتى يصير إلى الجدر، و"الجدر" ضبط في أكثر الروايات بفتح الدال، وفي بعضها بالسكون، وهو الذي في اللغة، وهو أصل الحائط، اهـ. وهو بفتح الجيم فيهما، ويروى بضم الدال والجيم، جمع جدار، ويروى بكسر الجيم، وهو الجدار، والمراد حتى يرتفع الماء في أصول النخيل، إلى أن يصير إلى حافة الجدار الترابي، الذي يحيطون به النخلة، ليحجز الماء لها، حتى تشرب كثيرا، فتصير به النخلة في مثل حفرة، وفي رواية للبخاري "اسق يا زبير، حتى يبلغ الماء الجدر، ثم أمسك" أي أمسك نفسك عن السقي، وأرسل الماء لجارك. وحكى الخطابي "الجذر" بسكون الذال، والمراد حتى يبلغ الجذر تمام الشرب، وفي رواية للبخاري "اسق، ثم احبس، حتى يرجع الماء إلى الجدر - واستوعى له حقه" بفتح العين، أي استوعى الرسول صلى الله عليه وسلم للزبير حقه، واستوفاه له. (قال الزبير: والله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} (وفي رواية "والله إن هذه الآية أنزلت في ذلك" بالجزم بدل الظن، وفي رواية "ونزلت {فلا وربك} الآية" قال الحافظ ابن حجر: والراجح رواية الأكثر، وأن الزبير كان لا يجزم بذلك. وجزم مجاهد والشعبي بأن الآية إنما نزلت فيمن نزلت فيه الآية التي قبلها، وهي قوله تعالى {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم ءامنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت} الآية، فروى إسحق بن راهويه في تفسيره بإسناد صحيح عن الشعبي قال: كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة، فدعا اليهودي المنافق إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه علم أنه لا يقبل الرشوة، ودعا المنافق اليهودي إلى حكامهم، لأنه علم أنهم يأخذونها، فأنزل الله هذه الآيات، إلى قوله {ويسلموا تسليما} وروى الكلبي في تفسيره عن ابن عباس، قال: نزلت هذه الآية في رجل من المنافقين، كان بينه وبين يهودي خصومة، فقال اليهودي: انطلق بنا إلى محمد، وقال المنافق: بل نأتي كعب بن الأشرف، فذكر القصة وفيها أن عمر قتل المنافق، وأن ذلك سبب نزول هذه الآيات. قال الطبري: ولا مانع أن تكون قصة الزبير وخصمه، وقعت في أثناء ذلك، فيتناولها عموم الآية. زاد البخاري "قال ابن جريج: فقال له ابن شهاب "فقدرت الأنصار والناس قول النبي صلى الله عليه وسلم" اسق، ثم احبس، حتى يرجع إلى الجدار "وكان ذلك إلى الكعبين" يعني أنهم لما رأوا أن الجدار

يختلف بالطول والقصر، قاسوا ما وقعت فيه القصة، فوجدوه يبلغ الكعبين، فجعلوا ذلك معيارا لاستحقاق الأول فالأول، وسيأتي توضيح هذا الحكم في فقه الحديث. (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم) وفي الرواية الثالثة "ذروني ما تركتكم" وفي ملحقها "ما تركتم" بالبناء للمجهول، وفي رواية للبخاري "دعوني" والكلمتان أمات العرب ماضيهما، واسم الفاعل منهما، واسم مفعولهما، وأثبتوا الفعل المضارع والأمر، فقالوا: يدع، دع، ويذر، ذر. و"ما" في "ما تركتكم" مصدرة ظرفية زمانية، أي مدة تركي إياكم بغير أمر بشيء، ولا نهي عن شيء، قال: ولم يقل: اتركوني ما تركتكم، على سبيل التفنن في العبارة، وأطلق في النهي، ولم يقيده بالاستطاعة، كما قيد الأمر، لأن المقصود النهي العام عن جميع المناهي، قال الفاكهي: لا يتصور امتثال اجتناب المنهي حتى يترك جميعه، فلو اجتنب بعض شرب الخمر أو بعض الزنا لم يعد متمثلا، بخلاف الأمر المطلق، فإن من أتى بأقل ما يصدق عليه الاسم كان متمثلا. وقد أخرج مسلم سبب هذا الحديث، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلت: نعم، لوجبت، ولما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتكم ... " الحديث. (فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم) يريد بالذين من قبلهم بني إسرائيل، ويريد أن كثرة التنقيب قد تفضي إلى المشقة، فقد أمروا أن يذبحوا بقرة، فلو ذبحوا أي بقرة كانت، لامتثلوا، ولكنهم شددوا فشدد عليهم. وسيأتي في فقه الحديث أقوال العلماء في المراد من المسائل المشار إليها. (إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن أمر لم يحرم، فحرم على الناس)، قال القاضي عياض: والمراد بالجرم هنا الحرج على المسلمين، لا أنه الجرم الذي هو الإثم المعاقب عليه، لأن السؤال كان مباحا. اهـ. ورده النووي، فقال: وهذا الذي قاله القاضي ضعيف، بل باطل، والصواب ما قاله الخطابي وجماهير العلماء في شرح هذا الحديث، وأن المراد بالجرم الإثم والذنب، قال: ويقال منه جرم بالفتح واجترم وتجرم إذا أثم. اهـ. وسيأتي في فقه الحديث تفصيل القول في نوعية السؤال. (ورجل سأل عن شيء، ونقر عنه) أي بالغ في البحث والاستقصاء عنه. (بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحابه شيء فخطب، فقال) يحتمل أن يكون الشيء هو الرغبة في أسئلة لا حاجة إليها. (عرضت علي الجنة والنار) أي وما فيهما من نعيم وعذاب، وفي الرواية الثامنة "إني صورت لي الجنة والنار، فرأيتهما دون هذا الحائط"

(فلم أر كاليوم في الخير والشر) أي لم أر خيرا أكثر مما رأيته اليوم في الجنة، ولا شرا أكثر مما رأيته اليوم في النار. (ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا) أي ولو رأيتم ما رأيت، وعلمتم ما علمت لأشفقتم على أنفسكم إشفاقا بليغا، ولقل ضحككم، وكثر بكاؤكم. (فما أتى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أشد منه) أي من هذا اليوم الذي أنذرهم فيه بهذا الإنذار، والمراد ما حصل لهم ساعتها من الخوف. (غطوا رءوسهم، ولهم خنين) قال النووي "خنين" بالخاء في معظم النسخ ولمعظم الرواة، ولبعضهم بالحاء، قالوا: ومعناه بالخاء صوت البكاء، وهو نوع من البكاء، دون الانتحاب. قالوا: وأصل الخنين خروج الصوت من الأنف، والحنين خروجه من الفم، وقال الخليل: الخنين بالخاء صوت فيه غنة، وقال الأصمعي: إذا تردد البكاء فصار فيه غنة فهو خنين، وقال أبو زيد: الخنين مثل الحنين، شدة البكاء. (فقام عمر، فقال: رضينا بالله ربا) هذا معطوف على محذوف، مطوي، أبرزته الرواية السابعة وفيها "خرج حين زاغت الشمس، فصلى لهم صلاة الظهر، فلما سلم قام على المنبر، فذكر الساعة، وذكر أن قبلها أمورا عظاما، ثم قال: من أحب أن يسألني عن شيء فليسألني عنه، فوالله لا تسألوني عن شيء، إلا أخبرتكم به، ما دمت في مقامي هذا، فأكثر الناس البكاء، حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: سلوني" فلما أكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يقول: سلوني، برك عمر، فقال: "رضينا بالله ربا" وفي الرواية الثامنة "أن الناس سألوا نبي الله صلى الله عليه وسلم، حتى أحفوه بالمسألة" أي أكثروا في الإلحاح والمبالغة فيه، يقال: أحفى وألحف، وألح بمعنى "فخرج ذات يوم، فصعد المنبر، فقال: سلوني، لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم" قال القاضي: وظاهر الحديث أن قوله "سلوني" إنما كان غضبا، كما قال في الرواية التاسعة "سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء كرهها، فلما أكثر عليه غضب، ثم قال للناس: سلوني عم شئتم" قال: وكان اختياره صلى الله عليه وسلم ترك تلك المسائل، لكن وافقهم في جوابها لأنه لا يمكن رد السؤال، ولما رآه من حرصهم عليها، قال: وأما بروك عمر رضي الله عنه، وقوله "رضينا ... إلخ" فإنما فعله أدبا وإكراما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وشفقة على المسلمين، لئلا يؤذوا النبي صلى الله عليه وسلم، فيهلكوا. وفي الرواية الثامنة "فلما سمع ذلك القوم أرموا" بفتح الهمزة والراء وتشديد الميم المضمومة، أي سكتوا، وأصله من المرمة، وهي الشفة، أي ضموا شفاههم، بعضها على بعض، فلم يتكلموا، "ورهبوا" أي خافوا "أن يكون بين يدي أمر قد حضر" أي أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم عنده أمر خطير، كالساعة وبوادرها، قد آن أوانه، "قال أنس: فجعلت ألتفت يمينا وشمالا، فإذا كل رجل لاف رأسه" أي قد لف رأسه "في ثوبه يبكي". (رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا) أي رضينا بما عندنا من كتاب الله تعالى، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، واكتفينا به عن السؤال، ففيه أبلغ كفاية.

(قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين قال عمر ذلك) أي سكت عن قول "اسألوني". (أولى) بفتح الهمزة وسكون الواو، وفتح اللام، وهي لفظة تهديد ووعيد، وقيل: كلمة تلهف، فعلى هذا يستعملها من نجا من أمر خطير، والصحيح المشهور أنها للتهديد، ومعناها قرب منكم ما تكرهونه، ومنه قول تعالى {أولى لك فأولى} [القيامة: 34] أي قاربك ما تكره، فاحذره، مأخوذ من الولي، وهو القرب. (آنفا) أي قريبا، أي هذه المسألة، والمشهور فيها المد، ويقال بالقصر، وقرئ بهما في السبع، والأكثرون بالمد. (في عرض هذا الحائط) عرض الحائط بضم العين جانبه. (فقام ذاك الرجل، فقال: من أبي؟ قال: أبوك فلان) في الرواية السابعة "فقام عبد الله بن حذافة، فقال: من أبي؟ يا رسول الله، قال: أبوك حذافة" وفي الرواية الثامنة "فأنشأ رجل من المسجد" أي بدأ رجل الكلام من المسجد "كان يلاحى" بضم الياء، وفتح الحاء، أي كان يخاصم ويجادل "فيدعى لغير أبيه" بضم الياء وسكون الدال وفتح العين، أي ينسب لغير أبيه، زاد في الرواية التاسعة "فقام آخر، فقال: من أبي؟ يا رسول الله. قال: أبوك سالم، مولي شيبة" هذا الرجل هو سعد بن سالم مولى شيبة بن ربيعة، وزاد الطبري في رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبان محمارا وجهه، حتى جلس على المنبر، فقام إليه رجل، فقال أين أنا؟ قال: في النار" وعند أحمد "فقال رجل: يا رسول الله، في الجنة أنا أو في النار؟ قال: في النار". (ما سمعت بابن قط أعق منك) أي أنت أكثر الأبناء عقوقا لأمك. (أأمنت أن تكون أمك قد قارفت بعض ما تقارف نساء أهل الجاهلية الزنا فتفضحها على أعين الناس؟ ) "قارفت" أي ارتكبت، والمراد بما تقارف نساء أهل الجاهلية الزنا، والجاهلية من كانوا قبل النبوة، ومعنى "فتفضحها" أي لو كنت من زنا، فنفاك عن أبيك حذافة فضحتني. (والله لو ألحقني بعبد أسود للحقته) وآمنت بصدق كلامه، فإنه لا ينطق عن الهوى. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من أحاديث الباب]- 1 - من الرواية الأولى حق الأعلى في الشرب قبل الأسفل، قال العلماء: الشرب من نهر أو مسيل غير مملوك، يقدم الأعلى فالأعلى، ولا حق للأسفل حتى يستغني الأعلى، وحده أن يغطي الماء الأرض، حتى يظهر على سطحها، ويرجع إلى الجدار، ثم يطلق، وقد أمر صلى الله عليه وسلم الزبير أولا أن يسامح ببعض حقه، إيثارا لحسن الجوار، فلما جهل الخصم واعترض استوفى لصاحب الحق حقه.

والمراد بالأول هنا عند الجمهور من يكون مبدأ الماء من ناحيته، وقال بعض المتأخرين من الشافعية: المراد به من لم يتقدمه أحد في الغراس، بطريق الإحياء، والذي يليه من أحيا بعده، وهلم جرا. اهـ. ويمكن قبول هذا الترتيب إذا كانوا متساوين في القرب من مصدر الماء، أو كان مصدره في وسط أراضيهم، وقضيتنا في ماء يخترق أرضا، ليصل إلى أخرى. قال ابن التين: الجمهور على أن الحكم أن يمسك الأول الماء حتى يصل في الأرض إلى الكعبين، الحد الواجب في الوضوء، وخصه ابن كنانة بالنخل والشجر، قال: وأما الزروع فإلى الشراك - أي السير الذي فوق القدم من النعل - وقال الطبري: الأراضي مختلف، فيمسك لكل أرض ما يكفيها، لأن الذي في قصة الزبير واقعة عين. واختلف أصحاب مالك: هل يرسل الأول جميع الماء بعد أن يبلغ الكعبين - فتصفى الأرض؟ أو يرسل ما زاد على الكعبين؟ والأول أظهر، إذا لم يبق له به حاجة. 2 - وفي الحديث إشارة الإمام بالصلح بين المتخاصمين، قبل أن يحكم، فما أشار به صلى الله عليه وسلم أولا كان على سبيل الصلح، ولا يلزم الخصم به إلا إذا رضي. 3 - وأن الحاكم يستوفي لصاحب الحق حقه، ولو لم يسأله صاحب الحق. 4 - وحكى الخطابي أن فيه دليلا على جواز فسخ الحاكم حكمه، لأنه صلى الله عليه وسلم حكم أولا بالإحسان إلى الجار، فلما اعترض الخصم، رجع عن حكمه الأول إلى الحقوق، ليكون ذلك أبلغ في زجر الخصم، وتعقب بأن الحكم الأول لم يثبت، حتى يرجع عنه، فقد كان إشارة إلى المصالحة. 5 - قيل: إن الحكم والحق هو الحكم الأول، أما الثاني فكان عقوبة على ما بدر منه، وكان ذلك لما كانت العقوبة بالأموال جائزة، حكاه ابن الصباغ من الشافعية، ووافق عليه، وهو بعيد، وسياق طرق الحديث يأباه، لا سيما قوله "واستوفى للزبير حقه" في صريح الحكم، فمجموع الطرق دال على أنه أمر الزبير أولا أن يترك بعض حقه، وثانيا أن يستوفي جميع حقه. 6 - وفيه أن من سبق إلى شيء من مياه الأودية والسيول التي لا تملك، فهو أحق به، لكن ليس له إذا استغنى أن يحبسه عن الذي يليه. 7 - وفيه توبيخ من جفا على الحاكم ومعاقبته. 8 - ويمكن أن يستدل به على أن للإمام أن يعفو عن التعزير المتعلق به، لكن محل ذلك ما لم يؤد إلى هتك حرمة الشرع، وإنما لم يعاقب النبي صلى الله عليه وسلم صاحب القصة، لما كان عليه من تأليف الناس، قال القرطبي: فلو صدر مثل هذا من أحد في حق النبي صلى الله عليه وسلم، أو في حق شريعته قتل قتلة زنديق، ونقل النووي نحوه عن العلماء. 9 - وفيه صحة حكم الحاكم وهو غضبان، إذا أمن الخطأ والغلط، والنبي صلى الله عليه وسلم مأمون، لعصمته من ذلك حال السخط. 10 - وفيه ما تحمله رسول الله صلى الله عليه وسلم من إيذاء، والحث على الصبر على الأذى.

11 - وفيه وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم، والرضا بحكمه، والتسليم لأمره. 12 - وفيه إدلال الرسول صلى الله عليه وسلم على بعض أصحابه، فإن ما أشار به صلى الله عليه وسلم على الزبير كان إدلالا عليه، لعلمه بأنه يرضى بذلك، ويؤثر الإحسان. 13 - ومن الرواية الثانية والثالثة النهي عن كثرة الاستفصال، وعن كثرة التنقيب الذي قد يفضي إلى مثل ما وقع لبني إسرائيل. 14 - استدل قوم بإطلاق النهي، وتقييد الأمر بالاستطاعة على عموم النهي، وقالوا: الإكراه على ارتكاب المعصية لا يبيحها، قال الحافظ ابن حجر: والصحيح عدم المؤاخذة، إذا وجدت صورة الإكراه المعتبرة، واستثنى بعض الشافعية من ذلك الزنا، فقال: لا يتصور الإكراه عليه، وكأنه أراد التمادي فيه، وإلا فلا مانع أن ينتشر الرجل بغير سبب، فيكره على الإيلاج حينئذ، فيولج في الأجنبية، فإن مثل ذلك ليس بمحال، ولو فعله مختارا كان زانيا، فتصور الإكراه على الزنا في الرجل، أما في المرأة فإكراهها على الزنا ممكن. 15 - واستدل به من قال: لا يجوز التداوي بشيء محرم كالخمر، ولا دفع العطش بالخمر ولا إساغة الغصة بالخمر، قال الحافظ ابن حجر: والصحيح عند الشافعية جواز الثالث، حفظا للنفس، فصار كأكل الميتة لمن اضطر، بخلاف التداوي، فإنه ثبت النهي عنه نصا، ففي مسلم "إنه ليس بدواء، ولكنه داء" وعند أبي داود "ولا تداووا بحرام" و"إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها" وأما العطش، فإنه لا ينقطع بشربها، ولأنه في معنى التداوي، والتحقيق أن الأمر باجتناب المنهي على عمومه، ما لم يعارضه إذن في ارتكاب منهي، كأكل الميتة للمضطر، وقال الفكهاني: لا يتصور امتثال اجتناب المنهي، حتى يترك جميعه، فلو اجتنب بعضه لا يعد متمثلا، بخلاف الأمور. وقال هنا ابن فرج إن النهي يقتضي الأمر، فلا يكون متمثلا لمقتضى النهي حتى لا يفعل واحدا من آحاد ما يتناوله النهي، بخلاف الأمر، فإنه على عكسه، ومن ثم نشأ الخلاف، هل الأمر بالشيء نهي عن ضده؟ وهل النهي عن الشيء أمر بضده؟ والتفاصيل في كتب الأصول. 16 - وعن قوله "وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم" قال النووي: هذا من جوامع الكلم، وقواعد الإسلام، ويدخل فيه كثير من الأحكام، كالصلاة لمن عجز عن ركن منها أو شرط، فيأتي بالمقدور، وكذا الوضوء، وستر العورة، وحفظ بعض الفاتحة، وإخراج بعض الزكاة لمن لم يقدر على الكل، والإمساك في رمضان لمن أفطر بالعذر، ثم قدر في أثناء النهار، إلى غير ذلك من المسائل التي يطول شرحها، وقال غيره: إن من عجز عن بعض الأمور لا يسقط عنه المقدور، وعبر عنه بعض الفقهاء بأن الميسور لا يسقط بالمعسور. 17 - قال الحافظ ابن حجر: واستدل به على أن من أمر بشيء، فعجز عن بعضه، ففعل المقدور، أنه يسقط عنه ما عجز عنه، وبذلك استدل المزني على أن "ما وجب أداؤه لا يجب قضاؤه" ومن ثم كان الصحيح أن القضاء بأمر جديد.

18 - واستدل بالحديث على أن اعتناء الشرع بالمنهيات فوق اعتنائه بالمأمورات، لأنه أطلق الاجتناب في المنهيات، ولو مع المشقة في الترك، وقيد في المأمورات بقدر الطاقة. فإن قيل: إن الاستطاعة معتبرة في النهي أيضا، إذ يقول الله تعالى {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} [البقرة: 286] فجوابه أن الاستطاعة تطلق باعتبارين. قال الحافظ ابن حجر: كذا قيل، والذي يظهر أن التقييد في الأمر بالاستطاعة لا يدل على اعتناء الشرع بالنهي، بل هو من جهة أن النهي كف، وكل واحد قادر على الكف، لولا داعية الشهوة مثلا، فلا يتصور عدم الاستطاعة عن الكف، بل كل مكلف قادر على الترك، بخلاف الفعل، فإن العجز عن تعاطيه محسوس، فمن هنا قيد في الأمر بحسب الاستطاعة، دون النهي، قال: وعبر الطوفي في هذا الموضع بأن ترك المنهي عنه عبارة عن استصحاب حال عدمه، أو الاستمرار على عدمه، وفعل المأمور به عبارة عن إخراجه من العدم إلى الوجود. وقد نوزع بأن القدرة على استصحاب عدم النهي عنه قد تتخلف، وقال الماوردي: أن الكف عن المعاصي ترك والترك سهل، وعمل الطاعة فعل، وهو يشق. فالحكمة في تقييد الحديث بالاستطاعة في جانب الأمر، دون النهي، أن العجز يكثر تصوره في الأمر، بخلاف النهي، فإن تصور العجز فيه محصور في الاضطرار. 19 - واستدل به على أن المكروه يجب اجتنابه، لعموم الأمر باجتناب المنهي عنه، فشمل الواجب والمندوب، وأجيب بأن قوله "فاجتنبوه" يعمل به في الإيجاب والندب بالاعتبارين ويجيء مثل هذا الجواب في الجانب الآخر، وهو الأمر. 20 - واستدل به على أن المباح ليس مأمورا به، وأجيب بأن من قال: المباح مأمور به لم يرد الأمر بمعنى الطلب، وإنما أراد المعنى العام، هو الإذن. 21 - واستدل بقوله "فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم" النهي عن إكثار السؤال، والسؤال أنواع، ولكل نوع منه حكمة. أ- فالسؤال عما لم يحدث تكلفا أو تعنتا، فيما لا حاجة إليه منهي عنه، فقد يؤدي إلى المشقة بالمسلمين، ويكون سببا لتحريم شيء عليهم، لم يكن ليحرم، لولا السؤال، كما أشير إليه في الرواية الرابعة والخامسة، وهذا النوع قد يكون مأمونا اليوم، بعد أن ثبت التحليل والتحريم، واستقرت الشريعة، وأكمل الله الدين، لكنه قد يتصور في المنقبين المشددين المتنطعين، الذين يسألون أمثالهم، فيجيبونهم بما يشق عليهم، وقد أخرج البزار "ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن ينسى شيئا، ثم تلا هذه الآية {وما كان ربك نسيا} [مريم: 64] وأخرج الدارقطني "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحدد حدودا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء، رحمة بكم، غير نسيان، فلا تبحثوا عنها" ومن أمثلة ما وقع من الصحابة رضي الله عنهم من هذا النوع قبل نزول الآية، سؤالهم عن وجوب طاعة الأمراء، إذا أمروا بغير طاعة، والسؤال عن أحوال يوم القيامة، وما قبلها من الملاحم والفتن، وسؤالهم عن الكلالة والخمر والميسر، والقتال في الشهر الحرام، واليتامى، والمحيض، والنساء، والصيد، فكثير من هذه الأسئلة كانت سببا للتكليف بما يشق.

ب- وقد يؤدي إلى الإساءة إلى السائل، كالذي سأل: أين أنا؟ فقيل له: في النار. ج- وقد يؤدي السؤال إلى فتح باب الإلحاح والإلحاف والكثرة التي تعني ولا تعني، وتضر أكثر مما تنفع، فتحرج المسئول وتؤذيه، كما تشير إلى ذلك الرواية السادسة وما بعدها، وكسؤال الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ . د- وقد يكون السؤال من منطلق التقعر والتشدق والتظاهر بالعلم والتعمق فيه، مما يسيء إلى العلم والعلماء، وعليه ينطبق حديث ابن مسعود عند مسلم، رفعه "هلك المتنطعون". هـ- وقد يكون السؤال جريا وراء أمور غيبية، ورد الشرع بالإيمان بها مع ترك كيفيتها، كالسؤال عن وقت الساعة، وعن الروح، وعن مدة هذه الأمة، على أمثال ذلك مما لا يعرف إلا بالنقل الصرف، والكثير منه لم يثبت فيه شيء، فيجب الإيمان به من غير بحث في تفصيله، وصرف الزمان في غيره مما ينفع أولى. و- وقد يؤدي السؤال إلى الإضرار بالسائل، أو وقوعه في الشك والحيرة، ومثلوا له بسائل يسأل عن السلع المجهول مصدرها في الأسواق، فيجاب بجواز شرائها ممن هي في يده، من غيره بحث عن طريق مصيرها إليه، فيعود ويسأل: أخشى أن تكون هذه السلعة من نهب حصل قريبا، فيجاب بكراهة أو تحريم الشراء، من ذلك ما يحكى أن ماء سقط على عالم من نافذة بيت، فنادى العالم صاحبة النافذة، أهذا الماء طاهرا أم نجس؟ فقالت له: نجسته بسؤالك أيها الفقيه. أما الممدوح من الأسئلة فهو ما كان في العلم للعلم، وبقدر الحاجة، وبدون إضرار أو إيذاء، أو مضايقة أو رياء، وبالجملة أن يجر نفعا، ولا يشوبه ضرر. 22 - ومن الرواية السادسة من عرض الجنة والنار، أن الجنة والنار مخلوقتان. قاله النووي. 23 - ومن قوله "لو تعلمون ما أعلم" عدم كراهة استعمال لفظة "لو" في مثل هذا. 24 - وقد يؤخذ من قول عبد الله بن حذافة "لو ألحقني بعبد للحقته" أن الزنا يثبت به نسب، مع أنه ليس كذلك، وأجيب بأنه يحتمل وجهين: أحدهما: أن ابن حذافة ما كان بلغه هذا الحكم، وكان يظن أن ولد الزنا يلحق بالزاني، قال النووي: وقد خفي هذا على أكبر منه، وهو سعد بن أبي وقاص، حين خاصم في ابن وليدة زمعة، فظن أنه يلحق أخاه بالزنا، والثاني أنه يتصور الإلحاق بعد الوطء بشبهة فيثبت النسب منه. 25 - ومن بروك عمر رضي الله عنه جواز بروك الطالب، كمظهر من مظاهر الانزعاج والاهتمام، فقد فهم عمر أن تلك الأسئلة قد تكون على سبيل التعنت أو الشك، فخشي أن تنزل العقوبة بسبب ذلك، فقال: رضينا بالله ربا: إلخ. 26 - وفيه فضيلة لعمر وذكائه وإدلاله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ رضي النبي صلى الله عليه وسلم بقول عمر، فسكت. 27 - وفيه جواز الغضب عند الموعظة والتعليم.

28 - وفيه دقة ملاحظة الصحابة لأحوال النبي صلى الله عليه وسلم في الرضا والغضب. 29 - وحرصهم على رضاه، وخوفهم من غضبه. 30 - وقد يتمسك القدرية بالرواية الرابعة والخامسة في أن الله تعالى يفعل شيئا من أجل شيء، قال المهلب: وليس كذلك، بل هو على كل شيء قدير، وهو فاعل السبب والمسبب، كل ذلك بتقديره، ولكن الحديث محمول على التحذير مما ذكر، فعظم جرم من فعل ذلك، لكثرة الكارهين لفعله، وقال غيره: أهل السنة لا ينكرون إمكان التعليل، وإنما ينكرون وجوبه، فلا يمتنع أن يكون المقدر: الشيء الفلاني تتعلق به الحرمة إن سئل عنه، فقد سبق القضاء بذلك، لا أن السؤال علة التحريم. 31 - ويؤخذ منه أن من عمل شيئا أضر به غيره كان آثما، وإن كان العمل في أصله مباحا، فالسؤال عن تكرير الحج في أصله مباح، لكن لما كان سببا لمشقة الآخرين حرم ومنع. والله أعلم

(627) باب وجوب امتثال ما قاله شرعا، دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سبيل الرأي

(627) باب وجوب امتثال ما قاله شرعا، دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سبيل الرأي 5333 - عن موسى بن طلحة عن أبيه رضي الله عنه قال: مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رءوس النخل. فقال: ما يصنع هؤلاء؟ " فقالوا: يلقحونه. يجعلون الذكر في الأنثى فيلقح. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أظن يغني ذلك شيئا" قال: فأخبروا بذلك فتركوه. فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه. فإني إنما ظننت ظنا. فلا تؤاخذوني بالظن. ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا، فخذوا به. فإني لن أكذب على الله عز وجل". 5334 - عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: قدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يأبرون النخل. يقولون: يلقحون النخل. فقال: "ما تصنعون؟ قالوا: كنا نصنعه. قال: "لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا" فتركوه. فنفضت أو فنقصت. قال: فذكروا ذلك له. فقال: إنما أنا بشر. إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به. وإذا أمرتكم بشيء من رأي، فإنما أنا بشر" قال عكرمة: أو نحو هذا. قال: المعقري: فنفضت. ولم يشك. 5335 - عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون فقال: "لو لم تفعلوا لصلح" قال: فخرج شيصا. فمر بهم فقال: "ما لنخلكم" قالوا: قلت: كذا وكذا. قال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم". -[المعنى العام]- جاءت الرسالة المحمدية رسالة وسطا، تحرص على خيري الدنيا والآخرة، بدرجة لا تطغى إحداهما على الأخرى، جاءت تأخذ بالأسباب بالدرجة التي تعتمد فيها على القضاء والقدر "اعقلها

وتوكل" يستعد صلى الله عليه وسلم للهجرة، ويخفي أمرها، ويخرج بليل، ويختبئ في الغار، في الوقت الذي يقول فيه "ما ظنك باثنين الله ثالثهما". لقد جاء الإسلام والناس على عنصر واحد، هو عنصر الأسباب المادية، والمتطرف إذا أريد له الوسطية شد إلى الطرف الآخر، ليعود برغبة منه إلى الوسط، وهذا هو ما وقع في قصتنا. كان صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثا وخمسين سنة، حوله جبال وصحراء، وهاجر إلى المدينة، بلاد نخل وزروع، وبينما هو يمشي في طرقاتها بين النخيل، ومعه بعض أصحابه، رأى رجالا تسلقوا النخل، حتى وصلوا إلى سعفها، ورأى شيئا في أيديهم، يتحركون به، ولم يتبين ماذا يعملون، فسأل من معه: ماذا يصنع هؤلاء؟ قالوا: يلقحون النخل. لأن النخل في موسم معين يخرج طلعا، قوالب بداخلها فروع بيضاء على جانبيها بروز الثمر، ومليئة بما يشبه الدقيق، يخرج هذا في النخل الذكر ولا يثمر، ويخرج في الأنثى وهو أصل التمر، لكن بشرط أن يوضع شيء من طلع الذكر في طلع الأنثى، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يربطهم بالقضاء والقدر، فقال: لا أظن أن ذلك ينفعهم إلا بإرادة الله وقدرته، وأظن أنهم لو لم يفعلوا ذلك واعتمدوا على الله وسألوه لصلح، وكان من الممكن أن تحمل الريح طلع الذكر إلى الأنثى، وتقوم مقامهم، كما يحصل في كثير من الفواكه، مصداقا لقوله تعالى {وأرسلنا الرياح لواقح} [الحجر: 22] لكن الله تعالى أراد أن يربط المسببات بالأسباب في هذه القصة، فلما سمعوا كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يلقحوا، خرج البلح شيصا، فلما رآه كذلك صلى الله عليه وسلم قال لهم: ما لتمركم هذا العام خرج شيصا؟ قالوا: لأننا لم نلقحه، استجابة لقولك كذا وكذا، قال: إنما قلت لكم ذلك من عند نفسي ظنا، ولست في ذلك مبلغا عن الله، فإذا أمرتكم بأمر مبلغا فالتزموه، وإذا أمرتكم بأمر من نفسي فأنتم وشأنكم، فأنتم أعلم بأمور دنياكم، وما دام في ذلك خير لكم فافعلوه. فعادوا إلى تلقيح نخلهم، وعادت المدينة خير بلد، وتمرها خير تمر. -[المباحث العربية]- (مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رؤس النخل) مقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادا، أي على كل نخلة رجل، والمراد من رأس النخلة أعلاها. (فقال: ما يصنع هؤلاء)؟ أي سأل طلحة ومن معه عما يفعلون؟ وقد رآهم لا يقطعون سعفا كما يعهد، وكان ذلك أول قدومه المدينة، التي هي ذات نخل، ولم تكن مكة ذات نخل، ففي الرواية الثانية "قدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وهم يأبرون النخل" فسر ذلك بقوله "يقولون: يلقحون النخل" وليس المراد أنه رأى ذلك في طريق قدومه، بل المراد أنه رأى ذلك في أوائل وصوله، حين خرج إلى المزارع، و"يأبرون" بسكون الهمزة، وكسر الباء وضمها، يقال: أبر يأبر، ويأبر، كبذر يبذر ويبذر، ويقال: أبر بتشديد الباء يؤبر تأبيرا، والمراد به التلقيح، ومعناه إدخال شيء من طلع الذكر، فرع أو دقيق، في طلع الأنثى، فتعلق الأنثى، ويصلح ثمرها، بإذن الله تعالى، "فقالوا: يلقحونه، يجعلون الذكر في الأنثى، فيلقح".

(فقال: ما أظن يغني ذلك شيئا) أي ما أظن أن ذلك العمل يغني عن قدر الله شيئا إذا أراد عدم صلاحه "لو لم تفعلوا" التأبير وأراد الله صلاحه "لصلح" ولعله أراد صلى الله عليه وسلم أن يوجههم إلى الاعتماد على الله بدلا من الاعتماد الكلي على الأسباب. (فأخبروا بذلك) أي أخبر الذين على رءوس النخل بما قاله صلى الله عليه وسلم، وكانوا مسلمين. (فتركوه) أي تركوا التأبير، اعتمادا على إشارته صلى الله عليه وسلم. (فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم) معطوف على محذوف، أبرزته الرواية الثانية والثالثة، والأصل: "فتركوه، فنفضت - أو فنقصت - فذكروا ذلك له" "فنفضت" بالفاء والضاد، أي أسقطت النخل ثمرها، ويقال لذلك المتساقط: النفض، بفتح النون والفاء، بمعنى المنفوض، كالخبط، بمعنى المخبوط، وانفض القوم فنى زادهم، وأما "نقصت" بالقاف والصاد فمعناه نقص صلاحها وهو المعبر عنه في الرواية الثالثة بقوله "فخرج شيصا، فمر بهم، فقال ما لنخلكم؟ قالوا: قلت كذا وكذا" والشيص بكسر الشين هو البسر الرديء، الذي إذا يبس صار حشفا. (فقال: إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنا، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا، فخذوا به، فإني لن أكذب على الله عز وجل) في الرواية الثانية "قال: إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم، فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي، فإنما أنا بشر" وفي الرواية الثالثة "قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم". قال النووي: قال العلماء: قوله "من رأيي" أي في أمر الدنيا ومعايشها، لا على التشريع، فأما ما قاله باجتهاده صلى الله عليه وسلم، ورآه شرعا، يجب العمل به، وليس إبار النخل من هذا النوع، بل من النوع المذكور قبله، قال: مع أن لفظة "الرأي" إنما أتى بها عكرمة على المعنى، لقوله في آخر الحديث: قال عكرمة أو نحو هذا، فلم يخبر بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم محققا، قال العلماء: ولم يكن هذا القول خبرا، وإنما كان ظنا، كما بينه في هذه الروايات، قالوا: ورأيه صلى الله عليه وسلم في أمور المعايش، وظنه كغيره، فلا يمتنع وقوع مثل هذا، ولا نقص في ذلك، وسببه تعلق هممهم بالآخرة ومعارفها. اهـ. -[فقه الحديث]- هذا الحديث يتعلق به كل من يحاول التحلل من كثير من أحكام الشرع، مما يتعلق بالحياة، والمعاملات ويتمسك بقوله صلى الله عليه وسلم "أنتم أعلم بشئون دنياكم" فبعضهم يدخل تحته كل ما يتعلق بالأكل والشرب والنوم واللبس والجلوس والمشي، وغير ذلك من الأمور الخاصة بالحاجة والطبيعة البشرية. فالشيخ شلتوت يقول: ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ودون في كتب الحديث من أقواله وأفعاله وتقريراته على أقسام: أحدها ما سبيله سبيل الحاجة البشرية كالأكل والشرب والنوم والمشي والتزاور والمصالحة بين شخصين بالطرق العرفية، والشفاعة والمساومة في البيع والشراء.

ثانيها: ما سبيله سبيل التجارب والعادة الشخصية أو الاجتماعية، كالذي ورد في شئون الزراعة والطب وطول اللباس وقصره. ثالثها: ما سبيله التدبير الإنساني، أخذا من الظروف الخاصة، كتوزيع الجيش على المواقع الحربية، والكمون والفر، وما إلى ذلك مما يعتمد على وحي الظروف الخاصة. وكل ما نقل من هذه الأنواع الثلاثة ليس شرعا، يتعلق به طلب الفعل والترك، وإنما هو من الشئون البشرية التي ليس مسلك الرسول فيها تشريعا، ولا مصدر تشريع. والتحقيق أنه من الخطأ أن نطلق هذا الإطلاق، فكل من هذه الأمور منها الواجب شرعا، ومنها المحرم شرعا، ومنها المكروه والمندوب والمباح. والدكتور عبد المنعم النمر يدخل مع ذلك كل المعاملات، على أنها تدخل تحت قوله "أنتم أعلم بشئون دنياكم" ويؤكد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصدر عنه ذلك بوحي، ولم يكن في ذلك محروسا بوحي مباشر أو وحي سكوتي أو إقراري. وقد رددت عليهما في بحثين منشورين: بعنوان السنة والتشريع، والسنة كلها تشريع. والذي يعنينا في هذا المقام: الحديث، تحليله، وفهمه الفهم الصحيح. فمن غير المعقول فهمه على إطلاقه، بمعنى أنتم معشر مؤبري النخل أعلم من محمد صلى الله عليه وسلم بشئون دنياكم كلها، فالإسلام نصف تشريعاته للدنيا، ونصفه للدين، بل المصالح الدنيوية هي من الدين، ومرتبطة بالدين، يثاب عليها، كما يثاب على الصلاة، فالرجل الذي سقى الكلب، والرجل الذي أنظر معسرا، والرجل الذي أزال غصن شوك، غفر لهم، والمرأة التي حبست قطة دخلت النار. والرجل يزرع زرعا أو يغرسا غرسا فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة له بكل ذلك صدقة، والرجل يأتي شهوته حلاله، له أجر، والبائع الغاش، والمشتري الغاش، والحاكم الغاش، كل هؤلاء عليهم وزر، ومحمد صلى الله عليه وسلم أعلم بالصالح فيها، عن غيره من البشر، فلا بد من تقييد "أمور دنياكم" ببعض أمور دنياكم، وهذا البعض هو ما وقعت القصة فيه "تلقيح النخل" وكأنه قال: أنتم أعلم بكيفية وفائدة تلقيح النخل مني، وهذه حقيقة لا تضر بالرسالة، ومع أن العلماء يقولون: إن واقعة العين كهذه الواقعة، يقتصر الحكم عليها، ولا ينقل إلى غيرها، أو لا يكون حجة لغيرها، مع هذا لو نقلناها نقلناها إلى ما يشبهها، من الأعمال التي تكتسب عن طريق العلم والتدريب والممارسة والتجارب والخبرة، كالزراعة والنجارة والحدادة والغزل والنسيج والحياكة، والصناعات الأخرى. فهذه ليست من مهمة الرسالة، وليس من مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا من مؤهلاته أن يكون ماهرا فيها، ولا خبيرا بدقائقها. فإذا تكلم مع الخبراء فيها فكلامه مبني على الظن الذي قد يخطئ كأي إنسان غير متخصص، وحديث تأبير النخل من هذا القبيل، ومحاولة تطبيقه - حتى على جميع شئون الزراعة - خطأ، فقد

تدخل صلى الله عليه وسلم في كيفية سقي الأشجار، وتقديم الأعلى فالأعلى، في قصة الزبير والأنصاري، التي شرحناها في الباب السابق، بل بمناسبتها نزل قوله تعالى {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} وقد يتساءل المرء: هل من حكمة نلتمسها من الإشارة بغير الصواب، وبقبولها وتنفيذها من الصحابة دون مناقشة مع أنهم ناقشوا في كثير غيرها، كالإذخر، وشهود الزنا، والسلم، وغير ذلك كثير، وما الحكمة في عدم تعديل هذه المشورة من قبل الوحي، وتدارك الثمرة حتى لا تصير شيصا، وقد تلمسنا لذلك حكما وضحناها في بحثنا، نذكر منها: أولا: هناك من الأمور ما نحسبه شرا لنا. وهو في الحقيقة خير لنا، كحديث الإفك الذي استمر أياما وأياما دون حسم، وقال الله فيه {لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم} [النور: 11] وكخرق السفينة، يحسب لأول وهلة أنه شر لأصحابها، فلما اتضحت الحقيقة إذا هو خير لهم، وبالقياس على هذا، فإن المشورة وقعت في أوائل الهجرة، وكان من الجائز جدا أن يطمع الكافرون في تمر المدينة، فيهاجموها حربا لمحمد وطمعا في تمرها، فخروج التمر شيصا يجعلهم لا يطمعون في غير مطمع، وكأن الله يصرف بذلك هجوم الكافرين، حتى يستعد المؤمنون للدفاع. ثانيا: من المعروف أن الدرس العملي أشد أثرا من الوعظ النظري، ولا شك أن هذا الدرس كان قاسيا عليهم، ومنه حرصوا وتنافسوا بعده في الرقي بأسباب الحياة. ثالثا: إن الابتلاء بمثل هذا امتحان واختبار {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} [الأنبياء: 35] {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين} [البقرة: 155] فقوي الإيمان يظل متمسكا بالإيمان مهما أصابه، وضعيف الإيمان يظهر ضعفه. فلا ينخدع به غيره {ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين} [الحج: 11] فكانت هذه الحادثة ابتلاء واختبارا لهم، وهي حتى اليوم في هذا الشرح ابتلاء واختبار، وقد نجح الصحابة رضوان الله عليهم في هذا الاختبار القاسي - وهم في أول الإيمان - نجاحا باهرا، فقد استمروا على طاعة أوامره والبعد عن كل ما نهى عنه، بالدرجة نفسها، التي كانت قبل مشورته، ولم يصل إلينا أن أحدا ارتد بسببها، بل لم يرد عتاب أحد منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم عليها، على الرغم من خسارتها الكبرى، رضي الله عنهم أجمعين. والله أعلم

(628) باب فضل النظر إليه صلى الله عليه وسلم

(628) باب فضل النظر إليه صلى الله عليه وسلم 5336 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكر أحاديث منها: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده! ليأتين على أحدكم يوم ولا يراني. ثم لأن يراني أحب إليه من أهله وماله معهم". قال أبو إسحاق: المعنى فيه عندي، لأن يراني معهم أحب إليه من أهله وماله وهو عندي مقدم ومؤخر. -[المعنى العام]- للإنسان حواسه الخمسة، وله شعوره ووجدانه، وعن طريق الحواس الظاهرة والباطنة يتمتع الإنسان بالنعيم، ويشقى بالآلام والكروب، وحب الإنسان لشيء لا يكون لذاته، بل لصفة فيه، ولا شك أن العقل والوجدان والروح والشعور الداخلي للمؤمن الحق سعيد بالإسلام وبرسول الإسلام صلى الله عليه وسلم، أما الحواس الظاهرة فهي طريق أيضا لسعادة المؤمن، وقد مر بنا من صفات خلقته صلى الله عليه وسلم طيب ريحه، وجوامع كلمه، والتبرك بفضلات طعامه وشرابه، ولين ملمسه، وهذا الحديث في متعة النظر إليه صلى الله عليه وسلم، فرؤيته صلى الله عليه وسلم خير من الأهل والمال والولد، لأنه أساس في إثبات الصحبة، والصحبة من أفضل خصال الإسلام، وخير القرون قرنه صلى الله عليه وسلم، ولقد أتى زماننا متأخرا، فلم يكتب لنا أن نسعد برؤيته، فهل شوقنا لرؤيته، وحنيننا إلى رؤيته صلى الله عليه وسلم يقوم مقام رؤيته؟ أو يسد - ولو جزئيا - مسد رؤيته؟ نسأل الله تعالى أن يمنحنا وصال الروح، حيث حرمنا وصال الأجساد، وأن يجمعنا به صلى الله عليه وسلم في الآخرة وأن يجعلنا من أهل شفاعته. -[المباحث العربية]- (ليأتين على أحدكم يوم ولا يراني) الخطاب للصحابة السامعين له، أي ستشغلكم الدنيا وأمور الحياة عن ملازمتي في مسجدي وفي حلي وترحالي، وسيأتي على بعضكم يوم، بل أيام لا يراني فيها، وقد وقع ذلك من أقرب الناس إليه، عمر بن الخطاب، فقد كان يزرع في أرض الأنصار في أطراف المدينة، وينزل يوما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وينزل جاره يوما، بل كانت التجارة والأسواق تشغله أياما عن النزول أحيانا، حتى قال: ألهاني عنه الصفق بالأسواق. (ثم لأن يراني أحب إليه من أهله وماله معهم) يقول أبو إسحاق الراوي: هو عندي، مقدم ومؤخر، مراده أن كلمة "ثم" أخرت، وأصلها مقدم على "لا يراني" و"ثم لا يراني" مقدم من

تأخير، وأصل الجملة ليأتين على أحدكم يوم، لأن يراني فيه أحب إليه من أن يكون له مثل أهله وماله (ثم لا يراني) أي رؤيته إياي أفضل عنده، وأحظى من أهله وماله، ولفظة "معهم" في موضعها. أي يأتي على أحدكم يوم، لأن يراني فيه لحظة، ثم لا يراني بعدها، أحب إليه من أهله وماله جميعا. -[فقه الحديث]- مقصود الحديث الحث على ملازمة الصحابة مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم، حضرا وسفرا، ففي ذلك مشاهدة آداب الشرع في حركاته وسكناته، وتعلم الشرائع وحفظها عنه مباشرة دون وساطة، والتبرك بمجلسه، والانتفاع بالرحمة التي تغمر هذا المشهد العظيم. والله أعلم

(629) باب فضائل عيسى عليه السلام

(629) باب فضائل عيسى عليه السلام 5337 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أنا أولى الناس بابن مريم. الأنبياء أولاد علات. وليس بيني وبينه نبي". 5338 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أولى الناس بعيسى. الأنبياء أبناء علات. وليس بيني وبين عيسى نبي". 5339 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكر أحاديث منها: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم، في الأولى والآخرة" قالوا: كيف؟ يا رسول الله! قال: "الأنبياء إخوة من علات. وأمهاتهم شتى. ودينهم واحد. فليس بيننا نبي". 5340 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان. فيستهل صارخا من نخسة الشيطان. إلا ابن مريم وأمه" ثم قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم {وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم} 5341 - وفي رواية عن الزهري، بهذا الإسناد. وقالا: "يمسه حين يولد، فيستهل صارخا من مسة الشيطان إياه" وفي حديث شعيب "من مس الشيطان". 5342 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل بني آدم يمسه الشيطان يوم ولدته أمه، إلا مريم وابنها". 5343 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صياح المولود حين يقع، نزغة من الشيطان".

5344 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأى عيسى ابن مريم رجلا يسرق. فقال له عيسى: سرقت؟ قال: كلا. والذي لا إله إلا هو! فقال عيسى: آمنت بالله. وكذبت نفسي". -[المعنى العام]- تحكي سورة مريم قصة حمل مريم لعيسى من غير أب، وتعجبها من هذا الحمل وهي غير بغي، وانتباذها بحملها مكانا قصيا، وكيف رزقها الله بطعامها وشرابها مدة حملها، وكيف جاءها المخاض إلى جذع النخلة، وقولها: يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا، وكيف بشرها ربها بغلام ذكي، يكون آية للناس ورحمة من الله، وكيف أمرت أن تقابل قومها ولا تتكلم معهم، وأن تطلب من طفلها أن يرد عليهم {فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا * قال إني عبد الله ءاتاني الكتاب وجعلني نبيا * وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا} [مريم: 29 - 31] كان عيسى عليه السلام معجزة في ميلاده، معجزة في كلامه في المهد، على يديه في حياته ظهرت معجزات إحياء الموتى بإذن الله، وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله، في رسالته اختلف الأحزاب فيما بينهم - كما هو الشأن مع الأنبياء، طلب حواريوه مائدة من السماء، فدعا بها عيسى فنزلت، وعاداه آخرون، واتهموه بأنه ابن زنا. نعم كانت حياته معجزة، مغالاة وتطرف في الحب والتقديس، ومغالاة وتطرف في البغضاء والشحناء، عبده بعضهم وقالوا: إنه ابن الله، {وقالت النصارى المسيح ابن الله} [التوبة: 30] وحاربه آخرون، حتى وضعوا ونصبوا له الصليب ليقتلوه، وكان موته معجزة {وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا * بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما} [النساء: 157 - 158] وما بعد موته معجزة، ينزل حاكما عادلا في آخر الزمان، كمسلم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يقيم العدل، ويحارب الشرك والظلم، ويكسر الصليب، ويقتل الدجال، فأي علاقة هذه بينه وبين أخيه محمد بن عبد الله عليهما الصلاة والسلام، ومن أولى به من رسول الله رسول الإسلام؟ لقد عاش مثالا للزهد والإعراض عن الدنيا، مثالا للرحمة والتسامح والتواضع، مثالا للعفو والرفق، رأى سارقا يسرق مال غيره، رآه بعيني رأسه، طلبه فجاء، قال له: أنت سرقت ساعة كذا من مكان كذا. قال الرجل: لا. لم أسرق. والذي لا إله إلا هو. فغلب التسامح العقوبة، وارتفع حسن الظن على السوء، وعلا الرفق والإحسان على المحاسبة والانتقام، فقال للرجل: آمنت بالله، وعظمته وقدسته، واستسلمت لحلفك به،

وكذبت نفسي وبصري وعيني، وكانت دعوته دائما {وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون * إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} [آل عمران: 50 - 51]. -[المباحث العربية]- (أنا أولى الناس بابن مريم) في الرواية الثانية "أنا أولى الناس بعيسى" وفي الرواية الثالثة "أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الأولى والآخرة" أي أخص الناس به، وأقربهم إليه، لأنه بشر عليه السلام برسول يأتي من بعده اسمه أحمد، فالاختصاص على هذا سببه معرفة الفضل لأهل الفضل، لكن الرواية الثالثة جعلت سبب هذا الاختصاص قرب العهد مع جامع الرسالة، فلفظها "أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الأولى والأخرة، قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: الأنبياء إخوة من علات، وأمهاتهم شتى، ودينهم واحد، فليس بيننا نبي" ولا مانع من تعدد أسباب الاختصاص. وقد استشكل على هذه الولاية بما جاء في القرآن الكريم، من قوله تعالى {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي} [آل عمران: 68] قال الكرماني: التوفيق أن الحديث وارد في كونه صلى الله عليه وسلم متبوعا، والآية واردة في كونه تابعا. اهـ. ولم يرتض الحافظ ابن حجر هذا التوفيق، فقال: إن مساق الحديث كمساق الآية، فلا دليل على هذه التفرقة، والحق أنه لا منافاة، ليحتاج إلى الجمع، فكما أنه أولى الناس بإبراهيم، كذلك هو أولى الناس بعيسى، ذاك من جهة قوة الاقتداء به، وهذا من جهة قوة قرب العهد به. (الأنبياء أولاد علات) قال العلماء: أولاد العلات، بفتح العين وتشديد اللام هم الإخوة لأب من أمهات شتى، أما الإخوة من الأبوين فيقال لهم: أولاد الأعيان، فالعلات الضرائر، وأصله أن من تزوج امرأة، ثم تزوج أخرى، كأنه عل منها، والعلل الشرب بعد الشرب، وفي الرواية الثالثة "الأنبياء إخوة من علات، أي إخوة من أب، أي إخوة من ضرائر، وقد فسرته الرواية بقولها "وأمهاتهم شتى، ودينهم واحد" فهو من باب التفسير، كقوله تعالى {إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا} [المعارج: 19 - 21] ومعنى الحديث: إن أصل دينهم واحد، وهو التوحيد، وإن اختلفت الفروع، وقيل المراد أزمنتهم مختلفة، فالمراد من وحدة الدين وحدة أصول التوحيد، وأصل طاعة الله تعالى. (وليس بيني وبينه نبي) هذا ما أورده كالشاهد لقوله: إنه أقرب الناس إليه. (ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان، فيستهل صارخا من نخسة الشيطان) وفي ملحق الرواية الرابعة "ما من مولود يولد إلا يمسه الشيطان حين يولد، فيستهل صارخا من مسة الشيطان إياه" وفي الرواية الخامسة "كل بني آدم يمسه الشيطان يوم ولدته أمه" وفي الرواية السادسة "صياح المولود حين يقع نزغة من الشيطان" والنخس والنزغ الطعن، ومعنى حين يقع "أي حين يسقط من بطن أمه، والاستهلال الصياح، أي يصيح صارخا من الألم الناتج من مسة الشيطان،

وقد فسرت رواية البخاري هذا المس، ولفظها "كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بإصبعه، حين يولد" قال القرطبي: هذا الطعن من الشيطان هو ابتداء التسليط. (إلا ابن مريم وأمه) وفي الرواية الخامسة "إلا مريم وابنها" وفي رواية للبخاري "غير عيسى ابن مريم، ذهب يطعن، فطعن في الحجاب" والمراد من الحجاب الجلدة التي فيها الجنين أي المشيمة، أو الثوب الملفوف على الطفل، والاقتصار على عيسى في هذه الرواية دفع بعضهم أن يقول عن روايات مريم وابنها: إنه من عطف التفسير، والمقصود الابن، كقولك: أعجبني زيد وكرمه، وحمل الحافظ ابن حجر على هذا القول: وقال: إنه تعسف شديد، وقال: يحتمل أن يكون هذا بالنسبة إلى المس، وذاك بالنسبة إلى الطعن في الجنب. اهـ. وهذا الاحتمال مستبعد، لأن الرواية التي اقتصرت على عيسى نفت الطعن، والتي ذكرتهما نفت المس عنهما، ونفي المس نفي للطعن، وكون مريم طعنت ولم تمس مستبعد. قال: ويحتمل أن يكون ذاك قبل الإعلام بما زاد - يعني أعلم أولا بنفي الطعن والمس لعيسى، ثم أعلم آخرا بنفيهما عنه وعن أمه - قال: وفيه بعد، لأنه حديث واحد، وقد روي بلفظ "كل بني آدم قد طعن الشيطان فيه حين ولد، غير عيسى وأمه، جعل الله دون الطعنة حجابا، فأصاب الحجاب، ولم يصبهما" قال: والذي يظهر أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر، والزيادة من الحافظ مقبولة. (اقرءوا إن شئتم {وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم} [آل عمران: 36]) هذه الجملة موقوفة على أبي هريرة، يستدل بها على حفظ الله مريم وابنها من الشيطان، ببركة دعوة أمها، ولم يكن لمريم ذرية غير عيسى. (فقال له: سرقت)؟ بحذف همزة الاستفهام، ليقر فيحاسبه، وقيل: خبر وإثبات. (قال: كلا. والذي لا إله إلا هو) وفي رواية للبخاري "قال: كلا. والذي لا إله إلا الله" وفي رواية "قال: لا. والذي لا إله إلا هو". (فقال عيسى: آمنت بالله، وكذبت نفسي) وفي رواية للبخاري "وكذبت عيني" بالتثنية، وبالإفراد، وفي رواية "وكذبت بصري"، و"كذبت" بتشديد الذال و"نفسي" و"عيني" مفعول، وفي رواية بتخفيف الذال وفتح الباء، و"نفسي" فاعل. قال ابن التين: قال عيسى ذلك على المبالغة في تصديق الحالف، ولم يرد حقيقة تكذيب النفس أو العين في هذا، أي والعين قد تكذب. وقيل: إنه أراد بالتصديق والتكذيب ظاهر الحكم، لا باطن الأمر، وإلا فالمشاهدة أعلى اليقين، فكيف يكذب عينه؟ ويصدق قول المدعي؟ أي وإن كنت موقنا باطنا بأنك سرقت، لكني أصدقك ظاهرا من أجل يمينك. ويحتمل أنه رآه مد يده إلى الشيء، ولم يسرقه، فظن عيسى أنه سرقه، فلما حلف له أنه ما سرقه رجع عن ظنه، وصدقه.

وقال القرطبي: ظاهر قول عيسى للرجل: "سرقت" أنه خبر جازم عما فعل الرجل من السرقة، لكونه رآه أخذ مالا من حرز في خفية، وقول الرجل: كلا. نفي لذلك، وأكده باليمين، وقول عيسى: آمنت بالله، وكذبت عيني. أي صدقت من حلف بالله، وكذبت ما ظهر لي من كون الأخذ المذكور سرقة، فإنه يحتمل أن يكون الرجل قد أخذ شيئا له فيه حق، أو شيئا أذن له صاحبه في أخذه، أو أخذه ليقلبه، وينظر فيه، ولم يقصد الغصب والاستيلاء، قال: ويحتمل أن يكون عيسى كان غير جازم بذلك، وإنما أراد استفهامه، بقوله: سرقت؟ وتكون أداة الاستفهام محذوفة، وهو سائغ كثيرا. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: واحتمال الاستفهام بعيد، مع جزمه صلى الله عليه وسلم بأن عيسى رأى رجلا يسرق، قال: واحتمال كونه يحل له الأخذ بعيد أيضا، بهذا الجزم بعينه. قال ابن القيم: والحق أن الله كان في قلب عيسى أجل من أن يحلف أحد كاذبا، فدار الأمر بين تهمة الحالف، وتهمة بصره، فرد التهمة إلى بصره، كما ظن آدم صدق إبليس لما حلف له أنه له ناصح، قال الحافظ ابن حجر: وهذا متكلف أيضا. اهـ. واستبعاد الحافظ ابن حجر للاستفهام مستبعد، لأن الاستفهام المجازي في استعمال العربية أكثر من الحقيقي، فقد يكون للتقرير، وقد يكون للتعجب، ولا يتعارض ذلك مع جزمه صلى الله عليه وسلم بأنه سرق، ولا مع إنكار الرجل، فكثيرا ما ينكر المتهم الواقع ويحلف، ولا مع تصديق عيسى له ظاهرا، وتسليمه له، فالقاضي لا يحكم بعلمه، ولم يظهر لي ما رجح عند الحافظ ابن حجر من الاحتمالات، وقد ردها جميعا، وعندي أن ما قاله ابن التين، وما قاله القرطبي محتمل، والله أعلم. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من أحاديث الباب]- 1 - تواضع الرسول صلى الله عليه وسلم، وإعلان ارتباطه بإخوانه عليهم السلام. 2 - فضيلة عيسى ابن مريم وأمه، وظاهر الأحاديث اختصاص هذه الميزة بهما، واختار القاضي عياض أن جميع الأنبياء يتشاركون فيها. 3 - تسليط الله تعالى إبليس على ابن آدم من اللحظة الأولى في حياته. 4 - أن صراخ الطفل عند ولادته من نخسة الشيطان. 5 - أن السرقة محرمة في الديانات الأخرى. 6 - أن بعض النصارى كانوا موحدين، لا يقولون بالتثليث. 7 - استدل بموقف عيسى من السارق على درء الحدود بالشبهات. 8 - واستدل به على منع القضاء بالعلم، قال الحافظ ابن حجر: والراجح عند المالكية والحنابلة منعه مطلقا، وعند الشافعية جوازه إلا في الحدود، وهذه الصورة من ذلك.

9 - استدل بقوله "ليس بيني وبين عيسى نبي" على أنه لم يبعث بعد عيسى أحد إلا نبينا صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر، لأنه ورد أن الرسل الثلاثة الذين أرسلوا إلى أصحاب القرية المذكورة قصتهم في سورة يس كانوا من أتباع عيسى، وأن جرجيس وخالد بن سنان كانا نبيين، وكانا بعد عيسى؟ قال: والجواب أن هذا الحديث يضعف ما ورد في ذلك، فإنه صحيح بلا تردد، وفي غيره مقال، أو المراد أنه لم يبعث بعد عيسى نبي بشريعة مستقلة، وإنما بعث بعده من بعث بتقرير شريعة عيسى. والله أعلم

(630) باب من فضائل إبراهيم الخليل، ولوط، عليهما السلام

(630) باب من فضائل إبراهيم الخليل، ولوط، عليهما السلام 5345 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا خير البرية! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذاك إبراهيم عليه السلام" وحدثناه أبو كريب. 5346 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اختتن إبراهيم النبي عليه السلام وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم". 5347 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال {رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد. ولو لبثت في السجن طول لبث يوسف لأجبت الداعي". 5348 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يغفر الله للوط إنه أوى إلى ركن شديد". 5349 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال لم يكذب إبراهيم النبي عليه السلام قط، إلا ثلاث كذبات. ثنتين في ذات الله. قوله {إني سقيم} وقوله {بل فعله كبيرهم هذا} وواحدة في شأن سارة. فإنه قدم أرض جبار ومعه سارة. وكانت أحسن الناس. فقال لها: إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي، يغلبني عليك. فإن سألك فأخبريه أنك أختي. فإنك أختي في الإسلام. فإني لا أعلم في الأرض مسلما غيري وغيرك. فلما دخل

أرضه رآها بعض أهل الجبار أتاه فقال له: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي لها أن تكون إلا لك. فأرسل إليها فأتي بها. فقام إبراهيم عليه السلام إلى الصلاة. فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها. فقبضت يده قبضة شديدة. فقال لها: ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرك. ففعلت. فعاد. فقبضت أشد من القبضة الأولى. فقال لها: مثل ذلك. ففعلت. فعاد. فقبضت أشد من القبضتين الأوليين. فقال: ادعي الله أن يطلق يدي. فلك الله أن لا أضرك. ففعلت. وأطلقت يده. ودعا الذي جاء بها فقال له: إنك إنما أتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان، فأخرجها من أرضي، وأعطها هاجر. قال: فأقبلت تمشي. فلما رآها إبراهيم عليه السلام انصرف. فقال لها: مهيم؟ قالت: خيرا. كف الله يد الفاجر وأخدم خادما" قال أبو هريرة: فتلك أمكم يا بني ماء السماء. -[المعنى العام]- إبراهيم عليه الصلاة والسلام خليل الرحمن {واتخذ الله إبراهيم خليلا} [النساء: 125]، {واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا} [مريم: 41] أبو الأنبياء كنيته عليه الصلاة والسلام، وهب الله له إسماعيل وإسحق ومن ذرية إسماعيل محمد عليهما الصلاة والسلام، ومن ذرية إسحق يعقوب، والد أنبياء بني إسرائيل، كان إبراهيم عليه السلام حنيفا مسلما، جاهد في الله حق جهاده، وتعرض لصنوف الأذى والاضطهاد، حطم الأصنام بيده، وأتي به على أعين الناس يشهدون {قالوا ءأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم * قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون * فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون * ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون * قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم * أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون * قالوا حرقوه وانصروا ءالهتكم إن كنتم فاعلين * قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم * وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين * ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين} [الأنبياء: 62 - 71] {ولوطا ءاتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين * وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين} [الأنبياء: 74 - 75]. إن الإسلام يعرف للأنبياء قدرهم، ويؤمن بهم جميعا، لا يفرق بين أحد منهم، ومع أن القرآن الكريم يقول {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} [البقرة: 253] فإن محمدا صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: "لا تخيروا بين الأنبياء" ويقول تواضعا "لا تخيروني على موسى". "لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى" وحين قال له أحد أصحابه "يا خير البرية، قال: ذاك إبراهيم عليه السلام" وحين سئل صلى الله عليه وسلم "من أكرم الناس؟ قال: أتقاهم. قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: فيوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله". وحين نزل قوله تعالى {وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى

ولكن ليطمئن قلبي} [البقرة: 260] قال الصحابة: شك إبراهيم عليه السلام، ولم يشك نبينا، فقال صلى الله عليه وسلم: "نحن أحق بالشك من إبراهيم" وحين علم الصحابة أن إبراهيم عليه السلام قال لعبدة الأصنام: إني سقيم، ولم يكن سقيما، وحين قال لهم: بل فعله كبيرهم هذا، ولم يكن فعل، وحين قال للجبار عن امرأته: إنها أختي. قال الصحابة: كذب إبراهيم ولم يكذب نبينا، قال صلى الله عليه وسلم "لم يكذب إبراهيم النبي صلى الله عليه وسلم عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات، كلها في ذات الله، ودفاعا عن شرع الله، وحين نزل قوله تعالى على لسان لوط {قال لو أن لي بكم قوة أو ءاوي إلى ركن شديد} [هود: 80] قال الصحابة: إن نبينا يعتمد على الله وإن لوطا لم يعتمد على الله. قال صلى الله عليه وسلم "رحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد"، هو الله. وحين نزل قوله تعالى على لسان يوسف لخادم الملك {اذكرني عند ربك} [يوسف: 42] أي عند مليكك، قال الصحابة: نبينا لا يسأل إلا ربه، ويوسف سأل الملك وأرسل وساطة إليه، قال لهم صلى الله عليه وسلم: لو لبثت في السجن - بدون ذنب - طول المدة التي لبثها يوسف في السجن لأجبت الداعي، حين جاءه في السجن وقال: اخرج من السجن لتقابل الملك، لكن يوسف لم يسارع بالخروج، ولم يكن معتمدا على الملك، بل على الله وعلى البراءة. وهكذا نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم محبا لإخوانه الأنبياء، مدافعا عنهم، منزها لأفعالهم عن الخطأ، مبرئا لهم مما قد يثار حول بعض تصرفاتهم، بل كان يرفعهم على نفسه، ويدعو لتوقيرهم فوق توقيره، مؤمنا بما أنزل عليهم، داعيا أمته إلى الإيمان بكل ما جاء عنهم، عملا بقوله تعالى {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} [البقرة: 136]. فاللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. -[المباحث العربية]- (يا خير البرية) "خير" أفعل تفضيل، استعمل المصدر فيها لكثرة الاستعمال، والبرية الخلق، والبارئ الخالق. (ذاك إبراهيم عليه السلام) أي خير البرية إبراهيم عليه السلام. قال الحافظ ابن حجر: وإبراهيم بالسريانية معناه أب راحم، وهو ابن آزر، واسمه تارح بالتاء، ابن ناحور ابن شاروخ بن راغوء بن فالخ بن عبير - ويقال: عابر - بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، فبينه وبين نوح عشرة آباء، قال الحافظ ابن حجر: لا يختلف جمهور أهل النسب ولا أهل الكتاب في ذلك، إلا في النطق ببعض هذه الأسماء. (اختتن إبراهيم النبي صلى الله عليه وسلم عليه السلام وهو ابن ثمانين سنة) الختان معروف، وهو قطع غلفة الذكر، وفي مسند مسعود "اختتن إبراهيم بعد ما مرت به ثمانون" ووقع في الموطأ موقوفا

على أبي هريرة وعند ابن حبان مرفوعا "أن إبراهيم اختتن وهو ابن مائة وعشرين سنة" قال الحافظ ابن حجر: والظاهر أنه سقط من المتن شيء، فإن هذا القدر هو مقدار عمره، ووقع مثل ذلك عند أبي الشيخ، وزاد "وعاش بعد ذلك ثمانين سنة" فعلى هذا يكون عاش مائتي سنة، وجمع بعضهم بأن الأول حسب من مبدأ نبوته، والثاني من مبدأ مولده. والله أعلم. (بالقدوم) روي بتشديد الدال، وروي بتخفيفها، قال النووي: لم يختلف الرواة عند مسلم في التخفيف، وأنكر يعقوب بن شيبة التشديد أصلا، واختلف في المراد به، فقيل: هو اسم مكان، أي اختتن في مكان يدعى القدوم، وقيل: هي قرية بالشام، وقيل: اسم آلة النجار، فعلى الثاني هو بالتخفيف لا غير، وعلى الأول ففيه اللغتان. هذا قول الأكثر، وعكسه الداودي، وقد أنكر ابن السكيت التشديد في الآلة، والراجح أن المراد في الحديث الآلة، فقد روى أبو يعلى "أمر إبراهيم بالختان، فاختتن بقدوم، فاشتد عليه، فأوحي إليه: أن عجلت قبل أن نأمرك بآلتك، فقال: يا رب. كرهت أن أؤخر أمرك". (نحن أحق بالشك من إبراهيم، إذ قال: {رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي}) اختلف السلف في المراد بالشك هنا. فحمله بعضهم على ظاهره - أي مساواة الوقوع واللاوقوع - ثم اختلفوا فقال بعضهم: كان قبل النبوة وقال بعضهم: كان ذلك بعد النبوة، وسببه حصول وسوسة الشيطان، لكنها لم تستقر، ولم تزلزل الإيمان الثابت، واستندوا في ذلك إلى ما أخرجه الطبري وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "هذا لما يعرض في الصدور، ويوسوس به الشيطان، فرضي الله من إبراهيم عليه السلام بأن قال: بلى" وإلى ذلك جنح عطاء، حيث سأله ابن جريج عن هذه الآية، فقال: دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس، فقال ذلك. وروى الطبري عن قتادة قال: ذكر لنا أن إبراهيم أتى على دابة توزعتها الدواب والسباع. وفي رواية عن ابن جريج قال: بلغني أن إبراهيم أتى على جيفة حمار، مزقتها السباع والطير، فعجب وقال: رب لقد علمت لتجمعنها، ولكن رب أرني كيف تحيي الموتى؟ وذهب آخرون إلى تأويل ذلك، واختلفوا: فقال بعضهم: إن المراد من الشك المنفي الخواطر التي لا تثبت، وأما الشك المصطلح، وهو التوقف بين الأمرين من غير مزية لأحدهما على الآخر، فهو منفي عن الخليل قطعا، لأنه يبعد وقوعه ممن رسخ الإيمان في قلبه، فكيف بمن بلغ رتبة النبوة؟ وقال بعضهم: إن الآية تدل على أن إبراهيم مؤمن يقينا بالبعث، لأن السؤال بكيف سؤال عن حال شيء موجود مقرر عند السائل والمسئول، كما تقول: كيف علم فلان؟ فكيف في الآية سؤال عن هيئة الإحياء، لا عن نفس الإحياء، فإنه ثابت مقرر. وقال بعضهم: إن السؤال عن كيفية إحياء الموتى ليس لشك فيه، ولكن إبراهيم طلب من ربه كعلامة على رضاه جل شأنه عليه، كما طلب زكريا آية على تحقق البشرى، فروى الطبري وابن أبي

حاتم من طريق السدي قال: "لما اتخذ الله إبراهيم خليلا، استأذنه ملك الموت أن يبشره، فأذن له" ... فذكر قصة معه في كيفية قبض روح الكافر والمؤمن. قال: فقام إبراهيم يدعو ربه "رب أرني كيف تحيي الموتى؟ حتى أعلم أني خليلك" وروى ابن أبي حاتم عن أبي سعيد قال: "ليطمئن قلبي بالخلة" ومن طريق سعيد بن جبير، قال "ليطمئن قلبي أني خليلك" ومن طريق الضحاك عن ابن عباس "لأعلم أنك أجبت دعائي" ومن طريق علي بن أبي طلحة عنه "لأعلم أنك تجيبني إذا دعوتك" وإلى هذا جنح القاضي أبو بكر الباقلاني. وقال بعضهم: إنما طلب إبراهيم هذا المطلب حبا للرؤية، واشتياقا إليها، وإعجابا بها وتمتعا، وليس شكا في وقوعها، فأراد أن يسر قلبه ويطمئن برؤية آثار القدرة التي لا يشك فيها. وقال بعضهم: إنما طلب إبراهيم أن يريه ربه، ويرى قومه المكذبين للبعث، وذلك أن النمرود لما قال لإبراهيم: من ربك؟ فقال إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت. قال النمرود: أنا أحيي وأميت، فجاء بمحكوم عليه بالإعدام فأطلقه، وببريء فقتله، فأراد إبراهيم أن يريه الله إحياء الموتى الحقيقي ليعلم الفرق بين القدرة الإلهية وعبث النمرود، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة، قال: "المراد ليطمئن قلبي أنهم يعلمون أنك تحيي الموتى" أي ليطمئن قلبي بإيمانهم بالبعث. وقال بعضهم: إنما طلب لزيادة اليقين البالغ حد الجزم، كزيادة الإيمان بكثرة نزول الآيات، فاليقين العلمي الخالي من الشك يزداد بالمعاينة والمشاهدة. وهذا من أحسن التوجيهات وهناك توجيهات بعيدة. منها: أن مراده أقدرني على إحياء الموتى، فتأدب في السؤال، قال ابن الحصار: إنما أراد أن يحيي الله الموتى على يديه، فلهذا قيل له في الجواب {فصرهن إليك} [البقرة: 260]. وحكى ابن التين عن بعض من لا تحصيل عنده أنه أراد بقوله "قلبي" رجلا صالحا كان يصحبه سأله عن ذلك. وأبعد مما سبق ما حكاه القرطبي عن بعض الصوفية أنه سأل ربه أن يريه كيف يحيي القلوب؟ وأبعد منه أنه طلب هذا المطلب لمجرد حب المراجعة في السؤال. وبناء على ما سبق من توجيهات اختلف العلماء في معنى قوله "نحن أحق بالشك من إبراهيم" فقيل: معناه: نحن أشد اشتياقا إلى رؤية ذلك من إبراهيم. وقيل: معناه: إذا كنا لا نشك نحن، فإبراهيم لم يشك، فنحن أولى بالشك منه، أي لو كان الشك في ذلك يتطرق إلى الأنبياء لكنت أنا أحق به منهم. وقال ذلك تواضعا منه، أو قبل أن يعلمه الله بأنه أفضل من إبراهيم، فهو من قبيل ما قيل في روايتنا الأولى، حيث قيل: أن سبب هذا الحديث أن الآية لما نزلت قال بعض الناس: شك إبراهيم ولم يشك نبينا فبلغه ذلك، فقال: نحن أحق بالشك من إبراهيم. أي إبراهيم لم يشك.

وقيل: أراد من "نحن" أمته الذين يجوز عليهم الشك، وأخرج نفسه من ضمير المتكلمين، بدليل العصمة. وقيل: معناه: أن هذا الذي ترون أنه شك، أنا أولى به، لما عانيت من تكذيب قومي، وردهم علي، وتعجبهم، من أمر البعث، فكأنه قال: أنا أحق من أن أسأل ما سأل إبراهيم، لعظيم ما جرى لي مع قومي المنكرين لإحياء الموتى، ولمعرفتي بتفضيل الله لي ولكن لا أسأل في ذلك. وحكى بعض علماء العربية أن "أفعل" ربما جاءت لنفي المعنى عن الشيئين، نحو قوله تعالى {أهم خير أم قوم تبع} [الدخان: 37]؟ أي لا خير فيهما، وعلى هذا فمعنى قوله "نحن أحق بالشك من إبراهيم" لا شك عندنا جميعا. والاستفهام في قوله {أولم تؤمن} للتقرير، لأنه طلب الكيفية، وهو مشعر بالتصديق بالإحياء. (ويرحم الله لوطا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد) وفي ملحق الرواية "يغفر الله للوط، إنه أوى إلى ركن شديد" أي إلى الله تعالى، يشير صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى {قال لو أن لي بكم قوة أو ءاوي إلى ركن شديد} [هود: 80] يدافع عن لوط عليه السلام، فقد قيل: لما نزلت الآية قال بعضهم: اعتمد لوط على العشيرة، ولم يكن له عشيرة، فتحسر، ولم يعتمد على الله تعالى، فأشار صلى الله عليه وسلم إلى أن المراد بالركن الشديد في الآية الله تعالى، قال الحافظ ابن حجر: ويقال إن قوم لوط لم يكن فيهم أحد يجتمع معه في نسبه، فقال: لو أن لي منعة وأقارب وعشيرة، لكنت أستنصر بهم عليكم، ليدفعوا عن ضيفاني أي ولكني آوي إلى الله. ولهذا جاء في بعض طرق هذا الحديث عند أحمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وقال لوط: لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد. قال: فإنه كان يأوي إلى ركن شديد، ولكنه عنى - بالقوة - عشيرته، فما بعث الله نبيا إلا في ذروة من قومه" زاد ابن مردويه ألم تر إلى قول قوم شعيب {ولولا رهطك لرجمناك} [هود: 91] فالمراد من الركن الشديد الله، و"أو" هنا بمعنى "بل" التي للإضراب الإبطالي، وقيل: المراد بالركن الشديد في الآية عشيرته، لكنه لم يأو إليهم وأوى إلى الله، وقال النووي: يجوز أنه لما اندهش بحال الأضياف قال ذلك - مريدا عشيرته ونسي الالتجاء إلى الله تعالى - أو التجأ إلى الله في باطنه، وأظهر هذا القول للأضياف اعتذارا، وسمى العشيرة ركنا، لأن الركن يستند إليه، ويمتنع به، فشبههم بالركن من الجبل، لشدتهم ومنعتهم. (ولو لبثت في السجن طول لبث يوسف لأجبت الداعي) في رواية البخاري "ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف ثم أتاني الداعي لأجبته" يدافع صلى الله عليه وسلم عن يوسف عليه السلام، في قوله لصاحب السجن {اذكرني عند ربك} فقد قيل: إنه تبرم بالقضاء، ولجأ إلى وساطة الخلق عند الخلق، فأشار إلى أنه عليه السلام كان مثالا للصبر والرضا بالقضاء، فقد سجن مظلوما، ورضي، وطال سجنه، ورضي، بل بعد أن طال سجنه وعز مقداره، وأتاه رسول الملك ليخرجه من السجن، لم يبادر بالخروج، بل قال له: {ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن} [يوسف: 50]، ولم يخرج حتى ثبتت براءته، ولو كان غيره قد طال به السجن ظلما لأسرع إلى إجابة الداعي بالخروج، فوصفه صلى الله عليه وسلم بشدة الصبر، وقال عن نفسه ما قال تواضعا.

(لم يكذب إبراهيم النبي عليه السلام قط، إلا ثلاث كذبات) قال أبو البقاء: الجيد أن يقال: كذبات بفتح الذال في الجمع، لأنه جمع "كذبة" بسكون الذال، وهو اسم لا صفة، لأنك تقول: كذب كذبة، كما تقول: ركع ركعة. وقد استشكل على هذا الحصر، ففي مسلم في حديث الشفاعة الطويل، في قصة إبراهيم ذكر قوله في الكوكب: {هذا ربي} وقوله لآلهتهم {بل فعله كبيرهم} وقوله {إني سقيم} [الصافات: 89] قال القرطبي ذكر الكوكب يقتضي أنها أربع. قال الحافظ ابن حجر: الذي يظهر أنها وهم من بعض الرواة، فإنه ذكر قوله في الكوكب، بدل قوله في سارة، والذي اتفقت عليه الطرق ذكر سارة، دون الكوكب، وكأنه لم يعد، مع أنه أدخل - في المقصود - من ذكر سارة، لما نقل من أنه قاله في حال الطفولية، فلم يعده، لأن حال الطفولية ليست بحال تكليف. وهذه طريقة ابن إسحق، وقيل: إنما قال ذلك بعد البلوغ، لكنه قاله على طريق الاستفهام، الذي يقصد به التوبيخ، وقيل: قاله على طريق الاحتجاج على قومه، تنبيها على أن الذي يتغير لا يصلح للربوبية، وهذا قول الأكثر، وأنه قاله توبيخا لقومه، أو تهكما بهم، وهو المعتمد. اهـ. وهذا الذي ذهب إليه الحافظ يصلح بصفة أكثر في قوله {بل فعله كبيرهم هذا} فإنه يبعد عن التصديق عند المتكلم والسامع معا، ولذلك قال: {فاسألوهم إن كانوا ينطقون} وقالوا ردا عليه {لقد علمت ما هؤلاء ينطقون} فعقب على ذلك بقوله {أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون} فالإشكال باق، والذي أوقع فيه هو الرواية، وخير التوجيهات أنه قاله على سبيل الاستفهام، ولا يدخله الكذب، فالكذب في الأخبار. على أن إطلاق الكذب على الأمور الثلاث ليس على سبيل الحقيقة المتفق عليها، إذا أدخلنا اعتقاد المتكلم والسامع في تعريفه، فالتعريض والتورية، يقصد المتكلم فيها مطابقة الخبر للواقع، وإن كان حسب فهم المخاطب غير مطابق للواقع، فإبراهيم حين قال {بل فعله كبيرهم هذا} ربما قصد أنه كان السبب، أي تسبب في الفعل، وأثارني كبيرهم هذا والإسناد إلى الشيء مع إرادة السبب كثير، وربما قصد توقف الكلام عند قوله {بل فعله} مريدا إبراهيم، ثم البدء بقوله {كبيرهم هذا فاسألوهم} أي اسألوه ومن حوله، وربما قصد توقف الجواب المستحيل على الشرط المستحيل، أي إن كانوا ينطقون فقد فعله كبيرهم لكنهم لا ينطقون. قال ابن قتيبة، وقوله {إني سقيم} ربما قصد مريض النفس، ضائق الصدر من أفعالكم وتصرفاتكم، وربما كان عنده مرض حقيقي يعلمه وحده وربه، وإن كان لا يمنع من الخروج، فقد حكى النووي عن بعضهم، أنه كان تأخذه الحمى في ذلك الوقت، وربما أراد الاستقبال، أي سأسقم، واسم الفاعل يستعمل بمعنى المستقبل كثيرا، وقوله "هذه أختي" قصد به أخوة الإسلام، كما جاء في الرواية صريحا، ونتيجة ذلك أن الثلاث صور كذبات وليست في الحقيقة كذبات. (ثنتين في ذات الله، قوله: إني سقيم، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، وواحدة في شأن سارة) خص الثنتين بذلك، وإن كانت الثالثة أيضا في ذات الله، لكنها لما تضمنت حظا لنفسه ونفعا له، لم تعتبر في ذات الله محضا، بخلاف الثنتين، وقد وقع في بعض الروايات "إن إبراهيم لم يكذب قط إلا ثلاث كذبات، كل ذلك في ذات الله" وعند أحمد "والله إن جادل بهن إلا عن دين الله" وفي رواية "ما فيها كذبة إلا مما حل بها عن الإسلام" أي جادل ودافع.

(فإنه قدم أرض جبار) قال الحافظ ابن حجر: اسم الجبار المذكور عمر بن امرئ القيس بن سبأ، وأنه كان على مصر، وقيل: اسمه صادوق، وكان على الأردن، وقيل غير ذلك. (ومعه سارة وكانت أحسن الناس) في رواية البخاري "من أحسن الناس" وفي رواية "هاجر إبراهيم بسارة، فدخل بها قرية، فيها ملك أو جبار، فقيل: دخل إبراهيم بامرأة هي من أحسن النساء". قال الحافظ ابن حجر: واختلف في والد سارة - مع القول بأن اسمه هاران - فقيل: هو ملك حران، وأن إبراهيم تزوجها لما هاجر من بلاد قومه إلى حران، وقيل: هي ابنة أخيه، وكان ذلك جائزا في تلك الشريعة، حكاه ابن قتيبة والنقاش، واستبعد. وقيل: بل هي بنت عمه. قال الحافظ ابن حجر: والجمهور على أنها ليست بنبية. (فقال لها: إن هذا الجبار، إن يعلم أنك امرأتي، يغلبني عليك، فإن سألك فأخبريه أنك أختي، فإنك أختي في الإسلام) فإني لا أعلم في الأرض مسلما غيري وغيرك، فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار، أتاه، فقال له: (لقد قدم أرضك امرأة، لا ينبغي لها أن تكون إلا لك، فأرسل إليها، فأتي بها) في هذه الرواية طي، أوضحته رواية البخاري، ولفظها "بينا هو ذات يوم وسارة، إذ أتى على جبار من الجبابرة، فقيل له: إن ههنا رجلا، معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل إليه، فسأله عنها، فقال: من هذه؟ قال: أختي، فأتى سارة، قال: يا سارة، ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، وإن هذا سألني عنك، فأخبرته أنك أختي، فلا تكذبيني، فأرسل إليها" فروايتنا ليس فيها تصريح بأنه كذب، وقال عن زوجته: أختي، والواقع أن الجبار طلب إبراهيم أولا، وسأله عنها فقال له إبراهيم: إنها أختي. ثم رجع إبراهيم إليها فأخبرها بذلك، لئلا تكذبه عنده، وقال الحافظ ابن حجر: ويمكن أن يجمع بينهما بأن إبراهيم أحس بأن الملك سيطلبها منه، فأوصاها بما أوصاها، فلما وقع ما حسبه أعاد عليها الوصية. واختلف في السبب الذي حمل إبراهيم على هذه الوصية، مع أن ذلك الظالم يريد اغتصابها على نفسها، أختا كانت أو زوجة، فقيل: كان من دين ذلك الملك أن لا يتعرض إلا لذوات الأزواج، فكانت عنده شهوة قتل الزوج، واغتصاب الزوجة، فأراد إبراهيم دفع أعظم الضررين، بارتكاب أخفهما، وهذا التقرير قريب مما جاء عن وهب بن منبه عند ابن حميد في تفسيره، وقريب مما ذكره المنذري في حاشية السنن عن بعض أهل الكتاب، وهو مأخوذ من كلام ابن الجوزي في مشكل الصحيحين أما من قال: إنه كان عند دين الملك أن الأخ أحق بأن تكون أخته زوجته من غيره، فلذلك قال: هي أختي، اعتمادا على ما يعتقده الجبار، فلا ينازعه فيها - فإنه متعقب بأنه لو كان ذلك لقال: هي أختي وأنا زوجها، ولا يقتصر على قوله: هي أختي، وأيضا فالجواب إنما يفيد لو كان من الجبار يريد أن يتزوجها، لا أن يغتصبها نفسها. وقد أشكل على قوله "لا أعلم في الأرض مسلما غيري وغيرك" بلوط عليه السلام، فقد كان معه، كما قال تعالى {فآمن له لوط} [العنكبوت: 26] قال الحافظ ابن حجر: ويمكن أن يجاب بأن مراده بالأرض التي وقع له فيها ما وقع، ولم يكن معه لوط.

(فقام إبراهيم عليه السلام إلى الصلاة) وهكذا كان نبينا صلى الله عليه وسلم إذا ضربه أمر قام إلى الصلاة. (فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها، فقبضت يده قبضة شديدة) في رواية "فقام إليها، فقامت توضأ وتصلي" وقبض يده يبسها وتجمدها، وفي رواية البخاري "فأخذ" وفي رواية "فغط حتى ركض برجله" يعني اختنق، حتى صار كأنه مصروع، قال الحافظ ابن حجر: ويمكن الجمع بأنه عوقب تارة بقبض يده، وتارة بالصرع. (فقال لها: ادعي الله أن يطلق يدي، ولا أضرك، ففعلت) في رواية البخاري "فدعت الله فأطلق" وفي رواية "قالت في نفسها - اللهم إن يمت يقولوا: هي التي قتلته - فقالت: اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط علي هذا الكافر فأرسل". (فعاد، فقبضت أشد من القبضة الأولى، فقال لها مثل ذلك، ففعلت، فعاد، فقبضت أشد من القبضتين الأوليين، فقال: ادعي الله أن يطلق يدي، فلك الله أن لا أضرك، ففعلت وأطلقت يده) لم يكتف اللعين بالعقاب الأول، فتمادى، فتكرر العقاب، فأيقن أن في الأمر سرا. (ودعا الذي جاء بها) في رواية البخاري "فدعا بعض حجبته". (فقال له: إنك إنما أتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان) في رواية البخاري "إنك لم تأتني بإنسان، إنما أتيتني بشيطان" وفي رواية "إنكم ما أرسلتم إلي إلا شيطانا، أرجعوها إلى إبراهيم" والمراد بالشيطان الجن المتمرد، وكانوا قبل الإسلام يعظمون أمر الجن جدا، ويرون كل ما وقع من الخوارق من فعلهم وتصرفهم. (فأخرجها من أرضي، وأعطها هاجر) في بعض النسخ "وأعطها آجر" بالهمز بدل الهاء، وفي رواية البخاري "فأخدمها هاجر" أي وهبها لها لتخدمها، لأنه أعظمها أن تخدم نفسها. قال الحافظ ابن حجر: هاجر اسم سرياني. ويقال: إن أباها كان من ملوك القبط، وأنها من الحفن، بفتحا الحاء وسكون الفاء، قرية بمصر، قال اليعقوبي: كانت مدينة. اهـ. وهي الآن كفر من عمل ألصنا بالبر الشرقي من الصعيد، في مقابلة الأشمونين وفيها آثار عظيمة باقية. (فأقبلت تمشي، فلما رآها إبراهيم عليه السلام انصرف) من الصلاة، وفي رواية البخاري "فأتته". (فقال لها: مهيم؟ ) بفتح الميم وسكون الهاء وفتح الياء، أي ما شأنك؟ وما خبرك؟ ووقع في البخاري "مهيا" بالألف، وفي رواية "متهيا" وفي رواية "مهين" بنون بدل الميم. (قالت: خيرا. كف الله يد الفاجر، وأخدم خادما) في رواية البخاري "رد الله كيد الكافر - أو الفاجر - في نحره" وفي رواية "أشعرت أن الله كبت الكافر، وأخدم وليدة"؟ أي جارية للخدمة؟ وفاعل "أخدم" يحتمل أن يكون الله، وأن يكون الكافر.

(فتلك أمكم يا بني ماء السماء) قال النووي: قال كثيرون: المراد ببني ماء السماء العرب كلهم، لخلوص نسبهم وصفائه، وقيل: لأن أكثرهم أصحاب مواش، وعيشهم من المرعى والخصب، وما ينبت بماء السماء، وقال القاضي: الأظهر عندي أن المراد بذلك الأنصار خاصة، ونسبتهم إلى جدهم عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأدد، وكان يعرف بماء السماء، وهو المشهور بذلك، والأنصار كلهم من ولد حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر المذكور، اهـ. وقيل: أراد بماء السماء زمزم، لأن الله أنبعها لهاجر، فعاش ولدها بها، فصاروا كأنهم أولادها. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من أحاديث الباب فوق ما تقدم]- 1 - من الرواية الأولى فضيلة إبراهيم عليه السلام، قال النووي: قال العلماء: إنما قال صلى الله عليه وسلم عن إبراهيم إنه خير البرية، تواضعا، واحتراما لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، لخلته وأبوته، وإلا فنبينا صلى الله عليه وسلم أفضل، كما قال صلى الله عليه وسلم "أنا سيد ولد آدم" ولم يقصد به الافتخار، ولا التطاول على من تقدمه، بل قاله بيانا لما أمر ببيانه وتبليغه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم "ولا فخر" لينفي ما قد يتطرق إلى بعض الأفهام السخيفة، وقيل: يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم قال: إبراهيم خير البرية قبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم، فإن قيل: التأويل المذكور ضعيف، لأن هذا خبر، فلا يدخله خلف ولا نسخ؟ فالجواب أنه لا يمتنع أنه أراد أفضل البرية الموجودين في عصره، وأطلق العبارة الموهمة للعموم، لأنه أبلغ في التواضع، وقد جزم صاحب التحرير بمعنى هذا، فقال: المراد أفضل برية عصره، وأجاب القاضي عن التأويل الثاني بأنه وإن كان خبرا، فهو مما يدخله النسخ من الأخبار، لأن الفضائل يمنحها الله تعالى لمن يشاء، فأخبر بفضيلة إبراهيم، إلى أن علم تفضيل نفسه، فأخبر به. 2 - ويؤخذ منه جواز التفاضل بين الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم، مصداقا لقوله تعالى {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} [البقرة: 253] ويجاب عن حديث النهي عن التفضيل بين الأنبياء بالأجوبة السابقة في أول كتاب الفضائل. 3 - ومن الرواية الثانية مشروعية الختان، وقد سبق في باب خصال الفطرة، في كتاب الطهارة. 4 - ومن الرواية الثالثة وفاء الرسول صلى الله عليه وسلم لإخوانه الأنبياء، ودفاعه عما أثير حول بعضهم. 5 - ومن طلب إبراهيم رؤية كيفية إحياء الموتى إدلاله على الله، وقربه منه. 6 - واستحباب الترقي في الإيمان من علم اليقين إلى عين اليقين. 7 - وفضيلة يوسف عليه السلام، وصبره، ونزاهته. 8 - وتواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ يقول "لأجبت الداعي" والتواضع لا يحط مرتبة الكبير، بل يزيده رفعة وجلالا.

9 - ومن الرواية الخامسة تبرئة إبراهيم عليه السلام من حقيقة الكذب، وأن ما جرى منه مما يوهم ذلك كان من أجل دين الله. قال ابن عقيل: الدلالة العقلية تصرف وتبعد إطلاق الكذب على إبراهيم عليه السلام، وذلك أن العقل يقطع بأن الرسول ينبغي أن يكون موثوقا به، ليعلم صدق ما جاء به عن الله، ولا ثقة مع تجويز الكذب عليه، فكيف مع وجود الكذب منه؟ وإنما أطلق عليه ذلك لكونه بصورة الكذب عند السامع، وعلى تقديره فلم يصدر ذلك من إبراهيم عليه السلام إلا في حال شدة الخوف، لعلو مقامه، وإلا فالكذب المحض في مثل تلك المقامات يجوز، وقد يجب لتحمل أخف الضررين، دفعا لأعظمهما، وأما تسميته إياها كذبات فلا يريد أنها تذم، فإن الكذب وإن كان قبيحا مخلا، لكنه قد يحسن في مواضع، وهذا منها. اهـ. وقال المازري: أما الكذب فيما طريقه البلاغ عن الله تعالى، فالأنبياء معصومون منه، سواء كثيره أو قليله، وأما ما لا يتعلق بالبلاغ، ويعد من الصفات، كالكذبة الواحدة في حقير من أمور الدنيا، ففي إمكان وقوعه منهم، وعصمتهم منه، القولان المشهوران للسلف والخلف. وقال القاضي عياض: الصحيح أن الكذب، فيما يتعلق بالبلاغ لا يتصور وقوعه منهم، سواء جوزنا الصغائر منهم أم لا، وسواء قل الكذب أم كثر، لأن منصب النبوة يرتفع عنه، وتجويزه يرفع الوثوق بأقوالهم. وقال المازري: وقد تأول بعضهم هذه الكلمات، وأخرجها عن كونها كذبا، قال: ولا معنى للامتناع من إطلاق لفظ أطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورد عليه النووي بقوله: أما إطلاق لفظ الكذب عليها فلا يمتنع، لورود الحديث به، وأما تأويلها فصحيح، لا مانع فيه. وقال النووي أيضا: وحتى لو كان كذبا، لا تورية فيه ولا تأويل لكان جائزا في دفع الظالمين، وقد اتفق الفقهاء على أنه لو جاء ظالم، يطلب إنسانا مختفيا، ليقتله ظلما، أو يطلب وديعة لإنسان، ليأخذها غصبا، وسأل على ذلك، وجب على من علم ذلك إخفاؤه، وإنكار العلم به، وهذا كذب جائز، بل واجب، لكونه في دفع الظالم، فنبه النبي صلى الله عليه وسلم على أن هذه الكذبات ليست داخلة في مطلق الكذب المذموم. 10 - وفي توجيه إبراهيم عليه السلام أخوة سارة مشروعية أخوة الإسلام. 11 - وفي الحديث إباحة المعاريض. 12 - والرخصة في الانقياد للظالم والغاصب. 13 - وقبول صلة الملك الظالم. 14 - وقبول هدية المشرك. 15 - وإجابة الدعاء، بإخلاص النية. 16 - وكفاية الرب لمن أخلص في الدعاء بعمله الصالح، كما في قصة أصحاب الغار.

17 - وابتلاء الصالحين، لرفع درجاتهم. 18 - ومن قبض الظالم عن سارة مرات كرامة لها. ومعجزة لإبراهيم عليه السلام. 19 - وفيه أن من نابه أمر مهم من الكرب ينبغي له أن يفزع إلى الصلاة. 20 - قال الحافظ ابن حجر: وفيه أن الوضوء كان مشروعا للأمم قبلنا، وليس مختصا بهذه الأمة، ولا بالأنبياء، لثبوت ذلك من سارة. والله أعلم

(631) باب من فضائل موسى عليه السلام، ويونس، ويوسف، وزكريا، والخضر، عليهم السلام

(631) باب من فضائل موسى عليه السلام، ويونس، ويوسف، وزكريا، والخضر، عليهم السلام 5350 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكر أحاديث منها: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة. ينظر بعضهم إلى سوأة بعض. وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده. فقالوا: والله! ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر. قال: فذهب مرة يغتسل. فوضع ثوبه على حجر. ففر الحجر بثوبه. قال: فجمح موسى بأثره يقول: ثوبي حجر. ثوبي حجر. حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى" فقالوا: والله! ما بموسى من بأس. فقام الحجر بعد. حتى نظر إليه. قال: فأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضربا" قال أبو هريرة: والله! إنه بالحجر ندب. ستة أو سبعة. ضرب موسى عليه السلام بالحجر. 5351 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان موسى عليه السلام رجلا حييا. قال: فكان لا يرى متجردا. قال: فقال بنو إسرائيل. إنه آدر. قال: فاغتسل عند مويه. فوضع ثوبه على حجر. فانطلق الحجر يسعى. واتبعه بعصاه يضربه. ثوبي حجر! ثوبي حجر! حتى وقف على ملا من بني إسرائيل. ونزلت {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها} 5352 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام. فلما جاءه صكه ففقأ عينه. فرجع إلى ربه فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت. قال: فرد الله إليه عينه وقال: ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور، فله بما غطت يده بكل شعرة سنة. قال: أي رب! ثم مه؟ قال: ثم الموت. قال: فالآن. فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلو كنت، ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق، تحت الكثيب الأحمر".

5353 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكر أحاديث منها: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جاء ملك الموت إلى موسى عليه السلام. فقال له: أجب ربك. قال: فلطم موسى عليه السلام عين ملك الموت ففقأها. قال: فرجع الملك إلى الله تعالى. فقال: إنك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت وقد فقأ عيني. قال: فرد الله إليه عينه. وقال: ارجع إلى عبدي فقل: الحياة تريد؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور، فما توارت يدك من شعرة، فإنك تعيش بها سنة. قال: ثم مه؟ قال: ثم تموت. قال: فالآن من قريب. رب! أمتني من الأرض المقدسة رمية بحجر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والله! لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر". 5354 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما يهودي يعرض سلعة له أعطي بها شيئا كرهه أو لم يرضه. شك عبد العزيز. قال: لا والذي اصطفى موسى عليه السلام على البشر. قال: فسمعه رجل من الأنصار فلطم وجهه. قال: تقول والذي اصطفى موسى عليه السلام على البشر ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا. قال: فذهب اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: يا أبا القاسم! إن لي ذمة وعهدا، وقال: فلان لطم وجهي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم لطمت وجهه؟ قال: قال يا رسول الله والذي اصطفى موسى عليه السلام على البشر، وأنت بين أظهرنا. قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف الغضب في وجهه. ثم قال: لا تفضلوا بين أنبياء الله، فإنه ينفخ في الصور فيصعق من في السماوات ومن في الأرض، إلا من شاء الله. قال: ثم ينفخ فيه أخرى، فأكون أول من بعث، أو في أول من بعث، فإذا موسى عليه السلام آخذ بالعرش. فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطور، أو بعث قبلي. ولا أقول إن أحدا أفضل من يونس ابن متى عليه السلام". 5355 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: استب رجلان، رجل من اليهود،

ورجل من المسلمين. فقال المسلم: والذي اصطفى محمدا صلى الله عليه وسلم على العالمين. وقال اليهودي: والذي اصطفى موسى عليه السلام على العالمين. قال: فرفع المسلم يده عند ذلك فلطم وجه اليهودي. فذهب اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأخبره بما كان من أمره وأمر المسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تخيروني على موسى. فإن الناس يصعقون. فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي، أم كان ممن استثنى الله". 5356 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود. بمثل حديث إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب. 5357 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جاء يهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد لطم وجهه. وساق الحديث، بمعنى حديث الزهري، غير أنه قال: "فلا أدري أكان ممن صعق فأفاق قبلي أو اكتفى بصعقة الطور". 5358 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تخيروا بين الأنبياء" وفي حديث ابن نمير عمرو بن يحيى، حدثني أبي. 5359 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتيت" وفي رواية هداب "مررت على موسى ليلة أسري بي، عند الكثيب الأحمر، وهو قائم يصلي في قبره". 5360 - عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مررت على موسى وهو يصلي في قبره" وزاد في حديث عيسى "مررت ليلة أسري بي".

فضل يونس عليه السلام 5361 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يعني الله تبارك وتعالى لا ينبغي لعبد لي (وقال ابن المثنى لعبدي) أن يقول: أنا خير من يونس بن متى عليه السلام" قال ابن أبي شيبة محمد بن جعفر عن شعبة. 5362 - عن أبي العالية قال: حدثني ابن عم نبيكم صلى الله عليه وسلم (يعني ابن عباس) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى" ونسبه إلى أبيه. 5363 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله من أكرم الناس؟ قال: "أتقاهم" قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: "فيوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله" قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: "فعن معادن العرب تسألوني؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا". 5364 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال كان زكرياء نجارا". 5365 - عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: إن نوفا البكالي يزعم أن موسى، عليه السلام. صاحب بني إسرائيل ليس هو موسى صاحب الخضر، عليه السلام. فقال: كذب عدو الله. سمعت أبي بن كعب يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قام موسى عليه السلام خطيبا في بني إسرائيل. فسئل أي الناس أعلم؟ فقال: أنا أعلم. قال: فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه. فأوحى الله إليه أن عبدا من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك. قال موسى: أي رب! كيف لي به؟ فقل له: احمل حوتا في مكتل. فحيث تفقد الحوت فهو ثم. فانطلق وانطلق معه فتاه، وهو يوشع بن نون. فحمل موسى عليه السلام

حوتا في مكتل، وانطلق هو وفتاه يمشيان حتى أتيا الصخرة. فرقد موسى عليه السلام وفتاه. فاضطرب الحوت في المكتل، حتى خرج من المكتل، فسقط في البحر. قال: وأمسك الله عنه جرية الماء حتى كان مثل الطاق. فكان للحوت سربا وكان لموسى وفتاه عجبا. فانطلقا بقية يومهما وليلتهما ونسي صاحب موسى أن يخبره. فلما أصبح موسى عليه السلام قال لفتاه: {آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا} قال: ولم ينصب حتى جاوز المكان الذي أمر به: {قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا} قال موسى: {ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا} قال: يقصان آثارهما حتى أتيا الصخرة. فرأى رجلا مسجى عليه بثوب. فسلم عليه موسى. فقال له الخضر: أنى بأرضك السلام؟ قال: أنا موسى. قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم. قال: إنك على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه. وأنا على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه. قال له موسى عليه السلام: {هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا قال إنك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا} قال له الخضر {فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا} قال: نعم. فانطلق الخضر وموسى يمشيان على ساحل البحر. فمرت بهما سفينة فكلماهم أن يحملوهما. فعرفوا الخضر، فحملوهما بغير نول. فعمد الخضر إلى لوح من ألواح السفينة فنزعه. فقال له موسى: قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها {لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا} ثم خرجا من السفينة. فبينما هما يمشيان على الساحل إذا غلام يلعب مع الغلمان. فأخذ الخضر برأسه فاقتلعه بيده، فقتله. فقال موسى {أقتلت نفسا زاكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا} قال: وهذه أشد من الأولى {قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه} يقول: مائل. قال الخضر بيده هكذا. فأقامه. قال له موسى: قوم أتيناهم فلم يضيفونا ولم يطعمونا {لو شئت لتخذت عليه أجرا قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يرحم الله موسى لوددت أنه كان صبر حتى يقص علينا من أخبارهما" قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كانت الأولى من موسى نسيانا" قال: "وجاء عصفور حتى وقع على حرف السفينة" ثم نقر في البحر. فقال له الخضر: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا

العصفور من البحر" قال: سعيد بن جبير: وكان يقرأ: وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا. وكان يقرأ: وأما الغلام فكان كافرا. 5366 - عن سعيد بن جبير قال: قيل لابن عباس: إن نوفا يزعم أن موسى الذي ذهب يلتمس العلم، ليس بموسى بني إسرائيل. قال: أسمعته يا سعيد؟ قلت: نعم؟ قال: كذب نوف. 5367 - عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه بينما موسى، عليه السلام، في قومه يذكرهم بأيام الله. وأيام الله نعماؤه وبلاؤه. إذ قال: ما أعلم في الأرض رجلا خيرا وأعلم مني. قال: فأوحى الله إليه. إني أعلم بالخير منه. أو عند من هو. إن في الأرض رجلا هو أعلم منك. قال: يا رب! فدلني عليه. قال فقيل له. تزود حوتا مالحا. فإنه حيث تفقد الحوت. قال: فانطلق هو وفتاه حتى انتهيا إلى الصخرة. فعمي عليه فانطلق وترك فتاه. فاضطرب الحوت في الماء فجعل لا يلتئم عليه. صار مثل الكوة. قال: فقال فتاه: ألا ألحق نبي الله فأخبره؟ قال: فنسي. فلما تجاوزا {قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا} قال ولم يصبهم نصب حتى تجاوزا. قال فتذكر {قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا قال ذلك ما كنا نبغي فارتدا على آثارهما قصصا} فأراه مكان الحوت. قال: ها هنا وصف لي. قال: فذهب يلتمس فإذا هو بالخضر. مسجى ثوبا، مستلقيا على القفا. أو قال على حلاوة القفا. قال: السلام عليكم. فكشف الثوب عن وجهه قال: وعليكم السلام. من أنت؟ قال: أنا موسى. قال: ومن موسى؟ قال: موسى بني إسرائيل. قال: مجيء ما جاء بك؟ قال: جئت لـ {تعلمني مما علمت رشدا قال إنك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا} شيء أمرت به أن أفعله إذا رأيته لم تصبر {قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها} قال: انتحى عليها. قال له موسى عليه السلام {أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا

قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا فانطلقا حتى إذا لقيا} غلمانا يلعبون قال: فانطلق إلى أحدهم بادي الرأي. فقتله. فذعر عندها موسى عليه السلام ذعرة منكرة {قال أقتلت نفسا زاكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذا المكان: "رحمة الله علينا، وعلى موسى، لولا أنه عجل لرأى العجب ولكنه أخذته من صاحبه ذمامة" {قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا} ولو صبر لرأى العجب. قال: وكان إذا ذكر أحدا من الأنبياء بدأ بنفسه "رحمة الله علينا وعلى أخي كذا رحمة الله علينا" {فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية} لئاما فطافا في المجالس ف {استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا قال هذا فراق بيني وبينك} وأخذ بثوبه. قال: {سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر} إلى آخر الآية. فإذا جاء الذي يسخرها، وجدها منخرقة، فتجاوزها، فأصلحوها بخشبة {وأما الغلام} فطبع يوم طبع كافرا، وكان أبواه قد عطفا عليه. فلو أنه أدرك أرهقهما طغيانا وكفرا {فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته} إلى آخر الآية. 5368 - عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ (لتخذت عليه أجرا). 5369 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري، في صاحب موسى عليه السلام. فقال ابن عباس: هو الخضر. فمر بهما أبي بن كعب الأنصاري. فدعاه ابن عباس فقال: يا أبا الطفيل، هلم إلينا. فإني قد تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى، الذي سأل السبيل إلى لقيه، فهل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه؟ فقال أبي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بينما موسى في ملإ من بني إسرائيل. إذ جاءه رجل فقال له: هل تعلم أحدا أعلم منك؟ قال موسى: لا. فأوحى الله إلى موسى بل عبدنا الخضر. قال: فسأل موسى السبيل إلى لقيه. فجعل الله له الحوت آية، وقيل له: إذا

افتقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه. فسار موسى ما شاء الله أن يسير. ثم قال لفتاه {آتنا غداءنا} فقال فتى موسى حين سأله الغداء {أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره} فقال موسى لفتاه {ذلك ما كنا نبغي فارتدا على آثارهما قصصا} فوجدا خضرا. فكان من شأنهما ما قص الله في كتابه" إلا أن يونس قال: فكان يتبع أثر الحوت في البحر. 5370 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن أبا بكر الصديق حدثه قال: نظرت إلى أقدام المشركين على رءوسنا، ونحن في الغار، فقلت: يا رسول الله! لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه. فقال: "يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما". -[المعنى العام]- يقول الله تعالى {الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس} [الحج: 75] فالرسل عليهم السلام صفوة بني آدم، لأنهم الوسطاء بين الله وبين خلقه، يبلغون عن الله ما يشاؤه جل شأنه، ومن شأن الوسيط أن يكون على صورة محبوبه، حتى يتقبله الطرف المأمور، صورة عالية كريمة شريفة خلقيا وخلقيا، وهكذا كانت الرسل في مناقبهم، ولكل رسول ميزة خاصة، لا يلزمها أن يكون أعلى من زملائه من الرسل، فالخصوصية لا تقتضي الأفضلية، كما يقولون، لكن بعضهم امتاز بخصوصيات تفوق خصوصيات سواه، ومع ذلك فلا يلزم أن يكون أعلى رتبة عند ربه، ومن هنا حرص صلى الله عليه وسلم أن يوصي بعدم المفاضلة بين الرسل، فقال: لا تفاضلوا بين الأنبياء، بل نهى أن تفضله أمته على أحد من الرسل، فقال: لا تفضلوني على الأنبياء، وذلك على الرغم مما أوحي إليه من أنه سيد ولد آدم، وعلى الرغم من أنه صلى الله عليه وسلم أعلن هذه السيادة لأصحابه، إذ فرق بين أن يكون الإنسان سيدا في نفسه، وبين أن يسيد نفسه، أو حبيبه في كل مجلس، فرق بين ثبوت صفات الفضل في ذاتها، وبين أن يتباهى بها أهلوها، فحين قال اليهودي: والذي فضل موسى على العالمين لطمه المسلم، وقال: وعلى محمد؟ وحين شكا اليهودي اللطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لام المسلم، وذكر أفضلية لموسى عليه السلام، وأنه أول من يفيق من الصعقة يوم القيامة، وقال: لا تفضلوني على موسى، حتى الرسول الذي لا نعرف له كثير ميزات كان صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نفضله عليه، فهو يقول: لا ينبغي لمسلم أن يقول: إن محمدا خير من يونس بن متى، وكان كثيرا ما يدفعه هذا التواضع إلى الثناء على غيره من الرسل، فحين سئل: من أكرم الناس؟ قال يوسف بن نبي الله يعقوب، ابن نبي الله إسحق، ابن نبي الله وخليله إبراهيم عليه السلام.

ومن هنا عنى علماء الإسلام بإبراز فضائل الرسل، عناية لا تقل عن عنايتهم بإبراز فضائل رسولهم، فأفاضوا في عرض خصائص موسى عليه السلام، وهم في ذلك سائرون على نهج القرآن الكريم، الذي أفاض في أحداث قصص موسى عليه السلام إفاضة لا تماثلها إفاضة لأحد من الرسل. وفي هذا الباب ذكر الإمام مسلم لموسى عليه السلام قصة الحجر الذي جرى بثيابه، لبراءة موسى مما اتهمه به قومه، وقصة ملك الموت، وما جرى له مع موسى، وقصة اليهودي الذي حلف برب موسى، وقصة رؤية محمد صلى الله عليه وسلم في إسرائه موسى عليه السلام يصلي، وقصة موسى مع الخضر عليهما السلام، وفي شرحهما ما يغني عن تكراره هنا. وزاد الإمام البخاري على ذلك قصة ندائه من جانب الطور، وقصة أمه، وقد أصبح فؤادها فارغا، وقصة شد عضده بأخيه هارون، وقصة وعد موسى ثلاثين ليلة، وقصة أمره قومه أن يذبحوا بقرة، وقصة احتجاج آدم وموسى بخصوص القدر والخطيئة. فصلى الله وسلم وبارك على جميع رسله، لا نفرق بين أحد منهم، ونحن لله مسلمون. -[المباحث العربية]- (كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة) أي جماعتهم وأكثرهم، أو بعضهم، كقوله تعالى {قالت الأعراب آمنا} [الحجرات: 14] والمراد يغتسلون جماعات في مكان واحد، فسر ذلك بقوله: (ينظر بعضهم إلى سوءة بعض) الظاهر أن ذلك كان غير محرم عندهم. (وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده) لئلا يرى سوءته أحد استحياء وأدبا. ففي الرواية الثانية "كان موسى عليه السلام رجلا حييا، قال: فكان لا يرى متجردا". (فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر) أي قال بعض بني إسرائيل المحيطون به، القريبون من حياته، في الرواية الثانية "قال: فقال بنو إسرائيل: إنه آدر" أي بعض بني إسرائيل، والآدر بهمزة ممدودة ثم دال مفتوحة، وهو عظيم الخصيتين، والأدرة بضم الهمزة وسكون الدال على المشهور، وبفتحتين أيضا فيما حكي، ورجح الأول وهو نفخة في الخصية، وعند البخاري "إن موسى كان رجلا حييا ستيرا، لا يرى من جلده شيء، استحياء منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما يستتر هذا التستر، إلا من عيب بجلده إما برص وإما أدرة، وإما آفة". (فذهب مرة يغتسل) حال مقدرة، أي يريد الاغتسال، في الرواية الثانية "فاغتسل عند مويه" فيه مجاز المشارفة، أي فأراد الاغتسال وأشرف عليه، و"مويه" بضم الميم، وفتح الواو، وإسكان الياء وهو تصغير ماء، وأصله "موه" والتصغير يرد الأشياء إلى أصولها. قال القاضي: وقع في معظم الروايات "مشربة" بفتح الميم وإسكان الشين، وهي حفرة في أصل النخلة، يجمع الماء فيها لسقيها، قال القاضي: وأظن الأول تصحيفا. (فوضع ثوبه على حجر) وفي رواية للبخاري "فخلا يوم وحده، فوضع ثيابه على الحجر"

وظاهره أنه خلع كل ثيابه قبل دخوله في الماء، وأنه دخل في الماء عريانا، وعليه بوب البخاري في الغسل "من اغتسل عريانا" لكن عند أحمد "أن موسى كان إذا أراد أن يدخل الماء لم يلق ثوبه، حتى يواري عورته في الماء" فالمراد من وضع ثوبه على الحجر وضع بعض ثيابه، ويساعد هذا المعنى رواية تنكير الثياب عند الكشميهني "فوضع ثيابا له" ونقل ابن الجوزي عن الحسن بن أبي بكر النيسابوري أن موسى نزل إلى الماء مؤتزرا، فلما خرج تتبع الحجر، والمئزر مبتل بالماء، فعلموا عند رؤيته أنه غير آدر، لأن الأدرة تظهر تحت الثوب المبلول بالماء. قال الحافظ ابن حجر: هذا القول محتمل، لكن المنقول خلافه. (ففر الحجر بثوبه) في الرواية الثانية "فانطلق الحجر يسعى" وبينت رواية البخاري أن انطلاق الحجر كان بعد أن اغتسل موسى، ولفظها "فوضع ثيابه على الحجر، ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها وإن الحجر عدا بثوبه" وفيها "وإن الله أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى". (فجمح موسى بأثره، يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر) "جمح" بالحاء، أي ذهب مسرعا إسراعا بليغا وروي "فخرج" ومعنى "ثوبي حجر" دع ثوبي يا حجر، أو أعطني ثوبي يا حجر وعند البخاري "ثوبي يا حجر" ومخاطبة الحجر أمر عادي يحصل عند الدهشة، كأنه كلام نفسي، أو أنه أجراه مجرى من يعقل، لكونه فر بثوبه، فانتقل عنده من حكم الجماد إلى حكم من يعقل، فناداه، فلما لم يعطه ضربه، وقريب من هذا قول بعضهم: يحتمل أنه كان يعتقد أن في الحجر تمييزا، يدرك به النداء، بقدرة الله، وعند البخاري "فأخذ موسى عصاه، وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجر. ثوبي حجر" (حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوءة موسى، فقالوا: والله ما بموسى من بأس، فقام الحجر بعد، حتى نظر إليه، قال: فأخذ ثوبه، فطفق بالحجر ضربا) "ضربا" منصوب على المصدر، أي يضربه ضربا وفي رواية للبخاري "حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل، فرأوه عريانا، أحسن ما خلق الله، وأبرأه مما يقولون، وقام الحجر، فأخذ ثوبه فلبسه، وطفق بالحجر ضربا بعصاه" وظاهره أنهم رأوا جسده، وترتيب الأحداث على هذا واضح، فضرب موسى للحجر كان بعد أن وقف الحجر، وأخذ موسى ثيابه ولبسها، فروايتنا الثانية، في قولها "واتبعه موسى بعصاه، يضربه، ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى وقف على ملأ من بني إسرائيل" فيها تقديم وتأخير، إذ لو تمكن موسى من ضرب الحجر لتمكن من أخذ ثيابه، قبل الوقوف على بني إسرائيل. قال ابن الجوزي: والذي يظهر أنه استمر يتتبع الحجر على ما في الخبر، حتى وقف على مجلس لبني إسرائيل، كان فيهم من قال فيه من قال، وبهذا تظهر الفائدة، وإلا فلو كان الوقوف على قوم منهم في الجملة لم يقع ذلك الموقع اهـ. وعند ابن مردويه وابن خزيمة "فقالت بنو إسرائيل: قاتل الله الأفاكين، وكانت براءته" (قال أبو هريرة: والله إنه بالحجر ندب، ستة أو سبعة، ضرب موسى عليه

السلام بالحجر) الندب بفتح النون والدال أصله الجرح إذا لم يرتفع عن الجلد، والمراد أن عصا موسى أثرت في الحجر، تأثيرا ظاهرا، ست علامات أو سبعا، وليس هذا بغريب على عصا موسى عليه السلام. (ونزلت: {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها} [الأحزاب: 69]) وفي رواية للبخاري "فذلك قوله تعالى ... " وظاهر هذه الرواية أن ذكر الآية مع القصة من كلام أبي هريرة واجتهاده، لكن في رواية له عند ابن مردويه، قال: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا} الآية قال: إن بني إسرائيل كانوا يقولون: إن موسى آدر .. فذكر نحو الحديث السابق. مما يفيد أن سبب النزول مرفوع، لكن روى أحمد بن منيع في مسنده بإسناد حسن والطحاوي وابن مردويه أن الآية المذكورة نزلت في طعن بني إسرائيل على موسى بسبب هارون، لأنه توجه معه إلى زيارة، فمات هارون، فدفنه موسى، فطعن فيه بعض بني إسرائيل، وقالوا: أنت قتلته، فبرأه الله تعالى بأن رفع لهم جسد هارون، وهو ميت فخاطبهم بأنه مات" قال الحافظ ابن حجر: وفي الإسناد ضعف، ولو ثبت لم يكن فيه ما يمنع أن يكون في الفريقين معا، ففي كل منهما أوذي موسى، فبرأه الله مما قالوا، والله أعلم. (أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام) "أرسل" مبني للمجهول، أي أرسله ربه، في الرواية الرابعة "جاء ملك الموت إلى موسى عليه السلام فقال له: أجب ربك" أي للموت وعند أحمد والطبري "كان ملك الموت يأتي الناس عيانا، فأتى موسى ... " والرواية الثالثة موقوفة، لكن الرابعة مرفوعة. (فلما جاءه صكه، ففقأ عينه) أي فلما جاءه، وأخبره بموته، كره الموت، فلطمه، وفقء عين الملك قيل على الحقيقة، وأن الله أذن لموسى في هذه اللطمة، امتحانا للمكلوم، والله سبحانه وتعالى يفعل في خلقه ما يشاء، ويمتحنهم بما أراد، ورد الله إلى ملك الموت عينه البشرية، ليرجع إلى موسى، على كمال الصورة، فيكون ذلك أقوى في اعتباره، قال ابن عقيل: يجوز أن يكون موسى أذن له أن يفعل ذلك بملك الموت، وأمر ملك الموت بالصبر على ذلك. وقال ابن قتيبة: إنما فقأ موسى العين التي هي تخييل وتمثيل، وليست عينا حقيقية، ومعنى رد الله عينه أعاده إلى خلقته الحقيقية. وقال بعض العلماء: إن هذا على المجاز، والمراد أن موسى ناظره وحاجه، فغلبه بالحجة، ويقال: فقأ فلان عين فلان، إذا غالبه بالحجة، ويقال: عورت الشيء إذا أدخلت فيه نقصا، قال المازري: وفي هذا القول ضعف، قوله صلى الله عليه وسلم "فرد الله عينه" قال النووي: فإن قيل: أراد رد حجته كان بعيدا. وقال بعض العلماء: إن موسى عليه السلام لم يعلم أنه ملك من عند الله، وظن أنه رجل قصده، يريد نفسه، فدافعه، فأدت المدافعة إلى فقء العين، لا أنه قصدها بالفقء، قال النووي: وتؤيده رواية "صكه" وهذا جواب ابن خزيمة وغيره من المتقدمين، واختاره المازري والقاضي عياض، قالوا: وليس

في الحديث تصريح بأنه تعمد فقء عينه، قال النووي: فإن قيل: فقد اعترف موسى حين جاءه ثانيا بأنه ملك الموت؟ فالجواب أنه أتاه في المرة الثانية بعلامة، علم بها أنه ملك الموت، فاستسلم، بخلاف المرة الأولى. أقول: وهذا بعيد أيضا، فالملائكة لا تحكمهم الصورة، والمختار عندي أنه خيل لموسى أنه فقأ عين ملك الموت، كما خيل إليه حين رآه في المرة الثانية أن الله رد له عينه، أو الكلام على التشبيه، أي فكأنه فقأ عينه، وكأن الله رد إليه عينه، وسيأتي مزيد لهذه المسألة في فقه الحديث. (أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت) في الرواية الرابعة "إنك أرسلتني إلى عبد لك، لا يريد الموت، وقد فقأ عيني" وفي رواية "قال: يا رب، عبدك موسى فقأ عيني، ولولا كرامته عليك لشققت عليه" (ارجع إليه، فقيل له: يضع يده على متن ثور، فله بما غطت يده بكل شعرة سنة) في الرواية الرابعة "ارجع إلى عبدي، فقل: الحياة تريد؟ "والكلام على الاستفهام، و"الحياة" مفعول مقدم "فإن كنت تريد الحياة، فضع يدك على متن ثور، فما توارت" أي فما غطت "يدك من شعره، فإنك تعيش بها سنة" والمتن بفتح الميم وسكون التاء الظهر. (قال: أي رب، ثم مه؟ قال: ثم الموت) في الرواية الرابعة "قال: ثم مه؟ قال: ثم الموت" وفي الكلام طي، تقديره، فرجع ملك الموت إلى موسى، فقال له ما قال ربه، فقال موسى مناجيا ربه. يا رب، ثم ماذا بعد هذه السنين؟ قال له ربه. ثم الموت يقع. و"مه" هي "ما" الاستفهامية، دخل عليها هاء السكت. (قال: فالآن) الفاء في جواب شرط مقدر، أي إذا كانت النهاية الموت لا محالة فالمختار عندي الموت الآن، وفي الرواية الرابعة "فالآن من قريب". (فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر) وفي الرواية الرابعة "رب أمتني" بفتح الهمزة وكسر الميم وسكون التاء، أي قريبا "من الأرض المقدسة رمية بحجر" أي مسافة رمية بحجر، وفي بعض النسخ "رب أدنني" بالدال ونونين. (فلو كنت ثم لأريتكم قبره، إلى جانب الطريق، تحت الكثيب الأحمر) في الرواية الرابعة "عند الكثيب الأحمر" وهو التل من الرمال الحمراء. وزعم ابن حبان أن قبر موسى بمدين، بين المدينة وبيت المقدس، وتعقبه الضياء بأن أرض مدين ليست قريبة من المدينة، ولا من بيت المقدس، قال: وهذا اشتهر عن قبر بأريحا، عنده كثيب أحمر، أنه قبر موسى "وأريحا" من الأرض المقدسة. وفي بعض الروايات "فشمه شمة، تقبض روحه، وكان يأتي الناس خفية" أي وصار يأتي خفية "لقبض الأرواح قيل: عاش مائة وعشرين سنة". (بينما يهودي يعرض سلعة له، أعطي بها شيئا كرهه - أو لم يرضه) قال

الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسم هذا اليهودي في هذه القصة، وزعم بعضهم أنه فنحاص - بكسر الفاء وسكون النون - وعزاه لابن إسحاق، والذي ذكره ابن إسحق لفنحاص مع أبي بكر الصديق في لطمه إياه، قصة أخرى، في نزول قوله تعالى {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء} [آل عمران: 181]. (قال: لا. والذي اصطفى موسى- عليه السلام - على البشر) "لا" متضمنة معنى جملة، أي لا أبيع. وفي الرواية السادسة "والذي اصطفى موسى على العالمين" زاد البخاري "في قسم يقسم به". (فسمعه رجل من الأنصار، فلطم وجهه) في الرواية السادسة "فرفع المسلم يده عند ذلك. فلطم وجه اليهودي" "عند ذلك" أي عند سماعه قول اليهودي، وإنما صنع ذلك لفهمه من عموم لفظ "العالمين" دخول محمد صلى الله عليه وسلم فيه، وقد تقرر عنده أن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل، وعند سفيان بن عيينة في جامعه، وابن أبي الدنيا في كتاب البعث، عن سعيد بن المسيب قال: "كان بين رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وبين رجل من اليهود كلام في شيء" قال عمرو بن دينار: هو أبو بكر الصديق، وهذا القول يتنافى مع روايتنا "من الأنصار" اللهم إلا أن يراد من الأنصار المعنى الأعم، أي الذين ناصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر أهم وأول من ناصر. (تقول: والذي اصطفى موسى على البشر؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا؟ ) وفي الرواية السادسة "فقال المسلم: والذي اصطفى محمدا صلى الله عليه وسلم على العالمين، وقال اليهودي: والذي اصطفى موسى عليه السلام على العالمين" فيحتمل أنها استبا بعد حلف اليهودي، فحلف كل منهما، فكان حلف اليهودي بعد حلف المسلم، وفي رواية "قال المسلم: أي خبيث. على محمد؟ " أي فضل موسى على محمد؟ (فذهب اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أبا القاسم، إن لي ذمة وعهدا، وقال: فلان لطم وجهي) وفي الرواية السادسة "فذهب اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بما كان من أمره وأمر المسلم". (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم لطمت وجهه؟ ) معطوف على محذوف، أي فدعا المسلم، فقال له ... إلخ، ففي رواية "فدعا النبي صلى الله عليه وسلم المسلم، فسأله عن ذلك، فأخبره" وفي رواية "فقال ادعوه لي، فجاء، فقال: أضربته"؟ (لا تفضلوا بين أنبياء الله) وفي الرواية السادسة "لا تخيروني على موسى" وفي ملحق الرواية السادسة "لا تخيروا بين الأنبياء". (ثم ينفخ فيه أخرى، فأكون أول من بعث - أو في أول من بعث - فإذا موسى عليه السلام أخذ بالعرش، فلا أدري. أحوسب بصعقته يوم الطور؟ أو بعث قبلي؟ ) وفي الرواية السادسة "فإن الناس يصعقون فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش بجانب العرش، فما أدري، أكان فيمن صعق، فأفاق قبلي؟ أم كان ممن استثنى الله"؟ وفي رواية "فإن الناس يصعقون

يوم القيامة، فأصعق معهم" قال العلماء: المراد بالصعق غشي يلحق من سمع صوتا، أو رأى شيئا يفزع منه، قال الحافظ ابن حجر: وهذه الرواية "ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول من بعث" ظاهر في أن الإفاقة بعد النفخة الثانية، وأصرح منها رواية "إني أول من يرفع رأسه بعد النفخة الأخيرة" قال: وأما ما وقع في حديث أبي سعيد "فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من تنشق عنه الأرض" فهو وهم من الرواة - كما قال المحققون - والصواب ما وقع في رواية غيره "فأكون أول من يفيق" وأن كونه صلى الله عليه وسلم أول من تنشق عنه الأرض صحيح، لكنه في حديث آخر، ليس في قصة موسى، قال: ويمكن الجمع بأن النفخة الأولى يعقبها الصعق من جميع الخلق، أحيائهم وأمواتهم، وهو الفزع، ثم يعقب ذلك الفزع للموتى زيادة فيما هم فيه، وللأحياء موتا، ثم ينفخ الثانية للبعث، فيفيقون أجمعون، فمن كان مقبورا انشقت عنه الأرض، فخرج من قبره، ومن ليس بمقبور لا يحتاج إلى ذلك، وقد ثبت أن موسى ممن قبر في الحياة الدنيا. قال الحافظ ابن حجر: وقد استشكل كون جميع الخلق يصعقون - أي يغشى عليهم من الفزع - مع أن الموتى لا إحساس لهم، فقيل: المراد أن الذين يصعقون هم الأحياء، وأما الموتى فهم في الاستثناء في قوله {ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله} [الزمر: 68] أي إلا من سبق له الموت قبل ذلك، فإنه لا يصعق، وإلى هذا جنح القرطبي، ولا يعارضه ما ورد في هذا الحديث أن موسى ممن استثنى الله، لأن الأنبياء أحياء عند الله، وإن كانوا في صورة الأموات بالنسبة إلى أهل الدنيا، وقد ثبت ذلك للشهداء، ولا شك أن الأنبياء أرفع رتبة من الشهداء، وورد التصريح بأن الشهداء ممن استثنى الله، وقال عياض: يحتمل أن يكون المراد صعقة فزع بعد البعث، حين تنشق السماء والأرض، وتعقبه القرطبي بأنه صلى الله عليه وسلم صرح بأنه حين يخرج من قبره يلقى موسى، وهو متعلق بالعرش، وهذا إنما يكون عند نفخة البعث، اهـ. قال الحافظ ابن حجر: ويرده قوله صريحا - كما تقدم - "إن الناس يصعقون، فأصعق معهم" إلى آخر ما تقدم، قال: ويؤيده أنه عبر بقوله "أفاق" لأنه إنما يقال: أفاق من الغشي، وبعث من الموت، وكذا عبر عن صعقة الطور بالإفاقة، لأنها لم تكن موتا بلا شك، وإذا تقرر ذلك كله ظهر صحة الحمل على أنها غشية، تحصل للناس في الموقف. اهـ. وقوله في الرواية السادسة "فإذا موسى باطش بجانب العرش" أي آخذ بجانب من العرش بقوة، والبطش الأخذ بقوة، أما قوله في الرواية الخامسة "فإذا موسى آخذ بالعرش" أي آخذ ببعض قوائم العرش، ففي رواية "آخذ بقائمة من قوائم العرش". (مررت على موسى، وهو يصلي في قبره) يراجع شرح هذا في كتاب الإيمان، من كتابنا. (ولا أقول: إن أحدا أفضل من يونس بن متى عليه السلام) كذا في الرواية الخامسة، وفي الرواية السابعة والثامنة "يقول الله تبارك وتعالى: لا ينبغي لعبد لي - أو لعبدي - أن يقول: أنا خير من يونس ابن متى، عليه السلام" وفي رواية البخاري "لا يقولن أحدكم إني خير من يونس" والضمير في "إني" للرسول صلى الله عليه وسلم. وارتباط النهي عن تفضيله صلى الله عليه وسلم بالكلام عن موسى إنما هو ارتباط النهي عن

التفضيل مطلقا، حتى عن يونس عليه السلام، الذي قال الله تعالى في شأنه {فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم} [القلم: 48] مغموم {لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم} [القلم: 49] لكنه نبذ غير مذموم. (ونسبه إلى أبيه) من كلام الراوي، أي نسبه صلى الله عليه وسلم إلى أبيه فقال: يونس بن فلان، ولم ينسبه إلى "متى" لأن "متى" اسم أمه، وهذا محكي عن وهب بن منبه، وذكره الطبري، وتبعه ابن الأثير في الكامل، وكأن الراوي نسي اسم أبيه الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذا قيل: وهو بعيد، والصحيح ما في الصحيح أنه يونس بن متى، وكأن الراوي بهذه الجملة يرد على القول الأول، ويقول: ونسبه إلى أبيه متى. (من أكرم الناس؟ قال: أتقاهم) أصل الكرم كثرة الخير، وقد فهم صلى الله عليه وسلم أن السؤال عن أكمل الكرم وأعمه، فأجاب بالأتقى، أخذا من قوله تعالى {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات: 13] ومن كان متقيا كان كثير الخير، وكثير الفائد في الدنيا، وصاحب الدرجات العلى في الآخرة. (ليس عن هذا نسألك)، ظن صلى الله عليه وسلم أنهم يسألون عن شخصية جامعة لمكارم الأخلاق، فأجاب بقوله: (فيوسف نبي الله، ابن نبي الله، ابن نبي الله، ابن خليل الله) فهو ابن ثلاثة أنبياء، متناسلين، فهو ابن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم، وانضم إلى هذا الشرف علم الرؤيا، وتمكنه فيه، ورياسة الدنيا، وملكها بالسيرة الجميلة، وحياطته الرعية، وعموم نفعه إياهم، وشفقته عليهم، وإنقاذه إياهم من تلك السنين، والفاء في جواب شرط مقدر، أي إذا كنتم لا تقصدون الأكرم بالمعنى الذي ذكرته، فيوسف، وينطق بضم السين وكسرها وفتحها، مع الهمز على الواو وتركه، فهذه ستة أوجه. (ليس عن هذا نسألك) ففهم صلى الله عليه وسلم أنهم يسألون عن قبائل العرب، فقال: - (فعن معادن العرب تسألوني؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) ومعناه: إن كنتم تسألون عن أصول العرب فأصحاب المروءات ومكارم الأخلاق في الجاهلية، إذا أسلموا وفقهوا فهم خيار الناس. (كان زكريا نجارا) أي فكان يأكل من عمل يده، وهو فضيلة، و"زكريا" فيها خمس لغات، المد والقصر، وزكري بالتشديد، والتخفيف و"زكر" كعلم. وزكريا والد يحيى، ويحيى وعيسى ابن مريم ابنا خالة، قال ابن إسحاق: كان زكريا وابنه آخر من بعث من بني إسرائيل، قبل عيسى، وقال أيضا: أراد بنو إسرائيل قتل زكريا، ففر منهم، فمر بشجرة، فانفلقت له، فدخل فيها، فالتأمت عليه فأخذ الشيطان بهدبة ثوبه، فرأوها، فوضعوا المنشار على الشجرة، فنشروها، حتى قطعوه من وسطه في جوفها، وكذلك قتلوا يحيى، وكان ذلك قبل أن يرفع عيسى عليهم السلام. (إن نوفا البكالي) قال النووي: هكذا ضبطه الجمهور، بكسر الباء، وفتح الكاف مخففة، رواه

بعضهم بفتح الباء، وتشديد الكاف، قال القاضي: هذا الثاني: هو ضبط أكثر الشيوخ وأصحاب الحديث، قال: والصواب الأول، وهو قول المحققين، وهو منسوب إلى بني بكال، بطن من حمير، وقيل من همدان، ونوف هذا هو ابن امرأة كعب الأحبار، وقيل: ابن أخيه، والمشهور الأول، قاله ابن أبي حاتم وغيره، وكان عالما حكيما قاضيا، وإماما لأهل دمشق، وضبطه العلماء بفتح النون، وسكون الواو، بعدها فاء، قال الحافظ ابن حجر: وهو تابعي صدوق. (ليس هو موسى صاحب الخضر) روى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما سمي الخضر" بفتح الخاء وكسر الضاد - لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتز من خلفه خضراء" زاد عبد الرزاق في مصنفه "الفرو الحشيش الأبيض، وما أشبهه" قال عبد الله بن أحمد بعد أن رواه عن أبيه: أظن هذا تفسيرا من عبد الرزاق. اهـ. وجزم بذلك القاضي عياض، وقال ابن الأعرابي: الفروة أرض بيضاء، ليس فيها نبات، وبهذا جزم الخطابي ومن تبعه، وحكي عن مجاهد أنه قيل له الخضر، لأنه كان إذا صلى اخضر ما حوله، وقد اختلف في اسمه واسم أبيه، وفي نسبه، وفي نبوته، وفي تعميره، فقال وهب بن منبه، هو بليا، بفتح الباء، وسكون اللام، وقيل بزيادة ألف بعد الباء، وقيل: إلياس، وقيل: اليسع، وقيل: عامر، وقيل: خضرون، والأول أثبت. وهو ابن ملكان بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفشخذ بن سام بن نوح، فعلى هذا فمولده قبل إبراهيم الخليل، لأنه يكون ابن عم جد إبراهيم، وقيل: كان بعد عهد إبراهيم، وقيل ابن آدم لصلبه، وقيل: ابن قابيل، وقيل: ابن فرعون، وقيل: ابن بنت فرعون، وقيل: كان أبوه فارسيا، وقيل: إنه الذي أماته الله، ثم بعثه بعد مائة عام، فلا يموت حتى ينفخ في الصور، أقوال كثيرة لا سند لها يعتد به. أما عن نبوته فعند أكثر أهل العلم أنه نبي، ثم اختلفوا: هل هو رسول أم لا؟ وقالت طائفة منهم القشيري هو ولي. وفي الرواية الثانية عشرة "إن نوفا يزعم أن موسى الذي ذهب يلتمس العلم ليس بموسى بني إسرائيل. قال: أسمعته يا سعيد؟ قلت: نعم. قال: كذب نوف" وفي رواية للبخاري "إن بالكوفة رجلا قاصا، يقال له: نوف يزعم ... إلخ". (كذب عدو الله) قال النووي: قال العلماء: هو على وجه الإغلاظ والزجر عن مثل قوله، لا أنه يعتقد أنه عدو الله حقيقة، إنما قاله مبالغة في إنكاره قوله، لمخالفته قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك في حال غضب ابن عباس، لشدة إنكاره، وحال الغضب تطلق الألفاظ، ولا يراد بها حقيقتها. (قام موسى عليه السلام خطيبا في بني إسرائيل، فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا أعلم) وفي الرواية الثالثة عشرة "إنه بينما موسى عليه السلام في قومه، يذكرهم بأيام الله - وأيام الله نعماؤه وبلاؤه - إذ قال: ما أعلم في الأرض رجلا خير - أو أعلم - مني" وفي رواية للبخاري "بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل، جاءه رجل، فقال: هل تعلم أحدا أعلم منك؟ قال: لا" وفي رواية للبخاري "ذكر الناس يوما، حتى إذا فاضت العيون، ورقت القلوب ولى، فأدركه رجل، فقال .. ". (قال: فعتب الله عليه، إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه: أن عبدا من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك) في الرواية الثالثة عشرة "فأوحى الله إليه:

إني أعلم بالخير منه، أو عند من هو؟ إن في الأرض رجلا، هو أعلم منك" أي كان حقه أن يقول: والله أعلم، فيرد العلم لله. "ومجمع البحرين" ملتقاهما، قيل: هما بحر فارس والروم، والمراد مكان يقرب من التقائهما، وإلا فهما لا يلتقيان إلا في البحر المحيط، وهما شعبتان منه، قيل: عند طنجة، قيل: الكر والرس بأرمينية. (قال موسى: أي رب. كيف لي به؟ ) في الرواية الثالثة عشرة "قال: يا رب، فدلني عليه" وفي رواية للبخاري "فسأل موسى السبيل إليه". (فقيل له: احمل حوتا في مكتل، فحيث تفقد الحوت، فهو ثم) بفتح الثاء، أي هناك، والحوت السمكة وكانت السمكة مالحة، ففي الرواية الثالثة عشرة "تزود حوتا مالحا" والمكتل بكسر الميم وسكون الكاف وفتح التاء هو القفة والزنبيل، وفي رواية للبخاري "تأخذ حوتا، فتجعله في مكتل، حيثما فقدت الحوت فهو ثم" وفي رواية أخرى له "فجعل له الحوت آية، وقيل له: إذا فقدت الحوت فارجع، فإنك ستلقاه". (فانطلق، وانطلق معه فتاه، وهو يوشع بن نون، فحمل موسى عليه السلام حوتا في مكتل، وانطلق هو وفتاه يمشيان، حتى أتيا الصخرة، فرقد موسى عليه السلام وفتاه، فاضطرب الحوت في المكتل، حتى خرج من المكتل، فسقط في البحر) ومعنى "فتاه" صاحبه. و"نون" مصروف، مثل نوح. وفي الرواية الثالثة عشرة "حتى انتهيا إلى الصخرة، فعمي عليه، فانطلق وترك فتاه، فاضطرب الحوت في الماء، فجعل" الماء "لا يلتئم عليه" أي لا يغطيه و"صار مثل الكوة" أي الفتحة أو الفجوة. (وأمسك الله عنه جرية الماء) فبقي في فجوة ظاهرا، والجرية بكسر الجيم. (فكان مثل الطاق) كوة تتخذ في الحائط، غير نافذة توضع فيها الأشياء. (فكان للحوت سربا) أي مسلكا، كالسرب، وهو النفق. (وكان لموسى وفتاه عجبا) أي بعد أن رجعا إلى المكان ورأياه، فهذا الكلام مقدم من تأخير. (فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، ونسي صاحب موسى أن يخبره، فلما أصبح موسى عليه السلام قال لفتاه: {آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا}) في الرواية الثالثة عشرة "فجعل" الماء لا يلتئم عليه، صار مثل الكوة، فقال فتاه: ألا ألحق نبي الله فأخبره؟ قال: فنسي "وفي القرآن الكريم {فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما} أي حال حوتهما، أي نسي موسى وجوده أو عدم وجوده في المكتل، ونسي فتاه أن يخبر موسى بوقوعه في البحر، وقيل: إن الناسي هو فتاه لا غير، نسي أن يخبر موسى بخبر الحوت، والشيء قد ينسب إلى الجماعة، وإن كان الذي فعله واحدا. ({قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره}) أي وما أنساني ذكر أمره لك إلا الشيطان.

{قال ذلك ما كنا نبغ} أي نطلب، معناه أن الذي جئنا نطلبه هو الموضع الذي نفقد فيه الحوت. ({فارتدا على آثارهما قصصا}) أي ارتدا في طريقهما الذي جاءا منه، يقصانه قصصا، أي يتبعانه اتباعا، زاد في الرواية الثالثة عشرة "فأراه مكان الحوت، قال: ها هنا وصف لي، فذهب يلتمس". (فرأى رجلا مسجى عليه بثوب، فسلم عليه موسى) أي مغطى عليه بثوب، وفي الرواية الثالثة عشرة "فإذا هو بالخضر، مسجى ثوبا، مستلقيا على القفا - أو قال: على حلاوة القفا - قال: السلام عليكم" (فقال له الخضر: أنى بأرضك السلام)؟ أي كيف يأتي السلام من أرضك؟ فالاستفهام للتعجب، أي هذه التحية عجيبة بأرضك، ويحتمل أن يكون المعنى من أين هذا الكلام بأرضك؟ فهي ظرف مكان. وفي رواية لابن أبي حاتم "فرأى الخضر، وعليه جبة من صوف، وكساء من صوف، ومعه عصا، قد ألقى عليها طعامه". (قال: أنا موسى. قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم) في الرواية الثالثة عشرة "قال: السلام عليكم، فكشف الثوب عن وجهه، قال: وعليكم السلام. من أنت؟ قال: أنا موسى. قال: ومن موسى؟ قال: موسى بني إسرائيل، قال: مجيء ما، جاء بك" أي سبب ما جاء بك؟ قال: جئت لتعلمني مما علمت رشدا" أي علما ذا رشد، وإصابة للخير. (قال إنك على علم من علم الله، علمكه الله، لا أعلمه، وأنا على علم من علم الله، علمنيه، لا تعلمه، قال له موسى عليه السلام: {هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا}) وروي "أن الخضر استوى جالسا، لما عرف أنه موسى، ثم قال: يا موسى، أما يكفيك أن التوراة بيدك؟ وأن الوحي يأتيك؟ قال موسى: إن ربي أرسلني إليك لأتبعك، وأتعلم من علمك". ({قال إنك لن تستطيع معي صبرا* وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا}) زاد في الرواية الثالثة عشرة، "شيء أمرت به أن أفعله، إذا رأيته لم تصبر"؟ أكد عدم صبره بـ "إن" وبلن، وعدل عن "لن تصبر" إلى "لن تستطيع" ونكر "صبرا" في سياق النفي، لإفادة العموم، أي لن تستطيع معي صبرا، أي صبر، مهما قل، وعلل ذلك بأنه عليه السلام يتولى أمورا خفية المراد، منكرة الظواهر، والرجل الصالح لا سيما صاحب الشريعة، لا يتمالك أن يشمئز عند مشاهدتها، وكأنه علم مع ذلك حدة موسى عليه السلام، ومزيد غيرته التي أوصلته إلى أن يأخذ برأس أخيه، يجره إليه. ({قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا}) حذف التعليق على المشيئة في معصية الأمر اكتفاء بذكره في الصبر، وهو مراد، وقيل: علق في الصبر فصبر ثلاث حوادث، ولم يعلق في الطاعة وعدم المعصية، فاعترض وأنكر من أول حادثة. (قال له الخضر: {قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه

ذكرا} قال: نعم) أي لا تسألني عن سر شيء تشاهده - فضلا عن المناقشة، والاعتراض والإنكار - حتى أبتدئك ببيانه. ({فانطلقا}) أي موسى والخضر، عليهما السلام، ولم يضم إليهما يوشع لأنه تابع، وقيل: رده موسى عليه السلام إلى بني إسرائيل، وفي رواية "أنهما انطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهما سفينة، فكلموهم أن يحملوهما، فعرفوا الخضر، فحملوهما من غير أجر". ({حتى إذا ركبا في السفينة خرقها}) روي أنهما لما ركبا في السفينة أخرج الخضر من مكتله القدوم، أو مثقابا ومطرقة، وانتحى ناحية عنهم وخرق خرقا، وضع عليه لوحا، وجلس عليه. ({قال: أخرقتها لتغرق أهلها؟ لقد جئت شيئا إمرا}) أي فظيعا منكرا، واللام في "لتغرق" لام العاقبة، وقيل للتعليل، روي أن موسى عليه السلام اشتد غضبا، وشد على الخضر ثيابه، وأراد أن يقذف به في البحر، وهو يقول: أردت هلاكهم؟ فستعلم أنك أول هالك. ({قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا}؟ ) والاستفهام تقريري، أي قر بأنك لن تستطيع معي صبرا. ({قال لا تؤاخذني بما نسيت}) أي لا تؤاخذني على إنكاري المتسبب عن نسياني الوصية. ({ولا ترهقني من أمري عسرا}) أي لا تحملني من اتباعي لك صعوبة، ويسر على المتابعة بالإغضاء عما وقع مني، فقبل عذره، وجنحت السفينة إلى الشاطئ لإصلاحها، ونزلا منها. ({فانطلقا}) يمشيان على الشاطئ، فمرا بقرية. ({حتى إذا لقيا غلاما فقتله}) روي أنه كان يلعب مع الغلمان، وكانوا على ما قيل عشرة، وأنه لم يكن فيهم أحسن منه ولا أنظف، وروي أنه ضرب رأسه بالجدار فقتله، وقيل: اقتلع رأسه، وقيل: ذبحه بالسكين، قيل: كان بالغا، وقيل لم يكن بالغا، وفي الرواية الثالثة عشرة "فانطلقا، حتى إذا لقيا غلمانا يلعبون، قال: فانطلق إلى أحدهم، بادي الرأي، فقتله، فذعر عندها موسى عليه السلام، ذعرة منكرة". ({قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا}) أي نفسا طاهرة من الذنوب، بغير قصاص لك عليه، و"نكرا" بضم النون وسكون الكاف، أي منكرا جدا. ({قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا} قال: وهذه أشد من الأولى) زاد في الرواية الثالثة عشرة "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - عند هذا المكان - من القصة رحمة الله علينا وعلى موسى، لولا أنه عجل لرأى العجب، ولكنه أخذته من صاحبه ذمامة" بفتح الذال، أي حياء، وإشفاق من اللوم "ولو صبر لرأى العجب" قال الراوي: "وكان صلى الله عليه وسلم إذا ذكر أحد من الأنبياء بدأ بنفسه: رحمة الله علينا، وعلى أخي كذا رحمة الله علينا". ({قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا}) أي إن

سألتك عن شيء تفعله من الأعاجيب بعد هذه المرة فلا تصحبني معك، قد بلغت إلى الغاية التي تعذر بسببها في فراقي، حيث خالفتك مرة بعد مرة. ({فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها}) قيل: القرية هي أنطاكية، وقيل: هي الأيلة، والمعنى استطعما بعض أهلها، أي طلبا طعاما، ولم يطلبوا ضيافة. وفي الرواية الثالثة عشرة "حتى إذا أتيا أهل قرية لئاما، فطافا في المجالس، فاستطعما أهلها". ({فأبوا أن يضيفوهما}) أي أبوا مجرد إيوائهما، فضلا عن إطعامهما. ({فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه}) قيل: هدمه، فبناه، وفي الكلام مجاز لأن الجدار لا إرادة له. وقيل: وجده مائلا، فقال له الخضر بيده هكذا. فأقامه، قال القرطبي: كونه مسحه بيده فأقامه هو الصحيح، وهو أشبه بأحوال الأنبياء عليهم السلام، واعترض بأنه غير ملائم لما بعد، إذ لا يستحق بمثله الأجر. ({قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا}) أي قال موسى عليه السلام ذلك تحريضا للخضر عليه السلام، وحثا على أخذ الأجرة، لحاجتهما إليها، وقيل: قاله تعريضا بأن فعله ذلك ليس في محله. ({قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا}) زاد في الرواية الثالثة عشرة "وأخذ بثوبه". (وجاء عصفور) مجيئه مناسب لأن يكون بعد كشف السر، لكن السفينة كانت في أول الرحلة. ({أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها}) أي كانت لضعفاء، لا يقدرون على مدافعة الظلمة، أي كانت لهم ملكا، أو عارية، أو كانوا أجراء، واللام للاختصاص، يتعيشون منها، فأردت أن أجعلها ذات عيب، ولم أرد إغراق من بها، كما حسبت. ({وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا}) أي يأخذ كل سفينة صالحة غصبا يسخرها، أي فوجدها الملك معيبة، فتركها، فأصلحوها بقطعة خشب، وتكسبوا عليها. ({وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا}) في الرواية الثالثة عشرة "وأما الغلام فطبع يوم طبع كافرا، وكان أبواه قد عطفا عليه، فلو أنه أدرك أرهقهما طغيانا وكفرا". -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من أحاديث الباب]- 1 - من قصة موسى عليه السلام، والحجر، الرواية الأولى والثانية معجزتان ظاهرتان لموسى عليه

السلام، إحداهما مشي الحجر بثوبه إلى ملأ بني إسرائيل، والثانية حصول الندب، وأثر الضرب فيه، كيف لا. وقد ضرب الحجر من قبل فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا؟ 2 - قال النووي: وفيه وجود التمييز في الجمادات كالحجر ونحوه، ومثله تسليم الحجر بمكة، وحنين الجذع. 3 - وجواز الغسل عريانا في الخلوة، وإن كان ستر العورة أفضل، وبهذا قال الشافعي، ومالك وجماهير العلماء، وخالفهم ابن أبي ليلى، وقال: إن للماء ساكنا، واحتج في ذلك بحديث ضعيف. 4 - وفيه ما ابتلي به الأنبياء والصالحون من أذى السفهاء والجهال، وصبرهم عليهم. 5 - وفيه أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم منزهون عن النقائص في الخلقة، سالمون من العاهات والمعايب. ذكره القاضي وغيره، وقالوا: ولا التفات إلى ما قاله من لا تحقيق له من أهل التاريخ في إضافة بعض العاهات إلى بعضهم، بل نزههم الله تعالى من كل عيب وكل شيء يبغض العيون، أو ينفر القلوب. 6 - وفيه جواز المشي عريانا لضرورة، وقال ابن الجوزي: لما كان موسى في خلوة، وخرج من الماء، فلم يجد ثوبه، تبع الحجر، بناء على أن لا يصادف أحدا وهو عريان، فاتفق أنه كان هناك قوم، فمر بهم، كما أن جوانب الأنهار - وإن خلت غالبا - لا يؤمن وجود قوم قريب منها، فبني الأمر على أنه لا يراه أحد، لأجل خلاء المكان، فاتفق رؤية من رآه، قال الحافظ ابن حجر: والظاهر أنه استمر يتبع الحجر، حتى وقف على مجلس لبني إسرائيل، كان فيهم من قال فيه ما قال، وبهذا تظهر الفائدة. 7 - وفيه جواز النظر إلى العورة عند الضرورة الداعية لذلك من مداواة أو براءة من عيب، وهذا على قول من يقول: شرع من قبلنا شرع لنا. 8 - ومن قوله "كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة، ينظر بعضهم إلى سوءة بعض" أن ذلك كان جائزا في شرعهم، وإلا لما أقرهم موسى على ذلك، وكان هو عليه السلام يغتسل وحده، أخذا بالأفضل، وأغرب ابن بطال، فقال: هذا يدل على أنهم كانوا عصاة له، وتبعه القرطبي في ذلك. 9 - وفيه أن من نسب نبيا من الأنبياء إلى نقص في خلقته، فقد آذاه، ويخشى على فاعله الكفر. 10 - وأن الآدمي يغلب عليه طباع البشر، لأن موسى علم أن الحجر ما سار بثوبه إلا بأمر من الله، ومع ذلك عامله معاملة من يعقل، فناداه، وضربه. 11 - ومن قصة موسى عليه السلام وملك الموت، روايتنا الثالثة والرابعة، أن الملك يتمثل بصورة الإنسان، وقد جاء ذلك في أحاديث مشهورة. 12 - قال ابن خزيمة: أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث، وقالوا: إن كان موسى عرفه فقد استخف به، وإن كان لم يعرفه فكيف لم يقتص له من فقء عينه؟ قال: والجواب أن الله لم يبعث ملك الموت لموسى، وهو يريد قبض روحه حينئذ، وإنما بعثه إليه اختبارا، وإنما لطم موسى ملك الموت لأنه

رأى آدميا، دخل داره بغير إذنه، ولم يعلم أنه ملك الموت، وقد أباح الشرع فقء عين الناظر في دار المسلم بغير إذن، وقد جاءت الملائكة إلى إبراهيم وإلى لوط في صورة آدميين، فلم يعرفهم ابتداء، ولو عرفهم إبراهيم لما قدم لهم المأكول، ولو عرفهم لوط لما خاف عليهم من قومه. قال: وعلى تقدير أن يكون عرفه، فمن أين لهذا المبتدع مشروعية القصاص بين الملائكة والبشر؟ ثم من أين له أن ملك الموت طلب القصاص من موسى، فلم يقتص له. وقال النووي: لا يمتنع أن يأذن الله لموسى في هذه اللطمة، امتحانا للملطوم. وقال غيره: إنما لطمه لأنه جاء لقبض روحه، من قبل أن يخبره، لما ثبت أنه لم يقبض نبي حتى يخبر، فلهذا لما خيره في المرة الثانية أذعن. وقال ابن قتيبة: إنما فقأ موسى العين التي هي تخييل وتمثيل، وليست عينا حقيقية، ومعنى "رد الله عينه" أعاده إلى خلقته الحقيقية. وقيل على ظاهره، ورد الله إلى ملك الموت عينه البشرية، ليرجع إلى موسى على كمال الصورة، فيكون ذلك أقوى في اعتباره. قال الحافظ ابن حجر: وهذا هو المعتمد. وجوز ابن عقيل أن يكون موسى أذن له أن يفعل ذلك بملك الموت، وأمر ملك الموت بالصبر على ذلك، كما أمر موسى بالصبر على ما يصنع الخضر. 13 - واستدل بقوله "فلك بكل شعرة سنة" على أن الذي بقي من الدنيا كثير جدا، لأن عدد الشعر الذي تواريه اليد كثير. 14 - واستدل به على جواز الزيادة في العمر، وقد قال به قوم في قوله تعالى {وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب} [فاطر: 11] وأنه زيادة ونقص في الحقيقة. ومنع قوم ذلك، وأجابوا عن قصة موسى بأن أجله قد كان قرب حضوره، ولم يبق منه إلا مقدار ما دار بينه وبين ملك الموت من المراجعتين، فأمر بقبض روحه أولا، مع سبق علم الله أن ذلك لا يقع إلا بعد المراجعة، وإن لم يطلع ملك الموت على ذلك أولا. 15 - وفيه فضل الدفن في الأماكن المقدسة، والفاضلة، والمواطن المباركة، والقرب من مدافن الصالحين. قاله النووي. 16 - ومن الرواية الخامسة النهي عن التفضيل بين الأنبياء. 17 - فضيلة موسى عليه السلام. 18 - أهل الذمة لهم ما لنا، وعليهم ما علينا. 19 - فضيلة يونس عليه السلام، وكذا من الرواية السابعة والثامنة. 20 - ومن الرواية التاسعة فضيلة يوسف عليه السلام. 21 - وأن الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا.

22 - وأن التقوى رأس الفضائل. 23 - ومن الرواية العاشرة فضيلة زكريا عليه السلام. 24 - ومن الرواية الحادية عشرة وما بعدها، من قصة موسى والخضر عليهما السلام. ما يؤكد قوله تعالى {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم} [البقرة: 216]. 25 - ومن إنكار تعلم موسى بني إسرائيل من الخضر ذهب أهل الكتاب وتابعهم من تبعهم من المحدثين والمؤرخين وزعموا أن موسى هنا هو موسى بن ميشا بن يوسف بن يعقوب، وهو موسى الأول، وتعللوا بأن موسى النبي لا يتعلم من غيره. وأجيب بأن التعلم كان من نبي، ولا غضاضة في تعلم نبي من نبي، قالوا: ولو سلمنا بنبوة الخضر لا نسلم أن موسى بن عمران، وهو الأفضل يتعلم ممن ليس مثله في الفضل، فإن الخضر عليه السلام على القول بنبوته، بل القول برسالته، لم يبلغ درجة موسى عليه السلام. واستبعدوا أن يكون موسى هو موسى بني إسرائيل، على أساس أن بعد الخروج من مصر حصل هو وقومه في التيه، وتوفي فيه، ولم يخرج قومه منه إلا بعد وفاته والقصة تقتضي خروجه عليه السلام من التيه، لأنها لم تكن وهو في مصر بالإجماع، وتقتضي أيضا الغيبة أياما، ولو وقعت لعلمها كثير من بني إسرائيل، الذين كانوا معه، ولو علمت لنقلت، لتضمنها أمرا غريبا، تتوافر الدواعي على نقله، فحيث لم يكن لم تكن، وأجيب بأن عدم سماح نفوسهم بالقول بتعليم نبيهم عليه السلام من مثله في الفضل، أمر لا يساعده العقل، وليس هو إلا كالحمية الجاهلية، إذ لا يبعد عقلا تعلم الأفضل الأعلم، شيئا ليس عنده، ممن هو دونه في الفضل والعلم، وقد يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل. ثم إن عدم خروج موسى من التيه غير مسلم، وكذلك اقتضاء الغيبة أياما، لجواز أن يكون على وجه خارق للعادة، وقد يقال: يجوز أن يكون عليه السلام خرج وغاب أياما، لكن لم يعلموا أن عليه السلام ذهب لهذا الأمر، وظنوا أنه ذهب يناجي ويتعبد، ولم يوقفهم على حقيقة غيبته بعد أن رجع، لعلمه بقصور فهمهم، فخاف من حط قدره عندهم، ويجوز أن يكون غاب عنهم، وعلموا غيبته، لكن لم يتناقلوها جيلا بعد جيل، لتوهم أن فيها شيئا مما يحط قدره عندهم. قال العلماء: ولا يخفى أن باب الاحتمال واسع، وبالجملة لا نبالي بإنكارهم بعد جواز الوقوع عقلا، وإخبار الله تعالى به. والله أعلم 26 - وفي الحديث مصداق لقوله تعالى {وفوق كل ذي علم عليم} [يوسف: 76]. 27 - ومن بناء الخضر عليه السلام للجدار، وحفظ الكنز لليتيم أن صلاح الآباء ينفع الأبناء بعد موتهما. والله أعلم

كتاب فضائل الصحابة

كتاب فضائل الصحابة

(632) باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه

(632) باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه 5371 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه حدثه قال: نظرت إلى أقدام المشركين على رءوسنا ونحن في الغار. فقلت: يا رسول الله! لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه. فقال: "يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما". 5372 - عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر فقال: "عبد خيره الله بين أن يؤتيه زهرة الدنيا وبين ما عنده. فاختار ما عنده" فبكى أبو بكر. وبكى. فقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير. وكان أبو بكر أعلمنا به. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أمن الناس علي في ماله وصحبته أبو بكر. ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا. ولكن أخوة الإسلام. لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر". 5373 - وفي رواية عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوما. بمثل حديث مالك. 5374 - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا. ولكنه أخي وصاحبي. وقد اتخذ الله عز وجل صاحبكم خليلا". 5375 - عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لو كنت متخذا من أمتي أحدا خليلا لاتخذت أبا بكر". 5376 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا خليلا لاتخذت ابن أبي قحافة خليلا".

5377 - عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت ابن أبي قحافة خليلا، ولكن صاحبكم خليل الله". 5378 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أبرأ إلى كل خل من خله. ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا. إن صاحبكم خليل الله". 5379 - عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل. فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة" قلت: من الرجال؟ قال: "أبوها" قلت: ثم من؟ قال: "عمر" فعد رجالا. 5380 - عن عائشة رضي الله عنها وسئلت: من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفا لو استخلفه؟ قالت: أبو بكر. فقيل لها: ثم من بعد أبي بكر؟ قالت: عمر، ثم قيل لها: من بعد عمر؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح. ثم انتهت إلى هذا. 5381 - عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه رضي الله عنه، أن امرأة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فأمرها أن ترجع إليه. فقالت: يا رسول الله! أرأيت إن جئت فلم أجدك؟ قال أبي: - كأنها تعني الموت- قال: "فإن لم تجديني فأتي أبا بكر". 5382 - وفي رواية عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته في شيء، فأمرها بأمر. بمثل حديث عباد بن موسى. 5383 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه:

"ادعي لي أبا بكر أباك، وأخاك، حتى أكتب كتابا. فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: أنا أولى. ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر". 5384 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أصبح منكم اليوم صائما؟ " قال أبو بكر: أنا. قال: "فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ " قال أبو بكر: أنا. قال: "فمن أطعم منكم اليوم مسكينا؟ " قال أبو بكر: أنا. قال: "فمن عاد منكم اليوم مريضا؟ " قال أبو بكر: أنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة". 5385 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينما رجل يسوق بقرة له، قد حمل عليها، التفتت إليه البقرة فقالت: إني لم أخلق لهذا. ولكني إنما خلقت للحرث" فقال الناس: سبحان الله! تعجبا وفزعا. أبقرة تكلم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإني أومن به وأبو بكر وعمر" قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينا راع في غنمه، عدا عليه الذئب فأخذ منها شاة. فطلبه الراعي حتى استنقذها منه. فالتفت إليه الذئب فقال له: من لها يوم السبع، يوم ليس لها راع غيري؟ " فقال الناس: سبحان الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإني أومن بذلك. أنا وأبو بكر وعمر". 5386 - وفي رواية عن ابن شهاب بهذا الإسناد قصة الشاة والذئب. ولم يذكر قصة البقرة. 5387 - وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى حديث يونس عن الزهري. وفي حديثهما ذكر البقرة والشاة معا. وقالا في حديثهما: "فإني أومن به أنا وأبو بكر وعمر" وما هما ثم.

-[المعنى العام]- إنما يعرف الفضل للناس ذووه، وذكر الفضائل، والثناء على من يستحق الثناء حق لأهل الخير، وعلى من انتفع منهم، {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} [الرحمن: 60] "من أسدى إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تقدروا فادعوا له" إن تسجيل الفضائل والتنويه بها نوع من أنواع شكرها والله تعالى يقول {فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون} [البقرة: 152] ويقول {لئن شكرتم لأزيدنكم} [إبراهيم: 7]. وتسجيل الفضائل والتنويه بها رد لبعض جميل صاحبها، وحث وترغيب للاقتداء به، ومعرفة قدره، ومن هنا عقد علماء الحديث كتابا لفضائل الصحابة، ومن هنا أثنى صلى الله عليه وسلم على أصحابه وذكر مآثر لكثير منهم، ورفع من قدر أعمالهم وجهادهم. فأثنى بالدرجة الأولى على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أول من أسلم من الرجال، وكان إيمانه تصديقا لا نظير له، حتى لقب بالصديق، وأنفق على الدعوة كل ماله، أسلم وهو يملك أربعين ألف درهم أنفقها كلها في سبيل الإسلام، اشترى العبيد الذين أسلموا، وأوذوا لإسلامهم، وأعتقهم، وأنفق على هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته عائشة رضي الله عنها فكانت بلسما لجراحه، وأنسا وسعادة لحياته في بيته، وشاركه في جميع غزواته، وجاهد في الله حق جهاده، وكان كوزيره الأول في إدارة شئون أمته، وكان الأخ الأول في أخوة الإسلام، وكان ثاني اثنين إذ هما في الغار، وكان رفيق رحلة الهجرة، بل كان خير من يرافق في السفر روي أنه كان في هذه الرحلة يتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم تارة، ويتأخر عنه أخرى فلما سئل قال: أخشى الرصد من أمامنا فأتقدم لحماية الرسول صلى الله عليه وسلم والصد عنه، وأخشى الملاحقة والمتابعة من خلفنا، فأتأخر للدفاع عنه. لقد كان أحب الرجال إليه صلى الله عليه وسلم وأول من يثق فيه من أصحابه والمرشح الأول من جهته للخلافة، ولقد هم صلى الله عليه وسلم أن يعينه خليفة من بعده، لكنه - وبالوحي - علم أنه سيكون كذلك عن طريق الأمة، فقال: لقد هممت أن أكتب كتابا أوصي فيه بخلافة أبي بكر ولكني قلت: يأبى الله إلا خلافة أبي بكر، كتبت أو لم أكتب ويدفع المؤمنون الطامعين في الخلافة. نعم أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم إشارات واضحة لاستخلاف أبي بكر، فأمر بسد فتحات البيوت المحيطة بالمسجد، والتي يدخل منها الناس في المسجد إلا فتحته صلى الله عليه وسلم وفتحة بيت أبي بكر. ويعد صلى الله عليه وسلم امرأة أن تأتيه بعد عام، فتقول المرأة: فإن لم أجدك بعد عام؟ فيقول لها: فائت أبا بكر، ويعينه صلى الله عليه وسلم رئيسا وإماما للمسلمين في حجتهم سنة تسع من الهجرة، قبل أن يحج بهم صلى الله عليه وسلم وأخيرا وفي مرضه صلى الله عليه وسلم حين عجز عن إمامة الناس في المسجد قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس. فصلى أبو بكر بالناس ثلاثة أيام أو نحوها بدلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال قائل الصحابة: ائتمنه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ديننا، أفلا نأتمنه على دنيانا؟ رضي الله عنه وأرضاه وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.

-[المباحث العربية]- (من فضائل أبي بكر) واسمه عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد ابن تيم ابن مرة بن كعب بن لؤي القرشي التيمي، أبو بكر الصديق بن أبي قحافة، ولد بعد الفيل بسنتين وستة أشهر. صحب النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وسبق إلى الإيمان به، واستمر معه طول الإقامة بمكة، ورافقه في الهجرة وفي الغار، وفي المشاهد كلها إلى أن مات، وكانت الراية معه يوم غزوة تبوك، وحج بالناس سنة تسع، وأسلم على يديه كثير من الصحابة، وأعتق سبعة، كلهم كان يعذب في الله، كان يشتغل بالتجارة، كان يملك أربعين ألفا، أنفقها في سبيل الله، كانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر واثنين وعشرين يوما، توفي لثمان بقين من جمادى الآخرة، سنة ثلاث عشرة من الهجرة، وهو ابن ثلاث وستين سنة، وما ترك دينارا ولا درهما. والفضائل جمع فضيلة، وهي الخصلة الجميلة، التي يحصل لصاحبها بسببها شرف وعلو منزلة، إما عند الحق، وإما عند الخلق. (نظرت إلى أقدام المشركين على رءوسنا ونحن في الغار) غار ثور، ولما كان الغار تجويفا في داخل جبل، أشعر هذا التعبير بأنه كان منخفضا، إلا أنه كان ضيقا. (ما ظنك باثنين الله ثالثهما) المراد ناصرهما ومعينهما، وإلا فالله ثالث كل اثنين بعلمه. (جلس على المنبر فقال عبد خيره الله بين أن يؤتيه زهرة الدنيا، وبين ما عنده، فاختر ما عنده) كانت هذه الخطبة في مرضه الذي مات فيه صلى الله عليه وسلم وفي رواية لمسلم "قبل أن يموت بخمس ليال" وفي رواية للبخاري "إن الله خير عبدا بين الدنيا، وبين ما عنده، فاختار ما عند الله" وفي رواية له عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه، عاصبا رأسه بخرقة، فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: .. " وزهرة الدنيا نعيمها وأعراضها، شبهت بزهرة الروض. (فبكى أبو بكر وبكى) معناه: بكى كثيرا، وكان أبو بكر قد فهم أن النبي صلى الله عليه وسلم هو المقصود بالعبد المخير، بقرينة مرضه فبكى حزنا على فراقه، وانقطاع الوحي، وغيره من الخير وإنما قال صلى الله عليه وسلم "عبد" وأبهمه، لينظر فهم أهل المعرفة ونباهة أصحاب الحذق، كذا قال النووي. والظاهر أن الإبهام لعدم إثارة العامة، وعدم إدخال الهم والحزن عليهم مبكرا ليبقوا بين الشك في البلاء وعدمه فترة، فيهون عليهم عند وقوعه. وفي رواية للبخاري، يقول أبو سعيد الخدري "فعجبنا لبكائه، أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خير؟ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا" وفي رواية "فقلت في نفسي" وفي رواية "فقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد، وهو يقول: فديناك"؟ زاد في رواية للبخاري: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر. لا تبك".

(إن أمن الناس علي في ماله وصحبته أبو بكر) قال العلماء: معناه أكثرهم جودا وسماحة لنا بنفسه وماله، قال النووي: وليس هو من المن، الذي هو الاعتداد بالصنيعة، لأنه أذى مبطل للثواب، ولأن المنة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم. وقال القرطبي: هو من الامتنان، والمراد أن أبا بكر له من الحقوق، ما لو كان لغيره نظيرها لامتن بها، ويؤيده رواية "ليس أحد أمن علي" أي يمكن أن يمن علي لما له عندي من يد وفي رواية "إن من أمن الناس علي أبا بكر" وعند الترمذي "ما لأحد عندنا يد، إلا كافأناه عليها، ما خلا أبا بكر، فإن له عندنا يدا، يكافئه الله بها يوم القيامة" زاد في رواية للطبراني "منة أعتق بلالا، ومنة هاجر بنبيه" وفي رواية له أيضا "واساني بنفسه وماله وأنكحني ابنته". (ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا) في الرواية الرابعة "لو كنت متخذا من أمتي أحدا خليلا لاتخذت أبا بكر" وفي الرواية الخامسة "لو كنت متخذا خليلا لاتخذت ابن أبي قحافة خليلا" وفي الرواية السادسة "لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت ابن أبي قحافة خليلا" قال أهل اللغة: الخلة أرفع رتبة من المودة والمحبة والصداقة، ولذلك نفى الخليل، وأثبت المحب، فهو صلى الله عليه وسلم يحب أبا بكر وعائشة وفاطمة والحسنين وغيرهم وقال الزمخشري: الخليل هو الذي يوافقك في خلالك، ويسايرك في طريقك، أو الذي يسد خللك، وتسد خلله، أو يداخلك خلال منزلك، وقيل: أصل الخلة انقطاع الخليل إلى خليله، وقيل الخليل من يتخلله سرك، وقيل: من لا يسع قلبه غيرك، قيل: أصل الخلة الاستصفاء وقيل: المختص بالمودة قال الحافظ ابن حجر: وهذا كله بالنسبة إلى الإنسان أما خلة الله للعبد فبمعنى نصره له، ومعاونته، وفي الرواية الثالثة "وقد اتخذ الله عز وجل صاحبكم خليلا" وفي الرواية السادسة "ولكن صاحبكم خليل الله" ولا ينافي هذا قول أبي هريرة وأبي ذر وغيرهما "أخبرني خليلي صلى الله عليه وسلم" فذلك جائز لهم، لأن الصحابي يحسن في حقه الانقطاع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفي الرواية السابعة "ألا إني أبرأ إلى كل خل من خله" قال النووي: هما بكسر الخاء، فأما الأول فكسره متفق عليه والخل بمعنى الخليل وأما قوله "من خله" فبكسر الخاء عند جميع الرواة في جميع النسخ والخل الصداقة وصوب القاضي فتحها والمعنى على كل: أبرأ من خلة كل خليل أي أن يكون خليلي. (ولكن أخوة الإسلام) في الرواية الثالثة "ولكنه أخي وصاحبي" وعند البخاري "ولكن أخوة الإسلام ومودته" وعند الطبراني "ولكن أخوة الإيمان والإسلام أفضل" ولا يعكر عليه اشتراك جميع الصحابة في هذه الفضيلة، لأن زيادة أبي بكر في ذلك لا تخفى. (لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر) المراد بالمسجد مسجده صلى الله عليه وسلم بالمدينة، والخوخة باب صغير، قد يكون بمصراع، وقد لا يكون، وإنما أصلها فتح في حائط، كالطاقة تفتح لأجل الضوء، ولا يشترط علوها، وحيث تكون سفلى يمكن الانتقال منها لتقريب الوصول من البيت إلى مكان مطلوب وهو المقصود هنا، ولهذا أطلق عليها - في رواية للبخاري "باب"، وقي: لا يطلق عليها "باب" إلا إذا كانت تغلق، وكان أصحاب البيوت المحيطة بالمسجد النبوي، قد فتحوا في بيوتهم خوخات في المسجد، وكان لأبي بكر بيت ملاصق، غير بيته

الذي كان في السنح من عوالي المدينة، وضواحيها، وقد جاء في بعض الروايات "وأمر بسد الأبواب إلا باب علي" وسنتعرض لها في فقه الحديث، ورواية مسلم "لا تبقين" بضم التاء مع نون التوكيد مبني للمجهول، و"خوخة" بالرفع نائب فاعل، أي لا تبقى خوخة، أي لا تبقوا خوخة. وفي رواية للبخاري "لا يبقين" بفتح الياء الأولى، مبني للمعلومات أي لا تبقى خوخة كأنه قال: لا تبقوها حتى لا تبقى فأضيف النهي إلى الخوخة، والمراد نهيهم عن إبقائها، من إضافة الشيء إلى لازمه. وفي رواية البخاري "لا يبقين باب إلا سد، إلا باب أبي بكر" وقد ادعى بعضهم أن الباب في الحديث كناية عن الخلافة، والأمر بالسد كناية عن طلبها كأنه قال: لا يطلبن أحد الخلافة إلا أبا بكر، فإنه لا حرج عليه في طلبها. وإلى هذا جنح ابن حبان. (عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل) ذكر ابن سعد أن جمعا من قضاعة تجمعوا، وأراد أن يدنوا من أطراف المدينة، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص فعقد له لواء أبيض وبعثه في ثلاثمائة من سراة المهاجرين والأنصار، ثم أمده بأبي عبيدة بن الجراح في مائتين، وأمره أن يلحق بعمرو وأن لا يختلفا، فأراد أبو عبيدة أن يؤم، فمنعه عمرو، وقال: إنما قدمت على مددا، وأنا الأمير، فأطاع له أبو عبيدة، فصلى بهم عمرو، وروى الحاكم "أن عمرو بن العاص أمرهم في تلك الغزوة أن لا يوقدوا نارا، وذلك في ليلة باردة، فأنكر عمر ذلك، فقال له أبو بكر: دعه، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبعثه علينا إلا لعلمه بالحرب فسكت عنه" وروى ابن حبان نحو هذا وفي رواية "فقال عمرو: لا يوقد أحد منكم نارا إلا قذفته فيها، فلقوا العدو، فهزموهم، فأرادوا أن يتبعوهم، فمنعهم، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فسأله، فقال: كرهت أن آذن لهم أن يوقدوا نارا، فيرى عدوهم قلتهم، وكرهت أن يتبعوهم، فيكون لهم مدد هناك. فحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره، فقال: يا رسول الله، من أحب الناس إليك؟ .. الحديث، وكانت الغزوة في أوائل السنة الثامنة، عقب إسلام عمرو بن العاص فعند أبي عوانة وابن حبان والحاكم "قال عمرو بن العاص: بعث إلي النبي صلى الله عليه وسلم يأمرني أن آخذ ثيابي وسلاحي فقال: يا عمرو، إني أريد أن أبعثك على جيش، فيغنمك الله ويسلمك. قلت: إني لم أسلم رغبة في المال. قال: "نعم المال الصالح للرجل الصالح". (فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال عائشة. قلت: من الرجال؟ قال: أبوها. قلت: ثم من؟ قال: عمر. فعد رجالا) كان هذا الإتيان بعد عودته من الغزوة، وبعد سؤاله صلى الله عليه وسلم عما حدث فيها، وتبين رواية البيهقي دوافعه إلى هذا السؤال ولفظها "قال عمرو: فحدثت نفسي أنه لم يبعثني على قوم فيهم أبو بكر وعمر، إلا لمنزلة لي عنده" وقوله "فعد رجالا" أي ذكر أسماء بعد أبي بكر وعمر، ولم يذكره في أحب الناس إليه والظاهر أن ممن عدهم أبا عبيدة المذكور في الرواية التاسعة والذي جعلته عائشة ثالث وآخر من ذكر، زاد في رواية علي بن عاصم "قال: قلت في نفسي: لا أعود لمثلها، أسأل عن هذا" وفي المغازي "فسكت، مخافة أن يجعلني في آخرهم" وقيل: إن عليا رضي الله عنه كان ممن أبهمه عمرو بن العاص، وتقول الرافضة: إن إبهامه عليا كان لما بينه وبينه، رضي الله عنهم.

(أرأيت) أي أخبرني. (إن جئت فلم أجدك؟ ) قال جبير الراوي: كأنها تعني الموت، وفي رواية "تعرض بالموت ومرادها: إن جئت فوجدتك قد مت، ماذا أعمل؟ والظاهر أن هذه القصة كانت في أثناء مرضه صلى الله عليه وسلم وكان طلب عودتها له بعد زمن. (ادعي لي أبا بكر أباك وأخاك حتى أكتب كتابا) في رواية للبخاري "لقد هممت - أو أردت - أن أرسل إلى أبي بكر وابنه" وفي رواية "أو آتيه" قيل: يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان يستميل بذلك قلب عائشة، وكأنه يقول لها: كما أن الخلافة ستفوض إلى أبيك، فإن ذلك يقع بحضور أخيك. قال النووي: قال القاضي: صوب بعضهم رواية "آتيه" وليس كما صوب، بل الصواب "وابنه" وهو أخو عائشة، وتوضحه رواية لمسلم "أخاك" ولأن إتيان النبي صلى الله عليه وسلم كان متعذرا أو متعسرا، وقد عجز عن حضور الجماعة واستخلف الصديق ليصلي بالناس واستأذن أزواجه أن يمرض في بيت عائشة. ومعنى "حتى أكتب كتابا" أي أعهد فيه بالخلافة من بعدي. (فإني أخاف أن يتمنى متمن) الخلافة، وهو لا يستحقها، وفي رواية للبخاري "أن يقول القائلون، أو يتمنى المتمنون" بضم النون جمع متمني بكسرها. أي كراهة أن يقول القائلون: الخلافة لفلان، من غير استحقاق، أو يتمناها المتمنون ويطالبون بها من غير استحقاق. (ويقول قائل: أنا أولى) قال النووي: في بعض النسخ المعتمدة "أنا، ولا" بتخفيف النون واللام أي يقول: أنا أحق بالخلافة، وليس كما يقول فأنا مبتدأ، خبره محذوف و"لا" متضمنة معنى جملة حالية - وفي بعض النسخ "أنا أولى" أي أحق بالخلافة قال القاضي: هذه الرواية أجودها، ورواه بعضهم "أنا ولي" بتخفيف النون وكسر اللام أي أنا أحق والخلافة لي - فأنا مبتدأ خبره محذوف، و"لي" خبر لمبتدأ محذوف والجملة الثانية معطوفة على الأولى - وعن بعضهم "أنا ولاه" بتشديد اللام أي أنا الذي ولاه النبي صلى الله عليه وسلم، وعن بعضهم "أنى ولاه" بتشديد النون المفتوحة، أي كيف ولاه. (ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر) في رواية البخاري "ثم قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون، أو يدفع الله ويأبى المؤمنون" أي يأبى الله إلا خلافة أبي بكر، ويدفع المؤمنون خلافة غيره، أو يدفع الله خلافة غير أبي بكر ويأبى المؤمنون إلا خلافته، أي سيكون ذلك بدون عهد، فلا داعي للعهد، علم ذلك من الوحي. (ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة) أي بدون عذاب، أو مع السابقين، وعند البخاري "فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة. ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد. ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام، باب الريان. فقال أبو بكر: ما على هذا الذي يدعى من تلك الأبواب من ضرورة، وقال: هل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله؟ قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر".

(بينما رجل يسوق بقرة له، قد حمل عليها، التفتت إليه البقرة، فقالت: إني لم أخلق لهذا ولكني إنما خلقت للحرث) في رواية للبخاري "بينما رجل راكب على بقرة، التفتت إليه، فقالت: لم أخلق لهذا، خلقت للحراثة" فتبين أن معنى قوله "قد حمل عليها" أي حمل عليها نفسه، أو نفسه ومتاعه، وقوله في روايتنا "إنما خلقت للحرث" فيه قصر ادعائي، أو إضافي، قصر قلب، فقد اتفقوا على جواز أكلها، وفي رواية للبخاري "بينما رجل يسوق بقرة، إذ ركبها فضربها ... إلخ". (فقال الناس: سبحان الله؟ ؟ ؟ تعجبا وفزعا، أبقرة تكلم؟ ) أي تتكلم، فحذفت إحدى التاءين تخفيفا والمراد من الناس الصحابة المستمعون لهذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم والاستفهام تعجبي، والقصة مذكورة عن بني إسرائيل. (فإني أومن به أنا وأبو بكر وعمر) وهذا محمول على أنه صلى الله عليه وسلم كان قد أخبرهما بذلك، فصدقاه، أو أطلق ذلك لما علم عنهما من أنهما يصدقان بذلك، إذا علما بقوله، أو سمعاه منه، ولا يترددان فيه، ففي ملحق الرواية "وما هما ثم" بفتح الثاء، أي وما هما هناك في هذه الجلسة، وهو من كلام الراوي، وفي رواية للبخاري "قال أبو سلمة: وما هما يومئذ في القوم". (عدا عليه الذئب، فأخذ منها شاة، فطلبه الراعي حتى استنقذها منه، فالتفت إليه الذئب، فقال له من لها يوم السبع؟ يوم ليس لها راع غيري؟ فقال الناس سبحان الله! ! ) الظاهر أنهما حديثان حديث البقرة، وحديث الذئب، ذكرهما أبو بكر في جلسة وأخذهما عن الرسول صلى الله عليه وسلم في جلستين، وفي ملحق الرواية اقتصار على أحدهما، وذكرهما البخاري مجتمعتين في رواية له، وفيها "فقال له الذئب: هذا، استنقذتها مني" أي هذا اليوم استطعت أن تغلبني وتنقذها مني" فمن لها يوم السبع"؟ الاستفهام إنكاري بمعنى النفي أي فلا أحد لها ينقذها مني يوم السبع، بضم الباء وسكونها، ولكن الرواية بالضم والمراد من السبع الحيوان المعروف، أي لا أحد منكم يستطيع أن ينقذها يوم يأخذها السبع، أي أنك تهرب، وأكون أنا قربا منه، أرعى ما يفضل لي منها، ولا راعي لها حينئذ غيري وقيل: إنما يكون ذلك عند الاشتغال بالفتن، فتصير الغنم هملا فتنهبها السباع" فيصير الذئب كالراعي لها، لانفراده بها، وقوله "يوم ليس لها راع غيري" مبالغة في تمكنه منها، زاد البخاري في رواية "فقال الناس: سبحان الله! ! ذئب يتكلم؟ ". -[فقه الحديث]- الصحابي، من هو؟ وما حقوقه؟ قال الحافظ ابن حجر: اسم صحبة النبي صلى الله عليه وسلم مستحق لمن صحبه أقل ما يطلق عليه اسم صحبة لغة، وإن كان العرف يخص ذلك ببعض الملازمة. ويطلق أيضا على من رآه رؤية، ولو على بعد. وهذا الراجح إلا أنه هل يشترط في الرائي أن يكون بحيث يميز ما رآه؟ أو يكتفي بمجرد حصول الرؤية؟ محل نظر قال: وعمل من صنف في الصحابة

يدل على الثاني، فإنهم ذكروا محمد بن أبي بكر الصديق وإنما ولد قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر وأيام، ومع ذلك فأحاديث هذا الضرب مراسيل، والخلاف الجاري بين الجمهور وبين أبي إسحاق الأسفرايني ومن وافقه على رد المراسيل مطلقا حتى مراسيل الصحابة لا يجري في أحاديث هؤلاء، لأن أحاديثهم ليست من قبيل مراسيل كبار التابعين ولا من قبيل مراسيل الصحابة الذين سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم وهذا مما يلغز به، فيقال: صحابي حديثه مرسل، لا يقبله من يقبل مراسيل الصحابة، ومنهم من بالغ، فكان لا يعد في الصحابة إلا الصحبة العرفية، فقد جاء عن عاصم الأحول قال "رأى عبد الله بن سرجس رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أنه لم يكن له صحبة" أخرجه أحمد، كذلك روي عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يعد في الصحابة إلا من أقام مع النبي صلى الله عليه وسلم سنة فصاعدا، أو غزا معه غزوة فصاعدا. قال الحافظ: والعمل على خلاف هذا القول لأنهم اتفقوا على عد جمع جم في الصحابة لم يجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم إلا في حجة الوداع، ومن اشترط الصحبة العرفية أخرج من له رؤية أو من اجتمع به لكن فارق عن قرب كما جاء عن أنس "أنه قيل له: هل بقي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم غيرك؟ قال: لا" مع أنه كان في ذلك الوقت عدد كثير ممن لقيه من الأعراب. ومنهم من اشترط أن يكون حين اجتماعه به بالغا، وهو مردود أيضا، لأنه يخرج مثل الحسن بن علي ونحوه من أحداث الصحابة والبخاري يقول: من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه وقيد "من المسلمين" قيد يخرج به من صحبه أو رآه من الكفار، فأما من أسلم منهم بعد موته، فإن كان قوله "من المسلمين" حالا، خرج من هذه صفته وهو المعتمد. قال: ويرد على التعريف، من صحبه أو رآه مؤمنا به، ثم ارتد بعد ذلك ولم يعد إلى الإسلام، فإنه ليس صحابيا اتفاقا، فينبغي أن يزاد فيه "ومات على ذلك" فلو ارتد ثم عاد إلى الإسلام لكن لم يره ثانيا بعد عودته، فالصحيح أنه معدود في الصحابة لإطباق المحدثين على عد الأشعث بن قيس ونحوه، ممن وقع له ذلك، وإخراجهم أحاديثهم في المسانيد. قال الحافظ: وهل يختص جميع ذلك ببني آدم؟ أو يعم غيرهم من العقلاء؟ . أما الجن فالراجح دخولهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليهم قطعا وهم مكلفون فيهم العصاة والطائعون فمن عرف اسمه منهم لا ينبغي التردد في ذكره في الصحابة وإن كان ابن الأثير عاب ذلك على أبي موسى فلم يستند في ذلك إلى حجة. وأما الملائكة فيتوقف عدهم فيهم على ثبوت بعثته إليهم، فإن فيه خلافا بين الأصوليين، حتى نقل بعضهم الإجماع على ثبوته وعكس بعضهم. وهذا كله فيمن رآه وهو في الحياة الدنيوية. أما من رآه بعد موته وقبل دفنه، فالراجح أنه ليس بصحابي وإلا لعد من اتفق أن يرى جسده المكرم وهو في قبره المعظم ولو في هذه الأعصار وكذلك من كشف له عنه من الأولياء فرآه كذلك عن طريق الكرامة إذ حجة من أثبت الصحبة لمن رآه قبل دفنه أنه مستمر الحياة، وهذه الحياة ليست دنيوية وإنما هي أخروية، لا تتعلق بها أحكام الدنيا، فإن الشهداء أحياء، ومع ذلك فإن الأحكام المتعلقة بهم بعد القتل جارية على أحكام غيرهم من الموتى.

ثم قال: وكذلك المراد بهذه الرؤية من اتفقت له ممن تقدم شرحه وهو يقظان، أما من رآه في المنام وإن كان قد رآه حقا، فذلك مما يرجع إلى الأمور المعنوية، لا الأحكام الدنيوية، فلذلك لا يعد صحابيا، ولا يجب عليه أن يعمل بما أمره به في تلك الحالة. هذا آخر ما ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري، وقد أحال بسط المسألة إلى ما جمعه من علوم الحديث. وخلاصة هذه الأقوال أن من أسلم من بني آدم وأقام مع النبي صلى الله عليه وسلم بالغا عاقلا سنة فصاعدا أو غزا معه غزوة فأكثر واستمر على إسلامه حتى مات فهو صحابي باتفاق. فإذا فقد وصفا من هذه الأوصاف ففي استحقاق وصف الصحبة خلاف بين المحدثين من ذلك: 1 - من اتصف بهذه الصفات من غير بني آدم كالجن ثم الملائكة. 2 - من رآه حيا لحظة بالغا عاقلا مسلما واستمر على إسلامه حتى مات. 3 - من رآه حيا لحظة - ولو طفلا مسلما واستمر على إسلامه حتى مات. 4 - من رأى جسده الشريف بعد موته، مسلما واستمر على إسلامه حتى مات. 5 - من كشف له عنه من الأولياء، فرآه بعد موته على سبيل الكرامة. 6 - من رآه مسلما، ثم ارتد ثم أسلم ولم يره بعد عودته إلى الإسلام 7 - من رآه مميزا غير بالغ مسلما واستمر على إسلامه حتى مات. 8 - من رآه طفلا مسلما واستمر على إسلامه حتى مات. 9 - من عاش معه طويلا كافرا، ثم أسلم بعد وفاته. وهناك أقوال أخرى لا تستحق الذكر في هذا المقام. والتحقيق أن وصف الصحبة ليس وصفا يمنح وإنما هو شرف يستحق له مؤهلات وله حقوق فمن حقوقه: (أ) صيانة صاحبه من السب والتجريح فوق صيانة المسلم، لحرمة فيه فوق حرمة الإسلام، ففي إيذائه إيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك يقول "لا تؤذوني في أصحابي" ولا شك أن الإنسان يتأذى بإيذاء صاحبه وحبيبه أكثر مما يتأذى بإيذاء غيره. (ب) تقديره بتقدير ما قدم في خدمة الإسلام من جهاد ونشر للدعوة وإنفاق في وقت الحاجة والضيق فقد بذل نفسه وماله في سبيل الإسلام وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم "لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده! لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" قال ذلك لبعض أصحابه وكأنه عنى البعض الذي قدم.

(جـ) اعتماد رواياتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم فهم الذين سمعوا ورأوا بدون واسطة، وهم الذين خوطبوا بالشريعة وهم حملتها إلينا وهم الذين عنوا بها وحفظوها، وآراؤهم وفتاواهم وتفسيراتهم أقوى وأهم وأحق قبولا من آراء غيرهم. (د) وجوب الإمساك عن تنقيصهم، عند ذكر ما ينقصهم من الأعمال فلعل ما قدموا من الخير يفوق بكثير ما يؤخذ عليهم من قصور وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم عن حاطب بن أبي بلتعة - وقد اتهم بتسريب أخبار المسلمين إلى كفار قريش - "لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم". فإذا ما أريد بوصف الصحبة هذه المعاني، وهذه الحقوق لم يستحقه إلا النوع الأول المتفق عليه، وهو من أسلم من بني آدم وأقام مع النبي صلى الله عليه وسلم بالغا عاقلا، سنة فصاعدا، أو غزا معه غزوة فأكثر، واستمر على إسلامه حتى مات دون الأنواع التسعة الأخرى. أما إذا أريد بوصف الصحبة مجرد الوصف، فلا مانع من إطلاقه على كل الأنواع حتى على من سيدخل النار ممن شهد النبي صلى الله عليه وسلم مسلما ففي الحديث الصحيح أن ناسا من أصحابه صلى الله عليه وسلم يذادون عن حوضه يوم القيامة فيقول: أصحابي أصحابي؟ أين تذهبون بهم؟ فيقال: إلى النار إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول: سحقا. سحقا. وقد اهتم الإمام النووي بالحق الرابع (د) وهو وجوب الإمساك عن تنقيصهم، فقال: وأما الحروب التي جرت فكانت لكل طائفة شبهة، اعتقدت تصويب أنفسها بسببها، وكلهم عدول - رضي الله عنهم - ومتأولون في حروبهم وغيرها، ولم يخرج شيء من ذلك أحدا منهم عن العدالة، لأنهم مجتهدون، اختلفوا في محل الاجتهاد كما يختلف المجتهدون بعدهم في مسائل من الدماء وغيرها ولا يلزم من ذلك نقص أحد منهم. قال: واعلم أن سبب تلك الحروب أن القضايا كانت مشتبهة، فلشدة اشتباهها اختلف اجتهادهم وصاروا ثلاثة أقسام: قسم ظهر له بالاجتهاد أن الحق في هذا الطرف، وأن مخالفه باغ، فوجب عليهم نصرته، وقتال الباغي عليه - فيما اعتقدوه - ففعلوا ذلك، ولم يكن يحل لمن هذه صفته التأخر عن مساعدة إمام العدل في قتال البغاة في اعتقاده. وقسم عكس هؤلاء، ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في الطرف الآخر، فوجب عليهم مساعدته، وقتال الباغي عليه. وقسم ثالث اشتبهت عليهم القضية، وتحيروا فيها، ولم يظهر لهم ترجيح أحد الطرفين، فاعتزلوا الفريقين، وكان هذا الاعتزال هو الواجب في حقهم، لأنه لا يحل الإقدام على قتال مسلم، حتى يظهر أنه مستحق لذلك، ولو ظهر لهؤلاء رجحان أحد الطرفين، وأن الحق معه، لما جاز لهم التأخر عن نصرته في قتال البغاة عليه، فكلهم معذورون. رضي الله عنهم، ولهذا اتفق أهل الحق ومن يعتد به في الإجماع على قبول شهاداتهم، ورواياتهم، وكمال عدالتهم. رضي الله عنهم أجمعين. اهـ.

ونحن نقدر مشاعر الإمام النووي في تبرئة ساحتهم جميعا رضي الله عنهم لكنا لا نوافق على تعميم هذه البراءة فهم بشر وليسوا معصومين وكان في جيوش النبي صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه من يقاتل للمغنم، ومن يقاتل حمية، ومن يقاتل للغضب ومن يقاتل ليرى مكانه ولا شك أن هذه الدوافع كانت موجودة في جيش عائشة وعلي رضي الله عنهما في موقعة الجمل التي قتل فيها نحو عشرة آلاف من خيرة الصحابة والتابعين ثم موقعة صفين وقبلهما الفتنة الكبرى ومقتل عثمان رضي الله عنه. ومع أننا لا نبرئ ساحة الجميع - لأن تبرئتهم تقربنا من السوفسطائية شعبة العندية، التي ترى أن الحق يختلف باختلاف ما عند كل واحد - إلا أننا نمسك عن لوم وتعنيف وذم أحد منهم، فلهم من الفضل ما يحملنا على التوقف عن الإساءة إليهم، وإن اعتقدنا أن الصواب كان في هذا الجانب دون هذا الجانب رضي الله عنهم أجمعين. التفاضل بين الصحابة والكلام فيه في مقامين: مقام التفاضل بين الخلفاء الأربعة، ومقام التفاضل بين أزواجه صلى الله عليه وسلم وبناته. أما المقام الأول فقد روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كنا نخير بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فنخير أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان، رضي الله عنهم" وفي رواية له "كنا لا نعدل بأبي بكر أحدا، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا نفاضل بينهم" وله عند أبي داود "كنا نقول - ورسول الله صلى الله عليه وسلم: حي - أفضل أمة النبي صلى الله عليه وسلم بعده أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان" زاد الطبراني "فيسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فلا ينكره" قال الحافظ ابن حجر: وتقديم "عثمان" على "علي" رضي الله عنهما هو المشهور عند جمهور أهل السنة، وذهب بعض السلف إلى تقديم "علي" على "عثمان" وممن قال به سفيان الثوري، ويقال: إنه رجع عنه، وقال به ابن خزيمة وطائفة قبله وبعده، وقال مالك في المدونة: لا يفضل أحدهما على الآخر، وتبعه جماعة. وقال ابن معين: من قال أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعرف لعلي سابقتيه وفضله فهو صاحب سنة، وأنكر ابن معين رأي قوم - وهم العثمانية، الذين يغالون في حب عثمان، ويستنقصون عليا، وقال فيهم قولا غليظا. قال الحافظ ابن حجر: ولا شك في أن من اقتصر على ثلاثة ولم يعرف لعلي بن طالب فضله فهو مذموم وادعى ابن عبد البر أنهم أجمعوا على أن عليا أفضل الخلق بعد الثلاثة، قال: ودل هذا الإجماع على أن حديث ابن عمر [التوقف عند الثلاثة] غلط وإن كان السند صحيحا وتعقب بأنه لا يلزم من سكوتهم إذ ذاك عن تفضيله، عدم تفضيله على الدوام وتعقب أيضا بأن الإجماع المذكور الذي ادعاه، إنما حدث بعد الزمن الذي قيده ابن عمر، فيخرج حديثه عن أن يكون غلطا. قال الحافظ ابن حجر: وأظن أن ابن عبد البر إنما أنكر الزيادة التي وقعت في رواية ابن عمر وهي قوله "ثم نترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا نفاضل بينهم" ولا يلزم من تركهم التفاضل إذ ذاك أن لا يكونوا اعتقدوا بعد ذلك تفضيل "علي" على من سواه.

وذهب قوم إلى أن أفضل الصحابة من استشهد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر منهم جعفر بن أبي طالب، ومنهم من ذكر العباس، قال الحافظ: وهو قول مرغوب عنه، ليس قائله من أهل السنة، ولا من أهل الإيمان. وذهب قوم، وهم الخطابية إلى أن أفضل الصحابة مطلقا عمر، متمسكا بالحديث الآتي في ترجمته في المنام الذي فيه في حق أبي بكر "وفي نزعه ضعف" وهو تمسك واه. وقال بعض أهل السنة من أهل الكوفة بتقديم "علي" على "عثمان". وقال أبو منصور البغدادي: أصحابنا مجمعون على أن أفضل الصحابة الخلفاء الأربعة على الترتيب، ثم تمام العشرة، ثم أهل بدر، ثم أهل أحد، ثم أهل بيعة الرضوان وممن له مزية أهل العقبتين من الأنصار، وكذلك السابقون الأولون، وهم من صلى إلى القبلتين. قال النووي: واختلف العلماء في أن التفضيل المذكور قطعي؟ أم لا وهل هو في الظاهر والباطن؟ أم في الظاهر خاصة، وممن قال بالقطع أبو الحسن الأشعري، قال: وهم في الفضل على ترتيبهم في الإمامة، وممن قال: إنه اجتهادي ظني أبو بكر الباقلاني. ثم قال النووي: وأما عثمان رضي الله عنه فخلافته صحيحة بالإجماع، وقتل مظلوما، وقتلته فسقة لأن موجبات القتل مضبوطة، ولم يجر منه رضي الله عنه ما يقتضيه ولم يشارك في قتله أحد من الصحابة وإنما قتله همج ورعاع من غوغاء القبائل وسفلة الأطراف والأراذل تحزبوا، وقصدوه من مصر، فعجزت الصحابة الحاضرون عن دفعهم فحصروه، حتى قتلوه رضي الله عنه قال: وأما علي رضي الله عنه فخلافته صحيحة بالإجماع وكان هو الخليفة في وقته، لا خلافة لغيره. وأما معاوية رضي الله عنه فهو من العدول الفضلاء والصحابة النجباء رضي الله عنهم. أما عن المقام الثاني، وهو التفاضل بين أمهات المؤمنين وبنات النبي صلى الله عليه وسلم فيقول النووي: اختلف العلماء في عائشة وخديجة، أيتهما أفضل؟ وفي عائشة وفاطمة رضي الله عنهما. اهـ. وسيأتي مزيد لهذه المسألة في باب فضائل خديجة وباب فضائل عائشة وباب فضائل فاطمة رضي الله عنهن جمعاء. من فضائل أبي بكر رضي الله عنه أما عن فضائل أبي بكر رضي الله عنه فقد ذكر البخاري زيادة عما ذكر في بابنا حديث ابن عمر الذي ذكرناه وحديث عمار رضي الله عنه قال "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما معه إلا خمسة أعبد وامرأتان وأبو بكر" أما الأعبد فهم: بلال، وزيد بن حارثة، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، فإنه أسلم قديما مع أبي بكر، وكان ممن يعذب في الله، فاشتراه أبو بكر وأعتقه، وأبو فكيهة، مولى صفوان بن أمية بن خلف، أسلم حين أسلم بلال فعذبه أمية، فاشتراه أبو بكر فأعتقه وأما الخامس فقيل: بشقران، وقيل عمار بن ياسر، وأما المرأتان فخديجة وأم أيمن. كما ذكر البخاري حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما صاحبكم فقد غامر" أي حصلت له خصومة

ومغامرة "فسلم، وقال: يا رسول الله، إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه" في رواية "فأغضب أبو بكر عمر، فانصرف عنه مغضبا، فاتبعه أبو بكر" "ثم ندمت فسألته أن يغفر لي، فأبى علي، فأقبلت إليك، فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثا ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فسأل: أثم أبو بكر؟ فقالوا: لا، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر" أي تذهب نضارته من الغضب، وفي رواية "فجلس عمر، فأعرض عنه - أي النبي صلى الله عليه وسلم - ثم تحول فجلس إلى الجانب الآخر، فأعرض عنه، ثم قام، فجلس بين يديه، فأعرض عنه، فقال: يا رسول الله، ما أرى إعراضك إلا لشيء بلغك عني فما خير حياتي وأنت معرض عني؟ فقال: أنت الذي اعتذر إليك أبو بكر فلم تقبل منه؟ يسألك أخوك أن تستغفر له فلا تفعل؟ "وأشفق أبو بكر، فجثا على ركبتين، فقال: يا رسول الله! والله أنا كنت أظلم - مرتين" "قال عمر: والذي بعثك بالحق، ما من مرة يسألني إلا وأنا أستغفر له، وما خلق الله من أحد أحب إلي منه بعدك، فقال أبو بكر: وأنا والذي بعثك بالحق كذلك" "فقال صلى الله عليه وسلم يخاطب عمر: فهل أنتم تاركوا لي صاحبي"؟ مرتين "فما أوذي بعدهما". كما ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بينا أنا نائم رأيتني على قليب، عليها دلو، فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبي قحافة، فنزع بها ذنوبا أو ذنوبين، وفي نزعه ضعف، والله يغفر له ضعفه، ثم استحالت غربا، فأخذها ابن الخطاب فلم أر عبقريا من الناس ينزع نزع عمر، حتى ضرب الناس بعطن" أي حتى رويت الإبل فأناخت. ثم ذكر حديث وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ثم حديث خطبته في سقيفة بني ساعدة عند البيعة له بالخلافة ثم حديث تبشير أبي بكر بالجنة، ثم حديث "اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان". -[ويؤخذ من الأحاديث]- 1 - من الرواية الأولى عظيم توكل النبي صلى الله عليه وسلم حتى في هذا المقام. 2 - وفيها مدى خوف أبي بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم. 3 - من قوله "ما ظنك باثنين، الله ثالثهما" منقبة ظاهرة لأبي بكر رضي الله عنه. 4 - ومن الرواية الثانية من قول أبي بكر: فديناك بآبائنا وأمهاتنا جواز التفدية. 5 - والترغيب في اختيار الآخرة على الدنيا. 6 - والإشارة بالعلم الخاص، دون التصريح، لإثارة أفهام السامعين. 7 - وتفاوت العلماء في الفهم. 8 - وشكر المحسن والتنويه بفضله، والثناء عليه. 9 - من أحاديث الأمر بسد الخوخات واستثناء خوخة أبي بكر خصوصية عظيمة لأبي بكر رضي الله عنه. 10 - قال ابن بطال: فيه أن المرشح للإمامة يخص بكرامة تدل عليه، كما وقع في حق الصديق في هذه القصة. 11 - وقال الحافظ ابن حجر: ويؤخذ منه أن للخليل صفة خاصة، تقتضي عدم المشاركة فيها.

12 - وأن المساجد تصان عن التطرق إليها لغير ضرورة. 13 - جاءت بعض الأحاديث بالأمر بسد الأبواب إلا باب علي رضي الله عنه، فعند أحمد والنسائي بإسناد قوي، عن سعد بن أبي وقاص، قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب الشارعة في المسجد، وترك باب علي" وعند الطبراني في الأوسط برجال ثقات زيادة "فقالوا: يا رسول الله! سددت أبوابنا؟ فقال: ما أنا سددتها ولكن الله سدها" وعن زيد بن أرقم قال: "كان لنفر من الصحابة أبواب شارعة في المسجد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سدوا هذه الأبواب إلا باب علي، فتكلم ناس في ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني والله! ما سددت شيئا ولا فتحته ولكن أمرت بشيء، فاتبعته" أخرجهما أحمد والنسائي والحاكم ورجاله ثقات وعن ابن عباس قال: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبواب المسجد، فسدت، إلا باب علي" وفي رواية "وأمر بسد الأبواب غير باب علي، فكان يدخل المسجد وهو جنب، ليس له طريق غيره" أخرجها أحمد والنسائي، ورجالهما ثقات وعن جابر بن سمرة قال" أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب كلها غير باب علي، فربما مر فيه وهو جنب" أخرجه الطبراني وعن ابن عمر قال: "كنا نقول في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم: رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الناس ثم أبو بكر ثم عمر ولقد أعطي علي بن أبي طالب ثلاث خصال لأن يكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم: زوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته، وولدت له وسد الأبواب إلا بابه في المسجد، وأعطاه الراية يوم خيبر" أخرجه أحمد، وإسناده حسن، وعند النسائي نحوه وقال فيه: "وأما علي فلا تسأل عنه أحدا، وانظر إلى منزلته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سد أبوابنا في المسجد وأقر بابه" ورجاله رجال الصحيح إلا العلاء وقد وثقه يحيى بن معين وغيره. قال الحافظ ابن حجر: وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا، وكل طريق منها صالح للاحتجاج به فضلا عن مجموعها قال: وقد أورد ابن الجوزي هذا الحديث في الموضوعات أخرجه من حديث سعد بن أبي وقاص وزيد بن أرقم وابن عمر مقتصرا على بعض طرقه عنهم وأعله ببعض من تكلم فيه من رواته قال الحافظ: وليس ذلك بقادح لما ذكرت من كثرة الطرق، وأعله أيضا بأنه مخالف للأحاديث الصحيحة الثابتة في باب أبي بكر وزعم أنه من وضع الرافضة قابلوا به الحديث الصحيح في أبي بكر. اهـ. قال الحافظ: وأخطأ في ذلك خطأ شنيعا، فإنه سلك في ذلك رد الأحاديث الصحيحة بتوهمه المعارضة مع أن الجمع بين القصتين ممكن، وقد أشار إلى ذلك البزار في مسنده فقال: ورد من روايات أهل الكوفة بأسانيد حسان في قصة علي وورد من روايات أهل المدينة في قصة أبي بكر، فإن ثبتت روايات أهل الكوفة فالجمع بينهما بما دل عليه حديث أبي سعيد الخدري، الذي أخرجه الترمذي "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لأحد أن يطرق هذا المسجد جنبا غيري وغيرك" والمعنى أن باب علي كان إلى جهة المسجد، ولم يكن لبيته باب غيره، فلذلك لم يؤمر بسده، ومحصل الجمع أن الأمر بسد الأبواب وقع مرتين، ففي الأولى استثنى باب علي، لما ذكره وفي الثانية استثنى باب أبي بكر ولكن لا يتم ذلك إلا بأن يحمل ما في قصة "علي" على الباب الحقيقي، وما في قصة أبي بكر على الباب المجازي، والمراد به الخوخة، كما صرح به في بعض طرقه، وكأنهم لما أمروا بسد الأبواب سدوها وأحدثوا خوخا، يستقربون بها الدخول إلى المسجد،

فأمروا بعد ذلك بسدها فهذه طريقة لا بأس بها في الجمع بين الحديثين وبها جمع بين الحديثين المذكورين أبو جعفر الطحاوي في مشكل الآثار، وأبو بكر الكلاباذي في معاني الأخبار وصرح بأن بيت أبي بكر كان له باب من خارج المسجد، وخوخة إلى داخل المسجد وبيت علي لم يكن له باب إلا من داخل المسجد، والله أعلم. هذا ما ذكره الحافظ ابن حجر في هذه المسألة. وأميل إلى ما ذهب إليه ابن الجوزي، ففي أحاديث باب "علي" رضي الله عنه رائحة الوضع، والجمع الذي جمعوا به بين الحديثين بعيد جدا، من وجوه: الأول أنه يفرق بين الباب والخوخة وهما واحد من حيث الغرض الذي هو قرب الوصول من البيت إلى المسجد فكيف ينهى عن أحدهما مرة؟ وعن الثاني أخرى؟ الثاني لو صح أن الأبواب سدت وبقي باب علي، واستحدثت خوخات بدل الأبواب وسدت الخوخات إلا خوخة أبي بكر، ما مصير باب "علي" المستثنى؟ لم يقل أحد إنه ظل مفتوحا بعد سد الخوخات، وإن كان قد سد مع الخوخات سلم لأبي بكر الاختصاص ببقاء خوخته، دون الأبواب والخوخات الثالث لو كان هذا الجمع واقعا لنقل إلينا في رواية من الروايات لتبقى فضيلة أبي بكر وتثبت معها - في الخصلة نفسها فضيلة لعلي، الرابع أن الجمع في الوقائع والأحداث لا يكون بالاحتمال بل بإثبات الواقعة والله أعلم. 14 - ومن الرواية التاسعة من قول السائل: "من كان مستخلفا لو استخلفه" أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعين الخليفة بعده، إذ لو كان هناك نص لما اختلفوا في اجتماع السقيفة، ولا تفاوضوا فيه، قال الحافظ ابن حجر: وهذا قول جمهور أهل السنة واستند من قال: إنه نص على خلافة أبي بكر بأصول كلية، وقرائن حالية تقتضي أنه أحق بالإمامة وأولى بالخلافة. اهـ. من ذلك إمامته للصلاة في مرض الرسول صلى الله عليه وسلم وروايتنا العاشرة والحادية عشرة. 15 - ومن الرواية الحادية عشرة إشارة إلى أن نزاعا سيقع، ووقع. 16 - وفيه إخبار بما سيقع في المستقبل بعد وفاته، وأن المسلمين يأبون عقد الخلافة لغيره. 17 - وفيه استمالة قلب الزوجة والإفضاء إليها بما يستره عن غيرها. 18 - وفي الرواية الثانية عشرة، من فضائل أبي بكر، وأعماله الصالحات. 19 - وفضيلة أعمال الخير المذكورة. 20 - ومن الرواية الثالثة عشرة خرق العادات وكرامات الأولياء قال النووي: وهو مذهب أهل الحق. 21 - وجواز التعجب من خوارق العادات. 22 - وتفاوت الناس في المعارف. 23 - وفضيلة ظاهرة لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما. (فائدة) قال الزبير بن بكار: مات أبو بكر رضي الله عنه بمرض السل، وقال الواقدي: إنه اغتسل في يوم بارد فحم خمسة عشر يوما، وقيل: بل بالسم في طعام دسته له اليهود ومات لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة ولم يختلفوا أنه استكمل سن النبي صلى الله عليه وسلم فمات وهو ابن ثلاث وستين رضي الله عنه. والله أعلم.

(633) باب من فضائل عمر رضي الله عنه

(633) باب من فضائل عمر رضي الله عنه 5388 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: وضع عمر بن الخطاب على سريره فتكنفه الناس يدعون ويثنون ويصلون عليه. قبل أن يرفع، وأنا فيهم. قال فلم يرعني إلا برجل قد أخذ بمنكبي من ورائي فالتفت إليه فإذا هو علي. فترحم على عمر وقال: ما خلفت أحدا أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك. وايم الله! إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك. وذاك أني كنت أكثر أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "جئت أنا وأبو بكر وعمر. ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر" فإن كنت لأرجو، أو لأظن أن يجعلك الله معهما. 5389 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينا أنا نائم، رأيت الناس يعرضون وعليهم قمص. منها ما يبلغ الثدي ومنها ما يبلغ دون ذلك ومر عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره" قالوا: ماذا أولت ذلك؟ يا رسول الله! قال: "الدين". 5390 - عن حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب عن أبيه رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينا أنا نائم إذ رأيت قدحا أتيت به فيه لبن فشربت منه حتى إني لأرى الري يجري في أظفاري ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب" قالوا: فما أولت ذلك؟ يا رسول الله! قال: "العلم". 5391 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بينا أنا نائم رأيتني على قليب عليها دلو فنزعت منها ما شاء الله ثم أخذها ابن أبي قحافة فنزع بها ذنوبا أو

ذنوبين وفي نزعه والله يغفر له ضعف. ثم استحالت غربا فأخذها ابن الخطاب فلم أر عبقريا من الناس ينزع نزع عمر بن الخطاب حتى ضرب الناس بعطن". 5392 - وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت ابن أبي قحافة ينزع" بنحو حديث الزهري. 5393 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بينا أنا نائم أريت أني أنزع على حوضي أسقي الناس. فجاءني أبو بكر فأخذ الدلو من يدي ليروحني. فنزع دلوين. وفي نزعه ضعف والله يغفر له فجاء ابن الخطاب فأخذ منه فلم أر نزع رجل قط أقوى منه حتى تولى الناس والحوض ملآن يتفجر". 5394 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أريت كأني أنزع بدلو بكرة على قليب فجاء أبو بكر فنزع ذنوبا أو ذنوبين. فنزع نزعا ضعيفا والله تبارك وتعالى يغفر له. ثم جاء عمر فاستقى فاستحالت غربا، فلم أر عبقريا من الناس يفري فريه. حتى روي الناس وضربوا العطن". 5395 - عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دخلت الجنة فرأيت فيها دارا أو قصرا فقلت: لمن هذا؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب فأردت أن أدخل فذكرت غيرتك" فبكى عمر وقال: أي رسول الله! أوعليك يغار؟ 5396 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بينا أنا نائم إذ رأيتني

في الجنة فإذا امرأة توضأ إلى جانب قصر فقلت: لمن هذا؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب فذكرت غيرة عمر. فوليت مدبرا" قال أبو هريرة: فبكى عمر ونحن جميعا في ذلك المجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال عمر. بأبي أنت: يا رسول الله! أعليك أغار؟ . 5397 - عن محمد بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن أباه سعدا قال: "استأذن عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده نساء من قريش يكلمنه ويستكثرنه. عالية أصواتهن. فلما استأذن عمر قمن يبتدرن الحجاب. فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي؟ فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب" قال عمر: فأنت يا رسول الله! أحق أن يهبن. ثم قال عمر: أي عدوات أنفسهن! أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلن: نعم. أنت أغلظ وأفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده! ما لقيك الشيطان قط سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك". 5398 - وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده نسوة قد رفعن أصواتهن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما استأذن عمر ابتدرن الحجاب. فذكر نحو حديث الزهري. 5399 - عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: "قد كان يكون في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم" قال ابن وهب: تفسير محدثون ملهمون. 5400 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال عمر: وافقت ربي في ثلاث: في مقام إبراهيم وفي الحجاب وفي أسارى بدر.

5401 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما توفي عبد الله ابن أبي ابن سلول جاء ابنه عبد الله ابن عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه أن يكفن فيه أباه. فأعطاه ثم سأله أن يصلي عليه. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه. فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما خيرني الله فقال {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة} [التوبة/ 80] وسأزيد على سبعين" قال: إنه منافق فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله عز وجل {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره} [التوبة: 84]. 5402 - وفي رواية عن عبيد الله بهذا الإسناد في معنى حديث أبي أسامة وزاد: قال: فترك الصلاة عليهم. -[المعنى العام]- عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، مناقبه كثيرة وفضائله جمة فهو مؤسس دولة الإسلام كدولة ذات أجهزة إدارية وفنية. وتعداد المناقب لا يستلزم الحصر ولا يستلزم أن المذكور أفضلها فقد تثيرك الفضيلة الكبرى اعتمادا على شهرتها ولقد كان له فضل حسم موضوع الخلافة لأبي بكر رضي الله عنهما يوم أن مد يده إليه في سقيفة بني ساعدة وقال له: امدد يدك نبايعك بالخلافة فتتابع الصحابة يبايعون، وكان من أزهد زهاد الدنيا في خلافته وأعدل الخلفاء والحكام على الإطلاق. إن ذكر بعض فضائله في كتب الحديث كشاهد على غيرها وكمصباح ينير جوانب الحياة ومن يشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحتاج شهيدا آخر فكيف إذا كانت الشهادة عن قرب وعن طول صحبة لقد كان عمر من السابقين إلى الإسلام كان إسلامه مكملا الأربعين من المسلمين ولم يكن إسلامه إسلام فرد بل كان إسلام أمة كان الإسلام يتمناه على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان يدعو ربه: اللهم أعز الإسلام بعمر وأعز الله به الإسلام حقا لقد كان المسلمون قبل إسلام عمر يعبدون الله خفية ويسلم المسلم منهم سرا عن صناديد قريش فلما أسلم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! أنحن على الحق أم على الباطل؟ قال: نحن على الحق. قال: فعلام نخفي ديننا ونحن على الحق وهم على الباطل؟ والذي بعثك بالحق. لا يبقى مجلس جلست فيه بالكفر إلا جلست فيه معلنا الإيمان وخرج بالصحابة المسلمين صفين من دار أخته إلى المسجد الحرام، والكفار ينظرون لا يجرءون على الاعتراض ومن هنا لقب الفاروق لأنه بإسلامه فرق بين الإسرار بالدعوة والإيمان وبين الجهر بهما.

ولقد مدحه رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا وأثنى عليه كثيرا، وكان من استمرار صحبته له يقول: ذهبت إلى كذا أنا وأبو بكر وعمر ودخلنا كذا أنا وأبو بكر وعمر ورجعنا من كذا أنا وأبو بكر وعمر وآمنت بكذا أنا وأبو بكر وعمر حتى استقر في نفوس الصحابة اتصالا فريدا بين الثلاثة يوحي بصحبتهم بعد الموت وقد كان حيث دفنوا في مقابر ثلاث في حجرة واحدة. كما أشار صلى الله عليه وسلم إلى علم عمر وإيمان عمر وغيرة عمر بما رآه في منامه صلى الله عليه وسلم وموافقات عمر لأحكام شرعية قبل تشريعها كثيرة منها قول عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو اتخذنا مقام إبراهيم مصلى فنزل قوله تعالى {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} [البقرة: 125] وقال للرسول صلى الله عليه وسلم: احجب نساءك حيث يدخل عليك البر والفاجر فنزلت آية حجاب أمهات المؤمنين وحاول منع الرسول صلى الله عليه وسلم من الصلاة على عبد الله بن أبي المنافق لكن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى عليه فنزل قوله تعالى {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا} [التوبة: 84]. وهكذا كان عمر رضي الله عنه ينطق بالحق وهكذا جعل الله الحق على لسان عمر وقلبه رضي الله عنه وأرضاه ورضي عن الصحابة أجمعين. -[المباحث العربية]- (وضع عمر بن الخطاب على سريره) أي على نعشه لما مات وعمر بن الخطاب بن نفيل بضم النون مصغرا ابن عبد العزى بن رياح - بكسر الراء وبالياء ابن عبد الله بن قرط بن رزاح - بفتح الراء، ابن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في كعب، وعدد ما بينهما من الآباء إلى كعب متفاوت بواحد بخلاف أبي بكر فبين النبي صلى الله عليه وسلم وكعب سبعة آباء وبين عمر وبين كعب ثمانية، وأم عمر حنتمة بنت هاشم بن المغيرة ابنة عم أبي جهل والحارث ابني هشام بن المغيرة كنيته أبو حفص كناه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت حفصة أكبر أولاده ولقبه الفاروق، قيل: لقبه بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: أهل الكتاب، وقيل: جبريل. (فتكنفه الناس) أي أحاطوا به، وأصله جعلوه في كنفهم، وكنف الإنسان جانبه، وكنفا الرجل حضناه وكنفا الطائر جناحاه والمراد من الناس بعض الصحابة وكبارهم. (يدعون، ويثنون، ويصلون عليه) أي يدعون له بخير، ويثنون عليه ثناء جميلا، ويصلون عليه أي يدعون له بلفظ الصلاة والصلاة من الله الرحمة. (قبل أن يرفع) في نعشه إلى قبره. (وأنا فيهم) من كلام ابن عباس، أي وأنا محيط به معهم. (فلم يرعني إلا برجل قد أخذ بمنكبي من ورائي) أي لم يفزعني إلا رجل فالباء زائدة وفي رواية البخاري "فلم يرعني إلا رجل آخذ منكبي" أي واضع يده على كتفي، والمراد أنه رآه بغتة، وهو منشغل بالمنظر، ففزع.

قال النووي: "يرعني" بفتح الياء وضم الراء، ومعناه لم يفجأني إلا ذلك، قال "برجل" هكذا هو في جميع النسخ، بالباء، أي لم يفجأني الأمر في الحال إلا برجل اهـ. وجملة "قد أخذ بمنكبي" صفة "رجل" (فالتفت إليه فإذا هو علي فترحم على عمر) أي دعا له بالرحمة وفي رواية للبخاري "فقال: يرحمك الله". (وقال: ما خلفت أحدا أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك) "ما خلفت" بفتح الخاء وتشديد اللام المفتوحة والتاء للخطاب والمعنى لا أحد أحب أن ألقى الله بمثل عمله إلا أنت، أي أتمنى أن ألقى الله بمثل عملك. (وأيم الله) "أيم" اسم، خبر لمبتدأ محذوف أي يمين الله قسمي وجوز بعضهم جره بحرف القسم. (إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك) رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وفي آخر رواية "فإن كنت لأرجو - أو لأظن - أن يجعلك الله معهما" وإعادة الجملة السابقة للتأكيد، و"إن" مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، أي إن الحال والشأن أنني كنت أظن وأعتقد أن الله سيجعلك في صحبة صاحبيك في الجنة وفي الفضل، بل وفي مكان الدفن، فقد استأذن - قبل أن يموت - عائشة في أن يدفن في بيتها مع صاحبيه فأذنت له. ثم علل هذا الظن أنه فهمه من كثرة الملازمة في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي بكر وعمر (بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون وعليهم قمص) بضم القاف والميم، جمع قميص، والرؤيا رؤيا منام "ويعرضون" بضم الياء من العرض يوم القيامة، ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادا، أي على كل واحد قميص. (منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما يبلغ دون ذلك) "الثدي" بضم الثاء وكسر الدال وتشديد الياء، ومن المعروف أن القميص يلبس على الصدر إلى الركبة غالبا، فكونه إلى الثدي كناية عن القصر والصغر، وكونه دون ذلك أي أعلى من الثدي أو تحت الثدي كناية عن القصر أيضا. (ومر عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره) أي يلبسه، فيسبغ جسمه كله، حتى يجره على الأرض لطوله. (قالوا: ماذا أولت ذلك يا رسول الله؟ ) جاء في بعض الروايات أن السائل عن ذلك أبو بكر (قال: الدين) قال أهل تعبير المنام: القميص في المنام معناه الدين، وجره يدل على بقاء آثاره الجميلة، وسنته الحسنة في المسلمين بعد وفاته، ليقتدي به. (بينا أنا نائم إذ رأيت قدحا، أتيت به، فيه لبن فشربت منه) أي من القدح أو من اللبن.

(حتى إني لأرى الري يجري في أظفاري) "إني" يجوز فتح الهمزة وكسرها، ورؤية الري على سبيل الاستعارة، كأنه لما جعل الري جسما أضاف إليه ما هو من خواص الجسم، وهو كونه مرئيا، وكان الأصل أن يقول: حتى رأيت الري بالفعل الماضي لكنه عبر بالمضارع استحضارا للصورة والرؤية بصرية والري بكسر الراء، ويجوز فتحها. (ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب) في رواية البخاري "ثم ناولت عمر" وفي رواية "ثم ناولت فضلي" والفضل والفضيلة ما فضل. (قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: العلم) "العلم" بالنصب، أي أولته العلم، وبالرفع، أي المؤول به هو العلم، وفي رواية "فقالوا: هذا العلم الذي آتاكه الله، حتى إذا امتلأت فضلت منه فضلة، فأخذها عمر، قال: أصبتم" فإن صحت هذه الرواية احتمل أن يكون بعضهم أول، وبعضهم سأل، ووجه التعبير بذلك من جهة اشتراك اللبن والعلم في كثرة النفع، وكونها سببا للصلاح، فاللبن للغذاء البدني، والعلم للغذاء المعنوي. (بينما أنا نائم رأيتني على قليب) "القليب" البئر غير المطوية، أي غير المبينة، وغير السقوفة. (عليها دلو) "الدلو" يذكر ويؤنث، وفي الرواية الخامسة "أريت أني أنزع على حوضي، أسقي الناس" وفي الرواية السادسة "أريت كأني أنزع بدلو بكرة على قليب" "بكرة" بفتح الباء وسكون الكاف على المشهور، وحكى بعضهم تثليث أوله والمراد الخشبة المستديرة التي يعلق فيها الدلو، فتلف به، قيل: ويجوز إسكان الكاف على أن المراد بها الأنثى الشابة من الإبل نسبت الدلو إليها، لأنها التي يستقى بها. (فنزعت منها ما شاء الله) استقيت بالدلو، وأخرجت من البئر ماء، ما شاء الله في كثرته. (ثم أخذها ابن أبي قحافة، فنزع بها ذنوبا أو ذنوبين) "الذنوب" بفتح الذال الدلو المملوءة. (وفي نزعه - والله يغفر له - ضعف) بسكون العين، مع فتح الضاد وضمها، لغتان مشهورتان. وفي الرواية الخامسة "فجاءني أبو بكر، فأخذ الدلو من يدي ليروحني" بضم الياء وفتح الراء وتشديد الواو المكسورة أي ليريحني من النصب والتعب "فنزع دلوين، وفي نزعه ضعف" وفي الرواية السادسة "فجاء أبو بكر فنزع ذنوبا أو ذنوبين فنزع نزعا ضعيفا" (ثم استحالت غربا) "الغرب" بفتح الغين وسكون الراء، الدلو الكبيرة العظيمة، أي ثم تحولت الدلو الصغيرة إلى كبيرة. (فأخذها ابن الخطاب، فلم أر عبقريا من الناس، ينزع نزع عمر بن الخطاب) "العبقري" بكسر الراء وتشديد الياء، قيل: السيد، وقيل: الذي ليس فوقه شيء، وقيل: النافذ الماضي الذي لا شيء يفوقه، قال أبو عمر: عبقري القوم سيدهم وقيمهم وكبيرهم، والمعنى: فلم أر عظيما من

عظماء الرجال يسقي بدلو ويخرج ماء من البئر، مثل عمر، وفي الرواية السادسة ورواية البخاري "فلم أر عبقريا من الناس يفري فريه" "يفري" بفتح الياء وكسر الراء بينهما فاء ساكنة، و"فريه" قال النووي: روي بوجهين، أحدهما بإسكان الراء وتخفيف الياء، والثانية كسر الراء وتشديد الياء، وهما لغتان صحيحتان، وأنكر الخليل التشديد، وقال: هو غلط، واتفقوا على أن معناه: لم أر سيدا يعمل عمله، ويقطع قطعه، وأصل الفري بالإسكان القطع يقال: فريت الشيء أفريه فريا قطعته للإصلاح فهو مفري وفري وأفريته إذا شققته على جهة الإفساد. اهـ. وفي الرواية الخامسة "فلم أر نزع رجل قط أقوى منه". (حتى ضرب الناس بعطن) بفتح العين والطاء، وهو الموضع الذي تساق إليه الإبل بعد السقي لتسريح، والمعنى: حتى سقى الناس إبلهم وذهبوا بها إلى مباركها وزووها، وفي الرواية الخامسة "حتى تولى الناس" أي حتى انصرفوا بإبلهم "والحوض ملآن، يتفجر" وكانوا يخرجون الماء من البئر ويصبونه في حوض على حافته، لتشرب الإبل من الحوض، والمراد من تفجر الحوض سيلان الماء من حافته بعد امتلائه. يقال: ضرب الرجل في الأرض إذا ذهب وأبعد، وضرب الشيء عليه ألزمه إياه، وضرب الشيء بالشيء خلطه به، وفي الرواية السادسة "حتى روي الناس وضربوا العطن" قال النووي قال القاضي: ظاهره أنه عائد إلى خلافة عمر خاصة، وقيل: يعود إلى خلافة أبي بكر وعمر جميعا، لأن بنظرهما وتدبيرهما وقيامهما بمصالح المسلمين تم هذا الأمر، وضرب الناس بعطن لأن أبا بكر قمع أهل الردة، وجمع شمل المسلمين وألفهم وابتدأ الفتوح ومهد الأمور وتمت ثمرات ذلك، وتكاملت في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما. (دخلت الجنة، فرأيت فيها دارا أو قصرا، فقلت: لمن هذا؟ ) القصر وفي الرواية الثامنة "بينا أنا نائم، إذ رأيتني في الجنة فإذا امرأة توضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا"؟ وفي رواية للبخاري "ورأيت قصرا، بفنائه جارية فقلت: لمن هذا؟ " وفي رواية "لمن هذا القصر"؟ وفي رواية للبخاري "فإذا أنا بالرميضاء امرأة أبي طلحة" وهي أم سليم، والرميضاء صفة لها، لرمض كان بعينها، وقيل: هو اسم أختها، أم حرام، وقيل: اسم أخت أم سليم من الرضاعة، وجوز ابن التين أن يكون المراد امرأة أخرى لأبي طلحة وفي رواية للبخاري "وسمعت خشفة" بفتح الخاء والشين والفاء، أي حركة أو صوتا خفيفا "فقلت: من هذا؟ فقال: هذا بلال" قال الحافظ ابن حجر: والظاهر أن المخاطب بقوله "لمن هذا؟ " جبريل أو غيره من الملائكة. وقوله "تتوضأ" يحتمل أن يكون على ظاهره، ولا ينكر كونها تتوضأ حقيقة، لأن الرؤيا وقعت في زمن التكليف، والجنة وإن كان لا تكليف فيها، فذاك في زمن الاستقرار، بل ظاهر قوله "تتوضأ إلى جانب قصر" أنها تتوضأ خارجة منه، أو هو على غير الحقيقة، ورؤيا المنام لا تحمل دائما على الحقيقة، بل تحتمل التأويل، فيكون معنى قوله "تتوضأ" أنها تحافظ في الدنيا على العبادة أو المراد بقوله "تتوضأ" أي تستعمل الماء، لأجل الوضاءة، على مدلوله اللغوي قال الحافظ ابن حجر: وزعم ابن قتيبة والخطابي أن قوله "تتوضأ" تصحيف وتغيير من الناسخ وإنما الصواب "امرأة شوهاء"

ولم يستند في هذه الدعوى إلا إلى استبعاد أن يقع في الجنة وضوء، لأنه لا عمل فيها وعدم الاطلاع على المراد من الخبر لا يقتضي تغليط الحفاظ، ثم فسر الخطابي "شوهاء" بمعنى حسناء، والكلمة تستعمل في النقيضين. (فقالوا: لعمر بن الخطاب، فأردت أن أدخل، فذكرت غيرتك) والخطاب لعمر فقد كان حاضرا قص الرؤيا، وفي الرواية الثامنة "فذكرت غيرة عمر، فوليت مدبرا" وفي رواية للبخاري "فأردت أن أدخله فلم يمنعني إلا علمي بغيرتك" (فبكى عمر، وقال: أي رسول الله، أوعليك أغار؟ ) "أي" حرف نداء، و"أو" بفتح الواو حرف عطف، والهمزة للاستفهام الإنكاري، والعطف على محذوف، أي أأشك فيك وأغار منك؟ لا يحصل شيء من ذلك، أي لا أشك فيك ولا أغار منك، فأنت عندي ثقة مأمون. وأصل التعبير: أعليها أغار منك فحصل قلب وفي الرواية الثامنة "قال أبو هريرة: فبكى عمر، ونحن جميعا في ذلك المجلس، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال عمر: بأبي أنت يا رسول الله! أعليك أغار"؟ قال ابن بطال: وبكاء عمر يحتمل أن يكون سرورا ويحتمل أن يكون تشوقا أو خشوعا وزاد في رواية "قال عمر: وهل رفعني الله إلا بك؟ وهل هداني الله إلا بك"؟ (استأذن عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده نساء من قريش، يكلمنه، ويستكثرنه، عالية أصواتهن) قال الحافظ ابن حجر: هن من أزواجه ويحتمل أن يكون معهن من غيرهن، لكن قرينة قوله "يستكثرنه" أي يطلبن منه أكثر مما يعطيهن، يؤيد أنهن من أزواجه صلى الله عليه وسلم، وزعم الداودي أن المراد أنهن يكثرن الكلام عنده، وهو مردود بما وقع التصريح به "أنهن يطلبن النفقة" كذا قال الحافظ ابن حجر، قلت: ومراد الداودي يكثرن الكلام في طلب زيادة النفقة، فقوله ليس مردودا، بدليل قوله "عالية أصواتهن" زاد البخاري "على صوته" و"عالية" يجوز فيه الرفع على الصفة، والنصب على الحال "وأصواتهن" بالرفع فاعل "عالية". (فلما استأذن عمر قمن يبتدرن الحجاب) يقال: ابتدر فلانا بكذا عاجله به، وابتدر القوم الشيء تسارعوا إليه، والظاهر أن المراد من القيام البدء والإنشاء، لكن قوله "عجبت من هؤلاء اللائي كن عندي" يشعر أنهن قمن من مجلسهن، لحجب شخوصهن، لكن خطاب عمر لهن بعد، يوحي بأنهن رجعن إلى جلستهن. (أضحك الله سنك) قال الحافظ ابن حجر: لم يرد به الدعاء بكثرة الضحك، بل لازمه، وهو السرور، أو نفي ضد لازمه، وهو الحزن. (قال عمر: فأنت يا رسول الله، أحق أن يهبن) أي أنت أحق مني بالهيبة والاحترام والتوقير. (ثم قال عمر: أي عدوات أنفسهن) "أي" بسكون الياء، حرف نداء، ووصفهن بهذا الوصف لأن الذي يفعل الخطأ عدو نفسه، فهو يوقعها في الضرر.

(أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ) الاستفهام إنكاري توبيخي أي ما كان ينبغي لكن أن تفعلن ذلك والإنكار ليس لابتدارهن الحجاب، وإنما لرفع الصوت والمطالبة والإلحاح. (أنت أغلظ وأفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال النووي: الفظ والغليظ بمعنى، وهو عبارة عن شدة الخلق وخشونة الجانب، قال العلماء: وليست لفظة "أفعل" هنا للمفاضلة، بل هي بمعنى "فظ" و"غليظ" أي فليست الصيغة هنا على أصلها، الذي هو مشاركة اثنين في صفة وزيادة أحدهما عن الآخر في هذه الصفة، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس فيه أصل هذه الصفة، لقوله تعالى {ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك} [آل عمران: 159] فهذه الصيغة هنا من قبيل قوله تعالى {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا} [الفرقان: 24]- قال القاضي: وقد يصح حملها على المفاضلة، وأن القدر الذي منها في الرسول صلى الله عليه وسلم هو ما كان من إغلاظه على الكافرين والمنافقين، كما قال تعالى {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} [التوبة: 73] وكان يغضب ويغلظ عند انتهاك حرمات الله. اهـ. وقوله تعالى {ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك} نفي تلك الصفة كصفة لازمة، فلا ينافي مجرد وجودها في بعض الأحوال، فكان صلى الله عليه وسلم يغضب للحق أحيانا، ولا يواجه بالعتاب أو المؤاخذة أحيانا، أما عمر فكان يواجه بالمؤاخذة، ويبالغ في الزجر، حتى كان يضرب بالعصا. (والذي نفسي بيده. ما لقيك الشيطان قط، سالكا فجا، إلا سلك فجا غير فجك) الفج الطريق الواسعة قال النووي: هذا محمول على ظاهره، وأن الشيطان يهرب إذا رآه، وقال عياض: يحتمل أن يكون ذاك على سبيل ضرب المثل، وأن عمر فارق سبيل الشيطان، وسلك طريق السداد، فخالف كل ما يحبه الشيطان. قال النووي: والصحيح الأول. (قد كان يكون في الأمم قبلكم محدثون) قال العلماء: اختلف في المراد من "محدثون" بفتح الدال المشددة، اسم مفعول، أي يحدثهم الله، أو الملائكة، فقيل: ملهمون، قاله الأكثرون، قالوا: المحدث هو الرجل الصادق الظن، وهو من ألقي في روعه شيء من قبل الملأ الأعلى، فيكون كالذي حدثه غيره به وقيل: من يجري الصواب على لسانه من غير قصد، وقيل: مكلمون - بفتح اللام المشددة، تتكلم الملائكة على لسانهم وهو قريب من المعنى الأول، فهم مكلمون، لا يرون مكلما في الحقيقة فيرجع إلى الإلهام وفسره ابن التين بالتفرس وفي مسند الحميدي: المحدث الملهم بالصواب الذي يلقى على فيه، وقيل: المصيب بغير نبوة وقيل: مفهمون، بفتح الهاء المشددة فعند أحمد والترمذي "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه". (فإن يكن في أمتي منهم أحد، فإن عمر بن الخطاب منهم) في رواية للبخاري "لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون - بفتح الياء، أي يتكلمون - من غير أن يكونوا أنبياء فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر". وكان الظاهر أن يقول: إن عمر منهم، بدون شك أو ترديد أو تعليق، لأن أمته صلى الله عليه وسلم أفضل الأمم، وإذا ثبت أن ذلك وجد في غيرهم، فإمكان وجوده فيهم أولى، وإنما أورده بهذا المورد

للتأكيد، كما يقول الرجل: إن يكن لي صديق فإنه فلان يريد اختصاصه بكمال الصداقة لا نفي الأصدقاء قال الحافظ ابن حجر: وهذا وإن جاز أن يقع، لكنه نادر ممن يكون أمره منهم مبينا على اتباع الكتاب والسنة قال: وتمحضت الحكمة في وجودهم وكثرتهم بعد العصر الأول، في زيادة شرف هذه الأمة بوجود أمثالهم فيه، وقد تكون الحكمة في تكثيرهم مضاهاة بني إسرائيل في كثرة الأنبياء فيهم، فلما فات هذه الأمة كثرة الأنبياء فيها، لكون نبيها خاتم الأنبياء، عوضوا بكثرة الملهمين. اهـ. وهكذا ينحو الحافظ نحو الأولياء والكرامات والإلهامات، ولسنا معه في هذا النحو، بل نحن مع الطيبي إذ يقول: المراد بالمحدث الملهم، البالغ في ذلك مبلغ النبي في الصدق والمعنى لقد كان فيمن قبلكم من الأمم أنبياء ملهمون، فإن يكن في أمتي أحد هذا شأنه فهو عمر، فكأنه حكم بانقطاع قرينه في ذلك، ويؤيده حديث "لو كان بعدي نبي لكان عمر" فلو فيه بمنزلة "إن" أي على سبيل الفرض والتقدير وقد أخرجه أحمد والترمذي وحسنه وابن حبان والحاكم والطبراني في الأوسط. والسبب في تخصيص عمر بذلك كثرة ما وقع له زمن النبي صلى الله عليه وسلم من الموافقات التي نزل القرآن مطابقا لها، ووقع له بعد النبي صلى الله عليه وسلم عدة إصابات. (وافقت ربي في ثلاث) وقائع، قال الحافظ ابن حجر: والمعنى: وافقني ربي، فأنزل القرآن على وفق ما رأيت، لكن لرعاية الأدب أسند الموافقة إلى نفسه، أو أشار بذلك إلى حدوث رأيه وقدم الحكم، قال: وليس في تخصيصه العدد بالثلاث ما ينفي الزيادة عليها، لأنه حصلت له الموافقة في أشياء غير هذه، من مشهورها قصة أسارى بدر، وقصة الصلاة على المنافقين، قال: وأكثر ما وقفنا عليه منها بالتعيين خمس عشرة. اهـ. (في مقام إبراهيم) بدل من "ثلاث" أي في طلب الصلاة في مقام إبراهيم، ومقام إبراهيم معروف الآن في المسجد الحرام، مواجه لباب الكعبة، على مسافة سبعة وعشرين ذراعا وقد أحيط بمقصورة من الزجاج، وعن أصله قيل: إنه الحجر الذي قام عليه إبراهيم حين ارتفع به بناء الكعبة، فأثرت فيه أصابع إبراهيم وعلمت وغاصت، ولكن الناس تماسحوا فيه حتى انمحى الأثر أو كاد، قيل: وكان المقام في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ملتصقا بالكعبة، ثم أخره عمر إلى مكانه الآن، لما رأى أن بقاءه يضيق على الطائفين، أو على المصلى، فوضعه في مكان يرتفع به الحرج، قالوا: وتهيأ له ذلك، لأنه الذي كان قد أشار باتخاذه مصلى، وأول من عمل عليه المقصورة. و"المقام" مفعل من القيام، يراد به المكان، أي مكان قيامه، وذهب النخعي ومجاهد إلى أن المراد من "مقام إبراهيم" في الآية الحرم كله، وذهب ابن عباس وعطاء إلى أن المراد به مواقف الحج كلها، وذهب الشعبي إلى أن المراد به عرفة ومزدلفة والجمار، ومعنى اتخاذها مصلى على هذه الآراء أن يدعى فيها، ويتقرب إلى الله تعالى عندها. والصواب الذي عليه الجمهور هو القول الأول. وموافقة عمر رضي الله عنه في مقام إبراهيم أخرج صورتها أبو نعيم من حديث ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد عمر، فقال: يا عمر، هذا مقام إبراهيم، فقال عمر: أفلا تتخذه مصلى؟ فقال: لم أومر بذلك، فلم تغب الشمس حتى نزلت هذه الآية {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} والأمر فيها للاستحباب، وقيل: الأمر بصلاة ركعتي الطواف عنده، لما أخرجه مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من

طوافه عمد إلى مقام إبراهيم، فصلى خلفه ركعتين وقرأ الآية {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود} [البقرة: 125] والأمر للوجوب على بعض الأقوال. (وفي الحجاب) أي حجاب أمهات المؤمنين، وقد أخرج البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: "قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله، يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب؟ فأنزل الله تعالى آية الحجاب {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما} [الأحزاب: 53]- وكان رضي الله تعالى عنه حريصا على حجابهن، وما ذاك إلا حبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم" وعن عائشة "أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يخرجن بالليل، إذا برزن إلى المناصع، وكان عمر رضي الله عنه يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: احجب نساءك، فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل، فخرجت سودة بنت زمعة - رضي الله عنها، ليلة من الليالي عشاء، وكانت امرأة طويلة، فناداها عمر رضي الله عنه بصوته الأعلى: قد عرفناك يا سودة، حرصا على أن ينزل الحجاب، فأنزل الله تعالى الحجاب" وذلك إحدى موافقات عمر رضي الله عنه وأخرج نحوه مسلم وابن جرير. وأخرج البخاري في الأدب والنسائي من حديث عائشة رضي الله عنها أنها كانت تأكل معه عليه الصلاة والسلام، وكان يأكل معهما بعض أصحابه، فأصابت يد رجل يدها، فكره النبي صلى الله عليه وسلم وقال عمر: وكان الذي أصابت إصبعه إصبعها: أوه، لو أطاع فيكن ما رأتكن عين، ونزل الحجاب، قال العلماء ولا يبعد أن يكون مجموع ما ذكر سببا للنزول، وعمر رضي الله عنه في جميعها سبب للنزول. (وفي أسارى بدر) أسر المسلمون من كفار قريش يوم بدر سبعين رجلا، وقد روى الترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم بإسناد صحيح عن علي رضي الله عنه قال: "جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، فقال: خير أصحابك في الأسرى إن شاءوا القتل وإن شاءوا الفداء على أن يقتل منهم عاما مقبلا مثلهم. قالوا: الفداء، ويقتل منا" وأخرج مسلم هذه القصة مطولة من حديث عمر، ذكر فيها أنه صلى الله عليه وسلم قال: ما ترون في هؤلاء الأسرى؟ فقال أبو بكر: أرى أن تأخذ منهم فدية تكون قوة لنا، وعسى الله أن يهديهم، فقال عمر: أرى أن تمكنا منهم، فنضرب أعناقهم، فإن هؤلاء أئمة الكفر، فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر" فنزل قوله تعالى {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم* لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} [الأنفال: 67 - 68] فنزل القرآن برأي عمر. ومن موافقات عمر رضي الله عنه أنه دخل على أمهات المؤمنين، حين تحزبن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فحذرهن العواقب، وقال لهن: "عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن" فنزلت الآية على وفق ما قال. ومن موافقاته أيضا تحريم الخمر. ومن أبرز موافقاته رضي الله عنه محاولة منع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة على المنافقين، وستأتي القصة في روايتنا الثانية عشرة.

(لما توفي عبد الله بن أبي ابن سلول) "أبي" بضم الهمزة وفتح الباء وتشديد الياء، قال النووي: هكذا صوابه، ويكتب "ابن سلول" بالألف، ويعرب بإعراب "عبد الله" فإنه وصف ثان له لأنه عبد الله بن أبي وهو عبد الله ابن سلول أيضا، فأبي أبوه، "وسلول" أمه فنسب إلى أبويه جميعا، ووصف بهما، وكانت وفاته - كما ذكر الواقدي - بعد منصرفهم من تبوك، في ذي القعدة سنة تسع، وكان قد تخلف هو ومن تبعه عن غزوة تبوك وفيهم نزل قوله تعالى {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا} [التوبة: 47]. (جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) كان عبد الله بن عبد الله بن أبي من فضلاء الصحابة وشهد بدرا وما بعدها واستشهد يوم اليمامة، في خلافة أبي بكر الصديق، ومن مناقبه أنه بلغه بعض مقالات أبيه، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في قتله فقال له: "بل أحسن صحبته" ولما بلغه قول أبيه "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل" يعني ابن أبي بالأعز نفسه، وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عبد الله هذا على باب المدينة بسيفه، يمنع أباه من دخولها حتى يقول: إنه الأذل ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأعز فقالها. (فسأله أن يعطيه قميصه، أن يكفن فيه أباه، فأعطاه) في رواية البخاري "أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه" وعند الطبري "لما احتضر عبد الله جاء ابنه عبد الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله! إن أبي قد احتضر، فأحب أن تشهده وتصلي عليه" وقد ورد أن عبد الله هذا فعل ذلك بعهد وطلب من أبيه، كما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إليه ليشهده، فلما دخل عليه قال له: أهلكك حب يهود، فقال: يا رسول الله! إنما أرسلت إليك لتستغفر لي، ولم أرسل إليك لتوبخني، ثم سأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه، فأجابه" وعند الطبراني "لما مرض عبد الله بن أبي جاءه النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه فقال: قد فهمت ما تقول فامنن علي، فكفني في قميصك، وصل علي، ففعل" ولم يكن ابن أبي مؤمنا، بل منافقا كافرا من أهل النار، لكنه - كما يقول الحافظ ابن حجر: أراد بذلك دفع العار عن ولده وعشيرته بعد موته، فأظهر الرغبة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ووقعت إجابته إلى سؤاله، بحسب ما ظهر من حاله إلى أن كشف الله الغطاء عن ذلك. (فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر، فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أتصلي عليه، وقد نهاك الله أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما خيرني الله تعالى، فقال {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} [التوبة: 80] وسأزيد على سبعين. قال: إنه منافق) وعند البخاري عن عمر رضي الله عنه قال "لما مات عبد الله بن أبي دعى له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت إليه، فقلت: يا رسول الله! أتصلي على ابن أبي وقد قال كذا يوم كذا وكذا وكذا؟ قال: أعدد عليه، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أخر عني يا عمر، فلما أكثرت عليه، قال: إني خيرت فاخترت ولو أني أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها". والإشكال هنا قول عمر "وقد نهاك الله أن تصلي عليه" ولم تكن آية {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا} لم تكن نزلت، فمن أين لعمر هذا القول؟ وعلام استند؟ لقد أقدم بعض المحدثين فرد هذه

الرواية وقال إنها وهم من بعض الرواة لكن القرطبي قال: لعل ذلك وقع في خاطر عمر، فيكون من قبيل الإلهام ويحتمل أن يكون فهم ذلك من قوله تعالى {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين} [التوبة: 113] ويؤيده رواية أخرى للبخاري، وفيها "تصلي عليه وقد نهاك الله أن تستغفر لهم" وعند ابن مردويه "فقال عمر: أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه؟ قال: أين؟ قال: قال: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} فكأن عمر رضي الله عنه فهم من الآية المذكورة أن "أو" ليست للتخيير، بل للتسوية، أي إن الاستغفار لهم وعدم الاستغفار لهم سواء وفهم عمر أيضا من قوله {سبعين مرة} أنها للمبالغة وأن العدد المذكور لا مفهوم له، بل المراد نفي المغفرة لهم، ولو كثر الاستغفار فيحصل من ذلك أن الاستغفار لهم عبث نهي عنه، وفهم أيضا أن المقصود الأعظم من الصلاة على الميت الاستغفار له، والشفاعه له، فالنهي عن الاستغفار له يستلزم النهي عن الصلاة. (فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله عز وجل {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره} فترك الصلاة عليهم) وعند الواقدي "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أطال على جنازة قط ما أطال على جنازة عبد الله بن أبي من الوقوف" وفي رواية أن عمر رضي الله عنه ترك رأيه وصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. -[فقه الحديث]- وفاة عمر قصة وفاة عمر رضي الله عنه أخرجها البخاري تحت باب: قصة البيعة والاتفاق على عثمان رضي الله عنه، قال البخاري: وفيه مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أخرجها عن عمرو بن ميمون قال: "إني لقائم ما بيني وبينه - يقصد عمر - إلا عبد الله بن عباس، غداة أصيب" - كان ذلك بعد عودته من الحج، سنة ثلاث وعشرين - "وكان إذا مر بين الصفين قال: استووا، حتى إذا لم ير فيهم خللا تقدم فكبر، وربما قرأ سورة يوسف أو نحو ذلك في الركعة الأولى، حتى يجتمع الناس، فما هو إلا أن كبر فسمعته يقول: قتلني - أو أكلني - الكلب، حين طعنه، فطار العلج - بكسر العين وسكون اللام، الحمار "بسكين ذات طرفين، لا يمر على أحد، يمينا ولا شمالا، إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلا، مات منهم سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنسا، فلما ظن العلج أنه مأخوذ نحر نفسه" وعند ابن سعد بإسناد صحيح إلى الزهري قال: كان عمر لا يأذن لسبي قد احتلم، في دخول المدينة، حتى كتب المغيرة بن شعبة - وهو على الكوفة - يذكر غلاما عنده صانعا ويستأذنه أن يدخله المدينة ويقول: إن عنده أعمالا تنفع الناس إنه حداد نقاش نجار، فأذن له، فضرب عليه المغيرة كل شهر مائة فشكى إلى عمر شدة الخراج، فقال له: ما خراجك بكثير في جنب ما تعمل فانصرف ساخطا، فلبث عمر ليالي فمر به العبد فقال: ألم أحدث أنك تقول: لو أشاء لصنعت رحى تطحن بالريح؟ فالتفت إليه عابسا فقال: لأصنعن لك رحى يتحدث الناس بها، فأقبل عمر على من معه، فقال: توعدني العبد فلبث ليالي ثم اشتمل على خنجر ذي رأسين نصابه وسطه فكمن في زاوية من زوايا المسجد في الغلس" في الفجر وقبله "حتى خرج عمر يوقظ الناس: الصلاة. الصلاة. وكان عمر يفعل ذلك فلما

دنا منه عمر وثب إليه، فطعنه ثلاث طعنات [رواية البخاري "أن الطعن كان بعد أن كبر" أصح من رواية ابن سعد التي فيها "أن القتل كان وهو يسوي الصفوف"] إحداهن تحت السرة، وهي التي قتلته، وفي رواية "كان أبو لؤلؤة عبدا للمغيرة، وكان يستغله أربعة دراهم - أي كل يوم - فلقي عمر، فقال: إن المغيرة أثقل علي، فقال: اتق الله، وأحسن إليه، ومن نية عمر أن يلقى المغيرة فيكلمه، فيخفف عنه، فقال العبد: وسع الناس عدله غيري؟ وأضمر على قتله، فاصطنع له خنجرا، له رأسان، وسمه، فتحرى صلاة الغداة، حتى قام عمر، فقال: أقيموا صفوفكم، فلما كبر طعنه، فسقط" وعند مسلم "أن عمر خطب فقال: رأيت ديكا نقرني ثلاث نقرات، ولا أراه إلا حضور أجلي" زاد في رواية "فما مر إلا تلك الجمعة، حتى طعن" وفي رواية "طعن أبو لؤلؤة نفرا، فأخذ أبا لؤلؤة رهط من قريش، منهم عبد الله بن عوف فطرح عليه خميصة كانت عليه" وعند ابن سعد "أن عبد الله بن عوف أحتز رأس أبي لؤلؤة، بعد أن نحر نفسه". ونعود إلى عمر في حديث البخاري "وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف، فقدمه، قال عمرو بن ميمونة فمن كان يلي عمر فقد رأى الذي أرى، وأما من في نواحي المسجد فإنهم لا يدرون غير أنهم فقدوا صوت عمر، وهم يقولون: سبحان الله. فصلى بهم عبد الرحمن بن عوف صلاة خفيفة" في رواية "بأقصر سورتين في القرآن: إنا أعطيناك الكوثر، وإذا جاء نصر الله والفتح" وزاد في رواية "ثم غلب عمر النزف حتى غشي عليه، فاحتملته في رهط حتى أدخلته بيته، فلم يزل في غشيته حتى أسفر" أي بدأ ضوء الصبح، فنظر في وجوهنا، فقال: أصلى الناس؟ فقلت: نعم. قال: لا إسلام لمن ترك الصلاة، ثم توضأ وصلى" وفي رواية ابن سعد "فتوضأ وصلى الصبح فقرأ في الأولى: والعصر وفي الثانية قل يا أيها الكافرون قال: وتساند إلي وجرحه يثغب دما، إني لأضع إصبعي الوسطى فما تسد الفتق". في رواية البخاري: لما انتهى عبد الرحمن بن عوف من الصلاة، وقبل أن يغمى على عمر "قال يا ابن عباس انظر من قتلني؟ فجال ساعة - أي وقتا قصيرا - ثم جاء، فقال: غلام المغيرة قال: الصنع؟ - أي الصنايعي؟ - قال: نعم. قال: قاتله الله، لقد أمرت به معروفا، الحمد لله الذي لم يجعل ميتتي بيد رجل يدعي الإسلام" وفي رواية "الحمد لله الذي لم يجعل قاتلي يحاجني عند الله بسجدة سجدها له قط" وفي رواية "يحاجني بلا إله إلا الله" وفي رواية "لا تعجلوا على الذي قتلني. فقيل: إنه قتل نفسه، فاسترجع عمر، فقيل له: إنه أبو لؤلؤة، فقال: الله أكبر" ثم قال لابن عباس: "قد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة". وفي رواية "فقال عمر: هذا من عمل أصحابك كنت أريد أن لا يدخلها علج من السبي، فغلبتموني" وفي رواية "قال عمر: من أصابني؟ قالوا: أبو لؤلؤة، واسمه فيروز، قال: قد نهيتكم أن تجلبوا عليها من علوجهم أحدا، فعصيتموني" قيل: وكان العباس قد قال لعمر: إن عمل المدينة شديد لا يستقيم إلا بالعلوج، وكان العباس من أكثر الصحابة استخداما لهم، فقال عبد الله بن عباس: إن شئت فعلت؟ أي قتلت علوجنا - قال: كذبت. بعد ما تكلموا بلسانكم؟ وصلوا قبلتكم؟ وحجوا حجكم؟ "وكان عمر رضي الله عنه يخشى أن يكون وراء القاتل محرضون، وأن يكون قد ظلم في حكمه جماعة دون قصد فخططوا لهذا العمل، فقال لابن عباس - وكان يحبه ويدنيه - يا عبد الله بن عباس. اخرج فناد في الناس: أعن ملأ منكم كان هذا؟ فقالوا: معاذ الله. ما

علمنا ولا اطلعنا، وفي رواية "فقال عمر لابن عباس. أحب أن تعلم. عن ملأ من الناس كان هذا؟ فخرج، لا يمر بملأ من الناس إلا وهم يبكون فكأنما فقدوا بكار أولادهم فأخبر عمر بذلك قال: فرأيت البشر في وجه. -[(وقفة عند هذا الحديث)]- من الصعب أن نقنع أنفسنا بأن دافع قتل عمر هو عدم إنصافه لهذا العبد من وجهة نظره، إذ كان الأولى بأن يقتل سيده، الظالم له حسب فهمه وكانت هناك وسائل أخرى يسلكها العبد لرفع هذا الظلم غير القتل، وأقلها رفض هذا التكسب والاكتفاء بالخدمة والعبودية كشأن الآلاف ولكننا نعتقد أن هناك ثأرا سابقا، من غزو المسلمين لبلاده، وقتلهم أباه أو عمه أو أخاه، أو أحب الناس إليه، وهو وأمثاله لم يسلموا ولم يدخل الإيمان في قلوبهم حتى يغسل أضغانهم فكان الحذر منهم واجبا، كما أشار عمر، ولكن لا يغني حذر من قدر ففي رواية ابن سعد "فلما طعن قال: وكان أمر الله قدرا مقدورا". ونعود إلى رواية البخاري وعمر الجريح في بيته "وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ" يتوافدون عليه، ويحيطون به، ويدعون له، ويثنون عليه، وجاءوا له بالطبيب، فأتي بنبيذ، فشربه، فخرج من جوفه، ثم أتي له بلبن، فشربه، فخرج من جرحه فعلموا أنه ميت، "وقال الطبيب: اعهد يا أمير المؤمنين. فقال عمر: صدقني ولو قال غير ذلك لكذبته". وكثر الثناء والدعاء والمواساة فمن قائل: لا بأس ومن قائل: نخاف عليك وعلى الإسلام ومن قائل يقول له: أبشر - يا أمير المؤمنين - ببشرى الله لك، من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدم في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة. قال عمر: وددت أن ذلك كفاف، لا علي، ولا لي، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: يرحمك الله يا عمر، ما تركت أحدا أحب إلي أن ألقى الله بمثله منك، أي ليتني ألقى الله بمثل ما ستلقاه به، لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بينك وبينه وبين أبي بكر في غالب المناسبات فيقول: خرجت أنا وأبو بكر وعمر، وفعلت كذا أنا وأبو بكر وعمر، وجئت أنا وأبو بكر وعمر، وها هي عائشة قد أذنت لك بأن تدفن مع صاحبيك وستكون معهما في الجنة إن شاء الله فهنيئا لك. وهنيئا لك. قال عمر: "يا عبد الله بن عمر، انظر ما علي من الدين، فحسبوه، فوجدوه ستة وثمانين ألفا، أو نحوه قال: إن وفى له مال آل عمر، فأده من أموالهم، وإلا فسل في بني عدي بن كعب فإن لم تف أموالهم فسل في قريش، ولا تعدهم إلى غيرهم، فأد عني هذا المال" وفي رواية "قال: يا عبد الله، أقسمت عليك بحق عمر إذا مت، فدفنتني أن لا تغسل رأسك، حتى تبيع من رباع آل عمر بثمانين ألفا، فتضعها في بيت مال المسلمين، فسأله عبد الرحمن بن عوف أي عن أسباب هذا الدين - فقال: أنفقتها في حجج حججتها، وفي نوائب كانت تنوبني" قال ابن التين: قد علم عمر أنه لا يلزمه غرامة ذلك، إلا أنه أراد أن لا يتعجل من عمله شيئا في الدنيا. ثم قال عمر "يا عبد الله، انطلق إلى عائشة أم المؤمنين، فقل لها: يقرأ عليك عمر السلام- ولا تقل: أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميرا - وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه، فسلم واستأذن ثم دخل عليها، فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب

السلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه. فقالت كنت أريده لنفسي، ولأوثرنه به اليوم على نفسي، فلما أقبل قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء. قال: ارفعوني. فأسنده رجل إليه، فقال: ما لديك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين. أذنت. قال: الحمد لله. ما كان من شيء أهم إلي من ذلك "وخشي عمر أن تكون أذنت في حياته، حياء منه، وأن ترجع عن ذلك بعد موته، فأراد أن لا يكرهها على ذلك، فقال "فإذا أنا قضيت فاحملوني، ثم سلم، فقل: يستأذن عمر ابن الخطاب فإن أذنت لي فأدخلوني، وإن ردتني فردوني إلى مقابر المسلمين". قال عبد الله بن عمر: وجاءت أم المؤمنين حفصة، والنساء تسير معها، قال: فلما رأيناها قمنا، فدخلت عليه، فبكت عنده ساعة، ثم دخلت داخلا، ودخل الرجال، فقالوا: أوص يا أمير المؤمنين. استخلف. قال: ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، فسمى عليا وعثمان والزبير وطلحة وسعدا وعبد الرحمن، وقال: يشهدكم عبد الله بن عمر - وليس له من الأمر شيء، فإن أصابت الإمرة سعدا فهو ذاك، وإلا فليستعن به أيكم ما أمر، فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة. وقال: "أوصى الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين، أن يعرف لهم حقهم، ويحفظ لهم حرمتهم، وأوصيه بالأنصار خيرا، الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم، أن يقبل من محسنهم، وأن يعفى عن مسيئهم، وأوصيه بأهل الأمصار خيرا، فإنهم ردء الإسلام، وجباة المال، وغيظ العدو، وأن لا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم، وأوصيه بالأعراب خيرا، فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام، أن يؤخذ من حواشي أموالهم، ويرد على فقرائهم، وأوصيه بذمة الله وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يوفى لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، ولا يكلفوا إلا طاقتهم". قال عبد الله بن عمر: "فلما قبض خرجنا به، فانطلقنا نمشي، فسلم عبد الله بن عمر، قال: يستأذن عمر بن الخطاب قالت: أدخلوه، فأدخل، فوضع هناك مع صاحبيه". قال الحافظ بن حجر: اختلف في صفة القبور المكرمة الثلاثة فالأكثر على أن قبر أبي بكر وراء قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وقبر عمر وراء قبر أبي بكر، وقيل: إن قبره صلى الله عليه وسلم مقدم إلى القبلة، وقبر أبي بكر حذاء منكبيه، وقبر عمر حذاء أبي بكر، وقيل قبر أبي بكر عند رأس النبي صلى الله عليه وسلم، وقبر عمر عند رجليه، وقيل: قبر أبي بكر عند رجلي النبي صلى الله عليه وسلم، وقبر عمر عند رجلي أبي بكر، وقيل غير ذلك. -[إسلام عمر رضي الله عنه]- أخرج البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "مازلنا أعزة منذ أسلم عمر" وذلك لما كان فيه من الجلد والقوة في أمر الله، وروى ابن أبي شيبة والطبراني، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كان إسلام عمر عزا، وهجرته نصرا، وإمارته رحمة، والله ما استطعنا أن نصلي حول البيت ظاهرين حتى، أسلم عمر. وفي ملابسات إسلامه رضي الله عنه أخرج الدارقطني، عن أنس رضي الله عنه قال: خرج عمر متقلدا السيف، فلقيه رجل من بني زهرة - فذكر قصة دخول عمر على أخته، وإنكاره إسلامها، وإسلام زوجها سعيد بن زيد،

وقراءته سورة طه، ورغبته في الإسلام - فخرج خباب فقال: أبشر يا عمر، فإني أرجو أن تكون دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لك. قال: اللهم أعز الإسلام بعمر، أو بعمرو بن هشام. زاد ابن شيبة في تاريخه "فقلت: يا رسول الله! ففيم الاختفاء؟ فخرجنا في صفين، أنا في أحدهما، وحمزة في الآخر، فنظرت قريش إلينا، فأصابتهم كآبة، لم يصبهم مثلها" وأخرجه البزار مطولا، وأخرج أبو خيثمة من حديث عمر نفسه رضي الله عنه قال: "لقد رأيتني وما أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تسعة وثلاثون رجلا، فكملتهم أربعين، فأظهر الله دينه، وأعز الإسلام" وروى البزار نحوه من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - وقال فيه "فنزل جبريل، فقال: {يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} [الأنفال: 64]. وأخرج الترمذي حديث ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك. بأبي جهل أو عمر، قال: فكان أحبهما إليه عمر" وروى ابن سعد من حديث صهيب قال: "لما أسلم عمر قال المشركون: انتصف القوم منا" وروى البزار والطبراني نحوه. -[من فضائل عمر رضي الله عنه]- وزاد البخاري عن أحاديث بابنا 1 - حديث الذئب والشاة السابق في فضائل أبي بكر رضي الله عنه. 2 - وحديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، يواسي به عمر رضي الله عنه عند موته، ويخفف من جزعه، فيقول: "يا أمير المؤمنين ولئن كان ذاك" أي الموت "لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت أبا بكر، فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راض ثم صحبت صحابتهما فأحسنت صحبتهم ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون، قال: أما ما ذكرت من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضاه، فإنما ذاك من من الله تعالى، من به علي، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه فإنما ذاك من من الله تعالى، جل ذكره، من به علي، وأما ما ترى من جزعي، فهو من أجلك وأجل أصحابك أي فيمن أستخلف عليهم، والله لو أن لي طلاع الأرض ذهبا، لافتديت به من عذاب الله عز وجل، قبل أن أراه". 3 - وحديث أبي موسى رضي الله عنه قال: "كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في حائط من حيطان المدينة، فجاء رجل فاستفتح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: افتح له وبشره بالجنة، ففتحت له فإذا هو أبو بكر، فبشرته بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله ثم جاء رجل فاستفتح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: افتح له وبشره بالجنة، ففتحت له، فإذا هو عمر، فأخبرته بما قال النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله، ثم استفتح رجل، فقال لي: افتح له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه فإذا عثمان فأخبرته بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله، ثم قال: الله المستعان". 4 - وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال "صعد النبي صلى الله عليه وسلم أحدا، ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، فضربه برجله، وقال: اثبت أحد، فما عليك إلا نبي، وصديق وشهيدان". 5 - وحديث زيد بن أسلم عن أبيه أسلم، مولى عمر قال: سألني ابن عمر عن بعض شأنه - أي عن

بعض أخبار أبيه عمر - قال: فأخبرته، فقال - أي ابن عمر - ما رأيت أحدا قط - بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من حين قبض - كان أجد وأجود - حتى انتهى - من عمر بن الخطاب". -[ويؤخذ من أحاديث الباب، بعد ما تقدم]- 1 - من الرواية الأولى تقدير علي رضي الله عنه لعمر ورضاؤه عنه، ودعاؤه له، خلافا لما يزعمه الرافضة من الطعن فيه. 2 - ومن الرواية الثانية فضيلة لعمر، وشدة أمره في الدين. 3 - من طول قميصه أخذ بعضهم أن عمر أفضل من أبي بكر رضي الله عنهما وتعقب باحتمال تخصيص أبي بكر من عموم قوله "رأيت الناس يعرضون" فلعل الذين عرضوا إذ ذاك لم يكن فيهم أبو بكر، وكون عمر عليه قميص يجره لا يستلزم أن لا يكون على أبي بكر قميص أطول منه وأسبغ، والاقتصار في ذاك الوقت كان لإرادة بيان فضيلة عمر، على أن الخصوصية لا تقتضي الأفضلية. 4 - ومن الرواية الثالثة أن رؤيا اللبن في المنام خير، ويئول شربه بالعلم. 5 - ومن الرواية الرابعة صدق منامه صلى الله عليه وسلم قال النووي: قال العلماء: هذا المنام مثال واضح لما جرى لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما في خلافتهما، وحسن سيرتها، وظهور آثارهما، وانتفاع الناس بهما، وكل ذلك مأخوذ من النبي صلى الله عليه وسلم ومن بركته وآثار صحبته، فكان النبي صلى الله عليه وسلم هو صاحب الأمر فقام به أكمل قيام، وقرر قواعد الإسلام، ومهد أموره وأوضح أصوله وفروعه، ودخل الناس في دين الله أفواجا وأنزل الله تعالى {اليوم أكملت لكم دينكم} [المائدة: 3] ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلفه أبو بكر رضي الله عنه سنتين وشهرا، وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم "ذنوبا أو ذنوبين" وهذا شك من الراوي، والمراد ذنوبان، كما صرح به في الرواية الأخرى، وحصل في خلافته قتال أهل الردة، وقطع دابرهم، واتساع الإسلام، ثم توفي فخلفه عمر رضي الله عنه فاتسع الإسلام في زمنه، وتقرر لهم من أحكامه ما لم يقع مثله، فعبر بالقليب عن أمر المسلمين لما فيها من الماء الذي به حياتهم وصلاحهم وشبه أميرهم بالمستقي لهم، وسقيه هو قيامه بمصالحهم وتدبير أمورهم، قال النووي: وأما قوله صلى الله عليه وسلم في أبي بكر "وفي نزعه ضعف" فليس فيه حط من فضيلة أبي بكر، ولا إثبات فضيلة لعمر عليه، وإنما هو إخبار عن مدة ولايتهما، وكثرة انتفاع الناس في ولاية عمر لطولها، ولاتساع الإسلام وبلاده، والأموال وغيرها، من الغنائم والفتوحات وتمصير الأمصار، وتدوين الدواوين. قال: وأما قوله صلى الله عليه وسلم "والله يغفر له" فليس فيه تنقيص له، ولا إشارة إلى ذنب، وإنما هي كلمة المسلمون يدعمون بها كلامهم، ونعمت الدعامة. 6 - قال العلماء: وفي كل هذا إعلام بخلافة أبي بكر وعمر، وصحة ولايتهما، وبيان صفتهما. 7 - وفي قوله "فأخذ الدلو من يدي ليروحني" فيه إشارة إلى نيابة أبي بكر عنه، وخلافته بعده، وراحته صلى الله عليه وسلم بوفاته، كما قال صلى الله عليه وسلم "مستريح ومستراح منه" و"الدنيا سجن المؤمن" و"لا كرب على أبيك بعد اليوم".

8 - ومن الرواية السابعة، واعتماد غيرة عمر الحكم لكل رجل بما يعلم من خلقه. 9 - ومن علو أصوات الزوجات في الرواية التاسعة أن مثل هذا يغتفر بين الأزواج، ولا يدخل في قوله تعالى {لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض} [الحجرات: 2] وقال القاضي عياض: يحتمل أن هذا قبل النهي عن رفع الصوت فوق صوته صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن علو أصواتهن إنما كان باجتماعها، لا أن كلام كل واحدة بانفرادها أعلى من صوته صلى الله عليه وسلم. 10 - وفي هذا الحديث فضل لين الجانب والحلم والرفق، ما لم يفوت مقصودا شرعيا، قال تعالى {واخفض جناحك للمؤمنين} [الحجر: 88] وقال {ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك} [آل عمران: 159] وقال {بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128]. 11 - وفيه تغلب عمر رضي الله عنه على شيطانه، قال النووي: هذا الحديث محمول على ظاهره، وأن الشيطان متى رأى عمر سالكا فجا، هرب هيبة من عمر، وفارق ذلك الفج، وذهب في فج آخر، لشدة خوفه من بأس عمر، أن يفعل فيه شيئا، قال القاضي: ويحتمل أنه ضرب مثلا لبعد الشيطان وإغوائه منه، والصحيح الأول اهـ. ولا يلزم من ذلك ثبوت العصمة له، إذ الأمر محمول على الغالب. 12 - وفي الرواية العاشرة إثبات كرامات الأولياء قاله النووي. 13 - وفي الرواية الحادية عشرة بعض موافقات عمر رضي الله عنه. 14 - ومن الرواية الثانية عشرة كمال شفقته صلى الله عليه وسلم على من تعلق بطرف من الدين. 15 - تطييب قلب المسلم، فقد فعل صلى الله عليه وسلم ما فعل مع ابن أبي تطييبا لخاطر ابنه عبد الله، فإنه كان صحابيا جليلا، وقد سأل ذلك، فأجابه إليه، وقيل: مكافأة لعبد الله المنافق الميت، لأنه كان ألبس العباس حين أسر يوم بدر قميصا. 16 - وفيه عظيم مكارم أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم فقد علم ما كان من هذا المنافق من الإيذاء، وقابله بالحسنى. فألبسه قميصه كفنا وصلى عليه، واستغفر له. قال تعالى {وإنك لعلى خلق عظيم} [القلم: 5]. 17 - وفي الحديث والآية تحريم الصلاة على المنافقين والدعاء لهم بالمغفرة، والقيام على قبرهم بالدعاء. 18 - وقد مال بعض أهل الحديث إلى تصحيح إسلام عبد الله بن أبي، لكون النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه وذهل عن الوارد من الآيات والأحاديث المصرحة في حقه بما ينافي ذلك، فأقدم على الدعوى المذكورة، وهو محجوج بإجماع من قبله على نقيض ما قال، وإطباقهم على ترك ذكره في كتب الصحابة مع شهرته، وذكر من هو دونه في الشرف والشهرة بأضعاف مضاعفة. 19 - استدل بعضهم بالحديث على التأليف بالوسائل الممكنة، فقد أخرج الطبري "وما يغني عنه قميص عن الله؟ وإني لأرجو أن يسلم بذلك ألف من قومه". 20 - وفيه جواز الشهادة على المرء بما كان عليه حيا وميتا، لقوله عمر: إن عبد الله منافق، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم قوله.

21 - وأن المنهي عنه من سب الأموات ما قصد به الشتم، لا التعريف. 22 - وأن المنافق تجري عليه أحكام الإسلام الظاهرة. 23 - وأن الإعلام بوفاة الميت مجردا لا يدخل في النعي المنهي عنه. 24 - وفيه جواز سؤال الموسر من المال من ترجي بركته شيئا من ماله، لضرورة دينه. 25 - وفيه رعاية الحي المطيع بالإحسان إلى الميت العاصي. 26 - وفيه التكفين بالمخيط. 27 - وجواز تأخير البيان عن وقت النزول، إلى وقت الحاجة. 28 - وفيه العمل بالظاهر إذا كان النص محتملا. 29 - وفيه جواز تنبيه المفضول للفاضل على ما يظن أنه سها عنه 30 - وتنبيه الفاضل المفضول على ما يشكل عليه. والله أعلم

(634) باب من فضائل عثمان رضي الله عنه

(634) باب من فضائل عثمان رضي الله عنه 5403 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعا في بيتي، كاشفا عن فخذيه. أو ساقيه. فاستأذن أبو بكر. فأذن له. وهو على تلك الحال. فتحدث. ثم استأذن عمر. فأذن له. وهو كذلك فتحدث. ثم استأذن عثمان. فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوى ثيابه - قال محمد: ولا أقول ذلك في يوم واحد - فدخل فتحدث. فلما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تباله. ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله. ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك. فقال: ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة". 5404 - عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم وعثمان رضي الله عنه، أن أبا بكر استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على فراشه، لابس مرط عائشة، فأذن لأبي بكر وهو كذلك فقضى إليه حاجته ثم انصرف ثم استأذن عمر، فأذن له وهو على تلك الحال، فقضى إليه حاجته ثم انصرف قال عثمان: ثم استأذنت عليه فجلس وقال لعائشة: "اجمعي عليك ثيابك" فقضيت إليه حاجتي ثم انصرفت. فقالت عائشة: يا رسول الله! ما لي لم أرك فزعت لأبي بكر وعمر رضي اللهم عنهما كما فزعت لعثمان؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن عثمان رجل حيي. وإني خشيت إن أذنت له على تلك الحال، أن لا يبلغ إلي في حاجته". 5405 - وفي رواية عن أبي موسى، أن عثمان وعائشة حدثاه، أن أبا بكر الصديق استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر بمثل حديث عقيل عن الزهري. 5406 - عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في حائط من حائط المدينة، وهو متكئ يرتكز بعود معه بين الماء والطين، إذا استفتح رجل. فقال: "افتح. وبشره بالجنة" قال: فإذا أبو بكر. ففتحت له وبشرته بالجنة. قال: ثم استفتح رجل

آخر. فقال: "افتح. وبشره بالجنة" قال: فذهبت فإذا هو عمر. ففتحت له وبشرته بالجنة. ثم استفتح رجل آخر. قال: فجلس النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "افتح. وبشره بالجنة على بلوى تكون" قال: فذهبت فإذا هو عثمان بن عفان. قال: ففتحت وبشرته بالجنة. قال: وقلت الذي قال. فقال اللهم صبرا. أو الله المستعان. 5407 - وفي رواية عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل حائطا وأمرني أن أحفظ الباب. بمعنى حديث عثمان بن غياث. 5408 - عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه توضأ في بيته ثم خرج. فقال: لألزمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأكونن معه يومي هذا. قال: فجاء المسجد. فسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: خرج. وجه ها هنا. قال: فخرجت على أثره أسأل عنه. حتى دخل بئر أريس. قال: فجلست عند الباب. وبابها من جريد. حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته وتوضأ. فقمت إليه. فإذا هو قد جلس على بئر أريس، وتوسط قفها، وكشف عن ساقيه، ودلاهما في البئر. قال: فسلمت عليه. ثم انصرفت فجلست عند الباب. فقلت: لأكونن بواب رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم. فجاء أبو بكر فدفع الباب. فقلت: من هذا؟ فقال: أبو بكر. فقلت: على رسلك. قال: ثم ذهبت فقلت: يا رسول الله! هذا أبو بكر يستأذن. فقال: "ائذن له وبشره بالجنة" قال: فأقبلت حتى قلت لأبي بكر. ادخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبشرك بالجنة. قال: فدخل أبو بكر فجلس عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في القف، ودلى رجليه في البئر كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم، وكشف عن ساقيه. ثم رجعت فجلست. وقد تركت أخي يتوضأ ويلحقني. فقلت: إن يرد الله بفلان - يريد أخاه - خيرا يأت به. فإذا إنسان يحرك الباب. فقلت: من هذا؟ فقال: عمر بن الخطاب. فقلت: على رسلك. ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه وقلت: هذا عمر يستأذن. فقال: "ائذن له وبشره بالجنة" فجئت عمر فقلت: أذن ويبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة. قال: فدخل فجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في القف عن يساره ودلى رجليه في البئر. ثم رجعت فجلست فقلت: إن يرد الله بفلان خيرا - يعني أخاه - يأت به. فجاء إنسان فحرك الباب. فقلت: من هذا؟ فقال: عثمان بن عفان. فقلت: على رسلك. قال: وجئت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: "ائذن له وبشره بالجنة مع بلوى تصيبه" قال: فجئت فقلت ادخل.

ويبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة مع بلوى تصيبك. قال: فدخل. فوجد القف قد ملئ. فجلس وجاههم من الشق الآخر. قال شريك: فقال سعيد بن المسيب: فأولتها قبورهم. 5409 - عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: خرجت أريد رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته قد سلك في الأموال. فتبعته، فوجدته قد دخل مالا، فجلس في القف، وكشف عن ساقيه ودلاهما في البئر وساق الحديث بمعنى حديث يحيى بن حسان. ولم يذكر قول سعيد: فأولتها قبورهم. 5410 - وفي رواية عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما إلى حائط بالمدينة لحاجته. فخرجت في إثره. واقتص الحديث بمعنى حديث سليمان بن بلال. وذكر في الحديث قال ابن المسيب: فتأولت ذلك قبورهم اجتمعت ها هنا، وانفرد عثمان. -[المعنى العام]- عثمان بن عفان رضي الله عنه أبو عمرو القرشي، هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في عبد مناف، قيل: إنه كان يكنى أبا عبد الله بابنه عبد الله، الذي رزق به من رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات عبد الله المذكور صغيرا، وله ست سنين، وحكى ابن سعد أن موته كان سنة أربع من الهجرة وماتت أمه رقية قبل ذلك سنة اثنين. وكان غنيا، لكنه أنفق كثيرا جدا من ماله في سبيل الله وكان ثالث الخلفاء الراشدين، وكان مثلا في صلة الرحم، وإكرام الأهل، مما أخذ عليه في مدة حكمه، وكان لين الجانب يثق في القريبين منه حتى سلم خاتم الدولة لقريبه، فكان يختم به على أشياء لا يقرها. قال الحافظ ابن حجر في الإصابة: وكان سبب قتله أن أمراء الأمصار كانوا من أقاربه، كان بالشام كلها معاوية وبالبصرة سعيد بن العاص، وبمصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وبخراسان عبد الله بن عامر، وكان من حج من هذه الأمصار يشكو من أميره وكان عثمان لين العريكة كثير الإحسان والحلم وكان يستبدل ببعض أمرائه فيرضي الشاكين ثم يعيده، إلى أن رحل أهل مصر يشكون من ابن أبي سرح فعزله وكتب لهم كتابا بتولية محمد بن أبي بكر الصديق فرضوا بذلك فلما كانوا في أثناء الطريق رأوا راكبا على راحلة فاستخبروه فأخبرهم أنه من عند عثمان ومعه أمر باستقرار ابن أبي سرح، ومعاقبة جماعة من أعيانهم فأخذوا الكتاب ورجعوا وواجهوه به فحلف

أنه ما كتب ولا أذن، فقالوا: سلمنا كاتبك، فخشي عليه منهم القتل، وكان كاتبه مروان بن الحكم، وهو ابن عمه فغضبوا، فحصروه في داره واجتمع جماعة من الصحابة يحمونه منهم، فكان ينهاهم عن القتال، إلى أن تسوروا عليه من دار إلى دار، فدخلوا عليه، فقتلوه، فعظم ذلك على أهل الخير من الصحابة وغيرهم، وانفتح باب الفتنة، وكان ما كان، والله المستعان. -[المباحث العربية]- (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعا في بيتي) في الرواية الثانية "أن أبا بكر رضي الله عنه استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على فراشه، لابس مرط عائشة" والمرط بكسر الميم وسكون الراء كساء من صوف، وقيل: من صوف أو كتان أو غيره وقيل: هو الإزار ففي هاتين الروايتين أن قصة كشف الساق ودخول أبي بكر وعمر وعثمان وقعت في بيت عائشة، أما الرواية الثالثة وما بعدها ففيها أن ذلك كان في حائط من حيطان المدينة، وعلى بئر أريس، ومن هنا قال الحافظ ابن حجر: أنكر الداودي أن يكون كشف الساق وتغطيته قد وقع في رواية البئر، وزعم أن ذكرها في رواية البئر من إدخال الرواة حديثا في حديث، وقرر أن كشف الركبة وتغطيتها عند دخول الثلاثة إنما وقع في بيت عائشة فحسب قال الحافظ: ولا مانع أن يتفق للنبي صلى الله عليه وسلم أن يغطي ذلك مرتين، حين دخل عثمان وأن يقع ذلك في موطنين ولا سيما مع اختلاف مخرج الحديثين وإنما يقال ما قاله الداودي حيث تتفق المخارج، فيمكن أن يدخل حديث في حديث، لا مع افتراق المخارج كما في هذا فلا يلزم منه تغليط الرواية. (كاشفا عن فخذيه أو ساقيه) بالشك، وفي قصة البئر "عن ساقيه" بدون شك، وعند البخاري في قصة البئر "قد كشف عن ركبتيه، أو ركبته" والفخذ ما فوق الركبة والساق ما تحتها. (فأذن له وهو على تلك الحال) أي أذن الرسول صلى الله عليه وسلم له في الدخول عليه، وهو كاشف عن ساقيه. (فتحدث، ثم استأذن عمر، فأذن له، وهو كذلك، فتحدث) في الرواية الثانية انصرف كل منهما قبل مجيء الآخر، ولفظها "فقضى إليه حاجته، ثم انصرف" وفي روايتنا يقول الراوي "ولا أقول: ذلك في يوم واحد" وكأن دخول كل واحد كان في يوم غير يوم دخول الآخر، ومعنى قولها "وهو على تلك الحال" أي على حالة مشبهة تلك الحال، وهذا بخلاف قصة البئر، فكانت جلسة واحدة، وهيئة واحدة اجتمعوا عليها، مما يدل على تعدد الواقعة. (ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوى ثيابه) أي غطى ساقيه، زاد في الرواية "وقال لعائشة: اجمعي عليك ثيابك" ويحتمل أن يكون هذا قبل الحجاب، فقد دخل عمر، ولم تؤمر عائشة بجمع ثيابها عليها. (فلما خرج) أي عثمان. (قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتش له، ولم تباله) قال النووي: هكذا هو في جميع نسخ بلادنا "تهتش" بالتاء بعد الهاء، وفي بعض النسخ الطارئة بحذفها، وفتح الهاء وكذا ذكره

القاضي يقال: هش يهش - بفتح الهاء، هشاشة، والهشاشة والبشاشة بمعنى طلاقة الوجه، وحسن اللقاء، أما الهش الذي هو خبط الورق من الشجر، فيقال منه: هش يهش بضم الهاء، قال تعالى {وأهش بها على غنمي} [طه: 18] ومعنى "لم تباله" لم تكترث به، ولم تحتفل لدخوله، يقال: بالاه يباليه مبالاة، أي اهتم به، واللامبالاة عدم الاهتمام وأمر ذو بال، أي ذو أهمية، والبال الحال والشأن والخاطر، قال تعالى {سيهديهم ويصلح بالهم} [محمد: 5] وفي الرواية الثانية "ما لي لم أرك فزعت لأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - كما فزعت لعثمان"؟ أي ما لي لم أرك اهتممت بهما، واحتفلت بدخولهما، قال النووي: هكذا هو في جميع نسخ بلادنا "فزعت" بالزاي والعين، وكذا حكاه القاضي عن رواية الأكثرين، قال: وضبطه بعضهم "فرغت" بالراء والغين، وهو قريب من معنى الأول. (فقال: ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟ ) "ألا" للعرض والتحضيض، أي أحث نفسي وأحضها على الحياء من رجل تستحي منه الملائكة، قال النووي: هكذا هو في الرواية "أستحي" بياء واحدة في كل واحدة منها، قال أهل اللغة: يقال: استحيا يستحيي بياءين، واستحى يستحي بياء واحدة لغتان الأول أفصح وأشهر، وفي الرواية الثانية "إن عثمان رجل حيي" بكسر الياء الأولى وتشديد الثانية، أي كثير الحياء "وإني خشيت إن أذنت له على تلك الحال أن لا يبلغ إلي في حاجة" أي خشيت أن يمنعه حياؤه - إذا رآني مكشوف الساقين - من الدخول والوصول إلي، فلا يقضي مني حاجته التي جاء من أجلها. (في حائط من حائط المدينة) "حائط" جنس، يصدق على كثيرين فكأنه قال من حوائط المدينة، أو من حيطان المدينة، وهو كذلك في بعض النسخ، والحائط البستان وفي ملحق الرواية الرابعة "فوجدته قد سلك في الأموال" أي قد دخل في البساتين "فتبعته فوجدته قد دخل مالا" أي بستانا. (وهو متكئ) في كتب اللغة: المتكئ من استوى قاعدا على وطاء متمكنا. (يركز بعود معه، بين الماء والطين) "يركز" بفتح الياء وسكون الراء وضم الكاف، أي يضرب طرفه وأسفله في الطين، ليثبته فيه، وقد بينت الرواية الرابعة بداية القصة، وأن أبا موسى توضأ في بيته، ثم خرج، قاصدا أن يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم طول هذا اليوم، سأل عنه في المسجد فقالوا: "خرج وجه ها هنا" قال النووي: المشهور في الرواية "وجه" بتشديد الجيم - أي وفتح الواو، أي وجه نفسه هذه الجهة، قال: وضبطه بعضهم بإسكانه، لوجود "خرج" أي خرج قاصدا هذا الوجه وهذه الجهة "قال: فخرجت على أثره" بفتح الهمزة والثاء، أي أتتبع آثار قدميه، أو أتبع طريقه "أسأل عنه، حتى" علمت أنه "دخل بئر أريس" والأريس بفتح الهمزة وكسر الراء مخففة، والإريس بكسر الهمزة وكسر الراء مشددة الحراث، أي بئر حراث، وهو في الرواية مصروف، ولآبار المدينة أسماء، وبئر أريس معروف بالمدينة، قريب من قباء، وهو الذي سقط فيه خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من يد عثمان رضي الله عنه، وكان بجوار كل بئر حوض يملأ، فيستقي أو يتوضأ منه، ويحاط البئر وحوضه غالبا بحائط له باب، وقد يكتفى بباب البستان، "قال: فجلست عند الباب، وبابها من جريد، حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته وتوضأ، فقمت إليه" أي توجهت نحوه "فإذا هو قد جلس على بئر أريس وتوسط قفها" بضم القاف،

وتشديد الفاء، أي حافتها، وأصل القف الغليظ المرتفع من الأرض "وكشف عن ساقيه، ودلاهما في البئر، قال: فسلمت عليه، ثم انصرفت، فجلست عند الباب فقلت: لأكونن بواب رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم" وفي ملحق الرواية الثالثة "دخل حائطا، وأمرني أن أحفظ الباب" والظاهر التعارض بين الرواية الرابعة، وفيها أن أبا موسى أراد أن يحفظ الباب من تلقاء نفسه، بل في بعض الروايات، قال: "ولم يأمرني" وبين ملحق الرواية الثالثة، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم أمره أن يحفظ الباب، وفي رواية أبي عوانة قال "يا أبا موسى، أملك علي الباب، فانطلق، فقضى حاجته وتوضأ، ثم جاء، فقعد على قف البئر" وفي رواية الترمذي "يا أبا موسى، أملك علي الباب، فلا يدخلن علي أحد" ويرفع هذا التعارض باختلاف الزمان، إذ يحتمل أنه أمر بحفظ الباب أثناء قضاء الحاجة وتطوع بحفظ الباب بعد الوضوء، وبعد جلوسه صلى الله عليه وسلم على حافة البئر. (إذ استفتح رجل، فقال: افتح وبشره بالجنة، قال: فإذا أبو بكر) في الرواية الرابعة "فجاء أبو بكر فدفع الباب، فقلت: من هذا؟ فقال أبو بكر. فقلت: على رسلك" بكسر الراء وفتحها، لغتان، أي تمهل وتأن، يقال: ترسل في كلامه وقراءته ومشيه، والرسل بكسر الراء الرفق والتؤدة "قال: ثم ذهبت فقلت: يا رسول الله! هذا أبو بكر يستأذن؟ فقال: ائذن له، وبشره بالجنة" وظاهر الرواية الثالثة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالفتح والتبشير بالجنة قبل أن يعلم من المستفتح؟ وظاهر الرواية الرابعة أنه أمر بالفتح والتبشير بالجنة بعد أن علمه، ولا تعارض، فمن المحتمل أنه أمر بذلك قبل العلم، وأمر به بعد العلم. (ففتحت له، وبشرته بالجنة) في الرواية الرابعة "فأقبلت، حتى قلت لأبي بكر: ادخل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبشرك بالجنة، فدخل أبو بكر فجلس عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، معه في القف ودلى رجليه في البئر كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم وكشف عن ساقيه" زاد في رواية أن أبا بكر حين بشر بالجنة حمد الله. (ثم استفتح رجل آخر) كان أبو موسى يترقب مجيء أخيه، فقد تركه في البيت يتوضأ، ليلحق به فلما سمع التبشير بالجنة تمنى أن يكون المستفتح الثاني أخاه، فتقول الرواية الرابعة "ثم رجعت" أي إلى الباب "فجلست - وقد تركت أخي يتوضأ، ويلحقني، فقلت: إن يرد الله بفلان - ذكر اسم أخيه - خيرا، يأت به" الآن "فإذا إنسان يحرك الباب، فقلت من هذا؟ فقال عمر بن الخطاب، فقلت: على رسلك ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه، وقلت: هذا عمر يستأذن؟ فقال: ائذن له وبشره بالجنة فجئت عمر فقلت: أذن ويبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة قال: فدخل فجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في القف، عن يساره، ودلى رجليه في البئر" قال النووي: وقوله "دلى رجليه في البئر" دليل للغة الصحيحة أنه يجوز أن يقول: دليت الدلو في البئر كما يقال: أدليت، ومنهم من منع الأول. "قال: ثم رجعت فجلست، فقلت" في نفسي: "إن يرد الله بفلان خيرا - يعني أخاه - يأت به، فجاء إنسان، فحرك الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: عثمان بن عفان، فقلت: على رسلك، قال: وجئت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: ائذن له، وبشره بالجنة، مع بلوى تصيبه، قال: فجئت فقلت: ادخل ويبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة مع بلوى تصيبك" في رواية

"قال: فحمد الله، ثم قال: الله المستعان" وفي رواية عند أحمد "فجعل يقول: اللهم صبرا. حتى جلس". "قال: فدخل، فوجد القف قد ملئ، فجلس وجاههم من الشق الآخر" "وجاههم" بكسر الواو، وضمها، أي قبالتهم، وفي مواجهتهم. (قال سعيد بن المسيب) راوي الحديث عن أبي موسى (فأولتها قبورهم) في الملحق الثاني "فتأولت ذلك قبورهم، اجتمعوا ها هنا، وانفرد عثمان" يعني أن الثلاثة دفنوا في مكان واحد، وعثمان دفن في مكان بائن عنهم، حيث دفن بالبقيع. -[فقه الحديث]- ذكر البخاري بالإضافة إلى حديث الباب، من فضائل عثمان رضي الله عنه: 1 - حديث توليه الخلافة، وقد ذكرنا صدره عند الكلام على فضل عمر رضي الله عنه، ونذكر بقيته: قال عمرو بن ميمون: "فلما فرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط [أي الذين رشحهم عمر للخلافة، علي وعثمان والزبير وطلحة وسعد وعبد الرحمن] فقال عبد الرحمن: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم" ليقل الاختلاف في الاختيار "فقال الزبير: قد جعلت أمري إلى علي، وقال طلحة: قد جعلت أمري إلى عثمان، وقال سعد: قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف، فقال عبد الرحمن: أيكما تبرأ من هذا الأمر، فنجعله إليه، والله عليه والإسلام" أي والله رقيب عليه، والإسلام رقيب عليه "لينظرن أفضلهم في نفسه؟ فأسكت الشيخان، فقال عبد الرحمن: أفتجعلونه إلي، والله علي أن لا آلو عن أفضلكم؟ قالا: نعم، فأخذ بيد أحدهما [هو علي] فقال: لك قرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقدم في الإسلام" - بكسر القاف وفتحها مع فتح الدال "ما قد علمت، فالله عليك لئن أمرتك لتعدلن، ولئن أمرت عثمان لتسمعن ولتطيعن. ثم خلا بالآخر، فقال مثل ذلك، فلما أخذ الميثاق قال: ارفع يدك يا عثمان، فبايعه، فبايع له علي، وولج أهل الدار، فبايعوه". 2 - قال البخاري: وقال النبي صلى الله عليه وسلم "من يحفر بئر رومة فله الجنة فحفرها عثمان" وقال "من جهز جيش العسرة فله الجنة، فجهزه عثمان" وروى البغوي في الصحابة "لما قدم المهاجرون المدينة استنكروا الماء، وكانت لرجل من بني غفار عين، يقال لها: رومة، وكان يبيع منها القربة بمد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: تبيعنيها بعين في الجنة؟ فقال: يا رسول الله! ليس لي ولا لعيالي غيرها، فبلغ ذلك عثمان رضي الله عنه فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتجعل لي فيها ما جعلت له؟ قال: نعم. قال: قد جعلتها للمسلمين" فلعل عثمان حفر بئرا على هذه العين، أو بناها ووسعها، فنسب إليه حفرها. وأما تجهيز جيش العسرة، فعند الترمذي أنه جهزهم بثلاثمائة بعير، وعند أحمد أنه جاء بألف دينار في ثوبه، فصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم حين جهز جيش العسرة فقال صلى الله عليه وسلم "ما على عثمان ما عمل بعد اليوم" وعند أسد بن موسى في فضائل الصحابة "حمل عثمان على ألف بعير وسبعين فرسا في العسرة". 3 - وحديث "اثبت أحد، فليس عليك إلا نبي وصديق وشهيدان" كما ذكره في فضائل أبي بكر.

4 - وحديث عبيد الله بن عدي بن الخيار قال: إن المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، قالا: ما يمنعك أن تكلم عثمان، لأخيه" أي لأجل أخيه، أو عن أخيه "الوليد" بن عقبة بن أبي معيط، وكان أخا عثمان لأمه، وكان عثمان ولاه الكوفة، بعد أن عزل سعد بن أبي وقاص الذي ولاه عثمان على الكوفة بوصية من عمر، ثم عزله بالوليد، سنة خمس وعشرين "فقد أكثر الناس فيه" أي في شأن الوليد، ومنها أنه شرب الخمر، ولم يقم عليه عثمان الحد، فقد أخرج مسلم "أن عثمان أتى بالوليد، وقد صلى الصبح بالناس ركعتين وهو مخمور، وقال للناس عقب السلام إن شئتم أزيدكم، أي أزيد الصبح ركعات على أصلها وشهد عليه رجلان، وأكثر الناس الكلام عن عزل سعد وتولية الوليد، وسعد أحد العشرة، ومن أهل الشورى واجتمع له من الفضل والسنن والعلم والدين والسبق إلى الإسلام ما لم يتفق شيء منه للوليد بن عقبة. ونعود لحديث عبيد الله بن عقبة، قال: "فقصدت لعثمان، حتى خرج إلى الصلاة، قلت: إن لي إليك حاجة، وهي نصيحة لك. قال: أعوذ بالله منك، قال: فانصرفت، فرجعت إليهما، إذ جاء رسول عثمان، فأتيته، فقال: ما نصيحتك؟ فقلت: إن الله سبحانه بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، وكنت ممن استجاب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم فهاجرت الهجرتين" يقصد هجرة الحبشة الأولى، والهجرة إلى المدينة وكان عثمان رضي الله عنه واحدا من أحد عشر رجلا وأربع نسوة وكانت معه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم "وصحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيت هديه وقد أكثر الناس في شأن الوليد؟ قال - عثمان مخاطبا عبيد الله: أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: لا، ولكن خلص إلى من علم ما يخلص إلى العذراء في سترها - أراد أن علم النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مكتوما ولا خاصا بل كان شائعا ذائعا، واصلا للعذراء في سترها فوصوله إليه مع حرصه عليه أولى - قال: أما بعد: فإن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق فكنت ممن استجاب لله ولرسوله، وآمنت بما بعث به، وهاجرت الهجرتين - كما قلت - وصحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعته، فوالله ما عصيته، ولا غششته حتى توفاه الله، ثم أبو بكر مثله، ثم عمر مثله، ثم استخلفت. أفليس لي من الحق مثل الذي لهم؟ " في رواية "أفليس لي عليكم من الحق مثل الذي كان لهم علي"؟ من السمع والطاعة "قلت: بلى قال: فما هذه الأحاديث التي تبلغني عنكم؟ أما ما ذكرت من شأن الوليد فسنأخذ فيه بالحق إن شاء الله. ثم دعا عليا، فأمره أن يجلده" وأخرج مسلم أن عثمان قال لعلي: قم فاجلده - بعد أن شهد عليه الشهود، وبعد أن قال لهم عثمان وما يدريكم أنه شرب الخمر؟ قالوا: هي التي كنا نشربها في الجاهلية أي نعرفها جيدا ونعرف ريحها وأعراضها على شاربها - فقال علي: قم يا حسن فاجلده فقال الحسن: ول حارها من تولى قارها، أي من انتفع بالولاية يحمل أثقالها ومساوئها ويقيم الحد على قريبه فكأن عليا وجد على ابنه لرفضه، فقال: قم يا عبد الله بن جعفر فاجلده. فجلده وعزله عثمان عن الكوفة بعد أن تولاها خمس سنين وولى بعده سعيد بن العاص. 5 - وحديث عثمان بن موهب قال: "جاء رجل من أهل مصر - وكانوا أبرز الخارجين على عثمان - وحج البيت، فرأى قوما جلوسا، فقال: من هؤلاء القوم؟ فقالوا: هؤلاء قريش. قال: فمن الشيخ فيهم؟ قالوا: عبد الله بن عمر. قال: يا بن عمر، إني سائلك عن شيء، فحدثني عنه. هل تعلم أن عثمان

فر يوم أحد؟ قال: نعم. فقال: تعلم أنه تغيب عن بدر؟ ولم يشهدها؟ قال: نعم. قال الرجل: هل تعلم أنه تغيب عن بيعة الرضوان؟ فلم يشهدها؟ قال: نعم. قال: الله أكبر. قال ابن عمر: تعال أبين لك. أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه، وغفر له، وأما تغيبه عن بدر، فإنه كانت تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه، وأما تغيبه عن بيعة الرضوان، فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان، وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: هذه يد عثمان فضرب بها على يده، فقال: هذه لعثمان. ثم قال له ابن عمر: "اذهب بها الآن معك" أي توجه بما تمسكت به فإنه لا ينفعك بعد ما بينت لك. وعند النسائي: أرسل عثمان وهو محصور إلى علي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وغيرهم، فحضروا، فأشرف عليهم، زاد الترمذي "يقال: هل تعلمون أن حراء حين انتفض، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اثبت حراء، فليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد؟ قالوا: نعم". وفي رواية قال لهم: هل تعلمون أن رومة لم يكن يشرب منها إلا بثمن، فابتعتها فجعلتها للفقير والغني وابن السبيل؟ قالوا: نعم. وفي رواية قال لهم: هل تعلمون أن المسجد ضاق بأهله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يشتري بقعة آل فلان، فيزيدها في المسجد، بخير منها في الجنة؟ فاشتريتها من صلب مالي؟ فأنتم اليوم تمنعوني أن أصلي فيها؟ وفي رواية قال لهم: "وجيش العسرة، جهزتهم حتى لم يفقدوا عقالا ولا خطاما". وفي رواية قال لهم: "أنشد الله رجلا شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بيعة الرضوان يقول: هذه يد الله وهذه يد عثمان .. ". وفي رواية قال لهم: هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجني ابنتيه؟ واحدة بعد أخرى؟ رضي بي؟ ورضي عني؟ قالوا: نعم. وفي رواية "قال يا طلحة، أنشدك الله، أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ليأخذ كل رجل منكم بيد جليسه فأخذ بيدي فقال: هذا جليسي في الدنيا والآخرة؟ قال: نعم. (فائدة) ولد عثمان بن عفان رضي الله عنه بعد الفيل بست سنين على الصحيح كان يلقب ذا النورين، كان يقوم الليل ويصوم الدهر ويصل الرحم، وفي الإصابة: بويع في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وقتل في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين وهو ابن اثنتين وثمانين سنة، على الصحيح المشهور ودفن في حش كوكب وهو أرض كان عثمان اشتراها، فوسع بها البقيع رضي الله عنه وأرضاه. -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - من الرواية الأولى والثانية من قوله "كاشفا عن فخذيه" قال النووي: هذا الحديث مما يحتج به

المالكية وغيرهم ممن يقول: ليست الفخذ عورة، ولا حجة فيه، لأنه مشكوك في المكشوف هل هو الساقان أو الفخذان فلا يلزم منه الجزم بجواز كشف الفخذ. 2 - وفي هذا الحديث وفي استمرار كشف النبي صلى الله عليه وسلم ساقه مع حضور أبي بكر وعمر جواز تدلل العالم والفاضل بحضرة من يدل عليه من فضلاء أصحابه واستحباب ترك ذلك إذا حضر غريب أو صاحب يستحى منه. 3 - وفيه فضيلة عثمان رضي الله عنه وجلالته عند الملائكة. 4 - وفضيلة الحياء وأنه صفة جميلة من صفات الملائكة. 5 - ومن تبشيرهم بالجنة في الرواية الثالثة فضيلة هؤلاء الثلاثة. 6 - وأنهم من أهل الجنة. 7 - وفيه فضيلة لأبي موسى رضي الله عنه. 8 - وجواز الثناء على الإنسان في وجهه إذا أمنت عليه فتنة الإعجاب. 9 - وفيه معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم لإخباره بقصة عثمان والبلوى وأن الثلاثة يستمرون على الإيمان والهدى. 10 - ومن قوله عند توقع البلاء "والله المستعان" استحباب قول ذلك عند مثل تلك الحال. 11 - ومن قول سعيد بن المسيب "فأولتها قبورهم" وقوع التأويل في اليقظة أي تأويل الإشارات إلى أحداث وهو الذي يسمى الفراسة وقد أخذ سعيد بن المسيب من اجتماع الصاحبين مع النبي صلى الله عليه وسلم على قف البئر وانفراد عثمان تجاههم اجتماعهم في الدفن وانفراد عثمان عنهم في البقيع وفي رواية "وقال سعيد: فأولت ذلك انتباذ قبره من قبورهم" وفي رواية زيادة "اجتمعوا هنا وانفرد عثمان" والظاهر أن هذا التأويل إنما وقع في نفس سعيد بعد دفنهم جميعا، فهو ربط بين أخبار ماضية وأحداث حدثت تصدقها. 12 - وفي وقوف أبي موسى على باب البئر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له بواب، وليس معنى ذلك أنه لم يكن له بواب لحظة من حياته، بل المعنى أنه لم يكن له بواب مرتب خاص بذلك على الدوام. 13 - ومن تدلية الصاحبين لساقيهما في البئر مدى حرص أبي بكر وعمر على موافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حركاته وسكناته. 14 - وفي هذا الفعل أيضا الحرص على راحة الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ ربما لو لم يفعلا ذلك استحيا منهما فرفع ساقيه. والله أعلم.

(635) باب فضائل علي رضي الله عنه

(635) باب فضائل علي رضي الله عنه 5411 - عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى. إلا أنه لا نبي بعدي" قال سعيد: فأحببت أن أشافه بها سعدا. فلقيت سعدا. فحدثته بما حدثني عامر. فقال: أنا سمعته. فقلت آنت سمعته؟ فوضع إصبعيه على أذنيه فقال: نعم. وإلا فاستكتا. 5412 - عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب في غزوة تبوك. فقال: يا رسول الله! تخلفني في النساء والصبيان؟ فقال: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ غير أنه لا نبي بعدي". 5413 - عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه رضي الله عنه قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعدا فقال: ما منعك أن تسب أبا التراب؟ فقال: أما ما ذكرت ثلاثا قالهن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أسبه. لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له، خلفه في بعض مغازيه، فقال له علي: يا رسول الله! خلفتني مع النساء والصبيان؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبوة بعدي" وسمعته يقول يوم خيبر: "لعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله" قال: فتطاولنا لها. فقال: "ادعوا لي عليا" فأتي به أرمد. فبصق في عينه ودفع الراية إليه. ففتح الله عليه. ولما نزلت هذه الآية {فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم} [آل عمران: 61] دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال: اللهم! هؤلاء أهلي".

5414 - عن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى". 5415 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: "لأعطين هذه الراية رجلا يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه" قال عمر بن الخطاب: ما أحببت الإمارة إلا يومئذ. قال: فتساورت لها، رجاء أن أدعى لها قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فأعطاه إياها. وقال امش. ولا تلتفت. حتى يفتح الله عليك" قال: فسار علي شيئا ثم وقف ولم يلتفت. فصرخ: يا رسول الله! على ماذا أقاتل الناس؟ قال: "قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم. إلا بحقها. وحسابهم على الله". 5416 - عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: "لأعطين هذه الراية رجلا يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله" قال: فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها. قال: فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. كلهم يرجون أن يعطاها. فقال: "أين علي بن أبي طالب؟ " فقالوا: هو يا رسول الله! يشتكي عينيه. قال: "فأرسلوا إليه. فأتي به. فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه. ودعا له فبرأ. حتى كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية. فقال علي: يا رسول الله! أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا. فقال: انفذ على رسلك. حتى تنزل بساحتهم. ثم ادعهم إلى الإسلام. وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه. فوالله! لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم". 5417 - عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: كان علي قد تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في

خيبر، وكان رمدا. فقال: أنا أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم! فخرج علي فلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم. فلما كان مساء الليلة التي فتحها الله في صباحها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأعطين الراية، أو ليأخذن بالراية، غدا رجل يحبه الله ورسوله، أو قال يحب الله ورسوله، يفتح الله عليه" فإذا نحن بعلي وما نرجوه فقالوا: هذا علي: فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية. ففتح الله عليه. 5418 - عن يزيد بن حيان قال: انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم فلما جلسنا إليه قال له حصين: لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا. رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت حديثه وغزوت معه وصليت خلفه، لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا. حدثنا يا زيد! ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا ابن أخي! والله! لقد كبرت سني، وقدم عهدي ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فما حدثتكم فاقبلوا. وما لا، فلا تكلفونيه. ثم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فينا خطيبا. بماء يدعى خما. بين مكة والمدينة. فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكر. ثم قال: "أما بعد: ألا أيها الناس! فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور. فخذوا بكتاب الله. واستمسكوا به" فحث على كتاب الله ورغب فيه. ثم قال: "وأهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي" فقال له حصين: ومن أهل بيته؟ يا زيد! أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته. ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده. قال: ومن هم؟ قال: هم آل علي، وآل عقيل وآل جعفر، وآل عباس، قال: كل هؤلاء حرم الصدقة؟ قال: نعم. 5419 - عن أبي حيان بهذا الإسناد، نحو حديث إسماعيل وزاد في حديث جرير "كتاب الله فيه الهدى والنور. من استمسك به وأخذ به، كان على الهدى ومن أخطأه، ضل".

5420 - عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: دخلنا عليه فقلنا له: لقد رأيت خيرا. لقد صاحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصليت خلفه. وساق الحديث، بنحو حديث أبي حيان، غير أنه قال: "ألا وإني تارك فيكم ثقلين: أحدهما كتاب الله عز وجل. هو حبل الله. من اتبعه كان على الهدى. ومن تركه كان على ضلالة" وفيه: فقلنا: من أهل بيته؟ نساؤه؟ قال: لا. وايم الله! إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر. ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها. أهل بيته أصله، وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده. 5421 - عن سهل بن سعد قال: استعمل على المدينة رجل من آل مروان. قال فدعا سهل بن سعد. فأمره أن يشتم عليا. قال: فأبى سهل. فقال له: أما إذ أبيت فقل: لعن الله أبا التراب. فقال سهل: ما كان لعلي اسم أحب إليه من أبي التراب. وإن كان ليفرح إذا دعي بها. فقال له: أخبرنا عن قصته. لم سمي أبا تراب؟ قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة. فلم يجد عليا في البيت. فقال: "أين ابن عمك؟ " فقالت: كان بيني وبينه شيء. فغاضبني فخرج. فلم يقل عندي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان: "انظر. أين هو؟ " فجاء فقال: يا رسول الله! هو في المسجد راقد. فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع. قد سقط رداؤه عن شقه. فأصابه تراب. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه ويقول: "قم أبا التراب! قم أبا التراب! ". -[المعنى العام]- علي بن أبي طالب بن عبد المطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أصغر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ثلاثين سنة، وقد تربى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من صغره، إذ كان أبوه الحامي والمدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، زوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة بعد الهجرة، وكان من أشجع الصحابة، وله مواقف الجرأة والمنازلة، والمبارزة يوم بدر ولما حاصر المسلمون يهود خيبر أياما وكانوا قد تحصنوا في حصون منيعة أعدوها لهذا اليوم وجمعوا فيها قوت أشهر، وكانوا يخرجون من الحصون يناوشون جيش المسلمين، ثم يعودون فيتحصنون، استمر حصار المسلمين لهم أياما، دون فتح، وأوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة أن المسلمين سيفتحون خيبر بقيادة علي رضي الله عنه فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه الذين أجهدهم طول الحصار حتى أكلوا البصل والثوم الأخضر وذبحوا الحمير، قال لهم: سأعطي الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله

ويحبه الله ورسوله، وسيفتح الله خيبر على يديه، وتمنى كل واحد منهم أن ينال هذا الشرف العظيم، حتى قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما تمنيت الإمارة في يوم من الأيام، إلا في تلك الساعة وانتظر المسلمون الصباح بفارغ الصبر، وسارعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل من زعمائهم وقادتهم يتطاول بعنقه نحو الرسول صلى الله عليه وسلم يرجو هذا الشرف، وكأنه يقول: أنا هو؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين علي بن أبي طالب؟ لم يكن أحد منهم ينتظر ذلك، فعلي مريض يشكو عينيه، ولم يحضر حصار الأيام الماضية ولقد تركوه بالمدينة، لكنهم قاموا يبحثون عنه - وإذا بسلمة بن الأكوع يراه من بعيد قادما من المدينة، لقد لام نفسه على أن يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مهما كان عذره، فتحامل، وصبر وصابر، ولحق بالجيش، وصحبه سلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبصق في كفه الشريف ومسح بكفه على عينيه، فبرأ كأن لم يكن به وجع، وسلمه راية القيادة، فبارز قائد اليهود فقضى عليه وفتح الله به خيبر. ومرت الأيام وتعددت الغزوات. غزوة مؤتة والحرقات والفتح وحنين، وأوطاس، والطائف، وفي كل غزوة منها نجد عليا رضي الله عنه جنديا عاملا مجاهدا، إن وضع في المقدمة كان في المقدمة، وإن وضع في الساقة كان في الساقة ليس حريصا على قيادة، وإن كان أهلا لها، ولا آسفا عليها إن أبعد عنها، وهكذا كانت تربية الإسلام للقادة، بل في أصعب الغزوات وأشدها وأخطرها، غزوة تبوك، نجد الرسول صلى الله عليه وسلم يحجبه عنها، ويعينه على المدينة، غائبا عن المحاربين، ويتألم البطل الشجاع من هذا القرار، ويتظلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول له: أتخلفني هنا مع النساء والصبيان؟ والرسول الحكيم صلى الله عليه وسلم، حريص على أن يدرب القادة على قيادة الشعب، كما يدربها على قيادة الجيش والرسول صلى الله عليه وسلم هو قائد المسلمين في الحرب وفي السلم. فليخلف عليا على المدينة في هذه الغزوة، فقال له: ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ لقد خلف موسى أخاه هارون في قومه، حين ذهب لمناجاة ربه، وأنا أخلفك على أهل المدينة في غزوتي هذه. فقال علي رضي الله عنه: رضيت يا رسول الله. -[المباحث العربية]- (أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي) في الرواية الثانية "خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب في غزوة تبوك" أي خلفه مكانه على المدينة "فقال: يا رسول الله! تخلفني في النساء والصبيان؟ فقال: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ غير أنه لا نبي بعدي" وفي الرواية الثالثة "خلفه في بعض مغازيه" أي تبوك "فقال له علي: يا رسول الله! خلفتني مع النساء والصبيان؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أن لا نبوة بعدي" وعند أحمد وابن سعد، أنه عليه الصلاة والسلام قال لعلي: "لا بد أن أقيم أو تقيم، فأقام علي، فسمع ناسا يقولون: إنما خلفه لشيء كرهه منه، فاتبعه فذكر له ذلك، فقال له: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ فقال علي: رضيت. رضيت. بلى يا رسول الله. قال: فإنه كذلك" وفي الكلام تشبيه من حيث المعنى. أي أنت في صلتك بي تشبه هارون في صلته بموسى، ووجه

الشبه ليس أخوة النسب قطعا وليس النبوة المشتركة بين موسى وهارون، فهي منفية بلفظ الحديث فدل ذلك على أنه الخليفة في غيابه، كما قال موسى لأخيه هارون: اخلفني في قومي، فعلي كان المستحق للخلافة من بعده هكذا يفهم بعض الشيعة، ويجيب أهل السنة بأن هارون المشبه به إنما كان خليفة في حياة موسى، حين ذهب لميقات ربه، للمناجاة لا بعد موته، لأنه مات قبل موسى بالاتفاق وقبل وفاة موسى بنحو أربعين سنة على المشهور، فالتشبيه إنما هو في قيام علي على المدينة في فترة غياب الرسول صلى الله عليه وسلم عنها في هذه الغزوة فقط، فقد أقام صلى الله عليه وسلم غيره على المدينة في غير هذه الغزوة. (قال سعيد: فأحببت أن أشافه بها سعدا، فلقيت سعدا، فحدثته بما حدثني عامر، فقال: أنا سمعته. فقلت: آنت سمعته؟ فوضع إصبعيه على أذنيه، فقال: نعم، وإلا فاستكتا) أصل الإسناد: عن سعيد بن المسيب عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال ... إلخ، فسعيد استوثق من سعد نفسه ما سمعه من ابنه، وقول سعد "وإلا فاستكتا" بتشديد الكاف، دعاء على أذنيه بالصمم إن لم تكونا سمعتا ما أخبر به أنه سمعه يقال: استك أي انسد، واستكت مسامعه أي صمت. (أمر معاوية بن أبي سفيان سعدا) المأمور به محذوف، لصيانة اللسان عنه، والتقدير: أمره بسب علي رضي الله عنه، وكان سعد قد اعتزل الفتنة، [حرب علي مع خصومه] ولعله اشتهر عنه الدفاع عن علي. (فقال: ما منعك أن تسب أبا التراب)؟ معطوف على محذوف، والتقدير: أمر معاوية سعدا أن يسب عليا، فامتنع، فقال له: ما منعك؟ ويحاول النووي تبرئة معاوية من هذا السوء، فيقول: قال العلماء: الأحاديث الواردة التي في ظاهرها دخل على صحابي يجب تأويلها، قالوا: ولا يقع في روايات الثقات إلا ما يمكن تأويله، فقول معاوية هذا ليس فيه تصريح بأنه أمر سعدا بسبه وإنما سأله عن السبب المانع له من السب، كأنه يقول هل امتنعت تورعا؟ أو خوفا؟ أو غير ذلك؟ فإن كان تورعا وإجلالا له عن السب، فأنت مصيب محسن، وإن كان غير ذلك فله جواب آخر، ولعل سعدا كان في طائفة يسبون، فلم يسب معهم وعجز عن الإنكار عليهم، فسأله هذا السؤال قالوا: ويحتمل تأويلا آخر أن معناه: ما منعك أن تخطئه في رأيه واجتهاده؟ وتظهر للناس حسن رأينا واجتهادنا، وأنه أخطأ اهـ. وهذا تأويل واضح التعسف والبعد والثابت أن معاوية كان يأمر بسب علي، وهو غير معصوم، فهو يخطئ، ولكننا يجب أن نمسك عن انتقاص أي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسب علي في عهد معاوية صريح في روايتنا التاسعة. (أما ما ذكرت ثلاثا - قالهن له رسول الله صلى الله عليه وسلم - فلن أسبه) "ما ذكرت" بضم التاء للمتكلم، و"ما" ظرفية دوامية والمعنى لا أسبه مدة ذكري لثلاث، طالما أنا أذكر ثلاثا. (لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم) اللام في جواب قسم محذوف،

و"حمر النعم" الإبل الحمر، وهي أنفس أموال العرب، يضربون بها المثل في نفاسة الشيء، وأنه ليس هناك أعظم منه، وتشبيه أمور الآخرة بأعراض الدنيا إنما هو للتقريب إلى الأفهام، وإلا فذرة من الآخرة الباقية خير من الأرض بأسرها وأمثالها معها. (يقول له: خلفه في بعض مغازيه) الجملة ليست مقول القول، وإنما هي تعبير من الراوي عن مقول القول، ومقول القول الأصلي: أخلفك في المدينة في هذه الغزوة. (خلفتني مع النساء والصبيان)؟ الكلام على سبيل الاستفهام الإنكاري أي لا ينبغي أن تخلفني. (فتطاولنا لها) وفي الرواية الرابعة "ما أحببت الإمارة إلا يومئذ، قال: فتساورت لها، رجاء أن أدعى إليها" ومعنى الروايتين واحد، أي رفعنا وجوهنا ورءوسنا، كناية عن التصدي لها. وفي الرواية الخامسة "فبات الناس يدوكون ليلتهم، أيهم يعطاها"؟ قال النووي: هكذا هو في معظم النسخ والروايات "يدوكون" بضم الدال وبالواو، أي يخوضون ويتحدثون في ذلك وفي بعض النسخ "يذكرون" بإسكان الذال وبالراء اهـ أي يذكر كل منهم هذا القول، فيتوقع كل منهم ما يتوقع. (فقال: ادعوا لي عليا) معطوف على محذوف أي فأصبح فقال إلخ. (فأتي به أرمد، فبصق في عينه ودفع الراية إليه) في الرواية الرابعة "فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فأعطاه إياها" وفي الرواية الخامسة "فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجون أن يعطاها فقال: أين علي بن أبي طالب؟ فقالوا: هو يا رسول الله - يشتكي عينيه، قال: فأرسلوا إليه" بفتح السين "فأتي به فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه، ودعا له، فبرأ، حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية" وفي الرواية السادسة "كان علي قد تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر وكان رمدا فقال: أنا أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فخرج علي فلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم فلما كان مساء الليلة التي فتحها الله في صباحها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأعطين الراية - أو ليأخذن بالراية غدا رجل يحب الله ورسوله - أو قال: يحبه الله ورسوله، يفتح الله عليه، فإذا نحن بعلي، وما نرجوه، فقالوا: هذا علي، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية" ولا تعارض بين الروايات، والجمع سهل وبعض الرواة ذكر ما لم يذكر الآخر. (ففتح الله عليه) وقد ذكرنا سير المعركة ونتيجتها عند الكلام عن غزوة خيبر. (ولما نزلت هذه الآية {فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم}) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال: "اللهم هؤلاء أهلي" هذه هي الفضيلة الثالثة لعلي رضي الله عنه في نظر سعد بن أبي وقاص وهي أن عليا من أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بل اعتبره من أبنائه. وسيأتي الكلام على آل بيته صلى الله عليه وسلم. (فأعطاه إياها، وقال: امش ولا تلتفت، حتى يفتح الله عليك، قال، فسار علي شيئا ثم وقف ولم يلتفت فصرخ: يا رسول الله! على ماذا أقاتل الناس)؟ قال النووي: هذا الالتفات المنهي عنه يحتمل وجهين. أحدهما أنه على ظاهره، أي لا تلتفت بوجهك يمينا ولا شمالا

ولا خلفا، بل اجعل وجهك إلى الأمام دائما، ويلزمه الإقدام وعدم التراجع والثبات، فالكلام على الحقيقة، الثاني أن المراد الحث على الإقدام والمبادرة، وعدم التشاغل بغير ما توجه له، فالكلام على سبيل الكناية، التي هي لفظ أطلق وأريد لازم معناه مع صحة إرادة المعنى الأصلي وحمله بعضهم على الكناية البعيدة على معنى: لا تنصرف عن القتال بعد لقاء عدوك براحة أو توقف أو هدنة حتى يفتح الله عليك فقد كانت الأيام الأولى من القتال قبل تسلم علي الراية مناوشات يرجع المسلمون بعدها إلى عسكرهم ويرجع أهل خيبر إلى حصونهم. وقد حمله علي رضي الله عنه على الحقيقة، ولم يتلفت بوجهه إلى الخلف نحو الرسول صلى الله عليه وسلم حين احتاج لسؤاله، بل سأل سؤاله بدون مواجهة. (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فينا خطيبا، بماء يدعى "خما" بين مكة والمدينة) "خما" بضم الخاء وتشديد الميم، وهو اسم لغيضة أي لمكان يكثر فيه الشجر، على ثلاثة أميال من المكان الذي يسمى الحسنة، وعنده غدير غير مشهور، يضاف إلى الغيضة، فيقال: غدير خم. (وأنا تارك فيكم ثقلين) بفتح الثاء والقاف، أي أمرين ثقيلين عظيمين، شأنهما كبير، والعمل بهما ثقيل. (كتاب الله ... وأهل بيتي) في الرواية السابعة "أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده، قال: ومن هم؟ قال: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر وآل عباس" وفي الرواية الثامنة "فقلنا: من أهل بيته؟ نساؤه؟ قال: لا. وايم الله! إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر" أي الزمن القصير من الزمن الطويل، ثم يطلقها، فترجع إلى أبيها وقومها، أهل بيته أصله وعصبته، الذين حرموا الصدقة بعده". قال النووي: هاتان الروايتان ظاهرهما التناقض، والمعروف في معظم الروايات في غير مسلم أنه قال: "نساؤه لسن من أهل بيته فتتأول الرواية الأولى على أن المراد أنهن من أهل بيته الذين يساكنونه ويعولهم، وأمر باحترامهم وإكرامهم، وسماهم ثقلا ووعظ في حقوقهم وذكر، فنساؤه داخلات في هذا كله، ولا يدخلن فيمن حرم الصدقة قال: وقد أشار إلى هذا في الرواية الأولى بقوله "نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة" فاتفقت الروايتان اهـ. وحاصل التوفيق والجمع، أن نساءه رضي الله عنهن من أهل بيته من جهة الاحترام والتقدير، وليس من أهل بيته من جهة تحريم الصدقة عليهم، ففي الإثبات تراد جهة وفي النفي تراد أخرى. وسيأتي خلاف الفقهاء في تحديد أهل بيته صلى الله عليه وسلم. (فأمره أن يشتم عليا) أي يسب عليا رضي الله عنه باسمه. (فقال له: أما إذا أبيت فقل: لعن الله أبا التراب) أي حيث أبيت سبه باسمه، فسبه بكنيته "أبى التراب" ويلمحون بذلك إلى تنقيصه بهذه الكنية، فكان الرد عليهم: (ما كان لعلي اسم أحب إليه من أبي التراب، وإن كان ليفرح إذا دعي بها) وفي رواية "وما سماه أبا تراب إلا النبي صلى الله عليه وسلم "وأطلق كلمة "اسم" وأراد بها الكنية "وإن" في قوله "وإن كان ليفرح" مخففة من الثقيلة.

(أين ابن عمك) هو ابن عم أبيها، ففي هذا الإطلاق تجوز للاستعطاف. (كان بيني وبينه شيء) أي من الخلاف والنقاش. (فغاضبني فخرج) كان حقها أن تقول: فغاضبته، فخرج، لأنه هو الغضبان، ولكنها المرأة. (فلم يقل عندي) "يقل" بفتح الياء وكسر القاف، من قال يقيل قيلولة، وهي النوم نصف النهار. (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان: انظر أين هو؟ ) قال الحافظ ابن حجر: يظهر لي أنه سهل، راوي الحديث، لأنه لم يذكر أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم أحد، وللبخاري في الأدب "فقال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة: أين ابن عمك؟ قالت: في المسجد" فيحمل طلبه صلى الله عليه وسلم من سهل أن ينظر أين هو؟ أي في أي مكان هو من المسجد؟ . (هو في المسجد راقد) عند الطبراني "فوجده مضطجعا في فيء الجدار" أي في ظل جدار المسجد داخله. (فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع، قد سقط رداؤه عن شقه فأصابه تراب، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عنه، ويقول: قم أبا تراب) أي كان ينام على جنبه الذي سقط عنه الرداء، ولاصق الأرض، فلصق به التراب، وخلص التراب إلى ظهره، فلما قعد رؤي التراب على هذا الجنب فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عنه هذا التراب ويقول له مداعبا مضاحكا: يا أبا التراب. يا أبا التراب. مرتين. قال الحافظ ابن حجر: والظاهر أن ذلك هو أول قول هذه الكلمة لكن ثبت في غزوة العسرة أن النبي صلى الله عليه وسلم خاطبه بذلك هناك قال: وهذا إن ثبت حمل على أنه خاطبه بذلك في حالة أخرى. والله أعلم. -[فقه الحديث]- علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبو الحسن، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولد قبل البعثة بعشر سنين على الراجح، وكان قد رباه النبي صلى الله عليه وسلم من صغره. أول الناس إسلاما في قول كثير من أهل العلم، وشهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم المشاهد كلها، إلا غزوة تبوك، ولما آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين الصحابة قال له: أنت أخي. واشتهر بالفروسية والشجاعة وكان أحد الستة الذين رشحهم عمر للخلافة فعرضها عليه عبد الرحمن بن عوف، وشرط عليه شروطا امتنع من بعضها، فعدل عنه إلى عثمان، فقبلها، فولاه، وسلم علي وبايع عثمان فلما قتل عثمان بايعه الناس، ثم كان ما كان من وقعة الجمل وصفين، ثم استشهاده رضي الله عنه ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان سنة أربعين بعد الهجرة وكانت مدة خلافته خمس سنين، تنقص ثلاثة أشهر ونصف شهر، على الصحيح.

ومناقبه كثيرة. قال الإمام أحمد: لم ينقل لأحد من الصحابة ما نقل لعلي: وقال غيره: كان سبب ذلك بغض بني أمية له، فكان كل من كان عنده علم من شيء من مناقبه من الصحابة يثبته، وكلما أراد الأمويون إخماده ازداد انتشارا، وقد ولدت له الرافضة مناقب موضوعة، هو غني عنها. ولقد صار الناس في حق علي رضي الله عنه بعد الفتنة على ثلاثة: أهل السنة، والمبتدعة من الخوارج، والمحاربين له من بني أمية وأتباعهم، فاحتاج أهل السنة إلى بث فضائله، لكنهم أكثروا في ذلك، وقام الطرفان: الثاني الرافضة بصنع أحاديث كثيرة لا أصل لها، وذهب الخوارج - وكانوا من أنصاره - إلى بغضه، وزادوا حتى كفروه، لقبوله التحكيم، وضموه إلى عثمان في التكفير، أما الأمويون فتنقصوه، واتخذوا لعنه على المنابر سنة. وقال النووي: قال القاضي عياض: عن الرواية الأولى: هذا الحديث مما تعلقت به الروافض والإمامية وسائر فرق الشيعة في أن الخلافة كانت حقا لعلي، وأنه وصى له بها، قال: ثم اختلف هؤلاء، فكفرت الروافض سائر الصحابة في تقديمهم غيره وزاد بعضهم فكفر عليا، لأنه لم يقم في طلب حقه بزعمهم، وهؤلاء أسخف مذهبا وأفسد عقلا من أن يرد عليهم أحد، أو يناظرهم، قال: ولا شك في كفر من قال هذا، لأن من كفر الأمة كلها والصدر الأول فقد أبطل نقل الشريعة، وهدم الإسلام، وأما من عدا هؤلاء الغلاة فإنهم لا يسلكون هذا المسلك، فأما الإمامية وبعض المعتزلة فيقولون: هم مخطئون في تقديم غيره، لا كفار، وبعض المعتزلة لا يقول بالتخطئة، لجواز تقديم المفضول عندهم. وهذا الحديث لا حجة فيه لأحد منهم، بل فيه إثبات فضيلة لعلي، ولا تعرض فيه لكونه أفضل من غيره أو مثله، وليس فيه دلالة لاستخلافه بعده، لأنه كان خاصا بغزوة تبوك، كما قدمنا في المباحث العربية. -[ويؤخذ من أحاديث الباب فوق ما تقدم]- 1 - من الرواية الأولى قال العلماء: في قوله صلى الله عليه وسلم "لا نبي بعدي" دليل على أن عيسى ابن مريم عليه السلام إذا نزل في آخر الزمان حكما من حكام هذه الأمة، يحكم بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا ينزل نبيا، كما سبق توضيحه في كتاب الإيمان. 2 - من مشافهة سعيد بن المسيب لسعد بن أبي وقاص عن الحديث مدى حرص التابعين على الاستيثاق من الحديث. 3 - وحرصهم على علو الإسناد. 4 - ومن رد سعد بن أبي وقاص ثقة الصحابة في أحاديثهم، والتأكد منها، وتأكيدهم لسامعيهم صحتها. 5 - ومن الرواية الثالثة، من رفض سعد سب علي رضي الله عنهما قوة سعد وصلابته في دين الله، وجرأته في قوله الحق، غير خائف من أذى أو لومة لائم. 6 - ومن قوله "يحبه الله ورسوله" فضيلة لعلي رضي الله عنه. 7 - ومن تطاول الصحابة للراية، وقول عمر "ما أحببت الإمارة إلا يومئذ" فضيلة أخرى لعلي، وإنما كانت محبته لها لما دلت عليه الإمارة من محبته لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ومحبتهما له، والفتح على يديه.

8 - ومن فتح الله خيبر على يد علي رضي الله عنه معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لإخباره بما سيقع. 9 - وفي بصق الرسول صلى الله عليه وسلم في عيني علي رضي الله عنه، وشفائهما معجزة أخرى. 10 - وفي الحديث الدعاء إلى الإسلام قبل القتال، قال النووي: وقد قال بإيجابه على الإطلاق طائفة، ومذهبنا ومذهب آخرين أنهم إن كانوا ممن لم تبلغهم دعوة الإسلام وجب إنذارهم قبل القتال، وإلا فلا يجب، لكن يستحب. 11 - وفيه قبول الإسلام ممن نصبوا القتال، سواء كان في حال القتال أم في غيره، وحسابهم على الله، أي نكف عنهم في الظاهر، وأما ما بينهم وبين الله تعالى فإن كان صادقا مؤمنا بقلبه نفعه ذلك في الآخرة، ونجا من النار، كما نفعه في الدنيا، وإلا فلا ينفعه، بل يكون منافقا من أهل النار. 12 - وفيه أنه يشترط في صحة الإسلام النطق بالشهادتين فإن كان أخرس، أو في معناه كفته الإشارة إليهما. 13 - وفيه بيان فضيلة العلم، لقوله "لأن يهدي الله بك رجلا ... إلخ". 14 - والدعاء إلى الهدى، وسن السنن الحسنة. 15 - في الرواية السابعة والثامنة الوصاية بأهل البيت، واختلف في المراد بهم، والراجح أنهم من حرمت عليهم الصدقة، وهم بنو هاشم وبنو المطلب على الأرجح، وعن أبي حنيفة ومالك: بنو هاشم فقط. وفي حديث أبي حميد "أزواجه وذريته" وقد أطلق على أزواجه صلى الله عليه وسلم آل محمد، في حديث عائشة "ما شبع آل محمد من خبز مأدوم ثلاثا" وحديث أبي هريرة "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا" وقيل: المراد بآله ذرية فاطمة خاصة، وقيل: هم جميع قريش، وقيل: جميع أمة الإجابة وهو يتعارض مع نصوص الأحاديث. 16 - وفي الرواية التاسعة جواز القائلة في المسجد. 17 - وإطلاق ابن العم على أقارب الأب، لأنه ابن عم أبيها، وقال عنه "ابن عمك؟ ". 18 - وفيه إرشادها إلى أن تخاطبه بذلك، لما فيه من الاستعطاف بذكر القرابة. 19 - وفيه ممازحة المغضب بما لا يغضب منه وبما يحصل به تأنيسه. 20 - وفيه التكنية بغير الولد. 21 - وتكنية من له كنية. 22 - والتلقيب بالكنية لمن لا يغضب. 23 - ومداراة الصهر، وتسكين غضبه. 24 - ودخول الوالد بيت ابنته، بغير إذن زوجها، حيث يعلم رضاه. والله أعلم

(636) باب من فضائل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه

(636) باب من فضائل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه 5422 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: أرق رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فقال: "ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة" قالت: وسمعنا صوت السلاح. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من هذا؟ " قال سعد بن أبي وقاص: يا رسول الله! جئت أحرسك. قالت عائشة: فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعت غطيطه. 5423 - أن عائشة رضي الله عنها قالت: سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة ليلة. فقال: "ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة" قالت: فبينا نحن كذلك سمعنا خشخشة سلاح. فقال: "من هذا؟ " قال: سعد بن أبي وقاص. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما جاء بك؟ " قال: وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نام وفي رواية ابن رمح: فقلنا من هذا؟ . 5424 - وفي رواية عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: قالت عائشة: أرق رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة. بمثل حديث سليمان بن بلال. 5425 - عن علي رضي الله عنه قال: ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه لأحد، غير سعد بن مالك. فإنه جعل يقول له يوم أحد: "ارم فداك أبي وأمي". 5426 - عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: لقد جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه يوم أحد.

5427 - عن عامر بن سعد، عن أبيه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع له أبويه يوم أحد. قال: كان رجل من المشركين قد أحرق المسلمين فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ارم فداك أبي وأمي" قال: فنزعت له بسهم، ليس فيه نصل فأصبت جنبه، فسقط، فانكشفت عورته فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نظرت إلى نواجذه. 5428 - عن مصعب بن سعد عن أبيه رضي الله عنه أنه نزلت فيه آيات من القرآن قال: حلفت أم سعد أن لا تكلمه أبدا حتى يكفر بدينه. ولا تأكل ولا تشرب. قالت: زعمت أن الله وصاك بوالديك. وأنا أمك. وأنا آمرك بهذا. قال: مكثت ثلاثا حتى غشي عليها من الجهد فقام ابن لها يقال له عمارة فسقاها. فجعلت تدعو على سعد. فأنزل الله عز وجل في القرآن هذه الآية {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا} {وإن جاهداك على أن تشرك بي} وفيها {وصاحبهما في الدنيا معروفا} قال: وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غنيمة عظيمة. فإذا فيها سيف فأخذته. فأتيت به الرسول صلى الله عليه وسلم. فقلت: نفلني هذا السيف. فأنا من قد علمت حاله. فقال: "رده من حيث أخذته" فانطلقت حتى إذا أردت أن ألقيه في القبض لامتني نفسي، فرجعت إليه. فقلت: أعطنيه. قال فشد لي صوته "رده من حيث أخذته" قال فأنزل الله عز وجل {يسألونك عن الأنفال} قال ومرضت فأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأتاني. فقلت: دعني أقسم مالي حيث شئت. قال: فأبى قلت: فالنصف قال: فأبى قلت: فالثلث قال: فسكت. فكان بعد الثلث جائزا قال: وأتيت على نفر من الأنصار والمهاجرين فقالوا: تعال نطعمك ونسقك خمرا وذلك قبل أن تحرم الخمر. قال: فأتيتهم في حش والحش البستان فإذا رأس جزور مشوي عندهم وزق من خمر. قال: فأكلت وشربت معهم. قال: فذكرت الأنصار والمهاجرين عندهم. فقلت: المهاجرون خير من الأنصار قال: فأخذ رجل أحد لحيي الرأس فضربني به فجرح بأنفي. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته. فأنزل الله عز وجل في - يعني نفسه - شأن الخمر: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان} 5429 - عن مصعب بن سعد عن أبيه رضي الله عنه أنه قال: أنزلت في أربع آيات. وساق

الحديث، بمعنى حديث زهير، عن سماك، وزاد في حديث شعبة: قال: فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها بعصا. ثم أوجروها. وفي حديثه أيضا: فضرب به أنف سعد ففزره. وكان أنف سعد مفزورا. 5430 - عن سعد رضي الله عنه: في نزلت: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} قال: نزلت في ستة أنا وابن مسعود منهم. وكان المشركون قالوا له: تدني هؤلاء؟ ! . 5431 - عن سعد رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر. فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا. قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسميهما. فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع فحدث نفسه. فأنزل الله عز وجل {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} -[المعنى العام]- سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه من أوائل السابقين إلى الإسلام، ومن كبار المجاهدين من الصحابة، كان مشهورا بالفروسية والشجاعة والذكاء والفراسة وبعد النظر شارك الرسول صلى الله عليه وسلم في غزواته وضرب المثل الأعلى في حبه للرسول صلى الله عليه وسلم والحرص عليه وحمايته من كل سوء وكان يحرسه مما يخاف عليه منه، يقف على بابه ساهرا مستعدا بسلاحه في السلم ويفديه بصدره في الحرب وعند الشدائد يعرف الحب والإخلاص وفي الأزمات تتبين المعادن الأصيلة لقد هزم المسلمون في أحد وفاجأت الصدمة الشجعان فأذهلتهم وممن غشي عليه سعد بن أبي وقاص، انتبه فوجد نفسه على الأرض، أفاق فوجد أمامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أحاط به المشركون وليس معه إلا أقل من عشرة من المسلمين يحيطون به، ويقدمون نحورهم فداء لنحره، وسعد من كبار الرماة، تحسس جعبة سهامه فوجدها مليئة، وتحسس نبله فوجده جاهزا، فأخذ يرمي المشركين حتى نفدت سهام جعبته، وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم ينثر له جعبته، ويقول له: ارم يا سعد! فداك أبي وأمي، ويرمي سعد فتنفد السهام فيرى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة العائدين بعد فرار فيقول لهم: انثروا جعبكم أمام سعد ويظل سعد يرمي في نحور المشركين حتى بعدوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرفوا عن المسلمين. وكانت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم له: اللهم! سدد رميته، وأجب دعوته، فكان مجاب الدعوة، كما كان سديد الرمي، وبعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عاون أبا بكر في حروبه، وعينه عمر رضي الله عنه قائدا لجيوش المسلمين في حربهم لكسرى ففتح بلاد كسرى وفتح العراق وبنى مدينة الكوفة وعينه عمر رضي الله عنه واليا على الكوفة ولما عزله عمر استجابة لشكاية من بعض أهلها وكانت تهما باطلة قال في وصيته: لم أعزله عن قصور ورشحه أحد الستة الذين حصر الخلافة فيهم من بعده، وأوصى بالاستعانة به.

رضي الله عنه وأرضاه ورضي عن الصحابة أجمعين. -[المباحث العربية]- (أرق رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فقال: ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة) "أرق" بفتح الهمزة وكسر الراء وفتح القاف أي سهر ولم يأته نوم في الرواية الثانية "سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، مقدمه المدينة ليلة" أي في أوائل إقامته بالمدينة وعند البخاري "كان النبي صلى الله عليه وسلم سهر فلما قدم المدينة "وفي ليلة من الليالي بعد أن تزوج عائشة، وكان يخاف غدر اليهود "قال: ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة" ولم يبين زمان السهر، وظاهر أن السهر كان قبل القدوم والقول بعده، وظاهر روايتنا أن السهر والقول معا كانا بعد القدوم وعند النسائي "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما قدم المدينة يسهر من الليل" وعند أحمد "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سهر ذات ليلة وهي إلى جنبه قالت: فقلت: ما شأنك يا رسول الله؟ ... " الحديث، وعند الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت هذه الآية {والله يعصمك من الناس} (قالت: وسمعنا صوت السلاح) في الرواية الثانية "فبينا نحن كذلك سمعنا خشخشة سلاح" أي صوت سلاح، صدم بعضه بعضا. (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا؟ قال: سعد بن أبي وقاص: يا رسول الله جئت أحرسك) في الرواية الثانية "فقال: من هذا؟ قال: سعد بن أبي وقاص، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما جاء بك؟ قال: وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم". (فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعت غطيطه) الغطيط صوت النائم المرتفع. (ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه لأحد، غير سعد بن مالك، فإنه جعل يقول له يوم أحد: ارم فداك أبي وأمي) المعنى: ما جمع في التفدية بين أبويه، ولكنه كان كثيرا ما يقول: فداك أبي - فقط وفي الرواية الرابعة يقول سعد: لقد جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه يوم أحد" وفي نفي جمع أبويه عن غير سعد نظر فقد ثبت - وسيأتي - أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع أبويه للزبير بن العوام يوم الخندق، ويجمع بينهما بأن عليا رضي الله عنه لم يطلع على ذلك أو مراده تقييد ذلك بيوم أحد ويؤيد الجمع الأول رواية البخاري "عن علي رضي الله عنه قال: ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم جمع أبويه لأحد إلا لسعد بن مالك فإني سمعته يقول يوم أحد: يا سعد ارم فداك أبي وأمي". وتوضح الروايات سبب هذه التفدية، ففي البخاري عن سعد رضي الله عنه "نثل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته يوم أحد فقال: ارم فداك أبي وأمي" "نثل" أي نفض، والكنانة جعبة السهام وتكون غالبا من جلود، وعند الحاكم عن سعد رضي الله عنه قال: "جال الناس يوم أحد تلك الجولة" أي انهزموا وفروا "فتنحيت، فقلت: أذود عن نفسي، فإما أن أنجو وإما أن أستشهد فإذا رجل محمر الوجه - وقد كاد المشركون أن يركبوه، فملأ يده من الحصى، فرماهم وإذا بيني وبينه المقداد فأردت أن أسأله عن الرجل، فقال لي: يا سعد هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك،

فقمت، وكأنه لم يصبني شيء من الأذى وأجلسني أمامه فجعلت أرمي ... " وقد روى مسلم عن ظروف هذه التفدية، عن أنس رضي الله عنه قال "أفرد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش" وكأن المراد بالرجلين طلحة وسعد. (كان رجل من المشركين قد أحرق المسلمين) أي أثخن فيهم، وأكثر وبالغ في جرحهم وقتلهم، وعمل فيهم نحو عمل النار. (قال: فنزعت له بسهم ليس فيه نصل) أي رميته بسهم ليس فيه زج، أي رماه بعود من الخشب ليس في طرفه الحديدة النفاذة الجارحة. (فأصبت جنبه) قال النووي: بالجيم والنون، هكذا هو في معظم النسخ، وفي بعضها "حبته" بحاء مفتوحة وباء مشددة مفتوحة بعدها تاء، أي حبة قلبه. (فسقط، فانكشفت عورته) أي وقع على جنبه، فرفع الإزار عن عورته. (فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم) فرحا بإصابته وسقوطه وليس لانكشاف عورته. (حتى نظرت إلى نواجذه) بالذال أي أنيابه أو أضراسه. (أنه نزلت فيه آيات من القرآن) أي كان سببا في نزولها. (حلفت أم سعد أن لا تكلمه أبدا، حتى يكفر بدينه، ولا تأكل ولا تشرب) أي حتى يكفر بالإسلام. وأمه خمرة بنت سفيان بن أمية بنت عم أبي سفيان بن حرب بن أمية وهذه العلاقة وحدها كافية في تبرير موقفها، أو فهمه، رغم أن السيدة أم حبيبة من السابقات وهي ابنة أبي سفيان. (مكثت ثلاثا حتى غشي عليها من الجهد) أي ثلاث ليال لا تأكل ولا تشرب حتى غشي عليها من التعب. (فقام ابن لها يقال له: عمارة، فسقاها) في الرواية السابعة "فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها" أي أو يسقوها "شجروا فاها بعصا" أي فتحوا فاها، ووضعوا فيه عصا لئلا تطبق، ثم صبوا الطعام فيصل جوفها رغم أنفها. قال النووي: هكذا صوابه "شجروا" بالشين والجيم والراء، وهكذا هو في جميع النسخ قال القاضي: ويروى "شحوا فاها" بالحاء وحذف الراء، ومعناه قريب من الأول، أي أوسعوه وفتحوه، والشحو التوسعة، ودابة شحو، واسعة الخطو، ويقال: أوجره ووجره، لغتان، الأولى أفصح وأشهر. اهـ. وفي كتب اللغة: الوجور، بفتح الواو وضمها الدواء يصب في الحلق، وأوجر الناس العليل، صبوا الوجور في حلقه. (فجعلت تدعو على سعد، فأنزل الله عز وجل في القرآن هذه الآية {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي} ... وفيها {وصاحبهما في الدنيا معروفا})

وأخرج أبو يعلى وابن مردويه والطبراني وابن عساكر، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: "كنت برا بأمي، لما أسلمت قالت: يا سعد، وما هذا الذي أراك قد أحدثت؟ لتدعن دينك هذا، أو لا آكل ولا أشرب، حتى أموت فتعير بي فيقال: يا قاتل أمه. قلت لا تفعلي يا أمه فإني لا أدع ديني هذا لشيء فمكثت يوما وليلة لا تأكل فأصبحت قد جهدت فمكثت يوما وليلة لا تأكل فأصبحت قد اشتد جهدها فلما رأيت ذلك قلت: يا أمه تعلمين. والله! لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا لشيء فإن شئت فكلي وإن شئت لا تأكلي، فلما رأت ذلك أكلت، فنزلت هذه الآية". (وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غنيمة عظيمة، فإذا فيها سيف فأخذته، فأتيت به الرسول صلى الله عليه وسلم فقلت: نفلني هذا السيف) أي أعطنيه نافلة زائدة على حقي "فأنا من قد علمت حاله" جهادا وشجاعة وكفاءة "فقال: رده من حيث أخذته قال: فانطلقت حتى إذا أردت أن ألقيه في القبض" بفتح القاف والباء الموضع الذي يجمع الغنائم "لامتني نفسي فرجعت إليه فقلت: أعطنيه. فقال: فشد لي صوته: رده من حيث أخذته قال: فأنزل الله عز وجل {يسألونك عن الأنفال} أي الأنفال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يمنحها لمن يشاء، وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول الآية أرسل إلى سعد أن يأخذ السيف فقد أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في السنن عن سعد رضي الله عنه قال: "قلت: يا رسول الله قد شفاني الله تعالى اليوم من المشركين، فهب لي هذا السيف. قال: إن هذا السيف لا لك ولا لي ضعه فوضعته، ثم رجعت فقلت: عسى يعطى هذا السيف اليوم من لا يبلي بلائي، وإذا رجل يدعوني من ورائي، فقلت: قد أنزل في شيء، قال عليه الصلاة والسلام: كنت سألتني هذا السيف، وليس هو لي، وإني قد وهب لي، فهو لك، وأنزل الله هذه الآية {يسألونك عن الأنفال} (ومرضت فأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم) كان هذا المرض بمكة في حجة الوداع، وعاش سعد بعدها أزيد من أربعين سنة. (فكان بعد الثلث جائزا) أي لم ينزل في هذا قرآن، بل السنة قيدت القرآن، في قوله {من بعد وصية يوصى بها أو دين} [النساء: 12] فالوصية في القرآن مطلقة، والسنة قيدتها بالثلث. والموضوع مبسوط في كتاب الوصية. (فأتيتهم في حش. والحش البستان) بفتح الحاء وتشديد الشين. (فإذا رأس جذور مشوي عندهم) "مشوي" بالرفع، صفة لرأس، والجذور ما يصلح لأن يذبح من الإبل، ذكرا أو أنثى، ولفظه أنثى يقال للبعير: هذه جذور سمينة، والجمع جزائر وجزر، والجزر بفتح الجيم وسكون الزاي النحر، يقال: جزر الجزور نحرها فهو جازر وجزار وجزير. (وزق من خمر) أي عندهم فزق معطوف على "رأس" أو مبتدأ خبره محذوف والجملة معطوفة على الجملة، والزق بكسر الزاي وعاء من جلد، يجز شعره ولا ينتف، يستخدم إناء للشراب وغيره وجمعه أزقاق، وزقاق.

(فذكرت الأنصار والمهاجرون عندهم) بضم الذال وكسر الكاف وفتح الراء بالبناء للمجهول، وفي بعض النسخ بفتح الذال والكاف وسكون الراء وضمير المتكلم "فذكرت الأنصار والمهاجرين عندهم" وفي رواية "فتفاخرنا" فقلت: المهاجرون خير من الأنصار. (فقلت: المهاجرون خير من الأنصار) في بعض النسخ "المهاجرين خير من الأنصار" والصحيح الأول. (فأخذ رجل أحد لحيي الرأس، فضربني به) أي فأخذ رجل من الأنصار - يدافع عن الأنصار - واللحاء بكسر اللام، ويقصر - من كل شيء قشره، ولحاء التمرة ما كسا النواة وليس ما هنا منه، بل تثنية لحي، بفتح اللام وسكون الحاء وتحريك الياء، وهو منبت اللحية من الإنسان وغيره، وهما لحيان، واللحيان بفتح اللام حائطا الفم، وهما العظمان اللذان فيهما الأسنان من داخل الفم، من كل جانب لحي، ويكون للإنسان والدابة وهو المراد هنا. (فجرح بأنفي) "جرح" تتعدى بنفسها، فالمفعول محذوف، والباء بمعنى "في" أي جرحني في أنفي، في الرواية السابعة "فضرب به أنف سعد ففزه وكان أنف سعد مفزورا" أي فشقه قال الراوي: وكان أنف سعد مفزورا أي بقي أثر الضربة في أنف سعد بقية حياته. (فأنزل الله تعالى في - يعني نفسه - شأن الخمر) ذكر العلماء هذا سببا لنزول الآية {إنما الخمر والميسر} وذكر بعضهم سببا أو أسبابا أخرى، وتعدد الأسباب لنازل واحد كثير. (في نزلت {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} [الأنعام: 52] قال: نزلت في ستة أنا وابن مسعود منهم، وكان المشركون قالوا له: تدني هؤلاء)؟ وفي الرواية التاسعة عن سعد رضي الله عنه قال "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا" أي لئلا يجترءوا علينا، ويطمعوا فينا، ويلغوا الفوارق بيننا وبينهم إن نحن أسلمنا، فكانوا معنا، أي اطردهم لنسلم "قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسميهما" وقد أخرج أحمد والطبراني وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله عنه قال "مر الملأ من قريش على النبي صلى الله عليه وسلم، وعنده صهيب وعمار وبلال وخباب ونحوهم من ضعفاء المسلمين فقالوا: يا محمد رضيت بهؤلاء من قومك؟ أهؤلاء من الله عليهم من بيننا؟ أنحن نكون تبعا لهؤلاء؟ اطردهم عنك، فلعلك إن طردتهم أن نتبعك، فأنزل الله تعالى فيهم القرآن". (فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل الله عز وجل {ولا تطرد الذين يدعون ربهم}) وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ والبيهقي في الدلائل وغيرهم، عن خباب رضي الله عنه قال "جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري، فوجدا النبي صلى الله عليه وسلم قاعدا مع بلال وصهيب وعمار وخباب في أناس ضعفاء من المؤمنين فلما رأوهم حوله حقروهم فأتوه فخلوا به فقالوا: نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف العرب له فضلنا فإن وفود العرب تأتيك، فنستحي أن ترانا قعودا مع هؤلاء الأعبد فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت.

قال: نعم. قالوا: فاكتب لنا عليك بذلك كتابا، فدعا بالصحيفة، ودعا عليا رضي الله عنه ليكتب، ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبريل بهذه الآية {ولا تطرد الذين} إلخ، ثم دعانا، فأتيناه وهو يقول: "سلام عليكم. كتب ربكم على نفسه الرحمة" فكنا نقعد معه، فإذا أراد أن يقوم، قام وتركنا فأنزل الله تعالى {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم} [الكهف: 28] إلخ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد معنا بعد، فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم" وأخرج ابن المنذر وغيره عن عكرمة قال: مشى عتبة وشيبة ابنا ربيعة وقرظة ابن عبد عمرو بن نوفل والحارث بن عامر ومطعم بن عدي في أشراف الكفار من عبد مناف، إلى أبي طالب، فقالوا: لو أن ابن أخيك طرد عنا هؤلاء الأعبد والحلفاء كان أعظم له في صدورنا وأطوع له عندنا، وأدنى لاتباعنا إياه وتصديقه، فذكر ذلك أبو طالب للنبي صلى الله عليه وسلم فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو فعلت يا رسول الله؟ حتى ننظر ما يريدون بقولهم، وما يصيرون إليه من أمرهم؟ فأنزل الله تعالى {وأنذر به الذين يخافون} إلى قوله {أليس الله بأعلم بالشاكرين} وكانوا بلالا وعمار بن ياسر وسالما مولى أبي حذيفة، وصبيحا مولى أسيد، والحلفاء بن مسعود والمقداد بن عمرو، وواقد بن عبد الله الحنظلي، وعمرو بن عبد عمرو، ومرثد بن أبي مرثد وأشباههم". -[فقه الحديث]- سعد بن مالك بن أهيب - ويقال له: وهيب - بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب القرشي، أبو إسحاق، ابن أبي وقاص، أحد العشرة، وآخرهم موتا، أحد فرسان الصحابة وأول من رمى بسهم في سبيل الله وأحد الستة أهل الشورى، وقال عمر في وصيته الماضية: إن أصابته الإمرة فذاك، وإلا فليستعن به الوالي، وكان رأس من فتح العراق، وولى الكوفة لعمر سنة إحدى وعشرين، وهو الذي بناها، وعزله عمر عنها، وأعاده عثمان إليها، ثم عزله، ولما قتل عثمان اعتزل الفتنة، ولزم بيته، مات بقصره بالعقيق على بعد عشرة أميال من المدينة، وحمل إليها على الأعناق، ودفن بالبقيع، وصلى عليه مروان بن الحكم مات سنة خمس وخمسين على الأشهر، ولما حضره الموت دعا بجبة له، خلقة، من صوف، فقال: كفنوني فيها، فإني لقيت المشركين فيها يوم بدر، وهي علي، وإنما كنت أخبؤها لهذا، وهو الذي فتح مدائن كسرى وأكثر مدن فارس، وله كان فتح القادسية وغيرها. وكان سابع سبعة أسلموا، أسلم وهو ابن تسع عشرة سنة، وشهد بدرا والحديبية، وسائر المشاهد، دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم سدد سهمه وأجب دعوته فكان مجاب الدعوة أخرج البخاري عن جابر بن سمرة قال: "شكا أهل الكوفة سعدا إلى عمر رضي الله عنه، شكوا حتى ذكروا أنه لا يحسن يصلي فأرسل إليه فقال: يا أبا إسحاق إن هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن تصلي، قال أبو إسحاق أما أنا والله! فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ذاك الظن بك يا أبا إسحاق" وقال أحد الشاكين: "إن سعدا لا يسير بالسرية" أي لا يخرج للجهاد مع السرايا "ولا يقسم السوية ولا يعدل في القضية" فدعا عليه سعد ثلاث دعوات قال: "اللهم! إن كان عبدك هذا كاذبا قام رياء وسمعة فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه بالفتن" فطال عمره، حتى سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنه ليتعرض للجواري في الطريق يغمزهن، وكان يقول: شيخ كبير مفتون. أصابته دعوة سعد.

-[ويؤخذ من أحاديث الباب]- 1 - من الرواية الأولى والثانية جواز الاحتراس من العدو والأخذ بالحزم وترك الإهمال في موضع الحاجة إلى الاحتياط قال النووي: قال العلماء: وكان هذا الحديث قبل نزول قوله تعالى {والله يعصمك من الناس} [المائدة: 67] لأنه صلى الله عليه وسلم ترك الاحتراس حين نزلت الآية - أي ترك الحراسة وأمر أصحابه بالانصراف عن حراسته، وقد صرح في الرواية الثانية بأن هذا الحديث الأول كان في أول قدومه المدينة ومعلوم أن الآية نزلت بعد ذلك بأزمان اهـ. وقال الحافظ ابن حجر: وإنما عانى صلى الله عليه وسلم ذلك مع قوة توكله للاستنان به في ذلك، وأيضا فالتوكل لا ينافي تعاطي الأسباب لأن التوكل عمل القلب، وتعاطي الأسباب عمل البدن وقد قال إبراهيم عليه السلام {ولكن ليطمئن قلبي} وقال عليه الصلاة والسلام "اعقلها وتوكل" قال ابن بطال: نسخ ذلك، كما دل عليه حديث عائشة، وقال القرطبي: ليس في الآية {والله يعصمك من الناس} ما ينافي الحراسة، كما أن إعلان الله نصر دينه وإظهاره لم يمنع الأمر بالقتال وإعداد العدة وعلى هذا فالمراد من العصمة العصمة من الفتنة والإضلال. 2 - وأن على الناس أن يحرسوا سلطانهم، خشية القتل. 3 - والثناء على من تبرع بالخير، وتسميته صالحا. 4 - وفيه جواز التفدية بالأبوين، قال النووي: وبه قال جماهير العلماء، وكرهه عمر بن الخطاب والحسن البصري، رضي الله عنهما وكرهه بعضهم بالمسلم من أبويه، والصحيح الجواز مطلقا، لأنه ليس فيه حقيقة فداء، وإنما هو كلام، وإلطاف وإعلام بمحبته له، ومنزلته وقد وردت الأحاديث الصحيحة بالتفدية مطلقا، وقد جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه للزبير ولغيره أيضا. 5 - وفيه فضيلة الرمي، والحث عليه. 6 - ومن قوله "ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني" جواز التمني، وقول لو. والله أعلم

(637) باب من فضائل طلحة والزبير رضي الله عنهما

(637) باب من فضائل طلحة والزبير رضي الله عنهما 5432 - عن أبي عثمان رضي الله عنه قال: لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام التي قاتل فيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير طلحة وسعد. عن حديثهما. 5433 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم الخندق فانتدب الزبير ثم ندبهم. فانتدب الزبير. ثم ندبهم. فانتدب الزبير فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لكل نبي حواري وحواري الزبير". 5434 - عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال: كنت أنا وعمر بن أبي سلمة يوم الخندق مع النسوة في أطم حسان. فكان يطأطئ لي مرة فأنظر. وأطأطئ له مرة فينظر. فكنت أعرف أبي إذا مر على فرسه في السلاح إلى بني قريظة. قال: وأخبرني عبد الله بن عروة، عن عبد الله بن الزبير قال: فذكرت ذلك لأبي فقال: ورأيتني يا بني؟ قلت: نعم. قال: أما والله! لقد جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يومئذ أبويه فقال: "فدك أبي وأمي". 5435 - وفي رواية عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال: لما كان يوم الخندق كنت أنا وعمر بن أبي سلمة في الأطم الذي فيه النسوة. يعني نسوة النبي صلى الله عليه وسلم وساق الحديث، بمعنى حديث ابن مسهر، في هذا الإسناد. ولم يذكر عبد الله بن عروة في الحديث ولكن أدرج القصة في حديث هشام عن أبيه عن ابن الزبير. 5436 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على حراء، هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير. فتحركت الصخرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اهدأ. فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد".

5437 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على جبل حراء فتحرك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسكن حراء فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد وعليه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص رضي اللهم عنهم. 5438 - وعن هشام عن أبيه قال: قالت لي عائشة: أبواك والله من {الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح} 5439 - وفي رواية عن هشام بهذا الإسناد، وزاد تعني: أبا بكر والزبير. 5440 - عن عروة قال: قالت لي عائشة: كان أبواك من {الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح} -[المعنى العام]- بطلان من أبطال الإسلام، عظيمان في السلم، أسد عند اللقاء طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، وهو من المهاجرين الأولين ومن العشرة المبشرين بالجنة، ومن الستة الذين رشحهم عمر بن الخطاب للخلافة من بعده، له مواقف مشهودة في المعارك، وله قصب السبق إلى الجهاد في سبيل الله. أما طلحة: فيكفيه فخرا ما كان منه يوم أحد لقد أوجب واستحق الجنة وقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين الذين أحاطوا به بعد هزيمة أصحابه، وكان يقول له: لا تبرز يا رسول الله، فتصيبك سهامهم، صدري دون صدرك، ونحري دون نحرك كان يصد السهام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده حتى قطعت إصبعه، ولم يتوقف عن رمي الكافرين حتى نفدت سهام جعبته فنثر له رسول الله صلى الله عليه وسلم جعبته ولما نفذت سهامهما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: انثروا سهامكم لطلحة حتى أجلي الكافرين عن الموقع وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما أراد صلى الله عليه وسلم أن يصعد إلى صخرة يجلس عليها بعد أن كسرت رباعيته وسال الدم من جبهته، ولم يستطع صعودها من الإجهاد حمله طلحة على ظهره، فرفعه إلى الصخرة، فأجلسه عليها، وظل حاميا حارسا له مع بعض قادة المسلمين. وأما الزبير بن العوام: فقد شارك طلحة في حراسة النبي صلى الله عليه وسلم وحمايته من الكافرين يوم أحد، كان معهما أبو بكر وعمر وعلي، نحو العشرة من الرجال أحيانا، وأحيانا لا ترى حوله إلا طلحة

والزبير، لانشغال الآخرين بالحركة ومتابعة الكافرين، وأحيانا ترى العدد الكبير الذي عاد حول قيادته بعد الفرار. لكن الزبير بن العوام امتاز بميزة أخرى يوم الأحزاب، وكان يهود بني قريظة قد نقضوا العهد وتعاونوا مع الأحزاب وطلب الرسول صلى الله عليه وسلم من صحابته أن يتطوع أحدهم بالدخول في بني قريظة يتحسس أخبارهم وتحركاتهم، قال: من يأتيني بخبر القوم وله الجنة؟ فسكتوا خوفا من غدر اليهود والوقت وقت حرب فقال الفارس الشجاع الزبير بن العوام: أنا يا رسول الله وأعاد الرسول صلى الله عليه وسلم الطلب: من يأتيني بخبر القوم وله الجنة؟ فسكتوا إلا الزبير فقال: أنا يا رسول الله. وأعاد الرسول صلى الله عليه وسلم الطلب ثالثا فلم يجب إلا الزبير قال: أنا يا رسول الله. قال له صلى الله عليه وسلم: توكل على الله، فداك أبي وأمي، وأخذ الفارس الشجاع يتجول بين المسلمين وبين بني قريظة يتظاهر بالحراسة وهو يتجسس للمسلمين ويتحسس تحركات اليهود ويأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأخبارهم، حينئذ قال صلى الله عليه وسلم "لكل نبي حواري" أي ناصر ومخلص "وحواري الزبير". -[المباحث العربية]- (لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام، التي قاتل فيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير طلحة وسعد) أي طلحة بن عبيد الله وستأتي قصته وسعد بن أبي وقاص وقد سقت قصته في الباب السابق والمراد ببعض تلك الأيام هنا يوم أحد وهو يوم من أيام القتال مع الكفار، أي غزوة من الغزوات. (عن حديثهما) هذا قول أبي عثمان يعني به أن طلحة وسعدا هما اللذان حدثاه بذلك وهو تابعي لم يشهد الواقعة فمن أين له علم ذلك؟ يوضح ذلك ما عند أبي نعيم في المستخرج في هذا الحديث "قال سليمان (الراوي عن أبي عثمان) فقلت لأبي عثمان: وما علمك بذلك؟ قال: عن حديثهما". (ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم الخندق) أي دعاهم للجهاد، وحرضهم عليه. (فانتدب الزبير) أي أجاب الزبير، فالزبير فاعل، يقال: ندبته فانتدب، أي دعوته فأجاب. (ثم ندبهم فانتدب الزبير) أي طلب منهم، فأجاب الزبير، وتشرح رواية البخاري الواقعة فتقول: عن جابر رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: من يأتينا بخبر القوم؟ فقال الزبير: أنا. ثم قال من يأتينا بخبر القوم؟ فقال الزبير: أنا. ثم قال: من يأتينا بخبر القوم؟ فقال الزبير: أنا. ثم قال إن لكل نبي حواريا وإن حواريي الزبير" وكان بنو قريظة قد نقضوا العهد، وأيدوا الأحزاب فأراد صلى الله عليه وسلم أن يعلم أخبارهم وتحركاتهم فطلب من الصحابة من يقوم بهذه المهمة فخاف الصحابة من غدر اليهود، فسكتوا وأجاب الزبير وقام بفرسه يجوب المنطقة ويدرس التحركات فيها، وتحكي الرواية الثالثة هذه الطليعة. (لكل نبي حواري، وحواري الزبير) "لكل نبي حواري" بفتح الحاء والواو وكسر

الراء وضم الياء مشددة. و"حواري الزبير" قال القاضي: اختلف في ضبطه، فضبطه جماعة من المحققين بفتح الياء مشددة كمصرخي وضبطه أكثرهم بكسرها أي مشددة وعن الضحاك: الحواري هو الغسال، وعن قتادة: الذي يصلح للخلافة وقيل: هو الوزير وقيل: هو الناصر وقيل: هو الخالص، وقيل: هو الخليل. (كنت أنا وعمر بن أبي سلمة يوم الخندق مع النسوة) في ملحق الرواية "يعني نسوة النبي صلى الله عليه وسلم". (في أطم حسان) الأطم بضم الهمزة والطاء الحصن وجمعه آطام كعنق وأعناق قال القاضي: ويقال في الجمع أيضا إطما بكسر الهمزة "وكان عبد الله بن الزبير وعمر بن أبي سلمة صبيين صغيرين حول الرابعة. (فكان يطئ لي مرة، فأنظر، وأطأطئ له مرة فينظر) أي فكان باب الحصن ضيقا، لئلا يرى من بداخله وفتحته للطريق منخفضة وكان الصبيان على بابه، بحيث لا يرى أحدهما المار بالطريق إلا إذا طأطأ الآخر ظهره وخفض رأسه. (فكنت أعرف أبي إذا مر على فرسه في السلاح إلى بني قريظة) يعرفه بفرسه ولباسه وسلاحه، حيث يكون ملثما في هذه الحالة وفي رواية للبخاري "فنظرت فإذا أنا بالزبير على فرسه، يختلف إلى بني قريظة مرتين أو ثلاثا". (قال: فذكرت ذلك لأبي، فقال: ورأيتني يا بني؟ ) في رواية البخاري "فلما رجعت قلت: يا أبت. رأيتك تختلف. قال: أو هل رأيتني يا بني؟ " (كان على حراء، هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير فتحركت الصخرة) هذا التواجد غير تواجده عليه صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر وعمر وعثمان. قال النووي: وقع في معظم النسخ بتقديم علي على عثمان وفي بعضها تقديم عثمان على علي، كما في الرواية الخامسة، وترتيبها باتفاق النسخ. (اهدأ، فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد) "اهدأ" بهمز آخره أي اسكن وفي الرواية الخامسة "اسكن حراء" وفيها ذكر سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وهو ليس صديقا ولا شهيدا، وأجاب القاضي بقوله: إنما سمي شهيدا لأنه مشهود له بالجنة. (أبواك - والله - من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح) في ملحق الرواية "تعني أبا بكر والزبير" لأن أم عروة أسماء بنت أبي بكر فأطلقت على الجد أبا، ويحتمل أنه من قبيل التغليب، كقولهم القمران للشمس والقمر والآية (172) من سورة آل عمران وقبلها {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون* يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين * الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم} [آل عمران: 169 - 172].

-[فقه الحديث]- طلحة بن عبيد الله بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي التيمي، يكنى أبا محمد ويعرف بطلحة الخير، وطلحة الفياض، من المهاجرين الأولين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسعيد بن زيد إلى طريق الشام يتجسسان الأخبار، قبيل بدر، فلم يشهدا بدرا، وجاءا عقبها فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه، قال: وأجري يا رسول الله؟ قال: وأجرك، وشهد أحدا والمشاهد بعدها وأبلى يوم أحد بلاء حسنا، وقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه واتقى النبل عنه بيده حتى قطعت إصبعه، وكان يقول له لا تظهر يا رسول الله، تصبك سهامهم، صدري دون صدرك، ونحري دون نحرك ولما نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستقل صخرة ولم يستطع حمله طلحة على ظهره حتى استقلها وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة وأحد الستة الذين جعل عمر الخلافة فيهم قيل: إنه بايع عليا بعد عثمان، ثم خرج عليه ليحاربه مع عائشة في موقعة الجمل، لكنه اعتزل المعركة هو والزبير عند الصفوف فرماه مروان بن الحكم بسهم وكان في حزبه فقتله وفيما زعموا أنه كان ممن حاصر عثمان. وقتل طلحة رحمه الله وهو ابن ستين سنة، سنة ست وثلاثين ويقال: إن طلحة تزوج أربع نسوة عند النبي صلى الله عليه وسلم أخت كل منهن، أم كلثوم بنت أبي بكر، أخت عائشة وحمنة بنت جحش أخت زينب، والفارعة بنت أبي سفيان أخت أم حبيبة ورقية بنت أبي أمية أخت أم سلمة وكان بكفاحه غنيا، قال عنه سفيان بن عيينة: كانت غلة طلحة بن عبيد الله ألف دينار كل يوم رضي الله عنه وأرضاه. أما الزبير بن العوام بن خولد بن أسد بن عبد العزى بني قصي بن كلاب القرشي أبو عبد الله فهو حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته، أمه صفية بنت عبد المطلب وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى. أسلم وله اثنتا عشرة سنة وهاجر الهجرتين وشهد المشاهد وكان في جيش عائشة يوم الجمل، فالتقى به علي فذكره فانصرف فلقيه ابن حرموز فقتله غدرا، سنة ست وثلاثين وله سبع وستون سنة، بمكان يقال له: وادي السباع. وقد أوضح البخاري ثروة الزبير في حديث طويل، تحت باب بركة الغازي في ماله، حيا وميتا، مع النبي صلى الله عليه وسلم حيا وميتا قال عبد الله بن الزبير "فقتل الزبير رضي الله عنه ولم يدع دينارا ولا درهما إلا أرضين منها الغابة وإحدى عشرة دارا بالمدينة ودارين بالبصرة ودارا بالكوفة ودارا بمصر وما ولي إمارة قط ولا جباية خراج ولا شيئا إلا أن يكون في غزوة مع النبي صلى الله عليه وسلم أو مع أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم قال عبد الله بن الزبير: فحسبت ما عليه من الدين فوجدته ألفي ألف ومائتي ألف، وإنما كان دينه الذي عليه أن الرجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إياه على أنه سلف مأذون له في التصرف فيه، فلما فرغ ابن الزبير من قضاء دينه قسم باقي التركة على الورثة وأنفذ وصيته، وكان للزبير أربع نسوة فأصاب كل امرأة ألف ألف ومائتا ألف.

ولوضوح الرؤية، وأن هذه الثروة الهائلة كانت نتيجة سعي وكفاح لبناء الحياة الدنيا متوازنة مع السعي والكفاح الأخروي نسوق حديث البخاري عن زوجته أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما وكانت قد تزوجها بمكة وهاجرت إلى المدنية وهي حامل بابنها عبد الله قالت: "تزوجني الزبير وما له في الأرض من مال ولا مملوك، ولا شيء، غير ناضح" أي جمل لسقي الماء "وغير فرسه فكنت أعلف فرسه وأستقي الماء وأخرز غربه" أي دلوه "وأعجن وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي وهي مني على ثلثي فرسخ قال: حتى أرسل لي أبو بكر بعد ذلك بخادم يكفيني سياسة الفرس فكأنما أعتقني". (فائدة) جمع النووي في تبويب شرحه لصحيح مسلم بين طلحة والزبير رضي الله عنهما تحت باب واحد، وتبعناه في ذلك ولعله لاحظ ما جاء من أن النبي صلى الله عليه وسلم لما آخى بين أصحابه بمكة قبل الهجرة آخى بين طلحة والزبير ولعله لاحظ اشتراكهما في كثير من الفضائل فكل منهما أحد العشرة وأحد الستة، وأحد السابقين وأحد أصحاب الدور البارز في الجهاد، وفي الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل وفي دورهما مع عثمان ومع علي، وفي طريقة وأسباب مقتلهما رضي الله عنهما وكان من المقبول ضم طلحة إلى سعد بن أبي وقاص، لجمعهما في الرواية الأولى، كما كان من المقبول تخصيص باب لكل منهما. -[ويؤخذ من أحاديث الباب فوق ما تقدم]- 1 - فضيلة طلحة لدوره في غزوة أحد. 2 - فضيلة الزبير لدوره في غزوة الخندق. 3 - من الرواية الثالثة قال النووي: وفي هذا الحديث دليل لحصول ضبط الصبي وتمييزه، وهو ابن أربع سنين فإن ابن الزبير ولد عام الهجرة في المدينة وكان الخندق سنة أربع من الهجرة على الصحيح فيكون له وقت ضبطه لهذه القضية دون أربع سنين وفي هذا رد على ما قاله جمهور المحدثين أنه لا يصح سماع الصبي حتى يبلغ خمس سنين، والصواب صحته، متى حصل التمييز، وإن كان ابن أربع أو دونها. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: المقصود أن البلوغ ليس شرطا في التحمل وقال يحيى بن معين: أقل سن التحمل خمس عشرة سنة فبلغ ذلك أحمد فقال: بل إذ عقل ما يسمع وهذا هو المعتمد فالتحمل لا يشترط فيه كمال الأهلية، وإنما يشترط عند الأداء ويلحق بالصبي في ذلك العبد والفاسق والكفار. 4 - وفي ضبط ابن الزبير وجودته لهذه القضية مفصلة، في هذا السن منقبة لابن الزبير. 5 - وفي الرواية الرابعة إثبات التمييز في الجماد. 6 - وجواز التزكية والثناء على الإنسان في وجهه، إذا لم يخف عليه فتنة، بإعجاب ونحوه. 7 - وفي الرواية السادسة جواز التعبير عن الجد بالأب. والله أعلم

(638) باب من فضائل أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه

(638) باب من فضائل أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه 5441 - عن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لكل أمة أمينا. وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح". 5442 - عن أنس رضي الله عنه أن أهل اليمن قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالوا: ابعث معنا رجلا يعلمنا السنة والإسلام قال: فأخذ بيد أبي عبيدة فقال: "هذا أمين هذه الأمة". 5443 - عن حذيفة رضي الله عنه قال: جاء أهل نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! ابعث إلينا رجلا أمينا. فقال: "لأبعثن إليكم رجلا أمينا حق أمين. حق أمين" قال فاستشرف لها الناس. قال: فبعث أبا عبيدة بن الجراح. -[المعنى العام]- أبو عبيدة بن الجراح أحد السابقين الأولين الذين حظوا بحب الرسول صلى الله عليه وسلم ولهم دور بارز في قيادات الحروب والفتوح. له مساجلة في القضاء والقدر مع عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ذكرناها في باب الطاعون. رضي الله عنه وأرضاه. -[المباحث العربية]- (إن لكل أمة أمينا، وإن أميننا - أيتها الأمة - أبو عبيدة بن الجراح) "أيتها الأمة" صورته صورة النداء، لكن المراد فيه الاختصاص، أي أمتنا مخصوصون من بين الأمم، وعلى هذا فهو بالنصب على الاختصاص، ويجوز الرفع، والأمين هو الثقة الرضي وهذه الصفة، وإن كانت مشتركة بينه وبين غيره لكن السياق يشعر بأن له مزيدا في ذلك وقد خص النبي صلى الله عليه وسلم كل واحد من الكبار بفضيلة ووصفه بها، فأشعر بقدر زائد فيها على غيره، كالحياء لعثمان والقضاء لعلي ونحو ذلك وقد

أورد الترمذي، وابن حبان "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقرؤهم كتاب الله أبي وأفرضهم زيد وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ، ألا وإن لكل أمة أمينا ... " الحديث. (أن أهل اليمن قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم) في الرواية الثالثة "جاء أهل نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم "قال الحافظ ابن حجر: أهل نجران هم أهل بلد قريب من اليمن وهم العاقب واسمه عبد المسيح والسيد، ومن معهما، ذكر ابن سعد أنهم وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم في سنة تسع، وفي الرواية الثانية "إن أهل اليمن قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا" قال الحافظ: فإن كان الراوي تجوز عن أهل نجران، بقوله "أهل اليمن" لقرب نجران من اليمن فذاك وإلا فهما واقعتان والأول أرجح. اهـ. (لأبعثن إليكم رجلا أمينا، حق أمين، حق أمين) التكرير للتأكيد، و"حق أمين" من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي أمين أمانة حقة، أي كاملة. (فاستشرف لها الناس) أي من حضر من الصحابة، ففي رواية "فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم "أي تطلعوا للولاية ورغبوا فيها، حرصا على تحصيل صفة الأمين الحق، لا حرصا على الولاية من حيث هي. (فبعث أبا عبيدة بن الجراح) في الرواية الثانية "فأخذ بيد أبي عبيدة فقال: هذا أمين هذه الأمة". -[فقه الحديث]- (أبو عبيدة) عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب ويقال: وهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر، القرشي، مشهور بكنيته وبالنسبة إلى جده وكان إسلامه هو وعثمان بن مظعون وعبيد بن الحارث بن عبد المطلب وعبد الرحمن بن عوف وأبو سلمة بن عبد الأسد في ساعة واحدة، قبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، وهو أحد العشرة السابقين إلى الإسلام وهاجر الهجرتين وشهد بدرا وما بعدها ويقال: إنه هو الذي قتل أباه كافرا يوم بدر فقد أخرج الطبري "جعل والد أبي عبيدة يتصدى لأبي عبيدة يوم بدر فيحيد عنه فلما أكثر قصده فقتله" فتح كثيرا من بلاد الشام وتولى جندا من أجنادها ومات في طاعون عمواس سنة ثمان عشرة، عن عمر يناهز ثمانيا وخمسين سنة. والله أعلم.

(639) باب من فضائل الحسن والحسين رضي الله عنهما

(639) باب من فضائل الحسن والحسين رضي الله عنهما 5444 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لحسن: "اللهم إني أحبه. فأحبه وأحبب من يحبه". 5445 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من النهار. لا يكلمني ولا أكلمه حتى جاء سوق بني قينقاع ثم انصرف. حتى أتى خباء فاطمة فقال: "أثم لكع؟ أثم لكع؟ " يعني حسنا فظننا أنه إنما تحبسه أمه لأن تغسله وتلبسه سخابا. فلم يلبث أن جاء يسعى. حتى اعتنق كل واحد منهما صاحبه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أحبه. فأحبه وأحبب من يحبه. 5446 - عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: رأيت الحسن بن علي على عاتق النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "اللهم إني أحبه فأحبه". 5447 - عن البراء رضي الله عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعا الحسن بن علي على عاتقه وهو يقول: "اللهم إني أحبه. فأحبه". 5448 - عن إياس، عن أبيه قال: لقد قدت بنبي الله صلى الله عليه وسلم والحسن والحسين بغلته الشهباء. حتى أدخلتهم حجرة النبي صلى الله عليه وسلم هذا قدامه وهذا خلفه. 5449 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرج النبي صلى الله عليه وسلم غداة وعليه مرط مرحل، من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها. ثم جاء علي فأدخله. ثم قال: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا}

-[المعنى العام]- الحسن والحسين عاشا حياة الطفولة بين يدي ألطف الناس وأرحم الناس بالناس كان إذا سجد في صلاته صلى الله عليه وسلم وثب الحسن والحسين على ظهره فإذا أراد الصحابة أن يمنعوهما أشار إليهم: أن دعوهما فإذا قضى صلاته وضعهما في حجره فقال: من أحبني فليحب هذين. عاش الحسن بالمدينة حتى دعاه معاوية بعد أن قتل علي رضي الله عنه وكان الحسن يكره القتال فتنازل لمعاوية وبايعه وأعطاه معاوية من المال أربعمائة ألف وأجرى عليه كل عام ألف ألف درهم وأعطاه عهدا، إن حدث لمعاوية حدث والحسن حي ليجعلن هذا الأمر إليه فجمع الحسن رءوس أهل العراق في قصر المدائن فقال: إنكم قد بايعتموني على أن تسالموا من سالمت، وتحاربوا من حاربت، وإني قد بايعت معاوية، فاسمعوا له وأطيعوا فكانوا يقولون: يا عار أمير المؤمنين فيقول: العار خير من النار وأقنع أخاه الحسين بذلك وعادا إلى المدينة وعاشا فيها عاش الحسن بعد ذلك نحو عشر سنين، ثم مات مسموما سنة خمسين على المشهور. أما الحسين فقد استمر في المدينة مع أخيه حتى مات معاوية فخرج إلى مكة فأتته كتب أهل العراق أن بايعوه فتوجه إليهم وكان يزيد بن معاوية قد عين عبيد الله بن زياد على الكوفة والبصرة فقتل بالشبهة، وذبح بالظنة وأرهب أهل العراق والحسين لا يعلم ذلك حتى كان بينه وبين القادسية ثلاثة أميال وكان عبيد الله قد جهز الجيش لملاقاته، على رأسه عمر بن سعد بن أبي وقاص، فالتقيا عند كربلاء، فقتل الحسين وأصحابه وفيهم سبعة عشر شابا من أهل بيته وأتى برأس الحسين إلى عبيد الله، فأرسله ومن بقي من أهل بيته إلى يزيد بن معاوية ومنهم علي بن الحسين فأدخلهم على عياله ثم جهزهم إلى المدينة. -[المباحث العربية]- (أنه قال لحسن: اللهم إني أحبه) اللام بمعنى "عن" أي قال عن حسن (فأحبه وأحبب من يحبه) وفي الرواية الثالثة والرابعة "فأحبه" وليس فيهما "وأحبب من يحبه". (وفي طائفة من النهار) طائفة الشيء جزؤه والمراد في ساعة من نهار، وفي رواية "صائفة" بالصاد أي في حر النهار. (حتى جاء سوق بني قينقاع) السوق اسم لكل مكان يقع فيه التبايع بين من يتعاطى البيع والشراء، و"قينقاع" بفتح القاف وسكون الياء وضم النون وضبط بكسرها وحكي فتحها اسم لقبيلة من اليهود نسب إليها السوق فإذا أريد القبيلة منع من الصرف للعلمية والتأنيث وإذا أريد الحي صرف وهو أحد أسواق المدينة المشهورة والظاهر أنه كان في طريقه إلى بيت فاطمة فمر به ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

(ثم انصرف حتى أتى خباء فاطمة) في رواية البخاري "حتى أتى سوق بني قينقاع، فجلس بفناء بيت فاطمة" قال الراوي سقط في رواية البخاري بعض الحديث، لأن بيت فاطمة ليس في سوق بني قينقاع، فرواية مسلم تثبت ما سقط والفناء بكسر الفاء بعدها نون ممدودة، الموضع المتسع أمام البيت وفي مسلم "خباء فاطمة" بالخاء المكسورة بعدها باء والمراد به بيتها. (فقال: أثم لكع؟ أثم لكع؟ يعني حسنا) الهمزة للاستفهام و"ثم" بفتح الثاء وتشديد الميم بمعنى "هنا" واللكع بضم اللام وفتح الكاف يراد به الصغير يقال: لكع فلان بفتح اللام والكاف يلكع بفتح الكاف لكعا، بسكونها، أي أكل وشرب، ولكع الصبي إذا نهز في الرضاع ويقال: لكع بكسر الكاف يلكع بفتحها، ولكع يلكع بضم الكاف فيهما لكعا بفتحها ولكاعة إذا لؤم وحمق فهو ألكع، وهي لكعاء، ويقال في سب المرأة بالحمق لكع، بضم اللام وفتح الكاف، فقوله "لكع" في الحديث إن كان من فتح الكاف فهو الصغير وإن كان من كسرها أو ضمها فالمراد منه المداعبة والتلميح بهذا الوصف، غير المراد حقيقته. (فظننا أنه إنما تحبسه أمه، لأن تغسله وتلبسه سخابا) الفاء عاطفة على محذوف، أي فتأخر الجواب أو فتأخر مجيئه، فظننا أن أمه تؤخره، لتنظيفه، وإلباسه ما يجمله وتغسله بضم التاء وفتح الغين وكسر السين من غسل المشدد "وتلبسه" بضم التاء من ألبس، والسخاب بكسر السين وبالخاء مفرد سخب بضمتين قال النووي: والسخاب قلادة من القرنفل والمسك والعود ونحوها من أخلاط الطيب، يعمل على هيئة السبحة ويجعل قلادة للصبيان والجواري، وقيل: هو خيط فيه خرز، سمي بذلك لصوت خرزه عند حركته، من السخب، بفتح السين والخاء ويقال: صخب بالصاد وهو اختلاط الأصوات. (فلم يلبث أن جاء يسعى) أي فلم يمكث مجيئه ولم يتأخر بل جاء يجري نحو جده. (حتى اعتنق كل واحد منهما صاحبه) تعلق الحسن برقبة جده واحتضنه جده، وفي رواية البخاري "فجاء يشتد حتى عانقه وقبله" وفي رواية "فقال النبي صلى الله عليه وسلم بيده هكذا - أي مدها، والمراد يديه- فقال الحسن بيده هكذا، فالتزمه". (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعا الحسن بن علي على عاتقه) العاتق ما بين المنكب والعنق. (لقد قدت بنبي الله صلى الله عليه وسلم والحسن والحسين بغلته الشهباء) يقال: قاد البغلة يقودها، إذا أمسك بلجامها وسار بها والشهباء ما خالط بياض شعرها سواد، وهذه البغلة هي التي أهداها له المقوقس وكانت له صلى الله عليه وسلم بغلة بيضاء أهداها له صاحب أيلة. (خرج النبي صلى الله عليه وسلم غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود) الغداة أول النهار والمرط بكسر الميم، وسكون الراء كساء وجمعه مروط والمرحل بضم الميم وفتح الراء وتشديد الحاء المفتوحة الموشى المنقوش عليه صور رحال الإبل ووقع لبعض رواة كتاب مسلم "مرجل" بالجيم، أي المنقوش عليه صور المراجل وهي القدور.

(فجاء الحسن بن علي، فأدخله ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي، فأدخله) وإنما دخل الحسين بنفسه دون إدخال لصغره وتغايرا من أخيه وإدلالا على جده بخلاف غيره. (ثم قال: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا}) "الرجس" في الأصل الشيء القذر، وأريد به هنا الذنب مجازا وقيل: الإثم، وقيل: الفسق وقيل: الشرك وقيل: الشيطان وقيل: الشك، وقيل: البخل والطمع وقيل الأهواء والبدع وقيل: ما يعم كل ذلك والمعنى: إنما يريد الله سبحانه وتعالى أن يذهب عنكم الرجس ويصونكم من المعاصي صونا بليغا، فيما أمر ونهى، ونصب "أهل البيت" على النداء، و"أل" في "البيت" للعهد أي بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وجمهور المفسرين على أن المراد من "أهل البيت" أزواجه المطهرات وتوحيد البيت لأن بيوتهن باعتبار إضافتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم بيت واحد وباعتبار إضافتها إليهن متعددات، كما في قوله تعالى {وقرن في بيوتكن} وأورد ضمير جمع المذكر "عنكم ... ويطهركم" رعاية للفظ الأهل، والعرب كثيرا ما يستعملون صيغ المذكر في مثل ذلك، فقد قال موسى لامرأته {امكثوا إني ءانست نارا} [طه: 10، القصص: 29] والتذكير أدخل في التعظيم وسابق الآية ولاحقها يؤيد ذلك. وقيل: المراد من البيت بيت النسب، وقيل: المراد بهم جميع بني هاشم ذكورهم وإناثهم أي المؤمنون من بني هاشم عند الحنفية وبنو المطلب عند الشافعية وفي المسألة كلام كثير. -[فقه الحديث]- ولد الحسن في نصف شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة على المشهور ومات مسموما، ودفن بالبقيع سنة خمسين. أما الحسين فولد في شعبان سنة أربع من الهجرة على الصحيح وقتل بكربلاء يوم عاشوراء سنة إحدى وستين. وقد أخرج البخاري بالإضافة إلى بعض أحاديث الباب - عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر - والحسن إلى جنبه - ينظر إلى الناس مرة وإليه مرة ويقول: "ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين". وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين بن علي فجعل في طست فجعل ينكت - في رواية "بقضيب له في أنفه" وفي رواية في عينه وأنفه" - وقال في حسنه شيئا فقال أنس: كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية للطبراني "فقلت: ارفع قضيبك فقد رأيت فم رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضعه" وعن عقبة بن الحارث قال: "رأيت أبا بكر رضي الله عنه وحمل الحسن وهو يقول: بأبي. شبيه بالنبي، ليس بعلي، وعلي يضحك". وعن أنس "لم يكن أحد أشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم من الحسن بن علي".

وعن عبد الله بن عمر - وسأله سائل عن المحرم يقتل الذباب - فقال: أهل العراق يسألون عن الذباب وقد قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هما ريحانتاي من الدنيا". وعند الترمذي من حديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو الحسن والحسين، فيشمهما ويضمهما إليه". وعند الطبراني عن أبي أيوب "دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم والحسن والحسين يلعبان بين يديه فقلت: أتحبهما يا رسول الله؟ قال: وكيف لا؟ وهما ريحانتاي من الدنيا أشمهما" -[ويؤخذ من أحاديث الباب]- 1 - من الرواية الثانية جواز إلباس الصبيان القلائد والسخب ونحوها من الزينة، قاله النووي 2 - واستحباب تنظيفهم، لا سيما عند لقائهم أهل الفضل واستحباب النظافة مطلقا 3 - استحباب ملاطفة الصبي ومداعبته رحمة له ولطفا. 4 - استحباب التواضع مع الأطفال وغيرهم. 5 - أن مماسة الأطفال وأن رطوبات وجههم ونحوها طاهرة حتى تتحقق نجاستها قال النووي: ولم ينقل عن السلف التحفظ منها، ولا يخلون منها غالبا. 6 - ومن الرواية الخامسة جواز ركوب ثلاثة على دابة واحدة إذا كانت مطيقة قال النووي: وهذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة وحكى القاضي عن بعضهم منع ذلك مطلقا وهو فاسد. والله أعلم.

(640) باب من فضائل زيد بن حارثة، وابنه أسامة، رضي الله عنهما

(640) باب من فضائل زيد بن حارثة، وابنه أسامة، رضي الله عنهما 5450 - عن سالم بن عبد الله، عن أبيه أنه كان يقول: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد. حتى نزل في القرآن {ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله} قال الشيخ أبو أحمد محمد بن عيسى: أخبرنا أبو العباس السراج ومحمد بن عبد الله بن يوسف الدويري. قالا: حدثنا قتيبة بن سعيد بهذا الحديث حدثني أحمد بن سعيد الدارمي حدثنا حبان حدثنا وهيب حدثنا موسى بن عقبة حدثني سالم عن عبد الله بمثله. 5451 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا. وأمر عليهم أسامة بن زيد فطعن الناس في إمرته فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن تطعنوا في إمرته، فقد كنتم تطعنون في إمرة أبيه من قبل. وايم الله! إن كان لخليقا للإمرة. وإن كان لمن أحب الناس إلي. وإن هذا لمن أحب الناس إلي، بعده". 5452 - عن سالم عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو على المنبر: "إن تطعنوا في إمارته - يريد أسامة بن زيد - فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله. وايم الله! إن كان لخليقا لها. وايم الله! إن كان لأحب الناس إلي وايم الله! إن هذا لها لخليق - يريد أسامة بن زيد - وايم الله! إن كان لأحبهم إلي، من بعده. فأوصيكم به فإنه من صالحيكم". -[المعنى العام]- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب في الله ويبغض في الله وهكذا شريعة الإسلام تجعل صلة الدين أقوى من قرابة النسب قانونها قوله تعالى {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم} [المجادلة: 22] ومن هنا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة أعتقه ثم تبناه ثم زوجه حاضنته أم أيمن ثم زوجه ابنة عمته زينب بنت جحش، ثم أمره على جيوش، من جنودها أبو بكر وعمر وما بعثه في بعث إلا أمره عليهم فكان حقا عند حسن ظن رسول الله صلى الله عليه وسلم به وكان حقا جديرا بالإمارة وكيف لا؟ وهو تربية محمد بن عبد الله؟ .

كان آخر عهده بإمرة الجهاد غزوة مؤتة من أرض الشام في جمادى سنة ثمان من الهجرة وفيها أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجيش، وقال: إن قتل زيد فالإمارة لجعفر بن أبي طالب وإن قتل جعفر تولى الإمارة عبد الله بن أبي رواحة فقتل زيد هناك شهيدا. وقد اشتهر زيد بحب - أي حبيب - رسول الله صلى الله عليه وسلم كما اشتهر ابنه أسامة بالحب ابن الحب أي الحبيب ابن الحبيب لدرجة أن بني مخزوم لما أرادوا أن يوسطوا في قضية سرقة امرأتهم لم يجدوا في الصحابة من يجرؤ أن يكون وسيطا له من الإدلال ما ليس لغيره مثل أسامة فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة أبوه حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمه حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان صلى الله عليه وسلم يقول: "هي أمي بعد أمي" وكان يجلسه على فخذه، حتى بعد أن كبر رضي الله عنه وعن أبيه وعن الصحابة أجمعين. -[المباحث العربية]- (بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثا، وأمر عليهم أسامة بن زيد) هذا هو البعث الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتجهيزه في مرض وفاته وقال في وصيته "أنفذوا بعث أسامة" فأنفذه أبو بكر بعده. (فطعن الناس في إمرته) على أنه صغير إذ كان لا يتجاوز الثامنة عشرة. (فقال: إن تطعنوا في إمرته فقد كنتم تطعنون في إمرة أبيه من قبل) قيل: طعن يطعن بفتح العين إذا كان في العرض والنسب وبضم العين فيهما إذا كان بالرمح واليد وقيل: هما لغتان فيهما ويشير بذلك إلى طعنهم في إمارة زيد بن حارثة وقد جمع له الحافظ ابن حجر سبع غزوات كان أميرا فيها وأولها في جمادى الآخرة سنة خمس قبل نجد في مائة راكب والثانية في ربيع الآخر سنة ست، إلى بني سليم والثالثة في جمادى الأولى منها في مائة وسبعين فتلقى عيرا لقريش وأسروا أبا العاص بن الربيع والرابعة في جمادى الآخرة منها إلى بني ثعلبة والخامسة إلى حسمى - بضم الحاء وسكون السين آخره ألف مقصور - في خمسمائة إلى أناس من بني خدام، بطريق الشام كانوا قطعوا الطريق على دحية وهو راجع من عند هرقل والسادسة إلى وادي القرى والسابعة إلى ناس من بني فزارة. (وايم الله! إن كان لخليقا للإمرة) أي ويمين الله قسمي، إن الحال والشأن كان زيد خليقا وجديرا بالإمرة. "إن" مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الحال، والشأن محذوف والجملة بعدها خبرها. (وإن كان لمن أحب الناس إلي) أي وإن الحال والشأن كان زيد من أحب الناس إلي. (وإن هذا لمن أحب الناس إلي) يشير إلى أسامة بن زيد وفي الرواية الثالثة "وايم الله! إن هذا" أي أسامة "لها لخليق" وايم الله! إن كان (أسامة) لأحبهم إلي من بعده" أي من بعد أبيه زيد فأوصيكم به" أي بأسامة "فإنه من صالحيكم".

-[فقه الحديث]- زيد بن حارثة بن شرحبيل بن عبد العزى بن زيد بن امرئ القيس حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمه سعدى بنت ثعلبة بن عبد عامر، من بني معن بن طيء، زارت قومها، وزيد معها، فأغارت خيل لبني القيس بن جسر في الجاهلية على أبيات من بني معن فاحتملوا زيدا وهو غلام فأتوا به إلى سوق عكاظ فعرضوه للبيع فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بأربعمائة درهم فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته له فحج ناس من قومه فرأوا زيدا فعرفهم وعرفوه، فأبلغوا أهله فخرج أبوه حارثة وأخوه كعب بفدائه فقدما مكة ودخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا بن عبد المطلب يا بن سيد قومه أنتم أهل حرم الله تفكون العاني وتطعمون الأسير جئناك في ولدنا، عبدك، فامنن علينا، وأحسن في فدائه قال: وما ذاك؟ قالوا: زيد بن حارثة فقال: أوغير ذلك. ادعوه فخيروه، فإن اختاركم فهو لكم من غير فداء، وإن اختارني فوالله! ما أنا بالذي أختار على من اختارني فداء قالوا: زدتنا على النصف فدعاه فقال: هل تعرف هؤلاء: قال: نعم هذا أبي وهذا عمي قال: فأنا من قد علمت قد رأيت صحبتي لك فاخترني أو اخترهما، فقال زيد: ما أنا بالذي أختار عليك أحدا، أنت مني بمكان الأب والعم فقالا: ويحك يا زيد؟ ؟ ؟ أتختار العبودية على الحرية؟ وعلى أبيك وعمك؟ وأهل بيتك؟ قال: نعم. إني قد رأيت من هذا الرجل شيئا ما أنا بالذي أختار عليه أحدا فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قال: اشهدوا أن زيدا ابني يرثني وأرثه (كان ذلك جائزا قبل أن ينزل قوله تعالى {وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل * ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم} [الأحزاب: 4 - 5]) فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت أنفسهما، وانصرفا فكان من ذلك الحين يدعى زيد بن محمد وزوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم مولاته أم أيمن حاضنته، فولدت له أسامة، ثم زوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنة عمته زينب بنت جحش، فلم تحسن العشرة بينهما فطلقها وتزوجها بعده رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر ربه تأكيدا لإبطال التبني، وبعد أن طلق زينب زوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أم كلثوم بنت عقبة، أم أمها البيضاء بنت عبد المطلب فولدت له زيد بن زيد ورقية ثم طلق أم كلثوم، وتزوج درة بنت أبي لهب بن عبد المطلب، ثم طلقها وتزوج هندا بنت العوام أخت الزبير. وشهد زيد بن حارثة بدرا وما بعدها، وقتل في غزوة مؤتة، وهو أمير واستخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره على المدينة وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن عمر فرض لأسامة أكثر مما فرض لابن عمر، قال: فسألته فقال: إنه كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك وإن أباه كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك. وأما أسامة بن زيد فقد ولد في الإسلام بمكة، ومات النبي صلى الله عليه وسلم وله ثماني عشرة سنة واعتزل أسامة الفتنة بعد قتل عثمان إلى أن مات في أواخر خلافة معاوية وكان قد سكن المزة من أعمال دمشق ثم رجع فسكن وادي القرى ثم نزل إلى المدينة فمات بها سنة أربع وخمسين على الصحيح.

-[ويؤخذ من الحديث]- 1 - قال النووي: فيه جواز إمارة العتيق. 2 - وجواز تقديمه على العرب. 3 - وجواز تولية الصغار على الكبار. 4 - وجواز تولية المفضول على الفاضل، للمصلحة. 5 - فيه فضائل ظاهرة لزيد وأسامة رضي الله عنهما. 6 - وجواز الحلف من غير استحلاف. والله أعلم

(641) باب من فضائل عبد الله بن جعفر رضي الله عنه

(641) باب من فضائل عبد الله بن جعفر رضي الله عنه 5453 - عن عبد الله بن مليكة. قال عبد الله بن جعفر رضي الله عنه لابن الزبير: أتذكر إذ تلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأنت وابن عباس؟ قال: نعم. فحملنا وتركك. حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا أبو أسامة عن حبيب بن الشهيد بمثل حديث ابن علية وإسناده. 5454 - عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر تلقي بصبيان أهل بيته قال: وإنه قدم من سفر فسبق بي إليه. فحملني بين يديه ثم جيء بأحد ابني فاطمة فأردفه خلفه. قال: فأدخلنا المدينة ثلاثة على دابة. 5455 - عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر تلقي بنا. قال: فتلقي بي وبالحسن أو بالحسين قال: فحمل أحدنا بين يديه والآخر خلفه حتى دخلنا المدينة. 5456 - عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خلفه فأسر إلي حديثا لا أحدث به أحدا من الناس. -[المعنى العام]- إن الرحمة كلمة صغيرة ولكن معناها وأثرها كبير في نفس من تلحقه هذه الرحمة والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كان من أبرز خلاله الرحمة وقد وصفه الله تعالى {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128] وقد يأنف بعض الكبراء من مداعبة الصبيان، والتلطف معهم، والتعاطف عليهم ترفعا وتكبرا ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل كل ذلك تواضعا وشفقة، يحمل الصبي، ويركبه خلفه، وأمامه بين يديه على الراحلة، ويمسح على رأسه، حتى أحب الصبية لقاءه وترقبوا قدومه ليستقبلوه بكل الحب والبشر والسرور وكان الصبي الذي يحظى بشيء من ذلك يزهو ويفخر، ويعد من مناقبه وفضائله أن حمله رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أردفه خلفه، أو حمله أمامه بين يديه ونعمت المنقبة ونعمت الفضيلة.

-[المباحث العربية]- (قال عبد الله بن جعفر لابن الزبير) أي لعبد الله بن الزبير وكانا في سن متقاربة وكان هذا القول في كبرهما وكانت الحادثة المحكية في صباهما وسنهما نحو سبع سنين. (أتذكر إذ تلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم) كان الصبية يتلقون رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحا به وتبركا إذا قدم من سفر وكان صلى الله عليه وسلم يتباسط منهم ويمسح برءوسهم ويلاطفهم. (أنا وأنت وابن عباس) سبق أن ذكرنا بعض فضائل الزبير وسيأتي باب خاص بابن عباس. (قال: نعم فحملنا وتركك) ظاهر العبارة أن قوله "فحملنا وتركك" من كلام ابن الزبير وهكذا توهم القاضي عياض فخطأ الرواية ووصفها بالخلط لأن الذي وقع أن الرسول صلى الله عليه وسلم حمل في هذه الحادثة ابن جعفر وابن عباس وترك ابن الزبير لأن الدابة حينئذ كان يشق عليها حمل الثلاثة والتحقيق أن الرواية لا وهم فيها ولا خلط وكل ما فيها أن لفظ "قال: نعم" مقدمة من تأخير وأن قوله "فحملنا وتركك" من تتمة كلام ابن جعفر قال النووي: معناه: قال ابن جعفر: فحملنا وتركك" اهـ. فقدر النووي: "قال ابن جعفر" بعد "نعم" ثم قال النووي: وتوضحه الروايات بعده. اهـ. وليس في الروايات بعده ما يوضح أن المتروك ابن الزبير فالروايتان الثانية والثالثة. ليس في أيهما ذكر لابن الزبير ولا لابن عباس بل هما في حادثة أخرى أفرادها ابن جعفر وأحد ابني فاطمة، وإنما الذي يوضح ذلك واقع القصة. (إذا قدم من سفر تلقى بصبيان أهل بيته) وبغيرهم من الصبيان و"تلقى" بضم التاء مبني للمجهول للإشارة إلى أن أهليهم هم الذين كانوا يدفعونهم لذلك، ولذلك بني للمجهول أيضا قوله "فسبق بي إليه" ولم يقل: فسبقت إليه وقوله "ثم جيء" ولم يقل: ثم جاء. (فحملني بين يديه) أي حملني على الدابة التي يركبها ووضعني أمامه عليها. (فأدخلنا المدينة ثلاثة على دابة) الرسول صلى الله عليه وسلم وابن جعفر وأحد ابني فاطمة ولم يحددهما كما ورد بينهما في الرواية الثالثة فقال "وبالحسن أو بالحسين". -[فقه الحديث]- عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ابن ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم كنيته أبو محمد، وأبو جعفر والثانية أشهر، أمه أسماء بنت عميس أخت ميمونة بنت الحارث لأمها ولد بأرض الحبشة، لما هاجر أبواه إليها، وهو أول من ولد بها من المسلمين وقدم مع أبيه من الحبشة إلى المدينة مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحبه، كما كان يحب أباه، وبعد أن استشهد أبوه زاد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم

له وكان يدعو "اللهم اخلف جعفرا في ولده" وأخباره في الكرم كثيرة ومشهورة مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن عشر سنين وكان أحد أمراء علي في حرب صفين ومات بالمدينة سنة ثمانين على الصحيح. -[ما يؤخذ من الحديث]- استحباب تلقي الصبيان للعلماء وأهل الفضل عند عودتهم من سفر أو غيبة وأن يتلطف بهم وأن يركب الصبيان معه ولا نقص في ذلك وأنه لا بأس بركوب ثلاثة على دابة إذا كانت مطيقة وفي ذلك فضل ومنقبة لعبد الله بن جعفر. والله أعلم

(642) باب من فضائل خديجة رضي الله عنها

(642) باب من فضائل خديجة رضي الله عنها 5457 - عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خير نسائها مريم بنت عمران. وخير نسائها خديجة بنت خويلد" قال أبو كريب: وأشار وكيع إلى السماء والأرض. 5458 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام". 5459 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! هذه خديجة قد أتتك معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب. فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها عز وجل ومني وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب قال أبو بكر في روايته عن أبي هريرة ولم يقل سمعت ولم يقل في الحديث ومني. 5460 - عن إسماعيل قال: قلت لعبد الله بن أبي أوفى: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر خديجة ببيت في الجنة؟ قال: نعم بشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب حدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا أبو معاوية. 5461 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد ببيت في الجنة

5462 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة. ولقد هلكت قبل أن يتزوجني بثلاث سنين لما كنت أسمعه يذكرها ولقد أمره ربه عز وجل أن يبشرها ببيت من قصب في الجنة وإن كان ليذبح الشاة ثم يهديها إلى خلائلها. 5463 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما غرت على نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلا على خديجة وإني لم أدركها قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذبح الشاة فيقول أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة" قالت: فأغضبته يوما فقلت: خديجة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني قد رزقت حبها". 5464 - وفي رواية عن هشام بهذا الإسناد نحو حديث أبي أسامة إلى قصة الشاة ولم يذكر الزيادة بعدها. 5465 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما غرت للنبي صلى الله عليه وسلم على امرأة من نسائه ما غرت على خديجة لكثرة ذكره إياها وما رأيتها قط. 5466 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم على خديجة حتى ماتت. 5467 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف استئذان خديجة فارتاح لذلك فقال: "اللهم! هالة بنت خويلد" فغرت فقلت: وما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر فأبدلك الله خيرا منها! . -[المعنى العام]- خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها - أول من تزوجها صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها تزوجها سنة

خمس وعشرين من مولده في قول الجمهور، وكانت قبله عند أبي هالة بن النباش بن زرارة التميمي، وله منها ولد اسمه "هند" ومات أبو هالة في الجاهلية وكانت خديجة قبله عند عتيق بن عائذ المخزومي. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يتزوج خديجة قد سافر في مالها مقارضا إلى الشام وكانت تدعى في الجاهلية الطاهرة. وصدقت النبي من أول وهلة مما يدل على قوة يقينها ووفور عقلها وصحة عزمها، شاركته الحصار الاقتصادي وكانت حصنا له صلى الله عليه وسلم حتى قال: ما نالت مني قريش ما نالت مني بعد موت خديجة وأبي طالب. وكان جميع أولاده صلى الله عليه وسلم منها إلا إبراهيم والمتفق عليه من أولاده منها: القاسم وبه كان يكنى مات صغيرا قبل المبعث أو بعده، وبناته الأربع: زينت ثم رقية ثم أم كلثوم ثم فاطمة وقيل: كانت أم كلثوم أصغر من فاطمة وعبد الله ولد بعد المبعث، فكان يقال له: الطاهر والطيب ويقال: وهما أخوان له، ومات الذكور صغارا باتفاق. وماتت خديجة بعد المبعث بعشر سنين على الصحيح فأقامت معه خمسا وعشرين سنة لم يتزوج في حياتها غيرها. رضي الله عنها وأرضاها. -[المباحث العربية]- (خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد قال أبو كريب: وأشار وكيع إلى السماء والأرض) قال القرطبي: الضمير في "خير نسائها" عائد على غير مذكور لكنه يفسره المقام والمشاهدة يعني خير نساء الدنيا وقال الطيبي: الضمير الأول يعود على الأمة التي كانت فيها مريم والثاني على هذه الأمة - أي خير نساء عصر مريم مريم وخير أمة محمد صلى الله عليه وسلم خديجة - قال: ولهذا كرر الكلام "خير نسائها" - تنبيها على أن حكم كل واحدة منها غير حكم الأخرى اهـ. لكن لا يساعد هذا التفسير إشارة وكيع إلى السماء والأرض مما يرجح أن المراد بالضميرين نساء الدنيا. قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر لي أن قوله "خير نسائها" خبر مقدم والضمير لمريم فكأنه قال: مريم خير نسائها، أي خير نساء زمانها وكذا في خديجة. وقال النووي: الأظهر أن معناه أن كل واحدة منهما خير من نساء الأرض في عصرها وأما التفضيل بينهما فمسكوت عنه. وقال القاضي: يحتمل أن الكلام على تقدير "من" أي أنهما من خير نساء الأرض والصحيح الأول. (كمل من الرجال كثير) فكانوا أنبياء ورسلا و"كمل" بفتح الكاف والميم مفتوحة ومضمومة ومكسورة ثلاث لغات مشهورات والكسر ضعيف.

(ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون) {إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين} [التحريم: 11] وذكر بعضهم أنها كانت عمة موسى عليه السلام وأنها آمنت به حين سمعت بتلقف العصا إفك السحرة فعذبها فرعون. وأخرج أبو يعلى والبيهقي بسند صحيح عن أبي هريرة "أن فرعون وتد لامرأته أربعة أوتاد في يديها ورجليها فكانت إذا تفرقوا عنها أظلتها الملائكة عليهم السلام وقالت: رب ابن لي عندك بيتا في الجنة فيكشف لها عن بيتها في الجنة" وفي رواية عند عبد بن حميد "أنه وتد لها أربعة أوتاد وأضجعها على ظهرها وجعل على صدرها رحى واستقبل بها عين الشمس" وعن الحسن "فنجاها الله تعالى أكرم نجاة فرفعها إلى الجنة فهي تأكل وتشرب وتنعم فيها" قال المفسرون: وظاهر هذه الرواية أنها رفعت بجسدها وهو لا يصح. أما مريم ابنة عمران - ولها سورة باسمها في القرآن الكريم - فصدقت وآمنت بكلمات ربها وصحفه وبجميع كتبه من التوراة والإنجيل والزبور والقرآن وإن لم يكن قد نزل {وكانت من القانتين} ومن عداد المواظبين على الطاعة. وأخرج الطبراني عن سعد بن جنادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله زوجني في الجنة مريم بنت عمران وامرأة فرعون وأخت موسى عليه السلام". ولفظة الكمال تطلق على تمام الشيء وتناهيه في بابه والمراد هنا التناهي في جميع الفضائل وخصال البر والتقوى. (وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) يقال: ثرد الرجل الخبز بفتح الثاء والراء يثرده بضم الراء ثردا بسكونها أي فته ثم بله بمرق. قال النووي: قال العلماء: معناه أن الثريد من كل طعام أفضل من المرق فثريد اللحم أفضل من مرقة بلا ثريد، وثريد ما لا لحم فيه أفضل من مرقه - ومعنى هذا تقييد "سائر الطعام" وجعل "أل" فيه وفي "الثريد" للعهد، أي الثريد من أي نوع أفضل من سائر طعامه ومرقه من غير فتات الخبز معه قال: والمراد بالفضيلة نفعه، والشبع منه، وسهولة مساغه والالتذاذ به وتيسر تناوله وتمكن الإنسان من أخذ كفايته منه بسرعة وغير ذلك. قال: فهو أفضل من المرق كله ومن سائر الأطعمة أي فضل عائشة على النساء زائد كزيادة فضل الثريد على غيره من الأطعمة اهـ وفي هذه العبارة الأخيرة نظر لأن من الأطعمة ما هو أفضل من الثريد في كل ما ذكره إلا أن يقال: إنه لم يكن ميسورا لهم، فالكلام جرى على حسب عادتهم وعرفهم. وما ذكر من صفات الثريد المشبه به يقابله من صفات عائشة رضي الله عنها ما أعطيت من حسن الخلق وحلاوة المنطق وفصاحة اللهجة وجودة القريحة ورزانة الرأي ورصانة العقل والتحبب للبعل وحسبك أنه عقلت من النبي ما لم يعقل غيرها من النساء وروت عنه ما لم يرو مثله كثير من الرجال.

(عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم) قال النووي: هذا الحديث من مراسيل الصحابة لأن أبا هريرة لم يدرك أيام خديجة فهو محمول على أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم أو من صحابي ولم يذكر أبو هريرة أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ومراسيل الصحابة حجة عند الجماهير. (هذه خديجة قد أتتك معها إناء فيه إدام - أو طعام - أو شراب - فإذا هي أتتك) قال النووي: معنى "أتتك" الأولى توجهت إليك ومعنى "أتتك" الثانية وصلت إليك. اهـ والمعنى هذه خديجة أراها ولا تراها أعدت لك طعاما وحملته متوجهة به نحوك وعند الطبراني كان حيسا، بفتح الحاء وسكون الياء وهو تمر وأقط وسمن تخلط وتعجن وتسوى كالثريد فإذا وصلت عندك. (فاقرأ عليها السلام، من ربها عز وجل، ومني) زاد في رواية الطبراني أنها لما بلغت قالت: "هو السلام ومنه السلام وعلى جبريل السلام" وعند النسائي "قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يقرئ خديجة السلام" يعني فأخبرها "فقالت: إن الله هو السلام وعلى جبريل السلام وعليك يا رسول الله السلام ورحمة الله وبركاته" زاد ابن السني "وعلى من سمع السلام، إلا الشيطان" قال الحافظ ابن حجر: والظاهر أن جبريل كان حاضرا عند جوابها فردت عليه وعلى النبي صلى الله عليه وسلم مرتين مرة بالتخصيص ومرة بالتعميم. قيل: إنما بلغها جبريل عليه السلام من ربها بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم احتراما للنبي صلى الله عليه وسلم وكذلك وقع له لما سلم على عائشة، ولم يواجهها بالسلام بل راسلها مع النبي صلى الله عليه وسلم لكن قد واجه مريم بالخطاب، قيل: لأنها لم يكن معها زوج ويحترم معه مخاطبتها. يقال: قرأ عليه السلام قراءة أبلغه إياه وكذا أقرأه السلام أبلغه إياه ولا يقال: يقرؤك السلام بفتح الياء. (وبشرها ببيت في الجنة من قصب) قال جمهور العلماء: المراد به قصب اللؤلؤ المجوف، والقصب من الجوهر ما استطال منه في تجويف ويقال لكل مجوف قصب وقال ابن التين: المراد به لؤلؤة مجوفة واسعة كالقصر المنيف وعند الطبراني في الأوسط "يعني قصب اللؤلؤ" وعنده في الكبير "بيت من لؤلؤة مجوفة" وعنده في الأوسط، من حديث فاطمة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله أين أمي خديجة؟ قال: في بيت من قصب قلت: أمن هذا القصب؟ "تقصد النبات المعروف الحلو؟ تخيلته منسوجة حوائطه بعيدان القصب، بدلا من أعواد الحطب والجريد التي يقيمونها حوائط ويغلفونها بالطين "قال: لا من القصب المنظوم بالدر واللؤلؤ والياقوت". والمراد بهذا البيت بيت وقصر زائد على ما أعده الله لها من ثواب عملها أي بيت صفته كذا وكذا هدية خالصة لا دخل لعملها في تحصيله وعلى هذا فسر قوله. (لا صخب فيه ولا نصب) أي لا نصب ولا تعب منها في تحصيله، والصخب بفتح الصاد والخاء الصياح والمنازعة برفع الصوت، وأغرب الداودي، فقال: الصخب العيب والنصب العوج وهو تفسير لا تساعد عليه اللغة، والنصب بفتحتين وبضم النون وسكون الصاد، كالحزن والحزن، لغتان، والفتح أشهر وأفصح.

(ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة) "ما" مصدرية أي ما غرت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من امرأة من نسائه غيرتي عليه من خديجة، وفي الرواية السابعة "ما غرت على نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلا على خديجة" (ولقد هلكت قبل أن يتزوجني بثلاث سنين) جملة معترضة بين الخبر، وبين بيان سببه، جيء بها للإشارة إلى أنها لو كانت اجتمعت معها في عصمته صلى الله عليه وسلم في زمن واحد لكانت غيرتها منها أشد، والمراد من الهلاك الموت، قال النووي: تعني قبل أن يدخل بها، لا قبل العقد، وإنما ماتت قبل أن يعقد عليها بنحو سنة ونصف سنة، وفي الرواية السابعة "وإني لم أدركها" أي لم أدرك حياتها زوجة مشاركة لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أي وإن أدركتها ووعيتها زوجة له، قبل أن يتزوجني، وفي الرواية الثامنة "وما رأيتها قط" أي وأنا زوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. (لما كنت أسمعه يذكرها) اللام للتعليل، و"ما" موصولة، أو مصدرية، والمراد لكثرة سماعي ذكرها على لسانه صلى الله عليه وسلم، أي ذكرها بالمدح والخير والثناء، وفي الرواية الثامنة "لكثرة ذكره إياها" ومن هذا الذكر تبشيرها. ببيت في الجنة وكونه إذا ذبح الشاة يقول: أرسلوا بها - أي بجزئها - إلى أصدقاء خديجة، ولإشعاره بأنه لم يتزوج عليها حتى ماتت كما في الرواية التاسعة، ولحبه وارتياحه وسروره بلقاء أهلها وصاحباتها بعدها كما في الرواية العاشرة وعند البخاري "ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها ... فيقول: إنها كانت وكانت .. وكان لي منها ولد" أي فهي أم أولادي الذين أحبهم، إذ كان جميع أولاده من خديجة، إلا إبراهيم "وكان إذا ذكر خديجة لم يسأم من ثناء عليها واستغفار لها". (وإن كان ليذبح الشاة، ثم يهديها إلى خلائلها) "ثم يهديها" أي يهدي الكثير منها والخلائل جمع خليلة، وهي الصديقة، و"إن" مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن والحال، محذوف وفي رواية للبخاري "وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة" وفي الرواية السابعة "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذبح الشاة فيقول: أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة" والفاء عاطفة على محذوف جوابه "إذا" أي إذا ذبح الشاة اهتم بأصدقائها، فيقول: .... وهذا الأسلوب وإن كان يفيد العادة والشأن مراد به هنا الكثرة، ففي رواية للبخاري "ربما ذبح الشاة" بلفظ "ربما" وفي رواية أخرى للبخاري "وإن كان ليذبح الشاة فيهدي في خلائلها منها ما يسعهن" أي ما يكفيهن وفي رواية "ما يشبعهن". (قالت: فأغضبته يوما فقلت: خديجة؟ ) وفي رواية "خديجة؟ خديجة؟ " بالتكرير أي في كل وقت تذكر بالثناء خديجة؟ وفي رواية للبخاري "كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة؟ " وفي روايتنا العاشرة "ما تذكر من عجوز من عجائز قريش؟ حمراء الشدقين" بالجر، وقال أبو البقاء: جوز في "حمراء" الرفع على القطع، والنصب على الحال، وحكى في بعضهم رواية "حمراء" بالجيم والزاي، ولا معنى لها، بل هي تصحيف قال القرطبي: قيل: معنى "حمراء الشدقين" بيضاء الشدقين والعرب تطلق على الأبيض الأحمر قال: والذي عندي أن المراد بذلك نسبتها إلى كبر السن لأن من دخل في سن الشيخوخة مع قوة في بدنه يغلب على لونه غالبا الحمرة المائلة إلى السمرة كذا قال:

قال الحافظ ابن حجر: والذي يتبادر أن المراد بالشدقين ما في باطن الفم، فالكلام كناية عن سقوط أسنانها، حتى لا يبقى داخل فمها إلا اللحم الأحمر من اللثة وغيرها، وبهذا جزم النووي وغيره. (هلكت في الدهر) أي ماتت في الزمن الماضي، وعفا على آثارها الزمان. (استأذنت هالة بنت خويلد، أخت خديجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم) كانت "هالة" زوج الربيع بن عبد العزى، والد العاصي بن الربيع زوج زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم فهي "حماة" زينب، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يثني على معاملتها ومعاملة ابنها لزينب، قبل أن يسلما، وبعد أن أسلما، وقد ذكروها في الصحابة، وهو ظاهر هذا الحديث وقد هاجرت إلى المدينة، لأن استئذانها للدخول كان بالمدينة ويحتمل أن تكون قد دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة حيث كانت عائشة معه في بعض سفره. (فعرف استئذان خديجة فارتاع لذلك، فقال: اللهم. هالة بنت خويلد) أي هذا صوت هالة بنت خويلد عرفه لشبهه بصوت خديجة أختها، فتذكر خديجة بذلك، و"ارتاع" من الروع بفتح الراء وهو الفزع، والمراد من الفزع لازمه، وهو التغير، والمقصود التغير فرحا وبهجة وشوقا، ووقع في بعض الروايات "ارتاح" بالحاء، أي اهتز لذلك سرورا، قال الحافظ ابن حجر: وقوله "اللهم هالة" فيه حذف تقديره: اجعلها هالة فعلى هذا فهو منصوب - أي كما نقول: يا رب تكون هالة - قال: ويحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي هذه هالة. (فأبدلك الله خيرا منها) تعني نفسها، فعند أحمد والطبراني في هذه القصة "قالت عائشة: فقلت: أبدلك الله بكبيرة السن حديثة السن" وفي رواية لأحمد والطبراني "فقال صلى الله عليه وسلم ما أبدلني الله خيرا منها. آمنت بي إذ كفر بي الناس وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء" وفي روايتنا السابعة "إني رزقت حبها". -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من أحاديث الباب]- 1 - عن الرواية الثانية قال القاضي: هذا الحديث يستدل به من يقول بنبوة النساء، ونبوة آسية ومريم والجمهور على أنهما ليستا نبيتين، بل هما صديقتان، ووليتان من أولياء الله تعالى، ثم قال: فإن قلنا: هما نبيتان فلا شك أن غيرهما لا يلحق بهما، وإن قلنا: وليتان لم يمتنع أن يشاركهما من هذه الأمة غيرهما. اهـ. قال النووي: وهذا الذي نقله من القول بنبوتها غريب ضعيف، وقد نقل جماعة الإجماع على عدمها. اهـ. وقد استدل بعضهم على نبوة مريم بقوله تعالى {وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين} [آل عمران: 42] ورد بأنه ليس بصريح في ذلك. كما استدل على نبوتها بذكرها مع الأنبياء في سورة مريم ورد بأن دلالة الاقتران ليست دلالة شرعية قيل: ووصفها بصديقة يبعد كونها نبية ورد بأن يوسف عليه السلام قد وصف بالصديق وهو نبي.

وقد نقل عن الأشعري أن في النساء عدة نبيات، حصرهن ابن حزم في ست: حواء وسارة وهاجر، وأم موسى، وآسية ومريم وأسقط القرطبي سارة وهاجر ونقله في التمهيد عن أكثر الفقهاء وقال القرطبي: الصحيح أن مريم نبية قال عياض: والجمهور على خلافه وعن الحسن ليس في النساء نبية ولا في الجن. وقد استدل على عدم نبوة النساء بروايتنا الأولى وبحديث البخاري "خير نسائها مريم ابنة عمران وخير نسائها خديجة" فقد استويا في الخيرية، وخديجة ليست نبية باتفاق، فمريم كذلك، وإذا لم تكن مريم نبية، لم تكن غيرها من النساء كذلك، ورد بأنه لا يلزم من التسوية في الخيرية التسوية في جميع الصفات. 2 - واستدل بقوله في الرواية الثانية "وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" على تفضيل عائشة على نساء النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن التين: في سكوت النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة حين قالت: قد أبدلك الله خيرا منها" دليل على أفضلية عائشة على خديجة إلا أن يكون المراد بالخيرية هنا حسن الصورة وصغر السن، ورد بما جاء في الروايات الأخرى من أنه لم يسكت وبأنها صرحت في بعض الروايات بأن الخيرية التي تعنيها خيرية الصورة وحداثة السن. 3 - ومن الرواية الأولى والثالثة والرابعة وما بعدهما فضل خديجة، ففي الأولى "خير نسائها مريم وخير نسائها خديجة" فخديجة خير من عائشة. قال ابن التين: ويحتمل أن لا تكون عائشة دخلت في ذلك، لأنها كانت لها عند موت خديجة ثلاث سنين (كذا قال) فلعل المراد النساء البوالغ، قال الحافظ ابن حجر: وهو ضعيف، فإن المراد بلفظ النساء أعم من البوالغ، ومن لم تبلغ أعم ممن كانت موجودة وممن ستوجد، وعند البزار والطبراني "فضلت خديجة على نساء أمتي، كما فضلت مريم على نساء العالمين" وهو حديث حسن الإسناد وعند النسائي بإسناد صحيح والحاكم "أفضل نساء أهل الجنة خديجة وفاطمة ومريم وآسية" قال: وهذا نص صريح، لا يحتمل التأويل. 4 - ومن الرواية الثالثة، من قوله "اقرأ عليها السلام من ربها عز وجل ومني" أفضلية خديجة على عائشة لأن عائشة سلم عليها جبريل من قبل نفسه، وخديجة أبلغها السلام من ربها. وزعم ابن العربي: أنه لا خلاف في أن خديجة أفضل من عائشة قال الحافظ: ورد بأن الخلاف ثابت قديما، وإن كان الراجح أفضلية خديجة. قال السبكي الكبير: لعائشة من الفضائل ما لا يحصى، ولكن الذي نختاره وندين الله به أن فاطمة أفضل ثم خديجة ثم عائشة اهـ. قال السبكي: ونساء النبي صلى الله عليه وسلم بعد خديجة وعائشة متساويات في الفضل وهن أفضل النساء لقول الله تعالى {لستن كأحد من النساء إن اتقيتن} [الأحزاب: 32] وظاهر كلام السبكي تفضيلهن على فاطمة، لكن قوله الأول المختار عنده تفضيل فاطمة، حتى على خديجة وعائشة وقد نقل عنه أنه سئل: هل قال أحد: إن أحدا من نساء النبي صلى الله عليه وسلم غير خديجة وعائشة أفضل من فاطمة؟ فقال: قال به من لا يعتد بقوله وهو من فضل نساء النبي صلى الله عليه وسلم على جميع الصحابة لأنهن في درجته في الجنة قال: وهو قول ساقط مردود اهـ. وقائله هو أبو محمد بن حزم وفساده ظاهر.

وعندي أن التفضيل بحث غير علمي، لا طائل تحته وعلمه عند الله فمقادير الفضائل وتقدير كل فضيلة مرجعه إلى الله تعالى وحده وواجبنا الاعتراف بالفضائل وتعظيم أصحابها والله أعلم. 5 - ومن غيرة عائشة رضي الله عنها ثبوت غيرة النساء وأنها غير مستنكر وقوعها من فاضلات النساء فضلا عمن دونهن. 6 - وأن عائشة كانت تغار من نساء النبي صلى الله عليه وسلم لكن كانت تغار من خديجة أكثر. 7 - وأن الغيراء قد تعذر لما يصدر منها، قال الطبري: وغيره من العلماء: الغيرة مسامح للنساء ما يقع فيها، ولا عقوبة عليهن في تلك الحالة، لما جبلن عليه منها اهـ. وهذا فيما صدر من توافه الأمور أو كان لها عذر ظاهر وقد اعتذروا عن عائشة في موقفها من ذكر خديجة بأنها قد اجتمع فيها حينئذ الغيرة، مع صغر السن مع الإدلال فلا يقال على الإطلاق بالصفح عن الغيراء فيما تأتي بسبب الغيرة وحدها ثم إن عائشة لم تأت محرما وإنما صدر منها في وقت الغيرة ما لا يصدر منها في حال عدم الغيرة. 8 - وفي هذه الأحاديث مزيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لخديجة رضي الله عنها، وفي قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية السابعة "إني قد رزقت حبها" أن حب الرسول صلى الله عليه وسلم فضيلة لمن يحبه. 9 - وفي موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من خديجة بعد موتها دليل لحسن العهد، وحفظ الود، ورعاية حرمة الصاحب والعشير، في حياته، وبعد وفاته، وإكرام أهل ذلك الصاحب. 10 - وفي إخبار عائشة - رضي الله عنها - بغيرتها من خديجة، وبما قد ينقص عند البعض من رفعتها ومكانتها زيادة إيمان، وفرط إنصاف. والله أعلم.

(643) باب فضائل عائشة رضي الله عنها

(643) باب فضائل عائشة رضي الله عنها 5468 - عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أريتك في المنام ثلاث ليال. جاءني بك الملك في سرقة من حرير فيقول: هذه امرأتك فأكشف عن وجهك. فإذا أنت هي. فأقول: إن يك هذا من عند الله، يمضه". 5469 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت علي غضبى" قالت: فقلت ومن أين تعرف ذلك؟ قال "أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين: لا ورب محمد! وإذا كنت غضبى قلت: لا ورب إبراهيم" قالت: قلت أجل والله! يا رسول الله! ما أهجر إلا اسمك. 5470 - وفي رواية عن هشام بن عروة بهذا الإسناد إلى قوله: "لا ورب إبراهيم" ولم يذكر ما بعده. 5471 - عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تلعب بالبنات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: وكانت تأتيني صواحبي فكن ينقمعن من رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسربهن إلي. 5472 - وفي رواية عن هشام بهذا الإسناد. وقال في حديث جرير: كنت ألعب بالبنات في بيته. وهن اللعب. 5473 - عن عائشة رضي الله عنها أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة، يبتغون بذلك مرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

5474 - عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنت عليه وهو مضطجع معي في مرطي. فأذن لها. فقالت: يا رسول الله! إن أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة. وأنا ساكتة. قالت: فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي بنية! ألست تحبين ما أحب؟ فقالت: بلى. قال: فأحبي هذه" قالت: فقامت فاطمة حين سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجعت إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرتهن بالذي قالت وبالذي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن لها: ما نراك أغنيت عنا من شيء فارجعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولي له: إن أزواجك ينشدنك العدل في ابنة أبي قحافة فقالت فاطمة: والله! لا أكلمه فيها أبدا. قالت عائشة: فأرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي التي كانت تساميني منهن في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أر امرأة قط خيرا في الدين من زينب وأتقى لله وأصدق حديثا وأوصل للرحم وأعظم صدقة وأشد ابتذالا لنفسها في العمل الذي تصدق به وتقرب به إلى الله تعالى ما عدا سورة من حدة كانت فيها تسرع منها الفيئة قالت: فاستأذنت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع عائشة في مرطها على الحالة التي دخلت فاطمة عليها وهو بها. فأذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة قالت: ثم وقعت بي فاستطالت علي. وأنا أرقب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرقب طرفه هل يأذن لي فيها قالت: فلم تبرح زينب حتى عرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكره أن أنتصر قالت: فلما وقعت بها لم أنشبها حتى أنحيت عليها. قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبسم: "إنها ابنة أبي بكر". 5475 - وفي رواية عن الزهري بهذا الإسناد مثله في المعنى غير أنه قال: فلما وقعت بها لم أنشبها أن أثخنتها غلبة. 5476 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتفقد يقول: "أين أنا اليوم؟ أين أنا غدا؟ " استبطاء ليوم عائشة. قالت: فلما كان يومي قبضه الله بين سحري ونحري.

5477 - عن عائشة رضي الله عنها أنها أخبرته أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يموت وهو مسند إلى صدرها وأصغت إليه وهو يقول: "اللهم! اغفر لي وارحمني. وألحقني بالرفيق". 5478 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أسمع أنه لن يموت نبي حتى يخير بين الدنيا والآخرة قالت: فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه، وأخذته بحة يقول {مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا} قالت: فظننته خير حينئذ. 5479 - عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو صحيح: "إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده في الجنة ثم يخير" قالت عائشة فلما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه على فخذي غشي عليه ساعة ثم أفاق فأشخص بصره إلى السقف ثم قال: "اللهم الرفيق الأعلى" قالت عائشة قلت إذا لا يختارنا قالت عائشة: وعرفت الحديث الذي كان يحدثنا به وهو صحيح في قوله: "إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير" قالت عائشة: فكانت تلك آخر كلمة تكلم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "اللهم الرفيق الأعلى". 5480 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج أقرع بين نسائه. فطارت القرعة على عائشة وحفصة. فخرجتا معه جميعا. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان بالليل سار مع عائشة يتحدث معها فقالت حفصة لعائشة: ألا تركبين الليلة بعيري وأركب بعيرك فتنظرين وأنظر؟ قالت: بلى فركبت عائشة على بعير حفصة وركبت حفصة

على بعير عائشة فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جمل عائشة وعليه حفصة فسلم ثم سار معها. حتى نزلوا فافتقدته عائشة فغارت. فلما نزلوا جعلت تجعل رجلها بين الإذخر وتقول: يا رب! سلط علي عقربا أو حية تلدغني رسولك ولا أستطيع أن أقول له شيئا. 5481 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" 5482 - عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "إن جبريل يقرأ عليك السلام" قالت: فقلت وعليه السلام ورحمة الله. 5483 - عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عائش! هذا جبريل يقرأ عليك السلام" قالت: فقلت وعليه السلام ورحمة الله قالت: وهو يرى ما لا أرى. -[المعنى العام]- الصديقة بنت الصديق عائشة ابنة أبي بكر وأمها أم رومان كانت قبل أبي بكر تحت عبد الله بن الحارث الأزدي وكان قد قدم بها مكة فحالف أبا بكر قبل الإسلام وتوفي عن أم رمان بمكة بعد أن ولدت له الطفيل فتزوجها أبو بكر فولدت له عبد الرحمن وعائشة أسلمت وبايعت وهاجرت وتوفيت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم سنة ست من الهجرة على المشهور. ولدت عائشة بعد المبعث بأربع سنين أو خمس، وخطبها النبي صلى الله عليه وسلم وهي بنت ست وبعد أن جاءه جبريل عليه السلام بصورتها في ثوب من حرير يحمله على كفه ويقول له: هذه زوجتك في الدنيا والآخرة فكان صلى الله عليه وسلم يكشف الثوب عن وجهها فيرى عائشة بنت أبي بكر فيعجب

إنها طفلة يراها صباح مساء وكان في هذه الفترة يذهب صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر مرة أو مرتين في اليوم إنها في هذه السن وفي هذا الجسم النحيل لا تصلح للزواج فكيف يفهم كلام جبريل؟ أهي بشرى سابقة لما سيقع بعد سنين؟ لكنها حق من عند الحق. فكان يقول: إن كان هذا قدر الله فسيقع. وفي يوم من أيام الحزن على خديجة جاءته الخاطبة خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون فقالت: يا رسول الله ألا تتزوج؟ فتخرج من هذا الحزن؟ قال: من؟ قالت: إن شئت بكرا وإن شئت ثيبا؟ قال: فمن البكر؟ قالت: بنت أحب خلق الله إليك عائشة بنت أبي بكر قال: ومن الثيب؟ قالت: سودة بنت زمعة، آمنت بك واتبعتك قال: فاذهبي فاخطبيهما لي. خطبها صلى الله عليه وسلم على أساس الانتظار بدخولها حتى تنضج وتصلح ثم هاجر وهاجرت من بعده وبعد سنة من الهجرة دخل بها وهي بنت تسع سنين، وعاشت في بيته تسع سنين، تعطيه من عذوبة البنت، وحنان الأم وهي الصبية الصغيرة، وعواطف الزوجة الشابة الحبيبة، حتى كانت أحب الناس إليه. روى ابن سعد أنها قالت: "فضلت بعشر أتاه الملك بصورتي في كفه لينظر إليها - تشير بذلك إلى روايتنا الأولى - ولم ينكح بكرا غيري، ولا امرأة أبواها مهاجران غيري، وأنزل الله براءتي من السماء، وكان ينزل عليه الوحي وهو معي" تشير إلى روايتنا الثالثة عشرة وما سيأتي في المباحث العربية، في رده صلى الله عليه وسلم على أم سلمة، كما جاء في البخاري "وكنت أغتسل أنا وهو من إناء واحد وكان يصلي وأنا معترضة بين يديه، وقبض بين سحري ونحري، في بيتي وفي ليلتي" تشير إلى روايتنا السادسة والسابعة، "ودفن في بيتي" زاد في رواية "ورأيت جبرائيل، وكنت أحب نسائه إليه، ومرضته، فقبض ولم يشهده غيري والملائكة". عاشت رضي الله عنها بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلا إذ ماتت سنة ثمان وخمسين في رمضان، وأمرت أن تدفن ليلا فدفنت بعد التراويح والوتر بالبقيع وصلى عليها أبو هريرة، ونزل قبرها خمسة: عبد الله وعروة، ابنا أختها، ابنا الزبير، والقاسم بن محمد، وعبد الله بن محمد، ابنا محمد أخيها، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر. قال الزهري: لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل. رضي الله عنها وأرضاها بقدر ما خدمت الشريعة وبلغت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. -[المباحث العربية]- (أريتك في المنام ثلاث ليال) أي ثلاث مرات في ثلاث ليال أراه الله إياها أو أراه الملك إياها. (جاءني بك الملك في سرقة من حرير) "سرقة" بفتح السين والراء وهي الشقق، أي

ملفوفة في أثواب وشرائح من حرير أبيض وفي كتب اللغة: السرق بفتح السين والراء شقق الحرير، أو أجوده، الواحدة سرقة. معرب. (فيقول: هذه امرأتك) أي زوجتك في المستقبل. (فأكشف عن وجهك فإذا أنت هي) كأنها كانت ملفوفة بالحرير مغطاة الوجه وقول "أنت هي" مبتدأ وخبر، أو خبر مقدم ومبتدأ مؤخر، أي فإذا صورتك هي التي كانت في اللفافة أو فإذا التي كانت في اللفافة تشبهك وفي رواية "لقد نزل جبريل بصورتي في راحته حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجني" ويجمع بينهما بأن المراد أن صورتها كانت في الخرقة والخرقة في راحته ويحتمل أن تكون نزل بالكيفيتين في مرتين. (فأقول: إن يك هذا من عند الله يمضه) أي فأقول بعد اليقظة تفسيرا للرؤيا، و"إن يك" بحذف نون "يكن" تخفيفا وبأن التي للشك، وقد استشكل بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يشك في رؤياه، فهي وحي وأجيب باحتمال أن تكون قبل النبوة وقبل تخليص أحلامه صلى الله عليه وسلم من الأضغاث والمعنى إن كانت رؤيا حق فسيمضيها الله. وعلى فرض أنها بعد النبوة فالمراد: إن تكن الرؤيا على ظاهرها لا تحتاج إلى تعبير وتفسير فسيمضيها الله تعالى وينجزها فالشك في كونها على ظاهرها لا تحتاج إلى تعبير. وقيل: إن قوله "هذه امرأتك" يحتمل أن المراد هذه امرأتك في الآخرة أو هذه امرأتك في الدنيا فالشك في كونها زوجة في الآخرة فقط أو هي ستكون زوجة في الدنيا. ويحتمل أنه لم يشك ولكن الخبر على التحقيق أي هو من عند الله وسيمضيه وأتى بصورة الشك كقوله {وإنا أو إياكم لعلى هدى} [سبأ: 24] وهو نوع من البديع عند أهل البلاغة ويسمونه تجاهل العارف وسماه بعضهم مزج الشك باليقين. (إني لأعلم إذا كنت عني راضية) أكد الكلام بإن واللام لتنزيل عائشة منزلة المنكر للحكم وسبب هذا التنزيل إخفاؤها غضبها عنه صلى الله عليه وسلم و"إذا" ظرف لمفعول "أعلم" المحذوف والتقدير: إني لأعلم شأنك وحالك وقت رضاك عني وقد استدل ابن مالك بمثل هذا الحديث على خروج "إذا" عن الظرفية، وإعرابها مفعول "أعلم" والجمهور على خلافه. (ومن أين تعرف ذلك؟ ) أصل "أين" للمكان، والمراد هنا السببية، فكأنها قالت: بأي شيء تعرف ذلك؟ والمشار إليه مفعول "أعلم". (أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين: لا. ورب محمد) "لا" حرف نفي وقعت جوابا عن كلام سابق وجواب القسم محذوف والتقدير: ورب محمد لم أفعل. (قلت: أجل) بفتح الهمزة والجيم حرف جواب بمعنى "نعم" يكون تصديقا للمخبر وإعلانا للمستخبر، ووعدا للطالب. (والله - يا رسول الله - ما أهجر إلا اسمك) عبرت بالقسم والقصر لتأكيد مضمون

الجملة وزيادة تقديره في ذهن الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما كان غضبها من شدة غيرتها عليه وقوة حبها له عليه الصلاة والسلام. (أنها كانت تلعب بالبنات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم) المراد بالبنات هنا لعب الأطفال التي في شكل البنات والآدميين والحيوانات وغيرها، وقيل: المعنى أنها كانت تلعب مع البنات، أي مع الجواري والقرينات القريبات منها في السن، فالباء بمعنى "مع" ويرده ما جاء في رواية بلفظ "ولكن جواري يأتين فيلعبن بها معي" وما جاء في ملحق روايتنا بلفظ "كنت ألعب بالبنات، وهن اللعب" بضم اللام جمع لعبة. وعند أبي داود والنسائي عن عائشة، قالت: "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر. فكشف ناحية الستر على بنات لعائشة لعب فقال: ما هذا يا عائشة؟ قالت: بناتي قالت: ورأى فيها فرسا مربوطا له جناحان فقال: ما هذا؟ قلت: فرس قال: فرس له جناحان؟ قلت: ألم تسمع أنه كان لسليمان خيل لها أجنحة؟ فضحك". (عند رسول الله) أي في بيته كزوجة له وفي ملحق روايتنا "كنت ألعب بالبنات في بيته". (وكانت تأتيني صواحبي) جمع صاحبة، أي يأتين ليلعبن معي. (فكن ينقمعن من رسول الله صلى الله عليه وسلم) "ينقمعن" بفتح الياء وسكون النون وكسر الميم، أي يتغيبن ويستخفين منه حياء منه وهيبة فيدخلن في حجرة أخرى أو يتسترن في زاوية أو وراء ستر حتى يمر، وأصله من قمع الثمرة أي يدخلن في الستر كما تدخل الثمرة في قمعها وفي رواية للبخاري "يتقمعن" بفتح التاء وتشديد الميم المفتوحة. (فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسربهن إلي) "يسربهن" بضم الياء وفتح السين وكسر الراء المشددة بعدها باء أي يرسلهن ويرجعهن إلي ويطلب منهن أن يعدن إلى اللعب معي. (أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة يبتغون بذلك مرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم) هذه الرواية مقدمة أو جزء من الرواية الخامسة جمعها البخاري وأوضح قصتها، فروي عن عائشة رضي الله عنها "أن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كن حزبين، فحزب فيه عائشة وحفصة وصفية وسودة، والحزب الآخر أم سلمة وسائر نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم أي بقيتهن وهن زينب بنت جحش، وأم حبيبة، وجويرية وميمونة، رضي الله عنهن". "وكان المسلمون قد علموا حب رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة فإذا كان عند أحدهم هدية يريد أن يهديها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرها حتى إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة بعث صاحب الهدية هديته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة". يقصدون بذلك اختيار وقت المسرة ومكان المسرة ليزيد ذلك في سرور المهدى إليه ومع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشركهن في الهدايا إلا أن خروج الهدية من بيت عائشة ومن يدها يوحي بفضل لها وتميز في وضعها على قريناتها مما كان يؤلمهن لدرجة أن بعضهم كان يرفض الهدية ويردها أنفة وإباء وكان الأمر في نظرهن يتنافى مع العدل بين الزوجات ذاك شأن الحزب المقابل أما حزب عائشة فلم يكن عندهن غضاضة لذلك كان التجمع والتظاهر والتضرر والشكوى من حزب أم سلمة.

وعند ابن سعد "كان الأنصار يكثرون إلطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة وسعد بن معاذ وعمارة بن حزم وأبو أيوب وذلك لقرب جوارهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم". والتحري دقة القصد يقال: تحرى الشيء إذا قصده دون غيره. (أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) في رواية البخاري "فكلم حزب أم سلمة أم سلمة فقلن لها: كلمي رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلم الناس فيقول: من أراد أن يهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية فليهدها حيث كان من بيوت نسائه فكلمته أم سلمة بما قلن، فلم يقل لها شيئا، فسألنها فقالت: ما قال لي شيئا فقلن لها: كلميه حتى يكلمك، أي حتى يجيبك على طلبك "فكلمته حين دار إليها أيضا" أي حين جاءها في ليلتها "فلم يقل لها شيئا فسألنها فقالت: ما قال لي شيئا، فقلن لها: كلميه حتى يكلمك فدار إليها فكلمته، فقال لها: لا تؤذيني في عائشة فإن الوحي لم يأتني وأنا في ثوب امرأة إلا عائشة قالت: أتوب إلى الله من أذاك يا رسول الله ثم إنهن دعون فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم". (فاستأذنت عليه، وهو مضطجع معي في مرطي، فأذن لها) أي ولم يغير من وضعه مع عائشة والتحافه وإياها في لحاف واحد مضطجعا، والمرط كساء من خز أو صوف أو كتان يؤتزر به وتتلفع به المرأة. (فقالت: يا رسول الله إن أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة وأنا ساكتة) أي وظلت ساكتة لم تتكلم عن فاطمة بشيء وعائشة ابنة ابن أبي قحافة فأضافتها إلى جدها وحذفت أباها وعند ابن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم سألها "أرسلتك زينب؟ قالت: هي وغيرها قال: أهي التي وليت ذلك؟ قالت: نعم". وفي رواية للبخاري "إن نساءك ينشدنك العدل في بنت أبي بكر" أي يطلبن منك العدل، وفي رواية "يناشدنك الله العدل: أي يسألنك بالله العدل". (أي بنية) يعني يا بنية والتصغير للتمليح والتلطف. (ألست تحبين ما أحب؟ ) التعبير بما، دون "من" ليشمل العاقل وغير العاقل والاستفهام تقريري أي قري بأنك تحبين ما أحب. (قالت: بلى. قال: فأحبي هذه فقامت فاطمة حين سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجعت إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم) أي إلى الفريق الذي أرسلها. (فأخبرتهن بالذي قالت: وبالذي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن لها: ما نراك أغنيت عنا من شيء فارجعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولي له: إن أزواجك ينشدنك العدل في ابنة أبي قحافة فقالت فاطمة: والله لا أكلمه فيها أبدا) وفي رواية البخاري "فأبت أن ترجع". (فأرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي التي كانت تساميني منهن في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي تعادلني وتضاهيني في الحظوة والمنزلة

الرفيعة مأخوذ من السمو وهو الارتفاع والمراد أنها كانت تعتز بقرابتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي ابنة عمته وأن الله هو الذي زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم صراحة وأمرا بخلاف عائشة فإن كون تزويجها من الله كان رؤيا وإشارة وأنها كانت شابة وجميلة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبها وإن كان بالدرجة الثانية بعد عائشة فالمراد أنها كانت تنافس عائشة على حبه وتقديره صلى الله عليه وسلم وفي الكلام قصر طريقه تعريف الطرفين "هي التي" أي دون غيرها من نسائه صلى الله عليه وسلم. (ولم أر امرأة قط خيرا في الدين من زينب، وأتقى لله، وأصدق حديثا وأوصل للرحم وأعظم صدقة وأشد ابتذالا لنفسها في العمل الذي تصدق به وتقرب به إلى الله تعالى) المفضل في كل تفضيل مقدر، أي أتقى لله من زينب وأصدق حديثا من زينب ... إلخ وأصل "تصدق" و"تقرب" تتصدق وتتقرب. وهذا المدح والثناء من عائشة وفاء وشكر لجميل موقف زينب من عائشة في حديث الإفك إذ قالت: والله ما علمت عنها إلا خيرا. (ما عدا سورة من حدة، كانت فيها، تسرع منها الفيئة) قال النووي: هكذا هو في معظم النسخ "سورة من حد" بفتح الحاء بلا هاء وفي بعضها "من حدة" بكسر الحاء وبالهاء وقوله "سورة" هي بالسين المفتوحة ثم واو ساكنة ثم راء ثم تاء وهي الثوران وعجلة الغضب وأما الحدة فهي شدة الخلق وثورانه، قال: ومعنى الكلام أنها كاملة الأوصاف إلا أن فيها شدة خلق وسرعة غضب والفيئة بفتح الفاء والهمزة الرجوع أي إذا وقع ذلك منها رجعت عنه سريعا ولا تصر عليه وقد صحف صاحب التحرير في هذا الحديث تصحيفا قبيحا جدا فقال: "ما عدا سودة" بالدال، وجعلها سودة بنت زمعة وهذا من الغلط الفاحش نبهت عليه لئلا يغتر به. (فاستأذنت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع عائشة في مرطها على الحالة التي دخلت فاطمة عليها، وهو بها) تشير بذلك إلى سرعة إرسالهن الرسل، وإلى طول مقام الرسول صلى الله عليه وسلم معها في مرطها مضاجعا. (فأذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم) في رواية "فذهبت زينب حتى استأذنت فقال: ائذنوا لها" (قالت: ثم وقعت بي، فاستطالت علي) في رواية "فقالت: حسبك إذا برقت لك بنت ابن أبي قحافة ذراعيها" أي إذا كشفت لك ذراعيها، مال قلبك نحوها، وانصرف قلبك عنا، ومعنى "وقعت بي" أي عابتني يقال: وقع بفلان ووقع في فلان إذا سبه وعابه، أو اغتابه، ومعنى "استطالت علي" أي تطاولت علي وتكبرت علي وترفعت علي وأصله من مد العنق ليراه غيره وليبدو أطول، وفي رواية البخاري "فأغلظت". (وأنا أرقب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرقب طرفه هل يأذن لي فيها؟ ) "أرقب" أي ألاحظ وأرصد وأنتظر والطرف العين أي أرصد حركاته وإشاراته وما تعبر عنه عينه هل يأذن لي بالرد عليها؟ والوقوع فيها كما وقعت في؟ . (فلم تبرح زينب حتى عرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكره أن أنتصر) أي فلم

تغادر المكان، أو لم تتوقف عن مهاجمتي والإساءة إلي، حتى فهمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكره أن أرد عليها. قال النووي: وليس فيه دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لعائشة ولا أشار بعينه ولا غيرها، بل لا يحل اعتقاد ذلك، فإنه صلى الله عليه وسلم تحرم عليه خائنة الأعين، وإنما فيه أنها انتصرت لنفسها، فلم ينهها. اهـ. لكن روى النسائي وابن ماجه مختصرا، عن عائشة قالت: "دخلت على زينب بنت جحش، فسبتني، فرد عليها النبي صلى الله عليه وسلم فأبت، فقال: سبيها فسببتها، حتى جف ريقها في فمها" قال الحافظ ابن حجر: فيمكن أن يحمل على التعدد اهـ قلت: وعلى أي حال فإنه يرد قول النووي رحمه الله وانتصار المظلوم مشروع والإذن له بالانتصار مشروع وليس ذلك من قبيل خائنة الأعين، بل من أمينة الأعين، وعادلة الأعين. (قالت: فلما وقعت بها لم أنشبها، حتى أنحيت عليها) "لم أنشبها" أي لم أمهلها، وفي لسان العرب: يقال: لم ينشب أن فعل كذا، أي لم يلبث، وحقيقته: لم يتعلق بشيء غيره ولا اشتغل بسواه، ومثل بحديث عائشة وزينب، وبقول عائشة في رواية "لم أنشب أن أثخنت عليها" وفي ملحق راويتنا الخامسة "فلما وقعت بها لم أنشبها أن أثخنتها" أي بالغت في جراحها وغلبتها. قال النووي: "حين أنحيت عليها" في بعض النسخ "حتى أنحيت عليها، وهو صحيح، ورجح القاضي "حين" بالنون ومعنى أنحيت عليها بالنون والحاء، أي حتى قصدتها واعتمدتها بالمعارضة. (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبسم: إنها ابنة أبي بكر) أي أنها شريفة، عاقلة، عارفة كأبيها، وفي رواية النسائي "فرأيت وجهه يتهلل". (إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتفقد) يومي، ويسأل عنه استبطاء له، وتشوقا إليه، و"إن" مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن والحال محذوف، وجملة "كان" خبرها. (يقول: أين أنا اليوم؟ أين أنا غدا؟ ) أي يقول ذلك في مرضه لزوجاته، زاد في رواية البخاري "حرصا على بيت عائشة، فلما كان يومي سكن" وفي رواية للبخاري "كان يسأل في مرضه الذي مات فيه: أين أنا غدا. أين أنا غدا - يريد يوم عائشة - فأذن له أزواجه، يكون حيث شاء، فكان في بيت عائشة حتى مات عندها" وفي رواية له "لما ثقل على النبي صلى الله عليه وسلم واشتد به وجعه، استأذن أزواجه أن يمرض في بيتي، فأذن له" وعند أحمد "أنه صلى الله عليه وسلم قال لنسائه: إني لا أستطيع أن أدور بيوتكن، فإذا شئتن أذنتن لي" وعند ابن سعد بإسناد صحيح "أن فاطمة هي التي خاطبت أمهات المؤمنين بذلك فقالت لهن: إنه يشق عليه الاختلاف" (فلما كان يومي قبضه الله بين سحري ونحري) أي فلما كان يومها الأصيل، بحسب الدور والقسم، وإلا فقد صارت جميع الأيام في بيتها والسحر بفتح السين وضمها، وإسكان الحاء هي الرئة وما تعلق بها، قيل والمراد به الصدر، قال القاضي: وقيل: إنما هو "شجري" بالشين والجيم، وشبك هذا القائل أصابعه وأومأ إلى أنها ضمته إلى نحرها، مشبكة يديها عليه. قال: والصواب

المعروف الأول. اهـ. وفي رواية للبخاري عن عائشة رضي الله عنها: "أنها كانت تقول: مات ورأسه بين حاقنتي وذاقنتي" والحاقنة ما سفل من الذقن، والذاقنة ما علا منه، أو الحاقنة نقرة الترقوة، وقيل: ما دون الترقوة من الصدر وقيل: هي تحت السرة، والذاقنة طرف الحلقوم قال الحافظ ابن حجر: والحاصل أن ما بين الحاقنة والذاقنة هو ما بين السحر والنحر والمراد أنه مات ورأسه بين حنكها وصدرها صلى الله عليه وسلم ورضي عنها قال: وهذا لا يغاير حديثها الذي فيه "أن رأسه كان على فخذها" لأنه محمول على أنها رفعته من فخذها إلى صدرها. قال الحافظ: وهذا الحديث يعارض ما أخرجه الحاكم وابن سعد من طرق "أن النبي صلى الله عليه وسلم مات ورأسه في حجر علي" وكل طريق منها لا يخلو من شيعي فلا يلتفت إليهم ثم ساق الأحاديث وبين ما فيها من ضعف أو توجيه. (وهو مسند إلى صدرها) في الأصول "مسند" بكسر النون أي مسند رأسه إلى صدرها. (ألحقني بالرفيق الأعلى) في الرواية الثامنة "وأخذته بحة يقول: مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا" وفي الرواية التاسعة "فكانت تلك آخر كلمة تكلم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: اللهم الرفيق الأعلى" قال النووي: الصحيح الذي عليه الجمهور أن المراد بالرفيق الأعلى الأنبياء الساكنون أعلى عليين، ولفظة "رفيق" تطلق على الواحد والجمع قال تعالى {وحسن أولئك رفيقا} [النساء: 69] وقيل: هو الله تعالى، يقال الله رفيق بعباده، من الرفق والرأفة فهو فعيل بمعنى فاعل وفي الحديث "إن الله رفيق يحب الرفق" وأنكر الأزهري هذا القول، مستشكلا برواية "مع الرفيق" ورواية "في الرفيق" قال الحافظ ابن حجر: ولا وجه لتغليطه من هذه الجهة، لأن تأويله على ما يليق بالله سائغ. اهـ. وقيل: أراد مرتفق الجنة. اهـ. وعند النسائي وصححه ابن حبان "فقال: أسألك الله الرفيق الأعلى الأسعد، مع جبريل وميكائيل وإسرافيل" وظاهره المكان الذي تحصل فيه المرافقة مع المذكورين، وفي الرواية السابعة "قال: اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق" وفي رواية "فجعل يقول: في الرفيق الأعلى حتى قبض" وقال الجوهري: الرفيق الأعلى الجنة. قال السهيلي: والحكمة في اختتام كلام المصطفى بهذه الكلمة كونها تتضمن التوحيد والذكر بالقلب وفي الرواية التاسعة "فلما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه على فخذي غشي عليه ساعة ثم أفاق فأشخص بصره إلى السقف" أي رفعه إلى السماء ولم يطرف "ثم قال: اللهم الرفيق الأعلى". (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج) أي من المدينة مسافرا. (أقرع بين نسائه) أي ضرب القرعة بينهن بأن كتب اسم كل واحدة منهن على سهم فخلطها، فأخرج من السهام سهما، وإذا أراد خروج اثنتين معه أخرج سهمين. (فتنظرين وأنظر) أي فتنظرين لما يعاملك به على أنك أنا وأنظر إلى ما يعاملني به على أنني أنت والظاهر أنها كانت تريد أن تطلع حفصة على الإدلال والرقة وعبارات الحب التي تعامل بها عائشة مغايرة لحفصة وكانت عائشة تريد أن تطلع هي على موضوع أحاديثه مع حفصة.

(قالت: بلى) قبلت عائشة هذا الاقتراح مسرعة من غير روية اندفاعا بحب الاستطلاع فلما فكرت في الأمر ونفذت الفكرة أحست بآلامها وغيرتها. (فلما نزلوا جعلت تجعل رجلها بين الإذخر وتقول: يا رب سلط علي عقربا أو حية تلدغني) "جعلت" أي صارت "تجعل رجلها" أي تضع رجلها والإذخر نبات دقيق الساعد يكثر في الصحراء تختفي فيه الهوام غالبا، ودعاؤها هذا ليس مقصودا، فإجابته لن تدفع ما أصابها، وكأنها تقصد عقوبة نفسها على قبولها اقتراح حفصة، وإنما قالته من شدة الغيظ. (رسولك. ولا أستطيع أن أقول له شيئا) "رسولك" خبر مبتدأ محذوف أي هذا رسولك بجوار حفصة، قريب مني، لا أتحمل بعده عني، لكن ماذا أفعل؟ لا أستطيع أن أكشف الحيلة، خوفا من غضبه صلى الله عليه وسلم. (يا عائش) منادى على الترخيم وهو حذف آخر المنادى، وفيه لغتان، لغة من ينتظر فيبقى الحرف الذي قبل الآخر على حركته قبل الحذف، وعلامة إعرابه على الحرف المحذوف ولغة من لا ينتظر فيحرك الحرف الذي قبل الآخر بحركات الإعراب. (هذا جبريل) يشير إليه، وهو حاضر. (يقرأ عليك السلام، قالت: فقلت: وعليه السلام ورحمة الله. قالت: وهو يرى ما لا أرى) أي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرى جبريل ولا أراه وفي رواية البخاري "ترى ما لا أرى أريد رسول الله صلى الله عليه وسلم". -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من روايات الباب]- 1 - من الرواية الأولى فضيلة لعائشة رضي الله عنها. 2 - واستدل به البخاري على جواز النظر إلى المرأة قبل التزويج قال ابن المنير: يحتمل أن يكون رأى منها ما يجوز للخاطب أن يراه قال الحافظ ابن حجر: كأنه حمله على ذلك أن رؤيا الأنبياء وحي، وأن عصمتهم في المنام كاليقظة. قال ابن منير: واستدلال البخاري بهذا الحديث على ما استدل به فيه نظر لأن عائشة كانت إذ ذاك في سنة الطفولية، فلا عورة فيها البتة ولكن يستأنس به في الجملة على أن النظر إلى المرأة قبل العقد فيه مصلحة ترجع إلى العقد. قال الجمهور: لا بأس أن ينظر الخاطب إلى المخطوبة، قالوا: ولا ينظر إلى غير وجهها وكفيها، وقال الأوزاعي: يجتهد، وينظر إلى ما يريد منها، إلا العورة، وقال ابن حزم: ينظر إلى ما أقبل وما أدبر منها، وعن أحمد في رواية عنه: ينظر إلى ما يظهر غالبا وفي رواية عنه: ينظر إليها متجردة وقال الجمهور أيضا: يجوز أن ينظر إليها إذا أراد ذلك بغير إذنها وعن مالك في رواية: يشترط

إذنها، ونقل الطحاوي عن قوم أنه لا يجوز النظر إلى المخطوبة قبل العقد بحال، لأنها حينئذ أجنبية ورد عليهم بالأحاديث الصحيحة. 3 - واستدل البخاري بالرواية الثانية على غيرة النساء ووجدهن. 4 - ومن قوله "إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت علي غضبى ... إلخ" استقراء الرجل حال المرأة من فعلها وقولها، فيما يتعلق بالميل إليه، وعدمه. 5 - والحكم بما تقتضيه القرائن في ذلك، لأنه صلى الله عليه وسلم جزم برضا عائشة وغضبها بمجرد ذكرها لاسمه وسكوتها، فبني على تغير الحالتين من الذكر والسكوت تغير الحالتين من الرضا والغضب. 6 - وفي جواب عائشة ما يشهد لها بالأدب والذكاء والرقة وحسن العشرة قال الطيبي: الحصر في قولها "ما أهجر إلا اسمك" حصر لطيف جدا، لأنها أخبرت أنها إذا كانت في حال الغضب الذي يسلب العاقل اختياره لا تتغير عن المحبة المستقرة فهو كما قيل: إني لأمنحك الصدود وإنني قسما إليك مع الصدود لأميل وقال ابن المنير: مرادها أنها كانت تترك التسمية اللفظية ولا يترك قلبها التعلق بذاته الكريمة، مودة ومحبة. وقال الحافظ ابن حجر: وفي اختيار عائشة ذكر إبراهيم عليه الصلاة والسلام، دون غيره من الأنبياء دلالة على فريد فطنتها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أولى الناس به، كما نص عليه القرآن، فلما لم يكن لها بد من هجر الاسم الشريف أبدلته بمن هو منه بسبيل حتى لا تخرج عن دائرة التعلق في الجملة. 7 - قال المهلب: يستدل بقول عائشة على أن الاسم غير المسمى إذ لو كان الاسم عين المسمى لكانت بهجره تهجر ذاته وليس كذلك اهـ. وقال النووي: هذا في حق المخلوقين وأما في حق الله تعالى فالاسم هو المسمى اهـ وفي هذا بحث طويل يطلب من محله. 8 - مغاضبة الزوجة لزوجها معفو عنها، وإن كانت ذات قدر كبير قال القاضي: مغاضبة عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم هي مما سبق من الغيرة التي عفي عنها للنساء في كثير من الأحكام لعدم انفكاكهن منها، حتى قال مالك وغيره من علماء المدينة: يسقط عنها الحد إذا قذفت زوجها بالفاحشة على جهة الغيرة قال القاضي: ولولا ذلك لكان على عائشة في ذلك من الحرج ما فيه، لأن الغضب على النبي صلى الله عليه وسلم وهجره كبيرة عظيمة. 9 - ومن الرواية الثالثة جواز اللعب بالبنات قال القاضي: وهو مخصص من الصور المنهي عنها لهذا الحديث، ولما فيه من تدريب النساء في صغرهن لأمر أنفسهن وبيوتهن وأولادهن قال: وقد أجاز العلماء بيعهن وشراءهن روي عن مالك كراهة شرائهن وهذا محمول على كراهة الاكتساب بها، وتنزيه ذوي المروءات عن تولي بيع ذلك لا كراهة اللعب قال: ومذهب جمهور العلماء جواز اللعب بهن وقالت طائفة: هو منسوخ بالنهي عن الصور.

10 - من قولها: "وكانت تأتيني صواحبي فكن ينقمعن من رسول الله صلى الله عليه وسلم" حياء نساء الأنصار حتى الصغيرات منهن وهيبتهن رسول الله صلى الله عليه وسلم. 11 - ومن قولها "فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسربهن إلي" لطفه صلى الله عليه وسلم وحسن خلقه ومعاشرته. 12 - واستدل به البخاري على استحباب الانبساط إلى الناس. 13 - ومن الرواية الخامسة من قولها "يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة" إلخ قال النووي: كان صلى الله عليه وسلم يسوي بينهن في الأفعال والمبيت ونحوه أما محبة القلب فكان يحب عائشة أكثر منهن وأجمع المسلمون على أن محبتهن لا تكليف فيها ولا يلزمه التسوية فيها لأنه لا قدرة لأحد عليها إلا الله سبحانه وتعالى وإنما يؤمر بالعدل في الأفعال. قال: وقد اختلف أصحابنا وغيرهم من العلماء في أنه صلى الله عليه وسلم هل كان يلزمه القسم بينهن في الدوام والمساواة في ذلك؟ قال الحافظ ابن حجر: في هذا الحديث أنه لا حرج على المرء في إيثار بعض نسائه بالتحف وإنما اللازم العدل في المبيت والنفقة ونحو ذلك من الأمور اللازمة كذا قرره ابن بطال عن المهلب وتعقبه ابن المنير بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك وإنما فعله الذين أهدوا له وهم باختيارهم لأنه ليس من كمال الأخلاق أن يتعرض الرجل إلى الناس بمثل ذلك لما فيه من التعرض لطلب الهدية وأيضا فالذي يهدي لأجل عائشة كأنه ملك الهدية بشرط والتمليك يتبع فيه تحجير المالك مع أن الذي يظهر أنه صلى الله عليه وسلم كان يشركهن في ذلك وإنما وقعت المنافسة لكون العطية تصل إليهن من بيت عائشة. 14 - وفيه قصد الناس بالهدايا أوقات المسرة ومواضعها ليزيد ذلك في سرور المهدى إليه. 15 - وفيه تنافس الضرائر وتغيرهن على الرجل. 16 - وأن الرجل يسعه السكوت إذ تقاولن، ولا يميل مع بعض على بعض. 17 - وفيه جواز التشكي والتوسل في ذلك. 18 - وما كان عليه أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من مهابته والحياء منه، حتى راسلنه بأعز الناس عنده فاطمة رضي الله عنها. 19 - وفيه سرعة فهمهن ورجوعهن إلى الحق والوقوف عنده. 20 - وفيه إدلال زينب بنت جحش على النبي صلى الله عليه وسلم لكونها ابنة عمته. 21 - وفيه عذر النبي صلى الله عليه وسلم لزينب فقد سكت عن طلبها العدل مع أنه أعدل الناس ولم يؤاخذها وتناولت عائشة طويلا وهو ساكت وقالت عنها عائشة: "وهي التي كانت تساميني منهن في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم".

22 - وفيه منقبة عظيمة لزينب بنت جحش. 23 - وفيه حرص عائشة على الحق والتصريح به والثناء على صاحبته وإن كانت ضرة. 24 - وفي قولها "وأنا أرقب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرقب طرفه ... " جواز العمل بما يفهم من القرائن. 25 - وفيه انتصار الظالم. 26 - وفيه منقبة وفضيلة لعائشة. 27 - ومن الرواية السادسة أن القسم يسقط بإذن الأزواج فكأنهن وهبن أيامهن. 28 - افتخار عائشة بأن النبي صلى الله عليه وسلم مات في يومها وفي بيتها وعلى صدرها وفي رواية البخاري "وجمع الله بين ريقه وريقها في آخر لحظة من حياته". 29 - ومن الرواية التاسعة تخيير الرسل بين الموت والحياة قبل موتهم. 30 - من قوله في آخر كلامه "اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى" يستفاد الرخصة لغيره في أنه لا يشترط أن يكون ذكر الشهادتين باللسان لأن بعض الناس قد يمنعه من النطق مانع، فلا يضره إذا كان قلبه عامرا بالذكر قاله السهيلي. 31 - ومن الرواية العاشرة صحة الإقراع في القسم بين الأزواج وفي الأموال وفي العتق ونحو ذلك مما هو مقرر في كتب الفقه مما في معنى هذا قال النووي: وبإثبات القرعة في هذه الأشياء قاله الشافعي وجماهير العلماء. 32 - وفيه أن من أراد سفرا ببعض نسائه أقرع بينهن كذلك قال النووي: وهذا الإقراع عندنا واجب في حق غير النبي صلى الله عليه وسلم وأما النبي صلى الله عليه وسلم ففي وجوب القسم في حقه خلاف فمن قال بوجوب القسم جعل إقراعه واجبا ومن لم يوجبه يقول: إقراعه صلى الله عليه وسلم من حسن عشرته ومكارم أخلاقه. 33 - قال المهلب في قول حفصة لعائشة: ألا تركبين بعيري وأركب بعيرك"؟ وموافقة عائشة دليل على أن القسم لم يكن واجبا عليه صلى الله عليه وسلم فلهذا تحيلت حفصة على عائشة بما فعلت ولو كان واجبا لحرم ذلك على حفصة. اهـ. قال النووي: وهذا الذي ادعاه ليس بلازم، فإن القائل بأن القسم واجب عليه لا يمنع حديث الأخرى في غير وقت عماد القسم قال: قال أصحابنا: يجوز أن يدخل في غير وقت عماد القسم إلى غير صاحبة النوبة فيأخذ المتاع أو يضعه أو نحو ذلك من الحاجات وله أن يقبلها ويلمسها من غير إطالة وعماد القسم في حق المسافر هو وقت النزول فحالة السير ليست منه سواء كان ليلا أو نهارا. 34 - ومن الرواية الحادية عشرة فضيلة لعائشة وقد تقدم ما قيل في التفاضل بين الأزواج. 35 - ومن الرواية الثانية عشرة والثالثة عشرة فضيلة ظاهرة لعائشة رضي الله عنها. 36 - واستحباب بعث السلام.

37 - وأنه يجب على الرسول به أن يبلغه. 38 - وفيه بعث الأجنبي السلام إلى الأجنبية الصالحة إذا لم يخف ترتب مفسدة قاله النووي. 39 - وأن الذي يبلغه السلام يرد عليه قال النووي: قال أصحابنا: وهذا الرد واجب على الفور وكذا لو بلغه سلام في ورقة من غائب لزمه أن يرد السلام عليه باللفظ على الفور إذا قرأه. 40 - وفيه أنه يستحب في الرد أن يقول: وعليك أو وعليكم السلام بالواو فلو قال: عليكم السلام أو عليكم أجزأه على الصحيح وكان تاركا للأفضل وقال بعض الشافعية: لا يجزيه. والله أعلم.

(644) تابع باب فضائل عائشة رضي الله عنها حديث أم زرع

(644) تابع باب فضائل عائشة رضي الله عنها حديث أم زرع 5484 - عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: جلس إحدى عشرة امرأة فتعاهدن وتعاقدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئا. قالت الأولى: زوجي لحم جمل غث على رأس جبل وعر لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل. قالت الثانية: زوجي لا أبث خبره إني أخاف أن لا أذره إن أذكره أذكر عجره وبجره قالت الثالثة: زوجي العشنق إن أنطق أطلق وإن أسكت أعلق قالت الرابعة: زوجي كليل تهامة لا حر ولا قر ولا مخافة ولا سآمة قالت الخامسة: زوجي إن دخل فهد وإن خرج أسد ولا يسأل عما عهد قالت السادسة: زوجي إن أكل لف وإن شرب اشتف وإن اضطجع التف ولا يولج الكف ليعلم البث قالت السابعة: زوجي غياياء أو عياياء طباقاء كل داء له داء شجك أو فلك أو جمع كلا لك قالت الثامنة: زوجي الريح ريح زرنب والمس مس أرنب قالت التاسعة: زوجي رفيع العماد طويل النجاد عظيم الرماد قريب البيت من النادي قالت العاشرة: زوجي مالك. وما مالك؟ مالك خير من ذلك له إبل كثيرات المبارك قليلات المسارح؟ إذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك قالت الحادية عشرة: زوجي أبو زرع فما أبو زرع؟ أناس من حلي أذني وملأ من شحم عضدي وبجحني فبجحت إلي نفسي وجدني في أهل غنيمة بشق فجعلني في أهل صهيل وأطيط ودائس ومنق فعنده أقول فلا أقبح. وأرقد فأتصبح وأشرب فأتقنح أم أبي زرع فما أم أبي زرع؟ عكومها رداح وبيتها فساح ابن أبي زرع فما ابن أبي زرع؟ مضجعه كمسل شطبة ويشبعه ذراع الجفرة بنت أبي زرع؟ فما بنت أبي زرع؟ طوع أبيها وطوع أمها وملء كسائها وغيظ جارتها. جارية أبي زرع فما جارية أبي زرع؟ لا تبث حديثنا تبثيثا ولا تنقث ميرتنا تنقيثا ولا تملأ بيتنا تعشيشا قالت: خرج أبو زرع والأوطاب تمخض فلقي امرأة معها ولدان لها كالفهدين يلعبان من تحت خصرها برمانتين. فطلقني ونكحها. فنكحت بعده رجلا سريا ركب شريا وأخذ خطيا وأراح علي نعما ثريا وأعطاني من كل رائحة زوجا قال: كلي أم زرع وميري أهلك فلو جمعت كل شيء أعطاني ما بلغ أصغر آنية أبي زرع قالت عائشة: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كنت لك كأبي زرع لأم زرع".

5485 - وفي رواية عن هشام بن عروة بهذا الإسناد غير أنه قال: عياياء طباقاء ولم يشك وقال: قليلات المسارح وقال: وصفر ردائها وخير نسائها وعقر جارتها وقال: ولا تنقث ميرتنا تنقيثا وقال: وأعطاني من كل ذابحة زوجا. -[المعنى العام]- عائشة وفاطمة - رضي الله عنهما - كانتا في سن متقاربة، وكانت غيرة النساء تدفع كلا منهما أن تنافس وتناقش الأخرى ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم، فسمع عائشة تفخر بأبيها وبمال أبيها، فقد كان من أغنياء مكة، وتفخر بإنفاق أبيها ماله كله في سبيل الدعوة حتى نفقة الهجرة كانت من ماله دينا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تجد فاطمة ما ترد به دعوى عائشة فوقعت في شبه إفحام وخجل ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفع عن ابنته وأن يبرز الحقيقة الساطعة وهي أن المنة لله ورسوله فقال مخاطبا عائشة: ما أنت بمنتهية يا حميراء عن ابنتي؟ إن مثلي ومثلك كأبي زرع لأم زرع وبسرعة وبذكاء مفرط وبخفة روح وبأدب ورقة حولت عائشة جو المناقشة إلى جو الحب والمرح والمداعبة، فقال: بأبي أنت وأمي أفديك يا رسول الله وما قصة أبي زرع وأم زرع؟ فبدأ يقص قصة حدثت منذ زمن بعيد في أرض بعيدة عن أرضه لا سبيل له بعلمها إلا عن طريق الوحي وعلام الغيوب قال: كان في الزمن الغابر في قرية من قرى اليمن اجتمع نساء من أهل القرية في بيت إحداهن - وكما هي عادة النساء إذا اجتمعن تحدثن عن أزواجهن وأحوالهن في معاشرتهم فاقترحت زعيمتهن أن تتكلم كل واحدة منهن بإيجاز شديد عن زوجها تصفه بما فيه بل بأبرز ما فيه من خير أو شر وتعاهدن وتعاقدن على أن لا يكتمن ولا يكذبن لكن لا عليهن أن يتكلمن بالكناية والإشارة إن خفن الإفصاح والتصريح بالتجريح. قالت الأولى: زوجي لحم جمل، لا لحم ضأن بل لحم جمل غث رديء ومع ذلك فهو بعيد المنال صعب المعاملة ليس سهلا فتصل الزوجة إلى قلبه وتعمل على مرضاته ابتغاء خير ولو قل وليس فيه خير يطمع فيه فيسعى إليه ولو بمشقة فهو حقير بعيد المنال. وقالت الثانية: زوجي لا حسن فيه، لا أجد ما أذكره به كله عجر وبجر وعيوب وأخاف إن فسرتها وبلغه قولي طلقني وأنا لا أستطيع العيشة بدونه. وقالت الثالثة: زوجي مفرط في الطول المذموم، سيئ الخلق أنا معه بين نارين، إن نطقت بكلمة أطلب فيها حقي ضربني وطلقني وإن سكت على حقوقي وعلى إهانته واحتقاره لي أكن كالمعلقة لا هي زوجة ولا هي مطلقة. وقالت الرابعة: زوجي سهل طيب مريح كالنسيم العليل في ليالي الصيف في منطقة تهامة لا أخاف شره ولا أسأم من جواره.

وقالت الخامسة: زوجي حسن المعاشرة رقيق حنون حين يدخل بيتي خفيف الحركة كثير الوقاع، يتغافل عما لا يرضيه من أحوالي يتجاهل سوء تصرفي لا يسألني ماذا فعلت؟ ولا لماذا فعلت؟ ولا لم لم تفعلي؟ وليس ذلك فيه غفلة وضعفا واستكانة وذلة فهو مع الناس خارج البيت أسد جسور يحسب له كل حساب. قالت السادسة: زوجي شره أكول كثير النوم قليل الوصال يأكل ويشرب ينام ولا يمد يده نحوي بالمداعبة ولا يحاول مداخلتي، ولا إرضائي، ولا معرفة همومي وأحزاني. قالت السابعة: زوجي مظلم الأخلاق، ضال لا يهتدي، أموره كلها مغلقة عليه، لا يكاد يبين، فإن تكلم ظهر حمقه، يضربني فيكسر عظامي أو يشق لحمي أو يجمع بين الكسر والشق، كل داء عند الناس هو فيه. قالت الثامنة: زوجي ناعم الملمس كالأرنب، رقيق المشاعر لين الخلق، طيب الريح. قالت التاسعة: زوجي رفيع العماد، شجاع كريم، يقصده الناس فيكسب المعدوم ويقري الضيف ويعين على نوائب الدهر ويسكن في أبرز مكان، وفي أقرب مكان للمحتاجين. قالت العاشرة: زوجي اسمه مالك، وله من اسمه نصيب فهو غني مالك وهو خير من كل من مدحتن من أزواج، يملك من الإبل الكثير ويذبح منها للضيفان ذبح من لا يخشى الفقر حتى أصبحت إبله الحية تترقب الموت، وتنتظر النحر، لما رأت من ذبح أختها بين الحين والحين. قالت الحادية عشرة: وهي أم زرع - وقد كنيت بزرع ابن زوجها - زوجي غني سخي حسن العشرة احتضنني وأكرمني ورفعني وأعزني كنت من قوم فقراء يعيشون على غنيمات بشق الأنفس أجسامهم نحيلة من الجوع، ثيابهم خلقة من الفقر لا يملكون زينة لنسائهم فأثقل أذني وصدري وساعدي بالذهب والحلي وأشبعني بأصناف المأكولات والمشروبات حتى سمنت واحترمني وعظمني فعظمت نفسي إلى نفسي وشعرت عنده بالعزة والكرامة إذا تكلمت سمع قولي ونفذ أمري وإذا نمت نمت نوم العروس نوم هناء لا إزعاج فيه، إذا أكلت أكلت ما أشتهي من ألوان الطعام حتى أشبع وإذا شربت شربت من أصناف المشروبات حتى أروى. وهكذا شعرت أم زرع عند أبي زرع بالسعادة والحب وحب الشخص يسري إلى حب من حوله حتى الجماد الذي يحيط به وقديما قال الشاعر: أمر على الديار ديار ليلى ... أقبل ذا الجدار وذا الجدار وما حب الديار شغفن قلبي ... ولكن حب من سكن الديارا وقال الآخر: فأحبها وتحبني ... ويحب ناقتها بعيري لذا نجدها تصف حماتها أم زوجها بالغنى وكثرة الخير وتصف ابن زوجها بالرقة والحسن، وتصف ابنة زوجها بالجمال والحسن، ونقاء الطبع، حتى جارية أبي زرع تصفها بالأمانة والنظافة والطاعة.

كل هذه الأوصاف تقولها على الرغم من أن أبا زرع طلقها وتزوج غيرها وتزوجت غيره من أهل الثراء لكن صدق القائل: وما الحب إلا للحبيب الأول. وهكذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه القصة ليقول في آخرها ما قاله في أولها: كنت لك كأبي زرع لأم زرع فتقول عائشة رضي الله عنها - وعلى شفتيها ابتسامة الحب والاعتذار - بل أنت يا رسول الله خير لي من أبي زرع لأم زرع. -[المباحث العربية]- (عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: جلس إحدى عشرة امرأة) ظاهر هذا أن الحديث موقوف غير مرفوع قال الحافظ ابن حجر: المرفوع منه في الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم "كنت لك كأبي زرع لأم زرع" وباقيه من قول عائشة وجاء خارج الصحيحين مرفوعا كله فعند النسائي بلفظ "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت لك كأبي زرع لأم زرع قالت عائشة بأبي وأمي يا رسول الله ومن كان أبو زرع؟ قال: اجتمع نساء ... " فساق الحديث كله. وأما قوله "جلس إحدى عشرة امرأة" فهو هكذا في معظم نسخ مسلم قال ابن التين: التقدير: جلس جماعة إحدى عشرة امرأة وهو مثل قوله تعالى {وقال نسوة في المدينة} [يوسف: 30] اهـ. أي كان حق الفعل أن يؤنث لأن الفاعل حقيقي التأنيث وفي رواية أبي عوانة "جلست إحدى عشرة امرأة" وفي رواية "اجتمع إحدى عشرة امرأة" وفي بعض نسخ مسلم وفي رواية أبي يعلى "اجتمعن إحدى عشرة امرأة" قال القرطبي: زيادة النون على لغة "أكلوني البراغيث" وقد أثبتها جماعة من أئمة العربية، أي أثبتوا لحوق علامة الجمع والتثنية والتأنيث في الفعل إذا تقدم على الأسماء واستشهدوا لها بقوله تعالى {وأسروا النجوى الذين ظلموا} [الأنبياء: 3] وحديث "يتعاقبون فيكم ملائكة" وقد تكلف بعض النحاة رد هذه اللغة إلى اللغة المشهورة وهي أن لا يلحق علامة الجمع أو التثنية أو التأنيث في الفعل، إذا تقدم على الأسماء، وخرج لها وجوها وتقديرات في غالبها نظر ولا يحتاج إلى ذلك بعد ثبوتها نقلا وصحتها استعمالا. وقال عياض: الأشهر ما وقع في الصحيحين، وهو توحيد الفعل مع الجمع. ومن التوجيهات التي ذكروها في رواية "جلسن" أي يكون "إحدى عشرة" بدلا من الضمير في "جلسن"، والنون على هذا ضمير، لا حرف علامة، أو أنه خبر مبتدأ محذوف، كأنه قيل: من هن؟ فقيل: إحدى عشرة امرأة، أو مفعول به منصوب، بإضمار أعني. وسميت أسماؤهن في روايات ضعيفة لا يعتد بها، ولم يسم - في رواية من الروايات - أزواجهن، ولا ابنة أبي زرع ولا أمه ولا الجارية ولا المرأة التي تزوجها أبو زرع ولا الرجل الذي تزوجته أم زرع. وقد اختلف ترتيبهن في بعض الروايات في غير الصحيحين عنها في الصحيحين ولا ضير في ذلك ولا أثر للتقديم والتأخير. وفي سبب سياق هذا الحديث أخرج أبو القاسم عبد الحكيم بن حيان بسند له مرسل "دخل

رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة وفاطمة - وقد جرى بينهما كلام - فقال: ما أنت بمنتهية يا حميراء عن ابنتي؟ إن مثلي ومثلك كأبي زرع مع أم زرع فقالت: يا رسول الله حدثنا عنهما فقال: كانت قرية فيها إحدى عشرة امرأة وكان الرجال خلوفا فقلن: تعالين نتذاكر أزواجنا بما فيهم ولا نكذب". وأخرج النسائي عن عائشة قالت: فخرت بمال أبي في الجاهلية وكان ألف ألف أوقية وفيه فقال صلى الله عليه وسلم: "اسكتي يا عائشة فإني كنت لك كأبي زرع لأم زرع". وفي رواية الزبير بن بكار عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي بعض نسائه فقال - يخضني بذلك - يا عائشة أنا لك كأبي زرع لأم زرع قلت: يا رسول الله ما حديث أبي زرع وأم زرع؟ قال: "إن قرية من قرى اليمن كان بها بطن من بطون اليمن وكان منهن إحدى عشرة امرأة وأنهن خرجن إلى مجلس فقلن: تعالين فلنذكر بعولتنا بما فيهم ولا نكذب" لكن في رواية الهيثم أنهن كن بمكة والراجح الأول فقد أفاد أبو محمد بن حزم فيما نقله عياض أنهن كن من خثعم وهم من أهل اليمن ووقع في رواية عند النسائي أنهن كن في الجاهلية. قال الحافظ ابن حجر: وحكى عياض ثم النووي قول الخطيب في المبهمات: لا أعلم أحدا سمى النسوة المذكورات في حديث أم زرع إلا من طريق الزبير بن بكار وهو غريب جدا وذكر أسماء لا فائدة من ذكرها هنا وترتيبهن في رواية الزبير غير ترتيبهن في روايات الصحيحين فالأولى فيها هي الرابعة في الصحيحين والثانية فيها هي الثامنة في الصحيحين والثالثة فيها هي العاشرة والرابعة فيها هي الأولى والخامسة فيها هي التاسعة والسادسة فيها هي السابعة والسابعة فيها هي الخامسة والثامنة فيها هي السادسة والتاسعة فيها هي الثانية والعاشرة فيها هي الثالثة وقد اختلف كثير من الرواة في ترتيبهن قال الحافظ: ولا ضير في ذلك ولا أثر للتقديم والتأخير فيه. (فتعاهدن وتعاقدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئا) أي ألزمن أنفسهن عهدا وعقدن على الصدق من ضمائرهن عقدا أن لا يكتمن من محاسن أو مساوئ أزواجهن شيئا من الأمور المهمة وفي رواية "أن يتصادقن بينهن ولا يكتمن" وفي رواية "أن ينعتن أزواجهن ويصدقن" وفي رواية "فتبايعن على ذلك". (قالت الأولى: زوجي لحم جمل غث على رأس جبل وعر لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل) "الغث" بفتح الغين وتشديد الثاء الهزيل الذي يستغث من هزاله أي يستترك ويستكره، وكثر استعماله في مقابلة السمين، فيقال للحديث المختلط: فيه الغث والسمين و"غث" هنا يجوز جره صفة للجمل ورفعه صفة للحم والمشهور في الرواية الخفض والوعر الصعب في الوصول إليه لكثرة عوائق الصعود وفي رواية "وعث" بالثاء بدل الراء وهي أوفق للسجع أي صعب المرتقى بحيث توحل فيه الأقدام فلا يتخلص منه، ويشق فيه المشي ومنه وعثاء السفر وقولها "لا سهل" بالفتح بدون تنوين ويجوز فيه الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي لا هو سهل ويجوز الجر على أنه صفة جمل وجبل والأمر نفسه في قوله "ولا سمين" وعند النسائي "لا سهلا ولا سمينا" وعنده أيضا "لا بالسمين ولا بالسهل" قال القاضي عياض: أحسن الأوجه عندي الرفع في الكلمتين من جهة سياق الكلام وتصحيح المعنى لا من جهة تقديم اللفظ وذلك أنها أودعت كلامها تشبيه

شيئين بشيئين، شبهت زوجها باللحم الغث وشبهت سوء خلقه بالجبل الوعر، ثم فسرت ما أجملت، فكأنها قالت: لا الجبل سهل فلا يشق ارتقاؤه لأخذ اللحم ولو كان هزيلا لأن الشيء المزهود فيه قد يؤخذ إذا وجد بغير نصب، ثم قالت: ولا اللحم سمين فتتحمل المشقة في صعود الجبل لأجل تحصيله. اهـ. وقولها "ولا سمين فينتقل" من الانتقال أي أنه لهزاله لا يرغب أحد في الانتقال إليه وفي رواية "فينتقى" أي ليس له نقي يستخرج بكسر النون وسكون القاف والنقي المخ يقال: نقوت العظم ونقيته وانتقيته إذا استخرجت مخه وقد كثر استعماله في اختيار الجيد من الرديء قال القاضي عياض: أرادت أنه ليس له نقي، فيطلب لأجل ما فيه من النقى، وليس المراد أنه فيه نقي لا يطلب استخراجه، قالوا: آخر ما يبقى في الجمل مخ عظم المفاصل ومخ العين، وإذا نفدا لم يبق فيه خير، قالوا: وصفته بقلة الخير وبعده مع القلة فشبهته باللحم الذي صغرت عظامه عن النقى وخبث طعمه وريحه مع كونه في مرتقى يشق الوصول إليه فلا يرغب أحد في طلبه لينقله إليه مع توفر دواعي أكثر الناس على تناول الشيء المبذول مجانا. وقال النووي: فالمعنى أنه قليل الخير من أوجه منها: كونه لحم جمل لا لحم ضأن - يقول بعضهم: ليس في اللحوم أشد غثاثة من لحم الجمل لأنه يجمع خبث الطعام وخبث الريح - ومنه أنه مع ذلك الغث المهزول الرديء من لحوم الجمال، ومنها أنه صعب التناول لا يوصل إليه إلا بمشقة شديدة وقال الخطابي: إن التشبيه بالجبل الوعر إشارة إلى سوء خلقه وأنه يترفع ويتكبر ويسمو بنفسه فوق موضعها، فيجمع البخل وسوء الخلق. (قالت الثانية: زوجي لا أبث خبره، إني أخاف أن لا أذره إن أذكره أذكر عجره وبجره) "لا أبث خبره" بالباء والثاء أي لا أنشر خبره ولا أشيعه وفي رواية "لا أنث خبره" بالنون بدل الباء أي لا أذيع شره وفي رواية "لا أنم خبره" من النميمة "إني أخاف أن لا أذره" قال النووي: فيه تأويلان: أحدهما لابن السكيت وغيره، أن الهاء عائدة على "خبره" أي إني أخاف - إن شرعت في تفصيل خبره - أن لا أقدر على إتمامه لطوله وكثرته، ثانيهما أن الهاء عائدة على الزوج وتكون "لا" زائدة كما في قوله تعالى {ما منعك ألا تسجد} [الأعراف: 12] اهـ. ومعناه: إني أخاف أن يطلقني، فأذره كأنها خشيت - إذا ذكرت ما فيه - أن يبلغه فيفارقها وهي لا تقدر على تركه لعلاقتها به وبأولادها منه، فاكتفت بالإشارة إلى أن له معايب، وفاء لما التزمته من الصدق وسكتت عن تفسيرها للعذر الذي ذكرته "والعجر" بضم العين وفتح الجيم جمع عجرة وهي تعقد العصب والعروق في الجسد حتى تصير ناتئة وقال ابن الأعرابي: هي نفخة في الظهر وقال بعضهم: العجر العقد التي تكون في البطن واللسان وقيل: في الجنب والبطن أما "البجر" فبضم الباء وفتح الجيم وجمع بجرة بضم الباء وسكون الجيم وهي النفخة في السرة أو في البطن ثم استعملا في الهموم والأحزان وفيما يكتمه المرء ويخفيه عن غيره وقال الخطابي: أرادت عيوبه الظاهرة وأسراره الكامنة قال: ولعله كان مستور الظاهر رديء الباطن وقال بعضهم: عنت أن زوجها كثير المعايب متعقد النفس عن المكارم.

(قالت الثالثة: زوجي العشنق إن أنطق أطلق وإن أسكت أعلق) "العشنق" بعين مفتوحة وشين مفتوحة ونون مشددة مفتوحة بعدها قاف وهو الطويل وقيل: هو المذموم الطول وقيل: هو طويل العنق قال الأصمعي: أرادت أنه ليس عنده أكثر من طوله، من غير نفع وقيل: ذمته بالطول لأن الطول في الغالب دليل السفه وعلل ببعد الدماغ عن القلب وأغرب من قال: مدحته بالطول لأن العرب تمتدح بذلك وتعقب بأن سياقها يقتضي أنها ذمته وأجيب عن التعقيب باحتمال أنها أرادت مدح خلقه وذم خلقه فكأنها قالت: له منظر بلا مخبر وهو محتمل. وقيل: العشنق الطويل النجيب الذي يملك أمر نفسه ولا تتحكم النساء فيه بل يحكم فيهن بما يشاء فزوجته تهابه أن تنطق بحضرته فهي تسكت على مضض. وقيل: هو المقدام على ما يريد الشرس في أموره وقيل: السيئ الخلق. وقولها "إن أنطق أطلق، وإن أسكت أعلق" معناه أنها إذا ذكرت عيوبه فيبلغه طلقها وإن سكتت عن ذكر عيوبه فهي عنده كالمعلقة ليست ذات زوج ولا خالية من الزوج أي لست ذات زوج فأنتفع به ولا مطلقة فأتفرغ لغيره قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون قولها "أعلق" مشتقا من علاقة الحب أو من علاقة الوصلة أي إن نطقت طلقني وإن سكت استمر بي زوجة وأنا لا أؤثر تطليقه لي، فلذلك أسكت. (قالت الرابعة: زوجي كليل تهامة، لا حر ولا قر، ولا مخافة ولا سآمة) ما بعد "لا" بالفتح من غير تنوين مبني مع "لا" على الفتح وجاء الرفع مع التنوين فيها على أن "لا" عاملة عمل "ليس" وخبرها محذوف، أي ليس فيه حر، كذا في القراءات المشهورة في مثل قوله تعالى {لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة} [البقرة: 254] و {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} [البقرة: 197] وعند النسائي "ولا برد" بدل "ولا قر" وزاد في رواية الزبير بن بكار "والغيث غيث غمامة" وقد ضربوا المثل بليل تهامة في الطيب، لأنها بلاد حارة في غالب الزمان، وليس فيها رياح باردة، فإذا كان الليل كان وهج الحر ساكنا فيطيب الليل لأهلها بالنسبة لما كانوا فيه من أذى حر النهار أما أن ليل تهامة لا مخافة فيه على أهلها فلأنهم محصنون بجبالها. فوصفت زوجها بجميل العشرة واعتدال الحال، وسلامة الباطن، فكأنها قالت: لا أذى عنده ولا مكروه وأنا آمنة منه فلا أخاف من شره ولا ملل عندي منه ولا عنده مني فأسأم عشرته أو يسأم عشرتي لأنه ليس بسيئ الأخلاق فأنا لذيذة العيش عنده كلذة أهل تهامة بليلهم المعتدل وقيل: أرادت بنفي الخوف وصف زوجها بأنه حامي الذمار مانع لداره وجاره ولا مخافة عند من يأوي إليه ثم أرادت وصفه بالجود بنفي سآمة من يأوي إليه ونفي سآمته من كثرة الأضياف واللاجئين. قال النووي: وهذا مدح بليغ. (قالت الخامسة: زوجي إن دخل فهد وإن خرج أسد ولا يسأل عما عهد) "فهد" بفتح الفاء وكسر الهاء فعل ماض مشتق من الفهد شبهته بالفهد في كثرة النوم يقال: أنوم من فهد وفي كثرة الغفلة في منزله عن تعهد ما ذهب من متاعه وما بقي وقوله "أسد" بفتح الهمزة وكسر السين مشتق من الأسد أي يصير بين الناس مثل الأسد وكلاهما يحتمل المدح والذم وأكثر

الشراح شرحوه على المدح فقال بعضهم وصفته بكثرة الجماع لها إذا دخل فهي محبوبة لديه بحيث لا يصبر عنها إذا رآها وإذا خرج كان في الإقدام مثل الأسد وبأنه شديد الكرم وكثير التغاضي لا يتفقد ما ذهب من ماله وإذا جاء بشيء لبيته لا يسأل عنه بعد ذلك أو لا يلتفت إلى ما يرى في البيت من المعايب بل يسامح ويغضي. وقال بعضهم: شبهته بالفهد في دخوله بالرزق الوفير لأنهم قالوا في المثل: أكسب من فهد وأصله أن الفهود الهرمة تجتمع على فهد منها فتي فيتصيد عليها كل يوم حتى يشبعها فكأنها قالت: إذا دخل المنزل دخل بالكسب لأهله كما يجيء الفهد لمن يلوذ به من الفهود الهرمة ثم رفعت ما قد يحتمل الذم من جهة كثرة النوم بوصفها له بالأسد فأفصحت أن الأول سجية كرم ونزاهة شمائل ومسامحة في العشرة لا سجية جبن وخور في الطبع. وزاد في رواية الزبير بن بكار "ولا يرفع اليوم لغد" يعني لا يدخر - لكرمه - ما حصل عنده اليوم من أجل غد فكنت بذلك عن غاية جوده، أو المراد وصفه بالحزم في جميع أموره فلا يؤخر ما يجب عليه اليوم إلى الغد. وبعض الشراح شرحوه على الذم فقال بعضهم: شبهته بالفهد من جهة أنه غليظ الطبع ليست عنده مداعبة ولا ملاعبة قبل المواقعة بل يثب وثوبا كالوحش أو من جهة سوء الخلق، وأنه يبطش بها ويضربها وإذا خرج على الناس كان أمره في العنف أشد قسوة ولا يسأل عن أحوالها إذا دخل بعد غيبة حتى لو عرف أنها مريضة أو معوزة لا يسأل عن شيء من ذلك ولا يتفقد حال أهله ولا بيته. قال عياض: وقد قلب الوصف بعض الرواة فقال "إذا دخل أسد وإذا خرج فهد" قال: فإن كان محفوظا فمعناه أنه إذا خرج إلى مجلسه كان على غاية من الرزانة والوقار وحسن السمت أو كان على غاية من تحصيل الكسب وإذا دخل كان متفضلا مواسيا لأن الأسد يوصف بأنه إذا افترس أكل من فريسته بعضا وترك الباقي لمن حوله من الوحوش ولم يهاوشهم عليها اهـ. وفي الكلام مطابقة أو مقابلة لفظية بين "دخل" و"خرج" ومقابلة معنوية بين "فهد" و"أسد". (قالت السادسة: زوجي إن أكل لف وإن شرب اشتف وإن اضطجع التف ولا يولج الكف ليعلم البث) قال النووي: قال العلماء: اللف في الطعام الإكثار منه، مع التخليط من صنوفه حتى لا يبقى منها شيء والاشتفاف في الشرب أن يستوعب جميع ما في الإناء مأخوذ من الشفافة بضم الشين وهي ما بقي في الإناء من الشراب فإذا شربها قيل اشتفها وتشافها وقولها "ولا يولج الكف ليعلم البث" قال أبو عبيد: أحسبه كان بجسدها عيب أو داء كنت به لأن البث الحزن فكان لا يدخل يده في ثوبها ليمس ذلك لئلا يشق عليها فوصفته بالمروءة وكرم الخلق وقد رد ابن قتيبة على أبي عبيد تفسيره وقال: كيف تمدحه بهذا وقد ذمته في صدر الكلام؟ ورد ابن الأنباري على ابن قتيبة بأن النسوة تعاقدن أن لا يكتمن شيئا من أخبار أزواجهن فمنهن من كانت أوصاف زوجها كلها حسنة فوصفتها ومنهن من كانت أوصاف زوجها قبيحة فذكرتها ومنهن من كانت أوصافه فيها حسن وقبيح فذكرتهما.

وقال ابن الأعرابي: هذا ذم له أرادت: وإن اضطجع ورقد التف في ثيابه في ناحية ولم يضاجعها ليعلم ما عندها من محبته، قال: ولا بث هناك إلا محبتها الدنو من زوجها. وقال آخرون: أرادت أنه لا يتفقد أموري ومصالحي. وعند النسائي "إذا أكل اقتف" أي جمع واستوعب ومنه سميت القفة لجمعها ما وضع فيها وزاد "وإذا ربح اغتث" أي تحرى الغث الهزيل وفي رواية "استف" بالسين بدل الشين وهي بمعناها. (قالت السابعة: زوجي غياياء أو عياياء طباقاء كل داء له داء شجك أو فلك أو جمع كلالك) قال النووي: هكذا وقع في هذه الرواية "غياياء" بالغين "أو عياياء" بالعين وفي أكثر الروايات بالغين وأنكرها أبو عبيدة وغيره وقالوا: الصواب بالعين وهو الذي لا يلقح وقيل: هو العنين الذي تعييه مباضعة النساء ويعجز عنها وقال القاضي وغيره: غياياء بالغين صحيح وهو مأخوذ من الغياية وهي الظلمة وكل ما أظل الشخص ومعناه لا يهتدي إلى مسلك أو أنها وصفته بثقل الروح وأنه كالظل المتكاثف المظلم الذي لا إشراق فيه أو أنها أرادت أنه غطيت عليه أموره أو يكون "غياياء" من الغي وهو الانهماك في الشر أو من الغي الذي هو الخيبة قال الله تعالى {فسوف يلقون غيا} [مريم: 59] وأما "طباقاء" فمعناه المطبقة عليه أموره حمقا وقيل: هو الذي يعجز عن الكلام فتنطبق شفتاه وقيل: هو العيي الأحمق، وقال ابن فارس: "الطباقاء" الذي لا يحسن الضراب فعلى هذا يكون تأكيدا لاختلاف اللفظ كقولهم: بعدا وسحقا. وقولها "شجك" أي جرحك في الرأس فالشجاج جراحات الرأس وقيل: الجراحات فيه وفي الجسد والفل الكسر والضرب ومعناه أنها معه بين شج رأس وضرب وكسر عضو أو جمع بينهما زاد في رواية "أو بجك" بالباء والجيم، أي طعنك في جراحتك فشقها والبج شق القرحة ووقع في رواية الزبير "إن حدثته سبك وإن مازحته فلك وإلا جمع كلالك". وقيل: المراد بالفل هنا الخصومة، وقولها "كل داء له داء" أي جمع أدواء الناس وعيوبهم مجتمعة فيه. اهـ. و"أو" في "غياياء" أو "عياياء" شك من الراوي و"أو" في شجك أو فلك، أو جمع كلالك للتقسيم، لا للتخيير. (قالت الثامنة: زوجي الريح ريح زرنب والمس مس أرنب) في رواية البخاري "زوجي المس من أرنب والريح ريح زرنب" وزاد في رواية الزبير "وأنا أغلبه والناس يغلب". والزرنب نبت طيب الريح وقيل: هو شجرة عظيمة بالشام بجبل لبنان لها ورق بين الخضرة والصفرة وقيل: هو حشيشة دقيقة طيبة الرائحة وليست ببلاد العرب وإن كانوا قد ذكروها في أشعارهم. والأرنب دويبة معروفة لينة المس ناعمة الوبر جدا. واللام في "المس" و"الريح" نائبة عن الضمير أي مسه وريحه وصفته بأنه لين الجسد ناعمه، ويحتمل أن تكون كنت بذلك عن حسن خلقه ولين جانبه وبأنه طيب العرق لكثرة نظافته واستعماله الطيب تظرفا ويحتمل أن تكون كنت بذلك

عن طيب حديثه أو طيب الثناء عليه لجميل معاشرته وأما قولها في رواية "وأنا أغلبه والناس يغلب" فقد وصفته بأنه مع جميل عشرته لها وصبره عليها وصفته بالشجاعة وهو كما قال معاوية: يغلبن الكرام ويغلبهن اللئام. (قالت التاسعة: زوجي رفيع العماد طويل النجاد وعظيم الرماد قريب البيت من الناد) قال النووي: هكذا هو في النسخ "النادي" بالياء وهو الفصيح في العربية لكن المشهور في الرواية حذفها ليتم السجع و"العماد" بكسر العين أصله عماد البيت وجمعه عمد بضم العين والميم وهي العيدان التي تعتمد بها البيوت العربية - في المضارب والخيام - والبيت الرفيع ببنائه أو بأرضه وقاعدته يسكنه عادة الأشراف ومن لازم طول البيت غالبا أن يكون متسعا فيدل على كثرة الخدم والحشم والحاشية والغاشية كما يراه الضيفان وأصحاب الحوائج فيقصدونه فكأنها وصفته بالرفقة والشرف، وقيل: أرادت برفيع العماد أنه طويل الجسم فارتفاع الخيمة قد يكون لطول قامة أهلها وليس هذا بشيء فسيأتي مدح طول القامة في "طويل النجاد" و"النجاد" بكسر النون حمائل السيف وطولها يسلتزم طول حاملها قال بعضهم: وأشارت ضمن ذلك إلى أنه صاحب سيف وأنه شجاع وأما قولها "عظيم الرماد" أي كثير الرماد المتخلف عن كثرة النار التي يوقدها لطهي طعام الضيفان أو النار التي يوقدها الأجواد ليلا على التلال ومشارف الأرض لتهتدي بها الضيفان وأرادت بذلك وصفه بالكرم والجود وقولها "قريب البيت من الناد" تكنى به عن الكرم والسؤدد والمكانة لأنه لا يقرب البيت من النادي إلا إذا كان صاحبه أهلا للقاء القاصدين وإكرامهم وحل مشاكلهم وإصلاح أمورهم فالنادي مجلس القوم فهم إذا تفاوضوا وتشاوروا في أمر جلسوا قريبا من بيته فاعتمدوا على رأيه وامتثلوا أمره. زاد الزبير بن بكار في روايته "لا يشبع ليلة يضاف ولا ينام ليلة يخاف" أي يجوع ليشبع الضيفان ويسهر حارسا وحاميا من يخاف. ومحصل كلامها وصفه بالسيادة والكرم وحسن الخلق وطيب المعاشرة. (قالت العاشرة: زوجي مالك وما مالك؟ مالك خير من ذلك له إبل كثيرات المبارك قليلات المسارح إذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك) "وما مالك"؟ الاستفهام للتفخيم والتعظيم والتعجب كقوله تعالى {الحاقة * ما الحاقة} [الحاقة: 1 - 2]؟ و {القارعة - ما القارعة} [القارعة: 1 - 2]؟ أي شيء عظيم هائل أي ما أعظمه وما أكرمه وقولها "مالك خير من ذلك" زيادة في التعظيم وتفسير لبعض الإبهام والمعنى مالك خير مما أقوله عنه من ثناء أي هو خير مما سأقول عنه ومدحي قاصر عن حقيقته وواقعه ومهما قلت فلن أوفيه حقه فالإشارة إلى ما ستقوله من مدح وقيل: الإشارة إلى ما في ذهن المخاطب أي مالك خير مما يخطر ببالك من الثناء ويحتمل أن تكون الإشارة إلى ما تقدم من الثناء على الذين قبله أي مالك أجمع من الذين قبله لخصال السيادة والفضل و"المبارك" بفتح الميم والباء جمع مبرك وهو موضع راحة الإبل ومبيتها و"المسارح" جمع مسرح وهو الموضع الذي تطلق الإبل لترعى فيه والمعنى له إبل كثيرة والقليل منها الذي يخرج للمسارح والرعي، أما غالبها فيبقى في المبارك استعدادا للضيفان فإن

فاجأه ضيف وجد عنده ما يقريه به من لحومها وألبانها ويحتمل أن قلة المسارح كناية عن كثرة الضيفان فاليوم الذي يكثر فيه الضيفان لا تسرح حتى يقضي الضيفان حاجتهم منها ويحتمل أن المراد من المبارك والمسارح أيام البروك وأيام السرح فاليوم الذي لا يطرقه فيه أحد أو يكون هو غائبا تسرح كلها فأيام الطروق أكثر من أيام عدمه فهي لذلك قليلات المسارح ويحتمل أن المراد بكثرة المبارك أنها كثيرات ما تثار لتحلب ثم تترك فتبرك ثم تثار فتحلب ثم تترك فتبرك فهي بذلك كثيرات المبارك وفي رواية "عظيمات المبارك" أي سمينة وجثتها عظيمة فتعظم مباركها وتتسع ويحتمل أن المراد بقلة مسارحها قلة الأمكنة التي ترعى فيها من الأرض وأنها لا تمكن من الرعي إلا بقرب المنازل لئلا يشق طلبها إذا احتيج إليها ويكون ما قرب من المنزل كثير الخصب، لئلا تهزل. و"المزهر" بكسر الميم وسكون الزاي وفتح الهاء آلة من آلات اللهو وقيل هو العود وقيل: هو دف مربع. وأنكر بعضهم تفسير المزهر بالعود وقال: ما كانت العرب تعرف العود إلا من خالط منهم الحضر قال: وإنما هو بضم الميم وكسر الهاء وهو الذي يوقد النار فيزهرها للأضياف قال القاضي: وهذا خطأ منه لأنه لم يروه أحد بضم الميم ولأن المزهر- بكسر الميم - مشهور في أشعار العرب ولأنه لا يسلم له أن هؤلاء النسوة من غير الحاضرة فقد جاء في رواية أنهن من قرية من قرى اليمن اهـ قال الحافظ ابن حجر: و"أيقن أنهن هوالك" معناه أنه كثرت عادته بنحر الإبل لقرى الضيفان ومن عادته أن يسقيهم ويلهيهم، أو يتلقاهم بالغناء مبالغة في الفرح بهم فصارت الإبل إذا سمعت صوت الغناء عرفت أنها تنحر ويحتمل أن أم زرع لم ترد فهم الإبل لهلاكها ولكن لما كان ذلك يعرفه من يعقل أضيف إلى الإبل قال: والأول أولى. (قالت الحادية عشرة) قال النووي: وفي بعض النسخ "الحادي عشر" وفي بعضها "الحادية عشر" والصحيح الأول، اهـ وفي رواية الزبير "وهي أم زرع بنت أكميل بن ساعدة" (زوجي أبو زرع) في رواية النسائي "نكحت أبا زرع". (فما أبو زرع؟ ) في رواية "وما أبو زرع" قال الحافظ ابن حجر: وهو المحفوظ للأكثر زاد الطبري في رواية "صاحب نعم وزرع". (أناس من حلي أذني) "حلي" بضم الحاء وكسرها اللام جمع حلية والياء في "أذني" مشددة تثنية أذن و"أناس" أي أثقل حتى تدلى واضطرب والنوس حركة كل شيء متدل يقال: ناس ينوس نوسا وأناسه غيره إناسة ووقع في رواية "أذني وفرعي" بالياء المشددة فيهما قال القاضي عياض: يحتمل أن تريد بالفرعين اليدين لأنهما كالفرعين من الجسد تعني أنه حلى أذنيها ومعصميها أو أرادت بالفرعين العنق واليدين وأقامت اليدين مقام فرع واحد أو أرادت بالفرعين اليدين والرجلين كذلك أو أرادت

بالفرعين الغديرتين، وقرني الرأس - والغديرة الذؤابة المضفورة من شعر المرأة - فقد جرت عادة المترفات - بتنظيم غدائرهن وتحلية نواصيهن وقرونهن بالحلي وفي رواية "وفرعي" بالإفراد أي حلى رأسي فصار يتدلى من كثرته وثقله والعرب تسمي شعر الرأس فرعا. (وملأ من شحم عضدي) بالتثنية والعضد ما بين المرفق والكتف قال العلماء: معناه أسمنني وملأ بدني شحما فهي لم ترد العضد وحده وإنما أرادت الجسد كله لأن العضد إذا سمنت سمن سائر الجسد وخصت العضد بالذكر من بين سائر الجسد لأنه أقرب ما يلي بصر الإنسان من جسده. (وبجحني فبجحت إلي نفسي) أي فرحني ففرحت وقيل عظمني فعظمت إلي نفسي وقيل: فخرني ففخرت وقيل: وسع علي ومتعني وأترفني، يقال: بجح به يبجح بفتح الجيم فيهما وبجح به يبجح بالكسر في الماضي والفتح في المضارع وأبجحه وبجحه وروايتنا "بجحني" بتشديد الجيم ورواية البخاري بتخفيفها "فبجحت" بكسر الجيم المخففة وسكون التاء، وفي رواية "فتبجحت إلي نفسي" بتشديد الجيم المفتوحة وسكون التاء وفي رواية النسائي "وبجح نفسي فبجحت إلي" بسكون التاء وفي أخرى له بضم التاء. (وجدني في أهل غنيمة بشق) "غنيمة" بضم الغين مصغر للتقليل وأهل الغنم أقل شأنا وحالا من أهل الإبل والخيل والعرب لا تعتد بأهل الغنم وقولها "بشق" بكسر الشين وفتحها أي بشق جبل لقلتهم وقلة غنمهم وقيل: اسم موضع وقيل: بمشقة وشظف من العيش واختاره عياض وغيره ومنه قوله تعالى {لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس} [النحل: 7] (فجعلني في أهل صهيل وأطيط ودائس ومنق) الصهيل صوت الخيل والأطيط أصوات الإبل، والدائس هو الذي يدوس الزرع ليخرج الحب من غلافه وقشوره و"منق" قال أبو عبيد: أظنه بالفتح من تنقى الطعام وحكى الهروي أن المنق بالفتح الغربال وعن بعض المغاربة أنه يجوز أن يكون بسكون النون وفتح القاف مخففة وقيل: هو من النقيق وهو أصوات المواشي. تصفه بأنه نقلها من شظف العيش عند أهلها إلى الثروة الواسعة من الخيل والإبل والزرع وغير ذلك وأنه كان كريما معها حسن العشرة. (فعنده أقول فلا أقبح) أي لا يقبح قولي ولا يرده بل يقبل مني ويستحسن قولي وفي رواية للنسائي "أنطق" وفي رواية "أتكلم". (وأرقد فأتصبح) أرقد ليلي وأستمر نائمة دون إزعاج ودون إيقاظ حتى بعد الصباح وفي ذلك إشارة إلى أنها مكتفية بمن يخدمها وبمن يكفيها مؤنة بيتها ومهنة أهلها. (وأشرب فأتقنح) قال النووي: هو بالنون بعد القاف هكذا هو في جميع النسخ قال القاضي: لم نروه في البخاري ومسلم إلا بالنون ورواه الأكثر في غيرهما بالميم قال أبو عبيد: "أتقمح" أي أروى حتى لا أحب الشرب قال: وأما بالنون فلا أعرفه اهـ وأثبت بعضهم أن معنى "أتقنح" بمعنى "أتقمح" لأن النون والميم يتعاقبان مثل: امتقع وانتقع وحكي عن بعضهم أن

التقنح الشرب بعد الري وقيل: الشرب على مهل، وقيل: معناه لا يقطع على شرابي فتوارد هؤلاء كلهم على أن المعنى أنها تشرب حتى لا تجد مساغا أو أنها لا يقلل مشروبها ولا يقطع عليها حتى تتم شهوتها منه وقيل: كناية عن سمن جسمها. ووقع في رواية "فأتفتح" بالتاء والفاء قال القاضي عياض: إن لم يكن وهما فمعناه التكبر والزهو. اهـ وفي رواية "وآكل فأتمنح" أي أطعم غيري يقال: منحه يمنحه إذا أعطاه أشارت بذلك إلى عزتها عنده وكثرة الخير لديها فهي تزهو لذلك والإتيان بالألفاظ كلها على وزن "أتفعل" للإشارة إلى تكرار الفعل وملازمته. (أم أبي زرع فما أم أبي زرع؟ عكومها رداح وبيتها فساح) "العكوم" بضم العين جمع عكم بكسرها وسكون الكاف وهي الأعدال والأحمال التي تجمع فيها الأمتعة وقيل: هي نمط تجعل المرأة فيها ذخيرتها و"رداح" بكسر الراء وفتحها أي عظام كثيرة الحشو أي ملأى وقيل: معناه ثقيلة ويقال: للكتيبة الكبيرة رداح إذا كانت بطيئة السير لكثرة ما فيها ويقال للمرأة إذا كانت عظيمة الكفل ثقيلة الورك: رداح والمراد وصف أوانيها وخزائنها بأنها مملوءة بالخيرات وقال الزمخشري: لو جاءت الرواية في "عكوم" بفتح العين لكان الوجه على أن يكون المراد بها الجفنة التي لا تزول عن مكانها إما لعظمها وإما لأن القرى متصل دائم أو التي كثر طعامها وتراكم و"رداح" مفرد ويصح أن يكون خبر "عكوم" وهو جمع وأخبر بالمفرد عن الجمع وهو مسموع بقلة كقوله تعالى {أولياؤهم الطاغوت} [البقرة: 257] ويحتمل أن يكون مصدرا يخبر به عن المفرد والمثنى والجمع ويحتمل أنه على حذف مضاف أي عكومها ذات رداح ويحتمل أن يضبط "رداح" بكسر الراء جمع رادح كقائم وقيام فيخبر بالجمع عن الجمع ويصح أن يكون "رداح" خبر مبتدأ محذوف والجملة خبر المبتدأ الأول والتقدير: عكومها كلها رداح. "وبيتها فساح" بفتح الفاء وتخفيف السين أي واسع ومثله فسيح ومثله "فياح" كما جاء في رواية وقد وصفت والدة زوجها بأنها كثيرة الآلات والأثاث واسعة المال كبيرة البيت إما حقيقة فيدل ذلك على عظم الثروة وإما كناية عن كثرة الخيرة ورغد العيش والبر بمن ينزل بها لأنهم يقولون: فلان رحب المنزل أي يكرم من ينزل عليه وفي هذا إشارة إلى أن زوجها كثير البر بأمه. (ابن أبي زرع فما ابن أبي زرع؟ مضجعه كمسل شطبة ويشبعه ذراع الجفرة) "المسل" بفتح الميم والسين بعدها لام مشددة و"شطبة" بفتح الشين وسكون الطاء ما شطب من جريد النخل أي ما شق من السعفة كالقضبان الرقاق ينسج منها الحصر قال ابن السكيت: الشطبة من سدى الحصير وقال ابن حبيب: هي العود المحدد كالمسلة وقال ابن الأعرابي: أرادت بمسل الشطبة سيفا سل من غمده فمضجعه الذي ينام فيه في الصغر كقدر مسل شطبة واحدة والمعنى على ما قاله الأولون: على قدر ما يسل من الحصير فيبقى مكانه فارغا وأما على ما قاله ابن الأعرابي فهو كغمد السيف. وأما الجفرة بفتح الجيم وسكون الفاء فهي الأنثى من ولد المعز إذا كان ابن أربعة أشهر وفصل عن أمه وأخذ في الرعي وفي رواية "وترويه فيقة اليعرة" والفيقة بكسر الفاء وسكون الياء ما يجتمع

في الضرع بين الحلبتين والفواق بضم الفاء الزمان الذي بين الحلبتين واليعرة بالياء المفتوحة وسكون العين بعدها راء العناق وفي رواية "ويميس في حلق النترة" و"يميس" أي يتبختر "والنترة" بفتح النون وسكون التاء الدرع اللطيفة وصفته بهيف القد وأنه ليس ببطين ولا جاف وأنه قليل الأكل والشرب ملازم لآلة الحرب يختال في موضع القتال قال الحافظ ابن حجر: ويظهر لي أنها وصفته بأنه خفيف الوطأة عليها لأن زوجة الأب غالبا تستثقل ولد الزوج من غيرها فكان هذا خفيفا عليها لا يحتاج إلى ما عندها بالأكل فضلا عن الأخذ بل لو طعم عندها لاقتنع باليسير الذي يسد الرمق من المأكول والمشروب. (بنت أبي زرع فما بنت أبي زرع) في بعض النسخ "وما بنت أبي زرع؟ ". (طوع أبيها وطوع أمها وملء كسائها وغيظ جارتها) أي أنها بارة بأبويها وعند النسائي "زين أبيها وزين أمها" وفي رواية "وزين أهلها ونسائها" وعند الطبراني "وقرة عين لأمها وأبيها" و"ملء كسائها" كناية عن كمال شخصها ونعمة جسمها وقيل: معناه ممتلئة الجسم سمينة وفي ملحق الرواية "وصفر ردائها" بكسر الصاد وسكون الفاء تصف رداءها بالخلو قال الهروي: أي ضامرة البطن وقال غيره: معناه أنها خفيفة أعلى البدن وهو موضع الرداء ممتلئة أسفله ويؤيد هذا رواية "وملء إزارها" قال القاضي: والأولى أن المراد امتلاء منكبيها وقيام نهديها بحيث يرفعان الرداء عن أعلى جسدها فلا يمسه فيصير خاليا بخلاف أسفلها ومعنى قولها "وغيظ جارتها" أن حالها يغيظ ضرتها من حيث الحسن والجمال والعفة والأدب وفي ملحق الرواية "وعقر جارتها" بفتح العين وسكون القاف أي وغيظ جارتها فتكون كالعقور وقيل: ودهشة جارتها من قولهم: عقر إذا دهش وضبطه بعضهم "وعبر جارتها" بضم العين وسكون الباء أي ترى جارتها من حسنها وعفتها وعقلها ما تعتبر به وقيل: هو من العبرة وهي البكاء أي ترى من ذلك ما يبكيها لغيظها وحسدها. زاد في رواية "قباء هضيمة الحشا" يقال: امرأة قباء بفتح القاف وتشديد الباء أي دقيقة الخصر ضامرة البطن والهضيم من النساء اللطيفة الكشحين والحشا ما دون الحجاب مما يلي البطن كله من الكبد والطحال والكرش أي ضامرة الخصر والبطن لطيفة العجز وفي الرواية نفسها "جائلة الوشاح" الوشاح نسيج عريض يرصع بالجوهر تشده المرأة بين عاتقها وكشحيها وجولانه تحركه واضطرابه لسعته وفي الرواية نفسها "عكناء، فعماء، نجلاء، دعجاء، رجاء، قنواء، مؤنقة، مفنقة" والعكناء التي صارت ذات عكن بضم العين وفتح الكاف أي ذات طيات في لحم البطن سمنا والفعماء الممتلئة الأعضاء والنجلاء متسعة العينين حسنتهما والدعجاء الشديدة سواد العين والرجاء بفتح الراء وتشديد الجيم أي كبيرة الكفل ترتج من عظمه وقيل ذات رجاء وأمل والقنواء بفتح القاف وسكون النون الطويلة والمؤنقة بفتح النون المشددة أي رائعة الحسن يعجب بها من يراها ويحبها يقال: أنق بكسر النون يأنق بفتحها أنقا وأناقة راع حسنه وأعجب فهو أنيق وآنقة الشيء وأنق الشيء فلانا بتشديد النون أعجبه.

وقوله "مفنقة" بفتح الفاء وفتح النون المشددة بعدها قاف أي منعمة يقال: فنقه بفتح النون المشددة يفنقه إذا نعمه فهو منفق أي منعم اسم مفعول. (جارية أبي زرع، فما جارية أبي زرع؟ لا تبث حديثنا تبثيثا ولا تنقث ميرتنا تنقيثا ولا تملأ بيتنا تعشيشا) عند الطبراني "خادم أبي زرع" وفي رواية "وليد أبي زرع" والوليد الخادم يطلق على الذكر والأنثى و"لا تبث" بضم الباء بعدها ثاء أي لا تشيع أحوالنا وتظهر أخبارنا بل تكتم سرنا وحديثنا كله وفي رواية "لا تنث" بالنون بدل الباء وهي بمعناها والنثاث المغتاب وفي رواية "ولا تخرج ... " و"لا تنفث" بضم التاء وفتح النون وكسر القاف المشددة بعدها ثاء أي لا تسرع بالخيانة وتذهب مالنا بالسرقة و"الميرة" بكسر الميم الزاد والطعام وأصله ما يحصله البدوي من الحضر ويحمله إلى منزله لينتفع به أهله وقال ابن حبيب: لا تفسد ميرتنا وفي ملحق الرواية "لا تنفث ميرتنا تنفيثا" قال الحافظ ابن حجر: يحتمل أن تكون إحدى الروايتين بالقاف والأخرى بالفاء وفي رواية "ولا تنقل" وفي رواية "ولا تفث" أي لا تفسد وفي رواية "ولا تفش ميرتنا تفشيشا" بالفاء من الإفشاش ومعنى "ولا تملأ بيتنا تعشيشا" بالعين أي لا تترك الكناسة والقمامة فيه مفرقة كعش الطائر بل هي مصلحة للبيت معتنية بتنظيفه وقيل: معناه لا تخوننا في طعامنا في زوايا البيت كأعشاش من الطير وفي رواية "تغشيشا" بالغين من الغش. (خرج أبو زرع والأوطاب تمخض) "الأوطاب" جمع وطب بفتح الواو وسكون الطاء وهو جمع قليل النظير وفي رواية في غير مسلم "والوطاب" وهو الجمع الأصلي وفي رواية "الأطاب" بغير واو قال عياض: فإن كان مضبوطا فهو على إبدال الواو همزة كما قالوا في "إكاف" "وكاف" والمراد من الأوطاب الأسقية التي يمخض فيها اللبن أي يحرك تحريكا شديدا ليخرج زبده أرادت أنه بكر بخروجه من منزلها وقت قيام الخدم والعبيد لأشغالهم وفي خبرها هذا إشارة إلى كثرة خير داره وغزارة لبنه وأن عندهم منه ما يكفيهم ويفيض عنهم حتى يمخضوه ويستخرجوا زبده ويحتمل أنها أرادت بهذه العبارة أن الوقت الذي خرج فيه كان في زمن الخصب وطيب الربيع قال الحافظ ابن حجر: وكأن سبب ذكر ذلك التوطئة للباعث على رؤية أبي زرع للمرأة على الحالة التي رآها عليها أي أنها من مخض اللبن تعبت فاستلقت لتستريح فرآها على ذلك. (فلقي امرأة معها ولدان لها كالفهدين يلعبان من تحت خصرها برمانتين فطلقني ونكحها) في رواية الطبراني "فأبصر امرأة لها ابنان كالفهدين" وفي رواية "كالصقرين" وفي رواية "كالشبلين" وعند النسائي "فإذا هو بأم غلامين" والغرض من ذكر الولدين ووصفهما بما وصفا به التنبيه على بعض الأسباب الداعية لتزوج أبي زرع بها لأنهم كانوا يرغبون في أن يكون لهم أولاد وأن تكون أولادهم من النساء المنجبات وفي وصفهما إشارة إلى صغر سنهما واشتداد خلقتهما وخفة حركاتهما هذا بالإضافة إلى ما وصفت به المرأة قال أبو عبيد: وصفت بأنها ذات كفل عظيم فإذا استلقت على ظهرها رفع خصرها عن الأرض حتى يصير تحتها فجوة تجري فيها الرمانة اهـ. وكان مع الولدين رمانتان كل واحد يرمي واحدة للآخر أو هي رمانة واحدة ثنيت باعتبار تناول

كل من الولدين لها ويؤيده ما وقع في رواية أبي معاوية "وهي مستلقية على قفاها ومعها رمانة يرميان بها من تحتها فتخرج من الجانب الآخر من عظم إليتيها". وقال بعضهم: المراد بالرمانتين هنا ثدياها والمعنى أن لها نهدين حسنين صغيرين كالرمانتين يداعبهما الولدان قال القاضي عياض: وهذا أرجح لا سيما وقد روي "من تحت صدرها" و"من تحت درعها" ولأن العادة لم تجر برمي الصبيان الرمان تحت ظهور أمهاتهم ولم تجر العادة أيضا باستلقاء النساء كذلك حتى يشاهده منهن الرجال وردت رواية أبي معاوية بأن سياقها هذا لا يشبه كلام أم زرع فلعله من كلام بعض رواتها أورده على سبيل التفسير الذي ظنه فأدرج في الخبر وفسر القاضي قولها في روايتنا "يلعبان من تحت خصرها برمانتين" بقوله إن ذلك كان إشارة إلى مكان الولدين منها أي يلعبان وهما تحت خصرها أي أنهما كانا في حضنها أو جنبيها قال: وفي تشبيه النهدين بالرمانتين إشارة إلى صغر سنها وأنها لم تترهل حتى تنكسر ثدياها وتتدلى. اهـ. وفي رواية "فأعجبته فطلقني" وقد يقال "لم طلق أبو زرع أم زرع؟ وكان راغبا فيها ويحبها؟ وكان يمكن أن يتزوج المرأة مع استبقاء أم زرع؟ وقد فسرت رواية أبي معاوية السر في ذلك ولفظها "فخطبها أبو زرع فتزوجها فلم تزل به حتى طلق أم زرع". (فنكحت بعده رجلا سريا) بالسين على المشهور ومعناه سيدا شريفا وقيل: سخيا وسراة الناس كبراؤهم في حسن الصورة والهيئة والسري من كل شيء خياره. (ركب شريا) بفتح الشين وكسر الراء وتشديد الياء صفة لموصوف محذوف أي ركب فرسا شريا والشري الذي يستشري في سيره أي يمضي ويلح دون فتور ولا انكسار وقال ابن السكيت: هو الفرس الفائق الخيار. (وأخذ خطيا) بفتح الخاء وكسر الطاء مشددة بعدها ياء مشددة صفة لموصوف محذوف أي أخذ رمحا خطيا قالوا: والخطي الرمح منسوب إلى الخط قرية من سيف البحر أي ساحله عند عمان والبحرين ونسبت الرماح إليها لأنها تحمل إلى هذا الوضع وتثقف فيه. (وأراح علي نعما ثريا) قال النووي: أي أتى بها إلى مراحها بضم الميم أي موضع مبيتها وقيل: معناه أنه غزا فغنم فأتى بالنعم الكثيرة وفي رواية "وأراح على بيتي نعما" والنعم بفتح النون والعين الإبل والبقر والغنم ويحتمل أن المراد هنا بعضها وهي الإبل والثري بالثاء وتشديد الياء الكثير المال وغيره، ومنه الثروة في المال وهي كثرته. اهـ. و"ثريا" صفة لنعما أي إبلا كثيرة والتذكير فيه مع الموصوف المؤنث لمراعاة السجع وفي رواية حكاها القاضي عياض: "نعما" بكسر النون جمع نعمة والأشهر الأول. (وأعطاني من كل رائحة زوجا) أي وأعطاني من كل ما يروح من الإبل والبقر والغنم اثنين أو صنفا فإن الزوج قد يطلق على الصنف ومنه قوله تعالى {وكنتم أزواجا ثلاثة} وفي ملحق الرواية "وأعطاني من كل ذابحة زوجا" قال النووي: هكذا هو في جميع النسخ "ذابحة" بالذال وبالباء أي من كل ما يجوز ذبحه من الإبل والبقر والغنم وغيرها وهي فاعلة بمعنى مفعولة اهـ. مثل "عيشة

راضية" أي مرضية وفي رواية الطبراني "من كل سائمة" والسائمة الراعية والرائحة الآتية وقت الرواح وهو آخر النهار وقد أرادت بذلك كثرة ما أعطاها. (وقال: كلي أم زرع وميري أهلك) "أم زرع" منادى بحذف حرف النداء و"ميري أهلك" بكسر الميم من الميرة أي صليهم وأوسعي عليهم بالميرة وهي الطعام. والحاصل أنها وصفته بالسؤدد في ذاته "رجلا سريا" والشجاعة في فعاله "ركب شريا وأخذ خطيا وأراح على نعما ثريا" وبالتفضل عليها وإكرامها و"أعطاني من كل رائحة زوجا" وزاد في إكرامها فأباح لها أن تأكل ما شاءت من ماله وتهدي منه ما شاءت لأهلها. (فلو جمعت كل شيء أعطاني ما بلغ أصغر آنية أبي زرع) في رواية البخاري "أعطانيه" وفي رواية "ما ملأ إناء من آنية أبي زرع" وعند الطبراني "فلو جمعت كل شيء أصبته منه فجعلته في أصغر وعاء من أوعية أبي زرع ما ملأه" وهذا الأسلوب كناية عن استصغار ما أصابته من زوجها الثاني بالنسبة لما أصابته من أبي زرع لأنه كان أول أزواجها فسكنت محبته في قلبها. (كنت لك كأبي زرع لأم زرع) قال النووي: قال العلماء: هو تطييب لنفسها وإيضاح لحسن عشرته إياها ومعناه: أنا لك كأبي زرع و"كان" زائدة أو للدوام كقوله تعالى {وكان الله غفورا رحيما} أي كان فيما مضى وهو باق كذلك. اهـ. فأصل الفعل الماضي يدل على حصول حدث في زمن مضى قبل التكلم ومقتضاه أنه لا يدل على استمرار الحدث في الحال ولا في الاستقبال ومقصود الحديث كنت لك في الماضي وأنا لك في الحال، وسأظل لك في المستقبل كأبي زرع لأم زرع ووجه الشبه في هذه القضية الألفة والوفاء لأن المشبه به له صفات لا يليق التشبه بها ولذلك زاد في رواية الهيثم ابن عدي "في الألفة والوفاء لا في الفرقة والجلاء" وزاد الزبير في آخره "إلا أنه طلقها وإني لا أطلقك" زاد النسائي والطبراني في رواية له "قالت عائشة: يا رسول الله. بل أنت خير من أبي زرع" وفي رواية "قالت: بأبي وأمي لأنت خير لي من أبي زرع لأم زرع" قال النووي: وكأنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك تطيبا لها وطمأنينة لقلبها ودفعا لإيهام عموم التشبيه بجملة أحوال أبي زرع إذ لم يكن فيه ما تذمه النساء به سوى طلاقه أم زرع وأجابت هي عن ذلك جواب مثلها في فضلها وعلمها. -[فقه الحديث]- هذا الحديث مسوق على أنه منقبة وفضيلة لعائشة رضي الله عنها. ويؤخذ منه 1 - فضيلة حسن عشرة المرء أهله بالتأنيس والمحادثة بالأمور المباحة ما لم يفض ذلك إلى ما يمنع. 2 - وفيه المزاح أحيانا وبسط النفس به. 3 - ومداعبة الرجل أهله وإعلامه بمحبته لها ما لم يؤد ذلك إلى مفسدة تترتب على ذلك من تجنيها عليه وإعراضها عنه.

4 - وفيه منع الفخر بالمال فقد ركز صلى الله عليه وسلم على حسن العشرة وأهمل فخر أم زرع بالمال. 5 - وفيه جواز ذكر الفضل بأمور الدين فقد ذكر لها حبه وحسن عشرته وهو من الدين. 6 - وفيه إخبار الرجل أهله بصورة حاله معهم وتذكيرهم بذلك لا سيما عند وجود ما طبعن عليه من كفر الإحسان. 7 - وفيه ذكر المرأة إحسان زوجها. 8 - قال الحافظ ابن حجر: وفيه إكرام الرجل بعض نسائه بحضور ضرائرها بما يخصها به من قول أو فعل (هذا على احتمال حضور بعض الضرائر عند سياق القصة والأولى أن يقال: فيه تخصيص بعض نسائه بذكر حبه وحسن عشرته لها من بين ضرائرها) قال: ومحله عند السلامة من الميل المفضي إلى الجور. 9 - وفيه جواز تحدث الرجل مع زوجته في غير نوبتها. قاله الحافظ ابن حجر. وهو غير واضح. 10 - وفيه الحديث عن الأمم الخالية وضرب الأمثال بهم اعتبارا. 11 - وفيه جواز الانبساط بذكر طرف الأخبار ومستطابات النوادر تنشيطا للنفوس. 12 - وفيه حض النساء على الوفاء لبعولتهن وقصر الطرف عليهم والشكر لجميلهم أخذا من تقريره صلى الله عليه وسلم لأم زرع. 13 - وفيه جواز وصف المرأة زوجها بما تعرفه من حسن وسوء قاله الحافظ ابن حجر. وفيه نظر. 14 - وجواز المبالغة في الأوصاف ومحله إذا لم يصر ذلك ديدنا لأنه يفضي إلى خرم المروءة قاله الحافظ ابن حجر ويحمل على أن شرع من قبلنا شرع لنا وهو أيضا غير ظاهر فعمل هؤلاء النساء وقولهم لا يؤخذ منه شرع وسيأتي ما يؤيده ذلك. 15 - ومن طلب عائشة ذكر قصة أبي زرع وجواب الرسول صلى الله عليه وسلم لها تفسير ما يجمله المخبر من الخبر إما بالسؤال عنه وإما ابتداء من تلقاء نفسه. 16 - قال الحافظ ابن حجر: وفيه أن ذكر المرء بما فيه من العيب جائز إذا قصد التنفير عن ذلك الفعل ولا يكون ذلك غيبة أشار إلى ذلك الخطابي وتعقبه التميمي شيخ عياض بأن الاستدلال بذلك إنما يتم أن لو كان النبي صلى الله عليه وسلم سمع المرأة تغتاب زوجها فأقرها وأما الحكاية عمن ليس بحاضر فليس كذلك. وقال المازري: قال بعضهم: ذكر بعض هؤلاء النسوة أزواجهن بما يكرهون ولم يكن ذلك غيبة لكونهم لا يعرفون بأعيانهم وأسمائهم قال المازري: وإنما يحتاج إلى هذا الاعتذار لو كان من تحدث عنده بهذا الحديث سمع كلامهن في اغتياب أزواجهن فأقرهن على ذلك أما والواقع خلاف ذلك وهو أن عائشة حكت قصة عن نساء مجهولات غائبات فلا ولو أن امرأة وصفت زوجها بما يكرهه لكان غيبة محرمة على من يقوله ويسمعه إلا إن كانت في مقام الشكوى منه

عند الحاكم وهذا في حق المعين فأما المجهول الذي لا يعرف فلا حرج في سماع الكلام فيه لأنه لا يتأذى إلا إذا عرف أن من ذكر عنده يعرفه ثم إن هؤلاء الرجال مجهولون لا تعرف أسماؤهم ولا أعيانهم فضلا عن أسمائهم ولم يثبت للنسوة إسلام حتى يجري عليهن الغيبة فبطل الاستدلال به على ما ذكر. اهـ. ونحن مع التميمي والمازري ولا نسلم بالمأخذ: [13، 14، 16]. والله أعلم. 17 - وفيه تقوية لمن كره نكاح من كان لها زوج سابق لما ظهر من اعتراف أم زرع بإكرام زوجها الثاني لها بقدر الطاقة ومع ذلك حقرته وصغرته بالنسبة إلى الزوج الأول. وذاك طبع لغالب النساء. 18 - وفيه أن الحب يستر الإساءة لأن أبا زرع مع إساءته لها بتطليقها لم يمنعها ذلك من المبالغة في وصفه إلى أن بلغت حد الإفراط والغلو. 19 - وفيه جواز وصف النساء ومحاسنهن للرجل لكن محله إذا كن مجهولات والذي يمنع من ذلك وصف المرأة المعينة بحضرة الرجل أو أن يذكر من وصفها ما لا يجوز للرجال تعمد النظر إليه. قاله الحافظ ابن حجر وفيه نظر. 20 - وفيه أن التشبيه لا يستلزم مساواة المشبه بالمشبه به من كل جهة. 21 - وفيه أن كناية الطلاق لا توقعه إلا مع مصاحبة النية فإنه صلى الله عليه وسلم تشبه بأبي زرع وأبو زرع قد طلق فلم يستلزم ذلك وقوع الطلاق لكونه لم يقصره. 22 - وفيه جواز التأسي بأهل الفضل من كل أمة لأن أم زرع أخبرت عن أبي زرع بجميل عشرته فامتثله النبي صلى الله عليه وسلم كذا قال المهلب واعترضه القاضي عياض فأجاد وهو أنه ليس في السياق ما يقتضي أنه تأسى به بل فيه أنه أخبر أن حاله معها مثل حال أبي زرع مع أم زرع قال الحافظ ابن حجر: نعم ما استنبطه صحيح باعتبار أن الخبر إذا سيق وظهر من الشارع تقريره مع الاستحسان له جاز التأسي به. 23 - قيل: وفيه قبول خبر الواحد لأن أم زرع أخبرت بحال أبي زرع فامتثله النبي صلى الله عليه وسلم وتعقبه عياض. 24 - وفيه مدح الرجل في وجهه إذا علم أن ذلك لا يفسده. 25 - وفيه أن شأن النساء إذا تحدثن أن لا يكون حديثهن غالبا إلا في الرجال. 26 - وفيه جواز استعمال الألفاظ الغريبة. 27 - واستعمال السجع في الكلام إذا لم يكن متكلفا. والله أعلم

(645) باب من فضائل فاطمة رضي الله عنها

(645) باب من فضائل فاطمة رضي الله عنها 5486 - عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وهو يقول: "إن بني هشام ابن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب فلا آذن لهم ثم لا آذن لهم. ثم لا آذن لهم. إلا أن يحب ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم فإنما ابنتي بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها". 5487 - عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما فاطمة بضعة مني. يؤذيني ما آذاها". 5488 - عن علي بن الحسين رضي الله عنه أنهم حين قدموا المدينة من عند يزيد بن معاوية مقتل الحسين بن علي رضي الله عنهما لقيه المسور بن مخرمة فقال له: هل لك إلي من حاجة تأمرني بها؟ قال: فقلت له: لا قال له: هل أنت معطي سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فإني أخاف أن يغلبك القوم عليه وايم الله! لئن أعطيتنيه لا يخلص إليه أبدا حتى تبلغ نفسي إن علي بن أبي طالب خطب بنت أبي جهل على فاطمة فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الناس في ذلك على منبره هذا وأنا يومئذ محتلم فقال: "إن فاطمة مني وإني أتخوف أن تفتن في دينها: " قال: ثم ذكر صهرا له من بني عبد شمس فأثنى عليه في مصاهرته إياه فأحسن. قال: "حدثني فصدقني. ووعدني فأوفى لي. وإني لست أحرم حلالا ولا أحل حراما ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت عدو الله مكانا واحدا أبدا". 5489 - عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه أن علي بن أبي طالب خطب بنت أبي جهل

وعنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سمعت بذلك فاطمة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له: إن قومك يتحدثون أنك لا تغضب لبناتك وهذا علي ناكحا ابنة أبي جهل. قال المسور: فقام النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته حين تشهد. ثم قال: "أما بعد فإني أنكحت أبا العاص بن الربيع فحدثني فصدقني وإن فاطمة بنت محمد مضغة مني وإنما أكره أن يفتنوها. وإنها والله! لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحد أبدا" قال: فترك علي الخطبة. 5490 - عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا فاطمة ابنته فسارها فبكت: ثم سارها فضحكت. فقالت عائشة: فقلت لفاطمة: ما هذا الذي سارك به رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكيت ثم سارك فضحكت؟ قالت: سارني فأخبرني بموته فبكيت ثم سارني فأخبرني أني أول من يتبعه من أهله فضحكت. 5491 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عنده لم يغادر منهن واحدة فأقبلت فاطمة تمشي ما تخطئ مشيتها من مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا. فلما رآها رحب بها فقال: "مرحبا بابنتي" ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله ثم سارها. فبكت بكاء شديدا فلما رأى جزعها سارها الثانية فضحكت فقلت لها: خصك رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين نسائه بالسرار ثم أنت تبكين فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتها ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: ما كنت أفشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم سره قالت: فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت عزمت عليك بما لي عليك من الحق لما حدثتني ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: أما الآن فنعم أما حين سارني في المرة الأولى فأخبرني أن جبريل كان يعارضه القرآن في كل سنة مرة أو مرتين وإنه عارضه الآن مرتين "وإني لا أرى الأجل إلا قد اقترب. فاتقي الله واصبري. فإنه نعم السلف أنا لك" قالت: فبكيت بكائي الذي رأيت. فلما رأى جزعي سارني الثانية فقال: "يا فاطمة! أما ترضي أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة" قالت: فصحكت ضحكي الذي رأيت. 5492 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: اجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم فلم يغادر منهن

امرأة فجاءت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "مرحبا بابنتي" فأجلسها عن يمينه أو عن شماله. ثم إنه أسر إليها حديثا. فبكت فاطمة. ثم إنه سارها، فضحكت أيضا فقلت لها: ما يبكيك؟ فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ما رأيت كاليوم فرحا أقرب من حزن. فقلت لها حين بكت: أخصك رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديثه دوننا ثم تبكين؟ وسألتها عما قال فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا قبض سألتها. فقالت: إنه كان حدثني أن جبريل كان يعارضه بالقرآن كل عام مرة وإنه عارضه به في العام مرتين "ولا أراني إلا قد حضر أجلي. وإنك أول أهلي لحوقا بي. ونعم السلف أنا لك" فبكيت لذلك. ثم إنه سارني فقال: "ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة؟ " فضحكت لذلك. -[المعنى العام]- السيدة فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تكنى أم أبيها أصغر بنات النبي صلى الله عليه وسلم وأحبهن إليه ولدت والكعبة تبنى والنبي صلى الله عليه وسلم ابن خمس وثلاثين على المشهور وقيل سنه إحدى وأربعين من مولد الرسول صلى الله عليه وسلم تزوجها علي رضي الله عنه أوائل المحرم سنة ثنتين وأصدقها درعه التي أعطاه إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر. وفي زواجها بعث معها رسول الله صلى الله عليه وسلم بخميلة ووسادة من جلد حشوها ليف ورحاءين وسقاءين وانقطع نسل النبي صلى الله عليه وسلم إلا من فاطمة عاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم ستة أشهر ودفنت بالبقيع، وقيل: في زاوية في دار عقيل وبين قبرها وبين الطريق سبعة أذرع كانت في تشييعها أول من غطي نعشها من النساء في الإسلام فقد روي أنها قالت لأسماء بنت عميس: يا أسماء إني استقبحت ما يصنع بالنساء أنه يطرح على المرأة الثوب فيصفها فقالت أسماء: يا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أريك شيئا رأيته بأرض الحبشة؟ فدعت بجريد رطب فوقسته ثم طرحت عليه ثوبا فقالت فاطمة: ما أحسن هذا وأجمله فإذا أنا مت فاجعلوا علي هذا. كانت رضي الله عنها أشبه الناس كلاما ومشية برسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت إذا دخلت عليه قام إليها فقبلها ورحب بها كما كانت تصنع هي به صلى الله عليه وسلم. وهو صلى الله عليه وسلم القائل: فاطمة بضعة مني: يقلقني ما يقلقها ويؤذيني ما يؤذيها، ويرضيني ما يرضيها ويبسطني ما يبسطها ويقبضني ما يقبضها وقد حماها صلى الله عليه وسلم من أن يتزوج عليها زوجها حماية لها من تغاير النساء بإذن من الله تعالى فقال لعلي حين علم رغبته في الزواج من ابنة أبي جهل قال لعلي: لا آذن لك ولا آذن لك ولا آذن لك أن تجمع بين ابنة رسول الله وبين ابنة عدو الله فصرف علي نظره عن الزواج عليها حتى ماتت رضي الله عنها. ولم يكن أحد من أولاد النبي صلى الله عليه وسلم حيا حين وفاته إلا فاطمة وأحس صلى الله عليه وسلم وهو في مرض الموت جزع فاطمة عليه وحسرتها وآلامها عند موته فأراد تخفيف الصدمة عليها وتهيئتها

لاستقبال الفجيعة وإعلامها بالمصيبة قبل حصولها فأسر إليها أنه يتوقع حضور الأجل في هذا المرض فبكت بكاء شديدا فأسر إليها أنها أول أهله لحوقا به فسرت كثيرا وضحكت رضي الله عنها وأرضاها. -[المباحث العربية]- (إن بني هاشم بن المغيرة) كذا وقع عند مسلم "بني هاشم" وعند البخاري "بني هشام" قال الحافظ ابن حجر: والصواب "هشام" لأنه جد المخطوبة. اهـ. وبنو هشام هم أعمام بنت أبي جهل لأنه أبو الحكم عمرو بن هشام بن المغيرة وقد أسلم أخواه الحارث بن هشام وسلمة بن هشام عام الفتح وحسن إسلامهما وقد خطب علي رضي الله عنه بنت أبي جهل من عمها الحارث بن هشام فقال له: لا نزوجك على فاطمة إلا أن يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم والظاهر أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأذن له ثم خطب الناس يبين سبب عدم إذنه لئلا تذهب النفوس مذاهب غير سليمة فسبب الخطبة استئذان بني هشام وقيل: إن سبب الخطبة ما أشيع عن خطبة علي ابنة أبي جهل قبل أن يستأذن بنو هشام ففي روايتنا الرابعة عن الزهري عن علي بن الحسين "أن علي خطب بنت أبي جهل على فاطمة فلما سمعت بذلك فاطمة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن قومك يتحدثون أنك لا تغضب لبناتك" وفي رواية ابن حبان "إن الناس يزعمون أنك لا تغضب لبناتك" "وهذا علي ناكحا ابنة أبي جهل" كذا في مسلم "ناكحا" بالنصب على الحال وأطلقت عليه وصف "ناكح" مجازا على سبيل مجاز المشارفة أي مشرف على النكاح وقيل: على سبيل تنزيل غير الواقع المصمم على وقوعه منزلة الواقع فقام النبي صلى الله عليه وسلم فخطب على المنبر" (استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب) وقد أخرج الحاكم أن عليا رضي الله عنه استشار النبي صلى الله عليه وسلم بشأنها بعد أن خطبها من عمها سأله عنها فقال له صلى الله عليه وسلم: أعن حسبها تسألني؟ فقال: لا ولكن أتأمرني بها؟ قال: لا. فاطمة مضغة مني ولا أحسب إلا أنها تحزن أو تجزع فقال علي: لا آتي شيئا تكرهه" قال الحافظ ابن حجر: ولعل هذا الاستئذان وقع بعد خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بما خطب ولم يحضر على الخطبة المذكورة فاستشار فلما قال له: لا لم يتعرض بعد ذلك لطلبها ولهذا جاء في رواية "فترك علي الخطبة" وفي رواية "فسكت علي عن ذلك" اهـ. قلت: ولا مانع من كون الخطبة بعد استشارة علي رضي الله عنه وبعد وعده بعدم الزواج منها إذ لم تكن الخطبة لمنع علي وإنما كانت لبيان الحكم والحكمة قطعا لنشر الخبر وتأويلاته. والله أعلم. واختلف في اسم ابنة أبي جهل فقيل جويرية وهذا الأشهر وقيل العوراء وقيل" الحنفاء وقيل جرهمة وقيل: جميلة. (فلا آذن لهم ثم لا آذن لهم ثم لا آذن لهم) كرر ذلك ثلاثا للتأكيد أو لرفع المجاز وأن يكون عدم الإذن مؤقتا و"لا" نافية والفاء في جواب شرط مقدر أي إذا كانوا يستأذنون فلا آذن. (إلا أن يحب ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم) الاستثناء مفرغ من

عموم الأحوال أو الأزمنة، أي لا آذن في حال من الأحوال أو في وقت من الأوقات، إلا في حال طلاقه ابنتي أو في وقت طلاقه ابنتي فآذن حيث لا يحتاج شرعا إلى إذني حينئذ، وليس المراد تعلق الإذن بحب علي ذلك بل بوقوعه، أي إلا أن يقع من ابن أبي طالب طلاق ابنتي. (فإنما ابنتي بضعة مني، يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها) "بضعة" بفتح الباء قال النووي: لا يجوز غيره وقال الحافظ ابن حجر: وحكي ضمها وكسرها أيضا وسكون الضاد أي قطعة وفي الرواية الرابعة "وإن فاطمة بنت محمد مضغة مني" والمضغة في الأصل قطعة اللحم قدر ما يمضغ و"يريبني" بفتح الياء، "ما رابها" من "راب" الثلاثي ووقع في رواية البخاري "يريبني ما أرابها" بضم الياء من "أراب" الرباعي، والريب ما دخلك من شيء خفت عقباه قال الفراء وغيره: راب وأراب بمعنى وقيل: رابني الأمر تيقنت منه الريبة وأرابني شككني وأوهمني وأما قوله "ويؤذيني ما آذاها" أي يؤلمني ما يؤلمها وفي رواية للبخاري "فمن أغضبها أغضبني" وفي رواية "فمن آذاها فقد آذاني" وفي رواية "يؤذيني ما آذاها وينصبني ما أنصبها" من النصب وهو التعب وعند الحاكم "يقبضني ما يقبضها، ويبسطني ما يبسطها". (لقيه المسور بن مخرمة، فقال له: هل لك إلي من حاجة تأمرني بها؟ قال: فقلت له: لا) تقدير الكلام: قال علي بن الحسين: لقيني المسور فقال لي: هل لك إلي من حاجة ومساعدة، فقلت له: لا والمسور من شيعة علي. (قال له: هل أنت معطي سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني أخاف أن يغلبك القوم عليه وايم الله! لئن أعطيتنيه لا يخلص إليه أبدا حتى تبلغ نفسي) "معطي" بضم الميم وسكون العين وكسر الطاء وتشديد الياء والذي يظهر أن المراد بالسيف المذكور "ذو القفار" وكان عند علي بن الحسين وأراد المسور أنه لو أودع عنده السيف لا يمكن أحدا منه حتى تزهق روحه يبالغ بذلك في تعصبه لعلي بن الحسين وأنه مستعد لبذل نفسه دون السيف رعاية لود ابن فاطمة فأراد بذلك صيانة سيف النبي صلى الله عليه وسلم وحفظه لعلي بن الحسين لئلا يأخذه منه أعداؤه. (إن علي بن أبي طالب خطب بنت أبي جهل على فاطمة) إلخ ومناسبة هذا الكلام لقصة السيف من جهة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحترز عما يوجب التكدير بين الأقرباء أي فكذلك كان ينبغي أن تعطيني السيف حتى لا يحصل بينك وبين أقربائك كدورة بسببه، أو كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحب رفاهية خاطر فاطمة رضي الله عنها فأنا أيضا أحب رفاهية خاطرك لكونك ابن ابنها فأعطني السيف حتى أحفظه لك وهذا الأخير هو المعتمد. (فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الناس في ذلك على منبره هذا وأنا يومئذ محتلم) قال ابن سيد الناس: هذا غلط والصواب ما وقع عند الإسماعيلي بلفظ "كالمحتلم" قال: لأن المسور لم يحتلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه ولد بعد ابن الزبير فيكون عمره عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ثماني سنين قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر أي في ادعاء الغلط نظر إذ يمكن حملها على المبالغة والمراد التشبيه بالمحتلم، فتلتئم رواية "محتلم" مع رواية "كالمحتلم" أي إنه كالمحتلم في الحذق والفهم والحفظ.

(وإني أتخوف أن تفتن في دينها) فتقع منها المعصية بسبب الغيرة، يعني أنها لا تصبر على الغيرة فيقع منها في حق زوجها في حال الغضب ما لا يليق بحالها في الدين وفي الرواية الرابعة "وإني أكره أن يفتنوها". (ثم ذكر صهرا له من بني عبد شمس) هو أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف، أمه هالة بنت خويلد أخت خديجة تزوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من رجال مكة المعدودين مالا، وأمانة وتجارة أسلمت زينب ولم يسلم حارب في صفوف الكفار يوم بدر فكان من الأسرى ولما بعثت قريش فداء أسراهم بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقلادة لها، كانت أمها خديجة أدخلتها بها على أبي العاص فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة وقال للمسلمين: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها قلادتها؟ ففعلوا فاشترط عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرسل زينب إلى المدينة وأن يخلي سبيلها فوفي وفعل. وفي جمادى سنة ست من الهجرة خرج أبو العاص بن الربيع في عير لقريش إلى الشام فبعث النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في سبعين ومائة راكب فلقوا العير بناحية العيص وفيهم أبو العاص فقالوا له: يا أبا العاص إنك في شرف من قريش وأنت صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل لك أن تسلم فتغنم ما معك من أموال أهل مكة؟ قال: بئسما أمرتموني به أن أنسخ ديني بغدرة، فأسروه وجماعة وأخذوا العير وعادوا إلى المدينة وربط الأسرى بالمسجد وعلمت به زينب فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح نادت زينب: إني أجرت أبا العاص بن الربيع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل سمعتم ما سمعت؟ قالوا: نعم. قال: والذي نفس محمد بيده ما علمت شيئا مما كان حتى سمعت وإنه يجير على المسلمين أدناهم وقد أجرنا من أجارت ثم أمرها أن لا يقربها، فطلبت أن يرد على أبي العاص ما كان في القافلة ففعل فمضى أبو العاص إلى مكة فأدى الحقوق لأهلها ثم قام فقال: يا أهل مكة هل أوفيت ذمتي لكم؟ قالو: اللهم نعم فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ثم قدم المدينة مهاجرا قبل الفتح بقليل فدفع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجته. رزق أبو العاص من زينب ولدا يسمى عليا مات في حياة أبيه وقد ناهز الاحتلام وبنتا تسمى أمامة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحملها في صلاته وعاشت حتى تزوجها علي رضي الله عنه بعد وفاة خالتها فاطمة وتوفي أبو العاص في خلافة أبي بكر سنة اثنتي عشرة من الهجرة. (فأثنى عليه في مصاهرته إياه فأحسن قال: حدثني فصدقني ووعدني فأوفى لي) الصهر يطلق على الزوج وأقاربه وأقارب المرأة وهو مشتق من صهرت الشيء وأصهرته إذا قربته والمصاهرة مقاربة بين الأجانب والمتباعدين وقوله "فأحسن" أي أحسن الثناء عليه، وكان مما قال في ثنائه: حدثني فصدقني، يشير بذلك إلى ما مضى في القصة عند فك أسره ببدر وأنه لن يسلم حتى يعتقد ويصدق، ومع ذلك أحسن عشرة زينب وأحبها وأرادت قريش منه أن يطلقها فأبى ومما قاله صلى الله عليه وسلم في ثنائه "ووعدني فأوفى لي" إشارة إلى ما سبق في القصة من وفائه بإخلاء سبيل زينب، ووفائه بالإسلام بعد أن يؤدي لقريش حقوقها. (وإني لست أحرم حلالا، ولا أحل حراما) بعدم إذني لعلي أن يتزوج على فاطمة أي لا

أقول شيئا يخالف حكم الله فإذا أحل شيئا لم أحرمه وإذا حرم شيئا لم أحلله فعدم إذني لعلي ليس تحريما عليه ما أحل وسيأتي في فقه الحديث مزيد إيضاح لذلك. (ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله مكانا واحدا أبدا) وفي رواية "ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل أبدا" وفي الرواية الرابعة "عند رجل واحد أبدا". (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا فاطمة ابنته) أي فأتت، وكان ذلك في مرضه الأخير وفي الرواية السادسة "كن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عنده" في التعبير الجمع بين الضمير الفاعل والاسم الظاهر، كقوله "يتعاقبون فيكم ملائكة" لم يغادر منهن واحدة" أي كن كلهن مجتمعات "فأقبلت فاطمة تمشي" ما تخطئ مشيتها من مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فلما رآها رحب بها فقال: مرحبا بابنتي ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله" في الرواية السابعة "فجاءت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم" (فسارها فبكت ثم سارها فضحكت) وفي الرواية السادسة "ثم سارها فبكت بكاء شديدا فلما رأى جزعها سارها الثانية فضحكت" وفي الرواية السابعة "ثم إنه أسر إليها حديثا، فبكت فاطمة، ثم إنه سارها فضحكت أيضا". (قالت عائشة: فقلت لفاطمة: ما هذا الذي سارك به رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكيت؟ ثم سارك فضحكت؟ قالت: سارني فأخبرني بموته فبكيت ثم سارني فأخبرني أني أول من يتبعه من أهل فضحكت) سألت عائشة فاطمة عقب المسارتين فامتنعت عن الإجابة فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتها السؤال نفسه مرة ثانية فاعتذرت عن الإجابة فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتها مرة ثالثة فأجابت فالجواب المذكور هنا جواب السؤال في المرة الثالثة ففي الرواية السادسة "فقلت لها: خصك رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين نسائه بالسرار ثم أنت تبكين؟ فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتها: ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: ما كنت لأفشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم سره، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: عزمت عليك بما لي عليك من الحق لما حدثتني ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: أما الآن فنعم أما حين سارني في المرة الأولى فأخبرني أن جبريل كان يعارضه القرآن في كل سنة مرة أو مرتين (كذا في الرواية السادسة قال النووي: وذكر المرتين شك من بعض الرواة والصواب حذفها كما في باقي الرواية) وإنه عارضه الآن مرتين وإني لا أرى (بضم الهمزة أي لا أظن الأجل إلا قد اقترب فاتقي الله واصبري وإنه نعم السلف أنا لك (والسلف المتقدم) قالت: فبكيت بكائي الذي رأيت فلما رأى جزعي سارني الثانية فقال: يا فاطمة أما ترضي (قال النووي: هكذا هو في النسخ "ترضي" وهو لغة والمشهور "ترضين") أن تكوني سيدة نساء المؤمنين؟ أو سيدة نساء هذه الأمة؟ قالت: فضحكت الذي رأيت" وفي الرواية السابعة قريب من ذلك.

-[فقه الحديث]- الروايات الأربع الأوليات في رغبة علي الزواج من ابنة أبي جهل على زوجته فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم وعنها يقول النووي: أعلم صلى الله عليه وسلم بإباحة نكاح بنت أبي جهل لعلي بقوله صلى الله عليه وسلم في روايتنا الثالثة "لست أحرم حلالا" ولكن نهى عن الجمع بينهما لعلتين منصوصتين إحداهما: أن ذلك يؤدي إلى إيذاء فاطمة فيتأذى حينئذ النبي صلى الله عليه وسلم فيهلك من أذاه فنهى عن ذلك لكمال شفقته على علي وعلى فاطمة (والنص على هذه العلة قوله في الرواية الأولى والثانية "فإنما ابنتي بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها") والثانية: خوف الفتنة عليها بسبب الغيرة. اهـ. والنص على هذه العلة قوله في الرواية الرابعة "وإنما أكره أن يفتنوها" وسواء أراد النووي أن العلة مجموع الأمرين وأن كلا منهما جزء علة أو أراد أن كلا منهما علة مستقلة توجب المعلول، فإن المعنى أن النهي عن الجمع بين فاطمة وبين بنت أبي جهل حينئذ ليس لذاته، وإنما لما يؤدي إليه والشيء قد يكون مباحا في ذاته لكنه يمنع وينهى عنه إذا كان وسيلة لمحرم، من قبيل إعطاء الوسيلة حكم الغاية، كالخطوات فإنها إن كانت للصلاة كان لها الأجر وإن كانت لفاحشة كان عليها الوزر قال ابن التين: أصح ما تحمل عليه هذه القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم على علي أن يجمع بين ابنته وبين ابنة أبي جهل لأنه علل بأن ذلك يؤذيه وأذيته حرام بالاتفاق، ومعنى قوله "لا أحرم حلالا" أي هي حلال له لو لم تكن عنده فاطمة وأما الجمع بينهما الذي يستلزمه تأذي النبي صلى الله عليه وسلم لتأذي فاطمة به فلا اهـ. ومعنى هذا أن فاطمة لو رضيت بذلك، لم يمنع علي من التزويج بها أو بغيرها. ثم قال النووي: وقيل: ليس المراد به النهي عن جمعهما، بل معناه أنه صلى الله عليه وسلم يعلم أن من فضل الله أنه قضى أنهما لا تجتمعان (فكأن قوله "والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله مكانا واحدا أبدا" ليس نهيا ولكنه إخبار عما سيحصل، لوثوق المخبر بالخبر). ثم قال: ويحتمل أن المراد النهي وتحريم جمعهما ويكون من جملة محرمات النكاح الجمع بين بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت عدو الله ويكون معنى "لا أحرم حلالا" أي لا أقول شيئا يخالف حكم الله فإذا أحل شيئا لم أحرمه وإذا حرمه لم أحلله ولم أسكت عن تحريمه لأن سكوتي تحليل له. اهـ. أي هذا الجمع حرام من عند الله فأنا لا أحلل ولا أحرم من عند نفسي. قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر لي أنه لا يبعد أن يعد في خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يتزوج على بناته، ويحتمل أن يكون ذلك خاصا بفاطمة عليها السلام. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - تحريم أذى من يتأذى النبي صلى الله عليه وسلم بتأذيه لأن أذى النبي صلى الله عليه وسلم حرام اتفاقا قليله وكثيره. 2 - وفيه حجة لمن يقول بسد الذرائع. 3 - وفيه بقاء عار الآباء في أعقابهم لقوله "بنت عدو الله" فإن فيه إشعارا بأن للوصف تأثيرا في المنع مع أنها كانت مسلمة، حسنة الإسلام.

4 - احتج بهذا بعضهم، فمنع كفاءة من مس أباه الرق ثم أعتق، بمن لم يمس أباها الرق، ومن مسه الرق بمن لم يمسها الرق أي بل مس أباها فقط. 5 - وفيه أن الغيراء إذا خشي عليها أن تفتن في دينها كان لوليها أن يسعى في إزالة ذلك وذب الرجل عن ابنته في دفع الغيرة عنها والإنصاف لها، وقد استشكل اختصاص فاطمة بذلك، مع أن الغيرة كانت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولم يخش عليهن ما خشي على فاطمة؟ وأجيب بأن فاطمة كانت إذ ذاك فاقدة من تركن إليه ممن يؤنسها ويزيل وحشتها من أم أو أخت بخلاف أمهات المؤمنين فإن كل واحدة منهن كانت ترجع إلى من يحصل لها ذلك على أن زوجهن صلى الله عليه وسلم كان عنده من الملاطفة وتطييب القلوب وجبر الخواطر ما لم يكن عند غيره فكانت كل واحدة منهن ترضى منه جميع ما يصدر منه لحسن خلقه، بحيث لو وجد منها ما يخشى وجوده من الغيرة لزال عن قرب. 6 - وفيه إكرام من ينتسب إلى الخير أو الشرف أو الديانة. 7 - وفي قصة المسور والسيف في الرواية الثالثة تبرك الصحابة بأدوات النبي صلى الله عليه وسلم. 8 - وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يورث، ولم يبع ما ترك، بل ترك بيد من صار إليه، ولو كان ميراثا لبيع وقسم. 9 - وفيه الأخذ بالعموم حتى يظهر خلافه فإن عليا رضي الله عنه أخذ بعموم الجواز فخطب بنت أبي جهل فلما ظهر له خلافه ترك الخطبة. 10 - وفي الرواية الثالثة والرابعة منقبة للعاص بن الربيع. 11 - وفضيلة الإحسان في المصاهرة. 12 - وفي الرواية الخامسة والسادسة والسابعة معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم بل معجزتان إذ أخبر صلى الله عليه وسلم ببقاء فاطمة بعده، وبأنها أول أهله لحوقا به، ووقع كذلك. 13 - وفي ضحك فاطمة رضي الله عنها إيثارهم الآخرة وسرورهم بالانتقال إليها. 14 - وفيه فضيلة لفاطمة رضي الله عنها. 15 - وأنها أفضل بناته صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها وعن الصحابة أجمعين.

(646) باب من فضائل أم سلمة رضي الله عنها

(646) باب من فضائل أم سلمة رضي الله عنها 5493 - عن سلمان رضي الله عنه قال: لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها، فإنها معركة الشيطان وبها ينصب رايته. قال: وأنبئت أن جبريل عليه السلام أتى نبي الله صلى الله عليه وسلم وعنده أم سلمة. قال: فجعل يتحدث ثم قام فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة: "من هذا؟ " أو كما قال. قالت: هذا دحية. قال: فقالت أم سلمة: ايم الله ما حسبته إلا إياه. حتى سمعت خطبة نبي الله صلى الله عليه وسلم يخبر خبرنا. أو كما قال. قال: فقلت لأبي عثمان: ممن سمعت هذا؟ قال: من أسامة بن زيد. -[المعنى العام]- أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة القرشية المخزومية أم المؤمنين واسمها على المشهور هند ويلقب أبوها بزاد الراكب لأنه كان أحد الأجواد فكان إذا سافر لا يترك أحدا يرافقه ومعه زاد بل يكفي رفقته من الزاد وكانت أم سلمة زوجا لابن عمها أبي سلمة بن عبد الأسد وكانت ممن أسلم قديما هي وزوجها وهاجرا إلى الحبشة فولدت له سلمة ثم قدما مكة وهاجرا إلى المدينة ولهجرتها قصة مشهورة فولدت له بالمدينة عمر ودرة وزينب. مات عنها زوجها فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة أربع من الهجرة وكانت موصوفة بالجمال البارع والعقل البالغ، والرأي الصائب ولها مشورة مشهورة في غزوة الحديبية تدل على وفور عقلها وصواب رأيها، أنقذت الأمة الإسلامية من الخلاف والضلال. ماتت في شوال سنة تسع وخمسين على المشهور وقيل سنة ستين وكانت آخر أمهات المؤمنين موتا رضي الله عنها وأرضاها. -[المباحث العربية]- (قال: لا تكونن -إن استطعت- أول من يدخل السوق) هذه وصية سلمان لفظا وفي كونها في حكم المرفوع خلاف. (فإنها معركة الشيطان) المعركة بفتح الراء موضع القتال لمعاركة الأبطال بعضهم بعضا فيها ومصارعتهم فشبه السوق وفعل الشيطان بأهلها ونيله منهم بالمعركة لكثرة ما يقع فيها من

أنواع الباطل كالغش والخداع والأيمان الخائنة والعقود الفاسدة والنجش والبيع على بيع أخيه والشراء على شرائه وبخس المكيال والميزان والضمير في "فإنها" يعود على السوق وهي تذكر وتؤنث سميت بذلك لقيام الناس فيها على سوقهم. (وبها ينصب رايته) كناية عن ثبوته هناك واجتماع أعوانه وتحريك جنده واستغلالهم حركتها في الإفساد فهي من أهم مواضع إيقاع البشر في الشر والسيئات. (قال: وأنبئت أن جبريل عليه السلام) الفعل "أنبئت" مبني للمجهول محذوف الفاعل فهو من مراسيل الصحابة، إن كان القائل سلمان، لكن في آخر الرواية "فقلت لأبي عثمان: ممن سمعت هذا؟ قال: من أسامة بن زيد" يفيد أن القائل أبو عثمان فأصل الرواية: حدثنا معتمر بن سليمان قال: سمعت أبي. حدثنا عثمان عن سلمان قال: لا تكونن .. قال: وأنبئت أن جبريل ... إلخ. (أتى نبي الله صلى الله عليه وسلم وعنده أم سلمة فجعل يتحدث ثم قام) أي انصرف. (هذا دحية) بفتح الدال وكسرها وهو ابن خليفة بن فروة بن فضالة بن زيد بن امرئ القيس ابن الخزرج صحابي مشهور، أول مشاهده الخندق ولم يشهد بدرا ولا أحدا وكان يضرب به المثل في حسن الصورة شهد اليرموك ونزل دمشق وسكن المزة وعاش إلى خلافة معاوية. والظاهر أن الرسول صلى الله عليه وسلم سكت عند قول أم سلمة: هذا دحية ولم يخبرها بحقيقته حتى سمعته صلى الله عليه وسلم يخطب الناس ويعلمهم أن جبريل عليه السلام يأتيه أحيانا في صورة دحية. (يخبر خبرنا) قال النووي: هكذا هو في نسخ بلادنا وكذا نقله القاضي عياض عن بعض الرواة والنسخ وعن بعضهم "يخبر خبر جبريل" قال: وهو الصواب وقد وقع في البخاري على الصواب. -[فقه الحديث]- فيه منقبة لأم سلمة رضي الله عنها وأنها رأت جبريل عليه السلام. وفيه جواز رؤية البشر الملائكة ووقوع ذلك وأنهم يرونهم على صورة الآدميين لأنهم لا يقدرون على رؤيتهم على صورهم وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرى جبريل على صورة دحية أحيانا قال النووي: ورآه مرتين على صورته الأصلية. وفي الجزء الأول من الحديث أن الأسواق مجالس الشياطين وميدانهم. والله أعلم

(647) باب من فضائل زينب أم المؤمنين رضي الله عنها

(647) باب من فضائل زينب أم المؤمنين رضي الله عنها 5494 - عن عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسرعكن لحاقا بي أطولكن يدا" قالت: فكن يتطاولن أيتهن أطول يدا. قالت: فكانت أطولنا يدا زينب لأنها كانت تعمل بيدها وتصدق. -[المعنى العام]- السيدة زينب بنت جحش الأسدية أم المؤمنين زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأمها أميمة عمة النبي صلى الله عليه وسلم زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم مولاه زيد بن حارثة وكان يدعى زيد بن محمد بالتبني فلما بطل التبني بقوله تعالى {ادعوهم لآبائهم} [الأحزاب: 5] ولم تستقم حالها مع زيد فطلقها تزوجها صلى الله عليه وسلم كما حكى الله تعالى ذلك بقوله {فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا} [الأحزاب: 37] وكانت تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم بأنها ابنة عمته، وبأن الله زوجها له وهن زوجهن أولياؤهن، وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم معجبة وكان يستكثر منها وكانت صالحة صوامة قوامة صناعا تصنع بيدها تدبغ الجلود وتخرمها وتتكسب وتتصدق بذلك كله على المساكين وكانت أول نسائه صلى الله عليه وسلم لحوقا به بعد موته كان عطاء عمر لها اثني عشر ألفا لم تأخذه إلا عاما واحدا قسمته كله في الفقراء وأهل رحمها فبلغ عمر ذلك فوقف عليها وأرسل بالسلام وقال: بلغني ما فرقت فأرسل بألف درهم تستبقيها فسلكت بها ذلك المسلك وقالت: اللهم لا يدركني هذا المال من قابل فإنه فتنة فتوفيت من عامها وكانت قد أعدت لنفسها كفنا، وأوصت بالتصدق به أو بالكفن الذي سيرسله عمر فأرسل لها عمر خمسة أثواب بخرها ثوبا ثوبا فكفنت منها وتصدقت عنها أختها حمنة بكفنها الذي كانت قد أعدته تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهي بنت خمس وثلاثين ماتت سنة عشرين من الهجرة وهي بنت خمسين وصلى عليها عمر رضي الله عنها وعن الصحابة أجمعين. -[المباحث العربية]- (أسرعكن لحاقا بي أطولكن يدا) أي أولكن موتا بعدي ورواية البخاري صريحة في أن هذا كان جوابا لسؤالهن - أو سؤال إحداهن: ففيها "أن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قلن للنبي صلى الله عليه وسلم: أينا أسرع بك لحوقا؟ قال: أطولكن يدا" وعند ابن حبان ما يفيد أن السائلة عائشة رضي الله عنها فعنده

"قالت: فقلت" وقد أخرجه النسائي بلفظ "فقلن" و"لحاقا" بفتح اللام وهو منصوب على التمييز وفي رواية البخاري "لحوقا" و"يدا" منصوب على التمييز أيضا وكان المناسب أن يقول "طولاكن" لكنه عبر بما يعبر عنه عن المذكر تعظيما. (فكن يتطاولن. أيتهن أطول يدا) أي ظنن أن المراد بطول اليد طول اليد الحقيقية، فكن يذرعن أيديهن بقصبة أو على الحائط وفي رواية البخاري "فأخذوا قصبة يذرعونها" أي لترى أعينهن بالمقياس أيتهن أطول يدا. (قالت: فكانت أطولنا يدا زينب) بنت جحش وفي الكلام طي وحذف والأصل وكانت سودة أطولنا يدا حقيقية فلما توفيت زينب وكانت أولنا لحوقا به صلى الله عليه وسلم كانت هي أطولنا يدا أي أكثرنا عطاء أي علمنا أن مراده صلى الله عليه وسلم طول اليد في الصدقة وفعل الخير وأهل اللغة يقولون: فلان طويل اليد وطويل الباع إذا كان سمحا جوادا وضده قصر اليد وقصير الباع. وقد فسرت رواية الحاكم هذا المراد ولفظها "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه: أسرعكن لحوقا بي أطولكن يدا قالت عائشة: فكنا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم نمد أيدينا في الجدار نتطاول فلم نزل نفعل ذلك حتى توفيت زينب بنت جحش وكانت امرأة قصيرة ولم تكن أطولنا فعرفنا حينئذ أن النبي صلى الله عليه وسلم أن أراد بطول اليد الصدقة وكانت زينب امرأة صناعة باليد وكانت تدبغ وتخرز - أي وتبيع - وتصدق في سبيل الله". وقد أوهمت رواية البخاري خلاف الصواب ولفظها "فكانت سودة أطولهن يدا فعلمنا بعد أنما كانت طول يدها الصدقة وكانت أسرعنا لحوقا به وكانت تحب الصدقة" قال ابن الجوزي: هذا الحديث غلط من بعض الرواة اهـ. وقد أجمع أهل السير على أن زينب أول من مات من أزواجه فقوله عن سودة "وكانت أسرعنا لحوقا به" غير صواب والمعروف أن زينب ماتت سنة عشرين وأن عمر صلى عليها أما سودة فقد ماتت بعدها في آخر خلافة عمر على المشهور وحاول العلماء توجيه رواية البخاري فمنهم من وجهها بتقدير محذوفات أي قالت عائشة: فأخذوا قصبة يذرعونها، فكانت سودة أطولهن يدا على الحقيقة فعلمنا بعد أنما المراد طول اليد بالصدقة أي بعد وفاة زينب، وكانت - أي زينب - أسرعنا لحوقا به، ففي الرواية حذف وقد خلفت الضمائر مع الحذف هذا الإيهام قال الزين بن المنير: قولها "فعلمنا بعد" يشعر إشعارا قويا أنهن حملن طول اليد على ظاهره، ثم علمن بعد ذلك خلافه وأنه كناية عن كثرة الصدقة والذي علمنه أخيرا خلاف ما اعتقدنه أولا. اهـ. وقد جمع الطيبي بين الحديثين فقال: يمكن أن يقال فيما رواه البخاري: المراد الحاضرات من أزواجه دون زينب فلم تكن حاضرة وكانت سودة أولهن موتا قال الحافظ ابن حجر: لكن يعكر على هذا أن في رواية ابن حبان "أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم اجتمعن عنده لم تغادر منهن واحدة" والتحقيق أن في رواية البخاري وهما من الرواة.

-[فقه الحديث]- 1 - في الحديث منقبة جليلة لزينب بنت جحش رضي الله عنها. 2 - وفيه فضل الصدقة. 3 - وفيه معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. 4 - وفيه أن من حمل الكلام على ظاهره وحقيقته لا يلام وإن كان مراد المتكلم مجازه لأن النسوة حملن الكلام على الحقيقة فلم ينكر عليهن. 5 - قال المهلب: في الحديث دلالة على أن الحكم للمعاني لا للألفاظ لأن النسوة فهمن من طول اليد الجارحة وإنما المراد بالطول كثرة الصدقة. اهـ. لكن ما قاله لا يطرد. والله أعلم.

(648) باب من فضائل أم أيمن رضي الله عنها

(648) باب من فضائل أم أيمن رضي الله عنها 5495 - عن أنس رضي الله عنه قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أم أيمن. فانطلقت معه فناولته إناء فيه شراب قال: فلا أدري أصادفته صائما أو لم يرده فجعلت تصخب عليه وتذمر عليه. 5496 - عن أنس رضي الله عنه قال: قال أبو بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها فلما انتهينا إليها بكت فقالا لها: ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم فقالت: ما أبكي أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها. -[المعنى العام]- أم أيمن مولاة النبي صلى الله عليه وسلم وحاضنته قالوا: كان النبي صلى الله عليه وسلم ورثها عن أمه فأعتقها حين تزوج خديجة، وقالوا: كانت وصيفة لعبد الله بن عبد المطلب والد النبي صلى الله عليه وسلم وكانت من الحبشة فلما ولدت آمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما توفي أبوه كانت أم أيمن تحضنه حتى كبر، وتزوجها عبيد بن زيد من بني الحارث بن الخزرج قبل الإسلام فولدت له "أيمن" أسلم وصحب النبي صلى الله عليه وسلم واستشهد في خيبر ولما تبنى الرسول صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وزوجه أم أيمن ولدت له أسامة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يزورها وكانت تدل عليه وترفع صوتها كما تفعل الأم وكان يعاملها معاملة الأم وقد روى البخاري وأحمد أن الرجل كان يجعل للنبي صلى الله عليه وسلم النخلات حتى فتحت عليه قريظة والنضير فجعل يرد بعد ذلك، فسأله أحدهم أن يرد عليه بعض الذي أخذه وكان أعطاه لأم أيمن - فأعطاه له فجاءت أم أيمن فجعلت تلوح بالثوب وتقول: كلا والله لا يعطيكهن وقد أعطانيهن فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لك كذا وكذا وتقول: كلا حتى أعطاها عشرة أمثاله. وحفظ الصحابة مودتها كما حفظها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أبو بكر وعمر يزورانها بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وتوفيت في خلافة عثمان - رضي الله عنها وأرضاها.

-[المباحث العربية]- (انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أم أيمن فانطلقت معه) الظاهر أن هذا الانطلاق كان لمجرد زيارتها فقد كان صلى الله عليه وسلم يزورها كثيرا كما هو صريح الرواية الثانية وكان خادمه أنس يصحبه في أغلب الزيارات. (فناولته إناء فيه شراب) أي فلم يأخذه ولم يشرب منه وكان قصدها إكرامه وتحيته وفي بعض الروايات "فقربت إليه لبنا". (فلا أدري أصادفته صائما؟ أو لم يرده) أي لا يدري أنس سر إحجامه صلى الله عليه وسلم عن الشرب لأنه صلى الله عليه وسلم لم يبن عنه لأم أيمن ولم يكن يعلم أنس حاله إذ كان صلى الله عليه وسلم كثير الصوم دون أن يخبر عن صومه والغالب أنه كان صائما ومن المستبعد أن يعاف شرابها فهي حاضنته ومربيته. (فجعلت تصخب عليه) أي تصيح وترفع صوتها عليه تنكر عليه رفض الشراب وتلح عليه أن يشرب. (وتذمر عليه) بفتح التاء والذال وتشديد الميم وأصله تتذمر حذفت إحدى التاءين تخفيفا والتذمر الكلام بغضب يقال: ذمر يذمر كقتل يقتل إذا غضب وإذا تكلم بالغضب، وكان هذا منها دلالا عليه صلى الله عليه وسلم وكان يتقبل مثل هذا منها وفاء بحقها وكان يقول "أم أيمن أمي بعد أمي". (قال أبو بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: انطلق بنا إلى أم أيمن، نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها) هذا من قبيل الوفاء للميت، وإكرامه، فتكريم من كان يكرمه من باب الإحسان إليه. (فقالا لها: ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم) القائل واحد منهما وأسند القول إليهما لموافقة الثاني ورضاه وقد ظنا أن بكاءها أسفا على موت الرسول صلى الله عليه وسلم وحزنا على فراقه فصبراها بما قالا. (ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء) الكلام معطوف على محذوف والتقدير: لا أبكي أسفا وحزنا على فراقه صلى الله عليه وسلم فأنا أعلم أنه فارقنا إلى ما هو خير له ولكن أبكي انقطاع الوحي من السماء إلى الأرض وكان في نزوله الرحمة ووصلنا بالسماء.

-[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث]- 1 - فضيلة لأم أيمن وتقدير الرسول صلى الله عليه وسلم لها ومن بعده تقدير الصاحبين لها. 2 - قال النووي: فيه أن للضيف الامتناع من الطعام والشراب الذي يحضره المضيف إذا كان له عذر من صوم أو غيره مما هو مقرر في كتب الفقه. 3 - وفيه زيارة الصالحين وفضلها. 4 - وزيارة الصالح لمن هو دونه. 5 - وزيارة الإنسان لمن كان صديقه يزوره. 6 - وزيارة المسلم لأهل ود صديقه. 7 - وزيارة جماعة من الرجال للمرأة الصالحة. 8 - وسماع كلامها. 9 - واستصحاب العالم والكبير صاحبا له في الزيارة والعيادة ونحوها. 10 - والبكاء حزنا على فراق الصالحين والأصحاب وإن كانوا قد انتقلوا إلى أفضل مما كانوا عليه كذا قال النووي: وقد أنكرت في جوابها أن يكون البكاء للفراق وأفادت أن البكاء لفقد الخير الذي حصل بالحياة وانقطع بالموت. 11 - وفي الرواية الأولى إدلال المحب وصاحب الحق. 12 - وتقبله صلى الله عليه وسلم لما يصاحب ذلك من إساءة وعفوه وسماحته. والله أعلم.

(649) باب من فضائل أم سليم وبلال رضي الله عنهما

(649) باب من فضائل أم سليم وبلال رضي الله عنهما 5497 - عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخل على أحد من النساء إلا على أزواجه إلا أم سليم فإنه كان يدخل عليها فقيل له في ذلك فقال: "إني أرحمها قتل أخوها معي". 5498 - عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دخلت الجنة فسمعت خشفة فقلت: من هذا؟ قالوا: هذه الغميصاء بنت ملحان أم أنس بن مالك". 5499 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أريت الجنة فرأيت امرأة أبي طلحة ثم سمعت خشخشة أمامي فإذا بلال". 5500 - عن أنس رضي الله عنه قال: مات ابن لأبي طلحة من أم سليم. فقالت لأهلها: لا تحدثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أحدثه. قال: فجاء فقربت إليه عشاء. فأكل وشرب فقال: ثم تصنعت له أحسن ما كان تصنع قبل ذلك. فوقع بها. فلما رأت أنه قد شبع وأصاب منها، قالت: يا أبا طلحة! أرأيت لو أن قوما أعاروا عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا. قالت: فاحتسب ابنك. قال: فغضب وقال: تركتني حتى تلطخت ثم أخبرتني بابني! فانطلق حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بارك الله لكما في غابر ليلتكما" قال: فحملت. قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وهي معه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى المدينة من سفر لا يطرقها طروقا فدنوا من المدينة فضربها المخاض. فاحتبس عليها أبو طلحة وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يقول أبو طلحة: إنك لتعلم يا رب! إنه يعجبني أن أخرج مع رسولك إذا خرج وأدخل معه إذا دخل. وقد احتبست بما ترى قال: تقول أم سليم: يا أبا طلحة! ما أجد الذي كنت أجد انطلق فانطلقنا. قال: وضربها المخاض حين قدما فولدت غلاما. فقالت

لي أمي: يا أنس لا يرضعه أحد حتى تغدو به على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أصبح احتملته فانطلقت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فصادفته ومعه ميسم فلما رآني قال: "لعل أم سليم ولدت؟ " قلت: نعم فوضع الميسم قال: وجئت به فوضعته في حجره ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعجوة من عجوة المدينة فلاكها في فيه حتى ذابت ثم قذفها في في الصبي. فجعل الصبي يتلمظها قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انظروا إلى حب الأنصار التمر" قال: فمسح وجهه وسماه عبد الله. - بمثله. 5501 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال عند صلاة الغداة: "يا بلال! حدثني بأرجى عمل عملته عندك في الإسلام منفعة فإني سمعت الليلة خشف نعليك بين يدي في الجنة" قال بلال: ما عملت عملا في الإسلام أرجى عندي منفعة من أني لا أتطهر طهورا تاما في ساعة من ليل ولا نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب الله لي أن أصلي. -[المعنى العام]- أم سليم بنت ملحان الأنصارية أسلمت مع السابقين إلى الإسلام من الأنصار اتخذت خنجرا يوم حنين وقالت: إنا دنا مني أحد من المشركين بقرت بطنه عرضت ابنها أنسا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخدمه فقبله وكانت من عقلاء النساء ومن الصالحات يشهد لعقلها قولها في أحاديثنا: "يا أبا طلحة أرأيت لو أن قوما أعاروا عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا قالت: فاحتسب ابنك" ويشهد لصلاحها رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لها في الجنة ويكفي أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدخل بيتها دون تكلف، بل ويقيل فيه سواء أكانت موجودة فيه أو غير موجودة ولزوجها أبي طلحة مناقب كثيرة ودعاؤه ربه - في حديثنا - وحرصه على صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم واستجابة الله لدعائه خير شاهد على بعض فضائله التي بلغت الذروة يوم دفاعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلائه البلاء الحسن في غزوة أحد رضي الله عنه.

أما بلال بن رباح الحبشي فقد كان مملوكا لأمية بن خلف فآمن بالله وبرسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ أمية يعذبه ويخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة ثم يأمر بالصخرة العظيمة توضع على صدره فضلا عن ضربه بالسوط وأخذوا يطوفون به والحبل في عنقه في طرقات مكة وهو يقول: أحد أحد فمر به أبو بكر فاشتراه من أمية وأعتقه فلزم النبي صلى الله عليه وسلم وكان مؤذنه وخازنا له شهد بدرا وأحدا وسائر المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إني دخلت الجنة فسمعت خشفا فقلت: من؟ قالوا: بلال فكان بلال إذا ذكر ذلك بكى وأذن لأبي بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يؤذن لعمر، فقال له عمر: ما يمنعك أن تؤذن؟ قال: إني أذنت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قبض، ثم أذنت لأبي بكر حتى قبض، لأنه كان ولي نعمتي ويقال: إنه أذن لعمر مرة إذ دخل الشام فبكى عمر وغيره من المسلمين. يقال: إنه أراد في آخر حياة أبي بكر أن يخرج إلى الشام مجاهدا، فقال له أبو بكر: بل تكون عندي فقال: إن كنت أعتقتني لنفسك فاحبسني وإن كنت أعتقتني لله عز وجل فذرني أذهب إلى الله عز وجل فقال: اذهب. فذهب إلى الشام، فكان بها حتى مات، سنة عشرين، ودفن بحلب رضي الله عنه وأرضاه. -[المباحث العربية]- (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخل على أحد من النساء إلا على أزواجه، إلا أم سليم، فإنه كان يدخل عليها) أي لا يدخل على أحد من النساء الأجنبيات غير المحارم، وقد سبقت ترجمة أم سليم وزوجها أبي طلحة وابنها أنس في كتاب الأشربة والأطعمة باب تكثير الطعام ببركة دعائه صلى الله عليه وسلم في المباحث العربية. كما سبق دخوله صلى الله عليه وسلم على أم حرام بنت ملحان أخت أم سليم مع ترجمتها في المباحث العربية في باب الغزو في البحر كما سبق توجيه هذا الدخول شرعا في فقه الحديث في الباب المذكور فيما يؤخذ من الحديث المأخذ الثالث عشر. وفي قوله "إلا على أزواجه، إلا أم سليم" استثناء من الاستثناء ومثله في قوله تعالى {إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين * إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين * إلا امرأته} [الحجر: 58 - 60] وقد رتب عليه الفقهاء مسائل في الطلاق والإقرار. (فقيل له في ذلك) أي سئل عن سر ذلك. (فقال: إني أرحمها قتل أخوها معي) يعني حرام بن ملحان وكان قد قتل يوم بئر معونة وما ذكر لعله جزء علة وقد عقبنا عليه في فقه الحديث في كتاب الفضائل - باب عرق النبي صلى الله عليه وسلم في المأخذ الثالث عشر.

(دخلت الجنة فسمعت خشفة) بفتح الخاء وسكون الشين وهي حركة المشي وصوته ويقال أيضا بفتح الشين. (فقلت: من هذا؟ ) الذي يمشي بصوت؟ . (قالوا: هذه الغميصاء بنت ملحان أم أنس بن مالك) القائلون هم الملائكة والغميصاء بضم الغين وبالصاد مع المد ويقال لها أيضا: الرميصاء بالصاد وبالسين قال ابن عبد البر: أم سليم هي الرميصاء والغميصاء والمشهور فيه الغين وأختها أم حرام الرميصاء ومعناهما متقارب والرمص والغمص قذى يابس وغير يابس يكون في أطراف العين. (أريت الجنة فرأيت امرأة أبي طلحة) هي أم سليم، أم أنس، والرؤية منامية. (ثم سمعت خشخشة أمامي، فإذا بلال) هذه الجملة هي التي جعلت النووي - رحمه الله - يجمع هنا بين أم سليم وبلال في باب واحد وقد تبعناه، والخشخشة صوت المشي اليابس إذا حك بيابس. (مات ابن لأبي طلحة من أم سليم) سبقت قصة هذا الولد، وشبه هذا الحديث في كتاب اللباس والزينة باب وسم الحيوان وفي كتاب الأدب باب تحنيك المولود. (فقالت لأهلها) أي للمقيمين معها في البيت والذين علموا بموته. (ثم تصنعت له أحسن ما كان تصنع قبل ذلك) أصله أحسن ما كانت تتصنع له أي أحسن ما كانت تتزين له فتجملت وتعرضت له ليجامعها. (فغضب، وقال: تركتني حتى تلطخت ثم أخبرتني بابني؟ ) الكلام على الاستفهام الإنكاري التوبيخي أي ما كان ينبغي أن تفعلي ذلك والمراد من التلطخ الجنابة. (بارك الله لكما في غابر ليلتكما) من إضافة الصفة إلى الموصوف أي في ليلتكما الغابرة، أي الماضية. (فحملت) من أبي طلحة في تلك الليلة. (فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وهي معه) شروع في قصة ولادتها بعد الحمل، وكانت تسافر معه صلى الله عليه وسلم في غزواته تسقي العطشى وتداوي المرضى وتحرس وتعين وكان زوجها أبو طلحة لا يتخلف عن الغزو أيضا وفي عودتهم من غزوة وقرب المدينة حصل لها المخاض. (إذا أتى المدينة من سفر لا يطرقها طروقا) أي لا يطرقها ولا يدخلها مفاجئا وبخاصة في الليل، بل كان يضرب الخيام وينزل قريبا منها حتى يصل خبر العودة للنساء.

(فضربها المخاض) أي جاءها طلق الولادة وآلامها. (فاحتبس عليها أبو طلحة، وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي تحرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه نحو المدينة ولم يستطع أبو طلحة أن يتحرك معهم لمرافقتها وعدم قدرتها على السير فرفع الله عنها الطلق استجابة لدعوة زوجها، فرافقا رسول الله صلى الله عليه وسلم. (وضربها المخاض حين قدما) أي حين وصلا المدينة. (فولدت غلاما ... ) هذه القصة سبق شرحها في كتاب اللباس والزينة - باب وسم الحيوان وفي كتاب الأدب - باب تحنيك المولود. (عند صلاة الغداة) أي صلاة الصبح. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث]- 1 - منقبة ظاهرة لأم سليم ولها مناقب كثيرة وقد اشتركت في كثير من الغزوات 2 - ومنقبة لبلال رضي الله عنه وشهادة له بأنه من أهل الجنة. 3 - قال النووي: قال العلماء عن الرواية الأولى: فيه جواز دخول المحرم على محارمه. اهـ. وهذا على ثبوت كونها محرما له وفيه نظر ذكرناه في باب الغزو في البحر. 4 - وفيه إشارة إلى منع دخول الرجل على الأجنبية وإن كان صالحا. 5 - وفيه بيان ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الرحمة والتواضع وملاطفة الضعفاء. 6 - وفيه صحة الاستثناء من الاستثناء. 7 - ومن الرواية الرابعة كثير من الفوائد ذكرناها في كتاب اللباس والزينة - باب وسم الحيوان وفي كتاب الأدب - باب تحنيك المولود. 8 - وفي الرواية الخامسة فضل الطهور والصلاة به. والله أعلم.

(650) باب من فضائل عبد الله بن مسعود وأمه رضي الله عنهما

(650) باب من فضائل عبد الله بن مسعود وأمه رضي الله عنهما 5502 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا} إلى آخر الآية. قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قيل لي أنت منهم". 5503 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قدمت أنا وأخي من اليمن. فكنا حينا وما نرى ابن مسعود وأمه إلا من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثرة دخولهم ولزومهم له. 5504 - وفي رواية عن أبي إسحاق أنه سمع الأسود يقول: سمعت أبا موسى يقول: لقد قدمت أنا وأخي من اليمن فذكر بمثله. 5505 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أرى أن عبد الله من أهل البيت أو ما ذكر من نحو هذا. 5506 - عن أبي الأحوص قال: شهدت أبا موسى وأبا مسعود حين مات ابن مسعود فقال أحدهما لصاحبه: أتراه ترك بعده مثله؟ فقال: إن قلت ذاك. إن كان ليؤذن له إذا حجبنا. ويشهد إذا غبنا. 5507 - عن أبي الأحوص قال: كنا في دار أبي موسى مع نفر من أصحاب عبد الله وهم ينظرون في مصحف فقام عبد الله فقال أبو مسعود: ما أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك بعده أعلم بما أنزل الله من هذا القائم فقال أبو موسى: أما لئن قلت ذاك لقد كان يشهد إذا غبنا. ويؤذن له إذا حجبنا.

5508 - وفي رواية عن أبي الأحوص قال: أتيت أبا موسى، فوجدت عبد الله وأبا موسى. ح وحدثنا أبو كريب. حدثنا محمد بن أبي عبيدة حدثنا أبي عن الأعمش عن زيد بن وهب. قال: كنت جالسا مع حذيفة وأبي موسى وساق الحديث. وحديث قطبة أتم وأكثر. 5509 - عن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: {ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة} ثم قال: على قراءة من تأمروني أن أقرأ؟ فلقد قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وسبعين سورة. ولقد علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أعلمهم بكتاب الله. ولو أعلم أن أحدا أعلم مني لرحلت إليه. قال: شقيق فجلست في حلق أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما سمعت أحدا يرد ذلك عليه ولا يعيبه. 5510 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: والذي لا إله غيره! ما من كتاب الله سورة إلا أنا أعلم حيث نزلت وما من آية إلا أنا أعلم فيما أنزلت. ولو أعلم أحدا هو أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لركبت إليه. 5511 - عن مسروق قال: كنا نأتي عبد الله بن عمرو فنتحدث إليه - وقال ابن نمير: عنده - فذكرنا يوما عبد الله بن مسعود فقال: لقد ذكرتم رجلا لا أزال أحبه بعد شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خذوا القرآن من أربعة. من ابن أم عبد - فبدأ به - ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وسالم مولى أبي حذيفة". 5512 - عن مسروق قال: كنا عند عبد الله بن عمرو فذكرنا حديثا عن عبد الله بن مسعود. فقال: إن ذاك الرجل لا أزال أحبه بعد شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله. سمعته يقول: "اقرءوا القرآن من أربعة نفر: من ابن أم عبد - فبدأ به - ومن أبي بن

كعب، ومن سالم مولى أبي حذيفة، ومن معاذ بن جبل" وحرف لم يذكره زهير. قوله: يقوله. 5513 - وفي رواية عن أبي معاوية قدم معاذا قبل أبي. وفي رواية أبي كريب، أبي قبل معاذ. 5514 - عن مسروق قال: ذكروا ابن مسعود عند عبد الله بن عمرو فقال: ذاك رجل لا أزال أحبه. بعد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "استقرئوا القرآن من أربعة: من ابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة وأبي بن كعب! ومعاذ بن جبل. - قال شعبة: بدأ بهذين. لا أدري بأيهما بدأ. -[المعنى العام]- عبد الله بن مسعود بن غافل الهذلي كان أبوه قد حالف في الجاهلية عبد الله بن الحارث بن زهرة وأمه أم عبد، وذكرها الحافظ ابن حجر في الإصابة "أم عبيد" بنت عبدود، من بني زهرة أيضا، أسلمت وبايعت وروي أنها باتت عند النبي صلى الله عليه وسلم ليلة لترى صلاته بالليل أما ابنها عبد الله فقد أسلم قديما قيل: كان سادس من أسلم وكان سبب إسلامه أنه كان يرعى غنما لعقبة بن أبي معيط فمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا غلام هل من لبن؟ فقال: نعم ولكني مؤتمن قال: فهل من شاة حائل؟ فأتاه بشاة فمسح ضرعها فنزل لبن فحلبه في إناء وشرب وسقى أبا بكر ثم قال للضرع: اقلص فقلص فأتاه فأسلم ودعا له، ثم ضمه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يدخل عليه بكثرة ويلبسه نعليه، ويمشي أمامه ومعه ويستره إذا اغتسل ويوقظه إذا نام وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذنك علي أن ترفع الحجاب وأن تسمع سوادي حتى أنهاك" وكان يعرف في الصحابة بصاحب الوساد وصاحب النعلين وصاحب السواك شهد بدرا والحديبية وهاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة، وصلى للقبلتين، وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة في حديث العشرة (أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن مالك وسعيد بن زيد وعبد الله بن مسعود) وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو كنت مؤمرا أحدا من غير مشورة لأمرت ابن أم عبد" كان ينسب إلى أبيه "مسعود" كما كان ينسب إلى أمه "أم عبد" كان قصيرا نحيفا يكاد طوال الرجال جالسا يوازيه وهو قائم وكان لا يغير شيبه، اشترك في قتل أبي جهل في غزوة بدر ذلك أنه لما ضربه ابنا عفراء فخر على الأرض صريعا صعد ابن مسعود على صدره فقال له: حتى أنت يا رويع الغنم؟ بعثه عمر بن الخطاب إلى الكوفة مع

عمار بن ياسر وكتب إليهم: إني قد بعثت إليكم بعمار بن ياسر أميرا وعبد الله بن مسعود معلما ووزيرا، وهما من النجباء وإني قد آثرتكم بعبد الله بن مسعود على نفسي ومع خلافه مع عثمان على المصحف ما تناوله بسوء، بل لما دعاه عثمان إلى المدينة أجابه وقال لأصحابه الذين حاولوا منعه: إن له علي حق الطاعة، توفي بالمدينة على المشهور سنة ثنتين وثلاثين رضي الله عنه. -[المباحث العربية]- (لما نزلت هذه الآية {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين} [المائدة: 93] قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: قيل لي: أنت منهم) القائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن ابن مسعود منهم هو الله تعالى عن طريق الوحي لأن صفة الإيمان والتقوى والإحسان على الحقيقة لا يعلمها إلا الله وفرق بين أن تنطبق الآية على فرد وبين سبب النزول فقد قال المفسرون في سبب النزول إنه لما نزل تحريم الخمر والميسر قالت الصحابة - رضي الله عنهم - كيف بمن شربها من إخواننا الذين ماتوا وهم قد شربوا الخمر وأكلوا الميسر؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية ومعناها على هذا أن من مات ممن أكل محرما، أو شرب محرما قبل أن يحرم هذا المأكول والمشروب فلا إثم عليه إذا كان قد آمن، واتقى المحرمات المعلومة له وأحسن العمل ودخول ابن مسعود في الآية وفي الموصوفين بذلك بعيد اللهم إلا إذا أدخلناه في بعض الصفات وهي التقوى والإيمان والعمل الصالح والإحسان. وقيل: إنها نزلت في القوم الذين حرموا على أنفسهم ملاذ الحياة الدنيا وسلكوا طريق الترهب ولم يثبت أن ابن مسعود كان منهم بل الثابت غيره. وبغض النظر عن سبب النزول يدخل ابن مسعود وكثير غيره في مضمونها وهو رفع الجناح عنهم فيما طعموا إذ ما اتقوا الحرام واتقوا الإسراف والتقتير واستمروا على إيمانهم وعملهم الصالحات وإحسانهم عبادة الله. (عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قدمت أنا وأخي من اليمن) إلى المدينة مهاجرا وكان ذلك بعد فتح خيبر. (فكنا حينا) أي فعشنا ومكثنا في المدينة زمنا قال الشافعي وأصحابه ومحققو أهل العلم وغيرهم الحين يقع على القطعة من الدهر طالت أم قصرت. (وما نرى ابن مسعود وأمه إلا من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم) "وما نرى" بضم النون بمعنى نظن أي وما كنا نظن ابن مسعود وأمه إلا من أهل البيت. (من كثرة دخولهم ولزومهم له) أي من كثرة دخولهم بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم وطول إقامتهم

في داخلها، وكان حقه يقول "من كثرة دخولهما ولزومهما له" أي هو وأمه قال النووي: الاثنان يجوز جمعهما بالاتفاق لكن الجمهور يقولون: أقل الجمع ثلاثة فجمع الاثنين عندهم مجاز وغير الجمهور يقولون: أقل الجمع اثنان فجمعهما عند غير الجمهور حقيقة. (فقال أحدهما لصاحبه: أتراه ترك بعده مثله؟ ) "أتراه" بضم التاء، أي أتظن ابن مسعود بعد موته ترك على الأرض حيا في درجته وعلمه؟ والاستفهام إنكاري بمعنى النفي، أي لا أظن أنا ولا أنت أن يوجد الآن مثله أو حقيقي والجواب مطوي دل عليه ما قاله الآخر. (إن قلت ذاك، إن كان ليؤذن له إذا حجبنا، ويشهد إذا غبنا) "إن" الأولى شرطية، حذف جوابها، أي إن قلت ذلك القول لم تكن مبالغا، ولا مجاوزا الحقيقة و"إن" الثانية مخففة من الثقيلة واسمها ضمير محذوف والجملة مستأنفة استئنافا تعليليا، أي فإنه كان يأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدخول عليه إذا حجب ومنع الصحابة ومعنى يشهد يحضر أي يحضر مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غاب عنه الآخرون. قال القسطلاني: وكان ابن مسعود رضي الله عنه يلج على النبي صلى الله عليه وسلم ويلبسه نعليه، ويمشي أمامه ومعه ويستره إذا اغتسل، وقال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذنك علي، أن ترفع الحجاب" كانت الستارة على حجر النبي صلى الله عليه وسلم وبعد باب الدار فكأنه أذن له أن لا يطرق الباب- "وأن تسمع سوادي" أي وأن تسمع صوتي، وتعلم وجودي وعدم المانع من دخولك "حتى أنهاك" أي حتى أسلبك هذه الخصوصية. (كنا في دار أبي موسى، مع نفر من أصحاب عبد الله) ابن مسعود أي وعبد الله معهم وهذه واقعة أخرى وإن كانت قولة أبي موسى في كل من الجلستين واحدة فما في الرواية الرابعة كان بعد موت ابن مسعود وما في الرواية الخامسة كان في حياته وقد بين ملحق الرواية الخامسة بعض هؤلاء الأصحاب منهم زيد بن وهب وحذيفة بن اليمان. (وهم ينظرون في مصحف) لعله مصحف عبد الله بن مسعود وكان به بعض اختلاف عن مصحف الجماعة كما سيأتي. (فقام عبد الله) ابن مسعود، أي منصرفا من المجلس. (أعلم بما أنزل الله من هذا القائم) أي من هذا الذي قام وانصرف. (عن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة) هذه الجملة جزء الآية (161) من سورة آل عمران وصدرها {وما كان لنبي أن يغل} قال النووي: معناه أن ابن مسعود كان مصحفه يخالف مصحف الجمهور وكانت مصاحف أصحابه كمصحفه فأنكر عليه الناس وأمروه بترك مصحفه وبموافقة مصحف الجمهور وطلبوا مصحفه ليحرقوه كما فعلوا بغيره فامتنع وقال لأصحابه: غلوا مصاحفكم أي اكتموها وخبئوها {ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة} يعني: فإذا غللتموها جئتم بها يوم القيامة وكفى لكم بذلك شرفا. اهـ.

فكأن ابن مسعود نقل الآية من معناها الأصلي وهو الأخذ سرقة من الغنيمة قبل القسمة ونقل التهديد بالوعيد الذي يلحق الغال وهو أن يحمل الغال على رقبته يوم القيامة ما سرق جملا أو بقرة أو شاة تشهيرا به ونكالا نقلها إلى معنى: من يكتم شيئا من الخير جاء يحمله متشرفا به يوم القيامة وفي رواية أنه قال لأصحابه: إني غال مصحفي وحابسه عن أن يحرق فمن استطاع منكم أن يغل مصحفه فليغلل. (ثم قال: على قراءة من؟ تأمرني أن أقرأ) هكذا هو في بعض النسخ "تأمرني" أي أيها الذي تأمرني وفي بعض النسخ "على قراءة من تأمرونني" أي أيها الآمرون والاستفهام إنكاري توبيخي، أي لا ينبغي أن تأمروني أن أقرأ بقراءة فلان وأترك قراءتي وقصده من "فلان" هذا زيد بن ثابت فقد أثار ابن مسعود أنه لم يحظ بشرف جمع القرآن ونسخه ضمن اللجنة التي ألفها لذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه واعتمد فيها على زيد بن ثابت عز عليه إهماله وهو إمام القراءة في الكوفة، ومن السابقين الماهرين في حفظ القرآن، وهو أول أربعة أمر المسلمون بأخذ القرآن عنهم كما سيأتي في الرواية الثامنة والتاسعة والعاشرة ويقال: إنه خطب في الناس فقال: يا معشر المسلمين أعزل عن نسخ كتابة المصاحف، ويتولاها رجل، والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب كافر - يريد زيد بن ثابت - ولابن مسعود عذره في هذا الغضب ولعثمان عذره في هذا الاختيار فإبعاده عن هذا العمل المشرف - مع كفاءته له - يغضب دون مراء وفي هذا الغضب جزء لله لكنه جاوز ما يليق! إذ هاجم زيد بن ثابت، من غير ذنب إلا أنه وقع عليه الاختيار، وما كان اختيار زيد إلا عن كفاءة ممتازة، مجمع عليها من المنصفين فهو كاتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي قام بجمع القرآن لأبي بكر، ثم هو أكتب القوم بشهادة الصحابة، فالطعن في اختياره لهذا العمل افتئات واعتداء. وعذر عثمان في عدم ضم ابن مسعود للجنة أن ابن مسعود كان متميزا بقراءة متمسكا بها فخشي من تحيزه لقراءته على أن عثمان رضي الله عنه كان متعجلا الأمر منزعجا من الاختلاف في القراءة حريصا على الإسراع بحسم الداء وهو بالمدينة وعبد الله بن مسعود بالكوفة فاكتفى بمن هم في المدينة ولم يشتهر عنهم التحيز لقراءة معينة. وترتب على غضبة ابن مسعود هذه غضبة أخرى، يوم أرسل مصحف عثمان إلى الكوفة ليجمع عليه الناس ويحرقوا ما عداه، فرفض أن يحرق مصحفه ودعا أصحابه إلى ذلك الرفض. (فلقد قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وسبعين سورة) أي وأخذت بقية القرآن عن أصحابه وفي رواية "لقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة وإن زيد بن ثابت لصبي من الصبيان". (قال شقيق: فجلست في حلق أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما سمعت أحدا يرد ذلك عليه، ولا يعيبه) "شقيق" هو الراوي عن ابن مسعود يحكي أنه جلس في حلقات الصحابة العلمية، فيذكرون ابن مسعود وقوله هذا، فلا يعترض على هذا القول و"الحلق" بفتح الحاء واللام

ويقال بكسر الحاء وفتح اللام وقال الحربي بفتح الحاء وإسكان اللام وهو جمع حلقة، بإسكان اللام على المشهور، وحكي فتحها واتفقوا على أن فتحها ضعيف. (ما من كتاب الله سورة إلا أنا أعلم حيث نزلت) أي في أي مكان نزلت. (من ابن أم عبد) كانت أمه تكنى "أم عبد" و"أم عبد الله" بنت عبدود. (ومن أبي بن كعب) سيأتي الكلام عنه في الباب التالي. (ومن سالم مولى أبي حذيفة) وكان من أهل فارس أعتقته مولاته زوج أبي حذيفة فتبناه أبو حذيفة ولذلك يعد من المهاجرين ولما كانت معتقته أنصارية عد من الأنصار ويعد في العجم وهو من خيار الصحابة وكان يؤم المهاجرين بقباء وفيهم عمر، قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وروي أنه هاجر مع عمر بن الخطاب ونفر من الصحابة من مكة وكان يؤمهم إذا سافر معهم لأنه كان أكثرهم قرآنا وروي أن عمر لما طعن قال: لو كان سالم حيا ما جعلتها شورى شهد بدرا وقتل يوم اليمامة شهيدا هو ومولاه أبو حذيفة وجد رأس أحدهما عند رجلي الآخر سنة اثنتي عشرة من الهجرة. (ومن معاذ بن جبل) الأنصاري الخزرجي الإمام المقدم في علم الحلال والحرام كان من أجمل الرجال شهد بدرا وهو ابن إحدى وعشرين سنة وأمره النبي صلى الله عليه وسلم على اليمن وقدم منها في خلافة أبي بكر وكانت وفاته بالطاعون في الشام سنة سبع عشرة وعمره أربع وثلاثون سنة روي أن عمر رضي الله عنه قال: عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الأحاديث]- 1 - فيه منقبة من مناقب عبد الله بن مسعود ففي الرواية الثانية والثالثة ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم وذلك يستلزم فضله وفي الرواية الرابعة والخامسة أنه كان يؤذن له يوم لا يؤذن لغيره ويسمح له يوم لا يسمح لغيره وفي الرواية الثامنة والتاسعة تقديمه في القراءة على غيره. 2 - وفي الرواية السادسة والسابعة استحباب الرحلة في طلب العلم والذهاب إلى الفضلاء حيث كانوا. 3 - قال النووي: فيه جواز ذكر الإنسان نفسه بالفضيلة والعلم ونحوه للحاجة وأما النهي عن تزكية النفس فإنما هو لمن زكاها ومدحها لغير حاجة بل للفخر والإعجاب وقد كثرت تزكية النفس من الأماثل عند الحاجة كدفع شر عنه بذلك أو تحصيل مصلحة للناس أو ترغيب في أخذ العلم عنه أو نحو ذلك فمن المصلحة قول يوسف عليه السلام {اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ

عليم} [يوسف: 55] ومن دفع الشر قول عثمان رضي الله عنه في وقت الحصار "إنه جهز جيش العسرة وحفر بئر رومة" ومن الترغيب قول ابن مسعود وقول سهل بن سعد: ما بقي أحد أعلم بذلك مني وقول بعضهم: على الخبير وقعت. 4 - وفيه أن ابن مسعود أعلم الصحابة بكتاب الله قال النووي: ولا يلزم منه أن يكون أعلم من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم بالسنة ولا يلزم من ذلك أيضا أن يكون أفضل منهم عند الله تعالى فقد يكون واحد أعلم من آخر بباب من العلم أو بنوع من العلم والآخر أعلم من حيث الجملة وقد يكون واحد أعلم من آخر وذاك أفضل عند الله بزيادة تقوى وخشية وورع وزهد وطهارة قلب، قال: ولا شك أن الخلفاء الراشدين الأربعة كل منهم أفضل من ابن مسعود. 5 - وأن قراءة ابن مسعود معتمدة وكذا الثلاثة المذكورون معه قال النووي: قال العلماء: سببه أن هؤلاء أكثر ضبطا لألفاظه وأتقن لأدائه وإن كان غيرهم أفقه في معانيه منهم أو لأن هؤلاء الأربعة تفرغوا لأخذه منه صلى الله عليه وسلم مشافهة وغيرهم اقتصروا على أخذ بعضهم من بعض، أو لأن هؤلاء تفرغوا لأن يؤخذ عنهم أو أنه صلى الله عليه وسلم أراد الإعلام بما يكون بعد وفاته صلى الله عليه وسلم من تقدم هؤلاء الأربعة وتمكنهم وأنهم أقعد من غيرهم في ذلك فليؤخذ عنهم. والله أعلم.

(651) باب من فضائل أبي بن كعب وجماعة من الأنصار رضي الله عنهم

(651) باب من فضائل أبي بن كعب وجماعة من الأنصار رضي الله عنهم 5515 - عن أنس رضي الله عنه قال: جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أربعة كلهم من الأنصار: معاذ بن جبل، وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وأبو زيد قال قتادة: قلت لأنس: من أبو زيد؟ قال: أحد عمومتي. 5516 - عن قتادة قال: قلت لأنس بن مالك: من جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أربعة. كلهم من الأنصار أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت ورجل من الأنصار يكنى أبا زيد. 5517 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي: "إن الله عز وجل أمرني أن أقرأ عليك" قال: آلله سماني لك؟ قال: "الله سماك" لي قال: فجعل أبي يبكي. 5518 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب: "إن الله أمرني أن أقرأ عليك {لم يكن الذين كفروا} قال: وسماني؟ قال: "نعم" قال: فبكى. -[المعنى العام]- أبي بن كعب بن قيس الأنصاري الخزرجي شهد العقبة الثانية وبايع النبي صلى الله عليه وسلم فيها ثم شهد بدرا وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأقواهم في دين الله عمر وأصدقهم حياء عثمان وأقضاهم علي بن أبي طالب وأقرؤهم أبي بن كعب وأفرضهم زيد بن ثابت وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل وما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح". كان أبي بن كعب ممن كتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل زيد بن ثابت وكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع زيد بن ثابت وكان زيد ألزم الصحابة لكتاب الوحي وكان يكتب كثيرا من رسائله صلى الله عليه وسلم قال الواقدي: أول من كتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أول قدومه المدينة أبي بن كعب وكان إذا لم يحضر دعا رسول

الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت فكتب، وكان أبي وزيد يكتبان الوحي بين يديه صلى الله عليه وسلم ويكتبان كتبه إلى الناس، وما يقع، وأول من كتب له من قريش عبد الله بن سعد بن أبي سرح، ثم ارتد، ورجع إلى مكة، وكان الكاتب لعهوده صلى الله عليه وسلم إذا عاهد وصلحه إذا صالح علي بن أبي طالب رضي الله عنه وممن كتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان والزبير بن العوام وخالد وأبان ابنا سعيد بن العاص وحنظلة الأسيدي والعلاء ابن الحضرمي، وخالد بن الوليد، وعبد الله بن رواحة، ومحمد بن مسلمة، وعبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول، والمغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان وجهيم بن الصلت ومعيقيب بن أبي فاطمة وشرحبيل بن حسنة. ومات أبي بن كعب في أواخر حياة عمر سنة ثنتين وعشرين على المشهور روى أحمد وأبو يعلى وابن أبي الدنيا وابن حبان وصححه الطبراني أن رجلا من المسلمين قال: يا رسول الله أرأيت هذه الأمراض التي تصيبنا ما لنا فيها؟ قال: "كفارات" فقال أبي بن كعب: يا رسول الله وإن قلت؟ قال: "وإن شوكة فما فوقها" فدعا أبي بن كعب أن لا يفارقه الوعك حتى يموت وأن لا يشغله عن حج ولا عمرة ولا جهاد ولا صلاة مكتوبة في جماعة فما مس إنسان جسده إلا وجد حره حتى مات" رضي الله عنه وأرضاه. -[المباحث العربية]- (جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة) أي جمعه حفظا في الصدور قال المازري: ليس فيه تصريح بأن غير الأربعة لم يجمعه فقد يكون مراده: الذين علمهم من الأنصار أربعة وأما غيرهم من المهاجرين والأنصار الذين لا يعلمهم، فلم ينفهم، ولو نفاهم كان المراد نفي علمه ومع هذا فقد روى غير مسلم حفظ جماعات من الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وذكر منهم المازري خمسة عشر صحابيا وثبت في الصحيح أنه قتل يوم اليمامة سبعون ممن جمع القرآن وكانت اليمامة قريبا من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فهؤلاء الذين قتلوا من جامعيه يومئذ فكيف الظن بمن لم يقتل ممن حضرها، ومن لم يحضرها وبقي بالمدينة أو بمكة أو غيرها؟ ولم يذكر في هؤلاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ونحوهم من كبار الصحابة الذين يبعد كل البعد أنهم لم يجمعوه مع كثرة رغبتهم في الخير وحرصهم على ما دون ذلك من الطاعات وكيف نظن هذا بهم ونحن نرى في أهل عصرنا حفظة منهم في كل بلدة ألوف مع بعد رغبتهم في الخير عن درجة الصحابة مع أن الصحابة لم يكن لهم أحكام مقررة يعتمدونها في سفرهم وحضرهم إلا القرآن وما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم فكيف نظن بهم إهمالا؟ فكل هذا وشبهه يدل على أنه لا يصح أن يكون معنى الحديث أنه لم يكن في نفس الأمر أحد يجمع القرآن إلا الأربعة المذكورون. هذا جواب عن شبهة بعض الملاحدة في عدم تواتر القرآن. قال: الجواب الثاني أنه لو ثبت أنه لم يجمعه إلا الأربعة لم يقدح في تواتره فإن أجزاءه حفظت، حفظ كل جزء منها خلائق لا يحصون

يحصل التواتر ببعضهم وليس من شرط التواتر أن ينقل جميعهم جميعه، بل إذا نقل كل جزء عدد التواتر صارت الجملة متواترة بلا شك ولم يخالف في هذا مسلم ولا ملحد. اهـ. (معاذ بن جبل) سبقت نبذة عنه في الحديث السابق. (وأبي بن كعب) ذكرنا نبذة عنه في المعنى العام. (وزيد بن ثابت) بن الضحاك، الأنصاري الخزرجي استصغر يوم بدر ويقال: إنه شهد أحدا ويقال: أول مشاهده الخندق، وكان معه راية بني النجار يوم تبوك كتب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم وكان من علماء الصحابة وهو الذي جمع القرآن في عهد أبي بكر وكان أحد أصحاب الفتوى والفرائض والقراءة بالمدينة واستخلفه عمر على المدينة ثلاث مرات في حجتين وفي خروجه إلى الشام وكان عثمان يستخلفه أيضا على المدينة إذا حج مات سنة اثنتين وأربعين بالمدينة على المشهور وصلى عليه مروان. (وأبو زيد) قلت لأنس: من أبو زيد؟ قال: أحد عمومتي قال النووي: أبو زيد هذا هو سعد بن عبيد بن النعمان الأوسي، بدري يعرف بسعد القارئ، استشهد بالقادسية سنة خمس عشرة، في أول خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال ابن عبد البر: هذا هو قول أهل الكوفة وخالفهم غيرهم فقالوا: هو قيس بن السكن الخزرجي من بني عدي بن النجار بدري وقال موسى بن عقبة: استشهد يوم جيش أبي عبيد بالعراق سنة خمس عشرة. اهـ. قال الحافظ ابن حجر في الإصابة: قال ابن نمير في تاريخه: مات سعد بن عبيد القارئ بالقادسية شهيدا، وهو أبو زيد الذي جمع القرآن روي أنه كان يؤم في مسجد قباء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر. (إن الله أمرني أن أقرأ عليك) في الرواية الرابعة "إن الله أمرني أن أقرأ عليك: {لم يكن الذين كفروا} قال القرطبي: خص هذه السورة بالذكر لما اشتملت عليه من التوحيد والرسالة والإخلاص والصحف والكتب المنزلة على الأنبياء، وذكر الصلاة والزكاة والمعاد وبيان الجنة والنار مع وجازتها. اهـ. وقال أبو عبيد: المراد بالعرض على أبي أن يتعلم أبي منه صلى الله عليه وسلم القراءة، ويتثبت فيها وليكون عرض القرآن سنة وللتنبيه على فضيلة أبي بن كعب وتقدمه في حفظ القرآن، وليس المراد أن يستذكر منه النبي صلى الله عليه وسلم شيئا بذلك العرض. اهـ. وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا أبيا فقال: "إن الله أمرني أن أقرأ عليك" وفي رواية "لما نزلت {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب} إلى آخرها، قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن ربك يأمرك أن تقرئها أبيا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي: إن جبريل أمرني أن أقرئك هذه السورة". (قال: آلله سماني لك؟ قال: الله سماك لي) في الرواية الرابعة "قال: وسماني؟ قال:

نعم". والكلام على الاستفهام التعجبي، والواو في "وسماني"؟ عاطفة على جملة محذوفة، أي أمرك أن تقرأ علي؟ وسماني باسمي؟ أي هل نص علي باسمي؟ أو قال: اقرأ على واحد من أصحابك؟ فاخترتني أنت؟ وعند الطبراني "قال: نعم. باسمك ونسبك في الملأ الأعلى" قال القرطبي: تعجب أبي من ذلك. لأن في تسمية الله له، ونصه عليه، ليقرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم تشريف عظيم. (فجعل أبي يبكي) أي أخذ يبكي واستمر في البكاء، سرورا، واستصغارا لنفسه عن تأهيله لهذه النعمة وإعطائه هذه المنزلة قال النووي: والنعمة فيها من وجهين. أحدهما كونه منصوصا عليه بعينه، والثاني قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فإنها منقبة عظيمة له، لم يشاركه فيها أحد من الناس، وقيل: إنما بكى خوفا من تقصيره في شكر هذه النعمة. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث]- 1 - فضيلة ظاهرة لأبي بن كعب رضي الله عنه. 2 - مشروعية التواضع في أخذ الإنسان العلم من أهله. 3 - تعلق به بعض الملاحدة، ليقول: إن القرآن غير متواتر، إذ لم يجمعه من الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا أربعة، وهم دون عدد التواتر، وقد أجبنا على هذه الشبهة في المباحث العربية. 4 - استحباب عرض القرآن على حفاظه البارعين فيه، المجيدين لأدائه. 5 - وفيه حث للصحابة على الأخذ من أبي رضي الله عنه، قال النووي: وكان كذلك فكان بعد النبي صلى الله عليه وسلم رأسا وإماما مقصودا في ذلك، مشهورا به. والله أعلم.

(652) باب من فضائل سعد بن معاذ رضي الله عنه

(652) باب من فضائل سعد بن معاذ رضي الله عنه 5519 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وجنازة سعد بن معاذ بين أيديهم: "اهتز لها عرش الرحمن". 5520 - عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ". 5521 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال وجنازته موضوعة يعني - سعدا - "اهتز لها عرش الرحمن". 5522 - عن البراء رضي الله عنه قال: أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلة حرير. فجعل أصحابه يلمسونها ويعجبون من لينها فقال: "أتعجبون من لين هذه؟ لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها وألين" حدثنا أحمد بن عبدة الضبي. 5523 - وفي رواية عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوب حرير. فذكر الحديث. ثم قال ابن عبدة: أخبرنا أبو داود حدثنا شعبة حدثني قتادة عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم. بنحو هذا أو بمثله. 5524 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم جبة من سندس. وكان ينهى عن الحرير. فعجب الناس منها. فقال: "والذي نفس محمد بيده! إن مناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا". 5525 - وفي رواية عن أنس رضي الله عنه، أن أكيدر دومة الجندل أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلة. فذكر نحوه ولم يذكر فيه. وكان ينهى عن الحرير.

-[المعنى العام]- سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس، الأنصاري، يكنى أبا عمرو أسلم بالمدينة بين العقبة الأولى والثانية على يد مصعب بن عمير، وشهد بدرا، وأحدا والخندق، ورمي يوم الخندق بسهم فقطع وريده من وسط الذراع، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب فسطاط له في المسجد، يتمرض فيه، وكان يعوده في كل يوم، وكوي على جرحه، لكن يده انتفخت، ونزف الدم فلما رأى ذلك قال: اللهم لا تخرج نفسي حتى تقر عيني في بني قريظة فاستمسك عرقه فما قطرت منه قطرة حتى نزل بنو قريظة على حكمه فلما حكم فيهم بحكم الله - وقد ذكرت القصة في غزوة بني قريظة - انفتق عرقه، فمات شهيدا بعد شهر من الخندق وبعد ليال من حكمه على بني قريظة. بشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، فقال: "لمناديل سعد في الجنة خير منها" أي من حلة الحرير التي تعجب الصحابة من نعومتها وجمالها واهتز لموته عرش الرحمن فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا يجر ثوبه فوجد سعدا قد قبض، ولما شيعت جنازته، وكانت خفيفة جدا على حامليها، مع أنه كان رجلا طوالا ضخما تعجب المنافقون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الملائكة حملته" فقال رجل من الأنصار: وما اهتز عرش الله من موت هالك علمنا به إلا لسعد أبي عمرو رضي الله عنه وأرضاه -[المباحث العربية]- (اهتز لها عرش الرحمن) كذا في الرواية الأولى والثالثة، فالضمير يعود على الجنازة الحاضرة، أي لجنازة سعد، أي لسعد الميت على خشبة وفي الرواية الثانية "لموت سعد بن معاذ" والظاهر أن الاهتزاز - على اختلاف المراد منه - للموت السابق على الجنازة ففي الكلام مضافان محذوفان، أي اهتز لموت صاحبها عرش الرحمن - وعرش الرحمن مخلوق يحيط بالسماوات والأرض كما يحيط به الكرسي، أو يملؤه الكرسي وهو من أوائل المخلوقات، قال تعالى {وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء} [هود: 7]، فهو جرم من الأجرام، ومخلوق كبقية العالم، وقد سمي بما يفهمه المخاطبون عنه، على أنه مقر الحكم وقاعة الملك، وسريره، ففي سورة يوسف {ورفع أبويه على العرش} [يوسف: 100] وفي سورة النمل {وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم} [النمل: 23] وفيها {قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون} [النمل: 41]. وفي القرآن الكريم آيات تتحدث عن عرش الرحمن، كمظهر من مظاهر الهيمنة والجبروت، منها قوله تعالى {قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم} [المؤمنون: 86]؟ {فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم} [المؤمنون: 116] {إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم

مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين} [الأعراف: 54] {وهو الغفور الودود * ذو العرش المجيد * فعال لما يريد} [البروج: 14 - 16] {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم} [غافر: 7] {وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم} [الزمر: 75]. واهتزاز هذا الجرم بإرادة الله تعالى أمر ممكن عقلا وشرعا، وقد فسرت طائفة اهتزازه لموت سعد بتحركه فرحا بقدوم روح سعد، سواء بالإرادة الإلهية التسخيرية، أو بإدراك وتمييز خلقه الله فيه، قال المازري: ولا مانع منه، كما قال الله تعالى {وإن منها لما يهبط من خشية الله} [البقرة: 74] قال: وهذا القول هو ظاهر الحديث، فالاهتزاز على حقيقته وأن العرش تحرك لموته، وهذا لا ينكر من جهة العقل لأن العرش جسم من الأجسام، يقبل الحركة والسكون. قال: وهذا القول هو المختار اهـ وعندي أنه مستبعد جدا، إذ لم يحصل مثل هذا لنبي ولا لرسول، ولا لسيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم هذا القول إظهارا لفضيلة سعد، وهو لا تحصل به فضيلة سعد كما يقول ذلك المازري نفسه، حتى وإن جعل الله حركته علامة للملائكة على موته. الرأي الثاني: أنا المراد اهتزاز أهل العرش وهم حملته من الملائكة، ففي الكلام مضاف محذوف واهتزازهم حقيقة فرحا بقدومه، وهو مستبعد أيضا بما استبعد به سابقه. الرأي الثالث: كالثاني، إلا أن اهتزاز حملة العرش كناية عن استبشارهم بقدومه وهو كثير في لغة العرب ومنه قولهم: اهتز طربا للخبر وللمكارم لا يريدون اضطراب الجسم وحركته وإنما يريدون الارتياح والإقبال ويؤيده ما أخرجه الحاكم "إن جبريل قال: من هذا الميت الذي فتحت له أبواب السماء واستبشر به أهلها؟ "، وهذا الرأي قريب من الرأي الذي سنختاره. الرأي الرابع: أن المراد اهتزاز سرير الجنازة على أكتاف حملته، أي اهتز عرش سعد فعند الحاكم "اهتز العرش فرحا به" وأوله البراء بن عازب فقال: اهتز العرش فرحا بلقاء الله سعدا، حتى تفسخت أعواده على عواتقنا، وقال ابن عمر: يعني عرش سعد الذي حمل عليه وعند الترمذي عن أنس قال: "لما حملت جنازة سعد بن معاذ قال المنافقون: ما أخف جنازته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الملائكة كانت تحمله". قال النووي: وهذا القول باطل ويرده صريح هذه الروايات التي ذكرها مسلم اهتز لموته عرش الرحمن" قال: وإنما قال هؤلاء هذا التأويل لكونهم لم تبلغهم هذه الروايات التي في مسلم، وقال الحاكم: الأحاديث التي تصرح باهتزاز عرش الرحمن مخرجة في الصحيحين، وليس لمعارضها في الصحيح ذكر. الرأي الخامس: قريب من الرابع: إلا أنه جعل الاهتزاز لحملة السرير فرحا بقدومه على ربه. الرأي السادس: وهو الذي نختاره أن اهتزاز عرش الرحمن كناية عن تعظيم أمر وفاة سعد والعرب تنسب الشيء المعظم إلى أعظم الأشياء فيقولون: أظلمت الأرض لموت فلان وقامت القيامة لموت فلان وبكت عليه السماء والأرض، والله أعلم. (أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلة حرير) في ملحق الرواية "أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوب حرير"

وفي الرواية الخامسة "أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم جبة من سندس" وفي ملحقها "أن أكيدر دومة الجندل أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلة" والأكثرون على أن الحلة - بضم الحاء وتشديد اللام المفتوحة - لا تكون إلا ثوبين، يحل أحدهما على الآخر، والبعض يقول: الحلة ثوب واحد جديد، قريب العهد بحله من طيه، ولما كان الثابت أن المهدي من أكيدر دومة الجندل كان قباء وأنه صاحب القصة كان قول غير الأكثرين هنا هو الصحيح ويئول على قول الأكثرين. والجبة بضم الجيم وتشديد الباء ثوب سابغ، واسع الكمين، مشقوق المقدم، يلبس فوق الثياب، والقباء بفتح القاف ثوب يلبس فوق الثياب، و"أكيدر" بضم الهمزة تصغير "أكدر" وهو أكيدر بن عبد الملك، و"دومة الجندل" بضم الدال وسكون الواو، بلد بين الحجاز والشام. مدينة قرب تبوك بها نخل وزرع وحصن، على عشر مراحل من المدينة، وثمان مراحل من دمشق، وكان أكيدر ملكها، وكان نصرانيا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إليه خالد بن الوليد في سرية، فأسره وقدم به المدينة، فصالحه النبي صلى الله عليه وسلم على الجزية وأطلقه، وروي أنه لما قدم المدينة أخرج قباء من ديباج منسوجا بالذهب وقد سبق الموضوع في كتاب اللباس، وفي باب حكم لبس الحرير. (فجعل أصحابه يلمسونها، ويعجبون من لينها) "يلمسونها" بضم الميم وكسرها وفي رواية البخاري "فجعل أصحابه يمسونها" وفي الرواية الخامسة "فعجب الناس منها". (أتعجبون من لين هذه؟ ) الاستفهام إنكاري توبيخي بمعنى لا ينبغي أن تعجبوا، يعني لا تعجبوا. (لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها، وألين) وفي الرواية الخامسة "والذي نفس محمد بيده إن مناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا" فاللام في "لمناديل سعد" في جواب قسم محذوف وفي رواية البخاري "خير منها أو ألين" والمناديل جمع منديل بكسر الميم في المفرد وهو هذا الذي يحمل في اليد قال أهل اللغة: هو مشتق من الندل، وهو النقل، لأنه ينقل من واحد إلى واحد، وقيل: من الندل وهو الوسخ لأنه يندل به، يقال: تندلت بالمنديل. -[فقه الحديث]- في الحديث إشارة إلى عظيم منزلة سعد بن معاذ. وتبشير له بأنه من أهل الجنة. وأن أدنى ثيابه فيها خير من حرير الدنيا لأن المنديل أدنى الثياب لأنه معد للوسخ والامتهان فغيره أفضل. والله أعلم.

(653) باب من فضائل أبي دجانة: سماك بن خرشة رضي الله عنه

(653) باب من فضائل أبي دجانة: سماك بن خرشة رضي الله عنه 5526 - عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ سيفا يوم أحد فقال: "من يأخذ مني هذا؟ " فبسطوا أيديهم كل إنسان منهم يقول: أنا أنا قال: "فمن يأخذه بحقه؟ " قال: فأحجم القوم فقال سماك بن خرشة أبو دجانة: أنا آخذه بحقه. قال: فأخذه ففلق به هام المشركين. -[المعنى العام]- أبو دجانة، سماك بن خرشة، ويقال: سماك بن أوس بن خرشة بن لوزان بن عبد ود بن ثعلبة الأنصاري، أحد بني ساعدة بن كعب بن الخزرج. شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من الأبطال الذين دافعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، هو ومصعب بن عمير، أما هو فقد كثرت فيه الجراح وأما مصعب فقد استشهد. عاش أبو دجانة حتى استشهد يوم اليمامة وهو ممن اشترك في قتل مسيلمة الكذاب يومئذ مع عبد الله بن زيد بن عاصم ووحشي بن حرب رضي الله عنه وأرضاه. -[المباحث العربية]- (أبو دجانة) بضم الدال. (أخذ سيفا يوم أحد) أي أمسك بسيف من سيوفه صلى الله عليه وسلم وعرضه على أصحابه يوم أحد قبل المعركة. (فقال: من يأخذ مني هذا) ليقاتل به. (فبسطوا أيديهم) أي بسط كثير منهم يده، ليأخذه. (كل إنسان منهم يقول: أنا أنا) أي أنا آخذه، لأقاتل به. (قال: فمن يأخذه بحقه؟ فأحجم القوم) أي تأخروا وكفوا أيديهم، لما فهموا من أن حقه كبير، قد لا يوفونه، قال النووي: هكذا هو في معظم نسخ بلادنا "فأحجم" بتقديم الحاء على الجيم،

وفي بعضها بتقديم الجيم على الحاء، قال: وادعى القاضي أن الرواية بتقديم الجيم ولم يذكر غيره، قال: فهما لغتان، ومعناهما تأخروا، وكفوا. اهـ. (فقال أبو دجانة: أنا آخذه بحقه) وعند الدولابي في الكنى "فقام أبو دجانة سماك بن خرشة فقال: أنا. فما حقه؟ قال: لا تقتل به مسلما، ولا تفر به من كافر". (فأخذه، ففلق به هام المشركين) أي شق رءوسهم، و"هام" بتخفيف الميم جمع هامة، وهي الرأس أو أعلاه أو وسطه. -[فقه الحديث]- فيه فضيلة كبيرة لأبي دجانة، وأنه كان من الأبطال الشجعان. وفيه ما كان عليه الصحابة من توقير الرسول صلى الله عليه وسلم وخوفهم من مخالفته. وما كان عليه صلى الله عليه وسلم من التشجيع على القتال، واستخدام الأساليب المهيجة النافعة. والله أعلم.

(654) باب من فضائل عبد الله بن عمرو بن حرام، والد جابر رضي الله عنهما

(654) باب من فضائل عبد الله بن عمرو بن حرام، والد جابر رضي الله عنهما 5527 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لما كان يوم أحد، جيء بأبي مسجى وقد مثل به. قال: فأردت أن أرفع الثوب، فنهاني قومي. ثم أردت أن أرفع الثوب. فنهاني قومي فرفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أمر به فرفع فسمع صوت باكية أو صائحة فقال: "من هذه؟ " فقالوا: بنت عمرو، أو أخت عمرو، فقال: "ولم تبكي؟ فما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع". 5528 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أصيب أبي يوم أحد. فجعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي وجعلوا ينهونني ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينهاني. قال: وجعلت فاطمة بنت عمرو تبكيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تبكيه أو لا تبكيه ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها، حتى رفعتموه". 5529 - وفي رواية عن جابر رضي الله عنه بهذا الحديث. غير أن ابن جريج ليس في حديثه ذكر الملائكة وبكاء الباكية. 5530 - وفي رواية عن جابر رضي الله عنه قال: جيء بأبي يوم أحد مجدعا فوضع بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فذكر نحو حديثهم. -[المعنى العام]- عبد الله بن عمرو بن حرام بن كعب بن غنم بن سلمة الأنصاري الخزرجي، يكنى أبا جابر كان نقيبا يوم العقبة الثانية ويقال: إن ابنه جابرا كان معه في العقبة وهو صغير وشهد بدرا وأحدا وقتل يوم أحد شهيدا ومثل به المشركون فقطعوا أنفه وأذناه وكان أول قتيل من المسلمين يوم

أحد، جاءوا به مغطى فحاول ابنه أن يكشف وجهه فمنعوه لئلا يزداد حزنا وغيظا حين يراه ممثلا به وبكت عليه أخته بصوت وبكى ابنه جابر وبكى فقال صلى الله عليه وسلم: "ابكوا عليه أو لا تبكوا عليه فما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى دفنتموه" يقول جابر: فجعلت أبكي وجعل القوم ينهوني ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينهاني ودفن هو وعمرو بن الجموح في قبر واحد، وكان عمرو بن الجموح زوجا لأخته هند بنت عمرو بن حرام، وكان القبر في جانب السيل فجرف السيل القبر وانكشف ما فيه، فحفر جابر لأبيه قبرا آخر، ونقله إليه بعد ستة أشهر من دفنه يقول جابر: فوجدا لم يتغيرا، كأنهما ماتا بالأمس، وكان أحدهما قد وضع يده على جرحه فدفن وهو كذلك فأميطت يده عن جرحه ثم أرسلت فرجعت كما كانت يقول جابر: فما أنكرت من أبي شيئا إلا شعرات من لحيته كانت مستها الأرض. وظل جابر منكسرا، فقد ترك له أبوه دينا وعيالا أخوات بنات قام عليهن بعد أبيه مما اضطره إلى أن يتزوج ثيبا، ترعى شئونهن، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه، ويعطف عليه، ويسامره، قال له يوما: "أفلا أبشرك يا جابر؟ أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك؟ " قال جابر: بلى يا رسول الله. قال: "إن الله أحيا أباك وكلمه كفاحا وما كلم أحد قط إلا من وراء حجاب فقال لأبيك: عبدي تمن أعطك. قال: يا رب. تردني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية فقال الرب تعالى ذكره: إنه سبق مني {أنهم إلينا لا يرجعون} [القصص: 39] قال: يا رب، فأبلغ من ورائي، فأنزل الله {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون} " [آل عمران: 169]. شهد جابر مع النبي صلى الله عليه وسلم ثماني عشرة غزوة، ولم يشهد بدرا، ولا أحدا مقاتلا، لصغره فقد روي عنه أنه قال: لم أشهد بدرا ولا أحدا، منعني أبي فلما قتل لم أتخلف وقيل: إنه كان ينقل الماء لأصحابه يوم بدر. واشترى منه رسول الله صلى الله عليه وسلم جمله الضعيف، ونقده ثمنه وأعاده إليه في قصة سبقت في باب بيع البعير واستثناء ركوبه وشهد صفين مع علي رضي الله عنهما وكف بصره في آخر عمره وتوفي سنة ثمان وسبعين بالمدينة وكان من المكثرين من رواية الحديث وكان له حلقة في المسجد النبوي يؤخذ عنه العلم، رضي الله عنه وعن أبيه عبد الله وعن الصحابة أجمعين. -[المباحث العربية]- (جيء بأبي مسجى) أي مغطى، يقال: سجا الشيء يسجو سجوا سكن، وسجا الليل وسجا البحر وسجت الريح، وسجا الناس الميت، بتخفيف الجيم، وسجى الناس الميت بتشديدها غطوه. (وقد مثل به) بضم الميم وتشديد الثاء المكسورة، مبني للمجهول وبضم الميم وكسر الثاء مخففة والاسم المثلة، أما مثل بتشديد الثاء فهو للمبالغة، قال النووي: والرواية هنا بتخفيف الثاء المكسورة، ومثل بالقتيل إذا قطع أطرافه أو أنفه أو أذنه أو مذاكيره أو نحو ذلك، وفي رواية حماد

"قتل أبي يوم أحد وجدع أنفه، وقطعت أذناه" وفي ملحق الرواية الثانية "جيء بأبي يوم أحد مجدعا" قال الخليل: الجدع قطع الأنف والأذن. (فأردت أن أرفع الثوب، فنهاني قومي) أي أردت أن أرفع الثوب عن وجهه لأرى ما فعل به وفي الرواية الثانية "فجعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي وجعلوا ينهونني ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينهاني" أي جعلت أحاول كشف الثوب وهم يمنعونني. (فرفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أمر به فرفع) الظاهر أن "أو" للإضراب، وأن الواقع أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر به فرفع، وإسناد الرفع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله "فرفعه" مجاز عقلي. (فقالوا: بنت عمرو، أو أخت عمرو) الشك من القائلين، وكان لعمرو بن الجموح بنت وأخت واستشهد يوم أحد، حين انكشف المسلمون، شهد العقبة، ثم بدرا ودفن مع عبد الله بن عمرو بن حرام في قبر واحد، وعمرو بن الجموح بن زيد بن حرام، فعبد الله بمنزلة عمه، وكان زوجا لأخت عبد الله، فبنت عمرو تبكي أباها وخالها، وأخت عمرو تبكي أخاها وعمها وفي الرواية الثانية "وجعلت فاطمة بنت عمرو تبكيه" بدون شك والمراد: تبكي عمرا أو تبكي خالها عبد الله وهو الأولى لتناسق الضمائر وعودها على مصدر واحد. (فقال: ولم تبكي؟ ) الاستفهام إنكاري توبيخي أي لا ينبغي أن تبكي لحسن خاتمته التي يسر لها أحبابه، وفي الرواية الثانية "تبكيه أو لا تبكيه" أي يستوي بكاؤها وعدمه فقد أكرمه الله بالشهادة التي تخفف حزن الحزين قال النووي: معناه سواء بكت عليه أم لا فما زالت الملائكة تظله أي فقد حصل له من الكرامة هذا وغيره، فلا ينبغي البكاء على مثل هذا. (فما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع) قال القاضي: يحتمل أن ذلك لتزاحمهم عليه لبشارته بفضل الله ورضاه عنه وما أعد له من الكرامة، أو ازدحموا عليه إكراما وتكريما له، وفرحا به، أو أظلوه من حر الشمس لئلا يتغير ريحه أو جسمه اهـ. وهذا الأخير مستبعد لما سبق في المعنى العام أنه لم يتغير بعد أشهر في قبره. -[فقه الحديث]- فيه فضيلة عبد الله بن عمرو وتكريم الله له عند موته وبشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأهله ومواساته لهم وجواز البكاء على الميت والكشف عن وجهه. والله أعلم.

(655) باب من فضائل جليبيب رضي الله عنه

(655) باب من فضائل جليبيب رضي الله عنه 5531 - عن أبي برزة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مغزى له. فأفاء الله عليه فقال لأصحابه: "هل تفقدون من أحد؟ " قالوا: نعم فلانا وفلانا وفلانا. ثم قال: "هل تفقدون من أحد؟ " قالوا: نعم فلانا وفلانا وفلانا ثم قال: "هل تفقدون من أحد؟ " قالوا: لا. قال: "لكني أفقد جليبيبا. فاطلبوه" فطلب في القتلى. فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فوقف عليه فقال: "قتل سبعة ثم قتلوه. هذا مني وأنا منه هذا مني وأنا منه" قال: فوضعه على ساعديه. ليس له إلا ساعدا النبي صلى الله عليه وسلم قال: فحفر له ووضع في قبره ولم يذكر غسلا. -[المعنى العام]- رجل دميم الخلقة قصير لا يؤبه له حضر أو غاب لكنه عند الله عظيم وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم عزيز عظيم سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما: لم لم تتزوج يا جليبيب؟ فقال: إذن تجدني يا رسول الله كاسدا في سوق الرجال فقال: إنك عند الله لست بكاسد وذكر له ابنة أنصاري، فلما علم الأنصاري وزوجته كأنهما كرها ذلك فسمعت ابنتهما بما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأت قوله تعالى {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} [الأحزاب: 36] ثم قالت: رضيت وسلمت لما يرضى لي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم اصبب عليها الخير صبا ولا تجعل عيشها كدا، وتزوجته، وجاهد في سبيل الله، وغنم وغنم وغنم ونفله رسول الله صلى الله عليه وسلم لبطولته فلما افتقده رسول الله صلى الله عليه وسلم في نهاية غزوة وفي تصفية مكاسبها وخسائرها سأل أصحابه، سؤال توجيه وتعليم: من فقدتم من الأبطال في هذه المعركة؟ قالوا: فقدنا فلانا وفلانا وفلانا، يذكرون من يؤبه لهم إذا حضروا ويسأل عنهم إذا غابوا، وأعاد الرسول صلى الله عليه وسلم السؤال، فذكروا فلانا وفلانا وفلانا، غير من ذكروا أولا، فكرر الرسول صلى الله عليه وسلم السؤال فلم يذكروا فيمن ذكروا جليبيبا، فقال: أما أنا فأفتقد جليبيبا، ابحثوا عنه وقام معهم يبحث عنه بين القتلى فوجده بين سبعة من المشركين قتلهم قبل أن يستشهد، فقال: هكذا تكون البطولة، وهكذا يكون الجندي المجهول وهكذا يكون الجهاد في سبيل الله هو يشبهني في الشجاعة وأنا أشبهه، ثم حمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على ساعديه لم يسمح للصحابة أن يحملوه إلى قبره بل حمله هو بنفسه حتى وضعه في حفرته، أما زوجته فكانت بعده من أكثر النساء مالا ونفقة.

مثل أعلى في تكريم الأعمال قبل تكريم الهيئات، والأجسام، وطوبى لعبد يجاهد في سبيل الله، لا يهتم بتقدير الناس إن كان في المقدمة أو كان في الساقة هو يتعامل لله ومع الله ولدين الله. رضي الله عنه وأرضاه. -[المباحث العربية]- (جليبيب) قال الحافظ ابن حجر في الإصابة: اسم غير منسوب، أي لم يذكر له نسب من أهل النسب، وهو على هيئة تصغير جلباب. (كان في مغزى له) أي في سفر غزو من أسفار غزواته، ولم أر من حدد هذه الغزوة. (هذا مني وأنا منه) قال النووي: معناه المبالغة في اتحاد طريقتهما واتفاقهما في طاعة الله. -[فقه الحديث]- فيه منقبة عظيمة لجليبيب وتقدير النبي صلى الله عليه وسلم للكفايات وتكريمهم، وفيه أن الشهيد لا يغسل ولا يصلى عليه. والله أعلم.

(656) باب من فضائل أبي ذر رضي الله عنه

(656) باب من فضائل أبي ذر رضي الله عنه 5532 - عن أبي ذر رضي الله عنه قال: خرجنا من قومنا غفار وكانوا يحلون الشهر الحرام فخرجت أنا وأخي أنيس وأمنا. فنزلنا على خال لنا. فأكرمنا خالنا وأحسن إلينا. فحسدنا قومه فقالوا: إنك إذا خرجت عن أهلك خالف إليهم أنيس. فجاء خالنا فنثا علينا الذي قيل له. فقلت: أما ما مضى من معروفك فقد كدرته، ولا جماع لك فيما بعد فقربنا صرمتنا فاحتملنا عليها. وتغطى خالنا ثوبه فجعل يبكي. فانطلقنا حتى نزلنا بحضرة مكة فنافر أنيس عن صرمتنا وعن مثلها فأتيا الكاهن. فخير أنيسا فأتانا أنيس بصرمتنا ومثلها معها قال: وقد صليت، يا ابن أخي! قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين. قلت: لمن؟ قال: لله. قلت: فأين توجه؟ قال: أتوجه حيث يوجهني ربي. أصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأني خفاء. حتى تعلوني الشمس فقال أنيس: إن لي حاجة بمكة فاكفني. فانطلق أنيس حتى أتى مكة فراث علي ثم جاء فقلت: ما صنعت؟ قال: لقيت رجلا بمكة على دينك. يزعم أن الله أرسله قلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون شاعر، كاهن، ساحر. وكان أنيس أحد الشعراء. قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فما يلتئم على لسان أحد بعدي، أنه شعر. والله! إنه لصادق وإنهم لكاذبون قال: قلت: فاكفني حتى أذهب فأنظر قال فأتيت مكة. فتضعفت رجلا منهم فقلت: أين هذا الذي تدعونه الصابئ؟ فأشار إلي فقال: الصابئ فمال علي أهل الوادي بكل مدرة وعظم. حتى خررت مغشيا علي. قال: فارتفعت حين ارتفعت كأني نصب أحمر. قال: فأتيت زمزم فغسلت عني الدماء وشربت من مائها. ولقد لبثت يا ابن أخي! ثلاثين بين ليلة ويوم ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن بطني وما وجدت على كبدي سخفة جوع. قال: فبينا أهل مكة في ليلة قمراء إضحيان، إذ ضرب على أسمختهم. فما يطوف بالبيت أحد وامرأتين منهم تدعوان إسافا ونائلة. قال: فأتتا علي في طوافهما فقلت: أنكحا أحدهما الأخرى قال: فما تناهتا عن قولهما قال: فأتتا علي فقلت: هن مثل الخشبة. غير أني لا أكني. فانطلقتا تولولان وتقولان: لو كان ها هنا أحد من أنفارنا! قال فاستقبلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر. وهما هابطان قال: "ما

لكما؟ " قالتا: الصابئ بين الكعبة وأستارها. قال: "ما قال لكما؟ " قالتا: إنه قال لنا كلمة تملا الفم. وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استلم الحجر. وطاف بالبيت هو وصاحبه ثم صلى. فلما قضى صلاته (قال أبو ذر) فكنت أنا أول من حياه بتحية الإسلام قال: فقلت: السلام عليك يا رسول الله! فقال: "وعليك ورحمة الله" ثم قال: "من أنت؟ " قال: قلت: من غفار. قال: فأهوى بيده فوضع أصابعه على جبهته. فقلت في نفسي: كره أن انتميت إلى غفار فذهبت آخذ بيده فقدعني صاحبه. وكان أعلم به مني ثم رفع رأسه ثم قال: "متى كنت ها هنا؟ " قال: قلت: قد كنت ها هنا منذ ثلاثين بين ليلة ويوم قال: "فمن كان يطعمك؟ " قال: قلت: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن بطني وما أجد على كبدي سخفة جوع قال: "إنها مباركة إنها طعام طعم" فقال أبو بكر: يا رسول الله: ائذن لي في طعامه الليلة. فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر. وانطلقت معهما ففتح أبو بكر بابا. فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف. وكان ذلك أول طعام أكلته بها. ثم غبرت ما غبرت. ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنه قد وجهت لي أرض ذات نخل. لا أراها إلا يثرب. فهل أنت مبلغ عني قومك؟ عسى الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم" فأتيت أنيسا فقال: ما صنعت؟ قلت: صنعت أني قد أسلمت وصدقت. قال: ما بي رغبة عن دينك. فإني قد أسلمت وصدقت. فأتينا أمنا. فقالت: ما بي رغبة عن دينكما. فإني قد أسلمت وصدقت فاحتملنا حتى أتينا قومنا غفارا. فأسلم نصفهم. وكان يؤمهم أيماء بن رحضة الغفاري. وكان سيدهم. وقال نصفهم: إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسلمنا. فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة. فأسلم نصفهم الباقي. وجاءت أسلم فقالوا: يا رسول الله! إخوتنا نسلم على الذي أسلموا عليه. فأسلموا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غفار غفر الله لها. وأسلم سالمها الله". 5533 - وفي رواية عن حميد بن هلال بهذا الإسناد، وزاد بعد قوله - قلت: فاكفني حتى أذهب فأنظر - قال: نعم. وكن على حذر من أهل مكة. فإنهم قد شنفوا له وتجهموا. 5534 - وفي رواية عن أبي ذر قال: يا ابن أخي! صليت سنتين قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قال: قلت: فأين كنت توجه؟ قال: حيث وجهني الله. واقتص الحديث بنحو حديث سليمان

بن المغيرة. وقال في الحديث: فتنافرا إلى رجل من الكهان قال: فلم يزل أخي أنيس يمدحه حتى غلبه قال: فأخذنا صرمته فضممناها إلى صرمتنا. وقال أيضا في حديثه: قال: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت وصلى ركعتين خلف المقام. قال: فأتيته. فإني لأول الناس حياه بتحية الإسلام. قال: قلت: السلام عليك يا رسول الله! قال: "وعليك السلام. من أنت؟ " وفي حديثه أيضا: فقال: "منذ كم أنت ها هنا؟ " قال: قلت: منذ خمس عشرة. وفيه: فقال أبو بكر أتحفني بضيافته الليلة. 5535 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما بلغ أبا ذر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي. فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء. فاسمع من قوله ثم ائتني. فانطلق الآخر حتى قدم مكة. وسمع من قوله. ثم رجع إلى أبي ذر فقال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق. وكلاما ما هو بالشعر. فقال: ما شفيتني فيما أردت. فتزود وحمل شنة له فيها ماء. حتى قدم مكة فأتى المسجد فالتمس النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرفه. وكره أن يسأل عنه. حتى أدركه - يعني الليل - فاضطجع. فرآه علي فعرف أنه غريب. فلما رآه تبعه. فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء. حتى أصبح. ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد فظل ذلك اليوم. ولا يرى النبي صلى الله عليه وسلم حتى أمسى. فعاد إلى مضجعه. فمر به علي. فقال: ما أنى للرجل أن يعلم منزله؟ فأقامه. فذهب به معه. ولا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء. حتى إذا كان يوم الثالث فعل مثل ذلك. فأقامه علي معه. ثم قال له: ألا تحدثني؟ ما الذي أقدمك هذا البلد؟ قال: إن أعطيتني عهدا وميثاقا لترشدني، فعلت. ففعل فأخبره فقال: فإنه حق وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا أصبحت فاتبعني. فإني إن رأيت شيئا أخاف عليك قمت كأني أريق الماء فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي ففعل. فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ودخل معه. فسمع من قوله وأسلم مكانه. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري" فقال والذي نفسي بيده! لأصرخن بها بين ظهرانيهم. فخرج حتى أتى المسجد. فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. وثار القوم فضربوه حتى أضجعوه. فأتى

العباس فأكب عليه. فقال: ويلكم! ألستم تعلمون أنه من غفار وأن طريق تجاركم إلى الشام عليهم. فأنقذه منهم ثم عاد من الغد بمثلها. وثاروا إليه فضربوه. فأكب عليه العباس فأنقذه. -[المعنى العام]- أبو ذر الغفاري الزاهد المشهور، الصادق اللهجة، مختلف في اسمه واسم أبيه، والمشهور أنه جندب بن جنادة بن سكن، وقيل: اسم جده سفيان بن عبيد بن حرام بن غفار وأمه اسمها رملة بنت الوقيعة، غفارية أيضا، والحديث يحكي قصة إسلامه وأنه من السابقين الأوائل يقال: إن إسلامه كان بعد أربعة، وانصرف إلى بلاده، فأقام بها، حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ومضت بدر وأحد، ولم يتهيأ له الهجرة إلا بعد ذلك، وكان طويلا نحيفا أسمر اللون وكان صلى الله عليه وسلم يبتدئ أبا ذر إذا حضر، ويفتقده إذا غاب، وقد روي عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أقربكم مني مجلسا يوم القيامة من خرج من الدنيا كهيئته يوم تركته فيها، وإنه والله ما منكم من أحد إلا وقد نشب فيها بشيء غيري" فكان زاهدا واشتهر عنه مذهب يقول: المال مال الله، وأن كل فضل زائد عن الحاجة من مال هو مال المسلمين وهو كنز يذم فاعله، وأن آية الوعيد {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم * يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون} [التوبة: 34، 35] كان يرى أن هذه الآية نزلت في ذلك وخالفه جمهور الصحابة ومن بعدهم وحملوا الوعيد على مانعي الزكاة. سكن الشام بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يعظ الناس في المسجد، ويقول: هلم لا يبيتن عند أحدكم دينار ولا درهم، إلا ما ينفقه في سبيل الله. فضاق به معاوية ذرعا، وكان واليا على الشام من قبل عثمان فكتب إلى عثمان: إن كان لك بالشام حاجة فابعث إلى أبي ذر فكتب إليه عثمان: أن أقدم علي، فقدم المدينة، وأخذ يقول في مسجد المدينة ما كان يقوله في مسجد الشام، وتذمر المسلمون إلى عثمان من قول أبي ذر، وأخذوا ينفرون إذا رأوا أبا ذر بل يفرون من وجهه إذا رأوه في الطريق، أو يتجمعون حوله، يسألونه عن سبب إخراجه من الشام، فخشي عثمان على أهل المدينة ما خشيه معاوية على أهل الشام، فقال له: تنح قريبا عن المدينة، أو دع ما تقول. فقال: والله لا أدع ما كنت أقوله، فاختار الربذة - بفتح الراء والباء قرية بين مكة والمدينة - فنزل بها حتى مات سنة إحدى وثلاثين، وصلى عليه عبد الله بن مسعود وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يرحم الله أبا ذر يعيش وحده ويموت وحده ويحشر وحده" رضي الله عنه وأرضاه. -[المباحث العربية]- (خرجنا من قومنا غفار) سيأتي قريبا من فضائل هذه القبيلة.

(وكانوا يحلون الشهر الحرام) جملة معترضة ولعلها لبيان الدافع على خروجهم من قومهم، إذ كان أبو ذر وأخوه من المحافظين على الأمور الدينية. (فخرجت أنا وأخي أنيس وأمنا فنزلنا على خال لنا) تفصيل للمجمل في قوله سابقا "خرجنا" و"أنيس" بضم الهمزة مصغرا، كان أكبر من أبي ذر، وأمهما رملة بنت الوقيعة غفارية أيضا والظاهر أن هذا الخروج كان هجرة ولم يكن زيارة ويحتمل أن خالهما قد تزوج من قوم آخرين فأقام عندهم، واعتبروا قومه، لأننا قلنا: إن أمه غفارية، فخاله كذلك. (فأكرمنا خالنا وأحسن إلينا، فحسدنا قومه) أي وحقدوا علينا حياتنا معه حياة هنيئة ونحن من قوم لا يحبونهم، فأوقعوا فتنة بيننا وبينه. (فقالوا) أي قال الواشون منهم لخالي وفي رواية "فأتاه رجل فقال له". (إنك إذا خرجت عن أهلك خالف إليهم أنيس) كانوا قد أقاموا لهم منزلا بجوار منزل خالهم وكانت لهم شياههم وإبلهم التي خرجوا بها فكانت الوشاية أن أنيسا يستغل خروج خاله من منزله، ليدخل على زوجة خاله. (فجاءنا خالنا، فنثا علينا الذي قيل له) "نثا" نون ثم ثاء مخففة، أي أفشى وأذاع، يقال: نثا الحديث، ينثوه، نثوا، بثه. (فقلت: أما ما مضى من معروفك فقد كدرته) أي فقلت لخالي: كان معروفك دينا في رقابنا صافيا جليلا لكن بهذا الاتهام كدرته وعكرته. (ولا جماع لك فيما بعد) أي ولا نجتمع معك في مكان بعد ذلك، وفي رواية "فبلغ أخي، فقال: والله لا أساكنك، فارتحلنا" (فقربنا صرمتنا، فاحتملنا عليها) الصرمة بكسر الصاد القطعة من الإبل وتطلق أيضا على القطعة من الغنم، والمعنى فجمعنا إبلنا من مرعاها فارتحلنا عليها يقال: احتمل القوم إذا ارتحلوا. (وتغطى خالنا ثوبه، فجعل يبكي) على هذه النتيجة المحزنة، يقال: تغطى بثوبه ففي الكلام حذف وإيصال. (فانطلقنا حتى نزلنا بحضرة مكة) أي حتى وصلنا حمى مكة وأرضها وواديها وحيازتها فضربنا منزلنا بعيدا عن مبانيها. (فنافر أنيس عن صرمتنا وعن مثلها، فأتيا الكاهن، فخير أنيسا، فأتانا أنيس بصرمتنا، ومثلها معها) أصل المنافرة: المفاخرة والمحاكمة فيفخر كل واحد

من الرجلين على الآخر، ثم يتحاكمان إلى رجل، ليحكم أيهما خير، وكانت هذه المفاخرة بالشعر، وكان أنيس شاعرا، كما صرح بذلك في الرواية، فغلب الآخر والمعنى فراهن أنيس رجلا، أيهما خير شعرا وكان الرهن صرمة ذا، وصرمة ذاك، فأيهما كان أفضل أخذ الصرمتين، فتحاكما إلى كاهن، فحكم بأن أنيسا أفضل، وخير أنيسا أي جعله الخيار والأفضل، فرجع أنيس من رحلته ومن مرعاه بصرمتهم وبمثلها، وفي الملحق الثاني للرواية الأولى "فتنافرا إلى رجل من الكهان، فلم يزل أخي أنيس يمدحه حتى غلبه" أي يمدح الكاهن بالشعر حتى غلب الآخر قال أبو ذر "فأخذنا صرمته، فضممناها إلى صرمتنا". (قال: وقد صليت يابن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين) قلت: لمن؟ "أي لمن كنت تصلي؟ " قال: "لله. قلت: فأين توجه؟ " أي فإلى أي جهة تتوجه في صلاتك قال: "أتوجه حيث يوجهني ربي" أي كيفما تيسر، وفي ملحق الرواية "صليت سنتين" فيحتمل أن المدة سنتان وأشهر فجبر الكسر تارة، وألغى الكسر تارة أخرى. وهذه المقاولة كانت بين أبي ذر وبين عبد الله بن الصامت، راوي الحديث عن أبي ذر، وليس ابن أخيه على الحقيقة، فقوله "يابن أخي" جرى على عادة العرب في التراحم. (أصلي عشاء، حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأني خفاء، حتى تعلوني الشمس) الخفاء - بكسر الخاء - الكساء، وجمعه أخفية ككساء وأكسية قال القاضي: ورواه بعضهم "جفاء" بجيم مضمومة، وهو غثاء السيل، قال: والصواب المعروف الأول، والمعنى أنه كان يصلي من أول الليل حتى يقرب آخره، فينام من السهر والإعياء كثوب لا حراك به ولا إحساس، حتى ترتفع الشمس، أما كيف كان يصلي؟ فالظاهر أنها كانت مطلق عبادة ودعاء وثناء على الله. (فقال أنيس: إن لي حاجة بمكة، فاكفني) أي إن لي رغبة في النزول إلى البلدة، فقم مقامي في رعاية الشئون وفي ملحق الرواية "فاكفني حتى أذهب فأنظر" أي فأنظر أمر هذا الرجل الذي تكلمنا عنه، ففي الرواية الثانية "فلما بلغ أبا ذر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي - أي وادي مكة، أي دورها - فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء، فاسمع من قوله، ثم ائتني" وفي ملحق الرواية الأولى "وكن على حذر من أهل مكة، فإنهم قد شنفوا له، وتجهموا" "شنفوا" بفتح الشين وكسر النون أي أبغضوه والتجهم المقابلة بغلظة وكراهية. (فانطلق أنيس حتى أتى مكة فراث علي ثم جاء) أي أبطأ علي ثم جاء في الرواية الثانية "فانطلق الآخر حتى قدم مكة وسمع من قوله ثم رجع إلى أبي ذر" قال النووي: هكذا هو في أكثر النسخ وفي بعضها "الأخ" بدل "الآخر" وهو هو، فكلاهما صحيح. (قال: لقيت رجلا بمكة على دينك) أي على شبه عقيدتك وعبادتك. (يزعم أن الله أرسله) الظاهر أن أنيس لقيه، وسمع منه ففي الرواية الثانية "رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وكلاما ما هو بالشعر" و"كلاما" منصوب بفعل محذوف أي ويقول كلاما كقولهم: علفتها تبنا وماء باردا، والتقدير وسقيتها ماء باردا. (لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم) أي فما يشبه قوله قولهم فليس بكاهن. (ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر، فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر) "أقراء الشعر" بسكون القاف، طرقه وأنواعه وقوافيه وبحوره، جمع قرء بضم القاف وسكون الراء، فهو مشترك لفظي بين الحيض والطهر والقافية. والمعنى: لقد قلبت قوله على أصناف الشعر، فما هو بنوع منه، ولا يقبل على لساني ولا على لسان غيري أنه شعر. (قلت: فاكفني، حتى أذهب فأنظر) أي فقم هنا بالشئون، حتى أذهب إلى مكة وأقابله وأنظر أمره وأتدبره، وفي الرواية الثانية "رأيته يأمر

بمكارم الأخلاق، وكلاما ما هو بالشعر، فقال: ما شفيتني فيما أردت". قال النووي: كذا في جميع نسخ مسلم "فيما" بالفاء، وفي رواية البخاري "مما" بالميم، وهو أجود، أي ما بلغتني غرضي وما أزلت عني هم كشف هذا الأمر. (قال: فأتيت مكة فتضعفت رجلا منهم) أي نظرت إلى أضعف رجل لاقيته، فسألته. واختار الضعيف لأنه مأمون الغائلة غالبا وفي رواية "فتضيفت" بالياء وأنكرها القاضي وغيره، قالوا: لا وجه له هنا. (فقلت: أين هذا الذي تدعونه الصابئ؟ ) يقال: صبأ من شيء إلى شيء إذا انتقل، وصبأ الرجل ترك دينه، ودان بآخر، والظاهر أن الرجل أحس أن أبا ذر يميل إلى محمد صلى الله عليه وسلم، ويرغب في لقائه حبا فيه، لقوله "تدعونه" لأنهم كانوا يمنعون الغريب أن يلتقي به. (فأشار إلي فقال: الصابئ) "الصابئ" منصوب بفعل محذوف، والمعنى، فأغرى بي أصحابه السفهاء والصبية، وأشار إلي، يقول لهم: اضربوا الصابئ. (فمال علي أهل الوادي بكل مدرة وعظم حتى خررت مغشيا علي) المدر الطين المتماسك وما يعرف بالطوب اللبن، أي تجمع حولي أهل المنطقة يقذفونني بالحجارة والعظم حتى سقطت على الأرض مغشيا علي. (قال: فارتفعت حين ارتفعت كأني نصب أحمر) أي فانصرفوا عني فلما أفقت قمت ووقفت لا حراك بي تغطيني الدماء التي سالت مني، كأني تمثال أحمر من حجر، والنصب بضم الصاد وإسكانها الصنم والحجر الذي كانت الجاهلية تنصبه وتذبح عنده، قال تعالى {وما ذبح على النصب} [المائدة: 3]. (فسمنت، حتى تكسرت عكن بطني) "العكن" بضم العين وفتح الكاف جمع عكنة بسكون الكاف وهي طيات البطن من السمن.

(وما وجدت على كبدي سخفة جوع) بفتح السين وضمها مع إسكان الخاء رقة الجوع وضعفه وهزاله. يقال: سخف الشيء بضم الخاء، يسخف، سخفا بضم السين وسكون الخاء وسخفة وسخافة رق وضعف وسخف العقل ضعف ورأي سخيف أي ضعيف والمعنى ثلاثون يوما لا آكل فيها ولا أشرب إلا ماء زمزم لم أحس فيها بضعف ولا بجوع. (قال: فبينا أهل مكة في ليلة قمراء إضحيان إذ ضرب على أسمختهم فما يطوف بالبيت أحد، وامرأتان منهم تدعوان إسافا ونائلة) الليلة القمراء التي ينيرها القمر، "والإضحيان" بكسر الهمزة والحاء وسكون الضاد هي المضيئة يقال: ليلة إضحيان وإضحيانة وضحياء ويوم ضحيان والإضحيان من الأيام الصحو الذي ليس فيه غيم، و"الأسمخة" جمع سماخ وهو الخرق الذي في الأذن المفضي إلى الرأس ويقال له: صماخ بالصاد، وهو الأفصح والأشهر، والضرب على الآذان كناية عن النوم، قال تعالى {فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا} [الكهف: 11] والمعنى: في ليلة مقمرة من الليالي الثلاثين نام أهل مكة، فلم يطف بالبيت منهم أحد، ولكن كان من أهل مكة امرأتان تدعوان الصنمين المسميين إسافا ونائلة، وتتضرعان إليهما، وكانا صنمين لقريش، إساف على هيئة رجل، ونائلة على هيئة امرأة وضعهما عمرو بن لحي على الصفا والمروة، قال النووي: "وامرأتين" هكذا هو في معظم النسخ بالياء وفي بعضها "وامرأتان" بالألف والأول منصوب بفعل محذوف أي ورأيت امرأتين. (قال فأتتا علي في طوافهما) كان بجوار الكعبة فجاءتا من دعائهما إسافا ونائلة لتطوفا. (فقلت: أنكحا أحدهما الأخرى) أي قلت لهما، استهزاء وسخرية بالصنمين، وبدعائهما لهما: زوجا إسافا لنائلة، أو ركبا إسافا على نائلة، يجامعها. (قال: فما تناهتا عن قولهما، فأتتا علي) أي ما انتهتا عن عملهما وعقيدتهما، ولم تكترثا بقولي، وأتتا بجواري، مستخفتين بقولي. (فقلت: هن مثل الخشبة- غير أني لا أكنى) الهن والهنة بتخفيف نونهما كناية عن كل شيء، وأكثر ما يستعمل كناية عن الفرج والذكر، و"أكنى" أي لم أتكلم بلفظ الكناية ولفظ الهن، بل صرحت لهما باللفظ المستقبح، فقال مثلا: ذكر مثل الخشبة، وكان لإساف الصنم ذكر ظاهر بارز، وأراد بذلك سب إساف ونائلة والسخرية منهما، وإغاظة المرأتين. (فانطلقتا تولولان) الولولة الدعاء بالويل. (وتقولان: لو كان ها هنا أحد من أنفارنا) الأنفار جمع نفر أو نفير، وهو الذي ينفر عند الاستغاثة قال النووي: ورواه بعضهم "أنصارنا" وهو بمعناه، و"لو" شرطية جوابها محذوف أي لانتصر لنا.

(فاستقبلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وهما هابطان) الحرم في المنخفض، والمباني على سفح الجبل المحيط بالحرم، فالذاهب إلى الحرم هابط، أي وأبو بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم داخلان الحرم، والمرأتان خارجتان صاعدتان منه. (قال: مالكما) تولولان؟ وتقولان: لو كان معنا رجل لانتصرنا؟ (قالتا: الصابئ بين الكعبة وأستارها) أي الذي بدل دينه وسفه آلهتنا واقف بين الكعبة وأستارها وهو الذي آذانا. (قال: ما قال لكما؟ قالتا: إنه قال لنا كلمة تملأ الفم) أي كلمة عظيمة لا شيء أقبح منها، كالشيء الذي يملأ الشيء، ولا يسع غيره، كما نقول: تملأ سمع الدنيا، فالكلام كناية عن عظمها وفظاعتها، وقيل: معناه كلمة لا يمكن ذكرها وحكايتها كأنها تسد فم حاكيها وتملؤه لاستعظامها أي كلمة تجعل الفم مملوءا بغيرها لا يستطيع ذكرها. (وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استلم الحجر وطاف بالبيت هو وصاحبه ثم صلى) وفي ملحق الرواية "فطاف بالبيت، وصلى ركعتين خلف المقام". (قال أبو ذر: فكنت أول من حياه تحية الإسلام. فقلت: السلام عليك يا رسول الله) إذ كان أبو ذر خامس أربعة آمنوا. (قال: وعليك ورحمة الله) قال النووي: هكذا هو في جميع النسخ "وعليك" من غير ذكر "السلام" وفيه دلالة لأحد الوجهين لأصحابنا أنه إذا قال في رد السلام: وعليك يجزئه لأن العطف يقتضي كونه جوابا والمشهور من أحواله صلى الله عليه وسلم وأحوال السلف رد السلام بكماله فيقول: وعليكم السلام ورحمة الله. اهـ. والحق أن الحديث لا يصلح دليلا فقد كان هذا أول الإسلام والعبرة بما كان من تشريع في أخريات الرسالة، على أن لفظ الحديث في ملحق الرواية "قال: وعليك السلام". (ثم قال: من أنت؟ قال: قلت: من غفار. قال: فأهوى بيده فوضع أصابعه على جبهته) أي كالمتعجب أو كالمندهش أو كالمفكر كيف لهذا الرجل بتحية الإسلام؟ وكيف ومتى أسلم؟ وهو من غفار بينما أهله في مكة لم يسلموا؟ وكيف وصل إليه وحصار المشركين له شديد؟ (فقلت في نفسي: كره أن انتميت إلى غفار، فذهبت آخذ بيده، فقدعني صاحبه وكان أعلم به مني) وإنما ظن أنه كره انتماءه إلى غفار، لأنهم قد اشتهر عنهم أنهم يسرقون الحاج، و"قدعني صاحبه" أي كفني ومنعني أن آخذ بيده، يقال: قدعه وأقدعه إذا كفه ومنعه وقوله "وكان أعلم به مني" إشارة إلى أنه استجاب للمنع.

(ثم رفع رأسه) أي ورفع أصابعه عن جبهته. (ثم قال: متى كنت ها هنا؟ قلت: قد كنت ها هنا منذ ثلاثين بين ليلة ويوم) في ملحق الرواية "مذ كم أنت ها هنا؟ قلت: منذ خمس عشرة) والجمع بين الروايتين صعب. (إنها طعام طعم) قال النووي: هو بضم الطاء وإسكان العين، أي تشبع شاربها كما يشبعه الطعام. (فقال أبو بكر: يا رسول الله ائذن لي في طعامه الليلة) أي فأذن له، وفي ملحق الرواية "وقال أبو بكر: ألحقني بضيافته الليلة" وفي بعض النسخ "أتحفني بضيافته الليلة". (فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وانطلقت معهما، ففتح أبو بكر بابا) لعله باب خزن الزبيب والتمر. (فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف) أي ويعطينا، ونأكل. (وكان ذلك أول طعام أكلته بها) أي بمكة. (ثم غبرت ما غبرت) أي ثم بقيت ما بقيت عند أبي بكر، ألتقى برسول الله صلى الله عليه وسلم سرا. (ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم) لأستأذنه في العودة، وأتزود بنصحه. (فقال: إنه قد وجهت لي أرض ذات نخل لا أراها إلا يثرب) "وجهت" بضم الواو وتشديد الجيم المكسورة أي أريت جهتها، و"أراها" بضم الهمزة، أي أظنها. (فهل أنت مبلغ عني قومك؟ عسى الله أن ينفعهم بك، ويأجرك فيهم) أسلوب عرض وتحضيض وطلب برفق، أي بلغ عني قومك. (فأتيت أنيسا) في المنزل الذي نزلناه بقرب مكة. (فقال: ما صنعت) مع هذا الرجل؟ . (قلت: صنعت أني قد أسلمت وصدقت. قال: ما بي رغبة عن دينكما فإني قد أسلمت) يقال: رغب فيه إذا أراده، ورغب عنه إذا لم يرده، فنفي الرغبة عنه تثبت الرغبة فيه، أي لا أكرهه، بل أدخل فيه. (فاحتملنا) أي فرحلنا. (حتى أتينا قومنا غفارا، فأسلم نصفهم) بدعوتنا لهم وشرحنا للإسلام.

(وكان يؤمهم إيماء بن رحضة الغفاري وكان سيدهم) "إيماء" بكسر الهمزة في أوله على المشهور وحكى القاضي فتحها أيضا، وأشار إلى ترجيحه، قال النووي: ذكر الزبير بن بكار أن إيماء بن رحضة حضر بدرا مع المشركين، فيكون إسلامه بعد ذلك، وذكر ابن سعد أنه أسلم قريبا من الحديبية، وهذا يعارض رواية مسلم وفي رواية "خفاف بن إيماء أو أبوه إيماء بن رحضة" فيمكن أن يكون إسلام خفاف تقدم على إسلام أبيه. (وقال نصفهم: إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسلمنا) فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأسلم نصفهم الباقي وجاءت أسلم - قبيلة قريبة من قبيلة غفار - فقالوا: يا رسول الله إخوتنا - الغفاريون - أسلموا نسلم على الذي أسلموا عليه، فأسلموا فكان إسلام أبي ذر سببا في إسلام قومه جميعا، وسببا في إسلام قبيلة أخرى. (غفار غفر الله لها وأسلم سالمها الله) سيأتي الكلام عن ذلك في باب فضائل غفار وأسلم. (فتزود وحمل شنة له، فيها ماء) الشنة بفتح الشين القربة البالية ومعنى "تزود" حمل زادا. (فالتمس النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرفه) أي أراد مقابلته لكنه لا يعرفه إن قابله. (وكره أن يسأل عنه) الناس مخافة أن يؤذوه إن كان المسئول من محاربي محمد صلى الله عليه وسلم. (حتى أدركه) "يعني الليل" يقصد أن الضمير يعود على غير مذكور معلوم من المقام كقوله تعالى {حتى توارت بالحجاب} [ص: 32] وفي رواية للبخاري "حتى أدركه بعض الليل". (فاضطجع) في المسجد الحرام. (فرآه علي، فعرف أنه غريب) عرف ذلك من هيئته ولباسه، ومعرفة علي بأهل المنطقة. وفي رواية قال: "كأن الرجل غريب، قلت: نعم. قال: فانطلق إلى المنزل" أي فانطلق معي إلى منزلي، قال الحافظ ابن حجر: هذا يدل على أن قصة أبي ذر وقعت بعد المبعث بأكثر من سنتين، بحيث يتهيأ لعلي أن يستقل بمخاطبة الغريب، ويضيفه، فإن الأصح في سن علي حين المبعث كان عشر سنين، وقيل: أقل من ذلك، وهذا الخبر يقوي القول الصحيح في سنه. اهـ. قلت: لا دلالة فيه على ما استدل به فيمكن للصبي المميز أن يصحب ضيفا وربما كان أبوه أبو طالب في سفر. (فلما رآه تبعه) أي فلما رأى أبو ذر عليا على هذه الحالة من الاستئلاف والرفق ودعوته إلى منزله سار وراءه، حتى وصل إلى منزله، فاستضافه، وأكرمه، وأعد له مبيتا، فنام.

(فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح) أي عن شيء مما يعنيه السؤال عنه. (ثم احتمل قربته، وزاده إلى المسجد الحرام) يأكل من زاده ويشرب من قربته، وفي بعض النسخ "قريبته" بالتصغير وهي الشنة المذكورة من قبل. (فظل ذلك اليوم، ولا يرى النبي صلى الله عليه وسلم) أي ظل ذلك اليوم يرقب مجيء النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجيء. (حتى أمسى فعاد إلى مضجعه) أي إلى المكان الذي اضطجع فيه بالأمس فاضطجع. (فمر به علي فقال: ما آن للرجل أن يعلم منزله؟ ) الكلام على الاستفهام الإنكاري، بمعنى النفي، دخل على نفي فصار إثباتا والمعنى آن للرجل أن يعلم منزله الذي نزله بالأمس، وأن يأتي إليه بدون دعوة فإضافة المنزل إليه مجازية، ويكون ذلك من علي رضي الله عنه دعوة مهذبة إلى بيته ثانيا. وقيل: المعنى أما آن للرجل أن يصرح بمقصده؟ ويؤيده ما جاء في بعض الروايات "قلت: لا" وفي رواية البخاري "أما نال للرجل أن يعلم منزله"؟ أي أما حان يقال: نال له، بمعنى آن له، ويروى "أما أنى" بالقصر وهي بنفس المعنى. (فأقامه، فذهب به معه، ولا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء) أي حتى أصبح، ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد. (فلما كان يوم الثالث) من إضافة الموصوف إلى صفته، كقولهم: مسجد الحرام، ومسجد الجامع، والأصل اليوم الثالث، و"كان" تامة، و"يوم" فاعل. (فعل مثل ذلك) أي مثل ما فعل في اليوم الثاني، ظل لا يرى النبي صلى الله عليه وسلم حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه في المسجد، فاضطجع. (فأقامه علي معه) في رواية البخاري "حتى إذا كان يوم الثالث فعاد علي على مثل ذلك فأقام معه". (ثم قال له: ألا تحدثني ما الذي أقدمك هذا البلد؟ ) أسلوب عرض وطلب برفق أي حدثني، وهكذا يستبين علي ويسأل ضيفه بعد ثلاث كما هي عادة العرب. (قال: إن أعطيتني عهدا وميثاقا لترشدني فعلت) العهد الوعد، والميثاق اليمين، أي إن وعدتني وعدا مؤكدا باليمين أن تخبرني عما أريد حدثتك بما في نفسي. (فأخبره فقال: فإنه حق، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي فأخبر أبو ذر عليا بمقصده، فقال علي: فإن ما سمعت عنه حق وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية البخاري "فأخبره قال: فإنه حق وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم" فيحتمل أن المعنى: فأعطاه على العهد والميثاق، فحكى أبو ذر ما في نفسه، فأخبر علي أبا ذر بالحقيقة قال: كذا وكذا ويؤيد الأول قول أبي ذر، في رواية "فأخبرته".

(فإذا أصبحت فاتبعني) وكأنك لا تعرفني ولا علاقة بيني وبينك. (فإني إن رأيت شيئا أخاف عليك قمت كأني أريق الماء) كأني أتبول على جانب الطريق، وحينئذ عليك بالفرار والبعد عن الخطر وفي رواية "كأني أصلح نعلي" ويحتمل أنه قالهما جميعا. (فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي) أي فإذا مضيت ولا خطر فادخل ورائي، حيث أدخل. (ففعل فانطلق يقفوه، حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ودخل معه) "ففعل" أي فمضى علي فانطلق أبو ذر يتبعه حتى دخل علي على النبي صلى الله عليه وسلم فدخل أبو ذر في إثره كأنه معه. (فسمع من قوله وأسلم مكانه) أي وأسلم في الحال وكأنه كان يعرف علامات النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآها لم يتردد في الإسلام. (فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري) وفي رواية "اكتم هذا الأمر وارجع إلى قومك، فأخبرهم فإذا بلغك ظهورنا فأقبل" وفي روايتنا الأولى "إنه قد وجهت لي أرض ذات نخل لا أراها إلا يثرب فهل أنت مبلغ عني قومك؟ عسى الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم؟ ". (فقال: والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم) "بها" أي بشهادة - أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، و"ظهرانيهم" بفتح النون تثنيه ظهر، يقال: أقام بين ظهريهم وظهرانيهم وأظهرهم، أي بينهم والمراد من الصرخ هنا رفع الصوت والمعنى والله لأرفعن صوتي بالشهادة بينهم، ولا أخفي إسلامي ولا أخافهم. (فخرج حتى أتى المسجد) الحرام والمشركون مجتمعون فيه. (فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وثار القوم) جماعة المشركين الموجودين في الحرم. (فضربوه حتى أضجعوه) أي حتى أسقطوه على الأرض من شدة الضرب والإعياء وظلوا يضربونه وهو منبطح على الأرض. (فأتى العباس، فأكب عليه) أي انحنى عليه، يفرق بينه وبينهم ليحول بينهم وبين ضربه وكان العباس يومئذ مشركا، وإنما حماه خوفا من قومه. (فقال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار؟ ) الاستفهام إنكاري بمعنى النفي، دخل على نفي، ونفي النفي إثبات، أي اعلموا أنه من غفار.

(وأن طريق تجارتكم إلى الشام عليهم) فاحسبوا حسابا لعصبية قومه له، وتعرضهم في الطريق لتجارتكم. (فأنقذه منهم ثم عاد من الغد بمثلها) عاد أبو ذر في اليوم الثاني ففعل مثل ما فعل بالأمس وثاروا إليه مثل الأمس، وأنقذه منهم العباس كالأمس. -[فقه الحديث]- نجد أنفسنا أمام روايتين عن إسلام أبي ذر، الأولى وملحقاها عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر، والثانية عن ابن عباس، واقتصر عليها البخاري، وبينهما تعارض وتعارض أو تغاير كثير قال عنه القرطبي: في التوفيق بين الروايتين تكلف شديد وقال الحافظ ابن حجر: حديث عبد الله بن الصامت أكثره مغاير لما في حديث ابن عباس ويمكن التوفيق بينهما اهـ. والعلماء إذا صح حديثان ظاهرهما التعارض حاولوا - قدر إمكانهم - التوفيق والجمع بينهما قبل أن يرجحوا أحدهما على الآخر، لأن في الجمع بينهما عملا بهما معا بوجه من الوجوه أما الترجيح فيعمل بأحدهما ويهمل الآخر والعمل بهما أولى من إهمال أحدهما. وسنحاول بيان أوجه المغايرة ونحاول الجمع والتوفيق، والله المستعان. أولا: في الرواية الأولى أن لقاء أبي ذر رضي الله عنه بالنبي صلى الله عليه وسلم كان بعد قصة المرأتين وبعد أن استلم النبي صلى الله عليه وسلم الحجر وطاف البيت هو وصاحبه ثم صلى ركعتين خلف المقام. وهذا لا يلتئم مع ما جاء في الرواية الثانية من أن لقاء أبي ذر بالنبي صلى الله عليه وسلم كان عن طريق دخوله عليه مع علي، بعد ضيافته ثلاثة أيام. ثانيا: أن الذي استضافه في الرواية الأولى أبو بكر رضي الله عنه بإذن من النبي صلى الله عليه وسلم بعد لقائه وكان الزبيب الذي قدمه له أول طعام أكله بمكة وهذا لا يلتئم مع ما جاء في الرواية الثانية من أن الذي استضافه علي رضي الله عنه وكانت ضيافته له قبل لقائه بالنبي صلى الله عليه وسلم. ثالثا: في الرواية الأولى أن أبا ذر حينما وصل مكة استضعف رجلا، فسأله عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأغرى به السفهاء فضربوه، حتى علاه الدم ثم قضى أياما لا يأكل ولا يشرب إلا ماء زمزم وهذا لا يلتئم مع ما جاء في الرواية الثانية من أن أبا ذر حين قدم مكة أتى المسجد وكره أن يسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى أدركه الليل فاضطجع فرآه علي فاستضافه. رابعا: في الرواية الأولى أن أبا ذر لم يكن له طعام في الأيام الأولى من وصوله إلى مكة سوى زمزم وهذا لا يلتئم مع ما جاء في الرواية الثانية من أن أبا ذر عند سفره إلى مكة حمل معه زاده وقربة ماء وكان يحمل معه قربته وزاده كلما غدا إلى المسجد في الصباح، بعد مبيته عند علي. خامسا: ذكرت قصة المرأتين في الرواية الأولى دون الثانية وذكرت قصة العباس في الرواية الثانية دون الأولى.

سادسا: هناك مغايرة بين الرواية الأولى وفيها "قلت: قد كنت ها هنا منذ ثلاثين بين ليلة ويوم" وبين ما جاء في ملحقها الثاني "قلت: منذ خمس عشرة" هذا: وإذا سهل الجمع في بعض هذه المغايرات، بشيء من التأويل فإنه لا يسهل في بعض آخر، وأحسن طريق نجمع به بين الحديثين أن نحملهما على سفرين ولقاءين فقد قلنا: إن منزل أبي ذر وأخيه وأمه كان قريبا من مكة في واد من وديانها، فمن المحتمل أن يصل مكة فيسأل السفيه فيضرب فيلتقي بالمرأتين ثم بالرسول صلى الله عليه وسلم في الحرم، ويستضيفه أبو بكر، بعد أن أمضى أياما على ماء زمزم حيث لم يأخذ في رحلته هذه زادا ولا ماء. وبعد فترة قد تكون شهرا أو أقل من شهر يذهب إلى مكة ويحمل معه زاده وماءه لئلا يقع فيما وقع فيه في المرة الأولى، ويتحرز من سؤال أحد حيث لم يتحرز في المرة الأولى ويدخل المسجد، مترقبا وصول النبي صلى الله عليه وسلم ويكون معنى "ولا يعرفه" أي ولا يعرف وصوله متى يكون؟ فيمر به اليوم حتى يمسي فيراه علي فيستضيفه فيكاشفه فيدخله على النبي صلى الله عليه وسلم فيخرج من عنده فيشهد الشهادتين في الحرم فيضرب فيحميه العباس والإشكال الخفيف في هذا في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم له: من أنت؟ في المرة الثانية والمفروض أنه عرفه في المرة الأولى ويمكن أن يجاب عنه بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد نسي الاسم، فسأله عن اسمه مرة أخرى وكثيرا ما يحصل مثل هذا مع تعدد اللقاء ويؤيده ما جاء في رواية أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: "أنت أبو نملة؟ قال: أبو ذر". والنملة والذرة يلتقيان وتفسر الذرة بالنملة مما يرشح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد سبق له ذكر اسمه. أما المغايرة بين الرواية الأولى وملحقها، فيحتمل أن المدة في الحقيقة خمسة عشر يوما بلياليها ومجموعها ثلاثون، بين يوم وليلة كما نقول: عندي ثلاثون بين ذكر وأنثى فهذه الثلاثون فيها خمس عشرة ليلة وخمسة عشر يوما. والله أعلم. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - من قوله في الرواية الأولى: "لا أراها إلا يثرب" جواز تسمية المدينة بيثرب من غير كراهة وكره جماعة ذلك وقالوا: كان ذلك قبل تسميتها "طابة وطيبة" وجاء النهي عن ذلك في حديث أو أنه صلى الله عليه وسلم سماها باسمها المعروف عند الناس حينئذ. 2 - من قوله في الرواية الأولى: "وعليك ورحمة الله". قال النووي: فيه دلالة لأحد الوجهين لأصحابنا أنه إذا قال في رد السلام: وعليك من غير ذكر السلام يجزئه، والمشهور من أحواله صلى الله عليه وسلم وأحوال السلف رد السلام بكماله فيقول: وعليكم السلام ورحمة الله. 3 - في صلاة أبي ذر رضي الله عنه قبل المبعث فضيلة له، وأن الله هداه إلى الحق. 4 - وفي سبقه إلى الإسلام فضيلة أيضا. 5 - وفي تحمله الأذى في سبيل الجهر بالدعوة قوة إيمان، وقوة عقيدة ويؤخذ منه جواز قول الحق، لمن يخشى منه الأذية لمن قاله، وإن كان السكوت جائزا.

قال الحافظ ابن حجر: والتحقيق أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والمقاصد، وبحسب ذلك يترتب الجزاء. 6 - من أمره صلى الله عليه وسلم أبا ذر بالكتمان وقول أبي ذر: والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم، وسكوت النبي صلى الله عليه وسلم دليل على أن المأمور إذا أحس أن الأمر شفقة عليه، وأن به قوة جاز له أن لا يعمل بالأمر. 7 - فيه صورة حية لبدء الدعوة الإسلامية، وما لاقى المسلمون الأوائل، وحكمة الرسول صلى الله عليه وسلم في نشرها. والله أعلم.

(657) باب من فضائل جرير بن عبد الله رضي الله عنه

(657) باب من فضائل جرير بن عبد الله رضي الله عنه 5536 - عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت. ولا رآني إلا ضحك. 5537 - عن جرير رضي الله عنه قال: ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم في وجهي زاد ابن نمير في حديثه عن ابن إدريس: ولقد شكوت إليه أني لا أثبت على الخيل. فضرب بيده في صدري وقال: "اللهم ثبته. واجعله هاديا مهديا". 5538 - عن جرير رضي الله عنه قال: كان في الجاهلية بيت يقال له ذو الخلصة. وكان يقال له الكعبة اليمانية والكعبة الشامية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل أنت مريحي من ذي الخلصة والكعبة اليمانية والشامية؟ " فنفرت إليه في مائة وخمسين من أحمس. فكسرناه وقتلنا من وجدنا عنده. فأتيته فأخبرته قال: فدعا لنا ولأحمس. 5539 - عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا جرير! ألا تريحني من ذي الخلصة" بيت لخثعم كان يدعى كعبة اليمانية قال: فنفرت في خمسين ومائة فارس وكنت لا أثبت على الخيل فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب يده في صدري فقال: "اللهم! ثبته واجعله هاديا مهديا" قال: فانطلق فحرقها بالنار ثم بعث جرير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يبشره، يكنى أبا أرطاة، منا فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: ما جئتك حتى تركناها كأنها جمل أجرب. فبرك رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيل أحمس ورجالها، خمس مرات. 5540 - وفي رواية عن إسماعيل بهذا الإسناد. وقال في حديث مروان: فجاء بشير جرير، أبو أرطاة، حصين ابن ربيعة يبشر النبي صلى الله عليه وسلم.

-[المعنى العام]- جرير بن عبد الله بن جابر بن مالك البجلي، نسبة إلى بجيلة أم قبيلته وكان سيد قومه، أسلم في عام الوفود وقيل: أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين يوما كان طويلا طولا مفرطا وكان جميل الخلقة، حتى قال عنه عمر: جرير يوسف هذه الأمة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهش لقدومه، ويبتسم في وجهه، ويكرمه، وكان يقول فيه: "إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه". روى الإمام أحمد وابن حبان عن جرير قال: "لما دنوت من المدينة أنخت ثم لبست حلتي فدخلت فرماني الناس بالحدق، فقلت: هل ذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: نعم. ذكرك بأحسن ذكر فقال: يدخل عليكم رجل من خير ذي يمن، على وجهه مسحة ملك" وقدمه عمر في حروب العراق على جميع بجيله .. وكان له أثر عظيم في فتح القادسية، ثم سكن جرير الكوفة وأرسله علي - رضي الله عنهما - إلى معاوية رسولا فحبسه معاوية مدة طويلة ثم رده بورقة مختومة غير مكتوب فيها شيء وبعث معه من يخبر عليا بمنابذة معاوية، ثم اعتزل الفريقين، وسكن قرقيسيا، حتى مات سنة إحدى وخمسين وقد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذي الخلصة، فهدمها بجيشه، كما جاء في الحديث. كان حكيما في إشارته، مهذبا في قوله، روي أن عمر رضي الله عنه وجد في مجلسه رائحة من بعض جلسائه، فقال: عزمت على صاحب هذه الرائحة إلا قام فتوضأ، فقال جرير بن عبد الله: علينا كلنا يا أمير المؤمنين فاعزم. قال: عليكم كلكم عزمت ثم قال: يا جرير: ما زلت سيدا في الجاهلية والإسلام. رضي الله عنه وأرضاه. -[المباحث العربية]- (ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت) أي ما منعني من الدخول عليه في بيته في وقت من الأوقات إذا استأذنت عليه وقيل: إن معنى "ما حجبني" أي ما منعني طلبي وفيه بعد. وقوله "منذ أسلمت" أي إلى أن توفي صلى الله عليه وسلم، وكان إسلام جرير سنة تسع من الهجرة على الصحيح. (ولا رآني إلا ضحك) في الرواية الثانية "ولا رآني إلا تبسم في وجهي" وكان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك مع جرير تكريما له ولطفا به، وبشاشة له. (ولقد شكوت له أني لا أثبت على الخيل فضرب بيده في صدري وقال: اللهم ثبته واجعله هاديا مهديا) في الرواية الرابعة "وكنت لا أثبت على الخيل فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب يده في صدري فقال: اللهم ثبته واجعله هاديا مهديا" وعند البخاري "وكنت لا أثبت على الخيل، فضرب على صدري حتى رأيت أثر أصابعه في صدري" وعند الحاكم "فشكا جرير

إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم القلع" بفتح القاف واللام، وهو عدم الثبوت على السرج، وقيل: بكسر أوله، قال الجوهري: رجل قلع القدم بكسر أوله، إذا كانت قدمه لا تثبت عند الحرب، وفلان قلعة بكسر القاف وفتح اللام، إذا كان يتقلع عن سرجه والمعنى أنه لخفته يرتفع عن السرج كلما ارتفع الحصان ويهبط بهبوطه "فقال: ادن مني فدنا منه فوضع يده على رأسه، ثم أرسلها على وجهه وصدره حتى بلغ عانته ثم وضع يده على رأسه" مرة ثانية "وأرسلها إلى ظهره، حتى انتهت إلى إليته". ولا تعارض فإن اليد ضربت الصدر عند مرورها به كما جاء في حديث الحاكم أنه قال في حالة إمراره يده عليه في المرتين: "اللهم اجعله هاديا مهديا، وبارك فيه، وفي ذريته" زاد في رواية البخاري "فما وقعت عن فرس بعد" قال الحافظ ابن حجر: قوله: "واجعله هاديا مهديا" فيه تقديم وتأخير لأنه لا يكون هاديا حتى يكون مهديا، وقيل: معناه كاملا مكملا. اهـ. يعني أن المطلوب الأول للمسلم أن يكمل نفسه ثم بعد ذلك يكمل غيره، ويمكن حمل "هاديا" على معنى داعيا نفسه وغيره للهدى، و"مهديا" أي مستجيبا للدعوة بالفعل. (كان في الجاهلية بيت يقال له: ذو الخلصة) والخلصة في الأصل نبات له حب أحمر كخرز العقيق قال النووي: بفتح الخاء واللام هذا هو المشهور وحكى القاضي أيضا بضم الخاء مع فتح اللام وحكى أيضا فتح الخاء وسكون اللام، وهو بيت في اليمن كان فيه أصنام يعبدونها. اهـ. ومن المعلوم أن الكعبة كانت مظهرا من مظاهر عزة العرب بصفة عامة ورفعة قريش بصفة خاصة وكانت القبائل تحاول أن تتخذ لنفسها بيوتا، تصنع فيها أصناما يعبدونها، لمنافسة قريش في كعبتها، فكان ذو الخلصة أكبر بيت ينافس الكعبة وكان بيتا لقبيلة خثعم كما جاء في الرواية الرابعة ولقبيلة بجيلة كما جاء في رواية البخاري. (وكان يقال له: الكعبة اليمانية والكعبة الشامية) قال النووي: وفي بعض النسخ "الكعبة اليمانية الكعبة الشامية" بغير واو، وهذا اللفظ فيه إيهام والمراد أن ذا الخلصة كانوا يسمونها الكعبة اليمانية، وكانت الكعبة الكريمة التي بمكة تسمى الكعبة الشامية ففرقوا بينهما للتمييز. هذا هو المراد فيتأول اللفظ عليه وتقديره: يقال له: الكعبة اليمانية ويقال للتي بمكة: الشامية. أما من رواه "الكعبة اليمانية الكعبة الشامية" بحذف الواو فمعناه كأن يقال: هذان اللفظان، أحدهما لموضع والآخر لموضع آخر. قال: وأما قوله "هل أنت مريحي من ذي الخلصة، والكعبة اليمانية والشامية" فقال القاضي عياض: ذكر "الشامية" وهم وغلط من بعض الرواة والصواب حذفه وقد ذكره البخاري بهذا الإسناد وليس فيه هذه الزيادة والوهم هذا كلام القاضي وليس بجيد بل يمكن تأويل هذا اللفظ ويكون التقدير: هل أنت مريحي من قولهم: الكعبة اليمانية والشامية؟ ووجود هذا الموضع الذي يلزم منه هذه التسمية؟ اهـ. وقال الحافظ ابن حجر: الذي يظهر لي أن الذي في الرواية صواب وأنها كان يقال لها: اليمانية باعتبار كونها باليمن، والشامية باعتبار أنهم جعلوا بابها مقابل الشام وقال بعضهم:

قوله: "والكعبة الشامية" مبتدأ، محذوف الخبر تقديره: هي التي بمكة وقيل: الكعبة مبتدأ، والشامية خبره والجملة حال والمعنى: والكعبة هي الشامية لا غير وحكى السهيلي عن بعض النحويين أن كلمة "له" زائدة وأن الصواب كان يقال: "الكعبة الشامية" أي لهذا البيت الجديد، و"الكعبة اليمانية" أي للبيت العتيق - أو بالعكس قال السهيلي: وليست فيه زيادة وإنما اللام بمعنى من أجل، أي كان يقال من أجله: الكعبة الشامية والكعبة اليمانية أي إحدى الصفتين للعتيق والأخرى للجديد. (هل أنت مريحي من ذي الخلصة؟ ) وفي الرواية الرابعة "يا جرير ألا تريحني من ذي الخلصة" بتخفيف اللام طلب يتضمن الأمر برفق وخص جريرا بذلك لأنها كانت في بلاد قومه وكان هو من أشرافهم والمراد من الراحة راحة القلب، وما كان شيء أتعب لقلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بقاء ما يشرك به من دون الله تعالى وروى الحاكم في الإكليل، من حديث البراء بن عازب قال: "قدم على النبي صلى الله عليه وسلم مائة رجل من بني بجيلة وبني قشير وفيهم جرير بن عبد الله فسأله عن بني خثعم فأخبره أنهم أبوا أن يجيبوا إلى الإسلام فاستعمله على عامة من كان معه، وندب معه ثلاثمائة من الأنصار، وأن يسير إلى خثعم فيدعوهم ثلاثة أيام، فإن أجابوا إلى الإسلام قبل منهم، وهدم صنمهم ذا الخلصة وإلا وضع فيهم السيف. (فنفرت إليه في مائة وخمسين من أحمس) الضمير في "إليه" يعود على ذي الخلصة البيت الذي فيه الأصنام والنفر الخروج للقتال مع السرعة وفي رواية البخاري "فانطلقت في خمسين ومائة فارس من أحمس - بفتح الهمزة وسكون الحاء وفتح الميم - وكانوا أصحاب خيل" وفي رواية ضعيفة للطبراني أنهم كانوا سبعمائة وفي كتاب الصحابة لابن السكن أن قيس بن غربة الأحمسي وفد في خمسمائة وقدم جرير في قومه وقدم الحجاج بن ذي الأعين في مائتين وضم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ثلاثمائة من الأنصار وغيرهم فكأن المائة والخمسين هم قوم جرير من قبيلة واحدة. (فكسرناه، وقتلنا من وجدناه عنده) الضمير المذكر للبيت، والضمير المؤنث في قوله في الرواية الرابعة "فانطلق فحرقها بالنار" للكعبة، وعند البخاري "فانطلق إليها فكسرها وحرقها" أي بناءها، ورمى النار فيما فيها من الخشب. (فأتيته فأخبرته) ظاهر هذه الرواية أن الذي بشر النبي صلى الله عليه وسلم بنتيجة الغزوة هو جرير ولكن الرواية الرابعة أن الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك رسول أرسله جرير من قبيلته، فكأن نسبة الإخبار لجرير مجازية، وفي الرواية الرابعة. قال رسول جرير للنبي صلى الله عليه وسلم: "ما جئتك حتى تركناها كأنها جمل أجرب" كناية عن نزع زينتها وإذهاب بهجتها وقال الخطابي: المراد أنها صارت مثل الجمل المطلي بالقطران من جربه إشارة إلى أنها صارت سوداء لما وقع فيها من التحريق وفي رواية "أجوف" بدل "أجرب" أي صارت صورة بغير معنى والأجوف الخالي الجوف مع كبره في الظاهر وأنكره عياض، وقال: هو تصحيف وإفساد للمعنى.

(فدعا لنا ولأحمس) "أحمس" على وزن أحمر وهم إخوة بجيلة بفتح الباء وكسر الجيم رهط جرير وفي الرواية الرابعة "فبرك رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيل أحمس ورجالها خمس مرات" أي دعا لهم بالبركة وفي رواية "فدعا لأحمس بالبركة" وقد قيل في حكمة الخمس أنها مبالغة مع الاحتفاظ بالوتر وقال الحافظ ابن حجر: يحتمل أن يكون دعا للخيل والرجال أو لهما معا ثم أراد التأكيد في تكرير الدعاء ثلاثا، فدعا للرجال مرتين أخريين وللخيل مرتين أخريين ليكمل لكل من الصنفين ثلاثا فكان مجموع ذلك خمس مرات. (يكنى أبا أرطاة) في ملحق الرواية "أبو أرطاة حصين بن ربيعة" "أرطاة" بفتح الهمزة وسكون الراء وقلبه بعضهم فقال: ربيعة بن حصين ومنهم من سماه أرطاة والصواب أبو أرطاة ومنهم من سماه حصن بكسر الحاء وسكون الصاد وعند بعض الرواة "حسين" بدل "حصين" وهو تصحيف. (إضافة) زاد البخاري في رواية: قال "ولما قدم جرير اليمن، كان بها رجل يستقسم بالأزلام فقيل له: إن رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم ها هنا، فإن قدر عليك ضرب عنقك قال: فبينما هو يضربها - أي بالأزلام - إذ وقف عليه جرير فقال: لتكسرنها - أي الأزلام - ولتشهدن أن لا إله إلا الله أو لأضربن عنقك فكسرها وشهد ثم بعث جرير رجلا من أحمس يكنى أبا أرطاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبشره بذلك". قال الحافظ ابن حجر: هذا يشعر باتحاد قصة غزوة ذي الخلصة بقصة ذهابه إلى اليمن، وكأنه لما فرغ من أمر ذي الخلصة، وأرسل رسوله مبشرا، استمر ذاهبا إلى اليمن. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث: ]- 1 - فيه مناقب عظيمة لجرير وقومه، ونصرهم للإسلام، ومحاربتهم القوم الذين هم منهم 2 - وبركة يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعائه. 3 - وأنه كان يدعو وترا، وقد يجاوز الثلاث، فيكون فيه تخصيص لحديث أنس "كان إذا دعا دعا ثلاثا" فيحمل على الغالب، وكأن الزيادة لمعنى اقتضى ذلك. 4 - وفيه مشروعية إزالة ما يفتتن به الناس، من بناء وغيره سواء كان إنسانا أو حيوانا أو جمادا. 5 - وفيه استمالة نفوس القوم بتأمير من هو منهم. 6 - والاستمالة بالدعاء والثناء. 7 - والبشارة في الفتوح.

8 - وفضل ركوب الخيل في الحرب. 9 - وقبول خبر الواحد. 10 - والمبالغة في نكاية العدو. 11 - وفيه استحباب التلطف والتبسم في وجه القادم. 12 - استدل بعضهم بقوله: "ما حجبني" على جواز الدخول بدون إذن للخاصة ولا يصح فعدم الذكر ليس دليل العدم. والله أعلم.

(658) باب من فضائل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما

(658) باب من فضائل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما 5541 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى الخلاء فوضعت له وضوءا. فلما خرج قال: "من وضع هذا؟ " في رواية زهير قالوا، وفي رواية أبي بكر - قلت: ابن عباس قال: "اللهم! فقهه". -[المعنى العام]- عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، ولد في الشعب الذي حوصر فيه بنو هاشم. أمه أم الفضل لبابة بنت الحارث الهلالية كان أبيض طويلا جسيما وسيما صبيح الوجه حج بالناس سنة قتل عثمان بأمر من عثمان ولاه على البصرة وحارب مع علي الجمل وصفين والنهروان وظل واليا على البصرة حتى قتل علي فمضى إلى الحجاز وكان يغشى الناس في رمضان وهو أمير البصرة فما ينقضي الشهر حتى يفقههم. وفي سبب نفي ابن الزبير له إلى الطائف روي أن عبد الله بن صفوان بن أمية مر يوما بدار عبد الله بن عباس بمكة فرأى فيها جماعة من طالبي الفقه ومر بدار عبيد الله بن عباس فرأى فيها جماعة جاءوها للطعام فدخل على ابن الزبير فقال له: أصبحت - والله - كما قال الشاعر: فإن تصبك من الأيام قارعة لم تبك منك على دنيا ولا دين قال: وما ذاك يا أعرج؟ قال: هذان ابنا عباس أحدهما يفقه الناس والآخر يطعم الناس فما أبقيا لك مكرمة فدعا عبد الله بن مطيع وقال: انطلق إلى ابني عباس فقل لهما: يقول لكما أمير المؤمنين: اخرجا عني - أي اخرجا من مكة إلى بلد آخر - أنتما ومن انضوى إليكما من أهل العراق وإلا فعلت وفعلت فقال عبد الله بن عباس لابن الزبير: والله ما يأتينا من الناس إلا رجلان رجل يطلب فقها ورجل يطلب فضلا فأي هذين نمنع؟ فنفاهما ابن الزبير إلى الطائف. وعمي ابن عباس في آخر عمره ومات بالطائف في أيام ابن الزبير سنة خمس وستين على المشهور وصلى عليه ابن الحنفية وقال: مات والله اليوم حبر هذه الأمة. رضي الله عنه وأرضاه

-[المباحث العربية]- (أتى الخلاء) أي موضع البول والغائط. (فوضعت له وضوءا) بفتح الواو هو الماء الذي يتوضأ به وقد فهم ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن معه ماء وأنه يحتاج إليه فوضعه له بجواره دون أن يشعر به صلى الله عليه وسلم. (من وضع هذا؟ ) استفهام حقيقي. (قالوا -قلت- ابن عباس) الظاهر أن القائل ابن عباس وأسند إليهم في الرواية الأخرى لتقريرهم له وقولهم ذلك في أنفسهم وعند أحمد وابن حبان أن ميمونة - رضي الله عنها - هي التي أخبرته بذلك وأن ذلك كان في بيتها ليلا ولعل ذلك كان في الليلة التي بات ابن عباس في بيتها ليرى صلاة النبي صلى الله عليه وسلم والتي وقف فيها خلف النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما بالك؟ أجعلك حذائي - أي بجواري - فتخلفني - أي فتقف خلفي؟ " فقال: لا ينبغي لأحد أن يصلي حذاءك وأنت رسول الله فدعا له أن يزيده الله فهما وعلما. (اللهم فقهه) وعند البخاري "ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم علمه الكتاب" وعند النسائي والترمذي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "دعا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أوتي الحكمة مرتين" وفي رواية "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" وفي رواية "اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب". والفقه هو الفهم قال تعالى {لا يكادون يفقهون حديثا} [النساء: 78] يقال: فقه بفتح الفاء وضم القاف إذا صار الفقه له سجية وفقه بالفتح إذا سبق غيره إلى الفهم وفقه بالكسر إذا فهم وقال ابن عباس في تفسير قوله تعالى {ولكن كونوا ربانيين} [آل عمران: 79] قال: كونوا حكماء فقهاء ويقال: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره ويقال: لا يقال للعالم: رباني حتى يكون عالما معلما عاملا. فالفقه هو الفهم، والفهم فطنة يفهم بها صاحبها من الكلام ما يقترن به من قول أو فعل واختلف في المراد بالحكمة في دعوة ابن عباس فقيل: القرآن وهو المراد بالكتاب الوارد في بعض الروايات أي فهم المراد من آياته وقيل: العمل بالقرآن وقيل: السنة وقيل: الإصابة في القول وقيل: الخشية وقيل: الفهم عند الله وقيل: العقل وقيل: ما يشهد العقل بصحته وقيل: نور يفرق به بين الإلهام والوسواس وقيل: سرعة الجواب مع الإصابة. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث]- 1 - فضيلة الفقه، والعلم بالأحكام الشرعية. 2 - واستحباب الدعاء بظهر الغيب. 3 - واستحباب الدعاء لمن عمل خيرا مع الإنسان. 4 - وإجابة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان ابن عباس في الفقه بالمحل الأعلى. والله أعلم.

(659) باب من فضائل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما

(659) باب من فضائل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما 5542 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت في المنام كأن في يدي قطعة إستبرق. وليس مكان أريد من الجنة إلا طارت إليه. قال: فقصصته على حفصة فقصته حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أرى عبد الله رجلا صالحا". 5543 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان الرجل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذا رأى رؤيا قصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتمنيت أن أرى رؤيا أقصها على النبي صلى الله عليه وسلم قال: وكنت غلاما شابا عزبا. وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار فإذا هي مطوية كطي البئر وإذا لها قرنان كقرني البئر. وإذا فيها ناس قد عرفتهم فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار أعوذ بالله من النار أعوذ بالله من النار. قال: فلقيهما ملك فقال لي: لم ترع فقصصتها على حفصة. فقصتها حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "نعم الرجل عبد الله! لو كان يصلي من الليل" قال سالم: فكان عبد الله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلا. 5544 - وفي رواية عن ابن عمر رضي الله عنهما قال كنت أبيت في المسجد ولم يكن لي أهل فرأيت في المنام كأنما انطلق بي إلى بئر فذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى حديث الزهري عن سالم عن أبيه. -[المعنى العام]- عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نوفل القرشي العدوي يكنى أبا عبد الرحمن أمه زينب بنت مظعون بن حبيب الجمحي وشقيقته حفصة أم المؤمنين ولد سنة ثلاث من المبعث النبوي وأسلم صغيرا وهاجر مع أبيه عرض على النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر فاستصغره وكانت سنه ثلاث عشرة ثم بأحد فاستصغره ثم أجازه يوم الخندق وسنه خمس عشرة سنة وحضر بيعة الرضوان وفتح مكة وكان لا

يتخلف عن السرايا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم كان بعد موته مولعا بالحج قبل الفتنة وفي الفتنة التي اعتزلها روي أن مروان بن الحكم دخل عليه في نفر بعد ما قتل عثمان رضي الله عنه فعرضوا عليه أن يبايعوا له قال: وكيف لي بالناس؟ قال: تقاتلهم ونقاتلهم معك - فقال: والله لو اجتمع علي أهل الأرض إلا أهل فدك ما قاتلتهم فخرجوا من عنده ومروان يقول: والملك بعد ابن ليلى لمن غلبا ويقال إنه ندم بعد ذلك أن لم يقاتل مع علي إذ روي أنه قال حين حضرته الوفاة: ما أجد في نفسي من أمر الدنيا شيئا إلا أني لم أقاتل الفئة الباغية مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه وروي أنه كان يقول: كففت يدي فلم أقدم والمقاتل على الحق أفضل. كان رحمه الله تعالى من أهل الورع والعلم والتقوى، وروي عن مالك أنه قال: بلغ عبد الله بن عمر ستا وثمانين سنة وأفتى في الإسلام ستين سنة ونشر نافع عنه علما جما ويقولون: إنه كان من أعلم الصحابة بمناسك الحج وكان شديد التوقي في فتواه وفي كل ما يأخذ به نفسه شديد التحري والتأسي والاقتداء بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم حتى إنه كان يتحرى المكان الذي بركت فيه ناقة الرسول صلى الله عليه وسلم ليبرك ناقته فيه وكان يحفظ ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسأل من حضر إذا غاب عن قوله وفعله لذا كان من المكثرين عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان في الحج يتتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم ويتقدم إلى المواقف التي وقف بها صلى الله عليه وسلم ليقف بها فكان ذلك يعز على الحجاج وخطب الحجاج يوما فأخر الصلاة فقال له ابن عمر: إن الشمس لا تنتظرك فقال له الحجاج: لقد هممت أن أضرب الذي فيه عيناك فقال ابن عمر في نفسه: قد يفعل إنه سفيه مسلط. فأمر الحجاج رجلا فسم حديدة رمحه وزحمه في الطريق وغرس الحديدة في ظهر قدمه وهو على راحلته فمرض منها أياما فدخل عليه الحجاج يعوده فقال له: من فعل بك هذا يا أبا عبد الرحمن؟ فقال: وما تصنع به؟ قال: قتلني الله إن لم أقتله قال: ما أراك فاعلا أنت الذي أمرت الذي نخسني بالحربة المسمومة قال: لا تقل هذا يا أبا عبد الرحمن ومات بمكة سنة ثلاث وسبعين بعد قتل ابن الزبير بثلاثة أشهر أو نحوها ودفن بذي طوى في مقبرة المهاجرين. رضي الله عنه. وأرضاه. -[المباحث العربية]- (رأيت في المنام كأن في يدي قطعة إستبرق) الإستبرق ما غلظ من الحرير أو من الديباج وفي رواية للبخاري "كأن في يدي سرقة من حرير" بفتح السين وكسر الراء أي قطعة وفي رواية "قطعة من إستبرق" وفي رواية "سرقة من إستبرق" وعبر بلفظ "كأن" بالتشبيه لأن ما يحصل في المنام شبيه بالواقع وليس واقعا بالفعل.

(وليس مكان أريد من الجنة إلا طارت إليه) فهي توصلني إلى أي مكان أريده من الجنة وفي رواية للبخاري "لا أهوي بها إلى مكان في الجنة إلا طارت بي إليه" وفي رواية "فكأني لا أريد مكانا من الجنة إلا طارت بي إليه". (فقصصته على حفصة) أي قصصت المنام على حفصة أختي أم المؤمنين. (أرى عبد الله رجلا صالحا) "أرى" بفتح الهمزة أي أعلمه وأعتقده صالحا والصالح هو القائم بحقوق الله وحقوق العباد وفي رواية للبخاري "إن أخاك رجل صالح أو إن عبد الله رجل صالح" بالشك من الراوي وفي الرواية الثانية "نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل" قال ابن عمر: وكنت إذا نمت لم أقم حتى أصبح. وزاد في روايتنا الثانية "قال سالم: فكان عبد الله - بعد ذلك - لا ينام من الليل إلا قليلا" وفي رواية "قال الزهري: وكان عبد الله - بعد ذلك - يكثر الصلاة من الليل" وفي رواية "وكان عبد الله يكثر الرقاد" وفيها أيضا "إن الملك الذي قال له: لم ترع قال له: لا تدع الصلاة نعم الرجل أنت لولا قلة الصلاة". (كان الرجل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى رؤيا قصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم) اللام في "الرجل" للجنس ولا مفهوم له والحكم للمرأة كذلك وإنما ذكر للغالب. (فتمنيت أن أرى رؤيا أقصها على النبي صلى الله عليه وسلم) في رواية "أنى أرى" وفي رواية للبخاري "فقلت في نفسي: لو كان فيك خير لرأيت مثل ما يرى هؤلاء". (وكنت غلاما شابا عزبا) بفتح العين والزاي وهو من لا زوجة له ويقال له: الأعزب مع قلة في الاستعمال. (وكنت أنام في المسجد) في ملحق الرواية "كنت أبيت في المسجد ولم يكن لي أهل" أي لم يكن لي زوجة وفي رواية للبخاري "وأنا غلام حديث السن وبيتي المسجد قبل أن أنكح" يعني أنه كان يأوي إليه قبل أن يتزوج. (فرأيت في النوم) في ملحق الرواية "فرأيت في المنام" وفي رواية للبخاري "فلما اضطجعت ليلة قلت: اللهم إن كنت تعلم في خيرا فأرني رؤيا فبينما أنا كذلك إذ ... " (كأن ملكين أخذاني) في رواية للبخاري "جاءني ملكان في يد كل واحد منهما مقمعة من حديد يقبلان بي إلى جهنم" والمقمعة بكسر الميم الأولى والجمع مقامع وهي كالسياط من حديد رءوسها معوجة. (فذهبا بي إلى النار) في رواية للبخاري "يقبلان بي إلى جهنم وأنا بينهما أدعو الله: اللهم إني أعوذ بك من جهنم" وفي رواية للبخاري "حتى وقفوا بي على شفير جهنم".

(فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا لها قرنان كقرني البئر) في رواية للبخاري "له قرون" البئر المطوية هي المبنية والبئر قبل أن تبنى تسمى قليبا وقرون البئر جوانبها التي تبنى من حجارة ترتفع فتوضع عليها الخشبة التي تعلق فيها البكرة والعادة أن لكل بئر قرنين وفي رواية للبخاري "بين كل قرنين ملك بيده مقمعة من حديد" (وإذا فيها ناس قد عرفتهم) وفي رواية "فإذا فيها ناس عرفت بعضهم" وفي رواية للبخاري (وأرى فيها رجالا معلقين بالسلاسل رءوسهم أسفلهم عرفت فيها رجالا من قريش" قال الشارحون: لم نقف على اسم أحد منهم. (فلقيهما ملك فقال لي: لم ترع) بضم التاء وفتح الراء أي لم تفزع وفي رواية "لن تراع" فعلى الأول ليس المراد أنه لم يقع له فزع فقد فزع فعلا ولكن لما كان الذي فزع منه لن يستمر فكأنه لم يفزع أو هو من قبيل تنزيل القليل منزلة العدم وعلى الثاني فالمراد أنك لا روع عليك بعد ذلك قال ابن بطال: إنما قال له ذلك لما رأى منه من الفزع فعند ابن أبي شيبة "فلقيه ملك وهو يرعد فقال: لم ترع" ووقع عند كثير من الرواة "لن ترع" بحرف "لن" ووجهه ابن مالك بأنه سكن العين للوقف ثم شبهه بسكون الجزم فحذف الألف ثم أجرى الوصل مجرى الوقف قيل: ويجوز أن يكون جزمه بلن وهي لغة قليلة حكاها الكسائي وفي رواية للبخاري "فتلقاهما ملك فقال: لم ترع خليا عنه" وفي رواية للبخاري "فانصرفوا بي عن ذات اليمين" قال القرطبي: إنما فسر الشارع من رؤيا عبد الله ما هو ممدوح لأنه عرض على النار ثم عوفي منها وقيل له: لا روع عليك وذلك لصلاحه غير أنه لم يكن يقوم الليل فحصل له من ذلك تنبيه على أن قيام الليل مما يتقى به النار والدنو منها فلذلك لم يترك قيام الليل بعد ذلك وأشار المهلب إلى أن السر في ذلك كون عبد الله كان ينام في المسجد ومن حق المسجد أن يتعبد فيه فنبه على ذلك بالتخويف بالنار. (فقصصتها على حفصة فقصتها حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم) في الروايتين اللتين ساقهما مسلم هنا رؤيا قطعة الحرير وفيها "فقصصته على حفصة فقصته حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم" ورؤيا جهنم وفيها "فقصصتها على حفصة فقصتها حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم" ولا إشكال في ذلك سواء رآهما عبد الله في ليلة وأخبر بهما معا حفصة فأخبرت بهما حفصة رسول الله صلى الله عليه وسلم على مرتين أو رآهما في ليلتين وأخبر بهما حفصة متفرقتين فأخبرت بهما حفصة متفرقتين والمستبعد أن تكون حفصة قد أخبرت بهما مجتمعتين لقوله في رواية للبخاري "فقصت حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم إحدى رؤياي" أي قصت إحدى رؤياي أولا ثم قصت الأخرى. (نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل) "لو" للتمني لا للشرط فلا تحتاج إلى جواب لأن مدحه لا يتوقف على صلاة الليل.

-[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث]- 1 - فضيلة ظاهرة لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما. 2 - جواز نوم الرجال في المسجد وهو قول الجمهور وروي عن ابن عباس كراهيته إلا لمن يريد الصلاة وعن ابن مسعود كراهيته مطلقا وعن مالك التفصيل بين من له مسكن فيكره وبين من لا مسكن له فيباح وحديثنا يدل على إباحته لمن لا مسكن له 3 - أن أصل التعبير إنما يكون من الأنبياء ولذلك تمنى ابن عمر أنه يرى رؤيا فيعبرها له الرسول صلى الله عليه وسلم كما يعبر للناس، وقد صرح الأشعري بأن أصل التعبير بالتوقيف من قبل الأنبياء وعلى ألسنتهم قال ابن بطال: وهو كما قال لكن الوارد عن الأنبياء في ذلك وإن كان أصلا لكنه لا يعم جميع المرائي فلا بد للحاذق في هذا الفن أن يستدل بحسن نظره فيرد ما لم ينص عليه إلى ما نص عليه ويجعل النص أصلا يلحق به غيره كما يفعل الفقيه في فروع الفقه اهـ. 4 - وفيه تمني الخير والعلم. 5 - وأن الرؤيا الصالحة تدل على خير رائيها غالبا. 6 - وفيه مشروعية النيابة في قص الرؤيا. 7 - وأدب ابن عمر مع النبي صلى الله عليه وسلم ومهابته له حيث لم يقص رؤياه عليه بنفسه وكأنه لما هالته الرؤيا لم يؤثر أن يقصها بنفسه فقصها على أخته لإدلاله عليها. 8 - وأن بعض الرؤيا لا يحتاج إلى تعبير. 9 - وأن ما فسر في النوم فهو تفسيره في اليقظة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزد في تفسيرها على ما فسرها الملك الذي جاء في بعض الروايات أن الملك وصف ابن عمر بالرجل الصالح. 10 - وأن المعبر الحاذق يفسر من الرؤيا ما هو ممدوح ويسكت ويعرض عما هو كريه فقد رأى الفزع ولم يفسره. 11 - وفي الحديث الخوف والأمن في المنام لكن قال أهل التعبير: من رأى أنه خائف من شيء أمن منه ومن رأى أنه قد أمن من شيء فإنه يخاف منه. 12 - وفي الرواية الأولى رؤيا الإستبرق في المنام، وقد يعبر بالحرير عن شرف الدين والعلم لأن الحرير أشرف ملابس الدنيا، وكذلك العلم بالدين أشرف العلوم. 13 - ومن قوله في الرواية الثانية "كأن ملكين أخذاني" يؤخذ منه الجزم بالشيء وإن كان أصله

الاستدلال لأن ابن عمر استدل على أنهما ملكان بأنهما وقفا على جهنم ووعظاه بها والشيطان لا يعظ، ولا يذكر بالخير. 14 - وفي الحديث فضل قيام الليل. 15 - وفيه الوعيد على ترك السنن وجواز وقوع العذاب على ذلك قال الحافظ ابن حجر: وهو مشروط بالمواظبة على الترك رغبة عنها فالوعيد والتعذيب إنما يقع على المحرم وهو الترك بقصد الإعراض. والله أعلم.

(660) باب من فضائل أنس بن مالك رضي الله عنه

(660) باب من فضائل أنس بن مالك رضي الله عنه 5545 - عن أم سليم رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله! خادمك أنس. ادع الله له فقال: "اللهم! أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته". 5546 - وفي رواية عن أنس رضي الله عنه قال: قالت أم سليم: يا رسول الله! خادمك أنس فذكر نحوه. 5547 - عن أنس رضي الله عنه قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم علينا وما هو إلا أنا وأمي وأم حرام خالتي فقالت أمي: يا رسول الله! خويدمك. ادع الله له. قال: فدعا لي بكل خير. وكان في آخر ما دعا لي به أن قال: "اللهم! أكثر ماله وولده. وبارك له فيه". 5548 - عن أنس رضي الله عنه قال: جاءت بي أمي أم أنس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أزرتني بنصف خمارها وردتني بنصفه فقالت: يا رسول الله! هذا أنيس ابني أتيتك به يخدمك فادع الله له فقال: "اللهم! أكثر ماله وولده" قال أنس: فوالله! إن مالي لكثير وإن ولدي وولد ولدي ليتعادون على نحو المائة اليوم. 5549 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعت أمي أم سليم صوته فقالت: بأبي وأمي! يا رسول الله! أنيس فدعا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث دعوات قد رأيت منها اثنتين في الدنيا وأنا أرجو الثالثة في الآخرة. 5550 - عن أنس رضي الله عنه قال: أتى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألعب مع الغلمان قال: فسلم علينا. فبعثني إلى حاجة فأبطأت على أمي. فلما جئت قالت: ما حبسك؟ قلت: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة قالت ما حاجته قلت: إنها سر. قالت: لا تحدثن بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا قال أنس: والله! لو حدثت به أحدا لحدثتك يا ثابت!

5551 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أسر إلي نبي الله صلى الله عليه وسلم سرا. فما أخبرت به أحدا بعد ولقد سألتني عنه أم سليم فما أخبرتها به. -[المعنى العام]- أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام أنصاري خزرجي من بني النجار خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد المكثرين من الرواية عنه صلى الله عليه وسلم. صح عنه أنه قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وأنا ابن عشر سنين وخدمته صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي على شيء فعلته: لم فعلته؟ ولا على شيء لم أفعله: لم لم تفعله؟ وأمه أم سليم - سبق الحديث عنها وعن فضائلها - كان النبي صلى الله عليه وسلم يمازحه ويقول له: يا ذا الأذنين. خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر يخدمه وهو غلام ولم يذكر في البدريين لأنه لم يكن في سن من يقاتل وغزا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثماني غزوات. وكانت إقامته بعد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ثم شهد الفتوح ثم قطن البصرة ومات بها في قصره على فرسخين منها وكان آخر الصحابة موتا بالبصرة سنة ثنتين وتسعين وله من العمر مائة سنة وستة أشهر. قال ثابت البناني: قال لي أنس بن مالك: هذه شعرة من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم فضعها تحت لساني عند موتي فوضعتها تحت لسانه فدفن وهي تحت لسانه رضي الله عنه وأرضاه. -[المباحث العربية]- (عن أم سليم) بضم السين وفتح اللام وقد سبقت فضائلها قبل تسعة أبواب. (أنها قالت: يا رسول الله خادمك أنس ادع الله له) في الرواية الثانية بيان ظروف قولها ذلك، ففيها "دخل النبي صلى الله عليه وسلم - علينا - أي في بيتنا - وما هو إلا أنا وأمي وأم حرام خالتي فقالت أمي: يا رسول الله خويدمك - تصغير خادمك - ادع الله له" وفي الرواية الرابعة ما يشبه الثانية في أن قولها ذلك وطلبها الدعاء لأنس كان في بيتها ففيها "مر رسول الله صلى الله عليه وسلم" - أي على بيتنا - "فسمعت أمي أم سليم صوته" - أي فدعته فدخل - "فقالت: بأبي وأمي يا رسول الله أنيس" أي ادع له.

لكن في الرواية الثالثة ما يفيد أن طلب الدعاء لأنس كان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ فيها "جاءت بي أمي أم أنس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أزرتني بنصف خمارها وردتني بنصفه" أي جعلت لي نصف خمارها إزارا ونصفه رداء والخمار هنا ما كانت تستر به المرأة رأسها، يقرب مما يعرف بالشال الكبير "فقالت: يا رسول الله هذا أنيس ابني أتيتك به يخدمك فادع الله له" ولا مانع من تعدد طلب الدعاء والاستجابة لهذا الطلب مرة حين ذهبت به تعرضه عليه خادما له فقبله ومرة في زيارته صلى الله عليه وسلم لها وقد مر أنه كان كثير الزيارة لها قبل تسعة أبواب ويحتمل أن طلب الدعاء حصل مرة واحدة في بيتها وجاءت به من الداخل بإزار ورداء تعرضه للخدمة وتطلب له الدعاء. (فقال: اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته) وفي الرواية الرابعة "دعا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث دعوات قد رأيت منها اثنتين في الدنيا وأنا أرجو الثالثة في الآخرة" وفي الرواية الثانية "فدعا لي بكل خير وكان في آخر ما دعا لي به أن قال: اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيه" قال العيني: الأولى بكثرة المال والثانية بكثرة الولد والثالثة بطول العمر وهي المقصودة بالبركة له فيما أعطي ومن أبرك ما أعطي له طول عمره. اهـ. لكن هذا التفسير لا يتفق مع قوله "وأنا أرجو الثالثة في الآخرة" والأولى حملها على ما جاء عنه في الصحيح "اللهم أكثر ماله وولده وأدخله الجنة قال: قد رأيت اثنتين وأنا أرجو الثالثة" وذكر عدد المدعو به في رواية لا ينافي ذكر عدد آخر في رواية أخرى فالرواية الثانية تشير إلى كثرة ما دعا له به. (قال أنس: فوالله إن مالي لكثير وإن ولدي وولد ولدي ليتعادون نحو المائة اليوم) "ليتعادون" بتشديد الدال يقال: تعاد القوم عد بعضهم بعضا وثبت عن ماله أنه كان له بستان يحمل الفاكهة في السنة مرتين وكان فيه ريحان يجيء منه ريح المسك لما حوله وكان من أكثر الأنصار مالا وعن أولاده روي أنه قال: لقد دفنت من صلبي ومن صلب ولدي مائة وخمسة وعشرين ويقال: إنه ولد لأنس بن مالك ثمانون ولدا منهم ثمانية وسبعون ذكرا وابنتان إحداهما تسمى حفصة والثانية تكنى أم عمر وعن عمره فقد عاش مائة سنة على المشهور. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث]- 1 - في الحديث فضائل لأنس رضي الله عنه. 2 - وفيه علم من أعلام النبوة في إجابة دعوته صلى الله عليه وسلم. 3 - قال النووي: فيه هذا الأدب البديع وهو أنه إذا دعا بشيء له تعلق بالدنيا ينبغي أن يضم

إليه طلب البركة فيه، وصيانته من الفتنة بحيث لا يحصل بسببه ضرر ولا تقصير في حق ولا غير ذلك من الآفات التي تتطرق إلى سائر الأغنياء قال: وكان أنس وولده رحمة وخيرا ونفعا بلا ضرر بسبب دعائه صلى الله عليه وسلم. 4 - قال النووي: وفيه دليل لمن يفضل الغنى على الفقر. 5 - وفيه حفظ السر وفضيلته. والله أعلم.

(661) باب من فضائل عبد الله بن سلام رضي الله عنه

(661) باب من فضائل عبد الله بن سلام رضي الله عنه 5552 - عن عامر بن سعد قال: سمعت أبي يقول: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحي يمشي إنه في الجنة إلا لعبد الله بن سلام. 5553 - عن قيس بن عباد قال: كنت بالمدينة في ناس فيهم بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فجاء رجل في وجهه أثر من خشوع فقال بعض القوم: هذا رجل من أهل الجنة. هذا رجل من أهل الجنة. فصلى ركعتين يتجوز فيهما ثم خرج فاتبعته فدخل منزله. ودخلت فتحدثنا فلما استأنس قلت له: إنك لما دخلت قبل قال رجل كذا وكذا قال: سبحان الله! ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم. وسأحدثك لم ذاك؟ رأيت رؤيا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه. رأيتني في روضة - ذكر سعتها وعشبها وخضرتها - ووسط الروضة عمود من حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء في أعلاه عروة فقيل لي: ارقه فقلت له: لا أستطيع فجاءني منصف (قال ابن عون: والمنصف الخادم) فقال بثيابي من خلفي - وصف أنه رفعه من خلفه بيده - فرقيت حتى كنت في أعلى العمود فأخذت بالعروة فقيل لي: استمسك. فلقد استيقظت وإنها لفي يدي فقصصتها على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "تلك الروضة الإسلام وذلك العمود عمود الإسلام وتلك العروة عروة الوثقى وأنت على الإسلام حتى تموت" قال: والرجل عبد الله بن سلام. 5554 - عن قيس بن عباد قال: كنت في حلقة فيها سعد بن مالك وابن عمر فمر عبد الله بن سلام فقالوا: هذا رجل من أهل الجنة فقمت فقلت له: إنهم قالوا كذا وكذا قال: سبحان الله! ما كان ينبغي لهم أن يقولوا ما ليس لهم به علم إنما رأيت كأن عمودا وضع في روضة خضراء فنصب فيها وفي رأسها عروة وفي أسفلها منصف - والمنصف الوصيف - فقيل لي: ارقه فرقيت حتى أخذت بالعروة فقصصتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يموت عبد الله وهو آخذ بالعروة الوثقى".

5555 - عن خرشة بن الحر قال: كنت جالسا في حلقة في مسجد المدينة قال: وفيها شيخ حسن الهيئة وهو عبد الله بن سلام قال: فجعل يحدثهم حديثا حسنا قال: فلما قام قال القوم: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا قال: فقلت: والله! لأتبعنه فلأعلمن مكان بيته. قال: فتبعته. فانطلق حتى كاد أن يخرج من المدينة. ثم دخل منزله قال: فاستأذنت عليه فأذن لي. فقال: ما حاجتك! يا ابن أخي؟ قال: فقلت له: سمعت القوم يقولون لك لما قمت: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا فأعجبني أن أكون معك. قال: الله أعلم بأهل الجنة. وسأحدثك مم قالوا ذاك. إني بينما أنا نائم إذ أتاني رجل فقال لي: قم فأخذ بيدي فانطلقت معه قال: فإذا أنا بجواد عن شمالي قال: فأخذت لآخذ فيها. فقال لي: لا تأخذ فيها فإنها طرق أصحاب الشمال. قال: فإذا جواد منهج على يميني فقال لي: خذ ها هنا. فأتى بي جبلا. فقال لي: اصعد. قال: فجعلت إذا أردت أن أصعد خررت على استي. قال: حتى فعلت ذلك مرارا. قال: ثم انطلق بي حتى أتى بي عمودا رأسه في السماء وأسفله في الأرض في أعلاه حلقة. فقال لي: اصعد فوق هذا. قال: قلت: كيف أصعد هذا؟ ورأسه في السماء قال: فأخذ بيدي فزجل بي. قال: فإذا أنا متعلق بالحلقة. قال: ثم ضرب العمود فخر. قال: وبقيت متعلقا بالحلقة حتى أصبحت قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه فقال: أما الطرق التي رأيت عن يسارك فهي طرق أصحاب الشمال قال: وأما الطرق التي رأيت عن يمينك فهي طرق أصحاب اليمين وأما الجبل فهو منزل الشهداء ولن تناله. وأما العمود فهو عمود الإسلام وأما العروة فهي عروة الإسلام ولن تزال متمسكا بها حتى تموت". -[المعنى العام]- عبد الله بن سلام بن الحارث أبو يوسف من ذرية يوسف النبي عليه السلام حليف الخزرج

الإسرائيلي ثم الأنصاري كان حليفا لهم وكان من بني قينقاع يقال: كان اسمه الحصين فغيره النبي صلى الله عليه وسلم. أسلم أول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وقد سبق حديثه وقوله: "لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كنت ممن انجفل فلما تبينت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب فسمعته يقول: "أفشوا السلام وأطعموا الطعام .. ". وفي البخاري عن أنس "أن عبد الله بن سلام بلغه مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فأتاه يسأله عن أشياء فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: أخبرني به جبريل آنفا قال ابن سلام: ذاك عدو اليهود من الملائكة قال: أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما الولد فإن سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد. قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. قال: يا رسول الله إن اليهود قوم بهت فاسألهم عني قبل أن يعلموا بإسلامي فجاءت اليهود فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أي رجل عبد الله بن سلام فيكم؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا وأفضلنا وابن أفضلنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك فأعاد عليهم فقالوا مثل ذلك فخرج إليهم عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: شرنا وابن شرنا وتنقصوه قال: هذا ما كنت أخاف يا رسول الله". وفي البخاري أن قوله تعالى {وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله} [الأحقاف: 10] نزلت في عبد الله بن سلام وقد رأى الرؤيا الواردة في هذا الحديث وعبرها له رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوة إيمانه وإسلامه وبشره بأنه من أهل الجنة. توفي بالمدينة في خلافة معاوية سنة ثلاث وأربعين. رضي الله عنه وأرضاه. -[المباحث العربية]- (ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحي يمشي: إنه في الجنة إلا لعبد الله بن سلام) نفى السماع لقول ما لا يلزم منه وقوع هذا القول، فكثير من الأقوال لا نسمعها ويسمعها غيرنا وعلى هذا لا يقال: إن هذا يتعارض مع ما ثبت من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعلي في الجنة" إلى آخر العشرة وثبت أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة وأن عكاشة من أهل الجنة وغير هؤلاء وقال الحافظ ابن حجر: يظهر أنه قال ذلك بعد موت المبشرين بالجنة لأن عبد الله بن سلام عاش بعدهم ولم يتأخر معه من العشرة غير سعد بن أبي وقاص وسعيد فكره سعد تزكية نفسه لأنه أحد العشرة وحديث عاصم بن مهجع عن مالك عن سعد "يقول لرجل حي" يؤيد ما قلته وكأن الحافظ ابن حجر جعل اللام بمعنى عن ويصبح المعنى: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عن رجل هو حي الآن كذا وكذا إلا عبد الله بن سلام ثم قال الحافظ: لكن يعكر على هذا التأويل ما جاء عند الدارقطني بلفظ "سمعت

النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا أقول لأحد من الأحياء: إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام" وبلغني أنه قال "وسلمان الفارسي" لكن هذا السياق منكر، فإن كان محفوظا حمل على أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك قديما قبل أن يبشر غيره بالجنة. وجنح النووي إلى ترجيح أحاديث التبشير بالجنة على حديث نفي سعد فقال: ولو نفاه سعد كان الإثبات مقدما عليه. اهـ. لكن التوجيه أقعد وأكثر قبولا. (كنت في ناس فيهم بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) ذكر بعضهم في الرواية الثالثة. (فجاء رجل في وجهه أثر من خشوع فقال بعض القوم: هذا رجل من أهل الجنة) في الرواية الثالثة "فمر عبد الله بن سلام فقالوا: هذا رجل من أهل الجنة" وفي الرواية الرابعة "كنت جالسا في حلقة في مسجد المدينة وفيه شيخ حسن الهيئة وهو عبد الله بن سلام فجعل يحدثهم حديثا حسنا فلما قام قال القوم: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا". وللجمع بين الروايات يقال: إنه مر على الحلقة في المسجد فصلى ركعتين فجلس في الحلقة فجعل يحدثهم ثم قام فقالوا ما قالوا ... فذكر بعض الرواة من الأحداث ما لم يذكر الآخر. (فصلى ركعتين يتجوز فيهما ثم خرج) قال النووي: "فصلى ركعتين فيها ثم خرج" وفي بعض النسخ "فصلى ركعتين فيهما، ثم خرج" وفي بعضها "فصلى ركعتين ثم خرج" فهذه الأخيرة ظاهرة، وأما إثبات "فيها" أو "فيهما" فهو الموجود لمعظم رواة مسلم وفيه نقص وتمامه ما ثبت في البخاري "ركعتين تجوز فيهما". اهـ. والنسخة التي بين يدي لا نقص فيها ولله الحمد. وفي الرواية الرابعة "فقلت: والله لأتبعنه فلأعلمن مكان بيته" (فاتبعته) وسرت خلفه ثم بجواره ثم أشعرته أنني بحاجة إليه فصحبته وصحبني وفي الرواية الرابعة "فانطلق حتى كاد أن يخرج من المدينة". (فدخل منزله) ودعاني للدخول ودخلت وفي الرواية الرابعة "ثم دخل منزله فاستأذنت عليه فأذن لي". (فتحدثنا) في غير هذا الموضوع. (فلما استأنس) لي واستعد لإجابتي عما أريد وفي الرواية الرابعة "قال: ما حاجتك يا ابن أخي"؟ . (قلت له: إنك لما دخلت) المسجد فمررت بالحلقة فصليت ركعتين ثم جلست فيها وتكلمت ما تكلمت، ثم خرجت. (قبل) أي قبل قليل.

(قال رجل كذا وكذا) "كذا وكذا" كناية عما قاله الرجل في المسجد وهو: "هذا رجل من أهل الجنة". (قال: سبحان الله؟ ) كلمة تقال عند التعجب ومعناها الأصلي أنزه الله تعالى عن النقائص. (ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم) أي ما يليق بأحد أن يقول هذا لأننا لا نعلم الخاتمة والغيب وفي الرواية الرابعة "الله أعلم بأهل الجنة" وفي الرواية الثالثة "سبحان الله: ما كان ينبغي لهم أن يقولوا ما ليس لهم به علم" وقد استشكل هذا بأن الصادق المصدوق أخبر به فهو من المعلوم وليس مما لا يعلمه المسلمون وأجاب النووي عن هذا الإشكال باحتمال أن الذين قطعوا له بالجنة سمعوا ما سمع سعد أو بلغهم خبر سعد بأن ابن سلام من أهل الجنة ولم يسمع هو الخبر قال: ويحتمل أنه كره الثناء عليه بذلك تواضعا وإيثارا للخمول وكراهة للشهرة. (وسأحدثك لم ذاك؟ ) أي لم قالوا هذا القول؟ وأنني من أهل الجنة وفي الرواية الرابعة "وسأحدثك مم قالوا ذاك" من أجل أي شيء قالوا هذا القول؟ (رأيتني في روضة - ذكر سعتها وعشبها وخضرتها) أي قال الراوي: ذكر عبد الله بن سلام أوصافها والجملة معترضة وهذا عن الجزء الثاني من الرؤيا أما الجزء الأول فتتحدث عنه الرواية الرابعة وتقول: (إني بينما أنا نائم إذ أتاني رجل) أي ملك في صورة رجل. (فقال لي: قم فأخذ بيدي فانطلقت معه فإذا أنا بجواد عن شمالي) أي بطرق عن شمالي بينة، مسلوكة و"جواد" بتشديد الدال ممنوع من الصرف جمع جادة بتشديد الدال قال القاضي وقد تخفف الدال. (قال: فأخذت لآخذ فيها) أي فبدأت أتجه نحوها. (فقال لي: لا تأخذ فيها فإنها طرق أصحاب الشمال) أي فلا تتجه نحوها ولا تقبل عليها. (فإذا جواد منهج على يميني) أي فإذا طرق واضحة بينة مستقيمة على جهة يميني والمنهج الطريق المستقيم ونهج الأمر وأنهج إذا وضح وطريق منهج ومنهاج ونهج أي بين واضح. (فقال لي: خذ ها هنا) أي اتجه إلى هذا الطريق فاسلكه فسلكته معه. (فأتى بي جبلا فقال لي: اصعد) إلى قمته.

(فجعلت إذا أردت أن أصعد خررت على استى) أي وقعت على عجزي والاست بهمزة وصل العجز وقد يراد به حلقة الدبر. (حتى فعلت ذلك مرارا) كلما حاولت الصعود سقطت على عجزي فلم أتمكن من الصعود. (ثم انطلق بي حتى أتى بي عمودا رأسه في السماء وأسفله في الأرض) هذا العمود هو المذكور في الرؤيا في الرواية الثانية عن جزء الرؤيا الثاني إذ قال فيها: (ووسط الروضة عمود من حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء) وفي الرواية الثالثة "إنما رأيت كأن عمودا وضع في روضة خضراء فنصب فيها". (في أعلاه عروة) العروة من الثوب مدخل زره ومن الكوز والكوب مقبضه ومن الحبل دائرة في نهايته يستمسك بها، وفي الرواية الثالثة "في رأسها عروة - أي في رأس العمود باعتباره قطعة من حديد طويلة أو باعتباره دعامة وفي أسفلها منصف" قال النووي: هو بكسر الميم وفتح الصاد ويقال بفتح الميم أيضا وقد فسره الراوي في الحديث بالخادم والوصيف وهو صحيح قالوا: هو الوصيف الصغير المدرك للخدمة. (فقيل لي: ارقه) أي ارق العمود واصعده وفي رواية البخاري "ارق" وفي رواية "راقه" وفي الرواية الرابعة "فقيل لي: اصعد فوق هذا". (فقلت له: لا أستطيع) وفي الرواية الرابعة "قلت: كيف أصعد هذا؟ ورأسه في السماء"؟ . (فجاءني منصف، فقال بثيابي من خلفي - وصف أنه رفعه من خلفه بيده) وعبر عن الفعل بالقول في الرواية الرابعة. (فأخذ بيدي فزجل بي فإذا أنا متعلق بالحلقة) "فزجل بي" أي رمى بي يقال: زجله وزجل به زجلا رفعه ورمى به والمعنى أن الوصيف أخذه من يده ومن ثوبه من خلفه وقذف به إلى أعلى العمود فأمسك بالعروة وفي الرواية الثانية "فرقيت حتى كنت في أعلى العمود فأخذت بالعروة" و"رقيت" بكسر القاف على اللغة المشهورة الصحيحة وحكي فتحها. (فقيل لي: استمسك فلقد استيقظت وإنها لفي يدي) في الرواية الرابعة "ثم ضرب العمود فخر قال: وبقيت متعلقا بالحلقة حتى أصبحت" قال الحافظ ابن حجر: المعنى أن الاستيقاظ كان حال الأخذ بالحلقة من غير فاصل ولم يرد أنها بقيت في يده في حال يقظته ولو حمل على ظاهره لم يمتنع في قدرة الله. لكن الذي يظهر خلاف ذلك، ويحتمل أن يريد أن أثرها بقي في يده بعد الاستيقاظ كأن يصبح فيرى يده مقبوضة.

-[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث]- 1 - منقبة وفضيلة جليلة لعبد الله بن سلام رضي الله عنه 2 - قال القيرواني: الروضة التي لا يعرف نبتها تعبر بالإسلام لنضارتها وحسن بهجتها وتعبر أيضا بكل مكان فاضل وقد تعبر بالمصحف وكتب العلم والعالم ونحو ذلك. وقال الكرماني: يحتمل أن يراد بالروضة جميع ما يتعلق بالدين وبالعمود الأركان الخمسة وبالعروة الوثقى الإيمان. 3 - وفي الحديث معرفة اختلاف الطرق طرق أهل اليمين وطرق أهل الشمال. 4 - تأويل الجبل بأنه الشهادة. 5 - وفيه علم من أعلام النبوة أن عبد الله بن سلام لا يموت شهيدا فوقع كذلك ومات على فراشه رضي الله عنه وأرضاه. والله أعلم.

(662) باب من فضائل حسان بن ثابت رضي الله عنه

(662) باب من فضائل حسان بن ثابت رضي الله عنه 5556 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن عمر مر بحسان وهو ينشد الشعر في المسجد فلحظ إليه. فقال: قد كنت أنشد وفيه من هو خير منك. ثم التفت إلى أبي هريرة. فقال: أنشدك الله! أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أجب عني. اللهم! أيده بروح القدس"؟ قال: اللهم! نعم. 5557 - وفي رواية عن ابن المسيب أن حسان قال في حلقة فيهم أبو هريرة: أنشدك الله! يا أبا هريرة! أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر مثله. 5558 - عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سمع حسان بن ثابت الأنصاري يستشهد أبا هريرة! أنشدك الله: هل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يا حسان أجب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. اللهم! أيده بروح القدس"؟ قال أبو هريرة: نعم. 5559 - عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحسان بن ثابت "اهجهم أو هاجهم وجبريل معك". 5560 - عن أبيه أن حسان بن ثابت كان ممن كثر على عائشة. فسببته. فقالت: يا ابن أختي! دعه فإنه كان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. 5561 - عن مسروق قال: دخلت على عائشة وعندها حسان بن ثابت ينشدها شعرا. يشبب بأبيات له. فقال: حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل

فقالت له عائشة: لكنك لست كذلك قال مسروق: فقلت لها: لم تأذنين له يدخل عليك؟ وقد قال الله {والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم} [النور: 11] فقالت: فأي عذاب أشد من العمى؟ إنه كان ينافح. أو يهاجي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. 5562 - وفي رواية عن شعبة في هذا الإسناد وقال: قالت: كان يذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكر: حصان رزان. 5563 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال حسان: يا رسول الله! ائذن لي في أبي سفيان. قال: "كيف بقرابتي منه؟ " قال: والذي أكرمك! لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من الخمير. فقال حسان: وإن سنام المجد من آل هاشم ... بنو بنت مخزوم ووالدك العبد قصيدته هذه. 5564 - وفي رواية عن هشام بن عروة بهذا الإسناد قالت: استأذن حسان بن ثابت النبي صلى الله عليه وسلم في هجاء المشركين ولم يذكر أبا سفيان وقال بدل - الخمير - العجين. 5565 - عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اهجوا قريشا. فإنه أشد عليها من رشق بالنبل". فأرسل إلى ابن رواحة فقال: "اهجهم" فهجاهم فلم يرض. فأرسل إلى كعب بن مالك. ثم أرسل إلى حسان بن ثابت فلما دخل عليه قال حسان: قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه ثم أدلع لسانه فجعل يحركه. فقال: والذي بعثك بالحق! لأفرينهم بلساني فري الأديم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تعجل فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها. وإن لي فيهم نسبا حتى يلخص لك نسبي فأتاه حسان. ثم رجع فقال: يا رسول الله! قد لخص لي نسبك. والذي بعثك بالحق! لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين. قالت عائشة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحسان: "إن روح

القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله" وقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هجاهم حسان فشفى واشتفى" قال حسان: هجوت محمدا فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء هجوت محمد برا حنيفا ... رسول الله شيمته الوفاء فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء ثكلت بنيتي إن لم تروها ... تثير النقع من كنفي كداء يبارين الأعنة مصعدات ... على أكتافها الأسل الظماء تظل جيادنا متمطرات ... تلطمهن بالخمر النساء فإن أعرضتمو عنا اعتمرنا ... وكان الفتح وانكشف الغطاء وإلا فاصبروا لضراب يوم ... يعز الله فيه من يشاء وقال الله قد أرسلت عبدا ... يقول الحق ليس به خفاء وقال الله قد يسرت جندا ... هم الأنصار عرضتها اللقاء لنا في كل يوم من معد ... سباب أو قتال أو هجاء فمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء وجبريل رسول الله فينا ... وروح القدس ليس له كفاء -[المعنى العام]- حسان بن ثابت بن المنذر الأنصاري الخزرجي النجاري وأمه الفريعة بنت خالد بن حبيش خزرجية أيضا. أدركت الإسلام فأسلمت وبايعت ويكنى حسان: أبا المضرب وأبا الحسام وأبا عبد الرحمن فضل على الشعراء بثلاثة كان شاعر الأنصار في الجاهلية وشاعر النبي صلى الله عليه وسلم في أيام النبوة وشاعر اليمن كلها في الإسلام. قيل: إنه لم يغز مع النبي صلى الله عليه وسلم لجبنه وقصة جبنه مع صفية بنت عبد المطلب وهي في حصنه مشهورة. قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعمر حسان ستون سنة قيل: وعاش في الإسلام ستين سنة ومات

وهو ابن مائة وعشرين سنة، توفي في خلافة علي رضي الله عنه، وقيل: توفي سنة خمسين أو أربع وخمسين. رضي الله عنه وأرضاه. -[المباحث العربية]- (أن عمر مر بحسان، وهو ينشد الشعر في المسجد) أي المسجد النبوي في المدينة، وعمر آنذاك أمير المؤمنين. (فلحظ إليه) أي نظر إليه بمؤخر عينه، من أحد جانبيه، يقال: لحظه بالعين، ولحظ إليه لحظا ولحظانا، وكثيرا ما تستعمل هذه النظر في مؤاخذة الملحوظ، كما فهم منها حسان، وفي رواية "فقال عمر: أفي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم تنشد الشعر"؟ . (فقال: قد كنت أنشد، وفيه من هو خير منك) أي فقال حسان لعمر، ردا على لحظته: لم تؤاخذني؟ وقد أقرني على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ . (ثم التفت إلى أبي هريرة) أي التفت حسان إلى أبي هريرة - وكان بجواره - يستشهد به. (فقال: أنشدك الله. أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أجب عني، اللهم أيده بروح القدس؟ قال: اللهم نعم) وفي رواية "فسكت عمر". و"أنشدك" بفتح الهمزة وضم الشين، أي أسألك الله، والنشد بفتح النون وسكون الشين التذكر، يقال: نشد فلانا قصده وسأله، ونشد فلانا بكذا، أي ذكره به واستعطفه، يقال: نشدتك الله، وبالله، ونشدتك الرحم، وبالرحم، والمراد بروح القدس هنا جبريل، يدل عليه ما في الرواية الثالثة "وجبريل معك". والمراد بالإجابة الرد على الكفار الذين هجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وفي الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصب لحسان منبرا في المسجد، فيقوم عليه، يهجو الكفار". (اهجهم، أو هاجهم، وجبريل معك) يقال: هجا فلانا، يهجوه، هجوا، وهجاء: ذمه، وعدد معايبه، ويقال: هاجاه مهاجاة، إذا هجا كل منهما صاحبه. و"أو" للشك من الراوي في أية اللفظتين قيلت. (عن هشام عن أبيه) عروة بن الزبير، ابن أخت عائشة. (أن حسان بن ثابت كان ممن كثر على عائشة، فسببته) أي ذكر اسمه في مجلس عائشة، فسبه عروة، لأنه أكثر من نقل كلام الإفك عن عائشة، وقد صح عن عائشة أنها عدت العصبة التي جاءت وأذاعت الإفك، فعدت عبد الله بن أبي بن سلول، وحمنة بنت جحش، أخت أم المؤمنين زينب رضي الله عنها، وزوجة طلحة بن عبيد الله، ومسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت. ومن الناس من برأ حسان، وهو خلاف ما في الصحيح، وما تشير إليه الروايتان الرابعة

والخامسة، والظاهر أنه - رضي الله عنه - اعتذر عما نسب إليه في شأن عائشة في أبيات سنذكرها، فقبلت اعتذاره، وعطفت عليه بعد أن أصيب بالعمى. (فقالت: يا بن أختي، دعه) أي دع سبه وشتمه. (فإنه كان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي كان يدافع بشعره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الرواية الخامسة "إنه كان ينافح أو يهاجي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي ملحقها "كان يذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم". (يشبب بأبيات له، فقال: حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل) "يشبب" يعني يتغزل، يذكر محاسن النساء، وهو هنا يذكر محاسن عائشة رضي الله عنها، ويصفها بأنها "حصان" بفتح الحاء والصاد المخففة، أي محصنة عفيفة، "رزان" بفتح الراء والزاي، أي كاملة العقل، يقال: رجل رزين، و"ما تزن بريبة" أي ما تتهم بريبة، يقال: زننته وأزننته إذا ظننت به خيرا أو شرا، و"غرثى" بفتح الغين وسكون الراء وفتح الثاء، أي جائعة، ورجل غرثان، وامرأة غرثى، معناه لا تغتاب الناس، لأنها لو اغتابتهم شبعت من لحومهم. والمعنى أن عائشة رضي الله عنها محصنة عاقلة، لا تتهم بريبة، ولا تأكل لحوم الناس بالغيبة. في الرواية الخامسة أنها قالت له، بعد سماعها هذا البيت: "لكنك لست كذلك". وبعد هذا البيت قال: حليلة خير الناس دينا ومنصبا ... نبي الهدى ذي المكرمات الفواضل عقيلة حي من لؤي بن غالب ... كرام المساعي، مجدهم غير زائل مهذبة قد طيب الله خيمها ... وطهرها من كل سوء وباطل فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتمو ... فلا رفعت سوطي إلى أناملي وكيف وودي ما حييت ونصرتي ... لآل رسول الله زين المحافل له رتب عال على الناس كلهم ... تقاصر عنه سورة المتطاول فإن الذي قد قيل ليس بلائط ... ولكنه قول امرئ بي ماحل "قد طيب الله خيمها" أي قد طيب ريحها، "سورة المتطاول" بفتح السين وسكون الواو، أي وثبة مدعي الطول، و"ليس بلائط" أي ليس بلاصق بي على الحقيقة، "بي ماحل" أي بي واش وساع بي إلى ذي السلطان.

(قال حسان: يا رسول الله، ائذن لي في أبي سفيان) المراد بأبي سفيان هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وهو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وكان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين في ذلك الوقت، ثم أسلم وحسن إسلامه. أي ائذن لي أن أهجوه وأذمه، وفي ملحق الرواية "استأذن حسان بن ثابت النبي صلى الله عليه وسلم في هجاء المشركين" ولم يذكر أبا سفيان. (قال: كيف بقرابتي منه؟ ) أي كيف لا يصيبني الذم، وهو ابن عمي؟ إذا ذممته؟ (قال: والذي أكرمك لأسلنك منهم، كما تسل الشعرة من الخمير) المراد من الخمير العجين، وصرح به في الرواية السابعة، لأنه يتخمر غالبا، ومعناه لأتلطفن في تخليص نسبك من هجوه، بحيث لا يبقى جزء من نسبك في نسبهم الذي ناله الهجو، كما أن الشعرة، إذا سلت من العجين، لا يبقى منها شيء فيه، بخلاف ما لو سلت من شيء صلب، فإنها ربما انقطعت، فبقيت منها فيه بقية. (فقال حسان: وإن سنام المجد من آل هاشم ... بنو بنت مخزوم ووالدك العبد) ولم يذكر مسلم البيت الثاني، وبه تتم الفائدة، وهو المراد المقصود، وهو: ومن ولدت أبناء زهرة منهمو ... كرام، ولم يقرب عجائزك المجد والمراد ببنت مخزوم فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، أم عبد الله والزبير وأبي طالب، وقوله "ومن ولدت أبناء زهرة منهمو" مراده هالة بنت وهب بن عبد مناف، أم حمزة وصفية، وأما قوله "ووالدك العبد" فهو سب لأبي سفيان بن الحارث، ومعناه أن أم الحارث بن عبد المطلب والد أبي سفيان هذا، هي سمية بنت موهب، وموهب غلام لبني عبد مناف، وكذا أم أبي سفيان بن الحارث، كانت كذلك، وهو مراده بقوله: "ولم يقرب عجائزك المجد". (قصيدته هذه) بالنصب، مفعول به لفعل محذوف، أي اقرأ، أو راجع قصيدته هذه. (اهجوا قريشا، فإنه أشد عليها من رشق بالنبل) الخطاب للمسلمين، أو للشعراء المسلمين، وهو رفع للحظر، وإذن بالهجاء، بعد أن اشتد هجاء المشركين للإسلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين، فأراد محاربتهم بنفس سلاحهم، وكان الشعر مدحا أو هجاء يرفع القبيلة أو يخفضها، فكان أثره في العرب بعامة أشد من الرمي بالسهام، و"الرشق" بفتح الراء هي الرمي، وأما الرشق بكسرها فهو اسم للنبل التي ترمى دفعة واحدة، وفي بعض النسخ "رشق النبل". (فأرسل إلى ابن رواحة، فقال: اهجهم، فهجاهم، فلم يرض) أي فلم يشف ما في صدر النبي صلى الله عليه وسلم وما في صدر أصحابه من الغيظ.

(فأرسل إلى كعب بن مالك) فقال له: اهجهم، فهجاهم، فكان شأنه شأن ابن رواحة. (ثم أرسل إلى حسان بن ثابت، فلما دخل عليه) أي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بلغه ما كان من ابن رواحة وكعب. (قال حسان: قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه) يصف نفسه بالأسد بين الشعراء، قال العلماء: ومراد حسان من "ذنبه" لسانه، فشبه نفسه بالأسد في انتقامه وبطشه إذا اغتاظ، وحينئذ يضرب بذنبه جنبيه. (ثم أدلع لسانه، فجعل يحركه) أي ثم أخرج لسانه عن الشفتين، يحركه يمنة ويسرة، كما يفعل الأسد بذنبه، يقال: دلع لسانه، وأدلع لسانه، ودلع اللسان. (فقال: والذي بعثك بالحق لأفرينهم فري الأديم) أي لأمزقن أعراضهم تمزيق الجلد. سأسلك منهم كما تسل الشعرة من العجين. قال: أنت غير عليم بالأنساب، فيخشى من ذم نسب أتصل به، ولكن عليك أولا بأبي بكر. (فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها، وإن لي فيهم نسبا، حتى يلخص لك نسبي) ويخلصه من أنساب تتناولها بالهجاء. (قالت عائشة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هجاهم حسان، فشفى، واشتفى) أي فشفى صدري وشفى صدور المؤمنين، وشفى نفسه، وأذهب غيظنا وغيظه. (قال حسان: هجوت محمدا، فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء) يخاطب من هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتوعده بأنه سيجيب ويدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إجابة ودفاعا لا يدافعه مدافع، لأن أجره عند أعظم مجاز، وأكرم معط. (هجوت محمدا، برا، تقيا ... رسول الله شيمته الوفاء) وفي بعض النسخ "برا حنيفا" والبر بفتح الباء واسع الخير، وهو مأخوذ من البر، بكسر الباء، وهو الاتساع في الإحسان، وهو اسم جامع للخير، وقيل: البر هنا بمعنى المتنزه عن المآثم، وأما الحنيف فقيل: هو المستقيم، والأصح أنه المائل إلى الخير، وقيل: الحنيف التابع ملة إبراهيم عليه السلام وقوله "شيمته الوفاء" أي خلقه الوفاء، وكلها منصوبة على الحال. (فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء) قال النووي: هذا مما احتج به ابن قتيبة لمذهبه، أن عرض الإنسان هو نفسه، لا أسلافه، لأنه ذكر عرضه وأسلافه بالعطف، وقال غيره: عرض الرجل أموره كلها، التي يحمد بها ويذم من نفسه، وأسلافه، وكل ما لحقه نقص بعيبه، وأما قوله "وقاء" فبكسر الواو، وبالمد، وهو ما وقيت به الشيء.

(ثكلت بنيتي إن لم تروها ... تثير النقع من كنفي كداء) "كنفا كداء" جانبا كداء، وهي ثنية على باب مكة، وفي بعض النسخ "غايتها كداء" وفي بعضها "موعدها كداء" يهدد قريشا والمشركين بمكة بأن خيل المسلمين ستثير الغبار في جبال مكة، فتغزوهم. وتهاجمهم، ويزيد في وصف الخيل والفرسان، فيقول: (يبارين الأعنة مصعدات ... على أكتافها الأسل الظماء تظل جيادنا متمطرات ... تلطمهن بالخمر النساء) ويروى "يبارعن الأعنة" وفي رواية "يبارين الأسنة" و"مصعدات" أي مقبلات إليكم ومتوجهات، دون تراجع "على أكتافها الأسل الظماء" أي فوق ظهورها الرماح العطشى إلى الدماء، وفي بعض الروايات "الأسد الظماء" أي الرجال المشبهون للأسد العطاش إلى دمائكم "تظل جيادنا متمطرات" أي تظل خيولنا مسرعات، يسبق بعضها بعضا، كسيل المطر "تلطمهن بالخمر النساء" أي تمسحهن النساء بخمرهن، جمع خمار، أي يزلن عنهن الغبار بخمرهن، لعزتها وكرامتها عندهم، وحكى القاضي أنه روي "بالخمر" بفتح الميم، جمع خمرة، وهو صحيح المعنى، لكن الأول هو المعروف، وهو الأبلغ في إكرامها. (فإن أعرضتموا عنا اعتمرنا ... وكان الفتح وانكشف الغطاء وإلا فاصبروا لضراب يوم ... يعز الله فيه من يشاء وقال الله قد أرسلت عبدا ... يقول الحق ليس به خفاء وقال الله قد يسرت جندا ... هم الأنصار، عرضتها اللقاء يلاقى كل يوم من معد ... سباب أو قتال أو هجاء فمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء وجبريل رسول الله فينا ... وروح القدس ليس له كفاء) "قد يسرت جندا" أي هيأتهم، وأرصدتهم لقتال المشركين "عرضتها اللقاء" بضم العين، أي مقصودها ومطلوبها "ليس له كفاء" أي ليس له مماثل، ولا مقاوم. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث]- 1 - فضيلة لحسان بن ثابت رضي الله عنه في دفاعه بشعره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الرغم من موقفه من الإفك نرى عائشة رضي الله عنها تغفر له هذا الموقف، وتقدر له هجاء المشركين، ومدحه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتكرمه وتذكره بخير، وتدافع عنه بل كانت تأذن له بالدخول، وتدعو له بالوسادة، وتقول: لا

تؤذوا حسانا، فإنه كان ينصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسانه، وتقول: ما سمعت بشيء أحسن من شعر حسان، وما تمثلت به إلا رجوت له الجنة. ولما قيل لها: تدعين مثل هذا يدخل عليك، وقد أنزل الله تعالى {والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم} [النور: 11] قالت: وأي عذاب أشد من العمى، وفي رواية "أليس أصابه عذاب عظيم؟ أليس قد ذهب بصره، وكسع بالسيف"، تعني ضربة السيف التي ضربه إياها صفوان، حين بلغه أنه يتكلم في ذلك. 2 - وفي الحديث جواز هجو الكفار، ما لم يكن أمان، ولا غيبة فيه، فقد أمر صلى الله عليه وسلم بهجائهم، وطلبه من أصحابه، واحدا بعد واحد، وكان القصد النكاية في الكفار، وقد أمر الله تعالى بالجهاد في الكفار، والإغلاظ عليهم، وكان هذا الهجو أشد عليهم من الرمي بالنبال، فكان مندوبا لذلك، مع ما فيه من كف أذاهم، وبيان نقصهم، والانتصار للمسلمين بهجائهم. قال النووي: قال العلماء: ينبغي ألا يبدأ المسلمون المشركين بالسب والهجاء، مخافة من سبهم الإسلام وأهله، قال تعالى: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله، فيسبوا الله عدوا بغير علم} [الأنعام: 108] ولتنزيه ألسنة المسلمين عن الفحش، إلا أن تدعو إلى ذلك ضرورة لابتدائهم به، ككف أذاهم، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم. 3 - قال النووي: وفيه جواز إنشاد الشعر في المسجد، إذا كان مباحا، واستحبابه إذا كان في مدح الإسلام وأهله، أو في هجاء الكفار، والتحريض على قتالهم، أو تحقيرهم ونحو ذلك. وأما حديث "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تناشد الأشعار في المساجد" فهو وإن رواه الترمذي وحسنه فيجمع بينه وبين حديثنا بأن يحمل النهي على تناشد أشعار الجاهلية والمبطلين، والمأذون فيه ما سلم من ذلك، وقيل: المنهي عنه ما إذا كان التناشد غالبا على المسجد، حتى يتشاغل به من فيه. والله أعلم. 4 - وفيه استحباب الدعاء لمن قال شعرا من هذا النوع. 5 - وفيه جواز الانتصار من الكفار، ويجوز الانتصار أيضا من غير الكفار بشروطه. والله أعلم

(663) باب من فضائل أبي هريرة رضي الله عنه

(663) باب من فضائل أبي هريرة رضي الله عنه 5566 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يوما فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي. قلت: يا رسول الله! إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى علي. فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره. فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم! اهد أم أبي هريرة" فخرجت مستبشرا بدعوة نبي الله صلى الله عليه وسلم. فلما جئت فصرت إلى الباب. فإذا هو مجاف. فسمعت أمي خشف قدمي. فقالت: مكانك: يا أبا هريرة! وسمعت خضخضة الماء. قال: فاغتسلت ولبست درعها وعجلت عن خمارها. ففتحت الباب. ثم قالت: يا أبا هريرة! أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته وأنا أبكي من الفرح. قال: قلت: يا رسول الله! أبشر قد استجاب الله دعوتك وهدى أم أبي هريرة. فحمد الله وأثنى عليه وقال خيرا. قال: قلت: يا رسول الله! ادع الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين، ويحببهم إلينا. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم! حبب عبيدك هذا - يعني أبا هريرة - وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحبب إليهم المؤمنين" فما خلق مؤمن يسمع بي، ولا يراني إلا أحبني. 5567 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله الموعد. كنت رجلا مسكينا. أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني. وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق. وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يبسط ثوبه فلن ينسى شيئا سمعه مني". فبسطت ثوبي حتى قضى حديثه. ثم ضممته إلي. فما نسيت شيئا سمعته منه. 5568 - وفي روية عن أبي هريرة رضي الله عنه، بهذا الحديث. غير أن مالكا انتهى

حديثه عند انقضاء قول أبي هريرة. ولم يذكر في حديثه الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من يبسط ثوبه" إلى آخره. 5569 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: ألا يعجبك أبو هريرة! جاء فجلس إلى جنب حجرتي. يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم. يسمعني ذلك. وكنت أسبح. فقام قبل أن أقضي سبحتي. ولو أدركته لرددت عليه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث كسردكم. 5570 - وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: يقولون: إن أبا هريرة قد أكثر والله الموعد. ويقولون: ما بال المهاجرين والأنصار لا يتحدثون مثل أحاديثه؟ وسأخبركم عن ذلك: إن إخواني من الأنصار كان يشغلهم عمل أرضيهم. وإن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق. وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني. فأشهد إذا غابوا. وأحفظ إذا نسوا. ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما: "أيكم يبسط ثوبه فيأخذ من حديثي هذا، ثم يجمعه إلى صدره، فإنه لم ينس شيئا سمعه" فبسطت بردة علي. حتى فرغ من حديثه. ثم جمعتها إلى صدري. فما نسيت بعد ذلك اليوم شيئا حدثني به ولولا آيتان أنزلهما الله في كتابه ما حدثت شيئا أبدا: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى} [البقرة/ 159، 160] إلى آخر الآيتين. -[المعنى العام]- أبو هريرة الدوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال النووي: اسمه عبد الرحمن بن صخر على الأصح من ثلاثين قولا، وقال القطب الحلبي: اجتمع في اسمه واسم أبيه أربعة وأربعون قولا، مذكورة في الكنى للحاكم وفي الاستيعاب وفي تاريخ ابن عساكر. قال البخاري: روى عنه نحو الثمانمائة من أهل العلم، وكان جريئا على أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء لا يسأله عنها غيره. كان إسلامه بين الحديبية وخيبر، قدم المدينة مهاجرا، وسكن الصفة، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنين، وقيل ثلاث سنين، قيل: كان سنه يوم أسلم ثلاثين عاما.

كان يبتدئ حديثه بقوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق أبو القاسم: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار". استعمل عمر أبا هريرة على البحرين، فقدم بعشرة آلاف، فقال له عمر: استأثرت بهذه الأموال، فمن أين لك؟ قال: خيل نتجت، وأعطية تتابعت، وخراج رفيق لي، فنظر، فوجدها كما قال، ثم دعاه ليستعمله، فأبى، فقال: لقد طلب العمل من كان خيرا منك، قال: إنه يوسف عليه السلام، نبي الله، وابن نبي الله، وأنا أبو هريرة ابن أميمة، وأخشى ثلاثا: أن أقول بغير علم، أو أقضي بغير حكم، ويضرب ظهري، ويشتم عرضي، وينزع مالي. توفي بقصره بالعقيق، سنة ثمان وخمسين فحمل إلى المدينة، بعد أن عاش ثمانيا وسبعين سنة، وصلى عليه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وكان أميرا يومئذ على المدينة، وكتب الوليد إلى معاوية يخبره بموته، فكتب إليه: انظر من ترك؟ فادفع إلى ورثته عشرة آلاف درهم، وأحسن جوارهم، فإنه كان ممن نصر عثمان يوم الدار رضي الله عنه وأرضاه. -[المباحث العربية]- (فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة) كان الأصل أن يقول: أمي، ولكنه آثر التجريد، ليطابق المدعو به، فإنه لن يقول: اللهم اهد أمك. (فلما جئت فصرت إلى الباب) أي فوصلت إلى باب بيتي. (فإذا هو مجاف) أي مغلق، يقال: أجاف الباب إذا رده، وفي حديث الحج أنه صلى الله عليه وسلم دخل البيت، وأجاف الباب. (فسمعت أمي خشف قدمي) بفتح الخاء وسكون الشين، أي صوت قدمي في الأرض. (فقالت: مكانك) ظرف لفعل محذوف، أي قف مكانك. (وسمعت خضخضة الماء) أي صوت تحريكه وصبه. (ولبست درعها، وعجلت عن خمارها، ففتحت الباب) درع المرأة قميصها، وخمارها الثوب الذي تغطي به رأسها، وعجل عن كذا إلى كذا، أي أسرع إلى كذا متجاوزا كذا، والمعنى أنها لبست القميص، وأسرعت إلى الباب تفتحه، تاركة خمارها. (فما خلق مؤمن يسمع بي، ولا يراني إلا أحبني) هذا في اعتقاد أبي هريرة وعلمه، وما يحسه من الناس، وليس بلازم، فحب جميع المؤمنين غاية لا تدرك. (إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) الزعم مطية الكذب،

وتستعمل المادة - غالبا - فيما ليس له أصل. و"يكثر الحديث" أي يكثر ذكر الأحاديث والتحديث والرواية والخطاب في "إنكم" لبعض الصحابة، أي إن بعض الصحابة يقولون ... ، وفي الرواية الرابعة "يقولون: إن أبا هريرة قد أكثر" وفي ملحقها "إنكم تقولون: إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية للبخاري "إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة". (والله الموعد) بفتح الميم، وفيه حذف، تقديره: وعند الله الموعد، لأن الموعد إما مصدر، وإما ظرف زمان، أو ظرف مكان، وكل ذلك لا يخبر به عن الله تعالى، ومراده أن الله تعالى يحاسبني إن تعمدت كذبا، ويحاسب من ظن بي ظن السوء. (كنت رجلا مسكينا، أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني) أي ألازمه من أجل قوتي اليومي، ولا أجمع مالا أدخره، وليس المراد الخدمة بالأجرة، و"ملء" بكسر الميم، أي إن السبب الأولى الذي اقتضى له كثرة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمران، ملازمته له، ليجد ما يأكله، لأنه لم يكن له شيء يتجر فيه، ولا أرض يزرعها، ولا يعمل فيها، فكان لا ينقطع عنه، خشية أن يفوته القوت، فحصل له بهذه الملازمة كثرة سماعه الأقوال، ورؤيته الأفعال، مما لا يحصل لغيره، ممن لم يلازمه ملازمته، الأمر الثاني ما سيذكره من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له، وفي رواية للبخاري "وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطنه، ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون". (وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم) "يشغلهم" بفتح الياء، وحكي ضمها، والصفق في الأسواق كناية عن التبايع، وكانوا يصفقون بالأيدي من المتبايعين، بعضها على بعض، والسوق مؤنثة، وقد تذكر، سميت بذلك لقيام الناس فيها على سوقهم، وفي الرواية الرابعة "ويقولون: ما بال المهاجرين والأنصار لا يتحدثون مثل أحاديثه؟ وسأخبركم عن ذلك. إن إخواني من الأنصار كان يشغلهم عمل أرضهم، وإن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق". (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يبسط ثوبه فلن ينسى شيئا سمعه مني، فبسطت ثوبي، حتى قضى حديثه، ثم ضممته إلي، فما نسيت شيئا مما سمعته منه) هذا هو السبب الثاني، وفي الرواية الرابعة "ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما: أيكم يبسط ثوبه، فيأخذ من حديثي هذا، ثم يجمعه إلى صدره، فإنه لم ينس شيئا سمعه، فبسطت بردة علي، حتى فرغ من حديثه، ثم جمعتها إلى صدري، فما نسيت بعد ذلك اليوم شيئا، حدثني به". (أن عائشة قالت: ألا يعجبك أبو هريرة؟ ) الخطاب من عائشة لابن أختها، عروة بن الزبير، والمعنى: تعجب من أبي هريرة، فعند أبي داود "ألا أعجبك من أبي هريرة". (جاء، فجلس إلى جنب حجرتي، يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم، يسمعني ذلك) أي يسمعني أحاديث ليأخذ موافقتي على صحتها، أو ليسمع مني اعتراضا على بعضها.

(وكنت أسبح، فقام قبل أن أقضي سبحتي) أي كنت أصلي نافلة الضحى. (ولو أدركته لرددت عليه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث كسردكم) وكأن عائشة لم توافق أبا هريرة على سرعة تحديثه، ومتابعة الحديث للحديث، والاستعجال في رواية الحديث، وكانت لو لحقته لنصحته أن يروي ما يروي فصلا، فهما، تفهمه القلوب، ولو لحقته لأنكرت عليه الإسراع، وبينت له أن الترتيل في التحديث أولى من السرد، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث كما يسرده أبو هريرة. واعتذر بعضهم عن أبي هريرة بأنه كان واسع الرواية، كثير المحفوظ، فكان لا يتمكن من المهل عند إرادة التحديث، من تزاحم المعلومات. (لولا آيتان أنزلهما الله في كتابه، ما حدثت شيئا أبدا) وفي رواية البخاري "ما حدثت حديثا" أي لولا أن الله ذم الكاتمين للعلم، ما حدث أصلا، لكن لما كان الكتمان حراما، وجب الإظهار. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث]- 1 - استجابة دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم على الفور بعين المسئول، بخصوص هداية أم أبي هريرة. 2 - وهو من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم. 3 - واستحباب حمد الله عند حصول النعم. 4 - فضيلة أبي هريرة. 5 - فضيلة حفظ العلم، قالوا: ولم يحدث أبو هريرة بجميع محفوظاته، ومع ذلك فالموجود من حديثه أكثر من الموجود من حديث غيره من المكثرين. 6 - أخذ من قوله في الرواية الثانية "فما نسيت شيئا سمعته منه" ومن قوله في الرواية الرابعة "فما نسيت بعد ذلك اليوم شيئا حدثني به" أن أبا هريرة لم ينس شيئا من الأحاديث التي سمعها، وأن عدم النسيان عنده خاص بالحديث، فإن قيل: قد أخرج ابن وهب من طريق الحسن بن عمرو ابن أمية، قال: تحدثت عند أبي هريرة بحديث، فأنكره، فقلت: إني سمعته منك؟ فقال: إن كنت سمعته مني فهو مكتوب عندي". فهذا يدل على وقوع نسيانه في الحديث، ويحمل عدم النسيان على عدم نسيان تلك المقالة، يستأنس لذلك برواية شعيب "فما نسيت من مقالته تلك من شيء" مما يخص عدم النسيان بتلك المقالة، ويلتحق بهذا حديث أبي سلمة عنه "لا عدوى" فإنه قال فيه: إن أبا هريرة أنكره، قال: "فما رأيته نسي شيئا غيره". قال الحافظ ابن حجر: سند حديث

ابن وهب ضعيف، وعلى تقدير ثبوته فهو نادر، وسياق الكلام في روايتنا يقتضي ترجيح العموم، لأن أبا هريرة نبه بذلك على كثرة محفوظه من الحديث، والوثوق منها، فلا يصح حمله على تلك المقالة وحدها. 7 - وعدم نسيان أبي هريرة معجزة واضحة، من علامات النبوة، لأن النسيان من لوازم الإنسان، وقد اعترف أبو هريرة بأنه كان يكثر من النسيان، ثم تخلف عنه ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وفي المستدرك للحاكم، من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: "كنت أنا وأبو هريرة وآخر، عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ادعوا، فدعوت أنا وصاحبي، وأمن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم دعا أبو هريرة، فقال: اللهم إني أسألك مثل ما سألك صاحباي، وأسألك علما لا ينسى، فأمن النبي صلى الله عليه وسلم، فقلنا: ونحن كذلك يا رسول الله. فقال: سبقكما الغلام الدوسي". 8 - وفي عمل أبي هريرة فضيلة التقليل من الدنيا، وأنه أمكن لحفظ العلم. 9 - وفي انشغال المهاجرين والأنصار، وتقريرهم على ذلك فضيلة التكسب لمن له عيال. 10 - وفيه جواز تحديث الإنسان بما فيه من فضائل، إذا اضطر إلى ذلك، وأمن من الإعجاب. 11 - وفي الحديث دلالة على حرصهم على التوثيق بالرواية، لقولهم: "أكثر أبو هريرة". 12 - وأن كثيرا من أكابر الصحابة كان يغيب عنه بعض ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم أو يفعله من الأعمال التكليفية. 13 - وفيه الرد على الرافضة والخوارج الذين يزعمون أن أحكام النبي صلى الله عليه وسلم وسننه منقولة .. عنه بالتواتر، وأنه لا يجوز العمل بما لم ينقل متواترا، وقد انعقد الإجماع على القول بالعمل بأخبار الآحاد. والله أعلم

(664) باب من فضائل حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه

(664) باب من فضائل حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه 5571 - عن علي رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد. فقال: "ائتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب. فخذوه منها" فانطلقنا تعادى بنا خيلنا. فإذا نحن بالمرأة. فقلنا أخرجي الكتاب فقالت: ما معي كتاب. فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب. فأخرجته من عقاصها فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين، من أهل مكة، يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا حاطب! ما هذا؟ " قال: لا تعجل علي يا رسول الله! إني كنت امرأ ملصقا في قريش (قال سفيان: كان حليفا لهم ولم يكن من أنفسها) وكان ممن كان معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم. فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم، أن أتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي. ولم أفعله كفرا ولا ارتدادا عن ديني. ولا رضا بالكفر بعد الإسلام. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صدق" فقال عمر. دعني يا رسول الله! أضرب عنق هذا المنافق. فقال: "إنه قد شهد بدرا. وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم" فأنزل الله عز وجل {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} [الممتحنة] وليس في حديث أبي بكر وزهير ذكر الآية. وجعلها إسحق في روايته، من تلاوة سفيان. 5572 - وفي رواية عن علي رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد الغنوي والزبير بن العوام. وكلنا فارس. فقال: "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ. فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب إلى المشركين" فذكر بمعنى حديث عبيد الله بن أبي رافع عن علي. 5573 - عن جابر رضي الله عنه أن عبدا لحاطب جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطبا. فقال: يا رسول الله! ليدخلن حاطب النار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذبت لا يدخلها. فإنه شهد بدرا والحديبية".

-[المعنى العام]- حاطب بن أبي بلتعة بن عمرو بن عمير بن سلمة بن صعب بن سهل اللخمي، حليف بني أسد بن عبد العزى، وقيل: كان عبدا لعبيد الله بن حميد بن زهير بن الحارث بن أسد، فكاتبه، فأدى مكاتبته، وقيل: كان رجلا من أهل اليمن، شهد بدرا والحديبية، ومات سنة ثلاثين من الهجرة، وهو ابن خمس وستين سنة وصلى عليه عثمان رضي الله عنه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث حاطب بن أبي بلتعة في سنة ست من الهجرة إلى المقوقس، صاحب مصر والإسكندرية، فأتاه من عنده بهدية، منها مارية القبطية وسيرين أختها، فاتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم مارية لنفسه، فولدت له إبراهيم ابنه، ووهب سيرين لحسان بن ثابت، فولدت له عبد الرحمن. وبعث أبو بكر الصديق حاطب بن أبي بلتعة أيضا إلى المقوقس بمصر، فصالحهم، فلم يزالوا كذلك حتى دخلها عمرو بن العاص، وقاتلهم، وافتتح مصر سنة إحدى وعشرين، في خلافة عمر بن الخطاب، روي عن حاطب بن أبي بلتعة أنه قال: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس، ملك الإسكندرية، فجئته بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزلني في منزله، وأقمت عنده ليالي، ثم بعث إلي، وقد جمع بطارقته، فقال: إني سأكلمك بكلام، أحب أن تفهمه مني. قال: قلت: هلم. قال: أخبرني عن صاحبك. أليس هو نبي؟ قال: قلت: بلى. هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فما له؟ حيث كان هكذا، لم يدع على قومه، حيث أخرجوه من بلدته إلى غيرها؟ فقلت له: فعيسى ابن مريم، أتشهد أنه رسول الله؟ قال: نعم. قال: فما باله؟ حيث أخذه قومه، فأرادوا صلبه، فما له لم يكن دعا عليهم بأن يهلكهم الله، حتى رفعه الله إليه في سماء الدنيا؟ قال: أحسنت. أنت حكيم، جاء من عند حكيم. هذه هدايا أبعث بها معك إلى محمد، وأرسل معك من يبلغك إلى مأمنك". رضي الله عنه وأرضاه. -[المباحث العربية]- (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد) وفي ملحق الرواية عن علي رضي الله عنه "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد الغنوي والزبير بن العوام، وكلنا فارس" قال العلماء: لا منافاة، بل بعث الأربعة، عليا والزبير والمقداد وأبا مرثد، فذكر بعض الرواة ما لم يذكره الآخر، بل لم يذكر ابن إسحاق مع علي والزبير أحدا، وساق الخبر بالتثنية، قال: "فخرجا حتى أدركاها، فاستنزلاها" ويحتمل سبق اثنين من الأربعة إليها. (فقال ائتوا روضة خاخ) قال النووي: هي بخاءين. هذا هو الصواب الذي قاله العلماء كافة في جميع الطوائف وفي جميع الروايات، والكتب، ووقع في البخاري من رواية أبي عوانة "حاج"

بالحاء والجيم، واتفق العلماء على أنه غلط، وإنما اشتبه على أبي عوانة بذات حاج، وهي موضع بين المدينة والشام، على طريق الحجيج، وأما روضة خاخ فبين مكة والمدينة، بقرب المدينة. (فإن بها ظعينة، معها كتاب، فخذوه منها) في ملحق الرواية "فقال: انطلقوا، حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها امرأة من المشركين، معها كتاب من حاطب إلى المشركين .... " والمراد بالظعينة هنا المرأة وأصلها الراحلة أو الهودج، وذكر ابن إسحاق أن اسمها سارة، وذكر الواقدي أن اسمها كنود، وفي رواية أم سارة، وذكر الواقدي أن حاطبا جعل لها عشرة دنانير على ذلك، وقيل: دينارا واحدا، وهو أقرب، وقيل: إنها كانت مولاة العباس. (فانطلقنا تعادى بنا خيلنا) بفتح التاء وحذف إحدى التاءين، والأصل تتعادى بنا خيلنا، أي تجري بنا وتتبارى، وتتسابق، يقال: عدا يعدو عدوا، وتعادوا أي تباروا في العدو. (فإذا نحن بالمرأة) في رواية للبخاري "فانطلقنا تعادى بنا خيلنا، حتى أتينا الروضة، إذا نحن بالظعينة" أي فأنزلوها عن راحلتها، ففي رواية للبخاري "فأدركناها تسير على بعير لها، فأنخناها". (فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي كتاب، فقلنا: لتخرجن الكتاب، أو لتلقين الثياب) "لتخرجن" بالتاء وكسر الجيم، أمر لها مؤكد بالنون، أو "لتلقين" ضبطت بالتاء خطاب لها، قال الحافظ ابن حجر: والوجه حذف الياء، وضبطت، بالنون وكسر القاف وفتح الياء بعدها نون التوكيد على أنه للمتكلمين، في رواية للبخاري "فالتمسنا، فلم نر كتابا، فقنا: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتخرجن الكتاب، أو لنجردنك، فلما رأت الجد، أهوت إلى حجزتها - وهي محتجزة بكساء - فأخرجته" والحجزة بضم الحاء وسكون الجيم معقد الإزار والسراويل. (فأخرجته من عقاصها) بكسر العين، أي شعرها المضفور، جمع عقصة، بكسر العين وسكون القاف، وهي الخصلة من الشعر معقوصة، والعقاص أيضا بكسر العين خيط تشد به أطراف الذوائب، وجمعه عقص بضم العين والقاف، وجمع بين إخراج الكتاب من عقاصها أو حجزتها، بأنها أخرجته أولا من حجزتها، فأخفته في عقاصها، ثم اضطرت إلى إخراجه، أو بالعكس، أو بأن تكون عقيصتها طويلة بحيث تصل إلى حجزتها، فربطته في عقيصتها، وغرزته بحجزتها. (فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم) ظاهره أنهم رجعوا بالكتاب وتركوها، لكن في رواية للبخاري في باب فضل من شهد بدرا "فأخرجته، فانطلقنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" فيحتمل أنهم أخذوها معهم، فأطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي غير مذنبة إذ لم تكن مسلمة، أو كانت مسلمة ولم تعلم ما في الكتاب. (فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين، من أهل مكة) لم تذكر أسماء المرسل إليهم في الصحيح، لكن روى الواقدي بسند له مرسل "أن حاطبا كتب إلى سهيل بن عمرو، وصفوا بن أمية، وعكرمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في الناس بالغزو، ولا أراه يريد غيركم، وقد أحببت أن يكون لي عندكم يد".

(يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم) هذا الأمر هو التهيؤ للغزو، ولم يكن يعلم الحقيقة علما، بل استنبط هو من قبله، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفي أمر الغزوة لأهميتها، حتى قال لعائشة: جهزيني، ولا تعلمي بذلك أحدا، فدخل عليها أبو بكر، فأنكر بعض شأنها، فقال: ما هذا؟ قالت له. فقال: والله ما انقضت الهدنة بيننا، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فذكر له أنهم أول من غدر، ثم أمر بالطرق، فحبست، ليعمي على أهل مكة، لا يأتيهم الخبر، فيستعدون ويجمعون الأحلاف. وذكر بعض أهل المغازي أن لفظ الكتاب "أما بعد. يا معشر قريش، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءكم بجيش كالليل، يسير كالسيل، فوالله لو جاءكم وحده لنصره الله، وأنجز له وعده. انظروا لأنفسكم. والسلام". (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حاطب، ما هذا؟ ) معطوف على محذوف، ظهر في رواية للبخاري وهو "فأرسل إلى حاطب" فجاء، فقال له ... وفي رواية "ما حملك على هذا"؟ وفي رواية للبخاري "ما حملك على ما صنعت"؟ . (قال: لا تعجل علي يا رسول الله، إني كنت امرأ ملصقا في قريش) قال الراوي: "كان حليفا لهم، ولم يكن من أنفسها". (وكان ممن كان معك من المهاجرين لهم قرابات، يحمون بها أهليهم، فأحببت - إذا فاتني ذلك من النسب فيهم، أن أتخذ فيهم يدا، يحمون بها قرابتي) وفي رواية للبخاري "أردت أن تكون لي عند القوم يد، يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته، من يدفع الله به عن أهله وماله" وفي رواية أخرى للبخاري "كنت امرأ من قريش، ولم أكن من أنفسهم" أي كنت منهم بالحلف، وحليف القوم منهم، وعند أحمد "كنت غريبا" قال السهيلي: كان حاطب حليفا لعبد الله بن حميد بن زهير بن أسد بن عبد العزى. وعند ابن إسحاق "وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل، فصانعتهم عليه" يقال: كان له بمكة أولاده وإخوته وأمه. (ولم أفعله كفرا، ولا ارتدادا عن ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام) وفي رواية للبخاري "والله ما بي أن لا أكون مؤمنا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم". (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق) وفي رواية للبخاري "أنه قد صدقكم" بتخفيف الدال، أي قال الصدق، وفي رواية أخرى للبخاري "أما إنه قد صدقكم" وفي أخرى للبخاري أيضا "صدق، ولا تقولوا له إلا خيرا" وفي رواية "فصدقه النبي صلى الله عليه وسلم". (فقال عمر: دعني يا رسول الله، أضرب عنق هذا المنافق. فقال: إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم) ما سبق من ذنوبكم، وسأغفر لكم ما يلحق منها.

وسيأتي تفصيل لذلك في فقه الحديث، وفي رواية للبخاري "اعملوا ما شئتم، فقد وجبت لكم الجنة". والروايات في أكثر النسخ بصيغة الترجي "لعل" والترجي من الله واقع. وإنما قال عمر ذلك، مع تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاطب فيما اعتذر به، لما كان عند عمر من القوة في الدين، وبغض من ينسب إلى النفاق، وظن أن من خالف ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم استحق القتل، لكنه لم يجزم بذلك، فلذلك استأذن في قتله، وأطلق عليه منافقا، لكونه أبطن خلاف ما أظهر، وعذر حاطب ما ذكره، فإنه صنع ذلك متأولا أن لا ضرر فيه، وعند الطبري "فقال: أليس قد شهد بدرا؟ قال: بلى، ولكنه نكث، وظاهر أعداءك عليك" وفي رواية للبخاري "فقال عمر: إنه قد خان الله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه، فقال: أليس من أهل بدر؟ لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد وجبت لكم الجنة، فدمعت عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم". (فأنزل الله عز وجل {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل}) [الممتحنة: 1]. (أن عبدا لحاطب، جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، يشكو حاطبا) كان حاطب رضي الله عنه شديدا على الرقيق، وفي الموطأ أن عمر رضي الله عنه قال لحاطب - حين نحر رقيقه ناقة لرجل من مزينة - أراك تجيعهم، وأضعف عليه القيمة، على جهة الأدب والردع له. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث]- 1 - فضيلة عظيمة لأهل بدر، من قوله: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" وقد اتفق العلماء على أن هذا الوعد الكريم يشمل كل ما سبق لهم من ذنوب قبل يوم بدر، والخلاف فيما يحصل منهم من ذنوب بعد بدر، هل تدخل في هذا الوعد؟ فتقع منهم مغفورة؟ أو يلهمون بعدها التوبة فتغفر؟ أو لا تدخل؟ وشأنهم في ذنوبهم اللاحقة لبدر شأن غيرهم؟ قولان: الأول قال ابن الجوزي: ليس هذا على الاستقبال، وإنما هو على الماضي، لأنه لو كان للمستقبل كان جوابه: فسأغفر لكم، ولو كان كذلك لكان إطلاقا في الذنوب - أي إذنا ودعوة للذنوب - ولا يصح. اهـ ويؤيده اتفاق العلماء على أنهم لا يعفون من الحد، إذا وقع من أحدهم ما يوجب الحد، فلو كانت ذنوبهم مغفورة ما حدوا، فإقامة الحد دليل قيام الذنب، وعدم مغفرته. الثاني: قول الجمهور، يقول القرطبي: "اعملوا" صيغة أمر، وهي موضوعة للاستقبال، ولم تضعها

العرب صيغة للماضي، لا بقرينة ولا بغيرها، لأنها بمعنى الإنشاء والابتداء، وقوله: "اعملوا ما شئتم" يحمل على طلب الفعل، ولا يصح أن يكون معنى الماضي، ولا يمكن أن يحمل على الإيجاب، فتعين الحمل على الإباحة، قال: وقد ظهر لي أن هذا الخطاب خطاب تشريف وإكرام، تضمن أن هؤلاء حصلت لهم حالة، غفرت بها ذنوبهم السالفة، وتأهلوا أن يغفر لهم ما يستأنف من الذنوب اللاحقة، ولا يلزم من وجود الصلاحية للشيء وقوعه، وقد ظهر أن الله صدق رسوله في كل من أخبر عنه بشيء من ذلك، فإنهم لم يزالوا على أعمال أهل الجنة، إلى أن فارقوا الدنيا، ولو قدر صدور شيء من أحدهم لبادر إلى التوبة، ولازم الطريق المثلى، ويعلم ذلك من أحوالهم بالقطع من اطلع على سيرهم. اهـ. قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون المراد بقوله: "فقد غفرت لكم" أن ذنوبكم تقع مغفورة، لا أن المراد أنه لا يصدر منهم ذنب، وقد شهد مسطح بدرا، ووقع في إفك عائشة، فكأن الله لكرامتهم عليه، بشرهم على لسان نبيه أنهم مغفور لهم، ولو وقع منهم ما وقع. اهـ. ويجيب الجمهور على شبهة الآخرين بأن التعبير بالماضي قد يكون على المستقبل مبالغة في تحققه، كما في قوله تعالى {أتى أمر الله} [النحل: 1] أي سيأتي أمر الله، فمعنى "غفرت لكم" أي سأغفر لكم، على أن الطبري أخرجه بلفظ "فإني غافر لكم" وفي مغازي ابن عائذ، من مرسل عروة "اعملوا ما شئتم فسأغفر لكم". أما شبهة أن الأمر بقوله: "اعملوا ما شئتم" فيه إطلاق للذنوب، ولا يصح، فإنه معقول مع المكثرين من الذنوب، أما هؤلاء الصفوة الذين وهبوا حياتهم لله، فإن فتح باب المعصية لهم لا يدفع بهم إليها، بل في ذلك ما يزيد امتناعهم وبعدهم عنها، وكلما قرب الله عبدا منه كلما ازداد خوفه وخشيته وتقواه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، حين قيل له: إنك قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: "إنما أنا أخشاكم لله وأتقاكم له. أفلا أكون عبدا شكورا؟ ". أما أنهم لا يعفون من الحد إذا أتوا ما يوجب الحد، فهذا في حكم الدنيا، وموطن النزاع هو المغفرة في الآخرة، فلا تعارض. يضاف إلى ذلك أنه لو كانت البشارة للماضي فقط لما حسن الاستدلال بالبشارة في قصة حاطب لأنه صلى الله عليه وسلم خاطب به عمر، منكرا عليه ما قال في أمر حاطب، وهذه القصة كانت بعد بدر بست سنين، فدل هذا الاستدلال على أن المراد مغفرة ما سيأتي والله أعلم. 2 - وقد أثار هذا الحديث حكم الجاسوس، فقد استدل باستئذان عمر لقتل حاطب لمشروعية قتل الجاسوس، ولو كان مسلما وإن تاب، وهو قول بعض المالكية، ومن وافقهم، ووجه الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم أقر عمر على إرادة القتل، لولا المانع، وبين أن المانع هو كون حاطب شهد بدرا، وهذا منتفى في غير حاطب، فلو كان الإسلام مانعا من قتله، لما علل بأخص منه، وقال بعض المالكية: يقتل، إلا أن يتوب، وقال مالك: يجتهد فيه الإمام، ومذهب الشافعي وطائفة أن الجاسوس المسلم يعزر، ولا يجوز قتله.

3 - وفيه معجزة ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في إخباره بالظعينة. 4 - وفيه هتك أستار الجواسيس، بقراءة كتبهم، سواء كان رجلا أو امرأة. 5 - وفيه هتك ستر المفسدة، إذا كان فيه مصلحة، أو كان في الستر مفسدة، وتحمل الأحاديث الواردة في الندب إلى الستر على ما إذا لم يكن فيه مفسدة، ولا تفوت به مصلحة. 6 - وفيه أن الجاسوس وغيره من أصحاب الذنوب الكبائر، لا يكفرون بذلك، وهذا التجسس كبيرة قطعا، لأنه يتضمن إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، وهو كبيرة ولا شك، لقوله تعالى {إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله} [الأحزاب: 57] 7 - وفيه أنه لا يحد العاصي، ولا يعذر إلا بإذن الإمام. 8 - وفيه إشارة جلساء الإمام والحاكم بما يرونه، كما أشاره عمر بضرب عنق حاطب. 9 - وفي الرواية الثانية فضيلة أهل الحديبية، وسيأتي باب من فضائل أصحاب الشجرة، أهل بيعة الرضوان في الباب التالي. 10 - وفيها أن لفظة الكذب هي الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو، عمدا كان أو سهوا، سواء كان الإخبار عن ماض أو مستقبل، وخصته المعتزلة بالعمد، وهذا يرد عليهم، وقال بعض أهل اللغة: لا يستعمل الكذب إلا في الإخبار عن الماضي، بخلاف ما هو مستقبل، وهذا الحديث يرد عليهم. والله أعلم

(665) باب من فضائل أصحاب الشجرة، أهل بيعة الرضوان، رضي الله عنهم

(665) باب من فضائل أصحاب الشجرة، أهل بيعة الرضوان، رضي الله عنهم 5574 - عن أم مبشر رضي الله عنها، أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول، عند حفصة: "لا يدخل النار، إن شاء الله من أصحاب الشجرة، أحد. الذين بايعوا تحتها" قالت بلى. يا رسول الله! فانتهرها. فقالت حفصة {وإن منكم إلا واردها} [مريم/ 71] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد قال الله عز وجل {ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا} [مريم/ 72] -[المعنى العام]- يقول الله تعالى {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا} [الفتح: 18] هذه البيعة تسمى بيعة الرضوان، أو بيعة الشجرة، وقصتها أن النبي صلى الله عليه وسلم في سنة ست من الهجرة رأى في المنام أنه والمسلمين يدخلون المسجد الحرام آمنين، محلقين رءوسهم، ومقصرين، لا يخافون، فأخبر أصحابه، واستعدوا للعمرة، وفي مستهل ذي القعدة خرج في ألف وأربعمائة من المسلمين قاصدين العمرة ومعهم الهدي، حتى وصلوا إلى مشارف مكة عند الحديبية، وعندها صدهم المشركون، ومنعوهم من دخول مكة، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خراش بن أمية الخزاعي رسولا إلى أهل مكة، وحمله على جمل له، يقال له: الثعلب، يعلمهم أنه ما جاء لقتال، وأنه إنما جاء معتمرا، ثم يعود، فلما أتاهم وكلمهم عقروا جمله، وأرادوا قتله، ثم خلوا سبيله، حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا عمر ليبعثه، فقال: يا رسول الله، إن القوم قد عرفوا عداوتي لهم، وغلظتي عليهم، وإني لا آمن، وليس بمكة أحد من بني عدي، يغضب لي إن أوذيت، فأرسل عثمان بن عفان، فإن عشيرته بها، وهم يحبونه، فيبلغ ما أردت، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان، فأرسله إلى قريش، وقال له: أخبرهم أنا لم نأت لقتال، وإنما جئنا عمارا، وادعهم إلى الإسلام، وأمره صلى الله عليه وسلم أن يبشر رجالا بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات، فيبشرهم بالفتح، ويخبرهم أن الله تعالى سيظهر دينه بمكة قريبا، فذهب عثمان رضي الله عنه إلى قريش، فأخبرهم، فقالوا له: إن شئت فطف بالبيت، وأما دخولكم علينا فلا سبيل له، فقال رضي الله عنه: ما كنت لأطوف به حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاحتبسوه، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان قد قتل، فقال عليه الصلاة والسلام: "لا نبرح حتى نناجز القوم" ونادى مناديه عليه الصلاة والسلام: ألا إن روح القدس قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم،

فأمره بالبيعة، فاخرجوا على اسم الله تعالى فبايعوه، فثار المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه على أن لا يفروا، وعلى الموت أو النصر، كانت هذه البيعة تحت شجرة، فأنزل الله تعالى فيها {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم} [الفتح: 10] ونزل {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} ولما علمت قريش بالبيعة خافوا، وأرسلوا عثمان رضي الله عنه. وكان بعد ذلك صلح الحديبية المشهور. ولما كان الله قد وعد المؤمنين بأن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، ولما كان هؤلاء المبايعون قد باعوا أنفسهم كانت لهم الجنة، وكان قوله صلى الله عليه وسلم "لا يدخل النار - إن شاء الله - من أصحاب الشجرة أحد، أي الذين بايعوا تحتها". رضي الله عنهم أجمعين. -[المباحث العربية]- (لا يدخل النار -إن شاء الله- من أصحاب الشجرة أحد) قال العلماء: معناه لا يدخلها أحد منهم قطعا، كما صرح به في حديث حاطب السابق، وإنما قال: "إن شاء الله" للتبرك، لا للشك. (قالت حفصة: بلى يا رسول الله) قال أهل اللغة: "بلى" حرف جواب، وتختص بالنفي، وتفيد إبطاله، سواء كان مجردا. نحو {زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى} [التغابن: 7] أو مقرونا بالاستفهام، حقيقيا، أو توبيخا، أو تقديريا. فمعنى جواب حفصة، رضي الله عنها، هنا أن أصحاب الشجرة يدخلون النار، ولو تحله .. القسم، لقوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها} [مريم: 71]. (فانتهرها) لأن ظاهر جوابها أنها ترد الخبر، فأبانت أنها لا ترد الخبر، فإنهم لا يدخلونها وإن وردوها، فبين صلى الله عليه وسلم أن ورودهم ليس دخولا، وإنما هو قرب، ينجي عنده من ينجي، لقوله تعالى {ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا} [مريم: 72]. -[فقه الحديث]- 1 - فيه منقبة عظيمة لأصحاب شجرة الرضوان. 2 - وفيه جواز المناظرة والاعتراض على وجه الاسترشاد. 3 - وفيه أن ورود النار غير دخولها. قال النووي: والصحيح أن المراد بالورود في الآية المرور على الصراط، وهو جسر منصوب على جهنم، فيقع فيها أهلها، وينجو الآخرون. والله أعلم

(666) باب من فضائل أبي موسى وأبي عامر الأشعريين رضي الله عنهما

(666) باب من فضائل أبي موسى وأبي عامر الأشعريين رضي الله عنهما 5575 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم. وهو نازل بالجعرانة بين مكة والمدينة. ومعه بلال. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل أعرابي. فقال: ألا تنجز لي، يا محمد! ما وعدتني؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبشر" فقال له الأعرابي: أكثرت علي من "أبشر" فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي موسى وبلال، كهيئة الغضبان. فقال: "إن هذا قد رد البشرى. فاقبلا أنتما" فقالا: قبلنا يا رسول الله! ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح فيه ماء. فغسل يديه ووجهه فيه ومج فيه. ثم قال: "اشربا منه، وأفرغا على وجوهكما ونحوركما. وأبشرا" فأخذا القدح. ففعلا ما أمرهما به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنادتهما أم سلمة من وراء الستر: أفضلا لأمكما مما في إنائكما. فأفضلا لها منه طائفة. 5576 - عن أبي بردة عن أبيه قال: لما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من حنين، بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس. فلقي دريد بن الصمة. فقتل دريد وهزم الله أصحابه. فقال أبو موسى: وبعثني مع أبي عامر. قال: فرمي أبو عامر في ركبته. رماه رجل من بني جشم بسهم. فأثبته في ركبته. فانتهيت إليه فقلت: يا عم! من رماك؟ فأشار أبو عامر إلى أبي موسى. فقال: إن ذاك قاتلي. تراه ذلك الذي رماني. قال أبو موسى: فقصدت له فاعتمدته فلحقته. فلما رآني ولى عني ذاهبا. فاتبعته وجعلت أقول له: ألا تستحيي؟ ألست عربيا؟ ألا تثبت؟ فكف. فالتقيت أنا وهو. فاختلفنا أنا وهو ضربتين. فضربته بالسيف فقتلته. ثم رجعت إلى أبي عامر فقلت: إن الله قد قتل صاحبك. قال فانزع هذا السهم. فنزعته فنزا منه الماء: فقال يا ابن أخي! انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقرئه مني السلام. وقل له: يقول لك أبو عامر: استغفر لي. قال: واستعملني أبو عامر على الناس. ومكث يسيرا ثم إنه مات. فلما رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم دخلت عليه. وهو في بيت على سرير مرمل، وعليه فراش، وقد أثر رمال السرير بظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وجنبيه. فأخبرته بخبرنا وخبر أبي عامر. وقلت له: قال: قل له:

يستغفر لي. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء. فتوضأ منه. ثم رفع يديه. ثم قال: "اللهم! اغفر لعبيد، أبي عامر" حتى رأيت بياض إبطيه. ثم قال: "اللهم! اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك، أو من الناس" فقلت: ولي. يا رسول الله! فاستغفر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم! اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه. وأدخله يوم القيامة مدخلا كريما". قال أبو بردة: إحداهما لأبي عامر. والأخرى لأبي موسى. 5577 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن، حين يدخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم، بالقرآن بالليل. وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار. ومنهم حكيم إذا لقي الخيل - أو قال العدو - قال لهم: إن أصحابي يأمرونكم أن تنظروهم". 5578 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الأشعريين، إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد، بالسوية. فهم مني وأنا منهم". -[المعنى العام]- أراد أبو موسى والأشعريون معه - وكانوا نحو خمسين رجلا - أن يخرجوا من بلادهم باليمن إلى المدينة، فركبوا سفينة فألقتهم الريح إلى الحبشة، فاجتمعوا هناك بجعفر، ثم قدموا المدينة صحبته. وأبو موسى هو عبد الله بن قيس، مشهور باسمه وكنيته معا، وأمه طيبة بنت وهب، أسلمت وماتت بالمدينة، واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على بعض اليمن، واستعمله عمر بن الخطاب على البصرة، والأهواز، ثم أصبهان، ثم استعمله عثمان على الكوفة، إلى أن مات عثمان، فعزله علي عنها، ثم كان أحد الحكمين بصفين، ثم اعتزل الفريقين، ومات بالكوفة في داره بها، وقيل: إنه مات بمكة سنة أربع وأربعين، وقيل: سنة خمسين، وهو ابن ثلاث وستين. وكان من أحسن الناس صوتا بالقرآن، قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد أوتي أبو موسى مزمارا من

مزامير آل داود"، وهو الذي فقه أهل البصرى وأقرأهم، وكان عمر إذا رآه قال له: "ذكرنا بربنا يا أبا موسى"، وفي رواية "شوقنا إلى ربنا" فيقرأ عنده. أما عمه أبو عامر فقد أسلم معه، وقدم المدينة معه، وقاد حملة أوطاس، واستشهد بها. أما الأشعريون قبيلة أبي موسى وعمه فلهم فضائل كثيرة، وهم قبيلة من أهل اليمن، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفدهم: "أتاكم أهل اليمن، هم أضعف قلوبا، وأرق أفئدة، الفقه يمان، والحكمة يمانية". وقد ذكرت أحاديثنا نبذة من فضائلهم، رضي الله عنهم وأرضاهم. وسيأتي بعد باب مزيد عن أبي موسى والأشعريين. -[المباحث العربية]- (كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجعرانة) بكسر الجيم وكسر العين وتشديد الراء، وقد تسكن العين، وهي بين الطائف ومكة، وإلى مكة أقرب، قيل: بينها وبين مكة ثمانية عشر ميلا. وكان نزوله صلى الله عليه وسلم الجعرانة مرتين. الأولى بعد أن نصره الله يوم حنين، وغنم المسلمون الغنائم الكثيرة أودع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الغنائم في الجعرانة، ولم يقسمها، حتى يؤدب ثقيفا بالطائف، فلما حاصرهم، قفل راجعا إلى الجعرانة لقسمة الغنائم. (فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل أعرابي، فقال: ألا تنجز لي يا محمد ما وعدتني؟ ) لم يقف العلماء على اسم الأعرابي، جريا على عادتهم في الستر على المسيئين، والظاهر أن إتيان الأعرابي للرسول صلى الله عليه وسلم كان بعد عودته من الطائف، وقد استبطأ حديثو العهد بالإسلام قسمة الغنيمة، ومنهم هذا الأعرابي، والظاهر أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد وعده شيئا من الغنيمة قبل أن يذهب إلى الطائف، فلما رجعوا تعجله وطلب إنجازه، ويحتمل أن يكون قد تعجل الوعد العام بقسمة الغنيمة، وقال: ألا تنجز ما وعدتني بقسمة الغنيمة، وإعطائي نصيبي منها عقب العودة من الطائف. (فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبشر) بفتح الهمزة وسكون الباء وكسر الشين، أي أبشر بقرب إنجاز وعدك، أو بقرب القسمة، أو بالثواب الجزيل من الله على الصبر. (فقال: قد أكثرت علي من أبشر) "أبشر" هنا مقصود حكايتها في محل جر بحرف "من" أي قلت لي هذه الكلمة كثيرا، دون إنجاز، وربما كان الأعرابي قد ألح في الطلب أثناء هذه المدة، وكان الجواب "أبشر" فقال: قد أكثرت علي منها، والمعنى أنه لا يقبلها، ويريد العمل، لا البشرى. والتعبير بالأعرابي لالتماس العذر في خشونته وجفائه، وبعده عن الأدب، وحسن التعبير. (فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي موسى وبلال - كهيئة الغضبان - فقال: إن هذا قد رد البشرى، فاقبلا أنتما) "أقبل الأولى معناها وجه وجهه نحوهما، مجانبا الأعرابي، و"اقبلا"

أي تقبلا البشارة ووعد الخير، وقوله - كهيئة الغضبان - لما رأوا على وجهه صلى الله عليه وسلم من أعراض انفعال الغضب، وعبر بالكاف لأن الغضب انفعال داخلي لا يجزم به لمجرد أعراضه. (ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح فيه ماء، فغسل يده ووجهه فيه، ومجه فيه، ثم قال: اشربا منه، وأفرغا على وجوهكما ونحوركما، وأبشرا، فأخذا القدح، ففعلا ما أمرهما به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنادتهما أم سلمة، من وراء الستر: أفضلا لأمكما مما في إنائكما، فأفضلا لها منه طائفة) "أم سلمة" زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أم المؤمنين، ولهذا قالت "لأمكما" وفضلة النبي صلى الله عليه وسلم مقصود بها هنا البركة والتبرك، وكأنها عوض عن البشرى بالأمور الدنيوية، أو مضافة إليها. (لما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من حنين بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس) أي لما فرغ من حنين أمر بالغنائم تجمع في الجعرانة، وكانت هوازن لما انهزموا صارت طائفة منهم إلى الطائف، وطائفة إلى بجيلة، وطائفة إلى أوطاس، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم عسكرا إلى من مضى إلى أوطاس، على رأسهم أبو عامر الأشعري، ثم توجه هو وعساكره إلى الطائف، و"أوطاس" واد قريب من وادي حنين. (فلقي دريد بن الصمة، فقتل دريد، وهزم الله أصحابه) "الصمة" بكسر الصاد وتشديد الميم، من بني جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن، فالصمة لقب لأبيه، واسمه الحارث. قال الحافظ ابن حجر: وقوله: "فقتل" رويناه على البناء للمجهول، واختلف في قاتله، فقيل: ابن الدغنة، وقيل: الزبير بن العوام، وكان ابن الصمة في ستمائة نفس على أكمة، وكان من الشعراء الفرسان المشهورين في الجاهلية. ويقال: إنه يوم قتل كان ابن عشرين ومائة. (قال أبو موسى: وبعثني مع أبي عامر) أي إلى من التجأ إلى أوطاس، وقيل: بعثه كمدد لأبي عامر والأول هو المعتمد، فعند الطبراني في الأوسط "لما هزم المشركين يوم حنين، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيل الطلب أبا عامر الأشعري وأنا معه". (فرمي أبو عامر في ركبته، رماه رجل من بني جشم بسهم، فأثبته في ركبته) "جشم" بضم الجيم وفتح الشين، واختلف في اسم هذا الجشمي، فقال ابن إسحاق: زعموا أن سلمة بن دريد بن الصمة هو الذي رمى أبا عامر بسهم، فأصاب ركبته، فقتله، وقال ابن هشام: إن الذي رمى أبا عامر أخوان من بني جشم، وهما أوفى والعلاء ابنا الحارث، فأصاب أحدهما ركبته، وقتلهما أبو موسى الأشعري، وذكر ابن إسحاق أن أبا عامر لقي يوم أوطاس عشرة من المشركين، إخوة، فقتلهم واحدا واحدا، حتى كان العاشر فحمل عليه، وهو يدعوه إلى الإسلام وهو يقول: اللهم اشهد عليه فقال الرجل: اللهم لا تشهد علي، فكف عنه أبو عامر ظنا منه أنه أسلم، فقتله العاشر ثم أسلم بعد وحسن إسلامه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسميه: شهيد أبي عامر. وهذا يخالف ما في الصحيح من أن أبا موسى قتل قاتل أبي عامر. (قال أبو موسى: فانتهيت إليه، فقلت: يا عم، من رماك؟ فأشار أبو عامر إلى أبي

موسى، فقال: إن ذاك قاتلي، تراه ذلك الذي رماني) أي أشار أبو عامر إلى شخص، وقال لأبي موسى: إنه هو هذا الذي رماني، وأعتقد أنه هو الذي قتلني. فقوله "تراه" بفتح التاء. (قال أبو موسى: فقصدت له فاعتمدته، فلحقته) أي وكان يمشي الهوينى، غير خائف، لبعده عن الميدان. (فلما رآني ولى عني ذاهبا) مفعول مطلق من معنى الفعل. (فاتبعته، وجعلت أقول له: ألا تستحيي؟ ألست عربيا) والعربي غير جبان، لا يجري؟ . (ألا تثبت) وتقاتل؟ . (فكف) عن الجري، ووقف للقتال. (فالتقيت أنا وهو) يضرب كل منا الآخر. (فاختلفنا أنا وهو ضربتين فضربته بالسيف، فقتلته) هو ضربني ضربة، وضربته ضربة، فقتلته. (ثم رجعت إلى أبي عامر. فقلت: إن الله قد قتل صاحبك. قال. فانزع هذا السهم) من ركبتي، وكان السهم ثابتا فيها، يسد السائل والدم. (فنزعته، فنزا منه الماء) أي ظهر الدم السائل من الجرح، وجرى، ولم ينقطع. (واستعملني أبو عامر على الناس) أي أعطاه الراية، واستخلفه قائدا على العسكر، فنصره الله. (فلما رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم دخلت عليه، وهو في بيت على سرير مرمل، وعليه فراش، وقد أثر رمال السرير بظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وجنبيه) في رواية "فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم معي اللواء، قال: يا أبا موسى، قتل أبو عامر؟ ". السرير المرمل بضم الميم وفتح الراء، وفتح الميم الثانية مشددة، أي معمول بالرمال، وهو حبال الحصر، التي تضفر بها الأسرة، وقوله "عليه فراش" أنكره بعضهم، وقال: الصواب "ما عليه فراش" فسقطت "ما" وتعقبه الحافظ ابن حجر، بأنه لا يلزم من كونه على غير فراش - كما في قصة عمر - أن لا يكون على سريره دائما فراش. اهـ. وفي هذا التعقيب نظر لأن من أنكر عبارة "عليه فراش" وصوبها بعبارة "ما عليه فراش" لم يقصد مشابهة هذه الحالة بحالة لقاء عمر رضي الله عنه، في قصة اعتزال الرسول صلى الله عليه وسلم نساءه، وإنما قصد أن تأثير السرير المرمل في الظهر والجنبين إنما يناسبه أن لا يكون بينه وبين الرمال فراش، إذ لو كان هناك فراش ما أثر غالبا، والهدف إظهار تأثير رمال السرير، وعبارة "عليه فراش" تصبح مناقضة للمطلوب، والعبارة المناسبة "ما عليه فراش".

(فأخبرته بخبرنا) أي بخبر الجيش والنصر. (وخبر أبي عامر) من إصابته بالسهم، ووصيته عند موته. (وقلت له: قال: قل له يستغفر لي) .... اللهم اغفر لعبيد أبي عامر. اختلف في اسمه، فقيل: إن اسمه هانئ بن قيس، وقيل عبد الرحمن، وقيل: عباد، وقيل: عبيد. وهذا الحديث يرجح القول الأخير. (حتى رأيت بياض إبطيه) من شدة رفع اليدين. (اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك - أو من الناس) أي في المرتبة، وفي رواية "في الأكثرين يوم القيامة". (إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن) الرفقة الجماعة المترافقون، والراء مثلثة، والأشهر ضمها، و"بالقرآن" يتعلق بأصوات. (حين يدخلون بالليل) "يدخلون" بالدال والخاء، لجميع رواة البخاري ومسلم، وحكى عياض عن بعض رواة مسلم "يرحلون" بالراء والحاء، وصوبها الدمياطي في البخاري، وهو عجيب منه، فإن الرواية بالدال والخاء، والمعنى صحيح، فلا معنى للتغيير، وقد نقل عياض عن بعض الناس اختيار الرواية التي بالراء والحاء، قال النووي: والرواية الأولى صحيحة أو أصح، والمراد يدخلون منازلهم عائدين من المسجد، أو من شغل آخر. (ومنهم حكيم) قيل: هو صفة لرجل منهم، أي ومن الأشعريين رجل حكيم، وقيل: هو اسم على رجل من الأشعريين، أي ومن الأشعريين رجل اسمه حكيم. (إذا لقي الخيل - أو قال: العدو - قال لهم: إن أصحابي يأمرونكم أن تنظروهم) أي تنتظروهم من الانتظار، ومنه قوله تعالى {انظرونا نقتبس من نوركم} [الحديد: 13] ومعناه أنه لفرط شجاعته كان لا يفر من العدو، بل يواجههم، ويقول لهم - إذ أرادوا الانصراف مثلا - انتظروا الفرسان حتى يأتوكم، ليثبتهم على القتال، فكأنه لا يتمنى انصراف العدو، بل يتمنى انتظاره ولقاءه، فهو يحرض العدو على الثبات والبقاء، لا على الانصراف، هذا على رواية "العدو" أما على رواية "الخيل" فيحتمل أن يراد به خيل العدو، فيكون المعنى كالسابق، ويحتمل أن يريد بها خيل المسلمين، ويشير بذلك إلى أن أصحابه كانوا رجالة، فكان هو يأمر بالفرسان أن ينتظروا المشاة، ليسيروا إلى العدو جميعا، قال الحافظ ابن حجر: وهذا أشبه بالصواب، قال ابن التين: معنى كلامه أن أصحابه يحبون القتال في سبيل الله، ولا يبالون بما يصيبهم. (إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم بالمدينة) "إذا أرملوا" أي فنى زادهم وأصله من الرمل، كأنهم لصقوا بالرمل من القلة، كما قيل في الرواية "ذا متربة" وقوله

"تربت يداك" وأصل الشركة في الطعام تكون غالبا في السفر، لكن قد تتفق رفقة فيقيمونها في الحضر بالمدينة. (جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية) قال النووي: ليس المراد بهذا القسمة المعروفة في كتب الفقه بشروطها، حتى تمنع في الربويات، وإنما المراد هنا إباحة بعضهم بعضا، ومواساتهم بالموجود. (فهم مني، وأنا منهم) "من" هذه تسمى الاتصالية، أي هم متصلون بي، وأنا متصل بهم، أي هم فعلوا فعلى في هذه المواساة، وأنا أفعل مثل ما يفعلون، وقال النووي: معناه المبالغة في اتحاد طريقهما، واتفاقهما في طاعة الله. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث]- 1 - من الرواية الأولى سماحة النبي صلى الله عليه وسلم ورأفته بالأعراب، وتقديره لغلظتهم، حيث لم يعنف الأعرابي على سوء أدبه، واكتفى بالإعراض عنه، والتوجه لغيره، قال القاضي: لو صدر هذا من مسلم - أي غير معذور - كان ردة، لأن فيه تهمة للنبي صلى الله عليه وسلم، واستخفافا بصدق وعده، وإنما صدر ممن لم يتمكن الإسلام من قلبه، ممن كان يستألف من أشراف العرب، وجاء أنه من بني تميم، وهم الذين نادوا الرسول صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات، ونزل فيهم {أكثرهم لا يعقلون} [الحجرات: 4] 2 - وفي الحديث فضيلة ظاهرة لأبي موسى وبلال وأم سلمة رضي الله عنهم. 3 - وفيه استحباب البشارة. 4 - واستحباب الازدحام فيما يتبرك به، وطلبه ممن هو معه، والمشاركة فيه. 5 - ومن الرواية الثانية فضيلة ظاهرة لأبي عامر الأشعري، وكفاءته للقيادة، ولم يكن مضى على إسلامه أكثر من عام. 6 - وطلب الدعاء من الصالحين. 7 - واستحباب الدعاء لمن طلبه، بما طلب. 8 - واستحباب التطهر لإرادة الدعاء. 9 - ورفع اليدين عند الدعاء، قال النووي: أما الحديث الذي رواه أنس، وأنه لم يرفع يديه، إلا في ثلاث مواطن، فهو محمول على أنه لم يره، وإلا فقد ثبت الرفع في مواطن كثيرة، فوق ثلاثين موطنا. 10 - وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الزهادة في الدنيا، والعيش الخشن، حتى إن سريره المصنوع من حبال الليف لم يكن عليه فراش، حتى إن الحبال تؤثر في ظهره وجنبيه.

11 - وفي الرواية الثالثة فضيلة ظاهرة للأشعريين، وجهرهم بالقرآن. 12 - وفيها أن الجهر بالقرآن في الليل فضيلة، قال النووي: إذا لم يكن فيه إيذاء لنائم أو لمصل أو غيرهما، ولم يكن هناك رياء. 13 - ومن الرواية الرابعة فضيلة أخرى للأشعريين. 14 - وفضيلة الإيثار والمواساة. 15 - وفضيلة خلط الأزواد في السفر. 16 - وفضيلة جمعها في شيء عند قلتها في الحضر، ثم تقسم. 17 - وبوب له البخاري بباب الشركة في الطعام والنهد - بكسر النون وبفتحها - وهو إخراج القوم نفقاتهم على قدر عدد الرفقة، قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر أن أصله في السفر، وقد تتفق رفقة، فيضعونه في الحضر، كفعل الأشعريين. قال وهل يجوز قسمته مجازفة، أو لا بد من الكيل في المكيل، والوزن في الموزون؟ . وعن الحسن: أخرجوا نهدكم، فإنه أعظم للبركة، وأحسن لأخلاقكم. 18 - وفي تحديث أبي موسى بهذه الأحاديث جواز تحديث الرجل بمواهبه ومفاخره. والله أعلم

(667) باب من فضائل أبي سفيان صخر بن حرب رضي الله عنه

(667) باب من فضائل أبي سفيان صخر بن حرب رضي الله عنه 5579 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه. فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا نبي الله! ثلاث أعطنيهن. قال: "نعم" قال: عندي أحسن العرب وأجمله، أم حبيبة بنت أبي سفيان، أزوجكها. قال: "نعم" قال: ومعاوية، تجعله كاتبا بين يديك. قال: "نعم" قال: وتؤمرني حتى أقاتل الكفار، كما كنت أقاتل المسلمين. قال: "نعم" قال: أبو زميل: ولولا أنه طلب ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، ما أعطاه ذلك. لأنه لم يكن يسأل شيئا إلا قال: "نعم". -[المعنى العام]- أبو سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي، مشهور باسمه، وكنيته، وكان يكنى أيضا أبا حنظلة، اسم ابن له قتله علي يوم بدر كافرا، وأمه صفية بنت حرب الهلالية، عمة ميمونة بنت الحارث الهلالية، زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أسن من النبي صلى الله عليه وسلم بعشر سنين، وهو والد معاوية، أسلم عام الفتح، وشهد حنينا والطائف، وكان من المؤلفة قلوبهم، وكان قبل ذلك رأس المشركين يوم أحد والخندق، وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم ابنته أم حبيبة، وكانت قد أسلمت قديما وهاجرت إلى الحبشة مع زوجها الذي مات هناك. كان أبو سفيان رجلا يحب الفخر، وفي فتح مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن"، وفي يوم الطائف أصيبت عينه، فأصبح بعين واحدة، ويقال: إنه فقد عينه الثانية في غزوة اليرموك. أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من غنائم حنين مائة بعير وأربعين أوقية، كما أعطى سائر المؤلفة قلوبهم، وأعطى ابنيه يزيد ومعاوية، فقال له أبو سفيان: والله إنك لكريم، فداك أبي وأمي، والله لقد حاربتك، فنعم المحارب كنت، ولقد سالمتك، فنعم المسالم أنت، جزاك الله خيرا. وتوفى بالمدينة سنة ثلاثين، وفي الصحيحين حديثه مع هرقل، يشهد للنبي صلى الله عليه وسلم صادقا قبل أن يسلم. رضي الله عنه وأرضاه.

-[المباحث العربية]- (كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان) أي لا ينظرون إليه نظرة رضا، أي بعد إسلامه، لما لابس تاريخه في الكفر من عداوة للإسلام ورسوله. (ولا يقاعدونه) نفورا من مجالسته، استصحابا لماضيه. (ثلاث أعطنيهن) أي تكرم علي بثلاث مكرمات. (قال: نعم) أي سأتكرم عليك بما تطلب. فاسأل. (عندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان، أزوجكها. قال: نعم) كان الأصل أن يقول: وأجملهم، لكن العرب يتكلمون بها مفردا، قال النحويون: معناه: وأجمل من هناك. قال النووي: اعلم أن هذا الحديث من الأحاديث المشهورة بالإشكال، ووجه الإشكال أن أبا سفيان إنما أسلم يوم فتح مكة، سنة ثمان من الهجرة، وهذا مشهور، لا خلاف فيه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد تزوج أم حبيبة قبل ذلك بزمان طويل، قال الجمهور: تزوجها سنة ست، وقيل: سنة سبع، قال القاضي عياض: واختلفوا أين تزوجها؟ فقيل: بالمدينة، بعد قدومها من الحبشة، وقال الجمهور: بأرض الحبشة، قال: واختلفوا فيمن عقد له عليها هناك، فقيل: عثمان، وقيل: خالد بن سعيد بن العاص بإذنها، وقيل: النجاشي، لأنه كان أمير الموضع وسلطانه، قال القاضي: والذي في مسلم هنا أنه زوجها أبو سفيان غريب جدا، وخبرها مع أبي سفيان حين ورد المدينة في حال كفره مشهور. وقال ابن حزم: هذا الحديث وهم من بعض الرواة، لأنه لا خلاف بين الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أم حبيبة قبل الفتح بدهر، وهي بأرض الحبشة، وأبوها كافر، وفي رواية عن ابن حزم أيضا أنه قال: هذا الحديث موضوع، قال: والآفة فيه عن عكرمة بن عمار، الراوي عن أبي زميل، وأنكر الشيخ أبو عمرو بن الصلاح - رحمه الله تعالى - هذا على ابن حزم، وبالغ في الشناعة عليه، قال: وهذا القول من جسارته، فإنه كان هجوما على تخطئة الأئمة الكبار، وإطلاق اللسان فيهم. قال: ولا نعلم أحدا من أئمة الحديث نسب عكرمة بن عمار إلى وضع الحديث، وقد وثقه وكيع ويحيى بن معين وغيرهما، وكان مستجاب الدعوة، قال: وما توهمه ابن حزم من منافاة هذا الحديث لتقدم زواجها غلط منه وغفلة، لأنه يحتمل أنه سأله تجديد عقد النكاح، تطييبا لقلبه، لأنه كان ربما يرى عليها غضاضة من رياسته ونسبه، أن تزوج بنته بغير رضاه، أو أنه ظن أن إسلام الأب في مثل هذا يقتضي تجديد العقد، وقد خفي أوضح من هذا على من هو أكبر مرتبة من أبي سفيان، ممن كثر علمه، وطالت صحبته. هذا كلام أبي عمرو - رحمه الله - وليس في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم جدد العقد، ولا قال لأبي سفيان: أنه يحتاج إلى تجديده، فلعله صلى الله عليه وسلم أراد بقوله: نعم. أن مقصودك يحصل، وإن لم يكن بحقيقة عقد. اهـ.

والحق أن الدفاع عن الرواية ضعيف وبعيد عن المعقول، سواء في ذلك توجيه أبي عمرو - رحمه الله - أو توجيه النووي رحمه الله، وتغليط الرواية أخف من تأويل ظاهر التمحل، والله أعلم. (قال: ومعاوية، تجعله كاتبا بين يديك) للوحي وغيره، "قال: نعم". وجعله فعلا كاتبا له. (وتؤمرني) بضم التاء وفتح الهمزة وكسر الميم المشددة، أي تعينني أميرا وقائدا لجيش المسلمين. (كما كنت أقاتل المسلمين) أي كما كنت قائدا لجيش الشرك ضد المسلمين. (لأنه لم يكن يسأل شيئا إلا قال: نعم) أي لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أجاب أبا سفيان لطلبه لأن سجية رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم، لا يرد أحدا، فأجاب بذلك على سجيته، لا حبا، ولا تقديرا لأبي سفيان. -[فقه الحديث]- فيه فضيلة لأبي سفيان رضي الله عنه. وفيه كرم خلقه صلى الله عليه وسلم، وعفوه عمن آذاه، بل فيه تكريم من كان يؤذيه. صلى الله عليه وسلم. والله أعلم

(668) باب من فضائل جعفر بن أبي طالب وأسماء بنت عميس رضي الله عنهما

(668) باب من فضائل جعفر بن أبي طالب وأسماء بنت عميس رضي الله عنهما 5580 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال: بلغنا مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن. فخرجنا مهاجرين إليه. أنا وأخوان لي. أنا أصغرهما. أحدهما أبو بردة والآخر أبو رهم - إما قال: بضعا وإما قال: ثلاثة وخمسين أو اثنين وخمسين رجلا من قومي - قال: فركبنا سفينة. فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة. فوافقنا جعفر بن أبي طالب وأصحابه عنده. فقال جعفر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا ها هنا. وأمرنا بالإقامة. فأقيموا معنا فأقمنا معه حتى قدمنا جميعا. قال: فوافقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر. فأسهم لنا، أو قال أعطانا منها. وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئا. إلا لمن شهد معه. إلا لأصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه. قسم لهم معهم. قال: فكان ناس من الناس يقولون لنا - يعني لأهل السفينة -: نحن سبقناكم بالهجرة. قال: فدخلت أسماء بنت عميس، وهي ممن قدم معنا على حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم زائرة. وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر إليه. فدخل عمر على حفصة، وأسماء عندها. فقال عمر حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس. قال عمر: الحبشية هذه؟ البحرية هذه؟ فقالت أسماء: نعم: فقال عمر: سبقناكم بالهجرة. فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم. فغضبت. وقالت كلمة: كذبت. يا عمر! كلا. والله! كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم. وكنا في دار، أو في أرض، البعداء البغضاء في الحبشة. وذلك في الله وفي رسوله. وايم الله: لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ونحن كنا نؤذى ونخاف. وسأذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأسأله. ووالله! لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد على ذلك. قال: فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا نبي الله! إن عمر قال كذا وكذا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس بأحق بي منكم. وله ولأصحابه هجرة واحدة. ولكم أنتم، أهل السفينة، هجرتان" قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتوني أرسالا. يسألوني عن هذا الحديث. ما من الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو بردة: فقالت أسماء: فلقد رأيت أبا موسى، وإنه ليستعيد هذا الحديث مني.

-[المعنى العام]- جعفر بن أبي طالب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، كان أشبه الناس خلقا وخلقا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أكبر من علي أخيه بعشر سنين، وكان عقيل أكبر من جعفر بعشر سنين، وكان طالب أكبر من عقيل بعشر سنين. كان جعفر من المهاجرين الأولين، هاجر إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية، وقدم منها على رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب انتصار خيبر، فتلقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتنقه، وقال: "ما أدري بأيهما أنا أشد فرحا؟ بقدوم جعفر؟ أم بفتح خيبر؟ " ثم غزا غزوة مؤتة قائدا لها، في سنة ثمان من الهجرة، فقتل. قاتل حتى قطعت يداه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أبدله بيديه جناحان يطير بهما في الجنة، حيث شاء" فمن هنا قيل له: جعفر ذو الجناحين، روي أنه وجد في صدره تسعون جراحة، ما بين ضربة بالسيف وطعنة بالرمح، ولما بكى أهله عليه، قال صلى الله عليه وسلم: "على مثل جعفر فلتبك البواكي". أما أسماء بنت عميس بن معد - على وزن سعد - أسلمت قديما، قبل دخول دار الأرقم، وبايعت وهاجرت مع زوجها جعفر بن أبي طالب إلى الحبشة، فولدت له هناك عبد الله ومحمدا وعونا، ثم هاجرت مع زوجها إلى المدينة، فلما استشهد جعفر في غزوة مؤتة تزوجها أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوم حنين، فولدت له محمدا، ثم مات عنها، فتزوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فولدت له يحيى بن علي بن أبي طالب. رضي الله عنها. -[المباحث العربية]- (بلغنا مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن باليمن) أي خروجه من مكة إلى المدينة، أي هجرته صلى الله عليه وسلم، وليس المراد: بلغنا مبعثه، إذ يبعد كل البعد أن يتأخر علم مبعثه إلى مضي نحو عشرين سنة، ومع الحمل على مخرجه إلى المدينة، فلا بد من زيادة: واستقراره فيها، وانتصافه ممن عاداه، ونحو ذلك، لأن هجرة أبي موسى المتحدث عنها كانت بعد اطمئنان المهاجرين في إقامتهم بالمدينة. وبعد ست سنين من هجرته صلى الله عليه وسلم، ويبعد أيضا أن يخفى عنهم أحوال المؤمنين في هذه المدة، وقوله "ونحن باليمن" أي في ديارنا باليمن. (فخرجنا مهاجرين إليه) الضمير لأبي موسى ومن خرج معه، وأبدل من هذا الضمير. (أنا وأخوان لي، أنا أصغرهما، أحدهما أبو بردة، والآخر أبو رهم) قال النووي: هكذا هو في النسخ "أصغرهما" والوجه "أصغر منهما" وفي رواية للبخاري "أنا أصغرهم"، وأبو بردة اسمه عامر، وأبو رهم بضم الراء وسكون الهاء، اسمه مجدي بفتح الميم وسكون الجيم، وقيل: اسمه محمد، وقيل: اسمه مجيلة، بكسر الجيم.

(إما قال: بضعا - وإما قال: ثلاثة وخمسين، أو اثنين وخمسين رجلا من قومي) شك الراوي في خبر أبي موسى. هل قال: بضعا وخمسين رجلا من قومي؟ أو قال: ثلاثة وخمسين؟ أو قال: اثنين وخمسين؟ وفي رواية للبخاري "أنهم كانوا خمسين"، فلعل الزائد على ذلك هو وأخواه، وأخرج البلاذري أنهم كانوا أربعين رجلا، ويجمع بين الروايات بالحمل على الأصول مرة، وعلى الأصول والأتباع أخرى. (فركبنا سفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة) الحبشة واليمن متقابلان، بينهما البحر الأحمر، وكانوا يقصدون بسفينتهم "ينبع" أو شاطئا قريبا من المدينة، لكن الرياح والعواصف ألجأت السفينة إلى ساحل الحبشة، على غير رغبة منهم. (فوافقنا جعفر بن أبي طالب وأصحابه عنده) أي عند النجاشي، فشرحنا له حالنا ومقصودنا. (فقال جعفر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا ها هنا، وأمرنا بالإقامة) هنا، حتى يأذن لنا بالهجرة إلى المدينة. (فأقيموا معنا فأقمنا معه، حتى قدمنا جميعا) ذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عمرو ابن أمية إلى النجاشي، يطلب منه أن يجهز إليه جعفر بن أبي طالب، ومن معه، فجهزهم، وأكرمهم، وقدم بهم عمرو بن أمية. وذكر ابن إسحاق أسماء من قدم مع جعفر، وهم ستة عشر، منهم امرأة جعفر، أسماء بنت عميس وخالد ابن سعيد بن العاص وامرأته، وأخوه عمرو بن سعيد، ومعيقيب بن أبي فاطمة. (فوافقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر) أي وصلوا بعد انتصار المسلمين في خيبر، وبعد حوز الغنائم، وقبل قسمتها. (فأسهم لنا، أو قال: أعطانا منها، وما قسم لأحد، غاب عن فتح خيبر، منها شيئا، إلا لمن شهد معه، إلا لأصحاب سفينتنا، مع جعفر وأصحابه، قسم لهم معهم) سيأتي في فقه الحديث بيان كون هذا الإعطاء من الغنيمة، أو من الخمس، بإذن الغانمين، أو بدون إذنهم. (قال: فكان ناس من الناس يقولون لنا - يعني لأهل السفينة - نحن سبقناكم بالهجرة) سمي من الناس في الرواية نفسها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفي رواية للبخاري "وكان أناس من الناس". (قال: فدخلت أسماء بنت عميس - وهي ممن قدم معنا - على حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم زائرة) لحفصة، أيام أن أكثر الناس من قولهم إننا تأخرنا في الهجرة، وأنهم سبقونا بالفضل.

(وقد كانت هاجرت إلى النجاشي، فيمن هاجر إليه) الهجرة الثانية إلى الحبشة، وكانوا يزيدون على ثمانين رجلا، سوى نسائهم وأبنائهم. (فدخل عمر على حفصة، وأسماء عندها، فقال عمر - حين رأى أسماء - من هذه؟ ) أي قال لابنته، فيما بينه وبينها، وأسماء تسمع: من هذه؟ . (قالت: أسماء بنت عميس) وكان يعرفها، ويعرف بعض حياتها. (قال عمر: الحبشية هذه؟ ) نسبها إلى الحبشة لسكناها فيهم، وفي رواية للبخاري "آلحبشية هذه؟ " بهمزة الاستفهام. (البحرية هذه؟ ) بهمزة الاستفهام أيضا عند البخاري، ونسبها إلى البحر، لركوبها إياه، وفي رواية "البحيرية هذه"؟ بالتصغير، للتمليح. (فقالت أسماء: نعم) تفخر بأنها هاجرت بدينها إلى الحبشة. (فقال عمر: سبقناكم بالهجرة) إلى المدينة، فلنا فضل السبق. يرد على فخرها بفخر. (فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم) أي فنحن أقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم منكم دينا ومكانة في الإسلام. (فغضبت، وقالت كلمة) أي ظهر عليها الغضب والانفعال، والمراد من الكلمة الكلام الكثير الآتي فيما بعد، بداية من قولها: (كذبت يا عمر. كلا والله) قال النووي: "كذبت" أي أخطأت، وقد استعملوا "كذب" بمعنى أخطأ أي أقسم بالله أنكم لستم أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منا، وفي رواية "فقالت" أي لعمر. لقد صدقت. كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .. " إلخ تقول ذلك على سبيل التهكم، وبدأت تعلل لماذا هي ومن كان معها أحق. فقالت: (كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يطعم جائعكم) وكنا نجوع في سبيل الله، ولا نجد من يطعمنا. (ويعظ جاهلكم) وكنا نتشوف لمعرفة ديننا، ونحتاج المواعظ والتشريعات، ونفتقدها في سبيل الله، وكنت متمتعين به، ونحن محرومون من المصدر الإلهي. (وكنا في دار - أو في أرض - البعداء البغضاء في الحبشة) "البعداء" بضم الباء وفتح العين جمع بعيد، و"البغضاء" بضم الباء وفتح الغين، جمع بغيض، وفي رواية "البعداء أو البغضاء" بأو، وفي رواية "البعد" بضم الباء والعين، وفي رواية "وكنا البعداء والطرداء". (وذلك في الله وفي رسوله) أي في جميع ما تحملنا من مشاق ابتغاء وجه الله تعالى.

(وايم الله) الواو للاستئناف، و"ايم" بألف الوصل، وأصلها "ايمن" حذفت النون لغة، وأضيفت إلى لفظ الجلالة. وهو مرفوعة على الابتداء، والخبر محذوف، والتقدير "ايمن الله قسمي" وليست جمع يمين، فذاك همزته همزة قطع. (لا أطعم طعاما، ولا أشرب شرابا، حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم) المقصود بهذه الجملة حتمية تحقيق المقسم عليه، وسرعته. (ونحن كنا نؤذى، ونخاف) بضم النون فيهما، مبني للمجهول، ولم تقل: وأنتم كنتم في سلامة وأمن، لأنهم كانوا كذلك يؤذون ويخافون، وكأنها تقول: وشاركناكم الأذى والخوف، بعد أن زدنا عنكم الجوع والجهل والبعد عن مصدر السعادة والعلم. (وسأذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسأله) عن الحق، أهو في قولك؟ أو في قولي؟ . (والله لا أكذب، ولا أزيغ، ولا أزيد على ذلك) أي ووالله لن أكذب عليك وأدعي عليك خلاف ما قلت، ولن أحرف ما قلت، ولن أزيد شيئا على ما قلت. (فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم) الظاهر أنها ظلت مع حفصة حتى جاءها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مروره على كل واحدة من نسائه كل يوم، حتى يصل إلى صاحبة الليلة، فيقيم عندها، أو صادفت زيارة أسماء ليلة حفصة. (قالت: يا نبي الله، إن عمر قال كذا وكذا) الظاهر أن عمر كان قد انصرف، ولم يحضر الشكوى، وفي رواية للبخاري "قال: فما قلت له؟ قالت: قلت له كذا وكذا". (قال: ليس بأحق بي منكم) لم يقل: كذب، صيانة للسانه من العيب، ونفي الأحقية يحتمل إثباتها لأسماء وأصحابها، أي أنتم أحق بي منهم، ويحتمل المساواة، أي وأنتم وهم في أحقيتكم بي سواء، لكن ظاهر التعليل أن المراد الأول. (له ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان) "أهل" منصوب على الاختصاص، أو على النداء بحذف أداته، ويجوز جره على البدل من الضمير، والمقصود من "أهل السفينة" ركابها الذين هاجروا من الحبشة إلى المدينة بواسطتها، زاد في رواية "هاجرتم مرتين، هاجرتم إلى النجاشي، وهاجرتم إلي" وعند ابن سعد "قالت أسماء بنت عميس: يا رسول الله، إن رجالا يفخرون علينا، ويزعمون أنا لسنا من المهاجرين الأولين؟ فقال: بل لكم هجرتان، هاجرتم إلى أرض الحبشة، ثم هاجرتم بعد ذلك". (قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة، يأتوني أرسالا، سألوني عن هذا الحديث) قال الحافظ ابن حجر: يحتمل أن يكون هذا من رواية أبي موسى عنها، فيكون من رواية

صحابي عن مثله، ويحتمل أن يكون من رواية أبي بردة عنها. ومعنى "أرسالا" بفتح الهمزة، أي أفواجا، أي يجيئون إليها ناسا بعد ناس، يستعيدون منها هذا الحديث، سرورا به. (ما من الدنيا شيء هم به أفرح، ولا أعظم في أنفسهم، مما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي هذا الحديث كان أعظم شيء في نفوسهم، لم يعادله شيء يسرهم في الدنيا. -[فقه الحديث]- قال ابن المنير: ظاهر الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قسم لهم من أصل الغنيمة، لا من الخمس، إذ لو كان من الخمس لم يكن لهم بذلك خصوصية، والحديث ناطق بها، إذ يجوز للإمام أن يجتهد، وينفذ اجتهاده في الأخماس الأربعة، المختصة بالغانمين، فيقسم منها لمن لم يشهد الوقعة. وقال ابن التين: يحتمل أن يكون أعطاهم من الغنيمة برضا بقية الجيش، قال النووي: وفي رواية البيهقي ما يؤيده، إذ فيها التصريح "بأن النبي صلى الله عليه وسلم، كلم المسلمين، فشركوهم في سهمانهم" وقال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون إنما أعطاهم من الخمس، وبهذا جزم أبو عبيد في كتاب الأموال. ثم قال الحافظ: وأما قول ابن المنير: لو كان من الخمس لم يكن هناك تخصيص فظاهر، لكن يحتمل أن يكون من الخمس، وخصهم بذلك، دون غيرهم، ممن كان من شأنه أن يعطى من الخمس، ويحتمل أن يكون أعطاهم من جميع الغنيمة، لكونهم وصلوا قبل قسمة الغنيمة، وبعد حوزها، وهو أحد القولين للشافعي، وهذا الاحتمال يترجح بقوله "أسهم لنا" لأن الذي يعطى من الخمس، لا يقال في حقه "أسهم له" إلا تجوزا، ولأن سياق الكلام يقتضي الافتخار، ويستدعي الاختصاص بما لم يقع لغيرهم. والله أعلم. وفي الحديث مناقب جعفر بن أبي طالب وأسماء بنت عميس وأصحاب هجرة الحبشة وأصحاب السفينة. وفي الحديث قوة المرأة العربية في ردها على من ينال منها. والله أعلم

(669) باب من فضائل سلمان وبلال وصهيب رضي الله عنهم

(669) باب من فضائل سلمان وبلال وصهيب رضي الله عنهم 5581 - عن عائذ بن عمرو، أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر، فقالوا: والله! ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها. قال: فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره. فقال: "يا أبا بكر لعلك أغضبتهم. لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك". فأتاهم أبو بكر فقال: يا إخوتاه! أغضبتكم؟ قالوا: لا. يغفر الله لك يا أخي. -[المعنى العام]- سلمان الفارسي رضي الله عنه، أبو عبد الله، يقال: إنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان ابن ملك من ملوك فارس، وكان من هرمز، وقيل: كان أصله من أصبهان، وكان من صغره يطلب دين الله، ويتبع من يرجو ذلك عنده، فدان بالنصرانية وغيرها، وقرأ الكتب، وصبر في ذلك على مشقات، وخرج من بلاده يطلب الدين الحق ويسأل عنه، انتقل من عابد إلى عابد، حتى وصل المدينة، وأخذ رقيقا، وانتقل من سيد إلى سيد، حتى تداوله بضعة عشر سيدا، واشتراه صلى الله عليه وسلم وأعتقه، وكان ولاؤه لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي الدرداء، وكان زاهدا، له عباءة، يفترش بعضها، ويلبس بعضها، وكان يعمل الخوص بيده، فيبيعه، فيعيش منه، ولا يقبل من أحد شيئا، وكان عطاؤه في زمن عمر خمسة آلاف، فكان إذا خرج عطاؤه تصدق به كله، وأكل من عمل يده، عمل الخوص الذي تعلمه عن بعض مواليه بالمدينة، وأول مشاهده الخندق، وهو الذي أشار بحفره، وقيل: إنه شهد بدرا وأحدا، إلا أنه كان عبدا يومئذ وكانوا يشبهونه بلقمان، علما وحكمة، ويعرف بسلمان الخير، وكان إذا قيل له: ابن من أنت؟ قال: أنا سلمان ابن الإسلام من بني آدم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرني ربي بحب أربعة، وأخبرني أنه سبحانه يحبهم، علي، وأبو ذر، والمقداد، وسلمان". توفي بالمدائن في خلافة عثمان. سنة خمس وثلاثين. رضي الله عنه وأرضاه. أما بلال بن رباح الحبشي، مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان عبدا، فأسلم، يقال: كان أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد، كان المشركون - وعلى رأسهم أمية بن خلف، يخرجونه، إذا حميت الظهيرة، فيطرحونه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمرون بالصخرة العظيمة على صدره، ثم يقولون: لا يزال هذا بك حتى تموت أو تكفر بمحمد، فلا يزيد على قوله: أحد. أحد. وكانوا يعطونه للولدان يطوفون به في شعاب مكة والسلسلة في رقبته،

فاشتراه أبو بكر بسبع أواق، وأعتقه، ثم كان مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخازن بيت المال وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد كلها، ولما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مؤذن أبي بكر وخازن بيت ماله، لكنه استأذنه في أن يخرج للجهاد، وروى لأبي بكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه قال له: "يا بلال، ليس عمل أفضل من الجهاد في سبيل الله"، فقال أبو بكر: بل تكون عندي، فقال: إن كنت أعتقتني لنفسك فاحبسني، وإن كنت أعتقتني لله عز وجل، فذرني أذهب إلى الله عز وجل، فقال: اذهب، فذهب إلى الشام، وطلبه عمر أن يؤذن له، فاعتذر، فقال له: ما يمنعك أن تؤذن لي؟ قال: إني أذنت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قبض، وأذنت لأبي بكر لأنه ولي نعمتي، وأريد الجهاد في سبيل الله، فتركه، وبقي في الشام حتى مات بها في طاعون عمواس سنة عشرين، وهو ابن ثلاث وستين سنة، ودفن بحلب. وأما صهيب بن سنان: من العرب، من النمر بن قاسط، كان أبوه سنان بن مالك عاملا لكسرى على الأيلة، وكانت منازلهم بأرض الموصل، في قرية على شط الفرات، فأغارت الروم على تلك الناحية، فسبت صهيبا، وهو غلام صغير، فنشأ صهيب بالروم، فصار ألكن، فاشترته منهم قبيلة كلب، ثم قدمت به مكة، فاشتراه عبد الله بن جدعان، فأعتقه، فأقام معه بمكة، حتى هلك عبد الله بن جدعان، وبعث النبي صلى الله عليه وسلم، فأسلم هو وعمار في يوم واحد، بعد بضعة وثلاثين رجلا، يروى عن عمار بن ياسر أنه قال: لقيت صهيب بن سنان على باب دار الأرقم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، فقلت له، ما تريد؟ فقال لي: ما تريد أنت؟ فقلت: أردت الدخول إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فأسمع كلامه، قال: فأنا أريد ذلك، قال: فدخلنا عليه، فعرض علينا الإسلام، فأسلمنا، ثم مكثنا يومنا، حتى أمسينا، ثم خرجنا مستخفين، ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لحقه صهيب، فتبعه نفر من قريش: ليردوه فقال: يا معشر قريش إني من أرماكم، ولا تصلون إلي حتى أرميكم بكل سهم معي، ثم أضربكم بسيفي، قالوا: لا تفجعنا بنفسك ومالك. قال: إن كنتم تريدون مالي دللتكم عليه، فرضوا، وتعاهدوا، فدلهم، فرجعوا، فأخذوا ماله، فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما زال بقباء، أخبره الخبر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ربح البيع أبا يحيى". فأصبح يكنى أبا يحيى، وأنزل الله تعالى في أمره {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله} [البقرة: 207] وقال صلى الله عليه وسلم: "صهيب سابق الروم، وسلمان سابق فارس، وبلال سابق الحبشة". وروي عن صهيب أنه قال: "لم يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهدا قط إلا كنت حاضره، ولم يبايع بيعة قط إلا كنت حاضره، ولم يسر سرية قط إلا كنت حاضرها، ولا غزا غزوة إلا كنت فيها عن يمينه أو شماله، وما جعلت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين العدو قط، حتى توفي". وكان عمر رضي الله عنه يحبه، ويداعبه، ولما مات عمر أوصى أن يصلي عليه صهيب، وأن يصلي بالناس، حتى يجتمع الناس على إمام بعده، ومات صهيب بالمدينة، ودفن بالبقيع، في شوال سنة ثمان وثلاثين، وهو ابن سبعين سنة على المشهور.

-[المباحث العربية]- (أن أبا سفيان) صخر بن حرب. (أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر) أي مر بهم، وهم جلوس في مجلس، وكان هذا المرور، وهو كافر، فقد زار المدينة، وزار ابنته أم حبيبة زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد صلح الحديبية، أثناء الهدنة. (فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها) أسلوب يفيد التحسر على أن سيوف حزب الله لم تقتل هذا الكافر، ولم تنل منه في الحروب السابقة بين المسلمين والمشركين، ويحمل التمني أن تنال هذه السيوف من هذا العدو في المستقبل. (فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟ ) الظاهر أن أبا بكر كان جالسا معهم، وإن لم يذكر في الجالسين، والاستفهام إنكاري توبيخي، أي لا ينبغي أن تقولوا هذا، ووصفه بأوصاف السيادة استنكارا لتمنيهم القتل له، والمؤمن يسأل الله العافية والهداية أولى من أن يسأل للعدو القتل. (فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال: يا أبا بكر، لعلك أغضبتهم) وزدت في الإنكار على هذا القول. آمل أن لا تكون فعلت ذلك. (لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك) لأنهم لم يقولوا نكرا ولا هجرا، بل هي منهم كلمة حق وصدق، وفيها تحمس للإسلام وعز أهله، وكبت أعدائه وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على صناديد قريش. (فأتاهم أبو بكر) ليتأكد منهم أنه لم يغضبهم، وليستسمحهم إن كانوا قد غضبوا، ولا يلزم من إتيانه إياهم أن يكونوا كما كانوا في مجلسهم، فقد يأتيهم واحدا واحدا، ويسأله، ويجيب، لكن ظاهر سؤاله وجوابهم أنهم كانوا مجتمعين في جلستهم، أو في جلسة أخرى. (يا إخوتاه) لغة في: يا إخوتي، قال ابن مالك واجعل منادى صح إن يضف ليا ... كعبد عبدي عبد عبدا عبديا وناداهم بهذا النداء الرقيق استعطافا لهم أن يتسامحوا. (أغضبتكم؟ ) بقولي لكم: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟ . (قالوا: لا يغفر الله لك) البلاغة لا تستحسن هذا الأسلوب، لأن صورته صورة نفي الدعاء، حيث لا فاصل بين "لا" وبين الدعاء، وإن كانت "لا" هنا نفي لجملة سابقة، أي لا. لم تغضبنا،

والمستحسن عندهم عدم ذكر "لا" أو ذكر جملتها: لم تغضبنا، أو ذكر واو الاستئناف بينها وبين الدعاء، فيقال: لا، ويغفر الله لك، وتسمى واوات الأصداغ على خدود الملاح، أي هذه الواو في حسنها تشبه ما تعمله الجميلات من لي شعيرات على الخد تشبه الواو لإبراز جمالهن. (يا أخي) كان المناسب أن يقولوا: يا أخانا، لأنهم جمع، لكن روعي أن كل واحد منهم قال هذا القول على الاستقلال. قال النووي: "يا أخي" ضبطوه بضم الهمزة على التصغير، وهو تصغير تحبيب وترقيق وملاطفة، وفي بعض النسخ بفتح الهمزة. -[فقه الحديث]- 1 - في الحديث فضيلة ظاهرة لسلمان وصهيب وبلال ورفقتهم هؤلاء. 2 - وفيه مراعاة قلوب الضعفاء وأهل الدين، وإكرامهم، وملاطفتهم. 3 - وفيه رقة قلب أبي بكر، وحرصه على دوام المودة بينه وبين جميع المسلمين. 4 - وفيه التلطف في النداء، واستخدام لفظ "يا أخي" و"يا إخوتي" تمهيدا للطلب. 5 - وفيه الصفح والتسامح، والرد بالدعاء بالخير. وقد أخرج البخاري في مناقب بلال بن رباح قول النبي صلى الله عليه وسلم لبلال: "سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة". وكان عمر يقول: أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا - يعني بلالا. وقد قدمت في المعنى العام من فضائل سلمان وصهيب وبلال ما يغني عن الإعادة. والله أعلم

(670) باب من فضائل الأنصار رضي الله عنهم

(670) باب من فضائل الأنصار رضي الله عنهم 5582 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: فينا نزلت {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما} [آل عمران/ 122] بنو سلمة وبنو حارثة. وما نحب أنها لم تنزل لقول الله عز وجل {والله وليهما} 5583 - عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم! اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار". 5584 - عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر للأنصار. قال: وأحسبه قال: "ولذراري الأنصار، ولموالي الأنصار" لا أشك فيه. 5585 - عن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى صبيانا ونساء مقبلين من عرس. فقام نبي الله صلى الله عليه وسلم ممثلا. فقال: "اللهم! أنتم من أحب الناس إلي. اللهم! أنتم من أحب الناس إلي" يعني الأنصار. 5586 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فخلا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال: "والذي نفسي بيده إنكم لأحب الناس إلي" ثلاث مرات.

5587 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الأنصار كرشي وعيبتي. وإن الناس سيكثرون ويقلون. فاقبلوا من محسنهم، واعفوا عن مسيئهم. 5588 - عن أبي أسيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير دور الأنصار بنو النجار، ثم بنو عبد الأشهل، ثم بنو الحارث بن الخزرج، ثم بنو ساعدة. وفي كل دور الأنصار خير" فقال سعد: ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قد فضل علينا. فقيل: قد فضلكم على كثير. 5589 - عن إبراهيم بن محمد بن طلحة قال: سمعت أبا أسيد رضي الله عنه خطيبا عند ابن عتبة فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير دور الأنصار دار بني النجار، ودار بني عبد الأشهل، ودار بني الحارث بن الخزرج، ودار بني ساعدة" والله! لو كنت مؤثرا بها أحدا لأثرت بها عشيرتي. 5590 - عن أبي أسيد الأنصاري يشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خير دور الأنصار بنو النجار، ثم بنو عبد الأشهل، ثم بنو الحارث بن الخزرج، ثم بنو ساعدة. وفي كل دور الأنصار خير" قال أبو سلمة: قال أبو أسيد: أتهم أنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لو كنت كاذبا لبدأت بقومي، بني ساعدة. وبلغ ذلك سعد بن عبادة فوجد في نفسه. وقال: خلفنا فكنا آخر الأربع. أسرجوا لي حماري آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكلمه ابن أخيه، سهل، فقال: أتذهب لترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم. أوليس حسبك أن تكون رابع أربع. فرجع وقال: الله ورسوله أعلم. وأمر بحماره فحل عنه.

5591 - وفي رواية عن أبي أسيد الأنصاري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول خير الأنصار، أو خير دور الأنصار" بمثل حديثهم. في ذكر الدور. ولم يذكر قصة سعد بن عبادة رضي اللهم عنه. 5592 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في مجلس عظيم من المسلمين: "أحدثكم بخير دور الأنصار؟ " قالوا: نعم: يا رسول الله! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بنو عبد الأشهل" قالوا: ثم من؟ يا رسول الله! قال: "ثم بنو النجار" قالوا: ثم من؟ يا رسول الله! قال: "ثم بنو الحارث بن الخزرج" قالوا: ثم من؟ يا رسول الله! قال: "ثم بنو ساعدة" قالوا: ثم من؟ يا رسول الله! قال: "ثم في كل دور الأنصار خير". فقام سعد ابن عبادة مغضبا. فقال: أنحن آخر الأربع؟ حين سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم دارهم. فأراد كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له رجال من قومه: اجلس ألا ترضى أن سمى؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم داركم في الأربع الدور التي سمى. فمن ترك فلم يسم أكثر ممن سمى فانتهى سعد بن عبادة عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. 5593 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خرجت مع جرير بن عبد الله البجلي في سفر. فكان يخدمني. فقلت له: لا تفعل. فقال: إني قد رأيت الأنصار تصنع برسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، آليت أن لا أصحب أحدا منهم إلا خدمته. زاد ابن المثنى وابن بشار في حديثهما: وكان جرير أكبر من أنس. وقال ابن بشار: أسن من أنس. -[المعنى العام]- الأنصار اسم للأوس والخزرج من أهل المدينة ومواليهم وحلفائهم، سماهم بهذا اللقب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم آووه ونصروه، وهم {والذين تبوءوا الدار} (المدينة) {والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} [الحشر: 9].

لقد كانوا قبل الإسلام في فرقة وحروب، وآخر حروبهم قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى مدينتهم بخمس سنين، فيما عرف بيوم بعاث، وكانت معارك ضارية، قتل فيها رؤساء كل من الفريقين وعدد كبير جدا من أشرافهم. فلما هداهم الله بالإسلام صاروا أحبة كالجسد الواحد، بل صاروا يؤثرون غيرهم على أنفسهم، وصدق الله العظيم إذ يقول {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها} [آل عمران: 103] وقد ساق الإمام مسلم مجموعة من الأحاديث في مناقبهم وفضائلهم، سنعرض لها بالشرح، وساق الإمام البخاري مجموعة أخرى نضمها إلى مجموعة مسلم، لتكتمل صورة الفضائل، أو لنقدم طائفة أكبر منها. 1 - أخرج البخاري موقف الأنصار من المهاجرين، وأنهم نزلوا لهم عن نصف أموالهم، قال: "لما قدم المسلمون المدينة آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن بن عوف وبين سعد بن الربيع، وكان كثير المال، فقال سعد: قد علمت الأنصار أني من أكثرها مالا، سأقسم مالي بيني وبينك شطرين، ولي امرأتان، فانظر أعجبهما إليك، فسمها لي، فأطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، قال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك. أين سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع، فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن، ثم تابع الغدو" أي حتى صار من الأغنياء. 2 - وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين، فقالوا: لا، إلا أن تقطع لإخواننا المهاجرين مثلها، قال: إما لا، فاصبروا حتى تلقوني وموعدكم الحوض، فإنكم ستلقون بعدي أثرة". 3 - وكانت الأنصار يوم الخندق تقول: نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما حيينا أبدا 4 - وأخرج قصة رجل من الأنصار انطلق بضيف إلى امرأته، فقال لها: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني، فقال: هيئي طعامك، وأصبحي سراجك، ونومي صبيانك إذا أرادوا عشاء، وجعلا يريان الضيف أنهما يأكلان في الظلام، فباتا طاويين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: ضحك الله الليلة من فعالكما". 5 - وأخرج قصة توزيع غنائم حنين، وموقف الأنصار، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم: "لو شئتم قلتم: جئتنا كذا وكذا - وفي رواية "لو شئتم لقلتم، فصدقتم وصدقتم، أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فواسيناك. قالوا: المنة علينا لله ورسوله، فقال: ألا ترضون أن يرجع الناس بالشاة والبعير، وتذهبون بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس واديا وشعبا، لسلكت وادي الأنصار وشعبها، الأنصار شعار، والناس دثار. قالوا: يا رسول الله. قد رضينا". 6 - وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار".

7 - وقال صلى الله عليه وسلم: "الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله". رضي الله عنهم أجمعين. -[المباحث العربية]- (فينا نزلت {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا}) هذه الآية (122) من سورة آل عمران، والطائفتان هم بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، وكانا جناحي العسكر يوم أحد، ومعنى {تفشلا} تجبنا، والفشل في الرأي العجز، وفي البدن الإعياء، وفي الحرب الجبن، وهمهم بالفشل كان بعد الخروج من المدينة، حين رجع عبد الله بن أبي بمن معه من المنافقين، إذ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بألف، فرجع عنه عبد الله بن أبي بثلاثمائة رجل، مغاضبا، بحجة أنه لم يؤخذ برأيه، حين أشار بالقعود في المدينة، والقتال فيها إن نهض إليهم العدو، وكان رأيه هذا قد وافق رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى ذلك أكثر الأنصار، لما رجع ابن أبي بثلث الجيش، حدث في نفس الطائفتين، وخطر ببالهم أن يرجعوا، فعصمهم الله، وذم بعضهم بعضا، ونهضوا مع النبي صلى الله عليه وسلم. {والله وليهما} أي حافظ قلوبهما عن تحقيق هذا الهم. (بنو سلمة وبنو حارثة) بالرفع، خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: الطائفتان بنو سلمة وبنو حارثة، وفي رواية "نحن الطائفتان بنو سلمة وبنو حارثة"، وفي رواية للبخاري "بني سلمة وبني حارثة" بالجر على البدلية من الضمير في "فينا" أي في قومه، بني سلمة وفي أقاربهم بني حارثة. والأوس والخزرج أمهما واحدة، تدعى قيلة، وأبوهم واحد، يدعى حارثة بن عمرو بن عامر، الذي تجتمع إليه أنساب الأزد، و"سلمة" بفتح السين وكسر اللام. (وما نحب أنها لم تنزل، لقول الله تعالى {والله وليهما}) ونفي النفي إثبات، أي نحب أنها نزلت، ولا نكره، أن وصفنا بالهم بالفشل، أي إن الآية وإن كان ظاهرها غضا من الطائفتين، لكن في آخرها غاية الشرف لهما، إذ الولي هنا الناصر، ومن ينصره الله، ويدفع عنه ما وقع منه من الهم بالمعصية فهو من حزب الله وأوليائه، ولا يضره ما وقع له من وسوسة لم تستقر. (اللهم اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار) وفي الرواية الثالثة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر للأنصار، ولذراري الأنصار، ولموالي الأنصار" وعند البخاري "قالت الأنصار: يا رسول الله، لكل نبي أتباع، وإنا قد اتبعناك، فادع الله أن يجعل أتباعنا منا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم اجعل أتباعهم منهم" قال العلماء: يدخل في أتباع الأنصار ذراريهم ومواليهم وحلفاؤهم. "والأنصار" اسم إسلامي، سمى به النبي صلى الله عليه وسلم الأوس والخزرج وحلفاءهم، وفي البخاري عن غيلان ابن جرير "قلت لأنس: أرأيت اسم الأنصار. كنتم تسمون به؟ أم سماكم الله؟ قال: بل سمانا الله" وهم المقصودون بقوله تعالى {والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا}

(أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى صبيانا ونساء مقبلين من عرس) غلب الذكور على الإناث، فقال "مقبلين". (فقام النبي صلى الله عليه وسلم ممثلا) بضم الميم الأولى وسكون الثانية وكسر الثاء من أمثل الرباعي، ومعناه قائما منتصبا، والذي ذكره أهل اللغة: مثل الرجل، بفتح الميم وضم الثاء، ثلاثي، مثولا، إذا انتصب قائما، قال النووي: وبفتح الثاء مع ضم الميم الأولى وسكون الثانية. كذا روي بالوجهين وهما مشهوران. قال القاضي: جمهور الرواة بالفتح، قال: وصححه بعضهم، قال: ولبعضهم هنا وفي البخاري بالكسر، قال: وعند بعضهم "مقبلا" وللبخاري في كتاب النكاح "ممتنا" بضم الميم الأولى وسكون الثانية وفتح التاء بعدها نون، من المنة، أي متفضلا عليهم، قال: واختار بعضهم هذا، وضبطه بعض المتقنين "ممتنا" بضم الميم الأولى وسكون الثانية وكسر التاء وتخفيف النون، أي قياما طويلا، قال القاضي: والمختار ما قدمناه عن الجمهور. (اللهم. أنتم من أحب الناس إلي) "اللهم" منادى قصد به الدعاء، أي يا رب. هؤلاء وقومهم من أحب الناس إلي، لما قدموه خدمة للإسلام، فأحبهم. (جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخلا بها) قال النووي: هذه المرأة إما محرم له، كأم سليم وأختها، وإما المراد من الخلوة خلوة صوت وكلام، بمعنى أنها سألته سؤالا بحضرة ناس، ولم تكن خلوة مطلقة، حتى تشمل الخلوة المنهي عنها. اهـ. وقال المهلب: لم يرد أنس أنه خلا بها، بحيث غاب عن أبصار من كان معه، وإنما خلا بها بحيث لا يسمع من حضر شكواها، ولا ما دار بينهما من الكلام، ولهذا سمع أنس آخر الكلام، فنقله، ولم ينقل ما دار بينهما، لأنه لم يسمعه. وفي البخاري "جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعها صبي لها" وفي رواية له "معها أولادها" وفي رواية له "معها أولاد لها". (وقال: والذي نفسي بيده، إنكم لأحب الناس إلي) الظاهر أن "وقال ... " معطوف على محذوف، أي أجابها على سؤالها وقال ... " والظاهر أن سؤالها كان يستدعي تطييب قلبها، والخطاب في "إنكم" لها ولقومها الأنصار، وهو على طريق الإجمال، أي مجموعكم أحب إلي من مجموع غيركم، فلا يعارض حديث "من أحب الناس إليك؟ قال: أبو بكر". (ثلاث مرات) معمول لقال، وكررها للتأكيد، ولزيادة التطييب، وفي رواية للبخاري "مرتين". (إن الأنصار كرشي وعيبتي) الكرش بكسر الكاف وسكون الراء، وبفتح الكاف وكسر الراء، وهو بالأخير في الرواية، معدة الإنسان، وما هو بمنزلتها لكل مجتر، والعيبة بفتح العين، وعاء من خوص أو جلد، أو نحوهما، منه ما يعد لنقل الزرع والمحصول، ومنه ما يعد لحفظ المتاع النفيس، وهو المراد هنا، قال النووي: قال العلماء: معناه جماعتي وخاصتي الذين أثق بهم، وأعتمدهم في أموري،

قال الخطابي: ضرب مثلا بالكرش، لأنه مستقر غذاء الحيوان الذي يكون به بقاؤه، وبالعيبة لأنهم أهل سره وخفي أحواله. اهـ، وقال بعضهم: الكرش أمر باطن، والعيبة أمر ظاهر، فكأنه ضرب المثل بهما في إرادة اختصاصهم بأموره الباطنة والظاهرة. وفي البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك على المنبر في مرضه الذي مات فيه، وأنه لم يصعد المنبر بعد ذلك اليوم، ولفظه "فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أوصيكم بالأنصار، فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم" يشير إلى ما وقع منهم ليلة العقبة من المبايعة، فإنهم بايعوا على أن يؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينصروه، فوفوا بذلك "وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم" وفي رواية له "فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد. أيها الناس. إن الناس يكثرون، وتقل الأنصار، حتى يكونوا كالملح في الطعام، فمن ولي منكم أمرا، يضر فيه أحدا، أو ينفعه، فليقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم". (وإن الناس سيكثرون، ويقلون) فيه عود الضميرين على مرجعين مختلفين، مذكور أحدهما، والمراد من الناس غير الأنصار، أي فإن غير الأنصار سيكثرون، فتدخل قبائل العرب والعجم في الإسلام، فيكونون أبدا مهما كثر تناسلهم قليلين بالنسبة إلى غيرهم. (فاقبلوا من محسنهم، واعفوا عن مسيئهم) أي فاقبلوا من محسنهم إحسانه، واشكروه عليه، وجازوه الإحسان بالإحسان، واعفوا عن إساءة المسيء منهم، فلا تعاقبوه على إساءته، اللهم إلا إذا اقتضت الإساءة حدا من حدود الله. (خير دور الأنصار) أي خير قبائل الأنصار، وكانت كل قبيلة منهم تسكن محلة، فتسمى تلك المحلة دار بني فلان، ولهذا جاء في كثير من الروايات بنو فلان، من غير ذكر الدار. وفي الرواية العاشرة أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك وهو في مجلس عظيم من المسلمين. (بنو النجار، ثم بنو عبد الأشهل، ثم بنو الحارث بن الخزرج، ثم بنو ساعدة، وفي كل دور الأنصار خير) "بنو النجار" هم من الخزرج، والنجار هو تيم الله، وسمي بذلك لأنه ضرب رجلا، فنجره، فقيل له النجار، وهو ابن ثعلبة بن عمرو من الخزرج، وهم أخوال جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن والدة عبد المطلب منهم، وعليهم نزل صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة، فلهم مزية على غيرهم. (ثم بنو عبد الأشهل) وهم من الأوس، وهو عبد الأشهل بن جشم بن الحارث بن الخزرج الأصفر، ابن عمرو بن مالك بن الأوس بن حارثة، وهم رهط سعد بن معاذ. بهذا الترتيب في الرواية السابعة والتاسعة، وبالتعبير بـ "ثم" أما في الرواية الثامنة وفي رواية للبخاري فبالترتيب نفسه، لكن بالواو، فاستنبط منه بعضهم أن الواو قد تأتي للترتيب، والحق أن الترتيب هنا يؤخذ من التقديم والتأخير، لا من الواو، ولا إشكال في هذه الرواية، لكن الإشكال في الرواية العاشرة، ولفظها "بنو عبد الأشهل. قالوا: ثم من يا رسول الله؟ قال: ثم بنو النجار" وقد رجح

العلماء الرواية السابعة والتاسعة على الرواية العاشرة بأن العاشرة اختلف على ابن أبي سلمة في إسناده، هل شيخه فيها أبو أسيد أو أبو هريرة، واختلف في متنه. هل قدم عبد الأشهل على بني النجار؟ أو بالعكس. قاله: الحافظ ابن حجر. "ثم بنو الحارث بن الخزرج" أي الأكبر، أي ابن عمرو بن مالك بن الأوس بن حارثة. "ثم بنو ساعدة" وهم الخزرج أيضا، وساعدة هو ابن كعب بن الخزرج الأكبر. "وفي كل دور الأنصار خير" "خير" الأولى، التي في قوله "خير دور الأنصار" اسم تفضيل بمعنى أفضل، و"خير" الثانية، التي في قوله "وفي كل دور الأنصار خير" اسم، أي فضل، وتتفاوت مراتبه. (فقال سعد) بن عبادة، كما صرح به في الرواية التاسعة، وهو من بني ساعدة. (ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قد فضل علينا) "أرى" بضم الهمزة، بمعنى أظن، وفي بعض النسخ بفتح الهمزة، من الرأي والفكر، و"فضل" بفتح الفاء، والمفعول محذوف، أي فضل علينا ثلاث قبائل، وفي الرواية التاسعة "وبلغ ذلك سعد بن عبادة، فوجد في نفسه" أي غضب في نفسه "وقال: خلفنا فكنا آخر الأربع؟ أسرجوا لي حماري، آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلمه ابن أخيه سهل، فقال: أتذهب لترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم؟ أوليس حسبك أن تكون رابع أربع، فرجع، وقال: الله ورسوله أعلم، وأمر بحماره، فحل عنه". ومعنى "وجد في نفسه" بفتح الواو والجيم، يجد بكسر الجيم، وجدا، حزن، و"خلفنا" بضم الخاء وكسر اللام المشددة، مبني للمجهول، أي جعلنا خلف الناس وآخرهم، وفي الرواية العاشرة "فقام سعد بن عبادة مغضبا" أي قام من مجلسه الذي بلغه الخبر فيه "فقال: أنحن آخر الأربع؟ حين سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم دارهم"؟ أي دار الأربع؟ والاستفهام إنكاري "فأراد كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم" في ذلك، أي أراد الذهاب إليه وكلامه "فقال له رجال من قومه: اجلس. ألا ترضى أن سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم داركم في الأربع الدور التي سمى؟ فمن ترك، فلم يسم أكثر ممن سمى" أي فمن ترك ذكرها من دور الأنصار أكثر ممن ذكرهم منها، "فانتهى سعد بن عبادة عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي رجع عن عزيمته التي كان قد عزم عليها، وأمر بحل حماره، ولا تعارض بين ما في هذه الرواية، من أن الذين ردوه عن عزمه رجال من قومه، وبين ما في الرواية التاسعة من أن الذي رده سهل ابن أخيه، فقد يضاف القول للحاضرين مع القائل، لرضاهم به، وموافقتهم عليه، لكن الإشكال بين هاتين الروايتين، وفيهما أن سعدا رجع عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين ما في البخاري عن أبي حميد، وفي رواية عن أبي حميد أو أبي أسيد قال "فلحقنا سعد بن عبادة، فقال: أبا أسيد. ألم تر أن نبي الله صلى الله عليه وسلم خير الأنصار، فجعلنا أخيرا؟ فأدرك سعد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله. خيرت دور الأنصار، فجعلتنا آخرا؟ فقال: أوليس بحسبكم أن تكونوا من الخيار"؟ قال الحافظ ابن حجر: ويمكن الجمع بأنه رجع حينئذ عن قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك خاصة، ثم إنه لما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت آخر، ذكر له ذلك، أو الذي رجع عنه أنه كان قد أراد أن يورده مورد الإنكار، والذي صدر منه ورد مورد المعاتبة المتلطفة، ولهذا قال له ابن

أخيه في الأول: "أترد على رسول الله أمره؟ " ومعنى "بحسبكم أن تكونوا من الخيار" أي يكفيكم أن تكونوا من الأفاضل، لأنهم بالنسبة لمن دونهم أفضل، وكأن المفاضلة بينهم وقعت بحسب السبق إلى الإسلام، وبحسب مساعيهم في إعلاء كلمة الله، ونحو ذلك. و"أبو حميد" و"أبو أسيد" كلاهما ساعدي من قبيلة سعد بن عبادة، لكنهما لم يغضبا غضبته، بل رويا الحديث على الرغم من أنه يؤخر قبيلتهم، بل يقول أبو أسيد في الرواية الثامنة: "والله. لو كنت مؤثرا بها أحدا لآثرت بها عشيرتي". ويقول في الرواية التاسعة: "أتهم أنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لو كنت كاذبا لبدأت بقومي، بني ساعدة". ولعل سعدا يرى أنه رئيس وزعيم بني ساعدة، وعليه أولا تقع مسئولية الدفاع عنهم. (عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خرجت مع جرير بن عبد الله البجلي في سفر) سبق الكلام عن جرير في باب خاص من فضائله، قبل اثني عشر بابا، وهو يمني، وأنس أنصاري، من بني النجار. (فكان يخدمني) حبا في الأنصار، وتقديرا لهم، لما لهم من فضائل في الإسلام. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث]- 1 - من الروايات جواز تفضيل القبائل والأشخاص، لكن بغير مجازفة ولا هوى، ولا يكون هذا من قبيل الغيبة المحرمة. 2 - ومن الرواية الأولى أنه لا غضاضة من ذكر تقصير الإنسان في جانب الله، ما دام قد عفي عنه. 3 - وأن التقصير لا يمنع من ولاية الله للمقصر. 4 - وأن القرآن كان ينزل استجابة لبعض الأحداث. 5 - وفيها فضيلة ظاهرة لقبيلتي بني سلمة وبني حارثة من الأنصار. 6 - ومن الرواية الثانية أن صلاح الآباء ينفع الذرية والأتباع. 7 - ومن الرواية الرابعة إخبار من تحبه أنك تحبه. 8 - والقيام والاهتمام بمن تحب. 9 - وفي الرواية الخامسة جواز أن يخلو المسلم بالمرأة عن الناس، بحيث لا يسمع كلامهما، إذا كان مما يخافت به، كالشيء الذي تستحي المرأة من ذكره بينهم، وقد سبق عند مسلم عن أنس "أن امرأة كان في عقلها شيء، قالت: يا رسول الله، إن لي إليك حاجة، فقال: يا أم فلان، انظري أي السكك شئت، حتى أقضي لك حاجتك".

10 - وفيه سعة حلمه وتواضعه صلى الله عليه وسلم، وصبره على قضاء حوائج الصغير والكبير. 11 - وفيه أن مفاوضة المرأة الأجنبية سرا لا يقدح في الدين، عند أمن الفتنة، قال الحافظ ابن حجر: يفضل البعد عن ذلك: ولكن الأمر كما قالت عائشة: "وأيكم يملك أربه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يملك أربه". 12 - ومن قوله "والذي نفسي بيده" كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم؟ . 13 - وجواز الحلف من غير استحلاف، وقال قوم: يكره، لقوله تعالى {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم} [البقرة: 224] ويحمل ما ورد من ذلك على ما إذا كان في طاعة، أو دعت إليها حاجة، كتأكيد أمر أو تعظيم من يستحق التعظيم. 14 - وفيه أن حب الأنصار من الدين والإيمان، قال ابن التين: والمراد حب جميعهم، وبغض جميعهم، ومن أبغض بعضهم لمعنى يسوغ البغض له. فليس داخلا في ذلك. 15 - وفيه استطابة القلوب. 16 - وفي الرواية الحادية عشرة تواضع جرير رضي الله عنه وفضيلته. 17 - وإكرامه للنبي صلى الله عليه وسلم. 18 - وإحسانه إلى من ينتسب إلى من أحسن إليه صلى الله عليه وسلم. 19 - وفيه إكرام الأنصار. 20 - وإكرام المحسن وتكريمه. والله أعلم

(671) باب من فضائل غفار وأسلم وجهينة وأشجع ومزينة وتميم ودوس وطيئ

(671) باب من فضائل غفار وأسلم وجهينة وأشجع ومزينة وتميم ودوس وطيئ 5594 - عن أبي ذر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غفار غفر الله لها. وأسلم سالمها الله". 5595 - عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ائت قومك فقل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أسلم سالمها الله. وغفار غفر الله لها". 5596 - عن جابر رضي الله عنهما قال: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أسلم سالمها الله. وغفار غفر الله لها". 5597 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أسلم سالمها الله. وغفار غفر الله لها. أما إني لم أقلها. ولكن قالها الله عز وجل". 5598 - عن خفاف بن إيماء الغفاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، في صلاة: "اللهم! العن بني لحيان ورعلا وذكوان، وعصية، عصوا الله ورسوله. غفار غفر الله لها. وأسلم سالمها الله".

5599 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غفار غفر الله لها. وأسلم سالمها الله. وعصية عصت الله ورسوله". 5600 - وفي رواية عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم. بمثله. وفي حديث صالح وأسامة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك على المنبر. 5601 - عن أبي أيوب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأنصار ومزينة وجهينة وغفار وأشجع، ومن كان من بني عبد الله، موالي دون الناس. والله ورسوله مولاهم". 5602 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قريش والأنصار ومزينة وجهينة وأسلم وغفار وأشجع، موالي. ليس لهم مولى دون الله ورسوله". 5603 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أسلم وغفار ومزينة، ومن كان من جهينة، أو جهينة، خير من بني تميم وبني عامر، والحليفين، أسد وغطفان". 5604 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده! لغفار وأسلم ومزينة، ومن كان من جهينة، أو قال جهينة، ومن كان من مزينة، خير عند الله يوم القيامة، من أسد وطيئ وغطفان".

5605 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأسلم وغفار، وشيء من مزينة وجهينة، أو شيء من جهينة ومزينة، خير عند الله - قال: أحسبه قال - يوم القيامة، من أسد وغطفان وهوازن وتميم". 5606 - عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه رضي الله عنه، أن الأقرع بن حابس جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: إنما بايعك سراق الحجيج من أسلم وغفار ومزينة. وأحسب جهينة (محمد الذي شك) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرأيت إن كان أسلم وغفار ومزينة - وأحسب جهينة - خيرا من بني تميم وبني عامر وأسد وغطفان، أخابوا وخسروا؟ " فقال: نعم. قال: "فوالذي نفسي بيده! إنهم لأخير منهم". وليس في حديث ابن أبي شيبة: محمد الذي شك. حدثني هارون بن عبد الله. حدثنا عبد الصمد. حدثنا شعبة. حدثني سيد بني تميم، محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب الضبي. بهذا الإسناد، مثله. وقال: "وجهينة" ولم يقل: أحسب. 5607 - عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أسلم وغفار ومزينة وجهينة، خير من بني تميم ومن بني عامر، والحليفين بني أسد وغطفان". 5608 - عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه رضي الله عنه. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرأيتم إن كان جهينة وأسلم وغفار خيرا من بني تميم وبني عبد الله بن غطفان وعامر بن صعصعة" ومد بها صوته فقالوا: يا رسول الله! فقد خابوا وخسروا. قال: "فإنهم خير" وفي رواية أبي كريب "أرأيتم إن كان جهينة ومزينة وأسلم وغفار".

5609 - عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: أتيت عمر بن الخطاب فقال لي: إن أول صدقة بيضت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه أصحابه، صدقة طيئ، جئت بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. 5610 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قدم الطفيل وأصحابه فقالوا: يا رسول الله! إن دوسا قد كفرت وأبت. فادع الله عليها. فقيل: هلكت دوس. فقال: "اللهم اهد دوسا وائت بهم". 5611 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لا أزال أحب بني تميم من ثلاث، سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هم أشد أمتي على الدجال" قال: وجاءت صدقاتهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذه صدقات قومنا" قال: وكانت سبية منهم عند عائشة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعتقيها فإنها من ولد إسمعيل". 5612 - وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لا أزال أحب بني تميم بعد ثلاث سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقولها فيهم. فذكر مثله. 5613 - وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ثلاث خصال سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني تميم. لا أزال أحبهم بعد. وساق الحديث بهذا المعنى. غير أنه قال: "هم أشد الناس قتالا في الملاحم" ولم يذكر الدجال. -[المعنى العام]- يقول الله تعالى: " {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير} [الحجرات: 13]. نعم فضل الله بعض القبائل على بعض في الدنيا، ليتخذ بعضهم بعضا سخريا، لكنه تعالى جعل الفضل الحقيقي للدين {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}

جاء الإسلام ولبعض القبائل رفعة على بعض، بالمال تارة، وبالقوة البدنية أخرى، وبالقوة العقلية والسلوكية ثالثة، وبالأصل والأحساب رابعة، فحول كل هذه الموازين إلى ميزان الإسلام، وصار السبق إلى الإسلام، وبذل النفس والمال في سبيل إعلاء كلمة الله، والجهاد في سبيل الله، هو الميزان الحقيقي، الذي يفاضل به بين القبائل، فارتفعت بهذا الميزان قبائل كانت قبل الإسلام غير رفيعة، وهبطت بهذا الميزان قبائل كانت قبل الإسلام عالية مرموقة. يؤكد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعنى في نفوس أصحابه، ويقرره غاية التقرير، فيقول: غفار بسبق إسلامها غفر الله لها، وأسلم سالمها الله، والأنصار ومزينة وجهينة وأشجع وبنو عبد الله هم أوليائي قبل الناس، وهم عند الله يوم القيامة خير من أسد وغطفان وهوازن وتميم. ولا ينسى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يثني على أهل الفضل من القبائل ما لها من فضل، ولو كانت مفضولة بالنسبة لغيرها، فيذكر لتميم شدتها في الحروب، وأدائها للصدقات، وانتسابها لإسماعيل عليه السلام، ولا ينسى أن يلعن من القبائل من تستحق اللعن، فيلعن بني لحيان ورعلا وذكوان وعصية، لما فعلوه بالمسلمين من غدر وتنكيل وتقتيل. فصلى الله وسلم وبارك عليه، ورضي عن صحابته أجمعين. -[المباحث العربية]- (غفار غفر الله لها) كذا في الرواية الأولى والثانية والثالثة والرابعة والخامسة، وزاد في الرواية الثالثة "أما إني لم أقلها، ولكن قالها الله عز وجل" كما ذكرت واحدة من قبائل مولاهم الله ورسوله في الرواية السادسة والسابعة، كما ذكرت في الرواية الثامنة والحادية عشرة والثانية عشرة والثالثة عشرة واحدة من قبائل، هي خير من بني تميم وبني عامر والحليفتين أسد وغطفان، كما ذكرت في الرواية التاسعة واحدة من قبائل، هي خير عند الله يوم القيامة من أسد وطيئ وغطفان، كما ذكرت في الرواية العاشرة واحدة من قبائل هي خير عند الله يوم القيامة من أسد وغطفان، وهوازن وتميم. ومن مجموع الروايات تكون غفار قد فضلت بأن الله غفر لها، وبأن مولاها الله ورسوله، وبأنها أفضل من بني تميم، وبني عامر وأسد وغطفان وطيئ وهوازن. والمذكور مع غفار في الفضل الأنصار ومزينة وأشجع وجهينة وأسلم، وهذه القبائل التي فضلت كانت في الجاهلية في القوة والمكانة أقل من القبائل التي فضلت عليها، فلما جاء الإسلام كانوا أسرع دخولا فيه من أولئك، فانقلب الشرف إليهم بسبب ذلك. واختصت غفار بقوله "غفر الله لها" لما اشتهروا به قبل إسلامهم من سرقة الحجيج الذين يمرون بديارهم، كما تشير إلى ذلك الرواية الحادية عشرة، حكى ابن التين أن بني غفار كانوا يسرقون الحاج في الجاهلية، فدعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم، بعد أن أسلموا - ليمحو عنهم ذلك العار، وهي جملة لفظها خبر، ويحتمل أن يكون معناها خبرا أيضا، إشعارا بأن ذنبها السابق قد غفر، لأن الإسلام يجب ما قبله،

ويحتمل أن معناها دعاء، أي أسأل الله أن يغفر لها ما تقدم وما تأخر، والمراد قطعا من آمن منهم، وفي هذه الرواية من البديع ما يعرف بجناس الاشتقاق. والمراد بنو غفار - بكسر الغين وتخفيف الفاء، ابن مليل، بضم الميم وفتح اللام مصغرا، ابن صخرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وسبق منهم إلى الإسلام أبو ذر الغفاري وأخوه أنيس، وقد سبق الكلام عن إسلامهما قبل أربعة عشر بابا. (وأسلم سالمها الله) وقد شاركت "غفار" في كل ما فضلت به، وذكرت مصاحبة لها، متقدمة عليها أو تالية لها في جميع روايات مسلم، عدا الرواية السادسة، ولعل سقوطها من الرواة وفي العبارة جناس الاشتقاق أيضا، واحتمال كونها خبرا لفظا ومعنى، أي جعلها الله مسالمة للإسلام فيما مضى، لأنها أسلمت دون اشتراك في الحروب، واحتمال كونها خبرا لفظا، دعاء معني، أي صنع الله بهم ما يرضيهم، والمراد من "سالم" سلم، كما في قاتله الله. و"أسلم" بن أفصى، بفتح الهمزة وسكون الفاء بعدها صاد، ابن حارثة بن عمرو بن عامر - أي ابن حارثة ابن امرئ القيس - بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، قال الرشاطي: الأزد جرثومة من جراثيم قطحان، وفيهم قبائل، فمنهم الأنصار وخزاعة وغسان وغيرهم. ونسب حارثة بن عمرو متصل باليمن، وقد خاطب النبي صلى الله عليه وسلم بني أسلم بأنهم من بني إسماعيل، كما في حديث سلمة بن الأكوع. (اللهم العن بني لحيان، ورعلا، وذكوان وعصية، عصوا الله ورسوله) "لحيان" بكسر اللام وفتحها، وسكون الحاء، وهو ابن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر، وزعم الهمداني النسابة أن أصل بني لحيان من بقايا جرهم، دخلوا في هذيل، فنسبوا إليهم. و"رعل" بكسر الراء وسكون العين، بطن من بني سليم، ينسبون إلى رعل بن عوف بن مالك بن امرئ القيس بن لهيعة بن سليم. و"ذكوان" بطن من بني سليم أيضا، ينسبون إلى ذكوان بن ثعلبة. و"عصية" بطن من بني سليم أيضا، ينسبون إلى "عصية" بضم العين وفتح الصاد، مصغر ابن خفاف، بضم الخاء، ابن امرئ القيس بن بهثة بضم الباء وسكون الهاء بعدها ثاء، ابن سليم. أما جريمة بني لحيان فيرويها البخاري تحت باب غزوة الرجيع، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية" وفي رواية أنهم كانوا عشرة، وفي أخرى أنهم كانوا سبعة، بعثهم إلى مكة عيونا يتجسسون على قريش، ويأتونه بأخبارهم، وكان ذلك في السنة الثالثة "فانطلقوا حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة، ذكروا لحي من هذيل، يقال لهم: بنو لحيان، فتبعوهم بنحو مائة رام، فاقتصوا آثارهم، حتى أتوا منزلا نزلوه، فلحقوهم، فهربوا منهم على تل، فجاء القوم فأحاطوا بهم، وقالوا لهم: إنا والله ما نريد قتالكم، إنما نريد أن نصيب منكم شيئا من أهل مكة، ولكم العهد والميثاق - إن نزلتم إلينا أن

لا نقتل منكم رجلا، فقال عاصم - قائد المسلمين - أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا نبيك، فقاتلوهم، حتى قتلوا عاصما في سبعة نفر، بالنبل، وبقي ثلاثة، خبيب وزيد بن الدثنة وعبد الله بن طارق، فأعطوهم العهد والميثاق، فنزلوا إليهم، فلما استمكنوا منهم حلوا أوتار قسيهم، فربطوهم بها، فقال عبد الله: هذا أول الغدر، وأبى أن يصحبهم، فجروه، وحاولوا أن يصحبهم، فلم يفعل، فقتلوه، وانطلقوا بخبيب وزيد نحو مكة، فباعوهما هناك، فاشترى خبيبا بنو الحارث بن عامر ابن نوفل، وكان خبيب قد قتل الحارث يوم بدر، فمكث عندهم أسيرا، حتى خرجت الأشهر الحرم، فخرجوا به من الحرم إلى التنعيم ليقتلوه، فقال: دعوني أصلي ركعتين، فلما صلاهما، انصرف إليهم، فقال: لولا أن تروا أن الذي بي جزع من الموت لزدت في الصلاة، ثم قال: اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تبق منهم أحدا، ثم قال: ما إن أبالي حين أقتل مسلما ... على أي شق كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله، وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع ثم قام إليه عقبة بن الحارث، فقتله، فلم يحل الحول، ومنهم أحد حي. وأما زيد فاشتراه صفوان بن أمية، فقتله بأبيه". هذه قصة بني لحيان، وسبب لعنهم والدعاء عليهم، وقد قنت صلى الله عليه وسلم شهرا يدعو عليهم وعلى رعل وذكوان وعصية في صلاة الصبح. وأما قصة رعل وذكوان وعصية فيرويها البخاري أيضا، تحت عنوان: غزوة رعل وذكوان وبئر معونة، وتعرف بسرية القراء، ويرويها أصحاب السير بأن رؤساء هذه القبائل كانوا قد جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلموا ظاهرا، ثم طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمدهم بجماعة من أصحابه رجاء أن يدعوا الناس، فيسلموا، فبعث معهم سبعين رجلا من الأنصار، يقال لهم القراء، كانوا يحتطبون بالنهار، ويبيعون الحطب، ويشترون به الطعام لأهل الصفة، ويتدارسون القرآن بالليل ويصلون، فلما نزلوا بئر معونة استمكنوا منهم، وغدروا بهم، ونقضوا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتلوهم عن آخرهم، إلا رجلا أعرج، صعد الجبل. وجملة "عصوا الله ورسوله" مستأنفة استئنافا تعليليا، والضمير فيها يعود على القبائل الأربع، ولا يتعارض هذا مع قوله في الرواية الخامسة "عصية عصت الله ورسوله" فإن الموصوفين بوصف كل منهم موصوف بهذا الوصف. (الأنصار ومزينة وجهينة وغفار وأشجع ومن كان من بني عبد الله، موالي، دون الناس، والله ورسوله مولاهم) زادت الرواية السابعة في القبائل المفضلة قريشا وأسلم، ونقصت الرواية الثامنة الأنصار، وقريشا، فيؤخذ بالزيادة على أن بعض الرواة ذكر ما لم يذكر الآخر. وقد سبق الكلام عن قريش والأنصار وغفار وأسلم.

أما مزينة فبضم الميم وفتح الزاي وسكون الياء، وهو اسم امرأة عمرو بن أد بن طابخة بن إلياس ابن مضر، وهي مزينة بنت كلب بن وبرة، وهي أم أوس وعثمان ابني عمرو، فولد هذين يقال لهم: بنو مزينة، والمزنيون من قدماء الصحابة منهم عبد الله بن مغفل المزني، وعمه خزاعى بن عبد نهم، وإياس بن هلال، وابنه قرة بن إياس. وأما جهينة فهم بنو جهينة بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم، ومن مشهور الصحابة منهم عقبة بن عامر الجهني وغيره. وأما أشجع بالشين والجيم والعين، على وزن أحمر، وهم بنو أشجع بن ريث بفتح الراء وسكون الياء بعدها ثاء، ابن غطفان بن سعد بن قيس، ومن مشهور الصحابة منهم نعيم بن مسعود بن عامر، وقد سبق القول بأن المقصود المجموع والإجمال، لا الجميع والاستغراق، ولذلك كانت العبارة مع بعضهم "ومن كان من بني عبد الله" في الرواية السادسة، أي ومن كان مؤمنا من بني عبد الله، و"من كان من جهينة" أي ومن كان مؤمنا من جهينة، وفي الرواية الثامنة والتاسعة، "أو شيء من جهينة" في الرواية العاشرة، و"من كان من مزينة" في الرواية التاسعة. ونلاحظ أن من كان من بني عبد الله ذكروا في مقام المدح والتفضيل في الرواية السادسة، وذكروا في مقام الذم والمفضل عليهم في الرواية الثالثة عشرة، وفي البخاري، فالأولون من آمنوا، والآخرون من لم يؤمنوا، وبنو عبد الله بن غطفان بفتح الغين والطاء بعدها فاء، أي ابن سعد بن قيس عيلان بن مضر، وكان اسم عبد الله بن غطفان في الجاهلية عبد العزى، فصيره النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله، وبنوه يعرفون ببني المحولة، لتحويل اسم أبيهم. أما المفضل عليهم فهو بنو تميم وبنو عامر وأسد وغطفان وطيئ وهوازن. وبنو تميم بن مر، بضم الميم وتشديد الراء، ابن أد، بضم الهمزة وتشديد الدال، ابن طابخة بن إلياس بن مضر، وفيهم بطون كثير، وقد ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مع سجاح، ولا يتعارض هذا مع مدحهم ببعض الصفات في بعض الأحوال، كما سيأتي عنهم في الرواية السادسة عشرة وملحقيها. وبنو عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، وقد ذكر بنو عامر في الرواية الثامنة والحادية عشرة والثانية عشرة والثالثة عشرة، وذكرت بدلها. هوازن: في الرواية العاشرة، قال الحافظ ابن حجر: فذكر هوازن أشمل من ذكر بني عامر، ومن قبائل هوازن - غير بني عامر - بنو نصر بن معاوية، وبنو سعد بن بكر بن هوازن، وثقيف، وهو قيس ابن منبه بن بكر ابن هوازن، والجميع يجمعهم هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بفتح الخاء وسكون الصاد بعدها فاء. وأسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وكانوا عددا كثيرا، وكانت منازلهم ظاهر مكة، حتى وقع بينهم وبين خزاعة شجار، فقتل فضالة بن عبادة بن مرارة الأسدي هلال بن أمية الخزاعي، فقتلت خزاعة فضالة بصاحبها، فنشبت الحرب بينهم، فبرحت

بنو أسد عن منازلهم، فحالفوا غطفان، فصار يقال للطائفتين: الحليفان. أسد وغطفان كما في الرواية الثامنة عشرة. وطيئ ذكرت في المفضل عليهم في الرواية التاسعة، وهي بفتح الطاء وتشديد الياء المكسورة بعدها همزة، وحكي تركها، وهو ابن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ، يقال: كان اسمه جلهمة، فسمي طيئا، لأنه أول من طوى بئرا، وقبيلة طيئ من القبائل التي تأخر إسلامها إلى سنة الوفود، وكان رئيسها عدي بن حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج، بوزن جعفر، ابن امرئ القيس بن عدي الطائي. وذكر ابن إسحاق أن خيل النبي صلى الله عليه وسلم أصابت أخت عدي، فقالت له: هلك الوالد، وغاب الوافد، قال لها: من وافدك؟ قالت: عدي بن حاتم. قال: الفار من الله ورسوله؟ قالت: امنن من الله عليك. قال: أطلقوا سراحها، فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، فلما قدمت بنت حاتم على عدي أخيها أشارت عليه بالقدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم وأسلم. ويروي الإمام أحمد في سبب إسلام عدي أنه قال: لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كرهته، فانطلقت إلى أقصى الأرض، مما يلي الروم، ثم كرهت مكاني، فقلت: لو أتيته؟ فإن كان كاذبا لم يخف علي، فأتيته، فقال: أسلم تسلم. فقلت: إن لي دينا - وكان نصرانيا، فذكر إسلامه. (فوالذي نفسي بيده. إنهم لأخير منهم) كذا في الرواية الحادية عشرة، قال النووي: هكذا هو في جميع النسخ "لأخير" وهي لغة قليلة، تكررت في الأحاديث، وأهل العربية ينكرونها، يقولون: الصواب "خير" و"شر" ولا يقال "أخير" ولا "أشر" ولا يقبل إنكارهم فهي لغة، قليلة الاستعمال. (عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: أتيت عمر بن الخطاب) أي في خلافته. (فقال لي: إن أول صدقة بيضت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجوه أصحابه، صدقة طيئ، جئت بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) وجاءت هذه الصدقة في أخريات أيامه صلى الله عليه وسلم، والمراد من تبيضها الوجوه أنها سرتهم وأفرحتهم، لسرورهم بإسلام طيئ. وقد روى البخاري عن عدي رضي الله عنه قال: "أتينا عمر في وفد، فجعل يدعو رجلا رجلا، ويسميهم، فقلت: أما تعرفني يا أمير المؤمنين؟ قال: بلى. أسلمت إذ كفروا، وأقبلت إذ أدبروا، ووفيت إذ غدروا، وعرفت إذ أنكروا. فقال عدي: فلا أبالي إذن" أي إذا كنت تعرف قدري فلا أبالي إذا قدمت على غيري من قومي. (قدم الطفيل وأصحابه فقالوا: يا رسول الله، إن دوسا قد كفرت، وأبت، فادع الله عليها. فقيل: هلكت دوس) حيث طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو عليها بالهلاك، فسكت قليلا، فظنوه دعا عليهم فقالوا: هلكت. (فقال: اللهم اهد دوسا، وائت بهم) و"دوس" بفتح الدال وسكون الواو بعدها

سين مكسورة و"دوس" قبيلة أبي هريرة، وهم ينتسبون إلى دوس بن عدثان بضم العين وسكون الدال بعدها ثاء، ابن عبد الله ابن زهران، وينتهي نسبهم إلى الأزد، وكانوا في الجاهلية يعبدون صنما يقال له: ذو الخلصة. والطفيل بن عمرو بن طريف بن العاص بن ثعلبة بن سليم بن فهم بن غنم بن دوس، والقائل: "إن دوسا قد كفرت، وأبت، فادع الله عليها" هو الطفيل وأصحابه، وكان الطفيل قد أسلم بمكة، ورجع إلى بلاد قومه، ودعا أبويه إلى الإسلام، فأسلم أبوه، ولم تسلم أمه، ودعا قومه، فأجابه أبو هريرة وحده، ثم وافى النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء، وقيل: قدم مع أبي هريرة بخيبر، فكان هذا القول منه، وكان هذا الدعاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجاب الله الدعاء فجاء حبيب بن عمرو بن حثمة حاكم الدوس، ومعه خمسة وسبعون رجلا من قومه، فأسلم وأسلموا. (قال أبو هريرة: لا أزال أحب بني تميم من ثلاث سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي ملحق الرواية "لا أزال أحب بني تميم بعد ثلاث ... " وعند البخاري "مازلت أحب بني تميم منذ ثلاث ... " أي من حين سمعت الخصال الثلاث، زاد أحمد "وما كان قوم من الأحياء أبغض إلي منهم، فأحببتهم" وكان ذلك لما كان يقع بينهم وبين قوم أبي هريرة في الجاهلية من العداوة. (هم أشد أمتي على الدجال) وفي الملحق الثاني للرواية "هم أشد الناس قتالا في الملاحم" وهي أعم مما في الرواية الأساسية، ويمكن أن يحمل العام في ذلك على الخاص، فيكون المراد بالملاحم أكبرها، وهو قتال الدجال، أو ذكر الدجال ليدخل غيره بالطريق الأولى. قاله ابن حجر. (وجاءت صدقاتهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذه صدقات قومنا) قال العلماء: إنما نسبهم إليه، لاجتماع نسبهم بنسبه صلى الله عليه وسلم في إلياس بن مضر، وليس هذا القول بذاك، فما أكثر القبائل التي يجتمع نسبها بنسبه، ولم يقل فيهم مثل ذلك، والأولى أن يقال: إنما نسبهم إليه تأليفا لقلوبهم، فقد كانوا قوما غلاظا. (وكانت سبية منهم عند عائشة) أي من بطن من بطونهم، وعند الطبراني أن عائشة كانت نذرت أن تعتق محررا من بني إسماعيل، فلما قدم سبي بني العنبر قال لها صلى الله عليه وسلم: ابتاعي منهم، فإنهم ولد إسماعيل، وبنو العنبر بطن من بطون تميم، وفي رواية "نسمة" بدل "سبية". -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الأحاديث]- 1 - جواز التفضيل بين القبائل، بهدف ديني، ولا يعد ذلك من الغيبة. 2 - فيها مناقب للقبائل التي فضلت. 3 - جواز استعمال الجناس، دون تكلف فإنه يلذ على السمع، لسهولته وانسجامه.

4 - أن الشرف يحصل للمجموع، إذا حصل لبعضه. 5 - أخذ بعضهم من قوله "موالي" في الرواية السادسة والسابعة، النهي عن استرقاقهم، وأنهم لا يدخلون تحت الرق. قال الحافظ ابن حجر: وهذا بعيد. 6 - ومن الرواية الرابعة جواز لعن الكفار جملة، أو لعن طائفة منهم، بخلاف الواحد بعينه. 7 - وجواز ذلك في القنوت في الصلاة. 8 - ومن الرواية الحادية عشرة أن الإسلام يجب ما قبله. 9 - وجبر خاطر من وقع في زلات، ورد اعتباره إليه بالإحسان اللاحق. 10 - ومن الرواية الرابعة عشرة أن المسلم يسره ويفرحه قيام الآخرين بشعائر الإسلام. 11 - ومن الرواية الخامسة عشرة استحباب الدعاء بالهداية للضالين، وإن طلب الدعاء عليهم. 12 - ومن الرواية السادسة عشرة أن الخصوصية لا تقتضي الأفضلية، فقد ذكرت خصوصيات لبني تميم وهم مع ذلك مفضولون. 13 - وفيها فضيلة ظاهرة لبني تميم. 14 - وفيها دليل للجمهور في صحة تملك العربي، وإن كان الأفضل عتق من يسترق منهم، وفرق بعضهم بين عربي من ولد فاطمة رضي الله عنها، مثلا، فيجب إعتاقه، وبين عربي من ولد إسماعيل عليه السلام فيستحب. والله أعلم

(672) باب خيار الناس

(672) باب خيار الناس 5614 - عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تجدون الناس معادن. فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا. وتجدون من خير الناس في هذا الأمر، أكرههم له، قبل أن يقع فيه. وتجدون من شرار الناس ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه". 5615 - وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تجدون الناس معادن" بمثل حديث الزهري. غير أن في حديث أبي زرعة والأعرج: "تجدون من خير الناس في هذا الشأن، أشدهم له كراهية، حتى يقع فيه". -[المعنى العام]- لا شك أن الناس قديما وحديثا كالمعادن منها النفيس، ومنها الخسيس، منها ما يساوي الفلس، ومنها ما يساوي القنطار، والقبائل قبل الإسلام كانت معروفة الحسب والنسب، موزونة القدر والقيمة، فمن كان منها شريفا قبل إسلامه، فأسلم وتفقه اتصل شرفه وعلا قدره، وبقي في المسلمين شريفا مرموقا، كما كان بين الكافرين شريفا مرموقا، ومن كان شريفا في الكفر، فلم يسلم، فليس له بين المسلمين شرف ولا قدر، ومن كان غير شريف فأسلم وتفقه شرف بالإسلام وبالفقه، وكان شرفه أقل من شريف أسلم وتفقه في الدين، وهكذا يسلم الكافر على ما كان من خير له، ويستصحب معه ما قدم من مكارم الأخلاق، ومن سجايا الفضيلة والمعروف، كمن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب، فإنه يؤتي أجره مرتين. ومن خيار الناس من لا يسأل الإمارة، ولا يحرص عليها، فإن جاءته أعانه الله عليها. ومن شرار الخلق المنافق، ذو الوجهين الذي يثير الفتنة بين الناس، ويأتي هؤلاء بوجه وقول، وهؤلاء بوجه وقول، والمعدن النفيس لا يجري وراء الإمارة لئلا يقع في مسئولياتها التي لا يقدر عليها، ولا يكون أبدا ذا وجهين ولا من المنافقين.

-[المباحث العربية]- (تجدون) الخطاب لسامعي الكلام من الصحابة، وغيرهم من غير الحاضرين مخاطبون بما خوطبوا به على طريق القياس، ويحتمل أن يكون خطابا لكل من يتأتى خطابه بذلك، في كل زمان ومكان. (الناس معادن) أل في "الناس" وإن صلحت للجنس، لكن الأولى هنا أن تكون للعهد الذهني، والمقصودون الناس الذين جمعوا بين الجاهلية والإسلام، وفي الجملة تشبيه بليغ، حذف منه الوجه والأداة، أي أصول الناس وأحسابها كالمعادن في اختلافها من نفيس إلى خسيس، والمعادن جمع معدن، وهو الشيء المعروف المستقر في الأرض. (فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام) هذا التفريع تشبيه آخر، حذف منه الوجه والأداة والمشبه به، لأن المعدن النفيس، في باطن الأرض نفيس، فإذا استخرج بقيت نفاسته وظهرت، وكذلك الأصول الشريفة في الجاهلية، هي رءوس بالنسبة إلى أهل الجاهلية، فإن أسلم الشريف استمر شرفه، وكان أشرف ممن أسلم من المشروفين في الجاهلية، فالذهب إذا استخرج وصنع سيفا، أشرف وأعظم قيمة من الحديد إذا استخرج وصنع سيفا. (إذا فقهوا) بضم القاف، ويجوز كسرها، وفيه إشارة إلى أن الشرف الإسلامي لا يتم إلا بالتفقه في الدين، فالتفقه في الدين في جانب المشبه يعدل الصنعة في جانب المشبه به. قال الحافظ ابن حجر: وعلى هذا فتنقسم الناس إلى أربعة أقسام، مع ما يقابلها: الأول: شريف في الجاهلية أسلم وتفقه (فهو كالذهب استخرج، وصنع حلية جميلة) ويقابله على النقيض منه مشروف في الجاهلية، لم يسلم، ولم يتفقه (فهو كالحديد الذي لم يستخرج). الثاني: شريف في الجاهلية، أسلم ولم يتفقه (فهو كالذهب استخرج، ولم يصنع) ويقابله على النقيض مشروف في الجاهلية، لم يسلم، وتفقه. الثالث: شريف في الجاهلية لم يسلم، ولم يتفقه (فهو كالذهب لم يستخرج) ويقابله مشروف في الجاهلية، أسلم، ثم تفقه (فهو كالحديد، استخرج وصنع صنعة جميلة). الرابع: شريف في الجاهلية، لم يسلم، وتفقه، ويقابله مشروف في الجاهلية، أسلم، ولم يتفقه (فهو كالحديد، استخرج، ولم يصنع). قال: فأرفع الأقسام من شرف في الجاهلية، ثم أسلم وتفقه. ويليه من كان مشروفا، ثم أسلم وتفقه. ويليه من كان شريفا في الجاهلية، ثم أسلم، ولم يتفقه.

ويليه من كان مشروفا في الجاهلية، ثم أسلم، ولم يتفقه. أما من لم يسلم فلا اعتبار به، سواء كان شريفا، أو مشرفا، وسواء تفقه، أو لم يتفقه. قال: والمراد بالخيار، في قوله "خيارهم" وبقولنا "شريف" من كان متصفا بمحاسن الأخلاق، من جهة ملاءمة الطبع ومنافرته خصوصا بالانتساب إلى الآباء المتصفين بذلك، كالكرم والعفة والحلم والنجدة، متوقيا لمساويها كالبخل والفجور والظلم والخذلان وغيرها، ثم الشرف في الإسلام بالخصال المحمودة شرعا. ولفظ "الخيار" جمع "خير" و"خير" تصلح صفة مطلقة، وتصلح أفعل تفضيل، تقول خير فيحتمل أن المعنى من كان فيه خير في الجاهلية ففيه خير في الإسلام، ويحتمل أن المعنى من اتصف بالأخيرية في الجاهلية، اتصف بها في الإسلام. (وتجدون من خير الناس في هذا الأمر أكرههم له قبل أن يقع فيه) وفي ملحق الرواية "تجدون من خير الناس في هذا الشأن أشدهم له كراهية، حتى يقع فيه" وعند البخاري "وتجدون خير الناس" وتقدير "من" في روايته هنا ضرورية، لأن من اتصف بذلك لا يكون خير الناس على الإطلاق. واختلف في المراد من الأمر أو الشأن، فقال الحافظ ابن حجر: المراد به الولاية والإمرة، لأن الدخول في عهدة الإمرة مكروه، من جهة تحمل المشقة فيه، وإنما تشتد الكراهة له ممن يتصف بالعقل والدين، لما فيه من صعوبة العمل بالعدل، وحمل الناس على رفع الظلم، ولما يترتب عليه من مطالبة الله تعالى للقائم به من حقوقه وحقوق عباده، ولا يخفى خيرية من خاف مقام ربه. ثم قال: وأما قوله "حتى يقع فيه" فاختلف في مفهومه، فقيل: معناه أن من لم يكن حريصا على الإمرة، غير راغب فيها، إذا حصلت له بغير سؤال، تزول عنه الكراهة فيها، لما يرى من إعانة الله له عليها، فيأمن على دينه مما كان يخاف عليه منها، قبل أن يقع فيها، ومن هنا أحب من أحب استمرار الولاية، من السلف الصالح، حتى قاتل عليها، وصرح بعض من عزل منهم بأنه لم تسره الولاية، بل ساءه العزل. وقيل: المراد بقوله "حتى يقع فيه" أي فإذا وقع فيه لا يجوز له أن يكرهه، وقيل: معناه أن العادة جرت بذلك، وأن من حرص على الشيء، ورغب في طلبه قل أن يحصل له، ومن أعرض عن الشيء، وقلت رغبته فيه يحصل غالبا. اهـ. وللقاضي عياض رأي آخر في المراد من الأمر والشأن، فيقول: يحتمل أن المراد به الإسلام، كما كان من عمر بن الخطاب، وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، وغيرهم من مسلمة الفتح، وغيرهم ممن كان يكره الإسلام، كراهية شديدة، فلما دخل فيه أخلص وأحبه، وجاهد فيه حق جهاده. اهـ. وما قاله الحافظ ابن حجر أولى بالقبول، وإن كان الترابط بين ما قاله القاضي عياض وبين صدر الحديث قويا، والمناسبة ظاهرة، لكن لا يقال: إن عمرا وعكرمة وسهيلا كانوا في الإسلام خيرا من أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين.

(وتجدون من شرار الناس ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه) وفي رواية للبخاري "تجدون شر الناس" و"من" فيها مقدرة، كما سبق، و"أل" في "الناس" هنا للجنس، فذو الوجهين من أفحش الناس شرا، ويؤيده رواية "من شر خلق الله ذو الوجهين". قال القرطبي: إنما كان ذو الوجهين شر الناس، لأن حاله حال المنافق، إذ هو متملق بالباطل وبالكذب، مدخل للفساد بين الناس، ويحتمل أن تكون "أل" في "الناس" للعهد، والمراد بهم أهل الطائفتين المتضادتين، فإن كل طائفة منهما مجانبة للأخرى ظاهرا، فلا يتمكن من الاطلاع على أسرارها إلا بما ذكر من خداعه الفريقين، ليطلع على أسرارهم، فهو شرهم كلهم. قال النووي: هو الذي يأتي كل طائفة بما يرضيها، فيظهر لها أنه منها، ومخالف لضدها، وصنيعه نفاق ومحض كذب وخداع، وتحيل على الاطلاع على أسرار الطائفتين. اهـ. وجاء في رواية الإسماعيلي "الذي يأتي هؤلاء بحديث هؤلاء، وهؤلاء بحديث هؤلاء". وقال ابن عبد البر: حمله على ظاهره جماعة، وهو أولى، وتأويله قوم على أن المراد به من يرائي بعمله، فيري الناس خشوعا، واستكانة، ويوهمهم أنه يخشى الله، حتى يكرموه، وهو في الباطن بخلاف ذلك، قال: وهذا محتمل لو اقتصر الحديث على صدره "وتجدون من شرار الناس ذا الوجهين" فإنه داخل في مطلق ذي الوجهين، لكن بقية الحديث ترد هذا التأويل، وهي قوله "يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه". -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث]- 1 - أن الحسب له قيمته في الإسلام. 2 - أن الفقه والعلم بأمور الشريعة ركن متمم للإسلام. 3 - ذم السعي وراء الإمارة، ومدح من يعف عنها، ويزهد فيها. 4 - ذم النفاق والسعي بين الناس بالفساد، ونقل الحديث والأخبار، قال النووي: أما من يقصد بذلك الإصلاح بين الطائفتين فهو محمود. وقال بعضهم: الفرق بينهما أن المذموم من يزين لكل طائفة عملها، ويقبحه عند الأخرى، ويذم كل طائفة عند الأخرى، والمحمود أن يأتي لكل طائفة بكلام فيه صلاح الأخرى، ويعتذر لكل واحدة عن الأخرى، وينقل ما يمكنه من الجميل، ويستر القبيح. والله أعلم

(673) باب من فضائل نساء قريش

(673) باب من فضائل نساء قريش 5616 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير نساء ركبن الإبل (قال أحدهما: صالح نساء قريش. وقال الآخر: نساء قريش) أحناه على يتيم في صغره. وأرعاه على زوج في ذات يده". 5617 - عن أبي هريرة رضي الله عنه. يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم. وابن طاوس عن أبيه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم. بمثله. غير أنه قال: "أرعاه على ولد في صغره" ولم يقل: يتيم. 5618 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نساء قريش خير نساء ركبن الإبل. أحناه على طفل. وأرعاه على زوج في ذات يده". قال: يقول أبو هريرة على إثر ذلك: ولم تركب مريم بنت عمران بعيرا قط. 5619 - وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب أم هانئ، بنت أبي طالب. فقالت: يا رسول الله! إني قد كبرت. ولي عيال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير نساء ركبن" ثم ذكر بمثل حديث يونس. غير أنه قال: "أحناه على ولد في صغره". 5620 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير نساء ركبن الإبل، صالح نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده". -[المعنى العام]- فضل الله بعض الأزمنة على بعض، وفضل بعض الأمكنة على بعض، وفضل بعض الناس على

بعض، وفضل بعض الرسل على بعض، وفضل بعض الرجال على بعض، وفضل بعض النساء على بعض، ولكل تفضيل جهة فضل، وليست هناك أفضلية من جميع الجهات. وهذا الحديث يفضل نساء قريش على نساء العرب من زاوية معينة، هي زاوية العطف على الولد، وحسن رعايته وتربيته إذا فقد أباه، وآية هذا الحنان تظهر عند اشتداد الحاجة إليه، وتشتد الحاجة إليه عند فقد المربي الأول، والراعي الأول للأولاد، وهو الأب، وآية حنان الأم، أن تقيم على أولادها، وتمنحهم كل مشاعرها وعطفها، فإن هي تزوجت رجلا غير أبيهم، فقدت بعض عطفها عليهم، بل قد تفقد كل عطفها عليهم. كما يفضل الحديث نساء قريش من زاوية أخرى هي زاوية رعاية الزوج في ماله، وحفظه في بيته، وحسن تبعله، أما نساء الأنصار، فقد فضلن من زاوية أخرى "نعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين". -[المباحث العربية]- (خير نساء ركبن الإبل نساء قريش) وفي الرواية الثالثة "صالح نساء قريش" وهذا القيد مراد في الرواية الأولى، قال النووي: ومعنى "ركبن الإبل" نساء العرب. وقال القرطبي: هذا تفضيل لنساء قريش على نساء العرب خاصة، لأنهم أصحاب الإبل غالبا، وقد عرف أن العرب خير من غيرهم مطلقا في الجملة، فكأنه قال: خير النساء نساء قريش، أو صالح نساء قريش. وفي رواية "صلح نساء قريش" بضم الصاد وفتح اللام المشددة، بصيغة الجمع، والمراد بالصلاح هنا صلاح الدين وحسن المخالطة مع الزوج ونحو ذلك. وفي ملحق الرواية الثانية بيان سبب ورود هذا الحديث، وفيه "أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب أم هانئ بنت أبي طالب فقالت: يا رسول الله، إني قد كبرت، ولي عيال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير نساء ركبن الإبل ... " ويذكر الحافظ ابن حجر في الإصابة وابن عبد البر في الاستيعاب أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب أم هانئ من أبيها عمه أبي طالب، وكان اسمها فاختة، وقيل: فاطمة، وقيل: هند وهي شقيقة علي، وخطبها في الوقت نفسه هبيرة ابن عمرو بن عائذ المخزومي، فزوج هبيرة، واعتذر للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم فرق الإسلام بين أم هانئ وبين هبيرة، لأن هبيرة لم يسلم، ولما فتحت مكة هرب إلى نجران، وقال معتذرا عن فراره: لعمرك ما وليت ظهري محمدا ... وأصحابه جبنا ولا خيفة القتل ولكنني قلبت أمري فلم أجد ... لسيفي غناء - إن ضربت - ولا نبلي وقفت فلما خفت ضيعة موقفي ... رجعت لعود كالهزبر أبي الشبل ولما علم هبيرة بإسلام أم هانئ قال فيها شعرا، منه قوله يخاطبها:

لئن كنت قد تابعت دين محمد ... وعطفت الأرحام منك حبالها فكوني على أعلى سحيق بهضبة ... ممنعة لا تستطاع قلالها فإني من قوم إذا جد جدهم ... على أي حال أصبح القوم حالها وإني لأحمي من وراء عشيرتي ... إذا كثرت تحت العوالي مجالها ولدت أم هانئ لهبيرة عمرا وهانئا ويوسف وجعدة، فلما فرق الإسلام بين أم هانئ وبين هبيرة خطبها النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله. والله، إني كنت لأحبك في الجاهلية فكيف في الإسلام، ولأنت أحب إلي من سمعي وبصري، وحق الزوج عظيم، وأنا أخشى أن أضيع حق الزوج، وأنا امرأة مصبية، فأكره أن يؤذوك، فقال صلى الله عليه وسلم: "خير نساء ركن الإبل .... " الحديث. فلما أدرك بنوها عرضت نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أما الآن فلا، لأن الله أنزل عليه قوله {وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك} [الأحزاب: 50] ولم تكن من المهاجرات. عاشت رضي الله عنها بعد علي رضي الله عنه. (أحناه على يتيم في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده) في ملحق الرواية "أرعاه على ولد في صغره" وفي الرواية الثانية "أحناه على طفل" و"أحناه" بسكون الحاء، أي أكثره شفقة، وعطفا من الحنو، يقال: حنا يحنو ويحني، من الثلاثي، وأحنى يحني من الرباعي، والحانية التي تقوم بولدها بعد موت الأب، قال ابن التين: وحنت المرأة على ولدها إذا لم تتزوج بعد موت الأب، فإن تزوجت فليست بحانية. و"أرعاه على زوج" أي أحفظه، وأصونه لماله، بالأمانة فيه، والصيانة له، وترك التبذير في الإنفاق، من الرعاية، وكان حقه أن يقول: أحناهن، وأرعاهن، أي أحنى النساء، لكن العرب تكلموا بالضمير مفردا مذكرا، على إرادة اللفظ أو الجنس أو الشخص أو الإنسان، وجاء نحو ذلك في حديث "كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجها، وأحسنه خلقا" بالإفراد في "أحسنه" الثانية، أي أحسن الجنس خلقا، ومر علينا قريبا حديث أبي سفيان، وقوله "عندي أحسن العرب وأجمله، أم حبيبة" بالإفراد والتذكير في "أجمله" قال أبو حاتم السجستاني: لا يكادون يتكلمون به إلا مفردا. ومعنى "في ذات يده" أي في ماله ومكسبه المضاف إليه، ومنه قولهم: فلان قليل ذات اليد، أي قليل ما ملكت يداه، أي قليل المال، ووضعت المرأة ذات بطنها، أي ولدت، وأصل "ذات" مؤنث "ذو" بمعنى صاحب، فهي صفة لموصوف مؤنث محذوف، وأصل "أرعاه في ذات يده" أي أرعى النساء في الأموال صاحبة يده، ووضعت المرأة ذات بطنها، أي وضعت نفسا صاحبة بطنها، وقابلته ذات يوم، أي مقابلة صاحبة يوم، أي في يوم، وما كلمته ذات شفة، أي ما كلمته كلمة صاحبة شفة، أي خارجة من شفة، وإصلاح ذات البين، أي إصلاح الشأن والحال صاحبة الفرقة، وجلس ذات اليمين، وذات الشمال، أي الجهة صاحبة اليمين والجهة صاحبة الشمال.

(يقول أبو هريرة على إثر ذلك: ولم تركب مريم بنت عمران بعيرا قط) يشير بذلك إلى أن "مريم" لم تدخل في هذا العموم، لأنه قيد أصل الفضل بمن يركبن الإبل، ومريم لم تركب بعيرا قط، وقد اعترض بعضهم، فقال: كأن أبا هريرة ظن أن البعير لا يكون إلا من الإبل، وليس كما ظن، بل يطلق البعير على الحمار، وهذا الاعتراض ساقط، لأنه على فرض إطلاق البعير على الإبل وعلى الحمار، فنفي ركوبه يخرج "مريم" من عموم التفضيل. والظاهر أن أبا هريرة علم ذلك عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم، فعند أحمد "وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مريم لم تركب بعيرا قط". -[فقه الحديث]- فهم بعضهم أن أبا هريرة يرى أن مريم أفضل النساء مطلقا، وهذا مقبول على القول بأنها كانت نبية، وقد استدل على أنها كانت نبية بقوله تعالى {واصطفاك على نساء العالمين} [آل عمران: 42] وأنها ذكرت في سورة مريم بمثل ما ذكر به الأنبياء، قالوا: ولا يمنع وصفها بأنها صديقة من كونها نبية، فإن يوسف عليه السلام وصف بذلك مع كونه نبيا، وقد نقل الأشعري أن في النساء نبيات، وجزم ابن حزم بنبيات ست: حواء، وسارة، وهاجر، وأم موسى وآسية، ومريم، ولم يذكر القرطبي سارة ولا هاجر، ونقله السهيلي في آخر الروض عن أكثر الفقهاء، وقال القرطبي: الصحيح أن مريم نبية، وقال عياض: الجمهور على خلافه، وذكر النووي في الأذكار عن إمام الحرمين أنه نقل الإجماع على أن مريم ليست نبية، ونسبه في شرح المهذب لجماعة، وجاء عن الحسن البصري: ليس في النساء نبية، ولا في الجن. وقال السبكي: اختلف في هذه المسألة، ولم يصح عندي في ذلك شيء. اهـ. وإخراج أبي هريرة "مريم" من المفاضلة لا يلزم منه أن تكون أفضل النساء مطلقا، لأن المفاضلة بين راكبات الإبل، والكثيرات من النساء لم يركبن الإبل في سابق العصور ولاحقها، على أن "من" مقدرة، كما ذكرنا سابقا، لأن من اتصفت بذلك فقط لا تكون خير النساء على الإطلاق، فإخراج مريم من المفاضلة لا يمنع من إخراج غيرها، ولا يفيد تفضيل مريم على غيرها من النساء، وقد قالوا في تفسير قوله تعالى: {واصطفاك على نساء العالمين} قالوا: على عالمي زمانها، وقد سبقت المسألة في كتاب فضائل الصحابة أبواب من فضائل خديجة وعائشة وفاطمة رضي الله عنهن. وفي الحديث منقبة لنساء قريش، وأن غير القرشيات لسن كفئا لهن، واستحباب تخير الزوجة، ذكره الحافظ ابن حجر. وفي الحديث فضل الحنو والشفقة، وحسن التربية والقيام على الأولاد، وحفظ مال الزوج وحسن التدبير فيه، ومشروعية إنفاق الزوج على زوجته. والله أعلم

(674) باب مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، رضي الله عنهم

(674) باب مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، رضي الله عنهم 5621 - عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين أبي عبيدة بن الجراح وبين أبي طلحة. 5622 - عن عاصم الأحول قال: قيل لأنس بن مالك: بلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا حلف في الإسلام"؟ فقال أنس: قد حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار، في داره. 5623 - عن أنس رضي الله عنه قال: حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار، في داره التي بالمدينة. 5624 - عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حلف في الإسلام. وأيما حلف، كان في الجاهلية، لم يزده الإسلام إلا شدة". -[المعنى العام]- التحالف والتعاهد على الخير عرف قبل الإسلام، وعرفته العرب، قالوا: وأول حلف بمكة حلف الأحابيش، سمي بذلك لتحالفهم عند حبش - جبل على سبعة أميال من مكة، وقيل: لتحبشهم أي تجمعهم، تحالفوا على أن يكونوا يدا على غيرهم مارسي حبش مكانه، ثم كان حلف قريش وثقيف ودوس على أن لا يعتدي بعضهم على بعض، ثم كان حلف المطيبين وأزد، وفي الحديث "ما شهدت من حلف إلا حلف المطيبين، وما أحب أن أنكثه وأن لي حمر النعم" وفي رواية "شهدت وأنا غلام حلفا مع عمومتي المطيبين" ثم كان حلف الفضول - وهم فضل وفضالة ومفضل، وكان حلفهم ألا يعين أحد ظالما، وأن يعان المظلوم، وظهر الإسلام على ذلك، فوقعت المؤاخاة في الإسلام، وهي أحلاف بين أشخاص، وتعاون على البر والتقوى، وقد ضرب الأنصار في ذلك المثل الأعلى، حتى نزل فيهم {والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} [الحشر: 9].

-[المباحث العربية]- (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين أبي عبيدة بن الجراح، وبين أبي طلحة) المؤاخاة رباط بين طرفين في حقوق معينة، ليس بينهما أخوة نسب، قال ابن عبد البر: كانت المؤاخاة مرتين، مرة بين المهاجرين خاصة بمكة، ومرة بين المهاجرين والأنصار. اهـ. وهي المقصودة هنا، وكان ابتداؤها بعد الهجرة بخمسة أشهر، وقيل: بتسعة أشهر، وقيل: بسنة وثلاثة أشهر، قبل بدر، والتحقيق أن ابتداء المؤاخاة كان أوائل قدومه المدينة، واستمر يجددها بحسب من يدخل في الإسلام، أو يحضر إلى المدينة، والتحقيق أيضا أن بعض المؤاخاة كانت بين المهاجرين، بعضهم مع بعض، وبين بعضهم والأنصار، فعند الحاكم "آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبي بكر وعمر، وبين طلحة والزبير، وبين عبد الرحمن بن عوف وعثمان، وفيه "آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين الزبير وابن مسعود" وقد ثبت أيضا أن كل واحد من هؤلاء قد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين رجل من الأنصار، ولا مانع في ذلك، فقد يكون للواحد عدد من الإخوة من النسب، والمقصود من المؤاخاة إرفاق بعضهم ببعض، وتأليف قلوب بعضهم على بعض، وقد يكون البعض أقوى في المال أو العشيرة أو الجاه، فيستعين الأعلى بالأدنى، ويفيد الأدنى من الأعلى، قال السهيلي: آخى بين أصحابه، ليذهب عنهم وحشة الغربة، ويأتنسوا من مفارقة الأهل والعشيرة ويشد بعضهم أزر بعض، فلما عز الإسلام، واجتمع الشمل، وذهبت الوحشة، أبطل الإرث بالأخوة، وجعل المؤمنين كلهم إخوة يعني في التواد، وشمول الدعوة اهـ. وقد ذكر ابن سعد "لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة آخى بين المهاجرين، وآخى بين المهاجرين والأنصار، على المواساة، وكانوا يتوارثون، وكانوا تسعين نفسا، بعضهم من المهاجرين وبعضهم من الأنصار، فلما نزل {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض} [الأحزاب: 6] بطلت المواريث بالمؤاخاة، وبقي بها المعاونة والمواساة. وفي البخاري "كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث الأنصاري المهاجري، دون ذوي رحمه، للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم .... ". وأبو عبيدة بن الجراح مهاجر، خصص لبعض فضائله باب مستقل، قبل خمسة وثلاثين بابا، وأبو طلحة أنصاري، زوج أم سليم، والدة أنس بن مالك. (قيل لأنس: بلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا حلف في الإسلام؟ ) الكلام على الاستفهام، مع حذف الأداة، وهي مذكورة في رواية البخاري، والحلف بكسر الحاء وسكون اللام، العهد، وكأن السائل يشير بذلك السؤال إلى روايتنا الرابعة. (فقال أنس: قد حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار في داره) قال ابن عيينة: حالف بينهم، أي آخى بينهم. اهـ. فمعنى الحلف في الجاهلية معنى الأخوة في الإسلام، لكنه في الإسلام يجري على أحكام الدين وحدوده، وحلف الجاهلية كان يجري على ما كانوا يضعونه بينهم

بآرائهم، فبطل من حلف الجاهلية ما خالف حكم الإسلام، وبقي ما عدا ذلك على حاله، وفي الرواية الثالثة "حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار في داره التي بالمدينة" وفي بعض النسخ "في داري التي بالمدينة" وعند البخاري "بين قريش والأنصار في داري" ولا إشكال، فقد تعددت المؤاخاة كما ذكرنا. وقد جمع العلماء بين إثبات المحالفة هنا، وبين نفيها في روايتنا الرابعة، بلفظ "لا حلف في الإسلام" فحملوا الحلف المثبت على حلف التناصر في الدين، والتعاون على البر والتقوى، وإقامة الحق، والحلف المنفى على حلف التوارث، والحلف على ما منع الشرع منه، كذا قيل: لكن الحلف المثبت هنا كان يشمل التواري، فالأولى القول بالنسخ فيما يخص التوارث، فالنفي يراد به التوارث، أي لا توارث بالتآخي، وقد نسخ ما كان في الحلف المثبت. قال الطبري: ما استدل به أنس على إثبات الحلف، لا ينافي حديث جبير بن مطعم - روايتنا الرابعة - في نفيه، فإن الإخاء المذكور كان في أول الهجرة، وكانوا يتوارثون به، ثم نسخ من ذلك الميراث، وبقي ما لم يبطله القرآن، وهو التعاون على الحق، والنصر، والأخذ على يد الظالم، كما قال ابن عباس: إلا النصر والنصيحة والرفادة، ويوصى له، وقد ذهب الميراث. اهـ. والمراد من قوله "وأيما حلف كان في الجاهلية، لم يزده الإسلام إلا قوة" أي ما كان من أحلاف الجاهلية موافقا لشريعة الإسلام. واختلف الصحابة في الحد الفاصل بين الحلف الواقع في الجاهلية، وحلف الإسلام، فقال ابن عباس: ما كان قبل نزول الآية المذكورة جاهلي، وما بعدها إسلامي. وعن علي: ما كان قبل نزول {لإيلاف قريش} [قريش: 1] جاهلي. وعن عثمان: كل حلف كان قبل الهجرة جاهلي، وما بعدها إسلامي. وعن عمر: كل حلف كان قبل الحديبية فهو مشدود، وكل حلف بعدها منقوض. قال الحافظ ابن حجر: وأظن قول عمر أقواها. -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث]- 1 - استحباب المؤاخاة، والتحالف على البر والتقوى، لا على الإثم والعدوان. 2 - وفيه منقبة ظاهرة للمهاجرين والأنصار. 3 - وكيف آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، وقد أنكر ابن تيمية المؤاخاة بين المهاجرين وخصوصا مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم لعلي، قال: لأن المؤاخاة شرعت لإرفاق بعضهم بعضا، ولتأليف قلوب بعضهم على بعض، فلا معنى لمؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم لأحد منهم، ولا لمؤاخاة مهاجري لمهاجري، قال الحافظ ابن حجر: وهذا رد للنص بالقياس، وإغفال عن حكمة المؤاخاة، لأن بعض المهاجرين كان أقوى من بعض، بالمال والعشيرة والقوى، فآخى بين الأعلى والأدنى، ليرتفق الأدنى بالأعلى، ويستعين

الأعلى بالأدنى، وبهذا تظهر مؤاخاته صلى الله عليه وسلم لعلي، لأنه هو الذي كان يقوم به من عهد الصبا، من قبل البعثة، واستمر، وكذا مؤاخاة حمزة وزيد بن حارثة، لأن زيدا مولاهم. 4 - استدل به بعضهم إلى أن الكفالة التزام مال بغير عوض تطوعا، فيلزم، كما لزم استحقاق الأخ بالحلف الذي عقد على وجه التطوع. (إضافة) ذكر ابن إسحق المؤاخاة، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه - بعد أن هاجر - تآخوا. أخوين. أخوين. فكان هو وعلي أخوين، وحمزة وزيد بن حارثة أخوين، وجعفر بن أبي طالب ومعاذ بن جبل أخوين، (وتعقبه ابن هشام بأن جعفرا كان يومئذ بالحبشة، ووجهه العماد بن كثير بأنه أرصده لأخوته حتى يقدم، وفي تفسير سنيد: آخى بين معاذ وابن مسعود) وأبو بكر وخارجة بن زيد أخوين وعمر وعتبان بن مالك أخوين، ومصعب بن عمير وأبو أيوب أخوين، وأبو حذيفة بن عتبة وعباد بن بشر أخوين، وأبو ذر والمنذر بن عمرو أخوين، وحاطب بن أبي بلتعة وعويم بن ساعدة أخوين، وسلمان وأبو الدرداء أخوين. والله أعلم

(675) باب بيان أن بقاء النبي صلى الله عليه وسلم أمان لأصحابه، وبقاء أصحابه أمان للأمة

(675) باب بيان أن بقاء النبي صلى الله عليه وسلم أمان لأصحابه، وبقاء أصحابه أمان للأمة 5625 - عن أبي بردة عن أبيه رضي الله عنه قال: صلينا المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قلنا: لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء! قال: فجلسنا فخرج علينا. فقال: "مازلتم ها هنا؟ " قلنا: يا رسول الله! صلينا معك المغرب. ثم قلنا: نجلس حتى نصلي معك العشاء. قال: "أحسنتم أو أصبتم" قال: فرفع رأسه إلى السماء، وكان كثيرا مما يرفع رأسه إلى السماء. فقال: "النجوم أمنة للسماء. فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد. وأنا أمنة لأصحابي. فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون. وأصحابي أمنة لأمتي. فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون". -[المعنى العام]- يقول الله تعالى {وعلامات وبالنجم هم يهتدون} [النحل: 16] سبحانه هيأ الأسباب للمسببات، وجعل للنتائج مقدمات وجعل للساعة أشراطا وعلامات، فانتثار الكواكب، وتكوير الشمس، وانكدار النجوم، كل ذلك من علامات الساعة، وهناك علامات لا نراها، ربطها الإسلام بما نراه، فإذا رأينا النجوم قد ذهبت من السماء في الليلة المظلمة الخالية من السحاب علمنا أن السماء انفطرت وانشقت، وطالما كانت النجوم موجودة ظاهرة لنا آمنا أن السماء موجودة كذلك، وحصل لنا اطمئنان على الحياة الدنيا. والصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كانوا في أمن وأمان من وقوع عذاب جماعي بهم، ما دام الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم، مصداقا لقوله تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} [الأنفال: 33] وعلم حذيفة وعمر وبعض الصحابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن وجود أبي بكر وعمر في حياتهم باب حائل بينهم وبين الفتن التي تموج موج البحر، وقد حصل كل ذلك، وسبحان علام الغيوب. -[المباحث العربية]- (فرفع رأسه إلى السماء) لأنه سيتكلم عنها.

(وكان كثيرا مما يرفع رأسه إلى السماء) في أصول مسند أحمد "وكان كثيرا ما يرفع رأسه إلى السماء" بدون "من" وهي أظهر، فإن "ما" مصدرية، والمصدر اسم "كان" والتقدير: وكان رفعه رأسه إلى السماء كثيرا. (النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد) بفتح الهمزة والميم والنون. قال العلماء: الأمنة والأمن والأمان بمعنى يقال: أمن بكسر الميم، يأمن بفتحها، أمنا وأمانا وأمانة، وأمنا بفتح الميم، وإمنا بكسر الهمزة وسكون الميم، وأمنة. اطمأن ولم يخف، والمعنى وجود النجوم في السماء علامة من علامات بقائها، لأن السماء نفسها غير مرئية، فما دامت النجوم باقية فالسماء باقية، فإذا النجوم انكدرت وتناثرت كشطت السماء وانشقت وانفطرت وذهبت. (وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون) من الفتن والحروب، وارتداد من ارتد من الأعراب، واختلاف القلوب، ونحو ذلك مما أنذر به صريحا، وقد وقع كل ذلك. (وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون) من ظهور البدع في الدين والفتن فيه، وطلوع قرن الشيطان، وظهور الروم وغيرهم عليهم، وانتهاك المدينة ومكة، وهذه كلها من معجزاته صلى الله عليه وسلم، كذا قال النووي. وفيه نظر، لأن كل ما ذكره حصل والصحابة أحياء، لم يذهبوا، ولم يكن وجود الصحابة مانعا من الردة، ولا من قتل عثمان رضي الله عنه، ولا من قتل عشرة آلاف من كبارهم في معركة الجمل وحدها، ولا من انتهاك مكة والمدينة على يد الحجاج، ولا من ظهور الخوارج. ولعل المراد من أصحابه أصحاب معينون - أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، كحديث حذيفة عن الفتنة وأن عمر كان الباب الذي يغلقها، وأن هذا الباب ينكسر بموته رضي الله عنه. -[فقه الحديث]- في الحديث معجزة ظاهرة من معجزاته صلى الله عليه وسلم. وفيه فضيلة لصحابته رضي الله عنهم. وأن ذهاب النجوم، وانتثار الكواكب، مرتبط بانفطار السماء، وقيام الساعة. وما كان عليه الصحابة من انتظار الصلاة بعد الصلاة. واستحباب ذلك، من إقراره صلى الله عليه وسلم لهم، وتحسينه فعلهم. وأن وجود النبي صلى الله عليه وسلم وحياته أمان لأمته، وصدق الله العظيم إذ يقول: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} [الأنفال: 33]. والله أعلم

(676) باب فضل الصحابة، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم

(676) باب فضل الصحابة، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم 5626 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يأتي على الناس زمان. يغزو فئام من الناس. فيقال لهم. فيكم من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم: فيفتح لهم. ثم يغزو فئام من الناس. فيقال لهم: فيكم من رأى من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم: فيفتح لهم. ثم يغزو فئام من الناس. فيقال لهم: هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم: فيفتح لهم. 5627 - عن جابر رضي الله عنه قال: زعم أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي على الناس زمان. يبعث منهم البعث فيقولون: انظروا هل تجدون فيكم أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيوجد الرجل. فيفتح لهم به. ثم يبعث البعث الثاني فيقولون: هل فيهم من رأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيفتح لهم به. ثم يبعث البعث الثالث فيقال: انظروا هل ترون فيهم من رأى من رأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ ثم يكون البعث الرابع فيقال: انظروا هل ترون فيهم أحدا رأى من رأى أحدا رأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيوجد الرجل. فيفتح لهم به". 5628 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي القرن الذين يلوني. ثم الذين يلونهم. ثم الذين يلونهم. ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه. ويمينه شهادته" لم يذكر هناد القرن في حديثه. وقال قتيبة: "ثم يجيء أقوام". 5629 - عن عبد الله رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس خير؟ قال: "قرني. ثم الذين يلونهم. ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تبدر شهادة أحدهم يمينه، وتبدر يمينه شهادته". قال إبراهيم: كانوا ينهوننا، ونحن غلمان، عن العهد والشهادات.

5630 - عن عبد الله رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير الناس قرني. ثم الذين يلونهم. ثم الذين يلونهم". فلا أدري في الثالثة أو في الرابعة قال: "ثم يتخلف من بعدهم خلف. تسبق شهادة أحدهم يمينه. ويمينه شهادته". 5631 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير أمتي القرن الذين بعثت فيهم. ثم الذين يلونهم" والله أعلم أذكر الثالث أم لا. قال: ثم يخلف قوم يحبون السمانة. يشهدون قبل أن يستشهدوا". 5632 - وفي رواية في حديث شعبة: قال أبو هريرة: فلا أدري مرتين أو ثلاثة. 5633 - عن عمران بن حصين رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن خيركم قرني. ثم الذين يلونهم. ثم الذين يلونهم. ثم الذين يلونهم" قال عمران: فلا أدري أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد قرنه، مرتين أو ثلاثة: "ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون. ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن". 5634 - وفي رواية عن شعبة. بهذا الإسناد. وفي حديثهم: قال: لا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة. وفي حديث شبابة قال: سمعت زهدم ابن مضرب، وجاءني في حاجة على فرس، فحدثني، أنه سمع عمران ابن حصين: وفي حديث يحيى وشبابة: "ينذرون ولا يفون". وفي حديث بهز: "يوفون كما قال ابن جعفر". 5635 - عن عمران بن حصين رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم. بهذا الحديث: "خير هذه الأمة القرن الذين بعثت فيهم. ثم الذين يلونهم" زاد في حديث أبي عوانة قال: والله أعلم.

أذكر الثالث أم لا. بمثل حديث زهدم عن عمران. وزاد في حديث هشام عن قتادة "ويحلفون ولا يستحلفون". 5636 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الناس خير؟ قال: "القرن الذي أنا فيه. ثم الثاني. ثم الثالث". -[المعنى العام]- الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين هم الذين حموا دعوة الإسلام، وحملوها ونشروها، وكان لهم الفضل الأول والأكبر في تحمل أعبائها وأخطار الدفاع عنها ونشرها، باعوا أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله، فيقتلون ويقتلون، قاتلوا، وهم قلة، وأنفقوا وبهم خصاصة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "سبق درهم ألف درهم" فرجل يملك درهمين أنفق أحدهما في سبيل الله يسبق ألف درهم ينفقها في سبيل الله رجل يملك الملايين. والرسول الكريم يقول: "لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" يعني ما عادل حفنة من طعام أنفقها أحد الصحابة في صدر الإسلام، بل ما أنفقوا هم قبل فتح مكة وقتالهم قبل فتح مكة أعظم أجرا ودرجة مما أنفقوه بعد الفتح ومما قاتلوه بعد الفتح، مصداقا لقوله تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما} [النساء: 95] {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير} [الحديد: 10] {والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين ءاووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم} [الأنفال: 74] {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون * يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم} [التوبة: 20، 21] بهذا فضل الله الصحابة على غيرهم، وجعلهم خير القرون في هذه الأمة، وجعل التابعين يلونهم في الفضل، وتابعي التابعين يلون التابعين، وهكذا تتوالى الأجيال، وبقدر تمسكها بشريعتها، ودفاعها عن دينها يكون فضلها وسبقها، حتى تصل الأجيال في ضعفها الديني إلى أنهم يخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ويعدون ولا يوفون، ويصابون بالنهم والجري وراء الدنيا وشهواتها، حتى يسمنوا ثم لا يشبعون، ويتسابقون لشهادة الزور والباطل ويحلفون، يأكلون أموالهم بينهم بالباطل ويظلمون، لا يتناهون عن منكر فعلوه، بل يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، ويصبح المنكر عندهم معروفا، والمعروف منكرا، وأولئك شرار الخلق، وعليهم تقوم الساعة، والعياذ بالله رب العالمين.

-[المباحث العربية]- (يأتي على الناس زمان، يغزو فئام من الناس) بكسر الفاء، ويجوز فتحها، بعدها همزة، ويجوز تسهيلها، والمشهور الأول، أي جماعة من الناس، والفعل "يغزو" منزل منزلة اللازم، أي يحصل منهم الغزو. وفي الرواية الثانية "يبعث منهم البعث" أي الجيش. (فيقال لهم: فيكم من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ) الكلام على الاستفهام بحذف الأداة، وفي الرواية الثانية "فيقولون: انظروا. هل تجدون فيكم أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم"؟ القائلون بعض أفراد البعث لبعض يسألون ليتبركوا بهم. وذلك عندما يقل، أو يندر الصحابة، ويكون الجيش من التابعين. (فيقولون: نعم) فينا فلان، فيتبركون به. (فيفتح لهم) في الرواية الثانية "فيفتح لهم به" أي ببركته. (ثم يغزو فئام من الناس، فيقال لهم: فيكم من رأى من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم) وذلك عندما يقل التابعون، أو يندر وجودهم في الجيش، ويكون الجيش من أتباع التابعين، فيفتح لهم ببركة التابعي الموجود في الجيش، وفي الرواية الثانية "ثم يبعث البعث الثاني، فيقولون: هل فيهم (فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة) من رأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ (أي فيقولون: نعم، فيتبركون به) فيفتح لهم به"، أي ببركته. (ثم يغزو فئام من الناس، فيقال لهم: هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ، فيقولون: نعم. فيفتح لهم) في الرواية الثانية "ثم يبعث البعث الثالث، فيقال: انظروا. هل ترون فيهم من رأى من رأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ ". (ثم يكون البعث الرابع، فيقال: انظروا. هل ترون فيهم أحدا رأى من رأى أحدا رأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فيوجد الرجل، فيفتح لهم به) كذا بالرواية الثانية، مشيرا إلى أتباع أتباع التابعين، وقد اقتصرت الرواية الأولى وروايات البخاري على البعث الثالث، أتباع التابعين. (خير أمتي القرن الذين يلوني) المراد من القرن هنا أهل القرن، ولذلك عاد الضمير في "يلوني" جمعا مذكرا، والمراد قرنه صلى الله عليه وسلم باعتبارهم أتباعا له صلى الله عليه وسلم، ففي الرواية الرابعة "سئل صلى الله عليه وسلم: أي الناس خير؟ قال: قرني، ثم الذين يلونهم" وفي الرواية الخامسة "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم" وفي الرواية السادسة "خير أمتي القرن الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم" وفي الرواية السابعة "إن خيركم قرني، ثم الذين يلونهم" وفي ملحق الرواية السابعة "خير هذه الأمة القرن الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم" وفي الرواية الثامنة "أي الناس خير؟ قال: القرن الذي أنا فيه، ثم الثاني، ثم الثالث". والقرن في الأصل أهل زمان واحد متقارب، اقترنوا، واشتركوا في أمر من الأمور المقصودة، وخصه بعضهم بما إذا اجتمعوا في زمن نبي، أو رئيس يجمعهم على ملة أو مذهب أو عمل.

ويطلق القرن على مدة من الزمان، واختلفوا في تحديدها، من عشرة أعوام، إلى مائة وعشرين. وذكر الجوهري أقوالا، بين الثلاثين عاما والثمانين، وذكر صاحب المحكم أقوالا فيما بين العشرة والسبعين، ثم قال: هذا هو القدر المتوسط من أعمار أهل كل زمن. قال الحافظ ابن حجر: وعند مسلم ما يدل على أن القرن مائة، وهو المشهور - يشير إلى أحاديث الباب التالي. والمراد من قرنه صلى الله عليه وسلم في أحاديث الباب الصحابة، ومن الذين يلونهم التابعون، ومن الذين يلونهم أتباع التابعين، قال شهر: قرنه صلى الله عليه وسلم: ما بقيت عين رأته، والذين يلونهم ما بقيت عين رأت من رآه، وهكذا. وقال الحافظ ابن حجر: وقد ظهر أن الذي بين بعثته صلى الله عليه وسلم وآخر من مات من الصحابة مائة وعشرون سنة، أو دونها أو فوقها بقليل، على الاختلاف في وفاة أبي الطفيل، وإن اعتبر ذلك من بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، - على ضوء أحاديث الباب التالي - فيكون مائة سنة، أو تسعين، أو سبعا وتسعين. وأما قرن التابعين، فإن اعتبر من سنة مائة كان نحو سبعين أو ثمانين، وأما الذين بعدهم فإن اعتبر منها كان نحوا من خمسين فظهر بذلك أن مدة القرن تختلف باختلاف أعمار أهل كل زمان، واتفقوا على أن آخر من كان من أتباع التابعين، ممن يقبل قوله: من عاش إلى حدود العشرين ومائتين، وفي هذا الوقت ظهرت البدع ظهورا فاشيا، وأطلقت المعتزلة ألسنتها، ورفعت الفلاسفة رءوسها، وامتحن أهل العلم، ليقولوا بخلق القرآن، وتغيرت الأحوال تغيرا شديدا، ولم يزل الأمر في نقص إلى الآن، وظهر قوله صلى الله عليه وسلم: "ثم يفشو الكذب" ظهورا بينا، حتى يشمل الأقوال والأفعال والمعتقدات. والله المستعان. اهـ. والمراد من خيرية القرن، خيرية مجموعه وجملته بالنسبة لمجموع غيره وجملته هذا ما نميل إليه، وإن قال الحافظ ابن حجر: لكن هذه الأفضلية بالنسبة إلى المجموع أو الأفراد محل بحث. وإلى الثاني نحا الجمهور، والأول قول ابن عبد البر، وسنحقق القول في هذه المسألة في فقه الحديث. (ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته) وفي رواية "ثم يجيء أقوام" وفي الرواية الرابعة "ثم يجيء قوم تبدر شهادة أحدهم يمينه، وتبدر يمينه شهادته" و"تبدر" بفتح التاء وسكون الباء وضم الدال، بمعنى تسبق. قال الحافظ ابن حجر: أي في حالين، في حالة يشهد، ثم يحلف على صحة شهادته، ليقويها، فتسبق الشهادة اليمين، وفي حالة يحلف على صدق شهادته قبل أن يشهد، وليس المراد أن ذلك يقع في حالة واحدة، لأنه دور، به تصبح الشهادة سابقة ومسبوقة في وقت واحد، واليمين كذلك. قال: ويحتمل أن يقع ذلك في حال واحدة عند من يجيز الحلف في الشهادة، فيريد أن يشهد ويحلف. اهـ. وفي هذا الاحتمال نظر، لأن غاية ما فيه الجمع بين الحلف والشهادة، لا سبق كل منهما الآخر. وقال الطحاوي: أي يكثرون الأيمان في كل شيء، حتى تصير عادة لهم، والحرص على ذلك، حتى لا يدرى بأيهما يبدأ، لقلة المبالاة باليمين والشهادة.

وفي الرواية الخامسة "ثم يتخلف من بعدهم خلف، تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته" قال النووي: هكذا هو في معظم النسخ "يتخلف" وفي بعضها "يخلف" بحذف التاء، وكلاهما صحيح، أي يجيء بعدهم خلف - بإسكان اللام، هكذا الرواية، والمراد خلف سوء، قال أهل اللغة: الخلف ما صار عوضا عن غيره، ويستعمل فيمن خلف بخير أو شر، لكن يقال في الخير بفتح اللام وإسكانها، لغتان، الفتح أشهر وأجود، وفي الشر بإسكانها عند الجمهور، وحكي أيضا فتحها. اهـ. وفي الرواية السادسة "يشهدون قبل أن يستشهدوا" وفي الرواية السابعة "يشهدون ولا يستشهدون" قال النووي: هذا الحديث في ظاهره مخالف للحديث الآخر "خير الشهود، الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها": قال العلماء: الجمع بينهما أن الذم في ذلك لمن بادر بالشهادة في حق الآدمي، هو عالم بها، قبل أن يسألها صاحبها، وأما المدح فهو لمن كانت عنده شهادة لآدمي، ولا يعلم بها صاحبها، فيخبره بها ليستشهد به عند القاضي إن أراد، أو يموت صاحبها العالم بها، ويخلف ورثة، لا يعلمون بها، فيأتي الشاهد إليهم أو إلى من يتحدث عنهم، فيعلمهم بذلك، ويلتحق به من كانت عنده شهادة حسبة، وهي الشهادة بحقوق الله تعالى، أو فيه شائبة من حق الله تعالى كالعتق، والوقف والوصية العامة والعدة والطلاق ونحو ذلك، فيأتي القاضي، فيشهد بها، وهذا ممدوح، إلا إذا كانت الشهادة بحد، ورأى المصلحة في الستر. قال: وهذا الذي ذكرناه من الجمع بين الحديثين هو مذهب أصحابنا ومالك وجماهير العلماء، وهو الصواب، وقيل في الجمع أقوال أخرى ضعيفة منها: 1 - قول من قال بالذم مطلقا، ونابذ حديث المدح. 2 - وقول من حمل الذم على شهادة الزور، (وأجاز أداء الشهادة قبل السؤال في غير ذلك). 3 - وقول من حمل الذم على الشهادة بالحدود (وأجاز أداء الشهادة قبل السؤال في غير ذلك). قال: وكلها فاسدة. اهـ. وجنح ابن عبد البر إلى ترجيح حديث المدح "خير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها" لكونه من رواية أهل المدينة، رواية زيد بن خالد، فقدمه على رواية أهل العراق، وبالغ فزعم أن حديث عمران هذا لا أصل له. وجنح غيره إلى ترجيح حديث عمران، لاتفاق صاحبي الصحيح عليه، وانفراد مسلم بإخراج حديث زيد بن خالد، فقال بالذم مطلقا. ومن العلماء من حمل حديث المدح على الكناية والمبالغة في الإجابة إلى الأداء، فيكون لشدة استعداده لها كالذي أداها قبل أن يسألها، كما يقال في وصف الجواد: إنه ليعطي قبل الطلب، أي يعطي سريعا عقب السؤال من غير توقف ولا تردد. (كانوا ينهوننا - ونحن غلمان - عن العهد والشهادات) عن الجمع بين اليمين والشهادة، وقيل: المراد النهي عن قوله: على عهد الله، أو أشهد بالله، والقائل هو إبراهيم النخعي، وفي

رواية للبخاري "ونحن صغار" وفي رواية "كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد" قال ابن عبد البر: معناه عندهم النهي عن مبادرة الرجل بقوله: "أشهد بالله، وعلى عهد الله. لقد كان كذا وكذا ونحو ذلك، وإنما كانوا يضربونهم على ذلك، حتى لا يصير لهم به عادة، فيحلفوا في كل ما يصلح وما لا يصلح. قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون المراد النهي عن تعاطي الشهادات، والتصدي لها، لما في تحملها من الحرج، ولا سيما عند أدائها، لأن الإنسان معرض للنسيان والسهو، ولا سيما وهم - إذ ذاك - غالبا لا يكتبون. (ثم يخلف قوم يحبون السمانة) وفي الرواية السابعة "ويظهر فيهم السمن" قال النووي: السمانة بفتح السين هي السمن، بكسر السين وفتح الميم. قال جمهور العلماء في معنى هذا الحديث: المراد بالسمن هنا كثرة اللحم، ومعناه أنه يكثر فيهم ذلك، وليس معناه، أن يتمحضوا سمانا، قالوا: والمذموم منه من يستكسبه، وأما من هو فيه خلقة فلا يدخل في هذا، والمتكسب له هو المتوسع في المأكول والمشروب، زائدا على المعتاد، وقيل: المراد بالسمن هنا أنهم يتكثرون بما ليس فيهم، ويدعون ما ليس لهم من الشرف، وغيره، وقيل: المراد جمعهم الأموال بحرص وطغيان. (ويخونون، ولا يؤتمنون) قال النووي: معناه خيانة ظاهرة، بحيث لا يبقى معها ائتمان، بخلاف من خان بحقير مرة واحدة، فإنه يصدق عليه أنه خان، ولا يخرج به عن الأمانة في بعض المواطن. اهـ. فهم لا يثق الناس بهم، ولا يعتقدونهم أمناء. (وينذرون ولا يوفون) بكسر الذال وضمها لغتان، وفي ملحق الرواية السابعة "ولا يفون" بفتح الياء، وهي صحيحة يقال: وفي، بتخفيف الفاء، وأوفى. -[فقه الحديث]- في الحديث فضل الصحابة. فمن هو الصحابي المقصود بهذا الفضل؟ الموصوف بالخيرية على بقية أفراد أمة الإجابة؟ . يقول البخاري: من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه. اهـ. وهذا الذي ذكره البخاري هو الراجح، لكن تحته صور، فيها خلاف كبير: إحداها: من رآه غير مميز، وعمل المحدثين على أنه صحابي، فإنهم ذكروا مثل محمد بن أبي بكر الصديق في الصحابة، مع أنه ولد قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر وأيام. ومع ذلك فأحاديث هذا الضرب مراسيل، لكنها ليست من قبيل مراسيل الصحابة المختلف فيها، بل هي غير مقبولة - باتفاق، وهذا مما يلغز به، فيقال: صحابي، حديثه مرسل، لا يقبله من يقبل مراسيل الصحابة. ثانيها: يدخل في هذا التعريف من رآه مسلما بالغا لحظة من بعد، ولو لم يحصل بينهما مشافهة، ككثير من الأعراب الذين اجتمعوا به في حجة الوداع.

ثالثها: من رآه وهو كافر، ثم أسلم بعد موته منهم. قال الحافظ ابن حجر: إن كان قوله: "من المسلمين. حالا خرج من هذه صفته، وهو المعتمد. رابعها: يدخل في هذا التعريف من صحبه أو رآه مسلما، ثم ارتد بعد ذلك، ولم يعد إلى الإسلام، فإنه ليس صحابيا اتفاقا، فينبغي أن يزاد فيه "ومات على ذلك" أما لو ارتد ثم عاد إلى الإسلام، لكن لم يره ثانيا بعد عوده فالصحيح أنه معدود في الصحابة، لإطباق المحدثين على عد الأشعث بن قيس ونحوه، ممن وقع له ذلك في الصحابة، وإخراجهم أحاديثهم في المسانيد. خامسها: أدخل بعضهم في هذا التعريف من رآه بعد موته، وقبل دفنه، قال الحافظ ابن حجر: والراجح أنه ليس بصحابي، وإلا لعد من اتفق له من يرى جسده المكرم وهو في قبره المعظم صحابيا، ولو في هذه الأعصار، وكذلك من كشف له عنه من الأولياء، فرآه كذلك على طريق الكرامة، إذ حجة من أثبت الصحبة لمن رآه قبل دفنه أنه مستمر الحياة، وهذه الحياة ليست دنيوية، وإنما هي أخروية، لا تتعلق بها أحكام الدنيا، فإن الشهداء أحياء، ومع ذلك فإن الأحكام المتعلقة بهم بعد القتل جارية على أحكام غيرهم من الموتى. أما من رآه في المنام - وإن كان قد رآه حقا - فذلك مما يرجع إلى الأمور المعنوية، لا الأحكام الدنيوية، فلذلك لا يعد صحابيا، ولا يجب عليه العمل بما أمره به في تلك الحالة. ويقابل هذا التعريف تعريف يعني بالأهلية لهذا اللقب، فيحمل الصحبة على ما هو متعارف، فلا يعد في الصحابة إلا من صحب صحبة عرفية، وكان مسلما بالغا، ومات على الإسلام، وقد روي عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يعد في الصحابة إلا من أقام مع النبي صلى الله عليه وسلم سنة فصاعدا، أو غزا معه غزوة فصاعدا، ولا يدخل في الصحابة من له رؤية لكن فارق عن قرب. وقد جاء عن أنس أنه سئل: هل بقي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد غيرك؟ قال: لا. مع أنه كان في ذلك الوقت عدد كثير ممن لقيه من الأعراب. ومع أن الحافظ ابن حجر يقول: والذي جزم به البخاري هو قول أحمد والجمهور من المحدثين، ويقول عن القول الآخر: وهو مردود. والعمل على خلاف هذا القول، فإني أميل إلى هذا القول من حيث الحكمة في منح هذا اللقب، واستحقاق هذه الفضائل، واعتمادا على النصوص الكثيرة المشهورة وفي سبيل ذلك أضع الحقائق التالية: أولا: لا خلاف في أن مجرد رؤيته صلى الله عليه وسلم من مسلم، ولو من طفل صغير ميزة وفضيلة لا تنكر لحصول بركة اللقاء، وكذلك من رآه مسلما بالغا لحظات قليلة، لكنها لا يصدق عليها أنها صحبة، لا لغة، ولا عرفا، فلم يقل أحد إن رؤية من في السوق والمارة في الشوارع تثبت الصحبة، ذات الآثار الشرعية والعرفية. ثانيا: النصوص تعلل فضائل الصحابة بعلة لا يتحلى بها، إلا الصاحب اللغوي والعرفي، وسيأتينا حديث "لا تسبوا أصحابي. فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم، ولا نصيفه". وقد سبق حديث "لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم".

وحديث الرضا عن أهل بيعة الرضوان تحت الشجرة، والقرآن الكريم يقول {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون * والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} [الحشر: 8، 9] من هنا استحقوا الفضائل، والجزاء الحسن الموعود به، ولا يؤهل مجرد الرؤية لهذا الجزاء، وأحاديث الحوض، وأنه يذاد عنه بعض الصحابة، فيقول صلى الله عليه وسلم: "أصحابي. أصحابي؟ فيقال له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فيقول صلى الله عليه وسلم: سحقا. سحقا". لم يغن عنهم أنهم رأوا، وإنما طبقت عليهم قواعد الإسلام، {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} [الزلزلة: 7، 8] يا حمزة بن عبد المطلب، يا فاطمة بنت محمد. اعملوا فلن أغني عنكم من الله شيئا. وهكذا لا تغني الرؤية بدون عمل، ولها فضلها، لكنها لا تكفي وحدها، ليتبرك بأصحابها، وليفتح بها على المسلمين، ولقد رأينا في غزوة أحد أن الصحبة لم تفتح، لمجرد أنهم خالفوا رغبة نبيهم وإشارته، فكيف نتبرك ونطمئن للفتح لمجرد وجود واحد رأى؟ نعم نتبرك ونأمل الفتح إذا كان من رأى صحب صحبة حقيقية، بذل فيها النفس والمال في سبيل الدعوة إلى الله. والله أعلم. -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - أن الصحابة في مجموعهم خير من التابعين في مجموعهم، وأن التابعين في مجموعهم خير من أتباع التابعين في مجموعهم. 2 - ويؤخذ منه جواز المفاضلة بين الصحابة. 3 - استدل به بعضهم على تعديل أهل القرون الثلاثة، وإن تفاوتت منازلهم في الفضل، وهذا محمول على الغالب، والأكثرية، فقد وجد في بعض أفرادها من اتصف بصفات مذمومة، لكن بقلة، بخلاف ما بعد القرون الثلاثة، فالموجود من المذمومين أكثر. 4 - استنبط البخاري من الرواية الأولى والثانية الاستعانة بالضعفاء والصالحين في الحرب، والتبرك بهم وبدعائهم، وقد أخرج أبو نعيم في الحلية "ينصر المسلمون بدعاء المستضعفين". 5 - ومن الرواية الثالثة والرابعة ذم من يشهد ويحلف مع شهادته، واحتج به بعض المالكية في رد شهادة من حلف معها، وجمهور العلماء أنها لا ترد. 6 - وفي الرواية السادسة ذم السمن الناتج عن الإكثار من الطعام والشراب. 7 - وفي الرواية السابعة وملحقاتها ذم الخيانة، وعدم الوفاء بالنذر، قال ابن بطال: سوى بين من يخون أمانته، وبين من لا يفي بنذره، والخيانة مذمومة، فيكون ترك الوفاء بالنذر مذموما، وقال الباجي: ساق ما وصفهم به مساق العيب، والجائز لا يعاب، فدل على أن عدم الوفاء بالنذر غير جائز. والله أعلم

(677) باب معنى قوله صلى الله عليه وسلم

(677) باب معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "على رأس مائة سنة لا يبقى نفس منفوسة ممن هو موجود الآن" 5637 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، صلاة العشاء، في آخر حياته. فلما سلم قام فقال: "أرأيتكم ليلتكم هذه؟ فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد" قال ابن عمر: فوهل الناس في مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك، فيما يتحدثون من هذه الأحاديث، عن مائة سنة. وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد. يريد بذلك أن ينخرم ذلك القرن. 5638 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول، قبل أن يموت بشهر: "تسألوني عن الساعة؟ وإنما علمها عند الله. وأقسم بالله! ما على الأرض من نفس منفوسة تأتي عليها مائة سنة". 5639 - وفي رواية عن ابن جريج، بهذا الإسناد. ولم يذكر: قبل موته بشهر. 5640 - وفي رواية عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك قبل موته بشهر. أو نحو ذلك: "ما من نفس منفوسة، اليوم، تأتي عليها مائة سنة، وهي حية يومئذ". وعن عبد الرحمن صاحب السقاية، عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم. بمثل ذلك. وفسرها عبد الرحمن قال: نقص العمر.

5641 - عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك، سألوه عن الساعة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تأتي مائة سنة، وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم". 5642 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "ما من نفس منفوسة، تبلغ مائة سنة". فقال سالم: تذاكرنا ذلك عنده. إنما هي كل نفس مخلوقة يومئذ. -[المعنى العام]- الموت حق، نؤمن بوقوعه لكل مخلوق حي إيمانا بدهيا محسوسا، لكن الذي يخفى علينا وقت وقوعه بنا {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير} [لقمان: 34] ولو علم الناس نهاية عمرهم لأهملوا العمل، حتى يقرب الأجل، فأخفى الموعد، ليتوقع الكيس قربه، فيسعى ليل نهار، وليعمل لدنياه، كأنه يعيش أبدا، ويعمل لآخرته كأنه يموت غدا. ولما كان الإنسان مطبوعا على حب الاستطلاع، ومعرفة المجهول، ويخاف الفجأة القاضية كثر السؤال عن الساعة، وموعدها، من منكريها، ومن المؤمنين بها، وكان الجواب واحدا، {علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة} [الأعراف: 187] ولكن إذا جاء الأجل لا تستأخرون ساعة ولا تستقدمون، فعيشوا ما تعيشون، ولن يعيش أحد منكم - معشر الصحابة المخاطبين - أكثر من مائة عام أوحى إلي ربي بذلك، وهو علام الغيوب. -[المباحث العربية]- (أرأيتكم ليلتكم هذه؟ ) أي أخبركم عن ليلتكم هذه؟ وعن آجالكم ابتداء منها؟ ودلالة "أرأيتكم" على "أخبركم" عن طريق مجاز مرسل، علاقته اللازمية، إذ يلزم من الرؤية الإخبار بالمرئي غالبا، وكانت هذه الليلة قبل أن يموت صلى الله عليه وسلم بشهر، كما جاء في الرواية الثانية، وملحقيها، وكانت هذه المقالة بعد أن صلى بهم العشاء، وكأنه صلى الله عليه وسلم ينعي لهم نفسه، ويبين أن الكل سيموت، طال الأجل أو قصر، وكانت هذه المقالة جوابا عن الساعة، وبعد عودته صلى الله عليه وسلم من تبوك. (فإن على رأس مائة سنة منها، لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد) في الرواية

الثانية "تسألوني عن الساعة، وإنما علمها عند الله، وأقسم بالله. ما على الأرض من نفس منفوسة، تأتي عليها مائة سنة" وفي ملحقها "ما من نفس منفوسة اليوم تأتي عليها مائة سنة وهي حية يومئذ" وفي الرواية الثالثة "لا يأتي مائة سنة، وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم" وفي الرواية الرابعة "ما من نفس منفوسة تبلغ مائة سنة" قال الراوي: "إنما هي كل نفس مخلوقة يومئذ" ومعنى "نفس منفوسة" أي مولودة. (فوهل الناس في مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك، فيما يتحدثون من هذه الأحاديث عن مائة سنة، وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحدا" يريد بذلك أن ينخرم القرن) "وهل" بفتح الهاء، يهل بكسرها، من باب ضرب، أي غلط، وذهب وهمه إلى خلاف الصواب، وهو المراد هنا، أما وهل بكسر الهاء يهل بفتحها، من باب حذر، فمعناه، فزع، والوهل بالفتح الفزع، والمعنى أن الصحابة أخذوا يفسرون هذا الحديث تفسيرات خاطئة في مجالسهم إذا تناولوا هذه الأحاديث، فمنهم من يظن أنهم سيعيشون مائة سنة، فظن بعضهم أن أعمار من سيولد قد تصل مائة سنة، ولا تزيد عن مائة سنة، وإنما المراد أن كل نفس منفوسة من الآدميين كانت تلك الليلة حية على الأرض، لا تعيش بعد تلك الليلة فوق مائة سنة، سواء كان عمرها في تلك الليلة قليلا أو كثيرا، وليس فيه نفي عيش أحد يوجد بعد تلك الليلة فوق مائة سنة. وقول الراوي: "يريد بذلك أن ينخرم ذلك القرن" معناه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد بهذا انقضاء الأحياء الموجودين المعاصرين أهل هذا القرن، وذهابهم قبل مائة عام من هذه المقالة، يقال: انخرم العام، أي ذهب وانقضى، وانخرم القوم، أي فنوا وذهبوا. -[فقه الحديث]- قال النووي: احتج بهذا الحديث من شذ من المحدثين، فقال: الخضر عليه السلام ميت. والجمهور على حياته، كما سبق في باب فضائله، ويتأولون هذه الأحاديث على أنه كان على البحر، لا على الأرض (وهذا مردود، لأن البحر من الأرض) أو أن هذه الأحاديث من العام المخصوص. اهـ. أو المراد ممن على الأرض من المخاطبين ومن على شاكلتهم، أي الصحابة، أي لا يبقى أحد من الصحابة بعد مائة سنة، ولذلك بحثنا في الباب السابق، في نهاية القرن، وآخر الصحابة موتا، ولم نبحث آخر الناس في جميع بقاع الأرض موتا. 1 - وقال النووي: في الحديث احتراز من الملائكة: فإنهم لا يدخلون في النفس المنفوسة على ظهر الأرض. 2 - وفيه الأسلوب الحكيم، وهو الجواب على ما ينبغي أن يسأل عنه، لا عما سئل عنه، فإنهم سألوا عن الساعة، متى هي؟ فأجيبوا بأن ساعة كل مخلوق موته، وساعتهم جميعا بوجه عام قبل مائة سنة. 3 - وفيه مناقشة الصحابة بعضهم بعضا في مجالسهم عن معاني الأحاديث. 4 - وأنهم قد يخطئون في فهمها. والله أعلم

(678) باب تحريم سب الصحابة

(678) باب تحريم سب الصحابة 5643 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي. لا تسبوا أصحابي: فوالذي نفسي بيده! لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا، ما أدرك مد أحدهم، ولا نصيفه". 5644 - عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء. فسبه خالد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أحدا من أصحابي. فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا، ما أدرك مد أحدهم، ولا نصيفه". -[المعنى العام]- إن سب المسلم ولعنه من الكبائر، بل من أكبر الكبائر، بل سب الحيوان ولعنه من الذنوب الكبيرة، وكلما ارتفعت قيمة المسبوب ارتفعت الجريمة وغلظت، لهذا جاء في الصحيح "إن من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه، قيل: يا رسول الله. وكيف يسب الرجل والديه؟ قال: يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه ويلعن أمه". والصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أفضل أهل الأرض بعد الأنبياء والرسل، فخير القرون قرنه صلى الله عليه وسلم، لما قدموا للإسلام من خدمات يصغر معها ما يقدم من غيرهم، وقد علم صلى الله عليه وسلم أن الصحابة سيقع بينهم حروب، وتختلف وجهات النظر في الحكم على أعمالهم، فحسم المادة، ونهى عن سبهم ولعنهم، وأمام المسلم أمران، إما أن يمدحهم ويذكر أفضالهم، وإما أن يسكت إذا أحس خطأ من أخطائهم. رضي الله عنهم أجمعين. -[المباحث العربية]- (لا تسبوا أصحابي. لا تسبوا أصحابي) كذا بالتكرير في الرواية الأولى، وفي الرواية الثانية "كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء، فسبه خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"لا تسبوا أحدا من أصحابي". بدون تكرير، وقد وضحت هذه الرواية المخاطب بقوله: "لا تسبوا" وهو وإن كان الضمير فيه جمعا، لكن المقصود به واحد، وهو خالد، وغيره يجري عليه النهي بطريق القياس، لأنه إذا نهى الصحابي صاحب الفضل عن أن يسب، نهى غير صاحب الفضل من باب أولى، ويحتمل أن يكون الخطاب لكل من يتأتى خطابه، في أي زمان، وأي مكان، أي لا تسبوا معشر المكلفين من المسلمين أصحابي، وقد روي أن مناقشة دارت في التفاضل بين السابقين إلى الإسلام وفضلهم، وبين اللاحقين، وكان خالد ممن تأخر إسلامهم، فغضب وسب. (فوالذي نفسي بيده. لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه) قال الحافظ ابن حجر: فيه إشعار بأن المراد بقوله "أصحابي" أصحاب مخصوصون، وإلا فالخطاب كان للصحابة، وقد قال "أحدكم" وهذا كقوله {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل} [الحديد: 10] ومع ذلك فنهي بعض من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وخاطبه بذلك، عن سب من سبقه، يقتضي زجر من لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يخاطبه عن سبه من سبقه من باب أولى، وغفل من قال: إن الخطاب بذلك لغير الصحابة، والمراد به من سيوجد من المسلمين المفروضين في العقل، تنزيلا لمن سيوجد منزلة الموجود، للقطع بوقوعه، ووجه التعقيب عليه وقوع التصريح في نفس الخبر بأن المخاطب بذلك، خالد بن الوليد، وهو من الصحابة الموجودين إذ ذاك بالاتفاق. وفي رواية "لو أنفق أحدكم كل يوم مثل أحد ذهبا" وهذه الزيادة حسنة، والمد مكيال يعدل حفنة - بكف الرجل المعتدل، والنصيف بوزن رغيف هو النصف، وقيل: النصيف مكيال دون المد، وحكى الخطابي أنه روي "مد أحدهم" بفتح الميم. قال: والمراد به الفضل والطول. قال البيضاوي: معنى الحديث: لا ينال أحدكم - بإنفاق مثل أحد ذهبا - من الفضل والأجر، ما ينال أحدهم بإنفاق مد طعام أو نصيفه، وسبب التفاوت ما يقارن الأفضل من مزيد الإخلاص وصدق النية. قال الحافظ ابن حجر: وأعظم من ذلك في سبب الأفضلية عظم موقع ذلك، لشدة الاحتياج إليه. قلت مع ضيق ذات اليد، ووقوعه في وقت شدة وعسر. قال: وأشار بالأفضلية بسبب الإنفاق إلى الأفضلية بسبب القتال، كما وقع في الآية {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل} [الحديد: 10] فإن فيها إشارة إلى موقع السبب الذي ذكرته، وذلك أن الإنفاق والقتال كان قبل فتح مكة عظيما، لشدة الحاجة إليه، وقلة المعتني به، بخلاف ما وقع بعد ذلك، لأن المسلمين صاروا كثرة بعد الفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجا، فإنه لا يقع ذلك الموقع المتقدم. -[فقه الحديث]- قال النووي: واعلم أن سب الصحابة - رضي الله عنهم - حرام، من فواحش المحرمات، سواء من لابس الفتن منهم وغيره، لأنهم مجتهدون في تلك الحروب، متأولون. قال القاضي: وسب أحدهم من المعاصي الكبائر. واختلف في حكم من يسب الصحابة، فذهب الجمهور إلى أنه يعزر، وعن بعض المالكية يقتل،

وخص بعض الشافعية ذلك بالشيخين والحسين، فحكى القاضي حسين في ذلك وجهين وقواه السبكي في حق من كفر الشيخين، وكذا من كفر من صرح النبي صلى الله عليه وسلم بإيمانه، أو تبشيره بالجنة، إذا تواتر الخبر بذلك، لما يتضمنه من تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي الحديث فضل إنفاق الصحابة. قال القاضي: وسبب تفضيل نفقتهم أنها كانت في وقت الضرورة، وضيق الحال، بخلاف غيرهم، ولأن إنفاقهم كان في نصرته صلى الله عليه وسلم وحمايته، وذلك معدوم بعده، وكذا جهادهم، وسائر طاعاتهم. وهذا كله مع ما كان في أنفسهم من الشفقة والتودد والخشوع والتواضع والإيثار، والجهاد في سبيل الله حق جهاده، وفضيلة الصحبة ولو لحظة، لا يوازيها عمل، ولا تنال درجتها بشيء، والفضائل لا تؤخذ بقياس، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. قال القاضي: ومن أصحاب الحديث من يقول: هذه الفضيلة مختصة بمن طالت صحبته، وقاتل معه، وأنفق وهاجر ونصر، لا لمن رآه مرة، كوفود الأعراب. والله أعلم

(679) باب من فضائل أويس القرني رضي الله عنه

(679) باب من فضائل أويس القرني رضي الله عنه 5645 - عن أسير بن جابر، أن أهل الكوفة وفدوا إلى عمر. وفيهم رجل ممن كان يسخر بأويس. فقال عمر: هل ها هنا أحد من القرنيين؟ فجاء ذلك الرجل، فقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: "إن رجلا يأتيكم من اليمن يقال له أويس. لا يدع باليمن غير أم له. قد كان به بياض. فدعا الله فأذهبه عنه. إلا موضع الدينار أو الدرهم. فمن لقيه منكم فليستغفر لكم". 5646 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن خير التابعين رجل يقال له أويس. وله والدة، وكان به بياض. فمروه فليستغفر لكم". 5647 - عن أسير بن جابر قال: كان عمر بن الخطاب، إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن، سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس. فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم. قال: من مراد ثم من قرن؟ قال: نعم. قال فكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم. قال لك والدة؟ قال: نعم. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد، ثم من قرن كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم. له والدة هو بها بر. لو أقسم على الله لأبره. فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل" فاستغفر لي. فاستغفر له. فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة. قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكون في غبراء الناس أحب إلي. قال: فلما كان من العام المقبل حج رجل من أشرافهم. فوافق عمر. فسأله عن أويس. قال: تركته رث البيت قليل المتاع. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن. كان به برص فبرأ منه، إلا موضع درهم. له والدة هو بها بر. لو أقسم على الله لأبره. فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل. فأتى أويسا فقال: استغفر لي. قال: أنت أحدث

عهدا بسفر صالح. فاستغفر لي. قال: استغفر لي. قال: أنت أحدث عهدا بسفر صالح. فاستغفر لي. قال: لقيت عمر؟ قال: نعم. فاستغفر له. ففطن له الناس. فانطلق على وجهه. قال أسير: وكسوته بردة. فكان كلما رآه إنسان قال: من أين لأويس هذه البردة؟ -[المعنى العام]- إذا كان خير القرون قرنه صلى الله عليه وسلم وصحابته فمن حيث المجموع الكلي، وهذا لا يمنع أن يوجد فرد أو أفراد فيمن بعد الصحابة هم أفضل عند الله وأقرب من بعض الصحابة، وكيف لا والله تعالى يقول: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات: 13]؟ وكيف لا وموسى عليه السلام أمر أن يتعلم على يد رجل مغمور، وعبد من عباد الله، آتاه الله رحمة من عنده، وعلمه من لدنه علما؟ وكيف لا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمر الفاروق، الذي أعز الله به الإسلام، والذي إذا رآه الشيطان سالكا فجا سلك فجا غيره، يقول له: إن في التابعين رجلا، تحرص على أن يستغفر لك، أنت يا عمر في حاجة إلى استغفاره لك، إذا لقيته فاطلب منه أن يدعو لك بالمغفرة .. إن اسمه أويس القرني، ستجده رث الثياب، لا يأبه له الناس ولا يهتمون به، إنه من أهل اليمن، إنه يكون به برص، فيدعو الله، فيبرأ منه إلا ما يعدل حجم الدرهم، إنه سيكون له أم يبرها، إنه سيأتيك فيمن يأتيك مجاهدا من أهل اليمن، فاطلب منه أن يستغفر لك، وأخذ عمر بعد أن استخلف يسأل وفود اليمن عن أويس، حتى وجده، فنفذ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم. -[المباحث العربية]- (عن أسير بن جابر) بضم الهمزة وفتح السين، ويقال: أسير بن عمرو. (وفيهم رجل ممن كان يسخر بأويس) فائدة ذكر هذا الرجل هنا ليعلم قيمة أويس عند عمر. والمعنى: وجاء أويس في الوفد مع من يسخر منه، ويحتمل أن أويسا لم يأت مع هذا الوفد، وسأل عنه عمر، وقال عنه ما قال، ليراجع الرجل الذي يسخر منه، ليراجع نفسه، ومعنى "يسخر منه" أي يحتقره، ويستهزئ به، وهذا دليل على أنه كان يخفي حاله وصلاحه، ويكتم السر الذي بينه وبين ربه عز وجل، ولا يظهر منه شيء يدل على ذلك، وهذا طريق العارفين وخواص الأولياء، رضي الله عنهم. (فقال عمر: هل ها هنا أحد من القرنيين) أي من بني قرن، بفتح القاف والراء، وهي بطن من مراد، وهو قرن بن ردمان بن ناجية بن مراد. هذا هو الصواب، وفي صحاح الجوهري أنه منسوب إلى قرن المنازل، الجبل المعروف، ميقات الإحرام لأهل نجد، قال النووي: وهذا غلط فاحش. (فجاء ذلك الرجل) الظاهر أنه الرجل الذي يسخر بأويس، وكأن عمر كان قد علم أنه يسخر منه، فقال ذلك ليرجع الرجل عن الاستهزاء به، ولعله أيضا من القرنيين.

(كان عمر بن الخطاب إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ ) الأمداد جمع مدد، أي الجماعات الغزاة، الذين يمدون جيوش الإسلام في الغزو. أي يسأل عن أويس فلا يجده في الأمداد. (حتى أتى على أويس) في الكلام قلب، والأصل: حتى أتى عليه أويس، أو لا قلب، والمعنى أتى على الأمداد يسألهم فيجيبون بالنفي، حتى أتى في سؤاله على وفد ردوا بالإيجاب. (لو أقسم على الله لأبره) أي لاستجاب دعاءه. (فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل) الخطاب من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر. أي اطلب منه أن يستغفر لك. (فقال له عمر: أين تريد؟ ) أين تريد أن تقيم؟ . (قال: الكوفة) مفعول لفعل محذوف، أي أريد الإقامة في الكوفة. (قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ ) ليجلك ويكرمك كما تستحق؟ . (قال: أكون في غبراء الناس أحب إلي) فلا تكتب لعاملك، ولا تكشف أمري، وغبراء الناس، بفتح الغين وسكون الباء، أي ضعفائهم وعامتهم الذين لا يؤبه لهم. (فلما كان من العام المقبل حج رجل من أشرافهم) أي من أشراف القرنيين. (فوافق عمر) أي فقابل عمر. (فسأله عن أويس) أي حاله وتصرفاته وسلوكياته. (قال: تركته رث البيت) أي رديئه وبذيئه. (قليل المتاع) حقير المتاع والأثاث. (فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل) يحتمل أن يكون هذا من تتمة كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، يحكيه عمر، ويحتمل أن يراد به وصية من عمر للرجل. (فأتى أويسا: فقال: استغفر لي قال: أنت أحدث عهدا بسفر صالح، فاستغفر لي) أنت قال ذلك أويس تخفيا لحاله، ولم يرفض الاستغفار للرجل، فلما أصر الرجل على طلب استغفار أويس، فهم أويس أنه قابل عمر، وسمع الحديث من عمر، فسأله: (لقيت عمر؟ قال: نعم، فاستغفر له، ففطن له الناس) وأخذوا يطلبون منه الاستغفار. (فانطلق على وجهه) وترك الديار، ومشى على غير قصد مكان، بل حسبما يوجهه وجهه وطريقه. (قال أسير: وكسوته بردة) فقبلها ولبسها على غير عادة. (فكان كلما رآه إنسان قال: من أين لأويس هذه البردة؟ ) استغرابا وتعجبا، حيث لا يملك ثمن بردة، ولم يتعود لبس مثلها.

-[فقه الحديث]- فيه فضيلة أويس القرني، ومعجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، واستحباب طلب الدعاء والاستغفار من أهل الصلاح، وإن كان الطالب أفضل منهم، وفيه أن أويس أفضل التابعين، ولا يتعارض هذا مع قول أحمد بن حنبل وغيره: أفضل التابعين سعيد بن المسيب، إذ مرادهم أن سعيد بن المسيب أفضل في العلوم الشرعية، وأويس أفضل في الصلاح والصلة بالله. وفيه فضيلة إيثار الخمول، وكتم حال الصلاح، وفضيلة بر الوالدين، وفضيلة العزلة. والله أعلم

(680) باب وصية النبي صلى الله عليه وسلم بأهل مصر

(680) باب وصية النبي صلى الله عليه وسلم بأهل مصر 5648 - عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط. فاستوصوا بأهلها خيرا. فإن لهم ذمة ورحما. فإذا رأيتم رجلين يقتتلان في موضع لبنة فاخرج منها" قال فمر بربيعة وعبد الرحمن ابني شرحبيل ابن حسنة. يتنازعان في موضع لبنة. فخرج منها. 5649 - عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم ستفتحون مصر. وهي أرض يسمى فيها القيراط. فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها. فإن لهم ذمة ورحما" أو قال: "ذمة وصهرا. فإذا رأيت رجلين يختصمان فيها في موضع لبنة، فاخرج منها" قال: فرأيت عبد الرحمن بن شرحبيل بن حسنة وأخاه ربيعة، يختصمان في موضع لبنة، فخرجت منها. -[المعنى العام]- من رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم بأمة الدعوة، وشفقته عليها، ومن وضعه لأصحابه قواعد معاملة غير المسلمين المنبثقة من الإحسان إلى من أساء، والعفو عمن ظلم، والأمر بالمعروف، والإعراض عن الجاهلين. من هذه السياسة الإسلامية الحكيمة يوصي صلى الله عليه وسلم صحابته بأهل مصر، حين يفتحها المسلمون، ويتلمس علاقة ما ترغب في الإحسان، وإن كانت لا تدفع إليه عند كثير من الناس. إن لهم عندنا معشر المسلمين حقا وحرمة، فهم آل هاجر أم إسماعيل وأم العرب، وهم أهل مارية التي تسراها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي أم إبراهيم ابنه عليه السلام، وصدق الله العظيم إذ يقول في نبيه {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128] -[المباحث العربية]- (إنكم ستفتحون أرضا) أي بلدا، وفي الرواية الثانية "إنكم ستفتحون مصر" والخطاب للصحابة، وقد فتحوا مصر في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

(يذكر فيها القيراط) أي يستعمل فيها لفظ القيراط، وهو معيار في الوزن والقياس، واختلفت مقاديره باختلاف الأزمنة، وهو اليوم في الوزن أربع قمحات، وفي وزن الذهب خاصة ثلاث قمحات، وفي القياس جزء من أربعة وعشرين جزءا، ومن الفدان يساوي خمسة وسبعين ومائة متر. (فاستوصوا بأهلها خيرا) السين والتاء للطلب، أي ليطلب بعضكم من بعض الوصية بهم، أو ليطلب كل منكم من نفسه ومن غيره الوصية بهم، والإحسان إليهم، وفي الرواية الثانية "فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها". (فإن لهم ذمة ورحما) الجملة تعليلية وفي الرواية الثانية "فإن لهم ذمة ورحما، أو قال: ذمة وصهرا" والذمة بكسر الذال العهد والأمان والكفالة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم". ومنه أهل الذمة، أي المعاهدون من أهل الكتاب، ومن جرى مجراهم، والمعاهد هو الذي أعطي عهدا، يأمن به على نفسه وماله وعرضه ودينه، والمعنى عليه فإنهم سيكون لهم ذمة وعهد، والأولى أن يراد بالذمة هنا الحق والحرمة، ويفسر هذا الحق بحق الرحم وصلته، لكون هاجر أم إسماعيل وأم العرب منهم، والمراد بالصهر في الرواية الثانية النسب لكون مارية - أم إبراهيم - منهم، وكانت سرية له صلى الله عليه وسلم. (فإذا رأيتم رجلين يقتتلان في موضع لبنة فاخرج منها) في الرواية الثانية "فإذا رأيت رجلين يختصمان فيها" أي في مصر، والمراد من المقاتلة المخاصمة والتنازع، "في موضع لبنة فاخرج منها" الخطاب والأمر بالخروج من مصر لأبي ذر، وهو مبني على رؤيته هو ومن عساه يرى معه خصومة رجلين في موضع لبنة، وجمعها لبن بفتح اللام وكسر الباء، وهو المضروب من الطين قوالب يبنى بها، دون أن تحرق. والخصومة في مكانها من الأرض، قريبة من ملك هذا، أو من ملك ذاك. وكان هذا في ذلك الوقت من الأمور التافهة التي لا يتقاتل عليها لسعة الأرض وضعف قيمتها. وكأن ذلك علامة على فساد الأحوال، وشيوع الخصومات وخص أبو ذر بذلك الخروج، لأن ذلك من نقيض مبادئه التي تقول إن ما زاد على حاجتك ملك وحق لغيرك. (قال: فمر بربيعة وعبد الرحمن، ابني شرحبيل بن حسنة يتنازعان في موضع لبنة، فخرج منها) القائل "فمر" عبد الرحمن بن شماسة المهري، الراوي عن أبي ذر، ويحتمل أنها من كلام أبي ذر على التجريد، أي جرد من نفسه شخصا آخر يتحدث عنه، وصرح بدون تجريد في الرواية الثانية، ولفظها "فرأيت عبد الرحمن بن شرحبيل بن حسنة، وأخاه ربيعة يختصمان في موضع لبنة، فخرجت منها". -[فقه الحديث]- فيه وصية بأهل مصر والوصية بالخير لكل البلاد مطلوبة، لكنها مطلوبة بدرجة أكبر لأهل مصر لأن لهم عند المسلمين يدا وفضيلة. وفيه معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرة، ومنها:

إخباره بأن الأمة تكون لها قوة وشوكة بعده، بحيث يقهرون العجم والجبابرة. وأنهم يفتحون مصر. ومنها تنازع الرجلين في موضع اللبنة. ومنها تواجد أبي ذر بمصر، وخروجه منها. وقد وقع كل ذلك، ولله الحمد والمنة. والله أعلم

(681) باب فضل أهل عمان

(681) باب فضل أهل عمان 5650 - عن أبي برزة رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا إلى حي من أحياء العرب. فسبوه وضربوه. فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أن أهل عمان أتيت، ما سبوك ولا ضربوك". -[المعنى العام]- المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، وتلك فضيلة، لكنها لا تصل في الفضل إلى الإحسان باللسان واليد، لكن حينما يكثر الأذى، ويشيع الظلم، والسب والشتم واللعن والضرب باليد وغيرها، وأكل أموال الناس بالباطل تظهر فضيلة السلامة من اللسان واليد كفضيلة كبرى. وهكذا كان أهل عمان في هذا الزمن أرق أفئدة، وأنقى لسانا، وأنظف يدا من كثير من أحياء العرب. فأثنى عليهم صلى الله عليه وسلم، ليقتدي بهم من عاصرهم، ومن يسمع بحسن أخلاقهم. -[المباحث العربية]- (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا إلى حي من أحياء العرب) ليدعوهم إلى الإسلام بالحسنى، وأبهم هذا الحي جريا على عادتهم في عدم التصريح بالمذموم للستر عليه. (لو أن أهل عمان أتيت ما سبوك ولا ضربوك) "عمان" في هذا الحديث بضم العين وتخفيف الميم، وهي عاصمة البحرين، وحكى القاضي عياض أن من العلماء من ضبطه بفتح العين وتشديد الميم، وهذا غلط. -[فقه الحديث]- فيه منقبة وفضل لأهل عمان بالثناء عليهم. وفيه فضيلة سلامة المسلمين من الأذى. وفيه ما لاقى حاملو الدعوة من العنت والأذى. وما كان عليه بعض أحياء العرب من الغلظة والعنف والإيذاء. والله أعلم

(682) باب ذكر كذاب ثقيف

(682) باب ذكر كذاب ثقيف 5651 - عن أبي نوفل رأيت عبد الله بن الزبير على عقبة المدينة. قال: فجعلت قريش تمر عليه والناس. حتى مر عليه عبد الله بن عمر. فوقف عليه. فقال: السلام عليك، أبا خبيب! السلام عليك، أبا خبيب! السلام عليك، أبا خبيب! أما والله! لقد كنت أنهاك عن هذا. أما والله! لقد كنت أنهاك عن هذا. أما والله! لقد كنت أنهاك عن هذا. أما والله! إن كنت، ما علمت، صواما، قواما، وصولا للرحم. أما والله! لأمة أنت أشرها لأمة خير. ثم نفذ عبد الله بن عمر. فبلغ الحجاج موقف عبد الله وقوله. فأرسل إليه فأنزل عن جذعه. فألقي في قبور اليهود. ثم أرسل إلى أمه أسماء بنت أبي بكر. فأبت أن تأتيه. فأعاد عليها الرسول: لتأتيني أو لأبعثن إليك من يسحبك بقرونك. قال فأبت وقالت: والله! لا آتيك حتى تبعث إلي من يسحبني بقروني. قال فقال: أروني سبتي. فأخذ نعليه. ثم انطلق يتوذف، حتى دخل عليها، فقال: كيف رأيتني صنعت بعدو لله؟ قالت: رأيتك أفسدت عليه دنياه، وأفسد عليك آخرتك. بلغني أنك تقول له: يا ابن ذات النطاقين! أنا والله ذات النطاقين. أما أحدهما فكنت أرفع به طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطعام أبي بكر من الدواب. وأما الآخر فنطاق المرأة التي لا تستغني عنه. أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا: "أن في ثقيف كذابا ومبيرا" فأما الكذاب فرأيناه. وأما المبير فلا إخالك إلا إياه. قال: فقام عنها ولم يراجعها. -[المعنى العام]- عبد الله بن الزبير بن العوام، ابن أسماء بنت أبي بكر، هاجرت أمه وهي حامل به، فولدته بقباء، وكان أول مولود للمهاجرين بالمدينة سنة ثنتين من الهجرة، ففرحوا به فرحا شديدا، وذلك أنهم قيل لهم: إن اليهود قد سحرتكم، فلا يولد لكم. شهد الجمل مع أبيه وخالته عائشة، وكان شهما ذا أنفة، بويع له بالخلافة سنة أربع وستين، وكانت بيعته بعد موت معاوية بن يزيد، واجتمع على طاعته أهل الحجاز واليمن والعراق وخراسان، وحج بالناس ثماني حجج، فلما تولى عبد الملك بن مروان غلب على العراق، ثم جهز الحجاج بن يوسف الثقفي إلى ابن الزبير، فقاتله إلى أن قتل ابن الزبير في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين، ثم صلبه الحجاج أياما، وكان هذا الحديث عن الحجاج بن يوسف جبار ثقيف وموقفه من ابن الزبير وأمه.

-[المباحث العربية]- (رأيت عبد الله بن الزبير على عقبة المدينة) العقبة المرقى الصعب من الجبال، والمراد من المدينة هنا مكة، أي رآه مصلوبا، منكسا، رأسه إلى أسفل، على قمة جبل في مكة. (فجعلت قريش تمر عليه والناس) من غير قريش، منهم من يدعو له ويترحم عليه، ومنهم من يرى لحب الاستطلاع. (حتى مر عليه عبد الله بن عمر، فوقف عليه) أي على الأرض القريبة منه. (فقال: السلام عليك: أبا خبيب) بضم الخاء وفتح الباء، مصغر، ناداه بكنيته، كني بأكبر أبنائه وكانت له كنية أخرى، هي أبو بكر. (أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا) قالها ثلاثا، والمشار إليه أسباب هذا الصلب، وهو مقاتلة الجبارين، والوقوف أمامهم. (أما والله إن كنت ما علمت، صواما، قواما، وصولا للرحم) "إن" مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير محذوف، أي إن الحال والشأن والحقيقة، والجملة خبرها، و"وصولا" اسم مبالغة لاسم الفاعل، أي كثير الوصل للرحم، قال القاضي: وهو أصح من قول بعض الإخباريين، ووصفه بالإمساك. وقد عده صاحب الكتاب الأجود فيهم - أي في الأجودين، وهو المعروف من أحواله. اهـ. أي هذا الوصف، وأنه وصول للرحم كريم، أصح من وصف بعض المؤرخين له بالبخل، والإمساك، وفي الاستيعاب لابن عبد البر: قال علي بن زيد بن الجدعاني: كان عبد الله بن الزبير كثير الصلاة، كثير الصيام، شديد البأس، كريم الجدات، والأمهات والخالات، إلا أنه كانت فيه خلال، لا تصلح معها الخلافة، لأنه كان بخيلا، ضيق العطاء. (أما والله لأمة أنت أشرها لأمة خير) الأفصح أن يقال: شرها، قال النووي: هكذا هو في كثير من نسخنا "لأمة خير" وكذا نقله القاضي عن جمهور رواة مسلم، وفي أكثر نسخ بلادنا "لأمة سوء"، ونقله القاضي عن رواية السمرقندي. قال: وهو خطأ وتصحيف. اهـ. والمعنى: إن أعداءك يقولون عنك: إنك أكثر الأمة شرا، وحقيقتك أنك من أحسنها، فإذا كنت شرا كانت الأمة كلها خيرا. والمعنى ليس فاسدا على الرواية الأخرى، أي إذا كنت شرا فالأمة كلها شر وسوء، لأنك من أحسنها. (ثم نفذ عبد الله بن عمر) بفتح النون والفاء بعدها ذال، أي مضى وذهب لحاله. (فبلغ الحجاج موقف عبد الله بن عمر، وقوله) فخشي تأثير هذا القول في المسلمين، وخشي احتمال غضبتهم للمصلوب. (فأرسل إليه) أي إلى ابن الزبير. (فأنزل عن جذعه) المصلوب عليه، وفي الاستيعاب لابن عبد البر: قال أبو عمر: رحل عروة بن الزبير إلى عبد الملك بن مروان، فرغب إليه في إنزاله من الخشبة، فأسعفه، فأنزل.

(فألقي في قبور اليهود) وفي الاستيعاب عن ابن أبي مليكة، قال: كنت أول من بشر أسماء بنزول ابنها عبد الله بن الزبير من الخشبة، فدعت بمركن وشب يمان، وأمرتني بغسله، فكنا لا نتناول عضوا إلا جاء معنا، فكنا نغسل العضو، ونضعه في أكفانه، ونتناول العضو الآخر الذي يليه، فنغسله، ثم نضعه في أكفانه، حتى فرغنا منه، ثم قامت، فصلت عليه. (ثم أرسل إلى أمه أسماء بنت أبي بكر، فأبت أن تأتيه، فأعاد عليها الرسول: لتأتيني، أو لأبعثن إليك من يسحبك بقرونك - أي يجرك بضفائر شعرك - فأبت، وقالت: والله لا آتيك حتى تبعث إلي من يسحبني بقروني. قال: فقال: أروني سبتي - بكسر السين وإسكان الباء وفتح التاء وتشديد الياء، تثنية سبت، وهي النعل التي لا شعر عليها، فأخذ نعليه، ثم انطلق يتوذف - بفتح الواو والذال المشددة - أي يسرع، وقيل: يتبختر - حتى دخل عليها، فقال: كيف رأيتني فعلت بعدو الله؟ قالت: رأيتك أفسدت عليه دنياه، وأفسد عليك آخرتك. بلغني أنك تقول له - ساخرا - يا بن ذات النطاقين، أنا والله ذات النطاقين، أما أحدهما فكنت أرفع به طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم وطعام أبي بكر من الدواب، وأما الآخر فنطاق المرأة التي لا تستغني عنه) والنطاق - بكسر النون، قال العلماء: النطاق أن تلبس المرأة ثوبها، ثم تشد وسطها بشيء، وترفع وسط ثوبها، وترسله على الأسفل، تفعل ذلك عند معاناة الأشغال، لئلا تعثر في ذيلها، قيل: سميت أسماء ذات النطاقين، لأنها كانت تطارف نطاقا فوق نطاق، والأصح أنها سميت بذلك لأنها شقت نطاقها الواحد نصفين، فجعلت أحدهما نطاقا صغيرا، واكتفت به، والآخر لسفرة النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر رضي الله عنه، كما صرحت به في هذا الحديث هنا، ولفظ البخاري أوضح من لفظ مسلم، ولفظ البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: "وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها، فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاقين". وفي رواية "ذات النطاق". (أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن في ثقيف كذابا ومبيرا) بضم الميم وكسر الباء، وهو المهلك. (فأما الكذاب فرأيناه) تعني به المختار بن أبي عبيد الثقفي، وكان شديد الكذب، ومن أقبح كذبه أنه ادعى أن جبريل عليه السلام يأتيه، قال النووي: واتفق العلماء على أن المراد بالكذاب هنا المختار بن أبي عبيد. (وأما المبير فلا إخالك إلا إياه) "إخالك" بفتح الهمزة وكسرها، وهو أشهر، ومعناه أظنك، واتفق العلماء على أن المراد بالمبير هنا الحجاج بن يوسف -[فقه الحديث]- 1 - في الحديث استحباب السلام على الميت في قبره وغيره.

2 - وتكرير السلام ثلاثا كما كرر ابن عمر. 3 - وفيه الثناء على الموتى بجميل صفاتهم المعروفة. 4 - وفيه منقبة لابن عمر، لجهره بالحق في الملأ، وعدم اكتراثه بالحجاج، لأنه يعلم أنه سيبلغه مقامه. 5 - وفي كلام ابن عمر إبطال الإشاعة الكاذبة التي اختلقها الحجاج، بأن عبد الله بن الزبير عدو الله وظالم. قال النووي: ومذهب أهل الحق أن ابن الزبير كان مظلوما، وأن الحجاج ورفقته كانوا خوارج عليه. 6 - وفيه شجاعة أسماء وقوة حجتها وكلامها وقوة شخصيتها. والله أعلم

(683) باب فضل فارس

(683) باب فضل فارس 5652 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كان الدين عند الثريا لذهب به رجل من فارس - أو قال - من أبناء فارس. حتى يتناوله". 5653 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم. إذ نزلت عليه سورة الجمعة. فلما قرأ: {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم} [الجمعة/ 3] قال رجل: من هؤلاء؟ يا رسول الله! فلم يراجعه النبي صلى الله عليه وسلم. حتى سأله مرة أو مرتين أو ثلاثا. قال: وفينا سلمان الفارسي. قال: فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على سلمان، ثم قال: "لو كان الإيمان عند الثريا، لناله رجال من هؤلاء". -[المعنى العام]- تطلق فارس والفرس على ما يسمى في هذه الأيام إيران، قيل: إنهم من ولد هدرام بن أرفخشد بن سام بن نوح، وأنه ولد بضعة عشر رجلا، كلهم كان فارسا شجاعا، فسموا الفرس، للفروسية، وقيل في نسبهم أقوال أخرى، وفي الطبقات: كان أولهم على دين نوح، ثم دخلوا في دين الصابئة، في زمن طمهورث، فداموا على ذلك أكثر من ألف سنة، ثم تمجسوا على يد زرادشت. واشتهر من مسلميهم سلمان الفارسي، وقد سبقت فضائله قبل ثلاثة عشر بابا، قال القرطبي: وقع ما قاله صلى الله عليه وسلم عيانا، فإنه وجد منهم من اشتهر ذكره من حفاظ الآثار، والعناية بها، ما لم يشاركهم فيه كثير من غيرهم. -[المباحث العربية]- (لو كان الدين عند الثريا لذهب به رجل من فارس - أو قال: من أبناء فارس، حتى يتناوله) وفي الرواية الثانية "لو كان الإيمان عند الثريا، لناله رجال من هؤلاء" فوضع يده على سلمان الفارسي. و"الثريا" مجموعة من النجوم البعيدة عن الأرض، وبها يضرب المثل في البعد، والكلام كناية عن وصول أهل فارس إلى الدين والعلم والإيمان مهما كلفهم هذا الوصول، زاد في بعض الروايات "برقة قلوبهم".

(فلما قرأ {وءاخرين منهم لما يلحقوا بهم} [الجمعة: 3] قال رجل: من هؤلاء يا رسول الله) وفي رواية "من هؤلاء الذين لما يلحقوا بنا؟ " والتعبير بـ "لما" يفيد أنهم سيلحقون. -[فقه الحديث]- في الحديث فضيلة ظاهرة لأبناء فارس. وجواز استعمال المجاز والكناية والمبالغة إذا كانت في مواضعها. والله أعلم

(684) باب بيان قوله صلى الله عليه وسلم: "الناس كإبل مائة"

(684) باب بيان قوله صلى الله عليه وسلم: "الناس كإبل مائة" 5654 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تجدون الناس كإبل مائة. لا يجد الرجل فيها راحلة". -[المعنى العام]- أكثر الناس لا يعلمون، وأكثر الناس لا يفقهون، {وقليل من عبادي الشكور} [سبأ: 13] وبعث النار قد يكون من كل مائة تسعة وتسعين، والمؤمنون بالإسلام بالنسبة لأمم بني آدم في عصورها السابقة واللاحقة كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض. وكل مجتمع من مجتمعات بني آدم، فيهم القوي وفيهم الضعيف، فيهم الجواد وفيهم البخيل، فيهم الشجاع وفيهم الجبان، فيهم العطوف الرحيم، وفيهم الشديد الغليظ المناع للخير المعتدي الأثيم، ولو تجاوزنا بعض المجتمعات الفاضلة في بعض الأزمنة لوجدنا نسبة الفاسدين للصالحين تصل [99/] كالإبل المجتمعة لا تجد منها يصلح للركوب المريح إلا [1/] وباقيها إنما يصلح لحمل الأثقال. -[المباحث العربية]- (تجدون الناس كإبل مائة، لا يجد الرجل فيها راحلة) قال ابن قتيبة: الراحلة، النجيبة، المختارة من الإبل للركوب وغيره، فهي كاملة الأوصاف، فإذا كانت في إبل عرفت. قال: ومعنى الحديث أن الناس متساوون، ليس لأحد منهم فضل في النسب، بل هم أشباه الإبل المائة. اهـ. قالوا: والنفي المطلق هنا "لا تجد فيها راحلة" محمول على المبالغة، وعلى أن ذلك نادر، والنادر لا حكم له، فيرجع المعنى إلى رواية البخاري "لا تكاد تجد فيها راحلة". وقال الخطابي: الراحلة التي ترحل لتركب، والراحلة فاعلة بمعنى مفعولة، أي كلها حمولة، تصلح للحمل، ولا تصلح للرحل والركوب عليها - لأن الذي يصلح للركوب، ينبغي أن يكون وطيئا سهل الانقياد - قال: وتأولوا هذا الحديث على وجهين: أحدهما أن الناس في أحكام الدين سواء، لا فضل فيها لشريف على مشروف، ولا لرفيع على وضيع، كالإبل المائة، التي لا يكون فيها راحلة (قال الحافظ ابن حجر: وقد أورد البيهقي هذا الحديث في كتاب القضاء، في تسوية القاضي بين الخصمين، أخذا بهذا التأويل).

الثاني: أن أكثر الناس أهل نقص، وأما أهل الفضل فعددهم قليل جدا، فهم بمنزلة الراحلة في الإبل الحمولة. وقيل: المعنى أن الزاهد في الدنيا، الكامل في الزهد، الراغب في الآخرة قليل، كقلة الراحلة في الإبل، وحسنه النووي، قال: وأجود منه قول آخرين: إن المرضي الأحوال من الناس، الكامل الأوصاف قليل. وقال القرطبي: الذي يناسب التمثيل أن الرجل الجواد، الذي يحمل أثقال الناس والحمالات عنهم، ويكشف كربهم، عزيز الوجود، كالراحلة في الإبل الكثيرة. وقال ابن بطال: معنى الحديث أن الناس كثير، والمرضي منهم قليل، وإلى هذا المعنى أومأ البخاري بإدخال هذا الحديث في باب رفع الأمانة. وقال الخطابي: العرب تقول للمائة من الإبل: إبل، يقولون: لفلان إبل، أي مائة بعير، ولفلان إبلان، أي مائتا بعير. وقال الراغب: الإبل اسم مائة بعير، فقوله: كإبل مائة - كقولنا: مائة مائة، المراد به عشرة آلاف. قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر على تسليم قوله، لا يلزم ما قال: إن المراد عشرة آلاف، بل المائة الثانية للتأكيد. وأشار ابن بطال إلى أن المراد بالناس في الحديث، من يأتي بعد القرون الثلاثة، الصحابة والتابعين وتابعيهم، حيث يصيرون يخونون ولا يؤتمنون. قال الكرماني: لا حاجة لهذا التخصيص، لاحتمال أن يراد أن المؤمنين قليل بالنسبة للكفار. -[فقه الحديث]- هذا الحديث في نهاية كتاب المناقب يفيد أمرين: الأول: أن ما مضى من المناقب والفضائل إنما تتعلق بالدين، لا بالنسب. الثاني: أن ما ذكر من فضائل شرف ومنقبة، وإن قل في نظر الباحث، فأهل الفضل عددهم قليل جدا، لأن الغثاء كثير. (إضافة) لم يرتب الإمام مسلم - رحمه الله تعالى - أصحاب الفضائل ترتيبا ما، وكأنه ذكرها عفويا تمهيدا لترتيبها فيما بعد، فلم تتهيأ له فرصة الترتيب، كما حصل له في الغزوات. أما البخاري فله وجهة نظر في ترتيبه الغزوات والفضائل، رضي الله عنهما وجزاهما عن الإسلام والحديث النبوي خيرا. والله أعلم

كتاب البر والصلة والآداب

كتاب البر والصلة والآداب

(685) باب بر الوالدين

(685) باب بر الوالدين 5655 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "ثم أمك" قال: ثم من؟ قال: "ثم أمك" قال: ثم من؟ قال: "ثم أبوك" وفي حديث قتيبة: من أحق بحسن صحابتي؟ ولم يذكر الناس. 5656 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله! من أحق الناس بحسن الصحبة؟ قال: "أمك" ثم أمك. ثم أمك. ثم أبوك. ثم أدناك أدناك". 5657 - وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فذكر بمثل حديث جرير. وزاد: فقال: "نعم. وأبيك! لتنبأن". 5658 - وفي رواية عن ابن شبرمة، بهذا الإسناد. في حديث وهيب: من أبر؟ وفي حديث محمد بن طلحة: أي الناس أحق مني بحسن الصحبة. ثم ذكر بمثل حديث جرير. 5659 - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد. فقال: أحي والداك؟ قال: نعم. قال: "ففيهما فجاهد" حدثنا عبيد الله بن معاذ. 5660 - عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: أقبل رجل إلى

نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله. قال: "فهل من والديك أحد حي؟ " قال: نعم. بل كلاهما. قال: "فتبتغي الأجر من الله؟ " قال: نعم. قال: "فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما". -[المعنى العام]- الوالدان هما المصدر الثاني للوجود بعد الله سبحانه وتعالى، لهذا قرنهما الله تعالى بنفسه في وجوب الشكر، حيث يقول {أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير} [لقمان: 14] وقرنهما بنفسه سبحانه وتعالى حين أمر بطاعته وعبادته، فقال {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا} [النساء: 36] وقال {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا} [الإسراء: 23] وقرن صلى الله عليه وسلم عقوقهما بالإشراك بالله، حين سرد أكبر الكبائر، فقال: "الإشراك بالله وعقوق الوالدين" وبر الوالدين رمز للوفاء والاعتراف بالحق لصاحب الحق، ورمز للشكر على المنعم بنعمه، والحديث يقول: "لم يشكرني من لم يشكر من أجريت النعمة على يديه". كما جعل صلى الله عليه وسلم كثرة العقوق علامة من علامات آخر الزمان وظهور الفتن وانقلاب الأحوال، وقد رسم القرآن الكريم مظاهر بر الوالدين، بقوله {إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما* واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا} [الإسراء: 23، 24] وهذا البر مهما بلغ لا يكافئ فضل الآباء على الأبناء، فالرجل الذي حمل أمه ساعات، يمشي بها على الرمال الحارقة التي لو وضعت عليها اللحم لنضجت، يحمي رجليها من الاحتراق، ويعرض رجليه هو للاحتراق، سأل: هل جازيت بذلك أمي؟ فأجيب: لعلك كافأتها بذلك عن طلقة واحدة، ونخسة واحدة من نخساتك لها عند ولادتك وفي الصحيح "لن يجزي ولد والده، حتى يجده مملوكا، فيشتريه، فيعتقه". وبر الوالدين مقدم على الجهاد تطوعا، وعلى التطوع بالصلاة والصوم، لأنه واجب عيني، والتطوع بالجهاد أصله واجب كفائي. وستأتي أحاديث كثيرة في الأبواب الآتية تؤكد حق الوالدين، وفضل رضاهما على الأبناء مما يلزم الأبناء ببرهما، حماية لأنفسهم، ولعقبهم، وابتغاء رضوان الله تعالى وإحسانه. -[المباحث العربية]- (كتاب البر) قال أهل اللغة: بررت والدي، بكسر الراء الأولى، أبره بضمها مع فتح الباء، برا،

بكسر الباء، وأنا بر به، بفتح الباء، وجمعه الأبرار، وبار به، بتشديد الراء، وجمعه بررة، والبر بكسر الباء ضد العقوق، وهو التوسع في الإحسان إليهما، ووصلهما، وبر حجه يبر بكسر الباء، برا بكسرها، قبل، وبر اليمين، صدقت، وبر في يمينه صدق، وبر بوعده، وفى به، وبرت السلعة راجت، وبر البيع خلا من الشبهة والكذب والخيانة، وبر فلان ربه، توسع في طاعته. (والصلة) الإحسان إلى الأقربين، من ذوي النسب والأصهار، والعطف عليهم، والرفق بهم، ومراعاة أحوالهم، يقال: وصل رحمه، بفتح الواو والصاد يصلهم وصلا وصلة. (والآداب) جمع أدب، وهو استعمال ما يحمد قولا، وفعلا، وقيل: الأخذ بمكارم الأخلاق، وقيل: الوقوف مع المستحسنات، وقيل: هو تعظيم من فوقك، والرفق بمن دونك، وقيل: إنه مأخوذ من المأدبة، وهي الدعوة إلى الطعام، سمي بذلك لأنه يدعى إليه. والمعاني كلها متقاربة، متفرعة عن أصل واحد، وهو إحسان المعاملة. (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) يحتمل أنه معاوية بن عبيدة، فعنه في الأدب المفرد "قلت: يا رسول الله. من أبر"؟ ولعل السائلين بذلك أكثر من واحد. (فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ ) بفتح الصاد، بمعنى الصحبة، وحسن صحابتي من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي صحبتي الحسنة، وفي الرواية الثانية "من أحق الناس بحسن الصحبة"؟ وفي ملحقها "أي الناس أحق مني بحسن الصحبة"؟ أي بحسن صحبتي؟ وفي ملحق الرواية الأولى وفي البخاري "من أحق بحسن صحابتي"؟ ولم يذكر "الناس" وهي مرادة، وفي ملحق الرواية الثانية "من أبر"؟ أي من الذي أبره أولا من الناس؟ . (قال: أمك) خبر لمبتدأ محذوف، أي أحق الناس بحسن صحابتك أمك. (قال: ثم من؟ ) مبتدأ، خبره محذوف، أي ثم بعد من بعد الأم، أحق بحسن صحابتي؟ (قال: ثم أمك) خبر لمبتدأ محذوف، أي أحق الناس بعد أمك بحسن صحابتك أمك. (قال: ثم من؟ ) مبتدأ خبره محذوف تقديره: ثم من بعد الأم مرتين أحق بحسن صحابتي؟ (قال: ثم أمك) خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: أحق الناس بعد أمك مرتين بحسن صحابتك أمك. وفي الرواية الثانية "قال: أمك، ثم أمك، ثم أمك" حذف فيها سؤال الرجل، وهو مراد. (قال: ثم من؟ ) أحق بصحابتي بعد الأم ثلاث مرات؟ (قال: ثم أبوك) أحق بصحابتك بعد أمك ثلاثا، وفي رواية الأدب المفرد "ثم أباك" بالنصب، على إضمار فعل، أي بر أباك.

(نعم: وأبيك - لتنبأن) بضم التاء، وفتح النون والباء المشددة، ونون التوكيد الثقيلة، أي لأنبئنك بأحق الناس بصحبتك الحسنة، وقد استشكل قوله "وأبيك" مع قوله صلى الله عليه وسلم "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم". وأجيب باحتمال أن يكون الحلف هنا قبل النهي، وقيل: إن في الكلام مضافا محذوف، والتقدير: ورب أبيك، وقيل: ليس الكلام هنا حلفا، وإنما هي كلمة جرت على ألسنتهم غير مقصود بها الحلف، وهي بمثابة قولهم: تربت يمينك، والنهي فيمن قصد حقيقة الحلف، لما فيه من تعظيم المحلوف به، ومضاهاته به سبحانك وتعالى. (ثم أدناك أدناك) المراد بالدنو القرب إلى البار، وفي لفظ "ثم أدناك فأدناك"، والترتيب تنازلي، أي الأكثر قربا منك، ثم الأقل منه قربا، وهكذا، وفي فقه الحديث تفصيل العلماء لجهات القرب وترتيبها. (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يستأذنه في الجهاد) قال الحافظ ابن حجر: يحتمل أن يكون هو جاهمة بن العباس بن مرداس، فقد روى النسائي وأحمد "أن جاهمة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله. أردت الغزو، وجئت لأستشيرك، فقال هل لك من أم؟ قال: نعم. قال: الزمها". والظاهر أن الاستئذان في الجهاد تكرر ممن له أبوان، وممن له أم. (فقال: أحي والداك؟ ) "والداك" فاعل لاسم الفاعل، والاستفهام حقيقي. (قال: ففيهما فجاهد) في الجملة قصر، طريقه تقديم ما حقه التأخير، والأصل فجاهد فيهما، وهو قصر قلب، أي جاهد فيهما، لا في ميادين الكفار، والمقصود بالجهاد فيهما، جهاد النفس في رضاهما، قال الحافظ ابن حجر: ويستفاد منه جواز التعبير عن الشيء بضده، إذا فهم المعنى، لأن صيغة الأمر في قوله "فجاهد" ظاهرها إيصال الضرر الذي كان يحصل لغيرهما، لهما، وليس ذلك مرادا قطعا، وإنما المراد إيصال القدر المشترك من كلفة الجهاد، وهو تعب البدن والمال لهما، ويؤخذ منه أن كل شيء يتعب النفس يسمى جهادا. اهـ. وفي الرواية الرابعة "أقبل رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد، أبتغي الأجر من الله، قال: فهل من والديك أحد حي؟ قال: نعم. بل كلاهما، قال: فتبتغي الأجر من الله؟ قال: نعم. قال: فارجع إلى والديك، فأحسن صحبتهما". ولأبي داود وابن حبان "ارجع، فأضحكهما، كما أبكيتهما". وعند أبي داود "ارجع، فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد، وإلا فبرهما". وعند ابن حبان "قال: فإن لي والدين، قال: آمرك بوالديك خيرا، فقال: والذي بعثك بالحق نبيا، لأجاهدن، ولأتركنهما، قال: فأنت أعلم". وعند أحمد "هاجر رجل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل باليمن أبواك؟ قال: نعم. قال: أذنا لك؟ قال: لا. قال: فارجع، فاستأذنهما، فإن أذنا لك، وإلا فبرهما".

-[فقه الحديث]- هما بابان عند البخاري، باب من أحق الناس بحسن الصحبة، وباب لا يجاهد إلا بإذن الأبوين، وقد جعلناهما بابا واحدا مجاراة للنووي رحمه الله، وفعل البخاري أولى وأدق، فقد خصص النووي بابا لتقديم الوالدين على التطوع بالصلاة وغيرهما، فكان حقه أن يخص تقديم الوالدين على الجهاد، بباب. لهذا نتكلم في فقه الحديث عن ثلاث نقاط: الفرق بين الأم والأب في البر، والجهاد بإذن الأب والأم، ثم ما يؤخذ من الأحاديث. فالرواية الأولى والثانية وملحقاها في الحث على بر الأقارب، وأن الأم أحقهم بذلك، ثم بعدها الأب، ثم الأقرب فالأقرب، قال العلماء: وسبب تقديم الأم كثرة تعبها على الابن، وشفقتها عليه، وخدمتها له، ومعاناة المشاق في حمله، ثم وضعه، ثم إرضاعه، ثم تربيته وخدمته وتمريضه وغير ذلك. قلت: واحتياجها إلى بر الابن أكثر من الأب، لضعفها غالبا. قال النووي: ونقل الحارث المحاسبي إجماع العلماء على أن الأم تفضل في البر على الأب، وحكى القاضي عياض خلافا في ذلك، فقال: قال الجمهور بتفضيلها، وقال بعضهم: يكون برهما سواء، قال: ونسب بعضهم هذا إلى مالك، والصواب الأول، لصريح هذه الأحاديث في المعنى المذكور. اهـ. أقول: واقتضت الآيات التي سقناها في المعنى العام الوصية بالوالدين، والأمر بطاعتهما، ولو كانا كافرين، إلا إذا أمرا بالشرك، فتجب معصيتهما في ذلك، عملا بقوله تعالى {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا} [لقمان: 15] وقد أخرج مسلم في صحيحه عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال: حلفت أم سعد، لا تكلمه أبدا، حتى يكفر بدينه، قالت: زعمت أن الله أوصاك بوالديك، فأنا أمك، وأنا آمرك بهذا، فنزلت {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما} [العنكبوت: 8] وفي رواية "قالت أمه: يا سعد. لن آكل، ولن أشرب حتى أموت، فتعير بي بين العرب، فيقال لك: يا قاتل أمه. فقال سعد: يا أماه. والله لقد علم العرب أنني أبر الناس بأمي، ولكن. لو أن لك مائة نفس، فخرجت نفسا نفسا، ما رجعت عن ديني". وحديثنا صريح في أن للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر، ويقويه ما جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بآبائكم، ثم بالأقرب فالأقرب". ويؤيد القول بتقديم الأم ما أخرجه الحاكم وأبو داود "أن امرأة قالت: يا رسول الله. إن ابني هذا، كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني،

وأراد أن ينزعه مني؟ فقال: أنت أحق به ما لم تنكحي". فتوصلت لاختصاصها به، باختصاصه بها في الأمور الثلاثة، ويعلل الجمهور ذلك بما تتحمل من مشاق خاصة بها، لا يشاركها فيها الأب، ثم هي تشارك الأب في التربية، وتشير إلى ذلك الآية الكريمة {ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} [الأحقاف: 15] فسوى بينهما في الوصاية، وخص الأم بالأمور الثلاثة. وحجة غير الجمهور - وهم بعض الشافعية - أن الآيات تجمعهما - دون تفرقة - في طلب الإحسان إليهما {ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا} {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا} {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما* واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا} [الإسراء: 23، 24] ويقولون: إن ما تعانيه الأم من مشاق تقوم به اندفاعا من طبيعتها وخلقتها، فهو لإرضاء نفسها، وإشباع غريزتها، كمن يتعب في الأكل والشرب، لا يبغي بذلك أجرا، فلا يطلب من الابن مكافأتها على ما تمتعت هي به، تمتعا لا تقبل هي بحال أن تتخلى عنه. أما الحديث فيكرر البر بها، والإحسان إليها، لأنها لضعفها غالبا تكون أحوج من الأب للعطف، والبر لا جزاء على ما قدمت، وهي وإن كانت مسئولة عن الابن فترة ما من الزمن، فالأب مسئول عنها وعن ابنها، وهو المتحمل شرعا لنفقتها ونفقة ابنها، وجميع التكاليف اليومية، مما يجعله - على الأقل - مساويا لها في حقوقه على أولاده. وما نسب إلى الإمام مالك من أنه يقول: إنهما في البر سواء، أخذ مما روي أنه سأله رجل، قال: طلبني أبي فمنعتني أمي؟ قال مالك: أطع أباك، ولا تعص أمك. قال ابن بطال: هذا يدل على أنه يرى أن برهما سواء، إذ قال الليث - حين سئل عن هذه المسألة بعينها - قال: أطع أمك، فإن لها ثلثي البر. قال الحافظ ابن حجر: والصواب رأي الجمهور. وأميل إلى التفرقة في البر، بين العطاء، وبين الطاعة، فتعطى الأم من العطف والشفقة والحنان والصلات المادية ثلاثة أمثال ما يعطى الأب، ويطاع الأب في أوامره ونواهيه وتوجيهاته، فهو قائد الأسرة، وله القوامة عليها، وعليها طاعته، فلا معنى لطاعة الابن لها، ما دامت هي مطيعة للأب زوجها، ويبقى الكلام في طاعة الابن لها حيث لا يكون الأب موجودا، وعندي أن ذلك يخضع لظروف وملابسات يختلف معها الحكم، فقد يكون الابن بالغا عاقلا رشيدا حكيما، والأم متخلفة، تحكمها شهوتها وعاطفتها، فتأمره بالزواج بمن لا يهوى مثلا، أو تطليق من يهوى، ومن حاله مستقيمة معها. فكيف نوجب عليه طاعتها؟ وفي ترتيب الأقربين يقول النووي: قال أصحابنا: يستحب أن تقدم في البر الأم، ثم الأب، ثم الأجداد والجدات، ثم الأخوة والأخوات، ثم سائر المحارم من ذوي الأرحام، كالأعمام والعمات،

والأخوال والخالات، ويقدم الأقرب فالأقرب، ويقدم من أدلى بأبوين على من أدلى بأحدهما، ثم بذي الرحم غير المحرم، كابن العم وبنته، وأولاد الأخوال والخالات وغيرهم، ثم المصاهر، ثم الجار، ويقدم القريب البعيد الدار على الجار غير القريب، وكذا لو كان القريب في بلد آخر، قدم على الجار الأجنبي، قال: وألحقوا الزوجة والزوج بالمحارم. اهـ. وقد أخرج أحمد والنسائي، وصححه الحاكم "أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الناس أعظم حقا على المرأة؟ قال: زوجها، قالت: فعلى الرجل؟ قال: أمه". وأما عن النقطة الثانية: فقال جمهور العلماء: يحرم الجهاد إذا منع الأبوان أو أحدهما، بشرط أن يكونا مسلمين، لأن برهما فرض عين، والجهاد فرض كفاية، فإن تعين الجهاد، فلا يحتاج إلى إذن، وإن كانا مشركين لم يشترط إذنهما، عند الشافعي، ومن وافقه، وشرطه الثوري، هذا كله إذا لم يحضر الصف، ويتعين القتال، وإلا فلا إذن، ولهما أن يرجعا في إذنهما، إذا لم يحضر الصف، لو منعاه فحضر الصف، فلا إذن، وألحق بعضهم الجد والجدة بالأبوين. -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - الحث على بر الوالدين. 2 - وعلى بر الأقارب. 3 - حرص الصحابة على أمور دينهم، وسؤالهم عما يحتاجون إليه مما يجهلون. 4 - وسعة صدره صلى الله عليه وسلم، وإجابته عن السؤال، ثم السؤال، ثم السؤال. 5 - استدل بالرواية الثالثة، والرابعة على تحريم السفر بغير إذن الوالدين، لأن الجهاد إذا منع مع فضيلته فالسفر المباح أولى، نعم. إن كان سفره لتعلم فرض عين، حيث تعين السفر طريقا إليه، فلا منع. وإن كان فرض كفاية، ففيه خلاف. هذا وقد سبق في كتاب الإيمان بعض ما يتعلق بهذا الحديث، وبتحريم عقوق الوالدين. والله أعلم

(686) باب تقديم الوالدين على التطوع بالصلاة، وغيرها، وفضل بر الوالدين

(686) باب تقديم الوالدين على التطوع بالصلاة، وغيرها، وفضل بر الوالدين 5561 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: كان جريج يتعبد في صومعة. فجاءت أمه. قال حميد: فوصف لنا أبو رافع صفة أبي هريرة لصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمه حين دعته. كيف جعلت كفها فوق حاجبها. ثم رفعت رأسها إليه تدعوه. فقالت: يا جريج! أنا أمك. كلمني. فصادفته يصلي. فقال: اللهم! أمي وصلاتي. فاختار صلاته. فرجعت ثم عادت في الثانية. فقالت: يا جريج! أنا أمك. فكلمني. قال: اللهم! أمي وصلاتي. فاختار صلاته. فقالت: اللهم! إن هذا جريج. وهو ابني. وإني كلمته فأبى أن يكلمني. اللهم! فلا تمته حتى تريه المومسات. قال: ولو دعت عليه أن يفتن لفتن. قال: وكان راعي ضأن يأوي إلى ديره. قال: فخرجت امرأة من القرية. فوقع عليها الراعي. فحملت فولدت غلاما. فقيل لها: ما هذا؟ قالت: من صاحب هذا الدير. قال: فجاءوا بفؤوسهم ومساحيهم. فنادوه فصادفوه يصلي. فلم يكلمهم. قال: فأخذوا يهدمون ديره. فلما رأى ذلك نزل إليهم. فقالوا له: سل هذه. قال: فتبسم ثم مسح رأس الصبي فقال: من أبوك؟ قال: أبي راعي الضأن. فلما سمعوا ذلك منه قالوا: نبني ما هدمنا من ديرك بالذهب والفضة. قال: لا، ولكن أعيدوه ترابا كما كان. ثم علاه. 5662 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى ابن مريم. وصاحب جريج. وكان جريج رجلا عابدا. فاتخذ صومعة. فكان فيها. فأتته أمه وهو يصلي فقالت: يا جريج! فقال: يا رب! أمي وصلاتي. فأقبل على صلاته. فانصرفت. فلما كان من الغد أتته وهو يصلي. فقالت: يا جريج! فقال: يا رب! أمي وصلاتي. فأقبل على صلاته. فانصرفت. فلما كان من الغد أتته وهو يصلي. قالت: يا جريج! فقال: أي رب! أمي وصلاتي. فأقبل على صلاته. فقالت: اللهم! لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات. فتذاكر بنو إسرائيل جريجا وعبادته. وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها. فقالت: إن شئتم لأفتننه لكم. قال: فتعرضت له فلم يلتفت إليها. فأتت راعيا كان يأوي إلى صومعته فأمكنته من نفسها. فوقع عليها. فحملت. فلما ولدت. قالت: هو من جريج. فأتوه

فاستنزلوه وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه. فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه البغي. فولدت منك. فقال: أين الصبي؟ فجاءوا به. فقال: دعوني حتى أصلي فصلى. فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه. وقال: يا غلام! من أبوك؟ قال: فلان الراعي. قال: فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به. وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب. قال: لا. أعيدوها من طين كما كانت. ففعلوا. وبينا صبي يرضع من أمه. فمر رجل راكب على دابة فارهة وشارة حسنة. فقالت أمه: اللهم! اجعل ابني مثل هذا. فترك الثدي وأقبل إليه فنظر إليه. فقال: اللهم! لا تجعلني مثله. ثم أقبل على ثديه فجعل يرتضع. قال: فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحكي ارتضاعه بإصبعه السبابة في فمه. فجعل يمصها. قال: ومروا بجارية وهم يضربونها ويقولون: زنيت. سرقت. وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل. فقالت أمه: اللهم! لا تجعل ابني مثلها. فترك الرضاع ونظر إليها. فقال: اللهم! اجعلني مثلها. فهناك تراجعا الحديث. فقالت: حلقى! مر رجل حسن الهيئة فقلت: اللهم! اجعل ابني مثله فقلت: اللهم! لا تجعلني مثله. ومروا بهذه الأمة وهم يضربونها ويقولون: زنيت. سرقت. فقلت: اللهم! لا تجعل ابني مثلها فقلت: اللهم! اجعلني مثلها. قال: إن ذاك الرجل كان جبارا. فقلت: اللهم! لا تجعلني مثله. وإن هذه يقولون لها: زنيت. ولم تزن. وسرقت. ولم تسرق. فقلت: اللهم! اجعلني مثلها. 5663 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف، قيل: من؟ يا رسول الله! قال: "من أدرك أبويه عند الكبر، أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة". 5664 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه" قيل: من؟ يا رسول الله! قال: "من أدرك والديه عند الكبر، أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة". 5665 - وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رغم أنفه" ثلاثا. ثم ذكر مثله.

-[المعنى العام]- نعم. حقوق الله تعالى مبنية على تفضله وعفوه ومسامحته، وقد أراد - جل شأنه - أن يقدم حقوق عباده بعضهم مع بعض، وأن يجعل طابعها المشاحة، وأول حقوق العباد حقوق الوالدين على الولد، وإذا تعارض حق الله مع حق الوالدين، قدمت الشريعة حق الوالدين، وجعلته أهم، لأن في حقهما حق الله تعالى، فهو الذي شرع لهما حقهما، فأداؤه أداء لحق الله وأمره وقضائه. أمام هذا نجدنا إذا تعارضت الصلاة مع بر الوالدين قدم بر الوالدين. أمام هذا ومع أن الصلاة مناجاة بين العبد وربه، إذا دعت الأم ابنها الذي يصلي، كان عليه أن يقدم إجابتها على الاستمرار في الصلاة، وهذا ما لم يفعله جريج الراهب، صاحب قصة الحديث، مما دفع أمه إلى الدعاء عليه، وأجاب الله دعاءها، ولما كان مجتهدا، كان خطؤه مأجورا، فتداركته نعمة من ربه، ولحقته رحمة الله وفضله، فأنقذه بعد غرقه، وخرق له العادة، وكرمه بأن أنطق الطفل في المهد يشهد له، كما شهد صاحب يوسف ليوسف، وكما تكلم عيسى عليه السلام في المهد، يبرئ أمه ويشهد لها، وكما تكلم الطفل يرد دعاء أمه. كرامات ومعجزات، إن دلت على شيء فإنما تدل على قدرة الله تعالى التي لا تحدها عادة، ولا يحول بينها وبين الإنجاز حائل. ونعود إلى بر الوالدين وحقوقهما، وقد ذكرنا وذكرت الأحاديث بعضا منها في البابين السابقين، وهي هنا تربط دخول الجنة برضاهما وبرهما، وتتوعد من يعقهما بالحرمان من الجنة، وتحث من تهيأ له فرصة البر بهما، والإحسان إليهما أن ينتهز هذه الفرصة ولا يضيعها، والفرصة الحقيقية لذلك عند كبرهما وضعفهما وحاجتهما، فيا فوز من انتهزها، فأضحكهما، وسرهما، ولم يقل لهما أف، ولم ينهرهما، وقال لهما قولا كريما، وخفض لهما جناح الذل من الرحمة، وقال رب ارحمهما كما ربياني صغيرا. -[المباحث العربية]- (كان جريج يتعبد في صومعة) بفتح الصاد وسكون الواو، وهي البناء المرتفع المحدد أعلاه، يقال: صمع الشيء دققه وحدده، والصومع والصومعة بيت العبادة عند رهبان النصارى، وهي تشبه الصومعة التي تبنى لخزن الحبوب، يبنيها الرهبان عادة على رأس جبل، لينقطعوا فيها للعبادة، ويصعب وصول الناس إليها، وقد يطلق عليها الدير بفتح الدال، إذا كانت متسعة. ويبدو أنها كانت هنا كذلك، إذ في الرواية "وكان راعي ضأن يأوي إلى ديره" أي يأوي إلى دير جريج "قالت: من صاحب هذا الدير" "فأخذوا يهدمون ديره" والظاهر أنه كان بعد عيسى ابن مريم، وأنه كان من أتباعه، لأنهم الذين ابتدعوا الترهب وحبس النفس في الصوامع، وعند أحمد "كان رجل في بني إسرائيل تاجرا، وكان ينقص مرة، ويزيد مرة، فقال: ما في هذه التجارة خير، لألتمسن تجارة، هي خير من هذه، فبنى صومعة، وترهب فيها، وكان يقال له جريج ... ". الحديث، ومعنى "يتعبد"

يصلي، بدلالة ما بعده وفي الرواية الثانية "كان جريج رجلا عابدا، فاتخذ صومعة، فكان فيها" أي يتعبد ويصلي. وعند البخاري "كان في بني إسرائيل رجل، يقال له: جريج، كان يصلي .... ". (فجاءت أمه تدعوه) أي تناديه لمصلحة لها أو له، تناديه لينزل إليها، أو يكلمها من أعلى. (قال حميد: فوصف لنا أبو رافع صفة أبي هريرة لصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمه حين دعته، كيف جعلت كفها فوق حاجبها، ثم رفعت رأسها إليه، تدعوه) كان من دقة الرواة وتوثيقهم لروايتهم أن ينقلوا الحركات مع الأقوال، فرسول الله صلى الله عليه وسلم وصف أم جريج عند ندائها ابنها، بأنها وضعت كفها فوق حاجبها وعينيها، كي تظلها من الشمس، حين رفعت رأسها من أسفل إلى أعلى، وصف هذه الحالة بالفعل، لا بالقول، فوصف أبو هريرة هذه الحالة لتلميذه أبي رافع، حين تحديثه له بهذا الحديث بالفعل أيضا، فوصف أبو رافع هذه الحالة بالفعل أيضا حين حدث أبا حميد بهذا الحديث. (فقالت: يا جريج، أنا أمك. كلمني، فصادفته يصلي، فقال: اللهم أمي وصلاتي، فاختار صلاته) واستمر فيها، فلم يجب أمه، وقوله: اللهم أمي وصلاتي. قول في نفسه على الأرجح، أي أيهما أقدم؟ . ويحتمل أنه تكلم بذلك، ولم يكن الكلام ممنوعا في صلاتهم، كما كان الحال في صدر الإسلام. (فرجعت، ثم عادت) مرتين غير الأولى، وفي الرواية الثانية أن العودة كانت من الغد، لا في اليوم نفسه، ثم اليوم الذي بعد الغد، ثم إن الدعاء عليه كان في اليوم الثالث. (اللهم. إن هذا جريج، وهو ابني، وإني كلمته فأبى أن يكلمني) ذكرت في هذه الرواية أسباب الدعاء عليه، وهي هنا ثلاثة. إنه موجود يسمعها ويعرفها، وأنه ابنها ولها عليه حقوق، وأنه لم يرد عليها نداءها، ولم تذكر هذه الحيثيات في الرواية الثانية. (فلا تمته حتى تريه المومسات) بضم الميم الأولى وكسر الثانية، جمع مومسة، وتجمع على ميامس أيضا، وهي الزواني البغايا، المتجاهرات بذلك، وفي الرواية الثانية "لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات" وفي رواية للبخاري "حتى تريه وجوه المومسات" وفي رواية "حتى تريه المومسة" بالإفراد، وفي رواية فغضبت، فقالت: اللهم. لا يموتن جريج، حتى ينظر في وجوه المومسات" وفي رواية "أبيت أن تطلع إلى وجهي، لا أماتك الله حتى تنظر في وجهك زواني المدينة" والمراد من الرؤية والنظر الابتلاء والادعاء والمواجهة. (قال: ولو دعت عليه أن يفتن لفتن) أي لو دعت عليه أن يقع في المعصية لوقع فيها. (وكان راعي ضأن يأوي إلى ديره) ليستظل به، ويأنس إلى جواره. (فخرجت امرأة من القرية فوقع عليها الراعي) بجوار الصومعة، والمراد امرأة زانية معلنة، خرجت من القرية قاصدة فتنة جريج، وإغراءه، وإيقاعه، ففي الرواية الثانية "فتذاكر بنو إسرائيل جريجا، وعبادته" يمدحونه، ويثنون عليه "وكانت امرأة بغي، يتمثل بحسنها" "يتمثل" بضم الياء، وفتح التاء والميم وتشديد الثاء، أي يضرب المثل بها في الحسن والجمال، لانفرادها بذلك،

أي لا مثيل لها. كانت تسمع كلامهم "فقالت: إن شئتم لأفتننه لكم" وأغوينه، وأوقعنه في الزنا، وأبطلن ثناءكم عليه، وعلى عبادته، فوافقوها، وحرضوها، وشجعوها، وفي رواية "قالوا: قد شئنا" فذهبت إلى صومعته "فتعرضت له" تمر بفتحات الصومعة، وتناديه، وتغني، وتتكسر، وتبدي زينتها ومفاتنها "فلم يلتفت إليها" فوجدت الراعي يأوي إلى ظل الصومعة "فأتت راعيا كان يأوي إلى صومعته، فأمكنته من نفسها، فوقع عليها" وهي تبيت النية باتهام الراهب، لتحقق لبني إسرائيل ما توعدته به، وفي رواية أن هذه المرأة كانت بنت ملك القرية، وفي رواية "وكانت تأوي إلى صومعته راعية ترعى الغنم" قال الحافظ ابن حجر: ويمكن الجمع بين هذه الروايات بأنها خرجت من دار أبيها، بغير علم أهلها متنكرة، وكانت تعمل الفساد، فاحتالت بأن خرجت في صورة راعية، ليمكنها أن تأوي إلى ظل الصومعة، لتتوصل إلى فتنته. (فحملت، فولدت غلاما، فقيل لها: ما هذا؟ قالت: من صاحب هذا الدير) في الرواية الثانية "فحملت، فلما ولدت قالت: هو من جريج" وفي رواية "فقيل لها: ممن هذا؟ قالت: من جريج" وفي رواية "فقيل لها: من صاحبك؟ قالت: جريج الراهب، نزل إلي فأصابني" زاد في رواية "فذهبوا إلى الملك، فأخبروه، قال: أدركوه، فأتوني به". (فجاءوا بفئوسهم ومساحيهم، فنادوه، فصادفوه يصلي، فلم يكلمهم، قال: فأخذوا يهدمون ديره، فلما رأى ذلك نزل إليهم، فقالوا له: سل هذه) وفي الرواية الثانية "فأتوه، فاستنزلوه، وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه، قال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه البغي، فولدت منك". وعن البخاري "فأتوه، فكسروا صومعته، وأنزلوه" وفي رواية "فما شعر حتى سمع بالفئوس في أصل صومعته، فجعل يسألهم: ويلكم ما لكم؟ فلم يجيبوه، فلما رأى ذلك أخذ الحبل فتدلى" وفي رواية "فجعلوا يضربونه، ويقولون: مراء، تخادع الناس بعملك" وفي رواية "فقال له الملك: ويحك يا جريج، كنا نراك خير الناس، فأحبلت هذه. اذهبوا به، فاصلبوه" وفي رواية "فجعلوا في عنقه وعنقها حبلا، وجعلوا يطوفون بهما في الناس" وفي رواية "فلما مروا به نحو بيت الزواني خرجن ينظرن فتبسم، فقالوا: لم تضحك؟ فقال: ما ضحكت إلا من دعوة دعتها علي أمي". (قال: فتبسم، ثم مسح رأس الصبي، فقال: من أبوك؟ ) في الرواية الثانية "فقال: أين الصبي؟ فجاءوا به، فقال: دعوني: حتى أصلي، فصلى، فلما انصرف أتى الصبي، فطعن في بطنه، وقال: يا غلام، من أبوك" وفي رواية "فطعنه بإصبعه، فقال: بالله يا غلام من أبوك"؟ وفي رواية أنه سألهم أن ينظروه، فأنظروه، فرأى في المنام من أمره أن يطعن في بطن المرأة، فيقول أيتها السخلة. من أبوك؟ ففعل" وفي رواية عند أحمد "فوضع إصبعه على بطنها" وفي رواية "ثم انتهى إلى شجرة، أخذ منها غصنا ثم أتى الغلام وهو في مهده فضربه بذلك الغصن، فقال: من أبوك"؟ وفي رواية "أنه قال للمرأة أين أصبتك؟ قالت: تحت تلك الشجرة، فأتى الشجرة فقال: يا شجرة. أسألك بالذي خلقك. من زنى بهذه المرأة؟ فقال كل غصن منها راعي الغنم" وفي رواية "فأتى بالمرأة والصبي، وفمه في ثديها، فقال له جريج: يا غلام. من أبوك؟ فنزع الغلام فاه من الثدي" ولما كان الصبي على

صدرها، أمكن الجمع بين الروايات بأنه طعن الصبي، وطعنها في بطنها، ومسح رأس الغلام، وذهب إلى الشجرة، وحصل كل ذلك ولا تعارض، والمستبعد القول بتعدد القصة، أو أنه استنطق الغلام في بطنها مرة، وبعد أن ولد مرة أخرى. (قال: أبي راعي الضأن) في الرواية الثانية "قال: فلان الراعي" وفي رواية "قال: الراعي" وفي رواية "أنا ابن الراعي" وفي رواية "قال: راعي الغنم". وفي رواية "قال: يا بابوس. من أبوك؟ قال: راعي الغنم". وقوله: "يا بابوس" بباءين بينهما ألف ساكنة قيل: معناه الصغير، وقيل: معناه الرضيع، وأغرب الأقوال أنه اسم ذلك الولد. (فلما سمعوا ذلك منه) أي من الطفل. (قالوا: نبني ما هدمنا من ديرك بالذهب والفضة، قال: لا) في الرواية الثانية "فأقبلوا على جريج يقبلونه، ويتمسحون به، وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب؟ قال: لا" وفي رواية "فقال له الملك: نبني صومعتك من ذهب؟ قال: لا. قال: من فضة؟ قال: لا" وفي رواية "فوثبوا إلى جريج فجعلوا يقبلونه" وفي رواية "فسبح الناس وعجبوا" وفي رواية "فأبرأ الله جريجا، وأعظم الناس أمر جريج". (ولكن أعيدوه ترابا، كما كان) أي بالطين، وفي الرواية الثانية "أعيدوها من طين كما كانت" وعند البخاري "لا. إلا من طين". قال ابن مالك: في هذا شاهد على حذف المجزوم بلا، فإن التقدير لا تبنوها إلا من طين. (لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة) ذكر مسلم في هذا الحديث عيسى ابن مريم، وصبي جريج، وصبي المرأة، لكن عند أحمد والبزار وابن حبان والحاكم "لم يتكلم في المهد إلا أربعة، فلم يذكر الثالث الذي هنا، وذكر شاهد يوسف، والصبي الرضيع الذي قال لأمه - وهي ماشطة فرعون، لما أراد فرعون إلقاء أمه في النار - "اصبري يا أمه، فإنا على الحق". قال الحافظ ابن حجر: فيجتمع من هذا خمسة، وعند مسلم في قصة أصحاب الأخدود "أن امرأة جيء بها لتلقى في النار، أو لتكفر، ومعها صبي يرضع، فتقاعست، فقال لها: يا أمه. اصبري، فإنك على الحق". وزعم الضحاك في تفسيره أن يحيى تكلم في المهد، أخرجه الثعلبي، فإن ثبت صاروا سبعة، ذكر البغوي في تفسيره أن إبراهيم الخليل عليه السلام تكلم في المهد، وفي سير الواقدي أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم أوائل ما ولد. قال القرطبي: في هذا الحصر "لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة" نظر، إلا أن يحمل على أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبل أن يعلم الزيادة على ذلك. وفيه بعد، قال: ويحتمل أن يكون كلام الثلاثة المذكورين مقيدا بالمهد، وكلام غيرهم من الأطفال بغير مهد اهـ. والمراد من المهد السرير أو الفراش الذي يهيأ للطفل لينام، ويلحق به هنا صدر الأم وحضنها. (وبينا صبي يرضع من أمه فمر رجل راكب) "بين" ظرف زمان زيدت عليه الألف، خافض لشرطه بالإضافة، منصوب بجوابه، والتقدير: مر رجل راكب على دابة وقت رضاعة صبي من أمه.

وفي رواية للبخاري "وكانت امرأة ترضع ابنا لها، من بني إسرائيل فمر رجل راكب". (على دابة فارهة) أي نشطة حادة قوية، يقال: فره بضم الراء يفره، فراهة وفروهة جمل وحسن وخف ونشط، وحذق ومهر، فهو فاره، وفي القرآن الكريم {وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين} [الشعراء: 149] (وشارة حسنة) أي هيئة حسنة، ولباس حسن، وفي رواية للبخاري "فمر بها راكب ذو شارة" أي صاحب هيئة ومنظر وملبس حسن، يتعجب منه، ويشار إليه. (فقالت أمه: اللهم اجعل ابني مثل هذا) وفي رواية للبخاري "اللهم اجعل ابني مثله" وفي رواية أخرى له "فقالت: اللهم لا تمت ابني حتى يكون مثل هذا". (فترك الثدي، وأقبل إليه، فنظر إليه، فقال: اللهم لا تجعلني مثله) وفي رواية للبخاري "فترك ثديها، وأقبل على الراكب، فقال: "اللهم لا تجعلني مثل هذا". (ثم أقبل على ثديه، فجعل يرتضع - قال: فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يحكي ارتضاعه، بأصبعه السبابة في فمه، فجعل يمصها) وفي رواية للبخاري "قال أبو هريرة: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يمص إصبعه" يحكي أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم حكى عودة الصبي إلى ثدي أمه يمص، حكى ذلك بأن وضع إصبعه في فمه يمصها. (قال: ومروا بجارية) فاعل "مروا" للصبي وللأم، ومن معهما، وفي رواية للبخاري "ثم مر بأمة" بضم الميم، مبني للمجهول. (وهم يضربونها، ويقولون: زنيت، سرقت) بكسر التاء فيهما على الخطاب، أي أنت زنيت. أنت سرقت. وفي راية للبخاري "يقولون: سرقت". فيحتمل أن يكون بسكون التاء وفتح القاف على الغيبة. قال الحافظ ابن حجر: وهو مستبعد، لعدم تناسقه مع "زنيت" وفي رواية لأحمد "يقولون: سرقت، ولم تسرق، زنيت، ولم تزن". (وهي تقول: حسبي الله، ونعم الوكيل) وفي رواية للبخاري "ولم تفعل" وفي رواية "يقولون لها: تزني؟ وتقول: حسبي الله، ويقولون لها: تسرق، تقول: حسبي الله" وفي رواية أنها كانت حبشية أو زنجية، وأنها ماتت من الضرب فجروها، حتى ألقوها. (فقالت أمه: اللهم لا تجعل ابني مثلها) تظنها جانية، سارقة، زانية حقيقة. (فترك الرضاع، ونظر إليها، فقال: اللهم اجعلني مثلها) أي ترك الرضاع، ونظر إلى الجارية. وقال: اللهم اجعلني مثلها أي في طهرها، وعفتها، ونقائها، لا مثلها في الاتهام بالباطل والضرب. (فهناك تراجعا الحديث) أي راجعت الأم وابنها الحديث، وأقبلت على الطفل تحدثه، وتسأله وكانت أولا، لا تراه أهلا للكلام، فلما تكرر منه الكلام علمت أنه أهل له، فسألته وراجعته. (فقالت: حلقى) بفتح الحاء وسكون اللام وفتح القاف، قال النووي: يرويه المحدثون بالألف،

التي هي ألف التأنيث، ويكتبونه بالياء، ولا ينونونه، وهو صحيح فصيح، وقال أبو عبيد: أصحاب الحديث يروونه "حلقى" وإنما هو "حلقا" قال شمر: قلت لأبي عبيد: لم لا تجيز "حلقى"؟ فقال: لأن فعلي تجيء نعتا، ولم تجيء في الدعاء. اهـ. ومعنى "حلقى" هنا أي حلق الله شعري، وقيل: معناه جعلني الله شؤما على أهلي، هذا أصلها، ثم اتسعت العرب في استعمالها، فصارت تطلقها، ولا تريد حقيقة الدعاء، ولا حقيقة ما وضعت له أولا، كقولهم: تربت يمينه، اهـ. كأنها تتأسف على دعائها السابق لابنها، حيث أصبح أعلم منها بالنتائج، فقالت تسأله: (مر رجل حسن الهيئة، فقلت: اللهم اجعل ابني مثله. فقلت: اللهم لا تجعلني مثله. ومروا بهذه الأمة، وهم يضربونها، ويقولون: زنيت. سرقت. فقلت: اللهم لا تجعل ابني مثلها. فقلت: اللهم اجعلني مثلها) فما السر؟ وماذا تعلم؟ ولا أعلم؟ . (قال: إن ذاك الرجل كان جبارا، فقلت: اللهم لا تجعلني مثله، وإن هذه يقولون لها: زنيت، ولم تزن، وسرقت، ولم تسرق. فقلت: اللهم اجعلني مثلها) في السلامة من المعاصي. (رغم أنف. ثم رغم أنف، ثم رغم أنف) الرغم بضم الراء وفتحها وكسرها مع سكون الغين، وأصله لصق أنفه بالرغام، وهو تراب مختلط برمل، وقيل: الرغم كل ما أصاب الأنف مما يؤذيه، والمراد من "رغم أنفه" أي ذل وخزي. و"أنف" فاعل "رغم" ولم ينون على نية الإضافة، والأصل: رغم أنف من أدرك، والجملة خبرية لفظا ومعنى، أو خبرية لفظا دعائية معنى. (من أدرك أبوه عند الكبر - أحدهما أو كليهما، فلم يدخل الجنة) معناه أن برهما عند كبرهما وضعفهما بالخدمة، أو النفقة، أو غير ذلك، سبب لدخول الجنة، فمن قصر في ذلك فاته دخول الجنة، وذل في الآخرة، والمراد من إدراكهما إدراكهما أحياء، و"أحدهما أو كليهما" بالنصب بدل من "أبويه" وفي الرواية الرابعة وملحقها "رغم أنفه". -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث]- 1 - من الرواية الأولى والثانية قال النووي: هذا دليل على أنه كان الصواب في حقه إجابتها لأنه كان في صلاة نفل، والاستمرار فيها تطوع، لا واجب، وإجابة الأم وبرها واجب، وعقوقها حرام، وكان يمكنه أن يخفف الصلاة، ويجيبها، ثم يعود لصلاته، فلعله خشي أن تدعوه إلى مفارقة صومعته، والعود إلى الدنيا ومتعلقاتها وحظوظها، وتضعف عزمه فيما نواه، وعاهد عليه. اهـ. وتعقبه الحافظ ابن حجر فقال: فيه نظر، لأنها كانت تأتيه، فيكلمها، والظاهر أنها كانت تشتاق إليه، فتزوره، وتقتنع برؤيته وتكليمه، وكأنه إنما لم يخفف، ثم يجيبها، لأنه خشي أن ينقطع خشوعه. اهـ. أقول: إن الحديث صريح في أنه آثر الاستمرار في الصلاة دون قطعها، ودون تخفيفها على إجابة أمه، وليست هناك إشارة إلى أنه خشي أن تدعوه إلى مفارقة صومعته، والعود إلى الدنيا ومتعلقاتها،

وهذا سر خطئه، وإجابة دعاء أمه، وكان الأولى به أن يقطع صلاته، ويبرها، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لو كان جريج عالما لعلم أن إجابته أمه، أولى من عبادته ربه". وقد استنبط منه بعض العلماء جواز قطع الصلاة لإجابة نداء الأم مطلقا، نفلا أو فرضا، لأنه لم تحدد صلاة جريج، وهو وجه في مذهب الشافعية، ومنعه بعضهم نفلا وفرضا، وحملوا هذا الحديث على أن قطع الصلاة كان مباحا عندهم في شرعهم، والأصح عند الشافعية أن الصلاة إن كانت نفلا، وعلم تأذي الوالد بالترك، وجبت الإجابة، وإلا فلا، وإن كانت فرضا، وضاق الوقت لم تجب الإجابة، وإن لم يضق وجبت، وعند المالكية أن إجابة الوالد في النافلة أفضل من التمادي فيها، وحكى بعضهم أن ذلك يختص بالأم، دون الأب، ورد بأنه لم يقل به أحد من السلف. 2 - واستدل به على إجابة دعاء الأم، ولو كان بالضرر للابن. 3 - ولو كان الابن معذورا. 4 - قال بعضهم: وفيه الرفق بالتابع، إذا جرى منه ما يقتضي التأديب، لأن أم جريج مع غضبها منه، لم تدع عليه إلا بما دعت به خاصة، ولولا طلبها الرفق به لدعت عليه بوقوع الفاحشة أو القتل. قاله الحافظ ابن حجر. وفيه نظر، إذ العقوبة التي دعت عليه بها أفظع بكثير من الجناية التي اقترفها، فلا رفق فيها، وتظهر فظاعتها فيما حصل له، وما كان يمكن أن يحصل لولا لطف الله به، وما كان لها أن تدعو عليه بوقوع الفاحشة، فذاك دعاء بالفحش، ولا بالقتل، لأنه يؤلمها هي بالدرجة الأولى، ولو قيل: فيه قسوة الأم على ابنها عند الغضب، لكان أولى. 5 - وفيه أن صاحب الصدق مع الله لا تضره الفتن غالبا. 6 - وفيه قوة يقين جريج وصحة رجائه، لأنه استنطق المولود، مع كون العادة أنه لا ينطق، ولولا صحة رجائه بنطقه ما استنطقه. قاله الحافظ ابن حجر. وأميل إلى أن الله تعالى ألهمه، مناما أو بغير منام أن ذلك سيقع، ففعل ما فعل مطمئنا للكرامة. 7 - وفيه أن الله تعالى يجعل لأوليائه عند ابتلائهم مخرجا، وإنما يتأخر ذلك عن بعضهم في بعض الأوقات، تهذيبا وزيادة لهم في الثواب. 8 - وفيه إثبات كرامات الأولياء. 9 - ووقوع الكرامة لهم باختيارهم وطلبهم، وقال ابن بطال: يحتمل أن يكون جريج كان نبيا، فتكون معجزة، لكن هذا المأخذ يمكن أخذه من المرأة التي كلمها ولدها المرضع. 10 - وفيه جواز الأخذ بالأشد في العبادة، لمن علم من نفسه قوة على ذلك. 11 - وفيه أن مرتكب الفاحشة لا تبقى له حرمة، حتى في العصور السابقة على الإسلام. 12 - واستدل به بعضهم على أن بني إسرائيل كان من شرعهم أن المرأة تصدق، ويقبل قولها فيما تدعيه على الرجال، من الوطء، ويلحق به الولد، وأنه لا ينفعه جحد ذلك، إلا بحجة تدفع قولها. 13 - استدل به بعضهم على نسبة ابن الزاني للزاني، فمن زنى بامرأة فولدت بنتا، لا يجوز

له التزوج بتلك البنت، خلافا للشافعية، في أن ماء الزنا هدر، لا يثبت نسبا، ووجهة دلالة الحديث على المدعي، أن جريجا نسب ابن الزنا للزاني، في قوله: من أبوك؟ وصدق الله نسبته بما خرق له من العادة في نطق المولود، بشهادته له بذلك، في قوله: أبي فلان الراعي، فكانت تلك النسبة صحيحة، فيلزم أن يجري بينهما أحكام الأبوة والبنوة، وإنما خرج التوارث والولاء بدليل آخر، فبقي ما عدا ذلك على حكمه، ويرد المخالفون بأن هذا قد يكون شرع من قبلنا، ولم يرد في شرعنا ما يؤيده. 14 - ومن روايتنا الثانية من أن جريجا طلب منهم أن يصلي قبل أن يسأل الطفل أن المفزع في الأمور المهمة إلى الله تعالى، يكون بالصلاة. 15 - ومن الرواية التي توضأ فيها أن الوضوء لا يختص بهذه الأمة، خلافا لمن زعم ذلك، وإنما الذي يختص بها الغرة والتحجيل في الآخرة. 16 - وأن من هدم حائطا بنى مثله، وذهب مالك إلى وجوب القيمة الناجزة، أما البنيان فقد يتأخر. 17 - ومن الرواية الثانية من قصة المرأة وطفلها أن نفوس أهل الدنيا، تقف مع الخيال الظاهر، فتخاف سوء الحال، بخلاف أهل التحقيق، فوقوفهم مع الحقيقة الباطنة، فلا يبالون بذلك مع حسن السريرة، كما قال تعالى، حكاية عن أصحاب قارون، حيث خرج عليهم {يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون} و {وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير} [القصص: 79، 80] 18 - وفيها أن البشر طبعوا على إيثار الأولاد على الأنفس بالخير، لطلب المرأة الخير لابنها، ودفع الشر عنه ولم تذكر نفسها. 19 - من الرواية الثالثة والرابعة الحث على بر الوالدين، وعظم ثوابه. 20 - وأنه سبب في دخول الجنة. والله أعلم

(687) باب فضل صلة أصدقاء الأب والأم، ونحوهما

(687) باب فضل صلة أصدقاء الأب والأم، ونحوهما 5666 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رجلا من الأعراب لقيه بطريق مكة. فسلم عليه عبد الله، وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه. فقال ابن دينار: فقلنا له: أصلحك الله! إنهم الأعراب وإنهم يرضون باليسير. فقال عبد الله: إن أبا هذا كان ودا لعمر بن الخطاب. وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه". 5667 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أبر البر أن يصل الرجل ود أبيه". 5668 - عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه كان إذا خرج إلى مكة كان له حمار يتروح عليه، إذا مل ركوب الراحلة. وعمامة يشد بها رأسه. فبينا هو يوما على ذلك الحمار. إذ مر به أعرابي. فقال: ألست ابن فلان بن فلان؟ قال: بلى. فأعطاه الحمار وقال: اركب هذا. والعمامة، قال: اشدد بها رأسك. فقال له بعض أصحابه: غفر الله لك! أعطيت هذا الأعرابي حمارا كنت تروح عليه، وعمامة كنت تشد بها رأسك! فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن من أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه، بعد أن يولي" وإن أباه كان صديقا لعمر. -[المعنى العام]- كان ابن عمر - رضي الله عنهما - معنيا بالتصدق بأحب الأشياء لديه، حتى روي أنه كان يشتري السكر، ويتصدق به، فقيل له: ولم السكر؟ قال: لأني أحبه، والله تعالى يقول: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92] وها هو في هذا الحديث يتصدق على أهل ود أبيه بأعز ما معه، حماره الذي يركبه، ويستروح به، حين يمل أو يتعب من ركوبه ناقته، وكان يستصحبه مع ناقته في

سفره، ينتقل منها إليه في بعض الطريق. ومرة استصحبه معه من المدينة إلى مكة، وركبه في طريق من طرقها، فرأى رجلا من أهل البادية يمشي على رجليه كان والده يزور أباه عمر بن الخطاب، وكان عمر يحبه، فوقف، وناداه، وسلم عليه، وسأله عن حاله، ونزل عن الحمار، وأعطاه له، وقال له: اركب، فهو لك، وخلع ابن عمر عمامة كان يلفها حول رأسه، من أجمل ما يملك، كانت تحفظ له هيبته، وتحميه من الشمس، خلعها ووهبها للأعرابي، فعجب مرافقوه، واستكثروا ما أعطاه للأعرابي، فقالوا له: إنه أعرابي من أهل البادية، والقليل من الصلة تكفيهم، وهذا عطاء عليه كثير؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن من أبر البر، وإن خير ما تبر به أباك بعد أن يولي أن تصل أهل من كان يوده في حياته" وقد كان والد هذا الأعرابي صديقا لعمر بن الخطاب. -[المباحث العربية]- (أن رجلا من الأعراب لقيه بطريق مكة، فسلم عليه عبد الله، وحمله على حمار، كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه) في الرواية الثالثة عن ابن عمر - رضي الله عنهما "أنه كان إذا خرج إلى مكة" من المدينة "كان له حمار" يستصحبه معه "يتروح عليه، إذا مل ركوب الراحلة، وعمامة يشد بها رأسه، فبينا هو يوما على ذلك الحمار، إذ مر به أعرابي، فقال: ألست ابن فلان بن فلان؟ قال: بلى: فأعطاه الحمار، وقال: اركب هذا، والعمامة، قال: اشدد بها على رأسك". (فقال ابن دينار) الراوي عن ابن عمر، والمرافق له في هذه الرحلة. (فقلنا له: أصلحك الله: إنهم الأعراب، وأنهم يرضون باليسير) وما أعطيته كثير. والقائل ابن دينار، وأسند القول لنفسه ولأصحابه، لموافقتهم إياه، وفي الرواية الثالثة "فقال له بعض أصحابه: غفر الله لك. أعطيت هذا الأعرابي حمارا كنت تروح عليه، وعمامة كنت تشد بها رأسك"؟ وهذا كثير. (فقال عبد الله: إن أبا هذا كان ودا لعمر) قال القاضي: رويناه بضم الواو، وكسرها، أي صديقا من أهل مودته، وهي محبته. (وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه) في الرواية الثانية "أبر البر أن يصل الرجل ود أبيه" و"من" فيها مقدرة، وفي الرواية الثالثة "إن من أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه، بعد أن يولي، وإن أباه كان صديقا لعمر" قال النووي: الواو هنا في "ود أبيه" مضمومة. اهـ. فهو مصدر. -[فقه الحديث]- 1 - في الحديث فضل صلة أصدقاء الأب، والإحسان إليهم، وإكرامهم، وهو متضمن لبر الأب، وإكرامه، لكونه بسببه، ويلتحق به أصدقاء الأم والأجداد والمشايخ والزوج والزوجة.

2 - وفيه قوة ودقة عمل ابن عمر بالسنة. 3 - وفيه أن بر أقارب الميت ينفع الميت، وقد روى أبو داود وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه "أن رجلا من بني سلمة جاء النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، هل بقي علي من بر أبوي شيء، أبرهما بعد وفاتهما؟ قال: نعم. الصلاة عليهما" أي الدعاء لهما "والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما". وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في بر أصدقاء خديجة بعد وفاتها، رضي الله عنها. والله أعلم

(688) باب تفسير البر والإثم

(688) باب تفسير البر والإثم 5669 - عن النواس بن سمعان الأنصاري رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم؟ فقال: "البر حسن الخلق. والإثم ما حاك في صدرك. وكرهت أن يطلع عليه الناس". 5670 - عن نواس بن سمعان رضي الله عنه قال: أقمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة سنة. ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة. كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء. قال: فسألته عن البر والإثم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البر حسن الخلق. والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس". -[المعنى العام]- ما أجمل أن يسأل الرجل عما يجهل من أمور دينه، وما أحسن ما يسأل عن إيضاح ما خفي فهمه من نصوص شريعته، وقد سمع النواس كلمة البر وكلمة الإثم، وللكلمتين ماصدقات كثيرة، ومن الصعب حصر ما هو بر من الآداب، ومن العسير حصر ما هو إثم وذنب من المعاصي، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مضمون الكلمتين، وكيف يعرف المسلم ما هو بر؟ ليفعله، وما هو إثم ليتجنبه؟ مما لا نص فيه، أو فيه نص مجمل أو مشكل، فوكله صلى الله عليه وسلم إلى قلبه، ليستفتيه حين يشك، فما ضاق به صدرا، وخاف من الناس وعيبهم عليه إذا علموه قد فعله، فهو الإثم، وما اطمأنت إليه النفس، ولم يخش فيه نقد الناس فهو البر، وهو من حسن الخلق. -[المباحث العربية]- (عن النواس بن سمعان الأنصاري) قال النووي: هكذا وقع في نسخ صحيح مسلم "الأنصاري" قال أبو علي الجبائي: هذا وهم، وصوابه الكلابي، فإن النواس كلابي مشهور. قال المازري والقاضي عياض: المشهور أنه كلابي، ولعله حليف للأنصار، قالا: وهو النواس بن سمعان بن خالد بن عمرو بن قرط بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب، كذا نسبه العلائي عن يحيى بن معين، و"سمعان" بفتح السين وكسرها.

(سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر) بكسر الباء، وتشديد الراء، أي عن معناه المراد شرعا، في مثل قولنا: بر الوالدين. (البر حسن الخلق) قال العلماء: البر يكون بمعنى الصلة، وبمعنى اللطف والمبرة، وبمعنى حسن الصحبة، والعشرة وبمعنى الطاعة، وهذه الأمور هي مجامع حسن الخلق. وانظر أول المباحث العربية في باب بر الوالدين. (والإثم) في اللغة الذنب الذي يستحق العقوبة، وجمعه آثام، يقال: أثم بكسر الثاء، يأثم بفتحها، إذا وقع في الإثم، فهو أثم وآثم. والسؤال ليس عن أنواع الإثم، وإنما عن الأوصاف التي يعرف بها الإثم، لتجتنب. (الإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس) أي ما تحرك وتردد في صدرك، ولم تنشرح لفعله، وحصل منه الشك في القلب، وخشيت أن يعرفه عنك الناس، لاحتمال كونه ذنبا، وهذا المقياس خاص بصفوة المؤمنين، فغيرهم قد ينشرح صدره للآثام. (أقمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة سنة) هو معدود في الشاميين، والمعنى أنه أقام بالمدينة، كالزائر والضيف سنة، من غير أن ينتقل إليها استيطانا وإقامة وهجرة. (ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء) كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول أمره بالمدينة يطلب من الصحابة أن يسألوا، ويشجعهم على السؤال، فلما أكثروا، وسألوه عما يفيد وعما لا يفيد، حتى سأل بعضهم عن أبيه الذي مات، أهو في الجنة أم في النار؟ فنزل قوله تعالى {لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} [المائدة: 101] فكان خوفهم من الوقوع في المحاذير بسؤالهم مانعا من سؤالهم، وكان يعجبهم أن يجيء الرجل العاقل من البادية، لا يعلم النهي عن السؤال، فيسأل، فيستفيدون من السؤال والجواب، علم سمعان أنه يسمح بالسؤال للطارئين، دون المهاجرين المقيمين، فكانت رغبته في السؤال عن أمور دينه باعثا له على عدم نية الإقامة والهجرة. -[فقه الحديث]- 1 - فيه فضيلة للنواس بن سمعان. 2 - وفيه استفتاء القلب فيما لا نص فيه. 3 - والبعد عن كل ما يخاف أن يطلع الناس عليه. والله أعلم

فتح المنعم شرح صحيح مسلم تابع كتاب البر والصلة والآداب - كتاب القدر - كتاب العلم - كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - كتاب الرقاق - كتاب التوبة - كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - كتاب صفة القيامة والجنة والنار - كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - كتاب الفتن وأشراط الساعة - كتاب الزهد - كتاب التفسير الجزء العاشر الأستاذ الدكتور موسى شاهين لاشين دار الشروق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

فتح المنعم شرح صحيح مسلم 10 -

جميع حقوق النشر والطبع محفوظة الطبعة الأولى 1423 - هـ - 2002 م دار الشروق القاهرة: 8 شارع سيبويه المصري -رابعة العدوية- مدينة نصر ص. ب.: 33 البانوراما -تليفون: 4023399 - فاكس: 4037567 (202) e-mail: dar@ shorouk.com - www.shorouk.com بيروت: ص. ب.: 8064 - هاتف: 315859 - 817213 - فاكس: 315859 1 (961)

تابع كتاب البر والصلة والآداب

(689) باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها

(689) باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها 5671 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت هذا مقام العائذ من القطيعة قال نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك قالت بلى قال فذاك لك" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اقرءوا إن شئتم {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} [محمد-24]. 5672 - عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله" 5673 - عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يدخل الجنة قاطع" قال ابن أبي عمر قال سفيان يعني قاطع رحم 5674 - عن محمد بن جبير بن مطعم أن أباه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا يدخل الجنة قاطع رحم" حدثنا محمد بن رافع وعبد بن حميد عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري بهذا الإسناد مثله وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. 5675 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من سره أن يبسط عليه رزقه أو ينسأ في أثره فليصل رحمه". 5676 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه".

5677 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم ويسيئون إلي وأحلم عنهم ويجهلون علي فقال "لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل ولا يزال معك من الله ظهير عليهم مادمت على ذلك" -[المعنى العام]- الإسلام دين المودة والمحبة ودين الألفة والاجتماع ودين التكافل والترابط بين البشر فكلهم لآدم وكلهم من ذكر وأنثى آدم وحواء وإذا كان المجتمع الإنساني يشبه البنيان كان التماسك بين لبناته أساس قوته وصلابته وزيادة نفعه وطول بقائه وكما يبدأ البنيان بلبنتين ثم ثلاثا ثم أربعا إلى أن يكتمل ويعظم يبدأ تماسك المجتمع البشري بالأبوين وأبنائهما فكان الأمر ببر الوالدين تلاه الأمر بصلة الرحم ثم الأمر بالإحسان إلى الجار ثم الإحسان إلى المسلم ثم الإحسان إلى غير المسلم بل الإحسان إلى البهائم إن الإسلام لا يستهدف مجتمعا متقاتلا متباغضا بل لا يستهدف مجتمعا مسالما متباعدا بل يستهدف مجتمعا متكافلا متواصلا متحابا متفاعلا كمثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى وتعين إحداهما الأخرى وكمثل البنيان يشد بعضه بعضا وكالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى وأحاديثنا في الحلقة الثانية صلة الأقارب وذوي الأرحام والإسلام يعتمد في أوامره على الترغيب والترهيب وللطاعات آثار محبوبة وللمعاصي آثار مبغوضة والتبصير بالمنافع والأضرار في العواقب مهمة الناصح الأمين فقطيعة الرحم تنذر بقطع الله تعالى خيره عن القاطع وصلة الرحم تعد بصلة فضل الله تعالى للواصل من قطعها قطعه الله ومن وصلها وصله الله ومن أحب أن يطيل الله في عمره وأن يزيد في رزقه فليصل رحمه -[المباحث العربية]- (إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت) أي لما قضاهم وأتمهم قامت الرحم والرحم بفتح الراء وكسر الحاء في الأصل رحم المرأة وهو بيت منبت ولدها ووعائها ثم استعير للقرابة لكونهم خارجين من رحم واحدة ويقال للأقارب ذو رحم كما يقال لهم أرحام وذو الأرحام عند الفقهاء وفي الميراث هم الأقارب من جهة النساء الذين لا سهم لهم ولا عصبة كأولاد الأخوات ولا يدخل فيهم الآباء والأبناء والإخوة والمراد هنا جميع الأقارب ويدخل فيهم الآباء والأبناء ولا يخرج عنهم إلا الأجانب والرحم التي توصل وتقطع وتبر إنما هي معنى من المعاني ليست

بجسم وإنما هي قرابة ونسب تجمعه رحم والدة ويتصل بعضه ببعض فسمى ذلك الاتصال رحما قال القاضي عياض وهذا المعنى لا يتأتى منه القيام ولا الكلام فيكون ذكر قيامها وتعلقها بالعرش (الوارد في الرواية الثانية) ضرب مثل وحسن استعارة على عادة العرب في استعمال ذلك والمراد تعظيم شأنها وفضيلة وأصليها وعظيم إثم قاطعيها بعقوقهم لهذا سمى العقوق قطعا والعق الشق كأنه قطع ذلك السبب المتصل اهـ وعبر ابن أبي جمرة عن هذا المعنى بقوله يحتمل أن يكون بلسان الحال قال الحافظ ابن حجر ويحتمل أن يكون على الحقيقة والأعراض يجوز أن تتجسد وتتكلم بإذن الله تعالى قال ابن أبي جمرة وهل تتكلم كما هي أو يخلق الله لها عند كلامها حياة وعقلا قولان مشهوران والأول أرجح لصلاحية القدرة العامة لذلك ولما في الأولين من تخصيص عموم لفظ القرآن والحديث بغير دليل ولما يلزم منه من حصر قدرة القادر التي لا يحصرها شيء قال القاضي عياض ويجوز أن يكون الذي نسب إليه القول ملكا يتكلم على لسان الرحم اهـ وقال ابن أبي جمرة يحتمل أن يكون المراد بالخلق جميع المخلوقات ويحتمل أن يكون المراد به المكلفين وهذا القول الذي تقوله الرحم يحتمل أن يكون بعد خلق السماوات والأرض وإبرازها في الوجود ويحتمل أن يكون بعد خلقها كتبا في اللوح المحفوظ ولم يبرز بعد إلا اللوح والقلم ويحتمل أن يكون بعد انتهاء خلق أرواح بني آدم عند قوله {ألست بربكم} [الأعراف 172] لما أخرجهم من صلب آدم عليه السلام مثل الذر اهـ في الرواية الثانية "الرحم معلقة بالعرش" وعند البخاري "قامت الرحم فأخذت بحقو الرحمن فقال له مه" وفي رواية "بحقوى الرحمن" بالتثنية والحقو معقد الإزار وهو الموضع الذي يستجار به ويحتزم به على عادة العرب فاستعير ذلك مجازا للرحم في استعاذتها بالله من القطعية وقد يطلق الحقو على الإزار نفسه وهو أقرب للمراد هنا وهو الذي جرت العادة بالتمسك به عند الإلحاح في الاستجارة والطلب والمعنى على هذا صحيح مع اعتقاد تنزيه الله تعالى عن الجارحة قال الطيبي هذا القول مبني على الاستعارة التمثيلية كأنه شبه حالة الرحم وما هي عليه من الافتقار إلى الصلة والذب عنها بحال مستجير يأخذ بحقو المستجار به ثم أسند على سبيل الاستعارة التخييلية ما هو لازم للمشبه به من القيام ثم رشحت الاستعارة بالقول والأخذ وبلفظ الحقو فهو استعارة أخرى والتثنية فيه للتأكيد لأن الأخذ باليدين آكد في الاستجارة من الأخذ بيد واحدة وقوله في رواية البخاري "مه" أي اكفف وهو اسم فعل للزجر وقال ابن مالك هي هنا "ما" الاستفهامية حذفت ألفها ووقف عليها بهاء السكت أي ماذا تريدين؟ (هذا مقام العائذ من القطعية) أي المستعيذ وهو المعتصم بالشيء الملتجئ إليه المستجير به والإشارة إلى المقام أي قيامي في هذا الوقت وفي هذا المكان وبهذه الصفة قيام العائذ بك من القطيعة تطلب من ربها حمايتها من القطيعة والقطيعة هي الإساءة وقيل هي عدم الإحسان

(قال نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك قالت بلى قال فذاك لك) "نعم" أي أجرتك والوصل من الله كناية عن عظيم إحسانه وهو خطاب للناس بما يفهمون لأن أعظم ما يعطيه المحبوب لمحبه الوصال وهو القرب منه وإسعافه بما يريد ومساعدته على ما يرضيه ولما كانت حقيقة ذلك مستحيلة على الله عرف أن ذلك كناية عن عظيم إحسانه لعبده قاله ابن أبي جمرة قال وكذا القول في القطع هو كناية عن حرمان الإحسان قال القرطبي ومقصود هذا الكلام الإخبار بتأكيد أمر صلة الرحم وأنه تعالى أنزلها منزلة من استجاره فأجاره فأدخله في حمايته وإذا كان كذلك فجار الله غير مخذول اهـ (ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرءوا إن شئتم {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها}) والمعنى فهل يتوقع منكم يا من في قلوبكم مرض إن توليتم أمور الناس أن تفسدوا في الأرض بالظلم وسفك الدماء وتقطعوا أرحامكم من يفعل ذلك منكم لعنه الله فأصمه عن سماع الحق وأعمى أبصارهم عن مشاهدة الحقيقة فالآية الكريمة تحذر من قطيعة الرحم وتوصي بصلتها (لا يدخل الجنة قاطع) أي قاطع رحم وأهل السنة على أن الكبيرة لا تمنع من دخول الجنة ولا تخلد في النار وقد سبق في كتاب الإيمان تأويلهم لمثل هذا بأنه محمول على المستحل بلا سبب ولا شبهة مع علمه بالتحريم أو محمول على أنه لا يدخلها أول الأمر مع السابقين بل بعد أن يعاقب على ما ارتكب (من سره أن يبسط عليه رزقه) وفي الرواية السادسة "من أحب أن يبسط له في رزقه" وبسط الرزق توسيعه وكثرته (أو ينسأ له في أثره) بضم الياء وسكون النون أي يؤخر والمراد من الأثر الأجل أي نهايته وهو الموت وسمى الأجل أثرا لأنه يتبع العمر وأصله من أثر مشيه على الأرض فإن من مات لا يبقى له حركة فلا يبقى لقدمه في الأرض أثر و"أو" هنا بمعنى الواو تمنع الخلو وتجيز الجمع وفي الرواية السادسة وروايات البخاري بالواو (فليصل رحمه) أي فليحسن إلى أقاربه (لي قرابة أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم ويسيئون إلي وأحلم عنهم ويجهلون علي) أي فماذا أفعل معهم أأستمر على ما أنا عليه أم أعاملهم بمثل ما يعاملوني به (لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل) أي كأنما بفعلك هذا تطعمهم الرماد الحار وهو تشبيه لما يلحقهم من الألم بما يلحق آكل الرماد الحار من الألم ولا شيء على هذا

المحسن بل ينالهم الإثم العظيم في قطيعته وإدخالهم الأذى عليه وقيل معناه إنك بالإحسان إليهم تخزيهم وتحقرهم في أنفسهم لكثرة إحسانك وقبيح فعلهم كمن يسف المل وقيل ذلك الذي يأكلونه من إحسانك كالمل يحرق أحشاءهم وقوله "أحلم" بضم اللام ومعنى "يجهلون علي" أي يسيئون والجهل هنا القبيح من القول و"تسفهم" بضم التاء وكسر السين وتشديد الفاء و"المل" بفتح الميم وتشديد اللام الرماد الحار (ولا يزال معك من الله ظهير عليهم مادمت على ذلك) الظهير المعين والمدافع أي وستظل منتصرا عليهم بعون الله لا يضرك أذاهم وينفعك إحسانك إليهم -[فقه الحديث]- ذكر البخاري تحت باب فضل صلة الرحم زيادة على ما هنا حديث الرجل الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم "تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم" وقد سبق في كتاب الإيمان كما ذكر حديث "ليس الواصل بالمكافئ" أي الذي يعطي لغيره نظير ما أعطاه ذلك الغير له ليس هو الواصل لأن الغير في هذه الحالة هو الذي وصل وعن عمر موقوفا "ليس الوصل أن تصل من وصلك ذلك القصاص ولكن الوصل أن تصل من قطعك" و"ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها" أي ليست حقيقة الواصل ومن يعتد بصلته هو من يكافئ صاحبه بمثل فعله ولكنه من يتفضل على صاحبه قال الترمذي المراد بالواصل في هذا الحديث الكامل فإن في المكافأة نوع صلة وهو من قبيل "ليس الشديد بالصرعة" و"ليس الغني عن كثرة العرض" قال الحافظ ابن حجر لا يلزم من نفي الوصل ثبوت القطع فهم ثلاث درجات مواصل مكافئ وقاطع فالواصل من يتفضل ولا يتفضل عليه والمكافئ الذي لا يزيد في الإعطاء على ما يأخذ والقاطع الذي يتفضل عليه ولا يتفضل وكما تقع المكافأة بالصلة من الجانبين كذلك تقع المقاطعة من الجانبين فمن بدأ حينئذ فهو الواصل فإن جوزي سمى من جازاه مكافئا اهـ وحكى القرطبي في تفسيره اتفاق الأمة على حرمة قطع الرحم ووجوب صلتها ولا ينبغي التوقف في كون القطع كبيرة حيث توقف الرافعي واختلف في المراد بالقطيعة فقال أبو زرعة ينبغي أن تختص بالإساءة وقال غيره هي ترك الإحسان ولو بدون إساءة لأن الأحاديث آمرة بالصلة ناهية عن القطيعة ولا واسطة بينهما والصلة إيصال نوع من الإحسان كما فسرها بذلك غير واحد فالقطيعة ضدها فهي ترك الإحسان وقال القاضي عياض الصلة درجات بعضها أرفع من بعض وأدناها ترك المهاجرة وصلتها بالكلام ولو بالسلام ويختلف ذلك باختلاف القدرة والحاجة فمنها واجب ومنها

مستحب ولو وصل بعض الصلة ولم يصل غايتها لا يسمى قاطعا ولو قصر عما يقدر عليه وعما ينبغي له لا يسمى واصلا هذا والرواية الخامسة والسادسة تفيدان أن صلة الرحم تزيد الرزق وتطيل العمر وظاهرهما يتعارض مع قوله تعالى {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} [الأعراف 34] والجمع بينهما من وجوه أحدها أن هذه الزيادة كناية عن البركة في العمر بسبب التوفيق إلى الطاعة وعمارة وقته بما ينفعه في الآخرة وصيانته عن تضييعه في غير ذلك ومن المعلوم أن الزمن ظرف لما يقع فيه من الأعمال فمن الناس من يعمل عملا في يوم ويعمله آخر في أسبوع فاليوم عند هذا في قيمته وبركته يساوي أسبوعا عند ذاك سواء في ذلك أعمال الدنيا أو ما يعمها وأعمال الآخرة فصلة الرحم تزيد العمر زيادة معنوية أو بعبارة أخرى يكون الكلام على تقدير مضاف أي تزيد أعمال العمر وهذا الرأي واضح ومحسوس وهو أحرى الآراء بالقبول الوجه الثاني أن الزيادة زمنية لكنها ليست للشخص نفسه ولكنها لما يتبع حياته بعد موته مما ينفعه كالصدقة الجارية والعلم الذي ينتفع به والولد الصالح يدعو له فهذا الذي ينفعه بعد موته في حكم امتداده لعمره وبهذين الوجهين يمكن أن نفسر حديث تقاصر أعمار أمته صلى الله عليه وسلم بالنسبة لأعمار من مضى من الأمم إذ أعطى الله تعالى أمته ليلة القدر وليالي رمضان والجمعة والعبادة في المسجد الحرام والمسجد النبوي وبيت المقدس ومضاعفة الحسنات وغير ذلك الوجه الثالث أن الزيادة على حقيقتها زمنية وأن الستين سنة تتبدل إلى سبعين مثلا بسبب صلة الرحم لكن ذلك بالنسبة إلى علم الملك الموكل بالعمل والآية بالنسبة إلى ما هو في علم الله تعالى كأن يقال للملك مثلا إن عمر فلان ستون سنة مثلا إن لم يصل رحمه فإن وصلها كان عمره سبعين سنة وقد سبق في علم الله أنه يصل رحمه وأن عمره سبعون سنة فالذي في علم الله لا يتقدم ولا يتأخر والذي في علم الملك هو الذي حصلت فيه الزيادة المبنية على صلة الرحم وإليه الإشارة بقوله تعالى {يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} [الرعد 39] فالمحو والإثبات بالنسبة لما في علم الملك وما في أم الكتاب هو الذي في علم الله تعالى ولا محو فيه ويقال له القضاء المبرم ويقال للأول القضاء المعلق واختار الحافظ ابن حجر وآخرون الوجه الثاني مسترشدين بقول الخليل إبراهيم عليه السلام {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} [الشعراء 84] وبما أخرجه الطبراني في الصغير بسند ضعيف عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال "ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من وصل رحمه أنسئ له في أجله فقال إنه ليس زيادة في عمره قال الله تعالى {فإذا جاء أجلهم} الآية ولكن الرجل تكون له الذرية الصالحة يدعون له من بعده"

وللطبراني في الكبير "إن الله لا يؤخر نفسا إذا جاء أجلها وإنما زيادة العمر ذرية صالحة" والأمر نفسه بالوجوه الثلاثة في تعارض زيادة الرزق مع كتابة رزقه وهو في بطن أمه والله أعلم وفي الأحاديث فضل صلة الرحم والحث الشديد عليها وحرمة قطيعتها والتحذير من قطعها والوعيد الشديد بقطع الله لقاطعها والوعد بزيادة الرزق وطول العمر لواصلها وعون الله تعالى وتوفيقه لمن يتحمل الأذى في سبيل وصلها والله أعلم.

(690) باب تحريم التحاسد والتباغض والتدابر والظن والتحسس والتجسس والتنافس والتناجش والهجر فوق ثلاثة أيام

(690) باب تحريم التحاسد والتباغض والتدابر والظن والتحسس والتجسس والتنافس والتناجش والهجر فوق ثلاثة أيام 5678 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث". 5679 - -/- وفي رواية عن الزهري بهذا الإسناد وزاد ابن عيينة "ولا تقاطعوا" 5680 - -/- وفي رواية عن الزهري يذكر الخصال الأربعة جميعا وأما حديث عبد الرزاق "ولا تحاسدوا ولا تقاطعوا ولا تدابروا" 5681 - عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانا" 5682 - -/- وفي رواية عن شعبة بهذا الإسناد مثله وزاد "كما أمركم الله" 5683 - عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام" 5684 - -/- وفي رواية عن الزهري بإسناد مالك ومثل حديثه إلا قوله "فيعرض هذا ويعرض هذا" فإنهم جميعا قالوا في حديثهم غير مالك "فيصد هذا ويصد هذا"

5685 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا يحل للمؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام" 5686 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا هجرة بعد ثلاث" 5687 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا" 5688 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تهجروا ولا تدابروا ولا تحسسوا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا" 5689 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تناجشوا وكونوا عباد الله إخوانا" 5690 - -/- وفي رواية عن الأعمش بهذا الإسناد "لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا إخوانا كما أمركم الله" 5691 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تنافسوا وكونوا عباد الله إخوانا" -[المعنى العام]- من كمال إسلام المسلم سلامة المسلمين من لسانه ويده ومن الدوافع الداخلية المحركة للسان واليد كالحقد والحسد والبغضاء والظن السيئ وتلك ميادين الشيطان الذي يجري من ابن آدم مجرى الدم والقرآن الكريم يقول {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا} [فاطر 6] وحاربوه كما يحاربكم وقاوموه كما يغرر بكم والقرآن الكريم يقول {إنما يريد

الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} [المائدة 91] إنه يدخل الهواجس في النفوس فتظن بالآخرين شرا فنهى الحديث عن الظن فقال "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث" لأنه مبني على غير الواقع فهو كذب يستهين به صاحبه فيكون أكثر وقوعا وأكثر شرا ثم إن الشيطان ينتقل بالظن إلى محاولة التأكد من المظنون فيدفع إلى التجسس والتحسس فنهى الحديث عن التجسس والتحسس أي من لم يتغلب على الشيطان من أول درجة فليتغلب عليه عند الدرجة الثانية "ولا تحسسوا ولا تجسسوا" ثم ينتقل الشيطان بالمتحسس والمتجسس إلى البغضاء والمقت والكراهية فنهى الحديث عن البغضاء والحقد والحسد فمن لم يتغلب على الشيطان في النزعة الثانية فليتغلب عليه عند الدرجة الثالثة "لا تباغضوا ولا تحاسدوا" فإن انتقل الشيطان بالمتباغضين إلى التقاطع والتدابر والهجر قيل لهم "لا تدابروا ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام" هكذا يدخل الشيطان ليفسد دين المسلم وهكذا يجب محاربته ليبقى المسلم مسلما كاملا ولتبقى الأخوة بينه وبين بني جنسه ليكون الجميع عباد الله إخوانا -[المباحث العربية]- (لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا) بحذف التاء في الثلاثة وأصله تتباغضوا تتحاسدوا تتدابروا والبغض المقت والكراهية يقال بغض الشيء بفتح الغين يبغضه بضمها بغضا بضم الباء وسكون الغين فهو متعد كأبغض وفي اللازم بغض الشيء بكسر الغين يبغض بفتحها بغضا بضم الباء وسكون الغين وبغض يبغض بضم الغين فهو بغيض ومبغوض ولما كانت البغضاء من عمل القلوب لا سلطان للإنسان عليها توجه النهي إلى تعاطي أسبابها وإلى ما يترتب على وقوعها من أفعال مكتسبة و"الحسد" تمني زوال نعمة الغير سواء أرادها لنفسه أم لم يردها لنفسه والنهي متوجه إلى الأسباب وإلى ما يترتب عليه من البغي والعمل على إزالتها قولا أو فعلا و"التدابر" التولي والإعراض وأصله إعطاء كل من المتقابلين ظهره ودبره نحو الآخر والمفاعلة في هذه الثلاثة ليست مقصودة وليست قاصرة على أن تكون من الجانبين بل النهي موجه عن الفعل ولو من جانب واحد لأنه إذا نهي عن الفعل بطريق المعاقبة والمماثلة نهي عنه إذا كان اعتداء ومن جانب واحد من باب أولى وقد كثرت الأقوال في المراد من التدابر وكلها كناية الأصل المذكور فقال الخطابي المراد لا تتهاجروا فيهجر بعضكم بعضا اهـ ويبعده الجمع بينهما في روايتنا السابعة ولفظها "لا تهجروا ولا

تدابروا" وقال ابن عبد البر التدابر الإعراض وربطه بالتباغض فقال لأن من أبغض أعرض ومن أعرض ولى دبره والمحب بالعكس فكأن المعنى عنده لا تستجيبوا للبغضاء بالتولي والإعراض وقيل معناه لا يستأثر أحدكم على الآخر وقيل للمستأثر مستدبر لأنه يولي دبره حين يستأثر بشيء دون الآخر وقال المازري معنى التدابر المعاداة وحكى عياض أن معناه لا تجادلوا ولكن تعاونوا وربطه مالك بالإعراض عن السلام فقال لا أحسب التدابر إلا الإعراض عن السلام والمعاني كلها متقاربة إلا أن بعضها أخص من بعض وفي الرواية الثانية التقاطع بدل التدابر ولفظها "لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تقاطعوا" والتقاطع المهاجرة وزاد في السادسة الظن والتحسس والتجسس والتنافس وزادت الرواية الثامنة التناجش وزادت الرواية السابعة "ولا يبع بعضكم على بيع بعض" أما الظن فلفظ النهي عنه "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث" وهو أسلوب تحذير والمراد من الظن المنهي عنه ظن السوء بالآخرين والظن عند العلماء إدراك الطرف الراجح وهو درجة تلي الخواطر النفسية وما يهجس في النفس وهي لا تملك بل تعرض ولا تستقر فإن استقرت ورجح ثبوتها على نفيها كانت ظنا فالظن مرحلة من مراحل حديث النفس وليس بعده إلا اليقين ثم العزم ثم النية ثم النزوع وحمل الخطابي الظن في الحديث على هذا أو على ما يستمر صاحبه عليه ويستقر في قلبه دون ما يعرض ولا يستقر لكنه قد سبق حديث تجاوز الله تعالى عما تحدث به النفوس ما لم تتكلم أو تنزع وتتحرك لذا قال سفيان الظن الذي يأثم به هو ما ظنه وتكلم به فإن لم يتكلم به لم يأثم وقال القرطبي المراد بالظن هنا التهمة التي لا سبب لها كمن يتهم رجلا بالفاحشة من غير أن يظهر عليه ما تقتضيها ولذلك عطف عليه قوله "ولا تجسسوا" وذلك أن الشخص يقع له خاطر التهمة فيريد أن يتحقق فيتجسس ويبحث ويستمع فنهى عن ذلك وقال عياض استدل به قوم على منع العمل في الأحكام بالاجتهاد والرأي فإن مبناها الظن وحمله المحققون على ظن في الأحكام مجرد عن الدليل ليس مبنيا على أصل ولا تحقيق نظر وقال النووي ليس المراد في الحديث بالظن ما يتعلق بالاجتهاد الذي يتعلق بالأحكام أصلا بل الاستدلال به لذلك ضعيف أو باطل وقال القرطبي في المفهم الظن الشرعي الذي هو تغليب أحد الجانبين أو هو بمعنى اليقين ليس مرادا هنا من الآية ولا من الحديث فلا يلتفت لمن استدل بذلك على إنكار الظن الشرعي وأما وصف الظن بكونه أكذب الحديث مع أن تعمد الكذب الذي لا يستند إلى ظن أصلا أشد من

الأمر الذي يستند إلى الظن فللإشارة إلى أن الظن المنهي عنه هو الذي لا يستند إلى شيء يجوز الاعتماد عليه فيعتمد عليه ويجعله أصلا ويجزم به فيكون الجازم به كاذبا وإنما صار أشد من الكذب لأن الكذب في أصله مستقبح مستغنى عن ذمه بخلاف هذا فإن صاحبه يزعمه مستندا إلى شيء فوصف بكونه أشد الكذب مبالغة في ذمه والتنفير منه وأن الاغترار به أكثر من الكذب لخفائه غالبا ووضوح الكذب المحض كما استشكل هنا تسمية الظن حديثا وأجيب بأنه من جنس حديث النفس أو بأن المراد عدم مطابقة الواقع سواء كان قولا أو فعلا ويحتمل أن يكون المراد ما ينشأ عن الظن فوصف الظن به مجازا وأما التجسس والتحسس فالأولى بالجيم والثانية بالحاء وفي كل منهما حذف التاء تخفيفا والتي بالجيم من الجس وهو اختبار الشيء باليد وهي إحدى الحواس والتي بالحاء من الحاسة بإحدى الحواس الخمس قال تعالى حاكيا عن يعقوب {يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه} [يوسف 87] فتكون التي بالحاء أعم فإذا ذكرت أولا والتي بالجيم ثانيا كان من قبيل ذكر الخاص بعد العام لمزيد عناية بالخاص وإذا ذكرت التي بالجيم أولا كان من قبيل ذكر العام بعد الخاص لإدخال أفراد لم تدخل وقيل هما متغايران فبالجيم البحث عن عورات الناس وبالحاء استماع حديث القوم وقيل بالجيم البحث عن بواطن الأمور وأكثر ما يقال في الشر وبالحاء البحث عما يدرك بحاسة العين والأذن وقيل بالجيم تتبع الشخص لأجل غيره وبالحاء تتبعه لنفسه وقيل هما بمعنى واحد وذكر الثاني للتأكيد كقولهم بعدا وسحقا وأما التنافس والمنافسة فمعناهما الرغبة في الشيء وفي الانفراد به ونافسته منافسة إذا رغبت فيما رغب فيه وقيل معنى الحديث التباري في الرغبة في أمور الدنيا وحظوظها وأما التناجش فهو إثارة رغبة الغير في السلعة من غير رغبة في شرائها بل ليغر غيره في شرائها وأما النهي عن البيع على البيع فقد سبق توضيحه وحكمه في البيوع (وكونوا عباد الله إخوانا) قوله "عباد الله" منادى بحذف حرف النداء و"إخوانا" خبر كان ويصح أن يكون "عباد الله" خبر "كان" و"إخوانا" خبر ثان أو حال أي كونوا عبيدا لله تأتمرون بأمره وتنتهون عن نهيه واكتسبوا ما تصيرون به إخوانا أي كونوا كإخوان النسب في الشفقة والرحمة والمحبة والمواساة والمعاونة والنصيحة وهذه الجملة تشبه التعليل لما تقدم كأنه قال إذا تركتم هذه المنهيات كنتم إخوانا ومفهومه إذا لم تتركوها كنتم أعداء وزاد في ملحق الرواية الثانية "كما أمركم الله" أي كما أمركم الله بهذه الأوامر المتقدم ذكرها فإنها جامعة لمعاني الأخوة ونسبتها إلى الله والآمر الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله ويحتمل أن يكون المراد بقوله "كما أمركم الله" الإشارة إلى قوله تعالى

{إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات 10] فقد أخبر الله تعالى عن الحالة التي شرعت للمؤمنين فهو بمعنى الأمر (ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث) في الرواية الثالثة "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام" وفي ملحقها "فيصد هذا ويصد هذا" وفي الرواية الرابعة "لا يحل للمؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام" وفي الرواية الخامسة "لا هجرة بعد ثلاث" أي لا تحل هجرة بعد ثلاث والهجرة هنا بكسر الهاء وسكون الجيم ترك الشخص مكالمة الآخر إذا تلاقيا وهي في الأصل الترك فعلا كان أو قولا قال النووي قال العلماء تحرم الهجرة بين المسلمين أكثر من ثلاث ليال بالنص وتباح في الثلاث بالمفهوم وإنما عفي عنه في ذلك لأن الآدمي مجبول على الغضب فسومح بذلك القدر ليرجع ويزول ذلك العارض اهـ وفي تحديد الثلاث قال أبو العباس القرطبي المعتبر ثلاث ليال حتى لو بدأ بالهجر في أثناء النهار ألغى جزء النهار وتعتبر الليلة التي بعد النهار هي البداية وينقضي العفو بانقضاء الليلة الثالثة فاعتبر القرطبي الليالي من غير اعتبار للنهار أخذا من روايات "ثلاث ليال" قال الحافظ ابن حجر وفي الجزم باعتبار الليالي دون الأيام جمود (ففي روايتنا الرابعة) وفي رواية للبخاري "ثلاثة أيام" فالمعتمد أن المرخص فيه ثلاثة أيام بلياليها فحيث أطلقت الليالي أريد بأيامها وحيث أطلقت الأيام أريد بلياليها ويكون الاعتبار مضى ثلاثة أيام بلياليها ملفقة إذا ابتدئت مثلا من الظهر يوم السبت كان آخرها ظهر يوم الثلاثاء ويحتمل أن يلغي الكسر ويكون أول العد من ابتداء اليوم أو الليلة والأول أحوط اهـ وهل هذا خاص بالأخ المسلم وهل السلام يكفي لإزالة الهجر خلاف يأتي في فقه الحديث -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الأحاديث]- 1 - الحث على المودة والتعاطف والشفقة بين المسلمين 2 - النهي عن أسباب التباغض والتحاسد والتدابر وعما يترتب عليها من الأمور المكتسبة 3 - النهي عن كل ما يورث البغضاء بين المسلمين من النجش والبيع على البيع والتنافس والظن السيئ والتحسس والتجسس وأدخل بعض العلماء في ذلك الأهواء المضلة الموجبة للتباغض قال الحافظ ابن حجر والمذموم من التباغض ما كان في غير الله تعالى فإنه واجب فيه ويثاب فاعله لتعظيم حق الله تعالى

4 - استثنى الجمهور من التجسس ما لو تعين طريقا إلى إنقاذ نفس من الهلاك مثلا كأن يخبره ثقة بأن فلانا خلا بشخص ليقتله ظلما أو بامرأة ليزني بها فيشرع في هذه الحالة التجسس والبحث عن ذلك حذرا من فوات استدراكه وقال بعضهم ليس للمحتسب أن يبحث عما لم يظهر من المحرمات ولو غلب على الظن استمرار أهلها بها إلا في مثل الصورة السابقة 5 - قال العلماء إن الحسد الذي في الطبع والظن الذي يطرأ معفو عنه عملا بما أخرجه عبد الرزاق "ثلاث لا يسلم منها أحد الطيرة والظن والحسد قيل فما المخرج منها يا رسول الله قال إذا تطيرت فلا ترجع وإذا ظننت فلا تحقق وإذا حسدت فلا تبغ" وعن الحسن البصري ما من آدمي إلا وفيه الحسد فمن لم يجاوز ذلك إلى البغي والظلم لم يتبعه منه شيء 6 - بوب البخاري بباب ما يجوز من الظن ووضع تحته قوله صلى الله عليه وسلم "يا عائشة ما أظن فلانا وفلانا يعرفان ديننا الذي نحن عليه" فمثل هذا الذي وقع ليس من الظن المنهي عنه لأنه في مقام التحذير من مثل هذا والنهي إنما هو عن ظن السوء بالمسلم السالم في دينه وعرضه وقد قال ابن عمر "إنا كنا إذا فقدنا الرجل في عشاء الآخرة أسأنا به الظن" قال الحافظ ابن حجر ومعناه أنه لا يغيب إلا لأمر سيئ إما في بدنه وإما في دينه 7 - ومن أحاديث الهجر استدل بها النووي على إباحة الهجر في الثلاثة وقيل إن الحديث لا يقتضي إباحة الهجر في الثلاثة وهذا على مذهب من يقول لا يحتج بالمفهوم ودليل الخطاب 8 - في قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الثالثة "وخيرهما الذي يبدأ بالسلام" دليل للشافعي ومالك ومن وافقهما أن السلام يقطع الهجرة ويرفع الإثم فيها ويزيله وقال أحمد وابن قاسم المالكي إن كان يؤذيه ترك الكلام مع السلام لم يقطع السلام هجرته ويؤيد الجمهور ما جاء عند أبي داود بسند صحيح "فإن مرت به ثلاث فلقيه فليسلم عليه فإن رد عليه فقد اشتركا في الأجر" أي وللذي يبدأ زيادة "وإن لم يرد عليه فقد باء بالإثم" أي يأثم الذي لم يرد ويثاب الذي سلم وعند أحمد "فإنهما" أي المتهاجرين "ناكثان عن الحق ما داما على صرامهما وأولهما فيئا يكون سبقه كفارة" زاد في رواية "فإن ماتا على صرامهما لم يدخلا الجنة جميعا" 9 - استدل بقوله "أخاه" على أن الحكم يختص بالمؤمنين وأنه لا يشمل هجر المسلم لغير المسلم 10 - واستدل بقوله "لا يحل لمسلم" أن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة قال النووي ولا حجة لهم لأن التقييد بالمسلم ليس للاحتراز بل لكونه هو الذي يقبل خطاب الشرع وينتفع به 11 - واستدل بهذه الأحاديث على أن من أعرض عن أخيه المسلم وامتنع عن مكالمته والسلام عليه من غير موجب شرعي أثم بذلك لأن نفي الحل يستلزم التحريم ومرتكب الحرام آثم قال ابن عبد البر أجمعوا على أنه لا يجوز الهجران فوق ثلاث إلا لمن خاف من مكالمته ما يفسد عليه دينه أو يدخل منه على نفسه أو دنياه مضرة فإن كان كذلك جاز ورب هجر جميل خير من مخالطة مؤذية

وقد استشكل على هذا ما صدر من عائشة رضي الله عنها في حق ابن الزبير والقصة ساقها البخاري وحاصلها أنه بلغ ابن الزبير وقد بويع من أهل الحجاز بالخلافة أن عائشة رضي الله عنها باعت دارا لها وتصدقت بثمنها فسخط لإسرافها وقال أما والله لتنتهين عائشة عن بيع رباعها أو لأحجرن عليها وبلغ ذلك عائشة فقالت أهو قال هذا قالوا نعم قالت لله علي نذر أن لا أكلم ابن الزبير أبدا وطال هجرها له واستشفع ابن الزبير إليها فلم تقبل وطال الهجر ودخل عليها بحيلة مع بعض من وسطهم وبعد كثير من العتاب والنقاش والبكاء كلمته وأعتقت في نذرها هذا أربعين رقبة وأجاب العلماء عن هذا الإشكال بأجوبة أحسنها أن عائشة رضي الله عنها رأت أن ابن الزبير قد ارتكب بما قال أمرا عظيما وهو قوله "لأحجرن عليها" فإن فيه تنقيصا لقدرها وقد نسب لها ارتكاب ما لا يجوز من التبذير الموجب لمنعها من التصرف فيما رزقها الله تعالى مع ما انضاف إلى ذلك من كونها أم المؤمنين وخالته أخت أمه ولم يكن أحد عندها في منزلته فكأنها رأت أن في ذلك الذي وقع منه نوع عقوق والشخص يستعظم ممن يلوذ به ما لا يستعظمه من الغريب فرأت أن مجازاته على ذلك بترك مكالمته كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلام كعب بن مالك وصاحبيه عقوبة لهما لتخلفهم عن غزوة تبوك بغير عذر ولم يمنع من كلام من تخلف عنها من المنافقين مؤاخذة للثلاثة لعظيم منزلتهم وإزدرائه بالمنافقين لحقارتهم فعلى هذا يحمل ما صدر من عائشة وقد ذكر الخطابي أن هجر الوالد ولده والزوج زوجته ونحو ذلك لا يتضيق بالثلاث واستدل بأنه صلى الله عليه وسلم هجر نساءه شهرا والله أعلم.

(691) باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله

(691) باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله 5692 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره التقوى ها هنا" ويشير إلى صدره ثلاث مرات "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه" 5693 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحو حديث داود وزاد ونقص ومما زاد فيه "إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم" وأشار بأصابعه إلى صدره. 5694 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" -[المعنى العام]- الظلم ظلمات يوم القيامة ومن أقبح الظلم ظلم المسلم لأخيه المسلم لأن له حقين حق الإنسانية وحق الإسلام وليس ذلك فحسب من حق المسلم على المسلم أن يعينه حين يظلم ويساعده على رفع الظلم عنه سواء طلب المساعدة أم لم يطلبها بل من حق المسلم على المسلم عدم الاستهانة به وعدم تحقيره وعدم الاستخفاف به ولو كان فقيرا مغمورا فرب أشعث أغبر هو عند الله خير ممن له مظهر العز والجاه والسلطة فإن الله تعالى لا ينظر ولا يحاسب على المظاهر ولا ينظر للأجسام وإنما يعتمد القلوب وما في القلوب ومن أعظم الذنوب وأكبر الشرور أن يحتقر المسلم المسلم لمظهره أو مهنته أو ضعفه فكل المسلم على المسلم حرام دم المسلم على المسلم حرام ومال المسلم على المسلم حرام كل ذلك إلا بحق الإسلام

-[المباحث العربية]- (المسلم أخو المسلم) هذه أخوة الإسلام فإن كل اتفاق بين شيئين يطلق بينهما اسم الأخوة تقول هذه الأسورة أخت هذه الأسورة قال تعالى {إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات 10] (لا يظلمه) الظلم وضع الشيء في غير موضعه الشرعي والجملة خبر بمعنى الأمر أي لا يظلم مسلم مسلما لأنه أخوه فالجملة الأولى كالعلة للثانية وما بعدها (ولا يخذله) الخذل ترك الإعانة والنصر ومعناه إذا استعان به في دفع ظالم ونحوه لزمه إعانته إذا أمكنه ولم يكن له عذر شرعي في التقاعس عن نصرته وعند البخاري بدل "ولا يخذله" "ولا يسلمه" بضم الياء وسكون السين أي لا يتركه مع من يؤذيه ولا فيما يؤذيه بل يساعده ويدفع عنه ومن مجموع الروايتين يكون المطلوب من المسلم الناصر أن يعين إذا رأى أخاه مظلوما أو في مصيبة سواء استعان به أم لم يستعن وفي الطبراني "ولا يسلمه في مصيبة نزلت به" زاد البخاري "ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة" وعند الترمذي "ستره الله في الدنيا والآخرة" أي من رأى أخاه على قبيح فلم يظهره للناس أو ستره وأنقذه من مصيبته ستره الله في الدنيا جزاء وفاقا وفي الآخرة بالعفو عن زلاته وعدم كشفها بين الخلائق فيدينه ويذكره بذنوبه ثم يقول له سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم وعند البخاري "انصر أخاك ظالما أو مظلوما قالوا يا رسول الله هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما قال تأخذ فوق يديه" (ولا يحقره) بفتح الياء وكسر القاف يقال حقر الشيء بفتح الحاء والقاف يحقره بكسر القاف حقرا بسكونها وحقرة بضم الحاء وحقارة بفتح وكسر وضم الحاء ومحقرة أي استهان به واستصغره واحتقره بمعنى حقره قال النووي قال القاضي ورواه بعضهم "لا يخفره" بضم الياء وسكون الخاء وكسر الفاء أي لا يغدر بعهده ولا ينقض أمانه قال والصواب المعروف هو الأول وهو الموجود في غير كتاب مسلم بغير خلاف وروى "لا يحتقره" وهذا يرد رواية "لا يخفره" (التقوى ههنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات) أي يقولها ثلاث مرات ويشير إلى صدره في كل مرة والتقوى الخشية والخوف وتقوى الله خشيته وامتثال أوامره واجتناب نواهيه والمعنى أن حقيقة التقوى تحصل في القلب وما يظهر من الجوارح قد يكون دليلا على وجودها وقد يكون رياء ونفاقا فالعبرة عند الله بما في القلب ويؤكد هذا المعنى قوله في الرواية الثانية "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" وفي ملحق الرواية الأولى "إن الله لا

ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم" أي الأعمال الظاهرة لا يحصل بها التقوى الأخروية قال النووي ومعنى نظر الله هنا مجازاته ومحاسبته أي إنما يكون ذلك على ما في القلب دون الصورة الظاهرة ونظر الله محيط بكل شيء قال ومقصود الحديث أن الاعتبار في هذا كله بالقلب وهو من نحو قوله صلى الله عليه وسلم "ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) "حسب" بفتح الحاء وسكون السين اسم بمعنى كاف يقال مررت برجل حسبك من رجل أي كافيك واسم فعل يقال حسبك هذا أي اكتف به وفي المثل حسبك من شر سماعه أي يكفيك أن تسمعه لتشمئز منه والمعنى هنا أن احتقار المسلم للمسلم يبلغ في شره الكثير الذي يكفي كل شرير (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) "دمه وماله وعرضه" بدل من "كل" أي دم المسلم حرام ومال المسلم حرام وعرض المسلم حرام والعرض موضع المدح والذم من الإنسان سواء كان في نفسه أو في سلفه أو من يلزمه أمره والجملة كالتذييل لما قبلها -[فقه الحديث]- في الحديث حرمة دم المسلم وماله وعرضه والحث على مساعدة المسلم للمسلم على رفع الظلم وتخفيف البلاء والحث على الاهتمام بالقلوب وأن يصدر المسلم في أعماله عن تقواها وخوفها من الله فيأتمر بالأوامر ظاهرا وباطنا ويجتنب النواهي ظاهرا وباطنا وفي الحديث الحث على عدم احتقار المسلم للمسلم لا يحتقر عمله ولا يحتقر كلامه ولا يحتقر مظهره ولا يحتقر عطاءه وهويته ولا يحتقر فقره فكل ذلك شر وظلم عاقبته وخيمة وفيه قصاص يوم القيامة والله أعلم.

(692) باب النهي عن الشحناء

(692) باب النهي عن الشحناء 5695 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال انظروا هذين حتى يصطلحا انظروا هذين حتى يصطلحا انظروا هذين حتى يصطلحا". 5696 - -/- وفي رواية عن سهيل عن أبيه بإسناد مالك نحو حديثه غير أن في حديث الدراوردي "إلا المتهاجرين" من رواية ابن عبدة وقال قتيبة "إلا المهتجرين". 5697 - عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه مرة قال "تعرض الأعمال في كل يوم خميس واثنين فيغفر الله عز وجل في ذلك اليوم لكل امرئ لا يشرك بالله شيئا إلا امرأ كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال اركوا هذين حتى يصطلحا اركوا هذين حتى يصطلحا". 5698 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "تعرض أعمال الناس في كل جمعة مرتين يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد مؤمن إلا عبدا بينه وبين أخيه شحناء فيقال اتركوا أو اركوا هذين حتى يفيئا". -[المعنى العام]- مازلنا مع أحاديث السلامة والمودة والتآلف بين المسلمين وقد مضى قريبا النهي عن التباغض والتحاسد والتدابر والتقاطع والظن السيئ والتحسس والتجسس والتنافس والهجر والخصام فوق ثلاثة أيام والنهي عن البيع على البيع والنهي عن ظلم المسلم والتخاذل عن نصرته ومساعدته وعن

تحقيره وأن كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه وسبقت الدعوة للمسلمين أن يكونوا عباد الله إخوانا وإن الله لا ينظر إلى الصور والأجسام ولكن ينظر إلى القلوب وهو بها عليم وليس المقصود من أحاديث الباب النهي عن الشحناء كما تبعنا في هذا العنوان الإمام النووي رحمه الله لأن النهي عن الشحناء قد سبق بألفاظ كثيرة ولكن المقصود منها التخويف والوعيد من عاقبة عدم الانتهاء عما نهى الله عنه وكأنه تعالى يقول انتهوا عن الشحناء لتغنموا مغفرة الله لذنوبكم فإن المتشاحنين لا تغفر ذنوبهما حتى يصطلحا -[المباحث العربية]- (تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس) يحتمل أن المراد بأبواب الجنة أسباب دخولها وهي العفو والمغفرة والمراد من فتحها اتساعها واستيعاب داخليها والمعنى تتسع رحمة الله وإحسانه وفضله في يوم الاثنين والخميس من كل أسبوع أكثر من اتساعها وشمولها في الأيام الأخرى قال الباجي معنى فتح الجنة كثرة الصفح والغفران ورفع المنازل وإعطاء الثواب الجزيل وقال القاضي ويحتمل أن يكون على ظاهره وأن فتح أبوابها علامة لذلك اهـ وهذا على القول بأن الجنة والنار موجودتان الآن والرأي الأول هو الصواب ففي الرواية الثانية "تعرض الأعمال في كل يوم خميس واثنين" وفي الرواية الثالثة "تعرض أعمال الناس" أي على الله "في كل جمعة" أي في كل أسبوع "مرتين" أي مرة "يوم الاثنين" ومرة "يوم الخميس" (فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا) في الرواية الثانية "فيغفر الله عز وجل في ذلك اليوم لكل امرئ لا يشرك بالله شيئا" وفي الرواية الثالثة "فيغفر لكل عبد مؤمن" (إلا رجل كانت بينه وبين أخيه شحناء) لفظ "رجل" ليس قيدا وكذلك المرأة ولفظ "كانت" ليس المراد منه المعنى بل المراد تكون والمراد من الأخ الأخ في الإسلام لأن الكلام عن المؤمنين الذين لا يشركون بالله شيئا والشحناء الحقد والعداوة والبغضاء لأنها تشحن النفس والصدر بالضيق من الآخر والشحنة بكسر الشين وسكون الحاء ما يشحن به الشيء وتطلق هنا على العداوة والبغضاء (فيقال انظروا هذين حتى يصطلحا انظروا هذين حتى يصطلحا انظروا هذين حتى يصطلحا) كررت الجملة للتأكيد والإنظار التأخير والمراد تأخير النظر في المغفرة لهما وهذا إذا اشتركا في غرسها وفي عدم محاولة إزالتها فإن كان غرسها من جانب واحد كمن يبغض ويعادي عالما لعلمه أو صالحا لصلاحه وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر أو اشتركا في غرسها لكن حاول أحدهما إزالتها وبذل وسعه في الإصلاح فلم يفلح فالظاهر أن يتوجه الوعيد للطرف الآخر

ففي ملحق الرواية "إلا المتهاجرين" أو "إلا المهتجرين" مما يدل على أن الوعيد لمن اشتركا في أسباب الهجر وفي استدامته يقال تهاجر الرجلان أي اعتزل كل منهما الآخر وبعد عنه وأعرض عنه و"اهتجر الرجلان" أي تكلف كل منهما معاداة صاحبه وفي الرواية الثانية "فيقال اركوا هذين حتى يصطلحا اركوا هذين حتى يصطلحا" مرتين للتأكيد ومعنى "اركوا" بهمزة وصل وسكون الراء وضم الكاف أي أخروا قال النووي والهمزة في أوله همزة وصل وقال صاحب التحرير يجوز أن تكون همزة قطع مفتوحة من قولهم أركيت الأمر إذا أخرته اهـ وفي كتب اللغة ركا على فلان يركو ركوا وركا بالمكان بقية يومه أي أقام وأركى الأمر أخره وفي الرواية الثالثة "فيقال اتركوا أو اركوا هذين حتى يفيئا" شك الراوي في النص "اتركوا" أو "اركوا" ومعنى "حتى يفيئا" حتى يرجعا إلى الصلح والمودة -[فقه الحديث]- -[في الحديث]- 1 - سعة رحمة الله ومغفرته 2 - فضيلة يوم الاثنين والخميس 3 - الحث على الإكثار من العبادة والبعد عن المعاصي في هذين اليومين وصيامهما ليرفع عمل المسلم وهو صائم 4 - التحذير من الشحناء والحث على الإسراع بإزالتها إن حصلت 5 - أن الله تعالى يخاطب ملائكته بما يشاء 6 - وأن الملائكة تسجل المغفرة في هذين اليومين أو ترجئ التسجيل 7 - أن أعمال ما بين الاثنين والخميس وما بين الخميس والاثنين تعرض على الله مجتمعة في هذين الوقتين والظاهر أن الذي يعرضها رقيب وعتيد اللذان كتباها في الصحف في وقتها وأن القائل هو الله والمقول له الموكلان بذلك والله أعلم.

(693) باب فضل الحب في الله تعالى

(693) باب فضل الحب في الله تعالى 5699 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله يقول يوم القيامة أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي" 5700 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن رجلا زار أخا له في قرية أخرى فأرصد الله له على مدرجته ملكا فلما أتى عليه قال أين تريد قال أريد أخا لي في هذه القرية قال هل لك عليه من نعمة تربها قال لا غير أني أحببته في الله عز وجل قال فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه" -[المعنى العام]- الحب الميل إلى الشيء وهو نوعان جبلي يغرسه الله في القلب بأسباب أو بدون أسباب فيحس صاحبه بميل لا سلطان له على دفعه ولا على الحد منه والنوع الثاني مكتسب بتناول أسبابه وتوافر دواعيه فحسن الصورة وجمال الصوت وحسن المعاملة والصلاح والنفع ورفع الضر كل ذلك من أسبابه غالبا فحب الصالحين حب مكتسب ناشئ من حب الصلاح نفسه وكما قالوا إن أي شيء لا يحب لذاته بل لصفة فيه وإذا كان حب الصالحين حبا لصلاحهم كان حبا لله تعالى وحبا لطاعاته وحب المسلم لله يؤدي إلى حب الله للمسلم وإكرامه له ففي الحديث القدسي "من تقرب إلي شبرا تقربت منه ذراعا ومن تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن استعاذ بي لأعيذنه ولئن سألني لأجيبنه" وفي السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله "ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه" -[المباحث العربية]- (إن الله يقول يوم القيامة) أي في الموقف العظيم يوم القيامة فيوم القيامة أطوار وأحوال

(أين المتحابون بجلالي) الاستفهام نداء لهم وليس استفهاما عن مكانهم فهو أعلم بهم و"المتحابون" بتشديد الباء وأصله المتحاببون أي الذين اشتركوا في جنس المحبة وأحب كل منهما الآخر حقيقة لا إظهارا فقط والباء في "بجلالي" للتعليل أي من أجل طاعتي وعظمتي لا للدنيا (اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي) ظاهره أن هناك ظلا ووقاية من الحر والشمس وهو كذلك ففي الأحاديث أن الشمس تدنو من الرءوس حتى يغرق بعض الناس في العرق وإذا كانت الشمس المعلومة قد كورت قبل ذلك فلا حجر على القدرة من إعادتها أو خلق شمس أخرى قال القاضي ظاهره أنه في ظله من الحر والشمس ووهج الموقف وأنفاس الخلق قال وهذا قول الأكثرين اهـ وقيل إن التعبير كناية ولا ظل ولا حر ولا شمس والمراد حمايته من المكاره وجعله في كنفه وإكرامه وستره فهو من قبيل السلطان ظل الله في الأرض ويحتمل أن يكون كناية عن الراحة والنعيم كما يقال هو في عيش ظليل أي طيب ومعنى "يوم لا ظل إلا ظلي" أي لا يكون شيء له ظل حتى يكون هناك ظل منفي فالمنفي حقيقة مصدر الظل ومن المعلوم أن الظل في الدنيا أثر للشمس أو الضوء مع جرم وعليه يحمل ما ورد في غير مسلم بلفظ "ظل عرشي" ولا يقال إن كل ظل في الدنيا هو ملك لله فهو ظله تعالى على الحقيقة فإن المنفي الظل الذي ينسبه ابن آدم في الدنيا إلى المخلوقات من حيث الاختصاص المجازي (أن رجلا زار أخا له في قرية أخرى) المراد من الأخوة أخوة الدين إذ لم يذكر بينه وبين الآخر نسبا بل حصر دافع الزيارة في الحب في الله وذكر القرية الأخرى لبيان المشقة والتحمل في هذه الزيارة (فأرصد لله على مدرجته ملكا) معنى "أرصد" أقعد يقال رصده بفتح الصاد يرصده بضمها رصدا بفتحها وسكونها قعد له على الطريق والمدرج المسلك والمدرجة ممر الأشياء على الطريق وتطلق على الطريق يقال اتخذوا داره مدرجة (فلما أتى عليه) فاعل "أتى" للزائر وضمير "عليه" للملك فلما مر الزائر على الملك القاعد قال الملك (أين تريد) السؤال بأين عن المكان وكان الأصل أن يقول ماذا تريد أو من تريد لكنه مفهوم من المقام لذا كان الجواب (أريد أخا لي في هذه القرية) في الكلام مضاف محذوف أي أريد زيارة أخ لي (قال هل لك عليه من نعمة تربها) يقال رب الشيء بفتح الراء والباء المشددة يربه

بضم الراء ربا أي تولاه وتعهده بما ينميه ويصلحه والمراد من النعمة ما يحتاج إلى التعهد من الأموال كالأرض والحيوان والآلات و"عليه" بمعنى "عنده" أي هل لك عنده من عمل تقوم به وتصلحه وفي بعض النسخ "هل له عليك من نعمة تربها" أي هل له عليك يد وفضل تقوم بشكره عليها ورد جميله بزيارته (قال لا غير أني أحببته في الله عز وجل) أي ليس بيني وبينه مصلحة إلا المودة لله وفي الله (قال فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه) الفاء في "فإني" فصيحة في جواب شرط مقدر إذا كان حالك كذلك وإذا أفصحت عن قصدك فإني أقوم بتبليغك رسالة ربي إليك وهي إن الله قد أحبك لحبك أخاك في الله والمراد من حب الله رضاه وكرمه -[فقه الحديث]- قال النووي 1 - في هذا الحديث فضل المحبة في الله تعالى 2 - وأنها سبب لحب الله تعالى العبد وإكرامه 3 - وفيه فضيلة زيارة الصالحين والأصحاب 4 - وفيه أن الآدميين قد يرون الملائكة أقول في صورة غير صورتهم الحقيقية بل يرونهم في صورة بشر مثلا كما كان جبريل يراه الصحابة في صورة دحية الكلبي أو أعرابي هذا وقد سبق كثير من مسائل هذا الباب في كتاب الإيمان في حديث "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان" وفيه "وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله" ومما ذكرناه هناك حب المرء أخاه لله معناه حب من يحبه الله لا لشيء إلا للصلة بالله فكأنه من لوازم حب الإنسان لله وهذا القصر في "لا يحبه إلا لله" يخرج ما كان الحب فيه مشتركا بين الله ونفع دنيوي كمحبة الصالحين لأنهم صالحون وللانتفاع منهم بالمعاملات الدنيوية فهذا الحب وإن كان حسنا وممدوحا شرعا ومثابا عليه لكنه لا يصل بصاحبه إلى المرتبة المطلوبة التي بها يجد المؤمن حلاوة الإيمان وجودا كاملا وظاهر من هذا أن المراد بالأخ المحبوب الأخ المسلم الصالح فإن الفاسق والكافر ينبغي أن يبغضا في الله مصداقا لقوله تعالى {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا ءاباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم} [المجادلة 22] والله أعلم.

(694) باب فضل عيادة المريض

(694) باب فضل عيادة المريض 5701 - عن أبي الربيع رضي الله عنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفي حديث سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "عائد المريض في مخرفة الجنة حتى يرجع". 5702 - عن ثوبان رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من عاد مريضا لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع". 5703 - عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع" 5704 - عن ثوبان رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من عاد مريضا لم يزل في خرفة الجنة" قيل يا رسول الله وما خرفة الجنة قال "جناها" 5705 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله عز وجل يقول يوم القيامة يا ابن آدم مرضت فلم تعدني قال يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين قال أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين قال أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني قال يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين قال استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي" -[المعنى العام]- الصحة تاج على رءوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى وهكذا نجد المريض ينظر إلى الأصحاء نظرة

فاقد النعمة إلى المتمتع بها وينظر إلى معارفه ومحبيه نظرة أمل في مساعدته أو مواساته أو تخفيف آلامه ولو بكلمة تسأل عن صحته وتشعره بنوع من المشاركة في ابتلائه من هنا شرع الإسلام عيادة المريض وجعلها حقا على المسلم للمسلم إن المريض كثيرا ما يشعر أنه لم يعد له حول ولا قوة وأنه لم يعد يخافه من كان يخافه ولم يعد يأمل نفعه من كان يحرص على الانتفاع منه وقد يكون ذلك حقيقة وتكون زيارته وعيادته استجابة لأوامر الله ورسوله لا رغبة في خير دنيوي ولا رهبة من أذى بشري ولكنها الرغبة في ثواب الله والعمل على طاعة أوامر الله فيكون أجره عظيما تحسب له خطواته من حين يخرج من بيته إلى أن يصل حسنات وتحيطه في ذهابه وإيابه ملائكة الرحمة تستغفر له وتدعو له أما لحظات جلوسه مع المريض فستكون في كنف الله ورضاه فتدخر له الدقائق والثواني ثمارا من ثمار الجنة يجنيها يوم القيامة إن المريض في حاجة إلى المواساة والنصيحة والدعوة الصالحة والوعظ والتذكير وليعلم الزائر أنه يوما ما سيرقد رقدة المريض ويحتاج مثل ما يحتاج والجزاء من جنس العمل فمن عاد المرضى هيأ الله له عند مرضه من يعوده ويواسيه ويساعده وينصح له ويدعو له فإن الله مع المريض وليس جزاء الإحسان إلا الإحسان -[المباحث العربية]- (عائد المريض) سميت زيارة المريض عيادة لما فيها من التكرار والعود غالبا وهذا الثواب لا يتوقف على التكرار (في مخرفة الجنة حتى يرجع) في الرواية الثانية وما بعدها "من عاد مريضا لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع" بضم الخاء وسكون الراء وفي الرواية الرابعة تفسير "خرفة الجنة بجناها" مرفوعا هذا التفسير للنبي صلى الله عليه وسلم وفي الأدب المفرد هو من تفسير الراوي أبي قلابة والجنا اسم ما يجتني من الثمر وقيل هو الثمرة إذا نضجت شبه ما يحوزه عائد المريض من الثواب بما يحوزه الذي يجتني الثمر وقيل المراد بالمخرفة هنا الطريق والمعنى أن العائد يمشي في طريق تؤديه إلى الجنة والأول أولى كذا قال الحافظ ابن حجر وفي كتب اللغة خرف في بستانه بفتح الراء يخرف بضمها خرفا أقام فيه وقت اجتناء الثمر في الخريف وخرف الزارع الثمر جناه في الخريف والخرفة ما يجتني من الفواكه في الخريف والمخرفة البستان والطريق الواضح والسكة بين صفين من النخيل وجمعها مخارف وعند البخاري "من عاد مريضا خاض في الرحمة" أي طيلة طريقه "حتى إذا قعد" عند المريض "استقر فيها" فالمراد من الجنة في حديثنا الرحمة المؤدية إلى الجنة (إن الله عز وجل يقول يوم القيامة) لمن لم يقم بهذه الشعيرة ولم يعد مرضى المسلمين

(يا ابن آدم مرضت فلم تعدني) قال العلماء إنما أضاف سبحانه وتعالى المرض إليه والمراد عبده تشريفا للعبد وتقريبا له (قال يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين) استفهام حقيقي أو تعجبي (قال أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده) الاستفهام إنكاري بمعنى النفي دخل على نفي "ما" ونفي النفي إثبات أي علمت .... ويحتمل أن يكون تقريريا أي حمل المخاطب على الإقرار بما بعد النفي ولفظ "فلانا" كناية عن الاسم الحقيقي الذي يذكر آنذاك (أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده) "علمت" أي اعلم أنك كذا فهو لم يكن يعلم أو المقصود علمت فلم تعمل بمقتضى علمك فلم تعدني والمعنى من وجوده عنده وجود رحمته وثوابه وكرامته (يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني) أي يقول ذلك للبخيل الذي لم يطعم السائل والمحروم والسين والتاء للطلب أي طلبت منك إطعام عبدي فلم تطعمه (أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه) أي طلب منك مساعدته وإطعامه فلم تفعل والضمير في "أنه" للحال والشأن (أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي) أي لوجدت ذلك الإطعام أي ثوابه وجزاءه عندي هذا ويقال في السقي ما قيل في الطعام -[فقه الحديث]- قال النووي اتفق العلماء على فضل عيادة المريض وجزم بعضهم بالوجوب على ظاهر الأمر بالعيادة فيما رواه البخاري "أطعموا الجائع وعودوا المريض وفكوا العاني" وفيما رواه البخاري ومسلم "حق المسلم على المسلم خمس" فذكر منها "عيادة المريض" ووقع في بعض روايات مسلم "خمس تجب للمسلم على المسلم ... " فذكرها منها قال ابن بطال يحتمل أن يكون الأمر على الوجوب بمعنى الكفاية كإطعام الجائع وفك الأسير ويحتمل أن يكون للندب للحث على التواصل والألفة وجزم الداودي بالأول فقال هي فرض يحمله بعض الناس عن بعض وقال الجمهور هي في الأصل ندب وقد تصل إلى الوجوب في حق بعض دون بعض وعن الطبري تتأكد في حق من ترجى بركته وتسن فيمن يراعي حاله وتباح فيما عدا ذلك

ونقل النووي الإجماع على عدم الوجوب أي عدم الوجوب العيني قال الحافظ ابن حجر واستدل بقوله "عودوا المريض" على مشروعية العيادة في كل مريض واستثنى بعضهم الأرمد لكون عائده قد يرى من الأذى ما لا يراه هو واستدل بحديث أخرجه البيهقي والطبراني مرفوعا "ثلاثة ليس لهم عيادة العين أي مرض العين والرمل والضرس" لكن البيهقي صحح أنه موقوف ويؤخذ من إطلاقه أيضا عدم التقييد بزمان يمضي من ابتداء مرضه وهو قول الجمهور وجزم الغزالي في الإحياء بأنه لا يعاد إلا بعد ثلاث واستند إلى حديث ابن ماجه "كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعود مريضا إلا بعد ثلاث" وهو حديث ضعيف جدا ويلتحق بعيادة المريض تعهده وتفقد أحواله والتلطف به وربما كان ذلك في العادة سببا لوجود نشاطه وانتعاش قوته وفي إطلاق الأحاديث أن العيادة لا تتقيد بوقت دون وقت لكن جرت العادة بها أن تكون في طرفي النهار ونقل ابن الصلاح عن الفزاري أن العيادة تستحب في الشتاء ليلا وفي الصيف نهارا قال الحافظ ابن حجر وهو غريب قال ومن آدابها أن لا يطيل الجلوس حتى يضجر المريض أو يشق على أهله فإن اقتضت ذلك ضرورة فلا بأس وفي عيادة النساء للرجال الأجانب والرجال للنساء الأجنبيات خلاف والجمهور على جوازها بشرط التستر وأمن الفتنة وعيادة الصبيان مشروعة ففيها جبر لخاطر أهليهم وعيادة المشرك فيها خلاف قال ابن بطال إنما تشرع عيادته إذا رجى أن يجيب إلى الدخول في الإسلام فأما إذا لم يطمع في ذلك فلا قال الحافظ ابن حجر والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف المقاصد فقد يقع بعيادته مصلحة أخرى وقال الماوردي عيادة الذمي جائزة والقربة موقوفة على نوع حرمة تقترن بها من جوار أو قرابة والله أعلم.

(695) باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك حتى الشوكة يشاكها

(695) باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك حتى الشوكة يشاكها 5706 - عن عائشة رضي الله عنها قالت ما رأيت رجلا أشد عليه الوجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية عثمان مكان الوجع وجعا 5707 - عن عبد الله قال دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك فمسسته بيدي فقلت يا رسول الله إنك لتوعك وعكا شديدا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم" قال فقلت ذلك أن لك أجرين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أجل" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها" وليس في حديث زهير فمسسته بيدي. 5708 - -/- وفي رواية عن الأعمش بإسناد جرير نحو حديثه وزاد في حديث أبي معاوية قال "نعم والذي نفسي بيده ما على الأرض مسلم". 5709 - عن الأسود قال دخل شباب من قريش على عائشة وهي بمنى وهم يضحكون فقالت ما يضحككم قالوا فلان خر على طنب فسطاط فكادت عنقه أو عينه أن تذهب فقالت لا تضحكوا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة" 5710 - عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما يصيب المؤمن من شوكة فما فوقها إلا رفعه الله بها درجة أو حط عنه بها خطيئة"

5711 - عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تصيب المؤمن شوكة فما فوقها إلا قص الله بها من خطيئته" 5712 - عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ما من مصيبة يصاب بها المسلم إلا كفر بها عنه حتى الشوكة يشاكها" 5713 - عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا يصيب المؤمن من مصيبة حتى الشوكة إلا قص بها من خطاياه أو كفر بها من خطاياه" لا يدري يزيد أيتهما قال عروة 5714 - عن عائشة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "ما من شيء يصيب المؤمن حتى الشوكة تصيبه إلا كتب الله له بها حسنة أو حطت عنه بها خطيئة" 5715 - عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر به من سيئاته" 5716 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال لما نزلت {من يعمل سوءا يجز به} بلغت من المسلمين مبلغا شديدا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قاربوا وسددوا ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها أو الشوكة يشاكها" قال مسلم هو عمر بن عبد الرحمن بن محيصن من أهل مكة 5717 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أم السائب أو أم المسيب فقال "ما لك يا أم السائب أو يا أم المسيب تزفزفين قالت

الحمى لا بارك الله فيها فقال "لا تسبي الحمى فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد" 5718 - عن عطاء بن أبي رباح قال قال لي ابن عباس ألا أريك امرأة من أهل الجنة قلت بلى قال هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم قالت إني أصرع وإني أتكشف فادع الله لي قال "إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله أن يعافيك" قالت أصبر قالت فإني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف فدعا لها -[المعنى العام]- يقول الله تعالى {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به} [النساء 123] نعم إن زيادة الرجاء في عفو الله تخلق الأماني في غفران الذنوب وزيادة الأماني تزيد الطمع وتفضي إلى الاستهانة بالمعاصي والاستهتار بها والوقوع فيها فكانت آيات الخوف والوعيد ليكون المؤمن بين الخوف والرجاء لقد أزعجت هذه الآية القلوب الوجلة وقالوا لو أنا جوزينا بكل ما نعمل من سوء إذا لهلكنا فأزال النبي صلى الله عليه وسلم خوفهم وأعاد الرجاء إلى نفوسهم نعم إنهم سيجزون بسيئاتهم وهم بالفعل يجزون بها صباح مساء كما يقعون في السيئات صباح مساء لا يخلو واحد منهم من المصائب البدنية أو المصائب النفسية فحياة الإنسان كد وتعب وكبد أمراض وأسقام وكفاح وآلام وحزن وهم وغم لا يكاد يخلو من ذلك في اليقظة بل وفي النوم وكل ذلك جزاء وتكفير لما يعمل من سيئات وصدق الله العظيم إذ يقول {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} [الشورى 30] من أحبه الله كفر عنه سيئاته في الدنيا ليلقاه يوم القيامة وليس عليه ذنب فمصائب الدنيا تنقية للمؤمن وتطهير له لذا كان الحديث الصحيح "مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع من حيث أتتها الريح كفأتها فإذا اعتدلت تكفأ بالبلاء والفاجر كالأرزة" شجرة ضخمة "صماء معتدلة حتى يقصمها الله إذا شاء" و"من يرد الله به خيرا يصبه" "وعجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير إن أصابته سراء فشكر الله فله أجر وإن أصابته ضراء فصبر فله أجر فكل قضاء الله للمسلم خير" وفي الحديث "من أعطى فشكر وابتلي فصبر وظلم فاستغفر وظلم فغفر أولئك لهم الأمن وهم مهتدون" وقد رأى بعض الصالحين في المصائب نعما أربع يحمد الله عليها الأولى أنها لم تكن في دينه الثانية أنها لم تكن أكبر منها فكل مصيبة فوقها ما فوقها الثالثة أن الله أقدره عليها الرابعة أنه سيؤجر عليها في الدنيا والآخرة

-[المباحث العربية]- (ما رأيت رجلا أشد عليه الوجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم) "أشد" مفعول ثان لرأيت منصوب و"الوجع" فاعل "أشد" التي هي أفعل تفضيل وفي ملحق الرواية "وجعا" بالنصب على التمييز قال النووي قال العلماء الوجع هنا المرض والعرب تسمي كل مرض وجعا اهـ وفي رواية الإسماعيلي "ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم" (عن عبد الله رضي الله عنه قال دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك) عبد الله هو ابن مسعود وكان يدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا كما سبق في مناقبه وفي رواية للبخاري "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه" أي الأخير والوعك بسكون العين مع فتح الواو الحمى وقد تفتح العين وقيل ألم الحمى وقيل تعبها وقيل إرعادها المريض وتحريكها إياه وعن الأصمعي الوعك الحر أي حرارة الحمى (فمسسته بيدي) المس اللمس باليد أي فأحسست حرارة شديدة قال الأبي لا يبعد أن يكون من آداب العيادة الأخذ بيد المريض حتى لو كان الآخذ ليس من أهل الطب قلت إذا كان المريض يتقبل ذلك (أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم) وجه الشبه مقدار الألم و"أجل" مثل "نعم" وزنا ومعنى (فقلت ذلك أن لك أجرين) "أن" وما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف ظهر في رواية البخاري ولفظها "قلت إن ذاك بأن لك أجرين" أي بسبب أن لك أجرين (ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه) في ملحق الرواية "ما على الأرض مسلم" وفي الرواية الرابعة "ما يصيب المؤمن من شوكة فما فوقها" وفي الرواية السادسة "ما من مصيبة يصاب بها المسلم" وفي الرواية السابعة "لا يصيب المؤمن من مصيبة حتى الشوكة .. " وفي الرواية الثامنة "ما من شيء يصيب المؤمن حتى الشوكة تصيبه ... " وفي الرواية التاسعة "ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه ... " وفي الرواية العاشرة "في كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها أو الشوكة يشاكها" "من مرض فما سواه" من الأذى الكبير أو الصغير وقوله "من شوكة فما فوقها" صريح في أن الشوكة غاية الأذى الأدنى الأقل والتعبير بالمؤمن في بعض الروايات مراد به المسلم فإنما نحكم نحن بالظاهر وهو الإسلام والوصب بفتح الواو والصاد المرض وزنا ومعنى وقيل هو المرض اللازم ومنه قوله تعالى {ولهم عذاب واصب} [الصافات 9] أي لازم ثابت والنصب بفتح النون والصاد هو

التعب وزنا ومعنى والسقم بفتح السين والقاف وبضم السين وإسكان القاف لغتان وهو طول المرض والحزن بفتح الحاء والزاي وبضم الحاء وسكون الزاي الغم قال تعالى {وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن} [فاطر 34] وقال {وابيضت عيناه من الحزن} [يوسف 84] فهو حزن بفتح الحاء وكسر الزاي وحزين وفي رواية للبخاري "ولا غم" وهو من أمراض الباطن كالهم والحزن وقد قيل في هذه الأشياء الثلاث إن الهم ينشأ عن الفكر فيما يتوقع حصوله مما يتأذى به والغم كرب يحدث للقلب بسبب ما حصل والحزن يحدث لفقد ما يشق على المرء فقده وقيل الهم والغم بمعنى واحد وقال الكرماني الغم يشمل جميع أنواع المكروهات لأنه إما بسبب ما يعرض للبدن أو النفس والأول إما بحيث يخرج عن المجرى الطبيعي أولا والثاني إما أن يلاحظ فيه الغير أو لا وإما أن يظهر فيه الانقباض أو لا وإما بالنظر إلى الماضي أو لا اهـ وقوله في الرواية التاسعة "حتى الهم يهمه" قال القاضي بضم الياء وفتح الهاء على البناء للمجهول وضبطه غيره بفتح الياء وضم الهاء أي يغمه قال النووي وكلاهما صحيح وقوله في الرواية العاشرة "حتى النكبة ينكبها" قال النووي وهي مثل العثرة برجله وربما جرحت أصبعه وأصل النكب الكب والقلب وقوله في الرواية السادسة "ما من مصيبة يصاب بها المسلم ... حتى الشوكة يشاكها" وفي الرواية السابعة "لا يصيب المؤمن من مصيبة حتى الشوكة" جوزوا في "الشوكة" الحركات الثلاث فالجر بمعنى الغاية أي حتى ينتهي إلى الشوكة أو عطفا على لفظ مصيبة فإنها مجرورة بحرف الجر الزائد والنصب بتقدير عامل أي حتى وجدانه الشوك والرفع على الابتداء وأما "يشاكها" فبضم الياء أي يشوكه غيره بها وفيه وصل الفعل لأن الأصل يشاك بها أي يدخلها غيره أو تدخل من غير إدخال أحد وأصل المصيبة الرمية بالسهم ثم استعملت في كل نازلة وقال الراغب أصاب يستعمل في الخير والشر قال تعالى {إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة} [التوبة 50] وقيل الإصابة في الخير مأخوذ من الصوب وهو المطر الذي ينزل بقدر الحاجة من غير ضرر وفي الشر مأخوذة من إصابة السهم وقال الكرماني المصيبة في اللغة ما ينزل بالإنسان مطلقا وفي العرف ما نزل به من مكروه خاصة وهو المراد هنا (إلا حط الله به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها) يقال حط الرجل الشيء أنزله وألقاه وحط من الدين كذا أي أسقط وأنزل وحط الله وزره وضعه عنه والمضارع يحط بضم الحاء وقد اختلف العلماء في المصائب وهي تكفر الخطايا بلا خلاف هل ترفع الدرجات أو لا وفي رواياتنا ما يؤيد القول بنعم ففي الرواية الثالثة "إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة" وفي الرواية الرابعة "إلا رفعه الله بها درجة أو حط عنه بها خطيئة" وفي الرواية الثامنة "إلا كتب الله له بها حسنة أو حطت عنه بها خطيئة" وسيأتي تفصيل القول في فقه الحديث

وفي الرواية السابعة "إلا قص بها من خطاياه" بضم القاف مبني للمجهول قال النووي هكذا هو في معظم النسخ "قص" وفي بعضها "نقص" وكلاهما صحيح متقارب المعنى اهـ والقص القطع وفي رواية للبخاري "إلا حات الله عنه خطاياه كما تحات ورق الشجر" "حات" بتشديد التاء "كما تحات" بتشديد التاء أيضا يقال حت الورق عن الشجر يحت بضم الحاء حتا سقط وتحات الشيء تناثر والورق عن الغصن سقط ويقال تحاتت الشجرة بتشديد التاء الأولى تساقط ورقها وتحاتت عنه ذنوبه أي محيت وسقطت كناية عن إذهاب الخطايا وغفرانها (دخل شباب من قريش على عائشة وهي بمنى وهم يضحكون فقالت ما يضحككم قالوا فلان خر على طنب فسطاط) "خر" أي سقط ووقع وطنب الفسطاط بضم الطاء والنون وبإسكان النون هو الحبل الذي يشد به الفسطاط والفسطاط الخباء أو الخيمة ويقال له فستاط بالتاء قبل الطاء وفساط بحذف الطاء الأولى مع تشديد السين والفاء مضمومة ومكسورة فيهن فصارت ست لغات (فكادت عنقه أو عينه أن تذهب) هذا من قبيل قولهم علفتها تبنا وماء بارد "بحذف عامل" أي وسقيتها ماء وهنا حذف معمول "كادت" أي كادت عنقه تدق وعينه تذهب (لما نزلت {من يعمل سوءا يجز به} بلغت من المسلمين مبلغا شديدا) أي بلغت هذه الآية من خوف المسلمين مبلغا كبيرا أي خافوا من عقوبات الآخرة لكثرة ما يعملون من السوء فإن الآية تتوعد كل من عمل سوءا كبيرا أو صغيرا بالمجازاة عليه بالنار فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم خوفهم بأن الكثير من السوء يكفر ويغفر بسبب ما يصيب المسلم من البلاء (قاربوا وسددوا) أي اقتصدوا فلا تغلوا ولا تقصروا بل توسطوا و"سددوا" أي اقصدوا الصواب والسداد (دخل على أم السائب أو أم المسيب) قال الحافظ ابن حجر في الإصابة أخرج أبو نعيم عن جابر قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة من الأنصار يقال لها أم المسيب فذكر نحو الحديث وعند ابن منده "أم السائب" قال الحافظ ولم أر في شيء من طرق الحديث أنها أنصارية بل ذكرها ابن كعب في قبائل العرب بين المهاجرين والأنصار (فقال مالك يا أم السائب تزفزفين) بزاءين وفاءين مع ضم التاء قال القاضي تضم وتفتح اهـ وعند فتحها تكون إحدى التاءين محذوفة تخفيفا أي تتزفزفين ووقع في بعض النسخ بالراء والفاء ورواه بعضهم في غير مسلم بالراء والقاف قال النووي ومعناه تتحركين حركة شديدة أي ترعدين اهـ يقال رفرف المحموم براءين وفاءين أي ارتعد ورفرف الطائر بسط جناحيه وحركهما ويقال رفرفت الريح إذا هبت في مضي ورفرف فلان أي ارتعد (قالت الحمى) خبر لمبتدأ محذوف أي سبب زفزفتي الحمى

(لا بارك الله فيها فقال لا تسبي الحمى فإنها تذهب خطايا بني آدم) اعتبر الدعاء عليها سبا لها (كما يذهب الكير خبث الحديد) المراد من "الكير" النار التي تنفخ بالكير وهو منفاخ الحداد (ألا أريك امرأة من أهل الجنة) "ألا" بتخفيف فتحة اللام (هذه المرأة السوداء) في كتاب الصحابة للمستغفري "فأراني حبشية صفراء عظيمة فقال هذه سعيرة الأسدية" بضم السين وفتح العين على التصغير (قالت إني أصرع وإني أتكشف فادع الله لي) أن يشفيني من الصرع وهو بفتح الصاد وسكون الراء و"أصرع" بضم الهمزة مبني للمجهول والصرع علة في الجهاز العصبي تصحبها غيبوبة وتشنج في العضلات وقولها "إني أتكشف" بالتاء المفتوحة وفي نسخة بالنون الساكنة والمراد أنها خشيت أن تظهر عورتها وهي لا تشعر وعند البزار "إني أخاف الخبيث أن يجردني فدعا لها فكانت إذا خشيت أن يأتيها تأتي أستار الكعبة فتتعلق بها" وقيل إنها كانت ماشطة خديجة التي كانت تتعاهد النبي صلى الله عليه وسلم بالزيارة -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الأحاديث]- 1 - من الرواية الأولى والثانية أن الأنبياء أشد بلاء وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أكثرهم قال العلماء والحكمة في كون الأنبياء أشد بلاء ثم الأمثل فالأمثل أنهم مخصوصون بكمال الصبر وصحة الاحتساب ومعرفة أن ذلك نعمة من الله تعالى ليتم لهما الخير ويضاعف الأجر ويظهر صبرهم ورضاهم 2 - وتكفير الخطايا بالأمراض والأسقام ومصايب الدنيا وهمومها وإن قلت مشقتها 3 - ومن الرواية الثانية وما بعدها بشارة عظيمة للمسلمين فإنه قلما ينفك الواحد منهم ساعة من شيء من هذه الأمور 4 - وفيها رفع الدرجات بهذه الأمور وزيادة الحسنات قال النووي وهذا هو الصحيح الذي عليه جماهير العلماء وحكى القاضي عياض عن بعضهم أنها تكفر الخطايا فقط ولا ترفع درجة ولا تكتب حسنة قال وروى هذا عن ابن مسعود قال الوجع لا يكتب به أجر لكن تكفر به الخطايا فقط واعتمد على الأحاديث التي فيها تكفير الخطايا ولم تبلغه الأحاديث التي ذكرها مسلم المصرحة برفع الدرجات وكتابة الحسنات اهـ ومن الذين نفوا رفع الدرجات بالمصائب الشيخ عز الدين بن عبد السلام حيث قال ظن

بعض الجهلة أن المصاب مأجور وهو خطأ صريح فإن الثواب والعقاب إنما هو على الكسب والمصائب ليست منها بل الأجر على الصبر والرضا وتعقب بأن الأحاديث الصحيحة صريحة في ثبوت الأجر بمجرد حصول المصيبة وأما الصبر والرضا فقدر زائد يمكن أن يثاب عليهما زيادة على ثواب المصيبة وظاهر كلام القرافي أن المصائب تكفر الذنوب وأن الصبر والرضا أيضا هما في دائرة تكفير الذنوب وليس فيه زيادة أجر حيث قال المصائب كفارات جزما سواء اقترن بها الرضا أم لا لكن إن اقترن بها الرضا عظم التكفير وإلا قل قال الحافظ ابن حجر والتحقيق أن المصيبة كفارة لذنب يوازيها وبالرضا يؤجر على ذلك فإن لم يكن للمصاب ذنب عوض عن ذلك من الثواب بما يوازيه وزعم القرافي أنه لا يجوز لأحد أن يقول للمصاب جعل الله هذه المصيبة كفارة لذنبك لأن الشارع قد جعلها كفارة فسؤال التكفير طلب لتحصيل حاصل وهو إساءة أدب على الشارع قال الحافظ ابن حجر وتعقب بما ورد من جواز الدعاء بما هو واقع كالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وسؤال الوسيلة له وأجيب عنه بأن الكلام فيما لم يرد فيه شيء وأما ما ورد فهو مشروع ليثاب من امتثل الأمر فيه على ذلك وعندي أنه ليس تحصيلا لحاصل بكل حال فالدعاء بالواقع المحقق دعاء بزيارته أو استمراريته كما قيل في قوله تعالى {يا أيها النبي اتق الله} [الأحزاب 1] وقوله {ولا تطع الكافرين والمنافقين} [الأحزاب 1] وقد أبى قوم أن تكون المصائب مكفرة بمفردها ومنهم القرطبي إذ قال في المفهم محل ذلك إذا صبر المصاب واحتسب وقال ما أمر الله به في قوله تعالى {الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون} [البقرة 156] فحينئذ يصل إلى ما وعد الله ورسوله به من ذلك اهـ فكأنه حمل الأحاديث المطلقة على الواردة بالتقييد بالصبر لكنها مقيدة بثواب مخصوص باعتبار الصبر فيها ومثل ذلك أحاديث الطاعون وفيها "من صبر واحتسب فله أجر شهيد" قال الحافظ ابن حجر والذي يظهر أن المصيبة إذا قارنها الصبر حصل التكفير ورفع الدرجات وإن لم يحصل الصبر نظر إن حصل شيء من الجزع لكن لم يحصل ما يذم عليه من قول أو فعل فالفضل واسع ولكن المنزلة منحطة عن منزلة الصابر وإن حصل ما يذم عليه كان ذلك سببا لنقص الأجر الموعود به أو التكفير فقد يستويان وقد يزيد أحدهما على الآخر فبقدر ذلك يقضي لأحدهما على الآخر 5 - أن البلاء في مقابلة النعمة فمن كانت نعمة الله عليه أكثر كان بلاؤه أشد 6 - قال ابن الجوزي كلما قويت المعرفة هان البلاء ومن الناس من ينظر إلى أجر البلاء فيهون عليه

وأعلى من ذلك درجة من يرى أن هذا تصرف المالك في ملكه فيسلم ولا يعترض وأرفع منه من شغلته المحبة عن طلب رفع البلاء وأعلى المراتب من يتلذذ بالبلاء 7 - أخذ بعضهم من إطلاق تكفير الذنوب أنه يشمل الكبائر والصغائر لكن الجمهور خصوا ذلك بالصغائر والمراد بالتكفير ستر الذنب أو محو أثره المترتب عليه من استحقاق العقوبة 8 - من الرواية الثالثة النهي عن الضحك من مثل هذا الذي حصل إلا أن يحصل غلبة لا يمكن دفعه أما تعمده فمذموم لأن فيه شماته بالمسلم وكسرا لقلبه 9 - ومن الرواية الحادية عشرة النهي عن سب المرض والدعاء عليه 10 - ومن الرواية الثانية عشرة أن الصرع يثاب عليه أكمل ثواب ذكره النووي 11 - وأن الصبر على بلايا الدنيا يورث الجنة 12 - وأن الأخذ بالشدة أفضل من الأخذ بالرخصة لمن علم من نفسه الطاقة ولم يضعف عن التزام الشدة 13 - وفيه دليل على جواز ترك التداوي 14 - قال الحافظ ابن حجر وفيه أن علاج الأمراض كلها بالدعاء والالتجاء إلى الله أنجع وأنفع من العلاج بالعقاقير وأن تأثير ذلك وانفعال البدن به أعظم من تأثير الأدوية البدنية ولكن إنما ينجع بأمرين أحدهما من جهة العليل وهو صدق القصد والآخر من جهة المداوي وهو قوة توجهه وقوة قلبه بالتقوى والتوكل والله أعلم.

(696) باب تحريم الظلم

(696) باب تحريم الظلم 5719 - عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه" قال سعيد كان أبو إدريس الخولاني إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه 5720 - -/- وفي رواية عن أبي ذر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى "إني حرمت على نفسي الظلم وعلى عبادي فلا تظالموا" وساق الحديث بنحوه وحديث أبي إدريس الذي ذكرناه أتم من هذا 5721 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم"

5722 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الظلم ظلمات يوم القيامة" 5723 - عن سالم عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة" 5724 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أتدرون ما المفلس" قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال "إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار" 5725 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء" 5726 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله عز وجل يملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته" ثم قرأ {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد} [هود 102] -[المعنى العام]- حدد الله تعالى الحقوق والواجبات لصالح الفرد وصالح المجتمع في الدنيا والآخرة وكل اعتداء على هذه الحقوق ظلم يبارز به جل شأنه ومن أظلم الظلم ظلم الإنسان نفسه وإيباقها وإهلاكها وتعريضها للنار يوم القيامة وكيف لا وكل ظلم للآخرين هو إهلاك للظالم ودافع به إلى نار جهنم هذه الحقيقة يظلم الظالم وهو جاهل بها غافل عنها يأخذه الإحساس بالقوة للاندفاع في الشر وقد تكون قوته قوة خداع وكذب ونفاق ومكر وخبث ودهاء وغش للمظلومين ويطمعه عدم إسراع الله

تعالى في عقوبته ناسيا أن الله تعالى يمهل ولا يهمل يملي له ليزداد إثما يملي له حتى إذا أخذه لم يفلته {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ لِيَجْزِي اللهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [إبراهيم 42 - 52] {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود 102] يوم يقتص للشاة التي لا قرون لها من الشاة التي نطحتها يقتص للمظلوم من الظالم ليس بالمال المسروق ولا بالبطش باليد ولكن بالحسنات والسيئات فيؤخذ للمظلوم من حسنات الظالم بقدر مظلمته فإذا فنيت حسناته وأصبح مفلسا ولم يقض مظالمه أخذ من سيئات المظلومين وطرحت عليه ثم طرح في النار إن العاقل الكيس إذا أحس بقوته وقدرته تذكر قدرة الله عليه وإن العاقل الكيس إذا مسه طائف من الشيطان فظلم ذكر الله وعقابه ورد المظالم في الدنيا وما أسهلها وما أحقرها مهما بلغت إذا قيست بالحسنات والسيئات يوم القيامة يوم يحتاج الإنسان إلى ذرة من الحسنات يثقل بها ميزانه وإن العاقل الكيس إذا ظلم لجأ إلى المظلوم فطلب منه العفو والمسامحة وما أسهله في الدنيا قبل أن يفر المرء أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه فلا تسمح نفس أحد منهم أن ينزل عن حسنة من حسناته أو أن يحمل عنهم سيئة واحدة من سيئاتهم إن الظلم ظلمات يوم القيامة يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم عافانا الله من الظلم ومن الظلمات -[المباحث العربية]- (عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى) هذا حديث قدسي أسند فيه القول إلى الله تعالى ولفظه ومعناه من الله تعالى غير أنه لم يقصد به الإعجاز ولا يتعبد به في الصلاة مثلا كالقرآن والأحاديث النبوية وإن كانت من الله تعالى لأنه صلى الله عليه وسلم {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} [النجم 3، 4] لا يسند القول فيها لله تعالى وبعبارة أخرى الأحاديث النبوية لفظها من عند الرسول صلى الله عليه وسلم ومعناها من عند الله كأن يقول الله لرسوله قراءة

الفاتحة لازمة في قيام الصلاة فيقول صلى الله عليه وسلم لأمته "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" "لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن" "كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج" (يا عبادي) العبد المملوك وكل خاضع للإله مكلف من الإنس والجن والملائكة ومن شاء الله فهو عبد الله والمنادى هنا المكلفون من الإنس والجن (إني حرمت الظلم على نفسي) "الظلم" وضع الشيء في غير موضعه الشرعي أو مجاوزة الحد الشرعي وفي ملحق الرواية "إني حرمت على نفسي الظلم وعلى عبادي فلا تظالموا" قال النووي قال العلماء وهو مستحيل في حق الله سبحانه وتعالى وكيف يجاوز سبحانه وتعالى حدا وليس فوقه من يطيعه وكيف يتصرف في غير ملكه والعالم كله في ملكه وسلطانه وأصل التحريم في اللغة المنع فسمي تقدسه عن الظلم تحريما لمشابهته للممنوع في أصل عدم الشيء (وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا) قال النووي هو بفتح التاء وفتح الظاء مخففة أي لا تتظالموا والمراد لا يظلم بعضكم بعضا وهذا توكيد لقوله تعالى "يا عبادي ... وجعلته بينكم محرما" وزيادة تغليظ في تحريمه (يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم) أي اطلبوا الهداية مني وفي المسألة كلام طويل سنتعرض له في فقه الحديث (إنكم تخطئون بالليل والنهار) كناية عن كثرة الخطايا والرواية المشهورة بضم التاء قال النووي وروى بفتحها وفتح الطاء بينهما خاء ساكنة يقال خطئ يخطأ إذا فعل ما يأثم به فهو خاطئ ومنه قوله تعالى {استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين} [يوسف 97] ويقال في الإثم أيضا أخطأ فهما صحيحان (وأنا أغفر الذنوب جميعا) أي ما عدا الشرك إذا شئت مصداقا لقوله تعالى {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء 48] (يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني) "ضري" في النسخ التي بين يدي بفتح الضاد وفي كتب اللغة الضر بفتح الضاد وضمها لغتان ضد النفع وبالفتح المصدر وبالضم الاسم وقيل إذا جمعت بين الضرر والنفع فتحت الضاد وإذا أفردت الضر ضممت الضاد ومعنى "لن تبلغوا ضري" أي لن تصلوا إلى ضري يقال بلغ الشيء بلوغا أي وصل إليه (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم) أي لو أنكم جميعا من أولكم إلى آخركم وليس المراد الأول والآخر (وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا) فهو جل شأنه لا تنفعه طاعة ولا تضره معصية

(لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد) "الصعيد" وجه الأرض أو الجزء المرتفع من وجه الأرض والمعنى لو أن بني آدم من أول أبناء آدم إلى اليوم وفي أي مكان من الأرض اجتمعوا في وقت واحد في مكان واحد (فسألوني) أي سألني كل واحد منهم ما يتمناه (فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر) "المخيط بكسر الميم وسكون الخاء وفتح الياء وهو الإبرة وظاهر العبارة إن إعطاء كل واحد مسألته ينقص ما عند الله ولو نقصا يسيرا مع أن المراد أنه لا ينقص شيئا مطلقا لهذا قال النووي قال العلماء هذا تقريب إلى الأفهام ومعناه لا ينقص شيئا أصلا كما قال في الحديث الآخر "لا يغيضها نفقة" أي لا ينقصها نفقة لأن ما عند الله لا يدخله نقص وإنما يدخل النقص المحدود الفاني وعطاء الله تعالى من رحمته وكرمه وهما صفتان قديمتان لا يتطرق إليهما نقص فضرب المثل بالمخيط في البحر لأنه غاية ما يضرب به المثل في القلة والمقصود التقريب إلى الأفهام بما شاهدوه فإن البحر من أعظم المرئيات عيانا وأكبرها والإبرة من أصغر الموجودات مع أنها صقيلة لا يتعلق بها ماء (إنما هي أعمالكم أحصيها لكم) المقصود أعمال الخير والشر فإن غلبنا أعمال الخير قيل "أحصيها لكم" وإن غلبنا أعمال الشر قيل "أحصيها عليكم" كما في بعض النسخ (ثم أوفيكم إياها) في الكلام مضاف محذوف أي أوفيكم جزاءها (فمن وجد خيرا) أي من وجد في كتابه زيادة الحسنات على السيئات (فليحمد الله) أي فسيحمد الله الذي وفقه في الدنيا لعمله وشمله في الآخرة بعفوه (ومن وجد غير ذلك) من زيادة السيئات على الحسنات (فلا يلومن إلا نفسه) أي فسيلوم نفسه حيث لا ينفع اللوم ولا الندم (إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه) إعلانا للتسليم بما في هذا الحديث مع الذلة والخضوع (اتقوا الظلم) أي اجعلوا بينكم وبينه وقاية فلا تباشروه (فإن الظلم ظلمات يوم القيامة) قال القاضي قيل هو على ظاهره فيكون ظلمات على صاحبه لا يهتدي يوم القيامة سبيلا حين ترى المؤمنين يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم قال ويحتمل أن المراد من الظلمات هنا الشدائد وبه فسروا قوله تعالى {قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر} [الأنعام 63] أي شدائدها قال ويحتمل أنها عبارة عن الأنكال والعقوبات اهـ

وعند أحمد "يا أيها الناس اتقوا الظلم ... " وفي رواية "إياكم والظلم" وفي رواية "أظلم الناس من ظلم لغيره" (واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم) قيل الشح أشد البخل وأبلغ في المنع من البخل وقيل هو البخل مع الحرص وقيل البخل في أفراد الأمور والشح بالمال والمعروف فهو أعم وقيل الشح الحرص على ما ليس عنده والبخل على ما عنده والأول أكثر استعمالا قال تعالى {سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير} [الأحزاب 19] قال القاضي يحتمل أن هذا الهلاك دنيوي بسفكهم دماءهم ويحتمل أنه هلاك الآخرة وهذا الثاني أظهر ويحتمل أنه أهلكهم في الدنيا والآخرة اهـ أقول وهذا الأخير هو الأظهر فإن سفك الدماء هلاك في الدنيا والآخرة ومناسبة التحذير من الشح بعد التحذير من الظلم أن الشح نوع من الظلم فهو من قبيل ذكر الخاص بعد العام لمزيد عناية بالخاص والشح غالبا دافع الظلم فكلاهما ينشأ عن حب الذات وحب السيطرة وحب التملك والشحيح ظالم لنفسه وظالم لغيره ظالم لنفسه ومجهدها ومتعبها بالإفراط في الحرص وموبقها ومهلكها يوم القيامة ظالم لنفسه ببعثه الحقد والحسد والبغض في نفوس الآخرين حتى يصبح منبوذا في مجتمعه وظالم لغيره بمنعه حق الغير في ماله وفي صحته وصنعته ففي كل عضو من أعضاء الإنسان صدقة يومية يعين أخاه ويحمل له أو يعمل ويتصدق أو يصنع لأخرق (حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم) هذه الجملة بيانية مستأنفة استئنافا بيانيا أو تعليليا فهي في جواب سؤال نشأ عن الجملة الأولى إن قدرناه كيف أهلكهم فهو بياني وإن قدرناه لم أهلكهم كان تعليليا والأول أوضح وضمير "حملهم" وفي "استحلوا" غير الضمير في "دماءهم" و "محارمهم" أي حمل بعضهم على سفك دماء بعض واستحل بعضهم محارم بعض ويحتمل المجاز فسفك الإنسان لدم أخيه كأنه سفك لدم نفسه واستحلاله لمحارم أخيه كأنه استحلال لمحارم نفسه والمحارم جمع محرم بفتح الميم وسكون الحاء وهو صاحب الحرمة من النساء والرجال أي الذي يحرم التزوج به لرحمه وقرابته ويطلق على كل ما حرم الله (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه) سبق قبل أربعة أبواب بلفظ "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره" (من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته) أي من صار معينا لأخيه كان الله في عونه (ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة) قال

النووي يدخل في كشف الكربة وتفريجها من يزيلها بماله أو جاهه أو يساعده على تفريجها قال والظاهر أنه يدخل فيه من أزالها بإشارته ورأيه ودلالته ونصحه (ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة) ستر المسلم يشمل كل ما سبق يشمل ستره عن الإهانة والذلة فلا يظلمه ولا يخذله ولا يكشف عوزه وضيقه وحاجته وكربه كما يشمل ستره عن الزلات وعدم كشف سوءاته وسيئاته وخص النووي لفظ "مسلم" فجعل المراد منه مسلما مطيعا غير معروف بالعصيان فقال وأما الستر المندوب إليه هنا فالمراد به الستر على ذوي الهيئات ونحوهم ممن ليس هو معروفا بالأذى والفساد قال فأما المعروف بذلك فيستحب ألا يستر عليه بل ترفع قضيته إلى ولي الأمر إن لم يخف من ذلك مفسدة لأن الستر على هذا يطمعه في الإيذاء والإفساد وانتهاك الحرمات وجسارة غيره على مثل فعله قال هذا كله في ستر معصية وقعت وانقضت أما معصية رآه عليها وهو بعد متلبس بها فتجب المبادرة بإنكارها عليه ومنعه منها على من قدر على ذلك ولا يحل تأخيرها فإن عجز لزمه رفعها إلى ولي الأمر إذا لم يترتب على ذلك مفسدة اهـ وعندي أن هناك فرقا بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبين الستر وكل منهما مأمور به وبينهما عموم وخصوص مطلق فيجتمعان في الستر وعدم الإشاعة مع الأمر بالمعروف بينه وبينه لأن النصيحة في الملأ فضيحة وينفرد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دون الستر في الجهر به وكشف سره ونصحه أمام الناس أو رفع أمره إلى الحاكم مع إمكان الإصلاح دون كشف وينفرد الستر كثيرا حتى يصل إلى اللامبالاة (أتدرون ما المفلس) الاستفهام للتقرير وإخراج الجواب من المخاطب ليبني عليه الحكم المراد ولما كان المقصود السؤال عن الوصف وليس عن الذات عبر بـ "ما" بدل "من" (قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع) أجابوا بأوصاف المفلس في العادة والعرف الدنيوي (فقال إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة ... ) "من أمتي" ليس قيدا للاحتراز فالأمر كذلك في جميع الديانات قال النووي معناه أن هذا حقيقة المفلس وأما من ليس له مال ومن قل ماله فالناس يسمونه مفلسا وليس هو حقيقة المفلس لأن هذا أمر يزول وينقطع بموته وربما ينقطع بيسار يحصل له بعد ذلك في حياته وإنما حقيقة المفلس هذا المذكور في الحديث فهو الهالك الهلاك التام والمعدوم الإعدام القاطع فتؤخذ حسناته لغرمائه فإذا فرغت حسناته أخذ من سيئاتهم فوضع عليه ثم ألقي في النار فتمت خسارته وهلاكه وإفلاسه اهـ وليس مقصود الحديث نفي الإفلاس عمن لا درهم عنده

بل نفي الكمال والحقيقة التي تستحق هذا الوصف كحديث "ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" (بصلاة وصيام وزكاة) هذا ليس للحصر بل هو تمثيل يشمل جميع الطاعات (ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا) وهذا تمثيل أيضا والمقصود جميع حقوق العباد والواو فيها لمطلق العطف والجمع ولا ترتيب بين ما ذكر (فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته) قال العلماء المراد بالحسنات هنا الثواب عليها وسيأتي في فقه الحديث مزيد إيضاح (فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه) "يقضي" بضم الياء وسكون القاف وفتح الضاد مبني للمجهول (ثم طرح في النار) لفناء الحسنات وزيادة الخطايا وسيأتي في فقه الحديث مزيد إيضاح (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة) اللام في جواب قسم مقدر أي والله ليؤدين كل واحد منكم حقوق الآخرين يوم القيامة والخطاب للخلائق (حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء) "الجلحاء" بجيم ثم حاء بينهما لام وهي الجماء التي لا قرن لها والمراد يقاد ويقتص من القرناء التي نطحت في الدنيا أختها التي لا قرن لها وللمسألة مزيد إيضاح في فقه الحديث والمقصود إبراز القصاص بين المكلفين في صورة التأكيد والمبالغة لأنه إذا حصل القصاص بين ما لا تكليف عليه حصل بين المكلفين من باب أولى (إن الله يملي للظالم) أي يمهله ويؤخر عقابه ويطيل في مدة عدم معاقبته وهو مشتق من الملوة بضم الميم وكسرها وفتحها وهي المدة يقال أقام عنده ملوة من الدهر وفي القرآن الكريم {واهجرني مليا} [مريم 46] أي زمنا ومدة (فإذا أخذه لم يفلته) أي لم يطلقه ولم ينفلت منه أي لم يجعله ينفلت يقال أفلته إذا أطلقه -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الأحاديث]- 1 - من الرواية الأولى ومن قوله صلى الله عليه وسلم "كلكم ضال إلا من هديته" قال المازري ظاهر هذا أنهم خلقوا على الضلال إلا من هداه الله تعالى لكن في الحديث المشهور "كل مولود يولد على الفطرة" أي مما يثير إشكالا أجاب عنه بقوله قد يكون المراد بالأول وصفهم بما كانوا

عليه قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وأنهم لو تركوا وما في طباعهم من إيثار الشهوات والراحة وإهمال النظر لضلوا اهـ أي كلكم كنتم ضالين قبل رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فهديت برسالته من هديت فلتطلبوا مني الهداية واعملوا لها أهدكم قال النووي وفي هذا دليل لمذهب أصحابنا وسائر أهل السنة أن المهتدي هو من هداه الله وبهدى الله اهتدى وبإرادة الله تعالى وأنه سبحانه وتعالى إنما أراد هداية بعض عباده وهم المهتدون ولم يرد هداية الآخرين ولو أرادها لاهتدوا خلافا للمعتزلة في قولهم الفاسد أنه سبحانه وتعالى أراد هداية الجميع جل الله أن يريد ما لا يقع أو يقع ما لا يريد 2 - وفيها الحث على الدعاء بما يحتاجه الإنسان حتى المأكل والكسوة ولا يعتمد على المسعى وحده 3 - وأن الله لا تنفعه طاعة ولا تضره معصية 4 - ولا تنفذ خزائنه بل ولا تنقص بالعطاء 5 - وفيها التحذير من الظلم 6 - وفي الرواية الثانية التحذير من الشح 7 - وفي الرواية الرابعة فضل إعانة المسلم وتفريج كربه 8 - والستر على المسلم وعدم التشهير به ونقل أخبار زلاته قال النووي وأما جرح الرواة والشهود والأمناء على الصدقات والأوقاف والأيتام ونحوهم فيجب جرحهم عند الحاجة ولا يحل الستر عليهم إذا رأى منهم ما يقدح في أهليتهم وليس هذا من الغيبة المحرمة بل من النصيحة الواجبة وهذا مجمع عليه 9 - ومن الرواية الخامسة الوعيد بالمقاصة وعند أبي نعيم "يؤخذ بيد العبد فينصب على رءوس الناس وينادي مناد هذا فلان ابن فلان فمن كان له حق فليأت فيأتون فيقول الرب آت هؤلاء حقوقهم فيقول يا رب فنيت الدنيا فمن أين أوتيهم فيقول للملائكة خذوا من أعماله الصالحة فأعطوا كل إنسان بقدر مظلمته فإن كان ناجيا وفضل من حسناته مثقال حبة من خردل ضاعفها الله حتى يدخله بها الجنة" وعند أحمد والحاكم "لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده مظلمة حتى أقصه منه حتى اللطمة قلنا يا رسول الله كيف وإنما نحشر حفاة عراة قال بالسيئات والحسنات" وقد استشكل إعطاء الحسنات سدادا للحقوق مع أن الحسنات تضاعف إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة والحقوق محدودة وأجيب بأنه محمول على أن الذي يعطاه صاحب الحق من الثواب ما يوازي السيئة من الأصل وأما ما زاد على الأصل فهو بفضل الله فيبقى لصاحبه اهـ وهذا إن صلح فيمن يبقى عنده حسنات بعد المقاصة لا يصلح فيمن يشير إليه حديثنا ممن تنفد حسناته ويطرح في النار

وحاول البيهقي الإجابة فقال وجه الحديث عندي والله أعلم أنه يعطي خصماء المؤمن المسيء من أجر حسناته ما يوازي عقوبة سيئاته فإن فنيت حسناته أخذ من خطايا خصومه فطرحت عليه ثم يعذب إن لم يعف عنه فإذا انتهت عقوبة تلك الخطايا أدخل الجنة بما كتب له من الخلود فيها بإيمانه ولا يعطى خصماؤه ما زاد من أجر حسناته على ما قابل العقوبة يعني من المضاعفة لأن ذلك من فضل الله يختص به من وافى يوم القيامة مؤمنا اهـ وقال الحميدي في كتاب الموازنة الناس ثلاثة من رجحت حسناته على سيئاته أو بالعكس أو من تساوت حسناته وسيئاته فالأول فائز بنص القرآن والثاني يقتص منه بما فضل من معاصيه على حسناته من النفخة إلى آخر من يخرج من النار بمقدار قلة شره وكثرته والثالث أصحاب الأعراف اهـ ويقيد بمشيئة الله تعالى وعفوه 10 - وظاهر الحديث أن سيئات المظلوم يحملها الظالم وهذا الظاهر يتعارض مع قوله تعالى {وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء} [فاطر 18] ومع ظاهر قوله تعالى {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام 164] قال النووي وهذا الاعتراض غلط لأنه إنما عوقب بفعله ووزره وظلمه فتوجهت عليه حقوق لغرمائه فدفعت إليهم من حسناته فلما فرغت وبقيت لخصومه بقية أخذ قدرها من سيئات خصومه فوضع عليه فحقيقة العقوبة إنما هي بسبب ظلمه ولم يعاقب بغير جناية وظلم منه 11 - قال النووي وفي الحديث تصريح بحشر البهائم يوم القيامة وإعادتها يوم القيامة كما يعاد أهل التكليف من الآدميين وكما يعاد الأطفال والمجانين ومن لم تبلغه الدعوة وعلى هذا تظاهرت دلائل القرآن والسنة قال الله تعالى {وإذا الوحوش حشرت} [التكوير 5] قال وإذا ورد لفظ الشرع ولم يمنع من إجرائه على ظاهره عقل ولا شرع وجب حمله على ظاهره قال العلماء وليس من شرط الحشر والإعادة في القيامة المجازاة والعقاب والثواب والقصاص من القرناء ليس من قصاص التكليف بل هو قصاص المقابلة 12 - وفي الرواية السابعة التحذير من أخذ الله تعالى للظالمين والله أعلم.

(697) باب نصر الأخ ظالما أو مظلوما

(697) باب نصر الأخ ظالما أو مظلوما 5727 - عن جابر رضي الله عنه قال اقتتل غلامان غلام من المهاجرين وغلام من الأنصار فنادى المهاجر أو المهاجرون يا للمهاجرين ونادى الأنصاري يا للأنصار فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "ما هذا دعوى أهل الجاهلية" قالوا لا يا رسول الله إلا أن غلامين اقتتلا فكسع أحدهما الآخر قال "فلا بأس ولينصر الرجل أخاه ظالما أو مظلوما إن كان ظالما فلينهه فإنه له نصر وإن كان مظلوما فلينصره" 5728 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار فقال الأنصاري يا للأنصار وقال المهاجري يا للمهاجرين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما بال دعوى الجاهلية" قالوا يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار فقال "دعوها فإنها منتنة" فسمعها عبد الله بن أبي فقال قد فعلوها والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل قال عمر دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال "دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه". 5729 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله القود فقال النبي صلى الله عليه وسلم "دعوها فإنها منتنة" قال ابن منصور في روايته عمرو قال سمعت جابرا. -[المعنى العام]- في سنة ست من الهجرة وبعد النصر في غزة بني المصطلق استراح جند المسلمين عند بئر لبني خزاعة يسمى "المريسيع" ونفث المنافقون سمومهم في هذه الغزوة مرتين المرة الأولى وهي التي تحكيها قصة حديثنا تتلخص في أن بئر المريسيع كان قليل الماء فكان الصحابة يبتدرون

الماء فيملأ الواحد حوضه ثم يجعل عليه نطعا يغطيه حتى يسقى منه هو وأصحابه وعلى الآخرين أن يدلوا بدلائهم ويملئوا أحواضهم فسبق إلى البئر جهجاه بن قيس الغفاري من المهاجرين خادم عمر فملأ حوضه وغطاه فجاء الأنصاري سنان بن وبرة الجهني وأرخى زمام ناقته لتشرب من حوض جهجاه فضربه جهجاه برجله على عجيزته فلطمه سنان وتشابكا وتصارعا واستغاث كل منهما بقومه قال المهاجري يا للمهاجرين وقال الأنصاري يا للأنصار وسمع النبي صلى الله عليه وسلم هاتين الاستغاثتين وهو في خبائه فخرج مغضبا وقال ما هذه العصبية القبلية وما هذه الدعوة الجاهلية ما سببها قالوا له تضارب غلامان مهاجري وأنصاري وانقضت المشكلة فقال لا بأس أن انتهت عند هذا الحد فقد خشيت أن تثار فتنة بين المهاجرين والأنصار ولكن احذروا هذه الدعوى فإنها منتنة وقد أنقذكم الله منها حسنا أن تنصر أخاك ظالما أو مظلوما قالوا حسنا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما قال تكفونه عن ظلمه وبلغ عبد الله بن أبي زعيم المنافقين ما حصل وأن المهاجري ضرب الأنصاري على دبره فكبر ذلك عليه وغضب فبرز ما في صدره من البغضاء للمسلمين ولرسولهم صلى الله عليه وسلم على لسانه أمام أصحابه المنافقين فقال قد عظم شأن المهاجرين ونحن الذين قويناهم وساعدناهم وما مثلنا ومثلهم إلا كما قيل سمن كلبك يأكلك ثم قال لأصحابه لئن رجعنا إلى المدينة لنخرجنهم منها "ليخرجن الأعز منها الأزل" وكان الصبي زيد بن أرقم قريبا منهم فسمع فأخبر عمه فقام عمه بإخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه صلى الله عليه وسلم وسأله فأنكر وحلف أن لم يحصل وقال أصحابه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتصدق صبيا لا يضبط ما يسمع وتكذب سيدنا وكبيرنا فصدقه صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن الكريم يصدق زيدا ويكشف المنافقين فقال عمر دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق قال دعه لئلا يقول الناس إن محمدا يقتل أصحابه وجاء عبد الله بن عبد الله بن أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له بلغني يا رسول الله أنك تريد قتل أبي فمرني يا رسول الله أن أتيك برأسه ووالله لو أمرتني لأتيتك بها فقال له صلى الله عليه وسلم بل نحسن صحبته وقبل دخول المسلمين المدينة بمرحلة ألقى ابن أبي لأصحابه المنافقين القنبلة الثانية قنبلة حديث الإفك حين رأى عائشة رضي الله عنها وقد تأخرت عن الجيش تأتي يقود ناقتها صفوان فقال بين أصحابه والله ما نجت منه ولا نجا منها وأخذوا ينفخون النار في عرض عائشة بالمدينة أما عبد الله بن عبد الله بن أبي وهو المؤمن الخالص فقد وقف لأبيه على باب المدينة مشهرا عليه سيفه يقول له والله لأغمدن سيفي ولا أدعك تدخلها حتى تقول محمد الأعز وأنا الأذل فلم يبرح حتى قال ذلك قال له والله لا تدخلها حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم بدخولها فرجع حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكا إليه ما صنع ابنه فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن خل عنه يدخل ففعل رضي الله عنه وأرضاه

-[المباحث العربية]- (اقتتل غلامان غلام من المهاجرين وغلام من الأنصار) في الرواية الثانية "كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار" والكسع ضرب الدبر والعجيزة بيد أو رجل أو سيف أو غيره وذلك عند أهل اليمن شديد والتعبير عنهما بالغلامين لما أنهما كانا تابعين كخادمين فالمهاجري هو جهجاه بن قيس الغفاري وكان مع عمر بن الخطاب يقود له فرسه والأنصاري هو سنان بن وبرة الجهني حليف الأنصار وكانا على بئر المريسيع يستقيان ومعنى اقتتالهما تضاربهما (فنادى المهاجر أو المهاجرون يا للمهاجرين ونادى الأنصاري يا للأنصار) قال النووي هو في معظم النسخ "يال" بلام مفصولة في الموضعين وفي بعضها "يا للمهاجرين" و"يا للأنصار" بوصلها وفي بعضها "يا آل المهاجرين" بهمزة ثم لام مفصولة واللام مفتوحة في الجميع وهي لام الاستغاثة والصحيح بلام موصولة ومعناه أدعوا المهاجرين وأستغيث بهم وقوله "أو المهاجرون" صحيح على اعتبار أن رجلين أو ثلاثة من المهاجرين لحقوه أولا فنادوا معه (فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم) من خيمته التي كانت قد ضربت قريبة من البئر في غزوة بني المصطلق (فقال ما هذا دعوى أهل الجاهلية) أي ما هذا النداء وما هذه الاستغاثة أتكون الاستغاثة بألفاظ الجاهلية والعصبية القبلية لا ينبغي أن يحصل هذا بل ينبغي أن تكون الاستغاثة باسم الإسلام ووحدة الإسلام فالاستفهام إنكاري توبيخي وفي الرواية الثانية "ما بال دعوى الجاهلية" أي ما حال دعوى الجاهلية وما شأنها لا ينبغي أن تعود قال النووي وأما تسميته صلى الله عليه وسلم ذلك دعوى الجاهلية فهو كراهة منه ذلك فإنه مما كانت عليه الجاهلية من التعاضد بالقبائل في أمور الدنيا ومتعلقاتها وكانت الجاهلية تأخذ حقوقها بالعصبات والقبائل فجاء الإسلام بإبطال ذلك وفصل القضايا بالأحكام الشرعية فإذا اعتدى إنسان على آخر حكم القاضي بينهما وألزمه مقتضى عدوانه كما تقرر من قواعد الإسلام (قالوا لا يا رسول الله) أي ليست دعوة جاهلية ولن نستجيب لها ولن نرجع إليها (إلا أن غلامين اقتتلا فكسع أحدهما الآخر قال فلا بأس) أي لم يحصل من هذه القصة بأس مما كنت خفته فإنه خاف أن يكون حدث أمر عظيم يوجب فتنة وفسادا وليس المراد رفع كراهة الدعاء بدعوى الجاهلية (دعوها فإنها منتنة) أي دعوا دعوى الجاهلية لا تلجئوا إليها مهما حصل خلاف ولا تستجيبوا لها إن سمعتموها فإنها قبيحة كريهة مؤذية

(ولينصر الرجل أخاه ظالما أو مظلوما إن كان ظالما فلينهه فإنه له نصر وإن كان مظلوما فلينصره) وفي رواية للبخاري "قالوا يا رسول الله هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما قال تأخذ فوق يديه" وفي رواية له أيضا "فقال رجل يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوما أفرأيت إذا كان ظالما كيف أنصره قال تحجزه عن الظلم فإن ذلك نصره" قال ابن بطال النصر عند العرب الإعانة وتفسيره لنصر الظالم بمنعه من الظلم من تسمية الشيء بما يئول إليه وهو من وجيز البلاغة وذكر بعضهم أن أول من قال انصر أخاك ظالما أو مظلوما جندب بن العنبر بن عمرو بن تميم وأراد بذلك ظاهره وهو ما اعتادوه من حمية الجاهلية لا على ما فسره النبي صلى الله عليه وسلم وفي ذلك يقول شاعرهم إذا أنا لم أنصر أخي وهو ظالم على القوم لم أنصر أخي حين يظلم (فسمعها عبد الله بن أبي فقال قد فعلوها والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) أي سمع ابن أبي قصة كسع المهاجر للأنصاري فقال قد فعلها المهاجرون أي تعالوا علينا ونحن الذين آويناهم لئن رجعنا من هنا من ديار بني المصطلق إلى المدينة ليخرجن الأعز يعني نفسه والأنصار الأذل يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين (قال عمر دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه) كان ابن أبي والمنافقون معدودين في أصحابه صلى الله عليه وسلم ويجاهدون معه إما حمية وإما لطلب دنيا وكان المسلمون مأمورين بالحكم بالظاهر والله يتولى السرائر كان كلام عمر بعد أن علم النبي صلى الله عليه وسلم بقول ابن أبي وبعد أن أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليه فجحد وحلف وصدقه النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآيات تكذبه -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث]- 1 - ما عانى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون من المنافقين 2 - وأن القرآن فضحهم في هذه الحادثة 3 - وصدق الناقل للخبر زيد بن أرقم الصحابي الجليل وكان صبيا 4 - وأن نقل حديث الآخرين للمصلحة العامة ليس من الغيبة المحرمة بل نقل إيذاء المنافقين للمسلمين واجب ومن المصلحة الكبرى

5 - وأن استخدام الألفاظ الموهمة لغير مراد المتكلم تحتاج إلى توضيح المراد وترخص للمخاطب استيضاحها 6 - وأن الأخذ على يد الظالم ومنعه من الظلم نصر له وعون له على حماية نفسه 7 - وفي الحديث تنفير من العصبية القبلية ووصفها بالخبث والنتن 8 - وفيه الحث على نصر المظلوم والحث على نصر الظالم بمنعه من الظلم 9 - ومن الرواية الثانية حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم وحلمه على المنافقين قال القاضي عياض واختلف العلماء هل بقي حكم الإغضاء عن المنافقين وترك قتالهم أو نسخ ذلك عند ظهور الإسلام ونزول قوله تعالى {جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} [التوبة 73] وهناك قول ثالث وهو العفو عنهم ما لم يظهروا نفاقهم فإذا أظهروه قتلوا اهـ والراجح معاملتهم معاملة المسلمين ما أظهروا الإسلام ففي أواخر أيامه صلى الله عليه وسلم أعطى ابن أبي قميصا له يكفن فيه وما عوتب صلى الله عليه وسلم إلا على أن صلى عليه فنزل {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره} [التوبة 84] أما معاملتهم معاملة المسلمين فظلت إلى نهاية نزول تشريعات الإسلام والله أعلم.

(698) باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتوادهم

(698) باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتوادهم 5730 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا". 5731 - عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" 5732 - عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "المؤمنون كرجل واحد إذا اشتكى رأسه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" 5733 - وفي رواية عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "المسلمون كرجل واحد إن اشتكى عينه اشتكى كله وإن اشتكى رأسه اشتكى كله" حدثنا ابن نمير -[المعنى العام]- يقول الله تعالى {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا} [الحجرات 13] والإنسان مدني اجتماعي بطبعه محتاج إلى غيره بقدر احتياج غيره له وكلما تكاتف مجتمع صار قويا وكلما عطف بعضه على بعض وأحس بعضه بآلام البعض صار في منعة وحصانة لقد نشأ الإسلام في بيئة عربية قبلية تتناحر بطونها وتتعادى شعوبها ويغير قويها على ضعيفها حتى قال شاعرهم وأحيانا على بكر أخينا ... إذا ما لم نجد إلا أخانا

وقال قائلهم أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب جاء الإسلام إلى هذه البيئة المتناحرة المفككة فغرس فيها عناصر الترابط وأول هذه العناصر وأقواها تأثيرا التراحم والتعاطف والتوادد فأكثر من الدعوة إلى التراحم بأساليب مختلفة "من لا يرحم لا يرحم" "من لا يرحم الناس لا يرحمه الله" "ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء" "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" "من لم يرحم الناس لم يرحمه الله" وأكثر من الدعوة إلى التعاون {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة 2] "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا" "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" "مثل المؤمنين كمثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى اشفعوا تؤجروا" واستجاب المسلمون لتوجيهات شريعتهم فأحب بعضهم بعضا وعطف بعضهم على بعض وأعان بعضهم بعضا حتى نزل فيهم قوله تعالى {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا} [أل عمران 103] بل بلغوا وبالغوا درجة إيثار بعضهم على أنفسهم حتى نزل فيهم قوله تعالى {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [الحشر 9] -[المباحث العربية]- (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا) "أل" في "المؤمن" للجنس والإخبار عما ينبغي أن يكون عليه كل مؤمن مع كل مؤمن لا عن الواقع ويحتمل أن يكون إخبارا عن الواقع و"أل" في المؤمن الأول للكمال أي المؤمن الكامل هو الذي يشد ويساعد ويعاون المؤمن والأول أظهر لأن البنيان يشد كل لبنة فيه الأخرى قال الحافظ ابن حجر اللام فيه للجنس والمراد بعض المؤمنين للبعض وقوله "يشد بعضه بعضا" بيان لوجه التشبيه وقال الكرماني نصب "بعضا" بنزع الخافض وقال غيره بل هو مفعول "يشد" وكلاهما صحيح والثاني أظهر زاد البخاري "ثم شبك بين أصابعه" وهو بيان لوجه التشبيه أيضا أي يشد بعضهم بعضا مثل هذا الشد مبالغة في بيان الأقوال عن طريق الحركات لتكون أوقع في نفس السامع (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) وفي الرواية الرابعة "المسلمون كرجل واحد إن اشتكى عينه اشتكى كله وإن اشتكى رأسه اشتكى كله" وعند البخاري "ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم" والتواد بتشديد الدال أصله التوادد فأدغم وهو من المودة والود والوداد بمعنى وهو تقرب شخص من آخر بما يحب

قال ابن أبي جمرة الذي يظهر أن التراحم والتوادد والتعاطف وإن كانت متقاربة في المعنى لكن بينها فرق لطيف فأما التراحم فالمراد به أن يرحم بعضهم بعضا بأخوة الإيمان لا بسبب شيء آخر وأما التوادد فالمراد به التواصل الجالب للمحبة كالتزاور والتهادي وأما التعاطف فالمراد به إعانة بعضهم بعضا كما يعطف الثوب على الثوب ليقويه اهـ وقوله "مثل الجسد" أي بالنسبة إلى جميع أعضائه ووجه التشبيه فيه التوافق والمشاركة في التعب والراحة كذا قال الحافظ ابن حجر مراعيا المنصوص عليه في الحديث كوجه التشبيه "إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" وعندي أن وجه الشبه أعم من ذلك فهو التعاون بين أعضائه "مثل المؤمنين كمثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى" والتعاطف والتوادد والتضامن في تحمل المسئولية "كالبنيان يشد بعضه بعضا" فوجه الشبه المشاركة في التأثر والتأثير ومعنى "تداعى" أي دعا بعضه بعضا إلى المشاركة في الألم ومنه قولهم تداعت الحيطان أي دعا بعضها بعضا للسقوط ودعوة بعضه بعضا بالسهر لأن الألم يمنع النوم فألم العين يمنع الجسم كله من النوم ووجع الرأس يمنع الجسم كله من النوم وأما دعوة بعضه بعضا بالحمى فلأن ألم عضو يشعل الحرارة والقشعريرة في الجسد كله والحمى مثل للمرض الذي يؤلم الجسم كله -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - تعظيم حقوق المسلمين بعضهم على بعض 2 - وحثهم على التراحم والملاطفة والتعاضد في غير إثم ولا مكروه 3 - وجواز التشبيه وضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأفهام 4 - قال ابن بطال فيه الحث على المعاونة في أمور الآخرة وكذا في الأمور المباحة من الدنيا ويؤكده حديث "والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه" والله أعلم.

(699) باب النهي عن السباب

(699) باب النهي عن السباب 5734 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "المستبان ما قالا فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم" -[المعنى العام]- يقول صلى الله عليه وسلم "المستبان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان" ويقول "سباب المسلم فسوق" ويقول "لا يرمي رجل رجلا بالفسوق إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك" ويقول أنس رضي الله عنه "لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا لعانا ولا سبابا" والسب مفتاح الشر وباب الفحش من القول والمؤمن ينبغي أن يصون لسانه عن التلوث بألفاظ السباب وأن يكفه عن لعن الناس بل عن لعن الدواب هذا أقل ما يجب عليه إن لم يستطع أن يرطب لسانه بذكر الله وبالثناء بالخير على الناس عملا بقوله صلى الله عليه وسلم "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" المباحث العربية (المستبان ما قالا فعلى البادئ) أي كل ما قاله المستبان إثمه على البادئ قال النووي معناه أن إثم السباب الواقع من اثنين مختص بالبادئ منهما كله اهـ (ما لم يعتد المظلوم) أي ما لم يتجاوز المظلوم قدر حقه فيقول للبادئ أكثر مما قاله له والسباب بكسر السين وتخفيف الباء هو الشتم وهو نسبة الإنسان إلى عيب ما -[فقه الحديث]- قال النووي في هذا الحديث جواز الانتصار ولا خلاف في جوازه وقد تظاهرت عليه دلائل الكتاب والسنة قال الله تعالى {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل} [الشورى 41]

وقال {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون} [الشورى 39] قال ومع هذا فالصبر والعفو أفضل قال الله تعالى {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور} [الشورى 43] ثم قال واعلم أن سباب المسلم بغير حق حرام كما قال صلى الله عليه وسلم "سباب المسلم فسوق" ولا يجوز للمسبوب أن ينتصر إلا بمثل ما سبه ما لم يكن كذبا أو قذفا أو سبا لأسلافه فمن صور المباح أن ينتصر بكلمة يا ظالم يا أحمق أو نحو ذلك لأنه لا يكاد أحد ينفك من هذه الأوصاف قالوا وإذا انتصر المسبوب استوفى ظلامته وبرئ الأول من حقه وبقي عليه إثم الابتداء أو الإثم المستحق لله تعالى وقيل يرتفع عنه جميع الإثم بالانتصار منه ويكون معنى "على البادئ" في الحديث أي عليه اللوم والذم لا الإثم اهـ والله أعلم

(700) باب استحباب العفو والتواضع

(700) باب استحباب العفو والتواضع 5735 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله". -[المعنى العام]- البخيل الشحيح يخشى الفقر فتصعب عليه الصدقة متجاهلا قوله تعالى {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين} [سبأ 39] وجاهلا أو متجاهلا قوله تعالى {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضافعه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط} [البقرة 245] وقول الملائكة صباح مساء اللهم أعط منفقا خلفا وأعط ممسكا تلفا وهكذا تسطع الحقيقة المشاهدة المؤكدة أن الصدقة لا تنقص المال بل تزيده المسألة الثانية أن بعض الكبراء وأصحاب الجاه يظنون أنهم بعفوهم عمن أساء إليهم تنقص قيمتهم وينخفض قدرهم وما علموا أن العفو مع القدرة يزيد العزيز عزا المسألة الثالثة أن بعض المتكبرين والمتجبرين يظنون أن التواضع ذلة ومهانة وانخفاض والحق أن من تواضع لله رفعه ومن ترفع على الناس وضعه الله إما في الدنيا وإما في الآخرة وإما في الدنيا والآخرة -[المباحث العربية]- (ما نقصت صدقة من مال) قال النووي ذكروا فيه وجهين أحدهما معناه أنه يبارك فيه ويدفع عنه المضرات فينجبر نقص الصورة بالبركة الخفية وهذا مدرك بالحس والعادة والثاني أنه وإن نقصت صورته كان في الثواب المرتب عليه جبر لنقصه وزيادة إلى أضعاف كثيرة اهـ فحاصل الوجهين أن عدم النقص إما في الدنيا وإما في الآخرة (وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا) قال النووي فيه وجهان أيضا أحدهما أن من عرف بالعفو والصفح ساد وعظم في القلوب وزاد عزه وإكرامه والثاني أن المراد أجره في الآخرة وعزه هناك

(وما تواضع أحد لله إلا رفعه) التواضع مشتق من الضعة بكسر الضاد وهي الهوان والمراد بالتواضع إظهار التنزل عن المرتبة لمن يراد تعظيمه وقيل هو تعظيم من فوقه لفضله. قال النووي في معنى لفظ الحديث وفيه وجهان أيضا أحدهما يرفعه الله في الدنيا ويثبت له بتواضعه في القلوب منزلة ويرفعه الله عند الناس ويجل مكانه والثاني أن المراد ثوابه في الآخرة ورفعه فيها بتواضعه في الدنيا. قال: قال العلماء وهذه الأوجه في الألفاظ الثلاثة موجودة في العادة معروفة وقد يكون المراد الوجهين معا في جميعها في الدنيا والآخرة -[فقه الحديث]- فيه الترغيب في الصدقة وفي العفو وهو مع القدرة من شيم الكرام والقرآن الكريم يقول {وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم} [البقرة 237] وفي التواضع قال الطبري في التواضع مصلحة الدين والدنيا فإن الناس لو استعملوه في الدنيا لزالت بينهم الشحناء ولاستراحوا من تعب المباهاة والمفاخرة والله أعلم

(701) باب تحريم الغيبة

(701) باب تحريم الغيبة 5736 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أتدرون ما الغيبة" قالوا الله ورسوله أعلم قال "ذكرك أخاك بما يكره" قيل أفرأيت إن كان في أخي ما أقول قال "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته" -[المعنى العام]- حماية لعرض المسلم من الذم في غيبته وسدا لباب البغض والتدابر والتحاقد نهت الشريعة أن يذكر المسلم أخاه المسلم بشيء يكرهه وهوغائب عنه يقول الله تعالى {يا أيها الذين ءامنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه} [الحجرات 12] نعم شبه تناول المسلم بالنقائص في غيبته بأكل لحمه ميتا ومن يقبل أن يأكل من لحم ابن آدم ميتا فضلا عن أن يكون هذا الميت أخاه وإذا كان المؤمن لا يرضى أن يذكره آخر في غيبته بنقص فيه فكيف يرضى لنفسه أن يذكر هو أخاه المسلم في غيبته بنقص وإن كان فيه وإذا كان هذا حراما كانت مواجهة الأخ بنقص ليس فيه أشد حرمة وأقسى جرما وعذابا طهر الله ألسنتنا من الغيبة والنميمة والفحش من القول -[المباحث العربية]- (أتدرون ما الغيبة) الاستفهام لجذب الانتباه حتى يستقر الخبر في نفس المخاطب (قال ذكرك أخاك بما يكره) يضاف للتعريف "في غيبته" وقال الراغب هي أن يذكر الإنسان عيب غيره من غير حاجة إلى ذكر ذلك وقال الغزالي أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغة وقال ابن الأثير في النهاية الغيبة أن تذكر الإنسان في غيبته بسوء وإن كان فيه وقال النووي في الأذكار ذكر المرء بما يكرهه سواء كان ذلك في بدن الشخص أو دينه أو دنياه أو نفسه أو خلقه أو ماله أو والده أو ولده أو زوجه أو خادمه أو ثوبه أو حركته أو طلاقته أو عبوسه أو غير ذلك مما يتعلق به سواء ذكرته باللفظ أو بالإشارة والرمز قال النووي وممن يستعمل التعريض في ذلك كثير من الفقهاء في التصانيف وغيرها كقولهم قال بعض من يدعي العلم أو بعض من ينسب إلى الصلاح أو

نحو ذلك مما يفهم السامع المراد منه ومنه قولهم عند ذكره الله يعافينا الله يتوب علينا نسأل الله السلامة ونحو ذلك فكل ذلك من الغيبة قال الحافظ ابن حجر عدم ذكر الحديث قيد "في غيبته" دليل على أنه لا فرق بين أن يقول ذلك في غيبته أو في حضوره والأرجح اختصاصها بالغيبة مراعاة لاشتقاقها وبذلك جزم أهل اللغة قال وكلام من أطلق منهم محمول على القيد في ذلك نعم المواجهة بما ذكر حرام لكنه داخل في السب والشتم (قيل أفرأيت إن كان في أخي ما أقول) أي أخبرني عن جواب هذا السؤال هل ذلك من الغيبة (قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته) بتخفيف فتحة الهاء وتشديد التاء يقال بهت فلانا بفتح الباء والهاء يبهته بفتح الهاء بهتا بسكون الهاء وبهتة وبهتانا قذفه بالباطل -[فقه الحديث]- في حكم الغيبة قال النووي في الأذكار الغيبة والنميمة محرمتان بإجماع المسلمين وقد تظاهرت الأدلة على ذلك وذكر في الروضة تبعا للرافعي أنها من الصغائر وتعقبه جماعة وقال القرطبي في تفسيره الإجماع على أنها من الكبائر لأن حد الكبيرة صادق عليها لأنها مما ثبت الوعيد الشديد فيه وقال الأذرعي لم أر من صرح بأنها من الصغائر إلا صاحب العدة والغزالي وصرح بعضهم بأنها من الكبائر وإذا لم يثبت الإجماع فلا أقل من التفصيل فمن اغتاب وليا أو عالما ليس كمن اغتاب مجهول الحال مثلا وقد قالوا ضابطها ذكر الشخص بما يكره وهذا يختلف باختلاف ما يقال فيه وقد يشتد تأذيه بذلك وأذى المسلم محرم وذكر النووي من الأحاديث الدالة على تحريم الغيبة حديث أنس رفعه "لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم قلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم" أخرجه أبو داود وعند أحمد وأبي داود "إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق" وعند أبي يعلى بإسناد حسن "من أكل لحم أخيه في الدنيا قرب له يوم القيامة فيقال له كله ميتا كما أكلته حيا" وفي الأدب المفرد عن ابن مسعود قال "ما التقم أحد لقمة شرا من اغتياب مؤمن" وفيه أيضا وصححه ابن حبان في قصة ماعز ورجمه "وإن رجلا قال لصاحبه "انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم يدع نفسه حتى رجم رجم الكلب فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم كلا من جيفة هذا الحمار لحمار ميت فما نلتما من عرض هذا الرجل أشد من أكل هذه الجيفة"

قال الحافظ ابن حجر وهذا الوعيد في هذه الأحاديث يدل على أن الغيبة من الكبائر لكن تقييده في بعضها "بغير حق" قد يخرج الغيبة بحق لما تقرر قال النووي لكن تباح الغيبة لغرض شرعي وذلك لستة أسباب أحدها التظلم فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان والقاضي وغيرهما ممن له ولاية أو قدرة على إنصافه من ظالمه فيقول ظلمني فلان أو فعل بي كذا الثاني الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى الصواب فيقول لمن يرجو قدرته فلان يعمل كذا فازجره عنه ونحو ذلك الثالث الاستفتاء بأن يقول للمفتي ظلمني فلان أو أبي أو أخي أو زوجي فهل له ذلك وما طريقي للخلاص منه ودفع ظلمه عني ونحو ذلك فهذا جائز للحاجة والأجود أن يقول زوج أو والد أو ولد يفعل كذا وكذا فما الحكم ومع ذلك فالتعيين جائز لحديث هند وقولها عن أبي سفيان "إنه رجل شحيح" الرابع تحذير المسلمين من الشر وذلك من وجوه منها تجريح المجروحين من الرواة والشهود والمصنفين وذلك جائز بالإجماع بل واجب صونا للشريعة ومنها الإخبار بعيبه عند المشاورة في مواصلته أو مصاهرته ومنها إذا رأيت من يشتري شيئا معيبا فتنصح المشتري نصيحة لا بقصد الإيذاء والإفساد ومنها إذا رأيت متفقها يتردد إلى فساق أو مبتدع يأخذ عنه علما وخفت عليه ضرره فعليك نصحه ببيان حاله قاصدا النصيحة الخامس أن يكون مجاهرا بفسقه أو بدعته كالخمر ومصادرة الناس وتولي الأمور الباطلة فيجوز ذكره بما يجهر به ولا يجوز بغيره إلا بسبب آخر السادس التعريف فإذا كان معروفا بلقب كالأعمش والأعرج والأزرق والقصير والأعمى والأقطع ونحوها جاز تعريفه به ويحرم ذكره به تنقيصا ولو أمكن التعريف بغيره كان أولى اهـ وقد ترجم البخاري بباب ما يجوز من ذكر الناس نحو قولهم الطويل والقصير قال الحافظ ابن حجر حاصله أن اللقب إن كان مما يعجب الملقب ولا إطراء فيه مما يدخل في نهي الشرع فهو جائز أو مستحب وإن كان مما لا يعجبه فهو حرام أو مكروه إلا أن يتعين طريقا للتعريف به حيث يشتهر به ولا يتميز عن غيره إلا بذكره والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم "أكما يقول ذو اليدين" وإلى ذلك التفصيل ذهب الجمهور وشذ قوم فشددوا حتى نقل عن الحسن البصري أنه كان يقول أخاف أن يكون قولنا حميد الطويل غيبة قال ابن المنير إن كان للبيان والتمييز فهو جائز وإن كان للتنقيص لم يجز وحديث عائشة عند أبي الدنيا في المرأة التي دخلت عليها وخرجت فأشارت بيدها أنها قصيرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم "اغتبتيها" ذلك لأنها لم تفعل هذا بيانا وإنما قصدت الإخبار عن صفتها فكان كالاغتياب والله أعلم.

(702) باب من ستر الله عليه في الدنيا فإن الله يستر عليه في الآخرة

(702) باب من ستر الله عليه في الدنيا فإن الله يستر عليه في الآخرة 5737 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يستر الله على عبد في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة" 5738 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يستر عبد عبدا في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة" -[المعنى العام]- يراجع المعنى العام قبل خمسة أبواب -[المباحث العربية]- (لا يستر الله على عبد في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة) إذا شاء وهذا القيد ضروري فكثير ممن يسترهم الله في جرائمهم في الدنيا يكشفهم ويفضحهم يوم القيامة وهذا الحديث يشير إلى حديث "أن الله يدني المؤمن يوم القيامة فيقرره بذنوبه بينه وبينه حتى إذا ظن أنه هلك قال سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم" قال القاضي يحتمل وجهين أحدهما أن يستر معاصيه وعيوبه عن إذاعتها في أهل الموقف الثاني ترك محاسبته عليها وترك ذكرها قال والأول أظهر (لا يستر عبد عبدا في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة) وهذا أيضا ليس على إطلاقه بل لا بد من تقييده بالمشيئة وهذا الحديث شبيه بالحديث السابق قبل خمسة أبواب "ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة" وقد سبق شرحه بما فيه الكفاية -[فقه الحديث]- يراجع فقه الحديث والمباحث العربية قبل خمسة أبواب.

(703) باب مدارة من يتقي فحشه

(703) باب مدارة من يتقي فحشه 5739 - عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال "ائذنوا له فلبئس ابن العشيرة أو بئس رجل العشيرة" فلما دخل عليه ألان له القول قالت عائشة فقلت يا رسول الله قلت له الذي قلت ثم ألنت له القول قال "يا عائشة إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من ودعه أو تركه الناس اتقاء فحشه" 5740 - -/- وفي رواية عن ابن المنكدر في هذا الإسناد مثل معناه غير أنه قال "بئس أخو القوم وابن العشيرة" -[المعنى العام]- إن طلاقة الوجه وبشاشته وحسن اللقاء أدب من آداب الإسلام لمن تعرف ولمن لا تعرف للصديق ولغير الصديق لمن تهوى ولمن لا تهوى لمن تحبه في الله ولمن تبغضه في الله هذا عيينة بن حصن الفزاري رئيس قومه لكنه رجل أحمق غليظ الطبع خبيث الطوية قد أسلم هو وقومه متأخرين يحس رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قلب الرجل مظلم وأن إيمانه على حرف فيبغضه الله جاء إلى باب بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادى عليه فعرفه صلى الله عليه وسلم وكانت معه عائشة فقال صلى الله عليه وسلم بئس هذا الرجل وبدت على وجهه كراهية لقائه لكنه لما دخل هش له النبي صلى الله عليه وسلم وألان له الكلام فلما خرج وقد رأت عائشة موقفين متناقضين من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خفى عليها أن الإسلام يدعوا إلى حسن اللقاء حتى مع الأعداء والمبغضين سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت عن الرجل بئس الرجل فلما دخل أحسنت إليه قال يا عائشة لست فاحشا ولا متفحشا وحسن اللقاء مطلوب ولو للشرير اتقاء شره وشر الناس عند الله يوم القيامة من يحذره الناس ويحسنون إليه اتقاء شره وصحت أحاسيس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ارتد الرجل في عهد أبي بكر وحاربه وانهزم وجاء أسيرا فأسلم من جديد -[المباحث العربية]- (أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال ائذنوا له فلبئس ابن العشيرة أو بئس

رجل العشيرة) وفي رواية للبخاري "أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال بئس أخو العشيرة وبئس ابن العشيرة" والمراد من الرؤية العلم به على الباب أو رآه يبصره وكانت البيوت لا أبواب لها قال ابن بطال هذا الرجل هو عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري وكان يقال له الأحمق المطاع وكذا فسره به عياض ثم القرطبي والنووي جازمين بذلك قال الحافظ ابن حجر وأخرج عبد الغني عن عائشة "جاء مخرمة بن نوفل يستأذن فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم صوته قال بئس أخو العشيرة" فيحمل على التعدد وكان من أمر عيينة بن حصن أنه كان رئيس قومه وكان أحمق ومن حمقه كما أخرج سعيد بن منصور "أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة فقال من هذه قال أم المؤمنين قال ألا أنزل لك عن أجمل منها فغضبت عائشة وقالت من هذا قال هذا أحمق" وارتد عيينة في زمن أبي بكر وحارب ثم رجع وأسلم وحضر بعض الفتوح في عهد عمر رضي الله عنه والمراد بالعشيرة الجماعة أو القبيلة والعشيرة الأدنى إلى الرجل أهله أي بئس هذا الرجل من قبيلته (فلما دخل ألان له القول) وفي رواية للبخاري "فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط إليه" "تطلق" بفتح الطاء وتشديد اللام أي أبدى له طلاقة وجهه وانبساطه غير عابس وفي رواية "بش في وجهه" (قالت عائشة فقلت يا رسول الله قلت له الذي قلت ثم ألنت له القول) وفي رواية للبخاري "فلما انطلق الرجل قالت له عائشة يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا ثم انطلقت في وجهه وانبسطت إليه" (قال يا عائشة إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من ودعه الناس أو تركه الناس اتقاء فحشه) وفي رواية للبخاري "قال يا عائشة من متى عهدتني فاحشا إن شر الناس عند الله يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره" والفحش كل ما خرج عن مقداره حتى يستقبح ويدخل في القول والفعل والصفة -[فقه الحديث]- قال القاضي هذا الرجل هو عيينة بن حصن ولم يكن أسلم حينئذ وإن كان قد أظهر الإسلام فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين حاله ليعرفه الناس ولا يغتر به من لم يعرف حاله قال وكان منه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعده ما دل على ضعف إيمانه ووصف النبي صلى الله عليه وسلم له بأنه بئس أخو العشيرة من أعلام النبوة لأنه ظهر كما وصف وإنما ألان له القول تألفا له ولأمثاله على الإسلام

قال النووي وفي هذا الحديث مداراة من يتقي فحشه وجواز غيبة الفاسق المعلن فسقه ومن يحتاج الناس التحذير منه قال ولم يمدحه النبي صلى الله عليه وسلم ولا أثنى عليه في وجهه ولا في قفاه وإنما تألفه لشيء من الدنيا مع لين الكلام اهـ قال الخطابي ليس في قوله صلى الله عليه وسلم في أمته بالأمور التي يسميهم بها ويضيفها إليهم من المكروه غيبة وإنما يكون ذلك من بعضهم في بعض بل الواجب عليه أن يبين ذلك ويفصح به ويعرف الناس أمره فإن ذلك من باب النصيحة والشفقة على الأمة ولكنه لما جبل عليه من الكرم وأعطيه من حسن الخلق أظهر له البشاشة لتقتدي به أمته في اتقاء شر من هذا سبيله وفي مداراته ليسلموا من شره وغائلته قال الحافظ ابن حجر وظاهر هذا الكلام أن ذلك من جملة الخصائص وليس كذلك بل كل من اطلع من حال شخص على شيء وخشى أن غيره يغتر بجميل ظاهره فيقع في محذور ما فعليه أن يطلعه على ما يحذر من ذلك قاصدا نصيحته قال القرطبي والفرق بين المداراة والمداهنة أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معا وهي مباحة وربما استحبت والمداهنة ترك الدين لصلاح الدنيا والله أعلم.

(704) باب فضل الرفق

(704) باب فضل الرفق 5741 - عن جرير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من يحرم الرفق يحرم الخير" 5742 - عن جرير رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقول من يحرم الرفق يحرم الخير" 5743 - عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من حرم الرفق حرم الخير أو من يحرم الرفق يحرم الخير" 5744 - عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه" 5745 - عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه" 5746 - وفي رواية عن شعبة سمعت المقدام بن شريح بن هانئ بهذا الإسناد وزاد في الحديث ركبت عائشة بعيرا فكانت فيه صعوبة فجعلت تردده فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم "عليك بالرفق" ثم ذكر بمثله -[المعنى العام]- الرفق واللين يطوع المشكلات ويحل العقد ويتغلب على العقبات وهو وسيلة ناجحة

بكل المقاييس للوصول إلى النتائج الأفضل والأحسن بعكس العنف الذي إن نجح في حل مشكلة خلف وراءه حقدا ورغبة في الثأر والانتقام وما أكثر عدم نجاحه وتعقيده لغير المعقد ومضاعفة تعقيده للعقد حقا ما دخل الرفق في شيء إلا زانه وجمله وحسنه وما دخل العنف في شيء إلا شانه وعيبه وقبحه وأساء إليه وما أحسن قوله تعالى {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} [الأعراف 199] {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم} [فصلت 34، 35] -[المباحث العربية]- (من يحرم الرفق يحرم الخير) أي يحرم قدرا كبيرا من الخير وليس المراد من جميع الخير ففي الأعمال الصالحة الأخرى خير كثير والرفق بكسر الراء وسكون الفاء هو لين الجانب بالقول والفعل والأخذ بالأسهل وهو ضد العنف و"من" بفتح الميم اسم شرط يجزم فعلين "يحرم" بضم الياء مبني للمجهول مجزوم بالسكون وحرك بالكسر للتخلص من التقاء الساكنين ويحتمل أن تكون "من" موصولة و"يحرم" مرفوع (إن الله رفيق) في هذا الوصف كلام كثير يأتي في فقه الحديث (يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف) هذه مقارنة بين عنف في خير كتربية الأولاد مثلا وكأمر بالمعروف ونهي عن المنكر فهو مثاب عليه وبين الوصول إلى نفس النتيجة عن طريق الرفق فالأجر على النتيجة الواحدة يكون لمن استخدم الرفق أكثر منه لمن استخدم العنف (وما لا يعطي على سواه) الوسائل ثلاث عنف ورفق ووسط لا يوصف برفق ولا بعنف فالمراد مما سوى العنف ما لا يوصف بعنف ولا رفق كالأمور والأوامر العادية الجارية والمعنى يعطي أجرا على الرفق أكبر من الأجر على استخدام العنف للوصول إلى النتيجة وأكبر من استعمال اللاعنف واللارفق للوصول إلى نفس النتيجة والقاضي عياض يجعل العطاء عطاء دنيويا ويريد به النتائج فيقول معناه يتأتى به من الأغراض ويسهل به من المطالب ويحصل به من النتائج ما لا يحصل بغيره (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه) يقال زانه يزينه زينا جمله وحسنه (ولا ينزع من شيء إلا شانه) "ينزع" بضم الياء وفتح الزاي بينهما نون ساكنة مبني للمجهول ويقال شانه يشينه شينا شوهه وعابه والشين العيب والقبح

(ركبت عائشة بعيرا فكانت فيه صعوبة فجعلت تردده) بضم التاء وفتح الراء وتشديد الدال الأولى أي تمنعه وتدفعه بشدة وعنف -[فقه الحديث]- يقول النووي في هذه الأحاديث فضل الرفق والحث على التخلق به وذم العنف والرفق سبب كل خير ويقول وفي الحديث تصريح بتسمية الله سبحانه وتعالى برفيق قال المازري لا يوصف الله سبحانه وتعالى إلا بما سمى به نفسه أو سماه به رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أجمعت عليه الأمة وأما ما لم يرد إذن في إطلاقه ولم يرد منع في وصف الله تعالى به ففيه خلاف منهم من قال يبقى على ما كان قبل ورود الشرع فلا يوصف بحل ولا حرمة ومنهم من منع قال وللأصوليين المتأخرين خلاف في تسمية الله تعالى بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بخبر الآحاد فقال بعض حذاق الأشعرية يجوز لأن خبر الواحد عنده يقتضي العمل وهذا عنده من باب العمليات لكنه يمنع إثبات أسمائه تعالى بالأقيسة الشرعية وإن كانت يعمل بها في المسائل الفقهية وقال بعض متأخريهم يمنع ذلك فمن أجاز ذلك فهم من مسالك الصحابة قبولهم ذلك في مثل هذا ومن منع لم يسلم ذلك ولم يثبت عنده إجماع فيه فيبقى على المنع قال المازري فإطلاق "رفيق" إن لم يثبت بغير هذا الحديث الآحاد جرى في جواز استعماله في الخلاف الذي ذكرنا قال ويحتمل أن يكون "رفيق" صفة فعل وهي ما يخلقه الله تعالى من الرفق لعباده اهـ قال النووي والصحيح جواز تسمية الله تعالى رفيقا وغيره مما يثبت بخبر الواحد وقد قدمنا هذا واضحا في كتاب الإيمان في حديث "إن الله جميل يحب الجمال" في باب تحريم الكبر والله أعلم.

(705) باب النهي عن لعن الدواب وغيرها

(705) باب النهي عن لعن الدواب وغيرها 5747 - عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وامرأة من الأنصار على ناقة فضجرت فلعنتها فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "خذوا ما عليها ودعوها فإنها ملعونة" قال عمران فكأني أراها الآن تمشي في الناس ما يعرض لها أحد. 5748 - وفي رواية عن أيوب بإسناد إسماعيل نحو حديثه إلا أن في حديث حماد قال عمران فكأني أنظر إليها ناقة ورقاء وفي حديث الثقفي فقال "خذوا ما عليها وأعروها فإنها ملعونة". 5749 - عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال بينما جارية على ناقة عليها بعض متاع القوم إذ بصرت بالنبي صلى الله عليه وسلم وتضايق بهم الجبل فقالت حل اللهم العنها قال فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لا تصاحبنا ناقة عليها لعنة". 5750 - وفي رواية عن سليمان التيمي بهذا الإسناد وزاد في حديث المعتمر "لا ايم الله لا تصاحبنا راحلة عليها لعنة من الله" أو كما قال. 5751 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا ينبغي لصديق أن يكون لعانا" 5752 - أن عبد الملك بن مروان بعث إلى أم الدرداء بأنجاد من عنده فلما أن

كان ذات ليلة قام عبد الملك من الليل فدعا خادمه فكأنه أبطأ عليه فلعنه فلما أصبح قالت له أم الدرداء سمعتك الليلة لعنت خادمك حين دعوته فقالت سمعت أبا الدرداء يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة" 5753 - عن أبي الدرداء رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن اللعانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة" 5754 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قيل يا رسول الله ادع على المشركين قال "إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة" -[المعنى العام]- طهارة لسان المؤمن هدف إسلامي "فالمؤمن من سلم المسلمون من لسانه" وقد تناولنا في أحاديث سابقة الحث على طهارة اللسان من السب والفحش واللعن نوع من الفحش أفرد بالذكر في هذا الباب لمزيد عناية به لكثرة جريانه على الألسنة وتساهل الناس فيه ولزيادة المبالغة والتحذير من اللعن نهى عن لعن الدواب مع أن لعنها لا يبعدها عن رحمة الله ولا يترتب عليه حقدها وتباغضها وتدابرها وكأنه من قبيل إياك أعني واسمعي يا جارة نعم إنها خلقة الله وصنعته ولعن المصنوع إساءة للصنعة وإساءة للصانع وهذا وإن لم يقصد من اللاعن ينبغي البعد عنه وإكثار اللعن كان سببا من أسباب كثرة دخول النساء جهنم وكثرة اللعن في أحاديث الباب سبب للحرمان من الشفاعة والشهادة فلا يكون اللاعنون شفعاء يوم يكثر الشفعاء ولا شهداء يوم يتقدم الشهداء -[المباحث العربية]- (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وامرأة من الأنصار على ناقة) كانت هذه الناقة تحمل أمتعة للقوم الراجلين وكانت المرأة صغيرة جارية ففي الرواية الثانية "بينما جارية

على ناقة عليها بعض متاع القوم" وجاء في الرواية الثانية لون الناقة بأنها "ورقاء" أي يخالط بياضها سواد ويقال للذكر أورق وقيل هي التي لونها كلون الرماد (فضجرت فلعنتها فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم) الضمير في "فضجرت" للناقة أي تبرمت ونفرت وتذمرت وعاندت وحرنت ويحتمل أن يكون للجارية والعطف على محذوف أي فنفرت الناقة فضجرت الجارية بها أي ضاقت بها وتبرمت منها ولعنتها وأوضحت الرواية الثانية عبارة اللعن "فقالت حل اللهم العنها" و"حل" كلمة زجر واستحثاث يقال حل حل بفتح الحاء وسكون اللام فيهما عند التكرار ويقال أيضا حل حل بكسر اللام فيهما وبالتنوين وبغير تنوين كما بينت الرواية الثانية الظروف التي جعلت الرسول صلى الله عليه وسلم يسمعها ففيها "إذ بصرت بالنبي صلى الله عليه وسلم وتضايق بهم الجبل" أي فكانت قريبة من الرسول صلى الله عليه وسلم بدون قصد وبحكم ضيق الطريق ولعلها خشيت مزاحمته صلى الله عليه وسلم فأرادت من الناقة جهة فلم تطاوعها (فقال خذوا ما عليها ودعوها فإنها ملعونة) أي خذوا ما عليها من متاع ورحال وآلات ودعوها واتركوها في الصحراء ترعى دون صاحب فلا يليق أن تصاحبنا لعنة في سفرنا بمصاحبة شيء ملعون وفي الرواية الثانية "لا تصاحبنا ناقة عليها لعنة" وفي ملحقها "لا ايم الله لا تصاحبنا راحلة عليها لعنة من الله" أي قسمي ويميني ألا تصاحبنا وفي ملحق الرواية الأولى "خذوا ما عليها وأعروها" بهمزة قطع وضم الراء يقال أعريته وعريته إعراء وتعرية فتعرى أي اتركوها عارية لا شيء عليها (قال عمران فكأني أراها الآن تمشي في الناس ما يعرض لها أحد) حدث عمران بهذا الحديث بعد زمن من واقعته وكان ساعتها قد رأى الناقة وقد جردت ثم أطلقت تنفيذا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عند التحديث يستحضر تلك الصورة وكأنها حادثة أمامه الآن (لا ينبغي لصديق أن يكون لعانا) أي لا ينبغي لمؤمن قوي الإيمان بلغ فيه مبلغ الصديق أن يكون كثير اللعن فلعان صيغة مبالغة تدل على الكثرة فكثرة اللعن من صفات ضعيف الإيمان ولا يضر قوي الإيمان أن يصدر منه اللعن مرة ونحوها لمن يستحق اللعن كما سيأتي في فقه الحديث واللعن الإبعاد من رحمة الله فهو نهاية المقاطعة والتدابر وهذا غاية ما يوده المسلم للكافر فلا يدعى به على من لا يستحق وإن كان حيوانا (أن عبد الملك بن مروان بعث إلى أم الدرداء بأنجاد من عنده) بفتح الهمزة وسكون النون جمع نجد بفتح النون والجيم وهو متاع البيت الذي يزين به البيت من فرش ونمارق وستور وقال الجوهري بسكون الجيم وجمعه نجود فهما لغتان ووقع في رواية "بخادم" بدل "بأنجاد" قال النووي والمشهور الأول

(فلما أن كان ذات ليلة قام عبد الملك من الليل فدعا خادمه فأبطأ عليه فلعنه فلما أصبح قالت له أم الدرداء سمعتك الليلة لعنت خادمك حين دعوته) أي فقال نعم وهذه الواقعة حصلت في بيت عبد الملك بن مروان في الشام والخادم يطلق على الذكر والأنثى وكان هنا أنثى فعند أحمد "كان عبد الملك بن مروان يرسل إلى أم الدرداء فتبيت عند نسائه ويسألها عن النبي صلى الله عليه وسلم فقام ليلة فدعا خادمته فأبطأت عليه فلعنها" والمعنى أنه أرسل إليها الهدية ودعاها أن تبيت عنده مع نسائه وكانت قد بلغت من الكبر عتيا فقد ماتت في خلافة عثمان (لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة) قال النووي معناه لا يشفعون يوم القيامة حين يشفع المؤمنون في إخوانهم الذين استوجبوا النار و"لا شهداء" فيه ثلاثة أقوال أصحها وأشهرها لا يكونون شهداء يوم القيامة على الأمم بتبليغ رسلهم إليهم الرسالات والثاني لا يكونون شهداء في الدنيا أي لا تقبل شهادتهم لفسقهم والثالث لا يرزقون الشهادة وهي القتل في سبيل الله -[فقه الحديث]- إنما منعت الناقة الملعونة من المصاحبة زجرا لصاحبتها ولغيرها فقد ثبت أنه قد سبق نهيها ونهي غيرها عن لعن الحيوان فعوقبت بإرسال الناقة والمراد النهي عن مصاحبة هذه الناقة في الطريق وأما بيعها وذبحها وركوبها في غير مصاحبته صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من التصرفات التي كانت جائزة قبل هذا فهي باقية على الجواز لأن الشرع إنما ورد بالنهي عن المصاحبة فبقي الباقي كما كان قاله النووي وقال عن حديث "لا ينبغي لصديق أن يكون لعانا" فيه الزجر عن اللعن وأن من تخلق به لا يكون فيه هذه الصفات الجميلة لأن اللعنة في الدعاء يراد بها الإبعاد عن رحمة الله تعالى وليس الدعاء بهذا من أخلاق المؤمنين الذين وصفهم الله تعالى بالرحمة بينهم والتعاون على البر والتقوى وجعلهم كالبنيان يشد بعضه بعضا وكالجسد الواحد وأن المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه فمن دعا علي أخيه المسلم باللعنة وهي الإبعاد من رحمة الله تعالى فهو من نهاية المقاطعة والتدابر وهذه غاية ما يوده المسلم للكافر ولهذا جاء في الحديث الصحيح "لعن المؤمن كقتله" لأن القاتل يقطعه عن منافع الدنيا وهذا يقطعه عن نعيم الآخرة وعن رحمة الله تعالى ثم قال وهذا الذم في الحديث إنما هو لمن كثر من اللعن لا لمرة ونحوها ولأنه يخرج عنه أيضا اللعن المباح وهو الذي ورد الشرع به وهو "لعنة الله على الظالمين" "لعن الله اليهود والنصارى" "لعن الله الواصلة والمستوصلة" "لعن الله شارب الخمر" "وآكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه" "لعن الله المصورين" "لعن الله من انتمى إلى غير أبيه وتولى غير مواليه" "وغير منار الأرض" وغيرها مما هو مشهور في الأحاديث الصحيحة.

(706) باب من لعنه النبي صلى الله عليه وسلم أو سبه أو دعا عليه وليس أهلا لذلك كان له زكاة وأجر ورحمة

(706) باب من لعنه النبي صلى الله عليه وسلم أو سبه أو دعا عليه وليس أهلا لذلك كان له زكاة وأجر ورحمة 5755 - عن عائشة رضي الله عنها قالت دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان فكلماه بشيء لا أدري ما هو فأغضباه فلعنهما وسبهما فلما خرجا قلت يا رسول الله ما أصاب من الخير شيئا ما أصابه هذان قال "وما ذاك" قالت قلت لعنتهما وسببتهما قال "أو ما علمت ما شرطت عليه ربي قلت اللهم إنما أنا بشر فأي المسلمين لعنته أو سببته فاجعله له زكاة وأجرا". 5756 - -/- وفي رواية عن الأعمش بهذا الإسناد نحو حديث جرير وقال في حديث عيسى فخلوا به فسبهما ولعنهما وأخرجهما 5757 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اللهم إنما أنا بشر فأيما رجل من المسلمين سببته أو لعنته أو جلدته فاجعلها له زكاة ورحمة". 5758 - -/- وفي رواية عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله إلا أن فيه "زكاة وأجرا". 5759 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "اللهم إني أتخذ عندك عهدا لن تخلفنيه فإنما أنا بشر فأي المؤمنين آذيته شتمته لعنته جلدته فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة". 5760 - -/- وفي رواية عن أبي الزناد بهذا الإسناد نحوه إلا أنه قال "أو جلده" قال أبو الزناد وهي لغة أبي هريرة وإنما هي "جلدته".

5761 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "اللهم إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر وإني قد اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه فأيما مؤمن آذيته أو سببته أو جلدته فاجعلها له كفارة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة" 5762 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "اللهم فأيما عبد مؤمن سببته فاجعل ذلك له قربة إليك يوم القيامة" 5763 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "اللهم إني اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه فأيما مؤمن سببته أو جلدته فاجعل ذلك كفارة له يوم القيامة" 5764 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إنما أنا بشر وإني اشترطت على ربي عز وجل أي عبد من المسلمين سببته أو شتمته أن يكون ذلك له زكاة وأجرا" 5765 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال كانت عند أم سليم يتيمة وهي أم أنس فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم اليتيمة فقال "آنت هيه لقد كبرت لا كبر سنك" فرجعت اليتيمة إلى أم سليم تبكي فقالت أم سليم ما لك يا بنية قالت الجارية دعا علي نبي الله صلى الله عليه وسلم أن لا يكبر سني فالآن لا يكبر سني أبدا أو قالت قرني فخرجت أم سليم مستعجلة تلوث خمارها حتى لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما لك يا أم سليم" فقالت يا نبي الله أدعوت على يتيمتي قال "وما ذاك يا أم سليم" قالت زعمت أنك دعوت أن لا يكبر سنها ولا يكبر قرنها قال فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال "يا أم سليم أما تعلمين أن شرطي على ربي أني اشترطت على ربي فقلت إنما أنا بشر أرضى كما

يرضى البشر وأغضب كما يغضب البشر فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن يجعلها له طهورا وزكاة وقربة يقربه بها منه يوم القيامة" وقال أبو معن يتيمة بالتصغير في المواضع الثلاثة من الحديث. 5766 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كنت ألعب مع الصبيان فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فتواريت خلف باب قال فجاء فحطأني حطأة وقال "اذهب وادع لي معاوية" قال فجئت فقلت هو يأكل قال ثم قال لي "اذهب فادع لي معاوية" قال فجئت فقلت هو يأكل فقال "لا أشبع الله بطنه" قال ابن المثنى قلت لأمية ما حطأني قال قفدني قفدة 5767 - وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كنت ألعب مع الصبيان فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختبأت منه فذكر بمثله. -[المعنى العام]- لما بينت الشريعة الإسلامية حرمة السب واللعن والدعاء على المسلمين ولما كان بعض ذلك قد وقع من النبي صلى الله عليه وسلم وجه صلى الله عليه وسلم هذا الذي وقع منه بأنه من خصائصه وأن ربه سبحانه وتعالى جعل هذا الذي يقع منه في حق من لا يستحق رحمة ومغفرة وطهارة وأجرا وخفي هذا عن بعض المسلمين حتى عن أقرب الناس إليه عائشة رضي الله عنها فسألته عن بعض ما وقع منه ففسره لها ومن المقربات إليه أم سليم أم أنس رضي الله عنهما فسألته عما سمعته من أمثال هذا فوضح لها أن الله وعد نبيه أن يجعل ما يصدر منه من هذا رحمة ومغفرة صلى الله عليه وسلم -[المباحث العربية]- (دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان فكلماه بشيء لا أدري ما هو فأغضباه فلعنهما وسبهما فلما خرجا قلت) لم أجد ما يحدد هذين الرجلين ولعل إبهامها جرى على عادتهم في

الستر على من أصاب شرا وخطأ وفي ملحق الرواية "فخلوا به بفتح الواو على التثنية فسبهما ولعنهما وأخرجهما" (قلت يا رسول الله ما أصاب من الخير شيئا ما أصابه هذان) أي من أراد الله له شيئا من الخير ما قابله هذان الرجلان أي مقابلتهما ليست خيرا وليس فيها خير (قال وما ذاك) أي كيف عرفت هذا أو لم قلت هذا (قالت قلت لعنتهما وسببتهما قال أو ما علمت ما شرطت عليه ربي) أي اعلمي ما طلبته من ربي وما دعوت به فأجاب دعائي فكأنما وقع بيني وبين ربي شرط قبله ووافق عليه (قلت اللهم إنما أنا بشر فأي المسلمين لعنته أو سببته فاجعله له زكاة وأجرا) أي طهارة له من ذنب أذنبه وأثبه على هذا ثوابا تفضلا وكرما وفي الرواية الثانية "فأيما رجل من المسلمين سببته أو لعنته أو جلدته فاجعلها له زكاة ورحمة" وفي ملحقها "زكاة وأجرا" وفي الرواية الثالثة "فأي المؤمنين آذيته شتمته لعنته جلدته فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة" والصلاة من الله الرحمة وفي ملحق الرواية "أو جلده" بتشديد الدال إدغاما للتاء في الدال قال الراوي وهي لغة أبي هريرة أي واللغة المشهورة "جلدته" قال النووي ولغة أبي هريرة جائزة وفي الرواية الرابعة "اللهم إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر" وجه الشبه مطلق الغضب لا كميته ولا سرعته "وإني قد اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه فأيما مؤمن آذيته أو سببته أو جلدته فاجعلها له كفارة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة" وفي الرواية السابعة "إنما أنا بشر وإني اشترطت على ربي عز وجل أي عبد من المسلمين سببته أو شتمته أن يكون ذلك له زكاة وأجرا" وفي الرواية الثامنة "إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر وأغضب كما يغضب البشر فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن يجعلها له طهورا وزكاة وقربة يقربه بها منه يوم القيامة" (كانت عند أم سليم يتيمة وهي أم أنس) قوله "وهي أم أنس" يعني أن أم سليم هي أم أنس (فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم اليتيمة) في مرة من مرات دخوله على أم سليم وكان يتردد عليها كثيرا ويقيل عندها ولعله في هذه المرة كان قد طال عهده برؤية اليتيمة فبدت له أنها كبرت أكبر مما كان يتوقع

(فقال آنت هيه لقد كبرت لا كبر سنك) "هيه" بفتح الياء قبل هاء السكت الساكنة والاستفهام تعجبي يقال كبر في السن بفتح الباء يكبر بضمها زاد والمصدر كبرا بفتح الكاف وسكون الباء وكبر الرجل بكسر الباء يكبر بفتحها كبار بكسر الكاف وفتح الباء طعن في السن فهو كبير وكبر يكبر بضم الباء فيهما كبرا بفتح الباء وكبرا بسكونها عظم وجسم وما في روايتنا ضبط بكسر الباء ودعا عليها أن لا يكبر سنها فتظل صبية صغيرة فغضبت وخافت لأنها تحب أن تصبح شابة عروسا (فرجعت اليتيمة إلى أم سليم تبكي فقالت أم سليم مالك يا بنية قالت الجارية دعا علي نبي الله صلى الله عليه وسلم ألا يكبر سني فالآن لا يكبر سني أبدا) لأن دعاءه مستجاب (أو قالت قرني) أي قالت لا يكبر سني أبدا أو قالت لا يكبر قرني أبدا والقرن هنا بسكون الراء هو نظراؤها في العمر قال القاضي معناه لا يطول عمرها لأنه إذا طال طال عمر قرنها وتعقبه النووي بأنه لا يلزم من طول عمر أحد القرينين طول عمر الآخر فقد يكون سنهما واحدا ويموت أحدهما قبل الآخر اهـ (فخرجت أم سليم مستعجلة تلوث خمارها) أي تلف خمارها حول رأسها وهي في الطريق متعجلة لقاء النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرج (فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك يا أم سليم) يبدو عليك الانزعاج والتعجل (فقالت يا نبي الله أدعوت على يتيمتي قال وما ذاك يا أم سليم) أي بماذا دعوت عليها (قالت زعمت أنك دعوت ألا يكبر سنها ولا يكبر قرنها فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم) لانزعاجها ويتيمتها من الدعاء مع أنه لا ضرر فيه ثم بين لها ما بينه وبين ربه خاصا بدعائه على من ليس بأهل له من أمته (عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كنت ألعب مع الصبيان) لعل ذلك كان في أوائل الهجرة لأنه ولد قبل الهجرة بثلاث سنين وقيل بخمس (فتواريت خلف باب) حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان يجلس معه ويعجب بذكائه ويدعوا له فكيف يراه بهذه الحالة. (قال فجاء فحطأني حطأة) "حطأني" بفتح الحاء وتشديد الطاء المفتوحة بعدها

همزة أي ضربني بيده وبكفه المبسوطة بين كتفي وإنما فعل ذلك مع ابن عباس ملاطفة وتأنيسا وذكر المصدر "حطأة" وتنوينه على هذا للتقليل وفسر الراوي "حطأني حطأة" بقفدني قفدة يقال حطأ به الأرض يحطأ حطأ صرعه وحطأ الرجل الرجل إذا ضرب ظهره بيده مبسوطة ويقال قفد فلانا بفتح القاف والفاء إذا صفع قفاه بباطن كفه (اذهب وادع لي معاوية) بن أبي سفيان وكان من كتاب الوحي (قال فجئت فقلت هو يأكل) في الكلام طي أي فذهبت إلى معاوية فدعوته فوعدني بالحضور وهو يأكل فجئت (ثم قال لي اذهب فادع لي معاوية) التعبير بثم يدل على أن الطلب الثاني كان متراخيا عن الإخبار بأنه يأكل ولعل هذا هو السر في الدعاء عليه بعد العودة (فقال لا أشبع الله بطنه) وسيأتي توجيه هذا الدعاء في فقه الحديث -[فقه الحديث]- قال النووي هذه الأحاديث مبينة لما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الشفقة على أمته والاعتناء بمصالحهم والاحتياط لهم والرغبة في كل ما ينفعهم ثم قال عن الرواية الثامنة وفيها قيد "بدعوة ليس لها بأهل" قال وهذه الرواية تبين المراد بباقي الروايات المطلقة وأنه إنما يكون دعاؤه عليه رحمة وكفارة وزكاة ونحو ذلك إذا لم يكن أهلا للدعاء عليه ولم يكن أهلا لسبه ولعنه بأن كان مسلما غير مرتكب لكبيرة ظاهرة وإلا فقد دعا صلى الله عليه وسلم على الكفار والمنافقين ولم يكن ذلك لهم رحمة ثم أثار النووي إشكالا أثاره العلماء من قبله وهو كيف يدعوا على من ليس هو بأهل للدعاء عليه وكيف يسب أو يلعن من ليس هو بأهل للسب واللعن وأجاب بجوابين الأول أن المراد ليس بأهل لذلك عند الله تعالى وفي باطن الأمر ولكنه في الظاهر مستوجب له فيظهر له صلى الله عليه وسلم استحقاقه لذلك بأمارة شرعية ويكون في باطن الأمر ليس أهلا لذلك وهو صلى الله عليه وسلم مأمور بالحكم بالظاهر والله يتولى السرائر والثاني أن ما وقع من سبه ودعائه ليس بمقصود بل هو مما جرت به عادة العرب في وصل كلامها بكلام لا يقصد كقولهم تربت يمينك وقال عن الرواية الثامنة والتاسعة وفي هذا الحديث "لا كبرت سنك" وفي حديث معاوية "لا أشبع الله بطنه" ونحو ذلك لا يقصدون بشيء من ذلك حقيقة الدعاء فخاف صلى الله عليه وسلم أن

يصادف شيء من ذلك إجابة فسأل ربه سبحانه وتعالى ورغب إليه أن يجعل ذلك رحمة وكفارة وقربة وطهورا وأجرا وإنما كان يقع هذا منه في النادر والشاذ من الأزمان ولم يكن صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفحشا ولا لعانا ولا منتقما لنفسه ثم قال النووي وقد فهم مسلم رحمه الله من حديث معاوية أن معاوية لم يكن مستحقا للدعاء عليه فلهذا أدخله في هذا الباب وجعله غيره من مناقب معاوية لأنه في الحقيقة يصير دعاء له -[ويؤخذ فوق ذلك من حديث معاوية]- 1 - جواز ترك الصبيان يلعبون مما ليس بحرام 2 - واعتماد الصبي فيما يرسل فيه من دعاء إنسان ونحوه من حمل هدية وطلب حاجة وأشباهه 3 - وجواز إرسال صبي غيره ممن يدل عليه في مثل هذا وقد ورد الشرع بالمسامحة في مثل هذا للحاجة واطرد به العرف وعمل المسلمين والله أعلم.

(707) باب ذم ذي الوجهين وتحريم فعله

(707) باب ذم ذي الوجهين وتحريم فعله 5768 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن من شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه". 5769 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن شر الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه". 5770 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تجدون من شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه". -[المعنى العام]- يقول الله تعالى {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} [النساء 145] ويقول {إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم} [النساء 142] والنفاق في هذه الدنيا له صور كثيرة منها نفاق العقيدة يتظاهر صاحبه بالإسلام ويبطن الكفر ويشبهه من وجه من يرائي الناس بعبادته ليخدعهم فيحسبونه صالحا ويعاملونه على ذلك فيقعون في شرك جرائمه وهذا نفاق عمل ويشبهه الذي يتزلف للرؤساء المتخالفين فينقل لكل منهم ما عند الآخر ويمدح كلا في وجهه ويذم كلا من خلفه وشر هؤلاء وهؤلاء من ينتظر تخاصما وتناحرا بين طائفتين مسلمتين فيزيد النار اشتعالا وينفخ فيها في كل من الجانبين يثير هؤلاء على هؤلاء ويهيج هؤلاء على هؤلاء بالكذب والزور والبهتان وإيقاع الفتنة {والفتنة أشد من القتل} [البقرة 191] لأن القتل يقطع حياة فرد أو أفراد قليلين والفتنة تقطع راحة الحياة للكثيرين هؤلاء المنافقون بجميع صورهم شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة ولهم عذاب أليم -[المباحث العربية]- (إن من شر الناس ذا الوجهين) في الرواية الثانية "إن شر الناس ذو الوجهين" وفي

الرواية الثالثة "تجدون من شر الناس ذا الوجهين" وفي البخاري "تجد من شرار الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين" قال الحافظ ابن حجر وهذه الألفاظ متقاربة والروايات التي فيها "شر الناس" محمولة على الرواية التي فيها "من شر الناس" ووصفه بكونه شر الناس أو من شر الناس مبالغة في ذلك وفي رواية "أشر الناس" بزيادة الألف وهي لغة في "شر الناس" يقال خير وأخير وشر وأشر ولكن الذي بالألف أقل استعمالا والمراد من "الناس" من ذكر من الطائفتين المتضادتين خاصة فإن كل طائفة منهما معادية للأخرى ظاهرا فلا يتمكن من الاطلاع على أسرارها إلا بما ذكر من خداعه الفريقين ليطلع على أسرارهم فهو شرهم كلهم ويحتمل أن يراد من "الناس" عموم الناس فيكون على سبيل المبالغة في الذم (الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه) الجملة تفسير لذي الوجهين وتعرف هذه الصورة عند البلاغيين بصورة التمام والمراد بالوجه الجانب والطريقة والكلام وفسره النووي بأنه الذي يأتي كل طائفة بما يرضيها فيظهر لها أنه منها ومخالف لضدها، وصنيعه هذا نفاق ومحض كذب وخداع وتحيل للاطلاع على أسرار الطائفتين وقال ابن عبد البر حمله على ظاهره جماعة وهو أولى وتأوله قوم على أن المراد به من يرائي بعمله فيرى الناس خشوعا واستكانة ويوهمهم أنه يخشى الله حتى يكرموه وهو في الباطن بخلاف ذلك قال وهذا محتمل لو اقتصر في الحديث على صدره فإنه داخل حينئذ في مطلق ذي الوجهين لكن بقية الحديث ترد هذا التأويل وهي قوله "يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه" ورواية ابن نمير "الذي يأتي هؤلاء بحديث هؤلاء وهؤلاء بحديث هؤلاء" ترد التأويل المذكور صريحا -[فقه الحديث]- الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه قد يكون مصلحا يقول الخير لكل من الطائفتين فلا يكون من شر الناس من هنا قال العلماء المذموم من يزين لكل طائفة عملها ويقبحه عند الأخرى ويذم كل طائفة عند الأخرى والمحمود أن يأتي لكل طائفة بكلام فيه صلاح الأخرى ويعتذر لكل واحدة عن الأخرى وينقل ما أمكنه من الجميل ويستر القبيح وقال القرطبي إنما كان ذو الوجهين شر الناس لأن حاله حال المنافق إذ هو متخلق بالباطل وبالكذب مدخل للفساد بين الناس والله أعلم.

(708) باب تحريم الكذب وبيان ما يباح منه

(708) باب تحريم الكذب وبيان ما يباح منه 5771 - عن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط رضي الله عنها وكانت من المهاجرات الأول اللاتي بايعن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول "ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ويقول خيرا وينمي خيرا" قال ابن شهاب ولم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها. 5772 - وفي رواية عن ابن شهاب بهذا الإسناد مثله غير أن في حديث صالح وقالت ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث بمثل ما جعله يونس من قول ابن شهاب. 5773 - وفي رواية عن الزهري بهذا الإسناد إلى قوله "ونمى خيرا" ولم يذكر ما بعده. -[المعنى العام]- "إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقا وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا" والله تعالى يقول {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} [التوبة 119] والكذب قبيح ونقيصة بالعقل وفي جميع الشرائع لا نقاش في ذلك ولكن النقاش في ظروف تحيط به أحيانا فتجعل منه ضرورة أو حاجة لجلب مصلحة أو حاجة لدفع مضرة فهل يبقى حكمه قبيحا محرما أو يباح بقدر الحاجة والضرورة والمصلحة ولقد رخص في الحديث بالكذب في ثلاثة مواطن في الإصلاح بين الناس يقول خيرا للفريقين وإن خالف الواقع وفي الحرب مع الأعداء يقول ما فيه مصلحة المسلمين وإن خالف الواقع وبين الزوجين حين يهدد الصدق الحياة الزوجية فهل هذا الترخيص مبيح للكذب أو في التعريض مندوحة عن الكذب نقاش بين العلماء نوضحه في فقه الحديث إن شاء الله وسيأتي بعد باب قبح الكذب وحسن الصدق وفضله

-[المباحث العربية]- (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ويقول خيرا وينمي خيرا) قال النووي معناه ليس الكذاب المذموم الذي يصلح بين الناس بل هذا محسن اهـ وكان حق السياق أن يقول ليس من يصلح بين الناس كذابا مذموما فجاء على أسلوب القلب وهو سائغ والكذب الإخبار بالشيء على غير ما هو عليه أو عدم مطابقة الخبر للواقع وصيغة المبالغة "كذاب" غير مقصودة بل تشمل الكاذب وإنما ذكرت لأن من هذه مهمته يكثر من الكذب غالبا و"ينمي" بفتح الياء وكسر الميم أي يبلغ يقال نميت الحديث أنميه إذ بلغته على وجه الإصلاح وطلب الخير فإذا بلغته على وجه الإفساد والنميمة قلت نميته بتشديد الميم كذا قال الجمهور وادعى الحربي أنه لا يقال إلا نميته بالتشديد ووقع في الموطأ "ينمي" بضم الياء ورواية البخاري "فينمي خيرا أو يقول خيرا" بالشك من الراوي (قال ابن شهاب ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث) هذه الزيادة مدرجة بين مسلم لمن هي وسيأتي معنى الترخيص ومداه في فقه الحديث (الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها) الأخيران خصلة واحدة وإلا كانت الخصال أربعا لا ثلاثا -[فقه الحديث]- قال الطبري ذهبت طائفة إلى جواز الكذب لقصد الإصلاح وقالوا إن الثلاث المذكورة كالمثال وأجازوا قول ما لم يكن في أمثال هذه المواضع للمصلحة وقالوا الكذب المذموم ما فيه مضرة فما لا مضرة فيه ولو لم يكن فيه مصلحة ليس من الكذب المذموم وقال الغزالي الكذب من قبائح الذنوب وليس حراما لعينه بل لما فيه من الضرر ولذلك يؤذن فيه حيث يتعين طريقا للمصلحة وتعقب بأنه يلزم أن يكون الكذب مباحا إذا لم ينشأ عنه ضرر وليس كذلك ويجاب عن هذا التعقيب بأن المنع مما لا مصلحة فيه ولا ضرر إنما هو من قبيل سد الذرائع وحسم المادة والتحقيق أنه لا يباح منه إلا ما يترتب عليه مصلحة وحجة الذين يبيحون الكذب للمصلحة هذا الحديث وقول إبراهيم عليه السلام {بل فعله كبيرهم هذا} [الأنبياء 63] و {إني سقيم} [الصافات 89] و"هذه أختي" وقد سبقت في حديث "لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات" وقول منادي يوسف {أيتها العير إنكم لسارقون} [يوسف 70]

قالوا ولا خلاف أنه لو قصد ظالم قتل رجل هو عنده مختف وجب عليه الكذب في أنه لا يعلم أين هو فإذا وجب في مثل هذا جاز فيما هو مصلحة أقل درجة منها وبهذا جزم الخطابي وغيره وذهب آخرون منهم الطبري والمهلب والأصيلي وغيرهم إلى أنه لا يجوز الكذب في شيء أصلا وحملوا الكذب فيما ظاهره كذب مباح على التورية والتعريض كمن يقول للظالم دعوت لك بالأمس ويقصد قوله اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات ويعد امرأته بعطية شيء ويقصد إن شاء الله وأن يظهر من نفسه قوة للحرب وحاصل التورية والتعريض أن يأتي بكلمات محتملة يفهم المخاطب منها ما يطيب قلبه ولا يتعارض مع الواقع في عقيدة المتكلم وهذا يدخلنا في تحرير معنى الكذب هل هو في واقع الأمر بقطع النظر عن اعتقاد المتكلم أو اعتقاد المخاطب أو هو في اعتقاد المتكلم أو هو في اعتقاد المخاطب فإذا أخبر الابن بأن أباه ليس في البيت معتقدا أنه ليس في البيت وكان الواقع أنه في البيت فهل ينفعه اعتقاده مع أن خبره غير مطابق للواقع وإذا أخبر بذلك معتقدا أنه في البيت ويقصد الكذب وتبين أنه ليس في البيت فهل يكون كذبا ويضره اعتقاده وإن طابق الخبر للواقع التحقيق أن التورية والتعريض مع ما فيها من خداع نوع من الكذب على بعض الآراء ثم إنها غير ميسورة وغير مقنعة في كثير من الحالات وبخاصة إذا حاصر المخاطب المتكلم من جميع الجهات وألزمه بالتحديد والوضوح والتصريح والأولى القول بإباحة الكذب للمصلحة والله أعلم.

(709) باب تحريم النميمة

(709) باب تحريم النميمة 5774 - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال إن محمدا صلى الله عليه وسلم قال "ألا أنبئكم ما العضه هي النميمة القالة بين الناس" وإن محمدا صلى الله عليه وسلم قال "إن الرجل يصدق حتى يكتب صديقا ويكذب حتى يكتب كذابا". -[المعنى العام]- يراجع شرح حديث "لا يدخل الجنة نمام" في كتاب الإيمان -[المباحث العربية]- (ألا أنبئكم ما العضه) قال النووي هذه اللفظة رووها على وجهين أحدهما بكسر العين وفتح الضاد آخرها تاء على وزن العدة والثاني بفتح العين وإسكان الضاد بعدها هاء على وزن الوجه قال وهذا الثاني هو الأشهر في روايات بلادنا والأشهر في كتب الحديث وكتب غريبه والأول أشهر في كتب اللغة وتقدير الحديث والله أعلم ألا أنبئكم ما العضه الفاحش الغليظ التحريم اهـ وفي كتب اللغة العضيهة القذف بالباطل واختلاق الكذب والعضة بكسر العين وفتح الضاد مخففة بعدها تاء الكذب وفي القرآن الكريم {الذين جعلوا القرآن عضين} [الحجر 91] والمعنى ألا أنبئكم بالكذب الفاحش الغليظ التحريم (هي النميمة القالة بين الناس) في كتب اللغة القالة بتخفيف اللام المفتوحة اسم للقول الفاشي بين الناس وقال عليه أي افترى والمعنى هنا العضه هي النميمة وهي الافتراء على الناس للإفساد (وإن محمدا صلى الله عليه وسلم قال إن الرجل يصدق حتى يكتب عند الله صديقا ويكذب حتى يكتب كذابا) سيأتي الكلام عنه في الباب التالي وعلاقته هنا بالنميمة أن النمام كذاب وزيادة -[فقه الحديث]- مضى في كتاب الإيمان تحت باب تحريم النميمة حديث "لا يدخل الجنة نمام" وسبق شرحه بما لا مزيد عليه.

(710) باب قبح الكذب وحسن الصدق وفضله

(710) باب قبح الكذب وحسن الصدق وفضله 5775 - عن عبد الله رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكتب صديقا وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب كذابا" 5776 - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الصدق بر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن العبد ليتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإن الكذب فجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن العبد ليتحرى الكذب حتى يكتب كذابا" قال ابن أبي شيبة في روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم. 5777 - عن عبد الله رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا". 5778 - وفي رواية عن الأعمش بهذا الإسناد ولم يذكر في حديث عيسى "ويتحرى الصدق ويتحرى الكذب" وفي حديث ابن مسهر "حتى يكتبه الله" -[المعنى العام]- يراجع المعنى العام قبل باب واحد -[المباحث العربية]- (إن الصدق يهدي إلى البر) "البر" اسم جامع للخير كله وقيل البر الجنة قال النووي

ويجوز أن يتناول العمل الصالح والجنة اهـ ويبعد تفسير البر بالجنة قوله "وإن البر يهدي إلى الجنة" فإن الوسيلة غير الغاية وفي الرواية الثانية "إن الصدق بر" فهو نوع من الخير وفي الرواية الثالثة "عليكم بالصدق" أي الزموا الصدق في كل أقوالكم (وإن الرجل ليصدق) أي يتكرر صدقه في أخباره فالفعل المضارع "يصدق" يدل على التجدد والحدوث (حتى يكتب صديقا) قال ابن بطال المراد أنه يتكرر منه الصدق حتى يستحق اسم المبالغة في الصدق وقال النووي معنى "يكتب" هنا يحكم له بذلك ويستحق الوصف بمنزلة الصديقين وثوابهم والمراد إظهار ذلك للمخلوقين إما بأن يكتبه في ذلك ليشتهر بخطه في الملأ الأعلى وإما بأن يلقى ذلك في قلوب الناس وألسنتهم كما يوضع له القبول وإلا فقدر الله تعالى وكتابه السابق قد سبق بكل ذلك وفي الرواية الثانية "حتى يكتب عند الله صديقا" وهي تؤيد معنى الكتابة في الملأ الأعلى وفي الرواية الثانية والثالثة "يصدق ويتحرى الصدق" أي يقصده ويعتني به (وإن الكذب يهدي إلى الفجور) قال الراغب أصل الفجر الشق فالفجور شق ستر الديانة ويطلق على الميل إلى الفساد وعلى الانبعاث في المعاصي وهو اسم جامع للشر (وإن الرجل ليكذب حتى يكتب كذابا) في الرواية الثانية "وإن العبد ليتحرى الكذب حتى يكتب كذابا" وعند مالك "لا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب فينكت في قلبه نكتة سوداء حتى يسود قلبه فيكتب عند الله من الكاذبين" قال الحافظ ابن حجر وقيد التحري مراد به القصد الصحيح وليس المراد أن الحمد والذم في الصدق والكذب مختص بمن يقصد إليهما فقط فالصدق عموما ممدوح والكذب عموما مذموم (ملحوظة) ذكر أبو مسعود أن مسلما روى في هذا الحديث زيادة هي "إن شر الروايا روايا الكذب لأن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل ولا يعد الرجل صبيه ثم يخلفه" والروايا جمع روية بتشديد الياء وهو ما يتروى فيه الإنسان قبل قوله أو فعله والمعنى إن شر ما يتروى فيه الإنسان أن يتروى في الكذب لئلا يكذب هازلا أو جادا قال النووي هذه الزيادة ليست في متن الحديث في جميع نسخ البخاري ومسلم ببلادنا وغيرها وكذا قال القاضي عياض عن جميع النسخ وكذا نقله الحميدي وقال ليست عندنا في كتاب مسلم وقال الحافظ ابن حجر ولم أر شيئا من هذا في "الأطراف لأبي مسعود" ولا في "الجمع بين الصحيحين للحميدي" فلعلهما ذكراه في غير هذين الكتابين -[فقه الحديث]- مضى ما فيه الكفاية قبل باب واحد.

(711) باب فضل من يملك نفسه عند الغضب وبأي شيء يذهب الغضب وخلق الإنسان خلقا لا يتمالك

(711) باب فضل من يملك نفسه عند الغضب وبأي شيء يذهب الغضب وخلق الإنسان خلقا لا يتمالك 5779 - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما تعدون الرقوب فيكم" قال قلنا الذي لا يولد له قال "ليس ذاك بالرقوب ولكنه الرجل الذي لم يقدم من ولده شيئا" قال "فما تعدون الصرعة فيكم" قال قلنا الذي لا يصرعه الرجال قال "ليس بذلك ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب". 5780 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب". 5781 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "ليس الشديد بالصرعة" قالوا فالشديد أيم هو يا رسول الله قال "الذي يملك نفسه عند الغضب". 5782 - عن سليمان بن صرد رضي الله عنه قال استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فجعل أحدهما تحمر عيناه وتنتفخ أوداجه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني لأعرف كلمة لو قالها لذهب عنه الذي يجد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" فقال الرجل وهل ترى بي من جنون قال ابن العلاء فقال وهل ترى ولم يذكر الرجل.

5783 - عن سليمان بن صرد رضي الله عنه قال استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فجعل أحدهما يغضب ويحمر وجهه فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال "إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب ذا عنه أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" فقام إلى الرجل رجل ممن سمع النبي صلى الله عليه وسلم فقال أتدري ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم آنفا قال "إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب ذا عنه أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" فقال له الرجل أمجنونا تراني. 5784 - عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لما صور الله آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه فجعل إبليس يطيف به ينظر ما هو فلما رآه أجوف عرف أنه خلق خلقا لا يتمالك". -[المعنى العام]- الغضب انفعال طبيعي في جبلة الإنسان وخلقته وكل ما يملكه الإنسان بشأنه أن يجتنب أسبابه وأن يتفادى إثارته كما يملك الإنسان القوي الحد من ثورته والتهدئة من فورانه والتوقف عن الاستجابة لحرارته وتحريك الجوارح واللسان في تياره واندفاعه وكلما ملك الإنسان نفسه عند الغضب كان أقوى الناس لأن أعدى عدو للإنسان نفسه وشيطانه فإذا غلبها فقد غلب أقوى أعدائه ومن هنا كانت وصية الرسول صلى الله عليه وسلم للرجل الذي قال له أوصني يا رسول الله قال لا تغضب فردد السائل مرارا فردد رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله لا تغضب. ولو تدبر العاقل ساعة غضبه ولو نظر إلى نفسه في المرآة لسخر من نفسه واستصغرها وتقزز من منظره ولتحول غضبه على من أثاره إلى غضبه على نفسه من قبح صورته وتحول خلقته يرى دمه ينقبض وينبسط فيصفر لونه ويحمر وتحمر عيناه وتنتفخ عروق رقبته ويرتعد ويرتعش ثم ينفلت زمام الحكمة في تصرفاته فينطلق لسانه بالشتم والسب وتمتد يده محاولة إلحاق الأذى بالخصم ويأتي أفعالا يستحي هو منها عندما يهدأ ويعجب من نفسه كيف أتاها ويندم أن فعلها وقد يهرب منه خصمه فلا يفرغ فيه شحنته فيفرغها في نفسه يضرب رأسه في الحائط أو يمزق ثوبه أو يلطم خده أو يكسر آنية أو يضرب من ليس له دخل في غضبه وقد يقع صريعا أو مغمى عليه وقد يتخلف عن ذلك كله حقد وبغضاء وعداوة وشهوة انتقام تستمر تدفعه طيلة حياته وعلاج

الغضب ذكر الله وتغيير الوضع إن كان واقفا جلس وإن كان جالسا قام وترك مكان الغضب والشيطان علاجه في استحضار قوله تعالى {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا} الله وأوامره {فإذا هم مبصرون} [الأعراف 201] وقوله تعالى {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم} [فصلت 34 - 36] -[المباحث العربية]- (ما تعدون الرقوب فيكم) بفتح الراء وتخفيف القاف وهو الذي لا يعيش له ولد يقال رقبه بفتح القاف يرقبه بضمها رقبا بسكونها مع فتح الراء ورقوبا بفتح الراء ورقابة أي انتظره وفي القرآن الكريم {إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي} [طه 94] وأطلق الرقوب على الذي لا يعيش له ولد أو الذي لا يولد له ولد لما أنه ينتظر الوفاة لولده أو الذي يأمل وينتظر الولد (قلنا الذي لا يولد له) الموصول خبر مبتدأ محذوف أي الرقوب الذي لا يولد له (قال ليس ذاك بالرقوب) النفي ليس مطلقا حتى لا يوصف من لا يولد له بالرقوب وإنما هو نفي الكمال والاستحقاق لإثبات الكمال والاستحقاق لغيره (ولكنه الرجل الذي لم يقدم من ولده شيئا) أي لم يمت له ولد لأنه الذي ينفعه نفعا حقيقيا (قال فما تعدون الصرعة فيكم) بضم الصاد وفتح الراء والهاء للمبالغة في الصفة وهو الذي يصرع الناس كثيرا بقوته أي الغلاب في المصارعة والصرعة بضم الصاد وسكون الراء من يصرعه الناس كثيرا وكل ما جاء بهذا الوزن بفتح العين وسكونها فهو كذلك كهمزة ولمزة وحفظة وخدعة وضحكة يقال صرعه يصرعه صرعا طرحه على الأرض فهو مصروع وصريع قال ابن التين ضبطناه بفتح الراء وقرأه بعضهم بسكونها وليس بشيء لأنه عكس المطلوب ولذا جاء في الجواب (قلنا الذي لا يصرعه الرجال) أي ويصرع هو الرجال (قال ليس بذاك) أي ليس الغلاب في المصارعة الذي يصرع الرجال (ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب) أي الجدير بهذا الوصف الذي يصرع نفسه الأمارة بالسوء ويصرع شيطانه المهيج للغضب قال النووي معنى الحديث إنكم تعتقدون أن الرقوب المحزون وهو المصاب بموت أولاده وليس هو كذلك شرعا بل هو من لم يمت أحد من أولاده في

حياته فيحتسبه فيكتب له ثواب مصيبته به وثواب صبره عليه ويكون له فرطا وسلفا وكذلك تعتقدون أن الصرعة الممدوح القوي الذي لا يصرعه الرجال بل يصرعهم وليس هو كذلك شرعا بل هو من يملك نفسه عند الغضب فهذا هو الفاضل الممدوح الذي قل من يقدر على التخلق بخلقه بخلاف الأول اهـ (ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) وعند أحمد "الصرعة كل الصرعة كررها ثلاثا الذي يغضب فيشتد غضبه ويحمر وجهه فيصرع غضبه". وفي الرواية الثالثة "قال ليس الشديد بالصرعة قالوا فالشديد أيم هو يا رسول الله" "أيم" أصلها "أي ما" و"ما" بمعنى شيء مضاف لأي حذف ألفها والمعنى أي شيء هو (استب رجلان) قال الحافظ ابن حجر لم أعرف أسماءهما اهـ أي جريا على عادتهم في الستر على المسيئين (فجعل أحدهما تحمر عيناه وتنتفخ أوداجه) جمع ودج بفتح الواو والدال ووداج بكسر الواو وهو عرق في العنق وهو الذي يقطعه الذابح فلا تبقى مع قطعه الحياة وللإنسان ودجان فالجمع على القول بأنه ما فوق الواحد وفي رواية للبخاري "فغضب أحدهما فاشتد غضبه حتى انتفخ وجهه وتغير" وإنما كان هذا الوصف لأحدهما مع أن السب كان من الرجلين إما لأن الآخر كان أطول بالا أو كان أكثر إساءة وسبا والظاهر الأول لما سيأتي من رد الأحمق على النصيحة (إني لأعرف كلمة لو قالها لذهب عنه الذي يجد "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم") هذا من قبيل إطلاق الكلمة على الكلام وفي رواية "لو قال أعوذ بالله من الشيطان لذهب عنه الذي يجد" وفي رواية "إني لأعلم كلمة لو يقولها هذا الغضبان لذهب عنه الغضب اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم" وكان هذا عرضا من الرسول صلى الله عليه وسلم ليقوم أحد الحاضرين من الصحابة بتبليغه (فقال الرجل وهل ترى بي من جنون) معطوف على محذوف مطوي في هذه الرواية ذكر في الرواية الخامسة ولفظها "فقام إلى الرجل رجل ممن سمع النبي صلى الله عليه وسلم فقال أتدري ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم آنفا أي الساعة منذ قليل قال إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب ذا عنه "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" وفي رواية "فقالوا له" والذي خاطبه واحد منهم وهو معاذ بن جبل كما بينته رواية أبي داود وأسند القول لهم لموافقتهم إياه ولفظ أبي داود "فجعل معاذ يأمره فأبى وضحك وجعل يزداد غضبا" وفي رواية للبخاري "فانطلق إليه الرجل فأخبره بقول النبي صلى الله عليه وسلم وقال تعوذ بالله من الشيطان الرجيم" وليس في الخبر أنه أمرهم أن يأمروه بذلك لكن استفادوا ذلك من طريق عموم الأمر بالنصيحة للمسلمين و"جنون" مفعول به مجرور بحرف الجر الزائد و"ترى" بفتح التاء بصرية وفي الرواية

الخامسة "أمجنونا تراني" والاستفهام إنكاري بمعنى النفي وفي رواية للبخاري "أترى بي بأس" بضم التاء بمعنى أظن وبرفع "بأس" مبتدأ مؤخر والجار والمجرور خبر مقدم والجملة مفعول "ترى" وفي بعض الروايات "بأسا" بالنصب وهو أوجه زاد في الرواية هذه "أمجنون أنا اذهب" خطاب من الرجل للرجل الذي أمره بالتعوذ أي امض في شغلك قال النووي هذا كلام من لم يتفقه في دين الله تعالى ولم يتهذب بأنوار الشريعة المكرمة وتوهم أن الاستعاذة مختصة بالمجنون ولم يعلم أن الغضب من نزغات الشيطان ولهذا يخرج به الإنسان عن اعتدال حاله ويتكلم بالباطل ويفعل المذموم ويورث الحقد والبغض وغير ذلك من القبائح المترتبة على الغضب قيل كان من المنافقين وقيل كان من جفاة الأعراب اهـ وقال بعضهم أخلق به أن يكون كافرا (لما صور الله آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه) وعند الترمذي والنسائي والبزار وصححه ابن حبان "إن الله خلق آدم من تراب فجعله طينا ثم تركه حتى إذا كان حمأ مسنونا أي منتنا خلقه وصوره ثم تركه حتى إذا كان صلصالا كالفخار أي يابسا لم تصبه نار يسمع صوته عند النقر فإذا طبخ في النار صار فخارا كان إبليس يمر به فيقول لقد خلقت لأمر عظيم ثم نفخ الله فيه من روحه ... " (فجعل إبليس يطيف به) بضم الياء قال أهل اللغة طاف بالشيء يطوف طوفا وطوافا وأطافه به أي جعله يطوف كأن نفسه كانت تدفعه للطواف (فلما رآه أجوف) الجوف من كل شيء الباطن والفراغ الذي يقبل أن يشغل ويملأ وعند البخاري "خلق الله آدم وطوله ستون ذراعا" وعند أحمد "كان طول آدم ستين ذراعا في سبعة أذرع عرضا" ولنا أن نتخيل فراغ البطن والصدر لهذا الطول والعرض (عرف أنه خلق خلقا لا يتمالك) أي لا يملك نفسه ولا يحبسها عن الشهوات وقيل لا يمنع دفع الوسواس عنه وقيل لا يملك نفسه عند الغضب والمراد جنس بني آدم وكان إبليس من أعلم الملائكة دارسا لحكمة الخلق وارتباط الأسباب بالمسببات فلما رأى في جسم آدم فراغا يمكن أن يملأه وبأن يجري فيه مجرى الدم وبأن يثير شهوة البطن والفرج وبأن ينفخ في الفراغات فيهيج الغرائز والانفعالات رأي أنه سيغويه وهو وذريته سيغوون ذرية آدم وأن إتيان إبليس وجنوده إلى بني آدم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم سيمكن الوسواس الخناس من السيطرة عليهم ولا تجد أكثرهم شاكرين وكان أكبر ميدان لهذا الإغواء ميدان الغضب الذي يفقد الإنسان السيطرة على نفسه -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الأحاديث فوق ما سبق]- 1 - من الرواية الأولى فضل موت الأولاد والصبر عليهم

2 - ويتضمن الدلالة على مذهب من يقول بتفضيل التزوج لأنه وسيلة الأولاد النافعين عاشوا أو ماتوا قال النووي وهو مذهب أبي حنيفة وبعض أصحابنا 3 - وفيها فضيلة كظم الغيظ 4 - وإمساك النفس عند الغضب عن الانتصار والمخاصمة والمخادعة 5 - ومن الترغيب في قول "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" في الرواية الرابعة والخامسة أن الغضب في غير الله تعالى من نزغ الشيطان 6 - وأنه ينبغي لصاحب الغضب أن يستعيذ فيقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم 7 - وأن الاستعاذة سبب لزوال الغضب 8 - وفي الأحاديث عظم مفسدة الغضب وما ينشأ عنه 9 - وفي الرواية الأولى أن مجاهدة النفس أشد من مجاهدة العدو لأنه صلى الله عليه وسلم جعل الذي يملك نفسه عند الغضب أعظم الناس قوة والله أعلم.

(712) باب النهي عن ضرب الوجه

(712) باب النهي عن ضرب الوجه 5785 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه". 5786 - وفي رواية عن أبي الزناد بهذا الإسناد وقال "إذا ضرب أحدكم". 5787 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا قاتل أحدكم أخاه فليتق الوجه" 5788 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا قاتل أحدكم أخاه فلا يلطمن الوجه" 5789 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حديث ابن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته" 5790 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه" -[المعنى العام]- وجه الإنسان أكرم جزء فيه به المواجهة وبه أهم حواس الإنسان عيناه وأنفه وفمه وأذناه وبه يقاس الجمال فكان خليقا بأن يحترم وبأن يصان عن الأذى وبأن لا يصاب بالتشويه والتحقير إن الضرب في الوجه ولطمه ليس كالضرب في أي مكان آخر من الجسم فإهانته تفوق إهانة أماكن

أخرى من الإنسان ومن آداب الشريعة عدم الفجور عند المخاصمة والمقاتلة وعدم النكاية وعدم التمثيل من هنا جاء النهي عن ضرب الوجه عند المخاصمة والمقاتلة والمضاربة ومثل ذلك عند تأديب الزوج لزوجه والأب لابنه والسيد لخادمه وعند إقامة الحدود فلا يجلد الوجه إذا جلد الرجل وإذا كان القصد من النهي عن ضرب الوجه حمايته من التحقير كان تحقيره بغير الضرب منهيا عنه كذلك فلا يبصق عليه ولا يلطخ بالقاذورات والله أعلم -[المباحث العربية]- (إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه) وفي ملحق الرواية "إذا ضرب أحدكم" وفي الرواية الثانية "إذا قاتل أحدكم أخاه فليتق الوجه" وفي الرواية الثالثة "إذا قاتل أحدكم أخاه فلا يلطمن الوجه" زاد في الرواية الرابعة "فإن الله خلق آدم على صورته" وعند البخاري في الآدب المفرد "إذا ضرب أحدكم خادمه ... " و"قاتل" الواردة في بعض الروايات بمعنى ضرب فالمفاعلة ليست على ظاهرها قال الحافظ ابن حجر ويحتمل أن تكون على ظاهرها ليتناول ما يقع عند دفع الصائل مثلا فينهى دافعه عن قصد الضرب في الوجه قال النووي قال العلماء إنما نهي عن ضرب الوجه لأنه لطيف يجمع المحاسن وأكثر ما يقع الإدراك بأعضائه فيخشى من ضربه أن تبطل أو تتشوه الأعضاء كلها أو بعضها والشين فيها فاحش لظهورها وبروزها اهـ لكن الرواية الرابعة تعلل بتعليل آخر فهي تقول (فإن الله خلق آدم على صورته) واختلف العلماء في مرجع الضمير وعلى من يعود والأكثرون على أنه يعود على المضروب لما تقدم من الأمر بإكرام وجهه والمعنى أكرموا الوجه وابتعدوا عن تشويهه فإن آدم خلق على صورة هذا الوجه وهي صورة حسنة خلقها الله فلا يليق تحقيرها ولطمها وبهذا التأويل ترتبط الجملة بما قبلها وقالت طائفة الضمير يعود إلى آدم أي خلق آدم على صفة آدم أي خلقه موصوفا بالحسن والجمال قال الحافظ ابن حجر وهذا محتمل وقال النووي وفيه ضعف وقال القرطبي أعاد بعضهم الضمير على الله متمسكا بما ورد في بعض طرقه "إن الله خلق آدم على صورة الرحمن" اهـ قال الحافظ وأخرجها ابن أبي عاصم بلفظ يرد التأويل الأول قال "من قاتل فليتجنب الوجه فإن صورة وجه الإنسان على صورة وجه الرحمن فتقرر إجراء ما في ذلك على ما تقرر بين أهل السنة من إمراره كما جاء من غير اعتقاد تشبيه وسيأتي في فقه الحديث مزيد لهذه المسألة

-[فقه الحديث]- قال النووي قال العلماء هذا تصريح بالنهي عن ضرب الوجه اهـ ولم يذكر النووي حكمه قال الحافظ ابن حجر وظاهره التحريم اهـ قال النووي ويدخل في النهي إذا ضرب زوجته أو ولده أو عبده ضرب تأديب وقال الحافظ ابن حجر ويدخل في النهي كل من ضرب في حد أو تعزير أو تأديب وقد وقع عند أبي داود وغيره في قصة التي زنت فأمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمها وقال "ارموا واتقوا الوجه" وإذا كان ذلك في حق من تعين إهلاكه فمن دونه أولى أما عن جملة "فإن الله خلق آدم على صورته" فقد أنكر المازري ومن تبعه هذه الزيادة قال الحافظ ابن حجر الزيادة أخرجها ابن أبي عاصم في السنة والطبراني من حديث ابن عمر بإسناد رجاله ثقات وقال النووي هي من أحاديث الصفات ومن العلماء من يمسك عن تأويلها ويقول نؤمن بأنها حق وأن ظاهرها غير مراد ولها معنى يليق بالباري سبحانه وتعالى وهذا مذهب جمهور السلف وهو أحوط وأسلم وقد أجراه ابن قتيبة على ظاهره وقال لله تعالى صورة لا كالصور وهاجمه المازري بعنف وقال هذا الذي قاله ظاهر الفساد لأن الصورة تفيد التركيب وكل مركب محدث والله تعالى ليس بمحدث فليس هو مركبا فليس مصورا قال وهذا كقول المجسمة جسم لا كالأجسام لما رأوا أهل السنة يقولون الباري سبحانه وتعالى شيء لا كالأشياء قال والفرق أن لفظ "شيء" لا يفيد الحدوث ولا يتضمن ما يقتضيه وأما جسم وصورة فيتضمنان التأليف والتركيب وذلك دليل الحدوث وبسط هذه القضية في كتب العقائد والله أعلم.

(713) باب الوعيد الشديد لمن عذب الناس بغير حق

(713) باب الوعيد الشديد لمن عذب الناس بغير حق 5791 - عن هشام بن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال مر بالشام على أناس وقد أقيموا في الشمس وصب على رءوسهم الزيت فقال ما هذا قيل يعذبون في الخراج فقال أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن الله يعذب الذين يعذبون في الدنيا" 5792 - عن هشام رضي الله عنه عن أبيه قال مر هشام بن حكيم بن حزام على أناس من الأنباط بالشام قد أقيموا في الشمس فقال ما شأنهم قالوا حبسوا في الجزية فقال هشام أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا" 5793 - وفي رواية عن هشام بهذا الإسناد وزاد في حديث جرير قال وأميرهم يومئذ عمير بن سعد على فلسطين فدخل عليه فحدثه فأمر بهم فخلوا 5794 - عن عروة بن الزبير أن هشام بن حكيم وجد رجلا وهو على حمص يشمس ناسا من النبط في أداء الجزية فقال ما هذا إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا" -[المعنى العام]- تعذيب الناس بغير حق طغيان وتجبر وصفة لكل عتل غليظ نسى أن فوقه القوي العزيز وفي المثل إذا حدثتك نفسك بقدرتك على الآخرين فاذكر قدرة الله عليك نعم إن العقاب والجزاء الدنيوي تعذيب ولكنه تعذيب بحق ومشروع إذا كان مناسبا للجريمة شرعا أما إذا زاد عليها أو انحرف في نوعها عما رسمه الدين كان غير حق وكان ظلما يعذب الله صاحبه عليه في الدنيا والآخرة لقد رأى هشام بن حكيم الصحابي الجليل في حمص بالشام رجالا ربطوا بقيود في الشمس الحارقة وقد غمرت رءوسهم بالزيت ليغلي من حرارة الشمس فتحترق رءوسهم وهذا نوع من

التعذيب لم تعرفه الشريعة الإسلامية فسأل عنهم فقيل له إنهم لم يدفعوا الجزية فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الله يعذب الذين يعذبون الناس" وذهب إلى الأمير الذي أمر بذلك فوعظه فخلى سبيلهم من الشمس وطبق عليهم قانون الشريعة {فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون} [البقرة 280] -[المباحث العربية]- (عن هشام بن حكيم بن حزام قال مر بالشام على أناس) كان الأصل أن يقول مررت ولكنه إن كانت الرواية باللفظ جرد من نفسه شخصا يتحدث عنه ويحتمل أن يكون فاعل "قال" عروة الراوي عن هشام ويصبح التركيب عن عروة [ناقلا عن هشام] قال مر هشام إلخ وفي الرواية الثانية "على أناس من الأنباط بالشام" والأنباط فلاحو العجم جمع نبط بفتح النون وسكون الباء والمراد من الشام حمص كما هو صريح الرواية الثالثة (وقد أقيموا في الشمس وصب على رءوسهم الزيت) ليغلي الزيت بحرارة الشمس فتزداد حرارة رءوسهم (فقال ما هذا قيل يعذبون في الخراج) أي لعدم دفعهم الخراج والجزية وفي الرواية الثانية "فقال ما شأنهم قالوا حبسوا في الجزية" وفي الرواية الثالثة "وجد رجلا وهو على حمص يشمس ناسا من النبط في أداء الجزية فقال ما هذا" "يشمس" بضم الياء وفتح الشين وكسر الميم المشددة أي يوقفهم ويحبسهم في حرارة الشمس وقوله "وهو على حمص" أي هذا الرجل له ولاية على حمص رئيس المدينة أو قائد شرطة أما عمير بن سعد فكان الأمير على فلسطين كلها وهو الآمر بحبس الناس على ما يظهر وكان مقيما في "حمص" كما هو ظاهر من ملحق الرواية الثانية ولفظها "وأميرهم يومئذ عمير بن سعد على فلسطين" قال النووي "فلسطين" بكسر الفاء وفتح اللام وهي بلاد بيت المقدس وما حولها قال النووي "عمير بن سعد" هكذا هو في معظم النسخ بالتصغير وهو ابن سعد بإسكان العين من غير ياء وفي بعضها "عمير بن سعيد" بكسر العين وزيادة ياء قال القاضي الأول هو الموجود لأكثر شيوخنا وفي أكثر النسخ وأكثر الروايات وهو الصواب وهو عمير بن سعد بن عمير الأنصاري الأوسي من بني عمرو بن عوف ولاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه على حمص وجده أبو زيد الأنصاري أحد الذين جمعوا القرآن (فقال أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله يعذب الذين يعذبون في الدنيا) في الرواية الثانية "إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا" أي يعذبهم في الآخرة أو في الدنيا والآخرة والظاهر أن هشاما ذكر الحديث للحارس وللناس حوله

كما هو ظاهر الرواية الأولى والثانية والثالثة ثم ذكره لعمير بعد أن دخل عليه كما هو ظاهر من ملحق الرواية الثانية (فأمر بهم فخلوا) الآمر عمير بن سعد قال النووي ضبطوه بالخاء وبالحاء وبالخاء أشهر وأحسن -[فقه الحديث]- يؤخذ منه الوعيد الشديد لمن يعذب الناس والمقصود تعذيبهم من غير حق فلا يدخل فيه التعذيب بحق القصاص والحدود والتعزيزات ونحو ذلك وفي صنيع هشام منقبة له وغيرته على شريعة الإسلام قولا وعملا وأمره الولاة وغيرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وفيه استجابة الولاة لنصيحة العلماء وسرعة تنفيذهم لها والله أعلم.

(714) باب أمر من مر بسلاح في مسجد أو سوق أو غيرهما من المواضع الجامعة للناس أن يمسك بنصالها والنهي عن الإشارة بالسلاح إلى مسلم

(714) باب أمر من مر بسلاح في مسجد أو سوق أو غيرهما من المواضع الجامعة للناس أن يمسك بنصالها والنهي عن الإشارة بالسلاح إلى مسلم 5795 - عن جابر رضي الله عنه قال مر رجل في المسجد بسهام فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "أمسك بنصالها" 5796 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رجلا مر بأسهم في المسجد قد أبدى نصولها فأمر أن يأخذ بنصولها كي لا يخدش مسلما" 5797 - عن جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر رجلا كان يتصدق بالنبل في المسجد أن لا يمر بها إلا وهو آخذ بنصولها وقال ابن رمح كان يصدق بالنبل 5798 - عن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا مر أحدكم في مجلس أو سوق وبيده نبل فليأخذ بنصالها ثم ليأخذ بنصالها ثم ليأخذ بنصالها" قال فقال أبو موسى والله ما متنا حتى سددناها بعضنا في وجوه بعض. 5799 - عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا مر أحدكم في مسجدنا أو في سوقنا ومعه نبل فليمسك على نصالها بكفه أن يصيب أحدا من المسلمين منها بشيء" أو قال "ليقبض على نصالها" 5800 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم "من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى يدعه وإن كان أخاه لأبيه وأمه"

5801 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار" -[المعنى العام]- من باب سد الذرائع ومن باب منع المقدمات خشية النتائج ومن منطلق الباب الذي يأتيك منه الريح سده واسترح ومن باب أن الشيطان قد يزين من المقدمات المباحة أفعالا غير مباحة وقد يستغل لعبا وعبثا فيولد منهما نكدا وضررا نهى الشارع الحكيم أن لا يحمل الإنسان سلاحا ويمر به على جمع وهو مكشوف صالح لأن يمس المارة فيحدث فيهم إصابة من غير قصد فأمر صلى الله عليه وسلم من حمل سهاما ومر بها على جماعة في مسجد أو سوق أن يمسك بحديدتها وسنها أو أن يضعها في جراب أو صندوق خشية أن يصيب أحد المسلمين بها وهو يمر بجواره ولما كان المسلم الآمن قد يرتاع وينزعج ويخاف من قرب السلاح منه مخافة أن يصيبه عبثا أو لعبا حذر صلى الله عليه وسلم من أن يشير المسلم بسلاحه على أخيه وأوعد من فعل ذلك أن تلعنه الملائكة حتى يغمد سلاحه ويؤمن أخاه فالأمن بين المتعاملين من أهم أسس الحياة ولذلك جاء في الصحيح "والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن قيل من يا رسول الله قال الذي لا يأمن جاره بوائقه" أي أذاه وشره -[المباحث العربية]- (مر رجل في المسجد بسهام فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسك بنصالها) السهم عود من الخشب يسوي يوضع في طرفه حديدة مدببة تسمى النصل وتحدد كالسكين ويرمي به عن القوس فمعنى "مر بسهام" أي ذات نصال وفي الرواية الثانية "أن رجلا مر بأسهم في المسجد قد أبدى نصولها فأمر أن يأخذ بنصولها كي لا يخدش مسلما" وفي الرواية الثالثة "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر رجلا كان يتصدق بالنبل في المسجد ألا يمر بها إلا وهو آخذ بنصولها" وفي الرواية الرابعة "إذا مر أحدكم في مجلس أو سوق وبيده نبل فليأخذ بنصالها ثم ليأخذ بنصالها ثم ليأخذ بنصالها" والنبل بفتح النون وسكون الباء السهام ولا واحد له من لفظه وهي مؤنثة وجمعه نبال بكسر النون وأنبال ولا تعارض بين أمره صلى الله عليه وسلم الرجل وبين أمره للمسلمين فهو محمول على أنه أمر المخطئ بتفادي الخطأ وحذر المسلمين من فعل مثله والمراد من ذكر المسجد والسوق التنبيه على كل مجتمع للمسلمين وفي الرواية الخامسة "إذا مر أحدكم في مسجدنا أو سوقنا" أي في مسجد المسلمين أو سوقهم "ومعه نبل فليمسك على

نصالها بكفه أن يصيب أحدا من المسلمين" أي خشية أن يصيب أحدا من المسلمين "منها بشيء" أو قال "ليقبض على نصالها" (قال أبو موسى والله ما متنا حتى سددناها بعضنا في وجوه بعض) يشير إلى موقعة الجمل وصفين وأن المسلمين الذين خيف عليهم أن تمسهم النصال مسا خفيفا على طريق الخطأ طعن بها بعضهم بعضا على طريق التعمد والقتال فقتل بها بعضهم بعضا (من أشار إلى أخيه بحديدة) أي بسلاح بسكين أو سيف أو رمح أو نبل أو بندقية أو نحو ذلك وفي الرواية السابعة "لا يشير أحدكم على أخيه بالسلاح" والمقصود مطلق الإشارة جدا أو هزلا (فإن الملائكة تلعنه حتى يدعه) أي مادام مشيرا به حتى يدع السلاح من يده فلا يشير به على أخيه ولعن الملائكة عليه دعاء عليه بالحرمان من الرحمة وفي الرواية السابعة بيان علة النهي وحكمته ولفظها "فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار" قال النووي هكذا هو في جميع النسخ "لا يشير" بالياء بعد الشين وهو صحيح وهو نهي بلفظ الخبر وهو أبلغ من النهي الصريح لأنه يفيد أن المنهي عنه قد اجتنب وأصبح يخبر عنه بالنفي ثم قال قوله "لعل الشيطان ينزع" ضبطناه بالعين وكذا نقله القاضي عن جميع روايات مسلم وهكذا هو في نسخ بلادنا ومعناه يرمي في يده ويحقق ضربته ورميته وروى في غير مسلم بالغين وهو بمعنى الإغراء أي يحمل على تحقيق الضرب به ويزين ذلك اهـ (وإن كان أخاه لأبيه وأمه) هذه الجملة مبالغة في إيضاح عموم النهي في كل أحد سواء من يتهم فيه ومن لا يتهم فيه يعني وإن كان هازلا ولم يقصد ضربه كنى بالأخ عن هذا المعنى لأنه الأخ الشقيق لا يقصد قتل أخيه غالبا -[فقه الحديث]- 1 - في الروايات الأولى هذا الأدب وهو الإمساك بنصالها عند إرادة المرور بين الناس في مسجد أو سوق أو غيرها وفيها اجتناب كل ما يخاف منه الضرر 2 - وفي الرواية السادسة والسابعة النهي الشديد عن ترويع المسلم وتخويفه والتعرض له بما قد يؤذيه 3 - وأن ترويع المسلم حرام بكل حال وفيهما تأكيد حرمة المسلم وجواز المرور في المسجد وأن الشيطان قد يهيئ للمسلم ويزين له ما لم يكن يقصد فيوقعه في الشر وللحديث علاقة بحديث "من حمل علينا السلاح فليس منها" وقد سبق شرحه في كتاب الإيمان.

(715) باب فضل إزالة الأذى عن الطريق

(715) باب فضل إزالة الأذى عن الطريق 5802 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره فشكر الله له فغفر له" 5803 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مر رجل بغصن شجرة على ظهر طريق فقال والله لأنحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم فأدخل الجنة" 5804 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لقد رأيت رجلا يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس" 5805 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن شجرة كانت تؤذي المسلمين فجاء رجل فقطعها فدخل الجنة" 5806 - عن أبي برزة رضي الله عنه قال قلت يا نبي الله علمني شيئا أنتفع به قال "اعزل الأذى عن طريق المسلمين" 5807 - عن أبي برزة رضي الله عنه قال قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله إني لا أدري لعسى أن تمضي وأبقى بعدك فزودني شيئا ينفعني الله به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "افعل كذا افعل كذا (أبو بكر نسيه) وأمر الأذى عن الطريق". -[المعنى العام]- يقول صلى الله عليه وسلم "كل سلامي من الناس" أي كل عظم وكل أنملة من الناس "عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين اثنين صدقة ويعين الرجل على دابته فيحمل عليها أو يرفع عليها متاعه صدقة والكلمة الطيبة صدقة وكل خطوة يخطوها إلى الصلاة صدقة ويميط الأذى عن الطريق صدقة"

نعم إماطة الأذى عن طريق المسلمين صدقة لأنه تسبب في سلامة من يمر به من الأذى فكأنه تصدق على من يمر بحمايته وإبعاد الأذى عنه فحصل له أجر الصدقة إن المجتمع المسلم كالبدن الواحد إذا أوذي عينه أوذي كله وإذا شكا رأسه شكا كله وحماية أجزائه حماية له ورب عمل نحسبه هينا وهو عند الله عظيم ورب عمل نراه عملا دنيويا وهو عند الله عمل أخروي كبير نظافة طريق المسلمين وإزالة الأذى عنه والعمل على تأمين السالكين فيه وتهيئته لراحتهم وسلامتهم عمل لا يكلف من الجهد إلا قليلا ولا يكلف من المال كثيرا ولا قليلا ولكنه يدل على إحساس مرهف بالآخرين وعلى تحمل المسئولية الاجتماعية وعلى أنك تحب لأخيك ما تحب لنفسك وتكره له ما تكره لنفسك وأنك تتعاون مع من تعرف ومن لا تعرف على البر والتقوى لقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن رجلا لم يقدم من الخير والمعروف شيئا لكنه نحى غصن شوك من طريق المسلمين فشكر الله له فغفر له فأدخله الجنة وإذا كانت إزالة الأذى عن طريق المسلمين فضيلة كبيرة كما ذكرنا كان نقيضها وهو وضع العقبات والأذى في طريق المسلمين وتعريضهم للأخطار رذيلة كبيرة وإذا كانت إماطة الأذى عن طريق المسلمين تدخل الجنة كان وضع القاذورات والحفر في طريقهم يدخل النار جعلنا الله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب -[المباحث العربية]- (بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق) "بينما" هي "بين" الظرفية زيدت عليها "ما" وهو خافض لشرطه منصوب بجوابه والتقدير وجد رجل غصن شوك حين مشيه بطريق وفي الرواية الثانية "مر رجل بغصن شجرة على ظهر طريق" أي على صلبه ووسطه لا في طرفه وحاشيته وكانت الشجرة شجرة شوك فلا تعارض لكن الرواية الثالثة والرابعة تفيدان أن الغصن لم يكن مقطوعا وملقى في الطريق بل كان ممتدا في الطريق من شجرة في حاشيته ولفظ الرواية الثالثة "لقد رأيت رجلا يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس" ومعنى "يتقلب في الجنة" أي يتنعم ويتمتع بملاذها والظاهر أن الرؤيا منامية و"في" في قوله "في شجرة" للسببية وفي الكلام مضاف محذوف أي في غصن شجرة ولفظ الرواية الرابعة "إن شجرة كانت تؤذي المسلمين فجاء رجل فقطعها فدخل الجنة" والفاء في "فدخل الجنة" للسببية (فأخره) وأبعده عن قارعة الطريق وفي الرواية الثانية "فقال والله لأنحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم" أي لئلا يؤذيهم أي ففعل ونحاه ويمكن أن يكونا رجلين أحدهما نحى غصنا مقطوعا ملقى في الطريق والآخر قطع شجرة أو فرعها ودخل كل منهما الجنة بسبب إماطة الأذى عن طريق المسلمين

(فشكر الله له فغفر له) أي رضي عنه فغفر له ذنوبه فأدخله الجنة فهو يتقلب في نعيمها (قلت يا نبي الله علمني شيئا أنتفع به) أي أعمله من بعدك فينفعني عند الله وفي الرواية السادسة "إني لا أدري لعسى أن تمضي وأبقى بعدك فزودني شيئا ينفعني الله به" (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم افعل كذا افعل كذا أبو بكر نسيه) أي أمر صلى الله عليه وسلم أبا برزة بخصلتين ذكرهما أبو برزة لأبي الوازع الراسبي وذكرهما أبو الوازع الراسبي لأبي بكر بن شعيب بن الحبحاب ونسيهما أبو بكر حين حدث يحيى بن يحيى والغريب أن أبا الوازع حدث بهذا الحديث أبان بن صمعة ولم يرد شيء في حديثهما عن الخصلتين في الرواية الخامسة (وأمر الأذى عن الطريق) قال النووي هكذا هو في معظم النسخ وكذا نقله القاضي عن عامة الرواة بالراء المشددة وفتح الهمزة وكسر الميم ومعناه أزله وفي بعضها "وأمز" بزاي مخففة ساكنة وميم مكسورة وهي بمعنى الأول اهـ يقال أمر الشيء جعله يمر ويتحول وفعل الأمر منه "أمر" ويقال ماز الشيء يميزه ميزا نحاه وأزاله -[فقه الحديث]- مضى في كتاب الإيمان "الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" فإزالة الأذى عن طريق المسلمين شعبة من شعب الإيمان قال النووي هذه الأحاديث ظاهرة في فضل إزالة الأذى عن الطريق سواء كان الأذى شجرة تؤذي أو غصن شوك أو حجرا يعثر به أو قذرا أو جيفة أو غير ذلك قال وفيه التنبيه على فضيلة كل ما نفع المسلمين وأزال عنهم ضررا اهـ وفي الحديث مسئولية الفرد نحو المجتمع فإن إماطة الأذى رمز للتعاون والتكافل الاجتماعي ودفع الضرر عن أفراده وحمايتهم من الوقوع في الخطر والضرر وفي الرواية الخامسة والسادسة حرص الصحابة على الاستزادة من علم الشريعة للعمل به والله أعلم

(716) باب تحريم تعذيب الهرة ونحوها من الحيوان الذي لا يؤذي

(716) باب تحريم تعذيب الهرة ونحوها من الحيوان الذي لا يؤذي 5808 - عن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار لا هي أطعمتها وسقتها إذ هي حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض". 5809 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "عذبت امرأة في هرة أوثقتها فلم تطعمها ولم تسقها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض". 5810 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "دخلت امرأة النار من جراء هرة لها أو هر ربطتها فلا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها ترمرم من خشاش الأرض حتى ماتت هزلا". -[المعنى العام]- في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس صلاة الكسوف حين انخسفت الشمس عقب موت ابنه إبراهيم عليه السلام فلما قضى الصلاة قال له أبي بن كعب يا رسول الله شيئا صنعته لم تكن تصنعه رأيناك تكعكعت أي تأخرت قال لقد جيء بالنار حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع عرضت علي النار فرأيت فيها امرأة من بني إسرائيل تعذب في هرة لها حبستها حتى ماتت جوعا وعطشا لا هي أطعمتها وسقتها ولا هي تركتها تسيح في الأرض فتأكل من هوامها ومن سواقط ما عليها فاحذروا أن تقعوا فيما وقعت فيه المرأة وقوموا بالإطعام والسقي والإحسان إلى ما تحت أيديكم من الحيوان فلكم في سقي كل ذي كبد رطبة أجر وعليكم في تعذيب أو إهمال ما تحت أيديكم من الحيوان وزر وارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء وأن الله ليعذب من يعذب مخلوقاته وعلى أولياء الأمور تقع مسئولية عبث الأطفال بالهرر والطيور ونحوهما من الحيوانات الأليفة وإيذائها بالضرب أو بالحبس أو بالتجويع أو بالمثلة والتعذيب

-[المباحث العربية]- (عذبت امراة في هرة) المراد من التعذيب هنا دخولها النار في الآخرة فالفعل الماضي يراد به المستقبل والأصل تعذب امرأة بالنار يوم القيامة وعبر بالماضي لتحقق الوقوع والرجل في ذلك كالمرأة وذكر المرأة لما أنها غالبا هي التي تتولى هذا الأمر وقد وقعت الحادثة من المرأة وهي التي توعدها الحديث ومثلها ممن يفعل فعلها معرض لما تعرضت له وقد جاء في رواية أنها حميرية وفي رواية أنها من بني إسرائيل قال الحافظ ابن حجر ولا تضاد بينهما لأن طائفة من حمير كانوا قد دخلوا في اليهودية فنسبت إلى دينها تارة وإلى قبيلتها أخرى و"في" في قوله "في هرة" للسببية أي بسبب هرة وفي الرواية الثالثة "من جراء هرة" أي من أجلها و"جراء" بالمد والقصر يقال من جرائك ومن جراك وجريرك وأجلك والهرة أنثى السنور معروفة ويقال للذكر "هر" وجمعه "هررة" كقرد وقردة وتجمع الهرة على هرر كقربة وقرب وفي الرواية الثالثة "هرة لها أو هر" (سجنتها حتى ماتت) في الرواية الثانية "أوثقتها" وفي الرواية الثالثة "ربطتها" فيحتمل أنها ربطتها برباط ثم أغلقت عليها مكانها ليظهر بذلك تعمد الجريمة وتنوع ألوان التعذيب (لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض) وتشرب من مياهها المنتشرة وخشاش الأرض بفتح الخاء وضمها وكسرها هوامها وحشراتها من فأرة ونحوها وحكى النووي أنه روى بالحاء والمراد نبات الأرض قال وهو ضعيف أو غلط وفي الرواية الثالثة "فلا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها ترمرم من خشاش الأرض حتى ماتت هزلا" قال النووي "ترمم" هكذا هو في أكثر النسخ "ترمرم" بضم التاء وفتح الراء الأولى وكسر الثانية بينهما ميم ساكنة وفي بعضها "ترمرم" بضم التاء وفتح الراء وكسر الميم الأولى مشددة أي تتناول بشفتيها اهـ يقال ترمم العظم تعرقه ورمت الشاة الحشيش أخذته بشفتيها والرمام بفتح الراء والميم المشددتين القشاش الذي يقش أرذل الطعام وما سقط منه ليأكله ولا يتوقى قذره ويقال رمرم الرجل إذا أكل ما سقط من الطعام ولم يتوق قذره و"هزلا" بفتح الهاء وسكون الزاي أي ضعفا وإعياء يقال هزل بفتح الزاي يهزل بضمها إذا ضعف وغث فهو هازل وهزيل -[فقه الحديث]- ظاهر الحديث أن المرأة عذبت بسبب قتل هذه الهرة بالحبس قال القاضي عياض يحتمل أن تكون المرأة كافرة فعذبت بكفرها وزيدت عذابا بسبب ذلك أو مسلمة وعذبت بسبب ذلك قال النووي الذي يظهر أنها كانت مسلمة وإنما دخلت النار بهذه المعصية اهـ ويبعده رواية أنها كانت

من بني إسرائيل اللهم إلا أن يراد من إسلامها إسلامها بدينها قبل الإسلام وقيل المراد من تعذيبها حسابها لأن من نوقش الحساب عذب فالمعنى حوسبت امرأة إلخ -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - جواز اتخاذ الهرة 2 - وجواز رباطها إذا لم يهمل إطعامها وسقيها ويلتحق بذلك غير الهرة ما في معناها 3 - وأن الهر لا يملك وإنما يجب إطعامه على من حبسه كذا قال القرطبي وتعقبه الحافظ ابن حجر بأنه ليس في الحديث دلالة على ذلك 4 - وفيه وجوب نفقة الحيوان على مالكه كذا قال النووي قال الحافظ ابن حجر وفيه نظر لأنه ليس في الخبر أنها كانت في ملكها لكن في قوله "هرة لها" [روايتنا الثالثة] ما يقرب من ذلك والله أعلم.

(717) باب تحريم الكبر

(717) باب تحريم الكبر 5811 - عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "العز إزاره والكبرياء رداؤه فمن ينازعني عذبته". -[المعنى العام]- يراجع المعنى العام لحديث "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" في كتاب الإيمان -[المباحث العربية]- (العز إزاره والكبرياء رداؤه فمن ينازعني عذبته) قال النووي هكذا في جميع النسخ فالضمير في "إزاره ورداؤه" يعود إلى الله تعالى للعلم به وفيه محذوف تقديره قال الله تعالى "فمن ينازعني عذبته" ومعنى "ينازعني" يتخلق بذلك أي بالعظمة والكبرياء فيصير في معنى المشارك وأما تسميته إزارا ورداء فمجاز واستعارة حسنة كما تقول العرب فلان شعاره الزهد ودثاره التقوى لا يريدون الثوب الذي هو شعار أو دثار والشعار ما ولى الجسد من الثياب والدثار الثوب الذي يكون فوق الشعار والإزار ما يستر النصف السفلي من الإنسان والرداء ما يغطي الجزء العلوي ولما كان الإزار والرداء يلصقان بالإنسان ويلزمانه وهما جمال له ضرب ذلك مثلا لكون العز والكبرياء بالله تعالى أحق وله ألزم واقتضاهما جلاله سبحانه وتعالى وللحديث صلة بموضوع الكبر في كتاب الإيمان فليراجع -[فقه الحديث]- يراجع حديث "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" في كتاب الإيمان والله أعلم.

(718) باب النهي عن تقنيط الإنسان من رحمة الله تعالى وفضل الضعفاء والخاملين والنهي عن قول هلك الناس

(718) باب النهي عن تقنيط الإنسان من رحمة الله تعالى وفضل الضعفاء والخاملين والنهي عن قول هلك الناس 5812 - عن جندب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدث "أن رجلا قال والله لا يغفر الله لفلان وإن الله تعالى قال من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك" أو كما قال. 5813 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره". 5814 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم" قال أبو إسحاق لا أدري أهلكهم بالنصب أو أهلكهم بالرفع -[المعنى العام]- ثلاثة آداب إسلامية تشترك في النهي والتحذير من احتقار الناس وتنقيصهم ذكرت أحاديثنا صورا ثلاثا الأولى صورة من يرى مذنبا فيقول أقسم بالله أن الله لن يغفر هذا الذنب لفلان ففي هذا القول تحقير للمسلم وحجر على رحمة الله وإن سمعها صاحب الذنب ربما كان فيها تقنيطا له من عفو الله مع أن واجب المسلم أن يجمع بين الخوف والرجاء عملا بقوله تعالى {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم} [الزمر 53] فلله إذن أن يعفو عن المسيء المذنب فيقع من حلف على عدم المغفرة له في إثم وعقوبة ما تلفظ به الثانية صورة من يحتقر الناس لمظاهرهم وهو لا يدري قد يكون هذا الضعيف المستضعف خيرا عند الله من هذا الذي يستضعفه

الثالثة صورة من يحتقر الناس ويحكم عليهم بالهلاك لظاهر ما يقعون فيه من الذنوب فهو يهلك نفسه بهذا الفعل وبهذا القول لما فيه من عيب المسلمين ولما فيه من بعث الحقد في نفس سامعه والإعجاب والغرور في نفس قائله -[المباحث العربية]- (إن رجلا قال والله لا يغفر الله لفلان) أي حلف أن الله لا يغفر لفلان من الناس عينه هو (وأن الله تعالى قال) ردا عليه (من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان) الاستفهام إنكاري توبيخي بمعنى لا ينبغي لأحد أن يفعل ذلك أو أن يقول ذلك و"يتألى" بفتح التاء والهمزة واللام المشددة بمعنى يحلف من الألية بفتح الهمزة وكسر اللام وتشديد الياء وهي اليمين (فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك) مذهب أهل السنة أن إحباط الأعمال لا يكون إلا بالكفر ولذا تأولوا الإحباط هنا على معنى إسقاط حسنات في مقابل سيئات وسمي ذلك إحباطا مجازا (رب أشعث أغبر) أي ملبد الشعر غير مدهون ولا مرجل (مدفوع بالأبواب) أي لا قدر له عند الناس فهم يدفعونه عن أبوابهم ويطردونه عنهم احتقارا له فهو كناية عن استضعاف الناس له كما جاء حديث البخاري "ألا أخبركم بأهل الجنة كل ضعيف متضعف" وفي رواية "مستضعف" "لو أقسم على الله لأبره" وعند أحمد "الضعيف المستضعف ذو الطمرين لا يؤبه له" والطمر بكسر الطاء وسكون الميم الثوب الخلق البالي أي ذو الإزار والرداء الممزقين الباليين (لو أقسم على الله لأبره) بفتح الهمزة والباء والراء المشددة أي لو حلف على أن شيئا سيقع لأوقعه الله إكراما له بإجابة سؤاله وصيانته من الحنث في يمينه وهذا لعظم منزلته عند الله تعالى وإن كان حقيرا عند الناس وقيل معنى القسم هنا الدعاء وإبراره إجابته (إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم) برفع "أهلكهم" أي أشدهم هلاكا وبفتح الكاف على أن "أهلك" فعل ماض أي جعلهم هالكين بغير علم عنده وروى "فهو من أهلكهم" وهذه الرواية ترجح الرواية الأولى -[فقه الحديث]- ثلاثة آداب مترابطة جمعناها تحت باب واحد وأفرد النووي كل واحد منها بباب

الأول التحذير من الحكم على إنسان بأنه من أهل النار أو بأنه لن يغفر له ذنبه أو ذنوبه لأن هذا الحكم لله تعالى وحده ولإرادة الله وحده ولفعل الله وحده فهو يغفر لمن يشاء {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير} [البقرة 284] فمن حكم هذا الحكم على إنسان حجر واسعا وتدخل في المشيئة بالحجر عليها وتعيين وجه واحد على إرادتها وبذلك يعرض نفسه للعقاب والحساب يعرض نفسه لأن يؤخذ بذنبه وبذنب من حكم عليه فيحبط الله عمله الصالح بما فعل من سيئات ويغفر الله لمن حكم عليه ويبدل سيئاته حسنات فليس الهدف من الحديث النهي عن تقنيط الإنسان من رحمة الله كما بوب الإمام النووي رحمه الله بل النهي عن تحجير رحمة الله الأدب الثاني الحث على عدم الاستهانة بالضعفاء والخاملين من أجل مظاهرهم في الدنيا فقد يكونون عظماء المنزلة عند الله تعالى وليس الهدف من الحديث بيان فضل الضعفاء والخاملين كما بوب النووي رحمه الله تعالى الأدب الثالث التحذير من الحكم على الناس بأنهم هالكون عند الله بسبب ما يرى من انحرافهم عن الدين والتحذير من كثرة عيبهم وذكر مساويهم فهذا من قبيل الأدب الأول تحجير على رحمة الله وتدخل في مشيئته جل شأنه وتحقير للمسلمين قال النووي واتفق العلماء على أن هذا الذم إنما هو فيمن قاله على سبيل الازدراء على الناس واحتقارهم وتفضيل نفسه عليهم وتقبيح أحوالهم لأنه لا يعلم سر الله في خلقه قالوا فأما من قال ذلك تحزنا لما يرى في نفسه وفي الناس من النقص في أمر الدين فلا بأس عليه وقال الخطابي معناه لا يزال الرجل يعيب الناس ويذكر مساويهم ويقول فسد الناس وهلكوا ونحو ذلك فإذا فعل ذلك فهو أهلكهم أي أسوأ حالا منهم بما يلحقه من الإثم في عيبهم والوقيعة فيهم وربما أداه ذلك إلى العجب بنفسه ورؤيته أنه خير منهم والله أعلم.

(719) باب الوصية بالجار والإحسان إليه

(719) باب الوصية بالجار والإحسان إليه 5815 - عن عائشة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "مازال جبريل يوصيني بالجار حتى طننت أنه ليورثنه" 5816 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" 5817 - عن أبي ذر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك" 5818 - عن أبي ذر رضي الله عنه قال إن خليلي صلى الله عليه وسلم أوصاني "إذا طبخت مرقا فأكثر ماءه ثم انظر أهل بيت من جيرانك فأصبهم منها بمعروف" -[المعنى العام]- يراجع المعنى العام لباب النهي عن إيذاء الجار وباب إكرام الجار في كتاب الإيمان -[المباحث العربية]- (مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه ليورثنه) في الرواية الثانية "حتى ظننت أنه سيورثه" أي يأمر عن الله بتوريث الجار من جاره قال الحافظ ابن حجر واختلف في المراد بهذا التوريث فقيل يجعل له مشاركة في المال بفرض سهم يعطاه مع الأقارب [كان هذا الحديث في حجة الوداع كما جاء في بعض الروايات

وكانت المواريث قد استقرت] وقيل المراد أن ينزل منزلة من يرث بالبر والصلة والأول أظهر فإن الثاني استمر والخبر مشعر بأن التوريث لم يقع وفي رواية "حتى ظننت أنه يجعل له ميراثا" (إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها) أي إذا طبخت لحما في ماء فأكثر الماء وكانوا يفتون فيه فتيتا أو إذا طبخت شيئا في مرقة فأكثر الماء إذ المرق الماء الذي أغلى فيه اللحم فصار دسما (وتعاهد جيرانك) بشيء مما تطبخ وفي الرواية الرابعة "ثم انظر أهل بيت من جيرانك فأصبهم منها بمعروف" أي أعطهم منه شيئا ويحتمل أن الأمر بالتعاهد أعم من المطبوخ -[فقه الحديث]- 1 - في هذه الأحاديث الوصية بالجار وعظم حقه وفضيلة الإحسان إليه 2 - وفيها أن من أكثر من شيء من أعمال البر يرجي له الانتقال إلى ما هو أعلى منه 3 - وأن الظن إذا كان في طريق الخير جاز ولو لم يقع المظنون بخلاف ما إذا كان في طريق الشر 4 - وجواز الطمع في الفضل إذا توالت النعم 5 - وجواز التحدث بما يقع في النفس من أمور الخير 6 - والتصدق بالأقل مع وجود الأكثر والتصدق بالمرق مع وجود اللحم 7 - وعدم احتقار المعروف مهما قل (ملحوظة) يراجع فقه الحديث في بابي النهي عن إيذاء الجار وإكرام الجار في كتاب الإيمان والله أعلم.

(720) باب استحباب طلاقة الوجه

(720) باب استحباب طلاقة الوجه 5819 - عن أبي ذر رضي الله عنه قال قال لي النبي صلى الله عليه وسلم "لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق". -[المعنى العام]- لقاء المسلم للمسلم باب من أبواب الخير والتواد والتراحم فعلى من تيسر له هذا الباب أن يدخله بما يغرس في النفوس هذا المعنى بالسلام وانبساط أسارير الوجه وطلاقته وهذا المعروف لا يكلف شيئا لا مالا ولا جهدا بل العكس يمنح المنبسط هدوءا وراحة وسعادة كما يمنح أخاك أمنا وأمانا واطمئنانا وفي صحيح البخاري "قال ابن مسعود خالطوا الناس وصافوهم بما يشتهون ودينكم لا تكلمنه" أي لا تخرقوه ويقول أبو الدرداء "إنا لنبتسم في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم" هذا وخفض الجناح للناس وبسط الوجه ولين الكلمة عند المواجهة من أقوى أسباب الألفة وهو من أخلاق المؤمنين -[المباحث العربية]- (لا تحقرن من المعروف شيئا) أي لا تحقرن أن تقدم شيئا من الإحسان مهما قل فالمراد من المعروف هنا الهدية والصدقة والنهي للمعطي ويحتمل أن يكون النهي للآخذ أي لا تحتقرن شيئا من الإحسان يقدم إليك مهما قل يقال حقر الرجل الشيء بفتح القاف يحقره بكسرها حقرا بفتح الحاء وسكون القاف وحقرة بضم الحاء وسكون القاف وحقارة بفتح الحاء وضمها وكسرها أي استهان به فهو محقور وحقير وأحقره بمعنى حقره وحقره بتشديد القاف بالغ في حقره ويحتمل أن يكون الكلام من قبيل النهي عن الشيء والمقصود الأمر بضده فيكون كناية عن التحابب والتواد أي قوموا بما به تكون المودة والمحبة مهما كان قليلا (ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق) فيه حذف "كان" واسمها بعد "لو" أي ولو كان المعروف من الصغر لقاءك أخاك المسلم بوجه طلق قال النووي "طلق" روي على ثلاثة أوجه إسكان اللام وكسرها و"طليق" بزيادة ياء ومعناها سهل منبسط

-[فقه الحديث]- 1 - في الحديث الحث على بذل المعروف وما تيسر منه وإن قل 2 - وفيه فضل طلاقة الوجه عند اللقاء وقد سبق قريبا الانبساط عند اللقاء ولو اتقاء الشر والله أعلم

(721) باب استحباب الشفاعة فيما ليس بحرام

(721) باب استحباب الشفاعة فيما ليس بحرام 5820 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه طالب حاجة أقبل على جلسائه فقال "اشفعوا فلتؤجروا وليقض الله على لسان نبيه ما أحب". -[المعنى العام]- يقول الله تعالى {من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا} [النساء 85] الشفاعة وهي طلب الخير للغير من الغير دعت إليها ظروف المجتمعات الحضارية إذ ليس كل أحد يستطيع الوصول إلى الرئيس وليس كل أحد يتمكن من الدخول عليه ليوضح له مراده وليعرف حاله على حقيقته ومع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يحتجب عن الناس وكان بوسع كل مسلم أن يدخل عليه إلا أنه كمشرع من عند الله يبني أحكامه جل شأنه على أساس صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان ولكل حاكم حاشية وبطانة وجلساء إن كانوا محسنين أسهموا في إحسان الحاكم بما ينصحون وإن كانوا مسيئين أسهموا في إساءة الحاكم بما يزينون له من ظلم أو سوء وهذا الحديث توجيه للحاشية أن يكونوا ألسنة خير ومعروف ومساعدة لا أن يكونوا ألسنة شر وأعوانا للشياطين "اشفعوا تؤجروا" إذا عرضت قضية أمامكم فحاولوا جبر العثرات واقترحوا على الحاكم العفو وتخفيف العقوبات يكن لكم أجركم من الله قبلت شفاعتكم أو لم تقبل وما شفاعتكم إلا نصيحة ودعوة إلى الخير وسيقضي الحاكم بما يشاء الله حكمه وكان الله على كل شيء قديرا -[المباحث العربية]- (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه طالب حاجة أقبل على جلسائه) هذا الأسلوب يفيد التكرار والعادة ولعل ذلك من الجمع بين الفعل الماضي والفعل المضارع وفي رواية البخاري "كان النبي صلى الله عليه وسلم جالسا إذ جاءه رجل يسأل أو طالب حاجة أقبل علينا بوجهه" قال الحافظ ابن حجر هكذا وقع في النسخ وفي تركيبه قلق ولعله كان في الأصل كان إذا كان جالسا إذا جاءه رجل ... إلخ فحذف اختصارا أو سقط على الراوي لفظ "إذا كان" ولفظ مسلم لا إشكال فيه وأخرجه الإسماعيلي بلفظ "إني أوتي فأسأل أو تطلب إلى الحاجة وأنتم عندي فاشفعوا ... " الحديث

(فقال اشفعوا فلتؤجروا) قال القرطبي وقع في أصل مسلم "اشفعوا تؤجروا" بالجزم على جواب الأمر المتضمن معنى الشرط وهو واضح وجاء بلفظ "فلتؤجروا" وينبغي أن تكون هذه اللام مكسورة لتكون لام كي وتكون الفاء زائدة كما زيدت في حديث "قوموا فلأصلي لكم" ويكون معنى الحديث اشفعوا كي تؤجروا قال ويحتمل أن تكون لام الأمر ويجوز تسكينها تخفيفا لأجل الحركة التي قبلها اهـ قال الحافظ ابن حجر ووقع في رواية أبي داود "اشفعوا لتؤجروا" وهو يقوي أن اللام للتعليل وجوز الكرماني أن تكون الفاء سببية واللام بالكسر وهي لام كي وقال جاز اجتماعهما أي اجتماع أداتي سبب وتعليل لأنهما لأمر واحد ويحتمل أن تكون جزائية جوابا للأمر ويحتمل أن تكون زائدة على رأي أو عاطفة على "اشفعوا" واللام لام الأمر أو على مقدر أي اشفعوا لتؤجروا فلتؤجروا وقال الطيبي الفاء واللام زائدتان للتأكيد لأنه لو قيل اشفعوا تؤجروا صح أي إذا عرض المحتاج حاجته علي فاشفعوا له إلي، فإنكم إن شفعتم حصل لكم الأجر سواء قبلت شفاعتكم أم لا (وليقض الله على لسان نبيه ما أحب) كذا ثبت في هذه الرواية "وليقض" وفي رواية "ويقضي" بغير لام قال القرطبي لا يصح أن تكون هذه اللام لام الأمر لأن الله لا يؤمر ولا لام كي لأنه ثبت في الرواية "وليقض" بغير ياء مد ثم قال يحتمل أن تكون بمعنى الدعاء أو الأمر هنا بمعنى الخبر -[فقه الحديث]- قال النووي في الحديث استحباب الشفاعة لأصحاب الحوائج المباحة سواء كانت الشفاعة إلى سلطان ووال ونحوهما أم إلى واحد من الناس وسواء كانت الشفاعة إلى سلطان في كف ظلم أو إسقاط تعزير أو في تخليص عطاء لمحتاج أو نحو ذلك قال وأما الشفاعة في الحدود فحرام وكذا الشفاعة في تتميم باطل أو إبطال حق ونحو ذلك فهي حرام اهـ وفي الحديث الحض على الخير بالفعل وبالتسبب إليه بكل وجه وقال عياض ولا يستثنى من الوجوه التي تستحب فيها الشفاعة إلا الحدود وقد ترجم البخاري بباب كراهة الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان والجمهور على تحريمها أما قبل أن يرفع إلى السلطان فهي على استحبابها فعند أحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجه والحاكم في قصة الذي سرق رداؤه ثم أراد أن يقطع السارق فقال له

النبي صلى الله عليه وسلم "هلا قبل أن تأتيني به" وفي حديث آخر في قصة رجل سرق فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطعه فلما قطع رأوا منه أسفا عليه فقالوا يا رسول الله كأنك كرهت قطعه فقال "وما يمنعني لا تكونوا أعوانا للشيطان على أخيكم" قال العلماء عن استحبابها قبل وصول الأمر إلى الحاكم ولا سيما إذا وقعت الحادثة من أهل العفاف وأما المصرون على فسادهم المشتهرون في باطلهم فلا يشفع لهم لينزجرواعن ذلك والله أعلم.

(722) باب استحباب مجالسة الصالحين ومجانبة قرناء السوء

(722) باب استحباب مجالسة الصالحين ومجانبة قرناء السوء 5821 - عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحا خبيثة". -[المعنى العام]- عدوى الأخلاق السيئة كعدوى الأمراض ومجالسة الصالحين حماية من السيئات لأن مجلسهم يخلو من الذنوب بل وتحفه ملائكة الرحمة ويقول الله لملائكته عنهم وقت ذكرهم لله أشهدكم يا ملائكتي أني غفرت لهم فيقولون يا ربنا إن فيهم فلانا ليس منهم وإنما جاء لحاجة من أحدهم فيقول لهم هم القوم لا يشقى جليسهم نعم فجليسهم إما أن يذكر الله معهم وإما أن يستمع لذكرهم وإما يشمله نور مجلسهم تماما كالجلوس بجوار حامل المسك وبائعه إما أن تشتري منه فتحمل معك ما ينفعك وإما أن يهديك لمسة من مسكه وإما أن تنتفع فترة جواره بالريح الطيبة أما مجالسة أهل الشر والفساد فهي كمجالسة الحداد الذي ينفخ في الكير ليصنع الحديد فيتطاير منه الشرر فيحرق ثيابك أو يصيبك دخانه وريحه الخبيثة ومجالسة أهل الشر والفساد إما أن يعديك شرهم فيسحبك إلى الفساد في الأرض وإما أن تسمع منهم ما يضر ولا ينفع فتحيط بك الشياطين كما تحيط بهم وإما على الأقل أن يضعك الناس في حزبهم وسمعتهم وإن لم تكن منهم ولا على طريقتهم ومنوالهم ورحم الله امرأ أحب الصالحين وأهل الخير وجالسهم وكره الفاسدين وأهل الشر فجانبهم -[المباحث العربية]- (مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير) في الكلام لف ونشر مرتب والأصل مثل الجليس الصالح كحامل المسك ومثل الجليس السوء كنافخ الكير و"والسوء" بفتح السين يقال في القبح رجل سوء وعمل سوء ورجل السوء وعمل السوء و"السوء"

بضم السين كل ما يغم الإنسان وكل ما يقبح وقد ضبط الحديث بكل منهما وجاء القرآن بهما في قوله {للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء} [النحل 60] بفتح السين وقوله {وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء} [النمل 12] و"المسك" بكسر الميم وسكون السين الطيب المعروف قال الجاحظ هو من دويبة تكون في الصين تصاد لنوافجها وسررها فإذا صيدت شدت بعصائب وهي موالية يجتمع فيها دمها فإذا ذبحت قورت السرة التي عصبت ودفنت في الشعر حتى يستحيل ذلك الدم المختنق الجامد مسكا ذكيا بعد أن كان دما نتنا قال الحافظ ابن حجر والمشهور أن غزال المسك كالظبي لكن لونه أسود وله نابان لطيفان أبيضان في فكه الأسفل وأن المسك دم يجتمع في سرته وفي وقت معلوم من السنة فإذا اجتمع ورم الموضع فمرض الغزال إلى أن يسقط منه ويقال إن أهل تلك البلاد يجعلون لها أوتادا في البرية تحتك بها ليسقط ونقل بعضهم أن النافحة في جوف الظبية كالأنفحة في جوف الجدي وعن بعضهم أنها تلقيها من جوفها كما تلقي الدجاجة البيضة و"الكير" بكسر الكاف حقيقة البناء الذي يركب عليه الزق الذي ينفخ فيه الحداد ليشعل النار فأطلق الكير على الزق مجازا لمجاورته له وقيل الكير هو الزق نفسه ولا مجاز وأما البناء فاسمه الكور وفي رواية للبخاري "كمثل صاحب المسك وكير الحداد" فالتشبيه بكير الحداد نفسه لا بنافخه (فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وأما أن تجد منه ريحا طيبة) الفاء في "فحامل المسك" تفريعية لبيان وجه الشبه و"يحذيك" بضم الياء الأولى وسكون الحاء والمفعول محذوف أي يعطيك مسكا هدية بدون مقابل وكثيرا ما يفعل ذلك فيمسح بمسكه يدك ليرغبك في الشراء و"تبتاع منه" أي تشتري منه طيبا وإما أن تشم رائحة طيبة بجواره مادمت جالسا معه (ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحا خبيثة) "يحرق" بفتح الياء من الثلاثي وبضمها من الرباعي يقال حرقه بالنار فالفاعل حارق والمفعول محروق وحريق ويقال أحرق بالنار فالفاعل محرق بكسر الراء والمفعول محرق بفتح الراء والخبيث الرديء المكروه وفي رواية للبخاري "لا يعدمك من صاحب المسك إما تشتريه أو تجد ريحه وكير الحداد يحرق بيتك أو ثوبك أو تجد منه ريحا خبيثة" "لا يعدمك" بفتح الياء وسكون العين وفتح الدال من العدم أي لا يعدمك إحدى الخصلتين أي لا يعدوك ولا يتعداك وفي رواية "لا يعدمك" بضم الياء وكسر الدال من الإعدام أي لا يعدمك صاحب المسك إحدى الخصلتين ويحتمل إحدى الخصال الثلاث على أساس أن وجود الريح الطيبة إما بالإهداء وإما بالجوار

-[فقه الحديث]- في الحديث 1 - النهي عن مجالسة من يتأذى بمجالسته في الدنيا والدين 2 - والترغيب في مجالسة من ينتفع بمجالسته في الدنيا والدين 3 - وفيه ضرب الأمثال لتقريب المعاني 4 - وفيه العمل في الحكم بالأشباه والنظائر 5 - قال النووي وفيه طهارة المسك 6 - واستحباب استعماله وجواز بيعه 7 - وقد أجمع العلماء على جميع هذا ولم يخالف فيه من يعتد به ونقل عن الشيعة نجاسته والشيعة لا يعتد بهم في الإجماع ومن الدلائل على طهارته الإجماع وهذا الحديث وفيه "وإما أن تبتاع منه" والنجس لا يصح بيعه ولأنه صلى الله عليه وسلم كان يستعمله في بدنه ورأسه ويصلي به ويخبر أنه أطيب ولم يزل المسلمون على استعماله وجواز بيعه قال القاضي وما روي من كراهة العمرين له فليس فيه نص منهما على نجاسته ولا صحت الرواية عنهما بالكراهة بل صحت قسمة عمر بن الخطاب المسك على نساء المسلمين والمعروف عن ابن عمر استعماله اهـ وزاد بعضهم أنه مستثنى من قاعدة ما أبين من حي فهو ميت وحكى ابن التين عن ابن شعبان من المالكية أن فأرة المسك إنما تؤخذ في حال الحياة أو بذكاة من لا تصح ذكاته من الكفرة وهي مع ذلك محكوم بطهارتها لأنها تستحيل عن كونها دما حتى تصير مسكا كما يستحيل الدم إلى اللحم فيطهر ويحل أكله وليست بحيوان حتى يقال نجست بالموت وإنما هي شيء يحدث بالحيوان كالبيض والله أعلم.

(723) باب فضل الإحسان إلى البنات

(723) باب فضل الإحسان إلى البنات 5822 - عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت جاءتني امرأة ومعها ابنتان لها فسألتني فلم تجد عندي شيئا غير تمرة واحدة فأعطيتها إياها فأخذتها فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها شيئا ثم قامت فخرجت وابنتاها فدخل علي النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته حديثها فقال النبي صلى الله عليه وسلم "من ابتلي من البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترا من النار". 5823 - عن عائشة أنها قالت جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها فأطعمتها ثلاث تمرات فأعطت كل واحدة منهما تمرة ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها فاستطعمتها ابنتاها فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما فأعجبني شأنها فذكرت الذي صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "إن الله قد أوجب لها بها الجنة أو أعتقها بها من النار". 5824 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو" وضم أصابعه -[المعنى العام]- قال صلى الله عليه وسلم "ليتق أحدكم وجهه النار ولو بشق تمرة" وقال لعائشة "لا يرجع من عندك سائل ولو بشق تمرة" وعملت عائشة رضي الله عنها بهذه الأحاديث حرفيا إذ جاءتها امرأة مسكينة معها ابنتان صغيرتان تسألها الصدقة والإحسان ودخلت عائشة تفتش عن شيء تقدمه للمسكينة فلم تجد إلا ثلاث تمرات فقالت لنفسها تمرة لكل واحدة منهن وماذا تغني هذه التمرة وتذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لها "استتري من النار ولو بشق تمرة فإنها تقع من الجائع موقعها من الشبعان" فالشبعان يأكلها ليتمتع بحلاوتها والجائع يأكلها فتسد شيئا من جوعته ويتمتع بحلاوتها أكثر من الشبعان فأعطت التمرات الثلاث للمسكينة فأعطت المسكينة كل بنت تمرة

وأخذت تمرة وأكلت كل بنت تمرتها بنهم وسرعة فهما جائعتان ووضعت المسكينة تمرتها في فمها فتعلق بها البنتان تطلبان التمرة التي في فمها فقسمتها نصفين وأخرجتها من فمها وأعطت كل واحدة من بنتيها شقا ولم تأكل هي شيئا وأثر هذا الموقف في عائشة عجبا فلما دخل عليها صلى الله عليه وسلم بادرت تقص هذه القصة عليه فقال صلى الله عليه وسلم لقد أحسنت إلى بناتها فقدمتهن على نفسها ولها أجرها فمن ولاه الله أمر بنات فأنفق عليهن وأحسن إليهن كن سترا وحجابا له من نار يوم القيامة -[المباحث العربية]- (جاءتني امرأة ومعها بنتان لها) لم يقف العلماء على أسمائهن وقد سقطت الواو من قولها "ومعها" في بعض الروايات (فسألتني) الصدقة والعطاء وفي رواية للبخاري "تسألني" صفة ثانية لامرأة (فلم تجد عندي شيئا غير تمرة واحدة) كان الأصل أن تقول فلم أجد عندي لكن لما كانت تنوي إعطاءها كل ما عندها كان ما تجده عائشة تجده المرأة وما لا تجده عائشة لا تجده المرأة (فأعطيتها إياها فأخذتها فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها شيئا) وفي الرواية الثانية عن عائشة رضي الله عنها "جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها فأطعمتها ثلا ث تمرات فأعطت كل واحدة منهن تمرة ورفعت تمرة إلى فمها لتأكلها فاستطعمتها ابنتاها أي طلبتا منها أن تطعمهما إياها فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها فأعجبني شأنها" الحديث وللطبراني نحوه ويمكن الجمع بأن مرادها بقولها "فلم تجد عندي شيئا غير تمرة واحدة" أي أخصها بها ويحتمل أنها لم يكن عندها في أول الحال سوى واحدة فأعطتها ثم وجدت ثنتين والجمع الأول أوجه ويحتمل تعدد القصة (ثم قامت فخرجت وابنتاها) معطوف على الضمير في "خرجت" (فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته حديثها) في رواية للبخاري "فدخل النبي صلى الله عليه وسلم علينا فأخبرته" وحدثته بقصتها لأنها أعجبت بها (من ابتلى من البنات بشيء فأحسن إليهن كن سترا من النار) أي سترا وحجابا له من النار يوم القيامة قال النووي إنما سماه ابتلاء لأن الناس يكرهونهن في العادة وفي رواية للبخاري "من يلي من هذه البنات شيئا" من الولاية قال الحافظ ابن حجر واختلف في المراد

بالابتلاء هل هو نفس وجودهن أو المعنى ابتلى بما يصدر منهن واختلف كذلك هل هو على العموم في البنات أو المراد من اتصف منهن بالحاجة وهل هذا الوعد خاص بمن ابتلى بأكثر من واحدة ظاهر قوله في الرواية الثالثة "من عال جاريتين أي قام عليهما بالمؤنة والتربية ونحوهما حتى تبلغا" أن هذا الوعد خاص بمن ابتلى بأكثر من واحدة ويؤكده ما جاء عند أحمد من حديث أم سلمة "من أنفق على ابنتين أو أختين أو ذاتي قرابة يحتسب عليهما" لكن هناك من الأحاديث ما يفيد شمول الوعد من أحسن إلى واحدة ففي رواية "فقال رجل من الأعراب أو اثنتين فقال أو اثنتين" وفي رواية "فرأى بعض القوم أن لو قال وواحدة لقال وواحدة" وعند الطبراني "من كانت له ابنة فأدبها وأحسن أدبها وعلمها فأحسن تعليمها وأوسع عليها من نعمة الله التي أوسع عليه" الحديث وهل هذا الوعد خاص بالإحسان أو يكفي أداء الواجب والصبر الظاهر الأول فروايتنا "فأحسن" وشق التمرة وعدم الأكل منها إحسان فوق الواجب وعند ابن ماجه "فصبر عليهن وأطعمهن وسقاهن وكساهن" وعند الطبراني "فأنفق عليهن وزوجهن وأحسن أدبهن" وفي الأدب المفرد "يؤدبهن ويرحمهن ويكفلهن" وعند الترمذي "فأحسن صحبتهن واتقى الله فيهن" وهذه الأوصاف يجمعها لفظ الإحسان وليس الاقتصار على الواجب إحسانا في مثل هذه الحالة وإن كان له ثوابه وأجره فالمناسب تفسير الإحسان هنا بأنه فعل معروف لم يكن واجبا أو فعل معروف زائد على الواجب وشرط الإحسان أن يكون الفعل موافقا للشرع وفي الرواية الثانية "إن الله قد أوجب لها بها الجنة أو أعتقها بها من النار" أي بالتمرة التي شقتها بين ابنتيها وفي الرواية الثالثة "جاء يوم القيامة أنا وهو وضم أصابعه" أي جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين أي متصاحبين متجاورين -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الأحاديث]- 1 - قال النووي في هذه الأحاديث فضل الإحسان إلى البنات والنفقة عليهن وعلى سائر أمورهن 2 - الحث على الصدقة بما قل وما جل والعمل بقوله صلى الله عليه وسلم "يا عائشة استتري من النار ولو بشق تمرة فإنها تسد من الجائع مسدها من الشبعان" 3 - وألا يحتقر ما يتصدق به 4 - وأن الإحسان إلى البنات يستر من النار قال الحافظ ابن حجر والظاهر أن الثواب المذكور إنما يحصل لفاعله إذا استمر إلى أن يحصل استغناؤهن عنه بزوج أو غيره

كما أشير إليه في بعض ألفاظ الحديث والإحسان يختلف باختلاف الأحوال ولكل أحد بحسب حاله 5 - قال الحافظ ابن حجر وفي الحديث تأكيد حق البنات لما فيهن من الضعف غالبا عن القيام بمصالح أنفسهن بخلاف الذكور لما فيهم من قوة البدن وجزالة الرأي وإمكان التصرف في الأمور المحتاج إليها في أكثر الأحوال اهـ أقول وحتى لو كانت البنات مستغنيات فإن الإحسان إليهن له نفس الأجر والإحسان إلى الأولاد لا يقل أجرا عن الإحسان إلى البنات وإنما خص البنات بالذكر علاجا لما استقر في نفوس الناس من احتقارهن حتى وصل الأمر بالناس أن وأدوهن قال تعالى {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب} [النحل 58 - 59] فلما كانت الطبيعة البشرية والعادات الإنسانية حب الذكور والاعتزاز بهم والإحسان إليهم لم يكونوا في حاجة إلى الوصية بهم والله أعلم 6 - قال ابن بطال وفي هذه الأحاديث جواز سؤال المحتاج 7 - وسخاء عائشة رضي الله عنها 8 - وجواز ذكر المعروف إن لم يكن على وجه الفخر ولا المنة 9 - وفيه الحث على التقوى والتزام أمر الله تعالى فإن من لا يتقى الله لا يأمن أن يتضجر بمن وكله الله إليه أو يقصر عما أمر بفعله أو لا يقصد بفعله امتثال أمر الله وتحصيل ثوابه 10 - وفيه حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم والاستفادة من المناسبات والظروف في تعميق أحكام الشرع الحنيف كما ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان يطبق هذا القول بالفعل على نفسه فكان يحمل أمامة بنت أبي العاص بنت ابنته زينب رضي الله عنها يحملها على عاتقه في الصلاة وهو يؤم المسلمين فإذا ركع وضعها وإذا رفع رفعها وإذا سجد وضعها وإذا جلس حملها صلى الله عليه وسلم 11 - وفيه ما كانت عليه بيوت النبي صلى الله عليه وسلم وكيف كانت عيشته وأهله وليس في بيتهم ما يؤكل غير تمرة أو ثلاث تمرات والله أعلم.

(724) باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه

(724) باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه 5825 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم" 5826 - وفي رواية عن الزهري بإسناد مالك وبمعنى حديثه إلا أن في حديث سفيان "فيلج النار إلا تحلة القسم". 5827 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لنسوة من الأنصار لا يموت لإحداكن ثلاثة من الولد فتحتسبه إلا دخلت الجنة" فقالت امرأة منهن أو اثنين يا رسول الله قال "أو اثنين" 5828 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله ذهب الرجال بحديثك فاجعل لنا من نفسك يوما نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله قال "اجتمعن يوم كذا وكذا" فاجتمعن فأتاهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلمهن مما علمه الله ثم قال "ما منكن من امرأة تقدم بين يديها من ولدها ثلاثة إلا كانوا لها حجابا من النار" فقالت امرأة واثنين واثنين واثنين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "واثنين واثنين واثنين". 5829 - وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال "ثلاثة لم يبلغوا الحنث". 5830 - عن أبي حسان قال قلت لأبي هريرة إنه قد مات لي ابنان فما أنت

محدثي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث تطيب به أنفسنا عن موتانا قال قال نعم "صغارهم دعاميص الجنة يتلقى أحدهم أباه أو قال أبويه فيأخذ بثوبه أو قال بيده كما آخذ أنا بصنفة ثوبك هذا فلا يتناهى أو قال فلا ينتهي حتى يدخله الله وأباه الجنة". 5831 - وفي رواية عن التيمي بهذا الإسناد وقال فهل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا تطيب به أنفسنا عن موتانا قال نعم 5832 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم بصبي لها فقالت يا نبي الله ادع الله له فلقد دفنت ثلاثة قال "دفنت ثلاثة" قالت نعم قال "لقد احتظرت بحظار شديد من النار" قال عمر من بينهم عن جده وقال الباقون عن طلق ولم يذكروا الجد. 5833 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بابن لها فقالت يا رسول الله إنه يشتكي وإني أخاف عليه قد دفنت ثلاثة قال "لقد احتظرت بحظار شديد من النار" قال زهير عن طلق ولم يذكر الكنية. -[المعنى العام]- يقول الله تعالى {وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} [البقرة 155 - 157] وكلما عظمت المصيبة عظم الصبر المطلوب لها وكلما عظم الصبر والاحتساب كلما عظم الأجر ومن أعظم المصائب موت الأطفال وبخاصة في بداية الحياة الزوجية في الوقت الذي يتشوف فيه الوالدان إلى الأولاد وفي الوقت الذي يكون الأولاد فيه هم سعادة الأبوين وإذا كان الإسلام يدعوا الآباء إلى الرحمة والعطف وحب الأبناء فمن حق الآباء وقد تعلقوا بأطفالهم أن يتألموا لفقد من أحبوه وتعلقوا به ومن حقهم أن يواسيهم الإسلام ويضمد جروحهم

ومن واجب العلماء أن يطيبوا نفوسهم في وقت محنتهم وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه في مناسبة موت بعض أطفالهم ما من مسلم يموت له ثلاثة من الأولاد ذكورا أو إناثا قبل أن يبلغوا الحلم إلا حرم الله عليه النار وأدخله الجنة ورغب الصحابة في زيادة الفضل فقال أحدهم واثنان يا رسول الله قال واثنان ويتأسف السائل بعد انفضاض المجلس على أنه لم يقل وواحد وهو يظن أنه لو قال ذلك لأجيب ووسعته رحمة الله تعالى ولم يكتف صلى الله عليه وسلم بإخبار الرجال بهذه البشرى مع أنه يعلم أنهم سيخبرون بها نساءهم بل خاطب بها النساء في اليوم الذي حدده لوعظهن تقديرا لعواطفهن وشدة حزنهن وعدم تملكهن لمشاعرهن أخبرهن بالثلاثة ليطلب شمول هذا الفضل للاثنين كما فعل الرجال ففعلن وسألن وأجبن بما أجيب به الرجال وهذا أبو هريرة يسأله مكلوم بفقد ابنه أن يواسيه بما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فقد الأولاد فيجيبه بأن الأطفال الذين يموتون ينتظرون آباءهم يوم القيامة فإذا رأوهم أخذ الواحد منهم بثوب أبيه وأمه يمسك به لا يتركه ويسأل الله أن يشفعه فيهما ويغفر لهما ذنوبهما ويدخلهما معه الجنة فيرحم الله الآباء برحمته للأبناء ويقول لهم خذوا بأيديهم إلى الجنة فقد غفرت لهم برحمتي لكم فيأخذون بأيدي آبائهم إلى الجنة -[المباحث العربية]- (لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد) الظاهر أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك للرجال مرة وللنساء مرة ففي الرواية الثانية أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك لنسوة من الأنصار وزاد فيها "فتحتسبه" والاحتساب هنا الصبر والرضا بقضاء الله مع رجاء فضله قال الحافظ ابن حجر وقد عرف من القواعد الشرعية أن الثواب لا يترتب إلا على النية فلا بد من قيد الاحتساب والأحاديث المطلقة محمولة على المقيدة وقال بعضهم يقال في البالغ احتسب ويقال في الصغير افترط لكن قد يستعمل كل مكان الآخر وذكر ابن دريد وغيره احتسب فلان بكذا أي طلب أجرا عند الله وهذا أعم من أن يكون لكبير أو صغير ولفظ "ولد" يتناول الواحد فصاعدا ويشمل الذكر والأنثى وهل يدخل فيه أولاد الأولاد محل نظر وفي البخاري "ما من الناس من مسلم يتوفى له ثلاث" بحذف التاء من "ثلاثة" وهو جائز لكون المميز محذوفا وقيد "مسلم" و"مسلمين" للاحتراز عن الكافر وزاد في ملحق الرواية الثالثة "لم يبلغوا الحنث" بكسر الحاء وسكون النون وضبط بفتح الحاء والنون والمحفوظ الأول والمعنى لم يبلغوا الحلم فتكتب عليهم الآثام والحنث في الأصل الإثم والذنب قال تعالى {وكانوا يصرون على الحنث العظيم} [الواقعة 46] وقيل المراد بلغ زمانا يؤاخذ فيه بيمينه إذا حنث قال الراغب عبر بالحنث عن البلوغ لأن الصبي قد يثاب وخص الصغير بذلك لأن الشفقة عليه أعظم والحب له أشد والرحمة له أوفر

وعلى هذا فالقيد للاحتراز عمن مات له ثلاثة بالغون وسيأتي مزيد بحثه في فقه الحديث (فتمسه النار إلا تحلة القسم) وفي ملحق الرواية "فيلج النار إلا تحلة القسم" وفي الرواية الثالثة "إلا كانوا لها حجابا من النار" وفي الرواية الثانية "إلا دخلت الجنة" وهي محمولة على دخول الجنة بدون دخول النار أي دخول الجنة لأول وهلة فمن المسلمين من يدخل الجنة بعد النار والمراد بالولوج الورود وهو عام يخفف بموت الأولاد بشروطه وقوله "فتمسه النار" وقوله "فيلج النار" بنصب الفعل لأن المضارع ينصب بعد النفي بتقدير "أن" لكن حكى الطيبي أن شرطه أن يكون بين ما قبل الفاء وما بعدها سببية ولا سببية هنا إذ لا يجوز أن يكون موت الأولاد ولا عدمه سببا لولوج الأب والأم النار قال وإنما الفاء بمعنى الواو التي للجمع وتقديره لا يجتمع لمسلم موت ثلاثة من ولده وولوجه النار قال لا محيد عن ذلك إن كانت الرواية بالنصب وأقره على هذا جماعة قال وإن كانت الرواية بالرفع فمعناه لا يوجد ولوج النار عقب موت الأولاد إلا مقدارا يسيرا اهـ قال الحافظ ابن حجر ووقع في البخاري في الأيمان والنذور بلفظ "لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد تمسه النار إلا تحلة القسم" فقوله "تمسه" بالرفع جزما و"تحلة القسم" بفتح التاء وكسر الحاء وتشديد اللام أي ما ينحل به القسم وهو اليمين وهو مصدر حلل اليمين أي كفرها يقال حلل تحليلا وتحلة وتحلا بغير هاء والثالث شاذ وقال أهل اللغة يقال فعلة تحلة القسم أي قدر ما حللت به قسمي ويميني ولم أبالغ وقال الخطابي حللت القسم تحلة أي أبررتها وقال القرطبي اختلف في هذا القسم والمراد منه فقيل هو معين وقيل هو غير معين فالجمهور على الأول وقيل لم يعن به قسم بعينه وإنما معناه التقليل لأمر ورودها وهذا اللفظ يستعمل في هذا وقيل الاستثناء بمعنى الواو أي لا تمسه النار قليلا ولا كثيرا ولا تحلة القسم وقال بعضهم المراد به قوله تعالى {وإن منكم إلا واردها} [مريم 71] قال الخطابي معناه لا يدخل النار ليعاقب بها ولكنه يدخلها مجتازا ولا يكون ذلك الجواز إلا مقدار ما يحلل به الرجل يمينه ويدل على ذلك ما وقع عند عبد الرزاق بلفظ "إلا تحلة القسم يعني الورود" وعند سعيد بن منصور "ثم قرأ سفيان {وإن منكم إلا واردها} وعند الطبراني "من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث لم يرد النار إلا عابر سبيل" يعني الجواز على الصراط وأخرج الطبراني مثله مرفوعا "من حرس وراء المسلمين في سبيل الله متطوعا لم ير النار بعينه إلا تحلة القسم فإن الله عز وجل قال {وإن منكم إلا واردها} واختلف في موضع القسم من الآية فقيل هو مقدر أي والله ما منكم إلا واردها وقيل معطوف على القسم الماضي في قوله تعالى {فوربك لنسألنهم أجمعين} أي وربك ما منكم إلا واردها وقيل هو مستفاد من قوله تعالى {حتما مقضيا} أي قسما واجبا وقال الطيبي يحتمل أن يكون المراد

بالقسم ما دل على القطع والبت من السياق فإن قوله تعالى {كان على ربك} تذييل وتقرير لقوله {وإن منكم إلا واردها} فهذا بمنزلة القسم بل أبلغ لمجيء الاستثناء بالنفي والإثبات قال الحافظ ابن حجر واختلف السلف في المراد بالورود في الآية فقيل هو الدخول روى أحمد والنسائي والحاكم من حديث جابر مرفوعا "الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين بردا وسلاما" وروى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال "يردونها أو يلجونها ثم يصدرون عنها بأعمالهم" وقيل المراد بالورود المرور عليها وزاد الطبري من طريق كعب الأحبار "يستوون كلهم على متنها ثم ينادى مناد أمسكي أصحابك ودعي أصحابي فيخرج المؤمنون ندية أبدانهم" قال الحافظ ابن حجر وهذان القولان أصح ما ورد في ذلك ولا تنافي بينهما لأن من عبر بالدخول تجوز به عن المرور لأن المار عليها فوق الصراط في معنى من دخلها لكن تختلف أحوال المارة باختلاف أعمالهم فأعلاهم درجة من يمر كلمح البرق كما سيأتي في الرقاق إن شاء الله تعالى ومن الأقوال الضعيفة قول من قال الورود مختص بالكفار ومن قال معنى الورود الدنو منها ومن قال معناه الإشراف عليها ومن قال معنى ورودها ما يصيب المؤمن من الحمى (قال لنسوة من الأنصار) في الرواية الثالثة "جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله ذهب الرجال بحديثك فاجعل لنا من نفسك يوما نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله قال اجتمعن يوم كذا وكذا فاجتمعن فأتاهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلمهن مما علمه الله ثم قال ما منكن من امرأة تقدم بين يديها من ولدها ثلاثة إلا كانوا لها حجابا من النار فقالت امرأة واثنين واثنين واثنين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم واثنين واثنين واثنين" وفي رواية "واثنتين" بزيادة تاء وهو منصوب بالعطف على "ثلاثة" ويسمى العطف التلقيني وكأنها فهمت الحصر وطمعت في الفضل قيل هي أم سليم الأنصارية والدة أنس رواه الطبراني ووقع لأم مبشر الأنصارية أيضا السؤال عن ذلك أخرجه الطبراني أيضا وأم أيمن أيضا ممن سأل وعائشة أيضا وأم هانئ أيضا سألت عن ذلك ويحتمل أن يكون كل منهن سأل عن ذلك في ذلك المجلس فتكون المتكلمة واحدة والأخريات قلن في أنفسهن ووافقن السائلة قال الحافظ ابن حجر وأما تعدد القصة ففيه بعد لأنه صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الاثنين بعد الثلاثة أجاب بأن الاثنين كذلك فالظاهر أنه كان أوحى إليه في ذلك في الحال نعم في حديث جابر أنه ممن سأل عن ذلك وروى أن عمر سأل أيضا قال الحافظ وهذا لا بعد في تعدده لأن خطاب النساء بذلك لا يستلزم علم الرجال به (صغارهم دعاميص الجنة) بفتح الدال والعين وكسر الميم وأحدهم دعموص بضم الدال أي صغار أهلها وأصل الدعموص دويبة تكون في الماء لا تفارقه فوجه الشبه عدم المفارقة (يتلقى أحدهم أباه أو قال أبويه فيأخذ بثوبه أو قال بيده كما آخذ أنا بصنفة ثوبك هذا) صنفة الثوب بفتح الصاد وكسر النون طرفه ويقال لها صنيفة الثوب أي وأخذ أبو هريرة بثوب أبي حسان وأمسكه بشدة لا يدعه

(فلا يتناهى أو قال فلا ينتهي حتى يدخله الله وأباه الجنة) أي فلا يتركه أي لا يكون نهاية لإمساكه إياه حتى يقبل الله شفاعة الصغير فيدخل الله الصغير وأباه الجنة (أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم بصبي لها فقالت يا نبي الله ادع الله له فلقد دفنت ثلاثة) أي وأخشى عليه أن يكون رابعهم وهو مريض وفي الرواية السادسة "فقالت يا رسول الله إنه يشتكي وإني أخاف عليه قد دفنت ثلاثة" قيل إنها رجاء الأسلمية (قال دفنت ثلاثة) بحذف أداة الاستفهام (لقد احتظرت بحظار شديد من النار) أي لقد امتنعت من النار بمانع وثيق وأصل الحظر المنع وأصل الحظار بكسر الحاء وفتحها ما يجعل حول البستان وغيره من قضبان وغيرها كالحائط أو السور -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - فضل من مات له ولد فاحتسبه وأحاديث الباب قيدت الولد بثلاثة أو اثنين لكن الطبراني في الأوسط أخرج عن جابر بن سمرة مرفوعا "من دفن ثلاثة فصبر عليهم واحتسب وجبت له الجنة فقالت أم أيمن أو اثنين فقال أو اثنين فقالت وواحد فسكت ثم قال وواحد" وعن ابن مسعود مرفوعا "من قدم ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث كانوا له حصنا حصينا من النار قال أبو ذر قدمت اثنين قال واثنين قال أبي بن كعب قدمت واحدا قال وواحد" أخرجه الترمذي وقال غريب وعنده عن ابن عباس رفعه "من كان له فرطان من أمتي أدخله الله الجنة فقالت عائشة فمن كان له فرط قال ومن كان له فرط" قال الحافظ ابن حجر وليس في شيء من هذه الطرق ما يصلح للاحتجاج قال وأصح ما ورد في ذلك ما أخرجه البخاري عن أبي هريرة مرفوعا "يقول الله عز وجل ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة" وهذا يدخل فيه الواحد فما فوقه اهـ أقول واستحقاق الجنة ودخولها لا يستلزم عدم مس النار وأحاديثنا في الحجب عن النار فليس فيما استند إليه الحافظ دليل على المدعى وهو الواحد نعم لوالديه أجر كبير لكن غير الموعود به هنا فالثابت أن الموعود بعدم المس للنار هو من قدم اثنين فأكثر 2 - أخذ بعضهم من ملحق الرواية الثالثة من قوله "لم يبلغوا الحنث" أن من مات له أولاد كبار لا يستحق هذا الجزاء وإن كان في فقد الولد أجر في الجملة وبهذا صرح كثير من العلماء وفرقوا بين البالغ وغيره بأنه يتصور من البالغ العقوق المقتضى لعدم الرحمة بخلاف الصغير فإنه لا يصدر منه ذلك إذ ليس بمخاطب وقال الزبير بن المنير بل يدخل الكبير أيضا في ذلك بطريق

الفحوي لأنه إذا ثبت ذلك في الطفل الذي هو عبء على أبويه فكيف لا يثبت في الكبير الذي بلغ من السعي ووصل له منه النفع وتوجه إليه الخطاب بالحقوق اهـ وعندي أن هذا القيد ليس للاحتراز وإنما ذكر لما أن الصغير موضع الرحمة والشفقة وقوة الأسى غالبا فمدار الحكم شدة التعلق والحب ليكون الصبر في الفقد كبيرا والاحتساب قويا والتسليم عظيما وحيثما وجدت هذه العلة في الكبير أو الصغير كان هذا الأجر الموعود به وحيثما لم توجد من الطفل أو من الأبوين لا يكون هذا الأجر وإن ثبت له أجر آخر وقول الحافظ ابن حجر ويقوي الأول قوله في بقية الحديث الذي رواه البخاري "بفضل رحمته إياهم" لأن الرحمة للصغار أكثر لعدم حصول الإثم هذا القول لا يؤيده قول ابن التين إن الضمير في "رحمته" للأب أي لكونه كان يرحمهم في الدنيا فيجازى بالرحمة في الآخرة وهذا يتمشى مع توجيهنا للحديث والله أعلم 3 - قال الحافظ ابن حجر وهل يلتحق بالصغار عند من قصر الحديث عليهم من بلغ مجنونا مثلا واستمر على ذلك فمات فيه نظر لأن كونهم لا إثم عليهم يقتضي الإلحاق وكون الامتحان بهم يخف بموتهم يقتضي عدمه ولم يقع التقييد في طرق الحديث بشدة الحب ولا عدمه وكان القياس يقتضي ذلك لما يوجد من كراهة بعض الناس لمولده وتبرمه منه ولا سيما من كان ضيق الحال لكن لما كان الولد مظنة المحبة والشفقة نيط به الحكم وإن تخلف في بعض الأفراد 4 - قال ابن التين تبعا لعياض قول السائلة "واثنان" يدل على أن مفهوم العدد ليس بحجة لأن الصحابية من أهل اللسان ولم تعتبره إذ لو اعتبرته لانتفى الحكم عندها عما عدا الثلاثة لكنها جوزت ذلك فسألته قال الحافظ ابن حجر والظاهر أنها اعتبرت مفهوم العدد إذ لو لم تعتبره لم تسأل والتحقيق أن دلالة مفهوم العدد ليست يقينية وإنما هي محتملة ومن ثم وقع السؤال عن ذلك 5 - أخذ بعضهم بذكر الثلاثة أن الأربعة فما فوقهم لا يحصل بهم الأجر المذكور سواء ماتوا دفعة واحدة أو ماتوا واحدا بعد الآخر فالثلاثة تعظم بهم المصيبة وأما ما زاد عليها فقد يخف أمر المصيبة لأنها تصير كالعادة كما قيل روعت بالبين حتى ما أراع له قاله القرطبي قال الحافظ ابن حجر وهو جحود شديد فإن من مات له أربعة فقد مات له ثلاثة ضرورة لأنهم إن ماتوا دفعة واحدة فقد مات له ثلاثة وزيادة ولا خفاء بأن المصيبة بذلك أشد وإن ماتوا واحدا بعد واحد فإن الأجر يحصل له عند موت الثلاثة بمقتضى وعد الصادق فيلزم على قول القرطبي أنه إن مات له الرابع يرتفع عند ذلك الأجر مع تجدد المصيبة وكفى بهذا فسادا والحق أن تناول الحديث الأربعة فما فوقها من باب أولى وأحرى ويؤيد هذا أنهم لم يسألوا عن الأربعة ولا ما فوقها لأنه كالمعلوم عندهم إذ المصيبة إذا كثرت كان الأجر أعظم اهـ وهو كلام حسن

6 - أخذ بعضهم من إقراره صلى الله عليه وسلم جزاء الاثنين التسوية في الحكم بين الثلاثة والاثنين وهو محمول على أنه أوحى إليه بذلك في الحال ولا بعد أن ينزل عليه الوحي في أسرع من طرفة عين ويحتمل أن يكون كان العلم عنده بذلك حاصلا لكنه أشفق عليهم أن يتكلوا لأن موت الاثنين غالبا أكثر من موت الثلاثة اهـ أقول والتسوية بين الاثنين والثلاثة في هذا الحكم لا يستلزم عدم زيادة الثلاثة على الاثنين في الأجر والله أعلم 7 - واستدل بقوله "ما من مسلم" على أن من مات له أولاد في الكفر ثم أسلم لا يحصل له ذلك ويؤيد ذلك ما أخرجه أحمد والطبراني عن أبي ثعلبة الأشجعي قال "قلت يا رسول الله مات لي ولدان قال من مات له ولدان في الإسلام أدخله الله الجنة" وما أخرجه أحمد عن رجاء الأسلمية قالت "جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله ادع الله لي في ابن لي بالبركة فإنه قد توفي لي ثلاثة فقال أمنذ أسلمت قالت نعم ... " فذكر الحديث 8 - استدل بعضهم بقوله "ثلاثة من الولد" أن ذلك خاص بالولد الحقيقي ولا يدخل فيه أولاد الأولاد ويؤيده رواية النسائي "من صلبه" قال الحافظ ابن حجر والظاهر أن أولاد أولاد الصلب يدخلون وفي التقييد بكونهم "من صلبه" ما يدل على إخراج أولاد البنات 9 - أخذ القاضي عياض من قوله "تحلة القسم" أن من حلف أن لا يفعل كذا ثم فعل منه شيئا يسيرا مهما قل برت يمينه خلافا لمالك 10 - وفي هذه الأحاديث أن أولاد المسلمين في الجنة لأنه يبعد أن الله يغفر للآباء بفضل رحمته للأبناء ولا يرحم الأبناء قاله المهلب قال الحافظ ابن حجر وكون أولاد المسلمين في الجنة قاله الجمهور وتوقفت طائفة قليلة والله أعلم.

(725) باب إذا أحب الله عبدا أمر جبريل فأحبه وأحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض

(725) باب إذا أحب الله عبدا أمر جبريل فأحبه وأحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض 5834 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال إني أحب فلانا فأحبه قال فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء قال ثم يوضع له القبول في الأرض وإذا أبغض عبدا دعا جبريل فيقول إني أبغض فلانا فأبغضه قال فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلانا فأبغضوه قال فيبغضونه ثم توضع له البغضاء في الأرض". 5835 - وفي رواية عن سهيل بهذا الإسناد غير أن حديث العلاء بن المسيب ليس فيه ذكر البغض. 5836 - وفي رواية عن سهيل بن أبي صالح قال كنا بعرفة فمر عمر بن عبد العزيز وهو على الموسم فقام الناس ينظرون إليه فقلت لأبي يا أبت إني أرى الله يحب عمر بن عبد العزيز قال وما ذاك قلت لما له من الحب في قلوب الناس فقال بأبيك أنت سمعت أبا هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكر بمثل حديث جرير عن سهيل. -[المعنى العام]- يقول الله تعالى {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم} [آل عمران 31] كذب من يدعي حبا لإنسان ويخالفه ويعصيه ويحاربه لأن آية الحب طاعة المحبوب والعمل على رضاه والحذر من غضبه من هنا كذب اليهود والنصارى في قولهم {نحن أبناء الله وأحباؤه} [المائدة 18] فاتباع الرسل علامة الحب لله وصدق الله العظيم في الحديث القدسي إذ يقول "وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه وما يزال عبدي يتقرب

إلي بالنوافل حتى أحبه" فلأجل أن يحبنا الله ويرضى عنا ويرحمنا ويغفر لنا علينا باتباع أوامره واجتناب نواهيه وإذا أردنا أن يحبنا الخلق ويحسنوا إلينا وأن ينفعونا في دنيانا علينا أولا أن نحب الله لأنه إذا أحبنا غرس الحب في قلوب العباد لنا إذا أحبنا نادى جبريل الروح الأمين ناداه من فوق عرشه يا جبريل إنني أنا الله أحب فلانا فأحبه وبلغ حبي له للملائكة ليحبوه وبلغ حبي لخلقي الذين يرونه ويتعاملون معه ليحبوه فيحبه جبريل ثم ينادي يا ملائكة الله إن الله يحب فلانا فأحبوه فتحبه الملائكة وتستغفر له وتدعو له ثم ينزل جبريل إلى الأرض فينادى فيمن حول فلان من الناس أيها الناس إن الله يحب فلانا فأحبوه وإن الله غرس في فلان من الصفات الحميدة ما يجذب حب الناس له وإن الله طبع فلانا بطابع القبول يتعامل مع الناس بما يحببهم فيه فيعاملونه بكل مودة وحب وهكذا يصبح حب الناس للمؤمن علامة حب الله له ويصبح حب الله للمؤمن مرتبطا بطاعته وعبادته والإخلاص في العبادة والطاعة حتى يكون من المقبولين والأمر نفسه في العاصين المغضوب عليهم ينادي الله جبريل إني أبغض فلانا فأبغضه فيبغضه جبريل وينادي أهل السماء والملائكة فيبغضونه وينزل إلى الأرض فيزرع في قلوب من حوله بغضهم له هدانا الله الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آمين -[المباحث العربية]- (إن الله إذا أحب عبدا) قال النووي قال العلماء محبة الله تعالى لعبده هي إرادة الخير له وهدايته وإنعامه عليه ورحمته وقال الحافظ ابن حجر وقع في بعض الطرق بيان سبب هذه المحبة والمراد بها ففي حديث ثوبان "إن العبد ليلتمس مرضاة الله تعالى فلا يزال كذلك حتى يقول يا جبريل إن عبدي فلانا يلتمس أن يرضيني ألا وإن رحمتي غلبت عليه" أخرجه أحمد والطبراني في الأوسط ويشهد له حديث أبي هريرة في الصحيح "وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها" الحديث (دعا جبريل فقال إني أحب فلانا فأحبه قال فيحبه جبريل) وفي رواية للبخاري "نادى جبريل إن الله قد أحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل" (ثم ينادى في السماء فيقول إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء) في رواية للبخاري "فينادي جبريل في أهل السماء" (ثم يوضع له القبول في الأرض) زاد الطبراني في حديث ثوبان "ثم يهبط إلى الأرض" ثم قرأ {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا} [مريم 96] وثبتت هذه الزيادة عند الترمذي وابن أبي حاتم والمراد من القبول الرضا من قبيل قوله تعالى {فتقبلها ربها بقبول حسن} [آل عمران 37] أي

رضيها وفي رواية "فيوضع له المحبة" وقبول الشيء والرضا بالشيء ميل النفس إليه والمراد بالقبول هنا قبول القلوب له بالمحبة والميل إليه والرضا عنه والمراد بمحبة الله إرادة الخير وحصول الثواب وبمحبة الملائكة استغفارهم له وإرادتهم له خيرى الدنيا والآخرة وميل قلوبهم إليه ليكون مطيعا لله محبا له ومحبة العباد له اعتقادهم فيه الخير وإرادتهم دفع الشر عنه ما أمكن قال الحافظ ابن حجر وحديث الباب يشتمل على الأقسام الثلاثة الإلهي والروحاني والطبيعي فحب الله العبد حب إلهي وحب جبريل والملائكة له حب روحاني وحب العباد له حب طبيعي قال النووي والمراد من بغض الله تعالى إرادة عقابه أو شقاوته ونحوه (فمر عمر بن عبد العزيز) الخليفة الخامس الذي أحبه المسلمون لعدله وسيرته في ملكه واتباعه سنة نبيه صلى الله عليه وسلم (وهو على الموسم) أي على موسم الحج أميرا للمؤمنين -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث]- 1 - أخذ البخاري من الحديث كلام الله تعالى مع جبريل والملائكة 2 - وأن حب العباد للعبد من الله تعالى وكذلك المقت والغضب 3 - وأن الملائكة تحب المؤمن قال النووي وحب الملائكة يحتمل وجهين أحدهما استغفارهم له وثناؤهم عليه ودعاؤهم له والثاني أن محبتهم على ظاهرها المعروف من المخلوقين وهو ميل القلب إليه واشتياقهم إلى لقائه وسبب حبهم إياه كونه مطيعا لله تعالى محبوبا له والله أعلم

(726) باب الأرواح جنود مجندة

(726) باب الأرواح جنود مجندة 5837 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف" 5838 - عن أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه قال "الناس معادن كمعادن الفضة والذهب خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا والأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف". -[المعنى العام]- المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل وإن الطيور على أشكالها تقع وشبه الشيء منجذب إليه أمثلة وحكم تعبر عن الواقع اللصوص يتجمعون ويتعارفون ويتحابون والبغاة يتجمعون ويتعارفون وأهل الفساد والخلاعة والليالي الحمراء يتعارفون ويتصادقون نعم كل تجمع على المعاصي مآله التفكك والنار يأكل بعضها بعضا لكن الواقع أنهم يتعارفون ويتعاونون ولو لبعض الزمن والصالحون يتعارفون ويتعاونون ويتماسكون ويتجالسون ويتحابون وتعارفهم يدوم لأنه لله وفي طاعة الله وما كان لله دام واتصل تعارفهم ليس لفائدة دنيوية ينتهي بانتهائها وليس لغاية شخصية نفعية دنيوية يزول بالحصول عليها أو باليأس من حصولها وإنما تعارفهم على الطاعة الإلهية وعلى أن يبقى هذا التعارف ليوم القيامة يوم تراهم على سرر متقابلين يقبل بعضهم على بعض يتساءلون عن المجرمين فالأرواح جنود مجندة وأهل الخير يميلون إلى أهل الخير وأهل الشر يميلون إلى أهل الشر وما تشاكل من الأرواح تجمع ومن اتفقت ميولهم أو تقاربت يتجمعون ويتآنسون -[المباحث العربية]- (الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف) قال الخطابي يحتمل أن يكون إشارة إلى معنى التشاكل في الخير والشر والصلاح والفساد وأن الخير

من الناس يحن إلى شكله والشرير يميل إلى نظيره فتعارف الأرواح يقع بحسب الطباع التي جبلت عليها من خير أو شر فإذا اتفقت تعارفت وإذا اختلفت تناكرت قال ويحتمل أن يكون إخبارا عن بدء الخلق في حال الغيب على ما جاء أن الأرواح خلقت قبل الأجسام وكانت تلتقي وكانت قسمين متقابلين قسم السعادة وقسم الشقاوة فلما بثت في الأجساد متفرقة تعارفت وتناكرت على ما كانت عليه في الحال الأولى على ما سبق من العهد المتقدم اهـ فالتعارف والتناكر على الرأي الأول مبني على أخلاق وصفات وتصرفات في الدنيا والتعارف والتناكر على الرأي الثاني مبني على ما خلقت عليه الأرواح في الغيب قبل خلق الأجسام ويرد عليه أن بعض المتنافرين قد يتفقا وأن بعض المتفقين قد يتناكرا ولو كان الأمر مرتبطا بأصل الخلقة ما حصل التغير فالرأي الأول أولى وأن التنافر والتعارف يبني على أفعال وأوصاف مكتسبة وقد يقتضي وصف مكتسب انقلاب التعارف إلى تناكر أو انقلاب التناكر إلى تعارف وقد ظهر هذا بوضوح في الأعداء قبل الإسلام الذين صاروا أحبة بعد الإسلام وبالأحبة قبل الإسلام الذين صاروا أعداء بعد الإسلام قال القرطبي الأرواح وإن اتفقت في كونها أرواحا تتمايز بأمور مختلفة تتنوع بها فتتشاكل أشخاص النوع الواحد وتتناسب بسبب ما اجتمعت عليه من المعنى الخاص ولذلك نشاهد أشخاص كل نوع تألف نوعها وتنفر من مخالفها ثم إنا نجد بعض أشخاص النوع الواحد يتآلف وبعضها يتنافر وذلك بحسب الأمور التي يحصل بها الاتفاق والنفور -[فقه الحديث]- قال ابن الجوزي يستفاد من هذا الحديث أن الإنسان إذا وجد من نفسه نفرة ممن له فضيلة أو صلاح وجب عليه أن يبحث عن المقتضى لذلك وأن يسعى في إزالته حتى يتخلص من الوصف المذموم وكذلك القول في عكسه اهـ وفي الحديث الحث على مصاحبة الأخيار وأهل الصلاح وحبهم ليحبوه ولن يكون ذلك إلا بالعمل الذي يرضونه والتخلق بمثل أخلاقهم والله أعلم.

(727) باب المرء مع من أحب

(727) باب المرء مع من أحب 5839 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن أعرابيا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم متى الساعة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما أعددت لها" قال حب الله ورسوله قال "أنت مع من أحببت" 5840 - عن أنس رضي الله عنه قال قال رجل يا رسول الله متى الساعة قال "وما أعددت لها" فلم يذكر كبيرا قال ولكني أحب الله ورسوله قال "فأنت مع من أحببت" 5841 - وفي رواية عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلا من الأعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثله غير أنه قال ما أعددت لها من كثير أحمد عليه نفسي 5842 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله متى الساعة قال "وما أعددت للساعة" قال حب الله ورسوله قال "فإنك مع من أحببت" قال أنس فما فرحنا بعد الإسلام فرحا أشد من قول النبي صلى الله عليه وسلم "فإنك مع من أحببت" قال أنس فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم. 5843 - وفي رواية عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر قول أنس فأنا أحب وما بعده. 5844 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال بينما أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم خارجين من

المسجد فلقينا رجلا عند سدة المسجد فقال يا رسول الله متى الساعة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما أعددت لها" قال فكأن الرجل استكان ثم قال يا رسول الله ما أعددت لها كبير صلاة ولا صيام ولا صدقة ولكني أحب الله ورسوله قال "فأنت مع من أحببت" 5845 - عن عبد الله رضي الله عنه قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله كيف ترى في رجل أحب قوما ولما يلحق بهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "المرء مع من أحب" 5846 - عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله. -[المعنى العام]- يكتفي بالمعنى العام في الباب السابق -[المباحث العربية]- (عن أنس بن مالك أن أعرابيا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم متى الساعة) في الرواية الثانية "قال رجل" وفي الرواية الثالثة "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي الرواية الثالثة عن أنس رضي الله عنه قال "بينما أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم خارجين من المسجد فلقينا رجلا عند سدة المسجد" وهي الظلال المسقفة عند باب المسجد وعند أبي نعيم عن أنس "دخل رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب" وفي رواية "جاء رجل فقال متى الساعة فقام النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة ثم صلى ثم قال أين السائل عن الساعة" ويجمع بينهما بأنه سأل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فلم يجبه حينئذ فلما انصرف من الصلاة وخرج من

المسجد رآه فتذكر سؤاله أو عاوده الأعرابي فسأل فأجابه وفي الرواية الرابعة عن عبد الله بن مسعود "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" وعند البخاري عن أبي موسى "أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل" قال الحافظ ابن حجر أولى ما فسر به هذا المبهم أنه أبو موسى راوي الحديث فعند أبي عوانة عن أبي موسى "قلت يا رسول الله ... " فذكر الحديث لكن يعكر عليه ما وقع عند أبي نعيم عن عبد الله بن مسعود قال جاء أعرابي وأبو موسى إن جاز أن يبهم نفسه فيقول "أتى رجل" فغير جائز أن يصف نفسه بأنه أعرابي وعند الترمذي والنسائي عن زر بن حبيش أنه سأل السؤال نفسه وعند الطبراني ما يحتمل أن السائل صفوان بن قدامة وعند أبي عوانة وأحمد وأبي داود وابن حبان عن أبي ذر قال قلت "يا رسول الله ... " الحديث قال الحافظ ابن حجر المحفوظ لأبي ذر بهذا الإسناد "الرجل يعمل العمل من الخير ويحمد الناس عليه" أخرجه مسلم فلعل بعض الرواة دخل عليه حديث في حديث اهـ (متى الساعة قال وما أعددت لها) قال الكرماني سلك مع السائل أسلوب الحكيم وهو إجابة السائل بغير ما يطلب مما يهمه أو ما هو أهم اهـ (قال حب الله ورسوله) "حب" بالنصب مفعول به لفعل محذوف مفهوم من السؤال أي أعددت لها حب الله ورسوله وفي الرواية الثانية "فلم يذكر كبيرا" من العمل الصالح "قال ولكني أحب الله ورسوله" وفي ملحق الرواية "ما أعددت لها من كثير أحمد عليه نفسي" وفي الرواية الرابعة "قال فكأن الرجل استكان ثم قال يا رسول الله ما أعددت لها كبير صلاة ولا صيام ولا صدقة ولكني أحب الله ورسوله" أي ما أعددت لها كثيرا من نوافل الصلاة والصيام والصدقة أما الفرائض فقد أعدها وفي الرواية الخامسة "فقال يا رسول الله كيف ترى في رجل أحب قوما ولما يلحق بهم" وفي رواية للبخاري "ولم يلحق بهم" و"لما" أبلغ من "لم" لأن "لم" لنفي الماضي فقط و"لما" لنفي الماضي المستمر فتدل على نفي اللحاق في الماضي وقربه في الحاضر (أنت مع من أحببت) كذا في الرواية الأولى والثالثة وفي الثانية "فإنك مع من أحببت" وفي الرابعة "المرء مع من أحب" زاد أبو نعيم في رواية "وعليك ما اكتسبت وعلى الله ما احتسبت" -[فقه الحديث]- قال النووي في الحديث فضل حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والصالحين وأهل الخير الأحياء والأموات ومن لوازم محبة الله ورسوله امتثال أمرهما واجتناب نهيهما والتأدب بالآداب الشرعية ولا يشترط في الانتفاع بمحبة الصالحين أن يعمل عملهم إذ لو عمله لكان منهم ومثلهم وقد صرح في الحديث [في روايتنا الرابعة] بذلك فقال "أحب قوما ولما يلحق بهم" اهـ هذا وليس من لوازم المعية الاستواء في الدرجات.

(728) باب إذا أثنى على الصالح فهي بشرى ولا تضره

(728) باب إذا أثنى على الصالح فهي بشرى ولا تضره 5847 - عن أبي ذر رضي الله عنه قال قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه قال "تلك عاجل بشرى المؤمن". 5848 - وفي رواية عن شعبة عن أبي عمران الجوني بإسناد حماد بن زيد بمثل حديثه غير أن في حديثهم عن شعبة غير عبد الصمد ويحبه الناس عليه وفي حديث عبد الصمد ويحمده الناس كما قال حماد -[المعنى العام]- يقول الله تعالى {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم} [آل عمران 188] نعم الإنسان بطبيعته يحب أن يحمد على خير يفعله ويسعد كثيرا بشكر من يشكره على جميله وليس في ذلك إحباط لأجر المعروف إذا لم يطلب والمسألة لها طرفان طرف المستفيد الآخذ للمعروف وواجبه أن يكافئ من قدم إليه المعروف بقدر ما يستطيع وفي ذلك حديث "تهادوا تحابوا" وحديث "من قدم إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تقدروا فادعوا له بخير" وما كان النساء أكثر أهل النار إلا لأنهن يجحدن المعروف وينكرنه ولا يكافئنه ولا يعترفن به ولا يحمدن صاحبه بل يكفرن العشير والإحسان إذا أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئا تكرهه قالت ما رأيت منك خيرا قط إن الاعتراف بالمعروف إحسان إلى صاحبه وقد أمر الله تعالى رسوله أن يدعوا لصاحب الزكاة والصدقة حين قال {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم} [التوبة 103] ووعد بزيادة الخير في مقابلة الشكر إذ قال {لئن شكرتم لأزيدنكم} [إبراهيم 7] وفي الأثر "لم يشكرني من لم يشكر من أجريت النعمة على يديه" الطرف الثاني طرف المعطى للجميل وواجبه أن لا ينبغي بجميله مقابلا فإنه إن بغي مقابلا كان تاجرا وبائعا ولم يكن صانعا لمعروف والأرقى من هذا أن لا ينتظر جزاء ولا شكرا لجميلة إلا من

الله وهكذا كان السلف الصالح حتى نزل فيهم {ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا} [الإنسان 8 - 9] وكما يبالغ الطرف الأول في الجحود وعدم الشكر قد يبالغ الطرف الثاني في الفرح والإعجاب بقليل ما أعطى ويحب أن يحمد بما لم يفعل لكن إذا أدى كل من الطرفين واجبه فهل على أي منهما جناح إن الطرف الثاني المعطى يخشى من شكر الآخذ على ما أخذ أن ينقص ذلك من أجر عطائه فيسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أخبرنا عن حكم الرجل الذي يعمل العمل الخير في الغير فيحمده ذلك الغير ويحمده الناس ويحبونه هل ينقص ذلك من أجره فيقول صلى الله عليه وسلم لا لا ينقص ذلك من أجره وإنما هذا بشرى عاجلة بجزاء محفوظ عند الله والبشرى كما هو معلوم غير المبشر به فمن بشرك بالنجاح لم ينتقص النجاح -[المباحث العربية]- (أرأيت) أي أخبرني وقد تكرر كثيرا وجه دلالة هذا اللفظ على المعنى المراد والمعنى أخبرني عن حكم الرجل (ويحمده الناس عليه) أل في "الناس" للعهد والمراد المستفيدون من هذا الخير وبعض العالمين به من المنصفين (تلك عاجل بشرى) من إضافة الصفة إلى الموصوف أي بشرى عاجلة أي معجلة لجزاء مؤجل -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث]- 1 - حرص الصحابة على الإخلاص في العمل وصفاء الأجر من الشوائب 2 - أن شكر الجميل لا يضر المنعم المعطي ولا ينقصه أجره عند الله بل يزيده 3 - الترغيب في صنع المعروف لينال صاحبه الجزاء من الله والحب من الناس 4 - أن الله تعالى يحب صانع المعروف ويحب الشاكر عليه فحب الناس للمرء هو بوضع الله قبوله في الأرض كما مضى في الحديث السابق والله أعلم

كتاب القدر

كتاب القدر

(729) باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته

(729) باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته 5849 - عن عبد الله رضي الله عنه قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها". 5850 - وفي رواية عن الأعمش بهذا الإسناد قال في حديث وكيع "إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين ليلة" وقال في حديث معاذ عن شعبة "أربعين ليلة أربعين يوما" وأما في حديث جرير وعيسى "أربعين يوما". 5851 - عن حذيفة بن أسيد رضي الله عنه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال "يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمسة وأربعين ليلة فيقول يا رب أشقي أو سعيد فيكتبان فيقول أي رب أذكر أو أنثى فيكتبان ويكتب عمله وأثره وأجله ورزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص". 5852 - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد

من وعظ بغيره فأتى رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له حذيفة بن أسيد الغفاري فحدثه بذلك من قول ابن مسعود فقال وكيف يشقى رجل بغير عمل فقال له الرجل أتعجب من ذلك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم قال يا رب أذكر أم أنثى فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول يا رب أجله فيقول ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول يا رب رزقه فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص". 5853 - عن أبي سريحة حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني هاتين يقول "إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة ثم يتصور عليها الملك" قال زهير حسبته قال الذي يخلقها "فيقول يا رب أذكر أو أنثى فيجعله الله ذكرا أو أنثى ثم يقول يا رب أسوي أو غير سوي فيجعله الله سويا أو غير سوي ثم يقول يا رب ما رزقه ما أجله ما خلقه ثم يجعله الله شقيا أو سعيدا". 5854 - وفي رواية عن حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن ملكا موكلا بالرحم إذا أراد الله أن يخلق شيئا بإذن الله لبضع وأربعين ليلة" ثم ذكر نحو حديثهم. 5855 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه ورفع الحديث أنه قال "إن الله عز وجل قد وكل بالرحم ملكا فيقول أي رب نطفة أي رب علقة أي رب مضغة فإذا أراد الله أن يقضي خلقا قال قال الملك أي رب ذكر أو أنثى شقي أو سعيد فما الرزق فما الأجل فيكتب كذلك في بطن أمه". 5856 - عن علي رضي الله عنه قال كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله

صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكس فجعل ينكت بمخصرته ثم قال "ما منكم من أحد ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار وإلا وقد كتبت شقية أو سعيدة" قال فقال رجل يا رسول الله أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل فقال "من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة" فقال "اعملوا فكل ميسر أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة" ثم قرأ {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى} [الليل 5 - 10]. 5857 - عن علي رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم جالسا وفي يده عود ينكت به فرفع رأسه فقال "ما منكم من نفس إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار" قالوا يا رسول الله فلم نعمل أفلا نتكل قال "لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له" ثم قرأ {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى} إلى قوله {فسنيسره للعسرى} 5858 - عن جابر رضي الله عنه قال جاء سراقة بن مالك بن جعشم قال يا رسول الله بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن فيما العمل اليوم أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما نستقبل قال "لا بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير" قال ففيم العمل قال زهير ثم تكلم أبو الزبير بشيء لم أفهمه فسألت ما قال فقال "اعملوا فكل ميسر" 5859 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى وفيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كل عامل ميسر لعمله"

5860 - عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال قيل يا رسول الله أعلم أهل الجنة من أهل النار قال فقال "نعم" قال قيل ففيم يعمل العاملون قال "كل ميسر لما خلق له" 5861 - عن أبي الأسود الدئلي قال قال لي عمران بن الحصين أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر ما سبق أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم فقلت بل شيء قضي عليهم ومضى عليهم قال فقال أفلا يكون ظلما قال ففزعت من ذلك فزعا شديدا وقلت كل شيء خلق الله وملك يده فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون فقال لي يرحمك الله إني لم أرد بما سألتك إلا لأحزر عقلك إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم فقال لا بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل {ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها} [الشمس 7، 8]. 5862 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة ثم يختم له عمله بعمل أهل النار وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار ثم يختم له عمله بعمل أهل الجنة". 5863 - عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة"

-[المعنى العام]- يقول الله تعالى {إنا كل شيء خلقناه بقدر} [القمر 49] {وربك يخلق ما يشاء ويختار} [القصص 68] وينبه القرآن الكريم على هذه القضية العامة بقضية خلق الإنسان نفسه فآدم من تراب من طين من صلصال من حمأ مسنون وذريته من نطفة من ماء مهين حفظت في قرار مكين أربعين يوما تتحول فيها إلى دم متجمد يلتصق بجدار الرحم علقة ثم تتحول هذه العلقة في أربعين يوما أخر إلى مضغة قطعة لحم لا يتجاوز حجمها التمرة تبدأ هذه المضغة غير مخلقة ثم تصبح في الأربعين يوما مخلقة تتميز بعض أعضائها وترتبط بالأم للغذاء عن طريق سرتها وللرحم ملك موكل به {وما يعلم جنود ربك إلا هو} [المدثر 31] يرى النطفة وقد استقرت في الرحم فيقول يا رب هذه نطفة هل ستبقى إلى أن تكون علقة فلما تصبح علقة يقول يا رب هذه علقة فهل ستبقى لتصبح مضغة فلما تصير مضغة يؤمر بنفخ الروح فيها بعد مائة وعشرين يوما فيقول يا رب أذكر أم أنثى فيجاب فما أجلها فيجاب وما عملها في حياتها دنيويا وأخرويا فيجاب وهل هي شقية أم سعيدة فيجاب فيكتب كل ذلك في جبينها وفي صحيفتها ثم يطوي الصحيفة لا يزاد فيها ولا ينقص منها هذه المعلومات وهذه الكتابة مبنية على سبق علم الله تعالى بما سيكون فعلمه تعالى بما سيكون كعلمه تعالى بما كان فقد أحاط بكل شيء علما وما يعلمه سبحانه وتعالى مما سيكون لا يتخلف أبدا وإلا كان علمه جهلا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وقد أثارت هذه القضية شبهة في رءوس الصحابة إذا كان كل شيء قد كتب علينا ونحن في بطون أمهاتنا وإذا كنا لا محيد لنا عن تحقيق وإيقاع ما كتب فنحن على هذا مرغمون لا مختارون وإذا كانت السعادة أو الشقاء قد كتب وتحدد فما فائدة عملنا أفلا نترك العمل وسنصل حتما إلى النتيجة المحتومة المكتوبة أفلا نتكل على ما قدر لنا وكتب في صحيفتنا وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله بين لنا هذه القضية بيانا شافيا افترض أن عقولنا خالية من المعلومات الدينية تماما ووضحها لنا من ألفها إلى يائها هل العمل الذي نعمله الآن من صلاة وصيام وطاعة أو من معصية كتب علينا قبل أن نولد وجفت به الأقلام وجرت به المقادير وتحدد لكل منا مصيره وهو في بطن أمه إن كان من أهل الجنة أو كان من أهل النار وإن كان من أهل السعادة أو من أهل الشقاوة أو هو شيء نستقبله ونتحرى فيه شريعة ربنا وسنة نبينا فنتحرك باختيارنا ودون إلزام لنا فتثبت بذلك مسئوليتنا وتقوم بذلك الحجة علينا وكان الجواب بل شيء قضى عليكم ومضى فيكم وتصديق ذلك قوله تعالى {ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها} [الشمس 7] قالوا يا رسول الله ففيم يعمل العاملون ويكدح الكادحون قال صلى الله عليه وسلم اعملوا الخير وآمنوا بأن الله هو الذي يسره لكم واجتنبوا الشر والفواحش وآمنوا بأن الله هو الذي يسر لكم اجتنابها فكل ميسر لما خلق له أهل السعادة سيعملون بطاعة الله ليكونوا من

أهل السعادة وأهل الشقاوة سيعملون عمل الأشقياء فيكونون من الأشقياء لقد خفي عليكم ما كتبه الله فاجتهدوا في الخير وتسابقوا إليه واعلموا إن فعلتم ذلك أنكم ميسرون له من الله فالله تعالى يقول {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى} [الليل 5 - 10] -[المباحث العربية]- (وهو الصادق المصدوق) "الصادق" المخبر بالقول الحق ويطلق على فعله المطابق للحق فيقال صادق في فعله وصادق في قوله أي يقول الأقوال الحقة ويفعل الأفعال الحقة "أما المصدوق" فهو الذي يقول له الآخرون القول الحق لا يكذبون عليه ويكون المراد به ما ينبغي أن يكون لا ما هو كائن أي الذي يجب أن يصدقه الناس إذا أخبروه بخبر يقال صدقته الحديث بتخفيف الدال إذا أخبرته به إخبارا جازما مطابقا للواقع فأنا صادق وهو مصدوق وقيل معناه الذي صدق الله وعده بتخفيف الدال أي أنجز له ما وعده به كقوله تعالى {ولقد صدقكم الله وعده} [آل عمران 152] وقال النووي الصادق في قوله المصدوق فيما يأتي به من الوحي الكريم وجملة "وهو الصادق المصدوق" يحتمل أن تكون حالية من فاعل "حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" ويحتمل أن تكون اعتراضية وهو أولى لتعم الأحوال كلها وأن ذلك من دأبه وعادته بخلاف ما لو كانت حالا إذ يصير المعنى وهو الصادق المصدوق في هذا الحديث إذ الحال وصف للصاحب قيد في العامل وعن فائدة ذكر هذه الجملة قال الكرماني لما كان مضمون الخبر أمرا مخالفا لما عليه الأطباء أشار بذلك إلى بطلان ما ادعوه ويحتمل أنه قال ذلك تلذذا به وتبركا وافتخارا ويؤيده وقوع هذا اللفظ بعينه في حديث أنس "سمعت الصادق المصدوق يقول لا تنزع الرحمة إلا من شقي" وليس فيه إشارة إلى بطلان شيء يخالف ما ذكر أخرجه أبو داود (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما) في ملحق الرواية "إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين ليلة" قال الحافظ ابن حجر "خلق أحدكم يجمع" فيه تعبير بالمصدر عن الجثة وحمل على أنه بمعنى المفعول أي إن المخلوق من أحدكم أو على حذف مضاف أي ما يقوم به خلق أحدكم أو أطلق المصدر مبالغة كقولهم هي إقبال وإدبار جعلها نفس الإقبال والإدبار لكثرة الوقوع وفي الرواية الرابعة "إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة" و"إن" بكسر الهمزة على حكاية اللفظ وفي المراد من قوله "يجمع خلقه في بطن أمه" قال ابن الأثير في النهاية يجوز أن يريد بالجمع مكث النطفة في الرحم أربعين يوما تخمر فيه حتى تتهيأ للتصوير ثم تخلق بعد ذلك اهـ فالمراد من الجمع المكث وقال القرطبي في المفهم المراد أن المني يقع في الرحم حين انزعاجه بالقوة الشهوانية الدافعة مبثوثا متفرقا فيجمعه الله في محل الولادة

من الرحم اهـ وقيل إن في رحم المرأة قوتين قوة انبساط عند ورود مني الرجل حتى ينتشر في جسد المرأة وقوة انقباض بحيث لا يسيل من فرجها مع كونه منكوسا ومع كون المني ثقيلا بطبعه وفي مني الرجل قوة الفعل وفي مني المرأة قوة الانفعال فعند الامتزاج يصير مني الرجل كالأنفحة للبن اهـ فالمراد من الجمع التجمع بعد الانتشار والتماسك والامتزاج والتفاعل وقيل إن ابن مسعود فسره بأن النطفة إذا وقعت في الرحم فأراد الله أن يخلق منها بشرا طارت في جسد المرأة تحت كل ظفر وشعر ثم تمكث أربعين يوما ثم تنزل دما في الرحم فذلك جمعها اهـ وقد رجح الطيبي هذا التفسير وقال الصحابي أعلم بتفسير ما سمع وتأويله أولى بالقبول وأكثر احتياطا في ذلك من غيره اهـ وظاهر تفسير ابن مسعود أن ابتداء الجمع من ابتداء الأربعين وظاهر التوجيهات الأخرى أن ابتداء الجمع من حين اختلاط ماء الرجل بماء المرأة ولا يضر التعبير في بعض الروايات باليوم وبعضها بالليلة فالمراد أربعون ليلة بأيامها أو أربعون يوم بلياليها ولا يضر التعبير في بعض الروايات بالبطن كما في روايتنا الأولى وفي بعضها بالرحم كما في روايتنا الثانية والرابعة فإن المقصود حقيقة في الرحم والرحم في البطن والمظروف في المظروف في شيء مظروف في ذلك الشيء ولكن المشكل ما جاء في بعض الروايات من زيادات على الأربعين كروايتنا الثانية ولفظها "بأربعين أو خمسة وأربعين ليلة" وروايتنا الثالثة "إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة" وملحق روايتنا الرابعة "لبضع وأربعين ليلة" فالبعض جزم بالأربعين والبعض زاد ثنتين أو ثلاثا أو خمسا أو بضعا ثم منهم من جزم ومنهم من تردد وقد جمع بينها القاضي عياض بأنه ليس في رواية ابن مسعود بأن ذلك يقع عند انتهاء الأربعين الأولى وابتداء الأربعين الثانية بل أطلق الأربعين فاحتمل أن ذلك يقع في أوائل الأربعين الثانية قال ويحتمل أن يجمع الاختلاف في العدد الزائد على أنه بحسب اختلاف الأجنة قال الحافظ ابن حجر وهو جيد لو كانت مخارج الحديث مختلفة لكنها متحدة وراجعة إلى أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد فدل على أنه لم يضبط القدر الزائد على الأربعين والخطب فيه سهل اهـ أي مادام المخرج واحدا كان نطق الرسول صلى الله عليه وسلم بالعدد واحدا والاختلاف من الرواة (ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك) أي ثم يكون في الرحم علقة أربعين يوما وفي رواية للبخاري "ثم علقة مثل ذلك" والعلقة قطعة دم جامد تتعلق بجدار الرحم ولفظ "يكون" معناه يصير (ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك) والمضغة قطعة اللحم الصغيرة سميت بذلك لأنها قدر ما يمضغ الماضغ والمعنى أن النطفة تكون في نهاية الأربعين الأولى علقة ثم تنقلب إلى صفة المضغة في نهاية الأربعين الثانية ولا شك أن انقلابها من صفة إلى صفة لا يكون فجأة بل شيئا فشيئا فيخالط الدم النطفة في الأربعين الأولى بعد انعقادها وامتدادها وتجري في أجزائها شيئا فشيئا حتى تتكامل علقة في الأربعين الثانية ثم يخالطها اللحم شيئا فشيئا إلى أن تشتد فتصير

مضغة ولا تسمى علقة مادامت نطفة ولا تسمى مضغة مادامت علقة قال الحافظ ابن حجر وأما ما أخرجه أحمد "إن النطفة تكون في الرحم أربعين يوما على حالها لا تتغير" ففي سنده انقطاع وعلى فرض صحته فيحمل على نفي التغيير الكامل التام (ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح) قال الحافظ ابن حجر واتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر اهـ والنفخ في الأصل إخراج ريح من جوف النافخ ليدخل في المنفوخ فيه و"يرسل" بالبناء للمجهول و"أل" في "الملك" للعهد والمراد به ملك من جنس الملائكة الموكلين بالأرحام وظاهر هذه الرواية أن الملك إنما يرسل بعد أربعة أشهر لكن الرواية الثانية "يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمسة وأربعين ليلة ... " والرواية الثالثة "إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا ... " والرواية الرابعة "إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة ثم يتصور عليها الملك ... " قال النووي هكذا هو في جميع نسخ بلادنا "يتصور" بالصاد وذكر القاضي "يتسور" بالسين قال والمراد بيتسور ينزل وهو استعارة من تسورت الدار إذا نزلت فيها من أعلاها ولا يكون التسور إلا من فوق فيحتمل أن تكون الصاد الواقعة في نسخ بلادنا مبدلة من السين اهـ أقول هذه الروايات ظاهرها أن الكتب يكون بعد الأربعين الأولى مما يتعارض وروايتنا الأولى ويجمع العلماء بأن ملائكة الله الذين يقومون بذلك أكثر من ملك فهناك ملك موكل بالرحم كما تنص على ذلك روايتنا الخامسة ولفظها "إن الله عز وجل قد وكل بالرحم ملكا" هذا الملك يدخل على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمسة وأربعين ليلة فيسأل ربه سوي أم غير سوي ذكر أم أنثى شقي أم سعيد ما أجله ما عمله ما رزقه ما أثره الذي يتركه بعد موته أشقي أم سعيد فيجيبه ربه فيكتب الملك الموكل بالرحم الجواب في كتاب عنده وعندما تتحول النطفة إلى علقة والعلقة إلى مضغة ويحين تخليقها يرسل الله تعالى ملكا آخر يحضر تخليقها يخلق الله سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها وصورتها فالمضغة في أيامها الأولى غير مخلقة وفي أواخر أيامها تكون مخلقة وهذا الملك يسأل عند التخليق ويجاب ويكتب ولا تعارض بين سؤال الأول وسؤال الثاني ما داما في وقتين مختلفين وما دام الثاني لا يعلم الجواب الذي أجيب به الأول ولا تعارض بين كتابة كل منهما ولا أن يكتب الأمر الواحد في بضعة كتب تسجيلا وتأكيدا لعدم تغيره وهو قبل هذا وذاك مكتوب في اللوح المحفوظ وعلى هذا التوجيه فقوله في الرواية الأولى "ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح" مراد به الملك الثاني والنافخ هو الله بقوله كن فيكون أو الملك في الصورة بأمر الله (ويؤمر بأربع كلمات ... ) أي بكتابة أربع كلمات والعدد لا مفهوم له

وقوله في الرواية الثالثة "إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها ... " المراد به الملك الثاني أيضا وفي الكلام محذوف وطي تقديره إذا مر ثنتان وأربعون ليلة تحولت النطفة إلى علقة فإذا مر على العلقة أربعون ليلة تحولت العلقة إلى مضغة فإذا شاء الله أن يخلق المضغة بعث إليها ملكا ... إلخ و"خلق" بفتح الخاء وتشديد اللام المفتوحة والفاعل يعود على الله أو على الملك بأمر الله ومثل هذا يقال في الرواية الرابعة وتقدير المطوي فيها إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة ثم تتحول إلى علقة ثم تتحول إلى مضغة ثم يتصور عليها الملك الذي يخلقها ... إلخ ويحاول النووي توجيه الروايات والجمع بينها على أساس الملك الواحد حتى في الرواية الخامسة فيجعل في الكلام طيا وحذفا في بعضها كما ذكرنا عن الملك الثاني ويجعله هو الوحيد وجمع بعضهم بأن الكتابة تقع مرتين إحداهما في صحيفة والأخرى على جبين المولود ويحاول القاضي عياض توجيه الروايات على أساس الملك الواحد لكنه ينحو نحوا آخر فيقول عن الرواية الرابعة ليس الكلام على ظاهره ولا يصح حمله على ظاهره بل المراد بتصويرها وخلق سمعها ... إلى آخره أنه يكتب ذلك ثم يفعله في وقت آخر لأن التصوير عقب الأربعين الأولى غير موجود في العادة وإنما يقع في الأربعين الثالثة وهي مدة المضغة كما قال الله تعالى {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما} [المؤمنون 12 - 14] ثم يكون للملك فيه تصوير آخر وهو وقت نفخ الروح عقب الأربعين الثالثة حين يكمل له أربعة أشهر ولا تنفخ الروح إلا بعد تمام التصوير هذا كلام القاضي وتبعه النووي وغيره ويرد عليه تعدد سؤال الملك عن أشياء قد أجيب عنها كما يرد عليه خروجه بالصحيفة والتعبير بيرسل ويبعث مع أنه موكل بالرحم والله أعلم (ويؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد) "يكتب رزقه" بالياء في أوله على البدل من "أربع" بإعادة حرف الجر وضبط "يكتب" بياء المضارع وقوله "شقي أو سعيد" مرفوع خبر مبتدأ محذوف أي وهو شقي أو سعيد والذي يكتب أحد الأمرين فالأوامر أربعة لا خمسة والعدد لا مفهوم له ففي بعض الروايات ما يزيد الكلمات المكتوبات عن أربع ففي الرواية الثانية "أذكر أو أنثى فيكتبان ويكتب عمله وأثره" وقد يحمل الأثر على الشقاوة أو السعادة وفي الرواية الرابعة "أسوي أو غير سوي" وفيها "ما خلقه" بضم الخاء واللام والمراد بالكلمات القضايا المقدرة وكل قضية تسمى كلمة وفي رواية للبخاري "فيؤمر بأربعة" بحذف المعدود والمراد من كتابة الرزق تقديره قليلا أو كثيرا وصفته حراما أو حلالا زاد في الرواية الثانية "ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص" وفي الرواية الثالثة "ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر به ولا ينقص"

(فوالذي لا إله غيره) في رواية للبخاري "فوالله" وعند ابن ماجه "فوالذي نفسي بيده" وفي رواية "فوالله الذي لا إله غيره" (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) في الرواية الحادية عشرة "إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة ثم يختم له عمله بعمل أهل النار" وفي الرواية الثانية عشرة "إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار" فقوله في روايتنا "بعمل" الباء زائدة والأصل ليعمل عمل فعمل مفعول به أو مفعول مطلق وكلاهما مستغن عن الباء فكان زيادة الباء للتأكيد أو ضمن "يعمل" معنى يتلبس في عمله بعمل أهل الجنة والمراد من عمل أهل الجنة الطاعات الاعتقادية والقولية والفعلية ويحتمل أن الحفظة تكتب ذلك ويقبل بعضها ويرد بعضها ويحتمل أن تقع الكتابة ثم تمحي وأما القبول فيتوقف على الخاتمة وظاهره أنه يعمل بذلك حقيقة ويختم له بعكسه وقيل هذا في المنافق والمرائي لقوله في روايتنا الحادية عشرة "فيما يبدو للناس" والتعبير بالذراع تمثيل بقرب حاله من الموت قال الحافظ ابن حجر وقد ذكر في هذا الحديث أهل الخير صرفا وأهل الشر صرفا إلى الموت ولم يذكر الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا وماتوا على الإسلام لأنه لم يقصد في الحديث تعميم أحوال المكلفين وإنما قصد بيان أن الاعتبار بالخاتمة و"حتى" في قوله "حتى ما يكون" ناصبة و"ما" نافية والفعل منصوب بحتى وأجاز بعضهم أن تكون "حتى" ابتدائية والفعل مرفوع والمراد من "الكتاب" في "فيسبق عليه الكتاب" المكتوب والمراد بسبقه سبق ما تضمنه فالكلام على حذف مضاف أو المراد أنه يتعارض عمله في اقتضاء السعادة والمكتوب في اقتضاء الشقاوة فيتحقق مقتضى المكتوب فعبر عن ذلك بالسبق (الشقي من شقي في بطن أمه) معناه أن الشقي مقدر شقاوته وهو في بطن أمه (كنا في جنازة في بقيع الغرقد) هو مدفن المدينة (فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة) بكسر الميم وسكون الخاء وهي ما أخذه الإنسان بيده واختصره وأسند به خصره كالعصا (فنكس) بفتح النون وتشديد الكاف المفتوحة وبتخفيفها لغتان فصيحتان أي خفض رأسه إلى الأرض على هيئة المهموم (فجعل ينكت بمخصرته) بفتح الياء وضم الكاف أي يخط بها خطا يسيرا مرة بعد مرة

(ما منكم من أحد ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار) يقال نفست المرأة بكسر الفاء تنفس بفتحها نفاسا ولدت فالمنفوسة المولودة وجملة "ما من نفس منفوسة" بدل من التي قبلها وفي الرواية السابعة "إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار" أي قبل ولادتها (وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة) وهي في بطن أمها (فقال رجل يا رسول الله أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل) في الرواية السابعة "يا رسول الله فلم نعمل أفلا نتكل" وفي الرواية الثامنة "ففيم العمل" وفي الرواية التاسعة "ففيم يعمل العاملون" وفي الرواية الثامنة "جاء سراقة بن مالك بن جعشم قال يا رسول الله بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن" أي بيانا شافيا غير معتمد على معلومات سابقة "فيما العمل اليوم أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما نستقبل قال لا بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير قال ففيم العمل" وجفاف الأقلام وفي الرواية العاشرة قال عمران بن الحصين لأبي الأسود الدؤلي أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر ما سبق أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم قال أبو الأسود بل شيء قضي عليهم ومضى عليهم فقال عمران أفلا يكون ظلما ففزع أبو الأسود من عبارة عمران فزعا شديدا وقال لعمران لا ظلم فكل شيء خلق الله وكل شيء ملك يده فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون فقال عمران يرحمك الله يا أبا الأسود لقد ظننت أني أعترض ولست كذلك ولكني أردت أن أحرز عقلك أي أمتحن عقلك وفهمك يقال حرز الرجل الشيء بفتح الحاء والزاي بعدها راء يحرزه بضمها حرزا بسكون الزاي قدره بالتخمين ثم أخذ عمران يسوق قصة رجلين من مزينة سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم السؤال نفسه فأجاب الجواب نفسه مؤكدا له بقوله تعالى {ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها} [الشمس 7، 8] (فقال من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة اعملوا فكل ميسر أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى} [الليل 5 - 10] -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الأحاديث]- 1 - قال النووي عن أحاديث الكتابة فيها تصريح بإثبات القدر 2 - وأن التوبة تهدم الذنوب قبلها اهـ أي لأنه إذا هدم الله الذنوب لمن عمل بعمل أهل النار حتى لم يكن بينه وبين النار إلا قليل بدون توبة هدم الذنوب بالتوبة من باب أولى

3 - قال وأن من مات على شيء حكم له به من خير أو شر إلا أن أصحاب المعاصي غير الكفر في المشيئة 4 - وأن العبرة بالخاتمة فقد تغاير واقع العمل في طول الحياة قال وهذا قد يقع في نادر الناس لا أنه غالب فيهم ثم إنه من لطف الله تعالى وسعة رحمته انقلاب الناس من الشر إلى الخير في كثرة وأما انقلابهم من الخير إلى الشر ففي غاية الندور ونهاية القلة وهو نحو قوله تعالى "إن رحمتي سبقت غضبي" قال ويدخل في هذا من انقلب إلى عمل النار بكفر أو معصية لكن يختلفان في التخليد وعدمه فالكافر يخلد في النار والعاصي الذي مات موحدا لا يخلد فيها 5 - ثم قال وفي هذه الأحاديث دلالات ظاهرة لمذهب أهل السنة في أن جميع المواقعات بقضاء الله وقدره خيرها وشرها نفعها وضرها وأن مصير الأمور في العاقبة إلى ما سبق به القضاء وجرى به القدر في الابتداء وقد سبق في أول الكتاب في كتاب الإيمان قطعة صالحة من هذا عند الكلام على حديث سؤال جبريل وتعريف الإيمان والإسلام وسبق هناك الرد على القدرية 6 - وفيه أن الأعمال حسنها وسيئها أمارات وليست بموجبات 7 - وفيه القسم على الخبر الصادق تأكيدا في نفس السامع 8 - وفيه الإشارة إلى علم المبدأ والمعاد وما يتعلق ببدن الإنسان وحاله في الشقاوة والسعادة 9 - وفيه أن عموم مثل قوله تعالى {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم ... } [النحل 97] مخصوص بمن مات على ذلك 10 - قال الحافظ ابن حجر وفيه أن من عمل السعادة وختم له بالشقاوة فهو في طول عمره عند الله شقي وبالعكس قال وقد اشتهر الخلاف في ذلك بين الأشعرية والحنفية وتمسك الأشاعرة بمثل هذا الحديث وتمسك الحنفية بمثل قوله تعالى {يمحوا الله ما يشاء ويثبت} [الرعد 39] وأكثر كل من الفريقين الاحتجاج لقوله والحق أن النزاع لفظي وأن الذي سبق في علم الله لا يتغير ولا يتبدل وأن الذي يجوز عليه التغيير والتبديل ما يبدو للناس من عمل العامل ولا يبعد أن يتعلق ذلك بما في علم الحفظة والموكلين بالآدمي فيقع فيه المحو والإثبات كالزيادة في العمر والنقص وأما ما في علم الله فلا محو فيه ولا إثبات والعلم عند الله 11 - وفي الأحاديث التنبيه على صدق البعث بعد الموت لأن من قدر على خلق الشخص من ماء مهين ثم نقله إلى علقة ثم مضغة ثم نفخ فيه الروح قادر على نفخ الروح بعد أن يصير ترابا ويجمع أجزاءه بعد أن يفرقها 12 - وفيه أن مقادير الخلائق تكتب وهم في بطون أمهاتهم وأما ما رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمر مرفوعا "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات بخمسين ألف سنة" فهو محمول على كتابة ذلك في اللوح المحفوظ على وفق ما في علم الله تعالى

13 - واستدل به على أن السقط بعد الأربعة أشهر يصلى عليه لأنه وقت نفخ الروح فيه قال الحافظ ابن حجر وهو منقول عن القديم للشافعي والمشهور عن أحمد وإسحاق وعن أحمد إذا بلغ أربعة أشهر وعشرا ففي تلك العشر ينفخ فيه الروح ويصلى عليه قال والراجح عند الشافعية أنه لا بد من وجود الروح وهو الجديد قالوا وإذا بلغ مائة وعشرين يوما غسل وكفن ودفن بغير صلاة وما قبل ذلك لا يشرع له غسل ولا غيره 14 - وفيه الحث القوي على القناعة والزجر الشديد عن الحرص لأن الرزق إذا كان قد سبق تقديره لم يغن التعني في طلبه وإنما شرع الاكتساب لأنه من جملة الأسباب التي اقتضتها الحكمة في دار الدنيا كذا قال الحافظ ابن حجر وفيه نظر فعدم العلم بما كتب يحتم على المسلم السعي بكل ما يستطيع إلى زيادة رزقه وبناء حياته والحرص على كل ما ينفعه "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز" والقناعة والرضا إنما تكون بعد بذل الجهد الكامل والطلب المستطاع وهذا معنى "وإن فاتك شيء فلا تقل لو فعلت كذا لكان كذا وكذا فإن لو تفتح عمل الشيطان" "فالمسلم القوي ولو في أمور الدنيا في الحدود الشرعية خير وأحب إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف" 15 - وفيه أن الأعمال سبب دخول الجنة أو النار ولا يعارض ذلك حديث "لن يدخل أحدا عمله الجنة" فالأعمال سبب مرتبط بمشيئة الله تعالى 16 - وفيه الحث على الاستعاذة من سوء الخاتمة 17 - واستدل به المعتزلة على أن من عمل عمل أهل النار وجب أن يدخلها لترتب دخولها في الحديث على العمل وترتب الحكم على الشيء يشعر بعليته وأجيب بأنه علامة لا علة والعلامة قد تتخلف 18 - قال الحافظ ابن حجر وفيه أن الأقدار غالبة والعاقبة غائبة فلا ينبغي لأحد أن يغتر بظاهر حاله ومن هنا شرع الدعاء بالثبات على الدين وبحسن الخاتمة نسأله ذلك بفضله وكرمه ومنه إنه سميع مجيب والله أعلم

(730) باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام

(730) باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام 5864 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "احتج آدم وموسى فقال موسى يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة فقال له آدم أنت موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك بيده أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة" فقال النبي صلى الله عليه وسلم "فحج آدم موسى فحج آدم موسى" وفي حديث ابن أبي عمر وابن عبدة قال أحدهما خط وقال الآخر كتب لك التوراة بيده. 5865 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "تحاج آدم وموسى فحج آدم موسى فقال له موسى أنت آدم الذي أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة فقال آدم أنت الذي أعطاه الله علم كل شيء واصطفاه على الناس برسالته قال نعم قال فتلومني على أمر قدر علي قبل أن أخلق". 5866 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "احتج آدم وموسى عليهما السلام عند ربهما فحج آدم موسى قال موسى أنت آدم الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وأسكنك في جنته ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض فقال آدم أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء وقربك نجيا فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق قال موسى بأربعين عاما قال آدم فهل وجدت فيها {وعصى آدم ربه فغوى} قال نعم قال أفتلومني على أن عملت عملا كتبه الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فحج آدم موسى". 5867 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "احتج آدم وموسى فقال

له موسى أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة فقال له آدم أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه ثم تلومني على أمر قد قدر علي قبل أن أخلق فحج آدم موسى" 5868 - عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة قال وعرشه على الماء" 5869 - وفي رواية عن أبي هانئ بهذا الإسناد مثله غير أنهما لم يذكرا وعرشه على الماء -[المعنى العام]- يقول الله تعالى {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة 30] وخلق آدم من الأرض من ترابها ومائها كمية من التراب والماء صارت طينا مضى عليها زمن فأنتنت مضى عليها زمن فيبست وجمدت صورها وخلقها جل شأنه قال لها كوني آدم فكانت بشرا سويا وتسلطت عليها الشمس فطبخت وصارت كالفخار ونفخ فيها من روحه فتحركت إنسانا عاقلا علمه الأسماء كلها ولم يعلمها ملائكته كان من الممكن أن يبقى في الأرض التي منها خلق والتي إليها سيعود ولكنه جل شأنه أراد من الأزل وقضى وقدر لآدم وذريته أن يقطعوا مشوارا طويلا قبل أن يصلوا إلى النهاية وبدأت رحلة آدم عرج به إلى الجنة سجد له الملائكة إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين فطرد من الجنة وطلب الإنظار إلى يوم القيامة فكان من المنظرين وتوعد آدم وذريته {لأغوينهم أجمعين} [الحجر 39] وخلقت لآدم حواء من جنبه أسكن هو وزوجه الجنة أمرا بأول تكليف لينفذ قضاء الله {اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين} [البقرة 22] وحذرهما من إبليس عدوهما {إن الشيطان لكما عدو مبين} [الأعراف 22] وكان الامتحان قاسيا {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ

الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف 20 - 23] ثم اجتباه ربه وتاب عليه وهداه لكنه حكم عليه بعقوبة مؤقتة {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [الأعراف 24 - 25] وهبط آدم وحواء وإبليس إلى الأرض وبدأت الرحلة الشاقة وبدأ أبناؤهما يدفعون ثمن خطيئتهما هل كان آدم في مقدوره أن يخالف القضاء لقد قال تعالى للملائكة {إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة 30] فالمقدر والمكتوب أن يقضى هو وذريته رحلة في الأرض يشاركهم فيها إبليس وجنوده ولا بد من نفاذ القدر فهل يلام آدم أن كان سببا في رحلة العذاب أو لا يلام فالأمر أمر قدر وقضاء تلك قضية حديثنا التقت روح موسى عليه السلام بروح آدم عليه السلام في الملأ الأعلى قال له موسى أنت آدم أبو البشر قال نعم قال أنت آدم الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وأسكنك جنته قال نعم قال أنت الذي نهاك ربك عن الأكل من شجرة واحدة فعصيته وأكلت منها أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة أنت الذي أشقيت الناس أنت الذي أدخلت ذريتك النار فوالله لولا ما فعلت ما دخل أحد من ذريتك النار خيبتنا وحرمتنا من نعيم الجنة زمنا لا ذنب لنا فيه بل حرمت بعض ذريتك من نعيم الجنة حرمانا أبديا لماذا يا آدم أشقيت نفسك وأشقيت ذريتك وعرضتنا للغواية والمعصية والضلال وكما هو الشأن في طبيعة الآباء مع الأبناء مهما ظهرت من الأبناء قسوة أو تعنيف أو ما لا يليق تبسم آدم وقال من أنت قال أنا موسى قال نبي بني إسرائيل قال نعم قال أنت الذي اصطفاك ربك وكلمك تكليما دون وسيط من خلقه قال نعم قال أنت الذي أعطاك التوراة وكتب لك الألواح بيده وعلمك حتى ظننت أنك أعلم أهل الأرض كيف خفي عليك أن كل شيء مخلوق بقدر لقد قتلت نفسا بغير حق ففتنك الله فتونا فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى كيف تلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة وقال لملائكته {إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة 30] أنا لم أخرجكم من الجنة لقد أكلت من الشجرة وتاب الله علي وكان يمكن أن نبقى في الجنة لكنه جل شأنه نفذ قضاءه وقدره فهبطنا إلى الأرض ولولا ذلك ما كان هناك كفار وما اصطفاك الله وما كنت رسولا تأدب يا موسى فأنا أبوك وغلب آدم موسى وأسكت آدم موسى وعاد بينهما التعاطف والرضا صلى الله عليهما وسلم

-[المباحث العربية]- (احتج آدم وموسى) بفتح التاء وتشديد الجيم يقال احتج بمعنى أقام الحجة أي أقام كل منهما الحجة على الآخر مستنكرا فعله وفي الرواية الثانية "تحاج آدم وموسى" بتشديد الجيم ومعناه تجادل وأصله تحاجج بجيمين مفتوحتين وفي رواية للبخاري في تفسير سورة طه "حاج موسى آدم" بالجيم المشددة يقال حاجه محاجة وحجاجا جادله وفي القرآن الكريم {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه} [البقرة 258] وأما معنى قوله في آخر الحديث "فحج آدم موسى فحج آدم موسى" برفع "آدم" على الفاعلية فمعناه غلبه بالحجة قال الحافظ ابن حجر واتفق الرواة والنقلة والشراح على أن "آدم" بالرفع وهو الفاعل وشذ بعض الناس فقرأه بالنصب على أنه المفعلول وموسى" في محل الرفع فاعل وهو محجوج بالاتفاق قبله وقد أخرجه أحمد بلفظ "فحجه آدم" وهذا يرفع الإشكال ورواته أئمة حفاظ اهـ وقد جاء في رواية أيوب بن النجار ويحيى بن كثير "حج آدم وموسى" بدل "احتج آدم وموسى" وشرحها الطيبي بقوله معناه غلبه بالحجة اهـ وهو غير سليم لوجود الواو بينهما بل معنى هذه الرواية قدم آدم وموسى فهي كرواية محمد بن سيرين "التقى آدم وموسى" وفي مكان هذا الاحتجاج وزمانه وكيفيته أقوال لا تخلو من نظر فزعم بعض الشيوخ أن هذه المحاجة ستقع يوم القيامة والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع واستند إلى رواية أحمد ولفظها "احتج أدم وموسى عند ربهما" وعليها بوب البخاري للحديث بقوله باب تحاج آدم وموسى عند الله قال الحافظ ابن حجر ليس قول البخاري "عند الله" صريحا في أن ذلك يقع يوم القيامة فإن العندية عندية اختصاص وتشريف لا عندية مكان فيحتمل وقوع ذلك في كل من الدارين وقد وردت العندية في القيامة بقوله تعالى {في مقعد صدق عند مليك مقتدر} [القمر 55] ووقعت في الدنيا في قوله صلى الله عليه وسلم "أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" اهـ كما يستدل لهذا القول بما وقع في حديث عمر وأنهما حين يلتقيان في الموقف يقول موسى أنت آدم يقول له من أنت يقول أنا موسى فيقول نبي بني إسرائيل فيقول نعم القول الثاني أنه وقع في الدنيا في حياة موسى فعند أبي داود "قال موسى يا رب أرني آدم ... " فأحيا الله له آدم معجزة له وكلمه وتحاجا القول الثالث كالقول الثاني لكن كشف الله لموسى عن قبر آدم فتحدثا القول الرابع كالقول الثاني لكن أراه الله روحه كما أرى نبينا صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج أرواح الأنبياء فتحدثا

القول الخامس كالقول الثاني لكن أراه الله له في المنام فتحدثا ورؤيا الأنبياء وحي القول السادس أن ذلك وقع في البرزخ أول ما مات موسى فالتقت أرواحهما في السماء وبذلك جزم ابن عبد البر والقابسي القول السابع أن ذلك ضرب مثل والمعنى لو اجتمعا لقالا ذلك قاله ابن الجوزي وقال وخص موسى بالذكر لكونه أول نبي بعث بالتكاليف الشديدة وأقرب هذه الأقوال للقبول الأول والخامس والسادس والسابع والعلم عند الله قال ابن الجوزي وهذا مما يجب الإيمان به لثبوته عن خبر الصادق وإن لم يطلع على كيفية الحال وليس هو بأول ما يجب علينا الإيمان به وإن لم نقف على حقيقة معناه كعذاب القبر ونعيمه ومتى ضاقت الحيل في كشف المشكلات لم يبق إلا التسليم وقال ابن عبد البر مثل هذا عندي يجب فيه التسليم ولا يوقف فيه على التحقق لأنا لم نؤت عن جنس هذا العلم إلا قليلا (فقال موسى يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة) في الرواية الثانية "أنت آدم الذي أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة" أي الذي كنت سببا في تعرض الناس للغواية وكنت سببا في سكناهم الأرض بدل الجنة وفي الرواية الثالثة "أنت آدم الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وأسكنك في جنته ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض" وفي الرواية الرابعة "أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة" وفي رواية "أنت الذي أشقيت الناس" وعند أحمد "أنت الذي أدخلت ذريتك النار" وفي رواية "يا آدم خلقك الله بيده ثم نفخ فيك من روحه ثم قال لك كن فكنت ثم أمر الملائكة فسجدوا لك ثم قال لك {اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة} [البقرة 35] فنهاك عن شجرة واحدة فعصيت" زاد في رواية "وأكلت منها" وفي رواية "أنت آدم قال نعم قال أنت الذي نفخ الله فيك من روحه وعلمك الأسماء كلها وأمر الملائكة فسجدوا لك قال نعم قال فلم أخرجتنا ونفسك من الجنة" وفي رواية "فوالله لولا ما فعلت ما دخل أحد من ذريتك النار" قال الحافظ ابن حجر وهذا يشعر بأن جميع ما ذكر في هذه الروايات محفوظ وأن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر ومعنى "خيبتنا" أوقعتنا في الخيبة وهي الحرمان والخسران يقال خاب يخيب ويخوب أي كنت سبب خيبتنا وإغوائنا بالخطيئة التي ترتب عليها إخراجك من الجنة ثم تعرضنا نحن لإغواء الشياطين والغي الانهماك في الشر والاستفهام في الروايات كلها للتقرير (فقال له آدم أنت موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك بيده) في الرواية الثانية "أنت الذي أعطاه الله علم كل شيء واصطفاه على الناس برسالته قال نعم" وفي الرواية

الثالثة "أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء وقربك نجيا" وفي رواية ابن سيرين "اصطفاك الله برسالته واصطفاك لنفسه وأنزل عليك التوراة" وفي رواية "أنت الذي كلمك الله من وراء حجاب ولم يجعل بينك وبينه رسولا من خلقه قال نعم" وفي هذا كله مدح لموسى لكن فيه تعريضا بالذم أي إذا كنت بهذه المنزلة كيف يخفى عليك أنه لا محيد من القدر أو تعريضا بفضل ما أنكره موسى وكأنه يقول لو لم يقع إخراجي الذي ترتب على أكلي من الشجرة ما حصلت لك هذه المناقب لأني لو بقيت في الجنة واستمر نسلي فيها ما وجد من يجاهر بالكفر الشنيع كما جاهر فرعون وما أرسلت أنت وما أعطيت ما أعطيت فإذا كنت أنا السبب في حصول هذه الفضائل لك فكيف يسوغ لك أن تلومني (أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ ) في الرواية الثانية "فتلومني على أمر قدر علي قبل أن أخلق" وفي الرواية الثالثة "فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق قال موسى بأربعين عاما قال آدم فهل وجدت فيها وعصى آدم ربه فغوى قال نعم قال أفتلومني على أن عملت عملا كتبه الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة" وعند أحمد "فهل وجدت فيها أي في الألواح أو التوراة أني أهبط" وفي رواية "أفليس تجد فيما أنزل الله عليك أنه سيخرجني منها قبل أن يدخلنيها قال بلى" وفي رواية "فلم تلومني على شيء سبق من الله تعالى فيه القضاء" وفي رواية "أتلومني على أمر قدره علي قبل أن يخلق السماوات والأرض" قال الحافظ والجمع بينه وبين الرواية المقيدة بأربعين سنة حملها على ما يتعلق بالكتابة وحمل الأخرى على ما يتعلق بالعلم وقال ابن التين يحتمل أن يكون المراد بالأربعين سنة ما بين قوله تعالى {إني جاعل في الأرض خليفة} إلى نفخ الروح في آدم وأجاب غيره بأن ابتداء المدة وقت الكتابة في الألواح وآخرها ابتداء خلق آدم وقال ابن الجوزي المعلومات كلها قد أحاط بها علم الله القديم قبل وجود المخلوقات كلها ولكن كتابتها وقعت في أوقات متفاوتة وقد ثبت في صحيح مسلم "أن الله قدر المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة" فيجوز أن تكون قصة آدم بخصوصها كتبت قبل خلقه بأربعين سنة ويجوز أن يكون ذلك القدر مدة لبثه طينا إلى أن نفخت فيه الروح فقد ثبت في صحيح مسلم أن بين تصويره طينا ونفخ الروح فيه كان مدة أربعين سنة ولا يخالف ذلك كتابة المقادير عموما قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وقال المازري الأظهر أن المراد أنه كتبه قبل خلق آدم بأربعين عاما ويحتمل أن يكون المراد أظهره للملائكة أو فعل فعلا ما أضاف إليه هذا التاريخ وإلا فمشيئة الله وتقديره قديم وقال النووي المراد بتقديرها كتبه في اللوح المحفوظ أو في التوارة أو في الألواح ولا يجوز أن يراد به أصل القدر لأنه أزلي والله أعلم

(فحج آدم موسى فحج آدم موسى) كررت الجملة مرتين في الرواية الأولى ولم تكرر في الثالثة ولا في الرابعة وفي رواية للبخاري "فحج آدم موسى فحج آدم موسى ثلاثا" وفي رواية "فاحتجا إلى الله فحج آدم موسى قالها ثلاث مرات" وفي رواية "لقد حج آدم موسى لقد حج آدم موسى لقد حج آدم موسى" وفي رواية "فخصم آدم موسى فخصم آدم موسى" (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة) قال العلماء المراد تحديد وقت الكتابة في اللوح المحفوظ أو غيره لا أصل التقدير فإن ذلك أزلي لا أول له (وعرشه على الماء) أي قبل خلق السماوات والأرض -[فقه الحديث]- مشكلة الحديث هل لأحد أن يلوم من عصى على معصيته وخصوصا إذا أصابه منها أذى ومتاعب إن كان الجواب بنعم كما هو ظاهر شريعتنا فموسى محق وحجته قوية غالبة فكيف عد في الحديث مهزوما محجوجا مغلوبا وهل لمن عصى أن يعتذر عن معصيته بالقدر وبأنه سبق عليه القضاء وهو مكتوب عليه إن كان الجواب بلا كما هو ظاهر شريعتنا فلم عد آدم غالبا وعدت حجته قوية وإن كان الجواب ليس لأحد أن يلوم العاصي على معصيته وللعاصي أن يعتذر عن معصيته بجريان القلم كنا مع الجبرية الذين يقولون إن معنى سبق القضاء والقدر يستلزم الجبر وقهر العبد والمجبور لا يلام فالجبرية يتمسكون بموقف آدم وحجته التي احتج بها والتي صدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وأقره عليها وشهد له بأنه غلب خصمه بها والمعتزلة الذين يقولون إن العبد يخلق أفعاله الاختيارية وهو مسئول عنها مسئولية كاملة إرادة واختيارا ونزوعا وحركة وفعلا وإنجازا وإن وافقهم موقف موسى لكنه موقف مهزوم وحجة مردودة مغلوبة فلا يستدل بها يرون أن حجة آدم مرفوضة رفضا قاطعا لأنه لو ساغ الاعتذار عن المعصية السابقة بالقدر لانسد باب القصاص والحدود ولاحتج به كل أحد على ما يرتكبه من الفواحش والإفساد في الأرض وهذا يفضي إلى لوازم قطعية مرفوضة عقلا وشرعا وعلى هذا الأساس يردون الحديث ويقولون عنه حديث لا أصل له وأهل السنة يقفون بين الجبرية وبين المعتزلة في هذه القضية وموقفهم حرج دقيق وهم يميلون نحو الجبرية لكنهم يلتمسون للمسئولية خيطا كخيط العنكبوت فبعضهم يرى أن الحجة والمسئولية تقع على القصد والتعمد والاختيار وأما الفعل فهو لله فإن قيل لهم القصد والتعمد والاختيار فعل من أفعال النفس الاختيارية فجعله للعبد وجعل النزوع والحركة لقدرة الله تحكم إن قيل لهم ذلك قالوا {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} [الأنبياء 23]

وبعضهم يرى أن الحجة والمسئولية تقع على الكسب الذي هو مقارنة قدرة العبد لقدرة الرب حين الفعل ودون تأثير لها فإن قيل لهم كيف تقع المسئولية من غير تأثير قالوا {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} [الأنبياء 23] وأهل السنة أمام حديثنا يحاولون تبرير حجة آدم وتقويتها وتضعيف موقف موسى وحجته فالخطابي يقول اللوم من قبل موسى ساقط إذ ليس لأحد أن يعير أحدا بذنب كان منه لأن الخلق كلهم تحت العبودية سواء وإنما يتجه اللوم من قبل الله سبحانه وتعالى الذي نهاه فباشر ما نهاه عنه ولم يقع من آدم إنكار لما صدر منه بل عارضه بأمر دفع به عنه اللوم اهـ ومعنى هذا أن آدم لم يعتذر عن معصيته بالقدر وإنما دفع اللوم من اللائم بأنه ليس من حقه أن يلوم بل عليه أن يسلم بالقدر الغالب لكل البشر فقد غلب القدر موسى فقتل نفسا لم يؤمر بقتلها وللمعترض على هذا التوجيه أن يقول إذا كان الله هو الذي يوجه اللوم فلم لا يباشره من تلقى عن الله من الرسل ولم لا يباشره من تلقى عن رسله ممن يحملون أمر تبليغ شريعتهم والحافظ ابن حجر يرى أن آدم لم يعتذر عن المعصية بالقدر أي لم يعتذر عن الأكل من الشجرة بالقدر إذ محصل لوم موسى إنما هو على الإخراج فكأنه قال أنا لم أخرجكم وإنما أخرجكم الذي رتب الإخراج على الأكل من الشجرة وقدره هو الذي رتب ذلك قبل أن أخلق فكيف تلومني على أمر ليس لي فيه نسبة والإخراج ليس من فعلي اهـ ومحصل هذا أن موسى لام آدم على أشياء ليست من كسبه فلا حق له في اللوم وقد سبق إلى هذا القول الداوودي فيما نقله ابن التين حيث قال إنما قامت حجة آدم لأن الله خلقه ليجعله في الأرض خليفة فلم يحتج آدم في أكله من الشجرة بسابق العلم لأنه كان عن اختيار منه وإنما احتج بالقدر لخروجه لأنه لم يكن بد من ذلك وحكى القرطبي وغيره أن آدم أب وموسى ابن وليس للابن أن يلوم أباه وهذا القول بعيد لأنه لا يعتذر الأب عن المعصية للابن بالقدر ثم هو ليس على عمومه فقد يجوز للابن أن يلوم أباه في عدة مواطن وقيل إنما غلبه آدم لأنهما في شريعتين متغايرتين فقد تسمح شريعة آدم بالاحتجاج بسابق القدر ولا تسمح شريعة موسى أن يحتج به وتسمح أن يتوجه اللوم على المخالف به وتعقب بأنها دعوى لا دليل عليها وقال ابن حجر أيضا إن الذي فعله آدم اجتمع فيه القدر والكسب والتوبة تمحو أثر الكسب وقد كان تاب الله عليه فلم يبق إلا القدر والقدر لا يتوجه عليه لوم لأنه فعل الله ولا يسأل عما يفعل وقد سبقه إلى ذلك ابن عبد البر حيث قال هذا عندي مخصوص بآدم لأن المناظرة بينهما وقعت بعد أن تاب الله على آدم قطعا كما قال تعالى {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه} [البقرة 37] فحسن من آدم أن ينكر على موسى لومه على الأكل من الشجرة لأنه كان قد تيب عليه

من ذلك ومن ثبت أن الله قد تاب عليه سقط عنه اللوم وقد ثبت النهي عن لعن من أقيم عليه الحد وقبلت توبته أما من فعل معصية فقتل أو زنا أو سرق فلا يجوز أن يقال لمن لامه لا تلمه فقد سبق هذا في علم الله وقدره قبل أن يخلقه لا يجوز إنكار لومه فإن الأمة اجتمعت على جواز لوم من وقع منه ذلك بل على استحباب ذلك كما أجمعوا على استحباب محمدة من واظب على الطاعة قاله ابن عبد البر وقال ابن حجر إنما توجهت الحجة لآدم لأن موسى لامه بعد أن مات واللوم إنما يتوجه على المكلف مادام في دار التكليف فإن الأحكام حينئذ جارية عليهم فيلام العاصي ويقام عليه الحد والقصاص وغير ذلك وأما بعد أن يموت فلا فقد ثبت النهي عن سب الأموات "ولا تذكروا موتاكم إلا بخير" لأن مرجع أمرهم إلى الله وإذا كان كذلك فلوم موسى لآدم بعد انتقاله عن دار التكليف مردود وحاصل هذا أن غلبة آدم لموسى في إنكاره اللوم لا في اعتذار آدم عن المعصية بالقدر قال الحافظ ابن حجر وبالجملة فأصح الأجوبة سقوط اللوم بالتوبة أو الموت ولا تنافي بينهما فيمكن أن يمتزج منهما جواب واحد وهو أن التائب لا يلام على ما تيب عليه منه ولا سيما إذا انتقل عن دار التكليف قال وقد سلك النووي هذا المسلك -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - من قوله "خيبتنا" إلخ جواز إطلاق الشيء على سببه 2 - قال النووي وفيه ذكر الجنة وأنها موجودة من قبل آدم وهذا مذهب أهل الحق وقال القاضي عياض فيه حجة لأهل السنة في أن الجنة التي أخرج منها آدم هي جنة الخلد التي وعد المتقون ويدخلونها في الآخرة خلافا لمن قال من المعتزلة وغيرهم إنها جنة أخرى ومنهم من زعم أنها كانت في الأرض 3 - ومن قوله في الرواية الثانية "أنت الذي أعطاك الله علم كل شيء" إطلاق العموم وإرادة الخصوص إذ المراد به علم كل شيء يتعلق بكتابه وليس المراد عمومه لأنه ثبت علم الخضر بما لا يعلمه موسى 4 - وفيه مشروعية الحجج في المناظرة لإظهار الحق 5 - وإباحة التوبيخ والتعريض في أثناء الحجاج ليتوصل إلى ظهور الحجة 6 - وفيه مناظرة العالم من هو أكبر منه والابن أباه ومحل مشروعية ذلك إذا كان لإظهار الحق أو الازدياد من العلم والوقوف على حقائق الأمور

7 - وفيه أنه يغتفر للشخص في بعض الأحوال ما لا يغتفر له في بعضها كحالة الغضب والأسف وخصوصا ممن طبع على حدة الخلق وشدة الغضب فإن موسى عليه السلام لما غلبت عليه حالة الغضب والإنكار في المناظرة خاطب آدم مع كونه والده باسمه مجردا وخاطبه بأشياء لم يكن ليخاطب بها في غير تلك الحالة ومع ذلك فأقره على ذلك وعدل إلى معارضته فيما أبداه من الحجة في دفع شبهته والله أعلم.

(731) باب تصريف الله القلوب كيف شاء

(731) باب تصريف الله القلوب كيف شاء 5870 - عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك". -[المعنى العام]- قد يظن الإنسان أنه يفعل ما يريد ويختار ما يشاء وهذا الإحساس منه من قبيل الشكل لا الحقيقة فإن آلة الاختيار وهي العقل بيد الرحمن جل شأنه يديرها كيف شاء ويحركها نحو ما يريد وهو الذي يلهمها فجورها وتقواها فالله سبحانه وتعالى هو المتصرف في قلوب العباد ولا يفوته ما أراد كما لا يمتنع على الإنسان ما كان بين إصبعيه فكل شيء بقدر الله حتى القلوب كما يقول جل شأنه {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم} [الأنعام 110] -[المباحث العربية]- (إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء) القلب كعضلة جزء من البدن معروف قال أبو بكر بن العربي خلقه الله وجعله للإنسان محل العلم والكلام وغير ذلك من الصفات الباطنة وجعل ظاهر البدن محل التصرفات الفعلية والقولية اهـ والتحقيق أن المراد بالقلوب التي هي محل العلم والإدراك والفهم والذاكرة المخ الذي في الرأس والقلب يطلق على الجزء الداخلي مطلقا لكن الكلام في مثل قوله تعالى {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج 46] الكلام في مثل هذا جرى على قدر أفهام المخاطبين ويمكن حمله على السبب فقلب الإنسان الذي هو العضلة المعروفة سبب في ضخ الدم إلى المخ آلة التعقل وبوقف الدم عن المخ يموت العقل والتفكير فالقلب سبب الحياة كلها

وتصريف القلوب توجيه أحوالها وأغراضها وتحويلها من رأي إلى رأي وفي الكلام استعارة حسنة بتشبيه تمكن الله من تصريف القلوب بتمكن من يقبض على الشيء بأصابعه فخاطب العرب بما يفهمونه ومثله بالمعاني الحسية تأكيدا له في نفوسهم (اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك) وفي رواية "اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك". -[فقه الحديث]- قال النووي هذا من أحاديث الصفات وفيها القولان السابقان أحدهما الإيمان بها من غير تعرض لتأويل ولا لمعرفة المعنى بل يؤمن بأنها حق وأن ظاهرها غير مراد قال تعالى {ليس كمثله شيء} [الشورى 11] والثاني: يتأول حسب ما يليق بها فعلى هذا المراد المجاز كما يقال فلان في قبضتي وفي كفي لا يراد به أنه حال في كفه بل المراد تحت قدرتي ويقال فلان بين إصبعي أقلبه كيف شئت أي إنه مني على قهر أتصرف فيه كيف أشاء اهـ -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - أن إعراض القلوب من إرادة وغيرها تقع بخلق الله تعالى 2 - وفيه حجة لمن أجاز تسمية الله تعالى بما ثبت في الخبر ولو لم يتواتر 3 - وجواز اشتقاق اسم الله تعالى من الفعل الثابت 4 - وقال البيضاوي فيه إشعار بأن الله يتولى قلوب عباده ولا يكلها إلى أحد من خلقه 5 - وفي دعائه صلى الله عليه وسلم بذلك إشارة إلى شمول ذلك للعباد حتى الأنبياء ورفع توهم من يتوهم أنهم يستثنون من ذلك وخص نفسه بالذكر إعلاما بأن نفسه الزكية إذا كانت مفتقرة إلى أن تلجأ إلى الله سبحانه فافتقار غيرها ممن هو دونه أحق بذلك والله أعلم.

(732) باب كل شيء بقدر

(732) باب كل شيء بقدر 5871 - عن طاوس؛ أنه قال: أدركت ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: كل شيء بقدر. قال: وسمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل شيء بقدر حتى العجز والكيس. أو الكيس والعجز". 5872 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر فنزلت: {يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر} [القمر: 48، 49]. -[المعنى العام]- يراجع المعنى العام في الأبواب السابقة واللاحقة. -[المباحث العربية]- (كل شيء بقدر) بفتح القاف والدال، قال النووي المراد بالقدر هنا القدر المعروف، وهو ما قدره الله وقضاه وسبق به علمه وإرادته. اهـ. وقال الراغب: القدر بوضعه يدل على القدرة، وعلى المقدور الكائن بالعلم، ويتضمن الإرادة عقلا، والقول نقلا، وحاصله وجود شيء في وقت، وعلى حال، يوافق العلم والإرادة والقول، وقدر الله الشيء بتشديد الدال، قضاه، ويجوز تخفيفها. وقال ابن القطاع: قدر الله الشيء، جعله بقدر، وقدر الله الرزق صنعه، وقدر على الشيء ملكه. وقال الكرماني: المراد بالقدر حكم الله. ويفرق العلماء بين القضاء والقدر بأن القضاء هو الحكم الكلي الإجمالي في الأزل، والقدر جزئيات ذلك الحكم وتفاصيله.

والمعنى هنا: أن كل شيء يقع في الوجود، قد سبق به علم الله تعالى ومشيئته. (حتى العجز والكيس - أو الكيس والعجز) شك الراوي في تقديم هذا أو ذاك. والعجز عدم القدرة وقيل هو ترك ما يجب فعله والتسويف به وتأخيره عن وقته ويحتمل أن يكون المراد العجز عن الطاعات، ويحتمل العموم، أي العجز عن أمور الدنيا والآخرة. و"الكيس" بفتح الكاف وسكون الياء، ضد العجز، ومعناه الحذق في الأمور، والنشاط والعمل والمعنى أن العاجز قدر عجزه، والكيس بتشديد الياء قدر كيسه. وإنما جعلهما في الحديث غاية لذلك، للإشارة إلى أن أفعالنا - وإن كانت معلومة لنا، ومرادة منا لا تقع منا إلا بمشيئة الله. قال القاضي عياض: رويناه برفع "العجز والكيس" عطفا على "كل" وبجرهما، عطفا على "شيء". (جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر) أي يجادلونه ويناقشونه في ثبوته وعدم ثبوته. فنزلت: {يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر} الآيتان [48، 49] من سورة القمر، وقبلهما {إن المجرمين في ضلال وسعر} وبعدهما {وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر} أي إلا كلمة واحدة، وهي "كن" فيكون كلمح بالبصر في سرعة النفاذ. -[فقه الحديث]- في الحديث والآية تصريح بإثبات القدر. وتراجع أحاديث الأبواب السابقة واللاحقة.

(733) باب قدر على ابن آدم حظه من الزنى وغيره

(733) باب قدر على ابن آدم حظه من الزنى وغيره 5873 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى. أدرك ذلك لا محالة. فزنى العينين النظر. وزنى اللسان النطق. والنفس تمني وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه". قال عبد في روايته: ابن طاوس عن أبيه. سمعت ابن عباس. 5874 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى. مدرك ذلك لا محالة. فالعينان زناهما النظر. والأذنان زناهما الاستماع. واللسان زناه الكلام. واليد زناها البطش. والرجل زناها الخطا. والقلب يهوى ويتمنى. ويصدق ذلك الفرج ويكذبه. -[المعنى العام]- خلق الله الإنسان، وخلق فيه شهوة الفرج، وحد لها حدودا، ونظمها، ونظم لها طريق الحلال، وحذر من طريق الحرام، وهو الزنى، بل حذر من القرب منه، مخافة الوقوع فيه، فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، قال تعالى: {ولا تقربوا الزنى} [الإسراء: 32] والقرب من الزنى يكون بمقدمات الحواس الظاهرة، والتوجهات النفسية، كالتفكير والتخيل، والهم، والقصد، والعزم، ويتمثل القرب من الزنى بالحواس الظاهرة في النظر الحرام، إلى المرأة الأجنبية، والسمع الحرام المثير للشهوة، والمس الحرام باليد أو بالشفاه، أو بأي جزء من البدن، وهذا القرب هو مقدمات يخشى منها أن تفضي إلى الكبيرة. ولما كانت هذه المقدمات مما تعم به البلوى، ويصعب التحرز منها، وكل ابن آدم يقع فيها أو في بعضها، جعلت صغائر، يعفى عنها، أو تغفر باجتناب فاحشة الزنى، مصداقا لقوله تعالى {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} [النساء: 31] أي الصغائر. وقد سماها الحديث -على الرغم من صغرها- زنى، فزنى العين النظر، وزنا اللسان النطق، وزنى النفس التخيل والتمني والتشهي.

وكما سبق كل حركة من حركات ابن آدم مكتوبة عليه، ومقدرة، قبل أن يخلق، فهذه الصغائر مقدرة، كما أن الكبائر مقدرة، وكما وضحنا من قبل: التقدير والقضاء والكتابة لا تمنع المسئولية، فعدم العلم بما كتب يمنح الحرية والاختبار عند الفعل {من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد} [فصلت: 46]. -[المباحث العربية]- (ما رأيت شيئا أشبه باللمم ما قال أبو هريرة) قال النووي: معناه تفسير قوله تعالى {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة} [النجم: 32] واللمم في الأصل، ما قل قدره، ومنه لمة الشعر، لأنها دون الوفرة، وقيل: معناه الدنو من الشيء، دون ارتكاب له، من ألممت بكذا إذا نزلت به، وقاربته من غير مواقعة. قال النووي: معنى الآية - والله أعلم - الذين يجتنبون المعاصي غير اللمم، يغفر لهم اللمم، كما في قوله تعالى {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} [النساء: 31] فمعنى الآيتين أن اجتناب الكبائر يسقط الصغائر، وهي اللمم. (إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا) كما، وكيفا، وزمنا (أدرك ذلك لا محالة) التعبير بالماضي لتحقق الوقوع، والأصل يدرك ذلك، ويقع فيه لا حيلة له في ذلك. (والنفس تمني) بحذف إحدى التاءين، أي تتمنى، وكل هذه أنواع الزنى المجازى، مجاز المقاربة. (والفرج يصدق ذلك، أو يكذبه) معناه أنه قد يحقق الزنى، بالإيلاج الحرام، وقد لا يحقق الزنى، فلا يولج الفرج في الفرج الحرام. -[فقه الحديث]- يراجع فقه الحديث وشرح الأحاديث السابقة واللاحقة.

(734) باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موتى أطفال الكفار، وأطفال المسلمين

(734) باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موتى أطفال الكفار، وأطفال المسلمين 5875 - عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أنه كان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة. فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه. كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟ " ثم يقولا أبو هريرة: واقرءوا إن شئتم {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} [الروم: 30]. 5876 - وفي رواية عن الزهري؛ بهذا الإسناد. وقال: "كما تنتج البهيمة بهيمة". ولم يذكر: جمعاء. 5877 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة". ثم يقول اقرءوا {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم} [الروم: 30]. 5878 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويشركانه". فقال رجل: يا رسول الله! أرأيت لو مات قبل ذلك؟ قال: "الله أعلم بما كانوا عاملين". 5879 - وفي رواية عن الأعمش، بهذا الإسناد في حديث ابن نمير: "ما من مولود يولد إلا وهو على الملة". وفي رواية أبي بكر، عن أبي معاوية "إلا على هذه الملة، حتى يبين عنه لسانه" وفي رواية أبي كريب عن أبي معاوية: "ليس من مولود يولد إلا على هذه الفطرة حتى يعبر عنه لسانه". 5880 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها:

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يولد يولد على هذه الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه كما تنتجون الإبل فهل تجدون فيها جدعاء؟ حتى تكونوا أنتم تجدعونها" قالوا: يا رسول الله! أفرأيت من يموت صغيرا؟ قال: "الله أعلم بما كانوا عاملين". 5881 - عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل إنسان تلده أمه على الفطرة وأبواه بعد يهودانه وينصرانه ويمجسانه فإن كانا مسلمين فمسلم كل إنسان تلده أمه يلكزه الشيطان في حضنيه إلا مريم وابنها" 5882 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن أولاد المشركين فقال "الله أعلم بما كانوا عاملين" 5883 - وفي رواية عن الزهري بإسناد يونس وابن أبي ذئب مثل حديثهما غير أن في حديث شعيب ومعقل سئل عن ذراري المشركين. 5884 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أطفال المشركين من يموت منهم صغيرا فقال "الله أعلم بما كانوا عاملين". 5885 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أطفال المشركين قال "الله أعلم بما كانوا عاملين إذ خلقهم". 5886 - عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرا ولو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا". 5887 - عن عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين قالت توفي صبي

فقلت طوبى له عصفور من عصافير الجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أو لا تدرين أن الله خلق الجنة وخلق النار فخلق لهذه أهلا ولهذه أهلا". 5888 - عن عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين قالت دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار فقلت يا رسول الله طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه قال "أو غير ذلك يا عائشة إن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم" -[المعنى العام]- أحاديث كتابة الرزق والأجل والعمل والشقاء والسعادة والإنسان في بطن أمه تثير في النفس سؤالا لا بد منه وهو فما ذنب الكافر؟ وما مآل من يموت قبل البلوغ؟ وتأتي هذه الأحاديث لتجيب عن هذا التساؤل بأن الكتابة مبنية على سبق العلم الإلهي الذي لا يتخلف وقد خلق الله بني آدم كلهم على استعداد نفسي لقبول الإسلام وطبيعة صالحة لأن تكون شقية أو سعيدة فإذا خرج الطفل من بطن أمه بين أبوين مسلمين عمقا فيه هذه العقيدة وأكدا فيه هذه الصلاحية أما إذا خرج من بطن أمه بين أبوين كافرين صبغاه صبغة غير الصبغة التي طبع عليها وحولا هما والبيئة من إخوة وأصدقاء هذه الصفحة البيضاء الطاهرة النقية إلى تعاريج وخطوط غير مستقيمة خبيثة كدرة فكل مولود من بني آدم يولد على فطرة الإسلام وأبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه أو يشركانه تماما كبقية المخلوقات تخرج من بطون أمهاتها سليمة الآذان فيشق أذنها أصحابها أما من يموت قبل البلوغ من أولاد المسلمين فهم في الجنة ومن يموت قبل البلوغ من أبناء الكفار فهم في مشيئة الله إن شاء عذبهم باستجابتهم لآبائهم فترة ما بين التمييز والبلوغ وإن شاء عفا عنهم حيث لم يصلوا إلى سن التكليف وإن شاء عاقب بعضهم على أساس ما علم عنهم لو أنهم عاشوا ونعم بعضهم على أساس أنهم لو عاشوا لأحسنوا والله أعلم بما كانوا سيفعلون بعد بلوغهم وتكليفهم فغلام الخضر عليه السلام لو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا -[المباحث العربية]- (ما من مولود إلا يولد على الفطرة) وفي ملحق الرواية الثالثة "ما من مولود يولد إلا وهو

على الملة" وفي ملحقها الثاني "ليس من مولود يولد إلا على هذه الفطرة" وفي الرواية الرابعة "من يولد يولد على هذه الفطرة" والمراد ما من مولود يولد من بني آدم وصرح به في الرواية الخامسة ولفظها "كل إنسان تلده أمه على الفطرة" وفي رواية عن أبي هريرة "كل بني آدم يولد على الفطرة" وفي الرواية الثالثة "ما من مولود إلا يلد على الفطرة" قال النووي هكذا هو في جميع النسخ "يلد" بضم الياء وكسر اللام فعل ماض على وزن "ضرب" مبني للمجهول حكاه القاضي عن رواية السمرقندي قال وهو صحيح على إبدال الواو ياء لانضمامها وأصله ولد بضم الواو وكسر اللام قال وقد ذكر الهجري في نوادره يقال ولد ويلد بمعنى اهـ وزاد في ملحق الرواية الثالثة "حتى يعبر عنه لسانه" تعبير مسئولية وتكليف أي حتى يبلغ وفي المراد بالفطرة أقوال كثيرة نذكرها هنا باختصار ونفصلها في فقه الحديث قيل المراد منها الإسلام وهو قول الأكثرين وقيل العهد الذي أخذه الله على ذرية آدم في عالم الذر {ألست بربكم قالوا بلى} [الأعراف 172] فالمراد الربوبية وقيل المآل في علم الله من شقاوة أو سعادة وقيل المعرفة وقيل الخلقة القابلة للتشكل وقيل اللام للعهد والمراد فطرة أبويه ودينهما (فأبواه يهودنه وينصرانه ويمجسانه) وفي الرواية الثالثة "ويشركانه" بدل "ويمجسانه" بضم الياء وفتح الشين وكسر الراء المشددة والواو بمعنى "أو" والفاء إما للتعقيب أو السببية أو في جزاء شرط مقدر أي إذا تقرر ذلك فمن تغير كان بسبب أبويه إما بتعليمهما إياه أو بترغيبهما فيه وخص الأبوين بالذكر مع أن التغيير قد يكون من غيرهما لأنه الغالب واستشكل على هذا التركيب بأنه يقتضي أن كل مولود يقع له التهويد وغيره مما ذكر مع أن البعض يستمر مسلما ولا يقع له تهويد أو تنصير والجواب أن في التركيب قيدا ملاحظا أي فإذا حصل له تهويد أو تنصير فأبواه ... فالمقصود من التركيب إفادة أن الكفر إذا حصل ليس من ذات المولود ولا من مقتضى طبعه فإذا وقع كان بسبب خارجي فإن سلم من ذلك السبب استمر على الحق (كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء) "تنتج" بضم التاء الأولى وفتح الثانية بينهما نون ساكنة مبني للمجهول و"البهيمة" مرفوع نائب فاعل و"بهيمة" بالنصب حال و"جمعاء" صفة "بهيمة" أي مجتمعة الأعضاء لم يذهب من بدنها شيء يقال نتج الله الناقة بفتح التاء ينتجها بفتح الياء وكسر التاء أي يولدها فهو ناتج والناقة منتوجة وبناء الفعل للمجهول يقال نتجت الناقة تنتج الناقة وهذه روايتنا وفي الرواية الرابعة "كما تنتجون الإبل فهل تجدون فيها جدعاء؟ حتى تكونوا أنتم تجدعونها؟ " فتنتجون بفتح التاء الأولى وكسر الثانية أي تولدونها والجدعاء مقطوعة الأذن ومعنى "هل تحسون" من الإحساس والمراد به العلم بالشيء والاستفهام إنكاري بمعنى النفي أي لا تجدون فيها جدعا يريد أنها تولد لا جدع فيها وإنما يجدعها

أهلها بعد ذلك وفي رواية للبخاري "كمثل البهيمة تنتج البهيمة" فالبهيمة الثانية بالنصب على المفعولية وقوله "كما تنتج" تشبيه لتهويد المولود بعد فطرته وسلامته بقطع أذن الناقة بعد ولادتها كاملة الأعضاء سليمتها قال الطيبي قوله "كما" حال من الضمير المنصوب في "يهودانه" أي يهودان المولود بعد أن خلق على الفطرة شبيها بالبهيمة التي جدعت بعد أن خلقت سليمة أو هو صفة لمصدر محذوف أي يغيرانه تغييرا مثل تغييرهم البهيمة السليمة وقد تنازعت الأفعال الثلاثة [يهودانه وينصرانه ويمجسانه] "كما" على التقديرين اهـ ثم يقول اقرءوا {فطرة الله .. } هذا صريح في أن هذه الجملة من كلام أبي هريرة مدرجة في الحديث خلافا لرواية من طريق يونس أوهمت أنها من الحديث المرفوع (فقال رجل يا رسول الله أرأيت لو مات قبل ذلك؟ ) أي قبل أن يهوداه أو ينصراه أو يمجساه أي قبل أن يتحمل مسئولية ذلك أي قبل البلوغ وفي الرواية الرابعة "أفرأيت من يموت صغيرا"؟ أي أخبرنا عمن يموت من أبناء اليهود والنصارى والمجوس صغيرا قبل البلوغ وفي الرواية السادسة "سئل عن أولاد المشركين" أي إذا ماتوا قبل البلوغ وفي ملحقها "سئل عن ذراري المشركين" وفي الرواية السابعة "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أطفال المشركين من يموت منهم صغيرا" أي قبل البلوغ (الله أعلم بما كانوا عاملين) أي لو أبقاهم فلا نحكم عليهم بشيء أي هو سبحانه وتعالى يعلم ماذا كانوا سيفعلون لو عاشوا لما بعد البلوغ كما قال {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} [الأنعام 28] ولكنه مع ذلك لا يجازيهم على ما كانوا سيفعلونه لأن العبد لا يجازى بما لم يعمل وفي الرواية الثامنة "الله أعلم بما كانوا عاملين إذ خلقهم" وسيأتي الكلام عنهم في فقه الحديث (كل إنسان تلده أمه يلكزه الشيطان في حضنيه إلا مريم وابنها) قال النووي هكذا هو في جميع النسخ "في حضنيه" بحاء مكسورة ثم ضاد ثم نون ثم ياء تثنية "حضن" وهو الجنب وقيل الخاصرة قال القاضي ورواه ابن ماهان خصييه بالخاء والصاد وهو الأنثيان قال القاضي وأظن هذا وهما بدليل قوله "إلا مريم وابنها" اهـ واللكز الضرب بمجموع الكف يقال لكزه بفتح الكاف يلكزه بضمها لكزا بسكونها (إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرا ولو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا) "الخضر" بفتح الخاء وكسر الضاد وقد سبق الكلام عنه في آخر كتاب الفضائل

-[فقه الحديث]- يتعرض الحديث لقضيتين أساسيتين الأولى تفصيل القول في الفطرة التي فطر الله الناس عليها الثانية مصير من مات من المسلمين أو الكافرين قبل البلوغ أما عن القضية الأولى فأشهر الأقوال أن المراد بالفطرة الإسلام قال ابن عبد البر وهو المعروف عند عامة السلف وأجمع أهل العلم بالتأويل على أن المراد بقوله تعالى {فطرة الله التي فطر الناس عليها} [الروم 30] الإسلام واحتجوا بقول أبي هريرة في روايتنا الأولى "اقرءوا إن شئتم {فطرة الله التي فطر الناس عليها} وبحديث "إني خلقت عبادي حنفاء كلهم" وفي رواية "حنفاء مسلمين" ورجحه بعض المتأخرين بقوله تعالى {فطرة الله} لأنها إضافة مدح وقد أمر الله نبيه بلزومها بقوله {فأقم وجهك للدين حنيفا} فعلم أنها الإسلام ودلل الطيبي على أن المراد بها الإسلام بأن التعريف في "ما من مولود يولد إلا على الفطرة" إشارة إلى معهود وهو قوله {فطرة الله التي فطر الناس عليها} وبأن بعض الروايات جاءت بلفظ الملة بدل الفطرة [ملحق روايتنا الثالثة] وجاء القرآن الكريم بلفظ "الدين" في قوله {فأقم وجهك للدين حنيفا} والدين هو عين الملة قال تعالى {دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا} [الأنعام 161] ومعنى أنه يولد على الإسلام أنه يولد متمكنا من الهدى في أصل الجبلة والتهيؤ لقبول الدين فلو ترك المرء بدون مؤثرات خارجية لاستمر على لزوم الإسلام ولم يفارقه إلى غيره لأن حسن هذا الدين ثابت في النفوس وإنما يعدل عنه لآفة من الآفات البشرية كالترغيب عنه إلى غيره والتقليد قال القرطبي في المفهم المعنى أن الله خلق قلوب بني آدم مؤهلة لقبول الحق كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات فما دامت باقية على ذلك القبول وعلى تلك الأهلية أدركت الحق ودين الإسلام هو الدين الحق وقد دل على هذا المعنى بقية الحديث حيث قال "كما تنتج البهيمة" يعني أن البهيمة تلد الولد كامل الخلقة فلو ترك كذلك كان بريئا من العيب لكنهم تصرفوا فيه بقطع أذنه مثلا فخرج عن الأصل وقال ابن القيم ليس المراد بقوله "يولد على الفطرة" أنه خرج من بطن أمه يعلم الدين لأن الله تعالى يقول {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا} [النحل 78] ولكن المراد أن فطرته مقتضية لمعرفة دين الإسلام ومحبته فنفس الفطرة تستلزم الإقرار والمحبة وليس المراد مجرد قبول الفطرة لذلك لأنه لا يتغير بتهويد الأبوين مثلا بحيث يخرجان الفطرة عن القبول وإنما المراد أن كل مولود يولد على إقراره بالربوبية فلو خلى وعدم المعارض لم يعدل عن ذلك إلى غيره كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من ارتضاع اللبن حتى يصرفه عنه الصارف ومن هنا شبهت الفطرة باللبن اهـ

وليس معنى أنه يولد على الإسلام أن تجري عليه أحكام المسلم لو لم يهوده أبواه بأن مات أبواه اليهوديان قبل ولادته مثلا كما روي هذا عن الإمام أحمد حيث قال ابن القيم جاء عن أحمد أجوبة كثيرة يحتج فيها بهذا الحديث على أن الطفل إنما يحكم بكفره بأبويه فإذا لم يكن بين أبوين كافرين فهو مسلم اهـ القول الثاني في المراد بالفطرة هنا أنها ما يصير إليه من الشقاوة أو السعادة فمن علم الله أنه يصير مسلما ولد على الإسلام ومن علم أنه يصير كافرا ولد على الكفر وتعقب أنه لو كان كذلك لم يكن لقوله "فأبواه يهودانه ... إلخ" معنى لأنهما فعلا به ما هو الفطرة التي ولد عليها فينافي التمثيل بحال البهيمة القول الثالث أن المراد بها هنا العهد الذي أخذه الله على الذرية فقالوا جميعا بلى أما أهل السعادة فقالوها طوعا وأما أهل الشقاوة فقالوها كرها فكل مولود يولد على ما أقر عليه في الميثاق فإن كان طوعا ولد على الإسلام وإن كان قد قالها كرها ولد على الكفر وتعقب بأنه يحتاج إلى نقل صحيح فإنه لا يعرف هذا التفصيل عند أخذ الميثاق إلا عن السدي ولم يسنده وكأنه أخذه من الإسرائيليات القول الرابع أن المراد بالفطرة هنا الخلقة غير المطبوعة على شيء الصالحة للسعادة والشقاوة أي يولد سالما لا يعرف كفرا ولا إيمانا ثم يعتقد إذا بلغ التكليف ورجحه ابن عبد البر وقال إنه يطابق التمثيل بالبهيمة وتعقب بأن لو كان كذلك لم يقتصر في أحوال التبديل على ملل الكفر [يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه] دون ملة الإسلام ولم يكن لاستشهاد أبي هريرة بالآية معنى القول الخامس أن المراد بها فطرة أبويه وهو متعقب بما تعقب به ما قبله قال ابن القيم والقدرية كانوا يحتجون بهذا الحديث على أن الكفر والمعصية ليسا بقضاء الله بل بما ابتدأ الناس إحداثه والجواب أن معنى "فأبواه يهودانه" محمول على أن ذلك يقع بتقدير الله تعالى أما عن القضية الثانية أولاد المسلمين وأولاد الكافرين فالجمهور على أن أولاد المسلمين في الجنة قالوا لأنهم سبب في حجب آبائهم عن النار كما سبق في باب "من مات له ولد فاحتسب" ومن كان سببا في حجب النار عن أبويه فأولى به أن يحجب النار عن نفسه لأنه أصل الرحمة وسببها قال النووي أجمع من يعتد به من علماء المسلمين على أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة وتوقف بعضهم في مآلهم لحديث عائشة روايتنا العاشرة والحادية عشرة قال والجواب عنه أنه لعله نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير دليل أو قال ذلك قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة اهـ وقال المازري الخلاف في غير أولاد الأنبياء اهـ وفيه نظر فأولاد الأنبياء ينطبق عليهم ما ينطبق على غيرهم وقد كان بعض أولاد الأنبياء كافرا كابن نوح أما من ثبت دخوله الجنة منهم

كقوله صلى الله عليه وسلم عن ولده إبراهيم عليه السلام "إن له مرضعا في الجنة" فبالنص لا بالقاعدة والله أعلم أما أولاد الكفار فروايتنا السادسة والسابعة وفيها "الله أعلم بما كانوا عاملين" ظاهرهما التوقف قال الحافظ ابن حجر واختلف العلماء قديما وحديثا في هذه المسألة على أقوال أحدها: أنهم في مشيئة الله تعالى وهو منقول عن الحمادين وابن المبارك وإسحاق ونقله البيهقي في الاعتقاد عن الشافعي في حق أولاد الكفار خاصة قال ابن عبد البر وهو مقتضى صنيع مالك وليس عنده في هذه المسألة شيء منصوص إلا أن أصحابه صرحوا بأن أطفال المسلمين في الجنة وأطفال الكفار خاصة في المشيئة ثانيها: أنهم تبع لآبائهم فأولاد المسلمين في الجنة وأولاد الكفار في النار حكاه ابن حزم عن الأزارقة من الخوارج واحتجوا بقوله تعالى {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا} [نوح 26] وتعقب بأن المراد قوم نوح خاصة وإنما دعا بذلك لما أوحى الله إليه {أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} [هود 36] وأما حديث "هم من آبائهم أو منهم" فذاك ورد في حكم الحربي وروى أحمد من حديث عائشة "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدركوا الأعمال قال ربك أعلم بما كانوا عاملين لو شئت أسمعتك تضاغيهم في النار" قال الحافظ ابن حجر وهو حديث ضعيف جدا لأن في إسناده أبا عقيل مولى بهية وهو متروك اهـ ثالثها: أنهم يكونون في برزخ بين الجنة والنار لأنهم لم يعملوا حسنات يدخلون بها الجنة ولا سيئات يدخلون بها النار رابعها: أنهم يكونون خدم أهل الجنة وفيه حديث ضعيف أخرجه الطيالسي وأبو يعلى والطبراني والبزار خامسها: أنهم يصيرون ترابا سادسها: أنهم يمتحنون في الآخرة بأن ترفع لهم نار فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما ومن أبى عذب وتعقب بأن الآخرة ليست دار تكليف فلا عمل فيها ولا ابتلاء سابعها: أنهم في الجنة قال النووي وهو المذهب الصحيح المختار الذي صار إليه المحققون لقوله تعالى {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} [الإسراء 15] وإذا كان لا يعذب العاقل لكونه لم تبلغه الدعوة فلأن لا يعذب غير العاقل من باب أولى والله أعلم

(735) باب بيان أن الآجال والأرزاق وغيرها لا تزيد ولا تنقص عما سبق به القدر

(735) باب بيان أن الآجال والأرزاق وغيرها لا تزيد ولا تنقص عما سبق به القدر 5889 - عن عبد الله قال قالت أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم اللهم أمتعني بزوجي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية قال فقال النبي صلى الله عليه وسلم "قد سألت الله لآجال مضروبة وأيام معدودة وأرزاق مقسومة لن يعجل شيئا قبل حله أو يؤخر شيئا عن حله ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب في النار أو عذاب في القبر كان خيرا وأفضل" قال وذكرت عنده القردة قال مسعر وأراه قال والخنازير من مسخ فقال "إن الله لم يجعل لمسخ نسلا ولا عقبا وقد كانت القردة والخنازير قبل ذلك". 5890 - وفي رواية عن مسعر بهذا الإسناد غير أن في حديثه عن ابن بشر ووكيع جميعا "من عذاب في النار وعذاب في القبر". 5891 - عن أم حبيبة رضي الله عنها اللهم متعني بزوجي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنك سألت الله لآجال مضروبة وآثار موطوءة وأرزاق مقسومة لا يعجل شيئا منها قبل حله ولا يؤخر منها شيئا بعد حله ولو سألت الله أن يعافيك من عذاب في النار وعذاب في القبر لكان خيرا لك" قال فقال رجل يا رسول الله القردة والخنازير هي مما مسخ فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله عز وجل لم يهلك قوما أو يعذب قوما فيجعل لهم نسلا وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك" 5892 - وفي رواية عن سفيان بهذا الإسناد غير أنه قال "وآثار مبلوغة" قال ابن معبد وروى بعضهم "قبل حله" أي نزوله

-[المعنى العام]- يراجع المعنى العام في أحاديث القدر وفي أحاديث صلة الرحم وعلاقتها بطول العمر -[المباحث العربية]- (أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم) بنت أبي سفيان كانت زوجة لعبيد الله بن جحش خرج بها مهاجرا من مكة إلى أرض الحبشة مع المهاجرين وولدت له هناك حبيبة وبها كانت تكنى ثم افتتن وتنصر ومات نصرانيا وأبت أم حبيبة أن تتنصر وثبتها الله على الإسلام والهجرة فخطبها النبي صلى الله عليه وسلم من النجاشي فزوجه إياها والعاقد عثمان بن عفان وهي بنت عمته تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة ست وتوفيت سنة أربع وأربعين قال ابن سعد قدم أبو سفيان المدينة قبل انتهاء الهدنة يريد تجديد العقد فدخل على أم حبيبة فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته دونه فقال يا بنية أرغبت بهذا الفراش عني أم رغبت بي عنه قالت بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت امرؤ نجس مشرك فقال لقد أصابك بعدي شر (اللهم أمتعني بزوجي رسول الله صلى الله عليه وسلم) يقال متع الله فلانا بكذا بفتح التاء مخففة أي أطال له الانتفاع به وملأه به ويقال أمتع الله فلانا بكذا ومتعه بكذا بتشديد التاء أي أبقاه لينتفع به ويسر بمكانه والرواية هنا بهمزة قطع (قد سألت الله لآجال مضروبة وأيام معدودة وأرزاق مقسومة) الإمتاع يشمل كل ذلك وإن لم تطلبه تفصيلا ومضروبة أي محددة يقال ضرب له أجلا وموعدا إذا حدده وعينه (لن يعجل شيئا قبل حله أو يؤخر شيئا عن حله) قال النووي أما "حله" فضبطناه بوجهين بفتح الحاء وكسرها في المواضع الخمسة من هذه الروايات [فقد ذكر كلمة "حله" في رواياتنا خمس مرات] وذكر القاضي أن جميع الرواة على الفتح ومراده رواة بلادهم وإلا فالأشهر عند رواة بلادنا الكسر وهما لغتان ومعناه وجوبه وحينه يقال حل الأجل يحل حِلا وحَلا اهـ وفي الرواية الثانية "إنك سألت الله لآجال مضروبة وآثار موطوءة وأرزاق مقسومة لا يعجل شيئا منها قبل حله ولا يؤخر منها شيئا بعد حله" والمراد من الآثار الموطوءة ما يخلف من بعده من الأعمال التي عملها وفي ملحق الرواية الثانية "وآثار مبلوغة" أي أعمال لا بد له من بلوغها وعملها (وذكرت عنده القردة والخنازير من مسخ) "من" بيانية بمعنى "أي" أي ذكر عنده

مسخ القردة والخنازير والمصدر مضاف للمفعول والتقدير مسخ الله لنا قردة وخنازير وفي الرواية الثانية "فقال رجل يا رسول الله القردة والخنازير هي مما مسخ؟ " والمعنى هل القردة والخنازير التي نراها اليوم هي مما مسخ من بني إسرائيل؟ (فقال إن الله لم يجعل لمسخ نسلا ولا عقبا وقد كانت القردة والخنازير قبل ذلك) أي الجواب بالنفي من وجهين الأول: أن الممسوخ لا ينسل ولا يكون له عقب وهذا أمر يرجع إلى الوحي وحكمة الله تعالى الثاني: أن القردة والخنازير مخلوقة قبل بني إسرائيل وقبل مسخ بني إسرائيل وفي الرواية الثانية "وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك" بضمير الذكور العقلاء في "كانوا" مجازا لكونه جرى في الكلام ما يقتضي مشاركتهما للعقلاء كما في قوله تعالى {رأيتهم لي ساجدين} [يوسف 4] -[فقه الحديث]- قال النووي هذا الحديث صريح في أن الآجال والأرزاق مقدرة لا تتغير عما قدره الله تعالى وعلمه في الأزل فيستحيل زيادتها ونقصها حقيقة عن ذلك وأما ما ورد في حديث "صلة الرحم تزيد في العمر" ونظائره فقد سبق تأويله في باب صلة الرحم واضحا قال المازري هنا قد تقرر بالدلائل القطعية أن الله تعالى أعلم بالآجال والأرزاق وغيرها وحقيقة العلم معرفة المعلوم على ما هو عليه فإذا علم الله تعالى أن زيدا يموت سنة خمسمائة استحال أن يموت قبلها أو بعدها لئلا ينقلب العلم جهلا فاستحال أن الآجال التي علمها الله تعالى تزيد وتنقص فيتعين تأويل الزيادة أنها بالنسبة إلى ملك الموت أو غيره ممن وكله الله تعالى بقبض الأرواح وأمره فيها بآجال محدودة فإنه بعد أن يأمره بذلك أو يثبته في اللوح المحفوظ ينقص منه أو يزيد على حسب ما سبق به علمه في الأزل وهو معنى قوله تعالى {يمحو الله ما يشاء ويثبت} [الرعد 39] وعلى ما ذكرناه يحمل قوله تعالى {ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده} [الأنعام 2] قال النووي واعلم أن مذهب أهل الحق أن المقتول مات بأجله وقالت المعتزلة قطع أجله ثم قال فإن قلت ما الحكمة في نهيها عن الدعاء بالزيادة في الأجل وندبها إلى الدعاء بالاستعاذة من العذاب مع أنه مفروغ منه كالأجل فالجواب أن الجميع مفروغ منه لكن الدعاء بالنجاة من عذاب النار ومن عذاب القبر ونحوهما عبادة وقد أمر الشرع بالعبادات وأما الدعاء بطول الأجل فليس عبادة وكما لا يحسن ترك الصلاة والصوم اتكالا على القدر فكذلك الدعاء بالنجاة من النار ونحوه والله أعلم

(736) باب الإيمان بالقدر والإذعان له

(736) باب الإيمان بالقدر والإذعان له 5893 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان". -[المعنى العام]- قد يظن البعض أن القوة المطلوبة هي القوة في العبادة والطاعة وأعمال الآخرة فيهمل الدنيا فيذله الأعداء ويستهين به الناس ويصبح مسودا لا سيدا بل قد يكبله الأعداء عن العبادة ويحولون بينه وبين الطاعة كما حدث للمسلمين في الاتحاد السوفيتي قبل تفككه وكما يحدث للأقليات المسلمة في البلاد غير المسلمة والحق أن القوة شرعا مطلوبة من المؤمن في كل اتجاه لم يخالف الشريعة حتى الزراعة وفلاحة الأرض لا يأكل من نتاجها إنسان أو طير أو بهيمة ولو رغم أنف مالكها إلا كان له به صدقة وما عز الإسلام وانتصر وانتشر إلا بالقوة قوة العقيدة وقوة السلاح استجابة لقوله تعالى {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم} [الأنفال 60] وقوله تعالى {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} [الجمعة 10] وقوله صلى الله عليه وسلم "لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب ... " الحديث المشهور فكانوا كما وصفهم الله {أشداء على الكفار رحماء بينهم} [الفتح 29] فسادوا الدنيا وملكوا خزائن كسرى وقيصر حرصوا على ما ينفعهم واستعانوا بالله في أمور دنياهم وأمور أخراهم ولم يعجزوا ولم يتواكلوا وقل ندمهم على ما فاتهم فكانوا خيرا من غيرهم عند ربهم كانوا خيرا من مؤمنين ضعفوا وتواكلوا وأسفوا على ما فاتهم وفتحوا الباب للشيطان يزيدهم ضعفا ويزيدهم أسفا وكلما تأخروا نسبوا تأخرهم للشيطان وغواية الشيطان حيث لا ينفعهم الأسف ولا يفيدهم الندم -[المباحث العربية]- (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف) القوة لها اتجاهات دنيوية

وأخروية والاتجاهات الدنيوية متعددة وكثير منها مشروع والأخروية أيضا متعددة وكثير من الاتجاهات الأخروية نافعة في الدنيا فتعميم القوة لأعمال الدنيا والآخرة ما دامت مشروعة أولى مما ذهب إليه النووي حيث قال في شرح مسلم والمراد بالقوة هنا عزيمة النفس والقريحة في أمور الآخرة فيكون صاحب هذا الوصف أكثر إقداما على العدو في الجهاد وأسرع خروجا إليه وذهابا في طلبه وأشد عزيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على الأذى في كل ذلك واحتمال المشاق في ذات الله تعالى وأرغب في الصلاة والصوم والأذكار وسائر العبادات وأنشط طلبا لها ومحافظة عليها ونحو ذلك (وفي كل خير) التنوين عوض عن المضاف إليه والأصل وفي كليهما خير أي في كل واحد من المؤمن القوي والمؤمن الضعيف خير بالإيمان مع ما يأتي به الضعيف من العبادات وكلمة "خير" استعملت في أول الحديث بمعنى أخير أفعل تفضيل واستعملت هنا بمعنى الوصف الأصلي بدون التفضيل (احرص على ما ينفعك) بكسر الراء من حرص بفتحها يحرص بكسرها أي زد تمسكا ورغبة فيما ينفعك في الدنيا والآخرة (ولا تعجز) قال النووي بكسر الجيم وحكى فتحها والمعنى احرص على طاعة الله تعالى والرغبة فيما عنده واطلب الإعانة من الله تعالى على ذلك ولا تعجز ولا تكسل على طلب الطاعة ولا عن طلب الإعانة (وإن أصابك شيء) من البلاء والآلام نتيجة فعل من أفعالك (فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا) مفعول "فعلت" على هذه الرواية محذوف أي لو أني فعلت كذا كان كذا و"لو" حرف يمتنع به الشيء لامتناع غيره غالبا وستأتي في فقه الحديث هذه القضية بالتفصيل (ولكن قل قدر الله وما شاء فعل) "قدر الله" بفتح القاف والدال خبر مبتدأ محذوف أي هذا قدر الله ويحتمل أن تكون جملة فعلية بتشديد الدال ومفعولها محذوف أي قدر الله وقوع هذا الأمر ومفعول المشيئة محذوف كما هو الغالب -[فقه الحديث]- قال القاضي عياض قال بعض العلماء هذا النهي في قوله "فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا" إنما هو لمن قاله معتقدا ذلك حتما وأنه لو فعل ذلك لم تصبه قطعا فأما من رد ذلك إلى مشيئة الله تعالى بأنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له وما شاء الله له فليس من هذا واستدل بقول

أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الغار "لو أن أحدهم رفع رأسه لرآنا" قال القاضي وهذا لا حجة فيه لأنه إنما أخبر عن مستقبل وليس فيه دعوى لرد قدر بعد وقوعه قال وكذا جميع ما ذكره البخاري في باب ما يجوز من "اللو" كحديث "لولا حدثان قومك بالكفر لأتممت البيت على قواعد إبراهيم" و"لو كنت راجما بغير بينة لرجمت هذه" و"لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك" وشبه ذلك فكله مستقبل لا اعتراض فيه على قدر فلا كراهة فيه لأنه إنما أخبر عن اعتقاده فيما كان يفعل لولا المانع وعما هو في قدرته فأما ما ذهب فليس في قدرته قال القاضي فالذي عندي في معنى الحديث أن النهي على ظاهره وعمومه لكنه نهي تنزيه ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم "فإن لو تفتح عمل الشيطان" أي يلقي في القلب معارضة القدر ويوسوس به الشيطان اهـ وقال النووي قد جاء استعمال "لو" في الماضي في قوله صلى الله عليه وسلم "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي" وغير ذلك فالظاهر أن النهي إنما هو عن إطلاق ذلك فيما لا فائدة فيه فيكون نهي تنزيه لا تحريم فأما من قاله تأسفا على ما فات من طاعة الله تعالى أو ما هو متعذر عليه من ذلك ونحو هذا فلا بأس به وعليه يحمل أكثر الاستعمال الموجود في الأحاديث اهـ وقال القرطبي في المفهم المراد من الحديث أن الذي يتعين بعد وقوع المقدور التسليم لأمر الله والرضا بما قدر والإعراض عن الالتفات لما فات فإنه إذا فكر فيما فات من ذلك فقال لو أني فعلت كذا لكان كذا جاءته وساوس الشيطان فلا تزال به حتى يفضي إلى الخسران فنهى عن أسباب عمل الشيطان بقوله "فلا تقل "لو" فإن "لو" تفتح عمل الشيطان" وليس المراد ترك النطق بلو مطلقا إذ قد نطق النبي صلى الله عليه وسلم بها في عدة أحاديث ولكن محل النهي عن إطلاقها إنما هو فيما إذا أطلقت معارضة للقدر مع اعتقاد أن ذلك المانع لو ارتفع لوقع خلاف المقدور لا ما إذا أخبر بالمانع على جهة أن يتعلق به فائدة في المستقبل فإن مثل هذا لا يختلف في جواز إطلاقه وليس فيه فتح لعمل الشيطان ولا ما يفضى إلى تحريم والله أعلم

كتاب العلم

كتاب العلم

(737) باب النهي عن اتباع متشابه القرآن والتحذير من متبعيه والنهي عن الاختلاف في القرآن

(737) باب النهي عن اتباع متشابه القرآن والتحذير من متبعيه والنهي عن الاختلاف في القرآن 5894 - عن عائشة رضي الله عنها قالت تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب} [آل عمران 7] قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم". 5895 - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما قال فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب فقال "إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب". 5896 - عن جندب بن عبد الله البجلي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فيه فقوموا". 5897 - عن جندب يعني ابن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا". 5898 - وفي رواية عن أبي عمران قال قال لنا جندب ونحن غلمان بالكوفة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اقرءوا القرآن" بمثل حديثهما. 5899 - عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم"

5900 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم" قلنا يا رسول الله آليهود والنصارى قال "فمن". 5901 - عن عبد الله رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هلك المتنطعون" قالها ثلاثا -[المعنى العام]- اختلاف القلوب ليس من الإسلام في شيء بل الإسلام في ائتلافها كما يقول جل شأنه {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا} [آل عمران 103] وكم حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاختلاف ولو كان في مسائل العلم إذا أدى إلى تباعد القلوب والضغائن أو إذا أدى إلى التشكك فيما يجب الإيمان به ومن هنا يقول إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه من القرآن ويثيرون حوله الجدل ويتشدقون بأنهم عالمون فاحذروهم ولا تجالسوهم وابتعدوا عن لقائهم ويقول عنهم هلك المتنطعون هلكوا لأن تنطعهم فرق بين قلوبهم وقلوب المؤمنين وأهلكوا بتنطعهم من يلوذ بهم ويقتدي بهم من المقلدين ويحذر صلى الله عليه وسلم من زمن يصبح فيه المسلمون أتباعا لأعدائهم مقلدين لهم في شعائرهم وحياتهم والتابع مغرم بتقليد المتبوع يحذر من اتباعهم يحذر من هذا الزمن الذي نعيش فيه نحتفل فيه بأعيادهم ونلبس ملابسهم ونحلق لحانا لتكون كلحاهم ونسمح لنسائنا أن يقلدن نساءهم في الاختلاط واللباس والعلاقات الجنسية والاجتماعية وحتى في أخلاقهم الفاسدة وجحورهم الخربة ندخلها اليوم كما يدخلون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم -[المباحث العربية]- تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب}

عنى علماء التفسير بموضوع المحكم والمتشابه وقد بسطت القول فيه في كتاب اللآلئ الحسان في علوم القرآن" ونوجز القول هنا بما يحقق الهدف من الحديث وقد اختلف المفسرون والأصوليون وغيرهم فيه اختلافا كثيرا وهذا موجز لأهم أقوالهم 1 - المتشابه أمر مدة هذه الأمة فإن علمه خفي عن العباد 2 - المحكم من القرآن ما وضح معناه لوضوح المفردات والتراكيب والمتشابه نقيضه 3 - المحكم ما عرف المراد منه إما بالظهور وإما بالتأويل والمتشابه ما استأثر بعلمه كقيام الساعة وخروج الدجال والحروف المتقطعة في أوائل السور 4 - المحكم ما يعرفه الراسخون في العلم والمتشابه ما لم يعلموه وهو قريب من سابقه 5 - المحكم الوعد والوعيد والحلال والحرام والمتشابه القصص والأمثال والزيغ عدم الاستقامة ويقابل الرسوخ في العلم الذي لا يحصل إلا بعد التتبع التام الاجتهاد البليغ فإذا استقام القلب على طريق الرشاد ورسخ القدم في العلم أفصح صاحبه النطق بالقول الحق وفي هذا ميل إلى أن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه والوقف في الآية على {في العلم} و {الراسخون} معطوف على لفظ الجلالة ويحتمل أن يكون الوقف على {وما يعلم تأويله إلا الله} ثم يبتدئ قوله تعالى {والراسخون في العلم يقولون آمنا به} قال النووي وكل واحد من القولين محتمل واختاره طوائف والأصح الأول وأن الراسخين يعلمونه لأنه يبعد أن يخاطب الله عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته وقد اتفق أصحابنا وغيرهم من المحققين على أنه يستحيل أن يتكلم الله تعالى بما لا يفيد اهـ ويقول الآخرون لا مانع أن يكون في القرآن الكريم ما لا يدركه عقول البشر وما استأثر الله بعلمه كالحكيم إذا صنف كتابا أجمل فيه أحيانا ليكون موضع خضوع المتعلم لأستاذه وكالملك يتخذ علامة يمتاز بها من يطلعه على سر ولو لم يخضع العقل الذي هو أشف البدن لاستمر العالم في أبهة العلم ووصل إلى حد التمرد فخضوعه يدفعه إلى التذلل لعز الربوبية والمتشابه هو موضع خضوع العقول لباريها استسلاما واعترافا بقصورها ولا تعارض بين هذه الآية وبين قوله تعالى {كتاب أحكمت آياته} [هود 1] ولا قوله تعالى {كتابا متشابها مثاني} [الزمر 23] حتى زعم بعضهم أن كله محكم وعكس آخرون لا تعارض لأن المراد بالإحكام في قوله "أحكمت" الإتقان في النظم وأن كلها حق من عند الله والمراد من المتشابه كونه يشبه بعضه بعضا في حسن السياق والنظم وليس المراد اشتباه معناه على سامعه فللمحكم معنيان وللمتشابه معنيان (إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم) وفي رواية "فاحذرهم" بالإفراد والخطاب لكل من يتأتى خطابه

أي إذا رأيتم الذين يتتبعون المشكلات لإثارة الفتنة وبلبلة العقول فاحذروا مخالطتهم والاستماع لقولهم (هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما) بتشديد الجيم المفتوحة أي سرت في الهاجرة والهاجرة نصف النهار والمراد هنا بكرت وبادرت ولم أنتظر للمساء كما هو الكثير والغالب (فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية) أي في قراءة آية وروى البخاري عن عبد الله بن مسعود أنه سمع رجلا يقرأ آية سمع النبي صلى الله عليه وسلم قرأ خلافها قال فأخذت بيده فانطلقت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال "كلاكما محسن لا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فأهلكهم" قال الحافظ ابن حجر هذا الرجل يحتمل أن يكون هو أبي بن كعب (فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم) الظاهر أن عبد الله بن عمرو وقف معهما حتى خرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (فقال إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب) قال النووي المراد بهلاك من قبلنا هنا هلاكهم في الدين بكفرهم وابتداعهم فحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مثل فعلهم وفي الرواية الثالثة "اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فيه فقوموا" أي إذا اختلفتم في فهم معانيه فقوموا عنه وتفرقوا لئلا يتمادى بكم الاختلاف إلى الشر قال القاضي عياض يحتمل أن يكون النهي خاصا بزمنه صلى الله عليه وسلم لئلا يكون ذلك سببا لنزول ما يسوؤهم ويحتمل أن يكون المعنى اقرءوا والزموا الائتلاف على ما دل عليه فإذا وقع الاختلاف أو عرض عارض شبهة يقتضي المنازعة الداعية إلى الافتراق فاتركوا القراءة وتمسكوا بالمحكم الموجب للألفة وأعرضوا عن المتشابه المؤدي إلى الفرقة ويحتمل أنه ينهى عن القراءة إذا وقع الاختلاف في كيفية الأداء بأن يتفرقوا عند الاختلاف ويستمر كل منهم على قراءته (إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم) الألد بفتح اللام وتشديد الدال شديد الخصومة مأخوذ من لديدي الوادي وهما جانباه لأنه كلما احتج عليه بحجة أخذ في جانب آخر وأما الخصم فهو بفتح الخاء وكسر الصاد وهو الحاذق بالخصومة قال النووي والمذموم هو الخصومة بالباطل في رفع حق أو إثبات باطل (لتتبعن سنن الذين قبلكم) بفتح السين والنون وهو الطريق والمراد اتباع طريقهم في المعاصي والسيئات لا في الكفر (شبرا بشبر وذراعا بذراع) كناية عن تمام الموافقة لهم (حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم) جحر الضب مثل في الضيق والتعاريج وهو كناية عن تمام المتابعة وفيه تمثيل بالمستحيل

(قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن) مبتدأ حذف خبره أي فمن غيرهما؟ والاستفهام إنكاري بمعنى النفي أي لا أحد غيرهما (هلك المتنطعون) أي المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم يقال نطع اللقمة إذا أكل منها ثم ردها إلى الخوان وتنطع في الشيء غالى فيه وتكلف وتنطع في كلامه إذا تفصح وتعمق وتشدق -[فقه الحديث]- 1 - قال النووي في هذا الحديث التحذير من مخالطة أهل الزيغ وأهل البدع ومن يتبع المشكلات للفتنة فأما من سأل عما أشكل عليه منها للاسترشاد وتلطف في ذلك فلا بأس عليه وجوابه واجب وأما الأول فلا يجاب بل يزجر ويعزر كما عذر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضبيع بن عسل حين كان يتتبع المتشابه اهـ 2 - وفيه الحض على الجماعة والألفة والتحذير من الفرقة والاختلاف 3 - والنهي عن المراء في القرآن بغير حق والنهي عن الخلاف فيه 4 - وفي الرواية الثانية غضب الرسول صلى الله عليه وسلم وانفعاله حتى يرى في وجهه 5 - وفيها التنظير بالأمم السابقة 6 - وفي الرواية الرابعة الحث على القيام والتفرق وتغيير الأوضاع إذا حصل الاختلاف قال النووي والأمر بالقيام عند الاختلاف في القرآن محمول عند العلماء على اختلاف لا يجوز أو اختلاف يوقع فيما لا يجوز كاختلاف في نفس القرآن أو في معنى منه لا يسوغ فيه الاجتهاد أو اختلاف يوقع في شك أو شبهة أو فتنة وخصومة وشجار ونحو ذلك قال وأما الاختلاف في استنباط فروع الدين منه ومناظرة أهل العلم في ذلك على سبيل الفائدة وإظهار الحق واختلافهم في ذلك فليس منهيا عنه بل هو مأمور به وهو فضيلة ظاهرة وقد أجمع المسلمون على هذا من عهد الصحابة إلى الآن 7 - وفي الرواية الخامسة ذم اللجاج والمخاصمة في المناقشة والجدال 8 - وفي الرواية السادسة التحذير من التقليد في الأعمال السيئة 9 - وفيها معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد وقع ما أنذر به وحذر منه 10 - وفي الرواية السابعة التحذير من التنطع والتشدق والتقعر في النقاش والله أعلم.

(738) باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان

(738) باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان 5902 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويثبت الجهل ويشرب الخمر ويظهر الزنى". 5903 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ألا أحدثكم حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحدثكم أحد بعدي سمعه منه "إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل ويفشو الزنى ويشرب الخمر ويذهب الرجال وتبقى النساء حتى يكون لخمسين امرأة قيم واحد". 5904 - عن أبي وائل قال كنت جالسا مع عبد الله وأبي موسى فقالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن بين يدي الساعة أياما يرفع فيها العلم وينزل فيها الجهل ويكثر فيها الهرج والهرج القتل" 5905 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يتقارب الزمان ويقبض العلم وتظهر الفتن ويلقى الشح ويكثر الهرج" قالوا وما الهرج قال "القتل"

5906 - وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يتقارب الزمان ويقبض العلم" ثم ذكر مثله 5907 - وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "يتقارب الزمان وينقص العلم" ثم ذكر مثل حديثهما. 5908 - وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث الزهري عن حميد عن أبي هريرة غير أنهم لم يذكروا "ويلقى الشح". 5909 - عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناس رءوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا" 5910 - عن عروة بن الزبير قال قالت لي عائشة يا ابن أختي بلغني أن عبد الله بن عمرو مار بنا إلى الحج فالقه فسائله فإنه قد حمل عن النبي صلى الله عليه وسلم علما كثيرا قال فلقيته فساءلته عن أشياء يذكرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عروة فكان فيما ذكر أن النبي

صلى الله عليه وسلم قال "إن الله لا ينتزع العلم من الناس انتزاعا ولكن يقبض العلماء فيرفع العلم معهم ويبقي في الناس رءوسا جهالا يفتونهم بغير علم فيضلون ويضلون" قال عروة فلما حدثت عائشة بذلك أعظمت ذلك وأنكرته قالت أحدثك أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا قال عروة حتى إذا كان قابل قالت له إن ابن عمرو قد قدم فالقه ثم فاتحه حتى تسأله عن الحديث الذي ذكره لك في العلم قال فلقيته فساءلته فذكره لي نحو ما حدثني به في مرته الأولى قال عروة فلما أخبرتها بذلك قالت ما أحسبه إلا قد صدق أراه لم يزد فيه شيئا ولم ينقص. -[المعنى العام]- في حجة الوداع وفي خطبه صلى الله عليه وسلم فيها وفي وصاياه صلى الله عليه وسلم لأمته وتحذيرهم من أمور تحدث لهم في مستقبل أيامهم وفي آخر أزمانهم ليأخذوا حذرهم وليقللوا من أضرار الفتن التي تنتظرهم يقول لهم من أشراط الساعة وعلاماتها وأماراتها أن يرفع الله العلم وليس من صدور العلماء بل بموت العلماء فكل عالم يموت إن لم يورث علمه لتلميذ أو لتلاميذ يموت معه علمه وكلما بعد الناس عن مصدر التشريع وطال بهم الزمن كلما نضب معين العلم الديني وبردت حرارته في القلوب حتى ينتهي الأمر بقبض العلم وانتشار الجهل واستعلاء الجهلاء وتقمصهم دور العلماء يستفتون فيفتون بغير علم فيضلون في أنفسهم ويضلون غيرهم ومن أشراط الساعة أيضا انتشار الزنى وشيوعه وقلة الاستحياء منه والمجاهرة به ومن أشراطها كثرة شرب الخمر والتجاهر بها وتسميتها بغير اسمها واستحلالها ومن أشراطها كثرة النساء وقلة الرجال بسبب الحروب وغيرها ومن أشراطها كثرة القتل لأتفه الأسباب بل قتل الولد أباه وأمه وأخاه وأخته وكثرة الحروب وانتشار أسلحة الدمار الشامل ومن أشراطها كثرة الفتن والوشايات والضغائن والتحاسد والتدابر ومن أشراطها تقارب الزمان وضعف البركة فيه وقلة العمل الأخروي وتضييع الوقت فيما لا يغني ولا يفيد حتى تضيع قيمته ويمر مر السحاب ولا يحس المرء بعمره وكأنه لم يعش إلا ساعة من نهار {هذا بلاغ للناس ولينذروا به} [إبراهيم 52] {فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها} [الأنعام 104] {وما ربك بظلام للعبيد} [فصلت 46]

-[المباحث العربية]- (من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويثبت الجهل) قال النووي هكذا هو في كثير من النسخ "يثبت الجهل" من الثبوت وفي بعضها "يبث" بضم الياء وفتح الباء بعدها ثاء مشددة أي ينشر ويشيع وفي الرواية الثانية "ويظهر الجهل" وفي الرواية الثالثة "وينزل فيها الجهل" و"أشراط" جمع "شرط" بفتح الراء وهو العلامة وفي الرواية الثالثة "إن بين يدي الساعة أياما يرفع فيها العلم" وسيأتي كيفية رفع العلم وثبوت الجهل والتعبير برفعه معناه خلو الأرض منه وهو المراد من قبضه في الرواية الرابعة وفي ملحقها "وينقص العلم" ونقصانه حالة سابقة على قبضه وهو المراد بانتزاعه في الروايات الأخيرة (ويشرب الخمر) بضم الياء مبني للمجهول ومنصوب عطفا على "يرفع العلم" والمراد كثرة شربها إذ لم يتوقف شربها (ويظهر الزنى) المراد من ظهوره كثرته وإعلانه وعدم الاستحياء منه وفي الرواية الثانية "ويفشو الزنى" زاد في الرواية الثانية "ويذهب الرجال" أي بالحروب وغيرها والمراد من ذهابهم ذهاب الكثيرين منهم وتبقى النساء أي يكثر عددهن عن الرجال "حتى يكون لخمسين امرأة قيم واحد" أي ولي أمر واحد لخمسين امرأة بنتا وأختا وأما وليس المراد زوجا وزاد في الرواية الثالثة والرابعة ويكثر فيها الهرج والهرج القتل والهرج بفتح الهاء وسكون الراء القتل بلسان الحبشة وزاد في الرواية الرابعة "ويلقى الشح" بضم الياء وسكون اللام أي يلقى في القلوب ويكثر وفي الأوسط للطبراني "يظهر الفحش والبخل" وزاد في الرواية الرابعة أيضا وتظهر الفتن أي تكثر وتنتشر وتعظم وزاد في ملحق الرواية الرابعة تقارب الزمان أي قصره وعدم البركة فيه وقلة ما يشغله من الأعمال النافعة في الدنيا والآخرة وفي رواية للبخاري يتقارب الزمان وينقص العمل وقيل المراد به قصر الأعمار وقيل المراد به ضعف مدة استلذاذ العيش قال الخطابي وما زال الناس يستقصرون مدة أيام الرخاء وإن طالت ويستطيلون مدة المكروه وإن قصرت وهذا القول غير سليم وقيل المراد به تقارب أحوال الناس في الشر والفساد والجهل قاله الطحاوي والأول أقرب فعند أحمد "لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان فتكون السنة كالشهر والشهر كالجمعة والجمعة كاليوم ويكون اليوم كالساعة وتكون الساعة كاحتراق السعفة" (إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناس رءوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) قال النووي ضبطناه في البخاري رءوسا بضم الهمزة وبالتنوين جمع رأس

وضبطوه في مسلم هنا بوجهين أحدهما هذا والثاني رؤساء بالمد جمع رئيس وكلاهما صحيح والأول أشهر اهـ والمراد من علم العلماء هنا العلم الديني وهذا لا يمنع انتشار العلوم الأخرى كما أن المراد من العلماء الذين يقبضون العلماء المعرضون للفتوى والذين يلجأ الناس إليهم ويعتقدون في فتواهم فلا يعارضه كثرة علماء الدين في هذه الأيام حتى ولو كانوا متعمقين في العلم لأنهم وقد لبسوا لباسا غير لباسهم أصبحوا مجهولين لا يعرفهم الناس ولا يفيدون منهم ومن لا يؤدي رسالته في حكم المعدوم وقد تصدر للفتوى في هذه الأيام نتيجة لتخلي العلماء المؤهلين عن رسالتهم الجهال فكثرت الفتاوى الضالة المضلة (عن عروة بن الزبير قال قالت لي عائشة يا ابن أختي بلغني أن عبد الله بن عمرو مار بنا إلى الحج فالقه فسائله فإنه قد حمل عن النبي صلى الله عليه وسلم علما كثيرا قال فلقيته فساءلته) عبد الله بن عمرو كان يكتب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو هريرة لا يكتب ومن هنا اشتهر بأنه المكثر الأول رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان في ظروف هذا الحديث يسكن مصر وكانت عائشة وابن أختها عروة بن الزبير يسكنان المدينة وقدم عبد الله بن عمرو من مصر إلى مكة مارا بالمدينة في طريقه إلى الحج فلقيه عروة فسأله (فكان فيما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله لا ينتزع العلم من الناس انتزاعا ولكن يقبض العلماء فيرفع العلم معهم ويبقى في الناس رءوسا جهالا يفتونهم بغير علم فيضلون ويضلون فلما حدثت عائشة بذلك أعظمت ذلك وأنكرته) في رواية للبخاري إن الله لا ينزع العلم بعد أن أعطاكموه وفي رواية بعد أن أعطاهموه ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم وعند الحميدي من قلوب العباد وعند الطبراني إن الله لا ينزع العلم من صدور الناس بعد أن يعطيهم إياه وفي رواية ألا إن ذهاب العلم ذهاب حملته ثلاث مرات أخرجه أحمد والطبراني وفي رواية عند أحمد والبزار إن قبض العلم ليس شيئا ينزع من صدور الرجال ولكنه فناء العلماء وفي رواية ولكن يقبض العلماء فيرفع العلم معهم وفي رواية ولكن يقبض العلم بقبض العلماء وفي رواية ولكن يذهب العلماء كلما ذهب عالم ذهب بما معه من العلم حتى يبقى من لا يعلم (قال عروة ثم لقيت عبد الله بن عمرو على رأس الحول فسألته فرد علينا الحديث كما حدث) في الرواية السادسة قال عروة حتى إذا كان قابل قالت له إن ابن عمرو قد قدم فالقه ثم فاتحه حتى تسأله الحديث الذي ذكره لك في العلم قال فلقيته فسألته فذكر لي نحو ما حدثني به في مرته الأولى قال عروة فلما أخبرتها بذلك قالت ما أحسبه إلا قد صدق أراه لم يزد فيه شيئا ولم ينقص قال النووي ليس معناه أنها اتهمته لكنها خافت أن يكون اشتبه عليه أو قرأه من كتب الحكمة فتوهم عن النبي صلى الله عليه وسلم فلما كرره مرة أخرى وثبت عليه غلب على ظنها

أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وقولها أراه بفتح الهمزة أي أعلمه اهـ وقال الحافظ ابن حجر ويحتمل أن عائشة كان عندها علم من الحديث وظنت أنه زاد فيه أو نقص فلما حدث به ثانيا كما حدث به أولا تذكرت أنه على وفق ما كانت سمعت وفي رواية قال عروة ثم لبثت سنة ثم لقيت عبد الله بن عمرو في الطواف فسألته .. الحديث قال الحافظ ابن حجر أفاد أن لقاءه إياه في المرة الثانية كان بمكة وكأن عروة كان حج في تلك السنة من المدينة وحج عبد الله من مصر فبلغ عائشة ويكون قولها إن ابن عمرو قد قدم أي من مصر طالبا مكة لا أنه قدم المدينة إذ لو دخلها للقيه عروة بها ويحتمل أن تكون عائشة حجت تلك السنة وحج معها عروة فقدم عبد الله بعد فلقيه عروة بأمر عائشة -[فقه الحديث]- أثارت هذه الأحاديث قضيتين الأولى استدل بها الجمهور على خلو الزمان عن مجتهد لأنها صريحة في رفع العلم وقبضه بقبض العلماء وفي ترئيس أهل الجهل ومن لازمه الحكم بالجهل وإذا انتفى العلم ومن يحكم به استلزم انتفاء الاجتهاد والمجتهد وأكثر الحنابلة وبعض من غيرهم يقولون لا يخلو زمان عن مجتهد ويستدلون بحديث لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وفي لفظ حتى تقوم الساعة فإنه ظاهر في عدم الخلو وقالوا إن الاجتهاد فرض كفاية وانتفاؤه يستلزم الاتفاق على الباطل وأجيب بأن فرض الكفاية مشروط ببقاء العلماء فأما إذا قام الدليل على انقراض العلماء فلا لأن بفقدهم تنتفي القدرة والتمكن من الاجتهاد وإذا انتفى أن يكون مقدورا لم يقع التكليف به هذا وينبغي أن نحدد موطن الخلاف أولا لوضوح القول الفصل إن كان المراد جواز خلو الزمان عن مجتهد فهو جائز كما أن عدم خلو الزمان عن مجتهد جائز وإن كان المراد وقوع وحصول خلو الزمان عن مجتهد في آخر الزمان يوم لا يقال في الأرض الله الله ويوم يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب كما رواه أحمد ويوم تأتي الريح اللينة فتقبض كل مؤمن في قلبه مثقال ذرة من إيمان فلا يبقى إلا شرار الخلق وعليهم تقوم الساعة فخلو الزمان حينئذ عن مجتهد محقق لا يقبل النزاع فيه وحديث لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين لا يعارضه لأنه معنيا بقوله حتى يأتي أمر الله وقوله حتى تقوم الساعة معناه حتى إشرافها ووجود آخر أشراطها كما وضحنا ذلك في شرح هذا الحديث وإن كان المراد وقوع خلو الزمان عن مجتهد في أيام الضعف كأيامنا التي نعيشها فلا دليل في حديثنا للجمهور لأن قضايا العصر تتجدد ولا بد من حكم شرعي وإلا لم يكن الإسلام صالحا لكل زمان ومكان فلا بد من وجود مجتهد وإن لم يكن على مستوى المجتهدين الأوائل

وفي هذا المقام يعجبني تقرير الحافظ ابن حجر إذ يقول ويمكن أن تنزل هذه الأحاديث على الترتيب في الواقع فيكون أولا رفع العلم بقبض العلماء المجتهدين الاجتهاد المطلق ثم المقيد فإذا لم يبق مجتهد استووا في التقليد لكن ربما كان بعض المقلدين أقرب إلى بلوغ درجة الاجتهاد المقيد من بعض ولا سيما إن فرعنا على جواز تجزؤ الاجتهاد ولكن لغلبة الجهل يقدم أهل الجهل أمثالهم وإليه الإشارة بقوله اتخذ الناس رءوسا جهالا وهذا لا ينفي ترئيس بعض من لم يتصف بالجهل التام كما لا يمتنع ترئيس من ينسب إلى الجهل في الجملة في زمن أهل الاجتهاد وقد أخرج ابن عبد البر في كتاب العلم عن دراج أبي السمح يقول يأتي على الناس زمان يسمن الرجل راحلته حتى يسير عليها في الأمصار يلتمس من يفتيه بسنة قد عمل بها فلا يجد إلا من يفتيه بالظن فيحمل على أن المراد الأغلب الأكثر في الحالين وقد وجد هذا مشاهدا ثم يجوز أن يقبض أهل هذه الصفة ولا يبقى إلا المقلد الصرف وحينئذ يتصور خلو الزمان عن مجتهد ولو في بعض الأبواب بل في بعض المسائل ولكن يبقى من له نسبة إلى العلم في الجملة ثم يزداد حينئذ غلبة الجهل وترئيس أهله ثم يجوز أن يقبض أولئك حتى لا يبقى منهم أحد وذلك جدير بأن يكون عند خروج الدجال أو بعد موت عيسى عليه السلام وحينئذ يتصور خلو الزمان عمن ينسب إلى العلم أصلا ثم تهب الريح فتقبض كل مؤمن وهناك يتحقق خلو الأرض عن مسلم فضلا عن عالم فضلا عن مجتهد ويبقى شرار الناس وعليهم تقوم الساعة والعلم عند الله اهـ القضية الثانية الإفتاء بالرأي وروايتنا الخامسة والسادسة تذم الإفتاء بغير علم والقرآن الكريم يقول {ولا تقف ما ليس لك به علم} [الإسراء 36] ورواية البخاري فيتبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون والتحقيق أن الذم موجه إلى القول بغير علم فيخص به من تكلم برأي مجرد عن استناد إلى أصل وذم من أفتى مع الجهل ولذلك وصفهم بالضلال والإضلال وقد امتدح القرآن الكريم من استنبط من الأصل بقوله {لعلمه الذين يستنبطونه منهم} [النساء 83] فالرأي إن كان مستندا إلى أصل من الكتاب أو السنة أو الإجماع فهو المحمود وإذا كان لا يستند إلى شيء منها فهو المذموم وحديث سهل بن حنيف في البخاري وقوله يا أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم وإن كان يدل على ذم الرأي لكنه مخصوص بما إذا كان معارضا للنص فكأنه قال اتهموا رأيكم إذا خالف السنة وقد ثبت أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أبي شريح انظر ما تبين لك من كتاب الله فلا تسأل عنه أحدا فإن لم يتبين لك من كتاب الله فاتبع فيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لم يتبين لك من السنة فاجتهد فيه رأيك وفي رواية أنه كتب لشريح اقض بما في كتاب الله فإن لم يكن فبما في سنة رسول الله فإن لم يكن فبما قضى به الصالحون فإن لم يكن فإن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر ولا أرى التأخر إلا خيرا لك فهذا عمر يأمر بالاجتهاد فدل على أن الرأي المذموم ما خالف الكتاب والسنة -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - الحث على حفظ العلم

2 - وفي الرواية الخامسة والسادسة حض أهل العلم وطلبته على أخذ بعضهم عن بعض 3 - وشهادة بعضهم لبعض بالحفظ والفضل 4 - وحض العالم تلميذه على الأخذ عن غيره ليستفيد ما ليس عنده 5 - والتثبت فيما يحدث به المحدث إذا قامت قرينة الذهول 6 - ومن قول عائشة فالقه ثم فاتحه حتى تسأله عن الحديث الذي ذكره لك في العلم ولم تقل له سله عنه ابتداء خشية من استيحاشه يؤخذ من هذا مراعاة الفاضل واحترام قدره 7 - وفي هذه الأحاديث الزجر عن ترئيس الجاهل لما يترتب عليه من المفسدة قال الحافظ ابن حجر وقد يتمسك به من لا يجيز تولية الجاهل ولو كان عاقلا عفيفا لكن إذا دار الأمر بين العالم الفاسق والجاهل العفيف فالجاهل العفيف أولى لأن ورعه يمنعه عن الحكم بغير علم فيحمله على البحث والسؤال 8 - وفي الأحاديث بعض أشراط الساعة من رفع العلم وظهور الجهل والشح وشرب الخمر والزنى وقلة الرجال وكثرة النساء والقتل والفتن وتقارب الزمان والله أعلم.

(739) باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة

(739) باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة 5911 - عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم الصوف فرأى سوء حالهم قد أصابتهم حاجة فحث الناس على الصدقة فأبطئوا عنه حتى رئي ذلك في وجهه قال ثم إن رجلا من الأنصار جاء بصرة من ورق ثم جاء آخر ثم تتابعوا حتى عرف السرور في وجهه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء 5912 - وفي رواية قال جرير بن عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يسن عبد سنة صالحة يعمل بها بعده" ثم ذكر تمام الحديث. 5913 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا -[المعنى العام]- الدال على الخير كفاعله والدال على الشر كفاعله ومن فتح باب خير كان له أجر مثل أجر من عمل به ومن فتح باب شر كان عليه من الوزر مثل وزر من عمل به لأنه سبب ووسيلة في الخير أو

الشر والسبب والوسيلة تعطي حكم الغاية حتى روي أن ابن آدم الذي شرع قتل أخيه وقتل أخاه عليه وزر في كل قتل لبني آدم لأنه أول من قتل فاقتدى به من يقتل وهذه دعوة إلى الناس عامة أن يكونوا مفاتيح خير مغاليق شر وأن ينصحوا بالخير ويعملوا به وأن يحذروا غيرهم من الشر بعد أن يبتعدوا عنه هدانا الله الصراط المستقيم -[المباحث العربية]- (جاء ناس من الأعراب إلى رسول لله صلى الله عليه وسلم) راغبين في أن يتصدق عليهم وأن يحسن عليهم (عليهم الصوف) ولباس صوف الغنم رمز في تلك الأيام على الفقر وسوء الحال ولهذا قال (فرأى سوء حالهم) في الملبس وعلم سوء حالهم بالشكوى (قد أصابتهم حاجة) بجدب الصحراء وقلة الزرع والضرع (فحث الناس على الصدقة فأبطئوا عنه حتى رؤي ذلك في وجهه) كان صلى الله عليه وسلم يوري ويعرض ولا يأمر ولا ينهي فربما فهموا عدم العزيمة مع جهد من سمع وضعف حال من وجد (ثم إن رجلا من الأنصار جاء بصرة من ورق) أي من فضة فكان هذا الرجل فاتحة خير وبداية عطاء وسن لمن يراه أن يعمل مثل ما عمل (ثم جاء آخر) أي بصرة أيضا (ثم تتابعوا حتى عرف السرور في وجهه) أي تتابعوا يحملون صدقاتهم وعطاءاتهم (من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها) قيد "فعمل بها بعده" قيد في مثل الأجر لا في مطلق الأجر والبعدية تشمل العمل بها بعد سنه وفي حياته كما تشمل من عمل بها بعد مماته وأما إذا لم يعمل بها أحد فله أجر أيضا وإن لم يكن مثل التي عملت وكذلك من ابتدع سنة سيئة كان عليه وزر ما سن سواء عمل بها أم لم يعمل بها لكن كلما كثر العاملون بها زاد إثمه ووزره كما قال تعالى {ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم} [النحل 25] (لا ينقص من أجورهم شيء) رفع لإيهام الاشتراك في أجر واحد وذلك فضل من الله

-[فقه الحديث]- أخرجه الترمذي من وجه آخر بلفظ من سن سنة خير ومن سن سنة شر وقال مجاهد في قوله تعالى {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم} [النحل 25] قال حملهم ذنوب أنفسهم وذنوب من أطاعهم ولا يخفف ذلك عمن أطاعهم شيئا وقال المهلب هذا الباب في معنى التحذير من الضلال واجتناب البدع ومحدثات الأمور في الدين والنهي عن مخالفة سبيل المؤمنين قال الحافظ ابن حجر ووجه التحذير أن الذي يحدث البدعة قد يتهاون بها لخفة أمرها في أول الأمر ولا يشعر بما يترتب عليها من المفسدة وهو أن يلحقه إثم من عمل بها من بعده ولو لم يكن هو عمل بها بل لكونه كان الأصل في إحداثها والله أعلم.

كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار

كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار

(740) باب الحث على ذكر الله تعالى

(740) باب الحث على ذكر الله تعالى 5914 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ هم خير منهم وإن تقرب مني شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة 5915 - وفي رواية عن الأعمش بهذا الإسناد ولم يذكر وإن تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا. 5916 - عن همام بن منبه قال هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله قال إذا تلقاني عبدي بشبر تلقيته بذراع وإذا تلقاني بذراع تلقيته بباع وإذا تلقاني بباع أتيته بأسرع. 5917 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة فمر على جبل يقال له جمدان فقال سيروا هذا جمدان سبق المفردون قالوا وما المفردون يا رسول الله قال الذاكرون الله كثيرا والذاكرات -[المعنى العام]- يقول الله تعالى {فاذكروني أذكركم} [البقرة 152] ويقول {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات 56] وذكر الله تعالى عبادة الملائكة واعتراف من المخلوق للخالق وقد مدح الله الذاكرين له في آيات كثيرة وجعلهم أولي الألباب في قوله {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم .. } [آل عمران 190 - 191] والذاكرون لا يشقون ولا يشقى جليسهم ويباهي الله بهم ملائكته يذكرهم الله في الملأ الأعلى ويجيب دعاءهم ويثيبهم ويرحمهم ويضاعف أجرهم

يقول لملائكته ماذا يطلبون؟ يقولون الجنة يقول فهل رأوها؟ يقولون لا فيقول كيف حالهم إذا رأوها؟ ومم يستعيذون؟ فيقولون من النار فيقول وهل رأوها؟ فيقولون لا فيقول فكيف إذا رأوها؟ أشهدكم يا ملائكتي أني غفرت لهم -[المباحث العربية]- (أنا عند ظن عبدي بي) أي أنا قادر على أن أعمل به ما ظن أني عامل به وقصره الكرماني على الرجاء وقصره القرطبي في المفهم على ظن الإجابة عند الدعاء وظن القبول عند التوبة وظن المغفرة عند الاستغفار وظن المجازاة عند فعل العبادة بشروطها تمسكا بصدق وعده ويؤيده حديث ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة (وأنا معه حين يذكرني) في رواية للبخاري وأنا معه إذا ذكرني أي بعلمي كقوله تعالى {إنني معكما أسمع وأرى} [طه 46] وقيل أنا معه بالرحمة والتوفيق والهداية والرعاية وقيل أنا معه في ظنه الذي يظنه بي وذكره لي (إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي) أي إن ذكرني بالتنزيه والتقديس سرا ذكرته بالثواب والرحمة سرا قال تعالى {فاذكروني أذكركم} [البقرة 152] ومعناه اذكروني بالتعظيم أذكركم بالإنعام {ولذكر الله أكبر} [العنكبوت 45] أي أكبر العبادات فمن ذكره وهو خائف آمنه أو مستوحش آنسه {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} [الرعد 28] ويجوز أن يكون المعنى إن ذكرني خاليا أثبته وجازيته بما لا يطلع عليه أحد (وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ هم خير منهم) الملأ بفتح الميم واللام وبالهمز الجماعة وسيأتي في فقه الحديث خيرية الملأ على أنهم الملائكة (وإن تقرب مني شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة) الأصل تقربت منه ذراعا فعبر بإلى التي تفيد الانتهاء وعكس الحرفين من وإلى في الذراع والباع فتبادل الحرفان الموقعين وقد اختلفت الروايات في وضع الحرفين والحروف ينوب بعضها عن بعض قال ابن بطال وصف سبحانه وتعالى نفسه بأنه يتقرب إلى عبده ووصف العبد بالتقرب إليه ووصفه بالإتيان والهرولة كل ذلك يحتمل الحقيقة والمجاز فحملها على الحقيقة يقتضي قطع المسافات وتداني الأجسام وذلك في حقه تعالى محال فلما استحالت الحقيقة تعين المجاز

لشهرته في كلام العرب فيكون وصف العبد بالتقرب إليه شبرا وذراعا وإتيانه ومشيه معناه التقرب إليه بالطاعة وأداء الفرائض والنوافل ويكون تقربه سبحانه وتعالى من عبده وإتيانه ومشيه عبارة عن إثابته على طاعته وتقريبه من رحمته ويكون قوله أتيته هرولة أي أتاه ثوابي مسرعا ونقل عن الطبري أنه إنما مثل القليل من الطاعة بالشبر ومثل مضاعفته الأجر والثواب بالذراع فجعل ذلك دليلا على مبلغ كرامته لمن أدمن على طاعته وقال ابن التين القرب هنا نظير قوله تعالى {فكان قاب قوسين أو أدنى} [النجم 9] فإن المراد به قرب الرتبة وتوفير الكرامة والهرولة كناية عن سرعة الرحمة إليه ورضا الله عن العبد وتضعيف الأجر قال والهرولة ضرب من المشي السريع وهي دون العدو وقال صاحب المشارق المراد في هذا الحديث سرعة قبول توبة العبد وتيسير طاعته وتقويته عليها وتمام هدايته وتوفيقه وقال الخطابي الباع معروف وهو قدر مد اليدين وأما البوع بفتح الباء فهو مصدر باع يبوع بوعا قال ويحتمل أن يكون بضم الباء جمع باع مثل دار ودور وقال الباجي الباع طول ذراعي الإنسان وعضديه وعرض صدره وذلك قدر أربعة أذرع وهو من الدواب قدر خطوها في المشي وهو ما بين قوائمها اهـ وفي الرواية الثانية إذا تلقاني عبدي بشبر تلقيته بذراع وإذا تلقاني بذراع تلقيته بباع وإذا تلقاني بباع أتيته بأسرع وزاد في بعض الروايات ومن أتاني بقراب الأرض خطيئة لم يشرك بي شيئا جعلتها له مغفرة وستأتي هذه الرواية بعد أربعة أبواب قال النووي في رواية وإذا تلقاني بباع جئته أتيته هكذا هو في أكثر النسخ جئته أتيته وفي بعضها جئته بأسرع فقط وفي بعضها أتيته وهاتان ظاهرتان والأول صحيح أيضا والجمع بينهما للتوكيد وهو حسن لا سيما عند اختلاف اللفظ (جبل يقال له جمدان) بضم الجيم وإسكان الميم (سبق المفردون) بفتح الفاء وكسر الراء المشددة قال النووي هكذا نقله القاضي عن متقني شيوخه وذكر غيره أنه روى بتخفيفها وإسكان الفاء يقال فرد الرجل وفرد بالتخفيف والتشديد وأفرد وقد فسرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (قال الذاكرون الله كثيرا والذاكرات) أي والذاكرات الله كثيرا فحذف المفعول كما

حذف في القرآن لمناسبة رءوس الآي ولأنه مفعول يجوز حذفه للعلم به قال ابن قتيبة وغيره وأصل المفردين الذين هلك أقرانهم وانفردوا فبقوا يذكرون الله تعالى وجاء في رواية هم الذين اهتزوا في ذكر الله أي لهجوا به وقال ابن الأعرابي يقال فرد الرجل إذا تفقه واعتزل وخلا بمراعاة الأمر والنهي -[فقه الحديث]- استدلت المعتزلة ومن وافقهم بهذا الحديث على أن الملائكة أفضل من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين واحتجوا أيضا بقوله تعالى {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا} [الإسراء 70] فالتقييد بالكثير احتراز من الملائكة قال النووي ومذهب أصحابنا وغيرهم أن الأنبياء أفضل من الملائكة لقوله تعالى في بني إسرائيل {وفضلناهم على العالمين} [الجاثية 16] والملائكة من العالمين اهـ قال ابن بطال هذا نص في أن الملائكة أفضل من بني آدم وهو مذهب جمهور أهل العلم وعلى ذلك شواهد من القرآن مثل {إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين} [الأعراف 20] والخالد أفضل من الفاني فالملائكة أفضل من بني آدم اهـ وفي كلامه نظر إذ لو صحت المقارنة لكان إبليس وهو من المنظرين أفضل قال الحافظ ابن حجر وتعقب بأن المعروف عن جمهور أهل السنة أن صالحي بني آدم أفضل من سائر الأجناس والذين ذهبوا إلى تفضيل الملائكة الفلاسفة ثم المعتزلة وقليل من أهل السنة من أهل التصوف وبعض أهل الظاهر فمنهم من فاضل بين الجنسين فقال حقيقة الملك أفضل من حقيقة الإنسان لأنها نورانية وخيرة ولطيفة مع سعة العلم والقوة وصفاء الجوهر وهذا لا يستلزم تفضيل كل فرد على كل فرد لجواز أن يكون في بعض الأناس ما في ذلك وزيادة ومنهم من خص الخلاف بصالحي البشر والملائكة ومنهم من خصه بالأنبياء ثم منهم من فضل الملائكة على غير الأنبياء ومنهم من فضلهم على الأنبياء أيضا إلا على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قال ومن أدلة تفضيل النبي على الملك أن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم على سبيل التكريم له حتى قال إبليس {أرأيتك هذا الذي كرمت علي} [الإسراء 62] ومنها قوله تعالى {لما خلقت بيدي} [ص 75] لما فيه من الإشارة إلى العناية به ولم يثبت ذلك للملائكة ومنها قوله تعالى {إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين} [آل عمران 33] ومنها قوله تعالى {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض} [الجاثية 13] فدخل في عمومه الملائكة والمسخر له أفضل من المسخر ولأن طاعة الملائكة بأصل الخلقة وطاعة البشر غالبا مع المجاهدة للنفس

لما طبعت عليه من الشهوة والحرص والهوى والغضب فكانت عبادتهم أشق وأيضا فطاعة الملائكة بالأمر الوارد عليهم وطاعة البشر بالنص تارة وبالاجتهاد تارة وبالاستنباط تارة فكانت أشق ولأن الملائكة سلمت من وسوسة الشياطين وإلقاء الشبه والإغواء الجائزة على البشر ولأن الملائكة تشاهد حقائق الملكوت والبشر لا يعرفون ذلك إلا بالإعلام وأجابوا على أدلة الآخرين بأن الخبر المذكور أي حديثنا ليس نصا ولا صريحا في المراد بل يطرقه احتمال أن يكون المراد بالملأ الذين هم خير من الملأ الذاكر الأنبياء والشهداء فإنهم أحياء عند ربهم فلم ينحصر ذلك في الملائكة وجواب آخر أقوى من الأول بأن الخيرية إنما حصلت بالذاكر والملأ الأعلى معا فالجانب الذي فيه رب العزة خير من الجانب الذي ليس هو فيه بلا ارتياب فالخيرية حصلت بالنسبة للمجموع على المجموع ثم قال الحافظ ابن حجر ومن أدلة المعتزلة تقديم الملائكة في الذكر في قوله تعالى {من كان عدوا لله وملائكته ورسله} [البقرة 98] وقوله {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم} [آل عمران 18] وقوله {الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس} [الحج 75] وتعقب بأن مجرد التقديم في الذكر لا يستلزم التفضيل لأنه لم ينحصر فيه بل له أسباب أخرى كالتقديم بالزمان في مثل قوله {ومنك ومن نوح وإبراهيم} [الأحزاب 7] فقدم نوحا على إبراهيم لتقدم زمان نوح مع أن إبراهيم أفضل ومنها قوله تعالى {لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون} [النساء 172] اهـ وهناك أدلة وردود أخرى يضيق عنها المقام وعندي أن هذا البحث ليس من ورائه كبير فائدة وعلمه عند الله تعالى يفضل ما يشاء على ما يشاء من غير مزية أو خصوصية فهو الواهب للمزايا والخصوصيات وفي الحديث فضيلة الذكر وقال الكرماني في الحديث إشارة إلى ترجيح جانب الرجاء على الخوف وكأنه أخذه من جهة التسوية فإن العاقل إذا سمع أنا عند ظن عبدي بي لا يعدل إلى ظن إيقاع الوعيد وهو جانب الخوف لأنه لا يختاره لنفسه بل يعدل إلى ظن وقوع الوعد وهو جانب الرجاء قال أهل التحقيق هذا التغليب مطلوب عند الاحتضار لقوله صلى الله عليه وسلم لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله والله أعلم.

(741) باب في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها

(741) باب في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها 5918 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لله تسعة وتسعون اسما من حفظها دخل الجنة وإن الله وتر يحب الوتر وفي رواية ابن أبي عمر من أحصاها. 5919 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة" وزاد همام عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "إنه وتر يحب الوتر". -[المعنى العام]- كثرة الأسماء تدل على عظم المسمى والاسم غير الصفة ومن المعلوم أن الله تعالى يتصف بكل كمال ويتنزه عن كل نقص وقد اختلف العلماء قديما وحديثا في إطلاق أسماء عليه تعالى مأخوذة من الأوصاف الكمالية غير واردة في أسمائه تعالى المنصوص عليها في الكتاب أو في السنة الصحيحة والتحقيق أن أسماء الله توقيفية فلا يجوز أن نسمي الله إلا بما سمى به نفسه في قرآنه أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وقد ورد في هذا الحديث أن لله تسعة وتسعين اسما ذكرت في بعض كتب السنن وحث على حفظها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال من حفظها دخل الجنة ومن أحصاها عدا وذكرا ودعاء في الصلاة أو غيرها كثر أجره وثوابه فاستحق الجنة إن شاء الله -[المباحث العربية]- (لله تسعة وتسعون اسما) كذا في معظم النسخ اسما بالنصب على التمييز وفي الرواية الثانية إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا بتذكير واحدا قال ابن بطال وهو الصواب وفي رواية عند البخاري إلا واحدة بالتأنيث وخرجت على إرادة التسمية أي إلا تسمية واحدة وقال السهيلي بل أنث الاسم لأنه كلمة أي إلا كلمة واحدة وقال ابن مالك أنث باعتبار معنى التسمية أو الصفة أو الكلمة وفائدة هذه الزيادة مائة إلا واحدا بعد تسعة وتسعين التقرير في

نفس السامع جمعا بين الإجمال والتفصيل أو رفعا للتصحيف الخطي والسمعي ووقع في رواية الحميدي مائة اسم غير واحد وعند ابن ماجه قال الله تعالى لي تسعة وتسعون اسما قال النووي واتفق العلماء على أن هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه سبحانه وتعالى فليس معناه أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة والتسعين وإنما مقصود هذا الحديث أن هذه التسعة والتسعين من أحصاها دخل الجنة فالمراد الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها لا الإخبار بحصر الأسماء وسيأتي تتمة هذه المسألة في فقه الحديث (من حفظها دخل الجنة) وفي الرواية الثانية من أحصاها دخل الجنة قال النووي فاختلفوا في المراد بإحصائها فقال البخاري وغيره من المحققين معناه حفظها وهذا هو الأظهر لأنه جاء مفسرا في الرواية الأخرى وقيل أحصاها عدها في الدعاء بها وقيل أطاقها أي أحسن المراعاة لها والمحافظة على ما تقتضيه وصدق بمعانيها وقيل معناه العمل بها والطاعة بكل اسمها قال والإيمان بها لا يقتضي عملا وقال بعضهم المراد حفظ القرآن وتلاوته كله لأنه مستوف لها قال وهو ضعيف والصحيح الأول (وإن الله وتر يحب الوتر) الوتر الفرد ومعناه في حق الله تعالى الواحد الذي لا شريك له ولا نظير ومعنى يحب الوتر تفضيل الوتر في الأعمال وكثير من الطاعات وقيل إن المعنى يحب أن يعبد ويذكر بما يفيد الوحدانية والتفرد مخلصا له -[فقه الحديث]- حكى ابن بطال عن المهلب أن المراد بالحديث الدعاء بهذه الأسماء لأن الحديث مبني على قوله تعالى {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} [الأعراف 180] فذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تسعة وتسعون فيدعى بها ولا يدعى بغيرها وتعقب بأنه ثبت في أخبار صحيحة الدعاء بكثير من الأسماء التي لم ترد في القرآن كما في حديث ابن عباس في قيام الليل أنت المقدم وأنت المؤخر وغير ذلك وقال الفخر الرازي لما كانت الأسماء من الصفات وهي إما ثبوتية حقيقية كالحي أو إضافية كالعظيم وإما سلبية كالقدوس وإما حقيقية إضافية كالقدير أو سلبية إضافية كالأول والآخر وإما من حقيقية وإضافية سلبية كالملك والسلوب غير متناهية لأنه عالم بلا نهاية قادر على ما لا نهاية فلا يمتنع أن يكون له من ذلك اسم فيلزم أن لا نهاية لأسمائه وحكى القاضي أبو بكر بن العربي عن بعضهم أن لله ألف اسم قال ابن العربي وهذا قليل فيها ونقل الفخر الرازي أن لله أربعة آلاف اسم استأثر بعلم ألف منها وأعلم الملائكة بالبقية والأنبياء بألفين منها وسائر الناس بألف اهـ وهذه دعوى بغير دليل فلا يلتفت إليها واستدل أيضا بعدم الحصر بأنه مفهوم عدد ومفهوم العدد ضعيف لا يعمل به

وممن ذهب إلى الحصر في العدد المذكور ابن حزم وهو وإن كان لا يقول بالمفهوم أصلا لكنه احتج بالتأكيد في قوله صلى الله عليه وسلم مائة إلا واحدا كما احتج بقوله تعالى {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه} [الأعراف 180] قال أهل التفسير من الإلحاد في أسمائه تسميته بما لم يرد في الكتاب أو السنة الصحيحة وقال غيره المراد بالأسماء الحسنى في قوله تعالى {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} ما جاء في الحديث إن لله تسعة وتسعين اسما فإن ثبت الخبر الوارد في تعيينها وجب المصير إليه وإلا فيتتبع من الكتاب العزيز والسنة النبوية الصحيحة فإن التعريف في الأسماء للعهد فلا بد من المعهود فإنه أمر بالدعاء بها ونهى عن الدعاء بغيرها فلا بد من وجود المأمور به وهذا سردها لتحفظ الله- الرحمن- الرحيم- الملك- القدوس- السلام- المؤمن- المهيمن- العزيز- الجبار- المتكبر- الخالق- البارئ- المصور- الغفار- القهار- التواب- الوهاب- الخالق- الرازق- الفتاح- العليم- الحليم- العظيم- الواسع- الحكيم- الحي- القيوم- السميع- البصير- اللطيف- الخبير- العلي- الكبير- المحيط- القدير- المولى- النصير- الكريم- الرقيب- المجيب- الوكيل- الحسيب- الحفيظ- المقيت- الودود- المجيد- الوارث- الشهيد- الولي- الحميد- الحق- المبين- القوي- المتين- الغني- المالك- الشديد- القادر- المقتدر- القاهر- الكافي- الشاكر- المستعان- الفاطر- البديع- الغافر- الأول- الآخر- الظاهر- الباطن- الكفيل- الغالب- الحكم- العدل- الرفيع- الحافظ- المنتقم- القائم- المحيي- الجامع- المليك- المتعالي- النور- الهادي- الغفور- الشكور- العفو- الرءوف- الأكرم- الأعلى- البر- الحفي- الرب- الإله- الواحد- الأحد- الصمد الذي لم يلد - ولم يولد - ولم يكن له كفوا أحد هذا وقد استدل بالحديث على صحة استثناء القليل من الكثير وهو متفق عليه وأبعد من استدل به على جواز الاستثناء مطلقا حتى يدخل استثناء الكثير حتى لا يبقى إلا القليل وأغرب الداودي فنقل الاتفاق على الجواز وأن من أقر ثم استثنى عمل باستثنائه حتى لو قال على ألف إلا تسعمائة وتسعة وتسعين أنه لا يلزمه إلا واحد وتعقب باستبعاد الاتفاق فالخلاف ثابت في مذهب مالك واستدل بالحديث على أن الاسم هو المسمى إذ لو كان غيره كانت الأسماء غيره لقوله تعالى {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} قال والمخلص من ذلك أن المراد بالاسم هنا التسمية وقال الفخر الرازي المشهور من قول أصحابنا أن الاسم نفس المسمى وغير التسمية وعند المعتزلة الاسم نفس التسمية وغير المسمى واختار الغزالي أن الثلاثة أمور متباينة قال الحافظ ابن حجر وهو الحق عندي وفي المبحث طول لا يليق بهذا المقام فمن أراده فليراجعه في فتح الباري

قال النووي وفيه دليل على أن أشهر أسمائه سبحانه وتعالى الله لإضافة هذه الأسماء إليه وإليه ينسب كل اسم له فيقال مثلا الرءوف والكريم من أسماء الله تعالى ولا يقال من أسماء الرءوف أو الكريم الله وقد جرى في بحوثهم عبارة اسم الله الأعظم وقد أنكره قوم كأبي جعفر الطبري وأبي الحسن الأشعري وجماعة بعدهما كأبي حاتم بن حبان والقاضي أبي بكر الباقلاني فقالوا لا يجوز تفضيل بعض الأسماء على بعض ونسب ذلك لمالك وحملوا ما ورد من ذكر ذلك على أن المراد بالأعظم العظيم وأن أسماء الله كلها عظيمة وقال آخرون بوجوده ثم اختلفوا فمنهم من قال استأثر الله تعالى بعلمه ولم يطلع عليه أحد من خلقه وقيل الاسم الأعظم هو نقله الفخر الرازي عن بعض أهل الكشف وقيل الله لأنه لم يطلق على غيره ولأنه الأصل في الأسماء الحسنى ومن ثم أضيفت إليه وقيل الرحمن الرحيم وقيل الحي القيوم وقيل الحنان المنان وقيل غير ذلك مما أوصله الحافظ ابن حجر إلى أربعة عشر قولا والله أعلم.

(742) باب العزم في الدعاء ولا يقل إن شئت

(742) باب العزم في الدعاء ولا يقل إن شئت 5920 - عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا دعا أحدكم فليعزم في الدعاء ولا يقل اللهم إن شئت فأعطني فإن الله لا مستكره له". 5921 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا دعا أحدكم فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت ولكن ليعزم المسألة وليعظم الرغبة فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه" 5922 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم "لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت ليعزم في الدعاء فإن الله صانع ما شاء لا مكره له" -[المعنى العام]- يقول الله تعالى {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله} [الكهف 23 - 24] لأن الإنسان لا حول له ولا قوة له إلا بحول الله وقوته أمر بتعليق كل تحركاته وكل أفعاله المستقبلة على إرادة الله ومشيئته أما في الدعاء وفي الطلب من الله فيكره له أن يعلق هذا الطلب على المشيئة وإن كان فعلا موقوفا إجابته على المشيئة لأن الطلب من الكريم الجواد لا يصح أن يعلق على شيء إذ التعليق يتنافى مع الإيمان بالسخاء مع الأمل والرجاء والطمع في رحمة الله وإن طالب الحاجة من الكريم الذي لا ينقص ملكه بالعطاء يجزم بالإجابة ويتأكد ويثق أن الله الكريم سيستجيب فقد وعد متفضلا بذلك إذ يقول في القرآن الكريم {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} [غافر 60] -[المباحث العربية]- (إذا دعا أحدكم فليعزم في الدعاء ولا يقل اللهم إن شئت فأعطني) وفي الرواية

الثانية "إذا دعا أحدكم فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت ولكن ليعزم المسألة وليعظم الرغبة" وفي الرواية الثالثة "لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت ليعزم في الدعاء" وعند البخاري "إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة ولا يقولن اللهم إن شئت فأعطني ... " والمراد من المسألة السؤال والدعاء ومعنى الأمر بالعزم الجد فيه وأن يجزم بوقوع مطلوبه ولا يعلق ذلك بمشيئة الله تعالى وإن كان مأمورا في جميع ما يريد فعله أن يعلقه بمشيئة الله تعالى وقيل معنى العزم أن يحسن الظن بالله في الإجابة وقوله "اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت" أمثلة ففي رواية للبخاري زيادة "اللهم ارزقني إن شئت" ومعنى قوله في الرواية الثانية "ليعظم الرغبة" أي يبالغ في ذلك بتكرار الدعاء والإلحاح فيه ويحتمل أن يراد به الأمر بطلب الشيء العظيم الكثير ويؤيده قوله في آخر الرواية الثانية "فإن الله لا يتعاظمه شيء" وطلب الشيء العظيم إنما يكون من العظيم (فإن الله لا مستكره له) بضم الميم وكسر الراء وفي الرواية الثالثة "لا مكره له" وهما بمعنى أي لا أحد يكرهه والذي يحتاج إلى التعليق بالمشيئة من إذا كان المطلوب منه يتأتى إكراهه على الشيء فيخفف الطالب الأمر عليه ويعلمه بأنه لا يطلب منه ذلك الشيء إلا برضاه وأما الله تعالى فمنزه عن ذلك فليس للتعليق فائدة ويحتمل أن التعليق على المشيئة في حالة الطلب يوهم اعتقاد البخل فإن البخيل هو الذي يتردد في الإعطاء والإجابة ويحتمل أن في التعليق على المشيئة إيهاما بالاستغناء عن المطلوب والمطلوب منه والأول أولى ففي الرواية الثالثة "فإن الله صانع ما شاء لا مكره له" -[فقه الحديث]- قال ابن عبد البر لا يجوز لأحد أن يقول اللهم أعطني إن شئت وغير ذلك من أمور الدين والدنيا لأنه كلام مستحيل لا وجه له لأنه لا يفعل إلا ما شاءه اهـ وظاهره أنه حمل النهي عن التحريم قال الحافظ ابن حجر وهو الظاهر وحمل النووي النهي في ذلك على كراهة التنزيه وهو أولى ويؤيده حديث الاستخارة وقال ابن بطال في الحديث أنه ينبغي للداعي أن يجتهد في الدعاء ويكون على رجاء الإجابة ولا يقنط من الرحمة فإنه يدعوا كريما وقد قال ابن عيينة لا يمنعن أحدا الدعاء ما يعلم في نفسه يعني من التقصير فإن الله قد أجاب دعاء شر خلقه وهو إبليس حين قال {قال أنظرني إلى يوم يبعثون} [الأعراف 14] وقال الداودي معنى قوله "ليعزم المسألة" أن يجتهد ويلح ولا يقل إن شئت كالمستثني ولكن دعاء البائس الفقير قال الحافظ ابن حجر وكأنه أشار بقوله المستثني إلى أنه إذا قالها على سبيل التبرك لا يكره وهو كلام جيد اهـ والله أعلم.

(743) باب كراهة تمني الموت لضر نزل به

(743) باب كراهة تمني الموت لضر نزل به 5923 - عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به فإن كان لا بد متمنيا فليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي". 5924 - وفي رواية عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله غير أنه قال "من ضر أصابه". 5925 - عن النضر بن أنس وأنس يومئذ حي قال أنس لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا يتمنين أحدكم الموت" لتمنيته. 5926 - عن قيس بن أبي حازم قال دخلنا على خباب وقد اكتوى سبع كيات في بطنه فقال لو ما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعوا بالموت لدعوت به. 5927 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يتمنى أحدكم الموت ولا يدع به من قبل أن يأتيه إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا" -[المعنى العام]- الدنيا مزرعة الآخرة وكلما اتسعت هذه المزرعة كلما تهيأت الفرصة للاستفادة منها ولما كان الدعاء معرضا للإجابة كان الدعاء بتضييق الفرص دعاء ليس في صالح صاحبه وكان الدعاء بالموت أو تمنيه دعاء منهيا عنه "لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه ولا يدع بالموت لضر نزل به"

لأنه إن كان محسنا فطول عمره يزيد رصيد حسناته وإن كان مسيئا كان طول عمره فرصة لتوبته وتعديل مساره فإن آلمه المرض واشتدت به نكبات الحياة ولم يكن له مفر من تمني الموت فليلاحظ في دعائه التسليم للقضاء والرضا بالقدر وليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي بهذا يظل المؤمن حسن الظن بالله راضيا بقضاء الله صابرا محتسبا ما يصيبه في دنياه -[المباحث العربية]- (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به) في ملحق الرواية "من ضر أصابه" والخطاب ككل خطاب الشرع إما للمخاطبين الحاضرين وغيرهم ممن على شاكلتهم مكلفون بما كلفوا به ومخاطبون بما خوطبوا به عن طريق القياس وإما أن يكون الخطاب لكل من يتأتى خطابه في كل زمان ومكان وقوله "من ضر أصابه" حمله جماعة من السلف على الضر الدنيوي و"من" في قوله "من ضر أصابه" سببية أي بسبب ضر أصابه وفي الرواية الرابعة "لا يتمنى أحدكم الموت ولا يدع به من قبل أن يأتيه" (فإن كان لا بد متمنيا) الموت وفي رواية للبخاري "فإن كان لا بد فاعلا" وفي رواية أخرى له "فإن كان ولا بد متمنيا للموت" (فليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي) "ما " في "ما كانت الحياة" ظرفية دوامية أي مدة كون الحياة خيرا وعبر بها في جانب الحياة لأنها حاصلة فحسن أن يأتي بالصيغة المقتضية للاتصاف بالحياة ولما كانت الوفاة لم تقع بعد حسن أن يأتي بصيغة الشرط (لولا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لا يتمنين أحدكم الموت لتمنيته) في الرواية الثالثة "لو ما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعوا بالموت لدعوت به" و"لو ما" مثل "لولا" حرف امتناع لوجود أي امتنع دعائي بالموت لوجود النهي (إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله وإنه لن يزيد المؤمن عمره إلا خيرا) هذا تعليل للنهي وإشارة إلى أن طول العمر خير من الموت فإنه فرصة للعمل ولفظ التعليل عند البخاري "إما محسنا فلعله أن يزداد خيرا وإما مسيئا فلعله أن يستعتب" "يستعتب" بضم الياء وفتح التاء الأولى وكسر الثانية أي يرجع عن موجب العتب عليه

-[فقه الحديث]- قال النووي فيه التصريح بكراهة تمني الموت لضر نزل به من مرض أو فاقة أو محنة من عدو أو نحو ذلك من مشاق الدنيا فأما إذا خاف ضررا في دينه أو فتنة فيه فلا كراهة فيه لمفهوم هذا الحديث وغيره وقد فعل هذا الثاني خلائق من السلف عند خوف الفتنة في أديانهم قال وفيه أنه إن خالف ولم يصبر على حاله في بلواه بالمرض ونحوه فليقل اللهم أحيني إن كانت الحياة خيرا لي ... إلخ والأفضل الصبر والسكون للقضاء اهـ وقلنا إن بعض السلف حملوا هذا الحديث على الضرر الدنيوي كما أشار إلى ذلك النووي قال الحافظ ابن حجر ويمكن أن يؤخذ ذلك من رواية ابن حبان "لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به في الدنيا" على أن "في" سببية أي بسبب أمر من أمور الدنيا وقول النووي وقد فعل هذا الثاني خلائق من السلف يشير بذلك إلى ما في الموطأ عن عمر رضي الله عنه أنه قال "اللهم كبرت سني وضعفت قوتي وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط" ويروى أن عابس الغفاري قال "يا طاعون خذني فقال له عليم الكندي لم تقول هذا؟ ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يتمنين أحدكم الموت"؟ فقال إني سمعته يقول "بادروا بالموت ستا إمرة السفهاء وكثرة الشرط وبيع الحكم .. " وأخرج أبو داود وصححه الحاكم حديث معاذ وفيه "وإذا أردت بقوم فتنة فتوفني إليك غير مفتون" وقد استشكل الحديث بأن أوله نهي عن تمني الموت وآخره إجازة لتمني الموت وأجيب بأن النهي موجه إلى التمني المطلق وفيه نوع اعتراض ومراغمة للقدر المحتوم وفي آخره جواز التمني المقيد وفيه نوع من التفويض والتسليم للقضاء وفي الأمر بالقول "اللهم أحيني ... " إلخ أن الأمر يصرف عن حقيقته من الوجوب والاستحباب إلى الإباحة وخاصة إذا كان بعد حظر فإنه يكون لمطلق الإذن وقد أخذ بعضهم من مفهوم قوله في روايتنا الرابعة "من قبل أن يأتيه" أنه إذا حل به لا يمنع من تمنيه رضا بلقاء الله فقد قال صلى الله عليه وسلم "اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى" وقد استشكل على الحديث وهو يفيد أن طول العمر خير بأن طول العمر قد يكون شرا فقد يرتد عن الإيمان والعياذ بالله وأجيب بأن ذلك نادر وبأن من سبق عليه القدر بخاتمة السوء فلا بد من وقوعها طال عمره أو قصر فتعجيله طلب الموت لا خير فيه والله أعلم.

(744) باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه

(744) باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه 5928 - عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه". 5929 - عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه" فقلت يا نبي الله أكراهية الموت فكلنا نكره الموت فقال "ليس كذلك ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه وإن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله وكره الله لقاءه". 5930 - عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه والموت قبل لقاء الله". 5931 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه" قال فأتيت عائشة فقلت يا أم المؤمنين سمعت أبا هريرة يذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا إن كان كذلك فقد هلكنا فقالت إن الهالك من هلك بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذاك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه" وليس منا أحد إلا وهو يكره الموت فقالت قد قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بالذي تذهب إليه ولكن إذا شخص

البصر وحشرج الصدر واقشعر الجلد وتشنجت الأصابع فعند ذلك من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه. 5932 - عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه". -[المعنى العام]- الدنيا سجن المؤمن جعلها الله مزرعة الآخرة فمن يعمل فيها مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل فيها مثقال ذرة شرا يره والموت هو باب الخروج من السجن إلى الدار الأخرى لكن قد تكون الدار التي بعد السجن دار عذاب وشقاء وجحيم وقد تكون دار سعادة وهناء ونعيم نتيجة لما زرع الزارع في سجنه وما عمل العامل في دنياه فمن زرع حصد ومن زرع قمحا حصد قمحا ومن زرع شوكا ومرا لم يحصد إلا شوكا ومرا والشقي يلهو في دنياه ناسيا أخراه ينعم بما يأكل ويشرب ويتمتع كما تأكل الأنعام ويغتر بطول الليالي والأيام لا يعرف حقيقتها وأنها ساعة النهاية تكون كفيلم شاهده مرت أحداثه في دقائق من ليل أو نهار عند النهاية {فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون} ولا تملكون له شيئا {ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين} [الواقعة 83 - 87] هل يستطيع أحد منكم مهما بلغ من الطب أن يرجعها إلى الجسد إذا بلغت الحلقوم وهل يستطيع المحتضر أن يخبركم بما يرى إنه يرى مقعده من الجنة أو مقعده من النار لكنه قد ختم على لسانه وعلى قلبه فلا ينطق ولا يشير إنه إن كان شقيا كره المصير وكره الدار الآخرة وقال أخروني أخروني إلى أين أذهب لا أحب أن أذهب لا أحب أن أذهب إلى قبري إنه حفرة من حفر النار وأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم يراها في انتظاره فيحب لقاء الله ويحب التقدم للآخرة ويقول لمن حوله وإن كانوا لا يسمعون أسرعوا بي أسرعوا بي أسرعوا بي إلى قبري إلى روضة من رياض الجنة ويقول كما قال صلى الله عليه وسلم "اللهم الرفيق الأعلى" في هذه الساعة الحرجة وفي هذه اللحظات الدقيقة من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه وفتح له أبواب رحمته ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه وأعد له جزاء ما قدمت يداه جعلنا الله ممن يحبون لقاءه ويحب لقاءهم -[المباحث العربية]- (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه) لقاء الله

يطلق ويراد به معان مختلفة فيطلق ويراد به البعث ومنه قوله تعالى {الذين كذبوا بلقاء الله} [يونس 45] ويطلق ويراد به الموت ومنه قوله تعالى {من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت} [العنكبوت 5] وقوله {قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم} [الجمعة 8] وليسا مرادين هنا ولكن المراد منه هنا المصير إلى الدار الآخرة وطلب ما عند الله وليس الغرض منه الموت فعائشة تقول في روايتنا الثالثة "والموت قبل لقاء الله" أي إن الموت غير اللقاء ولكنه معترض دون الغرض المطلوب فيجب أن يصير عليه ويحتمل مشاقه حتى يصل إلى الفوز باللقاء وتنفي عائشة أن المراد بلقاء الله الموت فتقول في الرواية الرابعة لمن قال لها ليس منا أحد إلا وهو يكره الموت تقول "ليس بالذي تذهب إليه ولكن إذا شخص البصر" بفتح الشين والخاء أي فتح المحتضر عينيه إلى فوق فلم يطرف "وحشرج الصدر" بفتح الحاء وسكون الشين وفتح الراء أي ترددت الروح في الصدر وعلا وانخفض واضطرب الشهيق والزفير "واقشعر الجلد" أي قام شعره "وتشنجت الأصابع" بفتح التاء والنون المشددة بينهما شين أي تقبضت وهذه الأمور هي حالة المحتضر وهذه الزيادة من كلام عائشة ذكرتها استنباطا فكراهة الموت وشدته ليس المراد بلقاء الله فإن هذا لا يكاد يخلو عنه أحد ولكن المذموم من ذلك إيثار الدنيا والركون إليها وكراهية أن يصير إلى الله والدار الآخرة وقد عاب الله قوما بحب الحياة فقال {إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها} [يونس 7] وقال النووي معنى الحديث أن المحبة والكراهة التي تعتبر شرعا هي التي تقع عند النزع في الحالة التي لا تقبل فيها التوبة حيث ينكشف الحال للمحتضر ويظهر له ما هو صائر إليه اهـ وفي البخاري "قالت عائشة أو بعض أزواجه إنا لنكره الموت قال صلى الله عليه وسلم ليس ذاك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه وإن الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره إليه مما أمامه فكره لقاء الله وكره الله لقاءه" فهذا حديث آخر غير أحاديثنا وقصة أخرى حضرها عبادة بن الصامت وبعض أمهات المؤمنين وبعض الصحابة ولما كان الشرط سببا في الجواب غالبا ذهب بعضهم إلى أن "من" في قوله "من أحب لقاء الله" موصولة وليست شرطية والمعنى عليها الذي يحب لقاء الله يحب الله لقاءه قال الكرماني ليس الشرط هنا سببا للجزاء بل الأمر بالعكس ولكنه على تأويل الخبر أي من أحب لقاء الله أخبره الله بأنه يحب لقاءه كذا الكراهة وقال ابن عبد البر "من" هنا خبرية وليست شرطية فليس معناه أن سبب حب الله لقاء العبد حب العبد لقاء الله ولا الكراهة ولكنه صفة حال الطائفتين في أنفسهم عند ربهم والتقدير من أحب لقاء الله فهو الذي أحب الله لقاءه وكذا الكراهة قال الحافظ ابن حجر ولا حاجة إلى دعوى نفي الشرطية فسيأتي في التوحيد من حديث أبي هريرة رفعه "قال الله عز وجل إذا أحب عبدي لقائي أحببت لقاءه" الحديث فتعين أن "من" في حديث الباب شرطية وتأويلها كما سبق في قول الكرماني أي التأويل في خبر "من" وليس في "من" وفي العدول عن الضمير إلى الظاهر في قوله "أحب الله لقاءه" ولم يقل أحب لقاءه تفخيم

وتعظيم ودفع لتوهم عود الضمير على الموصول لئلا يتحد في الصورة المبتدأ والخبر ففيه إصلاح اللفظ لتصحيح المعنى وأيضا فعود الضمير على المضاف إليه قليل -[فقه الحديث]- -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - البداءة بأهل الخير في الذكر لشرفهم وإن كان أهل الشر أكثر 2 - وأن المجازاة من جنس العمل فإنه قابل المحبة بالمحبة والكراهة بالكراهة 3 - وأن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة على أن المراد من اللقاء الرؤية وهو غير لازم فاللقاء أعم من الرؤية 4 - وفيه أن المحتضر إذا ظهرت عليه علامات السرور كان ذلك دليلا على أنه بشر بالخير وكذا بالعكس 5 - وفيه أن محبة لقاء الله لا تدخل في النهي عن تمني الموت السابق حديثه لأنها ممكنة مع عدم تمني الموت كأن تكون المحبة حاصلة لا يفترق حاله فيها بحصول الموت ولا بتأخره قاله الحافظ ابن حجر 6 - وأن النهي عن تمني الموت محمول على حالة الحياة المستمرة وأما عند الاحتضار والمعاينة فلا تدخل تحت النهي بل هي مستحبة 7 - وفيه أن في كراهة الموت في حال الصحة تفصيلا فمن كرهه إيثارا للحياة على ما بعد الموت من نعيم الآخرة كان مذموما ومن كرهه خشية أن يفضي إلى المؤاخذة كأن يكون مقصرا في العمل لم يستعد له بالأهبة بأن يتخلص من التبعات ويقوم بأمر الله كما يجب فهو معذور لكن ينبغي لمن وجد ذلك أن يبادر إلى أخذ الأهبة حتى إذا حضره الموت لا يكرهه بل يحبه لما يرجو بعده من لقاء الله تعالى والله أعلم.

(745) باب فضل الذكر والدعاء والتقرب إلى الله وحسن الظن به

(745) باب فضل الذكر والدعاء والتقرب إلى الله وحسن الظن به 5933 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله يقول أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني". 5934 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "قال الله عز وجل إذا تقرب عبدي مني شبرا تقربت منه ذراعا وإذا تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا أو بوعا وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة". 5935 - وفي رواية عن معتمر عن أبيه بهذا الإسناد ولم يذكر "إذا أتاني يمشي أتيته هرولة". 5936 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقول الله عز وجل أنا عند ظن عبدي وأنا معه حين يذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منه وإن اقترب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا وإن اقترب إلي ذراعا اقتربت إليه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة" 5937 - عن أبي ذر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقول الله عز وجل من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد ومن جاء بالسيئة فجزاؤه سيئة مثلها أو أغفر ومن تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة" قال إبراهيم حدثنا الحسن بن بشر حدثنا وكيع بهذا الحديث.

5938 - وفي رواية عن الأعمش بهذا الإسناد نحوه غير أنه قال "فله عشر أمثالها أو أزيد". -[المعنى العام]- يراجع باب الحث على ذكر الله تعالى قبل أربعة أبواب -[المباحث العربية]- (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد) في ملحق الرواية "أو أزيد" بأو بدل الواو قال النووي معناه أن التضعيف بعشرة أمثالها لا بد بفضل الله ورحمته ووعده الذي لا يخلف والزيادة بعد بكثرة التضعيف إلى سبعمائة ضعف وإلى أضعاف كثيرة يحصل لبعض الناس دون بعض على حسب مشيئته سبحانه وتعالى اهـ وهذا المعنى على لفظ "أو" (ومن جاء بالسيئة فجزاؤه سيئة مثلها أو أغفر) أي أو أغفرها وفي رواية "فجزاء سيئة بمثلها" (ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة) "قراب" بضم القاف على المشهور وهو ما يقارب ملأها وحكى كسر القاف نقله القاضي وغيره (وتراجع بقية المباحث العربية قبل أربعة أبواب باب الحث على ذكر الله تعالى) -[فقه الحديث]- يراجع قبل أربعة أبواب باب الحث على ذكر الله تعالى

(746) باب كراهة الدعاء بتعجيل العقوبة في الدنيا

(746) باب كراهة الدعاء بتعجيل العقوبة في الدنيا 5939 - عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلا من المسلمين قد خفت فصار مثل الفرخ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إياه" قال نعم كنت أقول اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "سبحان الله لا تطيقه أو لا تستطيعه أفلا قلت اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" قال فدعا الله له فشفاه 5940 - وفي رواية عن حميد بهذا الإسناد إلى قوله "وقنا عذاب النار" ولم يذكر الزيادة. 5941 - عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على رجل من أصحابه يعوده وقد صار كالفرخ بمعنى حديث حميد غير أنه قال "لا طاقة لك بعذاب الله" ولم يذكر فدعا الله له فشفاه. -[المعنى العام]- إذا عجز الإنسان عن العمل بسبب المرض وقرب الأجل ينبغي أن يغلب الرجاء على الخوف وأن يطمع أكثر في عفو الله ورحمته ويسأله العفو والعافية ولا يسأله العقوبة العاجلة حتى لو كان نادما على ذنبه راغبا في تطهير نفسه ففضل الله أوسع وليطلب من الله الصفح وأن يمنحه في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وأن يقيه عذاب النار هذا ما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم رجلا مريضا خاف عقوبة الآخرة وفضل عليها عقوبة الدنيا فدعا ربه قائلا اللهم إن كنت معاقبي بذنبي في الآخرة فعجله لي في الدنيا وسمع الرسول الكريم همس هذا المريض وهو يعوده فقال له ماذا كنت تقول قال كنت أقول كذا قال له عجبا لك هل تعرف مقدار العقوبة الدنيوية إنها لو وقعت وجوزيت بقدر جرمك ما استطعت وقد أصبحت لا تطيق القليل فاسأل الله العفو والعافية

-[المباحث العربية]- (عاد رجلا من المسلمين قد خفت فصار مثل الفرخ) يقال خفت بفتح الفاء يخفت بكسرها وضمها خفتا بسكونها وخفوتا وخفاتا سكن وضعف وخفت المريض انقطع كلامه والأصل في الفرخ ولد الطائر والمراد هنا تشبيهه به في الضعف وفي ملحق الرواية "دخل على رجل من أصحابه يعوده وقد صار كالفرخ" (هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إياه) مفعول "تسأله" يعود على الله ولم يسبق له ذكر لكنه معلوم والظاهر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع همسا من الرجل أو رأى تحريك لسانه (لا تطيقه أو لا تستطيعه) الضمير يعود على العقاب الذي يطلبه وفي ملحق الرواية "لا طاقة لك بعذاب الله" (أفلا قلت) حض على أن يقول -[فقه الحديث]- 1 - قال النووي في هذا الحديث النهي عن الدعاء بتعجيل العقوبة 2 - وجواز التعجب بقول سبحان الله 3 - واستحباب عيادة المريض والدعاء له 4 - وفيه كراهة تمني البلاء لئلا يتضجر منه ويسخطه وربما شكا 5 - وفضل الدعاء باللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وسيأتي فضل هذا الدعاء بعد باب واحد والله أعلم

(747) باب فضل مجالس الذكر

(747) باب فضل مجالس الذكر 5942 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن لله تبارك وتعالى ملائكة سيارة فضلا يتتبعون مجالس الذكر فإذا وجدوا مجلسا فيه ذكر قعدوا معهم وحف بعضهم بعضا بأجنحتهم حتى يملئوا ما بينهم وبين السماء الدنيا فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا إلى السماء قال فيسألهم الله عز وجل وهو أعلم بهم من أين جئتم فيقولون جئنا من عند عباد لك في الأرض يسبحونك ويكبرونك ويهللونك ويحمدونك ويسألونك قال وماذا يسألوني قالوا يسألونك جنتك قال وهل رأوا جنتي قالوا لا أي رب قال فكيف لو رأوا جنتي قالوا ويستجيرونك قال ومم يستجيرونني قالوا من نارك يا رب قال وهل رأوا ناري قالوا لا قال فكيف لو رأوا ناري قالوا ويستغفرونك قال فيقول قد غفرت لهم فأعطيتهم ما سألوا وأجرتهم مما استجاروا قال فيقولون رب فيهم فلان عبد خطاء إنما مر فجلس معهم قال فيقول وله غفرت هم القوم لا يشقى بهم جليسهم". -[المعنى العام]- يقول الله تعالى {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة 30] نعم الملائكة منهم الراكع أبدا ومنهم الساجد أبدا ومنهم الذاكر أبدا ومنهم المسبح أبدا وما كانوا يظنون أن سيكون من بني آدم من يذكر الله كثيرا على الرغم من اختلاف طبيعة الخلقتين من هنا كان السائحون من الملائكة إذا وجدوا مجلس ذكر في الأرض أسرعوا إليه يحفونه بأجنحتهم ويستمعون لهم ويذكرون بذكرهم فإذا قام الذاكرون وتفرقوا وانصرفوا صعدت الملائكة لربها فيسألهم ربهم سؤال تقرير واعتراف وهو أعلم بالجواب يسألهم كيف رأيتم عبادي في الأرض فيقولون رأيناهم يذكرونك يكبرونك يهللونك يسبحونك يحمدونك يقدسونك يمجدونك يدعونك يقول هل رأوني يقولون لا يقول فكيف إذا رأوني يقولون يزيدون في عبادتهم وذكرهم فيقول لهم ماذا يسألونني فيقولون يسألونك أن تدخلهم الجنة ونعيمها فيقول هل رأوها فيقولون لم يروها فيقول فكيف حالهم لو رأوها يقولون يزيدون شوقا إليها وحرصا عليها فيقول من ماذا يستعيذون فيقولون من النار فيقول فهل رأوها فيقولون لا لم يروها فيقول فكيف إذا رأوها

فيقولون يكونون أشد نفورا وخوفا منها فيقول أشهدكم يا ملائكتي أني غفرت لهم وأعطيتهم الجنة طلبهم وأعذتهم من النار مخيفتهم فيقولون ربنا إن فيهم فلانا ليس منهم جاء إليهم طالب حاجة من أحدهم فجلس حتى يفرغ له ولم يذكر معهم فيقول لهم وفلان هذا قد غفرت له هم القوم لا يشقى جليسهم بل يكرم معهم لأجلهم -[المباحث العربية]- (إن لله تبارك وتعالى ملائكة سيارة) بفتح السين والياء المشددة صيغة مبالغة أي كثيرة السير أي سياحون في الأرض (فضلا) بضم الفاء والضاد وبضم الفاء وسكون الضاد قال النووي ورجحها بعضهم وادعى أنها أكثر وأصوب والثالثة بفتح الفاء وإسكان الضاد قال القاضي هكذا الرواية عند جمهور شيوخنا في البخاري ومسلم والرابعة "فضل" بضم الفاء والضاد ورفع اللام على أنه خبر مبتدأ محذوف والخامسة "فضلاء" بالمد جمع فاضل قال العلماء معناه على جميع الروايات أنهم ملائكة زائدون على الحفظة وغيرهم من المرتبين مع الخلائق فهؤلاء السيارة لا وظيفة لهم وإنما مقصودهم حلق الذكر (يتتبعون مجالس الذكر) قال النووي ضبطوه على وجهين أحدهما بالعين من التتبع وهو البحث عن الشيء والتفتيش والثاني "يبتغون" بالغين من الابتغاء وهو الطلب وكلاهما صحيح (فإذا وجدوا مجلسا فيه ذكر قعدوا معهم وحف بعضهم بعضا بأجنحتهم حتى يملئوا ما بينهم وبين السماء الدنيا) قال النووي هكذا هو في كثير من نسخ بلادنا "حف" بالحاء والفاء وفي بعضها "حض" بالضاد أي حث بعضهم بعضا على الحضور والاستماع وحكى القاضي عن بعض رواتهم "وحط" بالطاء واختاره القاضي قال ومعناه أشار بعضهم إلى بعض بالنزول ويؤيد هذه الرواية قوله بعده في البخاري "هلموا إلى حاجتكم" ويؤيد الرواية الأولى وهي "حف" قوله في البخاري "يحفونهم بأجنحتهم ويحدقون بهم ويستديرون حولهم ويحوف بعضهم بعضا" وعند البخاري "إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا هلموا إلى حاجتكم قال فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا" وفي رواية "هلموا إلى بغيتكم" ومعنى "يحفونهم بأجنحتهم" أي يدنون بأجنحتهم حول الذاكرين (فإذا تفرقوا عرجوا) أي فإذا تفرق الذاكرون عرج الملائكة (فيسألهم الله عز وجل وهو أعلم بهم من أين جئتم فيقولون جئنا من عند

عباد لك في الأرض يسبحونك ويكبرونك ويهللونك ويحمدونك ويسألونك) زاد في رواية "ويمجدونك" وزاد عند البزار "ويعظمون آلاءك ويتلون كتابك ويصلون على نبيك ويسألونك لآخرتهم ودنياهم" وفي رواية البخاري "فيقول هل رأوني فيقولون لا والله ما رأوك قال فيقول كيف لو رأوني قال يقولون لو رأوك كانوا أشد لك عبادة وأشد لك تمجيدا وأكثر لك تسبيحا" وفي رواية "وتحميدا" وفي رواية "وأشد لك ذكرا" (قال وماذا يسألوني قالوا يسألونك جنتك قال وهل رأوا جنتي قالوا لا أي رب قال فكيف لو رأوا جنتي) في رواية البخاري "فكيف لو أنهم رأوها قال يقولون لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصا وأشد لها طلبا وأعظم فيها رغبة" (قالوا ويستجيرونك قال ومم يستجيرونني قالوا من نارك يا رب قال وهل رأوا ناري قالوا لا قال فكيف لو رأوا ناري) يقال استجار من كذا أي طلب الأمان منه وفي رواية البخاري "فمم يتعوذون قال يقولون من النار قال يقول وهل رأوها قال فيقولون لا والله يا رب ما رأوها قال يقول فكيف لو رأوها قال يقولون لو رأوها كانوا أشد منها فرارا وأشد لها مخافة" (قالوا ويستغفرونك قال فيقول قد غفرت لهم فأعطيتهم ما سألوا وأجرتهم مما استجاروا) في رواية البخاري "فأشهدكم أني قد غفرت لهم" (فيقولون رب فيهم فلان عبد خطاء إنما مر فجلس معهم قال فيقول وله غفرت هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) في رواية البخاري "يقول ملك من الملائكة فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة قال هم الجلساء لا يشقى جليسهم" وفي رواية "فيقولون إن فيهم فلانا الخطاء" بتشديد الطاء أي كثير الخطايا "لم يردهم إنما جاء لحاجة" وفي رواية "هم الجلساء لا يشقى لهم جليس" -[فقه الحديث]- ذكر الله عز وجل باللسان يؤجر عليه الناطق ولو كان مشغول القلب إذ لا يشترط استحضاره لمعناه ولكن يشترط أن لا يقصد به غير معناه فإن انضاف إلى النطق الذكر بالقلب فهو أكمل فإن انضاف إلى ذلك استحضار معنى الذكر وما اشتمل عليه من تعظيم الله تعالى ونفي النقائص عنه ازداد كمالا فإن وقع ذلك في عمل صالح من صلاة أو جهاد أو غيرهما ازداد كمالا فإن صحح التوجه وأخلص لله تعالى في ذلك فهو أبلغ الكمال ولبعض العارفين فهم للذكر على نطاق واسع إذ يرى أن العينين تذكران وذكرهما البكاء وأن

الأذنين تذكران وذكرهما بالإصغاء وأن اللسان يذكر بالثناء وأن اليدين تذكر بالعطاء وأن البدن يذكر بالوفاء وأن القلب يذكر بالخوف والرجاء وأن الروح تذكر بالتسليم والرضاء واشتهرت أذكار خاصة بأسماء خاصة فالتهليل لا إله إلا الله والتسبيح سبحان الله والتكبير الله أكبر والتحميد الحمد لله والحوقلة لا حول ولا قوة إلا بالله والبسملة بسم الله الرحمن الرحيم والحسبلة حسبي الله ونعم الوكيل والاستغفار أستغفر الله العظيم وهل يدخل في مجالس الذكر مجالس العلم الشرعي والوعظ والتفسير والحديث أو لا يدخل خلاف والأشبه اختصاص ذلك بمجالس التسبيح والتكبير ونحوهما ويضاف إليهما التلاوة وإن كانت المجالس المذكورة من جملة ما يدخل تحت مسمى ذكر الله تعالى وقد وردت أحاديث كثيرة في الترغيب في الذكر نذكر منها (أ) أخرج الترمذي أن رجلا قال يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأخبرني بشيء أتشبث به قال "لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله" (ب) وأخرج الترمذي "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قالوا وما رياض الجنة قال حلق الذكر" (جـ) وأخرج الترمذي والحاكم وصححه من حديث أبي الدرداء مرفوعا "ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا بلى قال ذكر الله عز وجل" (د) وعند البخاري "مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت" -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - في الحديث فضل مجالس الذكر 2 - وفضل الذاكرين 3 - وفضل الاجتماع على ذلك 4 - وأن جليسهم يندرج معهم في جميع ما يتفضل الله تعالى به عليهم إكراما لهم ولو لم يشاركهم في أصل الذكر 5 - وفيه محبة الملائكة لبني آدم واعتناؤهم بهم 6 - وفيه أن السؤال قد يصدر من السائل وهو أعلم بالمسئول عنه من المسئول لإظهار العناية بالمسئول عنه والتنويه بقدره والإعلان بشرف منزلته 7 - وقيل يؤخذ منه أن الذكر الحاصل من بني آدم أعلى وأشرف من الذكر الحاصل من الملائكة لحصوله مع كثرة الشواغل ووجود الصوارف وصدوره في عالم الغيب بخلاف الملائكة في ذلك كله 8 - وفيه جواز القسم في الأمر المحقق تأكيدا له وتنويها به.

(748) باب فضل الدعاء باللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار

(748) باب فضل الدعاء باللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار 5943 - عن عبد العزيز (وهو ابن صهيب) قال سأل قتادة أنسا أي دعوة كان يدعو بها النبي صلى الله عليه وسلم أكثر قال كان أكثر دعوة يدعو بها يقول "اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" قال وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها فإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه. 5944 - عن أنس رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار". -[المعنى العام]- من الدعوات التامة الشاملة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء بها ترديد الآية الكريمة {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} [البقرة 201] كان صلى الله عليه وسلم يكثر أمام أصحابه الدعاء بها وكان ينصح أصحابه أن يدعوا بها وكان أنس رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الاقتداء بأفعاله صلى الله عليه وسلم فكان يكثر من الدعاء بها وكان إذا طلب منه بعض أصحابه أن يدعو لهم بخير دعا لهم بها {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} -[المباحث العربية]- {اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} وفي الرواية الثانية بلفظ الآية {ربنا آتنا .. } (وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها) أي كثيرا وغالبا (فإذا أراد أن يدعو بدعاء) آخر يحتاجه

(دعا بها فيه) أي ضم إليه هذا الدعاء وهو أيضا على سبيل الغالب -[فقه الحديث]- اختلف العلماء في تفسير حسنة الدنيا فمنهم من ضيقها اعتمادا على بعض الأحاديث ومنهم من وسع دائرتها شيئا ما ومنهم من وسعها لدرجة تشمل كل خير الدنيا فمنهم من قال هي المال قاله السدي ومنهم من قال هي العلم والعمل به قاله عطية وعن عبد الله بن عمر هي المنى وعن قتادة هي العافية في الدنيا وعن محمد بن كعب القرظي الزوجة الصالحة ونقله الثعلبي عن علي رضي الله عنه وعن ابن الزبير العمل في الدنيا للدنيا والآخرة وعن سفيان الثوري الرزق الطيب والعلم وعن السدي ومقاتل حسنة الدنيا الرزق الحلال الواسع والعمل الصالح وعن عوف من آتاه الله الإسلام والقرآن والأهل والمال والولد فقد آتاه في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وعن بعض سلف الصوفية السلامة في الدنيا وعن ابن كثير الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي (مشروع) من عافية ودار رحبة وزوجة حسنة وولد بار ورزق واسع وعلم نافع وعمل صالح ومركب هنئ وثناء جميل إلى غير ذلك مما شملته عباراتهم فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا ويؤيده ما جاء في رواية ابن أبي حاتم من زيادة قوله "إذا آتاكم الله ذلك فقد آتاكم الخير كله" أما حسنة الآخرة فقيل هي الجنة وقيل الحور وقيل النعيم وقيل العافية وقيل المغفرة والثواب وقيل تيسير الحساب وكلها تدور حول الجنة وتوابعها والله أعلم.

(749) باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء

(749) باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء 5945 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد أفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك ومن قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر". 5946 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه". 5947 - عن عمرو بن ميمون قال من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرار كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسمعيل وقال سليمان حدثنا أبو عامر حدثنا عمر حدثنا عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي عن ربيع بن خثيم بمثل ذلك قال فقلت للربيع ممن سمعته قال من عمرو بن ميمون قال فأتيت عمرو بن ميمون فقلت ممن سمعته قال من ابن أبي ليلى قال فأتيت ابن أبي ليلى فقلت ممن سمعته قال من أبي أيوب الأنصاري يحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. 5948 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم"

5949 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس". 5950 - عن مصعب بن سعد عن أبيه قال جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال علمني كلاما أقوله قال "قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا سبحان الله رب العالمين لا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم" قال فهؤلاء لربي فما لي قال "قل اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني" قال موسى أما عافني فأنا أتوهم وما أدري ولم يذكر ابن أبي شيبة في حديثه قول موسى 5951 - عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم من أسلم يقول "اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني" 5952 - عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه قال كان الرجل إذا أسلم علمه النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة ثم أمره أن يدعو بهؤلاء الكلمات "اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني". 5953 - عن أبي مالك عن أبيه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وأتاه رجل فقال يا رسول الله كيف أقول حين أسأل ربي قال قل اللهم اغفر لي وارحمني وعافني وارزقني" ويجمع أصابعه إلا الإبهام "فإن هؤلاء تجمع لك دنياك وآخرتك" 5954 - عن مصعب بن سعد حدثني أبي قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة" فسأله سائل من جلسائه كيف يكسب أحدنا ألف حسنة قال "يسبح مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة أو يحط عنه ألف خطيئة"

-[المعنى العام]- لا شك أن ذكر الله بأي لفظ من الألفاظ وبأية صيغة من الصيغ لها أجرها وثوابها لكن ذكره تعالى بالأذكار الواردة خير منه بالأذكار المؤلفة في الأوراد المشهورة المعروفة للطرق الصوفية ومن المعلوم أن الأذكار الواردة يفضل بعضها بعضا للمعاني التي تتضمنها ويكاد يكون التهليل خيرها وأفضلها فقد وعد عليه من الأجر أكثر مما وعد على غيره ثم هو يشمل معنى التسبيح الذي وعد به الخير الكثير ولا شك أن الاستغفار من خير الذكر وكذا الدعاء وله مناسبات وألفاظ واردة يستجاب لها ولها أجر كبير ولا ننسى فضل الباقيات الصالحات نختم بها فنقول "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" "ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" -[المباحث العربية]- (التهليل والتسبيح) "التهليل" قول لا إله إلا الله و"التسبيح" قول سبحان الله ومعناه تنزيه الله تعالى عن النقائص وعما لا يليق به من الشريك والولد والصاحبة وسمات الحدوث مطلقا (من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي) وفي الرواية الثالثة "من قال ذلك عشر مرار كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل" أي من العرب وفي رواية للبخاري "من قال عشرا كان كمن أعتق رقبة من ولد إسماعيل" قال الحافظ ابن حجر بعد أن ساق الروايات واختلاف هذه الروايات في عدد الرقاب مع اتحاد المخرج يقتضي الترجيح بينها فالأكثر على ذكر "أربعة" ويجمع بينه وبين حديث أبي هريرة بذكر "عشرة" لكل مائة فيكون مقابل كل عشر مرات رقبة من قبل المضاعفة فيكون لكل مرة بالمضاعفة رقبة وهي مع ذلك لمطلق الرقاب ومع وصف كون الرقبة من بني إسماعيل يكون مقابل العشرة من غيرهم أربعة منهم لأنهم أشرف من غيرهم من العرب فضلا عن العجم وأما ذكر "رقبة" بالإفراد في حديث أبي أيوب فشاذ والمحفوظ "أربعة" كما بينته وجمع القرطبي في المفهم بين الاختلاف على اختلاف أحوال الذاكرين فقال إنما يحصل الثواب الجسيم لمن قام بحق هذه الكلمات فاستحضر معانيها بقلبه وتأملها بفهمه ثم لما كان الذاكرون في إراكاتهم ومفهومهم مختلفين كان ثوابهم بحسب ذلك وعلى هذا ينزل اختلاف مقادير الثواب في الأحاديث فإن في بعضها ثوابا معينا ونجد ذلك الذكر بعينه في رواية أخرى أكثر أو أقل اهـ قال الحافظ ابن حجر إذا تعددت مخارج الحديث فلا بأس بهذا الجمع وإذا اتحدت فلا وقد يتعين الجمع الذي قدمته ويحتمل فيما إذا تعددت أيضا أن

يختلف المقدار بالزمان كالتقييد بما بعد صلاة الصبح مثلا وعدم التقييد إن لم يحمل المطلق في ذلك على المقيد اهـ ونحن مع القرطبي حتى لو اتحد المخرج فقد يتحد المخرج ويحضر الراوي الواحد القصة المتعددة ويسمع الروايات المختلفة في الثواب ويفهم كما يفهم عامة الناس أن اختلاف الثواب للذكر الواحد مبني على اختلاف ملابساته وأحواله جزما والعمل بكل الروايات خير من العمل ببعضها ورد بعضها وبخاصة في مثل الفضل والإحسان و"عدل" بفتح العين قال الفراء العدل بالفتح ما عدل الشيء من غير جنسه وبالكسر المثل و"الحرز" الحصن وقوله "حتى يمسي" أي إذا قال ذلك حين يصبح زاد في رواية "ومن قال ذلك حين يمسي كان له مثل ذلك" أي إلى حين يصبح وزاد في رواية "ولا تعجزوا أن تستكثروا من الرقاب" (ومن قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر) كناية عن المبالغة في الكثرة وزبد البحر رغوته (الله أكبر كبيرا) منصوب مفعول به لفعل محذوف تقديره أكبر كبيرا أو أذكر كبيرا (أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ... ) الاستفهام إنكاري بمعنى النفي يعني لا يعجز أحدكم (فيكتب له ألف حسنة أو يحط عنه ألف خطيئة) قال النووي هكذا هو في عامة النسخ "أو يحط" بأو وفي بعضها "ويحط" بالواو -[فقه الحديث]- قال القاضي عياض قوله "حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر" مع قوله في التهليل "محيت عنه مائة سيئة" قد يشعر بأفضلية التسبيح على التهليل يعني لأن عدد زبد البحر أضعاف أضعاف المائة لكن تقدم في التهليل "ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به" فيحتمل أن يجمع بينهما بأن يكون التهليل أفضل وأنه بما زيد من رفع الدرجات وكتب الحسنات ثم ما جعل مع ذلك من فضل عتق الرقاب قد يزيد على فضل التسبيح وتكفيره جميع الخطايا لأنه قد جاء "من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار" فحصل بهذا العتق تكفير جميع الخطايا عموما مع زيادة مائة درجة وما زاده عتق الرقاب الزيادة على الواحدة ويؤيده "أفضل الذكر التهليل" وأنه أفضل ما قاله النبيون من قبله وهو كلمة التوحيد والإخلاص وقيل إنه اسم الله الأعظم

وفي تفضيل التهليل على التسبيح أو عكسه كلام طويل لا يليق بالمقام قال النووي هذا الإطلاق في الأفضلية محمول على كلام الآدمي وإلا فالقرآن أفضل الذكر ثم قال النووي وظاهر إطلاق الحديث أنه يحصل هذا الأجر المذكور في هذا الحديث من قال هذا التهليل مائة مرة في يومه سواء قاله متوالية أو متفرقة في مجالس أو بعضها أول النهار وبعضها آخره لكن الأفضل أن يأتي بها متوالية في أول النهار ليكون حرزا له في جميع نهاره وفي هذه الأحاديث فضيلة الدعاء مع الذكر والدعاء بما ورد فيها من طلب المغفرة والهداية والرحمة والرزق والمعافاة والله أعلم

(750) باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر

(750) باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر 5955 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه" 5956 - وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث أبي معاوية غير أن حديث أبي أسامة ليس فيه ذكر التيسير على المعسر. 5957 - عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أنهما شهدا على النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده" 5958 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال خرج معاوية على حلقة في المسجد فقال ما أجلسكم قالوا جلسنا نذكر الله قال آلله ما أجلسكم إلا ذاك قالوا والله ما أجلسنا إلا ذاك قال أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل عنه حديثا مني وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال "ما أجلسكم" قالوا جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومن به علينا قال "آلله ما أجلسكم إلا ذاك" قالوا والله ما

أجلسنا إلا ذاك قال "أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة". -[المعنى العام]- يراجع باب فضل مجالس الذكر قبل بابين -[المباحث العربية]- (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) تنفيس الكربة إزالتها أو المساعدة فيها (ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة) التيسير المطلوب بتأخير السداد أو بالتنازل عن بعض الدين (ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة) سبق في باب بشارة من ستر الله تعالى عليه في الدنيا في كتاب البر والصلة (ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة) ذكر "طريقا" و"علما" ليتناول أنواع الطرق الموصلة إلى تحصيل العلوم الدينية وليندرج فيه القليل والكثير وتسهيل الطريق إلى الجنة إما في الدنيا بأن يوفقه للأعمال الصالحة الموصلة إلى الجنة وإما في الآخرة (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم) "في بيت من بيوت الله" ليس قيدا للاحتراز ففي الرواية الثانية "لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل" فالتقييد للغالب في ذلك الزمان (إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده) قيل المراد بالسكينة هنا الرحمة وهو ضعيف لعطف الرحمة عليه وقيل الطمأنينة والوقار وهو أحسن (ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) أي من كان عمله ناقصا فلم يلحقه بأصحاب الأعمال مرتبة فلا ينبغي أن يتكل على شرف النسب وفضيلة الآباء (قال آلله ما أجلسكم إلا ذاك) أي أستحلفكم بالله ما أجلسكم إلا ذكر الله

(أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم) "تهمة" بفتح الهاء وإسكانها وهي فعلة وفعلة من الوهم والتاء بدل من الواو واتهمته بكذا إذا ظننت له ذلك (إن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة) أي يظهر فضلكم لهم ويريهم حسن عملكم ويثني عليكم عندهم وأصل البهاء الحسن والجمال وفلان يباهي بماله أي يفخر ويتجمل به على غيره ويظهر حسنه لهم -[فقه الحديث]- يراجع فقه الحديث في باب فضل مجالس الذكر قبل بابين والله أعلم.

(751) باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه والتوبة

(751) باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه والتوبة 5959 - عن الأغر المزني رضي الله عنه وكانت له صحبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة" 5960 - عن أبي بردة قال سمعت الأغر وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحدث ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة" 5961 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه" -[المعنى العام]- التوبة والاستغفار رجوع إلى الله وإنابة وطلب عفو وتسامح من ذنب ومعصية نشأت من مخالفة أمر أو ارتكاب نهي فيكون قبولها محوا لآثاره ورفعا لعقوبته وأضراره قال تعالى {وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى} [طه 121، 122] وإذا لم تجد التوبة والاستغفار ذنبا ومعصية رفعت درجات صاحبها فهي ذكر ودعاء له أجر وثواب وعلى هذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر الله تعالى في اليوم مائة مرة ويتوب إليه في اليوم مائة مرة يعلمنا وهو عزيز عليه عنتنا حريص علينا بنا رءوف رحيم يعلمنا واجبنا وكلنا خطاء يعلمنا أن خير الخطائين التوابون وأن علينا أن نستغفر الله في اليوم مئات المرات ونتوب إلى الله قدر ما يمكننا من التوبات وباب قبول التوبة مفتوح إلى قيام الساعة وإن الله يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ويبسط يده بالليل لتتلقى مسيء النهار بالقبول حتى تطلع الشمس من مغربها

-[المباحث العربية]- (إنه ليغان على قلبي) الغين بفتح الغين هو شيء يعتري القلب مما يقع من حديث النفس وقيل هي حالة خشية وإعظام والاستغفار شكرها وقال المحاسبي وخوف المقربين خوف إجلال وإعظام وقال السهروردي لا يعتقد أن الغين حالة نقص بل هو كمال أو تتمة كمال ثم مثل ذلك بجفن العين حين يسيل ليدفع القذى عن العين مثلا فإنه يمنع العين من الرؤية فهو من هذه الحيثية نقص وفي الحقيقة هو كمال وقيل الغين يشبه الغيم والمراد ما يتغشى القلب والمراد به هنا الفترات والغفلات عن الذكر الذي كان شأنه الدوام عليه فإذا فتر عنه أو غفل عد ذلك ذنبا فاستغفر منه قال القاضي وقيل هو همه بسبب أمته وما اطلع عليه من أحوالها بعده فيستغفر لهم وقيل سبب اشتغاله النظر في مصالح أمته وأمورهم ومحاربة العدو ومداراته وتأليف المؤتلفة ونحو ذلك فيشتغل بذلك من عظم مقامه فيراه ذنبا بالنسبة لعظيم منزلته وستأتي تتمة لهذه المسألة في فقه الحديث (من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه) قال العلماء هذا حد قبول التوبة وقد جاء في الحديث الصحيح "إن للتوبة بابا مفتوحا لا تزال مقبولة حتى يغلق فإذا طلعت الشمس من مغربها أغلق" وامتنعت التوبة على من لم يكن تاب قبل ذلك وهو معنى قوله تعالى {يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا} [الأنعام 158] ومعنى "تاب الله عليه" قبل توبته ورضي بها ومثل طلوع الشمس من مغربها الغرغرة بالنسبة لكل من يموت -[فقه الحديث]- قال القرطبي في المفهم اختلفت عبارات المشايخ في التوبة ما هي؟ فقائل يقول إنها الندم وآخر يقول إنها العزم على أن لا يعود وآخر يقول الإقلاع عن الذنب ومنهم من يجمع بين الأمور الثلاثة وهو أكملها غير أنه غير مانع ولا جامع أما أولا فلأنه قد يجمع الثلاثة ولا يكون تائبا شرعا إذ قد يفعل ذلك شحا على ماله أو لئلا يعيره الناس بذنبه ولا تصح التوبة الشرعية إلا بالإخلاص ومن ترك الذنب لغير الله لا يكون تائبا اتفاقا وأما ثانيا فلأنه يخرج منه من زنى مثلا ثم جب ذكره فإنه لا يتأتى منه غير الندم على ما مضى وأما العزم على عدم العود فلا يتصور منه قال وبهذا اغتر من قال إن الندم يكفي في حد التوبة وليس كما قال لأنه لو ندم ولم يقلع وعزم على العود لم يكن تائبا اتفاقا قال وقال بعض المحققين هي اختيار ترك ذنب سبق حقيقة أو تقديرا لأجل الله قال وهذا أسد العبارات وأجمعها

ثم قال اعلم أن التوبة إما من الكفر وإما من الذنب فتوبة الكافر مقبولة قطعا وتوبة العاصي مقبولة بالوعد الصادق ومعنى القبول الخلاص من ضرر الذنب حتى يرجع كمن لم يعمل ثم توبة العاصي إما من حق الله وإما من حق غيره فحق الله تعالى يكفي فيه التوبة غير أن منه ما لم يكتف الشرع فيه بترك الذنب بل أضاف إليه الكفارة أو القضاء وحق غير الله يحتاج إلى إيصال الحقوق إلى أصحابها وإلا لم يحصل الخلاص من ضرر ذلك الذنب لكن من لم يقدر على الإيصال بعد بذل الوسع في ذلك فعفو الله مأمول فإنه يضمن التبعات ويبدل السيئات حسنات اهـ وزاد بعض الصوفية شرطا آخر هو أن يعمد إلى البدن الذي رباه بالسحت أو بالمعصية فيذيبه بالهم والحزن حتى ينشأ له لحم طيب وأن يذيق نفسه ألم الطاعة كما أذاقها لذة المعصية والحق أن هذه الأشياء مكملات وفي مكملاتها كلام كثير يضيق به المقام وفيها أحاديث كثيرة محلها كتب الوعظ والترغيب والترهيب أما استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم في اليوم مائة مرة فليس عن معصية وقع فيها وقال ابن الجوزي هفوات الطباع البشرية لا يسلم منها أحد والأنبياء وإن عصموا من الكبائر فلم يعصموا من الصغائر قال الحافظ ابن حجر الراجح عصمتهم من الصغائر أيضا وقال ابن بطال ما معناه أن استغفاره من التقصير في أداء الحق الذي يجب لله تعالى لاشتغاله بالأمور المباحة من أكل وشرب وجماع ونوم وراحة فيرى أن ذلك ذنب بالنسبة إلى المقام العالي وهو الحضور في حظيرة القدس وقيل استغفاره صلى الله عليه وسلم تشريع لأمته أو من ذنوب الأمة فهو كالشفاعة لهم وقيل غير ذلك والله أعلم ولنا عودة لموضوع التوبة والاستغفار بعد ثلاثة عشر بابا والله أعلم

(752) باب استحباب خفض الصوت بالذكر إلا في المواضع التي ورد الشرع برفعه فيها كالتلبية وغيرها واستحباب الإكثار من قول لا حول ولا قوة إلا بالله

(752) باب استحباب خفض الصوت بالذكر إلا في المواضع التي ورد الشرع برفعه فيها كالتلبية وغيرها واستحباب الإكثار من قول لا حول ولا قوة إلا بالله 5962 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فجعل الناس يجهرون بالتكبير فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أيها الناس اربعوا على أنفسكم إنكم ليس تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم" قال وأنا خلفه وأنا أقول لا حول ولا قوة إلا بالله فقال "يا عبد الله بن قيس ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة" فقلت بلى يا رسول الله قال "قل لا حول ولا قوة إلا بالله". 5963 - عن أبي موسى رضي الله عنه أنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يصعدون في ثنية قال فجعل رجل كلما علا ثنية نادى لا إله إلا الله والله أكبر قال فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم "إنكم لا تنادون أصم ولا غائبا" قال فقال "يا أبا موسى أو يا عبد الله بن قيس ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة" قلت ما هي يا رسول الله قال "لا حول ولا قوة إلا بالله". 5964 - وفي رواية عن أبي موسى رضي الله عنه قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فذكر الحديث وقال فيه "والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلة أحدكم" وليس في حديثه ذكر لا حول ولا قوة إلا بالله. 5965 - عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا أدلك على كلمة من كنوز الجنة أو قال على كنز من كنوز الجنة" فقلت بلى فقال "لا حول ولا قوة إلا بالله"

-[المعنى العام]- كانت السنة رفع الصوت بالتكبير والتهليل كلما علا مرتفعا وكلما هبط واديا لكن بعض الصحابة بالغوا في رفع الصوت ظنوه كلما رفعوا أصواتهم زاد ثوابهم فقال لهم صلى الله عليه وسلم ارفقوا بأنفسكم واخفضوا أصواتكم فإن رفع الصوت إنما يفعله الإنسان لبعد من يخاطبه أو لصممه ليسمعه وأنتم تدعون الله تعالى وليس هو بأصم ولا غائب ولا بعيد بل هو سميع قريب وهو معكم وهو أقرب إلى أحدكم من جاره بل من عنق راحلته بل من حبل وريده والله تعالى يقول {واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين} [الأعراف 205] ويقول {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا} [الإسراء 110] -[المباحث العربية]- (فجعل الناس يجهرون بالتكبير) أي يرفعون أصواتهم بأعلى ما يمكنهم وأل في "الناس" للعهد والمقصود الصحابة الذين صحبوه صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة وكانوا عائدين وفي الرواية الثانية "أنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يصعدون في ثنية" أي في مرتفع في جبل "فجعل رجل كلما علا ثنية نادى لا إله إلا الله والله أكبر فقال النبي صلى الله عليه وسلم ... " (اربعوا على أنفسكم) "اربعوا" بهمزة وصل مكسورة بعدها باء مفتوحة أي ارفقوا بضم الفاء ولا تجهدوا أنفسكم (إنكم ليس تدعون أصم ولا غائبا) في الرواية الثانية "لا تنادون أصم ولا غائبا" وزاد في رواية للبخاري "تدعون سميعا بصيرا قريبا" (وأنا خلفه وأنا أقول لا حول ولا قوة إلا بالله فقال يا أبا موسى أو يا عبد الله بن قيس) الشك أنه ناداه بكنيته أو باسمه واسم أبيه (ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة فقلت بلى يا رسول الله) معنى الكنز هنا أنه ثواب مدخر في الجنة وهو ثواب نفيس كما أن الكنز أنفس الأموال وفي الرواية الثانية "ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة" والكلمة في اللغة تطلق على الكلام والرواية تدل على أنه صلى الله عليه وسلم سمعه يقولها فمعنى (قل لا حول ولا قوة إلا بالله) أي دم على قولها وأكثر من قولها والحول الحركة والحيلة والمعنى لا حركة ولا استطاعة لي ولا حيلة لي في شيء من الأشياء أو في عمل من الأعمال إلا بمشيئة الله تعالى فهي كلمة استسلام وتفويض واعتراف بالإذعان له وأنه لا صانع غيره ولا راد لأمره ويعبر عن هذه الجملة بالحوقلة وقيل الحولقة

-[فقه الحديث]- قال النووي فيه الندب إلى خفض الصوت بالذكر إذا لم تدع حاجة إلى رفعه فإنه إذا خفضه كان أبلغ في توقيره وتعظيمه فإن دعت حاجة إلى الرفع رفع اهـ وإن جاء في الشريعة استحباب رفع كما في التلبية رفع وفيه فضيلة الذكر بالحوقلة ومنقبة لأبي موسى الأشعري والله أعلم.

(753) باب في الدعوات والتعوذ

(753) باب في الدعوات والتعوذ 5966 - عن أبي بكر أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم علمني دعاء أدعو به في صلاتي قال "قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كبيرا وقال قتيبة كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم". 5967 - وفي رواية عن عبد الله بن عمرو بن العاص يقول إن أبا بكر الصديق قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم علمني يا رسول الله دعاء أدعو به في صلاتي وفي بيتي ثم ذكر بمثل حديث الليث غير أنه قال "ظلما كثيرا" 5968 - عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهؤلاء الدعوات "اللهم فإني أعوذ بك من فتنة النار وعذاب النار وفتنة القبر وعذاب القبر ومن شر فتنة الغنى ومن شر فتنة الفقر وأعوذ بك من شر فتنة المسيح الدجال اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد ونق قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم فإني أعوذ بك من الكسل والهرم والمأثم والمغرم". 5969 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والهرم والبخل وأعوذ بك من عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات" 5970 - وفي رواية عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله غير أن يزيد ليس في حديثه قوله "ومن فتنة المحيا والممات"

5971 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تعوذ من أشياء ذكرها والبخل. 5972 - عن أنس رضي الله عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بهؤلاء الدعوات "اللهم إني أعوذ بك من البخل والكسل وأرذل العمر وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات". 5973 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من سوء القضاء ومن درك الشقاء ومن شماتة الأعداء ومن جهد البلاء قال عمرو في حديثه قال سفيان أشك أني زدت واحدة منها 5974 - عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال سمعت خولة بنت حكيم السلمية تقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من نزل منزلا ثم قال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك" 5975 - عن خولة بنت حكيم السلمية رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إذا نزل أحدكم منزلا فليقل أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق فإنه لا يضره شيء حتى يرتحل منه" 5976 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة قال "أما لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضرك" 5977 - وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رجل يا رسول الله لدغتني عقرب بمثل حديث ابن وهب

5978 - عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا أخذت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن ثم قل اللهم إني أسلمت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت واجعلهن من آخر كلامك فإن مت من ليلتك مت وأنت على الفطرة" قال فرددتهن لأستذكرهن فقلت آمنت برسولك الذي أرسلت قال "قل آمنت بنبيك الذي أرسلت". 5979 - عن البراء بن عازب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث غير أن منصورا أتم حديثا وزاد في حديث حصين "وإن أصبح أصاب خيرا". 5980 - عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رجلا إذا أخذ مضجعه من الليل أن يقول "اللهم أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وألجأت ظهري إليك وفوضت أمري إليك رغبة ورهبة إليك ولا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك آمنت بكتابك الذي أنزلت وبرسولك الذي أرسلت فإن مات مات على الفطرة" ولم يذكر ابن بشار في حديثه من الليل. 5981 - عن البراء بن عازب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل "يا فلان إذا أويت إلى فراشك" بمثل حديث عمرو بن مرة غير أنه قال "وبنبيك الذي أرسلت فإن مت من ليلتك مت على الفطرة وإن أصبحت أصبت خيرا". 5982 - عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا بمثله ولم يذكر "وإن أصبحت أصبت خيرا".

5983 - عن البراء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أخذ مضجعه قال "اللهم باسمك أحيا وباسمك أموت" وإذا استيقظ قال "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور". 5984 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه أمر رجلا إذا أخذ مضجعه قال "اللهم خلقت نفسي وأنت توفاها لك مماتها ومحياها إن أحييتها فاحفظها وإن أمتها فاغفر لها اللهم إني أسألك العافية" فقال له رجل أسمعت هذا من عمر فقال من خير من عمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم. 5985 - عن سهيل قال كان أبو صالح يأمرنا إذا أراد أحدنا أن ينام أن يضطجع على شقه الأيمن ثم يقول "اللهم رب السماوات ورب الأرض ورب العرش العظيم ربنا ورب كل شيء فالق الحب والنوى ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عنا الدين وأغننا من الفقر" وكان يروي ذلك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. 5986 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا أخذنا مضجعنا أن نقول بمثل حديث جرير وقال "من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها". 5987 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أتت فاطمة النبي صلى الله عليه وسلم تسأله خادما فقال لها "قولي اللهم رب السماوات السبع" بمثل حديث سهيل عن أبيه. 5988 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا أوى أحدكم إلى

فراشه فليأخذ داخلة إزاره فلينفض بها فراشه وليسم الله فإنه لا يعلم ما خلفه بعده على فراشه فإذا أراد أن يضطجع فليضطجع على شقه الأيمن وليقل سبحانك اللهم ربي بك وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فاغفر لها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين". 5989 - عن عبيد الله بن عمر رضي الله عنهما بهذا الإسناد وقال "ثم ليقل باسمك ربي وضعت جنبي فإن أحييت نفسي فارحمها". 5990 - عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه قال "الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي". 5991 - عن فروة بن نوفل الأشجعي قال سألت عائشة عما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو به الله قالت كان يقول "اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت ومن شر ما لم أعمل". 5992 - عن فروة بن نوفل قال سألت عائشة عن دعاء كان يدعو به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت كان يقول "اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت وشر ما لم أعمل". 5993 - عن حصين بهذا الإسناد مثله غير أن في حديث محمد بن جعفر "ومن شر ما لم أعمل" 5994 - عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه "اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت وشر ما لم أعمل".

5995 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول "اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني أنت الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون". 5996 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا كان في سفر وأسحر يقول "سمع سامع بحمد الله وحسن بلائه علينا ربنا صاحبنا وأفضل علينا عائذا بالله من النار". 5997 - عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو بهذا الدعاء "اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير". 5998 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي واجعل الحياة زيادة لي في كل خير واجعل الموت راحة لي من كل شر". 5999 - عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول "اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى". 6000 - عن أبي إسحق بهذا الإسناد مثله غير أن ابن المثنى قال في روايته "والعفة"

6001 - عن زيد بن أرقم قال لا أقول لكم إلا كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كان يقول "اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبخل والهرم وعذاب القبر اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها". 6002 - عن عبد الله بن مسعود قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمسى قال "أمسينا وأمسى الملك لله والحمد لله لا إله إلا الله وحده لا شريك له". 6003 - عن إبراهيم في هذا "له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم أسألك خير هذه الليلة وأعوذ بك من شر هذه الليلة وشر ما بعدها اللهم إني أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر اللهم إني أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر". 6004 - عن عبد الله قال كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا أمسى قال "أمسينا وأمسى الملك لله والحمد لله لا إله إلا الله وحده لا شريك له" قال أراه قال فيهن "له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير رب أسألك خير ما في هذه الليلة وخير ما بعدها وأعوذ بك من شر ما في هذه الليلة وشر ما بعدها رب أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر رب أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر" وإذا أصبح قال ذلك أيضا "أصبحنا وأصبح الملك لله". 6005 - عن عبد الله قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمسى قال "أمسينا وأمسى الملك لله والحمد لله لا إله إلا الله وحده لا شريك له اللهم إني أسألك من خير هذه

الليلة وخير ما فيها وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم وسوء الكبر وفتنة الدنيا وعذاب القبر". 6006 - عن عبد الله رفعه أنه قال "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير". 6007 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول "لا إله إلا الله وحده أعز جنده ونصر عبده وغلب الأحزاب وحده فلا شيء بعده". 6008 - عن على رضي الله عنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "قل اللهم اهدني وسددني واذكر بالهدى هدايتك الطريق والسداد سداد السهم". 6009 - وفي رواية عن علي رضي الله عنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "قل اللهم إني أسألك الهدى والسداد" ثم ذكر بمثله. 6010 - عن جويرية رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال "ما زلت على الحال التي فارقتك عليها" قالت نعم قال النبي صلى الله عليه وسلم "لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته". 6011 - عن جويرية رضي الله عنها قالت مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى صلاة الغداة أو بعد ما صلى الغداة فذكر نحوه غير أنه قال "سبحان الله عدد خلقه سبحان الله رضا نفسه سبحان الله زنة عرشه سبحان الله مداد كلماته".

6012 - عن علي رضي الله عنه أن فاطمة اشتكت ما تلقى من الرحى في يدها وأتى النبي صلى الله عليه وسلم سبي فانطلقت فلم تجده ولقيت عائشة فأخبرتها فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته عائشة بمجيء فاطمة إليها فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلينا وقد أخذنا مضاجعنا فذهبنا نقوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم "على مكانكما" فقعد بيننا حتى وجدت برد قدمه على صدري ثم قال "ألا أعلمكما خيرا مما سألتما إذا أخذتما مضاجعكما أن تكبرا الله أربعا وثلاثين وتسبحاه ثلاثا وثلاثين وتحمداه ثلاثا وثلاثين فهو خير لكما من خادم". 6013 - وفي رواية عن معاذ أخذتما "مضجعكما من الليل". 6014 - وفي رواية عن علي رضي الله عنه قال ما تركته منذ سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم قيل له ولا ليلة صفين قال ولا ليلة صفين وفي حديث عطاء عن مجاهد عن ابن أبي ليلى قال قلت له ولا ليلة صفين. 6015 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن فاطمة أتت النبي صلى الله عليه وسلم تسأله خادما وشكت العمل فقال "ما ألفيتيه عندنا" قال "ألا أدلك على ما هو خير لك من خادم تسبحين ثلاثا وثلاثين وتحمدين ثلاثا وثلاثين وتكبرين أربعا وثلاثين حين تأخذين مضجعك". 6016 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله فإنها رأت ملكا وإذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان فإنها رأت شيطانا".

6017 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب "لا إله إلا الله العظيم الحليم لا إله إلا الله رب العرش العظيم لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم". 6018 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهن ويقولهن عند الكرب فذكر بمثل حديث معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن قتادة غير أنه قال "رب السماوات والأرض". 6019 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر قال فذكر بمثل حديث معاذ عن أبيه وزاد معهن "لا إله إلا الله رب العرش الكريم". 6020 - عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي الكلام أفضل قال "ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده سبحان الله وبحمده". 6021 - عن أبي ذر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا أخبرك بأحب الكلام إلى الله" قلت يا رسول الله أخبرني بأحب الكلام إلى الله فقال "إن أحب الكلام إلى الله سبحان الله وبحمده". 6022 - عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك ولك بمثل".

6023 - عن أم الدرداء قالت حدثني سيدي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من دعا لأخيه بظهر الغيب قال الملك الموكل به آمين ولك بمثل". 6024 - عن صفوان (وهو ابن عبد الله بن صفوان) وكانت تحته الدرداء قال قدمت الشام فأتيت أبا الدرداء في منزله فلم أجده ووجدت أم الدرداء فقالت أتريد الحج العام فقلت نعم قالت فادع الله لنا بخير فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول "دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به آمين ولك بمثل" قال فخرجت إلى السوق فلقيت أبا الدرداء فقال لي مثل ذلك يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم. 6025 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها". 6026 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل فيقول قد دعوت فلا أو فلم يستجب لي". 6027 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل فيقول قد دعوت ربي فلم يستجب لي". 6028 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا يزال يستجاب للعبد ما لم

يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل" قيل يا رسول الله ما الاستعجال قال يقول "قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجيب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء". -[المعنى العام]- يقول تعالى {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات 56] تلك الحكمة في خلق آدم وذريته وسكنهم الأرض لتكون العلاقة بين هذا المخلوق وبين ربه علاقة عبادة وطاعة وإذا كانت الملائكة يعبدون ربهم في كل أوقاتهم ويذكرون ربهم في كل حالاتهم لا يعصون الله ما أمرهم فليكن هذا المخلوق الجديد مكافحا مجاهدا النفس والهوى والشيطان ذاكرا الله لا نقول في كل أوقاته ولكن نقول في كثير من أوقاته إن الصلوات الخمس فرضت لتمثل طرفا من هذه الحكمة {وأقم الصلاة لذكري} [طه 14] لكنها تحتاج اقتطاع وقت وإن قل من أوقات الدنيا أما الذكر فيؤدي الغاية من الصلوات دون اقتطاع وقت ودون أدنى جهد فمن الناس من يذكر الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ومن الناس من تطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب وقد أمر الله تعالى بذكره في كثير من آيات القرآن الكريم فهو يقول: {فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا} [البقرة 200] ويقول {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا} [الأحزاب 41، 42] ويقول {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} [النور 37] ويحذر جل شأنه كثيرا من الغفلة عن ذكره فيقول {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} [المائدة 91] ويقول {فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين} [الزمر 22] ويقول {ومن يعش عن ذكر الرحمان نقيض له شيطانا فهو له قرين} [الزخرف 36] ويقول {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله} [الحديد 16] ويقول {استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون} [المجادلة 19] ويقول {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون} [المنافقون 9] ويقول {ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا} [الجن 17] ويقول {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى} [طه 124] وذكر الله بالقلب ميسور في كل حال وباللسان كذلك وقد يسر الله تعالى الذكر بالقرآن الكريم وعلمنا صلى الله عليه وسلم نماذج من الذكر الجميل والتسبيح والتهليل والتكبير والدعاء الجليل فهنيئا للذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما

-[المباحث العربية]- (اللهم فإني أعوذ بك من فتنة النار وعذاب النار) الفاء في "فإني" في جواب شرط مقدر أي إن كنت مستعيذا بك من شيء فإني أعوذ بك وأستجير بك من فتنة النار وأصل الفتن إدخال الذهب في النار لتظهر جودته من رداءته ويستعمل في إدخال الإنسان النار ويطلق على العذاب كقوله تعالى {ذوقوا فتنتكم} [الذاريات 14] وعلى ما يحصل عند العذاب كقوله {ألا في الفتنة سقطوا} [التوبة 49] وعلى الاختبار كقوله {وفتناك فتونا} [طه 40] وفيما يدفع إليه الإنسان من شدة ورخاء وفي الشدة أظهر معنى وأكثر استعمالا كقوله {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} [الأنبياء 35] ومنه قوله {وإن كادوا ليفتنونك} [الإسراء 73] أي يوقعونك في بلية وشدة في صرفك عن العمل بما أوحى إليك قاله الراغب وقال والفتنة تكون من الأفعال الصادرة من الله ومن العبد كالبلية والمصيبة والقتل والعذاب والمعصية وغيرها من المكروهات فإن كانت من الله فهي على وجه الحكمة وإن كانت من الإنسان بغير أمر الله فهي مذمومة فقد ذم الله الإنسان بإيقاعه الفتنة فقال {والفتنة أشد من القتل} [البقرة 191] وقال {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات} [البروج 10] وقال {ما أنتم عليه بفاتنين} [الصافات 162] وقال {بأييكم المفتون} [القلم 6] وقال {واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله} [المائدة 49] وقال غيره أصل الفتنة الاختبار ثم استعملت فيما أخرجته المحنة والاختبار إلى المكروه ثم أطلقت على كل مكروه أو آيل إليه كالكفر والإثم والتحريق والفضيحة والفجور وغير ذلك اهـ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحذر أصحابه من الفتن كما كان يستعيذ بالله من الفتن بعامة ومن فتن معينة بخاصة كفتنة النار وكعذاب النار أي أدعو أن تجيرني وتحفظني من الضلال المفضي إلى النار ومن عذاب النار نفسه (وفتنة القبر وعذاب القبر) فتنة القبر سؤال الملكين وعذاب القبر ما يترتب على عدم التوفيق في الإجابة من العذاب (ومن شر فتنة الغنى) التقييد هنا "بشر" لأن الغنى فيه خير باعتبار فالتقييد يخرج ما فيه من الخير سواء قل أو كثر قال الغزالي فتنة الغنى الحرص على جمع المال وحبه حتى يكسبه من غير حله ويمنعه من واجبات إنفاقه وحقوقه فينفقه في إسراف أو في باطل أو في مفاخر (ومن شر فتنة الفقر) والمراد به الفقر المدقع الذي لا يصحبه خير ولا ورع حتى يتورط صاحبه بسببه فيما لا يليق بأهل الدين والمروءة ولا يبالي بسبب فاقته على أي حرام وثب ولا في أي حالة تورط وقيل المراد به فقر النفس الذي لا يرده ملك الدنيا بحذافيرها وليس فيه ما يدل على تفضيل الفقر على الغنى ولا عكسه

(وأعوذ بك من شر فتنة المسيح الدجال) "المسيح" بفتح الميم وتخفيف السين المكسورة آخره حاء يطلق على الدجال وعلى عيسى عليه السلام لكن إذا أريد الدجال قيد به وقال أبو داود في السنن "المسيح" بتشديد السين الدجال وبتخفيفها عيسى والمشهور الأول قال الجوهري من قاله بتخفيف السين فلمسحه الأرض ومن قاله بتشديدها فلكونه ممسوح العين وحكى بعضهم أنه بالخاء في الدجال وبالحاء في عيسى وفتنة المسيح الدجال ما يظهر على يديه من خوارق للعادات (اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد ونق قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب) في رواية للبخاري "بالماء والثلج والبرد" الثلج ما جمد من الماء معروف والبرد ماء جامد ينزل من السحاب قطعا صغارا ويسمى حب الغمام وحب المزن فرواية "ماء الثلج والبرد" أي الماء الذي يتجمع منهما بعد أن يسيلا ورواية "بالماء والثلج والبرد" أي الماء الحاصل من غيرهما فذكر الثلج والبرد بعد الماء للتأكيد قال الخطابي أو لأنهما ماءان لم تمسهما الأيدي ولم يمتهنهما الاستعمال وقال ابن دقيق العيد عبر بذلك عن غاية المحو فإن الثوب الذي يتكرر عليه ثلاثة أشياء منقية يكون في غاية النقاء قال ويحتمل أن يكون المراد أن كل واحد من هذه الأشياء مجاز عن صفة يقع بها المحو وكأنه كقوله تعالى {واعف عنا واغفر لنا وارحمنا} [البقرة 286] وقال الكرماني يحتمل أن يكون في الدعوات الثلاثة إشارة إلى الأزمنة الثلاث فالمباعدة للمستقبل والتنقية للحال والغسل للماضي اهـ (اللهم فإني أعوذ بك من الكسل والهرم والمأثم والمغرم) قال النووي الكسل عدم انبعاث النفس للخير وقلة الرغبة مع إمكانه وأما "الهرم" بفتح الهاء والراء مصدر هرم الرجل بكسر الراء يهرم بفتحها هرما ومهرما بفتح الراء ومهرمة بلغ أقصى الكبر وكبر وضعف والمراد الاستعاذة من الرد إلى أرذل العمر كما جاء في الرواية الخامسة وسبب ذلك ما فيه من الخرف واختلال العقل والحواس وضعف الفهم والضبط وتشويه المنظر وأما "المأثم" بفتح الميم وسكون الهمز وفتح الثاء فهو الإثم والمراد ما يقتضي الإثم ويوقع فيه وأما "المغرم" بفتح الميم وسكون الغين وفتح الراء وهو الدين وفسره في أحاديث بقوله "لأن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف" ولأنه قد يمطل المدين صاحب الدين ولأنه قد يشتغل به قلبه وربما مات قبل وفائه فبقيت ذمته مرتهنة به (والجبن .... والبخل) أما "الجبن" بضم الجيم وسكون الباء والبخل معروف واستعاذ منهما لما فيهما من التقصير في أداء الواجبات والقيام بحقوق الله تعالى وإزالة المنكر والإغلاظ على العصاة ولأنه بشجاعة النفس وقوتها المعتدلة تتم العبادات ويقوم بنصر المظلوم والجهاد

وبالسلامة من البخل يقوم بحقوق المال وينبعث للإنفاق والجود ولمكارم الأخلاق ويمتنع من الطمع فيما ليس له قال العلماء واستعاذته صلى الله عليه وسلم من هذه الأشياء لتكمل صفاته في كل أحواله وشرعه أيضا تعليما لأمته (ومن فتنة المحيا والممات) أي فتنة الحياة والموت أي فتنة زمن الحياة وزمن الموت من أول النزع قال ابن بطال هذه كلمة جامعة لمعان كثيرة وينبغي للمرء أن يرغب إلى ربه في رفع ما نزل ودفع ما لم ينزل ويستشعر الافتقار إلى ربه في جميع ذلك وقال ابن دقيق العيد فتنة المحيا مما يعرض للإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات وأعظمها والعياذ بالله أمر الخاتمة عند الموت وفتنة الممات يجوز أن يراد بها الفتنة عند الموت أضيفت إليه لقربها منه ويكون المراد بفتنة المحيا على هذا ما قبل ذلك ويجوز أن يراد بها فتنة القبر (كان يتعوذ من سوء القضاء) أي القضاء المسيء المحزن في الدين والدنيا والبدن والمال والأهل (ومن درك الشقاء) أي ومن أن يدركني الشقاء في الدنيا أو في الآخرة و"درك" المشهور فيها فتح الراء وحكى القاضي وغيره أن بعض رواة مسلم رواه ساكن الراء وهي لغة (ومن شماتة الأعداء) أي فرح الأعداء ببلية تنزل بي يقال شمت بكسر الميم وشمت بفتحها فهو شامت وأشمته غيره (ومن جهد البلاء) بفتح الجيم وضمها والفتح أشهر وأفصح وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه فسره بقلة المال وكثرة العيال وقال غيره هي الحال الشاقة (من نزل منزلا) في حقل أو صحراء أو بيت مهجور أو غابة أو غار أو بئر (ثم قال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك) "التامات" قيل الكاملات التي لا يدخل فيها نقص ولا عيب وقيل النافعة الشافية وقيل المراد بالكلمات هنا القرآن (يا رسول الله ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة) "ما" استفهامية للتهويل والتفخيم مثلها في قوله تعالى {ما الحاقة} أي ما لقيت من آلام لدغة عقرب بالأمس شيء عظيم هائل (إذا أخذت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن ثم قل ... ) أي إذا أردت النوم في مكان نومك فتوضأ قال النووي ثلاث سنن مهمة مستحبة ليست

بواجبة إحداها الوضوء عند إرادة النوم فإن كان متوضئا كفاه ذلك الوضوء لأن المقصود النوم على طهارة مخافة أن يموت في ليلته وليكون أصدق لرؤياه وأبعد من تلعب الشيطان به في منامه وترويعه إياه الثانية النوم على الشق الأيمن لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب التيامن ولأنه أسرع إلى الانتباه الثالثة ذكر الله تعالى ليكون خاتمة عمله و"الشق" الجانب (اللهم إني أسلمت وجهي إليك) في الرواية الحادية عشرة "اللهم أسلمت نفسي إليك" أي استسلمت وجعلت نفسي منقادة لك طائعة لحكمك وقيل المراد بالوجه القصد (وألجأت ظهري إليك) أي توكلت عليك واعتمدتك في أمري كله كما يعتمد الإنسان بظهره إلى ما يسنده (رغبة ورهبة إليك) أي طمعا في ثوابك وخوفا من عقابك وعذابك قال ابن الجوزي أسقط "من" مع ذكر الرهبة أي والأصل رهبة منك وأعمل "إلى" مع ذكر الرغبة وهو على طريق الاكتفاء كقول الشاعر وزججت الحواجب والعيونا والعيون لا تزجج وكان حقه أن يقول وكحلن العيونا (لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك) قال الحافظ ابن حجر أصل "ملجأ" بالهمز و"منجا" بغير همز ولكن لما جمعا جاز أن يهمزا للازدواج وأن يترك الهمز فيهما وأن يهمز المهموز ويترك الآخر فهذه ثلاثة أوجه ويجوز التنوين مع القصر فهذه خمسة أوجه (آمنت بكتابك الذي أنزلت) يحتمل أن يراد به القرآن ويحتمل أن يراد به الجنس فيشمل كل كتاب أنزل (ونبيك الذي أرسلت) في رواية "أرسلته" (فإن مت من ليلتك مت وأنت على الفطرة) المراد من الفطرة هنا فطرة المقربين أو فطرة أصحاب اليمين فإن المؤمن إذا مات من غير أن يذكر هذا الدعاء مات على فطرة الإسلام زاد في ملحق الرواية "وإن أصبحت أصبت خيرا" (قال فرددتهن لأستذكرهن) ردد بتشديد الدال الأولى أي ردد البراء هذه الكلمات بصوت مرتفع ليحفظها (فقلت آمنت برسولك الذي أرسلت قال قل آمنت بنبيك الذي أرسلت) في رواية عند الترمذي "فطعن بيده في صدري ثم قال ونبيك الذي أرسلت" واختلف العلماء في سبب إنكاره صلى الله عليه وسلم فقال المازري وغيره إن هذا ذكر ودعاء فينبغي فيه الاقتصار على اللفظ الوارد بحروفه وقد يتعلق الجزاء بتلك الحروف ولعله أوحى إليه صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمات فيتعين أداؤها بحروفها قال النووي وهذا القول حسن وقيل لأن قوله "ونبيك الذي أرسلت" فيه

جزالة من حيث صنعة الكلام وفيه جمع النبوة والرسالة فإذا قال "ورسولك الذي أرسلت" فإن فيه من تكرير لفظ "رسول" و"أرسلت" وأهل البلاغة يعيبونه وقد قدمنا في أول الكتاب في شرح خطبة هذا الكتاب أنه لا يلزم من الرسالة النبوة ولا عكسه وقال القرطبي تبعا لغيره هذا حجة لمن لم يجز الرواية بالمعنى وهو الصحيح من مذهب مالك فإن لفظ النبوة والرسالة مختلفان في أصل الوضع فإن النبوة من النبأ وهو الخبر فالنبي في العرف المنبأ من جهة الله بأمر يقتضي تكليفا وإن أمر بتبليغه إلى غيره فهو رسول وإلا فهو نبي غير رسول وعلى هذا فكل رسول نبي ولا عكس فأراد صلى الله عليه وسلم أن يجمع بينهما في اللفظ لاجتماعهما في النبأ وليخرج عن شبه التكرار في اللفظ من غير فائدة فإنه إذا قال "ورسولك" فقد فهم منه أنه أرسله فإذا قال "الذي أرسلت" صار كالحشو الذي لا فائدة فيه. قال الحافظ ابن حجر وأما الاستدلال به لمنع الرواية بالمعنى مطلقا ففيه نظر وخصوصا إبدال الرسول بالنبي وعكسه إذا وقع في الرواية لأن الذات المحدث عنها واحدة فالمراد يفهم بأي صفة وصف بها الموصوف إذا ثبتت الصفة له وهذا بناء على أن السبب في منع الرواية بالمعنى أن الذي يستجيز ذلك قد يظن أنه يوفى بمعنى اللفظ الآخر ولا يكون كذلك في نفس الأمر كما عهد في كثير من الأحاديث فالاحتياط الإتيان باللفظ فعلى هذا إذا تحقق بالقطع أن المعنى فيهما متحد لم يضر ثم رجح الحافظ ما قاله المازري في الحكمة في رده صلى الله عليه وسلم على من قال "الرسول" بدل "النبي". (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أخذ مضجعه قال اللهم باسمك أحيا وباسمك أموت وإذا استيقظ قال الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور) قال الزجاج النفس التي تفارق الإنسان عند النوم هي التي للتمييز والتي تفارقه عند الموت هي التي للحياة وهي التي يزول معها التنفس وسمى النوم موتا لأنه يزول معه العقل والحركة تمثيلا وتشبيها اهـ ويحتمل أن يكون المراد من الموت هنا السكون من قولهم ماتت الريح أي سكنت فيحتمل أن يكون أطلق الموت على النائم بمعنى إرادة السكون لحركته لقوله تعالى {هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه} [يونس 67] قاله الطيبي. وقال القرطبي النوم والموت يجمعهما انقطاع تعلق الروح بالبدن وذلك قد يكون ظاهرا وهو النوم ولذا قيل النوم أخو الموت وباطنا وهو الموت فإطلاق الموت على النوم يكون مجازا لاشتراكهما في مطلق انقطاع الروح بالبدن. وقال الطيبي الحكمة في إطلاق الموت على النوم أن انتفاع الإنسان بالحياة إنما هو لتحري رضا الله عنه وقصد طاعته واجتناب سخطه وعقابه فمن نام زال عنه هذا الانتفاع فكان كالميت فحمد الله تعالى على هذه النعمة وزوال ذلك المانع قال وهذا التأويل موافق للحديث روايتنا الرابعة عشرة "إن أحييتها فاحفظها وإن أمتها فاغفر لها" وينتظم مع قوله "وإليه النشور" أي وإليه المرجع في نيل الثواب بما يكتسب في الحياة

(إذا أخذ مضجعه من الليل) وفي ملحق الرواية "إذا أويت إلى فراشك" أي انضممت إليه ودخلت فيه وفي الرواية الرابعة عشرة "اللهم خلقت نفسي وأنت توفاها" فيه حذف إحدى التاءين تخفيفا والأصل تتوفاها (اللهم إني أسألك العافية) أي في الدنيا والآخرة (أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته) أي من شر كل شيء من المخلوقات لأنها كلها في سلطانه وهو آخذ بناصيتها (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء) "الظاهر" من أسماء الله تعالى قيل هو من الظهور بمعنى القهر والغلبة وكمال القدرة ومنه ظهر فلان على فلان وقيل الظاهر بالدلائل القطعية والباطن المحتجب عن خلقه وقيل العالم بالخفيات وأما تسميته سبحانه وتعالى "بالآخر" فقال الباقلاني معناه الباقي بصفاته من العلم والقدرة وغيرهما التي كان عليها في الأزل ويكون كذلك بعد موت الخلائق وذهاب علومهم وقدرهم وحواسهم وتفرق أجسامهم قال وتعلقت المعتزلة بهذا الاسم فاحتجوا به لمذهبهم في فناء الأجسام وذهابها بالكلية قالوا ومعناه الباقي بعد فناء خلقه قال النووي ومذهب أهل الحق خلاف ذلك وأن المراد الآخر بصفاته بعد ذهاب صفاتهم ولهذا يقال آخر من بقي من بني فلان فلان يراد حياته ولا يراد فناء أجسام موتاهم وعدمها هذا كلام الباقلاني (اقض عنا الدين) يحتمل أن المراد بالدين هنا حقوق الله تعالى وحقوق العباد كلها من جميع الأنواع ويحتمل أن المراد بها ديون العباد المالية (إذا أوى أحدكم إلى فراشه فيأخذ داخلة إزاره فلينفض بها فراشه وليسم الله فإنه لا يعلم ما خلفه بعده على فراشه) داخلة الإزار طرفه ومعناه أنه يستحب أن ينفض فراشه قبل أن يدخل فيه لئلا يكون فيه حية أو عقرب أو غيرهما من المؤذيات "لا يعلم ما خلفه" بتخفيف اللام أي ما حدث بعده في فراشه ولينفض ويده مستورة بطرف إزاره لئلا يحصل في يده مكروه إن كان هناك وهذه النصيحة خاضعة للبيئة وهذه الهيئة مطلوبة في نفس الظروف التي نصح بها فيها أما في ظروف أخرى كالمدن النظيفة من الحشرات فالمستحب الذكر والدعاء (الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا) مناسبة هذا الدعاء للنوم استجماع حصيلة النهار من النعم والحمد عليها و"آوانا" قال النووي الصحيح أنه هنا ممدود وفي "أويت إلى فراشك" السابقة بالقصر وحكى القصر فيهما وقيل معنى "آوانا" هنا رحمنا

(فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي) بضم الميم وسكون الهمز وكسر الواو أي فكثير من المخلوقات لا راحم له ولا عاطف عليه من الخلق وقيل معناه لا وطن له ولا سكن يأوى إليه (من شر ما عملت ومن شر ما لم أعمل) قالوا معناه من شر ما اكتسبته مما قد يقتضي عقوبة في الدنيا أو يقتضي عقوبة في الآخرة وإن لم أكن قصدته ويحتمل أن المراد تعليم الأمة الدعاء (اللهم لك أسلمت وبك آمنت) معناه لك انقدت وبك صدقت (وعليك توكلت) أي فوضت أمري إليك (وإليك أنبت) أي رجعت وتبت أو أقبلت بهمتي وطاعتي وأعرضت عما سواك (وبك خاصمت) أي بك أحتج وأدافع وأقاتل وتقديم معمول الفعل في الأفعال الخمسة يفيد القصر (كان إذا كان في سفر وأسحر) أي قام في السحر أو انتهى سيره إلى السحر وهو آخر الليل (يقول سمع سامع) قال النووي روى بوجهين أحدهما فتح الميم وتشديدها من "سمع" واختاره القاضي ومعناه بلغ قولي هذا لغيره كل من سمعه الوجه الثاني كسر الميم وتخفيفها أي وعي قولي هذا واع والجملة خبرية لفظا طلبية معنى أي بلغوا ما تسمعون من هذا الذكر أو انتبهوا واحفظوا واذكروا بما تسمعون من الذكر (بحمد الله وحسن بلائه علينا ربنا صاحبنا وأفضل علينا عائذا بالله من النار) أي بحمد الله أصبحنا وأسحرنا وبحسن بلائه علينا وصلنا إلى ما نحن عليه من نعم يا ربنا صاحبنا بسكون الباء أي كن معنا في سفرنا احفظنا واكلأنا و"أفضل علينا" وأسبغ علينا آلاءك و"عائذا" حال من فاعل "يقول" أي يقول ذلك مستعيذا من النار قائلا في الأول أو في الآخر أو في الوسط اللهم إنا نعوذ بك من النار (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني) الإسراف مجاوزة الحد أي أنا متصف بهذه الأشياء اغفرها لي قيل قاله تواضعا أو اعتبر فوات الكمال ذنبا وقيل أراد ما كان عن سهو وقيل ما كان قبل النبوة وعلى كل حال فهو صلى الله عليه وسلم مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فدعا بهذا وغيره تواضعا لأن الدعاء عبادة ومعنى "وكل ذلك عندي" أي موجود أو ممكن

(اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى) العفاف والعفة هو التنزه عما لا يباح والكف عنه والغنى هنا غنى النفس والاستغناء عن الناس وعما في أيديهم لأنه صلى الله عليه وسلم رفض غنى المال (اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها) معنى "زكها" طهرها "وخير" في "أنت خير من زكاها" ليست أفعل تفضيل بل المعنى لا مزكي لها إلا أنت قال النووي هذا الحديث وغيره من الأدعية المسجوعة دليل لما قاله العلماء أن السجع المذموم في الدعاء هو المتكلف فإنه يذهب الخشوع والخضوع والإخلاص فأما ما حصل بلا تكلف ولا إعمال فكر لكمال الفصاحة ونحو ذلك أو كان محفوظا فلا بأس به بل هو حسن. (أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر) قال النووي قال القاضي رويناه بإسكان الباء وفتحها فالإسكان بمعنى التعاظم على الناس والفتح بمعنى الهرم والخرف والرد إلى أرذل العمر وهذا أشهر وأظهر كما في الأحاديث الأخرى (وغلب الأحزاب وحده) أي قبائل الكفار المتحزبين وغلبهم "وحده" أي من غير قتال الآدميين بل أرسل عليهم ريحا وجنودا لم تروها (فلا شيء بعده) أي لا شيء سواه (اللهم اهدني وسددني واذكر بالهدى هدايتك الطريق والسداد سداد السهم) "سداد السهم" بفتح السين تقويمه ومعنى "سددني" وفقني واجعلني منتصبا في جميع أموري مستقيما وأصل السداد الاستقامة والقصد في الأمور وأما "الهدى" هنا فهو الرشاد. والمأمور بقوله "واذكر بالهدى .. إلخ" هو الداعي بهذا الدعاء أي وتذكر أيها الداعي حين تدعو بالهداية والسداد تذكر أن هادي الطريق لا يزيغ عنه ومسدد السهم يحرص على تقويمه ولا يستقيم رميه حتى يقومه وكذلك الداعي ينبغي أن يحرص على تسديد علمه وتقويمه ولزوم السنة وقيل ليتذكر بهذا لفظ السداد والهدى لئلا ينساه والأول أولى (وهي في مسجدها) أي مصلاها الذي صلت فيه الصبح في بيتها. (سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته) "مداد كلماته" بكسر الميم قيل معناه مثلها في العدد وقيل مثلها في أنها لا تنفد وقيل في الثواب والمداد هنا مصدر بمعنى المدد وهو ما كثر به الشيء قال العلماء واستعماله هنا مجاز لأن كلمات الله تعالى لا تنحصر والمراد المبالغة في الكثرة لأنه ذكر أولا ما يحصره العد الكثير من عدد الخلق ثم زنة العرش ثم ارتقى إلى ما هو أعظم من ذلك وعبر عنه بهذا أي ما لا يحصيه عد كما لا تحصى كلمات الله.

(حتى وجدت برد قدمه على صدري) "قدمه" هنا مفردة وفي البخاري "قدميه" بالتثنية قال النووي وهي زيادة ثقة مقبولة (ما تلقى من الرحى في يدها) وفي رواية "مما تطحن" وفي رواية "وأنا والله قد طحنت حتى مجلت يداي" وفي رواية عن علي "كانت عندي فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم فجرت بالرحى حتى أثرت بيدها واستقت بالقربة حتى أثرت في عنقها وقمت البيت حتى أغبرت ثيابها" وفي رواية "وخبزت حتى تغير وجهها" (قال ألا أعلمكما خيرا مما سألتما) في الرواية الرابعة والثلاثين "ألا أدلك على ما هو خير لك من خادم" (قيل لعلي ما تركتهن ليلة صفين قال ولا ليلة صفين) معناه لم يمنعني منهن ذلك الأمر والشغل الذي كنت فيه وليلة صفين هي ليلة الحرب المعروفة بصفين وهي موضع بقرب الفرات كانت فيه حرب عظيمة بينه وبين أهل الشام (إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله فإنها رأت ملكا) قال القاضي سببه رجاء تأمين الملائكة على الدعاء واستغفارهم وشهادتهم بالتضرع والإخلاص قال النووي وفيه استحباب الدعاء عند حضور الصالحين والتبرك بهم (كان يقول عند الكرب لا إله إلا الله العظيم الحليم ... ) قال النووي حديث جليل ينبغي الاعتناء به والإكثار منه عند الكرب والأمور العظيمة قال الطبري كان السلف يدعون به ويسمونه دعاء الكرب فإن قيل هذا ذكر وليس فيه دعاء فجوابه من وجهين مشهورين أحدهما أن هذا الذكر يستفتح به الدعاء ثم يدعو بما شاء الثاني جواب سفيان بن عيينة فقال أما علمت قوله تعالى "من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين وقال الشاعر إذا أثنى عليك المرء يوما كفاه من تعرضه الثناء (كان إذا حزبه أمر) بفتح الحاء والزاي أي نابه وألم به أمر شديد قال القاضي قال بعض العلماء وهذه الفضائل المذكورة في هذه الأذكار إنما هي لأهل الشرف في الدين والطهارة من الكبائر دون المصرين وغيرهم قال القاضي وهذا فيه نظر والأحاديث عامة قال النووي الصحيح أنها لا تختص (إن أحب الكلام إلى الله سبحان الله وبحمده) في الرواية السابقة "سئل أي الكلام أفضل قال ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده سبحان الله وبحمده" وهذا محمول على كلام الآدمي وإلا فالقرآن أفضل وكذا قراءة القرآن أفضل من التسبيح والتهليل والتكبير المطلق فأما المأثور في وقت أو حال ونحو ذلك فالاشتغال به أفضل

(إلا قال الملك ولك بمثل) بكسر الميم وسكون الثاء وتنوين اللام وفي الرواية التالية "آمين ولك بمثل" وفي الرواية بعدها "دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به آمين ولك بمثل" أي فالملك يؤمن على الدعاء ويدعو للداعي بمثل ما دعا به لأخيه (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل) بفتح الياء وسكون العين وفتح الجيم فسرها في الحديث بقوله (فيقول قد دعوت فلا) بفتح اللام مع التنوين الذي هو عوض عن جملة فسرها بقوله (فلم يستجب لي) وفي الرواية الأخيرة "ما لم يستعجل قيل يا رسول الله ما الاستعجال قال يقول قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجيب لي فيتحسر عند ذلك ويدع الدعاء" قال أهل اللغة يقال حسر واستحسر إذا أعيا وانقطع عن المشي والمراد هنا أنه ينقطع عن الدعاء ففيه أنه ينبغي إدامة الدعاء ولا يستبطئ الإجابة -[فقه الحديث]- هذه جملة من الأذكار والأدعية بعضها مطلق صالح لكل زمان وبعضها مقيد بزمن أو بحالة وما ذكر هنا ليس حاصرا للأذكار والأدعية ولا ينبغي لأحد أن يحصرها أو يدعي حصرها ولذلك نجد غيرها في كتب الصحيح ونجد للصحابة أذكارا وأدعية غير واردة بالنص وإن كانت داخلة تحت المنصوص وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر دعاء وذكرا ورد على لسان أحد الصحابة حين سمعه يقول "حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد" وبعد أن شرحنا غريب ألفاظ أحاديثنا نورد أذكارها وأدعيتها باختصار الأذكار والأدعية المطلقة اللهم فإني أعوذ بك من فتنة النار وعذاب النار وفتنة القبر وعذاب القبر ومن شر فتنة الغنى ومن شر فتنة الفقر وأعوذ بك من شر فتنة المسيح الدجال اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد ونق قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم فإني أعوذ بك من الكسل والهرم والمأثم والمغرم اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والهرم والبخل وأعوذ بك من عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات اللهم إني أعوذ بك من سوء القضاء ومن درك الشقاء ومن شماتة الأعداء ومن جهد البلاء

اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت ومن شر ما لم أعمل اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني أنت الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي واجعل الحياة زيادة لي في كل خير واجعل الموت راحة لي من كل شر اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده فلا شيء بعده اللهم اهدني وسددني اللهم إني أسألك الهدى والسداد سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته الذكر عند المساء وعند الصباح أمسينا وأمسى الملك لله والحمد لله ولا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم أسألك خير هذه الليلة وخير ما بعدها وأعوذ بك من شر هذه الليلة وشر ما بعدها اللهم إني أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر اللهم إني أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر وإذا أصبح قال ذلك أيضا أصبحنا وأصبح الملك لله ... إلخ الذكر عند النوم يتوضأ ثم يضطجع على شقه الأيمن ثم يقول اللهم إني أسلمت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت إذا أخذ مضجعه قال اللهم باسمك أحيا وباسمك أموت وإذا استيقظ قال الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور وإذا أخذ مضجعه قال اللهم خلقت نفسي وأنت توفاها لك مماتها ومحياها إن أحييتها فاحفظها وإن أمتها فاغفر لها اللهم إني أسألك العافية

اللهم رب السموات والأرض ورب العرش العظيم ربنا ورب كل شيء فالق الحب والنوى ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عنا الدين وأغننا من الفقر إذا أوى إلى مضجعه نفض فراشه وثوب نومه وسمى الله وليضطجع على جنبه الأيمن ثم يقول سبحانك اللهم ربي بك وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فاغفر لها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت ومن شر ما لم أعمل ثم يكبر الله أربعا وثلاثين ويسبح الله ثلاثا وثلاثين ويحمد الله ثلاثا وثلاثين عند الصباح سبحان الله وبحمده عدد خلقه سبحان الله وبحمده رضا نفسه سبحان الله وبحمده زنة عرشه ومداد كلماته دعاء الكرب لا إله إلا الله العظيم الحليم لا إله إلا الله رب العرش العظيم لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم ثم يدعو برفع كربه واللطف في قضائه وقدره عند خوف الأذى من حشرة أو دابة أو إنسان أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق عند سماع الديكة اللهم إنا نسألك فضلك وخيرك عند سماع نهيق الحمار أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من آداب الدعاء قال ابن الجوزي اعلم أن دعاء المؤمن لا يرد غير أنه قد يكون الأولى له تأخير الإجابة أو يعوض بما هو أولى له عاجلا أو آجلا فينبغي للمؤمن أن لا يترك الطلب من ربه فإنه متعبد بالدعاء كما هو متعبد بالتسليم والتفويض ومن جملة آداب الدعاء تحري الأوقات الفاضلة كالسجود وعند الأذان ومنها تقديم الوضوء والصلاة واستقبال القبلة ورفع اليدين وتقديم التوبة والاعتراف بالذنب والإخلاص وافتتاحه بالحمد والثناء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والسؤال بالأسماء الحسنى اهـ والله أعلم.

كتاب الرقاق

كتاب الرقاق

(754) باب أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار النساء وبيان الفتنة بالنساء

(754) باب أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار النساء وبيان الفتنة بالنساء 6029 - عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قمت على باب الجنة فإذا عامة من دخلها المساكين وإذا أصحاب الجد محبوسون إلا أصحاب النار فقد أمر بهم إلى النار وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء". 6030 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال محمد صلى الله عليه وسلم "اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء". 6031 - وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع في النار فذكر بمثل حديث أيوب. 6032 - عن أبي التياح قال كان لمطرف بن عبد الله امرأتان فجاء من عند إحداهما فقالت الأخرى جئت من عند فلانة فقال جئت من عند عمران بن حصين فحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن أقل ساكني الجنة النساء". 6033 - وفي رواية عن أبي التياح قال سمعت مطرفا يحدث أنه كانت له امرأتان بمعنى حديث معاذ. 6034 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم

"اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك وجميع سخطك". 6035 - عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء". 6036 - عن أسامة بن زيد بن حارثة وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أنهما حدثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "ما تركت بعدي في الناس فتنة أضر على الرجال من النساء". 6037 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء" وفي حديث ابن بشار "لينظر كيف تعملون". -[المعنى العام]- لما كانت الدنيا مزرعة للآخرة ووسيلة إليها وكانت الآخرة هي الغاية والنهاية كان الدعاء الشرعي المحبوب اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة وكانت الحياة الدنيا بالنسبة للآخرة لعبا ولهوا وزينة وتفاخر بين أهلها وتكاثرا في الأموال والأولاد {كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} [الحديد 20] عذاب شديد لمن اغتر بها وبزينتها ورضوان لمن عمل فيها لآخرته وهي غرورة وما متاعها إلا قليل لهذا كانت وصيته صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" وكان تحذير الله تعالى من الاغترار بها في قوله {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب} [آل عمران 14] وفي هذه الأحاديث يحذر النساء من النار ويحذر الرجال من النساء لقد خلقن من ضلع أعوج وطبيعته كالزئبق ناعمة غير مقدور على إمساكها إن ذهبت تقيمها كسرتها وإن تركتها لم تزل على عوجها خلقهن الله كذلك فتنة لهن واختبار للرجال إن استغلت هذه الطبيعة في الخير نجا أصحابها النساء من النار ونجا رجالهن

من الضرر والإغواء وإن استخدمت هذه الإمكانات في الشر وما أكثر ما تكون سقطت في النار وأسقطت جزءا كبيرا من الرجال فكن لهذا ولكفرانهن العشير أكثر أهل النار أما الفتنة الثانية في الحديث فهي المال والغنى وفي الآية القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث تلك فتنة تبعد الناس في دنياهم عن الآخرة وتؤخرهم في دخول الجنة عن الفقراء حتى يصفوا حسابهم من أين اكتسبوها؟ وفيم أنفقوها وكلما كثر المال كلما زاد الحساب وكلما كثر الحساب زاد تأخير الدخول للجنة -[المباحث العربية]- (الرقاق) بكسر الراء جمع رقيقة وسميت هذه الأحاديث بذلك لأن في كل منها ما يحدث في القلب رقة قال أهل اللغة الرقة الرحمة وهي ضد الغلظ وقال الراغب متى كانت الرقة في جسم فضدها الصفاقة كثوب رقيق وثوب صفيق ومتى كانت في نفس فضدها القسوة كرقيق القلب وقاسي القلب اهـ (قمت على باب الجنة) الأقرب أن ذلك كان رؤيا منام وقيل رأى ذلك ليلة الإسراء والمراد من القيام على بابها الاطلاع على ما فيها (فإذا عامة من دخلها المساكين) وفي الرواية الثانية كما عند البخاري "اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء" وكل منهما يطلق على الآخر (وإذا أصحاب الجد محبوسون) "الجد" بفتح الجيم الغنى وقيل الحظ في الدنيا والوجاهة فيها وقيل أصحاب الولايات ومعناه محبوسون للحساب على أموالهم ممنوعون من دخول الجنة مع الفقراء وكأن هذا الحبس عند القنطرة التي يتقاصون فيها بعد الجواز على الصراط (إلا أصحاب النار فقد أمر بهم إلى النار) أي من استحق النار من أهل الغنى فإنهم لم يحبسوا بل أمر بهم إلى النار (وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء) وفي الرواية الثانية "فرأيت أكثر أهلها النساء" وفي الرواية الثالثة "إن أقل ساكني الجنة النساء" وأن مطرف بن عبد الله ساق الحديث ردا على امرأته التي ادعت أنه كان عند ضرتها غيرة منها بينما كان عند عمران بن حصين الذي حدثه بهذا الحديث ووجه الرد أن كفران العشير وعدم تصديقه والادعاء عليه بما ليس بحق سبب في دخولهن النار (اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك وجميع

سخطك) قال النووي الفجأة بفتح الفاء وسكون الجيم وفتح الهمزة على وزن الضربة والفجاءة بضم الفاء وفتح الجيم والمد بعدها همزة لغتان بمعنى واحد وهي البغتة اهـ وهذا الحديث أولى به الباب السابق إذ لا علاقة له بهذا الباب (ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء) في الرواية السادسة "ما تركت بعدي في الناس فتنة أضر على الرجال من النساء" قال تعالى {زين للناس حب الشهوات من النساء} [آل عمران 14] فهي أشد الأشياء فتنة للرجال لما يقدمن من زينة ورقة وعاطفة حتى يتملكن قلب الرجل فيوحين إليه بما يشأن فيقع من حيث لا يشعر (إن الدنيا حلوة خضرة) أي ومن متعها وخضرتها وحلاوتها النساء ويحتمل أن المراد بذلك شيئان أحدهما حسنها للنفوس ونضارتها ولذتها كالفاكهة الخضراء الحلوة فإن النفوس تطلبها طلبا حثيثا فكذلك الدنيا والثاني سرعة فنائها فهي كالشيء الأخضر من هاتين الحيثيتين (فاتقوا الدنيا واتقوا النساء) أي احذروا أن يخدعكم متاع الدنيا فينسيكم الآخرة واحذروا فتنة النساء وإغواءهن وذكرهن بعد الدنيا من ذكر الخاص بعد العام لمزيد عناية بهذا الخاص وتدخل في النساء الزوجات وغيرهن وإن كانت الفتنة أكثر بالزوجات لدوام فتنتهن وابتلاء أكثر الناس بهن فقه الحديث 1 - في الحديث فضل الفقر على الغنى 2 - وفضل الفقراء غالبا على الأغنياء لعسر حساب الأغنياء على أموالهم من أين اكتسبوها؟ وفيم أنفقوها 3 - وفيه طبائع النساء وكفرانهن العشير 4 - وأنهن لذلك يدخل الكثيرات منهن النار 5 - والتحذير من إغواء النساء للرجال وفتنتهن لهم 6 - والتحذير من زينة الدنيا ومتاعها أن تفتن صاحبها فيجري وراءها وينسى آخرته والله أعلم.

(755) باب قصة أصحاب الغار الثلاثة والتوسل بصالح الأعمال

(755) باب قصة أصحاب الغار الثلاثة والتوسل بصالح الأعمال 6038 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "بينما ثلاثة نفر يتمشون أخذهم المطر فأووا إلى غار في جبل فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل فانطبقت عليهم فقال بعضهم لبعض انظروا أعمالا عملتموها صالحة لله فادعوا الله تعالى بها لعل الله يفرجها عنكم فقال أحدهم اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران وامرأتي ولي صبية صغار أرعى عليهم فإذا أرحت عليهم حلبت فبدأت بوالدي فسقيتهما قبل بني وأنه نأى بي ذات يوم الشجر فلم آت حتى أمسيت فوجدتهما قد ناما فحلبت كما كنت أحلب فجئت بالحلاب فقمت عند رءوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما وأكره أن أسقي الصبية قبلهما والصبية يتضاغون عند قدمي فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة نرى منها السماء ففرج الله منها فرجة فرأوا منها السماء وقال الآخر اللهم إنه كانت لي ابنة عم أحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء وطلبت إليها نفسها فأبت حتى آتيها بمائة دينار فتعبت حتى جمعت مائة دينار فجئتها بها فلما وقعت بين رجليها قالت يا عبد الله اتق الله ولا تفتح الخاتم إلا بحقه فقمت عنها فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة ففرج لهم وقال الآخر اللهم إني كنت استأجرت أجيرا بفرق أرز فلما قضى عمله قال أعطني حقي فعرضت عليه فرقه فرغب عنه فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقرا ورعاءها فجاءني فقال اتق الله ولا تظلمني حقي قلت اذهب إلى تلك البقر ورعائها فخذها فقال اتق الله ولا تستهزئ بي فقلت إني لا أستهزئ بك خذ ذلك البقر ورعاءها فأخذه فذهب به فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا ما بقي ففرج الله ما بقي". 6039 - وفي رواية عن موسى بن عقبة وزادوا في حديثهم "وخرجوا

يمشون" وفي حديث صالح "يتماشون" إلا عبيد الله فإن في حديثه "وخرجوا" ولم يذكر بعدها شيئا. 6040 - وفي رواية عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار" واقتص الحديث بمعنى حديث نافع عن ابن عمر غير أنه قال قال رجل منهم "اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران فكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا" وقال "فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار" وقال "فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال فارتعجت" وقال "فخرجوا من الغار يمشون". -[المعنى العام]- {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث} [آل عمران 14] ثلاث شهوات طبع عليها الإنسان وأمر أن يهذبها وأن يخالف طبعه ليوافق شرعه شهوة حب النساء وشهوة حب الأولاد وشهوة حب المال وفي هذا الحديث مثل عليا في مقاومة هذه الشهوات والتغلب عليها والميل بها نحو الروحانية والمبالغة للرقي بها تجاه المقربين قد نرى من يستجيب ويعمل بقوله تعالى {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا} [الإسراء 23 - 24] وقد نسمع عن مسلم حمل أمه على عاتقه أميالا يحمي قدميها الضعيفتين من رمال ساخنة لو وضع عليها اللحم لنضج برا بها ورحمة لها لكن أن نسمع أن رجلا يقدم أمه وأباه الكبيرين على زوجته وبنيه في ظاهرة يومية بعد أن يشقى يومه يسعى على رزقهم فيجيء كل ليلة فيحلب شياهه ويحمل على يديه اللبن لأمه وأبيه يسقيهما حتى يشبعا فإذا شبعا توجه بفضلة ما معه من اللبن إلى أولاده وزوجته لكن أن نسمع بهذا فعجب وهو بهذا محسن أحسن الله إليه لكنه يزيد إحسانا بما لا طاقة له لكثير من المحسنين فهو في ليلة يتأخر في العودة فيحمل اللبن لوالديه فيجدهما قد ناما ماذا يفعل؟ وزوجته جائعة طول نهارها تنتظر عشاءها ماذا يعمل وأطفاله تحت قدمه يتعلقون به يصرخون من الجوع قد يقف

الإنسان في دهشة وحيرة دقائق ثم يقرر ربما كان هذا ما حدث لكن ما القرار؟ كان من الممكن إيقاظ والديه فيشربا والإيقاظ في هذه الحالة لصالحهما فقد ناما طاويين بطونهما على جوع لكن المبالغة في الحفاظ على أحاسيسهما وراحتهما جعلته يرفض هذا القرار وكان من الممكن أن يسقي زوجته وولده نصيبهم من اللبن ويحتفظ بنصيب والديه وينام حتى يستيقظا ولا جناح عليه لكنه لا يجيز لنفسه أن يقدم زوجته وأولاده على أبيه وأمه حتى لو دعت الضرورة ذلك كما في هذه الحالة كما لا يجيز لنفسه أن ينام فيستيقظ أبواه ولو للحظات فلا يجدانه واقفا باللبن فيعودان إلى النوم بدون عشاء فالقرار أن يظل واقفا حاملا اللبن من مسائه حتى صباحه ضاربا بحاجة زوجته وبكاء أطفاله عرض الحائط حتى يناموا جائعين وحتى الصباح فيستيقظ أبواه فيشربان ورع وتقوى نادرة ورب الكعبة تستحق مكافأة كبرى من الكريم الذي قرن بر الوالدين بعبادته الصورة الثانية قد نسمع برجل مؤمن دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله رب العالمين فيظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله قد لا تكون له إربة في النساء وقد يكون حاكما لشهوته الجنسية من بعد وقد لا يكون هناك حب ورغبة بينه وبينها أما أن يكون محبا كأشد حب ساعيا بكل ما يستطيع للوصول باذلا كل ما في وسعه عاما كاملا يجري وراءها فإذا تمكن منها وجلس منها مجلس الرجل من المرأة واستسلمت له وكشفها قال إني أخاف الله رب العالمين فانصرف عنها ودفع لها كل ما جمعه من مال مائة وعشرين دينارا تلك صورة نادرة يستحق صاحبها من الكريم الذي أمر بالعفة الإحسان والتقدير والإكرام الصورة الثالثة قد نسمع بصاحب عمل يدفع للعامل ضعف أجره أو عشرة أمثال ما يستحق وأن يحتفظ له بأجره أمانة سنوات حتى يعود فيؤدي له أمانته أما أن يعمل له دون مقابل في هذا الأجر ويستثمره له مضحيا بأجر نفسه وقيامه على هذا الأجر ليتحول من حفنات أرز إلى كومة كبيرة ثم إلى شياه ثم إلى قطيع من البقر فيأتي العامل بعد سنوات يطلب حفنات الأرز فيسلمه قطيعا من البقر وعشرة آلاف درهم أليست هذه الصورة أيضا صورة نادرة يستحق صاحبها ممن يضاعف الحسنات أضعافا كثيرة التقدير والنجدة والإحسان بالصورة الأولى رفعت الصخرة بأمر ربها عن فم الغار ثلث الفتحة وبالصورة الثانية رفعت ثلثا آخر وبالصورة الثالثة رفع الكرب نهائيا ألا نقرأ قوله تعالى {ومن يتق الله يجعل له مخرجا} [الطلاق 2] وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "احفظ الله يحفظك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة" آمنا بالله رب العالمين -[المباحث العربية]- (بينما ثلاثة نفر يتمشون أخذهم المطر) في الملحق الثاني للرواية "انطلق ثلاثة رهط

ممن كان قبلكم" وكذا عند البخاري وعند الطبراني "ثلاثة نفر من بني إسرائيل" وعند ابن حبان والبزار أنهم "خرجوا يرتادون لأهليهم" (فأووا إلى غار في جبل) الغار النقب في الجبل و"أووا" يجوز قصر الألف ومدها أي التجئوا إلى غار يحميهم من المطر وعند البزار والطبراني "فدخلوا غارا" (فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل فانطبقت عليهم) وعند البخاري "فأووا إلى غارهم فانطبق عليهم" وعند البزار والطبراني "فسقط عليهم حجر متجاف أي بعيد عنهم وسقط على باب الغار حجر غليظ حتى ما يرون منه خصاصة" أي فرجة وفي رواية "فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل فانطبقت عليهم" وفي رواية "فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار" وفي رواية للطبراني "إذ وقع حجر من الجبل مما يهبط من خشية الله حتى سد فم الغار" وفي رواية "حتى أووا المبيت إلى غار" وظاهرها أنهم استمروا في الغار إلى النصف الثاني من الليل إذ هو الذي يطلق عليه المبيت (فقال بعضهم لبعض انظروا أعمالا عملتموها صالحة لله فادعوا الله تعالى بها لعل الله يفرجها عنكم) وفي رواية للبخاري "فقال بعضهم لبعض إنه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلا الصدق فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه" وفي رواية للبخاري "ادعوا الله بأفضل عمل عملتموه" وفي رواية "إنه لا ينجيكم إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم" وفي رواية "فقال بعضهم لبعض عفا الأثر ووقع الحجر ولا يعلم بمكانكم إلا الله ادعوا الله بأوثق أعمالكم" وعند البزار "تفكروا في أحسن أعمالكم فادعوا الله بها لعل الله يفرج عنكم" وفي رواية "إنكم لن تجدوا شيئا خيرا من أن يدعو كل امرئ منكم بخير عمل عمله قط" (فقال أحدهم اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران وامرأتي ولي صبية صغار أرعى عليهم فإذا أرحت عليهم حلبت فبدأت بوالداي فسقيتهما قبل بني وإنه نأى بي ذات يوم الشجر فلم آت حتى أمسيت فوجدتهما قد ناما فحلبت كما كنت أحلب فجئت بالحلاب فقمت عند رءوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما وأكره أن أسقي الصبية قبلهما والصبية يتضاغون عند قدمي فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة نرى منها السماء ففرج الله منها فرجة فرأوا منها السماء) وقوله "نأى بي ذات يوم الشجر" أي بعد بي عن المساكن السعي بحثا عن المرعى الخصب والشجر الطيب قال النووي في بعض النسخ "ناء بي" فالأول يجعل الهمزة قبل الألف وبه قرأ أكثر القراء السبعة في قوله تعالى {وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه} [فصلت 51] والثاني عكسه وهما لغتان وقراءتان ومعناهما بعد وفي الملحق الثاني للرواية "اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران فكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا" وفي رواية للبخاري "اللهم إن كنت تعلم"

و"أبوان" أي أب وأم من باب التغليب وفي رواية "أبوان ضعيفان فقيران ليس لهما خادم ولا راع ولا ولي غيري فكنت أرعى لهما بالنهار وآوي إليهما بالليل" وقوله في ملحق الرواية "فكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا" قال الداودي أراد بالمال الرقيق والدواب وقوله "لا أغبق" بفتح الهمزة وضم الباء والغبوق شرب العشاء والصبوح شرب أول النهار وقوله "أكره أن أوقظهما من نومهما" أي فيشق ذلك عليهما ويؤرقهما ويؤذيهما وقوله "أكره أن أسقي الصبية قبلهما" فيطويا بطونهما على جوع ويضعفا وأحس أني لم أبرهما حيث قدمت صبيتي عليهما وقوله "والصبية يتضاغون عند قدمي" أي يصيحون ببكاء زاد في رواية "من الجوع" وهذا القيد ملاحظ في روايتنا لرفع إيهام أنهم يبكون ويصيحون بسبب آخر غير الجوع وفائدة ذكر هذه الجملة إبراز مقاومة عواطفه نحو أولاده من أجل أبويه وقوله "فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم" أي ودأب أبوي وأولادي (وقال الآخر اللهم إنه كانت لي ابنة عم أحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء وطلبت إليها نفسها فأبت حتى آتيها بمائة دينار فتعبت حتى جمعت مائة دينار فجئتها بها فلما وقعت بين رجليها قالت يا عبد الله اتق الله ولا تفتح الخاتم إلا بحقه فقمت عنها فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة ففرج لهم) بفتح الفاء والراء مبني للمعلوم أي فرج الله لهم فرجة أخرى لكنها لا تمكنهم من الخروج وقد صرح به في آخر الحديث ولفظه "ففرج الله ما بقي" وفي الملحق الثاني للرواية "فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين" أي حتى وقعت في سنة قحط "فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار" والكاف في "كأشد ما يحب الرجال النساء" زائدة ففي رواية في الصحيح "كانت أحب الناس إلي" أو أراد تشبيه محبته بأشد المحبات وفي رواية للبخاري "راودتها عن نفسها" وفي رواية "فأردتها على نفسها" "فأبت" وفي رواية "فقالت لا ينال منها ذلك حتى ... " وفي رواية "إلا أن آتيها بمائة دينار" قالوا والجمع بين رواية "مائة دينار" ورواية "عشرين ومائة" أن الرواية الأولى ألغت الكسر أو يحمل على أنها طلبت منه مائة فزادها عشرين وقوله "فلما وقعت بين رجليها" أي جلست منها مجلس الرجل من المرأة للوقاع وفي رواية للبخاري "فلما قعدت بين رجليها" وفي رواية "حتى إذا قدرت عليها" وفي رواية "فلما كشفتها" و"الخاتم" كناية عن عذرتها وبكارتها وكأنها كانت بكرا وعدم فتح الخاتم كناية عن عدم كسر الغشاء وأل في الخاتم للعهد أي خاتمي وفي رواية للبخاري "لا تفض" وهي بمعنى "لا تفتح" والمراد من "حقه" النكاح الحلال وعند الطبراني "إنه لا يحل لك أن تفض خاتمي إلا بحقه" وفي رواية "قالت أذكرك الله أن تركب مني ما حرم الله عليك قال فقلت أنا أحق أن أخاف ربي" وفي رواية "فلما أمكنتني من نفسها بكت فقلت ما يبكيك قالت فعلت هذا من الحاجة فقلت

انطلقي" وفي رواية "فأسلمت إلي نفسها فلما كشفتها ارتعدت من تحتي فقلت مالك قالت أخاف الله رب العالمين فقلت خفتيه في الشدة ولم أخفه في الرخاء فتركتها" وترك لها المال (وقال الآخر اللهم إني كنت قد استأجرت أجيرا بفرق أرز فلما قضى عمله قال أعطني حقي فعرضت عليه فرقه فرغب عنه فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقرا ورعاءها فجاءني فقال اتق الله ولا تظلمني حقي قلت اذهب إلى تلك البقر ورعائها فخذها فقال اتق الله ولا تستهزئ بي فقلت إني لا أستهزئ بك خذ ذلك البقر ورعاءها فأخذه فذهب به فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا ما بقي ففرج الله ما بقي) و"الفرق" بفتح الفاء والراء وقد تسكن الراء مكيال يسع ثلاثة آصع والأرز فيه ست لغات فتح الألف وضمها مع ضم الراء وبضم الألف مع سكون الراء وتشديد الزاي وتخفيفها وفي رواية "فرق ذرة" وجمع بينهما بأنه استأجر أجراء بعضهم بفرق أرز وبعضهم بفرق ذرة ويحتمل أن ثمن الأرز والذرة كان واحدا فكان الأجر بهذا أو بهذا وفي رواية بين السبب في أنه ترك أجره ولفظها "كان لي أجراء يعملون فجاءني عمال فاستأجرت كل رجل منهم بأجر معلوم فجاء رجل ذات يوم نصف النهار فاستأجرته بشرط أصحابه فعمل في نصف نهاره كما عمل رجل منهم في نهاره كله فرأيت علي في الذمام أن لا أنقصه عما استأجرت به أصحابه لما جهد في عمله فقال رجل منهم تعطي هذا مثل ما أعطيتني فقلت يا عبد الله لم أبخسك شيئا من شرطك وإنما هو مالي أحكم فيه بما شئت قال فغضب وذهب وترك أجره" وفي رواية "فأتاني يطلب أجره وأنا غضبان فزبرته فانطلق وترك أجره" فيحتمل أن الأجير لما حسد الذي عمل نصف النهار وعاتب المستأجر غضب منه وقال له لم أبخسك ... وزبره فغضب الأجير وذهب وفي رواية "وترك واحد منهم أجره وزعم أن أجره أكثر من أجور أصحابه" ومعنى قوله "فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقرا ورعاءها" يفسره ما في البخاري بلفظ "وإني عمدت إلى ذلك الفرق فزرعته فصار من أمره أني اشتريت منه بقرا" وفي رواية "وراعيها" وفي رواية "فجمعته" أي حصدت الزرع وجمعته وبعته "وثمرته حتى كان منه كل المال" وفي رواية "فبذرته على حدة فأضعف ثم بذرته فأضعف حتى كثر الطعام" وفي رواية "ثم مرت بي بقر فاشتريت منها فصيلة فبلغت ما شاء الله" والرعاء الراعي وفي رواية للبخاري "وإنه أتاني يطلب أجره" والواضح أن مجيئه كان بعد سنين من عمله "فقلت له اعمد إلى تلك البقر فسقها فقال لي إن لي عندك فرق أرز فقلت له اعمد إلى تلك البقر فإنها من ذلك الفرق" وفي رواية "فقال أتستهزئ بي؟ فقلت لا" وفي رواية "أتظلمني وتسخر بي"؟ وفي رواية "فأعطيته ذلك كله ولو شئت لم أعطه إلا الأجر الأول" وفي رواية أنه دفع له فوق ذلك عشرة آلاف درهم" هذا وترتيب الثلاثة في قصصهم ودعائهم يختلف هنا عما في البخاري إذ جاء فيه أن الأول الأجير والثاني صاحب الأبوين والثالث صاحب ابنة عمه والاختلاف من الرواة

وفي ملحق الرواية "حتى كثرت منه الأموال فارتعجت" قال النووي بالعين ثم الجيم أي كثرت حتى ظهرت حركتها واضطرابها ومرج بعضها في بعض لكثرتها والارتعاج الاضطراب والحركة وزاد في هذا الملحق "وخرجوا من الغار يمشون" -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من هذا الحديث]- 1 - فضل بر الوالدين وفضل خدمتهما وإيثارهما عمن سواهما من الأولاد والزوجة وغيرهم 2 - وفضل العفاف والانكفاف عن المحرمات لا سيما بعد القدرة عليها والهم بفعلها ابتغاء وجه الله تعالى 3 - وجواز الإجازة بالطعام المعلوم بين المتآجرين 4 - وفضل حسن العهد والسماحة في المعاملة 5 - وأداء الأمانة 6 - وفيه إثبات كرامات الأولياء قاله النووي والأولى أن يقال فيه إجابة الدعاء والتشفع لذلك بصالح الأعمال 7 - واستحباب الدعاء في الكرب 8 - وفضل الإخلاص في العمل 9 - قال الحافظ ابن حجر واستشكل تركه أولاده الصغار يبكون من الجوع طول ليلتهما مع قدرته على تسكين جوعهم فقيل كان في شرعهم تقديم نفقة الأصول على غيرهم 10 - قال النووي واحتج بهذا الحديث أصحاب أبي حنيفة وغيرهم ممن يجيز للإنسان مال غيره والتصرف فيه بغير إذن مالكه إذا أجازه المالك بعد ذلك قال وأجاب أصحابنا وغيرهم ممن لا يجيز التصرف المذكور بأن هذا إخبار عن شرع من قبلنا وفي كونه شرعا لنا خلاف مشهور للأصوليين فإن قلنا ليس بشرع لنا فلا حجة وإلا فهو محمول على أنه استأجر بأرز في الذمة ولم يسلم إليه بل عرضه عليه فلم يقبله لرداءته فلم يتعين من غير قبض صحيح فبقى على ملك المستأجر لأن ما في الذمة لا يتعين إلا بقبض صحيح ثم إن المستأجر تصرف فيه وهو ملكه فصح تصرفه سواء اعتقده لنفسه أم للأجير ثم تبرع بما اجتمع منه على الأجير بتراضيهما اهـ 11 - وفيه الإخبار عما جرى للأمم الماضية ليعتبر السامعون بأعمالهم فيعملوا بأحسنها ويتركوا أقبحها والله أعلم

كتاب التوبة

كتاب التوبة

(756) باب في الحض على التوبة والفرح بها وسقوط الذنوب بالاستغفار

(756) باب في الحض على التوبة والفرح بها وسقوط الذنوب بالاستغفار 6041 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "قال الله عز وجل أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حيث يذكرني والله لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة ومن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا وإذا أقبل إلي يمشي أقبلت إليه أهرول". 6042 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لله أشد فرحا بتوبة أحدكم من أحدكم بضالته إذا وجدها. 6043 - عن الحارث بن سويد قال دخلت على عبد الله أعوده وهو مريض فحدثنا بحديثين حديثا عن نفسه وحديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقول لله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن من رجل في أرض دوية مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه فنام فاستيقظ وقد ذهبت فطلبها حتى أدركه العطش ثم قال أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ وعنده راحلته وعليها زاده وطعامه وشرابه فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده". 6044 - عن الأعمش بهذا الإسناد وقال "من رجل بداوية من الأرض". 6045 - عن الحارث بن سويد قال حدثني عبد الله حديثين أحدهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والآخر عن نفسه فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن" بمثل حديث جرير.

6046 - عن سماك قال خطب النعمان بن بشير فقال "لله أشد فرحا بتوبة عبده من رجل حمل زاده ومزاده على بعير ثم سار حتى كان بفلاة من الأرض فأدركته القائلة فنزل فقال تحت شجرة فغلبته عينه وانسل بعيره فاستيقظ فسعى شرفا فلم ير شيئا ثم سعى شرفا ثانيا فلم ير شيئا ثم سعى شرفا ثالثا فلم ير شيئا فأقبل حتى أتى مكانه الذي قال فيه فبينما هو قاعد إذ جاءه بعيره يمشي حتى وضع خطامه في يده فلله أشد فرحا بتوبة العبد من هذا حين وجد بعيره على حاله" قال سماك فزعم الشعبي أن النعمان رفع هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأما أنا فلم أسمعه. 6047 - عن البراء بن عازب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كيف تقولون بفرح رجل انفلتت منه راحلته تجر زمامها بأرض قفر ليس بها طعام ولا شراب وعليها له طعام وشراب فطلبها حتى شق عليه ثم مرت بجذل شجرة فتعلق زمامها فوجدها متعلقة به" قلنا شديدا يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أما والله لله أشد فرحا بتوبة عبده من الرجل براحلته" قال جعفر حدثنا عبيد الله بن إياد عن أبيه. 6048 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح". 6049 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم إذا استيقظ على بعيره قد أضله بأرض فلاة". 6050 - عن أبي أيوب أنه قال حين حضرته الوفاة كنت كتمت عنكم شيئا

سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لولا أنكم تذنبون لخلق الله خلقا يذنبون يغفر لهم" 6051 - عن أبي أيوب الأنصاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "لو أنكم لم تكن لكم ذنوب يغفرها الله لكم لجاء الله بقوم لهم ذنوب يغفرها لهم". 6052 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم". -[المعنى العام]- يراجع في باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه والتوبة -[المباحث العربية]- (والله لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة) وفي الرواية الثانية "لله أشد فرحا بتوبة أحدكم من أحدكم بضالته إذا وجدها" أي أشد فرحا من فرح أحدكم بوجود ضالته بعد أن فقدها وفقد الأمل في الحصول عليها وفي الرواية الثالثة لله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن من رجل ... قال النووي قال العلماء فرح الله تعالى هو رضاه وقال المازري الفرح ينقسم إلى وجوه منها السرور والسرور يقارنه الرضا بالمسرور به قال فالمراد هنا أن الله تعالى يرضى توبة عبده أشد مما يرضى واجد ضالته بالفلاة فعبر عن الرضا بالفرح تأكيدا لمعنى الرضا في نفس السامع ومبالغة في تقريره اهـ وقال الخطابي الفرح الذي يتعارفه الناس بينهم غير جائز على الله وقال ابن العربي كل صفة تقتضي التغير لا يجوز أن يوصف الله بحقيقتها فإن ورد شيء من ذلك حمل على معنى يليق به وقد يعبر عن الشيء بسببه أو بثمرته الحاصلة عنه فإن من فرح بشيء جاء لفاعله بما سأل وبذل له ما طلب فعبر عن عطاء الباري وواسع كرمه بالفرح وقال ابن أبي جمرة كنى عن إحسان الله للتائب وتجاوزه عنه بالفرح لأن عادة الملك إذا فرح بفعل أحد أن يبالغ في الإحسان إليه

وقال القرطبي في المفهم هذا مثل قصد به بيان سرعة قبول الله توبة عبده التائب وأنه يقبل عليه بمغفرته ويعامله معاملة من يفرح بعمله ووجه هذا المثل أن العاصي وقع بسبب معصيته في قبضة الشيطان وأسره وقد أشرف على الهلاك فإذا لطف الله به ووفقه للتوبة خرج من شؤم تلك المعصية وتخلص من أسر الشيطان ومن المهلكة التي أشرف عليها فأقبل الله عليه بمغفرته ورحمته وإلا فالفرح الذي هو من صفات المخلوقين محال على الله تعالى لأنه اهتزاز وطرب يجده الشخص من نفسه عند ظفره بغرض يستكمل به نقصانه أو يدفع به عن نفسه ضررا أو نقصا وكل ذلك محال على الله فإنه الكامل بذاته الغني بوجوده الذي لا يلحقه نقص ولا قصور فعبر عن ثمرة الفرح بالفرح على طريقة العرب في تسمية الشيء باسم ما جاوره أو بسببه قال وهذا القانون جار في جميع ما أطلق على الله تعالى على صفة من الصفات التي لا تليق به (من رجل في أرض دوية مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه فنام فاستيقظ وقد ذهبت فطلبها حتى أدركه العطش ثم قال أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ وعنده راحلته وعليها زاده وطعامه وشرابه فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده) "دوية" اتفق العلماء على أنها بفتح الدال وتشديد الواو المكسورة وتشديد الياء المفتوحة وفي ملحق الرواية الثالثة "من رجل بداوية من الأرض" بزيادة ألف وهي بتشديد الياء أيضا وكلاهما صحيح قال أهل اللغة الدوية الأرض القفر والفلاة الخالية وقال الخليل هي المفازة قالوا ويقال دوية وداوية فأما الدوية فمنسوب إلى الدو بتشديد الواو وهي البرية التي لا نبات فيها وأما الداوية فهي على إبدال إحدى الواوين ألفا كما قيل في النسب إلى طي طائي والمهلكة بفتح الميم وبفتح اللام وكسرها وهي موضع مخوف الهلاك ويقال لها مفازة قيل إنه من قولهم فوز الرجل بتشديد الواو المفتوحة إذا هلك وقيل سميت مفازة على سبيل التفاؤل بفوزه ونجاته منها كما يقال للديغ سليم. وفي الرواية الرابعة "من رجل حمل زاده ومزاده على بعير" والمزاد والمزادة الماء ثم سار حتى كان بفلاة من الأرض فأدركته القائلة فنزل فقال تحت شجرة فغلبته عينه وانسل بعيره فاستيقظ فسعى شرفا أي جرى مكانا عاليا من الأرض لينظر منه هل يراها؟ فلم ير شيئا ... فأقبل حتى أتى مكانه الذي قال فيه فبينما هو قاعد إذ جاءه بعيره يمشي حتى وضع خطامه في يده فلله أشد فرحا بتوبة العبد من هذا حين وجد بعيره على حاله أي وعليه زاده وماؤه ومتاعه. وفي الرواية الخامسة كيف تقولون بفرح رجل انفلتت منه راحلته تجر زمامها بأرض قفر ليس بها طعام ولا شراب وعليها له طعام وشراب فطلبها حتى شق عليه ثم مرت بجذل شجرة بكسر الجيم وفتحها وسكون الذال وهو أصل الشجرة القائم فتعلق زمامها فوجدها متعلقة به قلنا شديدا أي نراه فرح فرحا شديدا يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما والله لله أشد فرحا

بتوبة عبده من الرجل براحلته ويجمع بين الروايات بأن الشجرة التي تعلقت بها كانت بجواره وفي الرواية السادسة كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه أي فنام فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها أي بعد البحث عنها أيس من استردادها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح فقلب اللفظ المراد وهو أنت ربي وأنا عبدك الشاكر لفضلك قال القاضي عياض ما قاله الإنسان من مثل هذا في حال دهشته وذهوله لا يؤاخذ به وفي الرواية السابعة "لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم إذا استيقظ على بعيره" في الكلام مضاف محذوف أي إذا استيقظ على انسلال بعيره وهربه قد أضله أضل الرجل بعيره ففي رواية فأضلها بأرض فلاة وقال القاضي عياض هكذا هو في جميع النسخ إذا استيقظ على بعيره واتفقت عليه رواة صحيح مسلم قال قال بعضهم وهو وهم وصوابه إذا سقط على بعيره أي وقع عليه وصادفه من غير قصد قال ورواية استيقظ صحيحة لكن السياق يدل على سقط وصحته كما في البخاري فنام نومة فرفع رأسه فإذا راحلته عنده" اهـ وهكذا حمل القاضي عياض استيقاظ الرجل على النومة الثانية وحملناه على النومة الأولى والله أعلم (لولا أنكم تذنبون لخلق الله خلقا يذنبون يغفر لهم) في الرواية التاسعة لو أنكم لم تكن لكم ذنوب يغفرها الله لكم لجاء الله بقوم لهم ذنوب يغفرها لهم وفي الرواية العاشرة والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم فعبر عن التوبة بالاستغفار والاستغفار الذي هو طلب المغفرة يعتبر توبة والله أعلم -[فقه الحديث]- مضى الكلام عن التوبة وشروطها وقبولها ووقت صلاحيتها قبل أبواب عند باب التوبة ونضيف هنا ما يستفاد من هذا الحديث -[يؤخذ منه]- 1 - جواز سفر المرء وحده لأن الشارع لا يضرب المثل إلا بما يجوز ويحمل حديث النهي عن ذلك على الكراهة جمعا بين النصوص 2 - وفيه تسمية المفازة التي ليس فيها ما يؤكل ولا يشرب مهلكة 3 - وأن من ركن إلى الله كفاه وجعل له من ضيقه مخرجا 4 - وفيه بركة الاستسلام لأمر الله بعد استنفاد الوسائل المشروعة 5 - وفيه ضرب المثل بما يصل إلى الأفهام من الأمور المحسوسة والله أعلم

(757) باب فضل دوام الذكر والفكر في أمور الآخرة والمراقبة وجواز ترك ذلك في بعض الأوقات والاشتغال بالدنيا

(757) باب فضل دوام الذكر والفكر في أمور الآخرة والمراقبة وجواز ترك ذلك في بعض الأوقات والاشتغال بالدنيا 6053 - عن حنظلة الأسيدي رضي الله عنه قال وكان من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقيني أبو بكر فقال كيف أنت يا حنظلة قال قلت نافق حنظلة قال سبحان الله ما تقول قال قلت نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرا قال أبو بكر فوالله إنا لنلقى مثل هذا فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت نافق حنظلة يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذاك قلت يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات. 6054 - عن حنظلة رضي الله عنه قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعظنا فذكر النار قال ثم جئت إلى البيت فضاحكت الصبيان ولاعبت المرأة قال فخرجت فلقيت أبا بكر فذكرت ذلك له فقال وأنا قد فعلت مثل ما تذكر فلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله نافق حنظلة فقال "مه" فحدثته بالحديث فقال أبو بكر وأنا قد فعلت مثل ما فعل فقال "يا حنظلة ساعة وساعة ولو كانت تكون قلوبكم كما تكون عند الذكر لصافحتكم الملائكة حتى تسلم عليكم في الطرق". -[المعنى العام]- خلق الله عالما طائعا لا يعصون الله ما أمرهم وهم الملائكة وعالما عاصيا وهم إبليس وجنوده

وعالما يخلطون عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب على سيئاتهم وهم الإنس والجن المكلفون بالشرائع وكان هذا التكليف ذا شعب محرمات يجب الابتعاد عنها وواجبات يجب التزامها ومكروهات ينبغي التنزه عنها ومستحبات ينبغي الحرص عليها ومباحات ومتع دنيوية رخص بها بقدر الحاجة البشرية وفتح باب الطاعات ليترقى المؤمن في سلم الروحانية وليعرج إلى الملأ الأعلى قدر ما يستطيع لكن بعض الصحابة رضي الله عنهم بحكم سماعهم وعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحكم تأثرهم به وبحكم شدة خوفهم من الله وبحكم عظيم مراقبتهم له ورغبتهم في فيض فضله ظنوا أن اشتغالهم بمتع الدنيا وشهواتها وإن كانت مباحة لا تليق بهم وأن الاشتغال بها نوع من النفاق وجمع بين الخشية الباطنة والعبث واللهو الظاهري وإن اختلفت أوقاتهما فبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن ذلك ليس نفاقا ممنوعا وأنهم غير مكلفين بأن يكونوا على التفكر الدائم والمراقبة المستمرة وإلا كانوا كالملائكة وصاحبتهم الملائكة ولكن المطلوب منهم أن يكونوا على التقوى والخشية وقتا وأن ينشغلوا بالدنيا المباحة وبزينتها المسموح بها وقتا آخر على أن لا تطغى وتسيطر الدنيا على قلب المؤمن فيكون من الخاسرين -[المباحث العربية]- (عن حنظلة الأسيدي وكان من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهو ابن حذيم بن حنيفة له ولأبيه وجده صحبة قال النووي "الأسيدي" ضبطوه بوجهين أصحهما وأشهرهما ضم الهمزة وفتح السين وكسر الياء المشددة والثاني كذلك إلا أنه بإسكان الياء وهو منسوب إلى بني أسيد بطن من بني تميم قال "وكان من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" هكذا هو في جميع نسخ بلادنا وذكره القاضي عن بعض شيوخه كذلك وعن أكثرهم وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلاهما صحيح لكن الأول أشهر في الرواية وأظهر في المعنى ويؤيده قوله في ملحق الرواية الثانية "عن حنظلة التميمي الأسيدي الكاتب" (قال لقيني أبو بكر فقال كيف أنت يا حنظلة قال قلت نافق حنظلة) في الرواية الثانية قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعظنا فذكر النار قال ثم جئت إلى البيت فضاحكت الصبيان ولاعبت المرأة قال فخرجت فلقيت أبا بكر فذكرت ذلك له وفي ملحق الرواية الثانية "قال كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فذكرنا الجنة والنار ... " (قال سبحان الله ما تقول قال قلت نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي العين فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرا) كأنا رأي عين قال القاضي ضبطناه بالرفع أي كأنا بحال من يراها بعينه قال ويصح النصب على المصدر أي نراها رأي عين اهـ وقوله "عافسنا الأزواج" بالفاء والسين أي حاولنا ذلك ومارسناه واشتغلنا به وعالجنا معايشنا وحظوظنا وروى

الخطابي "عانسنا" بالنون قال ومعناه لاعبنا ورواه ابن قتيبة بالشين عافشنا قال ومعناه عانقنا قال النووي والأول هو المعروف وهو أعم اهـ والضيعات جمع ضيعة وهي معاش الرجل من مال وحرفة وصناعة (قال أبو بكر فوالله إنا لنلقى مثل هذا) الذي تلقاه وفي الرواية الثانية فقال وأنا قد فعلت مثل ما تذكر (فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت نافق حنظلة يا رسول الله) أي كان في داخله شيء من التقوى والخوف فأظهر مع زوجته وأولاده خلافه وأصل النفاق إظهار ما يبطن خلافه من الشر فخاف أن يكون ذلك الذي فعله مع أولاده نفاقا (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذاك) الذي حصل حتى حكمت على نفسك هذا الحكم في الرواية الثانية "فقال مه" قال القاضي معناه الاستفهام أي ما تقول والهاء هنا هي هاء السكت أي أصلها ما اسم استفهام مبتدأ حذف خبره أي ما حصل قال ويحتمل أنها للكف والزجر والتعظيم لذلك أي أنها اسم فعل أمر بمعنى كف عما تقول فما تقوله أمر عظيم (قلت يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا) في الرواية الثانية فحدثته بالحديث فقال أبو بكر وأنا قد فعلت مثل ما فعل (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم) إن بسكون النون مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الحال والشأن محذوف والجملة بعده هي الخبر والمعنى إن الحال والشأن لو تدومون على الحال التي تكونون عليها عندي وتدومون في الذكر لكنتم مثل الملائكة لا تشتغلون بالدنيا ولا تشغلهم إلا طاعة الله ولتصاحبتم مع الملائكة لمشابهتكم لهم وفي الرواية الثانية لو كانت تكون قلوبكم كما تكون عند الذكر لصافحتكم الملائكة حتى تسلم عليكم في الطرق أي لو كانت قلوبكم تظل على ما تكون عليه عندي حين الذكر والوعظ لكنتم أصحابا للملائكة تلاقونهم ويلاقونكم وتسلمون عليهم ويسلمون عليكم (ولكن يا حنظلة ساعة وساعة) بالرفع جملتان عطفت الثانية على الأولى وحذف الخبر في كل منهما للعلم به أي ساعة للآخرة وساعة للدنيا ساعة للتقوى والعبادة والمراقبة وساعة للمعاش واللهو المباح أي لهذا كلفتم ولهذا جعلتم خلفاء في الأرض وبنصب "ساعة وساعة" على الظرف لفعل محذوف أي راقبوا الله وخافوه ساعة والهوا وتمتعوا بما أباحه الله لكم من زينة الحياة الدنيا ساعة

-[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث]- 1 - فضل التذكير والوعظ 2 - وأن المطلوب التخول بالموعظة فترة بعد فترة لئلا تمل القلوب 3 - وفضل التفكر والمراقبة 4 - والرخصة في التمتع بالحلال من زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق 5 - ما كان عليه الصحابة من رقة القلوب التي تنفعل بالوعظ مصداقا لقوله تعالى {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا} [الأنفال 2] 6 - ما كانوا عليه من الحرص على مجانبة النفاق 7 - منقبة لحنظلة وأبي بكر رضي الله عنهما 8 - استنصاح المسلم أخاه بشأن مصلحته الشخصية 9 - يسر الدين الإسلامي ومسايرته لمطالب العصر ولكل زمان ومكان 10 - ومن تكراره صلى الله عليه وسلم النصيحة ثلاث مرات استحباب تكرار النصائح لتستقر في النفس وللتأكيد والإشعار بالاهتمام والله أعلم

(758) باب سعة رحمة الله وأنها تغلب غضبه

(758) باب سعة رحمة الله وأنها تغلب غضبه 6055 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لما خلق الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي". 6056 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الله عز وجل سبقت رحمتي غضبي". 6057 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لما قضى الله الخلق كتب في كتابه على نفسه فهو موضوع عنده إن رحمتي تغلب غضبي". 6058 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين وأنزل في الأرض جزءا واحدا فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه". 6059 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "خلق الله مائة رحمة فوضع واحدة بين خلقه وخبأ عنده مائة إلا واحدة". 6060 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام فبها يتعاطفون وبها يتراحمون وبها تعطف الوحش على ولدها وأخر الله تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة". 6061 - عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن لله مائة رحمة فمنها رحمة بها يتراحم الخلق بينهم وتسعة وتسعون ليوم القيامة".

6062 - عن سلمان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض فجعل منها في الأرض رحمة فبها تعطف الوالدة على ولدها والوحش والطير بعضها على بعض فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة". 6063 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي فإذا امرأة من السبي تبتغي إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم "أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار" قلنا لا والله وهي تقدر على أن لا تطرحه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لله أرحم بعباده من هذه بولدها". 6064 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد". 6065 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله إذا مات فحرقوه ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين فلما مات الرجل فعلوا ما أمرهم فأمر الله البر فجمع ما فيه وأمر البحر فجمع ما فيه ثم قال لم فعلت هذا قال من خشيتك يا رب وأنت أعلم فغفر الله له". 6066 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أسرف رجل على نفسه فلما حضره الموت أوصى بنيه فقال إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم اذروني في الريح في البحر فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذابا ما عذبه به أحدا قال ففعلوا ذلك به

فقال للأرض أدي ما أخذت فإذا هو قائم فقال له ما حملك على ما صنعت فقال خشيتك يا رب أو قال مخافتك فغفر له بذلك". 6067 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت هزلا" قال الزهري ذلك لئلا يتكل رجل ولا ييأس رجل. 6068 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "أسرف عبد على نفسه" بنحو حديث معمر إلى قوله "فغفر الله له" ولم يذكر حديث المرأة في قصة الهرة وفي حديث الزبيدي قال "فقال الله عز وجل لكل شيء أخذ منه شيئا أد ما أخذت منه". 6069 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن رجلا فيمن كان قبلكم راشه الله مالا وولدا فقال لولده لتفعلن ما آمركم به أو لأولين ميراثي غيركم إذا أنا مت فأحرقوني (وأكثر علمي أنه قال) ثم اسحقوني واذروني في الريح فإني لم أبتهر عند الله خيرا وإن الله يقدر علي أن يعذبني قال فأخذ منهم ميثاقا ففعلوا ذلك به وربي فقال الله ما حملك على ما فعلت فقال مخافتك قال فما تلافاه غيرها". 6070 - وفي رواية عن شعبة نحو حديثه وفي حديث شيبان وأبي عوانة "أن رجلا من الناس رغسه الله مالا وولدا" وفي حديث التيمي "فإنه لم يبتئر عند الله خيرا" قال فسرها قتادة لم يدخر عند الله خيرا وفي حديث شيبان "فإنه والله ما ابتأر عند الله خيرا" وفي حديث أبي عوانة "ما امتأر" بالميم.

-[المعنى العام]- يقول الله تعالى على لسان موسى عليه السلام {واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون} [الأعراف 156] ولا يشك مسلم في سعة رحمة الله ولا يشك مؤمن أن رحمة الله محيطة بالإنسان في كل لحظة من لحظاته من حين كونه نطفة ثم علقة ثم مضغة مخلقة وغير مخلقة ثم رضيعا ثم فطيما ثم ... ثم ... إلخ ولكن هذه المجموعة من الأحاديث تذكر من لا يتذكر {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} [الذاريات 55] فتزيدهم إيمانا وثقة ويقينا وعبرة ودفعا إلى الخيرات والطاعات بدأت هذه المجموعة بأن رحمة الله تعالى بعباده ثابتة ثبوت المكتوب في لوح لا تبديل فيه ولا تغيير عند مالك الملك وخالق الكون الذي إذا قال فعل والذي لا يتخلف عنده ما وعد وما كتب وقد كتب فيما كتب إن رحمتي تغلب غضبي وتغطي عليه وتسبقه وهي كثيرة شاملة لم أنزل منها للخلائق في الأرض إلا جزءا واحدا من مائة جزء من هذا الجزء تتراحم المخلوقات الإنسان والحيوان والطير والهوام أما التسعة والتسعون جزءا فهي لي أرحم بها في الدنيا وأرحم بها في الآخرة بل وأضم إليها في الآخرة جزء المخلوقات فأرحم بالمائة جزء وأنا الرحمن الرحيم ويؤكد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعنى ويرسخه في نفوس أصحابه ليبعث في نفوسهم الرجاء بعد أن رآهم وقد غلب عليهم الخوف حين يرى امرأة من السبي حانية على أطفال غيرها تحتضنهم وتضمهم إلى صدرها وترضعهم من ثديها فيقول لهم انظروا إلى هذه المرأة هل ترونها وهي بهذه الرحمة تؤذي طفلا من الأطفال أو تحرقه بالنار قالوا لا قال هل ترون أنه لو كان ابنها هو الذي في أحضانها أتظنون أنها تلقي به في النار مهما كانت الأسباب قالوا لا والله ما تلقي به في النار باختيارها أبدا قال فإن الله أرحم بعباده من هذه المرأة بولدها ويزيد صلى الله عليه وسلم هذه الجرعة السارة المبشرة يزيدها بشرى وسرورا فيحكي لهم قصة رجل كان قبلنا في بني إسرائيل كان نباشا ينبش القبور عقب دفن الموتى فيسرق الأكفان وما يستطيع أن يسرقه من الميت وكم انتهك الحرمات واعتدى على الأموات مع أن الله كان قد آتاه مالا وولدا ونعمة ومتعا لكن نفسه الأمارة بالسوء حالت بينه وبين فعل الخير أي خير لم يقدم في حياته إلا الشر وجاءه الموت ووهن منه العظم وتحشرج النفس وتجمع حوله أولاده ومرت على خاطره أعماله الشريرة التي مارسها في حياته [كفيلم سينمائي أو كشريط تليفزيوني] وهو يعلم أن الحساب قريب وهو مقدم عليه إنه فعل من الشر ما لم يفعله أحد فقال لأبنائه إن الله سيعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين ولعله كان جاهلا بالبعث وإن كان مؤمنا بوقوعه ظن أنه إن تحول إلى

طحين وذرات ثم ذرى في يوم شديد الريح على البحار والأراضي سيضيع جسمه وسيغيب وسيتعذر جمعه فلا يعذب فوصى أولاده أن يحرقوه بعد موته ثم يطحنوه ثم يذرونه في الهواء إن لم يفعلوا ذلك لم يستحقوا شيئا من ثروته ففعلوا ما أمرهم به فقال الله للأرض اجمعي ما وصل إليك منه وقال للبحر اجمع ما لديك منه ثم قال له كن فقام الرجل واقفا فقال له لماذا فعلت ما فعلت وأوصيت بما أوصيت قال خوفا من عذابك وعدلك قال شملتك رحمتي وغفرت لك هذا تصوير لما سيحدث لهذا الرجل ساقه صلى الله عليه وسلم لأصحابه لئلا يقنطوا من رحمة الله و {إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون} [يوسف 87] -[المباحث العربية]- (لما خلق الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش) في البخاري وفي الرواية الثالثة "لما قضى الله الخلق كتب في كتابه على نفسه فهو موضوع عنده" قضى بمعنى خلق أي لما خلق الله الخلق كقوله تعالى {فقضاهن سبع سموات} [فصلت 12] أو قضى بمعنى أحكم وأتقن وفرغ وأمضى ومعنى "فهو عنده فوق العرش" أي دون العرش لاستبعاد أن يكون شيء من المخلوقات فوق العرش واستعمال "فوق" بمعنى دون صحيح كما في قوله تعالى {بعوضة فما فوقها} [البقرة 26] وقيل هو على ظاهره والعرش خلق من خلق الله ولا مانع أن يخلق فوقه شيء ويحتمل أن يكون المراد فذكره أو علمه عنده أي علم المكتوب عند الله فلا تكون العندية مكانية بل هي إشارة إلى كمال كونه مخفيا عن الخلق مرفوعا عن حيز إدراكهم وفي الرواية الثالثة "كتب في كتابه على نفسه فهو موضوع عنده" وكلمة "موضوع" تبعد العندية غير المكانية (إن رحمتي تغلب غضبي) وفي الرواية الثانية سبقت غضبي وإن بكسر الهمزة على حكاية مضمون الكتاب وبفتح الهمزة على أنها بدل من "كتب" قال العلماء والمراد من الغضب لازمه وهو إرادة إيصال العذاب إلى من يقع عليه الغضب لأن السبق والغلبة باعتبار التعلق أي تعلق الرحمة غالب على تعلق الغضب لأن الرحمة مقتضى ذاته المقدسة غير مسبوقة بسبب أما الغضب فهو متوقف على سابقة عمل من العبد فإسكان آدم الجنة كان بالرحمة وخروجه منها كان بسبب عمله ثم إن الرحمة تشمل الإنسان جنينا ورضيعا وفطيما وناشئا قبل أن تصدر منه طاعة ولا يلحقه الغضب إلا بعد أن يصدر عنه من الذنوب ما يستحق معه ذلك وقيل معنى السبق والغلب الكثرة والشمول كما يقال غلب على فلان الكرم والشجاعة

(جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين وأنزل في الأرض جزءا واحدا فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه) وفي الرواية الخامسة خلق الله مائة رحمة فوضع واحدة بين خلقه وخبأ عنده مائة إلا واحدة وفي الرواية السادسة إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام فبها يتعاطفون وبها يتراحمون وبها تعطف الوحش على ولدها وأخر الله تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة وفي الرواية السابعة إن لله مائة رحمة فمنها رحمة بها يتراحم الخلق بينهم وتسعة وتسعون ليوم القيامة وفي الرواية الثامنة إن الله خلق يوم خلق السموات والأرض مائة رحمة كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض فجعل منها في الأرض رحمة فبها تعطف الوالدة على ولدها والوحش والطير بعضها على بعض فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة قال النووي هكذا وقع في نسخ بلادنا جميعا الرحمة وذكر القاضي عياض جعل الله الرحم بضم الراء وحذف الهاء قال ويجوز فتح الراء ومعناه الرحمة اهـ وفي رواية للبخاري "جعل الله الرحمة في مائة جزء" قال الكرماني المعنى يتم بدون الظرف "في" فلعلها زائدة أو متعلقة بمحذوف مبالغة إذ جعلها مظروفا لها معنى بحيث لا يفوت منها شيء اهـ وأكثر الطرق خالية من الظرف وقال القرطبي يجوز أن يكون معنى "خلق" اخترع وأوجد ويجوز أن يكون بمعنى قدر بمعنى أن الله أظهر تقديره لذلك يوم أظهر تقدير السموات والأرض وقوله "كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض" المراد به التعظيم والتكثير اهـ وقوله "فأمسك عنده تسعة وتسعين" جزءا "وأنزل في الأرض جزءا واحدا فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق ... " إلخ حكى القرطبي عن بعض الشراح أن هذا العدد الخاص أطلق لإرادة التكثير والمبالغة فيه وتعقبه بأنه لم تجر عادة العرب بذلك في المائة وإنما جرى في السبعين وقال الكرماني الرحمة هنا عبارة عن القدرة المتعلقة بإيصال الخير والقدرة في نفسها غير متناهية والتعلق غير متناه لكن حصره في مائة على سبيل التمثيل تسهيلا للفهم وتقليلا لما عند الخلق وتكثيرا لما عند الله سبحانه وتعالى اهـ وهو كلام حسن أولى بالقبول من توجيهات كثير من الشراح لحكمة هذا العدد وأما قوله في الرواية الثامنة "فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة" ففيه إشارة إلى أن الرحمة التي في الدنيا بين الخلق تكون فيهم يوم القيامة يتراحمون بها أيضا صرح بذلك المهلب فقال الرحمة التي خلقها الله لعباده وجعلها في نفوسهم في الدنيا هي التي يتغافرون بها يوم القيامة التبعات بينهم قال ويجوز أن يستعمل الله تلك الرحمة فيهم فيرحمهم بها سوى رحمته التي وسعت كل شيء وهي التي من صفة ذاته ولم يزل موصوفا بها فهي التي يرحمهم بها زائدا على الرحمة التي خلقها لهم قال ويجوز أن تكون الرحمة التي أمسكها عند نفسه هي التي عند

ملائكته المستغفرين لمن في الأرض لأن استغفارهم لهم دال على أن في نفوسهم الرحمة لأهل الأرض وقال القرطبي مقتضى هذا الحديث أن الله علم أن أنواع النعم التي ينعم بها على خلقه مائة نوع فأنعم عليهم في هذه الدنيا بنوع واحد انتظمت به مصالحهم وحصلت به مرافقهم فإذا كان يوم القيامة كمل لعبادة المؤمنين ما بقى فبلغت مائة وكلها للمؤمنين اهـ وتفسير الرحمة بالنعمة على الناس عامة لا يناسب بقية ألفاظ الأحاديث التي تفيد أن المراد بالرحمة نعمة واحدة من النعم التي منحها الإنسان وغيره في الدنيا وهي نعمة الحب والتعاطف والشفقة ورقة القلوب (عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي) فيه نساء وكان هذا السبي من هوازن ولفظ "قدم" ضبط بضم القاف وكسر الدال (فإذا امرأة من السبي تبتغي) قال النووي هكذا هو في جميع نسخ صحيح مسلم "تبتغي" من الابتغاء وهو الطلب قال القاضي عياض وهذا وهم والصواب ما في رواية البخاري "تسعى" بالسين من السعي قال النووي وكلاهما صحيح صواب لا وهم فيه فهي ساعية وطالبة مبتغية لابنها (إذا وجدت صبيا من السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته) وفي رواية للبخاري "فإذا امرأة من السبي تحلب ثديها تسقي" "ثديها" بالرفع على الفاعلة أي تسيل ثديها باللبن وفي رواية "ثدياها" بالتثنية و"تحلب" بفتح التاء والحاء وتشديد اللام المفتوحة وأصله تتحلب ومفعول "تسقي" محذوف أي الأطفال التي في السبي "إذا وجدت صبيا أخذته فأرضعته فوجدت صبيا فأخذته فألزمته بطنها" وعرف من السياق أنها كانت قد فقدت صبيها فكانت كلما وجدت صبيا حنت له واندفعت بالرحمة نحوه فضمته لصدرها وليس كما قال الحافظ ابن حجر أنها كانت تفعل ذلك لتضررها باجتماع اللبن في ثديها فقد كان بإمكانها حلبه وإهداره ولما كان الحديث مستدلا به على الرحمة (أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار قلنا لا والله وهي تقدر على أن لا تطرحه) "أترون" بضم التاء أي أتظنون بهذه الرحمة التي هي عليها ترمي ولدها في النار قالوا لا والله لا تطرحه في النار طائعة أبدا (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لله أرحم بعباده من هذه بولدها) "لله" بفتح اللام الأولى وهي لام تأكيد وصرح بالقسم في رواية فقال والله لله أرحم والمراد من العباد هنا قيل من مات على الإسلام وسيأتي في فقه الحديث توضيح هذه المسألة (لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد ولو يعلم الكافر ما

عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد) عبر بالمضارع "لو يعلم" دون الماضي للإشارة إلى أنه لم يقع له علم ذلك ولا يقع لأنه إذا امتنع في المستقبل كان ممتنعا فيما مضى ذكره الحافظ ابن حجر وفي رواية للبخاري قدم الكافر ولفظها "فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة ولو يعلم المسلم بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار" (قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله إذا مات فحرقوه ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين فلما مات الرجل فعلوا ما أمرهم فأمر الله البر فجمع ما فيه وأمر البحر فجمع ما فيه ثم قال لم فعلت هذا قال من خشيتك يا رب وأنت أعلم فغفر الله له) في الرواية الثانية عشرة "أسرف رجل على نفسه فلما حضره الموت أوصى بنيه فقال إذا أنا مت فاحرقوني ثم اسحقوني" وفي رواية "اسهكوني" وفي رواية "اطحنوني" ثم اذروني في الريح في البحر فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذابا ما عذبه به أحدا" ولعله ظن أنه إن صار ذرا رمادا مبثوثا في الماء والريح لعله يخفى قال ففعلوا ذلك به فقال للأرض أدي ما أخذت فإذا هو قائم وفي رواية للبخاري فقال الله كن فإذا رجل قائم فقال له ما حملك على ما صنعت فقال خشيتك يا رب أو قال مخافتك فغفر له بذلك وفي ملحق الرواية الثالثة عشرة "فقال الله عز وجل لكل شيء أخذ منه شيئا أد ما أخذت منه" وفي الرواية الرابعة عشرة "أن رجلا فيمن كان قبلكم راشه الله مالا وولدا فقال لولده لتفعلن ما آمركم به أو لأولين ميراثي غيركم إذا أنا مت فاحرقوني ثم اسحقوني واذروني في الريح فإني لم أبتهر عند الله خيرا وإن الله يقدر علي أن يعذبني قال فأخذ منهم ميثاقا ففعلوا ذلك به وربي فقال الله ما حملك على ما فعلت فقال مخافتك وفي رواية "فرق منك" قال فما تلافاه غيرها وفي ملحق هذه الرواية لم يبتئر عند الله خيرا وفسرها الراوي قتادة أي لم يدخر عند الله خيرا وفي رواية والله ما ابتأر عند الله خيرا وفي رواية ما امتأر عند الله خيرا قال النووي لم أبتهر عند الله خيرا هكذا هو في بعض الأصول ولبعض الرواة أبتئر بهمزة بعد التاء وفي أكثرها لم أبتهر بالهاء وكلاهما صحيح والهاء مبدلة من الهمزة ومعناهما لم أقدم خيرا ولم أدخره وفي رواية لم يبتئر قال النووي هكذا هو في جميع النسخ وفي رواية ما امتأر بالميم مهموزا أيضا والميم مبدلة من الباء ومعنى أسرف رجل على نفسه أي بالغ وعلا في المعاصي والسرف مجاوزة الحد وفي معنى "راشه الله مالا" قال النووي هذه اللفظة رويت بوجهين في صحيح مسلم أحدهما راشه بألف ساكنة غير مهموزة وبشين معجمة والثاني رأسه بهمزة وسين قال القاضي والأول هو الصواب وهو رواية الجمهور ومعناه أعطاه الله مالا قال ولا وجه للسين هنا وعن قوله ففعلوا ذلك به وربي قال هكذا هو في جميع نسخ صحيح مسلم وربي على القسم ونقل القاضي عياض الاتفاق عليه أيضا في كتاب مسلم قال وهو على القسم من المخبر بذلك عنهم

لتصحيح خبره وفي صحيح البخاري فأخذ منهم ميثاقا وربي ففعلوا ذلك له قال بعضهم وهو الصواب قال القاضي بل هما متقاربان في المعنى والقسم قال وفي بعض نسخ صحيح مسلم ففعلوا ذلك وذرى فإن صحت هذه الرواية فهي وجه الكلام لأنه أمرهم أن يذروه ولعل الذال سقطت لبعض النساخ وتابعه الباقون قال النووي هذا كلام القاضي والروايات الثلاث المذكورات صحيحات المعنى ظاهرات فلا وجه لتغليط شيء منها ومعنى فما تلافاه غيرها أي ما تداركه غيرها والتاء فيه زائدة أي الأصل ما لافاه غيرها ومعنى قوله في ملحق الرواية الأخيرة أن رجلا من الناس رغسه الله مالا وولدا بالغين المفتوحة المخففة أي أعطاه مالا وبارك له فيه -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث]- 1 - من الرواية الأولى والثانية والثالثة أن رحمة الله بعباده واسعة وهذا الإخبار يفيد كثيرا من الرجاء 2 - وفيها حث على التراحم وفضيلته 3 - وفيها إثبات العرش 4 - والكتابة في اللوح المحفوظ 5 - ومن الرواية الرابعة حتى الثامنة إدخال السرور والبشرى على المؤمنين لأن العادة أن النفس يكمل فرحها بما وهب لها إذا كان معلوما مما يكون موعودا 6 - وفيها الحث على الإيمان 7 - وفي الرواية التاسعة من قوله "لله أرحم بعباده" أن من مات على الإسلام شملته الرحمة وقد خص العباد هنا بالمسلمين وأكد هذا الخصوص بحديث أحمد والحاكم عن أنس رضي الله عنه قال "مر النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه وصبي على الطريق فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ فأقبلت تسعى وتقول ابني ابني وسعت فأخذته فقال القوم يا رسول الله ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار فقال ولا الله بطارح حبيبه في النار" فالتعبير بحبيبه يخرج الكافر وكذا من شاء الله إدخاله ممن لم يتب من مرتكبي الكبائر قال ابن أبي جمرة لفظ العباد عام ومعناه خاص بالمؤمنين وهو كقوله تعالى {ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون} [الأعراف 156] فهي عامة من جهة الصلاحية وخاصة بمن كتبت له 8 - وفي الحديث إشارة إلى أنه ينبغي للمرء أن يجعل تعلقه في جميع أموره بالله وحده وأن كل من

فرض أن فيه رحمة ما حتى يقصد لأجلها فالله سبحانه وتعالى أرحم منه فليقصد العاقل لحاجته من هو أشد له رحمة 9 - وفيه جواز النظر للنساء المسبيات لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينه عن النظر إلى المرأة المذكورة بل في سياق الحديث ما يقتضي إذنه في النظر إليها 10 - وفيه ضرب المثل بما يدرك بالحواس لما لا يدرك بها لتحصيل معرفة الشيء على وجهه وإن كان الذي ضرب به المثل لا يحاط بحقيقته لأن رحمة الله لا تدرك بالعقل ومع ذلك فقربها النبي صلى الله عليه وسلم للسامعين بحال المرأة المذكورة 11 - وفيه جواز ارتكاب أخف الضررين لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينه المرأة عن إرضاع الأطفال الذين أرضعتهم مع احتمال أن يكبر بعضهم فيتزوج بعض من أرضعته المرأة لكن لما كانت حالة الإرضاع ناجزة وما يخشى من المحرمية متوهم اغتفر قاله الحافظ ابن حجر وفيه نظر 12 - وفيه أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة من جهة أن الأطفال لولا أنهم كان بهم ضرورة إلى الإرضاع في تلك الحالة ما تركها النبي صلى الله عليه وسلم ترضع أحدا منهم وقد يستدل به على أن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة وهو أقوى لأنه صلى الله عليه وسلم أقرها على إرضاعهم من قبل أن تتبين الضرورة كذا نقل الحافظ ابن حجر وهو غير مسلم فلا دلالة في الحديث لأحد القولين 13 - ومن الرواية العاشرة سعة الرجاء والطمع في رحمة الله إذ المعنى لو علم الكافر سعة الرحمة لغطى على ما يعلمه من عظم العذاب فيحصل له الرجاء وقد ورد "أن إبليس يتطاول للشفاعة لما يرى يوم القيامة من سعة الرحمة" أخرجه الطبراني في الأوسط 14 - بل قيل إن هذه الرواية فيها وعد ووعيد المقتضيين للرجاء والخوف فمن علم أن من صفات الله الرحمة لمن أراد أن يرحمه والانتقام ممن أراد أن ينتقم منه لا يأمن انتقامه من يرجو رحمته ولا ييأس من رحمته من يخاف انتقامه والمقصود من الحديث أن يكون المكلف بين الخوف والرجاء 15 - ومن الرواية الحادية عشرة والثانية عشرة درجة الخوف من الله فإن الخوف ينشأ من معرفة قبح الجناية والتصديق بالوعيد عليها فلما وقع ذلك للرجل غفر له وقالت المعتزلة غفر له لأنه تاب عند موته وندم على ما فعله وكان نباشا وتعقب بأنه لم يرد أنه رد المظالم فالمغفرة حينئذ بفضل الله لا بالتوبة لأنها لا تتم إلا بأخذ المظلوم حقه من الظالم وقالت المرجئة غفر له بأصل توحيده الذي لا تضر معه معصية وتعقب بأنه ورد في بعض الروايات أنه عذب وتحمل الرحمة والمغفرة على ترك الخلود في النار فيكون في هذه الرواية ردا على المرجئة والمعتزلة معا قال ابن أبي جمرة كان الرجل مؤمنا لأنه قد أيقن بالحساب وأن السيئات يعاقب عليها وأما ما أوصى به فلعله كان جائزا في شرعهم ذلك لتصحيح التوبة فقد ثبت في شرع بني إسرائيل قتلهم أنفسهم لصحة التوبة 16 - قال النووي استدل بالحديث على أن الرجل كان مؤمنا لأنه قال في آخره إنما فعل هذا من

خشية الله تعالى والكافر لا يخشى الله تعالى ولا يغفر له فلا يحمل قوله فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا" على أنه أراد نفي قدرة الله تعالى فإن الشاك في قدرة الله تعالى كافر وإنما له تأويلان أحدهما أن معناه لئن قدر علي العذاب أي قضاه يقال منه قدر بالتخفيف وقدر بالتشديد بمعنى واحد والثاني إن "قدر" هنا بمعنى ضيق علي كما قال تعالى {فقدر عليه رزقه} [الفجر 16] وهو أحد الأقوال في تفسير قوله تعالى {فظن أن لن نقدر عليه} [الأنبياء 87] وقالت طائفة اللفظ على ظاهره ولكن الرجل قاله في حالة الدهشة والخوف وشدة الجزع فصار في معنى الغافل والناسي وهذه الحالة لا يؤاخذ فيها وهو نحو قول القائل الآخر الذي غلب عليه الفرح حين وجد راحلته أنت عبدي وأنا ربك فلم يكفر بذلك الدهش والغلبة والسهو وقالت طائفة كان هذا الرجل في زمن الفترة حين ينفع مجرد التوحيد ولا تكليف قبل ورود الشرع على المذهب الصحيح لقوله تعالى {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} [الإسراء 15] وقالت طائفة يجوز أنه كان في زمن شرعهم جواز العفو عن الكافر بخلاف شرعنا وذلك من مجوزات العقول عند أهل السنة وإنما منعناه في شرعنا بالشرع بقوله تعالى {إن الله لا يغفر أن يشرك به} [النساء 116] والله أعلم 17 - وفي هذا الحديث جواز تسمية الشيء بما قرب منه لأنه قال "حضره الموت" وإنما الذي حضره في تلك الحالة علامات الموت ومقدماته 18 - وفي الرواية الثالثة عشرة أنه يستحب للواعظ أن يجمع في موعظته بين الخوف والرجاء لئلا يقنط أحد ولا يتكل فابن شهاب لما خاف أن السامع للرجاء ولقصة هذا الرجل يتكل على ما فيه من سعة رحمة الله ضم إليه حديث المرأة التي دخلت النار في حبسها هرة لما فيه من التخويف 19 - وفيه وضوح قدرة الله تعالى على البعث فإن أمر الله للأرض والبحر أن يؤدي كل منها ما عنده وقيام الرجل بأمر "كن" واضح في ذلك وإن كان المراد به المستقبل وأنه سيكون والله أعلم

(759) باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة

(759) باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة 6071 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل "قال أذنب عبد ذنبا فقال اللهم اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال أي رب اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى عبدي أذنب ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال أي رب اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب اعمل ما شئت فقد غفرت لك" قال عبد الأعلى لا أدري أقال في الثالثة أو الرابعة "اعمل ما شئت". 6072 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن عبدا أذنب ذنبا" بمعنى حديث حماد بن سلمة وذكر ثلاث مرات أذنب ذنبا وفي الثالثة "قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء". 6073 - عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها". -[المعنى العام]- تقدم ما يغني عنه في أبواب التوبة السابقة

-[المباحث العربية]- (اعمل ما شئت فقد غفرت لك) قال النووي معناه فقد غفرت لك ما دمت تذنب ثم تتوب اهـ وفي ملحق الرواية "قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء" ثم يستغفر (يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها) قال المازري المراد من بسط اليد قبول التوبة وإنما ورد لفظ "بسط اليد" لأن العرب إذا رضى أحدهم الشيء بسط يده لقبوله وإذا كرهه قبضها عنه فخوطبوا بأمر حسي يفهمونه وهو مجاز ويد الجارحة مستحيلة على الله اهـ -[فقه الحديث]- سبقت مسائل هذا الباب في أبواب سابقة في التوبة وقال النووي هذه الأحاديث ظاهرة في الدلالة على قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة مائة مرة أو ألف أو أكثر ولو تاب عن الجميع توبة واحدة بعد جميعها صحت توبته ثم قال ولا يختص قبول توبته بوقت دون وقت والله أعلم.

(760) باب غيرة الله تعالى وتحريم الفواحش

(760) باب غيرة الله تعالى وتحريم الفواحش 6074 - عن عبد الله رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليس أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه وليس أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش". 6075 - عن عبد الله رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا أحد أغير من الله ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه المدح من الله". 6076 - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ورفعه أنه قال "لا أحد أغير من الله ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه المدح من الله ولذلك مدح نفسه". 6077 - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليس أحد أحب إليه المدح من الله عز وجل من أجل ذلك مدح نفسه وليس أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش وليس أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل". 6078 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله يغار وإن المؤمن يغار وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم عليه".

6079 - عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "ليس شيء أغير من الله عز وجل". 6080 - عن أسماء رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا شيء أغير من الله عز وجل". 6081 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "المؤمن يغار والله أشد غيرا". -[المعنى العام]- يراجع المعنى العام في حديث سعد بن عبادة في الغيرة كما يراجع فضل التسبيح والتحميد والتكبير وبقية الأذكار ومجالس الذكر -[المباحث العربية]- (ليس أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه) في أمثال قوله {الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين} وأمرنا بمدحه بمثل قوله {وسبحوه بكرة وأصيلا} [الأحزاب 42] (وليس أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش) الغيرة بفتح الغين وهي في حقنا الأنفة أما في حق الله تعالى فقد فسرها بقوله "وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم عليه" أي غيرته تحريم المحرمات ومنعه منها (وليس أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل) قال القاضي يحتمل أن المراد الاعتذار أي اعتذار العباد إليه من تقصيرهم

وتوبتهم من معاصيهم فيغفر لهم ويقبل اعتذارهم كما قال تعالى {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده} [الشورى 25] (والله أشد غيرا) قال النووي هكذا هو في النسخ غيرا بفتح الغين وإسكان الياء منصوب بالألف وهو الغيرة قال أهل اللغة الغيرة والغير والغار بمعنى -[فقه الحديث]- إن مدح الله تعالى والثناء عليه يرجع خيره وفائدته إلى العبد نفسه فالله سبحانه وتعالى لا تنفعه طاعة ولا تضره معصية فالمادح والمثني على الله بما هو أهله يثاب على هذا الثناء فينتفع هو به وفي هذه الأحاديث فضل الثناء على الله سبحانه وتعالى وفضل تسبيحه وتهليله وتحميده وتكبيره وسائر الأذكار والله أعلم.

(761) باب قوله تعالى {إن الحسنات يذهبن السيئات} [هود 114]

(761) باب قوله تعالى {إن الحسنات يذهبن السيئات} [هود 114] 6082 - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رجلا أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له قال فنزلت {أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين} قال فقال الرجل ألي هذه يا رسول الله قال "لمن عمل بها من أمتي". 6083 - وفي رواية عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر أنه أصاب من امرأة إما قبلة أو مسا بيد أو شيئا كأنه يسأل عن كفارتها قال فأنزل الله عز وجل ثم ذكر بمثل حديث يزيد. 6084 - وفي رواية عن سليمان التيمي بهذا الإسناد قال أصاب رجل من امرأة شيئا دون الفاحشة فأتى عمر بن الخطاب فعظم عليه ثم أتى أبا بكر فعظم عليه ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر بمثل حديث يزيد والمعتمر. 6085 - عن عبد الله رضي الله عنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني عالجت امرأة في أقصى المدينة وإني أصبت منها ما دون أن أمسها فأنا هذا فاقض في ما شئت فقال له عمر لقد سترك الله لو سترت نفسك قال فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فقام الرجل فانطلق فأتبعه النبي صلى الله عليه وسلم رجلا دعاه وتلا عليه هذه الآية {أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين} فقال رجل من القوم يا نبي الله هذا له خاصة قال "بل للناس كافة".

6086 - وفي رواية عن معاذ قال يا رسول الله هذا لهذا خاصة أو لنا عامة قال "بل لكم عامة". 6087 - عن أنس رضي الله عنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أصبت حدا فأقمه علي قال وحضرت الصلاة فصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قضى الصلاة قال يا رسول الله إني أصبت حدا فأقم في كتاب الله قال "هل حضرت الصلاة معنا" قال نعم قال "قد غفر لك". 6088 - عن أبي أمامة رضي الله عنه قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ونحن قعود معه إذ جاء رجل فقال يا رسول الله إني أصبت حدا فأقمه علي فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أعاد فقال يا رسول الله إني أصبت حدا فأقمه علي فسكت عنه وأقيمت الصلاة فلما انصرف نبي الله صلى الله عليه وسلم قال أبو أمامة فاتبع الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف واتبعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنظر ما يرد على الرجل فلحق الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني أصبت حدا فأقمه علي قال أبو أمامة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "أرأيت حين خرجت من بيتك أليس قد توضأت فأحسنت الوضوء" قال بلى يا رسول الله قال "ثم شهدت الصلاة معنا" فقال نعم يا رسول الله قال فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "فإن الله قد غفر لك حدك أو قال ذنبك". -[المعنى العام]- الميزان يوم القيامة بالحسنات والسيئات فمن ثقلت موازين حسناته فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازين حسناته عن موازين سيئاته فأولئك الذين خسروا أنفسهم فإذهاب الحسنات للسيئات إذهاب لعقوبتها وإن ظلت مكتوبة في كتاب صاحبها لقوله تعالى {مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا} [الكهف 49] ويحتمل أن الحسنات تذهب السيئات بمعنى أنها لا تكتب حيث ورد أن الصغيرة إذا فعلت لم يكتبها كاتب السيئات

فورا بل ينتظر لعل صاحبها يستغفر أو يعمل من الحسنات ما يكفرها فإذا فعل لم يكتبها ويحتمل أن الحسنات تذهب السيئات حتى بعد كتابتها فتمحوها من الصحيفة فلا تكون في رصيد سيئاته يوم القيامة وفي سبب نزول قوله تعالى {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين} [هود 114] يأتي حديث الباب وأن صحابيا ألم ببعض الصغائر وبعض مقدمات الفاحشة بينه وبين امرأة لكنه لم يزن بها وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقر بما فعل ويعترف ويطلب تطهيره بالعقوبة الشرعية ولعله كان يظن أن مقدمات الزنا لها حكم الزنا فطلب إقامة الحد وسكت صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليه انتظارا لحكم الله وأعاد الرجل السؤال وسكت صلى الله عليه وسلم وأقيمت الصلاة فقاموا فصلوا وانصرف الرجل ونزل الوحي بالآية فدعي الرجل فبشر بالمغفرة وقرئت عليه وعلى الصحابة الآية الكريمة وفرح بها المسلمون وسأل سائلهم ليتأكد من عموم البشرى أهذه له خاصة أم لنا وله قال صلى الله عليه وسلم بل للناس عامة إلى يوم القيامة -[المباحث العربية]- {إن الحسنات يذهبن السيئات} هذا جزء من الآية (114) من سورة هود وهي قوله تعالى {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين} والمراد بالصلاة هنا المكتوبة ومعنى إقامتها أداؤها على تمامها ومعنى {وزلفا من الليل} أي ساعات من الليل قريبة من النهار من أزلفه إذا قربه قيل المراد بها صلاة المغرب والعشاء والفجر وطرفا النهار الظهر والعصر (أن رجلا أصاب من امرأة قبلة) في ملحق الرواية "أنه أصاب من امرأة إما قبلة أو مسا بيد أو شيئا كأنه يسأل عن كفارتها" وفي الملحق الثاني "أصاب رجل من امرأة شيئا دون الفاحشة فأتى عمر بن الخطاب" أي فأخبره فعظم عليه أي كبر الجرم عليه ثم أتى أبا بكر فأخبره فعظم عليه ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم أي فنزلت الآية فقرأها عليه ونصحه بالصلاة وفي الرواية الثانية "إني عالجت امرأة في أقصى المدينة وإني أصبت منها ما دون أن أمسها فأنا هذا فاقض في ما شئت فقال له عمر لقد سترك الله لو سترت نفسك" قال فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فقام الرجل فانطلق فأتبعه النبي صلى الله عليه وسلم رجلا دعاه وتلا عليه هذه الآية {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين} فقال رجل من القوم يا نبي الله هذا له خاصة قال بل للناس كافة ومعنى قوله عالجت امرأة أي تناولتها واستمتعت بها ومعنى دون أن أمسها أي دون جماعها أي استمتعت بها بأنواع التمتع من لمسة وقبلة ومعانقة غير الجماع فالمراد من المس هنا الجماع بدلالة المقام

وقوله فاقض في ما شئت أي من حد أو تعزير وربما ظن الرجل أن ما فعله يستوجب حد الزنا إذ جاء في الرواية الثالثة أصبت حدا فأقم في كتاب الله والجمع بين قول عمر هنا وبين تعظيمه أنه في أول الأمر عظمه وشدد على الرجل مستقبحا الفعل فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعظم على الرجل خف عنده الجرم وطبق قاعدة ستر المسلم على نفسه وإنما لم يرد صلى الله عليه وسلم لأنه انتظر الوحي والجواب من الله وقد بدت له بشائر الوحي في الحال والسبب في انطلاق الرجل دون انتظاره أن أدب الإسلام علمهم أن عدم رد النبي صلى الله عليه وسلم انصراف عن السؤال وعن صاحبه وعدم رضا عليه فكانوا يخشون سوء عاقبة الإلحاح وقوله فأتبعه النبي صلى الله عليه وسلم رجلا دعاه معطوف على محذوف أي فأوحى إليه بالآية فأرسل خلف الرجل وقد بين ملحق الرواية أن الذي سأل عن عموم الآية أو خصوصها هو معاذ بن جبل فلعله هو الذي أرسل النبي صلى الله عليه وسلم لإعادة الرجل قال النووي هكذا تستعمل "كافة" حالا أي كلهم ولا يضاف فلا يقال كافة الناس ولا الكافة بالألف واللام وهو معدود في تصحيف العوام وتوضح الرواية الرابعة أن الرجل سأل سؤاله قبل الصلاة ثم بعد أن صلى فقوله في الرواية "ثم أعاد" أي بعد أن صلى فذكر بعض الرواة ما لم يذكر الآخر وقدم بعض الرواة ما أخر الآخر وأحداث القصة حسبما أرجح أن الرجل سأل فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقيمت الصلاة فصلى وصلوا فلما انصرف صلى الله عليه وسلم من الصلاة تبعه الرجل فأعاد السؤال فسكت صلى الله عليه وسلم وانطلق الرجل فأوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالآية فأرسل من يحضر الرجل فجاء فأعاد السؤال وأبو أمامة والصحابة ينظرون ويرقبون الجواب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتوضأت فأحسنت الوضوء قبل أن تخرج من بيتك قال نعم قال وشهدت معنا الصلاة قال نعم يا رسول الله قال إن من أحسن الوضوء فصلى غفر له ما قدم من صغائر الذنوب وقد غفر الله لك وأنزل قرآنا بشأنك وشأن أمثالك ثم قرأ الآية -[فقه الحديث]- قال النووي الحد الوارد في الحديث معناه معصية من المعاصي الموجبة للتعزير وهي هنا من الصغائر لأنها كفرتها الصلاة ولو كانت كبيرة موجبة لحد أو غير موجبة له لم تسقط بالصلاة فقد أجمع العلماء على أن المعاصي الموجبة للحدود لا تسقط حدودها بالصلاة هذا هو الصحيح في تفسير هذا الحديث وحكى القاضي عن بعضهم أن المراد بالحد الحد المعروف قال وإنما لم يحده لأنه لم يفسر موجب الحد ولم يستفسره النبي صلى الله عليه وسلم عنه إيثارا للستر بل المستحب تلقين الرجوع عن الإقرار بموجب الحد صريحا اهـ وقال الحديث صريح في أن الحسنات تكفر السيئات واختلفوا في المراد بالحسنات هنا فنقل

الثعلبي عن أكثر المفسرين أنها الصلوات الخمس واختاره ابن جرير وغيره من الأئمة وقال مجاهد هي قول العبد سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ويحتمل أن المراد الحسنات مطلقا وقد قدمنا في كتاب الإيمان تقسيم الذنوب إلى كبائر وصغائر وتقسيم الكبائر إلى كبائر وأكبر الكبائر وحققنا القول بأن اجتناب الكبائر يكفر الصغائر وأن الصلاة إلى الصلاة والوضوء إلى الوضوء والجمعة إلى الجمعة والعمرة إلى العمرة كل ذلك يكفر ما قبله من الصغائر والله أعلم

(762) باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله

(762) باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله 6089 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال "كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب فأتاه فقال إنه قتل تسعة وتسعين نفسا فهل له من توبة فقال لا فقتله فكمل به مائة ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم فقال إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة فقال نعم ومن يحول بينه وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسا يعبدون الله فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فقالت ملائكة الرحمة جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله وقالت ملائكة العذاب إنه لم يعمل خيرا قط فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم فقال قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة" قال قتادة فقال الحسن ذكر لنا أنه لما أتاه الموت نأى بصدره. 6090 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا قتل تسعة وتسعين نفسا فجعل يسأل هل له من توبة فأتى راهبا فسأله فقال ليست لك توبة فقتل الراهب ثم جعل يسأل ثم خرج من قريته إلى قرية فيها قوم صالحون فلما كان في بعض الطريق أدركه الموت فنأى بصدره ثم مات فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فكان إلى القرية الصالحة أقرب منها بشبر فجعل من أهلها" 6091 - وفي رواية عن قتادة بهذا الإسناد نحو حديث معاذ بن معاذ وزاد فيه "فأوحى الله إلى هذه أن تباعدي وإلى هذه أن تقربي". -[المعنى العام]- وما زال الكلام مع سعة رحمة الله وأنها تشمل الطائع والعاصي وأنه لا ييأس منها إلا القوم

الكافرون فهذا رجل كان سفاكا للدماء في الأمم التي قبلنا وفي بني إسرائيل وفيما بعد عيسى عليه السلام يقتل تسعة وتسعين إنسانا ثم تداركه رحمة من ربه فيرغب في التوبة ويعزم على الرجوع إلى الله ويسأل الناس هل له من توبة ويدله العامة على راهب في صومعة يظنونه مصلحا لغيره حيث أصلح نفسه فيذهب إليه ويحكي له قصته وأنه يريد أن يتوب وبحاسة العبادة والرهبانية يستبشع الراهب هذه الجرائم ويقول للرجل اخرج عني لا تحرقني بنارك أين كان ضميرك حين قتلت عشرة ثم عشرة ثم عشرة حتى وصلت إلى تسعة وتسعين اخرج لا توبة لك ويئس الرجل من قبول الله له واستوى عنده تسعة وتسعون ومائة فضرب الراهب بحجر فقتله ثم خرج يسأل قتلت مائة فهل لي من توبة فدلوه هذه المرة على عالم فذهب إليه وحكى له ما جرى وسأله هل لي من توبة قال العالم ومن يملك إغلاق باب التوبة عنك وعمن هو أعظم جرما منك لكن أدلك على طريق التوبة اذهب إلى قرية كذا ففيها عباد ورعون فاسلك مسلكهم وعش معهم وتب وسيقبل الله توبتك واتجه الرجل نحو القرية وفي الطريق أدركه الموت فكان من أهل المغفرة والجنة برحمة الله تعالى وفضله -[المباحث العربية]- (كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا) في رواية البخاري "كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنسانا" (فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب فأتاه) في الرواية الثانية "فجعل يسأل هل له من توبة فأتى راهبا" ففيها إشعار بأن ذلك كان بعد عيسى عليه السلام لأن الرهبانية إنما ابتدعها أتباعه كما نص عليه في القرآن (فقال إنه قتل تسعة وتسعين نفسا فهل له من توبة) في الأسلوب تجريد أو التفات لأن حق السياق أن يقول إنني قتلت ... فهل لي من توبة (فقال لا فقتله فكمل به مائة) وفي الرواية الثانية "فقال ليست لك توبة فقتل الراهب" (ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم) في الرواية الثانية "ثم جعل يسأل ثم خرج من قريته إلى قرية" (فقال إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة فقال نعم ومن يحول بينه وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسا يعبدون الله فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت) في

الرواية الثانية "ثم خرج من قريته إلى قرية فيها قوم صالحون فلما كان في بعض الطريق أدركه الموت فناء بصدره ثم مات "ناء" بفتح النون مع المد أي بعد بصدره أي مال به ومده نحو القرية الصالحة وضبطه بعضهم "نأى" أي بعد عن الأرض التي خرج منها (فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فقالت ملائكة الرحمة جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله وقالت ملائكة العذاب إنه لم يعمل خيرا قط فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم فقال قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة) في الرواية الثانية "فكان إلى القرية الصالحة أقرب منها بشبر فجعل من أهلها" وفي رواية البخاري "فأوحى الله إلى هذه" أي القرية الصالحة أن تقربي وأوحى الله إلى هذه أي القرية السوء أن تباعدي فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد بشبر ومن هذه الروايات يعلم أن قوله في الرواية الأولى "حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت" فيه مجاز المشارفة والمقاربة أي حتى إذا كاد الطريق ينتصف أتاه مقدمات الموت -[فقه الحديث]- قال النووي مذهب أهل العلم وإجماعهم على صحة توبة القاتل عمدا ولم يخالف أحد منهم إلا ابن عباس معتمدا على ظاهر قوله تعالى {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها} [النساء 93] قال النووي وإما ما نقل عن بعض السلف من خلاف هذا فمراد قائله الزجر عن سبب التوبة لا أنه يعتقد بطلان توبته والحديث وإن كان شرعا لمن قبلنا وفي الاحتجاج به خلاف فليس موضع الخلاف وإنما موضعه إذا لم يرد في شرعنا ما يوافقه ويقرره فإن ورد كان شرعا لنا بلا شك وهذا قد ورد شرعنا به وهو قوله تعالى {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ... } إلى قوله تعالى {إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا ... } [الفرقان 68 - 70] الآية وأما قوله تعالى {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها} [النساء 93] فالصواب في معناها أن جزاءه جهنم وقد يجازى به وقد يجازى بغيره وقد لا يجازى فيعفى عنه فإن قتل عمدا مستحلا له بغير حق ولا تأويل فهو كافر مرتد يخلد به في جهنم بالإجماع وإن كان غير مستحل بل معتقدا تحريمه فهو فاسق عاص مرتكب كبيرة جزاؤه جهنم خالدا فيها لكن بفضل الله تعالى وبخبره الصادق أنه لا يخلد من مات موحدا فيها فلا يخلد هذا ولكن قد يعفى عنه فلا يدخل النار أصلا وقد لا يعفى عنه بل يعذب كسائر العصاة الموحدين ثم يخرج معهم إلى الجنة ولا يخلد في النار فهذا هو الصواب في معنى الآية ولا يلزم من كونه يستحق أن يجازى بعقوبة مخصوصة أن يتحتم ذلك الجزاء وليس في الآية إخبار

بأنه يخلد في جهنم وإنما فيها أنها جزاؤه أي يستحق أن يجازى بذلك وقيل إن المراد من قتل مستحلا وقيل وردت الآية في رجل بعينه وقيل المراد بالخلود طول المدة لا الدوام وهذه الأقوال كلها ضعيفة أو فاسدة فالصواب ما قدمناه -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - مشروعية التوبة من جميع الكبائر ويحمل قبول توبة القاتل على أن الله تعالى يتكفل برضا خصمه 2 - وفيه أن المفتي قد يجيب بالخطأ كذا قيل والأولى أن يقال إن الراهب أو العابد قد لا يكون عالما فيفتي بغير الصواب 3 - وفيه إشارة إلى قلة فطنة الراهب لأنه كان من حقه التحرز ممن تجرأ على القتل حتى صار له عادة بأن لا يواجهه بخلاف مراده وكان حقه أن يستعمل معه المعاريض مداراة عن نفسه 4 - وفيه استحباب مفارقة التائب المواضع التي أصاب فيها الذنوب والأصدقاء الذين ساعدوه على المعاصي وأن يستبدل بهم صحبة أهل الخير والصلاح والعلماء والمتعبدين الورعين ومن يقتدي بهم وينتفع بصحبتهم وتتأكد بذلك توبته 5 - وفيه أن الملائكة الموكلين ببني آدم يختلف اجتهادهم بالنسبة إلى من يكتبونه مطيعا أو عاصيا 6 - وأنهم يختصمون في ذلك حتى يقضي الله بينهم 7 - وفيه فضل العالم على العابد 8 - واستدل به على أن في بني آدم من يصلح للحكم بين الملائكة إذا تنازعوا لأنهم قبلوا حكمه وهو في صورة آدمي 9 - وفيه حجة لمن أجاز التحكيم 10 - وأن من رضى الفريقان حكمه فحكمه جار عليهم والله أعلم

(763) باب سعة رحمة الله تعالى على المؤمنين وفداء كل مسلم بكافر من النار

(763) باب سعة رحمة الله تعالى على المؤمنين وفداء كل مسلم بكافر من النار 6092 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا كان يوم القيامة دفع الله عز وجل إلى كل مسلم يهوديا أو نصرانيا فيقول هذا فكاكك من النار". 6093 - عن أبي بردة يحدث عمر بن عبد العزيز عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يموت رجل مسلم إلا أدخل الله مكانه النار يهوديا أو نصرانيا" قال فاستحلفه عمر بن عبد العزيز بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات أن أباه حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فحلف له قال فلم يحدثني سعيد أنه استحلفه ولم ينكر على عون قوله. 6094 - عن أبي بردة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال فيغفرها الله لهم ويضعها على اليهود والنصارى" فيما أحسب أنا قال أبو روح لا أدري ممن الشك قال أبو بردة فحدثت به عمر بن عبد العزيز فقال أبوك حدثك هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم قلت نعم. 6095 - عن صفوان بن محرز قال قال رجل لابن عمر كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى قال سمعته يقول "يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه عز وجل حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه فيقول هل تعرف فيقول أي رب أعرف قال فإني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم فيعطى صحيفة حسناته وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رءوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على الله".

-[المعنى العام]- خلق الله الجنة تتسع لجميع أفراد الإنس والجن ومن شاء من المخلوقين وخلق النار تتسع لجميع أفراد الإنس والجن ومن شاء من المخلوقين وكأن لكل من المخلوقين مكانا في الجنة ومكانا في النار لكن شاءت حكمته أن يكون للجنة أهلها من الطائعين وللنار أهلها من العاصين ونتيجة لذلك يحتل أهل الجنة في الجنة مكان العاصين الذين أدخلوا النار ويحتل أهل النار في النار مكان الطائعين الذين أدخلوا الجنة وكأن أهل النار فكوا أهل الجنة من سجنهم الذي كان ينتظرهم في النار وكأن أهل الجنة حملوا أهل النار أوزارهم وسيئاتهم التي غفرها الله لهم هذا ما تصوره الأحاديث في توريث الجنة والنار وصدق الله العظيم إذ يقول {وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون} [الزخرف 72] -[المباحث العربية]- (إذا كان يوم القيامة) "كان" تامة و"يوم القيامة" فاعل أي إذا جاء وحصل يوم القيامة (دفع الله عز وجل إلى كل مسلم يهوديا أو نصرانيا فيقول هذا فكاكك من النار) وفي الرواية الثانية "لا يموت رجل مسلم إلا أدخل الله مكانه النار يهوديا أو نصرانيا" وفي الرواية الثالثة "يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال فيغفرها الله لهم ويضعها على اليهود والنصارى" قال النووي الفكاك بفتح الفاء وكسرها والفتح أفصح وأشهر وهو الخلاص والفداء قال ومعنى هذا الحديث ما جاء في حديث أبي هريرة لكل أحد منزل في الجنة ومنزل في النار فالمؤمن إذا دخل الجنة خلفه الكافر في النار لاستحقاق ذلك بكفره فمعنى أن يقال له "هذا فكاكك من النار" أنك كنت معرضا لدخول النار وهذا فكاكك لأن الله تعالى قدر لها عددا يملؤها فإذا دخلها الكفار بكفرهم وذنوبهم صاروا في معنى الفكاك للمسلمين ثم قال وأما معنى "يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب" فهو أن الله تعالى يغفر تلك الذنوب للمسلمين ويسقطها عنهم ويضع على اليهود والنصارى مثلها بكفرهم وذنوبهم فيدخلهم النار بأعمالهم لا بذنوب المسلمين قال ولا بد من هذا التأويل لقوله تعالى {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام 164] وأما قوله "ويضعها" فمجاز والمراد يضع عليهم مثلها بذنوبهم لكن لما أسقط سبحانه وتعالى عن المسلمين سيئاتهم وأبقى على الكفار سيئاتهم صاروا في معنى من حمل إثم الفريقين لكونهم حملوا الإثم الباقي وهو إثمهم قال ويحتمل أن يكون المراد آثاما كان للكفار سبب فيها بأن سنوها فتسقط

عن المسلمين بعفو الله تعالى ويوضع على الكفار مثلها لكونهم سنوها ومن سن سنة سيئة كان عليه مثل وزر كل من يعمل بها والله أعلم -[فقه الحديث]- نكتفي بما ذكرناه في المباحث العربية والمعنى العام والله أعلم

(764) باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه

(764) باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه 6096 - عن ابن شهاب قال ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك وهو يريد الروم ونصارى العرب بالشام قال ابن شهاب فأخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب كان قائد كعب من بنيه حين عمي قال سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك قال كعب بن مالك لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك غير أني قد تخلفت في غزوة بدر ولم يعاتب أحدا تخلف عنه إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا ومفازا واستقبل عدوا كثيرا فجلا للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم فأخبرهم بوجههم الذي يريد والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ (يريد بذلك الديوان) قال كعب فقل رجل يريد أن يتغيب يظن أن ذلك سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي من الله عز وجل وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال فأنا إليها أصعر فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض شيئا وأقول في نفسي أنا قادر على ذلك إذا أردت فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غاديا والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو فهممت أن أرتحل فأدركهم فيا ليتني فعلت ثم لم يقدر ذلك لي فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنني أني لا أرى لي أسوة إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك "ما فعل كعب بن مالك" قال رجل من بني سلمة يا رسول الله حبسه برداه والنظر في عطفيه فقال له

معاذ بن جبل بئس ما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينما هو على ذلك رأى رجلا مبيضا يزول به السراب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كن أبا خيثمة" فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري وهو الذي تصدق بصاع التمر حين لمزه المنافقون فقال كعب بن مالك فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلا من تبوك حضرني بثي فطفقت أتذكر الكذب وأقول بم أخرج من سخطه غدا وأستعين على ذلك كل ذي رأي من أهلي فلما قيل لي إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما زاح عني الباطل حتى عرفت أني لن أنجو منه بشيء أبدا فأجمعت صدقه وصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله حتى جئت فلما سلمت تبسم تبسم المغضب ثم قال "تعال" فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي "ما خلفك ألم تكن قد ابتعت ظهرك" قال قلت يا رسول الله إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلا ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عقبى الله والله ما كان لي عذر والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك" فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي والله ما علمناك أذنبت ذنبا قبل هذا لقد عجزت في أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به إليه المخلفون فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك قال فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذب نفسي قال ثم قلت لهم هل لقي هذا معي من أحد قالوا نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت فقيل لهما مثل ما قيل لك قال قلت من هما قالوا مرارة بن الربيعة العامري وهلال بن أمية الواقفي قال فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة قال فمضيت حين ذكروهما لي قال ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه قال فاجتنبنا الناس وقال تغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم فكنت أخرج فأشهد الصلاة وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم

فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي هل حرك شفتيه برد السلام أم لا ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النظر فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي وإذا التفت نحوه أعرض عني حتى إذا طال ذلك علي من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام فقلت له يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمن أني أحب الله ورسوله قال فسكت فعدت فناشدته فسكت فعدت فناشدته فقال الله ورسوله أعلم ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار فبينا أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطي من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدل على كعب بن مالك قال فطفق الناس يشيرون له إلي حتى جاءني فدفع إلي كتابا من ملك غسان وكنت كاتبا فقرأته فإذا فيه أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك قال فقلت حين قرأتها وهذه أيضا من البلاء فتياممت بها التنور فسجرتها بها حتى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلبث الوحي إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك قال فقلت أطلقها أم ماذا أفعل قال لا بل اعتزلها فلا تقربنها قال فأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك قال فقلت لامرأتي الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر قال فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه قال "لا ولكن لا يقربنك" فقالت إنه والله ما به حركة إلى شيء والله مازال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا قال فقال لي بعض أهلي لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه قال فقلت لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدريني ماذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب قال فلبثت بذلك عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهي عن كلامنا قال ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله عز وجل منا قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفي على سلع يقول بأعلى صوته يا كعب بن مالك أبشر قال فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء فرج قال فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر فذهب الناس يبشروننا فذهب قبل صاحبي مبشرون وركض رجل إلي فرسا وسعى ساع من أسلم قبلي وأوفى الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني فنزعت

له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته والله ما أملك غيرهما يومئذ واستعرت ثوبين فلبستهما فانطلقت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة ويقولون لتهنئك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحوله الناس فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني والله ما قام رجل من المهاجرين غيره قال فكان كعب لا ينساها لطلحة قال كعب فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور ويقول "أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك" قال فقلت أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله فقال "لا بل من عند الله" وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه كأن وجهه قطعة قمر قال وكنا نعرف ذلك قال فلما جلست بين يديه قلت يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أمسك بعض مالك فهو خير لك" قال فقلت فإني أمسك سهمي الذي بخيبر قال وقلت يا رسول الله إن الله إنما أنجاني بالصدق وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت قال فوالله ما علمت أن أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا أحسن مما أبلاني الله به والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي قال فأنزل الله عز وجل {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم} حتى بلغ {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} قال كعب والله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد إذ هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا إن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد وقال الله {سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فاعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين} قال كعب كنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى فيه فبذلك قال الله عز وجل {وعلى الثلاثة الذين خلفوا} وليس الذي ذكر الله مما خلفنا تخلفنا عن الغزو وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه

عن الزهري سواء. 6097 - وفي رواية عن كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وساق الحديث وزاد فيه على يونس فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة ولم يذكر في حديث ابن أخي الزهري أبا خيثمة ولحوقه بالنبي صلى الله عليه وسلم. 6098 - وفي رواية عن كعب بن مالك وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم يحدث أنه لم يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط غير غزوتين وساق الحديث وقال فيه وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بناس كثير يزيدون على عشرة آلاف ولا يجمعهم ديوان حافظ. -[المعنى العام]- أمثلة حية للتوبة وقبولها فقاتل المائة نفس قبلت توبته بدون جهد وبدون عمل صالح والمخلفون الثلاثة قبلت توبتهم بعد جهاد نفسي وعقوبة دنيوية قاسية وأيام مريرة ذلك ليجمع المسلم بين الخوف والرجاء لا يطمع طمع اغترار بناء على قاتل المائة وإنما يخاف ويعمل ويندم ويعزم ويكفر عن ذنوبه بالحسنات وهنا مثال حي آخر للقائد الحكيم نرى فيه الرسول الرءوف الرحيم الذي يعز عليه عنتنا ومشقتنا الحريص على يسرنا يحزم بوحي من ربه ويعاقب عقوبات نفسية مادية قاسية ومثال حي آخر أن الفتنة والابتلاء قد تصيب من لم يذنب إيلاما للمذنب فقد جوزيت الزوجات بجريرة الأزواج ومثال حي كبير في التزام الرعية بحكم الحاكم وتنفيذه بدقة ولو كان فيه ما فيه لآلام الأحبة والأقربين

ونكتفي بذلك اعتمادا على البيان والتوضيح الآتي في شرح الحديث -[المباحث العربية]- (غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك) أي أراد أن يغزو وهيأ الأمة للغزو وكانت في شهر رجب سنة تسع من الهجرة وتبوك مكان معروف في نصف الطريق بين المدينة ودمشق وتسمى غزوة العسرة (وهو يريد الروم ونصارى العرب بالشام) ذكر ابن سعد أنه بلغ المسلمين من الأنباط الذين يقدمون بالزيت من الشام إلى المدينة أن الروم جمعت جموعا وأجلبت معهم لخم وجذام وغيرهم من متنصرة العرب وجاءت مقدمتهم إلى البلقاء وعند الطبراني "كانت نصارى العرب قد كتبت إلى هرقل إن هذا الرجل الذي خرج يدعي النبوة هلك وأصابتهم سنون فهلكت أموالهم فبعث رجلا من عظمائهم وجهز معه أربعين ألفا فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولم يكن للناس قوة" وذكر البيهقي في الدلائل "أن اليهود قالوا يا أبا القاسم إن كنت صادقا فالحق بالشام فإنها أرض المحشر وأرض الأنبياء فغزا تبوك لا يريد إلا الشام فلما بلغ تبوك أنزل الله تعالى {وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها} [الإسراء 76] (أن عبد الله بن كعب بن مالك كان قائد كعب من بنيه حين عمي) كعب بن مالك أنصاري خزرجي سلمي غلب عليه في الجاهلية أمر الشعر أسلم وشهد العقبة وكان أحد شعراء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا يردون الأذى عنه وغلب على شعره تخويف الكفار من قوة المسلمين ويقال إن دوسا أسلمت فرقا وخوفا من قول كعب بن مالك قضينا من تهامة كل وتر ... وخيبر ثم أغمدنا السيوفا نخيرها ولو نطقت لقالت ... قواطعهن دوسا أو ثقيفا فقالت دوس انطلقوا إلى محمد وأسلموا وخذوا لأنفسكم لا ينزل بكم ما نزل بثقيف آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين طلحة بن عبيد الله حين آخى بين المهاجرين والأنصار روى أنه قال يا رسول الله ماذا ترى في الشعر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه" وروى أنه قال جاءت سخينة كي تغالب ربها ... فليغلبن مغالب الغلاب فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "لقد شكرك الله يا كعب على قولك هذا" عمي في أواخر عمره وتوفي بالمدينة وسنه خمس وسبعون سنة سنة اثنتين وخمسين في عهد معاوية

(سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك) "حين تخلف" ليست ظرفا لسمعت ولا ليحدث وإنما هي حال من "حديثه" أي حديثه وقصته الواقعة وقت تخلفه (لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك غير أني قد تخلفت في غزوة بدر) وسيعتذر عن تخلفه عن غزوة بدر ثم يحكي قصة تبوك واستخدم أسلوب اللف والنشر المشوش فقدم تبوك أولا لأهميتها ولأنها صاحبة المقام وقدم عذر بدر لأنها الأولى في الواقع ولطول كلامه عن تبوك وذكر هذه الجملة توطئة لتقدير جهاده وقبول اعتذاره وقد شهد الغزوات كلها كما قال عدا بدر وتبوك (ولم يعاتب أحدا تخلف عنه) فاعل يعاتب ضمير رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد) هذا اعتذاره عن تخلفه عن بدر وأنه لم يعاتب متخلف إذ لم تكن عزيمة فلا عتب عليه في تخلفه على أنه كان قد قدم منقبة قبلها تغطي ضياع فضل بدر عليه وهي (ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر في الناس منها) العقبة معروفة في طرف منى وهي التي يضاف إليها جمرة العقبة وبايع الرسول صلى الله عليه وسلم أهل المدينة بيعتين في عامين الأول بايع فيها ستة نفر من الخزرج ثلاثة منهم من بني سلمة قبيلة كعب بن مالك ولم يكن فيهم كعب وبايع في البيعة الثانية ثلاثة وسبعين رجلا وامرأتين حضرها كعب رضي الله عنه وكلهم من الأنصار ومعنى قوله "حين تواثقنا على الإسلام" أي حين تبايعنا عليه وتعاهدنا ولم يذكر الإيواء الوارد في هذه البيعة تأدبا ومعنى قوله "وإن كانت بدر أذكر في الناس منها" أي وإن كانت بدر أشهر عند الناس بالفضل والذكر (وكان من خبري حين تخلفت .... أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه ... إلخ) أي لا عذر لي من حيث الصحة والمرض ولا من حيث القدرة المالية فقد كان شابا قويا لم يتجاوز الثالثة والثلاثين وكان يملك راحلتين كان من السهل أن يجاهد بواحدة ويحمل عددا من المسلمين على راحلة وقد عذر الله تعالى غير القادر صحيا أو ماليا فقال {ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون} [التوبة 91 - 92] أي فلا عذر لي من هذه الناحية وهذه مصادقة حميدة مع النفس ومع الغير ثم زاد المسئولية وعدم العذر بأمور أخرى هي

الأولى أن زمنها كان شديد الحرارة فالجهاد فيها كبير الأجر لما فيها من المشقة ثانيا أن ميدانها بعيد يحتاج سفرا طويلا الثالث أن طريقها صحراء ومفازة مهلكة الرابع أن عدوها كبير العدد والعِدد والشوكة الخامس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستخدم التورية بموعد ومكان هذه الغزوة كما كان يفعل بل جلا الأمر وصرح به للمسلمين ليأخذوا الأهبة "جلا" بتخفيف اللام أي كشف وبين وأوضح السادس أن كثرة المسلمين الخارجين تجعل من الصعب كشف المتخلف إذ لم يكن هناك ديوان يحصى من حضر ولا من غاب مما يسمح للمنافقين بالتقاعس ويوجب على المجاهد المخلص أن لا يتخلف لأنه يتعامل مع الله العليم الخبير قال كعب "والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ فقل رجل يريد أن يتغيب يظن أن ذلك سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي من الله عز وجل فقل بفتح الفاء والقاف وتشديد اللام أي فبعض من تسول له نفسه بالغياب يظن أن غيابه لا ينكشف قال القاضي عياض هكذا هو في جميع نسخ مسلم وصوابه "أن لا يظن" بزيادة "ألا" وفي رواية البخاري "فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن سيخفي له" وفي ملحق الرواية "وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بناس كثير يزيدون على عشرة آلاف ولا يجمعهم ديوان حافظ" السابع أن موعد هذه الغزوة كان مناسبا إذ كانت الثمار قد طابت ويمكن حمل الأزواد منها "فأنا إليها أصعر" بضم العين أي أميل وفي مسند أحمد "وأنا أقدر شيء في نفسي على الجهاز وخفة الحاذ" أي وخفة الحال (وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم ... إلخ) بيان لسبب عدم خروجه معهم وأنه الكسل وعدم التوفيق ولا شيء سواه (ولم أقض من جهازي شيئا) بفتح الجيم وكسرها أي أهبة سفري (حتى أسرعوا وتفارط الغزو) أي حتى تقدم الغزاة فسبقوا وفاتوا (يحزنني أني لا أرى لي أسوة إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق) أي متهما به مطعونا عليه في دينه وقيل معناه مستحقرا يقال أغمصت فلانا إذا استحقرته (ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك) قال النووي في أكثر النسخ "تبوكا" بالنصب وكذا هو في نسخ البخاري وكأنه صرفها لإرادة الموضع دون البقعة (فقال رجل من بني سلمة حبسه برداه والنظر في عطفيه) بنو سلمة قوم كعب

والعطف الجانب يتهمه الرجل بأن الذي حبسه إعجابه بنفسه وكبره ودافع عنه معاذ فقال بئس ما قلت ما علمنا عليه إلا خيرا (فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينما هو على ذلك رأى رجلا مبيضا) بالياء المشددة المكسورة مع ضم الميم وفتح الباء أي لابسا البياض (يزول به السراب) أي يتحرك به السراب وينهض من إسراعه وإقدامه (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كن أبا خيثمة فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري) قال النووي قيل معناه أنت أبو خيثمة قال ثعلب والعرب تقول كن زيدا أي أنت زيد وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم شبه عليه ببعض الصفات فقالها بالعرافة وشدة الفطنة وقال القاضي عياض الأشبه عندي أن "كن" هنا للتحقيق والوجود أي لتوجد يا هذا الشخص أبا خيثمة حقيقة قال صاحب التحرير تقديره اللهم اجعله أبا خيثمة (وهو الذي تصدق بصاع التمر حين لمزه المنافقون) قصتها أن النبي صلى الله عليه وسلم قام مقاما في الناس فأمرهم بالصدقة فقام عبد الرحمن بن عوف فقال يا رسول الله عندي ثمانية آلاف تركت منها أربعة لعيالي وجئت بأربعة أقدمها إلى الله تعالى فتكاثر المنافقون ما جاء به ونسبوه للرياء وجاء عاصم بن عدي الأنصاري فقال يا رسول الله عندي سبعون وسقا من تمر أقدمها إلى الله تعالى فتكاثر المنافقون ما جاء به ثم قام أبو خيثمة وقيل قام رجل من الأنصار اسمه الحبحاب وكنيته أبو عقيل والأول أولى وهو الذي في الصحيح فقال يا رسول الله مالي من مال غير أني آجرت نفسي البارحة من بني فلان على صاعين من تمر فتركت صاعا لعيالي وجئت بصاع أقربه إلى الله تعالى فلمزه المنافقون وتغامزوا عليه وقالوا جاء أهل الإبل بالإبل وجاء أهل الفضة بالفضة وجاء هذا بتمرات يحملها فأنزل الله تعالى {الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات} [التوبة 79] وقد روى الطبراني من حديث أبي حنيفة قال "تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلت حائطا فرأيت عريشا قد رش بالماء ورأيت زوجتي فقلت ما هذا بإنصاف رسول الله صلى الله عليه وسلم في السموم والحرور وأنا في الظل والنعيم فقمت إلى ناضح لي وتمرات فخرجت فلما طلعت على العسكر فرآني الناس قال النبي صلى الله عليه وسلم كن أبا خيثمة فجئت فدعا لي" يذكر كعب قصة أبي خيثمة في حديثه ليزيد نفسه تأنيبا مقارنا بين موقفه هو وتخلفه مع القدرة وموقف أبي خيثمة ومبادرته مع الجهد وعدم القدرة (فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلا من تبوك حضرني بثي) بفتح الباء وتشديد الثاء المكسورة وهو أشد الحزن (فطفقت أتذكر الكذب وأقول بم أخرج من سخطه غدا ... فلما قيل لي إن

رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما زاح عني الباطل ... فأجمعت صدقه) أي جزمت بذلك وعقدت عليه عزمي وقصدي وفي رواية "وعرفت أنه لا ينجيني منه إلا الصدق" (حتى جئت فلما سلمت تبسم تبسم المغضب ثم قال تعال فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي ما خلفك ألم تكن قد ابتعت ظهرك) أي اشتريت راحلتك وأعددتها للخروج وفي رواية "فأعرض عني فقلت يا نبي الله لم تعرض عني فوالله ما نافقت ولا ارتبت ولا بدلت قال فما خلفك" (ولقد أعطيت جدلا) أي فصاحة وقوة كلام بحيث أخرج عن عهدة ما ينسب إلي بما يقبل ولا يرد (ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عقبى الله والله ما كان لي عذر ... ) "تجد علي فيه" بكسر الجيم وتخفيف الدال أي تغضب وإني أرجو أن يعقبني الله خيرا وأن يثبتني عليه (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك فقمت ... فوالله مازالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع ... فأكذب نفسي) أي أخذوا يلومونني أشد اللوم (قالوا مرارة بن ربيعة العامري وهلال بن أمية الواقفي) قال النووي هكذا هو في جميع نسخ مسلم "العامري" وأنكره العلماء وقالوا هو غلط وصوابه "العمري" بفتح العين وإسكان الميم من بني عمرو بن عوف وأما قوله "مرارة بن ربيعة" فكذا وقع في نسخ مسلم وفي البخاري "ابن الربيع" قال ابن عبد البر يقال بالوجهين قيل كان سبب تخلف ابن ربيعة أنه كان له حائط فزهى فقال في نفسه قد غزوت قبلها فلو أقمت عامي هذا فلما تذكر ذنبه قال اللهم إني أشهدك أني قد تصدقت به في سبيلك وقيل سبب تخلف هلال أنه كان له أهل تفرقوا ثم اجتمعوا فرغب في الإقامة معهم بعد فراق طويل فلما تذكر ذنبه قال اللهم لك علي أن لا أرجع إلى أهل ولا مال (أيها الثلاثة) قال القاضي هو بالرفع وموضعه نصب على الاختصاص (حتى تنكرت لي في نفسي الأرض) معناه تغير علي كل شيء حتى الأرض فإنها توحشت علي (حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة) أي علوته وصعدت سوره (أنشدك بالله) بفتح الهمزة وضم الشين أي أسألك الله وأصله من النشيد وهو الصوت (إذا نبطي من نبط أهل الشام) النبط والأنباط والنبيط فلاحو العجم

(ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك) "المضيعة" بكسر الضاد وبإسكانها وفتح الياء لغتان أي في موضع يضيع فيه حقك وقوله "نواسك" بالجزم في جواب الأمر وفي نسخة "نواسيك" أي ونحن نواسيك (فتياممت بها التنور فسجرتها) قال النووي هكذا هو في جميع نسخ بلادنا وهي لغة في تيممت ومعناهما قصدت ومعنى "سجرتها" أحرقتها وأنث الضمير لأنه أراد الصحيفة (واستلبث الوحي) أي أبطأ وتأخر (فقلت لامرأتي الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر) يستعمل هذا اللفظ في كناية الطلاق وهو هنا لم يرد به الطلاق وهي أم أولاده الثلاثة عبد الله وعبيد الله ومحمد (وأنا رجل شاب) أقدر على خدمة نفسي ولست مثل هلال فعذره لا يصلح عذرا لي (سمعت صوت صارخ أو في على سلع) أي صعده وارتفع عليه و"سلع" بفتح السين وإسكان اللام جبل معروف بالمدينة وفي رواية "وكنت قد ابتنيت خيمة في ظهر سلع فكنت أكون فيها نهارا" (يا كعب بن مالك أبشر) في رواية عند أحمد "إذ سمعت رجلا على الثنية يقول كعبا كعبا حتى دنا مني فقال بشروا كعبا" وفي رواية الواقدي أن الذي أوفى على سلع كان أبا بكر الصديق فصاح قد تاب الله على كعب (فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء الفرج) في رواية "فخر ساجدا يبكي فرحا بالتوبة" (فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر) أي أعلمهم وفي رواية "فأنزل الله توبتنا على نبيه حين بقي الثلث الأخير من الليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند أم سلمة وكانت أم سلمة محسنة في شأني معنية بأمري فقال يا أم سلمة تيب على كعب قالت أفلا أرسل إليه فأبشره قال إذا يحطمكم الناس فيمنعونكم النوم سائر الليلة حتى إذا صلى الفجر آذن بتوبة الله علينا" (فذهب الناس يبشروننا فذهب قبل صاحبي مبشرون وركض رجل إلي فرسا وسعى ساع من أسلم قبلي وأوفى الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني فنزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته والله ما أملك غيرهما يومئذ واستعرت ثوبين فلبستهما) قيل الذي خرج على فرسه الزبير بن العوام

وكان الذي بشره فنزع له ثوبيه حمزة بن عمرو الأسلمي وأن الذي أعاره الثوبين الآخرين أبو قتادة وكان الذي بشر هلال بن أمية بتوبته سعيد بن زيد قال وخرجت إلى بني واقف فبشرته فسجد قال سعيد فما ظننته يرفع رأسه حتى تخرج نفسه يعني لما كان فيه من الجهد فقد قيل إنه امتنع من الطعام حتى كان يواصل الأيام صائما ولا يفتر من البكاء (فانطلقت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئونني بالتوبة ويقولون لتهنئك توبة الله عليك) في رواية البخاري "ليهنك" بكسر النون وزعم ابن التين أنه بفتحها قيل وهو أصوب لأنه من الهناء (حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحوله الناس فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني والله ما قام أحد من المهاجرين غيره قال فكان كعب لا ينساها لطلحة) في رواية البخاري "ولا أنساها لطلحة" قيل كان النبي صلى الله عليه وسلم قد آخى بينه وبين طلحة وقيل إن الزبير هو الذي كان قد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين طلحة فطلحة أخو أخيه (قال كعب فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور ويقول أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك) قال النووي معناه سوى يوم إسلامك إنما لم يستثنه لأنه معلوم لا بد منه اهـ قال الحافظ ابن حجر والأحسن أن يقال إن يوم توبته مكمل ليوم إسلامه فيوم إسلامه بداية سعادته ويوم توبته مكمل لها فهو خير جميع أيامه (فقلت أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله فقال لا بل من عند الله) زاد في رواية "إنكم صدقتم الله فصدقكم" (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه كأن وجهه قطعة قمر) وفي رواية "كأن وجهه قطعة من القمر" قال الحافظ ابن حجر ويسأل عن السر في التقييد بالقطعة مع كثرة ما ورد في كلام البلغاء من تشبيه الوجه بالقمر من غير تقييد قيل للاحتراز من السواد الذي في القمر ورد بأن المراد تشبيهه بالقمر في تمامه من الضياء والاستنارة وقيل للإشارة إلى موضع الاستنارة وهو الجبين وفيه يظهر السرور كما قالت عائشة "مسرورا تبرق أسارير وجهه" فكأن التشبيه وقع على بعض الوجه فناسب أن يشبه ببعض القمر (قلت يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي أن أخرج منه وأتصدق به (قلت فإني أمسك سهمي الذي بخيبر) في رواية أبي داود "أن أخرج من مالي كله إلى الله ورسوله صدقة قال لا قلت نصفه قال لا قلت فثلثه قال نعم" وفي رواية "يجزئ عنك الثلث"

(فوالله ما علمت أحدا من المسلمين أبلاه الله تعالى في صدق الحديث أحسن مما أبلاني الله به) البلاء والإبلاء يكون في الخير والشر لكن إذا أطلق كان للشر غالبا فإذا أريد الخير قيد كما قيده هنا فقال "أحسن مما أبلاني الله به" (والله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد إذ هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أكون كذبته فأهلك) قال النووي هكذا هو في جميع نسخ مسلم وكثير من روايات البخاري قال العلماء لفظة "لا" زائدة في قوله "ألا أكون" ومعناه أن أكون كذبته فأهلك كقوله تعالى {ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك} [الأعراف 12] (يزيدون على عشرة آلاف) قال النووي هكذا وقع هنا ولم يبين قدر الزيادة وقال أبو زرعة الرازي كانوا سبعين ألفا وقال ابن إسحاق كانوا ثلاثين ألفا وهذا أشهر وجمع بينهما بعض الأئمة بأن أبا زرعة عد التابع والمتبوع وابن إسحاق عد المتبوع فقط -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - التصريح بجهة الغزو إذا لم تقتض المصلحة ستره 2 - وأن الإمام إذا استنفر الجيش عموما لزمهم النفير ولحق اللوم بكل فرد فرد أن لو تخلف قال السهيلي إنما اشتد غضب النبي صلى الله عليه وسلم على من تخلف وإن كان الجهاد فرض كفاية لكنه في حق الأنصار خاصة فرض عين لأنهم بايعوا على ذلك فكان تخلفهم عن هذه الغزوة كبيرة لأنها كالنكث لبيعتهم قال الحافظ ابن حجر وعند الشافعية وجه أن الجهاد كان فرض عين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ويؤيده قوله تعالى {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله} [التوبة 120] وعلى هذا فيتوجه العتاب على من تخلف مطلقا 3 - وفيه أن العاجز عن الخروج بنفسه أو بماله لا لوم عليه 4 - وفيه ترك قتل المنافقين 5 - وفيه عظم أمر المعصية وقد نبه الحسن البصري على ذلك إذ قال يا سبحان الله ما أكل هؤلاء الثلاثة مالا حراما ولا سفكوا دما حراما ولا أفسدوا في الأرض أصابهم ما أصابهم وضاقت عليهم الأرض بما رحبت فكيف بمن يواقع الفواحش والكبائر 6 - وفيه أن القوي في الدين يؤاخذ بأشد مما يؤاخذ الضعيف في الدين 7 - وجواز إخبار المرء عن تقصيره وتفريطه وعن سبب ذلك وما آل إليه أمره تحذيرا ونصيحة لغيره

8 - وجواز مدح المرء نفسه بما فيه من خير إذا أمن الفتنة 9 - وفضيلة أهل بدر والعقبة 10 - والحلف للتأكيد من غير استحلاف 11 - وفيه أن المرء إذا لاحت له فرصة الطاعة فحقه أن يبادر إليها ولا يسوف بها لئلا يحرمها قال تعالى {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه} [الأنفال 24] 12 - وجواز تمني ما فات من الخير 13 - وفي طعن الرجل في كعب وعدم رد الرسول صلى الله عليه وسلم عليه جواز الطعن فى الرجل بما يغلب على اجتهاد الطاعن عن حمية لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم 14 - وجواز الرد على الطاعن إذا غلب على ظن الراد وهم الطاعن أو غلطه قال النووي فيه دليل لرد غيبة المسلم الذي ليس بمتهتك في الباطل وهو من مهمات الآداب وحقوق الإسلام 15 - وفيه أن المستحب للقادم أن يكون على وضوء 16 - وأن يبدأ بالمسجد قبل بيته فيصلي 17 - ومشروعية السلام على القادم وتلقيه 18 - وفي معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم للمنافقين المتخلفين الحكم بالظاهر ووكول السرائر إلى الله تعالى 19 - وفيه ترك السلام على من أذنب 20 - وأن الإمام لا يهمل من تخلف عنه فى بعض الأمور بل يذكره ليراجع التوبة 21 - وأن التبسم قد يكون عن غضب كما يكون عن تعجب ولا يختص بالسرور 22 - وفيه معاتبة الكبير أصحابه ومن يعز عليه دون غيره 23 - وفيه الحزم والإغلاظ فى اللوم للمصلحة 24 - وفيه العمل بمفهوم اللقب إذا حفته قرينة لقوله صلى الله عليه وسلم لما حدثه كعب "أما هذا فقد صدق" فإنه يشعر بأن من سواه كذب لكن ليس على عمومه فى حق كل أحد سواه لأن صاحبيه قد صدقا كذلك ففيه إشارة إلى كذب من اعتذر لا من اعترف 25 - وفيه تبرير حر المصيبة بالتأسي بالنظير لراحة كعب حين ذكر صاحباه 26 - وفيه عظم مقدار الصدق في القول والفعل وحسن عاقبته 27 - وتعليق سعادة الدنيا والآخرة والنجاة من شرهما به

28 - وجواز هجر المسلم أكثر من ثلاثة أيام لمصلحة وسبب وفيه استحباب هجران أهل البدع والمعاصي الظاهرة وترك السلام عليهم ومقاطعتهم تحقيرا لهم وزجرا 29 - وأن من عوقب بالهجر يعذر في التخلف عن صلاة الجماعة لأن مرارة وهلالا لم يخرجا من بيتيهما تلك المدة 30 - وفيه سقوط وجوب رد السلام على المهجور إذ لو كان واجبا لم يقل كعب هل حرك شفتيه برد السلام 31 - وفيه جواز دخول المرء دار جاره وصديقه بغير إذنه ومن غير الباب إذا علم رضاه وإذا لم يكن هناك كشف حرمة 32 - وفيه أن قول الله ورسوله أعلم ليس بخطاب ولا كلام مع المهجور ولا يحنث به من حلف أن لا يكلم الآخر إذا لم ينوبه مكالمته وإنما قال أبو قتادة ذلك لما ألح عليه كعب وأن السلام كلام وأن من حلف لا يكلم إنسانا فسلم عليه أو رد عليه السلام حنث 33 - وفيه مبالغة الصحابة في اتباع الأوامر واجتناب النواهي فقد جعل الناس يشيرون إلى كعب لرسول ملك غسان ولا يتكلمون وكان بمقدورهم أن يقولوا هذا هو ولا يكون هذا تكليما له 34 - وفيه أن مسارقة النظر في الصلاة لا يقدح في صحتها 35 - وإيثار طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم على مودة القريب 36 - وجواز ترك وطء الزوجة مدة 37 - وخدمة المرأة زوجها 38 - وفي إرسال كعب زوجته إلى أهلها الاحتياط لمجانبة ما يخشى الوقوع فيه وأن عبارة الحقي بأهلك ليس صريحا في الطلاق 39 - وفي تحريق كعب لرسالة ملك غسان جواز تحريق ما فيه اسم الله للمصلحة إذ كان في الورقة "لم يجعلك الله بدار هوان" 40 - وفيه دليل للشافعي وموافقيه في استحباب سجود الشكر بكل نعمة ظاهرة حصلت أو نقمة ظاهرة اندفعت قاله النووي وفيه نظر إذ ما حصل كان من أعظم النعم 41 - وفيه استحباب إجازة البشير بخلعة 42 - وجواز العارية وإعارة الثوب للبسه 43 - وفي استقبال طلحة لكعب استحباب مصافحة القادم والقيام له إكراما والهرولة إلى لقائه بشاشة وفرحا

44 - وفيه استحباب الصدقة شكرا للنعم المتجددة لا سيما ما عظم منها 45 - ومن قوله عن الثوبين "والله ما أملك غيرهما" في حين أنه كان يملك راحلتين وبيتا وسهم خيبر دليل على تخصيص اليمين بالنية قال النووي وهو مذهبنا فإذا حلف لا مال له ونوى نوعا لم يحنث بنوع آخر من المال أو حلف لا يأكل ونوى تمرا لم يحنث بالخبز 46 - واستحباب بكاء المسلم على نفسه إذا وقعت منه معصية 47 - واستحباب التبشير بالخير 48 - واستحباب تهنئة من رزقه الله خيرا ظاهرا أو صرف عنه شرا ظاهرا 49 - واستحباب سرور الإمام وكبير القوم بما يسر أصحابه وأتباعه 50 - واستحباب اجتماع الناس عند الإمام في الأمور المهمة 51 - وأنه يستحب لمن تاب بسبب من الخير أن يحافظ على ذلك السبب كما فعل كعب في الصدق والله أعلم.

(765) باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف وبراءة حرم النبي صلى الله عليه وسلم من الريبة

(765) باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف وبراءة حرم النبي صلى الله عليه وسلم من الريبة 6099 - عن حديث عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا فبرأها الله مما قالوا وكلهم حدثني طائفة من حديثها وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت اقتصاصا وقد وعيت عن كل واحد منهم الحديث الذي حدثني وبعض حديثهم يصدق بعضا ذكروا أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه قالت عائشة فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بعد ما أنزل الحجاب فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه مسيرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوه وقفل ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت من شأني أقبلت إلى الرحل فلمست صدري فإذا عقدي من جزع ظفار قد انقطع فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي فحملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب وهم يحسبون أني فيه قالت وكانت النساء إذ ذاك خفافا لم يهبلن ولم يغشهن اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام فلم يستنكر القوم ثقل الهودج حين رحلوه ورفعوه وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب فتيممت منزلي الذي كنت فيه وظننت أن القوم سيفقدوني فيرجعون إلي فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني قد عرس من وراء الجيش فادلج فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني وقد كان يرآني قبل أن يضرب الحجاب علي فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي ووالله ما يكلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته فوطئ على يدها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة فهلك من هلك في

شأني وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي ابن سلول فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمنا المدينة شهرا والناس يفيضون في قول أهل الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي إنما يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم ثم يقول "كيف تيكم" فذاك يريبني ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعد ما نقهت وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا فانطلقت أنا وأم مسطح وهي بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب فأقبلت أنا وبنت أبي رهم قبل بيتي حين فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت تعس مسطح فقلت لها بئس ما قلت أتسبين رجلا قد شهد بدرا قالت أي هنتاه أو لم تسمعي ما قال قلت وماذا قال قالت فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا إلى مرضي فلما رجعت إلى بيتي فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم قال "كيف تيكم" قلت أتأذن لي أن آتي أبوي قالت وأنا حينئذ أريد أن أتيقن الخبر من قبلهما فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أبوي فقلت لأمي يا أمتاه ما يتحدث الناس فقالت يا بنية هوني عليك فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا كثرن عليها قالت قلت سبحان الله وقد تحدث الناس بهذا قالت فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ثم أصبحت أبكي ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله قالت فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود فقال يا رسول الله هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا وأما علي بن أبي طالب فقال لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير وإن تسأل الجارية تصدقك قالت فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال "أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك من عائشة" قالت له بريرة والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا قط أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله قالت فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول قالت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر "يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغ أذاه في أهل بيتي فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي" فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال أنا أعذرك منه يا

رسول الله إن كان من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك قالت فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكن اجتهلته الحمية فقال لسعد بن معاذ كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت قالت وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي قالت فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس قالت ولم يجلس عندي منذ قيل لي ما قيل وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء قالت فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ثم قال "أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب تاب الله عليه" قالت فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة فقلت لأبي أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال فقال والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت لأمي أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن إني والله لقد عرفت أنكم قد سمعتم بهذا حتى استقر في نفوسكم وصدقتم به فإن قلت لكم إني بريئة والله يعلم أني بريئة لا تصدقوني بذلك ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني بريئة لتصدقونني وإني والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف {فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون} قالت ثم تحولت فاضطجعت على فراشي قالت وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة وأن الله مبرئي ببراءتي ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله عز وجل في بأمر يتلى ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها قالت فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحد حتى أنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشات من ثقل القول الذي أنزل عليه قالت فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك فكان أول كلمة تكلم بها أن قال "أبشري يا عائشة أما الله فقد

برأك" فقالت لي أمي قومي إليه فقلت والله ما أقوم إليه ولا أحمد إلا الله هو الذي أنزل براءتي قالت فأنزل الله عز وجل {إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم} عشر آيات فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات براءتي قالت فقال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة فأنزل الله عز وجل {ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى} إلى قوله {ألا تحبون أن يغفر الله لكم} قال حبان بن موسى قال عبد الله بن المبارك هذه أرجى آية في كتاب الله فقال أبو بكر والله إني لأحب أن يغفر الله لي فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال لا أنزعها منه أبدا قالت عائشة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن أمري "ما علمت أو ما رأيت" فقالت يا رسول الله أحمي سمعي وبصري والله ما علمت إلا خيرا قالت عائشة وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله بالورع وطفقت أختها حمنة بنت جحش تحارب لها فهلكت فيمن هلك قال الزهري فهذا ما انتهى إلينا من أمر هؤلاء الرهط وقال في حديث يونس احتملته الحمية. 6100 - وفي رواية عن الزهري بمثل حديث يونس ومعمر بإسنادهما وفي حديث فليح اجتهلته الحمية كما قال معمر وفي حديث صالح احتملته الحمية كقول يونس وزاد في حديث صالح قال عروة كانت عائشة تكره أن يسب عندها حسان وتقول فإنه قال فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء وزاد أيضا قال عروة قالت عائشة والله إن الرجل الذي قيل له ما قيل ليقول سبحان الله فوالذي نفسي بيده ما كشفت عن كنف أنثى قط قالت ثم قتل بعد ذلك شهيدا في سبيل الله وفي حديث يعقوب بن إبراهيم موعرين في نحر الظهيرة وقال عبد الرزاق موغرين قال عبد بن حميد قلت لعبد الرزاق ما قوله موغرين قال الوغرة شدة الحر. 6101 - عن عائشة رضي الله عنها قالت لما ذكر من شأني الذي ذكر وما

علمت به قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فتشهد فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال "أما بعد أشيروا علي في أناس أبنوا أهلي وايم الله ما علمت على أهلي من سوء قط وأبنوهم بمن والله ما علمت عليه من سوء قط ولا دخل بيتي قط إلا وأنا حاضر ولا غبت في سفر إلا غاب معي" وساق الحديث بقصته وفيه ولقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي فسأل جاريتي فقالت والله ما علمت عليها عيبا إلا أنها كانت ترقد حتى تدخل الشاة فتأكل عجينها أو قالت خميرها (شك هشام) فانتهرها بعض أصحابه فقال اصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسقطوا لها به فقالت سبحان الله والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر وقد بلغ الأمر ذلك الرجل الذي قيل له فقال سبحان الله والله ما كشفت عن كنف أنثى قط قالت عائشة وقتل شهيدا في سبيل الله وفيه أيضا من الزيادة وكان الذين تكلموا به مسطح وحمنة وحسان وأما المنافق عبد الله بن أبي فهو الذي كان يستوشيه ويجمعه وهو الذي تولى كبره وحمنة. 6102 - عن أنس رضي الله عنه أن رجلا كان يتهم بأم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي "اذهب فاضرب عنقه" فأتاه علي فإذا هو في ركي يتبرد فيها فقال له علي اخرج فناوله يده فأخرجه فإذا هو مجبوب ليس له ذكر فكف علي عنه ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنه لمجبوب ما له ذكر -[المعنى العام]- نكتفي بما أخذناه من حادثة الإفك من عبر في آخر فقه الحديث -[المباحث العربية]- (عن الزهري قال حدثني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن حديث عائشة إلخ) قال النووي هذا الذي ذكره الزهري من جمعه الحديث عنهم جائز لا منع منه ولا كراهة فيه لأنه قد بين أن بعض الحديث عن بعضهم وبعضه عن بعضهم وهؤلاء الأربعة أئمة حفاظ ثقات من أجل التابعين فإذا ترددت اللفظة من هذا الحديث بين كونها عن هذا أو ذاك لم يضر وجاز الاحتجاج بها لأنهما

ثقتان وقد اتفق العلماء على أنه لو قال حدثني زيد أو عمرو وهما ثقتان معروفان بالثقة عند المخاطب جاز الاحتجاج به (وكلهم حدثني طائفة من حديثه) في رواية "وكل حدثني بعض هذا الحديث وقد جمعت لك كل الذي حدثوني" (وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت اقتصاصا) أي أحفظ وأحسن إيرادا وسردا للحديث (وبعض حديثهم يصدق بعضا) قال الحافظ ابن حجر كأنه مقلوب والمقام يقتضي أن يقول وحديث بعضهم يصدق بعضا ويحتمل أن يكون على ظاهره والمراد أن بعض حديث كل منهم يدل على صدق الراوي الآخر في بقية حديثه (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفرا أقرع بين نسائه) أي أن يخرج إلى سفر فهو منصوب بنزع الخافض أو ضمن "يخرج" معنى ينشئ فيكون "سفرا" منصوبا على المفعولية وفي رواية للبخاري "كان إذا أراد سفرا أقرع بين أزواجه" ومعنى "أقرع بين نسائه" أي ضرب سهاما معلمة لكل واحدة (فأقرع بيننا في غزوة غزاها) هي غزوة بني المصطلق وصرح بها في بعض الروايات (وذلك بعد ما أنزل الحجاب) أي بعد ما أنزل الأمر بالحجاب أي حجاب أمهات المؤمنين عن رؤية الرجال لهن بقوله تعالى {وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب} [الأحزاب 53] وقالت هذا كالتوطئة للسبب في كونها كانت تستتر في الهودج حتى أفضى ذلك إلى الظن أنها فيه وهي ليست فيه بخلاف ما كان قبل الحجاب حيث كن يركبن ظهر الرواحل بغير هوادج أو يركبن الهوادج غير مستترات فما كان يقع لها الذي وقع (فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه مسيرنا) الهودج بفتح الهاء والدال بينهما واو ساكنة محمل له قبة تستتر بالثياب ونحوها يوضع على ظهر البعير يركب عليه النساء ليكون أستر لهن وفي رواية ابن إسحاق "فكنت إذا رحلوا بعيري جلست في هودجي ثم يأخذون بأسفل الهودج فيضعونه على ظهر البعير" (حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوه وقفل) أي رجع من غزوته (ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل) قال النووي "آذن" روى بالمد وتخفيف الذال وبالقصر وتشديدها أي أعلم بتحرك الجيش بعد نزوله وفي رواية ابن إسحاق "فنزل منزلا فبات به بعض الليل ثم آذن بالرحيل" (فقمت حين آذنوا بالرحيل) لأقضي حاجتي منفردة بعيدا عن الجيش

(فلما قضيت من شأني) أي قضيت حاجتي (أقبلت إلى الرحل) أي إلى الهودج (فلمست صدري فإذا عقدي من جزع ظفار قد انقطع) "جزع ظفار" بفتح الجيم وإسكان الزاي وهو خرز يماني معروف في سواده بياض كالعروق و"ظفار" قرية باليمن مبنية على الكسر وفي رواية للبخاري "جزع أظفار" وحكى ابن التين أن قيمة هذا العقد كانت اثني عشر درهما وفي رواية الواقدي "فكان في عنقي عقد من جزع ظفار كانت أمي أدخلتني به على رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية ابن إسحاق "قد انسل من عنقي وأنا لا أدري" (فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه) وفي رواية ابن إسحاق "فرجعت عودي على بدئي إلى المكان الذي ذهبت إليه" زاد في رواية الواقدي "وكنت أظن أن القوم لو لبثوا شهرا لم يبعثوا بعيري حتى أكون في هودجي" (وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي) بفتح الياء وسكون الراء يقال رحلت البعير إذا شددت عليه الرحل قال النووي هكذا وقع في أكثر النسخ "يرحلون لي" وفي بعض النسخ "بي" (فحملوا هودجي فرحلوا على بعيري الذي كنت أركب وهم يحسبون أني فيه وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يهبلن ولم يغشهن اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام فلم يستنكر القوم ثقل الهودج حين رحلوه ورفعوه) قال النووي "لم يهبلن" ضبطوه على أوجه أشهرها ضم الياء وفتح الهاء والباء المشددة أي يثقلن باللحم والشحم والثاني بفتح الياء والباء وإسكان الهاء بينهما والثالث بفتح الياء وضم الباء ويجوز بضم الياء وسكون الهاء وكسر الباء قال أهل اللغة هبله اللحم وأهبله إذا أثقله وكثر لحمه وشحمه وفي رواية للبخاري "لم يثقلهن اللحم" وهو أيضا المراد من قولها "لم يغشهن اللحم" ومعنى "يأكلن العلقة" بضم العين أي القليل ويقال لها أيضا "البلغة" وفي رواية للبخاري "ولم يستنكر القوم خفة الهودج" وهي أوضح لأن مرادها إقامة عذرهم في تحميل هودجها وهي ليست فيه (وكنت جارية حديثة السن) كان سنها إذ ذاك لا يتجاوز الخامسة عشرة وفائدة ذكر هذه الجملة المبالغة في خفتها أي إنها مع نحافتها كانت صغيرة السن أو الإشارة إلى بيان عذرها فيما فعلته من الحرص على العقد ومن استقلالها بالتنبيش عليه وترك إعلام أهلها بذلك (فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب) أي منازل الجيش وفي رواية "وليس فيها أحد" (فتيممت منزلي الذي كنت فيه) أي قصدت المكان الذي كان فيه هودجي

(فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت) في الصحيح أنها أقامت في منزلها إلى أن أصبحت وعند ابن إسحاق "فتلففت بجلبابي ثم اضطجعت في مكاني" (وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني) "المعطل" بفتح الطاء (قد عرس من وراء الجيش فادلج فأصبح عند منزلي) التعريس النزول آخر الليل في السفر لنوم أو استراحة وقيل هو النزول في أي وقت كان و"ادلج" بتشديد الدال أي سار آخر الليل وفي رواية "أن صفوان سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعله على الساقة فكان إذا رحل الناس قام يصلي ثم تبع منازلهم فمن سقط له شيء أتاه به" وفي رواية "فكان صفوان يتخلف عن الناس فيصيب القدح والجراب والإداوة فيحمله فيقدم به فيعرفه في أصحابه" والمعنى كان صفوان قد نزل آخر الليل منزلا خلف الجيش يصلي وينتظر تحرك الجيش ورحيله فلما بدا ضوء الصبح أخذ يفتش عن الأشياء التي قد تكون منسية (فرأى سواد إنسان نائم) سواد الإنسان شخصه أي إنسانا نائما من بعيد (فأتاني فعرفني حين رآني وكان يراني قبل أن يضرب الحجاب علي) والظاهر أن وجهها كان قد انكشف وهي نائمة (فاستيقظت باسترجاعه) أي بقوله إنا لله وإنا إليه راجعون وصرح بها ابن إسحاق في روايته وكأنه شق عليه ما جرى لعائشة أو خشي أن يقع ما وقع أو أنه اكتفى بالاسترجاع رافعا به صوته عن الكلام معها صيانة لها عن المخاطبة (فخمرت وجهي بجلبابي) أي غطيت وجهي بثوبي الذي كان علي (حتى أناخ راحلته فوطئ على يدها فركبتها) وفي رواية "حين أناخ" وفي رواية "فقرب بعيره فوطئ على ذراعه فولاني قفاه فركبت" (فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة) الموغر النازل في وقت الوغرة وهي شدة الحر و"نحر الظهيرة" وقت القائلة وشدة الحر وفي رواية "موعرين" بالعين بدل الغين (فهلك من هلك في شأني) وفي رواية "فهنالك قال في وفيه أهل الإفك ما قالوا" أبهمت الذين خاضوا والمشهور في أسمائهم عبد الله بن أبي ومسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش (وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي ابن سلول) قال النووي هكذا صوابه "ابن سلول" برفع "ابن" وكتابته بالألف صفة لعبد الله

(فاشتكيت حين قدمنا المدينة شهرا والناس يفيضون في قول أهل الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك) "يفيضون" بضم الياء الأولى أي يخوضون وفي رواية ابن إسحاق "وقد انتهى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أبوي ولا يذكرون لي شيئا من ذلك" (وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي) "يريبني" بفتح الياء الأولى من الريب ويجوز الضم من الرباعي يقال رابه وأرابه وضمير "وهو" للحال والشأن و"إني لا أعرف" مسبوك بمصدر فاعل "يريبني" والجملة خبر ضمير الشأن و"اللطف" بضم اللام وإسكان الطاء ويقال بفتحهما معا لغتان وهو البر والرفق وفي رواية ابن إسحاق "أنكرت بعض لطفه" و"حين أشتكي" أي حين أمرض (إنما يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم ثم يقول كيف تيكم) "تيكم" اسم إشارة للمؤنثة كما في "ذاكم" وفي رواية ابن إسحاق "فكان إذا دخل قال لأمي وهي تمرضني كيف تيكم" وفي رواية "إلا أنه يقول وهو مار كيف تيكم ولا يدخل عندي ولا يعودني ويسأل عني أهل البيت" وفي رواية "وكنت أرى منه جفوة ولا أدري من أي شيء" واستدلت عائشة بهذه الحالة على أنها استشعرت منه بعض جفاء ولم تبالغ في التنقيب عن ذلك (فذاك يريبني ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعد ما نقهت وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل) "نقهت" بفتح النون والقاف وبكسر القاف والفتح أشهر والناقه هو الذي أفاق من المرض وبرأ منه وهو قريب العهد به ولم يتراجع إليه كمال صحته و"أم مسطح" بكسر الميم وسكون السين و"المناصع" بفتح الميم أرض ترابية خارج المدينة كانوا يتبرزون فيها (وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا) بضم الكاف والنون جمع كنيف وهو الساتر مطلقا والمراد به هنا المكان المعد لقضاء الحاجة زاد ابن إسحاق "الكنف التي يتخذها الأعاجم" (وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه) قال النووي ضبطوا "الأول" بوجهين الأول ضم الهمزة وتخفيف الواو والثاني بفتح الهمزة وتشديد الواو وكلاهما صحيح و"التنزه" طلب النزاهة بالخروج إلى الصحراء تريد أنهم لم يكونوا تخلقوا بأخلاق العجم وفي رواية البخاري "وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط" جهة الأرض البعيدة المنخفضة (وهي بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب) "رهم" بضم الراء وسكون الهاء و"أثاثة" بضم الهمزة وثاءين و"مسطح" في الأصل عود من أعواد الخباء وهو هنا لقب واسمه عامر وقيل عوف كنيته أبو عباد وقيل أبو عبد الله واسم أم مسطح سلمى وهي بنت خالة أبي

بكر أسلمت وأسلم أبوها قديما مات مسطح سنة أربع وثلاثين وقيل سبع وثلاثين وكانت أمه من أشد الناس عليه حين تكلمه مع أهل الإفك كان هو وأمه من المهاجرين الأولين وكان أبوه مات وهو صغير فكفله أبو بكر لقرابة أم مسطح منه (فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت تعس مسطح فقلت لها بئس ما قلت أتسبين رجلا قد شهد بدرا) "عثرت" بفتح الثاء و"تعس" بفتح العين وكسرها لغتان ومعناه "عثر" وقيل هلك وقيل لزمه الشر وقيل بعد وقيل سقط بوجهه خاصة و"المرط" بكسر الميم كساء من صوف وقد يكون من غيره وظاهر هذه الرواية أن عثرة أم مسطح كانت في العودة بعد التبرز لكن في رواية للبخاري "أنها عثرت قبل أن تقضي عائشة حاجتها وأنها لما أخبرتها الخبر رجعت كأن الذي خرجت له لا تجد منه لا قليلا ولا كثيرا" وكذا في رواية ابن إسحاق "قالت فوالله ما قدرت أن أقضي حاجتي" وفي رواية "فذهب عني ما كنت أجد من الغائط ورجعت عودى على بدئي" وفي رواية "فأخذتني الحمى وتقلص ما كان مني" قال الحافظ ابن حجر ويجمع بينهما بأن معنى قولها "وقد فرغنا من شأننا" أي من شأن المسير لا قضاء الحاجة اهـ (قالت أي هنتاه) بإسكان النون وفتحها والإسكان أشهر قال صاحب النهاية وتضم الهاء الأخيرة وتسكن ويقال في التثنية هنتان وفي الجمع هنات وهنوات وفي المذكر هن وهنان وهنون ولك أن تلحقها الهاء لبيان الحركة فتقول يا هنه وأن تشبع حركة النون فتصير ألفا فتقول يا هناه ولك ضم الهاء الأخيرة فتقول يا هناه أقبل قالوا وهذه اللفظة تختص بالنداء ومعناه يا هذه وقيل يا امرأة وقيل يا بلهاء كأنها نسبت إلى قلة المعرفة بمكايد الناس وشرورهم قال ابن أبي جمرة يحتمل أن يكون قول أم مسطح هذا عمدا لتتوصل إلى إخبار عائشة بما قيل فيها وهي غافلة ويحتمل أن يكون اتفاقا أجراه الله على لسانها لتستيقظ عائشة من غفلتها عما قيل فيها أي لتدافع عن نفسها وفي رواية "فقالت لها إنك لغافلة عما يقول الناس" وفيها "إن مسطحا وفلانا وفلانا يجتمعون في بيت عبد الله بن أبي يتحدثون عنك وعن صفوان يرمونك به" وفي رواية "أشهد أنك من الغافلات المؤمنات" وفي رواية للبخاري "فنقرت لي الحديث" أي أعلمتنيه وفي رواية للطبراني عن عائشة قالت "لما بلغني ما تكلموا به هممت أن آتي قليبا فأطرح نفسي فيه" (قلت أتأذن لي أن آتي أبوي ... فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم) في رواية "فقلت أرسلني إلى بيت أبي فأرسل معي الغلام" (فجئت أبوي فقلت لأمي يا أمتاه ما يتحدث الناس فقالت يا بنية هوني عليك فوالله لقلما كانت امرأة وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا كثرن عليها) في رواية "يا بنية خففي عليك الشأن" وفي رواية "حظية" أي محظية رفيعة المنزلة وفي رواية "ما

كانت امرأة حسناء" وقد أسندت الكلام للضرائر لأنهن في العادة يختلقن مثل هذا ولأن حمنة بنت جحش أخت زينب بنت جحش كانت من الخائضين وكان الحامل لها على ذلك كون عائشة ضرة أختها (قالت قلت سبحان الله وقد تحدث الناس بهذا) زاد الطبري "وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت نعم ورسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية ابن إسحاق "فقلت لأمي غفر الله لك يتحدث الناس بهذا ولا تذكرين لي" وفي رواية "فقلت لأبوي أما اتقيتما الله في؟ وما وصلتما رحمي؟ يتحدث الناس بهذا ولم تعلماني" وفي رواية "فاستعبرت فبكيت فسمع أبو بكر صوتي وهو فوق البيت يقرأ فقال لأمي ما شأنها؟ فقالت بلغها الذي ذكر من شأنها ففاضت عيناه فقال أقسمت عليك يا بنية إلا رجعت إلى بيتك فرجعت" (قالت فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ثم أصبحت أبكي) "لا يرقأ" لا ينقطع و"لا أكتحل بنوم" استعارة للسهر وفي رواية "فخرت مغشيا عليها فما استفاقت إلا وعليها حمى بنافض فطرحت عليها ثيابها فغطيتها" وفي رواية "فألقت علي أمي كل ثوب في البيت (ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله) "استلبث الوحي" أي أبطأ ولبث ولم ينزل وفي رواية "وكان إذا أراد أن يستشير أحدا في أمر أهله لم يعد عليا وأسامة" (فأما أسامة .... فقال يا رسول الله هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا) أي هي العفيفة اللائقة بك قيل عبر عن عائشة بالجمع "هم" لإرادة تعظيمها (وأما علي بن أبي طالب فقال لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير وإن تسأل الجارية تصدقك) وفي رواية الواقدي "قد أحل الله لك وأطاب طلقها وانكح غيرها" وسنوضح في فقه الحديث موقف علي من هذه القضية (قالت له بريرة والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا قط أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله) في رواية "فأرسل إلى بريرة فقال أتشهدين أني رسول الله قالت نعم قال فإني سائلك عن شيء فلا تكتميه قالت نعم قال هل رأيت من عائشة ما تكرهينه؟ قالت لا" وفي رواية "فانتهرها بعض أصحابه فقال اصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي شأنك بالجارية فسألها علي وتوعدها فلم تخبره إلا بخير ثم ضربها وسألها فقالت والله ما علمت على عائشة سوءا" و"إن" في قولها "إن رأيت عليها أمرا قط" نافية أي ما رأيت عليها مما تسألون عنه شيئا

أصلا وأما من غيره ففيها ما ذكرت من غلبة النوم إلخ وفي رواية لابن إسحاق "ما كنت أعيب عليها إلا أني كنت أعجن عجيني وآمرها أن تحفظه فتنام عنه" وفي رواية "ما رأيت منها منذ كنت عندها إلا أني عجنت عجينا لي فقلت احفظي هذه العجينة حتى أقتبس نارا لأخبزها فغفلت فجاءت الشاة فأكلتها" وفي رواية "ما علمت منها إلا ما يعلم الصائغ على الذهب الأحمر" أي من الخلوص من العيب وفي رواية "فقالت الجارية الحبشية والله لعائشة أطيب من الذهب ولئن كانت صنعت ما قال الناس ليخبرنك الله قالت فعجب الناس من فقهها" (فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول فقال وهو على المنبر يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغ أذاه في أهل بيتي فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي) "فاستعذر" أي طلب العذر والإنصاف ورفع الملامة أي من يقوم بعذري فيما رمي به أهلي ومن يقوم بعذره إذا عاقبته على سوء ما صدر منه وقيل معناه من ينصرني وقيل معناه من ينتقم لي منه وفي رواية "من يعذرني فيمن يؤذيني في أهلي ويجمع في بيته من يؤذيني" وكان صفوان بن المعطل قد قعد لحسان فضربه ضربة بالسيف وهو يقول تلق ذباب السيف مني فإنني غلام إذا هوجيت لست بشاعر فصاح حسان ففر صفوان فاستوهب النبي صلى الله عليه وسلم من حسان ضربة صفوان فوهبها له وفي الرواية الثانية "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فتشهد فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال أشيروا علي في أناس أبنوا أهلي" قال النووي بباء مفتوحة مخففة ومشددة رووه هنا بالوجهين والتخفيف أشهر ومعناه اتهموها يقال أبنه بالفتح يأبنه ويأبنه بكسر الباء وضمها إذا اتهمه ورماه بخلة سوء فهو مأبون "وأيم الله ما علمت على أهلي من سوء قط وأبنوهم بمن والله ما علمت عليه من سوء قط ولا دخل بيتي قط إلا وأنا حاضر ولا غبت في سفر إلا غاب معي" (فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال أنا أعذرك منه يا رسول الله إن كان من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكن اجتهلته الحمية فقال لسعد بن معاذ كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت) قال القاضي عياض قال بعض شيوخنا ذكر سعد بن معاذ في هذا وهم والأشبه أنه غيره قال ابن إسحاق إن المتكلم أولا وأخيرا أسيد بن حضير ومعلوم أن سعد بن معاذ مات في إثر غزاة الخندق من الرمية

التي أصابته سنة أربع وحديث الإفك كان في غزوة المريسيع سنة أربع قال القاضي ذكر القاضي إسماعيل الخلاف في تاريخ المريسيع والخندق وقال الأولى أن يكون المريسيع قبل الخندق قال القاضي فعلى هذا يستقيم فيه ذكر سعد بن معاذ وهو الذي في الصحيحين قال النووي هذا كلام القاضي وهو صحيح اهـ ولا يتعلق بهذا الخلاف كبير غرض وإنما الذي يعنينا أن المتكلم الأول رئيس الأوس سعد بن معاذ أو أسيد بن حضير وقال ضربنا عنقه لأنه كان سيدهم فحكمه فيهم نافذ فجزم بالحكم وأن سعد بن عبادة زعيم الخزرج وعبد الله بن أبي كان زعيم الخزرج ومن أشرافهم قبل الإسلام كادوا يتوجونه ملكا عليهم لكنه رأس المنافقين في الإسلام والكلام من زعيم الأوس لا شك يعنيه فدفاع سعد بن عبادة عنه صادر عن حمية العصبية القبلية ولهذا قالت عائشة "وكان رجلا صالحا ولكن اجتهلته الحمية" قال النووي هكذا هو هنا لمعظم رواة صحيح مسلم "اجتهلته" بالجيم والهاء أي استخفته وأغضبته وحملته على الجهل وفي رواية "احتملته" بالحاء والميم وكذا رواه مسلم [في آخر روايتنا هذه وملحقها] وكذا رواه البخاري ومعناه أغضبته فالروايتان صحيحتان اهـ وفي رواية ابن إسحاق "قال سعد بن عبادة ما قلت هذه المقالة إلا أنك علمت أنه من الخزرج" وفي رواية للبخاري "ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل" وفي رواية "قال يا ابن معاذ والله ما بك نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنها قد كانت بيننا ضغائن في الجاهلية وإحن الجاهلية" قال ابن التين تكلم سعد بن عبادة بحكم الأنفة ولم يرد الرضا بما نقل عن عبد الله بن أبي وإنما معنى قول عائشة "وكان قبل ذلك رجلا صالحا" [أي في رواية البخاري] أي لم يتقدم منه ما يتعلق بالوقوف مع أنفة الحمية ولم ترد أنه ناضل عن المنافقين اهـ وأما قول سعد بن عبادة "لا تقدر على قتله" مع أن سعد بن معاذ لم يقل بقتله فلأنه فهم أن قول ابن معاذ "أمرتنا ففعلنا أمرك" أي إن أمرتنا بقتله قتلناه وإن أمرت قومه بقتله قتلوه فنفي سعد بن عبادة قدرة سعد بن معاذ على قتله إن كان من الخزرج لعلمه أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يأمر غير قومه بقتله وهو بذلك لا يرد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لو أمر ولا بحمية الجاهلية وقد اعتذر المازري عن قول أسيد بن حضير لسعد بن عبادة "إنك منافق" أن ذلك وقع منه على جهة الغيظ والحنق والمبالغة في زجر سعد بن عبادة عن المجادلة عن ابن أبي وغيره ولم يرد النفاق الذي هو إظهار الإيمان وإبطان الكفر (وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه) معناه إن كنت فعلت ذنبا وليس ذلك لك بعادة وهذا أصل اللمم (قلص ومعي) بفتح القاف واللام أي ارتفع لاستعظام الأمر (فقلت لأبي أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال) تقصد بطلب الإجابة عنها تفويض الكلام إلى الكبار لأنهما أعرف بمقاصده وباللائق بالمواطن منها وردهما بأنهما لا يدريان ما

يقولان أي ما عندهما من العلم بهذا الأمر لا يزيد على ما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بشأنه سوى حسن الظن بها وفي رواية "قال أبو بكر لا أفعل هو رسول الله والوحي يأتيه" وفي رواية "فأصبح أبواي عندي فلم يزالا حتى دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صلى العصر وقد اكتنفني أبواي عن يميني وعن شمالي" وفي رواية "وقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس على سرير وجاهي" (قد سمعتم بهذا حتى استقر في نفوسكم) في رواية "حتى وقر في أنفسكم" أي ثبت وزنا ومعنى (ثم تحولت فاضجعت على فراشي) زاد في رواية "ووليت وجهي نحو الجدر" (ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى) في رواية إسحاق "يقرأ به في المساجد ويصلى به" (فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه) أي ما فارق مجلسه (ولا خرج أحد من أهل البيت) الذين كانوا حينئذ حضورا (فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي) بضم الباء وفتح الراء بعدها حاء ومد وهي شدة الحمى وقيل شدة الكرب وقيل شدة الحر ومنه برح بي الهم إذا بلغ غايته (حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق) "ليتحدر" أي لينصب و"الجمان" بضم الجيم وتخفيف الميم حب يعمل من الفضة كاللؤلؤ شبهت قطرات عرقه صلى الله عليه وسلم بالجمان في الصفاء والحسن زاد في رواية "قال أبو بكر فجعلت أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخشى أن ينزل من السماء ما لا مرد له وأنظر إلى وجه عائشة فإذا هو منبسق" أي صافي في اللون "فيطمعني ذلك فيها" وفي رواية ابن إسحاق "فأما أنا فوالله ما فزعت قد عرفت أني بريئة وأن الله غير ظالمي وأما أبواي فما سرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننت لتخرجن أنفسهما فرقا من أن يأتي من الله تحقيق ما يقول الناس" (فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) بضم السين وتشديد الراء المكسورة أي كشف وأزيل (وهو يضحك) جملة حالية وفي رواية "فوالذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب مازال يضحك حتى إني لأنظر إلى نواجذه سرورا ثم مسح وجهه" (فقالت لي أمي قومي إليه فقلت والله ما أقوم إليه ولا أحمد إلا الله هو الذي أنزل براءتي) وعند الطبري "أحمد الله لا إياكما" وفي رواية "نحمد الله ولا نحمدكم" وفي رواية "ولا نحمدك ولا نحمد أصحابك" وفي رواية "فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فانتزعت يدي منه فنهرني

أبو بكر" وفي رواية "قالت لما نزل عذرها قبل أبو بكر رأسها فقالت ألا عذرتني فقال أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت ما لا أعلم" {ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة} [النور 22] أي لا يحلفوا والألية اليمين (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش عن أمري ما علمت أو ما رأيت فقالت يا رسول الله أحمي سمعي وبصري والله ما علمت إلا خيرا قالت عائشة وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله بالورع) "تساميني" تفاخرني وتضاهيني بجمالها ومكانها عند النبي صلى الله عليه وسلم من السمو وهو العلو ومعنى "أحمي سمعي وبصري" أي أصون سمعي من أن يدعي سماع شيء لم يسمعه وأصون بصري أن أدعي أني رأيت شيئا لم أره والمراد من "الورع" هنا المحافظة على الدين ومجانبة الزور (وطفقت أختها حمنة بنت جحش تحارب لها) "حمنة" بفتح الحاء وسكون الميم وكانت تحت طلحة بن عبيد الله أي جعلت تتعصب لها وشرعت تنشر الإفك عنها فتحكي ما يقول أهل الإفك لتنخفض منزلة عائشة وتعلو منزلة أختها زينب (وأما المنافق عبد الله بن أبي فهو الذي كان يستوشيه ويجمعه وهو الذي تولى كبره وحمنة) "يستوشيه" أي يخرجه بالبحث والمسألة ثم يشيعه ويفشيه ويحركه -[فقه الحديث]- استنبط الإمام النووي من حديث الإفك أربعة وخمسين مأخذا نذكرها كما ذكرها 1 - جواز رواية الحديث الواحد عن جماعة عن كل واحد قطعة مبهمة منه وقد أجمع المسلمون على قبوله والاحتجاج به 2 - قال النووي الحديث دليل للشافعي ومالك وأحمد وجماهير العلماء في العمل بالقرعة في القسم بين الزوجات وفي العتق والوصايا والقسمة ونحو ذلك وقد جاءت فيها أحاديث كثيرة في الصحيح مشهورة قال أبو عبيد عمل بها ثلاثة من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين يونس وزكريا ومحمد صلى الله عليه وسلم قال ابن المنذر استعمالها كالإجماع قال ولا معنى لقول من ردها والمشهور عن أبي حنيفة إبطالها وحكى عنه إجازتها قال ابن المنذر وغيره القياس تركها لكن عملنا بها للآثار 3 - قال وفيه القرعة بين النساء عند إرادة السفر ببعضهن ولا يجوز أخذ بعضهم بغير قرعة هذا مذهبنا وبه قال أبو حنيفة وآخرون وهو رواية عن مالك وعنه رواية أن له السفر بمن شاء منهن بلا قرعة لأنها قد تكون أنفع له في طريقه والأخرى أنفع له في بيته وماله

4 - أنه لا يجب قضاء ليالي السفر للنسوة المقيمات وهذا مجمع عليه إذا كان السفر طويلا وحكم السفر القصير حكم الطويل على المذهب الصحيح وخالف فيه بعض أصحابنا 5 - جواز سفر الرجل بزوجته 6 - جواز غزوهن 7 - جواز ركوب النساء في الهوادج [على ظهر البعير حيث يكون مطيقا] 8 - جواز خدمة الرجال لهن في تلك الأسفار 9 - أن ارتحال العسكر يتوقف على أمر الأمير 10 - جواز خروج المرأة لحاجة الإنسان بغير إذن الزوج وهذا من الأمور المستثناه 11 - جواز لبس النساء القلائد في السفر كالحضر 12 - أن من يركب المرأة البعير وغيره لا يكلمها إذا لم يكن محرما لها إلا لحاجة لأنهم حملوا الهودج ولم يكلموا من يظنونها فيه اهـ وفيه نظر لأنه لا يلزم من عدم كلامهن منع الكلام 13 - فضيلة الاقتصار في الأكل للنساء وغيرهن وألا يكثر منه بحيث يهبله اللحم لأن هذا كان حالهن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وما كان في زمانه صلى الله عليه وسلم فهو الكامل الفاضل المختار اهـ وفيه نظر فقد كان هذا لقلة الطعام عندهم 14 - جواز تأخر بعض الجيش ساعة ونحوها لحاجة تعرض له عن الجيش إذا لم يكن ضرورة إلى الاجتماع اهـ وهذا المأخذ غير واضح وفيه نظر لأن تأخر عائشة رضي الله عنها لم تقر عليه 15 - إعانة الملهوف وعون المنقطع وإنقاذ الضائع وإكرام ذوي الأقدار 16 - حسن الأدب مع الأجنبيات لا سيما في الخلوة بهن عند الضرورة في برية أو غيرها كما فعل صفوان من إبراكه الجمل من غير كلام ولا سؤال وأنه ينبغي أن يمشي قدامها لا بجنبها ولا وراءها 17 - استحباب الإيثار بالركوب ونحوه 18 - استحباب الاسترجاع عند المصائب سواء كانت في الدين أو في الدنيا وسواء كانت في نفسه أو فيمن يعز عليه 19 - تغطية المرأة وجهها عن نظر الأجنبي سواء كان صالحا أو غيره اهـ وفيه نظر فإن لأمهات المؤمنين حجابا خاصا 20 - جواز الحلف من غير استحلاف 21 - يستحب أن يستر عن الإنسان ما يقال فيه إذا لم يكن في ذكره فائدة كما كتموا عن عائشة رضي الله عنها هذا الأمر شهرا 22 - استحباب ملاطفة الرجل زوجته وحسن المعاشرة

23 - أنه إذا عرض عارض بأن سمع عن زوجته شيئا أو نحو ذلك جاز التقليل من اللطف ونحوه لتفطن هي فتسأل عن سببه فتزيله 24 - استحباب السؤال عن المريض 25 - أنه يستحب للمرأة إذا أرادت الخروج لحاجة أن تكون معها رفيقة تستأنس بها ولئلا يتعرض لها أحد 26 - كراهة الإنسان صاحبه أو قريبه إذا آذى أهل الفضل أو فعل قبيحا من القبائح كما فعلت أم مسطح مع ابنها ودعائها عليه 27 - فضيلة أهل بدر والذب عنهم كما فعلت عائشة في ذبها عن مسطح 28 - أن الزوجة لا تذهب إلى بيت أبويها إلا بإذن زوجها اهـ وفيه نظر فكونها استأذنت لا يلزم منه أن الاستئذان لازم لكن هناك أحاديث أخرى "لا تخرج من بيته إلا بإذنه" 29 - جواز التعجب بلفظ التسبيح وقد تكرر في هذا الحديث وغيره 30 - استحباب مشاورة الرجل بطانته وأهله وأصدقاءه فيما ينوبه من الأمور 31 - جواز البحث والسؤال عن الأمور المسموعة عمن له به تعلق أما غيره فهو منهي عنه وهو تجسس وفضول 32 - خطبة الإمام عند نزول أمر مهم 33 - اشتكاء ولي الأمر للمسلمين من تعرض له بأذى في نفسه أو أهله واعتذاره فيما يريد أن يؤذيه به 34 - فضائل ظاهرة لصفوان بن المعطل رضي الله عنه بما شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم وبفعله الجميل في إركاب عائشة رضي الله عنها وحسن أدبه في جملة القضية 35 - فضيلة لسعد بن معاذ وأسيد بن حضير رضي الله عنهما 36 - المبادرة إلى قطع الفتن والخصومات والمنازعات وتسكين الغضب 37 - قبول التوبة والحث عليها 38 - تفويض الكلام إلى الكبار دون الصغار لأنهم أعرف 39 - جواز الاستشهاد بآيات القرآن العزيز ولا خلاف في أنه جائز 40 - استحباب المبادرة بتبشير من تجددت له نعمة ظاهرة أو اندفعت عنه بلية ظاهرة 41 - براءة عائشة رضي الله عنها من الإفك وهي براءة قطعية بنص القرآن العزيز فلو تشكك فيها إنسان والعياذ بالله صار كافرا مرتدا بإجماع المسلمين قال ابن عباس وغيره لم تزن امرأة نبي من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين إكراما من الله لهم

42 - تجديد شكر الله تعالى عند تجدد النعم 43 - فضائل لأبي بكر رضي الله عنه في قوله تعالى {ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة} [النور 22] 44 - استحباب صلة الأرحام وإن كانوا مسيئين 45 - العفو والصفح عن المسيء 46 - استحباب الصدقة والإنفاق في سبيل الله في الخيرات 47 - أنه يستحب لمن حلف على يمين ورأى خيرا منها أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه 48 - فضيلة زينب أم المؤمنين رضي الله عنها 49 - التثبيت في الشهادة 50 - إكرام المحبوب بمراعاة أصحابه ومن خدمه أو أطاعه كما فعلت عائشة بمراعاة حسان وإكرامه إكراما للنبي صلى الله عليه وسلم 51 - أن الخطبة تبدأ بحمد الله تعالى والثناء عليه بما هو أهله 52 - أنه يستحب في الخطب أن يقول بعد الحمد والثناء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والشهادتين "أما بعد" وقد كثرت فيه الأحاديث الصحيحة 53 - غضب المسلمين عند انتهاك حرمة أميرهم واهتمامهم بدفع ذلك 54 - جواز سب المتعصب لمبطل 55 - ومن الرواية الثالثة براءة حرم النبي صلى الله عليه وسلم من الريبة أما أمر النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بأن يقتل المتهم فقيل لعله كان منافقا ومستحقا للقتل بطريق آخر وجعل هذا محركا لقتله بنفاقه وغيره لا بالزنا وكف عنه علي رضي الله عنه اعتمادا على أن القتل بالزنا وقد علم انتفاء الزنا والله أعلم ونقل الحافظ ابن حجر ذلك كله وزاد كثيرا نقتطف منه 56 - جواز حكاية ما وقع للمرء من الفضل ولو كان فيه مدح ناس وذم ناس إذا تضمن إزالة توهم النقص عن الحاكي 57 - واستعمال التوطئة فيما يحتاج إليه من الكلام 58 - وأن الهودج يقوم مقام البيت في حجب المرأة 59 - وشؤم الحرص على المال لأنها لو لم تطل التفتيش لرجعت بسرعة ولما حصل ما حصل 60 - ومن فعل أبي بكر وزوجه أنه لا ينبغي لأهل المريض أن يعلموه بما يؤذيه 61 - والتوقف في خبر الواحد ولو كان صادقا

62 - وطلب الارتقاء من مرتبة الظن إلى مرتبة اليقين 63 - واستشارة الأعلى لمن هو دونه 64 - وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يحكم لنفسه إلا بعد نزول الوحي 65 - واحتمال أخف الضررين بزوال أغلظهما 66 - وفضل احتمال الأذى 67 - وأن الشدة إذا اشتدت أعقبها الفرج 68 - وفضل من يفوض الأمر لربه 69 - ووقوع المغفرة لمن أحسن إلى من أساء إليه أو صفح عنه 70 - وذم الغيبة وذم سماعها وزجر من يتعاطاها لا سيما إذا تضمنت تهمة المؤمن بما لم يقع منه والله أعلم -[ونأخذ من هذه الحادثة عبرا كثيرة منها]- 1 - اتقاء مواطن الشبهات فإن ما حدث كان بسبب أن عائشة رضي الله عنها اعتمدت أكثر من اللازم على أنها أم المؤمنين وزوجة الرسول الأمين فلا يحوم حولها التهم واطمأنت للبراءة الواقعية فلم تحسب حسابا لقالة السوء ولم تقدر أن المنافقين يتربصون برسول الله صلى الله عليه وسلم مغمزا ليطعنوه 2 - تقدير المسئولية واحتمال أخف الضررين ولو أن أم المؤمنين وازنت بين تخلفها عن الجيش وما يتبع ذلك من مخاوف وبين ترك العقد رأسا لاختارت الثاني 3 - الدقة واليقظة فيما يعهد إلى الإنسان من مهام فلو أن المكلفين بهودج عائشة انتبهوا للتأكد من وجودها فيه لاختلفت النتيجة 4 - الحذر من تلقف الحديث ونقله باللسان إلى ميدان آخر أو من أذن إلى أذن 5 - التأسي بأم المؤمنين زينب بنت جحش إذ حاربت في نفسها شهوة استغلال الفرص للنيل من الخصم 6 - الاستيثاق من الأخبار قبل العمل بموجبها وخصوصا إذا جاءت من متهم في موضوع الاتهام 7 - النصح والمشورة بخير والإمساك عن الشر مهما اعتقد الناصح أن في ذلك المصلحة فإن مشورة علي رضي الله عنه ظل أثرها في نفس عائشة رضي الله عنها سنين طويلة رغم أنه لم يعمل بها والروايات كلها تجمع على أن عليا رضي الله عنه لم يدافع عن عائشة في الوقت الذي دافع عنها فيه كبار الصحابة بل تجمع على أنه أشار بطلاقها بطريق التصريح أو التلميح ومهما اعتذرنا عن هذا الموقف كما

اعتذر العلماء المنصفون يبقى أنه لم يدافع عنها وهي غرقة في بحر التهم المظلم ولا يخالجني شك في أنه لم يقصد بمشورته إيذاء عائشة رضي الله عنها أو التشكيك فيها وإذا كان خصومه قد نظروا إلى تلك النصيحة بعد نزول الآيات ووضوح الحقيقة فحكموا عليها بالخطأ فهذه النظرة هي التي تجافي الصواب لأن القصة كلها كانت امتحانا وابتلاء للجميع وكان تيار الإفك جارفا ولم يقاومه المسلمون لعدم الأدلة عندهم حتى أبو بكر رضي الله عنه 8 - علاج الأمور في الفتن باللين والحكمة والبعد عن العنف والشدة فإن الفتن عمياء صماء لا عقل لها فالضرب فيها يزيدها اشتعالا كالنار ضربها يزيدها التهابا وموتها في حصارها وكتم أنفاسها 9 - الأدب في الدفاع عن النفس واستنفاد الجهد ثم اللجوء إلى الله تعالى 10 - وللحب ضريبة يدفعها المحبوب وللنبوغ ضريبة يدفعها النابغ وكلما علا نجم المرء كثر حساده بمثل هذا هدأت أم رومان بنتها عائشة رضي الله عنهما 11 - وأخيرا لكل حادثة من الحوادث جوانب خير وجوانب شر وقد شاءت حكمة الله ألا تصفو الخيرات من الشوائب إلا في الآخرة كما شاءت أن يبتلى المؤمن أكثر من الكافر والمؤمن العاقل إذا أصابه خير لم يفرح به فرح البطر الأشر وإذا أصابه شر استرجع وحمد الله وتدبر فضل الله في هذا الابتلاء ويعجبني قول أهل الحقيقة ما أصابني شر إلا عرفت فضل الله علي فيه في أربع فحمدت الله تعالى على كل منها الأولى أحمد الله على أن مصيبتي لم تكن في ديني الثانية أحمد الله أنها لم تكن أكبر من ذلك الثالثة أحمد الله على أن الله منحني الصبر عليها وتحملها الرابعة أحمد الله لما فيها من أجر أخره عنده ومن هنا قال الله تعالى للمؤمنين عن حادث الإفك {لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم} [النور 11] وفقنا الله للإيمان بالقضاء والصبر على الضراء والشكر على السراء إنه سميع مجيب والله أعلم.

كتاب صفات المنافقين وأحكامهم

كتاب صفات المنافقين وأحكامهم

(766) باب صفات المنافقين وأحكامهم

(766) باب صفات المنافقين وأحكامهم 6103 - عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر أصاب الناس فيه شدة فقال عبد الله بن أبي لأصحابه لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله قال زهير وهي قراءة من خفض حوله وقال {لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل} قال فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فأرسل إلى عبد الله بن أبي فسأله فاجتهد يمينه ما فعل فقال كذب زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فوقع في نفسي مما قالوه شدة حتى أنزل الله تصديقي {إذا جاءك المنافقون} قال ثم دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم قال فلووا رءوسهم وقوله {كأنهم خشب مسندة} وقال كانوا رجالا أجمل شيء 6104 - عن جابر رضي الله عنه قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم قبر عبد الله بن أبي فأخرجه من قبره فوضعه على ركبتيه ونفث عليه من ريقه وألبسه قميصه فالله أعلم. 6105 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي بعد ما أدخل حفرته فذكر بمثل حديث سفيان. 6106 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال لما توفي عبد الله بن أبي ابن سلول جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه ثم سأله أن يصلي عليه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما خيرني الله فقال {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة} وسأزيده على سبعين" قال إنه منافق فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره}

6107 - وفي رواية عن عبيد الله بهذا الإسناد نحوه وزاد قال فترك الصلاة عليهم. 6108 - عن ابن مسعود رضي الله عنه قال اجتمع عند البيت ثلاثة نفر قرشيان وثقفي أو ثقفيان وقرشي قليل فقه قلوبهم كثير شحم بطونهم فقال أحدهم أترون الله يسمع ما نقول وقال الآخر يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا وقال الآخر إن كان يسمع إذا جهرنا فهو يسمع إذا أخفينا فأنزل الله عز وجل {وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم} الآية 6109 - عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد فرجع ناس ممن كان معه فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين قال بعضهم نقتلهم وقال بعضهم لا فنزلت {فما لكم في المنافقين فئتين} 6110 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجالا من المنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قدم النبي صلى الله عليه وسلم اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب} 6111 - عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أن مروان قال اذهب يا رافع

(لبوابه) إلى ابن عباس فقل لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون فقال ابن عباس ما لكم ولهذه الآية إنما أنزلت هذه الآية في أهل الكتاب ثم تلا ابن عباس {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه} هذه الآية وتلا ابن عباس {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا} وقال ابن عباس سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه 6112 - عن قيس قال قلت لعمار أرأيتم صنيعكم هذا الذي صنعتم في أمر علي أرأيا رأيتموه أو شيئا عهده إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس كافة ولكن حذيفة أخبرني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال قال النبي صلى الله عليه وسلم "في أصحابي اثنا عشر منافقا فيهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة وأربعة" لم أحفظ ما قال شعبة فيهم. 6113 - عن قيس بن عباد قال قلنا لعمار أرأيت قتالكم أرأيا رأيتموه فإن الرأي يخطئ ويصيب أو عهدا عهده إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس كافة وقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن في أمتي" قال شعبة وأحسبه قال حدثني حذيفة وقال غندر أراه قال "في أمتي اثنا عشر منافقا لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها حتى يلج الجمل في سم الخياط ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة سراج من النار يظهر في أكتافهم حتى ينجم من صدورهم". 6114 - عن أبي الطفيل قال كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس فقال أنشدك بالله كم كان أصحاب العقبة قال فقال له القوم أخبره إذ سألك قال كنا نخبر أنهم أربعة عشر فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر وأشهد بالله أن اثني عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد وعذر

ثلاثة قالوا ما سمعنا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا علمنا بما أراد القوم وقد كان في حرة فمشى فقال "إن الماء قليل فلا يسبقني إليه أحد" فوجد قوما قد سبقوه "فلعنهم يومئذ". 6115 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من يصعد الثنية ثنية المرار فإنه يحط عنه ما حط عن بني إسرائيل" قال فكان أول من صعدها خيلنا خيل بني الخزرج ثم تتام الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وكلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر" فأتيناه فقلنا له تعال يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال والله لأن أجد ضالتي أحب إلي من أن يستغفر لي صاحبكم قال وكان رجل ينشد ضالة له. 6116 - وفي رواية عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من يصعد ثنية المرار أو المرار" بمثل حديث معاذ غير أنه قال وإذا هو أعرابي جاء ينشد ضالة له. 6117 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال كان منا رجل من بني النجار قد قرأ البقرة وآل عمران وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق هاربا حتى لحق بأهل الكتاب قال فرفعوه قالوا هذا قد كان يكتب لمحمد فأعجبوا به فما لبث أن قصم الله عنقه فيهم فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها ثم عادوا فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها ثم عادوا فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها فتركوه منبوذا. 6118 - عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم من سفر فلما كان قرب المدينة هاجت ريح شديدة تكاد أن تدفن الراكب فزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "بعثت هذه الريح لموت منافق" فلما قدم المدينة فإذا منافق عظيم من المنافقين قد مات. 6119 - عن إياس حدثني أبي قال عدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا موعوكا قال

فوضعت يدي عليه فقلت والله ما رأيت كاليوم رجلا أشد حرا فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم "ألا أخبركم بأشد حرا منه يوم القيامة هذينك الرجلين الراكبين المقفيين" لرجلين حينئذ من أصحابه. 6120 - عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة". 6121 - وفي رواية عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله غير أنه قال "تكر في هذه مرة وفي هذه مرة". -[المعنى العام]- بعد أن قويت شوكة الإسلام في المدينة ظهر النفاق وظاهرة النفاق دائما وليدة الجبن والضعف أمام قوة وغلبة إما رغبة في خير القوى وإما رهبة من بطشه وانتقامه وقد يكونان معا رغبة ورهبة كان عبد الله بن أبي ابن سلول زعيم الخزرج في المدينة قبل الإسلام وقد أعدوا له تاجا ليعلنوه ملكا على المدينة ودخل الإسلام المدينة وقانونه {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات 13] وأسلمت جماهير الأوس والخزرج وأقيمت المعاهدات بين المسلمين ويهود المدينة فلم يكن بد أمام عبد الله بن أبي من أن يعلن إسلامه ظاهرا وأخذ في الباطن يكيد للإسلام ولرسول الإسلام وللمسلمين وانضم إليه في هذه السياسة جماعة سموا بالمنافقين كما سمي عبد الله بن أبي برأس النفاق وداراهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتبرهم مؤلفة قلوبهم وأحسن إليهم وأكرم معاملتهم مع إيمانه بحقيقتهم لكنه مأمور من ربه بالعمل بالظاهر والله يتولى السرائر كانت حكمة في المعاملة ترعى خاطر أهليهم المؤمنين بحق وتغطي عن الكافرين واليهود حقيقة الشرخ في الجدار على أمل إصلاحه في يوم من الأيام هددوا المسلمين في غزوة بني قريظة وقالوا لئن رجعنا إلى المدينة لنخرجن منها محمدا وأصحابه المهاجرين لقد عظموا علينا ونحن الذين رفعناهم وما مثلنا ومثلهم إلا كما قيل سمن كلبك يأكلك وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بقولهم فجاء بهم فحلفوا ما قالوا فصدقهم ظاهرا وهو يعلم أن المنافقين

كاذبون ونزل فيهم القرآن الكريم في سورة سميت باسمهم ومن قبل خانوا الله ورسوله عند الخروج إلى غزوة أحد فخذلوا الضعفاء ورجعوا بثلث جيش المسلمين وواسى الله المسلمين بقوله {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة} [التوبة 47] ونزلت آيات كثيرة تكشف أستارهم ليأخذ المسلمون حذرهم منهم لكن مع إحسان معاملتهم وكانت هذه الأحاديث التي تحكي بعض تحركاتهم وموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين منهم -[المباحث العربية]- (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر) سبق عنه الحديث وأن السفر كان غزوة بني المصطلق وقيل تبوك (أصاب الناس فيه شدة) سبق أن وضحنا أن الشدة كانت حمية الجاهلية بين الأوس والخزرج بسبب غلام من هؤلاء وغلام من هؤلاء وعلى القول بأنها تبوك فإن الشدة العسر (حتى ينفضوا) أي ينفردوا (من حوله) قال زهير وهي قراءة من خفض "حوله" أي بكسر الميم في "من" قال النووي واحترز به عن القراءة الشاذة بفتح "من" قال الحافظ ابن حجر هذا من كلام عبد الله بن أبي ولم يقصد الراوي بسياقه التلاوة وغلط بعض الشراح فقال هذا وقع في قراءة ابن مسعود وليس في المصاحف المتفق عليها فيكون على سبيل البيان من ابن مسعود قال الحافظ ولا يلزم من كون عبد الله بن أبي قالها قبل أن ينزل القرآن بحكاية جميع كلامه (فاجتهد يمينه ما فعل) أي اجتهد في يمينه وأكثر من الحلف ما قال وعبر عن نفي القول بنفي الفعل وفي رواية للبخاري "فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا" (لووا رءوسهم) قرئ في السبع بتشديد الواو وتخفيفها (كأنهم خشب) بضم الشين وبإسكانها والضم للأكثرين (ملحوظة) حديث صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبي وإلباسه قميصه واستغفاره له إلخ سبق شرحه قريبا بما يغني عن إعادته (اجتمع عند البيت) أي عند الكعبة (قرشيان وثقفي أو ثقفيا وقرشي) في رواية للبخاري "كان رجلان من قريش وختن لهما من ثقيف أو رجلان من ثقيف وختن لهما من قريش"

(قليل فقه قلوبهم كثير شحم بطونهم) "قليل" خبر مقدم و"فقه قلوبهم" مبتدأ مؤخر (أترون الله يسمع) بضم التاء أي أتظنون (وما كنتم تستترون) أي تستخفون وقيل ما كنتم تظنون (خرج إلى أحد فرجع ناس ممن كان معه) هم عبد الله بن أبي ابن سلول ومن تبعه وقد تقدم ذلك في غزوة أحد (فما لكم في المنافقين فئتين) أي أمن شيء حصل لكم حتى تكونوا فئتين وفرقتين بشأن رجوع المنافقين أي لا ينبغي أن تختلفوا بشأنهم دعوهم فإن الله أركسهم بما كسبوا وبددهم وأوقعهم في شر أعمالهم فهم خبث الفضة وخبث الحديد والشدائد تنفي الخبث (كانوا إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه) سبق شيء من هذا في باب توبة كعب بن مالك وفي هذا المعنى قال تعالى {فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله} [التوبة 81] وقوله {سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس} [التوبة 95] وفي الحديث الآتي أن ابن عباس قال إن الآية نزلت في اليهود ويمكن الجمع بأن تكون الآية نزلت في الفريقين معا (أن مروان قال اذهب يا رافع لبوابه إلى ابن عباس) أصل العبارة قال مروان لبوابه اذهب يا رافع إلى ابن عباس وهكذا رواها البخاري وقد روى ابن مردويه ما يدل على سبب إرسال مروان إلى ابن عباس بذلك فقال عن زيد بن أسلم قال "كان أبو سعيد وزيد بن ثابت ورافع بن خديج عند مروان فقال يا أبا سعيد أرأيت قول الله ... فذكر الآية فقال إن هذا ليس من ذاك إنما ذاك أن أناسا من المنافقين" فذكر مثل حديثنا قال الحافظ ابن حجر فكأن مروان توقف في ذلك وأراد زيادة الاستظهار فأرسل بوابه رافعا إلى ابن عباس يسأله عن ذلك (أرأيتم صنيعكم هذا الذي صنعتم في أمر علي) أي أخبرونا عن موقفكم (في أصحابي اثنا عشر منافقا) أي فيمن ينتسبون إلي وإلى صحبتي أي من أمتي كما قال في الرواية الثانية {حتى يلج الجمل في سم الخياط} أي في ثقب المخيط (الإبرة) وسم بفتح السين وكسرها وهو تعليق على مستحيل فيستحيل أي لا يدخلون الجنة أبدا (ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة) بضم الدال وفتح الباء وفسرها بقوله

(سراج من النار يظهر في أكتافهم حتى ينجم من صدورهم) "وينجم" بضم الجيم أي يظهر وروى "تكفتهم الدبيلة" بتاء بعد الفاء من الكفت وهو الجمع والستر أي تجمعهم في قبورهم وتسترهم نار تعلو أكتافهم إلى صدورهم (كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس) قال النووي هذه العقبة ليست العقبة المشهورة بمنى التي كانت عندها بيعة الأنصار رضي الله عنهم وإنما هذه عقبة على طريق تبوك اجتمع المنافقون فيها ليفسدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوته وليغدروا به في غزوة تبوك فعصمه الله منهم اهـ أي قال حذيفة لهذا الرجل المنافق كم كنتم يوم تآمرتم في العقبة (وقد كان في حرة) بفتح الحاء وتشديد الراء وهي الأرض ذات الحجارة السود وقد مضت القصة في غزوة تبوك (من يصعد الثنية ثنية المرار فإنه يحط عنه ما حط عن بني إسرائيل فكان أول من صعدها خيلنا خيل بني الخزرج ثم تتام الناس) أصل الثنية الطريق بين جبلين وهذه الثنية عند الحديبية قال ابن إسحاق هي مهبط الحديبية وثنية المرار بفتح الميم وضمها وكسرها روايات أي الثنية التي تمتلئ بالشجر المر فسبق إليها خيل الخزرج ثم تتابع الناس حتى تموا كلهم في الثنية وفيهم أعرابي على جمل أحمر وكان منافقا (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر) كأنه علم صلى الله عليه وسلم أنه منافق عن طريق الوحي وقد ثبت ذلك لما ذهبوا إليه والواو في "وكلكم" عاطفة على محذوف أي كلكم حط عنكم وكلكم مغفور له أي صغائر ذنوبه (وكان رجل ينشد ضالة له) الرواية برفع "رجل" اسم كان و"ينشد" خبرها وفي ملحق الرواية بعد "وإذا هو أعرابي جاء ينشد ضالة له" و"ينشد" بفتح الياء وضم الشين أي يسأل عنها قال القاضي قيل هذا الرجل الجد بن قيس المنافق (قصم الله عنقه) أي أهلكه (فنبذته الأرض) أي طرحته على ظهرها عبرة للناظرين (هاجت ريح شديدة تكاد أن تدفن الراكب) قال النووي هكذا هو في جميع النسخ "تدفن" بالفاء والنون أي تغيبه عن الناس وتذهب به لشدتها (بعثت هذه الريح لموت منافق) قال النووي أي عقوبة له وعلامة لموته وراحة البلاد والعباد منه

(هذينك الرجلين الراكبين المقفيين) "هذين" مثنى هذا اسم إشارة منصوب أو مجرور بعامل محذوف أي أقصد هذين أو أخبركم بهذين و"المقفيين" تثنية مقفي بضم الميم وفتح القاف والفاء المشددة أي المنصرف المولي قفاه (لرجلين حينئذ من أصحابه) أي قال ذلك عن رجلين من أصحابه سماهما وكانا منافقين يظهران الإسلام فهما من أصحابه ظاهرا لا أنهما ممن نالته فضيلة الصحبة (مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة) "العائرة" الحائرة المترددة بين مجموعتين من الغنم تتردد وتذهب إلى هذه المجموعة مرة وتكر وترجع وتنعطف على المجموعة الثانية مرة وتشبيه المنافق بالشاة للتنفير عن النفاق والتشبيه موافق لقوله تعالى {مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء} [النساء 143] -[فقه الحديث]- -[في هذه الأحاديث]- كشف للمنافقين وأحوالهم ومكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم وحسن معاشرته لمن انتسب إلى صحبته والله أعلم

كتاب صفة القيامة والجنة والنار

كتاب صفة القيامة والجنة والنار

(767) باب من صفات القيامة

(767) باب من صفات القيامة 6122 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة اقرءوا {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا} 6123 - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال جاء حبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد أو يا أبا القاسم إن الله تعالى يمسك السماوات يوم القيامة على إصبع والأرضين على إصبع والجبال والشجر على إصبع والماء والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع ثم يهزهن فيقول أنا الملك أنا الملك فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبا مما قال الحبر تصديقا له ثم قرأ {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون} 6124 - وفي رواية عن منصور بهذا الإسناد قال جاء حبر من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث فضيل ولم يذكر ثم يهزهن وقال فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه تعجبا لما قال تصديقا له ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {وما قدروا الله حق قدره} وتلا الآية 6125 - عن عبد الله رضي الله عنه جاء رجل من أهل الكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا أبا القاسم إن الله يمسك السماوات على إصبع والأرضين على إصبع والشجر والثرى على إصبع والخلائق على إصبع ثم يقول أنا الملك أنا الملك قال فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه ثم قرأ {وما قدروا الله حق قدره} 6126 - وفي رواية عن الأعمش بهذا الإسناد غير أن في حديثهم جميعا

والشجر على إصبع والثرى على إصبع وليس في حديث جرير والخلائق على إصبع ولكن في حديثه والجبال على إصبع وزاد في حديث جرير تصديقا له تعجبا لما قال. 6127 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقبض الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض". 6128 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ثم يطوي الأرضين بشماله ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون". 6129 - عن عبيد الله بن مقسم أنه نظر إلى عبد الله بن عمر كيف يحكي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "يأخذ الله عز وجل سماواته وأرضيه بيديه فيقول أنا الله (ويقبض أصابعه ويبسطها) أنا الملك" حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه حتى إني لأقول أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم. 6130 - وفي رواية عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وهو يقول "يأخذ الجبار عز وجل سماواته وأرضيه بيديه" ثم ذكر نحو حديث يعقوب. -[المعنى العام]- يقول الله تعالى {يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين} [الأنبياء 104] ويقول {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون} [الزمر 67] مشهد واحد من مشاهد يوم القيامة مشهد رهيب تتحول فيه الأرض غير الأرض والسماوات غير السماوات وكما قال لهما في أول الخلق {ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين} [فصلت 11] يقول

لهما يوم القيامة انطويا طوعا أو كرها وكونا على إصبعين من أصابعي فتقولان أتينا طائعين منظر رهيب لكنه لا يراه إلا هو فإنه يكون بعد فناء الخلق وكل شيء هالك إلا وجهه يكون بعد فناء الملوك والجبابرة وبعد العودة إلى ما يشبه المبدأ المبدأ الذي كان الله فيه ولا شيء معه حينئذ يقول جل جلاله لمن الملك اليوم فيجيب نفسه لله الواحد القهار -[المباحث العربية]- (إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة) "العظيم" تصلح عظم قدر وعظم مقدار أما السمين فلا تصلح عظم قدر ومكانة إلا على المجاز والاستعارة ومن هنا ذهب بعض العلماء إلى أن الموازنة في القدر والمنزلة فصاحب المنزلة والسطوة في الدنيا قد يكون لا قدر له ولا منزلة في الآخرة وبعضهم ذهب إلى أن الموازنة في الكمية والمقدار فضخم الجثة في الدنيا قد يكون هزيل الجسم يوم القيامة لا يزن جناح بعوضة وهذا القول الثاني لا يصح لأن الأجسام لا أثر لها والعبرة بالأعمال (اقرءوا {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا} [الكهف 105]) ونفي الوزن مستعمل بكثرة في نفي القيمة والمكانة (جاء حبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم) "الحبر" بفتح الحاء وسكون الباء العالم وغلب هذا إذا أطلق على عالم أهل الكتاب قال تعالى {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله} [التوبة 31] (إن الله يمسك السماوات يوم القيامة على أصبع والأرضين على إصبع والجبال والشجر على إصبع والماء والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع ثم يهزهن فيقول أنا الملك أنا الملك) قال النووي هذا من أحاديث الصفات وقد سبق فيها المذهبان التأويل والإمساك عنه مع الإيمان بها مع اعتقاد أن الظاهر منها غير مراد فعلى قول المتأولين يتأولون الأصابع هنا على الاقتدار أي يقتدر على هذه الأجرام الكبرى كما لو كانت على طرف أصبع بلا ملل ولا تعب والناس يذكرون الإصبع في مثل هذا للمبالغة والاحتقار فيقول أحدهم بإصبعي أقتل زيدا أي لا كلفة علي في قتله ويحتمل أن المراد أصابع بعض مخلوقاته وهذا غير ممتنع والمقصود أن يد الجارحة مستحيلة اهـ والمراد من "هزهن" المبالغة في السهولة وعظم القدرة وانظر جعل الجبال والشجر على إصبع مع أنها من الأرض وجعل الماء والثرى على إصبع مع أنها من الأرض والأرض بكمالها بما فيها وما عليها لا تعدل شيئا بجوار المجرات والسموات فلو وضعت على إصبع كانت كذرة رمل مما يرشح أن الكلام على التمثيل وانظر الآية الكريمة المعبرة عن هذا المعنى والمستشهد بها عليه أو المردود بها عليه

قال النووي ظاهر الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم صدق الحبر في قوله إن الله تعالى يقبض السماوات والأرضين والمخلوقات بالأصابع ثم قرأ الآية التي فيها الإشارة إلى نحو ما يقول وقال القاضي عياض وقال بعض المتكلمين ليس ضحكه صلى الله عليه وسلم وتعجبه وتلاوته الآية تصديقا للحبر بل هو رد لقوله وإنكار وتعجب من سوء اعتقاده فإن مذهب اليهود التجسيم ففهم منه ذلك وقول الراوي "تصديقا له" إنما هو على ما فهم والأول أظهر وفي الرواية الخامسة "يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ثم يطوي الأرضين بشماله ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون" وفي الرواية السادسة "يأخذ الله عز وجل سماواته وأرضيه بيديه فيقول أنا الله ويقبض أصابعه ويبسطها" قال النووي قال العلماء المراد بـ "يقبض أصابعه ويبسطها" النبي صلى الله عليه وسلم وأما إطلاق اليدين لله تعالى فمتأول على القدرة وكنى عن ذلك باليدين لأن أفعالنا تقع باليدين فخوطبنا بما نفهمه ليكون أوكد وأوضح في النفوس وذكر اليمين والشمال حتى يتم المثال لأنا نتناول باليمين ما نكرمه وبالشمال ما دونه ولأن اليمين في حقنا يقوي لما لا يقوي له الشمال ومعلوم أن السماوات أعظم من الأرض فأضافها إلى اليمين والأرضين إلى الشمال ليظهر التقريب في الاستعارة وإن كان الله سبحانه وتعالى لا يوصف بأن شيئا أخف عليه من شيء ولا أثقل من شيء قال القاضي وفي هذا الحديث ثلاثة ألفاظ "يقبض" و"يطوي" و"يأخذ" وكلها بمعنى الجمع لأن السماوات مبسوطة والأرضين مدحوة وممدودة ثم يرجع ذلك إلى معنى الرفع والإزالة وتبديل الأرض غير الأرض والسماوات فعاد كله إلى ضم بعضها إلى بعض ورفعها وتبديلها بغيرها قال وقبض النبي صلى الله عليه وسلم أصابعه وبسطها تمثيل لقبض هذه المخلوقات وجمعها بعد بسطها وحكاية للمبسوط والمقبوض وهو السماوات والأرضون لا إشارة إلى القبض والبسط الذي هو صفة القابض والباسط سبحانه وتعالى ولا تمثيل لصفة الله تعالى السمعية المسماة باليد التي ليست بجارحة (حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه حتى إني لأقول أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم) "من أسفل شيء منه" أي من أسفله إلى أعلاه لأنه بحركة الأسفل يتحرك الأعلى ويحتمل أن تحركه بحركة النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الإشارة قال القاضي ويحتمل أن يكون بنفسه هيبة لسمعه كما حن الجذع ثم قال والله أعلم بمراد نبيه صلى الله عليه وسلم فيما ورد في هذه الأحاديث من مشكل ونحن نؤمن بالله تعالى وصفاته ولا نشبه شيئا به ولا نشبهه بشيء {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى 11] وما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت عنه فهو حق وصدق فما أدركنا علمه فبفضل الله تعالى وما خفي علينا آمنا به ووكلنا علمه إليه سبحانه وتعالى وحملنا لفظه على ما احتمل في لسان العرب الذي خوطبنا به

-[فقه الحديث]- 1 - في هذه الأحاديث أن موازين الدنيا تختلف كلية عن موازين الآخرة 2 - وأن في الكتب السماوية السابقة ما يؤيد القرآن الكريم في بعض أمور الآخرة 3 - وأن أحبار أهل الكتاب كانوا يعرفون صدق محمد صلى الله عليه وسلم 4 - وفيها بعض أهوال يوم القيامة والله أعلم

(768) باب ابتداء الخلق وخلق آدم عليه السلام

(768) باب ابتداء الخلق وخلق آدم عليه السلام 6131 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال "خلق الله عز وجل التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الإثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل" قال إبراهيم حدثنا البسطامي (وهو الحسين بن عيسى) وسهل بن عمار وإبراهيم ابن بنت حفص وغيرهم عن حجاج بهذا الحديث. -[المعنى العام]- خلق الله الأرض ثم دحاها ثم أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها كانت الأرض كرة من نار فبرد سطحها وصار حجرا وترابا وماء لتقوم عليها الحياة وهذا الحديث يرتب خلق بعض ما على الأرض فيبدأ بالتراب وهو أول ما تخلفه النار ثم يتجمد فيصير جبالا ثم ينبت في التراب مع الماء الشجر ثم ينعكس ضوء الشمس على الأرض فيكون النور ثم تخلق الدواب ثم مخلوقات أخرى ثم تتوج مخلوقات الأرض بآدم عليه السلام ثم تأخذ الأرض زخرفها وتتزين على يد بني آدم فيظنون أنهم قادرون عليها فيأتيها أمر الله ليلا أو نهارا فيجعلها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك يفصل الآيات لقوم يعلمون -[المباحث العربية]- (وخلق المكروه يوم الثلاثاء) قال النووي كذا رواه ثابت بن قاسم قال وهو ما يقوم به المعاش ويصلح به التدبير كالحديد وغيره من جواهر الأرض (وخلق النور يوم الأربعاء) كذا هو في صحيح مسلم "النور" بالراء وروايات ثابت بن قاسم "النون" بالنون في آخره قال القاضي وكذا رواه بعض رواة صحيح مسلم وهو الحرث ولا منافاة أيضا كلاهما خلق يوم الأربعاء وفي الأربعاء ثلاث لغات بفتح الهمزة وكسر الباء وفتحها وضمها وجمعه أربعاوات وحكى أيضا أرابيع

-[فقه الحديث]- في الحديث إشارة إلى خلق بعض المخلوقات على الأرض ولا يتعلق بالإيمان بهذا الترتيب وجوب ولا ندب لأنه قابل للتوجيه والتأويل والله أعلم.

(769) باب صفة الأرض يوم القيامة ونزل أهل الجنة

(769) باب صفة الأرض يوم القيامة ونزل أهل الجنة 6132 - عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس فيها علم لأحد". 6133 - عن عائشة رضي الله عنها قالت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله عز وجل {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات} فأين يكون الناس يومئذ يا رسول الله فقال "على الصراط". 6134 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يكفؤها الجبار بيده كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة" قال فأتى رجل من اليهود فقال بارك الرحمن عليك أبا القاسم ألا أخبرك بنزل أهل الجنة يوم القيامة قال "بلى" قال تكون الأرض خبزة واحدة (كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال فنظر إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضحك حتى بدت نواجذه قال ألا أخبرك بإدامهم قال "بلى" قال إدامهم بالام ونون قالوا وما هذا قال ثور ونون يأكل من زائدة كبدهما سبعون ألفا -[المعنى العام]- يقول الله تعالى {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات} [إبراهيم 48] ويقول {وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت} [الانشقاق 3، 4] وسواء كانت أرض الآخرة خلقا جديدا في ذاتها وجرمها وصفاتها أو كانت هي كوكبنا تجدد خلقها وتغيرت صفاتها فإن أرض الآخرة ستكون مستوية كرغيف الخبز {لا ترى فيها عوجا ولا أمتا} [طه 107] ولا جبالا ولا بحارا كلوح مسبوك من الفضة وكذلك ما كان عليها من حيوان ومرعى وطعام سيتغير ويتبدل ويعيش الثور بغير مرعى والحوت

بغير ماء ويكون منهما أول طعام يطعمه أهل الجنة قدرة الله وحكمة الله ومشيئة الله وأمر الله {إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} [يس 82] -[المباحث العربية]- (يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء) بفتح العين وسكون الفاء أي بيضاء مائلة إلى الحمرة وقيل العفر بياض ليس بناصع وقيل خالصة البياض (كقرصة النقى) بفتح النون وكسر القاف أي الدقيق النقي من الغش والنخال (ليس فيها علم لأحد) في رواية البخاري "ليس فيها معلم لأحد" والمعلم بفتح الميم واللام بينهما عين ساكنة هو الشيء الذي يستدل به على الطريق من سكن أو بناء أو أثر أو جبل أو صخرة بارزة {يوم تبدل الأرض غير الأرض} قيل تبديلها تغيير ذاتها وصفاتها وظاهر الحديث السابق يؤيده ويؤيده ما أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد والطبري في تفاسيرهم والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن مسعود قال "تبدل الأرض أرضا كأنها فضة لم يسفك فيها دم حرام ولم يعمل عليها خطيئة" وفي رواية عنه عند الحاكم "أرض بيضاء كأنها سبيكة فضة" وعن عكرمة قال "بلغنا أن هذه الأرض يعني أرض الدنيا تطوى وإلى جنبها أخرى يحشر الناس منها إليها" وقيل تغير صفاتها فقط ويؤيده حديث " {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات} فيبسطها ويسطحها ويمدها مد الأديم لا ترى فيها عوجا ولا أمتا" ويؤيده قوله تعالى {وإذا الأرض مدت} وقيل يزاد فيها وينقص منها ويذهب آكامها وجبالها وأوديتها وشجرها" والله أعلم (فأين يكون الناس يومئذ يا رسول الله) أي في لحظات التبديل (فقال على الصراط) وفي رواية للترمذي "على جسر جهنم" ولأحمد "على متن جهنم" وفي رواية "يكونون في الظلمة دون الجسر" وجمع بينها البيهقي بأن المراد بالجسر الصراط (تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يكفؤها الجبار بيده كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر) قال النووي الخبزة بضم الخاء هي الطلمة التي توضع في الملة اهـ و"الطلمة" بضم الطاء وسكون اللام العجين بعد البسط والنضج بالنار و"الملة" بفتح الميم واللام المشددة التراب الحار والجمر وهذا تفسير أهل اللغة نقله النووي ولو أنه قال الخبزة معروفة لكفانا و"يكفؤها" بالهمزة وروى في غير مسلم "يتكفؤها" بالهمز أيضا وخبزة المسافر هي التي يجعلها في الملة ويكتفؤها بيديه أي يميلها من يد إلى يد حتى تجتمع وتستوي لأنها ليست منبسطة كالرقاقة ونحوها ومعنى الحديث أن الله يجعل الأرض كالرغيف العظيم

(نزلا لأهل الجنة) النزل ما يقدم للضيف أول نزوله من طعام عاجل والمعنى أن الله يجعل الأرض أو بعضها رغيفا يأكل منه أهل الجنة والله على كل شيء قدير وصدق هذا حبر اليهود (قال ألا أخبرك بإدامهم) الإدام ما يؤكل مع الخبز من لحم ومطبوخ وجبن وغيرها (إدامهم بالام ونون قالوا وما هذا قال ثور ونون يأكل من زائدة كبدهما سبعون ألفا) قال النووي النون هو الحوت باتفاق العلماء وأما "بالام" فبالباء المفتوحة وتخفيف للام وميم مرفوعة غير منونة وفي معناها أقوال مضطربة الصحيح منها الذي اختاره القاضي وغيره من المحققين أنها لفظة عبرانية معناها بالعبرانية "ثور" وفسره بهذا ولهذا سألوا اليهودي عن تفسيرها ولو كانت عربية لعرفتها الصحابة ولم يحتاجوا إلى سؤاله عنها فهذا هو المختار في بيان هذه اللفظة وقال الخطابي لعل اليهودي أراد التعمية عليهم فقطع الهجاء وقدم أحد الحرفين على الآخر وهي لام ألف وياء يريد "لأي" على وزن "لعا" وهو الثور الوحشي فصحف الراوي الياء فجعلها باء قال الخطابي هذا أقرب ما يقع فيه وأما زائدة الكبد فهي القطعة المنفردة المتعلقة في الكبد وهي أطيبها وأما قوله "يأكل منه سبعون ألفا" فقال القاضي يحتمل أنهم السبعون ألفا الذين يدخلون الجنة بلا حساب فخصوا بأطيب النزل ويحتمل أنه عبر بالسبعين ألفا عن العدد الكثير -[فقه الحديث]- فيه أرض المحشر وصفتها ونزل أهل الجنة وأن علماء اليهود يعرفون من كتبهم كثيرا من أحوال الآخرة والله أعلم.

(770) باب سؤال اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح وقوله تعالى {ويسألونك عن الروح}

(770) باب سؤال اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح وقوله تعالى {ويسألونك عن الروح} 6135 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم "لو تابعني عشرة من اليهود لم يبق على ظهرها يهودي إلا أسلم". 6136 - عن عبد الله رضي الله عنه قال بينما أنا أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث وهو متكئ على عسيب إذ مر بنفر من اليهود فقال بعضهم لبعض سلوه عن الروح فقالوا ما رابكم إليه لا يستقبلكم بشيء تكرهونه فقالوا سلوه فقام إليه بعضهم فسأله عن الروح قال فأسكت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليه شيئا فعلمت أنه يوحى إليه قال فقمت مكاني فلما نزل الوحي قال {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} 6137 - وفي رواية عن عبد الله رضي الله عنه قال كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث بالمدينة بنحو حديث حفص غير أن في حديث وكيع {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} وفي حديث عيسى بن يونس وما أوتوا من رواية ابن خشرم. 6138 - وفي رواية عن عبد الله رضي الله عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم في نخل يتوكأ على عسيب ثم ذكر نحو حديثهم عن الأعمش وقال في روايته {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} -[المعنى العام]- إن اليهود وأعداء الإسلام كانوا يحاولون معارضة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعجيزه بأسئلة يعدونها وما

ادعى صلى الله عليه وسلم أنه يعلم كل شيء وإنما كان كثيرا ما يقول إنما أنا بشر يوحى إليه ولقد كان في كتب الأولين معلومات لم تصل إليه صلى الله عليه وسلم فكان إذا سئل عن شيء منها هو يعلمه أجاب وإن سئل عن شيء منها لا يعلمه انتظر الوحي وكان من أسئلة اليهود سؤال عن أصحاب الكهف وسؤال عن ذي القرنين وسؤال عن الروح وجاءت الإجابة في القرآن الكريم بالشرح والتفصيل لبعض الأسئلة وبقدر الإفادة الكافية للبعض الثاني وبفطم النفس عن البحث عما هو فوق طاقتها للبعض الثالث ومن هذا الأخير السؤال عن الروح وهي سر الله في الكائنات الحية وجودها في الجسم علامة حياته وبعدها عن الجسم علامة عدم الحياة -[المباحث العربية]- (لو تابعني عشرة من اليهود لم يبق على ظهرها يهودي إلا أسلم) الضمير في "ظهرها" للأرض وإن لم يسبق له ذكر اعتمادا على العلم قال صاحب التحرير المراد عشرة من أحبارهم اهـ فقد آمن عشرة من عوامهم ولم يؤمن جميعهم وفي هذا إشارة إلى أنهم مقلدون تابعون لأحبارهم في الحق وغير الحق وأن مسئولية عدم إيمانهم تقع أولا وبالذات على علمائهم (بينما أنا أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث) قال النووي بثاء وهو موضع الزرع وهو مراده بقوله في الملحق الثاني للرواية الثانية "في نخل" واتفقت نسخ صحيح مسلم على أنه "حرث" وكذا رواه البخاري في مواضع ورواه في أول الكتاب في باب {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} بلفظ "خرب" بالباء والخاء أي خراب قال العلماء الأول أصوب وللآخر وجه ويجوز أن يكون الموضع فيه الوصفان اهـ وفي رواية ابن مروديه "في حرث للأنصار" وفي الملحق الأول "في حرث بالمدينة" قال الحافظ وهذا يدل على أن نزول الآية وقع بالمدينة لكن روى الترمذي عن ابن عباس قال "قالت قريش لليهود أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل فقالوا سلوه عن الروح فسألوه فأنزل الله تعالى {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي} قال ويمكن الجمع بتعدد النزول أو يحمل سكوته في المرة الثانية على توقع مزيد بيان وفي حالة عدم قبول الجمع فما في الصحيح أصح اهـ (وهو متكئ على عسيب) في رواية للبخاري وفي الملحق الثاني لروايتنا الثانية "وهو يتوكأ" أي يعتمد في مشيته والعسيب بوزن العظيم الجريدة التي لا خوص فيها (إذ مر بنفر من اليهود فقال بعضهم لبعض) في رواية للبخاري "إذ مر اليهود" برفع اليهود وفي رواية للطبري "إذ مررنا على يهود" ويحمل هذا الخلاف على أن الفريقين تلاقوا فيصدق أن كلا مر بالآخر

(فقال بعضهم لبعض سلوه عن الروح فقالوا ما رابكم إليه لا يستقبلكم بشيء تكرهونه فقالوا سلوه فقام إليه بعضهم فسأله عن الروح) قال النووي هكذا في جميع النسخ "ما رابكم إليه" أي ما دعاكم إلى سؤاله أو ما شككم فيه حتى احتجتم إلى سؤاله أو ما دعاكم إلى سؤال تخشون سوء عقباه اهـ وقال الخطابي الصواب "ما أربكم" بتقديم الهمزة وفتحتين من الأرب وهو الحاجة وفي رواية للبخاري "فقام رجل منهم فقال يا أبا القاسم ما الروح" وفي رواية عند الطبري "فقالوا أخبرنا عن الروح" قال ابن التين اختلف الناس في المراد بالروح المسئول عنه في هذا الخبر على أقوال الأول روح الإنسان الثاني روح الحيوان الثالث جبريل الرابع عيسى الخامس القرآن السادس الوحي السابع ملك يقوم وحده صفا يوم القيامة الثامن ملك له أحد عشر ألف جناح ووجه التاسع خلق كخلق بني آدم لهم روح يأكلون ويشربون اهـ أما ألفاظ الروح الواردة في القرآن فمنها {نزل به الروح الأمين} [الشعراء 193] {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا} [الشورى 52] {يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده} [غافر 15] {وأيدهم بروح منه} [المجادلة 22] {يوم يقوم الروح والملائكة صفا} [النبأ 38] {تنزل الملائكة والروح فيها} [القدر 4] فالأول جبريل والثاني القرآن والثالث الوحي والرابع القوة والخامس والسادس محتمل لجبريل ولغيره وأطلق روح الله على عيسى وثبت عن ابن عباس أنه كان لا يفسر الروح أي لا يعين المراد به والأكثرون على أن اليهود سألوا عن الروح التي تكون بها الحياة في الجسد وقال أهل النظر سألوه عن كيفية مسلك الروح في البدن وامتزاجه به وهذا هو الذي استأثر الله بعلمه وقال القرطبي الظاهر أنهم سألوه عن روح الإنسان لأن اليهود لا تعترف بأن عيسى روح الله ولا تجهل أن جبريل ملك وأن الملائكة أرواح وقال الفخر الرازي المختار أنهم سألوه عن الروح الذي هو سبب الحياة وأن الجواب وقع على أحسن الوجوه وبيانه أن السؤال عن الروح يحتمل عن ماهيتها وهل هي متميزة أم لا وهل هي حالة في متميز أم لا وهل هي قديمة أو حادثة وهل تبقى بعد انفصالها من الجسد أو تفنى وما حقيقة تعذيبها وتنعيمها وغير ذلك من متعلقاتها قال وليس في السؤال ما يخصص أحد هذه المعاني إلا أن الأظهر أنهم سألوه عن حقيقتها عن الماهية والجواب يدل على أنها شيء موجود مغاير للطبائع والأخلاط وتركيبها فهو جوهر بسيط مجرد لا يحدث إلا بمحدث وهو الله تعالى بقوله "كن" اهـ فكأنه قال هي موجودة محدثة بأمر الله وتكوينه ولها تأثير في إفادة الحياة للجسد ولا يلزم من عدم العلم بكيفيتها المخصوصة نفيها وفي الروح لغتان تذكيرها وتأنيثها (فأسكت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليه شيئا) أي سكت وقيل أطرق وقيل أعرض عنه وفي البخاري "فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليهم" زاد في رواية له "فقام متوكئا على العسيب وأنا خلفه" (فعلمت أنه يوحى إليه) في رواية للبخاري "فظننت أنه يوحى إليه" وفي أخرى له "فقلت إنه يوحى إليه" وإطلاق العلم على الظن مشهور وكذا إطلاق القول على ما يقع في النفس وفي رواية "فقام وحنى من رأسه فظننت أنه يوحى إليه"

(فقمت مكاني) وفي رواية للبخاري "فقمت مقامي" وفي أخرى له "فتأخرت عنه" أي أدبا معه لئلا يتشوش بقربي منه (فلما نزل الوحي قال) في رواية للبخاري "حتى صعد الوحي فقال" وفي رواية له "فقمت فلما انجلى قال" {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} قال الإسماعيلي يحتمل أن يكون جوابا وأن الروح من جملة أمر الله وأن يكون المراد أن الله اختص بعلمه ولا سؤال لأحد عنه وفي ملحق الرواية "وما أوتوا من العلم إلا قليلا" و"إلا قليلا" استثناء من "العلم" أي إلا علما قليلا وقيل الاستثناء من الإعطاء أي إلا إعطاء قليلا وقيل الاستثناء من ضمير المخاطبين إلا قليلا منكم -[فقه الحديث]- قال المازري الكلام في الروح والنفس مما يغمض ويدق ومع هذا أكثر الناس فيه الكلام وألفوا فيه التآليف وقال أبو الحسن الأشعري هو النفس الداخل والخارج وقال ابن الباقلاني هو متردد بين هذا الذي قاله الأشعري وبين الحياة وقيل هو جسم لطيف مشارك للأجسام الظاهرة والأعضاء الظاهرة وقال الجمهور هي معلومة واختلفوا فيها على هذه الأقوال قال النووي وليس في الآية دليل على أنها لا تعلم ولا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلمها وإنما أجاب بما في الآية الكريمة لأنه كان عندهم أنه إن أجاب بتفسير للروح فليس بنبي 1 - وفي الحديث أن العالم مهما أوتي من العلم فعلمه قليل وعليه أن يقول دائما رب زدني علما 2 - وفيه جواز سؤال العالم في حال قيامه ومشيه إذا كان لا يثقل ذلك عليه 3 - وفيه أدب الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم 4 - والعمل بما يغلب على الظن 5 - والتوقف عن الجواب بالاجتهاد لمن يتوقع النص 6 - وأن بعض المعلومات قد استأثر الله بعلمه حقيقة 7 - وما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم حين يسأل عما لم ينزل عليه والله أعلم.

(771) باب في مواقف للكفار والرد عليهم الذي قال لأوتين مالا وولدا - وإن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى - الدخان - انشقاق القمر - ادعاء الند والولد

(771) باب في مواقف للكفار والرد عليهم الذي قال لأوتين مالا وولدا - وإن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى - الدخان - انشقاق القمر - ادعاء الند والولد 6139 - عن خباب قال كان لي على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه فقال لي لن أقضيك حتى تكفر بمحمد قال فقلت له إني لن أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث قال وإني لمبعوث من بعد الموت فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مال وولد قال وكيع كذا قال الأعمش قال فنزلت هذه الآية {أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا} إلى قوله {ويأتينا فردا} 6140 - وفي رواية عن الأعمش بهذا الإسناد نحو حديث وكيع وفي حديث جرير قال كنت قينا في الجاهلية فعملت للعاص بن وائل عملا فأتيته أتقاضاه. 6141 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال أبو جهل اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم فنزلت {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام} إلى آخر الآية 6142 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال أبو جهل هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم قال فقيل نعم فقال واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته أو لأعفرن وجهه في التراب قال فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي زعم ليطأ على رقبته قال فما فجئهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه قال فقيل له ما لك فقال إن بيني

باب الدخان

وبينه لخندقا من نار وهولا وأجنحة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا" قال فأنزل الله عز وجل لا ندري في حديث أبي هريرة أو شيء بلغه {كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى إن إلى ربك الرجعى أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى أرأيت إن كذب وتولى} يعني أبا جهل {ألم يعلم بأن الله يرى كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة فليدع ناديه سندع الزبانية كلا لا تطعه} زاد عبيد الله في حديثه قال وأمره بما أمره به وزاد ابن عبد الأعلى {فليدع ناديه} يعني قومه. باب الدخان 6143 - عن مسروق قال كنا عند عبد الله جلوسا وهو مضطجع بيننا فأتاه رجل فقال يا أبا عبد الرحمن إن قاصا عند أبواب كندة يقص ويزعم أن آية الدخان تجيء فتأخذ بأنفاس الكفار ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكام فقال عبد الله وجلس وهو غضبان يا أيها الناس اتقوا الله من علم منكم شيئا فليقل بما يعلم ومن لم يعلم فليقل الله أعلم فإنه أعلم لأحدكم أن يقول لما لا يعلم الله أعلم فإن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وسلم {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين} إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى من الناس إدبارا فقال "اللهم سبع كسبع يوسف" قال فأخذتهم سنة حصت كل شيء حتى أكلوا الجلود والميتة من الجوع وينظر إلى السماء أحدهم فيرى كهيئة الدخان فأتاه أبو سفيان فقال يا محمد إنك جئت تأمر بطاعة الله وبصلة الرحم وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم قال الله عز وجل {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم} إلى قوله {إنكم عائدون} قال أفيكشف عذاب الآخرة {يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون} فالبطشة يوم بدر وقد مضت آية الدخان والبطشة واللزام وآية الروم 6144 - عن مسروق قال جاء إلى عبد الله رجل فقال تركت في المسجد رجلا

باب انشقاق القمر

يفسر القرآن برأيه يفسر هذه الآية {يوم تأتي السماء بدخان مبين} قال يأتي الناس يوم القيامة دخان فيأخذ بأنفاسهم حتى يأخذهم منه كهيئة الزكام فقال عبد الله من علم علما فليقل به ومن لم يعلم فليقل الله أعلم من فقه الرجل أن يقول لما لا علم له به الله أعلم إنما كان هذا أن قريشا لما استعصت على النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف فأصابهم قحط وجهد حتى جعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد وحتى أكلوا العظام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال يا رسول الله استغفر الله لمضر فإنهم قد هلكوا فقال "لمضر إنك لجريء" قال فدعا الله لهم فأنزل الله عز وجل {إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون} قال فمطروا فلما أصابتهم الرفاهية قال عادوا إلى ما كانوا عليه قال فأنزل الله عز وجل {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم} {يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون} قال يعني يوم بدر 6145 - عن عبد الله رضي الله عنه قال خمس قد مضين الدخان واللزام والروم والبطشة والقمر 6146 - عن أبي بن كعب رضي الله عنه في قوله عز وجل {ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر} قال مصائب الدنيا والروم والبطشة أو الدخان (شعبة الشاك في البطشة أو الدخان). باب انشقاق القمر 6147 - عن عبد الله رضي الله عنه قال انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشقتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اشهدوا"

6148 - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى إذا انفلق القمر فلقتين فكانت فلقة وراء الجبل وفلقة دونه فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم "اشهدوا" 6149 - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقتين فستر الجبل فلقة وكانت فلقة فوق الجبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اللهم اشهد". 6150 - وفي رواية عن شعبة بإسناد ابن معاذ عن شعبة نحو حديثه غير أن في حديث ابن أبي عدي فقال "اشهدوا اشهدوا". 6151 - عن أنس رضي الله عنه أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر مرتين 6152 - عن أنس رضي الله عنه قال انشق القمر فرقتين وفي حديث أبي داود انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم 6153 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال إن القمر انشق على زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم

باب لا أحد أصبر على أذى من الله عز وجل

باب لا أحد أصبر على أذى من الله عز وجل 6154 - عن أبي موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله عز وجل إنه يشرك به ويجعل له الولد ثم هو يعافيهم ويرزقهم". 6155 - عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله إلا قوله "ويجعل له الولد" فإنه لم يذكره. 6156 - عن عبد الله بن قيس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله تعالى إنهم يجعلون له ندا ويجعلون له ولدا وهو مع ذلك يرزقهم ويعافيهم ويعطيهم". -[المعنى العام]- لقد لاقى الرسول صلى الله عليه وسلم وكثير من صحابته الذين أسلموا قديما أنواعا من الأذى والعنت والاضطهاد وقد خصصنا بابا سبق لما لاقاه صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين وفي هذا الباب نجد ألوانا أخرى وصورا أخرى فهذا خباب بن الأرت كان عبدا حدادا يسلم سادس ستة فيضطهده عتاة قريش ويستخدمونه في صناعة سيوفهم ولا يدفعون أجره بل يسخرون منه ويستهزئون به وبعقيدته في اليوم الآخر يذهب إلى العاص بن وائل يطلب منه أجره فيقول له لن أعطيك أجرك حتى تكفر بمحمد فيقول له خباب لن أكفر بمحمد حتى لو مت ثم بعثت فيقول له وهل هناك بعث إن هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع وما يهلكنا إلا الدهر إن صدقت يا خباب أن هناك بعثا فانتظر بأجرك يوم أبعث ويبعث مالي وأولادي فأقضيك دينك فينزل قوله تعالى {أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا ونرثه ما يقول ويأتينا فردا} [مريم 77 - 80]

وهذا أبو جهل وعصابته يسخرون من الوعيد بالعذاب فيقولون اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم فينزل القرآن الكريم بقوله تعالى {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} [الأنفال 33] ويحاول أبو جهل أن يمنع الرسول صلى الله عليه وسلم من صلاته فينزل {كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى إن إلى ربك الرجعى أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى أرأيت إن كذب وتولى ألم يعلم بأن الله يرى كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة فليدع ناديه سندع الزبانية} [العلق 6 - 18] ويطلب طغاة قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم آية كبرى حسية فينشق القمر نصفين فيقول لهم اشهدوا اشهدوا فيشهدون ثم ينكرون وهكذا نجد الكافرين يحاربون ربهم الذي خلقهم ورزقهم ويشركون به وينسبون له الند والولد ومع ذلك يملي لهم ويحلم عنهم ويرزقهم حتى إذا كان يوم القيامة عاقبهم بنار لم يروا مثلها يهون أمامها كل نعيم تنعموا به في دنياهم حتى يتمنى الواحد منهم أن يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه كلا يقولون لو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون فيقال لهم اخسئوا فيها ولا تكلمون لقد أمركم في الدنيا بكلمة سهلة أن توحدوه فعصيتم ولو رددتم لعدتم لما نهيتم عنه إنكم لظالمون -[المباحث العربية]- (عن خباب قال كان لي على العاص بن وائل دين) في ملحق الرواية "كنت قينا في الجاهلية فعملت للعاص بن وائل عملا "القين" بفتح القاف الحداد وخباب بن الأرت بتشديد التاء سبي في الجاهلية فبيع بمكة فكان مولى أم أنمار الخزاعية من السابقين إلى الإسلام قيل إنه أسلم سادس ستة وكان من المستضعفين وعذب عذابا شديدا لأجل ذلك وكان حدادا يعمل السيوف وجاهد جهادا كبيرا شهد بدرا وكل المشاهد بعدها ونزل الكوفة ومات بها سنة سبع وثلاثين والعاص والد عمرو بن العاص وكان له قدر في الجاهلية وكان من حكام قريش ولم يوفق للإسلام وكان موته بمكة قبل الهجرة (لن أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث) ليس مراده أن يكفر بعد هذه الغاية بل لن أكفر بمحمد أبدا لأنه بعد البعث لا كفران بمحمد أبدا وفي كلامه إثبات للبعث الذي ينكره العاص (قال وإني لمبعوث من بعد الموت) الكلام على الاستفهام الاستبعادي أو الإنكاري (فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مال وولد) يستهزئ ويسخر من البعث وكأنه يربط قضاء الدين بالمستحيل في نظره

{أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا ونرثه ما يقول ويأتينا فردا} [مريم 77 - 80] (قال أبو جهل اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم) نسب هذا القول إلى جماعة كثيرة من سفهاء قريش فلعله أول من قالها وتبعه الآخرون أو رضوا به فنسب إليهم فنزلت {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام} [الأنفال 33 - 34] روى ابن جرير "أنهم قالوا ذلك ثم لما أمسوا ندموا فقالوا غفرانك اللهم فأنزل الله {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} وأخرج الطبري أيضا "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فأنزل الله تعالى {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} ثم خرج إلى المدينة وبقي من بقي بمكة من المسلمين يستغفرون فأنزل الله تعالى {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} فلما خرجوا أنزل الله تعالى {وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام} فأذن الله في فتح مكة فهو العذاب الذي وعدهم الله تعالى" (عن أبي هريرة قال قال أبو جهل) هذا مرسل إذ لم يدرك أبو هريرة أبا جهل (هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم) أي بسجوده على الأرض قالوا نعم (فقال واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته أو لأعفرن وجهه في التراب فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي زعم ليطأ على رقبته) تنفيذا لتهديده أي فذهب نحوه (فما فجئهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه) بكسر الجيم ويقال أيضا "فجأهم" بفتح الجيم لغتان في رواية النسائي "فلم يفجأهم منه .... " و"ينكص" بكسر الكاف رجع على عقبيه يمشي على ورائه (قال إن بيني وبينه لخندقا من نار وهولا وأجنحة) قال النووي لهذا الحديث أمثلة كثيرة في عصمته صلى الله عليه وسلم من أبي جهل وغيره ممن أراد به ضررا (لو دنا مني لأختطفته الملائكة عضوا عضوا) عند البلاذري "نزل اثنا عشر ملكا من الزبانية رءوسهم في السماء وأرجلهم في الأرض" وفي رواية "فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم أي ما قال أبو جهل فقال لو دنا .... " إلخ (إن قاصا عند أبواب كندة يقص ويزعم أن آية الدخان تجيء فتأخذ بأنفاس الكفار ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكام) باب كندة باب من أبواب الكوفة والقاص هو

الحاكي الذي يعظ بالقصص والحكايات وظاهر مراد القاص أن آية الدخان تقع في الآخرة وأنها ستكون يوم القيامة (فقال عبد الله وجلس وهو غضبان يا أيها الناس اتقوا الله من علم منكم شيئا فليقل بما يعلم ومن لم يعلم فليقل الله أعلم فإنه أعلم لأحدكم أن يقول لما لا يعلم الله أعلم فإن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وسلم {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين} [ص 86] إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى من الناس إدبارا فقال اللهم سبع كسبع يوسف قال فأخذتهم سنة حصت كل شيء [أي استأصلته] حتى أكلوا الجلود والميتة من الجوع وينظر إلى السماء أحدهم فيرى كهيئة الدخان) إلى آخر الحديث وهكذا يرى ابن مسعود أنها في الدنيا وأنها وقعت فعلا في السنين الماضية ويستدل ابن مسعود على رأيه بقوله (أفيكشف عذاب الآخرة {يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون} [الدخان 16] فالبطشة يوم بدر وقد مضت آية الدخان والبطشة واللزام وآية الروم) واللزام المراد به قوله تعالى {فسوف يكون لزاما} [الفرقان 77] أي يكون عذابهم لازما قالوا وهو ما جرى عليهم يوم بدر من القتل والأسر وهي البطشة الكبرى (انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشقتين) في الرواية التاسعة "فكانت فلقة وراء الجبل وفلقة دونه" وفي الرواية الحادية عشرة "أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر مرتين" وفي الرواية العاشرة "فستر الجبل فلقة وكانت فلقة فوق الجبل" وجمهور العلماء على أن ذلك الانشقاق كان بمكة قبل الهجرة بنحو خمس سنين وقبيل هجرة الحبشة (لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله إنه يشرك به ويجعل له الولد ثم يعافيهم ويرزقهم) وفي الرواية الرابعة عشرة "إنهم يجعلون له ندا ويجعلون له ولدا وهو مع ذلك يرزقهم ويعافيهم ويعطيهم" قال النووي قال العلماء معناه أن الله تعالى واسع الحلم حتى على الكافر الذي ينسب إليه الولد والند وقال المازري حقيقة الصبر منع النفس من الانتقام أو غيره فالصبر نتيجة الامتناع فأطلق اسم الصبر على الامتناع في حق الله تعالى لذلك قال القاضي والصبور من أسماء الله تعالى وهو الذي لا يعاجل العصاة بالانتقام وهو بمعنى الحليم في أسمائه سبحانه وتعالى والحليم هو الصفوح مع القدرة على الانتقام

-[فقه الحديث]- -[ويؤخذ من الأحاديث]- 1 - من الرواية الأولى مدى ما لاقى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأولون من العنت والقهر 2 - واستهزاء الكفار بالبعث والسخرية من المؤمنين به 3 - وأن القرآن رد عليهم بالتهديد والوعيد 4 - ومن الرواية الثالثة محاربة أبي جهل وطغيانه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم 5 - وحماية الله لرسوله ودفاعه عنه 6 - وتهديد القرآن الكريم لأبي جهل وقد أنجز الله الوعيد في بدر وبقي له الوعيد بالزبانية 7 - معجزة الدخان 8 - ومعجزة انشقاق القمر قال القاضي انشقاق القمر من أمهات معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم وقد رواها عدة من الصحابة رضي الله عنهم مع ظاهر الآية الكريمة وسياقها قال الزجاج وقد أنكرها بعض المبتدعة المضاهين المخالفي الملة وذلك لما أعمى الله قلبه ولا إنكار للعقل فيها لأن القمر مخلوق لله تعالى ويفعل فيه ما يشاء كما يفنيه ويكوره في آخر أمره وأما قول بعض الملاحدة لو وقع هذا لنقل متواترا واشترك أهل الأرض كلهم في معرفته ولم يختص بها أهل مكة فأجاب العلماء بأن هذا الانشقاق حصل في الليل ومعظم الناس نيام غافلون والأبواب مغلقة وهم متغطون بثيابهم فقل من يتفكر في السماء أو ينظر إليها إلا الشاذ النادر ومما هو مشاهد معتاد أن كسوف القمر وغيره من العجائب والأنوار الطوالع والشهب العظام وغير ذلك مما يحدث في السماء في الليل يقع ولا يتحدث بها إلا الآحاد ولا علم عند غيرهم لما ذكرناه وكان هذا الانشقاق آية حصلت في الليل لقوم سألوها واقترحوا رؤيتها فلم يتنبه غيرهم لها قالوا وقد يكون القمر كان حينئذ في بعض المجاري والمنازل التي تظهر لبعض الآفاق دون بعض كما يكون ظاهرا لقوم غائبا عن قوم كما يجد الكسوف قوم دون قوم وأهل بلد دون أهل بلد والله أعلم.

(772) باب طلب الكافر الفداء بملء الأرض ذهبا

(772) باب طلب الكافر الفداء بملء الأرض ذهبا 6157 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "يقول الله تبارك وتعالى لأهون أهل النار عذابا لو كانت لك الدنيا وما فيها أكنت مفتديا بها فيقول نعم فيقول قد أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك (أحسبه قال) ولا أدخلك النار فأبيت إلا الشرك" 6158 - وفي رواية عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله إلا قوله "ولا أدخلك النار" فإنه لم يذكره. 6159 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "يقال للكافر يوم القيامة أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدي به فيقول نعم فيقال له قد سئلت أيسر من ذلك". 6160 - عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله غير أنه قال "فيقال له كذبت قد سئلت ما هو أيسر من ذلك". 6161 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلا قال يا رسول الله كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة قال "أليس الذي أمشاه على رجليه في الدنيا قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة" قال قتادة بلى وعزة ربنا -[المعنى العام]- يقول الله تعالى {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو

افتدى به} [آل عمران 91] ويقول {يوم لا ينفع مال ولا بنون} [الشعراء 88] ويقول {يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه كلا} [المعارج 11 - 15] إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة تصغر الدنيا كلها أمام هول ما يلاقى فكيف بمن عظمت ناره واشتد عذابه إن الله تعالى سيبكت الظالمين والكافرين يوم القيامة لإيلامهم النفسي مع آلامهم الجسمية فيقول لهم لو أن لكم ملك الأرض كلها ورجعتم إلى الدنيا وطلب منكم أن تفدوا أنفسكم بما تملكون أكنتم تفدون أنفسكم بما تملكون فيقولون نعم فيقال لهم كذبتم فقد طلب منكم طلب يسير جدا ليكون فداء لعذابكم أن لا تشركوا بالله شيئا فأشركتم ولو رددتم لعدتم -[المباحث العربية]- (قد أردت منك أهون من هذا) قال النووي المراد بأردت طلبت منك وأمرتك وقد أوضحه في الروايتين الأخيرتين بقوله "قد سئلت أيسر" فيتعين تأويل "أردت" على ذلك جمعا بين الروايات لأنه يستحيل عند أهل الحق أن يريد الله تعالى شيئا فلا يقع (كذبت) معناه أن يقال له لو رددناك إلى الدنيا وكانت لك كلها أكنت تفتدي بها فيقول نعم فيقال له كذبت قد سئلت أيسر من ذلك فأبيت ويكون هذا من معنى قوله تعالى {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} [الأنعام 28] ولا بد من هذا التأويل ليجمع بينه وبين قوله تعالى {ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة} [الزمر 47] أي لو كان لهم يوم القيامة ما في الأرض جميعا ومثله معه وأمكنهم الافتداء لافتدوا -[فقه الحديث]- قال النووي مذهب أهل الحق أن الله تعالى مريد لجميع الكائنات خيرها وشرها ومنها الإيمان والكفر فهو سبحانه وتعالى مريد لإيمان المؤمن ومريد لكفر الكافر خلافا للمعتزلة في قولهم إنه أراد إيمان الكافر ولم يرد كفره تعالى الله عن قولهم الباطل فإنه يلزم من قولهم إثبات العجز في حقه سبحانه وأنه وقع في ملكه ما لم يرده قال وأما هذا الحديث فقد بينا تأويله وأن المراد من "أردت منك" أمرتك بدلالة الروايات الأخرى قال وفي هذا الحديث دليل على أنه يجوز أن يقول الإنسان الله يقول وقد أنكره بعض السلف وقال يكره أن يقول الله يقول وإنما يقال قال الله والصواب جوازه وبه قال عامة العلماء من السلف والخلف وبه جاء القرآن العزيز في قوله تعالى {والله يقول الحق} [الأحزاب 4] وفي الصحيحين أحاديث كثيرة مثل هذا.

(773) باب جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة وتعجيل جزاء حسنات الكافر في الدنيا

(773) باب جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة وتعجيل جزاء حسنات الكافر في الدنيا 6162 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة ثم يقال يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط هل مر بك نعيم قط فيقول لا والله يا رب ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط هل مر بك شدة قط فيقول لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط". 6163 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها". 6164 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة من الدنيا وأما المؤمن فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة ويعقبه رزقا في الدنيا على طاعته". -[المعنى العام]- يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة واختير الأنعم لأن غير الأنعم سيكون جوابه كجوابه من باب أولى أما أن الجنة لمن آمن والنار لمن كفر وإن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فهو أمر مقرر وما يعطاه الكافر من نعيم في الدنيا من مال وصحة وولد وراحة بال وعلو منصب ورفعة مقدار إنما هو في مقابل ما يعمل من حسنات فإذا لم يكن قدم شيئا من الحسنات فنعيمه الدنيوي يزيد من عذابه الأخروي أما إذا نعم في الدنيا فما له في الآخرة من نصيب ويقال له أذهبت طيباتك في حياتك الدنيا واستمتعت بها فاليوم تجزى عذاب الهون

-[المباحث العربية]- (فيصبغ في النار صبغة) أي يغمس في النار غمسة والصبغة بفتح الصاد الغمسة (هل مر بك نعيم قط فيقول لا والله يا رب) لأنه أمام العذاب ينسى كل نعيم سابق (ويؤتى بأشد الناس بؤسا) بالهمز وهو الشدة (فيصبغ صبغة في الجنة) أي يمر به نسيم الجنة فينسى كل شقاء مر به في الدنيا (إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة) وقد يحفظ الجزاء كله له للآخرة (وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها) أي ولا يظلم كافرا حسنة فكل حسنة يعملها لله يجزى بها نعيما ومتعه في الدنيا من غنى أو صحة أو أولاد أو نحو ذلك -[فقه الحديث]- قال النووي أجمع العلماء على أن الكافر الذي مات على كفره لا ثواب له في الآخرة ولا يجازى فيها بشيء من عمله في الدنيا متقربا به إلى الله تعالى وصرح في هذا الحديث بأنه يطعم في الدنيا بما عمله من الحسنات أي مما فعله متقربا به إلى الله تعالى مما لا يفتقر إلى النية كصلة الرحم والصدقة والعتق والضيافة وتسهيل الخيرات ونحوها وأما المؤمن فيدخر له حسناته وثواب أعماله في الآخرة ويجزى بها ذلك أيضا في الدنيا ولا مانع من جزائه بها في الدنيا والآخرة وقد ورد الشرع به فيجب اعتقاده ثم قال وأما إذا فعل الكافر مثل هذه الحسنات ثم أسلم فإنه يثاب عليها في الآخرة على المذهب الصحيح اهـ أقول إن كان مرادهم أن الكافر لا ينتفع بما عمل من حسنات الدنيا نعيما في الآخرة فمسلم لأن حسناته الدنيوية مهما عظمت فعقوبة الكفر أعظم فلا جنة ولا نعيما وإن أرادوا أنه لا ينتفع بها في الآخرة إطلاقا ففيه نظر لأنه قد لا ينتفع بها في الدنيا فمقتضى العدل أن ينتفع بها في الآخرة تخفيفا من العذاب وليس الكفار في الآخرة في نار واحدة ودرجة تعذيب واحدة وقد علمنا أن أبا طالب يخفف عنه العذاب بما عمل في الدنيا فلا مانع من أن يخفف عنه شيئا من العذاب لقاء ما قدم.

(774) باب مثل المؤمن كالزرع ومثل المنافق والكافر كالأرزة

(774) باب مثل المؤمن كالزرع ومثل المنافق والكافر كالأرزة 6165 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تميله ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز لا تهتز حتى تستحصد". 6166 - وفي رواية عن الزهري غير أن في حديث عبد الرزاق مكان قوله تميله "تفيئه". 6167 - عن ابن كعب عن أبيه رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيئها الريح تصرعها مرة وتعدلها أخرى حتى تهيج ومثل الكافر كمثل الأرزة المجذية على أصلها لا يفيئها شيء حتى يكون انجعافها مرة واحدة". 6168 - عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيئها الرياح تصرعها مرة وتعدلها حتى يأتيه أجله ومثل المنافق مثل الأرزة المجذية التي لا يصيبها شيء حتى يكون انجعافها مرة واحدة". 6169 - وفي رواية عن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم غير أن محمودا قال في روايته عن بشر "ومثل الكافر كمثل الأرزة" وأما ابن حاتم فقال "مثل المنافق" كما قال زهير.

6170 - وفي رواية عن ابن كعب بن مالك عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو حديثهم وقال جميعا في حديثهما عن يحيى "ومثل الكافر مثل الأرزة". -[المعنى العام]- ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه ورفع له بها من درجاته وقد روى "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وجع فجعل يتقلب على فراشه ويشتكي فقالت له عائشة لو صنع هذا بعضنا لوجدت عليه فقال إن الصالحين يشدد عليهم وإنه لا يصيب المؤمن نكبة شوكة فما فوقها إلا كتب الله له بها حسنة ورفع له بها درجة" وهكذا نجد الأحاديث الصحيحة صريحة في ثبوت الأجر بمجرد حصول المصيبة وأما الصبر والرضا فقدر زائد يمكن أن يثاب عليه زيادة على ثواب المصيبة وقد فتح الله للمسلم أبواب تكفير السيئات ورفع الدرجات فكان حال المسلم خيرا كله إن أصابته نعماء فشكر كان خيرا له وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له فالمؤمن حيث جاءه أمر الله انطاع له أما الكافر والفاجر والمنافق فقد يمدهم الله بالنعم الكثيرة مدا لكنه كما قال جل شأنه {ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين} [آل عمران 178] وكثيرا لا يتفقد الله الكافر باختباره بل يهيئ له التيسير في الدنيا ليتعسر عليه الحال في المعاد حتى إذا أراد إهلاكه قصمه فيكون موته أشد عذابا عليه -[المباحث العربية]- (مثل المؤمن كمثل الزرع) المثل هنا يراد به الصفة أي صفة المؤمن كصفة الزرع أي صاحب العود الضعيف اللين وفي الرواية الثانية والثالثة "مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع" و"الخامة" بالميم المخففة الطاقة والقصبة اللينة من الزرع وألفها منقلبة عن واو

(لا يزال الريح تميله) أي تميل الزرع يمينا وشمالا وفي الرواية الثانية "كمثل الخامة من الزرع تفيئها الريح" أي تميلها الريح "تصرعها مرة وتعدلها أخرى" أي تخفضها مرة وترفعها أخرى "حتى تهيج" أي حتى تستوي ويكمل نضجها وتيبس وفي الرواية الثالثة "تفيئها الرياح تصرعها مرة وتعدلها" (ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء) هذه هي حالة المشبه أي شبهنا المؤمن في كثرة أمراضه وابتلائه وهمومه وأحزانه بالزرعة الضعيفة في كثرة تأثرها بالرياح (ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز لا تهتز حتى تستحصد) بفتح التاء الأولى والثانية وكسر الصاد قال النووي كذا ضبطناه وكذا نقله القاضي عن رواية الأكثرين أي يقوم بها الحصد وعن بعضهم بضم أوله وفتح الصاد على ما لم يسم فاعله أي حتى يقع عليها الحصد قال والأول أجود أي لا تتغير حتى تنقلع مرة واحدة وفي الرواية الثانية "ومثل الكافر" وفي رواية للبخاري "ومثل الفاجر" والأرزة بفتح الهمزة وراء ساكنة ثم زاي قال النووي هذا هو المشهور في ضبطها وهو المعروف في الروايات وكتب الغريب وذكر الجوهري وصاحب نهاية الغريب أنها تقال أيضا بفتح الراء وقال بعضهم هي الآرزة بالمد وكسر الراء على وزن الفاعلة وأنكرها أبو عبيد وقد قال أهل اللغة الآرزة بالمد هي الثابتة قال النووي وهذا المعنى صحيح هنا فإنكار أبي عبيد محمول على إنكار روايتها كذلك لا إنكار صحة معناها قال أهل اللغة والغريب الأرز شجر معروف يقال له الأرزن يشبه شجر الصنوبر بفتح الصاد يكون بالشام وبلاد الأردن وقيل هو الصنوبر وفي الرواية الثانية "ومثل الكافر كمثل الأرزة المجذبة على أصلها" أي الثابتة المنتصبة على جذرها و"مجذبة" بضم الميم وسكون الجيم وكسر الذال وفتح الباء يقال جذب يجذب وأجذب يجذب (لا يفيئها شيء حتى يكون انجعافها مرة واحدة) والانجعاف الانقلاع -[فقه الحديث]- المؤمن كثير الآلام في بدنه وأهله وماله وذلك مكفر لسيئاته ورافع لدرجاته وأما الكافر فقليل الآلام وإن وقع به شيء لم يكفر شيئا من سيئاته بل يأتي بها يوم القيامة كاملة وهذه الحال هي الغالبة والكثيرة في حال الاثنين وفي الحديث تشبيه المعقول بالمحسوس للإيضاح وليستقر في النفس فضل استقرار والله أعلم.

(775) باب مثل المؤمن مثل النخلة

(775) باب مثل المؤمن مثل النخلة 6171 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنها مثل المسلم فحدثوني ما هي" فوقع الناس في شجر البوادي قال عبد الله ووقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت ثم قالوا حدثنا ما هي يا رسول الله قال فقال "هي النخلة" قال فذكرت ذلك لعمر قال لأن تكون قلت هي النخلة أحب إلي من كذا وكذا. 6172 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما لأصحابه "أخبروني عن شجرة مثلها مثل المؤمن" فجعل القوم يذكرون شجرا من شجر البوادي قال ابن عمر وألقي في نفسي أو روعي أنها النخلة فجعلت أريد أن أقولها فإذا أسنان القوم فأهاب أن أتكلم فلما سكتوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هي النخلة". 6173 - وفي رواية عن مجاهد قال صحبت ابن عمر إلى المدينة فما سمعته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حديثا واحدا قال كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتي بجمار فذكر بنحو حديثهما. 6174 - وفي رواية عن ابن عمر رضي الله عنهما قال أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بجمار فذكر نحو حديثهم 6175 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "أخبروني بشجرة شبه أو كالرجل المسلم لا يتحات ورقها" قال إبراهيم لعل مسلما قال وتؤتي أكلها وكذا وجدت عند غيري أيضا ولا تؤتي أكلها كل حين قال ابن عمر فوقع في نفسي أنها النخلة ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان فكرهت أن أتكلم أو أقول شيئا فقال عمر لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا.

-[المعنى العام]- أرقى أساليب التربية تحصر طرق التدريس في طريقتين الطريقة الإلقائية والطريقة الاستنباطية وقد استعملهما صلى الله عليه وسلم في التدريس لأمته فاستعمل الطريقة الإلقائية في خطبة الجمعة والعيدين والاستسقاء وفي الحج وفي المناسبات واستعمل طريقة الاستنباط والسؤال والجواب في دروس العلم وكان تاره يقول اسألوني ويجيب على أسئلتهم وتارة يسأل وينتظر جوابهم ليثير فيهم حب البحث والفهم كما في هذا الحديث وتارة يسأل ولا ينتظر الجواب بل يجيب هو وفائدة سؤاله في هذه الحالة إثارة انتباههم للجواب ليتمكن في نفوسهم ثم إنه صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يشبه المعقول بالمحسوس مستخدما وسائل الإيضاح الميسورة في البيئة وأكثر ما يشد انتباههم ويعمق استفادتهم واستيعابهم فيمثل المؤمن في أنه خير لمجتمعه ولنفسه من وجوه كثيرة بالنخلة ويقلب التشبيه المقصود فيشبه النخلة بالمؤمن ليجعل المؤمن أصلا وأقوى في وجه الشبه صلى الله وبارك على من أوتي الحكمة وفصل الخطاب -[المباحث العربية]- (إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنها مثل المسلم فحدثوني ما هي) في الرواية الثانية "أخبروني عن شجرة مثلها مثل المؤمن" وفي الملحق الثالث "أخبروني بشجرة شبه أو كالرجل المسلم لا يتحات ورقها وتؤتي أكلها" وفي رواية "ولا تؤتي أكلها كل حين" وكلمة "مثل" ضبطت بكسر الميم وسكون الثاء وبفتح الميم والثاء وهما بمعنى قال الجوهري مثله ومثله كلمة تسوية كما يقال شبهه وشبهه بمعنى ومعنى "لا يتحات ورقها" بتشديد التاء الأخيرة لا يسقط كما فى الرواية الأولى وكأن وجه الشبه بين النخلة وبين المؤمن عدم ضياع شيء منه ففي رواية عن ابن عمر رضي الله عنهما قال "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال إن مثل المؤمن كمثل شجرة لا تسقط لها أنملة أتدرون ما هي قالوا لا قال هي النخلة لا تسقط لها أنملة ولا تسقط لمؤمن دعوة" وعند المحققين أن وجه الشبه أعم من ذلك بكثير وأنه البركة وعموم النفع والبركة في النخلة في جميع أجزائها ومستمرة في جميع أحوالها فمن حين تطلع إلى أن تيبس تخرج ثمرا يؤكل في مراحل مختلفة ثم يدخر حتى النوى ينتفع به في علف الدواب والليف في الحبال والسعف والخوص وغير ذلك ما لا يخفى وكذلك بركة المسلم عامة في جميع الأحوال ونفعه مستمر له ولغيره حتى بعد موته ويؤيد هذا العموم رواية البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أخبروني بشجرة كالرجل المسلم لا يتحات ورقها ولا ... ولا .... ولا ... " كذا ذكر النفي ثلاث مرات فقيل في تفسيره "ولا ينقطع ثمرها ولا يعدم فيؤها ولا يبطل نفعها" ووقع في الملحق الثالث "لا يتحات ورقها قال إبراهيم لعل مسلما قال وتؤتي أكلها وكذا وجدت عند غيري أيضا

ولا تؤتي أكلها كل حين" قال النووي معنى هذا أنه وقع في رواية إبراهيم بن سفيان صاحب مسلم ورواية غيره أيضا من مسلم "لا يتحات ورقها ولا تؤتي أكلها كل حين" واستشكل إبرهيم بن سفيان هذا فقال لعل مسلما رواه "وتؤتي أكلها" بإسقاط "لا" وأكون أنا وغيري غلطنا في إثبات "لا" قال القاضي وغيره من الأئمة وليس هو بغلط كما توهمه إبراهيم بل الذي في مسلم صحيح بإثبات "لا" وكذا رواه البخاري بإثبات "لا" ووجهه أن لفظة "لا" ليست متعلقة بـ "تؤتي" بـ متعلقة بمحذوف تقديره لا يتحات ورقها ولا ... ولا ... أي لا يصيبها كذا ولا كذا لكن لم يذكر الراوي تلك الأشياء المعطوفة ثم ابتدأ فقال {تؤتي أكلها كل حين} اهـ وقد حاول بعض العلماء أن يعمم الشبه بين المسلم وبين النخلة فقال من جهة كون النخلة إذا قطع رأسها ماتت أو لأنها لا تحمل حتى تلقح أو لأنها تموت إذا غرقت أو لأنه لطلعها رائحة مني بني آدم أو لأنها تعشق أو لأنها تشرب من أعلاها إلى غير ذلك من أوجه الشبه وهذا القول ضعيف جدا لأن هذه الأوجه يشترك فيها جميع الآدميين وليست خاصة بالمسلم وأضعف من هذا قول من قال لكونها خلقت من فضلة طين آدم فإن الحديث في ذلك لم يثبت والله أعلم (فجعل القوم يذكرون شجرا من شجر البوادي) أي ذهبت أفكارهم إلى أشجار البوادي وكان كل إنسان يفسرها بنوع من أنواع الشجر وذهلوا عن النخلة (وألقى في نفسي أو روعي أنها النخلة) الروع بضم الراء النفس والقلب ومركز الإدراك وفي الرواية الأولى وفي الملحق الثالث "فوقع في نفسي أنها النخلة" يقال وقع الطائر على الشجرة إذا نزل عليها وقد بينت رواية أبي عوانة القرينة التي ساعدت ابن عمر على صحة ما وقع في نفسه ولفظها "فظننت أنها النخلة من أجل الجمار الذي أتى به" وفي الملحق الأول "كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتى بجمار" وفي الملحق الثاني "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجمار" (فاستحييت) في الرواية الثانية "فجعلت أريد أن أقولها فإذا أسنان القوم أي كبار السن في القوم فأهاب أن أتكلم" وفي الملحق الثالث "ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان فكرهت أن أتكلم أو أقول شيئا" وفي رواية للبخاري "فأردت أن أقول هي النخلة فإذا أنا أصغر القوم" وفي رواية أخرى للبخاري "فإذا أنا عاشر عشرة أنا أحدثهم" (ثم قالوا حدثنا ما هي يا رسول الله فقال هي النخلة) في الرواية الثانية "فلما سكتوا قال هي النخلة" (فذكرت ذلك لعمر قال لأن تكون قلت هي النخلة أحب إلي من كذا وكذا) وفي الملحق الثالث "لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا" وفي رواية "فلما قمنا قلت لعمر يا أبتاه ... " وفي رواية "فحدثت أبي بما وقع في نفسي فقال لأن تكون قلتها .... " زاد ابن حبان في صحيحه "أحسبه قال أحب إلي من حمر النعم"

-[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - امتحان العالم أذهان الطلبة بما يخفى مع بيانه لهم إن لم يفهموه وأما ما رواه أبو داود "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات" وهي صعاب المسائل فإن ذلك محمول على ما لا نفع فيه أو ما خرج على سبيل التعنت أو التعجيز 2 - وفيه إشارة إلى أن الملغز ينبغي له أن لا يبالغ في التعمية بحيث لا يجعل للملغز له بابا يدخل منه بل كلما قربه كان أوقع في نفس سامعه 3 - وأن الملغز له ينبغي أن يتفطن لقرائن الأحوال الواقعة عند السؤال 4 - وفيه التحريض على الفهم في العلم 5 - واستحباب الحياء ما لم يؤد إلى تفويت مصلحة ولهذا تمنى عمر أن يكون ابنه لم يسكت 6 - وفيه دليل على بركة النخلة وما تثمره 7 - وفيه دليل على أن بيع الجمار جائز لأن ما جاز أكله جاز بيعه 8 - وفيه دليل على جواز تجمير النخل وليس ذلك من قبيل إضاعة المال 9 - وفيه ضرب الأمثال والأشباه لزيادة الإفهام وتصوير المعاني لترسخ في الذهن 10 - وفيه توقير الكبير وتقديم الصغير أباه في القول وأنه لا يبادره بما فهمه 11 - وفيه أن العالم الكبير قد يخفى عليه بعض ما يدركه من هو دونه لأن العلم مواهب والله يؤتي فضله من يشاء 12 - واستدل به مالك على أن الخواطر التي تقع في القلب من محبة الثناء على أعمال الخير لا يقدح فيها إذا كان أصلها الله وذلك مستفاد من تمني عمر المذكور ووجه تمني عمر رضي الله عنه ما طبع عليه الإنسان من محبة الخير لنفسه ولولده ولتظهر فضيلة الولد في الفهم من صغره ليزداد من النبي صلى الله عليه وسلم حظوة ولعله كان يرجو أن يدعو له إذ ذاك بالزيادة في الفهم 13 - وفيه إشارة إلى حقارة الدنيا في عين عمر لأنه قابل فهم ابنه لمسألة واحدة بحمر النعم مع عظم مقدارها وغلاء ثمنها والله أعلم.

(776) باب تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس وأن مع كل إنسان قرينا

(776) باب تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس وأن مع كل إنسان قرينا 6176 - عن جابر رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم". 6177 - عن جابر رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "إن عرش إبليس على البحر فيبعث سراياه فيفتنون الناس فأعظمهم عنده أعظمهم فتنة". 6178 - عن جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجيء أحدهم فيقول فعلت كذا وكذا فيقول ما صنعت شيئا قال ثم يجيء أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته قال فيدنيه منه ويقول نعم أنت" قال الأعمش أراه قال "فيلتزمه". 6179 - عن جابر رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول "يبعث الشيطان سراياه فيفتنون الناس فأعظمهم عنده منزلة أعظمهم فتنة". 6180 - عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن" قالوا وإياك يا رسول الله قال "وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير".

6181 - وفي رواية عن منصور بإسناد جرير مثل حديثه غير أن في حديث سفيان "وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة". 6182 - عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم حدثته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من عندها ليلا قالت فغرت عليه فجاء فرأى ما أصنع فقال "ما لك يا عائشة أغرت" فقلت وما لي لا يغار مثلي على مثلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أقد جاءك شيطانك" قالت يا رسول الله أو معي شيطان قال "نعم" قلت ومع كل إنسان قال "نعم" قلت ومعك يا رسول الله قال "نعم ولكن ربي أعانني عليه حتى أسلم". -[المعنى العام]- بدأت المعركة بين إبليس وآدم منذ بداية خلق آدم وكانت نتيجة الجولة الأولى أن يهبطوا إلى الأرض آدم وحواء وإبليس ليحتنك إبليس وذريته آدم وذريته إلا قليلا متوعدا إبليس آدم وذريته {قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين} [الأعراف 16 - 17] وبدأت الجولة الثانية بين الفريقين وبعدد بني آدم يكون عدد الشياطين ذرية إبليس وجنوده مع كل واحد واحد قرينه وملازمه يجري منه مجرى الدم يزين له ما يغضب الله ليوقع الآدمي في المعصية ليشارك إبليس المصير والنار وبقدر نجاح الشيطان في الوسوسة والغواية يكون حب إبليس له وتقديره لجهوده وتقريبه منه واحتضانه أما من غلب من الشياطين أمام مؤمن من المؤمنين أو من عجز من الشياطين أن يصل إلى إضلال وإغواء مؤمن من المؤمنين فذاك المغضوب عليه من إبليس والمعاقب منه بشتى العقوبات وقد حذر الله تعالى المؤمنين من الشيطان فقال {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير} [فاطر 6] -[المباحث العربية]- (إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب) "المصلون" أي

المسلمون والمراد من عبادة الشيطان الكفر و"أيس" يئس وانقطع رجاؤه والمراد من الشيطان إبليس وجنوده و"إبليس" اسم أعجمي عند الأكثر وقيل مشتق من أبلس إذا أيئس وهو ممنوع من الصرف قيل سمي بذلك بعد يأسه وطرده من رحمة الله قيل كان اسمه مع الملائكة عزازيل قيل ومن أسمائه الحارث والحكم وكنيته أبو مرة وقيل كنيته أبو الكروبيين والمعنى إن إبليس وجنوده قد يئسوا من أن يردوكم كافرين بعد أن آمنتم (ولكن في التحريش بينهم) أي ولكنه لم ييأس من الإيقاع بينهم والتحريش الإغراء والتهييج يقال حرشه بفتح الراء مخففة ومشددة يحرشه بكسرها حرشا بسكونها وتحريشا ويقال حرش الدابة إذا حك ظهرها بعصا أو نحوها لتسرع وحرش الصيد هيجه ليصيده وحرش الإنسان والحيوان أغراه وحرش بين القوم أفسد والمعنى أنه يتمكن من الإفساد بينهم بالخصومات والشحناء والحروب والفتن ونحوها (إن عرش إبليس على البحر) معناه أن مركز قيادته البحر ومعلوم أن المياه ثلاثة أرباع الكرة الأرضية واليابسة الربع (فيبعث سراياه فيفتنون الناس) السرية جزء من الجيش وهذه السرايا فرق يبعثها لتساعد القرين الملازم للإنسان (فأعظمهم عنده أعظمهم فتنة) أي أعظم جنوده قيمة ومقدارا ومكانة هو الذي تعظم فتنته للمسلمين وفي الرواية الثالثة "فأدناهم منزلة أعظمهم فتنة" أي للمسلمين "يجيء أحدهم" أي أحد جنوده "فيقول فعلت كذا وكذا فيقول" له تقليلا لجهوده "ما صنعت شيئا" يذكر "قال ثم يجيء أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته قال فيدنيه منه ويقول له نعم أنت" أي الممدوح أنت وفي الرواية "فيلتزمه" أي يضمه إلى نفسه ويعانقه إعجابا بصنعه وتشجيعا لغيره وعند ابن حبان والحاكم والطبراني "إذا أصبح إبليس بث جنوده فيقول من أضل مسلما ألبسته التاج" (ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن) وفي ملحق الرواية الخامسة "إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة" وقال تعالى {قال قائل منهم إني كان لي قرين} [الصافات 51] قال مجاهد شيطان وقال تعالى {وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم} [فصلت 25] قال مجاهد شياطين (قالوا وإياك يا رسول الله) الواو عاطفة على محذوف تقديره وكل الله لكل منا قرينا صاحبنا وقرينا يصاحبك يا رسول الله (إلا أن الله أعانني عليه فأسلم) قال النووي "فأسلم" بضم الميم والفاعل ضمير المتكلم أي فأسلم أنا من شره وفتنته وبفتح الميم والفاعل ضمير الغيبة أي فأسلم هو أي القرين روايتان

مشهورتان من الإسلام وهو الظاهر أي صار مؤمنا فلا يأمرني إلا بخير وقيل من الاستسلام بمعنى فاستسلم وانقاد أي فأسلم نفسه لي وقد جاء في غير مسلم "فاستسلم" واختلفوا في الأرجح من الروايتين فقال الخطابي الصحيح المختار الرفع ورجح القاضي عياض الفتح قال النووي هو المختار لقوله صلى الله عليه وسلم "فلا يأمرني إلا بخير" -[فقه الحديث]- 1 - في الحديث أن الشيطان يصعب عليه تكفير المسلم ولكنه كثيرا ما يلجأ إلى إيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين 2 - وأن منه القرين لبني آدم يوحى إليه الشر ويزين له المنكر ويكره إليه المعروف 3 - وأن أبا الجن إبليس هو قائد الشريرين منهم 4 - وأنه يحاول بجنوده فتنة بني آدم قال تعالى {يا بني ءادم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة} [الأعراف 27] 5 - وأن جنوده يتبارون في الفساد وأن المقدم عنده من كثرت فتنته لبني آدم وعظمت 6 - وأن لرسول الله صلى الله عليه وسلم قرينا من الجن 7 - ولكنه لا يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بخير 8 - وفيه عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال القاضي واعلم أن الأمة مجتمعة على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الشيطان في جسمه وخاطره ولسانه 9 - وفي هذا الحديث التحذير من فتنة القرين ووسوسته وإغوائه فأعلمنا بأنه معنا لنحترز منه بحسب الإمكان 10 - وفي الحديث وجود الجن قال عبد الجبار المعتزلي الدليل على إثباتهم السمع دون العقل إذ لا طريق إلى إثبات أجسام غائبة لأن الشيء لا يدل على غيره من غير أن يكون بينهما تعلق ولو كان إثباتهم باضطرار ما وقع الاختلاف فيه إلا أنا قد علمنا بالاضطرار أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتدين بإثباتهم وذلك أشهر من أن يتشاغل بإيراده اهـ واختلف في صفتهم فقال أبو بكر الباقلاني قال بعض المعتزلة الجن أجساد رقيقة بسيطة وأن امتناع رؤيتنا لهم من جهة رقتها قال الحافظ ابن حجر وهو مردود فإن الرقة ليست بمانعة عن الرؤية ويجوز أن يخفى عن رؤيتنا بعض الأجسام الكثيفة إذا لم يخلق الله فينا إدراكها وروى البيهقي في مناقب الشافعي عن الشافعي أنه قال من زعم أنه يرى الجن أبطلنا شهادته إلا أن يكون نبيا اهـ

قال الحافظ وإذا ثبت وجودهم فقد اختلف في أصلهم فقيل إن أصلهم من ولد إبليس فمن كان منهم كافرا سمي شيطانا وإلا قيل له جني واختلف في تكليفهم فقال ابن عبد البر الجن عند الجماعة مكلفون وقال عبد الجبار لا نعلم خلافا بين أهل النظر في ذلك إلا ما حكي عن بعض الحشوية أنهم مضطرون إلى أفعالهم وليسوا بمكلفين قال والدليل للجماعة ما في القرآن من ذم الشياطين والتحرز من شرهم وما أعد لهم من العذاب وهذه الخصال لا تكون إلا لمن خالف الأمر وارتكب النهي مع تمكنه من أن لا يفعل وإذا تقرر كونهم مكلفين فقد اختلفوا هل كان فيهم نبي منهم أم لا والجمهور على أنه لم يكن فيهم نبي منهم قال الحافظ ابن حجر واختلف أيضا هل يأكلون ويشربون ويتناكحون أم لا فقيل بالنفي وقيل بمقابله ثم اختلفوا فقيل أكلهم وشربهم تشمم واسترواح لا مضغ ولا بلع ورجح الحافظ ابن حجر أن أكلهم بمضغ وبلع مستدلا بما رواه أبو داود من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسا ورجل يأكل ولم يسم ثم سمى في آخره فقال النبي صلى الله عليه وسلم "ما زال الشيطان يأكل معه فلما سمى استقاء ما في بطنه" وبما أخرجه مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يأكلن أحدكم بشماله ويشرب بشماله فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله" وروى ابن عبد البر عن وهب بن منبه أن الجن أصناف فخالصهم ريح لا يأكلون ولا يشربون ولا يتوالدون وجنس منهم يقع ذلك منهم قال الحافظ وهذا إن ثبت كان جامعا للقولين الأولين واستدل من قال بأنهم يتناكحون بقوله تعالى {لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان} [الرحمن 56، 74] وبقوله تعالى {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني} [الكهف 50] أما ثوابهم وعقابهم فلم يختلف من أثبت تكليفهم أنهم يعاقبون على المعاصي واختلف هل يثابون فذهب الجمهور إلى أنهم يثابون على الطاعة وهو قول الأئمة الثلاثة والأوزاعي وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وغيرهم وعن أبي حنيفة ثواب الجن أن يجاروا من النار ثم يقال لهم كونوا ترابا والله أعلم.

(777) باب لن يدخل أحدا عمله الجنة

(777) باب لن يدخل أحدا عمله الجنة 6183 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "لن ينجي أحدا منكم عمله" قال رجل ولا إياك يا رسول الله قال "ولا إياي إلا أن يتغمدني الله منه برحمة ولكن سددوا". 6184 - وفي رواية عن بكير بن الأشج بهذا الإسناد غير أنه قال "برحمة منه وفضل" ولم يذكر "ولكن سددوا". 6185 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ما من أحد يدخله عمله الجنة" فقيل ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني ربي برحمة". 6186 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم "ليس أحد منكم ينجيه عمله" قالوا ولا أنت يا رسول الله قال "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه بمغفرة ورحمة" وقال ابن عون بيده هكذا وأشار على رأسه "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه بمغفرة ورحمة" 6187 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليس أحد ينجيه عمله" قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتداركني الله منه برحمة" 6188 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لن يدخل أحدا منكم عمله الجنة" قالوا ولا أنت يا رسول الله قال "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه بفضل ورحمة"

6189 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قاربوا وسددوا واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله" قالوا يا رسول الله ولا أنت قال "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل" 6190 - وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله وزاد "وأبشروا" 6191 - عن جابر رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "لا يدخل أحدا منكم عمله الجنة ولا يجيره من النار ولا أنا إلا برحمة من الله" 6192 - عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها كانت تقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "سددوا وقاربوا وأبشروا فإنه لن يدخل الجنة أحدا عمله" قالوا ولا أنت يا رسول الله قال "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمة واعلموا أن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل" -[المعنى العام]- لو أن ملكا عنده قصر كبير من أرقى وأعظم القصور يجري من تحته الأنهار وفيه ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين لو أنه عرض عليك أن تعطيه درهما واحدا ليعطيك هذا القصر ثم أعطاك هذا الدرهم لتعطيه إياه فأعطاك القصر هل تقول إنك اشتريت هذا القصر بمالك هذا هو مثل الجنة والعمل جنة فيها كذا وكذا وكذا من النعيم الدائم الخالد في مقابل طاعة وعبادة ستين سنة مثلا ثم هو الله الذي منحنا الصحة والقوة والهداية اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا

فبماذا نأخذ جنته هل نقول بعملنا كما يقول الرجل الجاهل اشتريت القصر بدرهمي أو نقول إنها هبة وفضل ورحمة هذا الذي يقصده الحديث لن يدخل أحدكم عمله الجنة قالوا ولا أنت يدخلك عملك الجنة يا رسول الله قال ولا أنا لكن ندخل الجنة بفضل الله ورحمته وحاولوا بعملكم إرضاء ربكم لتفوزوا برحمته وعطفه وجنته -[المباحث العربية]- (لن ينجي أحدا منكم عمله) في الرواية الثانية "ما من أحد يدخله عمله الجنة" وفي الرواية الثالثة والرابعة "ليس أحدا منكم ينجيه عمله" وفي الرواية الخامسة والسابعة "لن يدخل أحدا منكم عمله الجنة" وفي الرواية السادسة "لن ينجو أحد منكم بعمله" والنجاة من النار تستلزم دخول الجنة غالبا قال تعالى {فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز} [آل عمران 185] لذلك عبرت بعض الروايات باللزوم وهو النجاة من النار وبعضها باللازم وهو دخول الجنة وفي الرواية السابعة جمعت بينهما فقالت "لا يدخل أحدا منكم عمله الجنة ولا يجيره من النار" والنجاة من الشيء معناها التخلص منه (قال رجل ولا إياك يا رسول الله) في الروايات الأخرى "قالوا" وأسند القول للمجموع والقائل واحد لموافقتهم له ورضاهم بسؤاله وفي الرواية الثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والثامنة "ولا أنت يا رسول الله" والواو عاطفة على محذوف تقديره لا يدخل أحدا عمله الجنة ولا أنت يدخلك عملك الجنة وقد تورمت من العبادة قدماك (ولا إياي إلا أن يتغمدني الله منه برحمته) في الروايات الأخرى "ولا أنا" وفي الرواية الثالثة "إلا أن يتغمدني الله منه بمغفرة ورحمة" وفي الرواية الرابعة "إلا أن يتداركني الله برحمة" وفي الرواية السادسة "إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل" والمراد بالتغمد الستر مأخوذ من غمد السيف لأنك إذا أغمدت السيف فقد ألبسته الغمد وسترته به وفي الرواية الثالثة "قال ابن عون بيده هكذا وأشار على رأسه". (ولكن سددوا) وفي الرواية الثامنة "سددوا وقاربوا" معناه اقصدوا السداد والصواب وقاربوا نهاية العبادة ولا تغلوا وتجهدوا أنفسكم فيها لئلا يفضي بكم ذلك إلى الملال فتتركوا العمل ولذلك زاد في الرواية الثامنة "واعلموا أن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل" زاد البخاري "واغدوا وروحوا وشيء من الدلجة والقصد القصد تبلغوا" والمراد بالغدو السير من أول النهار وبالرواح السير من أول النصف الثاني من النهار و"الدلجة" بضم الدال وسكون اللام ويجوز فتحها جميع الليل و"القصد" منصوب على الإغراء.

-[فقه الحديث]- قال المازري ذهب أهل السنة إلى أن إثابة الله تعالى من أطاعه بفضل منه وكذلك انتقامه ممن عصاه بعدل منه ولا يثبت واحد منهما إلا بالسمع وله سبحانه وتعالى أن يعذب الطائع وينعم العاصي ولكنه أخبر أنه لا يفعل ذلك وخبره صدق لا خلف فيه وهذا الحديث يقوي مقالتهم ويرد على المعتزلة حيث أثبتوا بعقولهم أعواض الأعمال ولهم في ذلك خبط كثير اهـ وقال النووي اعلم أن مذهب أهل السنة أنه لا يثبت بالعقل ثواب ولا عقاب ولا إيجاب ولا تحريم ولا غيرهما من أنواع التكليف ولا تثبت هذه كلها ولا غيرها إلا بالشرع ومذهب أهل السنة أيضا أن الله تعالى لا يجب عليه شيء تعالى الله بل العالم كله ملكه والدنيا والآخرة في سلطانه يفعل فيهما ما يشاء وأما المعتزلة فيثبتون الأحكام بالعقل ويوجبون ثواب الأعمال ويوجبون الأصلح ويمنعون خلاف هذا اهـ وقد استشكل على الحديث بقوله تعالى {وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون} [الزخرف 72] وجمع ابن بطال بما محصله تحمل الآية على أن الجنة تنال المنازل فيها بالأعمال فإن درجات الجنة متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال وأن يحمل الحديث على دخول الجنة والخلود فيها وأورد على هذا الجواب قوله تعالى {سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} [النحل 32] إذ ظاهره أن دخول الجنة أيضا بالأعمال وأجاب بأن في الكلام مضافا محذوفا والتقدير ادخلوا منازل الجنة بما كنتم تعملون وليس المراد بذلك أصل دخول الجنة ثم قال ويجوز أن يكون الحديث مفسرا للآية والتقدير ادخلوها بما كنتم تعملون مع رحمة الله لكم وتفضله عليكم لأن اقتسام منازل الجنة برحمته وأصل دخول الجنة هو برحمته حيث ألهم العاملين ما نالوا به ذلك ولا يخلو شيء من مجازاته لعباده من رحمته وفضله وقد تفضل عليهم ابتداء بإيجادهم ثم برزقهم ثم بتعليمهم اهـ وقال ابن الجوزي يتحصل من أوجه الجمع أربعة أجوبة الأول أن التوفيق للعمل من رحمة الله ولولا رحمة الله السابقة ما حصل الإيمان ولا الطاعة التي يحصل بها النجاة [أي الرحمة أساس التوفيق للعمل والعمل أساس دخول الجنة فالرحمة أساس دخول الجنة لأن أساس الأساس لشيء أساس لذلك الشيء أو سبب سبب الشيء سبب لذلك الشيء] الثاني أن منافع العبد لسيده فعمله مستحق لمولاه فمهما أنعم عليه من الجزاء فهو من فضله [معنى ذلك أن الرحمة هي السبب الحقيقي وأن العمل سبب شكلي ظاهري لا يستحق شيئا فأسند للسبب الحقيقي في الحديث وأسند للسبب الشكلي في الآية]

الثالث جاء في بعض الأحاديث أن نفس دخول الجنة برحمة الله واقتسام الدرجات بالأعمال [أي فالنصوص التي تسند دخول الجنة للأعمال يراد منها اقتسام منازلها والنصوص التي تسند دخول الجنة للرحمة يراد منها أصل دخولها] الرابع أن أعمال الطاعات كانت في زمن يسير والثواب لا ينفد فالإنعام الذي لا ينفد في جزاء ما ينفد بالفضل لا بمقابلة الأعمال [بمعنى أن العمل له مقابل أصلا لكن العطاء أضعاف أضعاف أضعاف ما يستحق فأسند دخول الجنة إلى الاستحقاق تارة وإلى الأضعاف تارة أخرى] وهناك أجوبة أخرى لكنها تقرب مما ذكرنا منها أن المعطي بعوض قد يعطي مجانا بخلاف المعطي بسبب فإنه لا يوجد بدون السبب فالباء في الآية للعوض وليست للسببية كما يقول المعتزلة فالحديث ينفي مقابلة دخول الجنة بالعمل إذ العمل بمجرده ولو تناهى لا يقابل دخول الجنة ولا أن يكون عوضا لها لأنه ولو وقع على الوجه الذي يحبه الله لا يقاوم نعمة الله بل جميع العمل لا يوازي نعمة واحدة فتبقى سائر نعمه مقتضية لشكرها وهو لم يوفها حق شكرها أما الجبرية فقد أنكروا أن تكون الأعمال سببا في دخول الجنة من كل وجه والقدرية زعموا أن الجنة عوض العمل وأنها ثمنه وأن دخولها بمحض الأعمال فالحديث يبطل دعوى الطائفتين وقال الحافظ ابن حجر ويظهر لي في الجمع بين الآية والحديث جواب آخر وهو أن يحمل الحديث على أن العمل من حيث هو عمل لا يستفيد به العامل دخول الجنة ما لم يكن مقبولا وإذا كان كذلك فأمر القبول إلى الله تعالى وإنما يحصل برحمة الله لمن يقبل منه وعلى هذا فمعنى قوله {ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} [النحل 32] أي تعملونه من العمل المقبول اهـ والتحقيق أن هذا القول لا يبعد كثيرا عن القول الأول لابن الجوزي غايته أن الرحمة في التوفيق لأداء العمل أو في التوفيق لقبوله والأول أدق لأن عدم قبوله مع استيفائه شروط الصحة والقبول مستبعد ويؤخذ من قول السائل ولا أنت يا رسول الله أنهم كانوا يظنون أن العمل سبب وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان عليه من شدة الخشية والتقوى وعظم الأجر لا يدخل في هذا القرار وفي قوله "ولكن سددوا" رد على من ينفي فائدة العمل واستدراك على من يفهم من العبارة الأولى النفي المذكور وكأنه قيل بل له فائدة وهو أن العمل علامة على وجود الرحمة التي تدخل العامل الجنة فاعملوا واقصدوا وتحروا بعملكم السنة من الإخلاص وغيره وفي قوله "قاربوا" الحث على الرفق في العبارة والله أعلم.

(778) باب الإكثار من الطاعة والاجتهاد في العبادة

(778) باب الإكثار من الطاعة والاجتهاد في العبادة 6193 - عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى حتى انتفخت قدماه فقيل له أتكلف هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال "أفلا أكون عبدا شكورا". 6194 - عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى ورمت قدماه قالوا قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال "أفلا أكون عبدا شكورا". 6195 - عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام حتى تفطر رجلاه قالت عائشة يا رسول الله أتصنع هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال "يا عائشة أفلا أكون عبدا شكورا" -[المعنى العام]- شكر النعمة وشكر المنعم سمة من سمات الرقي البشري إذ هو تقدير لعطية المعطي واعتراف بها ووفاء له ولها ومحاولة لمقابلة الإحسان بالإحسان وفي الحديث "من أولاكم معروفا فكافئوه فإن لم تقدروا فادعوا له بخير" وشكر المعروف يدفع المعطي إلى تكرار العطاء والزيادة فيه وصدق الله العظيم إذ يقول {لئن شكرتم لأزيدنكم} [إبراهيم 7] وشكر الله تعالى على نعمائه المتكررة المتجددة في كل لحظة على عباده مهما بلغ هذا الشكر كما وكيفا لا يكافئ نعمة واحدة من نعمه فما بالنا بالتوفيق للعبادة والعون عليها حتى تكون وسيلة لجنة عرضها السماوات والأرض أكلها دائم وظلها ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر الناس عبادة لربه وأكثرهم عملا صالحا فلما سئل أجاب بأن العبادة قد تكون خوفا من نار وطمعا في جنة وقد تكون شكرا على نعمة النبوة والرسالة والأعمال الصالحة أفلا أكون عبدا شكورا

-[المباحث العربية]- (صلى حتى انتفخت قدماه) من طول الوقوف على قدميه للصلاة وفي الرواية الثانية "حتى ورمت قدماه" وفي الرواية الثالثة "قام حتى تفطر رجلاه" وفي نسخة "حتى تفطرت رجلاه" أي تشققت (فقيل له أتكلف هذا) بفتح الهمزة للاستفهام وبفتح التاء والكاف واللام المشددة مع حذف إحدى التاءين والأصل أتتكلف هذا الجهد والاستفهام تعجبي (وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر) الجملة حالية من فاعل "تكلف" والمراد من "ما تقدم وما تأخر" جميع الذنوب وذنوبه صلى الله عليه وسلم من قبيل حسنات الأبرار سيئات المقربين (أفلا أكون عبدا شكورا) الاستفهام إنكاري توبيخي بمعنى لا ينبغي والفاء عاطفة على محذوف أي أأترك المبالغة في العبادة فلا أكون عبدا شكورا لا ينبغي ولا يليق بي ذلك -[فقه الحديث]- قال القاضي الشكر معرفة إحسان المحسن والتحدث به وسميت المجازاة على فعل الجميل شكرا لأنها تتضمن الثناء عليه وشكر العبد الله تعالى اعترافه بنعمته وثناؤه عليه وتمام مواظبته على طاعته وأما شكر الله تعالى العبد وأفعال عباده فمجازاته إياهم عليها وتضعيف ثوابها وثناؤه عليها عند ملائكته والملأ الأعلى فهو المعطي والمثني سبحانه وتعالى والشكور اسم من أسمائه سبحانه وتعالى بهذا المعنى والله أعلم.

(779) باب الاقتصاد في الموعظة

(779) باب الاقتصاد في الموعظة 6196 - عن شقيق قال كنا جلوسا عند باب عبد الله ننتظره فمر بنا يزيد بن معاوية النخعي فقلنا أعلمه بمكاننا فدخل عليه فلم يلبث أن خرج علينا عبد الله فقال إني أخبر بمكانكم فما يمنعني أن أخرج إليكم إلا كراهية أن أملكم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتخولنا بالموعظة في الأيام مخافة السآمة علينا 6197 - عن شقيق أبي وائل قال كان عبد الله يذكرنا كل يوم خميس فقال له رجل يا أبا عبد الرحمن إنا نحب حديثك ونشتهيه ولوددنا أنك حدثتنا كل يوم فقال ما يمنعني أن أحدثكم إلا كراهية أن أملكم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهية السآمة علينا -[المعنى العام]- إن النفوس تصدأ بالإهمال كما تصدأ المعادن وجلاؤها الموعظة وذكر الله تعالى وكثرة جليها وحكها يصيبها بالضعف والتآكل وكذلك القلوب دوام وعظها يصيبها بالسآمة والملل والحكمة تقتضي الأخذ بجزء من الجلي وجزء من الراحة والفضيلة دائما وسط بين طرفين فالشجاعة وسط بين التهور والجبن والكرم وسط بين الإسراف والتقتير من هنا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتعاهد أصحابه بالموعظة أياما ويتركهم لمهامهم ومعايشهم أياما فبذلك يتحقق هدف التذكير مع دوام الحرص والشوق إليه وقديما قالوا زر غبا تزدد حبا -[المباحث العربية]- (كنا جلوسا عند باب عبد الله ننتظره) أي عند باب بيت عبد الله بن مسعود ينتظرونه

ليعظهم وفي الرواية الثانية "كان عبد الله يذكرنا كل يوم خميس فقال له رجل يا أبا عبد الرحمن إنا نحب حديثك ونشتهيه ولوددنا أنك حدثتنا كل يوم" وهذا الرجل يشبه أن يكون يزيد بن معاوية النخعي المذكور في الرواية الأولى قاله الحافظ ابن حجر (أعلمه بمكاننا) أي بطلبنا ورغبتنا وانتظارنا (إني أخبر بمكانكم) بضم الهمزة وسكون الخاء وفتح الباء أي أخبرني أحدكم بمكانكم وعبر بالمضارع بدل الماضي استحضارا للصورة (فما يمنعني أن أخرج إليكم إلا كراهية أن أملكم) بضم الهمزة وكسر الميم وفتح اللام المشددة أي أوقعكم في الملل والضجر و"كراهية" بتخفيف الياء فاعل "يمنعني" وفي الرواية الثانية "ما يمنعني أن أحدثكم إلا كراهية أن أملكم" أي أحدثكم يوميا (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتخولنا بالموعظة في الأيام) قال النووي أي يتعاهدنا هذا هو المشهور في تفسيرها قال القاضي وقيل يصلحنا وقال ابن الأعرابي معناه يتخذنا خولا وقيل يفاجئنا بها وقال أبو عبيد يدللنا وقيل يحبسنا كما يحبس الإنسان خوله و"يتخولنا" بالخاء عند جميعهم إلا أبا عمرو فقال بالحاء أي يطلب حالاتنا وأوقات نشاطنا (مخافة السآمة علينا) مخافة الملل الطارئ علينا وكان الأصل أن يقول مخافة سآمتنا فضمن السآمة معنى المشقة فعداها بعلى والصلة محذوفة أي سآمتنا من الموعظة -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الحديث]- 1 - استحباب ترك المداومة في الجد وفي العمل الصالح خشية الملال وإن كانت المواظبة مطلوبة لكنها على قسمين إما كل يوم مع عدم التكلف وإما يوم بعد يوم فيكون يوم الترك لأجل الراحة ليقبل على الثاني بنشاط وإما يوم في الجمعة للموعظة وبقية الأيام للمعاش والأمر يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص والضابط مراعاة الحاجة مع وجود النشاط 2 - منقبة لابن مسعود لاقتدائه بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى في اليوم الذي عينه للوعظ ويحتمل أن الاقتداء كان في مجرد التخلل بين العمل والترك 3 - الحفاظ على تأليف القلوب والبعد عن سآمتها ولو بعمل الخير 4 - استدل به البخاري على من جعل لأهل العلم يوما معلوما أو أياما معلومة والله أعلم.

كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها

كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها

(780) باب صفة نعيمها وأهلها

(780) باب صفة نعيمها وأهلها 6198 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات" 6199 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "قال الله عز وجل أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" مصداق ذلك في كتاب الله {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} [السجدة 17] 6200 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "قال الله عز وجل أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ذخرا بله ما أطلعكم الله عليه" 6201 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقول الله عز وجل أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ذخرا بله ما أطلعكم الله عليه" ثم قرأ {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} 6202 - عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال شهدت من رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا وصف فيه الجنة حتى انتهى ثم قال صلى الله عليه وسلم في آخر حديثه "فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" ثم اقترأ هذه الآية {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} [السجدة 16، 17]

6203 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة" 6204 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله وزاد "لا يقطعها". 6205 - عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها". 6206 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام ما يقطعها" إحلال الرضوان على أهل الجنة فلا يسخط عليهم أبدا 6207 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن الله يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك فيقول هل رضيتم فيقولون وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول ألا أعطيكم أفضل من ذلك فيقولون يا رب وأي شيء أفضل من ذلك فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا". 6208 - عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن أهل الجنة ليتراءون الغرفة في الجنة كما تراءون الكوكب في السماء" قال فحدثت بذلك النعمان بن أبي عياش فقال سمعت أبا سعيد الخدري يقول "كما تراءون الكوكب الدري في الأفق الشرقي أو الغربي"

6209 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم" قالوا يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم قال "بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين" 6210 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من أشد أمتي لي حبا ناس يكونون بعدي يود أحدهم لو رآني بأهله وماله". 6211 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن في الجنة لسوقا يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسنا وجمالا فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا فيقول لهم أهلوهم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا فيقولون وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا". 6212 - عن محمد قال إما تفاخروا وإما تذاكروا الرجال في الجنة أكثر أم النساء فقال أبو هريرة أو لم يقل أبو القاسم صلى الله عليه وسلم "إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر والتي تليها على أضوإ كوكب دري في السماء لكل امرئ منهم زوجتان اثنتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم وما في الجنة أعزب". 6213 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أول من يدخل الجنة" ح وحدثنا قتيبة بن سعيد وزهير بن حرب (واللفظ لقتيبة) قالا حدثنا جرير عن عمارة عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر والذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة لا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون ولا يتفلون أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك

ومجامرهم الألوة وأزواجهم الحور العين أخلاقهم على خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم ستون ذراعا في السماء" 6214 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أول زمرة تدخل الجنة من أمتي على صورة القمر ليلة البدر ثم الذين يلونهم على أشد نجم في السماء إضاءة ثم هم بعد ذلك منازل لا يتغوطون ولا يبولون ولا يمتخطون ولا يبزقون أمشاطهم الذهب ومجامرهم الألوة ورشحهم المسك أخلاقهم على خلق رجل واحد على طول أبيهم آدم ستون ذراعا" قال ابن أبي شيبة على خلق رجل وقال أبو كريب على خلق رجل وقال ابن أبي شيبة على صورة أبيهم صفات أهل الجنة 6215 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر لا يبصقون فيها ولا يمتخطون ولا يتغوطون فيها آنيتهم وأمشاطهم من الذهب والفضة ومجامرهم من الألوة ورشحهم المسك ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقهما من وراء اللحم من الحسن لا اختلاف بينهم ولا تباغض قلوبهم قلب واحد يسبحون الله بكرة وعشيا" 6216 - عن جابر رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون" قالوا فما بال الطعام قال "جشاء ورشح كرشح المسك يلهمون التسبيح والتحميد كما تلهمون النفس" 6217 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يأكل أهل الجنة فيها ويشربون ولا يتغوطون ولا يمتخطون ولا يبولون ولكن طعامهم ذاك جشاء

كرشح المسك يلهمون التسبيح والحمد كما تلهمون النفس" قال وفي حديث حجاج "طعامهم ذلك". 6218 - وفي رواية عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله غير أنه قال "ويلهمون التسبيح والتكبير كما تلهمون النفس". 6219 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من يدخل الجنة ينعم لا يبأس لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه" 6220 - عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ينادي مناد إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا" فذلك قوله عز وجل {ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون} [الأعراف 43] 6221 - عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها ستون ميلا للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضا". 6222 - عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة عرضها ستون ميلا في كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين يطوف عليهم المؤمن". 6223 - عن أبي بكر بن أبي موسى بن قيس عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الخيمة درة طولها في السماء ستون ميلا في كل زاوية منها أهل للمؤمن لا يراهم الآخرون".

ما في الدنيا من أنهار الجنة 6224 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة". 6225 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير" 6226 - عن همام بن منبه قال هذا ما حدثنا به أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خلق الله عز وجل آدم على صورته طوله ستون ذراعا فلما خلقه قال اذهب فسلم على أولئك النفر وهم نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يجيبونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك قال فذهب فقال السلام عليكم فقالوا السلام عليك ورحمة الله قال فزادوه ورحمة الله قال فكل من يدخل الجنة على صورة آدم وطوله ستون ذراعا فلم يزل الخلق ينقص بعده حتى الآن" -[المعنى العام]- في الترغيب في الطاعة والأعمال الصالحة تذكر الجنة وما فيها من نعيم مقيم وفي الترهيب من المعاصي تذكر النار وجهنم وما تفعله من عذاب أليم وفي القرآن الكريم كثير من الآيات وفي الأحاديث النبوية كثير من الأحاديث التي هي وحي دون شك فلا يعلم ما في يوم القيامة وما بعده إلا الله تعالى نذكر من آيات القرآن في الجنة قوله تعالى {ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي ءالاء ربكما تكذبان ذواتا أفنان فبأي ءالاء ربكما تكذبان فيهما عينان تجريان فبأي ءالاء ربكما تكذبان فيهما من كل فاكهة زوجان فبأي ءالاء ربكما تكذبان متكئين على فرش بطائنها من إستبرق وجنى الجنتين دان فبأي ءالاء ربكما تكذبان فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس

قبلهم ولا جان فبأي ءالاء ربكما تكذبان كأنهن الياقوت والمرجان فبأي ءالاء ربكما تكذبان هل جزاء الإحسان إلا الإحسان فبأي ءالاء ربكما تكذبان ومن دونهما جنتان فبأي ءالاء ربكما تكذبان مدهامتان فبأي ءالاء ربكما تكذبان فيهما عينان نضاختان فبأي ءالاء ربكما تكذبان فيهما فاكهة ونخل ورمان فبأي ءالاء ربكما تكذبان فيهن خيرات حسان فبأي ءالاء ربكما تكذبان حور مقصورات في الخيام فبأي ءالاء ربكما تكذبان لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان فبأي ءالاء ربكما تكذبان متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان فبأي ءالاء ربكما تكذبان تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام} [الرحمن 46 - 78] وقوله تعالى {يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون جزاء بما كانوا يعملون لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود وماء مسكوب وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة وفرش مرفوعة إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا} [الواقعة 17 - 37] وقوله تعالى {ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا} [الإنسان 19 - 21] ويكفينا في هذا المقام قوله تعالى {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} [السجدة 17] -[المباحث العربية]- (حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات) قال النووي هكذا رواه مسلم "حفت" اهـ بضم الحاء وفتح الفاء المشددة من الحفاف وهو ما يحيط بالشيء حتى لا يتوصل إليه إلا بتخطيه فالجنة لا يتوصل إليها إلا بقطع مفاوز المكاره والنار لا ينجى منها إلا ترك الشهوات والبعد عنها وفي البخاري "حجبت النار بالشهوات وحجبت الجنة بالمكاره" والمعنى أنهما محجوبتان بهما فمن هتك الحجاب وصل إلى المحجوب فهتك حجاب الجنة باقتحام المكاره ويدخل فيها الاجتهاد في العبادات والمواظبة عليها والصبر على مشاقها وكظم الغيظ والعفو والحلم والصدقة والإحسان إلى المسيء والصبر عن الشهوات ونحو ذلك وهتك حجاب النار بارتكاب الشهوات والظاهر أن المراد هنا بالشهوات الشهوات المحرمة كالخمر والزنا والغيبة أما الشهوات المباحة فلا تدخل في هذه لكن يكره الإكثار منها مخافة أن يجر إلى المحرمة أو يقسي القلب أو يشغل عن الطاعات ونحو ذلك قاله النووي

قال العلماء وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم وبديع بلاغته في ذم الشهوات وإن مالت إليها النفس والحض على الطاعات وإن كرهتها النفوس وشق عليها وقد ورد إيضاح ذلك من وجه آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه "لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل إلى الجنة فقال انظر إليها قال فرجع إليه فقال وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها فأمر بها فحفت بالمكاره فقال ارجع إليها فرجع فقال وعزتك لقد خفت أن لا يدخلها أحد قال اذهب إلى النار فانظر إليها فرجع فقال وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها فأمر بها فحفت بالشهوات فقال ارجع إليها فرجع فقال وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد" أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر مصداق ذلك في كتاب الله {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} زاد في الرواية الثالثة "ذخرا بله ما أطلعكم الله عليه" وفي بعض النسخ "ذخرا بله ما أطلعتكم عليه" و"ذخرا" أي مدخرا محفوظا وروى بالدال المهملة و"بله" بفتح الباء وسكون اللام بعدها هاء قال ابن هشام في مغني اللبيب "بله" على ثلاثة أوجه اسم لدع ومصدر بمعنى الترك واسم مرادف لكيف وما بعدها منصوب على الأول ومخفوض على الثاني ومرفوع على الثالث وفتحها بناء على الأول والثالث وإعراب على الثاني قال واستعملت معربة مجرورة بمن خارجة عن المعاني الثلاثة وفسرها بعضهم بغير اهـ والمعنى هنا دعوا عنكم الذي أطلعكم الله عليه فالذي لم يطلعكم عليه أعظم ووقع في رواية أن سبب هذا الحديث "أن موسى عليه السلام سأل ربه من أعظم أهل الجنة منزلة فقال غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها فلا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" زاد في رواية "ولا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل" وقرأ الجمهور "ما أخفي لهم" بكسر الفاء وفتح الياء مبني للمفعول وقرأ حمزة بالإسكان فعلا مضارعا مسندا للمتكلم وقرأ محمد بن كعب "أخفي" بفتح الهمزة والفاء على البناء للفاعل وهو الله سبحانه وتعالى وقرئ "قرة" بالإفراد و"قرات" بالجمع (إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة) زاد في ملحق الرواية السادسة "لا يقطعها" وفي الرواية الثامنة "يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها" وفي الرواية التاسعة "يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام ما يقطعها" والمراد من "ظلها" كنفها وما يستره أغصانها وقيل في نعيمها وراحتها ومنه قولهم عيش ظليل قال القرطبي والمحوج إلى هذا التأويل أن الظل في عرف أهل الدنيا ما يقي من حر الشمس وأذاها وليس في الجنة شمس ولا أذى و"المضمر" بضم الميم الأولى وفتح الضاد وفتح الميم الثانية مشددة أي الذي ضمر ليشتد جريه قال القاضي ورواه بعضهم بكسر الميم الثانية صفة الراكب المضمر لفرسه قال والمعروف الأول

(أحل عليكم رضواني) قال القاضي أنزله بكم والرضوان بكسر الراء وضمها وقرئ بهما في السبع (إن أهل الجنة ليتراءون الغرفة في الجنة كما تراءون الكوكب في السماء) "كما تراءون" بحذف إحدى التاءين وأصله كما تتراءون زاد في آخر الرواية "كما تراءون الكوكب الدري في الأفق الشرقي أو الغربي" وفي الرواية الثانية عشرة "إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم" قال النووي "دري" بضم الدال وتشديد الياء بلا همز ومثلها مهموز ممدود والثالثة بكسر الدال مهموز ممدود ثلاث قراءات في السبع وهو الكوكب العظيم وقيل سمي دريا لبياضه كالدر وقيل لإضاءته وقيل لشبهه بالدر في كونه أرفع من باقي النجوم كالدر أرفع الجواهر وقال وقوله "كما تراءون الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب" هكذا هو في عامة النسخ "من الأفق" قال القاضي لفظة "من" لابتداء الغاية ووقع في رواية البخاري في الأفق قال بعضهم وهو الصواب قال وذكر بعضهم أن "من" في رواية مسلم لانتهاء الغاية وقد جاءت كذلك كقولهم رأيت الهلال من خلال السحاب قال القاضي وهذا صحيح لكن حملهم لفظة "من" هنا على انتهاء الغاية غير مسلم بل هي على بابها أي كان ابتداء رؤيته إياه رؤيته من خلل السحاب ومن الأفق قال وقد جاء في رواية "على الأفق الغربي" ومعنى "الغابر" الذاهب الماشي أي الذي تدلى للغروب وبعد عن العيون وروى في غير مسلم "الغارب" وهو بمعنى ما ذكرنا وروى "العازب" بالعين والزاي ومعناه البعيد في الأفق وكلها راجعة إلى معنى واحد اهـ والمعنى أن أهل الجنة تتفاوت منازلهم بحسب درجاتهم في الفضل حتى إن أهل الدرجات العليا ليراهم من هو أسفل منهم كالنجوم لتفاضل ما بينهم (قالوا يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم قال بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين) قال القرطبي "بلى" حرف جواب وتصديق والسياق يقتضي أن يكون الجواب بالإضراب عن الأول وإيجاب الثاني فلعلها كانت "بل" وقوله "رجال" خبر مبتدأ محذوف تقديره هم رجال أي تلك المنازل منازل رجال آمنوا وقوله "وصدقوا المرسلين" أي حق تصديقهم وإلا لكان كل من آمن بالله وصدق رسله وصل إلى تلك الدرجة وليس كذلك وعند الترمذي "إن في الجنة لغرفا ترى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها فقال أعرابي لمن هي يا رسول الله قال هي لمن آلان الكلام وأدام الصيام وصلى بالليل والناس نيام" (إن في الجنة لسوقا يأتونها كل جمعة) قال النووي المراد بالسوق مجمع لهم

يجتمعون فيه كما يجتمع الناس في الدنيا في السوق ومعنى "يأتونها كل جمعة" أي في مقدار كل جمعة أي أسبوع وليس هناك حقيقة أسبوع لفقد الشمس والليل والنهار والسوق يذكر ويؤنث وهو أفصح (فتهب ريح الشمال) قال صاحب العين الشمال والشمأل والشأملة بهمزة قبل الميم والشمل بفتح الميم من غير ألف والشمول بفتح الشين وضم الميم وهي التي تأتي من دبر القبلة قال القاضي وخص ريح الجنة بالشمال لأنها ريح المطر عند العرب كانت تهب من جهة الشام وبها يأتي سحاب المطر وكانوا يرجون السحابة الشامية وجاءت في الحديث تسمية هذه الريح "المثيرة" أي المحركة لأنها تثير في وجوههم ما تثيره من مسك أرض الجنة وغيره من نعيمها (إن أول زمرة) الزمرة الجماعة (لكل امرئ منهم زوجتان اثنتان) قال النووي هكذا في الروايات بالثاء وهي لغة متكررة في الأحاديث وكلام العرب والأشهر حذف التاء وبه جاء القرآن وأكثر الأحاديث "زوجان" والزوجتان من نساء الدنيا أما الحور العين فعدد كثير في الأحاديث قال الحافظ ابن حجر والذي يظهر أن أقل ما لكل واحد منهم زوجتان (يرى مخ سوقهما من وراء اللحم) والعظم وهو كناية عن الصفاء البالغ (وما في الجنة أعزب) بالألف وهي لغة والمشهور في اللغة عزب بغير ألف ونقل القاضي أن جميع رواتهم رووه "وما في الجنة عزب" بغير ألف إلا العذرى فرواه بالألف قال القاضي وليس بشيء والعزب من لا زوجة له والعزوب البعد وسمي عزبا لبعده عن النساء (ورشحهم المسك) أي عرقهم المسك (ومجامرهم الألوة) بفتح الهمزة وضم اللام أي العود الهندي الذي يبخر به قيل جعلت مجامرهم نفس العود وقيل في الكلام مضاف محذوف أي وقود مجامرهم والمجامر جمع مجمرة وهي المبخرة سميت مجمرة لأنها يوضع فيها الجمر ليفوح به ما يوضع فيها من البخور وليس في الجنة نار وإنما سميت مجمرة باعتبار ما كان والحكمة في ذلك أنهم ينعمون بنوع ما كانوا ينعمون به في الدنيا (أخلاقهم على خلق رجل واحد) قال النووي يرويه ابن أبي شيبة بضم الخاء واللام ويرويه أبو كريب بفتح الخاء وإسكان اللام وكلاهما صحيح وقد اختلف فيه رواة البخاري ويرجح الضم بقوله في الرواية الثامنة عشرة "لا اختلاف بينهم ولا تباغض قلوبهم قلب واحد يسبحون الله بكرة وعشيا" وقد يرجح الفتح بقوله صلى الله عليه وسلم "على صورة أبيهم آدم أو على طوله" (قالوا فما بال الطعام قال جشاء ورشح كرشح المسك) الجشاء بضم الجيم تنفس المعدة وقيل صوت مع ريح يخرج من الفم عند الشبع

(من يدخل الجنة ينعم لا يبأس) "ينعم" بفتح الياء وسكون النون وفتح العين أي يدوم ويتجدد نعيمه والبأس والبؤس والبأساء والبؤساء بمعنى وهو شدة الحال (إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة) قال النووي هكذا هو في عامة النسخ "مجوفة" بالفاء قال القاضي وفي رواية السمرقندي "مجوبة" بالباء وهي المثقوبة وهي بمعنى المجوفة وأما الخيمة فبيت مربع من بيوت الأعراب معروف (طولها ستون ميلا للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضا) في الرواية الرابعة والعشرين "في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة" أي لكل مؤمن "عرضها ستون ميلا" فهي مربعة "في كل زاوية منها" أي في كل جانب وناحية منها "أهل" أي أزواج للمؤمن "ما يرون الأخرين يطوف عليهم المؤمن" وفي الرواية الخامسة والعشرين "طولها في السماء" أي ارتفاعها "ستون ميلا" فهي مكعبة طولها يساوي عرضها وعرضها يساوي ارتفاعها (سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة) قال النووي اعلم أن سيحان وجيحان غير سيحون وجيحون فأما سيحان وجيحان المذكوران في هذا الحديث اللذان هما من أنهار الجنة في بلاد الأرمن فسيحان نهر المصيصة وجيحان نهر إذنه وهما نهران عظيمان جدا أكبرهما جيحان هذا هو الصواب في موضعهما وأما قول الجوهري في صحاحه جيحان نهر بالشام فغلط أو أنه أراد المجاز من حيث إنه ببلاد الأرمن وهي مجاورة للشام قال الحازمي سيحان نهر عند المصيصة قال وهو غير سيحون وقال صاحب نهاية الغريب سيحان وجيحان نهران بالعواصم عند المصيصة وطرسوس واتفقوا كلهم على أن جيحون بالواو نهر وراء خراسان عند بلخ واتفقوا على أنه غير جيحان وكذلك سيحون غير سيحان وأما قول القاضي عياض هذه الأنهار الأربعة أكبر أنهار بلاد الإسلام فالنيل بمصر والفرات بالعراق وسيحان وجيحان ويقال سيحون وجيحون ببلاد خراسان ففي كلامه إنكار من أوجه أحدها قوله الفرات بالعراق وليس بالعراق بل هو فاصل بين الشام والجزيرة والثاني قوله سيحان وجيحان ويقال سيحون وجيحون فجعل الأسماء مترادفة وليس كذلك بل سيحان غير سيحون وجيحان غير جيحون باتفاق الناس كما سبق الثالث أنه ببلاد خراسان وأما سيحان وجيحان فهما ببلاد الأرمن بقرب الشام والله أعلم وأما كون هذه الأنهار من ماء الجنة ففيه تأويلان ذكرهما القاضي عياض أحدهما أن الإيمان عم بلادها أو الأجسام المتغذية بمائها صائرة إلى الجنة والثاني وهو الأصح أنها على ظاهرها وأن له مادة من الجنة والجنة مخلوقة موجودة اليوم عند أهل السنة وقد ذكر مسلم في كتاب الإيمان في حديث الإسراء أن الفرات والنيل يخرجان من الجنة وفي البخاري "من أصل سدرة المنتهى"

وعندي أن كلا من القولين بعيد والأولى أن يكون ذلك تعبيرا عن مستقبل وأن هذه الأنهار وغيرها من أنهار الدنيا المعتز بها ستكون في الجنة مع التغاير في الصفات كما في بقية نعيم الجنة والله أعلم (يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير) قيل مثلها في رقتها وضعفها كما في حديث "أهل اليمن أرق قلوبا وأضعف أفئدة" وقيل في الخوف والهيبة والطير أكثر الحيوان خوفا وفزعا وكأن المراد قوم غلب عليهم الخوف كما جاء عن جماعات من السلف في شدة خوفهم وقيل المراد متوكلون كالطير (خلق الله عز وجل آدم على صورته) سبق شرح هذا الحديث قريبا والله أعلم -[فقه الحديث]- قال النووي مذهب أهل السنة وعامة المسلمين أن أهل الجنة يأكلون ويشربون فيها يتنعمون بما ذكر وبغيره من ملاذ وأنواع نعيمها تنعما دائما لا آخر له ولا انقطاع أبدا وأن تنعمهم بذلك على هيئة تنعم أهل الدنيا إلا ما بينهما من التفاضل في اللذة والنفاسة التي لا يشارك نعيم الدنيا فيها إلا في التسمية وأصل الهيئة وإلا في أنهم لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون ولا يبصقون وقد دلت دلائل القرآن والسنة في هذه الأحاديث أن نعيم الجنة دائم لا انقطاع له أبدا اهـ وفي هذه الأحاديث أن نعيم الجنة فوق الخيال ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر كخيمة الدر واللؤلؤ وحجمها وأطوال البشر والزوجات والحور العين ورشح المسك وقد أخرج البخاري غير أحاديثنا أحاديث كثيرة كحديث منديل سعد وأبواب الجنة والمرأة التي تتوضأ بجوار القصر وأخرج الإمام أحمد في صفة أدنى أهل الجنة منزلة "أن له من الحور العين اثنين وسبعين زوجة سوى أزواجه من الدنيا" وأخرج الترمذي "إن أدنى أهل الجنة الذي له ثمانون ألف خادم وثنتان وسبعون زوجة" وظاهر الرواية الخامسة عشرة والثانية والعشرين والثالثة والعشرين والرابعة والعشرين والخامسة والعشرين أن النساء في الجنة أكثر من الرجال لكن يعارضه الحديث الصحيح "رأيتكن أكثر أهل النار" وأجيب بأنه لا يلزم من أكثريتهن في النار نفي أكثريتهن في الجنة فيخرج على أن النساء أكثر ولد آدم لكن يشكل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر "اطلعت في الجنة فرأيت أقل ساكنها النساء" قال المحققون يحتمل أن يكون الراوي رواه بالمعنى الذي فهمه من أن كونهن أكثر ساكني النار يلزم منه أن يكن أقل ساكني الجنة وليس ذلك بلازم قال الحافظ ابن حجر ويحتمل أن يكون ذلك في أول الأمر قبل خروج العصاة من النار بالشفاعة اهـ وهذا الاحتمال لا يدفع الإيراد فالنساء كذلك يخرجن من النار بالشفاعة وغيرها ولا ضير في أكثرية النساء في الجنة والله أعلم.

(781) باب جهنم أعاذنا الله منها وصفتها وأهلها

(781) باب جهنم أعاذنا الله منها وصفتها وأهلها 6227 - عن عبد الله رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها". 6228 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزءا من حر جهنم" قالوا والله إن كانت لكافية يا رسول الله قال "فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلها مثل حرها" 6229 - وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث أبي الزناد غير أنه قال "كلهن مثل حرها" 6230 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سمع وجبة فقال النبي صلى الله عليه وسلم تدرون ما هذا؟ قال قلنا الله ورسوله أعلم قال "هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفا فهو يهوي في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها" 6231 - وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه بهذا الإسناد وقال "هذا وقع في أسفلها فسمعتم وجبتها" 6232 - عن سمرة رضي الله عنه أنه سمع نبي الله صلى الله عليه وسلم "يقول إن منهم من تأخذه النار إلى كعبيه ومنهم من تأخذه إلى حجزته ومنهم من تأخذه إلى عنقه" 6233 - عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "منهم من تأخذه النار إلى

كعبيه ومنهم من تأخذه النار إلى ركبتيه ومنهم من تأخذه النار إلى حجزته ومنهم من تأخذه النار إلى ترقوته" 6234 - وفي رواية عن سعيد بهذا الإسناد وجعل مكان حجزته حقويه. 6235 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "احتجت النار والجنة فقالت هذه يدخلني الجبارون والمتكبرون وقالت هذه يدخلني الضعفاء والمساكين فقال الله عز وجل لهذه أنت عذابي أعذب بك من أشاء (وربما قال أصيب بك من أشاء) وقال لهذه أنت رحمتي أرحم بك من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها" 6236 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "تحاجت النار والجنة فقالت النار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين وقالت الجنة فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وعجزهم فقال الله للجنة أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي وقال للنار أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكم ملؤها فأما النار فلا تمتلئ فيضع قدمه عليها فتقول قط قط فهنالك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض" 6237 - وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "احتجت الجنة والنار" واقتص الحديث بمعنى حديث أبي الزناد 6238 - عن همام بن منبه قال هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تحاجت الجنة والنار فقالت النار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين وقالت الجنة فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وغرتهم قال الله للجنة إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي وقال للنار إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله تبارك وتعالى رجله تقول قط قط قط فهنالك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض ولا يظلم الله من خلقه أحدا وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا"

6239 - وفي رواية عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "احتجت الجنة والنار" فذكر نحو حديث أبي هريرة إلى قوله "ولكليكما علي ملؤها" ولم يذكر ما بعده من الزيادة 6240 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تزال جهنم تقول هل من مزيد حتى يضع فيها رب العزة تبارك وتعالى قدمه فتقول قط قط وعزتك ويزوى بعضها إلى بعض" 6241 - عن عبد الوهاب بن عطاء في قوله عز وجل {يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد} فأخبرنا عن سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط بعزتك وكرمك ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا فيسكنهم فضل الجنة" 6242 - عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "يبقى من الجنة ما شاء الله أن يبقى ثم ينشئ الله تعالى لها خلقا مما يشاء" 6243 - عن أبي سعيد رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح (زاد أبو كريب) فيوقف بين الجنة والنار (واتفقا في باقي الحديث) فيقال يا أهل الجنة هل تعرفون هذا فيشرئبون وينظرون ويقولون نعم هذا الموت قال ويقال يا أهل النار هل تعرفون هذا قال فيشرئبون وينظرون ويقولون نعم هذا الموت قال فيؤمر به فيذبح قال ثم يقال يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت" قال ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون} وأشار بيده إلى الدنيا

6244 - وفي رواية عن أبي سعيد رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار قيل يا أهل الجنة" ثم ذكر بمعنى حديث أبي معاوية غير أنه قال "فذلك قوله عز وجل" ولم يقل ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكر أيضا وأشار بيده إلى الدنيا. 6245 - عن عبد الله رضي الله عنه قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "يدخل الله أهل الجنة الجنة ويدخل أهل النار النار ثم يقوم مؤذن بينهم فيقول يا أهل الجنة لا موت ويا أهل النار لا موت كل خالد فيما هو فيه" 6246 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وصار أهل النار إلى النار أتي بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار ثم يذبح ثم ينادي مناد يا أهل الجنة لا موت ويا أهل النار لا موت فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم" 6247 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد وغلظ جلده مسيرة ثلاث" 6248 - وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه قال "ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع" ولم يذكر الوكيعي "في النار" 6249 - عن حارثة بن وهب رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال "ألا أخبركم بأهل الجنة" قالوا بلى قال صلى الله عليه وسلم "كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره" ثم قال "ألا أخبركم بأهل النار" قالوا بلى قال كل عتل جواظ مستكبر".

6250 - وفي رواية عن شعبة بهذا الإسناد بمثله غير أنه قال "ألا أدلكم". 6251 - عن حارثة بن وهب الخزاعي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا أخبركم بأهل الجنة كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره ألا أخبركم بأهل النار كل جواظ زنيم متكبر". 6252 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره" 6253 - عن عبد الله بن زمعة رضي الله عنه قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الناقة وذكر الذي عقرها فقال {إذ انبعث أشقاها} انبعث بها رجل عزيز عارم منيع في رهطه مثل أبي زمعة" ثم ذكر النساء فوعظ فيهن ثم قال "إلام يجلد أحدكم امرأته" في رواية أبي بكر "جلد الأمة" وفي رواية أبي كريب "جلد العبد ولعله يضاجعها من آخر يومه" ثم وعظهم في ضحكهم من الضرطة فقال "إلام يضحك أحدكم مما يفعل" 6254 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أبا بني كعب هؤلاء يجر قصبه في النار" 6255 - عن ابن شهاب قال سمعت سعيد بن المسيب يقول إن البحيرة التي يمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس وأما السائبة التي كانوا يسيبونها لآلهتهم فلا يحمل عليها شيء وقال ابن المسيب قال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار وكان أول من سيب السيوب"

6256 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا" 6257 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يوشك إن طالت بك مدة أن ترى قوما في أيديهم مثل أذناب البقر يغدون في غضب الله ويروحون في سخط الله" 6258 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن طالت بك مدة أوشكت أن ترى قوما يغدون في سخط الله ويروحون في لعنته في أيديهم مثل أذناب البقر" -[المعنى العام]- ذكر البخاري أحاديث أخرى في وصف النار ووصف أهلها منها حديث "إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة لرجل توضع في أخمص قدميه جمرة من النار يغلي منها دماغه" وحديث "آخر أهل النار خروجا منها" و"آخر أهل الجنة دخولا" وحديث الكلاليب على جسر جهنم والمقصود من ذكر هذه الأحاديث ترقيق القلوب والترغيب في وسائل دخول الجنة والتنفير من أسباب دخول النار والمؤمن الكيس هو الذي يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير ولو يؤاخذ الله الناس بذنوبهم ما ترك على ظهرها من دابة وعذابه العدل يصيب به من يشاء ورحمته وسعت كل شيء وقد حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات {فأما من طغى وءاثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى} [النازعات 37 - 41]

رحمنا الله وغفر لنا وأدخلنا الجنة بفضله ورضوانه وأعاذنا من النار ومن عذاب النار ومن كل عمل يقربنا إلى النار إنه رءوف رحيم -[المباحث العربية]- (يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها) الزمام الحبل الذي تشد به الدابة وتقاد "ويومئذ" أي يوم القيامة والعدد المذكور مراد به التكثير وهذا الحديث مما استدركه الدارقطني على مسلم وقال رفعه وهم رواه موقوفا الثوري ومروان وغيرهما عن العلاء بن خالد قال النووي وحفص ثقة حافظ إمام وزاد رفعه وزيادة الثقة مقبولة كما نقل عن الأكثرين (ناركم هذه التي يوقد ابن آدم) عائد الصلة مفعول "يوقد" محذوف أي يوقدها (جزء من سبعين جزءا من حر جهنم) أثر النار ليس في شكلها ولا في جرمها وإنما في حرارتها لهذا كانت الأجزاء في حرها والمقصود من هذا العدد التكثير والمبالغة في حر جهنم (والله إن كانت لكافية) "إن" مخففة من الثقيلة واللام في خبرها فارقة بينها وبين النافية والأصل لو كانت مثل نارنا إنها لكافية في الحرق والتخويف (فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلها مثل حرها) أي فإن نار جهنم زادت على ناركم تسعة وستين مثلا وفي ملحق الرواية "كلهن" بدل "كلها" (إذ سمع وجبة) بفتح الواو وسكون الجيم وهي صوت سقطة أي سمع وسمعنا صوت جسم صلب يقع ويصطدم بجسم صلب آخر ولا نرى حجرا ولا جرما (هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفا فهو يهوى في النار حتى انتهى إلى قعرها) وفي ملحق الرواية "هذا أي حجر وقع في أسفلها فسمعتم وجبتها" قال النووي هكذا هو في النسخ وهو صحيح فيه محذوف دل عليه الكلام أي هذا حجر وقع اهـ والخريف يعبر به عن العام لأنه يحدث مرة واحدة في السنة وعندي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع صوت حجر لا يعرف مصدره أراد أن يشبه به حجرا يرمى في جهنم يستمر هابطا فيها مدة تعدل سبعين سنة من سنى الدنيا لعمقها وبعد قعرها فكأنه يقول هذا الحجر المجهول المصدر والورود بشبهه حجر يرمي به في جهنم فلا يصل قعرها إلا بعد سبعين سنة وهو عمق معقول إذا قارناه بالسنوات الضوئية بين الأجرام السماوية وفي الكلام على هذا تعبير بالماضي عن المستقبل لتحقق الوقوع

(إن منهم من تأخذه النار إلى كعبيه ومنهم من تأخذه إلى حجزته ومنهم من تأخذه إلى عنقه) وفي الرواية الخامسة "ومنهم من تأخذه النار إلى ركبتيه ومنهم من تأخذه النار إلى ترقوته" وفي ملحقها "ومنهم من تأخذه النار إلى حقويه" والحجزة بضم الحاء وسكون الجيم معقد الإزار والسراويل من وسط الإنسان والترقوة بفتح التاء وضم القاف هي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق والحقو بفتح الحاء وكسرها مع سكون القاف معقد الإزار كالحجزة والمراد هنا ما يحاذي ذلك الموضع من جنبيه والمراد من "منهم" أهل النار من الكافرين وقد جاء في الصحيح "إن أهون أهل النار عذابا رجل يضع أخمصتاه على جمرتين من النار يغلي منهما دماغه" فالأصناف المذكورة في أحاديثنا ليست للحصر (احتجت النار والجنة) أي شكت كل منهما إلى ربها وأقامت حجتها وفي الرواية الثامنة "تحاجت الجنة والنار" أي تجادلت كل منهما وأقامت كل منهما حجتها (فقالت هذه) في الكلام لف ونشر مرتب والإشارة الأولى للنار وفي الرواية الثامنة "فقالت النار" (يدخلني الجبارون والمتكبرون) فأنا صاحبة الحظوة والتقدم وفي الرواية السابعة والثامنة "أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين" (وقالت هذه يدخلني الضعفاء والمساكين) وفي الرواية السابعة والثامنة "قالت الجنة فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وعجزهم" وفي الرواية الثامنة "وغرثهم" قال النووي أما "سقطهم" فبفتح السين والقاف أي ضعفاؤهم والمحتقرون منهم وأما "عجزهم" فبفتح العين والجيم جمع عاجز أي العاجزون عن طلب الدنيا العاجزون عن التمكن فيها وعن الثراء والشوكة وأما رواية "لا يدخلني إلا ضعاف الناس وغرثهم" فروي على ثلاثة أوجه حكاها القاضي وهي موجودة في النسخ إحداها "غرثهم" بغين مفتوحة وراء ساكنة بعدها ثاء ومعناها أهل الحاجة والفاقة والجوع والغرث الجوع الثاني "عجزتهم" بعين وجيم وزاي جمع عاجز الثالث "غرتهم" بغين مكسورة وراء مشددة مفتوحة وهكذا هو الأشهر في نسخ بلادنا أي البله الغافلون الذين ليس بهم فتك وحذق في أمور الدنيا وهو نحو الحديث الآخر "أكثر أهل الجنة البله" قال القاضي 323 معناه سواد الناس وعامتهم من أهل الإيمان الذين لا يفطنون للسنة فتدخل عليهم الفتنة أو تدخلهم في البدعة أو غيرها فهم ثابتو الإيمان وصحيحو العقائد وهم أكثر المؤمنين وهم أكثر أهل الجنة وأما العارفون والعلماء العاملون والصالحون المتعبدون فهم قليلون وهم أصحاب الدرجات قال وقيل معنى الضعفاء هنا وفي الحديث الآخر "أهل الجنة كل ضعيف متضعف" أنه الخاضع لله المذل نفسه لله سبحانه وتعالى ضد المتجبر المستكبر قال النووي وهذه المحاجة على

ظاهرها وأن الله تعالى جعل في النار والجنة تمييزا تدركان به فتحاجتا ولا يلزم من هذا أن يكون ذلك التمييز فيهما دائما اهـ ويحتمل أن تكون هذه المحاجة بلسان الحال وليس بلسان المقال (ولكل واحدة منكما ملؤها) فلا فضل لإحداكما على الأخرى وفي ملحق الرواية الثامنة "ولكليكما علي ملؤها" (فأما النار فلا تمتلئ فيضع قدمه عليها فتقول قط قط فهنالك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض) وفي الرواية التاسعة "لا تزال جهنم تقول هل من مزيد حتى يضع فيها رب العزة تبارك وتعالى قدمه فتقول قط قط وعزتك ويزوى بعضها إلى بعض" وفي الرواية العاشرة "لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوى بعضها إلى بعض وتقول قط قط بعزتك وكرمك" قال ابن هشام في مغني اللبيب "قط" على ثلاثة أوجه أحدها أن تكون ظرف زمان لاستغراق ما مضى وهذه بفتح القاف وتشديد الطاء مضمومة في أفصح اللغات وتختص بالنفي يقال ما فعلته قط والعامة يقولون لا أفعله قط وهو لحن وهذه لا تصلح في حديثنا الثاني أن تكون بمعنى حسب وهذه مفتوحة القاف ساكنة الطاء يقال قطى كما يقال حسبي وهي مبنية على السكون وتصلح في حديثنا الثالث اسم فعل بمعنى يكفي فيقال قطني (وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا) وفي الرواية العاشرة "ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا فيسكنهم فضل الجنة" وفي الرواية الحادية عشرة "يبقى من الجنة ما شاء الله أن يبقى ثم ينشئ الله تعالى لها خلقا مما يشاء" (يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار) في ملحق الرواية "إذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار" وفي الرواية الرابعة عشرة "إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وصار أهل النار إلى النار أتي بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار" وفي رواية للبخاري "يؤتي بالموت كهيئة كبش أملح" وعند الترمذي "فيوقف على السور الذي بين الجنة والنار" قال المازري الموت عند أهل السنة عرض يضاد الحياة وقال بعض المعتزلة ليس بعرض بل معناه عدم الحياة قال وهذا خطأ لقوله تعالى {خلق الموت والحياة} [الملك 2] فأثبت الموت مخلوقا وعلى المذهبين ليس الموت بجسم في صورة كبش أو غيره فيتأول الحديث على أن الله تعالى يخلق هذا الجسم ثم يذبح مثالا على أن الموت لا يطرأ على أهل الآخرة اهـ وقال القرطبي الموت معنى والمعاني لا تنقلب جوهرا وإنما يخلق الله كبشا ... إلخ وقال بعضهم لا مانع أن ينشئ الله من الأعراض أجساما كما ثبت في صحيح مسلم "أن البقرة وآل عمران يجيئان كأنهما غمامتان" وذكر مقاتل والكلبي في تفسير قوله تعالى {الذي خلق الموت

والحياة} قال خلق الموت في صورة كبش لا يمر على أحد إلا مات وخلق الحياة على صورة فرس لا يمر على شيء إلا حيي اهـ والقول قول المازري والكبش الأملح هو الأبيض فيه سواد قال القرطبي والحكمة في الإتيان بالموت في هذه الصورة الإشارة إلى أنهم حصل لهم الفداء كما فدى ولد إبراهيم بالكبش وفي الأملح إشارة إلى صفتي أهل الجنة والنار اهـ (فيقال يا أهل الجنة هل تعرفون هذا فيشرئبون وينظرون فيقولون نعم هذا الموت ... ) "يشرئبون" بالهمزة أي يرفعون رءوسهم إلى المنادي ويمدون أعناقهم للنظر قال القرطبي يخلق الله كبشا يسميه الموت ويلقي في قلوب الفريقين أن هذا الموت اهـ وفي رواية "فيقولون نعم وكلهم قد رآه وعرفه" والقائل يا أهل الجنة هل تعرفون هذا هو المنادي الذي سيقول لهم بعد الذبح خلود فلا موت (قال فيؤمر به فيذبح قال ثم يقال يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت) في الرواية الثالثة عشرة "ثم يقوم مؤذن بينهم فيقول يا أهل الجنة لا موت ويا أهل النار لا موت كل خالد فيما هو فيه" وفي الرواية الرابعة عشرة "ثم يذبح ثم ينادي مناد يا أهل الجنة لا موت ويا أهل النار لا موت فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم" وعند الترمذي "فلو أن أحدا مات فرحا لمات أهل الجنة ولو أن أحدا مات حزنا لمات أهل النار" وعند ابن ماجه وابن حبان "فيوقف على الصراط فيقال يا أهل الجنة فيطلعون خائفين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه ثم يقال يا أهل النار فيطلعون فرحين مستبشرين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه ثم يقال للفريقين كلاهما خلود فيما تجدون لا موت فيه أبدا" (ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد وغلظ جلده مسيرة ثلاث) وفي ملحق الرواية الخامسة عشر وعند البخاري "ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع" وعند الحسن بن سفيان في مسنده "خمسة أيام" وعند أحمد في حديث ابن عمر "يعظم أهل النار في النار حتى إن بين شحمة أذن أحدهم إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام" وللبيهقي في البعث "مسيرة سبعين خريفا" ولابن المبارك في الزهد عن أبي هريرة "ضرس الكافر يوم القيامة أعظم من أحد يعظمون لتمتلئ منهم وليذوقوا العذاب" وعند البزار "غلظ جلد الكافر وكثافة جلده اثنان وأربعون ذراعا" وعند البيهقي "وفخذه مثل ورقان" بفتح الواو وسكون الراء جبل معروف بالحجاز وعند الترمذي "ومقعده مثل ما بين مكة والمدينة" وعند الترمذي "إن الكافر ليسحب لسانه الفرسخ والفرسخين يتوطؤه الناس" قال الحافظ ابن حجر قال القرطبي كأن اختلاف هذه المقادير محمول على اختلاف تعذيب الكفار في النار ولا شك أن الكفار متفاوتون في العذاب كما علم من الكتاب والسنة ونحن نعلم بالقطع أن عذاب من قتل الأنبياء وفتك بالمسلمين وأفسد في

الأرض ليس مساويا لعذاب من كفر فقط وأحسن معاملة المسلمين مثلا وقال إنما عظمت خلقة الكافر في النار ليعظم عذابه ويضاعف ألمه وهذا إنما هو في حق البعض دون البعض اهـ والذي أستريح إليه أن هذه الأساليب تعبيرات عن التهويل والتفخيم للعذاب نفسه لا للجسم المعذب إذ استقر في نفوسنا أن كمية العذاب المحدودة لو وزعت على جسم كبير خفت وضعف الألم ولو ضغطت في جسم صغير اشتدت وزاد الألم فرفع هذا الفهم على معنى أن زيادة العذاب متناسبة ومطردة مع زيادة الأجسام أخذا من مقام تهويل العذاب وسواء قلنا إن جسم الكافر يصل من الضخامة هذا القدر حقيقة أو مجازا أو قلنا إن هذه الضخامة تكون في نظر الرائي كمن ينظر من عدسة مكبرة فالمقصود تهويل عذاب الكافر وتفخيمه والله أعلم (ألا أخبركم بأهل الجنة) أي بطابعهم وأكثرهم وغالب صفاتهم فليس أهل الجنة كلهم بهذا الوصف (كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره) خبر مبتدأ محذوف أي أهل الجنة كل ضعيف ... إلخ أي غالبا وفي الرواية الثامنة عشرة "رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره" قال النووي ضبطوا قوله "متضعف" بفتح العين وكسرها والمشهور الفتح ولم يذكر الأكثرون غيره ومعناه يستضعفه الناس ويحتقرونه ويتجبرون عليه لضعف حاله في الدنيا يقال تضعفه واستضعفه وأما رواية الكسر فمعناها متواضع متذلل خامل واضع من نفسه قال القاضي وقد يكون الضعف هنا رقة القلب ولينه وإخباته قال والمراد أن أغلب أهل الجنة هؤلاء كما أن معظم أهل النار القسم الآخر وليس المراد الاستيعاب في الطرفين ومعنى "الأشعث" متلبد الشعر مغبره الذي لا يدهنه ولا يكثر غسله ومعنى "مدفوع بالأبواب" أنه لا يؤذن له بل يحجب ويطرد لحقارته عند الناس ومعنى "لو أقسم على الله لأبره" أي لو حلف يمينا طمعا في كرم الله تعالى بإبراره لأبره وقيل لو دعاه لأجابه يقال أبررت قسمه وبررته والأول هو المشهور (كل عتل جواظ مستكبر) "العتل" بضم العين والتاء هو الجافي الشديد الخصومة بالباطل وأما "الجواظ" بفتح الجيم وتشديد الواو فهو الجموع المنوع وقيل كثير اللحم المختال في مشيته وقيل القصير البطين وأما "المستكبر" والمتكبر فهو صاحب الكبر وهو بطر الحق وغمط الناس وفي الرواية السابعة عشرة "كل جواظ زنيم متكبر" والزنيم الدعي في النسب الملصق بالقوم وليس منهم شبه بزنمة الشاة (انبعث بها رجل عزيز عارم) بفتح العين الممدودة وكسر الراء بعدها ميم وهو الشرير المفسد الخبيث وقيل القوي الشرس يقال عرم بضم الراء وفتحها وكسرها عرامة بفتح العين وعراما بضمها فهو عارم وعرم

(إلام يجلد أحدكم امرأته جلد الأمة أو جلد العبد ولعله يضاجعها من آخر يومه) الاستفهام إنكاري توبيخي أي لا ينبغي أن يجلد أحدكم زوجته (إلام يضحك أحدكم مما يفعل) "مما يفعل" بفتح الياء أي مما يفعله هو كثيرا وهو من الأمور العادية التي لا تثير الضحك وضحكه يحرج من وقعت منه وقد يكون مضطرا لها لا ينبغي أن تضحكوا لما وقع من أخيكم بل ينبغي أن تتغافلوا عنه وعما وقع منه ووجه إيراد هذا الحديث في هذا الباب أن ما فيه أمور قد يستهان بها وهي عند الله عظيمة مستوجبة لنار جهنم (رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أبا بني كعب هؤلاء) وفي الرواية الواحدة والعشرين "إن البحيرة التي يمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس وأما السائبة التي كانوا يسيبونها لآلهتهم فلا يحمل عليها شيء قال صلى الله عليه وسلم رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار وكان أول من سيب السيوب" قال النووي أما "قمعة" فضبطوه على أربعة أوجه أشهرها بكسر القاف وفتح الميم المشددة والثاني كسر القاف والميم المشددة والثالث فتح القاف مع إسكان الميم والرابع فتح القاف وفتح الميم مخففة وأما "خندف" فبكسر الخاء والدال هذا هو الأشهر وحكى القاضي في المشارق فيه وجهين أحدهما هذا والثاني كسر الخاء وفتح الدال وهي اسم القبيلة فلا تنصرف واسمها ليلى بنت عمران بن الجاف بن قضاعة وقوله "أبا بني كعب" ضبطناه "أبا" بالباء وكذا هو في كثير من نسخ بلادنا وفي بعضها "أخا" بالخاء وأما "لحي" فبضم اللام وفتح الحاء وتشديد الياء وأما "قصبه" فبضم القاف وإسكان الصاد قال الأكثرون يعني أمعاءه وقال أبو عبيد الأمعاء واحدها قصب قال وأما قوله "عمرو بن عامر" فالمعروف في نسب ابن خزاعة عمرو بن لحي بن قمعة كما في الرواية الأولى وهو قمعة بن إلياس بن مضر وإنما "عامر" عم أبيه أبي قمعة وهو مدركة بن إلياس فالمعنى أن عمرو بن لحي من أهل النار يجر أمعاءه من خلفه في النار لأنه أول من ابتدع أن الناقة يتركها أهلها لآلهتهم وأصنامهم فلا يحملون عليها ولا يفيدون منها وقد رد القرآن الكريم هذا الشرك بقوله {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب} [المائدة 103] (صنفان من أهل النار لم أرهما) أي في الدنيا وسيكونان في العصور المتأخرة (قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس) فسرهم بعض الشراح بشرطة الحاكم الظالم وفي الرواية الثالثة والعشرين يقول صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة "يوشك إن طالت بك مدة أن ترى قوما في أيديهم مثل أذناب البقر يغدون في غضب الله ويروحون في سخط الله" أي يتحركون ذهابا وإيابا فيما يغضب الله من إيذائهم للناس وفي الرواية الرابعة والعشرين "إن طالت بك مدة أوشكت أن ترى قوما يغدون في سخط الله

ويروحون في لعنته في أيديهم مثل أذناب البقر" والمقصود من مثل أذناب البقر السياط وما في معناها من العصى والخناجر والمدافع والبنادق وغيرها (ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا) "كذا وكذا" كناية عن المسافة الطويلة متعددة الأميال قال النووي أما "الكاسيات" ففيه أوجه أحدها معناه كاسيات من نعمة الله عاريات من شكرها والثاني كاسيات من الثياب عاريات من فعل الخير والثالث كاسيات ببعض الثياب كاشفات بعض أجسادهن إظهارا لجمالها والرابع تلبس ثيابا رقاقا تبين عما تحتها من جسدها قال وأما "مائلات مميلات" فقيل زائغات عن طاعة الله تعالى غير حافظات لفروجهن فهن مائلات عن طاعة الله مميلات يعلمن غيرهن مثل فعلهن وقيل مائلات متبخترات في مشيتهن مميلات أكتافهن وقيل مائلات يتمشطن المشطة الميلاء وهي مشطة البغايا المعروفة لهن مميلات يمشطن غيرهن تلك المشطة وقيل مائلات إلى الرجال مميلات لهم بما يبدين من زينتهن قال وأما "رءوسهن كأسنمة البخت" فمعناه يعظمن رءوسهن بالخمر والعمائم وغيرها مما يلف على الرأس [ومثلها الباروكة] حتى تشبه أسنمة الإبل ويجوز أن يكون معناه يطمحن إلى الرجال ولا يغضضن عنهم ولا ينكسن رءوسهن تبجحا وجرأة وفجورا واختار القاضي أن المائلات اللائي يمشطن المشطة الميلاء قال وهي ضفر الغدائر وشدها إلى فوق وجمعها في وسط الرأس فتصير كأسنمة البخت قال وهذا يدل على أن المراد بالتشبيه بأسنمة البخت إنما هو لارتفاع الغدائر فوق رءوسهن وتكثيرها بما يضفرن مع شعورهن حتى تميل إلى ناحية من جوانب الرأس كما يميل السنام -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من هذه الأحاديث]- 1 - من الرواية الأولى هول منظر جهنم 2 - ومن الرواية الثانية هول نارها وشدتها 3 - ومن الرواية الثالثة عمق قاعها وقعرها 4 - ومن الرواية الرابعة والخامسة دركاتها ومناطق نفوذها في أجسام البشر 5 - ومن الرواية السادسة أصناف أهلها وما كانوا عليه في دنياهم وكذا الجنة 6 - وفيها فضل الفقر والتواضع

7 - ومقت التجبر والكبر والغلظة 8 - وأن الظلم مستحيل على الله 9 - وكلام الله لمخلوقاته وكلامها له جل شأنه 10 - ومن الرواية الثامنة أن كلا من الجنة والنار ستملأ بالخلق يوم القيامة 11 - وأن النار مع اتساعها ومع تقبلها للمزيد ستمتلئ عن طريق انزواء بعضها لبعض بأمر الله وعن طريق ضخامة الأجسام التي ستدخلها 12 - وأن الجنة مع اتساعها ستملأ عن طريق خلق جديد يخلقه الله تعالى لها 13 - ومن الرواية الثانية عشرة قدرة الله تعالى وتجسيدها المعنويات 14 - ومن الرواية الثانية عشرة والثالثة عشرة والرابعة عشرة خلود أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار قال القرطبي في هذه الأحاديث التصريح بأن خلود أهل النار فيها لا إلى غاية أمد وإقامتهم فيها على الدوام بلا موت ولا حياة نافعة ولا راحة كما قال تعالى {لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها} [فاطر 36] وكما قال {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها} [السجدة 20] قال فمن زعم أنهم يخرجون منها وأنها تبقى خالية أو أنها تفنى وتزول فهو خارج عن مقتضى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وأجمع عليه أهل السنة اهـ ونقل الحافظ ابن حجر جمع بعض المتأخرين في هذه المسألة سبعة أقوال أحدها هذا الذي قاله القرطبي ونقل فيه الإجماع والثاني يعذبون فيها إلى أن تنقلب طبيعتهم فتصير نارية حتى يتلذذوا بها لموافقتها طبعهم وهذا قول بعض من ينسب إلى التصوف من الزنادقة والثالث يدخلها قوم ويخلفهم آخرون كما ثبت في الصحيح عن اليهود وقد أكذبهم الله تعالى بقوله {وما هم بخارجين من النار} [البقرة 167] والرابع يخرجون منها وتستمر على حالها الخامس تفنى لأنها حادثة وكل حادث يفنى وهو قول الجهمية والسادس تفنى حركاتهم البتة وهو قول أبي الهذيل العلاف من المعتزلة السابع يزول عذابها ويخرج أهلها منها جاء ذلك عن بعض الصحابة وقد مال بعض المتأخرين إلى هذا القول قال الحافظ ابن حجر وهو مذهب رديء 15 - ومن الرواية التاسعة عشرة النهي عن ضرب النساء لغير ضرورة التأديب 16 - والنهي عن الضحك من الضرطة ونحوها 17 - وحسن الأدب والمعاشرة 18 - ومن الرواية المتممة للعشرين عقوبة من سن سنة سيئة 19 - ومن الرواية الثانية والعشرين وما بعدها عقوبة التسلط وإيذاء الناس 20 - وعقوبة التبرج وزيادة إغواء النساء للرجال والله أعلم.

(782) باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة

(782) باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة 6259 - عن مستورد رضي الله عنه أخي بني فهر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه وأشار يحيى بالسبابة في اليم فلينظر بم ترجع" وفي حديثهم جميعا غير يحيى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك وفي حديث أبي أسامة عن المستورد بن شداد أخي بني فهر وفي حديثه أيضا قال وأشار إسمعيل بالإبهام. 6260 - عن عائشة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا" قلت يا رسول الله النساء والرجال جميعا ينظر بعضهم إلى بعض قال صلى الله عليه وسلم "يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض". 6261 - وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب وهو يقول "إنكم ملاقو الله مشاة حفاة عراة غرلا" ولم يذكر زهير في حديثه يخطب. 6262 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا بموعظة فقال "يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا {كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين} ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم (عليه السلام) ألا وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول يا رب أصحابي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح {وكنت

عليهم شهيدا مادمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} قال فيقال لي إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم" وفي حديث وكيع ومعاذ "فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك". 6263 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "يحشر الناس على ثلاث طرائق راغبين راهبين واثنان على بعير وثلاثة على بعير وأربعة على بعير وعشرة على بعير وتحشر بقيتهم النار تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا وتصبح معهم حيث أصبحوا وتمسي معهم حيث أمسوا". 6264 - عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم {يوم يقوم الناس لرب العالمين} قال "يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه" وفي رواية ابن المثنى قال "يقوم الناس" لم يذكر يوم. 6265 - وفي حديث موسى بن عقبة وصالح "حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه" 6266 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن العرق يوم القيامة ليذهب في الأرض سبعين باعا وإنه ليبلغ إلى أفواه الناس أو إلى آذانهم" يشك ثور أيهما قال.

6267 - عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل" قال سليم بن عامر فوالله ما أدري ما يعني بالميل أمسافة الأرض أم الميل الذي تكتحل به العين قال "فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق فمنهم من يكون إلى كعبيه ومنهم من يكون إلى ركبتيه ومنهم من يكون إلى حقويه ومنهم من يلجمه العرق إلجاما" قال وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه -[المعنى العام]- {الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة} [الحاقة 1 - 3] يوم القيامة وما أدراك ما يوم القيامة أهوال وأهوال تحدث عنها القرآن في كثير من الآيات إنه مراحل ومواطن تبدأ بأشراط الساعة الكبرى وينتهي بدخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار وأحاديثنا واضحة المعاني ظاهرة الأهداف ونحن نسوق بعض الآيات القرآنية التي تتناول جوانب أخرى من أهوال هذا اليوم المرعب يقول الله تعالى {ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار} [يونس 45] {ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود} [هود 103] {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما} [الإسراء 97] {ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة} [الكهف 47 - 48] {إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى} [الحج 1 - 2] {وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين} [غافر 18] {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين} [الدخان 10] {يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير} [ق 42 - 44] {يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون} [المعارج 43 - 44] يوم تدنو الشمس من الرءوس ويتصبب منهم العرق ويتمنون الانصراف ولو إلى النار يوم يلجئون إلى الرسل عليهم السلام يستشفعون بهم فيقول كل منهم نفسي نفسي في هذا اليوم يظل الله سبعة في ظله يوم لا ظل إلا ظله {يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} [عبس 34 - 37] {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم} [الشعراء 88 - 89]

-[المباحث العربية]- (والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه [وأشار بالسبابة في اليم فلينظر بم ترجع) وفي رواية "وأشار بالإبهام" قال النووي هكذا هو في نسخ بلادنا "بالإبهام" وهي الأصبع العظمى المعروفة كذا نقله القاضي عن جميع الرواة إلا السمرقندي فرواه "البهام" قال وهو تصحيف قال القاضي ورواية السبابة أظهر من رواية الإبهام وأشبه بالتمثيل لأن العادة الإشارة بها لا بالإبهام ويحتمل أنه أشار بهذه مرة وبهذه مرة واليم البحر وقوله "بم يرجع" ضبطوا "ترجع" بالمثناه فوق وبالمثناه تحت والأول أشهر ومن رواه بالمثناة تحت أعاد الضمير إلى "أحدكم" ومن رواه بالمثناة فوق أعاد الضمير على الإصبع وهو الأظهر ومعناه لا يعلق بها كثير شيء من الماء قال ومعنى الحديث ما الدنيا بالنسبة إلى الآخرة في قصر مدتها وفناء لذتها ودوام الآخرة ودوام لذاتها ونعيمها إلا كنسبة الماء الذي يعلق بالإصبع إلى باقي البحر اهـ وهذا واضح بالنسبة لنعيم الدنيا ونعيم الجنة للمؤمنين أما بالنسبة للكافرين كما هي لعموم الناس فالنسبة في الزمن والمدة فالدنيا بالنسبة للآخرة كأن لم يلبثوا إلا ساعة لحظة من نهار (يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا) قال القرطبي الحشر الجمع وهو أربعة حشران في الدنيا وحشران في الآخرة فاللذان في الدنيا أحدهما المذكور في قوله تعالى {هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر} [الحشر 2] والثاني المذكور في أشراط الساعة الذي أخرجه مسلم من حديث حذيفة رفعه "إن الساعة لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات ... " فذكره وفي حديث ابن عمر عند أحمد مرفوعا "تخرج نار قبل يوم القيامة من حضرموت فتسوق الناس ... " وفي لفظ "ذلك نار تخرج من قعر عدن ترحل الناس إلى المحشر" وفي حديث أنس "أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب" وعند الحاكم "تبعث نار على أهل المشرق فتحشرهم إلى المغرب تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا ويكون لها ما سقط منهم وتخلف تسوقهم سوق الجمل الكسير" وكل حديث من هذه الأحاديث تصور مرحلة من مراحل هذا الحشر ومنظرا من مناظره بالصورة الحقيقية تارة وبصورة الكناية تارة أخرى قال الحافظ ابن حجر ويحتمل أن تكون النار في هذا الحشر كناية عن الفتن التي تنتشر فتثير الشر العظيم اهـ وحمل النووي روايتنا الخامسة على هذا الحشر فقال عنها وهذا الحشر في آخر الدنيا قبيل القيامة وقبل النفخ في الصور بدليل قوله صلى الله عليه وسلم "وتحشر بقيتهم النار تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا وتصبح معهم حيث أصبحوا وتمسي معهم حيث أمسوا" وهذا آخر أشراط الساعة اهـ

ثم قال القرطبي وأما الحشران اللذان في الآخرة فأولهما حشر الأموات من قبورهم جميعا بعد البعث إلى الموقف قال تعالى {وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا} [الكهف 47] وثانيهما حشرهم إلى الجنة أو النار اهـ وحديثنا "يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا" يتحدث عن الحشر الأول من حشرى الأخرة وهو الجمع بعد البعث والسوق إلى أرض المحشر و"حفاة" أي بدون نعال و"عراة" لا ثياب تسترهم و"غرلا" بضم الغين وسكون الراء أي غير مختونين جمع أغرل وهو الذي لم يختتن وبقيت معه غرلته وهي قلفته وهي الجلدة التي تقطع في الختان والمقصود أنهم يحشرون كما خلقوا لا شيء معهم ولا يفقد منهم شيء (النساء والرجال جميعا ينظر بعضهم إلى بعض) عقبت عائشة على "عراة" واستنكرت الوضع بما جبلت عليه من الحياء والتحرز من رؤية العورات فعند ابن أبي شيبة "قلت يا رسول الله فما نستحي" وعند النسائي "قلت يا رسول الله فكيف بالعورات" وعند الترمذي والحاكم "فقالت واسوأتاه" و"النساء" مرفوع نائب فاعل لمحذوف مأخوذ من الجملة الأولى وفي الكلام استفهام تعجبي أي أيحشر النساء والرجال جميعا وجملة "ينظر بعضهم إلى بعض" حالية وقد نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجواب هذا القيد فقط مع ثبوت المقيد فقال (الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض) وعند البخاري "الأمر أشد من أن يهمهم ذلك" وعند النسائي والحاكم {لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} [عبس 37] زاد الترمذي "لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال شغل بعضهم عن بعض" (ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام) سبق الكلام عنه (ألا وإنه سيجاء برجال من أمتي ... ) سبق الكلام عنه (يحشر الناس على ثلاث طرائق) أي ثلاث فرق (راغبين راهبين واثنان على بعير وثلاثة على بعير وأربعة على بعير وعشرة على بعير وتحشر بقيتهم النار ... ) هذه هي الفرق الثلاث فعلى ما ذهب إليه الخطابي وتبعه النووي من أن هذا عن الحشر في آخر زمان الدنيا تكون الفرقة الأولى هي من اغتنم الفرصة وسار على الفسحة من الظهر والزاد راغبا فيما يستقبله راهبا فيما يستدبره الصنف الثاني من توانى حتى قل الظهر وضاق بهم فاشتركوا وركبوا مترادفين إذا أطاق البعير ومتعاقبين في العدد الأكثر عن طاقة البعير ويشارك هؤلاء في فرقتهم المشاة الفارون القادرون الصنف الثالث المعبر عنه بقوله "وتحشر بقيتهم النار" فهم الذين عجزوا عن تحصيل ما يركبونه وعجزوا عن إنقاذ أنفسهم من الفتن فوقعوا فيها أما على ما ذهب إليه الغزالي ومال إليه الحليمي من أن هذا الحشر في الآخرة وعند الخروج

من القبور وهو حشر الحفاة العراة الغرل فالفرقة الأولى "راغبين راهبين" يراد بها عوام المؤمنين وهم من خلط عملا صالحا وآخر سيئا فيترددون بين الخوف والرجاء وهؤلاء أصحاب الميمنة أما فرقة الركوب فهم السابقون وهم أفاضل المؤمنين يحشرون ركبانا وسكت عن الراكب وحده إشارة إلى من فوق المشتركين وهم الأنبياء أما الفرقة الثالثة فهم فرقة الكفار الذين يسحبون على وجوههم إلى النار ومال الحافظ ابن حجر إلى ترجيح رأي الخطابي ونقل الترجيح عن الطيبي (يقوم الناس لرب العالمين يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه) في الرواية السابعة "إن العرق يوم القيامة ليذهب في الأرض سبعين باعا وإنه ليبلغ إلى أفواه الناس أو إلى آذانهم" وفي الرواية الثامنة "تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل قال الراوي ما أدري ما يعني بالميل أمسافة الأرض أم الميل الذي تكتحل به العين قال فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق فمنهم من يكون إلى كعبيه ومنهم من يكون إلى ركبتيه ومنهم من يكون إلى حقويه ومنهم من يلجمه العرق إلجاما" قال القاضي ويحتمل أن المراد عرق نفسه وغيره ويحتمل عرق نفسه خاصة وسبب كثرة العرق تراكم الأهوال ودنو الشمس من رءوسهم وزحمة بعضهم بعضا اهـ وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن الذي يلجمه العرق هو الكافر أخرج البيهقي عنه بإسناد حسن قال "يشتد كرب ذلك اليوم حتى يلجم الكافر العرق قيل له فأين المؤمنون قال على الكراسي من ذهب ويظلل عليهم الغمام" وأخرج ابن المبارك في الزهد وابن أبي شيبة في المصنف عن سلمان قال "تعطي الشمس يوم القيامة حر عشر سنين ثم تدنى من جماجم الناس حتى تكون قاب قوسين فيعرقون حتى يرشح العرق في الأرض قامة ثم يرتفع حتى يغرغر الرجل" زاد ابن المبارك "ولا يضر حرها يومئذ مؤمنا ولا مؤمنة" قال القرطبي أي ولا يضر مؤمنا كامل الإيمان وقال ابن أبي جمرة ظاهر الحديث تعميم الناس بذلك ولكن دلت الأحاديث الأخرى أنه مخصوص بالبعض وهم الأكثر ويستثني الأنبياء والشهداء ومن شاء الله فأشدهم في العرق الكفار ثم أصحاب الكبائر ثم من بعدهم -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الأحاديث]- 1 - من الرواية الأولى تحقير مدة الدنيا بالنسبة إلى مدة الآخرة 2 - ومن الرواية الثانية كيفية الحشر بعد البعث وأن الناس يحشرون حفاة عراة غرلا 3 - وأن كرب يوم القيامة يحول بينهم وبين التكفير في رؤية عورة غيرهم

4 - ومناقشة التلميذ للشيخ 5 - وصبر الشيخ وحلمه على التلميذ 6 - وأن إبراهيم عليه السلام أول من يكسى لأنه عري يوم ألقي في النار 7 - وأن بعض الصحابة يذاد عن حوض الرسول صلى الله عليه وسلم 8 - وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعلم ما أحدث أصحابه بعده 9 - ومن الرواية الخامسة اختلاف الناس في الحشر تبعا لأعمالهم 10 - ومن الرواية السادسة وما بعدها شدة الموقف العظيم على الناس 11 - ودنو الشمس من الرءوس 12 - وأن عرق الناس سيختلف قدره على حسب أعمالهم 13 - وجوب الإيمان بكل ما جاء صحيحا عن اليوم الآخر قال الشيخ محمد بن أبي جمرة إن هذا لمما يبهر العقول ويدل على عظيم القدرة ويقتضي الإيمان بأمور الآخرة وليس للعقل في ذلك مجال ولا يعترض عليها بعقل ولا قياس ولا عادة وإنما يؤخذ بالقبول ويدخل تحت الإيمان بالغيب ومن توقف في ذلك دل على خسرانه وحرمانه وفائدة الإخبار بذلك أن يتنبه السامع فيأخذ في الأسباب التي تخلصه من تلك الأهوال ويبادر إلى التوبة من التبعات ويلجأ إلى الكريم الوهاب في عونه على أسباب السلامة ويتضرع إليه في سلامته من دار الهوان وإدخاله دار الكرامة بمنه وكرمه والله أعلم.

(783) باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار وعرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه

(783) باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار وعرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه 6268 - عن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته "ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا كل مال نحلته عبدا حلال وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب وقال إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان وإن الله أمرني أن أحرق قريشا فقلت رب إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة قال استخرجهم كما استخرجوك واغزهم نغزك وأنفق فسننفق عليك وابعث جيشا نبعث خمسة مثله وقاتل بمن أطاعك من عصاك قال وأهل الجنة ثلاثة ذو سلطان مقسط متصدق موفق ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم وعفيف متعفف ذو عيال قال وأهل النار خمسة الضعيف الذي لا زبر له الذين هم فيكم تبعا لا يبتغون أهلا ولا مالا والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك" وذكر البخل أو الكذب "والشنظير الفحاش" ولم يذكر أبو غسان في حديثه "وأنفق فسننفق عليك". 6269 - وفي رواية عن قتادة بهذا الإسناد ولم يذكر في حديثه "كل مال نحلته عبدا حلال".

6270 - وفي رواية عن عياض بن حمار أخي بني مجاشع قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خطيبا فقال "إن الله أمرني" وساق الحديث بمثل حديث هشام عن قتادة وزاد فيه "وإن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغ أحد على أحد" وقال في حديثه "وهم فيكم تبعا لا يبغون أهلا ولا مالا" فقلت فيكون ذلك يا أبا عبد الله قال نعم والله لقد أدركتهم في الجاهلية وإن الرجل ليرعى على الحي ما به إلا وليدتهم يطؤها. 6271 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار يقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة". 6272 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال النبي صلى الله عليه وسلم "إذا مات الرجل عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فالجنة وإن كان من أهل النار فالنار" قال "ثم يقال هذا مقعدك الذي تبعث إليه يوم القيامة". 6273 - عن أبي سعيد رضي الله عنه قال ولم أشهده من النبي صلى الله عليه وسلم ولكن حدثنيه زيد بن ثابت قال بينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلة له ونحن معه إذ حادت به فكادت تلقيه وإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة (قال كذا كان يقول الجريري) فقال "من يعرف أصحاب هذه الأقبر" فقال رجل أنا قال "فمتى مات هؤلاء" قال ماتوا في الإشراك فقال "إن هذه الأمة تبتلى في قبورها فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه" ثم أقبل علينا بوجهه فقال "تعوذوا بالله من عذاب النار" قالوا نعوذ بالله من عذاب النار فقال "تعوذوا بالله من عذاب القبر" قالوا نعوذ بالله من عذاب القبر قال "تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن" قالوا نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن قال "تعوذوا

بالله من فتنة الدجال" قالوا نعوذ بالله من فتنة الدجال 6274 - عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر" 6275 - عن أبي أيوب رضي الله عنه قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما غربت الشمس فسمع صوتا فقال "يهود تعذب في قبورها" 6276 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال نبي الله صلى الله عليه وسلم "إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم" قال "يأتيه ملكان فيقعدانه فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل" قال "فأما المؤمن فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله" قال "فيقال له انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة" قال نبي الله صلى الله عليه وسلم "فيراهما جميعا" قال قتادة وذكر لنا أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعا ويملأ عليه خضرا إلى يوم يبعثون 6277 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الميت إذا وضع في قبره إنه ليسمع خفق نعالهم إذا انصرفوا" 6278 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال "إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه" فذكر بمثل حديث شيبان عن قتادة 6279 - عن البراء بن عازب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {يثبت الله الذين آمنوا

بالقول الثابت} قال "نزلت في عذاب القبر فيقال له من ربك فيقول ربي الله ونبيي محمد (صلى الله عليه وسلم) فذلك قوله عز وجل {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} 6280 - عن البراء بن عازب رضي الله عنه {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} قال نزلت في عذاب القبر 6281 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال "إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان يصعدانها" قال حماد فذكر من طيب ريحها وذكر المسك قال "ويقول أهل السماء روح طيبة جاءت من قبل الأرض صلى الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه فينطلق به إلى ربه عز وجل ثم يقول انطلقوا به إلى آخر الأجل" قال "وإن الكافر إذا خرجت روحه قال حماد وذكر من نتنها وذكر لعنا ويقول أهل السماء روح خبيثة جاءت من قبل الأرض قال فيقال انطلقوا به إلى آخر الأجل" قال أبو هريرة فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ريطة كانت عليه على أنفه هكذا 6282 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال كنا مع عمر بين مكة والمدينة فتراءينا الهلال وكنت رجلا حديد البصر فرأيته وليس أحد يزعم أنه رآه غيري قال فجعلت أقول لعمر أما تراه فجعل لا يراه قال يقول عمر سأراه وأنا مستلق على فراشي ثم أنشأ يحدثنا عن أهل بدر فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس يقول "هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله" قال فقال عمر فوالذي بعثه بالحق ما أخطئوا الحدود التي حد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فجعلوا في بئر بعضهم على بعض فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إليهم فقال "يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقا فإني قد وجدت ما وعدني الله حقا" قال عمر يا رسول الله كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها قال "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا علي شيئا"

6283 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك قتلى بدر ثلاثا ثم أتاهم فقام عليهم فناداهم فقال "يا أبا جهل بن هشام يا أمية بن خلف يا عتبة بن ربيعة يا شيبة بن ربيعة أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقا فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا" فسمع عمر قول النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله كيف يسمعوا وأنى يجيبوا وقد جيفوا قال "والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا" ثم أمر بهم فسحبوا فألقوا في قليب بدر 6284 - وفي رواية عن أبي طلحة قال لما كان يوم بدر وظهر عليهم نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر ببضعة وعشرين رجلا (وفي حديث روح بأربعة وعشرين رجلا) من صناديد قريش فألقوا في طوي من أطواء بدر وساق الحديث بمعنى حديث ثابت عن أنس -[المعنى العام]- رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع ما لا نسمع من أصوات حقيقية فقد كان يسمع القرآن من جبريل عليه السلام والصحابة جالسون لا يسمعون شيئا ويرى بعين بصره ما لا نرى كما يصور له من المعاني في صور المحسوسات ما لم يصور لنا فقد صورت له الجنة والنار ورأى صورتهما في عرض الحائط مما لم يقع ولكنه سيقع والإنسان يستعيذ بالله تعالى من شر ما وقع فيعان على تحمله وعلى عدم الفتنة به ويستعيذ بالله مما سيقع ليعينه الله عليه عند وقوعه وأمر الشارع بالاستعاذة من شيء دليل قاطع على وجود هذا الشيء وجودا ما فأمرنا بالاستعاذة {من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس} [الناس 4 - 6] دليل لا شك في وجوده وعليه فالأمر بالاستعاذة من عذاب القبر دليل على أن للقبر عذابا ما بوجه ما ولما كان الميت من الإنسان يقبر غالبا منذ أن قتل ابن آدم أخاه وجعل القرآن الإقبار منة امتن بها على الإنسان بقوله {ثم أماته فأقبره} [عبس 21] لما كان ذلك كذلك صح أن يسند ما يقع بعد الموت إلى القبر وإن لم يقبر ولما كان الزمن لا قدر له عند من مات كان ما يقع له بين الموت والحساب هو مما يقع له في الآخرة فعنده مسافة البرزخ يوم أو بعض يوم مهما طالت ومما هو معلوم أن الميت [حين تبلغ الحلقوم] يرى إن كان من المقربين {فروح وريحان وجنة نعيم وأما إن كان من أصحاب

اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم} [الواقعة 89 - 93] والذي يجمع الأقوال المختلفة أن بعض الناس يعلم مصيره عند الموت وبعضهم لا يعلم ذلك على التحقيق فقد يشمله هناك عفو الله فيقول هناك {هاؤم اقرءوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه} [الحاقة 19 - 20] وأن بعضهم يعذب في قبره على النميمة أو على عدم التنزه من البول أو نحوهما فلعل الجريدة الخضراء ببركة النبي صلى الله عليه وسلم تخفف عنهما وبعضهم يقعد في قبره ويسأل وبعضهم يكتفي بما هو معلوم من أمره وبعضهم يعذب أو ينعم جسدا وروحا وبعضهم يكون ذلك لروحه دون جسده أو لروحه مع جزء من جسده ولو ذرة واحدة وما دمنا نؤمن بقدرة الله على كل شيء ونؤمن بالعقاب والجزاء فلا يضيرنا أن نؤمن كيف يكون ومتى يكون ولأي جزء يكون نسأل الله حسن الختام -[المباحث العربية]- (ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا) هو صلى الله عليه وسلم مأمور أن يبلغ ما أنزل إليه لا خصوص ما أنزل إليه في ذلك اليوم فيحمل هذا على فورية الإعلام بمعلومات اليوم وغيرها كان على التراخي أو يحمل على بعض الأمور التي كان يخص بها مما لا تطيقه أفهامهم "وأعلمكم" بفتح العين وتشديد اللام المكسورة من التعليم (كل مال نحلته عبدا حلال) المتكلم هو الله تعالى وكان حقه أن يقول قال الله تعالى في الحديث القدسي ولكنه اكتفى في ذلك بالمقام والنحلة العطاء بدون مقابل أي كل مال أعطيته عبدا من عبادي بطريق مشروع فهو حلال له والمراد إنكار ما حرموا على أنفسهم من السائبة والوصيلة والبحيرة والحامي وغير ذلك وأنها لم تصر حراما بتحريمهم وكل مال ملكه العبد بطريق مشروع فهو حلال له يتصرف فيه في أي وجه من الوجوه المشروعة (وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم) يشبه قوله صلى الله عليه وسلم "كل مولود يولد على الفطرة" وقد سبق شرحه و"حنفاء" معناه مسلمين وقيل طاهرين من المعاصي وقيل مستقيمين منيبين لقبول الهداية وقيل المراد حين أخذ عليهم العهد في الذر وقال {ألست بربكم قالوا بلى} [الأعراف 172] (وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم) قال النووي هكذا هو في نسخ بلادنا "فاجتالتهم" بالجيم وكذا نقله القاضي عياض عن رواية الأكثرين وفي رواية "فاختالتهم" بالخاء قال والأول أصح وأوضح أي استخفوهم فذهبوا بهم وأزالوهم عما كانوا عليه وجالوا معهم في الباطل قال بعض اللغويين اجتال الرجل الشيء ذهب به واجتال أموالهم ساقها وذهب بها قال القاضي ومعنى "فاختالوهم" بالخاء أي حبسوهم عن دينهم وصدوهم عنه

(وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا) أي الشياطين هي التي حرمت عليهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامى وزينت لهم تحريمها وما حرمها الله والشياطين هي التي أوحت إليهم أن يشركوا بي أصناما وأن يجعلوا لهم من الأنعام ما يجعلون يشير إلى قوله تعالى {وما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون} [المائدة 103] وإلى قوله تعالى {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم} [الأنعام 121] وقوله تعالى {وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون} [الأنعام 136] وقوله تعالى {وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون} [الأنعام 138] (وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب) "عربهم وعجمهم" بدل من "أهل الأرض" بدل بعض من كل فهو مجرور والرواية بالنصب بدل من مفعول "مقتهم" وفي الكلام التفات من التكلم إلى الغيبة وكان الأصل وإنني نظرت والمقت أشد البغض قال النووي والمراد بهذا المقت والنظر ما قبل بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم اهـ أي كانت أحوال أهل الأرض سيئة مما اقتضى بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم (إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك) معناه لأمتحنك بما يظهر منك من قيامك بما أمرتك به من تبليغ الرسالة وغير ذلك من الجهاد في الله حق جهاده والصبر في الله تعالى وغير ذلك وأبتلي بك من أرسلتك إليهم فمنهم من يظهر إيمانه ويخلص في طاعاته ومنهم من يتخلف ويعلن العداوة والكفر ومنهم من ينافق قال النووي والمراد من الامتحان أن يظهر واقعا بارزا ما علمه الله تعالى أنه سيكون فهو إنما يعاقب العباد على ما وقع منهم لا على ما يعلمه قبل وقوعه وإلا فهو سبحانه وتعالى عالم بجميع الأشياء قبل وقوعها وهذا نحو قوله تعالى {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين} [محمد 31] أي نعلمهم فاعلين ذلك متصفين به (وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء) أي محفوظ في الصدور لا يتطرق إليه الذهاب بل يبقى على مر الزمان (تقرؤه نائما ويقظان) قال العلماء معناه يكون محفوظا لك في حالتي النوم واليقظة وقيل تقرؤه في يسر وسهولة (وإن الله أمرني أن أحرق قريشا فقلت رب إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة) "يثلغوا" بفتح اللام أي يشدخوه ويشقوه ويشجوه والأمر بالتحريق أمر بالقسوة عليهم ولو بإبادتهم وإبادة ممتلكاتهم ومعنى "فيدعوه خبزة" أي مكسرة قطعا

(استخرجهم كما استخرجوك) السين والتاء الأولى للطلب أي اطلب خروجهم من ديارهم وحاول ذلك والسين والتاء في "استخرجوك" للصيرورة أي كما صيروك خارج بلدك (واغزهم نغزك) بضم النون وكسر الزاي أي نعينك (وأهل الجنة ثلاثة ذو سلطان مقسط متصدق موفق ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم وعفيف متعفف ذو عيال) المقسط العادل ولا بد من تقدير "من" أي ومن أهل الجنة ثلاثة وليسوا هم كل أهل الجنة (وأهل النار خمسة الضعيف الذي لا زبر له الذين هم فيكم تبعا لا يبتغون أهلا ولا مالا) "لا زبر له" بفتح الزاي وسكون الباء أي لا عقل له يزبره ويمنعه مما لا ينبغي وقيل هو الذي لا مال له وقيل الذي ليس عنده ما يعتمده والأول أقرب وهو السفيه وقوله "لا يتبعون" بالعين وتشديد التاء وتسكينها وفي بعض النسخ "لا يبتغون" بالغين أي لا يطلبون أهلا ولا مالا أي الذين يعيشون عالة على أكتاف غيرهم ضعفا ومهانة وانطلاقا وسفها على هامش حياة الآخرين وقد فسره الراوي ومثله بالراعي يرعى غنم القوم لا يتطلع إلا إلى جارية من جواريهم يطؤها تلك قيمته في حياة القوم (والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه) معنى "لا يخفى" لا يظهر قال أهل اللغة يقال خفيت الشيء إذا أظهرته وأخفيت الشيء إذا سترته وكتمته هذا هو المشهور وقيل هما لغتان فيهما جميعا والمعنى هنا الخائن الحقير الذي لا يتمكن من الخيانة في التافه الحقير أو الكبير إلا خان (ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك) يعني المخادع الممارس للخداع المعتاد له الذي أصبح الخداع فيه ديدنا وخلقا (وذكر البخل أو الكذب) قال النووي هو في أكثر النسخ "أو" وفي بعضها "والكذب" بالواو والأول هو المشهور في نسخ بلادنا وقال القاضي روايتنا عن جميع شيوخنا بالواو إلا الطبري فبـ "أو" وقال بعض الشيوخ ولعله الصواب وبه تكون المذكورات خمسة (والشنظير الفحاش) بكسر الشين وإسكان النون وكسر الظاء وفسره في الحديث بأنه الفحاش وهو السيئ الخلق (إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي) أي في قبره (يقال له هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة) أي هذا مآلك الذي ستئول إليه تظل في انتظاره أو في حيزه حتى يبعثك الله وتئول إليه

(حادت به) أي مالت عن الطريق المطروق نفورا مما سمعت من جانب الطريق العادي فأعادها صلى الله عليه وسلم إلى الطريق (وإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة) الشك من الراوي في عددها فهي تحت الأرض والظاهر منها علاماتها ولم يعدها وأقلها أربعة وأكثرها ستة (ماتوا في الإشراك) أي ماتوا مشركين أي ماتوا في الجاهلية (إن هذه الأمة تبتلى في قبورها) أي تمتحن وتختبر في القبر وتسأل سؤال القبر وتعذب أو تنعم في القبر وسيأتي التفصيل في فقه الحديث (فلولا ألا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه) يقال تدافن القوم إذا تكاتموا فالمعنى لولا أنكم لن تكتموا ما أسمعكم من عذاب القبر فتذيعونه بينكم لدعوت الله أن يسمعكم (إن العبد إذا وضع في قبره) أو ما يقوم مقام قبره (ما كنت تقول في هذا الرجل) يعني النبي صلى الله عليه وسلم قال النووي إنما يقولان له هذه العبارة "هذا الرجل" التي ليس فيها تعظيم امتحانا للمسئول لئلا يتلقن تعظيمه من عبارة السائل ثم يثبت الله الذين آمنوا (انظر مقعدك من النار) لو لم توفق وتثبت (يفسح له في قبره سبعون ذراعا) قال القاضي يحتمل أن يكون هذا الفسح على ظاهره وأنه يرفع عن بصره الحجب الكثيفة التي تجاوره بحيث لا تناله ظلمة القبر ولا ضيقه ويحتمل أن يكون على ضرب المثل للرحمة والنعيم والاحتمال الأول أصح اهـ والاحتمال الثاني أقرب للقبول (ويملأ عليه خضرا) ضبطوه بوجهين أصحهما بفتح الخاء وكسر الضاد والثاني بضم الخاء وفتح الضاد والمعنى يملأ القبر عليه نعما غضة ناعمة وأصله من خضرة الشجر (انطلقوا به إلى آخر الأجل) المراد بالنسبة للمؤمن انطلقوا بروحه إلى سدرة المنتهى وبالنسبة للكافر انطلقوا بروحه إلى سجين ويحتمل أن المراد إلى انقضاء أجل الدنيا (فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ريطة كانت عليه على أنفه) "الريطة" بفتح الراء وسكون الياء ثوب رقيق وسبب ردها على الأنف ما ذكر من نتن ريحها (وكان رجلا حديد البصر) أي نافذه قويه (كيف يسمعوا وأنى يجيبوا وقد جيفوا) قال النووي هكذا هو في عامة النسخ

المعتمدة "يسمعوا ... يجيبوا" من غير نون وهي لغة صحيحة وإن كانت قليلة الاستعمال و"جيفوا" بفتح الجيم وتشديد الياء أي انتنوا وصاروا جيفا يقال جيف الميت وجاف وأجاف وأروح وأنتن بمعنى (فسحبوا فألقوا في قليب بدر) في ملحق الرواية الثالثة عشرة "فألقوا في طوى من أطواء بدر" "الطوى" بفتح الطاء وكسر الواو وتشديد الياء و"القليب" بفتح القاف وكسر اللام بمعنى وهي البئر المطوية المبنية بالحجارة -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من هذه الأحاديث]- 1 - من الرواية الأولى إنكار ما حرم العرب على أنفسهم من الإبل التي خصصوها لأصنامهم بأسماء وصفات مختلفة البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي 2 - وأن كل مولود يولد على الفطرة والحنيفية السمحة 3 - وأن الشياطين من الإنس والجن يحولون الفطرة إلى الإشراك 4 - وأن أهل الأرض كانوا قد أفسدوا فيها بالإشراك وغيره فكانت البشرية في حاجة إلى رسالة محمد صلى الله عليه وسلم 5 - وأن إرسال الرسل ابتلاء لهم واختبار 6 - وابتلاء واختبار لأممهم 7 - وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأخذ بالأسباب ولا يخاطر اعتمادا على أن الله يعصمه من الناس فكان يحسب حسابا لأعدائه 8 - وأن القرآن الكريم يتميز على غيره من الكتب السابقة بالحفظ واليسر 9 - وفيه كثير من صفات المؤمنين المستحقين للجنة وعلى الناس أن يحكموا على أصحاب هذه الصفات بالظاهر ومن أبرزهم السلطان العادل المحسن إلى الناس المتصدق على المحتاجين من شعبه الموفق لعمل الخيرات ومن أبرزهم الرجل الرحيم رقيق القلب لذوي رحمه وللأجانب والرجل الفقير المحتاج الذي يبذل جهده في كسب رزقه ورزق أولاده ثم هو يتعفف عن السؤال والمذلة 10 - وفيه كثير من صفات بعض المستحقين للنار فمن أبرزهم الرجل الكل العالة على غيره "التنبل" الذي لا يسعى لدنياه وأخراه الذليل عند الناس لتبعيته لهم واكتفائه بتلقيه فتات موائدهم ومن أبرزهم الخوان الذي إذا أؤتمن على القليل أو الكثير خان الطامع في الكبير والحقير والمخادع الغشاش الخبيث الذي لا يؤتمن على أهل ولا مال والبخيل والكذاب والفحاش المتفحش

11 - ومن الرواية الثانية إلى آخر الروايات عذاب القبر قال النووي اعلم أن مذهب أهل السنة إثبات عذاب القبر وقد تظاهرت عليه دلائل الكتاب والسنة قال الله تعالى {النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا ءال فرعون أشد العذاب} [غافر 46] وتظاهرت به الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية جماعة من الصحابة في مواطن كثيرة ولا يمتنع في العقل أن يعيد الله تعالى الحياة في جزء من الجسد ويعذبه وإذا لم يمنعه العقل وورد به الشرع وجب قبوله واعتقاده وقد ذكر مسلم هنا أحاديث كثيرة في إثبات عذاب القبر وسماع النبي صلى الله عليه وسلم صوت من يعذب فيه وسماع الموتى قرع نعال دافنيهم وكلامه صلى الله عليه وسلم لأهل القليب وقوله "ما أنتم بأسمع منهم" وسؤال الملكين الميت وإقعادهما إياه وجوابه لهما والفسح له في قبره وعرض مقعده عليه بالغداة والعشي وسبق شرح هذا في كتاب الصلاة وكتاب الجنائز والمقصود هنا إثبات عذاب القبر كما ذكرنا خلافا للخوارج ومعظم المعتزلة وبعض المرجئة فقد نفوا ذلك ثم المعذب عند أهل السنة الجسد بعينه أو بعضه بعد إعادة الروح إليه أو إلى جزء منه وخالف فيه محمد بن جرير وعبد الله بن كرام وطائفة فقالوا لا يشترط إعادة الروح قال أصحابنا هذا فاسد لأن الألم والإحساس إنما يكون في الحي قال أصحابنا ولا يمنع من ذلك كون الميت قد تفرقت أجزاؤه كما تشاهد في العادة أو أكلته السباع أو حيتان البحر أو نحو ذلك فكما أن الله تعالى يعيده للحشر وهو سبحانه وتعالى قادر على ذلك فكذا يعيد الحياة إلى جزء منه أو أجزاء فإن قيل فنحن نشاهد الميت على حاله في قبره فكيف يسأل ويقعد ويضرب بمطارق من حديد ولا يظهر له أثر فالجواب أن ذلك غير ممتنع بل له نظير في العادة وهو النائم فإنه يجد لذة وآلاما لا نحس نحن شيئا منها وكذا يجد اليقظان لذة وألما لما يسمعه أو يفكر فيه ولا يشاهد ذلك جالسوه منه وكذا كان جبريل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيخبره بالوحي الكريم ولا يدركه الحاضرون وكل هذا ظاهر جلي قال أصحابنا أما إقعاده المذكور في الحديث فيحتمل أن يكون خاصا بالمقبور دون المنبوذ ومن أكلته السباع والحيتان وأما ضربه بالمطارق فلا يمتنع أن يوسع له في قبره فيقعد ويضرب والله أعلم اهـ والذي تستريح إليه النفس أن كل ما يتعلق بالقبر أمر غيبي ونصوصه كلها تقبل التأويل فضلا عن أن أكثرها أحاديث آحاد فمن شاء فليؤمن بها على ظاهرها وله أجر ومن أنكرها لم يخرج من الملة ولم يخالف إجماعا والله أعلم.

(784) باب إثبات الحساب

(784) باب إثبات الحساب 6285 - عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من حوسب يوم القيامة عذب" فقلت أليس قد قال الله عز وجل {فسوف يحاسب حسابا يسيرا} فقال "ليس ذاك الحساب إنما ذاك العرض من نوقش الحساب يوم القيامة عذب". 6286 - عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ليس أحد يحاسب إلا هلك" قلت يا رسول الله أليس الله يقول (حسابا يسيرا) قال "ذاك العرض ولكن من نوقش الحساب هلك". 6287 - وفي رواية عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من نوقش الحساب هلك" ثم ذكر بمثل حديث أبي يونس. -[المعنى العام]- يقول الله تعالى {فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا} [الانشقاق 7 - 9] نعم فقراءة الكتاب تطلعه على جميع ما فعل في دنياه من صغيرة وكبيرة ولكنه وقد اطمأن إلى النتيجة بأخذه بيمينه يجد كل معصية وقد كتب العفو أمامها وهذا هو العرض {يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية} [الحاقة 18] فمن الناس من زادت حسناته على سيئاته عرف ما له وما عليه بقراءته ودخل الجنة بدون عقاب ولا عذاب ومن استوت حسناته وسيئاته ومن زادت سيئاته على حسناته فشمله الفضل والرحمة دخل الجنة بدون عقاب بعد أن يقر ويعتذر ومن ذلك حديث النجوى "يدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه فيقول أعلمت كذا وكذا فيقول نعم فيقرره ثم يقول له إني سترت عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم" فهذه المناقشة وهذا الاعتذار نوع من التوبيخ والعذاب أما الكافرون فيجادلون وينكرون حتى إذا أفحموا يعتذرون حيث لا يقبل العذر ولا ينفع الندم

-[المباحث العربية]- (من حوسب يوم القيامة عذب) في الرواية الثانية "ليس أحد يحاسب إلا هلك" وفي ملحقها "من نوقش الحساب هلك" والمناقشة من النقش وهو استخراج الشوكة والمراد بالمناقشة هنا الاستقصاء في المحاسبة والمطالبة بالجليل والحقير وترك المسامحة فالمراد من الحساب في قوله "من حوسب" أي حساب استقصاء أي تحرير الحساب ومعنى "عذب" أي عذب بالنار جزاء على السيئات التي أظهرها الحساب وقوله "هلك" معناه هلك بالعذاب في النار أي عذب وقيل نفس المناقشة عذاب وهلاك لما فيها من التوبيخ (أليس قد قال الله تعالى {فسوف يحاسب حسابا يسيرا}) تمسكت عائشة بمطلق لفظ الحساب في "من حوسب" ولم تلاحظ المراد منه وهو المناقشة وما تتضمن من توبيخ فأجابها صلى الله عليه وسلم بأن الحساب اليسير هو العرض (ليس ذاك الحساب إنما ذاك العرض) وفي رواية "قلت يا رسول الله إن الله يقول {فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا} وعند أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بعض صلاته اللهم حاسبني حسابا يسيرا فقلت يا رسول الله ما الحساب اليسير قال أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه إن من نوقش الحساب يا عائشة يومئذ هلك" -[فقه الحديث]- 1 - في الحديث إثبات الحساب وإثبات العرض 2 - وأن مناقشة الحساب واستقصاءه والسؤال عن الصغيرة والكبيرة عذاب 3 - وفيه مناقشة التلميذ لشيخه واستفهامه عما يشتبه عليه 4 - وسعة صدر الشيخ وتفهيم الشيخ التلميذ ما يشكل عليه والله أعلم.

(785) باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت

(785) باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت 6288 - عن جابر رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بثلاث يقول "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن بالله الظن". 6289 - عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل". 6290 - عن جابر رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "يبعث كل عبد على ما مات عليه". 6291 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إذا أراد الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم". -[المعنى العام]- في الحديث القدسي "أنا عند ظن عبدي بي" أي إن ظن أني غفور رحيم فاستغفر وتاب وآمن وعمل عملا صالحا بدلت سيئاته حسنات وإن يئس وقنط من المغفرة فاستمر في طغيانه وكره لقائي كرهت لقاءه وأوقعت به ما ظنه في شدة عقابي هذه سنتي في عبادي في سعة حياتهم وعند موتهم فواجب على المسلم وبخاصة عند الموت أن يغلب الرجاء على الخوف آخر لحظاته وأن يغلب الخوف على الرجاء في وقت السعة وفي وقت إمكانية رد الحقوق والرجوع إلى الله

-[المباحث العربية]- (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن بالله الظن) أي لا ينبغي أن يموت المؤمن وهو قانط من رحمة الله بل ينبغي أن يحسن الظن بالله ويطمع في عفو الله وفي رحمة الله (يبعث كل عبد على ما مات عليه) من رجاء في الله وأمل أو يأس من رحمة الله وقنوط (إذا أراد الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم) أي عمهم الابتلاء وشملتهم المصيبة فأما أصحاب الرجاء فيطمعون في كون هذا العذاب مكفرا لسيئاتهم رافعا لدرجاتهم فيموتون على ذلك ثم يبعثون عليه وأما أهل القنوط واليأس فلا يطمعون فيبعثون على اليأس والقنوط -[فقه الحديث]- فيه الحث على عظيم الرجاء وحسن الظن بالله والطمع في رحمته ورضوانه وقد سبق الكلام على حديث "أنا عند ظن عبدي بي" ووضحنا هناك واجب المؤمن من الخوف والرجاء والله أعلم.

كتاب الفتن وأشراط الساعة

كتاب الفتن وأشراط الساعة

(786) باب اقتراب الفتن وفتح ردم يأجوج ومأجوج والجيش الذي يخسف به وتواجه المسلمين بسيفيهما وبعض أشراط الساعة

(786) باب اقتراب الفتن وفتح ردم يأجوج ومأجوج والجيش الذي يخسف به وتواجه المسلمين بسيفيهما وبعض أشراط الساعة 6292 - عن زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ من نومه وهو يقول "لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه" وعقد سفيان بيده عشرة قلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال "نعم إذا كثر الخبث". 6293 - عن زينب بنت جحش رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فزعا محمرا وجهه يقول "لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه" وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها قالت فقلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال "نعم إذا كثر الخبث". 6294 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه" وعقد وهيب بيده تسعين. 6295 - عن عبيد الله ابن القبطية قال دخل الحارث بن أبي ربيعة وعبد الله بن صفوان وأنا معهما على أم سلمة أم المؤمنين فسألاها عن الجيش الذي يخسف به وكان ذلك في أيام ابن الزبير فقالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يعوذ عائذ بالبيت فيبعث إليه بعث فإذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم" فقلت يا رسول الله فكيف بمن كان

كارها قال "يخسف به معهم ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته" وقال أبو جعفر هي بيداء المدينة. 6296 - عن عبد العزيز بن رفيع بهذا الإسناد وفي حديثه قال فلقيت أبا جعفر فقلت إنها إنما قالت ببيداء من الأرض فقال أبو جعفر كلا والله إنها لبيداء المدينة. 6297 - عن حفصة أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "ليؤمن هذا البيت جيش يغزونه حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأوسطهم وينادي أولهم آخرهم ثم يخسف بهم فلا يبقى إلا الشريد الذي يخبر عنهم" فقال رجل أشهد عليك أنك لم تكذب على حفصة وأشهد على حفصة أنها لم تكذب على النبي صلى الله عليه وسلم. 6298 - عن أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "سيعوذ بهذا البيت يعني الكعبة قوم ليست لهم منعة ولا عدد ولا عدة يبعث إليهم جيش حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم" قال يوسف وأهل الشأم يومئذ يسيرون إلى مكة فقال عبد الله بن صفوان أما والله ما هو بهذا الجيش قال زيد وحدثني عبد الملك العامري عن عبد الرحمن بن سابط عن الحارث بن أبي ربيعة عن أم المؤمنين بمثل حديث يوسف بن ماهك غير أنه لم يذكر فيه الجيش الذي ذكره عبد الله بن صفوان. 6299 - عن عائشة رضي الله عنها قالت عبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه فقلنا يا رسول الله صنعت شيئا في منامك لم تكن تفعله فقال "العجب إن ناسا من أمتي يؤمون بالبيت برجل من قريش قد لجأ بالبيت حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم" فقلنا يا رسول الله إن الطريق قد يجمع الناس قال "نعم فيهم المستبصر والمجبور وابن السبيل يهلكون مهلكا واحدا ويصدرون مصادر شتى يبعثهم الله على نياتهم".

6300 - عن أسامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أشرف على أطم من آطام المدينة ثم قال "هل ترون ما أرى إني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر. 6301 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي من تشرف لها تستشرفه ومن وجد فيها ملجأ فليعذ به". 6302 - وفي رواية عن نوفل بن معاوية مثل حديث أبي هريرة هذا إلا أن أبا بكر يزيد "من الصلاة صلاة من فاتته فكأنما وتر أهله وماله". 6303 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم "تكون فتنة النائم فيها خير من اليقظان واليقظان فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الساعي فمن وجد ملجأ أو معاذا فليستعذ". 6304 - عن عثمان الشحام قال انطلقت أنا وفرقد السبخي إلى مسلم بن أبي بكرة وهو في أرضه فدخلنا عليه فقلنا هل سمعت أباك يحدث في الفتن حديثا قال نعم سمعت أبا بكرة يحدث قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنها ستكون فتن ألا ثم تكون فتنة القاعد فيها خير من الماشي فيها والماشي فيها خير من الساعي إليها ألا فإذا نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه" قال فقال رجل يا رسول الله أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض قال "يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر ثم لينج إن استطاع النجاء اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت" قال فقال رجل يا رسول الله أرأيت إن

أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين أو إحدى الفئتين فضربني رجل بسيفه أو يجيء سهم فيقتلني قال "يبوء بإثمه وإثمك ويكون من أصحاب النار". 6305 - وفي رواية عن عثمان الشحام بهذا الإسناد حديث ابن أبي عدي نحو حديث حماد إلى آخره وانتهى حديث وكيع عند قوله "إن استطاع النجاء" ولم يذكر ما بعده. 6306 - عن الأحنف بن قيس رضي الله عنه قال خرجت وأنا أريد هذا الرجل فلقيني أبو بكرة فقال أين تريد يا أحنف قال قلت أريد نصر ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني عليا قال فقال لي يا أحنف ارجع فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" قال فقلت أو قيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال "إنه قد أراد قتل صاحبه". 6307 - عن أبي بكرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" 6308 - عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا المسلمان حمل أحدهما على أخيه السلاح فهما على جرف جهنم فإذا قتل أحدهما صاحبه دخلاها جميعا" 6309 - عن همام بن منبه قال هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان وتكون بينهما مقتلة عظيمة ودعواهما واحدة"

6310 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تقوم الساعة حتى يكثر الهرج" قالوا وما الهرج يا رسول الله قال "القتل القتل" 6311 - عن ثوبان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها أو قال من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا" 6312 - عن ثوبان رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الله تعالى زوى لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها وأعطاني الكنزين الأحمر والأبيض" ثم ذكر نحو حديث أيوب عن أبي قلابة 6313 - عن عامر بن سعد عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل ذات يوم من العالية حتى إذا مر بمسجد بني معاوية دخل فركع فيه ركعتين وصلينا معه ودعا ربه طويلا ثم انصرف إلينا فقال صلى الله عليه وسلم "سألت ربي ثلاثا فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها" 6314 - وفي رواية عن عامر بن سعد عن أبيه رضي الله عنه أنه أقبل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه فمر بمسجد بني معاوية بمثل حديث ابن نمير

6315 - عن أبي إدريس الخولاني قال قال حذيفة بن اليمان والله إني لأعلم الناس بكل فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة وما بي إلا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أسر إلي في ذلك شيئا لم يحدثه غيري ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يحدث مجلسا أنا فيه عن الفتن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعد الفتن "منهن ثلاث لا يكدن يذرن شيئا ومنهن فتن كرياح الصيف منها صغار ومنها كبار" قال حذيفة فذهب أولئك الرهط كلهم غيري 6316 - عن حذيفة رضي الله عنه قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما ما ترك شيئا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به حفظه من حفظه ونسيه من نسيه قد علمه أصحابي هؤلاء وإنه ليكون منه الشيء قد نسيته فأراه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه ثم إذا رآه عرفه 6317 - عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة فما منه شيء إلا قد سألته إلا أني لم أسأله ما يخرج أهل المدينة من المدينة 6318 - عن أبي زيد (يعني عمرو بن أخطب رضي الله عنه) قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر فنزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر ثم نزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس فأخبرنا بما كان وبما هو كائن. فأعلمنا أحفظنا. 6319 - عن حذيفة رضي الله عنه قال كنا عند عمر فقال أيكم يحفظ حديث رسول الله

صلى الله عليه وسلم في الفتنة كما قال قال فقلت أنا قال إنك لجريء وكيف قال قال قلت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره يكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" فقال عمر ليس هذا أريد إنما أريد التي تموج كموج البحر قال فقلت ما لك ولها يا أمير المؤمنين إن بينك وبينها بابا مغلقا قال أفيكسر الباب أم يفتح قال قلت لا بل يكسر قال ذلك أحرى أن لا يغلق أبدا قال فقلنا لحذيفة هل كان عمر يعلم من الباب قال نعم كما يعلم أن دون غد الليلة إني حدثته حديثا ليس بالأغاليط قال فهبنا أن نسأل حذيفة من الباب فقلنا لمسروق فسأله فقال عمر. 6320 - عن شقيق قال سمعت حذيفة يقول. 6321 - عن حذيفة رضي الله عنه قال قال عمر من يحدثنا عن الفتنة واقتص الحديث بنحو حديثهم 6322 - عن محمد قال قال جندب جئت يوم الجرعة فإذا رجل جالس فقلت ليهراقن اليوم ها هنا دماء فقال ذاك الرجل كلا والله قلت بلى والله قال كلا والله قلت بلى والله قال كلا والله إنه لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنيه قلت بئس الجليس لي أنت منذ اليوم تسمعني أخالفك وقد سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تنهاني ثم قلت ما هذا الغضب فأقبلت عليه وأسأله فإذا الرجل حذيفة 6323 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب يقتتل الناس عليه فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون ويقول كل رجل منهم لعلي أكون أنا الذي أنجو"

6324 - عن سهيل بهذا الإسناد نحوه وزاد فقال أبي إن رأيته فلا تقربنه 6325 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يوشك الفرات أن يحسر عن كنز من ذهب فمن حضره فلا يأخذ منه شيئا" 6326 - عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يوشك الفرات أن يحسر عن جبل من ذهب فمن حضره فلا يأخذ منه شيئا" 6327 - عن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال كنت واقفا مع أبي بن كعب فقال لا يزال الناس مختلفة أعناقهم في طلب الدنيا قلت أجل قال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "يوشك الفرات أن يحسر عن جبل من ذهب فإذا سمع به الناس ساروا إليه فيقول من عنده لئن تركنا الناس يأخذون منه ليذهبن به كله قال فيقتتلون عليه فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون" قال أبو كامل في حديثه قال وقفت أنا وأبي بن كعب في ظل أجم حسان 6328 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "منعت العراق درهمها وقفيزها ومنعت الشأم مديها ودينارها ومنعت مصر إردبها ودينارها وعدتم من حيث بدأتم وعدتم من حيث بدأتم وعدتم من حيث بدأتم" شهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه 6329 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ فإذا تصافوا قالت الروم خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم فيقول المسلمون لا

والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا فيقاتلونهم فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبدا ويقتل ثلثهم أفضل الشهداء عند الله ويفتتح الثلث لا يفتنون أبدا فيفتتحون قسطنطينية فبينما هم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيهم الشيطان إن المسيح قد خلفكم في أهليكم فيخرجون وذلك باطل فإذا جاءوا الشأم خرج فبينما هم يعدون للقتال يسوون الصفوف إذ أقيمت الصلاة فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم فأمهم فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء فلو تركه لانذاب حتى يهلك ولكن يقتله الله بيده فيريهم دمه في حربته" 6330 - عن موسى بن علي عن أبيه رضي الله عنه قال قال المستورد القرشي عند عمرو بن العاص سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "تقوم الساعة والروم أكثر الناس" فقال له عمرو أبصر ما تقول قال أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لئن قلت ذلك إن فيهم لخصالا أربعا إنهم لأحلم الناس عند فتنة وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة وأوشكهم كرة بعد فرة وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف وخامسة حسنة جميلة وأمنعهم من ظلم الملوك 6331 - عن المستورد القرشي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "تقوم الساعة والروم أكثر الناس" قال فبلغ ذلك عمرو بن العاص فقال ما هذه الأحاديث التي تذكر عنك أنك تقولها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له المستورد قلت الذي سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فقال عمرو لئن قلت ذلك إنهم لأحلم الناس عند فتنة وأجبر الناس عند مصيبة وخير الناس لمساكينهم وضعفائهم 6332 - عن يسير بن جابر قال هاجت ريح حمراء بالكوفة فجاء رجل ليس له هجيري إلا يا عبد الله بن مسعود جاءت الساعة قال فقعد وكان متكئا فقال إن الساعة لا تقوم حتى لا يقسم ميراث ولا يفرح بغنيمة ثم قال بيده هكذا (ونحاها نحو الشأم) فقال عدو يجمعون لأهل الإسلام ويجمع لهم أهل الإسلام قلت الروم تعني قال نعم

وتكون عند ذاكم القتال ردة شديدة فيشترط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة فيقتتلون حتى يحجز بينهم الليل فيفيء هؤلاء وهؤلاء كل غير غالب وتفنى الشرطة ثم يشترط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة فيقتتلون حتى يحجز بينهم الليل فيفيء هؤلاء وهؤلاء كل غير غالب وتفنى الشرطة ثم يشترط المسلمون شرطة الموت لا ترجع إلا غالبة فيقتتلون حتى يمسوا فيفيء هؤلاء وهؤلاء كل غير غالب وتفنى الشرطة فإذا كان يوم الرابع نهد إليهم بقية أهل الإسلام فيجعل الله الدبرة عليهم فيقتلون مقتلة إما قال لا يرى مثلها وإما قال لم ير مثلها حتى إن الطائر ليمر بجنباتهم فما يخلفهم حتى يخر ميتا فيتعاد بنو الأب كانوا مائة فلا يجدونه بقي منهم إلا الرجل الواحد فبأي غنيمة يفرح أو أي ميراث يقاسم فبينما هم كذلك إذ سمعوا ببأس هو أكبر من ذلك فجاءهم الصريخ إن الدجال قد خلفهم في ذراريهم فيرفضون ما في أيديهم ويقبلون فيبعثون عشرة فوارس طليعة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني لأعرف أسماءهم وأسماء آبائهم وألوان خيولهم هم خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ أو من خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ" قال ابن أبي شيبة في روايته عن أسير بن جابر 6333 - وفي رواية عن يسير بن جابر قال كنت عند ابن مسعود فهبت ريح حمراء وساق الحديث بنحوه وحديث ابن علية أتم وأشبع. 6334 - عن أسير بن جابر قال كنت في بيت عبد الله بن مسعود والبيت ملآن قال فهاجت ريح حمراء بالكوفة فذكر نحو حديث ابن علية 6335 - عن نافع بن عتبة رضي الله عنه قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة قال فأتى النبي صلى الله عليه وسلم قوم من قبل المغرب عليهم ثياب الصوف فوافقوه عند أكمة فإنهم لقيام ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد قال فقالت لي نفسي ائتهم فقم بينهم وبينه لا يغتالونه قال ثم قلت لعله نجي معهم فأتيتهم فقمت بينهم وبينه قال فحفظت منه أربع كلمات أعدهن في يدي قال "تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله ثم فارس فيفتحها الله ثم تغزون الروم فيفتحها الله ثم تغزون الدجال فيفتحه الله. قال فقال نافع يا جابر لا نرى الدجال يخرج حتى تفتح الروم.

6336 - عن حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه قال اطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر فقال "ما تذاكرون" قالوا نذكر الساعة قال "إنها لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات" فذكر الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم ويأجوج ومأجوج وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم 6337 - عن أبي سريحة حذيفة بن أسيد رضي الله عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم في غرفة ونحن أسفل منه فاطلع إلينا فقال "ما تذكرون" قلنا الساعة قال "إن الساعة لا تكون حتى تكون عشر آيات خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف في جزيرة العرب والدخان والدجال ودابة الأرض ويأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من مغربها ونار تخرج من قعرة عدن ترحل الناس" قال شعبة وحدثني عبد العزيز بن رفيع عن أبي الطفيل عن أبي سريحة مثل ذلك لا يذكر النبي صلى الله عليه وسلم وقال أحدهما في العاشرة نزول عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم وقال الآخر وريح تلقي الناس في البحر 6338 - عن أبي سريحة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غرفة ونحن تحتها نتحدث وساق الحديث بمثله قال شعبة وأحسبه قال تنزل معهم إذا نزلوا وتقيل معهم حيث قالوا قال شعبة وحدثني رجل هذا الحديث عن أبي الطفيل عن أبي سريحة ولم يرفعه قال أحد هذين الرجلين نزول عيسى ابن مريم وقال الآخر ريح تلقيهم في البحر 6339 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى".

6340 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تبلغ المساكن إهاب أو يهاب" قال زهير قلت لسهيل فكم ذلك من المدينة قال كذا وكذا ميلا 6341 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ليست السنة بأن لا تمطروا ولكن السنة أن تمطروا وتمطروا ولا تنبت الأرض شيئا" 6342 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مستقبل المشرق يقول "ألا إن الفتنة ها هنا ألا إن الفتنة ها هنا من حيث يطلع قرن الشيطان" 6343 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عند باب حفصة فقال بيده نحو المشرق "الفتنة ها هنا من حيث يطلع قرن الشيطان" قالها مرتين أو ثلاثا وقال عبيد الله بن سعيد في روايته قام رسول الله صلى الله عليه وسلم عند باب عائشة. 6344 - عن سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو مستقبل المشرق "ها إن الفتنة ها هنا ها إن الفتنة ها هنا ها إن الفتنة ها هنا من حيث يطلع قرن الشيطان" 6345 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيت عائشة فقال "رأس الكفر من ها هنا من حيث يطلع قرن الشيطان" يعني المشرق. 6346 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير بيده نحو المشرق ويقول "ها إن الفتنة ها هنا ها إن الفتنة ها هنا" ثلاثا "حيث يطلع قرنا الشيطان"

6347 - عن سالم بن عبد الله بن عمر قال يا أهل العراق ما أسألكم عن الصغيرة وأركبكم للكبيرة سمعت أبي عبد الله بن عمر يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن الفتنة تجيء من ها هنا" وأومأ بيده نحو المشرق "من حيث يطلع قرنا الشيطان" وأنتم يضرب بعضكم رقاب بعض وإنما قتل موسى الذي قتل من آل فرعون خطأ فقال الله عز وجل له {وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا} [طه 40] قال أحمد بن عمر في روايته عن سالم لم يقل سمعت 6348 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس حول ذي الخلصة" وكانت صنما تعبدها دوس في الجاهلية بتبالة 6349 - عن عائشة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى" فقلت يا رسول الله إن كنت لأظن حين أنزل الله {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} أن ذلك تاما قال "إنه سيكون من ذلك ما شاء الله ثم يبعث الله ريحا طيبة فتوفى كل من في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فيبقى من لا خير فيه فيرجعون إلى دين آبائهم" 6350 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه" 6351 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "والذي نفسي بيده لا

تذهب الدنيا حتى يمر الرجل على القبر فيتمرغ عليه ويقول يا ليتني كنت مكان صاحب هذا القبر وليس به الدين إلا البلاء" 6352 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم "والذي نفسي بيده ليأتين على الناس زمان لا يدري القاتل في أي شيء قتل ولا يدري المقتول على أي شيء قتل" 6353 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "والذي نفسي بيده لا تذهب الدنيا حتى يأتي على الناس يوم لا يدري القاتل فيم قتل ولا المقتول فيم قتل" فقيل كيف يكون ذلك قال "الهرج القاتل والمقتول في النار" وفي رواية ابن أبان قال هو يزيد بن كيسان عن أبي إسمعيل لم يذكر الأسلمي 6354 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال عن النبي صلى الله عليه وسلم "يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة" 6355 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة" 6356 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ذو السويقتين من الحبشة يخرب بيت الله عز وجل" 6357 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه" 6358 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا تذهب الأيام والليالي حتى

يملك رجل يقال له الجهجاه" قال مسلم هم أربعة إخوة شريك وعبيد الله وعمير وعبد الكبير بنو عبد المجيد 6359 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما كأن وجوههم المجان المطرقة ولا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما نعالهم الشعر" 6360 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تقوم الساعة حتى تقاتلكم أمة ينتعلون الشعر وجوههم مثل المجان المطرقة" 6361 - عن أبي هريرة رضي الله عنه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما نعالهم الشعر ولا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما صغار الأعين ذلف الآنف" 6362 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون الترك قوما وجوههم كالمجان المطرقة يلبسون الشعر ويمشون في الشعر" 6363 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تقاتلون بين يدي الساعة قوما نعالهم الشعر كأن وجوههم المجان المطرقة حمر الوجوه صغار الأعين" 6364 - عن أبي نضرة قال كنا عند جابر بن عبد الله فقال يوشك أهل العراق أن لا يجبى إليهم قفيز ولا درهم قلنا من أين ذاك قال من قبل العجم يمنعون ذاك ثم قال يوشك أهل الشأم أن لا يجبى إليهم دينار ولا مدي قلنا من أين ذاك قال من قبل الروم ثم سكت هنية ثم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يكون في آخر أمتي خليفة يحثي المال حثيا لا يعده عددا" قال قلت لأبي نضرة وأبي العلاء أتريان أنه عمر بن عبد العزيز فقالا لا.

6365 - عن أبي سعيد رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من خلفائكم خليفة يحثو المال حثيا لا يعده عددا" وفي رواية ابن حجر "يحثي المال" 6366 - عن أبي سعيد وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعده" 6367 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال أخبرني من هو خير مني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار حين جعل يحفر الخندق وجعل يمسح رأسه ويقول "بؤس ابن سمية تقتلك فئة باغية" 6368 - وفي رواية عن أبي مسلمة بهذا الإسناد نحوه غير أن في حديث النضر أخبرني من هو خير مني أبو قتادة وفي حديث خالد بن الحارث قال أراه يعني أبا قتادة وفي حديث خالد ويقول "ويس" أو يقول "يا ويس ابن سمية" 6369 - عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار "تقتلك الفئة الباغية" 6370 - عن أم سلمة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تقتل عمارا الفئة الباغية"

6371 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "يهلك أمتي هذا الحي من قريش" قالوا فما تأمرنا قال "لو أن الناس اعتزلوهم" 6372 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قد مات كسرى فلا كسرى بعده وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله" 6373 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هلك كسرى ثم لا يكون كسرى بعده وقيصر ليهلكن ثم لا يكون قيصر بعده ولتقسمن كنوزهما في سبيل الله" 6374 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده" فذكر بمثل حديث أبي هريرة سواء 6375 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لتفتحن عصابة من المسلمين أو من المؤمنين كنز آل كسرى الذي في الأبيض" قال قتيبة من المسلمين ولم يشك 6376 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "سمعتم بمدينة جانب منها في البر وجانب منها في البحر" قالوا نعم يا رسول الله قال "لا تقوم الساعة حتى يغزوها

سبعون ألفا من بني إسحق فإذا جاءوها نزلوا فلم يقاتلوا بسلاح ولم يرموا بسهم قالوا لا إله إلا الله والله أكبر فيسقط أحد جانبيها" قال ثور لا أعلمه إلا قال "الذي في البحر ثم يقولوا الثانية لا إله إلا الله والله أكبر فيسقط جانبها الآخر ثم يقولوا الثالثة لا إله إلا الله والله أكبر فيفرج لهم فيدخلوها فيغنموا فبينما هم يقتسمون المغانم إذ جاءهم الصريخ فقال إن الدجال قد خرج فيتركون كل شيء ويرجعون" 6377 - عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لتقاتلن اليهود فلتقتلنهم حتى يقول الحجر يا مسلم هذا يهودي فتعال فاقتله" 6378 - وفي رواية عن عبيد الله بهذا الإسناد وقال في حديثه "هذا يهودي ورائي" 6379 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "تقتتلون أنتم ويهود حتى يقول الحجر يا مسلم هذا يهودي ورائي تعالى فاقتله" 6380 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "تقاتلكم اليهود فتسلطون عليهم حتى يقول الحجر يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله" 6381 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود" 6382 - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن بين يدي

الساعة كذابين" وزاد في حديث أبي الأحوص قال فقلت له آنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم 6383 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله" 6384 - وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله غير أنه قال ينبعث -[المعنى العام]- الحياة الدنيا كلها فتنة واختبار شرها فتنة وخيرها فتنة نساؤها فتنة أموالها فتنة أولادها فتنة وأديانها فتنة وإبليس فتنة والشهوات فتنة تلك فتن قائمة في جميع العصور وتعم ذرية آدم في جميع الأماكن وليست موضوع أحاديثنا بل أحاديثنا عن فتن هي أخطار في أماكن في زمن من الأزمان وإذا كان الرحمن الرحيم قد وعد نبيه صلى الله عليه وسلم ألا يهلك أمته هلاك استئصال بغرق أو خسف أو صاعقة فقد أبقى بعض عقوبات الأمم السابقة على طوائف من الأمة من زلازل وبراكين وعواصف وكوارث يسميها الغافلون كوارث طبيعية وهي في الحقيقة بقدر وموازين وحكمة من عند الحكيم الخبير قد تصيب أشرارا يعيثون في الأرض الفساد وقد تصيب خليطا من الصالحين والطالحين إذا كثر الخبث فتكون عقوبة وعذابا لجماعة وخيرا ورفعا للدرجات للجماعة الأخرى إن الوحدة والتآلف والمحبة والأخوة التي بلغت درجة الإيثار بين المسلمين ستعقبها عداوة وتفكك وضغائن وأحقاد بل وحروب بينهم ولن تكون بعيدة الزمن فقبل ثلاثين عاما من لقاء الرسول صلى الله عليه وسلم لربه سيقتل عثمان رضي الله عنه على يد غوغاء فينكسر باب الرحمة وتتحطم تلك الوحدة وتقوم الحروب بين الإخوة فيقتل الآلاف في معركة واحدة ويصبح الحكم سلطانا يورث ويتولى قيادة المسلمين غلمان سفهاء يعيثون في الأرض الفساد تلك الفتن رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم بوحي من ربه فأخبر أمته بها وحذرهم منها كما أخبرهم بفتنة ازدهار الدنيا لهم واستيلائهم على كنوز كسرى وقيصر فقال مرة "ويل للعرب من شر قد اقترب" ومرة "إني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع المطر" ومرة "ألا إن الفتنة ههنا من حيث يطلع قرنا الشيطان" وأشار إلى المشرق "لا يحمل المسلم السلاح على المسلم" "إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار"

القاعد في الفتنة خير من القائم والقائم خير من الماشي من دخل تيارها أو قرب منها سحبته إلى لهبها وعمقها إلى كثير من التحذيرات من هذه الفتن ولكن لا يغني حذر من قدر ووقع كل ما حذر منه صلى الله عليه وسلم بقيت فتن أخرى حذر منها ونحن ننتظرها الدجال والدابة وخسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب والدخان ونزول عيسى ويأجوج ومأجوج وريح تحشر الناس وطلوع الشمس من مغربها وغير ذلك يحذرنا صلى الله عليه وسلم لنأخذ أهبتنا ونقلع عن معاصينا ولنرجع إلى الطريق المستقيم -[المباحث العربية]- (أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ من نومه وهو يقول لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب) في الرواية الثانية "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فزعا محمرا وجهه يقول .... " إنما خص العرب بالذكر لأنهم أول من دخل في الإسلام وللإنذار بأن الفتن إذا وقعت كان الهلاك أسرع إليهم ولا تعارض بين الروايتين فيحتمل أنه صلى الله عليه وسلم استيقظ من نومه يقول كذا وكذا وخرج فزعا وهو يردد نفس القول (فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وعقد سفيان بيده عشرة) في الرواية الثانية "وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها" قال النووي وفي رواية أبي هريرة روايتنا الثالثة "وعقد وهيب بيده تسعين" قال القاضي لعل حديث أبي هريرة متقدم فزاد قدر الفتح بعد هذا القدر قال أو يكون المراد التقريب بالتمثيل لا حقيقة التحديد و"يأجوج ومأجوج" مهموزان وغير مهموزين قرئ في السبع بالوجهين وهما قبيلتان من ولد يافث بن نوح وروى الحاكم من حديث حذيفة مرفوعا "يأجوج أمة ومأجوج أمة كل أمة أربعمائة ألف رجل لا يموت أحدهم حتى ينظر إلى ألف رجل من صلبه كلهم قد حمل السلاح لا يمرون على شيء إذا خرجوا إلا أكلوه ويأكلون من مات منهم" (أنهلك وفينا الصالحون) الاستفهام حقيقي و"نهلك" بكسر اللام على اللغة الفصيحة المشهورة وحكى فتحها وهو ضعيف أو فاسد (قال نعم إذا كثر الخبث) بفتح الخاء والباء وفسره الجمهور بالفسوق والفجور وقيل المراد به الزنا خاصة وقيل أولاد الزنا والظاهر أنه المعاصي مطلقا ومعنى الحديث أن الخبث إذا كثر فقد يحصل الهلاك العام وإن كان هناك صالحون (يعوذ عائذ بالبيت) أي يستجير بالبيت الحرام الكعبة وفي الرواية السابعة "سيعوذ بهذا

البيت يعني الكعبة قوم ليست لهم منعة ولا عدد ولا عدة" فبينت أن المستعيذ به جماعة تستحق الجيش (فيبعث إليه بعث) أي يرسل له الحاكم جيشا يحاربه ويقبض عليه وفي الرواية السادسة "ليؤمن" بفتح الياء وضم الهمزة وتشديد الميم المفتوحة أي ليقصدن "هذا البيت جيش يغزونه" أي يغزون الكعبة للقبض على المحتمي به (فإذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم) في ملحق الرواية "قال الراوي والله إنها لبيداء المدينة" والبيداء كل أرض ملساء لا شيء فيها وبيداء المدينة الشرف الذي قدام ذي الحليفة أي إلى جهة مكة (فكيف بمن كان كارها) أي يخسف بالراغب في حرب المستعيذ فكيف يخسف بمن كان من الجيش كارها الحرب (قال يخسف به معهم ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته) أي يخسف به معهم لأن الفتنة لا تصيب الذين ظلموا خاصة فالمذنب مستحق وغير المذنب يرفع من درجاته على حسب نيته وفي الرواية السادسة "يخسف بأوسطهم وينادي أولهم آخرهم" أي يتضامون ويتجمعون "ثم يخسف بهم فلا يبقى إلا الشرير الذي يخبر عنهم" (قال يوسف وأهل الشام يومئذ يسيرون إلى مكة) لقتال عبد الله بن الزبير فخشي عبد الله بن صفوان أن يفهم من الحديث أن المقصود به هذا الجيش فنفاه (عبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه) "عبث" بكسر الباء قيل معناه اضطرب بجسمه وقيل حرك أطرافه منزعجا (فقال العجب إن ناسا من أمتي يؤمون بالبيت برجل من قريش قد لجأ بالبيت) "العجب" مبتدأ خبره محذوف أي ما رأيت ثم بدأ يحكي "إن ناسا" وهم الجيش المبين سابقا "يؤمون بالبيت" أي يقصدونه يقصدون فيه رجلا من قريش تبعه ناس قد لجئوا إلى البيت (إن الطريق قد يجمع الناس قال نعم فيهم المستبصر والمجبور وابن السبيل يهلكون مهلكا واحدا ويصدرون مصادر شتى) أي قد يجتمع مع الجيش عند الخسف ما ليس من الجيش بل من في الجيش منهم المستبين للهدف القاصد العامد له ومنهم الذي لا يدري إلا تنفيذ الأمر ومنهم المكره المجبر قال النووي يقال أجبرته فهو مجبر هذه هي اللغة المشهورة ويقال أيضا جبرته فهو مجبور حكاها الفراء وغيره

(أن النبي صلى الله عليه وسلم أشرف على أطم من آطام المدينة) أي علا وارتفع ووقف على حصن من حصون المدينة و"الأطم" بضم الهمزة والطاء جمعه آطام القصر أو الحصن (إني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر) في الكثرة والعموم أي إنها كثيرة وتعم الناس ولا تختص بها طائفة قيل كان هذا إشارة إلى الحروب التي ستجرى كموقعة الجمل وصفين ومقتل عثمان والحسين رضي الله عنهم (ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي) وفي الرواية الحادية عشرة "النائم فيها خير من اليقظان واليقظان فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الساعي" وفي الرواية الثانية عشرة "القاعد فيها خير من الماشي فيها والماشي فيها خير من الساعي إليها" وعند أحمد وأبي داود "النائم فيها خير من المضطجع" وهو المراد باليقظان وفي رواية "والماشي فيها خير من الراكب" قال بعض الشراح والمراد من القاعد القاعد في زمانها عنها والمراد بالقائم الذي لا يستشرفها والمراد بالماشي من يمشي في أسبابه لأمر سواها فربما يقع بسبب مشيه في أمر يكرهه وحكى ابن التين عن الداودي أن الظاهر أن المراد من يكون مباشرا لها في الأحوال كلها يعني أن بعضهم في ذلك أشد من بعض فأعلاهم في ذلك الساعي فيها بحيث يكون سببا في إيقاعها وإثارتها ثم من يكون قائما بأسبابها وهو الماشي ثم من يكون مباشرا لها وهو القائم ثم من يكون مع النظارة ولا يقاتل وهو القاعد ثم من يكون مجتنبا لها ولا يباشر ولا ينظر وهو المضطجع اليقظان ثم من لا يقع منه شيء من ذلك ولكنه راض وهو النائم والمراد بالأفضلية في هذه الخيرية من يكون أقل شرا ممن فوقه على التفصيل المذكور اهـ وهذا التوجيه أدخل في المراد وأحرى بالقبول (من تشرف لها تستشرفه) قال النووي "تشرف" روى على وجهين مشهورين أحدهما فتح التاء والشين والراء المشددة والثاني بياء مضمومة وإسكان الشين وكسر الراء وهو من الإشراف للشيء وهو الانتصاب والتطلع والتعرض له ومعنى "تستشرفه" تقلبه وتصرعه وقيل من الإشراف بمعنى الإشفاء على الهلاك ومنه أشفى المريض على الموت أي أشرف عليه اهـ (ومن وجد فيها ملجأ فليعذ به) وفي رواية "فمن وجد منها" وهي أوضح والمعنى من وجد ملجأ يلتجئ إليه منها أو حماية تحميه منها فليلجأ إليه وفي الرواية الثانية عشرة "فإذا نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه قال فقال رجل يا رسول الله أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض قال يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر ثم لينج إن استطاع النجاء" وفيها "فقال رجل يا رسول الله أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين أو إحدى الفئتين فضربني رجل بسيفه أو يجيء سهم فيقتلني قال يبوء بإثمه وإثمك ويكون من أصحاب النار"

قيل المراد كسر السيف حقيقة على ظاهر الحديث ليسد على نفسه باب هذا القتال وقيل هو مجاز والمراد ترك القتال والأول أصح ومعنى "يبوء بإثمه وإثمك" أي يرجع بهما ويلزمه احتمالهما ويكون مستحقا للنار (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار) سبق هذا الحديث وشرحه في كتاب الإيمان في الجزء الأول من هذا الكتاب (إذا المسلمان حمل أحدهما على أخيه السلاح فهما على جرف جهنم فإذا قتل أحدهما صاحبه دخلاها جميعا) قال النووي هكذا هو في معظم النسخ "جرف" بالجيم وضم الراء وإسكانها وفي بعضها "حرف" بالحاء وهما متقاربان ومعناه على طرفها قريب من السقوط فيها (لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان وتكون بينهما مقتلة عظيمة ودعواهما واحدة) حمله الشراح على موقعة الجمل وصفين (لا تقوم الساعة حتى يكثر الهرج) وفسر في الحديث بالقتل أي بكثرة القتل (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض) "زوى لي الأرض" أي جمعها (فيستبيح بيضتهم) أي جماعتهم وأصلهم والبيضة أيضا العز والملك (أن لا أهلكهم بسنة عامة) أي لا أهلكهم بقحط يعمهم ويستأصلهم بل إن وقع قحط كان في ناحية من بلادهم وقد مضى شرح الحديث كما سبق شرح حديث حذيفة مع عمر في الفتنة التي تموج موج البحر (قال جندب جئت يوم الجرعة) بفتح الجيم وبسكون الراء وفتحها والفتح أشهر وأجود وهي موضع بقرب الكوفة على طريق الحيرة ويوم الجرعة يوم خرج فيه أهل الكوفة يتلقون واليا ولاه عليهم عثمان فردوه وسألوا عثمان أن يولي عليهم أبا موسى الأشعري فولاه (بئس الجليس لي أنت منذ اليوم تسمعني أخالفك ... فلا تنهاني) قال النووي وقع في جميع نسخ بلادنا المعتمدة "أخالفك" بالخاء وقال القاضي رواية شيوخنا كافة بالحاء من الحلف الذي هو اليمين قال ورواه بعضهم بالخاء وكلاهما صحيح قال بالحاء أظهر لتكرر الأيمان بينهما (لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب يقتتل الناس عليه) في الرواية السابعة والعشرين "يوشك الفرات أن يحسر عن كنز من ذهب" زاد في الرواية التاسعة

والعشرين "فإذا سمع به الناس ساروا إليه فيقول من عنده لئن تركنا الناس يأخذون منه ليذهبن به كله فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون" "يحسر" بفتح الياء وسكون الحاء وكسر السين أي ينكشف ويبين عما في باطنه وقد يفسر كنز الذهب بالبترول فيصدق كل ما أخبر به صلى الله عليه وسلم (منعت العراق درهمها وقفيزها) القفيز مكيال معروف لأهل العراق (ومنعت الشام مديها ودينارها) "مديها" بضم الميم وسكون الدال ونصب الياء مكيال معروف لأهل الشام قيل يسع خمسة عشر مكوكا (ومنعت مصر إردبها ودينارها) الإردب مكيال معروف لأهل مصر قيل يسع أربعة وعشرين صاعا والتعبير بمنعت تعبير بالماضي عن المضارع أي ستمنع هذه البلاد الحب والمال بسبب الفتن بين المسلمين قال النووي في المعنى قولان مشهوران أحدهما أن يسلم جميعهم فتسقط عنهم الجزية وهذا قد وجد الثاني وهو الأشهر أن معناه أن العجم والروم يستولون على البلاد في آخر الزمان فيمنعون حصول ذلك للمسلمين وقد روى مسلم هذا بعد هذا بورقات [روايتنا الثانية والستين] عن جابر قال "يوشك أهل العراق ألا يجيء إليهم قفيز ولا درهم قلنا من أين ذاك قال من قبل العجم يمنعون ذاك" وذكر في منع الروم ذلك بالشام مثله وهذا قد وجد في زماننا في العراق وهو الآن موجود هذا كلام قاله النووي وقيل لأنهم يرتدون في آخر الزمان فيمنعون ما لزمهم مما كانوا يؤدونه من الجزية والخراج وغير ذلك (وعدتم من حيث بدأتم) أي وتعودون من حيث بدأتم ويعود الإسلام غريبا كما بدأ (لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق) "الأعماق" بفتح الهمزة وبالعين و"دابق" بكسر الباء وفتحها والكسر هو الصحيح المشهور وهو اسم موضع معروف الأغلب عليه التذكير والصرف على أنه في الأصل اسم نهر وقد يؤنث ولا يصرف و"والأعماق ودابق" موضعان قرب حلب بالشام (خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم) قال النووي روى "سبوا" بوجهين فتح السين والباء وضمهما قال القاضي الضم رواية الأكثرين قال وهو الصواب قال النووي كلاهما صواب لأنهم سبوا أولا ثم سبوا الكفار وهذا موجود في زماننا بل معظم عساكر الإسلام في بلاد الشام ومصر سبوا ثم هم اليوم بحمد الله يسبون الكفار (فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبدا) أي ثلث من عساكر المسلمين لا يلهمهم الله التوبة

(وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة) في الرواية الثالثة والثلاثين "وأجبر الناس عند مصيبة" قال النووي هكذا في معظم الأصول "وأجبر" بالجيم وكذا نقله القاضي عن رواية الجمهور وفي رواية بعضهم "وأصبر" بالصاد قال القاضي والأول أولى لمطابقة الرواية الأخرى "وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة" وهذا بمعنى "أجبر" وفي بعض النسخ "أخبر" بالخاء ولعل معناه أخبرهم بعلاجها والخروج منها (فيشترط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة) الشرطة بضم الشين طائفة من الجيش تقدم للقتال وأما قوله "فيشترط المسلمون" فضبطوه بوجهين أحدهما بياء ثم شين ثم تاء والثاني "فيتشرط" بياء ثم تاء وتشديد الراء (فإذا كان اليوم الرابع نهد إليهم بقية أهل الإسلام) "نهد" بفتح النون والهاء أي نهض وتقدم (فيجعل الله الدبرة عليهم) أي على أهل الروم والدبرة بفتح الدال والباء الهزيمة ورواه بعض رواة مسلم "فجعل الله الدائرة عليهم" (حتى إن الطائر ليمر بجنباتهم فما يخلفهم حتى يخر ميتا) "جنباتهم" بفتح الجيم والنون ثم باء أي نواحيهم وحكى القاضي عن بعض رواتهم "بجثمانهم" بضم الجيم وسكون الثاء أي شخوصهم وقوله "فما يخلفهم" بضم الياء وفتح الخاء وتشديد اللام المكسورة أي فما يجاوزهم وحكى القاضي عن بعض رواتهم "فما يلحقهم" أي يلحق آخرهم (فبأي غنيمة يفرح) الاستفهام إنكاري بمعنى النفي أي فلا يفرح بأي غنيمة (أو أي ميراث يقاسم) بفتح السين أي لا يقاسم ميراث فقد صار كله لواحد (إذ سمعوا ببأس هو أكبر من ذلك فجاءهم الصريخ) إذ سمعوا صارخا يصرخ بشدة أكبر مما هم فيها وهي الدجال قال النووي هكذا هو في نسخ بلادنا "ببأس هو أكبر" بباء في "بأس" وفي "أكبر" وعن بعضهم "بناس" بالنون و"بأكثر" بالثاء بدل الباء والصواب الأول ففي رواية أبي داود "سمعوا بأمر أكبر من ذلك" (لعله نجى معهم) أي لعله يناجيهم ويحدثهم حديث السر فلا يليق أن أدخل عليهم أي ثم قلت في نفسي أخاف عليه أن يغتالوه فقمت بينهم وبينه (فذكر الدخان) قال النووي هذا الحديث يؤيد قول من قال إن الدخان دخان يأخذ بأنفاس الكفار ويأخذ المؤمن منه كهيئة الزكام وأنه لم يأت بعد وإنما يكون قريبا من قيام الساعة وقد سبق في كتاب بدء الخلق قول من قال هذا وإنكار ابن مسعود عليه وأنه قال إنما هو عبارة عما نال قريشا من القحط حتى كانوا يرون بينهم وبين السماء هيئة الدخان وقد وافق ابن مسعود جماعة وقال بالقول الآخر حذيفة وابن عمر والحسن قال النووي ويحتمل أنهما دخانان

(والدابة) وهي المذكورة في قوله تعالى {وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض} [النمل 82] قال المفسرون هي دابة عظيمة تخرج من صدع في الصفا وقيل هي الجساسة المذكورة في حديث الدجال (وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم) وفي رواية "نار تخرج من قعرة عدن" هكذا هو في الأصول "قعرة" بالهاء والقاف مضمومة ومعناه من أقصى قعر أرض عدن قال النووي أما قوله في الحديث [روايتنا الثامنة والثلاثين] "حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى فقد جعلها القاضي عياض حاشرة ولعلهما ناران يجتمعان لحشر الناس قال أو يكون ابتداء خروجها من اليمن ويكون ظهورها وكثرة قوتها بالحجاز هذا كلام القاضي وليس في الحديث أن نار الحجاز متعلقة بالحشر بل هي آية من أشراط الساعة مستقلة قال النووي وقد خرجت في زماننا نار بالمدينة سنة أربع وخمسين وستمائة وكانت نارا عظيمة جدا من جنب المدينة الشرقي وراء الحرة تواتر العلم بها عند جميع الشام وسائر البلدان اهـ و"بصرى" بضم الباء مدينة معروفة بالشام وهي حوران بينها وبين دمشق نحو ثلاث مراحل (نار تخرج من قعرة عدن ترحل الناس) "ترحل" بفتح التاء وسكون الراء وفتح الحاء قال النووي هكذا ضبطناه وهكذا ضبطه الجمهور وكذا نقل القاضي عن روايتهم ومعناها تأخذهم بالرحيل وتزعجهم وتجعلهم يرحلون قدامها (ألا إن الفتنة هنا من حيث يطلع قرن الشيطان) هذا الحديث سبق شرحه في كتاب الإيمان (ليست السنة بألا تمطروا) المراد بالسنة هنا القحط (لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس حول ذي الخلصة) "أليات" بفتح الهمزة واللام ومعناه أعجازهن جمع "ألية" كجفنة وجفنات والمراد يضطربن من الطواف حول ذي الخلصة أي يكفرن ويرجعن إلى عبادة الأصنام وتعظيمها (وكانت صنما تعبدها دوس في الجاهلية بتبالة) بفتح التاء والباء المخففة وهي موضع باليمن وأما "ذو الخلصة" فبفتح الخاء واللام هذا هو المشهور وحكى القاضي فيه ثلاثة أوجه أحدها هذا والثاني بضم الخاء والثالث بفتح الخاء وإسكان اللام قالوا وهو بيت صنم ببلاد دوس (ثم يبعث الله ريحا طيبة فتوفى كل من في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان) سبق شرح هذا الحديث في كتاب الإيمان (يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة) "السويقتين" تصغير مثنى "ساق" أي ساقي الإنسان والمقصود بتصغيرهما الإشارة إلى دقتها وهي صفة ساق أهل الحبشة غالبا

(يقال له الجهجاه) بهاءين وفي بعض النسخ "الجهجا" بحذف الهاء التي بعد الألف (كأن وجوههم المجان المطرقة) "المجان" بفتح الميم وتشديد النون جمع "مجن" بكسر الميم وهو الترس و"المطرقة" بضم الميم وسكون الطاء وفتح الراء مخففة هذا هو المشهور الفصيح وحكى فتح الطاء والراء مشددة قال العلماء معناه تشبيه وجوه الترك في عرضها وتنور وجناتها بالترسة المطرقة المكسورة جلدا (نعالهم الشعر) في الرواية التاسعة والخمسين "ينتعلون الشعر" وفي الرواية الواحدة والستين "يلبسون الشعر ويمشون في الشعر" (صغار الأعين ذلف الأنف) "ذلف" بالذال والدال المضمومة لغتان جمع أذلف كأحمر وحمر ومعناه فطس الأنوف قصارها مع انبطاح وقيل هو غلظ في أرنبة الأنف وفي الرواية الثانية والستين "حمر الوجوه" أي بيض الوجوه مشربة بحمرة وهذه صفات الترك غالبا (يوشك أهل العراق ألا يجبى إليهم قفيز ولا درهم) سبق شرحه في هذا الباب (ثم أسكت هنية) "أسكت" بالألف قال النووي في جميع نسخ بلادنا وذكر القاضي أنهم رووه بحذفها وإثباتها وسكت وأسكت لغتان بمعنى صمت وقيل أسكت بمعنى أطرق وقيل بمعنى أعرض و"هنية" بتشديد الياء بلا همز (يكون في آخر أمتي خليفة يحثي المال حثيا لا يعده عددا) في الرواية الرابعة والستين "يحثو المال حثيا لا يعده عددا" وفي الرواية الخامسة والستين "يقسم المال ولا يعده" قال أهل اللغة يقال حثيت أحثي حثيا وحثوت أحثو حثوا لغتان وقد جاءتا في هذا الحديث وجاء مصدر الثانية على فعل الأولى وهو جائز كما في قوله تعالى {والله أنبتكم من الأرض نباتا} [نوح 17] والحثو هو الحفن باليدين قال النووي وهذا الحثو الذي يفعله هذا الخليفة يكون لكثرة الأموال والغنائم والفتوحات مع سخاء نفسه (بؤس ابن سمية تقتلك فئة باغية) في ملحق الرواية السادسة والستين "ويس أو يا ويس ابن سمية" أما "بؤس" بضم الباء وسكون الهمزة بعدها سين والبؤس والبأساء المكروه والمشقة والشدة منصوب على الندبة مع حذف حرف الندبة والتقدير يا بؤس ابن سمية أقبل فما أشدك وما أعظمك وأما "ويس" بفتح الواو وسكون الياء بعدها سين فهي اسم فعل بمعنى "ويح" كلمة ترحم تقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها فيترحم عليه ويرثى له و"ويل" لمن يستحقها وقال الفراء ويح وويس بمعنى "ويل" وعن علي رضي الله عنه "ويح" باب رحمة و"ويل" باب عذاب وقال "ويح" كلمة زجر لمن أشرف على الهلكة و"ويل" لمن وقع فيها

وعمار بن ياسر من السابقين الأولين هو وأبوه وكانوا ممن يعذب في الله فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمر عليهم فيقول "صبرا آل ياسر فموعدكم الجنة" شهد المشاهد كلها ثم شهد اليمامة فقطعت أذنه ثم استعمله عمر على الكوفة قال الحافظ ابن حجر وتواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن عمارا تقتله الفئة الباغية" وأجمعوا على أنه قتل في جيش علي بصفين سنة سبع وثمانين وله ثلاث وتسعون سنة (يهلك أمتي هذا الحي من قريش) أي طائفة من هذا الحي من قريش ففي رواية البخاري "هلاك أمتي على يد أغيلمة من قريش" و"أغيلمة" تصغير غلمة جمع غلام قال ابن الأثير المراد بالأغيلمة هنا الصبيان ولذلك صغرهم ويحتمل أن يكون التصغير لضعف العقل والتدبير والدين قال الحافظ والمراد أولاد بعض من استخلف فوقع الفساد بسببهم فنسب إليهم وقد أخرج ابن أبي شيبة عن أبي هريرة رفعه "أعوذ بالله من إمارة الصبيان قالوا وما إمارة الصبيان قال إن أطعتموهم هلكتم [أي في دينكم] وإن عصيتموهم أهلكوكم" أي في دنياكم والمراد أنهم يهلكون الناس بسبب طلبهم الملك والقتال لأجله فتفسد أحوال الناس ويكثر الخبط وتتوالى الفتن (لو أن الناس اعتزلوهم) شرط محذوف الجواب تقديره لكان أولى بهم أو "لو" للتمني والمراد باعتزالهم ألا يداخلوهم ولا يقاتلوا معهم ويفروا بدينهم من الفتن (قد مات كسرى فلا كسرى بعده وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده) وفي الرواية الواحدة والسبعين "هلك كسرى ثم لا يكون كسرى بعده وقيصر ليهلكن ثم لا يكون قيصر بعده" قال العلماء معناه لا يكون كسرى بالعراق ولا قيصر بالشام بعد أن ينقطع ملكهما (والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله) "لتنفقن" بضم التاء وسكون النون وفتح الفاء مبني للمجهول وفي الرواية الواحدة والسبعين "ولتقسمن كنوزهما في سبيل الله" وفي الرواية الثانية والسبعين "لتفتحن عصابة من المسلمين أو من المؤمنين كنز آل كسرى الذي في الأبيض" أي الذي في قصره الأبيض أو قصوره ودوره البيض (لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفا من بني إسحاق) قال القاضي كذا هو في جميع أصول مسلم "من بني إسحاق" قال قال بعضهم المعروف المحفوظ "من بني إسماعيل" وهو الذي يدل عليه الحديث وسياقه لأنه إنما أراد العرب وهذه المدينة هي القسطنطينية (إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود) "الغرقد" شجر من نوع شجر الشوك معروف ببلاد بيت المقدس قال الدينوري إذا عظمت العوسجة صارت غرقدة

(لا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون) "يبعث" بمعنى يظهر ويخرج والدجل التمويه -[فقه الحديث]- أصل الفتن إدخال الذهب في النار ليظهر الجيد منه والردئ وتستخدم الفتنة شرعا فيما يقع فيه الإنسان من شدة ورخاء وفي الشدة أكثر استعمالا على أنها في هذه الحالات نوع من الاختبار ومنه قوله تعالى {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} [الأنبياء 35] وتستخدم أيضا في الأفعال التي تصدر من الإنسان للإيقاع والإضرار بالآخرين ومنه قوله تعالى {والفتنة أشد من القتل} [البقرة 191] وقوله {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات} [البروج 10] وتستخدم أيضا في الأمور العظام التي تحدث في آخر الزمان على أساس أنها نوع من الاختبار ولذلك قيل أصل الفتنة الاختبار ثم استعملت فيما يخرجه الاختبار وأحاديث الباب تتناول أنواعا متعددة من الفتن 1 - فالرواية الأولى وما بعدها إلى الثامنة تحذر من فتنة وخلاف وتفكك وحرب بين العرب 2 - وأن هذه الفتنة قريبة تلحق المعاصرين 3 - وأنها إذا جاءت تعم الصالحين مع الطالحين 4 - وأنه إذا كثر الخبث وزاد الفساد كانت الفتنة أقرب للوقوع وتعرض الجميع للهلاك 5 - وإذا عم العقاب كان رفعا لدرجات الصالحين 6 - وأن جيش الظلم سيهاجم قوما مستجيرين بالبيت يخسف به والظاهر أنه لم يقع بعد وقد رد الراوي على من حمله على جيش أهل الشام الذي قتل ابن الزبير 7 - ومن الرواية السابعة التباعد عن أهل الظلم والتحذير من مجالستهم 8 - وأن من كثر سواد قوم جرى عليه حكمهم في ظاهر عقوبات الدنيا 9 - وفي الرواية الثامنة علم من أعلام النبوة وإنذار وتحذير من الفتنة التي وقعت بالمدينة بقتل عثمان رضي الله عنه 10 - ومن الرواية التاسعة والعاشرة التحذير من الفتنة والحث على اجتناب الدخول فيها 11 - وأن شرها يكون حسب التعلق بها قال الطبري اختلف السلف فحمل ذلك بعضهم على العموم وهم من قعد عن الدخول في القتال بين المسلمين مطلقا كسعد وابن عمر ومحمد بن مسلمة وأبي بكرة وآخرين وتمسكوا بالظواهر

المذكورة وغيرها ثم اختلف هؤلاء فقالت طائفة بلزوم البيوت وقالت طائفة بل بالتحول عن بلد الفتن أصلا ثم اختلفوا فمنهم من قال إذا هجم عليه شيء من ذلك يكف يده ولو قتل ومنهم من قال بل يدافع عن نفسه وعن ماله وعن أهله وهو معذور إن قتل أو قتل وقال آخرون إذا بغت طائفة على الإمام فامتنعت من الواجب عليها ونصبت الحرب وجب قتالها وكذلك لو تحاربت طائفتان وجب على كل قادر الأخذ على يد المخطئ ونصر المصيب وهذا قول الجمهور وفصل آخرون فقالوا كل قتال وقع بين طائفتين من المسلمين حيث لا إمام للجماعة فالقتال حينئذ ممنوع وتنزل الأحاديث التي في هذا الباب وغيره على ذلك وهو قول الأوزاعي قال الطبري والصواب أن يقال إن الفتنة أصلها الابتلاء وإنكار المنكر واجب على كل من قدر عليه فمن أعان المحق أصاب ومن أعان المخطئ أخطأ وإن أشكل الأمر فهي الحالة التي ورد النهي عن القتال فيها وذهب آخرون إلى أن الأحاديث وردت في حق ناس مخصوصين وأن النهي مخصوص بمن خوطب بذلك وقيل إن أحاديث النهي مخصوصة بآخر الزمان حيث يحصل التحقق أن المقاتلة إنما هي في طلب الملك وقد وقع في حديث ابن مسعود "قلت يا رسول الله ومتى ذلك قال أيام الهرج قلت ومتى قال حين لا يأمن الرجل جليسه" 12 - ومن الرواية الثانية عشرة رفع الإثم عن المكره على حضور المعركة أما القتل فلا يباح بالإكراه بل يأثم المكره بالإجماع 13 - ومن الرواية الثالثة عشرة وما بعدها إلى الخامسة عشرة قال العلماء معنى كونهما في النار أنهما يستحقان ذلك ولكن أمرهما إلى الله تعالى وقد سبق شرح هذا الحديث في كتاب الإيمان 14 - وفي الرواية الثامنة عشرة علم من أعلام النبوة فحصل كل ما أخبر به صلى الله عليه وسلم 15 - وفي الرواية الرابعة والعشرين إشارة إلى فتنة المسلمين في عهد عثمان وقتله رضي الله عنه وقد سبق شرح الحديث في كتاب الإيمان 16 - وفي الرواية السادسة والثلاثين وما بعدها الدخان 17 - والدجال وقد سبق شرح أحاديثه في كتاب الإيمان 18 - والدابة 19 - وطلوع الشمس من مغربها وقد سبق شرحه في كتاب الإيمان 20 - ويأجوج ومأجوج وقد سبق كذلك 21 - وعيسى ابن مريم وقد سبق في كتاب الإيمان 22 - وفساد آخر الزمان 23 - ويخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة

24 - وخروج الجبار الظالم من قحطان 25 - وقتال الترك 26 - وكثرة المال آخر الزمان 27 - ومن الرواية السادسة والستين وما بعدها حتى الثامنة والستين قال العلماء فيه حجة ظاهرة في أن عليا رضي الله عنه محق والطائفة الأخرى بغاة قال النووي لكنهم مجتهدون فلا إثم عليهم لذلك 28 - وفيه معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم من أوجه منها أن عمارا يموت قتيلا وأنه يقتله مسلمون وأنهم بغاة وأن الصحابة يقاتلون وأنهم يكونون فرقتين باغية وغيرها وكل هذا وقع مثل فلق الصبح والله أعلم

(787) باب ذكر ابن صياد

(787) باب ذكر ابن صياد 6385 - عن عبد الله رضي الله عنه قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمررنا بصبيان فيهم ابن صياد ففر الصبيان وجلس ابن صياد فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره ذلك فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "تربت يداك أتشهد أني رسول الله" فقال لا بل تشهد أني رسول الله فقال عمر بن الخطاب ذرني يا رسول الله حتى أقتله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن يكن الذي ترى فلن تستطيع قتله" 6386 - عن عبد الله رضي الله عنه قال كنا نمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم فمر بابن صياد فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "قد خبأت لك خبيئا" فقال دخ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اخسأ فلن تعدو قدرك" فقال عمر يا رسول الله دعني فأضرب عنقه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "دعه فإن يكن الذي تخاف لن تستطيع قتله" 6387 - عن أبي سعيد رضي الله عنه قال لقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر في بعض طرق المدينة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "أتشهد أني رسول الله" فقال هو أتشهد أني رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "آمنت بالله وملائكته وكتبه ما ترى" قال أرى عرشا على الماء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ترى عرش إبليس على البحر وما ترى" قال أرى صادقين وكاذبا أو كاذبين وصادقا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لبس عليه دعوه" 6388 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال لقي نبي الله صلى الله عليه وسلم ابن صائد ومعه أبو بكر وعمر وابن صائد مع الغلمان فذكر نحو حديث الجريري 6389 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال صحبت ابن صائد إلى مكة فقال لي

أما قد لقيت من الناس يزعمون أني الدجال ألست سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إنه لا يولد له" قال قلت بلى قال فقد ولد لي أوليس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا يدخل المدينة ولا مكة" قلت بلى قال فقد ولدت بالمدينة وهذا أنا أريد مكة قال ثم قال لي في آخر قوله أما والله إني لأعلم مولده ومكانه وأين هو قال فلبسني. 6390 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال لي ابن صائد وأخذتني منه ذمامة هذا عذرت الناس ما لي ولكم يا أصحاب محمد ألم يقل نبي الله صلى الله عليه وسلم "إنه يهودي" وقد أسلمت قال "ولا يولد له" وقد ولد لي وقال "إن الله قد حرم عليه مكة" وقد حججت قال فمازال حتى كاد أن يأخذ في قوله قال فقال له أما والله إني لأعلم الآن حيث هو وأعرف أباه وأمه قال وقيل له أيسرك أنك ذاك الرجل قال فقال لو عرض علي ما كرهت 6391 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال خرجنا حجاجا أو عمارا ومعنا ابن صائد قال فنزلنا منزلا فتفرق الناس وبقيت أنا وهو فاستوحشت منه وحشة شديدة مما يقال عليه قال وجاء بمتاعه فوضعه مع متاعي فقلت إن الحر شديد فلو وضعته تحت تلك الشجرة قال ففعل قال فرفعت لنا غنم فانطلق فجاء بعس فقال اشرب أبا سعيد فقلت إن الحر شديد واللبن حار ما بي إلا أني أكره أن أشرب عن يده أو قال آخذ عن يده فقال أبا سعيد لقد هممت أن آخذ حبلا فأعلقه بشجرة ثم أختنق مما يقول لي الناس يا أبا سعيد من خفي عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خفي عليكم معشر الأنصار ألست من أعلم الناس بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هو كافر" وأنا مسلم أوليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هو عقيم لا يولد له" وقد تركت ولدي بالمدينة أوليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يدخل المدينة ولا مكة" وقد أقبلت من المدينة وأنا أريد مكة قال أبو سعيد الخدري حتى كدت أن أعذره ثم قال أما والله إني لأعرفه وأعرف مولده وأين هو الآن قال قلت له تبا لك سائر اليوم

6392 - عن أبي سعيد رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن صائد "ما تربة الجنة" قال درمكة بيضاء مسك يا أبا القاسم قال "صدقت" 6393 - عن أبي سعيد رضي الله عنه أن ابن صياد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن تربة الجنة فقال "درمكة بيضاء مسك خالص" 6394 - عن محمد بن المنكدر قال رأيت جابر بن عبد الله يحلف بالله أن ابن صائد الدجال فقلت أتحلف بالله قال إني سمعت عمر يحلف على ذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم 6395 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه انطلق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط قبل ابن صياد حتى وجده يلعب مع الصبيان عند أطم بني مغالة وقد قارب ابن صياد يومئذ الحلم فلم يشعر حتى ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهره بيده ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن صياد "أتشهد أني رسول الله" فنظر إليه ابن صياد فقال أشهد أنك رسول الأميين فقال ابن صياد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتشهد أني رسول الله فرفضه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال "آمنت بالله وبرسله" ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "ماذا ترى" قال ابن صياد يأتيني صادق وكاذب فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "خلط عليك الأمر" ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني قد خبأت لك خبيئا" فقال ابن صياد هو الدخ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "اخسأ فلن تعدو قدرك" فقال عمر بن الخطاب ذرني يا رسول الله أضرب عنقه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن يكنه فلن تسلط عليه وإن لم يكنه فلا خير لك في قتله" وقال سالم بن عبد الله سمعت عبد الله بن عمر يقول انطلق بعد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بن كعب الأنصاري إلى النخل التي فيها ابن صياد حتى إذا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم النخل طفق يتقي بجذوع النخل وهو يختل أن يسمع من ابن صياد شيئا قبل أن يراه ابن صياد فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على فراش في قطيفة له فيها زمزمة فرأت أم ابن صياد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتقي

بجذوع النخل فقالت لابن صياد يا صاف (وهو اسم ابن صياد) هذا محمد فثار ابن صياد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لو تركته بين" قال سالم قال عبد الله بن عمر فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فأثنى على الله بما هو أهله ثم ذكر الدجال فقال "إني لأنذركموه ما من نبي إلا وقد أنذره قومه لقد أنذره نوح قومه ولكن أقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لقومه تعلموا أنه أعور وأن الله تبارك وتعالى ليس بأعور" قال ابن شهاب وأخبرني عمر بن ثابت الأنصاري أنه أخبره بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم حذر الناس الدجال "إنه مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه من كره عمله أو يقرؤه كل مؤمن" وقال "تعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه عز وجل حتى يموت". 6396 - وفي رواية عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه رهط من أصحابه فيهم عمر بن الخطاب حتى وجد ابن صياد غلاما قد ناهز الحلم يلعب مع الغلمان عند أطم بني معاوية وساق الحديث بمثل حديث يونس إلى منتهى حديث عمر بن ثابت وفي الحديث عن يعقوب قال قال أبي (يعني في قوله لو تركته بين) قال لو تركته أمه بين أمره. 6397 - وفي رواية عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بابن صياد في نفر من أصحابه فيهم عمر بن الخطاب وهو يلعب مع الغلمان عند أطم بني مغالة وهو غلام بمعنى حديث يونس وصالح غير أن عبد بن حميد لم يذكر حديث ابن عمر في انطلاق النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بن كعب إلى النخل. 6398 - عن نافع قال لقي ابن عمر ابن صائد في بعض طرق المدينة فقال له قولا أغضبه فانتفخ حتى ملأ السكة فدخل ابن عمر على حفصة وقد بلغها فقالت له رحمك الله ما أردت من ابن صائد أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إنما يخرج من غضبة يغضبها"

6399 - عن نافع قال كان نافع يقول ابن صياد قال قال ابن عمر لقيته مرتين قال فلقيته فقلت لبعضهم هل تحدثون أنه هو قال لا والله قال قلت كذبتني والله لقد أخبرني بعضكم أنه لن يموت حتى يكون أكثركم مالا وولدا فكذلك هو زعموا اليوم قال فتحدثنا ثم فارقته قال فلقيته لقية أخرى وقد نفرت عينه قال فقلت متى فعلت عينك ما أرى قال لا أدري قال قلت لا تدري وهي في رأسك قال إن شاء الله خلقها في عصاك هذه قال فنخر كأشد نخير حمار سمعت قال فزعم بعض أصحابي أني ضربته بعصا كانت معي حتى تكسرت وأما أنا فوالله ما شعرت قال وجاء حتى دخل على أم المؤمنين فحدثها فقالت ما تريد إليه ألم تعلم أنه قد قال "إن أول ما يبعثه على الناس غضب يغضبه" -[المعنى العام]- لقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن آخر الزمان بكثرة الدجالين والكذابين ولم يخل عصر من العصور ولا أمة من الأمم من الكذابين والدجالين لكن قلتهم في تلك العصور تكشف أمرهم وتقلل من خطرهم ومقصودنا من الكذابين والدجالين مدعو النبوة ومدعو الوحي ومدعو علم الغيب ومدعو خوارق العادات وجدوا في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم وانكشفوا وقوتلوا وقضى عليهم وابن صياد هذا مثل من أمثلتهم ادعى أن الوحي يأتيه وهو مازال صبيا لم يبلغ الحلم وادعى أنه نبي وادعى أنه يعلم الغيب كان ذلك في أوائل الهجرة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يهادن من حوله من أهل المدينة ولم تكن هناك خطورة من ابن صياد على الإسلام والمسلمين فقد كانت عقيدة الإسلام مستقرة وثابتة لا تزعزعها العواصف في أول الهجرة ولم يكن له أتباع ولم يكن له مصدقون بل شبهه بالدجال جعل المسلمين ينفرون منه ويبتعدون عنه كما حصل لأبي سعيد الخدري فإهماله وعدم الضرب على يده وعدم قتله حكمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إن يكن هو الدجال حقيقة فلن يقتله غير ابن مريم وإن كان كاذبا فلا خير لنا في قتله مادام لا خطر منه ولا يصدقه أحد، دعوه نبذه الصحابة نبذ الأجرب حتى كره نفسه وفكر في الانتحار من عزلته لكن حياته كانت ابتلاء واختبارا للمسلمين وقد نجحوا في هذا الاختبار وزادوا إيمانا على إيمانهم ويقينا على يقينهم أما هذه الأيام وقد كثر الدجالون الكذابون فما أكثر من يصدقهم ويذهب إليهم ويدفع لهم ما يملك من أجل أن ينفعوه ولم يقتصر تصديقهم على الجهلة وضعاف النفوس بل زاد وانتشر انتشار النار في الهشيم حمانا الله من شرورهم وحمى الإسلام من شعوذتهم

-[المباحث العربية]- (فمررنا بصبيان فيهم ابن صياد) وكان لم يبلغ الحلم ففي الرواية العاشرة "وقد قارب ابن صياد يومئذ الحلم" وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم عمر وعبد الله بن مسعود كما في الرواية الأولى وأبو بكر كما في الرواية الثالثة وكان هذا المرور في بعض طرق المدينة كما في الرواية الثالثة وعند قصر بني مغالة كما في الرواية العاشرة أو قصر بني معاوية كما في ملحق الرواية العاشرة وكان هذا الخروج والمرور مقصودا من النبي صلى الله عليه وسلم ففي الرواية العاشرة "أن عمر بن الخطاب انطلق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط قبل ابن صياد حتى وجده يلعب مع الصبيان ... فلم يشعر حتى ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهره بيده ويقال له ابن صائد واسمه صاف قال النووي قال العلماء وقصته مشكلة وأمره مشتبه في أنه هل هو المسيح الدجال المشهور أم غيره ولا شك في أنه دجال من الدجاجلة قال العلماء والظاهر من الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوح إليه بأنه المسيح الدجال ولا غيره وإنما أوحي إليه بصفات الدجال وكان في ابن صياد قرائن محتملة وبعض صفات الدجال فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقطع بأنه الدجال ولا بأنه غير الدجال اهـ ومن المواصفات المشتبهة أنه مع صغره كان يدعي أنه يأتيه الوحي والظاهر أن الشياطين كانت تلقي إليه فقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يدعيه من الكهانة وما كان يتعاطاه من الكلام في الغيب وسيأتي بعض هذه الشبهات (ففر الصبيان وجلس ابن صياد فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره ذلك) فر الصبيان هيبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أما هو فأظهر عدم اكتراثه فجلس (تربت يداك) أي افتقرت في كل شيء لم فعلت ما فعلت (أتشهد أني رسول الله فقال لا بل تشهد أني رسول الله) وفي الرواية العاشرة "أشهد أنك رسول الأميين" وفي الرواية الثالثة "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنت بالله وملائكته وكتبه" وفي الرواية العاشرة "فرفضه رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية بالصاد بدل الضاد وفي رواية بالقاف والصاد وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نزلت عليه آية الدخان {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين ... } [الدخان 10] فأراد أن يمتحن ابن صياد أمام الصحابة ليظهر لهم أنه كاهن ساحر وأن الشياطين قد تلقى على لسانه ما يلقيه الشياطين إلى الكهنة هل يعلم الآية التي نزلت حديثا فقال له "قد خبأت لك خبأ" وهو يضمر الآية فما هو قال "دخ" بضم الدال وتشديد الخاء وهي لغة في الدخان فعلم صلى الله عليه وسلم أن شأنه شأن الكهنة الذين تلقى إليهم كلمة مخطوفة ولا يعلمون الحقيقة الكاملة فهو لم يعلم الآية وإنما التقط ما التقطه الشيطان منها كلمة "الدخان" فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "اخسأ فلن تعدو قدرك" أي فلن تتجاوز قدرك وقدر أمثالك من الكهان وقال الخطابي لا معنى

للدخان هنا لأنه ليس مما يخبأ في كف أو كم بل الدخ بيت موجود بين النخيل والبساتين قال إلا أن يكون معنى "خبأت" أضمرت لك اسم الدخان فيجوز قال النووي والصحيح المشهور أنه صلى الله عليه وسلم أضمر له آية الدخان قال الداودي وكانت سورة الدخان مكتوبة في يده صلى الله عليه وسلم وقيل كانت الآية مكتوبة في يده قال القاضي وأصح الأقوال أنه لم يهتد من الآية التي أضمرها النبي صلى الله عليه وسلم إلا لهذا اللفظ الناقص على عادة الكهان إذا ألقى الشيطان إليهم بقدر ما يخطف قبل أن يدركه الشهاب ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم له "اخسأ فلن تعدو قدرك" أي القدر الذي يدرك الكهان ولا يصل الأمر بهم إلى بيان وتحقق أمور الغيب قال النووي وفي معظم النسخ "خبيئا" وفي بعضها "خبأ" وكلاهما صحيح وفي الرواية الثالثة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له "ما ترى" أي ماذا ترى من المغيبات قال "أرى عرشا على الماء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ترى عرش إبليس على ماء البحر" فليس ما ترى من حقيقة الغيب ثم قال له وماذا ترى ممن يأتيك بالأخبار قال "أرى صادقين وكاذبا أو كاذبين وصادقا" يعني بذلك أتباعه من الشياطين فيصدقون مرتين ويكذبون مرة أو يكذبون مرتين ويصدقون مرة فقال صلى الله عليه وسلم "لبس عليه" بضم اللام وكسر الباء مخففة أي اختلط عليه الصدق والكذب والحقيقة والباطل (قال عمر بن الخطاب ذرني يا رسول الله حتى أقتله) لئلا يلبس على الناس أمر دينهم فهو كاهن كذاب (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن يكن الذي ترى فلن تستطيع قتله) أي إن يكن هو الشخص الذي تظنه [الدجال] فلن تستطيع قتله لأن الذي سيقتله عيسى ابن مريم وفي الرواية العاشرة "إن يكنه فلن تسلط عليه وإلا فلا خير لك في قتله" فتركوه وليست هذه المرة الوحيدة التي لقى الرسول صلى الله عليه وسلم فيها ابن صياد ففي الرواية العاشرة "انطلق بعد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بن كعب الأنصاري إلى النخل التي فيها ابن صياد حتى إذا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم النخل طفق يتقي بجذوع النخل" أي أخذ يتستر بجذوع النخل واحدا بعد الآخر لئلا يراه ابن صياد "وهو يختل أن يسمع من ابن صياد شيئا" يعلم منه حقيقة أمره من غير أن يشعر فيكذب "قبل أن يراه ابن صياد فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على فراش في قطيفة له فيها زمزمة" أي له في القطيفة صوت لا يفهم كما يفعل الدجالون المدعون استخدام الجن وفي نسخة "رمرمة" براءين وفي أخرى "رمزة" براء أولا وزاي آخرا وحذف الميم الثانية "فثار ابن صياد" أي نهض من مضجعه وقام "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو تركته بين" أي لو لم تنبهه أمه بوجودي وتركته في شعوذته لتبين رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا من نشاطه واتصالاته وسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الرواية السابعة "ما تربة الجنة قال درمكة بيضاء مسك يا أبا القاسم قال صدقت" والدرمك هو الدقيق الخالص البياض فالمعنى أنها في البياض درمكة وفي الطيب مسك

"فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس" خطيبا "ثم ذكر الدجال" يحذر منه ومن تصديقه فيما يدعي على أن ابن صياد أحد الدجالين وشاع بين الصحابة أن ابن صياد هو دجال آخر الزمان ففي الرواية التاسعة عن محمد بن المنكدر قال "رأيت جابر بن عبد الله يحلف بالله أن ابن صياد الدجال فقلت له أتحلف بالله قال إني سمعت عمر يحلف على ذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم" وكان ابن صياد يسمع ذلك ويسر به لكنه ينكره ففي الرواية الرابعة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال "صحبت ابن صائد إلى مكة فقال لي أما قد لقيت من الناس يزعمون أني الدجال" وفي الرواية الخامسة قال "مالي ولكم يا أصحاب محمد" وفي الرواية السادسة "خرجنا حجاجا أو عمارا ومعنا ابن صائد قال فنزلنا منزلا فتفرق الناس وبقيت أنا وهو فاستوحشت منه وحشة شديدة مما يقال عليه قال وجاء بمتاعه فوضعه مع متاعي فقلت إن الحر شديد فلو وضعته تحت تلك الشجرة قال ففعل قال فرفعت لنا غنم أي ظهرت لنا غنم وكانوا يستبيحون حلبها للحاجة وكان أصحابها يأذنون بذلك فانطلق فجاء بعس بضم العين وتشديد السين وجمعه عساس بكسر العين وأعساس أي جاء بقدح كبير مملوء لبنا فقال اشرب أبا سعيد فقلت إن الحر شديد واللبن حار وما بي إلا أني أكره أن أشرب عن يده أو آخذ عن يده فقال أبا سعيد لقد هممت أن آخذ حبلا فأعلقه بشجرة ثم أختنق مما يقول لي الناس ألست من أعلم الناس بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هو كافر وأنا مسلم" أوليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هو عقيم لا يولد له" وقد تركت ولدي بالمدينة أوليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يدخل المدينة ولا مكة" وقد أقبلت من المدينة وأنا أريد مكة قال أبو سعيد حتى كدت أن أعذره" أي أصدقه وأقبل عذره "ثم قال أما والله إني لأعرفه وأعرف مولده وأين هو الآن قال قلت له تبا لك سائر اليوم أي خسرانا وهلاكا لك في باقي اليوم وهو مصدر منصوب بفعل محذوف وفي الرواية الخامسة "إن الله حرم عليه مكة وقد حججت قال فمازال حتى كاد أن يأخذ في قوله قال وقيل له أيسرك أنك ذاك الرجل فقال لو عرض علي ما كرهت" وفي الرواية الرابعة قال أبو سعيد "فلبسني" بفتح اللام والباء مخففة أي جعلني ألتبس في أمره وأشك فيه وفي الرواية الخامسة "وأخذتني منه ذمامة" بفتح الذال وتخفيف الميم أي حياء وإشفاق من الذم واللوم ومال بعضهم إلى أنه دجال آخر الزمان فعلا بمعنى أن ابن صياد هذا يموت بعد أن يتصف بأوصاف غير أوصاف الدجال [يسلم يولد له يدخل مكة والمدينة] ثم يحييه الله في آخر الزمان كعيسى عليه السلام يعيش على الأرض بأوصاف أخرى هي التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم -[فقه الحديث]- قال البيهقي في كتابه البعث والنشور اختلف الناس في أمر ابن صياد اختلافا كثيرا هل هو الدجال قال ومن ذهب إلى أنه غيره احتج بحديث تميم الداري في قصة الجساسة الذي ذكره مسلم

بعد هذا قال ويجوز أن توافق صفة ابن صياد صفة الدجال كما ثبت في الصحيح "أن أشبه الناس بالدجال عبد العزى بن قطن" وكان أمر ابن صياد فتنة ابتلى الله تعالى بها عباده فعصم الله تعالى منها المسلمين ووقاهم شرها قال البيهقي وليس في حديث جابر أكثر من سكوت النبي صلى الله عليه وسلم لقول عمر فيحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان كالمتوقف في أمره ثم جاءه البيان أنه غيره كما صرح به في حديث تميم وقصته فيها اشتباه كبير يحدثه قوله للنبي صلى الله عليه وسلم "أتشهد أني رسول الله" ودعواه أنه يأتيه صادق وكاذب وأنه يرى عرشا فوق الماء وأنه لا يكره أن يكون هو الدجال وأنه يعرف موضعه وقوله إني لأعرفه وأعرف مولده وأين هو الآن وانتفاخه حتى ملأ السكة قال الخطابي واختلف السلف في أمره بعد كبره فروي عنه أنه تاب من ذلك القول ومات بالمدينة وأنهم لما أرادوا الصلاة عليه كشفوا عن وجهه حتى رآه الناس وقيل لهم اشهدوا فإن قيل كيف لم يقتله النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه ادعى النبوة بحضرته أجاب البيهقي وغيره بجوابين الأول أنه كان غير بالغ واختار القاضي عياض هذا الجواب الثاني أنه كان في أيام مهادنة اليهود وحلفائهم وكان هو حليفا لليهود وجزم الخطابي في معالم السنن بهذا الجواب فقال لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعد قدومه المدينة كتب بينه وبين اليهود كتاب صلح على أن لا يهاجوا ويتركوا على أمرهم وكان ابن صياد منهم أو دخيلا فيهم -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - من الرواية التاسعة وحلف جابر بأن ابن صياد هو الدجال استدل جماعة على جواز اليمين بالظن وأنه لا يشترط فيه اليقين قال النووي وهذا متفق عليه عند أصحابنا حتى لو رأى بخط أبيه الميت أن له عند زيد كذا وغلب على ظنه أنه خطه ولم يتيقن جاز الحلف على استحقاقه 2 - ومن الرواية العاشرة ودخول النبي صلى الله عليه وسلم النخل على ابن صياد كشف أحوال من تخاف مفسدته 3 - ومحاولة كشف الإمام الأمور المهمة بنفسه 4 - ومن قوله "تعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه عز وجل حتى يموت" قال المازري فيه تنبيه على إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة وهو مذهب أهل الحق ولو كانت مستحيلة كما يزعم المعتزلة لم يكن للتقييد بالموت معنى وقد مر موضوع رؤية الله تعالى في كتاب الإيمان والله أعلم.

(788) باب ذكر الدجال

(788) باب ذكر الدجال 6400 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال بين ظهراني الناس فقال "إن الله تعالى ليس بأعور ألا وإن المسيح الدجال أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافئة" 6401 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من نبي إلا وقد أنذر أمته الأعور الكذاب ألا إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور ومكتوب بين عينيه ك ف ر". 6402 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال "الدجال مكتوب بين عينيه ك ف ر أي كافر" 6403 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الدجال ممسوح العين مكتوب بين عينيه كافر" ثم تهجاها ك ف ر "يقرؤه كل مسلم" 6404 - عن حذيفة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الدجال أعور العين اليسرى جفال الشعر معه جنة ونار فناره جنة وجنته نار" 6405 - عن حذيفة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لأنا أعلم بما مع الدجال منه معه نهران يجريان أحدهما رأي العين ماء أبيض والآخر رأي العين نار تأجج فإما أدركن أحد فليأت النهر الذي يراه نارا وليغمض ثم ليطأطئ رأسه فيشرب منه فإنه ماء

بارد وإن الدجال ممسوح العين عليها ظفرة غليظة مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب" 6406 - عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الدجال "إن معه ماء ونارا فناره ماء بارد وماؤه نار فلا تهلكوا" قال أبو مسعود وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم 6407 - عن عقبة بن عمرو أبي مسعود الأنصاري قال انطلقت معه إلى حذيفة بن اليمان فقال له عقبة حدثني ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدجال قال "إن الدجال يخرج وإن معه ماء ونارا فأما الذي يراه الناس ماء فنار تحرق وأما الذي يراه الناس نارا فماء بارد عذب فمن أدرك ذلك منكم فليقع في الذي يراه نارا فإنه ماء عذب طيب" فقال عقبة وأنا قد سمعته تصديقا لحذيفة 6408 - عن ربعي بن حراش قال اجتمع حذيفة وأبو مسعود فقال حذيفة "لأنا بما مع الدجال أعلم منه إن معه نهرا من ماء ونهرا من نار فأما الذي ترون أنه نار ماء وأما الذي ترون أنه ماء نار فمن أدرك ذلك منكم فأراد الماء فليشرب من الذي يراه أنه نار فإنه سيجده ماء" قال أبو مسعود هكذا سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول. 6409 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا أخبركم عن الدجال حديثا ما حدثه نبي قومه إنه أعور وإنه يجيء معه مثل الجنة والنار فالتي يقول إنها الجنة هي النار وإني أنذرتكم به كما أنذر به نوح قومه 6410 - عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات

غداة فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا فقال "ما شأنكم" قلنا يا رسول الله ذكرت الدجال غداة فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل فقال "غير الدجال أخوفني عليكم إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه والله خليفتي على كل مسلم إنه شاب قطط عينه طافئة كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف إنه خارج خلة بين الشأم والعراق فعاث يمينا وعاث شمالا يا عباد الله فاثبتوا" قلنا يا رسول الله وما لبثه في الأرض قال "أربعون يوما يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم" قلنا يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم قال "لا اقدروا له قدره" قلنا يا رسول الله وما إسراعه في الأرض قال "كالغيث استدبرته الريح فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرا وأسبغه ضروعا وأمده خواصر ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم ويمر بالخربة فيقول لها أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل ثم يدعو رجلا ممتلئا شبابا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه يضحك فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعا كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله ثم يأتي عيسى ابن مريم قوم قد عصمهم الله منه فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى إني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ويمر آخرهم فيقولون لقد كان بهذه مرة ماء ويحصر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار لأحدكم اليوم فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله طيرا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله ثم يرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى

يتركها كالزلفة ثم يقال للأرض أنبتي ثمرتك وردي بركتك فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها ويبارك في الرسل حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة" 6411 - وفي رواية عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر بهذا الإسناد نحو ما ذكرنا وزاد بعد قوله "لقد كان بهذه مرة ماء ثم يسيرون حتى ينتهوا إلى جبل الخمر وهو جبل بيت المقدس فيقولون لقد قتلنا من في الأرض هلم فلنقتل من في السماء فيرمون بنشابهم إلى السماء فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبة دما وفي رواية ابن حجر "فإني قد أنزلت عبادا لي لا يدي لأحد بقتالهم". 6412 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما حديثا طويلا عن الدجال فكان فيما حدثنا قال يأتي وهو محرم عليه أن يدخل نقاب المدينة فينتهي إلى بعض السباخ التي تلي المدينة فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير الناس أو من خير الناس فيقول له أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه فيقول الدجال أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته أتشكون في الأمر فيقولون لا قال فيقتله ثم يحييه فيقول حين يحييه والله ما كنت فيك قط أشد بصيرة مني الآن قال فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلط عليه" قال أبو إسحق يقال إن هذا الرجل هو الخضر عليه السلام". 6413 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يخرج الدجال فيتوجه قبله رجل من المؤمنين فتلقاه المسالح مسالح الدجال فيقولون له أين تعمد فيقول أعمد إلى هذا الذي خرج قال فيقولون له أو ما تؤمن بربنا فيقول ما

بربنا خفاء فيقولون اقتلوه فيقول بعضهم لبعض أليس قد نهاكم ربكم أن تقتلوا أحدا دونه قال فينطلقون به إلى الدجال فإذا رآه المؤمن قال يا أيها الناس هذا الدجال الذي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيأمر الدجال به فيشبح فيقول خذوه وشجوه فيوسع ظهره وبطنه ضربا قال فيقول أو ما تؤمن بي قال فيقول أنت المسيح الكذاب قال فيؤمر به فيؤشر بالمئشار من مفرقه حتى يفرق بين رجليه قال ثم يمشي الدجال بين القطعتين ثم يقول له قم فيستوي قائما قال ثم يقول له أتؤمن بي فيقول ما ازددت فيك إلا بصيرة قال ثم يقول يا أيها الناس إنه لا يفعل بعدي بأحد من الناس قال فيأخذه الدجال ليذبحه فيجعل ما بين رقبته إلى ترقوته نحاسا فلا يستطيع إليه سبيلا قال فيأخذ بيديه ورجليه فيقذف به فيحسب الناس أنما قذفه إلى النار وإنما ألقي في الجنة" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين". 6414 - عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال ما سأل أحد النبي صلى الله عليه وسلم عن الدجال أكثر مما سألت قال "وما ينصبك منه إنه لا يضرك" قال قلت يا رسول الله إنهم يقولون إن معه الطعام والأنهار قال "هو أهون على الله من ذلك" 6415 - عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال ما سأل أحد النبي صلى الله عليه وسلم عن الدجال أكثر مما سألته قال "وما سؤالك" قال قلت إنهم يقولون معه جبال من خبز ولحم ونهر من ماء قال "هو أهون على الله من ذلك" 6416 - وفي رواية عن إسمعيل بهذا الإسناد نحو حديث إبراهيم بن حميد وزاد في حديث يزيد فقال لي "أي بني" 6417 - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وجاءه رجل فقال ما هذا

الحديث الذي تحدث به تقول إن الساعة تقوم إلى كذا وكذا فقال سبحان الله أو لا إله إلا الله أو كلمة نحوهما لقد هممت أن لا أحدث أحدا شيئا أبدا إنما قلت إنكم سترون بعد قليل أمرا عظيما يحرق البيت ويكون ويكون ثم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين (لا أدري أربعين يوما أو أربعين شهرا أو أربعين عاما) فيبعث الله عيسى ابن مريم كأنه عروة بن مسعود فيطلبه فيهلكه ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة ثم يرسل الله ريحا باردة من قبل الشأم فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلته عليه حتى تقبضه" قال سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا فيتمثل لهم الشيطان فيقول ألا تستجيبون فيقولون فما تأمرنا فيأمرهم بعبادة الأوثان وهم في ذلك دار رزقهم حسن عيشهم ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا قال وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله قال فيصعق ويصعق الناس ثم يرسل الله أو قال ينزل الله مطرا كأنه الطل أو الظل (نعمان الشاك) فتنبت منه أجساد الناس ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ثم يقال يا أيها الناس هلم إلى ربكم {وقفوهم إنهم مسئولون} قال ثم يقال أخرجوا بعث النار فيقال من كم فيقال من كل ألف تسع مائة وتسعة وتسعين قال فذاك يوم {يجعل الولدان شيبا} وذلك {يوم يكشف عن ساق} 6418 - عن يعقوب بن عاصم بن عروة بن مسعود قال سمعت رجلا قال لعبد الله بن عمرو إنك تقول إن الساعة تقوم إلى كذا وكذا فقال لقد هممت أن لا أحدثكم بشيء إنما قلت إنكم ترون بعد قليل أمرا عظيما فكان حريق البيت (قال شعبة هذا أو نحوه) قال عبد الله بن عمرو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يخرج الدجال في أمتي" وساق الحديث بمثل حديث معاذ وقال في حديثه "فلا يبقى أحد في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته" قال محمد بن جعفر حدثني شعبة بهذا الحديث مرات وعرضته عليه. 6419 - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال حفظت من رسول الله

صلى الله عليه وسلم حديثا لم أنسه بعد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى وأيهما ما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على إثرها قريبا" 6420 - وفي رواية عن أبي زرعة قال جلس إلى مروان بن الحكم بالمدينة ثلاثة نفر من المسلمين فسمعوه وهو يحدث عن الآيات أن أولها خروجا الدجال فقال عبد الله بن عمرو لم يقل مروان شيئا قد حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا لم أنسه بعد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فذكر بمثله. 6421 - وفي رواية عن أبي زرعة قال تذاكروا الساعة عند مروان فقال عبد الله بن عمرو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بمثل حديثهما ولم يذكر ضحى -[المعنى العام]- يكتفى بما في فقه الحديث من الأحداث وترتيبها والتبصر والاعتبار بها -[المباحث العربية]- (إن الله تعالى ليس بأعور ألا وإن المسيح الدجال أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافئة) قال النووي "طافئة" رويت بالهمز وتركه وكلاهما صحيح فالمهموز هي التي ذهب نورها وغير المهموز هي التي نتأت وطفت وارتفعت وفيها ضوء وفي رواية "العين اليسرى" وكلاهما صحيح والعور في اللغة العيب وعيناه معيبتان عورا وإحداهما طافئة بالهمز لا ضوء فيها والأخرى طافية بلا همز أي ظاهرة ناتئة وقوله "إن الله ليس بأعور والدجال أعور" علامة بينة تدل على كذب الدجال دلالة قطعية بديهية يدركها كل أحد ولم يقتصر على كونه جسما حادثا أو غير ذلك من الدلائل القطعية لكون بعض العوام لا يهتدي إليها و"الدجال" صيغة مبالغة من الدجل وهو التغطية وسمي الكذاب دجالا لأنه يغطي الحق بباطله ولقب الدجال بالمسيح كعيسى لأن كلا منهما يمسح الأرض لكن الدجال مسيح الضلالة

وعيسى مسيح الهدى وبالغ ابن العربي فقال ضل قوم فرووه "المسيخ" بالخاء وشدد بعضهم السين ليفرقوا بينه وبين المسيح ابن مريم بزعمهم وقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما بقوله في الدجال "مسيح الضلالة" فدل على أن عيسى مسيح الهدى وفي الرواية الثانية "ما من نبي إلا وقد أنذر أمته الأعور الكذاب ألا إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور ومكتوب بين عينيه ك ف ر" وفي الرواية الرابعة "مكتوب بين عينيه كافر ثم تهجاها ك ف ر يقرؤه كل مسلم" وفي الرواية السادسة "يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب" قال النووي الصحيح الذي عليه المحققون أن هذه الكتابة على ظاهرها وأنها كتابة حقيقية جعلها الله آية وعلامة من جملة العلامات القاطعة بكفره وكذبه ويظهرها الله تعالى لكل مسلم كاتب وغير كاتب ويخفيها عمن أراد شقاوته وفتنته ولا امتناع في ذلك وذكر القاضي فيه خلافا منهم من قال هي مجاز وإشارة إلى سمات الحدوث عليه واحتج بقوله "كاتب أو غير كاتب" وقد جاءت أوصاف أخرى للدجال منها "جعد الرأس قصير أفحج" بفاء وحاء وجيم أي متباعد ما بين الساقين "أقرب الناس به شبها ابن قطن" وفي روايتنا الخامسة "جفال الشعر" أي كثير الشعر (معه جنة ونار فناره جنة وجنته نار) وفي الرواية السادسة "معه نهران يجريان أحدهما رأي العين ماء أبيض والآخر رأي العين نار تأجج" أي وصف النهرين بهذا في ظاهر النظر والحقيقة بخلاف ذلك وفي الرواية السابعة "إن معه ماء ونارا فناره ماء بارد وماؤه نار" وفي الرواية الثامنة "فأما الذي يراه الناس ماء فنار تحرق وأما الذي يراه الناس نارا فماء بارد عذب" وفي الرواية التاسعة "إن معه نهرا من ماء ونهرا من نار فأما الذي ترون أنه نار ماء وأما الذي ترون أنه ماء نار" وفي الرواية العاشرة "وإنه يجيء معه مثل الجنة والنار فالتي يقول إنها الجنة هي النار" (فإما أدركن أحد فليأت النهر الذي يراه نارا وليغمض ثم ليطأطئ رأسه فيشرب منه فإنه ماء بارد) قال النووي هكذا هو أكثر النسخ "أدركن" فتح الراء والكاف وتشديد النون وفي بعضها "أدركه" وهذا الثاني ظاهر وأما الأول فغريب من حيث العربية لأن هذه النون لا تدخل على الفعل قال القاضي ولعله "يدركن" يعني فغيره بعض الرواة وقوله "الذي يراه نارا" بفتح ياء "يراه" وضمها وقوله "وليغمض" بضم الياء وفتح الغين وتشديد الميم المكسورة وفي الرواية السابعة "فلا تهلكوا" وتصدقوا ماءه وناره وفي الرواية الثامنة "فمن أدرك ذلك منكم فليقع في الذي يراه نارا فإنه ماء عذب طيب" وفي الرواية التاسعة "فمن أدرك ذلك منكم فأراد الماء فليشرب من الذي يراه أنه نار فإنه سيجده ماء" وعند أحمد والطبراني "معه واديان أحدهما جنة والآخر نار فناره جنة وجنته نار" وعند ابن ماجه "فمن ابتلي بناره فليستغث بالله وليقرأ فواتح الكهف فتكون عليه بردا وسلاما"

قال العلماء وهذا كله يرجع إلى اختلاف المرئي بالنسبة إلى الرائي فإما أن يكون الدجال ساحرا فيخيل الشيء بصورة عكسه وإما أن يجعل الله باطن الجنة التي يسخرها الدجال نارا وباطن النار جنة وهذا هو الراجح وإما أن يكون ذلك كناية عن النعمة والرحمة بالجنة وعن المحنة والنقمة بالنار فمن أطاعه فأنعم عليه بجنته يئول أمره إلى دخول نار الآخرة وبالعكس ويحتمل أن يكون ذلك من جملة المحنة والفتنة فيرى الناظر إلى ذلك من دهشته النار فيظنها جنة وبالعكس (ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل) "خفض ورفع" بتشديد الفاء فيهما وفي معناه قولان أحدهما حقر وعظم فمن تحقيره وهوانه وصفه بالعور وبأنه أهون على الله من ذلك كما في الرواية الرابعة عشرة وبأنه يريد قتل الرجل ثانية فيعجز عنه كما في آخر الرواية الثانية عشرة والثالثة عشرة وبأنه يقتل بعد ذلك هو وأتباعه ومن تفخيمه وتعظيمه هذه الأمور الخارقة للعادة وما من نبي إلا وقد أنذر قومه به الوجه الثاني أنه خفض من صوته بعد أن أكثر الكلام فيه ليستريح ثم رفع صوته ليبلغ كل أحد (غير الدجال أخوفني عليكم) قال النووي هكذا هو في جميع نسخ بلادنا "أخوفني" بنون بعد الفاء وكذا نقله القاضي عن رواية الأكثرين قال ورواه بعضهم بحذف النون وهما لغتان صحيحتان ومعناهما واحد قال بعضهم تضمن لفظ الحديث ما لا يعتاد من إضافة "أخوف" إلى ياء المتكلم مقرونة بنون الوقاية وهذا الاستعمال إنما يكون في الأفعال المتعدية قال لكن ولأفعل التفضيل شبه بالفعل وخصوصا بفعل التعجب فجاز أن تلحقه النون المذكورة ويحتمل أن يكون معناه "أخوف لي" فأبدلت النون من اللام وأما معنى الجملة ففيه أوجه أظهرها أنه من أفعل التفضيل وتقديره غير الدجال أخوف مخوفاتي عليكم والثاني بأن يكون "أخوف" من أخاف بمعنى "خوف" ومعناه غير الدجال أشد موجبات خوفي عليكم يشير إلى الفتن القريبة منهم فالقريب المتيقن وقوعه لمن يخاف عليه يشتد الخوف منه على البعيد المظنون وقوعه به ولو كان أشد (إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه والله خليفتي على كل مسلم) أي فأنا مدافع عنكم وراد لكيده وإن يخرج بعدي فكل امرئ مسئول عن نفسه وأستعين بالله أن يعين كل مسلم على الدجال (إنه شاب قطط عينه طافئة كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن) "القطط" بفتح القاف والطاء وروى بكسر الطاء الأولى شديد القصر وقيل شديد جعودة الشعر وعبد العزى رجل من بني المصطلق من خزاعة هلك في الجاهلية وأخرج أحمد والحاكم "وأشبه من رأيت به أكتم بن أبي الجون فقال أكتم يا رسول الله أيضرني شبهه قال لا إنك مسلم وهو كافر" (إنه خارج خلة بين الشام والعراق) قال النووي هكذا في نسخ بلادنا "خلة" بفتح الخاء

واللام وتنوين الهاء المنصوبة مع تنوين "خارج" بالرفع أي إنه خارج من خلال وفاصل بين البلدين وقال القاضي المشهور "حلة" بالحاء ونصب التاء غير منونة قيل معناه سمت ذلك وقبالته أي إنه خارج قبالة الشام والعراق وفي كتاب العين الحلة موضع حزن وصخور أي إنه خارج عند صخور بين الشام والعراق ورواه بعضهم "حله" بضم اللام وبهاء الضمير أي حلوله بين الشام والعراق (فعاث يمينا وعاث شمالا يا عباد الله فاثبتوا) عبر بالماضي عن المضارع لتحقق الوقوع أي يعيث يمينا ويعيث شمالا والعيث الفساد أو أشد الفساد والإسراع فيه وحكى القاضي أنه رواه بعضهم "فعاث" بكسر الثاء منونة اسم فاعل خبر لمبتدأ محذوف أي فهو عاث يمينا والمخاطب بقوله "يا عباد الله فاثبتوا" كل من يتأتى خطابه أي من يحضر الدجال حينذاك (أربعون يوما يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم) قال النووي قال العلماء هذا الحديث على ظاهره وهذه الأيام الثلاثة طويلة على هذا المقدار المذكور في الحديث يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم "وسائر الأيام كأيامكم" (قلنا يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم قال لا اقدروا له قدره) قال النووي قال القاضي وغيره هذا حكم مخصوص بذلك اليوم شرعه لنا صاحب الشرع قالوا ولولا هذا الحديث ووكلنا إلى اجتهادنا لاقتصرنا فيه على الصلوات الخمس عند الأوقات المعروفة في غيره من الأيام ومعنى "اقدرو له قدره" أنه إذا مضى بعد طلوع الفجر قدر ما يكون بينه وبين الظهر كل يوم فصلوا الظهر ثم إذا مضى بعده قدر ما يكون بينها وبين العصر فصلوا وكذا المغرب وكذا العشاء ثم الفجر فالظهر فالعصر فالمغرب فالعشاء فيقع في ذاك اليوم صلوات سنة فرائض كلها مؤداة في وقتها اهـ أقول إن ظاهر النص لا يلغي الواقع والعقل فيومه لا تتغير فيه حركة الشمس ولا حركة الأرض ولا يزيد واقعيا عن (24) ساعة تساوي (1440) دقيقة والصلوات الخمس في اليوم (17) ركعة × (365) يوما فالمطلوب في السنة (6205) ركعة مطلوب تأديتها في (1440) دقيقة أي ما يزيد على أربع ركعات في الدقيقة الواحدة دون نوم أو أكل أو عمل أو راحة وهذا غير معقول فالمعنى عندي أن طول اليوم إنما هو من حيث الإحساس لا من حيث طول الزمن وأن المطلوب من "اقدروا له" أي صلوا كثيرا والله أعلم ويؤكد ذلك الشك في المدة في الرواية السادسة عشرة ولفظها "يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين "لا أدري أربعين يوما أو أربعين شهرا أو أربعين عاما" (وما إسراعه في الأرض) هذا السؤال مبني على مفهوم من الأحاديث الأخرى "ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة" "تطوى له الأرض في أربعين يوما" "يسيح في الأرض

أربعين يوما يرد كل بلدة غير هاتين البلدتين مكة والمدينة حرمهما الله تعالى عليه" أي كيف يغطي هذه الأرض في أربعين يوما (قال كالغيث استدبرته الريح) أصله كالريح تثير السحاب فتنزله في مكان ثم تستدبره إلى مكان آخر (فيأتي على قوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرا وأسبغه ضروعا وأمده خواصر) أي ترجع ماشيتهم من مرعاها أعلى أسناما وأضخم ضروعا وأكثر امتلاء لشحمها ولحمها فمعنى "تروح" ترجع آخر النهار والسارحة الماشية التي تسرح أي تذهب أول النهار للمرعى وأما الذري فبضم الذال وهي الأعالي والأسنمة جمع ذروة بضم الذال وكسرها ومعنى "وأسبغه ضروعا" فبالسين والغين أي أطوله وأعظمه انتفاخا لكثرة اللبن و"أمده خواصر" أي أضخم معدة ولحما وشحما من الشبع (ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم) أي فيكذبونه ولا يقبلون ادعاءه فيدعوا عليهم بالفقر وبالجدب وذهاب أموالهم فيصبحون كذلك وفي حديث أبي أمامة عند ابن ماجه "وإن من فتنته أن يقول للأعرابي أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك أتشهد أني ربك فيقول نعم فيمثل له شيطانان في صورة أبيه وأمه يقولان له يا بني اتبعه فإنه ربك وإن من فتنته أن يمر بالحي فيكذبونه فلا تبقى لهم سائمة إلا هلكت ويمر بالحي فيصدقونه فيأمر السماء أن تمطر والأرض أن تنبت فتمطر وتنبت حتى تروح مواشيهم من يومهم ذلك أسمن ما كانت وأعظم وأمده خواصر وأدره ضرعا" (ويمر بالخربة فيقول لها أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل) أي كذكور النحل وقال القاضي أي كجماعة النحل لا ذكورها خاصة لكنه كنى عن الجماعة باليعسوب وهو أميرها لأنه متى طار تبعته جماعته (ثم يدعو رجلا ممتلئا شبابا فيضربه بالسيف يقطعه جزلتين رمية الغرض ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه يضحك) "جزلتين" بفتح الجيم على المشهور وحكى كسرها أي قطعتين ومعنى "رمية الغرض" أنه يجعل بين الجزلتين مقدار رميته هذا هو الظاهر المشهور وقيل في الكلام تقديم وتأخير وتقديره فيصيبه إصابة رمية الغرض فيقطعه جزلتين قال النووي والصحيح الأول وفي الرواية الثانية عشرة "يأتي الدجال وهو محرم عليه أن يدخل نقاب المدينة فينتهي إلى بعض السباخ التي تلي المدينة فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير الناس أو من خير الناس فيقول له أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه فيقول الدجال أرأيتم إن قتلت هذا ثم

أحييته أتشكون في الأمر أي في أمر أني إله فيقولون لا قال فيقتله ثم يحييه فيقول حين يحييه والله ما كنت فيك قط أشد بصيرتي مني الآن قال فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلط عليه" ويقال إن هذا الرجل هو الخضر عليه السلام وفي الرواية الثالثة عشرة "يخرج الدجال فيتوجه قبله رجل من المؤمنين فتلقاه أي فتتلقاه المسالح مسالح الدجال" أي المسلحون الذين يحرسون الدجال "فيقولون له أين تعمد فيقول أعمد إلى هذا الذي خرج قال فيقولون له أو ما تؤمن بربنا فيقول ما بربنا خفاء فيقولون اقتلوه فيقول بعضهم لبعض أليس قد نهاكم ربكم أن تقتلوا أحدا دونه قال فينطلقون به إلى الدجال فإذا رآه المؤمن قال يا أيها الناس هذا الدجال الذي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيأمر الدجال به فيشبح" أي يضرب حتى يشج "فيقول خذوه وشجوه فيوسع ظهره وبطنه ضربا" والشج الجرح في الرأس والوجه و"يوسع ظهره" بضم الياء وسكون الواو وفتح السين "فيقول أو ما تؤمن بي قال فيقول أنت المسيح الكذاب قال فيؤمر به فيؤشر بالمئشار من مفرقه" قال النووي "يؤشر" بالهمز والمئشار بالهمز أيضا هكذا الرواية بهمزة بعد الميم وهو الأفصح ويجوز تخفيفها فيهما فيجعل في الأول واوا وفي الثاني ياء ويجوز المنشار بالنون ومفرق الرأس وسطه والترقوة بفتح التاء وضم القاف هي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق "فيؤشر بالمنشار من مفرقه حتى يفرق بين رجليه قال ثم يمشي الدجال بين القطعتين ثم يقول له أتؤمن بي فيقول ما ازددت فيك إلا بصيرة قال ثم يقول يا أيها الناس إنه لا يفعل بعدي بأحد من الناس قال فيأخذه الدجال ليذبحه فيجعل ما بين رقبته إلى ترقوته نحاسا فلا يستطيع إليه سبيلا قال فيأخذ بيديه ورجليه فيقذف به فيحسب الناس أنما قذفه إلى النار وإنما ألقي في الجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين" (قال وما ينصبك منه إنه لا يضرك) "ينصبك" بضم الياء على اللغة المشهورة أي ما يتعبك من أمره يقال أنصبه المرض ونصبه المرض (إنهم يقولون معه جبال من خبز ولحم ونهر من ماء قال هو أهون على الله من ذلك) قال القاضي معناه هو أهون على الله من أن يجعل ما خلقه الله تعالى على يده مضلا للمؤمنين ومشككا لقلوبهم بل إنما جعله له ليزداد الذين آمنوا إيمانا ويثبت الحجة على الكافرين والمنافقين وليس معناه أنه ليس معه شيء من ذلك فقد جاء في حديث مرفوع أخرجه أحمد والبيهقي في البعث بأنه "معه فعلا جبل من خبز ونهر من ماء" وعند أحمد أيضا "معه جبال من خبز والناس في جهد إلا من تبعه" ويحتمل أن يكون قوله "هو أهون" أي لا يجعل له ذلك حقيقة وإنما هو تخييل على الأبصار فيثبت المؤمن ويزل الكافر (فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعا كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ) أما المنارة فبفتح الميم قال النووي وهذه المنارة موجودة

اليوم شرقي دمشق وأما "المهرودتان" فروى بالدال والذال وجهان مشهوران للمتقدمين والمتأخرين من أهل اللغة وغيرهم وهما ثوبان مصبوغان بورس ثم بزعفران وقيل هما شقتان والشقة نصف الملاءة أي هو داخل ثوبين لابسهما ومعنى "إذا طأطأ رأسه قطر" أي نزل من رأسه قطرات الماء و"إذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ" "الجمان" بضم الجيم وتخفيف الميم هي حبات من الفضة تصنع على هيئة اللؤلؤ الكبار والمراد يتحدر منه الماء على هيئة اللؤلؤ في صفائه كلما خفض رأسه وكلما رفعه (فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات) قال النووي هكذا الرواية "فلا يحل" بكسر الحاء و"نفسه" بفتح الفاء والضمير لعيسى عليه السلام ومعنى "لا يحل" لا يمكن ولا يقع وقال القاضي معناه عندي حق وواجب قال ورواه بعضهم بضم الحاء وهو وهم وغلط (ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه) أي ونفس عيسى عليه السلام يمتد من مجلسه إلى مسافة انتهاء مد بصره (فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله) "لد" بضم اللام وتشديد الدال مصروف وهو بلدة قريبة من بيت المقدس وفي الرواية السادسة عشرة "فيبعث الله عيسى ابن مريم كأنه عروة بن مسعود فيطلبه فيهلكه" (ثم يأتي عيسى ابن مريم قوم قد عصمهم الله منه فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة) قال القاضي يحتمل أن هذا المسح حقيقة على ظاهره فيمسح على وجوههم تبركا وبرا ويحتمل أنه إشارة إلى كشف ما هم فيه من الشدة والخوف (فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى إني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور) "لا يدان" بكسر النون تثنية "يد" وفي ملحق الرواية الحادية عشرة "لا يدي لأحد بقتالهم" قال العلماء معناه لا قدرة ولا طاقة لأحد بقتالهم يقال ما لي بهذا الأمر يد ومالي به يدان لأن المباشرة والدفع إنما يكون باليد وكأن يديه معدومتان لعجزه عن دفعه ومعنى "حرز عبادي إلى الطور أي ضمهم إلى الطور" واجعله لهم حرزا وصيانه وحفظا ووقع في بعض النسخ "حزب" بالباء أي اجمعهم قال القاضي وروى "حوز" بالواو والزاي ومعناه نحهم وأزلهم عن طريقهم إلى الطور (وهم من كل حدب ينسلون) الحدب النشز و"ينسلون" يمشون مسرعين (فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة) "النغف" بنون وغين مفتوحتين هو دود يكون في أنوف الإبل والغنم الواحدة نغفة والفرسى بفتح الفاء وسكون الراء وسين مفتوحة مقصور أي قتلى واحدهم فريس والمعنى أن يأجوج ومأجوج

يشربون ماء البحيرة ويحاصر عيسى وأصحابه بدون طعام ولا ماء فيرسل الله على يأجوج ومأجوج ميكروبا يصبحون به قتلى تملأ الأرض بأجسادهم (ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم) الزهم الدسم والمعنى أن عيسى عليه السلام وأصحابه ينزلون إلى الأرض التي مات فيها يأجوج ومأجوج فيجدها ممتلئة بشحوم الموتى ورائحتهم النتنة (فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله) أي فيلجأ عيسى وأصحابه إلى الله أن ينقذهم من القذر والريح الكريهة (فيرسل الله طيرا كأعناق البخت) "البخت" الإبل الخراسانية وهي مشهورة بطول الأعناق (فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله) أي فتحمل لحوم الموتى وتلقيهم في أماكن بعيدة عنهم لا يعلمونها (ثم يرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر) أي لا يمنع منه بيت مبني بالطوب والحجر ولا يحمي منه بيت من خيام (فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة) روى بفتح الزاي واللام وبالفاء وروى بالقاف بدل الفاء وبفتح اللام وبإسكانها فيهما مع فتح الزاي قال النووي وكلها صحيحة قيل معناه كالمرآة شبهها بالمرآة في صفائها ونظافتها وقيل كمصانع الماء أي إن الماء يستنقع فيها حتى تصير المصنع الذي يجتمع فيه الماء وقيل كالصحفة وقيل كالروضة (فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها) العصابة الجماعة والقحف بكسر القاف وسكون الحاء هو مقعر قشرها شبهها بقحف الرأس وهو الذي فوق الدماغ وقيل ما انفلق من جمجمته وانفصل (ويبارك في الرسل حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس) "الرسل" بكسر الراء وسكون السين هو اللبن واللقحة بكسر اللام وفتحها لغتان مشهورتان والكسر أشهر وهي القريبة العهد بالولادة واللقوح ذات اللبن وجمعها لقاح والفئام بكسر الفاء وبعدها همزة ممدودة وهي الجماعة الكثيرة قال القاضي ومنهم من لا يجيز الهمز بل يقول بالياء وذكره بعضهم بفتح الفاء وتشديد الياء وهو غلط فاحش (واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس) قال أهل اللغة الفخذ الجماعة من

الأقارب وهو دون البطن والبطن دون القبيلة قال ابن فارس الفخذ هنا بإسكان الخاء لا غير فلا يقال إلا بإسكانها بخلاف الفخذ التي هي العضو فإنها تكسر وتسكن (ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر) أي يجامع الرجال النساء بحضرة الناس كما تفعل الحمير ولا يكترثون لذلك والهرج بإسكان الراء الجماع يقال هرج زوجته أي جامعها يهرجها بفتح الراء وضمها وكسرها (ثم يسيرون حتى ينتهوا إلى جبل الخمر) بفتح الخاء والميم وهو الشجر الملتف الذي يستر من فيه وقد فسره في الحديث بأنه جبل بيت المقدس والضمير في "يسيرون" ليأجوج ومأجوج بعد أن شربوا ماء بحيرة طبرية (فيرمون بنشابهم) أي بسهامهم (وهو محرم عليه أن يدخل نقاب المدينة) بكسر النون أي طرقها وفجاجها وهو جمع نقب وهو الطريق بين الجبلين (حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلته عليه) كبد الجبل وسطه وداخله وكبد كل شيء وسطه (فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع) قال العلماء معناه يكونون في سرعتهم إلى الشرور وقضاء الشهوات والفساد كطيران الطير وفي العدوان وظلم بعضهم بعضا في أخلاق السباع العادية (فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا) الليت بكسر اللام صحفة العنق وهي جانبه و"أصغى" أمال (وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله فيصعق) أي يطينه ويصلحه (ينزل الله مطرا كأنه الطل أو الظل) قال العلماء الأصح الطل وهو الموافق للحديث الآخر "أنه كمني الرجال" إذ الطل من معانيه اللبن (وذلك يوم يكشف عن ساق) قال العلماء معناه ومعنى ما في القرآن {يوم يكشف عن ساق} [القلم 42] يوم يكشف عن شدة الأمر وهوله العظيم أي يظهر ذلك يقال كشفت الحرب عن ساقها إذا اشتدت وأصله أن من جد في أمره كشف عن ساق مستمرا في الخفة والنشاط له -[فقه الحديث]- قال القاضي عياض هذه الأحاديث التي ذكرها مسلم وغيره في قصة الدجال حجة لمذهب أهل

الحق في صحة وجوده وأنه شخص بعينه ابتلى الله به عباده وأقدره على أشياء من مقدورات الله تعالى من إحياء الميت الذي يقتله ومن ظهور زهرة الدنيا والخصب ومن جنته وناره ونهريه واتباع كنوز الأرض له وأمره السماء أن تمطر فتمطر والأرض أن تنبت فتنبت فيقع كل ذلك بقدرة الله تعالى ومشيئته ثم يعجزه الله تعالى بعد ذلك فلا يقدر على قتل ذلك الرجل ولا غيره ويبطل أمره ويقتله عيسى عليه السلام ويثبت الله الذين آمنوا هذا مذهب أهل السنة وجميع المحدثين والفقهاء والنظار خلافا لمن أنكره وأبطل أمره من الخوارج والجهمية وبعض المعتزلة وخلافا للبخاري المعتزلى وموافقيه من الجهمية وغيرهم في أنه صحيح الوجود ولكن الذي يدعي مخارف وخيالات لا حقائق لها وزعموا أنه لو كان حقا لم يوثق بمعجزات الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وهذا غلط من جميعهم لأنه لم يدع النبوة فيكون ما معه كالتصديق له وإنما يدعي الإلهية وهو في نفس دعواه مكذب لها بصورة حالة ووجود دلائل الحدوث فيه ونقص صورته وعجزه عن إزالة العور الذي في عينيه وعن إزالة الشاهد بكفره المكتوب بين عينيه ولهذه الدلائل وغيرها لا يغتر به إلا رعاع من الناس لسد الحاجة والفاقة رغبة في سد الرمق أو تقية وخوفا من أذاه لأن فتنته عظيمة جدا تدهش العقول وتحير الألباب مع سرعة مروره في الأمر فلا يمكث بحيث يتأمل الضعفاء حاله ودلائل الحدوث فيه والنقص فيصدقه من صدقه في هذه الحالة ولهذا حذرت الأنبياء من فتنته صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ونبهوا على نقصه ودلائل إبطاله وأما أهل التوفيق فلا يغترون به ولا يخدعون لما معه لما ذكرناه من الدلائل المكذبة له مع ما سبق لهم من العلم بحاله ولهذا يقول له الذي يقتله ثم يحييه ما ازددت فيك إلا بصيرة هذا آخر كلام القاضي اهـ ونحن انطلاقا من الإيمان بالغيب نرى أن هذا أمر غيبي أخبر به الصادق المصدوق فلا يقاس بالعلم والقواعد والعقول ولا يقال فيه لو كان كذا كان كذا ولا لم يكن كذا والكلام عنه كلام عن أمارات الساعة ومقدماتها وفيها ما هو أشد هولا من ذلك ولا عاصم إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله -[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]- 1 - أوصاف الدجال البدنية عيب في عينيه مكتوب بين عينيه ك ف ر كثيف الشعر شاب قطط قصير 2 - الخوارق التي تظهر على يديه معه نهران أحدهما فيما يرى الناس ماء عذب والناس عطشى والثاني فيما يرى الناس نار وحقيقة نهر النار جنة وحقيقة نهر الماء نار فمن صدقه وذهب إلى نهر الماء دخل النار ومن كذبه فألقى به في النار ألقى به في برد وسلام وهذان النهران هما ما أطلق عليهما في بعض الروايات "معه جنة ونار" يسيح في الأرض وينتقل من بلد إلى

بلد جري الريح بالسحاب فيترك آثاره الخبيثة في موطن لينشرها في موطن آخر حتى يستوعب بلاد الأرض عدا مكة والمدينة يدعي أنه الإله فمن صدقه من أهل البادية أمر السماء أن تمطر لهم فتمطر والأرض أن تنبت لهم فتنبت فتشبع مواشيهم ويشبعون بلبنها ومن كذبه من أهل البادية أمر بالقحط والجدب لهم فتأخذهم السنة والقحط والجدب ويفتقرون ومن صدقه من غير أهل البادية أغدق عليه من كنوز الأرض التي معه والتي تسير خلفه ومن كذبه منهم حرمه من المال فاشتد عليه الحال ومعه جبل من خبز وجبل من لحم يمر بهما على الفقراء الجائعين فمن صدقه أطعمه ومن كذبه حرمه ويدعو شابا في غاية القوة والنشاط يقول له آمن بي فيقول كلا أنت المسيح الدجال الذي حذرنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول للقوم إن قتلت هذا وأحييته تؤمنون بي فيقولون نعم فيشقه بالمنشار نصفين ويمشي بين نصفيه ثم يأمره فيجتمع نصفاه ويعود للحياة الكاملة النشطة الضاحكة المبتهجة لكنه ينادي في الناس لا تصدقوه فهو الدجال الكذاب فيقول له قتلتك وأحييتك فيقول ما زادني ذلك إلا تأكيدا أنك الدجال فيأمر به فيلقى في ناره فيحسبه الناس في النار والحقيقة أنه ألقى به في النعيم والجنة 3 - من أين يخرج قال الحافظ ابن حجر إنه يخرج من قبل المشرق واستدل على أنه يخرج من خراسان بما أخرجه أحمد والحاكم وعلى أنه يخرج من أصبهان بما أخرجه مسلم 4 - وماذا يدعي قال الحافظ ابن حجر يدعي أولا الإيمان والصلاح ثم يدعي النبوة ثم يدعي الإلهية وظاهر أحاديثنا أنه يدعي الإلهية واستدل الحافظ بما أخرجه الطبراني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الدجال ليس به خفاء يجيء من قبل المشرق فيدعو إلى الدين فيتبع ويظهر فلا يزال حتى يقدم الكوفة فيظهر الدين ويعمل به ويحث على ذلك فيتبع ثم يدعي أنه نبي فيفزع من ذلك كل ذي لب ويفارقه فيمكث بعد ذلك فيقول أنا الله فتغشى عينه وتقطع أذنه ويكتب بين عينيه "كافر" فلا يخفى على كل مسلم فيفارقه كل أحد من الخلق في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان" 5 - ومدة مكثه في الأرض تحكيه الرواية الحادية عشرة "أربعون يوما يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم" 6 - ونهايته تحكيها الرواية الحادية عشرة وفيها "فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق ... فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله" والرواية السادسة عشرة وفيها "فيبعث الله عيسى ابن مريم كأنه عروة بن مسعود فيطلبه فيهلكه" 7 - الذي يحدث بعده كما يؤخذ من الرواية الحادية عشرة يحرز عيسى عليه السلام المؤمنين الذين عصمهم الله منه إلى الطور

8 - ويبعث الله يأجوج ومأجوج فيشربون بحيرة طبرية ويأكلون خيرات الأرض حتى يكاد الجوع يودي بعيسى عليه السلام والمؤمنين 9 - ومن ملحق الرواية الحادية عشرة "ينتهي يأجوج ومأجوج إلى جبل بيت المقدس فيرمون سهامهم إلى السماء ليقتلوا من فيها فتعود إليهم سهامهم فتقتل كثيرا منهم 10 - ويبعث الله على يأجوج ومأجوج "ميكروبا" يقتلهم 11 - وتمتلئ الأرض بجثثهم ونتنهم فيدعو عيسى ربه فيرسل طيرا تحمل جيفهم فترمي بها بعيدا عنهم 12 - ويدعو عيسى ربه فيرسل مطرا غزيرا يغسل الأرض من آثارهم 13 - وتفيض الخيرات فتعظم الفواكه وتكثر الألبان واللحوم 14 - ومن الرواية السادسة عشرة يمكث الناس سبع سنين في خير ومودة ووئام 15 - ثم يرسل الله ريحا باردة طيبة فتقبض كل من في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فلا يبقى على الأرض إلا شرار الناس 16 - وأن هؤلاء الناس يكونون ضعاف العقول متسارعين إلى الفساد لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا 17 - وفي الرواية الحادية عشرة أنهم يتقاتلون ويتناكحون في الطرقات دون حياء 18 - وفي الرواية السادسة عشرة يتمثل لهم الشيطان فيأمرهم بعبادة الأوثان فيعبدونها مع اتساع رزقهم وراحة عيشتهم 19 - ينفخ الله في الصور في هذه الحالة "فيصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله" وأول من يصعق رجل كان طويل الأمل يجهز حوضا لماء إبله فيصعق وهو يبني حوضه 20 - ومن ملحق الرواية السابعة عشرة أن أول الأشراط الكبرى للساعة خروج الدجال 21 - ومن الرواية السابعة عشرة أن طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة تخرجان في أواخر أشراط الساعة وأيهما خرجت قبل صاحبتها كانت الأخرى على إثرها قريبا 22 - ومن الرواية السادسة عشرة أنه بعد صعقة الموت تمطر السماء ماء يشبه اللبن فيبعث الناس وإذا هم قيام ينظرون 23 - ثم يسيرون إلى الموقف العظيم 24 - ثم يميز بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون 25 - وأن هذا اليوم شديد يجعل الولدان شيبا ولكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه

26 - ومن الرواية العاشرة أن نوحا والرسل كلهم أنذروا قومهم الدجال وحذروهم منه 27 - ومن الرواية الحادية عشرة أهمية الصلاة ووجوب الحفاظ عليها 28 - ومن قوله "غير الدجال أخوفني عليكم" أن الفتن كثيرة والإشارة إلى تقاتل المسلمين 29 - وأن من الاستعانة على الدجال قراءة أول سورة الكهف 30 - ومن الرواية الرابعة عشرة والخامسة عشرة الحث على عدم الإكثار من السؤال عن الدجال ونحوه 31 - وجواز التقليل من الأمر الكبير البعيد لتوجيه النفوس إلى الأهم القريب والله أعلم.

(789) باب قصة الجساسة والدجال

(789) باب قصة الجساسة والدجال 6422 - عن عامر بن شراحيل الشعبي شعب همدان أنه سأل فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس وكانت من المهاجرات الأول فقال حدثيني حديثا سمعتيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسنديه إلى أحد غيره فقالت لئن شئت لأفعلن فقال لها أجل حدثيني فقالت نكحت ابن المغيرة وهو من خيار شباب قريش يومئذ فأصيب في أول الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما تأيمت خطبني عبد الرحمن بن عوف في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم على مولاه أسامة بن زيد وكنت قد حدثت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من أحبني فليحب أسامة" فلما كلمني رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت أمري بيدك فأنكحني من شئت فقال "انتقلي إلى أم شريك" وأم شريك امرأة غنية من الأنصار عظيمة النفقة في سبيل الله ينزل عليها الضيفان فقلت سأفعل فقال "لا تفعلي إن أم شريك امرأة كثيرة الضيفان فإني أكره أن يسقط عنك خمارك أو ينكشف الثوب عن ساقيك فيرى القوم منك بعض ما تكرهين ولكن انتقلي إلى ابن عمك عبد الله بن عمرو ابن أم مكتوم" (وهو رجل من بني فهر فهر قريش وهو من البطن الذي هي منه) فانتقلت إليه فلما انقضت عدتي سمعت نداء المنادي منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي الصلاة جامعة فخرجت إلى المسجد فصليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنت في صف النساء التي تلي ظهور القوم فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته جلس على المنبر وهو يضحك فقال "ليلزم كل إنسان مصلاه" ثم قال "أتدرون لم جمعتكم" قالوا الله ورسوله أعلم قال "إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة ولكن جمعتكم" لأن تميما الداري كان رجلا نصرانيا فجاء فبايع وأسلم وحدثني حديثا وافق الذي كنت أحدثكم عن مسيح الدجال حدثني أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلا من لخم وجذام فلعب بهم الموج شهرا في البحر ثم أرفئوا إلى جزيرة في البحر حتى مغرب الشمس فجلسوا في أقرب السفينة فدخلوا الجزيرة فلقيتهم دابة أهلب كثير الشعر لا يدرون ما قبله من دبره من كثرة الشعر فقالوا ويلك ما أنت فقالت أنا الجساسة قالوا وما الجساسة قالت أيها القوم انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير فإنه إلى خبركم بالأشواق قال لما سمت لنا رجلا فرقنا

منها أن تكون شيطانة قال فانطلقنا سراعا حتى دخلنا الدير فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقا وأشده وثاقا مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد قلنا ويلك من أنت قال قد قدرتم على خبري فأخبروني ما أنتم قالوا نحن أناس من العرب ركبنا في سفينة بحرية فصادفنا البحر حين اغتلم فلعب بنا الموج شهرا ثم أرفأنا إلى جزيرتك هذه فجلسنا في أقربها فدخلنا الجزيرة فلقيتنا دابة أهلب كثير الشعر لا يدرى ما قبله من دبره من كثرة الشعر فقلنا ويلك ما أنت فقالت أنا الجساسة قلنا وما الجساسة قالت اعمدوا إلى هذا الرجل في الدير فإنه إلى خبركم بالأشواق فأقبلنا إليك سراعا وفزعنا منها ولم نأمن أن تكون شيطانة فقال أخبروني عن نخل بيسان قلنا عن أي شأنها تستخبر قال أسألكم عن نخلها هل يثمر قلنا له نعم قال أما إنه يوشك أن لا تثمر قال أخبروني عن بحيرة الطبرية قلنا عن أي شأنها تستخبر قال هل فيها ماء قالوا هي كثيرة الماء قال أما إن ماءها يوشك أن يذهب قال أخبروني عن عين زغر قالوا عن أي شأنها تستخبر قال هل في العين ماء وهل يزرع أهلها بماء العين قلنا له نعم هي كثيرة الماء وأهلها يزرعون من مائها قال أخبروني عن نبي الأميين ما فعل قالوا قد خرج من مكة ونزل يثرب قال أقاتله العرب قلنا نعم قال كيف صنع بهم فأخبرناه أنه قد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه قال لهم قد كان ذلك قلنا نعم قال أما إن ذاك خير لهم أن يطيعوه وإني مخبركم عني إني أنا المسيح وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة فهما محرمتان علي كلتاهما كلما أردت أن أدخل واحدة أو واحدا منهما استقبلني ملك بيده السيف صلتا يصدني عنها وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وطعن بمخصرته في المنبر "هذه طيبة هذه طيبة هذه طيبة" يعني المدينة "ألا هل كنت حدثتكم ذلك" فقال الناس نعم فإنه أعجبني حديث تميم أنه وافق الذي كنت أحدثكم عنه وعن المدينة ومكة ألا إنه في بحر الشأم أو بحر اليمن لا بل من قبل المشرق ما هو من قبل المشرق ما هو من قبل المشرق ما هو" وأومأ بيده إلى المشرق قالت فحفظت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. 6423 - عن الشعبي قال دخلنا على فاطمة بنت قيس رضي الله عنها فأتحفتنا

برطب يقال له رطب بن طاب وأسقتنا سويق سلت فسألتها عن المطلقة ثلاثا أين تعتد قالت طلقني بعلي ثلاثا فأذن لي النبي صلى الله عليه وسلم أن أعتد في أهلي قالت فنودي في الناس إن الصلاة جامعة قالت فانطلقت فيمن انطلق من الناس قالت فكنت في الصف المقدم من النساء وهو يلي المؤخر من الرجال قالت فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يخطب فقال "إن بني عم لتميم الداري ركبوا في البحر" وساق الحديث وزاد فيه قالت "فكأنما أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأهوى بمخصرته إلى الأرض وقال "هذه طيبة" يعني المدينة 6424 - عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم تميم الداري فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ركب البحر فتاهت به سفينته فسقط إلى جزيرة فخرج إليها يلتمس الماء فلقي إنسانا يجر شعره واقتص الحديث وقال فيه ثم قال أما إنه لو قد أذن لي في الخروج قد وطئت البلاد كلها غير طيبة فأخرجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فحدثهم قال "هذه طيبة وذاك الدجال". 6425 - عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قعد على المنبر فقال "أيها الناس حدثني تميم الداري أن أناسا من قومه كانوا في البحر في سفينة لهم فانكسرت بهم فركب بعضهم على لوح من ألواح السفينة فخرجوا إلى جزيرة في البحر" وساق الحديث 6426 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة وليس نقب من أنقابها إلا عليه الملائكة صافين تحرسها فينزل بالسبخة فترجف المدينة ثلاث رجفات يخرج إليه منها كل كافر ومنافق". 6427 - وفي رواية عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فذكر نحوه غير أنه قال فيأتي سبخة الجرف فيضرب رواقه وقال فيخرج إليه كل منافق ومنافقة.

6428 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفا عليهم الطيالسة". 6429 - عن أم شريك رضي الله عنها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "ليفرن الناس من الدجال في الجبال" قالت أم شريك يا رسول الله فأين العرب يومئذ قال "هم قليل" 6430 - عن رهط منهم أبو الدهماء وأبو قتادة قالوا كنا نمر على هشام بن عامر نأتي عمران بن حصين فقال ذات يوم إنكم لتجاوزوني إلى رجال ما كانوا بأحضر لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني ولا أعلم بحديثه مني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال" 6431 - وفي رواية عن حميد بن هلال عن ثلاثة رهط من قومه فيهم أبو قتادة قالوا كنا نمر على هشام بن عامر إلى عمران بن حصين بمثل حديث عبد العزيز بن مختار غير أنه قال "أمر أكبر من الدجال" 6432 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "بادروا بالأعمال ستا طلوع الشمس من مغربها أو الدخان أو الدجال أو الدابة أو خاصة أحدكم أو أمر العامة" 6433 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "بادروا بالأعمال ستا

الدجال والدخان ودابة الأرض وطلوع الشمس من مغربها وأمر العامة وخويصة أحدكم" -[المعنى العام]- نكتفي بما ذكرناه في المباحث العربية من أحداث القصة -[المباحث العربية]- (عن فاطمة بنت قيس قالت نكحت ابن المغيرة وهو من خيار شباب قريش يومئذ فأصيب في أول الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما تأيمت خطبني عبد الرحمن بن عوف في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) "تأيمت" صرت أيما وهي التي لا زوج لها "فأصيب" ظاهره أنه استشهد وأنها تأيمت بموته ولكن الواقع أنه طلقها طلاقا بائنا ففي ملحق الرواية "قالت طلقني بعلي ثلاثا" قال الحافظ ابن حجر في الإصابة فاطمة بنت قيس كانت من المهاجرات الأول وكانت ذات جمال وعقل وكانت عند أبي بكر بن حفص المخزومي فطلقها فتزوجت بعده أسامة بن زيد وهي التي روت قصة الجساسة فانفردت بها مطولة رواها عنها الشعبي لما قدمت إلى الكوفة على أخيها الضحاك بن قيس وهو أمير الكوفة وفي بيتها اجتمع أهل الشورى لما قتل عمر فمعنى قولها "فأصيب" أي بجراحة أو أصيب في ماله أو نحو ذلك قال القاضي إنما أرادت بذلك عد فضائله فابتدأت بكونه خير شباب قريش ثم ذكرت الباقي وقد تقدمت قصتها مع زوجها وطلاقها وعدتها وسكناها في العدة في حديث خاص في باب المطلقة البائن لا نفقة لها من كتاب الطلاق ومرادها من النفر أسامة ومعاوية وأبو الجهم بن حذيفة القرشي كما سبق وفي ملحق الرواية عن الشعبي قال "دخلنا على فاطمة بنت قيس فأتحفتنا برطب يقال له رطب بن طاب نوع من الرطب معروف وأسقتنا سويق سلت" بضم السين وإسكان اللام وهو حب يشبه الحنطة ويشبه الشعير ويقال سقاه وأسقاه وقولها "فلما تأيمت خطبني عبد الرحمن بن عوف" ظاهره أن الخطبة كانت في نفس العدة قال النووي وليس كذلك وإنما كانت بعد انقضائها كما صرح به في كتاب الطلاق فيتأول هذا اللفظ الواقع هنا على ذلك ويكون قوله "انتقلي إلى أم شريك وإلى ابن أم مكتوم" مقدما من تأخير وعطف جملة على جملة من غير ترتيب جائز (فلما انقضت عدتي نادى المنادي منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي الصلاة جامعة) فخرجت إلى المسجد "منادي رسول الله" بدل من "المنادي" و"ينادي" مستأنف في جواب سؤال تقديره بماذا ينادي و"الصلاة جامعة" بنصب "الصلاة" على الإغراء و"جامعة" على الحال وفي

ملحق الرواية "طلقني بعلي .. فأذن لي النبي صلى الله عليه وسلم أن أعتد في أهلي قالت فنودي في الناس إن الصلاة جامعة قالت فانطلقت فيمن انطلق من الناس" (ولكن جمعتكم لأن تميما الداري كان رجلا نصرانيا فجاء فبايع وأسلم وحدثني حديثا وافق الذي كنت أحدثكم عن مسيح الدجال) "تميم الداري" ينسب إلى الدار وهو بطن من لخم كان إسلامه سنة تسع من الهجرة وكان يسكن المدينة ثم انتقل منها إلى الشام بعد قتل عثمان رحمه الله تعالى (حدثني أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلا من لخم وجذام) في ملحق الرواية "إن بني عم لتميم الداري ركبوا في البحر" (فلعب بهم الموج شهرا في البحر ثم أرفئوا إلى جزيرة في البحر حتى مغرب الشمس فجلسوا في أقرب السفينة فدخلوا الجزيرة) "أرفئوا" بالهمز أي التجئوا وقوله في "أقرب" بضم الراء جمع "قارب" بفتح الراء وكسرها وهي سفن صغيرة تكون معلقة بجوانب الكبيرة والجمع صحيح لكنه خلاف القياس وقيل المراد من "أقرب السفينة" أخرياتها وما قرب منها للنزول والمعنى لجئوا إلى الشاطئ بسفينتهم فجلسوا في القوارب الصغيرة واتجهوا بها إلى الشاطئ فنزلوا منها إلى الجزيرة لكن في الملحق الثاني للرواية "فانكسرت بهم فركب بعضهم على لوح من ألواح السفينة فخرجوا إلى جزيرة في البحر" ويمكن الجمع بأن بعضهم ركب القوارب وبعضهم ركب ألواح السفينة أو أطلق القوارب على ألواح السفينة (فلقيتهم دابة أهلب كثير الشعر لا يدرى ما قبله من دبره من كثرة الشعر) وفي ملحق الرواية "فلقي إنسانا يجر شعره" والأهلب غليظ الشعر كثيره (فقالوا ويلك ما أنت) التعبير بـ "ما" التي لغير العاقل لجهلهم بحقيقته (فقالت أنا الجساسة قالوا وما الجساسة) بفتح الجيم وتشديد السين الأولى قيل سميت بذلك لتجسسها الأخبار للدجال وجاء عن عبد الرحمن بن عمرو بن العاص أنها دابة الأرض المذكورة في القرآن (قالت أيها القوم انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير فإنه إلى خبركم بالأشواق) "الدير" بفتح الدال مكان عبادة النصارى والإشارة إلى رجل في الدير والمعنى أنه في شوق شديد إلى أن يسمع منكم أخبار النبي وأخبار العرب (قال لما سمت لنا رجلا فرقنا منها أن تكون شيطانة) أي لما أحالتنا إلى رجل ووصفت لنا مكانه خفنا منها أن تكون مضللة لنا شأن الشياطين يستهوون الناس في الأرض يحيرونهم

(دخلنا الدير فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقا) أي ضخم الجسم (وأشده وثاقا) أي أشد المربوطين رباطا (مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد قلنا ويلك ما أنت قال قد قدرتم على خبري) أي قد وقفتم الآن على خبري وحالي (فأخبروني ما أنتم قالوا نحن أناس من العرب ركبنا سفينة بحرية فصادفنا البحر حين اغتلم) أي صادف سفرنا ورحلتنا اغتلام البحر أي هيجانه وتجاوزه حده المعتاد قال الكسائي الاغتلام أن يتجاوز الإنسان ما حد له من الخير والمباح (فقال أخبروني عن نخل بيسان) منطقة في جزيرة العرب (أخبروني عن عين زغر) بضم الزاي وفتح الغين بلدة معروفة في الجانب القبلي من الشام (إني أنا المسيح) أي الدجال (استقبلني ملك بيده السيف صلتا) بفتح الصاد وضمها مع سكون اللام أي مسلولا (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وطعن بمخصرته في المنبر) المخصرة بكسر الميم وسكون الخاء اسم الآلة التي يتكئ عليها كالعصاة وفي الرواية الثانية "وأهوى بمخصرته إلى الأرض" (فيأتي سبخة الجرف فيضرب رواقه فيخرج إليه كل منافق ومنافقة) الجرف بضم الجيم والراء مكان خارج المدينة والرواق ما يشبه الخيمة أي ينزل هناك ويضع أمتعته (يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفا عليهم الطيالسة) جمع طيلسان وهو ثوب معروف والعدد للتكثير قال النووي هكذا هو في جميع النسخ ببلادنا "سبعون" بالسين وبالباء وهو رواية الأكثرين وفي رواية "تسعون ألفا" بالتاء والصحيح المشهور الأول و"أصبهان" بفتح الهمزة وكسرها وبالباء والفاء (ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال) أي أكبر فتنة على الأديان وأعظم شوكة وأخطر على رسالات الرسل من الدجال (بادروا بالأعمال ستا طلوع الشمس من مغربها أو الدخان أو الدجال أو الدابة أو خاصة أحدكم أو أمر العامة) في الرواية بعدها "الدجال والدخان ودابة الأرض وطلوع الشمس من مغربها وأمر العامة وخويصة أحدكم" قال النووي ذكر الستة في الرواية الأولى معطوفة بأو التي هي للتقسيم وفي الثانية بالواو قلت وخالف في ترتيب الستة وخاصة أحدكم أي ما يخصه وفسر بالموت أي بادروا بالأعمال الصالحة الموت "وخويصة" تصغير خاصة و"أمر العامة" قيل المراد به الساعة والقيامة

-[فقه الحديث]- -[ما يؤخذ من الأحاديث]- 1 - فيها الاعتماد على خبر الواحد فقد استدل صلى الله عليه وسلم على ما أخبر به هو بخبر تميم الداري 2 - وفيها قبول تحمل الكافر فقد كان تميم الداري حين الواقعة نصرانيا 3 - وفيها ثبوت الجساسة 4 - وأن المسيح الدجال موجود وقد سبق قول ابن صائد عنه في الباب قبل الماضي أما والله إني لأعلم مولده ومكانه وأين هو 5 - وخطبة الإمام عند الأمور المهمة 6 - وفيها الإشارة إلى ما سيقع مع الدجال من خوارق سبقت في الباب السابق 7 - وأن الدجال لا يدخل المدينة 8 - وفي الرواية الأخيرة قلة العرب بالنسبة للمسلمين عامة في آخر الزمان والله أعلم.

(790) باب فضل العبادة في آخر الزمان

(790) باب فضل العبادة في آخر الزمان 6434 - عن معقل بن يسار رضي الله عنه رده إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال "العبادة في الهرج كهجرة إلي" -[المعنى العام]- إن فضل الهجرة عظيم فهي خروج من المال والأهل والوطن ابتغاء مرضاة الله وهي تمسك بالدين أمام الوعيد والتعذيب ومحاربة الأعداء الأشداء ثم هي جهاد في سبيل الله وتعريض للنفس أن تستشهد في سبيل الله فهل هناك ما يعدلها في الأجر إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ وإن آخر الزمان سيكثر الهرج والقتل والكذب والخيانة والجهل والفحش والزنا وسيصبح القابض على دينه كالقابض على الجمر فما أشبه الليلة بالبارحة وما أشبه العبادة والتمسك بالدين بالعبادة في أول الإسلام وبالهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرارا بالدين ونصرة لله ولرسوله ومن هنا صدق الحديث الشريف "العبادة في الهرج كهجرة إلي" والمتمسك بدينه في آخر الزمان كالمتمسك بدينه في أوائل الإسلام -[المباحث العربية]- (العبادة في الهرج كهجرة إلي) سبق تفسير الهرج بالقتل والمراد منه هنا الفتنة واختلاط الأمور على الناس وانشغالهم بالدنيا ووجه الشبه كثرة الثواب على العبادة قال النووي سبب كثرة فضل العبادة في هذه الحال أن الناس يغفلون عن العبادة وينشغلون عنها ولا يتفرغ لها إلا أفراد -[فقه الحديث]- من ظواهر آخر الزمان انشغال الناس بدنياهم وقلة عبادتهم وأن أجر العبادة حين يقل العابدون أكبر من أجرها عند كثرة العابدين والله أعلم.

(791) باب قرب الساعة وما بين النفختين

(791) باب قرب الساعة وما بين النفختين 6435 - عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس" 6436 - عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يشير بإصبعه التي تلي الإبهام والوسطى وهو يقول "بعثت أنا والساعة هكذا" 6437 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بعثت أنا والساعة كهاتين" قال شعبة وسمعت قتادة يقول في قصصه كفضل إحداهما على الأخرى فلا أدري أذكره عن أنس أو قاله قتادة. 6438 - عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "بعثت أنا والساعة هكذا" وقرن شعبة بين إصبعيه المسبحة والوسطى يحكيه. 6439 - عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بعثت أنا والساعة كهاتين" قال وضم السبابة والوسطى 6440 - عن عائشة رضي الله عنها قالت كان الأعراب إذا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن الساعة متى الساعة فنظر إلى أحدث إنسان منهم فقال "إن يعش هذا لم يدركه الهرم قامت عليكم ساعتكم"

6441 - عن أنس رضي الله عنه أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم متى تقوم الساعة وعنده غلام من الأنصار يقال له محمد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن يعش هذا الغلام فعسى أن لا يدركه الهرم حتى تقوم الساعة" 6442 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال متى تقوم الساعة قال فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم هنيهة ثم نظر إلى غلام بين يديه من أزد شنوءة فقال إن عمر هذا لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة" قال قال أنس ذاك الغلام من أترابي يومئذ 6443 - عن أنس رضي الله عنه قال مر غلام للمغيرة بن شعبة وكان من أقراني فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إن يؤخر هذا فلن يدركه الهرم حتى تقوم الساعة" 6444 - عن أبي هريرة رضي الله عنه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال "تقوم الساعة والرجل يحلب اللقحة فما يصل الإناء إلى فيه حتى تقوم والرجلان يتبايعان الثوب فما يتبايعانه حتى تقوم والرجل يلط في حوضه فما يصدر حتى تقوم" 6445 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما بين النفختين أربعون" قالوا يا أبا هريرة أربعون يوما قال أبيت قالوا أربعون شهرا قال أبيت قالوا أربعون سنة قال أبيت "ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل" قال "وليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظما واحدا وهو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة" 6446 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب منه خلق وفيه يركب"

6447 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن في الإنسان عظما لا تأكله الأرض أبدا فيه يركب يوم القيامة" قالوا أي عظم هو يا رسول الله قال "عجب الذنب" -[المعنى العام]- يقول الله تعالى {يسألونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها} [النازعات 42 - 44] {يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله} [الأعراف 187] {وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب} [النحل 77] {يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا} [الأحزاب 63] {فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها} [محمد 18] {اقتربت الساعة وانشق القمر} [القمر 1] الساعة هي القيامة هي النفخة الأولى في الصور إذ بها يصعق من في السماوات والأرض إلا من شاء الله هي أمر الله كن فيكون {حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس} [يونس 24] وقد اختص الله تعالى بعلمها لا يعلمها نبي مرسل ولا ملك مقرب "ما المسئول عنها بأعلم من السائل" ومع هذا لا يفتأ الناس يسألون وماذا يفيدهم السؤال إن لكل إنسان ساعة ومن مات فقد قامت قيامته وجاءت ساعته فليشتغل كل إنسان بنفسه وليعمل لما بعد ساعته أما الساعة الكبرى فلا يشغل نفسه بها لكنها قريبة قريبة من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فهو آخر الرسل ولا نبي بعده فهو وهي كالإصبعين السبابة والوسطى لكن القرب أمر نسبي فألف سنة بالنسبة لألف ألف قريبة ومليون سنة بجوار مائتي مليون سنة قريبة فما قدر قرب الساعة الله أعلم -[المباحث العربية]- (لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس) سبق شرحه عند حديث المسيح الدجال (بعثت أنا والساعة هكذا) يشير بإصبعيه التي تلي الإبهام والوسطى وفي الرواية الثالثة "بعثت أنا والساعة كهاتين" وفي الرواية الرابعة "وقرن شعبة بين إصبعيه المسبحة والوسطى يحكيه" وفي الرواية الخامسة "وضم السبابة والوسطى" قال النووي "أنا والساعة" روى بنصب الساعة أي على أنها مفعول معه ورفعها على عطفها على الضمير قال وأما معناه فقيل المراد

بينهما شيء يسير كما بين الإصبعين في الطول وقيل هو إشارة إلى قرب المجاورة اهـ فالإصبعان السبابة والوسطى متقاربان بل متلاصقان فوجه الشبه القرب والإصبعان أيضا متقاربان في الطول والفرق بينهما في الطول يسير فوجه الشبه القرب على المعنيين (كان الأعراب إذا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن الساعة متى الساعة) أي كانوا يفعلون ذلك غالبا لا دائما وإنما خص الأعراب بذلك لأن أهل المدينة كانوا قد فطموا عن السؤال عن الساعة بما جاء عن ذلك في القرآن وفي الأحاديث أما الأعراب فكانوا يأتون من البادية يجهلون النهي عن السؤال عنها (فنظر إلى أحدث إنسان منهم) في الرواية السابعة "وعنده غلام من الأنصار يقال له محمد" وفي الرواية الثامنة "فسكت هنيهة ثم نظر إلى غلام بين يديه من أزد شنوءة" وفي الرواية التاسعة "قال أنس مر غلام للمغيرة بن شعبة وكان من أقراني" فيحتمل أن الغلام لم يكن بدويا وقوله "منهم" أي في الوجود والمجلس والظاهر أن الغلام لم يكن جاوز العشرين فأنس يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كان ابن عشرين سنة وهو من أقرانه (إن يعش هذا لم يدركه الهرم قامت عليكم ساعتكم) وفي الرواية السابعة "إن يعش هذا الغلام فعسى أن لا يدركه الهرم حتى تقوم الساعة" وفي الرواية الثامنة "إن عمر هذا عمر بضم العين وتشديد الميم المكسورة لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة" وفي الرواية التاسعة "إن يؤخر هذا فلن يدركه الهرم حتى تقوم الساعة" قال القاضي هذه الروايات كلها محمولة على معنى الأول والمراد بساعتكم موتكم ومعناه يموت ذلك القرن أو أولئك المخاطبون اهـ وقال النووي ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم علم أن ذلك الغلام لا يبلغ الهرم ولا يعمر ولا يؤخر اهـ (تقوم الساعة والرجل يحلب اللقحة فما يصل الإناء إلى فيه حتى تقوم) سبق تفسير اللقحة بأنها قريبة العهد بالولادة كثيرة اللبن والمراد أنها تقوم فجأة (والرجلان يتبايعان الثوب فما يتبايعانه حتى تقوم) أي فلا يتمان البيع (والرجل يلط في حوضه فما يصدر حتى تقوم) أي الرجل يطلي حوض ماء شرب الدواب بالطين فلا يكمله ولا ينصرف عنه حتى تقوم والمراد من الكل أنها تفاجئ الناس وهم في أعمالهم فتأخذهم قبل أن يتموا عملهم (قالوا أربعون يوما قال أبيت) معناه أبيت أن أجزم أن المراد أربعون يوما أو شهرا أو سنة بل الذي أجزم به أنها أربعون مجملة قال النووي وقد جاءت مفسرة في غير مسلم "أربعون سنة" (وليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظما واحدا وهو عجب الذنب ومنه يركب

الخلق يوم القيامة) وفي الرواية الثانية عشرة "كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب منه خلق وفيه يركب" وفي الرواية الثالثة عشرة "إن في الإنسان عظما لا تأكله الأرض أبدا فيه يركب يوم القيامة قالوا أي عظم هو يا رسول الله قال عجب الذنب" قال النووي عجب الذنب بفتح العين وإسكان الجيم أي العظم اللطيف الذي في أسفل الصلب وهو رأس العصعص ويقال له "عجم" بالميم وهو أول ما يخلق من الآدمي وهو الذي يبقى منه ليعاد تركيب الخلق عليه -[فقه الحديث]- 1 - من الرواية الأولى أن الساعة تقوم على شرار الخلق 2 - ومن الرواية الثانية وما بعدها إلى العاشرة أن الساعة قريبة الوقوع 3 - وأنها لا تأتي إلا بغتة 4 - وأنها تأتي والناس لا هون في دنياهم 5 - ومن الرواية الحادية عشرة والثانية عشرة أن كل ابن آدم يأكله التراب بعد الموت إلا عظمة منه هي عجب الذنب واستثنى بعضهم من هذا العموم أجسام الأنبياء والشهداء والله أعلم.

كتاب الزهد

كتاب الزهد

(792) باب هوان الدنيا والزهد فيها والتحذير من الاغترار بها

(792) باب هوان الدنيا والزهد فيها والتحذير من الاغترار بها 6448 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر" 6449 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسوق داخلا من بعض العالية والناس كنفته فمر بجدي أسك ميت فتناوله فأخذ بأذنه ثم قال "أيكم يحب أن هذا له بدرهم" فقالوا ما نحب أنه لنا بشيء وما نصنع به قال "أتحبون أنه لكم" قالوا والله لو كان حيا كان عيبا فيه لأنه أسك فكيف وهو ميت فقال "فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم" 6450 - وفي رواية عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله غير أن في حديث الثقفي فلو كان حيا كان هذا السكك به عيبا 6451 - عن مطرف عن أبيه رضي الله عنه قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ {ألهاكم التكاثر} قال "يقول ابن آدم مالي مالي (قال) وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت" 6452 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "يقول العبد مالي مالي إنما له من ماله ثلاث ما أكل فأفنى أو لبس فأبلى أو أعطى فاقتنى وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس"

6453 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يتبع الميت ثلاثة فيرجع اثنان ويبقى واحد يتبعه أهله وماله وعمله فيرجع أهله وماله ويبقى عمله" 6454 - عن عمرو بن عوف رضي الله عنه وهو حليف بني عامر بن لؤي وكان شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف فتعرضوا له فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم ثم قال "أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين" فقالوا أجل يا رسول الله قال "فأبشروا وأملوا ما يسركم فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم" 6455 - وفي رواية عن الزهري بإسناد يونس ومثل حديثه غير أن في حديث صالح "وتلهيكم كما ألهتهم" 6456 - عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "إذا فتحت عليكم فارس والروم أي قوم أنتم قال عبد الرحمن بن عوف نقول كما أمرنا الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أو غير ذلك تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ثم تتباغضون أو نحو ذلك ثم تنطلقون في مساكين المهاجرين فتجعلون بعضهم على رقاب بعض"

6457 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه" 6458 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "انظروا إلى من أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله" قال أبو معاوية "عليكم" 6459 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول "إن ثلاثة في بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى فأراد الله أن يبتليهم فبعث إليهم ملكا فأتى الأبرص فقال أي شيء أحب إليك قال لون حسن وجلد حسن ويذهب عني الذي قد قذرني الناس قال فمسحه فذهب عنه قذره وأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا قال فأي المال أحب إليك قال الإبل (أو قال البقر شك إسحق) إلا أن الأبرص أو الأقرع قال أحدهما الإبل وقال الآخر البقر (قال فأعطي ناقة عشراء فقال بارك الله لك فيها قال فأتى الأقرع فقال أي شيء أحب إليك قال شعر حسن ويذهب عني هذا الذي قد قذرني الناس قال فمسحه فذهب عنه وأعطي شعرا حسنا قال فأي المال أحب إليك قال البقر فأعطي بقرة حاملا فقال بارك الله لك فيها قال فأتى الأعمى فقال أي شيء أحب إليك قال أن يرد الله إلي بصري فأبصر به الناس قال فمسحه فرد الله إليه بصره قال فأي المال أحب إليك قال الغنم فأعطي شاة والدا فأنتج هذان وولد هذا قال فكان لهذا واد من الإبل ولهذا واد من البقر ولهذا واد من الغنم قال ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته فقال رجل مسكين قد انقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيرا أتبلغ عليه في سفري فقال الحقوق كثيرة فقال له كأني أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيرا فأعطاك الله

فقال إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر فقال إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت قال وأتى الأقرع في صورته فقال له مثل ما قال لهذا ورد عليه مثل ما رد على هذا فقال إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت قال وأتى الأعمى في صورته وهيئته فقال رجل مسكين وابن سبيل انقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري فقال قد كنت أعمى فرد الله إلي بصري فخذ ما شئت ودع ما شئت فوالله لا أجهدك اليوم شيئا أخذته لله فقال أمسك مالك فإنما ابتليتم فقد رضي عنك وسخط على صاحبيك". 6460 - عن عامر بن سعد قال كان سعد بن أبي وقاص في إبله فجاءه ابنه عمر فلما رآه سعد قال أعوذ بالله من شر هذا الراكب فنزل فقال له أنزلت في إبلك وغنمك وتركت الناس يتنازعون الملك بينهم فضرب سعد في صدره فقال اسكت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي" 6461 - عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال والله إني لأول رجل من العرب رمى بسهم في سبيل الله ولقد كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام نأكله إلا ورق الحبلة وهذا السمر حتى إن أحدنا ليضع كما تضع الشاة ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الدين لقد خبت إذا وضل عملي. ولم يقل ابن نمير إذا. 6462 - وفي رواية عن إسمعيل بن أبي خالد بهذا الإسناد وقال حتى إن كان أحدنا ليضع كما تضع العنز ما يخلطه بشيء 6463 - عن خالد بن عمير العدوي قال خطبنا عتبة بن غزوان فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإن الدنيا قد آذنت بصرم وولت حذاء ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابها صاحبها وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها فانتقلوا بخير ما بحضرتكم فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفة جهنم فيهوي فيها سبعين عاما لا يدرك

لها قعرا ووالله لتملأن أفعجبتم ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة وليأتين عليها يوم وهو كظيظ من الزحام ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك فاتزرت بنصفها واتزر سعد بنصفها فما أصبح اليوم منا أحد إلا أصبح أميرا على مصر من الأمصار وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيما وعند الله صغيرا وإنها لم تكن نبوة قط إلا تناسخت حتى يكون آخر عاقبتها ملكا فستخبرون وتجربون الأمراء بعدنا. 6464 - وفي رواية عن خالد بن عمير وقد أدرك الجاهلية قال خطب عتبة بن غزوان وكان أميرا على البصرة فذكر نحو حديث شيبان 6465 - عن عتبة بن غزوان رضي الله عنه قال لقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما طعامنا إلا ورق الحبلة حتى قرحت أشداقنا؟ 6466 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة قال "هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليست في سحابة" قالوا لا قال "فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس في سحابة" قالوا لا قال "فوالذي نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما قال فيلقى العبد فيقول أي فل ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع فيقول بلى قال فيقول أفظننت أنك ملاقي فيقول لا فيقول فإني أنساك كما نسيتني ثم يلقى الثاني فيقول أي فل ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع فيقول بلى أي رب فيقول أفظننت أنك ملاقي فيقول لا فيقول فإني أنساك كما نسيتني ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك فيقول يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسلك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع فيقول ها هنا إذا قال ثم يقال له الآن نبعث شاهدنا عليك ويتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد علي

فيختم على فيه ويقال لفخذه ولحمه وعظامه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي يسخط الله عليه" 6467 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال "هل تدرون مم أضحك" قال قلنا الله ورسوله أعلم قال "من مخاطبة العبد ربه يقول يا رب ألم تجرني من الظلم قال يقول بلى قال فيقول فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني قال فيقول كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا قال فيختم على فيه فيقال لأركانه انطقي قال فتنطق بأعماله قال ثم يخلي بينه وبين الكلام قال فيقول بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل" 6468 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا" 6469 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا" وفي رواية عمرو "اللهم ارزق" 6470 - وفي رواية عن عمارة بن القعقاع بهذا الإسناد وقال "كفافا". 6471 - عن عائشة رضي الله عنها قالت ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من طعام بر ثلاث ليال تباعا حتى قبض. 6472 - عن عائشة رضي الله عنها قالت ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام تباعا من خبز بر حتى مضى لسبيله.

6473 - عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم. 6474 - عن عائشة رضي الله عنها قالت ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز بر فوق ثلاث. 6475 - عن عائشة رضي الله عنها ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز البر ثلاثا حتى مضى لسبيله. 6476 - عن عائشة رضي الله عنها قالت ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم يومين من خبز بر إلا وأحدهما تمر 6477 - عن عائشة رضي الله عنها قالت إن كنا آل محمد صلى الله عليه وسلم لنمكث شهرا ما نستوقد بنار إن هو إلا التمر والماء 6478 - -/- وفي رواية عن هشام بن عروة بهذا الإسناد إن كنا لنمكث ولم يذكر آل محمد وزاد أبو كريب في حديثه عن ابن نمير إلا أن يأتينا اللحيم 6479 - عن عائشة رضي الله عنها قالت توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في رفي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي فأكلت منه حتى طال علي فكلته ففني. 6480 - عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول والله يا ابن أختي إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار قال قلت يا خالة فما كان يعيشكم قالت الأسودان التمر والماء إلا أنه قد

كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار وكانت لهم منائح فكانوا يرسلون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانها فيسقيناه 6481 - عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وما شبع من خبز وزيت في يوم واحد مرتين 6482 - عن عائشة رضي الله عنها قالت توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين شبع الناس من الأسودين التمر والماء 6483 - عن عائشة رضي الله عنها قالت توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شبعنا من الأسودين الماء والتمر 6484 - -/- وفي رواية عن سفيان وما شبعنا من الأسودين. 6485 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال والذي نفسي بيده (وقال ابن عباد والذي نفس أبي هريرة بيده) ما أشبع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهله ثلاثة أيام تباعا من خبز حنطة حتى فارق الدنيا 6486 - عن أبي حازم قال رأيت أبا هريرة يشير بإصبعه مرارا يقول والذي نفس أبي هريرة بيده ما شبع نبي الله صلى الله عليه وسلم وأهله ثلاثة أيام تباعا من خبز حنطة حتى فارق الدنيا 6487 - عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال ألستم في طعام وشراب ما

شئتم لقد رأيت نبيكم صلى الله عليه وسلم وما يجد من الدقل ما يملأ به بطنه. وقتيبة لم يذكر به. 6488 - وفي رواية عن سماك بهذا الإسناد نحوه وزاد في حديث زهير وما ترضون دون ألوان التمر والزبد. 6489 - عن سماك بن حرب قال سمعت النعمان يخطب قال ذكر عمر ما أصاب الناس من الدنيا فقال لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يلتوي ما يجد دقلا يملأ به بطنه. 6490 - عن عبد الله بن عمرو بن العاص وسأله رجل فقال ألسنا من فقراء المهاجرين فقال له عبد الله ألك امرأة تأوي إليها قال نعم قال ألك مسكن تسكنه قال نعم قال فأنت من الأغنياء قال فإن لي خادما قال فأنت من الملوك قال أبو عبد الرحمن وجاء ثلاثة نفر إلى عبد الله بن عمرو بن العاص وأنا عنده فقالوا يا أبا محمد إنا والله ما نقدر على شيء لا نفقة ولا دابة ولا متاع فقال لهم ما شئتم إن شئتم رجعتم إلينا فأعطيناكم ما يسر الله لكم وإن شئتم ذكرنا أمركم للسلطان وإن شئتم صبرتم فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفا" قالوا فإنا نصبر لا نسأل شيئا -[المعنى العام]- مجموعة من الأحاديث تشترك في الدعوة إلى الزهد والتقلل من الدنيا نعم لكل حديث منها طعم ولون ورائحة ولكل حديث أسلوبه ووقائعه ولكن الهدف واحد الدعوة إلى الزهد فالدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر والدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة وهي أهون على الله من جدي ميت على الناس وما يعتز به ابن آدم من مال وأملاك وبنين سيتخلى عنه يوم يموت ولا يبقى معه إلا عمله وكل ما يجمعه ويجري وراءه لن يأخذ منه إلا لقمة يأكلها أو خرقة يلبسها ثم يتركه إلى الورثة

محبين له أو مبغضين فليضع جزءا منه للصدقات وأعمال البر لينفعه يوم القيامة إن الإنسان مسئول عن كل درهم من ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وكلما زاد ماله زادت مسئوليته فالغنى أشد خطرا على المسلم من الفقر فما أهلك الأمم السابقة إلا التنافس في الأموال حملهم ذلك على الحقد والحسد والتدابر والتباغض بل على القتل وسفك الدماء فليحمد كل إنسان ربه على ما أعطاه ولينظر إلى من هو أقل منه مالا ودنيا ليعلم مقدار ما عنده من نعم وشكر النعمة يزيدها مصداقا لقوله تعالى {لئن شكرتم لأزيدنكم} [إبراهيم 7] وشكر النعمة يكون بالاعتراف بها ونفع الناس بها وقد كانت عاقبة الثلاثة من بني إسرائيل شاهدة على ذلك لم يشكر الأقرع والأبرص فمحقت نعمتهما وشكر الأعمى فبورك له فيها ويوم القيامة يسأل الإنسان عما كان فيه من نعيم مصداقا لقوله تعالى {ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين ثم لتسألن يومئذ عن النعيم} [التكاثر 1 - 7] والمتدبر لمعيشة الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم قيمة الزاهدين -[المباحث العربية]- (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) معناه أن كل مؤمن مسجون ممنوع في الدنيا من الشهوات المحرمة والمكروهة مكلف بفعل الطاعات الشاقة فإذا مات استراح من هذا وانقلب إلى ما أعد الله تعالى له من النعيم الدائم والراحة الخالصة من النقصان وأما الكافر فإنما له من ذلك ما حصل في الدنيا مع قلته وتكديره بالمنغصات فإذا مات صار إلى العذاب الدائم وشقاء الأبد (داخلا من بعض العالية) العالية ضاحية من ضواحي المدينة (والناس كنفتيه) بفتح الكاف والنون والفاء والتاء أي جانبيه وفي بعض النسخ "كنفته" بالإفراد أي جانبه (فمر بجدي أسك ميت) "أسك" بفتح الهمزة والسين وتشديد الكاف أي صغير الأذنين وصغر الأذنين عيب فيه (فتناوله فأخذ بأذنه) أي فتناوله ولمسه بعصاه ولمس أذنه بالعصا (أتحبون أنه لكم) بدون درهم (ألهاكم التكاثر) أي شغلكم جمع المال والإكثار منه عن آخرتكم والعمل من أجلها (يقول ابن آدم مالي) في الرواية الثالثة والرابعة "مالي مالي" مرتين أي يعتز به ويفتخر به ويعتمد عليه

(وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت) أي فنفذت عطاءك وأكملته وأتممته من غير من ولا أذى والاستفهام إنكاري بمعنى النفي أي ليس لك من مالك إلا كذا وكذا وكذا وما عدا ذلك فهو لورثتك ففي الرواية الرابعة "يقول العبد مالي مالي إنما له من ماله ثلاث ما أكل فأفنى أو لبس فأبلى أو أعطى فاقتنى" قال النووي هكذا هو في معظم النسخ ولمعظم الرواة "فاقتنى" بالتاء ومعناه ادخره لآخرته أي ادخر ثوابه وفي بعضها "فأقنى" بحذف التاء أي أرضى الله وأرضى الفقير "وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس" (يتبع الميت ثلاثة فيرجع اثنان ويبقى واحد يتبعه أهله وماله وعمله فيرجع أهله وماله ويبقى عمله) تبعية هذه الثلاثة غالبية فقد لا يتبعه إلا عمله فقط والمراد من يتبع جنازته من أهله ورفاقه وإذا انقضى أمر الحزن عليه رجعوا سواء أقاموا بعد الدفن أم لا ومعنى بقاء عمله أنه يدخل معه القبر والتبعية بعضها حقيقة وبعضها مجاز ففيه استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه (ما الفقر أخشى عليكم) "الفقر" منصوب مفعول به مقدم لأخشى وقال الطيبي فائدة تقديم المفعول هنا الاهتمام بشأن الفقر فإنه الوالد المشفق إذا حضره الموت كان اهتمامه بحال ولده في المال فأعلم صلى الله عليه وسلم أصحابه أنه وإن كان لهم في الشفقة عليهم كالأب لكن حاله في أمر المال يخالف حال الوالد وأنه لا يخشى عليهم الفقر كما يخشاه الوالد ولكن يخشى عليهم من الغنى الذي هو مطلوب الوالد لولده (فتنافسوها) بفتح التاء مع حذف إحدى التاءين أي فتتنافسوها والتنافس من المنافسة وهي الرغبة في الشيء ومحبة الانفراد به والمغالبة عليه وأصلها من الشيء النفيس (وتهلككم كما أهلكتهم) لأن المال مرغوب فيه فترتاح النفس لطلبه فتمنع منه فتقع العداوة المقتضية للمقاتلة المفضية إلى الهلاك وفي الرواية السابعة" إذا فتحت عليكم فارس والروم أي قوم أنتم" أي على أي حال ستكونون قال "نقول كما أمرنا الله" أي نحمده ونشكره ونسأله المزيد من فضله قال صلى الله عليه وسلم "أو غير ذلك تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ثم تتباغضون ثم تنطلقون في مساكين المهاجرين فتجعلون بعضهم على رقاب بعض" أي تنطلقون في ضعاف المهاجرين فتجعلون بعضهم أمراء على بعض (إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه) "فضل" بضم الفاء مبني للمجهول و"الخلق" بفتح الخاء وسكون اللام أي الصورة والخلقة ويحتمل أن يدخل فيه الأولاد والأتباع وكل ما يتعلق بزينة الحياة الدنيا وفي الرواية التاسعة "انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا

نعمة الله" أي أحق وأحرى بعدم الازدراء والازدراء افتعال من زريت عليه وأزريت به إذا تنقصته وفي معناه ما أخرجه الحاكم "أقلوا الدخول على الأغنياء فإنه أحرى أن لا تزدروا نعمة الله" وفي الحديث "خصلتان من كانتا فيه كتبه الله شاكرا صابرا من نظر في دنياه إلى من هو دونه فحمد الله على ما فضله به عليه ومن نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به" ومن نظر في دنياه إلى من هو فوقه فأسف على ما فاته فإنه لا يكتب شاكرا ولا صابرا قال ابن بطال هذا الحديث جامع لمعاني الخير لأن المرء لا يكون بحال تتعلق بالدين من عبادة ربه مجتهدا فيها إلا وجد من هو فوقه فمتى طلبت نفسه اللحاق به استقصر حاله فيكون أبدا في زيادة تقربه من ربه ولا يكون على حالة خسيسة من الدنيا إلا وجد من أهلها من هو أخس منه حالا فإذا تفكر في ذلك علم أن نعمة الله وصلت إليه دون كثير ممن فضل عليه بذلك فيلزم نفسه الشكر فيعظم اغتباطه بذلك في معاده (إن ثلاثة في بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى) بالنصب بدل من "ثلاثة" (فأراد الله أن يبتليهم) وفي بعض النسخ "أن يبليهم" بإسقاط التاء ومعناهما الاختبار وفي رواية البخاري "بدا لله عز وجل أن يبتليهم" بفتح الباء والدال بغير الهمز أي سبق في علم الله فأراد إظهاره وليس المراد أنه ظهر له بعد أن كان خافيا لأن ذلك محال في حق الله تعالى وقال صاحب المطالع ضبطناه على متقني شيوخنا بالهمز أي ابتدأ الله أن يبتليهم قال ورواه كثير من الشيوخ بغير همز وهو خطأ اهـ قال الحافظ ابن حجر وأولى ما يحمل عليه أن المراد قضى الله أن يبتليهم (فبعث إليهم ملكا) ليأتي كل واحد منهم على حدة (فأتى الأبرص فقال أي شيء أحب إليك قال لون حسن وجلد حسن ويذهب عني الذي قد قذرني الناس) "قذرني" بفتح القاف والذال مخففة يقال قذره الناس وقذر الرجل الشيء يقذره بضم الذال قذرا بسكونها جعله واعتبره قذرا بكسر الذال وقذر بكسر الذال يقذر بفتحها أي اتسخ فهو قذر بكسرها وقذر الشيء بكسر الذال وجده قذرا وكرهه لوسخه واجتنبه فيصح في روايتنا كسر الذال وفتحها أي اشمأز الناس من رؤيتي وفي رواية حكاها الكرماني "قذروني الناس" على لغة أكلوني البراغيث (فمسحه فذهب عنه قذره وأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا) أي مسح على جسمه (قال فأي المال أحب إليك قال الإبل أو قال البقر) شك في ذلك فالأبرص والأقرع قال أحدهما الإبل وقال الآخر البقر فشك إسحاق (فأعطي ناقة عشراء فقال بارك الله لك فيها) الناقة العشراء بضم العين

وفتح الشين الحامل القريبة الولادة أي أعطي الذي تمنى الإبل وفي رواية البخاري "يبارك لك فيها" (فأتى الأقرع فقال أي شيء أحب إليك قال شعر حسن ويذهب عني هذا الذي قد قذرني الناس ... ) قوله "ويذهب عني ... تصريح باللازم لتأكيد المطلب (فأي المال أحب إليك قال البقر فأعطي بقرة حاملا) أي حبلى ولم يؤنث لأنه وصف خاص بالإناث (وأتى الأعمى ... فأعطي شاة والدا) أي ذات ولد أي حاملا وقيل وضعت ولدها وهو معها (فأنتج هذان) قال النووي هكذا الرواية "فأنتج" رباعي بضم الهمزة وهي لغة قليلة الاستعمال والمشهور "نتج" بضم النون ثلاثي وممن حكى اللغتين الأخفش ومعناه توالي الولادة وهي النتج والإنتاج اهـ والإشارة "هذان" لصاحب الإبل وصاحب البقر (وولد هذا) بفتح الواو وتشديد اللام المفتوحة والإشارة لصاحب الغنم والناتج للإبل والمولد للغنم أي القائم على توليدها كالقابلة بالنسبة للنساء ويلاحظ في الثلاثة وصف الفقر والمسكنة في حالتهم الأولى وإن لم يذكر أخذا من المقام (ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته) الأولى أي في صورة أبرص (فقال رجل مسكين قد انقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيرا أتبلغ عليه في سفري) "الحبال" بكسر الحاء وفتح الباء مخففة جمع حبل أي الأسباب التي أقطعها في طلب الرزق وقيل العقبات وقيل الحبل هو المستطيل من الرمل ولبعض رواة مسلم "الحيل" بالياء بدل الباء جمع حيلة أي لم يبق لي حيلة ولبعض رواة البخاري "الجبال" بالجيم وهو تصحيف ومعنى "أتبلغ عليه" وفي رواية "به" من البلغة وهي الكفاية والمعنى أتوصل به إلى مرادي (فقال الحقوق كثيرة) أي مطالب الحياة كثيرة يضيق عنها ما ترى من مال فلا أستطيع إجابة طلبك (إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر) أي أنا كبير وغني عن أب كبير وغني عن جد كذلك "وكابرا" منصوب على الحالية ولم يتعرض في جوابه للبرص لأنه غير المطلوب (إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت) فعل "صيرك" لفظه خبر ومعناه دعاء وقيل

هو خبر لفظا ومعنى معبر فيه عن المضارع بالماضي لتحقق الوقوع على احتمال أن الملك كان عالما بالنتيجة من الله تعالى (رجل مسكين وابن سبيل ... ) أي قال له مثل ما قال للآخرين وزيادة "ابن سبيل" هنا ليست زيادة فمعناها حاصل في كلامه لأخويه (فوالله لا أجهدك اليوم شيئا أخذته لله) بفتح التاء للمخاطب قال النووي هكذا هو في رواية الجمهور "أجهدك" بالجيم والهاء أي لا أشق عليك برد شيء تأخذه أو تطلبه من مالي والجهد المشقة وفي رواية للبخاري "لا أحمدك" أي لا أحمدك على ترك شيء تحتاج إليه من مالي فلم تأخذه فالحمد المنفي ليس على الأخذ بل على عدم الأخذ ففي الكلام مضاف محذوف كقول الشاعر وليس على طول الحياة تندم إذ مراده وليس على عدم طول الحياة تندم قال القاضي عياض لم يتضح هذا المعنى لبعض الناس فقال لعله "لا أمنعك" وهذا تكلف اهـ ويحتمل أن قوله "أحمدك" بتشديد الميم أي لا أطلب حمدك وشكرك ولا أمتن عليك (فإنما ابتليتم) بضم التاء الأولى مبني للمجهول أي اختبرتم والخطاب للثلاثة (فقد رضي عنك وسخط على صاحبيك) بضم الراء وكسر الضاد مبني للمجهول وكذا "سخط" (وكان سعد بن أبي وقاص في إبله فجاءه ابنه عمر فلما رآه سعد قال أعوذ بالله من شر هذا الراكب) أي لما رأى سعد ابنه من بعيد راكبا مسرعا دخل في قلبه أن هذا الراكب جاء بشر فاستعاذ بالله من شره وكان إلهامه صحيحا فقد جاء ابنه يطلب منه السعي وراء الأضواء وزهرة الدنيا وهو لا يريدها (أنزلت في إبلك وغنمك وتركت الناس يتنازعون الملك بينهم) الاستفهام إنكاري توبيخي أي لا ينبغي ولا يليق أن تفعل ذلك وهو أحد الستة الذين رشحهم عمر رضي الله عنه للخلافة بعده وقال فيه إن وليها سعد فذاك وإلا فليستعن به الوالي وهو من السابقين إلى الإسلام قيل كان سابع ستة وكان مسدد الرمية مجاب الدعوة أحد الفرسان الشجعان من قريش الذين كانوا يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم في مغازيه وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راض عنهم وهو الذي تولى قتال فارس وفتح الله على يديه القادسية وغيرها وولاه عمر الكوفة ثم عزله وكانت هذه المقولة بين ابنه وبينه بعد مقتل عثمان وكان سعد ممن قعد عن الفتنة ولزم بيته وأمر أهله ألا يخبروه بشيء من أخبار الناس حتى تجتمع الأمة على إمام وظن معاوية أن سعدا بذلك

يتخلى عن علي رضي الله عنه وأنه يمكن أن يضمه إليه فكتب إليه يدعوه إلى عونه على المطالبة بدم عثمان فأجابه سعد معاوي داءك الداء العياء ... وليس لما تجيء به دواء أيدعوني أبو حسن علي ... فلم أردد عليه ما يشاء وقلت له أعطني سيفا بصيرا ... تميز به العداوة والولاء فإن الشر أصغره كثير ... وإن الظهر تثقله الدماء أتطمع في الذي أعطى عليا ... على ما قد طمعت به العفاء ليوم منه خير منك حيا ... وميتا أنت للمرء الفداء فأما أمر عثمان فدعه ... فإن الرأي أذهبه البلاء مات رضي الله عنه في قصره بالعقيق على عشرة أميال من المدينة وحمل إلى المدينة فدفن بها بالبقيع سنة خمس وخمسين وله من العمر بضع وسبعون على المشهور روى أنه لما حضره الموت دعا بجبة خلق من صوف فقال كفنوني فيها فإني لقيت المشركين فيها يوم بدر وكنت أخبؤها لهذا رضي الله عنه وأرضاه (فضرب سعد في صدره فقال اسكت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي) قال النووي المراد بالغني غني النفس هذا هو الغني المحبوب لقوله صلى الله عليه وسلم "ولكن الغني غني النفس" وأشار القاضي إلى أن المراد الغني بالمال وأما "الخفي" فبالخاء هذا هو الموجود في النسخ والمعروف في الروايات وذكر القاضي أن بعض رواة مسلم رواه بالحاء ومعناه بالخاء الخامل المنقطع إلى العبادة وللاشتغال بأمور نفسه وهو مراقب ربه ومعناه بالحاء الوصول للرحم اللطيف بهم وبغيرهم من الضعفاء والمناسب للمقام رواية الخاء (إني لأول رجل من العرب رمى بسهم في سبيل الله) وذلك في سرية عبيدة بن الحارث وكان معه يومئذ المقداد بن عمرو وعتبة بن غزوان ويروى أن سعدا قال في ذلك شعرا ألا هل جا رسول الله أني ... حميت صحابتي بصدور نبلي أذود بها عدوهم ذيادا ... بكل حزونة وبكل سهل فما يعتد رام من معد ... بسهم مع رسول الله قبلي (ولقد كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام نأكله إلا ورق الحبلة وهذا السمر حتى إن أحدنا ليضع كما تضع الشاة) "الحبلة" بضم الحاء وسكون الباء و"السمر" بفتح

السين وضم الميم نوعان من شجر البادية قيل الحبلة شجر العضاء قال ابن العربي شجر يشبه اللوبية وفي ملحق الرواية "حتى إن كان أحدنا ليضع كما تضع العنز ما يخلطه بشيء" أي يتبرز بفضلات ورق الأشجار برازا غير مخلوط بأصناف الطعام (ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الدين لقد خبت إذا وضل عملي) قالوا المراد ببني أسد بنو الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى قالوا ومعنى "تعزرني" بضم التاء وفتح العين وكسر الزاي المشددة أي تعلمني وتقومني ومنه تعزير السلطان وهو تقويمه بالتأديب وقال بعضهم معناه اللوم والعتب وقيل معناه توبخني على التقصير في الدين يستكثر أن يكون من السابقين إلى الإسلام ويقدمه آخرون في الدين ولعله يشير بذلك إلى الشكوى التي قدمها فيه أهل الكوفة إلى عمر بن الخطاب يقولون عنه إنه لا يحسن يصلي والتنوين في "إذا" في قوله "لقد خبت إذا" عوض عن المضاف إليه والتقدير لقد خبت إذا كنت سيئ الدين (فإن الدنيا قد آذنت بصرم) بضم الصاد وسكون الراء أي انقطاع وذهاب و"آذنت" بهمزة ممدودة وفتح الذال أي أعلمت (وولت حذاء) "ولت" بفتح الواو وتشديد اللام المفتوحة من ولى يولي بمعنى ذهب و"حذاء" بفتح الحاء ثم ذال مشددة بعدها ألف ممدودة أي مسرعة الانقطاع (ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابها صاحبها) "الصبابة" بضم الصاد النقية اليسيرة من الشراب تبقى في أسفل الإناء وقوله "يتصابها" أي يشربها (لا يدرك لها قعرا) قعر كل شيء أسفله (وليأتين عليها يوم وهو كظيظ من الزحام) أي ممتلئ (ما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا) أي صارت فيها قروح وجراح من خشونة الورق وحرارته (فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك فاتزرت بنصفها واتزر سعد بنصفها فما أصبح اليوم منا أحد إلا أصبح أميرا على مصر من الأمصار) يقارن بين حالة الفقر والضنك التي كانوا فيها وبين حالة العز والسيادة التي صاروا فيها وسعد بن مالك هو سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بضم العين وسكون التاء وفتح الباء و"غزوان" بفتح الغين وسكون الزاي من السابقين الأولين هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة كان رفيقا للمقداد شهد المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح الفتوح واختط البصرة قدم على عمر رضي الله عنهما يستعفيه من الإمارة فأبى فرجع فمات في الطريق سنة سبع عشرة وهو ابن سبع وخمسين على الصحيح وفي ملحق الرواية الثالثة عشرة "وكان أميرا على البصرة"

(وإنها لم تكن نبوة قط إلا تناسخت) أي إلا أزيلت ومحيت وحل محلها شيء آخر (حتى يكون آخر عاقبتها ملكا) وقد كان وتحولت الخلافة إلى ملك (فستخبرون) بفتح التاء وسكون الخاء وضم الباء أي ستختبرون الأمراء وتختبرون بهم وترون منهم ما يذكركم أحوالنا وما كنا عليه من إصلاح (ألم أكرمك وأسود له) أي أجعلك سيدا والاستفهام للتقرير (وأذرك ترأس وتربع) "أذرك" بفتح الهمزة والذال وسكون الراء من يذر ذر أي يدع دع و"ترأس" بفتح التاء وسكون الراء وفتح الهمزة بعدها سين ومعناه رئيس القوم وكبيرهم وأما "تربع" فبفتح التاء والباء بينهما راء ساكنة معناه تأخذ المرباع الذي كانت ملوك الجاهلية تأخذه من الغنيمة وهو ربعها يقال ربعتهم أي أخذت ربع أموالهم ومعناه ألم أجعلك رئيسا مطاعا وقال القاضي عندي أن معناه تركتك مستريحا لا تحتاج إلى مشقة وتعب من قولهم أربع على نفسك أي أرفق بها وفي رواية "ترتع" بتاءين ومعناه تنعم وقيل تأكل وقيل تلهو وقيل تعيش في سعة (فيقول ههنا إذا) معناه قف ههنا حتى تشهد عليك جوارحك (فيقال لأركانه انطقي) أي فيقال لجوارحه انطقي (فعنكن كنت أناضل) أي أدافع وأجادل (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا) وفي الرواية الثامنة عشرة "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا" وفي ملحقها "كفافا" قيل المعنى اجعل رزقهم كفاية من غير إسراف وقيل "قوتا" أي كفافا أي سد الرمق (ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من طعام بر ثلاث ليال تباعا حتى قبض) في الرواية العشرين "ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام تباعا من خبز بر حتى مضى لسبيله" وفي الرواية الواحدة والعشرين "ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض" وفي الرواية الثالثة والعشرين "من خبز البر ثلاثا" وفي الرابعة والعشرين "يومين من خبز بر إلا وأحدهما تمر" وفي الرواية الثامنة والعشرين "ما شبع من خبز وزيت في يوم واحد مرتين" وعند ابن سعد "كانت تأتي عليه أربعة أشهر ما يشبع من خبز البر" وفي رواية "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير في اليوم الواحد غداء وعشاء" وعند ابن سعد "ما شبع من غداء أو عشاء حتى لقى الله" (إن كنا آل محمد صلى الله عليه وسلم لنمكث شهرا ما نستوقد بنار إن هو إلا التمر والماء) وفي ملحق الرواية "إن كنا لنمكث" و"إن" مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الحال والشأن محذوف

والجملة بعدها خبرها والتقدير إنه كنا ... وزاد في هذا الملحق "إلا أن يأتينا اللحيم" وفي الرواية السابعة والعشرين "إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار قال لها عروة ابن أختها يا خالة ما كان يعيشكم قالت الأسودان التمر والماء إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار وكانت لهم منائح فكانوا يرسلون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانها فيسقيناه" "ما كان يعيشكم" بضم الياء وفتح العين وكسر الياء المشددة قال النووي وفي بعض النسخ المعتمدة "فما كان يقيتكم" وفي الرواية الثالثة والثلاثين "لقد رأيت نبيكم صلى الله عليه وسلم وما يجد من الدقل" بفتح الدال والقاف هو تمر ردئ "ما يملأ به بطنه" زاد في ملحق الرواية "وما ترضون دون ألوان التمر والزبد" وفي الرواية الرابعة والثلاثين "لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يلتوي ما يجد دقلا يملأ به بطنه" (توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في رفي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي فأكلت منه حتى طال علي فكلته ففنى) الرف بفتح الراء تجويف في حائط أو خشبة توضع على جانبي حائط ليوضع عليها الشيء والشطر هنا معناه شيء من شعير وقيل معناه نصف وسق و"ذو كبد" يشمل جميع الحيوان و"فكلته" بكسر الكاف -[فقه الحديث]- -[يؤخذ من الأحاديث]- 1 - من الرواية الأولى مواساة أهل البلاء بأن الدنيا سجن المؤمن 2 - ومن الرواية الثانية أدب التابعين مع المتبوع والإحاطة به من جانبيه 3 - هوان الدنيا على الله وتحقير شأنها بالنسبة للآخرة ونعيمها 4 - وجواز تمثيلها بالشيء الحقير والميت النتن 5 - ومن الرواية الثالثة الحث على التصدق بالمال ومحاولة استخدامه للآخرة 6 - ومن الرواية الخامسة أنه لا ينفع الميت إلا عمله 7 - ومن الرواية السادسة خشيته صلى الله عليه وسلم على أمته من فتنة المال 8 - وهو علم من أعلام النبوة وقد وقع 9 - وفيها إشارة إلى أن مضرة الفقر دون مضرة الغنى لأن مضرة الفقر دنيوية ومضرة الغنى دينية غالبا 10 - وقد يستدل به على أن الفقر أفضل من الغنى

11 - وفيها الاعتبار والتبصير بالأمم السابقة 12 - ومن الرواية الثامنة والتاسعة فضيلة النظر إلى من هو فوقه في الدين والنظر إلى من هو دونه في الدنيا 13 - والحث على شكر نعمة الله وعدم ازدرائها 14 - ومن الرواية العاشرة من قول الملك "رجل مسكين" استخدام المعاريض وضرب الأمثال ليتيقظ المخاطب 15 - وفيها جواز ذكر ما وقع لمن مضى ليتعظ به من سمعه ولا يكون ذلك غيبة فيهم 16 - والتحذير من كفران النعم 17 - والترغيب في شكرها والاعتراف بها وحمد الله عليها 18 - وفيها فضل الصدقة 19 - والحث على الرفق بالضعفاء وإكرامهم وتبليغهم مآربهم 20 - والزجر عن البخل لأنه حمل صاحبه على الكذب وعلى جحد نعمة الله تعالى 21 - وفي الرواية الحادية عشرة منقبة لسعد بن أبي وقاص 22 - والزهد في الإمارة والمناصب 23 - وفضيلة الخامل المنقطع للعبادة المشتغل بأمور نفسه 24 - قال النووي وفيها حجة لمن يقول الاعتزال أفضل من الاختلاط وفي المسألة خلاف 25 - وفيها جواز مدح الإنسان نفسه عند الحاجة إذا أمن العجب قال ابن الجوزي فإن قيل كيف ساغ لسعد أن يمدح نفسه ومن شأن المؤمن ترك ذلك لثبوت النهي عنه فالجواب أن ذلك ساغ له لما عيره الجهال بأنه لا يحسن الصلاة فاضطر إلى ذكر فضله 26 - وفيها بيان ما كانوا عليه من الزهد في الدنيا والتقلل منها والزهد والصبر في طاعة الله على المشاق الشديدة 27 - ومن الرواية الثالثة عشرة ما كانت عليه حالتهم في أول الأمر من شدة الحال وخشونة العيش والجهد ثم إنهم اتسعت عليهم الدنيا بالفتوحات وولوا الولايات 28 - ومن الرواية التاسعة عشرة وما بعدها ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الزهد في الدنيا قال الطبري استشكل بعض الناس كون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يطوون الأيام جوعا مع ما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع لأهله قوت سنة وأنه قسم بين أربعة أنفس ألف بعير

مما أفاء الله عليه وأنه ساق في عمرته مائة بدنة فنحرها وأطعمها المساكين وأنه أمر لأعرابي بقطيع غنم وغير ذلك مع من كان معه من أصحاب الأموال كأبي بكر وعمر وعثمان وطلحة وغيرهم قال والجواب أن ذلك كان منهم في حالة دون حالة لا لعوز وضيق بل تارة للإيثار وتارة لكراهة الشبع ثم قال وما نفاه مطلقا فيه نظر لما تقدم من الأحاديث اهـ قال الحافظ ابن حجر والحق أن الكثير منهم كانوا في حال ضيق قبل الهجرة حيث كانوا بمكة ثم لما هاجروا إلى المدينة كان أكثرهم كذلك فواساهم الأنصار بالمنازل والمنائح فلما فتحت لهم النضير وما بعدها ردوا عليهم منائحهم نعم كان النبي صلى الله عليه وسلم يختار ذلك مع إمكان التوسع والتبسط في الدنيا له كما أخرج الترمذي من حديث أبي أمامة "عرض على ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا فقلت لا يا رب ولكن أشبع يوما وأجوع يوما فإذا جعت تضرعت إليك وإذا شبعت شكرتك" 29 - ومن الرواية السادسة والعشرين قال ابن بطال فيه أن الطعام المكيل يكون فناؤه معلوما للعلم بكيله وأن الطعام غير المكيل فيه البركة لأنه غير معلوم مقداره قال الحافظ ابن حجر في تعميمه كل الطعام بذلك نظر والذي يظهر أنه كان من الخصوصية لعائشة ببركة النبي صلى الله عليه وسلم ونحوه ما وقع في عكة المرأة قال القرطبي سبب رفع النماء عند الكيل الالتفات بعين الحرص مع معاينة إدرار نعم الله ومواهب كراماته وكثرة بركاته والغفلة عن الشكر عليها والثقة بالذي وهبها والميل إلى الأسباب المعتادة عند مشاهدة خرق العادة 30 - ويستفاد منها أن من رزق شيئا أو أكرم بكرامة أو لطف به في أمر ما فالمتعين عليه موالاة الشكر وإضافة المنة لله تعالى والله أعلم.

(793) باب النهي عن الدخول على أهل الحجر إلا من يدخل باكيا

(793) باب النهي عن الدخول على أهل الحجر إلا من يدخل باكيا 6491 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحاب الحجر "لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذبين إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم" 6492 - عن ابن شهاب وهو يذكر الحجر مساكن ثمود قال سالم بن عبد الله إن عبد الله بن عمر قال مررنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجر فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين حذرا أن يصيبكم مثل ما أصابهم" ثم زجر فأسرع حتى خلفها 6493 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجر أرض ثمود فاستقوا من آبارها وعجنوا به العجين فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا ما استقوا ويعلفوا الإبل العجين وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة. 6494 - -/- وفي رواية عن عبيد الله بهذا الإسناد مثله غير أنه قال فاستقوا من بئارها واعتجنوا به -[المعنى العام]- في طريق المسلمين إلى غزوة تبوك وقبل الشام من أرض الحجاز مروا على آبار ثمود قوم صالح وقد قطعوا صحراء واسعة قليلة الماء فلما وصلوا إلى آبار ثمود وكانوا في حاجة إلى الماء استقوا من آبارها وعجنوا دقيقهم بمائها وخاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه من آثار غضبة الله تعالى فأمر أصحابه أن لا يأكلوا خبزا عجنوه بماء قوم صالح وليطعموا الخبز الذي عجنوه بمائهم

الدواب والأنعام وقال لهم لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا مضطرين على أن تدخلوا باكين تائبين خائفين من أن يصيبكم مثل ما أصابهم خائفين من أن تحل عليكم غضبة الله التي حلت بهم واجتهدوا أن تسرعوا السفر ومجاوزة ديار الظالمين -[المباحث العربية]- (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحاب الحجر) أصحاب الحجر ثمود قوم صالح وقد هلكوا جميعا لتكذيبهم رسولهم وعقرهم الناقة أخذتهم الصيحة مصبحين فاللام في قوله "لأصحاب الحجر" بمعنى "عن" أي قال لأصحابه عن أصحاب الحجر وشأنهم (لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذبين) أي لا تدخلوا على آثارهم ولا تدخلوا بيوتهم وطرقاتهم (إلا أن تكونوا باكين) متضرعين إلى الله أن يحفظكم من غضبه وأن يحميكم من أن يصيبكم مثل ما أصابهم (أن يصيبكم مثل ما أصابهم) بفتح همزة "أن" أي خشية أن يصيبكم أو حذر أن يصيبكم (ثم زجر فأسرع حتى خلفها) مفعول "زجر" محذوف للعلم به أي زجر ناقته وساقها سوقا شديدا حتى خلف الديار وجعلها خلفه وجاوزها -[فقه الحديث]- فيه الحث على المراقبة والخشية والخوف عند المرور بديار الظالمين ومواضع العذاب قال النووي ومثلة الإسراع في وادي محسر لأن أصحاب الفيل هلكوا هناك وقد مضى في كتاب الحج فينبغي للمار في هذه المواضع التذكر والاعتبار والخوف والبكاء وأن يستعيذ بالله من غضب الله والله أعلم.

(794) باب فضل الإحسان إلى الأرملة والمسكين واليتيم

(794) باب فضل الإحسان إلى الأرملة والمسكين واليتيم 6495 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله وأحسبه قال وكالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر". 6496 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة" وأشار مالك بالسبابة والوسطى -[المعنى العام]- الإسلام دين التكافل الاجتماعي ومثل المؤمنين كمثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ومثل المؤمنين كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى وعلى الرغم من الصدقة الواجبة لمستحقيها يدعو الإسلام لصدقات أخرى فوق الواجبة إلى المستحقين والمحتاجين من المسلمين وعلى رأسهم الأرملة والمسكين واليتيم وإذا كان الحديث قد شبه المحسن إلى الأرملة والمسكين بالمجاهد في سبيل الله من حيث الأجر ومن حيث إحياء الدين فكلاهما إحياء فإن المنفلوطي قد بالغ وجعل المحسن أفضل من المجاهد إذ يقول ما معناه إن الإحسان إلى الفقير خير من الجهاد في سبيل الله وإن شرح القلوب خير من شق الصدور وكم بين من يحيي الميت ومن يميت الحي اهـ وإن كان في كلامه مغالطة كبيرة لكنه الأدب والبيان وإن من البيان لسحرا -[المباحث العربية]- (الساعي على الأرملة والمسكين) "الأرملة" التي لا زوج لها سواء كانت تزوجت أم لا وقيل هي التي فارقت زوجها قال ابن قتيبة سميت أرملة لما يحصل لها من الإرمال وهو الفقر وذهاب الزاد بفقد الزوج يقال أرمل الرجل إذا فنى زاده و"المسكين" مفعيل من السكون فكأنه من

قلة المال سكنت حركاته ولذا قال تعالى {أو مسكينا ذا متربة} [البلد 16] أي لاصق بالتراب وفي حد الغني والفقير والمسكين خلاف طويل تقدم في مصارف الزكاة ومعنى الساعي الذي يذهب ويجيء في تحصيل ما ينفع الأرملة والمسكين (كالمجاهد في سبيل الله وأحسبه قال وكالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر) هكذا بالشك هنا وفي رواية للبخاري "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو كالذي يصوم النهار ويقوم الليل" والقائل "أحسبه" في روايتنا القعنبي وقد أخرجه ابن ماجه بلفظ البخاري لكنه بالواو لا بلفظ "أو" (كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة وأشار بالسبابة والوسطى) كافل اليتيم القائم بأموره من نفقة وكسوة وتأديب وتربية وغير ذلك واليتيم الصغير الذي مات أبوه وقوله "له أو لغيره" الذي له أن يكون قريبا كجده وأمه وجدته وأخيه وعمه وخاله وغيرهم من أقاربه والذي لغيره أن يكون أجنبيا -[فقه الحديث]- فيه فضيلة الساعي والمعين للأرملة والمسكين وعظم أجره لأنه بذلك من المجاهدين في سبيل الله الجهاد الأكبر وهو مغالبة النفس والهوى والشيطان وفي الحديث الثاني فضيلة كافل اليتيم وهذه الفضيلة تحصل لمن كفله من مال نفسه أو من مال اليتيم بولاية شرعية على أن يقوم بالكفالة على الوجه الشرعي الكامل والله أعلم.

(795) باب فضل بناء المساجد

(795) باب فضل بناء المساجد 6497 - عن عثمان بن عفان رضي الله عنه عند قول الناس فيه حين بنى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم إنكم قد أكثرتم وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من بنى مسجدا قال بكير حسبت أنه قال يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة" وفي رواية هارون "بنى الله له بيتا في الجنة" 6498 - عن عثمان بن عفان رضي الله عنه حين أراد بناء المسجد فكره الناس ذلك وأحبوا أن يدعه على هيئته فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من بنى مسجدا لله بنى الله له في الجنة مثله" 6499 - -/- وفي رواية عن عبد الحميد بن جعفر بهذا الإسناد غير أن في حديثهما "بنى الله له بيتا في الجنة" هذان الحديثان بلفظهما سبق شرحهما في باب خاص بعنوان باب فضل بناء المساجد والحث عليها من كتاب المساجد

(796) باب فضل الإنفاق على المسكين وابن السبيل

(796) باب فضل الإنفاق على المسكين وابن السبيل 6500 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "بينا رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتا في سحابة اسق حديقة فلان فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته فقال له يا عبد الله ما اسمك قال فلان للاسم الذي سمع في السحابة فقال له يا عبد الله لم تسألني عن اسمي فقال إني سمعت صوتا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول اسق حديقة فلان لاسمك فما تصنع فيها قال أما إذ قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه وآكل أنا وعيالي ثلثا وأرد فيها ثلثه" 6501 - -/- وفي رواية عن وهب بن كيسان بهذا الإسناد غير أنه قال "وأجعل ثلثه في المساكين والسائلين وابن السبيل" -[المعنى العام]- رجل فيمن كان قبلنا ولعله من عباد بني إسرائيل سمع صوتا آمرا ملك السحاب والمطر يقول له حول السحاب فوق أرض فلان بن فلان فتحولت السحابة إلى جهة تتبعها سامع الصوت من بني إسرائيل فإذا هي تمطر فوق أرض ووجد رجلا يعمل في هذه الأرض بفأسه فسأله ما اسمك فقال الرجل اسمي فلان بن فلان لماذا تسأل عن اسمي قال له سمعت اسمك في السماء فأخبرني كيف وصلت إلى هذه الدرجة وماذا تفعل في ثمراتها قال له ما كنت أحب أن أذكر شيئا من هذا فهو بيني وبين الله ولكن مادمت بهذا القصد الصالح فاعلم أنني أقسم الثمرة أثلاثا أتصدق بثلثها وآكل أنا وعيالي ثلثها وأستخدم الثلث بذرا أعيد به زراعتها وهكذا نرى كيف يخلف الله على المتصدق والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون -[المباحث العربية]- (بينما رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتا في سحابة) أي سمع صوتا يأمر صادرا لأذن الرجل من جهة سحابة

(فتنحى ذلك السحاب) أي غير وجهته يقال تنحيت الشيء وانتحيته ونحوته إذا قصدته ومنه سمي علم النحو لأنه قصد كلام العرب كذا قال النووي (فأفرغ ماءه في حرة) بفتح الحاء وهي الأرض الصلبة الملبسة بالحجارة السوداء (فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله) الشرجة بفتح الشين وسكون الراء طريق سيلان السيل من الهضاب ونحوها إلى السهل أي أخذت الماء كله لتوزعه على أرض الرجل (يحول الماء بمسحاته) المسحاة معروفة تشبه الفأس (وابن السبيل) هو المسافر المنقطع عن ماله وألحق به كل من هو غائب عن ماله -[فقه الحديث]- 1 - في الحديث فضل الصدقة والإحسان إلى المساكين وأبناء السبيل 2 - وفضل أكل الإنسان من كسبه 3 - وفضل الإنفاق على الأهل والعيال 4 - وفضل الزرع والله أعلم

(797) باب تحريم الرياء

(797) باب تحريم الرياء 6502 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قال الله تبارك وتعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه" 6503 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من سمع سمع الله به ومن راءى رءاى الله به" 6504 - عن جندب العلقي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من يسمع يسمع الله به ومن يرائي يرائي الله به" -[المعنى العام]- يقول الله تعالى {فاعبد الله مخلصا له الدين} [الزمر 2] ويقول {إياك نعبد وإياك نستعين} والله تعالى غني عن العبادة التي يشرك العابد فيها غير الله يكره أن نقصد الناس بعبادتنا فيتركنا لهم ويحيلنا في الثواب والأجر والجزاء عليهم قال جل شأنه {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب [أي كمثل حجر أملس عليه تراب] فأصابه وابل [مطر] فتركه صلدا} [البقرة 264] أي أملس خاليا من التراب وأثره ولا يقتصر أثر الرياء على إحباط الأجر بل هناك من الوزر والعقوبة ما هناك فالله تعالى يقول {فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون} [الماعون 4 - 7] -[المباحث العربية]- (أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عملا عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)

قال النووي هكذا وقع في بعض الأصول "وشركه" وفي بعضها "وشريكه" وفي بعضها "وشركته" ومعناه أنا غني عن المشاركة وغيرها فمن عمل شيئا لي ولغيري لم أقبله بل أتركه لذلك الغير والمراد أن عمل المرائي باطل لا ثواب فيه ويأثم فيه (من سمع سمع الله به ومن راءى راءى الله به) وفي الرواية الثالثة "من يسمع يسمع الله به ومن يرائي يرائي الله به" "من سمع" بفتح السين والميم المشددة و"سمع الله به" مثلها و"من راءى" بمد الراء بعدها همزة و"من يرائي" بضم الياء والمد وكسر الهمزة و"يرائي" الثانية مثلها وثبتت الياء في آخر كل منهما للإشباع وهما مجزومان أو التقدير كما قال الحافظ فإنه يرائي أي على الاستئناف وهذا عن "يرائي" الثانية أما الأولى فهي للإشباع فحسب وفي المعنى قال الخطابي من عمل عملا على غير إخلاص وإنما يريد أن يراه الناس ويسمعوه جوزي على ذلك بأن يشهره الله ويفضحه ويظهر ما كان يبطنه [وظاهر هذا أن الجزاء في الدنيا ويحتمل أن يكون ذلك في الدنيا والآخرة] وقيل من قصد بعمله الجاه والمنزلة عند الناس ولم يرد به وجه الله فإن الله يجعله حديثا عند الناس الذين أراد نيل المنزلة عندهم ولا ثواب له في الآخرة ومعنى "يرائي الله به" يطلعهم على أنه فعل ذلك لهم لا لوجهه ومنه قوله تعالى {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها} إلى قوله {ما كانوا يعملون} [هود 15، 16] وقيل المراد من قصد بعمله أن يسمعه الناس ويروه ليعظموه وتعلو منزلته عندهم حصل له ما قصد وكان ذلك جزاءه على عمله ولا يثاب عليه في الآخرة وهذا القول قريب من سابقه إلا أن يراد من السابق أن يضيع هدفه من الناس فلا يحصل له ما قصد كما يضيع أجره في الآخرة وقيل المعنى من سمع بعيوب الناس وأذاعها ونقلها من سمع إلى سمع أظهر الله عيوبه ونشر أسراره وقيل المعنى من نسب إلى نفسه عملا صالحا لم يفعله وادعى خيرا لم يصنعه ونشر ذلك على مسامع الناس فإن الله يفضحه ويظهر كذبه وقيل المعنى من يرائي الناس بعمله أراه الله ما كان يستحق بعمله من الثواب لولا المراءاة وحرمه إياه وقيل معنى "سمع الله به" شهره أو ملأ أسماع الناس بسوء الثناء عليه في الدنيا أو في القيامة بما ينطوي عليه من خبث السريرة أقول واللفظ يحتمل كل هذه المعاني فليشملها والله أعلم

-[فقه الحديث]- في الحديث استحباب إخفاء العمل الصالح قال الحافظ ابن حجر لكن قد يستحب إظهاره ممن يقتدي به على إرادته الاقتداء به ويقدر ذلك بقدر الحاجة قال ابن عبد السلام يستثنى من استحباب إخفاء العمل من يظهره ليقتدي به أو لينتفع به ككتابة العلم قال فمن كان إماما يستن بعلمه عالما بما لله عليه قاهرا لشيطانه استوى ما ظهر من عمله وما خفي لصحة قصده ومن كان بخلاف ذلك فالإخفاء في حقه أفضل وعلى ذلك جرى عمل أهل السلف والله أعلم.

(798) باب حفظ اللسان

(798) باب حفظ اللسان 6505 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن العبد ليتكلم بالكلمة ينزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب" 6506 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب" -[المعنى العام]- يراجع المعنى العام لحديث "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" في باب إكرام الجار والضيف وفضيلة حفظ اللسان في كتاب الإيمان بالجزء الأول من هذا الكتاب -[المباحث العربية]- (إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها) ذكر "الرجل" لا مفهوم له فالمرأة كذلك ومعنى "ما يتبين ما فيها" أي لا يتدبرها ولا يفكر في قبحها ولا يخاف ما يترتب عليها كالكلمة عند السلطان تقتل أو تؤذي إنسانا وكلمة القذف وكلمة نميمة وفتنة تثير معركة (يهوي بها في النار) ينزل بها في النار (أبعد ما بين المشرق والمغرب) كناية عن المسافة البعيدة وعمق النار يقصد به شدة إيلامها كما وكيفا (ملحوظة) يراجع الحديث الخاص باللسان في باب "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" وفي باب إكرام الجار والضيف وفضيلة حفظ اللسان في كتاب الإيمان والله أعلم

(799) باب عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهى عن المنكر ويفعله

(799) باب عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهى عن المنكر ويفعله 6507 - عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال قيل له ألا تدخل على عثمان فتكلمه فقال أترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم والله لقد كلمته فيما بيني وبينه ما دون أن أفتتح أمرا لا أحب أن أكون أول من فتحه ولا أقول لأحد يكون علي أميرا إنه خير الناس بعد ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان ما لك ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فيقول بلى قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه". 6508 - وفي رواية عن أبي وائل قال كنا عند أسامة بن زيد فقال رجل ما يمنعك أن تدخل على عثمان فتكلمه فيما يصنع وساق الحديث بمثله -[المعنى العام]- يقول الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} [الصف 2 - 3] إن القدوة الحسنة العملية أدخل في الوعظ من الكلمة والكلمة الحسنة مع القدوة الحسنة هما الغاية المؤثرة في الوعظ والإرشاد وهما ركنان متكاملان نعم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب شرعي والعمل بما يأمر به والبعد عما ينهى عنه واجب شرعي فإن قصر في الواجبين عوقب عليهما وإن قصر في أحدهما عوقب على ما قصر فيه وحديثنا فيمن قصر في أحدهما وقد كانت عقوبته فظيعة مخيفة فما بالنا بمن قصر في الأمرين نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة رب العالمين

-[المباحث العربية]- (قيل لأسامة بن زيد ألا تدخل على عثمان فتكلمه) في ملحق الرواية "كنا عند أسامة بن زيد فقال رجل ما يمنعك أن تدخل على عثمان فتكلمه فيما يصنع" أسامة بن زيد الحبيب بن الحبيب أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعث فيه أبو بكر وعمر قبيل وفاته وأنفذ أبو بكر هذا البعث أول خلافته وكان عمر يجله ويحترمه وله بين الصحابة مكانته من هنا حرصوا على أن يكلم عثمان رضي الله عنه فيما أخذ عليه في أواخر خلافته فحضوا أسامة أن يكلمه (فقال أترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم) "ترون" بفتح التاء أي أتعلمون وتعتقدون أني لم أكلمه والاستفهام إنكاري توبيخي بمعنى نفي الانبغاء أي لا ينبغي أن تعتقدوا ذلك فإني أكلمه أو كلمته دون أن أسمعكم قال النووي وفي بعض النسخ "إلا سمعكم" والاستثناء مفرغ من عموم الأحوال أي أترون أني لا أكلمه في حال من الأحوال إلا في حال سمعكم وقال وفي بعض النسخ "أسمعكم" بضم الهمزة وكله بمعنى أي أتظنون أني لا أكلمه إلا وأنتم تسمعون (والله لقد كلمته فيما بيني وبينه ما دون أن أفتتح أمرا لا أحب أن أكون أول من فتحه) الظاهر أن "ما" زائدة والمعنى كلمته دون أن أجاهر بالإنكار على الأمراء في الملأ ودون أن أكون أول من فتح باب الخروج على الحاكم (ولا أقول لأحد يكون علي أميرا إنه خير الناس) الظاهر أن اللام في "لأحد" بمعنى "عن" أي ولا أقول لكم عن أحد يكون أميرا إنه خير الناس نفاقا وتزلفا أو على أصلها والمعنى ولم أقل له إنه خير الناس فأكون بذلك مخادعا أقول ما لا أعتقد ولكن قلت له ما عندي (فتندلق أقتاب بطنه) قال النووي "تندلق" بالدال والاندلاق خروج الشيء من مكانه والأقتاب جمع قتبة أو قتب وهي الأمعاء وقال ابن عيينة هي ما استدار في البطن وهي الحوايا والأمعاء (فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى) أي يدور حولها في النار كما يدور الحمار حول الرحى (فيقولون يا فلان ما لك) القائلون أصحابه ومن كان يعرفه في الدنيا معرفة سطحية غير واقعية و"ما لك" مبتدأ وخبر والاستفهام حقيقي أو تعجبي أي نتعجب من حالك -[فقه الحديث]- 1 - فيه عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله ومن ينهى عن المنكر ويفعله

2 - وفيه أن الناس في الآخرة يعرف بعضهم بعضا 3 - ويسأل بعضهم بعضا عما أدى بهم إلى النتيجة 4 - وأن الصدق أسلوب يوم القيامة حتى من هو في النار 5 - وفيه منقبة ظاهرة لأسامة بن زيد 6 - وأمره الحاكم بالمعروف ونهيه عن المنكر 7 - وأدبه مع الأمراء ولطفه بهم ووعظهم سرا وتبليغهم ما يقول الناس فيهم لينكفوا عنه وهذا كله إذا أمكن قال النووي فإن لم يكن الوعظ سرا والإنكار خفية فليفعله علانية لئلا يضيع أصل الحق والله أعلم.

(800) باب النهي عن هتك الإنسان ستر نفسه

(800) باب النهي عن هتك الإنسان ستر نفسه 6509 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "كل أمتي معافاة إلا المجاهرين وإن من الإجهار أن يعمل العبد بالليل عملا ثم يصبح قد ستره ربه فيقول يا فلان قد عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره ربه فيبيت يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه" قال زهير "وإن من الهجار" -[المعنى العام]- إن الحياء في الإنسان ميزان رقيه الإنساني وهو الحاجز للمؤمن عن فعل القبيح وإذا وقع منه القبيح كان الحياء الشرعي مانعا من الجهر والتبجح بارتكابه ومن يجاهر بارتكاب القبيح سواء بفعله أمام آخرين وعدم اكتراثه بمن يراه أو بالإخبار عن فعله بعد أن ستره الله هو مستهتر بالناس وبصالحيهم وبحكامهم وبأولياء أمورهم ثم هو فوق ذلك مستهتر بالدين مستهتر بخالقه القادر على إخراسه وشل حركته مجابه له جل شأنه بالمجاهرة وكأنه لا يهتم بمن عصاه ولا يخاف منه في الدنيا ولا في الآخرة من هنا كان كل الناس قابلين للعفو والعافية وللرحمة والسلام إلا المجاهرين -[المباحث العربية]- (كل أمتي معافاة إلا المجاهرين) قال النووي هكذا هو في معظم الأصول "معافاة" بالهاء في آخره والضمير يعود إلى الأمة اهـ وفي رواية البخاري وبعض النسخ "معافى" بفتح الفاء مقصور اسم مفعول من العافية بمعنى عفا الله عنه أو بمعنى سلمه الله وسلم منه وقوله "إلا المجاهرين" بالنصب على الاستثناء والكلام تام موجب قال المحققون كذا للأكثر ولبعضهم "إلا المجاهرون" بالرفع قال ابن بطال كذا وقع وصوابه عند البصريين بالنصب وأجاز الكوفيون الرفع في الاستثناء المنقطع فتكون "إلا" بمعنى "لكن" ويكون المعنى لكن المجاهرون بالمعاصي لا يعافون فالمجاهرون مبتدأ خبره محذوف وقال الكرماني حق الكلام النصب إلا أن يقال العفو بمعنى الترك وهو نوع من النفي اهـ فالكلام تام منفي

والمجاهر الذي يظهر معصيته ويكشف ما ستر الله عليه فيحدث بها لغير ضرورة ولا حاجة و"المجاهر" اسم فاعل من "جاهر" بكذا بمعنى جهر به يقال جهر بأمره وأجهر به وجاهر به وتكون المفاعلة هنا للمبالغة أو المفاعلة على ظاهرها من الجانبين ويكون المراد بالمجاهرين الذين يفاخر بعضهم بعضا بالمعاصي (وإن من الإجهار أن يعمل العبد بالليل عملا ... إلخ) قال النووي كذا هو في جميع النسخ "الإجهار" إلا نسخة ابن ماهان ففيها "وإن من الجهار" وهما صحيحان الأول من أجهر والثاني من جهر وأما قول مسلم قال زهير "وإن من الهجار" بتقديم الهاء على الجيم فقيل إنه خلاف الصواب قال النووي وليس كذلك بل هو صحيح قال القاضي عياض هو الفحش والخنا وكثرة الكلام وهو قريب من معنى المجانة الواردة في بعض الروايات "وإن من المجانة" بدل المجاهرة والماجن هو الذي يستهتر في أموره ولا يبالي بما قال وما قيل له بل رجح الحافظ ابن حجر رواية "وإن الهجار" بتقديم الهاء فقال بل الذي يظهر رجحان هذه الرواية لأن الكلام المذكور بعده لا يرتاب أحد أنه من المجاهرة فليس في إعادة ذكره كبير فائدة وأما الرواية بلفظ المجانة [أو معناها] فتفيد معنى زائدا وهو أن الذي يجاهر بالمعصية يكون من جملة المجان والمجانة مذمومة شرعا وعرفا فيكون الذي يظهر المعصية قد ارتكب محذورين إظهار المعصية وتلبسه بفعل المجن وأما قول عياض [وأما لفظ الهجار فبعيد لفظا ومعنى لأن الهجار الحبل أو الوتر تشد به يد البعير ولا يصح له هنا معنى] فقد رده الحافظ ابن حجر بقوله بل له معنى صحيح أيضا فإنه يقال هجر وأهجر إذا أفحش في كلامه فهو مثل جهر وأجهر فما صح في هذا صح في هذا ولا يلزم من استعمال الهجار في معنى الحبل أن لا يستعمل مصدرا من الهجر بضم الهاء -[فقه الحديث]- أخرج الحاكم عن ابن عمر رفعه "اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها فمن ألم بشيء منها فليستتر بستر الله" قال ابن بطال في الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله ورسوله وبصالحي المؤمنين وفيه ضرب من العناد لهم وفي الستر بها السلامة من الاستخفاف لأن المعاصي تذل أهلها وإذا تمحص حق الله فهو أكرم الأكرمين ورحمته سبقت غضبه فلذلك إذا ستره في الدنيا لم يفضحه في الآخرة والذي يجاهر يفوته كل ذلك اهـ والحديث صريح في ذم من يجاهر بالمعصية وهذا يستلزم مدح من يستتر والله أعلم.

(801) باب تشميت العاطس وكراهة التثاؤب

(801) باب تشميت العاطس وكراهة التثاؤب 6510 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال عطس عند النبي صلى الله عليه وسلم رجلان فشمت أحدهما ولم يشمت الآخر فقال الذي لم يشمته عطس فلان فشمته وعطست أنا فلم تشمتني قال "إن هذا حمد الله وإنك لم تحمد الله" 6511 - عن أبي بردة قال دخلت على أبي موسى وهو في بيت بنت الفضل بن عباس فعطست فلم يشمتني وعطست فشمتها فرجعت إلى أمي فأخبرتها فلما جاءها قالت عطس عندك ابني فلم تشمته وعطست فشمتها فقال إن ابنك عطس فلم يحمد الله فلم أشمته وعطست فحمدت الله فشمتها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمتوه فإن لم يحمد الله فلا تشمتوه". 6512 - عن إياس بن سلمة بن الأكوع أن أباه حدثه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وعطس رجل عنده فقال له "يرحمك الله" ثم عطس أخرى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "الرجل مزكوم". 6513 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "التثاؤب من الشيطان فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع". 6514 - عن سهيل بن أبي صالح قال سمعت ابنا لأبي سعيد الخدري رضي الله عنه يحدث أبي عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا تثاوب أحدكم فليمسك بيده على فيه فإن الشيطان يدخل".

6515 - عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا تثاوب أحدكم فليمسك بيده فإن الشيطان يدخل". 6516 - عن ابن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا تثاوب أحدكم في الصلاة فليكظم ما استطاع فإن الشيطان يدخل" -[المعنى العام]- من آداب الإسلام ومحاسنه محافظته على أحاسيس المجتمع وحماية المجتمع من كل ما يورث البغض ومن كل ما يسيء ويجرح المشاعر وحرصه على تهذيب الطباع وعلاج السلوك غير القويم ولو كان هذا السلوك ناشئا عن طبيعة الخلقة فالمسلم مأمور بمخالفة طبعه لموافقة شرعه والعطاس والتثاؤب عمل لا إرادي نتيجة لتفاعلات غذائية وانفعالات عضوية ومع أن أحدهما ممدوح شرعا مرغوب فيه صحيا وهو العطاس إلا أن له أمورا جانبية يحرص الإسلام على تهذيبها فهو يلازم خروج رذاذ اللعاب مما قد يصل إلى بعض الحاضرين وهو يلازم صوتا مزعجا للغافل عنه من الحاضرين والأعراض الجانبية تحتمل من أجل الإصلاح المهم وتعالج قدر الاستطاعة وعلى من يؤذي من الأعراض الجانبية أن يغفر لصاحبها ما لم يقدر على منعه فيعلن له الرضا والسماحة بالدعاء له بقوله يرحمك الله ويدعو العاطس للمشمت فيكتسب كل منهما أجرا من هذا السلوك البشري أما السلوك البشري الآخر فهو مذموم شرعا وعرفا وعلى صاحبه مقاومته وهو التثاؤب الذي ينشأ عن كثرة الأكل وينشأ عنه الكسل والخمول وضعف الحركة والعبادة وبمقاومته والتقليل منه يحصل المسلم على أجر كبير وهكذا يفتح الله تعالى أبواب الحسنات للمؤمن ليذهب بها السيئات ذلك ذكرى للذاكرين -[المباحث العربية]- (عطس رجلان) "عطس" بفتح الطاء من باب ضرب وقتل والاسم العطاس وهو انحدار الرطوبة من تجويف في الجبهة إلى الأنف من قناة واصلة بينهما وبقاء هذه الرطوبة يفسد الدماغ ويثقل الجسم فالعطاس يوقظ الفكر وينشط الجسم

والرجلان عامر بن الطفيل وابن أخيه كما جاء في رواية الطبراني وفي رواية للبخاري "أحدهما أشرف من الآخر وأن الشريف لم يحمد الله" (فشمت أحدهما ولم يشمت الآخر) "التشميت" أصله إزالة شماتة الأعداء والتفعيل يأتي للسلب نحو قشرت الشجرة أي أزلت قشرتها فاستعمل للدعاء بالخير وهو قولك للعاطس يرحمك الله وقيل معناه صان الله شوامتك أي قوائمك التي بها قوامك فقوام الدابة مثلا بسلامة قوائمها التي تنتفع بها إذا سلمت وقوائم الإنسان التي بها قوامة الرأس وما اتصل به من صدر وعنق وفي رواية "فسمت" بالسين فيكون دعاء له بأن يكون على سمت حسن قال ابن العربي المعنى على كلا اللفظين شمت وسمت بديع وذلك أن العاطس ينحل كل عضو في رأسه وما يتصل به من العنق والصدر فإذا قال له يرحمك الله كان معناه أعطاك الله رحمة يرجع بها كل عضو إلى حاله فالتسميت بالسين رجوع كل عضو إلى سمته والتشميت الدعاء بسلامة ما به قوام الإنسان (فقال الذي لم يشمته) في رواية البخاري "فقيل له" (عطس فلان فشمته وعطست أنا فلم تشمتني) الكلام على الاستفهام أي فلم فرقت في المعاملة (دخلت على أبي موسى وهو في بيت بنت الفضل بن عباس) هذه البنت هي أم كلثوم بنت الفضل بن العباس امرأة أبي موسى الأشعري تزوجها بعد فراق الحسن بن علي لها وولدت لأبي موسى ومات عنها فتزوجت بعده عمران بن طلحة ففارقها وماتت بالكوفة ودفنت بها (فعطست فلم يشمتني وعطست فشمتها) التاء في "عطست" الأولى مضمومة ضمير المتكلم وفي الثانية ساكنة علامة المؤنثة أي قال أبو بردة عطست أنا فلم يشمتني أبي وعطست أم كلثوم ابنة الفضل زوجة أبي موسى فشمتها أبي أبو موسى (فرجعت إلى أمي فأخبرتها) زوجة أبي موسى الأخرى (فلما جاءها) زوجها أبو موسى في ليلتها (التثاؤب من الشيطان) أي من كسله وتسببه وقيل أضيف إليه لأنه يرضيه وفي البخاري "إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب" قالوا لأن التثاؤب غالبا يكون مع ثقل البدن وامتلائه واسترخائه وميله إلى الكسل وإضافته إلى الشيطان لأنه الذي يدعوا إلى الشهوات والمراد التحذير من السبب الذي يتولد منه ذلك وهو التوسع في المأكل (فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع) وفي الرواية الخامسة "إذا تثاءب أحدكم

فليمسك بيده على فيه فإن الشيطان يدخل" وفي الرواية السابعة "إذا تثاءب أحدكم في الصلاة فليكظم ما استطاع فإن الشيطان يدخل" قال النووي وقع هنا في بعض النسخ "تثاءب" بالمد مخففا وفي أكثرها "تثاوب" بالواو قال القاضي لا يقال "تثاءب" بالمد مخففا بل "تثأب" بتشديد الهمزة وقال الجوهري يقال تثاءبت بالمد مخففا ولا يقال تثاوبت وعند البخاري "إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب فإذا عطس أحدكم وحمد الله كان حقا على كل مسلم سمعه أن يقول له يرحمك الله وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع فإن أحدكم إذا تثاءب ضحك منه الشيطان" ومحبة الله للعطاس رضاه به من حيث سببه الذي هو عدم التوسع في الأكل فتنفتح المسام وصمائم الأجهزة المخرجة للسموم والرطوبات من الدماغ وسائر الجسد فيخف البدن وينشط الفكر فيكون داعية إلى النشاط في العبادة ومن حيث ما يترتب على العطاس من الحمد والتشميت إلى غير ذلك وأما كراهيته تعالى للتثاؤب وهو النفس الذي يخرج من الفم فينفتح فمن حيث سببه أيضا وهو امتلاء المعدة وثقل الجسم وضعف الفكر واستيلاء الكسل وانحطاط الهمة عن العبادة وغيرها ومن حيث منظر المتثائب وفتحه فمه ومعنى "فليرده ما استطاع" أي مدة وقدر استطاعته فـ "ما" ظرفية مصدرية وهذا هو معنى "فليكظم" ومعنى "فليمسك بيده على فيه" محاولا منعه أو التقليل منه وإضافته للشيطان للتنفير وكذلك دخول الشيطان للتنفير -[فقه الحديث]- -[ويؤخذ من الحديث]- 1 - حمد الله تعالى عند العطاس وقد نقل النووي استحباب الحمد للعاطس وأن يرفع به صوته وأما لفظه فنقل ابن بطال عن طائفة أنه لا يزيد على الحمد لله وعن طائفة يقول الحمد لله رب العالمين وروي عن ابن عباس أنه قال "إذا عطس الرجل قال الحمد لله قال الملك رب العالمين فإن قال رب العالمين قال الملك يرحمك الله" وعن طائفة ما زاد من الثناء فيما يتعلق بالحمد فهو حسن فقد أخرج الطبراني عن أم سلمة قالت "عطس رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال الحمد لله فقال النبي صلى الله عليه وسلم يرحمك الله وعطس آخر فقال الحمد لله رب العالمين حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم ارتفع هذا على هذا تسع عشرة درجة" وأخرج الترمذي عن رفاعة بن رافع رضي الله عنه قال صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فعطست فقلت الحمد لله حمدا طيبا مباركا

فيه مباركا عليه كما يحب ربنا ويرضى فلما انصرف قال من المتكلم ثلاثا فقلت أنا يا رسول الله فقال والذي نفسي بيده لقد ابتدرها بضعة وثلاثون ملكا أيهم يصعد بها قال الحافظ ابن حجر ولا أصل لما اعتاده كثير من الناس من استكمال قراءة الفاتحة بعد قوله الحمد لله رب العالمين وكذا العدول عن الحمد إلى أشهد أن لا إله إلا الله أو تقديمها على الحمد اهـ وحكمة مشروعية الحمد أن العطاس يدفع الأذى عن الدماغ الذي بسلامته تسلم الأعضاء ويخرج الفضلات ويصفي الروح فهو نعمة جليلة يناسبها أن تقابل بالحمد ومن آداب العاطس أن يخفض بالعطاس صوته وأن يرفع صوته بالحمد وأن يغطي وجهه أو مقابل فمه وأنفه لئلا يخرج من فمه وأنفه ما يؤذي جليسه وأن لا يلوي عنقه يمينا أو شمالا لئلا يتضرر بذلك 2 - مشروعية تشميت العاطس واستدل جمهور أهل الظاهر وجماعة من المالكية بقوله في رواية البخاري "كان حقا على كل مسلم سمعه أن يقول له يرحمك الله" على أن التشميت واجب عيني وقال الحنفية وجمهور الحنابلة وهو الراجح عند المالكية إن قوله "على كل مسلم" محمول على حال انفراد السامع فإذا سمع العاطس اثنان فأكثر كان التشميت واجبا على الكفاية فيسقط الإثم بتشميت بعضهم وقال الشافعية وبعض المالكية إن المراد من الحديث أن التشميت حق في حسن الأدب ومكارم الأخلاق فهو مستحب عينا إن انفرد السامع وإلا فعلى الكفاية 3 - وظاهر الحديث أن الأمر بالتشميت خاص بمن حمد الله أما من لم يحمد الله فقد قال النووي يستحب لمن حضر من عطس فلم يحمد أن يذكره بالحمد ليحمد فيشمته وهو من باب النصيحة والأمر بالمعروف وزعم ابن العربي أن الذي يذكر بالحمد جاهل لأنه يلزم نفسه بما لم يلزمها ثم قال ابن العربي لو ذكر وشمت فقال الحمد لله يرحمك الله جمع جهالتين جهالة التذكير وجهالة إيقاع التشميت قبل وجود الحمد من العاطس وقد خطأ العلماء ابن العربي فيما زعم والصواب استحباب التذكير كذلك يشرع التشميت إذا عرف الحاضر أن العاطس حمد الله وإن لم يسمعه لعموم الأمر به لمن عطس فحمد قاله بعضهم وقال النووي المختار أنه يشرع لمن سمعه دون غيره اهـ واستثنى العلماء ممن يشمت (أ) الكافر قال ابن دقيق العيد إذا نظرنا إلى قول من قال من أهل اللغة إن التشميت دعاء بالخير دخل الكفار في عموم الأمر بالتشميت وإذا نظرنا إلى من خص التشميت بالرحمة لم يدخلوا وقد روى أبو موسى الأشعري قال "كانت اليهود يتعاطسون عند النبي صلى الله عليه وسلم رجاء أن يقول يرحمكم الله فكان يقول يهديكم الله ويصلح بالكم" قال الحافظ ابن حجر هذا

الحديث يدل على أنهم يدخلون في مطلق الأمر بالتشميت لكن لهم تشميت خاص وهو الدعاء لهم بالهداية وإصلاح البال (ب) والمزكوم الذي تكرر منه العطاس فزاد على الثلاث قال النووي إذا تكرر العطاس متتابعا فالسنة أن يشمته لكل مرة إلى أن يبلغ ثلاث مرات فيقول له في الثالثة أنت مزكوم ومعناه أنك لست ممن يشمت لأن الذي بك مرض وليس من العطاس المحمود الناشئ عن خفة البدن قال ابن حجر فإن قيل فإذا كان مريضا فإنه ينبغي أن يشمت بطريق الأولى لأنه أحوج إلى الدعاء من غيره قلنا نعم لكن يدعى له بدعاء آخر يلائمه كالدعاء بالعافية والشفاء لا بالدعاء المشروع للعاطس وذكر ابن دقيق العيد عن بعض الشافعية أنه يكرر التشميت إذا تكرر العطاس حتى يعرف أنه مزكوم ولو زاد على ثلاث ومعنى ذلك أن الأمر بالتشميت يسقط عند العلم بالزكام ولو بدون تكرار وهذا ظاهر روايتنا الثالثة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الرجل مزكوم" بعد الثانية (جـ) ومن عرف من حاله أنه يكره التشميت فإنه لا يشمت إجلالا للتشميت أن يؤهل له من يكرهه ولا يقال كيف تترك السنة لذلك فإنما هي سنة لمن أحبها أما من كرهها ورغب عنها فلا ويطرد ذلك في السلام وعيادة المريض قال ابن دقيق العيد والذي عندي أنه لا يمتنع من ذلك إلا مع من خاف منه ضررا فأما غيره فيشمت امتثالا للأمر ومناقضة للتكبر في مراده وكسرا لسورته في ذلك وهو أولى من إجلال التشميت (د) ومن عطس والإمام يخطب فإن التشميت يتعارض والأمر بالإنصات لمن يسمع الخطيب فتعين تأخير التشميت حتى يفرغ الخطيب أو يشرع له التشميت بالإشارة (هـ) ومن كان عطاسه في حالة امتنع عليه فيها ذكر الله كما إذا كان على الخلاء أو في الجماع ثم يحمد الله تعالى بعد الفراغ من ذلك فيشمت 4 - ويؤخذ من الرواية الثالثة أن لفظ التشميت "يرحمك الله" قال ابن بطال يخصه بالدعاء وحده وأخرج الطبري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال "يقول يرحمنا الله وإياكم" وعن ابن عباس رضي الله عنهما يقول "عافانا الله وإياكم من النار يرحمكم الله" وحكمة مشروعية التشميت تحصيل المودة والتأليف بين المسلمين وتأديب العاطس بتخلية نفسه من الكبر وتحليتها بالتواضع لما في ذلك من ذكر الرحمة والإشعار بالذنب الذي لا يعرى عنه أكثر المكلفين ذكره ابن دقيق العيد ويقول العاطس بعد التشميت يرحمنا الله وإياكم أو يغفر الله لنا ولكم وقيل يقول يهديكم الله ويصلح بالكم قال ابن بطال ذهب مالك والشافعي إلى أنه يتخير بين اللفظين قال ابن رشد والجمع بينهما أحسن إلا للذمي

5 - وفي الحديث التنفير من التثاؤب وفي البخاري "إن أحدكم إذا تثاءب ضحك منه الشيطان" لأنها حالة تتغير فيها صورة المتثائب والشيطان يحب أن يرى الإنسان متثائبا والتثاؤب مكروه وكراهته في الصلاة أشد منها في غيرها ولذلك نص عليها في روايتنا السابعة 6 - والحث على كظم التثاؤب والحد منه ما أمكن ومحاولة منعه ابتداء بالأخذ في أسباب منعه ثم بالحد منه ومحاولة رده عند الرغبة فيه ثم بوضع يده على فمه وبإطباق شفتيه عند حدوثه تخفيفا من هيئته ثم يزجر نفسه لعدم رفع صوته فعند ابن ماجه "فليضع يده على فيه ولا يعوي" 7 - ومن الرواية الأولى والثانية جواز السؤال عن علة الحكم 8 - وبيان علة الحكم للسائل إذا كان في ذلك منفعة له 9 - أن الإسلام دين الإحساس المرهف المحافظ على مشاعر الآخرين 10 - الدعوة إلى كل ما يورث التواد والمحبة والتنفير مما يورث البغضاء والله أعلم.

(802) باب في أحاديث متفرقة

(802) باب في أحاديث متفرقة 6517 - عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم". 6518 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فقدت أمة من بني إسرائيل لا يدرى ما فعلت ولا أراها إلا الفأر ألا ترونها إذا وضع لها ألبان الإبل لم تشربه وإذا وضع لها ألبان الشاء شربته" قال أبو هريرة فحدثت هذا الحديث كعبا فقال آنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت نعم قال ذلك مرارا قلت أأقرأ التوراة وقال إسحق في روايته "لا ندري ما فعلت". 6519 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال "الفأرة مسخ وآية ذلك أنه يوضع بين يديها لبن الغنم فتشربه ويوضع بين يديها لبن الإبل فلا تذوقه" فقال له كعب أسمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أفأنزلت علي التوراة. 6520 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين". 6521 - عن صهيب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له".

-[المعنى العام]- واضح من شرح الأحاديث أنها لا تجمعها رابطة ولذا بوب لها النووي بأحاديث متفرقة والله أعلم -[المباحث العربية]- (خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم) "الجان" الجن و"المارج" اللهب المختلط بسواد النار (فقدت أمة من بني إسرائيل) بضم الفاء مبني للمجهول أي فقدت صورتها وهيئتها ومسخت (لا يدرى ما فعلت ولا أراها إلا الفأر ألا ترونها إذا وضع لها ألبان الإبل لم تشربه وإذا وضع لها ألبان الشاء شربته) قال النووي معنى هذا أن لحوم الإبل وألبانها حرمت على بني إسرائيل دون لحوم الغنم وألبانها فاستدل بامتناع الفأرة من لبن الإبل دون الغنم على أنها مسخ من بني إسرائيل اهـ وفيه إشكال يفرضه الواقع والرواية الثالثة تنسبه إلى أبي هريرة رضي الله عنه والله أعلم (لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين) قال النووي الرواية المشهورة "لا يلدغ" بضم الغين وقال القاضي يروى على وجهين أحدهما بضم الغين على الخبر ومعناه المؤمن الممدوح وهو الكيس الحازم الذي لا يستغفل فيخدع مرة بعد أخرى ولا يفطن لذلك وقيل إن المراد الخداع في أمور الآخرة دون الدنيا والوجه الثاني بالغين المكسورة على النهي أن يؤتى من جهة الغفلة اهـ والنهي نهي عما ينبغي أي لا يليق بالمؤمن الحازم القوي أن يلدغ من جحر واحد مرتين بل ينبغي أن يكون يقظا حكيما فيفطن ويحذر من أول مرة قالوا وسبب هذا المثل أن النبي صلى الله عليه وسلم أسر أبا غرة الشاعر يوم بدر فمن عليه وعاهده ألا يحرض عليه ولا يهجوه وأطلقه فلحق بقومه ثم رجع إلى التحريض والهجاء ثم أسره يوم أحد فسأله المن فقال النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين وهذا السبب يضعف الوجه الثاني وفيه أنه ينبغي لمن ناله الضرر من جهه أن يتجنبها لئلا يقع فيها ثانية -[فقه الحديث]- 1 - فيه مبدأ خلق الملائكة

2 - ومبدأ خلق الجان 3 - وإحالة على القرآن الكريم في مبدأ خلق آدم 4 - وفيه إثبات المسخ 5 - وأنه نتيجة لفعل السوء في الأمم السابقة 6 - وفيه حث المؤمن على اتخاذ الحذر من الضرر والاستفادة من التجارب والله أعلم.

(803) باب النهي عن المدح إذا كان فيه إفراط وخيف منه الفتنة على الممدوح

(803) باب النهي عن المدح إذا كان فيه إفراط وخيف منه الفتنة على الممدوح 6522 - عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه رضي الله عنه قال مدح رجل رجلا عند النبي صلى الله عليه وسلم قال فقال "ويحك قطعت عنق صاحبك قطعت عنق صاحبك" مرارا "إذا كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة فليقل أحسب فلانا والله حسيبه ولا أزكي على الله أحدا أحسبه إن كان يعلم ذاك كذا وكذا" 6523 - عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر عنده رجل فقال رجل يا رسول الله ما من رجل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل منه في كذا وكذا فقال النبي صلى الله عليه وسلم "ويحك قطعت عنق صاحبك" مرارا يقول ذلك ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن كان أحدكم مادحا أخاه لا محالة فليقل أحسب فلانا إن كان يرى أنه كذلك ولا أزكي على الله أحدا" 6524 - وفي رواية عن شعبة بهذا الإسناد نحو حديث يزيد بن زريع وليس في حديثهما فقال رجل ما من رجل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل منه. 6525 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يثني على رجل ويطريه في المدحة فقال "لقد أهلكتم أو قطعتم ظهر الرجل". 6526 - عن أبي معمر قال قام رجل يثني على أمير من الأمراء فجعل المقداد يحثي عليه التراب وقال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحثي في وجوه المداحين التراب

6527 - عن همام بن الحارث أن رجلا جعل يمدح عثمان فعمد المقداد فجثا على ركبتيه وكان رجلا ضخما فجعل يحثو في وجهه الحصباء فقال له عثمان ما شأنك فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب". 6528 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أراني في المنام أتسوك بسواك فجذبني رجلان أحدهما أكبر من الآخر فناولت السواك الأصغر منهما فقيل لي كبر فدفعته إلى الأكبر" -[المعنى العام]- مدح الإنسان نفسه مستقبح اللهم إلا إن كان للتعريف كقول الرجل أنا الشيخ فلان أو الأستاذ فلان وإلا إذا كان المدح ببعض الفعال التي يراد الاقتداء بها كذكر المرء بعض أفعاله الحسنة ليقتدي به فيها كما سبق لنا في بعض الأحاديث عن جابر وعن سلمة بن الأكوع وغيرهما وأما مدح الإنسان غيره والثناء عليه في غيبته فهو ممدوح وبخاصة إذا كان الممدوح أهلا لذلك أما مدح الخير في مواجهته فهو خطر خطر على الممدوح حتى لو كان بما فيه فإنه كثيرا ما يؤدي إلى الإعجاب بالنفس وغرورها وهو المقول عنه في حديثنا "قطعت عنق صاحبك" وإذا لم يكن بما فيه فهو الكذب والنفاق والتزلف ويزيد الطاغية طغيانا ويزيد الفاجر فجورا ولما كانت خفايا الإنسان عن الناس أكثر مما يظهر لهم كان المدح بما يظهر لنا مدحا بغير علم وكثيرا لا يطابق الواقع ومن هنا وجب على من يمدح أن يقول إن كان مادحا لا محالة أن يقول أحسبه كذا وكذا والله حسيبه وكافيه والعالم به ولا أزكي على الله أحدا -[المباحث العربية]- (مدح رجل رجلا عند النبي صلى الله عليه وسلم) يشبه أن يكون المادح محجن بن الأدرع الأسلمي وأن

يكون الممدوح عبد الله ذا النجادين المزني ففي أحمد عن محجن "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فدخل المسجد فإذا رجل يصلي فقال لي من هذا فأثنيت عليه خيرا" وفي رواية "هذا فلان وهو من أحسن أهل المدينة صلاة ... " "فقال اسكت لا تسمعه فتهلكه" وفي ترجمة ذي النجادين في الصحابة ما يشبه ذلك وفي الرواية الثانية "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر عنده رجل فقال رجل يا رسول الله ما من رجل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل منه في كذا وكذا" وفي الرواية الثالثة "سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يثني على رجل ويطريه في المدحة" من الإطراء وهو المبالغة في المدح والمدحة بكسر الميم المدح وفي رواية "في المدح" وفي رواية "في مدحه" (فقال ويحك قطعت عنق صاحبك قطعت عنق صاحبك مرارا) "ويحك" كلمة رحمة وتوجع و"مرارا" مفعول مطلق لقال والمقصود بقطع العنق الإضرار إضرارا بالغا في دينه أو في دنياه بإحساسه بالإعجاب وفي الرواية الثالثة "لقد أهلكتم أو قطعتم ظهر الرجل" أي أهلكتموه (إذا كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة فليقل أحسب فلانا والله حسيبه ولا أزكي على الله أحدا أحسبه إن كان يعلم ذاك كذا وكذا) أي لا أقطع على الله بعاقبة أحد ولا بضميره وسره وخفاياه لأن ذلك مغيب عنا ولكن أحسب وأظن لوجود الظاهر المقتضي لذلك ومعنى "والله حسيبه" أي كافيه أو محاسبه على عمله الذي يعلم حقيقته وهي جملة معترضة وقال الطيبي هي من تتمة المقول ومعنى "لا محالة" لا حيلة له في ذلك وهي بمعنى لا بد. (قام رجل يثني على أمير من الأمراء فجعل المقداد يحثي عليه التراب وقال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحثي في وجوه المداحين التراب) وفي الرواية الخامسة "أن رجلا جعل يمدح عثمان فعمد المقداد فجثا على ركبتيه وكان رجلا ضخما فجعل يحثو في وجهه الحصباء فقال له عثمان ما شأنك فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب" قال النووي هذا الحديث قد حمله على ظاهره المقداد الذي هو راويه ووافقه طائفة وكانوا يحثون التراب في وجهه حقيقة وقال آخرون معناه خيبوهم فلا تعطوهم شيئا لمدحهم وقيل إذا مدحتم فاذكروا أنكم من تراب فتواضعوا ولا تعجبوا قال النووي وهذا ضعيف اهـ لكنه وجيه إذ معناه أن ذلك يتعلق بالممدوح كأن يأخذ ترابا فيبذره بين يديه يتذكر بذلك مصيره. -[فقه الحديث]- قال ابن بطال حاصل النهي أن من أفرط في مدح آخر بما ليس فيه لم يأمن على الممدوح العجب لظنه أنه بتلك المنزلة فربما ضيع العمل والازدياد من الخير اتكالا على ما وصف به ولذلك تأول العلماء في الحديث الآخر "احثوا في وجوه المداحين التراب" أن المراد من يمدح الناس في

وجوههم بالباطل وأما من مدح بما فيه فلا يدخل في النهي فقد مدح صلى الله عليه وسلم في الشعر والخطب والمخاطبة ولم يحث في وجه مادحه ترابا اهـ وقد ضبط العلماء المبالغة الجائزة من المبالغة الممنوعة بأن الجائزة يصحبها شرط أو تقريب والممنوعة بخلافها ويستثني من ذلك ما جاء عن معصوم فإنه لا يحتاج إلى قيد وقال الغزالي في الإحياء آفة المدح في المادح أنه قد يكذب وقد يرائي الممدوح بمدحه ولا سيما إن كان فاسقا أو ظالما وآفته في الممدوح أنه لا يأمن أن يحدث فيه المدح كبرا أو إعجابا فإن سلم المدح من هذه الأمور لم يكن به بأس وربما كان مستحبا اهـ وقال بعض السلف إذا مدح الرجل في وجهه فليقل اللهم اغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون واجعلني خيرا مما يظنون والله أعلم.

(804) باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم

(804) باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم 6529 - عن هشام عن أبيه قال كان أبو هريرة يحدث ويقول اسمعي يا ربة الحجرة اسمعي يا ربة الحجرة وعائشة تصلي فلما قضت صلاتها قالت لعروة ألا تسمع إلى هذا ومقالته آنفا إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدث حديثا لو عده العاد لأحصاه. 6530 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه وحدثوا عني ولا حرج ومن كذب علي قال همام أحسبه قال متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" -[المعنى العام]- يكتفى بما في الشرح -[المباحث العربية]- (كان أبو هريرة يحدث ويقول اسمعي يا ربة الحجرة) سبق شرح هذا الحديث قريبا (لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه) مفعول "لا تكتبوا عني" محذوف أي لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن -[فقه الحديث]- قال القاضي كان بين السلف من الصحابة والتابعين اختلاف كثير في كتابة العلم فكرهها كثيرون منهم [لما تؤدي إليه من إهمال الحفظ والحافظة] وأجازها أكثرهم ثم أجمع المسلمون على جوازها وزال ذلك الخلاف قال واختلفوا في المراد بهذا الحديث الوارد في النهي فقيل هو في حق من يوثق بحفظه ويخاف اتكاله على الكتابة إذا كتب وتحمل الأحاديث الواردة بالإباحة على من لا يوثق بحفظه كحديث "اكتبوا لأبي شاه" وحديث صحيفة علي رضي الله عنه وحديث كتاب عمرو بن حزم الذي فيه الفرائض والسنن

والديات وحديث كتابة الصدقة ونصب الزكاة الذي بعث به أبو بكر أنسا حين وجهه إلى البحرين وحديث أبي هريرة أن ابن عمرو بن العاص كان يكتب ولا أكتب وغير ذلك وقيل إن النهي منسوخ بهذه الأحاديث وكان النهي حين خيف اختلاطه بالقرآن فلما أمن ذلك أذن في الكتابة وقيل إنما نهي عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة لئلا يختلط فيشتبه على القارئ والله أعلم.

(805) باب قصة أصحاب الأخدود والساحر والراهب والغلام

(805) باب قصة أصحاب الأخدود والساحر والراهب والغلام 6531 - عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر فلما كبر قال للملك إني قد كبرت فابعث إلي غلاما أعلمه السحر فبعث إليه غلاما يعلمه فكان في طريقه إذا سلك راهب فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه فإذا أتى الساحر ضربه فشكا ذلك إلى الراهب فقال إذا خشيت الساحر فقل حبسني أهلي وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس فقال اليوم أعلم آلساحر أفضل أم الراهب أفضل فأخذ حجرا فقال اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس فرماها فقتلها ومضى الناس فأتى الراهب فأخبره فقال له الراهب أي بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدل علي وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء فسمع جليس للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال ما ها هنا لك أجمع إن أنت شفيتني فقال إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك فآمن بالله فشفاه الله فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك من رد عليك بصرك قال ربي قال ولك رب غيري قال ربي وربك الله فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام فجيء بالغلام فقال له الملك أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل فقال إني لا يشفي أحدا إنما يشفي الله فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب فجيء بالراهب فقيل له ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمئشار فوضع المئشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه ثم جيء بجليس الملك فقيل له ارجع عن دينك فأبى فوضع المئشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه ثم جيء بالغلام فقيل له ارجع عن دينك فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال اللهم اكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك ما فعل أصحابك قال

كفانيهم الله فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال اذهبوا به فاحملوه في قرقور فتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه فذهبوا به فقال اللهم اكفنيهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة فغرقوا وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك ما فعل أصحابك قال كفانيهم الله فقال للملك إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به قال وما هو قال تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهما من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل باسم الله رب الغلام ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ثم أخذ سهما من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال باسم الله رب الغلام ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات فقال الناس آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام فأتي الملك فقيل له أرأيت ما كنت تحذر قد والله نزل بك حذرك قد آمن الناس فأمر بالأخدود في أفواه السكك فخدت وأضرم النيران وقال من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها أو قيل له اقتحم ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام يا أمه اصبري فإنك على الحق". -[المعنى العام]- يكتفى بالقصة في الشرح -[المباحث العربية]- (كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر) كان السحر قبل الإسلام علما يتعلم وفنا يمارس سواء كان تخييلا أو حقيقة بالتعامل مع الجن الذين كانوا يسترقون السمع أو بدونهم (فلما كبر قال للملك إني قد كبرت فابعث إلي غلاما أعلمه السحر) ليخلفني في مهنتي (فبعث إليه غلاما يعلمه) فكان يذهب إليه كل يوم (فكان في طريقه إذا سلك راهب) في صومعته (فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه) هذه القعدة الأولى للغلام مع الراهب ثم تكررت (فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه فإذا أتى الساحر ضربه) لتأخره

(فشكا ذلك إلى الراهب فقال إذا خشيت الساحر فقل حبسني أهلي وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر) ينصحه بالكذب على الساحر وعلى أهله لئلا يكشف أمره مع الراهب فيتوقف عن لقائه والكذب في مثل هذه الحالة كالكذب في الحرب (فبينما هو كذلك) يذهب ويرجع كل يوم وفي طريقه يقعد عند الراهب (أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس) أي مر على ناس يريدون المرور ويخافون دابة ضخمة تقطع عليهم الطريق (فقال اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل فأخذ حجرا فقال اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس فرماها فقتلها ومضى الناس فأتى الراهب فأخبره فقال له الراهب أي بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى وإنك ستبتلى) شأن الأنبياء والأولياء والصالحين (فإن ابتليت فلا تدل علي) وكانت الحرب والفتنة والعداوة قائمة بين اليهود والنصارى وبين الحكام الطغاة الظلمة وبين الرهبان أي إن قبض عليك وعذبت وسئلت عن شركائك ومن الذي علمك فلا تدل علي. (وكان الغلام يبرئ الأكمه) الذي خلق أعمى روى أنه لما قتل الأسد بالحجر قال الناس قتل الغلام الأسد بحجر إنه علم علما لم يعلمه أحد فسمع أعمى فجاءه فقال له إن أنت رددت بصري فلك كذا وكذا فقال الغلام لا أريد منك هذا ولكن أرأيت إن رجع عليك بصرك أتؤمن بالذي رده عليك قال نعم فرد عليه بصره فآمن الأعمى فبلغ الملك أمرهم فبعث إليهم فأتى بهم الراهب والأعمى والغلام فقال لأقتلن كل واحد منكم قتلة لا أقتل بها صاحبه فأمر بالراهب والرجل الذي كان أعمى فوضع المنشار على مفرق أحدهما فقتله وقتل الآخر بقتلة أخرى وتحكي روايتنا تفصيلا وفيها (فجيء بالغلام فقال له الملك أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ به الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل فقال إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب فجيء بالراهب فقيل له ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمنشار فشقه حتى وقع شقاه ثم جيء بمن كان أعمى بجليس الملك فقيل له ارجع عن دينك فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه ثم جيء بالغلام فقيل له ارجع عن دينك فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته [أي أعلاه وهي بضم

الذال وكسرها] فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال اللهم اكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل [أي اضطرب وتحرك حركة شديدة وحكى القاضي عياض عن بعضهم أنه رواه "فزحف بهم الجبل" بالزاي والحاء وهي بمعنى الحركة] فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك ما فعل أصحابك قال كفانيهم الله فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال اذهبوا به فاحملوه في قرقور [بضم القاف الأولى وفي نسخة "في قرقورة" وهي السفينة الصغيرة] فتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه فذهبوا به فقال اللهم اكفنيهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة فغرقوا وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك ما فعل أصحابك قال كفانيهم الله فقال للملك إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به قال وما هو قال تجمع الناس في صعيد واحد [أي في مكان واحد من الأرض ظاهر] وتصلبني على جذع ثم خذ سهما من كنانتي [وهي جعبة السهام وتصنع من الجلد] ثم ضع السهم في كبد القوس [وهو مقبضها عند الرمي] ثم قل باسم الله رب الغلام ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ثم أخذ سهما من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال بسم الله رب الغلام ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات فقال الناس آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام فأتي الملك فقيل له أرأيت ما كنت تحذر قد والله نزل بك حذرك فآمن الناس [أي ما كنت تحذر وتخاف] فأمر بالأخدود في أفواه السكك [أي في أبواب الطرق وأولها] فخدت وأضرم النيران وقال من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها [قال النووي هكذا هو في عامة النسخ "فأحموه" بهمزة قطع بعدها حاء ساكنة ووقع في بعض نسخ بلادنا "فأقحموه" بالقاف وهذا ظاهر ومعناه اطرحوه فيها كرها ومعنى الرواية الأولى ارموه فيها من قولهم حميت الحديدة وغيرها إذا أدخلتها النار لتحمى] من لم يرجع عن دينه أو قيل له اقتحم [فلم يقتحم] فأحموه فيها ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام يا أمه اصبري فإنك على الحق) ولا خلاف في وقوع الأخدود بنص القرآن ولكن الخلاف في سببه وفي مكانه وزمانه فقيل إنه كان بنجران وقيل كان بأرض الحبشة وقيل كان أصحاب الأخدود من النبط وقيل كانوا من بني إسرائيل وقيل أحرق فيه اثنا عشر ألفا وقيل سبعون ألفا والله أعلم

-[فقه الحديث]- فيه خوارق العادات على يد الصالحين وفيه التضحية في سبيل الله وفيه ما تحمل الدعاة إلى الله ومن تبعهم والله أعلم.

(806) باب حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر

(806) باب حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر 6532 - عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا فكان أول من لقينا أبا اليسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه غلام له معه ضمامة من صحف وعلى أبي اليسر بردة ومعافري وعلى غلامه بردة ومعافري فقال له أبي يا عم إني أرى في وجهك سفعة من غضب قال أجل كان لي على فلان ابن فلان الحرامي مال فأتيت أهله فسلمت فقلت ثم هو قالوا لا فخرج علي ابن له جفر فقلت له أين أبوك قال سمع صوتك فدخل أريكة أمي فقلت اخرج إلي فقد علمت أين أنت فخرج فقلت ما حملك على أن اختبأت مني قال أنا والله أحدثك ثم لا أكذبك خشيت والله أن أحدثك فأكذبك وأن أعدك فأخلفك وكنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت والله معسرا قال قلت آلله قال الله قلت آلله قال الله قلت آلله قال الله قال فأتى بصحيفته فمحاها بيده فقال إن وجدت قضاء فاقضني وإلا أنت في حل فأشهد بصر عيني هاتين (ووضع إصبعيه على عينيه) وسمع أذني هاتين ووعاه قلبي هذا (وأشار إلى مناط قلبه) رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول "من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله" قال فقلت له أنا يا عم لو أنك أخذت بردة غلامك وأعطيته معافريك وأخذت معافريه وأعطيته بردتك فكانت عليك حلة وعليه حلة فمسح رأسي وقال اللهم بارك فيه يا ابن أخي بصر عيني هاتين وسمع أذني هاتين ووعاه قلبي هذا (وأشار إلى مناط قلبه) رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول "أطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون" وكان أن أعطيته من متاع الدنيا أهون علي من أن يأخذ من حسناتي يوم القيامة ثم مضينا حتى أتينا جابر بن عبد الله في مسجده وهو يصلي في ثوب واحد مشتملا به فتخطيت القوم حتى جلست بينه وبين القبلة فقلت يرحمك الله أتصلي في ثوب واحد ورداؤك إلى جنبك قال فقال بيده في صدري هكذا وفرق بين أصابعه وقوسها أردت أن يدخل علي الأحمق مثلك فيراني كيف أصنع فيصنع مثله أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجدنا هذا وفي يده عرجون ابن طاب فرأى في قبلة المسجد نخامة فحكها بالعرجون ثم أقبل علينا فقال "أيكم يحب أن يعرض

الله عنه" قال فخشعنا ثم قال "أيكم يحب أن يعرض الله عنه" قال فخشعنا ثم قال "أيكم يحب أن يعرض الله عنه" قلنا لا أينا يا رسول الله قال "فإن أحدكم إذا قام يصلي فإن الله تبارك وتعالى قبل وجهه فلا يبصقن قبل وجهه ولا عن يمينه وليبصق عن يساره تحت رجله اليسرى فإن عجلت به بادرة فليقل بثوبه هكذا" ثم طوى ثوبه بعضه على بعض فقال "أروني عبيرا" فقام فتى من الحي يشتد إلى أهله فجاء بخلوق في راحته فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعله على رأس العرجون ثم لطخ به على أثر النخامة فقال جابر فمن هناك جعلتم الخلوق في مساجدكم سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بطن بواط وهو يطلب المجدي بن عمرو الجهني وكان الناضح يعقبه منا الخمسة والستة والسبعة فدارت عقبة رجل من الأنصار على ناضح له فأناخه فركبه ثم بعثه فتلدن عليه بعض التلدن فقال له شأ لعنك الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من هذا اللاعن بعيره" قال أنا يا رسول الله قال "انزل عنه فلا تصحبنا بملعون لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على أموالكم لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم" سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كانت عشيشية ودنونا ماء من مياه العرب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من رجل يتقدمنا فيمدر الحوض فيشرب ويسقينا" قال جابر فقمت فقلت هذا رجل يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أي رجل مع جابر" فقام جبار بن صخر فانطلقنا إلى البئر فنزعنا في الحوض سجلا أو سجلين ثم مدرناه ثم نزعنا فيه حتى أفهقناه فكان أول طالع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "أتأذنان" قلنا نعم يا رسول الله فأشرع ناقته فشربت شنق لها فشجت فبالت ثم عدل بها فأناخها ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحوض فتوضأ منه ثم قمت فتوضأت من متوضإ رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب جبار بن صخر يقضي حاجته فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي وكانت علي بردة ذهبت أن أخالف بين طرفيها فلم تبلغ لي وكانت لها ذباذب فنكستها ثم خالفت بين طرفيها ثم تواقصت عليها ثم جئت حتى قمت عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه ثم جاء جبار بن صخر فتوضأ ثم جاء فقام عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدينا جميعا فدفعنا حتى أقامنا خلفه فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمقني وأنا لا أشعر ثم فطنت به فقال هكذا بيده يعني شد وسطك فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "يا جابر" قلت لبيك يا رسول الله قال "إذا كان واسعا فخالف بين طرفيه وإذا كان ضيقا فاشدده على حقوك" سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قوت كل رجل منا في كل يوم تمرة فكان يمصها ثم يصرها في ثوبه وكنا نختبط بقسينا ونأكل حتى قرحت أشداقنا فأقسم أخطئها رجل منا يوما فانطلقنا به

ننعشه فشهدنا أنه لم يعطها فأعطيها فقام فأخذها سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلنا واديا أفيح فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته فاتبعته بإداوة من ماء فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ير شيئا يستتر به فإذا شجرتان بشاطئ الوادي فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إحداهما فأخذ بغصن من أغصانها فقال "انقادي علي بإذن الله" فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده حتى أتى الشجرة الأخرى فأخذ بغصن من أغصانها فقال "انقادي علي بإذن الله" فانقادت معه كذلك حتى إذا كان بالمنصف مما بينهما لأم بينهما (يعني جمعهما) فقال "التئما علي بإذن الله" فالتأمتا قال جابر فخرجت أحضر مخافة أن يحس رسول الله صلى الله عليه وسلم بقربي فيبتعد (وقال محمد بن عباد فيتبعد) فجلست أحدث نفسي فحانت مني لفتة فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا وإذا الشجرتان قد افترقتا فقامت كل واحدة منهما على ساق فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف وقفة فقال برأسه هكذا (وأشار أبو إسمعيل برأسه يمينا وشمالا) ثم أقبل فلما انتهى إلي قال "يا جابر هل رأيت مقامي" قلت نعم يا رسول الله قال "فانطلق إلى الشجرتين فاقطع من كل واحدة منهما غصنا فأقبل بهما حتى إذا قمت مقامي فأرسل غصنا عن يمينك وغصنا عن يسارك" قال جابر فقمت فأخذت حجرا فكسرته وحسرته فانذلق لي فأتيت الشجرتين فقطعت من كل واحدة منهما غصنا ثم أقبلت أجرهما حتى قمت مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت غصنا عن يميني وغصنا عن يساري ثم لحقته فقلت قد فعلت يا رسول الله فعم ذاك قال "إني مررت بقبرين يعذبان فأحببت بشفاعتي أن يرفه عنهما مادام الغصنان رطبين" قال فأتينا العسكر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا جابر ناد بوضوء" فقلت ألا وضوء ألا وضوء ألا وضوء قال قلت يا رسول الله ما وجدت في الركب من قطرة وكان رجل من الأنصار يبرد لرسول الله صلى الله عليه وسلم الماء في أشجاب له على حمارة من جريد قال فقال لي "انطلق إلى فلان ابن فلان الأنصاري فانظر هل في أشجابه من شيء" قال فانطلقت إليه فنظرت فيها فلم أجد فيها إلا قطرة في عزلاء شجب منها لو أني أفرغه لشربه يابسه فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إني لم أجد فيها إلا قطرة في عزلاء شجب منها لو أني أفرغه لشربه يابسه قال "اذهب فأتني به" فأتيته به فأخذه بيده فجعل يتكلم بشيء لا أدري ما هو ويغمزه بيديه ثم أعطانيه فقال "يا جابر ناد بجفنة" فقلت يا جفنة الركب فأتيت بها تحمل فوضعتها بين يديه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده في الجفنة هكذا فبسطها وفرق بين أصابعه ثم وضعها في قعر الجفنة وقال "خذ يا جابر فصب علي وقل باسم الله" فصببت عليه وقلت باسم الله فرأيت الماء يفور من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم فارت

الجفنة ودارت حتى امتلأت فقال "يا جابر ناد من كان له حاجة بماء" قال فأتى الناس فاستقوا حتى رووا قال فقلت هل بقي أحد له حاجة فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الجفنة وهي ملأى وشكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع فقال "عسى الله أن يطعمكم" فأتينا سيف البحر فزخر البحر زخرة فألقى دابة فأورينا على شقها النار فاطبخنا واشتوينا وأكلنا حتى شبعنا قال جابر فدخلت أنا وفلان وفلان حتى عد خمسة في حجاج عينها ما يرانا أحد حتى خرجنا فأخذنا ضلعا من أضلاعه فقوسناه ثم دعونا بأعظم رجل في الركب وأعظم جمل في الركب وأعظم كفل في الركب فدخل تحته ما يطأطئ رأسه. -[المعنى العام]- يجمع هذا الحديث تلميذين يتعلمان على يدي شيخين التلميذان عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت وأبوه والشيخان أبو اليسر الصحابي الجليل وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما أما الشيخ الأول فدرس للتلميذين حديث إنظار المعسر وحديث "أطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون" وأما الشيخ الثاني فبسط للتلميذين حديثا طويلا عن أحداث ووقائع عايشها في غزوة بطن بواط بعد أن شرح حديثا في التحذير من البصاق في قبلة المصلي والأحداث التي تناولها جابر بن عبد الله في تلك الغزوة تصور الشدة والضنك والمشقة التي صادفت رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين فقد كان السبعة منهم يتعاقبون على البعير الواحد وتعب منهم بعير فلعنه صاحبه فأطلق سراحه وقل أو ندر الماء فنبع من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم حتى رووا وكانت التمرة الواحدة نصيب الرجل يوما كاملا يمصها ثم يحفظها ليمصها ثانية بعد ساعات حتى أكلوا أوراق الشجر وتشققت أشداقهم وجاعوا ونفد ما عندهم من تمر فأخرج البحر لهم دابة عظيمة أشبعتهم وحملوا معهم نصفها وهكذا يعطينا جابر بن عبد الله رضي الله عنه وعن أبيه صورة حية للإسلام وكيف أقامه ونشره صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نبي الإسلام رضي الله عنهم أجمعين -[المباحث العربية]- (فكان أول من لقينا أبا اليسر) بفتح الياء والسين واسمه كعب بن عمر مشهور باسمه وكنيته شهد العقبة وبدرا وهو ابن عشرين سنة وتوفي بالمدينة سنة خمس وخمسين (ومعه غلام له معه ضمامة من صحف) "ضمامة" بكسر الضاد قال القاضي وقال بعض شيوخنا صوابه "إضمامة" بكسر الهمزة قبل الضاد قال القاضي ولا يبعد عندي صحة ما

جاءت به الرواية هنا وقال صاحب نهاية الغريب إن الضمامة لغة في الإضمامة والمشهور في اللغة الإضمامة بالألف (وعلى أبي اليسر بردة) وهي شملة مخططة وقيل كساء مربع يلبسه الأعراب وجمعه برد بضم الباء وفتح الراء (ومعافري) بفتح الميم وهو نوع من الثياب يعمل بقرية تسمى معافر وقيل هي نسبة إلى قبيلة نزلت تلك القرية (إني أرى في وجهك سفعة من غضب قال أجل) "سفعة" بفتح السين وضمها لغتان وبإسكان الفاء أي علامة غضب وتغير في الوجه (كان لي على فلان ابن فلان الحرامي مال) قال القاضي رواه الأكثرون "الحرامي" بفتح الحاء وبالراء نسبة إلى بني حرام ورواه الطبري وغيره "الحزامي" بالزاي مع كسر الحاء ورواه ابن ماهان "الجذامي" بضم الجيم وفتح الذال (فأتيت أهله فسلمت فقلت ثم هو قالوا لا) "ثم" بفتح الثاء بمعنى "هنا" (فخرج علي ابن له جفر) أي قارب البلوغ وقيل هو الذي قوى على الأكل وقيل ابن خمس سنين (فقلت له أين أبوك قال سمع صوتك فدخل أريكة أمي) قيل هي السرير الذي في الحجلة أي في قبة من الثياب قال ثعلب ولا يكون السرير المفرد أريكة وقال الأزهري كل ما اتكأت عليه فهو أريكة (فقلت اخرج إلي فقد علمت أين أنت فخرج فقلت ما حملك على أن اختبأت مني قال أنا والله أحدثك ثم لا أكذبك خشيت والله أن أحدثك فأكذبك وأن أعدك فأخلفك وكنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت والله معسرا قال قلت آلله قال الله قلت آلله قال الله قلت آلله قال الله) قال النووي الأول بهمزة ممدودة على الاستفهام أي أتحلف بالله والثاني بلا مد والهاء فيهما مكسورة هذا هو المشهور قال القاضي رويناه بكسرها وفتحها معا وأكثر أهل العربية لا يجيزون غير كسرها مجرورة بحرف قسم محذوف (قال فأتى بصحيفته فمحاها بيده فقال إن وجدت قضاء فاقضني) أي محا أبو اليسر الوثيقة التي تثبت الدين وقال للمدين لا تثريب عليك إن تيسرت وأردت قضاء ديني في أي وقت فاقضه وإلا فأنت في حل من ديني

(فأشهد بصر عيني هاتين ووضع إصبعيه على عينيه وسمع أذني هاتين ووعاه قلبي هذا وأشار إلى مناط قلبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول ... ) قال النووي "بصر" بفتح الصاد ورفع الراء و"سمع" بإسكان الميم ورفع العين أي هذا الحديث الذي سأذكره لك هو سمع أذني وبصر عيني ووعي قلبي أي هو مؤكد تأكد اليقين ورواه جماعة بضم الصاد وفتح الراء و"عيناي هاتان" فعل وفاعل و"سمع" بكسر الميم و"أذناي هاتان" فعل وفاعل وكلاهما صحيح فالمفعول محذوف أي بصر عيناي وسمع أذناي ووعي قلبي الحديث الآتي و"مناط القلب" بفتح الميم عرق القلب وفي بعض النسخ "نياط" بكسر النون وهو بمعناه (فقلت له أنا) كان الكلام الأول بين أبي اليسر وبين الوليد بن عبادة والكلام الجديد بين عبادة بن الوليد وبين أبي اليسر (يا عم لو أنك أخذت بردة غلامك وأعطيته معافريك وأخذت معافريه وأعطيته بردتك فكانت عليك حلة وعليه حلة) قال النووي هكذا هو في جميع النسخ "وأخذت" بالواو وكذا نقله القاضي عن جميع النسخ والروايات ووجه الكلام وصوابه أن يقول "أو أخذت" بأو لأن المقصود أن يكون على أحدهما بردتان وعلى الآخر معافريان أما الحلة فهي ثوبان إزار ورداء قال أهل اللغة لا تكون إلا ثوبين سميت بذلك لأن أحدهما يحل على الآخر وقيل لا تكون إلا الثوب الجديد الذي يحل من طيه (وكان أن أعطيته من متاع الدنيا أهون علي) أي وكان إعطائي له شيئا من متاع الدنيا أهون علي (وهو يصلي في ثوب واحد مشتملا به) أي ملتحفا به مشتملا به اشتمالا ليس باشتمال الصماء المنهي عنه (فقال بيده في صدري هكذا) أطلق القول على الفعل أي فضرب بيده في صدري (أردت أن يدخل علي الأحمق مثلك) المراد بالأحمق هنا الجاهل وحقيقة الأحمق من يعمل ما يضره مع علمه بقبحه (وفي يده عرجون ابن طاب) العرجون الغصن وابن طاب نوع من النخيل معروف (فخشعنا) قال النووي بالخاء كذا رواية الجمهور ورواه جماعة بالجيم وكلاهما صحيح والأول من الخشوع وهو الخضوع والتذلل والسكون وأيضا غض البصر وأيضا الخوف وأما الثاني فمعناه الفزع (فإن الله قبل وجهه) قال العلماء أي الجهة التي عظمها أو الكعبة التي عظمها قبل وجهه ففي الكلام مضاف محذوف أي كعبة الله

(فإن عجلت به بادرة) أي غلبته بصقة أو نخامة (فليقل بثوبه هكذا) فيه استخدام القول بدل الفعل (أروني عبيرا) بفتح العين وكسر الباء وهو الزعفران وقيل أخلاط من الطيب تجمع بالزعفران قيل العبير هو الخلوق وقيل غيره (فقام فتى من الحي يشتد إلى أهله) أي يسعى ويعدو عدوا شديدا (في غزوة بطن بواط) بضم الباء وفتحها والواو مخففة وهو جبل من جبال جهينة (وهو يطلب المجدي بن عمرو الجهني) قال النووي "المجدي" بفتح الميم وإسكان الجيم هكذا في جميع النسخ عندنا قال القاضي وفي بعضها "النجدي" بالنون بدل الميم قال والمعروف الأول (وكان الناضح يعتقبه منا الخمسة والستة والسبعة) "الناضح" البعير يستقي عليه أما العقبة فهي ركوب هذا نوبة وهذا نوبة قال النووي ورواية أكثرهم "يعقبه" بفتح الياء وضم القاف وفي بعضها "يعتقبه" بزيادة التاء وكسر القاف وكلاهما صحيح (فتلدن عليه بعض التلدن) أي تلكأ عليه وتمرد عليه بعض التمرد (فقال له شأ لعنك الله) "شأ" بفتح الشين بعدها همزة قال النووي هكذا هو في نسخ بلادنا وذكر القاضي رحمه الله أن الرواة اختلفوا فيه فرواه بعضهم بالسين قالوا وكلاهما صحيح وهي كلمة زجر للبعير يقال منهما شأ شأت البعير وسأسأت البعير إذا زجرته (حتى إذا كانت عشيشية) قال النووي هكذا الرواية فيها على التصغير مخففة الياء الأخيرة ساكنة الأولى (من رجل يتقدمنا فيمدر الحوض) أي يطينه لئلا يخرج منه الماء ويصلحه وينظفه (فنزعنا في الحوض سجلا أو سجلين) السجل بفتح السين وسكون الجيم الدلو المملوءة أي غسلاه ونظفاه بدلو أو دلوين (ثم مدرناه) أي سددا ثقوبه ومنافذه حتى لا يسيل منه الماء (ثم نزعنا فيه حتى أفهقناه) قال النووي هكذا في جميع نسخنا وكذا ذكره القاضي عن الجمهور قال وفي رواية السمرقندي "أصفقناه" بالصاد ومعناهما ملأناه (فأشرع ناقته فشربت شنق لها فشجت فبالت) "أشرع لها" يعني أرسل لها رأسها

في الماء لتشرب ويقال شنقها وأشنقها أي كفها بزمامها وهو راكبها قال ابن دريد هو أن تجذب زمامها حتى تقارب رأسها قادمة الرحل وقوله "فشجت" بفاء وشين وجيم مفتوحات والجيم مخففة والفاء هنا أصلية يقال فشج البعير إذا فرج بين رجليه للبول وفشج بالتشديد أشد من فشج بالتخفيف قال النووي هذا الذي ذكرناه من ضبطه هو الصحيح الموجود في عامة النسخ وهو الذي ذكره الخطابي والهروي وغيرهما من أهل الغريب وذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين "فشجت" بتشديد الجيم وتكون الفاء زائدة للعطف وفسره الحميدي في غريب الجمع بين الصحيحين قال معناه قطعت الشرب من قولهم شججت المفازة إذا قطعتها بالسير وأنكر بعضهم اجتماع الشين والجيم وادعى أن صوابه "فشحت" بالحاء من قولهم شحا فاه إذا فتحه فيكون بمعنى تفاجت والصحيح ما قدمناه عن عامة النسخ (وكانت لها ذباذب فنكستها) "ذباذب" أي أهداب وأطراف واحدها ذبذب بكسر الذالين سميت بذلك لأنها تتذبذب على صاحبها إذا مشى أي تتحرك وتضطرب و"نكستها" بتخفيف الكاف وتشديدها (ثم تواقصت عليها) أي أمسكت عليها بعنقي وأملته عليها لئلا تسقط (فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمقني وأنا لا أشعر) أي ينظر إلي نظرا متتابعا (وإذا كان ضيقا فاشدده على حقوك) بفتح الحاء وكسرها وهو معقد الإزار والمراد هنا أن يبلغ السرة (وكان قوت كل رجل منا كل يوم تمرة فكان يمصها) بفتح الميم على اللغة المشهورة وحكى ضمها (وكنا نختبط بقسينا) بكسر القاف والسين والياء المشددة جمع قوس أي نضرب الشجر بالقسي ليسقط ورقه فنأكله (حتى قرحت أشداقنا) "قرحت" بكسر الراء أي تجرحت من خشونة الورق وحرارته (فأقسم أخطئها رجل منا يوما فانطلقنا به ننعشه فشهدنا أنه لم يعطها فأعطيها) أي أحلف أن رجلا منا أخطئ توزيع التمر وفاتته تمرته وظن القاسم أنه أعطاه فتنازعا في ذلك وشهدنا له أنه لم يعطها فأعطيها بعد الشهادة ومعنى "ننعشه" بفتح النون الأولى وسكون الثانية وفتح العين أي نرفعه ونقيمه من شدة الضعف والجهد وقال القاضي الأشبه عندي أن معناه نشد جانبه في دعواه ونشهد له (حتى نزلنا واديا أفيح) هو بالفاء أي واسعا

(فإذا شجرتان بشاطئ الوادي) أي بجانبه. (فانقادت معه كالبعير المخشوش) بالخاء والشين وهو الذي يجعل في أنفه خشاش بكسر الخاء وهو عود يجعل في أنف البعير إذا كان صعبا ويشد فيه حبل ليذل وينقاد (حتى إذا كان بالمنصف مما بينهما لأم بينهما يعني جمعهما) "المنصف" بفتح الميم والصاد وهو نصف المسافة ومعنى "لأم" بهمزة مقصورة وممدودة أي جمع بينهما ووقع في بعض النسخ "الام" بالألف من غير همزة (فخرجت أحضر) بضم الهمزة وسكون الحاء وكسر الضاد أي أعدو وأسعى سعيا شديدا (فحانت مني لفتة) أي نظرة إلى الجنب وهي بفتح اللام ووقع لبعض الرواة "فحالت" باللام والمشهور بالنون وهما بمعنى فالحين والحال الوقت أي وقعت واتفقت وكانت (فأخذت حجرا فكسرته وحسرته فانذلق لي) "حسرته" بحاء وسين مفتوحة مخففة أي حددته ونحيت عنه ما يمنع حدته بحيث صار صالحا لقطع الأغصان به وهو معنى قوله "فانذلق" بالذال أي صار حادا وقال الهروي ومن تابعه الضمير في "حسرته" عائد على الغصن أي حسرت غصنا من أغصان الشجرة أي قشرته بالحجر وأنكر القاضي عياض هذا على الهروي ومتابعيه وقال سياق الكلام يأبى هذا لأنه حسره ثم أتى الشجرة فقطع الغصنين ولأنه قال حسرته فانذلق والذي يوصف بالانذلاق الحجر لا الغضن وصوب النووي عود الضمير على الحجر ثم قال واعلم أن قوله "فحسرته" بالسين هو في جميع النسخ وكذا هو في الجمع بين الصحيحين وفي كتاب الخطابي والهروي وجميع كتب الغريب وادعى القاضي روايته عن جميع شيوخهم لهذا الحرف بالشين وادعى أنه أصح وليس كما قال (فقلت قد فعلت فعم ذاك) أي فعن أي شيء هذا العمل وما فائدته (أن يرفه عنهما) أي يخفف العذاب عن صاحبي القبرين (وكان رجل من الأنصار يبرد لرسول الله صلى الله عليه وسلم الماء في أشجاب له على حمارة من جريد) الأشجاب هنا جمع شجب بسكون الجيم وهو السقاء الذي قد أخلق وبلى وصار شنا يقال شاجب أي يابس وهو من الشجب الذي هو الهلاك ومثله قوله صلى الله عليه وسلم "قام إلى شجب فصب منه الماء وتوضأ" ومثله قوله صلى الله عليه وسلم لجابر هنا "فانظر هل في أشجابه من شيء" قال النووي وأما قول المازري وغيره إن المراد بالأشجاب هنا الأعواد التي تعلق عليها القربة فغلط لقوله "يبرد فيها على حمارة من جريد" وأما الحمارة بكسر الحاء وتخفيف الميم ممدودة فهي أعواد تعلق عليها أسقية الماء قال القاضي ووقع لبعض الرواة "حمار" بحذف الهاء ورواية الجمهور "حمارة" وكلاهما صحيح

(فلم أجد فيها إلا قطرة في عزلاء شجب منها لو أني أفرغه لشربه يابسه) المراد بقطرة أي قدرا يسيرا و"العزلاء" فم القربة ومعنى "شربه يابسه" أنه قليل جدا لقلته مع شدة يبس باقي الشجب وهو السقاء لو أفرغه لشربه اليابس من القربة ولم ينزل منه شيء (فأتيته به فجعل يتكلم بشيء لا أدري ما هو ويغمزه بيديه ثم أعطانيه) وفي بعض النسخ "ويغمزه بيده" أي يعصره (ناد بجفنة فقلت يا جفنة الركب فأتيت بها تحمل) في الكلام مضاف محذوف أي يا صاحب جفنة الركب والجفنة بفتح الجيم إناء كبير (فأتينا سيف البحر فزخر البحر زخرة فألقى دابة فأورينا على شقها النار) "سيف البحر" بكسر السين هو ساحله و"زخر" علا موجه و"أورينا" أوقدنا (فاطبخنا واشتوينا وأكلنا حتى شبعنا) "اطبخنا" بتشديد الطاء أي طبخنا من لحمها كثيرا (فدخلت أنا وفلان ... في حجاج عينها) بكسر الحاء وفتحها وهو عظمها المستدير (وأعظم كفل في الركب) بكسر الكاف وإسكان الفاء قال الجمهور المراد بالكفل هنا الكساء الذي يحويه راكب البعير على سنامه لئلا يسقط فيحفظ الراكب قال الأزهري ومنه اشتقاق قوله تعالى {يؤتكم كفلين من رحمته} [الحديد 28] أي نصيبين يحفظانكم من الهلكة كما يحفظ الكفل الراكب وقال القاضي عياض وضبط بعض الرواة بفتح الكاف والفاء والصحيح الأول ووقع لرواة البخاري "أعظم رجل" بالجيم و"أعظم رحل" بالحاء -[فقه الحديث]- -[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]- 1 - الرحلة في طلب العلم من الابن وأبيه 2 - والحرص على الإفادة من كبار العلماء قبل أن يرحلوا 3 - وطلب الإسناد العالي 4 - وسؤال التلميذ الشيخ عن حاله الخاص 5 - واستصحاب الشيخ غلاما يحمل له الكتب 6 - ذهاب الدائن إلى بيت المدين وسؤال أهله عنه وتسليم الرجال على النساء 7 - كشف ستر المدين وإحراجه إذا استخفى من الدائن

8 - صدق المدين وحسن اعتذاره خير له من الكذب 9 - توثيق راوي الحديث بروايته 10 - جزاء من أنظر معسرا أو وضع عنه 11 - سؤال التلميذ الشيخ عما يشكل عليه ولو في أمور الدنيا كالملبس 12 - رفق العالم بالمتعلم وتأنيسه والمسح على رأسه ورفع إشكاله بالدليل 13 - دقة الاستجابة الحرفية لمطالب الشرع في معاملة الخدم والأتباع 14 - من حديث جابر اتخاذ الإنسان مسجدا يعرف به 15 - فعل المعلم فعلا يثير تساؤل التلاميذ ليعلمهم جواز الفعل وإن كان غيره أولى 16 - جواز الصلاة في ثوب واحد مع وجود ثياب غيره 17 - جواز الاشتمال بالثوب الواحد في الصلاة مادام ساترا لما بين السرة والركبة وإن كانت عورته ترى من أسفله لو كان على سطح ونحوه فإن هذا لا يضره قاله النووي 18 - جواز تخطي الناس في المسجد للوصول للشيخ مع عدم الإيذاء 19 - جواز جلوس التلميذ بين الشيخ والقبلة ولا يعد ذلك إساءة أدب 20 - الدعاء للمرء كالتماس للعذر قبل اللوم 21 - شدة جابر رضي الله عنه في تأديب تلاميذه إذا أحس منهم قسوة في سؤالهم 22 - تحمل التلميذ لتأديب شيخه له 23 - ذهاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مساجد أصحابه للاطمئنان على سير عباداتهم 24 - استحباب الإمساك بعصا ونحوها ولو بعرجون نخل في البيئة التي تحتاج ذلك 25 - تواضع الكبير ومحوه الأذى بنفسه وعدم استخدام التابع في ذلك 26 - حسن خلقه صلى الله عليه وسلم وتطبيقه النظريات بالعمل 27 - حرمة البصق والنخامة في قبلة المسجد 28 - استحباب البصق تحت الرجل اليسرى في الأرض الرملية في المسجد إذا استدعت الضرورة البصق 29 - جواز البصق في الثوب ونحوه عند الضرورة وطي بعضه على بعض هذا إذا لم يكن معه منديل ونحوه وغلبه البصاق أو رشح الأنف 30 - تعظيم المساجد وتنزيهها من الأوساخ ونحوها 31 - استحباب تطييب المساجد بالزعفران والخلوق ونحوها

32 - إزالة المنكر باليد لمن قدر عليه 33 - ما لاقى الصحابة من الجهد والمشقة في غزوة بواط 34 - اعتقاب البعير متواليا بشرط طاقته 35 - تحريم لعن الدواب 36 - النهي عن الدعاء على النفس أو المال أو الأولاد خشية الإجابة 37 - الندب لخدمة القوم من يتطوع بها 38 - فضيلة لجابر بن عبد الله وصاحبه جبار بن صخر 39 - من قوله صلى الله عليه وسلم "أتأذنان" تعليمه لأمته الآداب الشرعية 40 - والورع والاحتياط والاستئذان في مثل هذا وإن كان يعلم أنهما راضيان وقد أرصدا ذلك له صلى الله عليه وسلم ثم لمن بعده 41 - جواز الوضوء من الحوض الذي شربت منه الإبل ونحوها من الحيوان الطاهر وأنه لا كراهة فيه وإن كان الماء دون القلتين قال النووي وهذا مذهبنا 42 - وأن المأموم إذا كان واحدا وقف عن يمين الإمام وإذا كانا اثنين فأكثر وقفوا خلف الإمام ولم يخالف في ذلك إلا ابن مسعود وصاحبيه فإنهم قالوا يقف الاثنان عن جانبيه 43 - وجواز العمل اليسير في الصلاة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ بيد جابر وأداره إلى اليمين 44 - من كون قوت الرجل تمرة واحدة في اليوم ما كانوا عليه من ضيق العيش والصبر عليه في سبيل طاعة الله وكذا ما يتعلق بالماء 45 - وفي الشهادة مع الرجل الذي لم يأخذ تمرته جواز الشهادة على النفي في المحصور الذي يحاط به 46 - معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم في الشجرتين وصاحبي القبرين ووضع الأخضر على القبر 47 - ومعجزة الرسول صلى الله عليه وسلم في تكثير الماء وفي قذف البحر ما أطعمهم 48 - وفيه تحديث المرء عن نفسه بما فيه ثناء عليه مادام يأمن العجب والزهو والله أعلم.

(807) باب في حديث الهجرة ويقال له حديث الرحل

(807) باب في حديث الهجرة ويقال له حديث الرحل 6533 - عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال جاء أبو بكر الصديق إلى أبي في منزله فاشترى منه رحلا فقال لعازب ابعث معي ابنك يحمله معي إلى منزلي فقال لي أبي احمله فحملته وخرج أبي معه ينتقد ثمنه فقال له أبي يا أبا بكر حدثني كيف صنعتما ليلة سريت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم أسرينا ليلتنا كلها حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق فلا يمر فيه أحد حتى رفعت لنا صخرة طويلة لها ظل لم تأت عليه الشمس بعد فنزلنا عندها فأتيت الصخرة فسويت بيدي مكانا ينام فيه النبي صلى الله عليه وسلم في ظلها ثم بسطت عليه فروة ثم قلت نم يا رسول الله وأنا أنفض لك ما حولك فنام وخرجت أنفض ما حوله فإذا أنا براعي غنم مقبل بغنمه إلى الصخرة يريد منها الذي أردنا فلقيته فقلت لمن أنت يا غلام فقال لرجل من أهل المدينة قلت أفي غنمك لبن قال نعم قلت أفتحلب لي قال نعم فأخذ شاة فقلت له انفض الضرع من الشعر والتراب والقذى (قال فرأيت البراء يضرب بيده على الأخرى ينفض) فحلب لي في قعب معه كثبة من لبن قال ومعي إداوة أرتوي فيها للنبي صلى الله عليه وسلم ليشرب منها ويتوضأ قال فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وكرهت أن أوقظه من نومه فوافقته استيقظ فصببت على اللبن من الماء حتى برد أسفله فقلت يا رسول الله اشرب من هذا اللبن قال فشرب حتى رضيت ثم قال "ألم يأن للرحيل" قلت بلى قال فارتحلنا بعد ما زالت الشمس واتبعنا سراقة بن مالك قال ونحن في جلد من الأرض فقلت يا رسول الله أتينا فقال "لا تحزن إن الله معنا" فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتطمت فرسه إلى بطنها أرى فقال إني قد علمت أنكما قد دعوتما علي فادعوا لي فالله لكما أن أرد عنكما الطلب فدعا الله فنجا فرجع لا يلقى أحدا إلا قال قد كفيتكم ما ها هنا فلا يلقى أحدا إلا رده قال ووفى لنا. 6534 - عن البراء رضي الله عنه قال اشترى أبو بكر من أبي رحلا بثلاثة عشر درهما وساق الحديث بمعنى حديث زهير عن أبي إسحق وقال في حديثه من رواية عثمان بن عمر فلما دنا دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فساخ فرسه في الأرض إلى بطنه ووثب عنه

وقال يا محمد قد علمت أن هذا عملك فادع الله أن يخلصني مما أنا فيه ولك علي لأعمين على من ورائي وهذه كنانتي فخذ سهما منها فإنك ستمر على إبلي وغلماني بمكان كذا وكذا فخذ منها حاجتك قال "لا حاجة لي في إبلك" فقدمنا المدينة ليلا فتنازعوا أيهم ينزل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "أنزل على بني النجار أخوال عبد المطلب أكرمهم بذلك" فصعد الرجال والنساء فوق البيوت وتفرق الغلمان والخدم في الطرق ينادون يا محمد يا رسول الله يا محمد يا رسول الله -[المعنى العام]- هذا الحديث ينسب إلى سبب روايته كما ينسب لموضوعه فراويه أبو بكر الصديق رضي الله عنه استجابة لطلب الصحابي الجليل عازب والد البراء يوم أن باع لأبي بكر رحل بعير وذهب معه يوصل الرحل هو وابنه إلى بيت أبي بكر وليتسلم ثمنه والحديث فصل من فصول هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة يحكي كيف كان أبو بكر حريصا على حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم وراحته في رحلته يختار له مكان النزول وينظفه له ويفرشه ويطلب منه أن ينام ليستريح ويقوم هو على حراسته من طلب قريش له ثم يعد له الشراب واللبن ليسقيه والماء ليشرب ويتوضأ المنظر الثاني من هذا الفصل منظر سراقة الذي خرج يطلب النبي صلى الله عليه وسلم ليأخذ الجائزة التي رصدتها قريش لمن يأتي بمحمد حيا أو ميتا فيرى بعينه معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم فيتحول حاميا بعد أن كان طالبا ومهاجما وكان الله مع صاحب الهجرة ونصره وما النصر إلا من عند الله -[المباحث العربية]- (فاشترى منه رحلا) الرحل ما يوضع على ظهر البعير للركوب (وخرج أبي معه ينتقد ثمنه) أي يستوفيه وفي الرواية الثانية "اشترى أبو بكر من أبي رحلا بثلاثة عشر درهما" (ليلة سريت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) يقال سرى وأسرى لغتان بمعنى (حتى قام قائم الظهيرة) أي نصف النهار وهو حال استواء الشمس سمى قائما لأن الظل لا يظهر فكأنه واقف قائم ووقع في أكثر النسخ "قائم الظهر" بضم الظاء وحذف الياء (حتى رفعت لنا صخرة طويلة لها ظل) أي ظهرت لأبصارنا صخرة إلخ

(ثم بسطت عليه فروة) المراد الفروة المعروفة التي تلبس قال النووي هذا هو الصواب وذكر القاضي أن بعضهم قال المراد بالفروة هنا الحشيش فإنه يقال له فروة وهذا القول باطل ومما يرده قوله في رواية البخاري "فروة معي" ويقال لها "فروة" بالهاء و"فرو" بحذفها وهو الأشهر في اللغة وإن كانتا صحيحتين (وأنا أنفض لك ما حولك فنام وأنا خرجت أنفض ما حوله) أي أفتش حوله لئلا يكون هناك عدو (قلت لمن أنت يا غلام فقال لرجل من أهل المدينة) المراد بالمدينة هنا مكة ولم تكن مدينة النبي صلى الله عليه وسلم سميت بالمدينة إنما كان اسمها يثرب قال النووي هذا هو الجواب الصحيح أما قول القاضي إن ذكر المدينة هنا وهم فليس كما قال بل هو صحيح والمراد بها مكة (أفي غنمك لبن) بفتح اللام والباء يعني اللبن المعروف هذه الرواية المشهورة وروى بعضهم "لبن" بضم اللام وسكون الباء أي شياه ذوات ألبان (قال فحلب لي في قعب معه كثبة من لبن) "القعب" قدح من خشب معروف و"الكثبة" بضم الكاف وسكون الثاء قدر الحلبة وقيل هي القليل منه (ومعي إداوة أرتوي فيها للنبي صلى الله عليه وسلم ليشرب منها ويتوضأ) "الإداوة" إناء صغير يحمل فيه الماء و"أرتوي" أي أستقي (ونحن في جلد من الأرض) بفتح الجيم واللام أي أرض صلبة وروى "جدد" بدالين وهو المستوى وكانت الأرض مستوية صلبة (فارتطمت فرسه إلى بطنها) أي غاصت قوائمها في تلك الأرض الجلد وفي ملحق الرواية "فساخ فرسه في الأرض إلى بطنه ووثب عنه وقال يا محمد قد علمت أن هذا عملك فادع الله أن يخلصني مما أنا فيه ولك علي لأعمين على من ورائي وهذه كنانتي فخذ سهما منها ... " (أرى) بضم الهمزة أي أظن ذلك (فنجى) بفتح النون والجيم (ووفى لنا) بتخفيف الفاء (وهذه كنانتي فخذ سهما منها فإنك ستمر على إبلي وغلماني بمكان كذا وكذا) إلخ

-[فقه الحديث]- قال النووي هذا الحديث مما يسأل عنه فيقال كيف شربوا اللبن من الغلام وليس هو مالكه وجوابه من أوجه أحدها أنه محمول على عادة العرب أنهم يأذنون للرعاة إذا مر بهم ضيف أو عابر سبيل أن يسقوه اللبن والثاني أنه كان لصديق لهم يدلون عليه وذلك جائز الثالث أنه مال حربي لا أمان له ومثل هذا جائز الرابع لعلهم كانوا مضطرين قال النووي والجوابان الأولان أجود -[ويؤخذ من الحديث فوق ذلك]- 1 - معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم 2 - وفضيلة ظاهرة لأبي بكر رضي الله عنه 3 - وخدمة التابع للمتبوع 4 - واستصحاب الإداوة والإبريق ونحوهما في السفر 5 - وفضل التوكل على الله سبحانه وتعالى وحسن عاقبته 6 - وفضل الأنصار لفرحهم بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم وظهور سرورهم 7 - وفيه فضيلة صلة الرحم سواء قربت القرابة أو بعدت 8 - وأن الرجل الجليل إذا قدم بلدا له فيه أقارب نزل عندهم يكرمهم بذلك والله أعلم.

كتاب التفسير

كتاب التفسير

(808) باب كتاب التفسير

(808) باب كتاب التفسير 6535 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قيل لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة يغفر لكم خطاياكم فبدلوا فدخلوا الباب يزحفون على أستاههم وقالوا حبة في شعرة" 6536 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن الله عز وجل تابع الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته حتى توفي وأكثر ما كان الوحي يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم 6537 - عن طارق بن شهاب أن اليهود قالوا لعمر إنكم تقرءون آية لو أنزلت فينا لاتخذنا ذلك اليوم عيدا فقال عمر إني لأعلم حيث أنزلت وأي يوم أنزلت وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أنزلت أنزلت بعرفة ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة قال سفيان أشك كان يوم جمعة أم لا يعني {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} 6538 - عن طارق بن شهاب قال قالت اليهود لعمر لو علينا معشر يهود نزلت هذه الآية {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} نعلم اليوم الذي أنزلت فيه لاتخذنا ذلك اليوم عيدا قال فقال عمر فقد علمت اليوم الذي أنزلت فيه والساعة وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت نزلت ليلة جمع ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات. 6539 - عن طارق بن شهاب قال جاء رجل من اليهود إلى عمر فقال يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرءونها لو علينا نزلت معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدا قال وأي آية قال {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم

الإسلام دينا} فقال عمر إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه والمكان الذي نزلت فيه نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات في يوم جمعة. 6540 - عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة عن قول الله {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} قالت يا ابن أختي هي اليتيمة تكون في حجر وليها تشاركه في ماله فيعجبه مالها وجمالها فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن من الصداق وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن قال عروة قالت عائشة ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فيهن فأنزل الله عز وجل {يستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن} قالت والذي ذكر الله تعالى أنه {يتلى عليكم في الكتاب} الآية الأولى التي قال الله فيها {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء} قالت عائشة وقول الله في الآية الأخرى {وترغبون أن تنكحوهن} رغبة أحدكم عن اليتيمة التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال فنهوا أن ينكحوا ما رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن. 6541 - وفي رواية عن عروة أنه سأل عائشة عن قول الله {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى} وساق الحديث بمثل حديث يونس عن الزهري وزاد في آخره من أجل رغبتهم عنهن إذا كن قليلات المال والجمال 6542 - عن عائشة رضي الله عنها في قوله {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى} قالت أنزلت في الرجل تكون له اليتيمة وهو وليها ووارثها ولها مال وليس لها أحد يخاصم دونها فلا ينكحها لمالها فيضر بها ويسيء صحبتها

فقال {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء} يقول ما أحللت لكم ودع هذه التي تضر بها. 6543 - عن عائشة رضي الله عنها في قوله {وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن} قالت أنزلت في اليتيمة تكون عند الرجل فتشركه في ماله فيرغب عنها أن يتزوجها ويكره أن يزوجها غيره فيشركه في ماله فيعضلها فلا يتزوجها ولا يزوجها غيره. 6544 - عن عائشة رضي الله عنها في قوله {يستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن} الآية قالت هي اليتيمة التي تكون عند الرجل لعلها أن تكون قد شركته في ماله حتى في العذق فيرغب يعني أن ينكحها ويكره أن ينكحها رجلا فيشركه في ماله فيعضلها. 6545 - عن عائشة رضي الله عنها في قوله {ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف} قالت أنزلت في والي مال اليتيم الذي يقوم عليه ويصلحه إذا كان محتاجا أن يأكل منه. 6546 - عن عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى {ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف} قالت أنزلت في ولي اليتيم أن يصيب من ماله إذا كان محتاجا بقدر ماله بالمعروف. 6547 - عن عائشة رضي الله عنها في قوله عز وجل {إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر} قالت كان ذلك يوم الخندق. 6548 - عن عائشة رضي الله عنها {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو

إعراضا} الآية قالت أنزلت في المرأة تكون عند الرجل فتطول صحبتها فيريد طلاقها فتقول لا تطلقني وأمسكني وأنت في حل مني فنزلت هذه الآية. 6549 - عن عائشة رضي الله عنها في قوله عز وجل {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا} قالت نزلت في المرأة تكون عند الرجل فلعله أن لا يستكثر منها وتكون لها صحبة وولد فتكره أن يفارقها فتقول له أنت في حل من شأني. 6550 - عن هشام بن عروة عن أبيه قال قالت لي عائشة يا ابن أختي أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسبوهم. 6551 - عن سعيد بن جبير قال اختلف أهل الكوفة في هذه الآية {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم} فرحلت إلى ابن عباس فسألته عنها فقال لقد أنزلت آخر ما أنزل ثم ما نسخها شيء. 6552 - وعن شعبة بهذا الإسناد في حديث ابن جعفر نزلت في آخر ما أنزل وفي حديث النضر إنها لمن آخر ما أنزلت. 6553 - عن سعيد بن جبير قال أمرني عبد الرحمن بن أبزى أن أسأل ابن عباس عن هاتين الآيتين {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها} فسألته فقال لم ينسخها شيء وعن هذه الآية {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق} قال نزلت في أهل الشرك. 6554 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال نزلت هذه الآية بمكة {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر} إلى قوله {مهانا} فقال المشركون وما يغني عنا الإسلام وقد

عدلنا بالله وقد قتلنا النفس التي حرم الله وأتينا الفواحش فأنزل الله عز وجل {إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا} إلى آخر الآية قال فأما من دخل في الإسلام وعقله ثم قتل فلا توبة له. 6555 - عن سعيد بن جبير قال قلت لابن عباس ألمن قتل مؤمنا متعمدا من توبة قال لا قال فتلوت عليه هذه الآية التي في الفرقان {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق} إلى آخر الآية قال هذه آية مكية نسختها آية مدنية {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا} وفي رواية ابن هاشم فتلوت عليه هذه الآية التي في الفرقان {إلا من تاب} 6556 - عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال قال لي ابن عباس تعلم -وقال هارون تدري- آخر سورة نزلت من القرآن نزلت جميعا قلت نعم {إذا جاء نصر الله والفتح} قال صدقت. وفي رواية ابن أبي شيبة تعلم أي سورة ولم يقل آخر. 6557 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لقي ناس من المسلمين رجلا في غنيمة له فقال السلام عليكم فأخذوه فقتلوه وأخذوا تلك الغنيمة فنزلت {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا} وقرأها ابن عباس (السلام). 6558 - عن البراء رضي الله عنه قال كانت الأنصار إذا حجوا فرجعوا لم يدخلوا البيوت إلا من ظهورها قال فجاء رجل من الأنصار فدخل من بابه فقيل له في ذلك فنزلت هذه الآية {وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها}

6559 - عن ابن مسعود رضي الله عنه قال ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله} إلا أربع سنين 6560 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة فتقول من يعيرني تطوافا تجعله على فرجها وتقول 4 - اليوم يبدو بعضه أو كله فما بدا منه فلا أحله فنزلت هذه الآية {خذوا زينتكم عند كل مسجد} 6561 - عن جابر رضي الله عنه قال كان عبد الله بن أبي ابن سلول يقول لجارية له اذهبي فابغينا شيئا فأنزل الله عز وجل {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن} لهن {غفور رحيم} 6562 - عن جابر رضي الله عنه أن جارية لعبد الله بن أبي ابن سلول يقال لها مسيكة وأخرى يقال لها أميمة فكان يكرههما على الزنى فشكتا ذلك إلى النبى صلى الله عليه وسلم فأنزل الله {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء} إلى قوله {غفور رحيم} 6563 - عن عبد الله رضي الله عنه فى قوله عز وجل {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب} قال كان نفر من الجن أسلموا وكانوا يعبدون فبقي الذين كانوا يعبدون على عبادتهم وقد أسلم النفر من الجن. 6564 - عن عبد الله رضي الله عنه {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة}

قال كان نفر من الإنس يعبدون نفرا من الجن فأسلم النفر من الجن واستمسك الإنس بعبادتهم فنزلت {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة} 6565 - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة} قال نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن فأسلم الجنيون والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون فنزلت {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة} 6566 - عن سعيد بن جبير قال قلت لابن عباس سورة التوبة قال آلتوبة قال بل هي الفاضحة مازالت تنزل ومنهم ومنهم حتى ظنوا أن لا يبقى منا أحد إلا ذكر فيها قال قلت سورة الأنفال قال تلك سورة بدر قال قلت فالحشر قال نزلت في بني النضير 6567 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال خطب عمر على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد ألا وإن الخمر نزل تحريمها يوم نزل وهي من خمسة أشياء من الحنطة والشعير والتمر والزبيب والعسل والخمر ما خامر العقل وثلاثة أشياء وددت أيها الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إلينا فيها الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا. 6568 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أما بعد أيها الناس فإنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والخمر ما خامر العقل وثلاث أيها الناس وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا. 6569 - وفي رواية عن أبي حيان بهذا الإسناد بمثل حديثهما غير

أن ابن علية في حديثه العنب كما قال ابن إدريس وفي حديث عيسى الزبيب كما قال ابن مسهر. 6570 - عن أبي ذر رضي الله عنه يقسم قسما إن {هذان خصمان اختصموا في ربهم} إنها نزلت في الذين برزوا يوم بدر حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة. 6571 - وفي رواية عن قيس بن عباد قال سمعت أبا ذر يقسم لنزلت {هذان خصمان} بمثل حديث هشيم. -[المعنى العام]- اختار الإمام مسلم رحمه الله تعالى وأجزل الله له الأجر والثواب مجموعة من الأحاديث في تفسير بعض آيات من القرآن الكريم ختم بها كتابه النافع المفيد ليكون القرآن أولا وأخيرا حبله المتين وما السنة النبوية المشرفة إلا شعاع من نوره وقبس من شريعته وآخر دعوانا سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين -[المباحث العربية]- (قيل لبني إسرائيل "ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة يغفر لكم خطاياكم" فبدلوا فدخلوا الباب يزحفون على أستاههم وقالوا حبة في شعرة) قيل لهم اسكنوا هذه القرية وهي بيت المقدس على المشهور وادخلوا بابها سجدا ويدعى بابها الآن باب حطة أو باب التوبة فبدلوا الأمر فدخلوا يزحفون على أستاههم جمع أست وهو الدبر وقيل لهم وقولوا وأنتم داخلون "حطة" خبر لمبتدأ محذوف أي أمرنا ومسألتنا أن يحط الله عنا ذنوبنا فبدلوا الأمر وقالوا حبة في شعرة بفتح الشين وسكون العين وفتحها واحدة الشعر المعروف أو واحدة النبات أي حبة متصلة بشعرة وقيل قالوا حنطة بدل حطة وقيل قالوا حبة في شعيرة تصغير شعرة واختلف فيما قالوا والظاهر أنه باختلاف القائلين

(نزلت ليلة جمع) بفتح الجيم وسكون الميم وهي المزدلفة قال النووي وفي نسخة "ليلة جمعة" وكلاهما صحيح فهي ليلة المزدلفة وهو المراد بقوله "ونحن بعرفات في يوم جمعة" ومراد عمر رضي الله عنه وإنا اتخذنا ذلك اليوم عيدا من وجهتين فإنه يوم عرفة ويوم جمعة وكل واحد منهما عيد لأهل الإسلام (مثنى وثلاث ورباع) أي ثنتين أو ثلاث أو أربع وليس المراد ثنتين ثنتين فتلك أربع وثلاث ثلاث فتلك ست وأربع أربع فتلك ثمانية كما يرى بعض أهل الظاهر (فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن من الصداق) أي أعلى عادتهن في مهورهن ومهور أمثالهن (فلا ينكحها لمالها) "ينكحها" بضم الياء أي فلا يزوجها أحدا رغبة منه في الاستفادة بمالها (فيضر بها) قال النووي يقال ضره وأضر به فالثلاثي بحذف الباء والرباعي بإثباتها اهـ والرواية في جميع النسخ التي بين يدي بفتح ياء "يضر" أي من الثلاثي مع إثبات الباء وهو لا يستقيم معه كلام النووي وفي كتب اللغة ضره وضر به ألحق به مكروها أو أذى وأضر فلانا وأضر به ضره فالثلاثي والرباعي في التعدي سواء (أنزلت في اليتيمة تكون عند الرجل فتشركه في ماله فيرغب عنها أن يتزوجها ويكره أن يزوجها غيره فيشركه في ماله فيعضلها فلا يتزوجها ولا يزوجها غيره) العضل هنا المنع من الزواج ويقال رغب في كذا إذا أقبل عليه وأراده ورغب عن كذا إذا لم يرده ومعنى "تكون عند الرجل" أي في ولايته وحضانته والحاصل أن عضل الولي لليتيمة ينشأ عن أحد سببين إن كانت فقيرة لا مال لها رضي أن تشاركه وحدها في ماله وعضلها لئلا تكلفه نفقات زواجها ولئلا يشاركه ماله زوجها معها وإن كانت غنية انتفع بمالها وامتنع من الزواج بها لأنها يتيمة ومنعها من الزواج ليبقى مستفيدا من مالها فنهوا عن عضل اليتيمات اللاتي في حجورهم كما نهوا عن ظلم اليتيمات الغنيات في مهورهن استغلالا لهن إذا أرادوا تزوجهن (تكون قد شركته في ماله حتى في العذق) قال النووي "شركته" بكسر الراء أي شاركته اهـ وفي كتب اللغة شرك فلان فلانا بكسر الراء يشركه بفتحها شركا بكسر الشين وسكون الراء و"شركة" بكسر الشين وسكون الراء أيضا و"شركة" بفتح الشين وكسر الراء كان لكل منهما نصيب و"العذق" هنا في الرواية بفتح العين وفسره النووي بالنخلة وفي كتب اللغة النخلة بحملها و"العذق" بكسر العين قنو النخلة أي وعاء ثمرها بما فيه من رطب

(ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) قال النووي يجوز للولي أن يأكل من مال اليتيم بالمعروف إذا كان محتاجا وهو مذهب الشافعي والجمهور وقالت طائفة لا يجوز وحكى عن ابن عباس وزيد بن أسلم قالا وهذه الآية منسوخة بقوله تعالى {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ... } [النساء 10] وقيل بقوله تعالى {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [البقرة 188] واختلف الجمهور فيما إذا أكل هل يلزمه رد بديله وجهان لأصحابنا أصحهما لا يلزمه وقال فقهاء العراق إنما يجوز له الأكل إذا سافر في مال اليتيم (أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسبوهم) قال القاضي الظاهر أنها قالت هذا عندما سمعت أهل مصر يقولون في عثمان ما قالوا وأهل الشام في علي ما قالوا والحرورية في الجميع ما قالوا وأما الأمر بالاستغفار الذي أشارت إليه فهو قوله تعالى {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} [الحشر 10] وبهذا احتج مالك في أنه لا حق في الفيء لمن سب الصحابة رضي الله عنهم لأن الله تعالى إنما جعله لمن جاء بعدهم ممن يستغفر لهم (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها) هذا دليل ابن عباس على أن القاتل متعمدا لا توبة له قال النووي هذا هو المشهور عن ابن عباس رضي الله عنهما وروي عنه أن له توبة وتجوز المغفرة له لقوله تعالى {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما} [النساء 110] وهذه الرواية الثانية هي مذهب جميع أهل السنة والصحابة والتابعين ومن بعدهم وما روي عن بعض السلف مما يخالف هذا محمول على التغليظ والتحذير من القتل والتورية في المنع منه وليس في هذه الآية التي احتج بها ابن عباس تصريح بأنه يخلد وإنما فيها أنه جزاؤه ولا يلزم منه أنه يجازى وقد سبق هذا الموضوع في كتاب التوبة (فرحلت إلى ابن عباس) بالراء والحاء من الرحلة قال النووي هذا هو الصحيح المشهور في الروايات وفي نسخة ابن ماهان "فدخلت" بالدال والخاء ويمكن تصحيحه بأن يكون معناه دخلت بعد رحلتي إليه (قال فأما من دخل في الإسلام وعقله ثم قتل فلا توبة له) "عقله" بفتح العين والقاف أي علم أحكام الإسلام وتحريم القتل

(قال هذه آية مكية نسختها آية مدنية) يعني بالناسخة آية النساء {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا} [النساء 93] (من يعيرني تطوافا) بكسر التاء وسكون الطاء أي ثوبا تلبسه وتطوف به وكان أهل الجاهلية يطوفون عراة ويرمون ثيابهم ويتركونها ملقاة على الأرض ولا يأخذونها أبدا ويتركونها تداس بالأرجل حتى تبلى لأنها ثياب تدنست بالخطايا قبل الحج وكان يمكن لهذه المرأة أن تصحب معها ثوبا جديدا تلبسه عند الطواف لكنها كانت تفضل أن تأخذ من الغير لأن ما تصحبه هي قد تلوث منها هي بصحبته حتى جاء الإسلام فأمر الله تعالى بستر العورة فقال صلى الله عليه وسلم "لا يطوفن بالبيت عريان" (كان عبد الله بن أبي ابن سلول يقول لجارية له اذهبي فابغينا شيئا) يقال بغيته أمرا طلبته منه والمعنى اطلبي مسافحا وزانيا ({ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرهن فإن الله من بعد إكراههن [لهن] غفور رحيم}) قال النووي هكذا وقع في النسخ كلها [لهن] وهذا تفسير ولم يرد به أن لفظة [لهن] منزلة فإنه لم يقرأ بها أحد وإنما هي تفسير وبيان يردان المغفرة والرحمة "لهن" لكونهن مكرهات لا لمن أكرههن قال وأما قوله تعالى {إن أردن تحصنا} فخرج مخرج الغالب إذ الإكراه إنما يكون لمريدة التحصن أما غيرها فهي تسارع إلى البغاء من غير حاجة إلى الإكراه والمقصود أن الإكراه على الزنا حرام سواء أردن تحصنا أم لا وصورة الإكراه مع أنها لا تريد التحصن أن تكون هي مريدة الزنا بإنسان فيكرهها على الزنا بغيره وكله حرام (إن جارية لعبد الله بن أبي ابن سلول يقال لها مسيكة وأخرى يقال لها أميمة فكان يكرههما على الزنا فشكتا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم) أما "مسيكة" فبضم الميم وفتح السين مصغر وقيل نزلت في ست جوار له كان يكرههن على الزنا معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى وقتيلة -[فقه الحديث]- نكتفي بالتوضيح الوارد في الشرح تحت عنوان المباحث العربية والحمد لله أولا وآخرا والحمد لله الذي تتم بعونه الصالحات

الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله اللهم اجعل هذا العمل خالصا لوجهك وتقبله مني واجعله في ميزان حسناتي واستر عوراتي واجبر عثراتي واجعلني خيرا مما يظنون واغفر لي ما لا يعلمون مقرا بقصوري مؤمنا بقولك {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} [الإسراء 85] وهذا جهد المقل، بذلته ابتغاء وجهك، أملا في خدمة سنة نبيك، اللهم تقبله مني، اللهم تقبله مني، اللهم تقبله مني يا أكرم الأكرمين. وصلى الله وسلم وبارك على خاتم النبيين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

§1/1